المنقذ من الضلال

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 38

‫) ‪( 450 – 505‬‬

‫اعتنى بـه‬
‫زين ‪ -‬و‪ -‬شذا رائق عبدهللا‬
‫محمد أسماعيل ُح ِّ‬

‫نشر موقع الفلسفة اإلسالمية‬


‫الفهرست‬
‫توطئة‬
‫سطة و َج ْحد العُلوم‬ ‫س ْف َ‬ ‫اخ ُل ال َ‬ ‫َمدَ ِّ‬
‫َاف َّ‬
‫الطالبْين‬ ‫صن ِّ‬ ‫القَو ُل في أ ْ‬
‫اصله‬ ‫صوده و َح ِّ‬ ‫‪ِّ - 1‬ع ْل ُم ال َكالَم‪َ :‬م ْق ُ‬
‫‪ – 2‬الفَل ْسفَة‬
‫ص َمة ال ُك ِّفر َكافَّته ُم‬ ‫شمول َو ْ‬ ‫صناَف الفَالَ ِّسفةَ و ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫لومهم‬ ‫ع ِّ‬ ‫س ِّام ُ‬ ‫أ َ ْق َ‬
‫ب التَّع ِّليم وغَا ِّئ َلته‬ ‫‪ - 3‬القَو ُل ِّفي َم ْذ َه ِّ‬
‫صوفِّيَّة‬‫ط ُرق ال ُّ‬ ‫‪ُ -4‬‬
‫واضطرار َكاف ِّة الخَلق إلي َها‬ ‫ِّ‬ ‫َحقيقَة النُب َُّوة‪:‬‬
‫عنـه‬ ‫اض َ‬ ‫اإلعر ِّ‬
‫َ‬ ‫س َبب نشر ال ِّع ْلم ب َع ْد‬ ‫َ‬
‫مالحظه عن النص والتحقيق‬
‫توطئة‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫الحمد هلل الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة ‪ ،‬والصالة على محمد المصطفى صاحب النبوة‬
‫والرسالة ‪ ،‬وعلى آله وأصحابـه الهادين من الضاللة‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فقد سألتني أيها األخ في الدين ‪ ،‬أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها ‪ ،‬وغائلة المذاهب وأغوارها‬
‫‪ ،‬وأحكي لك ما قاسيته في استخالص الحق من بين اضطراب الفرق ‪ ،‬مع تباين المسالك والطرق‬
‫‪ ،‬وما استجرأت عليه من االرتفاع عن حضيض التقليد ‪ ،‬إلى يفَاع‪ 1‬االستفسار‪ ،2‬وما استفدته أوالً‬
‫من علم الكالم ‪ ،‬وما ا َجتَ ْويـُته‪ 3‬ثانيا ً من طرق أهل التعليم القاصرين لَدرك الحق على تقليد اإلمام‬
‫‪ ،‬وما ازدريته ثالثا ً من طرق التفلسف ‪ ،‬وما ارتضيته آخرا ً من طريقة التصوف ‪ ،‬وما انجلى لي‬
‫في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق ‪ ،‬من لباب الحق ‪ ،‬وما صرفني عن نشر العلم ببغداد ‪ ،‬مع‬
‫ْسابور‪ 5‬بعد طول المدة ‪ ،‬فابتدرت إلجابتك إلى مطلبك‬ ‫َ‬ ‫كثرة الطلبة ‪ ،‬وما دعاني‪ 4‬إلى معاودته بني‬
‫‪ ،‬بعد الوقوف على صدق رغبتك ‪ ،‬وقلت مستعينا ً باهلل ومتوكالً عليه ‪ ،‬ومستوثقا ً‪ 6‬منه ‪ ،‬وملتجئا ً‬
‫إليه‪:‬‬
‫اعلموا ‪ -‬أحسن هللا ( تعالى ) إرشادكم ‪ ،‬وأالَنَ للحق قيادكم ‪ -‬أن اختالف الخلق في األديان والملل‬
‫‪ ،‬ثم اختالف األئمة في المذاهب ‪ ،‬على كثرة الفرق وتباين الطرق ‪ ،‬بحر عميق غرق فيه األكثرون‬
‫‪ ،‬وما نجا منه إال األقلون ‪ ،‬وكل فريق يزعم أنه الناجي ‪ ،‬و (( ك ُل حزب بما لدَي ْهم فرحون ))‬
‫(الروم‪ )32 :‬هو الذي وعدنا بـه سيد المرسلين ‪ ،‬صلوات هللا عليه ‪ ،‬وهو الصادق الصدوق‪ 7‬حيث‬
‫قال‪:‬‬
‫‪8‬‬
‫(( ستفترق أمتي ثالثا ً وسبعين فرقة الناجية منـها واحدة ))‬
‫فقد كان ما وعد أن يكون‪.‬‬
‫ولم أزل في عنفوان شبابي ( وريعان عمري ) ‪ ،‬منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى اآلن‬
‫سور‬ ‫َمرتهُ خ َْو َ‬
‫ض ال َج ُ‬ ‫‪ ،‬وقد أناف السن على الخمسين ‪ ،‬أقتحم لجة هذا البحر العميق ‪ ،‬وأخوض غ َ‬
‫ض الجبان الحذور ‪ ،‬وأتوغل في كل مظلمة ‪ ،‬وأتـهجم على كل مشكلة ‪ ،‬وأتقحم كل ورطة‬ ‫‪ ،‬ال خ َْو َ‬
‫‪ ،‬وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ‪ ،‬وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ ألميز بين ُمحق ومبطل ‪،‬‬
‫ومتسنن ومبتدع‪ ، 9‬ال أغادر باطنيًّا إال وأحب أن أطلع على باطنيته‪ ،10‬وال ظاهريا ً إال وأريد أن‬
‫‪ 1‬اليفاع ‪ :‬المكان المرتفع‪.‬‬
‫‪ 2‬في ق‪ :‬االستبصار‪.‬‬
‫‪ 3‬يقال‪ :‬اجتوى الطعام‪ :‬كرهه‪.‬‬
‫‪ 4‬في ش‪ :‬ردني‪.‬‬
‫‪ 5‬في ش‪ :‬معاودتي نيسابور‪.‬‬
‫‪ 6‬في ق‪ :‬مستوفقاً‪.‬‬
‫‪ 7‬في ق‪ :‬المصدوق‪.‬‬
‫‪ 8‬رواه أحمد وأبو دواد وابن ماجة والترمذي بلفظ أخر‪.‬‬
‫‪ 9‬مبتدع ‪ :‬لغويا ً مخترع واصبح اصطالحا ً على المحدث المكروه في الدين‪.‬‬
‫‪ 10‬في ش‪ :‬بطانته‪ :‬أي السريرة وهنا العقيدة الباطنة‪.‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‬
‫الغزالي‬
‫أعلم حاصل ظاهريته ‪ ،‬وال فلسفيا ً إال وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته ‪ ،‬وال متكلما ً إال وأجتهد‬
‫‪11‬‬
‫في اإلطالع على غاية كالمه ومجادلته ‪ ،‬وال صوفيا ً إال وأحرص على العثور على سر صوفيته‬
‫‪14‬‬
‫‪ ،‬وال متعبدا ً إال وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ‪ ،‬وال زنديقا ً‪ 12‬معطالً‪ 13‬إال وأتجسس‬
‫وراءه للتنبه ألسباب جرأته في تعطيله وزندقته‪.‬‬
‫وقد كان التعطش إلى درك حقائق األمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ‪ ،‬غريزة‬
‫ضعتا في ِّج ِّبلَّتي ‪ ،‬ال باختياري وحيلتي ‪ ،‬حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت‬ ‫وفطرة من هللا و ُ‬
‫علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن‪ 15‬الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى ال يكون لهم نشو ٌء‬
‫صر ‪ ،‬وصبيان اليهود ال نشوء لهم إال على التهود ‪ ،‬وصبيان المسلمين ال نشوء لهم‬ ‫إال على التن ُ‬
‫إال على اإلسالم‪ .‬وسمعت الحديث المروي عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حيث قال ‪:‬‬
‫‪16‬‬
‫‪17‬‬
‫سأنه ))‬ ‫(( كل مولود يولد ُ على الفطرةِّ فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه وي ِّ‬
‫ُمج َ‬
‫فتحرك باطني إلى ( طلب ) حقيقة الفطرة األصلية ‪ ،‬وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين‬
‫واألستاذين‪ ، 18‬والتمييز بين هذه التقليدات ‪ ،‬وأوائلها تلقينات ‪ ،‬وفي تمييز الحق منها عن الباطل‬
‫اختالفات ‪ ،‬فقلت في نفسي‪:‬أوالً‪ 19‬إنما مطلوبي العلم بحقائق األمور ‪ ،‬فال بُد من طلب حقيقة العلم‬
‫ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف‪ 20‬فيه المعلوم انكشافا ً ال يبقى معه ريب ‪ ،‬وال‬
‫يقارنه‪ 21‬إمكان الغلط والوهم ‪ ،‬وال يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل األمان من الخطأ ينبغي أنا يكون‬
‫مقارنا ً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطألنه مثالً من يقلب الحجر ذهبا ً والعصا ثعبانا ً ‪ ،‬لم يورث‬
‫ذلك شكا ً وإنكارا ً ؛ فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثالثة ‪ ،‬فلو قال لي قائل‪ :‬ال ‪ ،‬بل الثالثة‬
‫أكثر [ من العشرة ] بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا ً ‪ ،‬وقلبها ‪ ،‬وشاهدت ذلك منه ‪ ،‬لم أشك بسببه‬
‫في معرفتي ‪ ،‬ولم يحصل لي منه إال التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك‪ 22‬فيما علمته ‪ ،‬فال‪.‬‬
‫ثم علمت أن كل ما ال أعلمه على ه ذا الوجه وال أتيقنه هذا النوع من اليقين ‪ ،‬فهو علم ال ثقة به‬
‫وال أمان معه ‪ ،‬وكل علم ال أمان معه ‪ ،‬فليس بعلم يقيني‪.‬‬

‫في ق‪ :‬صفوته‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫في لسان العرب‪ :‬الزنديق القائل ببقاء الدهر‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫المعطل هو الذي ينكر صفات الخالق‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫في ش‪ :‬واتحسس‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫في ش ‪ِّ :‬ش َّرة ‪ ،‬والشرة بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المشددة‪ :‬الحدة والنشاط‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫في ش ‪ :‬يقول‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫رواه أحمد والبخاري ومسلم بلفظ آخر‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫جمع أستاذ فارسي معرب ‪ ،‬ويجمع أيضا ً على أساتذة وأساتيذ‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫في ش ‪ :‬بدون أوالً‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫في ش ‪ :‬يكشف‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫في ق‪ :‬يفارقه‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫في ق زاد ‪ :‬بسببه‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪-4-‬‬
‫س ْف َ‬
‫سطة و َج ْحد العُلوم‬ ‫اخ ُل ال َ‬
‫‪َ - 1‬مدَ ِّ‬
‫ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطالً من علم موصوف بـهذه الصفة إال في الحسيات‬
‫والضروريات‪ .‬فقلت‪ :‬اآلن بعد حصول اليأس ‪ ،‬ال مطمع في اقتباس المشكالت إال من الجليَّات ‪،‬‬
‫وهي الحسيات والضروريات ‪ ،‬فال بد من إحكامها أوالً ألتيقن أن ثقتي‪ 23‬بالمحسوسات ‪ ،‬وأماني‬
‫من الغلط في الضروريات ‪ ،‬من جنس أماني الذي كان من قَب ُل في التقليديات ‪ ،‬ومن جنس أمان‬
‫محقق ال غدر فيه وال غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل‬‫ٌ‬ ‫أكثر الخلق في النظريات ‪ ،‬أم هو أمان‬
‫‪24‬‬
‫المحسوسات والضروريات ‪ ،‬وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ‪ ،‬فانتهي بي طول التشكك‬
‫إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم األمان في المحسوسات أيضا ً ‪ ،‬وأخذت تتسع للشك فيها وتقول ‪:‬‬
‫‪25‬‬

‫من أين الثقة بالمحسوسات‪ ، 26‬وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا ً غير‬
‫متحرك ‪ ،‬وتحكم بنفي الحركة ‪ ،‬ثم ‪ ،‬بالتجربة والمشاهدة ‪ ،‬بعد ساعة ‪ ،‬تعرف أنه متحرك وأنه لم‬
‫يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ‪ ،‬بل على التدريج ذرة ذرة ‪ ،‬حتى لم يكن‪ 27‬له حالة وقوف‪ .‬وتنظر‬
‫إلى الكوكب فتراه صغيرا ً في مقدار دينار‪ ، 28‬ثم األدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من األرض‬
‫في المقدار‪ .‬وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ‪ ،‬ويكذبـه حاكم العقل‬
‫ويخونـه تكذيبا ً ال سبيل إلى مدافعته‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا ً ‪ ،‬فلعله ال ثقة إال بالعقليات التي هي من األوليات ‪ ،‬كقولنا‪:‬‬
‫العشرة أكثر من الثالثة ‪ ،‬والنفي واإلثبات ال يجتمعان في الشيء الواحد ‪ ،‬والشيء الواحد ال يكون‬
‫حادثا ً قديما ً ‪ ،‬موجودا ً معدوما ً ‪ ،‬واجبا ً محاالً‪ .‬فقالت المحسوسات‪ :‬بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات‬
‫كثقتك بالمحسوسات ‪ ،‬وقد كنت واثقا ً بي ‪ ،‬فجاء حاكم العقل فكذبني ‪ ،‬ولوال حاكم العقل لكنت‬
‫تستمر على تصديقي ‪ ،‬فلعل وراء إدراك العقل حاكما ً آخر ‪ ،‬إذا تجلى ‪ ،‬كذب العقل في حكمه ‪،‬‬
‫كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ‪ ،‬وعدم تجلي ذلك اإلدراك ‪ ،‬ال يدل على استحالته‪.‬‬
‫فتوقفت النفس في جواب ذلك قليالً ‪ ،‬وأيدت إشكالها بالمنام ‪ ،‬وقالت‪ :‬أما تراك تعتقد في النوم‬
‫أمورا ً ‪ ،‬وتتخيل أحواالً ‪ ،‬وتعتقد لها ثباتا ً واستقرارا ً ‪ ،‬وال تشك في تلك الحالة فيها ‪ ،‬ثم تستيقظ‬
‫فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيالتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في‬
‫يقظتك بحس أو عقل ه و حق باإلضافة إلى حالتك [ التي أنت فيها ] ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك‬
‫حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ‪ ،‬كنسبة يقظتك إلى منامك ‪ ،‬وتكون يقظتك نوما ً باإلضافة إليها! فإذا‬
‫وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خياالت ال حاصل لها ‪ ،‬ولعل تلك الحالة ما‬

‫في ش‪ :‬أثقتي‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫في ش‪ :‬التشكيك‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫في ش ‪ :‬وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫في ق‪ :‬بالحواس‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫في ش‪ :‬تكن‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫في ش ‪ :‬الدينار‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‬
‫الغزالي‬
‫تدعيه‪ 29‬الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون في أحوالهم التي ( لهم ) ‪ ،‬إذا غاصوا‬
‫في أنفسهم ‪ ،‬وغابوا عن حواسهم ‪ ،‬أحواالً ال توافق هذه المعقوالت‪ .‬ولعل تلك الحالة هي الموت‬
‫‪ ،‬إذ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫الناس نيا ٌم فإذا ماتوا انتبـهوا ))‬
‫ُ‬ ‫((‬
‫فلعل الحياة الدنيا نوم باإلضافة إلى اآلخرة‪ .‬فإذا مات ظهرت له األشياء على خالف ما يشاهده‬
‫اآلن ‪ ،‬ويقال له عند ذلك‪:‬‬
‫اليوم حديدٌ )) (ق‪)22 :‬‬
‫َ‬ ‫فبصر َك‬
‫ُ‬ ‫غطاءك‬
‫َ‬ ‫عنك‬
‫(( فكشفنا َ‬
‫فلما خطرت‪ 31‬لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ‪ ،‬حاولت لذلك عالجا ً فلم يتيسر ‪ ،‬إذ لم يكن‬
‫دفعه إال بالدليل ‪ ،‬ولم يمكن نصب دليل إال من تركيب العلوم األولية ‪ ،‬فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن‬
‫تركيب الدليل‪ .‬فأعضل هذا الداء‪ ، 32‬ودام قريبا ً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم‬
‫الحال ‪ ،‬ال بحكم النطق والمقال ‪ ،‬حتى شفى هللا تعالى من ذلك المرض ‪ ،‬وعادت النفس إلى الصحة‬
‫واالعتدال ‪ ،‬ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا ً بـها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم‬
‫دليل وترتيب كالم ‪ ،‬بل بنور قذفه هللا تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ‪،‬‬
‫فمن ظن أن الكشف موقوف على األدلة المحررة فقد ضيق رحمة هللا [ تعالى ] الواسعة ؛ ولما‬
‫سئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن ( الشرح ) ومعناه في قوله تعالى‪:‬‬
‫(( فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم)) (األنعام‪)125 :‬‬
‫قال‪ (( :‬هو نور يقذفه هللا تعالى في القلب )) فقيل‪( :‬وما عالمته ؟) قال‪ (( :‬التجافي عن دار الغُ ُر ِّ‬
‫ور‬
‫دار ال ُخلُود ))‪ .33‬وهو الذي قال صلى هللا عليه وسلم فيه‪:‬‬
‫واإلنابة إلى ِّ‬
‫‪34‬‬
‫ظ ْلمة ثم َّ‬
‫رش عليه ْم من نُور ِّه ))‬ ‫(( إن هللا تعالى خلق الخلقَ في ُ‬
‫فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ‪ ،‬وذلك النور ينبجس من الجود اإللهي في بعض األحايين‬
‫‪ ،‬ويجب الترصد له كما قال صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫‪35‬‬
‫ضوا لها ))‬ ‫أيام دهركم نفحاتٌ أال فتعر ُ‬
‫(( إن لربكم في ِّ‬

‫‪ 29‬في د‪ :‬يدعيه و في ش ‪ :‬ندعية ؛ والصواب ما ثبتناه في النص‪.‬‬


‫‪ 30‬يقول في ش ‪ :‬أنه ليس بحديث ولكن من كالم على بن أبى طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 31‬في ش ‪ :‬خطر‪.‬‬
‫‪ 32‬هذه الحالة هي التي تسمى فترة الشك وهي غير األزمة الروحانية التي أدت بالغزالي إلى ترك بغداد ؛ وهي األزمة‬
‫األولى وهي بطابعها غير روحانية وإنما هي معرفية‪ .‬ويرى البعض أن هذا الشك مشابه لما حصل للعالم الفرنسي رينيه‬
‫ديكارت راجع في ذلك ما كتبه أحمد شمس الدين في حاشية (المنقذ) من تحقيقه ص ‪ ،29‬وما كتبه عبد الرحمن بدوي‬
‫في مقالة بعنوان ‪ ( :‬أوهام حول الغزالي ) في كتاب أبو حامد الغزالي‪ :‬دراسات في فكره وعصره وتأثيره ‪ ،‬منشورات‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط لعام ‪1988‬م‪.‬‬
‫‪ 33‬ذكره ابن كثير في تفسيره بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً‪.‬‬
‫‪ 34‬رواه أحمد والترمذي والحاكم بلفظ آخر‪.‬‬
‫‪ 35‬رواه الطبراني والسيوطي في الفتح الكبير بلفظ أخر قريب ‪ ،‬والبيهقي وأبو هريرة بلفظ آخر ‪ ،‬وأبو نعيم عن أنس‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‬
‫الغزالي‬
‫والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ‪ ،‬حتى ينتهي إلى طلب ما ال يطلب‪.‬‬
‫فإن األوليات ليست مطلوبة ‪ ،‬فأنـها حاضرة‪ .‬والحاضر إذا طلب فقد‪ 36‬واختفى‪ .‬ومن طلب ما ال‬
‫يطلب ‪ ،‬فال يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب‪.‬‬

‫في ش ‪ :‬نفر‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪-7-‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬اصناف الطالبين‬
‫الغزالي‬
‫َاف َّ‬
‫الطالبْين‬ ‫القَو ُل في أ ْ‬
‫صن ِّ‬
‫ولما شفاني هللا من هذا المرض بفضله وسعة جوده ‪ ،‬أنحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع‬
‫فرق‪:‬‬
‫المتكلمون‪ :‬وهم يدَّعون أنـهم أهل الرأي والنظر‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫الباطنية‪ :‬وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم والمخصوصون باالقتباس من اإلمام‬ ‫‪.2‬‬
‫المعصوم‪.‬‬
‫الفالسفة‪ :‬وهم يزعمون أنـهم أهل المنطق والبرهان‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫الصوفية‪ :‬وهم يدعون أنـهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫فقلت في نفسي ‪ :‬الحق ال يعدو هذه األصناف األربعة ‪ ،‬فهؤالء هم السالكون سبل طلب الحق ‪،‬‬
‫فإن شذَّ الحق عنهم ‪ ،‬فال يبقى في درك الحق مطمع ‪ ،‬إذ ال مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد‬
‫مفارقته ؛ و( من ) شرط المقلد‪ 37‬أن ال يعلم أنه مقلد ‪ ،‬فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ‪ ،‬وهو‬
‫شعب‪ 38‬ال يرأب‪ ، 39‬وشعث‪ 40‬ال يلم بالتلفيق والتأليف ‪ ،‬إال أن يذاب بالنار ‪ ،‬ويستأنف له صنعة‬
‫أخرى مستجدة‪.‬‬
‫فابتدرت لسلوك هذه الطرق ‪ ،‬واستقصاء ما عند هذه الفرق‪ .‬مبتدئا ً بعلم الكالم‪ .‬ومثنيا ً بطريق‬
‫الفلسفة ‪ ،‬ومثلثا ً بتعلم الباطنية ‪ ،‬ومربعا ً بطريق الصوفية‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫في ش ‪ :‬إذ من شرط المقلد‪.‬‬ ‫‪37‬‬

‫الشعب بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة انفراج بين الجبلين ‪ ،‬والمراد هنا شق‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫اليرأب ‪ :‬اليصلح‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫شعث ‪ :‬ما تفرق من األمور‪.‬‬ ‫‪40‬‬

‫‪-8-‬‬
‫اصله‬ ‫‪ِّ -1‬ع ْل ُم ال َكالَم‪َ :‬م ْق ُ‬
‫صوده و َح ِّ‬
‫صلته وعقلته ‪ ،‬وطالعت كتب المحققين منهم ‪ ،‬وصنفت فيه ما أردت‬ ‫ثم إني ابتدأت بعلم الكالم ‪ ،‬فح َّ‬
‫أن أصنف ‪ ،‬فصادفته علما ً وافيا ً بمقصوده ‪ ،‬غير واف بمقصودي ؛ وإنما المقصود منه حفظ‬
‫‪41‬‬

‫عقيدة أهل السنة [ على أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة‪ .‬فقد ألقى هللا ( تعالى )‬
‫إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق ‪ ،‬على ما فيه صالح دينهم ودنياهم ‪ ،‬كما نطق‬
‫‪42‬‬
‫بمعرفته القرآن واألخبار ‪ ،‬ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا ً مخالفة للسنة ‪ ،‬فلهجوا‬
‫بـها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها‪ .‬فأنشأ هللا تعالى طائفة المتكلمين ‪ ،‬وحرك دواعيهم‬
‫لنصرة السنة بكال م مرتب ‪ ،‬يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة ‪ ،‬على خالف السنة المأثورة‬
‫؛ فمنه نشأ علم الكالم وأهله‪ .‬ولقد قام طائفة منهم بما ندبـهم هللا ( تعالى ) إليه ‪ ،‬فأحسنوا الذب عن‬
‫السنة ‪ ،‬والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة ‪ ،‬والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة ؛‬
‫ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ‪ ،‬واضطرهم إلى تسليمها‪ :‬إما التقليد‬
‫‪ ،‬أو إجماع األمة ‪ ،‬أو مجرد القبول من القرآن واألخبار‪ .‬وكان أكثر خوضهم في استخراج‬
‫مناقضات الخصوم ‪ ،‬ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم‪ .‬وهذا قليل النفع في حق‪ 43‬من ال يسلم سوى‬
‫الضروريات شيئا ً ( أصالً ) ‪ ،‬فلم يكن الكالم في حقي كافيا ً ‪ ،‬وال لدائي الذي كنت أشكوه شافياً‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لما نشأت صنعة الكالم وكثر الخوض فيه وطالت المدة ‪ ،‬تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب‬
‫‪44‬‬
‫( عن السنة ) بالبحث عن حقائق األمور ‪ ،‬وخاضوا في البحث عن الجواهر واألعراض‬
‫وأحك امها‪ .‬ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم ‪ ،‬لم يبلغ كالمهم فيه الغاية القصوى ‪ ،‬فلم يحصل‬
‫منه ما يمحق‪ 45‬بالكلية ظلمات الحيرة في اختالفات الخلق ؛ وال أبعد ُ أن يكون قد حصل ذلك‬
‫لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصوالً مشوبا ً بالتقليد في بعض األمور التي‬
‫ليست من األوليات!‬
‫والغرض اآلن حكاية حالي ‪ ،‬ال اإلنكار على من استشفى به ‪ ،‬فإن أدوية الشفاء تختلف باختالف‬
‫الداء‪ .‬وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر!‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫في ش ‪ :‬مقصوده‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫لهج باألمر‪ :‬أولع به فثابر عليه واعتاده‪.‬‬ ‫‪42‬‬

‫في ش ‪ :‬جنب‪.‬‬ ‫‪43‬‬

‫الجوهر‪ :‬األصل وفي المصطلح الماهية‪ .‬العرض هو الذي يحتاج إلى موضع يقوم به كاللون المحتاج الى جسم يحله‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫في ش ‪ :‬يـمحو‪.‬‬ ‫‪45‬‬

‫‪-9-‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫‪ - 2‬الفَل ْسفَة‬
‫محصولها‪.‬‬ ‫●‬
‫المذموم منها وما ال يذم‪.‬‬ ‫●‬
‫وما يكفر به قائلة وما ال يكفر به‪.‬‬ ‫●‬
‫وما يبتدع فيه وما ال يبتدع‪.‬‬ ‫●‬
‫وبيان ما سرقه الفالسفة من كالم أهل الحق‪.‬‬ ‫●‬
‫وبيان ما مزجوه بكالم أهل الحق لترويج باطلهم في درج ذلك‪.‬‬ ‫●‬
‫وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل‪.‬‬ ‫●‬
‫‪46‬‬
‫وكيفية استخالص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كالمهم‪.‬‬ ‫●‬
‫ثم إني ابتدأت ‪ ،‬بعد الفراغ من علم الكالم ‪ ،‬بعلم الفلسفة وعلمت يقينا ً ‪ ،‬أنه ال يقف على فساد نوع‬
‫من العلوم ‪ ،‬من ال يقف على منتهى ذلك العلم ‪ ،‬حتى يساوي أعلمهم في أصل [ ذلك ] العلم ‪ ،‬ثم‬
‫يزيد عليه ويجاوز درجته ‪ ،‬فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور‪ 47‬وغائله ‪ ،‬وإذا‬
‫ذاك‪ 48‬يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً‪ .‬ولم أر أحدا ً من علماء اإلسالم صرف عنايته وهمته‬
‫إلى ذلك‪.‬‬
‫ولم يكن في كتب (( المتكلمين )) من كالمهم ‪ ،‬حيث اشتغلوا بالرد عليهم ‪ ،‬إال كلمات معقدة مبددة‬
‫‪ ،‬ظاهرة التناقض والفساد ‪ ،‬ال يظن االغترار بـها بعاقل‪ 49‬عامي ‪ ،‬فضالً عمن يدعي دقائق العلوم‪.‬‬
‫فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه واإلطالع على كنهه‪ 50‬رمى في عماية ‪ ،‬فشمرت عن ساق الجد‬
‫‪ ،‬في تحصيل ذلك العلم من الكتب ‪ ،‬بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ‪ ،‬وأقبلت على ذلك‬
‫في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية ‪ ،‬وأنا ممنو‪ 51‬بالتدريس واإلفادة‬
‫لثالثمائة نفر من الطلبة ببغداد‪.‬‬
‫فأطلعني هللا سبحأنه [ وتعالى ] بمجرد المطالعة في هذه األوقات المختلسة ‪ ،‬على منتهى علومهم‬
‫في أقل من سنتين‪ .‬ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريبا ً من سنة ‪ ،‬أعاوده وأردده‬
‫اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ‪ ،‬وتحقيق وتخييل ‪ ،‬اطالعا ً‬ ‫وأتفقد غوائله وأغواره ‪ ،‬حتى َّ‬
‫لم أشك فيه‪.‬‬

‫جميع هذه النقط الثمانية زائدة في ش و ق‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫في ش ‪ :‬غوره‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫في ش‪ :‬فإذذاك‪.‬‬ ‫‪48‬‬

‫في ش‪ :‬بغافل‪.‬‬ ‫‪49‬‬

‫كنهه ‪ :‬قدر الشيء ونـهايته ؛ يقال ‪ :‬بلغت كنه هذا األمر أي غايته‪ .‬لسان اللسان‪.‬‬ ‫‪50‬‬

‫مبتلى به‪.‬‬
‫ممنو ‪ِّ :‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫فاسمع اآلن حكايتهم‪ 52‬وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافا ً ‪ ،‬ورأيت علومهم أقساما ً ؛‬
‫وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة‪ 53‬الكفر واإللحاد ‪ ،‬وإن كان بين القدماء منهم واألقدمين ‪،‬‬
‫وبين األواخر منهم واألوائل ‪ ،‬تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫في ش ‪ :‬حكايته‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫في ش ‪ :‬سمة‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫‪54‬‬
‫ص َمة ال ُك ِّفر َكافَّته ُم‬ ‫أَ ْ‬
‫صناَف الفَالَ ِّسفةَ و ُ‬
‫شمول َو ْ‬
‫اعلم‪ :‬أنـهم ‪ ،‬على كثرة فرقهم واختالف مذاهبـهم ‪ ،‬ينقسمون إلى ثالثة أقسام‪ :‬الدهريون ‪،‬‬
‫والطبيعيون ‪ ،‬واإللهيون‪.‬‬
‫الصنف األول‪ :‬الدهريون‪ -:‬وهم طائفة من األقدمين جحدوا الصانع المدبر ‪ ،‬العالم القادر ‪،‬‬
‫وزعموا أن العالم لم يزل موجودا ً كذلك بنفسه بال صانع ‪ ،‬ولم يزل الحيوان من النطفة ‪ ،‬والنطفة‬
‫من الحيوان ‪ ،‬كذلك كان ‪ ،‬وكذلك يكون أبدا ً وهؤالء هم الزنادقة‪.‬‬
‫والصنف الثاني‪ :‬الطبيعيون‪ -:‬وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة ‪ ،‬وعن عجائب الحيوان‬
‫والنبات ‪ ،‬وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات ‪ ،‬فرأوا فيها من عجائب صنع هللا‬
‫تعالى وبدائع حكمته ‪ ،‬مما اضطروا معه إلى االعتراف بفاطر‪ 55‬حكيم ‪ ،‬مطلع على غايات األمور‬
‫ومقاصدها‪ .‬وال يطالع التشريح وعجائب منافع األعضاء مطالع ‪ ،‬إال ويحصل له هذا العلم‬
‫الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان ؛ ال سيما بنية اإلنسان‪ .‬إال أن هؤالء ‪ ،‬لكثرة بحثهم‬
‫عن الطبيعة ‪ ،‬ظهر عندهم ‪ -‬العتدال المزاج ‪ -‬تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان بـه‪ .‬فظنوا أن‬
‫القوة العاقلة من اإلنسان تابعة لمزاجه أيضا ً ‪ ،‬وأنـها تبطل ببطالن مزاجه فتنعدم‪ . 56‬ثم إذا‬
‫انعدمت‪ ، 57‬فال يعقل إعادة المعدوم كما زعموا‪ .‬فذهبوا إلى أن النفس تموت وال تعود ‪ ،‬فجحدوا‬
‫اآلخرة ‪ ،‬وأنكروا الجنة والنار ‪ [ ،‬والحشر والنشر ] ‪ ،‬والقيامة والحساب ‪ ،‬فلم يبق عندهم للطاعة‬
‫ثواب ‪ ،‬وال للمعصية عقاب ‪ ،‬فانحل عنهم اللجام وأنـهمكوا في الشهوات أنـهماك األنعام‪.‬‬
‫وهؤالء أيضا ً زنادقة ألن أصل اإليمان هو اإليمان باهلل واليوم اآلخر‪ .‬وهؤالء جحدوا اليوم اآلخر‬
‫‪ ،‬وإن آمنوا باهلل وصفاته‪.‬‬
‫والصنف الثالث‪ :‬اإللهيون ‪ -:‬وهم المتأخرون منهم ‪ [ ،‬مثل ]‪ :‬سقراط ‪ ،‬وهو أستاذ أفالطون ‪،‬‬
‫‪58‬‬

‫وأفالطون‪ 59‬أستاذ أرسطاطاليس ‪ ،‬وأرسطاطاليس‪ 60‬هو الذي رتب [ لهم ] المنطق ‪ ،‬وهذَّب لهم‬
‫ض َج لهم ما كان فِّجا ً من علومهم ‪ ،‬وهم بجملتهم‬
‫العلوم ‪ ،‬وحرر لهم ما لم يكن محررا ً من قب ُل ‪ ،‬وأن َ‬

‫‪ 54‬في ش ‪ :‬أصناف الفالسفة واتصاف كافتهم بالكفر‪.‬‬


‫‪ 55‬في ش ‪ :‬بقادر‪.‬‬
‫‪ 56‬في ش ‪ :‬فينعدم‪.‬‬
‫‪ 57‬في ش ‪ :‬انعدم‪.‬‬
‫‪ 58‬فليسوف يوناني (‪ 399-469‬ق‪ .‬م‪ ).‬ادعى أنه ال يعلم شيء‪ ،‬وليس له آثار مكتوبة وكل ما عندنا ما سجله تلميذه‬
‫أفالطون من محدثاته‪ .‬رفعت المحكمة اليونانية دعوة ضده بتهمة افساد الشباب وأعدمته بالسم‪.‬‬
‫‪ 59‬فليسوف يوناني ( ‪ 427-347‬ق‪.‬م‪ ).‬تلميذ سقراط سجل محدثات أستاذه‪ ،‬وأسس مدرسة للفلسفة سماها األكادمية‪،‬‬
‫جرب الدور السياسي في سركيوز (ايطاليا) ثم رجع إلى عاصمة اليونان أثنيا عندما تغير الوضع السياسي حوله ‪ ،‬قال‬
‫مبررا ً لذلك أنه ال يريد أن تتكرر الجريمة ضد الفلسفة مشيرا ً إلى حادثة إعدام سقراط‪ .‬من أهم أعماله كتاب الجمهورية‪.‬‬
‫‪ 60‬فليسوف مقدوني ( ‪ 347-427‬ق‪.‬م‪ ).‬تلميذ أفالطون‪ ،‬دَرس في مدرسته عشرون عاماً‪ ،‬ثم رجع إلى بلده ليكون‬
‫مدرسا ً لإلسكندر المقدوني‪ ،‬ثم عاد إلى أثنيا وأسس مدرسة سماها الليسيم‪ ،‬بعد وفاة أفالطون‪ ،‬وبحث فيها مع تالميذه‬
‫شتى أنواع المعرفة واستمرت بعد مماته بسنوات عديدة‪ .‬ثم اضطر مغادرة أثنيا عندما توفى االسكندر وضعف أمر‬
‫المقدونيين‪ .‬تالميذه اشتهروا ( بالمشائين ) ألنه كانت عادة المعلم أن يمشي وهو يلقي المحاضرة‪ .‬من أشهر المعلقين‬
‫على أعماله الفليسوف ابن رشد القرطبي الحفيد المعروف بـ"المعلق" الذي ازدهر بعد الغزالي بمائة عام‪ .‬هذب علم‬
‫النطق وكتب في االخالق والنفس وما وراء الطبيعة‪ ،‬واعماله السياسية لم تصل العرب واكتفوا بما كتب افالطون‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫ردوا على الصنفين األولين من الدهرية والطبيعية ‪ ،‬وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا‬
‫بـه غيرهم‪ (( .‬وكفى هللا المؤمنين القتال )) بتقاتلهم‪ .‬ثم رد أرسطاطاليس على أفالطون وسقراط‬
‫‪ ،‬ومن كان قبلهم من اإللهيين ‪ ،‬ردا ً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم ؛ إال أنه استبقى أيضا ً من‬
‫رذائل‪ 61‬كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنـزوع عنها‪ ، 62‬فوجب تكفيرهم ‪ ،‬وتكفير شيعتهم‪ 63‬من‬
‫المتفلسفة اإلسالميين ‪ ،‬كابن سينا‪ 64‬والفارابي‪ 65‬و غيرهم‪ .66‬على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس‬
‫أحد من متفلسفة اإلسالميين كقيام هذين الرجلين‪ .‬وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط‬
‫يتشوش فيه قلب المطالع حتى ال يفهم‪ .‬وما ال يُفهم كيف يُرد أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من‬
‫فلسفة أرسطاطاليس ‪ ،‬بحسب نقل هذين الرجلين ‪ ،‬ينحصر في ثالثة أقسام‪- :‬‬
‫قسم يجب التفكير به‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫وقسم يجب التبديع به‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وقسم ال يجب إنكاره أصالً فلنفصله ‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫‪.3‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ 61‬في ق‪ :‬رذاذ‪.‬‬
‫‪ 62‬في ش ‪ :‬للنـزع منها‪.‬‬
‫‪ 63‬في ش ‪ :‬متبعيهم‪.‬‬
‫‪ 64‬هو أبو الحسين علي ابن سينا (‪ 370-428‬هـ) (فارسي األصل) الطبيب والفليسوف ‪ ،‬صاحب كتاب (القانون في‬
‫الطب) وكتاب (الشفا) وكتاب (النجاة) في الفلسفة‪.‬‬
‫‪ 65‬أبو نصر الفارابي (‪260-339‬هـ) الفليسوف (تركي األصل) المشهور صاحب كتاب الموسيقى الكبير وكتب في‬
‫الفلسفة‪ .‬زعم أبن سينا أنه لم يفهم ارسطو حتى قرأ شرحه الذى ألفه الفارابي‪ .‬لم يشتهر في عصره‪ ،‬ولكنه اشتهر بعد‬
‫ابن سينا‪.‬‬
‫‪ 66‬في ق‪ :‬أمثالهما ‪ ،‬وفي ش غيرهما‪.‬‬
‫‪ 67‬ناقص في ش ‪ :‬فلنفصله‪.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫لومهم‬
‫ع ِّ‬ ‫أ َ ْق َ‬
‫س ِّام ُ‬
‫أعلم‪ :‬أن علومهم ‪ -‬بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ‪ -‬ستة أقسام‪ :‬رياضية ‪ ،‬ومنطقية ‪ ،‬وطبيعية ‪،‬‬
‫وإلهية ‪ ،‬وسياسية ‪ ،‬وخلقية‪.‬‬
‫‪ - 1‬أما الرياضية‪ :‬فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم ‪ ،‬وليس يتعلق شيء منها‬
‫‪68‬‬

‫باألمور الدينية نفيا ً وإثباتا ً ‪ ،‬بل هي أمور برهانية ال سبيل إلى مجاحدته بعد فهمها ومعرفتها‪ .‬وقد‬
‫تولدت منها آفتان‪:‬‬
‫احداهما‪ 69‬األولى‪ :‬ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ‪ ،‬فيحسن بسبب ذلك‬
‫اعتقاده في الفالسفة ‪ ،‬ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح [ وفي ] وثاقة البرهان كهذا العلم‪.‬‬
‫ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته األلسن فيكفر بالتقليد المحض‬
‫ويقول‪ :‬لو كان الدين حقا ً لما اختفى على هؤالء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع‬
‫كفرهم وجحدهم‪ 70‬استدل‪ 71‬على أن الحق هو الجحد واإلنكار للدين‪ .‬وكم رأيت ممن يضل‪ 72‬عن‬
‫الحق بـهذا العذر‪ 73‬وال مستند له سواه! وإذا قيل له‪ :‬الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون‬
‫حاذقا ً في كل صناعة ‪ ،‬فال يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكالم حاذقا ً في الطب ‪ ،‬وال أن يكون‬
‫الجاهل بالعقليات جاهالً بالنحو ‪ ،‬بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها [ رتبة ] البراعة والسبق‪ .‬وإن‬
‫كان الحمق والجهل ( قد ) يلزمهم في غيرها‪ .‬فكالم األوائل في الرياضيات برهاني ‪ ،‬وفي اإللهيات‬
‫تخميني ؛ ال يعرف ذلك إال من جربه وخاض فيه‪ .‬فهذا إذا قرر على هذا الذي أل َحدَ ‪ 74‬بالتقليد ‪،‬‬
‫لم يقع منه موقع القبول ‪ ،‬بل تحمله غلبة الهوى ‪ ،‬والشهوة الباطلة ‪ ،‬وحب التكايس ‪ ،‬على أن يصر‬
‫على تحسين الظن بـهم في العلوم كلها‪.‬‬
‫فهذه آفة عظيمة ألجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ‪ ،‬فأنها وإن لم تتعلق بأمر الدين‬
‫‪ ،‬ولكن لما كانت من مبادئ علومهم ‪ ،‬سرى‪ 75‬إليه شرهم وشؤمهم ‪ ،‬فقل من يخوض فيها إال‬
‫وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى‪.‬‬
‫اآلفة الثانية‪ :‬نشأت من صديق لإلسالم جاهل ‪ ،‬ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم‬
‫منسوب إليهم‪ :‬فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها ‪ ،‬حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف‬
‫‪ ،‬وزعم أن ما قالوه على خالف الشرع‪ .‬فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع ‪ ،‬لم‬
‫يشك في برهأنه ‪ ،‬ولكن اعتقد أن اإلسالم مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع ‪ ،‬فيزداد للفلسفة‬
‫حبا ً ولإلسالم بغضاً‪ .‬ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن اإلسالم ينصر بإنكار هذه العلوم ‪،‬‬

‫في ش‪ :‬العلم‪.‬‬ ‫‪68‬‬

‫ناقص في ش ‪ :‬احداهما‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫في ق‪ :‬جورهم‪.‬‬ ‫‪70‬‬

‫في ش ‪ :‬فيستدل‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫في ش ‪ :‬ضل‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫في ش‪ :‬القدر‪.‬‬ ‫‪73‬‬

‫في ش ‪ :‬اتخذ‪.‬‬ ‫‪74‬‬

‫في ش ‪ :‬يسرى‪.‬‬ ‫‪75‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي واإلثبات ‪ ،‬وال في هذه العلوم تعرض لألمور الدينية‪.‬‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫ت أحد وال لحياته فإذا رأيتم ذلك‬ ‫ينخسفان لمو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ت هللا تعالى ال‬
‫(( إن الشمس والقمر آيتان من آيا ِّ‬
‫فافزعوا إلى ذكر هللا تعالى وإلى الصالة )) ‪.‬‬
‫‪76‬‬

‫وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما‬
‫على وجه مخصوص‪ .‬أما قوله ( عليه السالم )‪ (( :‬لكن هللا إذا تجلى لشي ْء خضع لهُ )) فليس‬
‫توجد هذه الزيادة في الصحاح أصالً‪ .‬فهذا حكم الرياضيات وآفتها‪.‬‬
‫‪ – 2‬وأما المنطقيات‪ :‬فال يتعلق شيء منها بالدين نفيا ً وإثباتا ً ‪ ،‬بل هي‪ 77‬النظر في طرق األدلة‬
‫والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها ‪ ،‬وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه‪ .‬وأن‬
‫العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد ‪ ،‬وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان ؛ وليس في هذا ما‬
‫ينبغي أن ينكر ‪ ،‬بل هو ( من ) جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في األدلة ‪ ،‬وإنما يفارقونـهم‬
‫بالعبارات واالصطالحات ‪ ،‬بزيادة االستقصاء في التعريفات والتشعيبات ‪ ،‬ومثال كالمهم فيها‬
‫قولهم‪ :‬إذا ثبت أن كل (( أ )) (( ب )) لزم أن بعض (( ب )) (( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنسان‬
‫حيوان ‪ ،‬لزم أن بعض الحيوان إنسان‪ .‬ويعبرون عن هذا بأنه الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية‪.‬‬
‫وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق‬
‫إال سوء االعتقاد في عقل المنكر ‪ ،‬بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا اإلنكار‪ .‬نعم‬
‫‪ ،‬لهم نوع من الظلم في هذا العلم ‪ ،‬وهو أنـهم يجمعون للبرهان شروطا ً يعلم أنها تورث اليقين ال‬
‫محالة ‪ ،‬لكنهم عند االنتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ‪ ،‬بل تساهلوا غاية‬
‫التساهل ‪ ،‬وربما ينظر في المنطق أيضا ً من يستحسنه ويراه واضحا ً ‪ ،‬فيظن أن ما ينقل عنهم من‬
‫الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين ‪ ،‬فاستعجل بالكفر قبل االنتهاء إلى العلوم اإللهية‪.‬‬
‫فهذه اآلفة أيضا ً متطرقة إليه‪.‬‬
‫‪ 3 -‬وأما ( علم ) الطبيعيات‪ :‬فهو بحث‪ 78‬عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من األجسام‬
‫المفردة‪ :‬كالماء والهواء والتراب والنار ‪ ،‬وعن األجسام المركبة‪ :‬كالحيوان والنبات والمعادن ‪،‬‬
‫وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها‪ .‬وذلك يضاهي بحث الطب‪ 79‬عن جسم اإلنسان‬
‫وأعضائه الرئيسة‪ 80‬والخادمة ‪ ،‬وأسباب استحالة مزاجه‪ .‬وكما ليس من شرط الدين إنكار علم‬
‫الطب ‪ ،‬فليس من شرطه أيضا ً إنكار ذلك العلم ‪ ،‬إال في مسائل معينة ‪ ،‬ذكرناها في كتاب ((‬
‫تـهافت الفالسفة ))‪ .‬وما عداها مما يجب المخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها ‪،‬‬
‫وأصل جملتها‪ :‬أن تعلم‪ 81‬أن الطبيعة مسخرة هلل تعالى ‪ ،‬ال تعمل بنفسها ‪ ،‬بل هي مستعملة من‬

‫روي هذا الحديث بأسانيد وطرق مختلفة‪ .‬يوجد في البخاري وأحمد والنسائي وأبن ماجة ومالك‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫في ش ‪ :‬هو‪.‬‬ ‫‪77‬‬

‫في ش ‪ :‬يبحث‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫في ش ‪ :‬الطبيب‪.‬‬ ‫‪79‬‬

‫في ش ‪ :‬الرئيسية‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫في ش ‪ :‬يعلم‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫جهة فاطرها‪ .‬والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره ال فعل لشيء منها بذاته عن‬
‫ذاته‪.82‬‬
‫‪ – 4‬وأما اإللهيات‪ :‬ففيها أكثر أغاليطهم ‪ ،‬فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في‬
‫المنطق ‪ ،‬ولذلك كثر االختالف بينهم فيها‪ .‬ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب‬
‫اإلسالميين ‪ ،‬على ما نقله الفارابي وابن سينا‪ .‬ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين‬
‫أصالً ‪ ،‬يجب تكفيرهم في ثالثة منها ‪ ،‬وتبديعهم في سبعة عشر‪ .‬وإلبطال مذهبهم في هذه المسائل‬
‫العشرين ‪ ،‬صنفنا كتاب ( التهافت )‪.‬‬
‫أما المسائل الثالث ‪ ،‬فقد خالفوا فيها كافة اإلسالميين وذلك في قولهم‪:‬‬
‫‪83‬‬

‫‪ - 1‬إن األجساد ال تحشر ‪ ،‬وإنما المثاب والمعاقَب هي األرواح المجردة ‪ ( ،‬والمثوبات )‬


‫والعقوبات روحانية ال جسمانية ؛‬
‫ولقد صدقوا في إثبات الروحانية ‪ ،‬فأنها ثابتة أيضا ً ‪ ،‬ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية ‪ ،‬وكفروا‬
‫‪84‬‬

‫بالشريعة فيما نطقوا به‪.‬‬


‫‪ - 2‬ومن ذلك قولهم‪ (( :‬إن هللا تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات )) ؛‬
‫األرض‬
‫ِّ‬ ‫ت وال في‬‫وهذا أيضا ً كفر صريح ‪ ،‬بل الحق أنه‪ (( :‬ال يعزب عنـه مثقال ذرة في السموا ِّ‬
‫))‪(.‬سبأ‪)3 :‬‬
‫‪ - 3‬ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل‪.‬‬
‫وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات ‪ ،‬وقولهم إنه عالم بالذات ‪ ،‬ال بعلم زائد (على الذات) وما‬
‫يجري مجراه ‪ ،‬فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة وال يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك‪ .‬وقد‬
‫ذكرنا في كتاب (( فيصل التف رقة بين اإلسالم والزندقة )) ما يتبين به فساد رأي من يتسارع إلى‬
‫التكفير في كل ما يخالف مذهبه‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأما السياسيات ‪ :‬فجميع كالمهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة باألمور الدنيوية (‬
‫واإليالة ) السلطانية ‪ ،‬وإنما أخذوها من كتب هللا المنـزلة على األنبياء ‪ ،‬ومن الحكم المأثورة عن‬
‫سلف األنبياء [ عليهم السالم ]‪.‬‬
‫‪ - 5‬وأما الخلقية ‪ :‬فجميع كالمهم ( فيها ) يرجع إلى حصر صفات النفس وأخالقها ‪ ،‬وذكر أجناسها‬
‫وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها ‪ ،‬وإنما أخذوها من كالم الصوفية ‪ ،‬وهم المتألهون‬
‫المواظبون على ذكر هللا تعالى ‪ ،‬وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى هللا تعالى باإلعراض‬
‫مالذ الدنيا‪ .‬وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخالق النفس وعيوبـها ‪ ،‬وآفات أعمالها ما‬ ‫ِّ‬ ‫عن‬
‫صرحوا بـها ‪ ،‬فأخذها الفالسفة ومزجوها بكالمهم ‪ ،‬توسالً بالتجمل بـها إلى ترويج باطلهم‪ .‬ولقد‬
‫كان في عصرهم ‪ ،‬بل في كل عصر ‪ ،‬جماعة من المتأهلين ‪ ،‬ال يُخلي هللا [ سبحانه ] العالم عنهم‬
‫‪ ،‬فأنـهم أوتاد األرض ‪ ،‬ببركاتـهم تنـزل الرحمة على أهل األرض كما ورد في الخبر حيث قال‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬

‫نقص في ش ‪ :‬عن ذاته‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫في ق‪ :‬المسلمين‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫في ق‪ :‬كائنة‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫(( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف )) ‪.‬‬
‫‪85‬‬

‫وكانوا في سالف األزمنة ‪ ،‬على ما نطق بـه القرآن ‪ ،‬فتولد من مزجهم كالم النبوة وكالم الصوفية‬
‫بكتبهم آفتان‪ :‬آفة في حق القابل وآفة في حق الراد‪:‬‬
‫دونا ً‬
‫‪ - 1‬أما اآلفة التي في حق الراد فعظيمة‪ :‬إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكالم إذا كان ُم َّ‬
‫في كتبهم ‪ ،‬وممزوجا ً بباطلهم ‪ ،‬ينبغي أن يُهجر وال يُذكر بل يُنكر على [ كل ] من يذكره ‪ ،‬إذ لم‬
‫يسمعوه أوالً إال منهم ‪ ،‬فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل ‪ ،‬ألن قائله ُمبطل ؛ كالذي يسمع من‬
‫النصراني قوله‪ (( :‬ال إله إال هللا عيسى رسول هللا )) فينكره ويقول‪ (( :‬هذا كالم النصارى )) وال‬
‫يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كا فر باعتبار هذا القول ‪ ،‬أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه‬
‫الصالة والسالم!؟ فإن لم يكن كافرا ً إال باعتبار إنكاره ‪ ،‬فال ينبغي أن يخالف في غير ما هو به‬
‫كافر مما هو حق في نفسه ‪ ،‬وإن كان أيضا ً حقا ً عنده‪ .‬وهذه عادة ضعفاء العقول ‪ ،‬يعرفون الحق‬
‫بالرجال ‪ ،‬ال الرجال بالحق‪ .‬والعاقل يقتدي بسيد العقالء‪ 86‬علي‪ ، 87‬رضي هللا عنه‪ 88‬حيث قال‪:‬‬
‫(( ال تعرف الحق بالرجال ( بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و ( العارف ) العاقل يعرف الحق‬
‫‪ ،‬ثم ينظر في نفس القول‪ :‬فإن كان حقا ً ‪ ،‬قبله سواء كان قائله مبطالً أو محقا ً ؛ بل ربما يحرص‬
‫على انتزاع الحق من أقاويل‪ 89‬أهل الضالل ‪ ،‬عالما ً بأن معدن الذهب الرغام‪ .‬وال بأس على‬
‫الصراف إن أدخل يده في كيس القالب ‪ ،‬وانتزع اإلبريز الخالص من الزيف والبهرج ‪ ،‬مهما كان‬
‫ي ‪ ،‬دون الصيرفي ( البصير ) ؛ ويمنع من‬ ‫واثقا ً ببصيرته ؛ وانما يزجر عن معاملة القالب القرو ُّ‬
‫المعزم البارع‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األخرق ‪ ،‬دون السباح الحاذق ؛ ويُصد عن مس الحية الصبي دون‬ ‫ُ‬ ‫ساحل البحر‬
‫ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة ‪ ،‬وكمال العقل ( وتمام اآللة‬
‫) في تمييز الحق عن ( الباطل ‪ ،‬والهدى عن ) الضاللة ‪ ،‬وجب حسم الباب في زجر الكافة عن‬
‫مطالعة كتب أهل الضالل ما أمكن ‪ ،‬إذ ال يسلمون عن اآلفة الثانية التي سنذكرها ( أصالً ) وإن‬
‫سلموا عن ( هذه ) اآلفة التي ذكرناها‪.‬‬
‫ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين ‪ ،‬طائفة من الذين‬
‫لم تستحكم في العلوم سرائرهم ‪ ،‬ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم ‪ ،‬وزعمت أن‬
‫تلك الكلمات من كالم األوائل ‪ ،‬مع أن بعضها من مولدات الخواطر ‪ -‬وال يبعد أن يقع الحافر على‬
‫الحافر ‪ -‬وبعضها يوجد في الكتب الشرعية ‪ ،‬وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية‪.‬‬
‫وهب أنها لم توجد إال في كتبهم ‪ ،‬فإذا كان ذلك الكالم معقوالً في نفسه ‪ ،‬مؤيدا ً بالبرهان ‪ ،‬ولم يكن‬
‫فلم ينبغي أن يهجر ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب ‪ ،‬وتطرقنا إلى أن‬ ‫على مخالفة الكتاب والسنة ‪َ ،‬‬
‫يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل ‪ ،‬للزمنا أن نـهجر كثيرا ً من الحق ‪ ،‬ولزمنا أن نـهجر جملة‬
‫آيات من آيات القرآن وأخبار الرسول صلى هللا عليه وسلم وحكايات السلف وكلمات الحكماء‬
‫‪ 85‬الحديث ليس له تخريج في ش‪.‬‬
‫‪ 86‬في ق زاد ‪ :‬بقول أمير المؤمنين‪.‬‬
‫‪ 87‬في ق زاد‪ :‬بن أبي طالب‪.‬‬
‫‪ 88‬اإلمام علي كرم هللا وجهه ‪ ،‬هو ابن عم الرسول صلى هللا عليه وسلم تزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد الحسن‬
‫والحسين و رابع الخلفاء الراشدون وهو إما ٌم في الفقه والحكمة والعدل ؛ اتفقت جميع الملل على فضله و له مكارم‬
‫ومحاسن كثيرة ليس هذا مقام ذكرها رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 89‬في ق ‪ :‬تضاعيف كالم‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل‪ :‬الفلسفة‬
‫الغزالي‬
‫والصوفية ‪ ،‬ألن صاحب كتاب (( إخوان الصفا )) أوردها في كتابـه مستشهدا ً بـها ومستدرجا ً‬
‫قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله ؛ ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا‬
‫بإيداعهم إياه كتبهم‪ .‬وأقل درجات العالم‪ :‬أن يتميز عن العامي الغُمر ‪ ،‬فال يعاف العسل ‪ ،‬وإن‬
‫وجده في محجمة الح َّجام ‪ ،‬ويتحقق أن المحجمة ال تغير ذات العسل ‪ ،‬فإن نفرة الطبع عنه مبنية‬
‫على جهل عامي منشؤه أن المحجمة ‪ ،‬إنما صنعت للدم المستقذَر ‪ ،‬فيظن أن الدم مستقذر لكونه‬
‫في المحجمة ‪ ،‬وال يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته ؛ فإذا عدمت ( هذه ) الصفة في العسل فكونـه‬
‫في ظرفه ال يكسبه تلك الصفة ‪ ،‬فال ينبغي أن يوجب له االستقذار ‪ ،‬وهذا وهم باطل ‪ ،‬وهو غالب‬
‫على أكثر الخلق‪ .‬فإذا نسبت الكالم وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم ‪ ،‬قبلوه وإن كان باطالً ؛‬
‫وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً‪ .‬فأبدا ً يعرفون الحق بالرجال وال يعرفون‬
‫الرجال بالحق ‪ ،‬وهو غاية الضالل! هذه آفة الرد‪.‬‬
‫‪2 -‬واآلفة الثانية آفة القبول‪ :‬فإن من نظر في كتبهم (( كإخوان الصفا )) وغيره ‪ ،‬فرأى ما مزجوه‬
‫بكالمهم من الحكم النبوية ‪ ،‬والكلمات الصوفية ‪ ،‬ربما استحسنها وقبلها ‪ ،‬وحسن اعتقاده فيها ‪،‬‬
‫فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج بـه ‪ ،‬لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ‪ ،‬وذلك نوع‬
‫استدراج إلى الباطل‪.‬‬
‫وألجل هذه اآلفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر‪ .‬وكما يجب صون من‬
‫ال يحسن السباحة على مزالق الشطوط ‪ ،‬يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب‪ .‬وكما يجب‬
‫صون الصبيان عن مس الحيَّات ‪ ،‬يجب صون األسماع عن مختلط الكلمات وكما يجب على‬
‫المعزم أن ال يمس الحية بين يدي ولده الطفل ‪ ،‬إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله ‪ ،‬بل يجب‬ ‫ِّ‬
‫عليه أن يحذره [ منه ] ‪ ،‬بأن يحذر هو [ في ] نفسه [ وال يمسها ] بين يديه ‪ ،‬فكذلك يجب على‬
‫المعزم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم ‪ ،‬واستخرج‬ ‫ِّ‬ ‫العالم الراسخ مثله‪ .‬وكما أن‬
‫منها الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه‪ .‬وكذا الصراف الناقد البصير‬
‫إذا أدخل يده في كيس ال َقالب ‪ ،‬وأخرج منه اإلبريز الخالص ‪ ،‬واطرح الزيف والبهرج ‪ ،‬فليس له‬
‫أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ؛ فكذلك العالم‪ .‬وكما أن المحتاج إلى الترياق ‪ ،‬إذا‬
‫اشمأزت نفسه منه ‪ ،‬حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم [ وجب تعريفه ] ‪،‬‬
‫والفقير المضطر إلى المال ‪ ،‬إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القالب ‪ ،‬وجب تنبيهه‬
‫على أن نفرته جهل محض ‪ ،‬هو سبب حرمأنه الفائدة التي هي مطلبه ‪ ،‬وتحتم تعريفه أن قرب‬
‫الجوار بين الزيف والجيد ال يجعل الجيد زيفا ً ‪ ،‬كما ال يجعل الزيف جيدا ً ‪ ،‬فكذلك قرب الجوار‬
‫بين الحق الباطل ‪ ،‬ال يجعل الحق باطالً ‪ ،‬كما ال يجعل الباطل حقاً‪.‬‬
‫فهذا ( مقدار ) ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 18 -‬‬
‫‪ - 3‬القَو ُل ِّفي َم ْذ َه ِّ‬
‫ب التَّع ِّليم وغَائِّلَته‬
‫ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ‪ ،‬علمت أن ذلك أيضا ً‬
‫غير واف بكمال الغرض ‪ ،‬وأن العقل ليس مستقالً باإلحاطة بجميع المطالب ‪ ،‬وال كاشفا ً للغطاء‬
‫عن جميع المعضالت‪ .‬وكان قد نبغت نابغة التعليمية ‪ ،‬وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى‬
‫األمور من جهة اإلمام المعصوم القائم بالحق ‪ ،‬فعن لي أن أبحث في مقاالتـهم ‪ ،‬ألطلع على ما‬
‫في كنانتهم‪ .‬ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخالفة ‪ ،‬بتصنيف كتاب يكشف [ عن ]‬
‫حقيقة مذهبهم‪ .‬فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثا ً من خارج ‪ ،‬ضميمة للباعث من الباطن ‪،‬‬
‫فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقاالتـهم‪ .‬وكذلك قد بلغني بعض كلماتـهم المستحدثة التي ولدتـها‬
‫خواطر أهل العصر ‪ ،‬ال على المنهاج المعهود من سلفهم‪ .‬فجمعت تلك الكلمات ‪ ( ،‬ورتبتها )‬
‫ترتيبا ً محكما ً مقارنا ً للتحقيق ‪ ،‬واستوفيت الجواب عنها ‪ ،‬حتى أنكر بعض أهل الحق ( مني )‬
‫مبالغتي في تقرير حجتهم ‪ ،‬فقال‪ (( :‬هذا سعي لهم ‪ ،‬فأنـهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم‬
‫بـمثل هذه الشبهات لوال تحقيقك لها ‪ ،‬وترتيبك إياها ))‪ .‬وهذا اإلنكار من وجه حق ‪ ،‬فقد أنكر أحمد‬
‫بن حنبل على الحارث المحاسبي ( رحمهما هللا ) ‪ ،‬تصنيفه في الرد على المعتزلة ؛ فقال الحارث‪:‬‬
‫(( الرد على البدعة فرض)) فقال أحمد‪ (( :‬نعم ‪ ،‬ولكن حكيت شبهتهم أوالً ثم أجبت عنها ؛ َ‬
‫فبم‬
‫تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ‪ ،‬وال يلتفت إلى الجواب ‪ ،‬أو ينظر في الجواب وال‬
‫يفهم كنهه؟ ))‪.‬‬
‫وما ذكره أحمد بن حنبل حق ‪ ،‬ولكن في شبهة ( لم تنتشر ) ولم تشتهر‪ .‬فأما إذا انتشرت ‪ ،‬فالجواب‬
‫عنها واجب وال يمكن الجواب [ عنها ] إال بعد الحكاية‪ .‬نعم ‪ ،‬ينبغي أن ال يتكلف لهم شبهة لم [‬
‫يتكلفوها ] ؛ ولم أتكلف أنا ذلك ‪ ،‬بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين‬
‫إلي ‪ ،‬بعد أن كان قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ‪ ،‬وحكى أنـهم يضحكون على تصانيف المصنفين‬
‫في الرد عليهم ‪ ،‬بأنـهم لم يفهموا بعد حجتهم‪ .‬ثم ذكر تلك الحجة وحكاها عنهم ‪ ،‬فلم أرض لنفسي‬
‫أن يظن في الغفلة عن اصل حجتهم ‪ ،‬فلذلك أوردتـها ‪ ،‬وال أن يظن بي أني ‪ -‬وإن سمعتها – لم‬
‫أفهمها فلذلك قررتها‪.‬‬
‫والمقصود ‪ ،‬أني قررت شبهتهم إلى أقصى اإلمكان ‪ ،‬ثم أظهرت فسادها [ بغاية البرهان ]‪.‬‬
‫والحاصل‪ :‬أنه ال حاصل عند هؤالء ‪ ،‬وال طائل لكالمهم‪ .‬ولوال سوء نصرة الصديق الجاهل ‪،‬‬
‫لما انتهت تلك البدعة ‪ -‬مع ضعفها ‪ -‬إلى هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ‪ ،‬دعت الذابين عن‬
‫الحق إلى تطويل النـزاع معهم في مقدمات كالمهم ‪ ،‬وإلى مجاحدتـهم في كل ما نطقوا به ‪،‬‬
‫فجاحدوهم في دعواهم‪ (( :‬الحاجة إلى التعليم والمعلم‪ )) .‬وفي دعواهم أنه‪ (( :‬ال يصلح كل معلم‬
‫‪ ،‬بل ال بد من معلم معصوم‪ )) .‬وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم والمعلم ‪ ،‬وضعف‬
‫قول المنكرين في مقابلته ‪ ،‬فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب‬
‫المخالفين ل هم ‪ ،‬ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجعله بطريقه ؛ بل الصواب االعتراف‬
‫بالحاجة إلى المعلم ‪ ،‬وأنه ال بد وأن يكون ( المعلم ) معصوما ً ‪ ،‬ولكن معلمنا المعصوم ( هو )‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم فإذا قالوا‪ (( :‬هو ميت )) ‪ ،‬فنقول‪ (( :‬ومعلمكم غائب )) ‪ ،‬فإذا قالوا‪:‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫الغزالي‬
‫(( معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البالد ‪ ،‬وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل‬
‫))‪ .‬فنقول‪ (( :‬ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البالد وأكمل التعليم إذ قال هللا تعالى‪:‬‬
‫(( اليوم أكملتُ لكم دينكم [ وأتممتُ عليك ْم نعمتي ] )) (المائدة‪)3 :‬‬
‫وبعد كمال التعليم ال يضر موت المعلم كما ال يضر غيبته‪.‬‬
‫فبقي قولهم‪ (( :‬كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه ‪ ،‬أم باإلجتهاد والرأي وهو‬
‫مظنة الخالف؟ )) فنقول‪ (( :‬نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول هللا عليه [ الصالة ] والسالم إلى‬
‫اليمن‪ :‬أن نحكم بالنص ‪ ،‬عند وجود النص وباإلجتهاد عند عدمه‪ ( .90‬بل ) كما يفعله دعاتهم إذا‬
‫بعدوا عن اإلمام إلى أقاصي البالد ‪ ،‬إذ ال يمكنـه أن يحكم بالنص فإن النصوص المتناهية ال‬
‫تستوعب الوقائع الغير المتناهية ‪ ،‬وال يمكنـه الرجوع في كل واقعة إلى بلدة اإلمام ‪ ،‬وأن يقطع‬
‫المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات ‪ ،‬وفات االنتفاع بالرجوع‪ .‬فمن أشكلت عليه القبلة ليس‬
‫له طريق إال أن يصلي باالجتهاد ‪ ،‬إذ لو سافر إلى بلدة اإلمام لمعرفة القبلة ‪ ،‬فيفوت وقت الصالة‪.‬‬
‫أجر‬
‫فإذن جازت الصالة إلى غير القبلة بناء على الظن‪ .‬ويقال‪ (( :‬إن المخطيء في االجتهاد له ٌ‬
‫ب أجران ))‪ .91‬فكذلك في جميع المجتهدات ‪ ،‬وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير‬ ‫واحد ٌ ولل ُمصي ِّ‬
‫‪ ،‬فربما يظنـه فقيرا ً باجتهاده وهو غني باطنا ً بإخفائه ماله ‪ ،‬فال يكون مؤاخذا ً بـه وإن أخطأ ‪ ،‬ألنه‬
‫لم يؤاخذ إال بموجب ظنه‪ .‬فإن قال‪ (( :‬ظن مخالف ِّه كظنه )) فأقول‪ (( :‬هو مأمور باتباع ظن نفسه‬
‫‪ ،‬كالمجت هد في القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غيره‪ )) .‬فإن قال‪ (( :‬فالمقلد يتبع أبا حنيفة والشافعي (‬
‫رحمهما هللا ) أم غيرهما‪ )) .‬فأقول‪ (( :‬فالمقلد في القبلة عند االشتباه ‪ ،‬في معرفة األفضل األعلم‬
‫بدالئل القبلة ‪ ،‬فيتبع ذلك االجتهاد ؛ فكذلك في المذاهب‪)) .‬‬
‫فرد الخلق إلى االجتهاد ‪ -‬ضرورة ‪ -‬األنبيا ُء واألئمة مع العلم بأنـهم ( قد ) يخطئون ‪ ،‬بل قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ (( :‬أنا أحكم بالظاهر وهللا يتولى السرائر ))‪ .92‬أي أنا أحكم بغالب‬
‫الظن الحاصل من قول الشهود ‪ ،‬وربما أخطأوا فيه‪ .‬وال سبيل إلى األمن من الخطأ لألنبياء في‬
‫مثل هذه المجتهدات ‪ ،‬فيكف يطمع في ذلك؟‬
‫ولهم ها هنا سؤاالن‪ :‬أحدهما قولهم‪ (( :‬هذا وإن صح في المجتهدات فال يصح في قواعد العقائد ‪،‬‬
‫إذ المخطئ فيه غير معذور ‪ ،‬فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول‪ (( :‬قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب‬
‫والسنة ؛ وما وراء ذلك من التفصيل ‪ ،‬والمتن ازع فيه ‪ ،‬يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس‬
‫المستقيم‪ .‬وهي الموازين التي ذكرها هللا ( تعالى ) في كتابه ‪ ،‬وهي خمسة ذكرتـها في كتاب ((‬
‫القسطاس المستقيم ))‪ .‬فإن قال‪ (( :‬خصومك يخالفونك في ذلك الميزان‪ )) .‬فأقول‪ (( :‬ال يتصور‬
‫أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه [ إذ ال يخالف فيه ] أهل التعليم ‪ ،‬ألني استخرجته من القرآن‬
‫وتعلمته منه ‪ ،‬وال يخالف فيه أهل المنطق ‪ ،‬ألنه موافق لما شرطوه في المنطق ‪ ،‬وغير مخالف‬
‫له ؛ وال يخالف فيه المتكلم ألنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات ‪ ،‬وبه يعرف الحق في‬
‫فلم ال ترفع الخالف بين الخلق؟ ))‬ ‫الكالميات‪ )) .‬فإن قال‪ (( :‬فإن كان في يدك مثل هذا الميزان َ‬
‫فأقول‪ (( :‬لو أصغوا إلي لرفعت الخالف بينهم ؛ وذكرت طريق رفع الخالف في كتاب ((‬
‫رواه أبو دواد والترمذي وأحمد‪.‬‬ ‫‪90‬‬

‫رواه مسلم والبخاري وأبو دواد وابن ماجة والترمذي والنسائي (اي الستة) وأحمد‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫قال الحافظ العراقي والحافظ المزي ‪ :‬ال أصل له‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫الغزالي‬
‫القسطاس المستقيم )) ‪ ،‬فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع الخالف قطعا ً لو أصغوا وال يصغون [ إليه‬
‫] بأجمعهم! بل قد أصغى إلي طائفة ‪ ،‬فرفعت الخالف بينهم‪ .‬وإمامك يريد رفع الخالف بينهم مع‬
‫ولم لم يرفع علي رضي هللا عنـه ‪ ،‬وهو رأس األئمة؟ أو‬ ‫فلم لم يرفع إلى اآلن؟ َ‬ ‫عدم إصغائهم ‪َ ،‬‬
‫فلم لم يحملهم إلى اآلن؟ وألي يوم أجله؟‬‫يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على اإلصغاء قهرا ً ‪َ ،‬‬
‫وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إال زيادة خالف وزيادة مخالف؟ نعم! كان يخشى من الخالف‬
‫نوع الضرر ال ينتهي إلى سفك الدماء ‪ ،‬وتخريب البالد وأيتام األوالد ‪ ،‬وقطع الطرق ‪ ،‬واإلغارة‬
‫على األموال‪ .‬وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخالف [ من الخالف ] ما لم يكن بمثله عهد‪.‬‬
‫)) فإن قال‪ (( :‬ادعيت أنك ترفع الخالف بين الخلق ولكن المتحير بين المذاهب المتعارضة ‪،‬‬
‫واالختالفات المتقابلة ‪ ،‬لم يلزمه اإلصغاء إليك دون خصمك ‪ ،‬وأكثر الخصوم يخالفونك ‪ ،‬وال‬
‫فرق بينك وبينهم‪)) .‬‬
‫وهذا هو سؤالهم الثاني فأقول‪ (( :‬هذا أوالً ينقلب عليك ‪ ،‬فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك‬
‫ف يقول المتحير ‪ ،‬بما صرت أولى من مخالفيك ‪ ،‬وأكثر أهل العلم يخالفونك؟ فليت شعري! بماذا‬
‫تجيب ‪ ،‬أتجيب بأن تقول‪ :‬إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك في دعوى النص ‪ ،‬وهو لم يسمع‬
‫النص من الرسول؟ وإنما يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك‪ .‬ثم هب أنه‬
‫سلم لك النص ‪ ،‬فإن كان متحيرا ً في أصل النبوة ‪ ،‬فقال‪ :‬هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسى عليه‬
‫السالم فيقول‪ :‬الدليل على صدقي أني أحيي أباك ‪ ،‬فأحياه ‪ ،‬فناطقني بأنه محق ‪ ،‬فبماذا أعلم صدقه؟‬
‫ولم يعلم كافة الخلق صدق عيسى عليه السالم بـهذه المعجزة ‪ ،‬بل عليه من األسئلة المشكلة ما ال‬
‫يدفع إال بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي ال يوثق به عندك ‪ ،‬وال يعرف داللة المعجزة على‬
‫الصدق ما لم يعرف السحر والتمييز بينه وبين المعجزة ‪ ،‬وما لم يعرف أن هللا ال يضل عباده‪- .‬‬
‫وسؤال اإلضالل وعسر [ تحرير ] الجواب عنه مشهور‪ -‬فبماذا تدفع جميع ذلك؟ ولم يكن إمامك‬
‫أولى بالمتابعة من مخالفه! )) فيرجع إلى األدلة النظرية التي ينكرها ‪ ،‬وخصمه يدلي بمثل تلك‬
‫األدلة وأوضح منها‪ .‬وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقالبا ً عظيما ‪ ،‬لو اجتمع أولهم وآخرهم على‬
‫أن يجيبوا عنه جوابا ً لم يقدروا عليه‪.‬‬
‫وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم ‪ ،‬فلم يشتغلوا بالقلب ‪ ،‬بل بالجواب‪ .‬وذلك مما‬
‫يطول فيه الكالم ‪ ،‬وما ال يسبق سريعا ً إلى اإلفهام ‪ ،‬فال يصلح لإلفحام‪ .‬فإن قال قائل‪ (( :‬فهذا هو‬
‫القلب ‪ ،‬فهل عنه جواب؟ )) فأقول‪ (( :‬نعم! جوابه أن المتحير لو قال‪ :‬أنا متحير ‪ ،‬ولم يعين المسألة‬
‫التي هو متحير فيها ‪ ،‬يقال له‪ :‬أنت كمريض يقول‪ :‬أنا مريض وال يعين مرضه ‪ ،‬ويطلب عالجه‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬ليس في الوجود عالج للمرض المطلق ‪ ،‬بل لمرض معين‪ :‬من صداع أو إسهال أو‬
‫غيرهما‪ .‬فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه ؛ فإن عين المسألة عرفته الحق فيها‬
‫بالوزن بالموازين الخمسة ‪ ،‬التي ال يفهمها أحد إال ويعترف بأنه الميزان الحق ‪ ،‬الذي يوثق بكل‬
‫ما يوزن به ‪ ،‬فيفهم الميزان ‪ ،‬ويفهم منه أيضا ً صحة الوزن ‪ ،‬كما يفهم متعلم علم الحساب نفس‬
‫الحساب ‪ ،‬وكون المحاسب المعلم عالما ً بالحساب وصادقا ً فيه ))‪ .‬وقد أوضحت ذلك في كتاب ((‬
‫القسطاس المستقيم )) في مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل‪.‬‬
‫وليس المقصود اآلن بيان فساد مذهبهم ‪ ،‬فقد ذكرت ذلك في كتاب (( المستظهري )) أوالً ؛ وفي‬
‫عرض علي ببغداد ؛ وفي كتاب (( مفصل‬ ‫كتاب (( حجة الحق )) ثانيا ً ‪ ،‬وهو جواب كالم لهم ُ‬

‫‪- 21 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫الغزالي‬
‫عرض علي بـهمدان ؛ وفي كتاب ((‬ ‫الخالف )) الذي هو اثنا عشر فصالً ثالثا ً ؛ وهو جواب كالم ُ‬
‫عرض علي بطوس ؛ وفي‬ ‫الدرج )) المرقوم (( بالجداول )) رابعا ً ‪ ،‬وهو من ركيك كالمهم الذي ُ‬
‫كتاب (( القسطاس المستقيم )) خامسا ً ‪ ،‬وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم‬
‫وإظهار االستغناء عن االمام [ المعصوم ] لمن أحاط به‪.‬‬
‫بل المقصود أن هؤالء ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات اآلراء ‪ ،‬بل هم ‪ ،‬مع عجزهم‬
‫عن إقامة البرهان على تعيين اإلمام ‪ ،‬طال ما جاريناهم‪ 93‬فصدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى‬
‫المعلم المعصوم وأنه الذي عينوه ‪ ،‬ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم وعرضنا‬
‫عليهم إشكاالت فلم يفهموها ‪ ،‬فضالً عن القيام بحلها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] اإلمام الغائب ‪،‬‬
‫وقالوا‪ ( (( :‬أنه ) ال بد من السفر إليه‪ )) .‬والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي‬
‫التبجح بالظفر به ‪ ،‬ولم يتعلموا منه شيئا ً أصالً ‪ ،‬كالمتضمخ‪ 94‬بالنجاسة ‪ ،‬يتعب في طلب الماء‬
‫حتى إذا وجده لم يستعمله ‪ ،‬وبقي متضمخا ً بالخبائث‪.‬‬
‫ومنهم من ادعى شيئا ً من علمهم ‪ ،‬فكان حاصل ما ذكره شيئا ً من ركيك فلسفة فيثاغورس‪ :‬وهو‬
‫َّ‬
‫استرك‬ ‫رجل من قدماء األوائل ‪ ،‬ومذهبـه أرك مذاهب الفلسفة ‪ ،‬وقد رد عليه أرسطاطاليس ‪ ،‬بل‬
‫كالمه واسترذله ‪ ،‬وهو المحكي في كتاب (( إخوان الصفا )) ‪ ،‬وهو على التحقيق حشو الفلسفة‪.‬‬
‫فالعجب ممن يتعب طول العمر في تحصيل العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغث ‪ ،‬ويظن‬
‫بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم! فهؤالء أيضا ً جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم ؛ فرجع حاصلهم‬
‫إلى استدراج العوام ‪ ،‬وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ‪ ،‬ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة‬
‫إلى التعليم بكالم قوي مفحم ‪ ،‬حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد ‪ ،‬وقال‪ (( :‬هات‬
‫ضي هذا القدر‬ ‫علمه وأفدنا من تعليمه! )) وقف وقال‪ (( :‬اآلن إذا سلمت لي هذا فاطلبه ‪ ،‬فإنما غر َ‬
‫فقط‪ )) .‬إذ علم أنه لو زاد على ذلك الفتضح ولعجز عن حل أدنى اإلشكاالت ‪ ،‬بل عجز عن فهمه‬
‫‪ ،‬فضالً عن جوابـه‪.‬‬
‫فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم ت َ ْقلُهم‪ 95‬فلما خبرناهم‪ 96‬نفضنا اليد عنهم ( أيضا ً )‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫في ق ‪ :‬جربناهم‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫التضمخ‪ :‬التلطخ ‪ ،‬يقال في الطيب‪.‬‬ ‫‪94‬‬

‫اخبرهم‪ :‬امتحنهم ؛ وتقلهم‪ :‬تبغضهم‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫في ق ‪ :‬جربناهم‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫صوفِّيَّة‬ ‫‪ُ -4‬‬
‫ط ُرق ال ُّ‬
‫ثم إني ‪ ،‬لما فرغت من هذه العلوم ‪ ،‬أقبلت بـهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما‬
‫تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس‪ .‬والتنـزه عن أخالقها المذمومة وصفاتها‬
‫الخبيثة ‪ ،‬حتى يتوصل ( بـها ) إلى تخلية القلب عن غير هللا ( تعالى ) وتحليته بذكر هللا‪.‬‬
‫وكان العلم أيسر علي من العمل‪ .‬فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل‪ (( :‬قوت القلوب‬
‫)) ألبي طالب المكي ( رحمه هللا ) وكتب (( الحارث المحاسبي )) ‪ ،‬والمتفرقات المأثورة عن‬
‫((الجنيد)) و (( الشبلي )) و (( أبي يزيد البسطامي )) [ قدس هللا أرواحهم ] ‪ ،‬وغيرهم من‬
‫المشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ‪ ،‬وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم‬
‫بالتعلم والسماع‪ .‬فظهر لي أن أخص خواصهم ‪ ،‬ما ال يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال‬
‫وتبدل الصفات‪ .‬وكم من الفرق بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ‪ ،‬وبين‬
‫أن تكون صحيحا ً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر ‪ ،‬وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيالء‬
‫أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ‪ ،‬وبين أن تكون سكران! بل السكران ال يعرف حد‬
‫سكر واركأنه و َما معه‬ ‫صاحي يعرف حد ال ُ‬ ‫السكر و ِّعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! وال َّ‬
‫من السكر شيء‪ .‬والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابـها وأدويتها ‪ ،‬وهو فاقد‬
‫فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه ‪ ،‬وبين أن تكون حالك الزهد‬ ‫ٌ‬ ‫الصحة‪ .‬فكذلك‬
‫وعزوف النفس عن الدنيا!‬
‫فعلمت يقينا ً أنـهم أرباب األحوال ‪ ،‬ال أصحاب األقوال‪ .‬وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد‬
‫حصلته ‪ ،‬ولم يبقَ إال ما ال سبيل إليه بالسماع والتعلم ‪ ،‬بل بالذوق والسلوك‪ .‬وكان ( قد ) حصل‬
‫معي ‪ -‬من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها ‪ ،‬في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية‬
‫ي باهلل تعالى ‪ ،‬وبالنبُوة وباليوم اآلخر‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫إيمان يقين ٌ‬ ‫والعقلية‪-‬‬
‫فهذه األصول الثالثة من اإليمان كانت قد رسخت في نفسي ‪ ،‬ال بدليل معين محرر‪ 97‬بل بأسباب‬
‫وقرائن وتجارب ال تدخل تحت الحصر تفاصيلُها‪.‬‬
‫وكان قد ظهر عندي أنه ال مطمع ( لي ) في سعادة اآلخرة إال بالتقوى ‪ ،‬وكف النفس عن الهوى‬
‫‪ ،‬وأن رأس ذلك كله ‪ ،‬قط ُع عالقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ‪ ،‬واإلنابة إلى دار‬
‫الخلود ‪ ،‬واإلقبال ب ُكنه الهمة على هللا تعالى‪ .‬وأن ذلك ال يتم إال باإلعراض عن الجاه والمال ‪،‬‬
‫والهرب من الشواغل والعالئق‪.‬‬
‫ثم الحظت أحوالي ؛ فإذا أنا منغمس في العالئق ‪ ،‬وقد أحدقت بي من الجوانب ؛ والحظت أعمالي‬
‫– وأحسنها التدريس والتعليم ‪ -‬فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة وال نافعة في طريق اآلخرة‪.‬‬
‫ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه هللا تعالى ‪ ،‬بل باعثها ومحركها طلب‬
‫الجاه وانتشار الصيت ؛ فتيقنت أني على شفا ُج ُرف هار ‪ ،‬وأني قد أشفيت على النار ‪ ،‬إن لم‬
‫أشتغل بتالفي األحوال‪.‬‬

‫في ق‪ :‬مجرد‪.‬‬ ‫‪97‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫الغزالي‬
‫فلم أزل أتفكر فيه مدة ‪ ،‬وأنا بعد ُ على مقام االختيار ‪ ،‬أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة‬
‫تلك األحوال يوما ً ‪ ،‬وأحل العزم يوما ً ‪ ،‬وأقدم فيه رجالً وأؤخر عنه أخرى‪ .‬ال تصدق لي رغبة‬
‫في طلب اآلخرة بكرة ‪ ،‬إال ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية‪ .‬فصارت شهوات الدنيا‬
‫تجاذبني بسالسلها إلى المقام ‪ ،‬ومنادي اإليمان ينادي‪ :‬الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إال قليل‬
‫‪ ،‬وبين يديك السفر الطويل ‪ ،‬وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد اآلن‬
‫لآلخرة فمتى تستعد ؟ وإن لم تقطع اآلن [ هذه العالئق ] فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ‪،‬‬
‫وينجزم العزم على الهرب والفرار‪.‬‬
‫ثم يعود الشيطان ويقول‪ (( :‬هذه حال عارضة ‪ ،‬إياك أن تطاوعها ‪ ،‬فأنـها سريعة الزوال ؛ فإن‬
‫أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ‪ ،‬والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص ‪ ،‬واألمر‬
‫المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ‪ ،‬ربما التفتت إليه نفسك ‪ ،‬وال يتيسر لك المعاودة‪)) .‬‬
‫فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ‪ ،‬ودواعي اآلخرة ‪ ،‬قريبا ً من ستة أشهر أولها رجب سنة‬
‫ثمان‪ 98‬وثمانين وأربع مائة‪ .‬وفي هذا الشهر‪ 99‬جاوز األمر حد االختيار إلى االضطرار ‪ ،‬إذ أقفل‬
‫هللا على لساني حتى اعتقل عن التدريس ‪ ،‬فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما ً واحدا ً تطييبا ً لقلوب‬
‫المختلفة [ إلي ] ‪ ،‬فكان ال ينطق لساني بكلمة [ واحدة ] وال أستطيعها البتة ‪ ،‬حتى أورثت هذه‬
‫العقلة في اللسان حزنا ً في القلب ‪ ،‬بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب‪ :‬فكان ال ينساغ‬
‫لي ثريد ‪ ،‬وال تنهضم ( لي ) لقمة ؛ وتعدى إلى ضعف القوى ‪ ،‬حتى قطع األطباء طمعهم من‬
‫العالج وقالوا‪ (( :‬هذا أمر نـزل بالقلب ‪ ،‬ومنه سرى إلى المزاج ‪ ،‬فال سبيل إليه بالعالج ‪ ،‬إال بأن‬
‫يتروح السر عن الهم الملم ))‪.‬‬
‫ثم لما أحسست بعجزي ‪ ،‬وسقط بالكلية اختياري ‪ ،‬التجأت إلى هللا تعالى التجاء المضطر الذي ال‬
‫حيلة له ‪ ،‬فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه )) ‪ ،‬وسهل على قلبي اإلعراض عن الجاه‬
‫والمال ( واألهل والولد واألصحاب ) ‪ ،‬وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر‬
‫الشام حذرا ً أن يطلع الخليفة وجملة األصحاب على عزمي على المقام في الشام ؛ فتلطفت بلطائف‬
‫الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن ال أعاودها أبداً‪ .‬واستهدفت ألئمة أهل العراق كافة ‪ ،‬إذ‬
‫لم يكن فيهم من يجوز أن يكون لإلعراض عما كنت فيه سبب ديني ‪ ،‬إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب‬
‫األعلى في الدين ‪ ،‬وكان ذلك مبلغهم من العلم‪.‬‬
‫ثم ارتبك الناس في االستنباطات ‪ ،‬وظن من بعُد عن العراق ‪ ،‬أن ذلك كان الستشعار من جهة‬
‫ي‪،‬‬ ‫الوالة ؛ ( وأما من قرب من الوالة ) ‪ :‬كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي واالنكباب عل َّ‬
‫وإعراضي عنهم ‪ ،‬وعن االلتفات إلى قولهم ‪ ،‬فيقولون‪ (( :‬هذا أمر سماوي ‪ ،‬وليس له سبب إال‬
‫عين أصابت أهل اإلسالم وزمرة أهل العلم ))‪.‬‬
‫‪ 98‬في بعض النسخ (( سنة ست ))‪.‬‬
‫‪ 99‬هذا هو قمة األزمة الروحية عندة وسببها هو الخوف من الهالك اآلخروي كما قال عبدالغافر الفارسي‪ (( :‬فتح عليه‬
‫باب من أبواب الخوف ))‪ .‬ولعل من االسباب التي أدت إلى هذه األزمة هو دراسة كتب الصوفيين وسيرتـهم‪ .‬وفي هذه‬
‫الفترة الزمنية يذكر أبن كثير أن عالما ً دخل بغداد ودرس في الناظمية وعلى يديه تاب ً‬
‫كثير من العباد ورجعوا إلى هللا‬
‫وكثير منهم من زهد في الدنيا وتنسك‪ .‬انظر فيما كتبـه د‪ .‬مصطفى محمود أبو صوى عن هذه األزمة وما كتبتة أنا في‬
‫هذا الموضوع ‪ ،‬والجدير بالذكر أن هذه األزمة هي غير (فترة الشك) التي عانى منها وذكرها في فصل مداخل السفسطة‬
‫وجحد العلوم ‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫الغزالي‬
‫ففارقت بغداد ‪ ،‬وفرقت ما كان معي من المال ‪ ،‬ولم أدخر إال قدر الكفاف ‪ ،‬وقوت األطفال ‪،‬‬
‫ترخصا ً بأن مال العراق مرصد للمصالح ‪ ،‬ولكونه وقفا ً على المسلمين‪ .‬فلم أر في العالم ماالً يأخذه‬
‫العالم لعياله أصلح منه‪.‬‬
‫ثم دخلت الشام ‪ ،‬وأقمت به قريبا ً من سنتين ال شغل لي إال العزلة والخلوة ؛ والرياضة والمجاهدة‬
‫‪ ،‬اشتغاالً بتزكية النفس ‪ ،‬وتـهذيب األخالق ‪ ،‬وتصفية القلب لذكر هللا ( تعالى ) ‪ ،‬كما كنت حصلته‬
‫من كتب‪ 100‬الصوفية‪ .‬فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ‪ ،‬أصعد منارة المسجد طول النهار ‪،‬‬
‫وأغلق بابـها على نفسي‪.‬‬
‫ثم رحلت منها إلى بيت المقدس ‪ ،‬أدخل كل يوم الصخرة ‪ ،‬وأغلق بابـها على نفسي‪.‬‬
‫ي داعية فريضة الحج ‪ ،‬واالستمداد من بركات مكة والمدينة‪ .‬وزيارة رسول هللا صلى‬ ‫ثم تحركت ف َّ‬
‫هللا عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات هللا وسالمه عليه ؛ فسرت إلى الحجاز‪.‬‬
‫ثم جذبتني الهمم ‪ ،‬ودعوات األطفال إلى الوطن ‪ ،‬فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع‬
‫إليه‪ .‬فآثرت العزلة [ به ] أيضا ً حرصا ً على الخلوة ‪ ،‬وتصفية القلب للذكر‪.‬‬
‫ي وجه المراد ‪،‬‬ ‫وكانت حوادث الزمان ‪ ،‬ومهمات العيال ‪ ،‬وضرورات المعاش ‪ ،‬تغير ف َّ‬
‫‪101‬‬

‫وتشوش صفوة الخلوة‪ .‬وكان ال يصفو [ لي ] الحال إال في أقوات متفرقة‪ .‬لكني مع ذلك ال أقطع‬
‫طمعي منها ‪ ،‬فتدفعني عنها العوائق ‪ ،‬وأعود إليها‪.‬‬
‫ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ؛ وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور ال يمكن إحصاؤها‬
‫واستقصاؤها ‪ ،‬والقدر الذي أذكره لينتفع به‪ :‬إني علمت يقينا ً أن الصوفية هم السالكون لطريق هللا‬
‫( تعالى ) خاصة ‪ ،‬وأن سيرتهم أحسن السير ‪ ،‬وطريقهم أصوب الطرق ‪ ،‬وأخالقهم أزكى‬
‫األخالق‪ .‬بل لو ُجمع عقل العقالء ‪ ،‬وحكمة الحكماء ‪ ،‬وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء‬
‫‪ ،‬ليغيروا شيئا ً من سيرهم وأخالقهم ‪ ،‬ويبدلوه بما هو خير منه ‪ ،‬لم يجدوا إليه سبيالً‪ .‬فإن جميع‬
‫حركاتـهم وسكناتـهم ‪ ،‬في ظاهرهم وباطنهم ‪ ،‬مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور‬
‫النبوة على وجه األرض نور يستضاء به‪.‬‬
‫وبالجملة ‪ ،‬فماذا يقول القائلون في طريقة ‪ ،‬طهارتـها ‪ -‬وهي أول شروطها ‪ -‬تطهير القلب بالكلية‬
‫عما سوى هللا ( تعالى ) ‪ ،‬ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصالة ‪ ،‬استغراق القلب‬
‫بالكلية بذكر هللا ‪ ،‬وآخرها الفناء بالكلية في هللا؟ وهذا آخرها باإلضافة إلى ما يكاد يدخل تحت‬
‫االختيار والكسب من أوائلها‪ .‬وهي على التحقيق أول الطريقة ‪ ،‬وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه‪.‬‬
‫ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات ( والمشاهدات ) ‪ ،‬حتى أنـهم في يقظتهم يشاهدون المالئكة ‪،‬‬
‫وأرواح األنبياء ويسمعون منهم أصواتا ً ويقتبسون منهم فوائد‪ .‬ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور‬
‫واألمثال ‪ ،‬إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ‪ ،‬فال يحاول معبر أن يعبر عنها إال اشتمل لفظه‬
‫على خطأ صريح ال يمكنه االحتراز عنه‪.‬‬

‫في ق‪ :‬علم‪.‬‬ ‫‪100‬‬

‫في ق‪ :‬المعيشة‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫الغزالي‬
‫وعلى الجملة‪ .‬ينتهي األمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ‪ ،‬وطائفة االتحاد ‪ ،‬وطائفة‬
‫الوصول ‪ ،‬وكل ذلك خطأ‪ .‬وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب (( المقصد األسنى )) ؛ بل الذي‬
‫البسته تلك الحالة ال ينبغي أن يزيد على أن يقول ‪:‬‬
‫‪102‬‬
‫الخبر!‬
‫ِّ‬ ‫فظن خيرا ً وال تسأل عن‬
‫َّ‬ ‫وكان ما كان مما لستُ أذكره‬
‫وبالجملة ‪ ،‬فمن لم يرزق منه شيئا ً بالذوق ‪ ،‬فليس يدرك من حقيقة النبوة إال االسم ‪ ،‬وكرامات‬
‫األولياء ‪ [ ،‬هي ] على التحقيق ‪ ،‬بدايات األنبياء ‪ ،‬وكان ذلك أول حال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬حين أقبل إلى جبل (( حراء )) ‪ ،‬حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد ‪ ،‬حتى قالت العرب ‪(( :‬‬
‫إن محمدا ً عشق ربه!))‪.‬‬
‫وهذه حالة ‪ ،‬يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها‪ .‬فمن لم يرزق الذوق ‪ ،‬فيتيقنها بالتجربة والتسامع ‪،‬‬
‫إن أكثر معهم الصحبة ‪ ،‬حتى يفهم ذلك بقرائن األحوال يقيناً‪ .‬ومن جالسهم ‪ ،‬استفاد منهم هذا‬
‫اإليمان‪ .‬فهم القوم ال يشقى جليسهم‪ .‬ومن لم يرزق صحبتهم ‪ ،‬فليعلم إمكان ذلك يقينا ً بشواهد‬
‫البرهان ‪ ،‬على ما ذكرناه في كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين ))‪.‬‬
‫والتحقيق بالبرهان علم ‪ ،‬ومالبسة عين تلك الحالة ذوق ‪ ،‬والقبول من التسامع والتجربة بحسن‬
‫الظن إيمان‪ .‬فهذه ثالث درجات ‪:‬‬
‫(( يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )) (المجادلة‪)11 :58 :‬‬
‫ِّ‬
‫ووراء هؤالء قوم جهال ‪ ،‬هم المنكرون ألصل ذلك ‪ ،‬المتعجبون من هذا الكالم ‪ ،‬يستمعون‬
‫ويسخرون ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال هللا تعالى ‪:‬‬
‫إليك حتى إذا خرجوا من ِّعندك قالوا للذين أُوتوا العلم‬
‫(( ومنـهم من يستمع َ‬
‫ماذا قال آنفا ً أولئك الذين طبع هللا على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم )) ( فأصم ُهم‬
‫وأعمى أبصارهم (محمد ‪)16 :47 :‬‬
‫)‬
‫‪103‬‬
‫ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم ‪ (( ،‬حقيقة النبوة وخاصيتها ))‪ .‬وال بد من التنبيه‬
‫على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها‪.‬‬

‫هذا البيت البن المعتز‪.‬‬ ‫‪102‬‬

‫في ق‪ :‬التنويه‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫واضطرار َكاف ِّة الخَلق إلي َها‬
‫ِّ‬ ‫َحقيقَة النُبُ َّوة‪:‬‬
‫اعلم‪ :‬أن جوهر اإلنسان في أصل الفطرة ‪ ،‬خلق خاليا ً ساذجا ً ال خبر معه من عوالم هللا ( تعالى‬
‫)! والعوالم كثيرة ال يحصيها إال هللا تعالى كما قال‪:‬‬
‫(( وما يعلم جنود ُ ربك إال هو )) (المدثر ‪)31 :74 :‬‬
‫وإنما خبره من العوالم بواسطة اإلدراك ‪ ،‬وكل إدراك من اإلدراكات خلق ليطلع اإلنسان به على‬
‫عالم من الموجودات ‪ ،‬ونعني بالعوالم ‪ ،‬أجناس الموجودات‪.‬‬
‫فأول ما يخلق في اإلنسان حاسة اللمس ‪ ،‬فيدرك بـها أجناسا ً من الموجودات‪ :‬كالحرارة ‪ ،‬والبرودة‬
‫‪ ،‬والرطوبة واليبوسة ‪ ،‬واللين والخشونة ‪ ،‬وغيرها‪ .‬واللمس قاصر عن األلوان واألصوات قطعا ً‬
‫‪ ،‬بل هي كالمعدوم في حق اللمس‪.‬‬
‫ثم تخلق له [ حاسة ] البصر ‪ ،‬فيدرك بـها األلوان واألشكال ‪ ،‬وهو أوسع عوالم المحسوسات‪.‬‬
‫ثم ينفخ فيه السمع ‪ ،‬فيسمع األصوات والنغمات‪.‬‬
‫ثم يخلق له الذوق‪ .‬وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات ‪ ،‬فيخلق فيه التمييز ‪ ،‬وهو قريب من‬
‫سبع سنين ‪ ،‬وهو طور آخر من أطوار وجوده ‪ :‬فيدرك فيه أمورا ً زائدة على ( عالم ) المحسوسات‬
‫‪ ،‬ال يوجد منها شيء في عالم الحس‪.‬‬
‫ثم يترقى إلى طور آخر ‪ ،‬فيخلق له العقل ‪ ،‬فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيالت ‪ ،‬وأمورا ً‬
‫ال توجد في األطوار التي قبله‪.‬‬
‫ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون في المستقبل ‪ ،‬وأمورا ً‬
‫أُخر ‪ ،‬العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقوالت وكعزل قوة الحس عن مدركات‬
‫التمييز‪ .‬وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل ألباها واستبعدها ‪ ،‬فكذلك بعض العقالء‬
‫أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ‪ ،‬وذلك عين الجهل ‪ :‬إذ ال مستند لهم إال أنه طور لم يبلغه ولم‬
‫يوجد في حقه ‪ ،‬فيظن أنه غير موجود في نفسه‪ .‬واألكمه ‪ ،‬لو لم يعلم بالتواتر والتسامع األلوان‬
‫واألشكال وحكي له ذلك ابتدا ًء ‪ ،‬لم يفهمها ولم يقر بـها‪ .‬وقد قرب هللا تعالى على خلقه بأن أعطاهم‬
‫نموذجا ً‪ 104‬من خاصية النبوة ‪ ،‬وهو النوم ‪ :‬إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ‪ ،‬إما صريحا ً وإما‬
‫في كسوة مثال يكشف عنـه التعبير‪ .‬وهذا لو لم يجربه اإلنسان من نفسه ‪ -‬وقيل له‪ (( :‬إن من‬
‫الناس من يسقط مغشيا ً عليه كالميت ‪ ،‬ويزول ( عنه ) إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب‪)) .‬‬
‫– ألنكره ‪ ،‬وأقام البرهان على استحالته ‪ ،‬وقال‪ (( :‬القوى الحساسة أسباب اإلدراك ‪ ،‬فمن ال يدرك‬
‫األشياء مع وجودها وحضورها ‪ ،‬فبأن ال يدرك مع ركودها أولى وأحق‪ )) .‬وهذا نوع قياس يكذبه‬
‫الوجود والمشاهدة‪ .‬فكما أن العقل طور من أطوار اآلدمي ‪ ،‬يحصل فيه عين يبصر بـها أنواعا ً‬
‫من المعقوالت ‪ ،‬والحواس معزولة عنها ‪ ،‬فالنبوة أيضا ً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور‬
‫يظهر في نورها الغيب ‪ ،‬وأمور ال يدركها العقل‪.‬‬

‫في ش ‪ :‬أنموذجاً‪.‬‬ ‫‪104‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬حقيقة النبوة‬
‫الغزالي‬
‫والشك في النبوة ‪ ،‬إما أن يقع‪ :‬في إمكأنـها ‪ ،‬أو في وجودها ووقوعها ‪ ،‬أو في حصولها لشخص‬
‫معين‪.‬‬
‫ودليل إمكأنـها وجودها‪ .‬ودليل وجودها وجود معارف في العالم ال يتصور أن تنال بالعقل ‪ ،‬كعلم‬
‫الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها ال تدرك إال بإلهام إلهي وتوفيق من جهة‬
‫هللا ( تعالى ) ‪ ،‬وال سبيل إليها بالتجربة‪ .‬فمن األحكام النجومية ما ال يقع إال في كل ألف سنة مرة‬
‫‪ ،‬فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص األدوية‪ .‬فتبين بـهذا البرهان أن في اإلمكان وجود‬
‫طريق إلدراك هذه األمور التي ال يدركها العقل ‪ -‬وهو المراد بالنبوة ‪ -‬ال أن النبوة عبارة عنها‬
‫فقط ‪ ،‬بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ‪ ،‬ولها خواص كثيرة‬
‫سواها‪ .‬وما ذكرنا ‪ ،‬فقطرة من بحرها ؛ إنما ذكرناها ألن معك أُنموذجا ً منها ‪ ،‬وهو مدركاتك في‬
‫النوم ؛ ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ‪ ،‬وهي معجزات األنبياء ( عليهم الصالة والسالم‬
‫) ‪ ،‬وال سبيل إليها للعقالء ببضاعة العقل أصالً‪.‬‬
‫وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ‪ ،‬فإنما يدرك بالذوق ‪ ،‬من سلوك طريق التصوف ؛ ألن هذا‬
‫إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ‪ ،‬ولواله لما صدقت به‪ .‬فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها‬
‫أنموذج ‪ ،‬وال تفهمها أصالً ‪ ،‬فكيف تصدق بـها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم‪ :‬وذلك األنموذج يحصل‬
‫في أوائل طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم‬
‫يحصل بالقياس ( إليه )‪ .‬فهذه الخاصية الواحدة تكفيك لإليمان بأصل النبوة‪.‬‬
‫فإن وقع لك الشك في شخص معين ‪ ،‬أنه نبي أم ال ‪ ،‬فال يحصل اليقين إال بمعرفة أحواله ‪ ،‬إما‬
‫بالمشاهدة ‪ ،‬أو بالتواتر والتسامع ؛ فإنك إذا عرفت الطب والفقه ‪ ،‬يمكنك أن تعرف الفقهاء واألطباء‬
‫بمشاهدة أحوالهم ‪ ،‬وسماع أقوالهم ‪ ،‬وإن لم تشاهدهم ؛ وال تعجز أيضا ً عن معرفة كون الشافعي‬
‫( رحمه هللا ) فقيها ً ‪ ،‬وكون جالينوس طبيبا ً ‪ ،‬معرفة بالحقيقة ال بالتقليد عن الغير ‪ [ ،‬بل ] بأن‬
‫تتعلم شيئا ً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ‪ ،‬فيحصل لك علم ضروري بحالهما‪ .‬فكذلك‬
‫إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن واألخبار ‪ ،‬يحصل لك العلم الضروري بكونه‬
‫صلى هللا عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ‪ ،‬وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها‬
‫في تصفية القلوب ‪ ،‬وكيف صدق صلى هللا عليه وسلم في قوله‪:‬‬
‫‪105‬‬
‫(( من عمل بما علم ورثهُ هللا علم ما لم يعلم ))‬
‫وكيف صدق في قوله‪:‬‬
‫‪106‬‬
‫(( من أعان ظالما ً سلطهُ هللا علي ِّه ))‬
‫وكيف صدق في قوله‪:‬‬
‫(( من اصبح و ُه ُمو ُمهُ ه ٌّم واحدٌ كفاه هللا ( تعالى ) ُه ُم َ‬
‫وم الدنيا واآلخرةِّ )) ‪.‬‬
‫‪107‬‬

‫فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآالف ‪ ،‬حصل لك علم ضروري ال تتمارى فيه‪.‬‬

‫‪ 105‬غير موجود في كتب الحديث المشهورة‪.‬‬


‫‪ 106‬رواه أبن عساكر عن أبن مسعود وهو حديث ضعيف‪.‬‬
‫‪ 107‬رواه أبن ماجة عن أبن مسعود واسناده ضعيف ‪ ،‬فيه نـهشل بن سعيد‪ .‬قيل فيه أنه يروى المناكير ‪ ،‬وقيل بل‬
‫الموضوعات‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬حقيقة النبوة‬
‫الغزالي‬
‫فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ‪ ،‬ال من قلب العصا ثعبانا ً ‪ ،‬وشق القمر ‪ ،‬فإن ذلك إذا نظرت‬
‫إليه وحده ‪ ،‬ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ‪ ،‬وربما ظننت أنه سحر وتخييل‬
‫‪ ،‬وأنه من هللا تعالى إضالل فأنه‬
‫ض ُّل من َيشَا ُء و َيهدي من يشا ُء )) (فاطر‪.)8:‬‬ ‫(( يُ ِّ‬
‫وترد عليك أسئلة المعجزات ‪ ،‬فإذا كان مستند إيمانك إلى كالم منظوم في وجه داللة المعجزة ‪،‬‬
‫فينجزم إيمانك بكالم مرتب في وجه اإلشكال والشبهة عليها ‪ ،‬فليكن مثل هذه الخوارق إحدى‬
‫الدالئل والقرائن في جملة نظرك ‪ ،‬حتى يحصل لك علم ضروري ال يمكنك ذكر مستنده على‬
‫التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر ال يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين‬
‫‪ ،‬بل من حيث ال يدري ‪ ،‬وال يخرج عن جملة ذلك وال بتعيين اآلحاد‪ .‬فهذا هو اإليمان القوي‬
‫العلمي‪.‬‬
‫وأما الذوق فهو كالمشاهدة واألخذ باليد ‪ ،‬وال يوجد إال في طريق الصوفية‪.‬‬
‫فهذا القدر من حقيقة النبوة ‪ ،‬كاف في الغرض الذي أقصده اآلن ‪ ،‬وسأذكر وجه الحاجة إليه‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫اض َعنـه‬
‫اإلعر ِّ‬
‫َ‬ ‫سبَب نشر ال ِّع ْلم بعَ ْد‬
‫َ‬
‫ثم إني ‪ ،‬لما واظبت على العزلة والخلوة قريبا ً من عشر سنين ‪ ،‬بان لي في أثناء ذلك على‬
‫الضرورة من أسباب ال أحصيها ‪ ،‬مرة بالذوق ‪ ،‬ومرة بالعلم البرهاني ‪ ،‬ومرة بالقبول اإليماني ‪:‬‬
‫أن اإلنسان خلق من بدن وقلب‪ - 108‬وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة هللا ‪ ،‬دون‬
‫اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة ‪ ، -‬وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هالكه‬
‫؛ وأن القلب كذلك له صحة وسالمة ‪ ،‬وال ينجو (( إال من أتى هللا بقلب سليم )) (الشعراء‪ )89:‬؛‬
‫مرض ))‪( 109‬البقرة‪)10:‬‬
‫ٌ‬ ‫وله مرض فيه هالكه األبدي األخروي ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ (( :‬في قلوبـهم‬
‫وأن الجهل باهلل سم مهلك ؛ وأن معصية هللا ‪ ،‬بمتابعة الهوى ‪ ،‬داؤه الممرض ‪ ،‬وأن معرفة هللا‬
‫تعالى ترياقه المحيي ‪ ،‬وطاعته بمخالفة الهوى ‪ ،‬دواؤه الشافي ؛ وأنه ال سبيل إلى معالجتة بازالة‬
‫مرضه وكسب صحته ‪ ،‬اال بأدوية ؛ كما ال سبيل إلى معالجة البدن إال بذلك‪ .‬وكما أن أدوية البدن‬
‫تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ‪ ،‬ال يدركها العقالء ببضاعة العقل ‪ ،‬بل يجب فيها تقليد‬
‫األطباء الذين أخذوها من األنبياء ‪ ،‬الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص األشياء ‪ ،‬فكذلك بان‬
‫لي ‪ ،‬على الضرورة ‪ ،‬بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة األنبياء‬
‫‪ ،‬ال يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقالء ‪ ،‬بل يجب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك‬
‫الخواص بنور النبوة ‪ ،‬ال ببضاعة العقل‪ .‬وكما أن األدوية تركب من ( أخالط مختلفة ) النوع‬
‫والمقدار وبعضها ضعف البعض في الوزن والمقدار ‪ ،‬فال يخلو اختالف مقاديرها عن سر هو‬
‫من قبيل الخواص ‪ ،‬فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ‪ ،‬مركبة من أفعال مختلفة النوع‬
‫والمقدار ‪ ،‬حتى أن السجود ضعف الركوع ‪ ،‬وصالة الصبح نصف صالة العصر في المقدار ؛‬
‫وال يخلو عن سر من االسرار ‪ ،‬هو من قبيل الخواص التي ال يطلع عليها اال بنور النبوة‪ .‬ولقد‬
‫تحامق وتجاهل جدا ً من أراد أن يستنبط ‪ ،‬بطريق العقل ‪ ،‬لها حكمة ‪ ،‬أو ظن أنـها ذكرت على‬
‫االتفاق ‪ ،‬ال عن سر إلهي فيها ‪ ،‬يقتضيها بطريق الخاصية‪ .‬وكما أن في األدوية أصوالً هي‬
‫أركأنـها ‪ ،‬وزوائد هي متمماتها ‪ ،‬لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ‪ ،‬كذلك النوافل‬
‫والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات‪.‬‬
‫وعلى الجملة ‪ :‬فاألنبياء عليهم السالم أطباء أمراض القلوب ‪ ،‬وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرفنا‬
‫ذلك وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز‪ 110‬عن درك ما يدرك بعين النبوة ‪ ،‬وأخذ بأيدينا وسلمنا‬
‫( إليها ) تسليم العميان إلى القائدين ‪ ،‬وتسليم المرضى المتحيرين إلى األطباء المشفقين‪ .‬فإلى ههنا‬
‫مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ‪ ،‬إال عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه‪.‬‬
‫فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ‪ ،‬في مدة الخلوة والعزلة‪.‬‬

‫في ق‪ :‬أن لإلنسان بدنا ً وقلباً‪.‬‬ ‫‪108‬‬

‫ذكرت في القرآن عشر مرات بـهذا اللفظ‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫في ق‪ :‬بالعمى‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫ثم رأينا فتور االعتقادات في أصل النبوة ‪ ،‬ثم في حقيقة النبوة ‪ ،‬ثم في العمل بما شرحته النبوة ‪،‬‬
‫وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ؛ فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ‪ ،‬وضعف إيمأنـهم ‪ ،‬فإذا هي‬
‫أربعة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬سبب من الخائضين في علم الفلسفة ؛‬
‫‪ - 2‬وسبب من الخائضين في طريق التصوف ؛‬
‫‪ - 3‬وسبب من المنتسبين الى دعوى التعليم ؛‬
‫‪ -4‬وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس‪.‬‬
‫فإني تتبعت مدة ً آحاد الخلق ‪ ،‬أسأ ُل من أن يقصر منهم في متابعة الشرع ( واسأله ) عن شبهته‬
‫وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له‪ (( :‬ما لك تقصر فيها فإن كنت تؤمن باآلخرة ولست تستعد لها‬
‫وتبيعها بالدنيا ‪ ،‬فهذه حماقة! فإنك ال تبيع االثنين بواحد ‪ ،‬فكيف تبيع ما ال نـهاية له بأيام معدودة؟‬
‫وإن كنت ال تؤمن ‪ ،‬فأنت كافر! فدبر نفسك في طلب اإليمان ‪ ،‬وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي‬
‫هو مذهبك باطنا ً ‪ ،‬وهو سبب جرأتك ظاهرا ً ‪ ،‬وإن كنت ال تصرح به تجمالً باإليمان وتشرفا ً بذكر‬
‫الشرع ! ))‪.‬‬
‫فقائل يقول‪ (( :‬إن هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه ‪ ،‬لكان العلماء أجدر بذلك ؛ وفالن من‬
‫المشاهير بين الفضالء ال يصلي ‪ ،‬وفالن يشرب الخمر ‪ ،‬وفالن يأكل أموال األوقاف وأموال‬
‫اليتامى ‪ ،‬وفالن يأكل إدرار السلطان وال يحترز عن الحرام ‪ ،‬وفالن يأخذ الرشوة على القضاء‬
‫والشهادة ! وهلم جرا ً إلى أمثاله‪)) .‬‬
‫وقائل ثان‪ :‬يدعي ( علم ) التصوف ‪ ،‬ويزعم أنه قد بلغ مبلغا ً ترقى عن الحاجة إلى العبادة!‪.‬‬
‫وقائل ثالث‪ :‬يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل اإلباحة!‬
‫وهؤالء هم الذين ضلوا عن التصوف ‪.‬‬
‫وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول‪ (( :‬الحق مشكل ‪ ،‬والطريق إليه متعسر ‪ ،‬واالختالف فيه‬
‫‪111‬‬

‫كثير ‪ ،‬وليس بعض المذاهب أولى من بعض ‪ ،‬وأدلة العقول متعارضة ‪ ،‬فال ثقة برأي أهل الرأي‬
‫‪ ،‬والداعي إلى التعليم متحكم ال حجة له ‪ ،‬فكيف أدع اليقين بالشك ؟ ))‪.‬‬
‫وقائل خامس يقول‪ (( :‬لست أفعل هذا تقليدا ً ‪ ،‬ولكني قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ‪،‬‬
‫وإن حاصلها يرجع إ لى الحكمة والمصلحة ‪ ،‬وأن المقصود من تعبداتـها‪ :‬ضبط عوام الخلق‬
‫وتقييدهم عن التقاتل والتنازع واالسترسال في الشهوات ‪ ،‬فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في‬
‫حجر التكليف ‪ ،‬وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بـها ‪ ،‬مستغن فيها عن التقليد ! ))‪.‬‬
‫هذا منتهى إيمان من قرأ ( مذهب ) فلسفة اإللهيين منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر‬
‫الفارابي‪ .‬وهؤالء هم المتجملون باإلسالم‪.‬‬
‫وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ‪ ،‬ويحضر الجماعات والصلوات ‪ ،‬ويعظم الشريعة بلسأنه ‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك ال يترك شرب الخمر ‪ ،‬وأنواعا ً من الفسق والفجور! وإذا قيل له‪(( :‬إن كانت النبوة‬
‫غير صحيحة ‪ ،‬فلم تصلي ؟ )) فربما يقول‪ (( :‬لرياضة الجسد ‪ ،‬ولعادة أهل البلد ‪ ،‬وحفظ المال‬
‫فلم تشرب الخمر؟ ))‬ ‫والولد! ))‪ .‬وربما قال‪(( :‬الشريعة صحيحة ‪ ،‬والنبوة حق! )) فيقال‪َ (( :‬‬

‫في ق‪ :‬والطريق متعسرة‪.‬‬ ‫‪111‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫فيقول‪ (( :‬إنما نـهي عن الخمر ألنـها تورث العداوة والبغضاء ‪ ،‬وأنا بحكمتي محترز عن ذلك ‪،‬‬
‫وإني أقصد به تشحيذ خاطري‪ )).‬حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها‪ :‬أنه عاهد هللا‬
‫تعالى على كذا وكذا ‪ ،‬وأن يعظم األوضاع الشرعية ‪ ،‬وال يقصر في العبادات الدينية ‪ ،‬وال يشرب‬
‫تلهيا ً بل تداويا ً وتشافيا ً ؛ فكان منتهى حالته في صفاء اإليمان ‪ ،‬والتزام العبادات ‪ ،‬أن استثنى‬
‫شرب الخمر لغرض التشافي‪.‬‬
‫فهذا إيمان من يدعي اإليمان منهم‪ .‬وقد انخدع بـهم جماعة ‪ ،‬وزادهم انخداعا ً ضعف اعتراض‬
‫المعترضين عليهم ‪ ،‬إذ اعترضوا بمجاهدة علم الهندسة والمنطق ‪ ،‬وغير ذلك مما هو ضروري‬
‫لهم ‪ ،‬على ما بينا علته من قبل‪.‬‬
‫فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيـمأنـهم إلى هذا الحد بـهذه األسباب ‪ ،‬ورأيت نفسي ملبة‬
‫بكشف هذه الشبهة ‪ ،‬حتى كان إفضاح هؤالء أيسر عندي من شربة ماء ‪ ،‬لكثرة خوضي في‬
‫علومهم [ وطرقهم ] ‪ -‬أعني [ طرق ] الصوفية والفالسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء‪، -‬‬
‫انقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت ‪ ،‬محتوم‪ .‬فماذا تغنيك الخلوة والعزلة ‪ ،‬وقد عم الداء‬
‫‪ ،‬ومرض األطباء ‪ ،‬وأشرف الخلق على الهالك؟ ثم قلت في نفسي‪ (( :‬متى تشتغل أنت بكشف‬
‫هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ‪ ،‬والزمان زمان الفترة ‪ ،‬والدور دور الباطل ‪ ،‬ولو اشتغلت‬
‫بدعوة الخلق ‪ ،‬عن طرقهم إلى الحق ‪ ،‬لعاداك أهل الزمان بأجمعهم ‪ ،‬وأنـَّى تقاومهم فكيف تعايشهم‬
‫‪ ،‬وال يتم ذلك إال بزمان مساعد ‪ ،‬وسلطان متدين قاهر؟ ))‬
‫فترخصت بيني وبين هللا تعالى باالستمرار على العزلة تعلالً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة‪.‬‬
‫فقدر هللا تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ‪ ،‬ال بتحريك من خارج‪ .‬فأمر أمر إلزام‬
‫بالنهوض إلى نيسابور ‪ ،‬لتدارك هذه الفترة‪ .‬وبلغ اإللزام حدا ً كان ينتهي ‪ ،‬لو أصررت على‬
‫الخالف ‪ ،‬إلى حد الوحشة‪ .‬فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف ‪ ،‬فال ينبغي أن يكون باعثك‬
‫على مالزمة العزلة الكسل واالستراحة ‪ ،‬وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق ‪ ،‬ولم ترخص‬
‫عس َْر معاناة الخلق ‪ ،‬وهللا سبحأنه وتعالى يقول‪:‬‬ ‫لنفسك ُ‬
‫الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا ً وهم ال يُفَتَنونَ ولقد فتنا‬
‫ُ‬ ‫ِّب‬
‫(( بسم هللا الرحمن الرحيم‪ :‬الم‪ .‬أ َحس َ‬
‫الذينَ من قبلهم )) اآلية (العنكبوت‪) 3-1 :‬‬
‫ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه‪:‬‬
‫ت‬
‫نصرنا ؛ وال م َبد َل لكلما ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫صبروا على ما ُكذبوا وأوذوا ‪ ،‬حتى أتاهم‬ ‫ت ُرس ٌل من َ‬
‫قبلك ف َ‬ ‫(( ولقدَ ُكذ َب ْ‬
‫هللا ‪ ،‬ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( األنعام‪) 34:‬‬
‫تنذر من‬
‫ويقول عز وجل‪ (( :‬بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ :‬يس والقرآن الحكيم‪ )) ...‬إلى قوله (( إنما ُ‬
‫ب ))‪ ( .‬يس‪) 11-1:‬‬ ‫اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغي ِّ‬
‫فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات ‪ ،‬فاتفقوا على اإلشارة بترك العزلة ‪،‬‬
‫والخروج من الزاوية ؛ وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة ‪ ،‬تشهد بأن هذه‬
‫الحركة مبدأ خير ورشد قدرها هللا سبحأنه على رأس هذه المائة‪ 112‬؛ فاستحكم الرجاء ‪ ،‬وغلب‬

‫‪ 112‬أبو دواد والحاكم عن أبو هريرة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ (( :‬إن هللا يبعث لهذه األمة على رأس كل‬
‫مائة سنة من يجدد لها دينها ))‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫حسن الظن بسبب هذه الشهادات وقد وعد هللا سبحأنه بإحياء دينه على رأس كل مائة‪ .‬ويسر هللا‬
‫تعالى الحركة إلى نيسابور ‪ ،‬للقيام بـهذا المهم في ذي القعدة ‪ ،‬سن تسع وتسعين وأربع مائة‪ .‬وكان‬
‫الخروج من بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربع مائة‪ .‬وبلغت مدة العزلة إحدى عشر‬
‫سنة‪ .‬وهذه حركة قدرها هللا تعالى ‪ ( ،‬وهي ) من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب‬
‫في هذه العزلة ‪ ،‬كما لم يكن الخروج من بغداد ‪ ،‬والنـزوع عن تلك األحوال مما خطر إمكأنه‬
‫أصابع‬
‫ِّ‬ ‫أصالً بالبال ؛ وهللا تعالى مقلب القلوب واألحوال و (( قلب المؤمن بين إصبعين من‬
‫الرحمن ))‪ .113‬وأنا أعلم أني ‪ ،‬وإن رجعت إلى نشر العلم ‪ ،‬فما رجعت! فإن الرجوع َعود ٌ إلى ما‬
‫كان ‪ ،‬وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه ‪ ،‬وأدعو إليه بقولي وعملي ‪ ،‬وكان‬
‫ذلك قصدي ونيتي‪ .‬وأما اآلن فأدعو إلى العلم الذي به يُترك الجاه ‪ ،‬ويعرف بـه سقوط رتبة الجاه‪.‬‬
‫هذا هو اآلن نيتي وقصدي وأمنيتي ؛ يعلم هللا ذلك مني ؛ وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري ‪،‬‬
‫أأصل مرادي أم أُخترم‪ 114‬دون غرضي؟ ولكني اؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه ال‬ ‫ولست أدري ِّ‬
‫حول وال قوة إال باهلل ( العلي العظيم ) ؛ وأني لم أتحرك ‪ ،‬لكنه حركني ؛ وإني لم أعمل ‪ ،‬لكنه‬
‫استعملني ؛ فأسأله أن يصلحني أوالً ‪ ،‬ثم يُصلح بي ‪ ،‬ويهديني ‪ ،‬ثم يهدي بي ؛ وأن يريني الحق‬
‫حقا ً ‪ ،‬ويرزقني اتباعه ‪ ،‬ويريني الباطل باطالً ‪ ،‬ويرزقني اجتنابه‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ونعود اآلن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف اإليمان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم‪:‬‬
‫أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم ‪ ،‬فعالجهم ما ذكرناه في كتاب (( القسطاس‬
‫المستقيم )) وال نطول بذكره ( في ) هذه الرسالة‪.‬‬
‫وأما ما توهمه أهل اإلباحة ‪ ،‬فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في كتاب (( كيمياء‬
‫السعادة ))‪.‬‬
‫وأما من فسد إيمأنه بطريق الفلسفة ‪ ،‬حتى أنكر أصل النبوة ‪ ،‬فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها‬
‫بالضرورة ‪ ،‬بدليل وجود ( علم ) خواص األدوية والنجوم وغيرهما‪ .‬وإنما قدمنا هذه المقدمة‬
‫ألجل ذلك‪ .‬وأنـما أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم ‪ ،‬ألنه من نفس علمهم‪ .‬ونحن نبين لكل‬
‫عالم بفن من العلوم ‪ ،‬كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات‪ ، 115‬مثالً من نفس علمه ‪،‬‬
‫برهان النبوة‪.‬‬
‫وأما من أثبت النبوة بلسأنه ‪ ،‬وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ‪ ،‬فهو على التحقيق كافر بالنبوة‬
‫‪ ،‬وإنما هو مؤمن بحكم له طالع مخصوص ‪ ،‬يقتضي طالعه أن يكون متبوعا ً ؛ وليس هذا من‬
‫النبوة في شيء‪ .‬بل اإليمان بالنبوة‪ :‬أن يقر بإثبات طور وراء العقل ‪ ،‬تنفتح فيه عين يدرك بـها‬
‫مدركات خاصة ‪ ،‬والعقل معزول عنها ‪ ،‬كعزل السمع عن إدراك األلوان ‪ ،‬والبصر عن إدراك‬
‫األصوات ‪ ،‬وجميع الحواس عن إدراك المعقوالت‪ .‬فإن لم يجوز هذا ‪ ،‬فقد أقمنا البرهان على‬
‫إمكأنه ‪ ،‬بل على وجوده‪ .‬وإن جوز هذا ‪ ،‬فقد أثبت ‪ ،‬أن ههنا أمورا ً تسمى خواص ‪ ،‬ال يدور‬

‫‪ 113‬مسلم وأحمد عن عبدهللا بن عمرو بن العاص ويوجد في الترمذي وأبن ماجه روايات مشابـهه عن أخرون‪.‬‬
‫‪ 114‬يقال‪ :‬اخترمة المنية ‪ ،‬أى أخذته‪.‬‬
‫‪ 115‬هذا اللفظ من أصل يوناني وهو من مصطلحات السحر‪ :‬خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بـها روحانيات‬
‫الكواكب العلوية بالطبائع السفلية‪ .‬راجع المعجم الوسيط‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫تصرف العقل حواليها أصالً ‪ ،‬بل يكاد العقل يكذبـها ويقضي باستحالتها‪ .‬فإن وزن دانق من‬
‫‪116‬‬

‫األفيون ‪ ،‬سم قاتل ألنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته‪ .‬والذي يدعي علم الطبيعة ‪ ،‬يزعم أنه‬
‫ما يبرد من المركبات ‪ ،‬إنما يبرد بعنصري الماء والتراب ؛ فهما العنصران الباردان‪ .‬ومعلوم أن‬
‫أرطاالً من الماء والتراب ال يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد‪ .‬فلو أخبر طبيعي بـهذا ولم‬
‫يجربـه ‪ ،‬لقال‪ (( :‬هذا محال ‪ ،‬والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية ‪ ،‬والهوائية والنارية ال‬
‫تزيدها برودة ؛ فنقدر الكل ماء وترابا ً ‪ ،‬فال يوجب هذا اإلفراط في التبريد‪ .‬فإن انضم إليه حاران‬
‫فبأن ال يوجب ذلك أولى‪ )) .‬ويقدر هذا برهاناً! وأكثر براهين الفالسفة في الطبيعيات واإللهيات‬
‫‪ ،‬مبني على هذا الجنس! فأنـهم تصوروا األمور على قدر ما وجدوه وعقلوه ‪ ،‬وما لم يألفوه قدروا‬
‫الرؤْ يا الصادقة مألوفة ‪ ،‬وادعى مدع ‪ ،‬أنه عند ركود الحواس ‪ ،‬يعلم الغيب‬ ‫استحالته ‪ ،‬ولو لم تكن ُ‬
‫‪ ،‬ألنكره المتصفون بمثل هذه العقول‪ .‬ولو قيل لواحد‪ :‬هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء ‪ ،‬هو‬
‫بمقدار حبة ‪ ،‬يوضع في بلدة فيأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فال يُبقي [ شيئا ً ] من البلدة وما‬
‫فيها ‪ ،‬وال يبقى هو نفسه؟ )) لقال‪ (( :‬هذا لمحال وهو من جملة الخرافات! )) وهذه حالة النار ‪،‬‬
‫ير النار إذا سمعها‪ .‬وأكثر [ إنكار ] عجائب اآلخرة هو من هذا القبيل‪ .‬فنقول‬ ‫ينكرها من لم َ‬
‫للطبيعي‪ (( :‬قد اضطررت إلى أن تقول ‪ :‬في األفيون خاصية في التبريد ‪ ،‬ليست على قياس‬
‫فلم ال يجوز أن يكون في األوضاع الشرعية من الخواص ‪ ،‬في مداواة القلوب‬ ‫المعقول بالطبيعة‪َ .‬‬
‫وتصفيتها ‪ ،‬ما ال يدرك بالحكمة العقلية ‪ ،‬بل ال يبصر ذلك إال بعين النبوة؟ )) بل قد اعترفوا‬
‫بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ‪ ،‬وهي من الخواص العجيبة المجربة في‬
‫معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق ‪ ،‬بـهذا الشكل‪:‬‬
‫ب‬ ‫ط‬ ‫د‬ ‫‪2‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪4‬‬
‫ز‬ ‫هـ‬ ‫ج‬ ‫‪7‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪3‬‬
‫و‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫‪6‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪8‬‬

‫يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ‪ ،‬وتنظر إليهما الحامل بعينها ‪ ،‬وتضعهما تحت قدميها ‪،‬‬
‫فيسرع الولد في الحال إلى الخروج‪ .‬وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في (( عجائب الخواص ))‬
‫؛ وهو شكل فيه تسعة بيوت ‪ ،‬يرقم فيها رقوم مخصوصة ‪ ،‬يكون مجموع ما في جدول واحد‬
‫خمسة عشر ‪ ،‬قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب‪.117‬‬

‫الدانق (بفتح النون وكسرها)‪ :‬سدس الدرهم‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫في ش ‪( :‬أو جوانبه) بدالً من (أو على التأريب)‪.‬‬ ‫‪117‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ‪ ،‬ثم ال يتسع عقله للتصديق ‪ ،‬بأن تقدير صالة الصبح بركعتين‬
‫‪ ،‬والظهر بأربع ‪ ،‬والمغرب بثالث ‪ ،‬هو لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟ وسببها اختالف هذه‬
‫األوقات‪ .‬وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة‪ .‬والعجب أنـَّا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين‬
‫‪ ،‬لعقلوا اختالف هذه األوقات ‪ ،‬فنقول‪ (( :‬أليس يختلف الحكم في الطالع ‪ ،‬بأن تكون الشمس في‬
‫وسط السماء ‪ ،‬أو في الطالع ‪ ،‬أو في الغارب ‪ ،‬حتى يبنوا على هذا في تسييراتـهم اختالف العالج‬
‫‪ ،‬وتفاوت األعمار واآلجال ‪ ،‬وال فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ‪ ،‬وال بين‬
‫المغرب وبين كون الشمس في الغارب ‪ ،‬فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إال أن ذلك يسمعه بعبارة‬
‫منجم ‪ ،‬لعله جرب كذبه مائة مرة‪ .‬وال يزال يعاود تصديقه ‪ ،‬حتى لو قال المنجم [ له ]‪ (( :‬إذا‬
‫كانت الشمس في وسط السماء ‪ ،‬ونظر إليها الكوكب الفالني ‪ ،‬والطالع هو البرج الفالني ‪ ،‬فلبست‬
‫ثوبا ً جديدا ً في ذلك الوقت قتلت في ذلك الثوب! )) فأنه ال يلبس الثوب في ذلك الوقت ‪ ،‬وربما‬
‫يقاسي فيه البرد الشديد ‪ ،‬وربما سمعه من منجم وقد عرف‪ 118‬كذبـه مرات!‪.‬‬
‫فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى االعتراف بأنـها خواص ‪-‬معرفتها‬
‫معجزة لبعض األنبياء‪ -‬فيكف ينكر مثل ذلك ‪ ،‬فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات‬
‫‪ ،‬لم يعرف قط بالكذب! ( ولم ال يتسع إلمكأنه! )‪.‬‬
‫فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ‪ ،‬ورمي الجمار ‪ ،‬وعدد أركان الحج ‪،‬‬
‫وسائر تعبدات الشرع ‪ ،‬لم يجد بينها وبين خواص األدوية والنجوم فرقا ً أصالً‪ .‬فإن قال‪ (( :‬قد‬
‫جربت شيئا ً من النجوم وشيئا ً من الطب ‪ ،‬فوجدت بعضه صادقا ً ‪ ،‬فانقدح في نفسي تصديقه وسقط‬
‫من قلبي استبعاده ونفرته ؛ وهذا لم أجربه ‪ ،‬فبم أعلم وجوده وتحقيقه؟ )) وإن أقررت بإمكأنه ‪،‬‬
‫فأقول‪ (( :‬إنك ال تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتـهم ‪ ،‬فاسمع‬
‫أقوال األنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد بـه الشرع ‪ ،‬واسلك سبيلهم تدرك‬
‫بالمشاهدة بعض ذلك‪)).‬‬
‫على أني أقول‪ (( :‬وإن لم تجربه ‪ ،‬فيقضي عقلك بوجوب التصديق واإلتباع قطعاً‪ .‬فإنا لو فرضنا‬
‫رجالً بلغ وعقل ولم يجرب ( المرض ) ‪ ،‬فمرض ‪ ،‬وله والد مشفق حاذق بالطب ‪ ،‬يسمع دعواه‬
‫في معرفة الطب منذ عقل ‪ ،‬فعجن له والده دواء ‪ ،‬فقال‪ (( :‬هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك‪.‬‬
‫)) فماذا يقتضيه عقله ‪ ،‬إن كان الدواء مرا ً كريه المذاق ‪ ،‬أن يتناول؟ َأو َيكذب ويقول‪ (( :‬أنا [ ال‬
‫] أعقل مناسبة هذا الد واء لتحصيل الشفاء ‪ ،‬ولم أجربه! )) فال شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك!‬
‫وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت‪ (( :‬فبَم أعرف شفقة النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫ومعرفته بـهذا الطب؟ )) فأقول‪ (( :‬وبم عرفت [ شفقة أبيك ] وليس ذلك أمرا ً محسوساً؟ بل عرفتها‬
‫بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علما ً ضروريا ً ال تتمارى فيه‪)) .‬‬
‫ومن نظر في أقوال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وما ورد من األخبار في اهتمامه بإرشاد‬
‫الخلق ‪ ،‬وتلطفه في جر الناس بأنواع الرفق‪ 119‬واللطف ‪ ،‬إلى تحسين األخالق وإصالح ذات البين‬

‫في ق‪ :‬جرب‪.‬‬ ‫‪118‬‬

‫في ق زاد ‪ :‬واللين‪.‬‬ ‫‪119‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫‪ ،‬وبالجملة إلى ما ي صلح به دينهم ودنياهم ‪ ،‬حصل له علم ضروري ‪ ،‬بأن شفقته صلى هللا عليه‬
‫وسلم على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده‪.‬‬
‫وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من األفعال ‪ ،‬وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه القرآن على‬
‫لسأنه وفي األخبار ‪ ،‬وإلى ما ذكره في آخر الزمان ‪ ،‬فظهر ذلك كما ذكره ‪ ،‬علم علما ً ضروريا ً‬
‫أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ‪ ،‬وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذي ال يدركه إال‬
‫الخواص ‪ ،‬واألمور التي ال يدركها العقل‪.‬‬
‫فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬فجرب وتأمل القرآن‬
‫وطالع األخبار ‪ ،‬تعرف ذلك بالعيان‪.‬‬
‫وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ‪ ،‬ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان‪.‬‬
‫وأما السبب الرابع ‪ -‬وهو ضعف اإليمان بسبب سيرة العلماء‪ -‬فيداوي هذا المرض بثالثة أمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن تقول‪ (( :‬إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ومعرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك‬
‫بتحريم الخمر [ ولحم الخنـزير ] والربا ‪ ،‬بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة ‪ ،‬وأنت تعرف ذلك‬
‫وتفعله ‪ ،‬ال لعدم إيمانك بأنه معصية ‪ ،‬بل لشهوتك الغالبة عليك ؛ فشهوته كشهوتك ‪ ،‬وقد غلبته‬
‫كما غلبتك ‪ ،‬فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك ‪ ،‬ال يناسب زيادة زجر عن هذا المحظور‬
‫المعين‪.‬‬
‫(( وكم من مؤمن بالطب ال يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ‪ ،‬وإن زجره الطبيب عنه! وال‬
‫يدل ذلك على أنه غير ضار ‪ ،‬أو على ان اإليمان بالطب غير صحيح ‪ ،‬فهذا محمل هفوات العلماء‪.‬‬
‫))‬
‫الثاني‪ :‬أن يقال للعامي‪ (( :‬ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخرا ً لنفسه في اآلخرة ‪ ،‬ويظن أن‬
‫علمه ينجيه ‪ ،‬ويكون شفيعا ً له حتى يتساهل معه في أعماله ‪ ،‬لفضيلة علمه‪ .‬وإن جاز أن يكون‬
‫زيادة حجة عليه ‪ ،‬فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له ‪ ،‬وهو ممكن‪ .‬فهو ‪ ،‬وإن ترك العمل ‪ ،‬يدلي‬
‫بالعلم‪ .‬وأما أنت أيها العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ‪ ،‬فتهلك بسوء‬
‫عملك وال شفيع لك! ))‬
‫الثالث ‪ :‬وهو الحقيقة ‪ ،‬أن العالم الحقيقي ‪ ،‬ال يقارف معصية إال على سبيل الهفوة ‪ ،‬وال يكون‬
‫مصرا ً على المعاصي أصالً‪ .‬إذ العلم الحقيقي ما يعرف أن المعصية س ٌم مهلك ‪ ،‬وأن اآلخرة خير‬
‫عرف ذلك ‪ ،‬ال يبيع الخير بما هو أدنى [ منه ]‪.‬‬‫من الدنيا‪ .‬ومن َ‬
‫وهذا العلم ال يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بـها أكثر الناس‪ .‬فلذلك ال يزيدهم ذلك العلم إال‬
‫جرأة على معصية هللا تعالى‪ .‬وأما العلم الحقيقي ‪ ،‬فيزيد صاحبه خشية وخوفا ً [ ورجا ًء ] ‪ ،‬وذلك‬
‫يحول بينه وبين المعاصي إال الهفوات التي ال ينفك عنها البشر في الفترات ‪ ،‬وذلك ال يدل على‬
‫اب ‪ ،‬وهو بعيد ٌ عن اإلصرار واإلكباب‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫مفتن تو ٌ‬ ‫ضعف اإليمان‪ .‬فالمؤمن‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 36 -‬‬
‫ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫الغزالي‬
‫هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتـهما وآفات من أنكر عليهما ‪ ،‬ال بطريقه‪.‬‬
‫نسأل هللا العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه ‪ ،‬وأرشده إلى الحق وهداه ‪ ،‬وألهمه ذكره حتى ال‬
‫ينساه ‪ ،‬وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ‪ ،‬واستخلصه لنفسه حتى ال يعبد إال إياه‪.‬‬
‫وصلى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه وسلم‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ِّلى ذِّي ال ِّع َّز ِّة َوال َجالَل لألمام الغزالي رحمه هللا‬
‫ص ُل ا َ‬ ‫وبـهذا تم كتاب ال ُمن ِّقذ ُ ِّمنَ الضَّالل و ُ‬
‫المو ِّ‬
‫تعالى واسكنـه فسيح جناته‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 37 -‬‬
‫مالحظه عن النص والتحقيق‪:‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬وبـه نستعين ‪ ،‬والصالة والسالم على رسول هللا ؛ الحمد هلل التي تمم بـه‬
‫الصالحات وبفضله تنـزل البركات‪ .‬نص هذا الكتاب نقل من موقع الوراق االمارتي ‪ -‬ولهم منا‬
‫جزيل الشكر‪ -‬وقد أُدخل عليه تعديالت و اكمال بعض النقص الذي كان في النص و تصحيحات‬
‫هامة مع مقارنة النص بطبعة دار الكتب العلمية لعام ‪1988‬م بتحقيق أحمد شمس الدين ؛ والطبعة‬
‫الخامسة التي حققها كل من األستاذ كامل عيَّاد و األستاذ جميل صليبا كما وردت في سلسة الروائع‬
‫االنسانية مع الترجمة الفرنسية لفريد جبر‪.‬و قد ذكرنا االختالف بين النسختين في الهامش و حاولنا‬
‫على قدر المستطاع اثبات ما هو صحيح في صدر الكتاب‪ .‬ثم إن تحقيق األحاديث النبوية الشريفة‬
‫وشرح بعض الكلمات مأخوذ عن أحمد شمس الدين بتصرف واختصار‪ .‬وهللا من وراء القصد‪.‬‬
‫والرموز التي اتخذت في الهواش كالتالي‪:‬‬
‫ق ‪ - :‬يعني الوراق وهي اصل النص‪.‬‬
‫ش‪ - :‬نسخة أحمد شمس الدين‪.‬‬
‫د‪ - :‬نسخة األستاذين كامل عيَّاد وجميل صليبا‪.‬‬
‫تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزيَّن و شذا رائق عبدهللا لموقع الغزالي في منتصف‬
‫عام ‪2002‬م‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪- 38 -‬‬

You might also like