Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 11

‫أخالق اللصوص" في الحضارة اإلسالمية‪ ..

‬حرموا "‬
‫سرقة الفقراء والنساء والجيران واستحلوا أموال‬
‫مانعي الزكاة‬
‫قبل ‪ 18‬ساعة‬

‫‪‬‬ ‫حجم الخط‬


‫‪‬‬ ‫طباعة‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫عبد هللا الطحاوي‬

‫‪ ،‬أنا النار‪ ،‬أنا العار‪ ،...‬لو كلمني الفيل لم يخرس‪ ،‬أو ‪...‬أنا الموج الكدِر‪ ،‬أنا القفل العسِر"‬
‫البحر لم ييبس‪ ،‬أو عضني الكلب لم يضرس‪ ،‬أو رآني النمرود لم يتقدس‪ ،‬أصدقائي أكثر‬
‫من خوص البصرة‪ ،‬وخردل مصر‪ ،‬وعدس الشام‪ ،‬وحصى الجزيرة‪ ،...‬وحنطة‬
‫الموصل‪ ،...‬وزيتون فلسطين"؛ هكذا قدّم أحد لصوص العرب نفسه في معرض إبراز‬
‫قدراته‪ ،‬وفقا لما يرويه أبو سعد اآلبي الرازي (ت ‪421‬هـ) في كتابه ‘نثر الدر في‬
‫‪‘.‬المحاضرات‬

‫وهذا الكالم العجيب ‪-‬فيما يبدو‪ -‬جزء من لغة خاصة اندثرت كانت متداولة بين جماعات‬
‫كبيرة من اللصوص والعيارين والشطار والدُّعّار‪ ،‬وهي أسماء مترادفة لفئة من أهل‬
‫‪.‬الشغب أزعجت العديد من الحواضر العربية الكبرى مثل بغداد ودمشق والقاهرة‬

‫وفي هذا المقال؛ سنحاول أن نقترب من فئة منهم كانت تحترف اللصوصية في المجتمع‬
‫واإلزعاج العام للسلطات‪ ،‬وكانت جزءا من حركة عارمة أفرزتها عوامل عدة‪ ،‬بينها‬
‫‪.‬تفاوت الدخل بين طبقات المجتمع‪ ،‬وزيادة الترف في الحياة االجتماعية والسياسية‬

‫لحظة الميالد‬
‫يرى الدكتور عبد العزيز الدوري (ت ‪2010‬م) أن ظهور فئة العيارين والشطار –أو‬
‫اللصوص‪ -‬ببغداد في أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث كانت وراءه فكرة‬
‫كبرى‪ ،‬هي قضية العدل االجتماعي التي بدأت تختمر في تلك الحقبة‪ ،‬وأن جذور حركة‬
‫هؤالء ‪-‬وإن كان ظاهرهم أنهم عصابات تسطو على األسواق وبيوت األغنياء‪ -‬تعود إلى‬
‫رغبة الطبقة المنكوبة ماليا في أخذ ثأرها من ال ُمثْرين‪.‬‬
‫ومن رأي الدوري ‪-‬في كتابه ‘تاريخ العراق االقتصادي في القرن الرابع الهجري‘‪ -‬أنه‬
‫خالل القرن الرابع الهجري استمر العيارون والشطار مصدرا لبالء بغداد حيث قاموا‬
‫بجمع الضرائب‪ ،‬لكن "مما يجلب االنتباه أن كثيرا من العلويين والعباسيين كانوا في‬
‫صفوف العيارين"‪.‬‬

‫منظم لجماعات العيارين واللصوص في لحظة حرب أهلية شديدة الخطورة‬ ‫بدأ أول ظهور ّ‬
‫وقعت بين األخوين الخليفة األمين (ت ‪198‬هـ) وولي عهده المأمون (ت ‪218‬هـ)‪ ،‬ودارت‬
‫رحاها خمس سنوات في محيط عاصمة الخالفة العباسية بغداد‪.‬‬

‫وقد حاول المؤرخ الطبري (ت ‪310‬هـ) أن يقدم إلماعات بسيطة عن تلك الفئة التي تدخلت‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬حيث الحظ أن تلك الفئة تولت قيادة المقاومة الشعبية ضد اجتياح جيش‬
‫المأمون لبغداد‪ ،‬وانحازت في القتال إلى جانب األمين‪ ،‬خصوصا بعد أن تخاذل عنه الكثير‬
‫من قواده وجنوده "فذلوا وانكسروا وانقادوا‪ ،‬وذلت األجناد وتواكلت عن القتال‪ ،‬إال باعة‬
‫الطريق‪ ..‬وأهل السجون واألوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق"‪ .‬هذا في الوقت‬
‫الذي انسحب من المعركة كثير من الطبقات واألعيان‪ ،‬وسعوا لتأمين مصالحهم عندما‬
‫مالت كفة ميزان الصراع نحو المأمون‪.‬‬

‫وقد رصد الطبري والعديد من المؤرخين عدة وقائع لهذا الصراع الدامي‪ ،‬ولعل أشدها‬
‫كانت تلك التي دارت رحاها في باحة ‘قصر صالح‘ ببغداد‪ ،‬وكان سببها هروب قائد‬
‫شرطة بغداد محمد بن عيسى الذي طلب األمان من طاهر بن الحسين الخزاعي (ت‬
‫‪207‬هـ) قائد جيش المأمون‪ ،‬وكان بصحبة الفرق التي تقاتل مع صاحب الشرطة فيلق من‬
‫"أهل السجون واألوباش"‪ ،‬وكانت لحظة عصيبة على األمين أشرف فيها على النهاية؛‬
‫بحسب ما يقوله الطبري‪.‬‬

‫وهنا استبسل اللصوص أشد ما يكون االستبسال خصوصا أن أم األمين زبيدة بنت جعفر‬
‫العباسية (ت ‪216‬هـ) كانت في موضع الخطر‪ ،‬و"أقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق‬
‫واألجناد‪ ،‬فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار"‪ .‬والحقيقة أن هذه لم تكن‬
‫مجرد موقعة عادية بل كانت هي األشد واألخطر على جيش المأمون‪ ،‬إذ "لم تكن وقعة‬
‫قبلها وال بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها‪ ،‬وال أكثر قتيال وجريحا‪ ..‬من أصحاب‬
‫طاهر من تلك الوقعة"‪.‬‬

‫شكلت حرب النزاع على عرش الخالفة العباسية بين األمين والمأمون البداية الحقيقة‬
‫)الجزيرة(لنشأة ظاهرة تنظيمات العيارين في التاريخ اإلسالمي‬

‫تنظيمات محكمة‬
‫تمتع هؤالء القوم ببنية قوية وأكسبتهم الحياة الصعبة والنوم في الخالء صالبة‪ ،‬فكانوا‬
‫يتحملون األلم الشديد ويتبارون في استعذاب الجلد بالسياط‪ ،‬وكانوا أصحاب مران عجيب‬
‫على تحمل األلم‪ ،‬حتى قيل عن أحدهم "لو ادعى النبوة و[جعل] أن معجزته الصبر على‬
‫الضرب بالسياط ألدخل‪ ..‬به شبهة عظيم"؛ على حد تعبير الراغب األصفهاني (ت‬
‫‪502‬هـ) في كتابه ‘محاضرات األدباء‘‪ .‬لقد كان يُضرب المثل بتحملهم حتى إن جالدي‬
‫طار"‪ ،‬أي فاقهم في‬
‫ش َ‬ ‫أحمد بن حنبل (ت ‪241‬هـ) كانوا يقولون "لقد بطل أحمدُ بن حنبل ال ُّ‬
‫الصبر على الضرب وذلك أيام محنته ليقول بخلق القرآن‪.‬‬

‫عرف عنهم‬ ‫وكان إمام السنة أحمد يدعو ألبي الهيثم الطرار وكان أحد اللصوص الذين ُ‬
‫الصبر على سياط الشرطة‪ ،‬ولما سأله ولده عن سر دعائه لهذا اللص أجابه‪" :‬لما مددت‬
‫للسياط إذا برجل يجذب ثوبي من خلفي وقال‪ :‬يا ابن حنبل‪ ،‬أما تعرفني؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ضربت ثمانية عشر ألف سوط تحملتها من أجل الدنيا ومن‬ ‫أنا اللص الطرار أبو الهيثم‪ُ ،‬‬
‫أجل الشيطان‪ ،‬أفال تصبر أنت لطاعة الرحمن؟"‪.‬‬

‫وكان لجماعات العيارين زعماء يتخذون لهم أسماء و ُكنَى عجيبة؛ فقد أورد الطبري في‬
‫أحداث سنة ‪251‬هـ‪ -‬أسماء لبعض قادتهم منهم "ينتويْه ويكنى أبا جعفر‪[ ،‬كما] يُدعى‬
‫ضها أبو‬
‫أحدهم دونل‪ ،‬واآلخر دمحال‪ ،‬واآلخر أبا نملة‪ ،‬واآلخر أبا عصارة"‪ .‬ويذكر بع َ‬
‫حيان التوحيدي (ت بعد ‪400‬هـ) في ‘اإلمتاع والمؤانسة‘؛ حيث قال إنه كان "من العيارين‬
‫قواد‪ ،‬وأشهرهم‪ :‬ابن كبرويه‪ ،‬وأبو الدود‪ ،‬وأبو الذباب‪ ،‬وأسود الزبد‪ ،‬وأبو األرضة‪ ،‬وأبو‬
‫النوابح"‪.‬‬

‫وبحسب وصف المؤرخ المسعودي (ت ‪346‬هـ) لطرائق حروبهم؛ فإنهم كانوا ينتظمون‬
‫في جماعات تحت إمرة قادة ميدانيين لهم فكان "على كل عشرة منهم عريف‪ ،‬وعلى كل‬
‫عشرة عرفاء نقيب‪ ،‬وعلى كل عشرة نقباء قائد‪ ،‬وعلى كل عشرة قواد أمير"‪ .‬ويبدو أنهم‬
‫كانت لهم الحرية في انتخاب قادتهم؛ إذ يسجل الطبري أنه في سنة ‪251‬هـ "رأّس العيارون‬
‫عليهم رجال يُدعى ‘ينتويْه‘ ويكنى أبا جعفر‪ ،...‬لم يزل رئيسا على عياري الجانب الغربي‬
‫[من بغداد]‪ ،‬حتى انقضى أمر هذه الفتنة"‪.‬‬

‫وقد ظهرت تشكيالت العيارين العسكرية أيضا في سنة ‪251‬هـ خالل الحرب على عرش‬
‫الخالفة بين المستعين باهلل (ت ‪252‬هـ) وابن أخيه المعتز باهلل (ت ‪255‬هـ)؛ فعندما حوصر‬
‫المستعين في بغداد ‪-‬مثل حصار األمين‪ -‬استنجد بالعيارين وفرض لهم األموال‪ ،‬وجعل‬
‫عليهم رئيسا هو ‘ينتويه‘ اللص المتقدم ذكره‪.‬‬

‫حرب عصابات‬
‫وصف المسعودي –في كتابه ‘مروج الذهب‘‪ -‬أسلوب العيارين القتالي فقال إنهم "كانوا‬
‫يقاتلون عراة في أوساطهم التبابين والميازر" (‘التبابين‘ جمع تُـبّان وهو السروال القصير‬
‫جدا‪ ..‬و‘الميازر‘ جمع مئزر وهو اإلزار)‪ ،‬وقد وضعوا على رؤوسهم ُخوذات من‬
‫الخوص ودروعا " ُحشيت بالرمل والحصى"‪.‬‬

‫وقد أبرزت الحروب األهلية بين الخلفاء العباسيين المقدرة القتالية لتلك الفئة بحيث تبدو‬
‫قريبة من نظام حروب العصابات المعروف اليوم‪ ،‬وهو نظام قتالي مرهق عادة ألي جيش‬
‫نظامي‪.‬‬
‫اعالن‬

‫وينقل لنا مؤرخون لحظة مواجهة بين هذين النمطين من التشكيالت القتالية؛ فقد قال‬
‫الطبري إن قائدا خراسانيا من جيش المأمون كان يوصف بالبأس خرج إلى القتال "فنظر‬
‫عراة ال سالح معهم"‪ ،‬وهو يقصد هنا فيلق اللصوص الذين كانوا يقاتلون وهم‬ ‫إلى قوم ُ‬
‫عراة‪ ،‬وكان ذلك من تقاليدهم المعروفة التي ال يزال بعضها يسري في بعض البالد فيما‬
‫يعرف بـ"البالطجة"‪.‬‬

‫استحقر القائد الخرساني هؤالء المقاتلين فردّ عليه جنوده قائلين إنهم "هم اآلفة" في‬
‫المعارك‪ ،‬وكان هذا الوصف نابعا من هول ما القوه من قتال هؤالء العراة‪ ،‬فتعجب القائد‬
‫لنكوص جنوده وهم "في السالح الظاهر‪ ،‬والعدة والقوة‪ ،...‬والشجاعة والنجدة"‪.‬‬

‫وفي إحدى جوالت القتال بين الفريقين؛ تقدم فارس نظامي محترف إلى أحد اللصوص‬
‫وأخذ يقذفه بالسهام‪ ،‬واللص يقفز ويستتر بشكل بهلواني‪ ،‬بل إنه كان يجمع السهام التي‬
‫تطلق عليه‪ ،‬وظل الحال هكذا حتى نفدت سهام المحارب وه ّم أن يضربه بسيفه‪ ،‬فما كان‬
‫من اللص إال أن أخرج من "مخالته حجرا فجعله في مقالع ورماه فما أخطأ به عينه‪ ،‬ثم‬
‫ثنّاه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه لوال تحاميه‪ ،‬وكر [الفارس النظامي] راجعا وهو يقول‪:‬‬
‫ليس هؤالء بإنس"!!‬

‫ويروي لنا التوحيدي ‪-‬في ‘اإلمتاع والمؤانسة‘‪ -‬صورة أكثر قربا ألحد العيارين؛ فيقول إنه‬
‫"من غريب ما جرى أن أسود الزبد كان عبدا يأوي إلى قنطرة الزبد‪ ،‬ويلتقط النوى‬
‫ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهو ولعب‪ ،‬وهو عريان ال يتوارى إال بخرقة‪ ..‬وال يُبالَى‬
‫به‪ ،‬ومضى على هذا دهر‪ ،‬فلما‪ ...‬وقعت الفتنة وفشا الهرج والمرج‪ ،‬ورأى هذا األسود َمن‬
‫هو أضعف منه قد أخذ السيف وأعمله‪ ،‬طلب سيفا وشحذه‪ ،‬ونهب وأغار وسلب‪ ،‬وظهر‬
‫سن جسمه‪ ،...‬واأليام تأتي بالغرائب‬
‫ْك (= جلد) إنسان‪ ،...‬وح ُ‬
‫منه شيطان في َمس ِ‬
‫والعجائب"!!‬

‫وقد وجد الشعراء تلك المناسبة للتعريف بالقوى االجتماعية الجديدة التي قامت على‬
‫عصبية مختلفة عن العصبية القبلية التي كانت سائد منذ عهود؛ إذ هم –على حد قول أحد‬
‫شعرائهم‪" -‬ال لقحطانها وال لنزار"‪ ،‬بل هم محاربون جدد في "جواشن (= دروع)‬
‫الصوف"‪ ،‬وال يأبهون إال لـ"طعنة الفتى العيّار (= اللص)"‪.‬‬

‫تنظيمات الشطار والعيارين انتقلت من هامش اللصوصية التقليدية إلى صلب الصراع‬
‫)الجزيرة( داخل أجنحة السلطة فأتقنت حرب العصابات‬

‫أعداد ضخمة‬
‫والعجيب في أمرهم هو ضخامة عددهم طبقا لما رصده مؤرخون؛ فقد قال المسعودي إنه‬
‫"ثارت العُراة في ذات يوم في نحو مئة ألف (ومرة قال ‪ 50‬ألف) بالرماح والقصب‬
‫والطرادات من القراطيس على رؤوسها‪ ،‬ونفخوا في بوقات القصب وقرون البقر‪،‬‬
‫ونهضوا مع غيرهم من المحمدية (= أتباع األمين العباسي)‪ ،‬وزحفوا من مواضع كثيرة‬
‫نحو المأمونية (= أتباع المأمون العباسي)‪ ،...‬وكانت [نتائج المعركة] للعُ َراة على‬
‫المأمونية إلى الظهر‪ ،...‬ثم ثارت المأمونية على العُ َراة من أصحاب محمد فغرق منهم‬
‫وأحرق نحو عشرة آالف"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وقـُتل‬

‫هزه كثيرا مشهد جثث اللصوص والعيارين التي مألت الطرقات وصفحات‬‫أحد الشعراء ّ‬
‫مياه النهر‪ ،‬وكانت تدوسهم خيول جيش المأمون واألمين على السواء؛ فقال متحسرا‪:‬‬

‫طاهُ الخيول في الجانبين‬ ‫يا قتيل ‘العُ َراة‘ ُم ْلقَى على الشط ** ت َ َ‬
‫ما الذي كان في يديك إذا ما ** اصطـــــلح الناس أية الخَلتي ِْن‬

‫ويبدو أن هذه التقديرات العددية غير دقيقة إذا كانت تتعلق بلصوص عاديين‪ ،‬والظاهر أنه‬
‫تقف خلف هؤالء فكرة ما توجههم أو تمنحهم الطاقة لكل هذا االستبسال واستعدادهم‬
‫للتضحية‪ ،‬وأن ثمة ما يزيد تمرسهم العسكري وعنادهم القتالي؛ فهل هو السخط العام‬
‫والتفاوت في الدخل المادي فقط؟‬

‫والالفت أنه في إحدى اللحظات الحرجة حينما أطبق الخناق على األمين "دخل إليه‬
‫الصعاليك من أصحابه"‪ ،‬وأشاروا عليه بأن يترك القصر مقدِّمين له ‘خطة خروج آمن‘ ِمن‬
‫بغدد‪ ،‬وكاد أن يميل إلى رأيهم لوال أن طبقة أصحاب المصالح من ذوي المال أقنعوه‬
‫بالتخلي عن الفكرة‪ ،‬خوفا من رد فعل جيش المأمون الذي هددهم بالعقاب في حال هرب‬
‫األمين؛ كما يقول المسعودي‪.‬‬

‫وهكذا تراجع األمين عن االنسحاب من عاصمته‪ ،‬وانتصر أصحاب المال والتجارة‬


‫سر استهداف اللصوص والعيارين لتلك الطبقة‬
‫واألعيان‪ ،‬وربما يجعلنا هذا نفكر كثيرا في ّ‬
‫من المترفين؛ فمن يراجع انحيازات كل فئة في معركة األخوين يفهم سبب ذلك‪ .‬وقد توسع‬
‫في شرح هذا األمر الدكتور محمد رجب النجار (ت ‪2005‬م) في كتابه عن أخبار العيارين‬
‫‘الشطار والعيارون‪ ..‬حكايات في التراث الشعبي‘‪.‬‬

‫لصوص مثقفون‬
‫هناك ملمح آخر مهم يكشف لنا جانبا آخر في حياة اللصوص والعيارين‪ ،‬حيث امتلك‬
‫بعضهم مستوى عاليا من الثقافة والتكوين األدبي بل إنهم ادّعوا امتالكهم قسطا من "الفقه"؛‬
‫فقد نقل لنا المحدّث المؤرخ الخطيب البغدادي (ت ‪463‬هـ) ‪-‬في كتابه ‘تاريخ بغداد‘‪-‬‬
‫صورة عن "الثقافة الشرعية" ألحد هؤالء اللصوص‪ ،‬كان قدمها في سياق نقاشه مع أحد‬
‫ضحاياه مستعينا بـآراء فقهية" ينسبها إلى اإلمام مالك بن أنس (ت ‪179‬هـ)‪.‬‬

‫لص أحدَ أصحاب البساتين وأراد أن يسرقه ويأخذ مالبسه‪ ،‬فاستمهله صاحب‬ ‫فقد استوقف ٌّ‬
‫البستان حتى يصل بيته ثم يرسل له مالبسه‪ ،‬وأقسم له على صدقه في ذلك؛ فردّ عليه اللص‬
‫األيمان التي يُحلَف بها للصوص‪ .‬قلت‪ :‬فأحلف‬
‫ُ‬ ‫قائال‪" :‬إنا روينا عن مالك أنه قال‪ :‬ال تـَلزم‬
‫أال أحتال في إيماني هذه؛ قال‪ :‬هذه يمين مر ّكبة على أيمان اللصوص"!!‬
‫اعالن‬

‫صاحب البستان خالصة تاريخية في لبوس‬ ‫َ‬ ‫وتطور الحديث بينهما حتى منح "اللص الفقيه"‬
‫حكمة قال فيها‪" :‬تصفحتُ أمر اللصوص من عهد رسول هللا (ص) وإلى وقتنا هذا فلم أجد‬
‫وز ُرها و ْ‬
‫وز ُر َمن‬ ‫ي ْ‬ ‫لصا أخذ بـ[دَيْن] نسيئة‪ ،‬وأكره أن أبتدع في اإلسالم بدعة يكون عل ّ‬
‫عمل بها بعدي إلى يوم القيامة‪ ،‬اخلع ثيابك‪ ،‬قال‪ :‬فخلعتها ودفعتها إليه فأخذها‬
‫وأنصرف"!!‬

‫يفوت الجاحظ (ت ‪255‬هـ) فرصة الحديث عن هذه الفئة الخطيرة من المجتمع؛‬ ‫وكالعادة لم ّ‬
‫فقد خالط العيارين واللصوص وسجل طائفة من أخبارهم‪ ،‬ونقل عنهم بعض أفكارهم‬
‫وطرقهم في السرقة والحيل التي يستخدمونها في ذلك‪ .‬ويبدو أنه كان "متعاطفا" مع بعض‬
‫جماعاتهم؛ إذ أورد ياقوت الحموي (ت ‪626‬هـ) "كتاب ‘أخالق الشطار‘" في قائمة‬
‫مؤلفات الجاحظ‪ ،‬األمر الذي جعل أبا منصور البغدادي (ت ‪429‬هـ) يقول –في ‘الفَ ْرق بين‬
‫ال ِف َرق‘‪ -‬عن الجاحظ إن أفكاره المضمنةَ "كتا َبه في حيل اللصوص‪ ..‬علّم بها الفسقة وجوه‬
‫السرقة"‪.‬‬

‫المهارات القتالية للشطار والعيارين خولتهم تأسيس تشكيالت مسلحة لها قادة معروفون‬
‫)الجزيرة( ينظمون أعمال السطو والسرقة العلنية‬

‫تأويالت فقهية‬
‫أفرد القاضي أبو علي التنوخي (ت ‪384‬هـ) ‪-‬في كتابه ‘الفرج بعد الشدة‘‪ -‬مبحثا للعديد من‬
‫قصص العيارين التي ظهر فيها أن دور الجاحظ لم يقتصر على رصده لتجارب‬
‫اللصوص‪ ،‬بل إنه نقل مبرراتهم لما كانوا يفعلونه‪ ،‬وهو ما تذرع به بعضهم الحقا أمام‬
‫ضحاياه‪ .‬ومن ذلك هذه القصة التي وقعت لتاجر اسمه أبو أحمد الحارثي وقع هو وقافلته‬
‫التجارية في قبضة "أمير" لصوص يُدعى ابن سيار الكردي‪ ،‬وكان اللص "بزي األمراء‬
‫[سمتُه] على فهم وأدب‪ ..‬يروي الشعر ويفهم النحو"‪.‬‬
‫طاع‪ ..‬يدل ْ‬ ‫ال بزي القُ ّ‬

‫بدا للحارثي التاجر أنه وجد الطريق إلى قلب هذا اللص األديب فأنشده أبياتا يمدحه بها‪،‬‬
‫فرد عليه اللص قائال‪" :‬لست أعلم إن كان هذا من شعرك"! ثم قرر اللص أن يمتحن التاجر‬
‫الشاعر فألقى إليه ببعض القوافي وطلب منه أن ينشئ له شعرا على نسقها‪ ،‬ففعل التاجر‬
‫أخذ منه فرده إليه مع‬
‫أخذ منك ألرده عليك؟" فذكر له ما ِ‬
‫وصدّقه اللص ثم سأله‪" :‬أي شيء ِ‬
‫متاع لبعض رفاقه في القافلة‪.‬‬

‫لم يضيّع الحارثي الفرصة وقرر أن يتعرف على حقيقة هذا اللص األديب‪ ،‬وأن يفهم‬
‫الظروف التي ألجأته إلى تلك المهنة؛ فأجابه اللص بأنه قرأ في كتاب الجاحظ عن‬
‫اللصوص أن من أسباب ظهورهم في المجتمعات عدم إخراج التجار لزكاة أموالهم‪،‬‬
‫و"هؤالء التجار خانوا أماناتهم ومنعوا زكاة أموالهم‪ ،‬فصارت أموالهم مستهلَكة بها‪،‬‬
‫واللصوص فقراء إليها‪ ،‬فإذا أخذوا أموالهم ‪-‬وإن كرهوا أخذها‪ -‬كان ذلك مباحا لهم‪ ،‬ألن‬
‫عين المال مستهلكة بالزكاة"‪.‬‬

‫وظفه اللصوص ألخذ المال عنوة‪ ،‬تماشيا مع قول‬ ‫وهنا نالحظ فكرة "التأول الفقهي" الذي ّ‬
‫شاعرهم‪:‬‬
‫وأسرق مال هللا من كل فاجر ** وذي بِ ْ‬
‫طنة للطيبات أ ُكول‬
‫وحين حاول الحارثي مجادلة اللص ابن سيار بشأن ما إن كان هؤالء التجار من مانعي‬
‫لزكاة؟ رد عليه اللص‪" :‬أنا أحضر هؤالء التجار الساعة‪ ،‬وأريك بالدليل الصحيح أن‬
‫أموالهم لنا حالل‪ .‬ثم قال ألصحابه‪ :‬هاتوا التجار‪ ،‬فجاؤوا‪ .‬فقال ألحدهم‪ :‬منذ كم أنت تتّجر‬
‫في هذا المال الذي قطعنا عليه؟ قال‪ :‬منذ كذا وكذا سنة‪ .‬قال‪ :‬فكيف كنت تُخرج زكات َه؟‬
‫بكالم َمن ال يعرف الزكاة على حقيقتها فضال عن أن يخرجها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فتلجلج‪ ،‬وتكلم‬

‫اعالن‬

‫ثم دعا آخر‪ ،‬فقال له‪ :‬إذا كان معك ثلث مئة درهم (فضة) وعشرة دنانير (ذهب)‪ ،‬وحالت‬
‫عليك السنة؛ فكم تُخرج منها للزكاة؟ فما أحسن أن يجيب‪ .‬ثم قال آلخر‪ :‬إذا كان معك متاع‬
‫للتجارة‪ ،‬ولك دَيْن على نفسيْن (= شخصين) أحدهما مليء واآلخر معسر‪ ،‬ومعك دراهم‪،‬‬
‫وقد حال الحول على الجميع؛ كيف تخرج زكاة ذلك؟ قال‪ :‬فما فهم السؤال‪ ،‬فضال عن أن‬
‫يتعاطى الجواب‪ .‬فصرفهم‪ ،‬ثم قال لي‪ :‬بان لك صدق حكاية أبي عثمان الجاحظ؟ وأن‬
‫هؤالء التجار ما ز َّك ْوا قط؟"!!‬

‫وقد نقل التنوخي االبن أيضا عن أبيه القاضي علي التنوخي قصة له مع أحد اللصوص‬
‫قطع عليه مرة الطريق ثم تبين أنه كان تربّى وهو صبي في دار آل التنوخي؛ فلما استفسره‬
‫عن سبب هذا التحول‪ ،‬قال له‪" :‬يا سيدي! نشأت فلم أتعلم غير معالجة السالح‪ ،‬وجئت إلى‬
‫ي هؤالء الرجال وطلبت قطع‬ ‫بغداد أطلب الديوان (= الجيش) فما قبلني أحد‪ ،‬فانضاف إل ّ‬
‫ونزلني بحيث أستحق من الشجاعة وانتفع بخدمتي‪ ،‬ما‬‫الطريق؛ ولو كان السلطان أنصفني ّ‬
‫كنت أفعل هذا بنفسي"!!‬

‫وضمن نزعة التبرير هذه؛ سادت في بعض الفترات معادلة اللص الفقير والسلطة الفاسدة‪،‬‬
‫ولذلك جاء في كتاب ‘محاضرات األدباء‘ للراغب األصفهاني (ت ‪502‬هـ) أن "اللص‬
‫أحسن حاال من الحاكم المرتشي والقاضي الذي يأكل أموال اليتامى"‪ .‬وقال عثمان الخياط‬
‫–وهو أحد منظري تطبيع اللصوصية اجتماعيا‪ -‬مخاطبا أتباعه من العيارين‪" :‬لم تزل‬
‫األمم يسبي بعضهم بعضا ويسمون ذلك غزوا ً وما يأخذونه غنيمة‪ ،‬وذلك من أطيب‬
‫سكم غزاة ً كما س ّمى الخوار ُج‬
‫س ُّموا أنف َ‬
‫أغدر؛ ف َ‬
‫ُ‬ ‫الكسب‪ ،‬وأنتم في أخذ مال الغدر والفَ َجرة‬
‫شراةً"!!‬
‫سهم ُ‬
‫أنف َ‬
‫ورغم إعجاب العامة وبعض الكتاب بسلوك هؤالء اللصوص؛ فإن الفقهاء رفضوا تماما‬
‫أي مبرر أو دافع للسرقة‪ ،‬فقد اعتبر مثال ابن الجوزي (ت ‪597‬هـ) ‪-‬في كتابه ‘تلبيس‬
‫فن من فنون‬‫إبليس‘‪ -‬أن منطق اللصوص والعيارين "األخالقي" في استباحة السرقات ٌّ‬
‫تلبيس إبليس عليهم‪ ،‬وانتقد سلوك "العيارين في أخذ أموال الناس؛ فإنهم يس َّمون بالفتيان‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬الفتى ال يزني وال يكذب‪ ،‬ويحفظ ال ُح ُرم وال يهتك ستر امرأة‪ ،‬ومع هذا ال‬
‫يتحاشون من أخذ أموال الناس"‪.‬‬

‫ومنطق ابن الجوزي هنا مفهوم؛ فهو يرى أن "نبل الغاية" ال يمكن أن يكون مبررا للجوء‬
‫إلى الفاسد من الوسائل مثل السرقة والسطو وقطع الطرق‪ ،‬ولكن سيظل هناك نقص في‬
‫قراءة المشهد اجتماعيا –ال شرعيا وأخالقيا‪ -‬إذا أغفلنا الظروف التي دفعت هؤالء الى‬
‫اللصوصية‪.‬‬

‫كثيرا ما وظف "المثقفون" من الشطار والعيارين معارفهم العلمية واألدبية لتبرير ما‬
‫)الجزيرة( يقومون به من سلب ألموال الناس‬

‫قواعد الصنعة‬
‫بعض‬
‫ُ‬ ‫سها‬
‫كان عند بعض اللصوص والعيارين قوانين ومبادئ يتحاكمون إليها‪ ،‬وضع أس َ‬
‫المنظرين والمو ّجهين "الفكريين" لجماعات اللصوص والعيارين في تلك الفترة‪ ،‬كان من‬ ‫ّ‬
‫أبرزهم عثمان الخياط السالف الذكر‪ ،‬الذي وصفه اآلبي الرازي ‪-‬في ‘نثر الدر‘‪ -‬بأنه كان‬
‫"من كبار الفتيان والشطار"‪ ،‬ول ِقّب "الخياط" ال ألن له عالقة بخياطة المالبس ونحوها‪،‬‬
‫ب أحد البيوت وسرقتها‪ ،‬ثم بعد ذلك سدّ النَّ ْقب فصار وكأنه قد خاطه!‬
‫بل ألنه قام بنَ ْق ِ‬
‫قط ولو كان عدوا‪ ،‬وال‬‫ويحكي شيخ اللصوص هذا عن نفسه فيقول‪" :‬ما سرقت جارا ُّ‬
‫سرقت كريما وأنا أعرفه‪ ،‬وال خنت َمن خانني‪ .‬وال كافأت غدرا بغدر"‪ .‬بل إنه يقدم نفسه‬
‫مكافحا للمجرمين الذين ال تحكمهم مبادئ وال مواثيق شرف‪" :‬ولقد قتلت بيدي أكثر من‬
‫مئة خنّاق ومبنج؛ ألنهما ال يقتالن وال يسلبان إال عند وجوب الحرمة وعند‪ ...‬الثقة"‪.‬‬
‫ويوصي أصحابه قائال‪" :‬ال بد لصاحب هذه الصناعة (= اللصوصية) من جراءة وحركة‬
‫وفطنة وطمع‪ ،‬وينبغي أن يخالط أهل الصالح‪ ،‬وال يتزيّا بغير زيّه"!‬

‫والعجيب أن هذا "الشيخ الوقور" كان يقدم االنضباط واالستقامة الخلقية في اللصوص‬
‫كأحد أسباب نجاتهم‪ ،‬ومن ضمانات إتمام أعمالهم بنجاح؛ فكان يُرشد أصحا َبه بقوله‪:‬‬
‫"اضمنوا لي ثالثا أضمن لكم السالمة‪ :‬ال تسرقوا الجيران‪ ،‬واتـّـقوا ال ُح ُرم‪ ،‬وال تكونوا أكثر‬
‫من شريك ُمناصف‪ ،‬وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم إخراج الزكاة‬
‫وجحودهم الودائع"‪ .‬وهنا نلمح كيف كانت سطوة القيم األخالقية على الحياة في الحضارة‬
‫وظفتها جماعة احترفت السرقة!!‬ ‫اإلسالمية إلى حدّ أنها ّ‬

‫كما يال َحظ أن قيم المروءة والفروسية لم تغب أيضا عند شريحة من هؤالء؛ فقد خرج أحد‬
‫شيوخ اللصوص مع بعض أصحابه ليلة‪ ،‬وحين اقترح أحدهم عليه قائال‪" :‬دعنا نقم على‬
‫مفارق الطرق لنأخذ من بعض المارة نفقة يومنا"‪ ،‬وافق على ذلك مشترطا فقال‪" :‬على أال‬
‫تبطشوا بهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬وهل يفعل ذلك إال الجبان"! فالهدف كان السرقة وأخذ "نفقة اليوم"‬
‫مر بهم شاب يبدو عليه الوقار "فلما قرب سلّم عليهم‪ ،‬فرد‬
‫دون إيذاء‪ ،‬وبينما هم كذلك إذ ّ‬
‫عليه بعضهم السالم‪ ،‬فقام إليه بعضهم‪ ،‬فقال رئيسهم‪ :‬دعه فإنه سلّم ليَ ْسلَم‪ ،‬وأجابه بعضكم‬
‫فصار له ذمة بذلك‪ ،‬قالوا‪ :‬فنخلي سبيله"!‬

‫والحقيقة أنهم لم يكتفوا بتركه بعد أن بادرهم بالسالم‪ ،‬بل قرروا أن يحيطوه بالحماية حتى‬
‫غيركم‪ ،‬ليذهب معه ثالثة يوصلونه إلى منزله‪،‬‬ ‫يبلغ مأمنه؛ فقال لهم زعيمهم‪" :‬أخاف عليه َ‬
‫ففعلوا"‪ .‬ولكن الشاب الوقور هالته أخالق هؤالء اللصوص فقرر أن يكافئهم ‪-‬بعد أن أبلغوه‬
‫مأمنه‪ -‬فدفع إليهم مكافأة مالية "فلما عادوا بالدراهم‪ ،‬قال رئيسهم‪ :‬هذا أقبح من األول‪،‬‬
‫تأخذون ماال على قضاء الذمام والوفاء بالعهد! ال أبرح أو تردون إليه المال‪ ،‬فقالوا‪ :‬قد‬
‫افتـُضحنا بالصبح! فقال‪ :‬لئن نفتضح بالصبح خير من تضييع الذمام"!!‬

‫ويندرج في "ميثاق شرف اللصوص" ما كتبه القاضي التنوخي عن زعيم إحدى جماعات‬
‫اللصوص في بغداد يدعى "ابن حمدي اللص" (قـُتل سنة ‪332‬هـ)؛ فقد قال إنه كان "إذا‬
‫قطع [الطريق على المارة] لم يعرض ألرباب البضائع اليسيرة التي تكون دون األلف‬
‫درهم‪ ،‬وإذا أخذ ممن حاله ضعيفة شيئا قاسمه عليه وترك شطر ماله في يديه‪ ،‬وأنه ال‬
‫يفتش امرأة وال يسلبها"‪.‬‬

‫شهد التاريخ اإلسالمي محاوالت من مسؤولي السلطة الستخدام العيارين في االستيالء‬


‫)الجزيرة( بالقوة على أموال الناس كما في قصة "ابن حمدي اللص" البغدادي‬

‫ترسيم اللصوصية‬
‫وينقل التنوخي موقف ابن حمدي اللص هذا من مجمل األوضاع االجتماعية والسياسية‪،‬‬
‫عبر رواية نقلها له أحد الذين قطع عليهم الطريق قرب بغداد‪ ،‬وكان هذا الرجل من الذكاء‬
‫بمكان بحيث إنه تحدث إلى هذا "اللص النبيل" باللغة التي يفهمها وبلسان "القيم" التي‬
‫يؤمن به‪ ،‬فحلف له أنه سوف يصير فقيرا بعد مصادرة ماله وسيكون أهالً ألخذ الصدقات!‬

‫ولكن ابن حمدي –في جوابه للرجل‪ -‬قدّم لنا قراءته لظاهرة الفساد الحكومي التي انتشرت‬
‫في تلك الفترة في بغداد‪ ،‬معيدا لنا منطق اللصوص في تبرير سلوكهم بأنه رد فعل على‬
‫فساد السلطة الذي ضيّق عليهم أسباب العمل المشروع؛ فـ"هللا بيننا وبين هذا السلطان الذي‬
‫أحوجنا إلى هذا! فإنه قد أسقط أرزاقنا وأحوجنا إلى هذا الفعل"‪ .‬ثم إنه قارن بين موقفهم‬
‫من السرقة وموقف السلطة قائال‪" :‬لسنا فيما نفعله نرتكب أمرا أعظم مما يرتكبه السلطان"‬
‫حين ينهب خيرات الشعب ويتركه فريسة للفقر والفاقة!!‬

‫وقد تحدث ابن حمدي عن ممارسات قيادات ومسؤولين معينين مثل أمير بغداد ابن شيرزاد‬
‫والقائد أبي عبد هللا البريدي (ت ‪333‬هـ) في واسط والبصرة‪ ،‬حيث كان كل منهم "يصادر‬
‫ضياع والدور والعقار‪ ،‬ويتجاوزون ذلك إلى ال ُح ُرم"‪.‬‬
‫الناس ويفقرهم"‪ ،‬و"يأخذون أصول ال ِ ّ‬
‫ثم قال‪" :‬فاحسبونا نحن (= اللصوص) مثل هؤالء"!!‬
‫اعالن‬

‫واستمر الرجل المسروق يجادل ابن حمدي ويذ ّكره بالوقوف أمام هللا يوم الحساب‪ ،‬منبها‬
‫إياه إلى أن "ظلم َّ‬
‫الظلَ َمة ال يكون حجة‪ ،‬والقبيح ال يكون سنة"‪ ،‬فما كان من اللص إال أن‬
‫رد عليه نصف ماله‪ ،‬فطلب منه أن يرسل معه من يؤ ّمنه في طريقه حتى ال يتعرض له‬
‫أحد باإليذاء‪ ،‬ففعل اللص‪.‬‬

‫وقد حاولت السلطة استمالة ابن حمدي اللص هذا بالدخول معه في مجاله؛ فيقول ابن‬
‫مسكويه (ت ‪421‬هـ) –في كتابه ‘تجارب األمم‘‪ -‬إنه "خلع عليه ابن شيرزاد وأثبته برسم‬
‫الجند"‪ ،‬أو "ض ّمنه ابن شيرزاد اللصوصية"‪ ،‬أي عهد إليه بإدارة وتنظيم العاملين فيها‬
‫مقابل تقديم جزء من مدخولهم منها إلى هذا المسؤول الحكومي؛ حسبما يقول الذهبي (ت‬
‫‪748‬هـ) في ‘تاريخ اإلسالم‘‪.‬‬

‫ويوضح ابن األثير (ت ‪630‬هـ) ‪-‬في ‘الكامل‘‪ -‬ما قام به ابن شيرزاد من تعاقد مع اللص‬
‫ابن حمدي‪ ،‬وأنه اشترط عليه أن يقاسمه ما يجمعه من أموال بحيث "يوصله كل شهر‬
‫خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه‪ ،‬وكان يستوفيها من ابن حمدي‪ ،...‬فعظم‬
‫شره حينئذ‪ ،‬وهذا ما لم يسمع بمثله" من قبلُ!!‬

‫ويبدو أن هذا الفخ الذي نُصب البن حمدي ع ّجل بنهايته؛ حيث ظفر به قائد شرطة بغداد‬
‫بعض ما هم فيه"‪ .‬ولعل هذا يذكرنا‬
‫ُ‬ ‫فخف عن الناس‬
‫ّ‬ ‫أبو العباس الديلمي "فقتله‪،...‬‬
‫بـ"شروط السالمة" التي نصح بها ابن الخياط أتباعه من اللصوص‪ ،‬وأن تخلي العيارين‬
‫كليا عن القيم والمبادئ األخالقية كفيل برسم نهاية تعيسة كالتي انتهى إليها ابن حمدي‪.‬‬

‫ويبدو أن السلطة واصلت محاوالتها السيطرة على تلك الجماعات من "اللصوص النبالء"‪،‬‬
‫حتى أصبح اللصوص والعيارون كما يقول ابن خلدون (ت ‪808‬هـ) "يتمسكون بالجاه من‬
‫أهل الدول فال يقدر بهروز على منعهم"! ويروي المؤرخ ابن األثير أنه في سنة ‪538‬هـ‬
‫"زاد أمر العيارين وكثروا ألمنهم من الطلب بسبب ابن الوزير"‪.‬‬

‫وحين حاول الخليفة العباسي المقتفي أن يضع حدا لسلوك اللصوص الذي بات يهدد أمن‬
‫البالد؛ خاطبه قائد الشرطة ‪-‬كما يقول ابن االثير‪ -‬مبديا عجزه عن مواجهتهم‪" :‬يا سلطان‬
‫العالم! إذا كان عقيدُ العيارين ولدَ وزيرك وأخا امرأتك‪ ،‬فأي قدرة لي على المفسدين؟!"‪.‬‬

‫وصل االنقسام الطائفي في المجتمع اإلسالمي إلى فئة اللصوص فكان لكل طائفة مذهبية‬
‫)الجزيرة( شطار وعيارون توظفهم في عنفها ضد الطائفة األخرى‬

‫سالح طائفي‬
‫ربط هذا المؤرخ بين صعود قوى اللصوصية والعيارين والحروب األهلية والصراعات‬
‫على الحكم التي شهدتها عواصم مثل بغداد‪ ،‬ورأى أن تلك الظروف كانت المناخ المناسب‬
‫وتمرسها بالقتال والمناكفة‪ ،‬والخروج بها من النطاق‬
‫ّ‬ ‫لخروج تلك القوى‬
‫االجتماعي‪/‬االقتصادي إلى المجال االجتماعي‪/‬الطائفي؛ حيث يقول إنه في سنة ‪361‬هـ‬
‫"وقعت ببغداد فتنة عظيمة‪ ...‬وتحزب الناس‪ ،‬وظهر العيارون وأظهروا الفساد وأخذوا‬
‫أموال الناس"‪.‬‬

‫أما ابن مسكويه؛ فقد حدثنا عن سياق مهم آخر يضاف إلى تحليل ابن األثير‪ ،‬وهو أن‬
‫ظهور اللصوص ال يحدث إال في لحظة "انحدار بهاء الدولة"‪ ،‬وأنهم ال تعلو قوتهم إال إذا‬
‫"رفعت الحشمة وجرى من الحرب بين أهل الدروب والمحا ّل‪ ...‬ما أعيا فيه الخطب‬ ‫ُ‬
‫وتكرر الحريق والنهب‪ ،‬تارة على أيدي العيارين وتارة على أيدي الوالة"‪.‬‬

‫ثم إنه بدءا من القرن الرابع الهجري‪ ،‬وتحديدا خالل العقود األولى من الدولة البويهية؛‬
‫حدث تطور بالغ الخطورة في تاريخ تنظيمات العيارين‪ ،‬إذ أصبحت سالحا يتم توظيفه في‬
‫الفتن الطائفية بين الشيعة والسنة‪ ،‬ولم تعد مقتصرة على حروب أجنحة السلطة التقليدية‬
‫المألوفة‪.‬‬

‫ويقدم التوحيدي صورة بليغة لتلك الفتن التي لمع فيها نجم العيارين؛ فيقول حين سئل عن‬
‫رأيه في أغرب غرائب فتنة سنة ‪361‬هـ‪" :‬كل ما كنا فيه كان غريبا بديعا عجيبا شنيعا‪،‬‬
‫شنّت الغارة‪ ،‬واتصل النهب‪ ،‬وتوالى الحريق حتى لم يصل‬ ‫حصل لنا من العيارين قواد‪ ..‬و ُ‬
‫إلينا الماء من دجلة"‪.‬‬

‫وها هو ابن األثير يصف لنا وقائع فتنة سنة ‪361‬هـ التي حدثت في بغداد‪ ،‬واستخدم فيها‬
‫وأحرقت الدور‪ ،‬وفي جملة ما احترق محلة‬‫ِ‬ ‫سالح العيارين "فنُهبت األموال وقـُتل الرجال‬
‫الكرخ وكانت معدن التجار والشيعة‪ .‬وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب [العلوي] أبي أحمد‬
‫الموسوي (ت ‪400‬هـ وهو والد الشريف الرضي ت ‪406‬هـ) والوزير أبي الفضل‬
‫الشيرازي" الذي "كان شديد التعصب للسنة"؛ حسب تعبير ابن كثير (ت ‪774‬هـ) في‬
‫‘البداية والنهاية‘‪.‬‬

‫ويسجل ابن كثير أنه وقعت في سنة ‪425‬هـ "الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين‬
‫من الفريقين‪ ،‬و ُمنع ابنا األصفهاني ‪-‬وهما مقدَّما عياري أهل السنة‪ -‬أه َل الكرخ من ورود‬
‫ماء دجلة فضاق عليهم الحال"‪.‬‬

‫اعالن‬

‫ويقول الذهبي ‪-‬في ‘تاريخ اإلسالم‘‪ -‬إنه حين تم تطويق الفتنة "رو ِسل [نقيب العلويين‬
‫الشيعة] المرتضى (ت ‪436‬هـ) بإحضار العيارين إلى داره‪ ،‬وأن يقول لهم‪ :‬من أراد منكم‬
‫التوبة قـُبلت توبته‪ ،‬ومن أراد خدمة السلطان استُخدم مع صاحب المعونة‪ ،‬ومن أراد‬
‫االنصراف عن البلد كان آمنا على نفسه ثالثة أيام‪ .‬فعرض ذلك عليهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬نخرج‪.‬‬
‫وتجدد الفساد واالستيفاء"‬

You might also like