Professional Documents
Culture Documents
نيكوبار - أنغام زايد PDF
نيكوبار - أنغام زايد PDF
نيكوابر
نيكوابر..
حبيبيت اإلنسيه
لـ
أنغام زايد
2
نيكوابر
مجيع احلقوق حمفوظة © عصري الكتب للنشر اإللكرتوين
http://book-juice.com
نيكوابر
املؤلفة :أنغام زايد
3
نيكوابر
مقدمة
4
نيكوابر
صوت اآلذان ،فأيقنت أنه لن يخرج قبل أن يصلي ،أخرجت
أوراق المحاضرة أللقي نظرة.
وكان العنوان "كيف تغير نفسك"
تعمقت في القراءة فأخذني الوقت ،نظرت للساعة مجددًا
وجدتها الواحدة إال ربع ،دقات قلبي باتت سريعة ،وعقلي ال
يكف عن التفكير ،حدثت نفسي في صمت؛ ترى ما الذي
حدث وجعله يتأخر كل هذا الوقت؟ قلقي جعلني أخرج من
السيارة.
وأقف أمام المسجد ،نظرت للباب وجدته مغلق ولكن هناك
صوت صراخ أنثوي يدوي بالمكان ،وقفت مترددة لعدة
دقائق ولكنني قررت اكتشاف ما يجري حولي ،اقتربت منِ
باب المسجد أكثر فأكثر ولمست الباب ففتح ،ما إن نظرت
بداخل ِه حتى فزعت ،وتطايرت كل أوراق المحاضرة من بين
يدي عندما رأيت هذا الكم من النساء ،نظرت إحداهن إلي
نظرة غريق يستغيث ،واألخرى تلطم وجهها وتصنع
بأظافرها شوارع من دماء ،وهناك من تجلس وتهز منكبيها
وتقول كلمات غير مفهومة ،وامرأة يبدو على مًلمحها أنها
في سن األربعين تمزق بمًلبسها وهي تضغط أسنانها
ببعضها بغضب حتى انكشفت سيقانها وال أحد حاو َل أن
يسترها.
ارتعش قلبي وجعًا عليها وأنا أقول في نفسي؛ كيف
سينتبهون لها وكل واحدة منهما تنتظر دورها برعب وفزع.
صوت رجال بالجانب اآلخر يتألمون ،المكان منقسم لجزئين
والجميع يعاني؛ الذكرى ناوشتني كحلم يقظة ،أريد أن أهرب
ولكن قدماي قد تخليتا عني ،ال تريدان الركض أو حتى
5
نيكوابر
الرجوع للخلف؛ وكأنهما أصيبتا بشل ٍل مؤقت ،إرتجفت،
تدحرجت دموعي وكأن هناك من يلقيها باستمرار.
يد وضعت على كتفي فجأة؛ فلم أقوى على تمالك أعصابي
وسقطت على األرض.
قال السائق في فزع:
ـ أنا آسف يا دكتورة إني خضيتك بس ماكانش قصدي ،قعدت
أنادي عليكي كتير بس إنتي ماسمعتينيش.
ثم مد يده لي وساعدني على النهوض .تبسمت له بود وقلت:
ـ وال يهمك أهم حاجة إنت كويس.
ـ الحمد هلل وآسف على التأخير ،بعد ما صليت لقيت واحد
قاعد على عتبة المسجد بيبكي حاولت أعرف ماله ،حكالي
قصة غريبة ،بصراحة ماصدقتهاش ،نفس موضوع الستات
الي جوه دول.
وأشار بيده تجاه صوت الصراخ .أومأت برأسي تفه ًما وسرنا
تجاه السيارة .ركبت السيارة مجددًا ،وعم سمير بدأ الحديث
ً
قائًل:
ـ بتصدقي الحاجات دي ؟
نظرت إليه في صمت؛ فقد أيقنت بأنه سيتحدث في هذا
الموضوع ،تركته يخرج ما في جعبته ويسأل عما يريد،
فأكمل:
ـ مرضى نفسيين هما صح؟
6
نيكوابر
نظرت إلى عينيه في المرآة ،فارتبكت بًل سبب وحاولت
االبتسام فلم أستطع ،قلت له فجأة:
ـ أقولك سر؟
نظر إلي وعيونه تلمع من كثرة الفضول ،فاسترسلت في
الحديث:
ـ أنا زمان كنت زيك كده؛ بس نظرتي ليهم أتغيرت فجأة،
وخصوصًا بعد قصة بنت حصلت قدامي ،إيه رأيك تحضر
محاضرة النهاردة مع الطًلب هتستفاد كتير.
أومأ رأسه بلهفة وأعلن موافقته .دقائق ووصلنا أمام
الجامعة .دخلت القاعة ويدي خاليتان من ك ّل شيء ،فقد
ذهبت األوراق مع الريح وكل ما كنت قد قررت قوله قد تبدل،
اعتذرت عن التأخير ووقفت لبرهة أفكر كيف سأعرض
عليهم هذه المحاضرة الغريبة ،أمسكت القلم وكتبت بخط
عريض..
"نيكوبار"11_11_0202
نظرت إلى وجوه الحاضرين الذين كست مًلمحهم أسئلة
كثيرة ،ونظروا بدهشة إلى تلك الكلمة التي كتبتها ،فأردفت
قائلة:
ـ موضوع النهارده هيكون مختلف ،وإسم نيكوبار دا اخترته
عشان هيكون جزء كبير في موضوعنا ،إيه رأيكم أحكي
قصة بنت ونستفاد منها كلنا .إ ِلّي موافق يرفع إيده.
رفع الجميع أيديهم بالموافقة ومن بينهم عم سمير الذي
اختار مقعدًا بآخر القاعة ،غمز لي فرحًا ألنه الوحيد الذي
7
نيكوابر
تبسمت وبدأت في سرد يعلم ما الذي سأتحدث عنه؛
الحكاية.
***
8
نيكوابر
الصديق المفاجئ
9
نيكوابر
مباشرة وهذا اإلسم كان وصيتها؛ أشفق الموظف وقام
بتسميتها بناء على طلب هذا الفتى الشقي ولكن سرعان ما
اكتشف األب ما حدث وانهال عليه بالضرب.
منزلهم كمعظم البيوت الريفية ،كبير جدًا ،ولكن أثاثه بسيط،
األرض كلها "حصير" وغرفة الضيوف بها مقاعد خشبية
و"كنب" ،غرفتها كانت بأول البيت تطل على الشارع ،أما
غرفة والدها ووالدتها ففي الجزء األيمن من البيت
ضا غرفة وحيد المغلقة من سنوات وبجوارها الحمام ،وأي ً
بالجانب اآلخر من البيت وكأنها شقة منعزلة.
كانت روفيدا تمتلك مفتاحها ،عندما التقطته من وحيد قبل
خروجه ،ودفنته في قلبها ،ولم يعرف أحد هذا السر،
خصصت له حفرة صغيرة بغرفتها ،أغلقت عليها الوجع،
وتركت مكانا ً تستنشق منه الحنين من وقت آلخر ،فتسحب
ذلك الخيط وتذهب لتقابل دفاتر أخيها ،تمسح األتربة وتقبل
مصحفه ،لم ير هذا المفتاح سوى فأر صغير تجسس عليها
ذات يوم ،وترك فضًلته ً
دليًل ألثر الجريمة.
أما هو فكانت تجلس بجواره تناغيه وتحدثه عما في
الكًلم ،فهو
ِ صدرها ،ولم يبدي يو ًما أي اعتراض على
مستمع ممتاز ال يقاطع محدثه أبدًا ،بيتهم لم يكن به سواه؛
على الرغم من وجوده بحظيرة كبيرة بها طواله متدرجة
(مكان يوضع فيه الطعام للبهائم عند إطعامهم) وموصدة
ً
فضًل عن بباب خشبي ثقيل يستعصي عليه فتحه بالنطحِ،
وجود ترباس عظيم يحتل منتصف الباب األيسر بعرض
نصف الباب ،وخلو الحظيرة من الحيوانات يدل على أن
أصحابها من الطراز الحديث من الفًلحين المودرن الذين
11
نيكوابر
تركوا تربية الحيوانات وأكتفوا بامتًلك األرض .كانت هذه
ً
مفعوال. أمرا كان
الحظيرة مسكنه إلي أن يقضي هللا ً
وهي الوحيدة التي كانت تشفق عليه في وحدته ،فهي تعلم
االجتماع؛ فلقد فرض عليها أبوها الوحدة
ِ ألم الوحدة بعد
سرا من
والعزلة وعدم الخلطة؛ وذنبها في ذلك أن حباها هللا ً
أسرار الجمال ،ففرض عليها الحصار حتى شرفة المنزل لم
تكن لتقربها؛ مخافة العار كما كان يكرر أبوها.
وما هي جريمتها هل هي التي تأتي بهم أسفل شرفتها ابتغاء
نظرة إليها ،ليس لها في ذلك ذنب ولكن كل العواقب لها
وحدها ،تركت المدرسة ،وانعزلت عن العالم وعن صديقاتها
ولم تبرح عتبة بيتها إال عندما تم خطبتها ،والسبب في ذلك
عالم مليء بالحمقى والمرضى ،وما إن أتى ٍ أنها تعيش في
ً
ذلك الخروف إلي بيتها ،حتى اتخذت منه صديقا لها ،تجلس
معه وتحدثه وتؤنس وحدتها ال وحدته ،فهي من كانت تحتاج
إلي من يسمعها أكثر و يعطف عليها أكثر وأكثر فوجدت في
"فلفل" الخروف خير أنيس؛ هكذا أسمته حتى تحادثه.
ت معظمه ً
ليًل ،تتسلل إليه كانت تقضي معه الكثير من الوق ِ
خفية من أه ِلها؛ في البداية كانت تحدثه وهو منشغل بأكله،
يتابعها بأذنيه فقط ،إلى أن حدث ذلك التحول الذي أعجبها،
ولكنها ال تدري عواقبه.
كان إذا ما دخلت إليه هرع إليها ،يتمسح بها يعبر لها عن
اشتياقه لرؤيتها وامتنانه لزيارتها؛ وفي نفسها هي من كانت
تمتن له؛ ألنه أوالها االهتمام والترحيب ،فأكثرت من زيارته
بأي حجة والحجج كثيرة ،مرة بطعامه ،ومرة بشرابه ،ومرة
باالطمئنان على حياته ،وكان يتفاعل معها إذا حدثته ،وكأنه
11
نيكوابر
أعز صديق ،وكان يضاحكها ،وكأنه بهلوان فأحبته أكثر.
كثيرا بالتفكير
ً ولكنها ال تعلم حقيقة تحول معاملته ،ولم تعبأ
في األمر ،ولهذا من العواقب ما يفزع.
لطالما أحبت العيد ،ألجل الفرحِ والسرور ،ورؤية األهل
الذين حرمتهم بًل ذنب ،ولكن هذا العيد كرهته ألنه سيأخذ
منها ود صديق وجدته صدفة.
***
12
نيكوابر
ليلة العيد
في صبيحة ليلة العيد جلست روفيدا بجوار فلفل تواسيه قبل
ذبحه ،كانت تتجنب الذهاب إليه من الباب الكبير المطلة
فتحته على الشارع ،ألن هذه الفكرة كانت ستجعلها تخرج
من البيت في هذا الوقت ،فكانت تمشي بخفة تجاه الباب
الداخلي للحظيرة المتصل مباشرة بالبيت ،تنزل السلم
بخطوات ثابتة وتركض نحوه ،باألمس لم تنم؛ تعلم بأنه
سيكون األضحية؛ عندما دخلت الحظيرة ورأته ،أجهشت
بالبكاء جلست بجواره على حجر صغير ،وأخذت تتحدث
معه:
ـ فلفل آخر يوم هشوفك النهاردة ،إنت ما قعدتش في بيتنا
كتير ،بقالك أقل من شهر ،بس أنا حاسة إن بقالك سنين هنا،
وكأنك مولود وسطينا ،اتعودت عليك وحبيتك أوي ،إنت
عارف إنك كنت صديقي الوحيد ،إلن المكان اللي إحنا فيه ده
ما فيهوش بنات كتير علشان بيتجوزوا وهما صغيرين وحتى
فرحانة صاحبتى ،أبويا مش بيرضى يخليني أروحلها.
صمتت روفيدا ً
قليًل وابتلعت ريقها وقالت:
ـ أنا خايفة من الجواز أوي يا فلفل ،فرحي بعد أسبوعين،
حاسة بقلق كده ومرعوبة ،ما أعرفش محمد هيبقى كويس
معايا وأال أل؟ ويا ترى هيضربني زي ما أبويا بيضرب أمي
ويشتمها؟
تأففت وزفرت بضيق ،وأكملت كلماتها وهى تجهش ببكاء
عنيف:
13
نيكوابر
ـ فلفل أنا مش عايزة أتجوز ،ساعات بحس إني مش عايزاه،
بس بخاف أقول ألبويا ،إنت الوحيد اللي بتسمعني لما ببقى
عايزة اتكلم.
سمعت صوتًا أجشا قريبًا منها يقول:
ـ ما تخافيش أنا مش هسيبك.
نظرت حولها بذعر ،وأخذت تبحث عن مصدر الصوت فلم
تجد أحدًا.
غلق باب الحظيرة
ِ انتفضت واقفة وذهبت لتتأكد من
الخارجي ،وأن الرجال ال يزالون بالمساجد يكبرون تكبيرات
العيد ،تنهدت باطمئنان ،وعادت لتكمل حديثها مع فلفل ،وهي
الزالت توليه ظهرها وتنظر إلى الشارع:
ـ أنا شكلي إتهبلت وأال أيه ،الناس لسه في الجوامع بتصلي،
كل ده بسببك يا سي فلفل الواحد المفروض ما يتعلقش
بعصفورة حتى.
سمعت الصوت مرة أخري :
ـ هيدبحوني النهاردة ،وال هتًلقي حد تهزري معاه وال غيره.
نظرت للخلف وهي مرعوبة ،فوجدت فلفل ملقيًا ظهره على
الحائط ،كأنه يحكه ،واقفًا على قدميه الخلفيتين ،محدقًا بها،
عا ،وأخذت وتلوح بعينيه نظرة مقلقة ،اتسعت عيناها فز ً
تسأل نفسها ،هل هذا الذي تراه حقيقة؟ أم أنها يخيل إليها؟
صرخت ولكن ضاع صوتها وسط مكبرات الصوت .اعتدل
فلفل في وقفت ِه ،وهي تسمرت بمكانها دون حراك ،ما إن
يصمت صوت التكبير لبرهة ،حتى يتحدث فلفل ،وعندما
14
نيكوابر
يكرروا التكبير يصمت ،اهتزت لثوان ،ولكنها تحاملت على
جسدها ،وهرعت لباب الحظيرة ،أمسكت بالمقبض وحاولت
الهرب ولكن دون فائدة ،فالباب وكأن أحدهم أغلقه من
الخارج.
انطفأت المأذن في المساجد ،وبدأ األشخاص في الخروجِ،
ركض فلفل نحوها وقال:
ـ بصي أنا هحكيلك قصتي بس تهدي شوية ،علشان كلها
دقايق والجزار يجي؛ لو فضلتي كده مش هتكلم وهتندمي
طول العمر.
أومأت رأسها بالموافقة وهي تتصبب عرقًا من كثرة الخوف.
***
15
نيكوابر
البيتزا العجيبة
16
نيكوابر
"أل أنا بحب البت سماح والزم أخطبها؛ ومن ساعة ما
اتكلمت وهي اتقلبت عليا وبقت تعاملني وحش ،وكل يوم
تروح تشتري فسيخ علشان عارفة إ ِنّي بكره ريحته،
ومابقعدش في البيت اليوم الّي بياكلوا فيه األكلة المعفصة
دي".
بدأ خوف روفيدا يتًلشي شيئًا فشيئًا ،تستمع له بتعجب غير
مصدقة ،لفت انتباهها هذه الكلمة فسألته:
ـ معلش يعني إيه معفصة؟
نظر لها فلفل وهو يحرك أذنيه للخلف وقال:
ـ بصي لو هتقاطعيني مش مكمل.
ـ ال خًلص خًلص كمل.
ـ المهم يا ستي سيبت البيت ومشيت ،قلت خًلص كلها أيام
وأبقي مليونير جيت رايح مأجر شقة وقاعد فيها ،وإتفقت مع
حبيبتي وقت ما أخد الفلوس نتجوز على طول ،بعد كام يوم
لقيت الباب بيخبط نص الليل ،قعدت أبص من فتحة الباب
لقيتها سماح؛ فتحتلها بسرعة وأنا مخي عمال يودي
ويجيب .دخلت وقعدت تعيط ،وتقولي أبوها هيطلق أمها
وإنها خًلص مش قادره تستحمل وحوارت كده .صعبت
عليا؛ جيت مطبطب عليها وقلتلها هانت كلها أيام ونبقى مع
بعض.
ضحكت ضحكة "رقيعة" كده ،وقالتلي إمتي بقي هيهيهيهي.
بصراحة استغربت .قلت البت دي مالها كده!!
بعد شوية لقيتها عمَّالة تلعبلي في دقني ،وقالتلي تيمو أنا
جعانة قوي ،أطلبلنا ديليفري قمت اتصلت جبت بيتزايتين
17
نيكوابر
وروحت المطبخ أجيب أطباق وأظبطهم ،دخلت ورايا وقعدت
ِتسبلّي بعنيها وقالتلي أطلع برا إنت وسيب كل حاجة عليا
ياسي تيمو ،وكملت ضحكاتها الرقيعة هيهيهيهيهي.
وأنا بصراحة انبسطت وانشكحت أول مرة حد يدلعني كدا.
طلعت بعد خمس دقايق كده ،وقعدت توكلني في بقي وشوية
ياأختي ولقيتلك شعر عمال يطلعلي ،وصوتي بدأ يزيق،
وكإني بتغرغر كده ،وهوب صوت فتق البنطلون وشي راح
ألوان وأشكال وقلت في سري إيه الفضيحة دي ،بس لقيت
حاجه طرية كده قاعد عليها ،اكتشفت بعدين إنها اللية
الجميلة دي.
ثم والها ظهره وأخذ يهزها بطريقة مضحكة .ضحكت روفيدا
على ما فعل وتركته ليكمل:
ـ شوية ولقيت البنطلون طار ،حاولت استر نفسي بحاجة؛
جيت أمسك المخدة ما بتتمسكش ،أبص إليديا لقيت الصوابع
بقت حوافر ،أدور على سبب فتق البنطلون ،لقيت المؤخرة
بتاعتي اتنفخت وبقت حاجة صعبة؛ بحط إيدي على وشي
لقيته بقي طويل لقدام ،جيت مصوت ولسه هشد في شعري
لقيت ودنين طوال كده؛ قلت مابدهاش بقى؛ حاولت أوصل
ألقرب مرايا لقيت نفسي بمشي على أربع رجلين.
وعمال اتزحلق وهوب اتقلبت على ضهري ،بس وصلت بعد
قهر يا أختي للحمام .ساعة ما شفت نفسي في المراية
اتصدمت؛ طلعت أجري اطمن على حبيبتي قلت شكل إلي
عمل البيتزا دي حطلنا فيها حبوب صراصير ،علشان نتخيل
حاجات غريبة ،ببص عليها لقيتها زي ماهي ما حصلهاش
حاجة؛ أنا فكرت هًلقي نعجة بقى ونقعد نمأمأ للصبح.
18
نيكوابر
كانت ماسكة التليفون وعمالة تتكلم بالراحة؛ قلت بنت التيت
بتخوني وفي بيتي ،دي لسه طافحه بيتزاية بخمسة وتًلتين
جنيه؛ رميت ودني علشان أتأكد قلت لما أسمع بتقول إيه؛
لقيتها بتكلم عمتي وبتقولها كله تمام أنا حطيتله السحر زي
ماقلتي واتقلب "خروف" شوفي بقي الغنَّام ييجي ياخده ،أنا
كده عملت إلي عليا ،نص الفلوس إلي في الوديعة تكون
عندي يومها وإال أروح فيكم في داهية اااه.
قعدت على األرض من الصدمة؛ أعيط مافيش دموع ،أصوَّ ت
لقيت نفسي بمأمأ ،أغني إلليسا "مصدومة بجد ومش
بنطق" مافيش صوت .
كان نفسي أقتلها من الضرب ،قلت في سري وحياة خالتك
محاسن مرات حسن كلبشات ألروح فيكي أنا في داهيتين
يابنت برعي األعور؛ جيت عامل هجمة مرتدة وخابط برجلي
في األرض وجريت إديتها نطحة في بطنها وقعت على
األرض ما نطقتش ،وفضلت أدوس عليها وأقعد فوق منها
لحد ما كتمت نفسها.
صاحت روفيدا بفرح:
ـ ماتت؟
أخرج فلفل لسانه ،وكأن هناك شيء من العلف عالق به ،قال
لها وهو يدخل لسانه مجددا ً:
ـ ما أعرفش بس أنا قعدت على قفصها الصدري وكتمت
نفسها "بليّتي" ما لحقتش أتأكد علشان شوية وعمتي جات
هي والغنَّام ،وكان كل همي استخبى منهم ،قعدت أجري في
الشقة ،وعايز أهرب ماعرفتش ،لقيت واحد مع الغنام قد
19
نيكوابر
الفحل كده عمال يجري ورايا بخشبة ويضربني ،وأمأمأ على
أخري مافيش رحمة؛ استسلمت بقى أصل عقد الشقة فيه
شرط جزائي لو حاجة باظت ادفع تمنها ،ودافع شهرين مقدم
فقلت في سري ياال بقى هيبقى موت وخراب ديار ،أمري هلل.
بقيت من عربية لعربية ،ومن زريبة لزريبة؛ وبقيت أحب
العلف زي ما كنت بحب السي فود ،وأحب البرسيم زي ما
كنت بحب عصير القصب لحد ما جيتلك يا جميل.
حزنت روفيدا ألجل ِه وقالت:
ـ طيب إيه الحل ؟! ترجع زي ما كنت إزاي؟
ـ ما أعرفش بس أنا مش عايز اندبح رقبتي هتوجعني.
قطع الحديث صوت والدها؛ رجل طويل وعريض ،مًلمحه
دائما ً تظهر عابسة ،أصلع ولهذا ال تفارقه الطاقية البيضاء.
ـ ياال يا أم حسن هاتي الطشت والسكاكين.
أم حسن أرملة فقيرة تعيش بالبيت المجاور لهم ،تساعدهم
دائ ًما في أي عمل لتجني بعض النقود أو ليعطوها الطعام
الفائض .بكت روفيدا وهرولت نحو والدها؛ نظر لها بتعجب،
وسألها:
ـ بتعملي إيه لوحدك هنا؟
إعترتها رجفة وهي تتحدث:
ـ كنت قاعدة مع فلفل؛ فلفل إنسان يابابا إوعي تدبحه.
ثم أمسكت فلفل من رأسه وأخذت تهزه بقوة.
ـ قولهم قصتك إلّي قولتهالي ،اتكلم.
21
نيكوابر
نظرت ألبوها وأكملت:
ـ هو خايف ماحدش يصدقه؛ طيب إسأله إنت كده.
ضغط والدها على أسنانه بغضب وصاح بها:
ـ أسأل مين يابنت الكـ ....
ما ال يقل عن مائة كلمة سباب ،أنا قلتلك ميت مرة،
ماتقعديش مع الزفت ده في الضلمة لوحدك ،شكل مخك
إتلحس ،إطلعي بره وما أسمعش كلمة من إلّي بتقوليها دي
تاني ،لو أهل خطيبك عرفوا هيفكروكي ملبوسة.
ثم وبخ أم حسن لتأخيرها ،دخلت تلهث ،وهي تحمل الطشت
ارتعش قلب روفيدا عندما رأتها ،أخذت تلكز
َ على رأسها.
فلفل بيدها وهو صامت؛ سحبته من الحبل الملتف حول عنقه
لينطق ولكن دون جدوي .برقت عينا والدها من كثرة الغضب
ونادى والدتها:
ـ خدي البت دي من قدامي أحسن أطير رقبتها مع الخروف.
ثم مسك السكينة ليبدأ الذبح ،صرخت روفيدا وركضت نحوه،
أخذتها من يده ورمتها على األرض؛ لطمها أبوها على
وجهها فغابت عن الوعي.
***
استيقظت على رائحة بصل وأمها تضع يدها على وجهها في
حنان .إنتفضت واقفة ونظرت حولها فوجدت آثار دماء؛
أخذت تلطم وجهها عندما رأت رأسه مفصولة عن جسده،
نظر لها فلفل وأخرج لسانه ،وأخذ يغمز لها بعينيه بردت
أطرافها وانتفض قلبها ،وغابت عن الوعي مجددًا.
21
نيكوابر
مر الوقت واستيقظت روفيدا على صوت جلبة بالبيت ،فتحت
عينيها فوجدت نفسها على السرير بغرفتها؛ إعترتها رعشة
عندما شعرت بشيء ملتف حول خصرها وكأن يد تحاوطها؛
توجست و رفعت الغطاء عنها فلم تجد شيئًا فهدأت ً
قليًل ثم
حدثتها نفسها:
ـ إيه الصوت إلّي بره ده؟ البوليس جه وأخد أبويا ،هيعدمه
علشان دبح فلفل ،بس أمي كانت قاعدة هادية ليه جنبي! أنا
مش فاهمة حاجة.
غرفتها كانت رقيقة كمشاعرها ،سرير متوسط الحجم بأرجل
خشبية تتيح لها أن تضع أسفل منه ما تريد ،شباك مزين
بستارة صغيرة بها رسومات لفراشات وورود يطل على
الشارع الرئيسي ،بجوار السرير يوجد كرسي خشبي شبه
بدال من ضلفته الخشبية موضوع متهالك ،ودوالب صغير ً
مًلئة قديمة لحين يحن عليها والدها ويحضر نجار يصلحه.
نهضت من فراشها وجسدها ال زال يترنح؛ اتجهت للشباك
ووقفت تختلس النظر ،فوجدت أطفال القرية يلعبون
بالمسدسات ويثيرون ضجر المارة بالبومب ،التفتت للجهة
األخرى فوجدت والدها يقف وهو يلبس جلبابه األبيض
ويعايد الناس ،وكأن شيئًا لم يكن؛ هرولت خارج غرفتها
لتتحدث مع والدتها.
كان المطبخ بركن في الصالة عبارة عن بوتاجاز وبالقرب
منه صندوق خشبي يوضع به األواني ،نظرت بكل مكان لم
تجد أمها فهمت بالخروجِ لتبحث عنها بمكان آخر بالبيت ،ما
إن خطت خطوتين حتى سمعت طرق بإناء على النار؛
تراجعت في خطواتها ،إقتربت رفعت الغطاء ،فوجدت شاب
22
نيكوابر
كعقلة اإلصبع يسبح وسط قطع اللحم؛ جحظت عيناها من
هول الصدمة ،وفتحت فمها ال إراديًا .أخرج رأسه من اإلناء
وقال لها:
ـ قولي ألمك تزود الشوربة دي ملح أحسن أبوكي يطلقها،
آااه حاجه كمان ياريت تهدي النار.
شحب لون جلدها مجددًا ،وكادت تغيب عن الوعي مرة
أخري ،حتى وجدت يدًا تسحبها من شعرها؛ نظرت خلفها في
فزع وجدته خطيبها .نظر لها ً
قائًل:
ـ بقالي ساعة عمال أكلمك للدرجة دي جعانة؟! وبعدين فيه
واحدة تقابل خطيبها بالهدوم دي أومال لو ماكانش عيد.
كانت ترتدي عباءة مفضلة لديها لونها رمادي ولكن ما حدث
بالحظيرة جعلها تلطخ ويضيع زهوها .تجاهلت حديثه
ونظرت لإلناء فلم تجد شيئًا؛ أخذت تدعك في عينيها ونظرت
مرة أخرى لكن بتركيز؛ لكزها خطيبها بقبضته برفق ،نظرت
له فأكمل حديثه:
ـ بكلمك أنا ،أمك قالتلي على ّإلي حصل ،شكلي هتجوز عيلة؛
كل ده علشان حتة خروف.
نظرت روفيدا لوالدتها التي تقف خلفه بعتاب وأكملت
حديثها:
ـ إنت مش فاهم إلّي حصل.
ـ حصل إيه؟ من كتر ما بتحبيه مخك اتلحس ،بقولك إيه
قومي غيري الزفت إلّي لبساه ده؛ أهلي كمان شوية هييجوا
يعيدوا عليكي ،ولو شافوكي كده هيتريقوا.
23
نيكوابر
ابتلعت ريقها ونظرت له قائلة:
ـ محمد ،أنا عايزة اتكلم معاك ،فلفل مش خروف ،حد
يصدقني يا بشر.
ـ طيب روحي غيّري وبعد الغدا نتكلم ماشي.
ـ طيب.
نظرت له قبل المغادرة فوجدت هيئته كغير العادة سألته:
ـ محمد بطنك عاملة كده ليه؟
نظر لبطنه ولمس جلبابه ً
قائًل:
ـ مالها بطني ،الجًلبية دي عمًللي كرش؟
نظرت له وهي تتفحصه من قدميه لشعر رأسه:
ـ ال مش كرش ،فيه زي كورة كده أهي بص ،وكمان عينيك
هي عينك الشمال وجعاك؟
قال لها بصوت غاضب:
ـ فيفي ما فيش كور ،وال حاجة وجعاني ،إنتي بس إلّي لسه
صاحية من النوم ّ
ياال روحي غيري.
إلتفتت له مجددًا ،فوجدت مؤخرته منتفخة ،وهناك طفل
األرض ،أخذت تغلق عينيها ِ يعتليها ،كادت تسقط على
وتفتحهما عدة مرات ،فوجدت خطيبها بهيئته المعتادة ،ال
طفل وال كور ،وعيناه براقتان.
أشارت له ووالدتها تسحبها من يدها بغضب لتذهب لغرفتها،
ضحكت بشدة وقالت:
24
نيكوابر
ـ أنا هروح أغير هه رايحة ،وهللا ما أنت قايل حاجة؛ أنا
مشيت خًلص.
دفعتها والدتها داخل الغرفة وهي تردد بصوت يكاد يسمع:
ـ ربنا يعدي اليوم دا على خير.
ثم رمقتها بنظرة حادة وهي تكمل:
ـ أعقلي الواحد مش ناقص هم كل عيد الزم مشكله تحصل.
وتركتها وخرجت من الغرفة .ألقت روفيدا جسدها على
السرير ،وأخذت تتحسس وجهها وتحدث نفسها:
ـ فيه إيه ،طيب الزهايمر نسيان مش خياالت ،أنا اتجننت؟؟
ً
أصًل كل الحيوانات الال أكيد من العياط بس؛ وهللا أنا هبلة
بتطلع لسانها بعد ما تدبح وبتقفل عينيها بعد فترة ،وأنا إلّي
فكرته بيغمزلي.
ثم ضحكت بسخرية على ما بدر منها .صمتت لبرهة ثم
أكملت وهي تنظر لسقف الغرفة وكأنها تكتشفه ألول مرة:
ـ أقوم ألبس قبل ما حماتي البومة تيجي وتقعد تفليني،
وبعدين غريبة أوي إن محمد وافق يسمعني وأحكيله الي
حاسه بيه ،أي نعم هو شكًلً مش حلو ،أسمر كده وشعره
أكرت وعينيه عاملة شبه الصينين وتخين ،بس أمي على
طول تقولي الراجل ما يعيبهوش غير جيبه وبكره تتجوزيه
وتتهني.
وضعت رأسها بين كفيها وهي تتسائل:
ـ بس هو الّي شفته ده مش حقيقي؟
25
نيكوابر
وكان الرد زفرة بضيق وهي تعاتب نفسها قائلة:
ـ أوووف مش وقته أما ألحق ألبس.
كثيرا ،أصبحت تحب
ً في األون ِة األخيرة تغيرت أحوال روفيدا
الجلوس بغرفتها أغلب الوقت ،ال تريد محادثة أحد ،أصابها
وخم النوم ،تريد أن تستلقي على سريرها وتحتضن وسادتها
فقط ،تشعر بأن هناك شخص تتوق إليه ،وكأنه قد صب
غرامه بقلبها دفعة واحدة ولكن كيف وهي في عصمة الحب
لرجل آخر.
كثيرا
ً حملت روفيدا مًلبسها ودخلت الحمام ،نظرت لنفسها
أمام المرآة ،أخذت تلتف وتتراقص وتتمايل وهي تنظر
لهيئتها بإعجاب كبير ،كان الضوء بالحمام يرتعش ولكنها لم
تنتبه له ألنها لم تعتاد أن تضيئه نهارا ً.
شعرت بشيء غريب وكأن هناك شيء ملتصق بقدمها؛ مالت
بجذعها ونظرت لساقها فلم تجد شيئاً؛ ضحكت بصوت عال
وأكملت الرقص وهي تغني ،فجأة وصل أذنها صوت شيء
معدني يسقط؛ جثت على األرض وأخذت تفتش ،وجدت
عمًلت معدنية كثيرة تمأل الحمام ،لفت انتباهها صوت
صفير ،فنظرت خلفها وجدته الطفل الذي رأته بالمطبخِ،
يضع يده بفمه ويصفر ،ثم أخرج يده وقفز من على الشباك
أر ً
ضا ،وأخذ يرقص ويقول:
ـ قِشطة عليك ياموز يا مقلوظ إنت ،ياجميل يا قمر.
ثم عض شفتيه وأكمل:
ـ أما عليكي سمانة رجل وال هند رستم في زمنها.
لفت روفيدا جسدها بالمنشفة من الخجل ،ثم صرخت به:
26
نيكوابر
ـ واد إنت إيه إلّي دخلك الحمام وابن مين إنت؟
ثم اقتربت منه وسحبته من أذنه فصرخ:
ـ آاااااااااااي أااااااااااااااااااااي.
ثم مسك يدها ،فوجدت هيأته تغيرت فجأة ،ليصبح شاب
طويل عريض ،التصقت بالحائط وجسدها يتصبب عرقًا .قال
لها موب ًخا:
ـ مش عيب لما واحدة تمسك جوزها المستقبلي من ودانه
كده ،ده سماح قبل ما تموت عمرها ماعملتها ياال صالحيني.
كانت روفيدا تنظر له في صمت ،وأطراف جسدها تبرد
ودقات قلبها باتت سريعة بطريقة غير عادية ،هذا الوجه
كثيرا ولكن أين؟ عندما وجدها صامتة أكمل حديثه:
رأته ً
ـ مش هتصالحيني يعني.
كلمات قالها وهو يقترب منها جدًا زاما شفتيه .لم تتمالك
ضا .صوت طرق على الباب.نفسها فسقطت أر ً
ـ ّ
ياال يا روفيدا أهل خطيبك جم.
***
27
نيكوابر
الرغيف النازف
28
نيكوابر
ورمقتها بنظرة حادة معناها" .خلي ليلتك البيضة دي تعدي
على خير"
سمعت صوت حماتها جوارها:
ـ مالك ياروفيدا إنتي ما بتاكليش لحمة ليه؟ لسه صعبان
عليكي ،وهللا عشنا وشفنا بنات أخر زمن.
انطلقت تلك العبارة منها بصوت عال ثم تبعتها ضحكة
سخريه .نظرت لها روفيدا بابتسامة خفيفة مغلفه بصمت؛
كانت تخاف كل شيء ،تعيش برهبة المستقبل وهذا البيت
الذي ستذهب إليه في القريب العاجل ،وتشيب فيه وتموت
بين جدرانه ،تركتها تسخر منها كما تريد وادعت الخجل
الزفاف وكل
ِ يوم
لتتفادى الرد .بنهاية جلستهم اتفقوا على ِ
شيء.
عندما وجدتهم يهموا بالرحيل ،ذهبت لتتحدث مع خطيبها
كما وعدها ولكنه تحجج بأن يوم العيد من طبعه االزدحام
والبد من مغادرته مع أهله ليعايدوا على باقي األهل .غادرت
حماتها بضجر وهي تصب على أذن ابنها النصائح التي
خربت الكثير من البيوت؛ البد أن تعاملها بشدة كي تتحمل
المسؤلية ،البد أال تتركها تتحدث وتجادل معك لتنفذ ما تطلبه
منها دون أن تنبس بكلمة واحدة ،كن صارم معها وال تقل لها
كلمة حلوة أو تغازلها لتخافك .في أول أيام زواجكم أريد أن
أسمع صراخها وأن تلطمها علي وجهها من أتفه األسباب
حتى ال تستطيع أن تنظر في عينيك وأن تأمرها بما تريد.
أبوه يمشي مطأطأ أذنيه يعد خطاه بجوارهم ،متكئًا علي
عصاه ،يفكر بكل كلمة تقولها ويتمنى أن يعود الزمن
ليستعيد رجولته التي داستها بجبروتها وأصبحت رجل البيت
29
نيكوابر
بدال منه .كان عكس والدها بكل شيء ،ال يسمع له صوت ً
ومتدين جدًا ،ال تفارقه مسبحته وال يقوم من علي سجادة
صًلته إال لقضاء حوائجه .ولكن هذا هو الطبع البشري ،حب
النفس والتملك وفرض السيطرة ،اإلفراط في أي شيء يجلب
التعاسة.
فمثًل طيبتك الزائدة عن الحد لن تجعل منك سوى شاب ً
بطباع عجوز الكل يتعامل معك على أنك بعقل َخرف تسمع
كلماتك وال تنفذ ،وأنت خضوعك المطلق سيجعلك خادمة
لتلبي الحوائج ليس أكثر .البد من االحترام المتبادل
كًل منا بشخصيته المستقلة والوسطية بكل شيء ليعيش ً
منفردًا بطباعه الخاصة ،أن نجد من يقدرنا وقت الغضب
والتوتر وحاجتنا للوحدة ،أن نخرج اإلنسان بداخلنا ونضع
صوب أعيننا أننا لن نعيش مدى الحياة.
كل شيطان جن ولكن..؟
31
نيكوابر
كما تحب أن تفعل دائ ًما،جلست علي طرف السرير وهي
تضع رأسها بين كفيها بحزن ،تنهدت وزفرت كل ما في
صدرها بضيق وجدت يدًا ربتت علي كتفها في حنو ،ثم
داعبت خصًلت شعرها؛ أحست باألمان وظنتها والدتها،
ً
قليًل في هدوء ،دقيقة وتذكرت فهدأت أعصابها و بكت
غلقها للباب.
نهضت بفزعٍ ،ونظرت علي السرير مجددًا وجدته نفس
الشاب الذي رأته بالحمام ،صرخت فقام من مكانه ،ووض َع
يده على فمها وقال:
ـ أنا مش هأذيكي ،بس ما تصرخيش ،ثم رفع يده من على
فمها ،أخذت تتمتم وتقول "أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم
" ،وصدرها يعلو ويهبط وكأنها تركض .جلس الشاب علي
األرض وانفجر في الضحك.
ظلت مغمضة العينين وهي ترتجف وتكرر استعاذتها من
الشيطان ،زاد بقلبها الخوف وهي الزالت تسمع صوت
ضحكاته ،تسائلت بصمت إذا كان هذا شيطان ،لماذا لم
ينصرف ؟!
قرأ أفكارها فقال:
ـ مين قالك إنَّي شيطان؟!
نظرت له بدهشة وفرائصها ترتعد ،وسـألته:
ـ أومال إنت مين؟! ودخلت األوضة بتاعتي إزاي وأنا
قفًلها؟! وبعدين مش إنت الّي كنت في الحمام؟ يبقى إنت
عفريت فلفل وجاي تنتقم.
صمتت ً
قليًل وأكملت:
31
نيكوابر
ـ وأنا طلعت من الحمام إزاي؟
شعرت بدوار فجأة ،وصداع شديد برأسها فجلست أر ً
ضا.
اقترب منها وهو يحبو على األرض وكأنه طفل رضيع ثم
بسط يديه ،وحدثها وهو رافع حاجبيه:
ـ أنا لبستك وشيلتك على إيديا إلّي يتلفوا في حرير دول،
وفضلت مصلبك جنبهم لحد ما أمك غزتك بكوعها وفوقتي.
أخذت تصرخ وتندب:
ـ ياميلة بختك يا فيفي؛ أنا كان مالي ومال الهم ده ،عفريت
في أوضتي يا أمَّااا إلحقوني.
اقترب منها وقال:
ـ ما تعمليش في نفسك كده ،تعالي في حضني وبطلي عياط.
قالت له غاضبة:
ـ ما تحترم نفسك وتبعد عني بقى؛ عايز تموتني موتني بدل
القهر الّي بقيت فيه ده.
وأكملت نواحها.
ـ يا سنينك الزرقا ياروفيداااااا ،ياميلة بختك.
اعتدَ في وقفته ،وشد ياقة قميصه وقال:
ـ احترم نفسي ليه يا أختي؛ أقل من أمير وال أقل من أمير؟
صمتت ونظرت له متسائلة:
ـ أمير مين؟
32
نيكوابر
ـ بتاع مسلسل فريحة .إوعي تكوني مفكراني مش شايفك،
الاا أنا متابعك من زمان أوووي؛ تنكري إنك بتقعدي متنحة،
ومقهورة كده وتحسدي البت "فريحه" عليه ،وتقولي في
سرك ياريتني كنت أنا بصوت اسمه إيه ده مش فاكره؛ تعالي
"عبوسك" بوسة ،بدل الي خلتك يغمى عليكي فيها في
الحمام دي وما بوستهاش؛ تعالي مش هتندمي.
أكملت الصراخ:
ـ عفريت عايز يبوس بنتك ياااما ،ده أنا عمر ما بني آدم
عملها معايا .إشبعي يااأختي كنتي بتدعي عليا ،وتقولي
عفريت ينططك أهو بينططني أهوووت يادهوتي.
ـ بت يا فيفي.
ـ عايز إيه من زفتة؟
ـ أوالً :ما تقوليش علي نفسك زفتة ،ده إنتي قمر.
ثم نظر لها طويًل وقال:
ـ ثانيًا :أنا مش شيطان أنا جن.
ويسارا بحركة
ً وضعت يدها علي وجهها ورأسها يهتز يمينًا
ال إرادية ثم قالت:
ـ يعني هتفرق يعني؟ ما كله سواد ناقع ما تتلم بقى وابعد
عني.
ـ ال تفرق كتير؛ كل شيطان جن ،بس مش كل جن شيطان،
ألن الشيطان كافر ،أنا مسلم زيك وبعدين ما تقوليش اتلم دي
تاني؛ إنتي ماتلمتيش ليه يا أختي ،وإنتي عمالة تتدلعي،
33
نيكوابر
وعمًللي "كيت هيدسون" وقاعدة تتمايصي قدام المراية
وترقصي ،إنتي إلّي غوتيني.
سرت في جسدها رعشة مفاجئه؛ شعرت خًللها بأن شعر
رأسها انتصب وهناك تمنيلة غريبة تشل حركتها ،تريد أن
تتحدث ولكن الحروف تتزاحم على طرف لسانها وتلجمها،
بعد صعوبة تمالكت نفسها وسألته:
ـ يعني إيه؟ رقصي وغنايا ده السبب.
ـ أيوه طبعًا يا حتة القشطة إنتي؛ خلتيني جيت من سابع
أرض علشان أخطفك يا جميل.
ـ تخطفني؟
ـ أقصد اتجوزك يعني.
انقبض قلبها فجأة ،ففتحت عينيها دهشة ،وأخذت تتلعثم
وهي تقول:
ـ تتجوز مين؟ ما تروح تتجوز جنية قريبتك.
ـ ال إنتي أحلى ،وأنا بحبك بصراحة.
نظرت له في تعجب ،فأكمل:
ـ أيوه بحبك وهقدر أحافظ عليكي واسعدك ،على فكرة أنا
مخلص وهتشوفي.
ً
أصًل ،مش أبويا دبحك؟ ـ ازاي تتجوزني ،وإنت ميت
ضحك بسخرية ،وقال:
ـ الاا .ده ياعيني فلفل الَّي اندبح؛ أنا كنت بحب اشوفك
واسمعك ،بس كنت خايف أظهرلك تخافي مني؛ علشان كده
34
نيكوابر
كنت بدخل جسم فلفل ،وأناديكي تسلّيني بالليل ،لما أبوكي
دخل طلعت جري ،وسبت فلفل لمصيره المحتوم ،إهىء
إهىء إهىء ،كان غلبان أوي فلفل ده.
ـ طيب مش إنت قلتلي إنك مسحور؟
ـ ال دي قصة كده ،الواد حندق صاحبي قالها للموزة بتاعته،
وصعب عليها قلت أما أجرب أقولهالك ،وشكلكم كلكم قلبكم
دعييييف ،ما تطفي النور وأنا.....
قبل أن يكمل حديثه قامت روفيدا فزعة وصرخت قائلة:
ـ النور ال ال ال ،هي ناقصة سواد يا ربي ،النور ال الالاال.
ـ خًلص يا ستي جاتك لؤه ،إنتي حرة؛ كنت هقولك وأنا
هحكيلك حدوتة ،وأخدك على جناحي وأخليكي تشوفي بًلد
عمرك ما شوفتيها.
نظرت له متسعة العينين خائفه وسألته:
ـ إنت بتطير؟!
ـ أنا اعمل علشان خاطرك أي حاجة يا جميل ،هاتيجي؟
ـ طيب افرض خطفتني؟
ـ أوعدك هرجعك تاني ..هااااااااا
ً
طويًل ،ث َّم سألته: نظرت له روفيدا
ـ وأنا أثق فيك إزاي؟
رد عليها ضاح ًكا:
ـ مضيني على وصل أمانة.
35
نيكوابر
التفتت له وكأن الخوف والفزع الذي بداخلها تم انتشاله دفعة
واحدة ،بدأت تتعامل معه وكأنه شخص يعيش معها وتعرفه
منذ سنوات ،أطالت النظر إليه وهي تضغط أسنانها ببعضها
بغضب:
ـ إيه الظرف ده ،أنا عمري ما شفت جن كده.
ـ داه علي أساس إنك شفتي قبلي ،ده الواد لهيطة من كتر ما
بحكيله عنك ،كان هيموت ويشوفك اتخانقت معاه ،ولطشتله
..أه معلش ،إال أهل بيتي أنا مش المؤاخذة يعني.
قالت له مشدودة لكلماته:
ـ طيب بص أنا موافقة أطير معاك بس بشرط.
كثيرا ،
ً اقترب منها حاتم ،ونظر لها وهو يرمش بعينيه
ويقول:
ـ يا نهار أبيض ،شرط واحد ،ده إنت تشرط وتؤمر يا جميل.
جزت على أسنانها مجددًا بغيظ:
ـ إنت صايع ليه كده؟
ـ أنا مش صايع ،بس أبوكي هو الي خًلني انحرف ،من كتر
ما بيتفرج علي قنوات الرقص بس ليه حق وهللا ،في واحدة
تنام جنب جوزها بكلسون ..كلسوووون يا فيفي ،وكمان
بالطرحة ،تعرفي ياحبيبتي لو عملتي كده لما نتجوز ،هعمل
فيكي إيه!! هعلقك علي باب البيت من مناخيرك ،علشان
تبقي عبرة لكل واحدة مهملةّ ،
ياال بقى.
رفعت حاجبيها بدهشةٍ ،وهي تقول:
36
نيكوابر
ـ إنت تعرف ده كله منين؟ وبعدين إيه الي بيدخلك عندهم؟
وقف فجأة وجذبها من يدها متجهًا بها إلي السرير ،تقدمت
معه بخطوات مرتبكة حتى وصًل لحافة السرير فأجلسها
وجلس بجوارها وأجابها:
ت يا لوز ،إنت قمر كده وبتروقي ـ أومال أنام فين؟ ما إن ِ
نفسك ،قبل ما تنامى وتدهني وشك إشي مسك أبيض ومسك
أحمر ،وإنتي حمرة لوحدك زي الطمطماية ،وبنت الكلب الّي
اسمها فرحانة صاحبتك ،أقنعتك تدكعي كوعك ورجلك بزيت
زيتون ،ال ومخلية أبوها قاريلك عليها قرآن ،أنام جنبك إزاي
بقي قوليلي؟ الحاجات دي بتخليني أطفش منك ،زي ما
أبوكي بيطفش من أمك بسبب الكلسون.
مشيرا على الكرسي الموضوع عليه كوبًا من الماء
ً ثم أكمل
وبه بعض من عيدان الريحان:
ـ يا ما نفسي أكسر الكوباية ،إلي كل يوم بتحطي فيها
ريحان ،دي كمان علشان تبطلي تشمي فيه.
نظرت له بصمت غير مستوعبه لماذا يكره هذه األشياء ثم
سألته:
ـ طيب بتنام فين؟
ـ في مناخير أبوكي.
صدمتها الكلمة ،فصرخت به قائلة:
ـ نعم؟!!
ـ أه وهللا ..حمايا ده مسخرة وهللا ،بيفضل يضحكني ويتاووب
وهو فاتح بقه ،ال وإيه يقعد يقول هااااا هااااا هاااااا ساعة..
37
نيكوابر
أجي قايله مين هناك ،وناطط في مناخيره ،أقعد ألعب باليه
مائي شوية وبعدين أنام.
تذكرت أخوها "وحيد" ذات يوم وهي طفلة ،كانت تتثاءب
وال تضع يدها على فمها ،فقال لها:
ـ عارفه فيه حديث صحيح عن أبي هريرة ،بيقول فيما معناه.
إن ربنا بيحب العطاس ويكره التثاؤب ،إلن لو حد عطس
وسمع صوته الي حواليه ،بيدعو له بالرحمة ،فيرد الحمد
هلل ،أما الي بيتاوب ويسيب فمه مفتوح؛ ضحك عليه
الشيطان .حطي إيدك علي بقك يًلاا يًلاا ،متخليش الشيطان
اللعين دا يضحك؛ ثم حملها ولف بها الغرفة كلها فأغمضت
عينيها وتزينت بضحكاتها التي لم تخرج من قلبها سوى
معه ،كان يومها شعرها طويل جدًا منسدل على ظهرها
ويغطيه بالكامل ،عندما رفعها من على األرض طار معها من
كثرة الفرح.
ب الذكري صوت حاتم:
أخرجها من غياه ِ
ـ مش هنطير بقى؟
شعرت برغبة عارمة في البكاء وهي تتحسس شعرها
القصير؛ أول مرة أمسكت المقص وجزته كان في ليلة أحد
وال زالت تذكر اليوم والتاريخ وكأنهما حدثا اآلن ،كان مشهد
غريب؛ تركض خلف وحيد الذي يحمل حقائبه ويبكي بعد أن
طرد من البيت ،الحقها والدها ممس ًكا بها من شعرها حتى
اختفى أخوها من أمام عينيها ،دخلت غرفتها وقصت شعرها
وكأنه كان السبب في إجبارها على البقاء في هذا البيت،
ومن بعدها كلما تأذت مشاعرها تقصه وكأنه دميتها بالصغر
تصب عليه كل غضبها وبعد انتهائها تجفف دموعها
38
نيكوابر
وتتنفس الصعداء وهي تشعر بالقوة ،تساقطت دموعها
عنوة ،حاول أن يهدأها دون جدوى؛ فوضع إصبعه على
خده ،وصمت لبرهة ،ثم أردف:
ـ طب تيجي أوريكي الواد توفيق الي بقاله سنين غايب ،هو
فين؟
قالت ساخطة وهي تمسح دموعها بأطراف فستانها:
ـ توفيق! إلي بيته في غرب البلد؟ ،بس ده بيقولوا مات
وأهله كمان أخدوا فيه العزا.
ساخرا:
ً قال حاتم
ـ مااااات إيه بس ده ابن محظوظة ،ده اتجوز حتة جنية إنما
إيه ،شبه بنات المنصورة عندكم حاجة كده احتًلل.
قالت له متعجبة لحديثه:
ـ طب ودي حبته على إيه بقى؟!
ثم أكملت ممازحة:
ـ كان عنده سمانة هند بردو؟
ـ إيه ده إنتي قلبتي سماح ليه؟؟ ما أنت كنت "مؤتييبه".
ـ تقصد إيه يعني؟
ـ وال حاجه ياستي ،هقولك إيه السبب؛ هو كان مايص زيك
كده برده.
نظرت له مضيقة عينيها ثم قالت:
ـ هتغلط تاني هجيب إزازة المسك وادفسها في مناخيرك.
39
نيكوابر
ـ تدفسيها تصدقي قفلتيني ومش هحكي.
ـ الالال خًلص ياتيمو بهزر.
رفع يده بوجهها ثم قال:
ـ سيمااااااح بًلش تيمو دي بتوتري أعصابي.
غضبت منه وقالت له بحدة:
ـ لو شبهتني بيها تاني هزعلك.
ـ خًلص خًلص هقولك:
ـ بصي ياستي أبوه كان شغال في العراق "عامل" في فندق،
وواحد أجنبي رمى بوكسرين في األوضة بتاعته ،لقاهم وهو
بينضف؛ فرح وقال يجيبهم للولية تغير فيهم؛ شافهم توفيق
شبط فيهم ،ماكانوش لسه نزلوا ،والشباب كلها بقت تسقط
البنطلون ،علشان توريكم إنهم البسين قطونيل ،قعد يتمخطر
طول اليوم بيهم زي الوزة المتزغطة ،وكان عنده عضًلت
مربيهم من شيل الطوب في الورشة ،فضل يبص لنفسه في
المراية ،ويعمل حركات بعضًلته ،شافته بقى وحبته من أول
بوكسر .وأهو متهني يا أختي ،كل يوم تعملّه شكل ،مرة
هيفا ،مرة إليسا ،ومره البت الموزة إلي في فيلم حصل خير
دي.
صمتت لثوان ،حتى تذكرت اإلسم وقالته:
ـ قمر؟
سا:
اقترب منها ،وقال هام ً
ـ مفيش حد غيرك قمر ياااالوز إنت .مش هتيجي بقى؟
41
نيكوابر
قالت فرحة:
ـ نطير.
ـ إيه رأيك؟
ـ امممممم أفكر.
وقف بالشارع " توكتوك " .نظرت للجن ،وهي الزالت
تفكر؛ فوجدته يزم شفتيه بغضب ،ويقول بصوت منخفض،
وجسده يهتز بالكامل.
ـ خليه يقفله ،خلييييييبيه يقفله.
لم تفهم ما الذي يقصده ،نظرت له مجددًا ،وجدته يرتجف
ويضع يده على رأسه ويردد:
ـ تكذبان ،تكذبااااان ،تكذباااااااان .ااااااااه.
يصرخ ويرددها .استرقت السمع ،ووضعت أذنها على
الحائط ،سمعت صوت منخفض ال تعلم ،هل أغاني أم تمتمة؟
فتحت الشباك مرة واحدة؛ فدوي الصوت ،وسمعت بوضوح
(سورة الرحمن)
ي ِ ءا َ َال ِء َر ِبّك َما تك َِذّ َب ِ
ان.. الري َحانَ ..ف ِبأ َ ّ ف َو َّ " َوال َحب ذو ال َعص ِ
ج
َّار ٍ
ان ِمن م ِ ق ال َج َّ صا ٍل كَالفَ َّخ ِارَ ..و َخلَ َ صل َسانَ ِمن َ اإلن َ
ق ِ َخلَ َ
انَ ..رب ال َمش ِر َقي ِن َو َرب ي ِ ءا َ َال ِء َر ِبّك َما تك َِذّبَ ِ ِ ّمن نَّ ٍار ..فَ ِبأ َ ّ
انَ ..م َر َج ال َبح َري ِن َيلت َ ِق َي ِ
ان.. ي ِ ءا َ َال ِء َر ِبّك َما تك َِذّ َب ِ
ال َمغ ِر َبي ِن ..فَ ِبأ َ ّ
ان". ي ِ ءا َ َال ِء َر ِبّك َما تك َِذّبَ ِ ان ..فَ ِبأ َ ّ
بَينَه َما بَر َزخ ّال يَب ِغيَ ِ
كانَ صوت الشيخِ عذب ،فأخذت تستمع له في خشوع ،وبعد
بالقرآن معه وتقول:
ِ برهة أخذت تتغنى
41
نيكوابر
ي ِ ءا َ َال ِء َر ِبّك َما"فَيَو َمئِ ٍذ ّال يسئًل عَن ذَن ِب ِه ِإنس َوال َجان ..فَ ِبأ َ ّ
اصي ان ..يع َرف المج ِرمونَ ِبسِي َماهم فَيؤ َخذ ِبالنَّ َو ِ تك َِذّ َب ِ
انَ ..ه ِذ ِه َج َهنَّم الَّ ِتي يكَذِّب ي ِ ءا َ َال ِء َر ِبّك َما تك َِذّبَ ِ
َواألَقد َِام ..فَبِأ َ ّ
يم آ َ ٍن ..فَ ِبأ َ ّ
ي ِ ءا َ َالَ ِء ِب َها المج ِرمونَ ..يَطوفونَ بَينَ َها َوبَينَ َح ِم ٍ
ان"اف َمقَا َم َر ِبّ ِه َجنَّت َ ِ
انَ ..و ِل َمن َخ َ َر ِبّك َما تك َِذّ َب ِ
ـ إخرسييييي ..بس بقى ..إسكتي إسكتييي.
فتقطع صوتها ،وهي تتغنى:
ـ فبأي ءا َ ِ
الء ربكما تكذ....
التفتت له وجدته يتلوى على األرض ،كالمصاب بمغص
كلوي شديد .اقتربت منه ،ووضعت يدها على وجهه ،وأخذت
تحدثه:
ـ مالك ،إيه إلي بيحصلك؟
أشفقت على حاله ،وبكت ،فوضع يده على وجهها ،وسألها:
ـ حبتيني زي ماحبيتك؟
كان " التوكتوك "ابتعد ،ولم يعد هناك صوت .من وسط
دموعها قالت بصو ٍ
ت متهدجٍ:
ـ أنا حاسة إني شفتك كتير قبل كده ،مش عارفة ليه مابقتش
خايفة منك ،مًلمحك وصوتك مش غريب عني .أنا طول
عمري بخاف من الجن والعفاريت ،وساعات كنت بحس إن
ملكمش وجود ودي قصص خرافية وخًلص ،إنت غيرت
نظرتي ليهم خالص ،بس برده ما ينفعش نتجوز ،إنت مش
بني آدم زيي.
قال لها بصوت يصاحبه األلم:
42
نيكوابر
ـ ً
أوال :اللي مش بيعترف بينا ده يعتبر كافر ،ألن فيه سورة
ً
وفعًل إنتي شفتيني كاملة عننا في القرآن اسمها "الجن"،
كتير قوي ،أنا من زمان وأنا جنبك ،كنت بجيلك في الحلم
واتكلم معاكي ،وكنت براقبك من بعيد ،ولما كنتي بتقفلي على
نفسك األوضة وتعيطي ،كنت باجي أقعد معاكي وأسليكي من
غير ما تعرفي ،علشان ما تخافيش لحد ما لقيت الوقت
المناسب ،وقلت الزم أظهرلك.
صمت لبرهة ،ثم قال هسألك سؤال:
ـ مين الي قال لسيدنا سليمان إنه ممكن يجيب عرش ملكة
سبأ؟
داعبت خصًلت شعرها وهي تفكر ،ثم هللت قائلة:
ـ أيوه أنا عارفة الشيخ "علي" ،بيحب يقول القصة دي في
الخطبة بتاعة الجمعة على طول استنى هفتكر.
وضعت يدها علي وجهها ،وأخذت تتلو عليه بعض اآليات
من سورة النمل:
امكَ" قَا َل ِعفريت ِمنَ ال ِج ِّن أ َ َنا آَتِيكَ بِ ِه قَب َل أَن تَقو َم ِمن َمقَ ِ
بعلَي ِه لَقَ ِوي أ َ ِمين ( )93قَا َل الَّذِي ِعندَه ِعلم ِمنَ ال ِكتَا ِ َو ِإ ِنّي َ
أَنَا آ َ ِتيكَ ِب ِه قَب َل أَن َيرتَدَّ ِإلَيكَ َطرفكَ َفلَمَّا َرآَه مست َ ِق ًّرا ِعندَه قَا َل
َهذَا ِمن فَض ِل َر ِبّي ِليَبل َو ِني أَأَشكر أَم أَكفر َو َمن َ
شك ََر فَ ِإنَّ َما
غنِي ك َِريم (")12 س ِه َو َمن َكفَ َر فَ ِإ َّن َر ِبّي َ
يَشكر ِلنَف ِ
بعدما انتهت رفعت يدها من على وجهها وصرخت كطفلة:
ـ أيوه بلقيس الي اتذكرت في القرآن.
ضحك حاتم وقال:
43
نيكوابر
ـ ً
أوال :اسم بلقيس مااتذكرش في القرآن ،بس القصة اتذكرت
في سورة النمل ،لما سيدنا سليمان كان بيتفقد حاشيته،
وكان من ضمنهم هدهد ،فضل يدور عليه مش لقاه
فاستحلفله بقى لما ييجي ليعذبه .جه الهدهد وحكاله على
الناس الي شافها في سبأ ،وقاله عن إنه لقى امرآه عندها
عرش عظيم وإن هي والقوم بتوعها بيسجدوا للشمس ،قاله
امرأة ،مش بلقيس.
ـ يعني هي مااسمهاش كده؟
ـ ال اسمها بلقيس ،بس اسمها مااتذكرش في القرآن زي ما
إنتي قولتي اتذكر لفظ " امرأة" فحبيت انبهك ،علشان لو
حد سألك ما تبقيش زي كيس البرتقال أبو صره.
ثم احول بعينيه وهو يقلد صوت ضحكتة الساحرة الشريرة
التي نراها بأفًلم الكارتون "نهه هاا هاااا .ضحكت روفيدا
حتَّي دمعت عيناها .اقترب منها ،وقال هامسًا:
ـ أول مرة أعرف إن دموع العين بتحلي.
لم تعرف ماذا تقول ،فهي لم تسمع كلمات غزل سوى بالتلفاز
وكل ما استطاعت فعله هو تغيير دفة الحديث:
ـ مش هتكمّل القصة ّ
وال إيه؟!
منتصرا ،بعدما جعلها تخجل ،واسترسل في الحديث:
ً ابتسم
ـ هكملك ياست فيفي الي حصل ،طبعًا سيدنا سليمان كان
عايز يعرف الحقيقة ،فقاله يروح برسالة ليهم يدعوهم فيها
لعبادة ربنا .لما استلمت بلقيس الرسالة ،وقفت تقراها
للشعب بتاعها ،وقالتلهم إنها مش هتاخد قرار إال لما
يستشيروا بعض ،فقعدوا بقى يقولولها احنا أقويا وعددنا
44
نيكوابر
كبييير ،وقالولها األمر ليكي عايزة تحاربي نحارب ،بس
بلقيس كانت ناصحه ،خافت عليهم من األسر والمهانة
والقتل ،فقررت تبعتله هدية ،وتشوف رد فعله ،يا إما يقبلها
مثًل ،تتبعت كل سنةويبعد عنهم ،يا إما يفرض عليهم جزية ً
والقرآن قال "هدية" ،ما قالش مرجان وياقوت ودهب
وتماثيل وأحمدك يارب.
ثم تأفأف ً
قائًل:
أبو األفورة بتاعت اإلعًلم بتاعكم ده ،الواحد بيحس إنه
بيتفرج على مغارة علي بابا.
ثم ختم حديثه بضحكة طويلة .نظرت له روفيدا بغضب،
فأكمل وهو يتنحنح:
ـ إحم المهم ..سيدنا سليمان رفض الهدية ،وقرر يخرج
ويقاتل سبأ ،وقبل مايخرج قال مين منكم يجيبلي عرشها قبل
قدومها؟ فعرض عليه عفريت من الجن إنه يجيبه ،لما جات
بلقيس بقى اندهشت من ملك سليمان وحكمته وأسلمت،
شفتي بقى إننا مذكورين في القرآن وبقوتنا كمان.
راجعت روفيدا اآلية مرة أخرى وقالت:
ـ بس العفريت عرض إنه يجيبه ،بس ما اتذكرش إن هو الي
جابه.
ً
طويًل .كان كل همه يستعرض قوته طبعًا .بعدَ صمت الجن
برهة قال:
ـ أيوه مش هو الي جابه ،الي عنده علم الكتاب إلي يعرف
اسم ربنا األعظم ..دعا ربنا فالدعوة استجابت والعرش جه..
بس ده ما يمنعش إننا أقويا ،لو ماكنش الجن هيقدر يجيبه،
45
نيكوابر
ماكنش عرض على سيدنا سليمان إنتي شفتي كان هيعمل
في الهدهد إيه علشان ملقهوش ،هو العمر بعزقة يعني.
ضحكت روفيدا وقالت:
ـ ماشي ياسيدي أقنعتني ،بس ما ينفعش نتجوز أنا وإنت
ً
أصًل ،وبعدين أنا مخطوبة وإنت برده ،إلنك جن مابتتشافش
عارف.
-ليه ما ينفعش؟ طب ما أنا هتشكلك في أحلى صورة إنتي
عايزاها.
قاطعته قائله:
ـ نتكلم في الموضوع ده بعدين لما تبقى كويس ،أجيبلك
الدكتور بتاع الوحدة.
ضحك ونظر لسقف الغرفة ،وقال:
ـ هتجيبي دكتور لجن في أوضتك ،تعرفي إنتي طيبة أوي،
وده بيخليكي تصعبي عليا ،بس أنا بحبك ودي حاجة غصب
عني ،الزم تكوني ليا وبس.
أمسك يدها وقبلها وجذبها إليه ،نظرت لوجهه ،وكأن هناك
طيف يجذبها ،شعرت بأن روحه تعانقها ،لم تتخيل فارس
أحًلمها يو ًما بهذا الحسن ،عيناه لونهما غريب ،وكأنهما
بحر يدعوك للغوص فيه ،وجه ساحر بكل ما تعنيه الكلمة،
من يراه يقع سجينًا لتأثير جماله .حاوط خصرها بيده ،وكاد
أن يقبلها ،فدفعته بعيدًا عنها .شعرت بدوار مرة أخرى،
ً
طويًل ،وهي تقول: نظرت له
ـ أنا حاسة إحساس غريب .إنت إزاي مسيطر عليا كده.
46
نيكوابر
نهض بصعوبة وقال:
ـ ألني بحبك.
شهقت وهي الزالت تشعر بدوار ،وقالت له:
ـ والحب ده هيخليني أعيش معاك تحت األرض؟
كثيرا ،وقال لها:
ضحك ً
ـ ليه ،هو إنتي هوا علشان أشفطك وأنفخك معايا تحت
األرض ،الخاصية دي متاحة في هواتف األندرويد بس ،الّي
هو إحنا يعني.
ـ إنت بتهزر؟؟
ـ ما إنتي غريبة أوي يافيفي ،ثم مسكها من وجنتاها وقال:
ـ الخدود دي الي هي لحمة يعني ،هتخترق األرض إزاي ،أنا
ممكن أخدك المملكة بتاعتنا عن طريق أوكار وتمشي في
خنادق تحت األرض ،بس إنك تخترقي أبواب وأرض
وحاجات من دي مستحيل طبعًا ،بصي أنا أعرف واحدة جنية
عايشة في إسكندرية ،مأجرة شقة في كرموز ومعاها دلوقتى
9عيال.
تبسمت خيبة ،وزادت على حديثه وهي تسترد استقرارها
النفسي من جديد:
ـ مأجرة!!! كمان فقر ،ال ياعم مش العبة ،وبعدين ياال
علشان نطير أنا اتشوقت.
ـ إيه ده؟! يعني أخيرا ً هبقى عًلء الدين ،وإنتي ياسمينا،
قشطة ،طب ّ
ياال تحبي أتشكلك في إيه؟
47
نيكوابر
صمتت لثوان ،ثم قالت:
ـ اممممممم ،بص كنت بشوف عالم الطيور الجمعة الي
فاتت ،وكان فيه حمامة اسمها "نيكوبار" شكلها حلو أوي،
عايزاها.
قال بدون أن ينظر لها:
ـ على آخر الزمن حاتم يبقى نيكوبار ،و كمان حمامة أنثى!!
ده حتى عيب على رجولتي ،بس ياال كله يهون علشان
خاطرك يا جميل .غمضي.
ـ أهوووو.
أغمضت روفيدا عينيها ،وعندما طلب منها أن تفتحهم مرة
أخرى ،وجدت أمامها حمامة لم تكن تتوقع أنها بهذا الجمال،
فمهما شاهدنا بالتلفاز ال يصل جمال المنظر كما هو .رأسها
باللون الرمادي وريشها بلون خضار ريش الطاووس،
وبنهاية ذيلها هناك عًلمة بيضاء .وقف حاتم يحرك ذيل
نيكوبار ،ويحرك أجنحته كطائرة تتأهب لإلقًلع.
ـ إحم ..إحم ..يًل ياهانم قد حان موعد التحليق ،وبسرعة ألن
الست نيكوبار جيالك من جنوب شرق آسيا والولية اتبهدلت
في الطريق.
ثم وضع جناحه قرب منقاره وقال:
ـ أصل بعيد عنك المدام حامل.
لحقت كلماته ضحكة بصوت عال ثم أكمل:
48
نيكوابر
ـ بس هعمل إيه الوحيدة الي بتحب المغامرة في جزيرة
نيكوبار ،ده أنا سلكتها من جوزها بالعافية ،أصل قال إيه
بيغير ،خايف عليها من تيمو قال ،ده أنا وديع.
نظرت له ضاحكة ،واقتربت منه لتمتطيه .ابتعد عنها ً
قائًل:
ـ رايحة فين؟
قالت له في دهشة:
ـ هكون رايحة فين ،إنت رجعت في كًلمك؟!
ـ ال ،بس هطلع بيكي من الشباك ده ازاي؟؟ إنتي زي
الشاطرة تتسحبي وتطلعي من باب البيت ،وهستناكي برة ،
وياال علشان نيكوبار بدأت تضايق.
ـ طيب حاضر.
أخذت طريقها للخروج ،فسمعت صوته مجددًا:
ـ بسسسس بسس ،ياغزال ياللي ماشي ،يا أرض اتهدي،
ياحتة جبنة فيتا من غير زتون.
نظرت له وهي منفجرة من الضحك:
ـ وجدته يستعمل جناحه كمروحة ،ووجهه أحمر بلون
الكريز ،فقالت:
ـ مالك؟
ـ مالي إيه بس ،ياال هقولك واحنا في السما.
ثم طار ووقف برهة بالشباك ،وأخذ يدندن:
ـ إديني حنان ملي أنا مث حاثة بقالي زمان.
49
نيكوابر
ضحكت وقالت:
ـ حتّى اإلعًلن ده حافظه.
ـ بقولك أبوكي بيشووووف بًلوي بًلاااوي يافيفي ،أمال لو
أقولك الحاجات التانية إلي انا حافظها ياااااختااي.
أشاحت له بوجهها وهي تعطيه ظهرها وتتجه صوب الباب؛
فتحت جزء منه وأخذت تختلس النظر للصالة لبضع ثوان
لتتأكد من أن والدها الزال بالخارج يعايد أقاربه فقد خرج بعد
مغادرة أهل خطيبها وذهبت والدتها للحظيرة لتقف علي يد
"أم حسن" وهي تنظفها من بواقي الذبح.
كان بجوار بيتهم عدد كبير من البيوت وعلى أول الشارع
مسجد بوسط األراضي الزراعية؛ أخذت طريقها لخارج
المنزل بخفة حتى ال ينبح "أوباما" وهو كلب والدها،
مسحت الطريق بعينها لترى حاتم،عندما رأها تخرج من
البيت لفت انتباهها بصوت أجنحته فالتفتت جهة الصوت
وجدته يقف على شجرة صفصاف قريبة من البيت ،ما إن
اقتربت من الشجرة حتى نزل أر ً
ضا.
وجدت يدًا تجذبها من ذراعها ،التفتت هلعة وجدتها فرحانة
صديقتها.
ـ كل سنه وإنتي طيبة يا فيفي ،بس إيه الحًلوة دي ،فستانك
جميل قوي.
قالت كل هذا وهي تقبّلها عدة مرات .توقفت لثوان لتأخذ
أنفاسها ،ثم قالت لها وجسدها اليزال به رجفة الفزع ،ودقات
قلبها سريعة .لقد خافت أن يكون أحد من أهلها.
51
نيكوابر
ختصارا لإلسم كما
ً ـ وإنتي طيبة يا فرح -هكذا كانت تناديها
يفعل أهلها وينادوها فيفي -مش أجمل من فستانك.
سألتها فرحانة:
ـ رايحة فين في الوقت دا المغرب قرب يأذن؟!
ـ هتمشى لحد أخر الشارع وأرجع ،ما صدقت إن أبويا مش
في البيت قلت أطلع اتفك شوية.
سمعت صوت غريب ،فالتفتت بنظرها إلى حاتم ،وجدته يحفر
في األرض بمنقاره بغضب ،ثم رفع جناحه ووضعه بوسط
ً
قليًل جسده ،وأخذ يهز ساقه ،أشارت له بيدها أن أصبر
ولكن فرحانة لم تكف عن الحديث.
نظرت له مجددًا ،فأخرج لسانه من منقاره ورمى بنفسه على
األرض نائم علي ظهره ورافعًا ساقيه ألعلى ،وكأنهم
متخشبتان واصطنع الموت.
انفجرت روفيدا من الضحك ،فصفعتها فرحانة على كتفها
مداعبة ،وسألتها عما يضحكها فابتلعت ريقها ولم ترد.
غضب الجن وطار في الهواء ،فصرخت فرحانة .نظرت لها
روفيدا وسألتها:
ـ مالك يا فرح؟
ـ قالت فرحانة بإشمئزاز:
ـ ييييييييييع.
ـ إيه بس؟
51
نيكوابر
ـ مش شايفة يعني الحمامة الي عملت عليا بيبي دي ،يييييع،
ريحته معفنة خالص.
ضحكت روفيدا وقالت:
ـ بس ماله كتير كده ليه؟ شكلها ياعيني جالها نزلة معوية
من الدهنة إلي في لحمة العيد ،روحي غيري هدومك.
ـ طيب يا ستي سًلم.
ما إن غابت فرح عن نظرها ،حتى هرولت تجاه حاتم ،كان
الزال نائ ًما على ظهره ،وهو واضع جناحه على صدره،
الضحك بطريقة هستيرية.
ِ ومنفجر من
قالت له:
ـ دي حركة تعملها يا تيمو!!
ـ بتمد إيدها عليكي ليه؟ تعرفي لو كنت حسيتك اتوجعتي كنت
أذيتها بجد.
قالت له بلهجة حادة حتى ال يكرر فعلته:
ـ بس دي بتهزر.
ـ ما تمدش إيدها برده ،وياال اطلعي.
اعتلت روفيدا ظهرها ،وهي تشعر بشيء يجذبها تلقائيًا،
كأنها مغيبة ،أصبحت ال تخافه وال تخاف شيء ،فقط تريد أن
تفعل ما يمليه عليها.
جسده أصبح عمًلق ،وكأنه ديناصور طائر ،أصبحوا اآلن
بالسماء ،فكت ضفيرتها بفرحة ،الهواء بدأ يداعب شعرها
52
نيكوابر
وكأن أحدهم يصففه بحنان ،نسمات تقبل وجنتيها ،إحساس
بنشوة غريبة يسري بجسدها.
ً
محاوال لفت انتباهها: قال حاتم
ـ إحم إحم ..ياااهانم ..يا أستاذة.
أفاقت مما هي به وقالت:
ـ نعم.
ـ هو حد قالك إنك راكبة حمار؟
زامت ما بين حاجبيها ،وقالت له متعجبة:
ـ ليه بتقول كده؟
ـ ما أنتي عمالة تزغديني في ضهري من ساعة ما ركبتي،
فاضل شوية وتقوليلي شييييي.
حاوطت عنقه ،واقتربت من رأسه وقالت:
ـ معلش ما أخدتش بالي ،أنا فرحانة قووي ،حاسة إني مش
أنا ،إيه اإلحساس ده ،شوف البيوت شكلها جميل إزاي من
بعيد ،والشجر.
دفعها من علي ظهره فجأة ،وانقلب على ظهره ،خافت
أخيرا ،
ً وصرخت ،فوجدت نفسها على صدره ،تمكن منها
وحاوطها بجناحيه وقال:
ـ ما تخافيش بس بصراحة كنت عايز أخدك في حضني وأنا
ت
بقولك إن الفرح ده هعيشك فيه طول العمر ،بس ده إن ِ
هتطلعي عيني ،إنت تقيلة كده ليه يا فيفي ،بطلي أكل عجوة
دي مش ليك يا ماما.
53
نيكوابر
غضبت روفيدا ،وحاولت رفع رأسها من على صدره .فقال
لها مماز ًحا:
معاك وال إيه؟ قوليلي بقى نفسك
ِ ـ أنا ما اعرفش أهزر
تروحي فين.
تغيرت مًلمح وجهها مجددًا ،وقالت له:
ـ أنا نفسي أشوف أخويا ،بقالي ست سنين ما شفتهوش.
قال لها بضيق:
ـ وجاي يوحشك دلوقتى؟
ردت عليه بغضب:
ـ ياال خليني أطلع علي ضهرك ،ولو حاولت تعمل الحركة
دي معايا تاني هزعلك.
ـ هللا يسامحك ياعبده.
كلمات صدرت منه وهو يرفعها مجددًاعلى ظهره .سألته:
مين عبده ده؟
ـ دا شاعر ياستي اسمه "عبده نافع" سمعته بيقول مرة:
"البنت رقيقه فـ مًلمحها تحضنها تكون بسكوته فـ الشاي
مش الزم أبدًا توجعها ..غنيلها ..غنيلها ومتقولش إزاي"
قلت اعمل بكًلمه بس مفيش أي حاجه بتحوق معاكي
معرفش مالك معندكيش أحاسيس ومشاعير زيينا كدا ،أديني
جربت الحضن منفعش ،لما أشوف الغنا هينفع وال إيه
ظروفه هو كمان.
شدته من ريشه بغيظ وهي تقول:
54
نيكوابر
ـ لو إتريقت عليا تاني هخلعلك الريش ده ريشة ريشة.
ً
متوسًل: قال لها
ـ خًلص أنا آسف ،مش هتتكرر بس سيبي ،على فكرة أنا
ضعيف جدًا دلوقتي ،ألني مش في صورتي الطبيعية ،يعني
قوتي أقل من العيل الصغير ،ما يغركيش إن حجمي بقى كبير
كده ،أنا أول ما أنزل علي األرض ،هخليها تصغر تاني
والتشكيل ده بيرهقني وبيتعبني جامد ،بس كله يهون علشان
الجميل.
ـ طيب ها توديني وال أل؟
قال لها بنبرة ودودة ،عندما شعر بحزنها في السؤال:
ـ هو بيته فين؟
ـ ما أعرفش ،أنا أبويا غضبان عليه من زمان ،حاول يرجع
كتير ،لكن أبويا ضربه وطرده برده ،تعرف كل ده بسبب إنه
ملتحي ومتدين ،خاف ينتمي لحاجة سياسية ويضره ،بس
أخويا ده كان جميل قووي ،كان بيقرالي حاجات حلوة
وبيلعب معايا.
ـ طيب بس ما تعيطيش بقى ،إستني أشوفه فين.
صمت لبرهة ثم قال:
ـ يالهووووي ،ال بًلش نروح هناك ،هلعب معاكي أنا
وخًلص.
تعجبت من ردة فعله ،وسألته:
ـ ليه بقى مش هنروح؟
55
نيكوابر
ـ أصل علشان نوصله ،الزم نعدي على كفر خضيرة في كفر
الشيخ.
قالت له مضيقة عينيها:
ـ طيب ودي فيها إيه؟!
ـ ال ،فيها كتير.
ـ أنا عايزة أشوفه وحياتي يا تيمو وحياتي.
ـ طب بًلش أسلوب السهوكة ده ،علشان قلبي ما
بيستحملش ،وبعدين إنتي مش عارفة الي حصل في الكفر
ده.
ـ حصل إيه؟
ـ حصل يااااستي ..بصي أنا هحكيلك ،بس احنا خًلص قربنا،
تعالي نقعد على شجرة الجميز دي ،علشان مش هينفع اتكلم
هناك.
أنزلها من على ظهره على فرع الشجرة "شجرة الجميز من
الشجر الكبير الحجم ولكنه خاوي من الداخل كقلوب بعض
البشر ،األفرع كبيرة جدًا الواحد منها كجذع شجرة برتقال
ً
مثًل".
جلست بجواره وقامت بثني ركبتيها وحاوطتهم بزراعيها،
انتبهت لحديثه وهو يشير لها على القرية بجناحه ،نظرت
على المكان الذي أشار عليه ،تعجبت؛ فإنه على الرغم من
بعدها ،إال إن اإلضاءة بها تجعلك تراهم من هذا العلو
بوضوح.
مفسرا ما حدث:
ً قال لها
56
نيكوابر
ـ الكفر ده كان اسمه (كفر خضيرة) بس دلوقتى بقي اسمه
كفر السبعين يوم.
سألته روفيدا عن سبب تغيير اإلسم .فقال لها وهو يسند
بجناحيه على فرع الشجرة ويمدد ساقيه لألمام.
ـ من سنييين طويلة كانت الكفر دي حلوة ،بس لألسف فجأة
حصلت حريقة كبيرة ،وماحدش قدر يطفيها ،وكل يوم في
نفس الميعاد بيت يتحرق ،لحد ما السبعين بيت اتفحموا
بصي بنفسك.
للكفر الذي تصدر منه أصوات غناء وطبول،
ِ نظرت روفيدا
علي الرغم من العتمة إال إن القمر يظهر البيوت بوضوح،
بيوت خربة وجدرانها تظهر عليها عًلمات أدخنة النيران،
والشبابيك متآكلة بالكامل .سرت ارتعاشة بجسدها من
المنظر ،اقتربت منه وسألته:
ـ طيب إزاي؟ ما كانوش بيعرفوا يطفوا النار دي ،وكانوا
بيفضلوا لحد ما بيتهم يتحرق؟
ـ اتعودوا كل يوم الي بيته عليه الدور ،يقعد بالحلل
والطشوت على حرف الترعة ،على أمل يطفي النار بس على
مين؟ بعد ما الكفر إتحرق ،حصلت حريقة في كام بيت في
الكفر الّي بعده ،بس الحرايق انطفت فجأة وانتهى الموضوع.
ـ بس دي حاجة غريبة يا حاتم ،طيب ما تقولي السبب يا
تيمو.
ـ عرفاني بضعف من الدلع ده.
57
نيكوابر
ضربته علي جناحه مداعبة ،فسقط على ظهره للمرة الثانية،
وهو يدعي انقطاع النفس .فضربته مجددًا وهي تضحك
قائلة:
ـ احكي بقى بطل غًلسة.
استسلم لألمر وأعتدل في جلسته ،وأكمل:
ـ هقولك يا ستي.
كل ده بسبب واحدة دلقت زيت مغلي في الحمام فسلخت
"زهبندار" وجاله شلل رباعي ،فكل القبيلة بتاعته قررت
تنتقم ،فكل يوم يحرقوا بيت لحد ما بقى كويس وخف بعد
سبعين يوم فسابوهم بقى.
فقالت له روفيدا:
ـ وإيه إلّي د ّخل زهبندار ده الحمام ،كان مزنوق وال إيه.
نظر لها حاتم ،وقال:
ـ أه يا مقرفة ،موووقرفة ،بقى فيه حد قمر كده ،يقول
مزنوق ..إخييييه.
قالت له روفيدا وهي تبتسم:
ـ ّ
بطل لكاعة واحكي.
ـ بصي يا فيفي ،كل البيوت فيها جن وشياطين بس بيختلف،
بيت زي بيتكم مثل عم "جلفنار" عنده كرش تحسيه عامله
حضانة أطفال جواه ،وبيقعد يطبل عليه ويرعشه وال فيفي
عبده.
ـ اإلسم ده في بيتنا؟! وده جني؟!
58
نيكوابر
ـ ال مش جن ،ده شيطان صاحب أبوكي ،هو السبب في
ربربته دي ،أصله بياكل زي اللطخ بإيديه اإلتنين وما
بيسميش.
قالت له غاضبة:
تاني هتشتم على أبويا؟
ـ يا ستي ما دي حقيقة ،وطول الليل جلفنار بيتحزم ويرقص
ورا أبوكي ،وهو بيتفرج على األفًلم الزبالة.
حزن:
ٍ صمتت في
فنظر لها مبتس ًما ،وقال لها في حنو:
ـ أنا باكل معاكي إنتي علشان إنتي بتسمي.
ً
خجًل، أمسكت روفيدا ورقة من فرع الشجرة ،وهي تذوب
نظر لها حاتم ،وأخذ يصفق بجناحيه ويقول:
ـ أيوه بقى يا فيفي ،أنا كنت عارف إنك هتحبيني هيييييح
بقى ،وعلشان الخدود الحمر دول هقولك نطرد جلفنار إزاي.
اعتدلت في جلستها في انتظار إجابته:
ـ الزم أبوكي ياكل بإيده اليمين ،ويستعيذ بالشيطان ،ويسمي
هللا ،إلن الشيطان بياكل أي شيء ما اتذكرش اسم ربنا عليه،
وقبل دخول البيت يسمي ،وإنتي أي حاجة تعمليها سمي،
ومشي الكلب األسود المعفن الي مالوش أي تًلتين الزمة في
البيت ده ،ال بيحرس حاجة ،وال بينيل وعلى فكرة هو ابن
جلفنار واسمه "زعبًلوي" بتشوفي النقطتين البيض الي
فوق عينيه في وسط لونه األسود ده؟ ده الي قال عليه
59
نيكوابر
الرسول :عليكم باألسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان.
يعني حًلل قتله ألنه شيطان.
سرحت روفيدا ً
قليًل ،وتنهدت وجعًا وهي تتذكر أخوها وحيد،
فقد كانت نصائحه سببًا لطرده من البيت ،جلس ذات يوم
معهم وقال:
:عن جابر رضي هللا عنه قال :سمعت رسو َل هللاِ يقول :إذا
دخل الرجل بيته ،فذكر هللا عند دخوله وعند طعامه ،قال
الشيطان ال مبيت لكم وال عشاء ،وإذا دخل فلم يذكر هللا عند
دخوله ،قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر هللا عند
طعامه ،قال أدركتم المبيت والعشاء .زام والدها يومها على
شفتيه في غضب وقال له :عاملّي شيخ!! وهللا كويس ،حزن
وحيد وحاول أن يوضح له ،فتركه وغادر".
كثيرا من القرآن.
ً كانت روفيدا تحب حديثه ،فقد جعلها تحفظ
عادت لنفسها مجددًا على صوت حاتم الذي يقول:
ـ بس بقولك إيه إوعي إنتي بالذات تسمّي.
تعجبت من طلبه ،وسألته:
ـ ليه اشمعنى؟
نظر لها مصطنعًا البكاء ،وقال:
ـ علشان لو سميتي وإنتي بتلبسي ،مش هشوف السمانة
وأنا أدمنتها ،أنا مريض ،يرضيكي أتعب أكتر ،وبعدين ده
هيدل على إنك خايفة مني ،ولو خايفة خًلص.
قالت له في خجل:
ـ ال مش خايفة ،بس بشرط ،تقولي حاجات كتير عنكم ماشي.
61
نيكوابر
ـ ماشي يا ستي موافق.
قبل أن يكملوا حديثهم وجدت روفيدا رأس ثعبان يتدلى
مصدرا فحيحه ،صرخت وكادت تسقط ً أمامها مخرجًا لسانه
من على الشجرة ،وهي تتراجع للخلف فحاوطها حاتم
بجناحه وهو يساعدها لتعتدل بجلستها مجددًا ،وقال لها:
ـ ما تخافيش.
ليرد الثعبان:
ـ إنسية مرة واحدة طول عمرك عطاط يا صاحبي.
ـ مش هبقى زيك اقالقول ،أمك عاملة إيه ياض ،لسه اسمها
سيموالن وال غيرته.
برقت عينا الثعبان ،وأخرج لسانه بغضب وقال:
ـ كان يوم أسود لما دخلت الصنايع.
وتركهم واختفي .وقف حاتم وتأهب للطيران فاعتلت روفيدا
ظهره وضحكت قائلة:
ـ عندكم مدارس زينا ،وبرده ما بتحبوش حد يعرف اسم
أمهاتكم ،أخويا وحيد كان بينام حاضن اإلستمارة ،علشان ما
حدش يعرف اسم أمي من زمايله.
ضحك وقال:
ـ أيوه طبعًا الي قدامك ده خريج دبلوم صنايع قسم كهربا ،أه
أنا متعلم مش جاهل.
ـ بس شكلك كنت بتاع بنات يا تيمو.
تنحنح وقال:
61
نيكوابر
ـ بس ده قبل ما أشوفك ،إنتي في عيني ست البنات.
فقالت له ممازحة:
ـ كًلمنجي.
مشيرا:
ً أخذا طريقهما لبيت أخيها ،بعد دقائق قال لها حاتم
ـ شايفة البيت الي هناك ده؛ بيت أخوكي.
فرحت روفيدا واحتضنته ،وقالت:
أخيرا.
ً ـ ياااااااه
قال لها حاتم:
ـ لما تشوفي تعبان بعد كده ،ابقي قولي أعوذ بكلمات هللا
التامات من شر ما خلق.
ثم أكمل ضاح ًكا:
ـ ليكون قلقول ،ويسألك على اسم أمي ،ده واد سهن وأنا
عارفه ،وبعدين فيه كتير من الجن بتتشكل في التعابين ،وفيه
حديث عن الرسول بيأكد ده ،بيقول فيه" :الجن ثًلثة
أصناف ،صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ،وصنف
حيات وكًلب ،وصنف يحلون ويظعنون".
قالت له روفيدا مشجعة:
ـ كل معلومة هتقولهالي عليها مكافئة.
هلل فرحًا وقال:
ـ بوسة؟
صفعته برفق ،وقالت:
62
نيكوابر
ـ مش "مؤتييب".
ضحك بشدة ،وقال لها:
ـ خًلص هبقى "مؤتيب" وأقولك حاجة كمان .فيه صنفين
الرسول قال يتقتلوا من غير ماتقولوا عليهم القسم.
قالت له روفيدا غير مستوعبة لما يقول:
ـ قسم إيه؟؟
ـ القسم ده المفروض أي حد يقوله أول ما يشوف حية في
بيته ،ألنها ممكن تكون جن وتأذيه "أقسم عليك باهلل أن
تخرجي من هذا المنزل ،وأن تبعدي عنا شرك وإال قتلناك"
لو جات بعد القسم ده بقى بتًلت أيام اقتلوها.
ـ إنت مش لسه قايل ممكن يكون جن ويأذينا.
ـ أيوه ،بس هي كده ممكن تكون أفعى حقيقية ،وتستحق
القتل ،أو جن كافر يستحق القتل برده علشان هو جاي
يخوفكم ويأذيكم.
تنحنحت روفيدا ،وقالت وهي تمط كلماتها:
ـ يعني إنت حًلل قتلك صح.
صمت حاتم ً
قليًل وأردف:
ـ معنى كًلمك إنك مش عايزاني أقولك إيه هما الصنفين.
ً
محاوال أن يشغلها بشيء ليبعد عنها تلك قال لها تلك الكلمات
األفكار .قالت روفيدا مداعبة:
ـ الال بهزر ،قول بقى واوصف شكلهم ،ألن كل التعابين شكل
بعض.
63
نيكوابر
ـ حاضر يا ستي على الرغم إنك مصلحجية كده.
ضحكوا سويًا ،وبدأ بوصف هذه الحيّات ً
قائًل:
ـ األبتر وذي الطفيتين ..األبتر ده حية خبيثة ،صنف أزرق
مقطوع الذنب الذيل ،تحسي إن حد قطعلها ديلها لو الحامل
شافتها ،وبصتلها كتير تسقط على طول .الطفيتين بقى على
ضهرها خطين لونهم ،أسود ،أبيض ،أصفر ،ودي مجرد ما
حد يبصلها تخطف بصره.
ب علىاهتز جسد حاتم فجأة ،وشعرت روفيدا بشيء غري ٍ
جسدها ،وكأن هناك ريشة تًلمسه ،سمعت صوت كطنين
نحل ،ودوى صوت آخر كصرير الريح .أخذ حاتم طريقه
لألرض ،وأنزلها ،قال لها:
ـ انزلي هنا ،كان قلبي حاسس باللي هيحصل.
قديم ،وهي ترتجف ،ترى خياالت
ٍ توقفت روفيدا بجوار بي ٍ
وأصوات غريبة ،شيء يسري على جسدها وال تستطيع
التحكم به ،شيء يسحبها من شعرها وآخر يؤلمها فتصرخ.
ال ترى سوى حاتم الذي يلف بدوامة ،صرخ بها ً
قائًل:
ـ روفيدا اقري آية الكرسي بسرعة .
أمام عينيها ،لم تعد ترى نظرت له بفزعٍ ،فاختفي فجأة من ِ
بالبكاء ،ثم جثت على األرض، ِ سوى خياالت ،أجهشت
ووضعت رأسها وسط ركبتيها وأخذت تردد:
اَلل الَ إِ َٰلَ َه إِالَّ ه َو ال َحي القَيوم الَ تَأخذه ِ
س َنة َو َال َنوم لَّه َما " َّ
َّ
ض َمن ذَا الذِي يَشفَع ِعندَه ِإالَّ َ
ت َو َما فِي األر ِ اوا ِ س َم َ فِي ال َّ
بِ ِإذنِ ِه يَعلَم َما بَينَ أَيد ِ
ِيهم َو َما َخلفَهم َوالَ ي ِحيطونَ ِبشَيءٍ ِمّن
64
نيكوابر
ت َواألَر َ
ض َوالَ يَؤوده اوا ِ سيه ال َّ
س َم َ س َع كر ِ ِعل ِم ِه ِإالَّ ِب َما شَاء َو ِ
ِحفظه َما َوه َو ال َع ِلي ال َع ِظيم"
كانت تسمع صوت كأنين المرضي ،صوت أناس تعذب،
صراااخ ،وضعت يديها علي أذنيها وعلت وتيرة صوتها،
وهي تكمل اآلية وكررت نهايتها عدة مرات:
"وهو العلي العظيم"
سمعت صوت صفير ،فنظرت حولها فلم تجد أحد ،المكان
أصبح خال من األصوات والخياالت ،التفتت حولها عدة
مرات فلم تجد شيء .تجولت بنظرها فوجدت نفسها محاطة
بالخراب ،كل البيوت مدمرة ،والطرق ممتلئة ببواقي
األخشاب والطوب المتساقط من البيوت ،منظر مخيف
ومرعب ،حتى البيت الذي كانت تقف بجواره شعرت بأن
هناك عيون تنظر لها من الداخل ،فركضت بعيدًا عنه وهي
ترتعد .سمعت صوت حاتم يناديً ،
قائًل:
ـ ياال بينا مشيوا خًلص.
قالت روفيدا ،وهي تلتفت حولها وتلتقط أنفاسها بصعوبة:
ـ إنت فين مش شايفاك؟
ـ معلش مش هينفع أتشكل دلوقتي ،نيكوبار جناحها وجعها
فيه عرقين لفوا على بعض ومزمزقة شوية.
ـ طيب تعالى امشي جمبي أنا خايفه أوي،حاسة إن فيه حد
بيراقبني.
ـ أنا واقف جمبك متخافيش.
65
نيكوابر
ـ إيه الي حصل ده طيب؟ واشمعنى آية الكرسي بالذات الي
طلبت مني اقرأها.
صمت ولم يرد .فكررت السؤال .فرد ً
قائًل:
ـ امممممم ،أصل لقيتك خايفة فخليتك تواسي نفسك ،وبعدين
مش ربنا قال "أال بذكر هللا تطمئن القلوب"؟
ـ عندك حق ،طيب مين الي كانوا بيحاربوك وليه؟
ـ دول يا ستي سكان السبعين يوم ،أصل كان بينا تار قديم،
لما كنت في مدرسة الصنايع كانت بنت العمدة في مدرسة
التجارة الي في وشنا ،كنت بهتم بنفسي بقى جيل في شعري،
وبرفانات إيه ،وبناطيل جينز شارلستون ،ونضارة شمس،
كنت واد مافيش منه يعني عاكستها كام مرة فحبتني ،أخوها
قفشنا هربانين من المدرسة ،وقاعدين ناكل درة مشوي عند
عم "درفلعان" .كان عايز يضربني ،اديته بشلة في وشه،
عيط بقى وحلفلي لو عديت من عند بلدهم ليكسرلي رجلي،
ويخلي وشي شوارع .وهي خًلها سابت المدرسة
وماشوفتهاش من ساعتها.
توقفت روفيدا ثواني لتأخذ أنفاسها ،وسألته:
ـ طيب إنت كويس ،حصلك حاجة؟
ـ قفايا واجعني أوي يا فيفي.
ضحكت روفيدا ،وتخيلت ما حدث له ،وسألته:
ـ كان عندك كام سنة وقتها ،قدي كده؟ أكيد كنت صغير.
انفجر حاتم من الضحك:
66
نيكوابر
ـ قدك إيه بس ،ده وأنا قدك كده كنت لسه برضع ،أنا كان
عندي 192سنة لسه عيل برده.
فزعت من رده ،وسألته مجددًا:
ـ يالهووي أومال عندك كام دلوقتى؟
ـ عندي 182سنة ،يعني أنسب سن للجواز هاا ،هتفرحي
بيكي معايا إمتى يا فوفة.
ـ إنت تسكت خالص ،فرح إيه في الهم ده ،إنتوا ما
بتموتوش.
ـ بتفولي عليا ليه يا بنت سنيه.
قالت له في غضب:
ـ احترم نفسك ومالكش دعوة بأمي.
ـ طيب يا أختي عمو ًما ،إحنا بنموت بس فيه إلي بيعيش
مئات السنين ،وإلي بيعيش آالف إبليس الوحيد هو الي مش
هيموت لحد يوم القيامة ،وربك الي قال كده لمّا إبليس طلب
من ربنا" .قال ربّ إنظرني إلّي يوم يبعثون قال فإنّك من
المنظرين" فهمتي؟ ممكن نمشي بقى.
نظرت روفيدا للقمر الذي حجبه سحاب قاتم فجأة ،فلم يعد
يظهر ضوءه الكامل .لفت انتباهها صوت غريب ،فسألته:
ـ إيه الصوت ده يا تيمو؟
ـ ده لعبة كاندي كراش أصل الواد قلقلول ،بعتلي طلب عشان
أفتحله مرحلة ،قلت أنا غلست عليه النهاردة ابعتله ،والشبكة
هنا حلوة ،فقلت ألعب كام دور واحنا ماشيين.
67
نيكوابر
ـ أااه إنت معاك موبايل غالي زي أبويا ،وعامل فيس وكده.
ـ أيوه ،بس مش مسمّي نفسي مدام منى زي أبوكي ،أنا تيمو
من قديمه.
ـ أبويا مسمي نفسه منى؟! طيب ليه؟
صمت حاتم لبرهة ،وقال:
ـ ما أنا لمّا بتكلم بتزعلي ،عمو ًما أصله مدمن اليكات،
وعارف إن الشباب غًلبة ما حدش بيعبرهم ،إنما لو بنت
كحت على الفيس ،ممكن تًلقي 082اليك ،و 302كومنت.
منهم الّي يقول سًلمتك يا قمر ،مالك يا جميل ،اغلي ورق
جوافة واشربيه ،علشان صوت الكروان ما يتجرحش،
أجيبلك حبيتين أنتينال وأجي نتعشى سوا.
ـ إنت كداب يا تيمو.
ـ بصراحة أه ،واسكتي بقى علشان ما فضلش غير
محاولتين ،والكريز واقف في حيطة سد.
ـ يارب تقع علشان سايبني ماشية ،ورجليا اتكسرت وعمال
تلعب.
ـ معلش اتمزقت وأنا بتخانق يا وليه ،إنتي إيه تاخديني لحم
وترميني عضم ،كان مالي ومال الجواز .كان زماني قاعد
ألعب المزرعة السعيدة ،ومستني حد يرويلي الشجر.
ـ علي فكرة بقيت غلس.
ـ خًلص خًلص متزعليش ،وعد هاخدك على جناحي بكرة
الصبح ،بس ما تقريش آية الكرسي وأنا جايلك.
68
نيكوابر
ـ بكرة؟! احنا مش هنرجع النهاردة؟ أنا كده أبويا ممكن
يقتلني.
ـ ال ما تخافيش ،أنا هروح أقعد مع حمايا على إني إنتِ،
وبكرة هاجي أوديكي لوحيد.
وقفت روفيدا بمكانها ،وأخذت تنظر للخراب الذي تمشي
فوقه وصرخت به.
ـ وحيد ،أمَّال إنت موديني فين؟ يا حوستك يا فيفي ،يا
دهوتك.
قال لها وهو يقلد صوتها:
ـ بس يا فيفي يا أختي ،اهدي بس هقولك يامصيبتييي،
علشان تروحي لوحيد الزم أطير بيكي المكان قريب
بالطيران ،بس استحالة نروح مشي.
ـ طيب أنا هقعد فين دلوقتى؟
ـ هوديكي عند األخت زلفارة ،جوزها مش في البيت ،هتباتي
معاها للصبح لحد ما أجيلك.
ـ تعرفها منين دي؟ وإيه اإلسم ده؟!
ـ دي واحدة أنقذت إبنها من الموت مرة ،هي مسلمة زيك.
ـ أنقذته إزاي؟
ـ كان متشعبط ورا عربية نص نقل ،والسواق كان ضارب
ترمادول وطاير على آخره ،وهو عايز ينزل ،شوفته وأنا
طاير الصبح بجيب ألمي فول للفطار ،جيت منزله ،بس كده.
ـ ياال البيت أهو ،الصبح هكون عندك.
69
نيكوابر
تركها وحدها وغادر ،وقال لها بصوت عال وهو يبتعد:
ـ هتوحشيني يا فيفيييي ،ليلتك سودة مني يا حمايا.
فقالت له روفيدا بعلو الصوت:
ـ ما تتفرجش معاه علي حاجة ،وخليه يتوب.
ـ يتوب بس يا حبيبتي ،أنا ممكن أموتهولك لو عايزة ،أنا
أصًل ،شكله كده هيقولي الستاير والموكيتً مش طايقه
عليك.
***
71
نيكوابر
بيت العمار
71
نيكوابر
قفز القط من مكانه والتف حول ساقها ،وأخذ يحك جسده بها
ويقول:
ـ له حق خالي يعشقك فأنت جميلة.
ردت روفيدا ساخطة:
ـ خالك؟
قال الهر:
ـ نعم خالي إنه.
قاطعته قطة أخري بيضاء ،ووقفت بجواره ،كانت تلعق يدها
وتنظر له بغضب ،تنحنح القط ودعاها للدخول مرة أخرى:
-إحم ..إحم ..ألن تدخلي؟
تبسمت روفيدا ،وسألته عن اسمه:
ـ اسمي..
معتذرا:
ً صفعته القطة بذيله ،فقال
ـ تفضلي يا خالة.
وقفت روفيدا على باب البيت مترددة ،صدرها اختنق فجأة
وجف ريقها ،ولكن ال يوجد مكان آخر تذهب إليه .ما طمأنها
هو حفظها لبعض اآليات القرآنية التي ستحميها ،وهذا ما
توصلت إليه بعد حديث النفس الطويل وقررت الدخول .
دخلت وهي تتلفت حولها ،فكل البيوت بالخارج كانت مطلية
باللون األخضر ،ولكنها لم تر منهم سوى أجزاء بسيطة،
والباقي مهدّم ،ولكن هذا البيت من الخارج ،وكأنّه بيت
عروس جديدة بزينته وطًلء الباب الًلمع.
72
نيكوابر
من الداخل البيت بسيط جدًا ،ال يوجد أثاث ،فقط وسائد
كبيرة ،و هناك الكثير من القطط بالبيت ،أكثر من عشرة قطط
يلعبون ويمرحون .أدخلها القط غرفة صغيرة ،وطلب منها
الجلوس وخرج.
التفتت روفيدا لكل زوايا الغرفة الفارغة ،البيت من الداخل
مدمر ،ولكنه يشع شيئًا غريبًا .دخل القط مجدداً ،فسألته:
ـ ما بتخافوش هنا ،المنظر يرعب؟
أخرج لسانه وأغمض عينيه من كثرة الضحك ،وقال:
ـ يقول لي أبي أن قدي ًما كان الجن يخاف البشر ،بل يهرب
منهم ،ولكن خوف بني اإلنس منّا جعلنا نقوى عليهم .وهذا
ما ذكره لي بقصة سيدنا عمر بن الخطاب ،كانت الشياطين
عندما تراه تسلك طريقًا غير طريقه ،ويفرون هاربين،
أترين ..ولكنه كان قوي اإليمان ،وصريح ،وال يخاف شيء،
أما أنتم ،تستعيذون منا ،وترتجفون عند ذكر اسمنا ،وهذا ما
يجعلنا أقوى منكم ،ولهذا فنحن نعيش وسطكم بًل خوف وال
فزع.
هنا نظرت روفيدا للقط بدهشة ،وسألته:
ـ طيب إيه الي غير الوضع ،وخًلكم تبقوا كده؟
أخرج القط مخالبه ،وحك عنقه عدة مرات ،ثم أجابها ً
قائًل:
ـ بداية القصة عندما بدأ العرب قدي ًما ينزلون الوديان
والصحراء ،ويستعيذون بنا كانوا يقولون :نعوذ بسيد هذا
الوادي ،أن يحفظ أموالنا وأوالدنا ،وكل شيء معهم يذكروه.
ودليل على كًلمي هو قول ربكَ " :وأَنَّه كَانَ ِر َجال ِمنَ ِ
اإلن ِس
َيعوذونَ ِب ِر َجا ٍل ِمنَ ال ِج ِّن فَ َزادوهم َر َهقًا" .ومعناه أن البشر
73
نيكوابر
شا من البراري وغيرها عندما كانوا ينزلون مكانًا موح ً
يعوذون بعظيم هذا المكان من الجان ،أن يصيبهم بشيء
يسوؤهم .عندما وجد جدودي هذا الشيء منكم زادوكم رهقا،
وذعرا حتى تصبحوا أشد منا مخافة ،ولهذا
ً أي خوفًا وإرهابًا
تجرأنا عليكم ،وأصبحنا سبب خوفكم الرئيسي بكل شيء،
وهذا ما جعلكم ضعفاء.
ثم صمت ً
قليًل ،وقال لها بنبرة تمتزج بضيق:
ـ حالكم غريب تخافون وال تذكرون هللا ،أترين هذا الخراب
الذي نسكنه؟ تكسوه أمي كل ليلة بخيمة ورود ،وهي سورة
البقرة وتحصننا جميعًا بأية الكرسي.
ثم اقترب منها ،وقال:
لك ،فهي مريضة،
ـ أعتذر يا خالة على عدم استقبال أمي ِ
ألنها بآخر شهر لها بالحمل.
قالت له روفيدا بود:
ـ طيب أروح أسلم عليها أنا.
ـ الالال ،فهي بالشهر الخامس عشر ،وال تتحمل أحدًا.
قالت روفيدا محدثة نفسها:
ـ يالهوي 12شهر!! ده حمل ده ،احنا الواحدة بتحمل تسعة
وساعات بتولد في السابع ،وما بتبقاش مستحملة ،والجن
كمان بيتعب زينا سبحان هللا.
تحصين..
74
نيكوابر
ترددت الكلمة بأذنيها ،وتذكرت حاتم عندما طلب منها قراءة
آية الكرسي .ولكن لماذا رفض البوح بفوائدها؟
أرادت روفيدا أن تجعل القط يخبرها بالسبب ،فحاولت
إغراءه كأي طفل تريد أن تخرج من بين شفتاه المطبقة
بعض األسرار:
ـ هخليك تيجي معايا بيتنا ،عندنا لعب كتير ،وأكل كتير
وحلويات ،بس قولي اسمك وكلمني عن خالك.
هلل القط فرحًا:
ـ حقًا يا خالة حقاااا؟؟ سأقول ِ
لك كل شيء ،فأمي ال تريد
رؤيتك.
غضبت روفيدا وجزت على أسنانها من كلمته ،شعر بحزنها،
فقال:
ـ ال تغضبي ،فهي تخاف عليك ،فقد نهانا هللا عن هذا ألم يقل
ربك "وخلق لكم من أنفسكم أزواجًا" أمي حاولت إقناعه
كثيرا ،ولكن خالي هذا فاسق.
ً
كررت روفيدا كلمته:
ـ فاسق!
ـ نعم فهو مسلم وال يصلي ،كيف لمسلم أال يصلي ،أليس هذا
ضا كان يشرب حشيش. ركن من أركان اإلسًلم؟ وأي ً
أكمل القط ضاح ًكا:
75
نيكوابر
ـ لقد ضربه جدي ،وربطه من ساقه أمام المملكة كلها ذات
يوم ،ألنه سرق منه بعض النقود وذهب مع جنية عاهرة
للتنزه.
ضحكت ،وسألته:
ـ إنت ليه بتتكلم كده؟ خالك بيتكلم عادي.
ـ إلننا ولدنا بأفغانستان ،كنا بنحارب بها ،ولكن بعد فترة قرر
والدي الرجوع.
ـ وخالك كان معاكم؟
ـ يا خالة ،قلت لك إنه فاسق ،في هذه األثناء ،كان يجلس
بسوق القرية ،ينظر للنساء في الذهاب واإلياب ،ووظيفته
األصلية هي إذاعة األخبار الكاذبة بين الناس ،فكان يفرح
كثيرا عندما تحدث شجارات بين الباعة والزبائن ،ولكنه اآلن
ً
ترك هذا المجال.
ـ إنتوا حياتكم إزاي؟عندكم ناس مش كويسة زينا؟
انطلقت تلك العبارة منها بنبرة خافتة.
ـ نعم عندنا كل شيء ،فمنا المسلم ،والكافر ،والنصراني،
والشيعي ،والبوذي ،كل شيء.
ـ طيب لما خالك مسلم ليه بيضايق من القرآن؟!
لك ،ومحاولة إغوائك رغ ًما عنك،
ـ ألنه يغضب ربه بالظهور ِ
فنحن الجن لنا قدرة هائلة باختراق األجساد ،وإثارة البشر،
ولكن تكون أمه داعية عليه كما تقولون إذا ذكر اإلنسي ربه،
وسمى أثناء اختراق جسده فيحرق الجن على الفور.
76
نيكوابر
قالت له روفيدا:
ـ هسألك على حاجه وتجاوبني ،وأنا عند وعدي معاك ،خالك
سمع سورة الرحمن وجسمه اتنفض إشمعنى السورة دي،
وليه كلمة تكذبان الي تعبته؟
ـ إلن الجن المؤمن ،إذا ذكرت اآلية "فبأي آالء ربكما
تكذبان"يرد :ال بشيء من آالئك ربنا نكذب فلك الحمد .وهو
يعصي هللا بمحاولة التقرب منك ،نحن نذهب للبيوت ،ونقرأ
القرآن معهم ،ونصلي ونأكل ،ولكن ال ندخل على امرأة
عارية ،أو نختلس النظر ،ولكن خالي "بصباص" ياخالة .ال
يغرك كًلمه المعسول ،هو خفيف الظل حقًا وأي شخص
كثيرا ،لماذا ال تصلي وتنامي
ً يحبه ،وإنتي بعيدة عن ربك
شبه عارية ،ولست محجبة أليس الحجاب فرض بدينك؟
خجلت روفيدا من كلماته ،فوجدت يده عليها واستلقى على
ظهره مجددًا.
ـ داعبيني كما تفعلون ،فإنني أحب هذه الحركة تجلعني أغار.
عبارة خرجت منه وهو يقرب رأسه منها .دخلت قطة
بيضاء ،وصرخت به:
حرم هللا علينا الحديث مع اإلنس.
ـ عثمان ..ألم يقل لك أبوكَّ ،
قفز من علي السرير وذهب تجاهها ً
قائًل:
ـ ولكنّها ضيفة ستمل وحدها.
قالت له أخته:
ـ لن تمل ..بعد قليل سنصلي لتقف معنا.
77
نيكوابر
نظر عثمان لروفيدا ً
قائًل:
ـ هيا ياخالة ،فقد قال رسول هللا :ثًلثة أصوات يحبها هللا،
صوت الديك ،وصوت الذي يقرأ القرآن ،وصوت المستغفرين
باألسحار .أحبّ هللا صوتك هيا بنا.
لكزته أخته قائلة:
ـ مشاغب ،سأخبر أمك.
دفعها بعيدًا عنه ،وقال:
كثيرا ،ولن تنالي منه شيئًا.
ـ سأذهب لبيتها ،وأحضر طعا ًما ً
كانت روفيدا تستمع لحديثهم غير مصدّقة لما يحدث ،تسأل
نفسها:
"أسأصلي مع جماع ٍة من الجن؟ البد أنني أحلم.
لملمت مًلبسها وخرجت خلفهم .كانت الصالة واسعة
وخاوية ،وجدت والدتها تخرج من غرفة قريبة ،نظرت لها
غير مصدقة ولم تلبث الذهاب لها ،حتى وجدت عثمان يحك
جسده بها ويقول:
ـ إنها أمي ال تتحدثين معها اآلن ،قلت لها بأنك ستصلين
فتشكلت في جسد والدتك لتطمئنك ،اذهبي وتوضأي ،وضعت
بالحمام ،ألن مًلبسك ال تناسب الصًلة ،فهي
ِ لكي جلبابًا
تظهر مفاتنك ،والبد أن نحتشم أمام هللا.
تبسمت له وجثت علي ركبتها ،وداعبته من رأسه ،كانت
القطط األخريات تنظر لها بتوجس وال تحاول التقرب منها،
فقط عثمان الولد الوحيد بالبيت الذي يحاول مساعدتها ،سار
أمامها للحمام فشكرته ودخلت ،دخل خلفها وشدها من
78
نيكوابر
مًلبسها بأسنانه ،فخرجت مجددًا نظرت حولها وجدت جميع
القطط ينامون على ظهورهم ويضحكون قال لها عثمان:
ـ دخول الحمام بالقدم اليسرى وليس اليمنى يا خالة ،فالخًلء
مكان للقذارة والخبث ،ال يجب تكريمهم ،ألن اليمين لكل
شيء نكرمه ،وكان سيد الخلق يدخل الخًلء باليسرى.
ثم قفز على شوال قريب ليكون بمستوى رأسها ،وأشار لها
فهمس بأذنها ً
قائًل: َ بيده أن تقترب .اقتربت منه روفيدا،
ً
مقاال على النت ،بأن شق اإلنسان األيمن، ـ قرأت منذ فترة
أضعف من األيسر ،وأقل مقاومة للميكروبات ،وعندما يدخل
الشخص بشقه القوي "األيسر" ،فهو يحمي جزئه األيمن
من التعرض المباشر وهللا أعلم ،ولكني أثق بأن كل شيء
قاله رسولنا الحبيب به فوائد كثييييرة بالنسبة لنا .سأسبقك،
ألني سأكون اإلمام ،وال تنسي بالخروج أن تقولي
"غفرانك" ،أو الحمد هلل الذي أذهب عني األذى وعافاني،
فالحاجة التي ستقضيها ،غيرك يتلوى بالمشفى لتخرج منه.
قفز عثمان وخلفه كل القطط ،دخلت روفيدا الحمام بقدمها
مكان حولها ،لم يكن هناك شيءٍ اليسرى ،وأخذت تتلفت بكل
سوى حفرة باألرض ،وقالبين من الطوب على الجانبين ،إناء
صغير فخاري به ماء ،توضأت وخرجت ،وهي تلبس ذلك
الجلباب الفضفاض .صوت قرآن يدوي بالبيت ،ممزوج
بصوت نهنهة وبكاء ،تقهقرت روفيدا من الخوف عندما
وجدت الجميع ينحني هلل حتى الوسائد ،وقفت بالصف وقلبها
وكأن الحصى من تحت أقدامها يرفعهاّ يكاد يقف من الخوف،
لتنحني هلل أي ً
ضا .عثمان يجهر بصوت ِه ويقول -:
79
نيكوابر
ضت َو َمن ِفي األَر ِ اوا ِس َم َ "أَلَم ت َ َر أ َ َّن َّ
اَللَ يَسجد َله َمن فِي ال َّ
ش َجر َوالدَّ َواب َو َك ِثيرشمس َوالقَ َمر َوالنجوم َوال ِج َبال َوال َّ َوال َّ
اَلل َف َما لَه ِمنعلَي ِه العَذَاب َو َمن ي ِه ِن َّ
ق َ اس َو َكثِير َح َّ ِ ّمنَ النَّ ِ
مك ِر ٍم إِ َّن َّ
اَللَ يَفعَل َما يَشَاء"
انتهت الصًلة فسمعت"أم عثمان" صوت بكاء روفيدا
الشديد وهي الزالت راكعة اقتربت منها ورفعت وجهها من
على األرض وقالت لها:
ت مؤمنةـ قال ربك "إن كيد الشيطان كان ضعيفًا" ،وأن ِ
يمكنك التغلب عليه ،ماذا عن الكافرين؟
نظرت لها روفيدا ،والدموع تنساب منها وال تدري بما ترد،
كل القطط تجمعت حولها والوسائد حذو الحائط كما كانت،
اقترب منها عثمان وقال:
عذرا يا خالة ،الوسائد كانوا بعض الجيران ،ولكنهم لم
ً ـ
يستطيعوا التشكل ،ألنهم ضعفاء فتلبسوا بالوسائد ،حتى ال
تفزعي منهم ،نظرت أم عثمان لكل القطط فاصطفوا ،ثم
وجهت لهم سؤال:
ـ من منكم سيرافقها بالغرفة حتى ال تخاف؟
بصو ٍ
ت واحدٍ ،قالوا "عثمان" ،ال نريد أن نكون معها.
ـ ال بأس ،فعثمان ال زال ً
طفًل ،اذهب معها.
هلل عثمان واستلقي على ظهره ،وقال لها:
ـ احمليني ودلليني اليوم.
صرخت أمه به:
81
نيكوابر
ـ عثمان تهذب.
انتفض واقفًا ،وأخذ يحك رأسه بساقه ،وقال:
ـ آسف يا أمي.
سبقها عثمان للغرفة ،وجلس وهو يضع ساقًا على ساق
على الوسائد وأخذ يدندن .رأته روفيدا فضحكت ،وسألته:
ـ إنت بتغني ياعثمان؟
ـ ال ،إني أبتهل.
ـ طيب ما تسمعني.
اعتدل في جلسته ،ووضع يده على أذنه وقال:
ـ قمر سيدنا النبي قمر ..وجميل وجميل سيدنا النبي وجميل.
دخلت قطة من خلف الباب فجأة ،وأشارت لعينها ،وأكملت:
ـ كحيل الطرف حبيبي لو تراه هللا ..هللا.
تجمع كل إخوته ،وبيدهم الدفوف ،طار قلب روفيدا من
الفرح ،وأخذت تردد معهم ..هللا ..هللا.
ـ ضحوك السن للعاشق رماه هللا ..هللا .بهي الطلعة فالمولى
اصطفاه..هللا ..هللا.
بعد انتهائهم من اإلبتهال ،احتضنوها جميعًا ،وأخذوا
يداعبوها ،وطلبوا منها أن تحكي لهم عن البشر ،تعجبت
روفيدا ،وقالت لهم:
ـ أنا الي أقول ؟ إنتوا مش بتعرفوا كل حاجة حتى الغيب؟
صمت الجميع ،ورد عثمان:
81
نيكوابر
ـ معاذ هللا يا خالة ،استغفري ،يقول هللا تعالى" :ال يعلم من
في السموات واألرض الغيب إال هللا" ما تسمعيه ليس سوى
خدعة ،واستخدام من السحرة الكفار للقرين.
ـ يعني أنا ليا قرين؟
سؤاال ،يضحك الجميع عليها ،وينظرونً كلما سألت روفيدا
لها وكأنها جاهلة .خرج إخوة عثمان بعد سماع صراخ
أمهم ،ودعوتها لهم بالحضور في الحال .اقترب منها عثمان،
وقال:
ً
قليًل ،جعلتي البنات يضحكن عليك. ـ أال تستطيعي الصبر
أمي تقول دائ ًما كل بني آدم لسانهم فالت.
ضحكت روفيدا ،وقالت:
ـ بقى كده ،وحتى والدتك كمان ،طيب عملنالها إيه بقى هي
كمان؟!
ـ لم تفعلوا بها هي ،بل أبي لليوم وهو مطارد بسبب إنسي.
ـ طيب قولي حكاية القرين ده إيه؟ وبعدين إحكيلي قصة
والدك وليه عايشين في الخراب ده.
ـ حسنا ً ..القرين مًلزم لإلنسان حتى الموت ،لكل شخص
ث صحيحٍ: منكم قرين من الجن .وقد قال الرسول هذا في حدي ٍ
إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ،ولهذا فإن
الشيطان يعلم ما يميل إليه اإلنسان ويشتهيه ،ويوسوس له
بالمعصية ،وقد سألوا الرسول وقالوا له حتى أنت لديك
قرين؟ قال :نعم ولكن أعانه هللا عليه وأسلم فكان ال يأمره إال
بالخير .وهناك آية في سورة "ق" تقول:
82
نيكوابر
" قَا َل قَ ِرينه َربَّنَا َما أَطغَيته َولَ ِكن كَانَ فِي ض ًََل ٍل بَ ِعي ٍد ..قَا َل َال
َي َوقَد قَدَّمت ِإلَيكم ِبال َو ِعي ِد" .هل فهمتي معنى تَخت َ ِصموا لَد َّ
اآلية؟ أترين ما الذي يفعله الشيطان بالشخص الذي ابتعدَ
عن ربه وضل السبيل .هناك آية أخرى أوضح ،يقول هللا
ان اكفر فَلَمَّا َك َف َر قَا َل ِإ ِنّي
س ِإلن َ ان ِإذ قَا َل ِل ِ تعالى " َك َمثَ ِل ال َّ
شي َط ِ
بَ ِريء ِمنكَ إِ ِنّي أ َ َخاف َّ
اَللَ َربَّ العَالَ ِمينَ ".
عبثت أصابعها بأهداب فستانها ،ولكنها لم تنبس بكلمة،
واص َل عثمان حديثه:
ـ ما يحدث أن الساحر يرسل الجن الذي أخذ معه عهدًا،
ويعصي هللا من أجله لقرين ذلك الشخص ،فيعرف منه كل ما
يريد ،ويوهم الناس بأنه يعلم الغيب .ومن يدعي بأنه يعلم
علم الغيب ،فهو كافر ،ومن يصدق أي ً
ضا ،ألنه هكذا كفر بآية
من كتاب هللا .وهناك حديث عن الرسول يقول فيما معناه :أن
من أتى عرافًا ،فسأله عن شيء لم تقبل له صًلة أربعين
ليلة .والعراف يعني الكاهن والمنجّم والساحر .لو كانت الجن
ت سيدنا سليمان ،وتوقفوا عن تعلم الغيب ،لكانت علمت بمو ِ
األعمال الشاقة ،ولكن بأمر هللا كل شيء يحدث ،ما نبههم
سوى حشرة أكلت عصاه وجعلته يسقط .وتأكدي أن معظم ما
يقال كذب ،ألن حياتنا سر ونحن ال نبوح باألسرار ،وحتى أنا
أسرارا كثيرة عنا ،والصدق في حديثي هو ما ذكر
ً لن أخبرك
به هللا والرسول لنكن متفقين على هذا ،حسنًا؟
أومأت رأسها بالموافقة ،وقالت:
ـ اتفقنا يا عثمان قولي بقى حكاية أبوك؟
ـ أبي كان اسمه "زعزوع".
83
نيكوابر
ً
خجًل ،وقالت: ضحكت روفيدا ،ثم وضعت يدها على فمها
ـ أنا آسفة ،بس إيه اإلسم ده؟
نهض عثمان فجأة ،وأكمل حديثه وهو يمشي في الغرفة
ذهابًا وإيابًا:
ـ هناك أنواع كثيرة من الجن ،مثل العاشق -الذي هو خالي
حاليًا -الغواص ،الطيار ،جن المقابر ،عامر البيت ،خادم
الحمام ،جن الجلب والتحضير ،وأنواع كثيرة ،وكل منهم له
اسم .أما زعزوع ،هو عبارة عن طفل من الجن ،عندما يقوم
الساحر بتحضيره يجلب قالب طوب أبيض من المقابر،
ويضعه في صندوق ،ويعزم على الصندوق فترة ،ثم بعد ذلك
يفتحه ،فيجد فيه طفل يبكي ،فيقول له ما يريده ،وبعدما ينفذ
أوامر الساحر يرجع هذا الطفل ألمه مرة أخري .وهذا ما كان
يحدث ألبي حتى استاء من اإلنسي ومما يفعل وهرب منه.
وبالطبع فقد تأذى الساحر من الشيطان ،ويريد االنتقام من
أبي ،ولهذا فهو دائ ًما مطارد.
نظرت روفيدا لعثمان ،وسألته:
ـ يعني إيه جلب ومحبة دي؟
ـ هذا سحر يتم عمله ألي فتاة أو شاب ،بأن ينبض قلبهم
لشخص ما وخصوصًا لو كانوا يكرهوه ،أو رفضوا الزواج
ٍ
منه فيحلمون به ،ويفكرون ويسرحون ،حتى يصلوا لمرحلة
الهيام وعدم الصبر فيذهبون إليه خاضعين أذلة ،ويحدث لهم
حاالت وسوسة بالحرام ..وبعد أن يصاب الشخص ،ويقع
األهل تحت يد "الساحر الكافر" ،في بعض األحيان يجعلهم
يتوهموا َّ
بأن ابنتهم ليست عذراء ،وهذا بسبب الجن ،ويقول
84
نيكوابر
لهم "حتى لو ذهبتوا ألكبر األطباء لن تجدوا غشاء
ابنتكم"وقد يختلي هو بها ويفعل فعلته وهذا "زنا" وعقوبته
الرجم حتى الموت ،وبعد أن يقول كل هذا يأخذ من األهل
وللعلم "من يقع تحت يد ساحر ،ال يتركه ِ مبالغ طائلة،
وتكرارا ليأخذ منه نقودًا
ً مرارا
ً بسهولة ،ويجعله يذهب إليه
ضا بأعما ِل الجلب ،والمحبة أكثر" ..كان جدي موكل أي ً
وخًلفه ،وكل العائلة كانت تقوم بهذا األمر ..وهم من
الشياطين ،ولكن إذا كان اإلنسان يستمع إلى الرقية
الشرعية ،ويحصّن نفسه لن يؤثر معه شيء.
فزعت روفيدا ،وقالت:
ـ يعني أبوك شيطان ،وبيعمل ده كله؟
سار عثمان بضع خطوات ،وألقى بجسده على وساد ٍة مقابلة
َ
لروفيدا ،وقال:
ـ نامي يا خالة ،يبدو أنني سأتعب معك ،تصبحين علي خير.
نهضت روفيدا من مجلسها ،وجلست بالقرب منه ،مدت يدها
ووضعتها علي رأسه مداعبة ،ثم حملته ووضعته على
ركبتيها ،وأكملت مداعبة من بطنه حتى ضحك واستسلم
لألمر.
ـ حسنًا حسنًا ،إني أغار ..سأقص عليك ما حدث ..عندما كبر
أبي كان يريده جدي أن يصبح مثله ،ويكمل في هذا العمل
ّ
ليعظموه ويغضبوا هللا من أجل أفعالهم. ويطيع السحرة،
أتعلمين ما صفات الساحر؟ وما الذي يفعله حتى ينول رضا
الشيطان؟
85
نيكوابر
ـ أل ،صفاته إيه؟ وإيه الحاجات الّي بيعملها علشان الشيطان
يعملّه كل حاجة ويبقى غني كده؟
ـ هههههه ،أين الغنى يا خالة ؟ الساحر يبيع في حياته وبعد
مماته كل ملكه حتى ذريته للشيطان ،ولو كان الشيطان
يغني ،ما جلس الساحر يتلو طًلسمه الغبية ويستغل الناس،
لكان فعل كل المعاصي والذنوب خفية ،وتقاضى أجره من
شي َطان
فقيرا ألم يقل ربك " ال َّ ً الشيطان ،ولكن الساحر يموت
اَلل يَ ِعدكم مَّغ ِف َرةً ِمّنه َوفَضًلً
يَ ِعدكم الفَق َر َويَأمركم ِبالفَحشَاء َو ّ
ع ِليم " ،والفحشاء القصد منها هنا البخل ،أن سع َ َو ّ
اَلل َوا ِ
يبدأ الشخص بعدم إعطاء الزكاة ،ويمتنع عن صلة الرحم،
ويحرص على جمع المال من الحرام ،فتكون نهايته الهًلك.
ـ طيب إيه الصفات الّي بتخلي الساحر يقدر يعمل ده كله؟
عليك وقت أخر ،ولكنّي سأكمل
ِ ـ هذا حوار طويييل ،سأقصه
اآلن قصة أبي ما رأيك؟
ـ اتفقنا كمل.
ـ أبي كان موكل ذات يوم بأذية إنسية ،ولكن العمل كان
مطلق "إذا رش على عتبة باب ،ودخل أي شخص آخر
فمر رجل على هذا العمل فتلبّس به أبي.
يمكنه أن يصاب" َّ
ـ هو فيه كذا نوع من األعمال؟
ـ نعم ..هما مطلق ومقيد ،شرحت لك المطلق ،أمّا المقيد،
فهو من يكون موجه بإالسم ،وال يصيب أحد سوى الشخص
المراد أذيته ..البيت الذي دخله أبي متلبسًا بهذا اإلنسي ،كان
بيت طاهر وإناس متدينون ،وكانت أمي من عمّار هذا البيت.
ـ يعني إيه عمّار دي؟
86
نيكوابر
ـ العمار هم فريق من الجن المسلم ،يسكنون معكم ،ويصلون
وينامون ويأكلون ،فإذا وضع الطعام يأكلون مما لم يذكر اسم
هللا عليه ،وال يؤذون أحد في الغالب ،ولهذا البد أن تقولي
بسم هللا قبل أي شيء تفعليه.
ـ زي تيمو كده؟ هو قالي بياكل معايا لما بسمي.
ضحك القط بصوت عا ٍل وسألها:
ـ تيمو مين؟
ـ خالك مش اسمه حاتم؟
ـ ال يا خالة خالي اسمه....
معتذرا:
ً قاطع حديثه ضحكة مفاجأة رغ ًما عنه ثم تنحنح
ـ إحم لن أستطيع ..ولكن خالي هذا رهيب ..تيمو!! تيمو!!
قلت لك إنه فاسق ،ولكنّه خفيف الظل حقًا ،ولكن من الجميل
ت لي حتى استغله بسبب هذا اإلسم.أنك قل ِ
ِ
يحرك أذنيه ويغمض ّ لثوان ،ونظر لها وهو
ٍ صمت عثمان
أردف:
َ عينيه بأسفٍ ،ث َّم
منك ستندمين،
ِ لك يا خالة ،ال تجعليه يتمكن ـ نصيحتي ِ
ستحبين الوحدة واإلنطواء والعزلة ،وستكرهين الرجال،
وربما يجعلك تفكرين بالفاحش ِة ،وتمارسيها مع نفسك مرات
ألن الجن ال يبالي بمزاج الشخص المصاب سواء ومراتَّ ،
بالفرح أو الحزن ،كل ما يريده هو تحقيق رغبته.
نظر "عثمان" ليدها ،وقال:
87
نيكوابر
ـ أرى بيدك خات ًما ،سيجعلك تتركين خطيبك وتتألمين ،ألن
الجن أناني وال يترك حبيبته لغيره.
تغيَّرت مًلمح روفيدا وخافت ،تذكرت ما يحدث لها باألونة
األخيرة ،من تغير بطباعها وحبها للوحدة ،وعدم اشتياقها
لخطيبها .حاول عثمان طمأنتها ،فقال:
ـ لتعلمين ،خالي لآلن لم يمسّكّ ،
ألن عقلك طاهر ،وتفعلين
منك.
بعض األشياء التي تحصّنك دون علم ِ
الجن يعلم من يرغب في الخياالت العارية والدعابات
الجنسية ،ويشاهد األفًلم القبيحة ،فيدخل له مدخل شر
ويغويه.
قالت له وبعينها مسحة من المرارة:
ـ يعني ذنبي في الحياة إني جميلة ،اتحرم من كل حاجة
علشان محدش يشوفني ،حتّى الجن يحطني في دماغه أنا
نفسي أموت بجد ،أنا تعبت.
أكملت حديثها بكاء ،وهي تتذكر أخوها "وحيد" وضعت
روفيدا رأسها بين كفيها محاولة كتم مشاعرها .قال لها
عثمان بتأثر:
ـ ال تقولي هذا يا خالة ،كيف تتمنين الموت؟
ً
محاوال جعلها تضحك، ث ّم صمتَ وجذب شعرها بمخالبه
وعندما وجد الحزن والخوف يغلف وجهها ،أكمل:
ـ من قال أن جمالك سبب حب خالي؟ الجن أكثر شيء يجذبه
باإلنسان الجسد ،وأقبح امرأة بعالمكم هي ملكة بعالمنا ،ولو
88
نيكوابر
كان العشق للجمال ،لكان ترك الجن المصاب بعد أن يكبر
ً
جماال. آخر أكثر
شخص ٍ
ٍ بالسن ويبيض شعره ،ويبحث عن
نظرت له روفيدا ،وقلبها يتمزق شوقًا على أخيها ،قالت له
بترجي:
ـ عثمان ممكن تساعدني؟
ـ كيف تريديني أن أساعدك؟
ـ قولي أعمل إيه علشان يبعد عني؟ كًلمك عن السحرة
والجلب والحاجات دي خوفني أوي ،خايفة يحصلّي حاجة.
ضحك عثمان ،ألنه فهم الشيء الذي أخافها بهذا الشكل،
حاول طمأنتها ،فقال:
ـ تشكل الجن في هيئة إنسان صعب الحدوث ،أي شبه
بشخص،
ٍ مستحيل ،ولكن ما يحدث أن الجن عندما يتلبس
يثير الشهوة عند المصاب سواء رجل أو امرأة ،فنجد الشاب
كثيرا ،والفتاة تقوم بفعل العادة السرية مرات ومراتً يحتلم
فإن هذه األشياء تجعل الجن يعشقهم أكثر، يوميًا ،وبالطبع َّ
وال يتركهم وهذه العادات لها أضرار بالغة ،ولكن الجن ال
يستطيع في هذه الحالة سوى إثارة الشخص ،ألنه ليس قوي
بهذه الدرجة ،وال يمكنه أن يفقد فتاة عذريتها إال..
تغيّر وجه روفيدا ،واحمّرت وجنتاها ،وقلبها بدأ يرتعش
وهو في انتظار الرد من عثمان .عندما نظر عثمان لها ووجد
هذا الذعر على وجهها ،قال:
لك أن تشكل الجن في هيئة اإلنسان صعب الحدوث،ـ قلت ِ
ألنّه يخضع لهذه الهيئةً ،
مثًل لو تش ّكل في هيئة إنسان،
وطعن أو ضرب بالنار يموت ،ولهذا فنحن نتشكل للحظة أو
89
نيكوابر
لحظات ،حتى ال يمكن ألحد أن يمسك بنا ،ولو كان األمر
بهذه السهولة ،لكانت األرض مسكن لنا وألوالدنا ،ولولد بكل
ت جني وزادت الفاحشة ،ونسب كل طفل أتى عن طريق بي ٍ
الخطيئة لنا ،هذه حكمة من ربك ،أن بعدنا عنكم فقد أصبحنا
مظلومين وسطكم يا خالة ،حقًا كل شيء ينسب للعمل
والسحر ،لو الشخص مصاب بمغص يقولون ،ربما فًلن فعل
لك سحر لتتألم.
ثم ضحك عثمان ،وأكمل:
ـ دعونا وشأننا أيها الظالمون.
لم تبادله روفيدا الضحكة ،بل قالت له وهي خائفة:
ـ بس خالك إتشكل في هيئة إنسان ،يعني كان ممكن...
اقترب منها عثمان ،وقال:
منك ما فعل هذا،ت من أعطاه هذه الجرأة ،لو كان خائف ِ ـ أن ِ
لك منت تحفظين من كتاب هللا ما يضره لما ظهر ِ ولو كن ِ
األصل ،الجن يلعب على حبال الشهوة ،فممكن أن يجعل
الفتاة هي من تضر نفسها وتهتك عذريتها ،ولو تركته
ضا ،ألنه يتشكل بأجمل الصور ،وهنا يتشكل بهيئة إنسي أي ً
يمكنه أن يغويها لفعل الرزيلة ،ضعي بذهنك دائ ًما أنه قبيح
الشكل ال يغرك الصورة التي يظهر لك بها ألم يقل ربك أن
شجرة الزقوم طلعها كأنه رءوس الشياطين أترين التشبيه.
سألته روفيدا ببراءة األطفال ،وهي تضغط شفتيها بحزن:
ـ ممكن تقولي وصف الشجرة دي.
حرك عثمان أذنيه عدة مرات ،ث َّم قال:
َّ
91
نيكوابر
شجرة الزقوم هي شجرة ملعونة موجودة في جهنم وهي
ومَ .ط َعام ش َج َرةَ َّ
الزق ِ طعام أهل النار وقال عنها ربك ِإ َّن َ
يم .خذوه فَاعتِلوه ونَ .كغَلي ِ ال َح ِم ِ
يم .كَالمه ِل يَغ ِلي فِي البط ِ األَثِ ِ
يم". ب ال َح ِم ِعذَا ِ
س ِه ِمن َ ق َرأ ِيم .ث َّم صبوا فَو َ
اء ال َج ِح ِ إِلَى َ
س َو ِ
بكت روفيدا بحرقة ،فواصل عثمان حديثه:
ـ ألم أقل لك من قبل كيف تحصنين نفسك ،عوّ دي لسانك على
ذكر اسم هللا ،حتى تقي أوالدك أي ً
ضا،كلها أيام وتصبحين
زوجة ،هناك حديث يقول "إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى
الجان على إحليله فجامع معه"
أترين العًلج؛ أذكر اسم هللا صعب ..أنتم من تصعبون
األمور ..وآخر آيتين بسورة البقرة فوائدهما عظيمة.
نهض عثمان فجأة ،وقال لها انتظري دقيقة ،خرج من
الغرفة وبعد عدة دقائق أتى وأحضر معه ورقة وعلبة
صغيرة بها حبر لونه أحمر ،وكتب لها بها شىء وعندما
انتهى وضعها بقبضة يدها.
ً
طويًل ،ث َّم فتحتها وبدأت تقرأ. نظرت لها روفيدا
"صديقتي اإلنسية
مودتي أما بعد...
ال تنسي ذلك القط الشقي ،وعليك بقراءة األذكار ،وسماع
الرقية ،وذكر اسم هللا واآليات التالية تؤثر في ذلك العاشق
"تيمو" .احفظيهم أو ردديهم من الورقة ،هيَّا تأهبي.
91
نيكوابر
اَللِ اَللِ أَندَادًا ي ِحبونَهم كَحبّ ِ َّ ون َّ اس َمن يَت َّ ِخذ ِمن د ِ " َو ِمنَ النَّ ِ
َوالَّ ِذينَ آ َ َمنوا أَشَد حبًّا ِ ََّللِ َولَو َي َرى الَّ ِذينَ َظلَموا ِإذ َي َرونَ
ب" شدِيد العَذَا ِ اب أ َ َّن القوَّ ةَ ِ ََّللِ َج ِميعًا َوأ َ َّن َّ
اَللَ َ العَذَ َ
ت ش َه َوا ِ ع َليكم َوي ِريد الَّ ِذينَ يَتَّبِعونَ ال َّ وب َ اَلل ي ِريد أَن يَت َ " َو َّ
ف عَنكم َوخ ِل َق اَلل أَن ي َخ ِفّ َ أَن ت َ ِميلوا َمي ًًل ع َِظي ًما .ي ِريد َّ
ض ِعيفًا". سان َ اإلن َ
ِ
غا إِن كَادَت لَتبدِي ِب ِه لَو َال أَن سى فَ ِار ً " َوأَصبَ َح فؤَاد أ ِ ّم مو َ
علَى َقل ِب َها ِلتَكونَ ِمنَ المؤ ِم ِنينَ " َر َبطنَا َ
اب ت األَب َو َ غلَّقَ ِ
س ِه َو َ اودَته الَّتِي ه َو فِي بَيتِ َها عَن نَف ِ " َو َر َ
اي ِإنَّه َال سنَ َمث َو َ اَللِ ِإنَّه َر ِبّي أَح َ َوقَالَت َهيتَ لَكَ قَا َل َم َعاذَ َّ
الظا ِلمونَ َ .ولَقَد َهمَّت بِ ِه َو َه َّم بِ َها لَو َال أَن َرأَى برهَانَ يف ِلح َّ
ف عَنه السو َء َوالفَحشَا َء ِإنَّه ِمن ِعبَا ِدنَا َر ِبّ ِه َكذَ ِلكَ ِل َنص ِر َ
المخلَ ِصينَ "
سِجن أ َ َحب ِإلَ َّي ِممَّا يَدعونَنِي ِإلَي ِه َو ِإ َّال تَص ِرف " قَا َل َربّ ِ ال ّ
اب لَه ع ِنّي كَيدَه َّن أَصب إِلَي ِه َّن َوأَكن ِمنَ ال َجا ِه ِلينَ .فَاست َ َج َ َ
َّ
ف عَنه كَيدَهن إِنه ه َو الس َِّميع العَ ِليم". َّ ص َر َ َ
َربه ف َ
س ِه يز ت َرا ِود فَتَا َها عَن نَف ِ " َوقَا َل نِس َوة فِي ال َمدِينَ ِة ام َرأَة العَ ِز ِ
ين"شغَفَ َها حبًّا إِنَّا لَنَ َرا َها ِفي ض ًََل ٍل م ِب ٍ قَد َ
ت لَعَلَّكم ت بَيِّ َنا ٍورة أَن َزلنَا َها َوفَ َرض َنا َها َوأَن َزلنَا فِي َها آَيَا ٍ "س َ
َ
اح ٍد ِمنه َما ِمائ َة َجلدَ ٍة الزانِي فاج ِلدوا ك َّل َو ِ َ الزانِيَة َو َّ تَذَ َّكرونَ َّ .
اَلل ِإن كنتم تؤ ِمنونَ ِب َّ ِ
اَلل ِين َّ ِ َو َال تَأخذكم ِب ِه َما َرأفَة ِفي د ِ
الزانِي َال عذَابَه َما َطائِفَة ِمنَ المؤ ِمنِينَ َّ . َواليَو ِم اآلَ ِخ ِر َوليَش َهد َ
ان أَو الزانِيَة َال يَن ِكح َها إِ َّال َز ٍ يَن ِكح َّإال َزانِيَةً أَو مش ِركَةً َو َّ
علَى المؤ ِم ِنينَ ". مش ِرك َوح ِ ّر َم ذَ ِلكَ َ
92
نيكوابر
س الَّ ِتي اَللِ ِإلَهًا آ َ َخ َر َو َال يَقتلونَ النَّف َ" َوالَّ ِذينَ َال يَدعونَ َم َع َّ
ق أَثَا ًما. ق َو َال َيزنونَ َو َمن َيف َعل ذَ ِلكَ َيل َ اَلل ِإ َّال ِبال َح ّ ِ
َح َّر َم َّ
يضَاعَف لَه العَذَاب يَو َم ال ِقيَا َم ِة َويَخلد فِي ِه م َهانًا".
ي ِ آ َ َال ِء َر ِبّك َما تك َِذّبَ ِ
ان ورات فِي ال ِخيَ ِام ( )20فَبِأ َ ّ " حور َمقص َ
َ َ
( )29لَم يَط ِمثهن إِنس قبلهم َو َال َجان".
َّ
" َو ِحي َل بَينَهم َوبَينَ َما يَشتَهونَ َك َما ف ِع َل بِأَشيَا ِع ِهم ِمن قَبل
ب". إِنَّهم كَانوا فِي ش ٍَّك م ِري ٍ
وكما قلت لك األذكار يا خالة األذكاااار .كلمة ال إله إال هللا
تجعلهم يتدافعون هاربين .
والجن المسلم إذا قرأتي آية الكرسي 2مرات ،واإلخًلص2
مرات ،والبقرة 9مرات ،بإذن هللا تحمي منه.
ع َلى الَّ ِذينَ وقد قال ربك على الشيطانِ " :إنَّه َلي َ
س َله سل َطان َ
علَى َر ِب ِّهم َيت َ َو َّكلونَ ".
آ َمنوا َو َ
كوني أمة متوكلة ،وسيحفظك هللا من كل شر .وال تنسي
الدعاء بنية الستر"
انتهت روفيدا من القراءة ،ومسحت دموعها بأطراف
كثيرا وهي تحتضن الورقة ،وسألته:
أناملها ،وشكرته ً
ـ أعلق الورقة دي تميمة؟
كثيرا ،وأردف:
ضحك عثمان ً
ـ وهللا إنتوا يا خالة بشر لكم العجب ،أتعلمين بالقرآن آية
وحيدة بدأت بحرف الظاء ،وهي " َظ َه َر الفَ َ
ساد ِفي ال َب ِ ّر
ض الَّذِي ع َِملوا سبَت أَيدِي النَّ ِ
اس ِليذِيقَهم بَع َ َوالبَح ِر بِ َما َك َ
لَعَلَّهم يَر ِجعونَ ".وصدق ربي بكل شيء قاله ،إنكم تصدقون
93
نيكوابر
أشياء غريبة ،أتعلمين ما الذي تحويه التمائم؟ إنها قطعة
طماطم وفلفل ،وكأنه طبق سلطة بالداخل وتمائم أخرى
تحوي طًلسم وتعويذات للجن ،وأخرى بها اسم الشيطان ،ال
تميمة تشفي ،وال حجاب يقي ،لقد أعطيتك الورقة لتقرأيها ال
لتطويها هذه كلها بدع وحرام يا خالة ،قال تعالىَ " :وننَ ِ ّزل
شفَاء َو َرح َمة ِللمؤ ِمنِينَ ".وقال أيضا ً " لَو ِمن القرآن َما ه َو ِ
عا ِمّن َخشيَ ِة
ص ِدّ ً َ َّ
علَ َٰى َج َب ٍل ل َرأيتَه َخا ِ
شعًا مت َ َ نزلنَا َٰ َهذَا القرآنَ َ
أَ َ
اَللِ ".معناه إن لو هذا الجبل في غلظته وقسوته وفهم َّ
القرآن ،فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف هللا .القرآن
للتًلوة يا خالة ،كلماته نزلت لتخترق روحك وتريح قلبك..
ً
سؤاال: سأسألك
نظرت له روفيدا في انتظار سؤاله ،فقال:
ـ لو رأيتي المصحف على أحد الرفوف ،هل سيتأثر قلبك
بشيء؟
ً
سؤاال آخر: أومأت روفيدا رأسها بالنفي ،فسألها
ـ لو كان بجوار هذا المصحف شيخ ،ويقرأ في خشوع
لك؟
وصوته عذب ،ماذا سيحدث ِ
أجابت:
ـ ممكن أبكي ،وهحس إن قلبي ارتاح.
اقترب منها عثمان ،وحركاته تدل على فرحته ،رفع رأسه
ً
قائًل:
ـ هذا هو العًلج يا خالة ،ال تهجري القرآن فهو خير ونيس
وخير رفيق للقلب ..هل أكمل قصة أبي أم نكتفي؟
94
نيكوابر
أومأت رأسها ،وهي مبتسمة ،بأن يكمل فواصل حديثه:
ـ عندما بدأت تظهر عًلمات التلبس على هذا الشخص ،جاء
شيخ وأخرجه من اإلنسي بعد أن أقنع والدي باإلسًلم ،أحب
بعدها أمي وتزوجها ،وهي من قوّ ت عزيمته باإلسًلم ،ومن
يومها وهو مطارد من أهله ومن ذلك الساحر البغيض.
ليًل في هذا الخراب ،حتى يعود والدي من عمله نهرب ً
بالصباح .وعندما يعود نرجع لبيتنا بالمملكة ،ألن ال أحد يعلم
بهذا المكان ،وخصوصًا أن هذا البيت الذي كانت تعمره أمي
وتحميه قبل زواجها ..ولكن بعدما تزوجت ورجعت المملكة،
أخذه الشياطين ودمروه وبعد عودتها لم تجد أي إنسي بهذه
البلدة فحصنته ،وهانحن نعيش كمن هرب من قضية وحكم
عليه باإلعدام.
سألها:
ـ أتسمعين نباح الكًلب ونهيق الحمير اآلن؟
ـ نعم.
فأكمل:
أوصاك الرسول ،ألنهم حقًا يرون ما الترون.
ِ ـ استعيذي كما
سأنام لبعض الوقت ،ألني سـأستيقظ ألقيم الليل ،بجوارك
بعض الطعام تناوليه وتصبحين على خير.
قفز عثمان من على ركبتها ،واستلقى بعيدًا على أحد
الوسائد .نظرت روفيدا للطعام ،كان طبق مليء بالتمر
وبجواره كوب به لبن ،رفعت نظرها ووجهت الحديث لعثمان
قائلة:
95
نيكوابر
ـ عثمان ..هتيجي معايا بكرة؟
نظر لها فرحًا ،وقال:
ـ أتوافقين على اصطحابي؟ حقًا؟! ولكن هذا عبء كبير
عليكي ،البد أن نتعاهد على أشياء كثيرة وأولها سًلمتي
بالرجوع ،واحذري إن حدث لي شيء ستًلقين ما التتوقعينه.
ـ ماتخافش ياسيدي هرجعك تاني ،وهعملك كل الّي إنت
عايزه وهعاهدك بس بشرط.
أومأ عثمان برأسه باالستفهام ،فقالت:
ـ تقولي اسم تيمو الحقيقي.
ـ اسمه "مطرش" ،وهذا سر بيننا ال تخبريه ،حتى ال
يضربني فيده ثقيلة جدًا يا خالة.
أحنى عثمان عنقه ،وقال:
ـ رقبتي تعاني حتى اآلن من صفعاته.
ثم ضحك مجددًا واستلقى على األرض مغم ً
ضا عينيه وأكمل
حديثه:
ـ ولكن كلمة تيمو رهيبة لن أنساها ..هللا معي فيما سأعانيه
بسببها.
اعتدل في جلسته مجددًا وأقترب منها ً
قائًل:
ـ نسيت أن أخبرك بأال تقرأي آية الكرسي ،حتى تستطيعي
العودة إلّى أهلك ،ألن خالي تركك اليوم عندنا بسبب قراءتك
لها.
ـ طيب ليه إيه السبب؟
96
نيكوابر
ـ كما حدث بقصة أبي هريرة.
ـ إيه القصة دي؟
ـ خالة أعدك سأقص عليك هذه الحكاية ،وصفات الساحر
غدًا ،ولكن اتركيني أنام ما رأيك ؟ .خخخخخخخخ.
ـ عامل نفسك نمت ،طيب تصبح على خير بس الصبح الزم
تقولي.
ـ خخخخخخخخ.
ـ ههههه ما خًلص يا عثمان ،مناخيرك هتكبر من كتر
الشخير ده.
جلست روفيدا وحدها ،كحال الكثير عندما يكون بزيارة عند
أحدهم وينام ،وعندما يستيقظ يجد نفسه وحيدًا فيبدأ بتأمل
السقف ،وربما يجد بعض الشقوق أو عنكبوت لم يلبس بدأ
خيط واحد ببيته .صوت الضجيج بالخارج جعل الخوف يدبّ
بقلبها ،نادت عثمان:
ـ عثمان....عثماااان...عثماااااااااااااان.
ـ خخخخخخخخ.
ـ عثمان أنا عارفة إنك صاحي ،أنا خايفة أوي ،طيب تعالى
نام جنبي.
ً
بصوت يغلبه النعاس: قال لها
ـ ال يصح نومي بجوارك ،وال تخافي لن يحدث لك شيء
ت معنا.
وأن ِ
ـ بس صوت الكًلب والحمير عمال يزيد يا عثمان.
97
نيكوابر
لم يرد عليها .فقالت:
ـ هجيبلك شيكوالتة جواها حاجات بتعمل زغازيغ ،وكمان
فيها ملبن من جوه ،وهشتريلك أكتر من كتاب فيه معلومات
طبية و...
لم تكمل حديثها ،حتى وجدته فوق صدرها يخرج لسانه،
وينظر لها ببًلهة ،ويقول:
ـ مووووووافق.
ـ طيب أنا عايزة أبص من الشباك على إلى بيحصل بره.
ـ الالالالال ،الليلة قمرية هناك أشياء مشينة بالخارج ،لن
تستطيعي رؤيتها.
ـ هجيبلك تليفون فيه ألعاب كتير.
ـ امممممم حسنًا ،ولكن..
ـ إيه؟
ـ البد أن تسمعي كًلمي بكل حرف.
ـ حاضر يا عثمانّ ،
ياال بقى افتح الشباك.
ذهب عثمان وفتح الشباك وقفز ووقف به ،ذهبت روفيدا
خلفه ،وأخذت تختلس النظر ،وما إن رأت منظر الرجل الذي
تنبح عليه الكًلب ،حتى صرخت وولت عثمان ظهرها.
بك يا خالة؟
ـ هههههه ماذا ِ
ـ إيه الراجل الغريب ده ،وبيعمل إيه هنا؟
98
نيكوابر
ـ هذا ساحر يحاول التودد للشيطان ،وهذا ما يفعله السحرة
قبل أن يرضى الشيطان عنه ويعطيه أحد من جنوده.
جلست روفيدا على األرض ،وعثمان ال زال جالسًا بالشباك
ويتحدث معها ،سألته:
ضر جن ،الزم ييجي في مكان زي ده كده، ـ والّي عايز يح ّ
مينفعش في بيته؟
يمكن أن يفعل هذا في بيته ،ولكن هناك شروط كثيرة البد أن
يفعلها مثل الخلوة والقذارة ،ومعظم السحرة يبدأون حياتهم
بوسط أهلهم ،قبل أن يتجهوا لهذا الفعل ويفعلون هذا في
الخفاء ،ويكون من الصعب عليهم أن يقوموا بعمل التحضير
الكامل في البيت ،فيلجأون لألماكن المهجورة والخربة وهذا
الساحر يبدو أنه يريد أن يزيد في مرتبته عند الشيطان
ويأخذ جن أقوى.
ضر جن، ـ طيب أنا األوضة بتاعتي لوحدي ،لو حبيت أح ّ
ضرك أعمل كده أعمل إيه؟ ممكن تعلمني علشان لما أحب أح ّ
يا عثمان يا عسل.
ـ اممممممم سأعلمك ،انتبهي لي جيدًا.
وقف عثمان بالشباك ،ورفع يده وبدأ يشرح:
ـ ً
أوال :البد أن ال تتحدثي مع أي شخص لمدة يومين ،وبعدها
تقومي بإحضار نصف زجاجة زيت خروع ،وتشتري كيلو
من كبدة "الماعز" وتضعيها بإناءٍ من األلمونيوم ،وتغطيه
بالماء ثم تحكمي عليه الغطاء جيدًا ومعه دجاجة صغيرة
ب لمده عشرة أيام ،وبعد ذلك تحضريهم بمكان رط ٍ
ٍ وتتركيهم
وتطفأى الضوء وتشعلي شمعة ،والبد أن يكون المكان
99
نيكوابر
عتمة ،وعندما تتأكدي أن الغرفة ال يوجد بها سوى ضوء
الشمعة ،تفتحي اإلناء وتضعي قطعة الكبدة على قالب
خشبي وتقطعيها قطع صغيرة ،والبد أن تتحملي رائحة
النتانة ،وتضعي على الدجاجة قطعة من القماش ،ثم تبدأ أهم
مرحلة وهي التحضير.
كانت روفيدا تستمع له بانتباهٍ ،وتحفظ كل ما يقول.
ـ التحضير البد أن يكون الساعة الثانية بعد منتصف الليل
وأول شيء تقومي بوضع زيت الخروع على عتبة الباب،
وتفعلي مثلما سأفعل اآلن ،قفز عثمان على األرض واقترب
منها ،وقال:
طويًل كما أفعل ،وتنادي على الجن بعلو ً ـ تغمضي عينيك
صوتك وتتأوهي اااااااااااااااااه ااااااااااااااااااااه ثم تقولي..
هاااااااااااااااااااااااااااا هاااااااااااااااااا تعالووووووا تعاااااالوا،
كثيرا ،بعد فترة
ً لقد أحضرت لكم الطعام العفن ،وتكرري هذا
بسيطة ستسمعي طرق على باب غرفتك وطرق على جدران
البيت ،وأصوات خطوات بعض األشخاص سيفتح الباب فجأة
و...
قاطعته روفيدا قائلة:
ـ بس أنا عايزاك إنت بس ،مش إنت وعيلتك.
ـ مين قال إنهم عائلتي؟
ـ أمَّال مين الّي هيدخلوا دول؟
ـ إنهم أشخاص سيأتون ليعطوكي ضربًا مبرحًا ،بسبب
إزعاجك لهم وهم أهلك نهه هه هاااااا.
111
نيكوابر
ضحكت روفيدا ثم قالت له معاتبة:
ـ كده يا عثمان تضحك عليا.
ـ قلت لك من قبل ،من يفعل هذا يكون كافر.
ـ بس ده فضول للمعرفة مش أكتر .
كل السحرة كان بداية طريقهم فضول ،انهضي وانظري ما
الذي جنوه من فضولهم.
****
مسحت القاعة بعيني ،معظم الحاضرين مشغولين بشيء ما،
هذا يطالع "الفيس بوك" ويضحك مع نفسه وهو ينظر
لشاشته اإللكترونية ،وهذه منذ بدء المحاضرة وهي تتحدث
مع صديقتها ،وهذا يأكل ،وهذا يمزح مع صديقه ،غضبت
وكدّت أترك القاعة وأنهي المحاضرة ،ولكن...
صمت الجميع فجأة ،عندما انطفئ الضوء ،القاعة أظلمت،
بصيص من نور الهواتف بالكاد ينير الوجوه ،دبَّ الخوف،
تعالت اآليات القرآنية من األفواه ،تنحنحت ث ّم قلت:
ـ حاسة إنكم خايفين ،أكمل وأال نستنى لما النور ييجي؟
القليل وافق على التكملة ،وهناك من أراد الخروج ،ولكن
الظًلم والزحمة منعته ،وبالنهاية قررنا االنتظار ً
قليًل ،طال
الوقت وطلب مني بعض األشخاص المصابين بالفضول أن
أكمل .جلست على الكرسي وبدأت الحديث .لم ألبث أن قلت
كلمتين حتى رأيت شيء غريب بجواري ،أطلت النظر لهذا
الشيء الذي يصعد فوجدته دخان على الحائط ،دبَّ الخوف
بداخلي ،يد وضعت على كتفي فصرخت.
111
نيكوابر
ـ ماتخافيش يا دكتورة ،أنا نزلت من المدرج علشان أكون
جنبك لو احتجتي حاجة.
كانت هذه الجملة من عم سمير الذي يشعل سيجارته
باطمئنان وأنا أضع يدي على صدريٍ بجواري .زفرت
وشكرته ،ث َّم طلبت منه أن يطفئها ألن التدخين ممنوع،
اعتذرت للطًلب عمّا حدث ،وضحكت ألخفي خجلي ،وقلت:
ـ شكل عم سمير بيهيئني لجزء األكشن الّي جاي .يًل بينا
نكمل...
****
وقفت روفيدا بالشباك تنظر على الرجل ،كان يقف بجوار
ت مهجور ،وقد رسم دائرة كبيرة ،ونقش داخلها وخارجها بي ٍ
بعض الطًلسم ،وأسماء الشياطين ،قفز فجأة داخل الدائرة
كالقردة ،وهو قابض على شمعتين بيديه ،ويقول كلمات
غريبة ،ضحكت روفيدا عليه ،وقالت:
ـ الراجل ده عمّال يتنطط كده ليه؟ ده شكله أهبل يا عثمان،
وبعدين هو مش خايف من وجوده في المكان ده؟
ـ ليس مجنون يا خالة ،فهناك من يراقبه ليتأكد من نواياه،
هو يفعل كل هذا حتى يجعل الشيطان يمضي معه عقدًا،
سيأتي مندوب الشيطان اآلن ويحدد له يوم ،والساحر يدرب
نفسه على هذه األشياء فترة طويلة ،حتى يموت قلبه ،وهذه
صفات الساحر ،أن يكون عديم الحياء كما ترين عريه الكامل
هذا كقرد مشوه ،ويكون عديم الضمير واإلحساس ،وال
يعترف بالرحمة وال أي عاطفة من العواطف ،ولهذا تجدينه
يدمر الناس بدون ذنب ،والبد ّأال يخاف شيء حتى ال ترتعد
112
نيكوابر
فرائصه عند ظهور سيده إبليس ،وأن يكون عنده من المكر
ما يجعله أدهى من الثعلب ،ويكون كافر بكل األديان
السماوية .الساحر يضع المصحف بالحمام ،ويلبس الخبز
كنع ٍل ،ويسكب اللبن بالمرحاض ،ويعتزل الماء أربعين يو ًما
بمعنى أن رائحة الكلب أفضل من هذا الرجل الذي يقفز
كالقرد ،هل بعد هذا الكفر تريدين فعل هذا؟
ـ أومأت روفيدا بالنفي ،ونظرت مجددًا مع عثمان من
الشباك.
ظهر فجأة كائن نصفه إنسان ونصفه حيوان ،ارتعدت روفيدا
وخبّأت رأسها في عثمان ،فقال لها:
ـ هذا مندوب الشيطان.
رفعت رأسها واسترقت السمع ،فسمعته وهو يدعو الرجل
لمكان آخر اآلن ،ألن هناك تقوم حفلة تعميدية.
ٍ للذهاب
ـ سألت عثمان ،يعني إيه الّي بيقوله ده ياعثمان؟
هذه حفلة يحضر بها جميع السحرة الذين يودون إمضاء عقد
مع الشيطان ،ويجب عليهم التزين والتجمل ،ألنها ستكون
آخر ليلة تمس أجسامهم الماء ،وعندما يجتمعون يخلعون
مًلبسهم كما فعل هذا الساحر ،ويرسمون طًلسم الستدعاء
الشيطان.
ـ طيب أنا عايزة أروح المكان ده واتفرج.
ً
ساخطا: ردَّ عليها عثمان
ـ مااااذا؟!!
ـ نقف نتفرج من بعيد.
113
نيكوابر
َّ
هز رأسه وهو مغمض عينيه ،وقال:
عليك.
ِ ـ ال يا خالة أخاف
وأخيرا اهتدى تفكيرها،
ً صمتت لبرهةٍ ،تفكر بشيء لتقنعه،
وقالت:
ـ تخاف من إيه؟ مش إنت قولتلي إن محدش يقدر يأذيني
طول ما أنا متحصنة بآية الكرسي والقرآن واألذكار.
ـ نعم قلت هذا.
ـ يبقى خًلص متخافش ،أنا هقف من بعيد ومش هعمل
صوت ّ
ياالاا بقى.
نظر لها عثمان وهو متردد في أخذ هذا القرار ،صمت لبعض
الوقت ،ثم نهض من مكانه وأحضر الوسائد التي كانت تمأل
كل أركان الغرف ،ووضعها فوق بعضها تحت الشباك وطلب
من "روفيدا" أن تجلس عليهم.
جلست روفيدا فوضع "عثمان" يده على عينيها ،وطلب
تغلّف المكان،
منها أن تغمضهم ،الضوء اختفى ،رياح قوية ِ
الجو مظلم والطريق مليء بالحجارة ،وبواقي األثاث التالف
وكأن روحها خرجت منها،ّ من البيوت ،شيء تخللها فجأة،
يد طبقت على يدها وجذبتها ،فتحت عينيها فوجدت عثمان
يسير أمامها.
تبعت روفيدا خطوات عثمان ،حتى دوى فجأة في المكان
صو ٍ
ت مفزع ،أوقفها بيده وأشار لها أن تختبىء تحت حجرة
ت مرتبكة ،حتّىكبيرة لتراقب ما يحدث .تقدّمت بخطوا ٍ
وصلت للحجرة ،انبطحت أر ً
ضا وأخذت تنظر.
114
نيكوابر
مكان كبير رائحته عفنة ،جميع األشخاص غريبي األطوار،
كل شخص يقف بدائرة صغيرة بمقاس قدميه ،وبوسط
الدوائر دائرة كبيرة تتسع وتتفتح ،السحرة يقفون داخل
الدوائر عراة تما ًما ،ال يوجد شيء بالمكان سوى السواد،
األرض اهتزت فجأة ،وأقبل مندوب الشيطان الذي رأته
ت غريبة روفيدا منذ قليل ،أخذوا يهللوا ويتغنوا بكلما ٍ
ويتراقصون ،تزاحموا فجأة وشبّ شجار بينهم.
قال مندوب الشيطان :الصمتتتت ،فركعوا فجأة.
قالت روفيدا لعثمان بسخرية:
ـ إيه الهبل ده يا عثمان ،أنا كنت مفكراها حاجات ترعب،
وممكن يغمى عليا من المناظر دي وال كإنها حفلة للهنود
الحمر ،وبعدين هما في طابور عيش؟!! عمالين يضربوا
بعض ومتجمعين كده ليه حوالين النص حمار في بني آدم
ده؟
ـ هشششش ..يا خالة احذري إن الشيطان يرانا ويراقب كل
ما نفعل.
همست له ً
قائًل:
ـ طيب هو ممكن يإذينا كده ما دام شايفنا؟
ـ ال ،إلننا محصنون ،ولكن..
قطع حديثه صوت عمدة السحرة ،وهو يصرخ بصو ٍ
ت غليظٍ
ويقدّم السحرة لمندوب الشيطان .بدأ األشخاص يسبون
لألديان كلها ،كاد قلب روفيدا يخرج من مكانه عندما رأت
نساء كثيرات ورجال يسجدون ويقبلون حوافر مندوب
الشيطان .اشمئزت من المنظر والكلمات التي تسمعها.
115
نيكوابر
قال عثمان فجأة:
ـ اغمضي عينيك مجددًا.
ـ ليه يا عثمان؟؟
ـ أغمضي عينيك يا خالة وال تجادلي.
أغمضت روفيدا عينيها ،وال زالت االبتسامة على وجهها:
ـ حاضر يا عثمان .
سمعت صوت غلييظ يقول:
ـ شروط العقد
" أن يبيع الساحر روحه للشيطان في الحياة والممات.
أن يبيع الساحر ماله وزوجته وذريته للشيطان.
الشيطان غير مضطر لمساعدة الساحر ،وله الحق في عدم
مساعدته في أي وقت.
الشيطان له الحق فقط ،أن يضر الناس وال يساعد الساحر
في عمل شيء له.
انتهت الشروط يا موالااااي.
اسجدوااااااااااا".
ت خاف ٍ
ت: قال لها عثمان بصو ٍ
ـ لقد اتى الشيطان ،وكان يمكن أن يتوقف قلبك عند رؤيته،
فالمندوب إلى حد ما شكله مضحك ،أما الشيطان مرعب ،لن
تستطيعي رؤيته.
ثم صمت لوهلة وواصل حديثه:
116
نيكوابر
ـ سأصف لك ما سيحدث اآلن .لقد أمر الشيطان أعوانه
باختراق النساء من السحرة ،وبدأ الرجال يقفون صفًا،
ليعطيهم التحية ويمضي العقد.
ارتعش جسدها رعشة خفيفة ،عندما سمعت صوت صفعات
وركًلت متتالية وارتطام باألرض:
ـ إيه الصوت ده يا عثمان ،هما بيضربوا بعض؟
هذه هي تحية الشيطان ،يركل الساحر ثم يضربه في معدته
ورأسه ضربة قوية ،حتى ينزل الدم ..لكي يغرق العقد بهذا
الدم ويمضي عليه.
ـ طيب لو العقد ده لو ضاع هينضرب تاني؟
قالت هذه الجملة وهي خائفة واألصوات الغريبة تعلو من
حولها .ردّ عليها عثمانً ،
قائًل:
ـ الااا ..يحدث أفظع من هذا ،فهو يأمر الساحر بإحضار
حيوان معين له كقربان ،ويقوم بذبحه وكتابة عقد جديد
ٍ
بدمه ،وبعدها يحول للمحاكمة ويستجوب كما يفعل وكيل
النيابة مع المجرمين عندكم ..ويأخذ التحية ،وهي الضرب
بالطبع ،ثم يمتنع عن السحر لمدة شهر كعقوبة.
تذكرت روفيدا الشيخ جمعة ،عندما قال بالخطبة السابقة آية:
اَللِ علَيكم ال َميتَة َوالدَّم َولَحم ال ِخن ِز ِ
ير َو َما أ ِه َّل ِلغَي ِر َّ " ح ِ ّر َمت َ
َ َّ َ
ِب ِه َوالمن َخنِقَة َوال َموقوذة َوالمت َ َر ِدّيَة َوالن ِطي َحة َو َما أ َك َل السَّبع
ب َوأَن تَستَقسِموا ِباألَز َال ِم علَى النص ِ ِإ َّال َما ذَ َّكيتم َو َما ذ ِب َح َ
س الَّ ِذينَ َكفَروا ِمن دِينِكم فَ ًَل تَخشَوهم ذَ ِلكم فِسق اليَو َم يَ ِئ َ
علَيكم نِع َمتِي َواخشَو ِن اليَو َم أَك َملت َلكم دِينَكم َوأَت َممت َ
117
نيكوابر
غي َر اإلس ًَل َم دِينًا فَ َم ِن اضط َّر فِي َمخ َم َ
ص ٍة َ َو َر ِضيت َلكم ِ
غفور َر ِحيم". اَللَ َمت َ َجانِفٍ ِ ِإلث ٍم فَ ِإ َّن َّ
اَللِ ِب ِه" أي ما ذبح لعبادة غير وقال معنى "و َما أ ِه َّل ِل َغي ِر َّ
هللا ،وكذلك ما ذبِح وسمّي عليه بغير اسم هللا عز وجل ،ففي
تقربًا إلى هذه األصنام .حدّثت روفيدا الجاهلية كانوا يذبحون ّ
نفسها وهي حزينة على ما يحدث،وقالت:
ـ الجهل بالدين حقًا كشباك صياد ،يلتقفك ويكون مصيرك
معلوم ،إما أن تتحنط أفكارك ويحركونك كدمية ،أو يتم طهيك
على نار هادئة لتتبع تلك العادات الجاهلة المتوارثة التي
تجعلك تغضب هللا مقابل إرضاء البشر .وهذا ما يحدث اآلن،
أصبح الكثير من البشر مغيبون بسبب جهلهم.
عادت لنفسها مجددًا عند سماع صوت عثمان ،وهو يقول:
ـ أتعلمين ما يحدث اآلن؟
ـ إيه يا عثمان؟!
الشيطان أمرهم بالسجود له ،ليبصق عليهم.
ضحكت روفيدا بسخرية وقالت:
ـ طيب ممكن أروح أتف معاه عليهم ،إيه القرف ده يا ربي،
وإيه الّي جابرهم لكده؟
لكي ينالوا ما يريدوه ،كل هذا ليهبهم الشيطان أحد من
جنوده ،ليساعدهم على فعل الشر ،أما البصقة فهي تظهر
قطعة لحم بجسد الساحر ،على شكل دائرة وهي بيت
الشيطان المًلزم له.
نظرت له روفيدا بنظرة اشمئزاز وأردفت :
118
نيكوابر
ـ علشان ما يهربش يعني؟
استدار عثمان برأسه تجاهها وأجاب:
ـ ال ،الخادم طوال فترة مًلزمته للساحر يكون مختنقًا ،بسبب
أنه أخذ رغ ًما عنه من المملكة إلى الساحر ،ويكون عنده
إرادة الهرب ،فيستغل أي فرصة ليهرب كما حدث مع أبي.
ثم صمت ً
قليًل وهو يراقب ما يحدث حوله ثم أكمل:
ـ سبب مطاردة الساحر لوالدي ،أن حكم عليه الشيطان
بإعطائه طفل من أطفاله ،بديل عن الخادم الذي هرب.
نظرت له روفيدا متسعة العينين خائفة:
ـ أنا حاسة إني بسمع برنامج خلف األسوار يا عثمان.
قفز عثمان فجأة وصاح بها مما جعل قلبها يرتجف:
ـ نعم هذا ما سيحدث اآلن ..هيااااااا اركضي يا خالة.
ردت عليه بنبرات مرتعشة:
ـ اركض؟! فيه إيه؟
ناظرا للخلف:
ً صاح بها مجددًا وهو يركض
ـ انظري خلفك.
نظرت روفيدا ،وجدت جميع السحرة ينظرون لها ،ويتأهبون
للحاق بها.
ارتعشت رعشة خفيفة ثم تلتها رعشات وكأن هناك نوبة
صقيع مفاجئة ،همست لعثمان وهي الزالت جالسة بمكانها:
119
نيكوابر
ـ الناس دي بتبص علينا ليه كده؟! وبعدين هما البسين فردة
جزمة واحدة ليه؟!
جذبها عثمان من طرف فستانها ،وجعلها تركض خلفه .ثم
قال لها ،وهو يلهث:
وذبحوك ،سيعفيهم من
ِ أحضروك
ِ ـ لقد قال لهم الشيطان ،إذا
التحية وإسالة دمائهم ،وتكونين قربانًا له ،وبالنسبة للحذاء،
فقد نهاكم الرسول عن هذا وقال" :ال يمشي أحدكم في نع ٍل
واحد ٍة ،ليحفهما جميعًا ،أو لينعلهما جميعا ً ".وأظن إنك
أن الشيطان ينتعل ً
نعًل واحدًا فقط. فهمتي السبب اآلن ،وهو ّ
وقفت روفيدا ساخطة ،وأخذت تولول:
ـ يا لهوووي ياااما ،هيدبحوني زي فلفل.
ثم نظرت خلفها فجأة ،عندما شعرت بخطر قادم ،فوجدت
عشرات السحرة يركضون خلفها ،لم تستطع الحراك من
هول المنظر ،واعتراها إجهاد شديد وألم غلّف جسدها
بالكامل .صرخ بها عثمانً ،
قائًل:
ـ هيا يا خالة اقتربنا من البيت ،هياااااا.
حاولت روفيدا أن تسرع خطواتها ،ولكنها تعثرت وسقطت،
ب كمغناطيس حاولت أن تنهض ،ولكنها شعرت بشيء غري ٍ
يجذبها لألرض .قال عثمان في فزعٍ:
ـ اقرأي آية الكرسي واستعيذي من الخبث والخبائث.
قرأت في سرها اآليات ،وحاولت النهوض مجددًا ،ولكنها لم
تستطع ،اقترب منها األشخاص ،كانت خطوتهم سريعة،
نظرت حولها فلم تجد عثمان ،صرخت ولكن صراخها
111
نيكوابر
كغريق ،كل بيوت الكفر عادت لهيئتها
ٍ مكتوم ،بدأت تستغيث
أخضر لونه ،أعمدة
ّ األولى مجددًا ،حتى الشجر اليابس
اإلنارة تقف ،ولمباتها ترتعش ،وكأنها تساند خوفها ،كل
الشبابيك مكتظة باألشخاص وينظرون لها في صمت ،تجمّع
حولها السحرة ووقف الناس أمام بيوتهم يتابعون المشهد،
وال أحد تجرأ في المشاركة في إنقاذها ،انهال عليها
السحرة بالضرب ،حتى سال دمها ،سحبها أحدهم وهي
مغيّبة ،وأودعها غرفة مدثّرة بالظًلم ،توافد عليها
األشخاص ،وغمسوا أقًلمهم في دمائها ،وهي طريحة
األرض وكتبوا بعض الكلمات ،مزقوا جسدها بطعنا ٍ
ت
بخنجر كلمة شيطان ،لطخ ٍ صغيرة ،ورسموا على ظهرها
فستانها بدمائها صرخت وش ّكلت دموعها بحيرة صغيرة
بالقرب منها ،عند سماع صوت آذان الفجر تركوها ،ظلت
مغمضة العينين وهي ترتجف ،شعر ذراعها منتصب،
ودمائها ممزوجة بعرق الخوف ،تقول كلمات غير مفهومة،
تحاول أن تلتقط أنفاسها بدون جدوى ،بدأ لون وجهها يتبدل
للون األزرق ،توقف صدرها عن الحركة ،وبدأت تفقد القدرة
على التنفس .هنا ركض عثمان خارج الغرفة ،وأحضر كوبًا
من الماء ،سكبه على روفيدا فجأة شهقت وفتحت عينيها
بذهو ٍل .تحسّست يداها ،وجهها ،قدماها ،نظرت لكل الغرفة
وحدّثت نفسها "أال زلت هنا ولكن كيف؟!!"
معتذرا:
ً ً
خجًل ،وقال اقترب منها عثمان وهو
ـ أسف على ما حدث ،ولكني لم أخاف عليك من شياطين
الجن؛ خفت عليك من شياطين اإلنس.
بذعر:
ٍ ردّت روفيدا
111
نيكوابر
ـ عملتلي إيه؟ وإيه الّي أنا شفته ده؟
ـ لقد جعلتك ترين حلم يقظة ،وتنسجين بخيالك مخاوفك ،أنا
بك لهذا المكان يقتلني الشيطان ،ويإذيكي
ال أستطيع الذهاب ِ
البشر ،أنا أسف.
تناهى إلى سمعها أصوات مريبة وصراخ ،انكمشت جوار
مذعور ،اقترب منها عثمان وأخذ يهدأها:
ٍ الحائط كطفل
لك شيء ،لم تخرجي من
ـ ال تخافي يا خالة ،لم يحدث ِ
الغرفة.
أصابتها هيستيريا مما يقول عثمان ومما رأت ،ظلت تضحك
أكثر من ساعة.
قال لها عثمان :
ت بخير.
ـ قلت لكي ال ،وأصريتي يبدو إنك لس ِ
ـ بخير إيه بس ،أنا حاسة إني كنت في فيلم هاري بوتر،
وكنت هتسخط سحلية ،إيه الناس دي يا عثمان ،إيه إلّي احنا
بقينا فيه ده؟!
ـ هذه عًلمات البعد عن هللا يا خالة ،الكفر ملى البًلد.لقد
أقسم الشيطان أن يغوي بني آدم ،إال عباده هللا المخلصين،
"قَا َل فَ ِب ِع َّز ِتكَ َألغ ِو َينَّهم أَج َم ِعينَ " .من يبتعد عن ربه سيلقى
جزاءه.
ـ طيب لو كان ده حقيقي؟ وكانوا موتوني والبوليس مسكهم،
كان الشيطان هيخليهم يطلعوا براءة؟
ـ بالطبع ال ،فالساحر ما هو إال عبد للشيطان ،وال يستطيع
حتى الزواج إال بإذنه.
112
نيكوابر
ـ طيب ما تحكي قصة أبي هريرة بقى بالمرة.
ـ حسنًا .أتى للرسول أموال زكاة ،وقدي ًما تعلمين أنه لم يكن
هناك بنوك أو أي شيء ،فسأل الرسول من يحفظها عنده
فقال أبا هريرة أنا يا رسول هللا ،أخذها وظل بجوارها
يحرسها ،ولكن غلبه النعاس فنام ،وبعد نومه سمع صوت
وكأن أحدهم يسرق منها ،فاستيقظ ّ األموال ترتطم ببعضها،
ومسك السارق في ظلمة الليل وقال له ،تسرق أموال
المسلمين ،سآخذك إلى رسول هللا ،أخذ يبكي ويشتكي الفقر
والحاجة والعيال ،وحلف له أنه لن يأتي مرة أخرى فتركه،
بعد صًلة الفجر التقى رسول هللا بأبي هريرة فقال له" :ماذا
فعل أسيرك البارحة ،فقال له يارسول هللا حلف أنه لن يأتي
وشكى لي الفقر والحاجة ،فتركته فقال له الرسول كذبك
وسيعود" ..وبالليلة الثانية حدث نفس الشيء ،وحلف له
السارق مره أخرى ،أنه لن يعود ،وبالليلة الثالثة نفس
الشيء حدث فمسكه أبا هريرة ،فأخذ السارق يشكو له الفقر
والحاجة مرة أخرى ،فقال له ال هذه المرة الثالثة لن أتركك.
فلما علم السارق أنه مـأخوذ ال محالة ،فقال له يا أبا هريرة،
أتركني وسأعلمك كلمات ينفعك هللا بهن ،وأيام الرسول كانوا
أشد حرصًا للخير ،فقبل منه النصيحة مقابل تركه ..فقال له
السارق" :إذا أخذت مضجعك أي وضعت رأسك لتنام ،فأقرأ
آية الكرسي ،فإنه ينزل عليك من هللا حافظ ،حتى تصبح"
فأخذ يحدّث نفسه لربما صادق ،وقال حسنا سأتركه ،وباليوم
التالي سأله رسول هللا ماذا فعل أسيرك البارحة؟ فقصّ عليه
ما حدث وما قاله عن آية الكرسي ،فقال له الرسول ،صدقك
وهو كذووب ..ثم قال له أتدري من الذي كنت تتحدث معه
لمدة ثًلثة أيام وتأسره وتتركه .قال أبا هريرة :ال .فقال له
113
نيكوابر
الرسول إنه الشيطان ..فهمتي اآلن ما فوائد تلك اآلية؟ لو
استغفر الناس ،لما كان هناك حاجة لكل ما يفعلون ،ألم
غفَّ ً
ارا تقرأي قوله تعالى " :فَقلت استَغ ِفروا َربَّكم إِنَّه كَانَ َ
ارا". علَيكم ِمد َر ً س ِل ال َّ
س َما َء َ ( )12ير ِ
بعد هذا الشرح الطويل ،صمت عثمان لبرهةٍ ،وأكمل:
ـ الفجر أذن منذ فترة ،هيا بنا نصلي.
ذهبت روفيدا وتوضأت لتصلي معهم ،بدأت تصلي ولكن أين
تركيزها ،ظلت شاردة تتذكر ما حدث ،تستعيذ بالشيطان
وأخيرا استطاعت أن تخرج تلك األفكار من رأسها
ً وتكمل،
وأتمت الصًلة بذهن صافي ،شعرت براح ٍة نفسية كبيرة بعد
انتهاءها ،زال بعض الرعب الذي دخل في قلبها .عند
رجوعها للغرفة اقترب منها عثمان ً
قائًل:
ـ خالة ،هل أصبحتي بخير؟
سكتت لحظة ثم عادت لتقول له بصوت هادئ:
ـ الحمد هلل ياعثمان.
اقترب عثمان من رأسها وحك جسده بها ثم أردف:
ـ أيمكنني أن أخبرك شيء وال تغضبي مني؟
ناظرا
ً أومأت رأسها باإليجاب في انتظار حديثه .وقف أمامها
لألرض بخجل ثم استرسل في الحديث:
ـ أمي كانت معنا بالغرفة وهي من كانت تخبرني بكل شيء،
فأنا الزلت صغير وليس عندي هذا القدر من المعلومات،
طلبت مساعدتها وأتت ولكنها لم تظهر حتى تتحدثي
114
نيكوابر
وتسألينني عما تريدين دون خجل ،أردت فقط أن أخبرك حتى
عليك بشيء.
ِ ال أكون كذبت
بعد انتهاءه من الحديث جذبته من يده ثم داعبته من رأسه
وقبلته ،ابتعد بهدوء بعدها لركن الغرفة واستلقى على ظهره
واستعد للنوم ،ولكن روفيدا لم تستطع النوم ،جلست تراقب
الظًلم ليبتعد وتتمنى أن تسدل الشمس ستارها ،الوقت ال
يمضي كسلحفاة مقلوبة على ظهرها وال تجيد الحراك،
نوم عميق ،لف ساقه حول رأسه ،وحنى عثمان غاص في ٍ
رأسه بطريق ٍة جميلةٍ ،أخذت تراقب نومه ،وصوت الحشرجة
الذي يصدر منه كالشخير ،يرمش بعينه كل فترة وهو فاتح
فمه ،تهمس له وتنادي ،فقد ملّت ولكنها تناديه دون صو ٍ
ت.
الضباب مأل السماء ،وحاوط بأبخرته الطرق والبيوت،
سمعت روفيدا صوت طرق على الشباك ،فاقتربت ودقات
قلبها تصدر نداءها لعثمان ،الذي لم يسمع شيء وال زال
نائ ًما .عقلها يراودها باألفكار ،يا هل ترى السحرة أتوا هذه
المرة حقيقة ،ليكملون طقوسهم عليها ،ويتحقق ذلك
الكابوس؟ أم حرامي؟ ولكن ما الذي سيجنيه سارق من هذا
الخراب؟
ال زالت السماء قاتمة ،وال تظن أن حاتم سيأتي بهذا الوقت.
سمعت صوت غناء ،فوضعت أذنيها علي الحائط ،فإذا
ت ير ّج الحائط.
بصو ٍ
ـ يا حلو صبّح يا حلو طل ..يا حلو صبّح نهارنا فل.
دبَّ بقلبها الفرح ،وقالت بسرها حااااتم ،فتحت الشباك فجأة،
ففزع عثمان ووقف يلهث ،أخرجت رأسها من الشباك ،وهي
115
نيكوابر
حجر
ٍ تبحث عن مصدر الصوت ،فوجدت حاتم يقف علي
ب ،ويكمل غناء وهو يشيح بجناحيه ويجهر بصوته:
قري ٍ
ـ من أد إيه وأنا بستناك ،وعيني ع الباب والشباك ،علشان
أقولك وأترجاااك يا حلو يا حلو ..ياااا يا حلو صبّح.
وقفت روفيدا تراقبه وال تنبس بكلمة ،كل ما تريده هو أن
تقفز وتعتلي ظهره ،لتعود للبيت مر ٍة أخري ،طار حاتم بالجو
ووقف علي الشباك بجوارها ،أخذ ينظر لها وهي صامتة،
كان يظن أن ما بها بسبب كذبه ،وعدم قول حقيقة بيت أخته،
حاول تلطيف الجو ،فأكمل األغنية وهو يرفع وجهها بجناحه
ً ،
قائًل:
ـ يا عيني مال الجميل مشغول ومتحير ،أولي له بدري عليك
الحيرة يا صغير ،وحق ورد الخدود والعود وتفاحه ببسمة
حلوة تخلي الدنيا تتغير ،يااااااااااااااا فيفي يا حلوه ياااا بنت
سنية.
ال زالت روفيدا صامتة ،أقترب برأسه من أذنها ،وقال:
ـ مالك يا قمر متنحة ليه كده؟ أديني أتعلمت األغاني وبردوا
مفيش نتيجه أعمل إيه تاني بقي؟
قالت له بحزن:
ـ متعملش حاجة ..رجعني البيت.
ـ مش هتروحي لوحيد؟
تذكرت كلمات عثمان عنه ،وقررت أال تجعله يتدخل بحياتها
لثوان ،تذكرت ذلك المشهد الذي رأته عن
ٍ بعد اليوم ،شردت
السحرة ،تحسست جسدها المصاب بالعطب والوجع من
116
نيكوابر
محاوالتها الهرب بذلك الكابوس اللعين .التفتت روفيدا إلي
حاتم ،قائلة:
ـ يوم تاني علشان ما ينفعش أروحله دلوقتى الجو لسه
مضلم.
هنا نظر حاتم لها بدهشة ولكنه أستسلم لطلبها وأردف:
ـ طيب براحتك.
ثم تجول بنظره ألرضية الغرفة فوجد عثمان ينظر له
ويضحك ،ما إن رآه حتى صدم من المفاجأة ،فتح فمه
وبرقت عيناه ،فقال له عثمان ساخرا ً:
ـ كيف حالك يا تيمو.
ردّ حاتم ساخطا ً:
ـ تيمووووو!! حتي دي عرفتها.
تثاءب عثمان ووضع يده علي فمه وهو يجيب:
علي شيء ،ولكنه إختيار موفق ،يليق بك
ّ ـ نعم ..أنا ال يخفي
يا خال.
كانت روفيدا تراقب ردود أفعالهم وتضحك .سأل حاتم
عثمان:
ـ واد إنت ،مش كنت عند بيت أهل أبوك إمبارح ،إيه إلّي
جابك؟ أنا لو كنت أعرف إنك هنا ماكنتش سبتها معاكم.
ـ نعم ،لقد كنت هناك ،ولكني أتيت بالمساء ،ألن أبي كلف
بعم ٍل ما ،والبد أن يكون بالبيت رجل ولهذا أرسل لي
فحضرت ،مفاجأة جميلة أليس كذالك؟
117
نيكوابر
ـ امممممم مفاجأة لذيذة ياخويا ،أمك فين ياض؟
تثاءب مجددا وأردف:
ـ نائمة.
أطمئن حاتم بسبب نوم أخته وقفز من الشباك ليصبح أمام
عثمان ،أحتضنه وهو ينظر لروفيدا ويقول:
ـ بس إنت وحشتني أوي يا عثمان ،الساعات إلّي فاتت دي
عدت عليا سنين ،ما تجيب بوسة لخالك يا عثمان ،كان
يحتضن عثمان ويقبّله ويغمز لها.
بضيق:
ٍ دفعه عثمان بعيدا ً عنه ،وقال له
ـ يا خااال يا ااخال ،ال أحب أن أكون كوبري ..تهذّب.
ـ بتقول لخالك تهذّب يا عثمان ،وهللا هزلت يا ولد ،ده انت
من كام سنة كنت بتعملها علي روحك.
ـ وأنت أي ً
ضا ،لم تفطم إال وأنت بآخر سنة دراسية لك.
إنفجرت روفيدا من الضحك ،ضرب حاتم عثمان علي رأسه،
وقال:
ـ كده تفضحني قدام زوجتي المستقبلية ،وهللا ألوريك.
وأخذ يركض خلفه في الغرفة ،وعثمان يصرخ حتى وصل
لروفيدا ،واختبأ تحت أقدامها .رفعت روفيدا يدها في وجه
حاتم ،وقالت:
ـ هو كده بقي في حمايتي ،لو لمسته هزعلك.
جلس حاتم علي األرض ،ووضع ساق علي ساق ،وقال:
118
نيكوابر
ـ هللا هللا ،وكمان بتردي علي جوزك ،كده كتيير يا فيفي،
أسيبك كام ساعة مع القرد ده يغيّر أحوالك كده!
صمتت روفيدا لبرهةٍ ،وقالت:
ـ طول ما إحنا بعيد عن ربنا ،بتكون زي الغريب إلّي مش
القي وطن ،وأنا لقيت طريقي خًلص ،ممكن ترجعني بيتي
بقي ،علشان فيه حاجات كتير الزم أعملها.
أنتفض حاتم واقفاً ،ودبَّ به الخوف والفزع ولكنه لم يجعلها
تشعر بهذا؛ خرج من الشباك ووقف ينتظرها بالخارج وبعد
دقائق خرجت وعثمان علي يدها .قال لها صارخا ً:
ـ رايح فين ده؟
ـ جاي معايا.
ـ جاي معاكي فين؟ ال طبعاً ،أمه مش هتوافق وأنا لو حصله
حاجة ماليش دعوة.
ـ أنا إستأذنتها ووافقت وهو ملزوم مني ،إلّي هيكون عليك
إنك هترجعه بسّ ،
ياال بقي.
إنكمش عثمان بين أحضان روفيدا ،عندما صرخ به حاتم،
وأخذ يصدر مواء هادئ ،أستسلم حاتم إللحاحها ،وهو في
حالة غضب لم تراها من قبل ،اعتلوا ظهر نيكوبار والصمت
رابعهم ،دقائق ووصلوا البيت.
***
119
نيكوابر
فستان العشرينات
121
نيكوابر
ـ وهللا ألوريك يا غراب الكلب ،أنت من ساعة ما شفتك
والبيت منحوس.
حاتم يركض ويولولول وال أحد يسمعه سوي روفيدا.
ـ يالهووي يا فيفي يالهووي ،أبوكي جاله عمي ألوان
مفكرني غراب ،يااختاااي.
قذفه والدها بالشبشب ،فصرخ:
ـ ااااااااااااااه الهي تتشك في مناخيرك يا بعيد ،الولية حامل.
ثم نظر لروفيدا وأكمل:
ـ ما تحوشي الراجل ده بدل ما انت واقفة متسمرة كده ،أنا
ماضي علي تعهد مع جوزها ،لو جرالها حاجة هروح في
داهية يا فيفي ،أبوكي إتجنن يا فيفي.
حاولت روفيدا أن تهدأ والدها ،فقالت:
ـ غراب إيه يابا ،دي حمامة ،وبعدين عملت إيه عشان
تضربها كده.
صرخ بها والداها:
ـ أتكتمي يابت إنتِ ،وأدخلي أوضتك أنا مش طايق أشوفك
قدامي ،بسبب إلّي عملتيه إمبارح.
تم ّكن حاتم من الهرب ،وعاد والدها لغرفته بعد أن رمقها
بنظر ٍة حادة .كانت والدتها قد إستيقظت ،ونظرت لها هي
أيضا ً ولم تتحدث ،وتركتها ودخلت لتغسل وجهها ،شعرت
روفيدا بفضو ٍل قات ٍل ،فدخلت لعثمان الذي إختبأ تحت السرير،
ونادته قائلة:
121
نيكوابر
ـ عثمااان ،شكل خالك عمل بلوه إمبارح ،وأنا عايزة أعرف
حصل إيه؟
أخرج عثمان رأسه من تحت السرير ث ّم قال:
ـ ال أعرف ما الذي حدث.
داعبت رأسه بأصابعها ،وح ّكت له ذقنه ،فهي تعلم أن القطط
تحب هذه الحركة ،ثم قالت له بدال ٍل:
ـ طيب ما تحاول تعرف.
ـ إذا حاولت ،البد أن أتحدث مع قرين والدك أو والدتك ،وهم
من الشياطين ،وأنا ال أريد أن أختلط بهم ،إنسي األمر سنعلم
الحقا ً.
جلست علي األرض مسندة ظهرها إلي الحائط ،ونظرت له
قائلة:
ـ طيب ما هما لو فضلوا زعًلنين كده ،مش هيدوني فلوس
ومش هعرف أجيبلك الحاجات إلّي وعدتك بيها.
أردف:
َ صمت عثمان لبعض الوقت ،ث َّم
ـ حسنًا ..سأحاول.
دخل عثمان تحت السرير مجددًا ،وبعد بره ٍة سمعت روفيدا
صوت ضحكاته:
ـ هههههه أحقا ً فعل هذا !! هههههه وماذا أي ً
ضا ،ههههههه
خالي هذا رهيب ،هيا أكمل.
الفضول يأكل روفيدا ،تريد أن تسحب عثمان من ذيله،
لتعرف ما حدث ،دقائق وخرج لها وهو في هستريا ضحك،
122
نيكوابر
نظر لها طويًلً وضحك مجددا ً .عقدت ذراعيها أمام صدرها
وهي تنظر له بغضب ،فقال:
ـ أتدرين ما الذي فعلتيه البارحة.
ـ أنا؟!
ت
ت تعلمين أن خالي إحتل جسدك ،وكان هو أن ِ نعم ،فأن ِ
البارحة ،مبارك علينا الطرد من البيت.
ـ إيه!! طرد.
نعم لقد ضربتي خطيبك ،وسكبتي الشربات علي مًلبس
ت فوق والدك وهذا باإلضافة إلّي حماتك ،وتعثرتي وسقط ِ
مًلبس جدتك التي إرتديتيها.
ـ أنا مش فاهمة حاجة ،إيه إلّي بتقول عليه ده كله؟ وشربات
إيه وحماتي إيه؟
حماك مريض ،وأراد أن
ِ ـ لقد أشهروا زواجك البارحة ،ألن
يطمئن علي إبنه قبل أن يحدث له شيء ،فتجمعت العائلتان
وفضحتيهم.
لعثمان غير مستوعبة لما يقول ،فتبسّم لها
ٍ نظرت روفيدا
وأكمل:
ـ أعلم بأن هذا كأنه وقت سرق من عمرك ،وهذا ما سيحدث
إن جعلتيه يأخذ مكانك ثانية ،ستكونين كمن في إغماءة
وإستيقظ فجأة ،تعالي سأجعلك ترين كل شيء ..أطفئي
الضوء وإستلقي علي السرير.
فعلت روفيدا ما قاله عثمان ،وأغمضت عينيها.
123
نيكوابر
فًلش باااك..
صوت طرق علي الباب ،والدتها دخلت سريعًا..
ـ روفيدا أهل خطيبك بعتوا عايزين يكتبوا الكتاب النهاردة،
حماك تعبان خالص وخايف يموت قبل ما يطمن علي ِ علشان
محمد.
روفيدا "تيمو" تجلس علي طرف السرير ،وهي تهز
بتوتر ،ث َّم قالت:
ٍ منكبيها
ياال مع السًلمة ،وبعدين أنا مالي بس يا خسارةـ ما يموتّ ،
حماتي إلّي مش طيقاها دي مش تحصله هي كمان عشان
أرتاح.
صرخت والدتها بها:
ياال قومي إلبسي وإتعدلي شويةـ إيه الكًلم إلّي بتقوليه دهّ ،
ت فعًلً
في كًلمك ،يا إما هقول ألبوكي كل إلي قولتيه ،ده أن ِ
ت عايزة واحد زي أبوكي مش حماكي الطيب. كن ِ
أغلقت الباب بقوة خلفها وتركتها لتجهز.
بألوان ذهبية
ٍ أخرج "تيمو" فستان زفاف جدتها المزكرش
وورود ،فستان قصير جدا ً من األمام وطويل من الخلف،
الكتفين عليهم وردتين كبيرتين مع "طرحة" قصيرة جداً،
وعليها عصفورة حمراء وريش كثيف .زين وجهها بإصبعين
من "الروج السحري" ،الذي مهما فعلت به لن يخرج من
شفاهها ،كيلو بودرة علي الوجه ،الكحل بالعينين كنفرتيتي
بعد التعديل؛ التي تقف بمدخل مدينة سمالوط بالمنيا .وها قد
جهزت روفيدا المسجونة بذلك الجسد ،خرجت تتبختر
كخطوات محمد سعد بفيلم "كركر" .فتحت باب غرفتها
124
نيكوابر
وجدت الصالة مليئة باألشخاص ،وضعت الطرحة علي
وجهها ،وأزاحتها فجأة قائلة:
ـ طاطاطاطا ..إيه رأيكم فيا بقي ،برجعلكم الزمن الجميل في
العشرينات.
صعق أهلها من شكلها ،وسقط بعض األشخاص علي األرض
من كثرة الضحك ،إنتفضت والدتها وأخدتها من يدها ودفعتها
داخل غرفتها ،وإنهالت عليها بالتوبيخ:
ـ أنتي هتموتيني ناقصة عمر ،إيه إلّي بتعمليه ده عايزة
تفضحينا.
ـ دفعها "تيمو" بعيداً ،وقال:
ـ إيدك بس كدا أحاجة ،هو ده مش فستان أمك إلّي كل فترة
علي إلّي قلت أفكرك
َّ تاخديه في حضنك ،وهاتك ياعياط الحق
بيها.
ب:
ضغطت والدتها علي أسنانها بغض ٍ
ـ مش عايزة أفتكرها يا ختي ،إتنيلي إلبسي حاجة عدلة
وإطلعي ،وال أقولك أنا هطلعلك مش ناقصة مصايب.
فتحت والدتها الدوالب ،وأخرجت فستان لونه وردي،
وأمسكت روفيدا من يدها وأزالت من علي جسدها المًلبس
الغريبة التي إرتدتها .وكل ما كان يفعله تيمو هو الضحك:
ـ هيهيهي عيب يااما ،طيب إطلعي بره ،مكسوفة أنا يا ولية
بس.
ـ إتكتمي يا بت وخلّي يومك يعدي.
125
نيكوابر
أمسكت والدتها منديل ،وحاولت مسح أحمر الشفاه ،ولكن
محاوالتها فشلت ،فوضعت علي وجهها علبة بودرة كاملة،
حتى تخفي لون اإلحمرار ،ومسحت الكحل،حاولت تخفيف ما
بوجهها والناتج كان لوحة فنية سقطت علي األرض أثناء
سكب الرسام األلوان بطريقة عشوائية علي أمل أن تباع
لوحته بمًليين.
خرجت من الغرفة خلف والدتها ،وجلست بالصالة مع
األقارب ،أرتفع صوت "الدي جي" باألغاني الدينية كعادة
أي عرس بأوله ،وبعد قليل جاء والدها وسألها عن رأيها
للمرة األخيرة ،لم تلبث أن ترد حتى خرج وأعلن موافقتها.
الزغاريد مألت البيت وبعد انتهاء المراسم خرج الجميع من
الغرفة وتركوها مع زوجها ،رآها محمد فصدم من شكلها،
ولكنه إبتلع ريقه وحاول أن يتجاهل األمر إقترب منها قائًلً:
ـ خًلص بقيتي مراتي ،ثم أمسك يدها وقبلها.
صفعه "تيمو" بنفس اليد ،وقال:
ـ إوعي تكون مفكر إنك علشان بقيت جوزي ،هسمحلك تعمل
حاجة مش مؤدبة معايا ،راجل قليل األدب.
نظر لها وهو يضع يده علي وجهه غير مصدق ،كظم غيظه
منها وهو يحاول أن يستوعب ما يحدث ،دخلت حماتها فجأة،
وخلفها والدتها وهي تحمل صينية الشربات علي يدها،
اقتربت روفيدا من أمها وأخذت تهمس لها وهي تأخذ منها
الشربات ،قائلة:
126
نيكوابر
ـ عنك يااما ،الليلة فرحي يعني أنا العروسة ،يعني الليلة هنا
وسرور ،يعني كل المعازيم تنط السور يعني إتكلي علي هللا
ّ
ياالاااا.
أمسكت صنية الشربات ،وقدّمت لحماتها كوبا ً وهي تنظر
لألرض بخج ٍل ،إرتعشت يدها فجأة فسقط الكوب علي مًلبس
حماتها ،انتفضت السيدة واقفة ،وهي تحاول تنظيف
مًلبسها ،وتيمو ينظر لها بشماتة .دخل أبو روفيدا ،بعدما
أبلغته أمها بما حدث ،عندما رآه "تيمو" تعثّر في الفستان
وسقط عليه .إنتفض أبوها واقفا ً ورفع يده ليضربها ،فأمسك
محمد يده ،وقال:
ـ من كام دقيقة كان ممكن تضربها ،بس هي بقت مراتي
يعني ماحدش يمد إيده عليها.
جثا محمد علي ركبتيه ،وساعدها على النهوض ،ث ّم
استأذنهم وأخذ والدته وعاد إلي البيت .طوال الطريق لم تكف
أمه علي توبيخه بسبب ما حدث وهو يبرر فعلته بأنه خاف
أن تحدث مشكلة وتتسبب في تدهور حالة والده ،وبعد جدال
طويل تقبلت ما حدث علي مضض .بيت روفيدا أصبح خاليا
من كل األشخاص ،دخل والدها عليها غرفتها ،ليكمل
توبيخه .فنظرت له قائلة:
ياال ياحاج إتكل علي هللا ،بدل ما أعضك من صرصور ودنك ـ ّ
أجيبلك تسمم حمل.
إستيقظت من الحلم فزعه علي صوت طلقا ٍ
ت نارية .انتفضت
وهي تسمع والدها يقول:
ـ نشن على إبن الكلب ده.
127
نيكوابر
ليضحك اآلخر ،ويقول:
ـ إذا سمعت صوت الغراب فتب ّ
شر بالخراب.
عثمان يقفز في الهواء ويحاول فتح الشباك ،نظرت له
ب ،وسألته قائلة:
روفيدا بإستغرا ٍ
ـ مالك يا عثمان؟
ـ خالي في خطر يا خالة ،فهذه الحمامة جسدها ثقيل ،ونحن
نكون ضعفاء عندما نتشكل ،أفتحي الشباك لندخله ونخبأه،
فهم يريدون قتله.
فجأة دوي صوت ارتطام ،نظروا للشباك وجدوا حاتم رأسه
ملتصق بالشباك ويخرج لسانه ،فتحت روفيدا الشباك فجأة،
فسقط بأرض الغرفة ،نظروا له وهو مستلقي ورأسه تحت
جسده ،وصدره يعلو ويهبط بسرعة ويسبّ والدها بكلما ٍ
ت
تكاد تكون مسموعة .حملته روفيدا ووضعته علي السرير،
نظر له عثمان مشفقًا ،ما إن أفاق مما هو به ،حت ّى قال:
ـ هللا يمسخك سحلية حولة يا أبو وحيد ،جاك جالوص طين يا
أخي.
ث ّم وضع جناحيه علي رأسه وقال:
ـ الراجل ده ما بيشوفش ما بيشوفش ،يا رب يجيله إسهال
وهو مسافر علي طريق مدة سفره ست ساعات هه بقي.
ضحكت روفيدا ،وقالت:
ـ تستاهل علشان إلّي عملته إمبارح ده ،المفروض يدبحك
ويعملك حمام بالفريك.
128
نيكوابر
ب ،وقال:
نظر حاتم لعثمان بغض ٍ
ـ طبعا ً المزغود الصغير عثمان هو إلّي قالك إلّي حصل ،وهو
علي كده ،بس تدري ليش بيعمل ّ كمان السبب إنك إتقلبتي
هيك.
وحركت
ّ هزت رأسها ضحك عثمان ونظر لروفيدا التي ّ
عينيها في إنتظار إجابته.
صرخ قائًلً:
ـ ألني ما ربيته ..ما ربيته.
إنفجر الجميع من الضحك ،وقال عثمان:
ـ أيمكننا أن ننام لبعض الوقت ،ثم تأفأف وهو يقول ،ليلة
أمس كانت مرهقة للغاية.
رد حاتم عليه:
ـ ناام ياخويا نام ..نوم الظالم عبادة.
ال تتحدث عن الظلم يا تيمو ،وإال سأخبرها عن زعلوطة التي
ترملت بسببك.
ـ أنا مالي هي إلي أعجبت بيا.
نظرت له روفيدا في دهشة ،وهي تردد االسم وتضحك:
ـ زعلوطة! بتخوني مع زعلوطة يا تيمو ياااللهول.
ـ نامي يا فيفي ناميّ ،
ياال إتخمدوا إنتوا اإلتنين.
129
نيكوابر
إستلقت روفيدا لتنام ،ووقف حاتم علي طرف سريرها علي
ساق واحدة ،وأدخل رأسه تحت جناحه .اقترب عثمان من ٍ
ّ
روفيدا ،ومد يده بهاتفها ،وهمس لها:
ـ ألن تتحدثين مع خطيبك؟ فهو أيضا ً لم ينم حتى اآلن ،ولكن
قلة نومه بسبب حزنه مما حدث.
تبسمت له روفيدا وأخذت الهاتف منه ،ونهضت بهدوءٍ من
فراشها ،حتى ال يراها حاتم ،وأخذت وجهتها لخارج البيت،
جلست تحت شجرة الصفصاف ،واتصلت به وقبل أن تنتهي
أول رنة سمعت صوته:
ـ إزيك ياروفيدا.
ـ امممم ،مادام ماقولتش فيفي يبقي لسه زعًلن مني ،أنا
عارفة إني زودتها إمبارح ،وأنا مش عارفة أعمل إيه
علشان أرضيك ،أنا أسفة يا محمد.
ـ ماحصلش حاجة.
ـ ال حصل وكتير قووي ،بس بجد أنا مش عارفة كان مالي،
يمكن من فرحتي كنت زي المجانين.
ت فرحانة؟
ت إمبارح كن ِ
ـ يعني إن ِ
ـ أيوه طبعاً ،مش بقيت مراتك.
ـ خاينة خاااااينة الزم تموتي تمووتي بووو بووو بووو.
هذا ما قاله حاتم عند سماعه لمكالمتها الهاتفية .وقفت
روفيدا تبحث عن مصدر الصوت ،وجدته يجلس فوق
الشجرة ويوجه جناحه كمسدس تجاهها .أصابها صداع
شديد ،وتركت الهاتف من يدها .ثم نظرت له ،قائلة:
131
نيكوابر
علي.
ـ إنت جيت إمتي هنا ،وكمان بتتريق ّ
ـ بتريق ،ده أنا هنفخك ،بتخونيني يا فيفي ماشي أنا لو شفتك
بتكلمي الواد ده تاني هزعلك وهزعله ،وقد زعتر من بعتر.
شعور غريب يتملكها ،وكأنه إنتزع وقت الصفاء الذي كان
بينها وبين خطيبها ،تريد أن تتحدث معه هو فقط تريد العودة
لغرفتها ،نظرت له بعد وهلةٍ ،وقالت:
ـ بتغير عليا؟
ـ أيوه طبعا ً بغير ،أنتي كل حاجة في دنيتي.
ـ يا سًلم.
ـ اه طبعاً ،حتي شوفي.
نظرت له ،وجدت صدره قد تشكل في شكل قلب ،وكأنه
ينبض .لم تلبث أن تتحدث ،صوت طلقة أوجع قلبها ،سقطت
علي األرض من هول الصدمة ،وجهها لطخ بالدماء التي
تسيل من رأس حاتم المتدلي من علي الشجرة ،إلتفتت
وأخذت تنظر لمن قتله بعدم إستيعاب ،وهو ينظر لها ضاحكاً،
وكأنه قد فاز في معركته .صوت مواء ،عثمان يصرخ وال
أحد يسمعه ،يريد تسلق الشجرة ،ولكنه ال يستطيع ،بدأ
ينادي علي حاتم ،وهو يقفز من علي األرض قائًلً:
ـ خااالي خاااالي ،ال تتركني وحدي ،خاالي ال تمت.
يبكي بحرق ٍة علي الدماء التي أصبحت بركة ،جلس قربها
وهو يضع يده علي وجهه غير مصدق .روفيدا دموعها
تسيل كمجري نهر ،ال تقوي علي صلب جسدها ،وكأنها قد
131
نيكوابر
أصيبت بشلل .إقترب الصائد من نيكوبار ،وأسقطها ببندقيته
ثم حملها ورماها علي عثمان ،وقال:
ـ ّ
ياال حًلل عليك ،أنا بصطاد الحمام للمتعة بس.
ثم نظر لروفيدا وأكمل:
ـ وإبقي قولي ألبوكي صبحي إيده ما تخيبش صيدة.
وتركهما ومضي .حاولت روفيدا أن تصل له ،مدت يدها
ولكن جسدها وكأنه مخدر .عثمان يضع رأسه علي جسد
نيكوبار ،ويحاول أن ينعش قلبها ،ولكن بدون جدوي ،فقد
شم الرأس تماماً ،إبتعد فجأة عن الحمامة ،وصرخ قائًلً:
ته َّ
ـ سأحرق بيوتكم كما حرقتم قلبي عليه ،سأجعل الحزن يدخل
قلوبكم دفعة واحدة.
ث َّم ركض وإختفي .روفيدا لسانها قد لجم ،تريد أن تنادي
تئن فقط ،تمكنت أخيرا ً من
عليه ،ولكن ال يصدر منها صوت ّ
سحب نيكوبار تجاهها ،أخذت تلمس ريشه وتضع يدها علي
قلبه ،وتحدثه وهي تجهش بالبكاء.
ـ سبتني ومشيت أنت كمان.
ـ الحقيني بمية سخنة ياختاااااااي.
انطلقت تلك العبارة من جسد نيكوبار ،انطلقت بصرخة جعلت
الخوف يسري في جسد روفيدا .إرتجفت ،نظرت له في
تهز نيكوبار بقوة وتضع يدها األخرى عليدهشةٍ ،وهي ّ
رأسها ،وتضغط علي جبهتها كثيرا ً غير مصدقه ما سمعته،
حتى سمعت الصوت مرة أخري.
132
نيكوابر
ـ بقولك قومي هاتي مية سخنة ،الولية بتولد يا فييفي ،أنا
حاتم يا حبيبتي ولسه عايش ،الحمد هلل إن الوحيدة إلّي بتحب
المغامرة كانت حامل ،كنت ذهبت بًل رجعة ،إستخبيت جوه
علي وما قدرتشّ البيضة بتاعتها لمّا إلّي يتشل في إيده نشن
أطير ّ
ياال قومي.
ضحكت روفيدا ،ودموع الحزن ال زالت تسقط من عينيها:
ـ يا خسارة الدموع إلّي نزلت مني عليك ،انت زي القطط
بميت روح.
قال حاتم بنبرات خافتة:
ـ ياأختي إعتبري نفسك غسلتي عينيكي.
بس أنا لوجيبت مية سخنة كده هسلقك ،وأنضف الريش..
المية للبني آدمين بس.
صمت حاتم لبرهة ،ث َّم أردف:
ـ اممممم عندك حق ،طيب المفروض أعمل إيه علشان أطلع،
ماذا نحن بفاعلون يا بنت سنية؟
قالت له وهي تتذكر صديقة قديمة لها:
ـ كنت مع واحدة صاحبتي مرة ،والوالدة كانت صعبة،
ومافيش طلق ،ركبولها محلول وحطولها فيه حقنة كده فيها
حرف السين ..أاااه "سنتيسينون".
ياال روحي هاتيلي أمبول عشر وحدات ،ودوريلي ـ طيب ّ
علي وريد حلو كده اااااااااااااااه يا دهوتي يادهوتي
ياااادهوتي.
133
نيكوابر
ـ مالك يا ابني؟
لفت انتباهها شيء أبيض صغير يتدحرج أمامها ،أطالت
النظر فوجدت بيضة تقفز علي األرض ،مسكتها بيدها وهي
تتأملها ،ثم سألته:
ـ إنت هتطلع من البيضة دي إزاي بقي؟
ـ أنا هفقس بعد أسبوعين ،يعني الزم أتدفي الفترة دي
إحضنيني يا فيفي.
قالت له ساخرة:
ـ حد قالك إن أطرافي ريش ،هعمل إيه في الحوسة دي يا
ربي ،وكمان إبن أختك إلّي إختفي ده.
ـ قلتلك بًلش ييجي معانا ،الواد ده دمه حامي وهيبهدلكم
الدنيا ،بس معلش هما أربعتاشر بيت بس إلّي هيتحرقوا
إبتداء باللي مابيخيبش صيده ده ..مااشي أصبحي أحبيب
قلبي.
همست روفيدا محدّثة نفسها:
ـ الناس بتصرف العفاريت وأنا جبتهم بيتي بنفسي ،هعمل
إيه في البلوة دي أنا الزم أستغل الفرصة.
أمسكت البيضة بين أصابعها وهي تتذكر كلمات عثمان ،ال
منك ستندمين ،وأخيرا ً جائتها فكرة وقالت:
تجعليه يتمكن ِ
ـ بص يا تيمو ،إنت دلوقتى روحك بين إيديا ،يعني ممكن
أرمي البيضة دي في حتة وهتموت ،وممكن أكسرها كمان،
بس أنا هنقذ حياتك وليا طلبين إيه رأيك؟
134
نيكوابر
رد حاتم ،ونبرته يغلّفها الحزن:
ـ كده يا فيفي ،بعد حبي ليكي وكل إلّي عملته.
ـ إنت ماعملتش حاجة غير إنك كنت عايز تأذيني ،دلوقتى
تعاهدني إني لو أنقذت حياتك تسيبني في حالي،
وماتتعرضليش وتخرج من بيتنا وترجع مملكتك تاني ،وده
أول طلب ،هااا أكمل وال مش موافق؟
صمت ولم يرد ،فوضعت البيضة قرب حائط ،ثم نهضت
مجددا ً وسارت بضع خطوات ،تدحرجت البيضة حتى وصلت
تحت أقدامها.
ـ موافق كملي.
قالت روفيدا سريعا ً:
ـ إتفقنا ،بس الزم تعاهدني ،قولي عهد من عهودكم.
َّ
وكأن أحدهم يرفع عليه صمت حاتم لوهلةٍ ،ثم قال لها
مسدس ليوقع علي عقد بيع ألمًلكه:
ـ طيب يا فيفي ..أعاهدك بالعهد الذي أخذه علينا سليمان ،أن
أبتعد عنك وأخرج من بيتك بًل رجعه تمام كده ،إيه هو
الطلب التاني؟
ـ إنك تجيب عثمان ،وماتخليهوش يحرق حاجة.
ـ أهو ده إلّي صعب بقي ،ألنّي مسجون هنا ومش هقدر
أوصله ،بس ممكن أفيدك في حاجات تانية.
ـ زي إيه؟
135
نيكوابر
ـ الناس هتتأكد إن في جن في المنطقة ،وده هيخليهم
يستعينوا بالشيوخ ،أنا ممكن أقولك مين من الناس دي
ساحر ومين منهم شيخ ،بس إتصرفي وحطيني في مكان
دلوقتى علشان البيضة تفقس.
تذكرت روفيدا والدتها ،عندما كان الدجاج يرفض أن يرقد
علي البيض كانت تحضر لمبة جاز وكرتونة صغيرة وتضع
البيض داخل تبن ،وتغطيه وبالفعل قامت بفعل هذا .بعد قرابة
الساعة سمعت صوت محمد ،كانت كل أبواب البيت مفتوحة،
وأبوها وأمها يجلسون أمام البيت ،سلم عليهم ورافقته أمها
للداخل ،كانت روفيدا تجلس بالصالة وبجوارها الكرتونة
التي تحتوي علي حاتم .تقدمت أمها بخطوات مرتبكة حتى
وصلت للبوتاجاز لتعد له الشاي متجاهله أبنتها ،تنظر لها
بين الفينة واألخرى نظرات خاطفة وتسترق السمع لتعلم ما
حدث وهذا ما يحدث دائ ًما في قطيعتها إلبنتها .صعق محمد
عندما رآها ،أمسك يدها وهو يسألها:
ـ إيه إلّي عورك كده.
ـ عورني؟! أنا مش متعورة.
ـ مش متعورة إزاي؟ أمال إيه الدم ده؟
ب وهو يتفحص وجهها .وضعت
كلمات قالها محمد بتعج ٍ
روفيدا يدها علي كتفه ،وقالت:
ـ هحكيلك علي كل حاجة.
جلس محمد بالقرب منها ،وأخرج منديله األبيض وبدأ ينظف
لها وجهها ،أخبرته بكل ما حدث وهو ينظر لها غير مصدق،
أردف:
َ وبعد انتهائها
136
نيكوابر
ـ فيفي أنا حاسس ان فيه حاجة غير كده مخبياها عليّا.
أطالت النظر لعينيه ،حتى يتأكد من صدق حديثها:
ـ أنا مش مخبية عليك حاجة ،وكل إلّي قولته حقيقي ،ولو
مش مصدقني هقولك حاجة تثبت ،عارف صبحي إبن عم
همام بتاع اللحمة؟
ـ أيوه عارفه ،ده صاحبي ..ماله؟
ـ بيته هيتحرق النهاردة ،لو جدع بقي خليه يلحق الحريقه
قبلها.
زام محمد مابين حاجبيه ،وهو يسألها:
ـ وإنتي إيه إلّي عرفك إنه أول واحد ،مش انتي بتقولي 11
بيت هيتحرقوا؟ إشمعني ده.
صمتت طويًلً ،فهي لم تخبره بحاتم المسجون داخل بيضة،
خافت أن يقتله ،كل ما قالته أن عثمان توّ عد بحرق البيوت
لمدة أسبوعين .بعد بره ٍة اهتدى تفكيرها لشيء:
ـ أصل هو إلّي قتله ،وأكيد هيكون أول حد ينتقموا منه،
عموما ً أنا قلتلك وده إلّي هيثبت كًلمي.
لم تلبث أن تنهي حديثها ،حتى سمعت صوت صفير "هذا ما
يحدث بالقرى لينّبه األهالي أن هناك حريق ببيت أحدهم"،
استرقت السمع وهي تسمع صوت خبط علي ميكرفون،
المسجد القريب ودقيقة وسمعت صوت شيخ المسجد.
ـ يا أهالي البلد الكرام ،فيه حريق في بيت الحاج همام إلّي
عنده أنبوبة يقفلها ،وإلّي عايز يروح يروح وربنا يقدركم
علي فعل الخير.
137
نيكوابر
َّ
وكأن نظرت له روفيدا ووجهها مغلّف بمسح ٍة من الحزن،
هذا ذنبها:
ـ شفت بقي يا محمد مش قلتلك؟
وضعت أمها الشاي بصمت فأعتذر عن تناوله وتركهما
وركض نحو بيت صبحي ،وقف يلهث وهو يرى األدخنة
تمأل السماء وجميع األهالي مجتمعين بالطريق ،بعد أن
التهمت النيران البيت بالكامل وخمدت وحدها ،صبحي يجلس
أمام البيت ويده علي رأسه غير مصدق ،أقترب منه محمد
وحاول أن يواسيه.
ـ قدر هللا وما شاء فعل يا صاحبي ربنا يعوضك ،الحمد هلل
إنها جات في شوية كراكيب.
ـ الحمد هلل يا محمد.
فسأله محمد بلؤم:
ـ أال صحيح إيه سبب الحريقة؟
ـ ما فيش حاجة حصلت لوحدها كده.
ـ طيب ماحصلش حاجة غريبة قبلها؟
جذبه صبحي من يده وذهب به بعيدًا عن الناس ،وقال له
سا:
هام ً
ـ أنا حاسس إني إتجننت يا محمد ،فيه قط شكله غريب كده
قرب مني وقاللي قبل الحريق .إنت حرقت قلبي ،وأنا هحرقّ
قلبك هع هع هع ،أه وهللا ،وضحك بالطريقة دي ،فكرت ده
من قلة النوم ومالحقتش أخش البيت إال وحصل إلّي حصل.
138
نيكوابر
وقتها تأكد محمد مما قالته روفيدا ،وحاول أن يستغل
الموقف .قال لصبحي بتأنيب:
ـ يبقي أنت أذيت جن ،وهينتقم منك ومن البلد كلها ،إحنا الزم
نتصرف ونجيب شيخ يقرأ في البيوت القريبه منك قرآن
والناس تحصّن نفسها.
ـ الساعة عشرة ،وبعدين إيه موضوع الجن ده إنت عارف
إني بخاف من الحاجات دي وما بحبش سيرتها.
ـ طيب تفسر إلّي حصل ده بإيه؟
ـ مش عارف يا محمد.
مسكه محمد من كتفه وهزه هزة خفيفة ،وهو يسأله:
ـ هي الساعة كام دلوقتى؟؟
ـ الساعة عشرة.
زفر محمد بضيق ،وقال:
ـ يبقي فيه كل يوم بيت هيتحرق فى الوقت ده ،الزم نعمل
حسابنا .تعالى بقي قولّي مين أكتر بيت مش ملتزم جنبك،
صنفلي الناس األوحش فاألقل.
قال له صبحي ضاحكا ً:
ـ يا محمد المنطقة كلها مستودع شياطين ،ضحكتني وأنا في
بلوة.
ـ يعني إيه؟؟
ـ هبسطهالك ،ده زي المثل إلّي بيقول من بره هًلااا هًلاا
ومن جوه يعلم هللا ،أنا بحكم شغلي في الجزارة مع أبويا وفي
139
نيكوابر
األرض بتاعتنا مصاحب البلد كلها ،وممكن أقولك كل واحد
وواحدة بيعملوا إيه.
أردف محمد في إرتياب:
ـ شكل قعدتنا هتطول.
ثم جلس بجوار صبحي الذي أخذ يقص عليه حكاوي وأسرار
البيوت ،أشار له علي بيت امرأة زوجها توفي منذ أعوام،
ولها أطفال يتامى ينعتها بالفاجرة ،يسبها ويقول لعنة هللا
عليها تخرج وتترك أطفالها وحدهم ،وتأتي بعد منتصف الليل
غير أن هناك رجل يدخل بيتها مرتين باألسبوع غير مبالية
أن هذا سيكون أول بيت بحديث الناس عليها ،من المؤكد ّ
يحرق بهذه المنطقة ،وهذا البيت به شيخ صالح ،ولكن ابنه
فاسق يشرب الحشيش ويسبّ الدين دائماً ،وسرق عقد
والدته أثناء نومها ،وانهال عليها ضربا ً عندما حاولت منعه،
لتاجر يبيع
ٍ غير بار بوالديه ،سجل عندك الرقم .وهذا البيت
بميزان تالف ،وتطاول في بنيانه من سرقة الناس، ٍ الناس
وهذا البيت لرجل زير نساء وهذا البيت لــ....
ـ كفاية ياصاحبي.
قالها محمد هذه العبارة بعد أن وضع يده علي فم صبحي
ليصمت .أبعد صبحي يد محمد من علي فمه ،وقال لها
ضاحكا ً:
ـ ليه يا عم إتصدمت وال إيه؟
ـ ال بس شوف رحمة ربنا علينا ،إزاي ساترنا وسايبنا
نعصيه وفاتح باب التوبة في أي وقت ،بقولك إيه أنا مروح
دع الخلق للخالق.
141
نيكوابر
مشي محمد وهو يضرب كف علي كف .روفيدا تجلس أمام
البيت صامتة تنتظره ،لمحته من بعيد فهرولت تجاهه لتعلم
منه ما حدث:
ـ عملت إيه يا محمد؟
ـ البلد شكلها هتولع كلها ،مش عارف أحدد البيوت إلّي
عليها الدور ،علشان نلحقها وال عارف أتصرف.
أطرقت روفيدا مفكره ثم صاحت:
ـ لقيت حل.
ـ إيه هو؟
ـ فاكر موضوع السلعوة إلّي بيتنشر كل فترة ده؟ الناس بتقعد
في بيوتها مرعوبة ،إحنا ممكن نستغله ونقول أنها هي إلّي
بتولّع البيوت ،والزم الناس تشغل قرآن بقي وكده علشان
هي كانت هتموت واحد وإعترفتله إنها جنية وربنا نجّاه،
الكل بقي هياخد حذره إيه رأيك؟
ـ برافو عليكي يا فيفي ،بس الزم علشان الموضوع يتم
نخوف الناس ،ونخلي السلعوة تظهر.
ثم صمت قليًلً وأرف:
ـ أنا هجيب التوكتوك بتاع الواد سًلمة ،وإحنا عندنا في
البيت جلد معزة سودة نربطه ونرن الجرس علي الناس
بالليل ،ونقف بعيد بأتنين ليزر ونزغلل عنيهم.
***
141
نيكوابر
صدر صوت من أحد الجالسين ،وقال وهو يعلي وتيرة
صوته:
ـ ال ال ال ،ثواني بقي يا دكتورة ،روفيدا وسعت الحكاية كده.
قلت له بضيق:
ـ يعني إنت جاي بعد ما قربت أخلص وتقولي وسعتها،
وسايب المشاوير إلّي عماله تقضيها بالطيران والبيضة إلّي
هتفقس كمان أسبوعين ،وبتحتج علي السلعوة.
ثم نظرت للطًلب موجهة كًلمي لهم:
ـ لو مش حابين نكمل ممكن نقف هنا؟
قال الجميع بصوت واحد:
ـ كملي يا دكتورة.
مشيت ذهابًا وإيابًا وأنا أكمل.
***
"اللسان ال يوجد به سكين ولكنه يذبح.أحذر من تفوهك بما
ال تعلم لربما يفتح جر ًحا بقلب أحدهم وأنت ال تدري"
تغيّرت حياة روفيدا الرتيبة المملة ،لتصبح فجأة حياة مليئة
باألحداث ،بدأت الترتيبات ليجعلوا القرية كلها تفزع وتلجأ
للقرآن ،ساعد صبحي محمد ورفيدا بالخطة ،وسًلمة يعشق
المقالب إنقاد معهم وهو اليفهم شىيئ ًا بالموضوع ،سوي أنها
خدعة ليضحكوا الناس ،عندما دقت الساعة الثانية عشر بعد
منتصف الليل في هذا اليوم ،تسللت روفيدا من الشباك
وخرجت بخفه متجهه إلى توكتوك سًلمة الذي يقف قرب
142
نيكوابر
بيتهم .بعد دقائق وصلوا عند بيت السيدة التي تربي أيتام،
طرقوا الباب فخرجت السيدة لتري من الطارق.
وقف محمد من بعيد ،وهو بهيئة العنزة السوداء ،وصبحي
وسًلمة يقلدون صوت السلعوة ،ويسلّطون الليزر بأعين
لثوان حتى سقطت علي األرض،ٍ السيدة .لم تلبث الوقوف
أبنتها سمعت صوت ارتطامها فخرجت تصرخ ،عندما رأت
أمها علي فاقدة للوعي حاولت أن تحملها وتدخلها البيت
ولكن جسدها الصغير لم يقوي .قالت روفيدا لصبحي:
ـ يا لهووي ..الست أغمي عليها الزم نساعدها.
رد عليها ساخطا ً:
ـ ال مش هينفع نروح هناك ،البيت ده مشبوه وسمعتنا ممكن
تروح في الرجلين كده.
نزلت روفيدا من التوكتوك ،غير مكترثة لشيء وركضت نحو
السيدة ،ضمت طفلتها وسألتها عما حدث فقالت لها أن
والدتها تعاني من حمي ،وكانت ترتجف منذ قليل ،وضعت
روفيدا يد السيدة علي كتفها وساعدتها ،حتى دخلت البيت،
ث َّم خرجت سريعا ً متجهة إلى محمد ،وطلبت منه أن يحضر
طبيب الوحدة .صبحي يتذمر مما حدث ،ويدعو عليها،
ويقول أن هذا جزاء ما تفعله ويريد منع محمد من الذهاب،
ولكن بعد محايًلت روفيدا ذهب وأحضر الطبيب .بعد الكشف
سأل الطبيب السيدة عما حدث ،فنظرت لكل من يقف في
خج ٍل ،ثم قالت:
ـ أنا بقالي كام يوم تعبانة ،بس كنت في سفر النهاردة
وماقدرتش ماروحش.
143
نيكوابر
ساخرا:
ً نظر لها صبحي ،وقال
ـ اااه ،سفر إيه بقي ،وإيه إلّي تاعبك يا أم اليتامى وجابرك
تسيبي عيالك وتسافري.
لكزه محمد فصمت ،نظر لها الطبيب أن تكمل ،فواصلت
حديثها قائلة:
ـ أنا بروح السوق الكبير في دسوق ،أجمع جبنة وبيض من
الفًلحين ،وبروح أوديهم إسكندرية لتجار ،وما عنديش
تًلجة علشان أشيلهم فيها ،خفت يبوظوا فكان الزم أروح
أبيعهم.
قبل أن تنهي حديثها ،دخل طفل في التاسعة من عمره ،وهو
يحبو كطفل رضيع ،أقترب من السرير واعتًله في قفزة
واحد ٍة وأحتضن والدته .نظر صبحي لها في دهشة ،وقال:
ـ إبنك ده مش كان كويس ،وبيمشي علي رجله.
ردّت السيدة ،وهي تجهش بالبكاء:
ـ جاله دور سخونية بعد موت أبوه ،جريت بيه علي
الدكاترة ،أخد حقنة غلط عملت فيه كده.
ـ ومين إلّي بييجي مرتين في األسبوع ليكي ده؟
ـ الشيخ رائد جزاه هللا خير ،بييجي يحفظه قرآن.
تأفأف الطبيب ،ثم قال له في غضب:
ـ فيه إيه ياأستاذ ،ده ماكانش كشف ده ،إنت وكيل نيابة وال
إيه ،ثم مد يده بورقة العًلج الذي أخذها محمد سريعاً،
وخرج ولم ينبس بكلمة.
144
نيكوابر
ركب التوكتوك مع سًلمة ،وطلب منه أن يقله ألقرب
صيدلية ،وبعد برهة أقترب من أذن سًلمة ،وقال:
ـ بقولك إيه ياض يا سولم.
مال سًلمة بعنقه للخلف ،وهو يقول:
ـ إيه يا سعادة البيه الباش مهندس.
ـ عندك أغنية ليه كل الناس بتتكلم علي كل الناس؟
ضحك سًلمة من طلبه ،وقال له:
ـ ال بس عندي أغنية أحلي منها.
أراح محمد ظهره للكرسي مجددًا ،وهو يقول:
ـ سمعني.
بدأت األغنية بصوت الدفوف ،وبعد دقيقة بدأت الكلمات.
"تتن تتن تتتتتان..
جاي يفضحني يحرق دمه ،الفضيحة لفت لزقت في أمه..
أمه أمه أمه أمه..
جاي يعايرني أبو دم خفيف ،أخته إتطلقت وأدي وش
الضيف..
الضيف الضيف الضيف..
يهزأني ويقول أنا مجنون ،وأبوه أصًلً كان رد سجون..
جاي ّ
مسجون مسجون مسجون مسجون..
جاي يدحرج التماسي ،الصيدلية أهي شكلك ناسي..
145
نيكوابر
ناسي ناسي ناسي نااسي..
قال سًلمه أخر مقطع من وحي خياله بعد أن ألتفت لمحمد
وهو يشير علي الصيدلية .انفجر محمد ضاحكاً ،وخبط
سًلمة خبطة مزاح علي رأسه ،وهو يتأهب للنزول:
ـ وهللا أنت نكتة ياواد يا سولم ،دقيقتين وراجع.
أحضر العًلج وعاد مجدداً ،وهو يصفق مع سًلمة
بالتوكتوك علي أغانيه الغريبة .دلف محمد داخل بيت
السيدة ،وأعطي الطبيب العًلج الذي طلبه ،بعد انتهائهم
خرج صبحي وهو مطأطأ رأسه ،أقترب منه محمد ،فقال له
خجًلً:
ـ عارف يا محمد أنا ما زعلتش علي بيتي إلّي إتحرق ،علي
قد ما زعلت علي الست دي ،إبنها جاب المصحف وقعد
يقرالها قرآن بصوت مش ممكن تتخيل إنه يطلع من طفل،
خًلنا بكينا كلنا ،إلّي كنت مفكره بيت مش كويس طلع أحسن ّ
بيت ،أنا كنت فاكر إن بيت المعلم بسيوني بس إلّي مش
هيتحرق ،ألن مراته ونعم الست مش بتخرج من البيت ،وال
الشارع بيشوفها ،شكل البيتين دول إلّي مش هيتحرقوا.
رد عليه سًلمة:
ـ بًلش إنت تتكلم حياااة عيالك ،وحرايق إيه وبتاع إيه،
خلينا نروح بدل ما حد يشوفنا ويف ّكرنا بنسرق البهايم بتاعة
الناس.
ركب الجميع التوكتوك ،وأوصلهم سًلمة لبيوتهم وعاد إلي
بيته ،وقف محمد أمام شباك روفيدا ،بعد أن أدخلها منه
ً
طويًل: وتأكد أنه لم يراها أحد من أهلها ،وأخذ ينظر لها
146
نيكوابر
قالت له روفيدا هامسة:
ـ ّ
ياال بقي روح ،علشان ما حدش يشوفك.
ـ يعني أطلع أتف في وشه دلوقتي ده ،كل ده علشان أنا
محبوس طيب ماشي بكرة أعرفه.
ضحكت روفيدا علي حاتم الذي يسترق السمع ويسب محمد،
ثم لوحت لمحمد من بعيد وأغلقت الشباك علي عجل ونظرت
جهة الكرتونة وأخذت تتحدث مع حاتم:
ـ إزيك يا تيمو ياسبب المصايب ،وبعدين إنت مش عاهدتني
تسيبني في حالي هترجع في كًلمك تاني؟
ـ أهًلً يااختي ،عاملة إيه؟ وأمك عاملة إيه؟ وبعدين أنا
عاهدتك أه بس بعد ما أفقس.
ـ أممممم ماشي ،عموما ً أمي كويسةّ ،
ياال تصبح علي خير
علشان أنا تعبانة.
ـ هتنامي وتسبيني كده زي كوز الدرة المشوي المليان نمل؟
تتثاءبت بقوة ثم قالت:
ـ وإنت إيه ّإلي جاب النمل عندك؟
ـ ما أنا بايت في الطل من إمبارح لوحدي.
ألقت بجسدها علي السرير ،ثم توجهت بنظرها إلي الكرتونة
وأسترسلت في الحديث:
ـ طيب تعالى أسألك شوية أسئلة نتسلي بيها.
ـ إتفضلي ،شفتى أنا مؤدب إزا .
147
نيكوابر
ـ أه أوي ،ربنا يهدي ،أول سؤال :لما الشياطين عندهم
القدرة علي أذية الناس والتلبس بيهم ،ليه بقي مايتلبسوش
بكل المسلمين ويدمروهم ويخلوا حياتهم جحيم؟
ـ علشان مش هدف الشيطان الرئيسي هًلك اإلنسان ،هدفه
هو التضليل في الدين وربنا ،وضحها لما قالَ " :وي ِريد
شي َطان أَن ي ِضلَّهم ض ًََل ًال بَ ِعيدًا" ،وكمان فيه آية تانية علي ال َّ
ِيهم َو ِمنلسان الشيطان بتقول" :ث َّم آلتِيَنَّهم ِمن بَي ِن أَيد ِ
ش َمائِ ِل ِهم َوال تَ ِجد أَكث َ َرهمَخل ِف ِهم َوعَن أَي َمانِ ِهم َوعَن َ
شَا ِك ِرينَ " معظم الناس دلوقت بعدوا عن ربنا ال بيشكروا وال
بيصلوا وال بيعملوا خير الذنوب الكتير دي خلت حياتهم
جحيم .وده إلّي بيحصل لما اإلنسان بيسمع كًلم الشيطان ،
وده هدفه الرئيسي .وإلّي يضحكك بقي ،إن الشيطان يفضل
يغوي وأول ما الشخص يكفر يتبرأ منه ،ويعمل نفسه من
بنها ويقوله "إِنِّي أَ َخاف َّ
اَللَ َربَّ العَالَ ِمينَ "
صمت حاتم قليًلً في انتظار حديثها ثم أردف:
ـ إيه باقي األسئلة بقي؟ روفيدا ،أبت .سبتيني أكلم نفسي
ونمتي ،ماشي يا بنت سنية.
في صبيحة اليوم التالي ،جلست روفيدا علي المصطبة وهي
تراقب المارة ،تفكر كثيرا ً فيما سيحدث باأليام الرابعة عشر
القادمة .نظرت للساعة مرات ومرات ،حتى أصبحت العاشرة
صباحاً ،بدأ صوت الصفير والمساجد تعلن عن البيت الذي
شب به الحريق.
قالت بدهشة محدِّثة نفسها:
ـ البيت ده إزاي يتحرق؟
148
نيكوابر
بعدما خمدت النيران جاءها محمد وهو يضحك ،ث ّم قال:
ـ شفتي البيت الطاهر إلّي كان بيقول عليه صبحي!! مرات
المعلم بسيوني طلعت تجري في الشارع بفستان غريب كده،
وشوية ولقينا الواد سبارس طالع وراها من البيت وهو
بيصوت ،وال يعلم خبايا النفوس إال هللا .صبحي مف ّكر إن
الست إلّي مقفول عليها باب ،وما حدش بيشوفها محترمة
وده الغباء بنفسه ،ألن إلّي عايزة تخون هتخون ،ولو مقفول
عليها بمليون قفل ولو حتي جوزها جنبها .ممكن تخونه
بإحساسها وقلبها كمان ،بصي إحنا نسيبهم بقي يولعوا كده
علشان يتعظوا.
ـ عندك حق ،يمكن دي مصيبة علشان يفوقوا لنفسهم.
ـ بس علي فكرة ،موضوع السلعوة جاب نتيجة ،والناس
بدأت تخاف.
ـ طيب ربنا يستر.
سارت المحادثة بينهما بعد ذلك بشكل عادي ،حتى انتهت
وغادر محمد لبيته .دخلت روفيدا غرفتها فسمعت صوت
حاتم وهو يقول:
ـ تعرفي بقي إن خطيبك ده فاشل في كل حاجة حتي تفسير
مشاكل الحب.
اتجهت روفيدا ناحية الكرتونة ،ورفعت غطاءها ،ووضعت
البيضة علي راحتها ،وحدَّثته:
ـ طيب ما تقولي إنت.
149
نيكوابر
ـ الحب يا فيفي زي فرن عيش فينو ،ريحته بتخلي كل
الناس نفسها تدوقه وده الجواز وإلّي بيعمل الخطوة دي،
ويدخل برجله علشان يسد جوعه واحد من اتنين ،يا إما
واحد غبي أول ما ياخد العيش يحطه وهو سخن فى كيس
بًلستيك؛ فيتعجن وما يبقاش ليه طعم ..وده إلّي بيقفل علي
حبيبه 122باب ،ويفتكر إن دي شطارة وهو بيموته ،يا إما
واحد ناصح يحافظ عليه ،يعرف إمتي يسيبه لحد ما يحتاج
ً
فعًل إنه يقفل عليه ويحتويه.
قالت له روفيدا بسخري ٍة -:
ـ ودي حكمة محشش؟
ال ،حكمة فران.
ضحكت روفيدا بصوت عال .رد عليها حاتم مماز ًحا:
ـ تضحكين من قلبك!! أغدقيني بقليل من الحب مقابل هذه
الدعابة.
أكملت روفيدا الضحك ولم ترد عليه ثم خرجت من الغرفة
مجددًا لتتابع ما يحدث بالقرية .مضي اليوم كاأليام السابقة،
وبزغ قمر مختلف بصبيحة اليوم التالي.
***
151
نيكوابر
شيوخ ولكن
بدأ خبر السلعوة يجعل األهالي تلجأ للشيوخ .وكان أول شيخ
من نصيب بيت روفيدا.
دخلت والدة روفيدا سريعًا ،وأخبرتها بأن هناك شيخ أتي
ليرقي كل من بالبيت ،قاطع حديثها صوت أجش تنحنح ،ثم
قال:
ـ دستور يا أسيادنا.
صوت والدها دعاه للدخول ،ثم نادى زوجته ،غادرت والدتها
الغرفة وتركتها .نظرت روفيدا من الشباك ،وجدت رجل في
الخمسين من عمره ،له ذقن تصل حتي صدره ،بيده سبحة
طويلة ،سمعت صوت حاتم بجوارها وهو يضحكً ،
قائًل:
ـ الساحر الكبير وصل.
قالت لحاتم ،بينما تتأمل مًلبس ذلك الشخص وجلبابه
الواسع:
ـ ساحر إيه بس يا حاتم ،ده شيخ ،وأبويا جايبه علشان
يقرالنا قرآن ويحصنا ،وكله بسببك وبسبب أبن أختك.
ـ أه ويعملكم زار ،ده هيطفّش شوية المًليكة الباقيين في
أوضة أخوكي ،هتشوفي إلّي هيعمله ،وأنا هقعد حاطط رجل
علي رجل كده لحد ما يخلص ،وبعدين قلتلك بًلش عثمان
بًلاااش إنتي إلي صممتي ..ماسمعتيش كلمة "دستور يا
أسيادنا" إلّي قالها وهو داخل ،دي تعظيم للجن بيقوله يا
سيدي أهو.
151
نيكوابر
والدتها دخلت فجأة ،وقالت:
أبوك هيزعق.
ِ ـ ّ
ياال يا روفيدا
ـ أنا مش طالعة لحد ،أنا كويسة.
دخل والدها عندما سمع كلماتها ،جذبها من يدها وهو
يسبها ،فتعثرت قدماها وسقطت ،ساعدتها والدتها علي
النهوض ،وهي تقول:
ـ وقعت علي أختك أحسن منك.
أكمل حاتم الضحك ،وناداها ً
قائًل:
ـ أمك هي كمان شكلها إنضمت لحزب السحرة واألشرار،
ليك أخت من الجن تحت األرض بتقولك أختك مفكرة إن ِ
تأذيك ،يخرب بيت الجهل يا
ِ أحسن منك ،علشان مش
شيخة ..فيفي ،علشان تتأكدي إنه ساحر ،أول حاجة هيسألك
عليها هو إسمك وإسم أمك يا بنت سنية.
كانت روفيدا تنصت له وال تصدق ما تسمعه أذناها .خرجت
من الغرفة وهي صامتة ،وقفت أمام الشيخ ترتجف ،نظر لها
وهو يبتسم ،وقال:
أأذيك ،أنا جاي أساعدك.
ِ ـ ما تخافيش أنا مش جاي علشان
ثم طلب من والدها أن يدخلهم غرفة وحدهم ،وحجة هذا أنه
يخاف إذا كان هناك جني أن يخرج منها ويتلبس بشخص
آخر ،ثم طلب منه إحضار شمعتين .بدأ هذا الشخص الغير
معلوم هويته بتحضير ما سيفعله ،قرأ علي الشمعتين بعض
الكلمات الغير مفهومة ووضعهم علي عتبة الباب،كان هناك
152
نيكوابر
مساعد يجلس خارج الغرفة ،حتى إذا انطفأت الشموع
يشعلها من جديد.
دخلت روفيدا وهي مترددة الغرفة ،أغلق المساعد الباب
عليهم وترك جزء بسيط مفتوح ،ثم طلب من األهل أن يقفوا
بعيدًا .روفيدا ال تعلم ما سيحدث لها ،تنظر لوجه الرجل
بفزع ،ودخان البخور يمأل المكان ،تريد أن تهرب ولكنها
خائفة من والدها ،أول شيء طلبه منها هو خلع فردة الحذاء
اليسرى ،ألنه سيضع ورقة تحت قدمها تذكرت وقتها ما رأته
ضا حديث الرسول عن الشيطان ،أنه يمشي يوم السحرة ،وأي ً
ضا خافت أن يكون بالورقة قرآن .سألته بخف واحد ،وأي ً
متذمرة:
ـ ليه؟ والورقة دي فيها إيه؟ ممكن تقراها؟
ـ لما نخلص هديهالك تقريها.
ـ ال ،أنا عايزة أقراها دلوقتى.
دقات علي الباب من والدها ثم كلمات سباب وغضب،
استسلمت لألمر ووقفت ،قال لها:
ـ لو حاسة إن جسمك في حاجة بتزقه لليمين أو للشمال
قولي.
مرت الدقائق وجسدها ترنح بالفعل .تسائلت بصمت "هل
لرائحة البخور دخل بالموضوع؟ ثم أحست كما قال أديب أن
الدموع تطرق أبواب عيونها الخلفية" .بدأ الخوف يسري
بجسدها .نظر لها الشيخ ضاح ًكا ،ث َّم قال:
ـ خًلص خًلص إقعدي.
153
نيكوابر
جلست روفيدا بجواره ،وضع يده علي رأسها ،وأخذ يقرأ
بعض اآليات ،أقترب منها أكثر ،حاول أن يتحرش بها
فصرخت ،فرح األهل وقالوا هاهو الجن سيخرج ،أكملت
الصراخ ،وهو يكتف يدها ويلتصق بها برقت عيناها عندما
وضع يده علي فمها ،لم يعد هناك ملجأ إال هللا ،أخذت تقرأ
بعض اآليات التي علمها لها وحيد وأولهم آية الكرسي،
أبعدت يده بأعجوبة عنها ،وأعلت وتيرة صوتها وهي ترتل
علَى مل ِك سلَي َمانَ َو َما َكفَ َر اطين َ " َوات َّ َبعوا َما تَتلوا ال َّ
ش َي ِ
سِح َر َو َما اس ال ّ اطينَ َكفَروا يعَ ِلّمونَ النَّ َ سلَي َمان َولَ ِك َّن ال َّ
شيَ ِ
ان ِمن أ َ َح ٍد علَى ال َملَكَي ِن ِببَا ِب َل َهاروتَ َو َماروتَ َو َما يعَ ِلّ َم ِ أن ِز َل َ
وال ِإنَّ َما نَحن فِتنَة فَ ًَل تَكفر فَ َيت َ َعلَّمونَ ِمنه َما َما َحتَّى َيق َ
َارينَ بِ ِه ِمن أ َ َح ٍد إِ َّال يفَ ِ ّرقونَ بِ ِه بَينَ ال َمر ِء َو َزو ِج ِه َو َما هم بِض ِ ّ
ع ِلموا لَ َم ِن اَللِ َويَتَعَلَّمونَ َما َيضرهم َو َال يَنفَعهم َولَقَد َ ِب ِإذ ِن َّ
س َما ش ََروا ِب ِه اشت َ َراه َما لَه ِفي اآلَ ِخ َر ِة ِمن َخ ًَل ٍ
ق َولَ ِبئ َ
سهم لَو كَانوا يَعلَمونَ " .ركل محمد الباب ودخل ،هرولت أَنف َ
عليه روفيدا واختبأت خلف ظهره ،كاد يدب شجار بين
والدها وبينه ،حتى أهتدى تفكيره لشيء ،فقال:
ـ معلش يا أبو وحيد ،أنا قلت أدخل أساعد الشيخ بس ،أصل
لقيته مش قادر يكتفها لوحده.
رد الشيخ:
ـ خير يا جماعة خير ،هي بقت كويسة ،هقولكم شوية
حاجات تعملوها ،ثم أخرج من جيبه ورقة ،وكتب لهم بعض
األعشاب من عند العطار.
ثم طلب منهم أن يتركوه وحده بالغرفة .أغلق الباب وبدأ في
كتابة كلمات غريبة باللون األحمر ،علي بعض األوراق ثم
154
نيكوابر
شق الورق ونادي والدها .دخل والد روفيدا بعد أن أرسل
أحد أطفال الشارع ليحضر له األعشاب من العطار ،أعطاه
الرجل الورق وقال له:
ـ الورق ده تحرقه وتبخرها بيه ،واألعشاب تبخر بيها البيت
كله ،وتكتب آية الكرسي علي بطنها بالقلم ده ،وتقعد أربعين
يوم ما تلمسش المية ،وإيدك علي ألف جنيه بالصًلة علي
النبي كده ،بنتك كان عليها قبيلة بحالها.
ـ ألف جنيه!!
ـ طيب علشان خاطر إنت شكلك غلبان ،هخليهم تسعمية
جنيه ولو إتكلمت تاني ،هسيبهم يرجعولك.
ـ ال يا سيدي أتفضل.
محمد أخذ روفيدا من يدها للصالة وأجلسها وأقترب منها
ً
محاوال أن يهدأها ،ووالدها بدأ في تكملة وهو يتحدث بلين
طقوس السحر بنفسه ،رائحة العشب جعلته يضع يده علي
أنفه والجميع فر خارج البيت.
تبكي روفيدا بحرقة ،وال تستطيع أن تقول لمحمد شيء ،قال
لها في حنو:
ـ ما تعيطيش بقي ،أنا واحد صاحبي قالي علي شيخ كويس،
هاخدك بكرة نروحله إيه رأيك؟ بس سر بينا ماشي.
أومأت رأسها بالموافقة .دخلت والدتها بعد دقائق وأخذتها
لتكمل عليها باقي الشعائر ،نظر لها محمد وغمز لها أن
إتفقنا ،ابتسمت له ودخلت غرفتها .استلقت علي السرير
بمساعدة والدتها ،التي بدأت في حرق الورق وتبخيرها،
وبعد انتهاءها طلبت منها أن تقوم بقلب مًلبسها الداخلية
155
نيكوابر
وتلبسها مجددًا ،وأحضرت شبكة صياد قديمة ووضعتها
بجوارها .تعجبت روفيدا مما يحدث ،وسألتها:
ـ ليه كل ده يا أمي؟!
ردحاتم وهو يضحك:
ـ علشان لما تبلبطي بعيد يصطادوك ،قولي ألمك تحط مع
الشبكة رغيف عيش علشان تلم السمك هاهاااي.
ضحك حاتم بشدة ثم أكمل:
ـ إلحقي إلحقي ،دي جابت زهرة من بتاعة الهدوم ،هتعمل
خمسات علي وشك دلوقتى ،زهرة ياسنية .ده إنتي هتشوفي
بًلوي يا فيفي.
روفيدا تسمع كلمات حاتم ،وال تستطيع أن تتكلم ،باتت تخاف
من كل شيء ،تؤجل الضحك واألسئلة لحين خروج والدتها.
بعد برهة سألت أمها مجددًا:
ـ عايزاني أقلب هدومي ليه؟
ـ علشان لو عين صابتك تتقلب علي إلي حسدك.
ضحك حاتم مجددًا:
ت مسخرة يا سنية وربنا ،هاتي كمان ورقة وخزقي ـ إن ِ
العنين والمناخير.
بعد انتهاء والدتها من إكمال أعمال الشعوذة لهذا الساحر،
وكتابة بعض اآليات القرآنية مستعينة بجارة لهم تجيد
القراءة والكتابة ،تركتها لترتاح وخرجت .رفعت روفيدا
156
نيكوابر
قطعة القماش الموضوعة فوق الكرتونة ،وأخذت البيضة
بين أصابعها ،وأخذت تتحدث مع حاتم:
ـ هو أنت مش هتبطل عمايلك دي؟
ـ أعمل إيه بس ،ما أنتوا ناس فظاع.
زفرت روفيدا بضيق وكأنها تعاتبه ثم أكملت حديثها:
ـ طيب ما هو الراجل ماسألنيش عن إسم أمي أهو.
ساخرا:
ً رد حاتم
ـ وهيسألك ليه وأبوك قاله كل حاجة.
ـ طيب ممكن تفهمني بقي إلي حصل ده؟؟
أوال األعشاب إلي ريحتها مقرفة دي ،إلي ـ بصي يا ستيً ،
أبوك قلب معدتنا بيها ،دى بتطفش المًليكة ،ده لو كان فيه
ِ
أصًل ،وكل الخزعبًلت دي حاجات بيعملها للجن إلي ً مًليكة
بيخدمه الورق إلي إتبخرتي بيه ده كان طًلسم وبعدين قرآن
إيه إلي يتكتب علي الجسم ،بكرة يطلبوا منكم تكتبوه علي
عورتكم أو تحطوه تحت رجليكم ،حجة ألي حاجة والناس
هتكون منقادة ورا الساحر وتعمل إلّي هو عايزه .تعرفي
ياروفيدا إن فيه سحرة بيخلوا بعض الناس ،تكتب القرآن
علي مًلبسهم الداخلية فيه كفر أكتر من كده؟
قالت بنبرات مرتعشة:
ـ طيب أنا أعرف الساحر من الشيخ إزاي؟ ما كلهم بيقرأو
قرآن وبدقون ،محمد هياخدني لشيخ بكرة ومش عايزة
أروح.
157
نيكوابر
ـ ما تروحيش ياكش يولع.
ـ بتقول إيه؟
ـ بقولك روحي ليزعل.
صمتت روفيدا لثوان ،وكررت سؤالها:
ـ طيب قولي بقي أفرق إزاي؟!
ـ بصي لو روحتي لواحد وسألك عن إسمك وإسم أمك ،أو حد
من أهلك راحوله وقالهم عايز " أتر" فيه عرقك ،زي
فستان فانلة إيشارب ،أي حاجة من هدوم أو حاجاتك .لو
طلب حيوان بصفات معينة ،علشان يدبحه ،وعلي فكرة مش
بيسمي عليه ،وممكن يحط الدم ده على األماكن إلي بتوجعك،
وده بيكون قربان للجن .الطًلسم الغريبة والحاجات إلي أمك
بخرتك بيها ،ويقعد يقول كًلم غريب مش مفهوم ،أو يديكي
حجاب فيه حروف ومربعات غريبة ،أو يقولك الزم تقعدي
في مكان بعيد عن الناس ماتدخلهوش الشمس الناس بتقول
عليها الحجبة أو ماتلمسيش المية لمدة معينه ،أو يدي أهلك
حاجة تدفنيها في األرض ،وعلي فكرة ممكن يعرف كل شيء
عنك من غير ما تقولي ،وده عن طريق القرين زي ما أنتي
فاهمة.
صمتت روفيدا لبرهة ،وأخذت تفكر فيما حدث لها ،وبعد
حديث طويل بينها وبين نفسها سألته:
ـ الراجل ده لما قرأ عليا جسمي إتهز ً
فعًل ،وحسيت إني
هقع ،ده معناه إيه؟
حاتم يتحدث كلمتين ويضحك ،ولكن عندما شعر بغضب
روفيدا ،أكمل بجدية:
158
نيكوابر
ـ أي حد يا فيفي بيركز كل تفكيره في حاجة لمدة معينة،
هيحصله كده ،جربي كده بصي للسقف لمدة عشر دقايق،
هتًلقي عينيكي زغللت.
إستلقت روفيدا علي السرير ،ووجهت نظرها نحو سلك
يتدلي بجانب الحائط ،وبعد دقائق لم تستطع أن تكمل ،وجهت
حديثها لحاتم قائلة:
ـ عندك حق ً
فعًل ما قدرتش ،طيب وإلي بياخدوا فلوس دول
سحر برده؟
ـ ال مش شرط ،فيه شيوخ بتاخد ،بس إلي بيطلب مبالغ
كبيرة بيتاجر بآيات ربنا وعذابه عظيم يوم القيامة ،وفيه
شيوخ بتقرأ قرآن علي مية ،وتقولك إشربيها أو إستحمي
بيها ،ده عادي برده ،بس أهم شيء ماتدلقش في الحمام بعد
ما الشخص يستحمى بيها ،يرشها جنب حيط.
سارت المحادثة بينهم قرابة النصف ساعة علي هذا
الموضوع وبعد انتهائهم قررت روفيدا الذهاب لغرفة وحيد،
كسارق يتخفي عن األنظار،
ٍ أخذت المفتاح وذهبت لغرفته
ب يبحث عن ملجأ ،أراحت رأسها علي دخلت الغرفة بقل ٍ
الباب لبرهة ،وهي تضع يدها علي قلبها لتطمئن دقاتها التي
تصرخ .الغرفة قد زارها بعد العناكب ،واستولوا عليها
بوضع اليد ،بيوتهم بكل مكان .روفيدا تتجول بنظرها في
الغرفة ،التي أصبحت كنهر مياهه راقدة ،يريد بعض األحجار
تقذف به فجأة لتحركه وتداعبه .كتبت بأصابعها علي األتربة
التي إغتالت كل الكتب واألرفف بدون وجه حق وحيد وعلي
أخرى وحيدة .لم ترفع إصبعها من علي مكتبه ،وهي تمشي
159
نيكوابر
وتتلكأ في خطوتها ،ليشكل خط طويل كتبت بنهايته "مثلك
أنا".
لفت انتباهها أجندة صغيرة ،التقطتها وجلست بزاوية الغرفة
كقطة خائفة انتصب شعر جسدها من الزعر ووقفت ترتجف؛
بعد دقائق من الصمت والدموع المنهمرة بسبب أشياء
كثيرة ،تسللت أصابعها وفتحت األجندة علي أول صفحاتها.
يومياتي..
القصة رقم 029
اليوم ذهبت مع صديق لي لشيخ كبير بإحدى القرى ،كان
يصرخ عندما يسمع القرآن ،يتلوي علي األرض وهو واضع
رأسه بين منكبيه كوضع الجنين ،ال يستطيع الصًلة ،ما إن
يقول المسجد هللا أكبر؛ حتى يرتجف جسده وكأن يلبس رداء
من جليد ،يفقد الوعي ،بعد إفاقته ال يتذكر شيء مما حدث.
ذهبنا لبيت أحد الشيوخ ،عند وصولنا لتلك البلدة ،كان هناك
كثير من األشخاص علي قارعة الطريق ،أقترب منا الكثير،
وكل شخص يريد أن يقدم لنا المساعدة بترحيب وود ،أنشرح
صدرنا مما حدث وركبنا توكتوك ليقلّنا .بعد عدة دقائق ،قال
لنا السائق:
ـ مين فيكم الملبوس؟
نظرنا لبعضنا البعض ونحن في ذهو ٍل ،فقد صعقنا سؤاله.
نظر لنا السائق مجددا ً في المرآة ،وهو يضحك:
ـ ما تخافوش أنا مش زي الصبيان بتوعهم إلي علي كوبري
البلد.
قلنا بصوت واحد ..صبيااان؟؟
161
نيكوابر
أومأ الرجل رأسه قائًلً:
ـ أيوه ،الناس إلي إتلمت حواليكم ،دول كلهم بًل إستثناء
شغالين مع السحرة ،بياخدوا الشخص علي عماه ويقعدوا
يسألوه أسئلة كتيرة ويبلغوها للساحر ،فأنت أول ما تدخل
يقولك كل إلي وصله من الصبي بتاعه فتنبهر بيه ،وتحس
إنه إنسان خارق ،بيعرف كل حاجة وبكده تديه كل إلي هو
عايزه.
بعد إنتهاء السائق سألنا من أين نحن ،علوان ،صديقي كان
سيخبره ،ولكني لكزته فصمت ،تحدثت أنا وأخبرت الرجل
عن الكثير ،أتحدث وعلوان ينظر لي غير مصدق ،فأنا لم
أكذب من قبل ولكن بنظري بعض المواقف تستحق الكذب.
بعد عدة دقائق أشار لنا السائق علي بيت بوسط األراضي
الزراعية ،سلكنا الطريق الذي ال يخلو من نقيق الضفادع،
وصوت صراصير الحقل وجدنا بنهايته بيت قديم ،بابه
الخشبي به مقبض علي هيئة كف ،طرقنا الباب ففتح وحده،
استدرنا بظهرنا للخلف ورمينا السًلم:
ـ السًلم عليكم.
ـ وعليكم السًلم ورحمة هللا وبركاته.
الرد جاء من رجل عجوز يجلس بالركن األيمن من الباب.
أشار لنا بيده أن ندخل وبعد دخولنا نظر لنا بصمت وطلب منا
الجلوس علي أريكة قريبة من الباب ،نهض من مقعده متجها ً
نحوي وبدأ في سرد ما قلته للسائق ،تصنعت التصديق ألري
ما الذي يحويه هذا البيت .بدأ بإلقاء بعض العزائم ،وأخذ
بعض من المواد الكيماوية التي تشتعل فوق سطح الماء،
وألقاها وهو يصرخ ببعض الكلمات في إناء كبير من
161
نيكوابر
األلومنيوم ،وبعد انتهائه تنهد وأخبرنا بأن العمل قد أحضره
الجن وحرقوه وطلب مني خمسمائة جنيها ً .قلت له مبتسما ً:
ـ طلباتك أوامر يا شيخنا ،بس هكلم حد مستنينا بره معاه
الفلوس ييجي.
رفعت هاتفي ،وإتصلت بذلك السائق الذي لم أنس أخذ رقم
هاتفه قبل النزول ،دقائق ووصل ،بعد دخوله البيت طلبت
منه أن يغلق الباب .كان هناك عصاة خشبية تشبه عصاة
جدي رحمه هللا معلقة علي الحائط ،شعرت بأنها تناديني
قائلة :لم أستخدم منذ زمن وطلبت مني أن أقبض عليها بيدي
فلم أمانع .جذبتها مشفقا ً وقلت بسري:
ـ العصا لمن عصا وتعصعصا.
مقولة كان يقولها لنا الشيخ بالكتاب ،عندما نخطئ بتًلوة
آية ،ال أدري من أين عرفها ولكني أحبها وها هو وقتها.
أنهلت عليهم بالضرب ،وأتلفت كل البيت وخرجت مع
صديقي نضحك مما حدث .كانت هذه بدايتي في البحث
والمعرفة عن كيفية عًلج من صرعهم الجن.
سمعت روفيدا صوت جلبة بالخارج ،فغادرت غرفة وحيد
سريعا ً وأغلقت الباب واتجهت لغرفتها لتنام.
مضي اليوم وأتي محمد باليوم التالي ،بعد أن قام حريق آخر
ببيت أحد كبار العزبة .كان رجل يجمع محاصيل البطاطس
من كل القرى ويبيعه بالسوق السوداء ،وها هي القرية نالت
البطاطس مشوية بدون تعب .كان الوقت قد تأخر عندما دخل
ليصطحبها ،أستأذن والدها وأخبره بما سيحدث وبعد
محايًلت كثيرة وافق .دخلت روفيدا لتبدل مًلبسها ،وأخرجت
162
نيكوابر
حجاب من دوالب والدتها وانتقت مًلبس واسعة ،حاتم ال
يستطيع رؤيتها ،ألنها قالت بسم هللا قبل أن تبدل مًلبسها،
وقالت آية الكرسي بسرها حاول أن يؤخرها ليحدث بينها
وبين خطيبها مشكلة ،فقال لها:
ـ عارفة خطيبك إتأخر عليك ليه؟
ـ لما أخرج هسأله ،الغايب حجته معاه.
ـ أنا ممكن أقولك.
جلست روفيدا علي طرف السرير والفضول بمحاذاتها ،ثم
طلبت منه أن يقص عليها ما حدث ،بدأ حاتم في سرد كل
شيء .نادها محمد مرات ،وهي تتحجج بعدم إكمالها
لمًلبسها بعد .خرجت بعد فترة ليست بطويلة ،سلكوا
طريقهم باتجاه بلدة أخرى ،ركبوا أحد المواصًلت ونزلوا
عند بداية القرية الموجود بها الشيخ ،العشاء قد أذنت منذ
أكثر من ساعة ،أوقف محمد أحد المارة ،وسأله عن البيت
فشرح له الطريق ،روفيدا ال تتحدث ،حاول محمد أن يشرح
موقفه فقال:
ـ أنا عارف إنك زعًلنة علشان أتأخرت بس الحريقة إلي
حصلت دي هي السبب ،وحصل موقف كده هحكيلك عليه.
قالت له بغيظ:
ـ موضوع التعابين إلي أخرك صح؟
ـ أنت عرفتي؟!
ـ أيوه عرفت ،وعلي فكرة الراجل إلي أنت دخلته بيوت
العزبة كلها ،ده ساحر.
163
نيكوابر
رد عليها ساخطا ً:
ـ ساحر!!
ـ أيوه ساحر ،الناس دي بتقرأ عزيمة إسمها العزيمة
الرفاعية ،بيستعين بالجن بيها ودي عزايم كفرية ،وبيعمل
حاجة من تًلت حاجات ،يا الجن يقوله إن فيه تعبان في
البيت فيدخل ويقول ألصحاب البيت إن فيه تعبان ،وهو ممكن
يخرجه مقابل فلوس ،ويقعد يتمتم ويقول كًلم غريب
وطًلسم فيروح الجن يجيب التعبان من مكانه قدام كل
الناس ..أو يكون البيت أصًلً مافيهوش تعبان ،والراجل
يكون معاه حبل أو عصا حاطه حوالين وسطه ويقعد يعمل
حركات لحد ما تقع علي األرض بخفة من غير ماحد يشوفه،
فيتخيل للناس عن طريق السحر إنها تعبان ،وده إسمه سحر
التخيل ،زي ما حصل في قصة سيدنا موسي" .قَالوا يَا
سى ِإمَّا أَن تل ِق َي َو ِإمَّا أَن نَكونَ أَوَّ َل َمن أَلقَى .قَا َل بَل أَلقوا
مو َ
سح ِر ِهم أَنَّ َها تَسعَى".فَ ِإذَا ِحبَالهم َو ِع ِصيهم ي َخيَّل إِلَي ِه ِمن ِ
وساعات بيكون معاه تعبان غير سام حاطه في هدومه بردوا
ويقعد يتنطط ويوقعه قدام الناس .أو الجن بنفسه يتشكل في
هيئة تعبان ويخرج للناس ،وطبعا ً الراجل إلي بيعمل كده
بيشترط علي أهل البيت إنه هياخد التعبان معاه ،وقال إيه إنه
هيخلع سنته علشان مايكونش سام .ده إلي بيحصل ،شفت
بقي؟
نكس محمد رأسه في األرض خجًلً ،وحاول أن يغير
الموضوع ،فحكى لها موقف حدث اليوم أيضاً ،بدأ الحديث
معها قائًلً:
164
نيكوابر
ـ تعرفي حصل النهاردة حاجة غريبة كمان ،صبحي كان
حكالي علي واحد تاجر وقالي إنه بيسرق الناس في الميزان،
الراجل ده شوفته النهاردة بعد ما صليت الفجر ،كان ماشي
يتسحب في حارة ورا بيتنا ،بصراحة قلقت منه ومشيت
وراه ،علشان أشوفه بيعمل إيه ،لقيته خبط علي بيت وحط
ظرف ومشي .راجل كبير جدا ً في السن فتح الباب وبص
علي األرض ،زي ما يكون كان مستني الظرف ده ،فتحه
وطلع منه فلوس وقعد يبوس فيهم ويبص للسما ويبكي.
الراجل التاجر ده ،كان واقف علي أول الشارع بيراقب
الراجل العجوز ومبتسم ،لمحني وأنا ببص عليه فمشي
بسرعة .ناديت عليه فوقف ،إتكلمت معاه كتير وقلتله مادام
إنت بتعمل خير كده ليه بتسرق في الميزان وبتضيع أجرك؟
فقالي إنه عمره ما سرق في الميزان ،والناس علشان ربنا
كرمه فجأة طلعوا عليه كده ،وقالي علي السر إلي خلي
تجارته حصل فيها كده.
قالت روفيدا بلهفة:
ـ إيه هو؟؟
ـ سحر ياروفيدا.
نظرت له في جزع غير مصدقه وهي تتساءل في صمت:
ـ هل كل الدنيا أصبحت تتعامل بالسحر والشعوذة؟!
طال صمتها فأكمل:
ـ مش مصدقه ،طيب تعرفي إن الجنيه بعشرة على طول،
وعمل ده من أول يوم أشتغل فيه ،خصص جزء معين من
165
نيكوابر
فلوس التجارة ،وكل يوم قبل ما يروح يزود فلوسه لليوم إلي
بعده.
سألته روفيدا:
ـ طيب ماقالش مين إلي كان بيعمله الموضوع ده؟
ـ ال قال ..ربنا ،كل يوم كان بيتصدق من فلوس تجارته،
وربنا باركله في شغله وغناه ،الجنيه بعشرة أمثاله ،ده غير
دعوات الناس وفرحتهم وبكاهم ،لما يتفك كربهم شوفي إحنا
بنظلم إزاي ،ونتكلم في سمعة الناس وأعراضهم ،وإحنا ما
بنعملش خير ربع إلي بيعملوه.
نظرت له طويًلً ،وعبثت أصابعها بأهداب الفستان ،ولم
تنبس بكلمة .الطريق الذي وصفه الرجل طويل جداً ،وبه
أراضي زراعية علي الجانبين ،مشوا في إلتواءات الطريق
وهم يكملون الحديث بمثل هذه المواضيع حتى وصلوا لمكان
ليس به أحد .وقف محمد يتأفأف وينظر حوله في كل مكان،
حتى لمح بغل "وهو خليط من الحصان والحمار" يقف أمام
أحد األراضي فهرول تجاهه .وهو يجذب روفيدا معه ،سألته
لماذا يسرع خطواته؟
فقال لها:
ـ أكيد فيه حد في األرض دي ،ورابط البغل ده بره ،أنا
حاسس إننا تهنا هسأله علي بيت الشيخ ده.
طالت وقفتهم ،ولم يخرج أحد من األرض ،وال زال البغل
واقف بمكانه ،لم يكن مقيد بشيء ،يخبط بقدمه كل برهة
ويهز ذيله ،نادى محمد على الرجل عدة مرات وصفق بيده:
166
نيكوابر
ـ يالي هنا ،ياحاج يالي البغل بتاعك واقف قدام األرض ممكن
كلمة.
لم يرد عليه أحد ،فوضع يده علي ظهر البغل ،وهو يتأفف
ويحدث نفسه.
ـ الراجل ده بيعمل إيه جوه كله ده؟!
لف البغل رأسه ونظر لمحمد ،وقال:
ـ بيلبي نداء الطبيعة ياخويا ،إيه بًلااش؟
رفع محمد يده غير مصدق أنه سمع شيء ،لكز روفيدا
بكوعه ليسألها إن كانت سمعت شيء ،فوجدها تضحك ،لم
يلبث أن نظر مرة أخري تجاه البغل ،حتى وجد هيأته تغيرت
ليصبح بحجم البيت ،رفع جلبابه بيده وركض .نظرت له
روفيدا وهو يختفي عن نظرها والتفتت مرة أخري لتجد
نفسها تقف أمام الجن وحيدة ،أغمضت عينيها لثوان غير
مستوعبة ما حدث ،ثم تمتمت محدثة نفسها بحزن:
ـ ده سابني ومشي ،ما خافش عليا ،وال حاول يحميني.
ليرد عليها الجن:
ـ أه واطي أوي ،لو منك أرميله دبلته في وشه وال أعرفه
تاني ..ميسم ..رجالة أخر زمن.
قالت روفيدا سريعا ً بغضب ،وهي تزجره:
ـ تعرف تسكت إنت خالص.
تقلص جسده مجدداً ،ثم صفعها علي مؤخرة رأسها بساقه
األمامية .برقت عيناها من كثرة الغضب ،وقالت له:
167
نيكوابر
ـ بتضربني ليه دلوقتى؟
ـ قفاكي شتمني.
هنا دفعته روفيدا بعيدا ً عنها بعنف ،فقال لها بإستغراب:
ـ هللا هللا ،واضح جدا ً إنك مش خايفة مني.
قالت له وهي تقبض يدها لتلكمه بأي وقت:
ـ وأخاف منك ليه ،أوالً ما تقدرش تأذيني ،ألني محصنة
نفسي ،وثانيا ً أنا ممكن أقرأ آية الكرسي عليك دلوقتى
أحرقك ،ألنك عارف إن ما ينفعش تأذي إنسي ماعملكش
حاجة ،وكمان إنك تظهرله كده ،هو مش ربنا خلقكم مخفين،
ليه تتشكل بقي وتخوف الناس ،وبعدين أنا بصلي وبصوم.
قال لها بسخرية:
ـ عادي ما إحنا ممكن نأذي إلي بيصلي وبيصوم ،البًلء مش
الزم بسبب معصية ممكن يكون تذكرة تكوني في غفلة يعني،
وده بيكون تنبيه ،وبعدين ليه بس مش بتخافى ،إنتي شكلك
أمك ماكانتش بتخوفك بينا وإنتي صغيرة.
هنا نظرت روفيدا له بدهشة ،ثم قالت:
ـ أمي!!
أكمل:
ـ هقولك ،بس متأذنيش.
ت صح؟
ـ يعني إنت عارف إن حًلل قتلك دلوق ِ
نكس رأسه خيبة باألرض وصمت .لوحت روفيدا بيدها
قائلة:
168
نيكوابر
ـ مالك سكت يعني ..اممم طيب كمل خًلص إتفقنا مش
هأذيك.
نظر لها فرحاً ،وبدأ حديثه قائًلً:
ـ معظم األمهات واألهل بيخوفوا أطفالهم بينا ،من غير ما
ياخدوا بالهم ،زي هتنام وال أجيبلك أمنا الغولة ،لو طلعت
بره أبو رجل مسلوخة هياكلك ،يعملوا حركات مضحكة ،أو
يلبسوا وشوش ويقولوا عفريييت ،وده إلي بيخلي الخوف
مننا راسخ في قلوب األشخاص من وهما صغيرين ،فتًلقي
راجل زي خطيبك ده ،وعذرا ً لكلمة راجل إلي مايشبهاش
أصًلً ،المهم أول مايشوفنا يجري ويصوت كده زي الحريم.
قالت له بنبرة ودودة:
ـ طيب ممكن ماتعملش الحركات دي تاني وتخوف الناس.
أخذ يصيح ويبكي ،ثم قال:
ـ أنا أسف ،بس هما السبب.
ـ هما مين؟
ـ الناس ،المكان ده فيه واحد مات مقتول ،وأنا كنت القرين
بتاعه ،وبصراحة لما لقيتهم بيخافوا من المنطقة دي بالذات،
ويمشوا مرعوبين ويقولوا فيه هنا عفريت ،قلت أما أتسلى،
ساعات أطلع بشكل الراجل إلي كنت القرين بتاعه ،وبصوته،
وساعات أتشكل في أي شيء تاني ،وأضحك بقي لما يجروا
،بشوف حاجات تهلك من الضحك.
سألته روفيدا ،وهي تنظر حولها بحثا ً عن طريق عودتها:
169
نيكوابر
ـ هو مش كل واحد بيموت بطريقة غير طبيعية بيطلعله
عفريت؟
ـ ال طبعاً ،العفريت ده من الجن مالوش عًلقة بيكم ،اإلنسان
لما بيموت روحه بتطلع ،ودي مايعرفهاش غير ربنا ،هو
مش فيه آية في القرآن بتقول " َويَسأَلونَكَ ع َِن الروحِ ق ِل
يًل" .لو كل الروح ِمن أَم ِر َر ِبّي َو َما أوتِيتم ِمنَ ال ِعل ِم ِإ َّال قَ ِل ً
واحد إتقتل بقاله عفريت ،مش هتًلقي شبر مافيهوش
عفريت ،شوفي الحروب بيتقتل فيها ناس قد إيه والحوادث
والحرايق ،والحاجات دي من سنين السنين ،أنا مروح بقي
ياآنسة عشان إنتي أحبطيني.
ـ طيب إستنى ماتزعلش ،ممكن توصلني ألقرب موقف،
إعمل خير في دنيتك.
ـ إنتي بتحرجيني علشان عارفة إن قلبي طيب ،ومش هقدر
أسيبك في الحتة المقطوعة دي ،لعفريت يطلعلك وال حاجة.
قالها وهو يحرك ذيله ومؤخرته ويضحك بطريقة غريبة.
ردت عليه وهي الزالت تتجول بنظرها علي الطريق وتفكر
في رجوعها لبيتها في هذا الوقت وحدها:
ـ مثًلً يعني.
ـ طيب أنا هتشكل في شكل كلب ،علشان أعرف أمشي جنبك.
تشكل الجن ورافقها ،انعطف عند ناصية شارع ،وهي تمشي
خلفه وتسرع خطوتها ،توقف فجأة قبل مكان العربات بشارع
و أشار لها عليهم ثم ودعها بعينيه وانصرف.
جمع الركاب األجرة ،ولم تكن روفيدا تمتلك مال ،ولكي
تخرج نفسها من الموقف ،أخذت تبحث داخل جيبها عن
171
نيكوابر
محفظة وصرخت ،وكأنها ضاعت وتذكرت خطيبها عندما
تركها وحدها وهذا الموقف ،وبكت بحرقة ،أشفق عليها
السائق وقال لها:
عليك يا بنتي حصل خير انا مش عايز فلوس.
ِ ـ ربنا يعوض
نزلت من العربة حزينة ،سلكت الطريق لبيتها ،الشوارع
مليئة بالرجال الذين ينظرون لها نظرات مريبة ويتهامسون،
من وسط الهمس علمت بأن حماها قد مات .أسرعت خطوتها
وعندما وصلت البيت وجدت أهلها في انتظارها .رآها والدها
فنهض من مجلسه ،وأخذ طريقه إليها وهو يصرخ بوجهها
ويخبرها بما حدث .فزعت وارتمت أرضا ً على أثر صفعة منه
وهو يكيل علي أذنيها االتهامات بأنها تريد أن تصبح خليفة
أخيها وتتعامل مع الجن ،أمسكته من طرف جلبابه ليرحمها
ويكف عن الضرب ،ولكن هيهات هيهات بعد أن أفرغ غله
علي جسدها تركها.
تركها تتذكر ذلك الماضي البعيد البريء ،ذلك المشهد الذي
ضا بعد ضربا ً مبرحا ً
كثيرا ،كان فراق وحيد أي ً
ً يتكرر بذهنها
كهذا .بكت كثيرا ً ودخلت غرفتها ،وهي تتحامل علي جسدها
بصعوبة ،جثت علي األرض وجذبت مفتاح .غرفة وحيد،
وقبل أن تخرج ناداها حاتم:
ـ فيييييفي.
لم ترد عليه فيكفي ما حدث لها بسببه .دخلت الغرفة
بشوق واستعدت لقراءة
ٍ وأحضرت تلك األجندة ،واحتضنتها
باقي اليوميات.
القصة رقم 021
171
نيكوابر
شيخ بدل من
ٍ اليوم ذهبت للمسجد مع علوان ،للبحث عن
هؤالء السحرة ،ولكن هناك شيء أحزنني ،كان هناك ستائر
تفصل بيننا وبين النساء ،الشيوخ تقرأ (كانت جلسة كشف)
مع كل امرأة محرم ،كي ال يمسها الشيخ.تذكرت حديث عن
الرسول" :ألن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير
له من أن يمس إمرأه ال تحل له" .يفعل الشيخ هذا ،ولكنه ال
ينتبه للعواقب األخرى.
ماذا لو تعرت المرأة وانكشفت عورتها ،ماذا لو شقت
جلبابها ،تعرى شعرها ،انكشفت ساقها .فًل حرج عليها فهي
ليست بوعيها ،ولكن محارم السيدات ولو خرج المحارم
وتركوا النساء كيف سيساعدون بعضهم البعض وجميعهم
مصروعين ،واألخريات الًلتي يجلسن للكشف ،لربما يصبن
بالمس من كثرة الخوف والفرغ مما يرون .يفعلون هذا
لحرمة االختًلء بالنساء ولمسهم ولكن العواقب أفظع .إن
عالجت النساء أو الرجال بإذن هللا لن أفعل هذا .سأعالج كل
شخص بمفرده ،ويكون الباب مفتوح ،سأعالج النساء من
بعيد ،فأهم شيء معرفة اآليات التي تأذيهم.
*ملحوظة
لقد فادني هذا الشيخ بشيء مهم اليوم .بعض الشيوخ
يطيلون الوقت بسؤالهم عن إسم الجن ،ومحايًلت طويلة بأن
يخرج من بين أصابعه ،خوفا ً من فقع عين الشخص أو
جرحه ،وما هذا إال مضيعة للوقت فالجن جسده شفاف غير
مرئي ،ولو كان بمقدرته فقع العين وجرح الجسد ،لكنا رأينا
الدماء تسيل بعد خروجه من جسد الشخص المصروع.
***
172
نيكوابر
لم أستطع النظر لعم سمير في هذا الظًلم ،أردت أن أقول له:
هذا ما رأيناه بالمسجد اليوم ،جلسة الكشف هذه هي من
أعادت لي ذكري الوجع ،ولكني أجلت الحديث لحين ركوبي
السيارة معه ،ونكون بمفردنا.
ليتني أنا
173
نيكوابر
ترتجف قرابة الساعة علي السرير ،صوت "ردح" حماتها
ونعتها بأنها مخاوية وفضيحتها بالقرية ألجمت لسانها،
كلماتها بأن صبرهم عليها كان بسبب مرض أبوه وها هو قد
مات؛ جعل الظًلم والوحدة واألعصاب المتوترة تحيطها من
كل جانب.
ظلت طريحة الفراش طوال هذه األيام بًل حراك ،ال تستصاغ
طعام ،ال تفتح جفونها لترى ضوء النهار أو انبًلج الفجر كما
كانت تحب دائماً ،أفاقت بعد أيام مما هي به ،ظلت تراقب كل
شيء من بعيد وهي صامته .أسبوع كامل بعد استعادتها
الستقرارها النفسي رأت بهم المعني الحقيقي لألب .كان والد
فرحانة يدللها ويقبلها ،يحضر لها األلعاب ،تنام علي ساقه
ويجدل لها ضفائرها.
باع أبو روفيدا أرضه بعد فشله بإقناع العزبة بأن الحريق
كان سببه الغاز ،فقرر الذهاب للمدينة .غادرت روفيدا بيت
فرحانة ،وهي تنظر لها بوجع ،تحقد عليها وتقول محدثة
نفسها ،ماذا لو كنت بدالً منها ،فوالدها رجل طيب .غادرت
روفيدا وكلها أمل بأن تتغير حياتها بالمدينة ،نظرت خلفها
أثناء السير فوجدت عثمان يقف قرب شجرة الجميز ؛عاتبته
بنظرة من عينيها ومضت.
****
أمسكت القلم مجددا ،وكتبت للطًلب علي نور كشاف صغير
أحضره أحد الفراشين..
"على شاطئ الغرباء بالمدينة الكبيرة تجلس فتاة كلها أمل"
انتهت المحاضرة..
174
نيكوابر
***
رفع أحد الجالسين يده وسأل:
ـ أنا أول مرة أحضر محاضرة تنمية بشرية بالشكل ده ،إيه
إلي المفروض نعمله إحنا دلوقت ،والبنت دي أصًلً عندها
إيه؟
أجبته قائلة:
ـ البنت دي كان عندها مرض إسمه "نوستالجيا" ،وده
بيحصل بسبب طاقة رهيبة ،ومخزون جوه الشخص ده،
بيحن للماضي ودي في الغالب بتكون حالة سوية جوه
الشخص ،بس أحيانا ً بتتحول من نعمة لنقمة .وإلي بيحصل
لما يبدأ المرض هو هروب وخوف من الوضع إلي اإلنسان
وصله ،وتمنيه يرجع لحياته القديمة .روفيدا كانت هتتجوز
في سن صغيرة جدًا ،طفلة المفروض إنها لسه بتفرح بلعبة
وفسحة ،تتحول فجأة لست بيت ومربية وطباخة ،باإلضافة
إن بقالها سنين ماشافتش أخوها الشيخ وحيد إلي في األصل
كان بيخرج الجن من علي الناس ،وكان بيشرحلها كتير
الحاجات دي ،وساعات كانت بتسمعه وبتشوف الناس
المصابة ،والجن بيتكلم وبيخرج منهم ،وأي شخص في
مكانها هيتخيل لو الجن ده عشقه هو هيحصل إيه .وده إلي
فعًل ،وخصوصا ً إن خطيبها كان قاسي ونسخة من حصلها ً
أبوه ،ماقدرش يحتويها ،وده إلّي خًلها تتخيل قصة حبها مع
تيمو وكمان مساندته ليها .وكل إلي حسته بينها وبينه ،ده
ماحصلش ،يعني ماوقفش جنبها من أول ماحس إنها ممكن
تكون ملبوسة ،طلقها قبل ما تدخل بيته علشان يريح نفسه،
بدل ما يتجوزها ويحاول يعالجها قرر يبعد ،وكمان كرهها
175
نيكوابر
لكًلم المصاطب والغيبة والنميمة ،إلّي بعد فترة بيطلعوا
بيتكلموا علي الناس بالباطل ومحاولتها إنها تجيب حق
الناس دي.
عادت اإلضاءة مجددا ً فكتب لهم.
ـ كلمة نوستالجيا في األصل كلمة يوناني ،بتوصف مدي األلم
إلي بيعانيه الشخص ،وخوفه إنه ما يقدرش يرجع زي ما
كان ،وده إلي حصلّها لما إتحدد ميعاد فرحها ،مش الزم
يكون الحنين لموقف أو لشخص ممكن يكون لشخصيتنا
القديمة ،وحياتنا قبل ما نتعرض لمواقف مؤلمة ،ونتلوث من
المجتمع الي حوالينا بسلوكه وإعتقاداته .وممكن نلخص ده
كله في جملة ..إن إلي حصل لروفيدا ده نوع من إغتراب
الذات وإنفصالها عن الواقع ،وممكن نقول الحمد هلل إن
المرض إتلحق بدري وإتعالجت .كل المعلومات إلي أنا قلتها
مسندة بالقرآن واألحاديث دي حقيقية ،بس عالم الجن عالم
غيبي ومهما حكوا عن نفسهم مش هيقولوا كل الحقيقة ،ألن
الجن بطبعه الكذب.
دوي صوت ضحكات بالقاعة ،وكل شخص يقول كلمة،
وصلتني بعض الكلمات فطرقت على المكتب عدة طرقات
حتى صمتوا .بدأت حديثي قائلة:
ـ علي فكرة ،مش زي ما بتقولوا ياريتها كانت ممسوسة من
الجن ،أو مصابة كان أحسن من المرض النفسي .الجن ده
عالم وبحر كبير مالوش آخر .إنما المرض النفسي معروف
آخره ،وعلي األقل لو صعب الشفاء منه بيتحط المريض في
مصحة نفسية وما بيأذيش حد وال بيأذي نفسه ،إنما
الشخص الملبوس بيكون خطره أكبر ،ألنه قدام الناس واعي
176
نيكوابر
ومسئول عن إلي بيعمله ،وهو مش داري بشيء ،إلن الجن
بيتحكم فيه.
وقف أحد الجالسين ،وقال:
ـ أنا ممكن ألخص لحضرتك المحاضر كلها في خمس دقايق.
التفتت فزعه وسألته:
ـ إزاي؟
ـ مش حضرتك بتقولي إنها حالة سوية ،جوه كل شخص فينا
ده قبل ما تكون مرض.
أكتفيت بإيمائة من رأسي وتركته يكمل:
ـ طيب ممكن حضرتك تديني المايك ،وكل القاعة هتعترف بده
لما يرجعوا للماضي سنين.
اقتربت منه وأعطته الميكروفون ،أخرج هاتفه ووضعه قرب
الجهاز ،وبدأت موسيقي تتسلل في آذان الحاضرين ،ثم بدأ
محمد فؤاد يغني" .ساعات بشتاق ليوم عشته وأنا صغير
لشكلي قبل ما أتغير أليام فيها راحة البال علشان كنا ساعتها
عيال:
مسحت كل القاعة مجددا ً بنظري ،تأملت الوجوه ،ابتسامة
علي وجه أحدهم عند مقطع معين ،واآلخر إغرورقت عيناه،
ألتصق بعض األصدقاء ،ورفع اآلخر هاتفه واتصل بأحدهم،
وأخرجت أخرى صورة من حقيبتها وقبلتها ووضعتها بين
أحضانها ،وكأنها ترمي قلبها بين أحضان غائب .تمتمت
محدثة نفسي" :جميعنا مرضي نفسيين ،ولكن بدرجات ،من
منا لم يمر عليه يوم وهو يرى هاتفه يرن وال يريد التحدث
177
نيكوابر
مع أحد ،يكون بريده اإللكتروني مليء بالرسائل وال يقوي
علي الرد .جميعنا نصاب باالكتئاب فترة ،ونعود كما كنا .بعد
انتهاء األغنية ،قلت لهم:
ـ هستناكم يوم الخميس في محاضرة جديدة ،وأتمني تكونوا
إستفدتوا حاجة.
وقف أحد الحاضرين ،وقال:
ـ أنا عرفت إن محمد فؤاد كان عنده نوستالجيا ،وهو بيقول
األغنية دي.
وأكمل كلماته بضحك هو وباقي القاعة ،تبسمت لهم
وغادرت .غادرت القاعة وأنا أسبّ نفسي وألعنها ،كيف
ضعفت وقصصت عليهم حياتي السابقة ،ولماذا قلت كل
الجوانب السيئة ،ولم أقل كيف وصلت من فتاة جاهلة إلي
امرأة مثقفة ،ودكتورة تعطي دروس بالتنمية البشرية ،بعد
أن كدت أصاب باالكتئاب .قررت أن أقص عليهم باقي
الحكاية بالمحاضرة القادمة ،وبنفس اإلسم الذي اخترته
ألخبئ نفسي خلفه ،لن أقول لهم أن الدكتورة فريدة عمران،
التي تخبرهم بقصة تلك الفتاة هي روفيدا.
بحثت عن عم سمير لم أجده ،بالصدفة وجدت الشاب الذي
كان يجلس بجواره ،أوقفته وهو يمشي مع صديق له قائلة:
ـ لو سمحت ،كان فيه راجل جنبك سنه فوق األربعين،
وقمحاوي شوية ماتعرفش خرج إمتي؟
نظر الشاب لصديقه وضحك .لم أنبس بكلمة بانتظار رده .قال
لي وال زالت البسمة على وجهه:
ـ أنا كنت قاعد وجنبي محمد صاحبي.
178
نيكوابر
ثم أشار على صديقه الذي يقف بجواره ،وأكمل:
ـ ماحدش كان جنبنا يا دكتورة.
هنا وجدت السيارة تقف أمام بوابة الجامعة ،فشكرتهم
وأخذت طريقي إليها .دلفت داخلها وأنا أنظر لعم سمير
وأسأله بأي مكان كان .ألتفت لي برأسه فصرخت:
ـ حاااااااااااااااااااااااااتم.
179
نيكوابر