غم في عشق PDF

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 176

‫‪ ٣٧‬ﻋﺎم ﻣﻦ اﻧﺘﺼﺎر اﻟﺜﻮرة اﻻﺳﻼﻣﻴﺔ اﻟﻤﺒﺎرﻛﺔ ﻓﻲ اﻳﺮان‬

‫‪11-2-2016‬‬
new.I
liillii
‫غم يف عشق‬
‫إس������م ال���ك���ت���اب‪ٌّ :‬‬
‫خمتارات من المذكرات اجلعادية العرفانية‪« :‬كان الله ولم‬
‫يكن معه يشء»‪.‬‬
‫مناجاة عرفانية للهشيد الدكتور مصطفى شمران‪.‬‬
‫ت���������رج���������م���������ة‪ :‬حوراء احلسيين‪ ،‬حممد ترمس‪،‬‬
‫ت����������ح����������ري����������ر‪ :‬عالء قبييس‬
‫ت���دق���ي���ق ل���غ���وي‪ :‬فيصل األشمر‬
‫تصميم ال��غ�لاف‪ :‬حممد عيل خفاجي‬

‫إخ�����راج وط��ب��اع��ة‪:‬‬

‫ال��ط��ب��ع��ة األول�����ى‪ 1437 - 2015 :‬ه‬

‫شارك في إنجاز هذا العمل كل من‪:‬‬


‫حسن حدرج‪ ،‬حيدر درويش‪ ،‬مىن نارص‪ ،‬رحاب فقيه‬

‫ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺈﻋﺎدة إﺻﺪار ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب أو ﲣﺰﻳﻨﻪ ﰲ ﻧﻄﺎق اﺳﺘﻌﺎدة اﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎت أو ﻧﻘﻠﻪ‬
‫أو اﺳﺘﻨﺎﺴﺧﻪ ﺑﺄي ﺷﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل‬
ّ
ّ ّ

ّ ّ
‫الفهرس‬

‫‪11‬‬ ‫كونوا كشمران ‬

‫‪13‬‬ ‫مقدمة ‬

‫‪15‬‬ ‫مقدمة الطّ بعة الفارس ّية ‬


‫ّ‬

‫‪23‬‬ ‫من مذكّ رات أميركا ‬


‫‪23‬‬ ‫صالحا ‬
‫نويت أن أكون ً‬
‫‪23‬‬ ‫أوائل صيف ‪ 1959‬‬
‫‪24‬‬ ‫أريد أن أعرف ذاتي ‬
‫‪27‬‬ ‫رب‪ ...‬يا مظهر اآليات ‬ ‫يا ّ‬
‫‪29‬‬ ‫الغم تعال ‬
‫أ ّيها ّ‬
‫‪30‬‬ ‫يا صديقي القديم ‬
‫‪32‬‬ ‫ال أمنية لي سواك ‬
‫‪34‬‬ ‫ر ّباه إنّي أختنق ‬

‫‪-5-‬‬
‫‪37‬‬ ‫من مذكّ رات لبنان ‬
‫‪37‬‬ ‫قطرة دم ع‬
‫‪41‬‬ ‫بهدوء وطمأنينة ‬
‫‪42‬‬ ‫في بوتقة االختبار ‬
‫‪44‬‬ ‫ر ّباه‪ ..‬سخّ رني إلرادتك ‬
‫‪45‬‬ ‫محفل الوجود ‬
‫‪47‬‬ ‫السماء ‬ ‫أفرح بارتفاع ّ‬
‫‪48‬‬ ‫رسالة إلى نريمان ‬
‫‪51‬‬ ‫هنا الفاجعة ‬
‫‪53‬‬ ‫غ ًدا يولد المسيح ‬
‫‪54‬‬ ‫أعبد الله العظيم ‬
‫‪55‬‬ ‫كيمياء العشق ‬
‫‪56‬‬ ‫أعشقك من األعماق ‬
‫‪58‬‬ ‫لم أصبح الئ ًقا للقائه ‬
‫‪60‬‬ ‫‪ ..‬صرت دخا ًنا ‬
‫‪61‬‬ ‫الصدر ‬
‫رسالة عشق إلى اإلمام ّ‬
‫‪68‬‬ ‫ذكريات ليلة ق َدري ‬
‫‪71‬‬ ‫رحلة إلى ال ّنبعة الشّ هيدة ‬
‫‪73‬‬ ‫يدي من الحياة ‬ ‫غسلت ّ‬
‫‪77‬‬ ‫بانتظار مس ّلح ‬
‫‪78‬‬ ‫البط من ّ‬
‫الطوفان؟ ‬ ‫أوهل يخاف ّ‬ ‫ّ‬

‫‪-6-‬‬
‫‪79‬‬ ‫ّ‬
‫بالخط األحمر ‬ ‫َمن سيرسم‬
‫‪80‬‬ ‫أحب القدس ّ ‬
‫وعلي‬ ‫ُّ‬
‫‪83‬‬ ‫ال ّتحليق في الملكوت ‬
‫‪86‬‬ ‫دواء روحي ‬
‫‪89‬‬ ‫ألجله خلق اإلنسان ‬
‫‪93‬‬ ‫من مذكّ رات إيران ‬
‫‪93‬‬ ‫أ ّماه ها إنّي أعو د‬
‫‪95‬‬ ‫مزرعة االستقالل ‬
‫‪96‬‬ ‫ثورة األمل ‬
‫‪98‬‬ ‫الشّ يء ا ّلذي يفسد الحياة ‬
‫‪99‬‬ ‫احذروا‪ ...‬‬
‫‪103‬‬ ‫الطاغية ‬‫سقط ّ‬
‫‪104‬‬ ‫«باوه» ال ّتح ّدي العظيم ‬
‫‪109‬‬ ‫مناجاة الدموع ‬
‫‪109‬‬ ‫في اتجاه الحق ‬
‫‪112‬‬ ‫أيها الرب الرفيع الجناب ‬
‫‪114‬‬ ‫تابع ‪ 10‬أيار ‪ 1968‬‬
‫‪117‬‬ ‫في محضر الحق ‬
‫‪120‬‬ ‫لقد غدوت حرا ً‬
‫‪121‬‬ ‫قلبي دائم االحتراق ‬

‫‪-7-‬‬
‫‪124‬‬ ‫الطبيــع ة‬
‫‪126‬‬ ‫السماء السامي ة‬
‫‪128‬‬ ‫أنت ضالتي الوحيدة ‬
‫‪129‬‬ ‫أنا هذا التراب الجسور ‬
‫‪130‬‬ ‫أحترق ‬
‫‪131‬‬ ‫محك االمتحان ‬
‫‪132‬‬ ‫أريد أن أحترق ألضيء الطريق ‬
‫‪134‬‬ ‫لتنتصر ثورة إيران المقدسة ‬
‫‪631‬‬ ‫إلهي‪ ،‬هب لنا اإليمان ‬
‫‪138‬‬ ‫لنحفظ الثورة بدمائنا ‬
‫‪341‬‬ ‫نار العشق ‬
‫‪144‬‬ ‫أنت من يسمع أنّاتي في األسحار ‬
‫‪145‬‬ ‫حزنٌ وأل م‬
‫‪146‬‬ ‫لقد جعلتني زاهدا ً‬
‫‪147‬‬ ‫اصنعني على عينيك ‬
‫‪149‬‬ ‫نفير الحيا ة‬
‫‪150‬‬ ‫إلهي يا صانع المعجزات العظيمة ‬
‫‪151‬‬ ‫ق‬
‫رمز العش ‬
‫‪154‬‬ ‫أردتني القربان المجلل ‬
‫‪157‬‬ ‫العشاق األصفيا ء‬

‫‪-8-‬‬
‫‪161‬‬ ‫المالحق ‬
‫‪161‬‬ ‫نبذة عن الشهيد القائد مصطفى شمرا ن‬
‫خطاب اإلمام الخميني { عند شهادة القائد مصطفى‬
‫‪170‬‬ ‫شمران ممثل اإلمام في المجلس األعلى للدفاع‏ ‬
‫‪172‬‬ ‫الموضوع‪ :‬تعيين وزير الدفاع‏ ‬
‫‪173‬‬ ‫الموضوع‪ :‬تعيين وزير الدفاع الوطني‏ ‬
‫‪174‬‬ ‫الموضوع‪ :‬تعيين مستشار المجلس األعلى للدفاع الوطني‏ ‬

‫‪-9-‬‬
‫•| كونوا كشمران[[[ |•‬

‫هذا الشهيد كان عالماً أوالً‪ ،‬ث ّم شخصاً المعاً وعظيم االستعداد‪ ،‬فهو‬
‫نفسه كان يقول لي إنّه في تلك الجامعة التي درس فيها في الواليات‬
‫المتحدة األميركية‪ ،‬تلك الدراسات العليا ـ وكما أذكر‪ ،‬فإنّه كان أحد‬
‫أفضل اثنين في تلك الجامعة‪ ،‬وعلى صعيد ذلك التخصص والفرع‬
‫العلمي ـ وكان يشير إلى تعامل األساتذة معه وتطوره في األعمال‬
‫العلمية‪.‬‬
‫كان عالماً بكل الموازين‪ .‬وفي ذلك الوقت‪ ،‬كان مستوى اإليمان القلبي‬
‫(العشقي) لهذا العالم إلى درجة أنّه أعرض عن االسم والمقام والعنوان‬
‫والمستقبل الدنيوي الذي هو بالظاهر عقالئي‪ ،‬وذهب ليكون إلى‬
‫جانب اإلمام موسى الصدر في لبنان ويقوم باألنشطة الجهادية‪.‬‬
‫ومنذ بداية الثورة‪ ،‬كان له حضو ٌر في الساحات الحساسة‪ .‬فذهب إلى‬
‫كردستان‪ ،‬وكان له حضو ٌر ف ّعال في المعارك التي جرت هناك‪ ،‬ث ّم‬

‫الخامن� } ف ي� أعضاء التعبئة ف ي� الهيئة العلمية للجامعات ‪2010/06/23‬‬


‫ي‬
‫ئ‬ ‫المام‬
‫كلمة إ‬ ‫ ‪1‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫بعدها جاء إلى طهران وأضحى وزيرا ً للدفاع‪ .‬وعندما اندلعت الحرب‪،‬‬
‫ترك الوزارة وباقي المناصب الحكومية والمقامات جانباً وجاء إلى‬
‫األهواز‪ ،‬حارب وصمد إلى حين شهادته بتاريخ ‪ 31‬خرداد لعام ‪ 60‬هـ‪.‬‬
‫ش (‪ 21‬حزيران ‪.)1981‬‬
‫لم يكن رجالً جافاً ال يفهم لذائذ الحياة‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فقد كان‬
‫لطيفاً جدا ً وذ ّواقاً ‪ ...‬وف ّناناً وصاحب قلب مفعم بالصفاء‪ .‬لم يدرس‬
‫توحيدي‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مسلك‬ ‫أي‬
‫أحد في ّ‬‫العرفان النظري‪ ،‬ولعلّه لم يدرس على يد ٍ‬
‫ٍ‬
‫سلوك عملي‪ ،‬ولك ّن قلبه كان طالباً لله‪ ،‬قلباً صافياً إلهياً‪ ،‬من أهل‬ ‫أو‬
‫المناجاة والمعنويات‪.‬‬
‫كان يتابع األعمال حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل‪ ،‬وعند‬
‫الصباح الباكر المعتم أو المسفر كان يتواجد قبل الجميع في الجبهة‪،‬‬
‫وفي كل مكان يلزم؛ فعلينا أن نتم ّرن على التواجد الدائم في الزمان‬
‫والمكان المطلوبين‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫•| مقدمة |•‬

‫دامي القلب‪ ،‬ولك َّنه كان متوقّدا ً ونشيطاً‪،‬‬


‫كان ال ّدكتور شمران دائماً َ‬
‫ودودا ً ورقيقاً‪ ،‬وصلباً ومغامرا ً في نفس الوقت‪.‬‬
‫اإللهي هي س ّر عبادته وجهاده وخدمته لآلخرين‬‫ّ‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫وكانت نار‬
‫والمستضعفين‪ .‬وعلى ال ّرغم من أنّه كان أسير القهر‪ ،‬فقد كان دفّاق‬
‫المشاعر‪ ،‬مشاعر طاهرة‪ ،‬ال تذبل وال تموت‪.‬‬
‫بحب ال ّدنيا‪ ،‬وخوف‬
‫يائسا من الثّ ّوار ورجال المقاومة فاتّهمهم ّ‬
‫كان ً‬
‫التّضحية‪ ،‬والبحث عن المغانم وعن لقمة العيش‪ ،‬وعدم تح ّمل المعاناة‪.‬‬
‫كان يرى نفسه وحي ًدا في هذا العالم‪ ،‬ليس له صديق سوى الغ ّم‪.‬‬
‫لقد قطع ال ّدكتور شمران أمله من ال ّنصر‪ ،‬معتق ًدا بأن قَ َد َر ألف‬
‫وأربعمائة سنة من ال ّدموع محال أن يتغ َّير‪ ،‬فقد أعطى القضاء والقدر‬
‫الحق عبر التّاريخ على يد حكّام الجور‪ .‬كان يرى‬ ‫األمر بأن يُحطَّم ّ‬
‫اإلسالمي مليئًا بال ّنكسات واآلالم والجراح والمظلوم ّية لرجال‬
‫ّ‬ ‫التّاريخ‬
‫أي أفق‪ ،‬فهو يعمل بحسب التّكليف‬ ‫الحق‪ ،‬وال يرى للعمل والجهاد ّ‬
‫ّ‬

‫‪- 13 -‬‬
‫غير آمل بال ّنصر‪ ،‬لذلك فقد وطّن نفسه على اآلالم‪ ،‬وأنس بمناجاة‬
‫الغ ّم‪ ،‬وتواعد مع الموت والشّ هادة‪ .‬وأصبح ذلك فلسفته الّتي أسندها‬
‫إلى التّاريخ والواقع‪ ،‬وكان يقول‪ :‬نحن نريد احتضان عروس الشّ هادة‬
‫دون أمل بال ّنصر‪ ...‬فما أجمل احتضان الموت واإلسراع للقاء الله‪ .‬كان‬
‫علي‪ ،‬ومثاله في الشّ هادة الحسين‪ ،‬كان يتغ ّنى بفداء‬
‫مثاله في القهر ّ‬
‫الحسين ‪.Q‬‬
‫بعد انتصار الثّورة اإلسالمية في إيران‪ ،‬عاد الشّ هيد شمران إلى إيران‬
‫ليكون في عداد من حفل بال ّنصر وآمن به واعتبره معجز ًة إله ّية‪ ،‬وقد‬
‫عمل من أجل حمايته حتّى ال ّرمق األخير‪.‬‬
‫كل ما كان يُعانيه‪ ،‬كان متف ِّك ًرا عارفًا يعرج من منز ٍل إلى منزل‪،‬‬ ‫مع ّ‬
‫ويصعد مدارج الكمال مرقاة فمرقاة‪ ،‬ويحلِّق في عالم الملكوت مرحلة‬
‫فمرحلة‪ .‬كان يحترق كال َفراش‪ ،‬يذوب كالشّ مع‪ ،‬يتر ّمد كالجمر‪ ،‬وكانت‬
‫قي هو‬
‫الشّ هادة المعبر الوحيد الباقي إلى لقائه بالله‪ ،‬وكان العشق ال ّن ّ‬
‫بيته اآلمن الّذي بناه في وادي القلب بعي ًدا عن ال ّزعازع وال ّرياح‪.‬‬
‫قَبِل بالموت الّذي أحبّه راف ًعا له هامته على رغم الجراح الّتي نزفت‬
‫تريد ثنيها على كتفيه‪ ،‬فقد تلقّى الشّ هادة بإرادة فوالذيّة وشوق عاشق‬
‫متيّم بلقاء حبيبه‪.‬‬
‫أحد طلاّ به‬

‫‪- 14 -‬‬
‫مقدمة الطّ بعة الفارس ّية |•‬
‫ّ‬ ‫•|‬

‫الشّ هيد ال ّدكتور مصطفى شمران وما أدراك من هو؟ وهنيئًا لمن‬
‫عرفه‪ ،‬رجل عظيم حقًّا‪ ،‬عارف رقيق ومناضل جسور‪ ،‬فهو لم يكن‬
‫إنسانًا عاديًّا‪ ،‬وقد حفلت شخص ّيته المثيرة وامتألت بالكثير من‬
‫األسرار وال ّنورانيّة‪ ،‬والمعاني العالية‪ ،‬والحرارة والفت ّوة وال ّدفء‪ .‬وقد‬
‫تبلورت في معترك أحداث وظروف وتح ّوالت حساسة ودقيقة ج ًدا‪.‬‬
‫السمات‬ ‫والتبصر‪ ،‬حيث احتوت العديد من ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنّها جديرة باإلمعان‬
‫الفذّة والفريدة والعذبة‪.‬‬
‫لقد أمضى الشّ هيد عمره المتدفِّق والم ّواج‪ ،‬في ميادين ال ّنضال‪ ،‬في‬
‫مواجهة الشّ اه وتأميم ال ّنفط في إيران‪ ،‬إلى أن سافر إلى أمريكا لع ّدة‬
‫سنوات ليكمل دراسته هناك دون أن يخفت تن ّور روحه اللاّ هبة‪ ،‬ثم‬
‫إلى مصر‪ ،‬ثم إلى لبنان‪ ،‬حيث بقي فيه رد ًحا من ال ّزمن‪ ،‬قائ ًدا لل ّنضال‬
‫والمحتل من جنوب لبنان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والمقاومة على حدود فلسطين المحتلّة‪،‬‬
‫الخميني‬
‫ّ‬ ‫ثم إلى إيران حيث أقفل رحلة عمره عائ ًدا مع انتصار اإلمام‬

‫‪- 15 -‬‬
‫في ثورته على نظام الشّ اه‪ ،‬ليتولّى مسؤوليّات أساسيّة متع ّددة قبل أن‬
‫يشرب من الكأس الّتي ما كان قلبه يثلج وال نفسه تطمئ ّن من دونها‪،‬‬
‫الملكوتي القاتل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إنها كأس الشّ هادة وشراب العشق‬
‫قصة حياة ساقية متيّمة أب ًدا بالبحر‪ ،‬حياتها حيث تموت‪،‬‬‫رحلة شمران ّ‬
‫قصة فراشة مجنونة متل ّهفة لالحتراق بنار الجمال‬ ‫حيث تفنى فيه‪ّ ،‬‬
‫الملكوتي لل ّنفس من رحم ال ّدنيا‪ ،‬وفرارها‬
‫ّ‬ ‫قصة الخروج‬‫المشتعل‪ ،‬إنّها ّ‬
‫وقصة استخراج رائع للؤلؤة ال ّروح من صدف‬ ‫من حبائل الشّ رنقة‪ّ ،‬‬
‫البدن لتوضع على ق ّمة تاج الملك‪.‬‬
‫لقد عاش الشّ هيد شمران مقاطع زمان ّية متفارقة ومتفاوتة‪ ،‬يربط‬
‫شغف آس ٌر من أجل الروح‬
‫خاص‪ ،‬ثم تال ًيا ٌ‬
‫وروحي ّ‬
‫ّ‬ ‫شعوري‬
‫ّ‬ ‫بينها خ ّط‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وترفّع عن هذه ال ّدنيا الوضيعة وزهد فيها‪ ،‬للوصول إلى‬
‫األحدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحق‬
‫المعشوق‪ ،‬ولقاء ّ‬
‫الحق والجهاد‬
‫هذا ال ّرجل لم يهدأ للحظة‪ ،‬لقد أوقف نفسه لخدمة ّ‬
‫في سبيله‪ ،‬دون أن يكون لديه خوف‪ ،‬أو أمل واكتراث بأي شيء أو‬
‫بأي شخص‪ ،‬سوى بالله تعالى‪ .‬كان من رأسه إلى أخمص قدميه يهيم‬
‫عشقًا‪ ،‬وكان قلبه يترقرق ح ًّبا وحماسة صافيين‪ ،‬كان شعلة ال تذوي‪،‬‬
‫خالصا له وفيه سبحانه‪ ،‬وقد أضنى نفسه بالمجاهدات‬ ‫وسعيًا نضاليًّا ً‬
‫الكثيرة لتطهير نفسه‪ ،‬وبناء ذاته وتنظيم قواها وقدراتها‪ ،‬وقد تح ّمل‬
‫كل ألم وفراق وتف ّجع‪ ،‬وكانت حياته أشواطًا متتابعة‬
‫في هذا الطّريق ّ‬

‫‪- 16 -‬‬
‫والسمو‪ ،‬وفي ال ّنهاية كان‬
‫من عذاب العشق والفراق والغ ّم والوحدانيّة ّ‬
‫على موعد مع الشّ هادة الّتي تض ّمخ برحيقها‪ ،‬ومأل صدره من طيبها‪،‬‬
‫السلسبيل‪.‬‬
‫وارتشف من شرابها ّ‬
‫أمضى مصطفى شمران‪ ،‬المولود سنة (‪1932‬م)‪ ،‬أيّام الحضانة‬
‫وال ّدراسة االبتدائ ّية في مدرسة إنتصاريّة في طهران (شارع ‪ 15‬خرداد‬
‫المتوسطة في ثانويّتَي [دار الفنون] و[ألبرز]‪،‬‬‫ّ‬ ‫‪ -‬عودالجان)‪ ،‬والمرحلة‬
‫ثم دخل كليّة الهندسة في جامعة طهران‪ ،‬وأنهى دراسته عام بامتياز‬
‫متخص ًّصا في مجال الكهرباء‪ .‬كان تلميذًا متم ّي ًزا‪ .‬وكان خالل كل‬ ‫ّ‬
‫مراحل ال ّدراسة المثال المحتذى‪ ،‬إضافة إلى أنّه كان ذا حضور ف ّعال‬
‫للشاب الطّاهر‪ ،‬المجتهد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السياسيّة وال ّدينيّة‪ ،‬وأمثول ًة‬
‫في كل ال ّنضاالت ّ‬
‫والمحبوب لدى الجميع‪ .‬وباالستفادة من منحة الطّالب األ ّول‪ ،‬سافر‬
‫إلى أميركا لمتابعة ال ّدراسة؛ حيث نال في البداية شهادة ال ّدراسات‬
‫العليا في هندسة الكهرباء من جامعة تكساس‪ ،‬ث ّم شهادة ال ّدكتوراه‬
‫في مادة اإللكترونيك وفيزياء البالزما بأعلى المع ّدالت في واحدة من‬
‫أكبر وأه ّم جامعات أميركا المعروفة «باركلي» في كاليفورنيا‪ ،‬وتحت‬
‫إشراف أفضل أساتذة الفيزياء‪ .‬كما أمضى م ّد ًة في أحد المختبرات‬
‫الكبيرة مشغوالً بالبحث في دراسات مه ّمة في ذلك الوقت‪.‬‬
‫كان الشّ هيد شمران‪ ،‬إلى جانب هذه المسيرة المثيرة لإلعجاب وال ّنادرة‪،‬‬
‫مؤس ًسا ومنظِّ ًما للعديد من الحركات ضد أعداء اإلسالم وضد نظام‬ ‫ِّ‬

‫‪- 17 -‬‬
‫ومؤس ًسا لل ّنشاطات اإلسالميّة العديدة في أميركا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشّ اه الطّاغوتي‪،‬‬
‫وبعد هزيمة العرب في حرب عام ‪ ،1967‬ضاق عليه فضاء أميركا‬
‫ال ّرحب‪ ،‬فذهب إلى أوروبا‪ ،‬الجزائر ومصر لتعلّم الفنون العسكريّة‬
‫وبقي سنتين في مصر‪ .‬وبعد وفاة جمال‬ ‫وفنون حروب العصابات‪َ ،‬‬
‫عبد الناصر عام ‪1970‬م‪ ،‬سافر إلى لبنان البلد المعذّب والجميل حيث‬
‫الصدر‬
‫خاصة من اإلمام موسى ّ‬ ‫يعيش الشّ يعة ظروفًا مؤلمة‪ ،‬بدعوة َّ‬
‫اإلسالمي البارز‪ .‬وأقام في جنوب لبنان في مدينة صور قرب‬‫ّ‬ ‫القائد‬
‫فكل‬
‫حدود فلسطين الغالية‪ ،‬ولك ّنه كان حاض ًرا في كل مكان من لبنان‪ّ ،‬‬
‫الساحة‬
‫مكان كان فيه خطر وقضيّة كان الشهيد شمران حاض ًرا في ّ‬
‫هناك‪.‬‬
‫أخذ ال ّدكتور شمران على عاتقه بناء المجموعات العسكريّة المقاوِمة‬
‫إلسرائيل باإلضافة إلى التّربية ال ّدينيّة وتقوية ال ّروح والعقيدة اإلسالميّة‪.‬‬
‫بعد انتصار الثّورة اإلسالم ّية اإليران ّية‪ ،‬عاد الشّ هيد شمران إلى إيران‬
‫شخصا من ال ّنخب والكوادر‬
‫ً‬ ‫بصحبة مجموعة من اثنين وتسعين‬
‫الخميني‬
‫ّ‬ ‫السياس ّية وال ّدين ّية اللّبنان ّية‪ ،‬وأسرع متل ّهفًا إلى لقاء اإلمام‬
‫ّ‬
‫العظيم‪ .‬وقد بقي في إيران بنا ًء على توصية منه‪ .‬كان يتابع باستمرار‬
‫مؤسسي الحرس‬‫برامجه في لبنان‪ ،‬في ذات الوقت الّذي كان فيه من ّ‬
‫الخميني {‪ ،‬وقد شارك كمقاتل‬ ‫ّ‬ ‫الثّوري في إيران بأمر من اإلمام‬
‫في الحرب ضد مؤامرات جيش ص ّدام حسين االنفصالية الخطرة في‬

‫‪- 18 -‬‬
‫السالح‪ ،‬واندفع‬‫كردستان‪ .‬ورغم أنّه كان مستشا ًرا لرئيس الوزراء‪ ،‬حمل ّ‬
‫لص ّد مؤامرات األعداء الشّ ديدة من خالل تنظيم وتفعيل الق ّوات‬
‫وخاصة الشّ عبيّة منها‪ ،‬وقد ُح ِفر اسمه هناك في التّاريخ‬
‫ّ‬ ‫المسلّحة‬
‫اإلسالمي إلى األبد‪ ،‬ومعه اسم [باوه] وحوادثها البطول ّية امتثاالً ألمر‬
‫[[[‬
‫ّ‬
‫الخميني { الحاسم هناك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلمام‬
‫مع بدء الحرب‪ ،‬انطلق نحو خوزستان وتولّى قيادة الق ّوات التّطوع ّية‬
‫بالحكَم‪ ،‬والبطوالت‪ .‬وحين كان‬ ‫العسكريّة والشّ عبيّة‪ .‬وخ ّط كتابًا مليئًا ِ‬
‫تمنح المقاتلين المعنويات‪ ،‬وتقصم‬ ‫اسمه وق ّواته المقاتلة والشّ جاعة ُ‬
‫ظهر األعداء المعتدين‪ ،‬احتضن الشّ هادة ظهر يوم الحادي والعشرين‬
‫في شهر حزيران عام ‪ 1981‬م‪ ،‬في قرية تدعى [دهالويه] قرب‬
‫الملكوتي‪ ،‬مسر ًعا نحو معبوده‬
‫ّ‬ ‫[سوسنغرد]‪ ،‬وحلّق إلى أوج العروج‬
‫حقيقي‪[ :‬أحيا ٌء‬
‫ّ‬ ‫حيث وصل إلى لقاء ربّه كي يصبح ممن هم وبشكل‬
‫عند ربّهم يُرزَقون]‪.‬‬
‫لم يكن ال ّدكتور شمران يجلس عاطالً عن العمل للحظة‪ ،‬فهو إ َّما كان‬
‫يعمل‪ ،‬أو يقرأ‪ ،‬أو يكتب‪ .‬حتّى حينما كان يتأخّر عقد جلسة ما‪ ،‬بضع‬
‫دقائق‪ ،‬كان أيضً ا يستفيد من هذه الفرصة القصيرة ويكتب‪ .‬وكان يخ ّط‬
‫لكي يُنشر يو ًما‪ .‬كان يع ّبر‬
‫ما يكتبه لنفسه وقلبه ال ألجل اآلخرين وال ّ‬
‫عن مكنوناته القلب ّية‪ ،‬فحي ًنا كان يناجي ربّه [تبارك وتعالى]‪ ،‬وأحيانًا‬

‫‪ .1‬مدينة الشّ هيد شمران ف ي� غرب إيران‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫عليًا ‪ Q‬وأحيانًا أخرى الحسين ‪ ،Q‬أ ًو يؤرخ حادث ًا‪ ،‬أو يطلق‬
‫الملكوتي‬
‫ّ‬ ‫العنان لروحه الشّ اعريّة والعرفان ّية‪ ،‬أو يطير بجنا َحي قلبه‬
‫في سفر وصعود روحانيّيْن‪ ،‬وفي حين آخر يبيِّن حقائق تاريخيّة‬
‫ببساطة وصراحة‪ ،‬وفي أحيان أخرى كان يتح ّدث عن آالمه وعذاباته‬
‫وغمومه الّتي كانت جميعها آال ًما وعذابات اجتماع ّية‪.‬‬
‫وحيثما كانت تذهب أفكاره‪ ،‬كان يكتب ما يعتمل في داخله دون‬
‫والسعادة تارةً‪ ،‬وطو ًرا عن العشق‬
‫تص ّنع وتكلّف‪ .‬عن التّأثر والشّ وق ّ‬
‫والمح ّبة اإلله ّية‪ ،‬وحي ًنا عن اآلالم والعذابات‪ ،‬وم ّرة عن الحرب والقتال‬
‫والسلوك‬
‫والسير ّ‬
‫الملكوتي ّ‬
‫ّ‬ ‫والمقاومة والشّ هادة‪ ،‬ويو ًما عن التّحليق‬
‫العرفاني‪ .‬ولم يكن قد كتب ما كتبه ليقرأه أح ٌد‪ ،‬ولم يكن يستحسن‬ ‫ّ‬
‫ليداوي قلبه الجريح المعذّب‪ .‬وقد كانت كلماته‬
‫َ‬ ‫ذلك‪ ،‬بل كان يكتب‬
‫مناجا ًة داخليّة وسي ًرا وسلوكًا عرفانيًا‪ ،‬وما نحن بصدده اآلن هو هذه‬
‫الخواطر والكتابات‪.‬‬
‫وقد ُجمعت في ع ّدة أبواب ومواضيع بنا ًء لوقت الكتابة‪ .‬وقد كُتبت‬
‫خالل سنين طوال‪ ،‬حول مواضيع شتّى ومتن ّوعة وقد تم ّيزت بالخ ّط‬
‫اإللهي المستقيم والعميق‪ ،‬رغم اختالف األمكنة واألزمنة وتباعدها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫سيني‪ .‬وقد تألأل‬
‫َوي وال ُح ّ‬
‫بكل ما فيها من معاني العشق والعرفان‪ ،‬ال َعل ّ‬
‫الساطع والباهر‪ ،‬وهو ما حصل عليه في‬ ‫فيها منذ البداية نو ُر الشّ هادة ّ‬
‫بكل سم ّو وهدوء الملكوتيّين المطمئ ّنين‪.‬‬ ‫ال ّنهاية ّ‬

‫‪- 20 -‬‬
‫السيد محمد قيصري الّذي أو ّجه إليه شكري‬‫جمع هذه المذكّرات ّ‬
‫وأرجو الله أن يمنحه األجر الكامل على أمل أن يوفّقنا الله العظيم‬
‫لمعرفة هؤالء ال ّرجال‪ ،‬الشّ هداء العظماء الفريدين‪ ،‬المربّين‬
‫لإلنسان‪.‬‬

‫[[[‬
‫مهدي شمران‬

‫‪ .1‬مهدي شمران‪ :‬شقيق الشهيد القائد مصطفى شمران‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫مذكرات أميركا |•‬
‫ّ‬ ‫•| من‬

‫‪1‬‬ ‫ً‬
‫صاحلا‬ ‫نويت أن أكون‬
‫أوائل صيف ‪1959‬‬

‫يدي من‬
‫صالحا؛ أغسل ّ‬ ‫لقد نويت من اآلن فصاع ًدا أن أصبح إنسانًا ً‬
‫وجل‪ّ ،‬‬
‫وأغض طرفي عن ال ّدنيا وما‬ ‫ال ّذنوب‪ ،‬أس ّلم قلبي بكامله لله ع َّز ّ‬
‫فيها وأجعل أنسي فقط في دموع المقلتين‪.‬‬
‫لقد قضيت أ ّيام طفولتي في عل ّو المقام والشّ رف وال ّزهد وال ّتقوى‪،‬‬
‫ويجب أن أص ّمم مج ّد ًدا ومن اآلن على أن أصلح نفسي وأدفع بها‬
‫ُقدُ ًما نحو ال ّتكامل‪ ،‬وأن أع ّلم نفسي كيف أنَّ حوادث الحياة‪ ،‬ول ْذع نار‬
‫ال ّذنوب تُنضج اإلنسان وتجعله أكثر ف ْه ًما لألسرار‪.‬‬
‫أريد أن أعرف ذاتي‬ ‫‪2‬‬
‫أوائل ربيع ‪1960‬‬

‫علي حوالَي ّ‬
‫السنة وأنا أكتوي بنار حارقة‪ .‬وقليلة هي ال ّليالي‬ ‫مضى َّ‬
‫اآلهات الحارق ُة‬
‫ُ‬ ‫ا ّلتي ِن ْم ُت فيها دون ذرف ال ّدموع‪ ،‬ودون أن تجعل‬
‫قلبي وروحي رما ًدا‪.‬‬
‫علي أن أتع ّذب؟‬‫علي أن أحترق؟ إلى متى ّ‬‫رباه‪ ،‬ال أدري إلى متى ّ‬
‫كل األحوال‪ ،‬في كل األماكن وعلى ال ّدوام َ‬
‫كنت شاه ًدا‪.‬‬ ‫وأنت في ِّ‬
‫ولكن‬
‫لدي عشق طاهر‪ ،‬وقد كنت أربطه بعبادة ذاتك المق ّدسة‪ّ ،‬‬ ‫كان ّ‬
‫ذلك قد خ ّلف في قلبي نا ًرا محرقة جعلت وجودي دخانًا‪ُّ .‬‬
‫أحس أنّني‬
‫ّ‬
‫سأظل أحترق إلى األبد‪ .‬وسأكون شمعة محترقة سعيدة باحتراقها!‬
‫الصبر في سيري إليك‪ .‬رباه أغثني‪..‬‬
‫ر ّباه‪ ،‬أطلب منك ّ‬
‫اليوم هو ال ّتاسع عشر من رمضان‪ ،‬اليوم ا ّلذي تخضّ ب فيه إمام البشر ّية‬
‫يوم يذ ّكرني بتضحياته‪ ،‬عظمته وأفعاله الجليلة ا ّلتي‬ ‫العظيم بدمه‪ٌ .‬‬
‫عشق‪ ،‬دموعي‪...‬عصار َة حياتي‪.‬‬‫ٍ‬ ‫منها أستم ّد العزم‪ ،‬وإليه أق ّدم ّ‬
‫بكل‬
‫ألتجئ إلى الجبال كي أناجيه‪ ،‬وفي تلك الوحدة‪ ،‬وعلى بعد آالف‬
‫السنين‪ ،‬أبوح له بلواعج قلبي‪.‬‬‫األميال وقرون ّ‬
‫كل العالم وما فيه ال يرضيني‪.‬‬ ‫ر ّباه‪ ،‬ال أدري ما هدفي من الحياة‪ّ .‬إن ّ‬
‫كل اتّجاه‪ :‬يعملون‪ ،‬يتعبون‪ ،‬ليصلوا‬ ‫في حين أرى ال ّناس يركضون في ّ‬

‫‪- 24 -‬‬
‫إلى نقطة ترضيهم قد وضعوها نصب أعينهم‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬أ ّيها ال ّرب الكبير‪ ،‬إنّني أنفر من األشياء ا ّلتي يسعى وراءها‬
‫ضحيت براحة ال ّليل‬
‫اآلخرون برغم أنّني أعمل أكثر منهم‪ ،‬ورغم أنّني ّ‬
‫وترف ال ّنهار‪ ،‬وال أزال‪ ،‬فإنّ نتائج ذلك ال تسعدني‪ .‬وأنا إنّما أمضي‬
‫قد ًما‪ ،‬مشار ًكا في معترك الحياة وعلى هذا ّ‬
‫الطريق دون أن أنتظر أ ّية‬
‫نتيجة‪ ،‬ألنّ ذلك واجبي!‬
‫السهاد عاد ًّيا وطبيع ًّيا‪ ،‬وتحت‬
‫لقد أصبح ال ّتعب بال معنى عندي‪ ،‬وصار ّ‬
‫ِ‬
‫العذابات والمحن لم تعد‬ ‫غدوت جب ًال مني ًعا‪ ،‬وإنّ‬
‫ُ‬ ‫الغم والحزن‬
‫وطأة ّ‬
‫تحزنني‪.‬‬
‫أنّى تس ّنى لي ال ّنوم ن ِْم ُت‪ ،‬وفي ّأي وقت اقتضى ال ّنهوض أفقت‪ ،‬آكل ّأي‬
‫الساعات ّ‬
‫الطوال نمت فيها على ال ّتراب في ال ّتالل‬ ‫شيء ُوجد‪ .‬كم من ّ‬
‫المحاذية لبركلي[[[‪ ،‬وكم من ال ّليالي ّ‬
‫الطوال قضيتها هائ ًما على ال ّتالل‬
‫الطويلة‬‫الصبح‪ .‬وكم من األ ّيام ّ‬ ‫وفي الشّ وارع المهجورة ح ّتى انبالج ّ‬
‫وهائم‪ ،‬حائ ٌر في وادي اإلنسان ّية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بت فيها جائ ًعا‪ .‬أنا درويش‬ ‫ا ّلتي ُّ‬
‫وأماني ليست كاآلخرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ور ّبما أكون قد خرجت منه‪ ،‬ألن أحاسيسي‬
‫يا ر ّبي العظيم‪ ،‬ماذا بقي لي؟ على ّأي أساس يجب أن أضع اسمي؟‬
‫هل جلدي وعظمي هما من سيحددان اسمي وشخص ّيتي؟ هل ستكون‬
‫أمنياتي وتص ّوراتي وآمالي مكنونًا لشخص ّيتي؟ ّأي شيء يشّ كل هذه‬

‫أم�كا‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ت‬


‫ال� درس فيها الشهيد القائد ي� ري‬
‫بركل‪ :‬اسم إحدى الجامعات ي‬
‫ي‬ ‫‪ .1‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫«األنا»؟ ّأي شيء هو ذاك ا ّلذي يعرفني ال ّناس به؟‪ ...‬أنظر في وجودي‪،‬‬
‫أبحث في ما حولي كي أتب ّين معل ًما لكياني ليصبح قاب ًال للفهم‪ ،‬على‬
‫األقل بال ّنسبة لي‪.‬‬
‫في هذه األثناء لست أنا سوى قلب محترق تتصاعد منه ألسنة ال ّلهب‪،‬‬
‫ا ّلتي ر ّبما تضي ُء وجودي‪ ،‬أو ر ّبما ُأدفن تحت رمادها‪ .‬نعم‪ ،‬ال أرى‬
‫كل شي ٍء بواسطته‪ ،‬أرى ال ّدنيا‬ ‫ُ‬
‫وأعقل ّ‬ ‫قلب ملتهب‪،‬‬ ‫لوجودي أث ًرا سوى ٍ‬
‫خذ الموجودات مظاهر أخرى لها‪.‬‬ ‫من ك ّو ِتهِ‪ ،‬في حين تتغ ُّير األلوان‪ ،‬وت ّت ُ‬

‫‪- 26 -‬‬
‫‪3‬‬ ‫رب‪ ...‬يا مظهر اآليات‬
‫يا ّ‬
‫‪ 29‬أيّار ‪1960‬‬

‫تُع ُّز من تشاء ُّ‬


‫وتذل من تشاء أ ّيها ال ّر ُّب العظيم‪ ،‬يا غايتي المرج ّوة‪ ،‬يا‬
‫منتهى آمال البشر‪ .‬أَخِ ُّر على ال ّتراب عاج ًزا أمامك وأسجد لك‪ ،‬أعبدك‪،‬‬
‫أشكرك‪ ،‬أحمدك‪ ،‬فأنت وحدك‪ ،‬أجل وحدك‪ ،‬أ ّيها ال ّر ّب العظيم‪ ،‬ال ّالئق‬
‫بالحمد والشّ كر‪ ،‬محبوب البشر الملكوت ّيين‪ .‬أنت وحدك مطلبي‪ .‬ولكن‬
‫واحسرتي إذ أنّني أعبد معظم مظاهر الحياة الخ ّداعة والزائلة سري ًعا بدالً‬
‫منك‪ .‬إنّني ُأبدي لها العشق وأنساك! إ ّال أنّه ال يمكن لي أن أس ّمي ذلك‬
‫نسيانًا‪ ،‬ألنّ ّأي جمال أو مظه ٍر ٍ‬
‫خادع هو أيضً ا مظه ٌر لك‪ ،‬والهيام بتجل ّياتك‬
‫عند الملكوت ّيين هو كذلك عشقٌ لذاتك‪ّ .‬أي شيء كان يفتنني كان يثير‬
‫عشقك في أعماق قلبي‪ .‬وعلى هذا يا ر ّبي العظيم‪ ،‬فال تؤاخذني بهذا‬
‫لكي أقترب منك أكثر فأكثر‪ ،‬ولكي‬ ‫العذر‪ .‬فقط هبني أن أكون أه ًال ّ‬
‫ال تجذب نظري هذه المظاهر الب ّراقة ا ّلتي ال تساوي شيئًا‪ ،‬في سيري‬
‫الطويل ا ّلذي أخطوه نحو ج ّنتك ال ّالمتناهية واألبد ّية‪ ،‬فال تحِ ْد بي عن‬‫ّ‬
‫السوي‪.‬‬
‫الطريق ّ‬ ‫ّ‬
‫أفرح في ال ّدنيا بأمور صغيرة ال قيمة لها‪ ،‬وأحزن من أخرى ال أساس‬
‫لها‪ .‬هذه األفراح واألتراح دليل على أنّني لست أه ًال بعد‪.‬‬
‫والهم‪ .‬ال زلت أسي َر الفرح وال ّل ّذة‪ ...‬لقد ق ّي ْ‬
‫دت‬ ‫ّ‬ ‫الغم‬
‫ال زلت أسي َر ّ‬

‫‪- 27 -‬‬
‫جناحي‪ ،‬وجعلتني أسي ًرا مهمو ًما دون‬‫ّ‬ ‫الطويلة‬ ‫سلسلة اآلمال واألمنيات ّ‬
‫ح ّر ّية‪ .‬أجل‪ ،‬فبيني وبين الح ّر ّية الواقع ّية فاصل كبير‪.‬‬
‫أحس أنّك ٌ‬
‫مرشد‬ ‫ولكن‪ ،‬يا ر ّبي العظيم‪ ،‬في هذه المرحلة ا ّلتي أحياها‪ُّ ،‬‬
‫حكيم‪ ،‬تأخذ بيدي وتنصحني‪ ،‬وتُظهر لي آياتك المق ّدسة وتق ّدم لي‬
‫العبر! كم من أمر كان يوحشني ويخيفني ساعدتني عليه‪ ،‬وأعطيت‬
‫األشيا َء المستحيلة والممتنعة بال ّنسبة لي إمكان ّي َة الحدوث‪ .‬وكم من‬
‫لت فيها االطمئنان واإليمان بمقدا ٍر ما‪ ،‬إ ّال أنّك‬ ‫حص ُ‬
‫كنت قد ّ‬ ‫أحوال ُ‬
‫والهم‪ ،‬مظه ًرا لي أن إرادة‬ ‫ّ‬ ‫الغم‬
‫كنت تسلبه مني وتجعلني أعاني ّ‬
‫ومشيئة ّأي شيء هي بيدك‪ .‬فمهما نج ّد في العمل ونحاول هنا وهناك‬
‫تبقى الع ّزة وال ّذ ّلة بيدك وحدك‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫‪4‬‬ ‫الغم تعال‬ ‫أ ّيها‬
‫ّ‬
‫‪ 18‬تشرين أ‬
‫ال ّول ‪1960‬‬

‫الغم‪ ،‬تعال‬
‫الغم‪ ،‬إليك سالمي الحا ّر‪ ،‬وروحي فدا ٌء لك‪ .‬أنت أ ّيها ّ‬
‫أ ّيها ّ‬
‫رفيقي ال ّدائم‪ .‬تعال‪ ،‬فمحادثتك تكفيني‪ .‬تعال فأنا أشتعل‪ ،‬تعال‬
‫َ‬ ‫وكن‬
‫غصتي تخنقني‪ .‬تعال كي أق ّدم لك ال ّدمع‪ ،‬تعال سألقي بقلبي‬ ‫فإنّ ّ‬
‫عند قدميك‪.‬‬
‫الغم‪ ،‬تعال ففؤادي منقبض‪ ،‬روحي ذابلة‪ ،‬قلبي منكسر‪ ،‬وكأس‬ ‫أ ّيها ّ‬
‫صبري قد فاضت‪ .‬تعال ّ‬
‫وحل ُع َقدي‪ ،‬تعال وح ّررني من العالم‪ ،‬تعال‬
‫محتاج بش ّدة إلى وجودك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فإنّني‬
‫كنت أكثر َمن رافقني في حياتي َ‬
‫وكنت أكثر مِن ّأي شخص‬ ‫الغم‪ ،‬لقد َ‬ ‫أ ّيها ّ‬
‫تؤ ّيدني‪ .‬واآلن تعال فأنا أريد أن أض ّمك إلى قلبي لألبد‪ ،‬وأرتمي في حضنك‪.‬‬
‫تعال فال أعرف صدي ًقا أفضل منك‪ .‬تعال فأنت تريدني وأنا أريدك‪ .‬تعال‬
‫كالسماء م ّت ٌ‬
‫صل‬ ‫فسفينتك المضطربة لها مكان في بحر قلبي‪ .‬تعال ففؤادي ّ‬
‫باألبد ّية وال ّالنهاية وبإمكانك أن تح ّلق فيه بحر ّية‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫يا صديقي القدمي‬ ‫‪5‬‬
‫‪ 12‬أيّار ‪1961‬‬

‫تعب وحيران‪ .‬لم يعد بي رمق‪ .‬قد انتهى صبري وتح ّملي‪.‬‬ ‫ر ّباه إنني ٌ‬
‫الحياة في نظري صعبة ومم ّلة؛ أريد الفرار من الجميع‪ ،‬أريد أن أهرب‬
‫إلى زاوية العزلة‪ .‬آه! قلبي منقبض‪ ،‬قد تف ّت َت تحت وطأة الضّ غط‪.‬‬
‫أتوجه إليك طال ًبا منك العون‪ .‬ال أملك سواك غو ًثا وملجأً‪ ،‬فلتكن‬
‫ر ّباه! ّ‬
‫مقلتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وحدك من يعلم‪ ،‬أنت فقط من يعلم بضميري‪ .‬أس ّلم لك دموع‬
‫ر ّباه! ساعدني‪ ،‬فقليلة هي الشّ هور ا ّلتي ّ‬
‫توجهت فيها إليك‪ ،‬أكثر‬
‫أوقاتي ُص ِر َفت لآلخرين‪.‬‬
‫ر ّباه! عفوك‪ .‬لقد تعبت وشبعت من العلم والمعرفة‪ ،‬من العمل‬
‫كل األصدقاء‪ ،‬من المع ّلم والمدرسة‪،‬‬ ‫والج ّد‪ ،‬من ال ّدنيا وما فيها‪ ،‬من ّ‬
‫والسماء‪.‬‬
‫من األرض ّ‬
‫أقضي م ّدة في زاوية الخلوة معك فقط‪ .‬أسكب‬ ‫َ‬ ‫ر ّباه! كم ي ِل ّذ لي أن‬
‫أئن مف ّر ًغا ضغوطي وأشجاني ال ّداخل ّية‪.‬‬
‫ال ّدمع‪ّ ،‬‬
‫أ ّيها ال ّر ّب العظيم‪ ،‬لست أفهم معنى الحياة‪ .‬واألشياء ا ّلتي تسعد‬
‫كل شيء‪ ،‬حتى أنّي أنفر من‬ ‫اآلخرين تتعبني‪ .‬لقد شبع قلبي من ّ‬
‫السعادة وال ّل ّذة‪ .‬األمور ا ّلتي يسعى ورا َءها اآلخرون أف ّر منها‪ .‬هناك‬
‫ّ‬

‫‪- 30 -‬‬
‫سماوي يظ ّلل قلبي وروحي وال يتعبني أب ًدا‪ .‬إنّه صديق‬
‫ّ‬ ‫فقط مالك‬
‫ألتذ بمجالسته‪ .‬فقط‬‫قديم قد تع ّرفت عليه من أ ّول العمر وال زلت ُّ‬
‫بفرح دو ًما‪ ،‬أال‬
‫ساطع واحد‪ ،‬ونغمة تداعب القلب‪ٍ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫حلو ونو ٌر‬
‫اب ٌ‬ ‫شر ٌ‬
‫الغم‪.‬‬
‫وهو صديقي القديم‪ّ :‬‬
‫الغم‪ ،‬يا صديقي القديم‪ٌ ،‬‬
‫سالم عليك‪ ،‬تعال فقلبي يخفق ألجلك‪.‬‬ ‫أ ّيها ّ‬

‫‪- 31 -‬‬
‫ال أمنية يل سواك‬ ‫‪6‬‬
‫‪ 1‬أيلول ‪1961‬‬

‫للصمود في وجه الشّ دائد والباليا‪ ،‬متح ّم ًال ّ‬


‫كل‬ ‫لدي استعدا ًدا كام ًال ّ‬
‫إن ّ‬
‫الطريق لآلخرين‪،‬‬ ‫كل المحن‪ ،‬مشتع ًال كالشّ معة مضيئًا ّ‬‫العذابات‪ ،‬أتق ّب َل ّ‬
‫أن أنفخ ال ّروح في األموات‪ ،‬وأروي عطاشى الحقّ والحقيقة‪.‬‬
‫أخذت على عاتقي هذه المسؤول ّية ال ّتاريخ ّية‬ ‫ُ‬ ‫أ ّيها ال ّر ّب الكبير‪ ،‬لقد‬
‫أمامك‪ ،‬وأنت وحدك تبصر أعمالي‪ ،‬وأنت فقط من أرجوه ملجأً لي‬
‫وأطلب منه العون‪.‬‬
‫علي أن أكون‪ ،‬علم ًّيا‪ ،‬أفضل من اآلخرين حتى ال أكون مع ّرضً ا لذ ّم‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أثبت لقساة القلوب أولئك‪ ،‬الذين ي ّتخذون العلم‬ ‫علي أن َ‬ ‫األعداء‪َّ .‬‬
‫علي‬
‫قدمي‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وسيل ًة ليفاخروا به اآلخرين‪ ،‬أنّهم لن يساووا ح ّتى تراب‬
‫ثم أكون أكثر‬ ‫أن ُأخضع ذوي القلوب ّ‬
‫السوداء المغرورين والمتك ّبرين‪ّ ،‬‬
‫األفراد خضو ًعا وتواض ًعا على وجه األرض‪.‬‬
‫أ ّيها ال ّر ّب العظيم‪ ،‬هذه األمور ا ّلتي أريدها إنّما أرغب فيها ألك ّرسها في‬
‫أطلب منك‬
‫سبيلك‪ .‬وأنت تعلم ج ّي ًدا أنّني أملك المقدرة على ذلك‪ُ .‬‬
‫مطأطأَ‬
‫َ‬ ‫تهبني ال ّتوفيق ح ّتى تكون أعمالي مثمرة وحتى ال أصبح‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫ال ّرأس أمام األعداء‪.‬‬
‫علي أن أعمل أكثر‪ ،‬أن أتج ّنب الهوى والهوس‪ ،‬أن أر ّكز َ‬
‫قواي أكثر‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪- 32 -‬‬
‫وأطلب منك أيضً ا يا إلهي العظيم أن تعينني أكثر‪.‬‬
‫لدي سوى سبيلك وكمالك وجمالك‪ .‬إنّ‬ ‫أنت يا إلهي‪ ،‬تعلم أنّ ال أمنية ّ‬
‫وتعلم أن الع ّزة وال ّذ ّلة بيدك‪ .‬وأعلم‬
‫ُ‬ ‫ما أريد ُه هو أمر قد أَ َم ْر َت به أنت‪،‬‬
‫بكل إخالص أن تساعدني وتأخذ بيدي‪.‬‬ ‫أنّني بدونك ال شيء‪ ،‬فأرجوك ّ‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ر ّباه إنّي أختنق‬ ‫‪7‬‬
‫‪ 10‬أيّار ‪1965‬‬

‫ر ّباه إنّني ألوذ بك‪ .‬ر ّباه إنّني أسير إليك‪ .‬ر ّباه إنّني ذو ّ‬
‫حظ س ّيئ‪ .‬ر ّباه!‬
‫يتفجر‪ .‬ر ّباه! إنّني أتع ّذب‪ .‬ر ّباه! قد أصبح‬
‫إنّني أحترق‪ .‬ر ّباه! إنّ قلبي ّ‬
‫العالم مظل ًما ومعت ًما في نظري‪.‬‬
‫ُ‬
‫أصبحت مسكي ًنا‪.‬‬ ‫ر ّباه! قد‬
‫إلي‪ ،‬أصبح مك َّد ًرا‪.‬‬
‫أحب ال ّناس ّ‬
‫ر ّباه! العشق‪ ،‬ح ّتى عشق ّ‬
‫ر ّباه! إنّني مسكين‪.‬‬
‫ر ّباه‪ ،‬قد أصبحت سماء آمالي وأمنياتي مظلم ًة وك ِد َرة‪ .‬ألوذ بك‪ ،‬وأم ّد‬
‫قلبي‬
‫السكينة‪ ،‬هب َ‬ ‫نجني‪ ،‬هبني ّ‬ ‫إليك ي ًدا ترجو المعونة‪ .‬ساعدني‪ّ ،‬‬
‫أحد سواك‪ .‬وفي الحقيقة ال أح َد لي‬ ‫المتأ ّل َم َّ‬
‫الطمأنين َة‪ ،‬فليس لي ٌ‬
‫أطمئن إلى أحد‪ .‬ال يمكنني أن أعيش على أملِ‬ ‫ّ‬ ‫غيرك‪ .‬ال يمكنني أن‬
‫أحد‪ .‬لقد نفر قلبي من الجميع‪ .‬إنّني يائس من الجميع‪ .‬إنّني متأ ّلم‬
‫من ال ّدنيا‪.‬‬
‫مغتم وذو قلب ذاوٍ‪ ،‬رغم أنّ الجميع يظ ّنون أنّني سعيد‪.‬‬
‫أنا َتع ٌِب‪ّ ،‬‬
‫فرحا‬
‫رغم أنّني أذهب إلى أصعب المه ّمات‪ ،‬رغم أنّني يجب أن أكون ً‬
‫وضاح ًكا‪ .‬ولكن كم أنا حزين وكئيب‪ .‬الحزن واألسى يضغطان على‬

‫‪- 34 -‬‬
‫ُ‬
‫اقتربت من االختناق‪.‬‬ ‫قلبي ح ّتى أنّني ال أستطيع البكاء أو التأ ّوه‪ .‬لقد‬
‫فنجني‪ .‬أنت فقط من يستطيع أن يساعدني في هذه‬ ‫ر ّباه! ألوذ بك ّ‬
‫محتاج إلى عونك‪ ،‬وليس هناك أحد‬
‫ٌ‬ ‫أتوجه إليك‪ .‬إنّني‬
‫المحن‪ .‬إنّني ّ‬
‫يحل مشكلتي سواك‪.‬‬ ‫يقدر على أن َّ‬

‫‪- 35 -‬‬
‫مذكرات لبنان |•‬
‫ّ‬ ‫•| من‬

‫‪1‬‬ ‫قطرة دمع‬


‫أيّار ‪1976‬‬

‫الصدر‪ .‬مضت أشهر‬ ‫عزمت ال ّذهاب إلى برج ح ّمود بأمر اإلمام موسى ّ‬
‫على محاصرة هذه المنطقة أ ّيام الحرب األهل ّية‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يخرج‬
‫كل يو ٍم ُيقتل عدد من المسلمين البؤساء خالل عبورهم من هذه‬ ‫منها‪ّ .‬‬
‫المنطقة‪ .‬قبل ع ّدة أ ّيام‪ ،‬ذبح س ّتة أشخاص أثناء خروجهم من برج ح ّمود‪.‬‬
‫للصراخ‪ .‬تسعون في المائة من س ّكان‬ ‫الفقر والجوع يدفعان المرء ّ‬
‫هذه المنطقة المنكوبة قد هرب‪ .‬إنّها منطقة مصابة ومبتالة‪ .‬إنّها‬
‫عرضة لالعتداء والقصف في ال ّليل وال ّنهار!‬
‫أذهب إلى هناك وأوز َّع مقدا ًرا من ّ‬
‫الطحين‪ ،‬األر ّز‬ ‫َ‬ ‫لقد ُأمرت أن‬
‫والس ّكر والحاجات األخرى‪ .‬أن أرى عن قرب حاجات ال ّناس وأج َد ح ًال‬ ‫ّ‬
‫لهؤالء المفجوعين‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫على الشّ خص أن يكتب وص ّيته‪ ،‬ويج ّهز نفسه للموت‪ .‬وقد فعلت ذلك‪.‬‬
‫منذ أشه ٍر وأنا على هذه الحال‪ ،‬وكأنّ حياتي ومماتي س ّيان!‬
‫ألي حركة‪ .‬قطعت‬ ‫كانت المنطقة الفاصلة منطق َة موت‪ .‬ال وجود ّ‬
‫محطمة‪ ،‬عند ّ‬
‫كل زاوية‬ ‫الطريق‪ .‬أنابيب المياه ّ‬ ‫القذائف الثّقيلة أوصال ّ‬
‫وجانب ترى س ّيارة مد ّمرة ومحترقة‪ .‬ما أوحش ذلك! لقد ألقى الموت‬
‫بظ ّله على ّ‬
‫كل مكان‪.‬‬
‫وصلنا إلى حاجز بعض الميليشيات‪ُ ،‬أو ِق ْفنا لل ّتفتيش‪ .‬كانت لحظة‬
‫علي النتهى أمري‪ ...‬هنا يذبح ال ّناس‪ ،‬اآلالف قد‬ ‫خطرة‪ ،‬لو تع ّرفوا ّ‬
‫خسروا حياتهم عند هذه ال ّنقطة وبأفجع صورة‪ .‬لحظة الموت‪ ،‬انتظار‬
‫الموت؛ كم أنّ ذلك مخي ًفا‪ ...‬لك َّنها لحظة ال تش ّكل ّ‬
‫لدي فر ًقا‪ ،‬فالموت‬
‫ُ‬
‫تآلفت فيها مع الموت‪.‬‬ ‫إلي جميل ومحبوب‪ .‬مضت سنون‬ ‫بال ِّنسبة ّ‬
‫الس ّيارة هاد ًئا ومبتس ًما ّ‬
‫بكل برودة أعصاب‪،‬‬ ‫جالسا في مؤخّ رة ّ‬
‫كنت ً‬
‫ومعي ثالثة بمنأى عن االعتداءات‪ .‬إنّهم محسوبون من ضمن رعايا‬
‫هيئة األمم ويمألون المنطقة الفاصلة‪...‬‬
‫الس ّيارات الحاجز واحد ًة تلو األخرى‪ ،‬أخي ًرا وصلت سيارتنا إلى‬ ‫تجتاز ّ‬
‫تدل على أنّه ٌ‬
‫ضابط‬ ‫ضابطا‪ ،‬وكانت مالبسه ُّ‬ ‫الحاجز‪ .‬كان مأمور الحاجز ً‬
‫طلب بطاقات الهو ّية‪ .‬أظهر الثّالثة بطاقاتهم واح ًدا تلو‬
‫في المغاوير‪َ .‬‬
‫اآلخر‪ .‬كان يطالعها بد ّقة ممع ًنا ال ّنظر في الوجوه ّ‬
‫وموج ًها بعض األسئلة‪.‬‬
‫جاء دوري‪ .‬كان قلبي يخفق بش ّدة‪ ،‬لك ّنني حافظت على هدوئي‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫استسلمت للقضاء والقدر وتو ّكلت على الله‪ ،‬مح ّد ًقا في وجه الضّ ابط‬
‫وأعصاب باردة‪ .‬كنت أعلم أنّه ال يمكنني أن أم َّر بسالم‪ ،‬لك ّني‬ ‫ٍ‬ ‫بهدوء‬
‫كنت أحمل جواز سف ٍر لغريب يشبهني‪ .‬أعطيته له‪ .‬أخذه وق ّل َب ُه‬
‫بدقة ورماني بنظرة عميقة ومخيفة‪ ...‬كأنّها نظرة عزرائيل‪ .‬خاطبته‬
‫ببضع كلمات فرنسية قائ ًال له‪« :‬إنّني طبيب وقد جئت لتف ّقد مشفى‬
‫الفرنس ّيين»‪ ،‬وكأنّه ص ّدق كالمي وس ّلم أمام نظراتي المؤثرة والهادئة‪،‬‬
‫ٌ‬
‫منطقة‬ ‫وأرجع لي جواز السفر‪ .‬عبرنا حاجز الموت ودخلنا األشرفية‪ .‬إنّها‬ ‫َ‬
‫الكل فيها مس ّلح‪ .‬في كل مكان ترى آثار الدمار والخراب‪.‬‬ ‫مد ّمرة‪ّ ،‬‬
‫منطقة مخيفة‪ ،‬في كل مكان منها يكمن الرعب‪ ،‬كأنّها القلعة ا ّلتي‬
‫السواد‪ ،‬وصور القتلى مع ّلقة‬ ‫تنتظر هجوم العد ّو‪ .‬ال ّنساء ك ّلهن يلبسن ّ‬
‫على الجدران‪ ،‬وآثار الموت والحداد واضحة على األبواب والجدران‪.‬‬
‫صد ًقا إنّه ألمر مؤ ّثر‪.‬‬
‫عبرنا األشرف ّية ووصلنا إلى برج ح ّمود‪ ،‬ثم دخلنا إلى ال ّنبعة‪ .‬إنها منطقة‬
‫والبسة ثوب الحداد‪ ،‬وجائعة ومحتاجة‪ .‬قد عانت‬ ‫ٌ‬ ‫منكوبة ومحرومة‬
‫من الجوع والحصار وتح ّملت مصائب هذه الحرب القذرة‪.‬‬
‫أحس أنّني أشارك جميع ساكنيها‪ :‬األطفال‪،‬‬ ‫عندما أمشي في ال ّنبعة‪ُّ ،‬‬
‫ال ّنساء والمقاتلين إحساسهم باأللم‪ ،‬وأبادلهم المح ّبة‪ .‬إنّه اإلحساس‬
‫بأنّ هؤالء ال ّناس يعانقون الموت لي ًال ونها ًرا‪ ،‬ويقضون ال ّليل وال ّنهار‬
‫تحت خطر االنفجار‪ .‬لي ًال نها ًرا يسمعون نداء الموت يطرق أبوابهم‬
‫ويأخذهم واح ًدا تلو اآلخر‪ .‬إنّه اإلحساس بأنّهم يقاومون الخطر‬

‫‪- 39 -‬‬
‫والجوع ويكملون طريقهم ويتن ّفسون‪ .‬هذه األحاسيس المختلفة أ ّثرت‬
‫خاص لها‪.‬‬ ‫في‪ّ ،‬‬
‫ولدي اعتبا ٌر ٌ‬ ‫ّ‬
‫الصدر) بمساعدة‬ ‫ذهبت أو ًال إلى المشفى ا ّلذي ّأس َسه اإلمام (موسى ّ‬
‫الفرنس ّيين‪ .‬آه‪ ،‬ر ّباه كم كان ذلك مفج ًعا! كان هناك رجالن مصابان‬
‫بال ّرصاص يحتضران على سرير ويعانقان الموت‪ .‬كان دمهما ينزف‬
‫ويجري على األرض‪ .‬كان هناك بضع ُة جرحى آخرين جالسين في غرفة‬
‫االنتظار‪ .‬كان ذلك مؤل ًما ج ًدا‪...‬‬
‫الطرف اآلخر‪ ،‬وتحدي ًدا في مقابلنا‪ ،‬كانت توجد‬‫وراء المتاريس‪ ،‬وفي ّ‬
‫متاريس‪ .‬لو أن مقات َلين متواج َهين نظرا إلى بعضهما من ك ّو ٍة ما بين‬
‫كل منهما‪ .‬وكنت ّ‬
‫أتعجب‬ ‫عيني ّ‬
‫المتاريس‪ ،‬الستطاعا أن يعرفا حتى لون ّ‬
‫كيف يمكن إلنسانٍ أن ينظر إلى عينِ إنسان آخر بهذا القرب ويقتله! في‬
‫الطرفين؛ كانت نقطة خطرة‪.‬‬‫أشخاص كثيرون من ّ‬
‫ٌ‬ ‫هذه ال ّنقطة كان قد مات‬
‫مقاتل من المدافعين عن المنطقة قد استق َّر ثلج الشّ يب على رأسه‪،‬‬‫ٌ‬
‫برق الشّ وق في عينيه ووهج العشق‬ ‫سالحا بيد ووردة باألخرى‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫يحمل ً‬
‫في قلبه‪ ،‬في معرض الخطر‪ ،‬تحت مرمى نيران العد ّو‪ ،‬يذهب وراء‬
‫الجمال ليع ّبر له عن الشّ جاعة وال ّتضحية! ّأي شجاعة هذه! لقد كانت‬
‫صورة ج ّذابة‪.‬‬
‫شفتي كانتا ترتجفان‪ ،‬وكان‬
‫ّ‬ ‫أحضر ورد ًة وق ّدمها لي‪ .‬أردت شكره‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫قلبي يغلي وصوتي ال يخرج‪ ،‬لذلك أجبته بقطرة دمع‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫‪2‬‬ ‫بهدوء وطمأنينة‬
‫حزيران ‪1976‬‬

‫ر ّباه! ّأي نعمة كبيرة وهبتنيها إذ ال أخاف الموت وال أخضع لتهديد‬
‫والسفهاء‪.‬‬
‫ووعيد قصيري ال ّنظر ّ‬
‫كل مكان‪ُ ،‬يخضعان ال ّناس‬ ‫ده ٌر عجيب‪ :‬اإلرهاب والوحشة يحكمان ّ‬
‫ألوامرهما وأفكارهما بق ّوة ال ّرصاص والحراب‪ .‬وال ّناس الجبناء كال ّنعام‬
‫يسجدون أمام الق ّوة‪ .‬أ ّما أنا‪ ،‬أنا المتأ ّلم‪ ،‬أنا ا ّلذي يرى الموت حل ًوا‬
‫وج ّذا ًبا‪ ،‬أنا المبتسم دائ ًما للموت والمسارع الستقباله على ال ّدوام‪،‬‬
‫لدي في هذه ال ّدنيا وال أخس ُر شيئًا بالموت‪،‬‬‫أمل وال أمني َة ّ‬ ‫أنا ا ّلذي ال َ‬
‫أحس بالق ّوة ّ‬
‫والطمأنينة‪ .‬وهؤالء‪ ،‬سوا ًء‬ ‫السفالء ُّ‬‫أنا في مواجهة هؤالء ّ‬
‫متعجبين‪ :‬كيف يمكنني أن أقف‬ ‫ّ‬ ‫األعداء أو األصدقاء‪ ،‬يتساءلون‬
‫بجسارة أمام عواصف األحداث وأستقبل بروحي أمواج الموت ثم‬
‫الطمأنينة وهذا الهدوء؟‬ ‫أبتسم بهذه ّ‬

‫‪- 41 -‬‬
‫يف بوتقة االختبار‬ ‫‪3‬‬
‫‪ 9‬كانون أ‬
‫ال ّول ‪1971‬‬

‫حدث عند الحدود الجنوب ّية مع فلسطين‬ ‫ٍ‬ ‫م ّرت ع ّدة أ ّيام دونما‬
‫دوي االنفجارات يصل إلى األسماع على ال ّدوام‪.‬‬
‫المحتلة‪ .‬قبل ذلك كان ّ‬
‫واضحا أنّ اإلسرائيل ّيين يقصفون القرى بالمدفع ّية ّ‬
‫والطيران‪ .‬كان‬ ‫وكان ً‬
‫واضحا من على بعد ع ّدة كيلومترات‪ ،‬ويه ُّز أبواب‬
‫صوت االنفجار يصل ً‬
‫وحيطان المدرسة‪ّ .‬‬
‫وكل عدة أ ّيام ُيحضر المواطنون أحد الشّ هداء من‬
‫خاصة بدفن الشّ هداء‪.‬‬
‫اسم ّ‬‫الحدود ويوارونه الثّرى ضمن مر َ‬
‫في أميركا‪ ،‬كان مسير العمر مالئماً وهادئاً‪ ،‬ولك ّنه هنا عاصف ومتوتّر‪.‬‬
‫كل يوم من أ ّيام الحياة هنا زوبعة‪ ،‬ومع ّ‬
‫كل خطوة د ّوامة من األعمال‪.‬‬ ‫في ّ‬
‫وحيث إن للعقل والقانون دور مح ّدد‪ ،‬فإنّ المصير يح ّدده ّ‬
‫الطوفان‪.‬‬
‫ال ّدنيا! هي دنيا القهر والحقد‪ ،‬إذ يمكن لحادثة صغيرة أن تقلب‬
‫رأسا على عقب ويمكن لمسألة واهية أن تجعل وجودك هباء‪.‬‬
‫حياتك ً‬
‫كنت قد سمعت عن القبض والبسط [الشّ دة واليسر] في الحياة‪ ،‬لك ّنني لم‬
‫أكن قد ج ّربتهما إلى هذا الح ّد‪ .‬خالل األشهر الثّالثة ا ّلتي قضيتها هنا كبرت‬
‫ع ّدة سنوات‪ .‬عندما خرجت من أميركا لم يكن هناك شيب في شعري‪ ،‬ولك ّنه‬
‫كل مالبسي قد أصبحت‬ ‫اآلن أصبح كثيرا! وزني تضاءل ج ًّدا إلى ح ّد أنّ ّ‬
‫علي لدرجة أنّني لم ألبسه في أميركا‪،‬‬ ‫واسعة‪ ،‬بعض سراويلي كان ض ّي ًقا ّ‬

‫‪- 42 -‬‬
‫الصبر وال ّتح ّمل ا ّلذي كابدت ُه‬
‫أ ّما اآلن فإنّه يبدو كبي ًرا وواس ًعا‪ .‬مع كل هذا ّ‬
‫وأكابد ُه‪ ،‬فليس ببعيد أب ًدا أن أكون قد أصبت بالقرحة! ذلك أنّني في أغلب‬
‫األوقات أحترق بنار القهر والغضب وحسرة ال ّنفس‪ .‬ضغط األعصاب هنا‬
‫أم ٌر طبيعي‪ ،‬وأولئك ا ّلذين لم يعتادوا عليه هم في معرض الخطر‪ .‬بحقّ ‪،‬‬
‫إنّ اإلنسان يقول الكثير عن ُبعد‪ ،‬وي ّدعي ا ّدعاءات كثيرة‪ ،‬ولكن في بوتقة‬
‫االختبار تستبين المعادن‪ .‬برأيي أنّ الحرب مع إسرائيل ليست أم ًرا معق ًدا‬
‫كثي ًرا بال ّنسبة للعرب‪ .‬مشاكلهم الواقع ّية معق ّدة أكثر بكثير من مشكلة‬
‫بالطبع يمكن ُّ‬
‫حل المشكالت األساس ّية روي ًدا روي ًدا خالل‬ ‫الحرب مع إسرائيل‪ّ .‬‬
‫الحرب‪ .‬ولكن يجب أن ُيعلم أنّ إسرائيل ذاتها كانت وليدة تلك المشاكل‬
‫الواقع ّية واألساس ّية‪ .‬ومشكالتُها أكب ُر بم ّرات مما ك ّنا نراه من الخارج‪.‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫سخرين إلرادتك‬
‫ر ّباه‪ّ ..‬‬ ‫‪4‬‬
‫تشرين الثّاني ‪1972‬‬

‫أ ّيتها ال ّنار أغيثيني‪ ،‬أغيثيني فأنا أحترق بنا ٍر دائمة‪ .‬قد نفد صبري‪.‬‬
‫السكينة‬
‫أهب نفسي ّ‬ ‫قلبي المليء باأللم لم تعد لديه ُّأي طاقة‪ُ .‬‬
‫عيني ج ّفتا كذلك‪.‬‬
‫لكن َّ‬
‫بواسطة ال ّدموع‪ّ ،‬‬
‫ر ّباه قد لجأت إليك‪ .‬امأل قلبي بح ّبك بحيث ال يكون فيه ّأي مكان‬
‫قدمي إلرادتك‬
‫ّ‬ ‫لعشق اآلخرين‪ .‬سخّ ر وجودي من رأسي إلى أخمص‬
‫لدي‪.‬‬
‫كي ال أفكر في غيرك وال يكون لألمور األخرى ّأي شأن ّ‬

‫‪- 44 -‬‬
‫‪5‬‬ ‫حمفل الوجود‬
‫تشرين الثّاني ‪1972‬‬

‫كل المالئكة حضرت في ساحة ال ّر ّب العظيم‪ .‬كان‬ ‫كان يوم القيامة‪ّ .‬‬
‫يو ًما مليئًا باأل ّبهة‪ .‬كان الجميع يتق ّدمون ويرون منزلتهم وقدرهم‬
‫في محضر العدل اإللهي‪ .‬وتبعاً لشأنهم وقيمتهم كانوا يستق ّرون في‬
‫الموضع المحدد لهم‪ّ .‬‬
‫كل األشياء‪ ،‬ال ّنباتات‪ ،‬الحيوانات‪ ،‬البشر‪ ،‬والعقول‬
‫المج ّردة‪ ،‬كانت تتق ّدم لترى منزلتها‪.‬‬
‫أتت ال ّنملة وتح ّدثت عن عملها ال ّدؤوب‪ ،‬وجلست في مكانٍ ما‪ .‬أتى‬
‫الطاووس‪ ،‬أتى‬‫الكلب‪ ،‬ق ِد َم الغزال‪ ،‬أتى ال ّديك‪ ،‬جاء ّ‬
‫ُ‬ ‫العصفور‪ ،‬جاء‬
‫كل تح ّدث عن شأنه وجماله واستق ّر في مكان ما‪.‬‬ ‫األسد‪ٌّ ،‬‬
‫كل قد عرض شأنه وخدماته وجلس‬ ‫أتت الوردة‪ ،‬الشّ جرة‪ ،‬سنبلة القمح‪ٌّ ،‬‬
‫قصصا عن ال ّذكريات‬
‫في مكانه‪ .‬أتى البشر‪ ،‬جاء آدم‪ ،‬جاءت ح ّواء‪ ،‬وس َردا ً‬
‫البعيدة ّ‬
‫والطويلة‪ .‬ذكرا ال ّل ّذة األولى واعترفا بالخطيئة األولى‪ .‬سجدا لله‬
‫ثم استقرا مكانهما‪ .‬جاء ال ّناس اآلخرون‪ ،‬جاء نوح ‪ ،Q‬جاء إبراهيم‬ ‫ّ‬
‫‪ ،Q‬جاء موسى ‪ ،Q‬جاء عيسى المسيح ‪ ،Q‬جاء محمد‬
‫علي ‪ .Q‬جاء‬ ‫‪ ،P‬وتح ّدث عن رسالته العظيمة للبشر ّية وجاء ّ‬
‫الجميع وتح ّدثوا ساردين قصصهم وعجائبهم وجلسوا في أماكنهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كل تح ّدث عن عباداته و ُق ُرباته وجلس في مكانه‪.‬‬ ‫جاءت المالئكة‪ٌّ .‬‬
‫عندئذ‪ ،‬جاء العقل؛ زاغت األبصار من نوره‪ ،‬وخضعت ال ّرؤوس لجالله‪،‬‬
‫كشمس ساطع ٍة وسط العالم‪ .‬تح ّدث‬ ‫ٍ‬ ‫كرسي عالٍ‬
‫ّ‬ ‫واستق ّر هو على‬

‫‪- 45 -‬‬
‫العقل عن أفضل ّيته‪ .‬لقد ع ّلم البشر كيف ّية إيقاد ال ّنار‪ .‬وصنع العجلة‬
‫لنقل األشياء الثّقيلة‪ ،‬اكتشف الحديد‪ ،‬ه ّيأ وسائل العيش‪ .‬خ ّب َر عن‬
‫ال ّذكريات البعيدة وتن ّبأ بالمستقبل المبهم‪َ .‬منح اإلنسان األفضل ّية على‬
‫فأي كائنٍ يمكنه أن يدانيه؟‬‫الطبيعة‪ ،‬وفي هذا المجال ُّ‬ ‫ّ‬
‫الصمت على المكان ك ّله‪ .‬وفجأة حدث برق ورعد‪،‬‬ ‫م ّرت م ّدة‪ ،‬استولى ّ‬
‫والسماء‪ ،‬وانطلق ندا ٌء من عند الله يأمر العقل بأن‬ ‫تزلزلت األرض ّ‬
‫يسكت‪ ،‬قائ ًال‪ :‬إليكم أعظم خلقي ا ّلذي خلقت كل الخلق ألجله‪ ،‬إنّه‬
‫القلب من هذا العالم فستنطفئ الحياة‪ .‬إن ُ‬
‫سلبت‬ ‫أزلت َ‬ ‫القلب‪ .‬فإن أنا ُ‬
‫كل ذرات الوجود‪ .‬لو لم يكن القلب والعشق‪،‬‬ ‫الكون العشقَ تتالشى ُّ‬
‫يعي الجمال؟ كيف كان له أن يدرك عظمة‬ ‫فكيف كان لإلنسان إ ًذا أن َ‬
‫وتوسل ال ّنجوم في قلب ال ّليل؟‬
‫السماوات؟ كيف كان له أن يسمع دعا َء ّ‬ ‫ّ‬
‫كيف كان له أن يدرك ما وراء الخلق‪ ،‬أو يدرك وجود الخالق؟‬
‫جلس الجميع في أماكنهم‪ ،‬وجلس العقل خَ ِج ًال على كرس ّيه‪ ،‬واستق َّر‬
‫القلب كمظ ّل ٍة من نو ٍر على رأس جميع موجودات عالم الخلق على أنّه‬
‫أول ٍّ‬
‫تجل لل ّرب العظيم‪.‬‬
‫منذ أن خلق الله الخلق‪ ،‬كان القلب فقط موضع ثقة الله العظيم‪،‬‬
‫هدف الحياة‪ .‬القلب وحده المعراج إلى‬ ‫َ‬ ‫وصار العشق‪ ،‬وتج ّلياته‪،‬‬
‫السماوات‪ ،‬وهو الوسيلة الوحيدة ا ّلتي ُي ْد َرك بها اللهَ‪ .‬إنّه‬ ‫ملكوت ّ‬
‫ٌ‬
‫مضيئة تني ُر‬ ‫شمس‬
‫ٌ‬ ‫نجمة االفتخار‪ ،‬تسطع على جبين الخليقة‪ .‬إنّه‬
‫وعصارة الوجود‬ ‫باطن الكون وتوصل اإلنسان إلى الله‪ .‬القلب هو روح ّ‬
‫ا ّلتي ال معنى للحياة بدونها‪.‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫‪6‬‬ ‫السماء‬
‫أفرح بارتفاع ّ‬
‫تشرين الثّاني ‪1972‬‬

‫هابطا إلى األرض الختباري‪ ،‬فإنني‬ ‫كنت رسوالً ر ّبان ًيا ً‬


‫أ ّيها األلم‪ ،‬إذا َ‬
‫أبجلك‪ ،‬أعانقك وال أشتكي أب ًدا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫يحترق بنار األلم‪ ،‬ورمادي ُيذ ُّر في‬ ‫دع ُع َقد مشاكلي تتف ّكك‪ ،‬ووجودي‬
‫بكل عشق‪.‬‬‫الهواء‪ ،‬وستراني صاب ًرا‪ ،‬وأعبد ر ّب َي العظيم ّ‬
‫كل االبتالءات المؤلمة ا ّلتي وضع َتها في طريقي‪،‬‬ ‫أَي ر ّبي‪ ،‬إنّني أقبل ّ‬
‫هذه العذابات الموجعة ا ّلتي وهبتنيها‪.‬‬
‫ِ‬
‫وصارت‬ ‫أصبح ِت ال َّنا ُر سال ًما ّ‬
‫علي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الغم واأللم‪ .‬قد‬ ‫ِست ّ‬ ‫ر ّباه‪ ،‬قد أن ُ‬
‫األوجاع والخسائر شيئًا عاد ًيا‪.‬‬
‫الصاد َقين‪ُّ ،‬‬
‫ألتذ بمالقاتهما وأتم ّنى محادثتهما‪.‬‬ ‫صديقي ّ‬
‫ّ‬ ‫أصبح الخطر والموت‬
‫كنت طف ًال‪ ،‬كنت أفرح بارتفاع ّ‬
‫السماء ونجومها‪ ،‬أ ّما اليوم‪،‬‬ ‫ر ّباه‪ ،‬عندما ُ‬
‫بالسماء ألنّني بدونها أختنق‪ ،‬ألنّها إن لم تخ ّفف ِب َس َعتِها‬
‫فإنّني أفرح ّ‬
‫وعظمتها ش َّدة آالمي فسوف أختنق تما ًما‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫رسالة إىل نرميان‬
‫[[[‬
‫‪7‬‬
‫‪ 12‬كانون ّأول ‪1973‬‬

‫السنة‬ ‫عزيزي نريمان‪ ..‬تق ّبل سالمي الحميم من القلب المع ّذب‪ ،‬ففي ّ‬
‫كنت قد خسرت «جماالً»‪ .‬ولقد كان بال ّنسبة لي قبل أن يكون‪،‬‬ ‫الماضية ُ‬
‫مج ّرد أمنية‪ ،‬خياالً‪ ،‬أم ًال‪ ،‬قد يتح ّقق يو ًما ما‪ ،‬مقتف ًيا أثر والده ُ‬
‫ويرث‬
‫كل شيء‪ .‬وموت‬ ‫خسرت ّ‬‫ُ‬ ‫وجوده وشخص ّيته‪ .‬وفق هذا الحساب فقد‬
‫وجع ُأضيف إلى الوجع ّ‬
‫السابق ال ّدائم ا ّلذي كان يع ّذبني وال يزال‪.‬‬ ‫جمال ٌ‬
‫نفترض أنفسنا محور ال ّدنيا وما فيها‪ ،‬ونعتقد أنّ ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫نحن‪ ،‬بمعظمنا‪،‬‬
‫السماء واألرض وال ّنجوم تسي ُر وتجري الستقبالنا‪.‬‬‫ال ّدنيا تجري ألجلنا‪ّ ،‬‬
‫السماء ستبكي لغ ّمنا‪ ،‬أو أن قلب الحجر سيذوب من ألمنا‪،‬‬ ‫نعتقد أنّ ّ‬
‫أو أنّ جريان ال ُفلك سيتو ّقف‪ .‬لك ّننا فيما بعد فهمنا أنّ هناك ماليين‬
‫البشر مثلنا في هذه ال ّدنيا الكبيرة قد جاؤوا وذهبوا‪ ،‬ولم يحدث ّأي‬
‫تغيير في سير الحياة‪ .‬نحن المغرورون وا ّلذين ُّ‬
‫نظن أنفسنا كبا ًرا‪.‬‬
‫ولك ّننا نحن فع ًال أضعف من قشّ ة صغيرة تتأرجح على يد عواصف‬
‫البالء واألمواج المتالطمة في محيط الوجود دون إرادةٍ‪ ،‬ودون قدرة‬
‫على تغيير حركة األمواج أو اتجاهها‪ .‬مع إدراكنا لهذه الحقيقة علينا‬
‫أن ننزل عن مركب الغرور ونختار ألنفسنا طريق ال ّرضا وال ّتسليم‪ ،‬أن‬

‫‪ .1‬نريمان‪ :‬أحد أصدقاء الشهيد القائد‪.‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫نتق ّبل اآلالم‪ ،‬أن ال نغت ّر بال ّل ّذات العابرة‪ ،‬أن ال ّ‬
‫نتوهم ألنفسنا الخلود‪،‬‬
‫الطرف عن اآلمال واألمنيات البعيدة ّ‬
‫والطويلة‪.‬‬ ‫ونغض ّ‬
‫َّّ‬
‫كنت أريدُ أن أخلط عشق المرأة مع عبادة الله الواحد‪ .‬كنت أو ُّد أن‬
‫أعبد «براونه»[[[‪ ،‬وأعتبر هذه العبادة ضمن فلسفة الوحدة‪ ،‬وجز ًءا من‬
‫عبادة الله؛ كنت أريد أن أذوب في وجودها وأج ّرب حالة الفناء‪ُ .‬‬
‫أردت‬
‫أمزج الحياة ال ّزوج ّية بالعبادة والفناء وال ّتوحيد‪ .‬أردت أن أضع يدي‬
‫أن َ‬
‫بيد الله‪ ،‬أردت أن أخلط الجسم وال ّروح مع بعضهما‪ .‬أردت أن ألخّ َص‬
‫الوجود في الله والله في [بروانه]‪ .‬ولك ّنها لم تكن لمثل ذلك أه ًال‪،‬‬
‫ور ّبما لن يوجد أحد آخر يملك أن يكون لذلك أه ًال‪.‬‬
‫أحس‬
‫الفلسفي‪ .‬إنّني ّ‬
‫ّ‬ ‫إنّ إدراك هذا األمر أوجد ّ‬
‫في نو ًعا من اليأس‬
‫بوحدة شديدة‪ ،‬وحدة مطلقة‪ ،‬وحد ٍة حيث أقف في ٍ‬
‫طرف ما والله‬
‫طرف آخر وبقية العالم في صمت وموت وعدم‪ .‬أف ّكر أحيانًا في‬ ‫في ٍ‬
‫أنّ الله أيضً ا كان وحي ًدا‪ .‬فخلق الله في البداية ّ‬
‫السماء واألرض وال ّنجوم‬
‫أحد منها مش ِب ًعا لوحدته‪.‬‬
‫والمالئكة والموجودات‪ ،‬ولكن لم يكن ٌ‬
‫والحب‪ ،‬وجعل روحه‬ ‫ّ‬ ‫عندها خلق اإلنسان على صورته‪ .‬أعطاه األلم‬
‫متحدة به وسابحة في بحر أحديته‪ .‬ولك ّنني أنا اإلنسان‪ ،‬أخاف منه‪.‬‬
‫لدي سواه‪ ،‬وأنه ال‬‫لقد وقفت أمامه وحي ًدا‪ ،‬وألنّني أحسست أن ال أحد ّ‬
‫علي أن أتّجه فقط وفقط َصو َبهُ‪ ،‬لذا وبسبب‬‫يمكن ال ّلجوء إ ّال إليه وأنّه ّ‬

‫‪ .1‬اسم زوجة الشّ هيد شمران‬

‫‪- 49 -‬‬
‫ُ‬
‫أحسست‬ ‫عدم القدرة على االختيار‪ ،‬وبسبب هذه السبيل اإلجبار ّية‪،‬‬
‫َ‬
‫فتزلزل كياني‪.‬‬ ‫بالوحشة‬
‫كل المفاتن‪،‬‬‫الطرف عن ّ‬ ‫أغض ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬أن ّ‬ ‫أعلم أنّني يجب أن أو ّدع ّ‬
‫علي أن أنسى ال ّزوجة والولد‪،‬‬ ‫ال ّلذات‪ ،‬واألمور المح ّببة إلى ال ّنفس‪ّ .‬‬
‫علي أن َّ‬
‫أحس بوجود‬ ‫علي أن أنساهم‪ .‬عندئ ٍذ ّ‬ ‫وح ّتى األصدقاء كذلك ّ‬
‫علي أن أغوص في تج ّليا ِت ِه وأتع ّلق بذاته‪.‬‬
‫الله في تلك العزلة المطلقة‪ّ .‬‬
‫لدي ّأي رفيق في‬‫علي أن أف ّر من الظاهر وأغوص في الباطن‪ .‬وليس ّ‬ ‫ّ‬
‫لدي ُّأي أحد يشاركني ألمي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ليس‬ ‫مساعد‪.‬‬ ‫أي‬
‫ّ ّ‬‫لدي‬ ‫ليس‬ ‫ريق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الط‬ ‫هذا‬
‫وحيد أنا‪ٌ ،‬‬
‫وحيد أنا‪ ،‬وحيد‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫كل البشر ا ّلذين عاد ًة ال يفهمون ما‬ ‫أجل إنّ قدر اإلنسان‪ ،‬قدر ّ‬
‫خضم المشكالت وضوضاء الحياة‪ ،‬إنّهم كالموتى‪ ،‬إال أنّهم‬ ‫ّ‬ ‫يجري في‬
‫يتح ّركون‪ ،‬يسيرون وال يعون شيئًا‪.‬‬
‫لقد أحيط قدرنا أيضً ا بالغموض‪ ،‬فال الماضي كان بأيدينا وال المستقبل‬
‫يكون كما نريد‪ .‬اآلالم والعذابات المترافقة مع ال ّلذات العابرة والغرور‬
‫كل زاوية كما ّ‬
‫القش‪،‬‬ ‫تُشغل اإلنسان‪ ،‬وحوادث ال ّدهر تلقي بنا في ّ‬
‫ونحن نمضي ُقدُ ًما مس ّلمين بالقضاء وراضين بمشيئته‪ ،‬إلى أن تبتلعنا‬
‫ثعابين الموت‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫‪8‬‬ ‫هنا الفاجعة‬
‫كانون أ‬
‫ال ّول ‪1975‬‬

‫وروح مكسور ٍة كي أرفع ّ‬


‫الستارة‬ ‫وقلب دا ٍم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫أتيت‪ ،‬بعينين دامعتين‪،‬‬
‫عن حقيق ٍة ما‪ ،‬حقيق ٍة موجع ٍة ومؤلم ٍة تنخر عظامي ح ّتى األعماق‪،‬‬
‫وتك ّدر سماء روحي‪ ،‬وتُظهر لي لغ َو ال ّدنيا‪ ،‬ولكن دون يأس‪ .‬فالويل لتلك‬
‫ثوري عن الفراغ ويقع أسي َر اليأس المطلق!‬ ‫ال ّلحظة ا ّلتي يتح ّدث فيها ٌّ‬
‫أشخاص ال يف ّكرون سوى في مصالحهم‪ ،‬وال يتجاوز إحساسهم‬ ‫ٌ‬ ‫يوجدُ‬
‫أبعا َد ذاتهم‪ .‬ويصلون إلى العبث ّية بسبب الضّ عف‪ ،‬الخسارة‪ ،‬الكسل‬
‫واألنان ّية‪ ،‬ألنّهم أنفسهم عبث ّيون وال يف ّكرون في ّأي شي ٍء سوى‬
‫مصالحهم‪ .‬ولذلك فإنّ أفكارهم أيضً ا تصبح أسيرة العبث ّية‪.‬‬
‫حقيقي‪ ،‬حيا ُت ُه ك ّلها مليئة بالمواجهة‪ ،‬ال ّتضحية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثوري‬
‫لكن عندما ييأس ٌّ‬
‫الغم‪ ،‬ال ّتح ّمل‪ ،‬الحرمان‪ ،‬المواظبة‬ ‫العشق‪ ،‬الحماسة‪ ،‬األلم‪ ،‬الوجع‪ّ ،‬‬
‫وال ّنشاط‪ ،‬ويقع في أسر الفراغ‪ ،‬عندها تكون فاجع ًة كبير ًة قد ُح َّلت‪ .‬نعم‬
‫لدي من األمنيات‪ ،‬كم من‬ ‫عقدت‪ ،‬كم كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫فاجعة كبيرة؛ كم من اآلمال‬
‫ال ّتخيالت الجميلة كنت أق ّلبها في رأسي‪ ،‬لك ّنها ك ّلها تزلزلت وأصبحت‬
‫مضطربة مثل سطح البحر وثورة ال ّريح‪ ،‬وهي اآلن في حال االندثار‪.‬‬
‫كل شيء‪ ،‬وينزع يده من ل ّذات الحياة‪ ،‬ويتغاضى‬ ‫شخص ما عن ّ‬‫حين ينقطع ٌ‬
‫تصبح مل ّذات واحتياجات الحياة في نظره عد ًما وبال‬ ‫عن مال ال ّدنيا ومنالها‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫ويدخل عالم الثّورة في‬ ‫قيمة‪ ،‬فيتجاوز أبعاد االحتياجات البشر ّية الماد ّية‪،‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫كل هدف‪ ،‬وفوق‬ ‫عالم الفداء لتحقيق هدف مق ّدس أكبر من ّ‬ ‫سبيل العدالة‪َ ،‬‬
‫حب ال ّذات واألنان ّيات وفوق األعمال الحيات ّية وال ّتجار ّية‪،‬‬
‫كل شيء‪ ،‬وفوق ّ‬‫ّ‬
‫كل ما يملكه حتى حياته‪ .‬لكن‪ ،‬إذا نجح أحد في تجاوز كل ذلك‪،‬‬ ‫ويتجاوز ّ‬
‫ٌ‬
‫فاجعة مهولة‪.‬‬ ‫ثم وقع في بئر اليأس وال ّتشاؤم‪ ،‬فقد حصلت‬

‫‪- 52 -‬‬
‫‪9‬‬ ‫غدا يولد املسيح‬
‫ً‬
‫‪ 25‬كانون أ‬
‫ال ّول ‪1975‬‬

‫غ ًدا هي ذكرى والدة المسيح ‪ ،Q‬وسأقيم احتفاالً ال ّليلة‪ .‬الضّ و ُء‬


‫فيه هو قلبي الملتهب والمشتعل وا ّلذي يحترق كما الشّ مع فيضي ُء‬
‫تسطع منها‬
‫ُ‬ ‫مراسم الحفل الملكوت ّية‪ .‬قطرات دمعي هي د ٌّر وجواه ٌر‬
‫األنوار‪ ،‬ويز ّي ُن تأللؤها ساحتي‪.‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫أعبد اهلل العظيم‬ ‫‪10‬‬
‫‪ 22‬نيسان ‪1975‬‬

‫إنّني أختنق‪ ،‬أريد أن أبكي‪ ،‬أريد أن أصرخ‪ ،‬أريد أن ألتجئ إلى البحر‪ ،‬وأريد‬
‫بالسماء‪ .‬ال ّدمع يجري على صفحة وجهي األصفر‪ ،‬أمسحه‪ ،‬أف ُّر إلى‬ ‫أن ألوذ ّ‬
‫إلي‪ .‬احترقت ع ّد َة ساعاتٍ ‪ ،‬وغرقت في حالة من‬ ‫أحد ّ‬
‫ال ّزوايا كي ال يلتفت ٌ‬
‫الحماسة والثّورة ال ّربان ّية‪ .‬كان قلبي قد انشقّ ‪ ،‬وروحي قد ح ّلقت‪ .‬كنت‬
‫أحس أنّني قد تجاوزت ال ّدنيا وما فيها‪.‬‬
‫أحس أنّني قد اقتربت من الله‪ .‬كنت ُّ‬ ‫ُّ‬
‫للغم‪،‬‬
‫مجالسا ّ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫وكنت فقط منشغال بال ّروح‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كنت قد تركت الجميع وكل شيء‪ُ ،‬‬
‫متك ّي ًفا مع األلم‪ .‬وكنت فقط أعبد الله العظيم وحده‪.‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫‪11‬‬ ‫كيمياء العشق‬
‫‪ 22‬نيسان ‪1975‬‬

‫ح ًّقا‪ ،‬ما العبادة سوى تلك األذكار التي تُكسب ال ّروح سم ًّوا؟ وتوجد في‬
‫قلب اإلنسان ذلك اإلحساس ا ّلذي ال يوصف؟ اإلحساس ا ّلذي ُيحرق الجسم‪،‬‬
‫كل ذ ّرات وجوده ترتعش‪ ،‬ويجعل ال ّروح‬ ‫ُيلهب القلب‪ ،‬يس ّيل ال ّدمع‪ ،‬يجعل ّ‬
‫العرفاني‪ ،‬ا ّلذي ينطلق من‬
‫ّ‬ ‫مح ّلقة ال ترى وال تريد غير الله‪ .‬هذا اإلحساس‬
‫أعماق وجود اإلنسان ويح ّلق باتّجاه أبد ّية ال ّر ّب‪ُ ،‬يس ّمى العبادة‪.‬‬
‫أ ّيها ال ّر ّب العظيم‪ ،‬كنت أعبدك لع ّدة ساعات‪ ،‬وكانت عباد ًة عجيبة!‬
‫غم آخر‪ .‬هناك حيث تلتقي دنيا‬ ‫غم مع ّ‬ ‫عبادة قد نتجت عن التقاء ّ‬
‫اتخذت لقب العاشق المتأ ّله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الوحدة مع موجو ٍد وحيد‪ ،‬هناك ُ‬
‫حيث‬
‫أخمص قدميه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫التقيت بمالكٍ قد ُملئ عش ًقا من رأسه إلى‬
‫ر ّباه! ّأي دنيا قد خلق َتها؟ ّأي سماوات عالية‪ّ ،‬أي ورود متن ّوعة‪ّ ،‬أي‬
‫بحار‪ّ ،‬أي جبال‪ ،‬صحاري‪ ،‬غابات‪ ،‬قلوب مكسورة‪ ،‬أرواح ذابلة‪ ،‬آالم‬
‫وأي حرمان؟‬ ‫وأي دموع ّ‬ ‫قاتلة‪ ،‬أحاسيس عاشقة‪ ،‬تضحيات‪ّ ،‬‬
‫والغم والحرمان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعظم َة اإلنسان في األلم‬ ‫عجيب أنّك جعلت رفعة َ‬
‫فلست تريدُ العالم دون ألم وأنين وحرمان‪ .‬نحن كذلك عاشقون‬ ‫َ‬
‫لوجودك ونذهب باتّجاهك بقلوب محترقة ودون حيلة‪ .‬أنت تحرقنا‬
‫الغم‪ ،‬وتب ّدل بكيمياء العشق طينتنا ال ّتراب ّية إلى روح سامية فوق‬ ‫بنار ّ‬
‫والسماوات ال تريد غيرك وال تعبد سواك‪.‬‬ ‫األرض ّ‬

‫‪- 55 -‬‬
‫أعشقك من األعماق‬ ‫‪12‬‬
‫‪1976‬‬

‫وأفتح قلبي المليء‬ ‫َ‬ ‫يا حسين‪ ،‬أ ّيها الشّ هيد العظيم‪ُ ،‬‬
‫أتيت كي أناج َيك‪،‬‬
‫باأللم لك‪ .‬لقد فررت من الثّور ّيين الكاذبين‪ .‬إنّني ُأبغض ال ّتجا َر ع ّبا َد‬
‫الما ّدة الم ّدعين للثّورة‪ .‬إنّني أمقت ا ّلذين يتاجرون بدماء الشّ هداء‪.‬‬
‫بأي قيمة إنسان ّية‬ ‫هارب من هؤالء الميكيافيل ّيين ا ّلذين ال يلتزمون ّ‬
‫إنّني ٌ‬
‫ويفدون مصالحهم الشّ خص ّية وأغراضهم الماد ّية الحقيرة بكل ما يملكه‬
‫ال ّناس‪ :‬حياتهم ووجودهم وشرفهم‪ ،‬وحتى اسم الثّورة المق ّدس‪.‬‬
‫يا حسين‪ ،‬قلبي مغموم وروحي حزينة‪ .‬إنّني أتابع نضالي بنا ًء على‬
‫خضم طوفان األحداث ا ّلتي تسحبنا كما‬
‫يائسا متأل ًما في ّ‬ ‫وظيفتي فقط ً‬
‫الطرف أو ذاك‪ .‬وأحيانًا أنوء تحت وطأة الضّ غط‬ ‫القش إلى هذا ّ‬ ‫كومة ّ‬
‫والغم‪ ،‬لكي ُأخرج على‬
‫ّ‬ ‫وحي فأتع ّلق بعباءة الشّ هادة فا ًّرا من األلم‬
‫ال ّر ّ‬
‫األقل نفسي من هذا ال ّنفق الموحش ا ّلذي ابتلع الثّورة والجميع‪َ ،‬‬
‫وأترك‬
‫بثوب‬ ‫هذا العالم الحقير وهؤالء الم ّدعين الكاذبين َ‬
‫وأنال لقاء الخالق ٍ‬
‫طاهر وكفن دا ٍم‪.‬‬
‫ثوري‬
‫كل ّ‬ ‫كنت أق ّدس فيها ّ‬
‫أ ّيها الحسين المق ّدس‪ ،‬م ّرت م ّدة طويلة ُ‬
‫وأقرن اسمه بذكرك‪ ،‬وأجعله في قلبي‪ ،‬وكنت أعشقه كعشقي لك‪،‬‬
‫بأي‬‫وكنت أق ّدسه كقدس ّيتك‪ ،‬وفي سبيل مساعدته لم أكن أبخل ّ‬
‫تضحية ح ّتى بذل حياتي ووجودي‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫درسا كبي ًرا وم ًّرا بأنّ ّ‬
‫السالح والقتال والثّورة وح ّتى‬ ‫لكن ال ّتجربة علمتني ً‬ ‫ّ‬
‫الشّ هادة يجب أن ال تُحت َرم وتق ّدس لذاتها‪ ،‬بل المهم هو اإلنسان ّية‪،‬‬
‫ال ّتضحية في سبيل المثل اإلنسان ّية‪ ،‬ال ّتغلب على األنان ّية والغرور‬
‫يهم أكثر من ّأي‬
‫والمصالح الماد ّية ال ّدنيئة‪ ،‬واإليمان بالقيم اإلله ّية‪ .‬ما ّ‬
‫ألي شيء أن يأخذ مكانها‪.‬‬ ‫شيء هو اإلنسان ّية والقيم اإلله ّية‪ ،‬وال يمكن ّ‬
‫يجب صنع اإلنسان‪ ،‬يجب تحديد الهدف على أساس منظومة القيم‪،‬‬
‫وأنّ المعيار والمقياس يجب أن يقوما فقط وفقط على أساس القيم‬
‫واإلنسان ّية واإلله ّية‪.‬‬
‫تقديس أعمق وأش ّد ً‬
‫وهجا‪ .‬يا‬ ‫ٌ‬ ‫يا حسين‪ ،‬اليوم أيضً ا أق ّدسك‪ ،‬ولك ّنه‬
‫حسين تعشقك أعماق وجودي وح ّتى سماء روحي‪ ،‬وتريدك وتبغي‬
‫وصالك‪.‬‬
‫وأحس أنّ ليس من دوا ٍء َُ‬
‫يهب‬ ‫ُّ‬ ‫يا حسين‪ ،‬إنّني متأ ّل ٌم‪ ،‬كسي ُر القلب‪،‬‬
‫السكين َة لقلبي المحترق َ‬
‫سواك وسوى طريقك‪.‬‬ ‫َ‬
‫يا حسين‪ ،‬إنّني ال أسعى للبقاء ح ًّيا‪ ،‬لست أخشى من الموت‪ ،‬قلبي‬
‫متع ّلق بالشّ هادة‪ ،‬وقد غسلت ّ‬
‫يدي من ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬ولك ّنني ال أستطيع‬
‫تق ّب َل أن تكون القيم اإلله ّية وحتى قداسة الثّورة قد أصبحت لعبة‬
‫السياسيين وال ّت ّجار ع ّباد الما ّدة‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪- 57 -‬‬
‫مل أصبح ً‬
‫الئقا للقائه‬ ‫‪13‬‬
‫‪1976‬‬

‫لم أذهب للقاء الله بعد‪.‬‬


‫ما زلت أخاف أن أقابل الله العظيم وج ًها لوجه‪ ،‬وأخاف أن أضع قدمي‬
‫في بيته‪ .‬ما زلت ال أرى نفسي جاهز ًة لتق ّبله المطلق‪ ،‬وما زالت هناك‬
‫رغبات ماد ّية حقيرة في زوايا قلبي‪ .‬ذوات الوجوه الجميلة ما زلن‬
‫يهززن قلبي‪ ،‬وما زال فؤادي يرتجف من أسر مح ّبة زوجتي‪ .‬ما زالت‬
‫الذكرى األليمة ألطفالي المالئكة تمأل روحي باأللم والحزن‪ .‬لم أغسل‬
‫حب الحياة‬ ‫يدي من الحياة بعد‪ ،‬وما زلت لم أط ّلق ال ّدنيا ثال ًثا‪ .‬ما زال ّ‬
‫ّ‬
‫كل شيء تما ًما‪.‬‬‫أمل من ّ‬ ‫الخسيسة يجري في عروقي‪ ،‬وح ّتى اآلن لم ّ‬
‫ُ‬
‫ألقيت كثي ًرا من‬ ‫ما زلت لم أوقف قلبي وروحي بشكل تا ّم لله‪ .‬قد‬
‫ُ‬
‫وقطعت أملي‬ ‫ونسيت مقدا ًرا من ال ّرغبات وال ّلذات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اآلمال واألمنيات‪،‬‬
‫لست أخدع نفسي‪ .‬فما زال‬ ‫بمعظم ال ّناس‪ ،‬األصدقاء واألقرباء‪ ...‬لكن‪ُ ...‬‬
‫ورغبات وأماني‪ .‬لم أتط ّهر بشكل تام بعد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫هناك في زوايا قلبي ٌ‬
‫آمال‬
‫خاصا لله بعد‪ .‬لذلك أتج ّن ُب مالقاته‪ ،‬مع أنّني‬ ‫لم يصبح قلبي مكانًا ًّ‬
‫أناجيه دو ًما في حياتي‪ ،‬دائ ًما أطلبه‪ ،‬وأذرف ال ّدمع في محضره‪.‬‬
‫الظالم على ال ّدوام‪.‬‬ ‫أناجيه في خلوات ال ّليالي الحالكة ّ‬
‫ودائ ًما يحترق قلبي وينبض بش ّدة ويرتجف من وهج عشقه‪ .‬دائ ًما‬

‫‪- 58 -‬‬
‫أوجه ال ّناس إليه‪ .‬أسير على ال ّدوام باتّجاهه وهو هدف حياتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫لك ّنني لم أجلس قبالته وج ًها لوجه ودون حاجز أب ًدا‪ .‬وكأنّني أخاف أن‬
‫أصاب بالعمى من ش ّدة نوره‪ .‬أخشى أن أنمحي من جالله‪ .‬أخجل من‬
‫أن أجلس في مقابله وفي قلبي وروحي ٌ‬
‫أحد سواه‪.‬‬
‫أح ّبه كثي ًرا‪ .‬إنّه ر ّبي‪ .‬قِبل ُة مناجاتي‪ .‬رفيق َّ‬
‫ليالي المظلمة‪ .‬الوحيد ا ّلذي‬
‫لم يتركني في أي حال‪ ،‬وأنا أيضً ا لم أترك ذكره في ضميري أب ًدا‪.‬‬
‫كل وجودي مغمور بعشقه ومح ّبته‪ ،‬لك ّنني أخاف منه‪ ،‬أخجل من‬
‫حضوره‪ ،‬أتج ّنبه على ال ّدوام‪ ،‬أناديه‪ ،‬أناجيه من خلف ّ‬
‫الستار‪ ،‬أراسله‪،‬‬
‫ّ‬
‫أدل الجميع إليه‪ ،‬أذرف ال ّدمع للقائه‪ ،‬لكن وعندما يأتي لمالقاتي‪ ،‬أنا‬
‫من يتج ّنب ذلك‪ ،‬أختفي‪ ،‬أغرق في صمت مميت‪ .‬ال جرأة ّ‬
‫لدي على‬
‫مالقاته‪ .‬لست أجد في نفسي صفاء حضوره‪.‬‬
‫كل ّ‬
‫الظروف‪ .‬ولك ّنني أنا‬ ‫كل حين وفي ّ‬
‫هو حاض ٌر دائ ًما لمالقاتي في ّ‬
‫من ال أرى نفسي الئق ًة للقائه‪ .‬أخجل من خوفي ووضاعتي‪ ،‬فأف ّر منه‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫‪ ..‬صرت دخا ًنا‬ ‫‪14‬‬
‫‪1976‬‬

‫كان شمع ًة‪ .‬انفصل عن دنياه‪ ،‬ودخل صرح وجود العالم‪ .‬وقع في فخ‬
‫عشق [بروانه] وأصبح أسي ًرا‪ ،‬احترق وصار هبا ًء‪.‬‬
‫وكل شخص ذهب إلى شأنه‪ .‬ذهب الجميع‬ ‫لك ّنه استفاق من ال ّنوم‪ّ ،‬‬
‫وتركوه وحي ًدا‪ ،‬شمعة ملقاة بعي ًدا‪.‬‬
‫كنت جم ًعا‪ُ ،‬‬
‫صرت‬ ‫كنت عش ًقا‪ُ ،‬‬
‫صرت ما ًء‪ُ .‬‬ ‫صرت دم ًعا‪ُ ،‬‬‫كنت شم ًعا‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫روحا‪ .‬كنت قل ًبا‪ ،‬صرت نو ًرا‪ .‬كنت نا ًرا‪ ،‬صرت دخانًا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪- 60 -‬‬
‫‪15‬‬ ‫الصدر‬
‫رسالة عشق إىل اإلمام ّ‬
‫‪ 30‬حزيران ‪1976‬‬

‫الصدر‪ ،‬إلى من أعرفه‬ ‫أوصي من أح ّبه فوق الح ّد‪ ،‬حبيبي‪ ،‬اإلمام موسى ّ‬
‫وارث الحسين ‪ ،Q‬الشخص الذي‬ ‫لعلي ‪ ،Q‬وأعتبره َ‬ ‫َمظه ًرا ّ‬
‫الطائفة الشّ يع ّية في لبنان وفخرها‪ ،‬وحامل ألف وأربعمائة‬ ‫هو رمز ّ‬
‫الغم‪ ،‬الحرمان‪ ،‬ال ّتحدي‪ ،‬واإلصرار وطلب الحقّ ‪ ،‬وأخي ًرا‬
‫سنة من األلم‪ّ ،‬‬
‫الشّ هادة‪ .‬أجل أضع وص ّيتي لإلمام‪.‬‬
‫طبيعي‪ ،‬ولقد تع ّرفت عليه منذ م ّدة‬
‫ّ‬ ‫لقد تج ّهزت للموت‪ ،‬وهذا أمر‬
‫طويلة‪ ،‬ولك ّنها الم ّرة األولى ا ّلتي أوصي فيها‪.‬‬
‫الطريق‪ .‬سعيد‬ ‫إنّني سعيد ألنّني أصل إلى الشّ هادة على مثل هذا ّ‬
‫ألنّني انقطعت عن العالم وما فيه‪ .‬قد تركت كل شيء ووضعت كل‬
‫حطمت القيد واألغالل وط ّلقت ال ّدنيا وما فيها‬‫قدمي‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫الشّ ؤون تحت‬
‫ثال ًثا‪ ،‬وها أنا ذاهب بصد ٍر رحب الستقبال الشّ هادة‪.‬‬
‫لست آس ًفا على قدومي إلى لبنان حيث عانيت فيه مشاكل عصيبة‬
‫ست سنوات‪ .‬لست ناد ًما على أنّني قد تركت أميركا‪،‬‬ ‫م ّدة خمس أو ّ‬
‫أنّني قد وضعت دنيا ال ّلذات وال ّراحة وراء ظهري‪ ،‬أنّني نسيت دنيا‬
‫تخطيت كل المباهج‪ ،‬وذكرى زوجتي العزيزة وأوالدي‬ ‫العلم‪ ،‬وأنّني ّ‬
‫األح ّباء‪.‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ّ‬
‫تخطيت تلك ال ّدنيا الما ّدية والمترفة‪ ،‬ودخلت دنيا األلم والحرمان‪،‬‬
‫العذاب واالنكسار‪ ،‬الشّ كوى والفقر والوحدة‪ .‬أصبحت رفيقَ‬
‫المحرومين‪ ،‬وصِ ْر ُت عض ًوا في جوقة المتأ ّلمين والمنكسرين‪.‬‬
‫الظالمين وأصحاب رؤوس األموال‪ ،‬وولجت عالم‬ ‫يت عالم ّ‬ ‫ّ‬
‫تخط ُ‬
‫المحرومين والمظلومين‪ ،‬وفي ّ‬
‫كل األحوال لست ناد ًما‪.‬‬
‫أنت يا حبيبي‪ ،‬قد فتحت لي دنيا جديدة ليختب َرني الله العظيم‬
‫َ‬
‫ألبعث‬ ‫َ‬
‫ألحترق‪،‬‬ ‫ألصبح فراش ًة‪،‬‬
‫َ‬ ‫بشكل أفضل‪ .‬أنت أعطيتني المجال‬
‫الظهور‪،‬‬‫اتي اإلنسانية ا ّلتي ال نظير لها من ّ‬ ‫ال ّنور‪ ،‬ألعشقَ ‪ ،‬ألم ّك َن قدر َ‬
‫ألطأ لبنان من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه وأب ّي َن للجميع‬
‫ألصبح مظه ًرا‬
‫َ‬ ‫القيم اإلله ّية‪ ،‬كي أع ّر َفهم طري ًقا جدي ًدا وقو ًّيا وإله ًّيا‪،‬‬
‫وأذوب في المجتمع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أنفصل عن وجودي‬ ‫َ‬ ‫للعشق‪ ،‬كي أصير نو ًرا‪ ،‬كي‬
‫كي ال أعود أرى نفسي وال أطلب ذاتي‪ ،‬كي ال أرى سوى المحبوب وال‬
‫أختار طري ًقا سوى طريق العشق وال ّتضحية؛ كي أعرف الموت وأصادقه‬
‫وأتح ّرر من كل القيود واألغالل الماد ّية‪.‬‬
‫ألف‬ ‫الطائفة‪ ،‬وتحمل على كاهلك ألم وعذاب ٍ‬ ‫أنت يا محبوبي‪ ،‬رمز ّ‬
‫وأربعمائ ِة سنةٍ‪ ،‬تتح ّمل على ال ّدوام هجوم وتهمة وأذى وكراهية‬
‫ألف وأربعمائ ِة سنةٍ‪ ،‬وتعاني من أحقاد الماضي والعداوات ال ّتاريخية‬ ‫ٍ‬
‫والحسد واألحقاد ا ّلتي تحرق الكون‪ .‬تقوم بال ّتضحية‪ ،‬وتتغاضى عن‬
‫يخصك‪ .‬تجعل من حياتك ووجودك فدا ًء للهدف ولوحدة‬ ‫كل ما ّ‬
‫بالسباب والخيانة‪.‬‬ ‫ال ّناس‪ ،‬أما أعداؤك فيبادلونك على ذلك ّ‬

‫‪- 62 -‬‬
‫يوجهون إليك ته ًما كاذبة‪ ،‬ويثيرون الجاهلين عليك‪ .‬وأنت أ ّيها اإلمام‪ ،‬ال‬
‫ّ‬
‫تنحرف عن الحقّ للحظة‪ ،‬وال تبادلهم بالمثل‪ .‬وكما الجبل في مواجهة‬
‫عواصف الحوادث‪ ،‬تحث الخطى آم ًنا مطمئ ًّنا باتّجاه الحقيقة والكمال‪،‬‬
‫علي ‪ Q‬ووارث الحسين ‪ .Q‬وأنا أفاخر بأنّني‬ ‫لذلك أنت ممثّل ّ‬
‫أقاتل في ركابك وأتذ ّوق شراب الشّ هادة في طريقك المليء بالفخر‪.‬‬
‫يا حبيبي‪ ،‬ألم تعرفني بعد!‬
‫ذلك أنّ ال ّتواري والحياء منعاني من أن أكشف لك عن نفسي‪ ،‬أو ّ‬
‫أسطر‬
‫كال ًما في العشق‪ ،‬أو أتح ّدث عن حرقتي ولوعة داخلي‪.‬‬
‫شخصا عاد ًّيا‪ .‬أنا‬
‫لست ً‬ ‫أ ّما أنا‪ ،‬أنا ا ّلذي أق ّدم وصيتي‪ ،‬أنا ا ّلذي أح ّبك‪ُ ...‬‬
‫والسماحة‪،‬‬ ‫من أرباب العشق والعبادة‪ ،‬أنا ممثّل الحقّ ‪ ،‬عنوان الفداء ّ‬
‫ال ّتواضع‪ ،‬الثّورة والقتال‪ .‬البركان ا ّلذي في داخلي يكفي لحرق ّأي‬
‫قلب ٍ‬
‫قاس‪،‬‬ ‫دنيا‪ .‬نار عشقي وصلت إلى ح ّد أنّها قادرة على إذابة ّأي ٍ‬
‫تضحيتي وصلت إلى درجة ق ّلما وصل إليها أحد‪.‬‬
‫لقد أصبحت مم ّي ًزا بثالث خصال‪:‬‬
‫العشق‪ :‬حيث يرشح العشق من كالمي ونظراتي‪ّ ،‬‬
‫يدي وحركاتي‪،‬‬
‫حياتي ومماتي‪ .‬إنّني أحترق بنار العشق‪ ،‬وال أعرف هد ًفا للحياة سوى‬
‫العشق‪ .‬ال أريد شيئًا في الحياة غير العشق‪ ،‬ولست ح ًّيا بغير العشق‪.‬‬
‫محتاجا‪ ،‬ولو أرخصوا لي‬
‫ً‬ ‫الفقر‪ :‬إذ إنّني ح ّر من قيد كل شيء‪ ،‬ولست‬
‫السماء واألرض فال يؤثر ذلك َّ‬
‫فـي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪- 63 -‬‬
‫محتاج‬
‫ٌ‬ ‫الوحدة‪ :‬ا ّلتي تصلني بالعرفان وتع ّرفني بالحرمان‪ .‬من هو‬
‫للعشق يحترق في دنيا الوحدة بالحرمان‪ ،‬وال يستطيع ٌ‬
‫أحد غير الله‬
‫أن يكون أنيس لياليه الموحشة‪ ،‬ولن يمسح دموعه إال ال ّنجوم‪ ،‬ولن‬
‫الصباح سوى‬‫يحس بآهات ّ‬ ‫يسمع مناجاته غير الجبال العالية‪ ،‬ولن َّ‬
‫لينطوي بين يديه أو ليعشقه‪،‬‬‫َ‬ ‫الس َحر‪ .‬أنا من يبحث عن إنسان‬ ‫ديك ّ‬
‫ولك ّنه ك ّلما بحث أكثر‪ ،‬ك ّلما تضاءل وجود مثل هؤالء‪.‬‬
‫هذا ا ّلذي يوصي ليس إنسانًا عاد ًّيا‪ ،‬لقد حاز أعلى المراتب العلم ّية‪.‬‬
‫ذاق برودة وحرارة الحياة‪ .‬تعامل مع أجمل وأش ّد قصص الحب‪ .‬قطف‬
‫كل ما هو جميل ومح ّبذ‪.‬‬ ‫من ثمر شجرة ل ّذاتها‪ .‬كان له نصيب من ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬وق ِب َل حياة األلم‬
‫ولك ّنه في أ ْوج االكتفاء والكمال‪ ،‬قد ترك ّ‬
‫وال ّدموع والشّ هادة من أجل هدف مق ّدس‪.‬‬
‫أجل‪ ،‬يا حبيبي‪ ،‬مثل هذا الشّ خص يوصي إليك‪.‬‬
‫كل‬‫وصيتي ال تتع ّلق بالمال والمنال‪ ،‬ألنّك تعلم أنّني ال أملك شيئًا‪ّ .‬‬
‫والمؤسسة‪ .‬ولم آخذ من كل ما قد‬‫ّ‬ ‫لدي يرجع إليك وإلى الحركة‬ ‫ما ّ‬
‫ليدي شيئًا لحاجاتي الشّ خص ّية‪ ،‬ولم أرد شيئًا غير حياة بسيطة‪.‬‬
‫وصل ّ‬
‫ح ّتى زوجتي‪ ،‬ولدي‪ ،‬أبي وأ ّمي كذلك لم يصلهم م ّني شيء‪ .‬وحيث إنّ‬
‫فمعلوم أنّ ّ‬
‫كل ما أملكه يرجع لك أيضً ا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وجودي بأكمله هو لك وللحركة‪،‬‬
‫لست مديونًا ألحد‪ ،‬وفي الوقت‬‫وص ّيتي ليست حول القرض وال َّدين‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫ا ّلذي قد أقرضت فيه اآلخرين الكثير‪ ،‬فإنّني لم أسِ ْئ إلى أحد‪ .‬لم أكن‬

‫‪- 64 -‬‬
‫أستسيغ في حياتي سوى المح ّبة‪ ،‬ال ّتضحية‪ ،‬ال ّتواضع‪ ،‬واالحترام‪ ،‬ومن‬
‫هذه الجهة لست مديونًا ألحد‪.‬‬
‫أجل‪ ،‬إنّ وص ّيتي ال تتع ّلق بهذه األشياء‪.‬‬
‫وص ّيتي هي حول العشق والحياة والواجب‪.‬‬
‫أحس أن شمس عمري قد وصلت إلى حا ّفة األفول‪ ،‬ولم تعد ّ‬
‫لدي‬
‫فرصة ألوصيك‪.‬‬
‫أوصيك في الوقت ا ّلذي قد وضعت فيه روحي على ك ّفي‪ ،‬وأنتظر في‬
‫كل لحظة أن أو ّدع هذه ال ّدنيا وال أراك بعدها‪.‬‬
‫إنّني أح ّبك‪ .‬وهذه المح ّبة ليست لجهة الحاجة أو ال ّتجارة‪ .‬لست‬
‫محتاجا إلى أحد في هذه ال ّدنيا‪ ،‬وح ّتى أنّني أحيانًا أحس باالكتفاء‬
‫ً‬
‫وال ّرضا ح ّتى عن طلب الحاجة إلى الله العظيم أيضً ا‪ .‬وال أطلب منه‬
‫أحس باالحتياج وال أريد شيئاً[[[‪ .‬ال أشتكي وليس ّ‬
‫لدي ّأي‬ ‫شيئًا‪ .‬ال ّ‬
‫أمنية‪ .‬عشقي سببه أنّك الئق بالعشق والمح ّبة‪ ،‬وأنا أجد عشقك جز ًءا‬
‫من عشق الله‪ ،‬وكما أعبد الله وأعشقه‪ ،‬أعشقك أنت ممثّله على األرض‬
‫طبيعي كما ال ّتنفس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أيضً ا‪ ،‬وهذا العشق بال ّنسبة لي‬
‫العشق هو هدف حياتي ومح ّركها‪ .‬ولم أ َر شيئًا أجمل من العشق‪ ،‬ولم‬
‫أرد شيئًا فوق العشق‪.‬‬
‫الر ّب أمنيته وطلبه‪ ،‬ريف� ىض� ّ‬
‫بكل ما‬ ‫بالرضا حيث ال يريد ت ىّ‬
‫ح� تحميل ّ‬ ‫‪ .1‬هذه حالة عرفان ّية تُعرف ّ‬
‫يريده هللا‬

‫‪- 65 -‬‬
‫إنّه العشق ا ّلذي يجبر روحي على االنطالق ويوصل قلبي إلى درجة‬
‫الغليان‪ ،‬يظهر قدراتي الخافية ويبعدني عن األنان ّية وال ّتك ّبر‪ .‬إنّني‬
‫ُّ‬
‫وأضمحل في عالم الوجود‪.‬‬ ‫أحس بعالم آخر‪،‬‬
‫ّ‬
‫حساس‪ٌ ،‬‬
‫وعين ترى الجمال في رجفة ورقة‪،‬‬ ‫لدي إحساس لطيف‪ ،‬قلب ّ‬ ‫ّ‬
‫الس َحر ال ّلطيف‪ِ ،‬‬
‫موج البحر‪،‬‬ ‫نو ِر نجمة بعيدة‪ ،‬حشرة صغيرة‪ ،‬في نسيم ّ‬
‫كل هذه األشياء تأسر إحساسي وروحي‪ ،‬وتنقلني من‬ ‫وغروب الشّ مس‪ّ .‬‬
‫ِ‬
‫هذا العالم إلى دنيا أخرى‪ .‬وك ّلها من تجل ّيات العشق‪.‬‬
‫أضحي من أجل العشق‪ .‬أنظر بال مباالة إلى ال ّدنيا وأبحث عن‬
‫إنني ّ‬
‫أبعا ٍد أخرى من أجل العشق‪ .‬أرى ال ّدنيا جميلة وأعبدُ الجمال من‬
‫أحس بالله وأعبده وأق ّدم له حياتي‬
‫أجل العشق‪ .‬ومن أجل العشق ُّ‬
‫ووجودي‪.‬‬
‫أشخاصا كث ًرا وح ّتى قد عشقتهم‬
‫ً‬ ‫أعلم أنّني في هذه ال ّدنيا قد أحببت‬
‫ولك ّنني لم أحصل سوى على اإلساءة جوا ًبا‪ .‬إنهم ّ‬
‫يفسرون العشق‬
‫بالضّ عف‪ ،‬وحسب تعبيرهم‪ :‬قد تذاكوا واستغلوا المح ّبة!‬
‫لكن هؤالء الج ّهال‪ ،‬ال يعلمون ّأي نعمة عظيمة هي العشق والمح ّبة‪،‬‬
‫هم محرومون‪ .‬ال يعلمون بأنّهم لم يدركوا أعظم ُبعد للحياة‪ .‬ال‬
‫ليس سوى إفالس وسوء ّ‬
‫حظ ومذ ّلة‪.‬‬ ‫يعلمون بأنّ تذاكيهم َ‬
‫وأنا أرى ق ْدري أكبر من أن أحرم أح ًدا مح ّبتي‪ ،‬ح ّتى وإن لم يدركها‪،‬‬
‫وأساء االستفادة منها‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫أحب من أجل الثّواب أو أن يكون لي ثمن في مقابل‬ ‫أنا أكبر من أن ّ‬
‫أعظم ٍ‬
‫ثواب‬ ‫ُ‬ ‫العشق‪ .‬أنا أحترق في عشقي وأتل ّذذ‪ ،‬وهذه ال ّلذة هي‬
‫حسب مقاب ًال لعشقي‪.‬‬
‫يمكن أن ُي َ‬
‫تحب ال ّناس‪،‬‬
‫تسبح في بحر العشق‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أعلم أنّك أنت أيضً ا يا حبيبي‪،‬‬
‫وتحسن إلى الجميع دون بخلٍ ‪ .‬وما أكثر أولئك ا ّلذين استغ ّلوا هذه‬
‫ُ‬
‫المحبة‪ ،‬وح ّتى أنّهم يسخرون منك‪ ،‬ويعتقدون أنّهم يخدعونك‪ .‬وأنت‬
‫تعلم هذا كله ولك ّنك ال تعمل على تغيير أسلوبك‪ .‬ذلك أنّ مقامك‬
‫فطري‪ ،‬كما‬
‫ّ‬ ‫وتحب تحت تأثير اآلخرين‪ .‬عشقك‬ ‫ّ‬ ‫أكبر من أن تعشق‬
‫الشّ مس تسطع على كل مكان‪ ،‬وكما المطر يتساقط على العشب‬
‫واألرض الجرداء‪ ،‬وال تتأ ّثر بر ّدات فعل قساة القلوب‪.‬‬
‫السامية الخارجة من دائرة األنان ّية وال ّتك ّبر‬
‫سالمي الحار إلى روحك ّ‬
‫السماوات وأسماء الله المق ّدسة‪.‬‬ ‫الضّ يقة والمعتمة‪ّ ،‬‬
‫والسارحة في عظمة ّ‬
‫ليكن عشقي الحارق فدا ًء لعشقك ا ّلذي هو أعظم وأجمل ميزة‬
‫لوجودك‪ ،‬وأغلى شي ٍء قد جذبني إليك‪ ،‬وأقدس خصالٍ توضَ ع في‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الميزان‬

‫‪- 67 -‬‬
‫قدري‬
‫ذكريات ليلة َ‬ ‫‪16‬‬
‫أيلول ‪1976‬‬

‫ما أج ّلها ليل ًة كانت ليل ُة قدري‪ .‬ليلة كنت أسكب فيها ال ّدمع ح ّتى‬
‫السيارة من ال ّليل حتى‬ ‫الصباح‪ ،‬وأصعد إلى أعلى عل ّيين‪ .‬كنت أقود ّ‬ ‫ّ‬
‫جالسا قربي‪ .‬كان طري ًقا طوي ًال‪ .‬ك ّنا نعبر خالل‬ ‫وكنت أنت ً‬ ‫َ‬ ‫الصباح‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫السيارة يضيء الطريق فيما‬ ‫األشجار والجبال والغابات‪ .‬كان مصباح ّ‬
‫جالس ْين في‬
‫ك ّنا نعبر خالل نهر من ال ّنور‪ .‬كان هناك شخصان آخران َ‬
‫المقعد خلفنا‪ ،‬وهما يتح ّدثان وأحيانًا كانا ينامان‪.‬‬
‫لكن شعلة بركان روحي كانت تستعر‪ ،‬وقلبي الهائج كان يالطم‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬
‫أمواج البحر العاتية‪ ،‬صخرة وجودي‪ .‬ولم يكن ُيرى من حياتي سوى‬
‫الغم والعبادة‪ .‬لقد أصبح لساني ناط ًقا‪ ،‬وكأنّ‬
‫ال ّنور‪ ،‬العشق والوجد‪ّ ،‬‬
‫إلي من أعماق روحي‪ .‬كنت أب ّين‬ ‫ُج َم ًال جميلة وعميقة كانت تُوحى ّ‬
‫الصور كما يفعل شاعر قادر‪ ،‬في الوقت ا ّلذي‬ ‫تجليات روحي بأبهى ّ‬
‫حطمت كل القيود‬ ‫كانت فيه ال ّدموع تجري رقراق ًة على وجهي‪ .‬كنت قد ّ‬
‫واألغالل‪ .‬كنت قد س ّلمت زمام أمري إلى القلب‪ ،‬فكنت ُأخرج ما كان‬
‫يعتمل في وجودي دون خجل وخوف‪ .‬كنت أتح ّدث عن عشقي وغ ّمي‪،‬‬
‫الصغيرة والكبيرة‪ ،‬عن شؤون ال ّنفس‬
‫عن حسناتي وس ّيئاتي‪ ،‬عن ذنوبي ّ‬
‫وسالت‪ ،‬وعذابات ال ّروح وتأ ّوهات القلب‪ ،‬عن‬‫وال ّرغبات‪ ،‬عن الوجد وال ّت ّ‬
‫يختص بي‪ .‬ما كنت أقوله كان عصارة حياتي‪ ،‬وكان الحقيقة‪ .‬كان‬ ‫كل ما ّ‬

‫‪- 68 -‬‬
‫وجودي ا ّلذي كنت أق ّدمه لك مرف ًقا بال ّدموع‪ ،‬وأنت أيضً ا كنت تذرف‬
‫جناحا إلى جنب جناح‪َ .‬‬
‫وكنت‬ ‫السماوات ً‬ ‫ال ّدمع معي‪ ،‬وتطير معي نحو ّ‬
‫تحترق وتتأ ّلم وتعبد الله معي قل ًبا إلى جنب قلب‪ّ .‬أي ليل ٍة كانت ليل ُة‬
‫قدري! ليل ُة ارتقائي إلى السماوات ومعراجي‪ ،‬عبادتي‪ ،‬ممارسة عشقي‪،‬‬
‫حل‬‫ليلة كان قد تح ّول فيها جسدي إلى روح‪ ...‬ليلة كان الله فيها قد ّ‬
‫كل ذنوبي‪ ،‬ليلة‬ ‫في وجودي‪ ،‬وليلة كانت نار العشق قد أحرقت فيها ّ‬
‫الطفل‪ .‬وأنت‬‫كنت فيها أناجي ر ّبي طاه ًرا وبريئًا كما طهارة ال ّنار وبراءة ّ‬
‫كنت‬ ‫وتحس بنار وجودي وتسمع طوفان روحي‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫كنت ترى دمعي‬ ‫إذ َ‬
‫كنت أناجيك‬‫حجة الله‪ .‬كنت أتح ّدث معك وكأنّني أتح ّدث مع ر ّبي‪ُ .‬‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫أصبحت معي‬ ‫بطريقة يمكن أن أمارسها فقط بين ي َد ّي الله‪َ .‬‬
‫كنت قد‬
‫أحس‬ ‫أحس بالخجل‪ ،‬ولم أكن ّ‬ ‫واح ًدا ووصلت إلى درجة االتحاد‪ .‬لم أكن ّ‬
‫بالغربة‪ ،‬ولم أكن مستوحشً ا من إبرازي ألسراري ال ّداخلية‪.‬‬
‫ما أج ّلها ليل ًة ليلة قدري‪ .‬ليلة معراجي إلى السماوات‪.‬‬
‫سمعت عن طغيان العشق‪ ،‬وكنت أعرف قدرة العشق‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كنت قد‬
‫مهما في تلك ال ّليلة هو أنّ وجودي كان قد‬‫المعجزة‪ ،‬لكن ما كان ًّ‬
‫روحا‪ ،‬وروحي كانت قد استعرت‪ .‬كانت تريد أن تنفصل عن‬ ‫أصبح ً‬
‫األرض ال ّترابية مثل ال ّنور وتح ّلق نحو المج ّرات‪ .‬عندئ ٍذ حضرت نا ُر‬
‫العشق ألستعين بها‪ .‬وكان جسمي ال ّترابي قد احترق‪ ،‬ولم يكن قد‬
‫بقي م ّني غير ال ّدخان‪ ،‬وكان ال ّدخان هو من رافق روحي ليصال إلى‬
‫السماوات‪.‬‬
‫أقصى ّ‬

‫‪- 69 -‬‬
‫ليلة قدري‪ ،‬ليلة كانت فيها خاليا جسمي قد غ ّيرت ماه ّيتها بنار العشق‪،‬‬
‫وأنا كأنّني لم أكن شيئًا غير العشق‪ .‬قلبي كان قد أصبح كعبة العالم‪،‬‬
‫كان يحترق‪ ،‬كان يسطع نو ًرا‪ ،‬وكان الوحي اإللهي ينزل عليه‪ ،‬وكان قد‬
‫صار أقدس مكان لعبادة الله‪ .‬كانت تنطلق منه أمواج العشق العاتية‬
‫كل األنحاء‪ .‬كانت تتك ّون فيضانات جارفة من ارتطام‬ ‫وتنتشر إلى ّ‬
‫الغم وصحاري الوحدة‪ ،‬وكانت‬ ‫األحاسيس ال ّرقيقة وال ّلطيفة بجبال ّ‬
‫نار العشق تج ّر وجودي ك ّله إلى صحراء الفناء‪ ،‬إلى ديار ال ّالمكان‬
‫وال ّالحدود‪ .‬وتح ّررني من سجن الوجود المحدود‪.‬‬
‫ليتني كنت أستطيع أن أتذ ّكر ّ‬
‫كل الخواطر الملهمة لليلة الق ْدر هذه‪.‬‬
‫كم آسف ألنّ حبل أفكاري وطغيان إحساسي وشعلة روحي كانت‬
‫سريع وملهِب بحيث لم يكن ّأي شيء قاد ًرا على‬ ‫ٍ‬ ‫تتد ّفق بشكلٍ‬
‫تسجيلها وكتابتها‪.‬‬
‫كان نو ٌر يسطع على قلبي في تلك ال ّليلة المق ّدسة‪ ،‬يجري على لساني‪،‬‬
‫ويسيل دم ًعا على وجهي‪ .‬أنا أبيع كل حياتي من أجل ليلة قدر واحدة‪،‬‬
‫وإنّني أحيا من أجل ليالي القدر‪ .‬وتجل ّيات ليلة القدر هي عبادتي‬
‫وكمالي وهدف حياتي‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫‪17‬‬ ‫رحلة إىل النّبعة ّ‬
‫الشهيدة‬
‫أيلول ‪1976‬‬

‫قبل ع ّدة سنوات‪ ،‬دخلت ال ّنبعة برفقة أحد األصدقاء أل ّول م ّرة‪ .‬حقيق ًة‬
‫ُ‬
‫وأصبحت مغمو ًما‬ ‫اغتم قلبي‪ ،‬اكتأبت روحي‬‫ّأي دنيا عجيبة كانت! ّ‬
‫وحزي ًنا من فقر وعوز محرومي ال ّنبعة‪.‬‬
‫في الحقيقة كان ذلك عجي ًبا‪ ،‬األحياء والشّ وراع الضّ يقة والمظلمة‪،‬‬
‫البنايات غير المكتملة وا ّلتي تظهر األعمدة اإلسمنت ّية فوق أسقف‬
‫أكثرها ّ‬
‫وتدل على أنّ طاب ًقا منها لم يكتمل بناؤه بسبب الفقر‪.‬‬
‫كانت األحياء والشّ وراع قد امتألت باألطفال والشّ باب والكهول‪ ،‬وكذلك‬
‫الفتيات وال ّنساء‪ ،‬العجائز والشّ ابات‪ ،‬جلسن إلى جانب الشّ ارع وراء‬
‫أوالدهن‬
‫ّ‬ ‫فرجتهن‪ ،‬وقد أطلقن‬
‫ّ‬ ‫أبواب البيوت‪ ،‬وجعلن من الشّ ارع‬
‫بينهن‪.‬‬
‫وهن مشغوالت بالحديث فيما ّ‬ ‫وسطه‪ّ ،‬‬
‫أكث ُر الشوارع واألحياء كانت ممتلئة بعربات الج ّر التي كان أصحابها‬
‫وملحن‪ .‬بعض الرجال كانوا يقفون‬ ‫مرتفع ّ‬
‫ٍ‬ ‫ينادون على بضاعتهم بصوت‬
‫للتف ّرج‪ ،‬وعدد آخر كانوا يسحبون أنفسهم بصعوبة من بين الجمع‬
‫األسماع إلى‬
‫َ‬ ‫فيصم ُ‬
‫صوت بوقها‬ ‫ّ‬ ‫ويعبرون‪ .‬أحيانًا‪ ،‬كانت تمر سيارة ما‪،‬‬
‫أن يتق ّد َم ال ّناس ويتراجعوا بصعوب ٍة وتفتح العربات ّ‬
‫الطريق قلي ًال‪،‬‬
‫الس ّيارة قلي ًال‪ .‬والويل إذا ما أسرع‬
‫بأوالدهن ح ّتى تتق ّدم ّ‬
‫ّ‬ ‫وتصيح ال ّنسوة‬

‫‪- 71 -‬‬
‫سائقٌ ما‪ ،‬وقلقت ٌّأم على حياة ولدها؛ وعلى شرفات المنازل‪ ،‬كانت‬
‫توجد ٌ‬
‫حبال ممدود ٌة قد نُشِ َر عليها غسيل ألبسة مختلفة‪.‬‬
‫َ‬
‫أغمضت عينيك؟ لقد أحضرتُك إلى ال ّنبعة كي تشاهد‬ ‫صديقي‪ ،‬لماذا‬
‫السرقات وسفك ال ّدماء ّ‬
‫والظلم وال ّتجني‬ ‫البيوت الخربة والحرائق‪ّ ،‬‬
‫ا ّلذي يعاني منه شعبنا هناك‪.‬‬
‫ال‪ ،‬ال‪ ،‬لم تعد ّ‬
‫لدي طاقة على رؤية هذه المشاهد المحزنة والموجعة!‬
‫كفى!‬
‫ما قد رأيته ٍ‬
‫كاف‪ ،‬إنّني أرتجف‪ ،‬أحترق‪ ،‬ولم أعد أريد ال ّنظر إلى هذا‬
‫البؤس وهذه الجنايات‪.‬‬
‫إذا كنت تريد أن تتن ّهد وتس ّكن ألم قلبك الملتهب‪ ،‬أنت ح ّر‪ ،‬ولكن‬
‫من األفضل أن تترك آلهاتك المحرقة أن تمتزج بآهات ّ‬
‫كل األ ّمهات‬
‫وال ّنسوة ال ّلواتي رأ ْي َن الويل‪.‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫‪18‬‬ ‫يدي من احلياة‬
‫غسلت ّ‬
‫كانون الثّاني ‪1978‬‬

‫ر ّباه‪ ،‬إنّي ال أعلم في دنيا البشر إنسانًا أعظم وأكمل وأفضل من‬
‫علي‪ ،Q ‬ولك ّنك مع ذلك لم تنصره في ٍّأي من نضاالت حياته‪ ،‬وقد‬ ‫ٍّ‬
‫تتحطم تحت سياط ظلم وجور وفساد‬ ‫تركت حكومته العادلة والمح ّقة ّ‬
‫معاوية‪ ،‬دون أن تنتصر لها‪ ،‬ولم تسمح لنبتة العدل والحر ّية واإلنسان ّية‬
‫وأي ا ّدعاءات!‬
‫تلك أن تنم َو‪ .‬فماذا أقول أنا؟ ماذا أنتظر؟ ّأي أمنيات ّ‬
‫أساسا‪ ،‬ح ّتى مح ّمد ‪ P‬ا ّلذي كان مدينة الحقّ ا ّلتي ارتوى منها ّ‬
‫علي‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫‪ ،Q‬إلى أين وصل به األمر في ال ّنهاية بعد كل تلك ال ّتضحيات‪،‬‬
‫الصعبة واالنتصارات العجيبة؟ كم قتل من‬ ‫كل تلك ال ّنضاالت ّ‬ ‫وبعد ّ‬
‫ال ّرجاالت وال ّنخب ا ّلذين تر ّبوا في مدرسة مح ّمد ص ّلى الله عليه وآله‬
‫علي ‪.Q‬‬ ‫ومدرسة ّ‬
‫تد ّث َر الحسين ‪ ،Q‬سيد الشّ هداء‪ ،‬أفضل ثمر ٍة لبستان ال ّرسالة‬
‫الطاهرة‬‫الظلم‪ ،‬وال ّدم واالغتراب‪ ،‬ألنّ شخصيته ّ‬ ‫بكل ذاك ّ‬‫واإلمامة‪ّ ،‬‬
‫واإلنسان ّية لم تكن مقبولة من ِق َبل نظام يزيد الج ّبار والفاسد ّ‬
‫والظالم‪.‬‬
‫على مدى تاريخ الشّ يعة ّ‬
‫الطويل واألليم‪ ،‬ك ّنا على ال ّدوام‪ ،‬نشاهد أفضل‬
‫نماذج الكمال وأعظم أحرار المجتمع يناضلون دون أن يحفلوا بال ّنصر‪،‬‬
‫ثم يعرجوا قرابين من على مسلخ العشق‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪- 73 -‬‬
‫واليوم كذلك‪ ،‬نرى أمامنا مشه ًدا مشهو ًدا لصراع الحقّ والباطل‪ ،‬مليئًا‬
‫بالحماسة‪ ،‬حيث يق ّدم أبطال الحقّ والعدالة ال ّتضحيات‪ ،‬ويكسبون‬
‫فخ ًرا كبي ًرا‪ .‬ولكن‪ ،‬هل يمكن أن ينشر طي ُر ال ّنصر ظالله علينا‪،‬‬
‫الظلم والكفر‪ ،‬وينتشر العدل في المجتمع‪ ،‬وترتفع‬ ‫ويستسلم شيطان ّ‬
‫علي المألى بالمفاخر على ق ّمة ال ّتاريخ؟ هيهات! فنحن نندفع‬ ‫راية ّ‬
‫فقط من أجل أن نحتضن عروس الشّ هادة‪ ،‬ونح ّقق أبهى تجل ّيات‬
‫الفداء والعبادة والعشق‪ ،‬وليس لنا ّأي حظٍ من مغانم الحياة ومفاتنها‬
‫المتالشية والمد ّمرة‪.‬‬
‫وبنا ًء على هذا‪ ،‬فإنّني لم أؤ ّمل بال ّنصر‪ ،‬ولم أجعله هد ًفا في ٍّأي من‬
‫أسع أب ًدا ّ‬
‫ألضح َي بطهارة‬ ‫معارك حياتي‪ ،‬ولم أضع أملي في أحدٍ‪ ،‬ولم َ‬
‫قلبي ولطافته في سبيل ال ّنصر وال ّنجاة‪ ،‬لقد كان ال ّنصر ّ‬
‫أقل م ّما أريد‪.‬‬
‫لدي ّأي ٍ‬
‫داع يجعلني‬ ‫كل شيء‪ ،‬ولم يعد ّ‬ ‫أنا ا ّلذي قد تر ّفعت عن ّ‬
‫والسلطات‪ ،‬الضغوط‪ ،‬ال ّتهديدات واإلغراءات‪ .‬لقد‬
‫أخضع أمام األنظمة ّ‬
‫ولست أبيع طهارتي ونزاهتي هذه ّ‬
‫بأي شيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كل شيء‪،‬‬ ‫تح ّررت من ّ‬
‫ح ّتى بال ّنجاة وال ّنصر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نجاحات باهرة‪،‬‬ ‫ر ّباه‪ ،‬لقد نصرتني في امتحانات كثيرة‪ ،‬ووهبتني‬
‫وم ّيزتني من بين الكثيرين‪ .‬لك ّنني ال أنسى أ ّيام ال ّدراسة‪ ،‬كيف أنّني‬
‫كل امتحان أتخ ّبط بالخوف‪ ،‬على رغم تم ّيزي ونجاحي‬ ‫كنت وقبل ّ‬
‫المتو َّقع واألكيد‪ ،‬ألنّ ّأي خطأٍ صغي ٍر كان سيؤدي إلى سقوطي وخسارتي‬
‫للمكانة واالمتياز العلم ّي ْين‪ ،‬وسيكون ذلك محزنًا وشدي َد األلم وغي َر‬

‫‪- 74 -‬‬
‫نصري‬‫َ‬ ‫ولكن هذا الخوف نفسه قد جعل‬ ‫قابلٍ لل ّتح ّمل بال ّنسبة لي‪ّ .‬‬
‫األحقّ في معركة الحياة مح َّب ًذا ولذي ًذا‪ .‬وأعتقد أنّ أصعب امتحان كان‬
‫في حياتي هو في سن َتي الحرب (حرب لبنان ال ّداخل ّية) وأنّ أعظم نصر‬
‫ح ّققته كان في ثباتي على طريق الحقّ ‪ ،‬وتح ّملي للعذابات واآلالم‬
‫الظلم والكفر‪ .‬في حين‬ ‫واألخطار‪ ،‬واالنتصار على موانع الشّ ّر والفساد‪ّ ،‬‬
‫أنّه لم تكن هناك ّأي آمال مرج ّوة‪ ،‬ولم أكن مطمئ ًّنا إلى حياتي ولو‬
‫فأظن أنّ الله العظيم يريد تهيئتي المتحانٍ‬ ‫للحظة واحدة‪ .‬أ ّما اآلن‪ّ ،‬‬
‫كل بقايا الغرور في وجودي الملتهب‪ ،‬وتعود سما ُء‬ ‫أكبر‪ ،‬تحترق معه ّ‬
‫كل‬ ‫روحي مضيئ ًة صافي ًة دون ّأي أنان ّية‪ ،‬ويخرج من قلبي المحترق ّ‬
‫رجاء بغير العشق والعبادة للحقّ و ُيباد تما ًما‪.‬‬
‫اإللهي اآلتي‪ ،‬أخاف من ال ّزلل‪ ،‬الخطأ‬
‫ّ‬ ‫إنّني أخاف من هذا االمتحان‬
‫وال ّتقصير‪ ،‬أخاف من القضاء والقدر وأستعيذ بالله‪.‬‬
‫حي؟ ماذا أريد من‬ ‫ر ّباه‪ّ ،‬أي شيء أنا؟ من أكون؟ لماذا ُ‬
‫أتيت؟ لماذا أنا ٌّ‬
‫درويش ولهانٌ ‪ ،‬ذو قلب محترق‪ ،‬ذو فؤاد منكسر‪ٌ ،‬‬
‫يائس‬ ‫ٌ‬ ‫حياتي؟‪ ،‬أنا‬
‫وحيد‪ ،‬أذهب الستقبال الموت‪ ،‬حيث خطر الموت يتساقط‬ ‫من ال ّدنيا‪ٌ ،‬‬
‫كما المطر‪ ،‬أسبح في بحر الخطر‪ ،‬وأع ّد ال ّلحظات على أمل الشّ هادة‪،‬‬
‫هذا أنا‪.‬‬
‫وهناك حيث يوزّعون الجوائز والمنافع‪ ،‬ويحتفل الجميع راقصين‬
‫فرحين بال ّنصر‪ ،‬فال مقعد لي‪ ،‬أجلس فري ًدا ووحي ًدا في زاوية‪ ،‬وأختلي‬
‫مع ر ّبي وال ّدمع‪ ،‬وال أتأ ّم ُل العطايا والمنافع‪ ،‬وال أخاف من الخسارة‪،‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫السمعة وال ّتهجم وال ّتهمة والكذب‪.‬‬
‫وال أحزن من تشويه ّ‬
‫الحياة في نظري تفاهة‪ ،‬انتصاراتها وخساراتها! حياتها ومماتها! أحزانها‬
‫وأفراحها! وما تر ّق ُب األمنيات وما الخوف في نظري سوى تفاهة‪ .‬ال‬
‫شيء وال أحد يفرحني‪ ،‬ولست مستوحشً ا من ّأي شيء أو أي أحد‪ .‬لقد‬
‫يدي من الحياة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫غسلت ّ‬

‫‪- 76 -‬‬
‫‪19‬‬ ‫بانتظار مسلّح‬
‫‪ 15‬كانون الثّاني ‪1978‬‬

‫ظل الق ّوة ّ‬


‫والظلم والوحشة سيطرته‬ ‫ّأي رهبة ووحشة؟ لقد نشر ُّ‬
‫موحش العيش في‬‫ٌ‬ ‫على المنطقة بطريقة ال يمكن تص ّورها! كم هو‬
‫هذه األجواء‪ ،‬وسماع األخبار المفجعة بانتظار مس ّلح يقذف رصاصاته‬
‫المحرقة‪ ،‬انتظار قاتل في ّأي طريق‪ ،‬تحت ّأي شجرة‪ ،‬في زاوية ّأي‬
‫بيت‪ .‬القفز من المكان بسبب ّأي صوت‪ ،‬االرتجاف من ّأي حركة غير‬
‫مرتقبة‪ ،‬الخوف من ّأي نقطة سوداء‪ ،‬من ّأي صوت غريب‪ ،‬من ّأي‬
‫نظرة مريبة!‬

‫‪- 77 -‬‬
‫الطوفان؟‬
‫البط من ّ‬
‫أوهل يخاف ّ‬
‫ّ‬ ‫‪20‬‬
‫‪ 25‬كانون الثّاني ‪1978‬‬

‫المؤسسة[[[ وأخذني جان ًبا‬


‫ّ‬ ‫البارحة‪ ،‬جاء أحدهم في جنوب لبنان إلى‬
‫وقال‪ :‬أنت في خطر ونريد حراستك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا؟ ّأي أخبا ٍر لديك؟‬
‫حتمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قال‪ :‬هناك من يحاول قتلك‪ ،‬وحياتك في خطر‬
‫شكرته وقلت‪ :‬الله العظيم يحرسني‪.‬‬
‫رفض هذا الكالم وك ّرر ما طرح‪ ،‬وك ّررت شكري‪.‬‬
‫عج ًبا! هؤالء يه ّددونني بالموت؟ أنا ا ّلذي يتهدهد في حضن الموت‪،‬‬
‫والمسرور بلطفه وهدوئه!‬
‫الغم واأللم‪ ،‬أتخ ّبط في بحر األلم‪ُ ،‬وأضغ َُط‬
‫وأنا لست سوى وليد ّ‬
‫وأحس‬
‫ُّ‬ ‫الغم‪ ،‬وأحترق على ال ّدوام بنار الحرمان والفقر‪،‬‬
‫تحت جبل من ّ‬
‫بالغربة عن ال ّدنيا وعن ّ‬
‫كل ما فيها‪.‬‬

‫مؤسسة جبل عامل الف ّن ّية ال ت يّ� كانت إدارتها بعهدة ّ‬


‫الدكتور شمران‬ ‫ّ‬ ‫‪ .1‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫‪21‬‬ ‫باخلط األحمر‬
‫ّ‬ ‫َمن سريسم‬
‫‪ 4‬شباط ‪1978‬‬

‫أصيح من أعماق القلب‪ ،‬أدعو ال ّدنيا إلى ال ّنضال‪ ،‬ولكن ال أحد يسمع‬
‫صياحي‪ ،‬وأذهب وحي ًدا إلى حرب العالم‪ .‬آخذ وجودي إلى ال ّنار‪ُ .‬أريق‬
‫لعل وجدانًا يصحو‪ ،‬لعل ُأ ُذنَ ضمي ٍر‬
‫لعل أح ًدا يعي‪ّ ،‬‬ ‫دمي على األرض ّ‬
‫تسمع صرخة استغاثتي‪ .‬ولكن واأسفاه فقد ج ّرت المصالح الماد ّية‬
‫وحب الحياة والمنافع الشّ خص ّية الجميع بسلسلة حديد ّية‪ .‬وأصبح‬ ‫ّ‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجميع أسراء وأذالء‪ .‬أريدُ مت ّي ًما يرسم على الوجود كله خطا أحمر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫السالسل‪ ،‬ومن أسر الحسابات والمخاوف والعالئق‬ ‫ويتح ّرر من كل ّ‬
‫ال ّدنيو ّية‪ ،‬يصير نا ًرا بشكلٍ كاملٍ ‪ ،‬يصير عش ًقا‪ ،‬يصير صرخة‪ ،‬يصير نضاالً‪،‬‬
‫ويغوص في طريق الشّ هادة‪ ،‬ناق ًال‬
‫ُ‬ ‫يصير سي ًفا‪ ،‬يصير منتص ًرا‪ ،‬يصير أس ًدا‬
‫راية األمل بسعادة اإلنسان األسير ال ّدامية من نسلٍ إلى آخر‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫وعلي‬
‫ّ‬ ‫أحب القدس‬
‫ُّ‬ ‫‪22‬‬
‫‪ 8‬شباط ‪1978‬‬

‫أتيت إلى هذه البالد بعالم من آمال الجهاد‪ ،‬واألحالم‬ ‫ر ّباه‪ ،‬لقد ُ‬
‫الطاهرة‪ ،‬واألماني المق ّدسة واإلله ّية ا ّلتي لم يكن فيها ّأي لونٍ لألنان ّية‬‫ّ‬
‫عصب‪ .‬كنت أتم ّنى أن أق ّد َم نفسي في سبيل ثورة فلسطين‪،‬‬ ‫وال ّت ّ‬
‫وأجعل من روحي وثيقة تحرير لها‪ ،‬فقد شممت عطر ال ّنصر‪.‬‬
‫كنت أتم ّنى وآمل أن أسافر إلى القدس راج ًال‪ ،‬وأسجد هناك لله العظيم‬
‫وأشكر لطفه ورحمته‪.‬‬
‫كنت أتم ّنى أن أناضل في سبيل الحق والعدالة‪ ،‬وأكون صاح ًبا‬
‫للمحرومين والمستضعفين وذوي القلوب المنكسرة وملجأً لهم‪.‬‬
‫علي في األرض‪ ،‬وأفتح ستائ َر‬
‫علي‪ ،‬جراح ّ‬
‫كنت أتم ّنى أن أغرس راية ّ‬
‫والطاهر بكل‬‫الساطع ّ‬ ‫ال ّتاريخ على نهار الحقيقة‪ُ ،‬فأظهر وجوده ّ‬
‫فخر وعشق لعطشى الحقيقة والعدالة‪ ،‬وأجمع اإلنسان ّية حول شمع‬
‫وجوده ال ّذائب في طريق الكمال‪ ،‬وآخذ اله ّمة من إرادته العالية‪،‬‬
‫الصعبة والمتعبة في حيا ٍة ملؤها االمتحان‬
‫خالل مواجهة المشكالت ّ‬
‫يدي قاصرة‬‫والغم‪ ،‬األلم والمصائب‪ .‬وفي يوم القيامة‪ ،‬حيث تكون ّ‬ ‫ّ‬
‫ألثبت صدقي وعشقي‬ ‫عن ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬أق ّدم عل ًّيا شفي ًعا بين ي َدي الله َ‬
‫وإيماني‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫كنت أتم ّنى أن أحمل راية الحسين ال ّدامية على كاهلي‪ ،‬وأضيف‬
‫السلسلة ّ‬
‫الطويلة لشهداء طريق‬ ‫بال ّتضحية بوجودي حلقة أخرى إلى ّ‬
‫الحقّ ‪ ،‬وأجعل اإلنسان ّية أقرب ولو بخطو ٍة واحدة إلى الخالص‪.‬‬
‫أؤسس مدين ًة فاضلة تظ ّلها العدالة‪ ،‬ويروي فيها نبع‬
‫كنت أتم ّنى أن ّ‬
‫الطاهرة‪ ،‬ويغادر الحقد والحسد‪،‬‬ ‫العشق والمحبة أرض صدور ال ّناس ّ‬
‫ال ّتهمة والكفر‪ ،‬الجهل ّ‬
‫والظلم‪ ،‬األرض وكل ما فيها‪.‬‬
‫ما أجمل االعتماد على الله وال ّتحليق بقلب مطمئن حين تعصف‬
‫العواصف‪ ،‬وال ّتخبط بكل عشق في قعر ال ّزوابع الخطرة‪ ،‬وال ّذهاب‬
‫إلى حضن الشّ هادة في معركة الحياة والممات دون تر ّدد‪ ،‬وتقديم‬
‫وجود المرء ك ّله قربانًا لله على مذبح العشق‪ ،‬وال ّتر ّفع عن ّ‬
‫كل شيءٍ‪،‬‬
‫والوصول إلى الح ّر ّية المطلقة!‬
‫ما أجمل تح ّمل اآلالم والعذابات في سبيل المعشوق‪ ،‬وال ّتفتت تحت‬
‫الغم‪ ،‬وال ّتعرض لالتهام من‬
‫أحجار طاحونة الحياة‪ ،‬والغوص في بحر ّ‬
‫أجل الحقّ ‪ ،‬وسماع كلمات الشّ تم وال ّلعن‪ ،‬والمقت من ّ‬
‫كل مكان‪،‬‬
‫ّ‬
‫والطرد من ق َبل اآلخرين‪.‬‬
‫ما أجمل االلتزام بالقيم ال ّر ّبان ّية‪ ،‬والعذاب من أجل الله‪ ،‬والثّبات‬
‫والمعاناة من أجل الحقّ ‪ ،‬وصرف المرء نظره عن ّ‬
‫كل ما يملكه ويق ّيده‪،‬‬
‫وال ّتفكير فقط وفقط بالله ّ‬
‫والسير نحوه‪.‬‬
‫ما أجمل أن يصير المر ُء قندي ًال يضيء ّ‬
‫الطريق‪ ،‬أن يبتغي تح ّدي الكفر‬

‫‪- 81 -‬‬
‫والجهل‪ ،‬و ُيخضع وحش ّ‬
‫الظلمة‪ ،‬ويجعل من وجوده سب ًبا أساس ًّيا‬
‫النتصار ال ّنور على ّ‬
‫الظالم!‬
‫ما أجمل البقاء مع الله فقط واالنقطاع عن العالم ك ّله‪ ،‬واليأس تما ًما‬
‫كل مكان ّ‬
‫وكل شخص‪ ،‬دون ّأي أمل وأمنية وك ّوة نور‪ ،‬غير الله‪.‬‬ ‫من ّ‬
‫كل مظاهر الوجود‪،‬‬ ‫والسيطرة على ّ‬
‫ما أجمل اإلسراع للقاء الله‪ّ ،‬‬
‫وال ّتحكم ّ‬
‫بكل العالم وقوانين ال ّدنيا‪ ،‬وسحق ظروف ال ّتاريخ القاهرة‬
‫وقلب مسيرته‪ ،‬وإلحاق الهزيمة بالشّ يطان‪ ،‬وإظهار جمال اإلنسان في‬
‫تكاملي لل ّنفس!‬
‫ٍّ‬ ‫أعظم ٍّ‬
‫تجل‬
‫يحس بلحظاتنا الثّقيلة والخطيرة‬ ‫ر ّباه‪ ،‬من يعلم بحياتنا العاصفة؟ ومن ُّ‬
‫وكل ما نملك‪ ،‬المه ّدد بخطر ال ّزوال‪ّ .‬‬
‫كل يوم تُقام‬ ‫والقاتلة؟ وجودنا ّ‬
‫كل زاوية وطرف نرى ال ّتهمة والخداع‬ ‫ض ّدنا مؤامرة ودسيسة ما‪ .‬من ّ‬
‫وال ّتزوير‪ .‬لقد أصبح األفق مظل ًما‪ ،‬المستقبل مبه ًما واآلمال مقطوع ًة‪.‬‬
‫ال تُنتظر المساعدة من ّأي مكان أو ّأي شخص‪ .‬لقد تر َكنا األصدقاء‬
‫ليلجأوا جماعات جماعات إلى البلدان الخارج ّية من أجل العمل ورفع‬
‫سجاداتهم وجلسوا في زاوية‬ ‫مستوى المعيشة‪ .‬ال ّتقليد ّيون أخذوا ّ‬
‫المسجد مب ِّرئين أنفسهم ومب ّررين فرارهم من المعركة بأعذار أقبح‬
‫المضحون كذلك َتعِبين وجائعين‬ ‫ّ‬ ‫من ال ّذنب‪ .‬لقد أصبح الفدائ ّيون‬
‫هجم وال ّتهمة والخطر‬‫ومش ّردين ومحزونين وآيسين‪ .‬وصاروا معرضً ا لل ّت ّ‬
‫والموت‪ .‬ح ًّقا‪ ،‬إنّه لظلم كبير يوحي بمستقبل مبهم ومظلم‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫‪23‬‬ ‫التّحليق يف امللكوت‬
‫‪ 10‬شباط ‪1978‬‬

‫وقفت أمام عواصف‬‫ُ‬ ‫عيني على ال ّدنيا بعد‪ ،‬عندما‬


‫لم أكن قد فتحت ّ‬
‫بالسعي الحثيث من أجل البقاء‪ .‬كنت أطوي‬ ‫الصعبة‪ .‬وشرعت ّ‬ ‫الحياة ّ‬
‫المنخفضات والمرتفعات بنباهة ورشاقة في معترك الوجود‪ .‬كنت‬
‫أنقذ نفسي من المتاهات الخطرة‪ ،‬كنت أالعب بيدي أمواج الخطر‬
‫العاتية‪ .‬وكنت أريد أن أجد ساح ًال لل ّنجاة وأرتاح للحظة‪ .‬كنت أتم ّنى‬
‫أن أجد قطعة خشب ألتع ّلق بها وأطوي طريقي إلى ساحل البقاء‪.‬‬
‫الطرف إلى ذاك‪،‬‬‫كالقش من هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫كانت العواصف الشّ ديدة تتقاذفني‬
‫فيما كنت أسعى للحفاظ على توازني كي ال أتعرض لسقوط ال ّذات‪.‬‬
‫لم أنعم لحظة واحدة في حياتي براحة البال‪ ،‬ألنطلق لمشاهدة جمال‬
‫صاف‪ ،‬وألت ّذ بغروب الشّ مس سابح الخيال‪ ،‬وأتف ّكر بسير‬
‫العالم بفكر ٍ‬
‫السماء بد ّقة كافية‪ ،‬ألح ّلق دون خوف وفزع إلى الضّ فاف‬‫كواكب ّ‬
‫وأتخطى حدود الفلك باقتدار‬‫ّ‬ ‫ال ّالمتناهية‪ ،‬إلى ما وراء المج ّرات‪،‬‬
‫وشجاعة‪ ،‬وأذهب للقاء خالقي بقلب هادئ وروح مطمئ ّنة‪.‬‬
‫والسكينة أب ًدا في حياتي‪ ،‬لم أمتلك خاط ًرا‬
‫لم أعرف معنى األمن ّ‬
‫مطمئ ًّنا‪ ،‬لم أجد منزالً ومأ ًوى مستق ًّال‪ ،‬لم أستحصل على ملجأ‪ ،‬ولم‬
‫أحظ باستقرار وهدوء خاطر‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪- 83 -‬‬
‫لذلك أردت أن أجعل أمني واستقراري بعي ًدا عن األمور الما ّد ّية‪ ،‬وأتّكل‬
‫وأبني مستق ّري في بيت القلب‪ ،‬وأبحث عن أمني‬ ‫على العشق والمح ّبة‪َ ،‬‬
‫واطمئنان خاطري في ُبع ٍد أعلى من أبعاد الحياة العاد ّية‪ ،‬أسكن بيت‬
‫العشق ا ّلذي يبقى ويثبت خالل العواصف والزوابع وال يزول ح ّتى بالموت‪.‬‬
‫يتيم بعينين باكيتين‪ ،‬وال تخرق صرخة موجع سكوت‬
‫كنت أتم ّنى أن ال ينام ٌ‬
‫ّ‬
‫الظلمة في منتصف ال ّليل‪ ،‬وال ترتفع إلى ّ‬
‫السماء آهة محرقة بسبب اليأس‪.‬‬
‫وكل شخص‪،‬‬ ‫كل مكان ّ‬ ‫كنت أتم ّنى أن أرى تج ّلي ّ‬
‫الصفات ال ّر ّبان ّية في ّ‬
‫وأن أشاهد الجمال والجالل‪ ،‬الكمال والعلم‪ ،‬اإلبداع والعشق‪ ،‬المح ّبة‬
‫واإلخالص واإلنسان ّية‪ ،‬مدار الحياة‪.‬‬
‫الظلمة‬ ‫قدمي‪ ،‬وأجبر ّ‬‫كنت أتم ّنى أن أكون شم ًعا‪ ،‬أحترق من رأسي إلى ّ‬
‫على الفرار‪ ،‬وال أجيز للكفر‪ ،‬الجهل ّ‬
‫والطمع أن يسيطروا على ال ّدنيا‪.‬‬
‫كنت أتم ّنى‪ ،‬ر ّبما أمنيات بعيدة وطويلة! أمنيات ذهب ّية‪ ،‬لك ّني اآلن‬
‫أحس أنها ك ّلها أصبحت ترا ًبا! فقد أسلمت للقضاء والقدر ساح ًبا يد‬‫ّ‬
‫يائسا ومنكسر القلب‪.‬‬
‫األماني‪ً ،‬‬
‫الحظ‪ .‬وفهمت أنّه‪،‬‬ ‫قد ع ّلقت القلب بالموت فقي ًرا‪ ،‬مسكي ًنا وس ّيئ ّ‬
‫الطويل المليء باأللم‪ ،‬كان لدى اآلالف اآلالف مثلي‬ ‫خالل هذا ال ّتاريخ ّ‬
‫أمنيات كبيرة‪ ،‬ك ّلها اندثرت وأصبحت بعد ال ّتجارب المريرة ترا ًبا‪ .‬وأنا‬
‫كذلك لست أفضل ولست أعلى مقا ًما من هؤالء‪ ،‬ويجب أن ال أطلق‬
‫لدي تو ّقعات في غير مح ّلها‪.‬‬
‫ا ّدعاءات كاذبة‪ ،‬وال تكون ّ‬

‫‪- 84 -‬‬
‫حال ًّيا صارت الحياة في نظري حقيرة‪ ،‬إلى ح ّد أنّني لست حاض ًرا‬
‫ألدوس على ّأي حقّ من أجل نفسي‪ ،‬بل وال من أجل ّ‬
‫كل ال ّدنيا‪ ،‬أو‬
‫آخذ ح ّبة من نملة بالق ّوة‪ ،‬أو أخاف خالل أداء كلمة حقّ من الموت‬
‫يدي من حياتي‪ ،‬سارعت إلى مواجهة‬ ‫ُ‬
‫غسلت ّ‬ ‫أو شي ٍء أو أحد‪ .‬بل لقد‬
‫الحوادث بنفسي‪ ،‬وق ّدمت كل وجودي ّ‬
‫بكل إخالص‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫دواء روحي‬ ‫‪24‬‬
‫‪ 19‬شباط ‪1978‬‬

‫عدد من اآلباء واأل ّمهات من القرى الحدود ّية الجنوب ّية كي‬
‫اليوم‪ ،‬جاء ٌ‬
‫ُيخرجوا أوالدهم من المدرسة ا ّلتي أديرها أنا في [جنوب لبنان]‪ُ ،‬سئلوا‬
‫عن ذلك فقالوا‪ :‬بأنّ الجنود اإلسرائيل ّيين قد أ ّكدوا لهم بأنّ كل من‬
‫مؤسسة جبل عامل فليخرجه منها؛ ألنّ إسرائيل ستقصف‬ ‫ابن في ّ‬‫لديه ٌ‬
‫المدرسة‪ ،‬وبسبب ذلك امتأل اآلباء واألمهات رع ًبا وخو ًفا بشكلٍ يفوق‬
‫الوصف‪ ،‬وها هم ُيخرجون أوالدهم من المدرسة بعد أن أتوا إليها‬
‫مسرعين جماعات جماعات‪.‬‬
‫هل ستقصف إسرائيل المدرسة؟‬
‫مدرسة جبل عامل هي منبع العشق والفداء المتد ّفق‪ُ ،‬‬
‫نبع اإليمان‬
‫الحقيقي والقيم ال ّر ّبان ّية‪ ،‬مدرسة قد ق ّدمت إلى اآلن أكثر‬
‫ّ‬ ‫واإلسالم‬
‫من عشرة أساتذة وتالمذة شهداء‪ ،‬مدرسة هاجمها األعداء واألوغاد‪،‬‬
‫وقاتلت بنداء الله أكبر تحت وابل من ال ّرصاص والقنابل والمدافع‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مدرسة هي معقل المسلمين الثّابتين‬ ‫بكل شرف‪،‬‬‫ودافعت عن موقعها ّ‬
‫مدرسة هي بيت اإلمام موسى‬‫ٌ‬ ‫علي (ع) في جنوب لبنان‪،‬‬ ‫من شيعة ّ‬
‫الصدر‪ ،‬وحركة المحرومين ا ّلتي كان يقودها‪ ،‬وهي رمز ّ‬
‫الطائفة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مدرسة تُعتبر حصن الحقّ واإليمان‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫الصفات‪ ،‬فليس بمستبع ٍد أن تقصف إسرائيل المدرسة‪ ،‬وتقتل‬ ‫مع هذه ّ‬
‫وتجرح ال ّتالمذة األبرياء‪ .‬أنا بقيت في المدرسة وأريد أن أبقى كي أنال‬
‫الشّ هادة مع تالمذتي في حال وقع الهجوم‪.‬‬
‫غرق إسرائيل مدرستي بال ّتراب وال ّدم‪ .‬لقد ق ّررت أن ُأخضع كابوس‬‫فل ُت ْ‬
‫ال ّرعب ّ‬
‫وأحطم وحش الموت بقدرة اإليمان وال ّتضحية وبحتم ّية الشّ هادة‪.‬‬
‫الحسيني ورقة مل ّونة من الفخار‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تاريخ اإلسالم‬
‫أرسم في ِ‬‫فليكن ذلك كي َ‬
‫كان االتّكاء على العشق واالستقرار في منزل القلب َ‬
‫األمل واألمنية‬
‫ذكي ينقذ روحي المضطربة القلقة من‬ ‫عقالني ّ‬
‫ٌّ‬ ‫الملكوت ّية‪ ،‬كان تدبي ٌر‬
‫لدي أمانًا في ُبعد العشق وال ّروح‪ ،‬مستق ًّال عن الجسد‬
‫ال ّتشويش‪ ،‬ويوجدُ ّ‬
‫يرض ال ّر ّب العظيم بهذا األمن وهذه‬ ‫والمسكن‪ .‬ولكن‪ ،‬واأسفاه إذ لم َ‬
‫الطمأنينة‪ ،‬ح ّتى في ُبعد العشق وال ّروح أيضاً‪ ،‬ولم يشأ أن ي ّتخذ له من‬ ‫ّ‬
‫فيتحصل‬
‫ّ‬ ‫عشقي ال ّالهب‪،‬‬
‫َ‬ ‫قلبي منزالً للعشق‪ ،‬أو أن يصير قلبي مستق َّر‬
‫أحد تحمل عشقي‪ ،‬ولم‬ ‫لي من خالل ذلك أمن وطمأنينة‪ .‬لم يستطع ٌ‬
‫يمنح روحي الهائمة الهدوء‪ ،‬ولم ُيج ْد باالستقرار على قلبي المجذوب‪.‬‬
‫والطمأنينة‪ ،‬كذلك‪ .‬صرفت ال ّنظر عن كل ال ّرغبات‬ ‫تر ّفعت عن العشق ّ‬
‫الشّ خص ّية وال ّلذات الفرد ّية‪ .‬أردت أن أمنح قلبي االطمئنان بال ّنضال في‬
‫سبيل العدالة وانتشار القيم اإلله ّية‪ .‬أردت أن أسعد نفسي بالعشق‬
‫الطواغيت‪ ،‬وتحرير البشر‬ ‫الظلمة‪ ،‬وهزيمة ّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬وانتصار ال ّنور على ّ‬
‫ّ‬
‫من قيد األسر‪ ،‬وأن أسعد ال ّناس‪ .‬أردت أن أجتاز أبعاد ال ّتم ّنيات وال ّرغبات‬
‫الملكوتي للمحكمة‬
‫ّ‬ ‫حظي عند الحرم‬ ‫البشرية العاد ّية‪ ،‬وأفرش متاع ّ‬

‫‪- 87 -‬‬
‫اإلله ّية‪ .‬تناسيت زوجتي وفلذات أكبادي وأسلمتهم جمي ًعا ليد القدر‪،‬‬
‫الغم وبحر األلم في قلبي‬ ‫كي أساعد األيتام والموجعين‪ .‬تق ّبلت جبل ّ‬
‫فلربما أداوي بذلك غموم وآالم المستضعفين‪ .‬تق ّبلت الحرمان والفقر‬
‫قلب من الحرمان وال تصبح ٌ‬
‫روح ذابلة‬ ‫والوحدة لنفسي كي ال يحترق ٌ‬
‫من الوحدة‪ ،‬وال تخرق صمت ّ‬
‫الظلمة في قلب ال ّليل آهة متأ ّلم‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫‪25‬‬ ‫ألجله خلق اإلنسان‬
‫‪ 19‬شباط ‪1978‬‬

‫العالم ج ّب َة الوجود‬
‫َ‬ ‫ألبس‬
‫كان الله وال شيء سواه‪ .‬لم يكن الخالق قد َ‬
‫الظلمة‪ ،‬كان الجهل‪ ،‬كان العدم‪ ،‬بار ًدا وموحشً ا‪ ،‬ولم يكن‬ ‫بعد‪ .‬كانت ّ‬
‫قد ُوجد شيء في دائرة اإلمكان‪ .‬كان الكون كلمة‪ ،‬كلمة لم تكن قد‬
‫ُأل ِق َيت بعد‪ .‬كان الله خال ًقا‪ّ ،‬‬
‫لكن قدرته الخَ لقية كانت ما تزال مخف ّية[[[‪.‬‬
‫ولكن سحابة رحمته لم تكن قد أمطرت بعد‪ .‬كان‬ ‫كان الله رحي ًما‪ّ ،‬‬
‫ولكن جماله لم يكن قد تج ّلى بعد‪ .‬كان الله عادالً‪ّ ،‬‬
‫ولكن‬ ‫الله جمي ًال‪ّ ،‬‬
‫ولكن قدرته‬‫عدله لم يكن قد حكم الوجود بعد‪ ،‬كان الله قاد ًرا وقدي ًرا‪ّ ،‬‬
‫والظلمة‬‫لم تكن قد تج ّلت في ميدان العمل‪ .‬كيف ُيظهر في العدم ّ‬
‫كلمة في الصمت؟ كيف تتجلى‬ ‫شعاع كماله جالله وجماله؟ كيف تولد ٌ‬
‫السكوت‬ ‫الظالم‪ ،‬كان ّ‬‫القدرة واإلبداع في الجمود؟ كان العدم‪ ،‬كان ّ‬
‫السماوات‬ ‫ثم تج ّلت إرادة الله‪ ،‬خلق الجبال‪ ،‬البحار‪ّ ،‬‬
‫والجمود والوحشة‪ّ .‬‬
‫والمج ّرات‪ّ .‬أي انفجارات‪ّ ،‬أي فيضانات! ّأي سيول! ّأي جلبة كانت قد‬
‫ش ّكلت أساس الخلقة‪ ،‬وكانت تنشر الحياة في كل اتّجاه بحماستها‬
‫ونشاطها الفائق الوصف‪ .‬تح ّركت األشجار‪ ،‬الحيوانات ّ‬
‫والطيور‪ .‬خ ّيم‬
‫الجالل على عالم الوجود‪ ،‬وأظهر الجمال وجهه ال ّرائع‪ ،‬وتع ّهد الكمال‬

‫لك أعرف» بحار‬ ‫القدس‪« :‬كنت نز ً‬


‫ك�ا مخف ًّيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ي‬ ‫يّ‬ ‫‪ .1‬إشارة إىل الحديث‬
‫النوار ج‪ 84‬ص‪344‬‬ ‫أ‬

‫‪- 89 -‬‬
‫بإدارة هذا ال ّنظام العجيب‪ .‬بدأت الحيوانات بال ّتحرك ّ‬
‫والطيور بال ّتغريد‪،‬‬
‫وأنشد الوجود نغمة الفرح‪ ،‬وشرعت المالئكة بنشيد العبادة‪.‬‬
‫عندئذٍ‪ ،‬خلق الله اإلنسان [من حمأ مسنون][[[‪ ،‬وجعله على صورته‪،‬‬
‫َ‬
‫وأفلت هذا الخلق العجيب وسط جلبة الوجود‬ ‫ونفخ فيه من روحه[[[‪،‬‬
‫مستوحشً ا غري ًبا‪.‬‬
‫بالصمت‪،‬‬
‫والصحبة‪ ،‬فالذت ّ‬ ‫الصداقة ّ‬
‫ذهب إلى المالئكة وطلب منها ّ‬
‫عاتب نفسه قائ ًال‪« :‬أ ّيها ّ‬
‫الطين ال تطمع بمجالسة المالئكة»‪.‬‬
‫كل واحد منها تجاوزه دون جواب‪ .‬عرض نفسه‬ ‫اقترب من الحيوانات‪ّ ،‬‬
‫بالصمت‪ .‬عرض‬ ‫السحاب وال ّرياح‪ ،‬على البحور واألمواج‪ ،‬ك ّلها الذت ّ‬
‫على ّ‬
‫نفسه على الجبال فأخذها الشّ موخ والجالل وتعالت عليه بجبروت‪،‬‬
‫ولى منكس ًرا‬
‫السماء‪ ،‬على ال ّنجوم‪ ،‬ولكن دون جدوى‪ّ ،‬‬ ‫عرض نفسه على ّ‬
‫الصحاري دون أن يحفل ببريق أمل فشعر بحقارة ما ّدته‪ ،‬وحزن‪،‬‬ ‫نحو ّ‬
‫ذرف ال ّدمع‪ ،‬صرخ من أعماقه‪ ،‬استجدى ّ‬
‫كل الكائنات طال ًبا اإلغاثة‪ :‬من‬
‫يجيب أنيني؟ من يأخذ بيدي؟‬
‫كالصدى‪،‬‬‫والسماء ّ‬
‫فجأة‪ ،‬ه ّبت عاصفة‪ ،‬تزلزلت األرض‪ ،‬تر ّدد صوت في األرض ّ‬
‫ُ‬
‫خلقت ال ّدنيا‬ ‫كل الموجودات قائ ًال‪« :‬أ ّيها اإلنسان أنت حبيبي‪ .‬لقد‬
‫و ِبلغة ّ‬
‫أحد‬
‫يلب ٌ‬ ‫ألجلك‪ ،‬وخلقتك على صورتي‪ ،‬ونفخت فيك من روحي‪ .‬وإن لم ِّ‬

‫‪ .1‬سورة الحجر آية ‪26‬‬


‫‪ .2‬إشارة إىل آ‬
‫الية ‪ 29‬من سورة الحجر‬

‫‪- 90 -‬‬
‫نداءك‪ ،‬فألنّه ليس من نوعك وليست لديه جرأة مرافقتك وال ّتماثل معك‪.‬‬
‫ح ّتى جبرائيل‪ ،‬أعظم المالئكة‪ ،‬ال يستطيع ال ّتحليق بعي ًدا معك‪.‬‬
‫أ ّيها اإلنسان‪ ،‬أنت الوحيد ا ّلذي يدرك الكمال‪ .‬يجذبك الجمال والجالل‪.‬‬
‫أنت الوحيد ا ّلذي يعبد الله بالعشق الح ّر ال بالجبر‪ .‬أنت الوحيد ا ّلذي‬
‫وحجة الله‪ .‬أ ّيها اإلنسان‪ ،‬أنت وحدك ا ّلذي‬
‫صار بال ّتوحيد خليفة الله ّ‬
‫يعي قدرة وإبداع الله‪ .‬أنت ا ّلذي يغت ّر ويعصي‪ ،‬ويحارب بإصرار ويهزم‬
‫ويحطم‪ ،‬ويدرك عظمة وجبروت الله بطبعه العالي وفكره‪ .‬أنت فقط‬ ‫ّ‬
‫القادر على أن تطوي المسافة الفاصلة بين الملك والملكوت‪ ،‬وتعرج‬
‫إلى الله‪ ،‬وتثبت أنّك أفضل المخلوقات! أنت فقط من يذهب إلى‬
‫المعالي بمساعدة أجنحة ال ّروح‪ .‬أنت فقط من يسكره جمال الغروب‬
‫ويحترق من الشّ وق ويذرف ال ّدموع‪.‬‬
‫أ ّيها اإلنسان‪ ،‬وبامتياز خاص وص َلت الخلقة فيك إلى الكمال‪ّ ،‬‬
‫وتجسدت‬
‫الكلمة فيك‪ ،‬وظهر الجمال في ناظريك المطال َعين للجمال‪ ،‬وأصبح‬
‫للعشق مفهوم ومعنى بوجودك‪ ،‬وألوه ّيتي قد تج ّلت في صورتك‪.‬‬
‫أ ّيها اإلنسان‪ ،‬أنت تح ّبني وأنا كذلك أح ّبك‪ ،‬أنت م ّني ّ‬
‫وإلي تعود»‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫مذكرات إيران |•‬
‫ّ‬ ‫•| من‬

‫‪1‬‬ ‫أماه ها إنّي أعود‬


‫ّ‬
‫‪ 17‬شباط ‪1979‬‬

‫حضرت عندما كنت أغادر مطار طهران‪ ،‬وخالل الوداع ِ‬


‫قلت لي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫أ ّماه[[[‪،‬‬
‫[مصطفى‪ ،‬أنا ك ّبرتك‪ ،‬ر ّبيتك بروحي ومهجتي‪ ،‬واآلن وأنت تذهب‪ ،‬ال‬
‫أريد منك شيئًا وال أؤ ِّمل منك أم ًرا‪ ،‬فقط أوصيك وص ّية واحدة وهي أن‬
‫ال تنسى الله العظيم]‪.‬‬
‫أ ّماه‪ ،‬ها إنّني أعود إلى وطني العزيز بعد اثنين وعشرين عا ًما‪،‬‬
‫أنس الله حتى للحظة‬ ‫وأطمئنك بأنّني خالل هذه الم ّدة ّ‬
‫الطويلة لم َ‬
‫واحدة‪ .‬كان عشقه قد امتزج مع ذ ّرات وجودي إلى ح ّد أنّ لحظة‬
‫موج ًها الخطاب إىل‬ ‫أ‬ ‫ف‬
‫الدكتور شمران قد كتبها ي� اليوم ال ّول لوصوله إىل طهران ّ‬ ‫‪ .1‬هذه ّ‬
‫الرسالة كان ّ‬
‫الرسالة قط‪.‬‬ ‫ت‬
‫ّأمه ال يّ� لم تصلها ّ‬

‫‪- 93 -‬‬
‫واحدة من حياتي لم تكن ممكنة بدون حضوره‪.‬‬
‫إنّني سعيد يا أ ّماه‪ ،‬ليس فقط ألنّني أعود إلى حضن الوطن بعد هذه‬
‫الهجرة ّ‬
‫الطويلة‪ ،‬بل ألنّ أكبر طواغيت العصر قد ُهزم‪ ،‬وقد اج ُتثّت‬
‫جذور ّ‬
‫الظلم والفساد‪ّ ،‬‬
‫وهب نسيم الح ّر ّية واالستقالل‪.‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫‪2‬‬ ‫مزرعة االستقالل‬
‫‪ 29‬بهمن ‪ 18( - 1357‬شباط ‪)1979‬‬

‫[[[‬
‫بهشت زهراء ‪ -‬طهران‬
‫إلى مزار الشّ هداء‬
‫تحسبن ا ّلذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ر ّبهم‬
‫َّ‬ ‫[وال‬
‫ُيرزقون] ‪ .‬ما هذا البستان المليء بالورود!‬
‫[[[‬

‫هدايا أ ّمة بطلة إلى ال ّر ّب العظيم‪ .‬إنّهم األخيار ال ّالئقون‪ ،‬ورود س ّلة‬
‫ال ّتاريخ‪.‬‬
‫تضحي بأفضل أع ّزائها؟‬ ‫ّ‬
‫وتستقل دون أن ّ‬ ‫ترى هل يمكن أل ّمة أن تتح ّرر‬

‫المق�ة الرئيسية ف� طهران وتقع إىل جنوبها ن‬


‫وتع� بالعرب ّية‪ :‬ج ّنة ال ّزهراء ‪.O‬‬ ‫رب‬ ‫‪ .1‬‬
‫ّ‬
‫ي‬ ‫‪ .2‬سورة آل عمران‪ ،‬ي آ‬
‫الية ‪.169‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫ثورة األمل‬ ‫‪3‬‬
‫‪ 29‬بهمن ‪1357‬‬

‫السالم الحا ّر والعميق من شيعة لبنان إلى شعب إيران البطل‪ .‬إنّ‬ ‫ّ‬
‫الطواغيت‬ ‫انتصار أهل إيران المسلمين‪ ،‬ا ّلذي ال نظير له في هزيمة ّ‬
‫وإخضاع المستكبرين‪ ،‬عميق ومفاجئٌ إلى درجة أنّه قد أدهش‬
‫والظالمة‪ ،‬وأهدى‬ ‫وزلزل األنظمة الفاسدة ّ‬‫َ‬ ‫العالم‪ ،‬وغ ّير توازن القوى‪،‬‬
‫للمحرومين والمستضعفين في العالم البشرى والبركة وال ّرحمة‪.‬‬
‫وظلِموا من ال ّداخل والخارج‪.‬‬ ‫شيعة لبنان هم ا ّلذين قد ُقتِلوا لسنين طويلة‪ُ ،‬‬
‫الظلم والفساد إلى يوم‬ ‫قد عانوا األم ّرين تحت االحتالل‪ .‬وقد أوصلهم ُّ‬
‫أسود‪ .‬ومصيرهم المظلم والمبهم ال يداويه سوى معجزة سماو ّية‪ .‬وهذه‬
‫المعجزة الكبيرة قد حدثت اليوم‪ ،‬وهي هذه الثّورة اإلسالم ّية اإليران ّية‬
‫الخميني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المق ّدسة بقيادة أعلى مرجع لل ّتقليد لدى الشّ يعة حضرة آية الله‬
‫لدى شيعة لبنان ارتباط قلبي واشتراك مذهبي مع شعب إيران‪ ،‬ويمكن‬
‫لهذا الشّ عب اآلن أن يتخ ّلص من المؤامرات اإلسرائيل ّية واألميرك ّية‬
‫وال ّل َعب ّ‬
‫السياس ّية ال ّدول ّية القذرة‪ ،‬وال ّنكبات المتتالية إلى األبد‪.‬‬
‫بعد قرون طويلة من ال ّذل والجور واألسر‪ ،‬بعد تح ّمل األذى والعذابات‪،‬‬
‫مضي أيام الوحشة ّ‬
‫والظلمة المؤلمة‪ ،‬أخي ًرا نزلت ال ّرحمة والعناية‬ ‫بعد ّ‬
‫خصوصا‪ ،‬و ُوهِ بوا قائ ًدا حكي ًما‬
‫ً‬ ‫اإلله ّية على لبنان والمحرومين الشّ يعة‬
‫الصدر ا ّلذي استطاع خالل م ّدة بسيطة‬ ‫السيد موسى ّ‬
‫وحنونًا وقدي ًرا هو ّ‬

‫‪- 96 -‬‬
‫أن يفعل الكثير‪ ،‬أن يمنحهم الفخر والع ّزة واالحترام‪ ،‬أن يقطع أيادي‬
‫سرطان الفساد ّ‬
‫والظلم والقهر عنهم‪ ،‬أن يواجه القوى ا ّلتي تريد بلبنان‬
‫الطواغيت‪ ،‬أن يزرع مفهوم الجهاد‬ ‫كل ّ‬‫بكل شجاعة‪ ،‬ويحارب ّ‬ ‫ش ًّرا ّ‬
‫ومفهوم الشّ هادة العميق في عروق المؤمنين باإلسالم والحسين (ع)‪.‬‬
‫األعداء لم يستطيعوا تح ّمل وجود مثل هذا القائد‪ ،‬لذا فقد خُ طف هذا‬
‫وسجن‪ .‬وقد مضت ستة أشهر على غرق مصيره في ظالم‬ ‫ال ّرمز الكبير ُ‬
‫الحقد وظلمة المؤامرة‪ .‬وقد أصبح شيعة لبنان أيتاماً‪ .‬لقد فقدوا روحهم‪.‬‬
‫إنّهم مكسورو األفئدة‪ ،‬حزانى‪ ،‬يغلون من ش ّدة الغضب‪ ،‬يصرخون من‬
‫ش ّدة األلم‪ .‬ولك ّنهم من أجل سالمة قائدهم يلجمون أحاسيسهم الثّائرة‬
‫ويصبرون‪ ،‬يحترقون ويس ّكنون قلوبهم الملتهبة بال ّدمع‪.‬‬
‫هؤالء الشّ يعة المظلومون وذوو القلوب المنكسرة قد نظروا بعين‬
‫األمل إلى إخوانهم اإليران ّيين المسلمين‪.‬‬
‫وأرواح مفعمة‬
‫ٍ‬ ‫ممثلو شيعة لبنان يطأون بقلوب مليئة بالحماسة‬
‫يتحسسوا ُش َعل هذا البركان المق ّدس للثّورة‬‫باألمل كعبة آمالهم كي ّ‬
‫اإلسالم ّية بلحومهم وجلودهم أيضً ا‪ ،‬ويتن ّفسوا في الهواء الممتلئ فخ ًرا‬
‫من جالل وعظمة الحكومة اإلسالم ّية‪ ،‬ويشحذوا اله ّمة من األرواح‬
‫الطاهرة‪ ،‬وينقلوا ألهلهم شيعة لبنان‬ ‫المبا َركة لشهداء هذه األرض ّ‬
‫نفحة من إيمان شعب هذه البالد وتضحياته الخالصة ومح ّبته الج ّياشة‪.‬‬
‫شعب إيران العزيز‪ .‬عندما‬
‫قدرنا نحن شيعة لبنان مرتبط بقدركم أنتم َ‬
‫تكونون أحرا ًرا وأقوياء ومنتصرين‪ ،‬ففي ذلك ع ّز لنا‪ ،‬ونصركم هو أعظم‬
‫أمنية قلب ّية وحيات ّية لشعب لبنان‪.‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫ّ‬
‫الشيء الّذي يفسد احلياة‬ ‫‪4‬‬
‫اسفند ‪( - 1357‬شباط ‪-‬آذار ‪)1979‬‬

‫الجيوش قادرة‬ ‫إنّ األ ّمة ا ّلتي قد أسقطت أكبر ّ‬


‫الطواغيت وهزمت أقوى ّ‬
‫على ال ّتغلب على المشكالت الفرع ّية‪.‬‬
‫ضروري لتكامل ّأي نهضة‪ .‬إنّها تر ّبيها وتق ّويها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجود المشاكل‬
‫قضت ُس ّنة الله أن يكون صراع الحقّ مع الباطل أب ًدا‪ .‬وأنّ ال ّتكامل‬
‫الصعاب والمشاكل‬ ‫يحصل من خالل المواجهة‪ .‬يصبح ال ّناس خالل ّ‬
‫السالم وال ّراحة وال ّرخاء توجد اإلهمال‬ ‫ناضجين ومتعلمين‪ .‬وإنّ ّ‬
‫والتراجع‪ .‬الغنى واالكتفاء وال ّنصر ال ّدائم يدعو إلى الفساد ّ‬
‫والطغيان‪.‬‬
‫[إنّ اإلنسان ليطغى أن رآه استغنى][[[‪.‬‬
‫السعادة على‬‫لو نام شخص في سري ٍر من الحرير دائ ًما‪ ،‬واحتضن طائر ّ‬
‫كل المعارك‪ ،‬عندها ستذهب ل ّذة انتصاره‬ ‫ال ّدوام‪ ،‬وانتصر دائ ًما في ّ‬
‫وسعادته‪ ،‬وسيبقى عاط ًال عن ال ّتكامل‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة العلق‪ ،‬آ‬


‫اليتان ‪ 6‬و ‪.7‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫‪5‬‬ ‫احذروا‪...‬‬
‫(آخر أيّار ‪-‬حزيران ‪)1979‬‬

‫خطة أميركا هي إثارة الهرج والمرج‪ ،‬عدم االستقرار والقتل‬ ‫إنّ ّ‬


‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫وال ّتخريب‪ ،‬الحروب ال ّداخلية وإرهاق ال ّناس‪ ،‬تقويض ال ّنظام‬
‫وتدمير قصر األمنيات وتهيئة األجواء لفتنة عسكر ّية‪ ،‬وإيجاد حكومة‬
‫عسكر ّية من قبل ضابط شاب معارض للشّ اه ولك ّنه خادم ألميركا‪.‬‬
‫تقولون ح ِّلوا الجيش وأنشِ ئوا جيشً ا شعب ًيا‪ .‬أليس حرس الثّورة ا ّلذي‬
‫ُأنشئ جيشً ا شعب ًيا؟ إنّ الحكومة بصدد إصالح الجيش وحصر عمله في‬
‫شعبي‬
‫ّ‬ ‫خصص ّية‪ .‬إضافة إلى إيجاد جيش‬ ‫حراسة الحدود واألعمال ال ّت ّ‬
‫باسم حرس الثّورة‪ ،‬هذه ال ّلجان قد قامت وتقوم بهذه األعمال في‬
‫الوقت الحاضر إلى أن يسيطر الحرس على كل األمكنة‪ .‬بنا ًء على هذا‪،‬‬
‫هجم والخداع؟ تُرى هل نريد‬ ‫حجة ال ّت ّ‬
‫فعال َم هذا االختالف؟ ما هي ّ‬
‫ظامي الموجود؟ أفهل نسينا‬ ‫االعتماد على حماية ال ّنظام عبر الجيش ال ّن ّ‬
‫ذكرى الثّامن والعشرين من مرداد؟ (‪ 19‬آب‪ ،‬حرب أميركا إلرجاع الشّ اه)‪.‬‬
‫الوطني أو حرس الثّورة‪ ،‬وح ّتى ال ّلجان الموجودة ليس‬
‫ّ‬ ‫إنّ بناء الجيش‬
‫عم ًال ً‬
‫بسيطا‪ ،‬يأخذ ذلك وق ًتا‪ ،‬ويلزمه تنظيم وتربية أخالق ّية ولياقة‪ .‬إن‬
‫كنتم تف ّكرون في أنّ تحمل نفس هذه األحزاب وال ّتنظيمات الموجودة‬
‫السالح وتسمي نفسها حرس الثّورة‪ ،‬فأنتم تحيون ذكرى لبنان الم ّرة في‬ ‫ّ‬

‫‪- 99 -‬‬
‫السالح‪ ،‬وزال القانون والجيش والشّ رطة‪،‬‬
‫األذهان حين حملت األحزاب ّ‬
‫كل ليلة كانت تحصل حوادث ّ‬
‫السرقة والقتل واالغتصاب‪ ،‬وال‬ ‫وفي ّ‬
‫تعلمون ّأي أعمال قبيحة تلك ا ّلتي كانت تقع!‬
‫السوء إذ إنه‬ ‫وإذا كانوا قد اختاروا مثال لبنان ليق ّلدوه‪ ،‬فذلك في غاية ّ‬
‫كل ال ّناس عنهم‪،‬‬ ‫السيطرة المس ّلحة لألحزاب‪ ،‬تخ ّلى ّ‬ ‫بعد سنتين من ّ‬
‫الخارجي «إسرائيل» على هذه‬ ‫ّ‬ ‫وح ّتى أنّهم أحيانًا كانوا يفضّ لون العد ّو‬
‫تقتدي به‬‫َ‬ ‫األحزاب‪ .‬فهل تريدون من هذا المثل السيئ والمكشوف أن‬
‫والطاهرة؟ ّأي خطأ ال يغتفر هذا‪،‬‬ ‫الثّورة اإلسالم ّية اإليران ّية المق ّدسة ّ‬
‫وأي جريمة هذه؟!‬ ‫ّ‬
‫السافاك؟ بلى يوجد‪ ،‬بل يوجد المئات‪.‬‬ ‫أال يوجد اليوم عشرون ً‬
‫ضابطا من ّ‬
‫أليست جاهزة لتدفع عشرين مليون دوال ًرا لتوجد الفتنة؟ أال توجد ِف َر ٌق‬
‫مجموعات ترفع شعارات ماركس ّية ولكن أميركا‬ ‫ٌ‬ ‫قذرة؟ بلى‪ ،‬وكثيرة هي‪،‬‬
‫هي ا ّلتي تح ّركها‪ .‬إذن‪ ،‬لماذا ال يقومون بانقالب؟ جواب ذلك‪ ،‬أنّ أرض ّية‬
‫االنقالب ليست موجودة؛ ألن ال ّناس ال يقبلون‪ .‬لقد ثار ال ّناس‪ ،‬وال ّناس‬
‫الخميني العظيم‪ ،‬مثالِ اإليمان‬‫ّ‬ ‫لديهم كلمة موحدة‪ .‬وبوجود اإلمام‬
‫مجال لالنقالبيين‪ .‬كم هم‬‫والطهارة واإلخالص وال ّنور والهداية‪ ،‬ليس هناك ٌ‬ ‫ّ‬
‫بحجة ال ّدفاع عن‬‫للسخرية أولئك الذين يه ّزون وحدة شعب إيران ّ‬ ‫مثيرون ّ‬
‫العسكري‪ ،‬ويلت ّفون على أمر قائد‬‫ّ‬ ‫الثّورة اإلسالم ّية والخوف من االنقالب‬
‫الثّورة‪ ،‬ويه ّيئون عمل ًّيا األرض ّية الشّ عب ّية لالنقالب طبق ّ‬
‫الخطة األميرك ّية‪،‬‬
‫مثل الثّامن والعشرين من مرداد‪ ،‬ويعتبرون أنفسهم ثور ّيين أيضً ا‪ّ .‬‬
‫لكن‬

‫‪- 100 -‬‬


‫الحقيقة هي أنّ هؤالء ينزعجون من انتصار الثّورة اإلسالم ّية وي َرون في‬
‫بأي وجه أن يستق ّر ال ّنظام‬
‫انتصار اإلسالم أعظم هزيمة لهم‪ ،‬وال يريدون ّ‬
‫اإلسالمي‪ .‬وعلى هذا األساس فهم يتس ّترون تحت األسماء المختلفة‬ ‫ّ‬
‫يوجهوا أكبر الضّ ربات لهذه الثّورة‬ ‫والشعارات الجميلة والثّور ّية كي ّ‬
‫اإلسالم ّية المق ّدسة‪ .‬على شعب إيران المسلم أن يعلم أن الماركس ّيين هم‬
‫إسالمي يعني هزيمة نهائية للماركس ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ض ّد اإلسالم‪ ،‬وأن انتصار أي نظام‬
‫الخميني والثّورة اإلسالم ّية‪ ،‬فهو إما يكذب‬
‫ّ‬ ‫الماركسي ودافع عن‬
‫ّ‬ ‫وإذا جاء‬
‫أو إنّه ال يفهم؛ ألنّ الماركس ّية واإلسالم إيديولوج ّيتان متناقضتان‪.‬‬
‫توحد‬
‫األصلي النتصار الثّورة؟ الجواب هو ّ‬
‫ّ‬ ‫السبب‬
‫أسألكم‪ :‬ما كان ّ‬
‫ال ّناس ووحدة الكلمة‪ .‬وأسألكم َمن هم ا ّلذين يضربون اليوم ّ‬
‫توحد‬
‫ال ّناس ووحدة الكلمة؟‬
‫كل من خدش انصهار ووحدة شعب إيران فقد خان‬ ‫الشّ عب يعلم بأنّ ّ‬
‫الخميني‪ ،‬قائد الثّورة‬
‫ّ‬ ‫كل من ّ‬
‫التف على أمر اإلمام‬ ‫الثّورة اإليران ّية‪ّ .‬‬
‫اإليران ّية ا ّلذي ال مثيل له‪ ،‬فقد خان هذه الثّورة‪ .‬أنت نفسك بعد ذلك‬
‫ح ّلل واستنتج ال ّتفاصيل‪.‬‬
‫الفدائي‬
‫ّ‬ ‫ّوري ليس ذلك ا ّلذي يحمل البندق ّية على كتفه ويلبس ثياب‬ ‫الث ّ‬
‫السلم‪ ،‬و ُيخرج نفسه من دائرة الشّ عب بالشّ عارات المتط ّرفة‪،‬‬
‫ويحارب وقت ّ‬
‫ويحاول فرض عقائده على اآلخرين بالشّ عارات وال ّدعايات والق ّوة‪.‬‬
‫السلم‪ ،‬ولك ّنه عندما‬‫ّوري هو ذلك ا ّلذي ال يتظاهر بالثّور ّية وقت ّ‬ ‫الث ّ‬

‫‪- 101 -‬‬


‫يدهم البالد الخطر يقف مقات ًال العد ّو في مق ّدمة صفوف الشّ عب‪.‬‬
‫ّوري ليس من يأخذ حقّ اآلخرين بال ّدهاء ّ‬
‫والظلم‪ ،‬ويجبر ا ّلذين لم‬ ‫الث ّ‬
‫يكونوا قد أتوا لالستماع لكالمه على أن ينصتوا إلى حديثه لساعات‬
‫ع ّدة‪ ،‬ويمنع أولئك ا ّلذين يريد الشّ عب سماع خطاباتهم‪.‬‬
‫ّوري ليس ذلك ا ّلذي يقع أسير الغرور واألنان ّية‪ ،‬وال يسمع كالم أحد‪.‬‬
‫الث ّ‬
‫بكل تواضع‪.‬‬ ‫الثّوري هو ذلك ا ّلذي يقبل كالم الحقّ ّ‬
‫ّوري ليس ذلك ا ّلذي يريد أن يفرض ثور ّيته على اآلخرين بالشّ عارات‬‫الث ّ‬
‫المتط ّرفة‪.‬‬
‫ّوري هو ذلك ا ّلذي يعمل دون مزايدات‪ ،‬وال يحتاج إلى شهادات‬ ‫الث ّ‬
‫إعالم ّية من أحد‪.‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫‪6‬‬ ‫الطاغية‬
‫سقط ّ‬
‫خرداد ‪1358‬‬

‫الظلم والجور‪،‬‬ ‫عالم من ّ‬


‫السمعة واالتهام‪ٍ ،‬‬ ‫في مواجهة تاريخ من تشويه ّ‬
‫والهم‪ ،‬دنيا من التعاسة وال ّتشريد‪ ،‬في قبال طوفان من‬ ‫سما ٍء من ّ‬
‫الغم ّ‬
‫ظلمة الكفر والجهل‪ ،‬وسط عاصفة هوجاء من المصائب واألزمات‪ ،‬أمسك‬
‫كل ال ّدنيا ا ّلتي‬
‫شيعة الحسين ‪ Q‬بأسلحة الشّ هادة‪ ،‬ونهضوا في مواجهة ّ‬
‫كانت قد اصط ّفت ض ّدهم‪ ،‬بقدرة اإليمان والفداء‪ .‬وعندما كان مطر االتهام‬
‫واالفتراء يهطل‪ ،‬وأمواج األزمات والبؤس تتدافع‪ ،‬وكانت وحوش الهزيمة‬
‫قد فتحت فمها كي تبتلع هؤالء ا ّلذين يعيشون أ ّيا ًما سوداء‪ ،‬ق ّرر شيعة‬
‫يرجحوا الموت بشرف على العيش ال ّذليل‪ ،‬وص ّمموا على أن‬ ‫الحسين أن ّ‬
‫وعلي ‪ Q‬ويسرعوا الستقبال‬ ‫يحملوا على أكتافهم رسالة مح ّمد ‪ّ P‬‬
‫الشّ هادة مثل الحسين ‪ .Q‬أرادوا أن يغسلوا بدمائهم تاريخ الماضي‬
‫األسود والمزهق لألرواح‪ ،‬ويمحوا بقعة ال ّذ ّلة والوضاعة عن ثوب الشّ يعة‪.‬‬
‫لقد انتشرت راية ال ّرسالة‪ ،‬ارتفعت كلمة الحقّ بصخب شديد من‬
‫صدور أفراد الشّ عب الملتهبة وزلزلت أركان قصر ّ‬
‫الظلم والجور‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫«باوه» الت ّ‬
‫ّحدي العظيم‬ ‫‪7‬‬
‫‪ 26‬مرداد ‪ 17 - 1358‬آب ‪1979‬‬

‫[[[‬
‫رسالة ال ّدكتور شمران إلى شعب إيران‬
‫بسم الله ال ّرحمن ال ّرحيم‬
‫يا شعب إيران الشّ ريف والبطل‪،‬‬
‫كل الشّ هداء ال ّدامية أكفانهم في [باوه]‪ ،‬باسم المجروحين‬ ‫باسم ّ‬
‫المضحين‪ ،‬أشكركم يا أبناء الوطن األع ّزاء من صميم‬
‫ّ‬ ‫وباسم ّ‬
‫كل الجنود‬
‫وكل هذا‬‫وكل هذه العظمة ّ‬ ‫الطاهرة ّ‬ ‫قلبي على كل هذه األحاسيس ّ‬
‫الشّ عور بالمسؤول ّية‪.‬‬
‫أظن أب ًدا أن أبقى ح ًّيا وتصل صرخة استغاثتي مع هذا الشّ كر‬
‫لم أكن ّ‬
‫القلبي إليكم‪ .‬وسط طلقات ال ّرصاص‪ ،‬وسط طاحونة األعداء‪ ،‬لم يكن‬ ‫ّ‬
‫أمل بالبقاء على قيد الحياة‪ ،‬وقد ص ّممت‬ ‫لدي ولو للحظة واحدة ٌ‬ ‫ّ‬
‫قطعي على أن أذهب الستقبال الشّ هادة بكل افتخار‪ ،‬وأب ّين‬‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫لل ّدنيا كيف يخاطر مج ّندو اإلسالم بأنفسهم في ساحة الموت والحياة‪،‬‬
‫وكيف يواجهون الموت‪ .‬كنت أتن ّقل من معركة مرعبة إلى أختها‪،‬‬
‫وأركض مسر ًعا من ساحة موجعة إلى أخرى‪ ،‬وكنت أسعى‪ ،‬بالتو ّكل‬

‫ا� ف ي� أوج حرب‬ ‫الدكتور شمران [قائد تحرير باوه] إىل الشّ عب إ ن‬
‫الير ي ّ‬ ‫وجهها ّ‬
‫‪ .1‬هذه رسالة كان قد ّ‬
‫«مدينة باوه» وبعد هزيمة أعداء الثّورة‬

‫‪- 104 -‬‬


‫المطلق على الله وقبول ما قد ق ّدره لنا‪ ،‬أن أث ّبت القوات المؤمنة‬
‫أعطي األمل ألصدقائي اليائسين والمنكسري‬ ‫َ‬ ‫بالثّورة وأمنع تش ّتتها‪ ،‬أن‬
‫القطعي‬
‫ّ‬ ‫القلب‪ ،‬أذكرهم بال ّرسالة اإلسالم ّية المق ّدسة‪ ،‬وأبلغهم قراري‬
‫باستقبال الشّ هادة ّ‬
‫بكل شجاعة‪.‬‬
‫أصعب لحظات حياتي كانت ال ّلحظات ا ّلتي كان فيها صديقي المقاتل‪،‬‬
‫ا ّلذي كان واق ًفا إلى جانبي‪ ،‬يقع أمامي على ال ّتراب فجأة ّ‬
‫مقط ًعا ودون‬
‫روح‪ ،‬وكأنّه لم يكن ح ًّيا من قبل‪ .‬وأوجع لحظة كانت عندما كان أفراد‬
‫ّوري وأصدقائي األكراد يصرخون وقد انقلب حالهم‪ ،‬وقد‬ ‫الحرس الث ّ‬
‫علي‪ ،‬في حين‬ ‫أخذوا يضربون أنفسهم بكل جدار كالمجانين‪ ،‬وأنا كان َّ‬
‫كنت أغلي وأصرخ في داخلي‪ ،‬أن أصدر بكل صرامة أم ًرا بأن يجمعوا‬
‫القتلى‪ ،‬وحتى أن أصفع أقرب أصدقائي ا ّلذين انقلب حاله‪ ،‬وأجبرهم‬
‫بالق ّوة على العمل والمواجهة‪ .‬وأكثر لحظات عمري أل ًما كانت عندما‬
‫ُأوصدت كل أبواب األمل‪ ،‬وطلب عدد من الحرس ال ّرجوع‪ ،‬وكان األكراد‬
‫إلي نظرة مؤلمة ومؤ ّثرة متسائلة‪ :‬كيف تريد‬ ‫المؤمنون بالثّورة ينظرون ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫أن تتركنا في بحر الموت واإلبادة وتذهب؟ عندها قلت لهم‬
‫قاطع‪ :‬ك ّال‪ ،‬يا أصدقائي‪ ،‬لقد أخذت قرا ًرا قطع ًيا بأن أستشهد معكم‪ .‬أنا‬
‫لن أعود‪ ،‬ولن أترككم وحدكم‪ .‬فقط كونوا مطمئنين إلى أنّ الشّ هادة‬
‫هي طريق الله الممزوجة بالفخر والباعثة على ال ّل ّذة‪.‬‬
‫لكن معجز ًة حدثت‪ ،‬بشكل حاسم وصاعق لم يكن قاب ًال لل ّتص ّور من‬
‫ِق َبل أحد‪ ،‬تما ًما مثلما حدثت مثل هذه المعجزة العجيبة قبل ع ّدة‬

‫‪- 105 -‬‬


‫أشهر‪ ،‬وجعلت الثّورة اإليران ّية المليئة بالفخر تنتصر؛ صدر أمر اإلمام‪،‬‬
‫المضحون يطلقون نداء‬
‫ّ‬ ‫السهول والوديان‪ .‬كان الحرس‬ ‫واهت ّزت الجبال‪ّ ،‬‬
‫والسماء كانتا تجيبان‪[ :‬ل ّبيك]‪ .‬ما هذه‬
‫بكل حماسة‪ ،‬واألرض ّ‬ ‫[الله أكبر] ّ‬
‫المعجزة ا ّلتي تحدث من ِق َبل رجال الله‪.‬‬
‫أطال الله العظيم عمر هذا القائد الجليل للثّورة اإلسالم ّية اإليران ّية‪.‬‬
‫هربت قوات العدو في كل الجهات‪ ،‬واكتسب المؤمنون بالثّورة ق ّوة‬
‫وقدرة إلى ح ّد أنّهم مضوا قد ًما‪ ،‬وأخضعوا ال ّت ّلة ا ّلتي تقع فوق مركز‬
‫الشّ رطة وا ّلتي كانت بيد العد ّو بهجو ٍم شجاع وبشهيد واحد فقط‪،‬‬
‫وكذلك ط ّهروا طريق منطقة [نوسود] الواسعة والخطرة بهجوم ّ‬
‫قوي‪،‬‬
‫الحربي المشهور‬
‫ّ‬ ‫وق ّدموا شهي ًدا واح ًدا فقط‪ ،‬وسيطروا على المشفى‬
‫أيضً ا دون أ ّية خسائر‪ ،‬وامتلكوا روح ّية وق ّوة كبيرة إلى ح ّد أنّهم كانوا‬
‫قوي الشّ كيمة‪.‬‬
‫كل عد ّو مهما كان ّ‬ ‫يستطيعون أن يجتثّوا ّ‬
‫وبعد ذلك وصلت الق ّوات المساعدة بحماسة ونشاط فائقي الوصف‪.‬‬
‫كانت ّ‬
‫الطائرات المروحية تأتي باستمرار وتُنزل قوات جديدة وتنقل‬
‫الشّ هداء والجرحى‪.‬‬
‫ح ًقا إنّ ال ّليلة الماضية ا ّلتي كانت ليلة الشّ هادة‪ ،‬ليلة اليأس‪ ،‬ليلة‬
‫والسقوط‪ ،‬تغ ّيرت بأمر اإلمام بحيث أصبحت ال ّليلة ال ّتالية‬
‫االنكسار ّ‬
‫ليلة الهدوء‪ ،‬ليلة األمل وليلة االنتصار‪.‬‬
‫من كان يستطيع أن ُيحدث مثل هذه المعجزة فيخلق من ليلة مرعبة‬

‫‪- 106 -‬‬


‫والمضي قد ًما‬
‫ّ‬ ‫ونقطة مظلمة مثل هذا ال ّتح ّول ا ّلذي ك ّون بداية ال ّتحرك‬
‫باتّجاه الثّورة اإلسالم ّية الح ّقة!‬
‫أستطيع أن أقول بجرأة‪ ،‬إنّني‪ ،‬في أ ّيام المصيبة المتع ّددة الوجوه‬
‫هذه‪ ،‬لم أذرف ح ّتى قطرة دمع واحدة‪ ،‬وفي مواجهة أصعب الفواجع‬
‫ا ّلتي تق ّلب حال القلب‪ ،‬مع أنّني كنت أبكي في داخلي‪ ،‬ولك ّنني كنت‬
‫كل اآلالم والعذابات‬ ‫وأحتبس ّ‬
‫ُ‬ ‫أحافظ بش ّدة على ق ّوتي في ّ‬
‫الظاهر‪،‬‬
‫قي‪ ،‬إلى ال ّلحظة ا ّلتي وقفت فيها مقابل‬ ‫واألحزان في ضميري ال ّن ّ‬
‫صورة اإلمام في مق ّر القيادة‪ ،‬فجأة انهمر سيل ال ّدمع‪ ،‬وهدأت ّ‬
‫كل‬
‫المشاكل والضّ غوط واألحزان دفع ًة واحد ًة‪ ،‬وكنت ُّ‬
‫أحس ج ّي ًدا أنّ قدرة‬
‫روح ّية عظيمة داخل رجل ال ّتاريخ فقط قادرة على إحداث مثل هذه‬
‫ّوري العظيم‪ ،‬وأن يواجه‬ ‫المعجزة‪ .‬وآمل أن يعرف شعبنا قيمة قائده الث ّ‬
‫بثقة كل مؤامرات أعداء اإلسالم وإيران تحت قيادته‪.‬‬
‫أنا مطمئن إلى أنّ شعبنا كذلك قاد ٌر‪ ،‬بمثل روح ّية اإليمان والفداء‬
‫يحل ّ‬
‫كل‬ ‫وكل هذا الوعي واإلحساس بالمسؤول ّية‪ ،‬على أن ّ‬ ‫هذه‪ّ ،‬‬
‫المشاكل‪ ،‬ويوصل بفخر هذه ال ّرسالة العظيمة والمق ّدسة ا ّلتي وضعها‬
‫الله العظيم في عهدته‪ ،‬إلى الهدف المنشود[[[‪.‬‬

‫الرجوع إىل كتاب الشّ هيد شمران «كردستان»‬ ‫أ‬


‫‪ .1‬لالطالع عىل تفاصيل هذه الحداث يمكنكم ّ‬

‫‪- 107 -‬‬


‫•| مناجاة الدموع |•‬

‫‪1‬‬ ‫يف اجتاه احلق‬

‫أيها الرب العظيم‪..‬‬


‫عندما أتوجه إليك‪ ،‬ال أنتظر منك شيئاً‪ ،‬فكل ما قمت به كان بسبب‬
‫عشقي لك‪..‬‬
‫كنت أشعر بالمسؤولية فأؤدي واجبي‪ ،‬ولست أنتظر منك شيئاً‪ ،‬كنت‬
‫كنت تتق ّب ُل عملي أم ال؟ وال أعلم هل‬
‫أعلم إن َ‬
‫فقط أسي ُر إليك‪ ،‬وال ُ‬
‫ضت وجهي البالءات التي مررت بها أم ال؟ على كل حال‪ ..‬لم يكن‬‫ب ّي ْ‬
‫يحركني في هذا العالم غير عشقك‪ ،‬ومحبتي لعظمتك ورفعتك‪..‬‬
‫كنت شمع ًة تعطي النور‬ ‫تلذذت باحتراقي‪ ،‬لقد ُ‬
‫ُ‬ ‫احترقت‪ ..‬ولكني‬
‫انقطعت عن كل شيء وكل أحد‪ ،‬فال أنتظر شيئاً مهماً‪..‬‬
‫ُ‬ ‫باحتراقها‪ ..‬وقد‬

‫‪- 109 -‬‬


‫الغم أنيسي الدائم‪ ..‬ولست مغتراً بما فعلت أو بما كان لدي‪ ،‬بل‬
‫كان ُ‬
‫أستحي من أنني كنت ال شيء إلى هذا الحد‪..‬‬
‫أيها الرب العظيم‪..‬‬
‫أتوجه إليك‪ ،‬وأرمي بالدنيا خلف ظهري‪ ،‬لقد عشت عمراً بالشرف وعزة‬
‫النفس‪ ،‬ولكن كانت عيشة مؤلمة‪ ،‬اآلن أنا أسير نحو الراحة وأنا سعيد‬
‫ألنني لم أظهر اإلنزعاج أمام كل هذه الضغوط واآلالم‪ ،‬وسعيد ألنني‬
‫علي ذلك‪ ،‬نعم‪ ،‬إذ أنّني أتوجه‬
‫ال أسعى نحو الراحة بنفسي بل يفرض ّ‬
‫إليك اآلن‪ ،‬وال أتطلع سوى إلى مقام كبريائك‪ ،‬ولن أسعى للتحليق في‬
‫آت إليك‪ ..‬ألكون دائماً بقربك‪..‬‬
‫غير سماء جاللك وجبروتك‪ٍ ،‬‬
‫اقبلني‪ ..‬وال تبعدني عنك‪ ،‬واروني من نبع عشقك‪ ..‬واتركني أتح ّرق بنار‬
‫الشوق والوجد على الدوام‪..‬‬
‫اغفر لي ذنوبي‪ُ ،‬‬
‫واعف عن ضعفي وتقصيري‪ .‬و َدعني اآلن وأنا متوجه‬
‫إليك أن آتيك بذيل طاهر وقلب ٍ‬
‫صاف ملؤه األمل‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬إليك أتوجه‪ ..‬إني مذنب‪ ..‬قاصر‪ ..‬وأستحق العقوبة والعذاب‪..‬‬
‫إلهي‪ ..‬لقد كنت أقول لك‪ ،‬أنني ال أهاب نارك‪ ..‬وال طمع لي بجنتك‪..‬‬
‫فاحرقني واجعل عظامي رماداً وذرها في الهواء‪ ..‬فإنني لن أشتكي‬
‫منك أبداً‪..‬‬
‫أنا عاشق‪ ..‬وال يح ّرك عشقي شيء غير ذاتك‪ .‬أنا لست بتاجر محترف‬

‫‪- 110 -‬‬


‫ألطلب شيئاً قبال عشقي‪ ..‬إنني لعاشقٌ ‪ ..‬ولك ّني اليوم حيث تحرقني‪،‬‬
‫أتألم بشدة وأحترق بشدة‪ ،‬وال طاقة لي على االحتمال‪ ..‬أشعر أنّني‬
‫ضعيف‪ ..‬صغير‪ ..‬حقير‪ ..‬غير ذي قيمة وال وجود لي‪ ..‬وقد ُس ِل َب ْت‬
‫طاقتي كلياً‪..‬‬
‫إلهي‪ ..‬هذه المرة أتوجه إليك عاجزاً‪ ،‬ودون أي ادعاءات خاوية‪..‬‬
‫دون صرخات السكر‪ ..‬سامحني‪ ..‬خذ بيدي‪ ..‬محتاج إليك‪ ،‬محتاج إلى‬
‫عشقك‪ ..‬إلى محبتك وعونك‪..‬‬
‫كل وجودي‪ ..‬وأغر ْق ُه في عشقك‪ ..‬خذني معك‪ ..‬وامحني‬ ‫إلهي‪ ..‬خذ ّ‬
‫من ذاتي‪ ..‬ال تدعني أحب أحداً آخر‪ ..‬وال أتحرق ألحد آخر‪ ..‬دعني‬
‫أصبح مسلماً لك بشكل كامل‪ ..‬ما أجمل عشقك‪ ..‬باعثاً للروح‪ ..‬إنني‬
‫ُ‬
‫أحب ذلك‪ ،‬ألت ّذ عندما أتح ّرق من عشقك‪ ..‬أفرغ نفسي من شحناتها‪..‬‬
‫وأصعد إلى السماوات‪ ..‬وأشعر بالفرحة تغمر قلبي‪.‬‬
‫دعني أذوب فيك دفعة واحدة‪ ..‬واجعلني عبداً عاشقاً لك متحرق‬
‫القلب بشكل كامل‪َ ..‬دع عشقي لك ينفع اإلنسانية‪ ،‬و َدع المتألمين‬
‫واأليتام واألرامل والمرضى والتواقين للعشق يستفيضون في المحبة‬
‫األبدية السرمدية التي وهبتنيها‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫أيها الرب الرفيع اجلناب‬ ‫‪2‬‬

‫الرب العظيم‪..‬‬
‫أيها ّ‬
‫حي‪ ..‬أسعى للقيام بواجبي إلى ح ّد استطاعتي‪ ،‬ال أترك ميداناً‬‫طالما أنا ّ‬
‫خالياً للعدو أبداً‪ ،‬أصارع الظلم والفساد‪ ،‬أدافع عن المستضعفين‬
‫والمظلومين‪ُ ،‬وأنذر نفسي للقلوب المتألمة ودموع األيتام وآهات األرامل‪.‬‬
‫دائم الحضور في ذهني‪ ..‬أستعين بك في جميع األمور‪ ،‬ومنك‬ ‫أنت ُ‬‫َ‬
‫أطلب طريق الحل للمشكالت‪.‬‬
‫ُ‬
‫ساعات طويلة مع قمرك المنير أناجيه‪ ..‬وأبثّه أسراري ُوأجري‬
‫ٍ‬ ‫أقضي‬
‫دمعي بين يديه‪ ،‬عندما يذهب خلف الغيوم‪ ،‬انتظره بفارغ الصبر‪،‬‬
‫أحياناً أذهل لشدة جماله فأصرخ وأعدو بكل اتجاه كالمجنون وعندما‬
‫ُأن َهك‪ُ ،‬‬
‫أجلس في زاوية أسيل له قطرات دمع مرفقة بالصمت كأعمق‬
‫سالمات قلبي‪.‬‬
‫آه‪ ..‬إن جمال شروق شمسك وغروبها‪ ،‬بديع إلى درجة أنني ال أستطيع‬
‫قدمي‪،‬‬
‫أقف في قبالها‪ ،‬أغرق فيها من رأسي إلى ّ‬‫أن أقول شيئاً سوى أن َ‬
‫وأقدسك‪..‬‬
‫آه‪ ..‬إنّ تج ّليات جمالك كثيرة ال أقدر إحصاءها‪ ،‬ولكنها هي التي‬
‫تيمتني‪..‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫أتوق ألن أسلم روحي ووجودي ‪-‬ال ّلذين هما أيضاً هدية منه‪ -‬لوجوده‬
‫وبشكل كامل وبسرعة‪..‬‬
‫َ‬
‫أطوف كفراشة‬ ‫أريد أن أضحي بروحي على مذبح عشقه‪ ..‬أريد أن‬
‫حول شمعة جماله وأحترق بكاملي‪ ..‬أريد أن أذوب فيه وال يبقى‬
‫م ّني أثر‪..‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫تابع ‪ 10‬أيار ‪1968‬‬ ‫‪3‬‬

‫كلما كنت أواجه شيئاً لم أكن أرى سوى التأثر والغم‪ ،‬تصغر السماء‬
‫عيني وتضغط على قلبي‪ ،‬ويظلم النهار المنير‪ ،‬ويصبح قاتماً‬ ‫في ّ‬
‫في بصري‪ ،‬وأعبر بهدوء على جنبات الطرقات المليئة بالتعرجات‬
‫وأح ّدث اإلله العظيم‪ ..‬وكانت السماوات العلى ترافقني‬
‫واإلنحاناءات‪َ ،‬‬
‫وتشاركني أسراري‪.‬‬
‫أحياناً‪ ..‬كنت أطوي مد ّرجات الملعب (في الجامعة) ألصل أعلى درجة‬
‫فيه‪ ..‬كي أرى أفقاً أوسع‪ ..‬كانت الشجرات التي ترتعش من النسيم‪..‬‬
‫والمصابيح التي كان نورها يتراوح بين نور الغروب وظلمته‪ ..‬البيوت‬
‫واألبنية التي غرقت بين النور األصفر واألحمر الباهت‪ ،‬قد اتخذت‬
‫لنفسها حالة من الغم والحزن‪ .‬كان شعاع الشمس جهة الغروب ما‬
‫زال ُيرى وهو يل ّون الغيمات التي ترافق األفق‪ .‬وكأنّها تو ّدع النهار آلخر‬
‫مرة‪ ،‬وتسلم العالم أليدي الظالم‪ ،‬وغيوم الغم والحزن تتقدم رويداً‬
‫رويداً صوب المشرق وقد أسلمت الطبيعة نفسها دون أن تنبس ببنت‬
‫شفة‪ ..‬كما لو أنها صيد عاجز‪..‬‬
‫كان السكون يشمل ّ‬
‫كل مكان‪ ،‬ولم يعد يرى ٌّأي من األحياء‪ ،‬وقد سكت‬
‫صوت الطيور أيضاً‪..‬‬
‫إلهي العظيم‪ ..‬وأذرف الدمع كغيوم‬
‫عندها كان يأتي دوري ألناجي َ‬

‫‪- 114 -‬‬


‫الربيع‪ُ ..‬وأخرج آهاتي من داخلي المهموم‪ ..‬وأتذكر األيام الخوالي‬
‫المؤلمة‪ ..‬وأبوح عن المستقبل القاتم والمبهم‪ ،‬وأطلب الله بكل‬
‫قوتي‪ُ ..‬أسلمه قلبي وعيني مخلصاً‪ ،‬وأشكره من صميم قلبي على‬
‫ألطافه التي ال تنتهي‪.‬‬
‫وبين العتمات‪ ..‬غيوم الغم والحزن‪ ..‬الظلمات‪ ..‬اإلنكسارات‪ ..‬واألعداء‬
‫ال ُيعدون ويحيطون بي‪ ..‬أستمد القوة‪ ..‬أطلب المدد منه عاجزاً‪ ،‬إنه‬
‫ربي‪ ،‬إلهي العظيم األزلي‪ ،‬اإلله األبدي‪ ،‬اإلله الذي انعقد قلبي على‬
‫ذكره منذ طفولتي وانجبلت خاليا قلبي على محبته‪..‬‬
‫اإلله الوحيد الذي كان معي دائماً‪ ،‬ويجيبني في المسائل الدقيقة‬
‫والمطالب المبهمة‪ .‬لقد كان الوحيد الذي ساعدني في تجاذبات‬
‫الحياة الخطرة‪ ،‬والد ّوامات التي يكون السقوط فيها مهوالً‪.‬‬
‫هو‪ ..‬نعم هو‪ ،‬إنّه إلهي‪ ..‬رفيقي وموضع أسراري‪ ..‬اإلله الذي سمحت‬
‫عظم ُته أن أحد ُثه هكذا‪ ،‬أما رحمته ومحبته فقد أعطتني الفرصة أن‬
‫مستواي وأناجيه وأفضي له بكل عشق‪ ،‬فأعترف بال شيئيتي‪،‬‬
‫َ‬ ‫أنزلَه إلى‬
‫وأَرضى وأسعدُ بكل ما ترتضيه مشيئ ُته ُ‬
‫العليا لي‪.‬‬
‫إلهي حررني من هذا العالم الترابي‪ ،‬و َدعني كما الفراشة‪ ..‬أحترق حول‬
‫شمع وجودك‪ ..‬دعني أنسى الدنيا وما فيها‪ ..‬وسخّ ر قلبي لوجودك‬
‫حتى ال أعطي ذرة منه لغيرك‪ ..‬اجعلني كما المالئكة أحلق فقط في‬
‫هوى قدسك‪..‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫قلبي مقبوض‪ ..‬وروحي ذابلة‪ ..‬وطاقتي وصبري على شفا جرف‪ ..‬أخجل‬
‫من الماضي‪ ،‬وأخاف المستقبل‪ ،‬وسلواي فقط ماء ّ‬
‫عيني‪ ..‬الدمع الذي‬
‫أقدمه لك‪ ..‬الماء الذي أغسل به قلبي‪ ..‬ألس ِّكن بهذه الحيلة غموم‬
‫باطني وأخفف من نار داخلي‪ ..‬ساعياً خلف لحظة هدوء لضميري‪..‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫‪4‬‬ ‫يف حمضر احلق‬

‫أيها اإلله العظيم‪..‬‬


‫في ذلك اليوم‪ ،‬يوم القيامة‪ ،‬حيث أقف في قبالك وأعرض عليك أعمالي‬
‫الحسنة والسيئة‪ ،‬سأكون خج ًال من كل أفعالي وتصرفاتي‪ ،‬فليس عندي‬
‫ما أقدمه لك‪ ،‬ولم أفعل شيئاًيجعلني مرفوع الرأس أمامك‪ .‬إال أنّني‬
‫مسرور بشيء واحد فقط؛ أال وهو ذلك القلب المتألم والمستعر الذي‬
‫سألقيه عند أعتابك‪ ..‬فقط قلبي هو الذي يفيض بعشقك ومخلوقاتك‪..‬‬
‫ويليق أن أتغ ّنى به‪..‬‬
‫قلب محزونٍ يغلي بالعشق‬
‫بلى‪ ..‬فإني لن أعرض في محضرك سوى ٍ‬
‫والمحبة‪..‬‬
‫وعم السالم والصلح العالم‪ ،‬وتحققت‬‫يوم ّ‬‫إلهي العظيم‪ ..‬إذا حدث ٌ‬
‫أحالم وآمال العالَمين‪ ،‬وتن َّف َذ كل ما يريدون‪ ،‬ذلك اليوم حيث سيذهب‬
‫كل إلى ضالته ويجد معشوقه‪ ،‬ذلك اليوم الذي سيذهب الناس وراء‬ ‫ٌّ‬
‫َ‬
‫الفتيات الحسناوات ذوات األجسام‬ ‫الشباب‬
‫ُ‬ ‫لذاتهم وأفراحهم‪ ،‬ويطلب‬
‫الفضية والوجوه الرائعة‪ ..‬ويذهب أصحاب الذهب والفضّ ة خلف الجاه‬
‫والعظمة‪ ،‬ويحتفل العشاق بالوصال المتحقق‪ ،‬يرقصون ويغنون وصالهم‪،‬‬
‫ويشترك في ذلك مالئكة وأهل األرض‪ ،‬ويضعون أيديهم في أيدي بعض‪،‬‬
‫يباركون لبعضهم الجنة األبدية ويصلون صالة السالم األبدي‪..‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫في ذلك اليوم‪ ،‬سأطلب منك أيها اإلله العظيم أن تمأل قلبي غماً‪..‬‬
‫وعيوني دموعاً‪ ..‬وتحرقني في وصالك كشمعة تائهة‪ ..‬وتُهيمني في‬
‫جمالك الخلاّ ب‪ ..‬فلست أطلب من الدنيا وما فيها غير عشقك‪..‬‬
‫إلهي العظيم‪ ..‬لست أهاب نارك‪ ،‬وال طمع لي بجنتك‪ ..‬محركي الوحيد‬
‫في الحياة هو عشقك‪ ..‬فاحرقني واطحن عظامي وذ ّر رِمادي في‬
‫الهواء‪ ..‬ولكن ال تبعدني عنك لحظة واحدة‪.‬‬
‫رب النهار المنير‪ ..‬يا ّ‬
‫رب انبالج‬ ‫رب الليل المظلم ويا ّ‬
‫إلهي العظيم‪ ..‬يا ّ‬
‫رب نجوم السماء‪ ..‬يا ّ‬
‫رب‬ ‫رب الجمال‪ ..‬يا ّ‬
‫رب الشفق‪ ..‬يا ّ‬ ‫الصبح ويا ّ‬
‫الشمس والقمر‪..‬‬
‫الرب الذي تخلق من بذر ٍة شجر ًة كبيرة ومثمرة‪ِ ،‬‬
‫وتوجدُ من بيضة‬ ‫أيها ّ‬
‫طيراً ذا ٍ‬
‫روح مدرك وجميل‪.‬‬
‫أيها اإلله الذي تأمر الغيوم أن تنزل مطر الحياة على البقاع الجافة‪ ،‬وأن‬
‫ترسل الشمس بنارها المحرقة لتبعث الحياة والحركة لألرض‪.‬‬
‫أيها اإلله الذي خلقت اإلنسان العظيم الجميل والحاذق من نطفة‬
‫صغيرة‪ ،‬فصار العالم مسحوراً ومنقاداً له‪.‬‬
‫أيها اإلله الذي خلقت الفتيات الجميالت ذوات الوجوه الساحرة‪،‬‬
‫لهن في قلوب الرجال عشقاً ومحبة‪ .‬فيسلبن بجمالهن ّ‬
‫لب‬ ‫وجعلت ّ‬
‫وعقول الشبان‪ ،‬وأردت من هذا أن يذوق اإلنسان معنى ومذاق‬
‫العشق‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫ما أتقن ما صنعت!‬
‫إني أعشقك أيها اإلله العظيم وأراك في جميع وجوه الجمال‪ ،‬لقد‬
‫أعلقت قلبي بكل هؤالء‪ ،‬من الحصى على شواطئ البحر‪ ،‬واألوراق‬
‫الصغيرة على أطراف الصحاري‪ ..‬إلى سمائك ومجراتك‪.‬‬
‫من البرغش الصغير القذر الذي يزعج اإلنسان بأزيزه‪ ،‬من األفاعي‬
‫السامة والخطرة‪ ،‬من الحشرات الحقيرة والمكروهة‪ ..‬إلى الفتيات‬
‫الجذابات الجميالت اللواتي يأخذن بألباب القلوب‪ ،‬فيسحرنّ قلب كل‬
‫إنسان‪ ..‬إلى المالئكة الطاهرة السماوية مظهر الجمال المحض‪..‬‬
‫أحبها كلها وأعشقها ألنّها جميعها تع ّبر عنك‪ ،‬وأرى فيها تجلي نورك‬
‫وجمالك‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫لقد غدوت حر ًا‬ ‫‪5‬‬

‫إلهي‪ ..‬لقد كنت أحترق في غمي وألمي‪ ،‬لكنك أغرقتني في آالم وهموم‬
‫المعذبين والمحرومين ومكسوري القلب‪ ،‬فنسيت آالمي وهمومي‪..‬‬
‫لقد ع ّرفتني بعذاب وآالم كل المحرومين والمظلومين في التاريخ‪،‬‬
‫علي‪ ،‬والحسين‪ ،‬وآالم وهموم زينب‪ ،‬لقد مزجتني‬
‫وبذلك ع ّرفتني على ّ‬
‫بالتاريخ‪ ..‬لقد نسيت نفسي فيه‪ ،‬واتحدت مع األزل واألبد‪ ،‬وإني‬
‫ألشكرك على هذه النعمة العظيمة‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬أشكرك أن أعطيتني التوكل والرضا‪ ،‬وألهمتني الطمأنينة‬
‫والسكينة في أصعب التيارات وأخطرها‪ ..‬حتى أتصالح مع القدر وكل‬
‫انحداراته وارتقاءاته‪ ..‬فرضيت بما قسمت لي‪.‬‬
‫ما أحبب ُته أنا وأخذتَه أنت مني؛ قبلته بطيب خاطر‪ ..‬وما لم أملكه‬
‫علي؛ شكرتك عليه‪.‬‬
‫وترحمت به ّ‬
‫لقد ارتحت من العذابات القاتلة‪ ..‬وتح ّررت من قيد المتعلقات‬
‫الفانية‪ ..‬وتخ ّلصت من أغالل ُ‬
‫المقلقات المميتة‪.‬‬
‫وعلمت أنّ عاقبتي‪ ..‬حياتي ومماتي‪ ..‬وعزتي و ُذلي‪ ..‬ب َيدك أنت‪ .‬لذا‬
‫ُ‬
‫غدوت حراً من ُ‬
‫المح ِّزنات الكثيرة‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫‪6‬‬ ‫قلبي دائم االحرتاق‬

‫كل رأسمالي‪ ..‬قلباً مجروحاً‬


‫أشكرك يا إلهي أن أعطيتني قلباً محترقاً‪ ،‬هو ّ‬
‫ومحترقاً بنار العشق‪ ..‬يغلي ويفور‪..‬‬
‫ففي كل آن‪ ..‬بركان من العشق واإلشتعال والفداء يستع ُر فيه‪..‬‬
‫وفي كل لحظة بح ٌر من الغم واأللم يموج فيه‪..‬‬
‫وفي كل وقت نسيم من اللطافة والمحبة يم ّر عليه‪..‬‬
‫إن ُه دائم اإلحتراق لينير ما حوله‪..‬‬
‫إلهي‪ ..‬ما هذه الخلقة؟‪ ..‬ما هذه المعجزة؟‪ ..‬كيف يمكن لشيء‬
‫صغير أن يكون له كل هذه اآلثار المتنوعة واأللوان المختلفة؟‪..‬‬
‫فيكون تجلياً للجمال والكمال؟‪ ..‬مظهراً للعشق والحب والوجد؟‪..‬‬
‫يعشق الكمال هكذا؟‪ ..‬يشتعل في مقابل الجمال؟‪ ..‬يعظم العظمة‬
‫والجالل؟‪ ..‬يذوب في مقابل العشق؟‪ ..‬يختفي أمام الدموع؟‪..‬‬
‫يستعصي أمام الظلم؟‪ ..‬يخضَ ُع أرضاً في قبال الحقّ ؟‪ ..‬ثم َيصعدُ هكذا‬
‫خفيفاً إلى السماوات؟‪..‬‬
‫غنى‬
‫ينضح من قلبي؟‪ ..‬الذي يجعل من الفقر ً‬
‫ما هو هذا اإلكسير الذي ُ‬
‫مطلقاً؟‪ ..‬ويصنع من الهزيمة والموت نصراً وعظمة؟‪ ..‬ومن الوحدة يصل‬
‫الحب والعشق؟‪ ..‬يستطيع‬
‫إلى العرفان‪ ..‬ومن األلم والغم تنبت حديقة من ّ‬

‫‪- 121 -‬‬


‫أن يقدم في مقابل الوحشية أرقى مظاهر اإلنسانية؟‪ ..‬ويخلق في مقابل‬
‫األنانيات وقصر النظر أعظم التضحيات والتفاني؟‪ ..‬ما هي هذه الحرقة التي‬
‫تموج في داخلي؟‪ ..‬ما هو هذا العشق الذي يه ّز كل خاليا قلبي؟‪ ..‬ما هي‬
‫هذه المشاعر التي تخضع كل ذ ّرات وجودي للعبادة بين يدي المعبود؟‬
‫عندما أح ّدق في جمال الغروب‪ ..‬أشتعل دون إرادة مني‪ ..‬وتتقلب‬
‫عصارة وجودي قطرات دمع على وجنتي‪..‬‬
‫عندما أتأمل أمواج البحر‪ ..‬يذهب كامل وجودي مع الموج حتى‬
‫الالنهاية‪ ..‬ويصل إلى األبدية‪..‬‬
‫عندما أتأمل السماء المليئة بالغيوم‪ ..‬يغادر جسدي مع روحي تر َ‬
‫اب‬
‫األرض‪ ..‬ويحلق إلى المجرات الممتدة‪ ..‬أسمع موسيقى الوجود في‬
‫صمت السماوات‪ ..‬فتمأل كياني‪ ..‬حيث ال أغدو شيئاً سوى أنغام‬
‫موسيقى الوجود‪ ..‬تعبر كنسيم بين قمم الدنيا وأسرارها‪ ..‬فال أرى شيئاً‬
‫غير الله‪ ،‬وال أطلب شيئاً سوى الفناء‪..‬‬
‫فع ًال إنها لمعجزة‪.‬‬
‫أمد قدماي أبع َد من بساط الوجود‪ ،‬فأذهب فقط إلى حيث يسيطر‬ ‫ُّ‬
‫القلب والروح‪ ..‬حتى أنال لقاء ربي‪ ،‬أنا سعيد أن أكون وحدي في هذا‬
‫السفر‪ ..‬حتى أجعل قلبي في خلوة الوحدة مسجداً لذاته األقدس‪.‬‬
‫ُ‬
‫أحببت‪ ،‬وكسرت قلبي كلما انعقد على‬ ‫إلهي‪ ..‬لقد أخذت مني كل ما‬
‫عشقت‪ ،‬وجعلت قلبي يضطرب ويتشوش كلما‬ ‫ُ‬ ‫شيء‪ ،‬وأزلت َّ‬
‫كل ما‬

‫‪- 122 -‬‬


‫شعر بالسكينة‪ ،‬كلما استق ّر قلبي في مكان شردتني‪ ،‬كلما ُ‬
‫أملت في‬
‫شيء قطعت لي أملي‪ ،‬حتى ال أرغب في شيء سواك‪ ،‬وال أعبد أحداً‬
‫غيرك‪ ،‬وال أستق ّر في مكان‪ ،‬وال أتّخذ معشوقاً ومحبوباً غيرك‪ ،‬وال أجد‬
‫الطمأنينة عند غيرك‪ ،‬وال في أي مكان‪ ،‬أو موضع آخر‪..‬‬
‫لتكون أنت فقط مرادي‪ ..‬ألطلبك‪ ..‬ألبحث عنك‪ ..‬وأعبدك‬

‫‪- 123 -‬‬


‫الطبيعة‬ ‫‪7‬‬

‫إلهي‪ ..‬أشكرك أنّك خلقت البحر‪ ،‬وأنّي أستطيع بمساعدة روحي أن‬
‫أركب الموج وأسير حتى األفق الالمتناهي وأتّصل باألبد‪ ،‬وأخرج بهذا‬
‫من قيود الزمان والمكان‪ ..‬فتغدو ضغوط الحياة ال شيء عندي‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬أشكرك أنّك وهبتني العين‪ ،‬وأظهرت لي محاسن الدنيا‪،‬‬
‫علي ب َد ْرك الجمال‪ ،‬حتى أحلق في المحاسن وهذا الجمال‬
‫وت ّرحمت ّ‬
‫وأعتبر ذلك جزءاً من عبادة ذاتك‪.‬‬
‫تطل بي على العالم الخارجي‪ .‬من خالل هذه‬ ‫العين هي الكوة التي ّ‬
‫النافذة تدخل نفسي العالم اآلخر‪ ..‬وأذهب إلى اآلفاق البعيدة‪ ..‬وأسير‬
‫على ارتفاعات الغيوم إلى األبدية‪ ..‬وأح ِّلق حتى أعماق المجرات‪..‬‬
‫وأذهب حتى آخر حد لعالم الوجود‪ ..‬وأوصل نفسي إلى عالم الفناء‪..‬‬
‫وأفنى‪ ..‬فأشعر بوجودي في ذاتك‪..‬‬
‫عيني نبع دمع‪ ،‬ألغسل بها تعلقات‬
‫إلهي‪ ..‬أشكرك أنّك جعلت في ّ‬
‫قلبي‪ُ ،‬وأهدئ بقدرتها ُ‬
‫المسكنة براكين هائجة في داخلي‪..‬‬
‫حقاً‪ ..‬لو لم تكن السماء لتوصل روحي بالعالم الالمحدود‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن هذا البحر ألهدئ به قلبي المضطرب‪ ،‬ويرسل روحي المتعبة‬
‫إلى اآلفاق البعيدة‪ ،‬ويحررني من هذا التراب المظلم‪ ،‬لكنت اختنقت‬
‫تحت ظل الهم واأللم‪..‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫إلهي‪ ..‬أشكرك أن جعلت لجمال الغروب جاذبية إله ّية‪ ،‬لتفصل‬
‫روح اإلنسان عن األرض الترابية‪ ،‬وتب ّدل اآلالم والهموم‪ ،‬إلى الجمال‬
‫والعرفان‪ ،‬وتس ِّهل تح ّمل عذابات ومصائب كل يوم‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬أشكرك أن جعلت في طلوع الشمس واشعاعها الحركة والنشاط‪،‬‬
‫وك ّونت قيثارة الحياة من خالل أ ّبهتها الساحرة‪ ،‬ونشرت أمواج الحياة‬
‫في كل مكان مع أشعتها النافذة والالذعة‪ ،‬وأيقظت القلوب الميتة‬
‫واألرواح الذبلة للحركة والكفاح‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬أشكرك أنّك كشفت لنا عالم الالنهاية‪ ،‬وحررتنا من قيود الزمان‬
‫والمكان ووصلت بيننا وبين السرمدية‪.‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫السماء السامية‬ ‫‪8‬‬

‫أيتها السماء العالية‪ ،‬قلبي مقبوض‪ ،‬روحي ذابلة‪ ،‬وإحساسي ميت‪.‬‬


‫أتوقع منك يا إلهي أن تأخذني من هذه األرض الترابية‪ .‬أتمنى أن أحلق‬
‫وأعبر السماوات ألختفي في وادي الفناء‪ ،‬وأتحرر من ثقل هذا الهم‬
‫والغم حيث هناك فقط ظل الله يسطع‪ ،‬وال حديث عن هذا العالم‬
‫ومصائبه‪ .‬ال قلباً يحترق ال روحاً تشتعل‪ ..‬ألنه ال وجود لأللم‪.‬‬
‫أيتها السماء السامية‪ ..‬أشعر أنّ سقف عالم الوجود يهبط ويضغط‬
‫علي بشدة‪ ،‬لم أعد أستطيع أن أتنفس‪ ،‬لم أعد أستطيع تحمل كل هذا‬ ‫ّ‬
‫الضغط‪ ،‬لم أعد أملك طاقة تحمل كل هذه اآلالم والهموم‪ ..‬في كل يوم‪،‬‬
‫تأتي مصيبة جديدة‪ ،‬وما زلت كلما حاولت أن أرمي بثقل مصيبة عني‬
‫علي لتطحنني بضرباتها الكاسرة‪ ،‬وكأن حصتي من الحياة‬ ‫حتى نزلت ّ‬
‫ُ‬
‫«ألست» بالهم والمصائب واآلالم‪.‬‬ ‫قد حددتها يد التقادير في يوم‬
‫أيها اإلله العظيم‪ُ ..‬مر سما َءك السامية أن تذهب أعلى وأعلى وتسمح‬
‫لروحي المتألمة أن تتنقل في الفضاء الالمتناهي بحرية ال حدود لها‪،‬‬
‫فتتحرر من وطء ثقل سماء الغم هذه‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬لم أعد أريد قلباً‪ ..‬وال عشقاً‪ ..‬وال آالماً‪ ..‬خذ قلبي‪ ،‬وخذ عشقي‪..‬‬
‫خذ روحي‪ ..‬واسمح لي فقط أن أبقى ذكرى في علمك‪ ..‬ثم أرحل عن‬
‫هذا العالم المادي‪..‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫إلهي‪ ..‬أنت تعلم أنّ قلبي يخفق بالمحبة والعشق‪ ،‬وأحب بشدة‬
‫جميع مخلوقاتك‪ ،‬وفي بعض األحيان تصل هذه المحبة إلى مستوى‬
‫العشق والعبادة‪ ،‬وأنت تعلم أنني بحاجة أن أعشق‪ ،‬وأن أعبد‪ ،‬وكم‬
‫كنت قد عشقت بعض المحبوبين إلى درجة العبادة‪ ،‬لكن في كل م ّرة‬
‫كان يصل عشقي لشي ٍء أو ألح ٍد إلى مستوى العبادة‪ ،‬كنت تأخذه مني‬
‫حتى ال أعبد شيئاً أو أحداً غيرك‪.‬‬
‫أيها اإلله العظيم‪ ..‬أشكرك أنك أنقذت قلبي من أخطر المضالت‬
‫بالتجارب الصعبة والم ّرة والضربات القاطعة والكاسرة‪ ،‬وجعلت هذا‬
‫المشعل المقدس لديك َ‬
‫أنت فقط‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬إنك تعلم أنّ أع َّز فلذة من كبدي كان فريسة الموت‪ ،‬وال يزال‬
‫ُجرحه العميق يثقل على قلبي المجروح بعد مرور خمس سنوات‪.‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫أنت ضالتي الوحيدة‬ ‫‪9‬‬

‫وكل يفكر في طريق لنجاته‪ٌّ ،‬‬


‫وكل يمضي‬ ‫كل يعدو خلف ضالته‪ٌّ ،‬‬ ‫إلهي‪ٌّ ..‬‬
‫الحياة بآمالٍ وأماني‪ ،‬أما أنا‪ ،‬فليس عندي أمنية أو أمل‪.‬‬
‫ال أعرف ضالة غيرك‪ ..‬وال أجد طريقاً للنجاة‪ ،‬أنسى َّ‬
‫كل شيء وأرمي‬
‫بالدنيا خلف ظهري‪ ،‬آتيك وحيداً فريداً ماداً ي َد الحاجة صوبك فقط‪.‬‬
‫وأغض الطرف عن كل شيء‪،‬‬‫إلهي‪ ..‬أريد أن أكون وحيداً في محضرك‪ّ ،‬‬
‫أحب أن ال يعرف ع ّما‬
‫أريد أن ال يكون لي معبود ومحبوب سواك‪ّ ،‬‬
‫يدور في خلدي أحد غيرك تحت هذه السماء السوداء‪ ..‬وال أحد غيرك‬
‫يسمع طلباتي‪ ..‬وال أحد غيرك يرى موتي‪..‬‬
‫إلهي‪ ..‬أشعلني‪ ..‬اجعلني رماداً بالعذاب واأللم‪ ..‬فإني سأظل أشكرك‪.‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫‪10‬‬ ‫أنا هذا الرتاب اجلسور‬

‫إلهي‪ ..‬وجهي أسود‪ ..‬مغرور‪ ..‬آه يا رب كم أنا سيء الحظ! مسكين!‪..‬‬


‫هذا التراب المتناهي الظلمة‪ ،‬الذي قد شرع بالحركة ليومين‪ ،‬كيف‬
‫اكتسى الجسارة واألنانية؟!‬
‫كم ينسى وضاعته وضعفه وتعاسته وال شيئيته بسرعة! ويعتبر بكل‬
‫غرور أنّ كل الوجود له‪ ..‬ويتصور أنّ حياته أبدية!‬
‫هيهات كم هو مسكين وتعيس هذا اإلنسان‪ ،‬ضعيف ووضيع ومذنب‪،‬‬
‫مغرور ومتطلب‪ ،‬لم يكسب شيئاً سوى األنانية والغرور‪..‬‬
‫خجل للغاية‪ ،‬وال أجد مهرباً من وضاعتي وتعاستي‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬سامحني‪ ..‬أنا ٌ‬
‫إلهي‪ ..‬أستشفع بضعفي وتعاستي في محضرك‪..‬‬
‫إلهي‪ ..‬أقدم لك صادقاً قلبي المكسور‪..‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫أحرتق‬ ‫‪11‬‬

‫إلهي‪ ..‬أنا مذنب اغفر لي‪ ..‬فأنا لم أتخل عن عبادة األصنام حتى اآلن‪ ،‬ما زلت‬
‫طف ًال‪ ،‬ما زلت أسعى خلف الليل‪ ،‬أبني صنماً في كل لحظة‪ ،‬وأعبد خياالتي‪.‬‬
‫إلهي‪ ..‬أعطني لياقة الغفران‪ ،‬أعطني لياقة عبادة مطلقيتك‪ ،‬فال أشتبه‬
‫بينك وبين األصنام‪.‬‬
‫آنس بك وأتعرف عليك في عالم‬
‫إلهي‪ ..‬أغنني بنعمة الوحدة‪ ..‬دعني ُ‬
‫الوحدة‪ ،‬دع عشقك وجمالك وكمالك يجذب روحي وقلبي فال يبقى‬
‫للوجود الوهمي أي حب في قلبي‪..‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫‪12‬‬ ‫حمك اإلمتحان‬

‫إلهي‪ ..‬لقد ألقيت بي في محك االمتحان‪ ،‬امتحان صعب وخطر‪ ،‬حيث‬


‫انشغلت به جميع قواي المادية والمعنوية‪ ،‬ولم أدخل ساحة القتال‬
‫بأعضائي وجوارحي فقط‪ ،‬بل بقلبي وروحي وإيماني وعشقي وعرفاني‬
‫أيضاً‪ ،‬لقد أتيت الميدان بكل وجودي‪ ،‬وحضر األلم والغم والحرقة والفاقة‬
‫ومساعدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مناصري‬
‫ّ‬ ‫كذلك لمعونتي‪ ،‬وحتى االنكسارات والمآسي أضحوا‬
‫إلهي أشكرك أنك أخرجتني من هذا البالء الفريد منتصراً‪ ،‬أبيض الوجه‪ ،‬وأعملت‬
‫كل استعداداتي المستترة‪ ،‬وأعطيتني القدرة حتى أتحمل أعتى الفياضانات‬
‫على قلبي وروحي‪ ،‬وأخرج منتصراً من أخطر الدوامات بعد الغوص بها‪ ،‬وأقف‬
‫مقابل الجبارين وأخوفهم وأقول كلمة الحق بكل صراحة وفخر‪.‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫أريد أن أحرتق ألضيء الطريق‬ ‫‪13‬‬

‫كسرت قلبي‪ ،‬ك ّلما شغف قلبي‬‫َ‬ ‫إلهي‪ ،‬مالي ك ّلما تع ّلق قلبي بأح ٍد ما‪،‬‬
‫بأح ٍد ما‪ ،‬أخذته مني‪ .‬أينما أردت تسكين قلبي المضطرب ‪ ،‬ووجدت‬
‫جئت لتقلب كل شي ٍء دفع ًة‬‫األمن لقلبي في ظل أملٍ ‪ ،‬وألجل أمنيةٍ‪َ ،‬‬
‫واحد ًة‪ ،‬فتركتني في خضّ ٌم عواصف الحوادث المرعبة‪ ،‬كي ال تكبر أي‬
‫آمل بأي شيء‪ ،‬وال أشعر أبداً بالهدوء والطمأنينة‬‫أمني ٍة في قلبي وال ُ‬
‫في قلبي‪ .‬إلهي‪ ،‬أنت فعلت كل ذلك‪ ،‬كي ال أتّخذ غيرك محبوباً‪ ،‬وال‬
‫لدي سواك أمني ًة‪ ،‬وال أعلق أملي إال بك‪ ،‬وال أشعر بالطمأنينة‬ ‫يكون ّ‬
‫والسكينة إال في ظل التوكل عليك‪... .‬‬
‫إلهي أشكرك على كل هذه النعم‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬كم أحب أن أق ّدم لك هدي ًة‪ ،‬كعربون شك ٍر على هذا النصر‬
‫العظيم‪ ،‬ولكن ال أملك سوى روحي‪.‬‬
‫لقد ق ّدم أفضل الشباب حياتهم ووجودهم‪ ،‬البعض أمواله‪ ،‬والبعض‬
‫اآلخر مصالحه ومنافعه وعمله‪.‬‬
‫خجل‪ ،‬وال أعرف كيف أشكرك‪.‬‬‫من شدة سروري‪ ،‬إني أحترق‪ ،‬أرتعش‪ٌ ،‬‬
‫أريد أن أعطي كل ما أملك‪ .‬أريد أن أضحي بنفسي‪ .‬أق ّدم كل ما أملك‬
‫لدي مال‪ ،‬أو ُملك‪ ،‬فأنا درويش‪ ،‬ال أملك شيئاً‪ ،‬فقط‬
‫بكل إخالص‪ ،‬ليس ّ‬

‫‪- 132 -‬‬


‫أخس من أن‬
‫لدي قلبي الولهان الذي كنت قد قدمته‪ ،‬أما روحي فهي ّ‬ ‫ّ‬
‫أمن عليك بتقديمها‪ ،‬إذ ال تساوي شيئاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫ألضحي‬
‫ّ‬ ‫إلهي‪ ،‬لقد جئت بكل وجودي‪ ،‬بقلبي وروحي‪ ،‬لقد جئت‬
‫بنفسي في سبيلك‪ ،‬لقد جئت ألقدم لك كل حياتي ووجودي‪ ،‬شكراً لك‬
‫على هذا النصر العظيم‪.‬‬
‫ٌ‬
‫درويش عا ِر الرأس وحافي‬ ‫جندي مجهول‪ ،‬أنا‬
‫ٌ‬ ‫أنا ال أريد منك شيئاً‪ ،‬فأنا‬
‫عيني وأرحل عن هذه الدنيا‪ ،‬ال أريد أن‬ ‫القدمين‪ ،‬وعندما أغمض ّ‬
‫أكون ّأي شيء‪ ،‬فقط أريد أن أكون ألجل الله‪ ،‬أريد أن أكون بعيداً‬
‫عن ّأي شائبة من شوائب األنانية والغرور‪ ،‬أريد أن أحترق ألضيء‬
‫الطريق‪ ،‬أريد أن تتحقق رسالتنا اإلسالمية العظيمة‪ ،‬وهذا التحقق هو‬
‫أكبر مكافأة يمكنها أن تس ّرنا‪ .‬حقاً‪ ،‬هل هناك مكافأة أكبر من انتصار‬
‫الرسالة المحمدية ‪ ،P‬مرن نشر العدل والعدالة‪ ،‬من غلبة اإلنسانية‪،‬‬
‫من وصول الحق والعدالة لى كل الناس[[[‪.‬‬

‫‪ .1‬هذه المناجاة‪ ،‬كان قد كتبها الدكتور شمران عند وصوله إىل إيران بعد ثمانية أيام انتصار الثورة‬
‫ين‬
‫وتسع�‬ ‫وفد مؤلف من ي ن‬
‫اثن�‬ ‫وع�ين سنة‪ ،‬من لبنان برفقة ٍ‬ ‫السالمية‪ .‬فعاد إىل وطنه بعد غياب إحدى رش‬
‫إ‬
‫شخصية لبنانية‪ .‬وعندما ارتحل عن هذه الدنيا ‪-‬بعد شهادته‪-‬لم يك يملك شيئاً سوى سالحاً وثياباً‬
‫وثالث� ألف تومان ف ي�‬
‫آالف من الكتب ومعاشه خمسة ي ن‬ ‫ف‬ ‫ين‬
‫مرمل� بالدماء‪ ،‬وبعض الثياب � طهران‪ ،‬وعدة ٍ‬
‫للخرين‪.‬‬ ‫حسابه ف� بنك مل الذي لم يكني قد أخذه‪ .‬هذا الحساب مازال موجوداً ف� البنك ليكون ع� ًة آ‬
‫رب‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬

‫‪- 133 -‬‬


‫لتنتصر ثورة إيران املقدسة‬ ‫‪14‬‬

‫إلهي‪ ،‬بحق دماء الشهداء األبرار‪ ،‬وبإخالص وتضحية الجنود‬


‫المجهولين‪ ،‬وبإيمان قائد الثورة الطاهر العظيم اإلمام الخميني‪،‬‬
‫نقسم لك بأنّنا سنقاوم للحصول على النصر النهائي لثورة إيران‬
‫المقدسة حتى آخر قطرة من دمائنا؛ ونطلب منك يا إلهنا العظيم‪،‬‬
‫ّ‬
‫بأن تعطينا الفرصة كي نضّ حي بحياتنا ووجودنا في سبيل الرسالة‬
‫المحمدية ‪.P‬‬
‫إلهي‪ ،‬ن ّور مشعل الثورة الساطع الذي جعلته في أيدينا‪ .‬إلهي‪ ،‬امحق‬
‫أعداء هذه الرسالة العظيمة والمنافقين والمتآمرين‪.‬‬
‫إلهي وفقنا لكي نكون جديرين بهذه الرسالة‪ ،‬وأن نفضل الموت‬
‫ٍ‬
‫بشرف على الحياة بذلٍ ‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬لقد أنزلت علينا البركة وأهديتنا قائداً عظيماً وطاهراً كي َ‬
‫يهدي‬
‫سفينتنا المخروقة في وسط األعاصير فاجعل حياتنا كالحسين وقفاً‬
‫في سبيلك‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي العظيم‪ ،‬يا من أظهر معجز ًة فجعل ثورة إيران فريد ًة بين ثورات‬

‫‪- 134 -‬‬


‫العالم‪ ،‬إذ نصرت هذه الثورة المع ّمدة بالدماء بدون سالح‪ ،‬أو حرب‪،‬‬
‫بل باإليمان‪ ،‬العشق والمحبة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬يا من أظهر المعجزة‪ ،‬وأشعل النار بكل القوات العظمى التي‬
‫[[[‬
‫أرادت الهجوم على إيران[[[ وهزمها‪ ،‬يا قاتل الطاغوت‪.‬‬

‫رت‬
‫الهليكوب�‬ ‫المبا� أل ريم�كا عىل إيران‪ ،‬حيث أن طائرات‬
‫رش‬ ‫‪ .1‬إشار ًة اىل حادثة صحراء طبس والهجوم‬
‫قد اصطدمت ببعضها البعض بسبب عاصفة رملية مما أدى إىل قتل كل طواقمها‪.‬‬
‫‪ .2‬الرجوع اىل ص‪85‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫إلهي‪ ،‬هب لنا اإلميان‬ ‫‪15‬‬

‫إلهي‪ ،‬وأمأل قلوبنا بالعشق المتوهج‪ ،‬كي يصبح مذاق لهب الرصاص حلواً‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬اكفنا من الدنيا ومافيها‪ ،‬كي نسعى كإبراهيم ‪ Q‬بكل شوقٍ‬
‫إلى مذبح عشقك‪ ،‬ونفدي إسماعيل وجودنا في سبيلك المقدس‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬ألهمنا مع العشق الوقاّد وإلى جانبه الصب َر والتدبي َر‪ ،‬كي نتحمل‬
‫مش ّقات الطريق برضا وابتسام‪ ،‬وكي ال يسبب استعجالنا الشهادة‬
‫تلوث القلب‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد نظرت إلينا نظر ًة رحيمة‪ ،‬فجعلت مسؤولية حفظ هذه الثورة‬
‫في رقابنا‪ .‬فهب لنا أن نحفظ هذه الثورة حتى آخر قطرة من دمائنا‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد رحمت شعبنا‪ ،‬ومننت عليه بهذه الثورة المقدسة‪ ،‬فاجعلنا‬
‫جديرين بأن نحفظ هذه النعمة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد جعلت راية اإلسالم العزيز ترفرف بأيدينا‪ ،‬فاهدنا كي نعمل‬
‫برسالتك المقدسة كعلي ‪ ،Q‬وأن ّ‬
‫نضحي بأرواحنا في سبيلها‬
‫كالحسين ‪.Q‬‬
‫إلهي‪ ،‬ارزقنا الوعي كي ال نقع في فخ المنافقين والمتآمرين‪ ،‬وكي‬
‫نحفظ أخالقنا اإلسالمية وصدقنا وإخالصنا الثوري ووحدتنا الدينية‪.‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫إلهي‪ ،‬اجعل راية الثورة اإلسالمية العزيزة ترفرف فوق كل العالم‪ِّ ،‬‬
‫ونج‬
‫مستضعفي ومحرومي العالم من قبضة الظلم والعدوان‪.‬‬
‫وعجل في‬‫إلهي‪ ،‬زلزل الظلم والعدوان على أيدي فدائيي طريق الحق‪ّ ،‬‬
‫ظهور إمام العصر ‪ Q‬كي ينشر العدل والعدالة إلى األبد في كل العالم‪.‬‬
‫نج بلدنا من دوا ّمة هذه المؤامرات وأفضح وأهلك أعداء الثورة‪.‬‬
‫إلهي‪ِّ ،‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫لنحفظ الثورة بدمائنا‬ ‫‪16‬‬

‫إلهي‪ ،‬أعطنا القدرة كي ال نغت ّر بنشوة النصر‪ ،‬وال ننسى حقارتنا‬


‫ومسكنتنا‪ ،‬وال ننكسر أمام المصائب والهزائم‪ ،‬وكي ال نفقد األمل بالله‬
‫في أحلك لحظات الحياة القاتلة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬هب لنا القدرة كي نتغلب على أنفسنا المتمردة‪ .‬وهب لنا‬
‫البصيرة كي نعرف طاغوتنا الباطني‪ ،‬فنقاتله بكل ما أوتينا من قوة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد رحمتنا بأن جعلتنا ننتصر على أكبر طواغيت زماننا‪ ،‬فارحمنا‬
‫اآلن كي ال نستسلم لطواغيتنا الباطنية‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬اكفنا كي ال نسعى وراء مصالحنا الشخصية‪ ،‬وكي ال نأخذ شيئاً‬
‫لمنافعنا الشخصية من هذه الثورة دناء ًة وسفالة‪ .‬وارزقنا السخاء والكرم‬
‫إلى الحد الذي نفتدي فيه حياتنا ووجودنا في سبيل هذه الرسالة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد نصرت اإلسالم الحقيق‪ ،‬بعد ‪ 2500‬سنة‪ ،‬وألقيت هذه‬
‫الرسالة العظيمة والكبيرة على عواتقنا الضعيفة‪ ،‬لقد أعطيت األمل‬
‫للمحرومين والمستضعفين‪ ،‬وه ّدمت قصور الظلم والعدوان‪ ،‬وغلبت‬
‫أعظم الطواغيت‪ .‬فاآلن ارحمنا واجعلنا نحفظ هذه الثورة باالعتماد‬
‫ُقصر أمام الشهداء المكفنين بالدماء‪،‬‬
‫على اإليمان والتضحية وأن ال ن ّ‬
‫والناظرين بعين القلق من فوق السماء إلينا‪ ،‬وأن ال نقف خائبين أمام‬

‫‪- 138 -‬‬


‫القلوب المضطربة والعيون المنتظرة‪ ،‬واآلمال التي ُعقدت في القلوب‬
‫الذابلة والمكسورة لمحرومي العالم‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬هب لنا أن نكون في معركة الحياة والموت هذه في عداد‬
‫شهداء كربالء‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬اه ِد شبابنا المنخدع إلى الطريق المستقيم‪ِ ،‬‬
‫وألق نور اإليمان‬
‫في قلوبهم‪ ،‬وأرِهم المصير األسود للضالين‪ ،‬واجعلهم يعتبرون من‬
‫الماضي المرير‪ .‬وأن ال يقعوا لعب ًة في أيدي المستعمرين‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬هب لنا أهلية الحفاظ على هذه الثورة المقدسة وهذا النصر‬
‫الكبير بكل وجودنا وبدمائنا‪.‬‬
‫إلهي‪...................... ،‬‬
‫***‬
‫إلهي‪...‬‬
‫دعنا نخوض غمار الشهادة بكل جرأة‪،‬‬
‫دعنا نقدم أنانيتنا ومصلحتنا كإبراهيم ‪ Q‬قرباناً في كعبة التضحية‪،‬‬
‫دعنا نغسل غرورنا وتكبرنا بماء اإلخالص والخلوص والصدق والتواضع‪.‬‬
‫دعنا نمتلك الجرأة في معارك الحق والباطل وأن نتغلب على الطاغوت‬
‫والشيطان‪،‬‬

‫‪- 139 -‬‬


‫دعنا نحترق كالفراشة حول شمعة الحقيقة‪ ،‬فنضيء الدنيا المظلمة بنورنا‪،‬‬
‫دعنا ننهي جبر التاريخ بسيف الشهادة المرهف‪ ،‬ونغسل عار ألف‬
‫سن ٍة من التاريخ بدمائنا‪،‬‬
‫دعنا نتخلص من االنجذاب نحو المادة وأن ّ‬
‫نخف على أجنحة الروح‪،‬‬
‫ونرتقي معراج السماوات‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬خذ م ّنا األنانية والنفعية‪ ،‬واعطنا قدرة اإليثار ودع لذة اإليثار‬
‫تمأل وجودنا‪.‬‬
‫نجنا من دوا ّمة األنانية ومن إعصار النفعية وعواصف الهوى‬ ‫إلهي‪ّ ،‬‬
‫والهوس‪ ،‬وهب لنا قدرة اإليثار‪ ،‬ودع لذة اإليثار تروي كل وجودنا‪.‬‬
‫***‬
‫يا إله الزمان والمكان‪ ،‬في لحظ ٍة من لحظات التاريخ‪ ،‬جئنا إلى زاوية‬
‫من زوايا األرض‪ ،‬كحبة خردلٍ في هذا العالم‪.‬‬
‫يا إلهي العظيم‪ ،‬صِ ل هذه الحبة الصغيرة برحمتك الواسعة كي تتصل‬
‫بالالنهاية‪ ،‬واألبدية؛ واغنها عن قدرة كل العالم باتكائها على قدرتك‬
‫التي ال تزال‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬إنّ الحياة كلها معركة بين الحق والباطل‪ ،‬وفي المعارك الصعبة‬

‫‪- 140 -‬‬


‫والخطرة يوزن إيمان األشخاص‪ .‬إنّ دوامة المشاكل تجعل اإلنسان‬
‫ينطوي على نفسه‪ ،‬وعواصف األحداث تطيح به كقشة تبنٍ مما يجعل‬
‫مسير الحياة طريقاً صعباً‪ ،‬مليئاً بالمنعطفات والصخور‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أثناء هذه اللحظات الصعبة‪ ،‬اجعل نور اإليمان يسطع في قلبنا‪،‬‬
‫واحفظنا من اإلنزالق‪ .‬أعطنا القدرة لنضع طاغوت عبادة النفس تحت‬
‫أقدامنا‪ ،‬وأن ال نجعل الحق والحقيقة فدا ًء لمصالحنا الشخصية؛ وحيث‬
‫تكون التضحية ضرورية ألجل تشخيص الحق من الباطل‪ ،‬هب لنا يا‬
‫بعشق ورغب ٍة‬
‫ٍ‬ ‫إلهي العظيم عظمة الروح والتقوى كي نقدم كل وجودنا‬
‫على مذبح الحق‪ ،‬وكي نضحي بالدنيا ومافيها في سبيل الله‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ،‬لقد وضعنا أقدامنا في المعركة‪ .‬فاصقل قلبنا باأللم والحزن‪.‬‬
‫***‬
‫أنت تعلم أنّ نياط قلبي قد امتألت بعشقك‪ ،‬وتعلم بأنّي لم أتخذ‬
‫طوال عمري المضطرب رفيقاً سواك‪ ،‬ولم أعتمد إال عليك‪ ،‬وليس ّ‬
‫لدي‬
‫ٌ‬
‫أمل غيرك‪.‬‬
‫***‬
‫ومعاص‬
‫ٍ‬ ‫معاص قد أحاطت بنا ونحن لسنا منتبهين لها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫إلهي‪ ،‬سامحنا‪.‬‬
‫مطلعين على مساوئها‪.‬‬ ‫نفعلها ونبررها بألف حج ٍة عقلية‪ ،‬ولسنا ّ‬

‫إلهي‪ ،‬لقد تفضّ ل ّ‬


‫علي الناس‪ ،‬وغمروني بمطر لطفهم ومحبتهم‪ ،‬حتى‬
‫أني حقاً ٌ‬
‫خجل‪ ،‬وأرى نفسي صغيرة لدرجة أنّي ال أستطيع ر ّد هذا‬

‫‪- 141 -‬‬


‫الجميل‪ .‬إلهي‪ ،‬ارزقني الفرصة كي أستطيع رد الجميل وأن أكون الئقاً‬
‫بكل هذا اللطف وهذه المحبة‪.‬‬
‫لسنوات كنت هائماً على وجهي‪ ،‬قاتلت ألجل مستضعفي‬ ‫ٍ‬ ‫إلهي‪،‬‬
‫عيني عن كل شيء‪ ،‬كنت أتمنى بأن أرجع يوماً ما إلى‬
‫العالم‪ ،‬أغمضت ّ‬
‫إيران العزيزة وأن استفيد من كل طاقتي وقابلياتي‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أتمنى أن يتحرر بلدي‪ ،‬وأن أتنفس في فضائه بدون أن ّ‬
‫اغتم‬
‫لوجود الزور والتزوير والكذب والتهمة والعداوة والخيانة‪ ،‬وأن أتقرب‬
‫أكثر فأكثر إليك‪.‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫‪17‬‬ ‫نار العشق‬

‫إلهي‪ ،‬أنت تعلم بأنّ كل وجودي مفطو ٌر على حبك‪ .‬فمنذ اللحظة األولى‬
‫التي ُولدت فيها‪ ،‬قد قرأوا اسمك في مسامعي وعقدوا ذكرك في قلبي‪.‬‬
‫أنت تعلم أنّي لم أنساك أبداً في كل لحظات عمري‪ ،‬في البالد النائية‬
‫أنت فقط كنت إلى جانبي‪ ،‬أنيس ألمي وحزني‪ ،‬في ساحات الخطر‬
‫كنت حافظي‪ ،‬دموعي المنهمرة وذكراك هما بلسم قلبي المجروح‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أنت تعلم بأني دافعت عن دينك المقدس حتى عندما كان‬
‫ُيعتبر فيه نصرة اإلسالم رجعية وتخلف‪.‬‬
‫ولم أكن أريد أجراً على ما فعلت‪ ،‬فكل ما هو ّ‬
‫لدي هو من عطائك‪ ،‬وما‬
‫قد فعلته أنت يسرته لي‪.‬‬
‫أذنت لنفسي بمناجاتك‪ ،‬في حين أنّي أعلم جيداً‬
‫إلهي‪ ،‬أعتذر ألني ُ‬
‫بأني لم أكن ألكون لوال إرادتك‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك ألنّك جعلت كل الموجودات والرغائب حقيرة وخسيسة‬
‫في نظري كي أتحمل بكل يس ٍر جميع التهم والعذابات‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك ألنك مننت على روحي بلذة العروج‪ ،‬كي أتجاوز أحياناً‬
‫دنيا المادة‪ ،‬حيث هناك ال أرى إال وجودك‪ ،‬وال أبتغي إال لقاءك‪.‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫أنت من يسمع أنّاتي يف األسحار‬ ‫‪18‬‬

‫خضم العواصف والحوادث أنت يا إلهي‪ ،‬من يسمع أنّاتي‬


‫ّ‬ ‫إلهي‪ ،‬في‬
‫الضعيفة في األسحار وأنت من ين ّور قلبي المحروق‪ ،‬وأنت من يلبي‬
‫استغاثتي‪.‬‬
‫بيدي في ظلمة اليأس وهديتني‪ ،‬وس ّلحتني‬
‫إلهي‪ ،‬أنت الذي أخذت ّ‬
‫بالرضا والتوكل عليك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك على أنّك كفيتني‪ ،‬كي ال أتوقع من أح ٍد شيئاً‪.‬‬
‫وآيس من لعبة المصير‪ٌ ،‬‬
‫واقف أمام مستقبلي‪.‬‬ ‫إلهي‪ ،‬أنا مكسور القلب‪ٌ ،‬‬
‫ال أعرف سواك‪ ،‬ال أتجه إال نحوك‪ ،‬وال أناجي غيرك‪.‬‬

‫‪- 144 -‬‬


‫‪19‬‬ ‫حزن وأمل‬
‫ٌ‬

‫إلهي‪ ،‬أشكرك ألنّك أخذت مني أحزاني وآالمي الشخصية التي كانت‬
‫قذرة ومميتة‪ ،‬ووهبتني أحزاناً وآالماً إلهية‪ ،‬متعالية وجملية‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد عجنت كل وجودي بالحزن وأذقتني ح ّر صحراء الفقر‬
‫والحرمان والوحدة‪ ،‬فأشكرك أنّك جعلتني حجر الطاحونة‪ ،‬حتى نسيت‬
‫نفسي وأنا أشكرك على هذه النعمة العظيمة‪.‬‬
‫علي فأعطيتني جسماً سالماً وجمي ًال‪ ،‬وقدمين قويتين‬
‫إلهي‪ ،‬لقد مننت ّ‬
‫وسريعتين‪ ،‬ووهبتني ساعدين قويين وأنامل فنانة‪ ،‬وفكراً عميقاً وذهناً‬
‫و ّقاداً‪ ،‬وأنا أشكرك على كل ذلك‪.‬‬
‫لكنك أعطيتني األمل والحزن لتصنع من وجودي إكسيراً ال مثيل له‪،‬‬
‫لقد ع ّرفتني على كيمياء األلم حتى لم أعد قادراً على شكرك‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك ألنك ع ّرفتني كيمياء األلم‪.‬‬

‫‪- 145 -‬‬


‫لقد جعلتني زاهد ًا‬ ‫‪20‬‬

‫إلهي‪ ،‬لقد أظهرت لي فساد وعبثية اللذات السريعة الزوال‪ ،‬لقد دللتني‬
‫على تصرم الدهر‪ ،‬وأذقتني لذة القتال‪ ،‬وع ّلمتني قمية الشهادة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك ألنّك حررتني من العبثية واالضطراب‪ .‬إنّ سعادة الحياة‬
‫ليست في الملذات والهدوء والركود‪ ،‬بل في النضال ومقارعة الكفر‬
‫والظلم وفي النهاية الشهادة‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪....‬‬
‫أنت الذي جعلتني أحب مجالسة المحرومين ومكسوري القلب‪.‬‬
‫أنت الذي جعلتني زاهداً كي أنأى بنفسي جانباً أثناء النصر واالحتفال‬
‫وتقسيم الغنائم وكي أبقى وحيداً مع ربي في صحراء وحدتي‪.‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫‪21‬‬ ‫اصنعني على عينيك‬

‫إلهي‪ ،‬اهدني ألنّي أعلم كم أنّ الضالل بال ٌء خطير‪.‬‬


‫إلهي‪ ،‬اهدني لكي ال أظلم‪ ،‬ألنّي أعلم أن الظلم معصية ال تغتفر‪.‬‬
‫ظلم دنيء‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬ال تدعني أتفوه الكذب‪ ،‬ألن الكذب ٌ‬
‫إلهي‪ ،‬ال تحيجني إلى اتهام أحداً‪ ،‬ألن التهمة جريمة ظالمة‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬ارشدني كي ال أكون غير منصف‪ ،‬ألن من ال إنصاف لديه‪ ،‬ال‬
‫شرف له‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬كن دليلي كي ال أض ّيع حق أحد‪ ،‬ألن هتك حرمة اإلنسان هو‬
‫الكفر بالله العظيم‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬نجني من بالء الغرور واألنانية كي أرى حقائق الوجود وأشاهد‬
‫جمالك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬اجعل دناءة الدنيا وتص ّرم الزمان حاضر ًة أبداً أمام ناظ َر ّي‪ ،‬كي ال‬
‫يبعدني خداع العالم الترابي المزخرف عن ذكرك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أنا صغي ٌر‪ ،‬ال شيء ُيذكر‪ ،‬قشة تبنٍ في مقابل العواصف‪ ،‬فهبني‬
‫أن أعتبر كي ال أرى نفسي شيئاً ُيذكر‪ ،‬وأفهم حقاً جاللك وعظمتك‬
‫فأس ّبحك جيداً‪.‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫إلهي‪ ،‬لقد ضاق قلبي من الظلم والعدوان‪ ،‬أقسم عليك بعدالتك أ ّال‬
‫تجعلني من زمرة الظالمين والمعتدين‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أريد أن أكون فقيراً غير محتاج‪ ،‬كي ال تلهيني جاذبية الحياة‬
‫المادية عن جمالك وعظمتك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أتمنى أن أكون مجهوالً ووحيداً‪ ،‬كي ال ُأدفن في ضوضاء‬
‫الصراعات العبثية‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أنا متألم‪ ،‬روحي تحترق من شدة األلم‪ ،‬قلبي يغلي‪ ،‬إحساسي يشتعل‪،‬‬
‫ونياط وجودي تصرخ من شدة األلم‪ ،‬فهبني الراحة على فراش الموت‪.‬‬
‫لدي أي‬
‫آيس‪ ،‬لم يعد ّ‬‫لقد تعبت‪ ،‬لقد أصبحت عجوزاً‪ ،‬قلبي مكسور‪ٌ ،‬‬
‫أمنية‪ ،‬أشعر بأنّه لم يعد مكاني في هذه الدنيا‪ ،‬سأودع الجميع‪ ،‬وأريد‬
‫فقط أن أكون مع روحي وحيداً‪،‬‬
‫إلهي‪ ،‬سأتّجه نحوك‪ ،‬سأهرب من العالم والعالمين‪ ،‬فهبني السكن في‬
‫جوار رحمتك‪.‬‬

‫‪- 148 -‬‬


‫‪22‬‬ ‫نفري احلياة‬

‫إلهي‪ ،‬أشكرك أن جعلت الجذبة الربانية في جمال الغروب‪ ،‬إذ أنها‬


‫تفصل روح اإلنسان عن األرض الترابية‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك أن جعلت الحركة والنشاط في الفجر وطلوع الشمس‪،‬‬
‫ونفخت بعظمته الساحرة نفير الحياة‪ ،‬ونشرت مع أشعته النافذة‬
‫والب ّراقة‪ ،‬أمواج الحياة في كل مكان‪ ،‬وبعثت القلوب الميتة واألرواح‬
‫الذابلة إلى الحركة والجهاد‪.‬‬

‫‪- 149 -‬‬


‫إلهي يا صانع املعجزات العظيمة‬ ‫‪23‬‬

‫إلهي‪ ،‬أنا وحيد‪ ،‬يموج في قلبي كالم كثير‪ ،‬فليس لقلبي محرم أبوح له ما‬
‫يختلج فيه‪ .‬لقد تراكمت اآلآلم واألحزان على قلبي‪ ،‬ال أحد يتحمل قلبي‬
‫المكسور والمجنون‪ .‬ال أحد يرافق روحي المتمردة والمح ّلقة الطامحة‪.‬‬
‫أشق طريقي في معارك الحياة الصعبة والخطرة بكل شجاعة‪ ،‬وأخوض‬
‫غمار بحار الموت‪ ،‬أرمي نفسي في أعاصير الحوادث‪.‬‬
‫آه‪ ،‬آه‪ ،‬آه‪ ... ،‬أريد أن أحمل على عاتقي جراب آالمي وأحزاني‪ ،‬وأن‬
‫أمضي في صحراء التفاني وحيداً فريداً‪ ،‬وكم أحب أن أقدم لله العظيم‬
‫رأسمالي من األلم والحزن‪ ،‬وأن أتباهى بهذه اإلنجازات المقدسة في‬
‫محضره‪.‬‬
‫أوه‪ ،‬إلهي سامحني‪ ،‬فأنا لست شيئاً مذكوراً‪ ،‬فلماذا أعلقت قلبي‬
‫بجلبابي؟ كم أنا كثير اإل ّدعاء؟ كم أن توقعاتي ال قيمة لها؟ لماذا ال‬
‫أستحي من ربي؟ وكيف وقعت في شباك تعلقاتي العبثية؟‬
‫إلهي‪ ،‬خلصني من نفسي ومن كل تعلقاتها‪ .‬امنحني الرفعة والسمو‬
‫كي ال أحتاج إلى اإلفتخار‪ .‬واجعلني متواضعاً كي ال أقوم بالمحاسبة‬
‫والمتاجرة مع ربي ألجل كسب االمتيازات‪ .‬سخّ ر روحي كي ال يكون‬
‫لنفسي أي وجو ٍد ُيذكر‪.‬‬

‫‪- 150 -‬‬


‫‪24‬‬ ‫رمز العشق‬

‫إلهي‪ ،‬أعوذ بك‪ُ ،‬أس ّلم لك نفسي‪ ،‬اهدني حتى ال أكون عرض ًة لعصبية‬
‫إلي بالخير‪ .‬أن أسكت أمام التهم‬ ‫االنتقام‪ ،‬وأن أقابل الذين يسيئون ّ‬
‫واالفتراءات التي يلصقونها بي‪ ،‬وأن أمضي في سبيلي وأن ال تهمد‬
‫علي‪،‬‬‫عزيمتي‪ .‬أن أستطيع زيادة محبتي في مواجهة اللؤم الممارس ّ‬
‫أن أستطيع إبراز ُبعد النظر والمروءة أمام حقدهم وحسدهم‪ ،‬أن‬
‫ال أضعف في حركتي البناءة أمام أعمالهم المسيئة‪ ،‬أن ال أسلك في‬
‫مواجهة الظلم وعدم اإلنصاف نفس أسلوبهم‪ ،‬أن ال يج ِد اليأس سبي ًال‬
‫إلي‪ ،‬وأن ال يضيق صدري‪.‬‬
‫ّ‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬دعني أكون نموذجاً جيداً للعشق والمحبة واإليثار والتضحية‪،‬‬
‫أن ال ُاستسلم إال إلرادتك‪ ،‬أن ال أطلب مثوب ًة اال اإلحتراق في سبيلك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬دعني أصبح حراً‪ ،‬ساكناً وصامتاً ال تهزني الرياح العاتية‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬أنت خلقت العالم‪ ،‬ونشرت األرض والسماء‪ ،‬وجعلت كل‬
‫المخلوقات في خدمة اإلنسان‪ ،‬وشخّ صت هدف اإلنسان بعبادة الله‬
‫كي يطرد كل الطواغيت من نفسه وال يعبد إال إ ّياك‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫يا إلهي العظيم‪ ،‬اجعل عشقك في قلوبنا كي ال يبقى مكاناً لغيرك‪ ،‬سخّ ر‬
‫أرواحنا كي ال نهوى سواك‪ ،‬إمأل كل وجودنا من وجودك كي نستغتني عن‬
‫ّأي أحد وعن أي شيء‪ .‬أعطنا معرف ًة حتى ال نعبد إال إ ّياك‪ ،‬أعطني عز ًة‬
‫حتى ال نسقط أمام أي طاغوت‪ ،‬أعطنا شجاع ًة كي ال نخضع أمام أي ظالم‪.‬‬
‫ليالي المظلمة‪ ،‬يا من ليس‬
‫يا إلهي‪ ،‬يا رفيقي األزلي واألبدي‪ ،‬يا أنيس ّ‬
‫لي سبيل إ ّال إليه‪ ،‬يا رب من ال ملجأ له‪ ،‬يا رب القلوب المنكسرة‪ ،‬يا رب‬
‫األرواح الوحيدة‪ ،‬اكفني من كل شيء ومن كل أحد‪ ،‬إشغل كل وجودي‬
‫كي ال أفكر إال بك وال أطلب سواك‪.‬‬
‫***‬
‫أسع وراء الحياة والمنصب‪.‬‬ ‫أنا لم ِ‬
‫آت كي أحصل على شيء‪ ،‬ولم َ‬
‫لقد أتيت من الله وسأمضي باتجاهه‪ ،‬والأريد سوى الله‪... ،‬‬
‫إلهي أشكرك‪ ،‬ألنّك طبعت وجودي بعشقك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أنت الذي أعطيتني القدرة كي أجعل المستحيل ممكناً‪ .‬أنت‬
‫الذي نصرتني في أصعب المعارك‪ ،‬كل ما لم أكن أتصوره‪ ،‬أوجدته‬
‫وذلك النصر الذي لم أكن أتوقعه‪ ،‬جعلته من نصيبي‪ .‬لقد كان وابل‬
‫حدب وصوب‪ ،‬ولك ّني لم أعرف كيف‬ ‫علي من كل ٍ‬ ‫الرصاص يتساقط ّ‬
‫بقيت على قيد الحياة‪ .‬كنت ُأسرع ألستقبل الشهادة‪ ،‬وفجأ ًة رأيت أخي‬
‫داوود يسقط أمامي على تراب الشهادة وأخي اآلخر تهاوى جريحاً‪.‬‬
‫***‬

‫‪- 152 -‬‬


‫إلهي‪ ،‬لقد رحمتني وجعلت أكبر نص ٍر من نصيبي‪ ،‬وك ّنا ضعفاء‬
‫ومشتتين‪ ،‬لقد ك ّنا نخاف العدو‪ ،‬ك ّنا نرتجف أمام القوى العظمى‪ ،‬لكن‬
‫أنت يا إلهي العظيم‪ ،‬جعلت أكبر الجيوش تذوب كما تذيب شمس‬
‫تموز الثلج‪ ،‬أسقطت أكبر الطواغيب بإعجازك‪ ،‬وفككت كل العقد التي‬
‫ال تنحل‪ ،‬وس ّهلت كل المشكالت‪ ،‬ونصرت الحق على الباطل‪.‬‬
‫يا إلهي العظيم‪ ،‬لقد أرسلت المعجزات‪ ،‬كي تشجع الناس الطيبين‪،‬‬
‫ولكي تريهم اإليمان بالغيب‪ ،‬ولكي تبرز قيمة وقدرة الروح أمام كل‬
‫العالمين‪ ،‬وأينما وضع العدو قدميه‪ ،‬ح ّولت األرض إلى مستنقع ليغرق‬
‫بها‪ ،‬وكل خطو ٍة رفعناها‪ ،‬وك ّنا نظن أنفسنا مخطئين‪ ،‬جعلت النصر من‬
‫عطلت كل العقول والحسابات‪ ،‬وفتحت الطريق المستقيم‬ ‫نصيبنا‪ ،‬لقد ّ‬
‫[[[‬
‫والسريع والواضح أمام شعبنا‪.‬‬

‫يش� إىل حادثة‬ ‫أ‬ ‫ف أ‬ ‫ف‬


‫‪ - .1‬هذا المقطع كان قد كتبه شمران ي� خوزستان ي� اليام الوىل من الحرب وهو ري‬
‫غرق الدبابات ف ي� الوحل ف ي� منطقة حميدية‪.‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫أردتني القربان اجمللل‬ ‫‪25‬‬

‫إلهي‪ ،‬لقد دعوتني إليك‪ ،‬وأنا جئتك بكل وجودي‪ .‬لقد تخليت عن‬
‫كل ما أملك‪ ،‬لقد تركت الحياة المادية المرفهة مع كل امتيازاتها‪ ،‬لقد‬
‫وولدي ال َل َذ ْين أحبهما بشدة‪ ،‬وهاجرت من عالم الغرب‬
‫َّ‬ ‫تركت زوجتي‬
‫وكل مظاهره الجميلة والجذابة‪ ،‬ومضيت نحو جنوب لبنان‪ ،‬وسكنت‬
‫في أكثر األماكن خطراً‪ ،‬إلى جانب المش ّردين الفلسطينيين‪ ،‬ووقفت‬
‫حياتي أليتام الشيعة الذي فقدوا أحبتهم ج ّراء القصف اإلسرائيلي‬
‫الوحشي‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك أنك نج ّيتني من المستكبرين والمسرفين في الغرب‪،‬‬
‫وجعلتني مهجوراً مع أكثر محرومي ومستضعفي الدنيا‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫استطعت مجاراة ألمهم وألشاركهم في الحد األدنى آالمهم وهمومهم‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد أصبح تنور حرب الظالمين مستعراً‪ ،‬وأصبح مال ونفس‬
‫وعرض وعزة وشرف المسلمين عرض ًة لهجمات إسرائيل وحلفائها‪ّ ،‬‬
‫وتم‬
‫ج ّر اآلآلف المؤلفة من المستضعفين والمحرومين المظلومين إلى‬
‫مسالخ القتل‪ ،‬وأنا لم أكن أستطيع السكوت واالكتفاء بمشاهدة هذه‬
‫الجرائم‪ ،‬لذا لب ّيت األمر اإللهي‪ ،‬لكن الله لم يرد أن يكرمني بشرف‬
‫صعب ومؤلم‪ ،‬فقبل أفضل‬‫ٍ‬ ‫الشهادة‪ ،‬بل جعلني في معرض امتحانٍ‬
‫إخوتي وفلذات أكبادي الذين ربيتهم لسنوات‪ ،‬وأحببتهم كعيني‪،‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫تق ّبلهم بدالً عني قرابين الواحد تلو اآلخر‪ ،‬أمام ناظري‪ ،‬وأبقاني في‬
‫حرقة وحسرة لعدم نيل الشهادة‪ ،‬لعلها تُشعل نياط وجودي باأللم‬
‫اني‪ ،‬وتبني في وجودي العشق والفقر‬
‫والحزن‪ ،‬وتُحرق كل تعلقاتي وأ ّم ّ‬
‫واأللم‪ ،‬حتى ُأط ّلق الدنيا ثالثاً وأتمنى أن ال ألقي في نفسي أمنية!‬
‫ُ‬
‫إلهي‪ ،‬أشكرك ألنّك ألهمتني الصبر وأعطيتني قدرة المقاومة كي أخرج‬
‫من هذا االبتالء الصعب ّ‬
‫مبيض الوجه‪.‬‬
‫***‬
‫إلهي‪ ،‬لقد أمرت ابراهيم ‪ Q‬أن يذبح أع ّز أوالده‪ ،‬وقد هيأ اسماعيل‬
‫ليق ّدمه قرباناً‪ ،‬وعندما امتدت سكين األب نحو حنجرة ولده‪ ،‬جاء‬
‫النداء أن إرجع يدك‪ .‬لقد ق ّدم ابراهيم ‪ Q‬امتحانه ولكن اسماعيل‬
‫زمن‬
‫لم يصل بعد الى تلك الدرجة من التكامل كي ُيذبح‪ .‬فمضى ٌ‬
‫طويل كي يصل أع ّز أوالد آدم ‪ Q‬إلى درجة الذبح وقد ُق ّدم قرباناً‬
‫ٌ‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وذلك هو الحسين ‪.Q‬‬
‫إلهي‪ ،‬لقد أمرتني أن ُأذبح في سبيلك‪ .‬فاستجبت على الفور‪ ،‬وتحركت‬
‫باتجاه مذبح العشق بكل شوق‪ ...‬لك ّنك أردت أنّ كون ذلك القربان‬
‫مجل ًال‪ ،‬لذا تق ّبلت كل رفاقي وأوالدي وأعز األشخاص ّ‬
‫علي قرابين‪...‬‬
‫وجعلتني أنتظر في نار الشوق‪...‬‬
‫***‬
‫عاص‪ .... ،‬أتريد أن تتركني؟ أن تؤنبني؟ أن تعذبني؟ أن تقتل‬
‫إلهي‪ ،‬أنا ٍ‬

‫‪- 155 -‬‬


‫عصارة وجودي تحت جبلٍ من الحزن واأللم‪....‬‬
‫يدي ال ترتفعان بالدعاء‪ ،‬لقد ُأغشي قلبي بالكدورة واليأس‬
‫إلهي‪ ،‬إن ّ‬
‫والضيق‪ ،‬أريد الزحف نحو زاوي ٍة ما‪ ،‬السكوت في قيد العزلة‪ ،‬أن أغسل‬
‫أختلي مع وجع قلبي‪،‬‬
‫َ‬ ‫أضم إلى حجري الحزن‪ ،‬وأن‬ ‫يدي من العالم‪ ،‬أن ّ‬‫ّ‬
‫وأتقبل كل ما يريده الله‪ ،‬وأن أرضى برضاه‪ .‬ال أريد فرض إرادتي على‬
‫كاف وإن طلب فوق ما‬ ‫الله‪ .... ،‬إنّ ما هو ٌ‬
‫أهل لنا‪ ،‬وق ّدره الله لنا‪ٍ ،‬‬
‫لبعيد عن العدالة‪.‬‬
‫نستحقّ من الله سبحانه ٌ‬
‫لكن يا إلهي العظيم‪ ،‬لكن ال أستطيع تحمل غم وحزن (جواد) العميق‪.‬‬

‫‪- 156 -‬‬


‫‪26‬‬ ‫العشاق األصفياء‬

‫إلهي‪ ،‬أنت تمتحن عبادك‪ ،‬الذين هم مستعدون للشهادة‪ ،‬الذين‬


‫يحملون على عاتقهم كل يوم شهيداً من أفضل إخوانهم‪.‬‬
‫لقد رأيت في حياتي‪ ،‬لقد جربت‪ ،‬أحياناً غرقت في األلم‪ ،‬وأحياناً أخرى‬
‫في ال َوجد‪ .‬كان نسيم السحر يحمل الرسائل الحلوة والمدللة للروح‪،‬‬
‫كانت النجوم تناغيني‪ ،‬وقد سمعت من أعماق السماء العالية أسرار‬
‫الوجود غير المسموعة‪ .‬كانت تعطيني روعة الخلق‪ ،‬كنت أرى في كل‬
‫ورق ٍة خضراء دفتراً من العلم واإلبداع والجمال‪ ،‬كانت روحي تصل إلى‬
‫الهيام عند رؤية كل طائر وكل سمكة‪ ،‬كنت أسمع من كل حصوة آيات‬
‫وجود الله‪ ،‬كان يمتلىء كل وجودي عشقاً‪ ،‬حباً‪ ،‬إيثاراً‪ ،‬إيماناً‪ ،‬عباد ًة‪،‬‬
‫حماس ًة‪ ،‬شوقاً‪ ،‬عرفاناً وغلياناً ودو ّياً‪ .‬كان للدنيا لوناً آخراً‪ ،‬كانت الحياة‬
‫جميلة ومحبوبة‪ ،‬إنّ هدف الحياة هو العشق والعبادة‪ ،‬وأنا أيضاً كنت‬
‫منشغ ًال بالمعشوق وكنت فانياً في جذبة العشق‪ ،‬كنت قد شبعت في‬
‫دنيا المحبة وتلذذت من كل ما هو جميل‪.‬‬
‫لكن دفع ًة واحدة‪ ،‬رأيت الله يأخذ مني ذلك المعشوق والمحبوب‪،‬‬
‫أحب‪ .‬يريد الله أن يقول لي بأنه كان لك‬
‫يذهبه ويبيد كل ما كنت ّ‬
‫معبوداً آخراً‪ ،‬ال ينبغي لك أن تغرق في عشق أح ٍد كما غرقت‪ ،‬بحيث‬
‫يصبح الله في مرتب ٍة ثانية‪ ،‬عليك أن تفهم أن الله هو الجمال المطلق‪،‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫أن الله هو األبدي واألزلي‪ .‬إن كل هذه الورود الجميلة‪ ،‬هذه األوراق‬
‫الخضراء‪ ،‬ستموت وتقع على األرض وسيتعرض جمالها للعواصف‬
‫والتالشي‪.‬‬
‫أنت أيها البشري‪ ،‬ال يحق لك أن تغرق في عشق أح ٍد و ُيختفي الله‬
‫تحت شعاعه‪.‬‬
‫لكن يا إلهي‪ ،‬هؤالء الناس األطهار هم تجلٍ لوجودك‪ ،‬أنا عبدتهم ألنهم‬
‫خلفاؤك‪ ،‬أنا أحببتهم ألنهم يحبونك‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ،‬أريد أن أحب أحداً يكون ملموساً‪ ،‬أستطيع أن أشعر بروحه‬
‫ونفسه وجسمه بكل أبعاد وجودي‪ ،‬أن ألمسه بيدي‪ ،‬أن أتلذذ بجماله‬
‫بعيني‪ ،‬أن أدرك مشاعره الطاهرة بقلبي‪ ،‬وأن أعرج إليه بروحي‪ ،‬وأن‬
‫أفدي وجوده بكل أبعاد وجودي بفنائي‪ ،‬أريد أن أشعر بلذة األبدية‬
‫بأعلى درجة‪.‬‬
‫لكن الله ال يريد‪ ،‬ال يسمح‪ ،‬فهو يأخذ م ّنا كل معشوق و ُيغرق اإلنسان‬
‫في دوامة التأمل والتفكر‪.‬‬

‫‪- 158 -‬‬


- 159 -
‫المالحق‬

‫نبذة عن الشهيد القائد مصطفى شمران‬

‫الوالدة والنشأة‪:‬‬
‫ولد الشهيد القائد مصطفى شمران عام (‪1932‬م) في مدينة قم‪ ،‬وما‬
‫لبثت عائلته الفقيرة أن انتقلت إلى طهران للعيش بعد عام واحد من‬
‫مولده لتسكن هذه األسرة المكونة من ثمانية أفراد في بيت صغير‬
‫ُمستأجر‪ .‬وقد كان شمران طف ًال مح ّباً للعزلة‪ ،‬غارقاً في التأمل والتفكر‪،‬‬
‫متج ّنباً للصخب والضجيج‪ ،‬ومستغرقاً في مشاهدة جمال وجالل‬
‫الطبيعة والوجود اإللهي‪.‬‬
‫أنهى شمران دراسته االبتدائية في مدرسة «انتصارية» بالقرب من‬
‫«پامنار»‪ ،‬انتقل بعدها إلى ثانوية «دار الفنون»‪ ،‬ومنها إلى ثانوية‬
‫«البرز»‪ .‬كان تلميذاً ممتازاً طوال مراحل الدراسة‪ ،‬كما كان يتميز‬
‫بالر ّقة والحساسية المفرطة‪ ،‬فيتألم من صميم قلبه آلالم المحرومين‪،‬‬
‫ويشاركهم عناءهم بعواطفه المستفيضة‪ .‬كما كان يواظب على‬
‫الحضور في مجالس العلم والعلماء‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫الدراسة‪:‬‬
‫في العام ‪ ،1953‬التحق‪ ‬الشهيد القائد‪ ‬بالكلية الفنية في جامعة‬
‫طهران‪ ،‬وبدأ دراسته في قسم الهندسة الكهربائية‪ ،‬ول ّما كانت تلك‬
‫الفترة متزامنة مع مرحلة االنقالب على حكومة ُمص ّدق‪ ،‬فإنّه اضطلع‬
‫بالنشاط الواسع في النضال السياسي الشعبي والتظاهرات الخطيرة‬
‫المناوئة للنظام الملكي‪.‬‬
‫بعد حصوله على البكالوريا‪ ،‬عمل‪ ‬الشهيد‪ ‬القائد مد ّرساً في نفس‬
‫الكلية التي تخ ّرج منها‪ ،‬إلى أن حصل على منحة دراسية إلكمال دراسته‬
‫في أميركا ح ّتى درجة الدكتوراه بصفته طالباً متميزاً‪ .‬وبحصوله على‬
‫درجة الماجستير بتقدير ممتاز في الهندسة الكهربائية من جامعة‬
‫تكساس األميركية‪ ،‬انتقل إلى جامعة بركلي للحصول على الدكتوراه‪،‬‬
‫وخالل ثالث سنوات حصل الشهيد القائد أيضاً على درجة الدكتوراه‬
‫في اإللكترونيات والفيزياء الحيوية (هندسة الطاقة النووية) بدرجة‬
‫امتياز‪ ،‬متفوقاً على زمالئه من الطلبة القادمين من ش ّتى أنحاء العالم‬
‫وتحت إشراف أبرز األساتذة في هذا الحقل‪.‬‬
‫كان القائد في تلك الفترة يعتمد في نفقاته على عمله في التدريس‬
‫واألبحاث‪ ،‬وذلك ألنّ السافاك كان قد حجب عنه منحته الدراسية‬
‫بحجة نشاطه السياسي ضد نظام الشاه‪.‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫التدريبات العسكرية‪:‬‬
‫بعد نهضة الخامس عشر من خرداد (‪ 5‬حزيران ‪1963‬م) الدموية‪،‬‬
‫توجه إلى مصر مع عدد من أصدقائه المؤمنين والمخلصين لتع ّلم‬
‫فنون القتال واالستعداد لخوض الحرب المس ّلحة ضد النظام البهلوي‪.‬‬
‫وقد كان ذلك في نفس الوقت الذي بعثت فيه المقاومة الفلسطينية‬
‫بكوادرها إلى مصر للتد ّرب أيضاً‪ ،‬حيث قضى‪ ‬الشهيد القائد‪ ‬عامين‬
‫شارك فيهما بعدة دورات عسكرية في فنون النزال وحرب العصابات‬
‫ثم أخذ على عاتقه مسؤولية تدريب المقاتلين‬ ‫والعمل الفدائي‪ّ ،‬‬
‫اإليرانيين آنذاك‪.‬‬
‫بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وتو ّلي أنور السادات رئاسة مصر‪،‬‬
‫عاد الدكتور الشهيد إلى الواليات الم ّتحدة؛ ليقيم فيها لفترة وجيزة‬
‫ويعود بعدها إلى لبنان‪.‬‬
‫الهجرة إىل لبنان‪:‬‬
‫وصل إلى لبنان في أواخر العام ‪ 1970‬بنا ًء على طلب من سماحة‬
‫اإلمام المغ ّيب السيد موسى الصدر‪ ،‬وعمل معه على تأسيس «حركة‬
‫متوجهاً منذ اللحظة األولى إلى أقصى نقطة في‬ ‫ّ‬ ‫المحرومين»‪،‬‬
‫الجنوب‪ ‬مدينة «صور»‪ ،‬وأخذ على عاتقه إدارة المدرسة الصناعية في‬
‫مؤسسة جبل عامل ــ البرج الشمالي على بعد خمسة كيلومترات من‬
‫«صور» بجوار المخيمات الفلسطينية‪ .‬كان اليتامى من أبناء الشيعة‬

‫‪- 163 -‬‬


‫اللبنانيين يدرسون في هذه المدرسة‪ ،‬وهم الذين صاروا فيما بعد‬
‫كوادر المقاومة في مواجهة العدو الصهيوني‪.‬‬
‫منذ وصوله إلى لبنان‪ ،‬أظهر ارتباطه الروحي باإلمام الخميني قدس‬
‫سره‪ ،‬الذي كان منفياً آنذاك إلى النجف األشرف‪ .‬وقد تعاظمت‬
‫االتصاالت بينهما‪ ،‬مع اقتراب انتصار الثورة‪ .‬وقد ك ّلفه اإلمام بتشكيل‬
‫لجنة لتقفي أثر اإلمام المغ ّيب السيد موسى الصدر بعد اختطافه في‬
‫العام ‪.1978‬‬

‫العودة إىل إيران‪:‬‬


‫بعد انتصار الثورة في العام ‪ 1979‬بأيام قليلة‪ ،‬توجه الشهيد القائد إلى‬
‫إيران يرافقه وفد من اثنتين وتسعين شخصية لبنانية‪ ،‬التقى خاللها‬
‫اإلمام الخميني قدس سره‪ ،‬وكانت المرة األولى التي يزور فيها إيران‬
‫منذ خروجه منها قبل اثنين وعشرين عاماً‪.‬‬
‫كانت زيارة شمران إلى إيران مؤقتة لوال أجواء الثورة وشخصية اإلمام‪،‬‬
‫التي منعته من المغادرة‪ ،‬فبقي في إيران واضعاً كل خبراته وتجاربه‬
‫العلمية والثورية في خدمة المشروع الثوري بكل صمت وهدوء‪،‬‬
‫مواص ًال جهاده في مختلف المجاالت‪.‬‬
‫في تشرين الثاني من العام ‪ُ ،1979‬ع ّين الشهيد القائد وزيراً للدفاع‬
‫باقتراح من مجلس الثورة وبأمر من‪ ‬اإلمام الخميني (قدس سره)‪.‬‬

‫‪- 164 -‬‬


‫انخرط الشهيد القائد بعد تس ّلمه للمنصب الجديد في إعداد سلسلة‬
‫من البرامج الواسعة والتأسيسية‪ ،‬أم ًال في تبديل الجيش إلى مؤسسة‬
‫ثورية متطورة‪ .‬ومن أبرز تلك البرامج تطوير الجيش بنا ًء على أسس‬
‫منطقية وصحيحة‪ ،‬وإقرار العالقات العادلة القائمة على الترتيب‬
‫وصب االهتمام على الصناعات واألبحاث الدفاعية ودفعها‬
‫ّ‬ ‫والنظام‪،‬‬
‫إلى الحركة والحيوية‪.‬‬
‫وفي أيار من العام ‪ ،1980‬ولدى تشكيل مجلس الدفاع األعلى‪،‬‬
‫ع ّينه‪ ‬اإلمام الخميني (قدس سره)‪ ‬ممث ًال ومستشاراً له في المجلس‪.‬‬
‫وقد رفض الشهيد القائد آنذاك طلب أصدقائه بالترشح لمنصب رئاسة‬
‫الجمهورية‪ ،‬رغم إصرارهم عليه‪ ،‬مفض ًال العمل في الصفوف األمامية‬
‫للجبهة؛ حيث كان له مساهمة كبيرة جداً في محاربة أعداء الثورة‬
‫الذين حاولوا إثارة االنقسامات والفتن الداخلية‪ ،‬كما شارك في الحرب‬
‫المفروضة التي اندلعت في العام ‪ ،1980‬وواجه قوات النظام العراقي‬
‫البائد ببسالة منقطعة النظير‪.‬‬

‫العروج‪:‬‬
‫في وقت السحر من يوم ‪ 21‬حزيران لعام ‪1981‬م‪ ،‬استشهد قائد منطقة‬
‫دهال ِو ّيه «إيرج رستمي»‪ .‬فأَحضَ ر الدكتور شمران أحد القادة إلى‬
‫الجبهة ليكون بديلاً عن الشهيد في دهال ِو ّيه‪ ،‬وعند خروجه من مركز‬
‫القيادة و ّدعه من كان حوله‪ ،‬واقتفى الرفاق أثره بنظراتهم وآذانهم‪،‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫غما عمي ًقا وحزنًا شدي ًدا‪ ،‬وأل ًماً يثقل القلوب ويدمي‬
‫فكان ودا ًعا يحمل ًّ‬
‫العيون‪.‬‬
‫كل المجاهدين في قناة خلف دهال ِو ّيه‪ ،‬وبارك لهم شهادة‬ ‫جمع ّ‬
‫قائدهم «إيرج رستمي»‪ ،‬نظر إليهم نظرات عميقة تسطع من وجه ن ّير‬
‫قطعه حشرجة‬ ‫ثم خاطبهم بصوت حزين ّ‬ ‫وقلب يملؤه عشق الشهادة‪َّ ،‬‬
‫صدر ملتهب قائ ًال ‪« :‬لقد َّ‬
‫أحب الل ُه رستمي وأخذه إليه‪ ،‬وإذا كان‬
‫يحبني فسيأخذني أيضً ا»‪.‬‬
‫بعدما أنهى كالمه‪ ،‬وقف على الخط األمامي للجبهة عند أقرب نقطة‬
‫للعدو خلف ساتر ترابي‪ ،‬وح ّذر المقاتلين بأ ّال يتقدموا عن هذه‬
‫النقطة‪ ،‬وانهمر سيل القذائف‪ .‬وبينما كان يوجه إليهم أوامره بالتفرق‪،‬‬
‫وفيما كان متجهاً إلى أحد المالجئ أصابته شظية في رأسه من الخلف‪،‬‬
‫فارتفع صياح المحيطين به م ّمن شاهدوا ما حدث‪ ،‬وأوصلوه بسرعة‬
‫ّ‬
‫المشظى إلى المستشفى‪،‬‬ ‫إلى سيارة اإلسعاف؛ التي وصلت بجسده‬
‫لكن روحه كانت قد عرجت إلى السماء‪.‬‬‫ّ‬

‫‪- 166 -‬‬


- 167 -
‫خطاب اإلمام اخلميني { عند شهادة القائد‬
‫مصطفى شمران ممثل اإلمام يف اجمللس‬
‫[[[‏‬
‫األعلى للدفاع‬

‫ال���زم���ان‪ 1 :‬تير ‪ 1360‬هـ‪ .‬ش‪ 19 /‬شعبان ‪ 1401‬هـ‪ .‬ق (‪22‬‬


‫حزيران ‪ 1981‬م)‬
‫ال��م��ك��ان‪ :‬طهران‪ -‬جماران‏‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‏‬
‫إنّا لله وإنّا إليه راجعون‏‬
‫أعزي وأهنئ ولي العصر (أرواحنا فداه) بشهادة القائد العظيم‬
‫والمجاهد المسلم الواعي‪ ،‬والمتمسك بطريق الباري عز وجل‪ ،‬السيد‬
‫الدكتور مصطفى شمران‪.‬‬
‫التعزية؛ ألنّ أمتنا أمة الشهداء فقدت جندياً مخلصاً‪ ،‬كان ّ‬
‫يسطر‬
‫المالحم في ساحات صراع الحق والباطل‪ ،‬سواء في إيران أو في لبنان‪،‬‬
‫وهدفه كان دائماً عزة اإلسالم‪ ،‬ونصر الحق على الباطل‪.‬‬
‫لقد كان مجاهداً تقياً ومع ّلماً ملتزماً‪ ،‬فبالدنا اإلسالمية بحاجة ماسة‬

‫المام‪ ،‬ج‏‪ ،14‬ص‪375 :‬‬


‫صحيفة إ‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫إليه وإلى أمثاله‪ .‬أ ّما التهنئة فألنّ اإلسالم العظيم قد ر ّبى مثل هؤالء‬
‫األبناء البررة والقادة الشجعان‪ ،‬وق ّدمهم للشعب والمستضعفين‪ .‬حقاً‪،‬‬
‫وجهاد في سبيل هذه العقيدة‪.‬‬‫ٌ‬ ‫إنّ الحياة عقيد ٌة‬
‫إنّ شمران العزيز بدأ حياته بعقيدته الطاهرة النقية‪ ،‬عقيدة الجهاد في‬
‫يتبن عقائد المجموعات واألحزاب السياسية‪ ،‬واختتم‬ ‫سبيل الله‪ ،‬ولم ّ‬
‫حياته بنفس تلك العقيدة أيضاً‪.‬‬
‫خالل حياته‪ ،‬عرف نور المعرفة واالتصال بالله‪ ،‬ونهض للجهاد في‬
‫سبيله‪ ،‬ونثر روحه الطاهرة عطراً فوق أرض بالده‪ ،‬لقد عاش أب ّياً ومات‬
‫أب ّياً‪ ،‬ووصل إلى الحق كما كان يتم ّنى‪ .‬إنّ العظمة هي أن ينهض المرء‬
‫للجهاد في سبيل الله ويقدم روحه ثمناً لذلك‪ ،‬دون أن تغ ّره الشعارات‬
‫السياسية‪ ،‬والغرور الشيطاني‪ ،‬وهنا تكمن عظمة الرجال الربانيين‪ ،‬لقد‬
‫ذهب لمالقاة الله بوجه أبيض وروح سعيدة طاهرة‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل نستطيع نحن أن نكون كما كان؟ إنّ الله سبحانه وتعالى‬
‫وحده من يستطيع أن يأخذ بيدنا ويحررنا من ظلمات الجهل وسجن‬
‫الذات‪ .‬وأنا لن أقدم التعازي بهذا المصاب الجلل للشعب اإليراني‬
‫الغيور واللبناني فقط‪ ،‬بل لجميع الشعوب المسلمة‪ ،‬والمجاهدين في‬
‫سبيل الحق وأسرة هذا الشهيد أيضاً‪ ،‬أسأل الحق تعالى أن يتغمده‬
‫برحمته‪ ،‬وأن يلهم أسرته الصبر والسلوان‪.‬‬
‫روح الله الموسوي الخميني‏‬

‫‪- 171 -‬‬


‫[[[‬
‫املوضوع‪ :‬تعيني وزير الدفاع‏‬

‫«حكم»‬
‫ُ‬
‫ال���زم���ان‪ 8 :‬مهر ‪ 1358‬هـ‪ ..‬ش‪ 8 /‬ذي القعدة ‪ 1399‬هـ‪ ..‬ق‏ (‪30‬‬
‫أيلول ‪)1979‬‬
‫ال��م��ك��ان‪ :‬قم‏‬
‫المخاطب‪ :‬مصطفى شمران‏‬

‫باسمه تعالى‏‬
‫سعادة الدكتور مصطفى شمران‏‬
‫بنا ًء على اقتراح رئيس الحكومة المؤقتة ومصادقة أعضاء مجلس‬
‫قيادة الثورة‪ ،‬تقرر تعيين سعادتكم وزيراً للدفاع الوطني‪ .‬أسأل الله‬
‫تعالى التوفيق للحكومة المؤقتة ولكم في إنجاز المهام الموكلة إليكم‬
‫وإحراز رضا ذاته المقدسة‪.‬‬
‫روح الله الموسوي الخميني‏‬

‫المام‪ ،‬ج‏‪ ،10‬ص‪117 :‬‬


‫صحيفة إ‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫املوضوع‪ :‬تعيني وزير الدفاع الوطني‏‬
‫[[[‬

‫«حكم»‬
‫ُ‬
‫ال���زم���ان‪ 16 :‬آبان ‪ 1358‬هـ‪ .‬ش‪ 16 /‬ذي الحجة ‪ 1399‬هـ‪ .‬ق‏ (‪7‬‬
‫تشرين ثاني ‪1979‬م)‬
‫ال��م��ك��ان‪ :‬قم‏‬
‫المخاطب‪ :‬السيد مصطفى شمران‏‬

‫باسمه تعالى‏‬
‫حضرة السيد الدكتور مصطفى شمران‏‬
‫تم‬
‫بناء على اقتراح مجلس الثورة في الجمهورية اإلسالمية االيرانية‪ّ ،‬‬
‫تعيين سيادتكم وزيراً للدفاع الوطني‪ .‬أسأل الله تعالى التوفيق لكم‬
‫في إنجاز المهام الموكلة إليكم ونيل رضاه ّ‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫روح الله الموسوي الخميني‏‬

‫المام‪ ،‬ج‏‪ ،10‬ص‪372 :‬‬


‫صحيفة إ‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫املوضوع‪ :‬تعيني مستشار اجمللس األعلى‬
‫[[[‏‬
‫للدفاع الوطني‬

‫«قرار»‬
‫ال���زم���ان‪ 20 :‬ارديبهشت ‪ 1359‬هـ‪ .‬ش‪ 24 /‬جمادى الثانية ‪1400‬‬
‫هـ‪ .‬ق‏ (‪ 10‬أيار ‪1980‬م)‬
‫ال��م��ك��ان‪ :‬طهران‪ ،‬شميران‪ ،‬دربند‬
‫المخاطب‪ :‬مصطفى شمران‏‬

‫‏‏‏بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫حضرة الدكتور مصطفى شمران ‪ -‬أيده الله تعالى‏‬
‫في سياق تشكيل المجلس األعلى للدفاع الوطني‪ ،‬واستناداً إلى المادة‬
‫تم تعيينكم‬
‫مائة وعشرة من دستور الجمهورية اإلسالمية في إيران‪ّ ،‬‬
‫مستشاراً من قبلي‪ .‬وبما أنّنا نم ّر حالياً بوضع استثنائي‪ ،‬فمن الضروري‬
‫أن توافيني كل أسبوع بدراسة كاملة وبمنتهى الدقة باألحداث‬
‫الداخلية لدوائر الجيش‪.‬‬
‫روح الله الموسوي‏‬

‫المام‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪236:‬‬


‫صحيفة إ‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪- 174 -‬‬

You might also like