Professional Documents
Culture Documents
سيادة اللغة العربية على العالم بالإسلامedited
سيادة اللغة العربية على العالم بالإسلامedited
إن اللغة نسق من اإلشارات والرموز وتعتبر أهم أدوات االتصال والتفاهم بين أفراد األمم
لشتى الحوائج واألهداف في جميع ميادين الحياة .ومن ثم ال يستطيع اإلنسان بدون اللغة أداء
نشاطه المعرفي إذ كانت تنتج عن التفكير وتصاغ منه وتدل على العقلية التي ترسم ظواهرها .
ولكل لغات العالم نجدها اليوم لها تاريخ معين وسمات مخصوصة وتطور محصور وعوامل
محدودة تسعف كيانها إلى يومنا اآلن.
كانت اللغة العربية من اللغات التي تساهم الحياة البشرية بقدر عظيم ,قال ابن فارس في
فقه اللغة (( لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها )) فال صلف في ذلك ,ألنها لغة القرآن الكريم
تردد تالوته تعبدا ويعم تفقهه وينتشر تعليمه بين المسلمين وهي لغة الرسالة جاء الرسول صلى
هللا عليه وسلم يدعو الناس بها حيث إن هللا جعلها أساسا للمعجزة المعنوية التي تحدى بها القبائل
حتى عجزوا عن االتيان بمثله قال هللا تعالى {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة
من مثله} البقرة , 23باإلضافة إلى ذلك فإنها أكثر فروع اللغات السامية نطقا وانتشارا ال يقتصر
ناطقها على من كان في الشرق األوسط و شمال إفريقيا فقط بل كادت أن تتلقى القبول من العالم
كله .
قبل أن تسود اللغة العربية في العالم العربي فإنها قد أخذت شكال خاصا في شبه الجزيرة
العربية وال ترتقي دفعة واحدة ولكن هناك عدة مراحل وعمليات تعالج نموها عبر العصور
المختلفة .ولكي تتجلى لنا السمات التي سارت عليها اللغة العربية طوال حياتها فإني أريد أن
آخذكم إلى البحث عنها من وجهة نظر تاريخ أدبها ,فال داعي لذلك إال أن العالقة بين األدب
واللغة هي عالقة الوظيفة بالمادة ,والغاية بالوسيلة ,والثمرة بالشجرة .فاللغة هي مادة األدب
األولى واألدب هو ثمرة اللغة ونتيجة استثمار عناصرها األولية وقواعدها الكلية.
اللغة العربية قبل اإلسالم
اللغة العربية هي لغة تكلم بها أهل جزيرة العرب الجنوب الغربي آلسيا وواحدة من ضمن
مجموعة اللغات السامية وهي تشمل كل ما سبق اإلسالم من حقب وأزمن سمي بالجاهلية ،قال
الدكتور شوقي ضيف في معنى كلمة الجاهلية (( ينبغي أن نعرف أن كلمة الجاهلية التي أطلقت
على هذا العصر ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه ،إنما هي مشتقة من الجهل
بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة اإلسالم التي تدل على الخضوع هلل جل وعز وما
يطوى من سلوك خلقي كريم)) ,ومما وصل إلينا من أدبها تتعدى بداية تاريخها األدبي إلى مائة
وخمسين أو إلى مائتي عام قبل اإلسالم .
كانت للغة العربية قبل اإلسالم شأن ال ينبغي لنا أن نتجاهله إذ أنها لغة مقبولة في القول
والسمع وتتمتع القبائل بخصائصها اللفظية والتركيبية والبالغية والداللية والصوتية .ولقد اعتز
العرب بلغتهم ويتغون بها في األسواق ,وعلى الرغم من أنها محل تجاري فإنهم استخدموها كمكان
فسيح يتحكمون فيه على الخصومات والمفاخرات باألحساب والشجاعة وعرض الخطب والمباهاة
بالفصاحة والبالغة حيث إن الشعراء أبدعوا فيه شعرا بمختلف األغراض والخطباء واألدباء
تفننوا بألوان الجمال في النثر.
الشعر أسبق ظهورا من النثر ويرجع ذالك إلى قيام الشعر على الخيال والعاطفة وإنتشار
األمية بين العرب وقدرتهم العالية على الحفظ وانتظامها على األوزان العروضية .والعرب كانوا
يعتمدون في حفظ األشعار على الرواية الشفوية .وللشعر مكانة عند العرب ألنه يفيد نشر أمجاد
القبيلة واإلشادة بأنسابهم ومحامدهم مما فيه من قيمة فنية وعقلية وتاريخية وأسس مخصوصة
تنبني عليها قصائدهم .ومنهج شعراء الجاهلية في بناء القصيدة هو المنهج الذي سار عليه شعراء
صدر اإلسالم والعصر األموي والعباسي و ذلك في جميع األغراض ما عدا الرثاء.
وكان منهجهم الغالب معتمدا على وصف المرأة والوقوف على األطالل ثم ينتقل إلى
رحلتهم ثم إلى محبوبتهم ووصف ناقتهم وينتهي بعد ذلك إلى الغرض األساسي كالمدح .وقد كثر
ظهور الغزل عندئذ كما قال عن ذلك ابن سالم الجمحي أن الغزل نوعان :غزل غير فاحش ونوع
آخر غزل فاحش يتعهر ويذكر اإليقاع بالنساء كغزل امرؤ القيس واألعشى .وهناك أغراض
أخرى ذاعت في هذا العصر كا الوصف والفخر والهجاء والرثاء والحكمة واالعتذار .
وأما النثر فإنه يقل بالنسبة إلى الشعر ولكن مع قلته فإنه تنوع إلى الخطابة والقصص
واألمثال والحكم والوصايا والمنافرات وسجع الكهان .ومن الخطباء المفوهين قس بن ساعدة
وأكثم الصيفي وعتبة بن ربيعة كما انتشرت األمثال بين القبائل كمثلهم المشهور (( جوع كلبك
يتبعك )) والحكم ك (( العتاب قبل العقاب )) .
يتضح من النصوص التي كانت عليها شعر الجاهلية ونثرها أن اللغة العربية في الجاهلية
لها ألفاظ دقيقة ومزينة بالمحسنات البديعية واللفظية وموضوعة بالمعاني الواضحة والبعيدة عن
التعقيد مع عدم اإلنكار في ذلك أنها متأثرة بالبيئة الجاهلية من الوثنية والعصبية القبلية وذكريات
المرأة و الحزن المفرط في بعض الرثاء .ولقد تعددت لهجات العرب قبل اإلسالم لتفرقهم في
الجزيرة وللهجة قريش في ذ لك فضل كبير إذ أنها قامت بتقريب اللهجات بين القبائل حيث إنها
أخذت من كل لهجة أنقى األلفاظ وهذبتها بأعذب الكلمات مما هيأتها هذه األسباب لنزول القرآن
بها " :بلسان عربي مبين " .
اللغة العربية بعد اإلسالم
أنزل هللا رسوله محمدا صلى هللا عليه وسلم بتعاليم وشرائع تجذب الناس إلى ما هو خير
لهم في دنياهم وأخراهم .ومن المسلم به أن ظهور اإلسالم يعود إليه أبلغ األثر في حياة العرب ؛
إذ حولهم من يعتقدون بالوثنية فحملهم اإلسالم إلى جيل يستحق أن يقوم بالمسؤولية البليغة ووجه
كل مسلم إلى حق المساواة بين الناس وأن يكون عضوا فعاال عامال في ظل مجتمع قويم تحت
الشريعة اإللهية .فقد كان اإلسالم -بتعاليمه وغايته – ثورة على الحياة الجاهلية بكل صورها .
ومن حكمة مجيء اإلسالم أن أنزل هللا القرآن الكريم على رسوله منجما في ثالث
وعشرين سنة ليهيئ النفوس البشرية لتلقي هذا الفيض اإللهي .والقرآن مع كونه كتاب الوحي
فإن له آثر بالغة للغة واألدب ,قال الدكتور شوقي ضيف (( القرىن الكريم بمفخرة العرب في
لغتهم ؛ إذ لم يتح ألمة من األمم كتاب مثله ال ديني وال دنيوي من حيث البالغة والتأثير في النفوس
والقلوب ))
وأول ما كان من آثار القرآن أنه جمع العرب على لهجة قريش ,وفعال هذه اللهجة كانت
تسود القبائل الشمالية في الجاهلية ,غير أن هذه السيادة لم تكن تامة حيث لم تشمل عامة الناس
ولكن اقتصرت على الشعراء فعمل القرآن على التقريب بين اللهجات من فروق واستكمال السيادة
اللهجية القريشية ومن ثم أتيح لها أن تنتشر في العالم اإلسالمي ليس هو فحسب بل أن تظل على
مر العصور ال تبلى مع الزمان وجعلها لغة واحدة ينطق بها كل مسلم في بقاع األرض إذ أن
حول العربية إلى لغة ذات دين سماوي باهر ؛ تالوته فرض على كل مسلم .وثاني آثاره أنه ّ
وبذالك أحلّت فيها معان لم تكن تعرفها من قبل مثل :الفرقان والكفر واإليمان واإلسالم والصالة
والصوم وغير ذالك من كلمات الدين الحنيف .وثالث آثاره أنه هذّب اللغة من الوحشية ومن اللفظ
الغريب والضعيف حتى أقامها على األسلوب المعجز من اللغة والبيان وال شك أن مثل هذه األشياء
ليس لها سابقة فعلى هديه أخذ الخطباء والكتاب والشعراء يصوغون آثارهم األدبية .
إن النبي صلى هللا عليه وسلم هو أفصح العرب وأبلغ أرباب البيان منذ وجد إلى أن يرث ّ
هللا األرض ومن عليها .والحديث هو كل ما حكي عن اللنبي من قول أو فعل أو تقرير .وللحديث
النبوي آثر على اللغة واألدب وإن لم يبلغ أثر القرآن العظيم ألنه دونه في البالغة ,وإن كان قائله
أبلغ العرب قاطبة وأفصحهم .ويمكن أن نالحظ أثره في أنه عاون القرآن الكريم في إنتشار
العربية وفي حفظ بقائها وأنه أثر أيضا في توسيع المادة اللغوية بما أشاع من ألفاظ دينية وفقهية
لم تكن تستخدم من قبل بهذا االستخدام الخاص.
وتظهر كذ لك آثار اإلسالم في الشعر بتخلصه من الغرابة وتأثره بالقصص القرآني وروحه
مثل قول النابغة الجعدي :
من لم يقلها فنفسه ظلما الحمد هلل الذي ال شريك له
وفي الليل نهارا يفرج الظلما المولج الليل في النهار
كما كانت معاني األلفاظ في الشعر مليئة بالروح اإلسالمي نستطيع أن نرد معظم معانيها إلى
القرآن الكريم ومن حيث األغراض فاإلسالم أبطل ما كان عليه الشعر مما يخالف الدين كالغزل
الصريح وزاد غرضا جديدا فيه كالدعوة إلى اإلسالم والذود عنه والدفع عن خصومه .وتتجلى
مثل هذه السمات اإلسالمية في الخطابة والحكم واألمثال والكتابة مما د ّل على مدى تأثير اإلسالم
على اللغة العربية مثل إبطال النثر لكل الخرفات كسجع الكهان .
من خالل ما سبق يتبين لنا أن اإلسالم هذّب اللغة العربية بألفظ ومعان ثرية ويخلصها مما
يحولها من لغة قومية قطرية إلى لغة دين عالمية
ال توافقه الشريعة اإلسالمية أضف إلى ذلك أنه ّ
ومن التعبير بم حتويات حياة ضيقة إلى استيعاب مجاالت حضارة واسعة ومن االنزواء في شبه
جزيرة العرب إلى االنتشار في أنحاء الكون حيث إن مشارق األرض ومغاربها تتفق على سيادتها
في العالم ال من حيث أنها لغة أنزل هللا بها القرآن فقط بل مما اشتملت عليه من قيم لم تتحق في
غيرها من اللغات .فهل تفتخرون بها كما افتخر بها العرب وخاصة الرسول صلى هللا عليه وسلم؟