Professional Documents
Culture Documents
أبو الحسن الأشعري- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع
أبو الحسن الأشعري- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع
أبو الحسن الأشعري- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع
تأليف
الشيخ اإلمام أبي الحسن علي بن إسماعيل األشعري
المتوفي سنة 423هـ
وفي آخره
رسالة في استحسان الخوض في علم الكالم
للمصنف
الفهرس
المقدمة
ترجمة أبو الحسن األشعري
[ خطبة الكتاب ]
المسائل
ص َار )) ] ص ُار َو ُه َو ُي ْد ِر ُ
ك األ َْب َ [ قوله تعالى (( :ال تُ ْد ِرُكهُ األ َْب َ
[ لو جاز لزاعم أن يرى القديم ] .
[ خير الخير ]
[ معنى قوله تعالى (( :وما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطالً )) ]
[ تسمية القدرية ]
المقدمة
1
قال النبي صلى اهلل عليه وسلم (( :العلماء أمناء الرسل ))
قيــل :مــن االت العلــم شــيخ فتــاا أي ألقفــال القلــوب وهــو الــذي كلمــت أهليتــه واشــتهرت صــيانته
وطــول ومــان لــه فــي العلــوم الشــرعية تمــام االطــالع ولــه مــع مــن يوكــق بــه مــن مشــايخ عصـره ككـرة بحـ
اجتمـاع يفيــد الـتفهم والتعلــيم ويعمــل الطالـب بالتأديــب يوضـ ،لهالعبــارة ويجلــي لـه اإلشــارة ويجلــو
م ـرآة قلبــه بلطــائف المعــارف الــرواردة مــن فضــل اهلل تعــالى مقالــه ألن فــت ،كــل واحــد ونــوره علــى حســب
عال جسيم وقد ألف العلماء فـي بيـان آدابهـا متبوعه ونوره غير خاف أن المشيخة شأنها عظيم وأمرها ٍ
الرسائل العديدة .
والشيخ بفت ،الشين المعجمة لغة :هو من استبان فيه الشيب .
وفي العرف الخاص :هو الراسخ في علوم الشرع الكالكة :اإليمان الذي هو مادة علم التوحيد واإلسـالم
الذي هو مادة علم الفقه واإلحسان الذي هو مادة علم المطلوب في علم السلوك والحقيقة .
إن الشــيخ العلــم المتبحــر الربــاني المربــي المهــذب المرشــد طبيــب شــاف ل ـ رواا بمــا علمــه اهلل مــن فيضــه
الرحماني .
هكذا هي حال شيخنا اإلمام األشعري فللوهلة األولى يبـدو موقـف األشـعري متناقضـاً وفـي الحقيقـة هـو
موقف معتدل ودقيق .
إن مفهوم خالق آخر عدا اهلل عند األشعري هو عبارة عن إشراك باهلل وحد لقدرته الكاملة .
في دعواهم أن اإلنسان ال يؤدي أي دور في عملية الفعل الخلقي لكنه مع هذا فهو يخالف أهل الحدي
إذ حــاول فــي نظريتــه ((الكســب)) أو ((اكتســاب الج ـزاء)) أو (( العقــاب علــى العمــل المجتــرا )) أن
يجد مخرجاً من معضلة المسؤولية دون أن يضحي بقدرة اهلل المطلقة .
هــو محــور الفعــل (( المكتســب)) أو موضــوعه يصــب ،مسـؤالً عنــه بينمــا هــو ذلــك اإلنســان مــن حيـ
غير مسؤول قطعاً عن الفعل اإلضطراري .
( )4أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ( )477 : 4الشجري في األمالي ( )57 : 4المتقي الهندي
في كنز العمال ( )27962ابن عراق في تنزيه الشريعة ( )73 : 2الفتني في تذكرة الموضوعات ()23
العجلوني في كشف الخفا ( )442السيوطي في الآللئ المصنوعة ( )443 : 4العراقي في المغني عن حمل
( )4655ابن الجوزي في الموضوعات ()254 :4 األسفار ( )57 : 4ابن أبي حاتم الرازي في علل الحدي
.
إ ن أهم ما في ((إصالا)) األشعري يكمن في استعداده لالستفادة من أسلوب المعتزلة الجدلي كذلك فـي
وسائر خصوم العقليين . التلطيف من حدة مواقف أهل الحدي
يمتــاز (( كتــاب اللمــع فــي الــرد علــى أهــل الزيــغ والبــدع )) للشــيخ اإلمــام أبــي الحســن علــي بــن إســماعيل
األشعري بأسلوبه الفلسفي الجزل وتسلسله المنطقي وقوة حجته .
إن أبا حسن األشعري فـي هـذا الكتـاب (( اللمـع فـي الـرد علـى أهـل الزيـغ والبـدع )) يحـاور المعتزلـة حـوا اًر
هادئاً يفند فيه أفكارهم ويدحض نظرياتهم ويعريها من منهجيتها ومصداقيتها .
لذا يظهر المعتزلة في هذا الكتاب وكأنهم بحاجة إلى إعادة النظر في أفكارهم ومبادئهم ونظرياتهم .
تناول في الباب األول الكالم في وجود الصانع وصفاته والباب الكاني الكالم في القرآن واإلرادة والباب
الكــالم فــي اإلرادة وأنهــا تعــم ســائر المحــدكات والبــاب ال اربــع الك ـالم فــي الرؤيــة والبــاب الخــامس الكالـ
الكالم في القـدر والبـاب السـادس الكـالم فـي االسـتطاعة والبـاب السـابع الكـالم فـي التعـديل والتجـوير
والباب الكامن الكالم في اإليمان والباب التاسع الكالم في الخاص والعـام والوعـد والوعيـد والبـاب
العاشر الكالمفي اإلمامة .
وقد ختم الكتاب برسالة في استحسان الخوض في علـم الكـالم واسـناد نقلـة المـتن وقـول منكـري البحـ
والنظر فـي أصـول الـدين والنظر في أصول الدين .وأورد في آخره إجابات رد فيها على منكرين البح
.
أما ماقمت به من عمل في هذا الكتاب فهو ضبط النص وترتيب فقراته وعنونة فقراته .
كمــا قــدمت لــه وترجمــت لمؤلفــه اإلمــام االشــيخ أبــي الحســن األشــعري ترجمــة وافيــة ذكــرت فيهــا نســبه
ومولده ونشأته ووفاته وأرزاقه وأساتذته ومصنفاته العديدة .
ترجمته
أبو الحسن األشعري علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بـن عبـد اهلل بـن موسـى
صـاحب رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم ؛ هـو 2
بن بالل بن أبي بردة عـامر بـن أبـي موسـى األشـعري
صاحب األصول والقائم بنصرة مذهب السـنة واليـه تنسـب الطائفـة األشـعرية فهـو بـذلك مؤسـس مـذهب
األشاعرة كان من األئمة المتكلمين المجتهدين .
مولده ونشأته
ولد سنة 255هجرية 783 /م في البصرة وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم كم رجع وجاهر بخالفهم
وقد بلغ األربعين من العمر .
فما قيل (( :إن النبي صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم ظهر له في المنام موع اًز إليه (( :ارع أمتي ))
كان من األ شعري إال أن اعتلى منبر المسجد في البصرة وأعلن ارتداده وعزمه على التشهير بفضائ،
3
المعتزلة ومعايبهم ))
قال ابن خلكان في وفيات األعيان (( :كان أبو الحسن األشعري أوالً معتزلياً كم تاب من القول بالعدل
و رقي كرسياً ونادى بأعلى صوته :من عرفني وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة
كنت أقول بخلق القرآن وأن اهلل ال أنا فالن بن فالن ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي فقد عرفني
لالستزادة يراجع :طبقات الشافعية ( )24236المقريزي ( ) 469 :2ابن خلكان في وفيان األعيان ( ) 239 : 4ابن ككير في 1
هو عبد اهلل بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهير بن 2
األشعر أبو موسى األشعري من بني األشعر من قحطان صحابي من الشجعان الوالة الفاتحين أحد الحكمين اللذين رضي
بهما معاوية وعلي بعد حرب صفين ولد في زبيد باليمن سنة 4ق .هـ قدم مكة عند ظهور اإلسالم فأسلم وهاجر إلى أرض
الحبشة كم استعمله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على زبيد وعدن واله عمر بن الخطاب البصرة سنة 48هـ افتت ،أصبهان
واألهواز ولما ولي عكمان أقره عليها كم عزله فانتقل إلى الكوفة فطلب أهلها من عكمان توليته عليهم فواله فأقام بها إلى أن
قتل عكمان فأقره علي كم كانت وقعة الجمل وأرسل علي يدعو أهل الكوفة لينصروه فأمرهم أبو موسى بالقعود في الفتنة فعزله
علي فأقام إلى أن كان التحكيم وخدعه عمرو بن العاص فارتد أبو موسى إلى الكوفة فتوفي سنة 33هـ كان أحسن الصحابة
(( :سيد الفوارس أبو موسى )) .لالستزادة راجع :تهذيب الكمال ج/ 2 صوتاً في التالوة خفيف الجسم قصي اًر وفي الحدي
ص 823تهذيب التهذيب ج / 6ص 425تقريب التهذيب ج / 4ص 334خالصة تهذيب الكمال ج / 2ص 79الكاشف ج/ 2
ص 449تاريخ البخاري الكبير ج / 6ص 22الجرا والتعديل ج/ 6ص 447الكقات ج/ 4ص 224التجريد ج / 4ص445
اإلصابة ج/3ص 244اإلستيعاب ج / 4ص 589الوافي بالوفيات ج / 48ص 358سير األعالم ج / 2ص 475صفة
الصفوة ج / 4ص 226طبقات ابن سعد ج / 3ص 89غاية النهاية ج / 4ص 332حلية األولياء ج / 4ص . 265
ماجد فخري تاريخ الفلسفة اإلسالمية ص . 279 3
مخرج معتقد للرد على المعتزلة وأنا تائب مقلع تراه األبصار و أن أفعال الشر أنا أفعلها
لفضائحهم ومعايبهم )). 1
قال ابن خلكان في وفيات األعيان عن أبي بكر الصيرفي (( :كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى
أظهر اهلل األشعري فحجرهم في أقماع السمسم )). 2
وفاته
وباب البصرة .هذا ما ذكره ابن الهمذاني في (( توفي ببغداد سنة 423هـ 945 /م .ودفن بين الكرخ
ذيل تاريخ الطبري )) .
قال ا بن خلكان في وفيات األعيان (( :ودفن في مشروع الزوايا في تربة إلى جانبها مسجد وبالقرب منه
حمام وهو يسار المار من السوق إلى دجلة )).3
أرزاقه
قال ابن خلكان في وفيات األعيان عن ابن الخطيب (( :وكان يأكل من غلة ضعيفة وقفها جده بالل بن
أبي بردة ابن أبي موسى على عقبه وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهماً )). 4
أساتذته
الفقيه الشافعي في جامع كان أبو الحسن األشعري يجلس أيام الجمع في حلقة أبي إسحاق المروزي
المنصور ببغداد ويتعلم منه ويتتلمذ عليه لكنه كان دائم إعمال الفكر واالجتهاد والتأويل .
الجبائي
درس أبو حسن األشعري علم الكالم على يد الجبائي رئيس معتزلة البصرة .
مات ل شعري مناظرة مع الجبائي سأل فيها التلميذ أستاذه :ما حال كالكة إخوة في الحياة اآلخرة
أحدهم على اإليمان وكانيهم على الفسق وكالكهم قبل بلوغ سن الرشد .
بمنزلة بين المنزلتين . يجيب األستاذ :يلحق األخ الصال ،بالنعيم والفاسق بالجحيم والكال
أن يلحق بأخيه األول في النعيم ؟ فيسأل األشعري كانياً :ماذا لو أراد األخ الكال
فيجيب الجبائي :ال يؤذن له ألن أخاه األول لحق بالنعيم بسبب طاعاته الككيرة .
. أنه لو أبقاه اهلل الختار حياة البر فماذا يحد فيقول األشعري :فإذا احتج األخ الكال
فلم راعيت لقد علمت حالي أيضاً فيقول األشعري :لو صاا األخ الفاسق قائالً :يا إله العالمين
مصلحته دون مصلحتي ؟ فبماذا يجيب ؟
عندها عجز الجبائي عن اإلجابة عما عسى أن يكون رد اهلل على هذه االحتجاجات .
مذهبه
علع هذه المناظرة السالفة الذكر ما دفع األشعري إلى القول بأن من حق اهلل وحده أن يدبر شؤون البشر
كما يشاء .
خالفاً لدعوى المعتزلة الذين شددوا على حرية العبد وأن من واجب (( العبد )) اإلطاعة دون استفسار
ومسؤوليته ووصفوه بأنه خالق ألفعاله .
مصنفاته
وبه أستعين
الحمــد هلل ذي الجــود والكنــاء والمجــد والســناء والعــز والكبريــاء أحمــده علــى س ـوابغ النعمــاء وجزيــل العطــاء
وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له عنده اللقاء وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم األنبياء .
أمــا بعــد فإنــك ســألتني أن أصــنف لــك كتابـاً مختصـ اًر أبــين فيــه جمـالً توضــ ،الحــق وتــدمغ الباطــل النــاطق
بالظلوف فرأيت إسعافك بذلك رحمك وأغدق عليك اهلل الخيرات وأعانك على الخبر بالمطلوبات .
الباب األول
مسألة
إن ســأل ســائل فقــال :مــا الــدليل علــى أن للخلــق صــانعاً صــنعه ومــدب اًر دب ـره .قيــل الــدليل علــى ذلــك أن
اإلنســان الــذي هــو فــي غايــة الكمــال والتمــام كــان نطفــة كــم علقــة كــم مضــغة كــم لحمـاً وعظمـاً ودومـاً .وقــد
علمنـا أنــه لــم ينقـل نفســه مــن حــال إلـى حــال ألنــا نـراه فـي حــال كمــال قوتــه وتمـام عقلــه ال يقــدر أن يحــد
لنفسه سمعاً وال بص اًر وال أن يخلق لنفسه جارحة يدل ذلك علـى أنـه فـي حـال ضـعفه ونقصـانه عـن فعـل
ذلك أعجز ألن ما قدر عليه في حال النقصان فهـو فـي حـال الكمـال عليـه أقـدر ومـا عجـز عنـه فـي حـال
الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز .ورأيناه طفالً كم شاباً كم كهـالً كـم شـيخاً وقـد علمنـا أنـه لـم ينقـل
نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم ألن اإلنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهـرم ويردهـا
إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ما وصفنا على أنه ليس هو الذي ينقل نفسه في هـذه األحـوال وأن لـه
ناقالً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه ألنه ال يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقـل وال
مدبر .
مما يبين ذلك أن القطن ال يجوز أن يتحول غزالً مفتوالً كم كوباً منسوجاً بغير ناسج وال صـانع والمـدبر
ومــن اتخــذ قطنـاً كــم انتظــر أن يصــير غـزالً مفتـوالً كــم كوبـاً منســوجاً بغيــر صــانع وال ناســج كــان عــن معقــول
خارجـاً وفـي الجهـل والجـاً .وكـذلك مـن قصـد إلـى بريـة لـم يجـد فيهـا قصـ اًر مبنيـاً فـانتظر أن يتحـول الطــين
إلى حالة اآلجر وينتضد بعضه على بعض بغير صانع وال بان كان جاهالً .
واذا كان تحول النطفة علقة كم مضغة كم لحماً ودماً وعظماً أعظـم فـي األعجوبـة كـان أولـى أن يـدل علـى
صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال .
مسألة
فــإن قــال قائــل :لــم زعمــتم أن البــاري ســبحانه ال يشــبه المخلوقــات .قيــل ألنــه لــو أشــبهها لكــان حكمــه فــي
حكمهــا ولــو أشــبهها لــم يخــل مــن أيشــبهها مــن كــل الجهــات أو مــن بعضــها فــإن أشــبهها مــن جميــع الحــد
الجهات كان محدكاً مكلها من جميع الجهات .
لم يزل قديماً وقد قال اهلل أشبهها ويستحيل أن يكون المحد وان أشبهها من بعضها كان محدكاً من حي
[ تعــالى (( :لــيس كمكلــه شــيء )) [ الشــورى ] 44 :وقــال تعــالى (( :ولــم يكــن لــه كف ـواً أحــد ))
اإلخالص . ] 3 :
مسألة
فــإن قــال قائــل :لــم قلــتم أن صــانع األشــياء واحــد .قيــل لــه ألن االكنــين ال يجــري تــدبيرهما علــى نظــام وال
يتســق علــى إحكــام وال بــد أن يلحقهمــا العجــز أو واحــداً منهمــا ألن أحــدهما إذا أراد أن يحيــي إنســاناً وأراد
اآلخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً أو ال يتم مرادها أو يتم مراد أحدهما دون اآلخر .
ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً ألنه يستحيل أن يكون الجسم حياً ميتاً في حال واحدة وان لم يـتم مرادهمـا
جميعاً وجب عجزهما والعاجز ال يكون إلهاً وال قديماً .
وان تم مراد أحدهما دون اآلخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما والعاجز ال يكون إلهاً وال قديماً .
مسألة
فإن قال قائل :ما الدليل على جواز إعـادة الخلـق .قيـل لـه الـدليل علـى ذلـك أن اهلل سـبحانه خلقـه أوالً ال
ب لََنـا َمـكَالً
ض َـر َ
علـى مكـال سـبق فـإذا خلقــه أوالً لـم يعيبـه أن يخلقـه خلقـاً آخـر وقـد قـال عــز وجـل َ (( :و َ
َها أ ََّو َل م َّـرٍة و ُهـو بِ ُك خـل َخ ْلـ ٍ ِ يم ( )87قُ ْل ُي ْحيِيهَـا الَّ ِـذي أ َ ِ َوَن ِس َي َخ ْلقَهُ قَ َ
ـيم
ق َعل ٌ َ َ َ َنشـأ َ ال َمن ُي ْحيِي العظَ َام َوِه َي َرِم ٌ
( [ )) )89يس . ] 89 - 87 :فجعل النشأة األولى دلـيالً علـى جـواز النشـأة اآلخـرة ألنهـا فـي معناهـا كـم
ون ( [ )) )75يــس ] 75 :فجعــل ضـ ِـر َنــا اًر فَـِإ َذا أَنــتُم خم ْنــهُ تُوِقـ ُـد َ ـج ِر األ ْ
َخ َ قــال (( :الَّـ ِـذي َج َع ـ َل لَ ُكــم خمـ َـن َّ
الشـ َ
ظهور النار على حرها ويبسها من الشجر األخضر على ندارته ورطوبته دليالً على جواز خلقه الحياة في
الســمو ِ
ات الرمــة الباليــة والعظــام النخ ـرة وعلــى قدرتــه علــى خلــق مكلــه كــم قــال (( :أ ََولَـ ْـي َس الَّـ ِـذي َخلَـ َ
ـق َّ َ َ
ق ِمكْلَهُم )) [ يس ] 74 :وهذا هو المعول عليـه فـي الحجـاج فـي جـواز إعـادة
ض بِقَ ِاد ٍر َعلَى أَن َي ْخلُ ََواأل َْر َ
الخلق .
وهذا هو الـدليل أيضـاً علـى صـحة الحجـاج والنظـر ألن اهلل تعـالى حكـم فـي الشـيء بحكـم مكلـه وجعـل
ســبيل النظيــر ومج ـراه مجــرى نظي ـره وقــد قــال تعــالى (( :اهلل يبــدؤا الخلــق كــم يعيــده )) [ الــروم ]44 :
وقوله تعالى (( :وهو الذي يبدؤا الخلق كم يعيده وهو أهون عليه )) [ الروم ] 28 :يريد وهو هين عليه
فيجعل اإلبتداء كاإلعادة .
فـإن قـال قائـل :زيـدوني وضــوحاً فـي صـحة النظـر .قيــل لـه قـول اهلل مخبـ اًر عــن إبـراهيم عليـه السـالم لمــا
ـين (َ )85فلَ َّمــا َأرَى القَ َمـ َـر َب ِازغـاً قَــا َل َهـ َذا َرخبــي ُحـ ُّ ِ ِ رأى الكوكــب (( :قَــا َل َهـ َذا رخبــي َفلَ َّمــا أَ َفـ َل قَــا َل الَ أ ِ
ـب اآلفلـ َ َ
خ ِ ِ َفلَ َّما أَ َف َل قَا َل لَئِن لَّ ْم َي ْه ِدنِي َربخي ألَ ُك َ
ين ( [ )) )88األنعـام ] 88 - 85 :فجمـع عليـه ـون َّن م َـن القَ ْـوم الضَّـال َ
السـالم القمـر والكواكـب فــي أنـه ال يجـوز أن يكـون واحــداً منهمـا إلهـاً ربـاً الجتماعهمــا فـي األفـول وهـذا هــو
النظر الذي ينكره المنكرون وينحرف عنه المنحرفون .
مسألة
فإن قال قائل :لم أنكرتم أن يكون اهلل تعـالى جسـماً ؟ قيـل لـه :أنكرنـا ذلـك ألنـه ال يخلـو أن يكـون القائـل
لذلك أراد ما أنكرتم أن يكون طويالً عريضاً مجتمعاً أو أن يكون أراد تسميته جسماً وان لم يكن طويالً
عريضاً مجتمعاً كما يقال ذلك ل جسام فيما بيننا فهذا ال يجوز ألن المجتمع ال يكون شيئاً واحداً .
ألن أقل قليل االجتماع ال يكون إال بين شيئين ألن الشيء الواحد ال يكون لنفسه مجامعـاً وقـد بينـا آنفـاً أن
اهلل عز وجل شيء واحد فبطل بذلك أن يكون مجتمعـاً .وان أراد لـم ال تسـمونه جسـماً وان لـم يكـن طـويالً
عريضاً مجتمعاً .
فاألسماء ليست إلينا وال يجوز لنا أن نسمي اهلل تعالى باسم لم يسـم بـه نفسـه وال سـماه بـه رسـوله وال أجمـع
المسلمون عليه وال على معناه .
مسألة
فإن قال قائل :لم قلتم أن اهلل تع الى عـالم ؟ قيـل لـه :ألن األفعـال المحكمـة ال تتسـق فـي الحكمـة إال مـن
عالم وذلك أنه ال يجوز أن يحوك الديباج بالنقاوير ويصنع دقـائق الصـناعة مـن ال يحسـن ذلـك وال يعلمـه
.
فلمــا رأينــا اإلنســان علــى مــا فيــه مــن اتســاق الحكمــة كالحيــاة التــي ركبهــا اهلل فيــه والســمع والبصــر ومجــاري
الطعــام والشـراب وانقســامه فيــه ومــا هــو عليــه مــن كمالــه وتمامــه والفلــك ومــا فيــه مــن شمســه وقمـره وكواكبــه
ومجاريها دل ذلك على أن الذي صنع ما ذكرناه لم يكن يصنعه إال وهو عالم بكيفيته وكنهه .
من حكـم الحيـوان وتـدابيرهم الصنائع الحكمية ال من عالم لم ندر لعل جميع ما يحد ولو جاز أن تحد
إال منهم وهم غير عالمين فلما استحال ذلك دل علـى أن الصـنائع المحكمـة ال تحـد وصنائعهم يحد
من عالم .
الصــنائع إال عمـن قـادر حـي ألنــه لـو جـاز حـدوكها ممــن لـيس بقـادر وال حـي لــم كـذلك ال يجـوز أن تحـد
ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر مـنهم وهـم عجـزة مـوتى فلمـا اسـتحال ذلـك دلـت الصـنائع علـى
أن اهلل تعالى حي قادر .
مسألة
فـإن قـال قائـل :لـم قلـتم أن اهلل ســميع بصـير ؟ قيـل لـه :ألن الحـي إذا لــم يكـن موصـوفاً ب فـة تمنعـه مــن
إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت فهو سميع بصير .
فلما كان اهلل تعالى حياً ال يجـوز عليـه اآلفـات مـن الصـمم والعمـى وغيـر ذلـك إذا كانـت اآلفـات تـدل علـى
حدو من جازت عليه ص ،أنه سميع بصير .
مسألة
فإن قال أتقولون إن اهلل تعالى لم يزل عالماً قاد اًر سميعاً بصي اًر .قيل له :كذلك نقول .
فإن قال :فما الدليل على ذلك ؟ قيل له :الدليل على ذلك أن الحي إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضد
العلم من الجهل أو الشك أو اآلفات .
فلو كان الباري تعالى لم يزل حياً غيـر عـالم لكـان موصـوفاً بضـد العلـم ( ولـو كـان موصـوفاً بضـد العلـم )
العلم من الجهل أو الشك واآلفات ( فلو كان الباري تعالى لم يزل حياً غير عالم لكان موصوفاً بضد
).
لو كان للم يزل موصوفاً بضد العلم السـتحال أن يعلـم ألن ضـد العلـم لـو كـان قـديماً السـتحال أن يبطـل
واذا اســتحال أن يبطــل ذلــك لــم يجــز أن يصــنع الصــنائع الحكميــة فلمــا صــنعها ودلــت علــى أنــه عــالم صــ،
وكبت أنه لم يزل عالماً إذ قد استحال أن يكون لم يزل بضد العلم موصوفاً .
وكذلك لو كان لم يزل حياً غير قادر لوجب أن يكون لـم يـزل عـاج اًز موصـوفاً بضـد القـدرة ولـو كـان عجـزه
األفعال منه . قديماً الستحال أن يقدر وأن تحد
وكذلك لو كان لم يزل حياً غير سميع وال بصير لكان لم يزل موصوفاً بضد السـمع مـن الصـمم واآلفـات
فـدل مـا وبضد البصر من العمى واآلفات ومحال جواز اآلفات على الباري ألنها من سمات الحـد
قلناه على أن اهلل تعالى لم يزل عالماً قاد اًر سميعاً بصي اًر .
مسألة
فإن قال قائل لم قلتم إن للباري تعـالى علمـاً بـه علـم ؟ قيـل لـه :ألن الصـنائع الحكميـة كمـا ال تقـع منـا إال
منا إال من ذي علم فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منـه منـا لـم تـدل من عالم كذلك ال تحد
على أن من ظهرت منه منا فهو عالم .
فلو دلت على أن الباري تعالى عالم قياساً علـى داللتهـا أنـا علمـاء ولـم تـدل علـى أن لـه علمـاً قياسـياً علـى
داللتها على أن لنا علماً لجاز لزاعم أن يزعم أنها تدل على علمنـا وال تـدل علـى أنـا علمـاء .واذا لـم يجـز
هذا لم يجزه ما قاله هذا القائل .
فإن قال :فما أنكرتم أن ال تدل األفعـال الحكميـة علـى علـم العـالم منـا كمـا دلـت علـى أنـه عـالم ألنـه لـيس
معنى العالم منا أن له علماً ألنه قد يعلم العالم من اعالماً من ال يعلم أن له علماً ؟ قيل له :إن جاز لـك
أن تزعم هذا جاز لغيرك أن يزعم أن األفعال الحكميـة تـدل علـى أن لـي علمـاً بهـا وال تـدل علـى أنـي عـالم
ألنــه لــيس معنــى العــالم أن لــه علم ـاً ألنــه قــد يعلــم اإلنســان منــا أن لــه علمـاً مــن ال يعلمــه عالمـاً وأيض ـاً ال
شيء .
وأيضاً هذه الدعوى عندي فاسدة وذلك أن معنى العالم عندي أن له علماً ومن لم يعلم لزيد علماً لـم يعلمـه
عالماً .
فإن قال قائـل :فمـا أنكـرتم مـن أن يـدل الفعـل الحكمـي علـى أن لإلنسـان علمـاً هـو غيـره كمـا قلـتم أن يـدل
على علم ؟ قيل له :ليس إذا دل الفعل الحكمي على أن لإلنسان علمـاً دل علـى أن غيـره كمـا لـيس إذا
دل على أنه عالم دل على أنه متغاير على وجه من الوجوه .
وأيضاً فإن معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين لآلخـر علـى وجـه مـن الوجـوه فلمـا دلـت الداللـة علـى
قدم الباري تعالى وعلمه استحال أن يكونا غيرين .
وأيضاً فلو جاز لزاعم أن يـزعم أن الفعـل الحكمـي يـدل علـى أن العلـم علـم كـم يعلـم أنـه لعـالم بعـد ذلـك
واذا لم يجز هذا وتكافأ القوالن ووجب أن تكون الداللة على أن العالم عالم داللة على العلم .
فإن قال قائل :من أنه إنما يدل الفعل الحكمي على علم العالم ألنه ممن يجوز أن يموت ويجهل .
قيـل لـه :لـو جـاز هـذا لقائلــه لجـاز لـزاعم أن يـزعم أن الفعـل الحكمـي يــدل علـى أن العـالم عـالم ألنـه ممــن
يجوز أن يموت ويجهل .
وممــا يبطــل قــول مــن قــال إن داللــة الفعــل الحكمــي علــى علــم العــالم منــا داللــة علــى أنــه غيــر العــالم وأنــه
فوجـب أن تكـون الداللـة علـى أن العـالم عـالم أن العالم لعلم مـا كـان عالمـاً ال للغيريـة وال للحـد محد
لوجـود غيـر لـيس بعلـم ومحـد داللة على العلم .ولم يكن العلـم علمـاً ألنـه غيـر العـالم وال ألنـه محـد
أو أنه غير العالم . ليس بعلم فلم يجب أن تكون الداللة على أن العلم علم داللة على أنه محد
وأيضاً فلو جاز لـزاعم أن يـزعم أن الداللـة علـى أن العلـم علـم داللـة علـى حدكـه أو داللـة علـى أنـه غيـر
العالم لجاز لزاعم أن يزعم أن الداللة على أن العالم عالم داللة على حدكه وأنه متغاير في ذاته .
والدليل على أن هلل تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن هلل تعالى علماً .
وقد قال :اهلل جل ذكره (( :أنزله بعلمه )) [ النسـاء ] 455 :وقـال (( ومـا تحمـل مـن أنكـى وال تضـع إال
بعلمه )) [ فاطر ] 44 :فكبـت العلـم لنفسـه وقـال تعـالى (( :أولـم يـروا أن اهلل الـذي خلقهـم هـو أشـد مـنهم
قوة )) [ فصلت ] 46 :فكبت القوة لنفسه .
ومما يدل علـى أن اهلل تعـالى عـالم بعلـم أنـه ال يخلـو أن يكـون اهلل عالمـاً بنفسـه أو بعلـم يسـتحيل أن يكـون
هـو نفسـه .فــإن كـان عالمـاً بنفســه كانـت نفســه علمـاً ألن قـائالً لــو قـال :إن اهلل تعـالى عــالم بمعنـى هــو
غيـره لوجــب عليــه أن يكــون ذلــك المعنــى علمـاً ويســتحيل أن يكــون العلــم عالمـاً أو العــالم علمـاً أو
يكون اهلل تعالى بمعنى الصفات .
أال تـرى أن الطريـق الـذي بـه يعلـن أن العـالم علـم أن العـالم بـه علـم ألن قـدرة اإلنسـان التـي ال يعلـم بهــا ال
يجــوز أن تكــون علم ـاً فلمــا اســتحال أن يكــون البــاري تعــالى علم ـاً اســتحال أن يكــون عالم ـاً لنفســه فــإذ
استحال ذلك ص ،أنه عالم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه .
فإن قال قائل :ما أنكرتم أن يكون الباري سبحانه عالماً ال بنفسه وال بمعنى يستحيل أن يكون هو نفسه .
قيل له :لو جاز هذا لجاز أن يكون قولنا عالم لم يرجع به إلى نفسه وال إلى معنى ولم يكبت بـه نفسـه وال
معنى يستحيل أن يكون هو نفسه واذا لم يجز هذا بطل ما قالوه .
وهذا الدليل يدل على إكبات صفات اهلل تعالى لذاته كلها من الحياة والقدرة والسمع والبصـر وسـائر صـفات
الذات .
الباب الكاني
إن قال قائل :لم قلتم أن اهلل تعالى لم يزل متكلماً وأن كالم اهلل تعالى غير مخلوق ؟
قيـل لـه :قلنـا ذلـك ألن اهلل تعــالى قـال (( :إنمـا قولنـا لش ٍ
ـيء إذا أردنــه أن نقـول لـه كـن فيكــون ([ )) )35
النحل ] 35 :فلو كان القرآن مخلوقـاً لكـان اهلل تعـالى قـائالً لـه :كـن والقـرآن قولـه ويسـتحيل أن يكـون
كالقول فـي القـول قوله مقوالً له ألن هذا يوجب قوالً كانياً والقول في القول الكاني وفي تعلقه بقول كال
األول وتعلقه بقول ٍ
كان وهذا يقتضي ماال نهايـة لـه مـن األقـوال وذلـك فاسـد واذا فسـد ذلـك فسـد أن يكـون
القرآن مخلوقاً .
ولــو جــاز أن يقــول لقولـ ه لجــاز أن يريــد إرادتــه وذلــك فاســد عنــدنا وعنــدهم إذا بطــل هــذا اســتحال أن يكــون
مخلوقاً .
فإن قال قائل :ما أنكرتم أن يكون معنى قوله تعالى (( :أن نقول له كـن فيكـون ( [ )) )35النحـل 35 :
] أي نكونه فيكون من غير أن نقول له في الحقسيقة ( وال أن تقول له في الحقيقة ) شيئاً .قيل لـه :قـال
لشيء إذا أردنه أن نقول له كن فيكون ( [ )) )35النحل . ] 35 :ٍ اهلل تعالى (( :إنما قولنا
فلو جاز لقائل أن يقول :لم يكـن اهلل تعـالى قـائالً لشـيء فـي الحقيقـة كـن وانمـا المعنـى أن يكونـه فيكـون
لجــاز لـزاعم أن يــزعم أن اهلل تعــالى ال يريــد شــيئاً فــي الحقيقــة وانمــا معنــى أردنــاه فعلنــاه مــن غيــر أن يكــون
إرادة في الحقيقة على وجه من الوجوه .
فـإن قــال قائــل :إنــه يكــون معنـى أن اهلل تعــالى أراد الشــيء أنــه فعلــه وهــو مريـد لــه فــي الحقيقــة بمعنــى أنــه
فاعل له .
قيل له :لو جاز هذا لقائله لجاز لزاعم أن يزعم أن اهلل عـز وجـل قائـل للشـيء فـي الحقيقـة كـن ويـزعم أن
معنــى ذلــك أن يكونــه فيكبــت هلل تعــالى قـوالً فــي الحقيقــة هــو المقــول لــه كمــا زعمــتم أن هلل تعــالى إرادة فــي
الحقيقـة هــي مـراده ولــو جــاز لـزاعم أن يــزعم هـذا لجــاز آلخــر أن يقــول إن علــم اهلل تعــالى بالشــيء هــو
فعله له .
فإن قال قائل :أليس قد قال اهلل تعالى (( :جدار يريد أن ينقض )) [الكهف ] 88 :وال إرادة للجدار فـي
والمعنى أن ينقض . الحقيقة وانما قال يريد توسعاً
قيــل لــه :نعــم .فــإن قــال :فمــا أنك ـرتم أن يكــون معنــى (( أن نقــول لــه كــن )) [ النحــل ] 35 :أي نكونــه
فيكون .
قيـل لـه :الفـرق بـين ذلـك أن الجمـاد يسـتحيل مـع جماديتـه أن يكـون مريـداً والبـاري تعـالى فـي الحقيقــة ال
يستحيل عليه أن يريد أو يقول فلذلك لم يكن قوله (( :أن نقول له كن فيكون ( [ )) )35النحل ] 35 :
بمعنى نكونه .
وأيضـاً فلــو كــان قولــه (( ربكــم قــالوا خيـ اًر )) [ النحــل ] 35 :لــيس معنــاه إكبــات قــول لــه وانمــا معنــاه أن
يكونه كما أن قوله (( :جدار يريد أن ينقض )) [ الكهف ] 88 :معتاه أن ينقض لجاز لزاعم أن يزعم
أن قولــه (( :أردنــاه)) فعلنــاه وهــو فــي الحقيقــة ال يريــد فعلــه كمــا أن قولــه (( جــدار يريــد أن يــنقض )) [
الكهف ] 88 :معناه أن ينقض وهذا أولى في الحقيقة القياس .واذا لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه .
ويقال لهم :إذا كان معنى أن اهلل تعالى أراد فعل الشيء أنه فعله ومعنى أراد حركة الشيء أنه حركه
فما أنكـرتم أن يكـون الجمـاد فـي الحقيقـة مريـداً لحركـة نفسـه بمعنـى أنـه متحـرك وأن ال يكـون للبـاري تعـالى
على الجماد مزية في اإل رادة وأن ال يكون له مزية على من وقع فعله وهو غير مريـد لـه ألنـه قـد حصـل
له معنى فاعل كما حصل للباري تعالى معنى فاعل .
فإن قال :فما معنـى قولـه تعـالى (( :قالتـا أتينـا طـ ئعين ( [ )) )44فصـلت ] 44 :قيـل لـه :معنـى ذلـك
أنهما قالتا في الحقيقة (( :أتينا ط ئعين ( [ )) )44فصلت . ] 44 :
وممــا يــدل مــن القيــاس علــى أن اهلل تعــالى لــم يــزل متكلم ـاً أنــه لــو كــان لــم يــزل غيــر مــتكلم وهــو ممــن ال
يستحيل عليه الكالم لكان موصوفاً من أضداد الكالم من السكوت أو اآلفة .
ولــو كــان لــم يــزل موصــوفاً بضــد الكــالم لكــان ضــد الكــالم قــديماً .ولــو كــان ضــد الكــالم قـديماً الســتحال أن
يعدم وأن يتكلم الباري ألن القديم ال يجوز عدمه كما ال يجوز حدوكه فكان يجب أن ال يكون الباري تعالى
قائالً وال آم اًر وال ناهياً على وجه من الوجوه .
وهذا فاسد عندنا وعندهم .واذا فسد هذا ص ،وكبت أن الباري لم يزل متكلماً قائالً .
فإن قال قائل :ولم زعمتم أنه لو كان لم يزل غير متكلم لكان موصوفاً بضد الكالم ؟
قيل له :ألن الحي إذا لـم يكـن موصـوفاً بـالكالم كـان موصـوفاً بضـده كمـا أنـه إذا لـم يكـن موصـوفاً بـالعلم
كان موصوفاً بضده .
وذلك أن الحي فيما بيننا ذلك حكمه ولم تقم داللـة علـى حـي يخلـو مـن الكـالم وأضـداده فـي الغائـب كمـا
لم تقم داللة على حي يخلو من العلم وأضداده حتى يكون ال موصوفاً بأنه عالم وال بضد العلم .
فقد اجتمع األمر فيها أنه مستحيل فيما بيننا حي غير عـالم وال موصـوف بضـد الكـالم وأنـه لـم تقـم علـى
ذلك داللة في الغائب .
فلو جاز أحد األمرين وهو حي غيـر مـتكلم وال موصـوف بضـد الكـالم لجـاز األمـر اآلخـر وهـو حـي غيـر
عالم وال موصوف بضد العلم .
وأيضاً فإنه يستحيل فيما بيننا عالم يوصف بضد العلم مع علمه ومتكلم يوصف بضـد الكـالم مـع كالمـه
فلما اجتمعا في اإلحالة وجب أن يكون من جوز متكلماً في الغائب يوصف بضد الكالم مع كالمه كمن
جوز عالماً في الغائب يوصف بضد العلم مع علمه .
فذلك يجب أيضاً لما استحال فيما بيننا حـي غيـر عـالم وال موصـوف بضـد العلـم وجـب أن يسـتحيل فيمـا
بيننا حي غير متكلم وال موصوف بضد الكالم أن يستحيل ذلك في الغائب ووجب أن يكون من جوز أحـد
األمرين في الغائب كمن جوز األمر اآلخر .
وهذا هو الدليل على أن اهلل تعالى لم يزل مريداً وذلك أن الحي إذا كان غير مريـد لشـيء أصـالً وجـب أن
يكــون موصــوفاً بضــد مــن أضــداد اإلرادات مــن اآلفــات كالســهو والك ارهــة واإلبــاء واآلفــات كمــا وجــب أن
يكون الحي إذا كان غير عالم بشيء أصالً موصوفاً بضد من أضـداد العلـوم مـن اآلفـات كالجهـل والسـهو
والغفلة أو الموت أو ما أشبه ذلك من اآلفات .
فلمــا اســتحال أن يكــون البــاري تعــالى لــم يــزل موصــوفاً بضــد اإلرادة ألن هــذا يوجــب أن ال بربــد شــيئاً علــى
وجه من الوجوه .
وذلك أن ضد اإلرادة إذا كان البار يتعالى لم يزل موصـوفاً بـه يوجـب قدمـه ومحـال عـدم القـديم كمـا محـال
حـدو القــديم فـإذا اســتحال عدمــه وجـب أن ال يريــد البــاري شـيئاً ويقصــد فعلـه علــى وجــه مـن الوجــوه وذلــك
فاسد .واذا فسد هذا ص ،وكبت أن الباري تعالى لم يزل مريداً .
فــإن قــال قائــل :لــم قلــتم إذا كــان مــن لــم يــزل غيــر مــتكلم وال مريــد وجــب أن يكــون موصــوفاً بضــد اإلرداة
والكالم إذا كان ممن ال يستحيل عليه الكالم واإلرادة فما أنكرتم من أن من لم يـزل غيـر فاعـل وجـب أن
يكون موصوفاً بضد الفعل وأن يكون تاركاً فيما لم يزل ؟
قيل له :ال يجـب مـا قلتـه وذلـك أن للكـالم ضـداً لـيس بكـالم ولـإلرادة ضـد لـيس بـإرادة فوجـب لـو كـان
للباري تعالى حياً غير متكلم وال مريد أن يكون موصوفاً بضد الكالم واإلرادة .
وليس للفعل ضد ليس بفعل فيجب بنفي الفعل عن الفعل وجود ضده ألن الموجود إذا لـم يكـن محـدكاً كـان
قديماً والقديم ال يضاد المحدكات .
فلما لم يكن للفعل ضد ليس بفعل لم يجب بنفي الفعل عن اهلل تعالى في أزله إكبات ضد .
ولما كان للكالم ضد ليس بكالم وجب بنفي الكالم عن اهلل تعالى في أزله إكبات ذلك الضد ال محالة .
فإن قال :فيجب إذا كان القديم غير فاعل فيما لم يزل أن يكون عاج اًز أو تاركاً .
قيــل لــه :فلــيس العجــز مضــاداً للفعــل وذلــك أنــه لــيس مــن جــنس مــن أجنــاس الفعــل مــن حركــة وســكون
وغيرهما من سائر األعراض إال وقد يجوز أن يخلقه اهلل مع العجز فعلمنا بذلك أن العجز ال يضـاد الفعـل
ألن األجســام والج ـواهر مــن أفعــال اهلل تعــالى فعلمنــا أن العجــز ال يضــاد الفعــل ألن عجــزي لــو ضــاد
فعلي للحركة لكان تضاد وقوع الحركة من ربي في جسمي .
أال ترى أنه إذا استحال أن أفعل في علماً من الموت استحال أن يفعل ربي في من الموت علماً .
فلما لم يكن العجز مضاداً للفعل وانمـا يضـاد القـدرة وكـان التـرك للشـيء فعـل ضـده فكـان البـاري تعـالى لـم
يزل غير فاعل لشيء على وجه من الوجوه لم يجب بنفي الفعل عنه في أزله عجز وال ترك .
وأيضاً فـإن الحـي إذا كـان غيـر مـتكلم ومريـد وجـب أن يكـون موصـوفاً بضـد اإلرادة والكـالم ولـيس إذا كـان
غيـر فاعــل لشـيء وجــب إكبـات ضــد هـو عجــز أو تــرك إذا كـان عجــز اإلنسـان ال يضــاد فعلـه فلــم يجــب
بنفـي الفعـل عـن اهلل تعــالى فـي أزلـه إكبــات تـرك أو عجـز كمـا وجــب فـي نفـي الكــالم واإلرادة عنـه فـي أزلــه
إكبات أضدادهما .
فإن قال :فيجب بنفي التفضل عنه فيما لم يزل أن يكـون بخـيالً .قيـل لـه :التفضـل هـو مـا للمتفضـل أن
يتفضل به وله أن ال يتفضل به والبخـل إنمـا يجـب بمنـع مسـتحق أسـتحق علـى مـن بخـل والبـاري تعـالى ال
يجب عليه فعل شيء .
فـإن قـال :فيجـب بنفـي العـدل عنـه فـي أزلـه أن يكـون جـائ اًز أو عـاج اًز .قيـل لـه :لـيس يجـب بنفـي العـدل
ضــد هــو عجــز أو جــور ألنــه لــيس مــن جــنس مــن أجنــاس العــدل إال ويجــوز أن يفعلــه اهلل تعــالى فينــا مــع
العجز .فلم يجب بنفي العدل إكبات ضد هو عجز .
ولــم يجــب أيضـاً إكبــات الجــور ألن اإلنســان قــد ال يكــون عــادالً إذا لــم يكــن منــه عــدل كســبه وال فعلــه وال
يكون جائ اًز فليس من نفينا عنه العدل أكبتنا له ضداً هو جور أو عجز إذا كنا قـد ننفـي ذلـك عنـا وال نكبـت
ضداً هو عجز أو جور والحي منا ومن غيرنا إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضد العلم .
وأيضاً فقد ال يكون اإلنسان عادالً وال يكون جائ اًر بجور من جنس العدل فليس يجب بنفي العـدل ضـد هـو
جور كما وجب في الكالم واإلرادة ؛ ألن اإلنسان قد يكون عادالً بالكون في المكان إذا أمـره اهلل تعـالى أن
يكون فيه ويكون في وقت آخر جائ اًر بـالكون فيـه إذا نهـاه اهلل تعـالى عـن الكـون فيـه فيكـون العـدل مـن
جنس الجور ألن الكون في المكان من جنس الكون فيه .
فإن قال :ما أنكرتم إذا لم يكن الباري تعالى محركاً في أزله أن يكون مسكناً .
قيــل لــه :ال يخلــو قولــك إذا لــم يكــن محركـاً أن يكــون مســكناً يعنــي إذا كــان لــم يــزل غيــر محــرك لنفســه أن
يكون مسكناً لها أو يعني إذا لم يكـن محركـاً لجسـم كـان مسـكناً لـه .فـإن عنيـت إن لـم يحـرك نفسـه كـان
مسـكناً لهــا فهــذا خطــأ ألنـه يســتحيل أن يحــرك نفســه .ونحـن لــم نقــل إذا لــم يـتكلم مــن يســتحيل كالمــه كــان
موصوفاً بضد الكالم .
وان عنيت إذا لم يكن محركاً فيما لم يزل لجسم كان مسكناً له فليس مع اهلل تعالى في قدمه أجسـام فيجـب
إذا لم يحركها أن يسكنها .
ومالم يكن موجوداً يستحيل تحركه .فليس إذا لم يحرك ما تستحيل حركته وجب أن يسكنه .
مسألة
فإن قال :القدر منا على الكالم في حال قدرته عليه قد خال من الكالم وأضداده .
قيل له :فهذا ضرب من الخالف ألن القادر منا على الكالم في حال قدرته عليه مـتكلم ال محالـة وسـندل
على ذلك بعد هذا الموضوع من كتابنا .
على أنا نقول له ما أنكرت أن يكون القادر على العلم قد خال من العلم وأضداده فإن قال :القادر علـى
العلم قد خال من العلم وضده اللذين يقدر عليهما وال يخلو من علم آخر أو ضده .
قيــل لــه :فقــل أن القــادر علــى الكــالم وضــده قــد يخلــو منهمــا وال يخلــو مــن كــالم آخــر أو ضــده ال يقــدر
عليهما .
ودليل آخر على أن اهلل تعالى لم يزل متكلماً أن الكالم ال يخلو أن يكون قديماً أو حديكاً .
فــإن كــان محــدكاً لــم يخــل أن يحدكــه اهلل فــي نفســه أو فــي غي ـره فيســتحيل أن يحدكــه فــي نفســه ألنــه لــيس
. بمحل للحواد
ويسـتحيل أن يحدكـه قائمـاً بنفسـه ألنــه صـفة والصــفة ال تقـوم بنفســها ويسـتحيل أن يحدكــه فـي غيـره ألنـه لــو
أحدكه في غيره لوجب أن يشتق ذلك الجسم الذي فيه الكـالم مـن أخـص أوصـاف الكـالم الالزمـة لـه لنفسـه
اسماً وللجملة التي المحل منها اسماً .
فإن كان أخص أوصاف الكالم أنه كالم وجب أن يكون ذلك الجسم متكلماً .وان كان أخص أوصافه أنه
أمر وجب أن يكون ذلك الجسم آم اًر .
وكذلك إن كان أخـص أوصـافه أنـه نهـى وجـب أن يكـون ذلـك الجسـم ناهيـاً .فلمـا اسـتحال أن يـتكلم بكـالم
كالماً في غيره فيكون به متكلماً . اهلل تعالى غيره ويأمر بأمره غيره وينهى بنهيه غيره استحال أن يحد
واذا فسدت الوجوه التي ال يخلو الكالم منها لو كان محدكاً ص ،أنه قديم وأن اهلل تعـالى لـم يـزل بـه متكلمـاً
.
اهلل تعالى فـي غيـره فعـالً وتفضـالً ونعمـة واحسـاناً ورزقـاً فيكـون فـاعالً متفضـالً فإن قال :أفليس قد يحد
في غيره كالم يكون به متكلماً ؟ منعماً محسناً ارزقاً فما أنكرتم أن يحد
قيل له :لو لزم هذا لزم أن يعلم ويقدر بعلم وقدرة يحدكهما في غيـره كمـا يتفضـل ويـنعم ويسـن فيمـا يحدكـه
في غيره تفضالً ونعمة واحسـاناً ورزقـاً كـان ذلـك الجسـم موصـوفاً بـأخص أوصـاف الفعـل والتفضـل والـرزق
والنعمة واإلحسان ألنه إذا كان التفضل والنعمة واإلحسان والفعل قوةً ال بد أن يكون ذلك الجسم قوياً .
كالمـاً فـي غيـره أن يشـتق ذلـك وكذلك إذا كـان علمـاً أو حيـاةً أو إرادةً أو سـمعاً أو بصـ اًر فيجـب إذا أحـد
الغير من أخص أوصاف الكالم .
كالمـه فـي غيـره كمـا فلما ام يجز ذلك بطل أن يكون الكـالم مقيسـاً علـى مـا قلـتم مـن أن اهلل تعـالى يحـد
فعله وتفضله ونعمه واحسانه في غير . يحد
اهلل تعالى كتابه في غيره وال يكون الشيء الذي قامت به الكتابة كاتباً ؟ فإن قالوا :أفليس قد يحد
اهلل تعالى في غيره كتابة ضرورة كان ذلك الغير كاتباً باضطرار . قيل لهم :إن أحد
اهلل تعـالى كالمـه فـي غيـره وكذلك إن كانت الكتابة كسـباً كـان ذلـك الغيـر كاتبـاً باكتسـاب فيجـب إذا أحـد
أن يكون ذلك الغير متكلماً بكالم اهلل .
وهذا الديل على قدم الكالم هو الدليل على قدم اإلرادة هلل تعالى ألنها لو كانت محدكةً لكانت ال تخلـو مـن
أن يكون اهلل يحدكها في نفسه أو في غيره أو قائمة بنفسها .
.ويســتحيل أن يحــدكها ائمــة بنفســها ألنهــا صــفة فيســتحيل أن يحــدكها فــي نفســه ألنــه لــيس بمحــل للحـواد
علماً وقدرة قائمين بأنفسهما . والصفة ال تقوم بنفسها كما ال يجوز أن يحد
ويستحيل أن يحدكها في غيره ألن هذا يوجب أن يكون ذلك الغير مريداً بإرادة اهلل تعالى .
ففلمــا اســتحالت هــذه الوجــوه التــي ال تخلــو اإلرادة منهــا لــو كانــت محدكــة صــ ،أنهــا قديمــة وأن اهلل لــم يــزل
مريداً بها .
الباب الكال
فـإن قـال قائـل :لـم قلـتم إن اهلل تعـالى مريـد لكــل شـيء يجـوز أن يـراد ؟ قيـل لـه :قلنـا ذلــك ألن اإلرادة إذا
كانت من صفات الذات بالداللة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة في كل ما يجـوز أن يـراد علـى حقيقتـه
كما إذا كان العلم من صفات الذات وجب عمومه بكل كا يجوز أن يعلم على حقيقته .
وال يجوز أن يخلق ماال يريده وقـد قـال وأيضاً فقد دلت الداللة على أن اهلل تعالى خالق كل شيء حاد
اهلل تعالى (( :إن ربك فعال لما يريد ( [ )) )458هود . ] 458 :
وأيضاً فإنه ال يجوز أن يكون في سلطان اهلل تعالى مـاال يريـده ألنـه لـو كـان فـي سـلطان اهلل تعـالى مـاال
يريده لوجب أحد أمرين :
إما إكبات سهو وغفلة وأو إكبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده .
فلما لم يجز ذلك على اهلل تعالى استحال أن يكون في سلطانه ماال يريده .
فإن قال :ولـم زعمـتم ذلـك ؟ قيـل لـه :زعمنـا ذلـك ألن المـراد إذا وقـع لـم يلحـق مـن وقـع مـراده ضـعف وال
تقصير عن بلوغ مـا يريـده بوقـع المـراد فواجـب أن يلحقـه الضـعف والتقصـير عـن بلـوغ مـا يريـده إذا لـم يقـع
مراده .
أال تـرى أن مــن وقـع مــا يعلمـه لــم يلحقـه جهــل وال ضـد مــن أضـداد العلــم بـذلك الشــيء إذا وقـع وهــو يعلمــه
فدل ذلك عل ى أنه إذا لم يقع وهو ال يعلمه وجب جهله أو وصفه بضد من أضداد العلم .
وكــذلك إذا كــان مــا يريــده لــم يجــب ســهوه وال ضــعفه وال وهنــه وال تقصــيره عــن بلــوغ مــا يريــده واذا كــان مــاال
يريده وجب سهوه أو ضعفه ووهنه وتقصيره عن بلوغ ما يريد .
وأيضاً إذا كان في كون ماال يريده من أفعاله -التي اجتمعنـا علـى أنهـا أفعالـه -وجـوب السـهو والغفلـة
والضعف والوهن والتقصير عن بلوغ ما يرده ؛ فكذلك يلزم في كون ما ال يريده من غيره ما يلزم في
كون ماال يريده مما اتفقنا على أنه من أفعاله .
أال تــرى أنــه إذا لــزم مــن زعــم أنــه يكــون مــن أفعــال اهلل مــاال يعلمــه أن يصــفه بالجهــل أو بضــد مــن أضــداد
العلم ؛ لزم مكـل ذلـك مـن زعـم انـه يكـون مـن غيـره مـاال يعلمـه وكـذلك إذا لـزم مـن زعـم أن اهلل يخبـر أنـه
يكــون مــن فعلــه مــا ال يكــون التكــذيب هلل لــزم مــن زعــم أن اهلل تعــالى يخبــر أنــه يكــون مــن غيـره مــاال يكــون
التكذيب ؛ ال فرق في ذلك بين ما اتفقنا على أنه فعله وبين ما يكون من غيره .
وكــذلك إذا لــزم فــي كــون مــاال يريــده البــاري تعــالى مــن فعلــه ضــعف وتقصــير عــن بلــوغ مــا يريــده أو ســهو
وغفلة لزم ذلك في كون ماال يريده من غيره .
وأيضاً فقـد دلـت الداللـة علـى أن كـل المحـدكات مخلوقـات هلل تعـالى .فـإذا اسـتحال أن يفعـل البـاري تعـالى
ماال يريده استحال أن يقع من غيره ماال يريده إذ كان ذلك أجمع أفعاالً هلل تعالى .
وأيضاً فلو كان في العالم ماال يريده اهلل تعالى لكان مـا يكـره كونـه ولـو كـان مـا يكـره كونـه لكـان مـن
أبى كونه .
وهذا يوجب أن المعاصي كانت شاء اهلل أم أبى وهذا صفة الضعف المقهور وتعالى ربنـا عـن ذلـك علـواً
كبي اًر .
فــإن قــال قائــل :خبرونــا عــن ملــك مــن ملــوك الــدنيا لــو مــر برجــل مقعــد زمــن أعمــى فشــتمه والملــك ال يريــد
شــتمه أتقولــون أن الملــك لحقــه فــي ذلــك ضــعف ووهــن وتقصــير عــن بلــوغ مــا يريــده إذا أراد أن ال يشــتمه
فشتمه ؟
قيل له :أجل ولو لم يكـن مـا أراد الـزمن مـن شـتمه وكـان مـا أراده الملـك مـن مدحـه إيـاه كـان ذلـك أولـى
بزوال الضعف والوهن عنه على أن الملك إذا لم يرد شتم األعمى المقعد له فقد ذكره شتمه إياه وأبـى ذلـك
وقد كان شتمه شاء ذلك الملك أو أباه وهذا صفة الضعف والوهن .وأيضا فإن من إذا أراد منا أم اًر كان
واذا لــم يــرد كونــه لــم يكــن أولــى بصــفة االقتــدار ممــن يريــد كونــه مــاال يكــون وأن ال يكــون مــا يكــون ورب
العالمين ال يوصف إال بالوصف الذي هو أولى بصفة االقتدار .
فإن قال قائل :من إذا أراد أم اًر كان واذا لـم يـرده لـم يكـن ؛ إنمـا يكـون اقتـداره بمـن يتبعـه ويعينـه ويكـون
ضعفه لقلة أنصاره وأتباعه ورب العالمين ال يتككر بأحد .
يقال لهم :فما أنكرتم إن كان هذا علـى تـدعون أن يكـون مـن أراد مـن فعلـه كـون مـاال يكـون وأن ال يكـون
ماال يكون إنما يص ،وصفه باالقتدار ألنـه ممـن يتككـر بفعلـه ويجـب اقتـداره بمـن ينصـره وضـعفه بمـن
يقعد عنه .
ويقال لهم :لم زعمتم أن من أراد منا كون ما يكون إنما يص ،وصفه باالقتـدار ألنـه ممـن يقـوى بككـرة مـن
يتبعه ويضعف بككرة من يقعد عنه ؟
فإن قالوا :ألن هذا فيما بيننا .هكذا قيـل وكـذلك إنمـا يـدل الفعـل الحكمـي علـى أن مـن ظهـر منـه عـالم
قادر ألنه ممن يعلم بعلم ويقدر بقدرة ألنا كذلك وجدنا فيما بيننـا مـن دلـت األفعـال الحكميـة علـى أنـه عـالم
قادر .
فما أنكرتم من أنه واجب على اعتاللكم أن (ال) تدل األفعال الحكمية على أن الباري تعالى قادر عالم .
وكلك يعارضون بأن األفعال الحكمية تدل علـى أن مـن ظهـرت منـه عـالم قـادر ألنـه ممـن لـه علـم وقـدرة
من أجل أن ذلك فيما بيننا كذلك .
فإن قـال قائـل :مـا أنكـرتم أن ال يلحـق البـاري الضـعف والـوهن والقصـير عـن بلـوغ مـا يريـده ألنـه يقـدر أن
يلجئ عباده إلى ما أراد كونه منهم .
قيــل لــه :إن البــاري تعــالى إنمــا أراد كــون اإليمــان مــنهم علــى أصــلك بــأن يقــع ذلــك مــنهم طوعـاً يســتحقون
عليه الكواب واذا ألجأهم إليه لم يكونوا عند طائعين وال للكواب مستحقين .
فكما يجب بكون ماال يريـده الضـعف والـوهن والتقصـير عـن بلـوغ مـا يريـده لـو لـم يوصـف بالقـدرة علـى أن
يلجئهم إلى ذلك ؛ وكذلك يجب له الضعف والوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده إذا أراد كونه على وجه ال
يوصف بالقدرة على وقوعه على ذلك الوجه .
وأيض ـاً فإنــه يلــزم القدريــة إذا كــان مــن قــدر أن يــؤمن قــدر أن يكفــر ؛ أن ال يكــون البــاري تعــالى موصــوفاً
بالقدرة على األمر الذي لو فعله لكانوا مؤمنين ال محالة ألنهـم يقـدرون عنـدهم علـى أن (ال) يكفـروا عنـد
نــزول اآليــات الملجيـ ات إلــى اإليمــان كمــا يقــدرون أن يؤمنـوا قبــل ذلــك ؛ ومــن قــدر علــى الكفــر عنــد نــزول
اآلية لم يؤمن وقوعه منه .
وأيضاً فلو كان يقـع مـن اإلنسـان مـاال يريـده البـاري سـبحانه وال يلحـق البـاري بـذلك وهـن وال ضـعف ألنـه
قادر أن يلجئهم إليه لجاز أن يقع من البـاري سـبحانه مـن أفعالـه مـاال يريـده وال يلحقـه ضـعف و تقصـير
عن بلوغ ما يريده ألنه قادر على إيقاعه وتكوينه .
فإن لم يجب هذا ولزم بكون ما ال يريده من فعله الضعف والوهن لزم ذلك في فعل عباده .
فــإن قــال قائــل :مــا أنك ـرتم أن يكــون كــون مــاال يريــده اإلنســان مــن فعلــه يوجــب وقــوع ذلــك عــن ســهو أو
ضعف ووهن وليس يلزم ذلك في كون ماال يريده من فعل غيره فوجب مكل ذلك في القديم أيضاً .
قيل له :ليس األمر كما ظننت بل القصة فيما يكون من اإلنسان ومن غيـره واحـدة وذلـك أن اإلنسـان
إذا كان من فعله مـاال يريـده فإمـا أن يكـون ذلـك عـن سـهو أو عـن ضـعف ووهـن أو تقصـير عـن بلـوغ مـا
يريده .
وكـذلك القـول فيمـا يكـون مـن غيـره ألنـه إن لـم يكـن ذلـك عـن سـهو فواجـب أن يكـون عـن ضـعف وتقصــير
عن بلـوغ مـا يريـده وذلـك أن العلـة التـي لهـا لـزم اإلنسـان إذا كـان عالمـاً بمـا وقـع منـه وهـو غيـر مريـد لـه
الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده أن مراده لم يقع وأنه لم يرده ألنه لو كان ما يريده لم يلحقه ضعف
وال وهن فإذا لم يقع فإنما لحقه الوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده من أجل أنه وقع منه وهو عالم به غير
مريد له .
فإذا كانت العلة ما ذكرنا وجب أيضاً مكل ذلك فيما يقع من غيره وهو ال يريده ألنه إذا كانت العلة التـي
لها وجب أن يوصف اإلنسان بضد العلم في وقوع ما يقـع منـه أنـه وقـع منـه وهـو ال يعلمـه وكـذلك قصـة
ما يقع من غيره وهو ال يعلمه إذ كانت العلة في ذلك واحدة وكذلك القول في اإلرادة .
وأيضاً فإنه إذا كان من غيره ماال يريـده فقـد كرهـه واذا كـره كونـه فقـد أبـاه وهـذا يوجـب أن الشـيء كـان
شاء أم أبى ! وهذه صفة الضعف والوهن .
فإن قالوا :ما أنكرتم من أن الذي يجب في كون ماال يريده البـاري تعـالى مـن عبـاده أن يكـون كارهـاً لـذلك
فقط ؛ وال يجب في ذلك ضعف وال وهن قيل له :بل وقوع ذلك منهم وهو كاره له يوجب الضـعف والـوهن
ال محالة ألنه إذا كان ما كره كونه كان ما أبى كونه واذا كان ما أبى كونه فقد كان الشيء شاءه أم
أباه !!
وهذا يوجب أن الشيء كان شاء اهلل تعالى ذلك أم أباه وهذا صفة الضعف .
وأيضاً فإن المعتزلة :رجالن :أحدهما يقول :إن إرادة اهلل تعالى في أفعال عباده األمر بها .
واآلخر يقول :إرادته ف ي أفعال عباده خلف غيير األمر بها .فمن ذهب إلـى أنهـا األمـر لزمـه -إذا لـم
يكــن البــاري آم ـ اًر بأفعــال األطفــال والمجــانين -أن يكــون كاره ـاً لهــا إذا كــان يجــب بنفــي اإلرادة ألفعــال
العباد الكراهة لها واهلل تعالى ال يكره إال معصية كما ال ينهى إال عن معصية واذا لم يكن هذا عنـدهم
هكذا أبطل ما قالوه .
وأيض ـاً فــإذا كــان يلــزم فيمــا جــاز األمــر بــه إذا لــم يــأمر بــه أن يقــول لــه كاره ـاً لــزم مــن كــان فــي عصــر
الرسول صلى اهلل عليه وسلم وجاز عنده أن ينزل النهي عن المباا الذي ليس بطاعة أن يكون إذا لم يـرد
من اهلل تعالى األمر به فقد كره وهذا يوجب أن كل مباا معصية .
ومن ذهب إلى القول الكاني وهـو قـول الجبـائي (( :إن إرادة اهلل تعـالى ألفعـال عبـاده هـي غيـر األمـر بهـا
)) .
يقال له :إذا كان يجب بنفي اإلرادة ألفعال عباده الكراهة فحـدكنا هـل أراد اهلل كـون األفعـال التـي ليسـت
ٍ
بمعاص وال طاعات ؟
فــإن قــال :نعــم .قيــل لــه :يلزمــك أن تكــون طاعــة ألن الطاعــة عنــدك إنمــا كانــت طاعــة للمطــاع ألنــه
أرادها .
فإن قال :لم يردها .قيل له :فيلزمـك أنـه كـاره لكونهـا وهـذا يوجـب أن تكـون معصـية ألن مـا كرهـه اهلل
سبحانه فهو معصية كما أن ما نهى عنه فهو معصية عندكم .
ويقــال لهــم :إذا كــان نفــي اإلرادة يوجــب إكبــات ك ارهــة فيلــزمكم -إذا كــان اهلل تعــالى لــم يــزل غيــر مريــد
لشيء بتة -أن يكون لم يزل كارهاً إذ كان نفي اإلرادة يوجب إكبات كراهة .
مسألة
ويقال :للمعتزلة لم زعمتم أنه ال يريد السفه إال سفيه ؟ فإن قالوا :ألن مريد السفه منا سفيه .
يقــال لهــم :فكــذلك مــن أراد منــا مــا يعلــم أنــه ال يكــون أو يغلــب عنــده أنــه ال يكــون فهــو ممــتن فاقضـوا
بذلك على اهلل تعالى إذا زعمتم أنه أراد أن يكون ما علم أنه ال يكون .
ويقال لهم :وكذلك أيضاً من خلى بين عبيده وامائه يزني بعضهم ببعض وهو يـراهم وهـو ال يعجـز عـن
التفريق بينهم مع كراهته الزناء على أصولكم وقد نهاهم قبل ذلـك عـن الزنـا فهـو سـفيه فاقضـوا بـذلك
على اهلل تعالى واال كنتم متناقضين .
فإن قالوا :لو جـاز أن يريـد السـفه مـن لـيس بسـفيه لجـاز أن يقـول الكـذب مـن لـيس بكـاذب يقـال لهـم :مـا
ا لفــرق بيــنكم وبــين مــن قــال :ولــو جــاز أن يريــد مــا علــم أنــه ال يكــون مــن لــيس بمــتمن ويخلــي بــين عبيــده
وامائه يزني بعضهم ببعض مع كراهته الزناء عندكم وقدرته على المنع والحيلولة من ليس بسـفيه لجـاز أن
يقول :الكذب من ليس بكاذب وهذا ما ال يجدون فيه فرقاً .
ويقال لهم :كما أن مريد السفه منا سفيه فكذلك مريد الطاعة منا مطيع فاقضوا بذلك على الغائب .
ومما يبـين أن اهلل تعـالى مريـد لكـل شـيء أن يجـوز أن يـراد قـول اهلل تعـالى (( :ومـا تشـاءون إال أن يشـاء
اهلل )) [ اإلنسان ] 45فأخبر أنا ال نشاء إال ما شاء أن نشاءه وقال تعالى (( ولو شاء ربك ألمن من في
األرض كلهم جميعاً )) [ يونس ] 99 :وقال تعـالى (( :ولـو شـئنا ألتنينـا كـل نفـس هـداها )) [ السـجدة :
] 44وقال (( :ولو شاء ربك ما فعلوه )) [ األنعام ] 442 :وقال (( :ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم
وما يفترون ( [ )) )442األنعام . ] 442 :فأخبر أنه لو لم يرد القتال لم يكن وان ما أراد مـن ذلـك فقـد
فعله .
فإن قالوا :معنى هذا (( ولو شاء اهلل ما اقتتلوا )) [ البقرة ] 264 :أي لو شاء أن يمنعهم مـن القتـال لـم
يكــن يقــال لهــم :ولــم ال حملــتم اآليــة علــى ظاهرهــا وقلــتم :علــى أي وجــه شــاء أن ال يكــون القتــال لــم يكــن
وكذلك المطالبـة علـيهم فـي قـول اهلل تعـالى (( :ولـو شـاء ربـك ألمـن مـن فـي األرض جميعـاً )) [ يـونس :
. ]99فإن قالوا :لو شاء اهلل أن يلجئهم إلى اإليمان لكانوا مؤمنين .
قيل لهم :أوليسـوا مـع اإللجـاء قـادرين أن يكفـروا كمـا هـم قـادرن علـى أن يؤمنـوا فكيـف يجـب باإللجـاء
كون اإليمـان مـنهم وهـم قـادرون أال يكـون مـنهم إيمـان مـع اإللجـاء كمـا هـم قـادرون علـى اإليمـان مـع عـدم
اإللجاء ؟
فإن قالوا :ليس في كون ما ال يريده إيجاب ضعف كما ليس في كون ما لم يأمر به إيجاب ضعف .
قيــل لهــم :قــد كانــت أفعالــه عنــدكم ولــم يــأمر بهــا وال يلحقــه ضــعف ولــو كانــت وه ـو ال يريــدها لحقــه
الضعف فكذلك كون ما لم يأمر به من غيره ال يوجب له ضعفاً وفي كون مالم يرده من غيـره مـا يـدل
على الضعف .
وأيضاً فإن مالم يأمر به ونهى عنه وأراد وقوعه فلذلك لم يلحقه الضعف .
الباب الرابع
إن قال قائل :لم قلتم إن رؤية اهلل تعالى باإلبصار جائزة من باب القياس ؟
قيــل لــه :قلنــا ذلــك ألن مــا ال يجــوز أن يوصــف بــه البــاري تــاعلى ويســتحيل عليــه فإنمــا ال يجــوز ألن فــي
معن ــى في ــه أو تش ــبيه أو تجنيســه أو قلب ــه ع ــن حقيقت ــه أو تجــويزه إكب ــات حدك ــه أو إكب ــات ح ــد
تجويره أو تظليمه أو تكذيبه .
ولـو كـان مرئيـاً لـذلك للـزمهم أن وليس في جواز الرؤية إكبات حدكه ألن المرئي لـم يكـن مرئيـاً ألنـه محـد
وذلك باطل عندهم . يرى كل محد
على أن المرئي لو كان مرئياً لحدوكه لكان الرائي محدكاً للمرئي إذ كان مرئياً لحدوكه .
وليس في الرؤية إكبات حدو معنى في المرئي ألن األلوان مرئيات وال يجوز حدو معنى فيها .
على أن المرئي لو كـان مرئيـاً لحـدو معنـى فيـه لكـان ذلـك المعنـى هـو الرؤيـة وهـذا يوجـب أنـا إذا رأينـا
الميت فقد حدكت فيه الرؤية وجامعت الرؤية الموت واذا رأينا عين األعمى حدكت في عينه رؤية فكانت
الرؤية مجامعة للعمى فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه .
وليس في إكبات الرؤية هلل تعالى تشبيه للباري تعالى وال تجنيسه وال قلبه عن حقيقته ألنا نرى السواد
والبياض فال يتجانسان وال يتشابهان بوقوع الرؤية عليهما وال ينقلـب السـواد عـن حقيقتـه إلـى البيـاض بوقـوع
الرؤية عليه وال البياض إلى السواد .
وليس في الرؤية تجويره وال تظليمه وال تكذيبه ألنـا نـرى الجـائر والظـالم والكـاذب ونـرى مـن لـيس بجـائر وال
ظالم وال كاذب .
فلما لم يكن في إكبات الرئية شيء مما ال يجوز على الباري لم تكن الرؤية مستحيلة واذا لم تكـن مسـتحيلة
كانت جائزة على اهلل .
فإن عارضونا :بأن اللمس والذوق والشم ليس فيه إكبات الحدو وال حدو معنى في الباري تعالى .
قيل لهم :قد قال بعض أصحابنا :إن اللمس ضرب من ضروب المماسات وكذلك الـذوق وهـو اتصـال
اللســان والله ـوات بالجســم الــذي لــه الطعــم وأن الشــم هــو اتصــال الخيشــوم بالمشــموم الــذي يكــون عنــده
اإلدراك له وأن المتماسين إنما يتماسان بحدو مماسين فيهما وأن في إكبات ذلك إكبات حدو معنـى
في الباري .
اهلل تعـالى لـه إد اركـاً ومن أصحابنا من يقول :ال يخلو القائل أن يكون أراد بذكره اللمس والذوق أن يحد
فيه معنى أو يكون أراد حدو معنى فيه . في هذه الجوارا من غير أن يحد
فإن كان أراد حدو معنى فيه فذلك مـاال يجـوز وان كـان أراد حـدو إدراك فينـا فـذلك جـائز واألمـر فـي
التسمية إلى اهلل تعالى إن أمرنا أن نسميه لمساً وذوقاً وشماً سميناه وان منعنا امتنعنا .
وأما السمع فلم يختلف أصحابنا فيه وجوزوا جميعاً وقالوا أنه جـائز أن يسـمعنا البـاري تعـالى نفسـه متكلمـاً
وقد أسمع موسى عليه السالم نفسه متكلماً .
اضــرةٌ ( )22إِلَــى ربخهــا َنـ ِ
ـاظ َرةٌ ٍِ ِ
َ َ والــدليل عل ــى أن اهلل تعــالى يــرى باإلبصــار قولــه تعــالى ُ (( :و ُجــوهٌ َي ْو َمئــذ َن َ
اضـ َـرةٌ ([ )) )22 ( [ )) )24القيامــة ] 24 - 22 :وال يجــوز أن يكــون معنــى قولــه (( :وجــوه يومئِـ ٍـذ َن ِ
ُ ُ ٌ َْ َ
ـت ( [ )) )48الغاشــية ] 77 :ألن ـف ُخِلقَـ ْ اإلبِـ ِـل َك ْيـ َ
ون إِلَــى ِ
القيامــة ]22 :معتب ـرة كقولــه (( :أَفَــال َي ْنظُـ ُـر َ
اآلخرة ليست بدار اعتبار .
وال يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال (( :اهلل وال ينظر )) [ آل عمـران ] أي ال يـرحمهم وال يتعطـف
عليهم ألن الباري ال يجوز أن يتعطف عليه .
وال يجوز أن يعني منتظرة ألن النظر إذا قرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الذي هـو انتظـار كمـا
إذا قرن النظر بذكر القلقب لم يكن معناه نظر العين ألن القائل إذا قال (( :انظر بقلبك في هذا األمـر
)) كان معناه تظر القلب وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معنـاه إال نظـر الوجـه والنظـر بالوجـه هـو
نظر الرؤية التي تكون بالعين التي في الوجه .
فصــ ،أن معنــى قولــه تعــالى (( :إِلَــى ربخهــا َنـ ِ
ـاظ َرةٌ ( [ )) )24القيامــة ] 24 :رائيـة إذ لــم يجــز أن يعنــي َ َ
شيئاً من وجوه النظر .
واذا كــان النظــر ال يخلــو مــن وجــوه أربــع وفســد منهــا كالكــة أوجــه صــ ،الوجــه ال اربــع وهــو نظــر رؤيــة العــين
التي في الوجه .
َن ُي ْف َع َـل بِهَـا فَـ ِاق َرةٌ ([ )) )26 فإن قال قائل أليس قد قـال اهلل تعـالى (( :ووجـوه يومئِ ٍـذ ب ِ
اس َـرةٌ ( )23تَظُ ُّـن أ ْ َ ُ ُ ٌ َْ َ َ
القيامــة ] 26 - 24 :والظــن ال يكــون بالوجــه وكــذلك قولــه (( :وجــوه يومئِـ ٍـذ َن ِ
اضـ َـرةٌ ( )22إِلَــى َربخهَــا ُ ُ ٌ َْ َ
اظ َرةٌ ( [ )) )24القيامة ] 24 - 22 :أراد نظر القلب . َن ِ
قيل له :ال ألن الظن ال يكون بالوجه وال يكون إال بالقلب فلما قرن الظن بذكر الوجه كان معناه ظن
القلب إذ لم يكن الظن إال به .
فلو كان النظر ال يكون إال بالقلب لوجب إذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به إلى القلب .
فلو كان النظر ال يكون إال بالقلب لوجب إذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به إلى القلب .
فلما كان النظر قد يكون بالوجه وبغيره وجب إذا قرنه بذكر الوجه أن يريد به نظر الوجه كما أنـه إذا قرنـه
بذكر القلب وجب أن يريد به نظر القلب .
مسألة
ص َار )) ] ص ُار َو ُه َو ُي ْد ِر ُ
ك األ َْب َ [ قوله تعالى (( :ال تُ ْد ِرُكهُ األ َْب َ
ص َار )) [ األنعام . ] 454 :قيل ص ُار َو ُه َو ُي ْد ِر ُ
ك األ َْب َ فإن قالوا :فما معنى قوله تعالى (( :ال تُ ْد ِرُكهُ األ َْب َ
لهم :في الدنيا دون اآلخرة ألن القرآن ال يتناقض .
فلما قال في آية أخرى أنه تنظر إليه األبصار علمنا أن الوقت الذي قـال أنـه ال تدركـه األبصـار فيـه غيـر
الوقت الذي أخبرنا أنها تنظر إليه فيه .
فإن قال قائل :ما أنكرتم أن يكون قولـه تعـالى (( :إِلَـى ربخهـا َن ِ
ـاظ َرةٌ ( [ )) )24القيامـة ] 24 :أي إلـى َ َ
كواب ربها ناظرة ؟
قيل له :كواب اهلل تعالى غيره وال يجوز أن يعدل بالكالم عن الحقيقة إلى المجاز بغير حجة وال داللة .
أال تـرى أن اهلل تعـالى لمـا قــال (( :صـلوا إلـي واعبـدوني )) لــم يجـز أن يوقـل قائـل عنــة غيـره ولـو جــاز
لزاعم أن يقول قوله (( :ال تدركـه )) [ األنعـام ] 454 :أراد بـه أنهـا ال تـدرك غيـره األبصـار لجـاز لـزاعم
أن يزعم أن قوله صلوا إلي واعبدوني أراد به غيره فإذا فسد هذا فسد ما قاله .
فــإن قــال قائــل :فــإذا كــان قول ـه (( :ال تدركــه األبصــار )) [ األنعــام ] 454 :فــي وقــت دون وقــت فمــا
أنكرت أن يكون قوله (( :ال تأخذه سنة وال نوم )) [ البقرة ] 266 :في وقت دون وقت .
قيل له :الفرق بينهما أنه قال لنا في آية أنه ال تدركه األبصار وقـال فـي آيـة أخـرى أن الوجـوه تنظـر إليـه
فاستعملنا اآليتين وقلنا :إن المعنى في ذلك أنها تنظر إليه في وقت وال تدركه في وقت .
ولم يقل لنا في آية أن السنة والنوم يأخذانه وفي آية أخرى ال يأخذانه فيستعمل في وقتين .
وأيضاً فإن النوم آفة تقوم بالنائم تزيل عنـه العلـم وليسـت الرؤيـة آفـة تحـل فـي المرئـي فيجـب منـع الرؤيـة
بمكل ما به وجب منع النوم .
مسألة
فــإن قــالوا :لــو جــاز أن يــرى القــديم ســبحانه ولــيس كالمرئيــات لجــاز أن يلمــس ويــذاق ويشــم ؛ ولــيس
كالمذوقات وال كالملموسات وال كالمشمومات .
قيل لهم :ما الفرق بينكم وبين من قال ولو جاز أن يكون القـديم رائيـاً عالمـاً قـاد اًر حيـاً ال كـالرائين العلمـاء
القادرين األحياء لجاز أن يكون المساً ذائقاً شاماً ال كالمالمسين الذائقين الشامين فإن لـم يجـب هـذا فمـا
أنكرتم من أن ال يجب ما قلتموه .
مسألة
فإن قال قائل :فهل شاهدتم مرئياً إال جوه اًر أو عرضاً محدوداً أو حاالً في محدود ؟
قيل له :ال ولم يكن المرئي مرئياً ألنه محدود وال ألنه حال في محدود وال ألنه جوهر وال ألنه عرض
.
فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب كمـا لـم يجـب إذا لـم نجـد فـاعالً إال جسـماً وال
شــيئاً إال جــوه اًر أو عرض ـاً وال عالم ـاً قــاد اًر حي ـاً إال بعلــم وحيــاة وقــدرة محدكــة أن نقضــي بــذلك علــى
الغائب .
إذ لم يكن الفاعل فاعالً ألنه جسم وال الشيء شيئاً ألنه جوهر أو عرض .
الباب الخامس
إن قال قائل :لم زعمتم أن أكساب العباد مخلوقة هلل تعالى ؟ قيـل لـه :قلنـا ذلـك ألن اهلل تعـالى قـال (( :
واهلل خلقكم وما تعملون ( [ )) )95الصافات . ] 95 :
وقـال (( :جـزاء بمــا كــانوا يعملــون ( [ )) )48الســجدة ] 48 :فلمــا كــان الجـزاء واقعـاً علــى أعمــالهم كــان
الخالق ألعمالهم .
ف ــإن ق ــال :أفل ــيس اهلل تع ــالى ق ــال (( :ق ــال أتعب ــدون م ــا تنحت ــون ( [ )) )96الص ــافات ] 96 :وعن ــى
األصنام التي نحتوها فما أنكرتم أن يكون قوله (( :خلقكم وما تعملـون ( [ )) )95الصـافات ] 96 :أراد
األصنام التي عملوها .
قيل له :خطأ ما ظنته ألن األصنام منحوتة لهم في الحقيقة فرجع اهلل تعالى بقولـه (( :قـال أتعبـدون مـا
تنحتــون ( [ )) )96الصــافات ] 96 :إليه ــا وليســت الخشــب معمولــة له ــم فــي الحقيقــة فترجــع بقولــه (( :
خلقكم وما تعلمون ( [ )) )95الصافات ] 95 :إليها .
فإن قال قائـل :ألـيس قـد قـال اهلل تعـالى (( :تلقـف مـا يـأفكون ( [ )) )448األعـراف ] 448 :ولـم يـرد
إفكهم فما أنكرت أن ال يرجع بقوله (( :خلقكم وما تعملون ( [ )) )95الصافات ] 95 :إلى أعمالهم قيل
لـه :الـذي يـأفكون هـو األمكلـة التــي خيلـوا إلـى النـاس أنهـا حيــات تسـعى وافكهـم تخـيلهم فـأراد بقولــه (( :
يــأفكون ( [ )) )448األع ـراف ] أي يخيلــون إلــى النــاس أنهــا حيــات تســعى وافكهــم هــي إيهــامهم الشــيء
على خالف ما هو بسبيله فاألمكلة هي التي يأفكون ويخيلون إلى الناس أنهـا تسـعى فـي الحقيقـة وهـي
التي تلقفها العصا .
وليس يجوز أن يعملوا الخشب في الحقيقة فلم يجز أن يكون اهلل تعالى رجع بقوله (( :خلقكم وما تعملون
( [ )) )95الصــافات ] 95 :إليهــا ووجــب أن يرجــع إلــى األعمــال كمــا رجــع بقولــه (( :ج ـزاء بمــا كــانوا
يعملون ( [ )) )48السجدة ] 48 :إلى األعمال .
فلــو جــاز ل ـزاعم أن يــزعم أن قــول اهلل تعــالى (( :خلقكــم ومــا تعملــون ( [ )) )95الصــافات ] 95 :غيــر
أعمالهم كما أن قوله (( :ما يأفكون ( [ )) )448األعراف ] 448 :إنما أراد به غير إفكهم فلمـا لـم يجـز
هذا لم يجز ما قاله هذا .
والدليل من القياس على خلق أعمال الناس أنا وجـدنا الكفـر قبيحـاً فاسـداً بـاطالً متناقضـاً خالفـاً لمـا خـالف
ووجدنا اإليمان حسناً متعباً مؤلماً .
ووجدنا الكافر يقصد ويجهد نفسه إلى أن يكون الكفر حسناً حقاً فيكون بخالف قصده .
ووجدنا اإليمان لو شاء المؤمن أن ال يكون متعباً مؤلماً وال مرمضاً لم يكن ذلـك كائنـاً علـى حسـب مشـيئته
وارادته .
علــى أحدكــه عليهــا ألنــه لــو جــاز أن يحــد علــى حقيقتــه إال مــن محــد وقــد علمنــا أن الفعــل ال يحــد
أحدكه فعالً . الشيء فعالً ال من محد أحدكه على ما هو عليه لجاز أن يحد حقيقته ال من محد
أحدكـه علـى مـا هـو عليـه وهـو قاصـد إلـى على حقيقته إال من محد فلما لم يجز ذلك ص ،أنه لم يحد
ذلك ألنه لو جاز حدو فعل على حقيقته ال من قاصد لم يؤمن أن تكون األفعال كلهـا كـذلك كمـا أنـه لـو
جاز حدو فعل ال من فاعل لم يؤمن أن تكون األفعال كلها كذلك .
أحدكــه كفـ اًر بــاطالً قبيحـاً وهــو قاصــد إلــى ذلــك ولــن واذا كــان هــذا هكــذا فقــد وجــب أن يكــون للكفــر محــد
له هو الكافر الذي يريد أن يكون الكفر حسناً صواباً حقاً فيكون على خالف ذلك يجوز أن يكون المحد
.
أحدكه على حقيقته متعباً مؤلماً مرمضاً غير المؤمن الـذي لـو جهـد أن يقـع اإليمـان وكذلك لإليمان محد
خالف ما وقع من إيالمه واتعابه وارماضه لم يكن له إلى ذلك سبيل .
لإليمــان علــى حقيقت ـه المــؤمن فقــد للكفــر علــى حقيقتــه الكــافر وال المحــد واذا لــم يجــز أن يكــون المحــد
ذلــك هــو اهلل تعــالى رب العــالمين القاصــد إلــى ذلــك ألنــه ال يجــوز أن يكــون أحــد وجــب أن يكــون محــد
ذلك جسم من األجسام ألن األجسام ال يجوز أن تفعل في غيرها شيئاً .
فـإن قــال قائــل :فلـم ال دل وقــوع الفعــل الـذي هــو كســب علـى أنــه ال فاعــل لـه إال اهلل كمــا دل علــى أنــه ال
خالق له إال اهلل تعالى قيل له :كذلك نقول .
فإن قال :فلم ال ؟ دل على أنه ال قادر عليه إال اهلل عز وجل .قيل له :ال فاعل له على حقيقته إال اهلل
تعالى وال قادر عليه أن يكون على ما هو عليه من حقيقته أن يخترعه إال اهلل تعالى .
فإن قال :فلم ال دل كونه كسباً على حقيقته على أنه ال مكتسب له في الحقيقة إال اهلل ؟
قيل له :األفعال ال بد لها من فاعـل علـى حقيقتهـا ألن الفعـل ال يسـتغني عـن فاعـل فـإذا لـم يكـن فاعلـه
على حقيقته الجسم وجب أن يكون اهلل تعالى هو الفاعل له على حقيقته .
ولـيس ال بــد للفعــل مــن مكتســب يكتسـبه علــى حقيقتــه كمــا ال بــد مـن فاعــل يفعلــه علــى حقيقتــه فيجــب إذا
كان الفعل كسباً كان اهلل تعالى هو المكتسب له على حقيقته .
أال ت ــرى أن حرك ــة االض ــطرار ت ــدل عل ــى أن اهلل تع ــالى ه ــو الفاع ــل له ــا عل ــى حقيقته ــا وال ت ــدل عل ــى أن
المتحرك بها في الحقيقـة هـو اهلل تعـالى إذا كانـت حركـة كمـا كـان هـو الفعـال لهـا فـي الحقيقـة وال يجـب أن
يكــون المتحــرك المضــطر إليهــا فــاعالً لهــا علــى حقيقتهــا إذا كــان متحركـاً بهــا علــى الحقيقــة إذ كــان معنــى
المتحرك أن الحركة حلته ولم يكن جائ اًز على ربنا تعالى .
وكذلك إذا كان الكسب داالً على فاعل فعله على حقيقته لم يجب أن يدل على أن الفعال لـه علـى حقيقتـه
هــو المكتســب لــه وال علــى أن المكتســب لــه علــى الحقيقــة هــو الفاعــل لــه علــى حقيقتــه إذ كــان المكتســب
مكتسباً للشيء ألنه وقـع بقـدرة لـه عليـه محدكـه ولـم يجـز أن يكـون رب العـالمين قـاد اًر علـى الشـيء بقـدرة
محدكه فلم يجز أن يكون مكتسباً للكسب وان كان فاعالً في الحقيقة .
فإن قال :فهل اكتسـب اإلنسـان الشـيء علـى حقيقتـه كفـ اًر بـاطالً وايمانـاً حسـناً ؟ قيـل لـه :هـذا خطـأ وانمـا
معنـى (( اكتســب الكفــر )) إنــه كفـر بقــوة محدكــه وكــذلك قولنــا ( :اكتسـب اإليمــان )) .إنمامعنــاه أنــه آمــن
بقوة محدكه من غير أن يكون اكتسب الشيء على حقيقته بـل الـذي فعلـه علـى حقيقتـه هـو رب العـالمين
.
والقول في الكـذب وان لـه فـاعالً يفعلـه علـى حقيقتـه وكاذبـاً بـه غيـر مـن فعلـه علـى حقيقتـه كـالقول فـي
فاعل الحركة على حقيقتها والمتحرك بها على الحقيقة غير من فعلها على حقيقتها وقد بينا ذلك آنفاً .
ودليل آخر من القيا س على خلق أفعـال النـاس إن الـدليل علـى خلـق اهلل تعـالى حركـة اإلضـطرار قـائم فـي
خلقـه حركــة االكتسـاب وذلــك أن حركـة االضــطرار إن كـان الــذي يـدل علــى أن اهلل تعـالى خلقهــا حــدوكها
فكذلك القصة في حركة االكتساب .
وان كان الذي يدل على خلقها حاجتها إلى مكان وزمان فكذلك قصة حركة االكتساب .
فلما كان كل دليل يستدل به على أن حركة االضطرار مخلوقة هلل تعالى يجب بـه القضـاء علـى أن حركـة
االكتساب مخلوقة هلل تعالى وجب خلق حركة االكتساب بمكل ما وجب خلق حركة االضطرار .
فــإن قــال قائــل :فيجــب إذا كانــت إحــدى الحــركتين ضــرورة أن تكــون األخــرى كــذلك واذا كانــت إحــداهما
كسباً أن تكون األخرى كذلك .
قيل له :ال يجب ذلـك الفتراقهمـا فـي معنـى الضـرورة واالكتسـاب ألن الضـرورة مـا حمـل عليـه الشـيء
وأكره وجبر عليه ولو جهد فـي الـتخلص منـه وأراد الخـروج عنـه واسـتفرغ فـي ذلـك مجهـوده لـم يجـد
منه انكفافاً وال إلى الخروج عنه سبيالً .
مـن الفـالج فإذا كانت إحـدى الحـركتين بهـذا الوصـف الـذي هـو وصـف الضـرورة وهـي حركـة المـرتع
والمرتعد من الحمى كانت اضط ار اًر .
واذا كانت الحركة األخرى بخالف هذا الوصف لـم تكـن اضـطرًار ألن اإلنسـان فـي ذهابـه ومجيئـه واقبالـه
وادباره بخالف المرتع من الفالج والمرتعد من الحمى يعلم اإلنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره
علم اضطرار ال يجوز معه الشك .
فقد وجب إذا كان العجز في إحدى الحالتين إن القدرة التي هي ضده حادكة في الحال األخرى ألن العجز
لو كان في الحالين جميعاً لكان سبيل اإلنسان فيهما سبيالً واحدة .
فلمــا لــم يكــن هــذا هكــذا وكانــت القــدرة فــي إحــدى الحــركتين وجــب أن تكــون كســباً ألن حقيقــة الكســب إن
الشــيء وقــع مــن المكتســب لــه بقــوة محدكــة ألفت ـراق الحــالين فــي الحــركتين وألن إحــداهما بمعنــى الضــرورة
وج ــب أن تك ــون ض ــرورة وألن األخ ــرى بمعن ــى الكس ــب وج ــب أن تك ــون كس ــباً ودلي ــل الخل ــق ف ــي حركـ ـة
االضطرار وحركة االكتساب واحداً فلذلك وجب إذا كانت إحداهما خلقاً أن تكون األخرى خلقاً .
والكــون بعــد أن لــم أال تــرى أن افتراقهمــا فــي بــاب الضــرورة والكســب ال يوجــب افتراقهمــا فــي بــاب الحــد
تكونا فكذلك ال يوجب افتراقهما في باب الضرورة والكسب افتراقهما في الخلق .
ولـيس يجـب إذا دخـل أال ترى أن الجسم لما لم يسبق المحدكات وجـب حدوكـه بدخولـه فـي معنـى الحـد
إذا كــان مــن المحــدكات مــا هــو حركــة أن يكــون الجســم بمشــاركة المحــدكات فــي معنــى الحــد فــي الحــد
حركة واذا كان منها ما هو جسم ال يجـب أن تكـون الحركـة جسـماً إذ لـم يكونـا يسـتويان فـي معنـى جسـم
وحركة واستويا في معنى الحدو .
وجــب إذا كــان أحــدهما خلق ـاً هلل أن يكــون فكــذلك لمــا اســتوى الكســب والضــرورة فــي معنــى الخلــق والحــد
اآلخر كذلك فلذلك لم يوجب افتراقهما في باب الضرورة والكسب افتراقهما في الخلق .
فغــن قــال قائــل :مــا أنك ـرتم أن يكــون الــذي دل علــى إن إحــدى الحــركتين مخلوقــة هلل تعــالى هــو أن حركــة
االضطرار وقعت معج اًز عنها فـإذا وقعـت األخـرى مقـدو اًر عليهـا خرجـت مـن أن تكـون مخلوقـة .قيـل لـه :
مـن لو كان ما وقع مقدو اًر غير اله تعالى خرج مـن أن يكـون مخلوقـاً لـم يـؤمن أن تكـون حركـات المـرتع
الفالج والمرتعد من الحمى قد أقدر اهلل تعالى عليهـا بعـض مالئكتـه يفعلهـا فـي المتحـرك باضـطرار إذ كـان
ال يستحيل عند مخالفينا أن يقدر القادر من المخلوقين على أن يفعل في غيره فبطلت داللتها على أن اهلل
تعالى فعلها على ما هي عليه .
وكــذلك القــول فــي حركــات األفــالك واجتمــاع أجـزاء الســماء وتأليفهــا واذا كــان هــذا هكــذا فقــد بطلــت داللــة
هذه األشياء على أن اهلل تعالى فعلها على مـا هـي عليـه ولـم يـؤمن أن يكـون ألجـزاء السـماء جـامع غيـر
اهلل سبحانه ول فالك محكم وللكواكب محرك غيره .
واذا لـم يجـز ذلــك فقـد بطـل مــا قـالوه مــن أن الشـيء إذا كـان مقــدو اًر لغيـر اهلل تعـالى خــرج مـن أن يكــون هلل
تعالى مخلوقاً .
وأيضاً فليس العجز بأن يدل على أن اهلل تعالى خلق المعجوز عنه بأولى من أن تكون القـدرة التـي جعلهـا
اهلل تعالى داللة على أن اهلل خلق المقدور عليه ألن ما خلق اهلل القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر.
كما أن ما خلق فينا العلم به فهو به أعلم وما خلق فينا السمع له فهو له أسمع .
فإذا استوى ذلك في قدرة اهلل تعالى وجب إذا أقـدرنا اهلل تعـالى علـى حركـة االكتسـاب أن يكـون هـو الخـالق
لها فينا كسباً لنا ألن ما قدر عليه أن يفعله فينا ولم يفعله فينا كسباً فقد ترك أن يفعله فينا كسباً .
واذا ترك أن يكون كسباً لنا استحال أن نكون له مكتسـبين .فـدل علـى مـا قلنـا علـى أنـا ال نكتسـبه إال وقـد
خلقه اهلل تعالى لنا كسباً .
مسألة
فإن قـال قائـل :إذا كـان كسـب اإلنسـان خلقـاً فمـا أنكـرت أن يكـون لـه خالقـاً ؟ قيـل لـه :لـم أقـل أن كسـبي
خلق لي فيلزمني أن أكون له خالقـاً وانمـا قلـت خلـق لغيـري فكيـف يلزمنـي إذا كـان خلقـاً لغيـري أن أكـون
له خالقاً ولو كان كسبي إذا كان خلقاً هلل تعالى كنت له خالقاً لكانت حركة المتحرك باضطرار إذا كانت
خلقاً هلل تعالى كان بها متحركاً .
فلما لم يجز ذلك أنه خلقها حركة لغيره لم يلزمنا ما قالوه ألن كسبنا خلق لغيرنا .
فإن قال :أفليس قد خلق اهلل تعالى جور العباد ؟ قيل لـه :خلقـه جـو اًر لهـم ال لـه فـإن قـال :فمـا أنكـرتم
أن يكون جائ اًر .
قيل له :لم يكن الجائر جائ اًر ألنه فعل الجور جو اًر لغيره ال له ألنـه لـو كـان جـائ اًر لهـذه العلـة لـم يكـن فـي
المخلوقين جائر .
فلما لم يكن الجائر جائ اًر ألنه فعل الجور جو اًر لغيره لم يجـب أن يكـون اهلل بخلقـه الجـور جـو اًر لغيـره ال لـه
جائ اًر .
وأيضاً لو لزم ما قالوه لزم إذا فعل إرادة وشـهوة وحركـة لغيـره ال لـه أن يكـون مريـداً مشـتهياً متحركـاً فلمـا لـم
يجب هذا لم يجب ما قالوه .
فإن قالوا :فقد يخلـق اهلل تعـالى حركـة ال يكتسـبها أحـد وال يكـون متحركـاً .قيـل لهـم :وكـذلك لـو خلـق اهلل
تعالى جو اًر ال يكتسبه أحد لم يكن به جائ اًر وكان جو اًر لمن خلقه جو اًر له به يكون جائ اًر .
فــإن قــالوا :فلــم ال يقــول قــول غي ـره كمــا خلــق جــور غي ـره ؟ قيــل لهــم :لــم نقــل :إنــه يجــور بجــور غي ـره
فيلزمنا أن يقول بقول غيره وانما قلنا :إنه يخلق جو اًر لغيره ال له وال يكون به جائ اًر .
فعروض هذا أن يخلق قوالً لغيره ال له وال يكون به قائالً وأيضاً فلو وجب هـذا لوجـب أن يقـول الكـذب
مـن لــيس بكــاذب كمــا فعــل الجــور مــن لــيس بجــائر كمــا فعــل اإلرادة مــن لــيس بمريــد لهــا والحركــة مــن لــيس
بمتحرك بها فإن لم يجب هذا لم يجب ما قالوه .
وأيضـاً فقــد دللنـا علــى أن كــالم الـه تعــالى مــن صـفات ذاتــه فــي صـدر كتابنــا هــذا فاسـتحال لــذلك أن يكــون
بقول غيره قائالً كما إذا كان العلم من صفات نفسه استحال أن يكـون علـم غيـره علمـاً لـه وأن يكـون رب
. العالمين عالماً بعلم محد
مسألة
فإن قال قائل :فهل يخلو العبد أن يكون بين نعمة يجب عليه شكرها أوبلية يجب عليه الصبر عليها ؟
قيل له :ال يخلو العبد من نعمة وبلية والباليـا منهـا مـا يجـب الصـبر عليهـا كالمصـائب مـن األمـراض
واألسقام وفي األموال واألوالد وما أشبه ذلك ومنها ماال يجب الصبر عليها كالكفر وسائر المعاصي .
مسألة
فإن قال قائل :فهل قضى اهلل تعالى المعاصي وقدرها .قيل له :نعم بأن خلقها وبأن كتبها وأخبر
عن كونها كما قال (( :وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب )) [ اإلسراء . ] 3 :
يعني أخبرناهم وأعلمناهم وكما قال (( :إال امرأته قدرناها من الغـابرين )) [ النمـل ] 68 :يريـد كتبناهـا
وأخبرنا أنها من الغابرين وال نقول قضاها وقدرها بأن أمر بها .
فإن قال :أفقضاء اهلل تعالى حق ؟ قيل له :من قضاء اهلل تعالى الـذي هـو خلـق مـا هـو حـق كالطاعـات
ومالم ينه عنه .
ومن قضاء اهلل تعالى الذي هو خلق ما هو جور كالكفر والمعاصي ألن الخلق منه حق ومنه باطل .
وأما القضاء الذي هو أمر والقضاء الذي هو إعالم واجبار وكتاب فحق ألنه غير المقضي .
ومــن أصــحابنا مــن يجيــب بــأن يقــول قضــاء اهلل المعصــية والكفــر ويقــول بلفــظ المعصــية والكفــر همــا
باطالن وال يقول بلفـظ القضـاء :إنـه باطـل ألن قـول القائـل :قضـاء اهلل باطـل كمـا يقـول إذا رأى خشـبة
منكسرة بلفظ الخشبة هي منكسرة وهي مع ذلك حجـة هلل تعـالى وال يقـول بلفـظ الحجـة :إنهـا منكسـرة
ألن هذا يوهم أن حجة اهلل تعالى ال حقيقة لها .
فكذلك أن الكفر باطل والكفر قضاء اهلل تعالى بمعنى أنه خلق اهلل وال تقول قضاء اهلل باطل ألنه يـوهم أن
ال حقيقة لقضاء اهلل تعالى .
وهذا كما نقول الكافر مؤمن بالجبت والطاغوت وال نقول :مؤمن ونسكت لما فيه من اإلبهام .
ونقول :إن النبي صلى اهلل عليه وسلم لكافر بالجبت والطاغوت وال نقول لكافر ونسـكت لمـا فـي ذلـك
من اإلبهام .
مسألة
فإن قال قائل :أفترضون بقضاء اهلل وقدره الكفر ؟ قيل له :نرضى بـأن قضـى اهلل تعـالى الكفـر قبيحـاً
وقد اًر فاسداً وال نرضى بأن كان الكافر به كاف اًر ألن اهلل تعالى نهانا عن ذلك وليس إذا أطلقنا الرضـى
بلفـظ القضـاء وجـب أن نطلقـه بلفــظ الكفـر كمـا ال يجـب إذا قلنــا أن الخشـبة حجـة اهلل تعـالى وأن الخشــبة
مكسورة أن نقول :حجة اهلل تعالى مكسورة ألن هذا يوهم حجة اهلل تعالى ال حقيقة لها .
فكذلك نطلق الرضى بلفظ القضاء والقدر وال نطلقه بلفظ الكفـر .هـذا جـواب أصـحابنا الـذي ذكرنـا جـوابهم
آنفاً .
ومن أصحابنا من ال يجيب بأن نرضى بقضاء اهلل تعـالى وقـدره اللـذين أمرنـا أن نرضـى بهمـا اتباعـاً ألمـره
ألنه ال يتقدم بين يديه وال يعترض عليه .وهذا كما نالضى ببقاء النبيين عليهم السالم ونكـره مـوتهم ونكـره
بقاء الشياطين وكل بقضاء رب العالمين .
مسألة
[ خير الخير ]
فإن قال قائل :فأيمـا خيـر الخيـر أو مـن الخيـر منـه ؟ قيـل لـه :مـن الخيـر منـه متصـالً بـه فهـو خيـر مـن
الخير .
فإن قال قائل :فأيما شر الشر أو من الشر منـه ؟ قيـل لـه :مـن كـان الشـر منـه جـائ اًر بـه فهـو شـر مـن
الشر .
مسألة
فإن قـال قائـل :أوتقولـون :إن الشـر مـن اهلل تعـالى ؟ قيـل لـه :مـن أصـحابنا مـن يقـول بـأن األشـياء كلهـا
من اهلل في الجملة وال يطلق بلفظ الشر أنه مـن اهلل تعـالى كمـا يقـال :األشـياء كلهـا هلل فـي الجملـة وال
يقال على التفصيل :الزوجة والولد هلل تعالى وكما نقـول فـي الجملـة :مـا دون اهلل ضـعيف وال يقـال :
على التفصل دين اهلل ضعيف .
قال الشيخ :أبو الحسن رحمه اهلل فأما أنا فإني أقول :إن الشر من اهلل تعالى بأن خلقه ش اًر لغيره ال له .
مسألة
قيــل لــه :معنــى ذلــك أنهــم حرفـوا وصــف رســول اهلل صــلى اهلل عليــه وســلم وأوهمـوا الســفيه مــنهم أنــه مــن
ـون ُه َـو ِم ْـن ِع ْن ِـد اللَّ ِـه )) [ آل عمـران ] 87 :يعنـي كتابهم .قال اهلل تعالى (( :وما ُهو ِم ْـن ا ْل ِكتَ ِ
ـاب َوَيقُولُ َ ََ َ
أن اهلل تعالى أنزله قال اهلل تعالى (( :ويقولون هو من عند اهلل )) [ آل عمران ] 87 :أي لم أنزل عليهم
ذلك كما يدعون .
مسألة
فإن قال :فما معنى قولـه تعـالى (( :مـا تـرى فـي خلـق الـرحمن مـن تفـاوت )) [ الملـك ] 4 :؟ قيـل لـه :
قال اهلل تعـالى (( :لـك ألجـر غيـر ممنـون ( [ )) )4القلـم ] 4 :واحـدة فـوق األخـرى (( مـا تـرى فـي خلـق
الــرحمن مــن تفــاوت )) [الملــك ] 4 :يعنــي فــي الســماوات ألنــه قــال (( :فــارجع البصــر )) [ الملــك ] 4 :
بعد ذكره السماوات (( هل ترى من فطور ( [ )) )4الملك ] 4 :يعني من شقوق والكفر ال شقوق فيه .
كم قال (( :كم ارجع البصر كرتين )) [ الملـك ] 3 :يعنـي فـي السـماوات واألرض (( ينقلـب إليـك البصـر
خاسئاً )) [ الملك ] 3 :يعني معيناً (( البصر خاسئاً )) [ الملك ] 3 :يعني مغلوباً .
ولم يذكر اهلل تعالى الكفر وال أفعال العباد في هذه اآلية فيكون للقدرية في ذلك حجة .
مسألة
فإن قال قائل :فما معنى قول اهلل تعالى (( الـذي أحسـن كـل شـيء )) [ السـجدة . ] 3 :قيـل لـه :معنـى
ذلك أنه يحسن أن يخلق كما يقال فالن يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ .فأخبر اهلل تعالى أنه يعلم
كيف يخلق األشياء .
مسألة
[ معنى قوله تعالى (( :وما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطالً )) ]
فإن قال :فما معنى قولـه تعـالى (( :ومـا خلقنـا السـماء واألرض ومـا بينهمـا بـاطالً )) [ ص ] 28 :قيـل
له :قال اهلل تعالى (( :ذلك ظن الذين كفروا )) [ ص ] 28 :فدل ذلك على أن المعنى فيها خلقهـا ومـا
بينهما وأنا ال أكيب من أطاعني وال أعاقب من عصاني وكفر بي ألن الكافرين ظنوا أنهم ال يعادون
وال لهم رجعة فيعاقبون .
فبين اهلل تعالى أنه ما خلق الخلق إال ومصير بعضهم إلى كواب ورجوع بعضهم إلـى العقـاب وأن الكـافرين
ظنـ ـوا ذل ــك ألن ــه ب ــين أن ذل ــك ب ــاب الكـ ـواب والعق ــاب ألن ــه تع ــالى قـ ـال (( :أم نجع ــل ال ــذين آمنـ ـوا وعملـ ـوا
الصــالحات كالمفســدين فــي األرض أم نجعــل المتقــين كالفجــار ( [ )) )27ص ] 27 :فــأخبر تعــالى ظــن
المشركين الذين أنكر عليهم أنهم ظنوا أنه ال عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين والكافرين .
قال الشيخ أبو الحسن :وقد يحتمل (( وما خلقنـا السـماء واألرض ومـا بينهمـا بـاطالً )) [ ص ] 28 :أي
لم أخلق ذلك أجمع باطالً ألن الباطل بعض خلق اهلل تعالى .
بعد أن خلقتهما . ويحتمل ما خلقت ذلك باطالً أي لم أجعله باطالً إذ خلقتهما ألن الباطل حد
وقد قال اهلل تعالى (( :الذي خلق السماوات واألرض وما بينهما في ستة أيام )) [ الفرقـان ] 69 :فعمـوم
من الخلق كالمالئكة الذين كانوا بينهما ومـا خلقـه بينهمـا هذا القول يدل على أنه خلق ما بينهما مما حد
من أعمال الحيوان في ذلك الوقت .
فلم قضـوا بإحـدى اآليتـين علـى أن اهلل تعـالى لـم يخلـق الباطـل دون أن يقضـوا باآليـة األخـرى علـى أن اهلل
خلق ما كان بينهما من فعل المالئكة وغيرهم في ذلك الوقت ؟
وان كــان الكفــر والمعاصــي غيــر مخلوقــة هلل تعــالى ألنهــا متفاوتــة فلــم ال تكــون الطاعــات مخلوقــة لــه ألنهــا
عندكم غير متفاوتة .
واذا كان قوله سبحانه (( :الذي أحسن كل شيء )) [ السجدة ] 8 :على العموم في كـل شـيء خلقـه اهلل
تعالى فلم ال كان قوله تعالى (( :خالق كل شيء )) [ الزمر ] 52 :على العموم في كل شيء هو غيـره
.
فــإن قــال :فمــا معنــى قولــه (( :مــا خلقنــا الســماوات و األرض ومــا بينهمــا إال بــالحق )) [ األحقــاف ] 4:
قيل له خلق اهلل ذلك فإن قال له (( :كن )) [ البقرة ] 448 :فالحق قوله بهما (( كونا )) فكانتا .
مسألة
فإذا قالوا :نعم .قيل لهم :فما أنكرتم أن يدل قوله تعالى (( :على كل شـيء قـدير ( [ )) )455البقـرة :
] 455علــى أنــه ال مقــدور إال واهلل عليــه قــادر وأن يــدل قولــه تعــالى (( :خــالق كــل شــيء )) [ الزمــر :
له فاعل خالق . مفعول إال واهلل محد ] 52على أنه ال محد
مسألة
[ قول اهلل تعالى (( :أن اهلل بريء من المشركين ورسوله )) ]
إن سأل سائل :عن قول اهلل تعالى (( :أن اهلل بريء من المشركين ورسوله )) [ التوية . ] 4 :فالجواب
أن اآلية إنما نزلت في العهود التـي كانـت بـين المشـركين وبـين رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم ألن اهلل
ـيحوا ِفــي األ َْر ِ
ض أ َْرَب َع ـةَ ِ
ين ( )4فَسـ ُ
ِ تعــالى قــال (( :بــراءةٌ ِمـ ْـن اللَّـ ِـه ورس ـولِ ِه إِلَــى الَّـ ِـذين ع َ ِ
اهــدتُّ ْم مـ ْـن ا ْل ُم ْشـ ِـرك َ َ َ ََ ُ ََ َ
ِ اعلَموا أََّن ُكـم َغ ْيـر مع ِج ِـزي اللَّ ِـه وأ َّ َّ
ين ( [ )) )2التوبـة ]2 - 4فـأحلهم اهلل أربعـة َن اللـهَ ُم ْخ ِـزي ا ْل َكـاف ِر َ َ ْ ُ ُْ أَ ْشهُ ٍر َو ْ ُ
أشهر .
ين َوَر ُسـولُهُ فَـِإ ْن ِ ب ِـر ِ ـاس يـوم ا ْلحـ خج األَ ْكب ِـر أ َّ َّ اللَّ ِه َوَر ُسولِ ِه إِلَى َّ ان ِم ْن
يء م ْـن ا ْل ُم ْش ِـرك َ
َ ٌ َن اللـهَ َ الن ِ َ ْ َ َ كم قال َ (( :وأَ َذ ٌ
ٍ ِ ٍ َِّ َّ ِ تَ َولَّْيتُ ْم فَ ْ
َكفَُروا ب َع َذاب أَليم ( [ )) )4التوبـة ِ اعلَ ُموا أََّن ُك ْم َغ ْي ُر ُم ْع ِج ِزي الله َوَب خش ْر الذ َ
ين تُْبتُ ْم فَهُ َو َخ ْيٌر لَ ُك ْم َوِا ْن
.]4:
ِ َن اللَّه ب ِر ِ يقول واعالم من ورسوله (( إِلَى َّ
الن ِ
يء م ْن ا ْل ُم ْش ِرك َ
ين َوَر ُسولُهُ )) [ التوبـة : اس َي ْوَم ا ْل َح خج األَ ْكَب ِر أ َّ َ َ ٌ
] 4يعني من العهود التي كانت بين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبينهم إذا انقضت األربعة األشهر .
مسألة
فإن قال قائل :حدكونا عن توأمين كانا في بريـة فوقـع بقلـب أحـدهما أن اهلل واحـد مـن ألقـى ذلـك فـي قلبـه
قلنا له :اهلل تعالى .
فإن قال :أفحق ما ألقاه بقلبه .قيل له :نعم .فإن قال :أفصدقه فيما ألقاه بقلبه .
قيــل :صــدق اهلل تعــالى ال يكــون إال كالمــه ومــا وقــع بقلــب اإلنســان لــيس بكــالم اهلل تعــالى فيقــال :إن
اهلل تعالى صدقه فيه .
كالكة من ألقى ذلك بقلبه .قيل له :اهلل تعالى .؟ فإن قال :فإن اآلخر وقع في قلبه أن اهلل كال
فإن قال :أفباطل ما ألقاه بقلبه .قيل له :نعم .فإن قال :أفصدقه فيما ألقاه بقبه أم كذبه .قيل :خطـأ
أن يقال له :صدقه فيه ألن صدق الباري من صفات نفسه وهو كالمه .
وخطأ أن يقال :كذبه فيه ألن الكذب ال يجوز على الباري تعالى ألنه مستحيل أن يكذب وليس يجب
إذا خلق كذباً لغيره وكذباً في قلب غيره أن يكون كاذباً كماالً يجب إذا خلـق قـدرة فـي غيـره وارادة فـي غيـره
وحركة في غيره أن يكون بذلك قاد اًر مريداً متحركاً .
مسألة
[ تسمية القدرية ]
فإن قالوا :لم سميتمونا قدرية ؟ قيـل لهـم :ألنكـم تزعمـون فـي أكسـابكم أنكـم تقـدرونها وتفعلونهـا مقـدرة لكـم
دون خالقكم .
والقدري هو من ينسب ذلك لنفسه كما أن الصائغ هو من يعترف بأنه يصوغ دون مـن يـزعم أن يصـاغ لـه
والنجار هو من يدعي أنه ينجر دون من يعترف بأنه ينجر له وال ينجر شيئاً .
وكذلك القدري من يدعي أنه يفعل أفعاله مقدرة دون ربه ويزعم أن ربه ال يفعل من اكتسابه شيئاً .
فإن قـال :يلـزمكم أن تكونـوا قدريـة ألنكـم تكبتـون القـدر .قيـل لهـم :نحـن نكبـت أن اهلل تعـالى قـدر أعمالنـا
وخلقها مقدرة لنا وال نكبت ذلك ألنفسنا .
فمن أكبت القدر هلل تعالى وزعم األفعال مقدرة لربه ال يكون قدرياً كما أن من أكبت الصياغة والنجارة لغيره
ال يكون صائغاً وال نجا اًر .
ولو كنا قدرية بقولنا أن اهلل فعل أفعالنا مقدرة لنا لكانوا قدرية بقولهم :إن اهلل تعالى فعل أفعاله كلها مقـدرة
له .
ولــو كنــا بقولنــا :إن اهلل قــدر المعاصــي قدريــة لكــانوا بقــولهم :إن اهلل قــدر الطاعــات قدريــة .فلمــا لــم يكــن
كذلك بطل ما قالوه .
الباب السادس
فإن قال قائل :لم قلتم أن اإلنسان يستطيع باستطاعة هي غيره ؟ قيل له :ألنه يكون تارة مستطيعاً وتـارة
عاج اًز كما يكون تارة عالماً وتارة غير عالم وتارة متحركاً وتارة غير متحرك فوجب أن يكـون مسـتطيعاً
بمعنى هو غيره كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره
ألنــه لــو كــان مســتطيعاً بنفســه أو بمعنــى تســتحيل مفارقتــه لــه لــم يوجــد إال وهــو مســتطيع فلمــا وجــد م ـرة
مستطيعاً ومرة غير مستطيع ص ،وكبت أن استطاعته غيره .
فإن قال قائل :فإذا أكبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل ؟
قيل له :زعمنا ذلك من قبل أن الفعل ال يخلو أن يجون حادكاً مع االستطاعة في حال حدوكها أو بعدها
.
فإن كان حادكاً معها في حال حـدوكها فقـد صـ ،أنهـا مـع الفعـل للفعـل وان كـان حادكـاً بعـدها وقـد دلـت
الداللة على أنها ال تبقى وجب حدو الفعل بقدرة معدومة .
العجز بعدها فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة ولو جاز أن يفعل في حال ولو جاز ذلك لجاز أن يحد
هو فيها عاج اًز بقـدرة معدومـة لجـاز أن يفعـل بعـد مائـة سـنة مـن حـال حـدو القـدرة وان كـان عـاج اًز فـي
المائة سنة كلها بقدرة عدمت من مائة سنة وهذا فاسد .
وأيضـاً فلــو جــاز حــدو الفعــل مــع عــدم القــدرة ووقــع الفعــل بقــدرة معدومــة لجــاز وقــوع اإلحـراق بحـ اررة نــار
معدومــة وقــد قلــب اهلل النــار بــرداً والقطــع بحــد ســيف معــدوم وقــد قلــب اهلل تعــالى الســيف قصــباً والقطــع
مع االستطاعة في حال حدوكها . بجارحة معدومة وذلك محال .فإذا استحال ذلك وجب أن الفعل يحد
فإن قال :ولم زعمتم أن القدرة ال تبقى ؟ قيل له :ألنها لو بقيت لكانت ال تخلو أن تبقـي لنفسـها أو لبقـاء
يقوم بها .
ـاء لهـا وأن ال توجـد إال باقيـة وفـي هـذا مـا يوجـب أن تكـون
فإن كانت تبقي لنفسها وجب أن تكون نفسها بق ً
باقية في حال حدوكها .
وان كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة فقد قامت الصفة بالصفة والعرض بالعرض وذلك فاسد .
فإن قال :فما أنكرتم أن تكون القدرة القدرة على الشـيء قـدرة عليـه وعلـى ضـده .قيـل لـه :ألن مـن شـرط
القدرة المحدكة أن يكون في وجودها وجود مقدورها .
ألن ذلك لـو لـم يكـن مـن شـرطها وجـاز وجودهـا وقتـاً وال مقـدور لجـاز وجودهـا وقتـين وأككـر مـن ذلـك إذ ال
فرق بين وقت ووقتين وأككر .
ولو كان هذا هكذا لجاز وجودها األبد وهو فاعل غير فاعل على وجه من الوجوه .
أال تـرى أنــه لمــا لــم يكـن مــن شــرط قــدرة القـديم أن فــي وجودهــا وجــود مقـدورها وجــاز وجودهــا وال فعــل لــم
يستحل أن ال تزال موجودة وال فعل على وجه من الوجوه فلما استحال أن تكون قدرة اإلنسان األبد موجودة
وال موجودة منه فعل ال أذ وال ترك والطاعة وال عصيان واألمر والنهي قائمان استحال ذلك وقتاً واحداً .
واذا اســتحال وقت ـاً واحــداً أن توجــد القــدرة وال مقــدور فقــد وجــب أن يكــون مــن شــرط قــدرة اإلنســان أن فــي
وجودها وجود مقدورها فـإذا كـان ذلـك كـذلك اسـتحال أن يقـدر اإلنسـان علـى الشـيء وضـده ألنـه لـو قـدر
عليهما لوجب وجودهما وذلك محال .
فإن قال قائل :ما أنكرتم أن تكون قدرة واحدة على إرادتين وعلى حركتين أو على مكلين .
قيل له :إنا أنكرنا ذلك من قبل أن القدرة ال تكون قدرة إال على ما يوجد معها في محلها فلو كانت قدرة
واحدة على حركتين لم تخل أن تكون قدرة على حركتين أن توجدا معها في حال حـدوكها أو علـى حـركتين
أن تكون واحدة بعد أخرى .
فإن كانت قدرة على حركتين أن تكونا معاً فقد وجدت حركتان في موضع واحد في وقت واحد .
ولــو جــاز هــذا لجــاز ارتفــاع إحــدى الحــركتين إلــى ضــدها مــن الســكون فيكــون الجــوهر متحركـاً عــن المكــان
ساكناً فيه وقت واحد وهذا محال .
وان كانت قدرة على حركتين أن توجد إحداهما بعد األخرى فقد قام الدليل والبرهان على أن القـدرة ال تبقـى
وهذا يوجب جواز وجود الفعل بقدرة معدومة وهذا مما قد بينا فساده .
وممــا يــدل علــى أن االســتطاعة مــع الفعــل للفعــل إن لــم يخلــق اهلل تعــالى لــه اســتطاعة محــال أن يكتســب
شيئاً .
فلما استحال أن يكتسب الفعل إذا لم تكـن اسـتطاعة صـ ،أن الكسـب إنمـا يوجـد لوجودهـا وفـي ذلـك إكبـات
وجودها مع الفعل للفعل .
فإن قالوا :ألي س في عدم الجارحة عدم الفعـل .قيـل لهـم :فـي عـدم الجارحـة عـدم القـدرة وفـي عـدم القـدرة
عدم االكتساب ألنها إذا عدمت عدمت القدرة فلعدم القدرة مـا اسـتحال الكسـب إذا عـدمت الجارحـة ال لعـدم
الجارحة .
ولو عـدمت الجارحـة ووجـدت الفكـرة لكـان االكتسـاب واقعـاً ولـو كـان إنمـا اسـتحال االكتسـاب لعـدم الجارحـة
لكان إذا وجدت وجد الكسب .
فلم ــا كان ــت توج ــد ويقارنه ــا العج ــز وتع ــدم الق ــدرة ف ــال يك ــون كس ــب عل ــم أن االكتس ــاب إنم ــا ل ــم يق ــع لع ــدم
االستطاعة ال لعدم الجارحة .
فغن قالوا :أفليس في عدم الحيـاة عـدم الكسـب ؟ قيـل لهـم :نعـم ألن الحيـاة إذا عـدمت عـدمت القـدرة
فلعدم القدرة ما استحال الكسب ال لعدم الحياة .
أال ترون أن الحياة تكون موجودة وكم عجـز فـال يكـون اإلنسـان مكتسـباً فعلـم أن الكسـب لـم يعـدم لعـدمها
وال يوجد لوجودها .والجواب في الحياة كالجواب في الجارحة .
فإن قالوا :إذا كان في عدم اإلحسان للحياكة عدم الحياكة فلم ال يكون في وجود اإلحسان لها وجودها ؟
قيل :إن الحياكة تعدم لعدم قدرتها ال لعـدم إحسـانها ولـو عـدمت الحيـاة لعـدم اإلحسـان لهـا لوجـدت بوجـود
اإلحسان لها .
فلما لم يكن ذلك كذلك وكان اإلحسان لها يجامعه العجز علم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها .
ولو أجرى اهلل تعالى العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم اإلحسان لها لوقعت الحياكة ال محالة .
فإن قالوا :فإذا كان في عدم التخلية واإلطالق عدم الفعل ففي وجودهما وجود الفعل .
قيل لهم :كذلك نقول فإن قالوا :فإذا كـان فـي عـدم احتمـال البنيـة للفعـل عـدم الفعـل فلـم ال يكـون فـي
وجود احتمال البنية للشيء وجوده ؟
قيل لهم :كذلك نقول ألن البنية ال تحتمل إال ما يقوم بها وكلما تعارضونا بـه فـي هـذه العلـة فـالجواب
فيه كالجواب في الجارحة والحياة ألنه ليس عدم الكسب لعدمه .
ومما يدل على أن االستطاعة مـع الفعـل قـول الخضـر لموسـى عليهمـا السـالم (( :إنـك لـن تسـتطيع معـي
صب اًر )) [ الكهف .] 58 :
فعلمنا أنه لما لم يصبر لم يكن للصبر مستطيعاً ؛ وفي هذا بيان أن ما لم تكن اسـتطاعة لـم يكـن الفعـل
وأنها إذا كانت كان ال محالة .
ومما يبين ذلك أن اهلل تعالى قال (( :مـا كـانوا يسـتطيعون السـمع )) [ هـود ] 25 :وقـال (( :وكـانوا ال
يستطيعون سمعاً ( [ )) )455الكهف ] 454 :وقد أمروا أن يسمعوا الحق وكلفوه .
فــدل ذلــك علــى جـواز تكليــف مــا ال يطــاق وان مــن لــم يقبــل الحــق ولــم يســمعه علــى طريــق القبــول لــم يكــن
مستطيعاً .
فإن قالوا :أال يستطيعون االستقبال .قيل لهم :ما الفـرق بيـنكم وبـين مـن قـال :إنهـم ال يسـتطيعون قبـول
الحق لالشتغال بتركه .
مسألة
فإن قال قائل :أليس قد كلف اهلل تعالى الكافر اإليمان ؟ قلنا له :نعم .فإن قال :فيستطيع اإليمان .
قيل له :لو استطاعه آلمن فإن قال :فكلفه ماال يستطيع قيل له هذا كالم على أمرين .
إن أردت بقولــك :إنــه ال يســتطيع اإليمــان لعج ـزه عنــه فــال وان أردت أنــه ال يســتطيعه لتركــه واشــتغاله
بضده فنعم .
فإن قال :ما أنكرتم أن يكون اهلل تعالى كلف الكافر ما يعجز عنه لتركه له .قيل له :العجز عن الشيء
أنه يخرج عنه وعن ضده فلذلك استحال أن يعجز العاجز عن الشيء لتركه له .
فإن قال :ما أنكرت أن يكون القادر على الشيء قاد اًر على ضده كما كان العاجز عن الشيء عاج اًز عن
ضده .
قيل له :لو كانت القوة على الشـيء قـوة علـى ضـده قياسـاً علـى العجـز للـزم أن يكـون العـون علـى الشـيء
عوناً على ضده قياساً على أن العجز عن الشيء عجز عن ضده .
وأيضاً فلو كانت القدرة على الشيء قدرة على ضده قياساً علـى العجـز ألن العجـز عـن الشـيء عجـز عـن
ضــده لوجــب فــي القــدرة مــا وجــب فــي العجــز مــن أنــه يتــأتى بهــا الشــيء وضــده كمــا يتعــذر بــالعجز الشــيء
وضده ولكان العجز إذا وجد عدم الشيء وضده المعجوز عنهمـا مـع وجـود ل فلـم يكـن اإلنسـان مكتسـباً
لهما ولكن يلزم في القدرة مكله إذا وجدت وهي قدرة علـى الشـيء وضـده أن يوجـد الشـيء وضـده معهـا
ألنــه يجــب مــع وجــود الضــدين مــع وجودهــا بخــالف مــا يحكــم بــه فــي العجــز ألن العجــز يحكــم فيــه بعــدم
المعجوز عنه وضده مع وجوده .
فإن لم يجز هذا فقد بطلت العلة وانتقضت المعارضة ولـم يجـب أن تقـاس القـدرة علـى العجـز إذ لـم تكـن
علة تجمع بينهما ولم تكن القدرة من جنس العجز .
فإن قالوا :فيجوز أن يكلف اهلل تعالى الشيء مع عدم الجارحة ووجود العجز .
قيل لهم :ال ألن المأمور غنما يؤمر ليقبل أو ليترك ومع عدم الجارحة ال يوجد أخذ وال ترك .
وكذلك العجز ال يوجد معه أخذ وال ترك ألنه عجز عن الشيء وعن ضده وأيضاً فلـو وجـب إذا أمـر اهلل
تعالى اإلنسان بالشيء مع عدم قدرتـه أن يـأمر بـه مـع عـدم القـدرة كلهـا لوجـب إذا أمـر اهلل تعـالى اإلنسـان
مع عدم بعض العلوم وهو العلم باهلل تعالى وبأنه آمر أن يأمره بالفعل مع عدم العلوم كلها .
فإن لم يجب هذا لم يجب إذا أمر اإلنسان مع عدم القدرة على ما أمره به أن يأمر مع عـدم الجارحـة التـي
إذا عدمت عدمت القدرة كلها ومع وجود العجز الذي لم تعدم القدرة بوجوده .
قال الشيخ أبو الحسن رجمه اهلل :وكل مسألة في تكليف ما ال يطـاق مـن األمـر بـالزكوة مـع عـدم المـال
وغير ذلك من المسائل فـالجواب عنـه كمـا أجبـت بـه عـن سـؤالهم عـن األمـر مـع عـدم الجارحـة والتكليـف
مع وجود العجز .
فــإن قــال قائــل :مــا أنكـرتم أن يعــدم الشــيء وضــده لوجــود عج ـزين .قيــل لــه :ألنــه نهايــة لمــا يعجــز عنــه
اإلنسان العاجز الذي ال قدرة فيه .
فلــو كــان العجــز عــن كــل شــيء غيــر العجــز عــن غيـره لكــان فــي اإلنســان مــن األعجــاز مــاال يتنــاهى وهــذا
محال .
وأيضاً فإن الموت هو أكبر األعجاز ألنه يتعذر معه األفعـال كلهـا فلـو كـان العجـز عـن كـل شـيء غيـر
العجــز عــن غي ـره لكــن بعــض الميتــين إنمــا تعــدم منــه األفعــال لوجــود أعجــاز وهــذا يوجــب أن فــي الجــزء
الواحـد عجـزين ومـوتين ولـو جـاز هـذا لجـاز أن يرتفـع أحــدهما إلـى حيـاة فيكـون الجـزء الواحـد حيـاً ميتـاً فــي
حال معاً وهذا محال .
فلما استحال هذا علم أنه محال في قول من قـال :إن العجـز عـن كـل شـيء غيـر العجـز عـن غيـره وبـاهلل
التوفيق .
مسألة
فإن قال قائل :خبرونا عمن طلق امرأته وأعتق عبده متى استطاع طالق امرأته وعتق عبده .
قيل له :استطاع عتق عبده في حال العتق واستطاع طالق امرأته في حال الطالق .
فإن قال :فاستطاع أن يطلق من ليست امرأته وأن يعتـق مـن لـيس عبـده .قيـل لـه :اسـتطاع أن يطلـق
من ليست امرأته في حال الطالق وقد كانت امرأته قبل ذلك وأن يعتق من لـيس عبـده فـي حـال العتـق
وقد كان عبده قبل ذلك كما أنه طلق من ليست امرأته في حال الطالق .
وقد كانت قبل ذلك امرأته ( وأعتق من ليس عبده في حال الهتق وقد كان عبده قبل ذلك).
وكذلك الجواب في إلقاء العصا واإلنتقال من الشمس إلى الظل وعن كسر المكسور .
مسألة
فإن قال قائل :خبرونا عن قول اهلل تعالى (( :وعلى الذين يطيقونه فدية )) [ البقرة . ] 473 :قيل له :
يحت م ــل أن يك ــون يك ــون اهلل تع ــالى أراد ال ــذين يطيق ــون اإلطع ــام ويعج ــزون ع ــن الص ــيام عل ــيهم الفدي ــة إذا
أفطــروا .ويحتمــل أن يكــون أراد الــذين يطيقــون الصــيام أن تكلفــوه وأرادوه علــى قــول مــن رجــع بالهــاء إلــى
مذكور تقدم على الصيام .
وقـد قالــت المعتزلــة :ال يجــوز أن يرجــع بالهــاء إال إلــى مــذكور تقــدم وهــو الصــيام .قيــل لهــم التأويــل الــذي
تأولناه وهو تأويل بعض المتقدمين وليس النحويون حجة على الصحابة والتابعين .
على أن ككير من النحويين قد أجازوا أن ال يرجع بالهاء إلى مذكور تقدم .
كــم نكــر علــى المعتزلــة راجعــين فنوقــول لهــم :حــدكونا عــن قــول اهلل تعــالى (( :هــو الــذي خلقكــم مــن نفــس
واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها )) [ األعراف - ] 479 :يعني آدم وحوا (( -فلمـا تغشـاها حملـت
حمـالً خفيفـاً فمــرت بــه فلمــا أكقلــت )) [ األعـراف - ] 479 :يعنــي حـوا (( -دعـوا اهلل ربهمــا لــئن ءاتيتنــا
صالحاً لنكونن من الشاكرين ( [ )) )479األعرف - 479 :يريد آدم وحوا .وقوله تعالى (( فلما آتاهما
)) [ األعراف ] 495 :زعمـت المعتزلـه أن الهـاء والمـيم لـم يرجـه بهمـا إلـى مـا تقـدم ذكـره بـل رجـع بهمـا
إلى المشركين من ولدهما فنقضوا قولهم :إن الهاء ال يرجه بها إال إلى مذكور قد تقدم ذكره .
وقد قرأها بعض الصحابة (( :وعلى الذين يطيقونه فدية )) [ البقرة ] 473 :وكان تأويله أنهم يحملونه
وال يطيقونه .
مسألة
[ قوله تعالى (( :وهلل على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيالً )) ]
وقـد ســألوا عـن قــول اهلل تعـالى (( :وهلل علــى النـاس حــج البيـت مــن اسـتطاع إليــه سـبيالً )) [ آل عمـران :
. ] 98
فــالجواب :أن اهلل تعــالى أراد المــال وهــو ال ـزاد والراحلــة ولــم يــرد اســتطاعة البــدن التــي فــي كونهــا كــون
مقدورها .وقيام الداللة من القياس على أن االستطاعة مع الفعل يصـ ،تأويلنـا ويبطـل تأويـل مخالفينـا
.
مسألة
إن قال قائل :ما معنى قول اهلل تعالى (( :وسيحلفون باهلل لو استطعنا لخرجنا معكـم )) [ التوبـة 32 :
] .
هل يخلو أن يكونوا كانوا مستطيعين الخروج فلم يخرجوا ولو استطاعوا الخروج لم يخرجوا ؟
فالجواب :أنهم عنوا باالستطاعة الجـدة والمـال وحلفـوا لرسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم أنهـم ال مـال لهـم
وال ظهر يحملون به مع نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأكذبهم اهلل في حلفهم ألنهم كانوا يجدون المال .
ولم تكن المناظرة بينهم وبين رسول اهلل في أن االستطاعة مع الفعل أو قبله .وانما كانت المجاراة بينهم
وبينه في الجدة والظهر وهكذا ذكرأهل التفسير ونقلة األخبار وحملة اآلكار .
واذا كان هذا هكذا فنحن الننكر تقدم المال للفعل وانما أنكرنا تقدم استطاعة البدن للفعل .
مسألة
فإن سألوا عن قول اهلل تعـالى (( :فـاتقوا اهلل مـا اسـتطعتم )) [ التغـابن ] 45 :فقـد يحتمـل أن يكـون اهلل
تعـالى أراد :اتقـوا اهلل مــا كنـتم مســتطيعين فــإن كـانوا للتقــوى مســتطيعين كـان علــيهم أن يكقـوا وان كــانوا
لتركـه مســتطيعين فعلــيهم أن يتقـوا ألن التقــوى ال يلــزمهم إال أن يســتطيعوه أو يسـتطيعوا تركــه وقــد يحتمــل
اتقوا اهلل فيما استطعتم .
مسألة
ومن سأل عن قوله تعالى (( :فمن لم يستطع فإطعام سـتين مسـكيناً )) [ المجادلـة . ) 3 :فـالجواب :أن
من لم يستطع لعجز فعليه إطعام ستين مسكيناً .
ومن سأل عن قوله تعالى (( :ال يكلـف اهلل نفسـاً إال مـا ءاتاهـا )) [ الطـالق ] 8 :فـالمعنى أنـه ال يكلـف
من النفقة إال ما آتاها ألنه قال ذلك عقيب ذكر النفقة .
َّ
ف اللَّهُ َن ْفساً ِإال َما آتَ َ
اها )) [ الطالق . ] 8 : قال َ (( :و َم ْن قُِد َر َعلَْي ِه ِرْزقُهُ َف ْلُي ِنف ْق ِم َّما آتَاهُ اللَّهُ ال ُي َكلخ ُ
[ قوله تعالى (( :ال يكلف اهلل نفساً إال وسعها )) ] .
ومن سـأل عـن قولـه تعـالى (( :ال يكلـف اهلل نفسـاً إال وسـعها )) [ البقـرة . ] 275 :فـالجواب عـن ذلـك :
أن اهلل تعــالى ال يكلفهــا مــا يضــيق عليهــا مــن إ ازلــة الخ ـواطر عــن النفــوس التــي تــدعو إلــى الشــر ألن اهلل
تعالى قد تجاوز عن ذلك ووسع على المسلمين فيما تدعوهم نفوسهم إليه من المعصـية إذا لـم يرتكبـوا ذلـك
بعد أن كان ذلك مضيقاً عليهم .
فمعنى (( ال يكلـف نفسـاً إال وسـعها )) [ البقـرة ] 275 :يعنـي إال مـا يطيقـه عليهـا ألن مـا أمـر اهلل تعـالى
به عباده ال يضيق عليهم فعله وال يعجزون عن اإلتيان به .
وقد قال بعض أصحابنا (( :ال يكلف نفساً إالوسعها )) [ البقـرة ] 275 :يعنـي إال مـا يسـعها ويحـل لهـا
.
ومن سأل عن قول اهلل تعالى مخب اًر عن العفريت (( :واني عليه لقوي أمين ([ )) )49النمل . ] 49 :
فالجواب عن ذلك إن كان العفريت صادقاً فالمعنى في قوله (( :واني عليه لقوي أمين )) [ النمل ] 49 :
إن تكلفت ذلك وأردته .
اهلل تعالى لهالقدرة عليه لم يكن كاذباً . وان كان ممن إذا أراد ذلك أحد
وان لم يقل هذا القول على هذا المعنى فهو كاذب وليس في قول العفاريت والشياطين حجة على دين رب
العالمين .
واحتجوا بذلك أن االستطاعة قبل الفعل فبئس ما بالوا وظنوا بل سولت لهم أنفسهم األباطيل .
فالجواب :إنا نقول لمن احتج علينـا بـذلك أنـه ليسـت تخلـو هـذه اآليـة التـي حكاهـا اهلل تعـالى عـن العفريـت
أن يكــون العفريــت عن ـى بقولــه (( :وانــي عليــه لقــوي أمــين ( [ )) )49النمــل ] 49 :إن اســتطعت ذلــك
وتكلفتــه وأردتــه أو يكــون عنــى بقولــه (( :وانــي عليــه لقــوي أمــين ( [ )) )49النمــل ] 49 :إن شــاء اهلل أو
يكون عني بقوله إن قواني اهلل تعالى عليه .
ولو لم يعلم سليمان أن العفريت أضمر شيئاً من ذلك لكذبه ورد عليه قوله .
والدليل في ذلك قول اهلل تعـالى (( :فمـا اسـطاعوا أن يظهـروه ومـا اسـتطاعوا لـه نقبـا ( [ )) )98الكهـف :
. ] 98
وقد جاء في التفسير ال خلف بين أحد من الموحدين فيه أنهم في كل يوم يأملون أن يصبحوا وقد فتحـوه
وال يقولون :إن شاء اهلل فإذا كان المقدر قالوا :إن شاء اهلل فأصبحوا وقد فتحوه فـدل أن ال اسـتطاعة
لهم قبل الفعل إال مع الفعل للفعل بإرادة اهلل تعالى ذلك .
أنسى الشيطان للناجي أن يذكر يوسف عند الملـك فلـم تكـن للنـاجي اسـتطاعة أن يـذكر أمـر يوسـف للملـك
إذ كان قد وعد يوسف بأن يذكره عند ربه قبل خروجه من السجن .
وكان ذلك لتمام مراد اهلل تعالى بيوسف إلى الوقت المعلوم الذي رأى الملك فيه الرؤيا .
ومكل ذلك في كتاب اهلل تعالى ككير وفيما دللنا بـه كفايـة ومكلـه قولـه تعـالى (( إال قـوم يـونس لمـا ءامنـوا
)) [ يونس . ] 97 :
مسألة
ت ا ْلقَ ِو ُّ ِ استَأ ِ ِ
ين )) ]
ي األَم ُ ْج ْر َ ْج ْرهُ إِ َّن َخ ْي َر َم ْن ْ
استَأ َ [ قوله تعالى َ (( :يا أََبت ْ
ت ا ْلقَ ِـو ُّ ِ ِ
ـين ()) )25 ي األَم ُ ْج ْر َ اسـتَْأ ِج ْرهُ ِإ َّن َخ ْي َـر َم ْـن ْ
اسـتَأ َ ومن سأل عن قول ابنة شعيب ألبيها َ (( :يا أََبـت ْ
[ القصص ] 25 :فزعم الجبائي إن معنى هذا اآلية أنها أخبرت عنـه أنـه قـوي علـى مـا يحتـاج إليـه أبوهـا
من األعمال واستدل فيما زعم بذلك على أن االستطاعة قبل الفعل .
فما أعجزه من أي طريق استدل بهذه اآليـة علـى هـذا الفصـل وذلـك أنهـا لـم تعـرف موسـى مـن قبـل قلعـه
للحجر الذي قلعه ونزعه بالدلو الذي نزع وانما لما عاينت من شدته وقوته وأمانته .
وذلك أنها لما رجعت إليه في المرة الكانية فقالت له (( :إن أبي يدعوك )) [ القصـص . ] 26 :قـال لهـا
(( :امشي خلفي واهديني الطريق )) ففعلت ذلك فكانت الري ،تصفها له فأدركت موسى عليـه السـالم
الخشية فقال لها (( :امشي خلفي وعرفيني الطريق بلسانك يمنة ويسرة وتلقاءه )) ففعلت ذلك .
فلما جاءت إلىأبيها وقالـت لـه (( :إنـه قـوي أمـين )) فـرد عليهـا رداً شـديداً وقـال لهـا (( :يـا ابنتـي أمـا قـوه
فقد علمت بها لما رأيت منه فبم عرفت أمانته )) فأخبرته بما رأته منه .
فكيف علمت أنه كان مستطيعاً لما قبل الفعل وانما ظهر لها ذلك منه بعد فعله إياه .
فص ،عندنا وصحت الحجة على من خالفنا أن ينبغي أن تكون استطاعته لذلك مع نفس فعله له .
والدليل على ذلك من القياس أنا لو رأينا رجالً في الحال قائماً يصـلي لمـا كنـا نعلـم اسـتطاعته متـى حـدكت
له إال أنا نعلم من نفس الفعل ظهرت منه للفعل وهي الصالة التي كان يفعلها .
وحجتنـا علــى مـن خالفنــا فــي كـل مــا يـورده مــن المســائل فـي بــاب االسـتطاعة كمــا رســمنا فيمـا بينــا وشــرحنا
وباهلل التوفيق .
مسألة
[ قوله تعالى (( :وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون (] )) )65
ومـن سـأل عـن قـول اهلل تعـالى (( :ومــا خلقـت الجـن واإلنـس إال ليعبـدون ( [ )) )65الــذاريات . ] 65 :
قيــل لــه :المعنــى فــي ذلــك أنــه أراد بعــض الجــن واإلنــس وهــم العابــدون هلل مــنهم ألن اهلل تعــالى قــال فــي
موضع آخر (( :ولد ذرأنا لجهنم ككيـ اًر مـن الجـن واإلنـس )) [ األعـراف ] 489 :والقـرآن ال يتنـاقض
فوجب أن يكون اهلل تعالى خلق لجهنم ككي اًر باآلية التي تلوناها وأنه خلق بعضهم للعبادة بقوله (( :ومـا
خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون ( [ )) )65الذاريات ] 65 :والذين خلقهـم لعبادتـه هـم الـذين أراد هـو أن
يعبدوه وعاقبتهم عبادته .
صيلَ ٍة . ] )) ....
[ قوله تعالى (( :ما جع َل اللَّه ِم ْن ب ِحيرٍة وال سائِب ٍة وال و ِ
َ َ َ َ َ َ َ ُ َ ََ
ٍ ِ َّ ِ ِ ٍ ٍِ َّ ِ ِ
ومــن ســأل عــن قولــه تعــالى َ (( :مــا َج َعـ َل اللــهُ مـ ْـن َبحيـ َـرٍة َوال َســائَبة َوال َوصــيلَة َوال َحــام َولَكـ َّـن الــذ َ
ين َكفَـ ُـروا
ب )) [ المائدة ] 454 :فالمعنى :أني لم أفرض عليهم ذلك ولم آمرهم به . َّ ِ ِ
ون َعلَى الله ا ْل َكذ َ
َي ْفتَُر َ
ولكنهم كذبوا علي وافتروا الكذب في قولهم :إني أمرتهم به .
والـدليل علـى جـواز تكليـف مـا ال يطــاق مـن القـرآن قولــه للمالئكـة (( :أنبئـوني بأســماء هـؤالء )) [ البقـرة :
] 44يعني أسماء الخلق وهم ال يعلمون ذلك وال يقدرون عليه .
وأيضاً فقد أخبر أنهم (( ويـدعون إلـى السـجود فـال يسـتطيعون ( [ )) )32القلـم ] 32 :فـإذا جـاز تكليفـه
إياهم في اآلخرة ما ال يطيقون جاز ذلك في الدنيا .
ِ وقد أمر اهلل تعالى بالعدل وقد قال (( :ولَ ْن تَستَ ِطيعوا أ ْ ِ
َن تَ ْعدلُوا َب ْي َن الخن َساء َولَ ْو َح َر ْ
صتُ ْم )) أل التسـاء : ْ ُ َ
. ] 429
ومــن ســأل عــن قولــه تعــالى (( :ومــا يتــذكر إال مــن ينيــب ( )) )44و (( ومــا اهلل يريــد ظلم ـاً للعــالمين
( [ )) )457آل عمران . ] 457 :
فالمعنى في ذلك :أنه لم يرد أن يظلمهم وان كان أراد أن يتظالموا .
فالجواب :أنهم قالوا ذلك على طريق االستهزاء ولم يقولوه على جهة االعتقاد .
فأكذبهم في قولهم الذي لم يكونوا له معتقدين كما أكذب المنافقين في قـولهم (( :نشـهد إنـك لرسـول اهلل ))
[ المنافقون ] 4 :على طريق االستهزاء .
ِ ِِ َّ فقال اهلل تعالى َ (( :واللَّهُ َي ْعلَ ُم إَِّن َ
ون ( [ )) )4المنافقون . ]4 : ك لَ َر ُسولُهُ َواللهُ َي ْشهَ ُد إِ َّن ا ْل ُمَنافق َ
ين لَ َكاذُب َ
[ قوله تعال (( :يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر )) ]
ومن سأل عن قوله تعالى (( :يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر )) [ البقرة . ] 476 :
فــالجواب أنــه أراد أن ال يكون ـوا بالصــيام فــي الســفر والمــرض حــرجين وال آكمــين وال أن يكون ـوا فــي
عسر من إفطارهم .
الباب السابع
فإن قال قائل :هل يقدر اهلل على لطف لو فعلـه بالكفـار آلمنـوا .قيـل لهـم :نعـم والـدليل علـى ذلـك أنـه
يقــدر أن يفعــل بــالمؤمنين وبعبــاده مــا لــو فعلــه بهــم لبغـوا فــي األرض قــال اهلل تعــالى (( :ولــو بســط الــرزق
لعباده لبغوا في األرض )) [ الشورى ] 28 :وقال (( :ولوال أن يكون الناس أمة واحدة )) [ الزخـرف :
- ] 44يعنــي علــى الكفــر (( لجعلنــا لمــن يكفــر بــالرحمن لبيــوتهم ســقفاً مــن فضــة ومعــارج عليهــا يظهــرون
(. )) )44
فلما اكن اهلل تعالى قاد اًر على أن يفعـل بـالخلق مـالو فعلـه بهـم لكفـروا كـان قـاد اًر علـى أن يفعـل بهـم مـا لـو
فعله بهم آلمنوا .
وأيضـاً فقــد دللنــا علــى أن فــي كـون االســتطاعة كــون الفعــل فــإذا كـان قــاد اًر علــى إقــدارهم علــى اإليمــان
فهو قادر على أن يفعل مالو فعله بهم آلمنوا .
فإن قال :فإذا لم يفعل بالكفار ما يؤمنون عنده فقد بخـل علـيهم .قيـل لـه :البخـل أن ال يفعـل الفاعـل مـا
يجب عليه فعله فأما ما كان تفضالً فللمتفضل أن يتفضل به وله أن ال يتفضل به وما كان تفضالً لم
يلحق البخل في أن ال يفعله الفاعل .
فإن قال :فإذا لم يفعل اهلل بهم ما يؤمنون عنده فهل أراد سففهم وكفرهم قيل له نعم وقد أوضحنا ذلك فيما
سلف من كالمنا .
مسألة
كم يقال لهم :إن كان اهلل تعالى إذا لم يفعل بهم ما يؤمنون عنـده يجـب أن يريـد فسـادهم فمـا أنكـرتم مـن
أنه إذا خلقهم -وهو يعلم أنهم يكفرون -فقد أراد كفرهم فإن قالوا :مريد السفه سفيه .
قيل لهم :أليس خالق من يعلم أنه يكفر ال يكون سفيهاً بخلقه وال يكون خلقه إياه سـفهاً فمـا أنكـرتم أن
يكون الخالق إذا أراد سفههم لم يكن سفيهاً وقد تكلمنا في هذه المسألة قبل هذا الموضع .
مسألة
فإن قال قائل :هل هلل تعالى أن يؤلم األطفال في اآلخرة ؟ قيل له :هلل تعالى ذلـك وهـو عـادل إن فعلـه
متناه بعقاب ال يتناهى وتسخير الحيوان بعضهم لبعض واإلنعام على وكذلك كل ما يفعله على جرم ٍ
بعضهم دون بعض وخلقه إياهم مع علمه بأنهم يكفرون كل ذلك عدل منه .
وال يقــب ،مــن اهلل لــو ابتــداهم بالعــذاب األلــيم وأدامــه وال يقــب ،منــه أن يعــذب المــؤمنين ويــدخل الكــافرين
الجنان وان ما نقول :إنه ال يفعل ذلك ألنه أخبرنا :أنه يعاقبل الكافرين وهو ال يجوز عليـه الكـذب فـي
خبره .
والدليل على أن كل ما فعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك وال فوقه مبي ،وال آمر وال
زاجر وال حاظر وال من رسم له الرسوم وحد له الحدود .
فإن كان هذا هكذا لم يقب ،منه شيء ؛ إذ كان الشيء إنما يقب ،منا ألنا تجاوزنـا مـا حـد ورسـم لنـا وآتينـا
مالم نملك إتيانه .
فلما لم يكن الباري مملكاً وال تحت آمر لم يقب ،منه شيء .
فإن قال :فإنما يقب ،الكذب ألنه قبحه .قيل له :أجل ولو حسنه لكان حسناً ولو أمر به لـم يكـن عليـه
اعتراض .
فإن قالوا :فجوزوا عليه أن يكذب كما جوزتم أن يأمر بالكذب .قيل لهـم :لـيس كـل مـا جـاز أن يـأمر بـه
جاز أن يوصف به .
أال ترون أنه قـد أمرنـا أن نصـلي ونخضـع ونتحـرك وال يجـوز عليـه أن يصـلي ويخضـع ويتحـرك
ألن ذلك مستحيل عليه وكذلك ال يجوز عليه الكذب ليس لقبحه ولكن ألنه يستحيل عليه الكـذب وال
يجوز أن يوصف بالقدرة على أن يكذبكما ال يجوز وصفه بالقدرة على أن يتحرك ويجهل .
ولو جاز لزاعم أن يزعم أنه يوصـف البـاري بالقـدرة علـى أن يكـذب وال يوصـف بالقـدرة علـى أن يجهـل
وال يأتي بين ذلك بفرقان لجاز لقالب أن يقلـب القصـة فـزعم أن البـاري يوصـف بالقـدرة علـى أن يجهـل
وال يوصف بالقدرة على أن يكذب .فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه .
فإن قال قائل :إذا أمر اهلل تعالى أن نصلي فصالتنا هي حركاتنا التي نتحرك بهـا إذا صـلينا والمتحـرك
متحــرك لحلــول الحركــة فيــه والشــاتم والكــاذب إنمــا كــان شــاتماً كاذبـاً ألنــه فعــل الشــتم والكــذب ال ألن
ذلك حل فيه .
يقال لـه :إن كانـت العلـة التـي لهـا ألزمنـا أن نجـوز أن يكـذب البـاري -تعـالى عـن ذلـك علـواً كبيـ اًر -أنـه
أمر به فيجب في كل شيء أمر به أن يجـوز وصـفه بـه فـإذا أمـر أن تحـل فـي أنفسـنا حركـات نتحـرك
بها وصالة نصلي بها لزم أن يجوز أن تحل في نفسه حركات يتحرك بها وصالة يصلي بها اللهـم إال
أن يقولـوا :إذا جــاز أن يــأمر البــاري غيـره أن يكــذب فلــم ال يجــوز أن يفعــل كــذباً يكــون بــه غيـره كاذبـاً ؟
كما إذا أمر غيره أن يصلي جاز أن يفعل لغيره صالة كان غيره بها مصلياً .فإن سألونا عن هـذا السـؤال
على هذا الوجه فهذا ماال ينكر .
على أنه إن كان المصلي مصلياً لحلول الصالة فيه كما أن المتحرك كان متحركـاً لحلـول الحركـة فيـه
فواجب أن يكون كل جزء من اإلنسان إذا حليته الصالة مصلياً كما كـان كـل جـزء منـه إذا حلتـه الحركـة
متحركاً .
ويقال لهمـك :الصـالة فـي اللغـة هـي الـدعاء فـإن كـان المصـلي مصـلياً لحلـول الصـالة فيـه فيجـب أن
يكون داعياً لحلول الدعاء فيه وهذا فاسد عندهم .
كم يقال لهم :إذا جاز أن يفعل الباري تعالى صالة لغيره ويكون بها مصلياً فلـم ال يجـوز أن يفعـل لغيـره
إرادة يكون بها مريداً وكالماً يكون به متكلماً ؟
فإن قالوا :المتكلم المريد متكلم مريد ألنه فعل الكالم واإلرادة .قيل لهم :فما أنكـرتم أن يكـون المصـلي
مصلياً ألنه فعل الصالة فيه والمتحرك متحركاً ألنه فعل الحركة فيه .
فإن قال قائل :قد يتحرك منا من ال يفعل الحركة .قيل له :وقـد يريـد ويـتكلم منـا مـن ال يفعـل إرادة وال
كالمـاً َ كالعاشــق الــذي يحــب معشــوقته محبــة ال يمكنــه االنصـراف عنهــا وكالــذي يــتكلم وهــو نــائم أو فــي
حال صرعه كالماً ال يمكنه االنصراف عنه .
فــإن قــال :ليســت محبــة العاشــق محبــة فــي الحقيقــة وال إرادتــه إرادة فــي الحقيقــة .قيــل لــه :ولــيس كــالم
المصــروع والنــائم كالمـاً فــي الحقيقــة وال كــالم اليقظــان كالمـاً فــي الحقيقــة وال إرادة العاشــق إرادة فــي
الحقيقة وهذا ماال يعجز عنه أحد .
كــم يق ــال لهــم :إن ك ــان المص ــلي مصــلياً لحل ــول الص ــالة فيــه أفل ــيس الخاض ــع خاضــعاً عن ــدكم لحل ــول
الخضوع فيه ألن الخضوع يكون في القلب واإلنسان بكماله خاضع ؟
فإن ادعوا أن القلب خاضع خاشع ألزمناهم أن يكون اللسان متكلماً في الحقيقة والقلب مريداً في الحقيقة
.
وان قــالوا :الخلضــع لــم يكــن خاضــعاً لحلــول الخضــوع فيــه .قيــل لهــم :فــإذا أمرنــا اهلل تعــالى أن نخضــع
فيجب على قياسكم أن يخضع هو .
فإن قالوا :ال ولكنه يفعل خضوعاً لغيره .قيل لهم :وكذلك إن أمرنا بالكذب فجائز أن يفعل كذباً لغيـره
.
فإن قالوا :الكاذب كاذب ألنه فعل الكذب .قيل لهم :مكل ذلك في الخاضع .
فإن قالوا :لم يكن الخاضع خاضعاً لحلول الخضوع فيه وال ألنه فعله .قيل لهم :ذلك في الكاذب كم
يقال لهم :إذا أمرنا اهلل أن نتحرك أفليس جائ اًز أن يجعلنا متحركين .
فإن قالوا :نعم .قيل لهم :فكذلك لو أمرنا بالكذب لجاز أن يجعلنا كاذبين .
كم يقال لهم :خبرونا أليس زعمتم أن الصـالة إذا كانـت كانـت حركـات وكـان المتحـرك متحركـاً لحلـول
الحركة فيه والمصلي مصلياً لحلول الصالة فيه ؟
فإن قالوا :نعم .قيل لهم :فيجب إذا أطاع اإلنسان بفعـل حركـة أمـره اهلل تعـالى بهـا أن يكـون طائعـاً ألن
الطاعة حلته كما أنه متحرك لحلول الحركة فيه .
ٍ
عاص إذا حاته المعصية وال بد من نعم كم فإن قالوا :نعم .قيل لهم :فبعض اإلنسان طائع وبعضه
يقال لهم :فما أنكرتم أن يكون بعض اإلنسان متكلماً وهو اللسان وبعضه عالم مريد وهو القلب .
فــإن قــالوا :الحركــة إذا كانــت كانــت طاعــة فــالمتحرك كــان متحرك ـاً لحلــول الحركــة فيــه ولــيس الطــائع
طائعاً لحلول الطاعة فيه بل هو طائع ألنه يفعل الطاعة .
قيـل لهـم :مـا أنكـرتم وان كانـت الحركـات صـالة وكـان المتحـرك متحركـاً لحلـول الحركـة فيـه فالمصــلي
ٍ
مصل ألنه فعل الصالة ال ألنها حلته .
فإن أجابو :إلى ذلك .قيـل لهـم :فـإذا أمرنـا أن نصـلي ولـم يجـز أن يصـلي هـو فليلـزم لـو أمرنـا اهلل أن
نكذب أن ال يجوز أن يكذب هو بل يجوز أن يفعـل لنـا كـذباً كمـا جـاز أن يفعـل لنـا صـالة ولـم يجـز
أن يصلي هو قفل في الكذب هذا القول .
كــم يقــال لهــم :إذا أمرنــا أن نتحــرك جعــل لنــا حركــات نتحــرك بهــا فكــذلك لــو أمرنــا بالكــذب لــم يســتحيل أن
يفعل لنا كذباً نكذب به .
الباب الكامن
إن قال قائل :ما اإليمان عندم باهلل تعالى ؟ قيـل لـه :هـو التصـديق بـاهلل وعلـى ذلـك إجمـاع أهـل اللغـة
التي نزل بها القرآن .
قــال اهلل تعــالى (( :ومــا أرســلنا مــن رســول إال بلســان قومــه )) [ إب ـراهيم ] 3 :وقــال تعــالى (( :بلســان
عربي مبين ( [ )) )496الشعراء . ] 496 :
فلما كانت اإليمان في اللغة التي أنزل اهلل تعالى بها القرآن هو التصديق وقـال اهلل تعـالى (( :ومـا أنـت
بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( [ )) )48يوسف ] 48 :أي بمصدق لنا .
وقــالوا جميعـاً (( :فــالن يــؤمن بعــذاب القبــر والشــفاعة )) يريــدون يصــدق بــذلك فوجــب أن يكــون اإليمــان
هو ما كان عند أهل اللغة إيماناً وهو التصديق .
فــإن قــال قائــل :فحــدكونا عــن الفاســق مــن أهــل القبلــة أمــؤمن هــو .قيــل لــه :نعــم مــؤمن بإيمانــه فاســق
بفسقه وكبيرته .
وقد أجمع أهل اللغة إن من كان منه ضرب فهو ضارب ومن كـان منـه قتـل فهـو قاتـل ومـن كـان منـه
كفر فهو كافر ومن كان منه فسق فهـو فاسـق ومـن كـان منـه تصـديق فهـو مصـدق .وكـذلك مـن كـان
فيه إيمان فهو مؤمن .
ولو كان الفاسق ال مؤمناً وال كاف اًر لم يكن منه كفـر وال أيمـان ولكـان الموحـداً وال ملحـداً وال وليـاً
وال عدواً فلما ساتحال ذلك استحال أن يكون الفاسق ال مؤمناً وال كاف اًر كما قالت المعتزلة .
وأيضاً فإذا كان الفاسق مؤمناً قبل فسقه بتوحيـده فحـدو الزنـا بعـد التوحيـد ال يبطـل إسـم اإليمـان الـذي لـم
يفارقه .
وأيضاً فقد كان الناس قبل حدو واصل بن عطاء رئيس المعتزلة على مقالتين :
ومنهم :أهل استقامة يقولون :هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته .
ولم يقل منهم قائل :إنه ليس بمؤمن وال كافر قبل حدو واصل بن عطـاء .حـين اعتـزل واصـل األمـة
وخرج عن قولها فسمي معتزليـاً بمخالفتـه اإلجمـاع ؛ فبعـدم اإلجمـاع علـى قولـه -واتفـق المسـلمون عليـه
من أن العاصي من أهل الصالة ال يخلو من أن يكون مؤمناً أو كاف اًر -يقتضي على بطالن قوله .
وأيضاً فلو جـاز لقائـل أن يقـول :إن مـن معـه إيمـان وآتـى كبيـرة فلـيس مؤمنـاً وال كـاف اًر لجـاز لقائـل أن
يقول :بل هو مؤمن بإيمانه وال يقال فاسق بفسقه .
فــإن قــال هــذا القــول مســتحيالً ألنــه ال يجــوز فســق ال لفاســق كــان قــولهم مســتحيالً ألنــه ال يجــوز إيمــان ال
لمؤمن .
الباب التاسع
إن قــال قائــل :خبرونــا عــن قــول اهلل تعــالى (( :وان الفجــار لفــي جحــيم ( [ )) )43االنفطــار ] 44 :
وعن قوله (( :ومن يفعل ذلـك عـدواناً وظلمـاً فسـوف نصـليه نـا اًر )) [ النسـاء ] 45 :وقولـه تعـالى (( :
إن الذين يأكلون أمـوال اليتـامى ظلمـاً إنمـا يـأكلون فـي بطـونهم نـا اًر وسيصـلون سـعي اًر ( [ )) )45النسـاء :
. ] 45
فالجواب عن ذلك :أن قوله (( ومـن يفعـل ذلـك عـدواناً )) [ النسـاء ] 4 :يحتمـل أن يقـع علـى جميـع مـن
يفعــل ذلــك ويحتمــل أن يقــع علــى بعــض ألن لفــظ (( مــن )) يقــع فــي اللغــة م ـرة علــى الكــل وم ـرة علــى
البعض فلما كانت صورة اللفظ ترد مرة وي ارد بها البعض وترد أخرى ويرادبها الكل لم يجز أن يقطـع
على الكل بصورتها كما ال يقطع على البعض بصورتها .
وكــذلك ال يقضــي بقولــه (( :وان الفجــار لفــي جحــيم ( )) )43و (( الــذين يــأكلون )) [ النســاء ] 45 :
على بعض وال على كل إذا كان يقع لك تارة على الكل وتارة على البعض .
ولو جاز لزاعم أن يزعم :أن الصورة إنما هي للكل حتى تأتي داللة البعض لم يكن هذا لزاعم بزعمه هذا
أولى ممن قال :صورة هذا القول يوجب القضاء على البعض إلى أن تقوم داللة الكل .
فلما تكافأ القائالن في قولهما وجب أن يكون القوالن جميعاً ملغيين .
وليس كل من ال يظلم الناس يظلم .ويقول القائل (( :جاءني من أحببت )) وانما يعني واحداً .
ويقول (( :جاءني التجار )) وان لم يكن الكل جاءه و (( جاءني جيراني )) وان لم يأتـه جمـيعهم
.
ويقول القائل (( :لعنني الفجـار بمـا كرهـت )) وال يعنـي جمـيعهم فلمـا كانـت هـذه األلفـاظ تـرد مـرة يـراد
بها الكل وترد أخرى يراد بهـا الـبعض لـم يجـز أن يقضـي علـى الكـل دون الـبعض وال علـى الـبعض دون
الكل إال بداللة .
وأيضاً فلو وجب القضاء بصورة هذه اآليات أن يقضي على عذاب كل فاجر وآكـل أمـوال اليتـامى ظلمـاً
وآكل أموال الناس بالباطل لوجب أن يقضي على أن كل الموحدين من أهل الصالة في الجنة بظاهر
قولــه تعــالى (( :مــن جــاء بالحســنة فلــه خيــر منهــا وهــم مــن فــزٍع يومئـ ٍـذ ءامنــون ( [ )) )79النمــل ] 79 :
ـاء عنـد ربهـم يرزقـون ( [ )) )459آل
وبظاهر قوله (( :وال تحسبن الذين قتلوا في سبيل اهلل أمواتاً بل أحي ٌ
عمران ] 459 :علـى أن كـل مقتـول فـي سـبيل اهلل فـي الجنـان يـرزق فيهـا .وبظـاهر قولـه تعـالى (( :إن
اهلل يغفر الذنوب جميعاً )) [ الزمر ] 64 :على كل ذنـب أنـه مغفـور إال ذنبـاً وقـف عليـه النبـي صـلى اهلل
عليه وسلم وأجمع المسلمون أنه ال يغفر وهو الشرك والكفر .
وليس قول من قال :إن اآليات ( عامة ) في الوعيـد عامـة واآليـات األخـر خاصـة أولـى مـن قـول قالـب
قلب القصة وجعل آيات الوعيد خاصة واآليات األخر عامة .
وأيضـاً فلــو وجــب أن يقضــي بظـواهر اآليــات علــى ان كــل فــاجر وآكــل أمـوال اليتــامى ظلمـاً فــي نــار جهــنم
ـي ِفيهَـا فَ ْـوٌج َسـأَلَهُ ْم َخ َزَنتُهَـا أَلَ ْـم َيـأْتِ ُك ْم َن ِـذ ٌير ( )7قَـالُوا َبلَـى قَ ْـد َّ ِ
لجاز أن يقضـي بقـول اهلل تعـالى ُ (( :كل َمـا أُْلق َ
ـي ٍء )) [ الملــك ] 9-7 :مكــذباً إن النــار ال يــدخلها إال كــافر َّ َّ ِ َّ ِ
اءَنـا َنــذ ٌير فَ َكــذ ْبَنا َوقُ ْلَنــا َمــا َنــز َل اللــهُ مـ ْـن َشـ ْ
َج َ
ب َوتَ َـولَّى ()45 َّ َّ ِ َّ َّ
ـالها إِال األَ ْشـقَى ( )46الـذي َكـذ َ ص َ وبظاهر قوله تعالى (( :فَأ َْن َذ ْرتُ ُك ْم َنا اًر تَلَظى ( )43ال َي ْ
)) [ الليل ] 45- 43 :إن كل من يصلى النار كذلك .
وبظاهر قول اهلل تعالى (( :ومن لم يحكـم بمـا أنـزل اهلل فأوالئـك هـم الكـافرون ( [ )) )33المائـدة ] 33 :
أنه ال يترك الحكم بما أنزل اهلل إال فاسق .
فلمــا لــم يلــزم أن ال يــدخل النــار إال كــافر بهــذه اآليــات لــم يلــزم أن يكــون كــل فــاجر فــي جهــنم وكــل آكــل
أموال اليتامى ظلماً وكل من يأكل أموال الناس بالباطل في النار لآليات التي تلوناها .
وقولــه (( :ومــن يفعــل ذلــك عــدواناً وظلم ـاً )) [ النســاء ] 45 :يحتمــل مــن يفعــل ذلــك مســتحالً ويحتمــل
الجميع .
وقوله (( :وان الفجار لفي جحيم ( [ )) )43االنفطار ] 43 :يحتمـل الـبعض مـنهم وهـم الكفـار ويحتمـل
الجميع وكذلك الجواب عن كل آية في الوعيد .
فــإن قــال قائــل :مــا الــدليل علــى إمامــة أبــي بكــر رضــي اهلل عنــه .قيــل لــه :الداللــة علــى ذلــك أنــا وجــدنا
الناس على كالكة أصناف :
قائلين :يقولون بإمامة علـي بعـد الرسـول صـلى اهلل عليـه وسـلم وقـائلين :يقولـون بإمامـة العبـاس رضـي
اهلل عنه وقائلين :يقولون بإمامة أبي بكر رضي اهلل عنه .
والعباس قد بايعاه وأنقادا ألمره في كافة المسـلمين وان كـان قـد توقـف عـن البيعـة متوقفـون ورأينا علياً
وقتاً ما فقد أطبقوا على البيعة له واالنقياد إلمامته والكون تحت رايته واتباع أمره وقالوا له (( :يـا خليفـة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم )) وال يجوز أن يجمع األمة على خطأ .
وال يجوز لمدع أن يدعي أن باطن علي والعباس بخالف ما أظهراه ولو جاز ذلك لم يجز لنا أن نقضي
على صحة إجماع من األمة على شيء ألنا ال نأمن أن يكون باطن بعض األمة خالف ظاهرهم .
فلما كان بما يظهر من األمة من االتفـاق قـد يعلـم بـه اإلجـامع وال يلتفـت إلـى عـوى مـن ادعـى البـاطن
وكان مدعي ذلك كقائل يقول من الخوارج :من يقول أن باطن علي بخالف ظاهره ؟
فلما كان في هذا إبطال اإلجماع وجـب القضـاء علـى إمامـة أبـي بكـر بعقـد مـن عقـدها لـه مـن المسـلمين
وبيعــة مــن بايعــه مــن المهــاجرين واألنصــار واجمــاع المســلمين عليــه فــي وقتــه ال ســيما وعلــي والعبــاس
عاقدان له البيعة على أنفسهما و مقران له باإلمامة وخالفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإذا كانت
اإلمامة ال تخرج عن هؤالء الكالكة بإجماع وقد بايعاه فـي كافـة المسـلمين وجـب أن يكـون إمامـاً مفتـرض
الطاعة .
وقــد نطــق الق ـ ن بإمامــة الصــديق ودل علــى إمامــة الفــاروق وذلــك أن اهلل تعــالى قــال فــي ســورة ب ـراءة
للقاعدين عن نصرة نبيه صلى اهلل عليه وسلم والمتخلفين عن الجهاد معـه (( :فَ ُق ْـل لَ ْـن تَ ْخ ُرُجـوا َم ِعـي أََبـداً
ِِ ولَ ْن تُقَاتِلُوا م ِعي ع ُدواً إَِّن ُكم ر ِ
ين ([ )) )74التوبة .] 74 : ود أ ََّو َل َمَّرٍة فَا ْق ُع ُدوا َم َع ا ْل َخالف َ
ضيتُ ْم بِا ْلقُ ُع ِ َ ّ ْ َ َ َ
َن ُيَب خدلُوا
ون أ ْ ونا َنتَّبِ ْع ُك ْم ُي ِر ُ
يد َ وها َذ ُر َ ون إِ َذا انطَلَ ْقتُ ْم إِلَى َم َغانِ َم لِتَأ ُ
ْخ ُذ َ َّ
وقال في سورة أخرى َ (( :سَيقُو ُل ا ْل ُم َخلفُ َ
الم اللَّ ِه )) [ الفت - ] 46 : ،يعني قوله (( :لَ ْن تَ ْخ ُر ُجـوا َم ِعـي أََبـداً َولَ ْـن تُقَـاتِلُوا َم ِعـي َع ُـد ّواً )) [ التوبـة : َك َ
ـون إِالَّ َقلِـيالً ()46 ـانوا ال َي ْفقَهُ َ ونَنا َب ْـل َك ُ
ون َب ْـل تَ ْح ُس ُـد َ َّ ِ ِ
] 74كم قال َ (( :ك َذل ُك ْم قَـا َل اللـهُ م ْـن قَْبـ ُل فَ َس َـيقُولُ َ
)) [ الفت. ] 46 : ،
وقد علمنا أن الداعي لهم غير النبي صلى اهلل عليه وسلم ألنه قال لنبيه ((فَ ُق ْل لَ ْن تَ ْخ ُرُجوا َم ِعـي أََبـداً ))
[ التوبة . ] 74 :
الم اللَّ ِه )) [ الفت ] 46 : ،فمنعهم اهلل تعالى عن الخروج مـع َن ُيَب خدلُوا َك َ
ون أ ْ وقال في سورة الفتُ (( ،ي ِر ُ
يد َ
نبيــه صــلى اهلل عليــه وســلم وجعــل خــروجهم معــه تبــديالً لكالمــه .فوجــب أن الــداعي الــذي أمــروا باتباعــه
دا ٍع يدعوهم بعد الرسول .
وقد قال الناس قولين :قال بعضهم :هم فارس والروم وقال آخرون :هم أهل اليمامة .
وأبو بكر قاتل الروم وأهل اليمامة وقوتلن فارس في أيامه وظهر بهم من بعده .
فإن كانوا أهل اليمامة أو الروم فقد قاتلهم أبو بكر رضي اهلل عنه وفي ذلك إيجاب إمامته .
وان كانوا فارس فقد قوتلوا في أيامه وفرغ منهم من بعده فقد وجبت إمامة عمر .
واذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر رضي اهلل عنهما ألن أبا بكر عقدها له .
وان كان المعنى من قاتل فارس وفرغ منهم فإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر ألنه هو العاقد
إلمامته .
فدل ما قلناه من القرآن على إمامة الصديق والفاروق .واذا وجبت إمامة أبي بكر بالدالالت التي ذكرناهـا
بظاهر القرآن وبإجماع المسلمين في وقته عليها فسد قول من قـال :إن النبـي صـلى اهلل عليـه وسـلم نـص
على إمامة غيره ألنه ال تجوز إمامة من نص الرسول على إمامة غيره .
إماما .
وهذا يقضي على بطالن قول من قال :إن النبي صلى اهلل عليه وسلم نصب علياً بعده ً
وممــا يبطــل قــول مــن قــال بــالنص علــى أبــي بكــر أن أبــا بكــر قــال لعمــر (( :ابس ـط يــدك أبايعــك )) يــوم
السقيفة .
فلو كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نص على إمامته لم يجز أن يقول (( :ابسط يدك أبايعك )) .
وقد قلنا في األبواب التي تكلمنا عليها قوالً وجي اًز .