أبو الحسن الأشعري- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 62

‫اللمع‬

‫في الرد على أهل الزيغ والبدع‬

‫تأليف‬
‫الشيخ اإلمام أبي الحسن علي بن إسماعيل األشعري‬
‫المتوفي سنة ‪ 423‬هـ‬

‫وفي آخره‬
‫رسالة في استحسان الخوض في علم الكالم‬
‫للمصنف‬
‫الفهرس‬
‫المقدمة‬
‫ترجمة أبو الحسن األشعري‬

‫[ خطبة الكتاب ]‬

‫باب الكالم في وجود الصانع وفاته‬ ‫الباب األول‬

‫المسائل‬

‫[ ما الدليل على أن للخلق صانعاً ]‬

‫[ الباري ال يشبه المخلوقات ]‬


‫[ صانع األشياء واحد ]‬
‫[ ما الدليل على جواز إعادة الخلق ]‬
‫[ إنكار أن يكون اهلل تعالى جسماً ]‬
‫[ اهلل تعالى عالم ]‬
‫[ إن اهلل سميع بصير ]‬
‫[ اهلل لم يزل عالماً ]‬
‫[ إن للباري علماً به علم ]‬

‫باب الكالم في القرآن واإلرادة‬ ‫الباب الثاني‬

‫[ اهلل تعالى لم يزل متكلماً وكالم اهلل غير مخلوق ]‬


‫[ القادر منا على الكالم قد خال من الكالم ]‬

‫باب الكالم في اإلرادة وأنها تعم سائر المحدثات‬ ‫الباب الثالث‬


‫[ اهلل مريد لكل شيء ]‬
‫[ الزعم أنه ال يريد السفه إال سفيه ]‬

‫باب الكالم في الرؤية‬ ‫الباب الرابع‬

‫[ رؤية اهلل تعالى بالإلبصار جائزة ]‬

‫ص َار )) ]‬ ‫ص ُار َو ُه َو ُي ْد ِر ُ‬
‫ك األ َْب َ‬ ‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬ال تُ ْد ِرُكهُ األ َْب َ‬
‫[ لو جاز لزاعم أن يرى القديم ] ‪.‬‬

‫[ هل شاهدتم مرئياً إال جوه اًر أو عرضاً محدوداً ]‬


‫باب الكالم في القدر‬ ‫الباب الخامس‬

‫[ أكساب العباد مخلوقة هلل تعالى ] ‪.‬‬

‫[ إذا كان كسب اإلنسان خلقاً ]‬

‫[ العبد بين النعمة والبلية ]‬

‫[ هل قضى اهلل المعاصي وقدرها ]‬

‫[ الرضا بقضاء اهلل وقدره ولو كف اًر ]‬

‫[ خير الخير ]‬

‫[ هل الشر من اهلل تعالى ]‬

‫ون ُه َـو ِم ْـن ِع ْن ِـد‬ ‫ـاب ومـا ُهـو ِم ْـن ا ْل ِكتَ ِ‬


‫ـاب َوَيقُولُـ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون أَْلسَنتَهُ ْم با ْلكتَاب لتَ ْح َسُبوهُ م ْـن ا ْلكتَ َ َ َ‬
‫[ معنى قوله تعالى ‪َ (( :‬ي ْل ُو َ‬
‫اللَّ ِه )) ‪ [.‬آل عمران ‪. ] ]87 :‬‬

‫[معنى قوله تعالى ‪ (( :‬ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )) ]‬

‫[ معنى قوله تعالى (( الذي أحسن كل شيء )) ]‬

‫[ معنى قوله تعالى ‪ (( :‬وما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطالً )) ]‬

‫[ القول ألهل القدر ]‬

‫[ قول اهلل تعالى ‪ (( :‬أن اهلل بريء من المشركين ورسوله )) ]‬

‫[ من ألقى ذلك في قلبه ]‬

‫[ تسمية القدرية ]‬

‫باب الكالم في االستطاعة‬ ‫الباب السادس‬


‫ٍ‬
‫باستطاعة هي غيره ]‬ ‫[ اإلنسان يستطيع‬

‫[ أليس قد كلف اهلل تعالى الكافرين اإليمان ]‬

‫[ من طبق امرأته وأعتق عبده]‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وعلى الذين يطيقونه فدية )) ]‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وهلل على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيالً )) ]‬

‫[ معنى قوله تعالى ‪ (( :‬وسيحلفون باهلل لو استطعنا لخرجنا معكم )) ]‬


‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬فاتقوا اهلل ما استطعتم )) ]‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً )) ]‬


‫ت ا ْلقَ ِو ُّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين )) ]‬
‫ي األَم ُ‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫استَْأ ِج ْرهُ إِ َّن َخ ْي َر َم ْن ْ‬
‫استَأ َ‬ ‫[ قوله تعالى ‪َ (( :‬يا أََبت ْ‬
‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون (‪] )) )65‬‬

‫باب الكالم في التعديل والتجوير‬ ‫الباب السابع‬

‫[ هل يقدر اهلل على لطف لو فعله بالكفار آلمنوا ]‬

‫[ إن كان اهلل لم يفعل بهم ما يؤمنون ]‬

‫[ هل هلل تعالى أن يؤلم األطفال في اآلخرة ؟ ]‬

‫باب الكالم في اإليمان‬ ‫الباب الثامن‬

‫[ ما اإليمان باهلل تعالى ]‬

‫[ هل الفاسق من أهل القبلة مؤمن ]‬

‫باب الكالم في الخاص والعام والوعد والوعيد‬ ‫الباب التاسع‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وان الفجار لفي جحيم (‪] )) )43‬‬

‫باب الكالم في اإلمامة‬ ‫الباب العاشر‬

‫[ الدليل على إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه ]‬


‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬

‫‪1‬‬
‫قال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬العلماء أمناء الرسل ))‬

‫قيــل ‪ :‬مــن االت العلــم شــيخ فتــاا أي ألقفــال القلــوب وهــو الــذي كلمــت أهليتــه واشــتهرت صــيانته‬
‫وطــول‬ ‫ومــان لــه فــي العلــوم الشــرعية تمــام االطــالع ولــه مــع مــن يوكــق بــه مــن مشــايخ عصـره ككـرة بحـ‬
‫اجتمـاع يفيــد الـتفهم والتعلــيم ويعمــل الطالـب بالتأديــب يوضـ‪ ،‬لهالعبــارة ويجلــي لـه اإلشــارة ويجلــو‬
‫م ـرآة قلبــه بلطــائف المعــارف الــرواردة مــن فضــل اهلل تعــالى مقالــه ألن فــت‪ ،‬كــل واحــد ونــوره علــى حســب‬
‫عال جسيم وقد ألف العلماء فـي بيـان آدابهـا‬ ‫متبوعه ونوره غير خاف أن المشيخة شأنها عظيم وأمرها ٍ‬
‫الرسائل العديدة ‪.‬‬

‫والشيخ بفت‪ ،‬الشين المعجمة لغة ‪ :‬هو من استبان فيه الشيب ‪.‬‬

‫وفي العرف العام ‪ :‬هو العاقل أو المحنك بالتجارب أو المرشد ‪.‬‬

‫وفي العرف الخاص ‪ :‬هو الراسخ في علوم الشرع الكالكة ‪ :‬اإليمان الذي هو مادة علم التوحيد واإلسـالم‬
‫الذي هو مادة علم الفقه واإلحسان الذي هو مادة علم المطلوب في علم السلوك والحقيقة ‪.‬‬

‫إن الشــيخ العلــم المتبحــر الربــاني المربــي المهــذب المرشــد طبيــب شــاف ل ـ رواا بمــا علمــه اهلل مــن فيضــه‬
‫الرحماني ‪.‬‬

‫هكذا هي حال شيخنا اإلمام األشعري فللوهلة األولى يبـدو موقـف األشـعري متناقضـاً وفـي الحقيقـة هـو‬
‫موقف معتدل ودقيق ‪.‬‬

‫إن مفهوم خالق آخر عدا اهلل عند األشعري هو عبارة عن إشراك باهلل وحد لقدرته الكاملة ‪.‬‬

‫في دعواهم أن اإلنسان ال يؤدي أي دور في عملية الفعل الخلقي‬ ‫لكنه مع هذا فهو يخالف أهل الحدي‬
‫إذ حــاول فــي نظريتــه ((الكســب)) أو ((اكتســاب الج ـزاء)) أو (( العقــاب علــى العمــل المجتــرا )) أن‬
‫يجد مخرجاً من معضلة المسؤولية دون أن يضحي بقدرة اهلل المطلقة ‪.‬‬

‫هــو محــور الفعــل (( المكتســب)) أو موضــوعه يصــب‪ ،‬مسـؤالً عنــه بينمــا هــو‬ ‫ذلــك اإلنســان مــن حيـ‬
‫غير مسؤول قطعاً عن الفعل اإلضطراري ‪.‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ( ‪ )477 : 4‬الشجري في األمالي (‪ )57 : 4‬المتقي الهندي‬
‫في كنز العمال (‪ )27962‬ابن عراق في تنزيه الشريعة ( ‪ )73 : 2‬الفتني في تذكرة الموضوعات (‪)23‬‬
‫العجلوني في كشف الخفا (‪ )442‬السيوطي في الآللئ المصنوعة (‪ )443 : 4‬العراقي في المغني عن حمل‬
‫(‪ )4655‬ابن الجوزي في الموضوعات (‪)254 :4‬‬ ‫األسفار (‪ )57 : 4‬ابن أبي حاتم الرازي في علل الحدي‬
‫‪.‬‬
‫إ ن أهم ما في ((إصالا)) األشعري يكمن في استعداده لالستفادة من أسلوب المعتزلة الجدلي كذلك فـي‬
‫وسائر خصوم العقليين ‪.‬‬ ‫التلطيف من حدة مواقف أهل الحدي‬

‫يمتــاز (( كتــاب اللمــع فــي الــرد علــى أهــل الزيــغ والبــدع )) للشــيخ اإلمــام أبــي الحســن علــي بــن إســماعيل‬
‫األشعري بأسلوبه الفلسفي الجزل وتسلسله المنطقي وقوة حجته ‪.‬‬

‫إن أبا حسن األشعري فـي هـذا الكتـاب (( اللمـع فـي الـرد علـى أهـل الزيـغ والبـدع )) يحـاور المعتزلـة حـوا اًر‬
‫هادئاً يفند فيه أفكارهم ويدحض نظرياتهم ويعريها من منهجيتها ومصداقيتها ‪.‬‬

‫لذا يظهر المعتزلة في هذا الكتاب وكأنهم بحاجة إلى إعادة النظر في أفكارهم ومبادئهم ونظرياتهم ‪.‬‬

‫يقع في هذا الباب عشرة أبواب ‪:‬‬

‫تناول في الباب األول الكالم في وجود الصانع وصفاته والباب الكاني الكالم في القرآن واإلرادة والباب‬
‫الكــالم فــي اإلرادة وأنهــا تعــم ســائر المحــدكات والبــاب ال اربــع الك ـالم فــي الرؤيــة والبــاب الخــامس‬ ‫الكالـ‬
‫الكالم في القـدر والبـاب السـادس الكـالم فـي االسـتطاعة والبـاب السـابع الكـالم فـي التعـديل والتجـوير‬
‫والباب الكامن الكالم في اإليمان والباب التاسع الكالم في الخاص والعـام والوعـد والوعيـد والبـاب‬
‫العاشر الكالمفي اإلمامة ‪.‬‬

‫وقد ختم الكتاب برسالة في استحسان الخوض في علـم الكـالم واسـناد نقلـة المـتن وقـول منكـري البحـ‬
‫والنظر فـي أصـول الـدين‬ ‫والنظر في أصول الدين ‪ .‬وأورد في آخره إجابات رد فيها على منكرين البح‬
‫‪.‬‬

‫أما ماقمت به من عمل في هذا الكتاب فهو ضبط النص وترتيب فقراته وعنونة فقراته ‪.‬‬

‫كمــا قــدمت لــه وترجمــت لمؤلفــه اإلمــام االشــيخ أبــي الحســن األشــعري ترجمــة وافيــة ذكــرت فيهــا نســبه‬
‫ومولده ونشأته ووفاته وأرزاقه وأساتذته ومصنفاته العديدة ‪.‬‬

‫محمد أمين الضناوي‬


‫األشعري‪ 1‬‬ ‫أبو الحسن‬

‫ترجمته‬

‫أبو الحسن األشعري علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بـن عبـد اهلل بـن موسـى‬
‫صـاحب رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم ؛ هـو‬ ‫‪2‬‬
‫بن بالل بن أبي بردة عـامر بـن أبـي موسـى األشـعري‬
‫صاحب األصول والقائم بنصرة مذهب السـنة واليـه تنسـب الطائفـة األشـعرية فهـو بـذلك مؤسـس مـذهب‬
‫األشاعرة كان من األئمة المتكلمين المجتهدين ‪.‬‬

‫مولده ونشأته‬

‫ولد سنة ‪ 255‬هجرية ‪ 783 /‬م في البصرة وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم كم رجع وجاهر بخالفهم‬
‫وقد بلغ األربعين من العمر ‪.‬‬

‫فما‬ ‫قيل ‪(( :‬إن النبي صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم ظهر له في المنام موع اًز إليه ‪ (( :‬ارع أمتي ))‬
‫كان من األ شعري إال أن اعتلى منبر المسجد في البصرة وأعلن ارتداده وعزمه على التشهير بفضائ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫المعتزلة ومعايبهم ))‬

‫قال ابن خلكان في وفيات األعيان ‪ (( :‬كان أبو الحسن األشعري أوالً معتزلياً كم تاب من القول بالعدل‬
‫و رقي كرسياً ونادى بأعلى صوته ‪ :‬من عرفني‬ ‫وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة‬
‫كنت أقول بخلق القرآن وأن اهلل ال‬ ‫أنا فالن بن فالن‬ ‫ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي‬ ‫فقد عرفني‬

‫لالستزادة يراجع ‪ :‬طبقات الشافعية (‪ )24236‬المقريزي (‪ ) 469 :2‬ابن خلكان في وفيان األعيان ( ‪ ) 239 : 4‬ابن ككير في‬ ‫‪1‬‬

‫البداية والنهاية (‪. ) 478 : 44‬‬

‫هو عبد اهلل بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهير بن‬ ‫‪2‬‬

‫األشعر أبو موسى األشعري من بني األشعر من قحطان صحابي من الشجعان الوالة الفاتحين أحد الحكمين اللذين رضي‬
‫بهما معاوية وعلي بعد حرب صفين ولد في زبيد باليمن سنة ‪ 4‬ق ‪ .‬هـ قدم مكة عند ظهور اإلسالم فأسلم وهاجر إلى أرض‬
‫الحبشة كم استعمله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على زبيد وعدن واله عمر بن الخطاب البصرة سنة ‪ 48‬هـ افتت‪ ،‬أصبهان‬
‫واألهواز ولما ولي عكمان أقره عليها كم عزله فانتقل إلى الكوفة فطلب أهلها من عكمان توليته عليهم فواله فأقام بها إلى أن‬
‫قتل عكمان فأقره علي كم كانت وقعة الجمل وأرسل علي يدعو أهل الكوفة لينصروه فأمرهم أبو موسى بالقعود في الفتنة فعزله‬
‫علي فأقام إلى أن كان التحكيم وخدعه عمرو بن العاص فارتد أبو موسى إلى الكوفة فتوفي سنة ‪ 33‬هـ كان أحسن الصحابة‬
‫‪ (( :‬سيد الفوارس أبو موسى )) ‪ .‬لالستزادة راجع ‪ :‬تهذيب الكمال ج‪/ 2‬‬ ‫صوتاً في التالوة خفيف الجسم قصي اًر وفي الحدي‬
‫ص‪ 823‬تهذيب التهذيب ج‪ / 6‬ص‪ 425‬تقريب التهذيب ج‪ / 4‬ص‪ 334‬خالصة تهذيب الكمال ج‪ / 2‬ص ‪ 79‬الكاشف ج‪/ 2‬‬
‫ص‪ 449‬تاريخ البخاري الكبير ج‪ / 6‬ص‪ 22‬الجرا والتعديل ج‪/ 6‬ص‪ 447‬الكقات ج‪/ 4‬ص‪ 224‬التجريد ج‪ / 4‬ص‪445‬‬
‫اإلصابة ج‪/3‬ص ‪ 244‬اإلستيعاب ج‪ / 4‬ص ‪ 589‬الوافي بالوفيات ج‪ / 48‬ص ‪ 358‬سير األعالم ج‪ / 2‬ص ‪ 475‬صفة‬
‫الصفوة ج‪ / 4‬ص‪ 226‬طبقات ابن سعد ج‪ / 3‬ص‪ 89‬غاية النهاية ج‪ / 4‬ص ‪ 332‬حلية األولياء ج‪ / 4‬ص ‪. 265‬‬
‫ماجد فخري تاريخ الفلسفة اإلسالمية ص ‪. 279‬‬ ‫‪3‬‬
‫مخرج‬ ‫معتقد للرد على المعتزلة‬ ‫وأنا تائب مقلع‬ ‫تراه األبصار و أن أفعال الشر أنا أفعلها‬
‫لفضائحهم ومعايبهم ))‪. 1‬‬

‫قال ابن خلكان في وفيات األعيان عن أبي بكر الصيرفي ‪ (( :‬كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى‬
‫أظهر اهلل األشعري فحجرهم في أقماع السمسم ))‪. 2‬‬

‫وفاته‬

‫وباب البصرة ‪ .‬هذا ما ذكره ابن الهمذاني في ((‬ ‫توفي ببغداد سنة ‪423‬هـ ‪945 /‬م ‪ .‬ودفن بين الكرخ‬
‫ذيل تاريخ الطبري )) ‪.‬‬

‫قال ا بن خلكان في وفيات األعيان ‪(( :‬ودفن في مشروع الزوايا في تربة إلى جانبها مسجد وبالقرب منه‬
‫حمام وهو يسار المار من السوق إلى دجلة ))‪.3‬‬

‫أرزاقه‬

‫قال ابن خلكان في وفيات األعيان عن ابن الخطيب ‪ (( :‬وكان يأكل من غلة ضعيفة وقفها جده بالل بن‬
‫أبي بردة ابن أبي موسى على عقبه وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهماً ))‪. 4‬‬

‫أساتذته‬

‫أبو إسحاق المروزي‬

‫الفقيه الشافعي في جامع‬ ‫كان أبو الحسن األشعري يجلس أيام الجمع في حلقة أبي إسحاق المروزي‬
‫المنصور ببغداد ويتعلم منه ويتتلمذ عليه لكنه كان دائم إعمال الفكر واالجتهاد والتأويل ‪.‬‬

‫الجبائي‬

‫درس أبو حسن األشعري علم الكالم على يد الجبائي رئيس معتزلة البصرة ‪.‬‬

‫مات‬ ‫ل شعري مناظرة مع الجبائي سأل فيها التلميذ أستاذه ‪ :‬ما حال كالكة إخوة في الحياة اآلخرة‬
‫أحدهم على اإليمان وكانيهم على الفسق وكالكهم قبل بلوغ سن الرشد ‪.‬‬

‫بمنزلة بين المنزلتين ‪.‬‬ ‫يجيب األستاذ ‪ :‬يلحق األخ الصال‪ ،‬بالنعيم والفاسق بالجحيم والكال‬

‫أن يلحق بأخيه األول في النعيم ؟‬ ‫فيسأل األشعري كانياً ‪ :‬ماذا لو أراد األخ الكال‬

‫فيجيب الجبائي ‪ :‬ال يؤذن له ألن أخاه األول لحق بالنعيم بسبب طاعاته الككيرة ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫أنه لو أبقاه اهلل الختار حياة البر فماذا يحد‬ ‫فيقول األشعري ‪ :‬فإذا احتج األخ الكال‬

‫‪ 1‬ابن خلكان وفيات األعيان ج‪ / 4‬ص ‪. 265‬‬


‫‪ 2‬ابن خلكان ‪ ،‬وفيات األعيان ‪ ،‬ج‪ / 4‬ص‪. 265‬‬
‫‪ 3‬ابن خلكان ‪ ،‬وفيات األعيان ‪ ،‬ج‪ / 4‬ص ‪. 265‬‬
‫‪ 4‬ابن خلكان ‪ ،‬وفيات األعيان ‪ ،‬ج‪ /4‬ص‪. 265‬‬
‫فراعيت مصلحتك وكفيتك عذاب‬ ‫فيجيب الجبائي ‪ :‬يقول الباري ‪ :‬كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت‬
‫الجحيم المقيم ‪.‬‬

‫فلم راعيت‬ ‫لقد علمت حالي أيضاً‬ ‫فيقول األشعري ‪ :‬لو صاا األخ الفاسق قائالً ‪ :‬يا إله العالمين‬
‫مصلحته دون مصلحتي ؟ فبماذا يجيب ؟‬

‫عندها عجز الجبائي عن اإلجابة عما عسى أن يكون رد اهلل على هذه االحتجاجات ‪.‬‬

‫مذهبه‬

‫علع هذه المناظرة السالفة الذكر ما دفع األشعري إلى القول بأن من حق اهلل وحده أن يدبر شؤون البشر‬
‫كما يشاء ‪.‬‬

‫خالفاً لدعوى المعتزلة الذين شددوا على حرية العبد‬ ‫وأن من واجب (( العبد )) اإلطاعة دون استفسار‬
‫ومسؤوليته ووصفوه بأنه خالق ألفعاله ‪.‬‬

‫مصنفاته‬

‫قيل ‪ :‬بلغت مصنافته حوالي الكالكمائة كتاب منها ‪:‬‬

‫‪ -‬إمام الصديق ‪.‬‬

‫‪ -‬الرد على المجسمة ‪.‬‬

‫‪ -‬مقاالت اإلسالميين ‪ .‬طبع في جزءين ‪.‬‬

‫‪ -‬اإلبانة عن أصول الديانة ‪ .‬طبع ‪.‬‬

‫‪ -‬رسالة في اإليمان ‪ .‬مخطوطة ‪.‬‬

‫‪ -‬مقاالت الملحدين ‪.‬‬

‫‪ -‬الرد على ابن الراوندي ‪.‬‬

‫‪ -‬خلق األعمال ‪.‬‬

‫‪ -‬األسماء واألحكام ‪.‬‬

‫‪ -‬استحسان الخوض في الكالم ‪ .‬طبع وهو عبارة عن رسالة ‪.‬‬


‫[ خطبة الكتاب ]‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫وبه أستعين‬

‫الحمــد هلل ذي الجــود والكنــاء والمجــد والســناء والعــز والكبريــاء أحمــده علــى س ـوابغ النعمــاء وجزيــل العطــاء‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له عنده اللقاء وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم األنبياء ‪.‬‬

‫أمــا بعــد فإنــك ســألتني أن أصــنف لــك كتابـاً مختصـ اًر أبــين فيــه جمـالً توضــ‪ ،‬الحــق وتــدمغ الباطــل النــاطق‬
‫بالظلوف فرأيت إسعافك بذلك رحمك وأغدق عليك اهلل الخيرات وأعانك على الخبر بالمطلوبات ‪.‬‬

‫الباب األول‬

‫باب الكالم في وجود الصانع وفاته‬

‫مسألة‬

‫[ ما الدليل على أن للخلق صانعاً ]‬

‫إن ســأل ســائل فقــال ‪ :‬مــا الــدليل علــى أن للخلــق صــانعاً صــنعه ومــدب اًر دب ـره ‪ .‬قيــل الــدليل علــى ذلــك أن‬
‫اإلنســان الــذي هــو فــي غايــة الكمــال والتمــام كــان نطفــة كــم علقــة كــم مضــغة كــم لحمـاً وعظمـاً ودومـاً ‪ .‬وقــد‬
‫علمنـا أنــه لــم ينقـل نفســه مــن حــال إلـى حــال ألنــا نـراه فـي حــال كمــال قوتــه وتمـام عقلــه ال يقــدر أن يحــد‬
‫لنفسه سمعاً وال بص اًر وال أن يخلق لنفسه جارحة يدل ذلك علـى أنـه فـي حـال ضـعفه ونقصـانه عـن فعـل‬
‫ذلك أعجز ألن ما قدر عليه في حال النقصان فهـو فـي حـال الكمـال عليـه أقـدر ومـا عجـز عنـه فـي حـال‬
‫الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز ‪ .‬ورأيناه طفالً كم شاباً كم كهـالً كـم شـيخاً وقـد علمنـا أنـه لـم ينقـل‬
‫نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم ألن اإلنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهـرم ويردهـا‬
‫إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ما وصفنا على أنه ليس هو الذي ينقل نفسه في هـذه األحـوال وأن لـه‬
‫ناقالً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه ألنه ال يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقـل وال‬
‫مدبر ‪.‬‬

‫مما يبين ذلك أن القطن ال يجوز أن يتحول غزالً مفتوالً كم كوباً منسوجاً بغير ناسج وال صـانع والمـدبر‬
‫ومــن اتخــذ قطنـاً كــم انتظــر أن يصــير غـزالً مفتـوالً كــم كوبـاً منســوجاً بغيــر صــانع وال ناســج كــان عــن معقــول‬
‫خارجـاً وفـي الجهـل والجـاً ‪ .‬وكـذلك مـن قصـد إلـى بريـة لـم يجـد فيهـا قصـ اًر مبنيـاً فـانتظر أن يتحـول الطــين‬
‫إلى حالة اآلجر وينتضد بعضه على بعض بغير صانع وال بان كان جاهالً ‪.‬‬

‫واذا كان تحول النطفة علقة كم مضغة كم لحماً ودماً وعظماً أعظـم فـي األعجوبـة كـان أولـى أن يـدل علـى‬
‫صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال ‪.‬‬

‫ون (‪ [ )) )69‬الواقعـة ‪- 67‬‬ ‫ونـه أَم َن ْحـن َ ِ‬


‫الخـالقُ َ‬ ‫ـون (‪ )67‬أَأَنـتُ ْم تَ ْخلُقُ َ ُ ْ ُ‬
‫ـرَْيتُم َّمـا تُ ْمُن َ‬
‫ولقد قال اهلل تعالى ‪ (( :‬أَفَ َأ‬
‫‪ ] 69‬فمــا اســتطاعوا أن يقولـوا بحجــة أنهــم يخلقــون مــا يمنــون مــع تمنــيهم الولــد فــال يكــون ومــع كـراهتهم لــه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ [ )) )24‬الـذاريات‬ ‫فيكون ‪ .‬وقد قال اهلل تعالى منبهاً لخلقه على وحدانيتـه (( َوِفـي أَنفُسـ ُك ْم أَفَـالَ تُْبص ُـر َ‬
‫‪ ] 24 :‬يبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم ‪.‬‬
‫فــإن قــالوا ‪ :‬فمــا يــؤمنكم أن تكــون النطفــة لــم تــزل قديمــة ‪ .‬قيــل لهــم ‪ :‬لــو كــان ذلــك مــا ادعيــتم لــم يجــز أن‬
‫يلحقهــا االعتمــال والتــأكير وال االنقــالب والتغييــر ألن القــيم ال يجــوز انتقالــه وتغي ـره وأن يجــري عليــه ســمات‬
‫كــان‬ ‫ومــا لــم يســبق المحــد‬ ‫ألن مــا جــرى ذلــك عليــه ولزمتــه الضــعة لــم ينفــك مــن ســمات الحــد‬ ‫الحــد‬
‫محدكاً مصنوعاً فبطل بذلك قد النطفة وغيرها من األجسام ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ الباري ال يشبه المخلوقات ]‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬لــم زعمــتم أن البــاري ســبحانه ال يشــبه المخلوقــات ‪ .‬قيــل ألنــه لــو أشــبهها لكــان حكمــه فــي‬
‫حكمهــا ولــو أشــبهها لــم يخــل مــن أيشــبهها مــن كــل الجهــات أو مــن بعضــها فــإن أشــبهها مــن جميــع‬ ‫الحــد‬
‫الجهات كان محدكاً مكلها من جميع الجهات ‪.‬‬

‫لم يزل قديماً وقد قال اهلل‬ ‫أشبهها ويستحيل أن يكون المحد‬ ‫وان أشبهها من بعضها كان محدكاً من حي‬
‫[‬ ‫تعــالى ‪ (( :‬لــيس كمكلــه شــيء )) [ الشــورى ‪ ] 44 :‬وقــال تعــالى ‪ (( :‬ولــم يكــن لــه كف ـواً أحــد ))‬
‫اإلخالص ‪. ] 3 :‬‬

‫مسألة‬

‫[ صانع األشياء واحد ]‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬لــم قلــتم أن صــانع األشــياء واحــد ‪ .‬قيــل لــه ألن االكنــين ال يجــري تــدبيرهما علــى نظــام وال‬
‫يتســق علــى إحكــام وال بــد أن يلحقهمــا العجــز أو واحــداً منهمــا ألن أحــدهما إذا أراد أن يحيــي إنســاناً وأراد‬
‫اآلخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً أو ال يتم مرادها أو يتم مراد أحدهما دون اآلخر ‪.‬‬

‫ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً ألنه يستحيل أن يكون الجسم حياً ميتاً في حال واحدة وان لم يـتم مرادهمـا‬
‫جميعاً وجب عجزهما والعاجز ال يكون إلهاً وال قديماً ‪.‬‬

‫وان تم مراد أحدهما دون اآلخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما والعاجز ال يكون إلهاً وال قديماً ‪.‬‬

‫ـان ِفي ِه َمــا آلِهَـةٌ إِالَّ اللَّــهُ لَفَ َسـ َـدتَا )) [‬


‫فــدل مــا قلنــاه علــى أن صــانع األشــياء واحــد وقــد قــال تعــالى ‪ (( :‬لَـ ْو َكـ َ‬
‫األنبياء ‪ ] 22 :‬فهذا معنى احتجاجنا آنفاً ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ ما الدليل على جواز إعادة الخلق ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬ما الدليل على جواز إعـادة الخلـق ‪ .‬قيـل لـه الـدليل علـى ذلـك أن اهلل سـبحانه خلقـه أوالً ال‬
‫ب لََنـا َمـكَالً‬
‫ض َـر َ‬
‫علـى مكـال سـبق فـإذا خلقــه أوالً لـم يعيبـه أن يخلقـه خلقـاً آخـر وقـد قـال عــز وجـل ‪َ (( :‬و َ‬
‫َها أ ََّو َل م َّـرٍة و ُهـو بِ ُك خـل َخ ْلـ ٍ ِ‬ ‫يم (‪ )87‬قُ ْل ُي ْحيِيهَـا الَّ ِـذي أ َ‬ ‫ِ‬ ‫َوَن ِس َي َخ ْلقَهُ قَ َ‬
‫ـيم‬
‫ق َعل ٌ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َنشـأ َ‬ ‫ال َمن ُي ْحيِي العظَ َام َوِه َي َرِم ٌ‬
‫(‪ [ )) )89‬يس ‪ . ] 89 - 87 :‬فجعل النشأة األولى دلـيالً علـى جـواز النشـأة اآلخـرة ألنهـا فـي معناهـا كـم‬
‫ون (‪ [ )) )75‬يــس‪ ] 75 :‬فجعــل‬ ‫ضـ ِـر َنــا اًر فَـِإ َذا أَنــتُم خم ْنــهُ تُوِقـ ُـد َ‬ ‫ـج ِر األ ْ‬
‫َخ َ‬ ‫قــال‪ (( :‬الَّـ ِـذي َج َع ـ َل لَ ُكــم خمـ َـن َّ‬
‫الشـ َ‬
‫ظهور النار على حرها ويبسها من الشجر األخضر على ندارته ورطوبته دليالً على جواز خلقه الحياة في‬
‫الســمو ِ‬
‫ات‬ ‫الرمــة الباليــة والعظــام النخ ـرة وعلــى قدرتــه علــى خلــق مكلــه كــم قــال ‪ (( :‬أ ََولَـ ْـي َس الَّـ ِـذي َخلَـ َ‬
‫ـق َّ َ َ‬
‫ق ِمكْلَهُم )) [ يس ‪ ] 74 :‬وهذا هو المعول عليـه فـي الحجـاج فـي جـواز إعـادة‬
‫ض بِقَ ِاد ٍر َعلَى أَن َي ْخلُ َ‬‫َواأل َْر َ‬
‫الخلق ‪.‬‬

‫وهذا هو الـدليل أيضـاً علـى صـحة الحجـاج والنظـر ألن اهلل تعـالى حكـم فـي الشـيء بحكـم مكلـه وجعـل‬
‫ســبيل النظيــر ومج ـراه مجــرى نظي ـره وقــد قــال تعــالى ‪ (( :‬اهلل يبــدؤا الخلــق كــم يعيــده )) [ الــروم ‪]44 :‬‬
‫وقوله تعالى ‪ (( :‬وهو الذي يبدؤا الخلق كم يعيده وهو أهون عليه )) [ الروم ‪ ] 28 :‬يريد وهو هين عليه‬
‫فيجعل اإلبتداء كاإلعادة ‪.‬‬

‫فـإن قـال قائـل ‪ :‬زيـدوني وضــوحاً فـي صـحة النظـر ‪ .‬قيــل لـه قـول اهلل مخبـ اًر عــن إبـراهيم عليـه السـالم لمــا‬
‫ـين (‪َ )85‬فلَ َّمــا َأرَى القَ َمـ َـر َب ِازغـاً قَــا َل َهـ َذا َرخبــي‬ ‫ُحـ ُّ ِ ِ‬ ‫رأى الكوكــب ‪ (( :‬قَــا َل َهـ َذا رخبــي َفلَ َّمــا أَ َفـ َل قَــا َل الَ أ ِ‬
‫ـب اآلفلـ َ‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفلَ َّما أَ َف َل قَا َل لَئِن لَّ ْم َي ْه ِدنِي َربخي ألَ ُك َ‬
‫ين (‪ [ )) )88‬األنعـام ‪ ] 88 - 85 :‬فجمـع عليـه‬ ‫ـون َّن م َـن القَ ْـوم الضَّـال َ‬
‫السـالم القمـر والكواكـب فــي أنـه ال يجـوز أن يكـون واحــداً منهمـا إلهـاً ربـاً الجتماعهمــا فـي األفـول وهـذا هــو‬
‫النظر الذي ينكره المنكرون وينحرف عنه المنحرفون ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ إنكار أن يكون اهلل تعالى جسماً ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬لم أنكرتم أن يكون اهلل تعـالى جسـماً ؟ قيـل لـه ‪ :‬أنكرنـا ذلـك ألنـه ال يخلـو أن يكـون القائـل‬
‫لذلك أراد ما أنكرتم أن يكون طويالً عريضاً مجتمعاً أو أن يكون أراد تسميته جسماً وان لم يكن طويالً‬
‫عريضاً مجتمعاً كما يقال ذلك ل جسام فيما بيننا فهذا ال يجوز ألن المجتمع ال يكون شيئاً واحداً ‪.‬‬

‫ألن أقل قليل االجتماع ال يكون إال بين شيئين ألن الشيء الواحد ال يكون لنفسه مجامعـاً وقـد بينـا آنفـاً أن‬
‫اهلل عز وجل شيء واحد فبطل بذلك أن يكون مجتمعـاً ‪ .‬وان أراد لـم ال تسـمونه جسـماً وان لـم يكـن طـويالً‬
‫عريضاً مجتمعاً ‪.‬‬

‫فاألسماء ليست إلينا وال يجوز لنا أن نسمي اهلل تعالى باسم لم يسـم بـه نفسـه وال سـماه بـه رسـوله وال أجمـع‬
‫المسلمون عليه وال على معناه ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ اهلل تعالى عالم ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬لم قلتم أن اهلل تع الى عـالم ؟ قيـل لـه ‪ :‬ألن األفعـال المحكمـة ال تتسـق فـي الحكمـة إال مـن‬
‫عالم وذلك أنه ال يجوز أن يحوك الديباج بالنقاوير ويصنع دقـائق الصـناعة مـن ال يحسـن ذلـك وال يعلمـه‬
‫‪.‬‬

‫فلمــا رأينــا اإلنســان علــى مــا فيــه مــن اتســاق الحكمــة كالحيــاة التــي ركبهــا اهلل فيــه والســمع والبصــر ومجــاري‬
‫الطعــام والشـراب وانقســامه فيــه ومــا هــو عليــه مــن كمالــه وتمامــه والفلــك ومــا فيــه مــن شمســه وقمـره وكواكبــه‬
‫ومجاريها دل ذلك على أن الذي صنع ما ذكرناه لم يكن يصنعه إال وهو عالم بكيفيته وكنهه ‪.‬‬
‫من حكـم الحيـوان وتـدابيرهم‬ ‫الصنائع الحكمية ال من عالم لم ندر لعل جميع ما يحد‬ ‫ولو جاز أن تحد‬
‫إال‬ ‫منهم وهم غير عالمين فلما استحال ذلك دل علـى أن الصـنائع المحكمـة ال تحـد‬ ‫وصنائعهم يحد‬
‫من عالم ‪.‬‬

‫الصــنائع إال عمـن قـادر حـي ألنــه لـو جـاز حـدوكها ممــن لـيس بقـادر وال حـي لــم‬ ‫كـذلك ال يجـوز أن تحـد‬
‫ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر مـنهم وهـم عجـزة مـوتى فلمـا اسـتحال ذلـك دلـت الصـنائع علـى‬
‫أن اهلل تعالى حي قادر ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ إن اهلل سميع بصير ]‬

‫فـإن قـال قائـل ‪ :‬لـم قلـتم أن اهلل ســميع بصـير ؟ قيـل لـه ‪ :‬ألن الحـي إذا لــم يكـن موصـوفاً ب فـة تمنعـه مــن‬
‫إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت فهو سميع بصير ‪.‬‬

‫فلما كان اهلل تعالى حياً ال يجـوز عليـه اآلفـات مـن الصـمم والعمـى وغيـر ذلـك إذا كانـت اآلفـات تـدل علـى‬
‫حدو من جازت عليه ص‪ ،‬أنه سميع بصير ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ اهلل لم يزل عالماً ]‬

‫فإن قال أتقولون إن اهلل تعالى لم يزل عالماً قاد اًر سميعاً بصي اًر ‪ .‬قيل له ‪ :‬كذلك نقول ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فما الدليل على ذلك ؟ قيل له ‪ :‬الدليل على ذلك أن الحي إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضد‬
‫العلم من الجهل أو الشك أو اآلفات ‪.‬‬

‫فلو كان الباري تعالى لم يزل حياً غيـر عـالم لكـان موصـوفاً بضـد العلـم ( ولـو كـان موصـوفاً بضـد العلـم )‬
‫العلم‬ ‫من الجهل أو الشك واآلفات ( فلو كان الباري تعالى لم يزل حياً غير عالم لكان موصوفاً بضد‬
‫)‪.‬‬

‫لو كان للم يزل موصوفاً بضد العلم السـتحال أن يعلـم ألن ضـد العلـم لـو كـان قـديماً السـتحال أن يبطـل‬
‫واذا اســتحال أن يبطــل ذلــك لــم يجــز أن يصــنع الصــنائع الحكميــة فلمــا صــنعها ودلــت علــى أنــه عــالم صــ‪،‬‬
‫وكبت أنه لم يزل عالماً إذ قد استحال أن يكون لم يزل بضد العلم موصوفاً ‪.‬‬

‫وكذلك لو كان لم يزل حياً غير قادر لوجب أن يكون لـم يـزل عـاج اًز موصـوفاً بضـد القـدرة ولـو كـان عجـزه‬
‫األفعال منه ‪.‬‬ ‫قديماً الستحال أن يقدر وأن تحد‬

‫وكذلك لو كان لم يزل حياً غير سميع وال بصير لكان لم يزل موصوفاً بضد السـمع مـن الصـمم واآلفـات‬
‫فـدل مـا‬ ‫وبضد البصر من العمى واآلفات ومحال جواز اآلفات على الباري ألنها من سمات الحـد‬
‫قلناه على أن اهلل تعالى لم يزل عالماً قاد اًر سميعاً بصي اًر ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫[ إن للباري علماً به علم ]‬

‫فإن قال قائل لم قلتم إن للباري تعـالى علمـاً بـه علـم ؟ قيـل لـه ‪ :‬ألن الصـنائع الحكميـة كمـا ال تقـع منـا إال‬
‫منا إال من ذي علم فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منـه منـا لـم تـدل‬ ‫من عالم كذلك ال تحد‬
‫على أن من ظهرت منه منا فهو عالم ‪.‬‬

‫فلو دلت على أن الباري تعالى عالم قياساً علـى داللتهـا أنـا علمـاء ولـم تـدل علـى أن لـه علمـاً قياسـياً علـى‬
‫داللتها على أن لنا علماً لجاز لزاعم أن يزعم أنها تدل على علمنـا وال تـدل علـى أنـا علمـاء ‪ .‬واذا لـم يجـز‬
‫هذا لم يجزه ما قاله هذا القائل ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فما أنكرتم أن ال تدل األفعـال الحكميـة علـى علـم العـالم منـا كمـا دلـت علـى أنـه عـالم ألنـه لـيس‬
‫معنى العالم منا أن له علماً ألنه قد يعلم العالم من اعالماً من ال يعلم أن له علماً ؟ قيل له ‪ :‬إن جاز لـك‬
‫أن تزعم هذا جاز لغيرك أن يزعم أن األفعال الحكميـة تـدل علـى أن لـي علمـاً بهـا وال تـدل علـى أنـي عـالم‬
‫ألنــه لــيس معنــى العــالم أن لــه علم ـاً ألنــه قــد يعلــم اإلنســان منــا أن لــه علمـاً مــن ال يعلمــه عالمـاً وأيض ـاً ال‬
‫شيء ‪.‬‬

‫وأيضاً هذه الدعوى عندي فاسدة وذلك أن معنى العالم عندي أن له علماً ومن لم يعلم لزيد علماً لـم يعلمـه‬
‫عالماً ‪.‬‬

‫فإن قال قائـل ‪ :‬فمـا أنكـرتم مـن أن يـدل الفعـل الحكمـي علـى أن لإلنسـان علمـاً هـو غيـره كمـا قلـتم أن يـدل‬
‫على علم ؟ قيل له ‪ :‬ليس إذا دل الفعل الحكمي على أن لإلنسان علمـاً دل علـى أن غيـره كمـا لـيس إذا‬
‫دل على أنه عالم دل على أنه متغاير على وجه من الوجوه ‪.‬‬

‫وأيضاً فإن معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين لآلخـر علـى وجـه مـن الوجـوه فلمـا دلـت الداللـة علـى‬
‫قدم الباري تعالى وعلمه استحال أن يكونا غيرين ‪.‬‬

‫وأيضاً فلو جاز لزاعم أن يـزعم أن الفعـل الحكمـي يـدل علـى أن العلـم علـم كـم يعلـم أنـه لعـالم بعـد ذلـك‬
‫واذا لم يجز هذا وتكافأ القوالن ووجب أن تكون الداللة على أن العالم عالم داللة على العلم ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬من أنه إنما يدل الفعل الحكمي على علم العالم ألنه ممن يجوز أن يموت ويجهل ‪.‬‬

‫قيـل لـه ‪ :‬لـو جـاز هـذا لقائلــه لجـاز لـزاعم أن يـزعم أن الفعـل الحكمـي يــدل علـى أن العـالم عـالم ألنـه ممــن‬
‫يجوز أن يموت ويجهل ‪.‬‬

‫وممــا يبطــل قــول مــن قــال إن داللــة الفعــل الحكمــي علــى علــم العــالم منــا داللــة علــى أنــه غيــر العــالم وأنــه‬
‫فوجـب أن تكـون الداللـة علـى أن العـالم عـالم‬ ‫أن العالم لعلم مـا كـان عالمـاً ال للغيريـة وال للحـد‬ ‫محد‬
‫لوجـود غيـر لـيس بعلـم ومحـد‬ ‫داللة على العلم ‪ .‬ولم يكن العلـم علمـاً ألنـه غيـر العـالم وال ألنـه محـد‬
‫أو أنه غير العالم ‪.‬‬ ‫ليس بعلم فلم يجب أن تكون الداللة على أن العلم علم داللة على أنه محد‬

‫وأيضاً فلو جاز لـزاعم أن يـزعم أن الداللـة علـى أن العلـم علـم داللـة علـى حدكـه أو داللـة علـى أنـه غيـر‬
‫العالم لجاز لزاعم أن يزعم أن الداللة على أن العالم عالم داللة على حدكه وأنه متغاير في ذاته ‪.‬‬
‫والدليل على أن هلل تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن هلل تعالى علماً ‪.‬‬

‫وقد قال ‪ :‬اهلل جل ذكره ‪ (( :‬أنزله بعلمه )) [ النسـاء ‪ ] 455 :‬وقـال (( ومـا تحمـل مـن أنكـى وال تضـع إال‬
‫بعلمه )) [ فاطر ‪ ] 44 :‬فكبـت العلـم لنفسـه وقـال تعـالى ‪ (( :‬أولـم يـروا أن اهلل الـذي خلقهـم هـو أشـد مـنهم‬
‫قوة )) [ فصلت ‪ ] 46 :‬فكبت القوة لنفسه ‪.‬‬

‫ومما يدل علـى أن اهلل تعـالى عـالم بعلـم أنـه ال يخلـو أن يكـون اهلل عالمـاً بنفسـه أو بعلـم يسـتحيل أن يكـون‬
‫هـو نفسـه ‪ .‬فــإن كـان عالمـاً بنفســه كانـت نفســه علمـاً ألن قـائالً لــو قـال ‪ :‬إن اهلل تعـالى عــالم بمعنـى هــو‬
‫غيـره لوجــب عليــه أن يكــون ذلــك المعنــى علمـاً ويســتحيل أن يكــون العلــم عالمـاً أو العــالم علمـاً أو‬
‫يكون اهلل تعالى بمعنى الصفات ‪.‬‬

‫أال تـرى أن الطريـق الـذي بـه يعلـن أن العـالم علـم أن العـالم بـه علـم ألن قـدرة اإلنسـان التـي ال يعلـم بهــا ال‬
‫يجــوز أن تكــون علم ـاً فلمــا اســتحال أن يكــون البــاري تعــالى علم ـاً اســتحال أن يكــون عالم ـاً لنفســه فــإذ‬
‫استحال ذلك ص‪ ،‬أنه عالم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬ما أنكرتم أن يكون الباري سبحانه عالماً ال بنفسه وال بمعنى يستحيل أن يكون هو نفسه ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬لو جاز هذا لجاز أن يكون قولنا عالم لم يرجع به إلى نفسه وال إلى معنى ولم يكبت بـه نفسـه وال‬
‫معنى يستحيل أن يكون هو نفسه واذا لم يجز هذا بطل ما قالوه ‪.‬‬

‫وهذا الدليل يدل على إكبات صفات اهلل تعالى لذاته كلها من الحياة والقدرة والسمع والبصـر وسـائر صـفات‬
‫الذات ‪.‬‬
‫الباب الكاني‬

‫باب الكالم في القرآن واإلرادة‬

‫[ اهلل تعالى لم يزل متكلماً وكالم اهلل غير مخلوق ]‬

‫إن قال قائل ‪ :‬لم قلتم أن اهلل تعالى لم يزل متكلماً وأن كالم اهلل تعالى غير مخلوق ؟‬
‫قيـل لـه ‪ :‬قلنـا ذلـك ألن اهلل تعــالى قـال ‪ (( :‬إنمـا قولنـا لش ٍ‬
‫ـيء إذا أردنــه أن نقـول لـه كـن فيكــون (‪[ )) )35‬‬
‫النحل ‪ ] 35 :‬فلو كان القرآن مخلوقـاً لكـان اهلل تعـالى قـائالً لـه ‪ :‬كـن والقـرآن قولـه ويسـتحيل أن يكـون‬
‫كالقول فـي القـول‬ ‫قوله مقوالً له ألن هذا يوجب قوالً كانياً والقول في القول الكاني وفي تعلقه بقول كال‬
‫األول وتعلقه بقول ٍ‬
‫كان وهذا يقتضي ماال نهايـة لـه مـن األقـوال وذلـك فاسـد واذا فسـد ذلـك فسـد أن يكـون‬
‫القرآن مخلوقاً ‪.‬‬

‫ولــو جــاز أن يقــول لقولـ ه لجــاز أن يريــد إرادتــه وذلــك فاســد عنــدنا وعنــدهم إذا بطــل هــذا اســتحال أن يكــون‬
‫مخلوقاً ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬ما أنكرتم أن يكون معنى قوله تعالى ‪ (( :‬أن نقول له كـن فيكـون (‪ [ )) )35‬النحـل ‪35 :‬‬
‫] أي نكونه فيكون من غير أن نقول له في الحقسيقة ( وال أن تقول له في الحقيقة ) شيئاً ‪ .‬قيل لـه ‪ :‬قـال‬
‫لشيء إذا أردنه أن نقول له كن فيكون (‪ [ )) )35‬النحل ‪. ] 35 :‬‬‫ٍ‬ ‫اهلل تعالى ‪ (( :‬إنما قولنا‬

‫فلو جاز لقائل أن يقول ‪ :‬لم يكـن اهلل تعـالى قـائالً لشـيء فـي الحقيقـة كـن وانمـا المعنـى أن يكونـه فيكـون‬
‫لجــاز لـزاعم أن يــزعم أن اهلل تعــالى ال يريــد شــيئاً فــي الحقيقــة وانمــا معنــى أردنــاه فعلنــاه مــن غيــر أن يكــون‬
‫إرادة في الحقيقة على وجه من الوجوه ‪.‬‬

‫فـإن قــال قائــل ‪ :‬إنــه يكــون معنـى أن اهلل تعــالى أراد الشــيء أنــه فعلــه وهــو مريـد لــه فــي الحقيقــة بمعنــى أنــه‬
‫فاعل له ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬لو جاز هذا لقائله لجاز لزاعم أن يزعم أن اهلل عـز وجـل قائـل للشـيء فـي الحقيقـة كـن ويـزعم أن‬
‫معنــى ذلــك أن يكونــه فيكبــت هلل تعــالى قـوالً فــي الحقيقــة هــو المقــول لــه كمــا زعمــتم أن هلل تعــالى إرادة فــي‬
‫الحقيقـة هــي مـراده ولــو جــاز لـزاعم أن يــزعم هـذا لجــاز آلخــر أن يقــول إن علــم اهلل تعــالى بالشــيء هــو‬
‫فعله له ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬أليس قد قال اهلل تعالى ‪ (( :‬جدار يريد أن ينقض )) [الكهف ‪ ] 88 :‬وال إرادة للجدار فـي‬
‫والمعنى أن ينقض ‪.‬‬ ‫الحقيقة وانما قال يريد توسعاً‬

‫قيــل لــه ‪ :‬نعــم ‪ .‬فــإن قــال ‪ :‬فمــا أنك ـرتم أن يكــون معنــى (( أن نقــول لــه كــن )) [ النحــل ‪ ] 35 :‬أي نكونــه‬
‫فيكون ‪.‬‬

‫قيـل لـه ‪ :‬الفـرق بـين ذلـك أن الجمـاد يسـتحيل مـع جماديتـه أن يكـون مريـداً والبـاري تعـالى فـي الحقيقــة ال‬
‫يستحيل عليه أن يريد أو يقول فلذلك لم يكن قوله ‪ (( :‬أن نقول له كن فيكون (‪ [ )) )35‬النحل ‪] 35 :‬‬
‫بمعنى نكونه ‪.‬‬
‫وأيضـاً فلــو كــان قولــه (( ربكــم قــالوا خيـ اًر )) [ النحــل ‪ ] 35 :‬لــيس معنــاه إكبــات قــول لــه وانمــا معنــاه أن‬
‫يكونه كما أن قوله ‪ (( :‬جدار يريد أن ينقض )) [ الكهف ‪ ] 88 :‬معتاه أن ينقض لجاز لزاعم أن يزعم‬
‫أن قولــه ‪ (( :‬أردنــاه)) فعلنــاه وهــو فــي الحقيقــة ال يريــد فعلــه كمــا أن قولــه (( جــدار يريــد أن يــنقض )) [‬
‫الكهف ‪ ] 88 :‬معناه أن ينقض وهذا أولى في الحقيقة القياس ‪ .‬واذا لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه ‪.‬‬

‫ويقال لهم ‪ :‬إذا كان معنى أن اهلل تعالى أراد فعل الشيء أنه فعله ومعنى أراد حركة الشيء أنه حركه‬
‫فما أنكـرتم أن يكـون الجمـاد فـي الحقيقـة مريـداً لحركـة نفسـه بمعنـى أنـه متحـرك وأن ال يكـون للبـاري تعـالى‬
‫على الجماد مزية في اإل رادة وأن ال يكون له مزية على من وقع فعله وهو غير مريـد لـه ألنـه قـد حصـل‬
‫له معنى فاعل كما حصل للباري تعالى معنى فاعل ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فما معنـى قولـه تعـالى ‪ (( :‬قالتـا أتينـا طـ ئعين (‪ [ )) )44‬فصـلت ‪ ] 44 :‬قيـل لـه ‪ :‬معنـى ذلـك‬
‫أنهما قالتا في الحقيقة ‪ (( :‬أتينا ط ئعين (‪ [ )) )44‬فصلت ‪. ] 44 :‬‬

‫وممــا يــدل مــن القيــاس علــى أن اهلل تعــالى لــم يــزل متكلم ـاً أنــه لــو كــان لــم يــزل غيــر مــتكلم وهــو ممــن ال‬
‫يستحيل عليه الكالم لكان موصوفاً من أضداد الكالم من السكوت أو اآلفة ‪.‬‬

‫ولــو كــان لــم يــزل موصــوفاً بضــد الكــالم لكــان ضــد الكــالم قــديماً‪ .‬ولــو كــان ضــد الكــالم قـديماً الســتحال أن‬
‫يعدم وأن يتكلم الباري ألن القديم ال يجوز عدمه كما ال يجوز حدوكه فكان يجب أن ال يكون الباري تعالى‬
‫قائالً وال آم اًر وال ناهياً على وجه من الوجوه ‪.‬‬

‫وهذا فاسد عندنا وعندهم ‪ .‬واذا فسد هذا ص‪ ،‬وكبت أن الباري لم يزل متكلماً قائالً ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬ولم زعمتم أنه لو كان لم يزل غير متكلم لكان موصوفاً بضد الكالم ؟‬

‫قيل له ‪ :‬ألن الحي إذا لـم يكـن موصـوفاً بـالكالم كـان موصـوفاً بضـده كمـا أنـه إذا لـم يكـن موصـوفاً بـالعلم‬
‫كان موصوفاً بضده ‪.‬‬

‫وذلك أن الحي فيما بيننا ذلك حكمه ولم تقم داللـة علـى حـي يخلـو مـن الكـالم وأضـداده فـي الغائـب كمـا‬
‫لم تقم داللة على حي يخلو من العلم وأضداده حتى يكون ال موصوفاً بأنه عالم وال بضد العلم ‪.‬‬

‫فقد اجتمع األمر فيها أنه مستحيل فيما بيننا حي غير عـالم وال موصـوف بضـد الكـالم وأنـه لـم تقـم علـى‬
‫ذلك داللة في الغائب ‪.‬‬

‫فلو جاز أحد األمرين وهو حي غيـر مـتكلم وال موصـوف بضـد الكـالم لجـاز األمـر اآلخـر وهـو حـي غيـر‬
‫عالم وال موصوف بضد العلم ‪.‬‬

‫وأيضاً فإنه يستحيل فيما بيننا عالم يوصف بضد العلم مع علمه ومتكلم يوصف بضـد الكـالم مـع كالمـه‬
‫فلما اجتمعا في اإلحالة وجب أن يكون من جوز متكلماً في الغائب يوصف بضد الكالم مع كالمه كمن‬
‫جوز عالماً في الغائب يوصف بضد العلم مع علمه ‪.‬‬

‫فذلك يجب أيضاً لما استحال فيما بيننا حـي غيـر عـالم وال موصـوف بضـد العلـم وجـب أن يسـتحيل فيمـا‬
‫بيننا حي غير متكلم وال موصوف بضد الكالم أن يستحيل ذلك في الغائب ووجب أن يكون من جوز أحـد‬
‫األمرين في الغائب كمن جوز األمر اآلخر ‪.‬‬
‫وهذا هو الدليل على أن اهلل تعالى لم يزل مريداً وذلك أن الحي إذا كان غير مريـد لشـيء أصـالً وجـب أن‬
‫يكــون موصــوفاً بضــد مــن أضــداد اإلرادات مــن اآلفــات كالســهو والك ارهــة واإلبــاء واآلفــات كمــا وجــب أن‬
‫يكون الحي إذا كان غير عالم بشيء أصالً موصوفاً بضد من أضـداد العلـوم مـن اآلفـات كالجهـل والسـهو‬
‫والغفلة أو الموت أو ما أشبه ذلك من اآلفات ‪.‬‬

‫فلمــا اســتحال أن يكــون البــاري تعــالى لــم يــزل موصــوفاً بضــد اإلرادة ألن هــذا يوجــب أن ال بربــد شــيئاً علــى‬
‫وجه من الوجوه ‪.‬‬

‫وذلك أن ضد اإلرادة إذا كان البار يتعالى لم يزل موصـوفاً بـه يوجـب قدمـه ومحـال عـدم القـديم كمـا محـال‬
‫حـدو القــديم فـإذا اســتحال عدمــه وجـب أن ال يريــد البــاري شـيئاً ويقصــد فعلـه علــى وجــه مـن الوجــوه وذلــك‬
‫فاسد ‪ .‬واذا فسد هذا ص‪ ،‬وكبت أن الباري تعالى لم يزل مريداً ‪.‬‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬لــم قلــتم إذا كــان مــن لــم يــزل غيــر مــتكلم وال مريــد وجــب أن يكــون موصــوفاً بضــد اإلرداة‬
‫والكالم إذا كان ممن ال يستحيل عليه الكالم واإلرادة فما أنكرتم من أن من لم يـزل غيـر فاعـل وجـب أن‬
‫يكون موصوفاً بضد الفعل وأن يكون تاركاً فيما لم يزل ؟‬

‫قيل له ‪ :‬ال يجـب مـا قلتـه وذلـك أن للكـالم ضـداً لـيس بكـالم ولـإلرادة ضـد لـيس بـإرادة فوجـب لـو كـان‬
‫للباري تعالى حياً غير متكلم وال مريد أن يكون موصوفاً بضد الكالم واإلرادة ‪.‬‬

‫وليس للفعل ضد ليس بفعل فيجب بنفي الفعل عن الفعل وجود ضده ألن الموجود إذا لـم يكـن محـدكاً كـان‬
‫قديماً والقديم ال يضاد المحدكات ‪.‬‬

‫فلما لم يكن للفعل ضد ليس بفعل لم يجب بنفي الفعل عن اهلل تعالى في أزله إكبات ضد ‪.‬‬

‫ولما كان للكالم ضد ليس بكالم وجب بنفي الكالم عن اهلل تعالى في أزله إكبات ذلك الضد ال محالة ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فيجب إذا كان القديم غير فاعل فيما لم يزل أن يكون عاج اًز أو تاركاً ‪.‬‬

‫قيــل لــه ‪ :‬فلــيس العجــز مضــاداً للفعــل وذلــك أنــه لــيس مــن جــنس مــن أجنــاس الفعــل مــن حركــة وســكون‬
‫وغيرهما من سائر األعراض إال وقد يجوز أن يخلقه اهلل مع العجز فعلمنا بذلك أن العجز ال يضـاد الفعـل‬
‫ألن األجســام والج ـواهر مــن أفعــال اهلل تعــالى فعلمنــا أن العجــز ال يضــاد الفعــل ألن عجــزي لــو ضــاد‬
‫فعلي للحركة لكان تضاد وقوع الحركة من ربي في جسمي ‪.‬‬

‫أال ترى أنه إذا استحال أن أفعل في علماً من الموت استحال أن يفعل ربي في من الموت علماً ‪.‬‬

‫فلما لم يكن العجز مضاداً للفعل وانمـا يضـاد القـدرة وكـان التـرك للشـيء فعـل ضـده فكـان البـاري تعـالى لـم‬
‫يزل غير فاعل لشيء على وجه من الوجوه لم يجب بنفي الفعل عنه في أزله عجز وال ترك ‪.‬‬

‫وأيضاً فـإن الحـي إذا كـان غيـر مـتكلم ومريـد وجـب أن يكـون موصـوفاً بضـد اإلرادة والكـالم ولـيس إذا كـان‬
‫غيـر فاعــل لشـيء وجــب إكبـات ضــد هـو عجــز أو تــرك إذا كـان عجــز اإلنسـان ال يضــاد فعلـه فلــم يجــب‬
‫بنفـي الفعـل عـن اهلل تعــالى فـي أزلـه إكبــات تـرك أو عجـز كمـا وجــب فـي نفـي الكــالم واإلرادة عنـه فـي أزلــه‬
‫إكبات أضدادهما ‪.‬‬
‫فإن قال ‪ :‬فيجب بنفي التفضل عنه فيما لم يزل أن يكـون بخـيالً ‪ .‬قيـل لـه ‪ :‬التفضـل هـو مـا للمتفضـل أن‬
‫يتفضل به وله أن ال يتفضل به والبخـل إنمـا يجـب بمنـع مسـتحق أسـتحق علـى مـن بخـل والبـاري تعـالى ال‬
‫يجب عليه فعل شيء ‪.‬‬

‫فـإن قـال ‪ :‬فيجـب بنفـي العـدل عنـه فـي أزلـه أن يكـون جـائ اًز أو عـاج اًز ‪ .‬قيـل لـه ‪ :‬لـيس يجـب بنفـي العـدل‬
‫ضــد هــو عجــز أو جــور ألنــه لــيس مــن جــنس مــن أجنــاس العــدل إال ويجــوز أن يفعلــه اهلل تعــالى فينــا مــع‬
‫العجز ‪ .‬فلم يجب بنفي العدل إكبات ضد هو عجز ‪.‬‬

‫ولــم يجــب أيضـاً إكبــات الجــور ألن اإلنســان قــد ال يكــون عــادالً إذا لــم يكــن منــه عــدل كســبه وال فعلــه وال‬
‫يكون جائ اًز فليس من نفينا عنه العدل أكبتنا له ضداً هو جور أو عجز إذا كنا قـد ننفـي ذلـك عنـا وال نكبـت‬
‫ضداً هو عجز أو جور والحي منا ومن غيرنا إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضد العلم ‪.‬‬

‫وأيضاً فقد ال يكون اإلنسان عادالً وال يكون جائ اًر بجور من جنس العدل فليس يجب بنفي العـدل ضـد هـو‬
‫جور كما وجب في الكالم واإلرادة ؛ ألن اإلنسان قد يكون عادالً بالكون في المكان إذا أمـره اهلل تعـالى أن‬
‫يكون فيه ويكون في وقت آخر جائ اًر بـالكون فيـه إذا نهـاه اهلل تعـالى عـن الكـون فيـه فيكـون العـدل مـن‬
‫جنس الجور ألن الكون في المكان من جنس الكون فيه ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬ما أنكرتم إذا لم يكن الباري تعالى محركاً في أزله أن يكون مسكناً ‪.‬‬

‫قيــل لــه ‪ :‬ال يخلــو قولــك إذا لــم يكــن محركـاً أن يكــون مســكناً يعنــي إذا كــان لــم يــزل غيــر محــرك لنفســه أن‬
‫يكون مسكناً لها أو يعني إذا لم يكـن محركـاً لجسـم كـان مسـكناً لـه ‪ .‬فـإن عنيـت إن لـم يحـرك نفسـه كـان‬
‫مسـكناً لهــا فهــذا خطــأ ألنـه يســتحيل أن يحــرك نفســه ‪ .‬ونحـن لــم نقــل إذا لــم يـتكلم مــن يســتحيل كالمــه كــان‬
‫موصوفاً بضد الكالم ‪.‬‬

‫وان عنيت إذا لم يكن محركاً فيما لم يزل لجسم كان مسكناً له فليس مع اهلل تعالى في قدمه أجسـام فيجـب‬
‫إذا لم يحركها أن يسكنها ‪.‬‬

‫ومالم يكن موجوداً يستحيل تحركه ‪ .‬فليس إذا لم يحرك ما تستحيل حركته وجب أن يسكنه ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ القادر منا على الكالم قد خال من الكالم ]‬

‫فإن قال ‪ :‬القدر منا على الكالم في حال قدرته عليه قد خال من الكالم وأضداده ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬فهذا ضرب من الخالف ألن القادر منا على الكالم في حال قدرته عليه مـتكلم ال محالـة وسـندل‬
‫على ذلك بعد هذا الموضوع من كتابنا ‪.‬‬

‫على أنا نقول له ما أنكرت أن يكون القادر على العلم قد خال من العلم وأضداده فإن قال ‪ :‬القادر علـى‬
‫العلم قد خال من العلم وضده اللذين يقدر عليهما وال يخلو من علم آخر أو ضده ‪.‬‬

‫قيــل لــه ‪ :‬فقــل أن القــادر علــى الكــالم وضــده قــد يخلــو منهمــا وال يخلــو مــن كــالم آخــر أو ضــده ال يقــدر‬
‫عليهما ‪.‬‬
‫ودليل آخر على أن اهلل تعالى لم يزل متكلماً أن الكالم ال يخلو أن يكون قديماً أو حديكاً ‪.‬‬

‫فــإن كــان محــدكاً لــم يخــل أن يحدكــه اهلل فــي نفســه أو فــي غي ـره فيســتحيل أن يحدكــه فــي نفســه ألنــه لــيس‬
‫‪.‬‬ ‫بمحل للحواد‬

‫ويسـتحيل أن يحدكـه قائمـاً بنفسـه ألنــه صـفة والصــفة ال تقـوم بنفســها ويسـتحيل أن يحدكــه فـي غيـره ألنـه لــو‬
‫أحدكه في غيره لوجب أن يشتق ذلك الجسم الذي فيه الكـالم مـن أخـص أوصـاف الكـالم الالزمـة لـه لنفسـه‬
‫اسماً وللجملة التي المحل منها اسماً ‪.‬‬

‫فإن كان أخص أوصاف الكالم أنه كالم وجب أن يكون ذلك الجسم متكلماً ‪ .‬وان كان أخص أوصافه أنه‬
‫أمر وجب أن يكون ذلك الجسم آم اًر ‪.‬‬

‫وكذلك إن كان أخـص أوصـافه أنـه نهـى وجـب أن يكـون ذلـك الجسـم ناهيـاً ‪ .‬فلمـا اسـتحال أن يـتكلم بكـالم‬
‫كالماً في غيره فيكون به متكلماً ‪.‬‬ ‫اهلل تعالى غيره ويأمر بأمره غيره وينهى بنهيه غيره استحال أن يحد‬

‫واذا فسدت الوجوه التي ال يخلو الكالم منها لو كان محدكاً ص‪ ،‬أنه قديم وأن اهلل تعـالى لـم يـزل بـه متكلمـاً‬
‫‪.‬‬

‫اهلل تعالى فـي غيـره فعـالً وتفضـالً ونعمـة واحسـاناً ورزقـاً فيكـون فـاعالً متفضـالً‬ ‫فإن قال ‪ :‬أفليس قد يحد‬
‫في غيره كالم يكون به متكلماً ؟‬ ‫منعماً محسناً ارزقاً فما أنكرتم أن يحد‬

‫قيل له ‪ :‬لو لزم هذا لزم أن يعلم ويقدر بعلم وقدرة يحدكهما في غيـره كمـا يتفضـل ويـنعم ويسـن فيمـا يحدكـه‬
‫في غيره تفضالً ونعمة واحسـاناً ورزقـاً كـان ذلـك الجسـم موصـوفاً بـأخص أوصـاف الفعـل والتفضـل والـرزق‬
‫والنعمة واإلحسان ألنه إذا كان التفضل والنعمة واإلحسان والفعل قوةً ال بد أن يكون ذلك الجسم قوياً ‪.‬‬

‫كالمـاً فـي غيـره أن يشـتق ذلـك‬ ‫وكذلك إذا كـان علمـاً أو حيـاةً أو إرادةً أو سـمعاً أو بصـ اًر فيجـب إذا أحـد‬
‫الغير من أخص أوصاف الكالم ‪.‬‬

‫كالمـه فـي غيـره كمـا‬ ‫فلما ام يجز ذلك بطل أن يكون الكـالم مقيسـاً علـى مـا قلـتم مـن أن اهلل تعـالى يحـد‬
‫فعله وتفضله ونعمه واحسانه في غير ‪.‬‬ ‫يحد‬

‫اهلل تعالى كتابه في غيره وال يكون الشيء الذي قامت به الكتابة كاتباً ؟‬ ‫فإن قالوا ‪ :‬أفليس قد يحد‬

‫اهلل تعالى في غيره كتابة ضرورة كان ذلك الغير كاتباً باضطرار ‪.‬‬ ‫قيل لهم ‪ :‬إن أحد‬

‫اهلل تعـالى كالمـه فـي غيـره‬ ‫وكذلك إن كانت الكتابة كسـباً كـان ذلـك الغيـر كاتبـاً باكتسـاب فيجـب إذا أحـد‬
‫أن يكون ذلك الغير متكلماً بكالم اهلل ‪.‬‬

‫وهذا الديل على قدم الكالم هو الدليل على قدم اإلرادة هلل تعالى ألنها لو كانت محدكةً لكانت ال تخلـو مـن‬
‫أن يكون اهلل يحدكها في نفسه أو في غيره أو قائمة بنفسها ‪.‬‬

‫‪ .‬ويســتحيل أن يحــدكها ائمــة بنفســها ألنهــا صــفة‬ ‫فيســتحيل أن يحــدكها فــي نفســه ألنــه لــيس بمحــل للحـواد‬
‫علماً وقدرة قائمين بأنفسهما ‪.‬‬ ‫والصفة ال تقوم بنفسها كما ال يجوز أن يحد‬

‫ويستحيل أن يحدكها في غيره ألن هذا يوجب أن يكون ذلك الغير مريداً بإرادة اهلل تعالى ‪.‬‬
‫ففلمــا اســتحالت هــذه الوجــوه التــي ال تخلــو اإلرادة منهــا لــو كانــت محدكــة صــ‪ ،‬أنهــا قديمــة وأن اهلل لــم يــزل‬
‫مريداً بها ‪.‬‬
‫الباب الكال‬

‫باب الكالم في اإلرادة وأنها تعم سائر المحدكات‬

‫[ اهلل مريد لكل شيء ]‬

‫فـإن قـال قائـل ‪ :‬لـم قلـتم إن اهلل تعـالى مريـد لكــل شـيء يجـوز أن يـراد ؟ قيـل لـه ‪ :‬قلنـا ذلــك ألن اإلرادة إذا‬
‫كانت من صفات الذات بالداللة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة في كل ما يجـوز أن يـراد علـى حقيقتـه‬
‫كما إذا كان العلم من صفات الذات وجب عمومه بكل كا يجوز أن يعلم على حقيقته ‪.‬‬

‫وال يجوز أن يخلق ماال يريده وقـد قـال‬ ‫وأيضاً فقد دلت الداللة على أن اهلل تعالى خالق كل شيء حاد‬
‫اهلل تعالى ‪ (( :‬إن ربك فعال لما يريد (‪ [ )) )458‬هود ‪. ] 458 :‬‬

‫وأيضاً فإنه ال يجوز أن يكون في سلطان اهلل تعالى مـاال يريـده ألنـه لـو كـان فـي سـلطان اهلل تعـالى مـاال‬
‫يريده لوجب أحد أمرين ‪:‬‬

‫إما إكبات سهو وغفلة وأو إكبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده ‪.‬‬

‫فلما لم يجز ذلك على اهلل تعالى استحال أن يكون في سلطانه ماال يريده ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬ولـم زعمـتم ذلـك ؟ قيـل لـه ‪ :‬زعمنـا ذلـك ألن المـراد إذا وقـع لـم يلحـق مـن وقـع مـراده ضـعف وال‬
‫تقصير عن بلوغ مـا يريـده بوقـع المـراد فواجـب أن يلحقـه الضـعف والتقصـير عـن بلـوغ مـا يريـده إذا لـم يقـع‬
‫مراده ‪.‬‬

‫أال تـرى أن مــن وقـع مــا يعلمـه لــم يلحقـه جهــل وال ضـد مــن أضـداد العلــم بـذلك الشــيء إذا وقـع وهــو يعلمــه‬
‫فدل ذلك عل ى أنه إذا لم يقع وهو ال يعلمه وجب جهله أو وصفه بضد من أضداد العلم ‪.‬‬

‫وكــذلك إذا كــان مــا يريــده لــم يجــب ســهوه وال ضــعفه وال وهنــه وال تقصــيره عــن بلــوغ مــا يريــده واذا كــان مــاال‬
‫يريده وجب سهوه أو ضعفه ووهنه وتقصيره عن بلوغ ما يريد ‪.‬‬

‫وأيضاً إذا كان في كون ماال يريده من أفعاله ‪ -‬التي اجتمعنـا علـى أنهـا أفعالـه ‪ -‬وجـوب السـهو والغفلـة‬
‫والضعف والوهن والتقصير عن بلوغ ما يرده ؛ فكذلك يلزم في كون ما ال يريده من غيره ما يلزم في‬
‫كون ماال يريده مما اتفقنا على أنه من أفعاله ‪.‬‬

‫أال تــرى أنــه إذا لــزم مــن زعــم أنــه يكــون مــن أفعــال اهلل مــاال يعلمــه أن يصــفه بالجهــل أو بضــد مــن أضــداد‬
‫العلم ؛ لزم مكـل ذلـك مـن زعـم انـه يكـون مـن غيـره مـاال يعلمـه وكـذلك إذا لـزم مـن زعـم أن اهلل يخبـر أنـه‬
‫يكــون مــن فعلــه مــا ال يكــون التكــذيب هلل لــزم مــن زعــم أن اهلل تعــالى يخبــر أنــه يكــون مــن غيـره مــاال يكــون‬
‫التكذيب ؛ ال فرق في ذلك بين ما اتفقنا على أنه فعله وبين ما يكون من غيره ‪.‬‬

‫وكــذلك إذا لــزم فــي كــون مــاال يريــده البــاري تعــالى مــن فعلــه ضــعف وتقصــير عــن بلــوغ مــا يريــده أو ســهو‬
‫وغفلة لزم ذلك في كون ماال يريده من غيره ‪.‬‬

‫وأيضاً فقـد دلـت الداللـة علـى أن كـل المحـدكات مخلوقـات هلل تعـالى ‪ .‬فـإذا اسـتحال أن يفعـل البـاري تعـالى‬
‫ماال يريده استحال أن يقع من غيره ماال يريده إذ كان ذلك أجمع أفعاالً هلل تعالى ‪.‬‬
‫وأيضاً فلو كان في العالم ماال يريده اهلل تعالى لكان مـا يكـره كونـه ولـو كـان مـا يكـره كونـه لكـان مـن‬
‫أبى كونه ‪.‬‬

‫وهذا يوجب أن المعاصي كانت شاء اهلل أم أبى وهذا صفة الضعف المقهور وتعالى ربنـا عـن ذلـك علـواً‬
‫كبي اًر ‪.‬‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬خبرونــا عــن ملــك مــن ملــوك الــدنيا لــو مــر برجــل مقعــد زمــن أعمــى فشــتمه والملــك ال يريــد‬
‫شــتمه أتقولــون أن الملــك لحقــه فــي ذلــك ضــعف ووهــن وتقصــير عــن بلــوغ مــا يريــده إذا أراد أن ال يشــتمه‬
‫فشتمه ؟‬

‫قيل له ‪ :‬أجل ولو لم يكـن مـا أراد الـزمن مـن شـتمه وكـان مـا أراده الملـك مـن مدحـه إيـاه كـان ذلـك أولـى‬
‫بزوال الضعف والوهن عنه على أن الملك إذا لم يرد شتم األعمى المقعد له فقد ذكره شتمه إياه وأبـى ذلـك‬
‫وقد كان شتمه شاء ذلك الملك أو أباه وهذا صفة الضعف والوهن ‪ .‬وأيضا فإن من إذا أراد منا أم اًر كان‬
‫واذا لــم يــرد كونــه لــم يكــن أولــى بصــفة االقتــدار ممــن يريــد كونــه مــاال يكــون وأن ال يكــون مــا يكــون ورب‬
‫العالمين ال يوصف إال بالوصف الذي هو أولى بصفة االقتدار ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬من إذا أراد أم اًر كان واذا لـم يـرده لـم يكـن ؛ إنمـا يكـون اقتـداره بمـن يتبعـه ويعينـه ويكـون‬
‫ضعفه لقلة أنصاره وأتباعه ورب العالمين ال يتككر بأحد ‪.‬‬

‫يقال لهم ‪ :‬فما أنكرتم إن كان هذا علـى تـدعون أن يكـون مـن أراد مـن فعلـه كـون مـاال يكـون وأن ال يكـون‬
‫ماال يكون إنما يص‪ ،‬وصفه باالقتدار ألنـه ممـن يتككـر بفعلـه ويجـب اقتـداره بمـن ينصـره وضـعفه بمـن‬
‫يقعد عنه ‪.‬‬

‫ويقال لهم ‪ :‬لم زعمتم أن من أراد منا كون ما يكون إنما يص‪ ،‬وصفه باالقتـدار ألنـه ممـن يقـوى بككـرة مـن‬
‫يتبعه ويضعف بككرة من يقعد عنه ؟‬

‫فإن قالوا ‪ :‬ألن هذا فيما بيننا ‪ .‬هكذا قيـل وكـذلك إنمـا يـدل الفعـل الحكمـي علـى أن مـن ظهـر منـه عـالم‬
‫قادر ألنه ممن يعلم بعلم ويقدر بقدرة ألنا كذلك وجدنا فيما بيننـا مـن دلـت األفعـال الحكميـة علـى أنـه عـالم‬
‫قادر ‪.‬‬

‫فما أنكرتم من أنه واجب على اعتاللكم أن (ال) تدل األفعال الحكمية على أن الباري تعالى قادر عالم ‪.‬‬

‫وكلك يعارضون بأن األفعال الحكمية تدل علـى أن مـن ظهـرت منـه عـالم قـادر ألنـه ممـن لـه علـم وقـدرة‬
‫من أجل أن ذلك فيما بيننا كذلك ‪.‬‬

‫فإن قـال قائـل ‪ :‬مـا أنكـرتم أن ال يلحـق البـاري الضـعف والـوهن والقصـير عـن بلـوغ مـا يريـده ألنـه يقـدر أن‬
‫يلجئ عباده إلى ما أراد كونه منهم ‪.‬‬

‫قيــل لــه ‪ :‬إن البــاري تعــالى إنمــا أراد كــون اإليمــان مــنهم علــى أصــلك بــأن يقــع ذلــك مــنهم طوعـاً يســتحقون‬
‫عليه الكواب واذا ألجأهم إليه لم يكونوا عند طائعين وال للكواب مستحقين ‪.‬‬
‫فكما يجب بكون ماال يريـده الضـعف والـوهن والتقصـير عـن بلـوغ مـا يريـده لـو لـم يوصـف بالقـدرة علـى أن‬
‫يلجئهم إلى ذلك ؛ وكذلك يجب له الضعف والوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده إذا أراد كونه على وجه ال‬
‫يوصف بالقدرة على وقوعه على ذلك الوجه ‪.‬‬

‫وأيض ـاً فإنــه يلــزم القدريــة إذا كــان مــن قــدر أن يــؤمن قــدر أن يكفــر ؛ أن ال يكــون البــاري تعــالى موصــوفاً‬
‫بالقدرة على األمر الذي لو فعله لكانوا مؤمنين ال محالة ألنهـم يقـدرون عنـدهم علـى أن (ال) يكفـروا عنـد‬
‫نــزول اآليــات الملجيـ ات إلــى اإليمــان كمــا يقــدرون أن يؤمنـوا قبــل ذلــك ؛ ومــن قــدر علــى الكفــر عنــد نــزول‬
‫اآلية لم يؤمن وقوعه منه ‪.‬‬

‫وأيضاً فلو كان يقـع مـن اإلنسـان مـاال يريـده البـاري سـبحانه وال يلحـق البـاري بـذلك وهـن وال ضـعف ألنـه‬
‫قادر أن يلجئهم إليه لجاز أن يقع من البـاري سـبحانه مـن أفعالـه مـاال يريـده وال يلحقـه ضـعف و تقصـير‬
‫عن بلوغ ما يريده ألنه قادر على إيقاعه وتكوينه ‪.‬‬

‫فإن لم يجب هذا ولزم بكون ما ال يريده من فعله الضعف والوهن لزم ذلك في فعل عباده ‪.‬‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬مــا أنك ـرتم أن يكــون كــون مــاال يريــده اإلنســان مــن فعلــه يوجــب وقــوع ذلــك عــن ســهو أو‬
‫ضعف ووهن وليس يلزم ذلك في كون ماال يريده من فعل غيره فوجب مكل ذلك في القديم أيضاً ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬ليس األمر كما ظننت بل القصة فيما يكون من اإلنسان ومن غيـره واحـدة وذلـك أن اإلنسـان‬
‫إذا كان من فعله مـاال يريـده فإمـا أن يكـون ذلـك عـن سـهو أو عـن ضـعف ووهـن أو تقصـير عـن بلـوغ مـا‬
‫يريده ‪.‬‬

‫وكـذلك القـول فيمـا يكـون مـن غيـره ألنـه إن لـم يكـن ذلـك عـن سـهو فواجـب أن يكـون عـن ضـعف وتقصــير‬
‫عن بلـوغ مـا يريـده وذلـك أن العلـة التـي لهـا لـزم اإلنسـان إذا كـان عالمـاً بمـا وقـع منـه وهـو غيـر مريـد لـه‬
‫الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده أن مراده لم يقع وأنه لم يرده ألنه لو كان ما يريده لم يلحقه ضعف‬
‫وال وهن فإذا لم يقع فإنما لحقه الوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده من أجل أنه وقع منه وهو عالم به غير‬
‫مريد له ‪.‬‬

‫فإذا كانت العلة ما ذكرنا وجب أيضاً مكل ذلك فيما يقع من غيره وهو ال يريده ألنه إذا كانت العلة التـي‬
‫لها وجب أن يوصف اإلنسان بضد العلم في وقوع ما يقـع منـه أنـه وقـع منـه وهـو ال يعلمـه وكـذلك قصـة‬
‫ما يقع من غيره وهو ال يعلمه إذ كانت العلة في ذلك واحدة وكذلك القول في اإلرادة ‪.‬‬

‫وأيضاً فإنه إذا كان من غيره ماال يريـده فقـد كرهـه واذا كـره كونـه فقـد أبـاه وهـذا يوجـب أن الشـيء كـان‬
‫شاء أم أبى ! وهذه صفة الضعف والوهن ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬ما أنكرتم من أن الذي يجب في كون ماال يريده البـاري تعـالى مـن عبـاده أن يكـون كارهـاً لـذلك‬
‫فقط ؛ وال يجب في ذلك ضعف وال وهن قيل له ‪ :‬بل وقوع ذلك منهم وهو كاره له يوجب الضـعف والـوهن‬
‫ال محالة ألنه إذا كان ما كره كونه كان ما أبى كونه واذا كان ما أبى كونه فقد كان الشيء شاءه أم‬
‫أباه !!‬

‫وهذا يوجب أن الشيء كان شاء اهلل تعالى ذلك أم أباه وهذا صفة الضعف ‪.‬‬
‫وأيضاً فإن المعتزلة ‪ :‬رجالن ‪ :‬أحدهما يقول ‪ :‬إن إرادة اهلل تعالى في أفعال عباده األمر بها ‪.‬‬

‫واآلخر يقول ‪ :‬إرادته ف ي أفعال عباده خلف غيير األمر بها ‪ .‬فمن ذهب إلـى أنهـا األمـر لزمـه ‪ -‬إذا لـم‬
‫يكــن البــاري آم ـ اًر بأفعــال األطفــال والمجــانين ‪ -‬أن يكــون كاره ـاً لهــا إذا كــان يجــب بنفــي اإلرادة ألفعــال‬
‫العباد الكراهة لها واهلل تعالى ال يكره إال معصية كما ال ينهى إال عن معصية واذا لم يكن هذا عنـدهم‬
‫هكذا أبطل ما قالوه ‪.‬‬

‫وأيض ـاً فــإذا كــان يلــزم فيمــا جــاز األمــر بــه إذا لــم يــأمر بــه أن يقــول لــه كاره ـاً لــزم مــن كــان فــي عصــر‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم وجاز عنده أن ينزل النهي عن المباا الذي ليس بطاعة أن يكون إذا لم يـرد‬
‫من اهلل تعالى األمر به فقد كره وهذا يوجب أن كل مباا معصية ‪.‬‬

‫ومن ذهب إلى القول الكاني وهـو قـول الجبـائي ‪ (( :‬إن إرادة اهلل تعـالى ألفعـال عبـاده هـي غيـر األمـر بهـا‬
‫)) ‪.‬‬

‫يقال له ‪ :‬إذا كان يجب بنفي اإلرادة ألفعال عباده الكراهة فحـدكنا هـل أراد اهلل كـون األفعـال التـي ليسـت‬
‫ٍ‬
‫بمعاص وال طاعات ؟‬

‫فــإن قــال ‪ :‬نعــم ‪ .‬قيــل لــه ‪ :‬يلزمــك أن تكــون طاعــة ألن الطاعــة عنــدك إنمــا كانــت طاعــة للمطــاع ألنــه‬
‫أرادها ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬لم يردها ‪ .‬قيل له ‪ :‬فيلزمـك أنـه كـاره لكونهـا وهـذا يوجـب أن تكـون معصـية ألن مـا كرهـه اهلل‬
‫سبحانه فهو معصية كما أن ما نهى عنه فهو معصية عندكم ‪.‬‬

‫ويقــال لهــم ‪ :‬إذا كــان نفــي اإلرادة يوجــب إكبــات ك ارهــة فيلــزمكم ‪ -‬إذا كــان اهلل تعــالى لــم يــزل غيــر مريــد‬
‫لشيء بتة ‪ -‬أن يكون لم يزل كارهاً إذ كان نفي اإلرادة يوجب إكبات كراهة ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ الزعم أنه ال يريد السفه إال سفيه ]‬

‫ويقال ‪ :‬للمعتزلة لم زعمتم أنه ال يريد السفه إال سفيه ؟ فإن قالوا ‪ :‬ألن مريد السفه منا سفيه ‪.‬‬

‫يقــال لهــم ‪ :‬فكــذلك مــن أراد منــا مــا يعلــم أنــه ال يكــون أو يغلــب عنــده أنــه ال يكــون فهــو ممــتن فاقضـوا‬
‫بذلك على اهلل تعالى إذا زعمتم أنه أراد أن يكون ما علم أنه ال يكون ‪.‬‬

‫ويقال لهم ‪ :‬وكذلك أيضاً من خلى بين عبيده وامائه يزني بعضهم ببعض وهو يـراهم وهـو ال يعجـز عـن‬
‫التفريق بينهم مع كراهته الزناء على أصولكم وقد نهاهم قبل ذلـك عـن الزنـا فهـو سـفيه فاقضـوا بـذلك‬
‫على اهلل تعالى واال كنتم متناقضين ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬لو جـاز أن يريـد السـفه مـن لـيس بسـفيه لجـاز أن يقـول الكـذب مـن لـيس بكـاذب يقـال لهـم ‪ :‬مـا‬
‫ا لفــرق بيــنكم وبــين مــن قــال ‪ :‬ولــو جــاز أن يريــد مــا علــم أنــه ال يكــون مــن لــيس بمــتمن ويخلــي بــين عبيــده‬
‫وامائه يزني بعضهم ببعض مع كراهته الزناء عندكم وقدرته على المنع والحيلولة من ليس بسـفيه لجـاز أن‬
‫يقول ‪ :‬الكذب من ليس بكاذب وهذا ما ال يجدون فيه فرقاً ‪.‬‬
‫ويقال لهم ‪ :‬كما أن مريد السفه منا سفيه فكذلك مريد الطاعة منا مطيع فاقضوا بذلك على الغائب ‪.‬‬

‫ومما يبـين أن اهلل تعـالى مريـد لكـل شـيء أن يجـوز أن يـراد قـول اهلل تعـالى ‪ (( :‬ومـا تشـاءون إال أن يشـاء‬
‫اهلل )) [ اإلنسان ‪ ] 45‬فأخبر أنا ال نشاء إال ما شاء أن نشاءه وقال تعالى (( ولو شاء ربك ألمن من في‬
‫األرض كلهم جميعاً )) [ يونس ‪ ] 99 :‬وقال تعـالى ‪ (( :‬ولـو شـئنا ألتنينـا كـل نفـس هـداها )) [ السـجدة ‪:‬‬
‫‪ ] 44‬وقال ‪ (( :‬ولو شاء ربك ما فعلوه )) [ األنعام ‪ ] 442 :‬وقال ‪ (( :‬ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم‬
‫وما يفترون (‪ [ )) )442‬األنعام ‪ . ] 442 :‬فأخبر أنه لو لم يرد القتال لم يكن وان ما أراد مـن ذلـك فقـد‬
‫فعله ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬معنى هذا (( ولو شاء اهلل ما اقتتلوا )) [ البقرة ‪ ] 264 :‬أي لو شاء أن يمنعهم مـن القتـال لـم‬
‫يكــن يقــال لهــم ‪ :‬ولــم ال حملــتم اآليــة علــى ظاهرهــا وقلــتم ‪ :‬علــى أي وجــه شــاء أن ال يكــون القتــال لــم يكــن‬
‫وكذلك المطالبـة علـيهم فـي قـول اهلل تعـالى ‪ (( :‬ولـو شـاء ربـك ألمـن مـن فـي األرض جميعـاً )) [ يـونس ‪:‬‬
‫‪ . ]99‬فإن قالوا ‪ :‬لو شاء اهلل أن يلجئهم إلى اإليمان لكانوا مؤمنين ‪.‬‬

‫قيل لهم ‪ :‬أوليسـوا مـع اإللجـاء قـادرين أن يكفـروا كمـا هـم قـادرن علـى أن يؤمنـوا فكيـف يجـب باإللجـاء‬
‫كون اإليمـان مـنهم وهـم قـادرون أال يكـون مـنهم إيمـان مـع اإللجـاء كمـا هـم قـادرون علـى اإليمـان مـع عـدم‬
‫اإللجاء ؟‬

‫فإن قالوا ‪ :‬ليس في كون ما ال يريده إيجاب ضعف كما ليس في كون ما لم يأمر به إيجاب ضعف ‪.‬‬

‫قيــل لهــم ‪ :‬قــد كانــت أفعالــه عنــدكم ولــم يــأمر بهــا وال يلحقــه ضــعف ولــو كانــت وه ـو ال يريــدها لحقــه‬
‫الضعف فكذلك كون ما لم يأمر به من غيره ال يوجب له ضعفاً وفي كون مالم يرده من غيـره مـا يـدل‬
‫على الضعف ‪.‬‬

‫وأيضاً فإن مالم يأمر به ونهى عنه وأراد وقوعه فلذلك لم يلحقه الضعف ‪.‬‬
‫الباب الرابع‬

‫باب الكالم في الرؤية‬

‫[ رؤية اهلل تعالى بالإلبصار جائزة ]‬

‫إن قال قائل ‪ :‬لم قلتم إن رؤية اهلل تعالى باإلبصار جائزة من باب القياس ؟‬

‫قيــل لــه ‪ :‬قلنــا ذلــك ألن مــا ال يجــوز أن يوصــف بــه البــاري تــاعلى ويســتحيل عليــه فإنمــا ال يجــوز ألن فــي‬
‫معن ــى في ــه أو تش ــبيه أو تجنيســه أو قلب ــه ع ــن حقيقت ــه أو‬ ‫تجــويزه إكب ــات حدك ــه أو إكب ــات ح ــد‬
‫تجويره أو تظليمه أو تكذيبه ‪.‬‬

‫ولـو كـان مرئيـاً لـذلك للـزمهم أن‬ ‫وليس في جواز الرؤية إكبات حدكه ألن المرئي لـم يكـن مرئيـاً ألنـه محـد‬
‫وذلك باطل عندهم ‪.‬‬ ‫يرى كل محد‬

‫على أن المرئي لو كان مرئياً لحدوكه لكان الرائي محدكاً للمرئي إذ كان مرئياً لحدوكه ‪.‬‬

‫وليس في الرؤية إكبات حدو معنى في المرئي ألن األلوان مرئيات وال يجوز حدو معنى فيها ‪.‬‬

‫على أن المرئي لو كـان مرئيـاً لحـدو معنـى فيـه لكـان ذلـك المعنـى هـو الرؤيـة وهـذا يوجـب أنـا إذا رأينـا‬
‫الميت فقد حدكت فيه الرؤية وجامعت الرؤية الموت واذا رأينا عين األعمى حدكت في عينه رؤية فكانت‬
‫الرؤية مجامعة للعمى فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه ‪.‬‬

‫وليس في إكبات الرؤية هلل تعالى تشبيه للباري تعالى وال تجنيسه وال قلبه عن حقيقته ألنا نرى السواد‬
‫والبياض فال يتجانسان وال يتشابهان بوقوع الرؤية عليهما وال ينقلـب السـواد عـن حقيقتـه إلـى البيـاض بوقـوع‬
‫الرؤية عليه وال البياض إلى السواد ‪.‬‬

‫وليس في الرؤية تجويره وال تظليمه وال تكذيبه ألنـا نـرى الجـائر والظـالم والكـاذب ونـرى مـن لـيس بجـائر وال‬
‫ظالم وال كاذب ‪.‬‬

‫فلما لم يكن في إكبات الرئية شيء مما ال يجوز على الباري لم تكن الرؤية مستحيلة واذا لم تكـن مسـتحيلة‬
‫كانت جائزة على اهلل ‪.‬‬

‫فإن عارضونا ‪ :‬بأن اللمس والذوق والشم ليس فيه إكبات الحدو وال حدو معنى في الباري تعالى ‪.‬‬

‫قيل لهم ‪ :‬قد قال بعض أصحابنا ‪ :‬إن اللمس ضرب من ضروب المماسات وكذلك الـذوق وهـو اتصـال‬
‫اللســان والله ـوات بالجســم الــذي لــه الطعــم وأن الشــم هــو اتصــال الخيشــوم بالمشــموم الــذي يكــون عنــده‬
‫اإلدراك له وأن المتماسين إنما يتماسان بحدو مماسين فيهما وأن في إكبات ذلك إكبات حدو معنـى‬
‫في الباري ‪.‬‬

‫اهلل تعـالى لـه إد اركـاً‬ ‫ومن أصحابنا من يقول ‪ :‬ال يخلو القائل أن يكون أراد بذكره اللمس والذوق أن يحد‬
‫فيه معنى أو يكون أراد حدو معنى فيه ‪.‬‬ ‫في هذه الجوارا من غير أن يحد‬

‫فإن كان أراد حدو معنى فيه فذلك مـاال يجـوز وان كـان أراد حـدو إدراك فينـا فـذلك جـائز واألمـر فـي‬
‫التسمية إلى اهلل تعالى إن أمرنا أن نسميه لمساً وذوقاً وشماً سميناه وان منعنا امتنعنا ‪.‬‬
‫وأما السمع فلم يختلف أصحابنا فيه وجوزوا جميعاً وقالوا أنه جـائز أن يسـمعنا البـاري تعـالى نفسـه متكلمـاً‬
‫وقد أسمع موسى عليه السالم نفسه متكلماً ‪.‬‬
‫اضــرةٌ (‪ )22‬إِلَــى ربخهــا َنـ ِ‬
‫ـاظ َرةٌ‬ ‫ٍِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫والــدليل عل ــى أن اهلل تعــالى يــرى باإلبصــار قولــه تعــالى ‪ُ (( :‬و ُجــوهٌ َي ْو َمئــذ َن َ‬
‫اضـ َـرةٌ (‪[ )) )22‬‬ ‫(‪ [ )) )24‬القيامــة ‪ ] 24 - 22 :‬وال يجــوز أن يكــون معنــى قولــه ‪ (( :‬وجــوه يومئِـ ٍـذ َن ِ‬
‫ُ ُ ٌ َْ َ‬
‫ـت (‪ [ )) )48‬الغاشــية ‪ ] 77 :‬ألن‬ ‫ـف ُخِلقَـ ْ‬ ‫اإلبِـ ِـل َك ْيـ َ‬
‫ون إِلَــى ِ‬
‫القيامــة ‪ ]22 :‬معتب ـرة كقولــه ‪ (( :‬أَفَــال َي ْنظُـ ُـر َ‬
‫اآلخرة ليست بدار اعتبار ‪.‬‬

‫وال يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال ‪ (( :‬اهلل وال ينظر )) [ آل عمـران ] أي ال يـرحمهم وال يتعطـف‬
‫عليهم ألن الباري ال يجوز أن يتعطف عليه ‪.‬‬

‫وال يجوز أن يعني منتظرة ألن النظر إذا قرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الذي هـو انتظـار كمـا‬
‫إذا قرن النظر بذكر القلقب لم يكن معناه نظر العين ألن القائل إذا قال ‪ (( :‬انظر بقلبك في هذا األمـر‬
‫)) كان معناه تظر القلب وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معنـاه إال نظـر الوجـه والنظـر بالوجـه هـو‬
‫نظر الرؤية التي تكون بالعين التي في الوجه ‪.‬‬
‫فصــ‪ ،‬أن معنــى قولــه تعــالى ‪ (( :‬إِلَــى ربخهــا َنـ ِ‬
‫ـاظ َرةٌ (‪ [ )) )24‬القيامــة ‪ ] 24 :‬رائيـة إذ لــم يجــز أن يعنــي‬ ‫َ َ‬
‫شيئاً من وجوه النظر ‪.‬‬

‫واذا كــان النظــر ال يخلــو مــن وجــوه أربــع وفســد منهــا كالكــة أوجــه صــ‪ ،‬الوجــه ال اربــع وهــو نظــر رؤيــة العــين‬
‫التي في الوجه ‪.‬‬

‫َن ُي ْف َع َـل بِهَـا فَـ ِاق َرةٌ (‪[ )) )26‬‬ ‫فإن قال قائل أليس قد قـال اهلل تعـالى ‪ (( :‬ووجـوه يومئِ ٍـذ ب ِ‬
‫اس َـرةٌ (‪ )23‬تَظُ ُّـن أ ْ‬ ‫َ ُ ُ ٌ َْ َ َ‬
‫القيامــة ‪ ] 26 - 24 :‬والظــن ال يكــون بالوجــه وكــذلك قولــه ‪ (( :‬وجــوه يومئِـ ٍـذ َن ِ‬
‫اضـ َـرةٌ (‪ )22‬إِلَــى َربخهَــا‬ ‫ُ ُ ٌ َْ َ‬
‫اظ َرةٌ (‪ [ )) )24‬القيامة ‪ ] 24 - 22 :‬أراد نظر القلب ‪.‬‬ ‫َن ِ‬

‫قيل له ‪ :‬ال ألن الظن ال يكون بالوجه وال يكون إال بالقلب فلما قرن الظن بذكر الوجه كان معناه ظن‬
‫القلب إذ لم يكن الظن إال به ‪.‬‬

‫فلو كان النظر ال يكون إال بالقلب لوجب إذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به إلى القلب ‪.‬‬

‫فلو كان النظر ال يكون إال بالقلب لوجب إذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به إلى القلب ‪.‬‬

‫فلما كان النظر قد يكون بالوجه وبغيره وجب إذا قرنه بذكر الوجه أن يريد به نظر الوجه كما أنـه إذا قرنـه‬
‫بذكر القلب وجب أن يريد به نظر القلب ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫ص َار )) ]‬ ‫ص ُار َو ُه َو ُي ْد ِر ُ‬
‫ك األ َْب َ‬ ‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬ال تُ ْد ِرُكهُ األ َْب َ‬
‫ص َار )) [ األنعام ‪ . ] 454 :‬قيل‬ ‫ص ُار َو ُه َو ُي ْد ِر ُ‬
‫ك األ َْب َ‬ ‫فإن قالوا ‪ :‬فما معنى قوله تعالى ‪ (( :‬ال تُ ْد ِرُكهُ األ َْب َ‬
‫لهم ‪ :‬في الدنيا دون اآلخرة ألن القرآن ال يتناقض ‪.‬‬

‫فلما قال في آية أخرى أنه تنظر إليه األبصار علمنا أن الوقت الذي قـال أنـه ال تدركـه األبصـار فيـه غيـر‬
‫الوقت الذي أخبرنا أنها تنظر إليه فيه ‪.‬‬
‫فإن قال قائل ‪ :‬ما أنكرتم أن يكون قولـه تعـالى ‪ (( :‬إِلَـى ربخهـا َن ِ‬
‫ـاظ َرةٌ (‪ [ )) )24‬القيامـة ‪ ] 24 :‬أي إلـى‬ ‫َ َ‬
‫كواب ربها ناظرة ؟‬

‫قيل له ‪ :‬كواب اهلل تعالى غيره وال يجوز أن يعدل بالكالم عن الحقيقة إلى المجاز بغير حجة وال داللة ‪.‬‬

‫أال تـرى أن اهلل تعـالى لمـا قــال ‪ (( :‬صـلوا إلـي واعبـدوني )) لــم يجـز أن يوقـل قائـل عنــة غيـره ولـو جــاز‬
‫لزاعم أن يقول قوله ‪ (( :‬ال تدركـه )) [ األنعـام ‪ ] 454 :‬أراد بـه أنهـا ال تـدرك غيـره األبصـار لجـاز لـزاعم‬
‫أن يزعم أن قوله صلوا إلي واعبدوني أراد به غيره فإذا فسد هذا فسد ما قاله ‪.‬‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬فــإذا كــان قول ـه ‪ (( :‬ال تدركــه األبصــار )) [ األنعــام ‪ ] 454 :‬فــي وقــت دون وقــت فمــا‬
‫أنكرت أن يكون قوله ‪ (( :‬ال تأخذه سنة وال نوم )) [ البقرة ‪ ] 266 :‬في وقت دون وقت ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬الفرق بينهما أنه قال لنا في آية أنه ال تدركه األبصار وقـال فـي آيـة أخـرى أن الوجـوه تنظـر إليـه‬
‫فاستعملنا اآليتين وقلنا ‪ :‬إن المعنى في ذلك أنها تنظر إليه في وقت وال تدركه في وقت ‪.‬‬

‫ولم يقل لنا في آية أن السنة والنوم يأخذانه وفي آية أخرى ال يأخذانه فيستعمل في وقتين ‪.‬‬

‫وأيضاً فإن النوم آفة تقوم بالنائم تزيل عنـه العلـم وليسـت الرؤيـة آفـة تحـل فـي المرئـي فيجـب منـع الرؤيـة‬
‫بمكل ما به وجب منع النوم ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫[ لو جاز لزاعم أن يرى القديم ] ‪.‬‬

‫فــإن قــالوا ‪ :‬لــو جــاز أن يــرى القــديم ســبحانه ولــيس كالمرئيــات لجــاز أن يلمــس ويــذاق ويشــم ؛ ولــيس‬
‫كالمذوقات وال كالملموسات وال كالمشمومات ‪.‬‬

‫قيل لهم ‪ :‬ما الفرق بينكم وبين من قال ولو جاز أن يكون القـديم رائيـاً عالمـاً قـاد اًر حيـاً ال كـالرائين العلمـاء‬
‫القادرين األحياء لجاز أن يكون المساً ذائقاً شاماً ال كالمالمسين الذائقين الشامين فإن لـم يجـب هـذا فمـا‬
‫أنكرتم من أن ال يجب ما قلتموه ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ هل شاهدتم مرئياً إال جوه اًر أو عرضاً محدوداً ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فهل شاهدتم مرئياً إال جوه اًر أو عرضاً محدوداً أو حاالً في محدود ؟‬

‫قيل له ‪ :‬ال ولم يكن المرئي مرئياً ألنه محدود وال ألنه حال في محدود وال ألنه جوهر وال ألنه عرض‬
‫‪.‬‬

‫فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب كمـا لـم يجـب إذا لـم نجـد فـاعالً إال جسـماً وال‬
‫شــيئاً إال جــوه اًر أو عرض ـاً وال عالم ـاً قــاد اًر حي ـاً إال بعلــم وحيــاة وقــدرة محدكــة أن نقضــي بــذلك علــى‬
‫الغائب ‪.‬‬

‫إذ لم يكن الفاعل فاعالً ألنه جسم وال الشيء شيئاً ألنه جوهر أو عرض ‪.‬‬
‫الباب الخامس‬

‫باب الكالم في القدر ‪.‬‬

‫[ أكساب العباد مخلوقة هلل تعالى ] ‪.‬‬

‫إن قال قائل ‪ :‬لم زعمتم أن أكساب العباد مخلوقة هلل تعالى ؟ قيـل لـه ‪ :‬قلنـا ذلـك ألن اهلل تعـالى قـال ‪(( :‬‬
‫واهلل خلقكم وما تعملون (‪ [ )) )95‬الصافات ‪. ] 95 :‬‬

‫وقـال ‪ (( :‬جـزاء بمــا كــانوا يعملــون (‪ [ )) )48‬الســجدة ‪ ] 48 :‬فلمــا كــان الجـزاء واقعـاً علــى أعمــالهم كــان‬
‫الخالق ألعمالهم ‪.‬‬

‫ف ــإن ق ــال ‪ :‬أفل ــيس اهلل تع ــالى ق ــال ‪ (( :‬ق ــال أتعب ــدون م ــا تنحت ــون (‪ [ )) )96‬الص ــافات ‪ ] 96 :‬وعن ــى‬
‫األصنام التي نحتوها فما أنكرتم أن يكون قوله ‪ (( :‬خلقكم وما تعملـون (‪ [ )) )95‬الصـافات ‪ ] 96 :‬أراد‬
‫األصنام التي عملوها ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬خطأ ما ظنته ألن األصنام منحوتة لهم في الحقيقة فرجع اهلل تعالى بقولـه ‪ (( :‬قـال أتعبـدون مـا‬
‫تنحتــون (‪ [ )) )96‬الصــافات ‪ ] 96 :‬إليه ــا وليســت الخشــب معمولــة له ــم فــي الحقيقــة فترجــع بقولــه ‪(( :‬‬
‫خلقكم وما تعلمون (‪ [ )) )95‬الصافات ‪ ] 95 :‬إليها ‪.‬‬

‫فإن قال قائـل ‪ :‬ألـيس قـد قـال اهلل تعـالى ‪ (( :‬تلقـف مـا يـأفكون (‪ [ )) )448‬األعـراف ‪ ] 448 :‬ولـم يـرد‬
‫إفكهم فما أنكرت أن ال يرجع بقوله ‪ (( :‬خلقكم وما تعملون (‪ [ )) )95‬الصافات ‪ ] 95 :‬إلى أعمالهم قيل‬
‫لـه ‪ :‬الـذي يـأفكون هـو األمكلـة التــي خيلـوا إلـى النـاس أنهـا حيــات تسـعى وافكهـم تخـيلهم فـأراد بقولــه ‪(( :‬‬
‫يــأفكون (‪ [ )) )448‬األع ـراف ] أي يخيلــون إلــى النــاس أنهــا حيــات تســعى وافكهــم هــي إيهــامهم الشــيء‬
‫على خالف ما هو بسبيله فاألمكلة هي التي يأفكون ويخيلون إلى الناس أنهـا تسـعى فـي الحقيقـة وهـي‬
‫التي تلقفها العصا ‪.‬‬

‫وليس يجوز أن يعملوا الخشب في الحقيقة فلم يجز أن يكون اهلل تعالى رجع بقوله ‪ (( :‬خلقكم وما تعملون‬
‫(‪ [ )) )95‬الصــافات ‪ ] 95 :‬إليهــا ووجــب أن يرجــع إلــى األعمــال كمــا رجــع بقولــه ‪ (( :‬ج ـزاء بمــا كــانوا‬
‫يعملون (‪ [ )) )48‬السجدة ‪ ] 48 :‬إلى األعمال ‪.‬‬

‫فلــو جــاز ل ـزاعم أن يــزعم أن قــول اهلل تعــالى ‪ (( :‬خلقكــم ومــا تعملــون (‪ [ )) )95‬الصــافات ‪ ] 95 :‬غيــر‬
‫أعمالهم كما أن قوله ‪ (( :‬ما يأفكون (‪ [ )) )448‬األعراف ‪ ] 448 :‬إنما أراد به غير إفكهم فلمـا لـم يجـز‬
‫هذا لم يجز ما قاله هذا ‪.‬‬

‫والدليل من القياس على خلق أعمال الناس أنا وجـدنا الكفـر قبيحـاً فاسـداً بـاطالً متناقضـاً خالفـاً لمـا خـالف‬
‫ووجدنا اإليمان حسناً متعباً مؤلماً ‪.‬‬

‫ووجدنا الكافر يقصد ويجهد نفسه إلى أن يكون الكفر حسناً حقاً فيكون بخالف قصده ‪.‬‬

‫ووجدنا اإليمان لو شاء المؤمن أن ال يكون متعباً مؤلماً وال مرمضاً لم يكن ذلـك كائنـاً علـى حسـب مشـيئته‬
‫وارادته ‪.‬‬
‫علــى‬ ‫أحدكــه عليهــا ألنــه لــو جــاز أن يحــد‬ ‫علــى حقيقتــه إال مــن محــد‬ ‫وقــد علمنــا أن الفعــل ال يحــد‬
‫أحدكه فعالً ‪.‬‬ ‫الشيء فعالً ال من محد‬ ‫أحدكه على ما هو عليه لجاز أن يحد‬ ‫حقيقته ال من محد‬

‫أحدكـه علـى مـا هـو عليـه وهـو قاصـد إلـى‬ ‫على حقيقته إال من محد‬ ‫فلما لم يجز ذلك ص‪ ،‬أنه لم يحد‬
‫ذلك ألنه لو جاز حدو فعل على حقيقته ال من قاصد لم يؤمن أن تكون األفعال كلهـا كـذلك كمـا أنـه لـو‬
‫جاز حدو فعل ال من فاعل لم يؤمن أن تكون األفعال كلها كذلك ‪.‬‬

‫أحدكــه كفـ اًر بــاطالً قبيحـاً وهــو قاصــد إلــى ذلــك ولــن‬ ‫واذا كــان هــذا هكــذا فقــد وجــب أن يكــون للكفــر محــد‬
‫له هو الكافر الذي يريد أن يكون الكفر حسناً صواباً حقاً فيكون على خالف ذلك‬ ‫يجوز أن يكون المحد‬
‫‪.‬‬

‫أحدكه على حقيقته متعباً مؤلماً مرمضاً غير المؤمن الـذي لـو جهـد أن يقـع اإليمـان‬ ‫وكذلك لإليمان محد‬
‫خالف ما وقع من إيالمه واتعابه وارماضه لم يكن له إلى ذلك سبيل ‪.‬‬

‫لإليمــان علــى حقيقت ـه المــؤمن فقــد‬ ‫للكفــر علــى حقيقتــه الكــافر وال المحــد‬ ‫واذا لــم يجــز أن يكــون المحــد‬
‫ذلــك هــو اهلل تعــالى رب العــالمين القاصــد إلــى ذلــك ألنــه ال يجــوز أن يكــون أحــد‬ ‫وجــب أن يكــون محــد‬
‫ذلك جسم من األجسام ألن األجسام ال يجوز أن تفعل في غيرها شيئاً ‪.‬‬

‫فـإن قــال قائــل ‪ :‬فلـم ال دل وقــوع الفعــل الـذي هــو كســب علـى أنــه ال فاعــل لـه إال اهلل كمــا دل علــى أنــه ال‬
‫خالق له إال اهلل تعالى قيل له ‪ :‬كذلك نقول ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فلم ال ؟ دل على أنه ال قادر عليه إال اهلل عز وجل ‪ .‬قيل له ‪ :‬ال فاعل له على حقيقته إال اهلل‬
‫تعالى وال قادر عليه أن يكون على ما هو عليه من حقيقته أن يخترعه إال اهلل تعالى ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فلم ال دل كونه كسباً على حقيقته على أنه ال مكتسب له في الحقيقة إال اهلل ؟‬

‫قيل له ‪ :‬األفعال ال بد لها من فاعـل علـى حقيقتهـا ألن الفعـل ال يسـتغني عـن فاعـل فـإذا لـم يكـن فاعلـه‬
‫على حقيقته الجسم وجب أن يكون اهلل تعالى هو الفاعل له على حقيقته ‪.‬‬

‫ولـيس ال بــد للفعــل مــن مكتســب يكتسـبه علــى حقيقتــه كمــا ال بــد مـن فاعــل يفعلــه علــى حقيقتــه فيجــب إذا‬
‫كان الفعل كسباً كان اهلل تعالى هو المكتسب له على حقيقته ‪.‬‬

‫أال ت ــرى أن حرك ــة االض ــطرار ت ــدل عل ــى أن اهلل تع ــالى ه ــو الفاع ــل له ــا عل ــى حقيقته ــا وال ت ــدل عل ــى أن‬
‫المتحرك بها في الحقيقـة هـو اهلل تعـالى إذا كانـت حركـة كمـا كـان هـو الفعـال لهـا فـي الحقيقـة وال يجـب أن‬
‫يكــون المتحــرك المضــطر إليهــا فــاعالً لهــا علــى حقيقتهــا إذا كــان متحركـاً بهــا علــى الحقيقــة إذ كــان معنــى‬
‫المتحرك أن الحركة حلته ولم يكن جائ اًز على ربنا تعالى ‪.‬‬

‫وكذلك إذا كان الكسب داالً على فاعل فعله على حقيقته لم يجب أن يدل على أن الفعال لـه علـى حقيقتـه‬
‫هــو المكتســب لــه وال علــى أن المكتســب لــه علــى الحقيقــة هــو الفاعــل لــه علــى حقيقتــه إذ كــان المكتســب‬
‫مكتسباً للشيء ألنه وقـع بقـدرة لـه عليـه محدكـه ولـم يجـز أن يكـون رب العـالمين قـاد اًر علـى الشـيء بقـدرة‬
‫محدكه فلم يجز أن يكون مكتسباً للكسب وان كان فاعالً في الحقيقة ‪.‬‬
‫فإن قال ‪ :‬فهل اكتسـب اإلنسـان الشـيء علـى حقيقتـه كفـ اًر بـاطالً وايمانـاً حسـناً ؟ قيـل لـه ‪ :‬هـذا خطـأ وانمـا‬
‫معنـى (( اكتســب الكفــر )) إنــه كفـر بقــوة محدكــه وكــذلك قولنــا ‪ ( :‬اكتسـب اإليمــان )) ‪ .‬إنمامعنــاه أنــه آمــن‬
‫بقوة محدكه من غير أن يكون اكتسب الشيء على حقيقته بـل الـذي فعلـه علـى حقيقتـه هـو رب العـالمين‬
‫‪.‬‬

‫والقول في الكـذب وان لـه فـاعالً يفعلـه علـى حقيقتـه وكاذبـاً بـه غيـر مـن فعلـه علـى حقيقتـه كـالقول فـي‬
‫فاعل الحركة على حقيقتها والمتحرك بها على الحقيقة غير من فعلها على حقيقتها وقد بينا ذلك آنفاً ‪.‬‬

‫ودليل آخر من القيا س على خلق أفعـال النـاس إن الـدليل علـى خلـق اهلل تعـالى حركـة اإلضـطرار قـائم فـي‬
‫خلقـه حركــة االكتسـاب وذلــك أن حركـة االضــطرار إن كـان الــذي يـدل علــى أن اهلل تعـالى خلقهــا حــدوكها‬
‫فكذلك القصة في حركة االكتساب ‪.‬‬

‫وان كان الذي يدل على خلقها حاجتها إلى مكان وزمان فكذلك قصة حركة االكتساب ‪.‬‬

‫فلما كان كل دليل يستدل به على أن حركة االضطرار مخلوقة هلل تعالى يجب بـه القضـاء علـى أن حركـة‬
‫االكتساب مخلوقة هلل تعالى وجب خلق حركة االكتساب بمكل ما وجب خلق حركة االضطرار ‪.‬‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬فيجــب إذا كانــت إحــدى الحــركتين ضــرورة أن تكــون األخــرى كــذلك واذا كانــت إحــداهما‬
‫كسباً أن تكون األخرى كذلك ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬ال يجب ذلـك الفتراقهمـا فـي معنـى الضـرورة واالكتسـاب ألن الضـرورة مـا حمـل عليـه الشـيء‬
‫وأكره وجبر عليه ولو جهد فـي الـتخلص منـه وأراد الخـروج عنـه واسـتفرغ فـي ذلـك مجهـوده لـم يجـد‬
‫منه انكفافاً وال إلى الخروج عنه سبيالً ‪.‬‬

‫مـن الفـالج‬ ‫فإذا كانت إحـدى الحـركتين بهـذا الوصـف الـذي هـو وصـف الضـرورة وهـي حركـة المـرتع‬
‫والمرتعد من الحمى كانت اضط ار اًر ‪.‬‬

‫واذا كانت الحركة األخرى بخالف هذا الوصف لـم تكـن اضـطرًار ألن اإلنسـان فـي ذهابـه ومجيئـه واقبالـه‬
‫وادباره بخالف المرتع من الفالج والمرتعد من الحمى يعلم اإلنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره‬
‫علم اضطرار ال يجوز معه الشك ‪.‬‬

‫فقد وجب إذا كان العجز في إحدى الحالتين إن القدرة التي هي ضده حادكة في الحال األخرى ألن العجز‬
‫لو كان في الحالين جميعاً لكان سبيل اإلنسان فيهما سبيالً واحدة ‪.‬‬

‫فلمــا لــم يكــن هــذا هكــذا وكانــت القــدرة فــي إحــدى الحــركتين وجــب أن تكــون كســباً ألن حقيقــة الكســب إن‬
‫الشــيء وقــع مــن المكتســب لــه بقــوة محدكــة ألفت ـراق الحــالين فــي الحــركتين وألن إحــداهما بمعنــى الضــرورة‬
‫وج ــب أن تك ــون ض ــرورة وألن األخ ــرى بمعن ــى الكس ــب وج ــب أن تك ــون كس ــباً ودلي ــل الخل ــق ف ــي حركـ ـة‬
‫االضطرار وحركة االكتساب واحداً فلذلك وجب إذا كانت إحداهما خلقاً أن تكون األخرى خلقاً ‪.‬‬

‫والكــون بعــد أن لــم‬ ‫أال تــرى أن افتراقهمــا فــي بــاب الضــرورة والكســب ال يوجــب افتراقهمــا فــي بــاب الحــد‬
‫تكونا فكذلك ال يوجب افتراقهما في باب الضرورة والكسب افتراقهما في الخلق ‪.‬‬
‫ولـيس يجـب إذا دخـل‬ ‫أال ترى أن الجسم لما لم يسبق المحدكات وجـب حدوكـه بدخولـه فـي معنـى الحـد‬
‫إذا كــان مــن المحــدكات مــا هــو حركــة أن يكــون الجســم‬ ‫بمشــاركة المحــدكات فــي معنــى الحــد‬ ‫فــي الحــد‬
‫حركة واذا كان منها ما هو جسم ال يجـب أن تكـون الحركـة جسـماً إذ لـم يكونـا يسـتويان فـي معنـى جسـم‬
‫وحركة واستويا في معنى الحدو ‪.‬‬

‫وجــب إذا كــان أحــدهما خلق ـاً هلل أن يكــون‬ ‫فكــذلك لمــا اســتوى الكســب والضــرورة فــي معنــى الخلــق والحــد‬
‫اآلخر كذلك فلذلك لم يوجب افتراقهما في باب الضرورة والكسب افتراقهما في الخلق ‪.‬‬

‫فغــن قــال قائــل ‪ :‬مــا أنك ـرتم أن يكــون الــذي دل علــى إن إحــدى الحــركتين مخلوقــة هلل تعــالى هــو أن حركــة‬
‫االضطرار وقعت معج اًز عنها فـإذا وقعـت األخـرى مقـدو اًر عليهـا خرجـت مـن أن تكـون مخلوقـة ‪ .‬قيـل لـه ‪:‬‬
‫مـن‬ ‫لو كان ما وقع مقدو اًر غير اله تعالى خرج مـن أن يكـون مخلوقـاً لـم يـؤمن أن تكـون حركـات المـرتع‬
‫الفالج والمرتعد من الحمى قد أقدر اهلل تعالى عليهـا بعـض مالئكتـه يفعلهـا فـي المتحـرك باضـطرار إذ كـان‬
‫ال يستحيل عند مخالفينا أن يقدر القادر من المخلوقين على أن يفعل في غيره فبطلت داللتها على أن اهلل‬
‫تعالى فعلها على ما هي عليه ‪.‬‬

‫وكــذلك القــول فــي حركــات األفــالك واجتمــاع أجـزاء الســماء وتأليفهــا واذا كــان هــذا هكــذا فقــد بطلــت داللــة‬
‫هذه األشياء على أن اهلل تعالى فعلها على مـا هـي عليـه ولـم يـؤمن أن يكـون ألجـزاء السـماء جـامع غيـر‬
‫اهلل سبحانه ول فالك محكم وللكواكب محرك غيره ‪.‬‬

‫واذا لـم يجـز ذلــك فقـد بطـل مــا قـالوه مــن أن الشـيء إذا كـان مقــدو اًر لغيـر اهلل تعـالى خــرج مـن أن يكــون هلل‬
‫تعالى مخلوقاً ‪.‬‬

‫وأيضاً فليس العجز بأن يدل على أن اهلل تعالى خلق المعجوز عنه بأولى من أن تكون القـدرة التـي جعلهـا‬
‫اهلل تعالى داللة على أن اهلل خلق المقدور عليه ألن ما خلق اهلل القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر‪.‬‬

‫كما أن ما خلق فينا العلم به فهو به أعلم وما خلق فينا السمع له فهو له أسمع ‪.‬‬

‫فإذا استوى ذلك في قدرة اهلل تعالى وجب إذا أقـدرنا اهلل تعـالى علـى حركـة االكتسـاب أن يكـون هـو الخـالق‬
‫لها فينا كسباً لنا ألن ما قدر عليه أن يفعله فينا ولم يفعله فينا كسباً فقد ترك أن يفعله فينا كسباً ‪.‬‬

‫واذا ترك أن يكون كسباً لنا استحال أن نكون له مكتسـبين ‪ .‬فـدل علـى مـا قلنـا علـى أنـا ال نكتسـبه إال وقـد‬
‫خلقه اهلل تعالى لنا كسباً ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫[ إذا كان كسب اإلنسان خلقاً ]‬

‫فإن قـال قائـل ‪ :‬إذا كـان كسـب اإلنسـان خلقـاً فمـا أنكـرت أن يكـون لـه خالقـاً ؟ قيـل لـه ‪ :‬لـم أقـل أن كسـبي‬
‫خلق لي فيلزمني أن أكون له خالقـاً وانمـا قلـت خلـق لغيـري فكيـف يلزمنـي إذا كـان خلقـاً لغيـري أن أكـون‬
‫له خالقاً ولو كان كسبي إذا كان خلقاً هلل تعالى كنت له خالقاً لكانت حركة المتحرك باضطرار إذا كانت‬
‫خلقاً هلل تعالى كان بها متحركاً ‪.‬‬

‫فلما لم يجز ذلك أنه خلقها حركة لغيره لم يلزمنا ما قالوه ألن كسبنا خلق لغيرنا ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬أفليس قد خلق اهلل تعالى جور العباد ؟ قيل لـه ‪ :‬خلقـه جـو اًر لهـم ال لـه فـإن قـال ‪ :‬فمـا أنكـرتم‬
‫أن يكون جائ اًر ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬لم يكن الجائر جائ اًر ألنه فعل الجور جو اًر لغيره ال له ألنـه لـو كـان جـائ اًر لهـذه العلـة لـم يكـن فـي‬
‫المخلوقين جائر ‪.‬‬

‫فلما لم يكن الجائر جائ اًر ألنه فعل الجور جو اًر لغيره لم يجـب أن يكـون اهلل بخلقـه الجـور جـو اًر لغيـره ال لـه‬
‫جائ اًر ‪.‬‬

‫وأيضاً لو لزم ما قالوه لزم إذا فعل إرادة وشـهوة وحركـة لغيـره ال لـه أن يكـون مريـداً مشـتهياً متحركـاً فلمـا لـم‬
‫يجب هذا لم يجب ما قالوه ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬فقد يخلـق اهلل تعـالى حركـة ال يكتسـبها أحـد وال يكـون متحركـاً ‪ .‬قيـل لهـم ‪ :‬وكـذلك لـو خلـق اهلل‬
‫تعالى جو اًر ال يكتسبه أحد لم يكن به جائ اًر وكان جو اًر لمن خلقه جو اًر له به يكون جائ اًر ‪.‬‬

‫فــإن قــالوا ‪ :‬فلــم ال يقــول قــول غي ـره كمــا خلــق جــور غي ـره ؟ قيــل لهــم ‪ :‬لــم نقــل ‪ :‬إنــه يجــور بجــور غي ـره‬
‫فيلزمنا أن يقول بقول غيره وانما قلنا ‪ :‬إنه يخلق جو اًر لغيره ال له وال يكون به جائ اًر ‪.‬‬

‫فعروض هذا أن يخلق قوالً لغيره ال له وال يكون به قائالً وأيضاً فلو وجب هـذا لوجـب أن يقـول الكـذب‬
‫مـن لــيس بكــاذب كمــا فعــل الجــور مــن لــيس بجــائر كمــا فعــل اإلرادة مــن لــيس بمريــد لهــا والحركــة مــن لــيس‬
‫بمتحرك بها فإن لم يجب هذا لم يجب ما قالوه ‪.‬‬

‫وأيضـاً فقــد دللنـا علــى أن كــالم الـه تعــالى مــن صـفات ذاتــه فــي صـدر كتابنــا هــذا فاسـتحال لــذلك أن يكــون‬
‫بقول غيره قائالً كما إذا كان العلم من صفات نفسه استحال أن يكـون علـم غيـره علمـاً لـه وأن يكـون رب‬
‫‪.‬‬ ‫العالمين عالماً بعلم محد‬
‫مسألة‬

‫[ العبد بين النعمة والبلية ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فهل يخلو العبد أن يكون بين نعمة يجب عليه شكرها أوبلية يجب عليه الصبر عليها ؟‬

‫قيل له ‪ :‬ال يخلو العبد من نعمة وبلية والباليـا منهـا مـا يجـب الصـبر عليهـا كالمصـائب مـن األمـراض‬
‫واألسقام وفي األموال واألوالد وما أشبه ذلك ومنها ماال يجب الصبر عليها كالكفر وسائر المعاصي ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ هل قضى اهلل المعاصي وقدرها ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فهل قضى اهلل تعالى المعاصي وقدرها ‪ .‬قيل له ‪ :‬نعم بأن خلقها وبأن كتبها وأخبر‬
‫عن كونها كما قال ‪ (( :‬وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب )) [ اإلسراء ‪. ] 3 :‬‬

‫يعني أخبرناهم وأعلمناهم وكما قال ‪ (( :‬إال امرأته قدرناها من الغـابرين )) [ النمـل ‪ ] 68 :‬يريـد كتبناهـا‬
‫وأخبرنا أنها من الغابرين وال نقول قضاها وقدرها بأن أمر بها ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬أفقضاء اهلل تعالى حق ؟ قيل له ‪ :‬من قضاء اهلل تعالى الـذي هـو خلـق مـا هـو حـق كالطاعـات‬
‫ومالم ينه عنه ‪.‬‬

‫ومن قضاء اهلل تعالى الذي هو خلق ما هو جور كالكفر والمعاصي ألن الخلق منه حق ومنه باطل ‪.‬‬

‫وأما القضاء الذي هو أمر والقضاء الذي هو إعالم واجبار وكتاب فحق ألنه غير المقضي ‪.‬‬

‫ومــن أصــحابنا مــن يجيــب بــأن يقــول قضــاء اهلل المعصــية والكفــر ويقــول بلفــظ المعصــية والكفــر همــا‬
‫باطالن وال يقول بلفـظ القضـاء ‪ :‬إنـه باطـل ألن قـول القائـل ‪ :‬قضـاء اهلل باطـل كمـا يقـول إذا رأى خشـبة‬
‫منكسرة بلفظ الخشبة هي منكسرة وهي مع ذلك حجـة هلل تعـالى وال يقـول بلفـظ الحجـة ‪ :‬إنهـا منكسـرة‬
‫ألن هذا يوهم أن حجة اهلل تعالى ال حقيقة لها ‪.‬‬

‫فكذلك أن الكفر باطل والكفر قضاء اهلل تعالى بمعنى أنه خلق اهلل وال تقول قضاء اهلل باطل ألنه يـوهم أن‬
‫ال حقيقة لقضاء اهلل تعالى ‪.‬‬

‫وهذا كما نقول الكافر مؤمن بالجبت والطاغوت وال نقول ‪ :‬مؤمن ونسكت لما فيه من اإلبهام ‪.‬‬

‫ونقول ‪ :‬إن النبي صلى اهلل عليه وسلم لكافر بالجبت والطاغوت وال نقول لكافر ونسـكت لمـا فـي ذلـك‬
‫من اإلبهام ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫[ الرضا بقضاء اهلل وقدره ولو كف اًر ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬أفترضون بقضاء اهلل وقدره الكفر ؟ قيل له ‪ :‬نرضى بـأن قضـى اهلل تعـالى الكفـر قبيحـاً‬
‫وقد اًر فاسداً وال نرضى بأن كان الكافر به كاف اًر ألن اهلل تعالى نهانا عن ذلك وليس إذا أطلقنا الرضـى‬
‫بلفـظ القضـاء وجـب أن نطلقـه بلفــظ الكفـر كمـا ال يجـب إذا قلنــا أن الخشـبة حجـة اهلل تعـالى وأن الخشــبة‬
‫مكسورة أن نقول ‪ :‬حجة اهلل تعالى مكسورة ألن هذا يوهم حجة اهلل تعالى ال حقيقة لها ‪.‬‬

‫فكذلك نطلق الرضى بلفظ القضاء والقدر وال نطلقه بلفظ الكفـر ‪ .‬هـذا جـواب أصـحابنا الـذي ذكرنـا جـوابهم‬
‫آنفاً ‪.‬‬

‫ومن أصحابنا من ال يجيب بأن نرضى بقضاء اهلل تعـالى وقـدره اللـذين أمرنـا أن نرضـى بهمـا اتباعـاً ألمـره‬
‫ألنه ال يتقدم بين يديه وال يعترض عليه ‪ .‬وهذا كما نالضى ببقاء النبيين عليهم السالم ونكـره مـوتهم ونكـره‬
‫بقاء الشياطين وكل بقضاء رب العالمين ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ خير الخير ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فأيمـا خيـر الخيـر أو مـن الخيـر منـه ؟ قيـل لـه ‪ :‬مـن الخيـر منـه متصـالً بـه فهـو خيـر مـن‬
‫الخير ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فأيما شر الشر أو من الشر منـه ؟ قيـل لـه ‪ :‬مـن كـان الشـر منـه جـائ اًر بـه فهـو شـر مـن‬
‫الشر ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ هل الشر من اهلل تعالى ]‬

‫فإن قـال قائـل ‪ :‬أوتقولـون ‪ :‬إن الشـر مـن اهلل تعـالى ؟ قيـل لـه ‪ :‬مـن أصـحابنا مـن يقـول بـأن األشـياء كلهـا‬
‫من اهلل في الجملة وال يطلق بلفظ الشر أنه مـن اهلل تعـالى كمـا يقـال ‪ :‬األشـياء كلهـا هلل فـي الجملـة وال‬
‫يقال على التفصيل ‪ :‬الزوجة والولد هلل تعالى وكما نقـول فـي الجملـة ‪ :‬مـا دون اهلل ضـعيف وال يقـال ‪:‬‬
‫على التفصل دين اهلل ضعيف ‪.‬‬

‫قال الشيخ ‪ :‬أبو الحسن رحمه اهلل فأما أنا فإني أقول ‪ :‬إن الشر من اهلل تعالى بأن خلقه ش اًر لغيره ال له ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫[ معنى قوله تعالى ‪. ] :‬‬

‫ـون‬ ‫ـاب ومـا ُهـو ِم ْـن ا ْل ِكتَ ِ‬


‫ـاب َوَيقُولُ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون أَْلس َـنتَهُ ْم با ْلكتَـاب لتَ ْح َس ُـبوهُ م ْـن ا ْلكتَ َ َ َ‬
‫فإن قال ‪ :‬فمـا معنـى قولـه ‪َ (( :‬ي ْل ُـو َ‬
‫ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه )) ‪ [.‬آل عمران ‪. ]87 :‬‬

‫قيــل لــه ‪ :‬معنــى ذلــك أنهــم حرفـوا وصــف رســول اهلل صــلى اهلل عليــه وســلم وأوهمـوا الســفيه مــنهم أنــه مــن‬
‫ـون ُه َـو ِم ْـن ِع ْن ِـد اللَّ ِـه )) [ آل عمـران ‪ ] 87 :‬يعنـي‬ ‫كتابهم ‪ .‬قال اهلل تعالى ‪ (( :‬وما ُهو ِم ْـن ا ْل ِكتَ ِ‬
‫ـاب َوَيقُولُ َ‬ ‫ََ َ‬
‫أن اهلل تعالى أنزله قال اهلل تعالى ‪ (( :‬ويقولون هو من عند اهلل )) [ آل عمران ‪ ] 87 :‬أي لم أنزل عليهم‬
‫ذلك كما يدعون ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[معنى قوله تعالى ‪ (( :‬ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )) ]‬

‫فإن قال ‪ :‬فما معنى قولـه تعـالى ‪ (( :‬مـا تـرى فـي خلـق الـرحمن مـن تفـاوت )) [ الملـك ‪ ] 4 :‬؟ قيـل لـه ‪:‬‬
‫قال اهلل تعـالى ‪ (( :‬لـك ألجـر غيـر ممنـون (‪ [ )) )4‬القلـم ‪ ] 4 :‬واحـدة فـوق األخـرى (( مـا تـرى فـي خلـق‬
‫الــرحمن مــن تفــاوت )) [الملــك ‪ ] 4 :‬يعنــي فــي الســماوات ألنــه قــال ‪ (( :‬فــارجع البصــر )) [ الملــك ‪] 4 :‬‬
‫بعد ذكره السماوات (( هل ترى من فطور (‪ [ )) )4‬الملك ‪ ] 4 :‬يعني من شقوق والكفر ال شقوق فيه ‪.‬‬

‫كم قال ‪ (( :‬كم ارجع البصر كرتين )) [ الملـك ‪ ] 3 :‬يعنـي فـي السـماوات واألرض (( ينقلـب إليـك البصـر‬
‫خاسئاً )) [ الملك ‪ ] 3 :‬يعني معيناً (( البصر خاسئاً )) [ الملك ‪ ] 3 :‬يعني مغلوباً ‪.‬‬

‫ولم يذكر اهلل تعالى الكفر وال أفعال العباد في هذه اآلية فيكون للقدرية في ذلك حجة ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ معنى قوله تعالى (( الذي أحسن كل شيء )) ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فما معنى قول اهلل تعالى (( الـذي أحسـن كـل شـيء )) [ السـجدة ‪ . ] 3 :‬قيـل لـه ‪ :‬معنـى‬
‫ذلك أنه يحسن أن يخلق كما يقال فالن يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ ‪ .‬فأخبر اهلل تعالى أنه يعلم‬
‫كيف يخلق األشياء ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ معنى قوله تعالى ‪ (( :‬وما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطالً )) ]‬

‫فإن قال ‪ :‬فما معنى قولـه تعـالى ‪ (( :‬ومـا خلقنـا السـماء واألرض ومـا بينهمـا بـاطالً )) [ ص ‪ ] 28 :‬قيـل‬
‫له ‪ :‬قال اهلل تعالى ‪ (( :‬ذلك ظن الذين كفروا )) [ ص ‪ ] 28 :‬فدل ذلك على أن المعنى فيها خلقهـا ومـا‬
‫بينهما وأنا ال أكيب من أطاعني وال أعاقب من عصاني وكفر بي ألن الكافرين ظنوا أنهم ال يعادون‬
‫وال لهم رجعة فيعاقبون ‪.‬‬

‫فبين اهلل تعالى أنه ما خلق الخلق إال ومصير بعضهم إلى كواب ورجوع بعضهم إلـى العقـاب وأن الكـافرين‬
‫ظنـ ـوا ذل ــك ألن ــه ب ــين أن ذل ــك ب ــاب الكـ ـواب والعق ــاب ألن ــه تع ــالى قـ ـال ‪ (( :‬أم نجع ــل ال ــذين آمنـ ـوا وعملـ ـوا‬
‫الصــالحات كالمفســدين فــي األرض أم نجعــل المتقــين كالفجــار (‪ [ )) )27‬ص ‪ ] 27 :‬فــأخبر تعــالى ظــن‬
‫المشركين الذين أنكر عليهم أنهم ظنوا أنه ال عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين والكافرين ‪.‬‬

‫قال الشيخ أبو الحسن ‪ :‬وقد يحتمل (( وما خلقنـا السـماء واألرض ومـا بينهمـا بـاطالً )) [ ص ‪ ] 28 :‬أي‬
‫لم أخلق ذلك أجمع باطالً ألن الباطل بعض خلق اهلل تعالى ‪.‬‬

‫بعد أن خلقتهما ‪.‬‬ ‫ويحتمل ما خلقت ذلك باطالً أي لم أجعله باطالً إذ خلقتهما ألن الباطل حد‬

‫وقد قال اهلل تعالى ‪ (( :‬الذي خلق السماوات واألرض وما بينهما في ستة أيام )) [ الفرقـان ‪ ] 69 :‬فعمـوم‬
‫من الخلق كالمالئكة الذين كانوا بينهما ومـا خلقـه بينهمـا‬ ‫هذا القول يدل على أنه خلق ما بينهما مما حد‬
‫من أعمال الحيوان في ذلك الوقت ‪.‬‬

‫فلم قضـوا بإحـدى اآليتـين علـى أن اهلل تعـالى لـم يخلـق الباطـل دون أن يقضـوا باآليـة األخـرى علـى أن اهلل‬
‫خلق ما كان بينهما من فعل المالئكة وغيرهم في ذلك الوقت ؟‬

‫اب َو َما ُه َو ِم ْـن‬


‫اب لِتَ ْح َسُبوهُ ِم ْن ا ْل ِكتَ ِ‬
‫ون أَْل ِسَنتَهم بِا ْل ِكتَ ِ‬
‫ُْ‬ ‫ويقال ‪ :‬إن قال قول اهلل تعالى في المشركين ‪َ (( :‬ي ْل ُو َ‬
‫ون ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه )) [ آل عمران ‪ ] 87 :‬معناه لم يخلقه اهلل فلم ال تكون الطاعات مخلوقة‬ ‫ا ْل ِكتَ ِ‬
‫اب َوَيقُولُ َ‬
‫له ألنها عندكم من عند اهلل تعالى ‪.‬‬

‫وان كــان الكفــر والمعاصــي غيــر مخلوقــة هلل تعــالى ألنهــا متفاوتــة فلــم ال تكــون الطاعــات مخلوقــة لــه ألنهــا‬
‫عندكم غير متفاوتة ‪.‬‬

‫واذا كان قوله سبحانه ‪ (( :‬الذي أحسن كل شيء )) [ السجدة ‪ ] 8 :‬على العموم في كـل شـيء خلقـه اهلل‬
‫تعالى فلم ال كان قوله تعالى ‪ (( :‬خالق كل شيء )) [ الزمر ‪ ] 52 :‬على العموم في كل شيء هو غيـره‬
‫‪.‬‬

‫فــإن قــال ‪ :‬فمــا معنــى قولــه ‪ (( :‬مــا خلقنــا الســماوات و األرض ومــا بينهمــا إال بــالحق )) [ األحقــاف ‪] 4:‬‬
‫قيل له خلق اهلل ذلك فإن قال له ‪ (( :‬كن )) [ البقرة ‪ ] 448 :‬فالحق قوله بهما (( كونا )) فكانتا ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ القول ألهل القدر ]‬


‫ويقال ألهل القدر ‪ :‬أليس قول اهلل تعالى ‪ (( :‬بكـل ش ٍ‬
‫ـيء علـيم (‪ [ )) )29‬البقـرة ‪ ] 29 :‬يـدل علـى أنـه ال‬
‫معلوم إال واهلل به عالم ‪.‬‬

‫فإذا قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬فما أنكرتم أن يدل قوله تعالى ‪ (( :‬على كل شـيء قـدير (‪ [ )) )455‬البقـرة ‪:‬‬
‫‪ ] 455‬علــى أنــه ال مقــدور إال واهلل عليــه قــادر وأن يــدل قولــه تعــالى ‪ (( :‬خــالق كــل شــيء )) [ الزمــر ‪:‬‬
‫له فاعل خالق ‪.‬‬ ‫مفعول إال واهلل محد‬ ‫‪ ] 52‬على أنه ال محد‬

‫مسألة‬
‫[ قول اهلل تعالى ‪ (( :‬أن اهلل بريء من المشركين ورسوله )) ]‬

‫إن سأل سائل ‪ :‬عن قول اهلل تعالى ‪ (( :‬أن اهلل بريء من المشركين ورسوله )) [ التوية ‪ . ] 4 :‬فالجواب‬
‫أن اآلية إنما نزلت في العهود التـي كانـت بـين المشـركين وبـين رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم ألن اهلل‬
‫ـيحوا ِفــي األ َْر ِ‬
‫ض أ َْرَب َع ـةَ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )4‬فَسـ ُ‬
‫ِ‬ ‫تعــالى قــال ‪ (( :‬بــراءةٌ ِمـ ْـن اللَّـ ِـه ورس ـولِ ِه إِلَــى الَّـ ِـذين ع َ ِ‬
‫اهــدتُّ ْم مـ ْـن ا ْل ُم ْشـ ِـرك َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬ ‫اعلَموا أََّن ُكـم َغ ْيـر مع ِج ِـزي اللَّ ِـه وأ َّ َّ‬
‫ين (‪ [ )) )2‬التوبـة ‪ ]2 - 4‬فـأحلهم اهلل أربعـة‬ ‫َن اللـهَ ُم ْخ ِـزي ا ْل َكـاف ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ُْ‬ ‫أَ ْشهُ ٍر َو ْ ُ‬
‫أشهر ‪.‬‬

‫ين َوَر ُسـولُهُ فَـِإ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ب ِـر ِ‬ ‫ـاس يـوم ا ْلحـ خج األَ ْكب ِـر أ َّ َّ‬ ‫اللَّ ِه َوَر ُسولِ ِه إِلَى َّ‬ ‫ان ِم ْن‬
‫يء م ْـن ا ْل ُم ْش ِـرك َ‬
‫َ ٌ‬ ‫َن اللـهَ‬ ‫َ‬ ‫الن ِ َ ْ َ َ‬ ‫كم قال ‪َ (( :‬وأَ َذ ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫تَ َولَّْيتُ ْم فَ ْ‬
‫َكفَُروا ب َع َذاب أَليم (‪ [ )) )4‬التوبـة‬ ‫ِ‬ ‫اعلَ ُموا أََّن ُك ْم َغ ْي ُر ُم ْع ِج ِزي الله َوَب خش ْر الذ َ‬
‫ين‬ ‫تُْبتُ ْم فَهُ َو َخ ْيٌر لَ ُك ْم َوِا ْن‬
‫‪.]4:‬‬
‫ِ‬ ‫َن اللَّه ب ِر ِ‬ ‫يقول واعالم من ورسوله (( إِلَى َّ‬
‫الن ِ‬
‫يء م ْن ا ْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين َوَر ُسولُهُ )) [ التوبـة ‪:‬‬ ‫اس َي ْوَم ا ْل َح خج األَ ْكَب ِر أ َّ َ َ ٌ‬
‫‪ ] 4‬يعني من العهود التي كانت بين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبينهم إذا انقضت األربعة األشهر ‪.‬‬

‫اه ْـدتُ ْم ِع ْن َـد ا ْل َم ْسـ ِج ِد ا ْل َح َـرِام‬ ‫َّ َّ ِ‬


‫كم استكنى قوماً من المشركين يقال ‪ :‬إنهم من بنـي كنانـة فقـال ‪ (( :‬إِال الـذ َ‬
‫ين َع َ‬
‫يموا لَهُ ْم )) [ التوبة ‪ ] 8 :‬إلى انقضاء مدتهم ‪.‬‬ ‫فَما استَقَاموا لَ ُكم فَ ِ‬
‫استَق ُ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫على أن اهلل تعالى ذكر المشركين ولم يقل لهم ‪ (( :‬من شركهم )) ولو كان قوله ((ب ِـر ِ‬
‫يء م ْـن ا ْل ُم ْش ِـرك َ‬
‫ين‬ ‫َ ٌ‬
‫)) [ التوبــة ‪ ] 4‬يوجــب أنــه مــا خلــق شــركهم للــزم القدريــة إذ قــال ‪ :‬إنــه (( ولــي الم ــؤمنين (‪ [ )) )57‬آل‬
‫عمران ‪ ] 57 :‬فقد خلق إيمانهم ‪ .‬فلما لم يكن هذا عندهم هكذا بطل ما قالوه ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ من ألقى ذلك في قلبه ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬حدكونا عن توأمين كانا في بريـة فوقـع بقلـب أحـدهما أن اهلل واحـد مـن ألقـى ذلـك فـي قلبـه‬
‫قلنا له ‪ :‬اهلل تعالى ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬أفحق ما ألقاه بقلبه ‪ .‬قيل له ‪ :‬نعم ‪ .‬فإن قال ‪ :‬أفصدقه فيما ألقاه بقلبه ‪.‬‬

‫قيــل ‪ :‬صــدق اهلل تعــالى ال يكــون إال كالمــه ومــا وقــع بقلــب اإلنســان لــيس بكــالم اهلل تعــالى فيقــال ‪ :‬إن‬
‫اهلل تعالى صدقه فيه ‪.‬‬

‫كالكة من ألقى ذلك بقلبه ‪ .‬قيل له ‪ :‬اهلل تعالى ‪.‬؟‬ ‫فإن قال ‪ :‬فإن اآلخر وقع في قلبه أن اهلل كال‬

‫فإن قال ‪ :‬أفباطل ما ألقاه بقلبه ‪ .‬قيل له ‪ :‬نعم ‪ .‬فإن قال ‪ :‬أفصدقه فيما ألقاه بقبه أم كذبه ‪ .‬قيل ‪ :‬خطـأ‬
‫أن يقال له ‪ :‬صدقه فيه ألن صدق الباري من صفات نفسه وهو كالمه ‪.‬‬

‫وخطأ أن يقال ‪ :‬كذبه فيه ألن الكذب ال يجوز على الباري تعالى ألنه مستحيل أن يكذب وليس يجب‬
‫إذا خلق كذباً لغيره وكذباً في قلب غيره أن يكون كاذباً كماالً يجب إذا خلـق قـدرة فـي غيـره وارادة فـي غيـره‬
‫وحركة في غيره أن يكون بذلك قاد اًر مريداً متحركاً ‪.‬‬

‫مسألة‬
‫[ تسمية القدرية ]‬

‫فإن قالوا ‪ :‬لم سميتمونا قدرية ؟ قيـل لهـم ‪ :‬ألنكـم تزعمـون فـي أكسـابكم أنكـم تقـدرونها وتفعلونهـا مقـدرة لكـم‬
‫دون خالقكم ‪.‬‬

‫والقدري هو من ينسب ذلك لنفسه كما أن الصائغ هو من يعترف بأنه يصوغ دون مـن يـزعم أن يصـاغ لـه‬
‫والنجار هو من يدعي أنه ينجر دون من يعترف بأنه ينجر له وال ينجر شيئاً ‪.‬‬

‫وكذلك القدري من يدعي أنه يفعل أفعاله مقدرة دون ربه ويزعم أن ربه ال يفعل من اكتسابه شيئاً ‪.‬‬

‫فإن قـال ‪ :‬يلـزمكم أن تكونـوا قدريـة ألنكـم تكبتـون القـدر ‪ .‬قيـل لهـم ‪ :‬نحـن نكبـت أن اهلل تعـالى قـدر أعمالنـا‬
‫وخلقها مقدرة لنا وال نكبت ذلك ألنفسنا ‪.‬‬

‫فمن أكبت القدر هلل تعالى وزعم األفعال مقدرة لربه ال يكون قدرياً كما أن من أكبت الصياغة والنجارة لغيره‬
‫ال يكون صائغاً وال نجا اًر ‪.‬‬

‫ولو كنا قدرية بقولنا أن اهلل فعل أفعالنا مقدرة لنا لكانوا قدرية بقولهم ‪ :‬إن اهلل تعالى فعل أفعاله كلها مقـدرة‬
‫له ‪.‬‬

‫ولــو كنــا بقولنــا ‪ :‬إن اهلل قــدر المعاصــي قدريــة لكــانوا بقــولهم ‪ :‬إن اهلل قــدر الطاعــات قدريــة ‪ .‬فلمــا لــم يكــن‬
‫كذلك بطل ما قالوه ‪.‬‬
‫الباب السادس‬

‫باب الكالم في االستطاعة‬


‫ٍ‬
‫باستطاعة هي غيره ]‬ ‫[ اإلنسان يستطيع‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬لم قلتم أن اإلنسان يستطيع باستطاعة هي غيره ؟ قيل له ‪ :‬ألنه يكون تارة مستطيعاً وتـارة‬
‫عاج اًز كما يكون تارة عالماً وتارة غير عالم وتارة متحركاً وتارة غير متحرك فوجب أن يكـون مسـتطيعاً‬
‫بمعنى هو غيره كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره‬
‫ألنــه لــو كــان مســتطيعاً بنفســه أو بمعنــى تســتحيل مفارقتــه لــه لــم يوجــد إال وهــو مســتطيع فلمــا وجــد م ـرة‬
‫مستطيعاً ومرة غير مستطيع ص‪ ،‬وكبت أن استطاعته غيره ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬فإذا أكبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل ؟‬

‫قيل له ‪ :‬زعمنا ذلك من قبل أن الفعل ال يخلو أن يجون حادكاً مع االستطاعة في حال حدوكها أو بعدها‬
‫‪.‬‬

‫فإن كان حادكاً معها في حال حـدوكها فقـد صـ‪ ،‬أنهـا مـع الفعـل للفعـل وان كـان حادكـاً بعـدها وقـد دلـت‬
‫الداللة على أنها ال تبقى وجب حدو الفعل بقدرة معدومة ‪.‬‬

‫العجز بعدها فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة ولو جاز أن يفعل في حال‬ ‫ولو جاز ذلك لجاز أن يحد‬
‫هو فيها عاج اًز بقـدرة معدومـة لجـاز أن يفعـل بعـد مائـة سـنة مـن حـال حـدو القـدرة وان كـان عـاج اًز فـي‬
‫المائة سنة كلها بقدرة عدمت من مائة سنة وهذا فاسد ‪.‬‬

‫وأيضـاً فلــو جــاز حــدو الفعــل مــع عــدم القــدرة ووقــع الفعــل بقــدرة معدومــة لجــاز وقــوع اإلحـراق بحـ اررة نــار‬
‫معدومــة وقــد قلــب اهلل النــار بــرداً والقطــع بحــد ســيف معــدوم وقــد قلــب اهلل تعــالى الســيف قصــباً والقطــع‬
‫مع االستطاعة في حال حدوكها ‪.‬‬ ‫بجارحة معدومة وذلك محال ‪ .‬فإذا استحال ذلك وجب أن الفعل يحد‬

‫فإن قال ‪ :‬ولم زعمتم أن القدرة ال تبقى ؟ قيل له ‪ :‬ألنها لو بقيت لكانت ال تخلو أن تبقـي لنفسـها أو لبقـاء‬
‫يقوم بها ‪.‬‬

‫ـاء لهـا وأن ال توجـد إال باقيـة وفـي هـذا مـا يوجـب أن تكـون‬
‫فإن كانت تبقي لنفسها وجب أن تكون نفسها بق ً‬
‫باقية في حال حدوكها ‪.‬‬

‫وان كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة فقد قامت الصفة بالصفة والعرض بالعرض وذلك فاسد ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فما أنكرتم أن تكون القدرة القدرة على الشـيء قـدرة عليـه وعلـى ضـده ‪ .‬قيـل لـه ‪ :‬ألن مـن شـرط‬
‫القدرة المحدكة أن يكون في وجودها وجود مقدورها ‪.‬‬

‫ألن ذلك لـو لـم يكـن مـن شـرطها وجـاز وجودهـا وقتـاً وال مقـدور لجـاز وجودهـا وقتـين وأككـر مـن ذلـك إذ ال‬
‫فرق بين وقت ووقتين وأككر ‪.‬‬

‫ولو كان هذا هكذا لجاز وجودها األبد وهو فاعل غير فاعل على وجه من الوجوه ‪.‬‬
‫أال تـرى أنــه لمــا لــم يكـن مــن شــرط قــدرة القـديم أن فــي وجودهــا وجــود مقـدورها وجــاز وجودهــا وال فعــل لــم‬
‫يستحل أن ال تزال موجودة وال فعل على وجه من الوجوه فلما استحال أن تكون قدرة اإلنسان األبد موجودة‬
‫وال موجودة منه فعل ال أذ وال ترك والطاعة وال عصيان واألمر والنهي قائمان استحال ذلك وقتاً واحداً ‪.‬‬

‫واذا اســتحال وقت ـاً واحــداً أن توجــد القــدرة وال مقــدور فقــد وجــب أن يكــون مــن شــرط قــدرة اإلنســان أن فــي‬
‫وجودها وجود مقدورها فـإذا كـان ذلـك كـذلك اسـتحال أن يقـدر اإلنسـان علـى الشـيء وضـده ألنـه لـو قـدر‬
‫عليهما لوجب وجودهما وذلك محال ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬ما أنكرتم أن تكون قدرة واحدة على إرادتين وعلى حركتين أو على مكلين ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬إنا أنكرنا ذلك من قبل أن القدرة ال تكون قدرة إال على ما يوجد معها في محلها فلو كانت قدرة‬
‫واحدة على حركتين لم تخل أن تكون قدرة على حركتين أن توجدا معها في حال حـدوكها أو علـى حـركتين‬
‫أن تكون واحدة بعد أخرى ‪.‬‬

‫فإن كانت قدرة على حركتين أن تكونا معاً فقد وجدت حركتان في موضع واحد في وقت واحد ‪.‬‬

‫ولــو جــاز هــذا لجــاز ارتفــاع إحــدى الحــركتين إلــى ضــدها مــن الســكون فيكــون الجــوهر متحركـاً عــن المكــان‬
‫ساكناً فيه وقت واحد وهذا محال ‪.‬‬

‫وان كانت قدرة على حركتين أن توجد إحداهما بعد األخرى فقد قام الدليل والبرهان على أن القـدرة ال تبقـى‬
‫وهذا يوجب جواز وجود الفعل بقدرة معدومة وهذا مما قد بينا فساده ‪.‬‬

‫وممــا يــدل علــى أن االســتطاعة مــع الفعــل للفعــل إن لــم يخلــق اهلل تعــالى لــه اســتطاعة محــال أن يكتســب‬
‫شيئاً ‪.‬‬

‫فلما استحال أن يكتسب الفعل إذا لم تكـن اسـتطاعة صـ‪ ،‬أن الكسـب إنمـا يوجـد لوجودهـا وفـي ذلـك إكبـات‬
‫وجودها مع الفعل للفعل ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬ألي س في عدم الجارحة عدم الفعـل ‪ .‬قيـل لهـم ‪ :‬فـي عـدم الجارحـة عـدم القـدرة وفـي عـدم القـدرة‬
‫عدم االكتساب ألنها إذا عدمت عدمت القدرة فلعدم القدرة مـا اسـتحال الكسـب إذا عـدمت الجارحـة ال لعـدم‬
‫الجارحة ‪.‬‬

‫ولو عـدمت الجارحـة ووجـدت الفكـرة لكـان االكتسـاب واقعـاً ولـو كـان إنمـا اسـتحال االكتسـاب لعـدم الجارحـة‬
‫لكان إذا وجدت وجد الكسب ‪.‬‬

‫فلم ــا كان ــت توج ــد ويقارنه ــا العج ــز وتع ــدم الق ــدرة ف ــال يك ــون كس ــب عل ــم أن االكتس ــاب إنم ــا ل ــم يق ــع لع ــدم‬
‫االستطاعة ال لعدم الجارحة ‪.‬‬

‫فغن قالوا ‪ :‬أفليس في عدم الحيـاة عـدم الكسـب ؟ قيـل لهـم ‪ :‬نعـم ألن الحيـاة إذا عـدمت عـدمت القـدرة‬
‫فلعدم القدرة ما استحال الكسب ال لعدم الحياة ‪.‬‬

‫أال ترون أن الحياة تكون موجودة وكم عجـز فـال يكـون اإلنسـان مكتسـباً فعلـم أن الكسـب لـم يعـدم لعـدمها‬
‫وال يوجد لوجودها ‪ .‬والجواب في الحياة كالجواب في الجارحة ‪.‬‬
‫فإن قالوا ‪ :‬إذا كان في عدم اإلحسان للحياكة عدم الحياكة فلم ال يكون في وجود اإلحسان لها وجودها ؟‬

‫قيل ‪ :‬إن الحياكة تعدم لعدم قدرتها ال لعـدم إحسـانها ولـو عـدمت الحيـاة لعـدم اإلحسـان لهـا لوجـدت بوجـود‬
‫اإلحسان لها ‪.‬‬

‫فلما لم يكن ذلك كذلك وكان اإلحسان لها يجامعه العجز علم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها ‪.‬‬

‫ولو أجرى اهلل تعالى العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم اإلحسان لها لوقعت الحياكة ال محالة ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬فإذا كان في عدم التخلية واإلطالق عدم الفعل ففي وجودهما وجود الفعل ‪.‬‬

‫قيل لهم ‪ :‬كذلك نقول فإن قالوا ‪ :‬فإذا كـان فـي عـدم احتمـال البنيـة للفعـل عـدم الفعـل فلـم ال يكـون فـي‬
‫وجود احتمال البنية للشيء وجوده ؟‬

‫قيل لهم ‪ :‬كذلك نقول ألن البنية ال تحتمل إال ما يقوم بها وكلما تعارضونا بـه فـي هـذه العلـة فـالجواب‬
‫فيه كالجواب في الجارحة والحياة ألنه ليس عدم الكسب لعدمه ‪.‬‬

‫ومما يدل على أن االستطاعة مـع الفعـل قـول الخضـر لموسـى عليهمـا السـالم ‪ (( :‬إنـك لـن تسـتطيع معـي‬
‫صب اًر )) [ الكهف ‪.] 58 :‬‬

‫فعلمنا أنه لما لم يصبر لم يكن للصبر مستطيعاً ؛ وفي هذا بيان أن ما لم تكن اسـتطاعة لـم يكـن الفعـل‬
‫وأنها إذا كانت كان ال محالة ‪.‬‬

‫ومما يبين ذلك أن اهلل تعالى قال ‪ (( :‬مـا كـانوا يسـتطيعون السـمع )) [ هـود ‪ ] 25 :‬وقـال ‪ (( :‬وكـانوا ال‬
‫يستطيعون سمعاً (‪ [ )) )455‬الكهف ‪ ] 454 :‬وقد أمروا أن يسمعوا الحق وكلفوه ‪.‬‬

‫فــدل ذلــك علــى جـواز تكليــف مــا ال يطــاق وان مــن لــم يقبــل الحــق ولــم يســمعه علــى طريــق القبــول لــم يكــن‬
‫مستطيعاً ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬أال يستطيعون االستقبال ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬ما الفـرق بيـنكم وبـين مـن قـال ‪ :‬إنهـم ال يسـتطيعون قبـول‬
‫الحق لالشتغال بتركه ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ أليس قد كلف اهلل تعالى الكافرين اإليمان ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬أليس قد كلف اهلل تعالى الكافر اإليمان ؟ قلنا له ‪ :‬نعم ‪ .‬فإن قال ‪ :‬فيستطيع اإليمان ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬لو استطاعه آلمن فإن قال ‪ :‬فكلفه ماال يستطيع قيل له هذا كالم على أمرين ‪.‬‬

‫إن أردت بقولــك ‪ :‬إنــه ال يســتطيع اإليمــان لعج ـزه عنــه فــال وان أردت أنــه ال يســتطيعه لتركــه واشــتغاله‬
‫بضده فنعم ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬ما أنكرتم أن يكون اهلل تعالى كلف الكافر ما يعجز عنه لتركه له ‪ .‬قيل له ‪ :‬العجز عن الشيء‬
‫أنه يخرج عنه وعن ضده فلذلك استحال أن يعجز العاجز عن الشيء لتركه له ‪.‬‬
‫فإن قال ‪ :‬ما أنكرت أن يكون القادر على الشيء قاد اًر على ضده كما كان العاجز عن الشيء عاج اًز عن‬
‫ضده ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬لو كانت القوة على الشـيء قـوة علـى ضـده قياسـاً علـى العجـز للـزم أن يكـون العـون علـى الشـيء‬
‫عوناً على ضده قياساً على أن العجز عن الشيء عجز عن ضده ‪.‬‬

‫وأيضاً فلو كانت القدرة على الشيء قدرة على ضده قياساً علـى العجـز ألن العجـز عـن الشـيء عجـز عـن‬
‫ضــده لوجــب فــي القــدرة مــا وجــب فــي العجــز مــن أنــه يتــأتى بهــا الشــيء وضــده كمــا يتعــذر بــالعجز الشــيء‬
‫وضده ولكان العجز إذا وجد عدم الشيء وضده المعجوز عنهمـا مـع وجـود ل فلـم يكـن اإلنسـان مكتسـباً‬
‫لهما ولكن يلزم في القدرة مكله إذا وجدت وهي قدرة علـى الشـيء وضـده أن يوجـد الشـيء وضـده معهـا‬
‫ألنــه يجــب مــع وجــود الضــدين مــع وجودهــا بخــالف مــا يحكــم بــه فــي العجــز ألن العجــز يحكــم فيــه بعــدم‬
‫المعجوز عنه وضده مع وجوده ‪.‬‬

‫فإن لم يجز هذا فقد بطلت العلة وانتقضت المعارضة ولـم يجـب أن تقـاس القـدرة علـى العجـز إذ لـم تكـن‬
‫علة تجمع بينهما ولم تكن القدرة من جنس العجز ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬فيجوز أن يكلف اهلل تعالى الشيء مع عدم الجارحة ووجود العجز ‪.‬‬

‫قيل لهم ‪ :‬ال ألن المأمور غنما يؤمر ليقبل أو ليترك ومع عدم الجارحة ال يوجد أخذ وال ترك ‪.‬‬

‫وكذلك العجز ال يوجد معه أخذ وال ترك ألنه عجز عن الشيء وعن ضده وأيضاً فلـو وجـب إذا أمـر اهلل‬
‫تعالى اإلنسان بالشيء مع عدم قدرتـه أن يـأمر بـه مـع عـدم القـدرة كلهـا لوجـب إذا أمـر اهلل تعـالى اإلنسـان‬
‫مع عدم بعض العلوم وهو العلم باهلل تعالى وبأنه آمر أن يأمره بالفعل مع عدم العلوم كلها ‪.‬‬

‫فإن لم يجب هذا لم يجب إذا أمر اإلنسان مع عدم القدرة على ما أمره به أن يأمر مع عـدم الجارحـة التـي‬
‫إذا عدمت عدمت القدرة كلها ومع وجود العجز الذي لم تعدم القدرة بوجوده ‪.‬‬

‫قال الشيخ أبو الحسن رجمه اهلل ‪ :‬وكل مسألة في تكليف ما ال يطـاق مـن األمـر بـالزكوة مـع عـدم المـال‬
‫وغير ذلك من المسائل فـالجواب عنـه كمـا أجبـت بـه عـن سـؤالهم عـن األمـر مـع عـدم الجارحـة والتكليـف‬
‫مع وجود العجز ‪.‬‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬مــا أنكـرتم أن يعــدم الشــيء وضــده لوجــود عج ـزين ‪ .‬قيــل لــه ‪ :‬ألنــه نهايــة لمــا يعجــز عنــه‬
‫اإلنسان العاجز الذي ال قدرة فيه ‪.‬‬

‫فلــو كــان العجــز عــن كــل شــيء غيــر العجــز عــن غيـره لكــان فــي اإلنســان مــن األعجــاز مــاال يتنــاهى وهــذا‬
‫محال ‪.‬‬

‫وأيضاً فإن الموت هو أكبر األعجاز ألنه يتعذر معه األفعـال كلهـا فلـو كـان العجـز عـن كـل شـيء غيـر‬
‫العجــز عــن غي ـره لكــن بعــض الميتــين إنمــا تعــدم منــه األفعــال لوجــود أعجــاز وهــذا يوجــب أن فــي الجــزء‬
‫الواحـد عجـزين ومـوتين ولـو جـاز هـذا لجـاز أن يرتفـع أحــدهما إلـى حيـاة فيكـون الجـزء الواحـد حيـاً ميتـاً فــي‬
‫حال معاً وهذا محال ‪.‬‬
‫فلما استحال هذا علم أنه محال في قول من قـال ‪ :‬إن العجـز عـن كـل شـيء غيـر العجـز عـن غيـره وبـاهلل‬
‫التوفيق ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ من طبق امرأته وأعتق عبده]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬خبرونا عمن طلق امرأته وأعتق عبده متى استطاع طالق امرأته وعتق عبده ‪.‬‬

‫قيل له ‪ :‬استطاع عتق عبده في حال العتق واستطاع طالق امرأته في حال الطالق ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فاستطاع أن يطلق من ليست امرأته وأن يعتـق مـن لـيس عبـده ‪ .‬قيـل لـه ‪ :‬اسـتطاع أن يطلـق‬
‫من ليست امرأته في حال الطالق وقد كانت امرأته قبل ذلك وأن يعتق من لـيس عبـده فـي حـال العتـق‬
‫وقد كان عبده قبل ذلك كما أنه طلق من ليست امرأته في حال الطالق ‪.‬‬

‫وقد كانت قبل ذلك امرأته ( وأعتق من ليس عبده في حال الهتق وقد كان عبده قبل ذلك)‪.‬‬

‫وكذلك الجواب في إلقاء العصا واإلنتقال من الشمس إلى الظل وعن كسر المكسور ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وعلى الذين يطيقونه فدية )) ] ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬خبرونا عن قول اهلل تعالى ‪ (( :‬وعلى الذين يطيقونه فدية )) [ البقرة ‪ . ] 473 :‬قيل له ‪:‬‬
‫يحت م ــل أن يك ــون يك ــون اهلل تع ــالى أراد ال ــذين يطيق ــون اإلطع ــام ويعج ــزون ع ــن الص ــيام عل ــيهم الفدي ــة إذا‬
‫أفطــروا ‪ .‬ويحتمــل أن يكــون أراد الــذين يطيقــون الصــيام أن تكلفــوه وأرادوه علــى قــول مــن رجــع بالهــاء إلــى‬
‫مذكور تقدم على الصيام ‪.‬‬

‫وقـد قالــت المعتزلــة ‪ :‬ال يجــوز أن يرجــع بالهــاء إال إلــى مــذكور تقــدم وهــو الصــيام ‪ .‬قيــل لهــم التأويــل الــذي‬
‫تأولناه وهو تأويل بعض المتقدمين وليس النحويون حجة على الصحابة والتابعين ‪.‬‬

‫على أن ككير من النحويين قد أجازوا أن ال يرجع بالهاء إلى مذكور تقدم ‪.‬‬

‫كــم نكــر علــى المعتزلــة راجعــين فنوقــول لهــم ‪ :‬حــدكونا عــن قــول اهلل تعــالى ‪ (( :‬هــو الــذي خلقكــم مــن نفــس‬
‫واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها )) [ األعراف ‪ - ] 479 :‬يعني آدم وحوا ‪ (( -‬فلمـا تغشـاها حملـت‬
‫حمـالً خفيفـاً فمــرت بــه فلمــا أكقلــت )) [ األعـراف ‪ - ] 479 :‬يعنــي حـوا ‪ (( -‬دعـوا اهلل ربهمــا لــئن ءاتيتنــا‬
‫صالحاً لنكونن من الشاكرين (‪ [ )) )479‬األعرف ‪ - 479 :‬يريد آدم وحوا ‪ .‬وقوله تعالى (( فلما آتاهما‬
‫)) [ األعراف ‪ ] 495 :‬زعمـت المعتزلـه أن الهـاء والمـيم لـم يرجـه بهمـا إلـى مـا تقـدم ذكـره بـل رجـع بهمـا‬
‫إلى المشركين من ولدهما فنقضوا قولهم ‪ :‬إن الهاء ال يرجه بها إال إلى مذكور قد تقدم ذكره ‪.‬‬

‫وقد قرأها بعض الصحابة ‪ (( :‬وعلى الذين يطيقونه فدية )) [ البقرة ‪ ] 473 :‬وكان تأويله أنهم يحملونه‬
‫وال يطيقونه ‪.‬‬

‫مسألة‬
‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وهلل على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيالً )) ]‬

‫وقـد ســألوا عـن قــول اهلل تعـالى ‪ (( :‬وهلل علــى النـاس حــج البيـت مــن اسـتطاع إليــه سـبيالً )) [ آل عمـران ‪:‬‬
‫‪. ] 98‬‬

‫فــالجواب ‪ :‬أن اهلل تعــالى أراد المــال وهــو ال ـزاد والراحلــة ولــم يــرد اســتطاعة البــدن التــي فــي كونهــا كــون‬
‫مقدورها ‪ .‬وقيام الداللة من القياس على أن االستطاعة مع الفعل يصـ‪ ،‬تأويلنـا ويبطـل تأويـل مخالفينـا‬
‫‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ معنى قوله تعالى ‪ (( :‬وسيحلفون باهلل لو استطعنا لخرجنا معكم )) ]‬

‫إن قال قائل ‪ :‬ما معنى قول اهلل تعالى ‪ (( :‬وسيحلفون باهلل لو استطعنا لخرجنا معكـم )) [ التوبـة ‪32 :‬‬
‫] ‪.‬‬

‫هل يخلو أن يكونوا كانوا مستطيعين الخروج فلم يخرجوا ولو استطاعوا الخروج لم يخرجوا ؟‬

‫فالجواب ‪ :‬أنهم عنوا باالستطاعة الجـدة والمـال وحلفـوا لرسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم أنهـم ال مـال لهـم‬
‫وال ظهر يحملون به مع نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأكذبهم اهلل في حلفهم ألنهم كانوا يجدون المال ‪.‬‬

‫ولم تكن المناظرة بينهم وبين رسول اهلل في أن االستطاعة مع الفعل أو قبله ‪ .‬وانما كانت المجاراة بينهم‬
‫وبينه في الجدة والظهر وهكذا ذكرأهل التفسير ونقلة األخبار وحملة اآلكار ‪.‬‬

‫واذا كان هذا هكذا فنحن الننكر تقدم المال للفعل وانما أنكرنا تقدم استطاعة البدن للفعل ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬فاتقوا اهلل ما استطعتم )) ] ‪.‬‬

‫فإن سألوا عن قول اهلل تعـالى ‪ (( :‬فـاتقوا اهلل مـا اسـتطعتم )) [ التغـابن ‪ ] 45 :‬فقـد يحتمـل أن يكـون اهلل‬
‫تعـالى أراد ‪ :‬اتقـوا اهلل مــا كنـتم مســتطيعين فــإن كـانوا للتقــوى مســتطيعين كـان علــيهم أن يكقـوا وان كــانوا‬
‫لتركـه مســتطيعين فعلــيهم أن يتقـوا ألن التقــوى ال يلــزمهم إال أن يســتطيعوه أو يسـتطيعوا تركــه وقــد يحتمــل‬
‫اتقوا اهلل فيما استطعتم ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً )) ] ‪.‬‬

‫ومن سأل عن قوله تعالى ‪(( :‬فمن لم يستطع فإطعام سـتين مسـكيناً )) [ المجادلـة ‪ . ) 3 :‬فـالجواب ‪ :‬أن‬
‫من لم يستطع لعجز فعليه إطعام ستين مسكيناً ‪.‬‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬ال يكلف اهلل نفساً إال ما ءاتاها )) ]‬

‫ومن سأل عن قوله تعالى ‪ (( :‬ال يكلـف اهلل نفسـاً إال مـا ءاتاهـا )) [ الطـالق ‪ ] 8 :‬فـالمعنى أنـه ال يكلـف‬
‫من النفقة إال ما آتاها ألنه قال ذلك عقيب ذكر النفقة ‪.‬‬
‫َّ‬
‫ف اللَّهُ َن ْفساً ِإال َما آتَ َ‬
‫اها )) [ الطالق ‪. ] 8 :‬‬ ‫قال ‪َ (( :‬و َم ْن قُِد َر َعلَْي ِه ِرْزقُهُ َف ْلُي ِنف ْق ِم َّما آتَاهُ اللَّهُ ال ُي َكلخ ُ‬
‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬ال يكلف اهلل نفساً إال وسعها )) ] ‪.‬‬

‫ومن سـأل عـن قولـه تعـالى ‪ (( :‬ال يكلـف اهلل نفسـاً إال وسـعها )) [ البقـرة ‪ . ] 275 :‬فـالجواب عـن ذلـك ‪:‬‬
‫أن اهلل تعــالى ال يكلفهــا مــا يضــيق عليهــا مــن إ ازلــة الخ ـواطر عــن النفــوس التــي تــدعو إلــى الشــر ألن اهلل‬
‫تعالى قد تجاوز عن ذلك ووسع على المسلمين فيما تدعوهم نفوسهم إليه من المعصـية إذا لـم يرتكبـوا ذلـك‬
‫بعد أن كان ذلك مضيقاً عليهم ‪.‬‬

‫فمعنى (( ال يكلـف نفسـاً إال وسـعها )) [ البقـرة ‪ ] 275 :‬يعنـي إال مـا يطيقـه عليهـا ألن مـا أمـر اهلل تعـالى‬
‫به عباده ال يضيق عليهم فعله وال يعجزون عن اإلتيان به ‪.‬‬

‫وقد قال بعض أصحابنا ‪ (( :‬ال يكلف نفساً إالوسعها )) [ البقـرة ‪ ] 275 :‬يعنـي إال مـا يسـعها ويحـل لهـا‬
‫‪.‬‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬واني عليه لقوي أمين (‪. ] )) )49‬‬

‫ومن سأل عن قول اهلل تعالى مخب اًر عن العفريت ‪ (( :‬واني عليه لقوي أمين (‪[ )) )49‬النمل ‪. ] 49 :‬‬

‫فالجواب عن ذلك إن كان العفريت صادقاً فالمعنى في قوله ‪ (( :‬واني عليه لقوي أمين )) [ النمل ‪] 49 :‬‬
‫إن تكلفت ذلك وأردته ‪.‬‬

‫اهلل تعالى لهالقدرة عليه لم يكن كاذباً ‪.‬‬ ‫وان كان ممن إذا أراد ذلك أحد‬

‫وان لم يقل هذا القول على هذا المعنى فهو كاذب وليس في قول العفاريت والشياطين حجة على دين رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫[ زعم المعتزلة أن العفريت لم يكذبه سليمان ]‬

‫ـك بِـ ِـه‬


‫وزعمـت المعتزلــة أن العفريـت لــم يكذبـه ســليمان وهـو نبــي مــن أنبيـاء اهلل تعــالى علـى قولــه ‪(( :‬أََنـا آتِيـ َ‬
‫ي أ َِم ٌ‬
‫ك َوِاخني َعلَْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬
‫ين )) [ النمل ‪ ] 49 :‬وال يجوز ألحد أن يكذب بـين يـدي نبـي‬ ‫َن تَقُوم ِم ْن مقَ ِ‬
‫ام َ‬ ‫َ‬ ‫قَْب َل أ ْ َ‬
‫وهويعلم أنه إذا كذب رد اهلل عليه كذبه على لسان النبي صلى اهلل عليه وسلم كما قـال لنبيـه (( إذا جـاءك‬
‫المنافقون )) [ المنافقون ‪ ] 4 :‬اآلية فأخبر اهلل تعالى بكذبهم ومكل ذلك في القرآن ككير ‪.‬‬

‫واحتجوا بذلك أن االستطاعة قبل الفعل فبئس ما بالوا وظنوا بل سولت لهم أنفسهم األباطيل ‪.‬‬

‫فالجواب ‪ :‬إنا نقول لمن احتج علينـا بـذلك أنـه ليسـت تخلـو هـذه اآليـة التـي حكاهـا اهلل تعـالى عـن العفريـت‬
‫أن يكــون العفريــت عن ـى بقولــه ‪ (( :‬وانــي عليــه لقــوي أمــين (‪ [ )) )49‬النمــل ‪ ] 49 :‬إن اســتطعت ذلــك‬
‫وتكلفتــه وأردتــه أو يكــون عنــى بقولــه ‪ (( :‬وانــي عليــه لقــوي أمــين (‪ [ )) )49‬النمــل ‪ ] 49 :‬إن شــاء اهلل أو‬
‫يكون عني بقوله إن قواني اهلل تعالى عليه ‪.‬‬

‫ولو لم يعلم سليمان أن العفريت أضمر شيئاً من ذلك لكذبه ورد عليه قوله ‪.‬‬

‫والدليل في ذلك قول اهلل تعـالى ‪ (( :‬فمـا اسـطاعوا أن يظهـروه ومـا اسـتطاعوا لـه نقبـا (‪ [ )) )98‬الكهـف ‪:‬‬
‫‪. ] 98‬‬
‫وقد جاء في التفسير ال خلف بين أحد من الموحدين فيه أنهم في كل يوم يأملون أن يصبحوا وقد فتحـوه‬
‫وال يقولون ‪ :‬إن شاء اهلل فإذا كان المقدر قالوا ‪ :‬إن شاء اهلل فأصبحوا وقد فتحوه فـدل أن ال اسـتطاعة‬
‫لهم قبل الفعل إال مع الفعل للفعل بإرادة اهلل تعالى ذلك ‪.‬‬

‫[ قوله في صاحب يوسف ] ‪.‬‬


‫ض ِِ‬ ‫خه َفلَبِ َ ِفـي الس ْ ِ‬
‫الش ْيطَان ِذ ْكر رب ِ‬
‫َنساهُ َّ‬
‫ين (‪)) )32‬‬ ‫خـج ِن ب ْ َ‬
‫ـع سـن َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫وقول اهلل تعالى في صاحب يوسف ‪ (( :‬فَأ َ‬
‫[ يوسف ‪. ] 32 :‬‬

‫أنسى الشيطان للناجي أن يذكر يوسف عند الملـك فلـم تكـن للنـاجي اسـتطاعة أن يـذكر أمـر يوسـف للملـك‬
‫إذ كان قد وعد يوسف بأن يذكره عند ربه قبل خروجه من السجن ‪.‬‬

‫وكان ذلك لتمام مراد اهلل تعالى بيوسف إلى الوقت المعلوم الذي رأى الملك فيه الرؤيا ‪.‬‬

‫اء اللَّهُ )) [ الكهـف ‪]23 - 24 :‬‬ ‫َّ‬ ‫اع ٌل َذلِ َ‬


‫[ قوله لنبيه ‪ (( :‬وال تَقُولَ َّن لِ َشي ٍء إِخني فَ ِ‬
‫ك َغداً (‪ )24‬إِال أ ْ‬
‫َن َي َش َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فأمر اهلل تعال نبيه بأن ال يقدم على فعل شيء يقع في نفسه لم ياب أن يستكني في قوله فأخبر اهلل تعالى‬
‫نبيه أن ال يكون قولك هذا كائن قبل فعلك له إن أرادت أنا ذلك فسلم النبي صلى اهلل عليه وسلم ألمر اهلل‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وق ــول موس ــى ‪ (( :‬ربََّن ــا ا ْ ِ‬
‫ـيم‬ ‫ـس َعلَ ــى أ َْم ـ َـوال ِه ْم َوا ْش ـ ُـد ْد َعلَ ــى قُلُــوبِ ِه ْم فَ ــال ُي ْؤ ِمُنـ ـوا َحتَّــى َي ـ َـرْوا ا ْل َعـ ـ َذ َ‬
‫اب األَل ـ َ‬ ‫طم ـ ْ‬ ‫َ‬
‫(‪ [ )) )77‬يــونس ‪ ] 77 :‬فلــم يقــدروا إذا أروا العــذاب الملجــئ لهــم إلــى اإليمــان أن يؤمنـوا ولــو اســتطاعوا‬
‫ذلك آلمنوا عند معاينتهم ألول العذاب النازل بهم ‪.‬‬

‫ومكل ذلك في كتاب اهلل تعالى ككير وفيما دللنا بـه كفايـة ومكلـه قولـه تعـالى (( إال قـوم يـونس لمـا ءامنـوا‬
‫)) [ يونس ‪. ] 97 :‬‬

‫مسألة‬
‫ت ا ْلقَ ِو ُّ ِ‬ ‫استَأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين )) ]‬
‫ي األَم ُ‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫ْج ْرهُ إِ َّن َخ ْي َر َم ْن ْ‬
‫استَأ َ‬ ‫[ قوله تعالى ‪َ (( :‬يا أََبت ْ‬
‫ت ا ْلقَ ِـو ُّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـين (‪)) )25‬‬ ‫ي األَم ُ‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫اسـتَْأ ِج ْرهُ ِإ َّن َخ ْي َـر َم ْـن ْ‬
‫اسـتَأ َ‬ ‫ومن سأل عن قول ابنة شعيب ألبيها ‪َ (( :‬يا أََبـت ْ‬
‫[ القصص ‪ ] 25 :‬فزعم الجبائي إن معنى هذا اآلية أنها أخبرت عنـه أنـه قـوي علـى مـا يحتـاج إليـه أبوهـا‬
‫من األعمال واستدل فيما زعم بذلك على أن االستطاعة قبل الفعل ‪.‬‬

‫فما أعجزه من أي طريق استدل بهذه اآليـة علـى هـذا الفصـل وذلـك أنهـا لـم تعـرف موسـى مـن قبـل قلعـه‬
‫للحجر الذي قلعه ونزعه بالدلو الذي نزع وانما لما عاينت من شدته وقوته وأمانته ‪.‬‬

‫وذلك أنها لما رجعت إليه في المرة الكانية فقالت له ‪ (( :‬إن أبي يدعوك )) [ القصـص ‪ . ] 26 :‬قـال لهـا‬
‫‪ (( :‬امشي خلفي واهديني الطريق )) ففعلت ذلك فكانت الري‪ ،‬تصفها له فأدركت موسى عليـه السـالم‬
‫الخشية فقال لها ‪ (( :‬امشي خلفي وعرفيني الطريق بلسانك يمنة ويسرة وتلقاءه )) ففعلت ذلك ‪.‬‬

‫فلما جاءت إلىأبيها وقالـت لـه ‪ (( :‬إنـه قـوي أمـين )) فـرد عليهـا رداً شـديداً وقـال لهـا ‪ (( :‬يـا ابنتـي أمـا قـوه‬
‫فقد علمت بها لما رأيت منه فبم عرفت أمانته )) فأخبرته بما رأته منه ‪.‬‬
‫فكيف علمت أنه كان مستطيعاً لما قبل الفعل وانما ظهر لها ذلك منه بعد فعله إياه ‪.‬‬

‫فص‪ ،‬عندنا وصحت الحجة على من خالفنا أن ينبغي أن تكون استطاعته لذلك مع نفس فعله له ‪.‬‬

‫والدليل على ذلك من القياس أنا لو رأينا رجالً في الحال قائماً يصـلي لمـا كنـا نعلـم اسـتطاعته متـى حـدكت‬
‫له إال أنا نعلم من نفس الفعل ظهرت منه للفعل وهي الصالة التي كان يفعلها ‪.‬‬

‫وحجتنـا علــى مـن خالفنــا فــي كـل مــا يـورده مــن المســائل فـي بــاب االسـتطاعة كمــا رســمنا فيمـا بينــا وشــرحنا‬
‫وباهلل التوفيق ‪.‬‬
‫مسألة‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون (‪] )) )65‬‬

‫ومـن سـأل عـن قـول اهلل تعـالى ‪ (( :‬ومــا خلقـت الجـن واإلنـس إال ليعبـدون (‪ [ )) )65‬الــذاريات ‪. ] 65 :‬‬
‫قيــل لــه ‪ :‬المعنــى فــي ذلــك أنــه أراد بعــض الجــن واإلنــس وهــم العابــدون هلل مــنهم ألن اهلل تعــالى قــال فــي‬
‫موضع آخر ‪ (( :‬ولد ذرأنا لجهنم ككيـ اًر مـن الجـن واإلنـس )) [ األعـراف ‪ ] 489 :‬والقـرآن ال يتنـاقض‬
‫فوجب أن يكون اهلل تعالى خلق لجهنم ككي اًر باآلية التي تلوناها وأنه خلق بعضهم للعبادة بقوله ‪ (( :‬ومـا‬
‫خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون (‪ [ )) )65‬الذاريات ‪ ] 65 :‬والذين خلقهـم لعبادتـه هـم الـذين أراد هـو أن‬
‫يعبدوه وعاقبتهم عبادته ‪.‬‬

‫صيلَ ٍة ‪. ] )) ....‬‬
‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬ما جع َل اللَّه ِم ْن ب ِحيرٍة وال سائِب ٍة وال و ِ‬
‫َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬
‫ٍ ِ َّ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ومــن ســأل عــن قولــه تعــالى ‪َ (( :‬مــا َج َعـ َل اللــهُ مـ ْـن َبحيـ َـرٍة َوال َســائَبة َوال َوصــيلَة َوال َحــام َولَكـ َّـن الــذ َ‬
‫ين َكفَـ ُـروا‬
‫ب )) [ المائدة ‪ ] 454 :‬فالمعنى ‪ :‬أني لم أفرض عليهم ذلك ولم آمرهم به ‪.‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ون َعلَى الله ا ْل َكذ َ‬
‫َي ْفتَُر َ‬
‫ولكنهم كذبوا علي وافتروا الكذب في قولهم ‪ :‬إني أمرتهم به ‪.‬‬

‫والـدليل علـى جـواز تكليـف مـا ال يطــاق مـن القـرآن قولــه للمالئكـة ‪ (( :‬أنبئـوني بأســماء هـؤالء )) [ البقـرة ‪:‬‬
‫‪ ] 44‬يعني أسماء الخلق وهم ال يعلمون ذلك وال يقدرون عليه ‪.‬‬

‫وأيضاً فقد أخبر أنهم (( ويـدعون إلـى السـجود فـال يسـتطيعون (‪ [ )) )32‬القلـم ‪ ] 32 :‬فـإذا جـاز تكليفـه‬
‫إياهم في اآلخرة ما ال يطيقون جاز ذلك في الدنيا ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وقد أمر اهلل تعالى بالعدل وقد قال ‪ (( :‬ولَ ْن تَستَ ِطيعوا أ ْ ِ‬
‫َن تَ ْعدلُوا َب ْي َن الخن َساء َولَ ْو َح َر ْ‬
‫صتُ ْم )) أل التسـاء ‪:‬‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫‪. ] 429‬‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وما اهلل يريد ظلماً للعباد )) ] ‪.‬‬

‫ومــن ســأل عــن قولــه تعــالى ‪ (( :‬ومــا يتــذكر إال مــن ينيــب (‪ )) )44‬و (( ومــا اهلل يريــد ظلم ـاً للعــالمين‬
‫(‪ [ )) )457‬آل عمران ‪. ] 457 :‬‬

‫فالمعنى في ذلك ‪ :‬أنه لم يرد أن يظلمهم وان كان أراد أن يتظالموا ‪.‬‬

‫اؤَنا )) ] ‪.‬‬ ‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬سيقُو ُل الَِّذين أَ ْشرُكوا لَو َش َّ‬


‫اء اللهُ َما أَ ْش َرْكَنا َوال َآب ُ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫اؤَنا )) [ األنعـام ‪437 :‬‬ ‫ومن سأل عن قوله تعالى ‪ (( :‬سيقُو ُل الَِّذين أَ ْشرُكوا لَو َش َّ‬
‫اء اللهُ َما أَ ْش َرْكَنا َوال َآب ُ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫] إلى قوله ‪ (( :‬وال حرمنا من شيء كذلك )) [ األنعام ‪. ] 437 :‬‬

‫فالجواب ‪ :‬أنهم قالوا ذلك على طريق االستهزاء ولم يقولوه على جهة االعتقاد ‪.‬‬

‫فأكذبهم في قولهم الذي لم يكونوا له معتقدين كما أكذب المنافقين في قـولهم ‪ (( :‬نشـهد إنـك لرسـول اهلل ))‬
‫[ المنافقون ‪ ] 4 :‬على طريق االستهزاء ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫فقال اهلل تعالى ‪َ (( :‬واللَّهُ َي ْعلَ ُم إَِّن َ‬
‫ون (‪ [ )) )4‬المنافقون ‪. ]4 :‬‬ ‫ك لَ َر ُسولُهُ َواللهُ َي ْشهَ ُد إِ َّن ا ْل ُمَنافق َ‬
‫ين لَ َكاذُب َ‬
‫[ قوله تعال ‪ (( :‬يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر )) ]‬

‫ومن سأل عن قوله تعالى ‪ (( :‬يريد اهلل بكم اليسر وال يريد بكم العسر )) [ البقرة ‪. ] 476 :‬‬

‫فــالجواب أنــه أراد أن ال يكون ـوا بالصــيام فــي الســفر والمــرض حــرجين وال آكمــين وال أن يكون ـوا فــي‬
‫عسر من إفطارهم ‪.‬‬
‫الباب السابع‬

‫باب الكالم في التعديل والتجوير‬

‫[ هل يقدر اهلل على لطف لو فعله بالكفار آلمنوا ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬هل يقدر اهلل على لطف لو فعلـه بالكفـار آلمنـوا ‪ .‬قيـل لهـم ‪ :‬نعـم والـدليل علـى ذلـك أنـه‬
‫يقــدر أن يفعــل بــالمؤمنين وبعبــاده مــا لــو فعلــه بهــم لبغـوا فــي األرض قــال اهلل تعــالى ‪ (( :‬ولــو بســط الــرزق‬
‫لعباده لبغوا في األرض )) [ الشورى ‪ ] 28 :‬وقال ‪ (( :‬ولوال أن يكون الناس أمة واحدة )) [ الزخـرف ‪:‬‬
‫‪ - ] 44‬يعنــي علــى الكفــر (( لجعلنــا لمــن يكفــر بــالرحمن لبيــوتهم ســقفاً مــن فضــة ومعــارج عليهــا يظهــرون‬
‫(‪. )) )44‬‬

‫فلما اكن اهلل تعالى قاد اًر على أن يفعـل بـالخلق مـالو فعلـه بهـم لكفـروا كـان قـاد اًر علـى أن يفعـل بهـم مـا لـو‬
‫فعله بهم آلمنوا ‪.‬‬

‫وأيضـاً فقــد دللنــا علــى أن فــي كـون االســتطاعة كــون الفعــل فــإذا كـان قــاد اًر علــى إقــدارهم علــى اإليمــان‬
‫فهو قادر على أن يفعل مالو فعله بهم آلمنوا ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فإذا لم يفعل بالكفار ما يؤمنون عنده فقد بخـل علـيهم ‪ .‬قيـل لـه ‪ :‬البخـل أن ال يفعـل الفاعـل مـا‬
‫يجب عليه فعله فأما ما كان تفضالً فللمتفضل أن يتفضل به وله أن ال يتفضل به وما كان تفضالً لم‬
‫يلحق البخل في أن ال يفعله الفاعل ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فإذا لم يفعل اهلل بهم ما يؤمنون عنده فهل أراد سففهم وكفرهم قيل له نعم وقد أوضحنا ذلك فيما‬
‫سلف من كالمنا ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ إن كان اهلل لم يفعل بهم ما يؤمنون ]‬

‫كم يقال لهم ‪ :‬إن كان اهلل تعالى إذا لم يفعل بهم ما يؤمنون عنـده يجـب أن يريـد فسـادهم فمـا أنكـرتم مـن‬
‫أنه إذا خلقهم ‪ -‬وهو يعلم أنهم يكفرون ‪ -‬فقد أراد كفرهم فإن قالوا ‪ :‬مريد السفه سفيه ‪.‬‬

‫قيل لهم ‪ :‬أليس خالق من يعلم أنه يكفر ال يكون سفيهاً بخلقه وال يكون خلقه إياه سـفهاً فمـا أنكـرتم أن‬
‫يكون الخالق إذا أراد سفههم لم يكن سفيهاً وقد تكلمنا في هذه المسألة قبل هذا الموضع ‪.‬‬

‫مسألة‬

‫[ هل هلل تعالى أن يؤلم األطفال في اآلخرة ؟ ]‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬هل هلل تعالى أن يؤلم األطفال في اآلخرة ؟ قيل له ‪ :‬هلل تعالى ذلـك وهـو عـادل إن فعلـه‬
‫متناه بعقاب ال يتناهى وتسخير الحيوان بعضهم لبعض واإلنعام على‬ ‫وكذلك كل ما يفعله على جرم ٍ‬
‫بعضهم دون بعض وخلقه إياهم مع علمه بأنهم يكفرون كل ذلك عدل منه ‪.‬‬
‫وال يقــب‪ ،‬مــن اهلل لــو ابتــداهم بالعــذاب األلــيم وأدامــه وال يقــب‪ ،‬منــه أن يعــذب المــؤمنين ويــدخل الكــافرين‬
‫الجنان وان ما نقول ‪ :‬إنه ال يفعل ذلك ألنه أخبرنا ‪ :‬أنه يعاقبل الكافرين وهو ال يجوز عليـه الكـذب فـي‬
‫خبره ‪.‬‬

‫والدليل على أن كل ما فعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك وال فوقه مبي‪ ،‬وال آمر وال‬
‫زاجر وال حاظر وال من رسم له الرسوم وحد له الحدود ‪.‬‬

‫فإن كان هذا هكذا لم يقب‪ ،‬منه شيء ؛ إذ كان الشيء إنما يقب‪ ،‬منا ألنا تجاوزنـا مـا حـد ورسـم لنـا وآتينـا‬
‫مالم نملك إتيانه ‪.‬‬

‫فلما لم يكن الباري مملكاً وال تحت آمر لم يقب‪ ،‬منه شيء ‪.‬‬

‫فإن قال ‪ :‬فإنما يقب‪ ،‬الكذب ألنه قبحه ‪ .‬قيل له ‪ :‬أجل ولو حسنه لكان حسناً ولو أمر به لـم يكـن عليـه‬
‫اعتراض ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬فجوزوا عليه أن يكذب كما جوزتم أن يأمر بالكذب ‪ .‬قيل لهـم ‪ :‬لـيس كـل مـا جـاز أن يـأمر بـه‬
‫جاز أن يوصف به ‪.‬‬

‫أال ترون أنه قـد أمرنـا أن نصـلي ونخضـع ونتحـرك وال يجـوز عليـه أن يصـلي ويخضـع ويتحـرك‬
‫ألن ذلك مستحيل عليه وكذلك ال يجوز عليه الكذب ليس لقبحه ولكن ألنه يستحيل عليه الكـذب وال‬
‫يجوز أن يوصف بالقدرة على أن يكذبكما ال يجوز وصفه بالقدرة على أن يتحرك ويجهل ‪.‬‬

‫ولو جاز لزاعم أن يزعم أنه يوصـف البـاري بالقـدرة علـى أن يكـذب وال يوصـف بالقـدرة علـى أن يجهـل‬
‫وال يأتي بين ذلك بفرقان لجاز لقالب أن يقلـب القصـة فـزعم أن البـاري يوصـف بالقـدرة علـى أن يجهـل‬
‫وال يوصف بالقدرة على أن يكذب ‪ .‬فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬إذا أمر اهلل تعالى أن نصلي فصالتنا هي حركاتنا التي نتحرك بهـا إذا صـلينا والمتحـرك‬
‫متحــرك لحلــول الحركــة فيــه والشــاتم والكــاذب إنمــا كــان شــاتماً كاذبـاً ألنــه فعــل الشــتم والكــذب ال ألن‬
‫ذلك حل فيه ‪.‬‬

‫يقال لـه ‪ :‬إن كانـت العلـة التـي لهـا ألزمنـا أن نجـوز أن يكـذب البـاري ‪ -‬تعـالى عـن ذلـك علـواً كبيـ اًر ‪ -‬أنـه‬
‫أمر به فيجب في كل شيء أمر به أن يجـوز وصـفه بـه فـإذا أمـر أن تحـل فـي أنفسـنا حركـات نتحـرك‬
‫بها وصالة نصلي بها لزم أن يجوز أن تحل في نفسه حركات يتحرك بها وصالة يصلي بها اللهـم إال‬
‫أن يقولـوا ‪ :‬إذا جــاز أن يــأمر البــاري غيـره أن يكــذب فلــم ال يجــوز أن يفعــل كــذباً يكــون بــه غيـره كاذبـاً ؟‬
‫كما إذا أمر غيره أن يصلي جاز أن يفعل لغيره صالة كان غيره بها مصلياً ‪ .‬فإن سألونا عن هـذا السـؤال‬
‫على هذا الوجه فهذا ماال ينكر ‪.‬‬

‫على أنه إن كان المصلي مصلياً لحلول الصالة فيه كما أن المتحرك كان متحركـاً لحلـول الحركـة فيـه‬
‫فواجب أن يكون كل جزء من اإلنسان إذا حليته الصالة مصلياً كما كـان كـل جـزء منـه إذا حلتـه الحركـة‬
‫متحركاً ‪.‬‬
‫ويقال لهمـك ‪ :‬الصـالة فـي اللغـة هـي الـدعاء فـإن كـان المصـلي مصـلياً لحلـول الصـالة فيـه فيجـب أن‬
‫يكون داعياً لحلول الدعاء فيه وهذا فاسد عندهم ‪.‬‬

‫كم يقال لهم ‪ :‬إذا جاز أن يفعل الباري تعالى صالة لغيره ويكون بها مصلياً فلـم ال يجـوز أن يفعـل لغيـره‬
‫إرادة يكون بها مريداً وكالماً يكون به متكلماً ؟‬

‫فإن قالوا ‪ :‬المتكلم المريد متكلم مريد ألنه فعل الكالم واإلرادة ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬فما أنكـرتم أن يكـون المصـلي‬
‫مصلياً ألنه فعل الصالة فيه والمتحرك متحركاً ألنه فعل الحركة فيه ‪.‬‬

‫فإن قال قائل ‪ :‬قد يتحرك منا من ال يفعل الحركة ‪ .‬قيل له ‪ :‬وقـد يريـد ويـتكلم منـا مـن ال يفعـل إرادة وال‬
‫كالمـاً َ كالعاشــق الــذي يحــب معشــوقته محبــة ال يمكنــه االنصـراف عنهــا وكالــذي يــتكلم وهــو نــائم أو فــي‬
‫حال صرعه كالماً ال يمكنه االنصراف عنه ‪.‬‬

‫فــإن قــال ‪ :‬ليســت محبــة العاشــق محبــة فــي الحقيقــة وال إرادتــه إرادة فــي الحقيقــة ‪ .‬قيــل لــه ‪ :‬ولــيس كــالم‬
‫المصــروع والنــائم كالمـاً فــي الحقيقــة وال كــالم اليقظــان كالمـاً فــي الحقيقــة وال إرادة العاشــق إرادة فــي‬
‫الحقيقة وهذا ماال يعجز عنه أحد ‪.‬‬

‫كــم يق ــال لهــم ‪ :‬إن ك ــان المص ــلي مصــلياً لحل ــول الص ــالة فيــه أفل ــيس الخاض ــع خاضــعاً عن ــدكم لحل ــول‬
‫الخضوع فيه ألن الخضوع يكون في القلب واإلنسان بكماله خاضع ؟‬

‫فإن ادعوا أن القلب خاضع خاشع ألزمناهم أن يكون اللسان متكلماً في الحقيقة والقلب مريداً في الحقيقة‬
‫‪.‬‬

‫وان قــالوا ‪ :‬الخلضــع لــم يكــن خاضــعاً لحلــول الخضــوع فيــه ‪ .‬قيــل لهــم ‪ :‬فــإذا أمرنــا اهلل تعــالى أن نخضــع‬
‫فيجب على قياسكم أن يخضع هو ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬ال ولكنه يفعل خضوعاً لغيره ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬وكذلك إن أمرنا بالكذب فجائز أن يفعل كذباً لغيـره‬
‫‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬الكاذب كاذب ألنه فعل الكذب ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬مكل ذلك في الخاضع ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬لم يكن الخاضع خاضعاً لحلول الخضوع فيه وال ألنه فعله ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬ذلك في الكاذب كم‬
‫يقال لهم ‪ :‬إذا أمرنا اهلل أن نتحرك أفليس جائ اًز أن يجعلنا متحركين ‪.‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬فكذلك لو أمرنا بالكذب لجاز أن يجعلنا كاذبين ‪.‬‬

‫كم يقال لهم ‪ :‬خبرونا أليس زعمتم أن الصـالة إذا كانـت كانـت حركـات وكـان المتحـرك متحركـاً لحلـول‬
‫الحركة فيه والمصلي مصلياً لحلول الصالة فيه ؟‬

‫فإن قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬فيجب إذا أطاع اإلنسان بفعـل حركـة أمـره اهلل تعـالى بهـا أن يكـون طائعـاً ألن‬
‫الطاعة حلته كما أنه متحرك لحلول الحركة فيه ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫عاص إذا حاته المعصية وال بد من نعم كم‬ ‫فإن قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬قيل لهم ‪ :‬فبعض اإلنسان طائع وبعضه‬
‫يقال لهم ‪ :‬فما أنكرتم أن يكون بعض اإلنسان متكلماً وهو اللسان وبعضه عالم مريد وهو القلب ‪.‬‬
‫فــإن قــالوا ‪ :‬الحركــة إذا كانــت كانــت طاعــة فــالمتحرك كــان متحرك ـاً لحلــول الحركــة فيــه ولــيس الطــائع‬
‫طائعاً لحلول الطاعة فيه بل هو طائع ألنه يفعل الطاعة ‪.‬‬

‫قيـل لهـم ‪ :‬مـا أنكـرتم وان كانـت الحركـات صـالة وكـان المتحـرك متحركـاً لحلـول الحركـة فيـه فالمصــلي‬
‫ٍ‬
‫مصل ألنه فعل الصالة ال ألنها حلته ‪.‬‬

‫فإن أجابو ‪ :‬إلى ذلك ‪ .‬قيـل لهـم ‪ :‬فـإذا أمرنـا أن نصـلي ولـم يجـز أن يصـلي هـو فليلـزم لـو أمرنـا اهلل أن‬
‫نكذب أن ال يجوز أن يكذب هو بل يجوز أن يفعـل لنـا كـذباً كمـا جـاز أن يفعـل لنـا صـالة ولـم يجـز‬
‫أن يصلي هو قفل في الكذب هذا القول ‪.‬‬

‫كــم يقــال لهــم ‪ :‬إذا أمرنــا أن نتحــرك جعــل لنــا حركــات نتحــرك بهــا فكــذلك لــو أمرنــا بالكــذب لــم يســتحيل أن‬
‫يفعل لنا كذباً نكذب به ‪.‬‬
‫الباب الكامن‬

‫باب الكالم في اإليمان‬

‫[ ما اإليمان باهلل تعالى ]‬

‫إن قال قائل ‪ :‬ما اإليمان عندم باهلل تعالى ؟ قيـل لـه ‪ :‬هـو التصـديق بـاهلل وعلـى ذلـك إجمـاع أهـل اللغـة‬
‫التي نزل بها القرآن ‪.‬‬

‫قــال اهلل تعــالى ‪ (( :‬ومــا أرســلنا مــن رســول إال بلســان قومــه )) [ إب ـراهيم ‪ ] 3 :‬وقــال تعــالى ‪ (( :‬بلســان‬
‫عربي مبين (‪ [ )) )496‬الشعراء ‪. ] 496 :‬‬

‫فلما كانت اإليمان في اللغة التي أنزل اهلل تعالى بها القرآن هو التصديق وقـال اهلل تعـالى ‪ (( :‬ومـا أنـت‬
‫بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (‪ [ )) )48‬يوسف ‪ ] 48 :‬أي بمصدق لنا ‪.‬‬

‫وقــالوا جميعـاً ‪ (( :‬فــالن يــؤمن بعــذاب القبــر والشــفاعة )) يريــدون يصــدق بــذلك فوجــب أن يكــون اإليمــان‬
‫هو ما كان عند أهل اللغة إيماناً وهو التصديق ‪.‬‬

‫[ هل الفاسق من أهل القبلة مؤمن ]‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬فحــدكونا عــن الفاســق مــن أهــل القبلــة أمــؤمن هــو ‪ .‬قيــل لــه ‪ :‬نعــم مــؤمن بإيمانــه فاســق‬
‫بفسقه وكبيرته ‪.‬‬

‫وقد أجمع أهل اللغة إن من كان منه ضرب فهو ضارب ومن كـان منـه قتـل فهـو قاتـل ومـن كـان منـه‬
‫كفر فهو كافر ومن كان منه فسق فهـو فاسـق ومـن كـان منـه تصـديق فهـو مصـدق ‪ .‬وكـذلك مـن كـان‬
‫فيه إيمان فهو مؤمن ‪.‬‬

‫ولو كان الفاسق ال مؤمناً وال كاف اًر لم يكن منه كفـر وال أيمـان ولكـان الموحـداً وال ملحـداً وال وليـاً‬
‫وال عدواً فلما ساتحال ذلك استحال أن يكون الفاسق ال مؤمناً وال كاف اًر كما قالت المعتزلة ‪.‬‬

‫وأيضاً فإذا كان الفاسق مؤمناً قبل فسقه بتوحيـده فحـدو الزنـا بعـد التوحيـد ال يبطـل إسـم اإليمـان الـذي لـم‬
‫يفارقه ‪.‬‬

‫وأيضاً فقد كان الناس قبل حدو واصل بن عطاء رئيس المعتزلة على مقالتين ‪:‬‬

‫منهم ‪ :‬خوارج يكفرون مرتكبي الكبائر ‪.‬‬

‫ومنهم ‪ :‬أهل استقامة يقولون ‪ :‬هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ‪.‬‬

‫ولم يقل منهم قائل ‪ :‬إنه ليس بمؤمن وال كافر قبل حدو واصل بن عطـاء ‪ .‬حـين اعتـزل واصـل األمـة‬
‫وخرج عن قولها فسمي معتزليـاً بمخالفتـه اإلجمـاع ؛ فبعـدم اإلجمـاع علـى قولـه ‪ -‬واتفـق المسـلمون عليـه‬
‫من أن العاصي من أهل الصالة ال يخلو من أن يكون مؤمناً أو كاف اًر ‪ -‬يقتضي على بطالن قوله ‪.‬‬

‫وأيضاً فلو جـاز لقائـل أن يقـول ‪ :‬إن مـن معـه إيمـان وآتـى كبيـرة فلـيس مؤمنـاً وال كـاف اًر لجـاز لقائـل أن‬
‫يقول ‪ :‬بل هو مؤمن بإيمانه وال يقال فاسق بفسقه ‪.‬‬
‫فــإن قــال هــذا القــول مســتحيالً ألنــه ال يجــوز فســق ال لفاســق كــان قــولهم مســتحيالً ألنــه ال يجــوز إيمــان ال‬
‫لمؤمن ‪.‬‬
‫الباب التاسع‬

‫باب الكالم في الخاص والعام والوعد والوعيد‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وان الفجار لفي جحيم (‪] )) )43‬‬

‫إن قــال قائــل ‪ :‬خبرونــا عــن قــول اهلل تعــالى ‪ (( :‬وان الفجــار لفــي جحــيم (‪ [ )) )43‬االنفطــار ‪] 44 :‬‬
‫وعن قوله ‪ (( :‬ومن يفعل ذلـك عـدواناً وظلمـاً فسـوف نصـليه نـا اًر )) [ النسـاء ‪ ] 45 :‬وقولـه تعـالى ‪(( :‬‬
‫إن الذين يأكلون أمـوال اليتـامى ظلمـاً إنمـا يـأكلون فـي بطـونهم نـا اًر وسيصـلون سـعي اًر (‪ [ )) )45‬النسـاء ‪:‬‬
‫‪. ] 45‬‬

‫فالجواب عن ذلك ‪ :‬أن قوله (( ومـن يفعـل ذلـك عـدواناً )) [ النسـاء ‪ ] 4 :‬يحتمـل أن يقـع علـى جميـع مـن‬
‫يفعــل ذلــك ويحتمــل أن يقــع علــى بعــض ألن لفــظ (( مــن )) يقــع فــي اللغــة م ـرة علــى الكــل وم ـرة علــى‬
‫البعض فلما كانت صورة اللفظ ترد مرة وي ارد بها البعض وترد أخرى ويرادبها الكل لم يجز أن يقطـع‬
‫على الكل بصورتها كما ال يقطع على البعض بصورتها ‪.‬‬

‫وكــذلك ال يقضــي بقولــه ‪ (( :‬وان الفجــار لفــي جحــيم (‪ )) )43‬و (( الــذين يــأكلون )) [ النســاء ‪] 45 :‬‬
‫على بعض وال على كل إذا كان يقع لك تارة على الكل وتارة على البعض ‪.‬‬

‫ولو جاز لزاعم أن يزعم ‪ :‬أن الصورة إنما هي للكل حتى تأتي داللة البعض لم يكن هذا لزاعم بزعمه هذا‬
‫أولى ممن قال ‪ :‬صورة هذا القول يوجب القضاء على البعض إلى أن تقوم داللة الكل ‪.‬‬

‫فلما تكافأ القائالن في قولهما وجب أن يكون القوالن جميعاً ملغيين ‪.‬‬

‫وقد قال زهير ‪ [ :‬الطويل ]‬


‫ٍ‬
‫بمنسم‬ ‫يضرس بأنياب ويوطأ‬ ‫ومن لم يصانع في أمور ككيرة‬

‫وليس كل من ال يصانع كذلك وقال ‪ [ :‬الطويل ] ‪:‬‬

‫ومن ال يظلم الناس يظلم ‪.‬‬

‫وليس كل من ال يظلم الناس يظلم ‪ .‬ويقول القائل ‪ (( :‬جاءني من أحببت )) وانما يعني واحداً ‪.‬‬

‫ويقول ‪ (( :‬جاءني التجار )) وان لم يكن الكل جاءه و (( جاءني جيراني )) وان لم يأتـه جمـيعهم‬
‫‪.‬‬

‫ويقول القائل ‪ (( :‬لعنني الفجـار بمـا كرهـت )) وال يعنـي جمـيعهم فلمـا كانـت هـذه األلفـاظ تـرد مـرة يـراد‬
‫بها الكل وترد أخرى يراد بهـا الـبعض لـم يجـز أن يقضـي علـى الكـل دون الـبعض وال علـى الـبعض دون‬
‫الكل إال بداللة ‪.‬‬

‫وأيضاً فلو وجب القضاء بصورة هذه اآليات أن يقضي على عذاب كل فاجر وآكـل أمـوال اليتـامى ظلمـاً‬
‫وآكل أموال الناس بالباطل لوجب أن يقضي على أن كل الموحدين من أهل الصالة في الجنة بظاهر‬
‫قولــه تعــالى ‪ (( :‬مــن جــاء بالحســنة فلــه خيــر منهــا وهــم مــن فــزٍع يومئـ ٍـذ ءامنــون (‪ [ )) )79‬النمــل ‪] 79 :‬‬
‫ـاء عنـد ربهـم يرزقـون (‪ [ )) )459‬آل‬
‫وبظاهر قوله ‪ (( :‬وال تحسبن الذين قتلوا في سبيل اهلل أمواتاً بل أحي ٌ‬
‫عمران ‪ ] 459 :‬علـى أن كـل مقتـول فـي سـبيل اهلل فـي الجنـان يـرزق فيهـا ‪ .‬وبظـاهر قولـه تعـالى ‪ (( :‬إن‬
‫اهلل يغفر الذنوب جميعاً )) [ الزمر ‪ ] 64 :‬على كل ذنـب أنـه مغفـور إال ذنبـاً وقـف عليـه النبـي صـلى اهلل‬
‫عليه وسلم وأجمع المسلمون أنه ال يغفر وهو الشرك والكفر ‪.‬‬

‫وليس قول من قال ‪ :‬إن اآليات ( عامة ) في الوعيـد عامـة واآليـات األخـر خاصـة أولـى مـن قـول قالـب‬
‫قلب القصة وجعل آيات الوعيد خاصة واآليات األخر عامة ‪.‬‬

‫وأيضـاً فلــو وجــب أن يقضــي بظـواهر اآليــات علــى ان كــل فــاجر وآكــل أمـوال اليتــامى ظلمـاً فــي نــار جهــنم‬
‫ـي ِفيهَـا فَ ْـوٌج َسـأَلَهُ ْم َخ َزَنتُهَـا أَلَ ْـم َيـأْتِ ُك ْم َن ِـذ ٌير (‪ )7‬قَـالُوا َبلَـى قَ ْـد‬ ‫َّ ِ‬
‫لجاز أن يقضـي بقـول اهلل تعـالى ‪ُ (( :‬كل َمـا أُْلق َ‬
‫ـي ٍء )) [ الملــك ‪ ] 9-7 :‬مكــذباً إن النــار ال يــدخلها إال كــافر‬ ‫َّ َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫اءَنـا َنــذ ٌير فَ َكــذ ْبَنا َوقُ ْلَنــا َمــا َنــز َل اللــهُ مـ ْـن َشـ ْ‬
‫َج َ‬
‫ب َوتَ َـولَّى (‪)45‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ـالها إِال األَ ْشـقَى (‪ )46‬الـذي َكـذ َ‬ ‫ص َ‬ ‫وبظاهر قوله تعالى ‪ (( :‬فَأ َْن َذ ْرتُ ُك ْم َنا اًر تَلَظى (‪ )43‬ال َي ْ‬
‫)) [ الليل ‪ ] 45- 43 :‬إن كل من يصلى النار كذلك ‪.‬‬

‫وبظاهر قول اهلل تعالى ‪ (( :‬ومن لم يحكـم بمـا أنـزل اهلل فأوالئـك هـم الكـافرون (‪ [ )) )33‬المائـدة ‪] 33 :‬‬
‫أنه ال يترك الحكم بما أنزل اهلل إال فاسق ‪.‬‬

‫فلمــا لــم يلــزم أن ال يــدخل النــار إال كــافر بهــذه اآليــات لــم يلــزم أن يكــون كــل فــاجر فــي جهــنم وكــل آكــل‬
‫أموال اليتامى ظلماً وكل من يأكل أموال الناس بالباطل في النار لآليات التي تلوناها ‪.‬‬

‫والجواب عن كل آية يعتلون بها في الوعيد كالجواب عن هذه اآليات ‪.‬‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً )) ]‬

‫وقولــه ‪ (( :‬ومــن يفعــل ذلــك عــدواناً وظلم ـاً )) [ النســاء ‪ ] 45 :‬يحتمــل مــن يفعــل ذلــك مســتحالً ويحتمــل‬
‫الجميع ‪.‬‬

‫[ قوله تعالى ‪ (( :‬وان الفجار لفي جحيم (‪] )) )43‬‬

‫وقوله ‪ (( :‬وان الفجار لفي جحيم (‪ [ )) )43‬االنفطار ‪ ] 43 :‬يحتمـل الـبعض مـنهم وهـم الكفـار ويحتمـل‬
‫الجميع وكذلك الجواب عن كل آية في الوعيد ‪.‬‬

‫ال َمــا‬ ‫اب ال خشــم ِ‬ ‫ـح ُ‬ ‫َصـ َ‬


‫ويلــزم المعتزلــة أن يكــون جميــع أهــل الشــمال كــافرين بظــاهر قــول اهلل تعــالى ‪َ (( :‬وأ ْ‬
‫َ‬
‫ـارٍد َوال َكـ ِـر ٍيم (‪ )33‬إَِّنهُ ْـم َكـ ُ‬
‫ـانوا‬ ‫ـوم (‪ )34‬ال َب ِ‬ ‫ـيم (‪ )32‬و ِظـل ِم ْـن َي ْح ُمـ ٍ‬
‫وم و َح ِمـ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـح ُ خ ِ‬
‫َ‬ ‫اب الش َـمال (‪ )34‬فــي َس ُـم َ‬ ‫َص َ‬‫أ ْ‬
‫ظاماً‬ ‫ون أَئِ َذا ِمتَْنا َو ُكَّنا تَُراباً َو ِع َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون َعلَى ا ْلحن ا ْل َعظيم (‪َ )35‬و َك ُانوا َيقُولُ َ‬
‫ِ‬
‫ين (‪َ )36‬و َك ُانوا ُيصُّر َ‬ ‫قَْب َل َذلِ َ‬
‫ك ُمتْ َرِف َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪ [ )) )38‬الواقعة ‪. ] 38 - 34 :‬‬ ‫أَئَّنا لَ َم ْب ُعوكُ َ‬
‫ُوت ِكتَابَِي ْه (‪ [ )) )26‬الحاقة ‪ ] 26 :‬إلـى قولـه‬ ‫َما َم ْن أُوتِ َي ِكتَ َابهُ بِ ِش َمالِ ِه فََيقُو ُل َيا لَْيتَنِي لَ ْم أ َ‬
‫وبقوله ‪َ (( :‬وأ َّ‬
‫ين (‪ [ )) )43‬الحاقـة ‪44 :‬‬ ‫ض َعلَـى طَ َع ِـام ا ْل ِم ْس ِـك ِ‬
‫ان ال ُي ْؤ ِم ُن بِاللَّ ِه ا ْل َع ِظ ِيم (‪َ )44‬وال َي ُح ُّ‬ ‫تعالى ‪ (( :‬إَِّنهُ َك َ‬
‫‪. ] 43 -‬‬
‫الباب العاشر‬

‫باب الكالم في اإلمامة‬

‫[ الدليل على إمامة أبي بكر رضي اهلل عنه ]‬

‫فــإن قــال قائــل ‪ :‬مــا الــدليل علــى إمامــة أبــي بكــر رضــي اهلل عنــه ‪ .‬قيــل لــه ‪ :‬الداللــة علــى ذلــك أنــا وجــدنا‬
‫الناس على كالكة أصناف ‪:‬‬

‫قائلين ‪ :‬يقولون بإمامة علـي بعـد الرسـول صـلى اهلل عليـه وسـلم وقـائلين ‪ :‬يقولـون بإمامـة العبـاس رضـي‬
‫اهلل عنه وقائلين ‪ :‬يقولون بإمامة أبي بكر رضي اهلل عنه ‪.‬‬

‫والعباس قد بايعاه وأنقادا ألمره في كافة المسـلمين وان كـان قـد توقـف عـن البيعـة متوقفـون‬ ‫ورأينا علياً‬
‫وقتاً ما فقد أطبقوا على البيعة له واالنقياد إلمامته والكون تحت رايته واتباع أمره وقالوا له ‪ (( :‬يـا خليفـة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم )) وال يجوز أن يجمع األمة على خطأ ‪.‬‬

‫وال يجوز لمدع أن يدعي أن باطن علي والعباس بخالف ما أظهراه ولو جاز ذلك لم يجز لنا أن نقضي‬
‫على صحة إجماع من األمة على شيء ألنا ال نأمن أن يكون باطن بعض األمة خالف ظاهرهم ‪.‬‬

‫فلما كان بما يظهر من األمة من االتفـاق قـد يعلـم بـه اإلجـامع وال يلتفـت إلـى عـوى مـن ادعـى البـاطن‬
‫وكان مدعي ذلك كقائل يقول من الخوارج ‪ :‬من يقول أن باطن علي بخالف ظاهره ؟‬

‫فلما كان في هذا إبطال اإلجماع وجـب القضـاء علـى إمامـة أبـي بكـر بعقـد مـن عقـدها لـه مـن المسـلمين‬
‫وبيعــة مــن بايعــه مــن المهــاجرين واألنصــار واجمــاع المســلمين عليــه فــي وقتــه ال ســيما وعلــي والعبــاس‬
‫عاقدان له البيعة على أنفسهما و مقران له باإلمامة وخالفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإذا كانت‬
‫اإلمامة ال تخرج عن هؤالء الكالكة بإجماع وقد بايعاه فـي كافـة المسـلمين وجـب أن يكـون إمامـاً مفتـرض‬
‫الطاعة ‪.‬‬

‫وقــد نطــق الق ـ ن بإمامــة الصــديق ودل علــى إمامــة الفــاروق وذلــك أن اهلل تعــالى قــال فــي ســورة ب ـراءة‬
‫للقاعدين عن نصرة نبيه صلى اهلل عليه وسلم والمتخلفين عن الجهاد معـه ‪ (( :‬فَ ُق ْـل لَ ْـن تَ ْخ ُرُجـوا َم ِعـي أََبـداً‬
‫ِِ‬ ‫ولَ ْن تُقَاتِلُوا م ِعي ع ُدواً إَِّن ُكم ر ِ‬
‫ين (‪[ )) )74‬التوبة ‪.] 74 :‬‬ ‫ود أ ََّو َل َمَّرٍة فَا ْق ُع ُدوا َم َع ا ْل َخالف َ‬
‫ضيتُ ْم بِا ْلقُ ُع ِ‬ ‫َ ّ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َن ُيَب خدلُوا‬
‫ون أ ْ‬ ‫ونا َنتَّبِ ْع ُك ْم ُي ِر ُ‬
‫يد َ‬ ‫وها َذ ُر َ‬ ‫ون إِ َذا انطَلَ ْقتُ ْم إِلَى َم َغانِ َم لِتَأ ُ‬
‫ْخ ُذ َ‬ ‫َّ‬
‫وقال في سورة أخرى ‪َ (( :‬سَيقُو ُل ا ْل ُم َخلفُ َ‬
‫الم اللَّ ِه )) [ الفت‪ - ] 46 : ،‬يعني قوله ‪ (( :‬لَ ْن تَ ْخ ُر ُجـوا َم ِعـي أََبـداً َولَ ْـن تُقَـاتِلُوا َم ِعـي َع ُـد ّواً )) [ التوبـة ‪:‬‬ ‫َك َ‬
‫ـون إِالَّ َقلِـيالً (‪)46‬‬ ‫ـانوا ال َي ْفقَهُ َ‬ ‫ونَنا َب ْـل َك ُ‬
‫ون َب ْـل تَ ْح ُس ُـد َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ ] 74‬كم قال ‪َ (( :‬ك َذل ُك ْم قَـا َل اللـهُ م ْـن قَْبـ ُل فَ َس َـيقُولُ َ‬
‫)) [ الفت‪. ] 46 : ،‬‬

‫وقد علمنا أن الداعي لهم غير النبي صلى اهلل عليه وسلم ألنه قال لنبيه ((فَ ُق ْل لَ ْن تَ ْخ ُرُجوا َم ِعـي أََبـداً ))‬
‫[ التوبة ‪. ] 74 :‬‬

‫الم اللَّ ِه )) [ الفت‪ ] 46 : ،‬فمنعهم اهلل تعالى عن الخروج مـع‬ ‫َن ُيَب خدلُوا َك َ‬
‫ون أ ْ‬ ‫وقال في سورة الفت‪ُ (( ،‬ي ِر ُ‬
‫يد َ‬
‫نبيــه صــلى اهلل عليــه وســلم وجعــل خــروجهم معــه تبــديالً لكالمــه ‪ .‬فوجــب أن الــداعي الــذي أمــروا باتباعــه‬
‫دا ٍع يدعوهم بعد الرسول ‪.‬‬
‫وقد قال الناس قولين ‪ :‬قال بعضهم ‪ :‬هم فارس والروم وقال آخرون ‪ :‬هم أهل اليمامة ‪.‬‬

‫وأبو بكر قاتل الروم وأهل اليمامة وقوتلن فارس في أيامه وظهر بهم من بعده ‪.‬‬

‫فإن كانوا أهل اليمامة أو الروم فقد قاتلهم أبو بكر رضي اهلل عنه وفي ذلك إيجاب إمامته ‪.‬‬

‫وان كانوا فارس فقد قوتلوا في أيامه وفرغ منهم من بعده فقد وجبت إمامة عمر ‪.‬‬

‫واذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر رضي اهلل عنهما ألن أبا بكر عقدها له ‪.‬‬

‫وان كان المعنى من قاتل فارس وفرغ منهم فإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر ألنه هو العاقد‬
‫إلمامته ‪.‬‬

‫فدل ما قلناه من القرآن على إمامة الصديق والفاروق ‪ .‬واذا وجبت إمامة أبي بكر بالدالالت التي ذكرناهـا‬
‫بظاهر القرآن وبإجماع المسلمين في وقته عليها فسد قول من قـال ‪ :‬إن النبـي صـلى اهلل عليـه وسـلم نـص‬
‫على إمامة غيره ألنه ال تجوز إمامة من نص الرسول على إمامة غيره ‪.‬‬

‫إماما ‪.‬‬
‫وهذا يقضي على بطالن قول من قال ‪ :‬إن النبي صلى اهلل عليه وسلم نصب علياً بعده ً‬
‫وممــا يبطــل قــول مــن قــال بــالنص علــى أبــي بكــر أن أبــا بكــر قــال لعمــر ‪ (( :‬ابس ـط يــدك أبايعــك )) يــوم‬
‫السقيفة ‪.‬‬

‫فلو كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نص على إمامته لم يجز أن يقول ‪ (( :‬ابسط يدك أبايعك )) ‪.‬‬

‫وقد قلنا في األبواب التي تكلمنا عليها قوالً وجي اًز ‪.‬‬

‫تم الكتاب والحمد هلل رب العالمين‬

‫وصلى اهلل على محمد وآله وسلم ‪.‬‬

You might also like