Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 12

‫صفحات من تاريخ‬

‫حزب البعث العربي اإلشرتاكي يف لبنان‬

‫مـقـابـلـة مـع‬
‫األستاذ جهاد كرم‬
‫‪ ،0202‬لبنان‬ ‫الزمان واملكان ‪3 :‬‬
‫أجرى املقابلة ‪ :‬الدكتور مصطفى الدندشلي‬

‫* * *‬
‫دندشلي‪ ..:‬يسّرُني ـ أستاذ جهاد ـ أن أجّريَ معك هذه املقابلة حول حّركة سياسية قومية وَحدوية‪،‬‬ ‫الدكتور مصطفى‬
‫يهمنا معّرفة تاريخ نشوئها وتطورها‪ ،‬وهي لألسف مل يُكتب عنها حتى اآلن أكاد أقول إطالقاً‪ ،‬لذلك من األهمية أن نقوم‬
‫بعملية تأريخ هلذه احلّركة القومية يف لبنان‪ ،‬وأن تكون حماولة التأريخ هذه‪ ،‬موضوعية إىل أبعد حدود املوضوعية وأن تكون‬
‫مقاربتنا التأرخيية فيها الشيء الكثري من العمق والشمول يف آن‪ .‬وما يهمّين بداية أن حتدثين عن جتّربتك الشخصية يف‬
‫حزب البعث العّربي االشرتاكي‪ :‬كيف تعّرفت على احلزب وما هي الظّروف ومتى كان ذلك‪ ،‬وملاذا اخرتت حزب البعث‬
‫وانتسبت إليه ومل خترت حزباً أو حّركة سياسية أخّرى؟!*‪...‬‬
‫‪ ..‬يف احلقيقة‪ ،‬أنا عندما جئت إىل اجلامعة األمريكية يف بريوت يف السنة الدراسية ‪-2591‬‬ ‫األستاذ جهاد كّرم‪:‬‬
‫‪ ،2591‬بعد أن أنهيت الشهادة النهائية هاي ـ سكول يف املدرسة اإلجنيلية يف طّرابلس ـ وهي مدرسة األمريكان للصبيان ـ‬
‫بعدها دخلت اجلامعة األمريكية‪ ،‬وأنا من بيت سياسي لبناني‪ ،‬ال من بيت سياسي عقائدي‪ .‬ولكن والدي كونه حمامياً‪ ،‬وهو‬
‫حمامٍ ليربالي‪ ،‬فكان يدافع عن األحزاب السياسية يف تلك األيام ـ وأنا طفل صغري ومن مواليد أواخّر عام ‪2519‬ـ فنشأ عندي‪،‬‬
‫كوني ابن حمامٍ مسيَس‪ ،‬جتّربةٌ ومعّرفة سياسية‪ ،‬على األقل ليس غّريباً عليَ األحزاب والعمل احلزبي‪ .‬ويف تلك األيام‪ ،‬كان‬
‫هناك حزبان يف مناطقنا‪ :‬احلزب الشيوعي اللبناني واحلزب السوري القومي االجتماعي‪ .‬فكنت أشعّر أنين أقّرب إىل القوميني‬
‫السوريني بسبب تأثّري بشخصية عبداهلل سعادة وأشعّر أحياناً أنين أقّرب للشيوعيني‪ ،‬ألن الشيوعية هي حّركة تقدمية‬
‫نضالية أمميَة‪ ،‬ال تعّرف التَعصُب‪ .‬واحلّركتان يف احلقيقة علمانيتان وتؤمنان بفصل الدين عن الدولة‪.‬‬

‫ففي السنة اليت انتسبت فيها إىل اجلامعة األمريكية يف بريوت‪ ،‬شاركتُ يف "العّروة الوثقى"‪ .‬وكان يف اجلامعة حينذاك‬
‫جمموعة من البعثيني‪ ،‬ولكنين مل أكن على عالقة صداقة معهم‪ .‬بل كنت على صداقة أكثّر مع "القوميني العّرب" وخباصة مع‬
‫حسَان منغو ( أُنشئ النادي الثقايف العّربي عام ‪ 2599‬بعد إقفال " العّروة الوثقى" داخل اجلامعة)‪ .‬وكان يُشار آنذاك إىل بعض‬
‫الطلبة البعثيني وأبّرزهم‪ :‬خالد يشّرطي وسعدون ّمحَادي متخّرج حديثاً‪ ،‬وعلي فخّرو وعدنان سنّو وحممد عطااهلل ومجال‬
‫الشاعّر وكمال الشاعّر وغريهم‪ ،‬فقد كان هؤالء أبّرز الطالب البعثيني يف اجلامعة األمريكية‪ .‬وباملقابل من القوميني العّرب‪ ،‬كان‬
‫جورج حبش‪ ،‬وديع حداد‪ ،‬هاني اهلندي وآخّرون‪...‬‬

‫ففي هذا اجلو‪ ،‬كنت بطبيعيت ال أحب االلتزام‪ ،‬وأفضّل دائماً أن أبقى حّراً ولديَ استقاللية شخصية‪ .‬وبعد تقصري يف علم‬
‫البيولوجيا‪ ،‬فُصلت من اجلامعة ملدة سنتني‪ ،‬فذهبت إىل اجلامعة األمريكية يف حلب يف ‪ 11‬أيلول ‪ .2591‬يف تلك الفرتة‪ ،‬كان‬
‫حزب البعث يف عز أوجه‪ ،‬بعد انتصاره يف االنتخابات النيابية اليت ُأجّْرِيت بعد سقوط حكم الشيشكلي‪ ،‬وحصوله على ‪21‬‬
‫مقعداً يف اجمللس النيابي السوري‪ .‬واحلّركة الطالبية والعمالية ناشطة جداً‪ ،‬على الّرغم من وجود حزب الشعب واحلزب‬
‫الوطين‪ ،‬وحلب هي مّركزهما االنتخابي والسياسي ووجود احملافظني العّرب وكبار املالكني‪ ،‬واألخوان املسلمني واحلزب‬
‫السوري القومي االجتماعي‪ .‬وكان األخوان املسلمون يف صّراع دائم مع حزب البعث‪.‬‬

‫وأنا انتسبتُ‪ ،‬كما قلت سابقاً‪ ،‬إىل كلية حلب األمريكية (اليت ُأمِمت أثناء الوحدة)‪ .‬ففي هذه الكلية‪ ،‬كان هناك طالب ناشطون‬
‫ينتمون إىل حزب البعث‪ .‬ومل أكن أنا حزبياً بعثياً إىل ذلك احلني‪ .‬كنا جمموعة من الشباب العّرب‪ ،‬أصدرنا جملة يشّرف علينا‬
‫حمام‪ ،‬عبد السالم الرتمنيين‪ ،‬وهو قومي عّربي مستقل‪ ،‬شوفيينّ النّزعة‪ ،‬ولكنه دميقّراطي‪ ،‬حيب العّروبة والعّرب ويتكلم عن‬
‫اجلنس العّربي والتفوق العّربي‪ .‬وهو طيِب ويّرعانا كما يّرعى األب أوالده‪ .‬وهذه اجملموعة من الطالب تضم‪ :‬فاروق مسالتي‪،‬‬
‫وسعد القدسي ( ابن ناظم القدسي) ومّروان الكيخيا وفوزي الزعيم‪ ،‬وهم عّروبيون‪ .‬وأنا استهوتين يف هذا اجلو فكّرة‬
‫العّروبة‪ .‬ولكن مل أقطع مع احلزب السوري القومي‪ ،‬ألسباب‪ ،‬كما قلت‪ ،‬منها ذاتيٌ ـ عالقة والدي باألستاذ عبداهلل سعادة ـ‬
‫ومنها ال طائفية احلزب السوري القومي‪ .‬باإلضافة إىل كونهم تنظيماً قوياً‪ :‬يقومون باستعّراضات شبه عسكّرية وطقوس‬
‫حزبية‪ .‬ولكن‪ ،‬وقتذاك بدأت أحضّر اجتماعات للبعثيني‪ .‬وأذكّر منهم األستاذ عبد الفتاح الزلطـ ـ وهو خطيب مفوَه ـ واألستاذ‬
‫الثانوي شاعّر البعث سليمان العيسى والطالب يف كلية الطب بهيج الكيالي والطالب فُهّر بازو وأّمحد عيسى غادري‪ .‬وهم‬
‫مجيعاً بعثيون وكنت أحضّر اجتماعاتهم‪ ،‬دون املشاركة يف حلقاتهم احلزبية‪.‬‬

‫مّرَت هاتان السَنتان دون أن التزم حزبياً‪ .‬وإمنا بدأت بذور البعث تنضج يف خاطّري ووجداني وذهين‪ .‬وعدت عام ‪ 2591‬إىل‬
‫اجلامعة األمريكية يف بريوت من جديد‪ ،‬يف السنة الدراسية ‪ 2591 -2591‬يف صف " اجلونيري" ـ أي الصف الثالث قبل‬
‫التخّرج‪ ،‬صف البكالوريوس‪ .‬لقد درست علوم سياسية وإدارية‪ .‬وكانت اجلامعة أيضاً تغلي باحلّركات السياسية والقومية‪.‬‬
‫وكان يوجد جمموعة من البعثيني‪ ،‬البعثيون يف اجلامعة‪ ،‬من الّرعيل األول كانوا قد تّركوا‪ :‬سعدون ّمحّادي‪ ،‬حممد عطااهلل‬
‫وآخّرون‪ .‬وكان علي فخّرو ال يزال حتى وقتذاك‪ ،‬وهو مثال الطالب اجلِدّي امللتزم األخالقي املناضل احملبوب‪ .‬وكان أيضاً طالب‬
‫آخّر وهو جربان حوشة من ّمحاه‪.‬‬

‫وهنا ابتدأتُ حضور حلقات تثقيف‪ .‬ويف عام ‪ ،2591‬أقسمتُ اليمني والوالء واالنتساب إىل حزب البعث على يد خالد يشّرطي‬
‫ومعه أحد أعضاء قيادة الشعبة ـ أصبح فيما بعد وزيّراً يف األردن ـ علي سحيمات‪ .‬وكانت بداية العمل احلزبي التنظيمي‬
‫واالنتساب إىل فّرقة اجلامعة األمريكية‪ .‬وأظن أنه كان هناك فّرقتان حزبيتان حينذاك‪ ،‬ونقوال الفّرزلي يقول كان هناك فّرقة‬
‫واحدة‪ .‬وأنا مل أكن أجتمع معهم‪ :‬نقوال الفّرزلي‪ ،‬وفؤاد الزين وباسل عطااهلل وغريهم‪ .‬ويف حلقيت كانت تضم‪ :‬عصام نعمان‬
‫وفتحي اجلشيَ ( فلسطيين) وعدنان درباس ( وهو اآلن رجل أعمال ناجح يف األردن)‪.‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬أودّ هنا لو تقدم لي صورة أو حملة عامة حول الطلبة الذين ّمتَ االحتكاك بهم يف اجلامعة األمريكية بوجه خاص‪،‬‬
‫فمن أيِ املناطق قد جاؤوا؟!‪..‬‬

‫جواب ‪ ...:‬الطلبة اللبنانيون كانوا قلة يف احلقيقة‪ :‬باإلضافة إىل الذين ذكّرت أمساءهم‪ ،‬كان أّمحد الكلش وهو من صيدا (يف‬
‫كلية اهلندسة)‪ .‬ولكن أغلبية الطالب البعثيني يف اجلامعة هم من البالد العّربية‪ :‬من سورية‪ ،‬من العّراق‪ ،‬من األردن ـ فلسطني‪،‬‬
‫من دول اخلليج العّربي‪ ،‬وخباصة الكويت والبحّرين‪ ،‬وهناك طالبات يف كلية البنات ( وهي اليوم اجلامعة األمريكية ـ‬
‫اللبنانية )‪ ،‬مثالً منرية فخّرو ( اليت دخلت املعّركة االنتخابية اليت جّرت مؤخّراً يف البحّرين‪ ،‬ومل حيالفها احلظ وسقطت‬
‫بفارق قليل‪ ،‬مخسني صوتاً فقط)‪ .‬وكانوا يف احلقيقة شعلة من النشاط واحلماس احلزبي والقومي العّروبي‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬مع األسف‪ ،‬لقد انض َم ْمتُ إىل حزب البعث يف العام ‪ ، 2591‬وكانت بداية التناقض السياسي بني البعث وعبد الناصّر‪.‬‬
‫وهذا ما انعكس علينا سلبياً يف اجلامعة‪ ،‬ذلك أنه كانت أكثّر التيارات العّروبية يف تلك الفرتة ناصّرية ويف املقدمة حّركة‬
‫القوميني العّرب‪ .‬فكانت هذه التيارات تضمُ معظم الطالب يف اجلامعة من الفئات الربجوازية الكبرية‪ .‬وفكّرة االشرتاكية‬
‫وطّرحها كشعار كانت ختيف كثرياً آنذاك‪ .‬هذا ال يعين بطبيعة احلال ( كوننا يف اجلامعة األمريكية) أن حزب البعث مل يكن‬
‫يضم بني صفوفه طالباً من األوساط الربجوازية‪ ،‬غري أن نظّرتهم إىل االشرتاكية وفهمهم هلا ونظّرتهم إليها على أنها‬
‫اشرتاكية إنسانية وعدالة اجتماعية وأطلقوا عليها تعبري" االشرتاكية العّربية"‪.‬‬

‫سؤال ‪ ..:‬عملكم احلزبي ونشاطكم‪ ،‬هل كان مقتصّراً ضمن إطار اجلامعة؟‬

‫جواب ‪ ..:‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬إنين أذكّر أنه بعد انتسابي إىل حزب البعث‪ ،‬وكان يف أيار ‪ ،2591‬وقعت "احلّرب" ( أو ما يُسمّى أحداث أو "‬
‫ثورة أيار" يف لبنان)‪ ،‬فلم يّرض والدي أن أبقى يف بريوت‪ ،‬فذهبت إىل الضيعة (حاماة يف قضاء البرتون)‪ .‬فابتعدت مدة ثالثة‬
‫أشهّر‪ ،‬كنت من حني آلخّر أذهب إىل طّرابلس حيث هناك‪ :‬إذاعة ومستوصف ومستشفى ومقاومة نشطة‪...‬‬

‫وعندما عدت إىل اجلامعة األمريكية يف بريوت‪ ،‬استلمت من د‪.‬عفيف الشميطلي‪ ،‬وهو خّريج كلية الطب يف اجلامعة‬
‫اليسوعية‪ ،‬حلقة أنصار عمالية يف بّرج ّمحود وحلقة أخّرى يف الوقت نفسه‪ ،‬أي أنين كنت مسؤوالً عن هاتني احللقتني‬
‫العماليتني مدة سنة ونصف السنة‪ .‬وكانوا مجيعاً‪ ،‬كما أذكّر عمال أحذية من بنت جبيل‪ ،‬وال أزال أذكّر بعض األمساء‪ :‬من‬
‫عائلة ّمحيِد‪ ،‬وعائلة بزي إخل‪ ...‬وكانوا يف منتهى النشاط واألخالق والنضال‪ .‬ويف تلك األيام مل نكن نسمع مَن هو شيعي أو‬
‫سين أو مسيحي أو درزي‪.‬‬

‫لقد كنت سعيداً جداً عندما ألتقي بهم وأجتمع معهم مّرة يف األسبوع يف اجتماعني منفصلني الواحد بعد اآلخّر‪ ،‬حتى أنه‬
‫نشأت بيين وبينهم عالقة صداقة رفاقية وحمبة حبيث إنه عندما حصل االنشقاق داخل احلزب (‪ 2511‬بعد املؤمتّر اخلامس‬
‫يف ّمحص)‪ ،‬كانوا مجيعاً قد انضموا إىل وجهة نظّري (أي إىل القيادة القومية)‪ .‬وحني عقدنا اجتماعاً عاماً وحصلت مناظّرة‬
‫بني فؤاد ذبيان وغسان شّرارة من جهة‪ ،‬وأنا وخالد العلي من جهة أخّرى‪ ،‬فمشيت الفّرقة مجيعها معنا (أي مع القيادة‬
‫القومية)‪.‬‬

‫يف احلقيقة‪ ،‬الّرفاق البعثيون اآلخّرون كانوا أيضاً يف غاية من النشاط املتواصل‪ .‬مثالً‪ ،‬نقوال فّرزلي‪ ،‬كان نشيطاً جداً‪ ،‬ويذهب‬
‫دائماً إىل قّرى وضِيَع جبل لبنان‪ ،‬هو وليلى بقسماطي ( فيما بعد زوجة الدكتور عبد احلميد الّرافعي)‪ .‬كان هناك نشاط حزبي‬
‫كبري وواسع‪ .‬وأذكّر أنين يف تلك الفرتة كنت قد اُختبت باسم حزب البعث‪ ،‬رئيس مجعية طالب العلوم السياسية يف اجلامعة‬
‫األمريكية‪ .‬وكنا ننشط دائماً يف أكثّر األحيان ـ رغم التنافس واخلالف ـ مع القوميني العّرب يف مواقف وقضايا مشرتكة يف‬
‫مواجهة املنتمني للتيار اللبناني وللتيارات املعادية للقومية العّربية‪ .‬فكنا يف هذه احلاالت نقيم جبهة مشرتكة مع "القوميني‬
‫العّرب"‪ ،‬مع وجود بيننا التنافس الشديد‪ .‬ولكن‪ ،‬يف املواقف الصعبة والقضايا القومية اهلامة املشرتكة‪ ،‬كان البعثيون‬
‫والقوميون العّرب يلتقون ملواجهة اخلصوم‪.‬‬

‫أما مع الشيوعيني فلم يكن هناك أيُ لقاء أو تعاون‪ ،‬هذا باإلضافة إىل أنّ وجودهم يف اجلامعة كان قليالً ال يُذكّر‪ ،‬وجوّ اجلامعة‬
‫األمريكية ال يساعد على انتشار أفكار احلزب الشيوعي‪ .‬إال أنه كان هناك بعض الطالب مثالً‪ :‬كمال حداد من األردن وشفيق‬
‫احلوت وعدد قليل من املناضلني‪ .‬وأيضاً منصور األرملي‪ ،‬وهو اآلن أهم طبيب عيون يف أمريكا‪ ،‬فقد كان شيوعياً يف اجلامعة‬
‫األمريكية يف بريوت‪ .‬وهو فلسطيين‪.‬‬

‫وهنا‪ ،‬أريد أن أشري إىل ظاهّرة سائدة بيننا وهي أننا حنن كطالب كنا قد ابتعدنا ـ من حيث النشاط احلزبي ـ عن مناطقنا‪ .‬وأنا‬
‫هنا أتوجه بنقد ذاتيّ‪ .‬فلم أكن أفكّر مثالً‪ ،‬أن أذهب يف عطلة األسبوع إىل حاماة‪ ،‬ضيعيت‪ ،‬كي أبشِّر مببادئ حزب البعث‬
‫وأفكاره‪ ،‬مع أن منطقيت هي منطقة مسيحية‪ ،‬فقد كان من املفّروض عليَ أن أقوم بذلك‪ ،‬ألن هذا الواقع املسيحي يشكّل لنا‬
‫حتدياً بالنسبة ألفكارنا القومية‪ ،‬فكان من الواجب علينا أن "نشتغل" ونبذل جهداً يف قّرانا اليت تقدِم حوافز للعمل وللنشاط‬
‫احلزبي‪.‬‬

‫إنّ السبب األساسي لذلك هو جميىء األستاذ ميشال عفلق إىل بريوت بعد الوحدة ويف أواخّر عام ‪ ،2595‬واخلالف البعثي‬
‫الناصّري الذي أخذ يشتد حدَة شيئاً فشيئاً‪ ،‬مما انعكس خوفاً على حياة ميشال عفلق الذي جاء وأخذ سكناً يف رأس بريوت‪.‬‬
‫وكنا حينذاك جمموعة من الطالب موجلني بالعناية بقضاياه اللوجستية‪ :‬من حيث األكل وجتهيز املنزل لكي يكون صاحلاً‬
‫للسكن‪ ،‬مبعنى أننا كنا نهتم بقضاياه الشخصية والسكنية والعائلية ومن مجلة األشخاص الذين كانوا حييطون به بصورة‬
‫دائمة‪ :‬نقوال الفّرزلي‪ ،‬ليلى بقسماطي‪ ،‬فؤاد الزين‪ ،‬جهاد كّرم‪...‬‬

‫هذه اإلحاطة واالحتكاك الدائم فتحت أفاقنا على فهم اجملتمع العّربي‪ .‬فكان يأتي لزيارته خمتلف القيادات العّربية‪ ،‬على سبيل‬
‫املثال‪ :‬مهدي بن بّركة املناضل املغّربي‪ ،‬فنجتمع حنن مع مهدي بن بّركة وحنضّر اجتماعاتهما املُطوَلة‪ .‬وكذلك يأتي لزيارة‬
‫األستاذ ميشال عفلق عبداهلل إبّراهيم الشخصية القيادية يف املغّرب العّربي‪ ،‬وصديق شنشل السياسي العّراقي‪ ،‬القومي‬
‫العّربي املناضل‪ ،‬وقيادات سياسية وحزبية أردنية وسورية‪ ...‬فيأتون مجيعهم لزيارة األستاذ ميشال عفلق‪ .‬ففي هذا املنتدى‬
‫الفكّري والسياسي والقومي‪ ،‬ويف حضّرة ووجود "األستاذ"‪ ،‬كان لنا مبثابة تعميق وعينا وإدراكنا ملا جيّري من حولنا يف‬
‫العامل العّربي‪ .‬يف تلك األيام‪ ،‬كنا ما نزال طالباً ورُتبتنا احلزبية مل تكن بعدُ عالية‪ ،‬مما وسَع لنا أُفقَنا الفكّري والقومي‬
‫العّربي‪ ،‬هذا االحتكاك بالقيادات العّربية‪ ،‬وحنن نشعّر بشيء من الزهوّ واالفتخار وحنن بصحبة "األستاذ" ومنتداه السياسي‬
‫والفكّري العّربي‪.‬‬

‫إىل هنا‪ ،‬وقبل حدوث االنفصال‪ ،‬وبعدما ابتدأ اخلالف البعثي الناصّري مع استقالة الوزراء البعثيني يف أواخّر عام ‪(2595‬‬
‫تشّرين الثاني)‪ ،‬أخذ حزب البعث يف الرتاجع والتقوقع‪ ،‬وحنن يف بريوت يف أوساط ناصّرية‪ ،‬فلم يكن من السهل على احلزب‬
‫أن يستمّر يف نضاله كالسابق‪ .‬لقد كان احلزب قوياً يف طّرابلس وقوياً أيضاً يف صيدا‪ ،‬غري أنه يف بريوت مل يكن بهذه القوة‪.‬‬
‫لقد كان له وجود ولكنه غري قوي مجاهريياً‪.‬‬

‫‪ ..:‬هل كان الوضع دائماً على هذا الشكل‪ :‬له وجود بني الطالب يف اجلامعات ولكنه على الصعيد الشعيب كان‬ ‫سؤال‬
‫ضعيفاً؟!‪..‬‬

‫جواب ‪ ..:‬كان دائماً هكذا!!‪ ..‬مل أشعّر طوال حياتي يف بريوت أنه كان قوياً على الصعيد اجلماهري الشعبية‪ .‬هذا هو رأيي يف‬
‫وضع احلزب يف بريوت‪ .‬باإلضافة إىل ذلك أن البريوتيني هم قالئل الذين دخلوا إىل حزب البعث‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬يف بريوت‪ ،‬لقد‬
‫كان احلزب هو حزب اجلنوبيني‪ ،‬وقام على أكتاف أهل اجلنوب‪ ،‬بغض النظّر عن أي اعتبار أو تفسري طائفي أو مذهيب‪ .‬هذه‬
‫املسألة مل تكن مطّروحة إطالقاً عندنا داخل احلزب‪ ( .‬لقد كان حزب البعث عَلمانياً إىل أبعد احلدود‪ ،‬دون أن يأتيَ يف أدبياته‬
‫على ذكّر مصطلح العَلمانية‪ .)...‬هكذا بدأ احلزب نضاله منذ البداية‪.‬‬

‫وأنا أذكّر هنا‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬أنين انتسبت إىل حزب البعث العّربي االشرتاكي يف أيار ‪ .2591‬ويف تشّرين الثاني من السنة‬
‫نفسها كنت عضواً يف قيادة الفّرقة يف اجلامعة األمريكية‪ .‬ولكوني طالباً يف اجلامعة األمريكية ومثقفاً ووجهاً جديداً يف‬
‫شجِعتُ على أن أتّرشَح يف انتخابات قيادة فّرع بريوت‪ ،‬فكنت عضواً يف قيادة الفّرع بعد سنة ونصف السنة من‬
‫احلزب‪ُ ،‬‬
‫دخولي حزب البعث‪ .‬وفيما بعد‪ ،‬مل أرغب يف الرتشح لعضوية القيادة القطّرية يف أول مؤمتّر حضّرته وكان عام ‪ 2512‬قبل‬
‫االنفصال‪ .‬وقد أّحلَ عليّ‪ ،‬فيما أذكّر‪ ،‬فؤاد ذبيان وعبد الوهاب الشميطلي كي أتّرشح يف وجه جمموعة وخباصة جربان‬
‫جمدالني وعصام نعمان اللذين كانا يُعتربان أنهما "ناصّريان" داخل احلزب‪ .‬وأعضاء القيادة القطّرية هم أعضاء طبيعيون يف‬
‫املؤمتّر القومي‪ ،‬ويُنتخب أيضاً من القطّر أعضاءً نسبة إىل أعضاء احلزب‪ .‬وكنت أنا من ضمن أربعة أو مخسة أعضاء‬
‫انتخبنا حلضور املؤمتّر القومي‪ .‬وبهذه الصفة حضّرت ألول مّرة املؤمتّر القومي اخلامس( ‪ )2511‬يف ّمحص‪.‬‬

‫وكما قلت‪ ،‬فإن النضال الذي مارسته من خالل نشاطي احلزبي هو نضال قومي‪ .‬فكنت عضواً ملحقاً مبكتب العالقات‬
‫اخلارجية وكانت مَهميت االتصاالت اخلارجية ومساعدة األعضاء األصيلني‪ .‬وأذكّر يف هذه املناسبة أننا وزّعنا بياناً‪ ،‬وكنا‬
‫ثالثة أعضاء‪ :‬أنا ونقوال الفّرزلي وشخص ثالث مل أعد أذكّر امسه‪ ،‬ضد "مشّروع الليطاني" وانتصارنا للعمال وحقهم يف هذا‬
‫املشّروع‪ .‬ووُزِع هذا البيان ليالً يف مجيع القّرى دون أن يعلم أحد مَن هو الذي وزَع هذا البيان وبهذه السّرعة‪ .‬مّرة أخّرى‬
‫عندما اختلفنا مع عبد الناصّر‪ ،‬أصدر احلزب بياناً مل نتجّرّأ توزيعه يف النهار خوفاً من القبضايات الناصّريني‪ ،‬وُزِع البيان‬
‫يف الليل يف مجيع أحناء بريوت‪.‬‬

‫والشيء امللفت طوال هذه املّرحلة‪ ،‬قد كان حزب البعث‪ ،‬كما قلت سابقاً‪ ،‬قوياً يف صيدا وقوياً يف طّرابلس‪ ،‬وكما أذكّر متاماً أنه‬
‫يف شهّر شباط ‪ 2595‬نظّم البعثيون يف صيدا‪ ،‬يف إحدى قاعات السينما‪ ،‬احتفاالً حاشداً تأييداً ليسّرى سعيد ثابت ـ اليت‬
‫اعتقلها نظام حكم عبد الكّريم قاسم يف العّراق ـ فشاركتْ يف هذا املهّرجان "كل صيدا" واجلوار واجلنوب‪ .‬فكان من أروع‬
‫املهّرجانات اليت نظّمها البعثيون‪ ...‬ولكن ما لبث اخلالف الذي تطور إىل صّراع سياسي عنيف بني حزب البعث وعبد الناصّر‪،‬‬
‫أن انعكس سلباً على حزب البعث يف مجيع فّروعه‪.‬‬

‫من هنا‪ ،‬وبسبب مغاالة األجهزة الناصّرية‪ ،‬السياسية واإلعالمية‪ ،‬يف صّراعها ضد احلزب‪ ،‬حَقد قسم كبري من البعثيني‬
‫وانتقلوا من املوقف ضد عبد الناصّر ونظام حكمه‪ ،‬إىل املوقف ضد الوحدة‪ .‬يف حني أن األستاذ عفلق إذ اتَهم أحدٌ الوَحدة أو‬
‫َوجّه إهانة إىل الوَحدة‪ ،‬فكأنك تعمل على قتل ابنه‪.‬‬

‫‪ ..:‬وقبل أن نتحدث عن حيثيات حدوث االنفصال وانعكاس ذلك داخل حزب البعث‪ ،‬أريد أن حتدثين عن حضورك‬ ‫سؤال‬
‫املؤمتّر القطّري اللبناني لعام ‪ 2512‬واملؤمتّر القومي اخلامس لعام ‪ 2511‬ـ وأنت كنت قد شاركت يف املؤمتّرين على التوالي ـ‬
‫يف املؤمتّر القطّري فقد كانت اخلالفات شديدة احلدَة بني أغلبية أعضاء القيادة القطّرية وعلى رأسها عبد الوهاب الشميطلي‬
‫وفؤاد ذبيان وغسان شّرارة (عضو القيادة القومية) وحسيب عبد اجلواد وتقّريباً معظم كادرات احلزب يف بريوت وصيدا‪،‬‬
‫ويف املقابل تيار القيادة القومية وأمينها العام األستاذ ميشال عفلق وعلي جابّر وعبد اجمليد الّرافعي وجربان جمدالني‬
‫وسواهم‪ .‬وأنت‪ ،‬كنت يف أيِ صف أو اجتاه؟!‪..‬‬

‫جواب ‪ ..:‬أنا‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬كنت يف موقع ما يسميه الّرفاق "بني بني"‪ :‬فأنا أحرتم األستاذ ميشال عفلق وأحب أصحابي يف‬
‫الوقت نفسه‪ .‬فأكثّرية أصحابي واألستاذ ميشال كانوا دائماً يف املوقف القومي العّربي الوحدوي واملبدئي‪ ،‬وأنا تكويين‬
‫الشخصي وكوني جئت من بيت ليس له عالقة بالسياسة اللبنانية‪ ،‬فكان يعجبين بّراغماتية أكّرم احلوراني وعَمالنيته (أي‬
‫سياسته العملية التجّريبية)‪ ،‬فكنت دائماً كالضائع بني هذا وذاك‪ .‬ولكنين يف النهاية عند احلشّرة أقف مع األستاذ عفلق‬
‫وأصوّت جلانبه ومع مجاعته‪ .‬فأنا بطبيعيت أكن لألستاذ كل حمبة واحرتام وكنت يف الوقت نفسه أرى اإلجيابيات ألكّرم‬
‫احلوراني‪ .‬وكنت أمتنى لو أن هذه اإلجيابيات تتزاوج بعضها البعض مع الصالبة املبدئية والفكّرية لألستاذ ميشال عفلق‪،‬‬
‫والسياسة العمالنية لألستاذ أكّرم‪ .‬ولكن ذلك غري ممكن‪....‬‬

‫فأنا أذكّر بعض الشيء عن املؤمتّر القطّري اللبناني الذي عُقد بُعَيْد االنفصال بوقت قليل‪ .‬ففي حينه طغى على هذا املؤمتّر‬
‫القطّري روح الالوحدة‪ ،‬وأغلبية األعضاء الذين شاركوا فيه هم من مجاعة القيادة القطّرية وأمني سّر القطّر عبدالوهاب‬
‫الشميطلي ورفاقه فؤاد ذبيان‪ ،‬حسيب عبد اجلواد‪ ،‬طالل شّرارة ‪ ،‬غالب ياغي‪ ،‬غسان شّرارة‪ ،‬وهم يف احلقيقة مناضلون‬
‫بعثيون و"عمليون"‪.‬‬

‫وهنا أذكّر أنه عندما وقع االنفصال (أيلول ‪ ،)2512‬خّرج عبد اجمليد الّرافعي على رأس مظاهّرة باسم حزب البعث ضد‬
‫االنفصال‪ .‬وعند توقيع أكّرم احلوراني وصالح البيطار على وثيقة االنفصال‪ ،‬استنكّر عبد اجمليد الّرافعي هذا العمل وأصدر‬
‫بياناً بامسه معلناً رفضه وإدانته هلذا العمل وذهب حينها إىل سويسّرا‪ .‬ففي هذا املؤمتّر‪ ،‬طُلب منه أن يعتذر علناً وينشّر ذلك‬
‫يف الصحف‪ ،‬وإالَ يفصل من احلزب‪ .‬عندئذ التزم عبد اجمليد الّرافعي بقّرار احلزب يف هذا املؤمتّر وقام مبا طُلب منه أن يفعل‪.‬‬
‫وعبد اجمليد يف هذه الناحية يتمتع بأخالقية عالية جداً‪.‬‬

‫‪ ..:‬يف هذا السياق‪ ،‬أريد هنا أن أطّرح سؤاالً أو باألحّرى سؤالني‪ :‬بداية‪ ،‬كيف تفسّّر‪ ،‬مع البُعد الزمين‪ ،‬األسباب‬ ‫سؤال‬
‫احلقيقية اليت دفعت مناضلني يف حزب البعث‪ ،‬وحدويني عّروبيني وعلى رأسهم عبدالوهاب الشميطلي ـ وهو يف الواقع‪ ،‬مفكّر‬
‫هذه احلّركة األساسي ـ وحمّرّكها جمموعة يف مقدمتها غسان شّرارة‪ ،‬غالب ياغي‪ ،‬طالل شّرارة‪ ،‬فؤاد ذبيان وغريهم وحسيب‬
‫عبداجلواد وهو منفّذ‪ ،‬كيف ميكن تفسري موقف هؤالء املناضلني البعثيني وعلى رأسهم عبد الوهاب الشميطلي وغسان‬
‫شّرارة‪ ،‬اللذان كانا يُعتربان من تالميذ ميشال عفلق "املدلَلني" ؟!‪..‬‬

‫‪ ..:‬األستاذ ميشال عفلق هو قائد احلزب وهو مؤسس احلزب‪ ،‬ولكنه ميتاز أيضاً على أنه مفكّر احلزب وفيلسوف‬ ‫جواب‬
‫احلزب وعشيق احلزب يف اآلن الواحد معاً‪ .‬خياف على احلزب كما خياف األب على ولده‪ .‬فكان فخوراً بهؤالء الشباب يف‬
‫احلزب وينتظّر منهم أن يفيدوا احلزب من ضمن تفكري احلزب الذي رمسه لنفسه والذي هو رمسه كما يّريد‪ .‬فكان حيصل بينه‬
‫وبينهم نقاشات‪ ،‬فكانوا يبالغون يف نقاشاتهم فيتخلّلها توتُّرات‪ ،‬فيتحاملون أحياناً كثرية عليه‪ .‬يف هذه احلالة‪ ،‬مل حيسن‬
‫هو‪ ،‬األستاذ عفلق‪ ،‬استيعابهم ـ وهذا ما كان حيصل كثرياً داخل احلزب ـ وكل األعضاء املناضلني الذين خسّرهم البعث‪،‬‬
‫فبسبب عدم القدرة على االستيعاب‪ .‬وهم من جهتهم‪ ،‬كانوا يتجّرأون دائماً أكثّر فأكثّر وفوق ما هو مقبول‪ ،‬وزيادة‪ .‬وهذه‬
‫املعادلة‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬هي املّرة األوىل اليت أقوهلا وأنا مل أكتبها يف كتابي ومل أدخل يف العمق فيها‪.‬‬

‫كل املشكلة أنهم هم كانوا قد جتّرأوا كثرياً ومتادوا بكثري من املبالغة‪ .‬واألستاذ عفلق‪ ،‬كان يقول يف نقاشاته أنّ حزب البعث‬
‫مبا أنه وحدوي‪ ،‬فمهما أخطأ عبدالناصّر‪ ،‬فلم يكن من اجلائّر يف أي شكل من األشكال أن نوافق على االنفصال ونوقّع على‬
‫وثيقة االنفصال‪ ،‬أو نهاجم نظام الوحدة أو عبدالناصّر‪ ،‬أو مناشي سياسة االنفصاليني أو نسري يف صفهم‪ .‬البعثيون هم‬
‫وحدويون‪ ،‬واحلزب قام على أساس الوحدة وضحَى بوجوده من أجل الوحدة‪ .‬وكان هناك رفاق بعثيون على شاكلة غسان‬
‫شّرارة وعبدالوهاب الشميطلي وغريهما‪ ،‬زادوا كثرياً يف قساوتهم على البعثيني الذين هم من مجاعة األستاذ عفلق‪ ،‬فهنا‬
‫دخلت األمور الذاتية والشخصية لتلعب دورها‪ ،‬وتبدأ صغرية‪ ،‬ثم تنمو وتكرب وتسدّ عليك كل املنافذ‪.‬‬

‫‪ ...:‬هنا أيضاً يطّرح سؤال‪ :‬هل هناك تأثريات خارجية يسارية؟!‪ ..‬مثالً‪ ،‬هل تأثريات احلزب الشيوعي اللبناني‬ ‫سؤال‬
‫واألجواء السياسية السجالية املعادية لعبدالناصّر ولنظامه يف اجلمهورية العّربية املتحدة‪ ،‬انعكست داخل حزب البعث يف‬
‫لبنان‪ ،‬وخباصة لدى كثري من أعضاء القيادة القطّرية؟!‪ ...‬إننا نعلم أن موقف احلزب الشيوعي اللبناني من خالل صحفه‬
‫وحّركته الدعائية‪ ،‬كان موقفاً حاداً وقاسياً وعنيفاً ضد نظام حكم عبدالناصّر وشخص عبدالناصّر بالذات‪ ،‬فسؤالي املقلق‬
‫أطّرحه بداية على نفسي قبل أن أطّرحه على اآلخّرين‪ :‬هل كتابات احلزب الشيوعي يف تلك الفرتة وخباصة افتتاحيات جّريدة‬
‫احلزب "النداء"‪ :‬ضد نظام حكم الوحدة وضد عبدالناصّر واتهامه بالعمالة للمخابّرات األمريكية‪ ،‬ودكتاتورية عبدالناصّر كان‬
‫هلا صدى يف قليل أو كثري‪ ،‬أو تأثري يف أجواء حزب البعث خصوصاً يف املّركز بريوت؟!‪...‬‬

‫جواب ‪ ...:‬يف احلقيقة‪ ،‬فأنا ليس لدي معلومات حول هذا املوضوع‪ ،‬وليس لدي مستندات وال أستطيع أن أقول أشياء كثرية‬
‫حول هذا املوضوع طوال تاريخ وجودي يف حزب البعث والذي هو قصري من حيث التنظيم‪ ،‬وإنْ استمّريّت دائماً بالقّرب منه‬
‫ومن حوله‪ ،‬وبقيت فيه ولكن على طّريقيت اخلاصة‪ ،‬بل أستطيع أن أقول إنه ال أحداً مارس عليه تأثرياً من خارجه‪ ،‬أقصد‬
‫تأثرياً أجنبياً أبداً‪ .‬وال يستطيع أحد أن يسجّل على بعثي أنه مشى مع األجنيب‪ ،‬أبداً‪ :‬البعثي لديه مناعة قومية رهيبة‪.‬‬

‫هذا من جهة ومن جهة أخّرى‪ ،‬فإن األفكار املاركسية وعدم الكتابات الكثرية (الفكّرية والفلسفية) داخل احلزب‪ ،‬واقتصار‬
‫بيانات احلزب على القضايا العامة دون الدخول يف التفاصيل واجلزئيات‪ ،‬جعل كثرياً من الشباب البعثيني ينزع حنو‬
‫املاركسية‪ .‬رمبا يكون هؤالء الشباب والكادرات احلزبية قد تأثّروا باألفكار املاركسية وباألفكار الشيوعية دون أن يدروا‪ .‬رمبا‪،‬‬
‫إمنا مل يكن هناك شيء مباشّر (أو طّروحات مباشّرة)‪ .‬ولكن‪ ،‬أي واحد‪ ،‬يف دراسته‪ ،‬جيد أن الفكّر االشرتاكي املاركسي فكّر‬
‫ٍ كان أن يتجاهله أو أن يقفز فوقه‪ .‬فلّرمبا يكون من هذا القبيل‪ ،‬طبعاً وال شك يف أن ما جّرى يف عهد الوحدة‬
‫غينّ‪ ،‬فال ميكن ألي‬
‫وانتهاكات احلّريات العامة واخلاصة وحقوق اإلنسان‪ ،‬فسحت اجملال ألن يكون االنفصال سهالً‪ .‬فهناك كثريون كانوا قد‬
‫رحَبوا باالنفصال‪ ،‬وهذا ال جيوز‪ .‬ولكن االنفصال دغدغ أفكار الكثريين اعتقاداً منهم أنهم سوف يعودون إىل احلّرية‬
‫احلزبية‪...‬‬

‫سؤال ‪( ..:‬مقاطعاً) هل هناك بعثيون رحَبوا باالنفصال؟‬

‫جواب ‪ ..:‬طبعاً‪ :‬أكّرم احلوراني وصالح البيطار وقّعا وثيقة االنفصال‪..‬‬

‫سؤال ‪( ..:‬مقاطعاً) صالح البيطار‪ ،‬كانت منه نزوة‪ ،‬مل يلبث أن تّراجع‪ ...‬هل تعتقد أن كثرياً من أعضاء القيادة القطّرية يف‬
‫لبنان‪ ،‬كانوا قد تأثّروا يف أيِ حال مبواقف أكّرم احلوراني؟‪.‬‬

‫جواب ‪ ..:‬الشك يف ذلك‪ ،‬لقد كانت مجاعة أكّرم احلوراني حتيط بهم ومتارس تأثرياً سياسياً فيهم‪ .‬مثالً‪ ،‬غالب ياغي وهو على‬
‫عالقة طيِبة بأكّرم احلوراني‪ ،‬وشخصيته ومزاجيَته وتكوينه النفسي يساعده كثرياً على أن يكون يف صحبة مجاعة أكّرم‪.‬‬
‫طبعاً‪ ،‬ومن الناحية األخّرى‪ ،‬استعجلت القيادة القومية بعد مؤمتّر ّمحص (‪ )2511‬يف اختاذ القّرار بفصلهم‪ ،‬بعد أن وجدوا‬
‫أنه مل يبق أيَ جمال للتزاوج‪ ،‬فال بد من أن حيصل الطالق معهم‪.‬‬

‫سؤال ‪ ..:‬ما هي الكتابات اليت أثَّرت فيك أكثّر من غريها‪ ،‬خباصة كتابات األستاذ ميشال عفلق؟!‪..‬‬
‫جواب ‪" ..:‬ذكّرى الّرسول العّربي"‪ ،‬هذا الكّراس الصغري (الذي هو عبارة عن حماضّرة لألستاذ عفلق ألقاها على مدرَج جامعة‬
‫دمشق عام ‪ )2511‬وكتاب‪" :‬يف سبيل البعث"‪( ،‬وهو جمموعة مقاالت وأحاديث يف الفكّر القومي لألستاذ عفلق أيضاً)‪ .‬وكتاب‬
‫"نقطة البداية"‪ .‬ولكن األهم من كل ذلك هو أنين كنت دائماً أجتمع به‪ ،‬عندما كنا نذهب إىل بيته وجنلس معه وهو جدُ لطيف‪،‬‬
‫ونُصغي إليه‪ .‬كانت متعةً هذه اللقاءات‪ ،‬كانت مدرسة بأمّها وأبيها‪.‬‬

‫‪ ..:‬بعد اجلامعة األمريكية يف بريوت‪ ،‬يّركزون اآلن ومنذ سنوات مضت‪ ،‬املثقفون الناصّريون والقوميون العّرب‬ ‫سؤال‬
‫واملستقلون‪ ،‬يّركِزون أكثّر ما يّركِزون عليه هو دور قسطنطني زريق يف الفكّر القومي الليربالي‪ .‬وعزيز العظمة أصدر حديثاً‬
‫كتاباً عنه‪ ،‬وغريه كتب ويكتب يف اآلونة األخرية مقاالت وأحباث عديدة يشريون فيها إىل دوره يف اجلامعة األمريكية‪ ،‬دوره‬
‫القومي والسياسي والتشديد على اعتباره األب الّروحي حلّركة القوميني العّرب‪ .‬فمن خالل جتّربتك الذاتية ووجودك يف‬
‫اجلامعة طوال سنني اخلمسينات من القّرن العشّرين على وجه التقّريب‪ ،‬ومعّرفتك بأجواء اجلامعة األمريكية واحلّركات‬
‫القومية العّربية آنذاك وخباصة جملة "العّروة الوثقى" وتأسيس "النادي الثقايف العّربي"‪ ....‬أودُ لو تقدِم لي صورة حول هذا‬
‫اجلو واألجواء السائدة آنذاك‪...‬‬

‫جواب ‪ ...:‬الشك يف أن "العّروة الوثقى" كانت أهم منتدى سياسي ثقايف خدم العّروبة يف اجلامعة األمريكية يف بريوت‪ .‬وكان‬
‫كل املنتسبني إىل هذا النادي هم القوميون العّرب‪ ،‬ال شك يف ذلك‪ .‬وقسطنطني زريق هو أحد األساتذة الكبار والّروّاد يف الفكّر‬
‫القومي العّربي‪ .‬ولكن هؤالء مجيعهم مل يأتوا مبا أتى به حزب البعث‪ ،‬ذلك أنه أول مَن ربط الفكّر القومي العّربي باملفهوم‬
‫االجتماعي واالقتصادي واالشرتاكي هو حزب البعث العّربي االشرتاكي‪ .‬أقول ذلك ال ألننا كنا بعثيني‪ ،‬وإمنا ضمريياً‬
‫وتارخيياً هو (أي البعث) الذي أعطى البُعد العملي االمجاعي هلذا الفكّر القومي‪.‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬ال غضاضة إطالقاً اإلشارة إىل دَوْر قسطنطني زريق الّرائد يف الفكّر القومي‪ .‬ولكن هو شيء وحزب البعث يف هذا‬
‫املفهوم القومي‪ ،‬شيء آخّر متاماً‪ .‬هو كمُفكِّر قومي عّربي شيء‪ ،‬وفكّر ميشال عفلق القومي العّربي شيء آخّر‪.‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬هل كان قسطنطني زريق‪ ،‬له تأثري يف تفكريكم القومي العّربي؟!‪...‬‬

‫جواب ‪( ...:‬مقاطعاً)‪ ،‬من ناحييت‪ ،‬مل يؤثّر قط‪...‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬يبدو أنه طوال اخلمسينات من القّرن العشّرين مل يُنشّر شيءٌ للدكتور قسطنطني زريق يف الفكّر القومي سوى رمبا‬
‫حلصُّري هي املنتشّرة واملقّروءة آنذاك بكثّرة‪ .‬وما أريد‬
‫كتاب صغري بعد عام ‪" :2511‬معنى النكبة"‪ .‬باملقابل كانت كُتُب ساطع ا ُ‬
‫أن أستوضحه منك هو أن ما يبدو لي منذ عقدَيْن من الزمن تضخيمٌ لدوره‪ .‬ما قلته حول دوره الّريادي يف اجلامعة األمريكية‪،‬‬
‫وهذا شيء معّروف ومعرتف به وخباصة أنه كان يُعترب "األب الّروحي" حلّركة القوميني العّرب‪ ،‬ولكنين أنا أحتدث عن كتاباته‬
‫ومؤلفاته القومية اليت مل تكن منشورة أو معّروفة يف املّرحلة اليت تتحدث عنها‪ ،‬وإمنا نُشّرت فيما بعد‪" :‬حنن والتاريخ"‪" ،‬حنن‬
‫واملستقبل"‪" ،‬يف معّركة احلضارة"‪ ،‬هذه الكتب يف التاريخ واحلضارة‪ ،‬كانت قد نُشّرت بعد ذلك بكثري‪ ،‬يف الستينات‬
‫والسبعينات من القّرن املاضي‪ .‬وما أودّ أن توضِحه لي هو التالي‪ :‬هل كان له‪ ،‬وجود قسطنطني زريق األيديولوجي القومي‬
‫العّربي‪ ،‬تأثري وتأثري كتاباته يف الفكّر القومي يف مّرحلة ما بعد اجلامعة األمريكية وما هي؟!‪...‬‬

‫جواب ‪ ...:‬يف احلقيقة والواقع‪ ،‬لقد كان وجوده بالنسبة إلينا إمنا هي هيبته‪ .‬أنا كنت أنظّر إىل هيبته كّرجل عالِم وأستاذ‬
‫التاريخ ورئيس جامعة‪ ،‬وأساؤوا إليه أنصار الشيشكلي يف مطلع اخلمسينات (‪ )2591‬يف اجلامعة السورية يف دمشق‪ .‬كنا‬
‫حنرتمه و ُنجِلَه‪ .‬ولكن أنا ال أعترب أنين تأثّرت به‪ ،‬ال هو وال بساطع احلُصّري‪ .‬هذا قصورٌ مين أنين مل أقّرأ هلما شيئاً‪ .‬ذلك أنين‬
‫ال أضع نفسي يف عداد مَن يسمَوْن "األيديولوجيني" (‪( )idéalogues‬املفكّرين العقائديني) أو املفكّرين يف حزب البعث‪ .‬فأنا‬
‫أهتم بالفكّر السياسي العملي‪ ،‬ال بالفكّر الفلسفي أو العقائدي الذي ليس لي اطالع عميق عليه‪.‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬لقد كنت من املقّربني إىل األستاذ ميشال عفلق ومعّرفتك به معّرفة جيدة طويلة وعميقة‪ ،‬حدثين عن شخصيته وفكّره‬
‫وأحاديثه واجلوانب اليت أثَّرت فيكم‪ ،‬يف جيلكم وجذبتكم إليه‪...‬‬

‫‪ ...:‬أوالً األستاذ ميشال عفلق من أذكى الّرجال الذين عّرفتهم يف حياتي‪ .‬فأنا مل ألتقِ أحداً بذكائه وال قابلت أحداً‬ ‫جواب‬
‫بدماثة خلقه وصفاء ذهنه وأصالة عّروبته‪ .‬فهو "عّربيٌ " حتى السذاجة‪ .‬ويؤمن بالوحدة العّربية لدرجة أنه ضحَى باحلزب‬
‫وحلّه من أجل قيام الوَحدة‪ ،‬مع أن ذلك مل يكن معقوالً أو مقبوالً‪ .‬فكّره نيِّر (ذو بعد مستقبلي)‪.‬‬

‫ولكن األستاذ ميشال عفلق من ناحية أخّرى‪ ،‬عنده خطأان‪ :‬أوالً إنه حسّاس لدرجة أنه من الصعب عليه أن يستوعب املناوئني‬
‫اآلخّرين له‪ ،‬مبعنى أنه إذا زَعِل منك أحياناً ـ مع أنه طيب القلب ويصفح سّريعاً ـ ولكنه إذا غَضِب‪ ،‬يكون قاسياً‪ .‬مثالً‪ ،‬الشباب‬
‫اللبنانيون ـ أعضاء القيادة القطّرية يف لبنان ـ لو أنه استوعبهم‪ ،‬ولو مل يدخل بينهما فّريق ثالث أزكى اخلالف‪ ،‬مل خنسّرهم‬
‫وال هم خسّروا أنفسهم‪ ،‬وال كان قد خسّرهم احلزب‪.‬‬

‫ثمَ ومن جهة أخّرى‪ ،‬فإن األستاذ عفلق كسول بعض الشيء‪ .‬فكان يف اإلمكان أن يُنتج أكثّر مما أنتج‪ .‬أما يف ما خيتص‬
‫بالوطنية والقومية واألخالق والتزهُد‪ ،‬ال أحد جياريه فيها‪.‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬هل كان يقّرأ كثرياً ؟‬

‫جواب ‪ ...:‬نعم! بكثّرة‪ ،‬لقد استوعب يف زمانه الفكّر الفّرنسي واالشرتاكي العاملي‪ .‬وهو فوق ذلك أديب المع‪ ،‬وكاتب قصة‪...‬‬

‫‪( ...:‬مقاطعاً)‪ ..‬كان ذلك يف البداية‪ ،‬أثناء الدراسة يف فّرنسا والعمل يف جملة "الطليعة" يف الثالثينات من القّرن‬ ‫سؤال‬
‫العشّرين‪ .‬ولكن فيما بعد‪ ،‬فقد قيل لي وأكدوا أنه يف الفرتة األخرية كان ال يقّرأ‪...‬‬

‫جواب ‪( ...:‬مقاطعاً)‪ ،‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال !! إنه كسول ال يكتب‪ ،‬ولكنه غري كسول يف ما يتعلق بالقّراءة‪ ،‬فقد كان كثري االطالع ويقّرأ يف‬
‫اللغة الفّرنسية والعّربية‪.‬‬

‫‪ ...:‬هذا من ناحية ومن الناحية األخّرى‪ ،‬ما هي بّرأيك‪ ،‬سلبيات ميشال عفلق السياسية‪ ،‬أي من حيث املواقف‬ ‫سؤال‬
‫السياسية؟‪ ...‬ذلك أنه‪ ،‬كما نعلم‪ ،‬هو األمني العام حلزب البعث‪ ،‬فإذا كان عليه أن يكون مفكّر البعث وفيلسوفه‪ ،‬جيب عليه أيضاً‬
‫أن يكون سياسياً ديناميكياً متحّركاً‪...‬‬

‫جواب ‪ ...:‬صحيح‪ ،‬وكما قلت لك‪ ،‬فال يتمتع األستاذ ميشال عفلق حبّركة ديناميكية‪ :‬فهو كسول وغري ديناميكي‪ .‬ولست أعّرف‬
‫إذا كان تكوينه الشخصي يساعده على أن يكون "عمالنياً" (‪ .) actif‬وهناك أناس ال يستطيعون أن يتولوا القضايا‬
‫العمالنية‪....‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬هل تّراه يف موقعه كأمني عام حلّركة سياسية قومية‪...‬‬

‫‪(...:‬مقاطعاً) طبعاً‪ ،‬طبعاً!! ال أحد يف حزب البعث يستطيع أن حيل حمله (هذه ناحية أثبتت التجّربة التارخيية‬ ‫جواب‬
‫الطويلة صحتها‪ ،‬ملاذا؟ هذا هو السؤال!!)‪ .‬البعثيون نوعان‪ :‬نوع يؤلِه اإلنسان ـ الشخص‪ ،‬وال يّرى له غلطة‪ ،‬ونوع آخّر يسيئ‬
‫لإلنسان ـ الشخص وال يّرى له حسنة‪ .‬األستاذ ميشال عفلق هو إنسان‪ ،‬له وعليه‪ .‬وإمنا حسناته وإجيابياته مليون مّرة أكثّر‬
‫من سلبياته‪ .‬ومل يوجد يف حزب البعث مَن ميكنه أن يكون األمني العام غريه‪ .‬والدليل على ذلك كان قد جاء الدكتور منيف‬
‫الّرزاز إىل األمانة العامة‪ ،‬فارتكب أخطاء كثرية‪.‬‬

‫وخطأ األستاذ ميشال عفلق أنه كان جيب عليه أن يكون أكثّر صرباً ويستوعب البعثيني اللبنانيني أكثّر‪ ...‬يف احلقيقة‪ ،‬وكما‬
‫كان يُقال عنه‪" ،‬إن نَفَسه ضيِق"‪ :‬ضيَق النَفَس‪ ،‬وحيّرد‪ ،‬ويسافّر‪...‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬هل هذه تّراها صفاتٍ ألمني عام حلزب نضالي يف خارج السلطة أو يف داخلها؟!‪..‬‬

‫‪ ...:‬أنا من الذين يقولون إن هذه الناحية (الصفة) ال جيوز دائماً أو باألحّرى هذا املوقف أن حيصل‪ .‬ولكن األستاذ‬ ‫جواب‬
‫عفلق إنسان‪ .‬واإلنسان عنده قدرة حمدودة على التحمُل‪ ،‬ذلك أن املعارضني له كانوا يسيئون إليه ويقسون عليه كثرياً‬
‫ويتجاسّرون ويتجاوزون حدودهم ويعتربون أنفسهم أهم منه‪.‬‬

‫وأنا أقول دائماً إن هؤالء املناضلني األحّرار األخيار الشّرفاء‪ :‬غسان شّرارة‪ ،‬وعبد الوهاب الشميطلي‪ ،‬وفؤاد ذبيان‪ ،‬وغالب‬
‫ياغي‪ ،‬وطالل شّرارة ورفاقهم‪ ،‬فكل واحد منهم يساوي " قبيلة ومملكة"‪ .‬ولكنهم هم أيضاً غلَطوا كثرياً‪ ،‬كذلك هم استعجلوا‪...‬‬
‫ومن اجلهة الثانية خالد يشّرطي ومَن معه أساؤوا هم أيضاً كثرياً وزرعوا الشقاق بينهم وبني األستاذ ميشال‪ ،‬مما أثاروهم‬
‫واستفزوهم‪.‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬هنا ويف هذا السياق‪ ،‬لو حاولنا أن نقوم بنوع من املقارنة ـ ال أريد أن أقوم باملقارنة مع قيادات سياسية حزبية‬
‫نضالية غّربية ـ وإمنا مع قيادات حزبية من بالدنا العّربية‪ ،‬وعلى سبيل املثال فقط‪ :‬أنطون سعادة أو خالد بكداش أو غريهما‪،‬‬
‫القيادات احلزبية ذات الشخصية القومية وصاحبة السلطة العليا يف املؤسسة احلزبية‪ ،‬ال يسمحون‪ ،‬حبكم شخصيتهم‬
‫ونشاطهم وديناميكيتهم‪ ،‬ألي عضو مهما كان أن يتمادى عليهم أو أن يتجّرأ إلهانتهم‪ .‬لقد قلت لي فيما سبق إن هناك قيادات‬
‫بعثية حزبية كانوا يتمادون على األمني العام‪ ،‬مَن كان يتمادى من أعضاء حزبه مثالً على أنطون سعادة أو خالد بكداش؟ هل‬
‫أفهم منك إذن يف هذه احلالة‪ ،‬وحبسب معّرفتك‪ ،‬أن شخصية األستاذ ميشال عفلق‪ ،‬مل تكن شخصية قوية؟!‪...‬‬

‫جواب ‪ ...:‬ال‪،‬ال‪ ،‬شخصيته قوية جداً‪ .‬ولكنهم كانوا يتمادون عليه ألنهم كانوا يّرَوْن أنه كان حيبّهم ويقدِرهم‪ .‬وهناك ناحية‬
‫كثريون رمبا ال يعّرفونها وهي أن األستاذ ميشال عفلق‪ ،‬إذا "عَثَّر" على مناضل (أو على مثقف حقيقي)‪ ،‬يشعّر وكأنه عَثَّر على‬
‫كنز‪ .‬هلذا كان دائماً يشجعهم على الرتشيح إىل املناصب القيادية العليا (وخباصة يف لبنان‪ ،‬واألمثلة على ذلك كثرية جداً‬
‫أبّرزها جربان جمدالني ورفاقه الذين انتسبوا إىل احلزب وبسّرعة فائقة أصبحوا من القيادات العليا)‪ .‬ولكنهم يف األغلب‬
‫وبعد مدة يفتكّرون ويعتربون أنفسهم أنهم أصبحوا مثله‪ ،‬إذا مل يكن أهم منه (فكّرياً وديناميكياً ونشاطاً)‪ .‬وال يأخذون بعني‬
‫االعتبار أيضاً وخباصة عامل السن والتجّربة السياسية واحلّربية‪ ،‬وهناك البُعد والقّرب (من األحداث وتطورها)‪ .‬باإلضافة‬
‫إىل ذلك كله‪ ،‬فهو‪ ،‬ميشال عفلق‪ ،‬مؤسس حزب البعث‪.‬‬

‫ماذا يعين‪ :‬يتمادون عليه؟!‪ ..‬ال يشتمونه‪ ،‬ال‪ ،‬وإمنا كانوا يّرفعون أصواتهم أمامه ويتجاسّرون على فكّرة الوَحدة ويتمسكون‬
‫مبواقف سياسية تبدو له وبالنسبة إىل مبادئ احلزب‪ ،‬غّريبة‪.‬‬

‫سؤال ‪ ...:‬وقد قيل يف هذا اجلانب من شخصيته أنه كان كثري اخلوف لدرجة مَّرَضية!!‬

‫جواب ‪ ...:‬أنا ال أعّرف فيه هذه الناحية‪ .‬فأنا مل أسجن معه ومل أحلظ منه ذلك‪ ،‬عندما كنت أجلس معه مطوَالً‪ .‬ولكنين أعتقد أن‬
‫األستاذ ميشال عفلق صلب املوقف‪ .‬لقد حارب كل البعثيني الذين كانوا يف السلطة‪ ،‬وهو كان يستند إىل ماضيه وإىل تارخيه‬
‫كونه هو مؤسس البعث‪ .‬ومل يكن خياف شيئاً‪...‬‬
‫سؤال ‪ ...:‬أودّ يف ختام هذه املقابلة أن تقدم لي بطاقة شخصية ‪.c.v.‬‬

‫‪ ...:‬لقد ختّرجت من ثانوية طّرابلس (املدرسة األمريكية) يف حزيّران عام ‪2591‬وانتسبت إىل اجلامعة األمريكية يف‬ ‫جواب‬
‫بريوت يف العام الدراسي ‪ 2591 -2591‬والعام الدراسي ‪ .2591 -2591‬ومل أجنح يف علم األحياء (‪ .)Biologie‬عندئذ‬
‫مُنعت من متابعة الدراسة‪ ،‬فكان جيب عليّ أن أتغيب مدة سنتني حتى يُسمح لي أن انتسب إىل اجلامعة من جديد‪ .‬فذهبت إىل‬
‫الكلية األمريكية يف حلب وختّرجت منها‪ .‬ومن ثمّ بعد سنتني دراسيتني ختّرجت حاصالً على شهادة البكالوريوس يف العلوم‬
‫السياسية عام ‪ 2591‬من اجلامعة األمريكية يف بريوت‪ .‬وحصلت عام ‪ 2512‬على ماجستري يف العلوم السياسية من نفس‬
‫اجلامعة‪.‬‬

‫ويف الوقت نفسه انتسبت إىل اجلامعة اللبنانية وختّرجت منها حامالً ليسانس يف احلقوق‪ .‬ومل أنشط حزبياً ضمن اجلامعة‬
‫اللبنانية لعدم دوامي يف حضور احملاضّرات‪ ،‬ذلك أنين كنت عضواً يف قيادة فّرع بريوت وكان نشاطي حمصوراً يف بريوت‬
‫وضواحيها‪ .‬ثم بعد ذلك‪ ،‬صدر تعييين سفرياً للعّراق عام ‪ 2511‬حتى عام ‪ .2511‬بعدها‪ ،‬حاولت أن أكون رجل أعمال‪ ،‬وكان‬
‫عملي ما بني بغداد وباريس‪ ،‬ولكنين فشلت‪.‬‬

‫مصطفى الدندشلي ‪ ...:‬كيف ميكن أن ينجح رجل سياسي مناضل وحزبي بعد أن حياول أن يكون رجل أعمال‪ ،‬فهذا صعب‬
‫على كل مناضل حقيقي‪ .....‬فشكّري لك وإىل أن ألقاك يف مقابلة قادمة‪ ،‬أمتنى لك أن تكون صحتك جيدة‪...‬‬

‫* * *‬

‫هنا النص احلّريف الكامل للمقابلة اليت أجّراها الدكتور مصطفى دندشلي مع السفري وأحد كادرات البعث القيادية يف بريوت‬
‫ولبنان‪ ،‬األستاذ جهاد كّرم مساء اإلربعاء الواقع فيه ‪ 1‬تشّرين الثاني ‪ .1121‬وقد حافظنا كلياً على اجلو احليوي التلقائي‬
‫الذي أُجّريت فيه هذه املقابلة وعلى السياق اللغوي وحتى األلفاظ واللغة الفصحى احملليّة‪ .‬وحنن مل نتدخل يف الصياغة إالّ‬
‫لتوضيح ما قد يكون حيتاج إىل شيء من التوضيح وضبط األسلوب اللغوي وإعادة الصياغة عند الضّرورة مع احملافظة‬
‫الكلية على املعنى املقصود‪ .‬وقد قّرأ األستاذ جهاد كّرم النص وأجّرى عليه ما يّراه من تنقيح وتصحيح وتعديل وتغيري إذا‬
‫لزم األمّر‪ ،‬ووافق بعد ذلك على السماح لنا بنشّره كلياً أو جزئياً كما نّراه مناسباً‪ .‬فاقتضَ منا التوضيح‪...‬‬

You might also like