Professional Documents
Culture Documents
تأصيل الاسرار الكنيسة
تأصيل الاسرار الكنيسة
1 .................. ................................ ................................ ................................ ................................ تأثري الالَّهوت الغريب على الهوت األسرار الكنسيَّة يف الشَّرق املسيحي
1 ( )1مفهوم السِّر الكنسي
.......................... ................................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................
4 ............................................. ................................ ................................ ................................ ( )1تكميل السِّر الكنسي وعالقته بشخص الكاهن الذي خيدم السِّر
6 ( )3عدد األسرار الكنسيَّة
........................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................ ................................
أي أنَّ الكنيسة هي اليت تُعلن سرَّ الثَّالوث ،وسرَّ املسيح .وخارجاً عنها ،هي دراسات الهوتيَّة أكادمييَّة ،هتب شةهادات
تكلمَتْ عن األسرار ،جتعل منها واجبات دينيَّة ،تُتمَّم كعُرف كنسي ،حة وإن الدُّكتوراه ،ولكنَّها ال هتب احلياة ،ألنَّها إن َّ
زيََّنتها بربيق ألفاظ حمبوكة املعىن.
فيشرح القدِّيس بولس الرَّسول كيف أنَّ الكنيسة هي واسطة التَّعرُّف على سرِّ الثَّالوث ،فيقول ...« :يل أنا أصغر مجيع
القدِّيسني أُعطيَت هذه النِّعمة ،أن أبشِّر بني األُمم بغىن املسيح الذي ال يُستقصى ،وأُنريَ اجلميع يف ما هو شركة السِّرِّ املكتوم
منذ الدُّهور يف اهلل خالق اجلميع بيسوعَ املسيح ،لكي يُعرَّف اآلن عند الرُّ َؤساء والسَّالطني يف السَّماويَّات بواسطة الكنيسةة
حبكمة اهلل املتنوِّعة حسب قصد الدُّهور الذي صََنعهُ يف املسيح يسوع ربِّنا ( »...أفسس .)11-8:3
-1أفسس 13:5
-1كولوسي 14:1
1 -3كورنثوس 13:8
1 -4تيموثاوس 16:3
تأصيل األسرار الكنسيَّة 1
• إذاً ،إنْ كان سرُّ الكنيسة هو سرُّ املسيح نفسه -ألنَّ الكنيسة هي جسد املسيح كقول الرَّسول -وإن كنَّا ال نسةتطيع أن
نستقصي ”سرَّ املسيح“ ونستنفذ كلَّ أعماقه ،فهكذا أيضاً سرّ الكنيسة .ومع ذلك فعندما يستأمن اهلل قدِّيسيه وأنبيةاءه ليعةرِّفهم
ويُعلن هلم أسراره ،يظلّ هذا اإلعالن إعالناً قلبيًّا داخليًّا حيسُّه القلب ،وبالكاد يستوعبه العقل استيعاباً جزئيًّا غري كُِّلي.
• لقد ظلَّت أسرار الكنيسة وأسرار الالَّهوت يف حياة الكنيسة األوىل ملتحمة بليتورجيَّتها ،وخمتَربة يف الكنيسةة حبيةاة
عابدة ملؤها اإلميان والتَّقوى ،يتذوَّقها اإلنسان شاهداً ما أطيبها ،فيؤمن هبا بدون حتديد مدرسةي ملفهومهةا ،أو تعريةف
وتصنيف هلا ،وم يبطل فعلها؟ وم يسري مفعوهلا؟ وعددها وشروط منحها ...اخل.
فهل ميكنك أن تصف يف كلمات طعم التُّفَّاح مثالً؟ أو تعبِّر عن رائحة األزهار اجلميلة بتعبريات كالميَّة؟ فهكذا أسرار
الكنيسة إذا مل خيتربها القلب ،تظل معرفتها العقليَّة جدباء ال جتدي نفعاً.
• إذاً ،اإلميان بأسرار الالَّهوت ،هو نفسه إميانٌ بالكنيسة ومن داخل احلياة فيها .هو إميانٌ تغذِّيه األسرار الكنسيَّة،
اليت هي نبعُ القوَّة فيها ،ومضمون أسرار الالَّهوت وحتقيقه.
وبذلك نستعيد تراث الكنيسة الشَّرقيَّة األصيل ،وهو التُّراث الذي ال يعاجل أو يشرح األسرار بطريقة منهجيَّة مدرسةيَّة
قانونيَّة -كما يفعل الالَّهوت الغريب املدرسي -سوى يف جانب بسيط منه ،بل يفسح اجملال بكليَّته ،لشرح األسةرار مةن
السرّ غايته ،كحياة
داخل اللِّيتورجيَّا ،وحياة الكنيسة وصلواهتا ،وعبادهتا ،رابطاً بني السِّرِّ الكنسي واحلياة التَّقوية ملتقبِّليه ،فيأيت ِّ
معاشه وخمتَربة.
ولقد استُخدمت الكلمة يف الالَّهوت املسيحي يف جمال متَّسع رحب .فالقدِّيس أغسطينوس (430-354م) يُعرِّف الس َّ
ِّةر
بأنه ”شكلٌ منظورٌ لنعمة غري منظورة“ أو ”عالمةٌ لشيء مقدَّس“ ،مطبِّقاً ذلك ح على صيغ الصَّلوات الكنسةيَّة ،مثةل
قانون اإلميان ،والصَّالة الرَّبيَّة .واستمر هذا التَّطبيق املتَّسع ح العُصور الوُسطى .وينبغي أن نالحظ هنا ،أنه برغم التعريةف
الضعيف ملعىن السِّر الكنسي عند القدِّيس أغسطينوس ،إالَّ أنه يطبق مفهوم السِّر على صيغ الصَّلوات الكنسيَّة أيضاً .وهةذه
نقطة جوهرية ،سنعود إليها الحقاً لشرحها.
• ولقد ظهر يف الالَّهوت الغريب الكاثوليكي ،ومنذ سنة 1135م ،متييزٌ بني املادة والشَّكل The matter and the formيف
األسرار الكنسيَّة .فاملادة هي العنصر الذي جيري عليه السِّر ،كاملاء للمعموديَّة واخلُبز لإلفخارستيَّا ...اخل ،أمَّةا الشَّةكل فهةو
كلمات التَّقديس اليت بواسطتها يتم تقديس السِّر .ولقد دخل العُلماء يف مباحثات ومناقشات عقالنيَّة طويلة .وصارت صحَّة
املادة وصحَّة الشَّكل ،هي اليت حتدِّد قانونيَّة السِّر وصالحيَّته.
ويف الالَّهوت الغريب أيضاً ،ال تعتمد قانونيَّة السِّرِّ على استحقاق أو عدم استحقاق املتمِّم للسِّر .وأنَّ غياب اإلميان والتَّوبة رمبا
يضع عائقاً يف طريق النِّعمة اليت تفيض طبيعيًّا من األسرار ،ويف مثل هذه احلاالت فإنَّ الفعل السَّرائري برغم قانونيَّته وصالحيَّته ،إالَّ
أنَّه يصبح عدمي التَّأثري ...اخل(.)6
ولقد ضمَّنت الكنيسة الكاثوليكيَّة كلَّ إمياهنا وعقيدهتا فيما خيتص باألسرار الكنسيَّة ،ورُتب اإلكلريوس فيها ،وكافةة
الصَّلوات ،وأوجه العبادة فيها ،وشرح قانون اإلميان ،والصَّالة الربيَّة ،والتَّعليم عن أسرار الثَّالوث ،والتَّجسد ،والفداء ،واجمليء
الثَّاين ،واحلياة األبديَّة ،والرُّوح القُدُس وعمله يف الكنيسة واملؤمنني ،والوصايا العشر ...اخل ،ضمَّنت كةلَّ ذلةك يف كتةاب
”التَّعليم املسيحي“ وهو املعروف باسم ” Catechismكاتيشزم“( .)7ولقد نقلت الكنائس الشَّرقيَّة والغربيَّة على السَّواء مةن
هذا الكتاب ،بعد أن ترمجته وشرحته دومنا متعُّن ،فكانت النَّتيجة الهوت غريب اقتحم الكنيسة الشَّرقيَّة ،واخةتلط بالهوهتةا
األصيل وليتنه.
ويُعرِّف ”الكاتيشزم“ الغريب السِّرَّ الكنسي بأنَّه ”عالمةٌ خارجيَّةٌ منظورةٌ ،هتبنا نعمة داخليَّة روحيَّة .“...وهو تكرارٌ لتعريف
القدِّيس أغسطينوس للسِّر ،أنَّه ”شكلٌ منظورٌ لنعمة غري منظورة“ .فبات مفهوم السِّر الكنسي هبذا اإلجياز املخل ،ضعيفاً.
الالَّهوت الغريب هو الهوت مدرسي املنهج ،يُخضع كلَّ شيء للتَّقسيم والتَّبويب والفحص والتَّحليل واالستنتاج .فلمَّةا
طال هذا الالهوت أسرار الكنيسة وصلواهتا اللِّيتورجيَّة ،تورَّط يف شرح السَّمائيَّات مبنهج األرضيَّات ،وأخضع السِّر ملنطةق
العقل ،فغاص يف متاهات ال قرار هلا ،ألنه حاد حيناً عن التَّعليم اآلبائي ،الذي ال يفصل بني الالَّهوت والعبةادة واخلةالص،
والذي يعطي اإلميان دوره الالئق به يف حياة الكنيسة .ال نُنكر أنه ميكن للذِّهن املستنري بالِّنعمة ،أن يفحص أسرار الكنيسةة
وعقيدهتا ،ولكن إىل حدود يتعذَّر عليه ختطِّيها ،ومن مثَّ وعند هذا احلد ،البد أن يفسح جماالً لإلميان ،ليوقن بقلبه الدَّاخلي مبا
ال ميكن لذهنه أن يستوعبه .وإالَّ فكيف تظل أسرار الكنيسة وعقائدها أسراراً ،م متَّ إخضاعها للعقل واملنطق والتَّحليل؟
• إنَّ كتابات اآلباء يف الكنيسة األوىل ،تشرح وتفسِّر األسرار من داخل االحتفال اللِّيتورجي الفِّعلي هبا ،كون اللِّيتورجيَّا
هي حياة الكنيسة وإمياهنا .فالسِّ ُّر الكنسي ملتحم باللِّيتورجيَّا ،وال يكمل بدوهنا .فالشَّركة يف احلياة اللِّيتورجيَّة يف الكنيسة هي
6- F.L. Cross & E.A. Livingstone, The Oxford Dictionary of The Christian Church (ODCC), 2nd edition, 1988, p. 1218.
-7بُدء يف تدوينه يف منتصف القرن السَّادس عشر يف شكل أسئلة وأجوبة تُلقَّن لكلِّ إنسان ينتمي إىل الكنيسة الكاثوليكيَّة قبل منحةه سة ّر
املريون بواسطة األُسقُف ( )ODCC, p. 249.واستمرَّت اإلضافات والتَّعديالت عليه عرب السِّنني ح سنة 1885م عندما ظهرت طبعة جديدة له.
ويف سنة 1886م تشكَّلت جلنة من اإلكلريوس والالَّهوتيِّني لوضع كتاب ”التَّعليم املسيحي -الكاتيشزم“ يف ثوب جديد ،حيث ظهر يف سةنة
1883م ،حيوي جتديداً أو تأصيالً لبعض النَّظريَّات الالَّهوتيَّة يف الكنيسة الكاثوليكيَّة مبا يتَّ فق مع آباء الكنيسة األوائل ،ممَّ ا أظهر بةادرة
تقارُب بني الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة األرثوذكسيَّة يف كثري من املبادئ اليت كان خمتلَفاً عليها فيما سبق ،وذلةك بعةد أن اسةتبعد
الكاتيشزم اجلديد مبادئ القدِّيس أغسطينوس اليت مل تعُد تُناسب العصر ،على حد قول الكنيسة الكاثوليكيَّة ،وكذلك الفكر الالَّهويت الذي روَّج
له يف الغرب الالَّهويت اإلجنليزي أنْسِل ْم (رئيس أساقفة كانتربري يف القرن احلادي عشر) ،حيث أخذت الكنيسة الكاثوليكيَّة بآرائةه ،وتسةرَّبت
بعض تلك اآلراء إىل كتابات بعض املؤلِّفني يف الكنيسة الشَّرقيَّة عن أسباب الفداء واخلالص ،واليت حيصرها يف أسباب قانونيَّة مثل إرضاء الغضب
والعدل اإلهليَّني ،وتلوُّث اإلنسان خبطيئة آدم األصليَّة ...اخل .حيث اعترف الكاتيشزم اجلديد باألُ ُسس اإلميانيَّة الرَّئيسةيَّة الةيت يعتةرف هبةا
األرثوذكس الشَّرقيُّون ،وأعطى األمهيَّة األوىل آلباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانيَّة مثلما فعل مع الذين كتبوا بالالَّتينيَّة ،وكذلك التَّقليد املستيكي
األصيل الذي يشترك فيه الشَّرق والغرب ،حماوالً أن يتجنَّب منهج بالجيوس ،ذلك الرَّاهب الربيطاين املولد ،الذي ترهَّب يف أواخر القرن الرَّابةع
امليالدي ،وعاش يف روما ،وكان يؤكِّد على اجلهاد البشري دون مساندة النِّعمة يف سبيل خالص اإلنسان ،ولقد انشغل القةدِّيس أغسةطينوس
بالصِّراع معه .بينما يؤكِّد الفكر األرثوذكسي بشدَّة على دور النِّعمة واشتراكها مع إرادة اإلنسان يف تكميل خالصه ،حيث تُصةبح الفضةيلة
عمالً إهليًّا بشريًّا مشترَكاً.
تأصيل األسرار الكنسيَّة 4
الضَّمان الوحيد لتفسري السِّرِّ تفسرياً اختباريًّا حياتيًّا معاشاً ،وهو ما مل يفعله الالَّهوت الغريب الذي عزل السِّرَّ عن اللِّيتورجيَّا،
السرّ وغايته .فسرُّ اإلجنيل نفسه ال يُستعلَن إالَّ منوجعله أداة نعمة قائمة بذاهتا ،فأفقد اللِّيتورجيَّا وظيفتها ،واليت هي استعالن ِّ
داخل الكنيسة ونظام عبادهتا وصلواهتا ،ألنَّ معرفة اإلجنيل نفسه إذا مل تؤدِّي إىل حياة كنسيَّة تقويَّة ،تظلّ معرفة إجنيليَّة عقليَّة،
ح وإن لبست هذه املعرفة ثوباً من تأمُّالت روحيَّة ،أو تفسريات الهوتيَّة .فإن كنتَ حتبّ اإلجنيل ،فليظهر هذا من خةالل
حياة شركة فعليَّة حتياها يف الكنيسة املقدَّسة بأسرارها وليتورجيَّتها.
وإنَّ كلَّ شرح وتفسري أليِّ سرٍّ كنسي ،ال يُفضي يف النِّهاية إىل اإلفخارستيَّا ويصب فيها ،هو شرح عقالين غريبٌ عن
الالَّهوت الشَّرقي ،ح لو اكتسى ثوب البالغة وإتقان األسلوب .فأيُّ سرٍّ كنسي يف حدِّ ذاته ال ميكن أن يكون نعمة إهليَّة،
إالَّ إذا اكتمل بالشَّركة يف جسد الرَّب ودمه األقدسَني ،وهنا يكمُن قصور املفهوم األوغسطي للسِّر.
السِّرُّ الكنسي هو واسطة العالقة بني اهلل واإلنسان ،ويف ذات الوقت جمال حتقيقها الوحيد .فبالسِّ ِّر الكنسي ننال حياة اهلل
فينا ،وبالسِّ ِّر الكنسي يسكب اهلل فينا كلَّ هباته وعطاياه ومواهبه وأسراره .فهو باب دخولنا إليه ،أو باحلري دخوله إلينةا.
وهو الطَّريق الوحيد لسكناه فينا .هذا ما تفعله الكنيسة وحتقِّقه األسرار فينا.
وهكذا تلتحم احلياة اللِّيتورجيَّة يف الكنيسة مع مضمون أسرارها ،فتمتزج التَّقوى بالالَّهوت .فاللِّيتورجيَّا تُكمِّل السِّةرَّ
الكنسي ،والسِّ ُّر الكنسي يُحقِّق اللِّيتورجيَّا ،فتصبح العبادة هي مصدر العقيدة.
السرّ الكنسي يف الالَّهوت ما بعد اآلبائي ،يتمثَّل يف عزلته داخل كيان سرائري قائم بذاته ،وعندما أُعليةت • إنَّ حتوُّل ِّ
األسرار الكنسيَّة ومُجِّدت من حيث هي حقائق سامية ،بدأ الالَّهوت يتغرَّب تدرجيياً عن األسرار الكنسيَّة .إنَّ اخلطأ املميت
يف العقالنيَّة ما بعد اآلبائيَّة ،كان عزهلا للسِّرِّ الكنسي عن اللِّيتورجيَّا ،من حيث كون اللِّيتورجيَّا تعبريٌ كُِّل ٌّي عن حياة الكنيسة
وإمياهنا .هذا العزل يف الواقع قد عزل السِّرَّ الكنسي عن الرَّمز ،أي عن تلك الصِّلة وذاك االتصال مبجمل احلقيقة اليت تتحقَّةق
يف السِّرِّ الكنسي .وإذ أصبح السِّرُّ الكنسي ”أداة نعمة“ مغلقة ،قائمة بذاهتا ،صار نقطة حقيقيَّة يف حبر من الرُّموز ،فحُرمت
اللِّيتورجيَّا من وظيفتها اخلاصة اليت هي ربط السِّرِّ الكنسي مبضمونه(.)8
• أسرار الكنيسة من حيث كوهنا توحِّدنا باملسيح ،وتثبِّتنا فيه ،ال تكون رموزاً أو أشكاالً للتَّعبري عن إميان الكنيسة ،أو
وسيلة للوصول إىل هذا اإلميان ،بل هي حتقيق هذا اإلميان ،هي إيَّاه وليس تعبرياً عن معناه .إميان الكنيسة هو يف كماله ،اقتناء
حياة املسيح وفكره ،وبالتَّايل اقتناء حياة الكنيسة .فحياة الكنيسة هي يف اقتنائها حلياة املسيح باألسرار الكنسيَّة ،تلك األسرار
اليت استودع املسيح فيها كلَّ حياته ،لكي تنتقل بدورها إىل الكنيسة ،ومنها إىل كلِّ املؤمنني باملسيح ،ليس يف كون األسرار
الكنسيَّة كوسيلة لغاية ،بل نبع هذه الغاية ودوامها .فاالنعزال عن األسرار الكنسيَّة هو انعزال عن حياة املسيح ،فحياتنةا يف
املسيح ال تتم بواسطة األسرار الكنسيَّة ،بل من داخلها.
إنَّ عمل الكنيسة ،هو أن تنقل إلينا وباستمرار حياة املسيح باألسرار ،فإن توقَّفت دميومة السِّرِّ تعطَّل يف احلةال عمةل
الكنيسة ،وانتفت بالتَّبعيَّة حياة املسيح فينا.
( )2تكميل السِّر الكنسي وعالقته بشخص الكاهن الذي خيدم السِّر
• مفهوم عمل الكاهن يف تكميل األسرار ،أنَّه ليس هو الذي يتمِّم السِّر بل املسيح نفسه .الكاهن يقوم بتأديةة السِّةر،
لكن بقوَّة املسيح اليت يسبغها على الكاهن .هنا الكاهن خاطئ تائبٌ ينضم إىل اخلاطئني التَّةائبني ،طلبةاً للغفةران لنفسةه
ولآلخرين معه .إذا فهو أوَّل التَّائبني ،كي ينتقل صفحُ اهلل وغفرانُه عن طريقه ،لآلخرين.
-8ألكسندر مشيمان ،من أجل حياة العامل ،منشورات النُّور1884 ،م ،ص 111-180بتصرُّف.
5 تأصيل األسرار الكنسيَّة
فالكاهن ال يقدر على إمتام خدمته اللِّيتورجيَّة بكهنوته الذَّايت ،بل بكهنوت املسيح الذي خيدمه .ألنه ليس كهنوتاً آخةر غةري
كهنوت املسيح ،هذا هو الكاهن إىل األبد على رُتبة ملكي صادق .والكاهن يف كنيسة العهد اجلديد يربهن بةذلك علةى عةدم
انفصاله عن اجلماعة قط ،بل ويؤكِّد وحدته معها ،ألنَّ املسيح مات من أجل الكنيسة ،وليس من أجل نفسه.
ويلزمنا هنا جدًّا أن نتوقَّف لنتساءل؛ إنْ كان املسيح نفسه هو الذي يتمِّم السِّر بواسطة الكاهن ،فماذا يع هنا إن كان
الكاهن مستحقًّا ملباشرة السِّر أو غري مستحق؟ أي إنْ كان ذا سرية صاحلة أم ال؟
إنَّ الفصل بني شخص الكاهن ،وبني نعمة الكهنوت املعطاة له واملستقلَّة عن طبائع األشخاص ،هي عقالنيَّةة الهوتيَّةة
غربيَّة .ألنَّ تنوُّع اهلبات اإلهليَّة واخلِدم يف الكنيسة( )8يدل على أنَّ املوهبة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالشَّخص الذي تُنةزل عليةه
هذه اهلبة.
فكما أنَّ الكنيسة حمقَّة يف عدم ربط حقيقة األسرار باستحقاق الكهنة الذين رُمسوا خلدمتها -وإالَّ الستحال إمتةام ٍّ
أي
منها -فهي أيضاً حمقَّة يف ربط حتقيق ملء حياهتا بالقدر الذي يتقبَّل به كلُّ عضو من أعضائها املواهب املنحدرة على كةلِّ
واحد منهم.
الكاهن دُعي ورُسم يف الكنيسة اليت هي جسد املسيح ،ليكون صورة رأس هذا اجلسد ،أي ليكون صةورة للمسةيح.
ولكي يكون ذاك الذي بواسطته تستمر اخلدمة الشَّخصيَّة للمسيح.
إنَّ دعوة الكهنوت تتوجَّه إىل صميم الشَّخص املدعو وال ميكن أن تنفصل عنه .فمن اخلطأ فصل الكهنوت عةن الشَّةخص،
وكأنَّ الكهنوت رسالة أو خدمة مغلقة جامدة قائمة بذاهتا ،ال عالقة هلا ال من قريب أو بعيد بالشَّخص الذي سةيتمِّمها .إنَّ
أيَّ متييز قاطع كهذا ،هو متييزٌ خاطئ ،ألنه يشوِّه طبيعة الكهنوت نفسها ،كاستمرار لكهنوت املسيح يف الكنيسة.
صحيحٌ أنَّ شخص الكاهن ال يؤثِّر على عمل األسرار وفاعليَّتها .ولسنا نربط إمتام األسرار مبزاياه الشَّخصيَّة .فالكنيسة ال
تنكر حقيقة األسرار اليت جتري على يدي أيِّ كاهن ،سواء كان صاحلاً أو سيئاً .ولكنَّها يف الوقت عينه ،تعلم حةق العلةم،
الدَّرجة الكبرية اليت تعتمد فيها احلياة الكنسيَّة على استحقاق أو عدم استحقاق من أوكلوا وأودِعوا تدبري األسرار اإلهليَّة(.)10
وبرغم كلِّ ذلك ،فتظل الكنيسة قائمة ،ألنَّ قداسة الكنيسة ليست نابعة منَّا ،إهنا قداسة املسيح الذي أحةب الكنيسةة
وأسلم نفسه ألجلها ،لكي حيضرها لنفسه كنيسة جميدة ال دنس فيها ،وال عيب(.)11
• وحني بدأ الطُّغيان اإلكلرييكي التَّدرجيي يف الكنيسة منذ القرون املبكِّرة ،وهو ما تشهد عليه قوانني جممع ترولو سةنة
681م ،اتسعت اهلوَّة اليت تفصل بني رجال اإلكلريوس والعلمانيِّني .فكان من الطَّبيعي واحلالة هذه ،أن يتغيَّر جو الكنيسةة
ب القدِّيس يوحنَّا ذهيب الفم يقول(:)11
بُرمَّته .ففي هناية القرن الرَّابعَ ،كَت َ
[مثَّة حاالت ال يتميَّز فيها الكاهن بشيء عن اخلاضعني له ،وكذا احلال عند تناول األسرار املقدَّسة الرَّهيبةة.
فنحن مجيعًا مستحقُّون بالقدر نفسه .لقد تغيَّرت احلال عمَّا كانت عليه يف العهد القدمي ،عندما كان للكهنة طعام،
وللشَّعب آخر .وعندما مل يكن يُسمح للشَّعب مبشاطرة الكهنة طعامهم .اليَوم ،احلال خمتلفة .اليَوم ،اجلسد ذاتةه
والكأس ذاهتا ممنوحان للجميع ...اليَوم ،كلُّنا نصافح بعضُنا بعضاً .)13(]...
يقول البابا أثناسيوس الثَّاين (486-488م) ال 18واملعروف باسم ”أثناسيوس الصَّغري“ ،يقول يف قوانينه” :اختري الكهنة
ليكونوا أطهاراً أكثر من كلِّ الشَّعب ،ألهنم يصلُّون عن الشَّعب ،ويطلبون إىل الرَّب الصَّفح عن خطاياهم .فإن أخطأ الكاهن
مثل الشَّعب فمن الذي يُصلِّي عنهم ،ألنَّ شعباً كهنته أجناس ،ليس هلم صالة تصعد إىل اهلل“.
ويقول البابا غُربيال اخلامس (1417-1408م) ال ” :88إذا مل يكن الكاهن قلبه وخاطره طيِّبٌ على شةعبه ،والشَّةعب
()14
خاطره طيِّبٌ عليه ،فال يتقبَّل اهلل منه طلبته يف شعبه .وال يتقبَّل اهلل طلباهتم فيه .وكفانا اهلل من ذلك“
ذلك ألنَّ تقليد الكنيسة الشَّرقيَّة ،خالل اخلمسة عشر قرناً األوىل من تاريخ املسيحيَّة يف الشَّرق ،ال يعرف هذا التحديد.
فإن عُدنا إىل القرن الرَّابع عشر يف الكنيسة القبطيَّة ،وعند العامل الطَّقسي مشس الرئاسة ابن َكبَر (1314+م) ،وهو قس كنيسة
العذراء املعلَّقة ،املقر البطريركي آنئذ ،ال جند أيَّ تفريق عنده بني صلوات األسرار اليت نعرفها اليَوم ،وباقي الصَّلوات الكنسةيَّة
األُخرى .فهو مثالً ال يفرِّق بني صلوات تكريس الكهنة (أي سرّ الكهنوت) ،وصلوات تكريس الكنائس.
ففي الباب السَّادس عشر من مؤلَّفه” :مصباح الظُّلمة وإيضاح اخلدمة“ نقرأ” :والصَّلوات املختصَّة بالكهنة هي مُرتَّبةة
يف البيعة ،وال جتوز بغري كاهن ،صالة التَّعميد ،صالة تقديس القُربان ،وصالة تكريس الكهنة والبيَةع ،وصةالة الةزَّواج،
والتَّحليل ،وصالة أشفية املرضى وهي صالة الزَّيت ،وصالة األموات حال انتقاهلم وبعدها ،وأبكار املآكل ،وصالتا الغطاس
والقصريَّة مستنبَطة من القُدَّاس“.
ففي القائمة السَّابقة يذكر ابن َكبَر أسرار :املعموديَّة ،واملريون ،والقُربان املقةدَّس ،والكهنةوت ،والزِّجيةة ،والتَّوبةة
واالعتراف الذي يدعوه ”التَّحليل“ ،ومسحة املرضى .إىل جانب صلوات تكريس الكنائس ،والصَّةالة علةى املنةتقلني،
وتذكارات املنتقلني ،وصالة تربيك باكورات الثِّمار ،وصالة اللقَّان يف عيد الغطاس ،وصالة القصريَّة أي قُدَّاس املاء يف مخيس
العهد .وكلُّها يدعوها ”الصَّلوات املختصَّة بالكهنة“ .وجدير بالذِّكر أنه مل يُشر إىل لقَّان عيد الرُّسل الذي مل يكن ح ذلك
الوقت قد انتشر يف الكنيسة القبطيَّة ،إذ بدأ استخدامه فيها منذ القرن الثَّالث عشر.
لقد دارت احملاوالت يف القرون املتأخِّرة ،لتصب كلُّها يف مسار واحد ،هو التَّركيز على الرَّقَم سبعة ومضاعفاته .فكانت
-14األنبا غُربيال اخلامس ،حقَّقه ونشره األب ألفونس عبد اهلل الفرنسيسكاين ،ضمن مطبوعات املركز الفرنسيسكاين للدِّراسات املسةيحيَّة الشةرقيَّة،
سلسلة دراسات شرقيَّة مسيحيَّة ،القاهرة 1864م ،ص 61
-15ويعرف أيضاً باسم ”اجملمع التريدنتي “ من الكلمة الالَّتينيَّة .Tridentinumوقد عُقد هذا اجملمع يف مدينة ترنت (ترانتو) مشال إيطاليةا.
وتعتربه الكنيسة الكاثوليكيَّة اجملمع املسكوين التَّاسع عشر هلا .وكان هدف اجملمع هو السَّعي حملاولة تالقي أهل اجلنوب مع أهل الشَّمال ،ولكةن
أهل الشَّمال مل حيضروا ،إذ بدأ اجملمع جلساته ومل حيضر فيه سوى 34عضوًا من 500أسقف كاثوليكي يف العامل .وتوقَّف اجملمع ثالث مةرَّات
مث عاد واستأنف أعماله ،واستمر معقوداً يف عهود الباباوات بولس الثَّالث (1548-1534م) ،ويوليوس الثَّالث (1555-1550م) ،وبولس الرَّابع
(1558-1555م) ،وبيوس الرَّابع (1565-1558م) .وكان لقراراته تأث ًري كبريٌ على الكنيسة الكاثوليكيَّة.
7 تأصيل األسرار الكنسيَّة
رُتب الكنيسة يف املصادر الطَّقسيَّة القبطيَّة القدمية ،ح ما قبل القرن العاشر امليالدي تقريباً ،هي مخس رُتب ،هي :األُسقُف
والقس والشمَّاس واإليبودياكون واألغنسطس( .)16مثَّ صارت تسع رُتب كنسيَّة منذ القرن العاشر وح القرن الثَّالث عشةر
امليالدي ،وذلك بشهادة مصادر طقسيَّة قبطيَّة قدمية ،وأيضاً بشهادة املمارسة الطَّقسيَّة يف صلوات رفع البُخةور ،يف ذلةك
الرتَب اخلمس الكنسيَّة القدمية ،حيث صار تقسيم رُتبة األُسةقُف إىل
الرتَب الكنسيَّة التِّسع مل خترج عن ُّ
الوقت ،إالَّ أنَّ هذه ُّ
ثالث رتب هي :البطريرك واملطران واألُسقُف .وتقسيم رُتبة القس إىل :القُمُّص والقس .وتقسيم رُتبة الشَّماس إىل :رئةيس
الشَّمامسة والشمَّاس الدِّياكون .ويف النِّهاية تأيت رتبيت اإليبودياكون واألغنسطس(.)17
وكان أوَّل ذكر يرد عن رُتبة اإلبصالتيس أي املرتل ،ما ورد يف قوانني البابا أثناسيوس الثَّاين (486-488م) وهو القانون
( ،)4:10إىل جانب ذكرها لرُتبة البوَّاب .وأيضاً القوانني الكنسيَّة املصريَّة املنسوبة للقدِّيس باسيليوس الكبري .ولعلَّ قةوانني
البابا أثناسيوس الثَّاين بطريرك اإلسكندريَّة ،والقوانني الكنسيَّة املنسوبة للقدِّيس باسيليوس الكبري ،قد نقلت من قوانني جممةع
الرتَب الكنسيَّة فيها .أو نقلت من مصدر كنسي آخةر ،ألنَّ التَّقليةد الالذقيَّة (381-341م) ما خيتص هباتني الرُّتبتَني ،ضمن ُّ
السِّرياين القدمي ،وتقليد كنيسة روما ،يعرفان رُتبيت املرتِّل والبوَّاب ،كرُتب كنسيَّة مستقلَّة ،أي رُتب كنسيَّة قائمة بذاهتا.
وهكذا ،زحف الرَّقَم سبعة أو مضاعفاته على كلِّ شيء يف الكنيسة ،سواء يف عدد طغماهتةا ،أو عةدد أواين اخلدمةة
املستخدمة يف اهليكل املقدَّس( ،)18أو عدد قطع مالبس اخلدمة الكهنوتيَّة لألُسقُف( ،)18أو عدد األعياد الكنسيَّة اليت احنصرت
فقط يف ضِعف العدد سبعة ،فخرجت بعض األعياد الكنسيَّة من احلصر ،أو عدد الدَّورات االحتفاليَّة يف الكنيسة واليت احنصرت يف
الرَّقَم سبعة بالتَّحديد .كما أنَّ الشُّموع املوقدة حول الزَّيت يف ليلة سبت الفرح هي سبعة مشوع وسبعة قناديل ...اخل! ح
طال الرَّقَم سبعة ،عدد أسرار الكنيسة يف القرن اخلامس عشر ،فحجَّمها إىل سبعة أسرار.
وبسبب حصر األسرار الكنسيَّة يف الرَّقَم سبعة ،ونظراً لوجود صلوات كنسيَّة أُخرى يف غاية األمهيَّة خلالص اإلنسةان،
مثل الصَّالة على الرَّاقدين ،وغريها ،فقد ظهر يف الغرب تفريق بني أسرار الكنيسة ،واليت دُعيت باسم الصَّلوات السَّةرائريَّة،
وصلوات أُخرى مهمة ،دعوها باسم الصَّلوات التَّقديسيَّة .وهذا التَّقسيم الغريب انتقل إىل الكنيسة البيزنطيَّة يف الشَّرق ،ومن مثَّ
تسرب إىل الكنائس الشَّرقيَّة األُخرى ،ومن بينها الكنيسة القبطيَّة طبعاً .وهذا يدفعنا إىل شرح هذه اجلزئيَّة بتوضيح أكثر.
الغريب بتقسيم الصَّلوات إىل صلوات سرائريَّة ،وأُخرى تقديسيَّة .ويقول بأنَّ األوىل أكثر أمهيَّة من الثَّانية!
لقد عقد الالَّهوت املدرسي الغريب ،مقارنة بني الصَّلوات السَّرائريَّة والصَّلوات التَّقديسيَّة ،فجعل من األوىل اختصاصها
حبياة اإل نسان يف نواحيها األساسيَّة ،ومن الثَّانية أهنا األكثر اتساعاً من ميدان األسرار ،لتشمل اإلنسان واخلليقة ،أي الكائنات
غري العاقلة .وأنَّ األسرار الكنسيَّة رئيسيَّة وجوهريَّة خلالص اإلنسان ،يف حني ال تتمتَّع الصَّلوات التَّقديسيَّة باألمهيَّة ذاهتا! وأنَّ
األ سرار الكنسيَّة تفعل مفعوهلا من تلقاء ذاهتا ،بصرف النَّظر عن استحقاق مقتبليها ،يف حني أن الصَّالة التَّقديسيَّة تفعةل يف
يؤمن حقًّا مبفعوهلا .وأنَّ األسرار الكنسيَّة أسَّسها الرَّب نفسه ،أمَّا الصَّلوات التَّقديسيَّة فقد أنشأهتا الكنيسة ...اخل!!
ولكن الفكر الشَّرقي مل يكن يعرف هذه التَّقسيمات ،ذلك ألنَّ كلَّ صلوات الكنيسة اللِّيتورجيَّة هي بذات األمهيَّة ،ألننا
لن نستطيع -إن قبلنا هبذا التَّقسيم أصالً -أن نكتفي مثالً يف حياتنا الكنسيَّة بصلوات األسرار الكنسيَّة ،وال نةويل نفةس
األمهيَّة لتلك الصَّلوات اليت تُدعى تقديسيَّة ،مثل صلوات السَّواعي ،أي الصَّالة باألجبية ،أو تسبحة نصف اللَّيل والسَّحَر ،أو
قُدَّاسات اللقَّانات ،أو تكريس الكنائس اجلديدة ،أو تكريس األيقونات يف الكنائس ،أو تكريس املذابح املقدَّسة ...اخل .بةل
إنَّ الصَّالة على املنتقلني يف الكنيسة قبل مواراهتم الثَّرى ،وتذكاراهتم الدَّائمة بعد ذلك ،متثِّل جانباً عقائديًّا مهمًّةا يف ضةمري
الكنيسة وحياهتا ،ولكلِّ عضو من أعضائها.
باإلضافة إىل أنَّ الكالم الذي يقوله الالَّهوت الغريب ،يعترضه لقَّان يوم مخيس العهد مثالً ،إذ أنَّ الرَّب الذي احنىن ليغسل
أرجل ت الميذه يف ليلة آالمه وقبل الصَّليب ،قد أسَّس بذلك صلوات قُدَّاس املاء ،أو طقس اللقَّان يف الكنيسة ،ليس فقط مبةا
مارسه هو فعليًّا ،بل أيضاً بوصيَّة إهليَّة ،بقوله« :أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ فإن كنتُ وأنا السيِّد واملعلِّةم قةد غسةلت
أرجلكم ،فأنتم جيب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض» (يوحنَّةا .)14 ،11:13وقوله لبطرس الرَّسول« :إن مل أغسلك،
فليس لك معي نصيب» (يوحنَّا .)8:13
فالرُّوح ال ُقدُس يُقدِّس ماء اللقَّان تقديساً ،يصبح مبوجبه ذات قوَّة للتَّطهري واخلالص ،بل ونافعاً لكلِّ شيء ،وذلك حبسب
منطوق الصَّلوات ذاهتا .وهو نفس ما يفعله سرّي مسحة املرضي ،والتَّوبة واالعتراف أيضاً .بل إنَّ نصوص صلوات اللقَّةان
نفسها ،تنصُّ على تسمية هذا الطَّقس سرًّا ،بل وسرًّا مقدَّساً.
إنَّ التَّحديدات اليت قنَّنها الغرب وتثبَّتت لديهم مبجامع كنسيَّة عرب قرون متتابعة ،قد انتقلت رويداً رويةداً إىل الشَّةرق
املسيحي .والسيَّما إىل الكنيسة البيزنطيَّة .ومن مثَّ صار من الالَّزم إعطاء تفسري مقبول للتَّفريق بني األسرار الكنسةيَّة وبةني
الصَّلوات التَّقديسيَّة فيها ،ممَّا فتح باب االجتهاد لتأويالت وشروحات تبغي وضع حدٍّ يفصل بني ما تقنَّن كسرٍّ كنسي ،وبني
ما أُدرج حتت مضمون ”صلوات تقديسيَّة“ .وإنَّ ال ُكتُب الطَّقسيَّة البيزنطيَّة نفسها ال متيِّز يف نصوص صلواهتا بني األسةرار
Sacramentsوبني الصَّلوات التَّقديسيَّة Sacramentalsمتييزاً واضحاً كما بات معروفاً يف الكنيسة الغربيَّة(.)10
20- Davis, J.G., A Dictionary of Liturgy and Worship, SCM Press LTD, 1972, p. 78.
21- ODCC, (2nd edition), op. cit.,p. 1218.
8 تأصيل األسرار الكنسيَّة
وهذا الكالم ،يضاد ما صار مستقراً يف الشَّرق املسيحي منذ البداية ،وهو أنَّ احلياة اللِّيتورجيَّة يف الكنيسة ،تستمد أصوهلا مةن
مصدرين أساسيني ،ال يقل أحدمها عن اآلخر يف األمهيَّة ،املصدر األوَّل هو التَّقليد املكتوب ،أي التَّقليد الذي وصةل إلينةا مةن
الكتاب املقدَّس ،واملصدر الثَّاين هو التَّقليد الشفهي أي التَّقليد غري املكتوب ،أو املعروف يف الكنيسة باسم ”التَّسليم السِّري“ .فإن
كان املسيح بالنِّسبة للكنيسة هو حجر الزاوية فيها ،فإنَّ الكنيسة مبنيَّة أيضاً على أساس الرُّسُل واألنبياء.
فيتحدَّث القدِّيس باسيليوس الكبري (378-330م) يف كتابه عن الرُّوح ال ُقدُس ،عن مكانة وأمهيَّة التَّسةليم السِّةري يف
الكنيسة ،وأنَّه إىل جانب التَّعليم املكتوب أو املعلَن ،يشكِّالن معاً دعامة اإلميان الصَّحيح ،وإذا رُفةض األوَّل( ،أي التَّعلةيم
السِّري) يُشوِّش الثَّاين (أي التَّعليم املكتوب) ويُفقده قوَّته فيقول:
[العقائد واملمارسات اليت تقبلها الكنيسة وحتفظها ،يستند بعضها إىل التَّعليم املكتوب ،والبعض اآلخر قبلنةاه
سرًّا ،وهو تسليم الرُّسُل .وهذان مها دعامة اإلميان الصَّحيح ،وهلما نفس القوَّة .وهو ما ال يعترض عليةه أحةدٌ،
السيَّما من توفَّرت له خربة يف ممارسات الكنيسة .وحنن ال نستطيع أن نرفض ما استقرَّ من عادات يف الكنيسةة،
بدعوى أنَّ هذه العادات ال تستند إىل بُرهان مكتوب ،أو أنَّ قيمتها صغرية .ألنَّنا إن رفضنا عةادات الكنيسةة،
فسوف جنرح اإلجنيل نفسه ،بل حنوِّل التَّعليم إىل اسم بال معىن .واملثال الذي أريد أن أقدِّمه يف هذا الشَّأن ،هو عن
موضوع عام ...
ما هو املصدر املكتوب الذي تعلَّمنا منه أن نرشم بعالمة الصَّليب ،أولئك الذين يثقون بربِّنا يسوع املسةيح،
ويطلبون اخلالص يف املعموديَّة؟ ...وتقديس مياه املعموديَّة واملريون وطريقة قبول وتعميد املوعوظني ،هةل هلةا
مصدر مكتوب؟ أليس مصدر كلّ هذا هو ما ال يُعلن؟ (أي التَّسليم السِّري).
ما هي الكلمات املكتوبة اليت علَّمتنا مسحة املريون؟ وأيضاً ما هو املصدر املكتوب الةذي حيةدِّد أن تكةون
غطسات املعموديَّة ثالث؟ وميكن أن نسأل عن العادات األُخرى اخلاصة باملعموديَّة ،مثل جحد الشيطان وكةلَّ
مالئكته ،ما هو املصدر املكتوب الذي يُعلن لنا هذا؟
أليس كلُّ ذلك من التَّعليم العظيم والسِّري غري املُعلَن .والذي احتفظ به اآلباء يف سريَّة تامة ،لكي ال يعرفةه
املتشكِّكون واملتطفِّلون فيحفظون بذلك هيبة األسرار؟ فالذي ال جيوز إعالنه لغري املعمَّدين ،هو ما ال نسمح هلةم
حبضوره ،وال ح تسجيله مكتوباً ...
الرُّسُل واآلباء قد أرسوا دعائم الشَّرائع الكنسيَّة ،وحفظوا هيبة األسرار وكرامتها باإلبقاء عليها سةرًّا وعةدم
إذاعتها ،ألنَّ ما يُعلن ويُعرف لدى عامة النَّاس يفقد هيبته ،وال يصبح سرًّا ،وهذا هو السَّبب يف وجود التَّسليم غري
املكتوب الذي حيوي عقائد وممارسات ال تُعلن وال تُدوَّن ح ال تصبح من توافه األمور م صارت مألوفة للكُل.
العقيدة والتَّعليم اللَّذان يتم إذاعتهما ،مها شيآن متمايزان :األوىل حنتفظ هبا يف صمت ،والثَّ انية ميكن إذاعتها
لكلِّ الدُّنيا ...
وسوف أحتاج إىل وقت طويل جدًّا إذا حاولت أن أسرد أسرار الكنيسة غري املكتوبة ...أمَّا عن االعتراف بإمياننةا
باآلب واالبن والرُّوح القُدُس ...فما هو املصدر املكتوب هلذه العقيدة؟ .)13(]...
وحيدِّد القدِّيس باسيليوس الكبري (378-330م) أنَّ املعموديَّة واإلفخارستيَّا وزيت املريون ،هي من األمور اليت ال يُسمح
-11لقد تبنَّت الكنيسة األجنليكانيَّة أفكارًا أكثر إجيابيَّة يف العصور احلديثة جتاه هذه األسرار اخلمسة األُخرى.
-13القدِّيس باسيليوس الكبري ،الرُّوح القُدُس ،مرجع سابق67،66:17 ،
تأصيل األسرار الكنسيَّة 10
لغري املعمَّدين بالنَّظر إليها ،أو االطالع عليها( .)14ولقد أحصى الذين درسوا مؤلَّفات القدِّيس يوحنَّا ذهيب الفم (407-347م)
مخسني موضعاً منها على األقل استعمل فيها عبارة متكرِّرة هي:
[سوف يفهم معىن كالمي ،املعمَّدون فقط].
وعندما كان القدِّيس غريغوريوس النَّاطق باإلهليَّات ( )388-318يعظ عن األسرار ،كان يقول للشَّعب:
[لقد حتدَّثتُ كثرياً عن السِّر حسبما هو مسموح لنا أن نتحدَّث علناً وأمام النَّاس ،أمَّا باقي احلةديث،
فسوف تسمعونه يف السِّر لكي يبقى هذا الكالم سرًّا خاصاً بكم] (عظة 4على املعموديَّة).
ولقد انعكس هذا األمر على املصادر املسيحيَّة نفسها .أي أنَّ كلَّ ما سجَّله اآلباء ،كان هو التَّعليم العل املعروف الذي
خيص كلّ الشَّعب ،أمَّا التَّعليم السِّري غري املعلن ،فقد تسلَّمته الكنيسة بدون تدوين ،بل وأبقت عليه غري معروف ،حة أنَّ
املؤرِّخ سوزومني (أوائل القرن اخلامس) ،والذي كان معاصراً للمؤرِّخ سقراط (450-380م) قد امتنع عن تسجيل كلمةات
قانون اإلميان ،لئال يقع كتابه عن تاريخ الكنيسة ،يف حوزة غري املؤمنني (كتاب .)15()10:1
ال يقُل لك أحدٌ ماذا يصيبك لو عرفته أنا أيضاً؟ فإنَّه كاملريض الذي يطلب مخراً ،وإذ يأخذه يف وقت غري مناسب،
حيدث له هذيان ،وهبذا يتحقَّق شرَّان :املريض ميوت ،والطَّبيب يُالم ...إنك كنتَ يوماً موعوظاً ،ومل أخربك مبا أُعلنةه
لك اآلن .إنَّك ستخترب كيف أنَّ أمور تعاليمنا عالية ،وعندئذ تدرك أنَّ املوعوظني مل يتأهَّلوا بعد لسماعها].
ومل يكن يُسمح للموعوظني أن يبقوا يف الكنيسة بعد انتهاء قُدَّاس الكَّلمة .ألنَّ كلَّ من يبق يف الكنيسة بعد ذلةك ،يلةزم أن
يتناول من األسرار املقدَّسة .ويف اللِّيتورجيَّة اإلثيوبيَّة ،ينادي الشمَّاس بعد قُبلة السَّالم قائالً” :يا أيها الذين ال يتناولون ،اخرجوا“.
وحبسب الطَّقس ،وبعد غلق األبواب ،ال تُفتح مرَّة أُخرى إالَّ بعد انتهاء القُدَّاس والتَّناول من األسرار املقدَّسةة،
وتسريح املؤمنني .وهذا نقرأه يف قوانني الرُّسُل حبسب الكنيسة القبطيَّة ” :ولتقف اإليبودياكونات عند أبواب النِّسةاء،
ويقف مشامسة على أبواب الرِّجال ،لئال خيرج أحد .وال يفتحوا األبواب يف وقت القُدَّاس الطَّ اهر ،ولو كان على الباب
مؤمن“ (قانون الرُّسُل .)11:51:1
أمَّا اآلن ،فيدخل املسيحيُّون إىل الكنيسة يف أيِّ وقت يشاءون ،وخيرجون منها حينما يرغبون ،ويتقرَّبون من األسةرار
املقدَّسة أو ال يتقرَّبون .فهل بات طقس الكنيسة تارخياً يُحكى أو تراثاً عفت عليه السُّنون؟ فقوانني الكنيسة تعلِّمنا أنه إن بقى
أحدٌ خارج حدود املذبح ،فإنه ال ينال من اخلُبز اإلهلي.
يقول األب ألكسندر مشيمان (1883 +م)” :يذكر القدِّيس غريغوريوس النَّاطق باإلهليَّات (388-318م) أنَّ الشمَّاس
كان يقول ” :ليخرج كلُّ من ال يريد أن يتناول القُدسات“ ( . )16عندئذ مل يكن يبقى يف االجتماع اإلفخارسيت سوى
-14نفس املرجع ،فصل 17
-15انظر :الدُّكتور جورج حبيب بباوي ،مذكِّرات يف املعموديَّة يف األربعة قرون األوىل ،ص 88 -85
26- PG 77, 233.
11 تأصيل األسرار الكنسيَّة
املؤمنني ،أي املعمَّدين يف الكنيسة ،فهم مدعوون مجيعاً اآلن بالصَّالة املشتركة ،إىل االستعداد للتَّقدمة اإلفخارستيَّة.
أمَّا اليَوم فتبقى أ بواب الكنيسة مفتوحة طوال إقامة الذَّبيحة اإلهليَّة ،فيخرج من خيرج ،ويدخل من يةدخل يف أيِّ
وقت .ونسى العلمانيُّون ،وح الكهنة أيضاً ،أنَّ اإلفخارستيَّا هي اجتماع مُغلق للكنيسة ،وأنَّ اجلميع يف هذا االجتماع من
كبريهم إىل صغريهم مُكرَّس ،وأنَّ اجلميع حيتفل كلٌ يف مكانه ،يف العمل اللِّيتورجي الواحد للكنيسة .أي أنَّ الكهنة ليسوا هةم
وحدهم الذين خيدمون الذَّبيحة ،وال ح الكهنة مع العلمانيِّني ،بل هي الكنيسة اليت يؤلِّفوهنا كلُّهم معاً جمةتمعني ،والةيت
يعلنون مألها حبضورهم .إنَّ الكنيسة هي اليت حتتفل“(.)17
إن ما سبق ذكره ،هو مقدِّمة عامة عن األسرار .وعلينا اآلن أن نتكلم عن بعض أسرار الكنيسة بأكثر توضيح.
-17األب ألكسندر مشيمان ،اإلفخارستيَّا سرُّ امللكوت ،ترمجة سامر عبُّود ،منشورات النُّور1883 ،م ،ص 118