نظرية التطور الاجتماعي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 15

‫نظرية التطور االجتماعي‬

‫توفيق شومر‬
‫ٌتطرق هذا البحث إلى تقدٌم عرض تبسٌطً لنظرٌة التطور االجتماعً التً قدمها عالم‬
‫االجتماع والفٌلسوف األلمانً كارل ماركس‪ .1‬وٌقسم ماركس مراحل التارٌخ البشري باالعتماد‬
‫على نمط اإلنتاج السائد فً المجتمع اإلنسانً فً مرحلة معنٌة‪ .‬وكما سنرى أدناه فإن فكرة‬
‫اإلنتاج فكرة محورٌة فً فكر ماركس وتدخل فً تفسٌره لكل التطورات المهمة فً تارٌخ‬
‫المجتمع اإلنسانً‪ .‬ولكً تتضح الصورة العامة لهذا البحث ٌجب أن نحدد المراحل التارٌخٌة‬
‫للمجتمع وهً‪ )1 :‬المرحلة البدائٌة (المشاعٌة البدائٌة)‪ )2 ،‬مرحلة العبودٌة (الرق)‪)3 ،‬‬
‫المرحلة اإلقطاعٌة‪ )4 ،‬المرحلة الرأسمالٌة‪ )5 ،‬المرحلة االشتراكٌة‪ )6 ،‬المرحلة الشٌوعٌة‪.‬‬

‫الجدل (الديالكتيك)‪:‬‬
‫ٌعتمد ماركس فً تحلٌله للتطور االجتماعً على الجدل والذي تبناه من الفٌلسوف‬
‫األلمانً جورج فلهام هٌغل‪ .‬ولكن بٌنما كان جدل هٌغل مثالٌا ً ٌناقش عالقة األفكار باألفكار‬
‫حاول ماركس أن ٌنقل مفهوم الجدل إلى تفسٌر حركة التارٌخ وحركة التطور االجتماعً‪.‬‬
‫لنحاول فً البداٌة أن نفسر ببساطة فكرة هٌغل‪ .‬هناك ثالثة محاور فً أي عالقة جدلٌة‪:‬‬
‫محور الفكرة‪ ،‬ومحور النقٌض أو الضد للفكرة‪ ،‬ومحور التركٌب بٌن األضداد‬
‫( ‪ )thesis , anti-thesis, and synthesis‬وٌقر المنهج الجدلً بأن هناك وحدة وصراعا ً بٌن‬
‫هذه األضداد‪ .‬وقد حاول هٌغل تفسٌر الكون ونشأته انطالقا ً من هذه الفكرة فأعتبر أن العالم هو‬
‫نقٌض الروح المطلق وأن هذا العالم صدر عن الروح المطلق لٌتطور باستقالل ولٌصل فً‬
‫رقٌه الفكري إلى مرحلة من التطور تمكنه من السمو لٌتمكن مرة أخرى من االلتحام مع الروح‬
‫المطلق‪ .‬واعتبر هٌغل أن الفكر البشري والفلسفة بوجه خاص هً التً ستمكن الطبٌعة من‬
‫الرقً الالزم لتتمكن من السمو إلى المستوى المطلوب لكً تتمكن من االلتحام بالروح المطلق‪.‬‬
‫ولذلك فقد ركز اهتمامه على تارٌخ األفكار بوصفها التارٌخ الحقٌقً للبشر بٌنما التارٌخ‬
‫الطبٌعً والتارٌخ البشري ما هما إال ردٌف مساعد‪ ،‬أو بٌئة مساندة لتارٌخ األفكار‪ .‬والفكر هو‬
‫التطور األرقى للطبٌعة‪.‬‬

‫نقٌضها‬
‫الطبٌعة‬ ‫‪‬‬ ‫الروح المطلقة‬

‫وبالتالً فحٌن نطبق المحاور الثالثة على التطور لتارٌخ العالم والطبٌعة نخرج‬
‫بالتصور التالً‪:‬‬

‫‪ٌ 1‬دب اإلشارة ويُذ انبدء بأَه بغض انُظز ػٍ يىلف انكثٍزٌٍ يٍ َظزٌاث ياركض انظٍاطٍت وااللخصادٌت إال أٌ َظزٌخه فً انخطىر‬
‫االخخًاػً هً انُظزٌت األكثز حضىراً إنى انٍىو فً دوائز ػهى االخخًاع فً انؼانى أخًغ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫تنتج الفكر‬ ‫الطبٌعة‬ ‫الروح المطلقة‬ ‫مستوى أدنى‬
‫(الحالة األساسٌة)‬
‫للروح المطلقة‬
‫مستوى‬ ‫الروح‬

‫أعلى‬ ‫المطلقة‬

‫ٌتجلى االختالف بٌن المادٌة والمثالٌة حول فهم التارٌخ فً أن الفكر المثالً متمثالً‬
‫بالفكر األلمانً الذي ٌتحرك فً مٌدان (الفكر الخالص) ٌجعل من الفكر القوة المحركة للتارٌخ‪.‬‬
‫وٌعتبر ماركس "أن فلسفة التارٌخ عند هٌغل هً النتٌجة الحاسمة األخٌرة‪ ،‬المختزلة فً‬
‫(تعبٌرها الصوفً) ‪ ،‬لمجمل هذه الطرٌقة التً ٌتبعها األلمان فً كتابة التارٌخ والتً ال تولً‬
‫االهتمام للمصالح الفعلٌة‪ ،‬وال حتى المصالح السٌاسٌة"‪ 2.‬بل تعالج األمور من منطلق توجه هذا‬
‫التارٌخ نحو الغاٌات التً ٌرسمها هذا الفكر‪.‬‬
‫فً حٌن أن الفكر المادي ٌربط التطور والحركة عبر العالقات المادٌة التارٌخٌة‪ ،‬فكل‬
‫ما هو موجود‪ ،‬كل ما هو حً على األرض أو تحت الماء ٌوجد وٌحٌا بنوع من الحركة فقط‪،‬‬
‫وهكذا فحركة "التارٌخ تنتج العالقات االجتماعٌة؛ والحركة الصناعٌة تقدم المنتجات‬
‫الصناعٌة ‪...‬الخ"‪ 3‬وهو فً هذا الموقف ٌقف فً تعارض مع الرؤٌة المٌتافٌزٌقٌة للتارٌخ والتً‬
‫ٌحددها على أنها "الفكرة التأملٌة‪ ،‬التصور التجرٌدي‪ ،‬تصبح القوة المحركة فً التارٌخ بحٌث‬
‫ٌرتد التارٌخ إلى مجرد تارٌخ للفلسفة‪ ،‬وفضالً عن ذلك فإن هذا التارٌخ األخٌر نفسه ال ٌصور‬
‫كما قد جرى فعالً‪ ،‬ووفقا ً للمصادر المتوفرة – وأقل من ذلك بوصفه نتٌجة العالقات التارٌخٌة‬
‫الفعلٌة – بل كما تصوّ ره الفالسفة األلمان المحدثون وعلى األخص هٌغل وفٌورباخ"‪ ، 4‬وهذا ما‬
‫ٌؤكد أن التارٌخ المٌتافٌزٌقً ٌتعامل فقط مع تارٌخ األفكار وتارٌخ األشباح وال ٌتعامل مع‬
‫الواقع إال بما ٌسمح لهذه األشباح أن تتلبس به لتظهر بالمظهر الواقعً نفسه‪.‬‬
‫وٌعتبر ماركس أن العالقات االجتماعٌة هً عالقات جدلٌة ال ٌمكن أن نقول أن أحدها‬
‫ٌنتج بشكل مٌكانٌكً عن اآلخر‪ .‬فالحدث االجتماعً ٌؤثر فً تشكٌل حالة اجتماعٌة بالمقدار‬
‫نفسه من تأثٌر حالة اجتماعٌة فً إبراز حدث اجتماعً‪ .‬وهذا التأثٌر المتبادل هو الذي ٌعطً‬
‫النظرٌة االجتماعٌة نوعا ً من التشابك الذي ال بد من االنتباه إلٌه عندما نرٌد أن نحلل التطور‬
‫االجتماعً‪ .‬فالنظرة المٌكانٌكٌة أو النظرة الساذجة للعالقة بٌن مؤثرات ونتائج تعجز عن إدراك‬
‫العالقات االجتماعٌة‪ ،‬وتعجز عن رؤٌة أن هذه العالقات تتجاوز كونها عالقات بٌن أفراد‬
‫مستقلٌن إلى كونها عالقات اجتماعٌة‪ .‬فماركس ٌؤكد أن المجتمع ال ٌمكن أن ٌنظر إلٌه باعتباره‬
‫مجموع األفراد الذٌن ٌتشكل منهم هذا المجتمع‪ ،‬بل ٌتعدى األفراد لٌنظر إلى العالقات بٌنهم‬
‫وإلى القوى االجتماعٌة المحركة فً المجتمع‪ .‬وفً هذه النقطة ٌختلف فكر ماركس عن فكر‬

‫‪ 2‬كارل ماركس وفردرٌك أنجلس‪ ،‬األٌدٌولوجٌة األلمانٌة‪ ،‬دار دمشق‪ ،‬دمشق‪ ،1891 ،‬ص‪. 51‬‬
‫‪ 3‬كارل ياركض‪ ،‬بؤص انفهظفت‪ ،‬دار ديشك‪ ،‬ط‪ ،1‬ديشك ‪ ،1793 ،‬ص‪.111‬‬
‫‪ 4‬األٌدٌولوجٌة األلمانٌة‪ ،‬ص‪. 126‬‬

‫‪2‬‬
‫المدرسة البرغماتٌة أو المدرسة التحلٌلٌة وكالهما ٌنظر إلى المجتمع من منطلق االرتباط‬
‫الطوعً بٌن أفراد مستقلٌن‪ .‬أما ماركس فٌقول بأن التطور االجتماعً والبنٌة االجتماعٌة تؤثر‬
‫على األفراد وعلى دٌنامٌكٌات الحراك االجتماعً فً المجتمعات‪.‬‬
‫أما التناقض فهو داخل المجتمع والصراع بٌن األضداد داخل المجتمع هو الذي ٌصنع‬
‫التطور االجتماعً‪ .‬واألضداد فً المجتمع تتمثل عادة بطبقتٌن رئٌسٌتٌن‪ :‬طبقة مسٌطرة وطبقة‬
‫مسٌطر علٌها‪ .‬وفً كل مرحلة من مراحل التطور االجتماعً ٌبدأ المجتمع بالثورة ثم ٌنتقل إلى‬
‫مرحلة استقرار نسبً‪ ،‬ولكن وبعد فترة من هذا االستقرار تبدأ الطبقات المسٌطر علٌها برفض‬
‫الواقع القائم‪ ،‬وٌدخل المجتمع مرحلة اضطراب ٌنتج عنها تخلخل فً التركٌبة الطبقٌة وتظهر‬
‫طبقة جدٌدة تحاول أن تستثمر التناقض بٌن الطبقتٌن الرئٌسٌتٌن فً المجتمع وتقوم بالثورة‬
‫معتمدة على الطبقة المسٌطر علٌها وهً بالعادة طبقة األغلبٌة‪.‬‬
‫وهنا ال بد لنا من أن نوضح المفاهٌم العامة للمنطق الجدلً وقوانٌن الجدل‪:‬‬
‫تتمثل قوانٌن الجدل بثالثة قوانٌن تبنى بشكل أساسً على أرضٌة أساسٌة‪ ،‬بأن الحركة‬
‫هً المطلق والسكون نسبً أو بمعنى آخر كل شًء ٌتطور‪.‬‬
‫وقوانين الجدل هي‪:‬‬
‫‪ .1‬قانون شمولٌة التناقض (وحدة وصراع األضداد) كل شًء ٌحمل فً داخله ضده‬
‫والصراع بٌن األضداد هو الذي ٌحكم التطور والتقدم‪.‬‬
‫‪ .2‬قانون نفً النفً والتطور الحلزونً‪ :‬وهو قانون مستقى من العلوم الطبٌعٌة ومن‬
‫الرٌاضٌات على حد سواء‪ ،‬وٌطبق فً االقتصاد وفً التطور االجتماعً وقد‬
‫استخدمه ماركس بكثافة فً كتابه الرأسمال عندما كان ٌحاول معرفة القوانٌن‬
‫التً تحكم تطور االقتصاد الرأسمالً (تراكم رأس المال)‪.‬‬
‫‪ .3‬التراكمات الكمٌة والتغٌرات الكٌفٌة‪ :‬إن تراكما ً كمٌا ً معٌنا ً ٌؤدي بالضرورة إلى‬
‫تغٌر كٌفً معٌن‪( .‬كما فً الماء ودرجات الحرارة)‪.‬‬
‫وٌقول ماركس بأن العامل االقتصادي هو العامل الحاسم فً أي تغٌٌر اجتماعً‪ .‬لكنه‬
‫ٌؤكد أٌضا ً أن أي ثورة ال ٌمكنها أن تستمر وتنظم المساندٌن لها بمعزل عن فكر ثوري ٌرافقها‬
‫وٌبرر ضرورتها وٌبرر ضرورة التغٌٌر واالنتقال من الوضع القائم إلى وضع جدٌد هو‬
‫بالضرورة أكثر تطوراً‪.‬‬
‫وٌطبق ماركس قوانٌن الجدل على المجتمع بشكل مختلف عن هٌغل فبدالً من الفكرة‬
‫(عند هٌغل) ٌضع (ماركس) الحالة االجتماعٌة أو المرحلة االجتماعٌة‪ .‬فٌقول‪" :‬إن سٌر حٌاة‬
‫العقل اإلنسانً‪ ،‬أي سٌر التفكٌر‪ ،‬الذي حوّ له [هٌغل]‪ ،‬إلى موضوع مستقل‪ ،‬تحت اسم (الفكرة)‪،‬‬
‫هو القوة الخالقة بالنسبة للعالم الحقٌقً‪ ،‬والعالم الحقٌقً نفسه هو مجرد الشكل الظاهري‬
‫والخارجً لـ (الفكرة)‪ .‬أما بالنسبة لً فاألمر على العكس تماماً‪ ،‬أن الفكرة هً ال شًء سوى‬
‫العالم المادي معكوسا ً من قبل العقل اإلنسانً‪ ،‬ومن ثم محوّ الً إلى أشكال من (الفكرة)‪ 5".‬وفً‬
‫هذا ٌنبع االختالف بٌن الجدل المادي (الماركسً) والجدل المثالً الهٌغلً ‪ ،‬أي فً المنطلق‬
‫الذي ٌنطلقان منه‪ ،‬فاألول ٌنطلق من الواقع المادي‪ ،‬والثانً من (الفكرة)‪ .‬ولنفسر ما ٌقصده‬
‫ماركس فٌصبح المفهوم على النحو التالً‪ :‬الحالة ثم الحالة النقٌض ثم التركٌب‪ ،‬والتركٌب هنا‬
‫ال ٌتم إال بالثورة وٌتم بالتالً االنتقال من حالة أولى إلى حالة تركٌبٌة جدٌدة تستدعً وجود‬
‫حالة نقٌض لها وثم تستدعً وجود تركٌب جدٌد وهكذا‪ .‬وبصورة عامة فالمجتمع البشري بدأ‬
‫بكونه مجتمع "ال‪ -‬طبقً" فالنقٌض لهذه الحالة هو المجتمع الطبقً أما التركٌب فهو نوع من‬
‫المجتمع "الال – طبقً" ولكنه بمستوى أرقى بالضرورة من الحالة األولى التً وجد بها‬
‫المجتمع ألول مرة‪ .‬ولكً نوضح هذا المفهوم المعقد بعض الشًء ال بد لنا من تتبع التطور‬
‫االجتماعً كما ٌصفه لنا ماركس‪.‬‬

‫‪ 5‬عن‪ :‬بلٌخانوف‪ ،‬المؤلفات الفلسفٌة‪ ،‬مجلد ‪ ،2‬دار دمشق‪ ،1893 ،‬ص‪.108‬‬

‫‪3‬‬
‫المرحلة األولى‪ :‬المشاعية البدائية‬
‫تفترض نظرٌة التطور االجتماعً مقدمة ضرورٌة لتحلٌل التطور االجتماعً‪ ،‬وتتمثل‬
‫هذه المقدمة فً اإلقرار بأن اإلنسان ما كان لٌقوى على الصمود أمام شظف العٌش فً العصور‬
‫البدائٌة لو لم ٌكن اجتماعٌاً‪ .‬أي أن اإلنسان الفرد ما كان بمقدوره فً أي حال من األحوال أن‬
‫ٌستطٌع الحٌاة فً بٌئة "الطبٌعة كما هً" أي فً بٌئة الطبٌعة المجردة التً لم تغٌرها أٌادي‬
‫البشر‪ .‬ولذلك فإن ماركس ٌقول لنا أن ما ٌمٌز اإلنسان عن الحٌوان ال ٌرتبط بكونه إنسانا ً عاقالً‬
‫أو إنسان له دٌن أو معتقد‪ ،‬بل ما ٌمٌزه عن الحٌوان كونه إنسانا ً منتجا ً لظروف حٌاته الخاصة‪.‬‬
‫فاإلنسان هو الكائن الوحٌد الذي ٌشكل البٌئة الحٌاتٌة حوله‪ ،‬فهو ٌشكل الطبٌعة بحسب احتٌاجاته‬
‫وال ٌنتظر أن تفرض علٌه الطبٌعة بٌئتها المجردة‪ ،‬بٌنما الكائنات األخرى تحكمها البٌئة‬
‫الطبٌعٌة فهً ال تستطٌع أن تحٌا خارج البٌئة المناسبة لها‪.‬‬
‫مقدمة ثانٌة مهمة لهذه النظرٌة تتمثل فً أن التطور االجتماعً ٌنتج عن حالة الصراع‬
‫بٌن طبقات المجتمع التً ٌنتج عنها ثورة اجتماعٌة تؤدي إلى االنتقال من مرحلة تارٌخٌة فً‬
‫التطور االجتماعً إلى مرحلة الحقة‪ .‬ولكن وبما أن المجتمع المشاعً البدائً مجتمع ال طبقً‬
‫وبالتالً لٌس هناك صراع بٌن طبقتٌن متناحرتٌن‪ ،‬فإن النظرٌة تقول بأن الصراع فً تلك‬
‫الحقبة لم ٌكن بٌن الطبقات االجتماعٌة ولكن بٌن اإلنسان والطبٌعة‪ .‬وبالتالً كان على اإلنسان‬
‫أن ٌحٌا فً صراع متواصل مع مختلف القوى الموجودة فً الطبٌعة لكً ٌتمكن من االستقرار‬
‫وتوفٌر الشروط المناسبة لحٌاته‪.‬‬
‫تتمٌز المرحلة البدائٌة هذه‪ ،‬فً أن اإلنسان لم ٌكن ٌهتم بمسألة الملكٌة الخاصة‪ ،‬ففً‬
‫الظروف الصعبة المحٌطة به كان ٌحتاج إلى كل المساعدة من كل األفراد القادرٌن على‬
‫المساعدة لكً ٌتمكنوا من الحٌاة‪ .‬ففً مواجهة الحٌوانات الشرسة كان ال بد أن ٌكون هناك‬
‫تضامن جماعً‪ .‬وبالكاد كان ما ٌنتجه البشر كافٌا ً الستمرار وجودهم‪ .‬وبالتالً لم ٌكن هناك‬
‫فائض قٌمة‪ٌ 6‬ذكر ٌدفع أٌا ً كان لمحاولة السٌطرة علٌهم‪.‬‬
‫استمرت المرحلة البدائٌة فً التارٌخ البشري حقبة طوٌلة من الزمن إذ تثبت حفرٌات‬
‫علماء اآلثار إلى أن أول هٌكل عظمً لكائن بشري تعود إلى ‪ 2.2‬ملٌون سنة‪ .‬وتشٌر هذه‬
‫الحفرٌات إلى تطور بطًء فً أدوات اإلنتاج التً تعامل معها اإلنسان‪ ،‬فحٌاته فً الكهوف‬
‫استمرت لمئات اآلالف من السنٌن‪ ،‬كما أنه لم ٌتمكن من صناعة أدوات حجرٌة للدفاع عن نفسه‬
‫(العصر الحجري) إال بعد عشرات اآلالف من السنٌن‪ .‬بٌنما استقرار اإلنسان فً مناطق‬
‫زراعٌة فقد جاء فً مرحلة متأخرة عن ذلك كثٌراً‪ ،‬وتعود فً األكثر إلى ما ٌقارب خمسٌن ألف‬
‫سنة قبل المٌالد‪ .‬أما على الصعٌد الفكري فقد كان التطور أكثر بطئا ً منه على صعٌد إنتاج‬
‫أدوات تساعد اإلنسان فً التغلب على صعوبة الحٌاة‪ .‬فأول أشكال تنم عن قدرة اإلنسان على‬
‫االتصال تعود إلى رسومات الكهوف وأقدم هذه الرسومات المعروفة ٌعود فقط إلى ‪ 60‬ألف‬
‫سنة‪ .‬بٌنما ٌعود أول نظام فً الكتابة (الحروف األبجدٌة) إلى ستة آالف سنة قبل المٌالد‪.7‬‬
‫ٌجب أن نفكر ملٌا ً بهذه األرقام‪ ،‬فهً تدل على مقدار الجهد والوقت الذي استغرقه‬
‫اإلنسان فً االنتقال من الهمجٌة إلى اإلنسانٌة‪ .‬فألكثر من ملٌونً سنة بقً اإلنسان هائما ً ٌحاول‬
‫أن ٌخترق قٌوده لٌصل إلى التحضر‪ ،‬وكان لزاما ً للتطور الفكري والبناء المجرد لألفكار أن‬

‫‪ 6‬يفهىو فائض انمًٍت يٍ انًفاهٍى انًهًت فً َظزٌت ياركض وهى حؼبٍز ػٍ انمًٍت انًضافت ػهى ػًم األفزاد وانخً ًٌكٍ نصاحب‬
‫انؼًم أو انظٍد أٌ ٌظخفٍد يُها يٍ ػًم األفزاد‪ .‬أي أٌ انؼايم فً انًصُغ ٌُخح يدًىػت يٍ انظهغ ونكُه ٌخماضى أخز ال ٌخداوس خشء‬
‫بظٍظ يٍ لًٍت انظهغ انخً طاهى فً إَخاخها‪ ،‬أيا صاحب انؼًم وانذي نى ٌظاهى فً إَخاج انظهؼت ٌظخفٍد يٍ انفارق انكبٍز بٍٍ األخىر‬
‫انًظخحمت نهؼًال ولًٍت انظهؼت فً انظىق‪ .‬وهذا انفارق بٍٍ لًٍت انؼًم ولًٍت انظهؼت فً انظىق ٌظًى بفائض انمًٍت وهى أطاص حشكم‬
‫انًدخًؼاث انطبمٍت‪.‬‬
‫‪ 9‬نغت أوغارٌج انحضارة انخً وخدث فً يُطمت بالد انشاو‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ٌنتظر طوٌالً قبل أن ٌرى النور‪ .‬ولم ٌكن غرٌبا ً أن تكون األسطورة الشكل األول للفكر‬
‫المجرد‪ ،‬وال أن ٌكون السحر دٌن اإلنسان المطلق‪ ،‬فالعقل البشري حٌنها كان عاجزاً عن تفسٌر‬
‫الكثٌر من ظواهر الطبٌعة من حوله‪ ،‬والتفسٌر الوحٌد الممكن لها أن ٌكون هناك من ٌحركها‬
‫لتضرب اإلنسان أ ّنى كان‪ .‬فهناك آلهة للرعد والمطر والزرع والبحر والخصب والموت‪...‬الخ‪.‬‬
‫وكان السحر هو تعبٌر عن مجتمع ٌعجز فٌه اإلنسان عن السٌطرة على الطبٌعة‪ ،‬فٌلجأ إلى‬
‫القوى الخفٌة والغٌبٌة التً ٌتصور أنها المسؤولة عما ٌتعرض له‪ ،‬وٌتوقع بالتالً أنه ومن خالل‬
‫أعمال السحر فإنه ٌستطٌع التحكم فً مجرى األشٌاء‪ :‬فهو ٌعتقد أن الطبٌعة ٌمكن أن تخضع‬
‫لكلمات اإلنسان وأوامره وتعاوٌذه‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أن المرأة فً المجتمعات البدائٌة كانت هً المسٌطرة على المجموعة‬
‫اإلنسانٌة‪ ،‬وذلك نابع أٌضا ً من مفهوم "اإلنتاج" فالمرأة هً أهم العناصر المنتجة فً المجتمع‬
‫البدائً‪ ،‬فهً التً تضمن استمرار الجماعة البشرٌة‪ ،‬وبالتالً فإن إعادة إنتاج العنصر البشري‬
‫هو األكثر قدسٌة فً ذلك العصر الذي أحاطته المخاطر من كل صوب‪.‬واستمرت سٌطرة المرأة‬
‫إلى ما بعد االنتقال إلى المرحلة الالحقة من تطور المجتمعات البشرٌة‪.‬‬
‫ترافق مع استقرار البشر وانتقالهم إلى اإلنتاج الزراعً ومرحلة تدجٌن الحٌوانات‪،‬‬
‫وظهور التفكٌر المجرد والتفسٌرات األسطورٌة للظواهر الطبٌعٌة‪ ،‬تغٌٌرات مهمة فً البنٌة‬
‫االجتماعٌة وفً قدرة المجتمع على اإلنتاج‪ ،‬فلم ٌعد اإلنسان ٌنتج كفاٌته بل كان هناك فائض من‬
‫اإلنتاج ٌدفع البعض لمحاولة االستغالل‪ .‬وترافق أٌضا ً مع نوع من تقسٌم العمل بٌن أفراد‬
‫المجتمع فبعضهم مهمته حماٌة الجماعة اإلنسانٌة من األخطار المحٌطة (المحاربون) وهم طبقة‬
‫من األقوٌاء الذٌن رأوا بأنفسهم التمٌز عن باقً أفراد المجتمع كون المجتمع لم ٌكن لٌحٌا حٌاة‬
‫استقرار من دون مجهودهم‪ .‬ثم هناك الكاهن أو الساحر الذي ٌستطٌع بمجموعة تعاوٌذه أن‬
‫"ٌسٌطر" على قوى الطبٌعة‪ .‬وهناك المزارع والراعً ومن ٌعتنً بالبٌوت واألطفال ومن ٌقرر‬
‫مصٌر الجماعة‪ .‬وترافق مع تشكل الجماعة المستقرة تشكل ممٌزات خاصة للجماعة تختلف عن‬
‫جماعات أخرى استقرت فً مناطق تختلف فً طبٌعتها وبٌئتها‪.‬‬

‫مرحلة الرق‬
‫كما رأٌنا فإن التطور البشري أخذ منحى بطٌئا ً جداً فً بداٌاته ولكن هذا المنحى بدأ‬
‫بالتسارع التدرٌجً‪ ،‬فبعد أن دخلت المجتمعات مرحلة تقسٌم العمل وظهر مفهوم القٌادة‬
‫للجماعات اإلنسانٌة‪ ،‬وتماٌزت هذه الجماعات بعضها عن بعض‪ .‬وترافق مع هذه التحوالت‬
‫رقًّ ذهنً وفكري‪ ،‬بحٌث تمكن اإلنسان من أن ٌنتج أفكاراً تتعدى التعرٌف بحٌاته الٌومٌة إلى‬
‫التعرٌف بما ٌتخٌله فً ذهنه‪ .‬وظهرت أول أشكال الدول السٌاسٌة التً تضع لنفسها شرائع‬
‫وسننا ً تحدد عالقات البشر داخل حدود الدولة‪ .‬ومع هذا التحدٌد بدأت الجماعات اإلنسانٌة‬
‫األقوى واألكثر عدداً تحاول السٌطرة على الجماعات اإلنسانٌة المتاخمة لها لتضم إلى محٌط‬
‫ضٍ جدٌدة‪ .‬وعند السٌطرة على جماعة ما ٌتم تحوٌل العاملٌن فٌها إلى عبٌد‬ ‫"الدولة" أرا ِ‬
‫للجماعة المسٌطرة‪ .‬كانت هذه هً أول ظواهر النظام العبودي ونظام الرق‪ ،‬لكن هذا الشكل من‬
‫السٌطرة على جماعات متماٌزة لتتحول إلى عبٌد لم تكن الشكل الوحٌد الذي تشكلت به العبودٌة‪.‬‬
‫فهناك النمط اآلخر المتعلق بتحول أفراد من المجتمع ونظراً لرفضهم بعض السنن والتشرٌعات‬
‫التً ٌفرضها الحاكم إلى عبٌد بعد تجرٌدهم من كل صالحٌات ٌحملونها‪.‬‬
‫وبغض النظر عن األسباب الداعٌة لتشكل المجتمع العبودي إال أن له سمات محددة‬
‫تمٌزت فً ظهور طبقتٌن أساسٌتٌن فً التركٌبة االجتماعٌة‪ :‬طبقة األسٌاد وطبقة العبٌد‪ .‬وتمٌز‬
‫المجتمع بعدم حاجة طبقة األسٌاد إلى العمل بل تركت مهمة العمل بكل أشكاله لطبقة العبٌد‬
‫ولشرائح متوسطة مثل التجار والصناع والمهرة‪ .‬وهذا التفرغ لدى طبقة األسٌاد ساهم فً تبلور‬

‫‪5‬‬
‫الفكر الفلسفً والفكر العلمً واألدب والفن والمسرح‪ .‬وٌمكن اعتبار األسطورة الشكل الجنٌنً‬
‫الذي تمثلت فٌه هذه األشكال للنشاط الذهنً اإلنسانً‪ .‬فعند تناول األسطورة األسئلة الحساسة‬
‫فً الفلسفة مثل‪ :‬ما هو أصل الحٌاة؟ وما المصٌر؟ وتحاول أن تقدم مجموعة من اإلجابات‬
‫متأثرة بالبٌئة المادٌة المحٌطة (كأن ٌُقال أن األصل من نار أو تراب أو هواء أو ماء أو كلّها‬
‫مجتمعة)‪ .‬وبالتالً فإنها تحاول أن تقدم تفسٌراً "علمٌا ً" معرفٌا ً ألصل العالم‪.‬‬
‫وٌمتاز المجتمع الٌونانً بأنه المجتمع الذي نشأت به الفلسفة بشكل خاص‪ .‬وذلك نتٌجة‬
‫لوحود أربعة طبقات هً العبٌد والعامة (الزراع والصٌادون) والطبقة الوسطى (الصناع‬
‫والتجار) وطبقة األغنٌاء (األسٌاد) وهً الطبقة الوحٌدة التً ٌحق لها أن تمتلك عبٌداً وكانت‬
‫تحتقر العمل و"فضٌلتها" كما ٌقول أرسطو هً التأمل والتفكٌر وهذا التماٌز هو الذي ساهم‬
‫بشكل أساسً بظهور الفلسفة وظهور الفكر السٌاسً المتطور الذي تمٌزت به الدول المدٌنٌة فً‬
‫المجتمع الٌونانً‪ .‬فعلى الرغم من أن المجتمع الٌونانً كان مجتمعا ً ولٌداً إذا ما قورن بالمجتمع‬
‫الحضاري فً بالد الرافدٌن أو بالمجتمع الحضاري فً وادي النٌل‪ ،‬إال أن هذٌن المجتمعٌن‬
‫(كما المجتمع فً فارس والهند) لم ٌنتجا إال فكراً أسطورٌا ً ودٌانات سحرٌة‪ .‬أما الٌونان فقد أنتج‬
‫الفلسفة بشقٌها‪ :‬الفكر المثالً متمثالً بأفكار أرسطو وأفالطون (رغم كونهما ٌعبّران عن نمطٌن‬
‫مختلفٌن للمثالٌة)‪ ،‬والفكر المادي متمثالً بأفكار دٌمقرٌطس وأبٌقور واإلٌونٌٌن‪.‬‬
‫االختالف األساسً ٌتمثل فً نمط "دولة المدٌنة" الذي تمٌزت به الدول الٌونانٌة عن‬
‫"الدولة الممتدة" التً كانت سمت الدول فً المنطقة الحضارٌة الممتدة من الهند إلى مصر‪.‬‬
‫ودولة المدٌنة تمتاز فً أن تأثٌر الشرائح المتوسطة بٌن طبقة األسٌاد وطبقة العبٌد تأخذ بعداً‬
‫مؤثراً على السٌاسة العامة للدولة وعلى النشاط الذهنً المرافق لهذه السٌاسة‪ .‬األسٌاد فً‬
‫المجتمع الٌونانً كانوا ٌرفضون العمل حتى ولو كان ضرب من التجارة‪ ،‬مما أدى بهم إلى‬
‫التفرغ التام للمناظرات الذهنٌة الخالصة التً برزت خاللها الفلسفة‪ .‬بٌنما األسٌاد فً المنطقة‬
‫العربٌة كانوا هم التجار وكان مفهوم العمل غٌر مرتبط بالعبودٌة‪ ،‬ألن العبودٌة ترتبط فقط‬
‫بالعمل الجسدي القاسً بٌنما التجارة فهً عمل األسٌاد‪.‬‬
‫ٌرتبط هذا التصوّ ر عن إنتاج األفكار بشكل مباشر بوجهة نظر ماركس بقوله‪" :‬مهما‬
‫ٌكن فالفالسفة ال ٌظهرون كالفطرٌات من األرض؛ إنهم نتاج زمانهم‪ ،‬وأمتهم‪ ،‬حٌث األكثر‬
‫مالئمة‪ ،‬واألكثر قٌمة والذي ٌحوي األحكام المضمرة هو الذي ٌكون فً أفكار الفالسفة‪ .‬نفس‬
‫الروح التً تبنً سكك الحدٌد بأٌدي العمال‪ ،‬تبنً المنظومات الفلسفٌة فً عقول الفالسفة‪.‬‬
‫فالفلسفة ال توجد خارج العالم‪ ،‬كما أن الدماغ ال ٌوجد خارج اإلنسان‪ ،‬إن لم ٌكن موجوداً فً‬
‫معدته‪ .‬لكن الفلسفة توجد فً العالم من خالل الدماغ‪ ،‬حتى قبل أن تقف على أرجلها‪ ،‬بٌنما هناك‬
‫جوانب من العمل اإلنسانً األخرى موجودة عملٌا ً ولها جذور فً األرض حتى قبل أن تكون‬
‫‪9‬‬
‫موجودة فً "العقول"‪.‬‬
‫واستمرت مرحلة العبودٌة لفترة امتدت منذ األلف الثانً قبل المٌالد إلى القرن الرابع‬
‫المٌالدي حٌن بدأت أول الدول تنادي بالتحول عنه على الرغم من استمراره بأشكال مختلفة‬
‫حتى القرن التاسع المٌالدي‪ .‬وٌعتبر ماركس أن التحول نحو المجتمع اإلقطاعً كان تحوالً‬
‫ثورٌا ً قادته الدٌانة المسٌحٌة فً أوروبا‪.‬‬

‫المرحلة اإلقطاعية‪:‬‬

‫‪Karl Marx & F. Angles, On Religion, Progress Publisher, 1985, P. 28-29 8‬‬

‫‪6‬‬
‫لٌس من السهل تعرٌف المرحلة اإلقطاعٌة بسمات عامة ممٌزة عبر المناطق التً‬
‫انتشرت بها كما هً الحال مع المرحلة العبودٌة‪ .‬لكن على المستوى االقتصادي ٌمكن القول أنه‬
‫كان هناك نمطان عامان لهذه المرحلة‪ :‬نمط اإلقطاع الغربً‪ ،‬ونمط اإلنتاج اآلسٌوي فً الشرق‪.‬‬
‫لقد انتبه ماركس إلى هذه الحقٌقة ومٌز بٌن النمطٌن لكنه ونظراً الهتمامه بالتطور االجتماعً‬
‫فً أوروبا فقد ركز على الشكل األول‪.‬‬
‫تتمٌز المرحلة اإلقطاعٌة بتالشً دور الدولة المركزٌة على صعٌد المقاطعات الداخلٌة‪،‬‬
‫بٌنما تبقى الشكل الذي ٌتوافق علٌه اإلقطاعٌو لتمثٌلهم خارج إطار الدولة‪ .‬وتتمٌز أٌضا ً بظهور‬
‫طبقة من مالكً األراضً الكبار الذٌن ٌتكفلون بالسٌطرة على مقاطعاتهم داخل الدولة‪ ،‬وٌسٌطر‬
‫أصحاب األراضً على األراضً ومن ٌعٌش علٌها‪ .‬وٌتحول كل من ٌعٌش على هذه األراضً‬
‫إلى عامل لدى صاحب األرض‪ .‬وهذا ٌستدعً ظهور الطبقة المسٌطرة وجود الطبقة النقٌض‬
‫فً التركٌبة الطبقٌة للمرحلة اإلقطاعٌة‪ ،‬وهذه الطبقة هً طبقة "األقنان"‪ ،‬أو "فالحوالسخرة"‪،‬‬
‫وهذه الطبقة تعبر عن مجموعة الفالحٌن الذٌن ٌعملون فً األرض مقابل حصة من اإلنتاج‬
‫الزراعً‪ ،‬فٌما كان ٌعرف فً بالدنا "بنظام العشر" أو "نظام السدس" أي أن ٌحصل الفالح‬
‫مقابل عمله فً األرض على عشر المحصول أو سدس المحصول بٌنما ٌحصل اإلقطاعً على‬
‫باقً المحصول‪.‬‬
‫االختالف األساسً فً أوروبا عن الوضع فً المنطقة العربٌة أن األراضً كانت‬
‫للدولة‪ ،‬والخلٌفة ٌمنح حق استغاللها ألمراء المناطق المختلفة وهم ٌوزعونها بما ٌرونه مناسباً‪.‬‬
‫ثم ٌوظف من ٌستغل األرض الفالحٌن للعمل فٌها ضمن نظام العشر وهكذا‪ .‬وهنا تجدر اإلشارة‬
‫إلى أن مفهوم تثبٌت ملكٌات األراضً لم ٌدخل إلى المنطقة إال فً مرحلة متأخرة من الحكم‬
‫العثمانً وباألخص فً القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫تمٌزت هذه المرحلة فً أوروبا بسٌطرة الفكر المسٌحً على كل مناحً الحٌاة‪.‬‬
‫ووصلت سٌطرة الكنٌسة على الممالك واإلمارات فً أوروبا إلى الحد الذي أصبح فٌه (بابا)‬
‫الفاتٌكان هو من ٌعٌن الملوك وقٌلهم‪ .‬وقد وصفت هذه الرحلة بأنها عصر الظلمات‪.‬‬
‫لكن مجموعة من العوامل المتشابكة أدت إلى نهاٌة سٌطرة الكنٌسة‪ .‬أول هذه العوامل‬
‫كان فشل الحمالت الصليبية فبعد أن حررت الجٌوش العربٌة بٌت المقدس بقٌادة صالح الدٌن‬
‫األٌوبً حاول األوروبٌون إرسال حملتٌن واحدة إلى فلسطٌن والثانٌة إلى مصر لكنهما فشلتا‬
‫فشالً كبٌراً‪ ،‬أدى ذلك إلى زعزعة سٌطرة الكنٌسة ألنها كانت تدعى أن هذه الحروب هدفها‬
‫تحرٌر بٌت المقدس وكانت تجمع الضرائب لتجهٌز الجٌوش‪ ،‬مما ساهم فً انتشار الفقر فً‬
‫المجتمع‪ .‬العامل الثانً نتج عن التصدع الداخلي للكنيسة والذي تمثل بانفصال الكنٌسة‬
‫المسٌحٌة فً برٌطانٌا نتٌجة للخالف بٌن هنري الثامن والبابا (‪ 1532‬م)؛ والخالف الثانً فً‬
‫القرن الخامس عشر وتمثل فً حركة "االحتجاج والتصحٌح" كما سمٌت والتً نتج عنها تشكل‬
‫الكنٌسة البروتستنتٌة (‪ 1517‬م)‪.‬‬
‫العامل الثالث نتج عن احتكاك الغرب مع العلم العربي اإلسالمي من خالل الدولة األموٌة‬
‫فً األندلس‪ ،‬وأدى هذا االحتكاك بٌن الحضارة العربٌة اإلسالمٌة فً األندلس والحضارة‬
‫األوروبٌة إلى نقل المعرفة العربٌة غلى أوروبا على الرغم من أن الذٌن درسوا العلوم العربٌة‬
‫اإلسالمٌة تنكروا لهذا العلم خوفا ً من محاكم التفتٌش التً كانت تحرق وتحاكم كل من تجد عنده‬
‫كتبا ً بلغة "الكفر" (اللغة العربٌة)‪.‬‬
‫وترافق مع انتقال العلوم العربٌة اإلسالمٌة إلى أوروبا نهضة علمٌة تكللت بالثورة‬
‫العلمٌة الكبرى وباالكتشافات الجغرافٌة وبانتقال صناعة الورق إلى أوروبا‪ ،‬ومن ثم اختراع‬
‫اآللة الطابعة واختراع المانٌفكتورا‪ .8‬هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تغٌٌر بنٌوي حقٌقً فً‬
‫المجتمعات األوروبٌة فقد ازدهرت الصناعة بشكل كبٌر‪ ،‬مما دفع بالفالحٌن األقنان إلى ترك‬

‫‪ 7‬اَالث انًٍكاٍَكٍت انبدائٍت انخً أػخًدث ػهى خهد انؼًال‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫األرض والتوجه إلى المدٌنة للعمل فً المصانع‪ .‬وأدى هذا إلى تضخم المدن وتشكل طبقة‬
‫عاملة كبٌرة‪.‬‬
‫خلقت هذه التحوالت البٌئة المناسبة لنشوء الثورة البورجوازٌة والتً قادها التجار‬
‫والصناع وكان وقودها األساسً العمال فً المدن‪ ،‬وانطلقت هذه الثورات فً برٌطانٌا عام‬
‫‪ 1696‬م ثم الثورة األمرٌكٌة عام ‪ 1776‬م وبعدها الثورة الفرنسٌة عام ‪1898‬م‪ .‬وقد تكون‬
‫الثورة الفرنسٌة أكثر هذه الثورات تأثٌراً فً العالم لما ترافق معها من محاوالت تعمٌم الفكر‬
‫اللٌبرالً على مستوى جماهٌري واسع‪ .‬فحركة "الموسوعٌون" فً فرنسا فً المرحلة التً‬
‫سبقت الثورة الفرنسٌة أخذت على عاتقها تبسٌط الفكر والمعرفة للعامة والوصول إلى اتفاق‬
‫حول المفاهٌم والمصطلحات بما ٌدعم النهج الدٌمقراطً‪ .‬وقد ضمت حركة الموسوعٌٌن‬
‫مفكرٌن من مشارب عدة من اإلصالح الدٌنً إلى االشتراكٌة دون أن ٌجدوا ضٌراً فً التعامل‬
‫فٌما بٌنهم لما فٌه مصلحة الشعب والدولة الفرنسٌة‪ .‬ولنتذكر هنا مقولة فولتٌر الشهٌرة‪" :‬قد ال‬
‫اتفق فً شًء مع ما تقوله‪ ،‬ولكن ثق أننً مستعد للمحاربة حتى الموت ألضمن حقك فً أن‬
‫تقول ما ترٌد‪".‬‬

‫المرحلة الرأسمالية‪:‬‬

‫تتمٌز هذه المرحلة بسٌطرة الطبقة البورجوازٌة الصناعٌة والتجارٌة على الحكم‪ ،‬بٌنما تعبر‬
‫الطبقة العاملة عن الطبقة النقٌض فً التركٌبة االجتماعٌة للمجتمع الرأسمالً‪ .‬وقد قامت الثورة‬
‫البورجوازٌة على أساس رفع مجموعة من الشعارات السٌاسٌة المهمة "الحرٌة‪ ،‬العدالة‪،‬‬
‫المساواة" ولكن الثورات البورجوازٌة عجزت عن تحقٌق هذه الشعارات وتوقفت فً تعمٌمها‬
‫للحقوق السٌاسٌة لألفراد دون أن تكون لهذه المفردات مردوداً اجتماعٌا ً أو اقتصادي‪.‬‬
‫ولذلك فالمجتمع الرأسمالً مجتمع استغالل طبقً ال ٌختلف كثٌراً عن مجتمعات‬
‫االستغالل الطبقً السابقة‪ .‬فهو لم ٌقض على التناقضات بٌن الطبقات بل أقام طبقات جدٌدة محل‬
‫القدٌمة و اوجد ظروفا جدٌدة لالضطهاد‪ .‬وما ٌمٌز المرحلة الرأسمالٌة هو فً وضوح التناقض‬
‫الطبقً بٌن طبقتٌن طبقة البورجوازٌة المسٌطرة وهً طبقة األقلٌة فً المجتمعات الرأسمالٌة‪،‬‬
‫والطبقة العاملة والتً تشكل الغالبٌة العظمة من المجتمعات اإلنسانٌة‪.‬‬
‫وتمٌزت المرحلة الرأسمالٌة بقدرتها على التحول والتأقلم مع الظروف المحٌطة بها‪.‬‬
‫فعلى سبٌل المثال تمكنت البورجوازٌة الغربٌة‪ ،‬مع التغٌرات الكثٌرة على األصعدة االقتصادٌة‬
‫والسٌاسٌة واالجتماعٌة والتً فرضت نفسها بعد الحرب العالمٌة األولى ومع انتصار الثورة‬
‫الروسٌة‪ ،‬كان من الضروري لها أن تعطً بعض التنازالت للطبقة العاملة بهدف تجمٌد‬
‫التحوالت السٌاسٌة والحفاظ بالتالً على مواقعها المسٌطرة سٌاسٌاً‪ .‬ولذلك كان هناك تعدٌل فً‬
‫ما تقدمه هذه البرجوازٌات للطبقة العاملة من تأمٌنات صحٌة وتقاعد وغٌرها من االستحقاقات‬
‫االجتماعٌة التً بدأت باالنتشار فً العالم الغربً ولو بشكل محدود قبل الحرب العالمٌة الثانٌة‬
‫ولكن وبشكل واسع جداً بعد الحرب العالمٌة الثانٌة‪ .‬وأتضح مع هذه التغٌٌرات طبٌعة‬
‫البرجوا زٌة المتمثلة فً قدرتها على تجدٌد ذاتها‪ .‬فهً ال تستطٌع أن تستمر بالسٌطرة إال إذا‬
‫تمكنت بٌن الحٌن واآلخر من إدخال تغٌٌرات ثورٌة (نوعا ً ما) مستمرة على أدوات اإلنتاج‪،‬‬
‫وبالتالً على عالقات اإلنتاج‪ ،‬وهذا ما سٌؤثر بالضرورة على العالقات االجتماعٌة برمتها‪.‬‬
‫ومؤخراً انتقلت السٌطرة على المستوى العالمً إلى قوى رأس المال المالً‪ ،‬فلمسنا أنه‬
‫وبعد انهٌار المنظومة االشتراكٌة بدأت المجتمعات األوروبٌة بالتراجع التدرٌجً عن السٌاسات‬
‫التً انتهجتها خالل الفترة منذ نهاٌة الحرب العالمٌة األولى وحتى عام ‪1880‬م‪ .‬كما أن‬
‫منجزات الدٌمقراطٌة التً ٌتغنى بها الغرب بدأت بالتراجع الشدٌد فً الدول الغربٌة تحت ذرٌعة‬

‫‪8‬‬
‫"محاربة اإلرهاب" فنجد أن منجزات أكثر من ثالث قرون معرضة الٌوم ألن تتهاوى مع مهب‬
‫الرٌح‪.‬‬
‫لذلك ٌمكننا أن نؤكد أن الدٌمقراطٌة بشكلها االجتماعً واالقتصادي وانتصارها فً‬
‫العالم هً الضمان الوحٌد للبشرٌة لتتمكن من الخروج من حالة البربرٌة المفروضة علٌها الٌوم‪.‬‬
‫فما ٌولد حاالت الكراهٌة والحقد والصدام هو الشعور الذي ٌنتاب شعوب العالم عندما ترى‬
‫وتلمس الفارق فً مستوى المعٌشة بٌنها وبٌن الدول المتقدمة وعندما ٌفرض علٌها مفاهٌم‬
‫المجتمع المدنً التً ال تخلصهم من قٌودهم بل أنها تزٌد من شعورهم باالغتراب‪.‬‬
‫فالمجتمع المدنً ودولة المؤسسات بشكلها البرجوازي وشعار "الجمٌع سواسٌة أمام‬
‫القانون" إنما هً الرداء الذي ترٌد الدٌمقراطٌة اللٌبرالٌة أن تلبسه علها تخفً ورائه بشاعة‬
‫صورتها‪ .‬فعلى الرغم من زعم مجتمعات الدٌمقراطٌة اللٌبرالٌة أنها تحقق المكاسب االقتصادٌة‬
‫واالجتماعٌة لكل من ٌجهد نفسه وٌعمل من أجل الوصول إلى إمكانٌات اقتصادٌة تؤهله‬
‫للحصول على هذه المكاسب‪ ،‬وهً تبرر موقفها هذا بالقول بأنه من غٌر المنطقً أن ٌحصل أي‬
‫كان على ما لم ٌعمل مقابله‪ .‬والحجة المقدمة هنا حجة واهٌة جداً فمن المعروف أن من ٌحصل‬
‫على اإلرباح األكبر فً مجتمع كهذا هو من ٌسحب اللقمة من أفواه الجٌاع حول العالم‪.‬‬
‫إن مضار هذه المجتمعات ونواقصها واضحة لكل عاقل وأي مطلع ولو بشكل سطحً‬
‫على حقائق األرقام التً تقدمها الوكاالت الدولٌة عن األوضاع فً أفرٌقٌا وأمرٌكا الالتٌنٌة‬
‫وجنوب شرق آسٌا وشبه القارة الهندٌة عن مقدار الجوع والعوز والمرض فً هذه المناطق‬
‫باإلضافة إلى البطالة العالٌة والمتزاٌدة فً الدول الصناعٌة ٌدرك مدى فشل المجتمع المدنً فً‬
‫تحقٌق أي من حقوق اإلنسان التً تنادي مؤسساته بها‪ .‬وعلى الرغم من أن المجتمع المدنً هو‬
‫بالتأكٌد حالة متقدمة على حالة المجتمع فً ظل التشرذم اإلقطاعً الذي كان ٌسود المجتمع‬
‫البشري قبله‪ ،‬إال أنه وبال رٌب لم ٌستطع أن ٌحقق حتى شعاراته بالعدالة والحرٌة والمساواة‪.‬‬
‫فإن كانت ثنائٌة "السٌد‪-‬العبد" التً مٌزت المراحل ما قبل المجتمع المدنً قد زالت‪،‬‬
‫فإن المجتمع المدنً بتبنٌه دولة القانون‪ ،‬حوّ ل هذه الثنائٌة إلى ثنائٌة غٌر مباشرة بٌن "العامل أو‬
‫الموظف" "ورب العمل" من خالل الجهاز القانونً والمؤسسً‪ .‬فالقانون وإن ظهر منصفا ً فإنه‬
‫فً نهاٌة المطاف ٌخدم "رب العمل"‪ .‬وعند دراسة الوضع الذي آل إلٌه المجتمع البشري فً‬
‫ظل المرحلة المتقدمة من تطبٌق المجتمع المدنً فً الدول الرأسمالٌة المتقدمة نجد اإلخفاقات‬
‫التالٌة‪:‬‬
‫‪10‬‬
‫أوال‪ :‬حالة اإلغتراب ما زال "العامل" أو "الموظف" بشكل خاص والمواطن بشكل‬ ‫ً‬
‫عام ٌعٌش فً حالة اغتراب فً ظل التركٌبة االجتماعٌة االقتصادٌة القائمة‪ ،‬بل أن حالة‬
‫االغتراب هذه قد تعمقت‪ .‬وتنتج حالة االغتراب هذه من جملة من العوامل أهمها أن العامل أو‬
‫الموظف ٌكون ملزما ً من خالل دخوله إلى سوق العمل للخضوع إلى قانون العرض والطلب‪،‬‬
‫وبالتالً فهو ٌتحول بهذه العملٌة من كونه إنسانا ً إلى كونه سلعة عمل ٌبٌع قوة عمله لرب العمل‬
‫مؤسسة أو جهاز دولة)‪ .‬وعند انخراطه فً آلٌة اإلنتاج وتحدٌد‬‫ً‬ ‫(سوا ًء كان رب العمل فرداً أو‬
‫موقعه من عملٌة اإلنتاج ذاتها (بمفهومها العام)‪ٌ ،‬تحول مع الوقت إلى جزء من أداة اإلنتاج‬
‫ذاتها وهذه هً المرحلة الثانٌة من الشعور باالغتراب‪ .‬وبتراكمٌة تأثٌر حالة االغتراب عند‬
‫األفراد فً المجتمع تتحول من كونها ظاهرة فردٌة للعامل الفرد إلى ظاهرة اجتماعٌة ٌشترك‬
‫فٌها السواد األعظم من القوى البشرٌة داخل المجتمع المدنً‪( .‬أنظر بهذا الصدد التحلٌل الرائع‬
‫فً مقالة ماركس "العمل المتغرب" فً مجموعة المخطوطات الفلسفٌة واالقتصادٌة لعام‬
‫‪)1944‬‬

‫‪ٌ 11‬جب أن أنوه هنا أن حالة المواطنةة لةم تصةلها الكثٌةر مةن شةعوب العةالم كمةا هةً الحةال فةً معظةم بلةداننا العربٌةة لألسةف‪ ،‬فاإلنسةان‬
‫العربً ما زال ٌعتبةر جةزءاً مةن رعٌةة بلةد مةا‪ ،‬ال مةواطن لتلةك البلةد والفةارق كبٌةر بةٌن المةواطنٌن والرعاٌةا‪ .‬لكةن التحلٌةل أعةاله ٌحلةل‬
‫المجتمعات التً وصلت إلى المجتمع المدنً ال تلك التً تحاول الوصول إلٌه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ثانٌاً‪ :‬تفكك الروابط االجتماعية نتٌجة النعدام الثقة بالترابط االجتماعً ونتٌجة لتعمق‬
‫ظاهرة االغتراب االجتماعً نفسها التً ٌعٌشها المجتمع تتفكك الروابط االجتماعٌة‪ .‬ومع هذا‬
‫التفكك تصبح المدٌنة متشكلة من مجموعات من الوحدات السكنٌة المتجاورة المتراصة لكنها‬
‫تعٌش حالة عزلة داخلٌة عن بعضها البعض‪ .‬ومن خالل المحاوالت الناجحة نسبٌا ً للدولة‬
‫الحدٌثة لتفكٌك دولة الرفاه التً تمكن العمال من تحقٌقها خالل مرحلة الحرب الباردة‬
‫والمحاوالت القائمة والمستمرة لتفكٌك النقابات العمالٌة والمهنٌة‪ ،‬تتضاءل الفرص لتوفر هٌاكل‬
‫اجتماعٌة قادرة على كسر حاجز العزلة‪ .‬وٌتحول األفراد بالتالً إلى مستقبلٌن ٌتلقون ما تبثه‬
‫أجهزة األعالم المختلفة والمسٌطر علٌها من قبل الفئة المسٌطرة اجتماعٌا ً وهً الٌوم الرأسمال‬
‫المالً‪ .‬وضمن هذه المعادلة ٌصبح االتصال االجتماعً الممكن لألفراد ٌنبع من مصدرٌن هما‬
‫وسائل اإلعالم المسٌطر علٌها وموقعة فً العملٌة االنتاجٌة‪ .‬وهذا هو بالضبط أبشع شكل ممكن‬
‫لالستالب اإلنسانً‪ ،‬أي عندما تصبح عالقة اإلنسان االجتماعٌة هً نفسها عالقته االغترابٌة‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬غياب العدالة االجتماعية‪ ،‬حٌث ال ٌزال المجتمع المدنً فً غالبٌته‪ٌ ،‬عانً من‬
‫الفقر والظلم االجتماعً فالفوارق االجتماعٌة بٌن الطبقات تزداد وتتعمق‪ ،‬وٌتحول الكثٌر من‬
‫الناس إلى حالة من البؤس الشدٌد فً ظل عدم توفر فرص عمل وارتفاع األسعار واألزمات‬
‫االقتصادٌة المتالحقة التً تسٌطر على مجرٌات التطورات االجتماعٌة فً العقود الماضٌة‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬استمرار النزاعات والنعرات والصراعات‪ :‬فما زال المجتمع المدنً ٌتمٌز‬
‫بالتطاحن بٌن مجتمع وآخر‪ ،‬فما زالت الحروب سمة أساسٌة من سمات المجتمعات المدنٌة‪ ،‬وما‬
‫زالت النعرات موجودة‪ ،‬فإن كانت النعرات اإلقطاعٌة قد زالت (أو بطرٌقها إلى الزوال) فإن‬
‫النعرات القومٌة والعرقٌة والدٌنٌة ما زالت قائمة تطحن البشرٌة بحروبها التً تذكً نارها‬
‫وتحركها فً أكثر األحٌان القوى البرجوازٌة المتنفذة فً المجتمع المدنً‪.‬‬

‫المرحلة االشتراكية‪:‬‬
‫االنتقال من الرأسمالٌة إلى االشتراكٌة هو انتقال تدرٌجً خطوته األولى تحول السٌطرة‬
‫الطبقٌة سٌاسٌاً‪ ،‬وأركز هنا على كلمة سٌاسٌاً‪ ،‬إلى ٌد الطبقة العاملة بحٌث تستطٌع أن تستفٌد‬
‫"من سٌادتها السٌاسٌة لكً تنتزع بالتدرٌج من البورجوازٌة كامل رأس المال وتركز جمٌع‬
‫أدوات اإلنتاج فً ٌد الدولة [المتحولة]‪ ،‬إي فً ٌد البرولٌتارٌا المنظمة بوصفها طبقة سائدة‪،‬‬
‫ولكً تزٌد القوى المنتجة بأسرع وقت ممكن" (اقتباس من البٌان الشٌوعً)‪ .‬أي أن االنتقال كما‬
‫ٌراه ماركس هو انتقال تدرٌجً تكون خالله الطبقة العاملة هً الطبقة السائدة اجتماعٌا ً وبوجود‬
‫الطبقة البورجوازٌة التً ٌتم انتزاع رأس المال منها بالتدرٌج‪ .‬والثورة هنا تكمن فً تحول‬
‫السلطة من سلطة البورجوازٌة إلى سلطة الطبقة العاملة‪.‬‬
‫فً البٌان الشٌوعً ارتأى ماركس أن ٌقترح برنامج النقاط العشرة التً ٌمكن أن تطبق‬
‫فقط فً الدول المتقدمة فً ذلك الوقت‪ )1 :‬تأمٌم األرض والملكٌة العقارٌة وكل استئجار هدفه‬
‫المصلحة العامة ‪ )2‬فرض ضرٌبة دخل تصاعدٌة ‪ )3‬إلغاء حق التورٌث ‪ )4‬مصادرة أمالك‬
‫كل من هاجر أو ثار على الدولة العمالٌة ‪ )5‬تأمٌم البنوك ‪ )6‬تأمٌم وسائل المواصالت‬
‫واالتصاالت ‪ )7‬توسٌع ملكٌة الدولة للمصانع وأدوات اإلنتاج ‪ )9‬مساواة كل العمال ‪ )8‬توحٌد‬
‫الصناعة مع الزراعة لمحو الفوارق تدرٌجٌا ً بٌن المدٌنة والقرٌة ‪ )10‬التعلٌم المجانً لكل‬
‫األطفال‪ .‬على الرغم من أن هذا البرنامج عمره اآلن أكثر من ‪ 150‬عاما ً إال أن النقاط التً لم‬
‫تطبق منه ما زالت تصلح ألن تكون ركائز لبرنامج معاصر‪.‬‬
‫من البرنامج المطروح أعاله نتلمس أن عملٌة تأمٌم الملكٌة الخاصة لوسائل اإلنتاج هً‬
‫عملٌة طولٌة المدى وتدرٌجٌة بالنسبة لماركس‪ .‬بحٌث ٌتم مع استالم الطبقة العاملة للحكم تأمٌم‬
‫شبكات الموصالت ووسائل النقل العام وشبكات االتصاالت والكهرباء والبنٌة التحتٌة إضافة إلى‬

‫‪11‬‬
‫تأمٌم البنوك والملكٌة العقارٌة‪ .‬أما تأمٌم الصناعة فال ٌتم بنفس الطرٌقة بل عن طرٌق خلق‬
‫منافسة حقٌقٌة وضمن آلٌات السوق‪ ،‬أي ضمن آلٌات نمط اإلنتاج الرأسمالً‪ ،‬بٌن المصانع‬
‫الرأسمالٌة التً ستستمر بالعمل وبٌن المصانع التً ستنشئها الدولة لمنافسة تلك المصانع‪ .‬أي أن‬
‫تقوم الدولة العمالٌة بإنشاء مصانع حكومٌة منافسة للقطاع الخاص بحسب آلٌات السوق فً‬
‫العرض والطلب‪.‬‬
‫وهذه الخطوة ضرورٌة لنجاح االنتقال إلى نمط اإلنتاج االشتراكً والذي ٌحتاج إلى‬
‫عاملٌن مهمٌن هما ‪ )1‬عالمٌة النظام‪ :‬أي أن تنتقل جمٌع دول العالم إلى هذا النظام الجدٌد أو أن‬
‫ٌكون هو النظام المهٌمن عالمٌا ً على األقل؛ و‪ )2‬الوفرة‪ :‬ولكً ٌتحقق عامل الوفرة ٌجب حسب‬
‫كلمات ماركس أن "تز ٌد القوى المنتجة بأسرع وقت ممكن" وهذا ٌستلزم بقاء شكل القوى‬
‫المنتجة المتطورة المتوفرة بالمجتمع إلى أن تتمكن القوى األكثر تطوراً والتً تنشئها الدولة‬
‫العمالٌة من توفٌر هذا العامل‪ .‬أي ٌجب أن ٌصل اإلنتاج الصناعً إلى مرحلة متطورة جداً‬
‫تصبح معه إمكانٌة استغالل المصادر وتوزٌعها على آلٌات اإلنتاج سهلة وذات مردود اقتصادي‬
‫مرتفع ٌؤدي إلى وصول المجتمع المنتج إلى مرحلة من الرخاء االقتصادي المناسبة للتحول إلى‬
‫نمط اإلنتاج االشتراكً‪.‬‬
‫أما عن الطرٌقة التً ٌمكن خاللها معالجة االضطهاد واالستغالل للعمال من قبل‬
‫أصحاب المصانع الخاصة خالل المرحلة االنتقالٌة هذه فهذا ٌتم عن طرٌق التحوالت التً تقوم‬
‫بها الدولة العمالٌة على القوانٌن والتشرٌعات بحٌث تحولها من قوانٌن وتشرٌعات تخدم مصالح‬
‫الطبقة البورجوازٌة إلى قوانٌن وتشرٌعات تخدم مصالح الطبقة العاملة‪ .‬وبالتالً ٌتم إرساء‬
‫أنظمة وقوانٌن تحافظ على حقوق العمال فً المصانع الخاصة لتتناسب مع حقوقهم فً المصانع‬
‫الحكومٌة‪ .‬ثانٌا ً من خالل الضرٌبة التصاعدٌة على الدخول والتً ستضمن أن ال ٌتمكن صاحب‬
‫المصنع من مراكمة رأس مال ٌمكن أن ٌساعد على إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالً مرة أخرى‪.‬‬
‫ولكن الدولة العمالٌة لكً تتمكن من المحافظة على نفسها ٌجب علٌها أن تتبنى المجتمع‬
‫اإلنسانً والذي ٌمكن لشرائح واسعة اجتماعٌا ً خالل المرحلة الحالٌة أن تدعم رفع هذا الشعار‪،‬‬
‫وعلى األخص فً ظل التعارض الذي بدأ ٌظهر بوضوح بٌن البورجوازٌة الصناعٌة ورأس‬
‫المال المالً‪ .‬وتضم هذه الشرائح أٌضا ً مؤٌدي المحافظة على البٌئة واللٌبرالٌٌن الكالسٌكٌٌن‪،‬‬
‫والطبقات المتوسطة‪ .‬وٌمكننا إذن أن نتخٌل عالما ً خالٌا ً من الصدام‪ ،‬إذا ما تمكنت اإلنسانٌة من‬
‫التحول عن المجتمع المدنً إلى مجتمع أكثر إنسانٌة ٌتمٌز بتطبٌق النقاط العامة التالٌة‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬ضمان تطبيق الديمقراطية السياسية واالجتماعية واالقتصادية‪ .‬وبالتالً التحقق‬
‫من إنجاز المهمة التً ادعت الدٌمقراطٌة اللٌبرالٌة أنها أنجزتها بتطبٌقها المجتمع المدنً‪.‬‬
‫ثانٌاً‪ :‬السعي نحو إلغاء ثنائية "العامل – رب العمل"‪ ،‬وذلك من خالل خلق آلٌات عمل‬
‫اجتماعٌة ٌشعر فٌها العامل بأنه لٌس جزءاً من أداة اإلنتاج بل جزءاً من المجتمع الذي ٌحرك‬
‫أدوات اإلنتاج‪ ،‬وٌخلق بالتالً جواً من التنافس بٌن المؤسسات االجتماعٌة لإلنتاج والمؤسسات‬
‫الخاصة المملوكة ألرباب العمل‪ ،‬إلى أن تفرض آلٌات التطور االقتصادي أسباب زوال‬
‫المؤسسات الخاصة‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬الوصول إلى عالقات فوق قومية ودينية بين المجموعات البشرية‪ .‬بما أن اإلنسان‬
‫هو محور اهتمام المجتمع اإلنسانً فأن ٌكون هذا اإلنسان منتمٌا ً إلى دٌن معٌن أو قومٌة ما أو‬
‫عرق ما‪ ،‬تصبح غٌر مهمة‪ .‬ألن السٌطرة ال تتم هنا بٌن فرٌق قومً على آخر أو دٌن على آخر‬
‫بل تصبح العالقات فوق قومٌة وفوق دٌنٌة تربط الجنس البشري عبر المفاهٌم اإلنسانٌة األكثر‬
‫رقٌا ً والتً تشمل احترام التماٌزات الحضارٌة والثقافٌة بٌن الحضارات اإلنسانٌة المختلفة‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬زوال أسباب الحروب والصراعات‪ .‬بما أن هذه المفاهٌم اإلنسانٌة هً التً تحكم‬
‫تطور المجتمع اإلنسانً فمن البدٌهً زوال أسباب الحروب والصراعات‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬نهاية االغتراب‪ .‬ضمن هذه اآللٌة الجدٌدة للعالقات االجتماعٌة داخل المجتمع‬
‫البشري ٌلغى االغتراب الذي كان ٌحكم حٌاة األفراد فً ظل المجتمع المدنً‪ ،‬وٌقوم المجتمع‬

‫‪11‬‬
‫اإلنسانً بإتمام المرحلة التً لم ٌنجزها المجتمع المدنً من تحقٌق الحرٌة والعدالة والمساواة‬
‫بٌن أفراد المجتمع‪.‬‬
‫وفً حال انتقال المجتمع من حالته المدنٌة إلى حالته اإلنسانٌة تبدأ مالمح االلتقاء بٌن‬
‫ّ‬
‫التفوق لنقاط‬ ‫البشر بكل ثقافاتهم وحضاراتهم تسود فوق الصراعات الظاهرة وٌنتج عن هذا‬
‫االلتقاء تكوّ ن جسم حضاري ٌمكن تسمٌته "بالحضارة اإلنسانٌة"‪ .‬وبما أن المجتمع اإلنسانً ال‬
‫ٌعطً األفضلٌة لحضارة ما فوق الحضارات األخرى – كما تحاول قوله اإلمبرٌالٌة وأبواقها‬
‫فإن الثقافات اإلنسانٌة واالهتمامات التراثٌة والتماٌزات بٌن الشعوب المختلفة تبقى قائمة ولكن‬
‫فً حالة حوار وانسجام ال حالة صدام وصراع‪.‬‬

‫المرحلة الشيوعية‪:‬‬
‫ٌختلف المجتمع الشٌوعً عن المجتمع الطبقً أٌا ً كان فً أن الثانً ٌحاول الفصل بٌن‬
‫العمل الفكري والعمل الجسدي‪ ،‬بٌنما األول ٌمتاز بالقضاء على تقسٌم العمل‪ ،‬ولذلك "ٌزول‬
‫التضاد بٌن العمل الفكري والعمل الجسدي‪ ،‬وٌصبح العمل‪ ،‬ال وسٌلة للعٌش وحسب‪ ،‬بل الحاجة‬
‫األولى للحٌاة أٌضاً"‪ 11.‬وعندها فقط ٌستطٌع اإلنسان أن ٌكون صٌاداً فً الصباح وعامالً فً‬
‫المساء‪.‬‬
‫بهذا الوصف ٌقدم لنا ماركس المجتمع الشٌوعً دون أن ٌحدد سماته االقتصادٌة أو‬
‫سماته الفعلٌة‪ ،‬فهو ٌقول لنا أن هذا المجتمع لم ٌتحقق على أرض الواقع بعد‪ ،‬وال ٌمكن تقدٌم‬
‫تصور تفصٌلً عن شًء لم تتضح معالمه‪ .‬ولكن النقاط األساسٌة التً ٌقرها ماركس عن هذا‬
‫المجتمع تتمثل فً‪ :‬اضمحالل الدولة وحلول مؤسسات التسٌٌر الذاتً االجتماعٌة مكانها‪ .‬زوال‬
‫الطبقات وتحول المجتمع إلى طبقة اجتماعٌة عاملة واحدة‪ .‬زوال االختالف بٌن العمل الذهنً‬
‫والعمل الجسدي‪ .‬وٌمٌز بٌن الحالة االقتصادٌة فً المجتمع االشتراكً والحالة االقتصادٌة فً‬
‫المجتمع الشٌوعً على النحو التالً‪ :‬فً االشتراكٌة تكون المعادلة‪" :‬من كل حسب طاقته ولكل‬
‫حسب عمله" بٌنما فً المجتمع الشٌوعً فتكون المعادلة‪" :‬من كل حسب طاقته ولكل حسب‬
‫حاجته"‪ ،‬أي أن العمل ٌتحول لٌكون ضرورة للحٌاة ال وسٌلة عٌش‪.‬‬

‫مفهوما اإليديولوجية العلمية والحتمية التاريخية‬


‫ٌر ّكز النقد األكثر حدة ألفكار ماركس على مفهومً إٌدٌولوجٌة الطبقة العاملة والحتمٌة‬
‫التارٌخٌة‪ .‬وقد اعتمد هذا النقد‪ ،‬بصورة أساسٌة‪ ،‬على التفسٌر الشائع ألفكار ماركس‪ ،‬والذي‬
‫ٌعلن أن الماركسٌة إٌدٌولوجٌة الطبقة العاملة فً مواجهة إٌدٌولوجٌة جمٌع الطبقات األخرى‪،‬‬
‫والحتمٌة التارٌخٌة هً‪ ،‬حسب أبسط التعارٌف‪ ،‬أن المجتمع مهما حدث به من تطورات سٌؤدي‬
‫تطوره إلى تبنً المجتمع االشتراكً ومن ثم الشٌوعً‪.‬‬
‫لكن ماركس نفسه لم ٌ ّدع ٌوما ً تب ّنٌه لـ "اإلٌدٌولوجٌة العلمٌة" كما ٌ ّدعً آلتوسٌر‪ ،‬كما‬
‫أنه لم ٌ ّدع أن أفكاره هً إٌدٌولوجٌة الطبقة العاملة كما تم تفسٌرها من قبل المدرسة السوفٌتٌة‪.‬‬
‫فماركس‪ ،‬على النقٌض تماماً‪ ،‬حاول بشكل متواصل أن ٌوضح أن على الطبقة العاملة أن تتبنى‬
‫التفكٌر العلمً فً بناء العالم الجدٌد‪.‬‬
‫اإلٌدٌولوجٌة‪ ،‬أي إٌدٌولوجٌة‪ ،‬حسب تعرٌف ماركس‪ ،‬تعبٌر عن نمط من تعمٌة الوعً‬
‫وإسدال ستائر من الضباب على الحقٌقة‪ .‬اإلٌدٌولوجٌة نوع من الوعً لكنها وعً زائف‪ .‬ولذلك‬

‫‪ 11‬كارل ماركس وفردرٌك أنجلس‪ ،‬المنتخبات‪ ،‬مجلد ‪ ،3‬ج‪ ،1‬دار التقدم‪ ،‬موسكو‪ ،1891 ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪12‬‬
‫فهً نقٌض للواقع‪ .‬وبما أن للواقع تارٌخا ً فكان ضرورٌا ً لإلٌدٌولوجٌة‪ ،‬كً تصل إلى هدفها فً‬
‫تعمٌة الواقع‪ ،‬إما أن تفسر التارٌخ بشكل خاطئ وإما أن تغض النظر عن دراسته‪ ،‬مما ٌؤدي‬
‫إلى القول بأن البشر اصطنعوا "باستمرار‪ ،‬وحتى الوقت الحاضر‪ ،‬تصورات خاطئة عن أنفسهم‬
‫نظموا عالقاتهم وفقا ً ألفكارهم‪ .‬فلنحررهم‪ ،‬إذن‪ ،‬من‬ ‫وعن ماهٌتهم وعما ٌجب أن ٌكونوا‪ .‬لقد ّ‬
‫‪12‬‬
‫األوهام واألفكار والعقائد والكائنات الخٌالٌة التً ٌرزحون تحتها" ‪.‬‬
‫فهدف ماركس المعلن‪ ،‬إذن‪ ،‬تحرٌر البشر من األوهام واألفكار والعقائد والكائنات‬
‫الخٌالٌة‪ .‬فإن كان ذلك هو الحال‪ ،‬فكٌف ٌمكن له أن ٌقول بتبنً الطبقة العاملة نمطا ً جدٌداً من‬
‫التعمٌة والوعً الزائف؟‬
‫قد ٌقول بعضهم إن اإلٌدٌولوجٌة ما هً إال مجموعة األفكار التً تقوم على شكل نسق‬
‫ٌجمع خالله مفاهٌم حول األخالق‪ ،‬الدٌن‪ ،‬السٌاسة‪... ،‬الخ‪ ،‬ضمن مفهوم تارٌخً معٌن (وأحٌانا ً‬
‫من دون هذا الفهم)‪ .‬أقول إن هذا النسق حتى لو كان تارٌخٌا ً سٌكون أٌضا ً نوعا ً من الوعً‬
‫الزائف‪ ،‬خصوصا ً إن كان النسق الفكري ٌتعاط بفهم هٌغلً مع البنى الفوقٌة من دون أن ٌنظر‬
‫إلى ما ٌؤثر فعالً على هذه البنى‪ .‬فإن لم تكن هذه هً الحال‪ ،‬فهل ٌمكن اعتبار نوع‬
‫اإلٌدٌولوجٌة التً تتعامل مع البنى الفوقٌة انطالقا ً مما ٌحدث فً العالم الموضوعً على أنها‬
‫لٌست وعٌا ً زائفاً؟‬
‫لإلجابة عن هذا السؤال علٌنا ابتدا ًء أن نسأل عن أي إٌدٌولوجٌة ٌجري الحدٌث‪،‬‬
‫وبالتالً أن نعاٌن طبٌعة هذه اإلٌدٌولوجٌة‪ ،‬لرؤٌة ما إذا كانت تنظر إلى عالقة البُنى الفوقٌة‬
‫بالعالم الموضوعً فقط لكً تنتقً منه األغراض التً تخدم مصالحها اإلٌدٌولوجٌة‪ .‬فإن كانت‬
‫فعالً تتعامل بموضوعٌة مع طبٌعة هذه العالقة‪ ،‬فإننً أقول إن كان هناك أي احتمال لوجود مثل‬
‫هذه اإلٌدٌولوجٌة التً ال تحجب أجزاء من عالقة البنى الفوقٌة بالعالم الموضوعً‪ ،‬وتتعامل مع‬
‫الحقائق باستخدام مقاربة علمٌة‪ ،‬فإن مثل هذه اإلٌدٌولوجٌة ٌمكن أن ال تكون وعٌا ً زائفاً‪ .‬ولكن‬
‫إذا افترضنا كل ذلك فإن النسق الذي نعاٌنه ال ٌعد نوعا ً من اإلٌدٌولوجٌة بل ٌشبه أن ٌكون نوعا ً‬
‫من العلم‪.‬‬
‫لم ٌصف ماركس أي نوع من اإلٌدٌولوجٌة على أنها "إٌدٌولوجٌة علمٌة"‪ ،‬فهذا المفهوم‬
‫ٌحمل‪ ،‬من وجهة نظره‪ ،‬تناقضاً‪ ،‬ألن اإلٌدٌولوجٌة‪ ،‬كما ٌصفها‪ ،‬تقلب الحقائق من أعلى إلى‬
‫أسفل‪ ،‬بٌنما العلم ٌحمل معرفة حقٌقٌة عن العالم الموضوعً‪" ،‬حٌث ٌنقطع التخمٌن فً الحٌاة‬
‫الواقعٌة‪ٌ ،‬بدأ‪ ،‬إذن‪ ،‬العلم الواقعً اإلٌجابً‪ٌ ،‬بدأ تحلٌل النشاط العلمً‪ ،‬تحلٌل عملٌة التطور‬
‫العملً للبشر‪ .‬إن العبارات الجوفاء عن الوعً تنقطع‪ ،‬وٌجب أن تح ّل معرفة واقعٌة مكانها"‪.‬‬
‫فاإلٌدٌولوجٌة‪ ،‬إذن‪ ،‬بالنسبة إلى ماركس هً أٌضا ً نقٌض العلم‪" .‬وللعلم شقان" والتعامل‬
‫معهما ٌنطلق من فهم تارٌخهما وفهم جدلٌة العالقة بٌنهما‪ .‬وبالتالً فالتارٌخ ٌدرس تارٌخ البشر‬
‫وتارٌخ العلوم الطبٌعٌة‪ .‬فموضوعا العلم هما البشر والعلوم الطبٌعٌة‪ .‬فإن كان تطور العلوم‬
‫الطبٌعٌة قد احتكم‪ ،‬إلى حد كبٌر‪ ،‬بموضوعٌة‪ ،‬فإن دراسة تارٌخ وتطور المجتمع البشري لم‬
‫تلتزم بذات الموضوعٌة‪ .‬فكما ٌقول ماركس فً "اإلٌدٌولوجٌة األلمانٌة" إن الفالسفة حتى ذلك‬
‫الوقت كانوا مهتمٌن بدراسة تارٌخ األفكار والمعتقدات ومهملٌن النشاط اإلنسانً‪ ،‬والمهم فعالً‬
‫هو دراسة تارٌخ النشاط اإلنسانً والتطور االجتماعً‪" .‬فاألخالق‪ ،‬والدٌن‪ ،‬والمٌتافٌزٌقا‪ ،‬وكل‬
‫البقٌة الباقٌة من اإلٌدٌولوجٌة‪ ،‬وكذلك أشكال الوعً التً تقابلها‪ ،‬تفقد فً الحال كل مظهر من‬
‫مظاهر االستقالل الذاتً‪ .‬فهً ال تملك تارٌخاً‪ ،‬ولٌس لها أي تطور‪ ،‬لكن البشر الذٌن ٌطورون‬
‫إنتاجهم المادي وعالقاتهم المادٌة‪ ،‬هم الذٌن‪ ،‬إلى جانب وجودهم الفعلً‪ٌ ،‬طوّ رون أفكارهم‬
‫ومنتجات فكرهم على السواء"‪.‬‬
‫فإن كان العلم بشقه الذي ٌتعامل مع الطبٌعة قد تأسس‪ ،‬فإنّ ماركس أراد أن ٌؤسس شق‬
‫العلم الذي ٌستطٌع أن ٌتعامل مع النشاطات اإلنسانٌة مثل التطورات االجتماعٌة والسٌاسٌة‬

‫‪ 12‬اإلٌدٌىنىخٍت األنًاٍَت‪ ،‬يزخغ طابك‪ ،‬انًمديت ص ‪.7‬‬

‫‪13‬‬
‫واالقتصادٌة‪ .‬وٌجب أن ٌتضمن هذا العلم آلٌات تطوره الذاتً‪ ،‬بحٌث ٌكون قادراً‪ ،‬تماماً‪ ،‬كما‬
‫فً العلم الطبٌعً‪ ،‬أن ٌعدل نظرٌاته عندما تلزم المعرفة المستقاة من العالم الحقٌقً هذا التعدٌل‪.‬‬
‫وٌصل ذلك إلى االستغناء التام‪ ،‬وفً بعض الحاالت‪ ،‬عن نظرٌة ما‪ ،‬وحتى إن كانت هذه‬
‫النظرٌة هً "الماركسٌة التقلٌدٌة" بعٌنها‪ .‬أستطٌع أن ا ّدعً أن ماركس ٌقبل هذه المجادلة ألنه‬
‫لم ٌفكر أبداً بنظرٌته على أنها خالدة‪ ،‬كما فً الدٌن أو الدوغما‪.‬‬
‫فبعد أن نشر ماركس كتابه األول فً رأس المال بعث إلٌه أحد قادة الحركة العمالٌة فً‬
‫روسٌا القٌصرٌة برسالة ٌقول فٌها إن الكتاب كان ذا أهمٌة قصوى بالنسبة إلى حركته لكنه ال‬
‫ٌعتقد أن ما ورد فٌه من تحلٌل ٌنطبق على الوضع فً روسٌا‪ .‬فأجابه ماركس أن مالحظته‬
‫صحٌحة تماماً‪ ،‬فرأس المال ٌعالج التطور الرأسمالً فً صورته األكثر وضوحا ً فً برٌطانٌا‪.‬‬
‫وٌجب أن ٌعالج العمال الروس التطور االجتماعً عندهم بحسب ما ٌرونه من مقدمات فً‬
‫مجتمعهم‪ .‬لذلك نجد أن ماركس قد شبّه عمله بعمل الفٌزٌائً فقال‪" :‬إن عالم الفٌزٌاء إما أن‬
‫ٌدرس الظاهرات الطبٌعٌة حٌثما تقع فً أكثر األشكال نموذجٌة وأكثرها خلوّ اً من المؤثرات‬
‫المشوشة‪ ،‬أو أن ٌقوم‪ ،‬حٌثما أمكن‪ ،‬بإجراء التجارب فً شروط تؤمن حدوث الظاهرات‬
‫بصورة ال تشوبها شائبة‪ .‬إن علىّ فً هذا المؤلف (رأس المال) دراسة نمط اإلنتاج الرأسمالً‬
‫وعالقات اإلنتاج والتبادل المطابقة له"‪.‬‬
‫لكن على رغم التشابه فً عمل العالم بٌن عالم الطبٌعٌات وعالم التطور البشري‪ ،‬فإن‬
‫ماركس ٌفرّ ق تماما ً بٌن طبٌعة كل من الموضوعٌن والتشابكات التً تبرز عند التعامل مع‬
‫العلوم اإلنسانٌة‪ .‬ففً موقع آخر من رأس المال عندما ٌصف طبٌعة السلعة ٌقول‪" :‬بٌد أن‬
‫الضوء‪ ،‬فً فعل الرؤٌة‪ٌ ،‬سقط فعلٌا ً من شًء إلى شًء آخر‪ ،‬من الجسم الخارجً إلى العٌن‪،‬‬
‫إنها عالقة فٌزٌائٌة بٌن شٌئٌن فٌزٌائٌٌن‪ .‬أما مع السلع فاألمر ٌختلف‪ .‬فوجود منتجات العمل‬
‫بشكل سلع‪ ،‬وعالقة القٌمة بٌن هذه المنتجات التً تجعل منها سلعاً‪ ،‬ال صلة لها الب ّتة‬
‫بالخصائص الطبٌعٌة للسلعة وال بالعالقات المادٌة الناشئة عن هذه الخصائص‪ ،‬فهً‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫لٌست سوى عالقات اجتماعٌة محددة بٌن البشر تتخذ‪ ،‬فً نظرهم‪ ،‬شكالً خٌالٌا ً بصورة عالقة‬
‫بٌن األشٌاء"‪.‬‬
‫إ ن علم تطور النشاط االجتماعً ٌعتمد على المقدمات المرتبطة بالمشاهدات والحقائق‬
‫الواردة فً المادة التارٌخٌة المتوفرة‪ ،‬ومرتبطة بصورة أساسٌة باإلنسان كجزء من الطبٌعة‬
‫ونشاطاته المرتبطة باإلنتاج‪ .‬لذلك ٌجب لهذا العلم أن ٌدرس البناء االجتماعً اإلنسانً الذي‬
‫ٌتبنى فً حلقة تطوره أنماطا ً معٌنة من اإلنتاج‪ ،‬والتً تتغٌر تبعا ً لضرورات الطبٌعة اإلنسانٌة‪.‬‬
‫ولكل نمط من أنماط اإلنتاج مجموعة من القوانٌن المرافقة‪ .‬والكتشاف هذه القوانٌن ٌجب أن‬
‫ندرس العالقات الداخلٌة للفاعلٌة اإلنسانٌة فً البناء االجتماعً داخل نمط اإلنتاج المنوي‬
‫دراسته‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن الصعوبات تظهر عندما نحاول التعامل مع المقدمات التارٌخٌة أو كما‬
‫ٌضعها هو "وعلى العكس" فإن الصعوبة ال تبدأ إال حٌن ٌباشر فً دراسة هذه المادة‬
‫(التارٌخٌة) وتصنٌفها سواء كان المقصود عصر مضى وانقضى أم الزمان الحاضر‪ ،‬وفً‬
‫تحلٌلها بصورة واقعٌة‪.‬‬
‫إذن لٌس هناك إطالق فً دراسة التارٌخ وفً دراسة العلوم اإلنسانٌة‪ ،‬وبالتالً فإن‬
‫مفهوم "الحتمٌة التارٌخٌة" ٌصبح ذا معنى مختلف عن المعنى المتداول‪ .‬فماركس عندما وضع‬
‫الشٌوعٌة لم ٌفكر بها على أنها نظام مٌتافٌزٌقً‪" :‬لٌست الشٌوعٌة بالنسبة إلٌنا أوضاعا ً ٌنبغً‬
‫إقامتها مثالً أعلى ٌنبغً للواقع أن ٌتطابق معه‪ .‬إننا ندعو الشٌوعٌة الحركة الواقعٌة التً تلغً‬
‫األوضاع القائمة حالٌاً‪ .‬وإن شروط هذه الحركة‪ٌ ،‬جب أن تقرر هً نفسها وفقا ً للواقع المادي‪،‬‬
‫لتنتج عن المقدمات الموجودة فً الوقت الحاضر"‪.‬‬
‫إذن إن لم تكن المقدمات‪ ،‬وألي سبب من األسباب‪ ،‬هً ذاتها التً عرفها ماركس فإن‬
‫النتٌجة التً استنبطها ماركس لن تكون نفسها‪ .‬وقد أشارت إلى ذلك روزا لوكسومبورغ القائدة‬

‫‪14‬‬
‫العمالٌة لثورة ‪ 1818‬فً ألمانٌا (أي قبل سٌطرة المدرسة السوفٌتٌة على الفكر الماركسً) حٌن‬
‫قالت إن مصٌر البشرٌة أمام احتمالٌن‪ :‬فإما االشتراكٌة وإما البربرٌة‪ .‬وتدل مالحظتها هذه على‬
‫أن الفهم غٌر المدرسً للماركسٌة ٌضع التحول إلى المجتمع االشتراكً‪ ،‬فالشٌوعً فً موضع‬
‫احتمالً ولٌس حتمٌاً‪ ،‬بغض النظر إذا قبلنا االحتمالٌن اللذٌن اقترحتهما أو لم نقبل‪ ،‬إذ أن صٌغة‬
‫االحتماالت تفٌد رفض "الحتم" كصٌغة دوغمائٌة تبتعد عن الفهم العلمً‪.‬‬

‫‪15‬‬

You might also like