8 منهجية البحث عند جابر

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 19

‫بسمه تعالى‬

‫منهجية البحث في العلوم الطبيعية عند جابر بن حيان‬

‫خالصة البحث‪ :‬بعد مرور حوالي قرن على تأسيس علم ميكانيكا الكم ‪ ،‬اليزال علماء الفيزياء و غيرهم عاجزين عن‬
‫تفسير ما يحدث في عالم الكم أي الذرة‪ .‬و من جانب آخر ‪ ،‬إذا استمددنا بالعلم الموج&&ود عن&&د أئم&&ة أه&&ل ال&&بيت عليهم‬
‫السالم ‪ ،‬من الممكن أن نساهم في تطوير العلوم الطبيعية بمستوى أعلى مما بلغه الغربيون‪ .‬وللوص&&ول إلى ه&&ذا العلم‬
‫نحتاج إلى علماء ارتبطوا باألئمة بشكل مباشر و أخذوا منهم و جابر بن حيان أح&&د ه&&ؤالء‪ .‬و بع&&د أن نع&&رض أرب&&ع‬
‫مقدمات حول ارتباط العقل بالعالم الخارجي ‪ ،‬و كذلك ارتباطه بالدين و من ثم أثر علم األئمة و خاصة على جابر بن‬
‫حيان وأثره على دراستنا ‪ ،‬و إمكانية تغيير الطبيعة ‪ ،‬وما اُمرنا به للتكتم في العلوم ‪ ،‬ن&&دخل في ص&&لب الموض&&وع و‬
‫نعطي (برواية جابر بن حيان) منهجية البحث في العلوم الطبيعية عند األئمة و معايير الوصول إلى حقيق&&ة الك&&ون‪ .‬و‬
‫في الختام نعرض بحثين عن ماهية الكون و السببية فيه ونرجح القول القائل بوجود أرادة لألجسام الكونية ايضاً‪.‬‬

‫أهمية البحث‪:‬‬
‫منذ خلق هللا تبارك و تعالى االنسان ‪ ،‬اعطاه قابلية التغيير في هذا الكون‪ .‬و قد استفاد االنسان من‬
‫هذه الهبة طوال تاريخه العلمي‪ .‬فالعلم هو الوسيلة األفضل لكشف حقائق الكون و من ثم االستفادة من‬
‫قدراتها و عطاءاتها حسب ما يقتضي االنسان‪ .‬و نحن اآلن نعيش في عصر قد يُعادل يوم ُه سنة من‬
‫األيام الماضية من حيث التقدم في كشف حقائق العا َلم و االنتفاع بها‪.‬‬
‫ً‬
‫وخاصة علماء الفيزياء (النظريين منهم) قد عانوا من‬ ‫ولكن مع كل هذه التطورات ‪ ،‬نرى العلماء‬
‫ظاهرة صعبة لم يتسنْ لهم فهمها أو تفسير ما يرونه في مختبراتهم وهو ميكانيكا الكم أو الحركة&‬
‫الكمية‪ .‬هذه النظريّة جاءت كتعميم وتصحيح لنظريات نيوتن الكالسيكية ودمجها بالحركة الموجية‬
‫وخاصة على المستوى الذري ودون الذري و تسميتها بميكانيكا الكم يعود إلى أهميّة الكم في بنائها‪.‬‬
‫تقوم النظرية الكمّية بتقديم تصوّ ر غريب عن العالم الذرّ ي ودون الذرّ ي يصدمنا ويبعدنا عن كل ما‬
‫ألفناه في الواقع الحياتي وما تقدم ُه الفيزياء الكالسيكية من تصورات‪ .‬لكنها بالرغم من كل ذلك تنجح‬
‫إلى حد بعيد في تفسير حقائق& العالم دون الذري وتعزز صحتها يوما ً بعد يوم بتقديم تنبؤات غريبة‪,‬‬
‫لكن كل التجارب العلمية تأتي فيما بعد لتؤكد هذه التنبؤات‪ .‬كل هذا أدخل ميكانيكا الكم في عمق‬
‫نقاشات فلسفية حول طبيعة ما تطرحه ومدى قرب ِه من الحقيقة‪ ،‬حتى أن ميكانيكا الكم طرحت نفس‬
‫قضية الحقيقة& بشكل سؤال‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ومن أهم هذه التجارب هي تجربة ش ّق َي يونغ التي‬
‫أسهمت في البحث في طبيعة الضوء وإثبات طبيعته‬
‫الموجية‪ ،‬ثم استخدمت في اثبات وجود خاصية موجية‬
‫لجميع الجسيمات مثل اإللكترونات وغيرها‪ .‬تعتمد‬
‫تجربة ش ّق َي يونغ على انعراج الضوء عند ش ّق َين‬
‫رفيعين في حاجز& مانع للضوء‪ ،‬حيث يقوم االنعراج‬
‫بتحويل كال الش ّق َين إلى منبعين ضوئيين متشابهين‬
‫مترافقين‪ ،‬وينتج عنهما عند استقبال الضوء على‬
‫حاجز& أمامهما أنماط تداخل تتميز بأهداب ضوئية‬
‫شديدة اإلنارة وأهداب عاتمة‪ ،‬وهذا ما يشبه ظاهرتي التداخل الب ّناء والتداخل اله ّدام في األمواج‪ .‬و‬
‫من الغريب ‪ ،‬تم الحصول أيضا على نتائج مشابهة عند استبدال الحزم الضوئية (حزم الفوتونات)‬
‫بحزم إلكترونية مما كان أحد اثباتات مثنوية الموجة ‪ -‬جسيم‪.‬‬
‫ولكن األغرب من كل هذا هي التجربة التي تنطوي على إرسال جسيمات واحدة (مثل فوتونات ‪ ،‬أو‬
‫الكترونات ‪ ،‬أو حتى أجسام أكبر واحداً تلو اآلخر من خالل الش ّقين ‪ ،‬ففي هذه الحالة ‪ ،‬نرى وصول‬
‫هذه الجزيئات واحداً تلو اآلخر ولكن تعطي نفس أنماط التداخل والممثلة بأهداب ضوئية شديدة‬
‫اإلنارة وأهداب عاتمة‪ ،‬وهذا يعنى أن الجسيمات التي أرسلن واحداً تلو اآلخر تتفاعل بعضها مع‬
‫بعض وهذه النتيجة تتناقض مع خبرتنا اليومية و فهمنا للعالم‪.‬‬
‫في الواقع الموضوع معقد جداً وخارج& نطاق بحثنا‪ .‬ولكن ما يهمنا هنا أن العلماء لم يجدوا خالل‬
‫الستين سنة األخيرة أي تفسير معقول لميكانيكا الكم ككل و لكثير من نتائجها المختبرية‪ .‬و هذا ما‬
‫نريد قوله هنا ‪ ،‬بأنّ للمسلمين أن يرجعوا إلى آثارهم الدينية لكي يستنبطوا حالً جديداً لما توقف‬
‫الغربيون عن الوصول اليه‪ .‬وهنا تكمن أهمية البحث عن علماء كبار في صدر االسالم و البحث عن‬
‫أصولهم الفكرية و المنهجية العلمية التي وصلوا إليها لكي نتخطى نفس الخطى و ُنحيي مراتبنا‬
‫العلمية التي كنا نحظى بها في صدر االسالم‪.‬‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ً‬
‫خاصة في العلوم الطبيعية كانت معتمدة في‬ ‫أن مناهج البحث العلمي و‬
‫أغلب األحيان على تأمل نظري أكثر مما تعتمد على مشاهدة متعاقبة و‬
‫تجريب دقيق صارم‪ .‬ولكن كانت هناك استثناءات لمنهج البحث العلمي‬
‫لبعض العلماء‪ ,‬و من هؤالء عالمنا الجليل جابر بن حيان ‪ ،‬فهو شيعي‬
‫المذهب و من طالب االمام جعفر& الصادق عليه السالم‪ .‬و كثيراً ما يرد‬
‫‪2‬‬
‫اسم االمام في كتاباته مشيراً إليه بقوله (سيدي)‪ . 1‬و نحن إذ نريد الوصول إلى ما يقولون به األئمة‬
‫راو لنا لما يروونه في هذا المقام‪ .‬و يؤكد جابر على هذا الموضوع‬ ‫عليهم السالم فيكون جابر أحسن ٍ‬
‫‪2‬‬
‫قائال‪" :‬فو هللا مالي في هذه الكتب إال تأليفها ‪ ،‬والباقي علم النبي" و في نفس الوقت هو عالم دقيق‬
‫في أقواله‪ .‬فمثالً نراه يقول‪ ..." :‬ولك ّنا ذكرناهُ استظهاراً و احتراسا ً من ذم الطاعنين أن ذلك إنما‬
‫عملناه على حساب الهوى و العادة ‪ ،‬ولسنا نفعل ذلك في علم من العلوم ‪ ،‬ولكن على ما يوجبه حكم‬
‫‪3‬‬
‫النظر و صحة التفتيش والقياس الغير مضطرب وال مشوب بإهمال النظر ‪"...‬‬
‫جاء في ويكيبيديا عنه‪ :‬جابر بن حيان بن عبد هللا األزدي برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة‬
‫وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة‪ ،‬ويعد جابر بن حيان أول من استخدم الكيمياء عمليًا في‬
‫التاريخ‪ .‬ولد على أشهر الروايات في سنة ‪ 101‬في مدينة طوس من أعمال خراسان‪ .‬كانت هوية‬
‫وأعمال جابر بن حيان مثار جدل كبير في األوساط اإلسالمية ‪ ،‬وكانت كتبه في القرن الرابع عشر‬
‫الميالدي من أهم مصادر الدراسات الكيميائية وأكثرها أثراً في قيادة الفكر العلمي في الشرق‬
‫والغرب‪ ،‬وقد انتقلت عدة مصطلحات علمية من أبحاث جابر العربية إلى اللغات األوروبية عن‬
‫طريق اللغة الالتينية التي ترجمت أبحاثه إليها‪ .‬وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن‬
‫علم الكيمياء فقال‪ :‬إمام المدونين جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر و له فيها‬
‫سبعون رسالة كلها شبيهة باأللغاز‪ .‬قال عنه أبو بكر الرازي في (سر األسرار) ‪":‬إن جابراً من أعالم‬
‫العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء"‪ ،‬وكان يشير إليه باستمرار بقوله األستاذ جابر بن حيان‪ .‬وذكر‬
‫ابن النديم في الفهرست ‪ ،‬مؤلفاته ونبذة عنه‪ .‬وقال عنه الفيلسوف اإلنكليزي فرانسيس بيكون‪" :‬إن‬
‫جابر بن حيان هو أول من علّ َم علِ َم الكيمياء للعالم‪ ،‬فهو أبو الكيمياء"‪ ،‬وقال عنه العالم الكيميائي‬
‫الفرنسي مارسيالن بيرتيلو في كتابه (كيمياء القرون الوسطى)‪" :‬إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما‬
‫ألرسطو في المنطق"‪.‬‬
‫ب عديدة أهمها تغيير‬‫ومن جانب آخر‪ ،‬دراسة أقوال و أفكار القدماء شيء صعب الى ح ٍد ما ‪ ،‬ألسبا ٍ‬
‫المصطلحات العلمية ‪ ،‬فمثال يقصد جابر بهذه العبارة‪( :‬التدبير على القصد المستقيم) ما معناه (التجربة‬
‫العلمية السليمة)‪ .‬و األصعب من هذا هو التغيير في مفاهيمنا العلمية اليوم‪ .‬ففي زمن جابر ‪ ،‬كانوا‬
‫يفسرون كل شيء بالكيفيات األربعة و هي‪ :‬الحرارة& ‪ ،‬والبرودة ‪ ،‬واليبوسة ‪ ،‬والرطوبة‪ .‬و هناك‬
‫مفاهيم اُخر كانت متداولة لم يكن عندنا شيء منها‪ .‬فالصواب في دراسة أفكار و كتب القدماء أن‬
‫نستنجد بأولئك من علماء اليوم الذين درسوا كل هذه الخلفيات و أمضوا سنين من عمرهم لفهم األلغاز‬
‫المستخدمة عند العلماء القدماء‪ .‬و من هؤالء عالم بأسم پول كراوس (‪ ) Paul Kraus‬الذي جمع‬
‫مؤلفات جابر بن حيان في كتابه (مختارات كراوس)‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ففي هذه الدراسة ‪ ،‬أخذنا معلومات عن أفكار ابن حيان و أعماله من كتاب "جابر بن حيان" للدكتور‬
‫زكي نجيب محمود الذي بذل مجهوداً كبيراً لجمع مؤلفاته العربية واالجنبية ومن ثم فهم (مشكوراً )‬
‫ما قاله جابر ألنه كان متخصصا ً في مناهج البحث العلمي‪" .‬وهو فيلسوف‪ ،‬ومفكر مصري كان له‬
‫دور كبير في نشر فكر الحداثة والتنوير والتقدم ‪,‬على الساحة الثقافية العربية ردحا ً من الزمن ‪ .‬توفى‬
‫في ‪ 8‬أيلول – سبتمبر سنة ‪ ، 1993‬وكان أستاذاً للفلسفة في جامعة القاهرة‪ .‬لقد فطن الدكتور زكي‬
‫نجيب محمود ‪ -‬منذ وقت مبكر من بدء نشاطه الفكري ‪ -‬إلى أن ما يميز العصر الذي نعيش فيه‪ ،‬هو‬
‫بروز ثقافة جديدة يحتل فيها اإلنسان دور الفاعل األول واألخير في العالم الذي يمثل بالنسبة إليه‬
‫‪4‬‬
‫مجاالً للتجربة والعمل‪ ،‬ال مجاالً للتأمل والنظر المجردين اللذين ال صلة لهما بالواقع‪".‬‬
‫ولكي يكون البحث مفيداً للقارئ الذي قد ال يكون عنده خلفيات عن موضوع دراستنا هذه ‪ ،‬نضطر‬
‫أن نعرض عدة مقدمات حول ارتباط العقل بالعالم الخارجي& ‪ ،‬و كذلك ارتباطه بالدين و من ثم أثر‬
‫علم األئمة و خاصة على جابر بن حيان وأثره على دراستنا ‪ ،‬و أخيراً هل يجوز لنا شرعا ً أن نغير‬
‫الطبيعة؟ و بعد هذه المقدمات كلها ممكن فهم ما ورد عن ابن حيان في منهجية الكشف عن العلوم‬
‫الطبيعية لكي يفتح لنا بابا ً للدخول إلى فهم العالم كما يُتاح لنا أوالً و من ثم إعطاء آراء جديدة لتفسير‬
‫المظاهر المستجدة في علم ميكانيكا الكم‪.‬‬

‫موضع اليقين في نظرية المعرفة‬


‫اعتاد علماء الدين أن يفسروا ظاهرة (تأكيد علماء العلوم الطبيعية على استخدام التجربة) بأنهم ال‬
‫يرون للعقل مجاالً في هذه العلوم‪ .‬و هذا بعيد جداً عمّا يقوله هؤالء‪ .‬ولكن نحن لسنا بصدد البحث‬
‫عمّا يفعله علماء العلوم الطبيعية وال نريد الخوض في مباحث نظرية المعرفة‪ .‬ولكن سؤالنا هو‪ :‬هل‬
‫لإلنسان قابلية فهم الحقيقة& كما هي‪ ,‬و بعبارة أخرى هل ممكن للعقل البشري أن يتيقن بما يصل إليه‬
‫من خالل تجاربه العلمية؟‬
‫"إن رجال المنهج العلمي يختلفون – وما يزالوا يختلفون إلى يومنا هذا – أيُ المنهجين أولى في‬
‫البحث العلمي‪ :‬االستقراء الذي قصاراه نتائج محتملة الصدق ‪ ،‬أم االستنباط الذي يضمن اليقين في‬
‫نتائجه ‪ ،‬على شرط أن تكون مقدماته يقينية‪ 5".‬و إذا عرفنا أن المقدمات في العلوم الطبيعية كلها‬
‫نتيجة قضايا محسوسة ‪ ،‬لم يتهيّأ لنا مقدمات يقينية ألنها استقرائية‪ .‬و قد برهن الشهيد الصدر بأن‬
‫تصديقنا بالواقع الموضوعي للقضية المحسوسة – أي قضية محسوسة – مستدل استقرائيا‪ .‬و استنتج‬
‫من هذه المقدمة أن إعتقادنا بوجود الواقع الموضوعي للعالم يعبّر عن معرفة استقرائية‪ .6‬و من جانب‬
‫آخر ‪ ،‬إن االستدالل األستقرائي قائم على أساس (العادة) وحدها ‪ ،‬وبالتالي فهو استدالل احتمالي ال‬
‫ُتح ّتم ُه الضرورة العقلية ‪ ،‬فليس فيه بعبارة ابن حيان‪" :‬علم يقين واجب اضطراري برهاني أصال ‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫بل فيه علم اقناعي يبلغ أن يكون أحرى و أولى و أجدر ال غير‪".‬‬
‫‪4‬‬
‫صحيح أن الشهيد الصدر حاول الوصول إلى صيغة منطقية لكي يعطي قيمة يقينية لألستقراء في‬
‫يدخل العامل الذاتي المتأثر بالعامل‬‫كتابه القيّم (األسس المنطقية لألستقراء) ولكن اضطر بأن ّ‬
‫السيكولوجي لإلنسان و سمّاه باليقين الذاتي‪ 8‬و أذعن كذلك بوجود ضعف في هذا التقسيم لتأثير‬
‫العامل الذاتي المختلف عند الناس فيقول‪" :‬أن الناس يختلفون في هذه النقطة‪ :‬فدرجة من تراكم القيم‬
‫االحتمالية في محور معين قد تؤدي عند إنسان الى تحول القيمة األحتمالية الكبيرة الناتجة عن ذلك‬
‫التراكم الى يقين و انعدام القيمة االحتمالية المضادة ‪ ،‬بينما ال تحصل هذه النتائج عند إنسان آخر ‪ ،‬إال‬
‫إذا بلغ تراكم القيم االحتمالية في محور معين درجة أكبر‪ .9".‬ولكن جابر يرى امكانية الوصول إلى‬
‫اليقين من عين أخرى ‪ ،‬يختلف فيه عمّا يعتقده الشهيد الصدر ‪ ،‬فالشكوك في رأيه ال تنجاب "إال‬
‫‪10‬‬
‫بالعيان و بإقامة البرهان ‪...‬و إقامة البرهان ال تكون إال بالعيان ‪ ...‬والعيان من أفعال األنبياء" و‬
‫يلخص الدكتور زكي نجيب عملية األستنباط عند جابر بقوله‪" :‬تراه من ناحية أخرى يبني مذهبه‬
‫العلمي كله على أساس لو حللّته لوجدته هو المنهج الرياضي االستنباطي بعينه‪ :‬فحدوسٌ أولية يراها‬
‫رؤية مباشر ًة (أو يوحى بها إلى نبي ثم يتوارثها الخلفاء& الشرعيون من بعده) ثم نتائج تلزم عن‬ ‫ً‬ ‫العقل‬
‫تلك الحدوس"‪ 11‬و قد نرى ألول مرة من يصِ رّ بوجود األنبياء و األئمة كشرط للوصول الى اليقين و‬
‫الحقيقة‪ .‬فصحيح "أن جابراً ليؤمن بقيمة الفلسفة ايمانا ً يجعل الفلسفة عنده شرطا ً ال مندوحة عنه‬
‫براق من أغفل الفلسفة ‪ ،‬ولكنه راسب مضمحل‬ ‫ٍ‬ ‫الرتقاء االنسان في مدارج العقل فيقول‪( :‬إنه ليس‬
‫إلى أسفل دائماً)"‪ 12‬ولكن كذلك يقول‪" :‬أن الشرع األول إنما هو للفالسفة فقط ‪ ،‬إذ كان أكثر الفالسفة‬
‫أنبياء كنوح و إدريس و فيثاغورس و ثاليس القديم وعلى مثل ذلك إلى اإلسكندر"‪ 13‬كما يشير إلى‬
‫هذه الحقيقة في كثير من المواقع في كتبه قائال‪" :‬فو حق سيدي ‪ ،‬إنه لغاية العلم ‪ ،‬ولو شئت لبسطته‬
‫فيما ال آخر له من الكالم ‪ ،‬ولكن هذه الكتب – يا أخي – معجزات سيدي ‪ ،‬و ليس – وحقه العظيم –‬
‫يظفر بما فيها من العلم إال أخونا ‪ 14"...‬فيؤ ّكد جابر بهذه العبارات ‪ ،‬بأن العلم الحقيقي& و اليقين‬
‫الموضوعي لم يصل الينا إال عن طريق األنبياء ‪ ،‬أو أوصيائه‪ .‬فاسمع إليه كيف يشرح لنا إحاطة‬
‫صيانة له و حفظا ً‬‫ً‬ ‫األئمة عليهم السالم بالعلم‪" :‬فأرباب& هذا العلم هم أشد الناس تعظيما ً لعلمهم هذا و‬
‫عن غير مستحقيه ‪ ،‬و إن يكن تحصيله سهالً عليهم يسيراً لديهم‪ ،‬ألنهم يدركون الحقيقة& بالشهود‬
‫المباشر ‪ ،‬و يفيضون بها فيضا ً ‪ ،‬فال يحتاجون في ذلك إلى إعمال فكر في إقامة الدليل على قدر ما‬
‫‪15‬‬
‫أدركوا ‪"...‬‬
‫هنا أريد أن أقف وقفة قصيرة عند كالمه عن األئمة عليهم السالم (يكن تحصيله سهالً عليهم يسيراً‬
‫لديهم‪ ...,‬إلخ) فهناك باب في أصول الكافي تحت عنوان " ذكر األرواح التي في األئمة عليهم السالم‬
‫"‪ 16‬يشمل ثالث روايات بنفس المضمون نورد واحدة منها هنا‪" :‬عن جابر عن أبي جعفر عليه‬
‫السالم قال‪ :‬سألته عن علم العالم ‪ ،‬فقال‪ :‬يا جابر إن في األنبياء واألوصياء خمسة أرواح‪ :‬روح‬
‫القدس ‪ ،‬و روح اإليمان ‪ ،‬و روح الحياة و روح القوة ‪ ،‬و روح الشهوة ‪ ،‬فبروح القدس يا جابر‬
‫عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى ‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا جابر إن هذه األربعة أرواح يصيبها الحدثان‬
‫إال روح القدس فأنها ال تلهو و ال تلعب‪ 17".‬فاألئمة عليهم أفضل الصالة و السالم يختلفون ع ّنا تماما‬
‫‪5‬‬
‫ألن عندهم روح أخرى هي روح القدس التي هي مصدر الفهم و العلم‪ .‬ولكن نحن نفتقر لوجود هذه‬
‫الروح ‪ ،‬فبالنتيجة نحتاج أن نأخذ هذه العلوم من مصدرها النقي ‪ ،‬و هو علم األنبياء و األئمة عليهم‬
‫السالم‪ .‬و بهذا يمكن الوصول إلى اليقين ألنه يُب ّدل عملية الحصول على علمنا عن العالم الخارجي&‬
‫من االستقراء الى االستنباط‪.‬‬
‫خالصة القول أن جابر ُمصّر بأننا نحتاج الى أخذ العلم من األمام و في هذه الحالة& ‪ ،‬يكون علمنا‬
‫يقينيا ً‪ .‬و هذا القول باليقينية هو الذي غير مقبول عند علماء الغرب‪ .‬فنرى الدكتور زكي نجيب ينسب‬
‫وصلت الى كلم ٍة من العلم‪" :‬جابرا& ليعتز بعلمه اعتزازاً‬
‫ُ‬ ‫الغرور الى جابر حين يقول لوال األمام ما‬
‫بلغ به حد الغرور‪ ...18‬فاسمع إليه – مثالً – و هو يوجّ ه الخطاب& إلى سيده في سياق (كتاب‬
‫األحجار)‪ ... :‬و حق سيدي ‪ ،‬لوال أن هذه الكتب باسم سيدي صلوات هللا عليه فما وصلت إلى حرف‬
‫من ذلك آخر األبد ‪ ،‬ال أنت وال غيرك ‪ ،‬إال في كل برهة عظيمة من الزمان ‪ 19"...‬فالمصدر‬
‫الرئيسي للعلم و اليقين هم أهل بيت النبوة صلوات هللا و سالمه عليهم أجمعين‪ .‬ولكن كيف الحال‬
‫بالنسبة لنا ‪ ،‬هل من الممكن أن ننتفع بعلمهم و كيف؟ فيقول جابر‪" :‬فإن علمهم ال ينتقل إلى سواهم إال‬
‫إذا كان هؤالء في منزلة قريبة من منزلتهم ‪ ،‬فليس الناس في إدراك الحق سواء ‪ ،‬بل منهم من يحتاج‬
‫صلة مباشر ًة ال واسطة بينه و بينه"‪ .20‬فنحن باستخدامنا كتب‬ ‫ً‬ ‫إلى واسطة ‪ ،‬و منهم من يتصل بالحق‬
‫(عج هللا تعالى‬
‫جابر نصل إلى علم األمام بواسطته ‪ ،‬ولكن هل لنا االتصال المباشر باألمام صاحب الزمان‬
‫فرجه الشريف) في يومنا هذا؟ أحب أن أذكر قصة نقلها لي سماحة الشيخ محسن األراكي‪ .‬ذكر لي عن أحد‬
‫تالمذة الشهيد الصدر بأنه رأى في المنام أمير المؤمنين عليه السالم‪ .‬فسأله األمام أن يقول للشهيد‬
‫ت إلى جلسات درسنا في هذا األسبوع؟ فكانت الرؤيا غريبة ولكن نقلها إلى‬ ‫الصدر‪ :‬لماذا لم تأ ِ‬
‫الشهيد‪ .‬فأطرق& الشهيد رأسه مليا ً و بعد لحظات رفع رأسه و تبسّم‪ .‬فسأله التلميذ عن سبب هذا‬
‫التب ُّسم‪ .‬فقال الشهيد الصدر‪ :‬أني قد عاهدت نفسي بأن أصرف ساعة في حرم األمام أمير المؤمنين‬
‫عليه السالم بدون أن أقرأ دعا ًء أو أعمل شيئاً‪ .‬ولكن في هذا األسبوع ‪ ،‬كان عندنا تصليحات في‬
‫فتركت هذا البرنامج‪ ...‬أترون كيف يُعلّق األمام على هذا الحضور الصامت في حرمه& بـ‬ ‫ُ‬ ‫البيت ‪،‬‬
‫(جلسة درس) ؟ نحن ال نحتاج أن نرى االمام صاحب الزمان(عج) بعينه ولكن من الممكن أن نتوسل‬
‫إليه – بطرق مختلفة و مناسبة – لكي يلهمنا ما يفيدنا من العلم‪.‬‬

‫ميدان العمل العلمي للعلماء‪:‬‬


‫فإذا عرفنا أن مصدر العلم عند األئمة عليهم السالم ‪ ،‬يُطرح علينا هذا السؤال‪ :‬هل للعلماء أي مجال‬
‫للعمل العلمي؟ أم يتوجب عليهم اإلقتداء باألئمة حرفياً؟ و بعبار ٍة أخرى‪ :‬هل من الواجب تقليد األئمة‬
‫في العلوم الطبيعية أم ال؟ الجواب عن هذا السؤال باختصار هو النفي‪ .‬و نعطي دليلين بسيطين لهذا‬
‫االستنباط‪ .‬يروي جابر حكاية عن االمام قائال‪ ..." :‬قال‪ :‬يا جابر فقلت‪ :‬لبيك يا موالي ‪ ،‬فقال‪ :‬أتدري‬

‫‪6‬‬
‫لم يسمى الطلسم طلسما؟ قلت‪ :‬ال وهللا يا موالي ما أدري‪ .‬فقال‪ :‬ف ّكر فيه ‪ ،‬فإنه من علمك‪ .‬ففكرت فيه‬
‫سنة فلم أعلم ما هو‪ .‬فقلت‪ :‬ال وهللا يا موالي ما أدري ما هو‪ .‬فقال‪ :‬لوال أني غرستك بيدي و أنشأتك‬
‫أوالً و آخراً إلى وقت هذا ‪ ،‬لقلت أنك مظلم ‪ ،‬ويلك أقلِبه! فقلت‪ :‬نعم يا موالي ‪ ،‬فإذا معناه مسلّط من‬
‫جهة الغلبة و التسليط ‪ .21"...‬فهل ترى كيف يدرب األمام(ع) جابرا؟ فيسأله أن يفكر أوال و أن يصل‬
‫إلى الجواب هو بنفسه من دون التلقين أو التعليم المباشر‪ .‬ولكن حين فشل العقل و التفكير ‪ ،‬يساعده‬
‫األمام و يعلمه الجواب‪ .‬والدليل الثاني عندي هو استخدام جابر فكرة العلوم السائدة في زمانه‪ .‬إذ أنّ‬
‫جابر أخذ من التراث الفلسفي اليوناني فكرة الطبائع األربع األولية التي منها نشأت الكائنات جميعا ً و‬
‫هي‪ :‬الحرارة& ‪ ،‬والبرودة ‪ ،‬واليبوسة ‪ ،‬والرطوبة‪ .22‬فاألمام يقف موقف المحايد من هذا الخيار‪ .‬و‬
‫يؤيد هذا النظر قول األمام الرضا عليه السالم لعالم آخر و هو عمران الصابي‪ .‬إذ سأل عمرانُ األما َم‬
‫نر شيئا من الكيفيات األربع في جواب األمام‪ " .‬قال عمران‪ :‬يا سيدى اال‬ ‫عن حدود الخلق و لم َ‬
‫تخبرني حدود خلقه& كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟ قال‪ :‬قد سألت فاعلم ان حدود خلقه&‬
‫على سته انواع ملموس وموزون ومنظور إليه وما ال ذوق له وهو الروح ومنها منظور إليه وليس‬
‫له وزن وال لمس وال حس وال لون وال ذوق والتقدير واالعراض والصور والطول والعرض ومنها‬
‫العمل والحركات التي تصنع االشياء وتعملها وتغيرها من حال الى حال وتزيدها وتنقصها فأما‬
‫االعمال والحركات& فانها تنطلق ألنه ال وقت لها اكثر من قدر ما يحتاج إليه فإذا فرغ من الشيء‬
‫انطلق بالحركة وبقى االثر ويجرى مجرى الكالم يذهب ويبقى اثره‪ 23".‬بعبارة أخرى ‪ ،‬سكوت األمام‬
‫الصادق(ع) الستخدام جابر الكيفيات األربع و سكوت األمام الرضا(ع) عن هذه الكيفيات يبين لنا عدم‬
‫أهمية هذا التقسيم أو أي تقسيم آخر من هذا النوع و نستنتج من هذا أن هناك مواضيع تقع في منطقة‬
‫الفراغ ‪ ،‬يمكن لنا استخدام النظام الفكري السائد فيها دون أن يؤثر على فهمنا للواقع الخارجي‪ .‬و‬
‫بهذا من الممكن أن نقترح نظريات عديدة لم تكن من األمام أو الوحي و قد تكون في أكثر األحيان‬
‫غير صحيحة و نضطر بأن نغيرها أو ُنع ّدلها‪ .‬و بهذا يتقدم العلم حسب األفكار السائدة في كل عصر‪.‬‬

‫هل من المشروع تغيير الخلق؟‬


‫هناك خلفية ذهنية عند كثير من المسلمين بأن الخلق الذي خلقه هللا‪ ,‬شيء مقدس ال يمكن التغيير فيه‪.‬‬
‫فبعض المتحجرين ال يقبلون استعمال األدوية ‪ ،‬أو ال يركبون الطائرة أو حتى السيارة ألنه تغيير في‬
‫خلق هللا‪ .‬لعل بعضنا يسخر من هؤالء ولكن أذا سمعنا شيئا ً أغرب فمن الممكن أن نلتحق بهؤالء‪.‬‬
‫فمثال هل من الممكن أن نهدي بعض أجزاء بدننا – مثل الكلية مثال – إلى من يحتاجها؟& هل هذا‬
‫تغيير في خلق هللا؟ ففي هذا الصدد نرى أن الدكتور زكي يستغرب من كالم جابر‪ .‬فننقل ما قاله في‬
‫هذا الموضوع‪" :‬ولعل أغرب ما في هذا الموضوع محاولة& جابر صناعة االنسان على أي صورة‬
‫رجل يعتقد بديانة تجعل خلق األنسان من شأن‬
‫ٍ‬ ‫شاء ‪ ،‬و موضع الغرابة عندي هو أن يصدر هذا عن‬

‫‪7‬‬
‫هللا وحده ‪ ...‬فانظر – مثال – إلى جابر و هو يحدثنا عن الطريقة التي يمكن بها أن ننقل وجه رجل‬
‫‪24‬‬
‫إلى جسم جارية ‪ ،‬أو أن ننقل بها عقل رجل إلى جسم صبي صغير"‬
‫و بشكل عام يعتقد جابر بأن "في قوة االنسان أن يعمل كعمل الطبيعة"‪ 25‬و يقول‪" :‬حد الكيمياء إظهار‬
‫ليس [ أشياء معدومة عندنا] في أيس [ أشياء موجودة بالقوة من الممكن تبديلها إلى وجود بالفعل ]‪.‬‬
‫و يقول ايضا‪" :‬إن لكل معدن من هذه المعادن صفتين موجودتين بالفعل ‪ ،‬و صفتين أخريين‬
‫موجودتين فيه بالقوة ‪ ،‬فلو استخرجنا ما هو موجود بالقوة إلى ما هو موجود بالفعل ‪ ،‬تبدل المعدن‬
‫معدنا ً آخر‪ 26".‬و إذا عرفنا أن العالم و األنسان عند جابر في حد سواء فممكن تطبيق ما قاله في‬
‫المعادن على األنسان و الحيوان و النبات ايضاً‪ .‬يقول جابر‪" :‬هذه هي بنية العالم والطبيعة و األنسان‬
‫‪27‬‬
‫‪ ،‬فكان العالم ضرورة أنسانا ً و األنسان جزءاً صغيراً باإلضافة الى العالم"‬
‫ينقل لنا الدكتور زكي نجيب محمود خالصة فلسفة الكيمياء كلها عند ابن حيان‪" :‬و أساسها هو أن‬
‫الكيماوي يحذو حذو الطبيعة في تكوينها لألشياء ‪ ،‬و كل الفرق هو أن الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها ‪،‬‬
‫أما الكيماوي فيعمل عمله بتجربة مدبّرة ‪ ،‬لكن كل ما تؤديه الطبيعة من عمليات تحويل األشياء‬
‫بعضها إلى بعض ‪ ،‬هو في مستطاع الكيماوي أن يؤديه‪ .‬غير أن األمر يحتاج من الكيماوي الى‬
‫صر و حذر ‪ ،‬فقد ال يكون التحويل ممكنا بضرب ٍة واحد ٍة ‪ ،‬بل يتطلب خطوات متدرجة تنتهي آخر‬ ‫تب ُّ‬
‫األمر الى النتيجة المطلوبة‪ .‬ولو أتقن العالِم دراسة موضوع ِه و ما يحتاج اليه من خطوات في عملية‬
‫تحويله ‪ ،‬ألمكنه ال أن يحاكي الطبيعة في فعلها فقط ‪ ،‬بل أن يعمل ما تعمله الطبيعة في وقت أقصر‪.‬‬
‫إذ قد يتطلب تكوين الذهب في حضن الطبيعة آالف السنين ‪ ،‬لكن الكيماوي في مستطاعه أن يعمل‬
‫‪28‬‬
‫العملية نفسها في فترة وجيزة‪".‬‬
‫ال بأس بأن نستكمل بحثنا في هذا الموضوع بنقل قسم من كالم األمام الصادق عليه السالم لمفضل‬
‫بن عمر‪ " :‬تأمل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء‬
‫وازدرادهما إلى جوفه‪ ،‬ولوال ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من االرض ألنه ليست له رقبة يمدها‬
‫كسائر االنعام‪ ،‬فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته‪ ،‬فمن ذا‬
‫الذي عوضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه& إال الرؤوف بخلقه ؟ وكيف يكون هذا باإلهمال‬
‫كما قالت َ‬
‫الظ َلمة ؟ فإن قال قائل‪ :‬فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر االنعام ؟ قيل له‪ :‬إن رأس الفيل‬
‫واذنيه أمر عظيم وثقل ثقيل‪ ،‬ولو كان ذلك على عنق عظيمة لهدها وأوهنها فجعل رأسه ملصقا‬
‫بجسمه لكيال ينال منه ما وصفنا‪ ،‬وخلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدمه‬
‫العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته‪ .‬انظر اآلن كيف جعل حيا االنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا‬
‫هاجت للضراب ارتفع وبرز حتى يتمكن الفحل من ضربها‪ ،‬فاعتبر كيف جعل حيا االنثى من الفيلة‬
‫على خالف ما عليه في غيرها من االنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ لألمر الذي فيه قوام النسل‬
‫ودوامه‪ .‬فكر في خلق الزرافة واختالف أعضائها وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان‪ ،‬فرأسها‬
‫رأس فرس‪ ،‬وعنقها عنق جمل‪ ،‬وأظالفها أظالف بقرة‪ ،‬وجلدها جلد نمر‪ ،‬وزعم ناس من ال ُجهّال& باهلل‬
‫‪8‬‬
‫عزوج َل أن نتاجها من فحول شتى ! قالوا‪ :‬وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء‬‫َ‬
‫تنزو على بعض السائمة وينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى‪ ،‬وهذا جهل من‬
‫قائله وقلة معرفته بالبارئ جل قدسه‪ ،‬وليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف‪ ،‬فال الفرس& يلقح‬
‫الجمل‪ ،‬وال الجمل يلقح البقر‪ ،‬وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه كما‬
‫يلقح الفرس& الحمارة فيخرج& بينهما البغل‪ ،‬ويلقح الذئب الضبع فيخرج بينهما السمع‪ ،‬على أنه ليس‬
‫يكون في الذي يخرج من بينهما عضو من كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس‪،‬‬
‫وعضو من الجمل‪ ،‬وأظالف من البقرة‪ ،‬بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في‬
‫البغل‪ ،‬فإنك ترى رأسه واذنيه وكفله وذنبه وحوافره وسطا بين هذه االعضاء من الفرس والحمار‪،‬‬
‫وشحيجه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار‪ ،‬فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح‬
‫أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون‪ ،‬بل هي خلق عجيب من خلق هللا للداللة على قدرته‬
‫التي ال يعجزها شيء‪ ،‬وليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها‪ ،‬يجمع بين ما يشاء من أعضائها في‬
‫أيها شاء ويفرق ما شاء منها في أيها شاء‪ ،‬ويزيد في الخلقة ما شاء‪ ،‬وينقص منها ما شاء‪ ،‬داللة على‬
‫قدرته على االشياء‪ ،‬وأنه ال يعجزه شيء أراده جل وتعالى‪ ،‬فأما& طول عنقها والمنفعة لها في ذلك فإن‬
‫منشأها ومرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طوال في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق‬
‫لتتناول بفيها أطراف تلك االشجار فتتقوت من ثمارها‪ .‬تأمل خلق القرد وشبهه باالنسان في كثير من‬
‫أعضائه أعني الرأس والوجه و المنكبين والصدر‪ ،‬وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء االنسان‪،‬‬
‫وخص من ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومي إليه‪ ،‬ويحكي كثيرا مما يرى‬
‫االنسان يفعله حتى أنه يقرب من خلق االنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن‬
‫يكون عبرة لالنسان في نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها إذ كان يقرب من خلقها& هذا القرب‪،‬‬
‫وأنه لوال فضيلة فضله هللا بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم‪ ،‬على أن في جسم القرد‬
‫فضوال اخرى يفرق بينه وبين االنسان كالخطم والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله‪ ،‬وهذا لم‬
‫يكن مانعا للقرد أن يلحق باالنسان لو اعطي مثل ذهن االنسان وعقله ونطقه‪ ،‬والفصل الفاصل بينه‬
‫‪29‬‬
‫وبين االنسان بالصحة هو النقص في العقل والذهن والنطق‪".‬‬

‫قد يبدو هناك تغيير في السياق بين كالم االمام الصادق(ع) للمفضل و ما يقوله جابر ‪ ،‬ولكن لم َ‬
‫أر‬
‫تناقض في هذين الوجهين‪ .‬كذلك نرى في هاتين اآليتين تحديا ً من هللا عزوجل لألنسان‪:‬‬
‫‪ 10‬ص‬
‫ض َو َما َب ْي َن ُه َما َف ْل َيرْ َتقُوا فِي اأْل َسْ َبا ِ‬
‫ب ‪-‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫أَ ْم َلهُم م ُّْل ُ‬
‫ك ال َّس َم َاوا ِ‬

‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ار ال َّس َم َاوا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َيا َمعْ َش َر ْال ِجنِّ َواإْل ِ ِ‬
‫نس إِ ِن اسْ َت َطعْ ُت ْم أن َتنفُذوا ِمنْ أ ْق َط ِ‬
‫‪ 33‬الرحمن‬
‫ان ‪-‬‬ ‫َفانفُ ُذوا اَل َتنفُ ُذ َ‬
‫ون إِاَّل ِبس ُْل َط ٍ‬
‫ولكن إذا نظرنا بدقة نرى أن اآليتين مجرد بيان عظمة هللا سبحانه و تعالى و خلقه و ضعف االنسان‬
‫في تغيير الخلق‪ .‬ولكن كال اآليتين لم يكونا تحديا ً للناس بمعنى نفي إمكانية الحصول على هذا أو عدم‬
‫‪9‬‬
‫شرعيته ‪ ،‬بل في اآلية األولى يقودنا هللا سبحانه باستخدام األسباب التي أسسها في الكون و في الثانية‬
‫يقول بأننا نحتاج الى سلطان‪ .‬ففي كلتا الحالتين ‪ ،‬االنسان قادر على تغيير الخلق إذا عرف األسباب‬
‫أو كان له سلطان لما يريد تغييره‪.‬‬
‫نقل جابر قصصا ً مختلفة استعمل فيها هذا العالم‪ ,‬األكسير‪ .‬فنحن نسمع عن لفظ األكسير كثيراً ‪ ،‬فيا‬
‫ترى ما هو تعريف جابر لهذا اللفظ ؟ األكسير عند جابر هو نوع من قابلية التغيير في الكون‪" :‬إذا‬
‫اهتدى العالِم الى الوسيلة التي يخرج بها شيئا ً من شيء كانت تلك الوسيلة هي األكسير‪ 30".‬ففي أحدى‬
‫ّت به (أي باألكسير) من هذه العلة‬‫القصص التي ينقلها مخاطبا ً األمام (ع)‪ " :‬و حق سيدي لقد خلص ُ‬
‫‪31‬‬
‫أكثر من ألف نفس ‪ ،‬فكان هذا ظاهراً بين الناس جميعا ً في يوم واحد فقط‪".‬‬
‫كنت يوما ً من األيام بعد ظهور أمري بهذه العلوم ‪ ،‬و بخدمة سيدي عند‬ ‫ُ‬ ‫و في قصة أخرى يقول‪ :‬ولقد‬
‫يحيى بن خالد [البرمكي] و كانت له جارية نفيسة لم يكن ألحد مثلها جماالً و كماالً و أدبا ً و عقالً و‬
‫صنائع توصف بها‪ .‬وكانت قد شربت دواء مسهّال لعلّ ٍة كانت بها ‪ ،‬فعنف عليها بالقيام ثم زاد عليها ‪،‬‬
‫الى أن قامت ما لم يكن من سبيل مثلها الخالص منه ‪ ،‬وال شفاء له ‪ ،‬ثم ذرعها مع ذلك القيء ‪ ،‬حتى‬
‫لم تقدر على الن َفس وال الكالم البتة‪ .‬فخرج& الصارخ& الى يحيى بذلك ‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا سيدي ما عندك في‬
‫ذلك؟ فأشرت عليه بالماء البارد و صبِّه عليها ‪ ،‬ألني لم أرها ولم أعرف في ذلك من الشفاء للسموم‬
‫ول َقطعه مثل ذلك‪ .‬فلم ينفعها شيء بارد وال حار& أيضا‪ .‬و ذلك أني كمدت معدتها بالملح المحمى و‬
‫غمرت رجليها‪ .‬فلما زاد األمر سألني أن أراها ‪ ،‬فرأيت ميتة خاملة القوة جدا‪ .‬و كان معي من هذا‬
‫األكسير شيء ‪ ،‬فسقيتها منه وزن حبتين بسكنجبين صِ رف – مقدار ثالث أواق – فو هللا و حق‬
‫سيدي لقد سترت وجهي عن هذه الجارية ‪ ،‬ألنها عادت الى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف‬
‫ساعة زمانية‪.‬‬
‫و في مورد آخر يقول‪ :‬و كنت يوما ً خارجا ً من منزلي قاصداً دار سيدي جعفر صلوات هللا عليه ‪،‬‬
‫فإذا أنا بانسان قد انتفخ جانبه األيمن كله ‪ ،‬و أخضرّ حتى صار كالسلق – ال بالمثال ولكن بالحقيقة –‬
‫و إذا قد بدت الزرقة منه في مواضع‪ .‬فسألت عن حاله فقيل لي‪ :‬أفعى نهشته الساعة فأصابه هذا‪.‬‬
‫فسقيته وزن حبتين بشدة في سقيه بماء بارد فقط ‪ ،‬ألني خفت أن يتلف سريعا‪ .‬فو هللا العظيم لقد‬
‫رأيت لونه األخضر واألزرق وقد حاال عما كانا عليه الى لون بدنه‪ .‬ثم ضمُرت تلك النفخة حتى لم‬
‫يبق منها شيء البتة‪ .‬و تكلم و قام وانصرف سالما ال علة به‪ 32.‬فهل ترى دقة كالمه في سرد هذه‬
‫القصص؟‬
‫خالصة القول هي إمكانية التصرف في العالم ولكن نحتاج الى العلم بمكونات هذا العالم و تأثير‬
‫أجزاءه ‪ ،‬جزءا على جزء – و معرفة المراحل الذي نحتاج اليها لنقل حالة الى حالة‪ .‬يقول جابر‪" :‬و‬
‫إذ قد بان ذلك ‪ ،‬فإن في األشياء كلها وجوداً لألشياء كلها ‪ ،‬ولكن على وجوه من االستخراج‪ .‬فإن‬
‫أوري فظهرت‪ .‬وكذلك الشمع في النحل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫النار في الحجر& كامنة ال تظهر ‪ ،‬وهي له بالقوة‪ .‬فإذا َزنِد‬

‫‪10‬‬
‫كو نحل ‪ ،‬ثم عصرناها و طبخناها و دبّرناها تدبيرنا للعسل الذي‬ ‫ولو أخذنا مائة ألف نحلة أو الف َ‬
‫فيه الشمع ‪ ،‬لم يخرج منه دانق شمع‪ .‬ولكن النحل إذا تغذى غذا ًء معتدالً ‪ ،‬و عُملت له الكوى التي‬
‫ني ذلك العسل ‪ ،‬خرج& منه الشمع‪ 33".‬و بعبارة أخرى ‪ ،‬هناك‬ ‫يأوي اليها ‪ ،‬و عمِل العسل ‪ ،‬واج ُت َ‬
‫أسباب مذخورة في الكون والبد لنا أن نعرف هذه األسباب قبل أن يمكن لنا أن نغير شيئا ً في العالم‪.‬‬
‫و هذا يذكرنا بالرواية المعروفة عند العلماء‪" :‬أبى هللا أن يُجري األشياء إال بأسباب‪ 34".‬ولكن جابر‬
‫بن حيان يعبر عن هذه األسباب بلفظ (الميزان) و يقصد به القوانين (‪ ) Formula‬التي تحكم العالم‬
‫فيقول‪" :‬العلة األولى هي العقل ‪ ،‬والعقل هو العلم ‪ ،‬والميزان هو العلم ‪ ،‬فكل فلسفة و علم فهو‬
‫ميزان‪ .‬فكان الميزان جنس ‪ ،‬والفلسفة فرع ينطوي تحته ‪ ،‬هي و كل ما يتصل بها من فروع ‪ ...‬أن‬
‫قواعد الفلسفة هي قواعد الميزان ‪ ،‬أو بعض قواعدها قواعد الميزان"‪ 35‬فالميزان عنده علم يشمل‬
‫العلوم الطبيعية والفلسفية معاً‪.‬‬

‫لزوم كتمان العلم‪:‬‬


‫قال األمام الصادق عليه السالم‪ :‬ما كلّم رسول هللا (صلى هللا عليه وآله) العباد بكنه عقله قط‪ .‬قال‪ :‬وقال‬
‫رسول هللا (صلى هللا عليه وآله)‪ :‬إ ّنا معاشر االنبياء اُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم‪ 36.‬و هنا تكمن‬
‫المشكلة‪ .‬إذ نشر العلم لغير العلماء يشكل مشكلة ‪ ،‬بل مشاكل لهم و للمجتمع‪ .‬وكثير من العلماء‬
‫واجهوا هذه المشكلة و يبدوا أن الحل األفضل هو الكتمان و عدم نشر العلم‪ .‬و هذا يخالف األصل‬
‫الذي أسس العلم له‪ .‬و اال لماذا ُنعلّم أو نتعلم؟ هل العلم للنشر أم لماذا؟‬
‫و أما الحل الذي يعطيه أبن رشد هو خلق التعقيدات في بيان العلم و نشرها في كتب ال يقرأها غير‬
‫المتخصص أو الباحث‪ .‬يقول ابن رشد‪" :‬يجب أن ال تثبت التأويالت اال في كتب البراهين ألنها إذا‬
‫كانت في كتب البراهين لم يصل اليها اال من هو من اهل البرهان‪ .‬واما إذا أثبتت في غير كتب‬
‫البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية‪ ،‬كما يصنعه ابو حامد [الغزالي]‪ ،‬فخطأ‬
‫على الشرع وعلى الحكمة‪ ،‬وأن كان الرجل إنما قصد خيراً‪ ،‬وذلك أنه رام أن ي ّ‬
‫ُكثر اهل العلم بذلك‪،‬‬
‫‪37‬‬ ‫ولكن ُ‬
‫كثر بذلك اهل الفساد بدون كثرة اهل العلم‪.‬‬
‫ِرت أن أعطي‬‫و الحل عند جابر هو عدم نشره إال لمن كان أهالً له ‪ ،‬فيقول جابر‪" :‬ولو ال أنني أم ُ‬
‫لكشفت من نور الحكمة& ما يكون معه الشفاء األقصى ‪ ،‬ولكني أمرت بذلك لما‬‫ُ‬ ‫الناس بقدر استحقاقهم‬
‫فيه من الحكمة‪ .‬ألن العلم – يا أخي – ال يحمله االنسان اال على قدر طاقته و إال أحرقه‪ .‬كما ال يقدر‬
‫األناء والحيوان أن يحمل االّ بقدر طاقته و ملئه ‪ ،‬و إال فاض ‪ ،‬و رجع بالذل والعجز‪ 38".‬و يقول في‬
‫‪39‬‬
‫موضع آخر‪" :‬ألن في إذاعته [العلم] خراب العالم ‪ ،‬وفي كتمانه عن أهله تضييع لهم‪".‬‬

‫‪11‬‬
‫إذن ما يصل إلينا من هؤالء العلماء – وحتى من األئمة عليهم السالم – لم يكن إال منفذة من العلم‬
‫كتبوها في بعض كتبهم‪ .‬و بعبارة أخرى ‪ ،‬يجب علينا الفحص ‪ ،‬ثم الفحص و من ثم الفحص في كتب‬
‫أكثر ممكن الحصول عليها ‪ ،‬لكي نرى العلم من جوانبه المختلفة و بذلك نكوّ ن تصور أفضل لما‬
‫يدور حولنا و كيفية خلقتنا و الى آخره‪ .‬و من جانب آخر ‪ ،‬إذا وفقنا هللا لفهم جانب من الحياة يكون‬
‫صعبا ً للمجتمع فهمه – مثل امكانية تغيير في خلق االنسان – ال يمكن أن ننشرها في وسائل األعالم‬
‫خاصة الفضائيات ولكن نحاول أن نطرحها في المؤتمرات العلمية فقط‬‫ً‬ ‫العامة كالراديو والتلفزيون و‬
‫و ننشرها في المجالت الخاصة لهذه المؤتمرات أو في المنشورات الجامعية و ما يشابهها‪.‬‬

‫منهجية البحث‪:‬‬
‫رأينا قول الشهيد الصدر في المقدمة أن إعتقادنا بوجود الواقع الموضوعي للعلم يعبّر عن معرفة‬
‫استقرائية‪ .‬و كذلك رأينا قول ابن حيان في األستقراء بأنه ليس "علم يقين واجب اضطراري برهاني‬
‫أصالً ‪ ،‬بل فيه علم اقناعي يبلغ أن يكون أحرى و أولى و أجدر ال غير"‪ .‬و قال في مكان آخر‪" :‬أن‬
‫المشا َهدَ يتعلق بالغائب على ثالثة أوجه ‪ ،‬وهي‪ :‬المجانسة ‪ ،‬مجرى العادة ‪ ،‬واآلثار‪ 40".‬فبعبارة‬
‫أخرى ‪ ،‬إذا أردنا أن نعرف الكون ‪ ،‬البد أن يكون عندنا علم عنه من بدايته إلى اآلن ‪ ،‬بل إلى آخر‬
‫تكوينه ‪ ،‬وإال كالمنا يكون إما تمثيل (مجانسة) أو مجرى العادة أو علمنا ببعض اآلثار‪ .‬و يوضح‬
‫جابر هذا الموقف قائالً‪" :‬ليس ألحد أن ي ّدعي بحق أنه ليس في الغائب إال مثل ما شاهد ‪ ،‬أو في‬
‫الماضي والمستقبل إال مثل ما في اآلن ‪ ،‬فليس ألحد أن يدفع و يمنع وجود ما لم يشاهد مثله ‪ ،‬بل إنما‬
‫ينبغي له أن يتوقف عن ذلك حتى يشهد البرهان بوجوده أو عدمه‪ 41".‬و هذا بالضبط مشكلة‬
‫األستقراء‪ .‬فكثير من الفالسفة ذهبوا الى ازلية الكون على أساس عقلي صرف دون تحقيق علمي‪.‬‬
‫فحاول جابر أن يخالف هذه الفكرة في موارد عديده ننقل واح ٌد منها‪" :‬أعلم أن الكالم في القديم‬
‫والحديث – عافاك هللا – من أصعب األمور عند جلّة الفالسفة و قدمائهم‪ .‬ولو قلت أن أكثرهم مات‬
‫بحسرته لكنت صادقاً‪ ... .‬و إذا أدركنا (القديم) استطعنا أن ندرك خصائص المحدث باالستدالل ‪،‬‬
‫ألن القديم والمحدث ضدان‪ .‬والعلم بأحد الضدين هو علم بالضد اآلخر‪ .‬فطريق الفكر هو من القديم‬
‫إلى المحدث ‪ ،‬ندرك األول إدراكا ً مباشراً ثم نستدل الثاني منه ‪ ،‬وليس العكس كما ظن (جهلة‬
‫المتكلمين) في هذا الباب ‪ ،‬إذ استدلوا على الغائب (القديم) بالشاهد (المحدث) على ما بعد بينهما ‪،‬‬
‫فكأنهما استشهدوا بالجزء على وجود الكل برغم ما في هذا المنطق من الفساد‪ 42".‬فيرى جابر ان‬
‫علمنا و شهودنا لقضايا اليوم هو (جزء) من العلم (الكلي) للعالم والكون‪ .‬فلهذا لم يكن االنسان بقادر‬
‫على االستدالل على قضايا الكون – أي قضية كونية خارج& عن نطاق التجربة االنسانية ‪ -‬لوجود‬
‫نقص في علمه في هذا الموضوع‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫و كما نقلنا سابقا الحل عنده هو اللجوء إلى مصدر العلم و هم األنبياء أو ورثة األنبياء‪ .‬هنا جاء كالم‬
‫متخصص في منهجية العلوم و يلخص لنا أوالً منهجية البحث في العلوم الطبيعية و من ثم يوضح‬
‫أين تقع المشكلة‪ .‬فيوضح لنا الدكتور زكي نجيب محمود‪" :‬فطريق السير [ في البحوث العلمية ] إذن‬
‫هو هذا‪ :‬مشاهدات توحي بفروض ‪ ،‬ثم استنباط للنتائج التي يمكن توليدها من تلك الفروض ‪ ،‬ثم‬
‫‪43‬‬
‫مراجعة هذه النتائج على الواقع ‪ ،‬و عندئذ فأما أن نقبل الفروض التي فرضناها أو نرفضها‪".‬‬
‫"ولكن ما مصدر التلقين عند جابر؟ ‪ ...‬ها هنا تجده يصرح في أكثر من موضع بأن مصدر علمه هو‬
‫النبي و هو علي و هو سيده جعفر الصادق‪" 44".‬وعلى هذا الضوء نفهم اسم (الكيمياء) لماذا أطلق‬
‫على مثل هذه األبحاث التي قام بها جابر ‪ ،‬فهي لفظة معربة من اللفظ العبراني ‪ ،‬و أصله كيم يه ‪ ،‬أو‬
‫‪45‬‬
‫معناه (إنه من هللا)‪".‬‬
‫و من جانب آخر يورد لنا الدكتور مواضيع كثيرة عن جابر والتي استخدم فيها التجارب و الخوض‬
‫مع الطبيعة رأساً‪" :‬يجب أن تعلم أ ّنا نذكر في هذا الكتاب خواص ما رأيناه فقط ‪ ...‬دون ما سمعناه أو‬
‫قيل لنا و قرأناه ‪ ،‬بعد أن امتح ّناه و جربناه‪ .‬فما صح أوردناه و ما بطل رفضناه‪ .‬و ما استخرجناه‬
‫نحن أيضا ً و قايسناه على اقوال هؤالء القوم‪ 46".‬و "‪ ...‬قد عملته بيدي و بعقلي من قبل ‪ ،‬و بحثت‬
‫عنه حتى ص ّح و امتحنته فما كذب‪ 47".‬إذن منهجية البحث يكون في المراحل الثالثة التالية‪:‬‬
‫‪ )1‬أن يستوفي العالِم مشاهداته فرضا ً يفرضه ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها (عملية عقلية مضافا ً‬
‫اليها كسب المعلومات من مصادرها الحقيقي – أي األئمة عليهم السالم ‪ -‬قبل أي بحث أو تجربة)‬
‫‪ )2‬أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرف ( عملية عقلية –‬
‫منطقية صرف)‬
‫‪ )3‬أن يعود بهذه النتائج الى الطبيعة ليرى هل ُتص ّدق أم ال‪( .‬التجربة و االستنتاج)‬

‫فيا ترى ما هو المنهج العلمي عند جابر بن حيان‪ :‬االستقراء الذي قصاراه نتائج محتملة الصدق ‪ ،‬أم‬
‫االستنباط الذي يضمن اليقين في النتائج؟ و قد نرى الدكتور زكي نجيب ال يمكن أن يفسر المنهجية‬
‫عند جابر و يقول‪" :‬والحق أني ال أعرف كيف أوافق توفيقا ً اطمئن اليه بين هذا الرأي في مصدر‬
‫العلم األول – وهو الوحي يأتي من الخارج& – و بين منهجه التجريبي في بحوثه العلمية ‪ ،‬و هو منهج‬
‫نموذجي في دقته و في حرصه على التثبت؟‪ 48‬فهنا يقيس الدكتور زكي عمل جابر بمدرستين‬
‫قائمتين في البحث عن الواقع الخارجي‪ &:‬مدرسة تؤكد على العقل كمصدر أولي و الثاني تؤكد على‬
‫االستقراء في تجاربه‪ .‬و يرى أن ما يقوله جابر و يفعله شيئين ال يطبقان على أي من المدرستين‪ .‬و‬
‫الجواب يكون كما أوضحناه في المراحل الثالث أعاله ‪ ،‬أن الباحث يجب أن يأخذ المعلومات األولية‬
‫من المصدر اليقيني لكي يحوّ ل عمليته االستقرائية في تجاربه الى عملية استنباطية يقينية النتائج‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫يقول جابر‪" :‬ينبغي أن تعلم أوالً موضع األوائل والثواني في العقل ‪ ،‬كيف هي ‪ ،‬حتى ال تشك في‬
‫شيء منها ‪ ،‬وال تطلب في األوائل بدليل‪ .‬و تستوفي الثاني منها بداللته‪ 49".‬فبالنتيجة ‪":‬فو هللا ما لي‬
‫‪50‬‬
‫في هذه الكتب إال تأليفها ‪ ،‬والباقي علم النبي"‬
‫"و نختم حديثنا عن منهج ابن حيان بموجز لهذا المنهج نجمعها في عشر نقاط ‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ – 1‬على صاحب التجربة العلمية أن يعرف علة قيامه بالتجربة التي يجريها‪.‬‬
‫‪ - 2‬على صاحب التجربة العلمية أن يفهم االرشادات فهما ً جيداً‪.‬‬
‫‪ – 3‬ينبغي اجتناب ما هو مستحيل وما هو عقيم‪.‬‬
‫‪ – 4‬يجب العناية باختيار الزمن المالئم والفصل المناسب من فصول العام‪.‬‬
‫‪ – 5‬يحسن أن يكون المختبر في مكان معزول‪.‬‬
‫‪ – 6‬يجب أن يتخذ الكيماوي أصدقائه ممن يثق فيهم‪.‬‬
‫‪– 7‬ال بد أن يكون لديه الفراغ الذي يُم ّكنه من اجراء تجاربه‪.‬‬
‫‪ - 8‬أن يكون صبوراً كتوماً‪.‬‬
‫‪ – 9‬أن يكون دؤوباَ‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫‪– 10‬أال تخدعه الظواهر فيتسرع في الوصول بتجاربه الى نتائجها‪".‬‬

‫ماهية الكون‪:‬‬
‫بعد أن عرفنا أن جابر بن حيان تلميذ األمام جعفر الصادق عليه السالم و أخذ أوليات علمه من هذا‬
‫المصدر اليقيني ‪ ،‬فمن المفيد أن نعلم آرائه في الكون ‪ ،‬ماهيته ‪ ،‬الزمان والمكان و هل هناك (ارادة)‬
‫لألشياء الكونية؟ فنورد من نفس المصدر مقتطفات في هذا الصدد‪:‬‬
‫"الجوهر [ الهيولي لألشياء ] هو القابل لكل شيء ‪ ،‬وهو الذي في كل شيء ‪ ،‬و منه كل شيء ‪ ،‬واليه‬
‫يعود كل شيء ‪ ...‬فليس يمكن أحداً لمسه ‪ ،‬وال إذا مسّه وجد له لمسا‪ .‬وال يقدر أن يأخذ منه شيئا ً‬
‫بيده‪" 52".‬أن الهيولي اكتسب اول ما اكتسب األقدار الثالثة‪ :‬الطول والعرض والعمق ‪ ...‬و بعدئذ‬
‫خلقت فيه الكيفيات األربع‪ :‬الحرارة ‪ ،‬والبرودة ‪ ،‬والرطوبة ‪ ،‬واليبوسة‪: 53".‬فانه قد وجب اآلن على‬
‫التحقيق أن للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أوزانا ً و أن للجوهر وزناً‪ ....‬و أما أن نسمع‬
‫‪54‬‬
‫فالسفة يُعدمون هذه األشياء وزنها و وجودها و رؤيتها فذلك قول منهم بلغ من الخطأ& أقصاه‪".‬‬
‫‪14‬‬
‫"و أما الزمان فهو الذي يُقطع به من حال الى حال ‪ ...‬و هو واحد ما دام قائما ً ‪ ...‬وللزمان كم و‬
‫كيف‪ .‬فكميته هي التي يجاب بها عن مثل سؤالنا‪ :‬كم مقدار ما كان زيد قاعداً؟ و أما في الكيف فهو‬
‫أن تقول‪ :‬كان الزمان حاراً& أو بارداً‪ .‬و لذلك وجب أن نقدم الكم والكيف على الزمان والمكان‪ .. .‬و‬
‫أما المكان فهو الذي ليس يخلو شيء من أن يكون في مكان البتة [ الحظوا بأن هذا مخالف لما‬
‫‪55‬‬
‫يعلّموننا اليوم‪ .‬ففي فيزياء اليوم من الممكن أن يكون مكانا ً بدون أي شيء فيه ] "‬
‫"وقف جابر عند خمس من المقوالت ‪ ،‬هي‪ :‬الجوهر ‪ ،‬والكم والكيف والزمان والمكان‪ .‬وقف عندها‬
‫وقفات قصار ليشرح مفاهيمها ‪ ،‬ألنه يراها شروطا ً ال مندوحة عن توافرها لكي يتكون في العالم‬
‫شيء ما‪ .‬ثم استطرد بعد ذلك ليقول أن هذه المقوالت ال تنطبق على درجة سواء في كل حالة من‬
‫الحاالت‪ .‬بل يمكن تصورها على خمس صور من التركيب‪:‬‬
‫‪ – 1‬أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته ‪ ،‬و أن يكون جوهره قد حمل ما حمله من الصفات في‬
‫دفعة واحدة ‪ ،‬فال زيادة قد طرأت عليه بعد ذلك وال نقصان‪ .‬و أن يكون زمان حدوثه معادالً‬
‫لمكانه ‪ ...‬فاذا توافرت في شيء هذه الشروط ‪ ،‬فما أقل ما يكون انحالله و فساده‪.‬‬
‫‪ – 2‬أن تكون كيفية الشيء مخالفة& مباينة لكميته ‪ ،‬و أن تكون الصفات التي يحملها جوهره قد جاءته‬
‫على دفعات ‪ ،‬فأخذ يزداد صفة بعد صفة على مر الزمن‪ .‬و أن يكون بين زمانه و مكانه تنافر ‪ ...‬و‬
‫في مثل هذه الحالة& يكون الشيء معرضا ً للفساد و التغيير ‪ ...‬يكون مصيره الى االنحالل‪.‬‬
‫‪ – 3‬أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته ‪ ،‬و أن تكون الطبائع المحمولة على جوهره قد حُملت عليه‬
‫دفعة واحدة‪ .‬أي أنه يكون طبيعيا ً في طريقة تكوينه و صفاته ‪ ،‬لكن زمان حدوثه يجيء غير متسق‬
‫مع مكان حدوثه ‪ ...‬في مثل هذه الحالة يكون عدم الصالحية كائنا ً في المكان والزمان‪ .‬فإن كان في‬
‫الزمان صار الكائن قلقا غير مستقر ‪ ،‬ألنه ليس في زمانه المناسب‪ .‬و إن كان في المكان وجب أن‬
‫يُغير مكانه الى مكان أنسب‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته ‪ ،‬إال أن جوهره قد حمل طبائعه دفعة واحدة ‪ ،‬و جاء زمانه‬
‫موافقا لمكانه ‪ ...‬في مثل هذه الحالة يكون التكوين من حيث الخصائص الزمان والمكان ال عيب فيه‪.‬‬
‫لكن العيب إنما يكون في حجم الشيء أو في مقداره بالنسبة لتلك الكيفيات‪ .‬فعندئذ ال نستطيع أن نحدد‬
‫له حدوداً معينة معلومة‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته ‪ ،‬و أن يكون جوهره قد حمل طبائعه على دفعات متتالية‬
‫على مر الزمن ‪ ،‬غير أن زمان حدوثه يجيء موافقا لمكان حدوثه ‪ ...‬في هذه الحالة يكون الشيء‬
‫مصطنعا ً متكلفا ً مرقعا ً ملفقاً‪ .‬ألن طبائعه ستزاد له طبعا بعد طبع على غير ما يلزم بالضرورة عن‬
‫‪56‬‬
‫حقيقة جوهره‪ .‬فال يجدي أن يكون متناسب المكان والزمان ‪ ،‬إذ أن تركيبه باطل و فساده محقق‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫هل للكائنات أرادة؟‬

‫قد يكون السؤال غريبا ً ‪ ،‬ألننا ال نرى االرادة إال في نوع األنسان‪ .‬ولكن كما ذكرنا سالفا ً ‪ ،‬لم َ‬
‫ير‬
‫جابر أي فرق بين األنسان والكائنات من هذه الجهة‪" :‬هذه هي بنية العالم والطبيعة واالنسان‪ .‬فكان‬
‫‪57‬‬
‫العالم ضرورة إنسانا ً و األنسان جزءاً صغيراً باإلضافة الى العالم‪".‬‬
‫"يقول كارا دي ڤو في مقالته عن جابر‪ :‬أن المذهب الموجود في مؤلفاته – وفي كتاب الرحمة& بصفة‬
‫خاصة – هو مذهب موغل في اسقاط الصفة البشرية على الطبيعة‪ .‬أو أن شئت فقل أنه موغل في‬
‫بث الحياة في الطبيعة‪ .‬فهو يع ّد المعدن كائنا حيا ً ‪ ،‬ينمو في حضن األرض مدة طويلة – آالف السنين‬
‫– متحوال من حالته الناقصة ‪ -‬حالة الرصاص ‪ -‬الى الحالة الكاملة – حالة& الذهب‪ .‬و مهمة الكيميا‬
‫أن تعجل عملية التحول‪ .‬أنك لترى جابراً يستخدم عن المعادن ألفاظا& مأخوذة من الحياة البشرية ‪،‬‬
‫كالتوالد والزواج والتلقيح والتربية‪ .‬كما يستخدم عنها لفظتي الحياة والموت‪ .‬فالعناصر األرضية‬
‫الغليظة (ميتة) ‪ ،‬و الخفية اللطيفة (حية)‪ .‬و عنده أن كل جسم كيماوي روح و بدن ‪ ،‬و مهمة‬
‫‪58‬‬
‫الكيماوي أن (يخلّص) الواحد من اآلخر ‪ ،‬لكي يبث في الجسم روحا تالئمه‪".‬‬
‫و إذا نظرنا في القرآن الكريم نرى نفس المذهب موجود فيه ايضاً‪ .‬كاآلية ‪ 72‬من سورة األحزاب‬
‫والتي لم تؤشر بالخطاب اإللهي للكائنات فقط بل تتكلم عن جوابهم اإلرادي هلل سبحانه و تعالى‪:‬‬
‫ال َفأ َ َبي َْن أَن َيحْ م ِْل َن َها َوأَ ْش َف ْق َن ِم ْن َها‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َو ْال ِج َب ِ‬ ‫إِ َّنا َع َرضْ َنا اأْل َ َما َن َة َع َلى ال َّس َم َاوا ِ‬
‫‪ 11‬فصلت‬
‫ِين‬ ‫ِي ُد َخانٌ َف َقا َل َل َها َولِأْل َرْ ِ‬
‫ض ِا ْئ ِت َيا َط ْوعًا أَ ْو َكرْ هًا َقا َل َتا أَ َت ْي َنا َطا ِئع َ‬ ‫ُث َّم اسْ َت َوى إِ َلى ال َّس َماء َوه َ‬

‫ت َو َمن فِي اأْل َرْ ِ‬


‫ض َوال َّشمْ سُ َو ْال َق َم ُر‬ ‫أَ َل ْم َت َر أَنَّ هَّللا َ َيسْ ُج ُد َل ُه َمن فِي ال َّس َم َاوا ِ‬
‫‪ 18‬حج‬
‫َوال ُّنجُو ُم َو ْال ِج َبا ُل َوال َّش َج ُر َوال َّد َوابُّ‬
‫‪ 10‬طير‬ ‫َيا ِج َبا ُل أَوِّ ِبي َم َع ُه َو َّ‬
‫الطي َْر‬

‫إِ َّنا َس َّخرْ َنا ْال ِج َبا َل َم َع ُه ي َُسبِّحْ َن ِب ْال َعشِ يِّ َواإْل ِ ْش َر ِ‬
‫‪ 18‬ص‬
‫اق‬
‫‪ 79‬انبياء‬ ‫ْال ِج َبا َل ي َُسبِّحْ َن َو َّ‬
‫الطي َْر‬
‫ولكن إذا اعترفنا بوجود اإلرادة في أجزاء الكون البد لنا من أن ال نعترف بوجود العلّية فيها‪ .‬ألن‬
‫وجود اإلرادة تناقض الرابطة العلّية الموجود فيما بين العلّة والمعلول‪ .‬فأيّ من هذين الوجهين نأخذ؟‬
‫هل هناك نظام العلّية في الكون أم نؤمن بوجود اإلرادة في الكون؟ قد يكون الجواب في اآلية ‪ 11‬من‬
‫سورة فصلت – المذكورة أعاله ‪ -‬والتي تقول أن للسماوات و األرض أرادة ولكنهما طائعين دائما‬
‫لما يريد هللا و أبى هللا أن يُجري األشياء إال بأسباب‪ .‬فنقول نحن بوجود السببية و الفرق بينها و بين‬

‫‪16‬‬
‫العلّية ‪ ،‬أن للثاني وجوب وجودها في نفسه و لكن في السببية نقول أن األشياء تخضع إلرادة هللا‬
‫طوعا ً ‪ ،‬وإرادة هللا في الكون أن يكون المسبب و االسباب‪.‬‬
‫‪ 38‬ص‬
‫ض َو َما َب ْي َن ُه َما َف ْل َيرْ َتقُوا فِي اأْل َسْ َبا ِ‬
‫ب‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫أَ ْم َلهُم م ُّْل ُ‬
‫ك ال َّس َم َاوا ِ‬
‫‪ 36‬غافر‬
‫ت‬
‫اب ال َّس َم َاوا ِ‬ ‫صرْ حً ا& لَّ َعلِّي أَ ْبلُ ُغ اأْل َسْ َب َ‬
‫اب ()أَسْ َب َ‬ ‫َو َقا َل فِرْ َع ْونُ َيا َها َمانُ اب ِ‬
‫ْن لِي َ‬
‫و بهذا ممكن تفسير المعجزات& بأنها تغيي ٌر في األسباب عند أرادة هللا لتغييرها‪ .‬فإنها في الواقع‬
‫(خارقة لعادة) و ليست تغيير في العلّية‪.‬‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫أهم نقطة أردنا أن نقولها في هذا المقال أننا نحتاج إلى العالِم الحقيقي للوصول الى حقيقة الكون – و‬
‫هو اآلن متمثل في الوجود المبارك لموالنا صاحب العصر والزمان عجل هللا تعالى فرجه الشريف ‪-‬‬
‫أوالً و من ثم التعقل و التدبر لخلق نظريات حول ما يجري في العالم و من بعده التجربة و التحرّ ي‬
‫من صحة هذه النظريات ‪ ،‬إلى أن نتيقن من صحة أفكارنا‪ .‬هذا ما أخذناه من العالم الجليّ جابر بن‬
‫حيان الكوفي من أفضل تالمذة األمام جعفر& الصادق عليه السالم‪ .‬والكون قد يكون مختلفا ً تماما ً مما‬
‫سيطر علينا العلم الغربي في نظرياته و آرائه‪ .‬ولكن من الممكن تغيير هذه النظريات‬ ‫َ‬ ‫نعرفه اآلن بما‬
‫إذا عملنا بشكل صحيح‪.‬‬
‫فمن الجدير بالذكر أن عالما ً مسيحيا بأسم (الماتر) غيّر آراء اينشتين و باقي علماء الفيزياء في أزلية‬
‫الكون مما أدى الى قبولهم نظرية (خلق الكون)‪ .‬و اآلن بما يرونه من اآلثار الكونية في ميكانيكا الكم‬
‫مستعدون بأن يقبلوا وجود اإلرادة في الكون ألنّ هذه النظرية تعطي أقرب تفسير لما يحدث في عالم‬
‫الجزيئات‪ .‬ولكن من الطبيعي نحتاج أن نستخدم المنهج العلمي الذي أعطانا جابر بن حيان‪ ,‬و نتوسل‬
‫الى سيدنا و وليّ أمرنا ‪,‬و نشكل لجنة من خيار علمائنا لكي نبني نظريات جديدة على هذا األساس‪.‬‬

‫والسالم عليكم و رحمة هللا و بركاته‬


‫د‪ .‬سيد احسان الشهرستاني‬
‫رئيس الجامعة& العالمية للعلوم االسالمية – لندن‬

‫‪17‬‬
‫‪ 1‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪17‬‬
‫‪ 2‬المصدر ص ‪ ، 82‬نقال عن كتاب الخواص ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪317‬‬
‫‪ 3‬المصدر ص ‪ ، 132‬نقال عن كتاب الحاصل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪524‬‬
‫‪ 4‬أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم خليل العالف ‪ ،‬أستاذ التاريخ الحديث – جامعة الموصل – نقال عن فيسبوك‬
‫‪ 5‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪76‬‬
‫‪ 6‬االسس المنطقيه لالستقراء ‪ ،‬سيد محمد باقر الصدر ص ‪426‬‬
‫‪ 7‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪ ، 67‬نقال عن كتاب التصريف ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪418‬‬
‫‪ 8‬االسس المنطقيه لالستقراء – سيد محمد باقر الصدر ص ‪323‬‬
‫‪ 9‬المصدر ص ‪334‬‬
‫‪ 10‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب& محمود ص ‪ ، 82‬نقال عن كتاب الخواص ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪222‬‬
‫‪ 11‬المصدر ص ‪78‬‬
‫‪ 12‬المصدر ص ‪ ، 233‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪27‬‬
‫‪ 13‬المصدر ص ‪ ، 234‬نقال عن كتاب البحث ‪ ،‬المقالة الخامسة‬
‫‪ 14‬المصدر ص ‪ ، 259‬نقال عن كتاب القديم‬
‫‪ 15‬المصدر ص ‪256‬‬
‫‪ 16‬اصول الكافي ج ‪ 1‬ص ‪272‬‬
‫‪ 17‬كذلك راجع بحار االنوار ج ‪ 25‬ص ‪ 47‬الى ‪ 99‬باب األرواح التي فيهم ‪ ،‬و أنهم مؤيدون بروح القدس و نور إنا أنزلناه في ليلة القدر ‪ ،‬و بيان نزول‬
‫السورة فيهم عليهم السالم‬
‫‪ 18‬ترى كيف اليتحمل هذا العالم السني ‪ ،‬أي زكي نجيب& محمود ‪ ،‬عبارات الذل عند األمام و مصدر الحق حتى ينسب الغرور إلى جابر‬
‫‪ 19‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪ ، 26‬نقال عن كتاب األحجار ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪164‬‬
‫‪ 20‬المصدر ص ‪ ، 256‬نقال عن كتاب القديم‬
‫‪ 21‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪ ، 265‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪79‬‬
‫‪ 22‬المصدر ص ‪6‬‬
‫‪ 23‬عيون أخبار الرضا ج ‪ 2‬ص ‪170‬‬
‫‪ 24‬المصدر ص ‪ 228‬نقال عن كتاب التجميع ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪344‬‬
‫‪ 25‬المصدر ص ‪ ، 193‬نقال عن كتاب السبعين ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪462‬‬
‫‪ 26‬المصدر ص ‪ ، 197‬نقال عن كتاب السبعين ‪ ،‬المقالة ‪22‬‬
‫‪ 27‬المصدر ص ‪ ، 146‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪51‬‬
‫‪ 28‬المصدر ص ‪ 193‬نقال عن كتاب السبعين ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪463‬‬
‫‪ 29‬بحار االنوار ‪ ،‬العالمة المجلسي ج ‪ 3‬ص ‪98 - 96‬‬
‫‪ 30‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪194‬‬
‫‪ 31‬المصدر ص ‪ 206‬نقال عن كتاب& الخواص الكبير ‪ ،‬المقالة السادسة‬
‫‪ 32‬المصدر ص ‪ 207‬و ‪208‬‬
‫‪ 33‬المصدر ص ‪ 192‬نقال عن كتاب& إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪4‬‬
‫‪ 34‬األصول األصلية والقواعد الشرعية ج ‪ 1‬ص ‪275‬‬
‫‪ 35‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪217 - 216‬‬
‫‪ 36‬بحار األنوار ج ‪ 1‬ص ‪85‬‬
‫‪ 37‬فصل المقال ألبن رشد ص ‪8‬‬
‫‪ 38‬جابر بن حيان ‪ -‬زكي نجيب محمود ص ‪ 84‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪47‬‬
‫‪ 39‬المصدر ص ‪ ، 86‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس‬
‫‪ 40‬المصدر ص ‪ ، 64‬نقال عن كتاب التصريف‬
‫‪ 41‬المصدر ص ‪ ،73‬نقال عن كتاب التصريف ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪423‬‬
‫‪ 42‬المصدر ص ‪ ، 257 – 256‬نقال عن كتاب القديم‬
‫‪ 43‬المصدر ص ‪58‬‬
‫‪ 44‬المصدر ص ‪46‬‬
‫‪ 45‬المصدر ص ‪ ، 47‬نقال عن الصفدي في شرح المية العجم ‪ ،‬أخذاً من كشف الظنون ج ‪2‬‬
‫‪ 46‬المصدر ص ‪ ، 55‬نقال عن كتاب الخواص الكبير ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪232‬‬
‫‪ 47‬المصدر ص ‪ ، 61‬نقال عن كتاب الخواص ‪ ،‬المقالة الثانية والثالثون ‪ ،‬مختارات كراوس ص ‪322‬‬
‫‪ 48‬المصدر ص ‪54‬‬
‫‪ 49‬المصدر ص ‪ ،76‬نقال عن كتاب الخواص الكبير ‪ ،‬المقالة األولى ‪ ،‬مختارات كراوس ص ‪234‬‬
‫‪ 50‬المصدر ص ‪ ، 82‬نقال عن كتاب الخواص ‪ ،‬مختارات كراوس ص ‪317‬‬
‫‪ 51‬المصدر ص ‪ ، 86 – 85‬نقال عن ‪ Holmyanl, E.J., Chemistry to the Time of Dalton‬ص ‪17‬‬
‫‪ 52‬المصدر ص ‪ ،153‬نقال عن كتاب الميزان الصغير ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪428‬‬
‫‪ 53‬المصدر ص ‪ ،140‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل‬
‫‪ 54‬المصدر ص ‪ ،155‬نقال عن كتاب الميزان الصغير ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪434‬‬
‫‪ 55‬المصدر ص ‪ ، 156‬نقال عن كتاب الميزان الصغير ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪452‬‬
‫‪ 56‬المصدر ص ‪ ، 159 - 157‬نقال عن كتاب الميزان الصغير ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪444 - 442‬‬
‫‪ 57‬المصدر ص ‪ ، 146‬نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ /‬مختارات كراوس ص ‪51‬‬
‫‪58‬‬
‫المصدر ص ‪ ، 147‬نقال عن دائرة المعارف االسالمية ‪ ،‬مادة جابر بن حيان‬

You might also like