Professional Documents
Culture Documents
8 منهجية البحث عند جابر
8 منهجية البحث عند جابر
8 منهجية البحث عند جابر
خالصة البحث :بعد مرور حوالي قرن على تأسيس علم ميكانيكا الكم ،اليزال علماء الفيزياء و غيرهم عاجزين عن
تفسير ما يحدث في عالم الكم أي الذرة .و من جانب آخر ،إذا استمددنا بالعلم الموج&&ود عن&&د أئم&&ة أه&&ل ال&&بيت عليهم
السالم ،من الممكن أن نساهم في تطوير العلوم الطبيعية بمستوى أعلى مما بلغه الغربيون .وللوص&&ول إلى ه&&ذا العلم
نحتاج إلى علماء ارتبطوا باألئمة بشكل مباشر و أخذوا منهم و جابر بن حيان أح&&د ه&&ؤالء .و بع&&د أن نع&&رض أرب&&ع
مقدمات حول ارتباط العقل بالعالم الخارجي ،و كذلك ارتباطه بالدين و من ثم أثر علم األئمة و خاصة على جابر بن
حيان وأثره على دراستنا ،و إمكانية تغيير الطبيعة ،وما اُمرنا به للتكتم في العلوم ،ن&&دخل في ص&&لب الموض&&وع و
نعطي (برواية جابر بن حيان) منهجية البحث في العلوم الطبيعية عند األئمة و معايير الوصول إلى حقيق&&ة الك&&ون .و
في الختام نعرض بحثين عن ماهية الكون و السببية فيه ونرجح القول القائل بوجود أرادة لألجسام الكونية ايضاً.
أهمية البحث:
منذ خلق هللا تبارك و تعالى االنسان ،اعطاه قابلية التغيير في هذا الكون .و قد استفاد االنسان من
هذه الهبة طوال تاريخه العلمي .فالعلم هو الوسيلة األفضل لكشف حقائق الكون و من ثم االستفادة من
قدراتها و عطاءاتها حسب ما يقتضي االنسان .و نحن اآلن نعيش في عصر قد يُعادل يوم ُه سنة من
األيام الماضية من حيث التقدم في كشف حقائق العا َلم و االنتفاع بها.
ً
وخاصة علماء الفيزياء (النظريين منهم) قد عانوا من ولكن مع كل هذه التطورات ،نرى العلماء
ظاهرة صعبة لم يتسنْ لهم فهمها أو تفسير ما يرونه في مختبراتهم وهو ميكانيكا الكم أو الحركة&
الكمية .هذه النظريّة جاءت كتعميم وتصحيح لنظريات نيوتن الكالسيكية ودمجها بالحركة الموجية
وخاصة على المستوى الذري ودون الذري و تسميتها بميكانيكا الكم يعود إلى أهميّة الكم في بنائها.
تقوم النظرية الكمّية بتقديم تصوّ ر غريب عن العالم الذرّ ي ودون الذرّ ي يصدمنا ويبعدنا عن كل ما
ألفناه في الواقع الحياتي وما تقدم ُه الفيزياء الكالسيكية من تصورات .لكنها بالرغم من كل ذلك تنجح
إلى حد بعيد في تفسير حقائق& العالم دون الذري وتعزز صحتها يوما ً بعد يوم بتقديم تنبؤات غريبة,
لكن كل التجارب العلمية تأتي فيما بعد لتؤكد هذه التنبؤات .كل هذا أدخل ميكانيكا الكم في عمق
نقاشات فلسفية حول طبيعة ما تطرحه ومدى قرب ِه من الحقيقة ،حتى أن ميكانيكا الكم طرحت نفس
قضية الحقيقة& بشكل سؤال.
1
ومن أهم هذه التجارب هي تجربة ش ّق َي يونغ التي
أسهمت في البحث في طبيعة الضوء وإثبات طبيعته
الموجية ،ثم استخدمت في اثبات وجود خاصية موجية
لجميع الجسيمات مثل اإللكترونات وغيرها .تعتمد
تجربة ش ّق َي يونغ على انعراج الضوء عند ش ّق َين
رفيعين في حاجز& مانع للضوء ،حيث يقوم االنعراج
بتحويل كال الش ّق َين إلى منبعين ضوئيين متشابهين
مترافقين ،وينتج عنهما عند استقبال الضوء على
حاجز& أمامهما أنماط تداخل تتميز بأهداب ضوئية
شديدة اإلنارة وأهداب عاتمة ،وهذا ما يشبه ظاهرتي التداخل الب ّناء والتداخل اله ّدام في األمواج .و
من الغريب ،تم الحصول أيضا على نتائج مشابهة عند استبدال الحزم الضوئية (حزم الفوتونات)
بحزم إلكترونية مما كان أحد اثباتات مثنوية الموجة -جسيم.
ولكن األغرب من كل هذا هي التجربة التي تنطوي على إرسال جسيمات واحدة (مثل فوتونات ،أو
الكترونات ،أو حتى أجسام أكبر واحداً تلو اآلخر من خالل الش ّقين ،ففي هذه الحالة ،نرى وصول
هذه الجزيئات واحداً تلو اآلخر ولكن تعطي نفس أنماط التداخل والممثلة بأهداب ضوئية شديدة
اإلنارة وأهداب عاتمة ،وهذا يعنى أن الجسيمات التي أرسلن واحداً تلو اآلخر تتفاعل بعضها مع
بعض وهذه النتيجة تتناقض مع خبرتنا اليومية و فهمنا للعالم.
في الواقع الموضوع معقد جداً وخارج& نطاق بحثنا .ولكن ما يهمنا هنا أن العلماء لم يجدوا خالل
الستين سنة األخيرة أي تفسير معقول لميكانيكا الكم ككل و لكثير من نتائجها المختبرية .و هذا ما
نريد قوله هنا ،بأنّ للمسلمين أن يرجعوا إلى آثارهم الدينية لكي يستنبطوا حالً جديداً لما توقف
الغربيون عن الوصول اليه .وهنا تكمن أهمية البحث عن علماء كبار في صدر االسالم و البحث عن
أصولهم الفكرية و المنهجية العلمية التي وصلوا إليها لكي نتخطى نفس الخطى و ُنحيي مراتبنا
العلمية التي كنا نحظى بها في صدر االسالم.
تمهيد:
ً
خاصة في العلوم الطبيعية كانت معتمدة في أن مناهج البحث العلمي و
أغلب األحيان على تأمل نظري أكثر مما تعتمد على مشاهدة متعاقبة و
تجريب دقيق صارم .ولكن كانت هناك استثناءات لمنهج البحث العلمي
لبعض العلماء ,و من هؤالء عالمنا الجليل جابر بن حيان ،فهو شيعي
المذهب و من طالب االمام جعفر& الصادق عليه السالم .و كثيراً ما يرد
2
اسم االمام في كتاباته مشيراً إليه بقوله (سيدي) . 1و نحن إذ نريد الوصول إلى ما يقولون به األئمة
راو لنا لما يروونه في هذا المقام .و يؤكد جابر على هذا الموضوع عليهم السالم فيكون جابر أحسن ٍ
2
قائال" :فو هللا مالي في هذه الكتب إال تأليفها ،والباقي علم النبي" و في نفس الوقت هو عالم دقيق
في أقواله .فمثالً نراه يقول ..." :ولك ّنا ذكرناهُ استظهاراً و احتراسا ً من ذم الطاعنين أن ذلك إنما
عملناه على حساب الهوى و العادة ،ولسنا نفعل ذلك في علم من العلوم ،ولكن على ما يوجبه حكم
3
النظر و صحة التفتيش والقياس الغير مضطرب وال مشوب بإهمال النظر "...
جاء في ويكيبيديا عنه :جابر بن حيان بن عبد هللا األزدي برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة
وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة ،ويعد جابر بن حيان أول من استخدم الكيمياء عمليًا في
التاريخ .ولد على أشهر الروايات في سنة 101في مدينة طوس من أعمال خراسان .كانت هوية
وأعمال جابر بن حيان مثار جدل كبير في األوساط اإلسالمية ،وكانت كتبه في القرن الرابع عشر
الميالدي من أهم مصادر الدراسات الكيميائية وأكثرها أثراً في قيادة الفكر العلمي في الشرق
والغرب ،وقد انتقلت عدة مصطلحات علمية من أبحاث جابر العربية إلى اللغات األوروبية عن
طريق اللغة الالتينية التي ترجمت أبحاثه إليها .وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن
علم الكيمياء فقال :إمام المدونين جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر و له فيها
سبعون رسالة كلها شبيهة باأللغاز .قال عنه أبو بكر الرازي في (سر األسرار) ":إن جابراً من أعالم
العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء" ،وكان يشير إليه باستمرار بقوله األستاذ جابر بن حيان .وذكر
ابن النديم في الفهرست ،مؤلفاته ونبذة عنه .وقال عنه الفيلسوف اإلنكليزي فرانسيس بيكون" :إن
جابر بن حيان هو أول من علّ َم علِ َم الكيمياء للعالم ،فهو أبو الكيمياء" ،وقال عنه العالم الكيميائي
الفرنسي مارسيالن بيرتيلو في كتابه (كيمياء القرون الوسطى)" :إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما
ألرسطو في المنطق".
ب عديدة أهمها تغييرومن جانب آخر ،دراسة أقوال و أفكار القدماء شيء صعب الى ح ٍد ما ،ألسبا ٍ
المصطلحات العلمية ،فمثال يقصد جابر بهذه العبارة( :التدبير على القصد المستقيم) ما معناه (التجربة
العلمية السليمة) .و األصعب من هذا هو التغيير في مفاهيمنا العلمية اليوم .ففي زمن جابر ،كانوا
يفسرون كل شيء بالكيفيات األربعة و هي :الحرارة& ،والبرودة ،واليبوسة ،والرطوبة .و هناك
مفاهيم اُخر كانت متداولة لم يكن عندنا شيء منها .فالصواب في دراسة أفكار و كتب القدماء أن
نستنجد بأولئك من علماء اليوم الذين درسوا كل هذه الخلفيات و أمضوا سنين من عمرهم لفهم األلغاز
المستخدمة عند العلماء القدماء .و من هؤالء عالم بأسم پول كراوس ( ) Paul Krausالذي جمع
مؤلفات جابر بن حيان في كتابه (مختارات كراوس).
3
ففي هذه الدراسة ،أخذنا معلومات عن أفكار ابن حيان و أعماله من كتاب "جابر بن حيان" للدكتور
زكي نجيب محمود الذي بذل مجهوداً كبيراً لجمع مؤلفاته العربية واالجنبية ومن ثم فهم (مشكوراً )
ما قاله جابر ألنه كان متخصصا ً في مناهج البحث العلمي" .وهو فيلسوف ،ومفكر مصري كان له
دور كبير في نشر فكر الحداثة والتنوير والتقدم ,على الساحة الثقافية العربية ردحا ً من الزمن .توفى
في 8أيلول – سبتمبر سنة ، 1993وكان أستاذاً للفلسفة في جامعة القاهرة .لقد فطن الدكتور زكي
نجيب محمود -منذ وقت مبكر من بدء نشاطه الفكري -إلى أن ما يميز العصر الذي نعيش فيه ،هو
بروز ثقافة جديدة يحتل فيها اإلنسان دور الفاعل األول واألخير في العالم الذي يمثل بالنسبة إليه
4
مجاالً للتجربة والعمل ،ال مجاالً للتأمل والنظر المجردين اللذين ال صلة لهما بالواقع".
ولكي يكون البحث مفيداً للقارئ الذي قد ال يكون عنده خلفيات عن موضوع دراستنا هذه ،نضطر
أن نعرض عدة مقدمات حول ارتباط العقل بالعالم الخارجي& ،و كذلك ارتباطه بالدين و من ثم أثر
علم األئمة و خاصة على جابر بن حيان وأثره على دراستنا ،و أخيراً هل يجوز لنا شرعا ً أن نغير
الطبيعة؟ و بعد هذه المقدمات كلها ممكن فهم ما ورد عن ابن حيان في منهجية الكشف عن العلوم
الطبيعية لكي يفتح لنا بابا ً للدخول إلى فهم العالم كما يُتاح لنا أوالً و من ثم إعطاء آراء جديدة لتفسير
المظاهر المستجدة في علم ميكانيكا الكم.
6
لم يسمى الطلسم طلسما؟ قلت :ال وهللا يا موالي ما أدري .فقال :ف ّكر فيه ،فإنه من علمك .ففكرت فيه
سنة فلم أعلم ما هو .فقلت :ال وهللا يا موالي ما أدري ما هو .فقال :لوال أني غرستك بيدي و أنشأتك
أوالً و آخراً إلى وقت هذا ،لقلت أنك مظلم ،ويلك أقلِبه! فقلت :نعم يا موالي ،فإذا معناه مسلّط من
جهة الغلبة و التسليط .21"...فهل ترى كيف يدرب األمام(ع) جابرا؟ فيسأله أن يفكر أوال و أن يصل
إلى الجواب هو بنفسه من دون التلقين أو التعليم المباشر .ولكن حين فشل العقل و التفكير ،يساعده
األمام و يعلمه الجواب .والدليل الثاني عندي هو استخدام جابر فكرة العلوم السائدة في زمانه .إذ أنّ
جابر أخذ من التراث الفلسفي اليوناني فكرة الطبائع األربع األولية التي منها نشأت الكائنات جميعا ً و
هي :الحرارة& ،والبرودة ،واليبوسة ،والرطوبة .22فاألمام يقف موقف المحايد من هذا الخيار .و
يؤيد هذا النظر قول األمام الرضا عليه السالم لعالم آخر و هو عمران الصابي .إذ سأل عمرانُ األما َم
نر شيئا من الكيفيات األربع في جواب األمام " .قال عمران :يا سيدى اال عن حدود الخلق و لم َ
تخبرني حدود خلقه& كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟ قال :قد سألت فاعلم ان حدود خلقه&
على سته انواع ملموس وموزون ومنظور إليه وما ال ذوق له وهو الروح ومنها منظور إليه وليس
له وزن وال لمس وال حس وال لون وال ذوق والتقدير واالعراض والصور والطول والعرض ومنها
العمل والحركات التي تصنع االشياء وتعملها وتغيرها من حال الى حال وتزيدها وتنقصها فأما
االعمال والحركات& فانها تنطلق ألنه ال وقت لها اكثر من قدر ما يحتاج إليه فإذا فرغ من الشيء
انطلق بالحركة وبقى االثر ويجرى مجرى الكالم يذهب ويبقى اثره 23".بعبارة أخرى ،سكوت األمام
الصادق(ع) الستخدام جابر الكيفيات األربع و سكوت األمام الرضا(ع) عن هذه الكيفيات يبين لنا عدم
أهمية هذا التقسيم أو أي تقسيم آخر من هذا النوع و نستنتج من هذا أن هناك مواضيع تقع في منطقة
الفراغ ،يمكن لنا استخدام النظام الفكري السائد فيها دون أن يؤثر على فهمنا للواقع الخارجي .و
بهذا من الممكن أن نقترح نظريات عديدة لم تكن من األمام أو الوحي و قد تكون في أكثر األحيان
غير صحيحة و نضطر بأن نغيرها أو ُنع ّدلها .و بهذا يتقدم العلم حسب األفكار السائدة في كل عصر.
7
هللا وحده ...فانظر – مثال – إلى جابر و هو يحدثنا عن الطريقة التي يمكن بها أن ننقل وجه رجل
24
إلى جسم جارية ،أو أن ننقل بها عقل رجل إلى جسم صبي صغير"
و بشكل عام يعتقد جابر بأن "في قوة االنسان أن يعمل كعمل الطبيعة" 25و يقول" :حد الكيمياء إظهار
ليس [ أشياء معدومة عندنا] في أيس [ أشياء موجودة بالقوة من الممكن تبديلها إلى وجود بالفعل ].
و يقول ايضا" :إن لكل معدن من هذه المعادن صفتين موجودتين بالفعل ،و صفتين أخريين
موجودتين فيه بالقوة ،فلو استخرجنا ما هو موجود بالقوة إلى ما هو موجود بالفعل ،تبدل المعدن
معدنا ً آخر 26".و إذا عرفنا أن العالم و األنسان عند جابر في حد سواء فممكن تطبيق ما قاله في
المعادن على األنسان و الحيوان و النبات ايضاً .يقول جابر" :هذه هي بنية العالم والطبيعة و األنسان
27
،فكان العالم ضرورة أنسانا ً و األنسان جزءاً صغيراً باإلضافة الى العالم"
ينقل لنا الدكتور زكي نجيب محمود خالصة فلسفة الكيمياء كلها عند ابن حيان" :و أساسها هو أن
الكيماوي يحذو حذو الطبيعة في تكوينها لألشياء ،و كل الفرق هو أن الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها ،
أما الكيماوي فيعمل عمله بتجربة مدبّرة ،لكن كل ما تؤديه الطبيعة من عمليات تحويل األشياء
بعضها إلى بعض ،هو في مستطاع الكيماوي أن يؤديه .غير أن األمر يحتاج من الكيماوي الى
صر و حذر ،فقد ال يكون التحويل ممكنا بضرب ٍة واحد ٍة ،بل يتطلب خطوات متدرجة تنتهي آخر تب ُّ
األمر الى النتيجة المطلوبة .ولو أتقن العالِم دراسة موضوع ِه و ما يحتاج اليه من خطوات في عملية
تحويله ،ألمكنه ال أن يحاكي الطبيعة في فعلها فقط ،بل أن يعمل ما تعمله الطبيعة في وقت أقصر.
إذ قد يتطلب تكوين الذهب في حضن الطبيعة آالف السنين ،لكن الكيماوي في مستطاعه أن يعمل
28
العملية نفسها في فترة وجيزة".
ال بأس بأن نستكمل بحثنا في هذا الموضوع بنقل قسم من كالم األمام الصادق عليه السالم لمفضل
بن عمر " :تأمل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء
وازدرادهما إلى جوفه ،ولوال ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من االرض ألنه ليست له رقبة يمدها
كسائر االنعام ،فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته ،فمن ذا
الذي عوضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه& إال الرؤوف بخلقه ؟ وكيف يكون هذا باإلهمال
كما قالت َ
الظ َلمة ؟ فإن قال قائل :فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر االنعام ؟ قيل له :إن رأس الفيل
واذنيه أمر عظيم وثقل ثقيل ،ولو كان ذلك على عنق عظيمة لهدها وأوهنها فجعل رأسه ملصقا
بجسمه لكيال ينال منه ما وصفنا ،وخلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدمه
العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته .انظر اآلن كيف جعل حيا االنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا
هاجت للضراب ارتفع وبرز حتى يتمكن الفحل من ضربها ،فاعتبر كيف جعل حيا االنثى من الفيلة
على خالف ما عليه في غيرها من االنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ لألمر الذي فيه قوام النسل
ودوامه .فكر في خلق الزرافة واختالف أعضائها وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان ،فرأسها
رأس فرس ،وعنقها عنق جمل ،وأظالفها أظالف بقرة ،وجلدها جلد نمر ،وزعم ناس من ال ُجهّال& باهلل
8
عزوج َل أن نتاجها من فحول شتى ! قالوا :وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماءَ
تنزو على بعض السائمة وينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى ،وهذا جهل من
قائله وقلة معرفته بالبارئ جل قدسه ،وليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف ،فال الفرس& يلقح
الجمل ،وال الجمل يلقح البقر ،وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه كما
يلقح الفرس& الحمارة فيخرج& بينهما البغل ،ويلقح الذئب الضبع فيخرج بينهما السمع ،على أنه ليس
يكون في الذي يخرج من بينهما عضو من كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس،
وعضو من الجمل ،وأظالف من البقرة ،بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في
البغل ،فإنك ترى رأسه واذنيه وكفله وذنبه وحوافره وسطا بين هذه االعضاء من الفرس والحمار،
وشحيجه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار ،فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح
أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون ،بل هي خلق عجيب من خلق هللا للداللة على قدرته
التي ال يعجزها شيء ،وليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها ،يجمع بين ما يشاء من أعضائها في
أيها شاء ويفرق ما شاء منها في أيها شاء ،ويزيد في الخلقة ما شاء ،وينقص منها ما شاء ،داللة على
قدرته على االشياء ،وأنه ال يعجزه شيء أراده جل وتعالى ،فأما& طول عنقها والمنفعة لها في ذلك فإن
منشأها ومرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طوال في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق
لتتناول بفيها أطراف تلك االشجار فتتقوت من ثمارها .تأمل خلق القرد وشبهه باالنسان في كثير من
أعضائه أعني الرأس والوجه و المنكبين والصدر ،وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء االنسان،
وخص من ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومي إليه ،ويحكي كثيرا مما يرى
االنسان يفعله حتى أنه يقرب من خلق االنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن
يكون عبرة لالنسان في نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها إذ كان يقرب من خلقها& هذا القرب،
وأنه لوال فضيلة فضله هللا بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم ،على أن في جسم القرد
فضوال اخرى يفرق بينه وبين االنسان كالخطم والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله ،وهذا لم
يكن مانعا للقرد أن يلحق باالنسان لو اعطي مثل ذهن االنسان وعقله ونطقه ،والفصل الفاصل بينه
29
وبين االنسان بالصحة هو النقص في العقل والذهن والنطق".
قد يبدو هناك تغيير في السياق بين كالم االمام الصادق(ع) للمفضل و ما يقوله جابر ،ولكن لم َ
أر
تناقض في هذين الوجهين .كذلك نرى في هاتين اآليتين تحديا ً من هللا عزوجل لألنسان:
10ص
ض َو َما َب ْي َن ُه َما َف ْل َيرْ َتقُوا فِي اأْل َسْ َبا ِ
ب - ت َواأْل َرْ ِ أَ ْم َلهُم م ُّْل ُ
ك ال َّس َم َاوا ِ
ت َواأْل َرْ ِ
ض ار ال َّس َم َاوا ِ َ ُ َ َيا َمعْ َش َر ْال ِجنِّ َواإْل ِ ِ
نس إِ ِن اسْ َت َطعْ ُت ْم أن َتنفُذوا ِمنْ أ ْق َط ِ
33الرحمن
ان - َفانفُ ُذوا اَل َتنفُ ُذ َ
ون إِاَّل ِبس ُْل َط ٍ
ولكن إذا نظرنا بدقة نرى أن اآليتين مجرد بيان عظمة هللا سبحانه و تعالى و خلقه و ضعف االنسان
في تغيير الخلق .ولكن كال اآليتين لم يكونا تحديا ً للناس بمعنى نفي إمكانية الحصول على هذا أو عدم
9
شرعيته ،بل في اآلية األولى يقودنا هللا سبحانه باستخدام األسباب التي أسسها في الكون و في الثانية
يقول بأننا نحتاج الى سلطان .ففي كلتا الحالتين ،االنسان قادر على تغيير الخلق إذا عرف األسباب
أو كان له سلطان لما يريد تغييره.
نقل جابر قصصا ً مختلفة استعمل فيها هذا العالم ,األكسير .فنحن نسمع عن لفظ األكسير كثيراً ،فيا
ترى ما هو تعريف جابر لهذا اللفظ ؟ األكسير عند جابر هو نوع من قابلية التغيير في الكون" :إذا
اهتدى العالِم الى الوسيلة التي يخرج بها شيئا ً من شيء كانت تلك الوسيلة هي األكسير 30".ففي أحدى
ّت به (أي باألكسير) من هذه العلةالقصص التي ينقلها مخاطبا ً األمام (ع) " :و حق سيدي لقد خلص ُ
31
أكثر من ألف نفس ،فكان هذا ظاهراً بين الناس جميعا ً في يوم واحد فقط".
كنت يوما ً من األيام بعد ظهور أمري بهذه العلوم ،و بخدمة سيدي عند ُ و في قصة أخرى يقول :ولقد
يحيى بن خالد [البرمكي] و كانت له جارية نفيسة لم يكن ألحد مثلها جماالً و كماالً و أدبا ً و عقالً و
صنائع توصف بها .وكانت قد شربت دواء مسهّال لعلّ ٍة كانت بها ،فعنف عليها بالقيام ثم زاد عليها ،
الى أن قامت ما لم يكن من سبيل مثلها الخالص منه ،وال شفاء له ،ثم ذرعها مع ذلك القيء ،حتى
لم تقدر على الن َفس وال الكالم البتة .فخرج& الصارخ& الى يحيى بذلك ،فقال لي :يا سيدي ما عندك في
ذلك؟ فأشرت عليه بالماء البارد و صبِّه عليها ،ألني لم أرها ولم أعرف في ذلك من الشفاء للسموم
ول َقطعه مثل ذلك .فلم ينفعها شيء بارد وال حار& أيضا .و ذلك أني كمدت معدتها بالملح المحمى و
غمرت رجليها .فلما زاد األمر سألني أن أراها ،فرأيت ميتة خاملة القوة جدا .و كان معي من هذا
األكسير شيء ،فسقيتها منه وزن حبتين بسكنجبين صِ رف – مقدار ثالث أواق – فو هللا و حق
سيدي لقد سترت وجهي عن هذه الجارية ،ألنها عادت الى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف
ساعة زمانية.
و في مورد آخر يقول :و كنت يوما ً خارجا ً من منزلي قاصداً دار سيدي جعفر صلوات هللا عليه ،
فإذا أنا بانسان قد انتفخ جانبه األيمن كله ،و أخضرّ حتى صار كالسلق – ال بالمثال ولكن بالحقيقة –
و إذا قد بدت الزرقة منه في مواضع .فسألت عن حاله فقيل لي :أفعى نهشته الساعة فأصابه هذا.
فسقيته وزن حبتين بشدة في سقيه بماء بارد فقط ،ألني خفت أن يتلف سريعا .فو هللا العظيم لقد
رأيت لونه األخضر واألزرق وقد حاال عما كانا عليه الى لون بدنه .ثم ضمُرت تلك النفخة حتى لم
يبق منها شيء البتة .و تكلم و قام وانصرف سالما ال علة به 32.فهل ترى دقة كالمه في سرد هذه
القصص؟
خالصة القول هي إمكانية التصرف في العالم ولكن نحتاج الى العلم بمكونات هذا العالم و تأثير
أجزاءه ،جزءا على جزء – و معرفة المراحل الذي نحتاج اليها لنقل حالة الى حالة .يقول جابر" :و
إذ قد بان ذلك ،فإن في األشياء كلها وجوداً لألشياء كلها ،ولكن على وجوه من االستخراج .فإن
أوري فظهرت .وكذلك الشمع في النحل. َ النار في الحجر& كامنة ال تظهر ،وهي له بالقوة .فإذا َزنِد
10
كو نحل ،ثم عصرناها و طبخناها و دبّرناها تدبيرنا للعسل الذي ولو أخذنا مائة ألف نحلة أو الف َ
فيه الشمع ،لم يخرج منه دانق شمع .ولكن النحل إذا تغذى غذا ًء معتدالً ،و عُملت له الكوى التي
ني ذلك العسل ،خرج& منه الشمع 33".و بعبارة أخرى ،هناك يأوي اليها ،و عمِل العسل ،واج ُت َ
أسباب مذخورة في الكون والبد لنا أن نعرف هذه األسباب قبل أن يمكن لنا أن نغير شيئا ً في العالم.
و هذا يذكرنا بالرواية المعروفة عند العلماء" :أبى هللا أن يُجري األشياء إال بأسباب 34".ولكن جابر
بن حيان يعبر عن هذه األسباب بلفظ (الميزان) و يقصد به القوانين ( ) Formulaالتي تحكم العالم
فيقول" :العلة األولى هي العقل ،والعقل هو العلم ،والميزان هو العلم ،فكل فلسفة و علم فهو
ميزان .فكان الميزان جنس ،والفلسفة فرع ينطوي تحته ،هي و كل ما يتصل بها من فروع ...أن
قواعد الفلسفة هي قواعد الميزان ،أو بعض قواعدها قواعد الميزان" 35فالميزان عنده علم يشمل
العلوم الطبيعية والفلسفية معاً.
11
إذن ما يصل إلينا من هؤالء العلماء – وحتى من األئمة عليهم السالم – لم يكن إال منفذة من العلم
كتبوها في بعض كتبهم .و بعبارة أخرى ،يجب علينا الفحص ،ثم الفحص و من ثم الفحص في كتب
أكثر ممكن الحصول عليها ،لكي نرى العلم من جوانبه المختلفة و بذلك نكوّ ن تصور أفضل لما
يدور حولنا و كيفية خلقتنا و الى آخره .و من جانب آخر ،إذا وفقنا هللا لفهم جانب من الحياة يكون
صعبا ً للمجتمع فهمه – مثل امكانية تغيير في خلق االنسان – ال يمكن أن ننشرها في وسائل األعالم
خاصة الفضائيات ولكن نحاول أن نطرحها في المؤتمرات العلمية فقطً العامة كالراديو والتلفزيون و
و ننشرها في المجالت الخاصة لهذه المؤتمرات أو في المنشورات الجامعية و ما يشابهها.
منهجية البحث:
رأينا قول الشهيد الصدر في المقدمة أن إعتقادنا بوجود الواقع الموضوعي للعلم يعبّر عن معرفة
استقرائية .و كذلك رأينا قول ابن حيان في األستقراء بأنه ليس "علم يقين واجب اضطراري برهاني
أصالً ،بل فيه علم اقناعي يبلغ أن يكون أحرى و أولى و أجدر ال غير" .و قال في مكان آخر" :أن
المشا َهدَ يتعلق بالغائب على ثالثة أوجه ،وهي :المجانسة ،مجرى العادة ،واآلثار 40".فبعبارة
أخرى ،إذا أردنا أن نعرف الكون ،البد أن يكون عندنا علم عنه من بدايته إلى اآلن ،بل إلى آخر
تكوينه ،وإال كالمنا يكون إما تمثيل (مجانسة) أو مجرى العادة أو علمنا ببعض اآلثار .و يوضح
جابر هذا الموقف قائالً" :ليس ألحد أن ي ّدعي بحق أنه ليس في الغائب إال مثل ما شاهد ،أو في
الماضي والمستقبل إال مثل ما في اآلن ،فليس ألحد أن يدفع و يمنع وجود ما لم يشاهد مثله ،بل إنما
ينبغي له أن يتوقف عن ذلك حتى يشهد البرهان بوجوده أو عدمه 41".و هذا بالضبط مشكلة
األستقراء .فكثير من الفالسفة ذهبوا الى ازلية الكون على أساس عقلي صرف دون تحقيق علمي.
فحاول جابر أن يخالف هذه الفكرة في موارد عديده ننقل واح ٌد منها" :أعلم أن الكالم في القديم
والحديث – عافاك هللا – من أصعب األمور عند جلّة الفالسفة و قدمائهم .ولو قلت أن أكثرهم مات
بحسرته لكنت صادقاً ... .و إذا أدركنا (القديم) استطعنا أن ندرك خصائص المحدث باالستدالل ،
ألن القديم والمحدث ضدان .والعلم بأحد الضدين هو علم بالضد اآلخر .فطريق الفكر هو من القديم
إلى المحدث ،ندرك األول إدراكا ً مباشراً ثم نستدل الثاني منه ،وليس العكس كما ظن (جهلة
المتكلمين) في هذا الباب ،إذ استدلوا على الغائب (القديم) بالشاهد (المحدث) على ما بعد بينهما ،
فكأنهما استشهدوا بالجزء على وجود الكل برغم ما في هذا المنطق من الفساد 42".فيرى جابر ان
علمنا و شهودنا لقضايا اليوم هو (جزء) من العلم (الكلي) للعالم والكون .فلهذا لم يكن االنسان بقادر
على االستدالل على قضايا الكون – أي قضية كونية خارج& عن نطاق التجربة االنسانية -لوجود
نقص في علمه في هذا الموضوع.
12
و كما نقلنا سابقا الحل عنده هو اللجوء إلى مصدر العلم و هم األنبياء أو ورثة األنبياء .هنا جاء كالم
متخصص في منهجية العلوم و يلخص لنا أوالً منهجية البحث في العلوم الطبيعية و من ثم يوضح
أين تقع المشكلة .فيوضح لنا الدكتور زكي نجيب محمود" :فطريق السير [ في البحوث العلمية ] إذن
هو هذا :مشاهدات توحي بفروض ،ثم استنباط للنتائج التي يمكن توليدها من تلك الفروض ،ثم
43
مراجعة هذه النتائج على الواقع ،و عندئذ فأما أن نقبل الفروض التي فرضناها أو نرفضها".
"ولكن ما مصدر التلقين عند جابر؟ ...ها هنا تجده يصرح في أكثر من موضع بأن مصدر علمه هو
النبي و هو علي و هو سيده جعفر الصادق" 44".وعلى هذا الضوء نفهم اسم (الكيمياء) لماذا أطلق
على مثل هذه األبحاث التي قام بها جابر ،فهي لفظة معربة من اللفظ العبراني ،و أصله كيم يه ،أو
45
معناه (إنه من هللا)".
و من جانب آخر يورد لنا الدكتور مواضيع كثيرة عن جابر والتي استخدم فيها التجارب و الخوض
مع الطبيعة رأساً" :يجب أن تعلم أ ّنا نذكر في هذا الكتاب خواص ما رأيناه فقط ...دون ما سمعناه أو
قيل لنا و قرأناه ،بعد أن امتح ّناه و جربناه .فما صح أوردناه و ما بطل رفضناه .و ما استخرجناه
نحن أيضا ً و قايسناه على اقوال هؤالء القوم 46".و " ...قد عملته بيدي و بعقلي من قبل ،و بحثت
عنه حتى ص ّح و امتحنته فما كذب 47".إذن منهجية البحث يكون في المراحل الثالثة التالية:
)1أن يستوفي العالِم مشاهداته فرضا ً يفرضه ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها (عملية عقلية مضافا ً
اليها كسب المعلومات من مصادرها الحقيقي – أي األئمة عليهم السالم -قبل أي بحث أو تجربة)
)2أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرف ( عملية عقلية –
منطقية صرف)
)3أن يعود بهذه النتائج الى الطبيعة ليرى هل ُتص ّدق أم ال( .التجربة و االستنتاج)
فيا ترى ما هو المنهج العلمي عند جابر بن حيان :االستقراء الذي قصاراه نتائج محتملة الصدق ،أم
االستنباط الذي يضمن اليقين في النتائج؟ و قد نرى الدكتور زكي نجيب ال يمكن أن يفسر المنهجية
عند جابر و يقول" :والحق أني ال أعرف كيف أوافق توفيقا ً اطمئن اليه بين هذا الرأي في مصدر
العلم األول – وهو الوحي يأتي من الخارج& – و بين منهجه التجريبي في بحوثه العلمية ،و هو منهج
نموذجي في دقته و في حرصه على التثبت؟ 48فهنا يقيس الدكتور زكي عمل جابر بمدرستين
قائمتين في البحث عن الواقع الخارجي &:مدرسة تؤكد على العقل كمصدر أولي و الثاني تؤكد على
االستقراء في تجاربه .و يرى أن ما يقوله جابر و يفعله شيئين ال يطبقان على أي من المدرستين .و
الجواب يكون كما أوضحناه في المراحل الثالث أعاله ،أن الباحث يجب أن يأخذ المعلومات األولية
من المصدر اليقيني لكي يحوّ ل عمليته االستقرائية في تجاربه الى عملية استنباطية يقينية النتائج.
13
يقول جابر" :ينبغي أن تعلم أوالً موضع األوائل والثواني في العقل ،كيف هي ،حتى ال تشك في
شيء منها ،وال تطلب في األوائل بدليل .و تستوفي الثاني منها بداللته 49".فبالنتيجة ":فو هللا ما لي
50
في هذه الكتب إال تأليفها ،والباقي علم النبي"
"و نختم حديثنا عن منهج ابن حيان بموجز لهذا المنهج نجمعها في عشر نقاط ،هي:
– 1على صاحب التجربة العلمية أن يعرف علة قيامه بالتجربة التي يجريها.
- 2على صاحب التجربة العلمية أن يفهم االرشادات فهما ً جيداً.
– 3ينبغي اجتناب ما هو مستحيل وما هو عقيم.
– 4يجب العناية باختيار الزمن المالئم والفصل المناسب من فصول العام.
– 5يحسن أن يكون المختبر في مكان معزول.
– 6يجب أن يتخذ الكيماوي أصدقائه ممن يثق فيهم.
– 7ال بد أن يكون لديه الفراغ الذي يُم ّكنه من اجراء تجاربه.
- 8أن يكون صبوراً كتوماً.
– 9أن يكون دؤوباَ.
51
– 10أال تخدعه الظواهر فيتسرع في الوصول بتجاربه الى نتائجها".
ماهية الكون:
بعد أن عرفنا أن جابر بن حيان تلميذ األمام جعفر الصادق عليه السالم و أخذ أوليات علمه من هذا
المصدر اليقيني ،فمن المفيد أن نعلم آرائه في الكون ،ماهيته ،الزمان والمكان و هل هناك (ارادة)
لألشياء الكونية؟ فنورد من نفس المصدر مقتطفات في هذا الصدد:
"الجوهر [ الهيولي لألشياء ] هو القابل لكل شيء ،وهو الذي في كل شيء ،و منه كل شيء ،واليه
يعود كل شيء ...فليس يمكن أحداً لمسه ،وال إذا مسّه وجد له لمسا .وال يقدر أن يأخذ منه شيئا ً
بيده" 52".أن الهيولي اكتسب اول ما اكتسب األقدار الثالثة :الطول والعرض والعمق ...و بعدئذ
خلقت فيه الكيفيات األربع :الحرارة ،والبرودة ،والرطوبة ،واليبوسة: 53".فانه قد وجب اآلن على
التحقيق أن للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أوزانا ً و أن للجوهر وزناً ....و أما أن نسمع
54
فالسفة يُعدمون هذه األشياء وزنها و وجودها و رؤيتها فذلك قول منهم بلغ من الخطأ& أقصاه".
14
"و أما الزمان فهو الذي يُقطع به من حال الى حال ...و هو واحد ما دام قائما ً ...وللزمان كم و
كيف .فكميته هي التي يجاب بها عن مثل سؤالنا :كم مقدار ما كان زيد قاعداً؟ و أما في الكيف فهو
أن تقول :كان الزمان حاراً& أو بارداً .و لذلك وجب أن نقدم الكم والكيف على الزمان والمكان .. .و
أما المكان فهو الذي ليس يخلو شيء من أن يكون في مكان البتة [ الحظوا بأن هذا مخالف لما
55
يعلّموننا اليوم .ففي فيزياء اليوم من الممكن أن يكون مكانا ً بدون أي شيء فيه ] "
"وقف جابر عند خمس من المقوالت ،هي :الجوهر ،والكم والكيف والزمان والمكان .وقف عندها
وقفات قصار ليشرح مفاهيمها ،ألنه يراها شروطا ً ال مندوحة عن توافرها لكي يتكون في العالم
شيء ما .ثم استطرد بعد ذلك ليقول أن هذه المقوالت ال تنطبق على درجة سواء في كل حالة من
الحاالت .بل يمكن تصورها على خمس صور من التركيب:
– 1أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته ،و أن يكون جوهره قد حمل ما حمله من الصفات في
دفعة واحدة ،فال زيادة قد طرأت عليه بعد ذلك وال نقصان .و أن يكون زمان حدوثه معادالً
لمكانه ...فاذا توافرت في شيء هذه الشروط ،فما أقل ما يكون انحالله و فساده.
– 2أن تكون كيفية الشيء مخالفة& مباينة لكميته ،و أن تكون الصفات التي يحملها جوهره قد جاءته
على دفعات ،فأخذ يزداد صفة بعد صفة على مر الزمن .و أن يكون بين زمانه و مكانه تنافر ...و
في مثل هذه الحالة& يكون الشيء معرضا ً للفساد و التغيير ...يكون مصيره الى االنحالل.
– 3أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته ،و أن تكون الطبائع المحمولة على جوهره قد حُملت عليه
دفعة واحدة .أي أنه يكون طبيعيا ً في طريقة تكوينه و صفاته ،لكن زمان حدوثه يجيء غير متسق
مع مكان حدوثه ...في مثل هذه الحالة يكون عدم الصالحية كائنا ً في المكان والزمان .فإن كان في
الزمان صار الكائن قلقا غير مستقر ،ألنه ليس في زمانه المناسب .و إن كان في المكان وجب أن
يُغير مكانه الى مكان أنسب.
- 4أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته ،إال أن جوهره قد حمل طبائعه دفعة واحدة ،و جاء زمانه
موافقا لمكانه ...في مثل هذه الحالة يكون التكوين من حيث الخصائص الزمان والمكان ال عيب فيه.
لكن العيب إنما يكون في حجم الشيء أو في مقداره بالنسبة لتلك الكيفيات .فعندئذ ال نستطيع أن نحدد
له حدوداً معينة معلومة.
- 5أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته ،و أن يكون جوهره قد حمل طبائعه على دفعات متتالية
على مر الزمن ،غير أن زمان حدوثه يجيء موافقا لمكان حدوثه ...في هذه الحالة يكون الشيء
مصطنعا ً متكلفا ً مرقعا ً ملفقاً .ألن طبائعه ستزاد له طبعا بعد طبع على غير ما يلزم بالضرورة عن
56
حقيقة جوهره .فال يجدي أن يكون متناسب المكان والزمان ،إذ أن تركيبه باطل و فساده محقق.
15
هل للكائنات أرادة؟
قد يكون السؤال غريبا ً ،ألننا ال نرى االرادة إال في نوع األنسان .ولكن كما ذكرنا سالفا ً ،لم َ
ير
جابر أي فرق بين األنسان والكائنات من هذه الجهة" :هذه هي بنية العالم والطبيعة واالنسان .فكان
57
العالم ضرورة إنسانا ً و األنسان جزءاً صغيراً باإلضافة الى العالم".
"يقول كارا دي ڤو في مقالته عن جابر :أن المذهب الموجود في مؤلفاته – وفي كتاب الرحمة& بصفة
خاصة – هو مذهب موغل في اسقاط الصفة البشرية على الطبيعة .أو أن شئت فقل أنه موغل في
بث الحياة في الطبيعة .فهو يع ّد المعدن كائنا حيا ً ،ينمو في حضن األرض مدة طويلة – آالف السنين
– متحوال من حالته الناقصة -حالة الرصاص -الى الحالة الكاملة – حالة& الذهب .و مهمة الكيميا
أن تعجل عملية التحول .أنك لترى جابراً يستخدم عن المعادن ألفاظا& مأخوذة من الحياة البشرية ،
كالتوالد والزواج والتلقيح والتربية .كما يستخدم عنها لفظتي الحياة والموت .فالعناصر األرضية
الغليظة (ميتة) ،و الخفية اللطيفة (حية) .و عنده أن كل جسم كيماوي روح و بدن ،و مهمة
58
الكيماوي أن (يخلّص) الواحد من اآلخر ،لكي يبث في الجسم روحا تالئمه".
و إذا نظرنا في القرآن الكريم نرى نفس المذهب موجود فيه ايضاً .كاآلية 72من سورة األحزاب
والتي لم تؤشر بالخطاب اإللهي للكائنات فقط بل تتكلم عن جوابهم اإلرادي هلل سبحانه و تعالى:
ال َفأ َ َبي َْن أَن َيحْ م ِْل َن َها َوأَ ْش َف ْق َن ِم ْن َها ت َواأْل َرْ ِ
ض َو ْال ِج َب ِ إِ َّنا َع َرضْ َنا اأْل َ َما َن َة َع َلى ال َّس َم َاوا ِ
11فصلت
ِين ِي ُد َخانٌ َف َقا َل َل َها َولِأْل َرْ ِ
ض ِا ْئ ِت َيا َط ْوعًا أَ ْو َكرْ هًا َقا َل َتا أَ َت ْي َنا َطا ِئع َ ُث َّم اسْ َت َوى إِ َلى ال َّس َماء َوه َ
إِ َّنا َس َّخرْ َنا ْال ِج َبا َل َم َع ُه ي َُسبِّحْ َن ِب ْال َعشِ يِّ َواإْل ِ ْش َر ِ
18ص
اق
79انبياء ْال ِج َبا َل ي َُسبِّحْ َن َو َّ
الطي َْر
ولكن إذا اعترفنا بوجود اإلرادة في أجزاء الكون البد لنا من أن ال نعترف بوجود العلّية فيها .ألن
وجود اإلرادة تناقض الرابطة العلّية الموجود فيما بين العلّة والمعلول .فأيّ من هذين الوجهين نأخذ؟
هل هناك نظام العلّية في الكون أم نؤمن بوجود اإلرادة في الكون؟ قد يكون الجواب في اآلية 11من
سورة فصلت – المذكورة أعاله -والتي تقول أن للسماوات و األرض أرادة ولكنهما طائعين دائما
لما يريد هللا و أبى هللا أن يُجري األشياء إال بأسباب .فنقول نحن بوجود السببية و الفرق بينها و بين
16
العلّية ،أن للثاني وجوب وجودها في نفسه و لكن في السببية نقول أن األشياء تخضع إلرادة هللا
طوعا ً ،وإرادة هللا في الكون أن يكون المسبب و االسباب.
38ص
ض َو َما َب ْي َن ُه َما َف ْل َيرْ َتقُوا فِي اأْل َسْ َبا ِ
ب ت َواأْل َرْ ِ أَ ْم َلهُم م ُّْل ُ
ك ال َّس َم َاوا ِ
36غافر
ت
اب ال َّس َم َاوا ِ صرْ حً ا& لَّ َعلِّي أَ ْبلُ ُغ اأْل َسْ َب َ
اب ()أَسْ َب َ َو َقا َل فِرْ َع ْونُ َيا َها َمانُ اب ِ
ْن لِي َ
و بهذا ممكن تفسير المعجزات& بأنها تغيي ٌر في األسباب عند أرادة هللا لتغييرها .فإنها في الواقع
(خارقة لعادة) و ليست تغيير في العلّية.
النتيجة:
أهم نقطة أردنا أن نقولها في هذا المقال أننا نحتاج إلى العالِم الحقيقي للوصول الى حقيقة الكون – و
هو اآلن متمثل في الوجود المبارك لموالنا صاحب العصر والزمان عجل هللا تعالى فرجه الشريف -
أوالً و من ثم التعقل و التدبر لخلق نظريات حول ما يجري في العالم و من بعده التجربة و التحرّ ي
من صحة هذه النظريات ،إلى أن نتيقن من صحة أفكارنا .هذا ما أخذناه من العالم الجليّ جابر بن
حيان الكوفي من أفضل تالمذة األمام جعفر& الصادق عليه السالم .والكون قد يكون مختلفا ً تماما ً مما
سيطر علينا العلم الغربي في نظرياته و آرائه .ولكن من الممكن تغيير هذه النظريات َ نعرفه اآلن بما
إذا عملنا بشكل صحيح.
فمن الجدير بالذكر أن عالما ً مسيحيا بأسم (الماتر) غيّر آراء اينشتين و باقي علماء الفيزياء في أزلية
الكون مما أدى الى قبولهم نظرية (خلق الكون) .و اآلن بما يرونه من اآلثار الكونية في ميكانيكا الكم
مستعدون بأن يقبلوا وجود اإلرادة في الكون ألنّ هذه النظرية تعطي أقرب تفسير لما يحدث في عالم
الجزيئات .ولكن من الطبيعي نحتاج أن نستخدم المنهج العلمي الذي أعطانا جابر بن حيان ,و نتوسل
الى سيدنا و وليّ أمرنا ,و نشكل لجنة من خيار علمائنا لكي نبني نظريات جديدة على هذا األساس.
17
1جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص 17
2المصدر ص ، 82نقال عن كتاب الخواص /مختارات كراوس ص 317
3المصدر ص ، 132نقال عن كتاب الحاصل /مختارات كراوس ص 524
4أ.د .إبراهيم خليل العالف ،أستاذ التاريخ الحديث – جامعة الموصل – نقال عن فيسبوك
5جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص 76
6االسس المنطقيه لالستقراء ،سيد محمد باقر الصدر ص 426
7جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص ، 67نقال عن كتاب التصريف /مختارات كراوس ص 418
8االسس المنطقيه لالستقراء – سيد محمد باقر الصدر ص 323
9المصدر ص 334
10جابر بن حيان -زكي نجيب& محمود ص ، 82نقال عن كتاب الخواص /مختارات كراوس ص 222
11المصدر ص 78
12المصدر ص ، 233نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس ص 27
13المصدر ص ، 234نقال عن كتاب البحث ،المقالة الخامسة
14المصدر ص ، 259نقال عن كتاب القديم
15المصدر ص 256
16اصول الكافي ج 1ص 272
17كذلك راجع بحار االنوار ج 25ص 47الى 99باب األرواح التي فيهم ،و أنهم مؤيدون بروح القدس و نور إنا أنزلناه في ليلة القدر ،و بيان نزول
السورة فيهم عليهم السالم
18ترى كيف اليتحمل هذا العالم السني ،أي زكي نجيب& محمود ،عبارات الذل عند األمام و مصدر الحق حتى ينسب الغرور إلى جابر
19جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص ، 26نقال عن كتاب األحجار /مختارات كراوس ص 164
20المصدر ص ، 256نقال عن كتاب القديم
21جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص ، 265نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس ص 79
22المصدر ص 6
23عيون أخبار الرضا ج 2ص 170
24المصدر ص 228نقال عن كتاب التجميع /مختارات كراوس ص 344
25المصدر ص ، 193نقال عن كتاب السبعين /مختارات كراوس ص 462
26المصدر ص ، 197نقال عن كتاب السبعين ،المقالة 22
27المصدر ص ، 146نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس ص 51
28المصدر ص 193نقال عن كتاب السبعين /مختارات كراوس ص 463
29بحار االنوار ،العالمة المجلسي ج 3ص 98 - 96
30جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص 194
31المصدر ص 206نقال عن كتاب& الخواص الكبير ،المقالة السادسة
32المصدر ص 207و 208
33المصدر ص 192نقال عن كتاب& إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس ص 4
34األصول األصلية والقواعد الشرعية ج 1ص 275
35جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص 217 - 216
36بحار األنوار ج 1ص 85
37فصل المقال ألبن رشد ص 8
38جابر بن حيان -زكي نجيب محمود ص 84نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس ص 47
39المصدر ص ، 86نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس
40المصدر ص ، 64نقال عن كتاب التصريف
41المصدر ص ،73نقال عن كتاب التصريف /مختارات كراوس ص 423
42المصدر ص ، 257 – 256نقال عن كتاب القديم
43المصدر ص 58
44المصدر ص 46
45المصدر ص ، 47نقال عن الصفدي في شرح المية العجم ،أخذاً من كشف الظنون ج 2
46المصدر ص ، 55نقال عن كتاب الخواص الكبير /مختارات كراوس ص 232
47المصدر ص ، 61نقال عن كتاب الخواص ،المقالة الثانية والثالثون ،مختارات كراوس ص 322
48المصدر ص 54
49المصدر ص ،76نقال عن كتاب الخواص الكبير ،المقالة األولى ،مختارات كراوس ص 234
50المصدر ص ، 82نقال عن كتاب الخواص ،مختارات كراوس ص 317
51المصدر ص ، 86 – 85نقال عن Holmyanl, E.J., Chemistry to the Time of Daltonص 17
52المصدر ص ،153نقال عن كتاب الميزان الصغير /مختارات كراوس ص 428
53المصدر ص ،140نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل
54المصدر ص ،155نقال عن كتاب الميزان الصغير /مختارات كراوس ص 434
55المصدر ص ، 156نقال عن كتاب الميزان الصغير /مختارات كراوس ص 452
56المصدر ص ، 159 - 157نقال عن كتاب الميزان الصغير /مختارات كراوس ص 444 - 442
57المصدر ص ، 146نقال عن كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل /مختارات كراوس ص 51
58
المصدر ص ، 147نقال عن دائرة المعارف االسالمية ،مادة جابر بن حيان