أرخنة التراث

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 7

‫االستشراق وأرخنة التراث‬

‫هاشم صالح‬

‫أعترف بأنّ موقفي يختلف كثيرا عن موقف كبار المثقفين الع رب ال ذين أش علوا المع ارك ض ّد‬
‫االستشراق‪ ،‬مثل أنور عبد الملك وهشام جعي ط وإدوار س عيد وآخ رين عدي دين‪ .‬ب ل وص ل بي األم ر بعض‬
‫األحيان ح ّد التفكير في تأليف كتاب كامل بعن وان‪ :‬دف اع عن االستش راق‪ ،‬أو ثن اء على االستش راق‪ .‬ولكن لم‬
‫يتح لي الوقت الكافي له حتى اآلن‪ .‬هل أفعل ذلك من قبيل االستفزاز؟ بالطبع ال‪.‬‬
‫أقول ذلك رغم أنّ االستفزاز ضروريّ أحيانا في مجال الفكر‪ .‬فهو الذي يحرّ ك المياه الراكدة ويوق ظ النف وس‬
‫النائمة‪ .‬ونحن العرب نائمون على التاريخ‪ .‬ال ريب أ ّني أ ّتفق م ع بعض أطروح ات المثقفين الم ذكورين آنف ا‪.‬‬
‫فاالستشراق (في بداياته خصوصاً) خدم التغلغ ل االس تعماريّ في المنطق ة عن طري ق االستكش اف المع رفيّ‬
‫لعقلية الشعوب اإلسالمية وأوضاعها االجتماعية والعرقية والطائفية‪ ،‬ثم تق ديم ه ذه المعلوم ات المتجمع ة إلى‬
‫اإلدارة السياسية كي تستفيد منها وتعرف كيف توجّ ه حمالتها العس كرية‪ ،‬أو كي ف تتعام ل م ع ه ذه الش عوب‬
‫التي ستستعمرها‪ .‬وهنا تكمن العالقة الوثيقة بين المعرفة والس لطة‪ ،‬كم ا كش فها ميش يل‬
‫فوكو وسار على أثره من بعد ادوارد سعيد في كتابه الشهير‪.‬‬
‫ال يمكن‬
‫ولكنّ االستشراق لم يكن هذا الشيء فقط كما ي زعم اإلي ديولوجيون الع رب‪ .‬أق ول ذل ك‬ ‫اختزال‬
‫وأنا أتح ّدث عن االستشراق األكاديميّ ال ذي يل تزم ش روط المنهج واالستكش اف العلميّ‬
‫ألي موضوع‪ ،‬كان سواء ك ان يخص اإلس الم أو المس يحية أو أيّ موض وع آخ ر‪ .‬وال‬
‫يمكن اختزال فعل المعرفة إلى مجرّ د عالقات سلطوية بحتة كما توهّم كثير من المثقفين‬
‫فعل المعرفة‬
‫عندنا‪ .‬فهذا فهم تبسيطيّ ألطروحة فوكو بل ربما لفك ر ادوارد س عيد نفس ه‪ .‬نق ول ذل ك‬ ‫إلى‬
‫متخص ص في الدراس ات اإلس المية وإنم ا‬ ‫ّ‬ ‫رغم نواقص كتابه الشهير نظرا لكونه غير‬
‫في النق د األدبي المق ارن‪ .‬وق د اع ترف ادوارد س عيد في أواخ ر حيات ه ب أنّ إرادة فهم‬ ‫مجرّد عالقات‬
‫اآلخر إذا ما كانت صادقة تستبعد أيّ ش كل من أش كال الهيمن ة واالس تعباد‪ .‬ف إرادة فهم‬
‫الثقافات األخرى من أجل التعايش معها أو حبّا للفضول المعرفي وتوسيع آفاقنا الفكري ة‬ ‫سلطوية بحتة‬
‫شيء محمود ومرغوب‪.‬‬
‫ولكن االي دولوجيا االستش راقية لم تكن لألس ف ك ذلك‪ .‬هن ا ك ان ينبغي أن يس تثني بش كل‬
‫أوض ح أعم ال كب ار المستش رقين المتبحّ رين في العلم‪ ،‬وهم أك ثر مم ا يظنّ وممّن ذك ر‬
‫أسماءهم‪ .‬فهؤالء كانوا فعال يريدون أن يفهموا اإلسالم مدفوعين إلى ذلك بنزع ة الفض ول‬
‫المعرفية البريئة ال تي تنط وي عليه ا ج وانح ك ل إنس ان‪ ،‬ثم من أج ل المقارن ة وفهم دينهم‬
‫الخ اص بال ذات‪ :‬أي المس يحية‪ .‬ففهم اإلس الم ض روري لفهم المس يحية والعكس ص حيح‬
‫أيض ا‪ .‬فلم اذا إذن نش ك في أي فع ل للمعرف ة ونعت بره عالم ة على الس لطة أو التس لط‬
‫والهيمنة؟ ألن نقضي بذلك على فعل المعرفة من أساسه؟ وما هو هذا الفهم المش وه لنظري ة‬
‫فوكو والذي ساد بعض المثقفين العرب؟ كثيرا م ا نك رر المقول ة الش ائعة ب أنّ االستش راق‬
‫األلماني‪ ،‬وهو من األهمية بمكان‪ ،‬لم يساهم في هذه العملية التمهيدي ة للهيمن ة االس تعمارية‬
‫لسبب بسيط هو أنه لم تكن أللمانيا مستعمرات في العالم الع ربي‪ .‬وذل ك على عكس الق وى‬
‫العظمى األخرى كفرنسا‪ ،‬وانجلترا‪ .‬ولكن هذا ال يعني آن استشراق هذه األمم االس تعمارية‬
‫كل ه باط ل وينبغي رمي ه في س لة المهمالت أو في ن ار جهنم‪ .‬فنحن مط البون ب ان نف رق‬
‫ادوارد سعيد‪:‬‬
‫"العالقة الوثيقة‬
‫بين المعرفة‬
‫والسلطة"‬
‫بالنس بة الستش راق ه ذه الق وى االس تعمارية‪ ،‬بين االستش راق األك اديمي ع الي المس توى كم ا قلت‪ ،‬وبين‬
‫االستشراق الصحفي السريع أو المسيَّس أكثر من اللزوم أو حتى االنتهازيّ الرخيص‪ .‬وإذا لم نقم بهذا التمييز‬
‫فإننا نظلم الحقيق ة والعلم‪ ،‬ب ل نظلم أنفس نا بالدرج ة األولى‪ .‬فاالستش راق ليس بحاج ة إلين ا وإنم ا نحن ال ذين‬
‫بحاجة إليه‪ .‬واالستشراق األكاديمي موجود لدى جميع الدول سواء أكانت استعمارية سابقا أم ال‪.‬‬
‫ال ريب في أن االستشراق مأل فراغا ً علميا وفكريا فيما يخص دراسة اإلس الم‪ .‬فق د‬
‫طبق المنهجية الفيلولوجية (أي اللغوية) والتاريخية على موضوعات ك انت محرم ة‬ ‫نفرق بين‬
‫على البحث من قبل أرثوذكسية دينية صارمة وجامدة‪ .‬فالمستشرق األلم اني نولدك ه‬ ‫االستشراق‬
‫هو الذي طبق المنهجية التاريخية ألول م رة على المص حف‪ :‬أي على نص الق رآن‬
‫الكريم‪ .‬أما غولدزيهر فقد طبق نفس المنهجية على كتب الحديث النبوي‪ .‬وقل األمر‬
‫نفسه عن المستشرق جوزيف شاخت الذي درس الشروط (أو الظروف) االجتماعية‬
‫األكاديمي وبين‬
‫والسياسية ال تي أح اطت ببل ورة الش ريعة أو الفق ه(‪ .)1‬واكتش فنا عندئ ذ عن تراثن ا‬
‫الفقهي ص ورة أخ رى غ ير الص ورة الش ائعة ل دى عام ة المس لمين‪ .‬وهك ذا ق دموا‬
‫االستشراق‬
‫صورة تاريخية –أي واقعية حقيقي ة‪ -‬عن موض وعات مقدس ة ج داً وال يج رؤ أح د‬ ‫الصحفي‪,‬‬
‫على مسها أو االق تراب منه ا‪ .‬وله ذا الس بب أث ارت أبح اثهم ردود فع ل هائج ة في‬
‫أوساط المسلمين المحافظين الذين اعتبروا هذه الدراس ات بمثاب ة‬ ‫أو االنتهاز ّ‬
‫ي‬
‫هج وم على اإلس الم‪ ،‬أو ح تى محاول ة لت دميره! الح ظ م دى‬
‫الجه ل‪ ،‬لك أن العلم ي دمر وال يعم ر… والواق ع أن رد فعلهم ال‬
‫فع ل المس يحيين التقلي ديين في أوروب ا نفس ها‪ .‬فهم أيض ا ً احتج وا‬ ‫يختلف في شيء عن رد‬
‫قام بها المؤرخ ون والعلم اء لدراس ة اإلنجي ل وال تراث المس يحي‬ ‫بعنف على أول محاولة‬
‫وفيلولوجي(‪.)2‬‬ ‫بش كل علمي وت اريخي‬
‫لم يفعلوا إال أن طبقوا على التراث اإلسالمي نفس المنهجية التي‬ ‫وبالتالي فإن المستشرقين‬
‫على التراث المسيحي وأثارت زوبعة من االنتقادات الهائجة لدى‬ ‫كانت قد طبقت سابقا‬
‫بالمعنى التقليدي لكلم ة إيم ان ب الطبع‪ .‬أنظ ر م ا حص ل الرنس ت‬ ‫المؤمنين المسيحيين‪،‬‬
‫أن أصدر كتابه الشهير عن حياة يسوع(‪ .)3‬فقد قامت الدنيا ولم‬ ‫رينان في فرنسا مثال بعد‬
‫شخصيا ومنعوه من مواصلة دروس ه الجامعي ة لف ترة من ال زمن‪.‬‬ ‫تقعد‪ ،‬وه ّدده األصوليون‬
‫األنظ ار قليال‪ .‬وك ذلك فع ل س لفه الكب ير فولت ير أك ثر من‬ ‫وخ اف وت وارى عن‬
‫اإليماني" في كلتا الجهتين اإلسالمية كما المسيحية ال يستطيع أن‬ ‫مرة‪.‬والواقع أن "الوعي‬
‫التاريخية التي تمزق الصورة المثالي ة العذب ة المرس خة في أذه ان‬ ‫يتحمل نتائج المنهجية‬
‫المقدس منذ مئ ات الس نين‪ .‬وض عت ال وعي اإليم اني بين قوس ين‬ ‫المؤمنين عن التراث‬
‫نولدكه‪ :‬طبق اإليم ان التقلي دي واإليم ان الح ديث‪ .‬األول ي ؤمن عن طري ق‬ ‫الن هن اك فرق ا بين‬
‫المنهجية التاريخية طريق العقل‪ .‬وشتان ما بينهما‪.‬‬ ‫التس ليم‪ ،‬والث اني عن‬
‫ألول مرة على‬
‫الت اريخي على النص وص المقدس ة وشخص يات األنبي اء ص دم‬ ‫المصحف‬ ‫نعم‪ ،‬إن تط بيق المنهج‬
‫الصميم‪ .‬وهذا ما نقصده بالعملي ة الجراحي ة الخط يرة أو ب النزيف‬ ‫المؤمنين التقليديين في‬
‫الداخلي الح اد ال ذي سيحص ل حتم ا ً عن دما نطب ق المنهج الت اريخي على دراس ة ال تراث ال ديني اإلس المي‪.‬‬
‫فالمسيحيون في أوروبا لم يستطيعوا استيعاب هذه العملية‪ ،‬أو بلعها إذا جاز التعبير‪ ،‬إال بع د مع ارك طاحن ة‪،‬‬
‫وألم مرير‪ ،‬وصراع هائل ضد الذات‪ .‬وق د اس تغرقت منهم عملي ة االس تيعاب ه ذه م دة طويل ة (من ذ مرحل ة‬
‫س بينوزا والتن وير وح تى أوائ ل الق رن العش رين‪ ،‬أي م دة ق رنين ونص ف أو ح تى ثالث ة ق رون!…)‪.‬فكم‬
‫ستستغرق منا نحن المسلمين يا ترى؟ البعض يقول حتى أواخر القرن الحادي والعشرين ألنّ مش كلة اإلس الم‬
‫األص ولي الس لفي م ع الحداث ة ان دلعت اآلن على مص راعيها‪ .‬ولن تتوق ف بالت الي ح تى تص ل إلى‬
‫نهاياتها‪.‬وسوف تطحن عدة أجيال في طريقها قبل أن تجد لها حال‪..‬‬
‫ثم ت ابع الجي ل الث اني من المستش رقين‪ ،‬على خطى أس الفهم‪ ،‬نفس العملي ة االستكش افية‬
‫للتراث اإلسالمي‪ .‬فقدم المستش رقان روب ير برونش فيغ‪ ،‬وجينب ول أبحاث ا ً مهم ة عن كيفي ة‬
‫التش كل الت اريخي الفعلي للح ديث النب وي(‪ .)4‬وأ ّك دا ص حّ ة بعض النت ائج ال تي ك ان‬
‫المستشرقون األوائل قد لمحوها أو توصلوا إليه ا‪ .‬وغ ربال ه ذا الح ديث غربل ة ش ديدة فلم‬
‫يبق منه في نهاية المطاف إال القلي ل‪ ..‬أ ّم ا فيم ا يخص س يرة الن بي الك ريم وتق ديم ص ورة‬
‫تاريخي ة عن ه فق د ظه رت ع دة كتب في اللغ ات االستش راقية األساس ية‪ :‬كاإلنجليزي ة‬
‫والفرنسية واأللمانية وسواها‪ .‬ولكنه ا ب الغت في نزعته ا الوض عية أو العلموي ة االختزالي ة‬
‫أحيانا‪ .‬صحيح أنها حاولت أن تقدم‪ ،‬ألوّ ل مرة‪ ،‬صورة تاريخية عن شخصية الن بي محم د‪.‬‬
‫وهذا شيء مهم ج دا ب الطبع‪ .‬ولكنه ا وقعت في التط رف المقاب ل للتط رف ال ذي وق ع في ه‬
‫المسلمون التقليديون‪ .‬بمعنى أنه بقدر ما ك ان المس لمون يهمل ون حق ائق الت اريخ ويق دمون‬
‫صورة تبجيلية –أو التاريخية‪ -‬أو حتى أس طورية مض خمة عن شخص ية الن بي‪ ،‬بق در م ا‬
‫ك ان المستش رقون يق دمون ص ورة مغرق ة في التاريخي ة والوض عية ون زع القدس ية عن‬
‫شخصية كبرى من شخصيات التاريخ البشري‪.‬‬
‫الصراع مع‬
‫ينبغي أن نذكر هنا كتاب بالشير المدعو "مشكلة محم د"(‪ )5‬حيث‬
‫كشف عن االتجاهات التبجيلية في س يرة ابن إس حاق وابن هش ام‪.‬‬ ‫المستشرقين‬
‫وهذا شيء مفيد دون شك‪ ،‬ولكن ه ليس كافي ا ً من الناحي ة المنهجي ة‬
‫لعلم التاريخ الحديث‪ .‬كما ينبغي أن نذكر ذلك الكتاب الشهير ال ذي‬ ‫غولدزيهر‪ :‬طبق ينبغي‬
‫نفس‬
‫منع في القاهرة قبل بضع سنوات وأثار ضجة ور ّد الفع ل الع نيف‬ ‫المنهجية‪ ‬التاريخية‪ ‬‬
‫على كتب الحديث أن يكون منهجيا‪ ،‬من ط رف األص وليين المص ريين والع رب عموم ا‪ .‬وأقص د ب ه‬
‫كت اب "محم د" لمكس يم رودنس ون(‪ .)6‬ولكنّ المؤل ف ب الغ في‬ ‫أو‬ ‫النبوي‬
‫ّ‬
‫التحدث عن "النبي المسلح"‪ ،‬وفي إثارة مشاكله النفسية واألزم ات‬
‫يتع رض له ا‪..‬فه ل يعتق د رودنس ون أنّ األنبي اء يمكن أن يكون وا‬ ‫الح ادة ال تي ك ان معرفيا‬
‫مثلهم مثل بقية البشر؟ ش يء عجيب‪ ،‬ولكن ال يدهش نا ألن ه ص ادر‬ ‫أشخاصا طبيعيين‬
‫وض عي‪ ،‬م ادي‪ ،‬بحت‪ ،‬ال يمكن أن يفهم المخاض ات الس يكولوجية‬
‫ابستمولوجيا‪،‬‬ ‫عن مفكر‬
‫الكب ار‪ .‬فمحم د ه و من الشخص يات الك برى ال تي غ ّي رت مج رى‬ ‫الداخلية للعب اقرة‬
‫التاريخ البشري‪ .‬وليس‪ ‬إيديولوجياإ ّنه إحدى العبقريات الديني ة الن ادرة في الت اريخ‪ .‬وبالت الي فال يمكن‬
‫النفسية مث ل بقي ة البش ر‪ .‬ه ذا ال يع ني ب الطبع إنك ار أهمي ة كت اب‬ ‫أن تكون تركيبته‬
‫دراسة سوسيولوجية تاريخية دقيقة للبيئة التي ظهر فيها اإلسالم‪.‬‬ ‫رودنس ون بص فته‬
‫ال تي ال تفهم العم ق الروح اني لشخص ية ن بي‬ ‫ولكن في مواجه ة ه ذه المبالغ ات المادي ة‬
‫رودنس ون نج د مستش رقين آخ رين يق دمون‬ ‫اإلسالم‪ ،‬والتي وقع فيها الملح د الماركس ي‬
‫وصفيّة وحيادية وبرودة‪ .‬ولكنها أكثر تفهّما‬ ‫صورة عن النبي أكثر امتثالية‪ ،‬أو قل أكثر‬
‫األعظم‪ .‬وه ؤالء يفض لون التوق ف ط ويالً عن د‬ ‫للجانب الروحي من شخص ية الن بي‬
‫ال تي ك انت س ائدة في مك ة وش به الجزي رة‬ ‫تص وير الظ روف االجتماعي ة والسياس ية‬
‫بقلي ل‪ .‬ن ذكر من بينهم المستش رق اإلنجل يزي‬ ‫العربية أثناء ظهور النبي أو قبي ل ظه وره‬
‫المع روفين والمهمين‪ :‬محم د في مك ة‪ ،‬ومحم د‬ ‫المشهور م ونتغمري واط وكتابي ه‬
‫في المدينة‪.‬‬
‫ارنست رينان‪:‬‬
‫المنهجية الوض عية ك انوا يح اولون تق ديم ص ورة‬
‫األصوليون‬ ‫هدّده‬ ‫وعموما ً فإن المستشرقين المغالين في‬
‫عن "محمد" مضادة تماما ً للصورة المقدم ة شخصيا ومنعوه عن يس وع المس يح‪ .‬ف إذا ك ان المس يح يمت از‬
‫بالع ّفة واالبتعاد عن الشهوات الجنسية‪ ،‬فإن من مواصلة نبي اإلسالم في تصورهم كان شهوانيا ً يحب‬
‫النساء ويكثر من عدد الزوجات‪ .‬وإذا ك ان دروسه الجامعية المس يح مس الماً‪ ،‬ب ل ويق ول "من ض ربك على‬
‫كان محاربا ً يخوض المعارك والغزوات‪ .‬وإذا‬ ‫خدك األيمن فأدر له األيسر"‪ ،‬فإن "محمد" ‪ ‬‬
‫ال دنيا ويق ول "مملك تي ليس ت ه ذا الع الم"‪ ،‬ف إن‬ ‫كان المسيح روحانيا ً ي دير ظه ره للحي اة‬
‫النبي كان سياسيا ً من الطراز األول… وهكذا راحوا يقدمون صورة اختزالية ناقص ة تهم ل األبع اد الروحي ة‬
‫العالية ال تي ك ان يتم يز به ا ن بي اإلس الم الك ريم‪ .‬وربم ا ص فوا حس اباتهم العتيق ة م ع اإلس الم ونبي ه به ذه‬
‫الطريقة‪ ..‬وهي حسابات تعود إلى القرون الوسطى‪.‬‬
‫من هذه الناحية ينبغي أن ننقد االستشراق وننتبه إلى مزالقه‪ .‬مهما يكن من أمر فإن ص ورة‬
‫النبي أو سيرته ينبغي أن تعاد كتابتها من جديد بحس ب رأي بعض االختصاص يين الكب ار‪.‬‬
‫وينبغي أن تكون متوازنة روحيا وماديا‪ .‬ينبغي تطبيق أحدث منهجيات علم التاريخ الحديث‬
‫على شخصية النبي وفترته وبيئته من أجل تقديم صورة متوازنة عن حيات ه‪ :‬أي ص ورة ال‬
‫تختزل أحد األبعاد لصالح البعد اآلخ ر‪ .‬وه ذه المنهجي ة ت دعى بعلم النفس الت اريخي‪ .‬وق د‬
‫بلورها األقطاب الكبار لمدرس ة الحولي ات الفرنس ية كلوس يان فيف ر وج ورج دوبي وج اك‬
‫لوغوف‪ .‬وهي تهتم بدراسة منشأ المخيال الديني ووظائف هذا المخي ال في ف ترة م ا وبيئ ة‬
‫ما‪ .‬وهنا يكمن الفرق األساسي بين منهجية علم التاريخ الحديث والمنهجي ة الوض عية ال تي‬
‫لوسيان فيفر يتبعها معظم المستشرقين‪ .‬وبالتالي فالصراع م ع المستش رقين ينبغي أن يك ون منهجي ا‪ ،‬أو‬
‫وجورج دوبي‬
‫وجاك لوغوف‪ :‬من معرفي ا ابس تمولوجيا‪ ،‬وذل ك على عكس ص راع المثقفين الع رب اآلخ رين ال ذي ه و‬
‫إيديولوجي‪-‬سياسي بالدرجة األولى‪ .‬صراعنا م ع االستش راق عمي ق‬ ‫الرواد في دراسة‬
‫وليس سطحيا‪.‬‬ ‫منشأ المخيال‬
‫يحق لنا أن‬ ‫الديني‬
‫فنحن ال نعيب على المستش رقين تط بيق المنهجي ة التاريخي ة على‬ ‫نلوم‬
‫التراث العربي اإلسالمي‪ .‬على العكس تماما‪ ،‬إننا نشكرهم على ذلك‪.‬‬
‫أنهم توقف وا في منتص ف الطري ق‪ .‬إنن ا نعيب عليهم ت وقفهم عن د‬ ‫وإنم ا نعيب عليهم‬
‫هذه‬ ‫على‬
‫الفيلولوجية‪-‬التاريخي ة أو الوض عية االختزالي ة ال تي تع ود إلى الق رن‬
‫أنفسنا‬ ‫المنهجية‬
‫ونقول لهم بأنها لم تعد كافي ة على ال رغم من أهميته ا وإنم ا ينبغي أن‬ ‫التاسع عشر‪.‬‬
‫منهجي ات العل وم اإلنس انية أو االجتماعي ة الحديث ة ال تي ظه رت في‬
‫االستهانة‬ ‫نض يف إليه ا‬
‫كعلم األلس نيات‪ ،‬وعلم األنتروبولوجي ا‪ ،‬وعلم األدي ان المقارن ة‪ ،‬وعلم‬ ‫‪,‬‬
‫ث‬ ‫بأبحا‬ ‫القرن العشرين‪:‬‬
‫االجتم اع‪ ،‬وب األخص علم الت اريخ على طريق ة مدرس ة الحولي ات‬ ‫النفس‪ ،‬وعلم‬
‫قلبت مناهجه رأس ا على عقب وجددت ه بش كل ج ذري راديك الي‪ .‬هن ا‬ ‫الفرنسية التي اآلخرين‬
‫األساس ي بينن ا وبين االستش راق‪ .‬ان ه خالف يتموض ع أساس ا على‬ ‫يكمن الخالف‬
‫االبيس تمولوجية ال على األرض ية االيديولوجي ة‪ .‬وق د آن األوان لكي‬ ‫ية‬ ‫األرض‬
‫ينتقل الفكر العربي من المرحلة االيديولوجية‪ ،‬مرحلة الصراخ والشعارات‪ ،‬إلى المرحلة االبيستمولوجية ذات‬
‫المسؤولية المعرفية الرصينة‪.‬‬
‫بمعنى آخر فإننا ال نس تطيع أن نق دم ص ورة متكامل ة وص حيحة عن ال تراث اإلس المي أو‬
‫المجتمعات اإلسالمية إذا ما اكتفينا بالمنهجية التقليدية لالستش راق‪ .‬ال ريب أنه ا مفي دة ب ل‬
‫وضرورية كمرحل ة أولى‪ .‬ولكن ينبغي أن نتجاوزه ا بعدئ ذ إلى م ا بع دها أو م ا وراءه ا‪.‬‬
‫فالعلم تقدم كثيرا في الس نوات األخ يرة وك ذلك المن اهج والمص طلحات والنظري ات‪ .‬ولكن‬
‫االستشراق توقف وجمد عند نفس المنهجي ة‪ .‬ول ذلك أق ول‪ :‬هن ا ينبغي ان نح دث ث ورة في‬
‫الدراسات العربية‪-‬اإلسالمية تشبه تلك الثورة التي أحدثها كبار مفكري فرنسا في مج االتهم‬
‫الخاصة‪ .‬نذكر من بينهم جان بي ير فيرن ان ودراس ته للفك ر اإلغ ريقي‪ ،‬أو الم ؤرخ الكب ير‬
‫لوسيان فيفر ودراسته للتراث المسيحي‪ ،‬أو الفيلسوف ميشيل فوكو ودراسته ألنظم ة الفك ر‬
‫المتعاقبة على الغرب والقطيعات االبستمولوجية التي تفصل بينها‪ ،‬أو ع الم االجتم اع بي ير‬
‫بوردي و‪ ،‬الخ… لكن ه ذا التجدي د المنهجي الكب ير ال يمنعن ا من االع تراف بفض ائل‬
‫المستشرقين الكبار والخدمات الجليلة التي قدموها للتراث اإلسالمي‪ .‬فهم الذين حقق وا كتب‬ ‫ميشيل‬
‫فوكو‪ :‬قطيعات التراث تحقيقا علميا موضوعيا‪ .‬ولو لم يفعلوا غير ذلك لكفاهم فخرا‪.‬‬
‫ابستمولوجية‬
‫في‪ ‬أنظمة الفكر في‬
‫الغرب‬
‫فيحق لنا أن نعيب على المسلمين أو العرب رفضهم الكامل لمنجزات االستشراق األكاديمي حتى قبل‬ ‫ّ‬ ‫وبالتالي‬
‫أن يطلعوا على أبحاثه ويتفحصوها‪ .‬يحق لن ا أن نل وم أنفس نا على ه ذه الخف ة العلمي ة أو‬
‫االس تهانة بأبح اث اآلخ رين‪ .‬ينبغي أن نع ترف هن ا بالت أخر الكب ير ال ذي يع اني من ه‬
‫نفاجأ بغياب المس لمون في دراس تهم ل تراثهم وماض يهم بالقي اس إلى األبح اث العلمي ة االستش راقية‬
‫المتركزة على هذا الماضي بالذات‪ .‬بل وهناك ما هو أس وأ من ذل ك‪ .‬هن اك قط اع واس ع‬ ‫أي‬
‫من الرأي العام اإلسالمي المحافظ‪ ،‬بل والظالمي‪ ،‬الذي يرفض تطبيق المناهج التاريخي ة‬
‫مرجع عربي الحديثة على التراث‪ .‬وال يزال يلهي نفسه أو يضيع وقت ه في إدان ة االستش راق وعدائيت ه‬
‫المزعومة ومؤامراته التخريبية المتوهمة ض د اإلس الم! نق ول ذل ك في حين أن األبح اث‬
‫االستش راقية الج ادة ينبغي أن ُت ترجم ف وراً إلى اللغ ات اإلس المية األساس ية‪ :‬كالعربي ة‪،‬‬ ‫أو‪ ‬إسالمي‬
‫والفارس ية‪ ،‬والتركي ة‪ ،‬واألوردو‪ ،‬واالندونيس ية وس واها لكي تح رر‬
‫الوعي اإلسالمي من التصورات الخاطئة أو العتيق ة البالي ة ال تي عفى‬
‫أن ُتترجم كل مؤلفاتهم الك برى لكي يحص ل تفاع ل علمي خص ب بين‬ ‫عليها الزمن‪ .‬ينبغي‬
‫وبحّ اثة المستشرقين فيما يخص موضوعات مهم ة كت اريخ الحض ارات‬ ‫بحّ اثة المسلمين‬
‫كاألنتروبولوجيا المقارنة بين الحضارات والثقافات واألديان‪.‬‬ ‫ات‪ ،‬أو‬ ‫والثقاف‬
‫س ريعة على قائم ة المراج ع المرفق ة بك ل بحث من البح وث‬ ‫عن دما نلقي نظ رة‬
‫نفاج أ بغي اب أي مرج ع ع ربي أو إس المي عنه ا‪ ،‬وذل ك م ا ع دا‬ ‫االستش راقية الج ادة‬
‫يعود ذلك إلى جهل المستشرقين بأبحاث المثقفين المسلمين أو العرب‪،‬‬ ‫استثناءات قليلة‪ .‬وال‬
‫وتع اليهم عليهم كم ا يت وهم البعض‪ ،‬وإنم ا إلى ن درة البح وث العلمي ة‬ ‫وال إلى تعج رفهم‬
‫العربية اإلس المية بك ل بس اطة‪ .‬فقليال من التواض ع إذن أيه ا المثقف ون‬ ‫الجادة في الجهة‬
‫نحن لس نا إال تالم ذة في مدرس ة االستش راق الكب ير‪ .‬ان ه لعجيب‬ ‫العرب والمس لمون!‬
‫فنحن نرفض ان ندرس تراثنا دراس ة علمي ة‪-‬تاريخي ة‪ ،‬ونري د في ذات‬ ‫وغريب أمرنا‪:‬‬
‫اآلخرين من القيام بذلك! وب دال من ان نش كر االستش راق على خدمات ه‬ ‫الوقت أن نمنع‬
‫جام غضبنا عليه ونمضي الوقت كله في لعنه وشتمه‪ .‬وقد كان األجدر‬ ‫الجليلة إذا بنا نصب‬
‫فان ايس قدم لنا‬
‫درسا ً بليغا ً في إنت اج البح وث العلمي ة الج ادة عن تراثن ا اإلس المي كم ا يفع ل‬ ‫بن ا أن نمض يه في‬
‫إصباغ الصبغة لندخل ساحة البحث العلمي إذن بدال من النعيق والزعيق‪..‬‬ ‫المستشرقون الكبار‪.‬‬
‫التاريخية على‬
‫التأسيسيةريعة عن الخ دمات الجليل ة ال تي ق دمها االستش راق لل تراث الع ربي‬
‫س‬ ‫الفترة‬ ‫لكي نقدم فكرة‬
‫َ‬
‫اإلس المي يكفي أن األولى لإلسالم ن ذكر الموس وعة اإلس المية في طبعته ا الثاني ة المح َّدث ة‪ .‬وهي تش كل‬
‫المعلوم ات التاريخي ة المدقق ة والمحقق ة عن كاف ة ج وانب ال تراث‬ ‫ك نزاً ال ينف ذ من‬
‫وعقائده وفرقه وتياراته‪ ..‬ويكفي أن نذكر الموسوعة القرآنية التي‬ ‫وشخصياته وأحداثه‬
‫اكتملت مؤخراً والتي ساهم فيها عشرات الباحثين من مستش رقين وع رب ومس لمين يدرس ون في الجامع ات‬
‫الغربية‪ .‬وقد تعرضت كل كلمة من كلمات القرآن فيها إلى دراسة لغوية وتاريخية معمق ة تكش ف عن أص لها‬
‫وفصلها وتربطها ببيئتها األصلية في شبه الجزيرة العربية في القرن الس ابع الميالدي‪.‬‬
‫وكذلك تربطها باللغات السامية األخرى المش ابهة للعربي ة‪ .‬وق د نتجت عن ه ذا العم ل‬ ‫بدال من ان‬
‫الكبير إضاءة رائعة للنص القرآني فأصبحنا نفهمه بشكل جديد ونراه بعيون جديدة(‪.)7‬‬
‫نشكر‬
‫أصبحنا نفهمه على حقيقته وبكل أبعاده‪ .‬ويكفي أن نذكر ذلك المشروع الفك ري الكب ير‬
‫االستشراق على الذي أنجزه كبير المستشرقين األلمان جوزيف فان ايس‪ .‬وقد نشر في برلين بين عامي‬
‫‪ 1995-1991‬في ستة أجزاء‪ .‬وهو يحم ل العن وان الت الي‪" :‬الاله وت والمجتم ع في‬
‫خدماته الجليلة القرون الثالثة األولى للهجرة‪ .‬تاريخ الفك ر ال ديني في ب دايات اإلس الم"‪ .‬ويعت بر ه ذا‬
‫الكتاب بمثابة فتح كبير في مجال الدراسات العربية اإلسالمية‪ .‬فال يمكن أن نفهم كي ف‬ ‫إذا‬
‫تش كلت العقائ د والف رق اإلس المية األولى إال إذا استش رناه أو ع دنا إلي ه‪ .‬إن ه بحث‬
‫بنا نصب جام أركيولوجي ‪ -‬تاريخي يحفر في عمق أعماق التراث اإلسالمي‪ .‬وبالت الي فإن ه يحررن ا‬
‫من الكثير من التصورات الخاطئة التي نمتلكها عن تراثنا وعقائدنا ومذاهبنا ألن ه يق دم‬
‫غضبنا عليه‬
‫لن ا‪ ،‬وألول م رة‪ ،‬ص ورة تاريخي ة عنه ا‪ .‬وهي غ ير الص ورة التبجيلي ة أو التقديس ية ال تي تهيمن على وعي‬
‫ترجم ه ذا الكت اب ح تى اآلن إلى‬
‫ماليين المسلمين منذ مئات السنين‪ .‬وال نملك هن ا إال أن نتس اءل‪ :‬لم اذا لم ي َ‬
‫اللغة العربية؟‬
‫ما هي األسباب السياسية أو الثقافية أو الدينية التي ال تزال تعرقل ترجمت ه؟ ولمص لحة من‬
‫يتم ذل ك؟ أليس لمص لحة المح افظين الجام دين أو األص وليين المتزم تين؟ أليس لمص لحة‬
‫التخلف العربي؟ لقد أصبح هذا الكتاب ضروريا ً لكل من يري د أن يواص ل البحث ويوس عه‬
‫حول تلك الف ترة األساس ية ب ل والحاس مة من ت اريخ اإلس الم‪ .‬ونقص د ب ذلك ف ترة الق رون‬
‫الهجرية الثالثة األولى‪ .‬فلو كانت الكشوفات المضيئة والتحليالت الدقيقة التي يتضمنها هذا‬
‫الكت اب الض خم معروف ة بالنس بة للجمه ور اإلس المي أو الع ربي الختل ف األم ر كلي اً‪،‬‬
‫والس تطعنا ح ّل مش كلة الص راع الم ذهبي بين الس نة والش يعة واإلباض ية بش كل ص حيح‬
‫وفعال‪ .‬كل المشاكل المذهبية كانت س ُتحل من تلقاء ذاتها بع د أن انكش فت ج ذورها الدفين ة‬
‫وأعماقها التاريخية‪ .‬ومعلوم أنها توشك أن تمزقنا اآلن تمزيقا من اليمن إلى العراق مرورا‬
‫بالخليج العربي وسوريا ولبنان وحتى إيران وأفغانستان‪ ،‬والحبل على الجرار‪ ..‬لو ترجمن ا‬
‫جاكلين شابي هذا الكتاب وكل البحوث التجديدية الرائدة عن التراث لكنا استطعنا تحجيم حركات التزمت‬
‫ومحاولة األرخنة والتعصب والجهل التي تسيطر علينا اآلن‪ .‬وأخيراً لكنا استطعنا تج اوز الح روب المذهبي ة‬
‫للخطاب القرآني‬
‫والطائفية المستترة أو العلنية التي تهدد وحدتنا الوطني ة وتك اد تش عل الح روب األهلي ة في‬
‫كل مكان‪ .‬العلم هو ال ذي يح رر وليس الجه ل‪ .‬ونحن ينقص نا اآلن علم كث ير واي ديولوجيا‬
‫أقل‪ .‬وقد سمعنا أنّ األتراك يترجمونه أو قد ترجم وه وربم ا الف رس أيض ا‪ ،‬ولكن ليس‬
‫العرب!‬
‫سوف تصطدم‬
‫نعم إن االستش راق األك اديمي الج اد س اهم في أَرْ َخ َن ة الفك ر اإلس المي بع د أن ك ان‬
‫بعقبات نفسانية مغموسا ً بالمسلمات الالهوتية التقديسية والغيبي ات من أعلى رأس ه إلى أخمص قدمي ه‪.‬‬
‫وهي المس لمات التقليدي ة الموروث ة عن العص ور الوس طى االنحطاطي ة وال تي تغطي‬
‫على تاريخيته وتجعله يبدو وكأنه فوق التاريخ كليا‪ ،‬أو يتع الى على الت اريخ‪ ،‬أو ح تى‬ ‫راسخة في‬
‫ال عالقة له بالتاريخ‪ .‬وهنا تكمن الميزة التحريرية الكبرى للبحوث االستشراقية‪( .‬أفتح‬
‫قوسا هنا وأقول بأني كنت أنا شخصيا ً قد اخ ترعت ه ذا المص طلح الجدي د "األرخن ة"‬
‫أعماق‬
‫كمقابل للمصطلح األجنبي‪ .)historicisation  ‬ول ذلك نق ول‪ :‬أرخن‪ ،‬ي ؤرخن‪ ،‬أرخن ًة‪.‬‬
‫وهو مصطلح مهم جداً ومرشح لالنتشار السريع ألنه يلبّي حاجة ماسة للثقافة العربي ة‪.‬‬
‫الوعي‬
‫أو على األقل هذا ما اعتقدته وربما كنت واهما أو مخطئ ا‪ .‬وعلى أيّ ح ال فال يه ّم من‬ ‫اإلسالمي‬
‫ه و أوّ ل من اخ ترع المص طلح أو لم يخ ترع‪ .‬المهم أن نخ ترع مئ ات وآالف‬
‫المصطلحات الجديدة لكي تساير لغتن ا تط ور العلم والفك ر)‪ .‬فنحن دخلن ا اآلن مرحل ة‬
‫األَرْ َخ َنة‪ :‬أي مرحلة التحرر من الصورة التقليدي ة ال تي تطمس ع ادة الوق ائع التاريخي ة أو‬
‫تحولها إلى غيبيات وأساطير مضخمة‪.‬‬
‫وابتدأنا ندخل رويدا في المرحلة التاريخية‪ .‬كل ما ض ّخموه وبجّ ل وه ونزع وا عن ه ص بغته‬
‫التاريخية سوف نضطرّ إلى الكشف عن تاريخيته وواقعيت ه وماديت ه‪ .‬وهي عملي ة له ا أوّ ل‬
‫وليس لها آخر‪ .‬وربما استغرقت القرن الواحد والعشرين كله أو حتى منتص فه على األق ل‪.‬‬
‫وسوف ترافقه ا أك بر عملي ة تحري ر لل وعي اإلس المي في تاريخ ه كل ه‪ .‬وه ذا م ا ن دعوه‬
‫بالتنوير‪ .‬ول ذلك نق ول أَرْ َخ َن ة على س بيل المص در أو أَرْ َخ َن الش يء‪ ،‬يُؤرْ خِن ه على س بيل‬
‫الفع ل‪ .‬ك ّل تص وراتنا عن ال تراث بحاج ة إلى أرخن ة في ال وقت الحاض ر‪ .‬وبخص وص‬
‫األَرْ َخ َنة ينبغي أال ننسى اإلشارة إلى مرجع مهم جداً أيضاً‪ .‬وكان قد صدر في باريس قب ل‬
‫بضع سنوات تحت عنوان‪" :‬رب القبائل ‪ -‬إسالم محمد"(‪.)8‬‬
‫وه و من ت أليف الباحث ة الفرنس ية ال تي ك انت متزوّ ج ة من ش خص تونس ي وال تي ُت دعى‬
‫الكشوفات المضيئة ج اكلين ش ابي‪ .‬وق د قدمت ه في األص ل كأطروح ة دكت وراه دول ة تحت إش راف الم ؤرخ‬
‫والتحليالت‬
‫الدقيقة‪ ‬قد‪ ‬تح ّل‬
‫مشكلة الصراع‬
‫المذهبي بين السنة‬
‫والشيعة واإلباضية‬
‫المشهور كل ود ك اهين‪ .‬والكت اب كل ه ليس إال محاول ة راديكالي ة ألرْ َخ َن ة الخط اب الق رآني‪ .‬من هن ا أهميت ه‬
‫وشحنته التحريرية الهائلة للعقود المقبلة من السنين‪ .‬وال أعتقد شخصيا ً أن ترجمت ه إلى اللغ ة العربي ة ممكن ة‬
‫حاليا ً ألنّ الوعي اإلسالمي غير مهي أ الس تقباله أو تقبّل ه‪ .‬مهم ا يكن من أم ر ف إنّ أبح اث األلم اني ف ان ايس‬
‫والفرنسية جاكلين ش ابي وس واهما من المستش رقين األك اديميين ق دمت لن ا درس ا ً بليغ ا ً في إص باغ الص بغة‬
‫التاريخية على الفترة التأسيسية األولى لإلسالم‪ .‬نقول ذلك ونحن نعلم أن مؤرّ خي العص ر العباس ي ك انوا ق د‬
‫نزعوا كل صبغة تاريخية عن هذه الفترة بالذات فجعلوها تبدو نموذجية مثالية مقدسة تتعالى على كل م ا ه و‬
‫بشري أو أرضي أو تاريخي‪ .‬وهذا ما فعله المسيحيون أيضا مع تراثهم‪ ،‬ينبغي أال ننسى ذل ك‪ .‬هك ذا نج د أن‬
‫عملية األَرْ َخ َنة لن تكون سهلة وال ميسورة‪ ،‬ألنها سوف تصطدم بعقب ات نفس انية راس خة في أعم اق ال وعي‬
‫اإلسالمي‪ .‬والمعركة مفتوحة…‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬انظر المراجع التالي ة له ؤالء العلم اء المستش رقين‪Noldeke :Histoire du Coran. Paris.1859 Goldziher :Le dogme et la Loi de l’islam. Paris.1920 :‬‬
‫‪Joseph Schacht :Introduction au droit musulman. Paris.1999‬‬

‫‪ -2‬سبينوزا هدد بالقتل بسبب ذلك بل وتعرض لمحاولة اغتيال فاشلة ألنه درس العقائد اليهودية دراسة تاريخي ة‪-‬فلس فية‪ .‬وريش ار س يمون ح رق مخطوطات ه عن دما ش عر ب أنهم ق د يكبس ون علي ه‬
‫ويجدونها عنده بالجرم المشهود‪ .‬ومعلوم انه كان أول من طبق المنهج التاريخي على النصوص المقدسة بعد سبينوزا‪ .‬فق د أل ف كتاب ا بعن وان‪ :‬الت اريخ النق دي للعه د الق ديم‪ ،‬أي الت وراة ثم الت اريخ‬
‫النق دي للعه د الجدي د‪ ،‬أي االنجي ل‪Richard Simon :Histoire critique du Vieux Testament.Paris.1680 Histoire critique du texte du nouveau .‬‬
‫‪testament.Rotterdam.1689‬‬

‫‪ Renan :Vie de Jesus.Paris.1863 -3‬هل تعرفون لماذا أوقفوا درس رينان في الكوليج دو فرانس؟ ألنه قال هذه العبارة‪ :‬يسوع هذا اإلنسان الذي ال يضاهى‪ .‬فعلى ال رغم من مدح ه‬
‫الشديد له واعتباره أعظم شخص ظهر على وجه األرض إال أنهم ثاروا عليه وهددوه‪ .‬لماذا؟ ألنه اعت بره إنس انا وليس إله ا كم ا تق ول العقي د الالهوتي ة‪ .‬لق د ش كك في العقي دة المركزي ة األساس ية‬
‫للمسيحية بسبب انغماسه في الحداثة العلمية والبحث التاريخي‪.‬‬

‫‪ .Robert Brunschvig :Etudes d’islamologie.Paris.1976 G.H.A.Juynboll :Muslim Tradition.Cambridge -4‬وهو مرجع هام مكرس لدراسة الحديث النبوي في‬
‫مرحلته األولى ولكن من وجهة نظر تاريخية محضة بالطبع‪ :‬أي تحريرية‪.‬‬

‫‪Regis Blachere :Le problème de Mahomet. Essai de biographie critique du fondateur de l’islam. Paris.1952 -5‬‬

‫‪Maxime Rodinson : Mahomet. Paris.1961 -6‬‬

‫‪ - 7‬من وجهة نظر تاريخية ينبغي أن أشيد هنا أيضا بقاموس القرآن الصادر بالفرنسية مؤخرا‪ .‬فهو أيضا يلقي إض اءات س اطعة على نص الق رآن الك ريم انظ ر‪Dictionnaire du Coran. :‬‬
‫‪Paris.Robert Laffont.2007‬‬

‫‪Jacqueline Chabbi : Le Seigneur des tribus. L’islam de Mahomet. Paris.1997 -8‬‬

‫‪http://www.almuslih.net/index.php?option=com_content&view=article&id=292:2014-01-28-18-15-‬‬
‫‪23&catid=44:islam-in-history&Itemid=214‬‬

You might also like