Professional Documents
Culture Documents
فلسفة ابن باديس التربوية بين الخصوصية الثقافية وعالمية القيم الإنسانية
فلسفة ابن باديس التربوية بين الخصوصية الثقافية وعالمية القيم الإنسانية
فلسفة ابن باديس التربوية بين الخصوصية الثقافية وعالمية القيم الإنسانية
إن أول ماينبغي أن نذكر هو الشئ الذي عنه بحثنا ههنا والغرض الذي إليه قص دنا .فأما الشئ
ال ذي عنه بحثنا فهو الفكر ال تربوي الباديسي وبي ان أساسه الفلس في ،وغرض نا الكشف عن
استبطان ذلك المشروع التربوي لرؤية فكرية للجدلية بين الخصوصي والع المي .ذلك ألنه إذا
كانت العولمة أمرا واقعا اليوم ،وكان لزاما على الكثير من المجتمع ات السياس ية إع ادة النظر
في مسلماتها التربوية والثقافية واألخالقية بقصد التكيف والمشاركة في إنتاج الثقافة اإلنسانية،
وكان من الواجب على رجال التربية اليوم مراعاة القيم الجدي دة ال تي فرض تها الحي اة الراهنة
من جهة.
وألنه من جهة ثانية إذ ك انت الش عوب تختلف بمقوماتها ومميزاتها ،وال بق اء ألمة إال ببق اء
مقوماتها ومميزاتها ،وكانت تلك المقومات ضاربة في تاريخ األمة وماضيها .ومن جهة ثالثة،
إذا كان عبد الحميد بن باديس في مجال التربية ي برز مربيا م اهرا ،وك ان من الث ابت أنه «هو
الذي غرس الب ذرة األولى في التربة الجزائرية قبل الح رب العالمية األولى في (…) االتج اه
ال ذي س ارت فيه الجزائر(…) ابت داء من الثالثين ات ،ورعاها بجه ده وعمله المتواصل في
ميدان حركة التربية والتعليم »( ،)1وك ان حل مش كالت الحاضر واستش راف المس تقبل إنما
يتأسس في ج انب منه على مُعطي ات الم وروث الثق افي للمجتمع ؛ اتضح إذن أنه المن اص لنا
اليوم من استنطاق اإلرث الباديسي واس تقراء فلس فته التربوية بغية إيج اد حل لمش كلة العولمة
بما تحمله من دالالت الوحدة والش مولية وطمس ح دود المجتمع ات السياس ية وخصوص ياتها
الثقافية ،ومسألة التربية ذات الصلة الوثيقة برؤية المُنظر لها للحياة واختالف أهدافها باختالف
المجتمع ات اإلنس انية ،إذ الواقع أن «التربية هي الج انب العملي لكل فلس فة ،فهي الوس يلة
الفعالة لتحقيق المُثل العليا ال تي ي ؤمن بها الفيلس وف ،ومن هنا ك انت العالقة بين الفلس فة
والتربية عالقة تالزم » (.)2
ال جرم تس تبطن ه ذه المداخلة فرض يات ال نريد لها أن تبقى رهينة المُض مر الالمنط وق ،بل
يتعين منذ البداية االرتقاء بها إلى مستوى المنطوق الصريح وهي:
-1إن ابن ب اديس يمتلك مش روعا تربويا متك امال ،له منابعه الفلس فية ،وأهدافه ،ومناهجه
ووسائله.
-2إن الفكر التربوي الباديسي فكر أصيل صادر عن مفكر واع بمتطلب ات التغي ير يجمع بين
مقتضيات األصالة ومُتطلبات المعاص رة -3 .إن ذلك الفكر ال تربوي يمنح األولوية للمح دود
1
على الالمحدود ،ويجعل ما هو ع المي متوقفا على ما هو خصوصي دون انغالق على ال ذات.
تلك هي الفرضيات التي تريغ هذه المداخلة إلى تأييدها ،والتي تحدد محاور الورقة التي سنتقدم
بها إلى هذا الملتقى.
4
بالوعظ واإلرشاد بقصد االتصال مباشرة مع الجماهير .د /فيما يتعلق بالمضامين أو المحت وى
الذي يشكل مواد النشاط التعليمي كوجه من وجوه العملية التربوية ،يرى ابن باديس أن الم واد
التي ينبغي إدراجها ضمن المنهاج التعليمي تتمثل في:
-دراسة القرآن والحديث وما يتصل بهما من علوم.
-دراسة العقائد والعلوم الشرعية.
-دراسة اللغة العربية.
-دراسة المواد االجتماعية كاألخالق والتاريخ والجغرافيا.
-دراسة المواد التي تنمي القدرة على االستدالل كالمنطق والحس اب والهندسة والفلك وعل وم
الطبيعة.
وينبغي أن نالحظ هنا:
المالحظة األولى :إن إدراج المواد الثالث األولى نابع من موقف ابن باديس من مس ألة الهوية
الوطنية ،ولنس مي ذلك من جهة أخ رى حتمية تربوية في مواجهة سياسة فرنسا ذات األربع
زوايا :التفق ير ،التجهيل ،التنص ير ،والفرنسة .وألن النظ ام ال تربوي في كل مجتمع هو م رآة
ثقافة هذا المجتمع.
المالحظة الثانية :2ال يع ني البتة ذلك الثبت للمحت وى التعليمي أن ص احبه يهمل اللغ ات
األجنبية ،وال تعني مقاومته للفرنسة رفض الفرنسية كلغة صانعة للحضارة ،فابن باديس بعدما
يعت بر اللغة العربية والفرنس ية لغت ان متآخيت ان في القطر الجزائ ري وض روريتان لس عادة
القطر ،يقول في العدد 47من مجلة الشهاب الصادرة في 16أوت « :1926إن الذي يحمل
علم المدنية العص رية الي وم هو أوروبا ،فض روري لكل أمة تريد أن تس تثمر تلك العق ول
الناض جة وتكتنه دخائل األح وال الجارية ،أن تك ون عالمة بلغ ات أوروبا ،وكل أمة جهلت
جميع اللغ ات الغربية ،فإنها تبقى في عزلة عن ه ذا الع الم ،مطروحة في ص حراء الجهل
والنسيان من األمم المتقدمة التي تتقدم في هذه الحياة بسرعة لم يسبق لها مثيل»(.)16
المالحظة الثالثة :وإذا اعتبرنا المواد الدراسية الثالث األولى من العلوم النقلية ،والمواد الثانية
علوما عقلية؛ ثبت ماذكرناه سلفا عند الحديث عن فلسفة ابن باديس من جهة ،ومن جهة أخ رى
تأكد أنه ال يحصر العلم فيما هو ش رعي ،وليس أدل وأبلغ في التعب ير عن ه ذه الداللة من قوله
موص يا المس لم الجزائ ري « :اح ذر كل متعيلم يزه دك في علم من العل وم ،ف إن العل وم كلها
أثمرتها العقول لخدمة اإلنسانية ودعا إليها الق رآن باآلي ات الص ريحة ،وخ دم علم اء اإلس الم
5
بالتحسين واالستنباط ما عُرف منها في عهد مدنيتهم الشرقية والغربية حتى اعترف بأستاذيتهم
علماء أوروبا اليوم»(.)17
7
النهوض بالوطن إلى مستوى التجمعات البشرية الراقي ة ،والمحافظة على الشخص ية الوطنية،
وإعداد نشء يأخذ للحياة سالحها ويخوض الخطوب وال يهب ؛ فإنه في الحقيقة يجعل األولوية
واألولية للفئة الثانية من الم رامي ،أي تلك األه داف ال تي تخ دم مجتمعة ال وطن ،وه ذا دون
االنغالق على الذات أو إنكار الهدف اإلنس اني الع ام ،إذ أن خدمة ال وطن ومحبته ُتعت بر خدمة
ومحبة لإلنسانية.
ذلك ألن تلك «الدائرة اإلنسانية الواس عة ليس من الس هل التوصل إلى خ دمتها مباش رة ونفعها
دون واسطة ،فوجب التفكير في الوسائل المُوصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع»(
،)24مثلما يعلل ابن باديس تقديم الخصوصي المحدود على الع المي الالمح دود ،وب ذلك فهو
عندما قرر خدمة الوطن واإلسالم الذاتي ،وليس اإلس الم ال وراثي ال ذي يؤخذ ب دون نظر وال
تفكير والمبني على الجمود والتقليد؛ فألن في خدمة اإلسالم ال ذي ي دعو إلى األخ وة اإلنس انية
بين جميع البشر كما ي دعو إلى األخ وة اإلس المية ،ويس وي في الكرامة والحق وق بين جميع
األجناس واأللوان ،خدمة غير مباشرة لإلنسانية .وه ذا ال ذي ي ذهبُ إليه ابن ب اديس ذهب إليه
حكيم الص ين (كونفوش يوس ) ،ال ذي أعطى للتربية ال ُخلقية عن طريق التعليم مكانة رفيع ة،
وذلك لما قرر أ ّنه إذا أردنا نشر خير الفضائل بين البشر؛ وجب فعل ذلك على مس توى ال وطن
أوال( .)25وكذلك الفيلسوف األلماني (كانط) الذي نادى بالعالمية في كتابه ( نحو س الم دائم،
محاولة فلس فية ) س نة ،1595وفيه ق رر أن كل أمة في الع الم لها الحق في تقرير المص ير،
وأنه ال يجوز أليّة دولة أن تتدخل في نظام أو حكم دولة أخرى.
النتائج:
إلى هنا يمكن أن نس تنتج أن ابن ب اديس يمتلك فعال مش روعا تربويا متك امال ،وإذا ك ان من
العبث أن نعيب على الس مكة ع دم الق درة على العيش خ ارج الم اء؛ فال يُعق ُل أن نحكم على
األفكار خارج سياقها وإطارها التاريخي ،إذ المفكر ال يخرج إلى الوجود كما تنبت الفطريات،
وإنما هو نت اج عص ره وعص ارة مجتمعه .ورغم ذل ك ،تؤكد لنا الق راءة الس الفة أن الفكر
التربوي الباديسي فكر أصيل صادر عن مفكر واع بمتطلبات التغي ير ،م درك للتق دم الحاصل
في الحاضر بس رعة لم يس بق لها مثي ل ،وعليه ف األمم ال تي ال ت واكب التط ورات الراهنة في
صياغة مشاريعها التربوية بها ال يتعارض ومقوماتها تبقى رهينة الجهل والنسيان.
وابن باديس فيلسوف يتجه وجهة عقالنية تؤمن باالرتب اط الض روري بين العلل والمعل والت،
وتعتقد أن للعقل الق درة على إدراك القيم الكامنة بص ورة موض وعية في األفع ال واألق وال،
وت رى أن اإلنس ان ليس خ ّي را بطبعه كما ي زعم (روسو) ،وال ش ريرا بجبلّته كما ي ذهب إليه
(هوبز) و(ميكيافيلي) ،وإنما هو يحمل االستعداد لفعل الخير والشر معا كما قرر (كانط).
8
وفلسفة ابن ب اديس ال تي يتأسس عليها مش روعُه ال تربوي تنطلق من الواقع ومتطلباته ،ومثلما
صاغ صاحبها النظريات سعى جه ده في العمل لتط بيق المش روع وبل وغ الم رامي والغاي ات
المُتوخاة ،بعيدا عن الحلول المُغرقة في التجريد ،ولذلك أتت أُكلها وأينعت ثمارُها.
وموقف ابن باديس في مسألة الصلة بين الخصوصي والعالمي يستبطن منطقا يتج اوز ق وانين
التداخل مثلما نص عليها المنطق القديم ،حيث مايصدق على الكل يص دق على جميع األج زاء
بالضرورة ،ذلك ألن المنطق المعاصر يقرر فساد هذا القانون مادامت القض ية الكلية تف ترض
الوجود ،بمعنى أنها تنص على أنه إذا افترضنا ك ذا س واء ك ان موج ودا أو غ ير موج ود فإنه
ك ذا ،بينما الجزئية تق رر الوج ود ،أي أنها تنص على أنه يوجد على األق ّل ك ذا وهو يتصف
بكذا ،ومنه ال يجوز االنتقال من الفرض إلى التقرير الوجودي.
يتضح أن موقف ابن باديس الذي يمنح األولوية واألولية للمحدود ،ويجعل ماهو ع المي متوقفا
على ماهو خصوصي صحيح من وجهة نظر المنطق المعاصر صوريا ،بل وهو صادق ماديا
للمثال الباديسي الذي سنختم به م داخلتنا باللغة الطبيعية ،وذلك ح ّتى وإن قُوبل ب رفض ه ؤالء
الذين ال يستطيعون تصور الجزء مُساويا للكل في مجال من مجاالت الرياضيات المعاصرة.
وتأسيسا على ما سلف كله ،يتأكد لدينا أن ابن باديس س لفي على منواله الجزائ ري ،فهو بع دما
يقدم خدمة الجزائر ،ويؤكد أن وراء ذلك الوطن الخ اص أوطانا أخ رى عزي زة علين ا ،يق ول:
«وأقرب ه ذه األوط ان إلينا هو المغ رب األدنى والمغ رب األقصى (…) ثم ال وطن الع ربي
واإلسالمي ،ثم وطن اإلنسانية العام .ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من ه ذا كله إال
إذا خ دمنا الجزائر .وما مثلنا في وطننا الخ اص – وكل ذي وطن خ اص – إال كمثل جماعة
ذوي بي وت من قرية واح دة ،فبخدمة كل واحد لبيته تتك ون من مجم وع ال بيوت قرية س عيدة
راقية .ومن ضيّع بيته فهو لما سواه أضي ُع»(.)26
وبع ُد ،ال نزعم البتة أننا أحطنا علما بفلسفة ابن باديس التربوية ،وال أن هذه المداخلة استغرقت
الموضوع والغرض الل ذين أعلنا عنهما ب ادئ األمر ،وجل ماطمحنا إليه أن تث ير ص دى ل دى
طلبتنا الباحثين في مج ال فلس فة التربية ،بل وكل الب احثين في ع الم مق ال الفلس فة الستقص اء
مناحي الفكر الفلسفي عند ابن باديس وغيره من مفكري المغ رب الع ربي المغم ورين في ه ذا
المجال.
الهوامش:
* أستاذ مساعد للمنطق الصوري ،كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية -جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف
9
( :)1ت ركي رابح ،الش يخ عبد الحميد بن ب اديس رائد اإلص الح والتربية في الجزائ ر ،المؤسسة الوطنية
للكتاب ،الجزائر ،ط ،1984 ،4ص.370 :
( )3أنظر :أ -عبد الحميد بن باديس حياته وآث اره ،إع داد د /عم ار الط البي ،دار اليقظة العربي ة ،دمش ق،
4( ،1968أج زاء) .ب -عبد الحميد بن ب اديس ،آث ار اإلم ام عبد الحميد بن ب اديس ،مطبوع ات وزارة
الشؤون الديني ة ،الجزائ ر4(،أج زاء) .ج -د .ت ركي رابح ،المرجع الس ابق /الش يخ عبد الحميد بن ب اديس
باعث النهضة اإلسالمية العربية في الجزائر ،دار العلوم ،الري اض ،المملكة العربية الس عودية/ .1982 ،
الشيخ عبد الحميد بن باديس ش يخ الم ربين وش يخ المص لحين في الجزائ ر ،سلس لة كتب الش باب ،المؤسسة
الوطنية للكتاب ،الجزائر .1989 ،د -د .محمود قاسم ،اإلمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب
التحرير الجزائرية ،دار المعارف ،القاهرة.1968،
( :)4آثار اإلمام عبد الحميد بن باديس ،مطبوعات وزارة الشؤون الدينية ،الجزائر ،ط ،1985 ،1الجزء
الرابع ،ص.110 :
( :)6عبد الحميد بن ب اديس ،مج الس الت ذكير من كالم الحكيم الخب ير،مطبوع ات وزارة الش ؤون الديني ة،
الجزائر ،ط ،1982 ،1ص.143 :
( :)10نقال عن :د .ت ركي رابح ،الش يخ عبد الحميد بن ب اديس رائد اإلص الح والتربية في الجزائ ر ،ص:
.242
10
( :)19آث ار اإلم ام عبد الحميد بن ب اديس ،مطبوع ات وزارة الش ؤون الديني ة ،الجزائ ر ،ط ،1984 ،1
الجزء الثالث ،ص.253 :
( )25أنظر :محمد س ليمان حس ن ،التي ارات الفلس فية الش رقية ،منش ورات دار عالء ال دين ،دمش ق ،ص:
.66
http://www.oulama.dz/?p=2040
11