Professional Documents
Culture Documents
5810 11385 1 SM
5810 11385 1 SM
5810 11385 1 SM
ملخص البحث
يهدف هذا البحث إلى تعريف تأثير الشاعر اليوناني "يانيس ريتسوس"(:9191
)9119في الشعر العربي الحديث .ونتخذ من الشاعر الفلسطيني "محمود
نموذجا لمقاربة ودراسة هذا التأثير ،باعتباره من أبرز
ً درويش"()8992 :9199
شعراء العرب الذين ظهر هذا التأثير في شعرهم على نحو واضح.
ثم يتناول هذا البحث في متنه أربع مباحث ،المبحث األول :نعرض فيه ومن َّ
حياة وأعمال ريتسوس وأبرز مالمح وسمات تجربته الشعرية .والمبحث الثاني :نتناول
فيه حياة وأعمال درويش والسمات الفنية لشعره .أما المبحث الثالث :فنذكر فيه
أخير المبحث الرابع :نوضح فيه
السمات الحياتية واألدبية المشتركة بين الشاعرين ،و ًا
تأثير أشعار ريتسوس في أشعار محمود درويش مع اإلشارة إلى نماذج متنوعة من
قصائد الشاعرين في األدب اليوناني واألدب العربي الحديث.
مقدمة:
العمل األدبي رسالة موجهة من المؤلف إلى المتلقي تستخدم فيها نفس الشفرة
اللغوية المشتركة بينهما ،ويقتضي ذلك أن يكون كالهما على علم بمجموعة األنماط
كون نظام اللغة أي الشفرة والعالقات الصوتية والصرفية والنحوية والداللية التي تُ ِّ
المشتركة؛ وُيلبي هذا النظام متطلبات عملية االتصال بين أفراد الجماعة اللغوية،
وتتشكل عالقاته من خالل ممارستهم ألوان النشاط الفردي واالجتماعي كافة في
حياتهم .ويرى بعض الباحثين أن اللغة المعينة عبارة عن قائمة هائلة من اإلمكانات
ثم فإن األسلوب يمكن تعريفه بأنه اختيار أو انتقاء يقوم به المتاحة للتعبير .ومن َّ
الكاتب لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معين .ويدل هذا االنتقاء على
جنوب شرقي شبه جزيرة "البيلوبونيسوس" اليونانية ،في األول من شهر مايو
عام( ،)9191وكان االبن األصغر ألسرة نبيلة من ُمالك األراضي .كان أبوه
سيدا من أصحاب الضياع الكبيرة ،يحيا ً "إليفثيريوس ريتسوس"
حياة أشبه بحياة أمراء اإلقطاع القدامى .على أنه منذ مولد ريتسوس راحت ثروة األب
تتعرض ألخطار متالحقة؛ إذ أوقعه القمار فى ويالت كثيرة ،وسرعان ما ُرهنت
األرض ،ثم توالت األمراض لتقضي على البقية الباقية من كل ما يملكه .ولذا فقد
عاصر ريتسوس خالل فترة شبابه تدمير أسرته من الناحية االقتصادية ،كما ازدادت
اتساعا .وبعد موت والدته المبكر وكذا أخيه األكبر ،عانى
ً هوة الشقاق بينه وبين أبيه
ير من اضط ارب في العقل .وقد أمضى ريتسوس سنوات دراسته عناء مر ًا
ً والده
االبتدائية بمدرسة بلدته مونيمڤاسيا ،ثم رحل بعدها إلى عاصمة اإلقليم القريبة ليلتحق
بمدرستها الثانوية في أوائل عام (.)9189وفي شهر أغسطس من العام ذاته مات
الســل ،وبعد ثالثة أشهر لحقت به أمه ،ولم
بداء ُ شقيقه األكبر "ديميتريس"
وكمدا على مرض ابنها ثم وفاته (.)9
ً تزل فى الثانية واألربعين من عمرها ،حزًنا
بدأ يانيس ريتسوس يكتب الشعر منذ سن الثامنة .وجعل مالذه الشعر في حيزه
المكاني والزماني بوصفع سالحا ضد االحباط ،ووجد في ذكرى قريب له هو نائب
القبطان "نيقوس ريتسوس" ،الذي استشهد في معركة بحرية في نوفمبر عام ()9198
قرب جزيرة "خيوس" ،ما يشد من أزره ويقوي من عزيمته إزاء كل المثبطات التي
أحاطت به فى صباه .وعلى الرغم من تدهور أحوال آل ريتسوس المالية إلى حد
اإلفالس؛ فقد ظلت الخادمات في بيتهم يقرعن –من تلقاء أنفسهن -المالعق في
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
األقداح الخزفية ،كي يوهم الجيران بأن أوالد سادتهن ما زالوا يتناولون البيض المخفوق
بالسكر كل صباح .وبعد أن انهى ريتسوس دروسه الثانوية انتقل إلى مدينة "أثينا"
التي عانى فيها من قلة موارده ،مما أجبره على أن ينقطع عن التعليم وأن يعمل في
مغمور بإحدى الفرق
ًا اقصا
كاتبا ينسخ األوراق في نقابة المحامين ور ً سن صغيرةً ،
مصححا وقارًئا لبروفات الطباعة لدى أحد الناشرين ،حتى ً المهنية ،وممثالً صامتًا ،ثم
السل فعاد
حظي بوظيفة في "المصرف الوطني"عام ( )9181وأصيب بعدها بمرض ُ
إلى قريته التي نظم فيها ديوانه "منزلنا القديم"(.)5
قضى ريتسوس أربع سنوات ( )9139 -9181في مصحة للعالج من مرض
السل .ومن ثم أثرت هذه األحداث التراجيدية فيه ودفعته إلى القراءة وانتاج األعمال ُ
شاعر ثورًّيا .لقد عرف ريتسوس الذل ًا األدبية المختلفة ليقرر فيما بعد أن يصبح
واالستغالل ،ووجد نفسه فجأة ذليالً في عالم عدائي عديم الرحمة ،غريًبا عن نبالء
اإلقليم .هذا هو عالم طفولته ومراهقته .وقادته هاتان المحنتان إلى أعتاب الهاوية،
والجنون ،واالنتحار ،والموت الجسدي .ولكنه وجد سندين سمحا له بمواصلة حياته:
الشعر ،والمثل األعلى الثوري .بدأ في الكتابة دون توقف وبإرادة صلبة ،تلك اإلرادة
دائما الميزة األساسية لشخصيته .وكانت الكتابة بالنسبة له أكثر من الحرية التى ظلت ً
أو مثل الفداء ،إذ كانت الهدف الوحيد لوجوده .ومن جانب آخر ،رأى في الحركة
التقدمية التي التصق بها األمل في سالم شخصي وعاطفي .وفي عام ( )9139عاد
إلى أثينا وامتهن التمثيل في أحد مسارحها ( .)6ومنذ عام ( )9139أصبح ريتسوس
مقرًبا إلى الحزب الشيوعي Κ.Κ.Εفي اليونان ،وتقيد بالعمل الجماعي .وحدد األلم
والتمرد في وجه الظلم االجتماعى خطواته األولى في الشعر ،وأنتج عمله "مزرعة
عام ( ،)9135وهما عام ( ،)9139ثم "األهرامات" تراكتر"
متأرجحا بين اإليمان والثقة بالمستقبل المرتبط بالفكرً عمالن حققا توازًنا مازال
الشيوعي واإلحباط النفسي .كما أنهما قصيدتان يائستان هجائيتان عن الحنين، ،
زاخرتان بالسخرية من الذات ،بل هما تعويذتان شخصيتان تكشفان عن مكنونة
الشاعر اليوناني البرجوازي المتزمت ،الذي انتحر وهو لم يزل بعد في الثانية والثالثين
( .)9182-9211لقد من عمره" -كوستاس كاريوتاكيس"
054
خلود يسري
بذل ريتسوس جه ًدا ملحوظًا فى هذين العملين للخروج من الطريق الضيق المسدود
إلى وسطية الشعر الذي ألهمه بأبيات مليئة بالكبر والسخرية والتواضع فى آن .لقد
اعتبر أن هذا هو انتقامه من الظلم ،وارتداد كرامته ونفسه المجروحة الباحثة عن
إحيائها ثانيةً ،والذهاب بها فوق البيئة العدائية.وفي مجال علم الجمال ،يمكن مالحظة
آثار واضحة للمدرسة المستقبلية الروسية في شباب ريتسوس ،حيث أنتج "القصيدة
عام ( .)9131كما أنها تُعد خطوة بطولية جسورة الجنائزية"الطويلة
للشكل الشعري التقليدي ،إذ تُعبر بلغة واضحة وبسيطة عن رسالة متحركة للجماعة
يعا في
األخوية .ويتغنى فيها ريتسوس بألم أم تبكي وسط الطريق ابنها الذي سقط صر ً
قمع إضراب ُعمال مصانع التبغ في "سالونيكي" تحت حكم الديكتاتور "ميتاكساس"،
زعيم حزب حرية ال أري ومؤسس الديكتاتورية الفاشية ( ،)9199 /9135التي حاربتها
حركات شعبية عديدة من بينها الحزب الشيوعي ،الذي كان ريتسوس قد انضم إليه في
شبابه آنذاك .لقد رأى ريتسوس في جريدة يومية صورة تلك المرأة منحنية فوق جثة
ابنها .بعدها انفرد بهذه السيدة لمدة ثمان وأربعين ساعة ثم نظم قصيدته "الجنائزية"،
التي نالت شهرة عظيمة لدى الكنيسة األرثوذكسية.وهي عبارة عن رثاء إنساني
وجسدي مؤثر لدرجة كبيرة،حتى إن اليونانيين –بمن فيهم من غير المؤمنين -أحبوا
سماعها وغناءها في ليلة الجمعة الحزينة السابقة علي عيد القيامة .أما موسيقى
ثيودوراكيس لهذه القصيدة عام ( ،)9119فكانت بمثابة ُمفجر للثورة الشعرية في
اليونان .ومنذ أغسطس ( )9131أجبر نظام الديكتاتور ميتاكساس ريتسوس على أن
علنا على رؤوس األشهاد من حكيما ،خاصة أن قصيدته الجنائزية تم حرقها ً ً يصبح
ِقبل الحكومة .بعدها اتجه الشاعر إلى استخدام بعض مداخل السريالية ،بمعنى :رسم
دهاليز األحالم ،تداعي الخواطر المذهل ،انفجار الرموز والصور ،المذهب الغنائي
الحلوة والمريرة .ومنها علي سبيل المثال
الذي ُيظهر األلم النفسي للشاعر ،التذكارات ُ
التي ال تحدد "أغنية شقيقتي" عام ()9131
فحسب البحث عن طرق جديدة متعلقة بالشكل -وهو ملمح شائع في الشعراء
أيضا عن آفاق أوسع في األفكار ،ومثلها قصيدته
المعروفين فى جيل الثالثينيات -بل ً
()1
عام (. )9132 "سيمفونية الربيع"
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
مقاتال فحسب– على الرغم من أنه لم يكن عدو ًّ
انيا -بل ً شاعر
ًا لم يكن ريتسوس
دائما عن رسم بالخطوط األولية لإلنسانية األصيلة العميقة التي تنطلق من
كان يبحث ً
الحقيقة الخالصة ،المؤلمة والصعبة ،للحياة في وطنه .ففي أثناء حرب اليونان
األهلية ،تورط "ريتسوس" في مشاجرة ضد الفاشيين ،وصدر ضده حكم بقضاء أربع
سنوات في السجن في معسكرات اعتقال مختلفة ،منها" :ليمنوس ،وأغيوس،
نوعا من االصالح أو إعادة التأهيل(.)2
وافستراتيوس ،وماكرونيسوس" -بوصف ذلك ً
وفيما بين عامي ( 9111و )9119أجبر االنقالب السياسي الفاشي ريتسوس
على الرحيل من بلدته مونيمڤاسيا؛ إذ صدر ضده حكم باإلقامة الجبرية في جزيرتي
.ولم يمنعه ذلك من إثراء عمله الضخم وم َّد خياله ،و"ليروس" "ياروس"
صوب العالم اإلغريقي مرة أخرى ،فنظم مونولوجاته الشعرية في هاتين الجزيرتين أثناء
فقد كتبه عام( ،)9118وهو فترة المنفى.أما مؤلفه "البعد الرابع"
يضم مجموعات النصوص كلها التي تأخذ شكل المونولوجات المسرحية ،والتي
غالبا ما يقعون تحت
استوحاها ريتسوس من األساطير القديمة .فأبطال هذه األعمال ً
ضغوط أو يصبحون على شفا الموت ،في اللحظة نفسها التي يكونون فيها على وشك
ضبط ميزان حياتهم .فبينما يخاطبون بعض الشخصيات الصامتة ،يطلقون ألنفسهم
العنان إللقاء خطبة استطرادية ،واإلشارة إلى المفارقات التاريخية .وفي الحقيقة ،إن
هذه القصائد كلها ما هي إال تأمل وتفكر في العمر وكبر السن ،والموت ،والزمن،
والدمار ،والتاريخ ،والعزلة ،وأساليب الحياة التي تقع بين المتطلبات الشخصية
والضرورات االجتماعية وأزمة الحركات الثورية.
لم يقسم ريتسوس شعره إلى سياسي عبر السنوات األولى ،وغير سياسي في
انتشارا .ولكنه أكد أن عمله كفاح أساسي من أجل الحياة:
ً المرحلة اإلبداعية األكثر
"فمن الخطأ تقسيم الشعر إلى أنواع؛ حيث إن الشعر شاسع مثل الحياة .فال توجد
حدود في فضائه وال محرمات .فداخل كلمات الشاعر وخارجها تنطبع الذاكرة الثقافية
للقرون ويتراكم التاريخ العالمي ،حيث تنشأ القصيدة من الحاجة إلى كسر الصمت،
ومن أمر يأتي قبل التاريخ .فعند كتابة الشعر ،يقوم الشاعر بمحاربة الموت وجهًا
لوجه دون أن يدري ،وعندما نذكر الموت ،ال ينبغي أن نفهم منه فحسب الموت
050
خلود يسري
الجسدي ،بل أشكال الموت االجتماعي كله ،ومن ث َّم فإنه حيثما يوجد الموت سيوجد
رد الفعل ضده .إن الشعر السياسي هو أحد أشكال المواجهة مع هذا الموت فهو
حرب لتحقيق ما يسمى عنده "الفوضى الزرقاء" ،كما كتب في قصيدته "إلى نيرودا".
دائما بقيمة الحياة ،ألنه لو اعتبرها تافهة لن يكون لديه الحق في
أجل ،فالشاعر يؤمن ً
الكتابة.كان ريتسوس مثل أطلس يحمل كوكبه الشعري وهو ماض في صراعه ،وعندما
تنفد منه الكلمات يغمض عينيه ويرقد رقدته األبدية يوم 99نوفمبر عام .)1(9119
أواًل :أبرز تجارب ريتسوس الشعرية ومالمحها:
يانيس ريتسوس شاعر يميل إلى الخيال غير أنه لم يتجاوز منطق الحياة
ووجوديتها ،فلقد استخدم الخيال ليحاور من خالله التاريخ الضارب في أعماق
اإلنسانية .ولقد طوف بنا هذا الشاعر المبدع فى عصور التاريخ وربط بين عراقة
اإلغريقي واألساطير القديمة التى تروى بشكل منطقي أو غير منطقي ،بالمصدر
الوجودي لقوانين الحياة .كما أوجد سلسلة تربط أشكال النضال الوطني بعد تحرره من
أنواع االحتالل بصنوفه :اإلنجليزي ،األلماني ،األمريكي والعثماني .ولقد وجدت
البساطة الموجودة في أعمال ريتسوس وانتاجاته الشعرية انطالقًا من حقيقة تمحور
األلم المتجذر في فكره اإلنسانى .وهو أمر يدفعنا إلى التعامل مع هذه اإلنتاجات
المتعددة والجميلة بنوع من البساطة والرقة واأللفة ،غير أن هذا ال ينفي عن شعره
صفة الرمزية .فكلما ق أرها المرء أو تالها تظهر بها صور جديدة ،وكلما م َّر الزمن
اكتشفنا بها مكنونات رائعة ،كما أننا لو اتبعنا تجارب جديدة تستطيع إيصالنا إلى
الصبغة الحقيقية ألعمال ريتسوس نصل فى النهاية إلى اقتناع مفاده أن إبداعه يحوي
ضخما من معالم الكون الغامضة(.)99
ً قدر
ًا
إن ما يستوقفنا في ريتسوس -على األخص -هو الرصانة في التعبير ،إذ حفلت
قصائده بالعديد من الجمادات التى بث فيها شاعرنا الحياة مثل :النوافذ واألبواب
والمرايا والثياب وشتى األدوات .ولقد نفخ روح الشعر في هذه الماديات الصغيرة التي
ال تستغنى عنها حياة البشر العادية ،جعلها ترقى إلى مستوى يجعل منها شريكة في
مأساة قد ال تعنيها.ولقد كانت السياسة-مثلها مثل الشعر -نسيج حياة ريتسوس
055
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
أيضا،حيث إنه اكتوى بنارها مرًارا ،ودخل السجون ،وزج به في المعتقالت ،وعانى من ً
تحديد اإلقامة بسبب آرائه السياسية ،السيما في ظل النظام الديكتاتورى العسكرى ،وهو
يقول لنا في هذا الصدد" :ال ينبع عالم الشاعر من اإليديولوجيا ،وال يمكن أن تكون
أخير شاعر طليعي يصعب حصر المسألة في الشعر حدود االلتزام".وريتسوس أوًال و ًا
عالمه الشعري في مالمح محددة ،حيث إن له لغته الخاصة التى لم تكن مألوفة في
السابق ،ال في مفرداتها ،وال في تراكيبها النحوية ،وال في دالالتها اإليحائية .وحتى لو
نوعا من االقناع
سهال في بعض جوانبه فهو يخفي وراء سهولته ً بدا شعر ريتسوس ً
الشعري الذى ال يتاح أو يتوافر إال عند الشعراء األصالء؛ فهو يخبئ خلف بساطته
الظاهرة تجربة جوهرية عميقة(.)99
أما الشاعر السوري "على أحمد سعيد إسبر" المعروف باسم "أدونيس" فيصفه بأنه
يأت به التاريخ قبل ذلك .كما يقول" :يواجهنا شعر الشاعر اليوناني يانيس مثقف لم ِ
اسما لنا
ريتسوس ،للوهلة األولى ،كما يواجهنا النثر .فهو يعرض ويقص ويروي ،ر ً
أشياء يلتقطها من الحياة اليومية األليفة ،أو وقائع متناثرة ال معنى لها ،ظاهرًّيا .وهو
-في هذا -يحاول أن يعيد النظر في موقف اإلنسان إزاء الموجودات العادية أو
المبتذلة إلى حد بعيد ،فيضفي عليها قيمة جديدة ،ويعترف بأهمية ما يبدو أنه بال
أهمية .هكذا يتحول هذا العالم المتواضع ،عالم األشياء الصامتة إلى الشعر ،فنكاد أن
نسمع هذه األشياء تتكلم ،ونكاد أن نراها تمشي ،حين يرفعها الشعر إلى مستوي قامة
حلما.إن شعر ريتسوس احتفاء بما هو مألوف وتمجيد لما اإلنسان ،فتصبح صديقًا أو ً
هو عادى ،والموجودات العادية المألوفة برهان على استمرار العالم وديمومته .من هذه
المشاركة بين اإلنسان ومألوفاته ،تنبعث الغرابة في شعر ريتسوس؛ فالغريب بل
المدهش بالنسبة إليه ،ال يكمن فيما هو فارق أو استثنائي ،بل في تكرر األشياء
ورتابتها ،وتكرر األفعال والكلمات .فالعادي بالنسبة له هو الخارق نفسه ،والسحر هو
فيما يكون الحياة اليومية.
صور تذكرنا بالموروث
ًا كثير ما استخدم ريتسوس في أوائل حياته الشعرية و ًا
أحيانا يجدد فى
ً الشعبي اليوناني القديم ،لكنه استخدمها بتقنيات حديثة :فكان
شكال تقليديًّا ،هو الشكل الغالب المفضل في
الموضوع ،غير أنه يستخدم للتعبير عنه ً
055
خلود يسري
الشعر الشعبي.لكنه تخلى فيما بعد عن األشكال التقليدية ،وأخذ خياله اإلبداعى يبني
مليئا بصور مفاجئة كأنها غمست في األلوان واألصوات .ولقد ازداد شغفه عالما ً
ً
بالحرية عندما أحس أنها تتيح له كتابة شعر المستقبل دون أن يكون مشروطًا بأشكال
.وبدءا من عام 9151حيث نشر قصيدته "سوناتا ضوء القمر" التي نالت الماضي ً
تتر خلف ضمير الغائب ،وخلف الجائزة الوطنية للشعر الهليني ،أخذ يكتب الشعر مس ًا
نوع من السرد القصصي يبتعد فيه عن غنائية األنا ،وضمير الغائب حيادى ،وهو
عندما يحيد يعمم ،وفضال عن ذلك يحرر التعبير .إذ أن هذه التقنية تمكن الشاعر من
أن يتحدث عن نفسه،وعن اآلخرين فى آن .كما أن الشاعر عند استخدام ضمير
تأثير أقل مباشرة،
الغائب يمكنه أن يحيط بالماضي ،وأن يمارس بفضل الفارق الزمنى ًا
وبالتالي أكثر فعالية .ومن هنا يبدو للقارئ أن قصيدة ريتسوس ال تخرج من بين
شفتيه هو ،بل تخرج من بين شفتي شخص آخر سواه(.)98
وُيعد اإلبداع الفني استم اررية رئيسة الهتمام ريتسوس السابق باألحداث اليومية
لليونان ،وبحاله ،وبماضي أمته ،وبالذكرى والحلم ،وبالثورة االجتماعية واألخالقية .كذا
نراه يلجأ إلى استخدام المونولوجات الدرامية بوصفها مرتبة ،ألن هذا األسلوب يضيف
بنفسه كل من التأثير والموضوعية .كما نراه يميل إلى استخدام األسطورة بمفردها أو
دمجها ،أو يشوشها -بشكل مدروس متأن -بأحداث معاصرة ،كنوع من التوحيد
والتشخيص لموضوعاته .وهو عموما يفضل استخدام الضمائر الشخصية ،مثل":هو،
شاعر يصنع
ًا وأنت" على استخدام الضمير "أنا" .وقد جعل هذا األسلوب من ريتسوس
جنبا إلى جنب مع الغموض والتعقيد .كما أن البساطة والوضوح اللذين يتعايشان ً
ريتسوس شاعر ال يقدم لنا نظرية بشكل طبيعي في كتابته النثرية عن قصيدته ،غير
أنه مع ذلك لم ُينشر لما فيه من تعبيراته الحاسمة للمعنى(.)93
شاعر تجاوز المحلية إلى
ًا واذا كان ريتسوس قد اكتسب اليوم شهرته بوصفه
ير من أجل اإلنسان .وكان
اعا مر ًا
العالمية؛ فإن ذلك يرجع إلى أنه خاض بشعره صر ً
أصبح
ي خصومي فسيكتمل بموتي عطائي ،و ُ يقول فىهذا الصدد" :لو أجهز عل َّ
رمز يبث في قلوبهم العزاء من أجل النصر .أما إذا تنكرت لشرف
لألجيال القادمة ًا
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
الكلمة فقد قضيت على المغزى الكبير لمسيرتي الشعرية كلها" .ولهذا فقد واصل
وعدال وحقًا .وألنه
خير ًريتسوس شاعر اليونان الكبير التشبث بمثله العليا ،وبما اعتبره ًا
كان قد بدأ مسيرته الشاقة وواصلها بال طمع في كسب أو نيل مديح ،فقد نال بعد ذلك
الكثير من التقدير والجوائز ،فقد طُبعت أعماله في بالده عشرات الطبعات كانت تنفد
مفروضا على األعمال األدبية الحرة ،كانت كتبه
ً فور صدورها .وعندما كان الحظر
تباع في سوق الممنوعات بأغلى األثمان ،كما تُرجمت أعماله إلى كثير من اللغات
األوروبية وغيرهامنذ عام .9111وفي مقدمة هذه اللغات اللغة الفرنسية التي ترجم
إليها ماال يقل عن عشرين من دواوينه .إضافة إلى ذلك فإن ريتسوس أثر في اللغة
اليونانية نفسها ،ونسج تراكيب جديدة في تلك اللغة .وفى هذا الصدد يقول الكاتب
البريطاني "إدوارد فورستر" " : Edward Forsterالترجمة الجيدة هي التي البد أن
المترجم لها ،بمثل وفائها بالغرض األصلي في اللغة التي تفي بالغرض نفسه في اللغة ُ
ُدون بها".
إن ريتسوس َك ْشف جديد ورؤية جديدة في الشعر الحديث ،يرقى إلى مصاف
الشعراء السياسيين أمثال :الشاعر التشيكي "بابلو نيرودا" /9199( Pablo Neruda
،)9113والشاعر التركي "ناظم حكمت" ،)9113 /9198( Nâzim Hikmet
والشاعر "أوكتاڤيو باث" ،)9112 /9199( Octavio Pazلكن بأسلوب خاص به
تماما ،هو إلى اإليحاء والهمس أقرب؛ وفي عطاء ريتسوس إثراء حقيقي للشعر ً
أيضا في كل مكان .واذا كان "سولوموس" قد حرر ً للشعر بل الحديث، ي األوروب
الشعر اليوناني الحديث من قيود البحور البيزنطية ومفراداتها ،فإن ريتسوس قد حرر
الشعر اليوناني من الجمود والسكون ،وأطلقه فيه روح الثورة والتمرد (.)99
إن يانيس ريتسوس حياة طويلة من التقلب الشخصي بسبب ايدولوجيته ،وهى حياة
دائما بالروح ،نجا من السجن ،النفي ،عدم الفهم،
حر ً حر بجسده كما كان ًاغدا خاللها ًا
الهجر ،خيبة األمل والموت .وهكذا انطلق ريتسوس من إص ارره النفسي إلى شعره
التجديدى إلى زيادة الموضوعية؛ الحيرة والتحفظ ،وهو ما رأيناه في شعره مثلما رأينا
سيرته التى هى جليه للعيان .إن شخصية ريتسوس الشعرية -في مجملها -وحدة
كلية متناسقة األجزاء ،على الرغم من تشعبات التقنية؛ فسواء كانت وقفته انتها ًكا
054
خلود يسري
ًّ
تسامحيا ،أو كانت طريقته األسلوبية متسمة بالفخامة أواإليجاز؛ فإن ًّ
أخالقيا أم قبوًال
أبدا .وان د َّل هذا على شيىء
ذلك يعود إلى والئه األصلي للشعر الذي لم يتزعزع ً
فإنما يدل على ثالث نقاط مهمة:
-إيمان يقيني في الكلمات :فهناك متنفس فى كل كلمة يتيح له اللقاء بين القارئ
والشعور الداخلي أو الخارجي للشاعر ،وان كان ذلك اللقاء مؤجل فى الغالب.
-اإلدراك :فعلى الرغم من أن الشعر يتعامل جوهرًّيا مع طبقات الفكر العامة
والسامية ،فعليه-أى على الشعر -أن يفعل ذلك من خالل اإلحساس ،ال العقل،
ومن ث َّم يجب التمسك بالفردية والخبرة المتأثرة بتعبيرات اللغة التي هي حيويًّا
مجازية ،والتي فيها تؤسس العالقات بين ما هو فردي وما هوعام.
-العرفان بالجميل تجاه الحياة في مجملها-شرها وخيرها–لتزويد مادة الشعر والوعي
اإلنساني بما ُيحيلها إلى فن .وأن الخاصية التى نرى أنها لم تتغير عند ريتسوس
من بداية قرضه للشعر إلى نضوجه ،هى عبارة عن اندفاع يتمثل فى ارهاصاته
ورؤيته للحياة وارتباطه بها.
محمود درويش ،حياته ،وأعماله:
"محمود سليم درويش" واحد من الشعراء الذين يعد شعرهم مرآة لظروف حياتهم
ومجد شعبهم ،فهو شاعر من أشهر شعراء المقاومة الفلسطينية .ولد في 93مارس
عام 9199بقرية "البروة" بالقرب من "عكا" في "الجليل" ،ونزح مع عائلته إلى لبنان
إبان نكبة عام ،9192ثم عاد إلى فلسطين متخفيًّا ليجد أن قريته قد دمرت ،فاستقر
في قرية "الجديدة" شمالي غربي قريته البروة .وأتم تعليمه االبتدائي في قرية "دير
األسد" بالجليل ،وتلقى تعليمه الثانوي في قرية "كفر ياصيف" .ولقد انضم درويش إلى
ومترجما في صحيفة "االتحاد"،
ً محرر
ًا الحزب الشيوعي اإلسرائيلي في فلسطين ،وعمل
ومجلة "التجديد" التابعتين للحزب .وأصبح فيما بعد مشرفًا على تحرير المجلة ،كما
اشترك في تحرير جريدة "الفجر".اعتُقل ثالث مرات من ِقبل السلطات اإلسرائيلية،
عام 9119و 9115و، 9111بسبب نشاطاته وأقواله السياسية .توجه إلى موسكو،
عام 9118ومنها إلى القاهرة ،حيث كانت هذه بداية تحول في شعريته ،إذ شكلت
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
القاهرة منعطفًا في حياته الشعرية ،وانتقل بعدها إلى لبنان عام 9111حيث ترأس
مركز األبحاث الفلسطينية ،وشغل منصب رئيس تحرير مجلة "شؤون فلسطينية"،
ورئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين ،وأسس مجلة "الكرمل الثقافية" في
عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
ً بيروت عام .9129ولقد انتُخب درويش
مستشار للرئيس الراحل "ياسر عرفات" .واستقال
ًا الفلسطينية عام ،9122ثم
احتجاجا على توقيع اتفاق "أوسلو" .بعدها عاد عام
ً عام 9113من اللجنة التنفيذية
9111إلى فلسطين ليقيم في "رام اهلل" ،بعد أن تنقل في عدة أماكن ،هى" :بيروت
والقاهرة وتونس وباريس"(.)95
بدأ درويش كتابة الشعر في المرحلة االبتدائية ،وله أكثر من ثالثين ديو ًانا من
الشعر والنثر ،باإلضافة إلى ثمانية كتب ،وترجم شعره إلى عدة لغات أجنبية .من
أشهر دواوينه الشعرية (عصافير بال أجنحة ،أوراق الزيتون ،أصدقائي ًل تموتوا،
عاشق من فلسطين ،العصافير تموت في الجليل ،مديح الظل العالي ،حالة حصار).
أما قصيدته "عابرون في كالم عابر" فقد أثارت مناقشة حادة داخل الكنيست
صامدا ،وعلى المستوىً اإلسرائيلي .وأثناء قصف بيروت كان درويش يعيش حياته
الشعري أسهم هذا القصف في تخليه عن بعض غموض شعره ليكون على مقربة من
معتبر إياها قصيدة تسجيلية ترسمًا جميع قرائه؛ فنظم قصيدة "مديح الظل العالي"،
الواقع المرير ،وتدين العالم العربي بل اإلنسانية كلها .ولقد عاش درويش حبيس العالم
ويعد المفتوح ،معزوًال عن فلسطين جنته الموعودة ،وأَلف كتابه الشهير"ذاكرة للنسيان"ُ .
احدا من أفضل شعراء القرن العشرين ،إذ يرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ درويش و ً
قومه ،كما أنه استطاع تطوير هموم شعرية جميلة ومؤثرة احتل فيها وطنه فلسطين
دعائيا أو نضاليًّا
ً شعر
اما للكلمة الجوهرية الدقيقة ،ال ًاموقعا مركزيًّا؛ فكان شعره التز ً
ً
فحسب .لقد تمكن درويش من ابتكار واقع لفظي يترسخ في ذهن القارئ باستقالل تام
عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه .فنجده يقول في االنتفاضة األخيرة":لم تكن لدي
طريقة مقاومة إال أن أكتب ،وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد ،وكانت
اللغة وكأنها تبعد الجنود ألن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية" .ويضيف ":كتبت عن قوة
الحياة واستمرارها ،وأبدية العالقة باألشياء والطبيعة .الطائرات تمر في السماء لدقائق
054
خلود يسري
ولكن الحمام دائم ...كنت أتشبث بقوة الحياة في الطبيعة للرد على الحصار الذي
ائال ،ألن وجود الدبابة في الطبيعة وجود ناشز وليس جزًءا من المشهد أعتبره ز ً
()91
الطبيعي" .
عاش درويش في بالد الغربة ،وحمل أعباء القضية الفلسطينية وكان شعره أقرب
إلى صدق التجربة واألصالة في تصوير صراع اإلنسان الفلسطيني؛ فصوته يرتفع
ويصور كال من حبه ورفضه .ورغم حصار الشعب الفلسطيني ،ومحاوالت التصفية
الجسدية ،والنفسية ،والحضارية ،وهو صوت يتجلى في قصائده التى تذوب بين
سطورها كلمة فلسطين ومأساتها ،كأنه صوت يخرج من بركان ال يهدأ إال ليثور .غير
أن الحديث عن شعر النكبة لم يصرفه عن االهتمام بالشعر العربي؛ ذلك أن شعره
متفر عن حركة الشعر العربي في البالد العربية ،غير أنه غير مبتور الصله بها ،ألنه
قد تربى على أيدي الشعراء العرب القدامى والمعاصرين .ولقد حصل درويش على
العديد من الجوائز العربية والعالمية ،منها جائزة "لوتس" في األدب اآلسيوي اإلفريقي
عام ،9111وجائزة البحر المتوسط عام ،9129درع الثورة الفلسطينية عام ،9129
"ولوحة أوروبا للشعر" عام ،9129وجائزة "ابن سينا" في موسكو عام ،9128وجائزة
"األمير كالروس" عام ،8999وجائزة "العويس الثقافية" عام .8999وتُوفي درويش
عام .)91( 8992
ثانيا :السمات الفنية لشعر محمود درويش:
ا
وحيث أن درويش هو شاعر المقاومة فإن غالبية مضامين شعره تدور حول
فلسطين وحول االحتالل ،وعند التطرق لدواوينه نجد مضامين قصائده تعتمد في
األساس على األفكار المتعلقة بالمقاومة ،التحدي ،البؤس والحرمان ،التشريد واإلبعاد،
القتل واالغتيال ،السجن ،الصمود ورفض المساومة ،األرض والتحرر من االستعمار،
واألمل والنظرة المستقبلية .يقول درويش في أحد المقابالت الصحفية التي أجريت معه
في جريدة "البيان" الخليجية في عام " :9121أنا أعتبر أن المصدر األول للشعر في
تجربتي الشخصية هو الواقع ،وأخلق رموزي من هذا الواقع؛ فرموزى خاصة بي ،حيث
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
ال يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي على مرجعية سابقة .أي أنني أحول
()92
اليومي إلى رمزي ،فالواقع هو مصدر رئيسي لشعري".
وتُعد القصيدة الدرويشية قصيدة متعددة اإلشعاعات؛ وبناؤها الهيكلي قائم على
تعدد التقنيات الفنية ،ذلك أن ثقافة الشاعر وعمق تجربته الشعرية جعلته يحور جملة
من التقنيات الفنية :مثل الرمز،والحوار،والتناص،والسرد ،إضافة إلى البيان والبديع،
لتشكيل صورة فنية متشابكة ذات عالئق متعددة .فقد كان الحوار جزًءا أساسيًّا في
مستقال حمل
ً عمال
تركيبها الفني منذ البدايات ،لكن البنية الحوارية في قصيدته لم تكن ً
وضوحا في بعض أعماله ً بصمات مرحلة من مراحله الشعرية ،وان بدا ذلك أكثر
وحيدا؟ ،وحالة حصار ،وكزهر اللوز ،أو أبعد" .ذلك ا األخيرة" :لماذا تركت الحصان
أحيانا ،أو وقوفه
ً أن درويش كان في كل ما كتب يلتزم الغنائية في شعره ،وهروبه منها
بين اإليقاع والنثر لم يكن وقوف المحايد؛ فهو ال يخرج من اإليقاع ،وال يدخل في
النثر ،وانما يقف في المنطقة التي تؤهله الستخراج كل ما فيهما من مثيرات تغري
بالمغامرة وبالبحث الدائم عن الجديد .ولقد أدهش درويش القارئ بما لم يألفه من بنية
جديدا،
ً جديدا للمألوف ،ومذاقًا ً بعدا
العالقات اللغوية والصور الفنية التي تقدم له ً
متخ ًذا من تعدد األصوات وتداخلها وتعدد الشخوص وتعدد المراحل وتداخلها ما
يضمن تعميق الصوت الملحمي وتعميق الرمز ،وتركيب بنية غنائية رائعة .إن اإليقاع
ق بي ،أنا َر ْجعُ "يختارنى اإليقاعَُ ،ي ْش َر ُ
ُ هو الذى يختار درويش ،وفى هذا فيقول:
()91
ولست ِ
عازفَهُ". ُ الكمان،
-االختراق للسياق اللغوي التقليدي ،حيث يقوم درويش بتفجير الطاقات اإليحائية
للغة في مدلوالتها الالمتناهية ،ويعيد برمجة اإليقاع في تجليات الغنائية وفق رؤية
حداثية تنأى بنفسها عن رتابة اإليقاع المتشكل من النمط التقليدي القائم على
االنفعالية أو التقريرية والمباشرة.
-الحوار :تنقسم القصيدة عنده إلى)9( :الحوار المباشر :فهو يستعمل ضمير
المتكلم (أنا) للتعبير عن الذات ،واستخدام صيغة الفعل المضارع للداللة على
كالم الشخصية في حاضر وقتها .كما في قصيدة "جدارية" حيث يقول" :أنا وحيد
في البياض ،أنا وحيد ،أنا الغياب ،أنا السماوي الطريد ،أنا الرسالة والرسول ،أنا
054
خلود يسري
العناوين الصغيرة والبريد ،أنا البعيد ،أنا لست لي" .إن حوار الذات يأخذ بعده
األقصى من خالل تعانقه مع الصراع الداخلي في رحلة البحث عن الخلود،
فتغيب الذات في اآلخر ،أى الذات التي تتنوع في ذوات متعددة :اإلنسان ،الجسد،
الطين،الشاعر،درويش الماضي والحاضر،ما بعد الموت)8( .الحوار غير
المباشر :وهو حوار منقول ،إذ يبني عليه وظيفة نقل الصوت المحاور بطريقته
الفنية )3( .الحوار الداخلي أو(المونولوج) :وهو أحادي اإلرسال تُعبر فيه شخصية
ق واحد أو متعدد ،حقيقي أو واحدة عن حركة وعيها الداخلي ،في حضور متل ِ
وهمي ،صامت غير مشارك في اإلجابة .مثل ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" كما في
قصيدة "كما لو فرحت" حيث يوجد التداخل النوعي بين الشعر والنثر.
-اإليقاعية التي ترسم معالم الغنائية في قصائد درويش ذات الملمح الرومانسي،
خصوصا عند الحديث عن حوار
ً مدخال مه ًّما من مداخل الحوار،
ً وهى ايقاع ُيعد
الذات ،أى فى المونولوج ،كما في ديوان "سرير الغريبة" ،و"جدارية" ،وكذلك فى
وحيدا؟".
ا قصيدتى" :سجل أنا عربي"" ،لماذا تركت الحصان
عما فعلت" ،حينما -اًلحتفاء بالثقافة األدبية والكالسية :كما في قصيدة"ًل تعتذر َّ
يورد في أبيات القصيدة أسماء الفيلسوفين اليونانين "سقراط وأفالطون" ،ثم ينتقل
يعا من فالسفة اإلغريق الذين عاشوا إبان القرن الرابع ق.م إلى الكاتب انتقاال سر ً
ً
اإلنجليزي شكسبير( )9519حيث يقول ":الذباب ُة حول سقراط ،السحاب ُة فوق أفالطون،
ُم ْعج ُم البلدان ،شكسبير".
-التكرار :امتلك درويش الدوافع الموضوعية التي تدفعه إلى نظام التكرار نتيجة
إحساسه بتأزم الحياة الخارجية للواقع الحياتي ،وبحثه عن صياغة المعادل اللغوي
لذلك .وكذلك توفير المرتكزات البنائية التى تخلق القيمة اإلنشادية للقصيدة .وذلك
كما جاء في قصيدة "تلك صورتها" من تكرار الكلمة ،مثل :الدروب ،وطائرات،
وصمتي .ثم تكرار الجملة ،مثل :أنت اآلن تتسعين ،ومتى تأتين .ويختمها بتكرار
كلمتي الدروب والريح" :إن الدروب إليك تختنق ،الدروب إليك تحترق ،الدروب
إليك تفترق ،الدروب إليك حبل من دمي ،ماذا تقول الريح؟ نحن الريح"(.)89
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
ثم يأتي تكرار الفعل؛ فالجملة تبدأ بالفعل أو تتركب حوله ،وهو يستخدم الجملة
الفعلية في ثالثة أزمنة :الماضي ،المضارع ،األمر ،كما في قصيدة "سرحان يشرب
القهوة" ،فيقول ":يولد سرحان ،يكبر سرحان ،ويرتاح سرحان :سرحان! هل أنت قاتل؟ ويكتب
شيئا على كم معطفه". ،
سرحان ا
سم التراب،
يا ا ْ
سم السماء،ويا ا ْ
()88
((ست ْنتصرين))...
في هذه القصيدة يدمج درويش الكثير من المفاهيم ويوحد العالقات التي اهتم
أيضا باظهارها بوضوح فى أشعاره كى يعبر عما بداخله من مكنونات ً ريتسوس
سياسية واجتماعية وأدبية؛ إذ يجعل درويش صوت ريتسوس الشعري صرخة أللم بلده
فلسطين ومعاناتها .كما يدمج صورة الضوء في بريق الماس ،كما يقرن مدينة "يبوس"
العربية الفلسطينية بمدينة "أثينا" اليونانية األوروبية ،وينعت العدو حسرة وم اررة ،ويوحد
الحقيقة والحق تحت لواء السماء والتراب كي ينتصران باسم فلسطين وأثينا .كما يدمج
الواقع الحياتي بالخيال ،إذ يجعل باعة السمك يلتقون بأبطال الميثولوجيا اإلغريقية
أمثال"إليكترا ،وأوديسيوس".كما ُيظهر درويش التناقضات واألضداد كما في":أنى
انتصرت وانى انكسرت ،أمس والغد ،إليكت ار الفتاة واليكت ار العجوز ،ويجعل الشيء طيفًا
شيئا ،الطفل والشيخ ،خارجي وداخلي".ثم يعزف بصوره الشعرية في ويجعل الطيف ً
استعارات ومجاز ووصف يجعل القارئ يتأرجح على أوتارها ،فينعت الغابة بالمعدنية
ويصف القصائد أنها مائية ،والكتب بأنها حصى ُمنتقى.ثم يأتي بالسجن والداء ويجعل
منهما أخوين عانى م اررتهما ريتسوس ودرويش وناال الحظ العاثر نفسه .ثم يختم
قصيدته بمناجاة الربات اإلغريقيات؛حيث يطلب منهن أن يمنحنه رحلة أبدية،داللة
على نهاية الحياة بمفهوم العالم اآلخر عند اإلغريق وعالم الخلود عند المصريين
القدماء.
ثالثاا :السمات الحياتية واألدبية المشتركة بين الشاعرين:
البد من القول إن ريتسوس َعمد إلى فن تقل فيه إن لم تنعدم النزعة العاطفية
التي استنفدت أغراضها من قَبل في شعر "المدرسة األثينية الجديدة،عند
تالميذ"باًلماس"( )9193 /9251ومقتفي أثره ،ذلك ألنه رفض االنجراف إلى شعر
فولكلوري سطحي،ولجأ فى الوقت نفسه-مثله مثل أبناء جيله ،ومنهم سفيريس وجيل
الثالثينيات -إلى استنباط روح األغنية الشعبية وجوهرها ،فغدا النبض الشعبي على
055
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
كامنا في قصائده األولى دون أن تندرج في عداد التقليد الحرفي األعمى ً األخص
لألغاني الشعبية ،أو تتصف بكل ما هو فولكلوري.ولقد احتفظ فن ريتسوس في النهاية
بنضارة كل ما هو حي ،وبعمق كل ما هو تليد ،وبغرابة كل ما هو مؤرق ومحير ،فما
أشبه قصائده المجازية المقتضبة ،التى تحتمل أكثر من معنى ،والتي تصب فى أرواح
طوفانا من التأثير العميق ،وتبث فيهم قدرة أقوى على الصمود ،حيث أنها ً الناس
نظمت في أحلك ساعات حياته ،وتحكي عن آليات الحكمة والحماقة بأسلوب حيادي،
دائما
ما أشبههم بمن يقفون عند حدود منطقة محظورة .كان ريتسوس فى الواقع يبحث ً
عن الحرية في الشعر نفسه وفي الحياة نفسها ،سواء وجد الحرية أم لم يجدها ،فإنه
لم يكن يتوانى في البحث عنها ،عن صورتها المطلقة وحجمها األرقى .والغرابة أن
تكون الكتابة عند ريتسوس موازية "البحث عن النهار" ومعبرة عن تجربة شاعر عانى
األمرين من ظلمة السجن وغربة المنفى لسنوات طويلة .ولعل مقولة يانيس ريتسوس
السائدة" :أكتب ليشرق النهار" ،تجسد حالة الحنين الصاخب إلى الضوء والحرية ،إن
نهاره التي كان يحلم به تجسد الحرية المطلقة ،ألنه نهار لإلنسانية كلها ،نهار يحرر
اإلنسان من أسر التاريخ والواقع(.)83
أما عن أهم السمات الفنية المشتركة بين الشاعرين ،فهى:
النضج الفني المبكر؛ فكالهما بدأ أولى خطواته الشعرية خالل المرحلة االبتدائية. -
الموهبة الفنية والثقافة الواسعة في مجال الشعر واالستفادة من الخبرات السابقة. -
الحصول على جوائز عالمية في الشعر واألدب. -
المعاناة الحياتية من ويالت الحرب واالستعمار والتشريد ،ومناقشة موضوع الحـرب -
والس ــالم بص ــورة فني ــة متق ــدة ال ــذهن صـ ـريحة ف ــي مواض ــع ،ومجازي ــة ف ــي مواض ــع
أخرى.
اإلحساس باأللم واإلبعاد والنفي والسجن بسبب فكريهما السياسي وانتماء كل منهما -
إلى الحزب الشيوعي بحثًا عن الحرية.
التشبع بالفكر السياسي واسقاطه على األعمال الشعرية. -
االهتم ــام ب ــالمرأة وجعله ــا أح ــد مح ــاور االرتك ــاز األساس ــية ف ــي الكثي ــر م ــن قص ــائد -
الشاعرين.
055
خلود يسري
النقاط المتكررة في السطر( ،) ...ويمكـن أن تكـون هـذه النقـاط كثيـرة أو قليلـة ،إذ
يضــعها الشــاعر حينم ــا يشــعر أن الكلم ــات وحــدها ال تســتطيع أن تعب ــر عمــا فـ ـي
نفســه؛ ألن مشــاعره وأحاسيســه أقــوى مــن المفــردات اللفظيــة .كمــا ورد فـي القصــيدة
وعلــى المــدى ذاتهــا الســابق ذكرهــا لريتســوس :وذلــك المشــهد" ،
الواسع في قصيدة "جدارية" لدرويش.
ـز للمعانـاة والوحـدة ،فيـرمم الرمز ،يجعل ريتسـوس مـن قصـيدته "خريسـوثيميس" رم ًا -
وي ـرأب صــدع الوحــدة األكثــر عمقًــا لحيــاة أعيــد خلقهــا بــذاكرة قــدر أســطوري ،عبــر
استكشــاف هواجســها كافــة ،والكشــف عــن استقصــائها الــدقيق للحيــاة اليوميــة .بينمــا
بليغا
يشير درويش إلى البحر في صورة استعارية مركبة تلف بين جوانحها تشبيهًا ً
يرسم من خالله صورة تخيلية للبحر ،يكفيها قليل مـن التجريـد لالنتقـال مـن معناهـا
المجــازي إلــى الحقيقــي ،وهــو يرمــز بــه إلــى التقلبــات الحياتيــة واالحــتالل كمــا فــي
قصيدة "الخروج من ساحل المتوسط" فيقول" :أنا قشرت موج البحر زنبقة لغزة".
اشــترك الشــاعران فــي عــرض تفاصــيل الحيــاة اليوميــة بصــورة فنيــة تجمــع مــا بــين -
الواقع والخيال.
اإلشـ ــارة إلـ ــى الموجـ ــودات متحركـ ــة وصـ ــامتة ،وتبـ ــادل األدوار بينهمـ ــا فـ ــي الحيـ ــاة -
الواقعية.
الش ــاعرية الرومانس ــية الممزوج ــة بالواقعي ــة الت ــي تمثل ــت ف ــي موض ــوعات سياس ــية -
واجتماعية.
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
تميــزت لغــة الشــاعرين مــن حيــث اختيارهــا بــالقوة والج ازلــة ،حيــث األلفــاظ تجتــذب -
معجمــا
ً األذن وتمتعهــا .كمــا أنهــا لغــة إيحائيــة تقــوم علــى انتهــاك المــألوف ،وتُعــد
مرتبطًا بوجدان الشاعرين ،حيث أنهما يتناوال مواضيع :الحرب ،والخوف ،واليـأس،
والطبيعة ،والحب والزمن .فضالً من لغة بسيطة وسهلة ،حيث إنها تقترب من لغـة
الح ــديث الم ــألوف ،لكنه ــا تحم ــل إيح ــاءات ش ــتى وتـ ـرتبط بمع ــاني الحي ــاة والم ــوت،
والغرب ــة والض ــياع ،والي ــأس واألم ــل .ك ــذلك اس ــتطاع الش ــاعران أن يوظفـ ـان اللغ ــة
ويجعال منها رؤية للرموز واألساطير التي ترتبط بالمعاني المذكورة.
تمكــن الشــاعران مــن أن يعب ـ ار ف ـي لغــة بســيطة ،تكــاد تقتــرب مــن لغــة الحــديث ف ـي -
الحيــاة اليوميــة ،عمــا يجــول بخاطريهمــا ونفســيهما مــن حرمــان وبــؤس ومنفــى بعيـ ًـدا
عـن وطنهمــا .واسـتعانا بــالمفردات والمرادفــات المتنوعـة ،بــل كر ارهــا فـي الكثيــر مــن
المواضــع ،س ـواء ف ـي البيــت الواحــد أو علــى الت ـوالي ،لك ـي يؤكــدا للقــارئ المعنــى أو
يوضــحاه بصــور عديــدة واتجاهــات مختلفــة ،قــد تتفــق مــع القــارئ وتتحــد معــه وقــد
تختلــف عــن رؤيتهمــا لتلــك الظــروف والمالبســات الت ـي عاشــها كــل منهمــا .لكنهــا
تنتهـي بالقــارئ إلــى االتفــاق معــه ،حيــث الــدالئل اللغويــة واإلشــارات الفنيــة المواكبــة
لعص ــر الش ــاعرين ،م ــع مالحظ ــة أن ريتس ــوس يستحض ــر ه ــذه اللغ ــة م ــن بع ــض
األشعار من العصر الكالسي.
السرد ،تميزت قصائد الشاعرين بعنصر السرد بما فيه من أحداث وشخوص -
وحوار لتقديم رؤيتهما الشعرية ،وهي رؤية ربما تتمثل في الرغبة في المغامرة
وحب االستكشاف والتأمل .فكثير من قصائدهما تعتمد على البنية الحكائية في
قدر من الموضوعية والحيادية، تقديم موضوعاتها األساسية ،مما أعطى للقصائد ًا
حينما غاب حضور الذات عند الشاعرين في بعض األحيان ،فضالً عن أنها
باعدت بينها وبين موضوع القصيدة بمسافة وان بقي الكثير من أشعارهما مع ذلك
ذاتي النبرة.
الخيال الواقعي ،إن بساطة ريتسوس ودرويش الشعرية تساعدنا على اكتشاف -
التعقيد الكائن خلف أعمالهما .فقصائدهما موجهة ألشياء إما داخلنا تم إخفائها
وراء أشياء خارجية ،أو توجهنا نحو أشياء خارجية ُيص ِّدق عليها بطابع بصمة
054
خلود يسري
اقعيا ،والعكس صحيح .كما أن الشاعرين .وأبطالهما تجعل األمر الخيالي يبدو و ًّ
مقدرة كل منهما مجازية ألنهما يوحدان ما بين الندين أيًّا كانا :بين النفس واآلخر،
الروح والمادة ،الشاعر والقارئ ،الفاعل والمفعول .ورغم كل هذه التعددية والتعقيد
فهما متوحدان في شخصية واحدة ،ألن كل من ريتسوس ودرويشًّ -أيا كانا
اتجاههما النفسي أم المجتمعي-يتجهان نحو شيء محدد في قضاياهما األخالقية،
أو تجاه شيء جوهري ،لكنه غير محدد في مقابل تعقيدات الحياة والقضايا
السياسية ،مما يؤدي إلى اندماج كل من الشاعرين فى حياته الشخصية ،أو
اندماجه في حياة الشاعر السياسية في مدينته وما يحدث فيها إبان تلك الفترة.
خير التأمل الفلسفي والتفكر في الشيخوخة ،والحياة والموت ،الزمن ،الخراب،
-وأ ًا
المجد البطولي والتاريخ ،العزلة السياسية ،أساليب الحياة التي تحدث بين
المتطلبات الشخصية والضرورات االجتماعية ،وأزمة الحركات الثورية.
ابعا :تأثير ريتسوس في أشعار محمود درويش:
ر ا
تحكما بشعره في الشخصية اليونانية ومحللها،
ً ُي َّعد يانيس ريتسوس الشاعر األكثر
حيث يجعلها تتوزع على تفاصيل األحداث اليومية ،ويعطي الشيء حقيقته ،فيصبغ
باأللوان البيوت البيضاء ،ويسبغ على البحر حنين اإلنسان وحبه للحياة .ولقد استمد
شاعرنا الهادئ نظرته المتوسطية من الت ارث الهيلينين الذي جعله يرث فى وجدانه هذا
وبعد مداها،االمتداد لألماكن الجميلة في شواطىء لبنان وعذوبة مياه اإلسكندرية ُ
حيث آثار بصمات الشعراء والفالسفة .ولعله من الواضح أن ريتسوس واحد من كبار
الشعراء المؤثرين في الشعر العالمي ،بداية من وصول شعره المترجم إلى اللغة
أحيانا والسجن
ً الفرنسية .ورغم تعرض شاعرنا لمواقف سياسية متعددة أدت إلى النفي
أحيانا أخرى،فقد تميز عن رفاقه بأن شعره لم يقتصر على األمور السياسية آنذاك، ً
ولم يتأثر بها بشكل غزير ،بل ببقية متعددة النواحي متشعبة.ولو أننا نظرنا إلى
األمور من جانب آخر لريتسوس ،نراه يعبر عن القضايا بلوحة جميلة يرسمها بشعره
بشكل مباشر ،وهى لوحة تؤلف حلقة غير منفصلة للزمن ،تربط بين األشياء بإتقان
وامتياز .فتراه يربط بين الشيء غير المتحرك والمصدر الذى نتج عن هذا الشيء،
054
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
ضمن الدورة الزمنية األبدية لهذا الشيء .وهنا تتضح رؤية ريتسوس المتأثرة بأفكار
هيراقليطوس الذى عبر عن ضرورة األشياء بقوله" "إنك ال تعبر النهر نفسه مرتين".
غير أن ريتسوس استطاع بقدرة فنية كانت داخل التقاط صورة واحدة للحياة .وجمعها
مع صورة انسيابها في اللحظة نفسها ،بحيث نحسب أننا ندركها وال ندركها ،نحس بها
نفسها فيبقى إحساسنا ًّ
مثاليا لهذه الحركة من مطلقها.
جليا أن ريتسوس يملك قدرة هائلة على التالعب بالصور ومن هنا يبدو لنا ًّ
الشعرية؛فقد استطاع بهذه الحيلة الذكية الجمع بين الزمن والشيء والحركة ،وهى قدرة
جديدا
ً لونا
ومؤثر فى قصائد الشعر العربي المعاصر ،وخلقت به ً ًا دور مه ًّما
التي لعبت ًا
فضال عن أن ريتسوس كان أقرب شاعر ً انتهل منه كثير من الشعراء العرب عد ًدا.
شاعر متوسطًيا هيلينًيا .والحق أن شعر العرب قد تأثر بشعره
ًا غربي للشرق ،باعتباره
أيضا عند انتقال شعرائه بصورهم الشعرية من العام إلى الخاص ،ومن الشيء المجرد ً
إلى الكيان الملموس .وأما عن شعور ريتسوس تجاه العرب ،فنلمس منه أنه كان
مساندا لقضية العرب ،من خالل تأييده لحق الشعب الفلسطيني وبقائه بأرضه ،وجاء ً
ترجما عن
جليا في شعره المنشور في مجال األدب والثقافة منذ السبعينيات م ً ذلك ًّ
الفرنسية فى حين كان قليل منه باليونانية .كما ظهر هذا الرأى عبر المقابالت معه
وأثناء الحديث عن أعماله الكثيرة(.)89
وثمة دراسات كثيرة أشارت إلى تأثر محمود درويش بشعراء عرب وغير عرب،
منها تأثره في ديوانه األول"عصافير بال أجنحة" بالشاعر "نزار قباني" ،وهو تأثر أقر
بوجوده في مقابالت عديدة .كما تأثردرويش بالشعراء" :إليوت ،ولوركا ،وأراغون،
ونيرودا" ،وهذا ما أقر به درويش نفسه في مجلة " الكرمل" عام ،8991حينما سأله
عبده وازن عن الشعراء الذين يقرأهم اآلن ،فعدد له أبرزهم :ريتسوس ،ولوركا،
وأراغون ،ونيرودا"(.)85
كذلك تأثر الشعر العربي الحديث والمعاصر بكثير من تقنيات الشعر العالمي،
واستطاع كثير من الشعراء العرب دخول عالم الحداثة الشعرية بوعي متقن ،وقد مثل
بابا أساسيًّا في هذه
محمود درويش هذه الحداثة وربما تبناها .كما مثل الحوار ً
الحداثة ،حينما استطاع درويش أن ينتبه إلى أشكال ثالثة منها ،هي :الحوار المباشر،
044
خلود يسري
تعدد األصوات ،والحوار الداخلي (المونولوج) ،لبناء إيقاع فني منسجم مع رؤية
الشاعر؛ ويصدق األمر نفسه علي مقدرته على الكشف عن مكنونات الشخصية
الشعرية الداخلية .وقد انتبه الشاعر إلى االختالف الرهيف بين المونولوج الداخلي
وتيار الوعي والمناجاة ،األمر الذي ساعده علي ترجمة هذه التقنيات الفنية الحديثة إلى
واقع شعري متميز على صعيد الفن والرؤية( .)81ونخلص من هذه الدراسة التي تناولت
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في شعر محمود درويش ،إلى بعض النقاط المهمة التى
نوردها فيما يأتي:
* التحدي والعناد ومجابهة الزعماء السياسيين بالكتابة ،والبد من القول إن الشعر
موضوعيا للحياة والعمل فحسب ،بل حالة من الوجد ًّ معادال
ً بالنسبة لريتسوس لم يكن
والتبتل والعبادة ،حيث يقول عن نفسه" :لم أعرف كيف أجنى ثروة من أشعاري ،ولكن
أينتظر الكائن اإلنساني مكافأة عندما يتوصل إلى اهلل؟ وانى أكتب الشعر في الحقيقة
كما لوكنت أصلي .واذا كنت أرفض استخدام اآللة الكاتبة في الكتابة فألنني ال أريد
شيئا وسيطًا بين أصابعي وصفحة الورق ،إنني أحتاج إلى تحسس ملمسها كما ً
أتحسس مادة حية" .بينما يقول درويش" :عندما نكتب نتحدى ،وعندما نكون موجودين
على أرضنا نتحدى ،وعندما نأكل من زادنا نتحدى ،ألننا نقدم ترجمة الوطن كله إلى
وتقاليدا وز ًادا ".وبذلك فإنه قد تأثر بريتسوس في
ً أرضا
العربية لغة ،والى الصهيونية ً
جعل أشعاره وسيلة للحرب والنضال بالكلمات.
* إيثار تراكيب بعينها وتفضيل مجازات واستعارات معينة :كان ألسلوب الكتابة
عند ريتسوس سمات مهمة استخدم فيها ما هو غريب من الصور والتشبيهات التي
اعتمدت في أساسها على عمق تفكيره الفلسفي واشاراته بعيدة المعنى ذات المغزى
األخالقي والفلسفي كما نجد في دواوينه "أحجار ،تك اررات ،قضبان وايماءات ،والممر
الدرج ،والبعد الرابع" .وفي قصيدته "هيليني" نجد ريتسوس يصف األموات وهم وّ
يرتدون أحذية جميلة مصقولة ال يصدر عنها صوت ،على الرغم من تناقض فكرة
الحركة مع األموات ،فإن أحذيتهم ال تصدر صوتًا.كما فى األبيات[]891-895
044
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
تهب كل ما حصلت عليه للربة أرتميس؟ حتى لو رغبت فى ريشة زرقاء اللون داكنة
من أجل قبعتى ،ربما-،
قد تستطيع
أن تهدينى بعض األشياء ،زرقاء داكنة ،نعم،
مثل لون عيناي ،وعينيك أنت اآلخر ،أتتذكر؟"
كما ُيعدد األلوان فى الشعر الذهبى الطويل[بيت]81
والخيط األحمر[بيت]929 ،والسحاب الذهبى[بيت]928
،والغرفة التى يتحول لونها من األحمر إلى البنفسجى المذهب
[أبيات]39-39
وكذلك تشير هيلينى "أنها أبقت على الوردة الثالثة فى جسدها" كما فى [بيت ]581
044
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
وتكرر الرقم نفسه مع الورود بأنها تركت الوردة الثالثة تسقط هذه المرة مـن شـفتيها،كما
فى [بيت]599
ثم تصف المشهد من أسوار مدينة طـروادة ،حيـث تصـل إلـى الحقيقـة فترقـد فـى الفـراش
وتطــرح يــديها جانبــا باتســاع ،وتمشــى علــى أخمــص قــدميها ،تمشــى فــى اله ـواء وتلقــى
بالوردة الثالثة من شفتيها،كما فى [بيت]195
ويشير الشاعر إلى الوزن السداسى المكون من الرابسوديا الثالثة،كما فى[بيت] 513
بينما يستخدم درويش األرقام بوصفها إشارات صريحة في قصائده ،ويذكر تارة رقم
خمسين الذى يشير إلى العمر ،وتارة أخرى يذكر رقم يشير إلى عدد األطفال الذين
أنجبهم .فيقول في قصيدته "بطاقة هوية"":ورقم بطاقتي خمسون ألف ،وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف ".وكذلك في قصيدته "الحزن والغضب" ،يقول":ورويت لي
للمرة الخمسين" ،أما في قصيدته "ينقب عن دولة نائمة" ُيعدد الخسائر في الحرب
ويحصرها في أرقام بعينها فيقول" :من شهيدين حتى ثمانية كل يوم ،وعشرة جرحى،
وعشرون بيتًا ،وخمسون زيتونة".
-الموجودات ،مثل :الطيور والحيوانات والنباتات .يقوم البناء العام فى قصائد
ريتسوس على تقديم مشاهد بصرية يعتمد فيها على تجميع أشتات وأشياء من
موجودات وعناصر مختلفة ،لتنتهي القصيدة بتقديم فكرة تتكون بإيحاء ورابط من
المشاهد السابقة .فالقصيدة عنده تتشكل من اجتماع عناصر متفرقة ،مثل :األشجار،
األحجار ،الغابات ،النجوم ،السماء ،الغروب ،الماء ،الحيوانات والطيور .فهو يذكر
غابة الصنوبر ،والغنم ،وأوراق العنب ،وزهر البرتقال ،وسرطان البحر ،والمياه ،ونور
الصباح األزرق ،والنجوم ،والسمكة والقمر ،كما في قصيدته "سيدة الكروم" .ويتأثر
درويش بتلك الموجودات في أشعاره داللة على سفراته العديدة ما بين مصر ولبنان
وباريس واليونان ،باإلضافة إلى مسقط رأسه فلسطين التي تميزت بموقع جغرافي
متميز ومناظر طبيعية خالبة ،ويبدو ذلك جليًّا في قصيدته "عاشق من فلسطين"
040
خلود يسري
فيقول":قشرة البرتقال لنا .وخلفي كانت الصحراء! رأيتك في جبال الشوك ،راعية بال
أغنام .أنت كنخلة في البال ما انكسرت لعاصفة أو حطاب ،وحوش البيد والغاب...
قصائد تطلق العقبان! وباسمك ،صاحت األعداء :كلي لحمي إذا نمت يا ديدان،
فبيض النمل ال يلد النسور ...وبيضة األفعى ...يخبئ قشرها ثعبان! خيول الروم...
أعرفها ".كما يكرر ذكر زهر البرتقال كما في قصيدتي "لوركا ،واألرض".
* َعمد ريتسوس في إطار نحو الجملة إلى استعمال اسم المفعول أكثر من استخدامه
السم الفاعل ،وعمد كذلك إلى التقديم والتأخير :تقديم الفعل على االسم والعكس.
عموما ،ال تتقيد بترتيب معين ،ألن
ً فمن المعروف أن الجملة في اللغة اليونانية
لكل حالة من حاالت اإلعراب فى اللغة اليونانية-كما هو الحال فى اللغة
العربية -نهاية معينة تضاف إلى جذع االسم أو الصفة للداللة عليه وعلى موقعه
من اإلعراب ،وعليه يمكن للجملة أن تقال بأكثر من ترتيب .فالكلمة التي في حالة
المفعول به تبقى كما هي مفعول به مهما تغير موقعها ،ولكن التقديم والتأخير
يعتمد على قصد الكاتب في تأكيد أية كلمة .فإذ أراد تأكيد كلمة ما وضعها في
مكان الصدارة فى الجملة ،بهدف لفت انتباه القارئ إلى أهمية هذه الكلمة بالذات
وتأكيدها .وقد أضفى ذلك األسلوب النحوي في لغة القصيدة وحدة متكاملة علي
مجمال في قراءة النص وتحليله .ويظهرً النص ،كى يستطيع المتلقي أن يستوعبه
ذلك بوضوح في قصائده المونولوجية "النافذة ،أوريستيس ،البيت الميت ،هيليني،
عندما يأتي الغريب" من ديوانه "البعد الرابع" ،ومن ث َّم تأثرت القصيدة الدرويشية
ببعض المعايير الموضوعية الموجودة فى قصائد ريتسوس مثل :القياس الكمي أو
(التحليل اإلحصائي) -وهو أحد مجاالت الدراسة اللغوية األسلوبية المعاصرة -
للنص مما جعلها تتميز بسمات فنية لغوية معينة ،من بينها على سبيل المثال ال
الحصر:
-الزيادة (أو النقص) النسبي في استخدام صيغ معينة أو نوع معين من الكلمات
(صفات ،أفعال ،ظروف ،حروف جر ،اسم الفاعل والمفعول ...إلخ).
-طول الكلمات المستخدمة أو قصرها ،وطول الجمل أو قصرها.
045
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
-نوع الجملة (اسمية ،فعلية ،ذات ظرف واحد ،بسيطة ،مركبة ،إنشائية ،سردية...
إلخ).
مدخال أسلوبيًّا من مداخل دراسة النص الشعري المعاصر،
ً *التكرار ،الذى ُيعد التكرار
خاصة في الكشف عن العمق الفني والداللي للغة الشعر .وللتكرار بشكل عام
داللتان :إحداهما سلبية ربما ترجع إلى فقر المفردات اللغوية عند الشاعر ،واألخرى
إيجابية حيث يدل التكرار في كل مرة على معنى أو داللة مختلفة .والتكرار عند
ريتسوس في أشعاره للمفردات من أفعال وكلمات يحمل الداللة اإليجابية أكثر من
كثير بشكل ملحوظ ،مثل
حمله الداللة السلبية.فهنالك بعض المفردات التي تم تكرارها ًا
ألفاظ" :المنزل ،والفراش ،والغرفة ،والمالءة" كما في قصيدة "هيليني" ،وهي داللة على
إحساس هيليني بالغربة والوحدة والحنين إلى وطنها وبيتها وغرفة نومها التي طالما
امتألت بذكرياتها ،كما فى [أبيات.]511-519
"أحيانا الخادمات تنسى أننى هناك .ال يأتين لكى يضعننى مرة أخرى فى الفراش. ً
وأمكث طوال الليل ألشاهد دراجة قديمة ،متروكة(مركونة)
أمام نافذة مضاءة لمحل حلوانى جديد،
حتى يضيئوا األنوار ،أو أننى أقع فى النوم على حافة النافذة".
أما عند درويش فالتكرار عنده عنصر فعال من عناصر تكوين القصيدة ،ويشكل
تكز بنائيًّا يلجأ إليه الشاعر ألغراض فنية وداللية ،وأغراض أخرى تمليها الحاجة مر ًا
النفسية .ففي قصيدته "سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا" ،يتكرر اسم سرحان اثنتي
حرسا ،ونالحظ أن التكرار هناً وثالثين مرة ،فضالً عن تكرر جملة يأتي الصدى
وسيلة للتخفيف من حدة الصراع الذي يعيشه الشاعر أو حدة التشريد الذي يواجهه في
عالمه المأزوم )81(.وفي قصيدته "عاشق من فلسطين" يكرر لفظ فلسطينية في سبعة
045
خلود يسري
ثم حظيت هذه السمات تأكيدا منه للكيان الفلسطيني والوطن.ومن َّ
ً أبيات على التوالي
الفنية اللغوية بنسبة عالية من التكرار ،كما ارتبطت بسياقات على نحو ذي دالالت
وخواص أسلوبية تظهر في القصيدة بنسب وكثافة وتوزيعات مختلفة .وهذه التقنية
قادر على تشخيص النزعات ًّ
موضوعيا منضبطًا ًا معيار
ًا تجعل القياس الكمي للقصيدة
السائدة في النص وما لدى الشاعر من فكر ،وكذلك على تحديد المميزات األسلوبية
في القصيدة وفي نتاج الشاعر.
* يظهر تأثير الموروث اإلغريقي على ريتسوس في المقام األول ،إذ أن الجانب
كبير فى أسلوب الكتابة عنده ،فهو يمزج األسطورة بالحياةتأثير ًا
األسطوري يؤثر ًا
اليومية ،والتجربة الشخصية بالتاريخ .من حيث القائم بين ذات الشاعر وذات البطل
في القصيدة من خالل الحوار الداخلي والمونولوجي .ويعبر ريتسوس عن األسطورة
بقدر كبير من التكثيف والتركيز على قدر ما تعكس حالته النفسية وتقلبات مزاجه،
غير أن شحنتها االنفعالية وقوتها الوجدانية ساحرة ومؤثرة .ويظهر ذلك ًّ
جليا في
قصائده المونولوجية الطويلة التي لم يستعرها فحسب من األسطورة اليونانية القديمة،
أيضا باألسماء األصلية ألبطال األساطير القدامى داللة على المصدربل احتفظ فيها ً
الذى نهل منه ،مثال ذلك:إبقاؤه على أسماء شخصيات "فايدرا ،وافيجينيا ،وأورستيس،
وهيليني ،وأجاممنون ،وبيرسيفوني واسميني"؛ وهى أسماء استوحاها من كتاب
مهما في
دور ًالتراجيديا اإلغريقية مثل أيسخيلوس ويوريبيديس.ويلعب هذا الموروث ًا
التأثير فى شعر درويش من خالل ثقافته واطالعاته الواسعة األدبية وكثرة ترحاله
اضحا في حبهواقامته في باريس مدينة الفن والجمال .كما يبدو هنا التأثير جليًّا و ً
لبالد اليونان وسحرها في قصيدته "ريتا أحبيني" ،فيناجيها على امتداد أبيات
أيضا للموروث الكالسي اإلغريقي في العديد من ً القصيدة( .)82ويظهر عشقه
قصائده ،منها قصيدة "نشيـد" التي يأتي فيها ذكر بنات ،ورجال وأبطال طروادة ،التى
يهدف من ورائها إلى اإلشارة إلى الحرب واالحتالل لمدينته .كذلك يتحدث في قصيدة
"ينقب عن دولة نائمة" ،عن صدى أساطير هوميروس شاعر المالحم ،وأنقاض
طروادة القادمة التي يشير من خاللها إلى فلسطين .كما يذكر درويش شاعر
التراجيديا اإلغريقية أسخيلوس ومسرحياته في قصيدته "على هذه األرض".
044
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
لقد تواصل عطاء ريتسوس من خالل القصائد المجازية المركزة منذ عام ،9111
إلماما بحقائق ومعارف في مجاالت أخرى غير ً وتطلبت هذه القصائد من القارئ
الشعر،وبعبارة أخرى فلقد أوصلت هذه القصائد الناس إلى نوعية أخرى من التذوق
الشعري.وربما كان هذا هو السبب فى أن القارئ التقليدي ألشعار ريتسوس يحس
بالغربة إزاء قصائده الحديثة ،حيث إن مقومات تذوق هذه القصائد خارجة عن مجرد
نطاق النص الشعري ،وتحتاج إلى إلمام عميق بمجريات أحداث اليونان المعاصرة.
وحتى لو ظلت هناك فجوة قائمة بين قصائد ريتسوس هذه وجماهير القراء العريضة،
فإن هذا يدل على السمة الطليعية المستقبلية في شعره .إن قصائد ريتسوس تنطوي
على محاورات درامية في مسرح يتخذ لـه خشبة من عتبات الدنيا وتتالقى عليه أشد
تباينا ،وتتبادل اإليماءات من قصيدة إلى أخرى .ولنذكر في هذا المقام
الشخصيات ً
على سبيل المثال العجائز في قصيدة "البيت الميت" ،و"الجناز" ،والبناؤن والمهرجون
والنكرات من عابري السبيل وغيرهم من الشخصيات في قصائده النابضة بالحياة .فكل
شخصية من هذه الشخصيات تتحدذ إلينا بإصرار ويقين عن اإلنسانية التي هي ملك
للناس أجمعين.وقد تطرق النقاد إلى تناول قصائد ريتسوس بشكل رائع ،إذ أصدر
الناقد "بيتر بنيامين" Peter Benjaminأكثر من دراسة حول شعره .ولقد قال هذا
الناقد عن ريتسوس":اشترى السالم بالشعور ،ودافع عن السالم بقصائده وأظافره
وعيونه .إنه الشاعر الساحر الذي حول الكلمات اليومية عبر قلمه إلى أوصاف ترتقي
جبر" سلسلة مقاالت
بماهو عادي إلى مستوى غير متناه" .وكتب الناقد الفلسطيني " ا
كثير ،كما بحث العديد من القضايا فييتناول فيها عدة مواضيع شغلت ريتسوس ًا
()81
شعره ،مثل طول القصيدة أو قصرها ،وكذلك موضوع السالم وفهم ريتسوس له .
يقول ريتسوس":بالنسبة إل َّي ليست هناك قصيدة ملتزمة وأخرى غير ملتزمة :فإما
أبدا ".ويقول":ال ينبع عالم الشاعر من اإليديولوجيا ،وال
أن توجد القصيدة أو التوجد ً
يمكن أن تكون المسألة في الشعر حدود االلتزام ".أما عن مواقفه السياسية واإلنسانية
ار عن القضية الفلسطينية، فالبد أن نشير في هذا الشأن إلى أن ريتسوس قد دافع مرًا
عاما من المسيرة الشعرية نال ريتسوس جائزة لينين وجائزة وبعد ثالثة وأربعين ً
مرشحا لجائزة نوبل حتى وفاته(.)39
ً ديمتروف ،وظل
044
خلود يسري
معا .وكأن
الشعر إذن هو ماء اللغة ،تغتسل من ذاكرتها وتصنع ذاكرتها في آن ً
الكلمات التي ينظمها الشعراء تأتي من مكان سري في أعماقنا ،من تجربة تبحث عن
ثم فتجربة محمود درويش هي ابنة هذا لغتها ،ومن كلمات تتجدد في ماء الشعر .ومن َّ
الماء ،به غسلت لغتها وحددتها ،أقامت من المأساة الفلسطينية جدارية شعرية كبرى
تختزن في أعماقها هذا الغوص في ماء الشعر وماء الحياة .وبوسعنا أن نق أر التجربة
الشعرية الدرويشية في مستويات متعددة ننسبها إلى أرضها ،ونكتشف ملحمة مقاومة
شكال لتاريخ المأساة (.)39
الشعب الفلسطيني لالندثار والموت ،فتصبح القصائد ً
الهوامش:
044
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
044
خلود يسري
044
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
.95علي ،أحمد مختار( ،)9111اللغة واللون ،عالم الكتب ،القاهرة ،الطبعة الثانية.
.91مرشليان ،إيڤانا( ،)8999أنا الموقع أدناه محمود درويش ،بحضور إيڤانا مرشليان ،دار
الساقي ،بيروت ،لبنان.
.91مصلوح ،سعد( ،)9118األسلوب :دراسة لغوية إحصائية ،عالم الكتب ،القاهرة.
.92وهبة ،محمد حسن( ،)9111الرواية اليونانية القديمة ،لونجمان ،القاهرة.
ثالثاا :المقاًلت والمجالت العربية:
.91الحويطات ،مفلح( ،)8999تأثير يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث :سعدي يوسف
نموذجا ،مجلة النجاح لألبحاث (العلوم اإلنسانية) ،مجلد ،85رقم.1
ً
.89العبادي ،عيسى قويدر( ،)8999أنماط الحوار في شعر محمود درويش ،دراسات العلوم
اإلنسانية واالجتماعية ،المجلد ،99العدد .9
.89حيدر ،جمال( ،)8991الصيف األخير ،كشوفات في شعرية ريتسوس ،جريدة الصباح ،بغداد،
سبتمبر.
.88مجيدي،ح ،.جان نثاري ،ف(" ،)8999الخصائص الفنية لمضامين شعر محمود درويش"،
فصلية إضاءات نقدية ،عدد .9
ابعا :المواقع اإللكترونية للمجالت العربية واألجنبية:
را
.83أبولوز ،يوسف( ،)9112ريتسوس والشعر المعاصر،جريدة الدستور ،صفحة فضاءات39،
آيار.
.89أدونيس ،عشرون قصيدة ليانيس ريتسوس ،ترجمة وتقديم:أدونيس ،الحوار المتمدن -العدد
م/http://www.ahewar.org. 99 : 3 - 8991/5/2 ،8139
.85أغبال ،رشيدة" ،الرمز الشعري لدى محمود درويش ،الرمز الطبيعي" ،مجلة عالمات ،عدد
(،81ب.ت) /http://saidbengrad.free.fr
.81حسين ،ناجي ،يانيس ريتسوس شاعر المقاومة والحياة ،الحوار المتمدن،جريدة التحفجية ،العدد
/http://elto7fageyya.com ،8991/8/9 ،8599تم النشر في 93يناير .8998
.81خوري ،إلياس(" ،)8999من كتاب أثر الفراشة في جريدة " ،رقم 3 ،31كانون الثاني،
044
خلود يسري
http://www.mahmouddarwish.com/
.82سعدي ،يوسف :يانيس ريتسوس ،إيماءات ،جريدة الثورة ،يومية سياسية ،األربعاء
.8999/9/91
.81صالح ،فخري ،أثر ريتسوس في الشعر العربي المعاصر ،مجلة ديوان العرب.8991/1/39 ،
.39صالح ،فخرى :شعرية التفاصيل ويانيس ريتسوس ،روترس ،الثالثاء 8991/99/89
/http://ara.reuters.com/article
.39عبدالهادي ،م(" ،)8991تجليات رمز المرأة في شعر محمود درويش" ،مخبر وحدة التكوين
والبحث في نظريات القراءة ومناهجها ،جامعة محمد خيذر بسكرة ،الجزائر،
http://laberception.net
.38القاسم ،نضال ،يانيس ريتسوس شاعر الحرية والتفاصيل ،مجلة الحافة - 8991/3/99 ،تم
اإللكتروني اإلمبراطور موقع ص، 3:99:93 ،8999/9/93 في النشر
www.alimbarature.com
.33يانيس ريتسوس شاعر التمرد والحرية ورمز النضال ،سوبرس للصحافة والنشر-اليونان،
صحيفة الضفتان/http://www.su-press.net.8999/9/98 ،
044
تأثير أشعار يانيس ريتسوس في الشعر العربي الحديث
54. Nikos, Stangos.( 1974), Yannis Ritsos: Selected Poems, Great Britain.
55. Peter, Bien. 1983: The Generations of Greek Writers: Introductions to Cavafy,
Ekdoseis Patake.
57 ) (
040
خلود يسري
CSIC Madrid.
59.José Luis Díaz Granados:Yiannis Ritsos, (2007), :“Obrero del Verbo”, SSL, San
61.Marjorie Chambers, (1992), ”Yánnis Rítsos and Greek Mythology”, Hermathena- Univ.
of Dublin no.CLIII.
64.Prevelakis, P. (1980), “The Poetry of Yiannis Ritsos: Revealing the Face and Soul of
65.Prokopaki, Chrysa, (1968), Yiannis Ritsos, Poètes d’Aujourdhui, 178 Seghers- Paris.
66.W.V.S, R.K. (1972), "A Biographical Note of Yiannis Ritsos", Boundery,2 V.1, no.1.
045