Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 12

‫املجلد‪ /7‬العدد ‪ . 1‬جوان ‪ .

2020‬ص ‪78-67‬‬ ‫المدونة‬

‫فعالية التلقي في نظرعبد القاهرالجرجاني‬


‫‪The effectiveness of receiving in the eyes of Abdel-Qahir‬‬
‫‪Al-Jarjani‬‬
‫نهمار ‪‬‬ ‫د‪ /‬فاطمة الزهراء‬
‫تاريخ النشر‪2020/06/30:‬‬ ‫تاريخ القبول‪2020/04/07:‬‬ ‫تاريخ اإلرسال‪2020/01/16 :‬‬
‫امللخص‪:‬‬
‫يهدف املقال إلى التعريف بنظرة عبد القاهر الجرجاني إلى التلقي وما يحيط به فهو‬
‫واحد من اللذين كان لهم اهتمام واسع باملتلقي‪ ،‬ويظهر ذلك في مضامين نصوص كتابيه "‬
‫أسرار البالغة" و" دالئل اإلعجاز"‪ ،‬ودراساته واحدة من الدراسات النقدية العربية‬
‫القديمة التي لها اهتمام بظاهرة التلقي املقترنة بمقولة‪" :‬مطابقة الكالم ملقتض ى الحال"‪،‬‬
‫ّ‬
‫أو "لكل مقام مقال"‪ ،‬وهذا يعكس توطد عالقة النص بسياقه وبخبرة املتلقي وذوقه‬
‫مؤكدا ْإن كان خالي الذهن‪ ،‬وال خاليا من التأكيد ْ‬‫ّ‬
‫إن كان‬ ‫الجمالي ‪ ،‬فال ُيلقى إليه الخبر‬
‫ُمنكرا ملا يسمع‪ ،‬وعلى موقفه اإلنكاري تكون درجة التأكيد وقوته بالوسائل املستخدمة في‬
‫األسلوب العربي‪.‬‬
‫الكلمات املفتاحية ‪ :‬التلقي ‪ ،‬تصور عبد القاهر الجرجاني ‪ ،‬اإلبداع ‪ ،‬الجمالية ‪ ،‬التأثر ‪.‬‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪The article aims to introduce Abd al-Qaher al-Jarjani's view to‬‬
‫‪receiving and what surrounds him. He is one of those who had a wide‬‬
‫‪interest in the recipient, and this appears in the contents of his texts‬‬
‫‪“Secrets of Rhetoric” and “Evidence of Miracle”, and his studies are‬‬
‫‪one of the ancient Arab critical studies that have an interest in a‬‬
‫‪phenomenon Al-Talqi accompanied by the saying: “matching the‬‬
‫‪words to the case,” or “for every article”, and this reflects the‬‬

‫‪zahraanahmar@gmail.com،‬‬ ‫املؤلف املرسل‪ :‬فاطمة الزهراء نهمار‬

‫‪‬جام ـ ـ ــعة البلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيدة‪ – 2 -‬الجزائر ‪zahraanahmar@gmail.com‬‬

‫‪ISSN 2437-0819‬‬ ‫‪67‬‬


‫‪EISSN: 2602-6333‬‬
‫د‪/‬فاطمة الزهراء نهمار‬

‫‪strength of the text’s relationship with its context and the recipient’s‬‬
‫‪experience and its aesthetic taste, so the news will not be delivered to‬‬
‫‪him confirming that he is free of mind, or without confirmation if he‬‬
‫‪denies what he hears, and on His denial position is the degree of‬‬
‫‪assertion and his strength by means Used in the Arabic style,‬‬
‫‪Key words Receive - Receiver - Abdul Qahir Al - Jarjani -‬‬
‫‪Creativity - The aesthetic - Affected Technical and creative texts.‬‬
‫*** *** ***‬
‫مقدمة ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تعد نظرية التلقي من النظريات األدبية املعاصرة التي تعنى بالتداول للنصوص‬
‫األدبية‪ّ ،‬‬
‫وتقبلها وتبيان املشاركة الفعالة بين النص الذي أنشأه املبدع والقارئ املتلقي‪،‬‬
‫وتركز ّ‬‫ّ‬
‫جل اهتمامها على ما يتركه العمل األدبي من آثار شعورية ووقع جمالي في نفس‬
‫ّ‬
‫املتلقي‪ ،‬فالعمل األدبي ال تكتمل حياته وحركته اإلبداعية إال عن طريق القراءة وإعادة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنتاج من جديد‪ّ ،‬‬
‫استمر األدب في‬ ‫ألن املؤلف ما هو إال قارئ ألعمال سبقته فلوال ذلك ملا‬
‫التطور‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإذا ما نظرنا في تراثنا العربي نجد أن التلقي ظاهر من خالل قاعدة بالغية معروفة‬
‫ّ‬
‫وهي مطابقة الكالم ملقتض ى الحال‪ ،‬وهذا يعكس توطد عالقة النص بخبرة املتلقي وذوقه‬
‫الجمالي‪ ،‬فقد كان النقد العربي بكل مصادره ومعارفه ووسائله املتعددة في التعامل مع‬
‫ضروب الكالم أكثر التزاما بطبيعة العالقة بين النص وأحوال املتلقي‪ ،‬وعبد القاهر‬
‫الجرجاني واحد من اللذين كان لهم اهتمام واسع باملتلقي‪ ،‬ويظهر ذلك في كتابيه " أسرار‬
‫البالغة" و" دالئل اإلعجاز" ‪ ،‬وبحثه البالغي " ّإنما كان بحثا في خبايا النفس اإلنسانية وما‬
‫تأنس إليه وما تنفر منه ‪ ،‬وما يبعث فيها األريحية‪ ،‬وما يثير فيها الوحشة واالضطراب "‪.1‬‬
‫لذلك سيحاول هذا املقال التعريف بنظرة عبد القاهر الجرجاني إلى التلقي وما يحيط‬
‫به معتمدا على املنهج الوصفي التحليلي ‪ ،‬فكيف نظر عبد القاهر الجرجاني إلى التلقي ؟‬
‫وما املفاهيم التي أعطاها لذلك؟‬
‫لقد كان النقد العربي بكل مصادره ومعارفه ووسائله املتعددة في التعامل مع ضروب‬
‫ّ‬
‫الكالم أكثر التزاما بطبيعة العالقة بين النص وأحوال املتلقي‪ ،‬فال ُيلقى إليه الخبر مؤكدا‬

‫‪68‬‬
‫فعالية التلقي في نظرعبد القاهر الجرجاني‬
‫إن كان خالي الذهن‪ ،‬وال خاليا من التأكيد ْ‬
‫إن كان ُمنكرا ملا يسمع‪ ،‬وعلى موقفه اإلنكاري‬ ‫ْ‬
‫تكون درجة التأكيد وقوته بالوسائل املستخدمة في األسلوب العربي‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫اهتم الفكر‬
‫العربي بمنازل املخاطبين وأقدارهم االجتماعية في النص الخطابي وكذا باألحوال النفسية‬
‫للمتلقي ‪.‬‬
‫ّ‬
‫هذا وغيره يؤكد ّ‬
‫أن علماء العرب وعبد القاهر الجرجاني واحد منهم كان لهم اهتمام‬
‫بقضايا التلقي فبلغوا في بحث مشكالته وقضاياه ما لم يبلغه علماء اللغات األخرى في‬
‫ّ‬
‫العصور املتعاقبة‪ ،‬فكان لهم آراء وأفكار ومناهج تؤكد اجتهاداتهم الواضحة وخصوصيتهم‬
‫املنفردة رغم ما لقيته من إجحاف من لدن الدراسات الغربية ‪.‬‬
‫فاملتأمل في كتابي الجرجاني يرى ما يلي ‪:‬‬
‫‪ _ 1‬يعتمد في كتابيه أسلوبا خاصا به فهو يحاور ويخاطب ويسائل ويناقش ويحاجج ّ‬
‫وكأنه‬
‫متلق حاذق يود منه أن يصل معه إلى أعماق نصوصه فيسبر كنهها ويذوق‬ ‫يتحدث مع ٍ‬
‫حالوتها‪ ،‬ويظهر ذلك من خالل توظيفه لكاف الخطاب وتكراره للعبارات اآلتية ‪ ( :‬اعلم ّأن‬
‫أن تتكلف هذا في كل موضع ‪( ،)...‬‬ ‫أن ال وجه ههنا ‪ ( ،)...‬وليس من حقك ْ‬ ‫‪ ( ،)...‬فأنت تعلم ْ‬
‫كأنك تقول ‪ْ ( ،)...‬‬‫إن قال قائل‪... :‬حتى ّ‬ ‫ْ‬
‫فإن قلت ‪...‬قيل ‪ ( ،)...‬فإن قلت‪...:‬فالجواب ‪( ،)...‬‬
‫وينبغي أن تعلم ‪ ( ،)...‬وإذ قد تبين لك املنهاج في الفرق‪...‬فاعلم ّأنه ‪ ( ،)...‬فإن قلت ‪...:‬فأنا‬
‫أقول ‪.)... :‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله في " أسرارالبالغة " ‪ " :‬واعلم أن غرض ي في هذا الكالم الذي‬
‫أتوصل إلى بيان أمر املعاني كيف تختلف وتتفق‪ ،‬ومن‬ ‫ابتدأته‪ ،‬واألساس الذي وضعته‪ ،‬أن ّ‬
‫اعها‪ ،‬وأبين أحوالها في‬ ‫وم َش َ‬ ‫وأتتبع ّ‬
‫خاصها ُ‬ ‫وأنواعها‪ّ ،‬‬ ‫أين تجتمع وتفترق‪ ،‬وأفصل أجناسها ْ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫صابه‪ ،‬وق ْرب َر ِح ِمها منه‪ ،‬أو ُبعدها حين ُتنسب عنه‪،‬‬ ‫وتمك َنها في ِن َ‬ ‫كرم َم ْنصبها من العقل‪،‬‬
‫امللصق بالقوم ال يقبلونه‪ ،‬وال يمتعضون‬ ‫َ‬ ‫الن َس َب‪ ،‬أو َّ‬
‫الزنيم‬
‫ي ى َّ‬
‫الجار مجر‬ ‫َوك ْونها َ‬
‫كالح ِليف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َ ُّ‬
‫أمر "النظم"‬ ‫له وال يذبون دونه" ‪ ،‬وفي "دالئل اإلعجاز " يقول ‪ِ " :‬وإذ قد عرفت أن مدار ِ‬
‫‪2‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫الوجوه ُ‬
‫الفروق‬ ‫أن‬‫فاعلم َّ‬
‫ْ‬ ‫والفروق التي من شأنها أ ْن تكون فيه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫على َمعاني النحو‪ ،‬وعلى ُ‬
‫َْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫اعل ْم ْأن‬ ‫ليس لها غاية تقف عندها‪ ،‬ونهاية ال تجد لهال ازديادا َب ْعدها ثم‬ ‫كثيرة َ‬ ‫َ‬
‫والوجوه‬
‫حيث هي على اإلطالق‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫بسبب املعاني‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫تعرض‬ ‫ولكن‬ ‫ِ‬ ‫وم ْن‬
‫بواجبة لها في أنف ِسها‪ِ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ليست املزية‬
‫ِ‬

‫‪ISSN 2437-0819‬‬ ‫‪69‬‬


‫‪EISSN: 2602-6333‬‬
‫د‪/‬فاطمة الزهراء نهمار‬
‫بح َسب موقع بعضها من بعض‪ ،‬واستعمال بعضها َ‬
‫مع‬ ‫الكالم‪ ،‬ثم َ‬
‫ُ‬ ‫واألغراض التي ُي ُ‬
‫وضع لها‬
‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعض‪.3".‬‬
‫ٍ‬
‫يكرر استعمال كلمات دالة على األثر الجمالي الذي يصيب نفس املتلقي عند تلقيه‬ ‫‪ّ –2‬‬
‫النصوص األدبية مثل ‪ ( :‬األريحية ‪ ،‬األنس ‪ ،‬الهوة ‪ ،‬الطرب ‪ ،‬الظرف) ‪ ،4‬فعلى سبيل‬
‫التمثيل تجد ذلك حينما يتكلم عن أحد أقسام التشبيه وما يتركه من أثر جمالي فيقول ‪" :‬‬
‫الرجل‬ ‫مديد‪ ،‬كتشبيه قامة َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫منتصب‬ ‫مستو‬ ‫وكذلك التشبيه من جهة الهيئة نحو‪ :‬أنه‬
‫ٍ‬
‫بالرمح‪َ ،‬‬
‫حال الحركات في أجسامها‪ ،‬كتشبيه‬ ‫الهيئة ُ‬
‫ِ‬ ‫اللطيف بالغصن ويدخل في‬ ‫ِ‬ ‫والق ِّد‬
‫يهتز بالغصن تحت البارح‪،‬‬ ‫األريحي ُة َف ُّ‬
‫ّ‬ ‫وم ْن تأخذه‬ ‫بالسهم السديد‪َ ،‬‬ ‫الذاهب على االستقامة َّ‬
‫الحواس‪ ،‬نحو تشبيهك‬ ‫ّ‬ ‫تشبيه َج َم َع بين شيئين فيما يدخل تحت‬ ‫ٍ‬ ‫ونحو ذلك وكذلك كل‬
‫أطيط الرحل بأصوات الفراريج " ‪ ،5‬وأيضا ملا‬ ‫صوت بعض األشياء بصوت غيره‪ ،‬كتشبيه‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫عرف َت ذلك‪َ ،‬‬ ‫ْ‬
‫فاعم ْد ِإلى ما‬ ‫تحدث عن نظم الكالم ومكان النحو منه فيقول ‪ " :‬وإذا قد‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َُ‬
‫أجل "النظم" خصوصا‪،‬‬ ‫تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل‪ ،‬ثم جعلوه كذلك من ِ‬
‫َ‬
‫حكمة أو أدب أو‬ ‫ٍ‬ ‫لطيف أو‬
‫ٍ‬ ‫غير الشعر‪ ،‬من معنى‬ ‫الشعر أو ُ‬
‫ُ‬ ‫ستحس ُن له‬
‫َ‬ ‫غيره مما ُي‬‫دون ِ‬
‫َ‬ ‫استعارة أو تجنيس أو غير َذلك مما ال َي ُ‬
‫تح َت‬
‫أيت َك قد ار ْ‬
‫ِ‬
‫وتأ َّم ْله ‪ ،‬فإذا َ‬
‫ِ ر‬ ‫دخل في َّ‬
‫النظم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫ظهرت؟ ِفإنك ترى‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مم كانت؟ وعند ماذا َ‬ ‫ْ‬ ‫يحي ِة َّ‬ ‫حركات األر َّ‬
‫فانظر إلى َ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫واهتزت واستحسنت‪،‬‬
‫قلت لك كما ُ‬
‫قلت " ‪.6‬‬ ‫يانا َأ َّن الذي ُ‬ ‫ً‬
‫ِع‬
‫يكرر كلمات دالة على األثر السلبي الذي يلحق بنفس املتلقي عند‬ ‫وفي مقابل ذلك ّ‬
‫وجود خلل في البناء التركيبي والتصويري واإليقاعي للعبارات الشعرية مثل ‪ ( :‬الوحشة ‪،‬‬
‫النفرة‪ ،‬االضطراب‪ ،‬النبو‪ ،‬القلق ) ‪ ،7‬فعلى سبيل التمثيل نجد الجرجاني حينما يتحدث‬
‫يفرق بين االستعمال الدقيق للفعل واالسم ومدى تأثير ذلك على‬ ‫عن الفروق في الخبر ّ‬
‫ُ‬
‫االسم َيق ُع حيث ال‬
‫َ‬ ‫الحكم َأعني أنك كما ْ‬
‫وجد َت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وينعكس لك هذا‬ ‫النفس املتلقية فيقول ‪" :‬‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يؤدي ما َ‬
‫كان‬ ‫مكانه‪ ،‬وال ّ‬
‫ِ‬ ‫الف ْع َل َي َق ُع ثم ال َيصل ُح االسم‬
‫الفعل مكانه‪ ،‬كذلك نجد ِ‬ ‫ُ‬ ‫َيصلح‬
‫يؤديه‪.‬‬
‫الب ِّي ِن في ذلك قول األعش ى‪:‬‬
‫‪ - 187‬فمن َ‬
‫نار في َيفاع َت َح َّر ُق‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫لع ْمري لقد الحت عيون كثيرة ‪ ...‬إلى ِ‬
‫ضوء ٍ‬
‫َ‬

‫‪70‬‬
‫فعالية التلقي في نظرعبد القاهر الجرجاني‬
‫ُ َ ُّ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫ليانها ‪ ...‬وبات على النار الندى واملحلق‬ ‫صط ِ‬ ‫تشب ِملقرورين ي‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫النفس‪ ،‬ثم ال يكون ذاك‬‫ُ‬ ‫وأنكرْته‬
‫َ‬ ‫معلوم أن لو قيل‪" :‬إلى ضوء نار ُم َت َح ّرقة" ‪ ،‬ل َنبا عنه ْ‬
‫الطب ُع‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫جهة أنه ال يشبه َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫الغرض وال‬ ‫ِ‬ ‫اإلنكار من أجل القافية وأنها تفسد به‪ ،‬بل من ِ‬ ‫النبو وذاك‬
‫يليق بالحال‪.8 ".‬‬‫ُ‬
‫ص َر اللفظ على‬ ‫وفي موضع آخر يقول عن نصرة اللفظ على حساب املعنى ‪ " :‬فمن َن َ‬
‫مظنة االستكراه‪ ،‬وفيه‬ ‫املعنى كان كمن أزال الش يء عن ج َهته‪ ،‬وأحاله عن طبيعته‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ِ‬
‫للش ْين" ‪. 9‬‬ ‫ض َّ‬ ‫عر ُ‬ ‫َف ْتح أبواب العيب‪َّ ،‬‬
‫والت ُّ‬
‫‪ – 1‬مفاهيم التلقي في نظرعبد القاهرالجرجاني ‪:‬‬
‫ّ‬
‫ويتمعن في مضامينهما‬ ‫من يقرأ كتابيه " أسرار البالغة" و" دالئل اإلعجاز" ّ‬
‫ويتأمل فيهما‬
‫يجد ّأنه أعطى للتلقي مفاهيم أهمها ‪:‬‬
‫‪ 1 – 1‬التلقي عبارة عن إبداع ‪ ،‬إذ نجده في أحيان كثيرة يجعل للمتلقي مواصفات تكاد‬
‫تتعادل مع املواصفات اإلبداعية ويمنحه حقوقا ال يقل ّ‬
‫عما منحه للمبدع ‪ ،‬فقد جعل‬
‫اإلبداع الفني وصفا مشتركا بين منتج النص ومستقبله ‪ ، 10‬لذلك كان الوصول إلى املتعة‬
‫الجمالية والفنية التي تصيب نفس املتلقي ثمرة الجهد املبذول والفكر الدقيق وهذا واضح‬
‫في قوله ‪ " :‬وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله‪ ،‬فهل ّ‬
‫تشك في‬
‫ّ‬
‫املشقة الشديدة‪ ،‬وقطع إليه‬ ‫أن الشاعر الذي ّأداه إليك‪ ،‬ونشر َب َّزه لديك‪ ،‬قد ّ‬
‫تحمل فيه‬
‫الشقة البعيدة‪ ،‬وأنه لم يصل إلى ُد ّره حتى غاص‪ ،‬ولم ينل املطلوب حتى َ‬ ‫ُّ‬
‫كابد منه االمتناع‬ ‫ِ‬
‫واالعتياص " ‪.11‬‬
‫أضف إلى ذلك فقد أعطى للمتلقي شرعية التدخل الصياغي كتقدير املحذوف‬
‫والكشف عن األصل الذي عدل عنه التركيب في صورته الجديدة‪ ،‬ومن ثمة ُيتاح للمتلقي‬
‫مشاركة املبدع في تجربته واالندماج فيها ‪ ،‬فيصبح املتلقي في حالة لذة وشوق حينما يتسائل‬
‫عن املحذوف وأسرار بالغته ‪ ،‬وفي هذا متعة يصعب تصورها ‪ ، 12‬يقول عبد القاهر‬
‫بالس ْحر‪َ ،‬‬ ‫األمر‪ٌ ،‬‬
‫شبيه ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫فإنك ترى‬ ‫ِ‬ ‫دقيق امل ْسلك‪ ،‬لطيف املأخذ‪ ،‬عجيب‬ ‫الجرجاني ‪ " :‬هو ٌ‬
‫باب‬
‫َ ُ َ َ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫الذ ْكر‪َ ،‬أ ْف َ‬ ‫َ َ‬
‫جد َك أ ْنط َق ما‬‫لإلفادة‪ ،‬وت‬
‫اإلفادة‪ ،‬أزيد ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫والصمت عن‬ ‫ص َح من الذك ِر‪،‬‬ ‫به ت ْرك ِ‬
‫ُ ً‬ ‫تكو ُن إذا لم َت ْن ِط ْق‪َ ،‬وأ َّ‬
‫تم ما تكون بيانا إذا لم تبن " ‪. 13‬‬ ‫ِ‬

‫‪ISSN 2437-0819‬‬ ‫‪71‬‬


‫‪EISSN: 2602-6333‬‬
‫د‪/‬فاطمة الزهراء نهمار‬

‫‪ 2 – 1‬التلقي هو اجتهاد ‪ ،‬و هذا ظاهر من خالل حرص عبد القاهر الجرجاني على أن‬
‫يكون قارؤه منفعال مع النص ومتأثرا به‪ ،‬لذلك ّ‬
‫فإنه يحثه على الطلب واالجتهاد في تحصيل‬
‫واجتهاد في‬ ‫انبعاث منك في طلبه‪،‬‬ ‫يحصل لك إال بعد‬ ‫ُ‬ ‫املعنى املراد فيقول ‪َّ " :‬‬
‫وبأن املعنى ال‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تشك في‬‫نيله‪ ،‬هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله‪ ،‬فهل ّ‬
‫ّ‬
‫املشقة الشديدة‪ ،‬وقطع إليه‬ ‫أن الشاعر الذي ّأداه إليك‪ ،‬ونشر َب َّزه لديك‪ ،‬قد ّ‬
‫تحمل فيه‬
‫الشقة البعيدة‪ ،‬وأنه لم يصل إلى ُد ّره حتى غاص‪ ،‬ولم ينل املطلوب حتى َ‬ ‫ُّ‬
‫كابد منه االمتناع‬ ‫ِ‬
‫درك إال‬ ‫ومعلوم أن الش يء إذا ُعلم أنه لم ُي َنل في أصله إال بعد َّ‬
‫التعب‪ ،‬ولم ُي َ‬ ‫ٌ‬ ‫واالعتياص؛‬
‫ْ‬ ‫باحتمال َّ‬
‫الن َ‬
‫صب‪ ،‬كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه‪ ،‬وأخ ِذ الناس بتفخيمه‪،‬‬
‫َ‬
‫ومالقاة الكرب دونه " ‪.14‬‬
‫ِ‬ ‫ما يكون ملباشرة الجهد فيه‪،‬‬
‫وبهذا يكون القارئ " أمام عالم من الحرية الفكرية في فهم النص املتدفق بالحياة‬
‫والعطاء ‪ ،‬وبذلك قد تتقارب القراءات في سبر أبعاد النصوص لكنها ال يمكن أن تتطابق أو‬
‫تتوحد ‪ ،‬وهذه سمة النص الجيد الذي يتجدد عطاؤه بتجدد متلقيه ٌّ‬
‫كل على قدر ما يحوي‬
‫من خبرات فنية وجمالية في تلقي النصوص " ‪. 15‬‬
‫‪ 3 – 1‬التلقي ليس بالعمل اليسير بل يقتض ي النظر بالقلب واالستعانة بالفكر وإعمال‬
‫متلق‬
‫الروية ومراجعة العقل واالستنجاد بالفهم ‪ ،16‬فتلقي النصوص البيانية مختلف من ٍ‬
‫إلى متلق ‪ ،‬فالناس ليسوا على قدر واحد في فهمها وتلقيها ّ‬
‫ألن العالية منها فيها " دقائق‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫معان ينفرد بها‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وأسرار طريق العلم بها الروية والفكر‪ ،‬لطائف مستقاها العقل‪ ،‬وخصائص ٍ‬
‫َ‬ ‫الح ُجب َ‬
‫وكشف لهم عنها‪ُ ،‬ورفعت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ٌ‬
‫بين ُهم وبينها‪ ،3‬وأنها‬ ‫ِ‬ ‫قوم قد هدوا إليها‪ ،‬ودلوا عليها‪ِ ،‬‬
‫ُ‬ ‫بعضا‪ ،‬وأن َ‬‫ُ‬ ‫يفض َل ُ‬
‫ووجب أن ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫بب في ْ‬ ‫َّ‬
‫الس ُ‬
‫الشأو في‬ ‫يبعد‬ ‫بعضه‬ ‫الكالم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫املزية في‬ ‫عرضت‬
‫ِ‬ ‫أن‬
‫ُ‬ ‫رتقى‪َّ ،‬‬ ‫يعلو املُ َ‬ ‫ُ‬
‫الغاية‪َ ،‬و َ‬ ‫َّ‬
‫املطلب " ‪.17‬‬ ‫ويعز‬ ‫وتمتد‬ ‫ذلك‪،‬‬
‫‪ – 2‬اآلليات الجرجانية في التلقي الفعال‪:‬‬
‫مما سبق ذكره ُيفهم ّ‬
‫أن سبر أغوار النصوص الفنية والوصول إلى املتعة الجمالية التي‬
‫ّ‬
‫تثيرها يقتض ي أدوات وآليات وجب توفرها في املتلقي وهذا ما أكد عليه عبد القاهر‬
‫الجرجاني مرارا في مضامين نصوص كتابيه ‪ ،‬أشهرها ما يلي ‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫فعالية التلقي في نظرعبد القاهر الجرجاني‬

‫‪ 1 – 2‬الذوق ‪:‬‬
‫ُيعد الذوق عند الج رجاني أداة مهمة في تقدير العمل الفني واستكناه األبعاد الجمالية‬
‫للنصوص ‪ ،‬ومن ثمة يكون املتلقي قادرا على االنفعال معها والتأثر بها‪ ،‬وقد " يقترن في‬
‫خطاب عبد القاهر الجرجاني النقدي بالطبع ‪ ،‬وقد يرادف هذا األخير في الخطاب ذاته‬
‫فيفهم من هذا تداخل املصطلحي ن ‪ ،‬وتناوب أحدهما مناب اآلخر‪ ،‬األمر الذي يعني –‬ ‫األول ُ‬
‫ّ‬
‫بداهة‪ -‬تالقي الداللة لكل منهما ‪ ،‬ويعني – ببداهة أشد‪ّ -‬أن الحديث عن الذوق ال ُيفهم إال‬
‫ّ‬
‫أن الحديث عن الطبع ال ُيفهم هو اآلخر إال على ّأنه‬
‫على ّأنه حديث عن الطبع تماما كما ّ‬
‫حديث عن الذوق " ‪. 18‬‬
‫فبالذوق أو الطبع يتمكن املتلقي من التعايش مع النص والحصول على املتعة‬
‫ّ‬
‫الجمالية والبيانية التي يثيرها في النفس‪ ،‬فمن البيان ما يخفى موضعه فال يبين إال " إذا‬
‫س‪،‬‬
‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫َّ ً‬ ‫ّ‬
‫املتصفح للكالم حساسا‪ ،‬يعرف وحي طبع الشعر‪ ،‬وخفي حركته التي هي كالخل ِ‬ ‫ِ‬ ‫كان‬
‫َ‬
‫الن ْفس‪ ،19 ".‬وفي أحيان كثيرة يطوي في أعماقه على خفايا ودقائق " ال‬
‫الن ْفس في ّ‬
‫ِ‬
‫وك َم ْس َرى ّ‬
‫يبصرها إال ذوو األذهان الصافية‪ ،‬والعقول النافذة‪ ،‬والطباع السليمة‪ ،‬والنفوس‬
‫صل الخطاب "‪.20‬‬‫الحكمة‪ ،‬وتعرف َف ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫املستعدة ألن ت ِع َي‬
‫ومن ثمة فالذوق هو أول شروط التلقي وبدونه لن يتأثر املتلقي بالنص ولن تتجاوب‬
‫نفسه مع الرؤى الجمالية التي يفيض بها ‪.‬‬
‫‪ 2– 2‬اإلطارالثقافي ‪:‬‬
‫من الضروري أن يكون املتلقي مالكا إلطار ثقافي معين‪ ،‬وقد أواله الجرجاني أهمية‬
‫ّ‬
‫ملحوظة باعتباره أداة الزمة للتلقي إال ّأنه لم يستخدم " مصطلح الثقافة ال في أسرار‬
‫البالغة وال في دالئل اإلعجاز ‪ ،‬ولكن يستخدم ما يكون بديال لها ‪ .‬بعبارة أخرى ّ‬
‫فإنه‬
‫يستخدم من املصطلحات ما يتصل بنحو ما بمصطلح الثقافة كاملدارسة والعلم وغيرهما ‪،‬‬
‫بل ّ‬
‫إن ما يطويه الرجل تحت هذه شبيه بما ينطوي تحت مصطلح الثقافة ‪21 ".‬‬

‫لذلك نرى الجرجاني في مواضع كثيرة يذكر الذوق واملعرفة بشكل متالزم فيقول ‪" :‬‬
‫َ ً‬ ‫ً‬
‫موقعا من السامع‪ ،‬وال َي ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫جد لديه قبوال‪ ،‬حتى‬ ‫ِِ‬ ‫يصادف القول في هذا ِ‬
‫الباب‬ ‫ِ‬ ‫واعلم أنه ال‬

‫‪ISSN 2437-0819‬‬ ‫‪73‬‬


‫‪EISSN: 2602-6333‬‬
‫د‪/‬فاطمة الزهراء نهمار‬
‫َ‬
‫مساغ له َ‬ ‫َ‬
‫عند َم ْن كان‬ ‫واملعرفة " ‪ ،22‬وفي موضع آخر يقول ‪ ":‬فمما ال‬
‫ِ‬ ‫أهل الذو ِق‬
‫يكون من ِ‬
‫َ‬
‫صحيح الذوق صحيح املعرفة نسابة للمعاني‪23 ".‬‬

‫فالذوق إذن عند الجرجاني غير كاف " لتلق النصوص البيانية ما لم يضف إلى ذلك‬
‫ألن هناك‬ ‫معرفة وثقافة تمكنه من سبر األفاق الجمالية التي تفيض بها النصوص الفنية ‪ّ ،‬‬
‫أبعادا غامضة ودقيقة ال يكشفها الذوق السليم بمفرده ما لم يكن مزودا بهذه املعرفة التي‬
‫تجعله قادرا على اإلحساس باملتعة الجمالية التي تثيرها تلك النصوص ‪ ،‬وعندها تشعر‬
‫النفس املتلقية باللذة التي تعقب هذه الرحلة املضنية واملمتعة في التلقي ‪ ،‬لذلك البد أن‬
‫يكون املتذوق صاحب ثقافة لغوية راسخة تقف على أسرار الكالم وتسبر أغواره حتى ال‬
‫يكون صاحبه عاملا في ظاهر مقلد " ‪.24‬‬
‫‪ 3 – 2‬الدربة ‪:‬‬
‫حرص عبد القاهر في كتابيه على " الرياضة " و" إدمان قرع العلم " وضرورة توفرهما‬
‫عند املتلقي وأهميتهما في نقل املعرفة والثقافة بقوانينها وقواعدها من إطارها النظري إلى‬
‫إطارها التطبيقي ‪ ،‬ونجد ذلك عند توقف الجرجاني عند فعل " الرياضة ط وما يحدثه‬
‫ً‬ ‫اال تياض على الشاعر والناقد فيقول ‪ّ " :‬‬
‫وإنك ال تكاد تجد شاعرا يعطيك في املعاني‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الدقيقة من التسهيل والتقريب‪ ،‬ورد البعيد إلى املألوف القريب‪ ،‬ما ي ْعطي البحتر ُّي‪ ،‬ويبلغ في‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫َ‬
‫إعناق‬ ‫األرن رياضة املاهر‪ ،‬حتى ُي ْع ِنق من تحتك‬‫هذا الباب مبلغه‪ ،‬فإنه ليروض لك املهر ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وينز َع من ِش َماس الصعب الجامح‪ ،‬حتى يلين لك ِل َين املنقاد الطيع "‪. 25‬‬
‫القارح املذلل‪ِ ،‬‬‫ِ‬
‫وفي موضع آخر ينقل عن الجاحظ ما له عالقة بإدمان قرع العلم وإعادة الفكر والنظر‬
‫الدربة فيقول ‪ " :‬وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في‬ ‫‪ ،‬وكل ذلك تأكيد على أهمية ُّ‬
‫وأكل‬ ‫َّ ُ َ ْ َّ‬ ‫ّ‬ ‫َُ‬ ‫ُّ‬
‫الفكر والنظر من الفضيلة‪ :‬وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة‪ ،‬ولذة السبع بلطع الدم ِ‬
‫اللحم‪ ،‬من سرور الظفر باألعداء‪ ،‬ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه‪َ ،‬وب ْع ُد‪ ،‬فإذا‬
‫والس َداد‪،‬‬
‫الرماة في اإلبعاد ّ‬ ‫بات لجري الجياد‪ُ ،‬ون ِصبت األهداف لتعرف فضل ُّ‬ ‫الح َل ُ‬
‫ُم ّدت َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفكر وال ّروية‬ ‫تمتحن قواها في تعاطيه‪ ،‬هو ِ‬ ‫فرهان العقول التي تستبق‪ ،‬و ِنضالها الذي ِ‬
‫والقياس واالستنباط" ‪ ، 26‬فهذان النصان يؤكدان على فاعلية الدربة واملمارسة ‪ ،‬فبدونهما‬
‫ّ‬
‫لن يتمكن املتلقي من التمرس مع دقائق النصوص وما تنطوي عليها من أسرار ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫فعالية التلقي في نظرعبد القاهر الجرجاني‬

‫‪ 4 – 2‬التأمل ‪:‬‬
‫يلح عبد القاهر في مواضع عديدة على التأمل ‪ ،‬فهو أحد سمات االستجابة الجمالية‬
‫عنده ويدخل في وظائف الفكر بل هو فعل التفكير في حد ذاته ‪ ،‬يقصد به " التفكير‬
‫الجديد في نص أو فكرة شعرية انتهى الفكر من تشكيلها ‪ ،‬وهو إذ يتناولها بعد ذلك فمن‬
‫حيث عالقات أجزائها بعضها ببعض‪ ،‬ثم عالقتها بالذات نفسها ‪ ،‬بعد ذلك يروق لنا النص‬
‫‪ ،‬ونرى من " الظرف" و " االستحسان " و " األريحية " ‪ ،‬و " األنس " ‪ ،‬ويتولد االنفعال‬
‫الجمالي ‪ ،‬ونحس باملتعة واألريحية التي يولدها تأمل القدرة الفنية لهذا الش يء املصنوع في‬
‫صورته التي يبدو فيها كمال صتعنه الحية " ‪. 27‬‬
‫ويظهر ذلك على سبيل التمثيل عند حديثه عن شواهد الجمع بين املتباعدات فيقول ‪" :‬‬
‫وتأم ْل كيف حصل االئتالف‪ ،‬وكيف جاء من جمع أحدهما إلى اآلخر‪ ،‬ما‬ ‫كرر النظر َّ‬
‫ثم ّ ِ ِ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫اجع فكرتك‪ ،‬واش َحذ‬
‫ويحمده الطبع؟ " ‪ ، 28‬وفي موضع آخر يقول ‪ " :‬ثم ر ْ‬ ‫ْيأ َنس إليه العقل َ‬
‫التجوز في الرأي‪ ،‬ثم انظر هل ُ‬
‫ُّ‬ ‫وأحسن ُّ‬ ‫َ‬
‫تجد الستحسانهم‬ ‫التأمل‪ ،‬ودع عنك‬ ‫ِ ِ‬ ‫بصيرتك‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ً ّ‬ ‫وح ْمدهم َوثنائهم َ‬ ‫َ‬
‫موقعها‪ ،‬وأصابت غ َرضها‪ ،‬أو‬ ‫استعارة وقعت‬
‫ٍ‬ ‫ص َرفا‪ ،‬إال إلى‬ ‫ومدحهم من‬
‫وصل املعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫البيان حتى‬ ‫َ‬
‫تكامل معه‬ ‫ُحسن ترتيب‬
‫واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في األذن‪ ،‬وإال إلى سالمة الكالم من الحشو غير املفيد‪،‬‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫الطفيلي‬ ‫املقصودة مداخلة‬ ‫والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد‪ ،‬وش ٍيء داخ َل املعاني‬
‫وسالمته من التقصير الذي َي ْف َت ِقر معه‬
‫ِ‬ ‫واألجنبي الذي ُيكره ُحضوره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مكانه‪،‬‬ ‫الذي يستثقل‬
‫ُّ‬ ‫َ َ‬
‫زيادة بقيت في نفس املتكلم " ‪ ،29‬فمراجعة الفكر والتأمل والبصيرة كلها‬ ‫السام ُع إلى تطلب ٍ‬‫ِ‬
‫تعين املتلقي في تقييمه الجمالي لألشياء ‪.‬‬
‫‪ 5 –2‬املتلقي وموضوعية الجمال ‪:‬‬
‫ّ‬
‫تجد عبد القاهر في مواطن كثيرة من كتابيه ال يكتفي فقط بالتأثر بالنصوص الفنية‬
‫ومعرفة مكان الجمال فيها بل يكون موضوعيا فيها وذلك بالبحث عن أسبابه وعلله ‪،‬‬
‫فالتأثر واالنفعال مع النصوص أمر تتطلبه عملية التلقي ‪ ،‬لكنه ال يكتفي بذلك فقط ّ‬
‫وإنما‬
‫البد من التفاعل مع جوهر النصوص ومعرفة عاملها الداخلي وأسراره والبحث عن أسباب‬
‫ذلك جماليتها ‪.‬‬

‫‪ISSN 2437-0819‬‬ ‫‪75‬‬


‫‪EISSN: 2602-6333‬‬
‫د‪/‬فاطمة الزهراء نهمار‬
‫ّ‬
‫ولعل عبد القاهر كان " أسبق القدماء أو أكثرهم مزجا بين االستحسان وتحليله ‪،‬‬
‫فتوقف عند مستويات النص مستحسنا ومحلال ومعلال لهذا االستحسان ‪ ،‬وهذا هو‬
‫املوقف األفضل حيث يكشف اتجاه املتلقي وقدراته في تحديد مواطن الجمال وتحليلها "‪.30‬‬
‫أن " للحسن أصال وصفات وعناصر يمكن أن يراها الناس ويهتدوا إليها‬ ‫يرى عبد القاهر ّ‬
‫‪ ،‬ومع ذلك فهو ال يقف في نقده عند حد ذكر تلك الصفات والعناصر واألصول ‪ ،‬ولكنه‬
‫يتعمق لكي يصل إلى أسرار تلك العناصر واألسباب التي جعلت لهذه األصول ذلك التأثير في‬
‫النفس ‪ ،‬فهو ال يكتفي بذكر ّ‬
‫أن في هذه الجملة أو تلك تقديما أو تأخيرا ‪ ،‬أو ذكرا أو حذفا‬
‫وأن ذلك كله جعل النفس تتأثر به تأثيرا عميقا ‪ ،‬بل يبحث عن السبب‬‫أو تعريفا أو تنكيرا ‪ّ ،‬‬
‫الذي من أجله كان لهذه املظاهر أثرها في النفس " ‪.31‬‬
‫ص َب لها‬‫"الفصاحة" أن َت ْن ُ‬ ‫علم‬
‫ِ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله في الفصاحة ‪ " :‬ال يكفي في ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وصفا ُم ْجمال‪ ،‬وتقو َل فيها قوال ُم ْر َسال‪ ،‬بل ال تكون ِمن َمعرفتها في‬ ‫قياسا ما‪ ،‬وأن ت ِصفها‬
‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫وتضع َ‬ ‫َ‬ ‫فصل القو َل ُوت ّ‬ ‫َش ٍيء حتى ُت ّ‬
‫ض في نظم الك ِلم‬ ‫الخصائص التي تع ِر‬
‫ِ‬ ‫اليد على‬ ‫حص َل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وت ُع ُّدها واحدة واحدة‪ ،‬وتسميها شيئا شيئا‪ ،‬وتكو معرفتك معرفة الصنع الحاذف الذي‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الديباج‪َّ ،‬‬ ‫يعلم علم كل خيط من إال بريسم الذي في ّ‬
‫القطع املنجورة في الباب‬ ‫قطعة من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وكل‬ ‫ِ‬
‫اآلجر الذي في البناء البديع‪.32 ".‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫املقطع‪ ،‬وكل جره من ِ‬
‫البد من البحث عن‬ ‫ومن ّثمة فمهمة املتلقي ال تتوقف عند التأثر بالنصوص الفنية بل ّ‬
‫ُ‬ ‫َّ َّ‬ ‫ّ‬
‫ولفظ‬
‫كالم تستحسنه‪ٍ ،‬‬ ‫أسباب ذلك األثر الجمالي ألنه كما يقول الجرجاني ‪ " :‬ال بد لكل ٍ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ َّ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تستجيده‪ ،‬من أن يكون الستحسا ِنك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة وأن يكون لنا ِإلى‬
‫من العلم إذا َ‬
‫أنت‬ ‫باب َ‬ ‫دليل‪ .‬وهو ٌ‬ ‫صحة ما ِ ّأدعيناه من ذلك ٌ‬ ‫سبيل‪ ،‬وعلى‬ ‫ٌ‬ ‫العبارة عن ذاك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬
‫ومعان شريفة " ‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫ٍ‬ ‫جليلة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فتحته اطلعت منه على فوائد‬
‫ومما سبق ذكره يمكن القول ما يلي‪:‬‬
‫✓ املتلقي في تصور عبد القاهر الجرجاني ال يمكن أن يكون مجرد قارئ فقط بل‬
‫املسألة تتجاوز ذلك إلى جعله قارئا ومنصتا ومستمعا ومبدعا وناقدا ‪ ،‬ومن ثمة له‬
‫دور كبير في إحياء العملية اإلبداعية واستمرارها ‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫فعالية التلقي في نظرعبد القاهر الجرجاني‬
‫✓ التلقي في نظره إبداع واجتهاد وليس بالعمل اليسير ّ‬
‫ألنه يقتض ي النظر بالقلب‬
‫الروية ومراجعة العقل واالستنجاد بالفهم ‪.‬‬‫واالستعانة بالفكر وإعمال ّ‬
‫ضمن عبد القاهر نصوص كتابيه " أسرار البالغة " و " دالئل اإلعجاز " مجموعة‬‫✓ ّ‬
‫من األدوات واملقومات الواجب توفرها في املتلقي حتى يكون قادرا على التجاوب‬
‫مع النصوص الفنية واإلبداعية والتفاعل معها والحصول على ما يثيره من متعة‬
‫ولذة وجمالية ‪ ،‬وهذه اآلليات أشهرها ‪:‬‬
‫* الذوق‬
‫* اإلطار الثقافي‬
‫* ّ‬
‫الدربة‬
‫* التأمل‬
‫* موضوعية الجمال‬
‫الهوامش ‪:‬‬

‫‪ 1‬عبد هللا عبد الرحمن أحمد بانقيب ‪ :‬البالغة واألثرالنفس ي دراسة في تراث عبد القاهرالجرجاني ( رسالة‬
‫لنيل شهادة املاجستير) ‪ ،‬كلية اللغة العربية ‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ، 2002 ،‬ص‪14‬‬
‫‪ 2‬عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة ‪ ،‬داراملدني‪ ،‬جدة‪ ،‬ط‪1991 ، 1‬م‪ ،‬ص‪26‬‬
‫‪3‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪87‬‬
‫‪4‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد القاهر الجرجاني ‪ :‬أسرا ر البالغة ‪ ،‬ص‪ 19‬و‪121‬و‪128‬و‪ ، 129‬و عبد القاهر الجرجاني ‪ :‬دالئل‬
‫اإلعجاز‪ ،‬ص‪ 46‬و‪47‬و‪85‬و‪132‬و‪286‬‬
‫‪5‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة ‪ ،‬ص‪90‬و‪91‬‬
‫‪6‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪84‬و‪85‬‬
‫‪7‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد القاهر الجرجاني ‪ :‬أسرا ر البالغة ‪ ،‬ص‪8‬و‪ ، 14‬وأيضا عبد القاهر الجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‬
‫‪،‬ص‪47‬و‪151‬‬
‫‪ 8‬عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪،‬ص‪176‬‬
‫‪ 9‬عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة ‪ ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 10‬ينظر ‪ :‬محمد عبد املطلب‪ :‬قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1999 ،1‬م‪،‬‬
‫ص‪249‬‬
‫‪11‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة ‪ ،‬ص‪145‬‬

‫‪ISSN 2437-0819‬‬ ‫‪77‬‬


‫‪EISSN: 2602-6333‬‬
‫د‪/‬فاطمة الزهراء نهمار‬

‫‪12‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد هللا عبد الرحمن أحمد بانقيب ‪ :‬البالغة واألثر النفس ي دراسة في تراث عبد القاهر الجرجاني ‪،‬‬
‫ص‪198‬و‪199‬‬
‫‪13‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪146‬‬
‫‪14‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة ‪ ،‬ص‪145‬‬
‫‪15‬‬
‫عبد هللا عبد الرحمن أحمد بانقيب ‪ :‬البالغة واألثرالنفس ي دراسة في تراث عبد القاهرالجرجاني‪ ،‬ص‪201‬‬

‫‪16‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪64‬‬
‫‪17‬‬
‫املصدرنفسه ‪ ،‬ص‪7‬‬
‫‪18‬‬
‫قاسم املومني‪ " :‬أداة الناقد ‪ :‬دراسة في املوروث النقدي" ‪ ،‬مجلة جامعة امللك سعود‪ ،‬الرياض‪ ،‬الجلد‬
‫الخامس‪1993 ،‬م‪ ،‬ص‪52‬‬
‫‪19‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة‪ ،‬ص‪306‬‬
‫‪20‬‬
‫املصدر نفسه ‪،‬ص ‪66‬‬
‫‪21‬‬
‫قاسم املومني‪ " :‬أداة الناقد ‪ :‬دراسة في املوروث النقدي ‪ ،‬ص‪67‬‬
‫‪22‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪291‬‬
‫‪23‬‬
‫املصدرنفسه ‪،‬ص ‪303‬‬
‫‪24‬‬
‫عبد هللا عبد الرحمن أحمد بانقيب ‪ :‬البالغة واألثرالنفس ي دراسة في تراث عبد القاهرالجرجاني‪ ،‬ص ‪213‬‬
‫‪ 25‬عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة‪ ،‬ص‪146‬‬
‫‪ 26‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪147‬و‪148‬‬
‫‪ 27‬عبد هللا عبد الرحمن أحمد بانقيب ‪ :‬البالغة واألثرالنفس ي دراسة في تراث عبد القاهرالجرجاني‪ ،‬ص‪217‬‬
‫‪28‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬أسرا رالبالغة‪ ،‬ص‪134‬‬
‫‪29‬‬
‫املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪64‬‬
‫‪30‬‬
‫سالم عباس خدادة ‪ ":‬النص وتجليات التلقي " ‪ ،‬حوليات اآلداب والعلم االجتماعية ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬العدد‪، 20‬‬
‫‪ 1999‬و‪ ، 2000‬ص ‪45‬‬
‫ليلى عبد الرحمن الحاج ‪ :‬الذوق األدبي في النقد القديم ‪ ( ،‬رسالة لنيل شهادة املاجستير) ‪ ،‬جامعة أم القرى‬ ‫‪31‬‬

‫‪ ،‬كلية اللغة العربية ‪ ،‬مكة ‪1403 ،‬و‪1404‬ه ‪ ،‬ص‪302‬‬


‫‪32‬‬
‫عبد القاهرالجرجاني ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص ‪37‬‬
‫‪33‬‬
‫املصدر السابق ‪ ،‬ص ‪41‬‬
‫*** *** ***‬

‫‪78‬‬

You might also like