Professional Documents
Culture Documents
WWW Arrabita Ma
WWW Arrabita Ma
( ) 102
www.arrabita.ma
2
مقدمة
ي�شهد املوروث الثقايف خلزائن الفكر املقا�صدي على جت ّدره يف تاريخ الإ�سالم ،خالف ًا
ملا يظنه البع�ض ،جت ّدر الإ�سالم يف �أتباعه ،و�إمنا اختلفت مراتب الظهور وال�ضمور باختالف
الع�صور َ�س ْ ًيا على ُ�س َّن ِة �سائر العلوم ،فلم يظهر (الفكر املقا�صدي) علما م�ستقال بذاته ،مم ّيزا
مبناهجه ،م�شهورا برجاالته ودواوينه� ،إال بعد مروره مبراحل عدة ،بد ًءا بالإرها�صات الر�شيدة
بعد ذلك مبل ًغا
للوحي الإلهي ،مرورا مبرحلتي الت�أ�سي�س النظري والتفعيل العملي� ،إىل �أن بلغ َ
من الن�ضج والكمال -ال ِّّن�سبي ،مع زمرة من الأئمة الكبار يف هذا ال�ش�أن ،يتق ّدمهم �إمامهم �أبو
�إ�سحاق ال�شاطبي (تويف 790ﻫ) ،ذلك الرجل الذي ن�أى بكتاباته يف علم املقا�صد عن �سبيل
املحاكاة واملتابعة ،و�سلك مبباحثها م�سالك دقيقة من النقد واملراجعة ،وارتقى بها مراقي �صعبة
من الإبداع والتجديد� ،إن على م�ستوى اخلطاب� ،أو التمثيل� ،أو التنزيل.
تغيت الأحوالَ ،و َو َّلت الأمور القهقرى ،و� َ
أ�صاب الفك َر املقا�صدي ما �أ�صاب �سائر علوم ثم ّ
كتب ال�شاطبي ال�شريعة من يب�س وفتور واجرتار ،فلم يكتب َمنْ جاء بعد ع�صر ال�شاطبي َ
مثل ما َ
ّ
قط!!
ثم �شاء اهلل ،ع ّز وج ّل� ،أن يدخل (علم املقا�صد) منعطفا جديدا غاية يف الأهمية� ،إنه
منعطف ( الإحياء واال�ستئناف) �إحياء الأفكار ،وا�ستئناف اجلهود ،وهي امل�س�ؤولية التي انربى
حلمل �أمانتها ث ّل ٌة من العلماء املهرة يف هذا الفن ،منهم الطاهر ابن عا�شور ،وعالل الفا�سي،
وعبد اهلل دراز ،ور�شيد ر�ضا ...وغريهم من الذين باعدت بينهم الأقطار ،وجمعتهم وحدة
وجهة الأنظار ،فقد كان طموح ه�ؤالء الر ّواد ،يف هذه املرحلة ،الرجوع ببع�ض الوفاء لعلم املقا�صد
www.arrabita.ma
3 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
ورجاالته ،ف�سعوا جاهدين يف كتاباتهم ودرو�سهم �إىل ا�سرتداد قيمة (علم املقا�صد) امل�سلوبة،
و�إقناع العاملني ب�ضرورة �إنزاله مكانته املن�شودة.
وما دام الأمر كذلك ،ف�إن حقّ (علم املقا�صد) علينا يف هذا الع�صر �أن نع ّمق البحث يف
ق�ضاياه مبا يخدمه ويف ّعله ،ويجعله مرت ِّب ًعا على ُ�س َّدة الفقه ،ال �أن جنعل منه ما ّدة ّ
للتف الفكري
ومائدة للتف ّكه العقلي كما هو حا�صل يف عدد ،غري قليل ،من البحوث والر�سائل املكتوبة يف جمال
(الدرا�سات املقا�صدية).
وبناء على ذلك ف�إن هذه امل�شاركة ،يف ندوتكم املباركة ،تروم ت�سليط ال�ضوء على مرحلة ما
بعد الإمام ال�شاطبي ،وبال�ضبط مرحلة (الإحياء واال�ستئناف) تلك احللقة الهامة من حلقات
الإبداع املقا�صدي التي ال تقل �أهمية عن املراحل ال�سالفة؛ لأنها امتداد لها ،وبناء على �أ�ساطينها،
وا�ستمرار طبيعي ملا ر�سم الأولون يف �إ َّبانها من معامل النهج املقا�صدي الر�شيد.
�إن الأوائل من رجاالت علم املقا�صد و�إن كان لهم ف�ضل ال�سبق و�صعوبة البدء ،ف�إن للمت�أخرين
ف�ضائل التتميم والتكميل والتجميل ،مع ما تختزله تلكم الكلمات من م�س�ؤوليات امل�سايرة والتفعيل،
وما تقت�ضيه من نباهة لتاليف مثبطات ومزالق التنزيل.
ّ
حمطة تفكّر يف و�أهم من ذلك ك ّله �أن ُن َف ِّعل احلوار حول ُ ُ�سبل جعل املرحلة الراهنة
مكنونات الرتاث املقا�صدي الزاخر ،وكيف نعيد قراءته قراءة واعية ناقدةَ ،ت َت َق َّ�ص ُد بالأ�سا�س
االرتقاء بالفكر املقا�صدي من خطابات التبجيل والتمجيد ،و�آفات التجريد والتعقيد ،و�أ�ساليب
التكرار واالجرتار� ،إىل ح ّيز التجديد والتقريب ،و�سبل التفعيل والتنزيل.
�إن احلديث عن (جتديد اخلطاب املقا�صدي) هي دعوة مفتوحة �إىل �إعادة النظر يف هيكلة
الفكر املقا�صدي ،الرتاثي منه واحلديث ،من جميع اجلهات ،بد ًءا بالت�ص ّورات النظرية ،ومرورا
بال�ضوابط املنهجية ،وانتهاء بالتنزيالت العملية.
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 4
ثانيا ،ثم لأن (املوروث املقا�صدي) ميثل لأهل الزمن املعا�صر مادة بحث من جهة ،وم�صدر �إلهام
ال�سديد
واملوجه ّ
و�سبب �إعجاب من جهة ثانية ،بل ويف كثري من الأحيان يجدون فيه الأ�صل العتيد ّ
لتقومي وتوجيه حركة االجتهاد املقا�صدي ،ولي�س ذلك غريبا بالنظر �إىل ما مت ّيزت به �إجنازات
الرعيل الأول يف البحث املقا�صدي من عمق يف ال ِف َك ِر ،و ُبعد يف النظر ،وجودة يف العرب...
ومن �أراد د ْرك هذه احلقيقة فليقر�أ كتبهم ،وليفت�ش يف ر�سائلهم ،وليت�أمل بنات �أفكارهم ،ف�إنه
يحي ،ومن الإبداع ما يبهر� ،سواء على م�ستوى التعريفات اال�صطالحية� ،أو يجد فيها من الدقة ما ّ
التق�سيمات الفنية� ،أو الأبعاد الداللية� ،أو اخلطى املنهجية� ،أو التنزيالت الفقهية...
ومع ما م�ضى ذكره ،ف�إن قانون اختالف �أحوال الع�صور يق�ضي ب�ضرورة التجديد ،وواقع
احلال ينذر بعواقب التقليد؛ لأن هذه احلقائق العيان التي ذكرنا تتبعها ت�سا�ؤالت كثرية ،حتتاج
�إىل التذاكر واملدار�سة� ،أهمها:
ـ هل يلزم الباحثني واملفكرين املعا�صرين التق ّيد بالرتاث املقا�صدي املوروث بر�سومه
ومناهجه ومت ّثالته ،وحتى تعريفاته وتق�سيماته؟
ـ �ألي�س يف ذلك جماال خ�صبا للإبداع والتجديد؟ فلم التكرار واالجرتار يف اخلطاب املقا�صدي
املعا�صر!!
ـ �أمل يخالف املح ّققون ،من �أهل املقا�صدُ ،
بع�ضهم ً
بع�ضا يف كثري من ق�ضايا ومتعلقات علم
املقا�صد؟
ـ كيف ميكن االنتقال بالدرا�سات امل�صطلحية من امل�سالك املوغلة يف �صياغة احلدود،
و�إح�صاء الألفاظ واال�شتقاقات ،وت�أ�صيل الت�سم ّيات والإطالقات� ...إىل �صياغة ُ�س ُب ٍل التفعيل،
ومدار�سة مناهج التنزيل؟
ـ كيف نرقى بقواعد (الفكر املقا�صدي) من دوائر الظنية �إىل مواقع القطعية واحلاكمية؟
ـ �أمل يحن وقتُ �إقحام قواعد ونتائج العلوم احلديثة املوثوقة �ضمن م�سالك َد ْرك مقا�صد
اخلطاب ال�شرعي؟
www.arrabita.ma
5 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
ـ �ألي�س علماء املقا�صد �أوىل النا�س ب�صياغة م�شاريع النهو�ض احل�ضاري والرقي الأخالقي
واالجتماعي؟ ف�أين الفكر املقا�صدي ال ّر�شيد ،اليوم ،من م�شكالت ال�شغل ،ومل ّمات االقت�صاد،
وف�ساد ال�سيا�سة ...وغري ذلك من املجاالت احليوية التطبيقية.
ال�ش ِاه ُد املُ َ�ص َّد ُق على �أهل ّية (علماء املقا�صد) يف ال�شهود
ـ �ألي�ست هذه اجلوانب العملية هي َّ
احل�ضاري على العاملني؟
من معامل التجديد يف الفكر املقا�صدي املعا�صر :االرتقاء بالفكر املقا�صدي من
التب�صر امل�صلحي الوا�سع
ّ النظر اجلزئي ال�ضيق �إىل
�إن من �أقوى مع�ض ّدات النظر املقا�صدي تلك املبادئ العامة والأ�صول الكلية التي تزخر
بها �شريعة الإ�سالم ،فاملت�أمل يف حقيقة الأحكام التف�صيلية ب�أعيانها و�أ�سمائها يجدها ال تفي
بع�شر مع�شار ال�شريعة كما يقال؛ لأن الن�صو�ص متناهية واحلوادث ال متناهية ،وحمال �أن ي�ضبط
املتناهي الالمتناهي� ،إال �إذا كان الأول متناهي الألفاظ والعبارات دون املعاين والدالالت ،وذلك
هو �ش�أن ن�صو�ص �شريعة الإ�سالم.
ولئن كان اخلليفة عمر بن عبد العزيز (تويف 101ﻫ) قد حت َّدث عن �أهل زمانه فقال:
"تد ُُث للنا�س �أق�ضية بقدر ما �أحدثوا من فجور" ،ف�إن هذه املقولة ت�صري �أكرث ات�ساعا يف هذا َْ
ي�صح �أن يقال :حتدث للنا�س �أق�ضية بقدر ما �أحدثوا من ُخ ُي ٍور و ُف ُج ٍور؛ وبيان ذلك
الزمان بحيث ّ
التغيات الكبرية التي طر�أت يف �شتى جماالت احلياة �أحوجت الإن�سان �إىل �إحداث كثري من �أن ّ
�أنواع املعامالت احلديثة ،كلها تدور بني النفع وال�ضرر ،ك�أ�شكال املعامالت املالية احلديثة (�أبناك
وم�صاريف وبور�صات ووكاالت حتويل الأموال )...و�أنواع البيوع امل�ستحدثة (كالبيع بالإيجار)
و�أ�ساليب الإ�شهار لت�سريق ال�سلع واخلدمات ،وعقود الإذعان ب�صورها اخل ّداعة ،و�سائل الإثبات
املعا�صرة ،والأ�سفار اجلوية وما يرتتب عليها من �أحكام ،وكثري من طرق اال�ست�شفاء املعا�صرة،
وطرائق الت�أمني املبتكرة ...وغري ذلك من �أ�ساليب العي�ش امل�ستحدثة.
والذي ي�سعف ال�شريعة الإ�سالمية على تغطية هذه النوازل اجلديدة يف خمتلف جماالتها،
هو طبيعة ن�صو�صها ال�شرعية من حيث الداللة ،ف�إنها تت�سم بفي�ض معانيها ،و�سعة دالالتها ،يقول
�أ�ستاذنا حممد الروكي" :و�إمنا كانت هذه ال�شريعة املرعية �صاحلة لكل زمان ومكان ،م�ستوعبة
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 6
لكل التطورات والتغريات ...ملا ت�ضمنه �أ�صلها الأول "القر�آن" من قواعد وكليات و�أ�صول ،تخ�ضع
لها الفروع واجلزئيات ،وتن�ضبط بها الوقائع واحلوادث ...وملا ت�ضمنه �أ�صلها الثاين "ال�سنة"
من جوامع الكلم الذي �أوتيه �صلى اهلل عليه و�سلم".1
و�إذا كانت الن�صو�ص اجلزئية تنطق مبراعاة م�صالح بعينها ،وتن ّفر من مفا�سد بذاتها،
ف�إن الن�صو�ص الكلية تنطق مب�صالح اخللق ك ّلها ،وتن�أى عن مفا�سدها كلها؛ لأن احلكمة الإلهية
اقت�ضت جت ّردها وانفكاكها عن قيود الزمان واملكان والأ�شخا�ص والأحوال ،فينتج عن هذه
احلقيقة املعاينة يف القر�آن وال�سنة قانون كلي يق�ضي ب�ضرورة "�أن تكون هذه الكليات مقدمة يف
الرتتيب واالعتبار".2
ومما يدل على وجوب مراعاة هذا الرتتيب كونُ قواعد ال�شريعة الإميانية ومبادئها العقدية
و�أ�صولها الت�شريعية كانت �أول ما �أنزل من القر�آن مبكة ،ثم جاءت حقبة التف�صيل والتجزيء
والبيان باملدينة ،ومل يخرج عن هذه القاعدة �إال النزر القليل ،على �أنك لو ت�أملت هذا القليل
لوجدته �أ�صال يف ذاته لكثري من الفروع واجلزئيات كما ن ّبه على ذلك علماء الأ�صول ،وامل�ستفاد
من ذلك :عدم �إمكان خلو واقعة عن حكم اهلل تعاىل� ،إن �أبق ّيت ال�شريعة على نظامها ،وهذه بع�ض
�شهادات �أهل العلم على ذلك:
يقول ال�شافعي (تويف 204ﻫ) بل�سان جزم" :فلي�ست تنزل ب�أحد من دين اهلل نازلة �إال ويف
كتاب اهلل الدليل على �سبيل الهدى فيها ".3وقال �أبو املعايل اجلويني (تويف 478ﻫ)" :ونحن
نعلم قطعا �أن الوقائع التي يتوقع وقوعها ال نهاية لها ،والر�أي املبتوت املقطوع به عندنا �أنه ال تخلو
واقعة عن حكم اهلل تعاىل متلقى من قاعدة ال�شرع ".4وقال �أي�ضا" :لو انح�صرت م�آخذ الأحكام
.1حممد الروكي ،نظرية التقعيد الفقهي و�أثرها يف اختالف الفقهاء ،الرباط :من�شورات كلية الآداب والعلوم الإن�سانية،
�سل�سلة ر�سائل و�أطروحات ،رقم ،25ط1414( ،1ﻫ1994/م)� ،ص.13
� .2أحمد الري�سوين ،الكليات الأ�سا�سية لل�شريعة الإ�سالمية ،حركة التوحيد والإ�صالح� ،إ�صدار اللجنة العلمية،الرباط:
مطبعة طوب بري�س2007 ،م� ،ص.22
.3الر�سالة� ،ص.20
� .4أبو املعايل اجلويني ،الربهان يف �أ�صول الفقه ،بريوت :دار الكتب العلمية/لبنان ،ط1418( ،1ﻫ1997/م)،
.3/2وانظر :القواعد الأ�صولية عند الإمام ال�شاطبي ،من خالل كتابه املوافقات للدكتور اجليالين املريني ،وهو
ر�سالة جامعية قدمت لنيل دبلوم الدرا�سات العليا بدار احلديث احل�سنية-الرباط ،حتت �إ�شراف د .حممد ي�سف،
www.arrabita.ma
7 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
يف املن�صو�صات واملعاين امل�ستثارة منها ملا ات�سع باب االجتهاد ،ف�إن املن�صو�صات ومعانيها املعزوة
�إليها ال تقع من مت�سع ال�شريعة غرفة من بحر ،ولو مل يتم�سك املا�ضون مبعان يف وقائع مل يعهدوا
�أمثالها ،لكان وقوفهم عن احلكم يزيد عن جريانهم".1...
ويقول �أبو حامد الغزايل (تويف 505ﻫ) ":وقد ج ّوزه القا�ضي حتى كان يوجبه ،وقال :امل�آخذ
حم�صورة ،والوقائع ال نهاية لها ،فال ت�ستوي فيها م�سالك حم�صورة ...واملختار عندنا �إحالة ذلك
وقوعا يف ال�شرع ال جوازا يف العقل ،لعلمنا ب�أن ال�صحابة على طول الأع�صار ما انحجزوا عن
واقعة ،وما اعتقدوا خلوها عن حكم اهلل ،بل كانوا يهجمون عليها هجوم من ال يرى لها ح�صرا".2
وتتجلى �أهمية ا�ست�صحاب الفقيه للن�صو�ص ال�شرعية العامة ومبادئها الكربى عندما تتوارد
عليه الق�ضايا والنوازل الفقهية التي مل ترد فيها ن�صو�ص �شرعية خا�صة ،فتجد العديد من
الفقهاء يتك ّلف يف ت�أويل بع�ض الن�صو�ص ال�شرعية لإيجاد العالقات بينها وبني ما ُي ْع َر ُ�ض عليه من
ويتع�سف �أحيانا يف ا�ستح�ضار الأ�شباه والنظائر القدمية للقيا�س عليها ،وهم بذلك تلك النوازلّ ،
يرهقون �أنف�سهم دون �أن يقنعوا كثريا من �سائليهم.
وقد ن ّبه �إىل هذا الأ�ستاذ �أحمد الري�سوين قائال" :وجند كثريا من ال�سادة الفقهاء حني
بحثهم حلكم من الأحكام الفقهية يجمعون له كل ما لديهم من ن�صو�ص جزئية ذات ال�صلة،
ومن �أقوال ال�سلف و�آراء اخللف ،والأقي�سة ،والتخريجات ،والت�شبيهات ،وقد يكون منها ما هو
غري �صالح� ،أو غري مالئم� ،أو �ضعيف ال�صلة باحلالة �أو النازلة مو�ضوع البحث ،ولكنهم قليال ما
يحتكمون �إىل عمومات ال�شريعة وكلياتها وقواعدها ومقا�صدها ،وقلما يجعلونها حاكمة".3
و�إذا كان هذا ي�صدر عن بع�ض الذين ُي ْر َجى منهم �إنار ُة َد ْر ِب االجتهاد وتذليل �سبله ،فما
بالك بالعوام ،ف�إنك �إن و ّليت وجهك �شطرهم ر�أيت و�سمعت العجب العجاب؛ "فرتى فريق ًا ممن
1990م/ر� ،80 .ص.112
.1الربهان ،م� ،س .163 -262/2 ،وانظر� :أبو املظفر من�صور بن حممد بن عبد اجلبار ال�سمعاين (تويف 489ﻫ)،
قواطع الأدلة يف الأ�صول ،حتقيق حممد ح�سن حممد ح�سن �إ�سماعيل ال�شافعي ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1418ﻫ1997/م).260/2 ،
� .2أبو حامد الغزايل ،املنخول من تعليقات الأ�صول ،حتقيق حممد ح�سن هيتو ،دم�شق :دار الفكر ،ط،2
(1400ﻫ1980/م)� ،ص.485
.3الكليات الأ�سا�سية ،م� ،س� ،ص.117
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 8
ي�ستحق و�صف الأم ّية يف ال�شريعة ي�أخذ ببع�ض جزئياتها يهدم به كلياتها حتى ي�صري منها �إىل ما
ظهر له ببادئ الر�أي من غري �إحاطة مبقا�صد ال�شارع".1
وال�صواب ،واهلل �أعلم� ،أن الفقهاء احلذاق ال تعوزهم الن�صو�ص العامة والأ�صول الكربى لهذه
ال�شريعة الكاملة اخلامتة عن احلكم يف م�س�ألة من امل�سائل امل�ستحدثة قيد �أمنلة ،بل �إن الأدلة
الكلية الإجمالية العامة قد تكون داللتها على الأحكام �أكرث قطعا ،و�أرجح اعتبارا من تلك اجلزئية
والتف�صيلية واخلا�صة ،2وف�ضل ال�شاطبي (تويف 790ﻫ) يف التنبيه على هذه املعاين م�شهود ،فهو
الذي "نظر للفروع من خالل الأ�صول ،وعمل على ا�ستقراء الكليات ال�شرعية والعقلية متخذا
منها �أ�صوال ملعرفة املقا�صد ".3ومن خالل ذلك ي�ؤكد ال�شاطبي على �أن قاعدة مراعاة التفاوت
بني الكليات واجلزئيات "هي يف ال�شريعة بالغة مبلغ القطع ملن ا�ستقر�أ ال�شريعة يف مواردها
وم�صادرها".4
وتبعا لذلك يقرر ال�شاطبي �أن "الكلي �إذا عار�ضه اجلزئي فال �أثر للجزئي ".5و�أن "املكمل
�إذا عاد على الأ�صل بالنق�ص �سقط اعتباره".6
وكم هو جميل ذلك املنظور الذي �أط ّل به الدكتور طه جابر العلواين على بنية الفكر املقا�صدي
احلديثَ ،ف ِل ُح ْ�س ِن بلورة الفكر املقا�صدي من حيث املنطلقات والغايات ينبغي االنطالق عنده،
من مبادئ "العهد ،واال�ستخالف ،والأمانة ،واالبتالء ،ثم الت�سخري"؛ لأنها جميعا تدفع باجتاه
�صياغة الكليات الناظمة للجزئيات ،وبالتايل فهي متثل املقا�صد العليا التي ما ا�ستخلف الإن�سان
�إال لتحقيقها ،وهي " التوحيد والتزكية والعمران".7
www.arrabita.ma
9 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
وهذه الأ�صول ال�شرعية الكلية منها ما هو �آية ،ومنها ما هو حديث ،ومنها ما هو جزء منهما،
ومنها ما هو مت�ألف من جمموع ن�صو�ص �شرعية ،فمن ذلك على �سبيل املثال ال احل�صر :قوله
ف ،و ََأ ْعرِ ْ
ض عَ ِن الْجَاهِلِي َن ﴾ (الأعراف.)199 : خذِ ال ْعَفْوَ ،وَام ُ ْر بِال ْعُرْ ِ
�سبحانه وتعاىلُ ﴿ :
فقد ت�ض ّمنت هذه الآية قواعد الت�شريع يف امل�أمورات واملنهيات ،وفيها كل �أ�صول الأخالق،
يقول عالل الفا�سي (تويف 1394ﻫ)" :هذه الآية جتمع �أ�صوال كلية لتلك القواعد ال�شرعية،
والأحكام العملية ،والف�ضائل النف�سية ...وقال جعفر ال�صادق :لي�س يف القر�آن �آية �أجمع ملكارم
الأخالق من هذه الآية".1
ل مِثْق َا َ
ل ذ ََرّة ٍ ش َ ّرا يَرَه ﴾
ً ل ذ ََرّة ٍ َ
خيْرًا يَرَه .وَم َ ْن ي َ ْعمَ ْ ـ قوله �سبحانه وتعاىل ﴿ :فَم َ ْن ي َ ْعمَ ْ
ل مِثْق َا َ
(الزلزلة.)9-8 :
يقول �أحمد الري�سوين" :ولو مل يكن يف القر�آن الكرمي غري قوله ﴿ فَم َ ْن ي َ ْعمَ ْ
ل مِثْق َا َ
ل ذ ََرّة ٍ
َخيْرًا يَرَه .وَم َ ْن ي َ ْعمَ ْل مِثْق َا َل ذ ََرّة ٍ ش َ ً ّرا يَرَه ﴾ لكفت؛ لأن فيها جماع الرتغيب يف كل خري وبر،
2
وجماع الرتهيب من �شر و�ضر".
ن ِ
تجَارَة ً لِ ،إلا ّ َ َأ ْن ت َ ُ
كو َ كل ُوا َأ ْموَالَكُ ْم بَيْنَكُ ْم بِال ْبَا ِ
ط ِ ـ قوله تعاىل ﴿ :يَا َأيّ ُهَا ال ّ َذِي َ
ن ءَامَنُوا لا تَا ُ
اض مِنْكُ ْم ،وَلا تَقْتُل ُوا َأنف َُسكُمُِ ،إ ّ َن الل َّه َ َكا َن بِكُ ْم رَحِيما ً ﴾ (الن�ساء.)29 : عَ ْن تَر َ ٍ
تنبيهات
عند احلديث عن عالقة الكلي باجلزئي يف نوازل الفقه الإ�سالمي يجب توجيه ذلك ب�أمور
هامة ،منها:
الأمر الأول� :أن اجلزئيات لي�ست نوعا واحدا ،بل على نوعني:
.1عالل الفا�سي ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ومكارمها ،الدار البي�ضاء :مطبعة النجاح اجلديدة ،ط،4
(1411ﻫ1991/م)� ،ص.200-198
.2الكليات الأ�سا�سية ،م� ،س� ،ص.32
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 10
ـ النوع الأول؛ نوع ا�ستقل ال�شرع ببيانه وتف�صيله ،وهذا لي�س لنا �إال �أن نكون فيه تبع ،وي�شمل
هذا الق�سم كل الأحكام املبينة يف القر�آن وال�سنة ،ككثري من �أحكام ال�صالة ،والزكاة ،وال�صوم،
واحلج ،والعمرة ،واجلهاد ،واحلدود ،والبيوع ،والأنكحة ،واملواريث ...وغريها ،قال ال�شاطبي
(تويف 790ﻫ)" :فقد يعترب ال�شارع من ذلك ما ال تدركه العقول �إال بالن�ص عليه ،وهو �أكرث ما
دلت عليه ال�شريعة يف اجلزئيات؛ لأن العقالء يف الفرتات قد كانوا يحافظون على تلك الأ�شياء
مبقت�ضى �أنظار عقولهم ،لكن على وجه مل يهتدوا به �إىل العدل يف اخللق واملنا�صفة بينهم ،بل
كان مع ذلك ال َه ْرج واقعا "1...ولأجل دفع ذلك �أو تقوميه توىل اهلل �سبحانه بيان هذه الأحكام،
وغريها ،ليال تكون عقول النا�س عر�ضة لالختالف يف فهمها ،والتباين يف تقدير �أحوالها ،ثم
التنازع �أحكامها وهي�آت �إقامتها.
ـ النوع الثاين؛ ما �سكت ال�شرع عنه ،و�أوكل لأهل العلم البحث يف �أحواله ال�ستنباط �أحكامه،
وذلك ب�أن ير ّدوه �إىل وجوه امل�صالح املعتربة يف ال�شرع� ،سواء كانت �أعيانا ت�شبهها� ،أو �أ�صوال
ت�شملها� ،أو مبادئ عامة كلية مطلقة حتكمها ،واملعهود من ت�صرفات ال�شارع �أنه "ال يطبق املبادئ
العامة تطبيقا �آليا ،و�إمنا يطبقها ليحقق بها نفعا �أو يدفع بها �ضررا".2
www.arrabita.ma
11 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
الكليات املقا�صدية؛ وهي املعاين الأولية والغايات الأ�سا�سية اجلامعة التي لأجلها خلقت
اخلالئق وو�ضعت ال�شرائع والتكاليف ،وعلى �أ�سا�سها كانت احلياة واملوت والبعث والن�شور.
الكليات اخللقية؛ �إذ الأخالق بطبيعتها ق�ضايا كلية.
الكليات الت�شريعية؛ وهي املبادئ والقواعد املت�صلة ات�صاال مبا�شرا بتفريع الأحكام العملية.1
الأمر الرابع :من املجازفة القول بقلة �آيات الأحكام "اجلزئية والكلية"4
�إن القول بق ّلة عدد �آيات الأحكام� ،أو ح�صرها يف عدد معلوم قد ج ّرب �أقوام فعله ،و�أف�سد
�آخرون ت�أويله ،وكادوا ،ب�سببهَ ،ي ِ�س ُمون ال�شريعة الكاملة بالنق�صان وهي عن ذلك متعالية؛ فقد
.1انظر تف�صيل القول يف هذه الأ�صناف الأربعة يف الكليات الأ�سا�سية ،م� ،س ،من �ص� 53إىل �ص.82
.2املوافقات ،م� ،س.288/1 ،
.3امل�صدر نف�سه.302/1 ،
ال�شح ،يف تقدير �آيات الأحكام
.4وقد �أرجع الأ�ستاذ �أحمد الري�سوين ذلك �إىل �أمرين اثنني ،فقال" :وهذا الت�ضييق� ،أو ّ
ينبني �أوال على الت�ضييق الذي ح�صل يف مفهوم ال�شريعة والت�شريع والأحكام ال�شرعية ...وينبني ثانيا على ح�صر
مفهوم (الأحكام ) يف الأحكام اجلزئية التطبيقية املبا�شرة ".الكليات الأ�سا�سية ،م� ،س� ،ص.117
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 12
ع ّدها الغزايل (تويف 505ﻫ) يف امل�ست�صفى فقال" :وهو مقدار خم�سمائة �آية "1ووافقه على ذلك
ابن العربي (تويف 463ﻫ) والفخر الرازي (تويف 606ﻫ) وابن قدامة املقد�سي (تويف 620ﻫ)
و�شهاب الدين القرايف (تويف 684ﻫ) وغريهم.2
واحلقّ �أن الأمر لي�س كذلك ،ف�إن الفقيه ال َك ّي�س الفطن احلذق ي�ستخل�ص من �آيات الوعظ
والأخبار والق�ص�ص والأمثال ،وغريها مما مل ُي َ�سقْ للأحكام بالأ�صالة ،الكثري من الأحكام،
يقول جنم الدين الطويف (تويف 716ﻫ)" :ق ّل �أن يوجد يف القر�آن �آية ال ي�ستنبط منها �شيء من
الأحكام ".3وما قيل عن القر�آن العظيم ،هاهناّ ،
ي�صح قوله عن ال�سنة امل�شرفة كذلك.
وقال ال�شوكاين (تويف 1250ﻫ)" :من له فهم �صحيح وتقدير كامل ي�ستخرج الأحكام من
الآيات الواردة ملجرد الق�ص�ص والأمثال ...ولعلهم ق�صدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام داللة
�أولية بالذات ال بطريق الت�ضمن وااللتزام".4
www.arrabita.ma
13 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
و ِقبلة هذا النوع من االجتهاد يجب �أن تكون حتقيق التنمية امل�ستدامة يف جميع جماالت
احلياة :كرامة الإن�سان ،ونه�ضة العمران ،ونظافة ال�سيا�سة ،وقوة االقت�صاد ،وجودة البيئة...
التخ�ص�صات ،وقدميا قيل:
ّ مبد َ�أي توزيع املهام ،واحرتام
وغريها ،و�أَ ْف َي ُد ما فيه �أنه يقوم على َ
"لغة ال�شعر ال ت�صلح لدار الق�ضاء ".ولذلك ف�إننا ن�ؤكد على �أن من م�ستلزمات العمل اجلماعي
الت�شاوري التزام �أدب االختالف ،ف�إن غابت هذه الآداب َح َ�ض َر ْت ُ�أ ُمو ٌر �ش ٌّر ُكلُّها ،منها :و�ضع
حركة االجتهاد يف تعطيل ،وفتح املجال لذوي الأهواء والأباطيل ،وجعل العوام يف فو�ضى وت�ضليل.
وينبني على هذا الأ�صل وجوب التزام اجلهات الر�سمية بتمكني �أهل االجتهاد املقا�صدي
�صنيَ) من التعاون والت�شاور يف د ْرك مقا�صد ال�شارع ،حتت �شعار ﴿ وتعاونوا
(املُخْ ِل ِ�ص َني املُت ََخ ِّ�ص ِ
على البر ّ والتقوى ،ولا تعاونوا على الا ِثم والعدوان ﴾ (املائدة )3 :وهو الذي ال منا�ص له من
غري املجامع العلمية والفقهية ال�سديدة ،على �أن " ّ
ي�ضم هذا املجمع من كل قطر �إ�سالمي �أ�شهر
فقهائه الرا�سخني ممن جمعوا بني العلم ال�شرعي ،واال�ستنارة الزمنية ،و�صالح ال�سرية والتقوى،
وين�ضم �إىل ه�ؤالء علماء م�سلمون موثوقون يف دينهم من خمتلف االخت�صا�صات الزمنية الالزمة ّ
يف �ش�ؤون االقت�صاد واالجتماع والقانون والطب ونحو ذلك ،ليكونوا مبثابة خرباء يعتمد الفقهاء
ر�أيهم يف االخت�صا�صات العلمية غري الفقهية؛ وذلك لكي تكون الأحكام الفقهية التي ت�صدر عن
املجمع مبنية على فهم و�إدراك لواقع احلال يف كل مو�ضوع وم�س�ألة".1
وما �أَ َد َّق ما قاله م�صطفى �أحمد الزرقاء" :لقد كان االجتهاد الفردي �ضرورة يف املا�ضي،
وهو اليوم �ضرر كبري ".2وي�شهد لهذه ال�ضرورة واق ُع الع�صر ومنطقُ العقل على ال�سواء؛ ذلك
�أن �أُ َحا ُد َّي ُة التفكري مل َي ُع ْد ب�إمكانها اليوم ،قطع ًا ،الإحاطة مبا يج ّد يف دنيا النا�س من وقائع
بخوا�ص تلك الوقائع ودقائق تلك العلوم
ّ ومعارف يف �شتى جماالت احلياة ،فما بالك الإحاطة
واملعارف!! ،هذا من جهة ،ومن جهة �أخرى ،ف�إن برهان العقل القاطع يق�ضي با�ستحالة ا�ستقالل
الفرد الواحد مبعرف الع�صر مهما كان مبلغ علمه ،وم�ستوى ذكائه ،وجودة مناهجه ...وبهذا
الزما ،فت�شمله قاعدة" :املقدور عليه
الت�صور ي�صري االجتهادي املقا�صدي املنظم ،اليوم� ،أم ًرا ً
الذي ال يتم الواجب املطلق �إال به واجب".3
.1جملة اجلامعة الإ�سالمية ،العدد 1409( :22ﻫ1989/م)� ،ص.156
.2امل�صدر نف�سه ،من البحث الذي �شارك به م�صطفى �أحمد الزرقاء بعنوان :االجتهاد ودور الفقه يف حل امل�شكالت.
.3تاج الدين عبد الوهاب بن ابي احل�سن ال�سبكي (تويف 771ﻫ) ،جمع اجلوامع ،بريوت :دار ابن حزم/لبنان ،ط،1
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 14
فيدرك بع�ضُ فقد يبذل املجته ُد ُق َ�صا َرى ُج ْه ِد ِه يف الإحاطة مبتعلقات ق�ضي ٍة اجتماعي ٍة ،مثال،
جوانبها ويغفل عن البع�ض الآخر ،وقد يتو ّفق يف َد ْرك جميع جوانبها االجتماعية لكنه يغفل عن
بع�ض جذورها التاريخية� ،أو �آثارها النف�سية� ،أو انعكا�ساتها االقت�صادية فتتكون فتواه خمالفة
يطلع املجتهد على بع�ض الن�صو�ص ال�شرعية ذات ال�صلة باملو�ضوع لق�صد ال�شارع فيها ،بل قد ال ّ
فيحكم بخالفها ،وقد يطلع على ذلك الن�ص ال�شرعي ثم ين�ساه ،وقد يذكره �ساعة التنزيل وال
الن�ص و ُيح�سنُ فهمه لكن يفوته العلم بكونه من�سوخا� ،أو ُ َ
م َّّ�ص ً�صا� ،أو يح�سن ت�أويله ،وقد َي ْح ُ�ض ُر ُه ُّ
مق َّيدا� ،أو م�ستثنى من قاعدة عا ّمة� ...أو نحو ذلك مما هو معلوم يف �أ�صول الفقه� .إنها العوار�ض
الب�شرية التي حتول دون كمال العمل الإن�ساين�" ،1سنة اهلل تعاىل يف الذين خلوا من قبل"؛
﴿ وخلق الا ِنسان ضعيفا ﴾ (الن�ساء)28 :
ومن �شعر ب�شار بن برد:
ومن ذا الذي ُت ْر َ�ضى َ�س َجا َيا ُه ُكلُّها كفى باملرء ُن ْب ًال �أَنْ ُت َع َّد َم َعا ِي ُب ُه
www.arrabita.ma
15 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
وال�شاهد �أن الفراء ،وهو ممن برع يف فن النحو ،كان الأليق به التحري ،واال�ستعانة ب�أهل
التخ�ص�ص من الفقهاء ،ال �أن يجرتئ الإجابة عن �شيء من دقائق علم الفقه ،لذلك ال يعترب
جوابه ،و�إن �أ�صاب َع َر ً�ضا� ،أبدا �صوابا ،ولأجل هذا املعنى ر ّد عليه ال�شاطبي بقوله :ف�أنت ترى ما
ال�ضعف؛ �إذ ال يجمعهما يف املعنى �أ�صل حقيقييف اجلمع بني الت�صغري وال�سهو يف ال�صالة من ّ
فيعترب �أحدهما بالآخر".1
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 16
والتقليد الذي هو �آفة احلركة االجتهادية عموما ،ومعيق النه�ضة املقا�صدية خ�صو�صا ،قيل
فيه تعريفات منها :قبول الأقوال بال حجة ،وقيل :قبول قول من ال يدري من �أين يقول ،وقيل غري
ذلك .1وهو �أ�شكال و�أنواع ،ولعل من �أخطر �أنواعه ما كان ممزوجا بالوجدان الأبوي واحلنني �إىل
املا�ضي.
وبيان ما م�ضى �أن كثريا من امل�شتغلني بعلوم ال�شريعة �إذا حت ّدث عن ن�ش�أة تلك العلوم ودواوينها
ورجاالتها ...يثني عن الزمن املا�ضي ،ويق ّبح �أحوال الزمن احلا�ضر ،ويتوج�س من الزمن املقبل؛
فك�أمنا قر�أ ه�ؤالء على حا�ضر الدنيا ال�سالم ،و�صار املا�ضي عندهم وحده الزمن اجلميل ،كما
يعبون عنه ،لذلك جتدهم �أكرث النا�س ثقة مبوروثه ،وركونا �إىل مقوالت �أهله ...لأنه تركة الآباء ّ
والأجداد ،وخال�صة جتربة الأ�سالف ،املخطوط وامللفوظ منه يف وجوب االقتداء عندهم �سواء!
وه�ؤالء ،بت�صوراتهم وت�صرفاتهم هذه ،يو ّرثون �أنف�سهم مذ ّلة التقليد ،ويع ّودون �أل�سنتهم
تبي وال نقد وال مراجعة ،لتتّ�سع بذلك عادة اجرتار معارف ومقوالت ال�سابقني دون رو ّية وال ّ
دائرة ت�أثري معارف املا�ضي على عقولهم ،وت�شت ّد وط�أته على متثالتهم ،حتى ي�صري الواق ُع املعي�ش
لديهم وا ِق َع ْ ِي ،واق ٌع حا�ض ٌر عيا ًنا وواق ٌع م�ستح�ض ٌر ذهنا ،والأخطر يف الأمر �أن يغلب الثاين ال َ
أول
ال�سديد
فيبطله ،ك�أن يعتقد املرء �أن الأولني مل يرتكوا للمت�أخرين ما ي�ستزيدون به من الر�أي ّ
والعلم املفيد ،وهلل ذ ّر الناظم �إذ قال:
ق ــل ملن ال يرى للأواخر �شيئـا ويـ ـ ــرى للأوائـ ـ ـ ــل التقدميـا
و�سيغدو هــذا احلديـث قدميا �إن ذاك القديـم كـ ــان حديثــا
و�أخطر من ذلك و�أهول �أن يجد التقليد لأهل الإفتاء والق�ضاء طريقه ،و�أن يتمكن من عقولهم
فيفعل بها فعلته� ،إنه الأ�سر والتكبيل عن ك ّل �أ�شكال الإبداع والتجديد ،ومن روائع كالم �أبي املعايل
اجلويني (تويف 478ﻫ) يف هذا ال�صدد ت�أكيده على �أن " ال�سابق و�إن كان له حق الو�ضع والت�أ�سي�س
والت�أ�صيل ،فللمت�أخر حق التتميم والتكميل ...ثم يتدرج املت�أخر �إىل التهذيب والتكميل ،فيكون
.1انظر املنخول ،م� ،س� ،ص ،473-472ونهاية ال�سول يف �شرح منهاج الأ�صول ،617/4 :والإن�صاف يف بيان �أ�سباب
االختالف ،لويل اهلل الدهلوي (تويف 1176ﻫ) ،تعليق عبد الفتاح �أبو غدة ،دار النفائ�س ،ط1397( ،1ﻫ1977/م)،
�ص 97وما بعدها.
www.arrabita.ma
17 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
املت�أخر �أحق �أن ُيتّب َع جلمعه املذاهب ...وهذا وا�ضح يف احلرف وال�صناعات ف�ضال عن العلوم
وم�سالك الظنون ،وهذه طريقة كل من�صف ،ولي�س فيها تعر�ض لنق�ض مرتبة �إمام".1
ويو�ضح ذلك حممد بن علي ال�شوكاين (تويف 1250ﻫ) حينما ي�ؤكد �أن زمن �أبي حنيفة (تويف
150ﻫ) ومالك (تويف 179ﻫ) وال�شافعي (تويف 204ﻫ) و�أحمد (تويف 241ﻫ) مل يكن فيه مذهب
معي يتدار�سونه ،و�أن حدوث التمذهب مبذاهب الأئمة الأربعة �إمنا كان بعد انقرا�ض ه�ؤالء رجل ّ
الأئمة ،و�أن هذه املذاهب �إمنا �أحدثها عوام املقلدة لأنف�سهم من دون �أن ي�أذن بها �إمام من الأئمة
املجتهدين.2
التع�صب املذهبي؛ العقدي واحلزبي والفقهي ...فال ّ ويلحق مبا ُذكر كل �أ�شكال ومظاهر
ينبغي لرواد الفكر املقا�صدي التق ّيد املطلق ب�أقوال املا�ضني واعتقاده ال�صواب الذي ال مرية فيه،
الحتمال �أن يكون اخلط�أ الذي ال �شك فيه ،ولأن احلق �أحقّ �أن يعلى ،وال�صواب �أجدر �أن يتبع،
فليكن العمل املقا�صدي م�ؤ�س�سا على وفق هذه القاعدة "�إذا انتظم الدليل على �إثبات مق�صد
�شرعي وجب على املتجادلني فيه �أن ي�ستقبلوا قبلة الإن�صاف ،وينبذوا االحتماالت ال�ضعاف".3
و�أن املجتهد ال يجوز له �أن يقلد غريه يف حق نف�سه وال يف حق غريه.4
ويف هذا يقول العز بن عبد ال�سالم (تويف 660ﻫ)" :ومن العجب العجاب �أن الفقهاء املق ّلدين
يقف �أحدهم على �ضعف م�أخذ �إمامه بحيث ال يجد ل�ضعفه مدفعا وهو مع ذلك يقلده....بل يتحيل
لدفع ظاهر الكتاب وال�سنة ويت�أولهما بالت�أويالت البعيدة الباطلة ن�ضاال عن مقلده".5
وما �أَ َّل َف جالل الدين ال�سيوطي ر�سالته امل�سماة "الر ّد على من �أخلد �إىل الأر�ض وجهل �أن
االجتهاد يف كل ع�صر فر�ض" �إال للت�أكيد على هذا املعنى ،ولل�شوكاين كتاب مفيد يف املو�ضوع
.1الربهان ،م� ،س ،744/2 ،وانظر الإن�صاف يف بيان �أ�سباب االختالف ،م� ،س� ،ص 68وما بعدها.
.2نقال عن جملة العربي� ،ص ،32العدد ،224 :رجب 1397ﻫ /يوليوز 1977م ،عنوان املقال "من ي�سبح �ضد التيار"
لفهمي هويدي.
.3مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،م� ،س� ،ص .17
.4عالء الدين عبد العزيز بن �أحمد البخاري (تويف 730ﻫ) ،ك�شف الأ�سرار عن �أ�صول فخر الدين البزودي ،بريوت :دار
الكتب العلمية/لبنان ،ط1418( ،1ﻫ1997/م) د .ت .20/4 ،وانظر جمع اجلوامع� ،ص.68
.5انظر الإن�صاف يف بيان �أ�سباب االختالف ،م� ،س� ،ص.99
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 18
عنوانه "القول املفيد يف �أدلة االجتهاد والتقليد" ،وكذلك فعل �آخرون يف كتب خا�صة �أو �أجزاء
منها.
مثال التجريد يف علم املقا�صد (امل�صالح واملفا�سد املح�ضة بني الوجود والعدم)
لعلي ال �أجد مثاال �أبني لإبراز مدى معاناة الأبحاث املقا�صدية ،قدميا وحديثا ،من �آفة
التجريد والتعقيد مثل ق�ضية (امل�صالح واملفا�سد املح�ضة) ،مع �أنها من املوا�ضيع التي يقع فيها
الدور والت�سل�سل ،وفيما يلي بيان موجز لذلك:
يف �س ّياق حديث �أهل املقا�صد عن �أفعال املكلفني وما َي ْع ِر ُ�ض لها من �صالح وف�ساد ،جندهم
يتّفقون ابتدا ًء على �أنها حم ّل المتزاج امل�صالح باملفا�سد ،و�أن الواجب على �أهل العلم ح ّيال ذلك
نهج �أ�سلوب التقريب والتغليب لد ْرك �أي القبيلني هو الغالب َِل ُي ْعترب ،و�أيهما املغمور ِل ُي ْهدر ،ولكنهم
ُ
انعدام امل�صالح واملفا�سد املح�ضة ،ويف هذا ال�ش�أن ت�سرت�سل ِ يختلفون ،بعد ذلك ،يف حكم وجو ِد �أو
خطاباتهم يف املو�ضوع �إىل �أن تنبت فروعا وتنتج خيوطا ال تقبل الرتتيب والتهذيب ،وال تخ�ضع
لقانون تدبري االختالف ،بل �إن َمن ينظر يف عمق هذا االختالف ويت�أمل مداه يجده بالغا ح ّد
ال�صورية والتجريد؛ وبيان ذلك �أنهم انق�سموا يف مواقفهم جتاه هذا النوع من امل�صالح واملفا�سد ّ
ومثبت له ،واملثبتون �أنواع؛ فمنهم مق ُّر بكرثة الوجود ،وقائ ُل بندرته ،و�ساكتُ عن منكر لوجوده ٍ بني ٍ
عر�ض مرك ٌز لأهم مذاهب �أهل العلم يف امل�س�ألة: و�صفه بوفرة �أو قلة ،وفيما يلي ٌ
www.arrabita.ma
19 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
يقول ابن قدامة املقد�سي (تويف 620ﻫ) يف كتابه املغني" :ال�شرع ال َي ِر ُد بتحرمي امل�صالح
التي ال م�ض ّرة فيها ،بل مب�شروعيتها"1؛ َف ُيفهم من هذا الكالم ،ومثله� ،إقرار الرجل بوجود
يف�صل القول يف ن�سبة هذا الوجود �أكثري �أم قليل؟
امل�صالح املح�ضة ،ولكنه مل ّ
�أما العز بن عبد ال�سالم (تويف 660ﻫ) فعند تتبع كالمه يف �ش�أن طرائق الرتجيح بني
امل�صالح املفا�سد املتعار�ضة جنده ي�ص ّرح بوجود ما هو ُم َت َم ِّح ٌ�ض منها ،فهو ُي َع ِّ ُب عنها بامل�صالح
واملفا�سد (اخلل ّية) ،ويف ذلك يقول" :وال�ضابط �أنه مهما ظهرت امل�صلحة اخلل ّية عن املفا�سد
ي�سعى يف حت�صيلها ،ومهما ظهرت املفا�سد اخلل ّية عن امل�صالح ي�سعى يف درئها ،و�إن التب�س احلال
احتطنا للم�صالح بتقدير وجودها وفعلناها ،وللمفا�سد بتقدير وجودها وتركناها".2
غري �أنه حينما يتحدث ،بالأ�صالة ،عن طبيعة هذا الوجود ي�ؤكد على �أن "امل�صالح اخلال�صة
عزيزة الوجود ".3وهذا يعني ت�سليمه بوجود �شيء من امل�صالح واملفا�سد املح�ضة� ،إال �أنه وجو ٌد
نادر جدا؛ لأن �أكرث �أفعال العباد يف الغالب متتزج فيها امل�صالح واملفا�سد يف �آن واحد ،فكان
اخلال�ص منها يف حكم النادر وجوده.
و�أما �شهاب الدين القرايف (تويف 684ﻫ) فيجزم متام اجلزم بانعدام امل�صالح اخلال�صة
املتمح�ضة يف الدنيا ،وي�ستدل على ذلك بدليل من �أقطع الأدلة ال�شرعية� ،أال وهو دليل
واملفا�سد ّ
اال�ستقراء ،حيث يقول" :ا�ستقراء ال�شريعة يق�ضي �أن ما من م�صلحة �إال وفيها مف�سدة ولو ق ّلت
على البعد ،وال مف�سدة �إال وفيها م�صلحة و�إن ق ّلت على البعد "4...ومعنى هذا املذهب �أنك مهما
حت�صل م�صلحة خال�صة وال مف�سدة بحثت يف �أفعال املكلفني ،الواقعة �أو املفرت�ضة ،ف�إنك لن ّ
حم�ضة �أبدً ا.
.1ابن قدامة املقد�سي ،املغني ،حتقيق د .عبد اهلل بن املح�سن الرتكي ود .عبد الفتاح حممد احللو ،مطبعة هجر ،ط،2
(1412ﻫ1992/م).436/6 ،
.2العز بن عبد ال�سالم (تويف 660ﻫ) ،قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام ،من�شورات حممد علي بي�ضون ،بريوت :دار
الكتب العلمية/لبنان ،ط1420( ،1ﻫ1990/م).43/1 ،
.3املرجع نف�سه.14/1 ،
� .4شرح تنقيح الف�صول ،م� ،س� ،ص.78
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 20
و�أما ابن تيمية (تويف 728ﻫ) فيق ّر بوجود امل�صالح املح�ضة ،ولكن من غري �أن يق ّيد هذا
الوجود بق ّلة وال كرثةُ ،يفهم ذلك من قوله" وال�شارع ال يحظر على الإن�سان �إال ما فيه ف�ساد راجح
�أو حم�ض ،ف�إذا مل يكن فيه ف�ساد� ،أو كان ف�ساده مغمورا بامل�صلحة ،مل يحظره �أبدا".1
و�إذا ت�ص ّفحنا كتاب املوفقات لأبي �إ�سحاق ال�شاطبي (تويف 790ﻫ) وجدناه يدر�س هذا
املو�ضوع بتف�صيل غري م�سبوق ،فيما نعلم ،فهو ينظر �إليه بنظرين اثنني ،فيق ّرر �أن "امل�صالح
املبثوثة يف هذه الدار ُينظر �إليها من جهتني :من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق اخلطاب
ال�شرعي بها.
ف�أما املنظور الأول :ف�إن امل�صالح الدنيوية ،من حيث هي موجودة هنا ،ال يتلخ�ص كونها
وم�شاق ،ق ّلت �أو كرثت ،تقرتن بها �أو ت�سبقها
ّ م�صالح حم�ضة ...لأن تلك امل�صالح م�شوبة بتكاليف
�أو تلحقها؛ كالأكل ،وال�شرب ،واللب�س ،وال�سكنى ،والركوب ،والنكاح ،وغري ذلك ،ف�إن هذه الأمور
ال تنال �إال بك ّد وتعب.
كما �أن املفا�سد الدنيوية لي�ست مبفا�سد حم�ضة من حيث مواقع الوجود؛ �إذ ما من مف�سدة
تفر�ض يف احلياة اجلارية �إال ويقرتن بها �أو ي�سبقها �أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات
كثري ...ويدلك على ذلك �أن هذه احلياة و�ضعت على االمتزاج بني الطرفني ،واالختالط بني
القبيلني ،فمن رام ا�ستخال�ص جهة فيها مل يقدر على ذلك ،وبرهان التجربة التامة من جميع
اخلالئق ،و�أ�صل ذلك الإخبار بو�ضعها على االبتالء واالختبار والتمحي�ص...
و�أما النظر الثاين فيها :من حيث تعلق اخلطاب بها �شرعا ،فامل�صلحة �إذا كانت هي الغالبة
عند مناظرتها مع املف�سدة يف حكم االعتياد فهي املق�صودة �شرعا ،ولتح�صيلها وقع الطلب على
العباد ،وكذلك املف�سدة �إذا كانت هي الغالبة بالنظر �إىل امل�صلحة يف حكم االعتياد فرفعها هو
املق�صود �شرعا ،ولأجلها وقع النهي ".2فتكون خال�صة مذهب ال�شاطبي (تويف 790ﻫ) النفي
التام لوجود امل�صالح واملفا�سد الدنيوية املح�ضة ،ليكون قوله وقول القرايف (تويف 684ﻫ) يف
امل�س�ألة �س ّيان .مع مت ّيز ال�شاطبي بالنظر الثاين للمو�ضوع وا�ستقالله به.
.1تقي الدين ابن تيمية احلراين (تويف 728ﻫ) ،الفتاوى ،املن�صورة :دار الوفاء ،ط1426( ،3ﻫ2005/م)-338/3 ،
،349وانظر :تعليل الأحكام ،م� ،س� ،ص.377
.2املوافقات ،م� ،س.341-339 /2 ،
www.arrabita.ma
21 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
�أما الطاهر بن عا�شور (تويف 1394ﻫ) فينبه �إىل �أن "النفع اخلال�ص وال�ض ّر اخلال�ص و�إن
كانا موجودين �إال �أنهما بالن�سبة للنفع وال�ضر امل�شوبني يعتربان عزيزين ".1وهو بذلك يوافق
مذهب العز بن عبد ال�سالم بالتمام ،غري �أن هذا الأ�صل عند ابن عا�شور تعر�ض له اعتبارات َ
ع ّدة ،نعتربها من قبيل ت�أمالته الأ�صولية التي ال ينا�سب املقام تف�صيلها.2
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 22
النتيجة الثانية؛ �أنه اختالف يغلب عليه قدر كبري من طابع ال�صورية والتجريد ،فال
يتح�صل من ورائه �أ�سا�س فقهي ُيعمل به ،وال ُبعد م�صلحي ُيركن عند النوائب �إليه ،بل نع ّده ّ
وجها من وجوه ت�أثر الفكر الأ�صويل بخلفية التح�سني والتقبيح العقلي ،وجنزم ب�أن هذه الق�ضية
اجلزئية النظرية ،على �شاكلة مثيالتها ،غالبا ما يقع فيها ال ّدور والت�سل�سل ،بحيث تكون نهاية
البحث فيها ال َع ْو ُد �إىل �أ ّولها ،وبيان ذلك من ثالثة �أوجه ،هي:
الأول؛ َل ْو َق َّد ْر َنا اجلواب بالإيجاب ،ولو على وجه الندرة ،كما هو مذهب العز بن عبد
و�سقنا
املتمح�ض من امل�صالح واملفا�سدُ ،
ّ ال�سالم والطاهر بن عا�شور ،و�أَ ْق َر ْر َنا بوجود هذا النوع
له ال�شواهد ،و�ضربنا له الأمثلة ،و�أخر�صنا املخالف ،و�أر�ضينا امل�ؤالف ...ففيم ينفع ذلك علم
العاملني ،وعمل العاملني؟ لأننا مل نتجاوز ح ّد و�صف ما هو كائن واقع (هذا �صالح حم�ض وهذا
ف�ساد حم�ض).
بال�صالح املح�ض �أو الف�ساد
الثاين؛ وهو نتيجة ل�سابقه ،وحا�صله �أن احلكم على الأفعال ّ
اخلال�ص ال ينتج عنه ،وال يت�ص ّور �أن ينتج؛ �أي اختالف فقهي على م�ستوى الأحكام ال�شرعية،
حم�ض" يحمل يف ثناياه �أحكاما �شرعية متفقا
ٌ ٌ
حم�ض/ف�سادٌ لأن هذا النوع من الأو�صاف " ٌ
�صالح
عليها ،قد يكون الوجوب �أو الندب �أو الإباحة �أو احلرمة ،ك ّل بح�سب ظروف املك ّلف و�أحواله،
وطبيعة التكليف وم�آالته ...ولنربهن على ذلك انطالقا من مثالني ذكرهما ابن عا�شور يف هذا
ال�صدد:
املثال الأول" :التعاون الواقع بني �شخ�صني هو م�صلحة لهما ولي�س فيه �أدنى �ض ّر".1
املثال الثاين" :و�إن �إحراق مال �أحد �إ�ضرار خال�ص".2
فكون الأول (�صالحا حم�ضا) والثاين (ف�سادا خال�صا) يلزم ب�إفادة م�شروعية الإقدام على
الأول ،ووجوب الإحجام عن الثاين ،فهما �إذن ق�ضيتان ال تقبالن اخلالف بني ُك ِّل َمنْ له ُم ْ�س َك ٌة ِمن
عقل ،فكيف بعلماء الفقه و�أرباب االجتهاد!
www.arrabita.ma
23 الفكر املقا�صدي املعا�صر :من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد
www.arrabita.ma