Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 19

‫الدعوة إلى هللا وأخالق‬

‫الدعاة‬
‫الشيخ ‪ /‬عبد العزيز بن عبد هللا بن باز‬
‫رحمه هللا‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫الحمد هلل رب العاليين‪ ،‬والعاقبة للمتقين‪ ،‬وال عدوان إال على الظالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬إله األولين واآلخرين‪ ،‬وقيوم السماوات واألرضين‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده‬
‫ورسوله وخليله وأمينه على وحيه‪ ،‬أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا‪ ،‬وداعيا إلى اهلل بإذنه‬
‫وسراجا منيرا‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى‬
‫سبيله‪ ،‬وصبروا على ذلك‪ ،‬وجاهدوا فيه حتى أظهر اهلل بهم دينه‪ ،‬وأعلى كلمته ولو كره‬
‫المشركون‪ ،‬وسلم تسليما كثيرا أما بعد‪:‬‬
‫فإن اهلل سبحانه وتعالى إنما خلق الجن واإلنس ليعبد وحده ال شريك له‪ ،‬وليعظم أمره ونهيه‪9،‬‬
‫س إِال لِيَ ْعبُدُو ِن) ‪ ،‬وقال عز‬ ‫وليعرف بأسمائه وصفاته‪ ،‬كما قال عز وجل‪َ ( :‬و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َواإْل ِ ْن َ‬
‫اس ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم َوالَّ ِذينَ ِمنْ قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ )‪ ،‬وقال عز وجل‪:‬‬ ‫وجل‪( :‬يَا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ض ِم ْثلَ ُهنَّ يَتَنَ َّز ُل اأْل َ ْم ُر بَ ْينَ ُهنَّ لِتَ ْعلَ ُموا أَنَّ هَّللا َ َعلَى ُك ِّل ش َْي ٍء‬
‫ت َو ِمنَ اأْل َ ْر ِ‬ ‫س َما َوا ٍ‬‫س ْب َع َ‬
‫ق َ‬ ‫(هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫قَ ِدي ٌر َوأَنَّ هَّللا َ قَ ْد أَ َحاطَ بِ ُك ِّل ش َْي ٍء ِع ْل ًما ) ‪.‬‬
‫فبين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبد‪ ،‬ويعظم‪ ،‬ويطاع أمره ونهيه؛‪ 9‬ألن العبادة‪ :‬هي توحيده وطاعته‬
‫مع تعظيم أوامره ونواهيه‪ 9،‬وبين عز وجل أيضا أنه خلق السماوات واألرض وما بينهما ليعلم‬
‫أنه على كل شيء قدير‪ ،‬وأنه قد أحاط بكل شيء علما‪.‬‬
‫فعلم بذلك أن من الحكمة في إيجاد الخليقة‪ :‬أن يعرف اهلل سبحانه بأسمائه وصفاته‪ ،‬وأنه على‬
‫كل شيء قدير‪ ،‬وأنه العالم بكل شيء جل وعال‪ ،‬كما أن من الحكمة في خلقهم وإ يجادهم أن‬
‫يعبدوه ويعظموه ويقدسوه ويخضعوا لعظمته‪.‬‬
‫إن العبادة‪ :‬هي الخضوع هلل جل وعال والتذلل له‪ ،‬وسميت‪ 9‬الوظائف التي أمر اهلل بها المكلفين ‪-‬‬
‫من أوامر وترك نواه ‪ -‬عبادة؛ ألنها تؤدي بالخضوع والتذلل هلل عز وجل ‪.‬‬
‫ثم لما كانت العبادة ال يمكن أن تستقل بتفاصيلها العقول‪ ،‬كما أنه ال يمكن أن تعرف بها األحكام‬
‫من األوامر والنواهي على التفصيل‪ ،‬أرسل اهلل سبحانه وتعالى الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب لبيان األمر‬
‫الذي خلق اهلل من أجله الخلق‪ ،‬وإليضاحه وتفصيله للناس‪ ،‬حتى يعبدوا اهلل على بصيرة‪ 9،‬وحتى‬
‫ينتهوا عما نهاهم عنه على بصيرة‪ ،‬فالرسل عليهم الصالة والسالم هم هداة الخلق‪ ،‬وهم أئمة‬
‫الهدى‪ ،‬ودعاة الثقلين جميعا إلى طاعة اهلل وعبادته‪ ،‬فاهلل سبحانه أكرم العباد بهم‪ ،‬ورحمهم‬
‫بإرسالهم إليهم‪ ،‬وأوضح على أيديهم الطريق السوي‪ ،‬والصراط المستقيم‪ ،‬حتى يكون الناس‬
‫)‪(2‬‬
‫على بينة‪ 9‬من أمرهم‪ ،‬وحتى ال يقولوا‪ :‬ما ندري ما أراده اهلل منا‪ ،‬ما جاءنا من بشير وال نذير‪،‬‬
‫فقطع اهلل المعذرة‪ ،‬وأقام الحجة بإرسال الرسل وإ نزال الكتب‪ ،‬كما قال جل وعال‪َ ( :‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي‬
‫س ْلنَا ِمنْ قَ ْبلِكَ ِمنْ‬ ‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ ) ‪ ،‬وقال سبحانه‪َ ( :‬و َما أَ ْر َ‬ ‫سواًل أَ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬‫ُك ِّل أُ َّم ٍة َر ُ‬
‫سلَنَا بِا ْلبَيِّنَا ِ‬
‫ت‬ ‫وحي إِلَ ْي ِه أَنَّهُ ال إِلَهَ إِال أَنَا فَا ْعبُدُو ِن) ‪ ،‬وقال عز وجل‪( :‬لَقَ ْد أَ ْر َ‬
‫س ْلنَا ُر ُ‬ ‫ول إِال نُ ِ‬
‫س ٍ‬ ‫َر ُ‬
‫س ِط) ‪ ،‬وقال سبحانه‪َ ( :‬كانَ النَّ ُ‬
‫اس أُ َّمةً َوا ِح َدةً‬ ‫اس بِا ْلقِ ْ‬‫َاب َوا ْل ِميزَ انَ لِيَقُو َم النَّ ُ‬ ‫َوأَ ْنزَ ْلنَا َم َع ُه ُم ا ْل ِكت َ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه)‬ ‫س فِي َما ْ‬ ‫ش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ َوأَ ْنزَ َل َم َع ُه ُم ا ْل ِكت َ‬
‫َاب بِا ْل َح ِّ‬
‫ق لِيَ ْح ُك َم بَيْنَ النَّا ِ‬ ‫فَبَ َع َ‬
‫ث هَّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّ‬
‫‪.‬‬
‫فبين سبحانه أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليحكم بين الناس بالحق والقسط‪ ،‬وليوضح للناس‬
‫ما اختلفوا فيه من الشرائع والعقائد‪ ،‬من توحيد اهلل وشريعته‪ 9‬عز وجل‪ ،‬فإن قوله سبحانه‬
‫اس أُ َّمةً َوا ِح َدةً) يعني‪ :‬على الحق‪ ،‬لم يختلفوا من عهد آدم عليه الصالة‬
‫وتعالى‪َ ( :‬كانَ النَّ ُ‬
‫والسالم إلى نوح‪ ..‬كان الناس على الهدى‪ ،‬كما قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬وجماعة من‬
‫السلف والخلف‪ ،‬ثم وقع الشرك في قوم نوح‪ ،‬فاختلفوا فيما بينهم‪ ،‬واختلفوا فيما يجب عليهم من‬
‫حق اهلل‪ ،‬فلما وقع الشرك واالختالف أرسل اهلل نوحا عليه الصالة والسالم‪ ،‬وبعده الرسل‪ ،‬كما‬
‫وح َوالنَّبِيِّينَ ِمنْ بَ ْع ِد ِه)‪ ،‬وقال تعالى‪َ ( :‬و َما أَ ْن َز ْلنَا‬
‫قال عز وجل‪( :‬إِنَّا أَ ْو َح ْينَا إِلَ ْيكَ َك َما أَ ْو َح ْينَا إِلَى نُ ٍ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه َو ُهدًى َو َر ْح َمةً لِقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُونَ) ‪.‬‬ ‫َعلَ ْيكَ ا ْل ِكت َ‬
‫َاب إِال لِتُبَيِّنَ لَ ُه ُم الَّ ِذي ْ‬
‫فاهلل أنزل الكتاب ليبين حكم اهلل فيما اختلف فيه الناس‪ ،‬وليبين شرعه فيما جهله الناس‪ ،‬وليأمر‬
‫الناس بالتزام شرع اهلل والوقوف عند حدوده‪ ،‬وينهي‪ 9‬الناس عما يضرهم في العاجل واآلجل‪ ،‬وقد‬
‫ختم الرسل جل وعال بأفضلهم وإ مامهم‪ ،‬وبسيدهم نبينا وإ مامنا وسيدنا محمد بن عبد اهلل عليه‬
‫وعليهم من ربهم أفضل الصالة والتسليم‪ ،‬فبلغ الرسالة‪ ،‬وأدى األمانة‪ ،‬ونصح‪ 9‬األمة‪ ،‬وجاهد في‬
‫اهلل حق جهاده‪ ،‬ودعا إلى اهلل سرا وجهرا‪ ،‬وأوذي في اهلل أشد األذى‪ ،‬ولكنه صبر على ذلك كما‬
‫صبر من قبله من الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬صبر كما صبروا‪ ،‬وبلغ كما بلغوا‪ ،‬ولكنه أوذي‬
‫أكثر‪ ،‬وصبر أكثر‪ ،‬وقام بأعباء الرسالة أكمل قيام‪ ،‬عليه وعليهم الصالة والسالم‪ ،‬مكث ثالثا‬
‫وعشرين سنة يبلغ رساالت اهلل ويدعو إليه‪ ،‬وينشر أحكامه‪ ،‬منها ثالث عشرة سنة في أم القرى‬
‫‪ -‬مكة المكرمة ‪ -‬أوال بالسر‪ ،‬ثم بالجهر‪ ،‬صدع بالحق‪ ،‬وأوذي‪ ،‬وصبر‪ 9‬على الدعوة وعلى أذى‬
‫الناس‪ ،‬مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته‪ ،‬ويعرفون فضله ونسبه‪ 9‬ومكانته‪ ،‬ولكنه الهوى والحسد‬
‫والعناد من األكابر‪ ،‬والجهل والتقليد من العامة‪ ،‬فاألكابر جحدوا واستكبروا وحسدوا‪ ،‬والعامة‬

‫)‪(3‬‬
‫قلدوا واتبعوا وأساءوا‪ ،‬فأوذي بسبب ذلك أشد األذى عليه الصالة والسالم‪ .‬ويدلنا على أن‬
‫األكابر قد عرفوا الحق وعاندوا قوله سبحانه‪( :‬قَ ْد نَ ْعلَ ُم إِنَّهُ لَيَ ْح ُزنُ َك الَّ ِذي يَقُولُونَ فَإِنَّ ُه ْم ال‬
‫ت هَّللا ِ يَ ْج َحدُونَ )‪.‬‬
‫يُ َك ِّذبُونَ َك َولَ ِكنَّ الظَّالِ ِمينَ بِآيَا ِ‬
‫فبين سبحانه أنهم ال يكذبون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بل يعلمون صدقه وأمانته في‬
‫الباطن‪ ،‬وكانوا يسمونه‪ 9:‬األمين قبل أن يوحى إليه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬ولكنهم جحدوا‬
‫الحق حسدا وبغيا عليه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬لكنه عليه الصالة والسالم لم يبال بذلك ولم‬
‫يكترث به‪ ،‬بل صبر واحتسب وسار في الطريق‪ ،‬ولم يزل داعيا إلى اهلل جل وعال‪ ،‬وصابرا على‬
‫األذى‪ ،‬مجاهدا بالدعوة‪ ،‬كافا عن األذى‪ ،‬متحمال لـه ‪ ،‬صافحا عما يصدر منهم حسب اإلمكان‪،‬‬
‫حتى اشتد األمر‪ ،‬وعزموا على قتله عليه الصالة والسالم‪ ،‬فعند ذلك أذن اهلل لـه بالخروج إلى‬
‫المدينة‪ ،‬فهاجر إليها عليه الصالة والسالم‪ ،‬وصارت عاصمة اإلسالم األولى‪ ،‬وظهر فيها دين‬
‫اهلل‪ ،‬وصار للمسلمين بها دولة وقوة‪ ،‬واستمر عليه الصالة والسالم في الدعوة وإ يضاح الحق‪،‬‬
‫وشرع في الجهاد بالسيف‪ ،‬وأرسل الرسل يدعون الناس إلى الخير والهدى‪ ،‬ويشرحون لهم‬
‫دعوة نبيهم محمد عليه الصالة والسالم‪ ،‬وبعث السرايا‪ ،‬وغزا الغزوات المعروفة؛ حتى أظهر اهلل‬
‫دينه على يديه‪ ،‬وحتى أكمل اهلل به الدين‪ ،‬وأتم عليه وعلى أمته النعمة‪ ،‬ثم توفي عليه الصالة‬
‫والسالم بعدما أكمل اهلل به الدين‪ ،‬وبلغ البالغ المبين عليه الصالة والسالم‪ ،‬فتحمل أصحابه من‬
‫بعده األمانة‪ ،‬وساروا على الطريق‪ ،‬فدعوا إلى اهلل عز وجل‪ ،‬وانتشروا في أرجاء المعمورة دعاة‬
‫للحق ‪ ،‬ومجاهدين في سبيل‪ 9‬اهلل عز وجل‪ ،‬ال يخشون في اهلل لومة الئم ‪ ،‬يبلغون رساالت اهلل‪،‬‬
‫ويخشونه وال يخشون أحدا إال اهلل جل وعال‪ ،‬فانتشروا في األرض غزاة مجاهدين‪ ،‬ودعاة‬
‫مهتدين‪ ،‬وصالحين مصلحين‪ ،‬ينشرون دين اهلل‪ ،‬ويعلمون الناس شريعته‪ 9،‬ويوضحون لهم‬
‫العقيدة التي بعث اهلل بها الرسل‪ ،‬وهي إخالص العبادة هلل وحده‪ ،‬وترك عبادة ما سواه من‬
‫األشجار‪ ،‬واألحجار‪ ،‬واألصنام‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فال يدعى إال اهلل وحده‪ ،‬وال يستغاث إال به‪ ،‬وال يحكم‬
‫إال شرعه‪ ،‬وال يصلى إال له‪ ،‬وال ينذر إال له‪ ...‬إلى غير ذلك من العبادات‪.‬‬
‫وأوضحوا للناس‪ :‬أن العبادة حق هلل‪ ،‬وتلوا عليهم ما ورد في ذلك من اآليات‪ ،‬مثل قوله سبحانه‪:‬‬
‫ست َِعينُ ) ‪( ،‬فَال‬
‫ضى َر ُّبكَ أَال تَ ْعبُدُوا إِال إِيَّاهُ) ‪( ،‬إِيَّا َك نَ ْعبُ ُد َوإِيَّا َك نَ ْ‬
‫اس ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم) ‪َ ( ،‬وقَ َ‬
‫(يَا أَ ُّي َها النَّ ُ‬
‫اي َو َم َماتِي هَّلِل ِ َر ِّب ا ْل َعالَ ِمينَ ال َ‬
‫ش ِريكَ لَهُ‬ ‫تَ ْدعُوا َم َع هَّللا ِ أَ َحدًا) ‪( ،‬قُ ْل إِنَّ َ‬
‫صالتِي َونُ ُ‬
‫س ِكي َو َم ْحيَ َ‬
‫سلِ ِمينَ ) ‪.‬‬
‫َوبِ َذلِ َك أُ ِم ْرتُ َوأَنَا أَ َّو ُل ا ْل ُم ْ‬

‫)‪(4‬‬
‫وصبروا على ذلك صبرا عظيما‪ ،‬وجاهدوا في اهلل جهادا كبيرا‪ ،‬رضي اهلل عنهم وأرضاهم ‪،‬‬
‫وتبعهم على ذلك أئمة الهدى من التابعين وأتباع التابعين من العرب وغير العرب‪ ،‬ساروا في هذا‬
‫السبيل‪ ،‬سبيل‪ 9‬الدعوة إلى اهلل عز وجل‪ ،‬وتحملوا أعباءها‪ ،‬وأدوا األمانة‪ ،‬مع الصدق والصبر‬
‫واإلخالص في الجهاد في سبيل‪ 9‬اهلل‪ ،‬وقتال من خرج عن دينه‪ ،‬وصد عن سبيله‪ ،‬ولم يؤد الجزية‬
‫التي فرضها اهلل‪ ،‬إذ كان من أهلها‪ ،‬فهم حملة الدعوة وأئمة الهدى بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وهكذا أتباع الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وأئمة الهدى‪ ،‬ساروا على هذا الطريق‬
‫كما تقدم‪ ،‬وصبروا في ذلك‪ ،‬وانتشر‪ 9‬دين اهلل‪ ،‬وعلت كلمته على أيدي الصحابة ومن تبعهم من‬
‫أهل العلم واإليمان‪ ،‬من العرب والعجم‪ ،‬من هذه الجزيرة جنوبها وشمالها‪ ،‬ومن غير الجزيرة من‬
‫سائر أرجاء الدنيا‪ ،‬ممن كتب اهلل له السعادة‪ ،‬ودخل في دين اهلل‪ ،‬وشارك في الدعوة والجهاد‪،‬‬
‫وصبر على ذلك‪ ،‬وصارت لهم السيادة والقيادة واإلمامة في الدين‪ ،‬بسبب صبرهم وإ يمانهم‬
‫وجهادهم في سبيل اهلل عز وجل‪ ،‬وصدق فيهم قوله سبحانه فيما ذكر في بني إسرائيل‪َ ( :‬و َج َع ْلنَا‬
‫صبَ ُروا َو َكانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )‪.‬‬
‫ِم ْن ُه ْم أَئِ َّمةً يَ ْهدُونَ بِأ َ ْم ِرنَا لَ َّما َ‬
‫صدق هذا في أصحاب الرسول صلى اهلل عليه وسلم وفيمن سار على سبيلهم‪ ،‬صاروا أئمة‬
‫وهداة ودعاة للحق‪ ،‬وأعالما يقتدى بهم‪ ،‬بسبب صبرهم وإ يمانهم‪ ،‬فإن بالصبر واليقين تنال‬
‫اإلمامة في الدين‪ ،‬فأصحاب الرسول عليه الصالة والسالم وأتباعه بإحسان إلى يومنا هذا هم‬
‫األئمة‪ 9،‬وهم الهداة‪ ،‬وهم القادة في سبيل الحق‪.‬‬
‫وبذلك يتضح‪ 9‬لكل طالب علم أن الدعوة إلى اهلل من أهم المهمات‪ ،‬وأن األمة في كل زمان ومكان‬
‫في أشد الحاجة إليها‪ ،‬بل في أشد الضرورة إلى ذلك‪.‬‬
‫ويتلخص الكالم في الدعوة إلى اهلل عز وجل في أمور‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬حكمها وفضلها‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬كيفية أدائها وأساليبها‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬بيان األمر الذي يدعى إليه‪.‬‬
‫األمر الرابع‪ :‬بيان األخالق والصفات التي ينبغي‪ 9‬للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها‪.‬‬
‫فنقول وباهلل المستعان وعليه التكالن وهو المعين والموفق لعباده سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫األمر األول ‪:‬‬
‫بيان حكم الدعوة إلى اهلل عز وجل وبيان فضلها ‪:‬‬

‫)‪(5‬‬
‫أما حكمها ‪:‬‬
‫فقد دلت األدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى اهلل عز وجل‪ ،‬وأنها من الفرائض‪،‬‬
‫واألدلة في ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬قوله سبحانه‪َ ( :‬و ْلتَ ُكنْ ِم ْن ُك ْم أُ َّمةٌ يَ ْدعُونَ إِلَى ا ْل َخ ْي ِر َويَأْ ُم ُرونَ‬
‫يل‬
‫سبِ ِ‬ ‫ع إِلَى َ‬ ‫َن ا ْل ُم ْن َك ِر َوأُولَئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْفلِ ُحونَ ) ‪ ،‬ومنها‪ :‬قوله جل وعال‪( :‬ا ْد ُ‬ ‫وف َويَ ْن َه ْونَ ع ِ‬ ‫بِا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫سنُ ) ‪ ،‬ومنها‪ :‬قوله عز وجل‪َ ( :‬وا ْد ُ‬
‫ع إِلَى‬ ‫سنَ ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ‬
‫َربِّكَ بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ‬
‫ش ِر ِكينَ ) ‪ ،‬ومنها‪ :‬قوله سبحانه ‪( :‬قُ ْل َه ِذ ِه َ‬
‫سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى هَّللا ِ َعلَى‬ ‫َربِّكَ َوال تَ ُكونَنَّ ِمنَ ا ْل ُم ْ‬
‫ير ٍة أَنَا َو َم ِن اتَّبَ َعنِي) ‪.‬‬
‫ص َ‬‫بَ ِ‬
‫فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى اهلل عليه وسلم هم الدعاة إلى اهلل‪ ،‬وهم أهل البصائر‪،‬‬
‫والواجب ‪ -‬كما هو معلوم ‪ -‬هو اتباعه‪ ،‬والسير على منهاجه عليه الصالة والسالم‪ ،‬كما قال‬
‫سنَةٌ لِ َمنْ َكانَ يَ ْر ُجو هَّللا َ َوا ْليَ ْو َم اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِي ًرا)‬ ‫تعالى‪( :‬لَقَ ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫سو ِل هَّللا ِ أُ ْ‬
‫س َوةٌ َح َ‬
‫‪.‬‬
‫وصرح العلماء أن الدعوة إلى اهلل عز وجل فرض كفاية‪ ،‬بالنسبة‪ 9‬إلى األقطار التي يقوم فيها‬
‫الدعاة‪ ،‬فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإ لى النشاط فيها‪ ،‬فهي فرض كفاية إذا قام بها‬
‫من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب‪ ،‬وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة‪ ،‬وعمال‬
‫صالحا جليال‪.‬‬
‫وإ ذا لم يقم أهل اإلقليم‪ ،‬أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام‪ ،‬صار اإلثم عاما‪ ،‬وصار‬
‫الواجب على الجميع‪ ،‬وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإ مكانه‪ ،‬أما بالنظر إلى‬
‫عموم البالد‪ ،‬فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى اهلل جل وعال في أرجاء‬
‫المعمورة‪ ،‬تبلغ رساالت اهلل‪ ،‬وتبين أمر اهلل عز وجل بالطرق الممكنة‪ ،‬فإن الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قد بعث الدعاة‪ ،‬وأرسل الكتب إلى الناس‪ ،‬وإ لى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى اهلل عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫وفي وقتنا اليوم قد يسر اهلل عز وجل أمر الدعوة أكثر‪ ،‬بطرق لم تحصل لمن قبلنا‪ ،‬فأمور الدعوة‬
‫اليوم متيسرة أكثر‪ ،‬من طرق كثيرة‪ ،‬وإ قامة الحجة على الناس اليوم ممكنة‪ 9‬بطرق متنوعة‪ 9:‬عن‬
‫طريق اإلذاعة‪ ،‬وعن طريق التلفزة‪ ،‬وعن طريق الصحافة‪ ...،‬من طرق شتى‪.‬‬
‫فالواجب على أهل العلم واإليمان‪ ،‬وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب ‪ ،‬وأن يتكاتفوا‬
‫فيه‪ ،‬وأن يبلغوا رساالت اهلل إلى عباد اهلل‪ ،‬وال يخشوا في اهلل لومة الئم‪ ،‬وال يحابوا في ذلك كبيرا‬

‫)‪(6‬‬
‫وال صغيرا وال غنيا وال فقيرا‪ ،‬بل يبلغون أمر اهلل إلى عباد اهلل‪ ،‬كما أنزل اهلل‪ ،‬وكما شرع اهلل‪،‬‬
‫وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك‪ ،‬كاألمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬فإنه يكون فرض عين‪ ،‬ويكون فرض كفاية‪ ،‬فإذا كنت في مكان ليس فيه من‬
‫يقوى على هذا األمر‪ ،‬ويبلغ أمر اهلل سواك‪ ،‬فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك‪ ،‬فأما إذا وجد من‬
‫يقوم بالدعوة والتبليغ‪ ،‬واألمر والنهي غيرك ‪ ،‬فإنه يكون حينئذ في حقك سنة‪ ،‬وإ ذا بادرت إليه‬
‫وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات‪ ،‬وسابقا إلى الطاعات‪ ،‬ومما احتج به على أنها‬
‫فرض كفاية قوله جل وعال‪َ ( :‬و ْلتَ ُكنْ ِم ْن ُك ْم أُ َّمةٌ يَ ْدعُونَ إِلَى ا ْل َخ ْي ِر)‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن كثير عند هذه اآلية وجماعة ما معناه‪ :‬ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا األمر‬
‫العظيم‪ ،‬تدعو إلى اهلل‪ ،‬وتنشر دينه‪ ،‬وتبلغ أمره سبحانه وتعالى‪ ،‬ومعلوم أيضا أن الرسول عليه‬
‫الصالة والسالم دعا إلى اهلل‪ ،‬وقام بأمر اهلل في مكة حسب طاقته‪ ،‬وقام الصحابة كذلك رضي اهلل‬
‫عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم‪ ،‬ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ‪ ،‬ولما انتشروا في‬
‫البالد بعد وفاته عليه الصالة والسالم قاموا بذلك أيضا رضي اهلل عنهم وأرضاهم‪ ،‬كل على قدر‬
‫طاقته وعلى قدر علمه‪ ،‬فعند قلة الدعاة‪ ،‬وعند كثرة المنكرات‪ ،‬وعند غلبة الجهل ‪ -‬كحالنا اليوم‬
‫‪ -‬تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته‪ ،‬وإ ذا كان في محل محدود كقرية ومدينة‪9‬‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ووجد فيها من تولى هذا األمر‪ ،‬وقام به وبلغ أمر اهلل كفى‪ ،‬وصار التبليغ في حق‬
‫غيره سنة؛ ألنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر اهلل على يد سواه‪.‬‬
‫ولكن بالنسبة‪ 9‬إلى بقية أرض اهلل‪ ،‬وإ لى بقية الناس‪ ،‬يجب على العلماء حسب طاقتهم‪ ،‬وعلى والة‬
‫األمر حسب طاقتهم‪ ،‬أن يبلغوا أمر اهلل بكل ما يستطيعون‪ ،‬وهذا فرض عين عليه على حسب‬
‫الطاقة والقدرة ‪.‬‬
‫وبهذا يعلم أن كونها فرض عين‪ ،‬وكونها فرض كفاية أمر نسبي‪ 9‬يختلف‪ ،‬فقد تكون الدعوة فرض‬
‫عين بالنسبة إلى أقوام وإ لى أشخاص‪ ،‬وسنة‪ 9‬بالنسبة‪ 9‬إلى أشخاص وإ لى أقوام؛ ألنه وجد في‬
‫محلهم وفي مكانهم من قام باألمر وكفى عنهم‪.‬‬
‫أما بالنسب إلى والة األمور ومن لهم القدرة الواسعة‪ ،‬فعليهم من الواجب أكثر‪ ،‬وعليهم أن يبلغوا‬
‫الدعوة إلى ما استطاعوا من األقطار‪ ،‬حسب اإلمكان بالطرق الممكنة‪ ،‬وباللغات الحية التي ينطق‬
‫بها الناس‪ ،‬يجب أن يبلغوا أمر اهلل بتلك اللغات حتى يصل دين اهلل إلى كل أحد باللغة التي‬
‫يعرفها‪ ،‬باللغة العربية وبغيرها‪ ،‬فإن األمر اآلن ممكن وميسور‪ 9‬بالطرق التي تقدم بيانها‪ ،‬طرق‬

‫)‪(7‬‬
‫اإلذاعة والتلفزة والصحافة‪ ،‬وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم‪ ،‬ولم تتيسر في السابق‪،‬‬
‫كما أنه يجب على الخطباء ‪ -‬في االحتفاالت ‪ ،‬وفي الجمع ‪ ،‬وفي غير ذلك ‪ -‬أن يبلغوا ما‬
‫استطاعوا من أمر اهلل عز وجل‪ ،‬وأن ينشروا دين اهلل حسب طاقتهم‪ ،‬وحسب علمهم‪.‬‬
‫ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإ لى اإللحاد‪ ،‬وإ نكار رب العباد‪ ،‬وإ نكار الرساالت‪،‬‬
‫وإ نكار اآلخرة‪ ،‬وانتشار الدعوة النصرانية‪ 9‬في الكثير من البلدان‪ ،‬وغير ذلك من الدعوات‬
‫المضللة ‪ -‬نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى اهلل عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما‪ ،‬وواجبا على‬
‫جميع العلماء‪ ،‬وعلى جميع الحكام الذين يدينون باإلسالم‪ ،‬فرض عليهم أن يبلغوا دين اهلل حسب‬
‫الطاقة واإلمكان بالكتابة والخطابة‪ ،‬وباإلذاعة وبكل وسيلة استطاعوا‪ ،‬وأن ال يتقاعسوا عن ذلك‪،‬‬
‫أو يتكلوا على زيد أو عمرو‪ ،‬فإن الحاجة ‪ ،‬بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون واالشتراك‪،‬‬
‫والتكاتف في هذا األمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك؛ ألن أعداء اهلل قد تكاتفوا وتعاونوا بكل‬
‫وسيلة للصد عن سبيل‪ 9‬اهلل‪ ،‬والتشكيك في دينه‪ ،‬ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬فوجب على أهل اإلسالم أن يقابلوا هذا النشاط المضل‪ ،‬وهذا النشاط الملحد بنشاط‬
‫إسالمي‪ ،‬وبدعوة إسالمية على شتى المستويات‪ ،‬وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة‪،‬‬
‫وهذا من باب أداء ما أوجب اهلل على عباده من الدعوة إلى سبيله‪.‬‬

‫فضل الدعوة‬
‫وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة‪ ،‬كما أنه ورد في إرسال النبي صلى اهلل‬
‫س ُن قَ ْواًل‬
‫َح َ‬
‫عليه وسلم الدعاة أحاديث ال تخفى على أهل العلم‪ ،‬ومن ذلك قوله جل وعال‪َ { :‬و َم ْن أ ْ‬
‫ين } فهذه اآلية الكريمة فيها التنويه‬‫س ِل ِم َ‬ ‫ِم َّم ْن َدعا إِلَى اللَّ ِه وع ِم َل ص ِالحا وقَ َ ِ ِ‬
‫ال إِ َّنني م َن ا ْل ُم ْ‬ ‫َ ً َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫بالدعاة والثناء عليهم‪ ،‬وأنه ال أحد أحسن قوال منهم‪ ،‬وعلى رأسهم الرسل عليهم الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل‪ ،‬فأنت يا عبد اهلل يكفيك شرفا‬
‫س ُن قَ ْواًل ِم َّم ْن َد َعا‬
‫َح َ‬
‫أن تكون من أتباع الرسل‪ ،‬ومن المنتظمين في هذه اآلية الكريمة { َو َم ْن أ ْ‬
‫ين } المعنى‪ :‬ال أحد أحسن قوال منه‪ 9‬لكونه دعا إلى‬ ‫س ِل ِم َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫إِلَى اللَّ ِه وع ِم َل ِ‬
‫صال ًحا َوقَا َل إِ َّنني‪ 9‬م َن ا ْل ُم ْ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اهلل وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه‪ ،‬يعني‪ :‬دعا إلى الحق وعمل به‪ ،‬وأنكر الباطل وحذر منه‪،‬‬
‫وتركه‪ ،‬ومع ذلك صرح بما هو عليه‪ ،‬لم يخجل بل قال‪ :‬إنني من المسلمين‪ ،‬مغتبطا وفرحا بما‬
‫من اهلل به عليه‪ ،‬وليس كمن يستنكف‪ 9‬عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم‪ ،‬أو بأنه يدعو إلى‬

‫)‪(8‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬لمراعاة فالن أو مجاملة فالن‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬بل المؤمن الداعي إلى اهلل‬
‫القوي اإليمان‪ ،‬البصير بأمر اهلل يصرح بحق اهلل‪ ،‬وينشط في الدعوة إلى اهلل ويعمل بما يدعو‬
‫إليه‪ ،‬ويحذر ما ينهى‪ 9‬عنه‪ ،‬فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه‪ ،‬ومن أبعد الناس عن كل ما‬
‫ينهى عنه‪ ،‬ومع ذلك يصرح‪ 9‬بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى اإلسالم‪ ،‬ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال‬
‫ض ِل اللَّ ِه َو ِب َر ْح َم ِت ِه فَ ِب َذ ِل َك َف ْل َي ْف َر ُحوا ُه َو َخ ْيٌر ِم َّما َي ْج َم ُع َ‬
‫ون }‬ ‫عز وجل‪ُ { :‬ق ْل ِبفَ ْ‬

‫فالفرح برحمة‪ 9‬اهلل وفضله فرح االغتباط‪ ،‬فرح السرور‪ ،‬أمر مشروع‪ ،‬أما الفرح المنهي عنه فهو‬
‫فرح الكبر‪ ،‬والفرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون‪ :‬ال تَ ْف َر ْح إِ َّن اللَّ َه ال‬
‫ب ا ْلفَ ِر ِح َ‬
‫ين‬ ‫ُي ِح ُّ‬

‫هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم‪ ،‬وهذا هو الذي ينهى عنه‪..‬‬

‫أما فرح االغتباط والسرور بدين اهلل‪ ،‬والفرح بهداية اهلل‪ ،‬واالستبشار‪ 9‬بذلك والتصريح‪ 9‬بذلك‬
‫ليعلم‪ ،‬فأمر مشروع وممدوح ومحمود‪ ،‬فهذه اآلية الكريمة من أوضح اآليات في الداللة على‬
‫فضل الدعوة‪ ،‬وأنها من أهم القربات‪ ،‬ومن أفضل الطاعات‪ ،‬وأن أهلها في غاية من الشرف وفي‬
‫أرفع مكانة‪ ،‬وعلى رأسهم الرسل عليه الصالة والسالم‪ ،‬وأكملهم في ذلك خاتمهم وإ مامهم‬
‫وسيدهم نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصالة والسالم‪ ،‬ومن ذلك قوله جل وعال‪ُ :‬ق ْل َه ِذ ِه‬
‫ير ٍ‪9‬ة أََنا َو َم ِن اتََّب َع ِني فبين سبحانه أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ِبيلي أ َْد ُعو إلَى الله َعلَى َبص َ‬
‫َ‬
‫يدعو على بصيرة‪ 9،‬وأن أتباعه كذلك‪ ،‬فهذا فيه فضل الدعوة‪ ،‬وأن أتباع الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة‪ ،‬والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه‪ ،‬وفي‬
‫هذا شرف لهم وتفضيل‪ ،‬وقال النبي الكريم عليه الصالة والسالم في الحديث الصحيح‪ " :‬من دل‬
‫على خير فله مثل أجر فاعله " رواه مسلم في الصحيح‪ ،‬وقال عليه الصالة والسالم‪ " :‬من دعا‬
‫إلى هدى كان له من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى‬
‫ضاللة كان عليه من اإلثم مثل آثام من تبعه ال ينقص ذلك من آثامهم شيئا " أخرجه مسلم‬
‫أيضا‪ ،‬وهذا يدل على فضل الدعوة إلى اهلل عز وجل‪ ،‬وصح عنه عليه الصالة والسالم أنه قال‬
‫لعلي رضي اهلل عنه وأرضاه‪ " :‬فواهلل ألن يهدي اهلل بك رجال واحدا خير لك من حمر النعم "‬
‫متفق على صحته‪ ،‬وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى اهلل وما فيها من الخير العظيم‪ ،‬وأن‬

‫)‪(9‬‬
‫الداعي إلى اهلل جل وعال يعطى مثل أجور من هداه اهلل على يديه‪ ،‬ولو كانوا آالف الماليين‪،‬‬
‫وتعطى أيها الداعية مثل أجورهم‪ ،‬فهنيئا لك أيها الداعية إلى اهلل بهذا الخير العظيم‪ ،‬وبهذا يتضح‪9‬‬
‫أيضا أن الرسول عليه الصالة وللسالم يعطى مثل أجور أتباعه‪ ،‬فيا لها من نعمة عظيمة يعطى‬
‫نبينا عليه الصالة والسالم مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة‪ ،‬ألنه بلغهم رسالة اهلل‪ ،‬ودلهم على‬
‫الخير عليه الصالة والسالم‪ ،‬وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم عليهم الصالة والسالم‪،‬‬
‫وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك‪ ،‬فاغتنم هذا‬
‫الخير العظيم وسارع إليه‪.‬‬

‫األمر الثاني ‪:‬‬


‫كيفية أدائها وأساليبها ‪:‬‬
‫أما كيفية الدعوة وأسلوبها ‪ :‬فقد بينها اهلل عز وجل في كتابه الكريم‪ ،‬وفيما جاء في سنة نبيه‬
‫سبِي ِ‪z‬ل َربِّ َك بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة‬ ‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬ومن أوضح ذلك قوله جل وعال‪( :‬ا ْد ُ‬
‫ع إِلَى َ‬
‫سنُ )‪.‬‬
‫سنَ ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ‬
‫ا ْل َح َ‬
‫فأوضح سبحانه الكيفية التي ينبغي‪ 9‬أن يتصف‪ 9‬بها الداعية ويسلكها‪ ،‬يبدأ أوال بالحكمة‪ ،‬والمراد‬
‫بها‪ :‬األدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق‪ ،‬والداحضة للباطل؛ ولهذا قال بعض المفسرين‪:‬‬
‫المعنى‪ :‬بالقرآن؛ ألنه الحكمة العظيمة؛ ألن فيه البيان واإليضاح للحق بأكمل وجه‪ ،‬وقال‬
‫بعضهم‪ :‬معناه‪ :‬باألدلة من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وبكل حال‪ ،‬فالحكمة كلمة عظيمة‪ ،‬معناها‪ :‬الدعوة إلى اهلل بالعلم والبصيرة‪ ،‬واألدلة الواضحة‬
‫المقنعة الكاشفة للحق‪ ،‬والمبينة له‪ ،‬وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة‪ ،‬تطلق على‬
‫النبوة‪ ،‬وعلى العلم والفقه في الدين‪ ،‬وعلى العقل‪ ،‬وعلى الورع‪ ،‬وعلى أشياء أخرى‪ ،‬وهي في‬
‫األصل كما قال الشوكاني رحمه اهلل‪ :‬األمر الذي يمنع‪ 9‬عن السفه‪ ،‬هذه هي الحكمة‪ ،‬والمعنى‪ :‬أن‬
‫كل كلمة وكل مقالة تردعك عن السفه‪ ،‬وتزجرك عن الباطل فهي حكمة‪ ،‬وهكذا كل مقال واضح‬
‫صريح‪ ،‬صحيح في نفسه‪ ،‬فهو حكمة‪ ،‬فاآليات القرآنية‪ 9‬أولى بأن تسمى‪ 9‬حكمة‪ ،‬وهكذا السنة‬
‫الصحيحة أولى بأن تسمى‪ 9‬حكمة بعد كتاب اهلل‪ ،‬وقد سماها اهلل حكمة في كتابه العظيم‪ ،‬كما في‬
‫َاب َوا ْل ِح ْك َمةَ) ‪ ،‬يعني‪ :‬السنة‪ ،‬وكما في قوله سبحانه‪( :‬يُ ْؤتِي‬
‫قوله جل وعال‪َ ( :‬ويُ َعلِّ ُم ُه ُم ا ْل ِكت َ‬
‫ا ْل ِح ْك َمةَ َمنْ يَشَا ُء َو َمنْ يُ ْؤتَ ا ْل ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي َخ ْي ًرا َكثِي ًرا) ‪.‬‬

‫)‪(10‬‬
‫فاألدلة الواضحة تسمى‪ 9:‬حكمة‪ ،‬والكالم الواضح المصيب للحق يسمى‪ :‬حكمة‪ ،‬كما تقدم‪ ،‬ومن‬
‫ذلك الحكمة التي تكون في فم الفرس‪ :‬وهي بفتح الحاء والكاف‪ ،‬سميت بذلك؛ ألنها تمنع‪ 9‬الفرس‬
‫من المضي في السير‪ ،‬إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة‪.‬‬
‫فالحكمة كلمة تمنع من سمعها من المضي في الباطل‪ ،‬وتدعوه إلى األخذ بالحق والتأثر به‪،‬‬
‫والوقوف عند الحد الذي حده اهلل عز وجل‪.‬‬
‫فعلى الداعية إلى اهلل عز وجل أن يدعو بالحكمة‪ ،‬ويبدأ بها‪ ،‬ويعنى بها‪ ،‬فإذا كان المدعو عنده‬
‫بعض الجفا واالعتراض دعوته بالموعظة الحسنة‪ ،‬باآليات واألحاديث التي فيها الوعظ‬
‫والترغيب‪ ،‬فإن كان عنده شبهة‪ 9‬جادلته بالتي هي أحسن‪ ،‬وال تغلظ عليه‪ ،‬بل تصبر‪ 9‬عليه وال‬
‫تعجل وال تعنف‪ ،‬بل تجتهد في كشف الشبهة‪ ،‬وإ يضاح األدلة باألسلوب الحسن‪ ،‬هكذا ينبغي‪ 9‬لك‬
‫أيها الداعية أن تتحمل وتصبر‪ 9‬وال تشدد؛ ألن هذا أقرب إلى االنتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو‪،‬‬
‫وصبره على المجادلة والمناقشة‪ ،‬وقد أمر اهلل جل وعال موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون‬
‫أن يقوال لـه قوال لينا وهو أطغى الطغاة‪ ،‬قال اهلل جل وعال في أمره لموسى وهارون‪( :‬فَقُوال لَهُ‬
‫قَ ْواًل لَيِّنًا لَ َعلَّهُ يَتَ َذ َّك ُر أَ ْو يَ ْخشَى) ‪ ،‬وقال اهلل سبحانه في نبيه‪ 9‬محمد عليه الصالة والسالم‪( :‬فَبِ َما‬
‫ضوا ِمنْ َح ْولِ َك)‪.‬‬ ‫َر ْح َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ لِ ْنتَ لَ ُه ْم َولَ ْو ُك ْنتَ فَظًّا َغلِيظَ ا ْلقَ ْل ِ‬
‫ب ال ْنفَ ُّ‬
‫فعلم بذلك أن األسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون الداعي حكيما في الدعوة‪،‬‬
‫بصرا بأسلوبها‪ ،‬ال يعجل وال يعنف‪ ،‬بل يدعو بالحكمة‪ ،‬وهي المقال الواضح المصيب للحق من‬
‫اآليات واألحاديث‪ ،‬وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن‪ ،‬هذا هو األسلوب الذي ينبغي‬
‫لك في الدعوة إلى اهلل عز وجل‪ ،‬أما الدعوة بالجهل فهذا يضر وال ينفع‪ ،‬كما يأتي بيان ذلك إن‬
‫شاء اهلل عند ذكر أخالق الدعاة؛ ألن الدعوة مع الجهل باألدلة قول على اهلل بغير علم‪ ،‬وهكذا‬
‫الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكثر‪.‬‬
‫وإ نما الواجب والمشروع هو األخذ بما بينه اهلل عز وجل في سوره النحل‪ ،‬وهو قوله سبحانه‪:‬‬
‫يل َربِّ َك بِا ْل ِح ْك َم ِة) ‪.‬‬ ‫سبِ ِ‬ ‫ع إِلَى َ‬ ‫(ا ْد ُ‬
‫إال إذا ظهر من المدعو العناد والظلم‪ ،‬فال مانع من اإلغالظ عليه‪ ،‬كما قال اهلل سبحانه ‪( :‬يَا أَيُّ َها‬
‫ار َوا ْل ُمنَافِقِينَ َوا ْغلُ ْظ َعلَ ْي ِه ْم) ‪ ،‬وقال تعالى‪َ ( :‬وال ت َُجا ِدلُوا أَ ْه َل ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ب إِال بِالَّتِي ِه َي‬ ‫النَّبِ ُّي َجا ِه ِد ا ْل ُكفَّ َ‬
‫سنُ إِال الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا ِم ْن ُه ْم)‪.‬‬ ‫أَ ْح َ‬

‫األمر الثالث ‪:‬‬


‫)‪(11‬‬
‫بيان األمر الذي يدعى إليه ‪:‬‬
‫أما الشيء الذي يدعى إليه‪ ،‬ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس‪ ،‬كما أوضحه الرسل عليهم‬
‫الصالة والسالم فهو الدعوة إلى صراط اهلل المستقيم‪ ،‬وهو اإلسالم‪ ،‬وهو دين اهلل الحق‪ ،‬هذا هو‬
‫سبِي ِ‪z‬ل َربِّ َك) ‪.‬‬ ‫محل الدعوة‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬ا ْد ُ‬
‫ع إِلَى َ‬
‫فسبيل اهلل جل وعال‪ :‬هو اإلسالم‪ ،‬وهو الصراط المستقيم‪ ،‬وهو دين اهلل الذي بعث به نبيه‪ 9‬محمدا‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬هذا هو الذي تجب الدعوة إليه‪ ،‬ال إلى مذهب فالن وال إلى رأي فالن‪،‬‬
‫ولكن إلى دين اهلل‪ ،‬إلى صراط اهلل المستقيم‪ ،‬الذي بعث اهلل به نبيه‪ 9‬وخليله محمدا عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬وهو ما دل عليه القرآن العظيم‪ ،‬والسنة المطهرة الثابتة‪ 9‬عن رسول اهلل عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬وعلى رأس ذلك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة‪ ،‬إلى اإلخالص هلل وتوحيده بالعبادة‪،‬‬
‫واإليمان به وبرسله‪ ،‬واإليمان باليوم اآلخر‪ ،‬وبكل ما أخبر اهلل به ورسوله‪ ،‬هذا هو أساس‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬وهو الدعوة إلى شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمدا رسول اهلل‪ ،‬ومعنى ذلك‪:‬‬
‫الدعوة إلى توحيد اهلل واإلخالص لـه‪ ،‬واإليمان به وبرسله عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك الدعوة إلى اإليمان بكل ما أخبر اهلل به ورسله‪ ،‬مما كان وما يكون من أمر اآلخرة‪ ،‬وأمر‬
‫آخر الزمان وغير ذلك‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك أيضا الدعوة إلى ما أوجب اهلل من إقامة الصالة‪ ،‬وإ يتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪،‬‬
‫وحج البيت‪ ...‬إلى غير ذلك‪.‬‬
‫ويدخل أيضا في ذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫واألخذ بما شرع اهلل في الطهارة والصالة‪ ،‬والمعامالت‪ ،‬والنكاح والطالق‪ ،‬والجنايات‪ ،‬والنفقات‪،‬‬
‫والحرب والسلم‪ ،‬وفي كل شيء؛ ألن دين اهلل عز وجل دين شامل‪ ،‬يشمل‪ 9‬مصالح العباد في‬
‫المعاش والمعاد‪ ،‬ويشمل‪ 9‬كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم‪ ،‬ويدعو إلى مكارم‬
‫األخالق ومحاسن األعمال‪ ،‬وينهى عن سفاسف األخالق وعن سيئ األعمال‪ ،‬فهو عبادة وقيادة‪،‬‬
‫يكون عابدا‪ ،‬ويكون قائدا للجيش‪ .‬عبادة وحكم‪ ،‬يكون عابدا مصليا صائما‪ ،‬ويكون حاكما بشرع‬
‫اهلل منفذا ألحكامه عز وجل‪ .‬عبادة وجهاد‪ ،‬يدعو إلى اهلل‪ ،‬ويجاهد في سبيل‪ 9‬اهلل من خرج عن‬
‫دين اهلل‪ .‬مصحف وسيف‪ ،‬يتأمل القرآن ويتدبره‪ 9‬وينفذ أحكامه بالقوة‪ ،‬ولو بالسيف إذا دعت‬
‫الحاجة إليه‪ .‬سياسة واجتماع‪ ،‬فهو يدعو إلى األخالق الفاضلة واألخوة اإليمانية‪ 9،‬والجمع بين‬
‫َص ُموا بِ َح ْب ِل هَّللا ِ َج ِمي ًعا َوال تَفَ َّرقُوا) ‪.‬‬
‫المسلمين والتأليف بينهم‪ ،‬كما قال جل وعال‪َ ( :‬وا ْعت ِ‬

‫)‪(12‬‬
‫فدين اهلل يدعو إلى االجتماع‪ ،‬وإ لى السياسة الصالحة الحكيمة‪ 9،‬التي تجمع وال تفرق‪ ،‬تؤلف وال‬
‫تباعد‪ ،‬تدعو إلى صفاء القلوب‪ ،‬واحترام األخوة اإلسالمية‪ ،‬والتعاون على البر والتقوى‪،‬‬
‫والنصح هلل ولعباده‪ ،‬وهو أيضا يدعو إلى أداء األمانة والحكم بالشريعة‪ ،‬وترك الحكم بغير ما‬
‫أنزل اهلل عز وجل‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬إِنَّ هَّللا َ يَأْ ُم ُر ُك ْم أَنْ تُؤَ دُّوا اأْل َ َمانَا ِ‬
‫ت إِلَى أَ ْهلِ َها َوإِ َذا َح َك ْمتُ ْم بَيْنَ‬
‫س أَنْ ت َْح ُك ُموا بِا ْل َعد ِْل) ‪.‬‬
‫النَّا ِ‬
‫وهو أيضا سياسة واقتصاد‪ ،‬كما أنه سياسة وعباده وجهاد‪ ،‬فهو يدعو إلى االقتصاد الشرعي‬
‫المتوسط‪ ،‬ليس رأسماليا غاشما ظالما ال يبالي بالحرمات‪ ،‬ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق‪،‬‬
‫وليس اقتصادا شيوعيا إلحاديا ال يحترم أموال الناس‪ ،‬وال يبالي بالضغط عليهم وظلمهم‬
‫والعدوان عليهم‪ ،‬فليس هذا وال هذا‪ ،‬بل هو وسط بين االقتصادين‪ ،‬ووسط بين الطريقين‪ ،‬وحق‬
‫بين الباطلين‪ ،‬فالغرب عظموا المال وغلوا في حبه وفي جمعه‪ ،‬حتى جمعوه بكل وسيلة‪ ،‬وسلكوا‬
‫فيه ما حرم اهلل عز وجل‪ ،‬والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا‬
‫أموال العباد‪ ،‬بل أخذوها واستحلوها‪ ،‬ولم يبالوا بما فعلوا في ذلك‪ ،‬بل استعبدوا العباد‪،‬‬
‫واضطهدوا الشعوب‪ ،‬وكفروا باهلل‪ ،‬وأنكروا األديان‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال إله‪ ،‬والحياة مادة‪ ،‬فلم يبالوا بهذا‬
‫المال‪ ،‬ولم يكترثوا بأخذه بغير حله‪ ،‬ولم يكترثوا بوسائل اإلبادة واالستيالء على األموال‪،‬‬
‫والحيلولة بين الناس وبين ما فطرهم اهلل عليه من الكسب واالنتفاع‪ ،‬واالستفادة من قدراتهم‬
‫ومن عقولهم‪ ،‬وما أعطاهم اهلل من األدوات‪ ،‬فال هذا وال هذا ‪.‬‬
‫فاإلسالم جاء بحفظ المال واكتسابه بالطرق الشرعية البعيدة عن الظلم والغش والربا وظلم‬
‫الناس والتعدي عليهم‪ ،‬كما جاء باحترام الملك الفردي والجماعي‪ ،‬فهو وسط بين النظامين‪،‬‬
‫وبين االقتصاديين ‪ ،‬وبين الطريقين الغاشمين‪ ،‬فأباح المال ودعا إليه‪ ،‬ودعا إلى اكتسابه بالطرق‬
‫الحكيمة‪ 9،‬من غير أن يشغل كاسبه عن طاعة اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وعن أداء ما‬
‫أوجب اهلل عليه؛ ولهذا قال عز وجل‪( :‬يَا أَ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَأْ ُكلُوا أَ ْم َوالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم بِا ْلبَا ِط ِل)‪.‬‬
‫وقال النبي عليه الصالة والسالم‪( :‬كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وقال‪( :‬إن‬
‫دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) وقال‬
‫عليه الصالة والسالم‪( :‬ألن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة‪ 9‬من حطب على ظهره فيبيعها فيكف‬
‫بها وجهه خير لـه من سؤال الناس أعطوه أو منعوه)وسئل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أي الكسب‬

‫)‪(13‬‬
‫أطيب؟ فقال‪( :‬عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور‪ )9‬وقال عليه الصالة والسالم‪( :‬ما أكل أحد طعاما‬
‫أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي اهلل داود يأكل من عمل يده) ‪.‬‬
‫فهذا يبين لنا أن نظام اإلسالم في المال نظام متوسط‪ ،‬ال مع رأس المال الغاشم من الغرب‬
‫وأتباعه‪ ،‬وال مع الشيوعيين الملحدين الذين استباحوا األموال‪ ،‬وأهدروا حرمات أهلها‪ ،‬لم يبالوا‬
‫بها‪ ،‬واستعبدوا الشعوب وقضوا عليها‪ ،‬واستحلوا ما حرم اهلل منها‪ ،‬فلك أن تكسب المال وتطلبه‬
‫بالطرق الشرعية‪ ،‬وأنت أولى بمالك وبكسبك بالطريقة التي شرعها اهلل‪ ،‬وأباحها جل وعال‪.‬‬
‫واإلسالم أيضا يدعو إلى األخوة اإليمانية‪ ،‬وإ لى النصح هلل ولعباده‪ ،‬وإ لى احترام المسلم ألخيه‪ ،‬ال‬
‫غل وال حسد وال غش وال خيانة‪ ،‬وال غير ذلك من األخالق الذميمة‪ 9،‬كما قال جل وعال‪:‬‬
‫ض) ‪ ،‬وقال جل وعال‪( :‬إِنَّ َما ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ إِ ْخ َوةٌ) ‪.‬‬ ‫( َوا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ َوا ْل ُم ْؤ ِمنَاتُ بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم أَ ْولِيَا ُء بَ ْع ٍ‬
‫وقال النبي عليه الصالة والسالم‪( :‬المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يحقره وال يخذله) ‪....‬‬
‫الحديث‪.‬‬
‫فالمسلم أخو المسلم‪ ،‬يجب عليه احترامه وعدم احتقاره‪ ،‬ويجب عليه إنصافه وإ عطاؤه حقه من‬
‫كل الوجوه التي شرعها اهلل عز وجل‪ ،‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد‬
‫بعضـه بعضا) وقال صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬المؤمن مرآة أخيه المؤمن) فأنت يا أخي مرآة‬
‫أخيك‪ ،‬وأنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان األخوة اإليمانية‪ 9،‬فاتق اهلل في حق أخيك‪،‬‬
‫واعرف حقه‪ ،‬وعامله بالحق والنصح والصدق‪ ،‬وعليك أن تأخذ اإلسالم كله وال تأخذ جانبا دون‬
‫جانب‪ ،‬ال تأخذ العقيدة وتدع األحكام واألعمال‪ ،‬وال تأخذ األعمال واألحكام وتدع العقيدة‪ ،‬بل خذ‬
‫اإلسالم كله‪ ،‬خذه عقيدة‪ ،‬وعمال‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وجهادا‪ ،‬واجتماعا‪ ،‬وسياسة‪ ،‬واقتصادا وغير ذلك‪،‬‬
‫خذه من كل الوجوه‪ ،‬كما قال سبحانه‪( :‬يَا أَيُّ َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا اد ُْخلُوا فِي ال ِّ‬
‫س ْل ِم َكافَّةً َوال تَتَّبِ ُعوا‬
‫ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َعد ٌُّو ُمبِينٌ ) ‪.‬‬
‫ش ْيطَ ِ‬ ‫ُخطُ َوا ِ‬
‫ت ال َّ‬
‫قال جماعة من السلف‪ :‬معنى ذلك‪ :‬ادخلوا في السلم جميعه‪ ،‬يعني‪ :‬في اإلسالم‪ ،‬يقال لإلسالم‪:‬‬
‫سلم؛ ألنه طريق السالمة‪ ،‬وطريق النجاة في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فهو سلم وإ سالم‪ ،‬فاإلسالم يدعو‬
‫إلى السلم‪ ،‬يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود والقصاص والجهاد الشرعي الصادق‪،‬‬
‫س ْل ِم َكافَّةً) أي‪ :‬ادخلوا في‬
‫فهو سلم وإ سالم‪ ،‬وأمن وإ يمان؛ ولهذا قال جل وعال‪( :‬اد ُْخلُوا فِي ال ِّ‬
‫جميع شعب اإليمان‪ ،‬ال تأخذوا بعضا وتدعوا بعضا‪ ،‬عليكم أن تأخذوا باإلسالم كله ‪َ ( ،‬وال تَتَّبِ ُعوا‬
‫ان) يعني‪ :‬المعاصي التي حرمها اهلل عز وجل فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي‬ ‫ش ْيطَ ِ‬ ‫ُخطُ َوا ِ‬
‫ت ال َّ‬

‫)‪(14‬‬
‫وإ لى ترك دين اهلل كله‪ ،‬فهو أعدى عدو؛ ولهذا يجب على المسلم أن يتمسك باإلسالم كله‪ ،‬وأن‬
‫يدين باإلسالم كله‪ ،‬وأن يعتصم بحبل اهلل عز وجل‪ ،‬وأن يحذر أسباب الفرقة واالختالف في جميع‬
‫األحوال‪ ،‬فعليك أن تحكم شرع اهلل في العبادات‪ ،‬وفي المعامالت‪ ،‬وفي النكاح والطالق‪ ،‬وفي‬
‫النفقات‪ ،‬وفي الرضاع‪ ،‬وفي السلم والحرب‪ ،‬ومع العدو والصديق‪ ،‬وفي الجنايات‪ ،‬وفي كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫دين اهلل يجب أن يحكم في كل شيء‪ ،‬وإ ياك أن توالي أخاك ألنه وافقك في كذا‪ ،‬وتعادي اآلخر ألنه‬
‫خالفك في رأي أو في مسألة‪ ،‬فليس هذا من اإلنصاف‪ ،‬فالصحابة رضي اهلل عنهم اختلفوا في‬
‫مسائل ومع ذلك لم يؤثر‪ 9‬ذلك في الصفاء بينهم والمواالة والمحبة رضي اهلل عنهم وأرضاهم‪.‬‬
‫فالمؤمن يعمل بشرع اهلل‪ ،‬ويدين بالحق‪ ،‬ويقدمه على كل أحد بالدليل‪ ،‬ولكن ال يحمله ذلك على‬
‫ظلم أخيه وعدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل االجتهاد التي قد يخفى دليلها‪ ،‬وهكذا في‬
‫المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها‪ ،‬فإنه قد يعذر‪ ،‬فعليك أن تنصح له‪ ،‬وأن تحب له‬
‫الخير‪ ،‬وال يحملك ذلك على العداء واالنشقاق‪ ،‬وتمكين العدو منك ومن أخيك‪ ،‬وال حول وال قوة‬
‫إال باهلل‪.‬‬
‫اإلسالم دين العدالة‪ ،‬ودين الحكم بالحق واإلحسان‪ ،‬دين المساواة إال فيما استثنى‪ 9‬اهلل عز وجل‪،‬‬
‫ففيه الدعوة إلى كل خير‪ ،‬وفيه الدعوة إلى مكارم األخالق‪ ،‬ومحاسن األعمال‪ ،‬واإلنصاف‬
‫والعدالة والبعد عن كل خلق ذميم‪ ،‬قال تعالى ‪( :‬إِنَّ هَّللا َ يَأْ ُم ُر بِا ْل َع ْد ِل َواإْل ِ ْح َ‬
‫سا ِن َوإِيتَا ِء ِذي ا ْلقُ ْربَى‬
‫َن ا ْلفَ ْحشَا ِء َوا ْل ُم ْن َك ِر َوا ْلبَ ْغ ِي يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرونَ ) ‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬يَا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫اس إِنَّا‬ ‫َويَ ْن َهى ع ِ‬
‫ارفُوا إِنَّ أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم إِنَّ هَّللا َ َعلِي ٌم‬ ‫َخلَ ْقنَا ُك ْم ِمنْ َذ َك ٍر َوأُ ْنثَى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُ‬
‫ش ُعوبًا َوقَبَائِ َل ِلتَ َع َ‬
‫َخبِي ٌر) ‪.‬‬
‫والخالصة‪ :‬أن الواجب على الداعية اإلسالمي أن يدعو إلى اإلسالم كله‪ ،‬وال يفرق بين الناس‪،‬‬
‫وأن ال يكون متعصبا لمذهب دون مذهب‪ ،‬أو لقبيلة دون قبيلة‪ ،‬أو لشيخه أو رئيسه‪ 9‬أو غير ذلك‪،‬‬
‫بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإ يضاحه‪ ،‬واستقامة الناس عليه‪ ،‬وإ ن خالف رأي فالن أو‬
‫فالن أو فالن‪ ،‬ولما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب‪ ،‬ويقول‪ :‬إن مذهب فالن أولى من مذهب‬
‫فالن‪ ،‬جاءت الفرقة واالختالف‪ ،‬حتى آل ببعض الناس هذا األمر إلى أن ال يصلي مع من هو على‬
‫غير مذهبه‪ ،‬فال يصلي الشافعي خلف الحنفي‪ ،‬وال الحنفي خلف المالكي وال خلف الحنبلي‪ ،‬وهكذا‬
‫وقع من بعض المتطرفين المتعصبين‪ ،‬وهذا من البالء ومن اتباع خطوات الشيطان‪ ،‬فاألئمة أئمة‬
‫هدى‪ :‬الشافعي‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وإ سحاق بن راهويه‪ ،‬وأشباههم كلهم‬
‫)‪(15‬‬
‫أئمة هدى ودعاة حق‪ ،‬دعوا الناس إلى دين اهلل‪ ،‬وأرشدوهم إلى الحق‪ ،‬ووقع هناك مسائل بينهم‪،‬‬
‫اختلفوا فيها؛ لخفاء الدليل على بعضهم‪ ،‬فهم بين مجتهد مصيب لـه أجران‪ ،‬وبين مجتهد أخطأ‬
‫الحق فله أجر واحد‪ ،‬فعليك أن تعرف لهم قدرهم وفضلهم‪ ،‬وأن تترحم عليهم‪ ،‬وأن تعرف أنهم‬
‫أئمة اإلسالم ودعاة الهدى‪ ،‬ولكن ال يحملك ذلك على التعصب والتقليد األعمى‪ ،‬فتقول‪ :‬مذهب‬
‫فالن أولى بالحق بكل حال‪ ،‬أو مذهب فالن أولى بالحق لكل حال ال يخطئ‪( ،‬ال) هذا غلط‪.‬‬
‫عليك أن تأخذ بالحق‪ ،‬وأن تتبع‪ 9‬الحق إذا ظهر دليله ولو خالف فالنا أو فالنا‪ ،‬وعليك أن ال‬
‫تتعصب وتقلد تقليدا أعمى‪ ،‬بل تعرف لألئمة فضلهم وقدرهم‪ ،‬ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك ودينك‪،‬‬
‫فتأخذ بالحق وترضى‪ 9‬به‪ ،‬وترشد إليه إذا طلب منك‪ ،‬وتخاف اهلل وتراقبه جل وعال‪ ،‬وتنصف من‬
‫نفسك‪ ،‬مع إيمانك بأن الحق واحد‪ ،‬وأن المجتهدين إن أصابوا فلهم أجران‪ ،‬وإ ن أخطئوا فلهم أجر‬
‫واحد ‪ -‬أعني‪ :‬مجتهدي أهل السنة أهل العلم واإليمان والهدى ‪ -‬كما صح بذلك الخبر عن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫المقصود من الدعوة والهدف منها ‪:‬‬
‫أما المقصود من الدعوة والهدف منها ‪ :‬فالمقصود والهدف إخراج الناس من الظلمات إلى‬
‫النور‪ ،‬وإ رشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به‪ ،‬وينجو من النار‪ ،‬وينجو من غضب اهلل‪ ،‬وإ خراج‬
‫الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى‪ ،‬وإ خراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم‪،‬‬
‫والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة‪ ،‬هذا هو المقصود من الدعوة‪ ،‬كما قال جل وعال‪:‬‬
‫ت إِلَى النُّو ِر) ‪.‬‬ ‫(هَّللا ُ َولِ ُّي الَّ ِذينَ آ َمنُوا يُ ْخ ِر ُج ُه ْم ِمنَ ال ُّ‬
‫ظلُ َما ِ‬
‫فالرسل بعثوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة‬
‫وينشطون لها؛ إلخراج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬وإلنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان‪،‬‬
‫وإلنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة اهلل ورسوله‪.‬‬

‫األمر الرابع‪:‬‬
‫بيان األخالق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها ‪:‬‬
‫أما أخالق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها‪ ،‬فقد أوضحها اهلل جل وعال في آيات‬
‫كثيرة‪ ،‬في أماكن متعددة من كتابه الكريم منها‪:‬‬

‫)‪(16‬‬
‫أوال‪ :‬اإلخالص‪ :‬فيجب على الداعية أن يكون مخلصا هلل عز وجل‪ ،‬ال يريد رياء وال سمعة‪ ،‬وال‬
‫ً‬
‫ثناء الناس وال حمدهم‪ ،‬إنما يدعو إلى اهلل يريد وجهه عز وجل‪ ،‬كما قال سبحانه ‪( :‬قُ ْل‬
‫سنُ قَ ْواًل ِم َّمنْ َدعَا إِلَى هَّللا ) ‪.‬‬
‫سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى هَّللا ِ) ‪ ،‬وقال عز وجل ‪َ ( :‬و َمنْ أَ ْح َ‬
‫َه ِذ ِه َ‬
‫فعليك أن تخلص هلل عز وجل‪ ،‬هذا أهم األخالق‪ ،‬هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك‬
‫تريد وجه اهلل والدار اآلخرة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن تكون على بينه‪ 9‬في دعوتك ‪ -‬أي‪ :‬على علم ‪ -‬ال تكن جاهال بما تدعو إليه ‪( :‬قُ ْل َه ِذ ِه‬ ‫ً‬
‫ير ٍ‪z‬ة) ‪.‬‬
‫ص َ‬‫سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى هَّللا ِ َعلَى بَ ِ‬
‫َ‬
‫فال بد من العلم‪ ،‬فالعلم فريضة‪ 9،‬فإياك أن تدعو على جهالة‪ ،‬وإ ياك أن تتكلم فيما ال تعلم‪،‬‬
‫فالجاهل يهدم وال يبني‪ ،‬ويفسد وال يصلح‪ ،‬فاتق اهلل يا عبد اهلل‪ ،‬إياك أن تقوله على اهلل‬
‫بغير علم‪ ،‬ال تدعو إلى شيء إال بعد العلم به‪ ،‬والبصيرة بما قاله اهلل ورسوله‪ ،‬فال بد من‬
‫بصيرة وهي العلم‪ ،‬فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر‪ 9‬فيما يدعو إليه‪ ،‬وأن ينظر‬
‫فيما يدعو إليه ودليله‪ ،‬فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك‪ ،‬سواء كان ذلك فعال أو‬
‫تركا‪ ،‬فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة هلل ورسوله‪ ،‬ويدعو إلى ترك ما نهى اهلل عنه‬
‫ورسوله على بينة‪ 9‬وبصيرة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن تكون حليما في دعوتك‪ ،‬رفيقا فيها‪ ،‬متحمال صبورا‪ ،‬كما فعل الرسل عليهم الصالة‬
‫ً‬
‫والسالم‪ ،‬إياك والعجلة‪ ،‬إياك والعنف والشدة‪ ،‬عليك بالصبر‪ ،‬عليك بالحلم‪ ،‬عليك بالرفق‬
‫يل َربِّكَ‬ ‫ع إِلَى َ‬
‫سبِ ِ‪z‬‬ ‫في دعوتك‪ ،‬وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك‪ ،‬كقوله جل وعال‪( :‬ا ْد ُ‬
‫سنُ ) ‪ ،‬وقوله سبحانه ‪( :‬فَبِ َما َر ْح َم ٍة‬ ‫سنَ ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ‬
‫بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ‬
‫ِمنَ هَّللا ِ ِل ْنتَ لَ ُه ْم) ‪ ،‬وقوله جل وعال في قصة موسى‪ 9‬وهارون‪( :‬فَقُوال لَهُ قَ ْواًل لَيِّنًا لَ َعلَّهُ‬
‫يَتَ َذ َّك ُر أَ ْو يَ ْخشَى) ‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬اللهم من ولي من أمر أمتي‬
‫شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه) خرجه‬
‫مسلم في الصحيح‪.‬‬
‫فعليك يا عبد اهلل‪ ،‬أن ترفق في دعوتك‪ ،‬وال تشق على الناس‪ ،‬وال تنفرهم من الدين‪ ،‬وال تنفرهم‬
‫بغلظتك وال بجهلك‪ ،‬وال بأسلوبك العنيف المؤذي الضار‪ ،‬عليك أن تكون حليما صبورا‪ ،‬سلس‬
‫القياد‪ ،‬لين الكالم‪ ،‬طيب الكالم؛ حتى تؤثر في قلب أخيك‪ ،‬وحتى تؤثر في قلب المدعو‪ ،‬وحتى‬

‫)‪(17‬‬
‫يأنس لدعوتك ويلين لها‪ ،‬ويتأثر بها‪ ،‬ويثني عليك بها‪ ،‬ويشكرك عليها‪ ،‬أما العنف فهو منفر ال‬
‫مقرب‪ ،‬ومفرق ال جامع‪.‬‬
‫ومن األخالق واألوصاف التي ينبغي ‪ -‬بل يجب ‪ -‬أن يكون عليها الداعية‪ :‬العمل بدعوته‪ ،‬وأن‬
‫يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه‪ ،‬ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه‪ ،‬أو ينهى‪ 9‬عنه ثم يرتكبه‪9،‬‬
‫هذه حال الخاسرين‪ ،‬نعوذ باهلل من ذلك‪.‬‬
‫أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه‪ ،‬ويبتعدون‬
‫عما ينهون عنه‪ ،‬قال اهلل جل وعال‪( :‬يَا أَ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا لِ َم تَقُولُونَ َما ال تَ ْف َعلُونَ َكبُ َر َم ْقتًا ِع ْن َد هَّللا ِ‬
‫أَنْ تَقُولُوا َما ال تَ ْف َعلُونَ ) ‪ ،‬وقال سبحانه موبخا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم‪:‬‬
‫َاب أَفَال تَ ْعقِلُونَ ) ‪.‬‬
‫س ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم تَ ْتلُونَ ا ْل ِكت َ‬
‫س ْونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫(أَتَأْ ُم ُرونَ النَّ َ‬
‫اس بِا ْلبِ ِّر َوتَ ْن َ‬
‫وصح عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪( :‬يؤتى بالرجل يوم القيامة ‪ ‬فيلقى في النار فتندلق‬
‫أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فالن ما‬
‫لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف وال آتيه‬
‫وأنهاكم عن المنكر وآتيه) هذه حال من دعا إلى اهلل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر‪ ،‬ثم خالف‬
‫قوله فعله وفعله قوله‪ ،‬نعوذ باهلل من ذلك‪.‬‬
‫فمن أهم األخالق ومن أعظمها في حق الداعية‪ :‬أن يعمل بما يدعو إليه‪ ،‬وأن ينتهي‪ 9‬عما ينهى‪9‬‬
‫عنه‪ ،‬وأن يكون ذا خلق فاضل‪ ،‬وسيرة حميدة‪ ،‬وصبر‪ 9‬ومصابرة‪ ،‬وإ خالص في دعوته‪ ،‬واجتهاد‬
‫فيما يوصل الخير إلى الناس‪ ،‬وفيما يبعدهم من الباطل‪ ،‬ومع ذلك يدعو لهم بالهداية‪ ،‬هذا من‬
‫األخالق الفاضلة‪ ،‬أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو‪ :‬هداك اهلل‪ ،‬وفقك اهلل لقبول الحق‪ ،‬أعانك‬
‫اهلل على قبول الحق‪ ،‬تدعوه وترشده وتصبر على األذى‪ ،‬ومع ذلك تدعو لـه بالهداية‪ ،‬قال النبي‬
‫عليه الصالة والسالم لما قيل عن (دوس)‪ :‬إنهم عصوا‪ ،‬قال‪( :‬اللهم اهد دوسا وائت بهم) تدعو‬
‫له بالهداية والتوفيق لقبول الحق‪ ،‬وتصبر وتصابر في ذلك‪ ،‬وال تقنط وال تيأس‪ ،‬وال تقل إال‬
‫خيرا‪ ،‬ال تعنف وال تقل كالما سيئا ينفر من الحق‪ ،‬ولكن من ظلم وتعدى له شأن آخر‪ ،‬كما قال اهلل‬
‫سنُ إِال الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا ِم ْن ُه ْم) ‪.‬‬ ‫جل وعال‪َ ( :‬وال ت َُجا ِدلُوا أَ ْه َل ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ب إِال بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ‬
‫فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد واألذى لـه حكم آخر‪ ،‬في اإلمكان تأديبه على ذلك‬
‫بالسجن أو غيره‪ ،‬ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم‪ ،‬لكن ما دام كافا عن األذى‬

‫)‪(18‬‬
‫فعليك أن تصبر‪ 9‬عليه‪ ،‬وتحتسب‪ ،‬وتجادله بالتي هي أحسن‪ ،‬وتصفح‪ 9‬عما يتعلق بشخصك من‬
‫بعض األذى‪ ،‬كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان‪.‬‬
‫وأسأل اهلل عز وجل أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه‪ ،‬وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا‪ ،‬وأن يمنحنا‬
‫جميعا الفقه في دينه‪ ،‬والثبات عليه‪ ،‬ويجعلنا من الهداة المهتدين‪ ،‬والصالحين المصلحين‪ ،‬إنه‬
‫جل وعال جواد كريم‪.‬‬
‫وصلى اهلل وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وأصحابه‪ ،‬وأتباعه بإحسان‬
‫إلى يوم الدين‪.‬‬

‫)‪(19‬‬

You might also like