Professional Documents
Culture Documents
مكتبة نور الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة 3
مكتبة نور الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة 3
الدعاة
الشيخ /عبد العزيز بن عبد هللا بن باز
رحمه هللا
بسم اهلل الرحمن الرحيم
الحمد هلل رب العاليين ،والعاقبة للمتقين ،وال عدوان إال على الظالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل
وحده ال شريك له ،إله األولين واآلخرين ،وقيوم السماوات واألرضين ،وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله وخليله وأمينه على وحيه ،أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ،وداعيا إلى اهلل بإذنه
وسراجا منيرا ،صلى اهلل عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى
سبيله ،وصبروا على ذلك ،وجاهدوا فيه حتى أظهر اهلل بهم دينه ،وأعلى كلمته ولو كره
المشركون ،وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فإن اهلل سبحانه وتعالى إنما خلق الجن واإلنس ليعبد وحده ال شريك له ،وليعظم أمره ونهيه9،
س إِال لِيَ ْعبُدُو ِن) ،وقال عز وليعرف بأسمائه وصفاته ،كما قال عز وجلَ ( :و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َواإْل ِ ْن َ
اس ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم َوالَّ ِذينَ ِمنْ قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ) ،وقال عز وجل: وجل( :يَا أَيُّ َها النَّ ُ
ض ِم ْثلَ ُهنَّ يَتَنَ َّز ُل اأْل َ ْم ُر بَ ْينَ ُهنَّ لِتَ ْعلَ ُموا أَنَّ هَّللا َ َعلَى ُك ِّل ش َْي ٍء
ت َو ِمنَ اأْل َ ْر ِ س َما َوا ٍس ْب َع َ
ق َ (هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ
قَ ِدي ٌر َوأَنَّ هَّللا َ قَ ْد أَ َحاطَ بِ ُك ِّل ش َْي ٍء ِع ْل ًما ) .
فبين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبد ،ويعظم ،ويطاع أمره ونهيه؛ 9ألن العبادة :هي توحيده وطاعته
مع تعظيم أوامره ونواهيه 9،وبين عز وجل أيضا أنه خلق السماوات واألرض وما بينهما ليعلم
أنه على كل شيء قدير ،وأنه قد أحاط بكل شيء علما.
فعلم بذلك أن من الحكمة في إيجاد الخليقة :أن يعرف اهلل سبحانه بأسمائه وصفاته ،وأنه على
كل شيء قدير ،وأنه العالم بكل شيء جل وعال ،كما أن من الحكمة في خلقهم وإ يجادهم أن
يعبدوه ويعظموه ويقدسوه ويخضعوا لعظمته.
إن العبادة :هي الخضوع هلل جل وعال والتذلل له ،وسميت 9الوظائف التي أمر اهلل بها المكلفين -
من أوامر وترك نواه -عبادة؛ ألنها تؤدي بالخضوع والتذلل هلل عز وجل .
ثم لما كانت العبادة ال يمكن أن تستقل بتفاصيلها العقول ،كما أنه ال يمكن أن تعرف بها األحكام
من األوامر والنواهي على التفصيل ،أرسل اهلل سبحانه وتعالى الرسل ،وأنزل الكتب لبيان األمر
الذي خلق اهلل من أجله الخلق ،وإليضاحه وتفصيله للناس ،حتى يعبدوا اهلل على بصيرة 9،وحتى
ينتهوا عما نهاهم عنه على بصيرة ،فالرسل عليهم الصالة والسالم هم هداة الخلق ،وهم أئمة
الهدى ،ودعاة الثقلين جميعا إلى طاعة اهلل وعبادته ،فاهلل سبحانه أكرم العباد بهم ،ورحمهم
بإرسالهم إليهم ،وأوضح على أيديهم الطريق السوي ،والصراط المستقيم ،حتى يكون الناس
)(2
على بينة 9من أمرهم ،وحتى ال يقولوا :ما ندري ما أراده اهلل منا ،ما جاءنا من بشير وال نذير،
فقطع اهلل المعذرة ،وأقام الحجة بإرسال الرسل وإ نزال الكتب ،كما قال جل وعالَ ( :ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي
س ْلنَا ِمنْ قَ ْبلِكَ ِمنْ اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ ) ،وقال سبحانهَ ( :و َما أَ ْر َ سواًل أَ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ُْك ِّل أُ َّم ٍة َر ُ
سلَنَا بِا ْلبَيِّنَا ِ
ت وحي إِلَ ْي ِه أَنَّهُ ال إِلَهَ إِال أَنَا فَا ْعبُدُو ِن) ،وقال عز وجل( :لَقَ ْد أَ ْر َ
س ْلنَا ُر ُ ول إِال نُ ِ
س ٍ َر ُ
س ِط) ،وقال سبحانهَ ( :كانَ النَّ ُ
اس أُ َّمةً َوا ِح َدةً اس بِا ْلقِ َْاب َوا ْل ِميزَ انَ لِيَقُو َم النَّ ُ َوأَ ْنزَ ْلنَا َم َع ُه ُم ا ْل ِكت َ
اختَلَفُوا فِي ِه) س فِي َما ْ ش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ َوأَ ْنزَ َل َم َع ُه ُم ا ْل ِكت َ
َاب بِا ْل َح ِّ
ق لِيَ ْح ُك َم بَيْنَ النَّا ِ فَبَ َع َ
ث هَّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّ
.
فبين سبحانه أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليحكم بين الناس بالحق والقسط ،وليوضح للناس
ما اختلفوا فيه من الشرائع والعقائد ،من توحيد اهلل وشريعته 9عز وجل ،فإن قوله سبحانه
اس أُ َّمةً َوا ِح َدةً) يعني :على الحق ،لم يختلفوا من عهد آدم عليه الصالة
وتعالىَ ( :كانَ النَّ ُ
والسالم إلى نوح ..كان الناس على الهدى ،كما قال ابن عباس رضي اهلل عنهما ،وجماعة من
السلف والخلف ،ثم وقع الشرك في قوم نوح ،فاختلفوا فيما بينهم ،واختلفوا فيما يجب عليهم من
حق اهلل ،فلما وقع الشرك واالختالف أرسل اهلل نوحا عليه الصالة والسالم ،وبعده الرسل ،كما
وح َوالنَّبِيِّينَ ِمنْ بَ ْع ِد ِه) ،وقال تعالىَ ( :و َما أَ ْن َز ْلنَا
قال عز وجل( :إِنَّا أَ ْو َح ْينَا إِلَ ْيكَ َك َما أَ ْو َح ْينَا إِلَى نُ ٍ
اختَلَفُوا فِي ِه َو ُهدًى َو َر ْح َمةً لِقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُونَ) . َعلَ ْيكَ ا ْل ِكت َ
َاب إِال لِتُبَيِّنَ لَ ُه ُم الَّ ِذي ْ
فاهلل أنزل الكتاب ليبين حكم اهلل فيما اختلف فيه الناس ،وليبين شرعه فيما جهله الناس ،وليأمر
الناس بالتزام شرع اهلل والوقوف عند حدوده ،وينهي 9الناس عما يضرهم في العاجل واآلجل ،وقد
ختم الرسل جل وعال بأفضلهم وإ مامهم ،وبسيدهم نبينا وإ مامنا وسيدنا محمد بن عبد اهلل عليه
وعليهم من ربهم أفضل الصالة والتسليم ،فبلغ الرسالة ،وأدى األمانة ،ونصح 9األمة ،وجاهد في
اهلل حق جهاده ،ودعا إلى اهلل سرا وجهرا ،وأوذي في اهلل أشد األذى ،ولكنه صبر على ذلك كما
صبر من قبله من الرسل عليهم الصالة والسالم ،صبر كما صبروا ،وبلغ كما بلغوا ،ولكنه أوذي
أكثر ،وصبر أكثر ،وقام بأعباء الرسالة أكمل قيام ،عليه وعليهم الصالة والسالم ،مكث ثالثا
وعشرين سنة يبلغ رساالت اهلل ويدعو إليه ،وينشر أحكامه ،منها ثالث عشرة سنة في أم القرى
-مكة المكرمة -أوال بالسر ،ثم بالجهر ،صدع بالحق ،وأوذي ،وصبر 9على الدعوة وعلى أذى
الناس ،مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته ،ويعرفون فضله ونسبه 9ومكانته ،ولكنه الهوى والحسد
والعناد من األكابر ،والجهل والتقليد من العامة ،فاألكابر جحدوا واستكبروا وحسدوا ،والعامة
)(3
قلدوا واتبعوا وأساءوا ،فأوذي بسبب ذلك أشد األذى عليه الصالة والسالم .ويدلنا على أن
األكابر قد عرفوا الحق وعاندوا قوله سبحانه( :قَ ْد نَ ْعلَ ُم إِنَّهُ لَيَ ْح ُزنُ َك الَّ ِذي يَقُولُونَ فَإِنَّ ُه ْم ال
ت هَّللا ِ يَ ْج َحدُونَ ).
يُ َك ِّذبُونَ َك َولَ ِكنَّ الظَّالِ ِمينَ بِآيَا ِ
فبين سبحانه أنهم ال يكذبون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،بل يعلمون صدقه وأمانته في
الباطن ،وكانوا يسمونه 9:األمين قبل أن يوحى إليه -عليه الصالة والسالم -ولكنهم جحدوا
الحق حسدا وبغيا عليه -عليه الصالة والسالم -لكنه عليه الصالة والسالم لم يبال بذلك ولم
يكترث به ،بل صبر واحتسب وسار في الطريق ،ولم يزل داعيا إلى اهلل جل وعال ،وصابرا على
األذى ،مجاهدا بالدعوة ،كافا عن األذى ،متحمال لـه ،صافحا عما يصدر منهم حسب اإلمكان،
حتى اشتد األمر ،وعزموا على قتله عليه الصالة والسالم ،فعند ذلك أذن اهلل لـه بالخروج إلى
المدينة ،فهاجر إليها عليه الصالة والسالم ،وصارت عاصمة اإلسالم األولى ،وظهر فيها دين
اهلل ،وصار للمسلمين بها دولة وقوة ،واستمر عليه الصالة والسالم في الدعوة وإ يضاح الحق،
وشرع في الجهاد بالسيف ،وأرسل الرسل يدعون الناس إلى الخير والهدى ،ويشرحون لهم
دعوة نبيهم محمد عليه الصالة والسالم ،وبعث السرايا ،وغزا الغزوات المعروفة؛ حتى أظهر اهلل
دينه على يديه ،وحتى أكمل اهلل به الدين ،وأتم عليه وعلى أمته النعمة ،ثم توفي عليه الصالة
والسالم بعدما أكمل اهلل به الدين ،وبلغ البالغ المبين عليه الصالة والسالم ،فتحمل أصحابه من
بعده األمانة ،وساروا على الطريق ،فدعوا إلى اهلل عز وجل ،وانتشروا في أرجاء المعمورة دعاة
للحق ،ومجاهدين في سبيل 9اهلل عز وجل ،ال يخشون في اهلل لومة الئم ،يبلغون رساالت اهلل،
ويخشونه وال يخشون أحدا إال اهلل جل وعال ،فانتشروا في األرض غزاة مجاهدين ،ودعاة
مهتدين ،وصالحين مصلحين ،ينشرون دين اهلل ،ويعلمون الناس شريعته 9،ويوضحون لهم
العقيدة التي بعث اهلل بها الرسل ،وهي إخالص العبادة هلل وحده ،وترك عبادة ما سواه من
األشجار ،واألحجار ،واألصنام ،وغير ذلك ،فال يدعى إال اهلل وحده ،وال يستغاث إال به ،وال يحكم
إال شرعه ،وال يصلى إال له ،وال ينذر إال له ...إلى غير ذلك من العبادات.
وأوضحوا للناس :أن العبادة حق هلل ،وتلوا عليهم ما ورد في ذلك من اآليات ،مثل قوله سبحانه:
ست َِعينُ ) ( ،فَال
ضى َر ُّبكَ أَال تَ ْعبُدُوا إِال إِيَّاهُ) ( ،إِيَّا َك نَ ْعبُ ُد َوإِيَّا َك نَ ْ
اس ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم) َ ( ،وقَ َ
(يَا أَ ُّي َها النَّ ُ
اي َو َم َماتِي هَّلِل ِ َر ِّب ا ْل َعالَ ِمينَ ال َ
ش ِريكَ لَهُ تَ ْدعُوا َم َع هَّللا ِ أَ َحدًا) ( ،قُ ْل إِنَّ َ
صالتِي َونُ ُ
س ِكي َو َم ْحيَ َ
سلِ ِمينَ ) .
َوبِ َذلِ َك أُ ِم ْرتُ َوأَنَا أَ َّو ُل ا ْل ُم ْ
)(4
وصبروا على ذلك صبرا عظيما ،وجاهدوا في اهلل جهادا كبيرا ،رضي اهلل عنهم وأرضاهم ،
وتبعهم على ذلك أئمة الهدى من التابعين وأتباع التابعين من العرب وغير العرب ،ساروا في هذا
السبيل ،سبيل 9الدعوة إلى اهلل عز وجل ،وتحملوا أعباءها ،وأدوا األمانة ،مع الصدق والصبر
واإلخالص في الجهاد في سبيل 9اهلل ،وقتال من خرج عن دينه ،وصد عن سبيله ،ولم يؤد الجزية
التي فرضها اهلل ،إذ كان من أهلها ،فهم حملة الدعوة وأئمة الهدى بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وهكذا أتباع الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وأئمة الهدى ،ساروا على هذا الطريق
كما تقدم ،وصبروا في ذلك ،وانتشر 9دين اهلل ،وعلت كلمته على أيدي الصحابة ومن تبعهم من
أهل العلم واإليمان ،من العرب والعجم ،من هذه الجزيرة جنوبها وشمالها ،ومن غير الجزيرة من
سائر أرجاء الدنيا ،ممن كتب اهلل له السعادة ،ودخل في دين اهلل ،وشارك في الدعوة والجهاد،
وصبر على ذلك ،وصارت لهم السيادة والقيادة واإلمامة في الدين ،بسبب صبرهم وإ يمانهم
وجهادهم في سبيل اهلل عز وجل ،وصدق فيهم قوله سبحانه فيما ذكر في بني إسرائيلَ ( :و َج َع ْلنَا
صبَ ُروا َو َكانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ).
ِم ْن ُه ْم أَئِ َّمةً يَ ْهدُونَ بِأ َ ْم ِرنَا لَ َّما َ
صدق هذا في أصحاب الرسول صلى اهلل عليه وسلم وفيمن سار على سبيلهم ،صاروا أئمة
وهداة ودعاة للحق ،وأعالما يقتدى بهم ،بسبب صبرهم وإ يمانهم ،فإن بالصبر واليقين تنال
اإلمامة في الدين ،فأصحاب الرسول عليه الصالة والسالم وأتباعه بإحسان إلى يومنا هذا هم
األئمة 9،وهم الهداة ،وهم القادة في سبيل الحق.
وبذلك يتضح 9لكل طالب علم أن الدعوة إلى اهلل من أهم المهمات ،وأن األمة في كل زمان ومكان
في أشد الحاجة إليها ،بل في أشد الضرورة إلى ذلك.
ويتلخص الكالم في الدعوة إلى اهلل عز وجل في أمور:
األمر األول :حكمها وفضلها.
األمر الثاني :كيفية أدائها وأساليبها.
األمر الثالث :بيان األمر الذي يدعى إليه.
األمر الرابع :بيان األخالق والصفات التي ينبغي 9للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها.
فنقول وباهلل المستعان وعليه التكالن وهو المعين والموفق لعباده سبحانه وتعالى.
األمر األول :
بيان حكم الدعوة إلى اهلل عز وجل وبيان فضلها :
)(5
أما حكمها :
فقد دلت األدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى اهلل عز وجل ،وأنها من الفرائض،
واألدلة في ذلك كثيرة ،منها :قوله سبحانهَ ( :و ْلتَ ُكنْ ِم ْن ُك ْم أُ َّمةٌ يَ ْدعُونَ إِلَى ا ْل َخ ْي ِر َويَأْ ُم ُرونَ
يل
سبِ ِ ع إِلَى َ َن ا ْل ُم ْن َك ِر َوأُولَئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْفلِ ُحونَ ) ،ومنها :قوله جل وعال( :ا ْد ُ وف َويَ ْن َه ْونَ ع ِ بِا ْل َم ْع ُر ِ
سنُ ) ،ومنها :قوله عز وجلَ ( :وا ْد ُ
ع إِلَى سنَ ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ
َربِّكَ بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ
ش ِر ِكينَ ) ،ومنها :قوله سبحانه ( :قُ ْل َه ِذ ِه َ
سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى هَّللا ِ َعلَى َربِّكَ َوال تَ ُكونَنَّ ِمنَ ا ْل ُم ْ
ير ٍة أَنَا َو َم ِن اتَّبَ َعنِي) .
ص َبَ ِ
فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى اهلل عليه وسلم هم الدعاة إلى اهلل ،وهم أهل البصائر،
والواجب -كما هو معلوم -هو اتباعه ،والسير على منهاجه عليه الصالة والسالم ،كما قال
سنَةٌ لِ َمنْ َكانَ يَ ْر ُجو هَّللا َ َوا ْليَ ْو َم اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِي ًرا) تعالى( :لَقَ ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ
سو ِل هَّللا ِ أُ ْ
س َوةٌ َح َ
.
وصرح العلماء أن الدعوة إلى اهلل عز وجل فرض كفاية ،بالنسبة 9إلى األقطار التي يقوم فيها
الدعاة ،فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإ لى النشاط فيها ،فهي فرض كفاية إذا قام بها
من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب ،وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة ،وعمال
صالحا جليال.
وإ ذا لم يقم أهل اإلقليم ،أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام ،صار اإلثم عاما ،وصار
الواجب على الجميع ،وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإ مكانه ،أما بالنظر إلى
عموم البالد ،فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى اهلل جل وعال في أرجاء
المعمورة ،تبلغ رساالت اهلل ،وتبين أمر اهلل عز وجل بالطرق الممكنة ،فإن الرسول صلى اهلل
عليه وسلم قد بعث الدعاة ،وأرسل الكتب إلى الناس ،وإ لى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى اهلل عز
وجل.
وفي وقتنا اليوم قد يسر اهلل عز وجل أمر الدعوة أكثر ،بطرق لم تحصل لمن قبلنا ،فأمور الدعوة
اليوم متيسرة أكثر ،من طرق كثيرة ،وإ قامة الحجة على الناس اليوم ممكنة 9بطرق متنوعة 9:عن
طريق اإلذاعة ،وعن طريق التلفزة ،وعن طريق الصحافة ...،من طرق شتى.
فالواجب على أهل العلم واإليمان ،وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب ،وأن يتكاتفوا
فيه ،وأن يبلغوا رساالت اهلل إلى عباد اهلل ،وال يخشوا في اهلل لومة الئم ،وال يحابوا في ذلك كبيرا
)(6
وال صغيرا وال غنيا وال فقيرا ،بل يبلغون أمر اهلل إلى عباد اهلل ،كما أنزل اهلل ،وكما شرع اهلل،
وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك ،كاألمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،فإنه يكون فرض عين ،ويكون فرض كفاية ،فإذا كنت في مكان ليس فيه من
يقوى على هذا األمر ،ويبلغ أمر اهلل سواك ،فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك ،فأما إذا وجد من
يقوم بالدعوة والتبليغ ،واألمر والنهي غيرك ،فإنه يكون حينئذ في حقك سنة ،وإ ذا بادرت إليه
وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات ،وسابقا إلى الطاعات ،ومما احتج به على أنها
فرض كفاية قوله جل وعالَ ( :و ْلتَ ُكنْ ِم ْن ُك ْم أُ َّمةٌ يَ ْدعُونَ إِلَى ا ْل َخ ْي ِر).
قال الحافظ ابن كثير عند هذه اآلية وجماعة ما معناه :ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا األمر
العظيم ،تدعو إلى اهلل ،وتنشر دينه ،وتبلغ أمره سبحانه وتعالى ،ومعلوم أيضا أن الرسول عليه
الصالة والسالم دعا إلى اهلل ،وقام بأمر اهلل في مكة حسب طاقته ،وقام الصحابة كذلك رضي اهلل
عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم ،ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ ،ولما انتشروا في
البالد بعد وفاته عليه الصالة والسالم قاموا بذلك أيضا رضي اهلل عنهم وأرضاهم ،كل على قدر
طاقته وعلى قدر علمه ،فعند قلة الدعاة ،وعند كثرة المنكرات ،وعند غلبة الجهل -كحالنا اليوم
-تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته ،وإ ذا كان في محل محدود كقرية ومدينة9
ونحو ذلك ،ووجد فيها من تولى هذا األمر ،وقام به وبلغ أمر اهلل كفى ،وصار التبليغ في حق
غيره سنة؛ ألنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر اهلل على يد سواه.
ولكن بالنسبة 9إلى بقية أرض اهلل ،وإ لى بقية الناس ،يجب على العلماء حسب طاقتهم ،وعلى والة
األمر حسب طاقتهم ،أن يبلغوا أمر اهلل بكل ما يستطيعون ،وهذا فرض عين عليه على حسب
الطاقة والقدرة .
وبهذا يعلم أن كونها فرض عين ،وكونها فرض كفاية أمر نسبي 9يختلف ،فقد تكون الدعوة فرض
عين بالنسبة إلى أقوام وإ لى أشخاص ،وسنة 9بالنسبة 9إلى أشخاص وإ لى أقوام؛ ألنه وجد في
محلهم وفي مكانهم من قام باألمر وكفى عنهم.
أما بالنسب إلى والة األمور ومن لهم القدرة الواسعة ،فعليهم من الواجب أكثر ،وعليهم أن يبلغوا
الدعوة إلى ما استطاعوا من األقطار ،حسب اإلمكان بالطرق الممكنة ،وباللغات الحية التي ينطق
بها الناس ،يجب أن يبلغوا أمر اهلل بتلك اللغات حتى يصل دين اهلل إلى كل أحد باللغة التي
يعرفها ،باللغة العربية وبغيرها ،فإن األمر اآلن ممكن وميسور 9بالطرق التي تقدم بيانها ،طرق
)(7
اإلذاعة والتلفزة والصحافة ،وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم ،ولم تتيسر في السابق،
كما أنه يجب على الخطباء -في االحتفاالت ،وفي الجمع ،وفي غير ذلك -أن يبلغوا ما
استطاعوا من أمر اهلل عز وجل ،وأن ينشروا دين اهلل حسب طاقتهم ،وحسب علمهم.
ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإ لى اإللحاد ،وإ نكار رب العباد ،وإ نكار الرساالت،
وإ نكار اآلخرة ،وانتشار الدعوة النصرانية 9في الكثير من البلدان ،وغير ذلك من الدعوات
المضللة -نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى اهلل عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما ،وواجبا على
جميع العلماء ،وعلى جميع الحكام الذين يدينون باإلسالم ،فرض عليهم أن يبلغوا دين اهلل حسب
الطاقة واإلمكان بالكتابة والخطابة ،وباإلذاعة وبكل وسيلة استطاعوا ،وأن ال يتقاعسوا عن ذلك،
أو يتكلوا على زيد أو عمرو ،فإن الحاجة ،بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون واالشتراك،
والتكاتف في هذا األمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك؛ ألن أعداء اهلل قد تكاتفوا وتعاونوا بكل
وسيلة للصد عن سبيل 9اهلل ،والتشكيك في دينه ،ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين اهلل عز
وجل ،فوجب على أهل اإلسالم أن يقابلوا هذا النشاط المضل ،وهذا النشاط الملحد بنشاط
إسالمي ،وبدعوة إسالمية على شتى المستويات ،وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة،
وهذا من باب أداء ما أوجب اهلل على عباده من الدعوة إلى سبيله.
فضل الدعوة
وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة ،كما أنه ورد في إرسال النبي صلى اهلل
س ُن قَ ْواًل
َح َ
عليه وسلم الدعاة أحاديث ال تخفى على أهل العلم ،ومن ذلك قوله جل وعالَ { :و َم ْن أ ْ
ين } فهذه اآلية الكريمة فيها التنويهس ِل ِم َ ِم َّم ْن َدعا إِلَى اللَّ ِه وع ِم َل ص ِالحا وقَ َ ِ ِ
ال إِ َّنني م َن ا ْل ُم ْ َ ً َ َ َ َ
بالدعاة والثناء عليهم ،وأنه ال أحد أحسن قوال منهم ،وعلى رأسهم الرسل عليهم الصالة
والسالم ،ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل ،فأنت يا عبد اهلل يكفيك شرفا
س ُن قَ ْواًل ِم َّم ْن َد َعا
َح َ
أن تكون من أتباع الرسل ،ومن المنتظمين في هذه اآلية الكريمة { َو َم ْن أ ْ
ين } المعنى :ال أحد أحسن قوال منه 9لكونه دعا إلى س ِل ِم َ ِ ِ إِلَى اللَّ ِه وع ِم َل ِ
صال ًحا َوقَا َل إِ َّنني 9م َن ا ْل ُم ْ
َ َ َ
اهلل وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه ،يعني :دعا إلى الحق وعمل به ،وأنكر الباطل وحذر منه،
وتركه ،ومع ذلك صرح بما هو عليه ،لم يخجل بل قال :إنني من المسلمين ،مغتبطا وفرحا بما
من اهلل به عليه ،وليس كمن يستنكف 9عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم ،أو بأنه يدعو إلى
)(8
اإلسالم ،لمراعاة فالن أو مجاملة فالن ،وال حول وال قوة إال باهلل ،بل المؤمن الداعي إلى اهلل
القوي اإليمان ،البصير بأمر اهلل يصرح بحق اهلل ،وينشط في الدعوة إلى اهلل ويعمل بما يدعو
إليه ،ويحذر ما ينهى 9عنه ،فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه ،ومن أبعد الناس عن كل ما
ينهى عنه ،ومع ذلك يصرح 9بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى اإلسالم ،ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال
ض ِل اللَّ ِه َو ِب َر ْح َم ِت ِه فَ ِب َذ ِل َك َف ْل َي ْف َر ُحوا ُه َو َخ ْيٌر ِم َّما َي ْج َم ُع َ
ون } عز وجلُ { :ق ْل ِبفَ ْ
فالفرح برحمة 9اهلل وفضله فرح االغتباط ،فرح السرور ،أمر مشروع ،أما الفرح المنهي عنه فهو
فرح الكبر ،والفرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون :ال تَ ْف َر ْح إِ َّن اللَّ َه ال
ب ا ْلفَ ِر ِح َ
ين ُي ِح ُّ
هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم ،وهذا هو الذي ينهى عنه..
أما فرح االغتباط والسرور بدين اهلل ،والفرح بهداية اهلل ،واالستبشار 9بذلك والتصريح 9بذلك
ليعلم ،فأمر مشروع وممدوح ومحمود ،فهذه اآلية الكريمة من أوضح اآليات في الداللة على
فضل الدعوة ،وأنها من أهم القربات ،ومن أفضل الطاعات ،وأن أهلها في غاية من الشرف وفي
أرفع مكانة ،وعلى رأسهم الرسل عليه الصالة والسالم ،وأكملهم في ذلك خاتمهم وإ مامهم
وسيدهم نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصالة والسالم ،ومن ذلك قوله جل وعالُ :ق ْل َه ِذ ِه
ير ٍ9ة أََنا َو َم ِن اتََّب َع ِني فبين سبحانه أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ِ َّ ِ ِ ِ
س ِبيلي أ َْد ُعو إلَى الله َعلَى َبص َ
َ
يدعو على بصيرة 9،وأن أتباعه كذلك ،فهذا فيه فضل الدعوة ،وأن أتباع الرسول صلى اهلل عليه
وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة ،والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه ،وفي
هذا شرف لهم وتفضيل ،وقال النبي الكريم عليه الصالة والسالم في الحديث الصحيح " :من دل
على خير فله مثل أجر فاعله " رواه مسلم في الصحيح ،وقال عليه الصالة والسالم " :من دعا
إلى هدى كان له من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى
ضاللة كان عليه من اإلثم مثل آثام من تبعه ال ينقص ذلك من آثامهم شيئا " أخرجه مسلم
أيضا ،وهذا يدل على فضل الدعوة إلى اهلل عز وجل ،وصح عنه عليه الصالة والسالم أنه قال
لعلي رضي اهلل عنه وأرضاه " :فواهلل ألن يهدي اهلل بك رجال واحدا خير لك من حمر النعم "
متفق على صحته ،وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى اهلل وما فيها من الخير العظيم ،وأن
)(9
الداعي إلى اهلل جل وعال يعطى مثل أجور من هداه اهلل على يديه ،ولو كانوا آالف الماليين،
وتعطى أيها الداعية مثل أجورهم ،فهنيئا لك أيها الداعية إلى اهلل بهذا الخير العظيم ،وبهذا يتضح9
أيضا أن الرسول عليه الصالة وللسالم يعطى مثل أجور أتباعه ،فيا لها من نعمة عظيمة يعطى
نبينا عليه الصالة والسالم مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة ،ألنه بلغهم رسالة اهلل ،ودلهم على
الخير عليه الصالة والسالم ،وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم عليهم الصالة والسالم،
وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك ،فاغتنم هذا
الخير العظيم وسارع إليه.
)(10
فاألدلة الواضحة تسمى 9:حكمة ،والكالم الواضح المصيب للحق يسمى :حكمة ،كما تقدم ،ومن
ذلك الحكمة التي تكون في فم الفرس :وهي بفتح الحاء والكاف ،سميت بذلك؛ ألنها تمنع 9الفرس
من المضي في السير ،إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة.
فالحكمة كلمة تمنع من سمعها من المضي في الباطل ،وتدعوه إلى األخذ بالحق والتأثر به،
والوقوف عند الحد الذي حده اهلل عز وجل.
فعلى الداعية إلى اهلل عز وجل أن يدعو بالحكمة ،ويبدأ بها ،ويعنى بها ،فإذا كان المدعو عنده
بعض الجفا واالعتراض دعوته بالموعظة الحسنة ،باآليات واألحاديث التي فيها الوعظ
والترغيب ،فإن كان عنده شبهة 9جادلته بالتي هي أحسن ،وال تغلظ عليه ،بل تصبر 9عليه وال
تعجل وال تعنف ،بل تجتهد في كشف الشبهة ،وإ يضاح األدلة باألسلوب الحسن ،هكذا ينبغي 9لك
أيها الداعية أن تتحمل وتصبر 9وال تشدد؛ ألن هذا أقرب إلى االنتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو،
وصبره على المجادلة والمناقشة ،وقد أمر اهلل جل وعال موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون
أن يقوال لـه قوال لينا وهو أطغى الطغاة ،قال اهلل جل وعال في أمره لموسى وهارون( :فَقُوال لَهُ
قَ ْواًل لَيِّنًا لَ َعلَّهُ يَتَ َذ َّك ُر أَ ْو يَ ْخشَى) ،وقال اهلل سبحانه في نبيه 9محمد عليه الصالة والسالم( :فَبِ َما
ضوا ِمنْ َح ْولِ َك). َر ْح َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ لِ ْنتَ لَ ُه ْم َولَ ْو ُك ْنتَ فَظًّا َغلِيظَ ا ْلقَ ْل ِ
ب ال ْنفَ ُّ
فعلم بذلك أن األسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون الداعي حكيما في الدعوة،
بصرا بأسلوبها ،ال يعجل وال يعنف ،بل يدعو بالحكمة ،وهي المقال الواضح المصيب للحق من
اآليات واألحاديث ،وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ،هذا هو األسلوب الذي ينبغي
لك في الدعوة إلى اهلل عز وجل ،أما الدعوة بالجهل فهذا يضر وال ينفع ،كما يأتي بيان ذلك إن
شاء اهلل عند ذكر أخالق الدعاة؛ ألن الدعوة مع الجهل باألدلة قول على اهلل بغير علم ،وهكذا
الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكثر.
وإ نما الواجب والمشروع هو األخذ بما بينه اهلل عز وجل في سوره النحل ،وهو قوله سبحانه:
يل َربِّ َك بِا ْل ِح ْك َم ِة) . سبِ ِ ع إِلَى َ (ا ْد ُ
إال إذا ظهر من المدعو العناد والظلم ،فال مانع من اإلغالظ عليه ،كما قال اهلل سبحانه ( :يَا أَيُّ َها
ار َوا ْل ُمنَافِقِينَ َوا ْغلُ ْظ َعلَ ْي ِه ْم) ،وقال تعالىَ ( :وال ت َُجا ِدلُوا أَ ْه َل ا ْل ِكتَا ِ
ب إِال بِالَّتِي ِه َي النَّبِ ُّي َجا ِه ِد ا ْل ُكفَّ َ
سنُ إِال الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا ِم ْن ُه ْم). أَ ْح َ
)(12
فدين اهلل يدعو إلى االجتماع ،وإ لى السياسة الصالحة الحكيمة 9،التي تجمع وال تفرق ،تؤلف وال
تباعد ،تدعو إلى صفاء القلوب ،واحترام األخوة اإلسالمية ،والتعاون على البر والتقوى،
والنصح هلل ولعباده ،وهو أيضا يدعو إلى أداء األمانة والحكم بالشريعة ،وترك الحكم بغير ما
أنزل اهلل عز وجل ،كما قال سبحانه( :إِنَّ هَّللا َ يَأْ ُم ُر ُك ْم أَنْ تُؤَ دُّوا اأْل َ َمانَا ِ
ت إِلَى أَ ْهلِ َها َوإِ َذا َح َك ْمتُ ْم بَيْنَ
س أَنْ ت َْح ُك ُموا بِا ْل َعد ِْل) .
النَّا ِ
وهو أيضا سياسة واقتصاد ،كما أنه سياسة وعباده وجهاد ،فهو يدعو إلى االقتصاد الشرعي
المتوسط ،ليس رأسماليا غاشما ظالما ال يبالي بالحرمات ،ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق،
وليس اقتصادا شيوعيا إلحاديا ال يحترم أموال الناس ،وال يبالي بالضغط عليهم وظلمهم
والعدوان عليهم ،فليس هذا وال هذا ،بل هو وسط بين االقتصادين ،ووسط بين الطريقين ،وحق
بين الباطلين ،فالغرب عظموا المال وغلوا في حبه وفي جمعه ،حتى جمعوه بكل وسيلة ،وسلكوا
فيه ما حرم اهلل عز وجل ،والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا
أموال العباد ،بل أخذوها واستحلوها ،ولم يبالوا بما فعلوا في ذلك ،بل استعبدوا العباد،
واضطهدوا الشعوب ،وكفروا باهلل ،وأنكروا األديان ،وقالوا :ال إله ،والحياة مادة ،فلم يبالوا بهذا
المال ،ولم يكترثوا بأخذه بغير حله ،ولم يكترثوا بوسائل اإلبادة واالستيالء على األموال،
والحيلولة بين الناس وبين ما فطرهم اهلل عليه من الكسب واالنتفاع ،واالستفادة من قدراتهم
ومن عقولهم ،وما أعطاهم اهلل من األدوات ،فال هذا وال هذا .
فاإلسالم جاء بحفظ المال واكتسابه بالطرق الشرعية البعيدة عن الظلم والغش والربا وظلم
الناس والتعدي عليهم ،كما جاء باحترام الملك الفردي والجماعي ،فهو وسط بين النظامين،
وبين االقتصاديين ،وبين الطريقين الغاشمين ،فأباح المال ودعا إليه ،ودعا إلى اكتسابه بالطرق
الحكيمة 9،من غير أن يشغل كاسبه عن طاعة اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ،وعن أداء ما
أوجب اهلل عليه؛ ولهذا قال عز وجل( :يَا أَ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَأْ ُكلُوا أَ ْم َوالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم بِا ْلبَا ِط ِل).
وقال النبي عليه الصالة والسالم( :كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وقال( :إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) وقال
عليه الصالة والسالم( :ألن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة 9من حطب على ظهره فيبيعها فيكف
بها وجهه خير لـه من سؤال الناس أعطوه أو منعوه)وسئل صلى اهلل عليه وسلم :أي الكسب
)(13
أطيب؟ فقال( :عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور )9وقال عليه الصالة والسالم( :ما أكل أحد طعاما
أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي اهلل داود يأكل من عمل يده) .
فهذا يبين لنا أن نظام اإلسالم في المال نظام متوسط ،ال مع رأس المال الغاشم من الغرب
وأتباعه ،وال مع الشيوعيين الملحدين الذين استباحوا األموال ،وأهدروا حرمات أهلها ،لم يبالوا
بها ،واستعبدوا الشعوب وقضوا عليها ،واستحلوا ما حرم اهلل منها ،فلك أن تكسب المال وتطلبه
بالطرق الشرعية ،وأنت أولى بمالك وبكسبك بالطريقة التي شرعها اهلل ،وأباحها جل وعال.
واإلسالم أيضا يدعو إلى األخوة اإليمانية ،وإ لى النصح هلل ولعباده ،وإ لى احترام المسلم ألخيه ،ال
غل وال حسد وال غش وال خيانة ،وال غير ذلك من األخالق الذميمة 9،كما قال جل وعال:
ض) ،وقال جل وعال( :إِنَّ َما ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ إِ ْخ َوةٌ) . ( َوا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ َوا ْل ُم ْؤ ِمنَاتُ بَ ْع ُ
ض ُه ْم أَ ْولِيَا ُء بَ ْع ٍ
وقال النبي عليه الصالة والسالم( :المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يحقره وال يخذله) ....
الحديث.
فالمسلم أخو المسلم ،يجب عليه احترامه وعدم احتقاره ،ويجب عليه إنصافه وإ عطاؤه حقه من
كل الوجوه التي شرعها اهلل عز وجل ،وقال صلى اهلل عليه وسلم( :المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضـه بعضا) وقال صلى اهلل عليه وسلم( :المؤمن مرآة أخيه المؤمن) فأنت يا أخي مرآة
أخيك ،وأنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان األخوة اإليمانية 9،فاتق اهلل في حق أخيك،
واعرف حقه ،وعامله بالحق والنصح والصدق ،وعليك أن تأخذ اإلسالم كله وال تأخذ جانبا دون
جانب ،ال تأخذ العقيدة وتدع األحكام واألعمال ،وال تأخذ األعمال واألحكام وتدع العقيدة ،بل خذ
اإلسالم كله ،خذه عقيدة ،وعمال ،وعبادة ،وجهادا ،واجتماعا ،وسياسة ،واقتصادا وغير ذلك،
خذه من كل الوجوه ،كما قال سبحانه( :يَا أَيُّ َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا اد ُْخلُوا فِي ال ِّ
س ْل ِم َكافَّةً َوال تَتَّبِ ُعوا
ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َعد ٌُّو ُمبِينٌ ) .
ش ْيطَ ِ ُخطُ َوا ِ
ت ال َّ
قال جماعة من السلف :معنى ذلك :ادخلوا في السلم جميعه ،يعني :في اإلسالم ،يقال لإلسالم:
سلم؛ ألنه طريق السالمة ،وطريق النجاة في الدنيا واآلخرة ،فهو سلم وإ سالم ،فاإلسالم يدعو
إلى السلم ،يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود والقصاص والجهاد الشرعي الصادق،
س ْل ِم َكافَّةً) أي :ادخلوا في
فهو سلم وإ سالم ،وأمن وإ يمان؛ ولهذا قال جل وعال( :اد ُْخلُوا فِي ال ِّ
جميع شعب اإليمان ،ال تأخذوا بعضا وتدعوا بعضا ،عليكم أن تأخذوا باإلسالم كله َ ( ،وال تَتَّبِ ُعوا
ان) يعني :المعاصي التي حرمها اهلل عز وجل فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي ش ْيطَ ِ ُخطُ َوا ِ
ت ال َّ
)(14
وإ لى ترك دين اهلل كله ،فهو أعدى عدو؛ ولهذا يجب على المسلم أن يتمسك باإلسالم كله ،وأن
يدين باإلسالم كله ،وأن يعتصم بحبل اهلل عز وجل ،وأن يحذر أسباب الفرقة واالختالف في جميع
األحوال ،فعليك أن تحكم شرع اهلل في العبادات ،وفي المعامالت ،وفي النكاح والطالق ،وفي
النفقات ،وفي الرضاع ،وفي السلم والحرب ،ومع العدو والصديق ،وفي الجنايات ،وفي كل
شيء.
دين اهلل يجب أن يحكم في كل شيء ،وإ ياك أن توالي أخاك ألنه وافقك في كذا ،وتعادي اآلخر ألنه
خالفك في رأي أو في مسألة ،فليس هذا من اإلنصاف ،فالصحابة رضي اهلل عنهم اختلفوا في
مسائل ومع ذلك لم يؤثر 9ذلك في الصفاء بينهم والمواالة والمحبة رضي اهلل عنهم وأرضاهم.
فالمؤمن يعمل بشرع اهلل ،ويدين بالحق ،ويقدمه على كل أحد بالدليل ،ولكن ال يحمله ذلك على
ظلم أخيه وعدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل االجتهاد التي قد يخفى دليلها ،وهكذا في
المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها ،فإنه قد يعذر ،فعليك أن تنصح له ،وأن تحب له
الخير ،وال يحملك ذلك على العداء واالنشقاق ،وتمكين العدو منك ومن أخيك ،وال حول وال قوة
إال باهلل.
اإلسالم دين العدالة ،ودين الحكم بالحق واإلحسان ،دين المساواة إال فيما استثنى 9اهلل عز وجل،
ففيه الدعوة إلى كل خير ،وفيه الدعوة إلى مكارم األخالق ،ومحاسن األعمال ،واإلنصاف
والعدالة والبعد عن كل خلق ذميم ،قال تعالى ( :إِنَّ هَّللا َ يَأْ ُم ُر بِا ْل َع ْد ِل َواإْل ِ ْح َ
سا ِن َوإِيتَا ِء ِذي ا ْلقُ ْربَى
َن ا ْلفَ ْحشَا ِء َوا ْل ُم ْن َك ِر َوا ْلبَ ْغ ِي يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرونَ ) ،وقال تعالى( :يَا أَيُّ َها النَّ ُ
اس إِنَّا َويَ ْن َهى ع ِ
ارفُوا إِنَّ أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم إِنَّ هَّللا َ َعلِي ٌم َخلَ ْقنَا ُك ْم ِمنْ َذ َك ٍر َوأُ ْنثَى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُ
ش ُعوبًا َوقَبَائِ َل ِلتَ َع َ
َخبِي ٌر) .
والخالصة :أن الواجب على الداعية اإلسالمي أن يدعو إلى اإلسالم كله ،وال يفرق بين الناس،
وأن ال يكون متعصبا لمذهب دون مذهب ،أو لقبيلة دون قبيلة ،أو لشيخه أو رئيسه 9أو غير ذلك،
بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإ يضاحه ،واستقامة الناس عليه ،وإ ن خالف رأي فالن أو
فالن أو فالن ،ولما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب ،ويقول :إن مذهب فالن أولى من مذهب
فالن ،جاءت الفرقة واالختالف ،حتى آل ببعض الناس هذا األمر إلى أن ال يصلي مع من هو على
غير مذهبه ،فال يصلي الشافعي خلف الحنفي ،وال الحنفي خلف المالكي وال خلف الحنبلي ،وهكذا
وقع من بعض المتطرفين المتعصبين ،وهذا من البالء ومن اتباع خطوات الشيطان ،فاألئمة أئمة
هدى :الشافعي ،ومالك ،وأحمد ،وأبو حنيفة ،واألوزاعي ،وإ سحاق بن راهويه ،وأشباههم كلهم
)(15
أئمة هدى ودعاة حق ،دعوا الناس إلى دين اهلل ،وأرشدوهم إلى الحق ،ووقع هناك مسائل بينهم،
اختلفوا فيها؛ لخفاء الدليل على بعضهم ،فهم بين مجتهد مصيب لـه أجران ،وبين مجتهد أخطأ
الحق فله أجر واحد ،فعليك أن تعرف لهم قدرهم وفضلهم ،وأن تترحم عليهم ،وأن تعرف أنهم
أئمة اإلسالم ودعاة الهدى ،ولكن ال يحملك ذلك على التعصب والتقليد األعمى ،فتقول :مذهب
فالن أولى بالحق بكل حال ،أو مذهب فالن أولى بالحق لكل حال ال يخطئ( ،ال) هذا غلط.
عليك أن تأخذ بالحق ،وأن تتبع 9الحق إذا ظهر دليله ولو خالف فالنا أو فالنا ،وعليك أن ال
تتعصب وتقلد تقليدا أعمى ،بل تعرف لألئمة فضلهم وقدرهم ،ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك ودينك،
فتأخذ بالحق وترضى 9به ،وترشد إليه إذا طلب منك ،وتخاف اهلل وتراقبه جل وعال ،وتنصف من
نفسك ،مع إيمانك بأن الحق واحد ،وأن المجتهدين إن أصابوا فلهم أجران ،وإ ن أخطئوا فلهم أجر
واحد -أعني :مجتهدي أهل السنة أهل العلم واإليمان والهدى -كما صح بذلك الخبر عن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
المقصود من الدعوة والهدف منها :
أما المقصود من الدعوة والهدف منها :فالمقصود والهدف إخراج الناس من الظلمات إلى
النور ،وإ رشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به ،وينجو من النار ،وينجو من غضب اهلل ،وإ خراج
الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى ،وإ خراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم،
والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ،هذا هو المقصود من الدعوة ،كما قال جل وعال:
ت إِلَى النُّو ِر) . (هَّللا ُ َولِ ُّي الَّ ِذينَ آ َمنُوا يُ ْخ ِر ُج ُه ْم ِمنَ ال ُّ
ظلُ َما ِ
فالرسل بعثوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ،ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة
وينشطون لها؛ إلخراج الناس من الظلمات إلى النور ،وإلنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان،
وإلنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة اهلل ورسوله.
األمر الرابع:
بيان األخالق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها :
أما أخالق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها ،فقد أوضحها اهلل جل وعال في آيات
كثيرة ،في أماكن متعددة من كتابه الكريم منها:
)(16
أوال :اإلخالص :فيجب على الداعية أن يكون مخلصا هلل عز وجل ،ال يريد رياء وال سمعة ،وال
ً
ثناء الناس وال حمدهم ،إنما يدعو إلى اهلل يريد وجهه عز وجل ،كما قال سبحانه ( :قُ ْل
سنُ قَ ْواًل ِم َّمنْ َدعَا إِلَى هَّللا ) .
سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى هَّللا ِ) ،وقال عز وجل َ ( :و َمنْ أَ ْح َ
َه ِذ ِه َ
فعليك أن تخلص هلل عز وجل ،هذا أهم األخالق ،هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك
تريد وجه اهلل والدار اآلخرة.
ثانيا :أن تكون على بينه 9في دعوتك -أي :على علم -ال تكن جاهال بما تدعو إليه ( :قُ ْل َه ِذ ِه ً
ير ٍzة) .
ص َسبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى هَّللا ِ َعلَى بَ ِ
َ
فال بد من العلم ،فالعلم فريضة 9،فإياك أن تدعو على جهالة ،وإ ياك أن تتكلم فيما ال تعلم،
فالجاهل يهدم وال يبني ،ويفسد وال يصلح ،فاتق اهلل يا عبد اهلل ،إياك أن تقوله على اهلل
بغير علم ،ال تدعو إلى شيء إال بعد العلم به ،والبصيرة بما قاله اهلل ورسوله ،فال بد من
بصيرة وهي العلم ،فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر 9فيما يدعو إليه ،وأن ينظر
فيما يدعو إليه ودليله ،فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك ،سواء كان ذلك فعال أو
تركا ،فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة هلل ورسوله ،ويدعو إلى ترك ما نهى اهلل عنه
ورسوله على بينة 9وبصيرة.
ثالثا :أن تكون حليما في دعوتك ،رفيقا فيها ،متحمال صبورا ،كما فعل الرسل عليهم الصالة
ً
والسالم ،إياك والعجلة ،إياك والعنف والشدة ،عليك بالصبر ،عليك بالحلم ،عليك بالرفق
يل َربِّكَ ع إِلَى َ
سبِ ِz في دعوتك ،وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك ،كقوله جل وعال( :ا ْد ُ
سنُ ) ،وقوله سبحانه ( :فَبِ َما َر ْح َم ٍة سنَ ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ
بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ
ِمنَ هَّللا ِ ِل ْنتَ لَ ُه ْم) ،وقوله جل وعال في قصة موسى 9وهارون( :فَقُوال لَهُ قَ ْواًل لَيِّنًا لَ َعلَّهُ
يَتَ َذ َّك ُر أَ ْو يَ ْخشَى) .
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى اهلل عليه وسلم( :اللهم من ولي من أمر أمتي
شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه) خرجه
مسلم في الصحيح.
فعليك يا عبد اهلل ،أن ترفق في دعوتك ،وال تشق على الناس ،وال تنفرهم من الدين ،وال تنفرهم
بغلظتك وال بجهلك ،وال بأسلوبك العنيف المؤذي الضار ،عليك أن تكون حليما صبورا ،سلس
القياد ،لين الكالم ،طيب الكالم؛ حتى تؤثر في قلب أخيك ،وحتى تؤثر في قلب المدعو ،وحتى
)(17
يأنس لدعوتك ويلين لها ،ويتأثر بها ،ويثني عليك بها ،ويشكرك عليها ،أما العنف فهو منفر ال
مقرب ،ومفرق ال جامع.
ومن األخالق واألوصاف التي ينبغي -بل يجب -أن يكون عليها الداعية :العمل بدعوته ،وأن
يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ،ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه ،أو ينهى 9عنه ثم يرتكبه9،
هذه حال الخاسرين ،نعوذ باهلل من ذلك.
أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ،ويبتعدون
عما ينهون عنه ،قال اهلل جل وعال( :يَا أَ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا لِ َم تَقُولُونَ َما ال تَ ْف َعلُونَ َكبُ َر َم ْقتًا ِع ْن َد هَّللا ِ
أَنْ تَقُولُوا َما ال تَ ْف َعلُونَ ) ،وقال سبحانه موبخا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم:
َاب أَفَال تَ ْعقِلُونَ ) .
س ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم تَ ْتلُونَ ا ْل ِكت َ
س ْونَ أَ ْنفُ َ (أَتَأْ ُم ُرونَ النَّ َ
اس بِا ْلبِ ِّر َوتَ ْن َ
وصح عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال( :يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق
أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فالن ما
لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف وال آتيه
وأنهاكم عن المنكر وآتيه) هذه حال من دعا إلى اهلل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ،ثم خالف
قوله فعله وفعله قوله ،نعوذ باهلل من ذلك.
فمن أهم األخالق ومن أعظمها في حق الداعية :أن يعمل بما يدعو إليه ،وأن ينتهي 9عما ينهى9
عنه ،وأن يكون ذا خلق فاضل ،وسيرة حميدة ،وصبر 9ومصابرة ،وإ خالص في دعوته ،واجتهاد
فيما يوصل الخير إلى الناس ،وفيما يبعدهم من الباطل ،ومع ذلك يدعو لهم بالهداية ،هذا من
األخالق الفاضلة ،أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو :هداك اهلل ،وفقك اهلل لقبول الحق ،أعانك
اهلل على قبول الحق ،تدعوه وترشده وتصبر على األذى ،ومع ذلك تدعو لـه بالهداية ،قال النبي
عليه الصالة والسالم لما قيل عن (دوس) :إنهم عصوا ،قال( :اللهم اهد دوسا وائت بهم) تدعو
له بالهداية والتوفيق لقبول الحق ،وتصبر وتصابر في ذلك ،وال تقنط وال تيأس ،وال تقل إال
خيرا ،ال تعنف وال تقل كالما سيئا ينفر من الحق ،ولكن من ظلم وتعدى له شأن آخر ،كما قال اهلل
سنُ إِال الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا ِم ْن ُه ْم) . جل وعالَ ( :وال ت َُجا ِدلُوا أَ ْه َل ا ْل ِكتَا ِ
ب إِال بِالَّتِي ِه َي أَ ْح َ
فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد واألذى لـه حكم آخر ،في اإلمكان تأديبه على ذلك
بالسجن أو غيره ،ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم ،لكن ما دام كافا عن األذى
)(18
فعليك أن تصبر 9عليه ،وتحتسب ،وتجادله بالتي هي أحسن ،وتصفح 9عما يتعلق بشخصك من
بعض األذى ،كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان.
وأسأل اهلل عز وجل أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه ،وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ،وأن يمنحنا
جميعا الفقه في دينه ،والثبات عليه ،ويجعلنا من الهداة المهتدين ،والصالحين المصلحين ،إنه
جل وعال جواد كريم.
وصلى اهلل وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وأصحابه ،وأتباعه بإحسان
إلى يوم الدين.
)(19