Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 29

‫‪2‬‬

‫السياسات النكرووية‪1‬أو سياسات الموت‬


‫أشيؿ ميبمبي‬
‫‪3‬‬
‫ترجمة‪ :‬أماني أبو رحمة‬

‫‪Wa syo’ lukasa pebwe‬‬


‫‪Umwime wa pita‬‬
‫[أسمـ روحو‪...‬‬
‫لكف آثار أقدامو‬
‫باقية عمى الصخر‪].‬‬
‫قوؿ مأثور في البلمبا‪ ،‬زامبيا‬
‫******‬
‫تفترض ىذه المقالة*‪ 4‬أف التعبير النيائي عف السيادة يكمف‪ ،‬إلى حد كبير‪ ،‬في‪ :‬السمطة والقدرة‬
‫عمى تعييف الذيف قد يعيشوف والذيف يجب أف يموتوا‪ .5‬ومف ثـ فأف تقتؿ أو أف تسمح بالعيش‬

‫‪ 1‬النخر (بالبلتينية‪ ]nocrosis :‬ىو الموت المبكر لخبليا الجسـ الحية‪ ،‬يحدث النخر نتيجة أسباب خارجية كاإلنتاف وااللتياب والسموـ‬
‫والرضح‪ ،‬بعكس االستموات (الموت المبرمج) الذي يكوف ألسباب داخمية‪ .‬ال ترسؿ الخبليا التي تموت نتيجة النخر إشارات كيميائية‬
‫إلى جياز المناعة كما تفعؿ الخبليا التي تموت نتيجة االستموات‪ ،‬مما يعرقؿ الخبليا البالعة عف إزالة الخبليا الميتة‪ .‬مما يؤدي إلى‬
‫َّخر ؛ البِمى ؛‬
‫تكوف نسيج ميت يكوف بيئة خصبة لبلنتانات ويستدعي إزالة ىذا النسيج الميت جراحيا‪ .‬والبادئة ‪ necro‬سابقة بمعنى الن َ‬
‫الرَّمة‪( .‬أماني)‪.‬‬
‫الموت ؛ ِّ‬
‫‪NecropoliticsJ.-A. Mbembé, Libby MeintjesPublic Culture, Volume 15, Number 1, Winter 2003, pp.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪11-40 (Article)Published by Duke University Press‬‬


‫‪ 3‬المقال منشور باإلنجليزية في مجلة(الثقافة) والترجمه إلى اإلنجليزية لليبي مينتجيس ‪ .Libby Meintjes‬وترجمته أنا عن‬
‫اإلنجليزية‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫ىذا المقاؿ ىو نتيجة محادثات مستمرة مع أرجوف أبادوراي‪ ،‬كاروؿ بري كنريدج‪ ،‬و فرانسواز فيرجيس‪ .‬وعرضت مقتطفات منو في‬
‫حمقات دراسية وحمقات عمؿ في إيفانستوف‪ ،‬شيكاغو‪ ،‬نيونيويورؾ‪ ،‬نيو ىافف‪ ،‬وجوىانسبرغ‪ .‬كما قدـ بوؿ جيمروي وديميب بارامشوار‬
‫غاونكار وبيت بوفينمي وبف لي وتشارلز تايمور وكروفورد يونغ وعبدوماليؾ سيموف ولوؾ سيندجوف وسميماف بشير دياغف وكارلوس‬
‫فورمنت وأتو كايسوف وأولريكي كيستنر وديفيد ثيو غولدبرغ وديبو ار بوسيؿ‪ ،‬انتقادات مفيدة‪ .‬كما قدمت ريحانة إبرفالي وسارة نوتاؿ‬
‫تعميقات وأفكار إضافية باإلضافة إلى الدعـ والتشجيع‪ .‬وأىدي المقاؿ لتشيكاال كايمبي بيايا‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫تبتعد المقالة عف التناوالت التقميدية لمسيادة كما تطرحيا تخصصات العموـ السياسية‪ ،‬والعبلقات الدولية المتفرعة منيا‪ .‬في معظـ‬
‫األحياف‪ ،‬تحدد ىذه التناوالت السيادة داخؿ حدود الدولة القومية‪ ،‬داخؿ المؤسسات الممكنة مف قبؿ الدولة أو داخؿ المؤسسات والشبكات‬
‫فوؽ الوطنية‪ .‬أنظر‪ ،‬عمى سبيؿ المثاؿ‪Sovereignty at the Millennium, special issue, Political Studies 47 ،‬‬
‫‪ . (1999).‬ويستند نيجي الخاص إلى نقد ميشيؿ فوكو لمفيوـ السيادة وعبلقتو بالحرب والسمطة الحياتية في‪Il faut défendre la :‬‬
‫‪société: Cours au Collège de France, 1975–1976 (Paris: Seuil, 1997), 37–55, 75–100, 125–48,‬‬
‫‪ .213–44.‬انظر أيضا جيورجيو أغامبف ‪Giorgio Agamben, Homo sacer. Le pouvoir souverain et la vie nue‬‬
‫‪.(Paris: Seuil, 1997), 23–80‬‬

‫‪1‬‬
‫يشكؿ حدود السيادة وسماتيا األساسية‪ .‬أف تمارس السيادة يعني ممارسة السيطرة عمى الوفيات‬
‫وأف تحدد الحياة بوصفيا نشر السمطة ومظاىرىا‪ .‬يمكف لممرء أف يمخص المصطمحات المذكورة‬
‫‪6‬‬
‫أعبله في ما يعنيو ميشيؿ فوكو بالسمطة الحياتية‪ :‬مجاؿ الحياة الذي سيطرت عميو السمطة‪.‬‬
‫ولكف تحت أي ظروؼ عممية يمارس الحؽ في القتؿ‪ ،‬والسماح بالعيش‪ ،‬أو التعريض لمموت؟ مف‬
‫ىي الذات التي ستمارس ىذا الحؽ؟ ماذا يخبرنا تنفيذ مثؿ ىذا الحؽ عف الشخص الذي يتـ‬
‫تعينو لمموت وعف عبلقة العداوة التي تضع ىذا الشخص في مواجية قاتمو؟ ىؿ أف مفيوـ‬
‫االسمطة الحياتية كافيا لتناوؿ الطرؽ المعاصرة‪ ،‬التي تجعؿ السياسي‪ ،‬تحت ستار الحرب‪ ،‬أو‬
‫المقاومة‪ ،‬أو الكفاح ضد اإلرىاب‪ ،‬يجعؿ قتؿ العدو ىدفو األساسي والمطمؽ؟ الحرب‪ ،‬بعد كؿ‬
‫شيء‪ ،‬بقدر ما أنيا وسيمة تحقيؽ السيادة‪ ،‬وسيمة لممارسة الحؽ في القتؿ‪ .‬يجبرنا تخيؿ السياسة‬
‫كشكؿ مف أشكاؿ الحرب عمى أف نسأؿ‪ :‬ما ىو المكاف الذي يعطى لمحياة‪ ،‬والموت‪ ،‬وجسد‬
‫اإلنساف (وال سيما الجرحى أو الجثث الميتة)؟ كيؼ يتـ تسجيميـ في ترتيبات السمطة؟‬
‫السياسات‪ ،‬عمل الموت‪ ،‬وأن "تصبح ذاتا"‬
‫مف أجؿ اإلجابة عمى ىذه األسئمة‪ ،‬يعتمد ىذا المقاؿ عمى مفيوـ السمطة الحياتية ويستكشؼ‬
‫عبلقتو بمفاىيـ السيادة (السمطة المطمقة) وحالة االستثناء‪ .7‬يثير ىذا التحميؿ عددا مف األسئمة‬
‫التجريبية والفمسفية التي أود أف أتناوليا بإيجاز‪ .‬وكما ىو معروؼ جيدا‪ ،‬فإف مفيوـ حالة‬
‫االستثناء قد نوقش في كثير مف األحياف فيما يتعمؽ بالنازية‪ ،‬والشمولية‪ ،‬ومعسكرات االعتقاؿ‬
‫واإلبادة‪ .‬وتـ تفسير معسكرات الموت عمى وجو الخصوص عمى نحو مختمؼ بوصفيا االستعارة‬
‫المركزية لمعنؼ السيادي والمدمر كما أنيا العبلمة القصوى لمسمطة السمبية المطمقة‪.‬‬
‫حنا أرندت‪":‬ال يوجد نظير لمحياة في معسكرات االعتقاؿ‪ .‬ال يمكف لمخياؿ أف يتقبؿ رعبيا‬
‫تقوؿ ّ‬
‫بسبب أنيا تقؼ خارج الحياة والموت "‪ .8‬وألف سكانيا يسمبوف الوضع السياسي ويختزلوف إلى‬
‫الحياة العارية‪ ،‬فإف المعسكرات‪ ،‬بالنسبة لجورجيو أغامبيف‪" ،‬المكاف الذي تتحؽ فيو أكثر ظروؼ‬
‫الػ ػ إنسانية يمكف أف تظير عمى وجو األرض عمى االطبلؽ"‪ 9.‬وفي التركيب السياسي‪-‬القانوني‬
‫لممعسكر‪ ،‬يقوؿ‪ ،‬تتوقؼ حالة االستثناء عف أف تكوف تعميؽ زمني مؤقت لمقانوف‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪Foucault, Il faut défendre la société, 213–34.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪On the state of exception, see Carl Schmitt, La dictature, trans. Mira Köller and Dominique‬‬
‫‪Séglard (Paris: Seuil, 2000), 210–28, 235–36, 250–51, 255–56; La notion de politique. Théorie du‬‬
‫‪partisan, trans. Marie-Louise Steinhauser (Paris: Flammarion, 1992).‬‬
‫‪Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism (New York: Harvest, 1966), 444.‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪9‬‬
‫‪Giorgio Agamben, Moyens sans fins. Notes sur la politique (Paris: Payot & Rivages, 1995), 50–51.‬‬

‫‪2‬‬
‫ووفقا ألغامبيف‪ ،‬فإنيا تتحصؿ عمى ترتيب مكاني دائـ يبقى باستمرار خارج حالة القانوف العادية‪.‬‬
‫واليدؼ مف ىذا المقاؿ ليس مناقشة خصوصية إبادة الييود أو جعميا أنموذجا‪ .10‬ىنا سأبدأ مف‬
‫فكرة أف الحداثة كانت في أصؿ مفاىيـ متعددة لمسيادة ‪ -‬وبالتالي لمسياسيات الحياتية‪ .‬وبغض‬
‫النظر عف ىذه التعددية‪ ،‬منح النقد السياسي في نيايات حقبة الحداثة لؤلسؼ امتيازات لنظريات‬
‫معيارية لمديمقراطية وجعؿ مفيوـ العقؿ أحد أىـ عناصر كؿ مف مشروع الحداثة وأماكف‬
‫السيادة‪ .11‬ومف ىذا المنظور‪ ،‬فإف منتيى التعبير عف السيادة ىو إنتاج معايير عامة مف قبؿ‬
‫ىيئة (الشعب) تتألؼ مف رجاؿ ونساء أحرار ومتساوييف‪ .‬وىؤالء الرجاؿ والنساء ذوات كاممة‬
‫قادرة عمى الفيـ والوعي والتمثيؿ الذاتي‪ .‬وبالتالي‪ ،‬تحدد السياسة بأنيا ذات شقيف‪ :‬مشروع‬
‫اإلستقبللية وتحقيؽ اتفاؽ بيف الجماعات عف طريؽ االتصاؿ واالعتراؼ‪ .‬وقيؿ لنا إف ىذا ما‬
‫يميزىا عف الحرب‪.12‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬تمكف النقد في الحداثة المتأخرة مف صياغة فكرة معينة عف السياسية والمجتمع‬
‫والذات أو‪ ،‬بشكؿ أساسي‪ ،‬عف ما الذي تعنيو الحياة الجيدة وكيفية تحقيقيا وأف تصبح ضمف‬
‫العممية فاعبل أخبلقيا بشكؿ كامؿ‪ ،‬عمى أساس التمييز بيف العقؿ وغير العقؿ (العاطفة‪،‬‬
‫والخياؿ)‪ .‬العقؿ ضمف ىذا النموذج ىو حقيقة الذات‪ ،‬والسياسة ىي ممارسة العقؿ في المجاؿ‬
‫العاـ‪ .‬وممارسة العقؿ ىي قيمة لممارسة الحرية‪ ،‬وعنصر أساسي لبلستقبللية الفردية‪ .‬تتكئ‬
‫رومانسية السيادة‪ ،‬في ىذه الحالة‪ ،‬عمى االعتقاد بأف الذات ىو السيد والمؤلؼ المسيطر عمى‬
‫معناه الخاص‪ .‬وتحدد السيادة بالتالي بوصفيا عممية مزدوجة مف التكويف الذاتي والقيود الذاتية‬
‫(تحديد حدود الفرد لنفسو)‪.‬‬
‫وتتكوف ممارسة السيادة بدورىا مف قدرة المجتمع عمى اإلبداع الذاتي مف خبلؿ اإلستعانة‬
‫بمؤسسات تستميـ دالالت اجتماعية وخيالية محددة‪ .13‬كانت ىذه القراءة المعيارية بقوة لسياسة‬

‫‪10‬‬
‫‪On these debates, see Saul Friedlander, ed., Probing the Limits of Representation: Nazism and‬‬
‫‪the “Final Solution” (Cambridge: Harvard University Press, 1992); and, more recently, Bertrand‬‬
‫‪Ogilvie, “Comparer l’incomparable,” Multitudes, no. 7 (2001): 130–66.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪See James Bohman and William Rehg, eds., Deliberative Democracy: Essays on Reason and‬‬
‫‪Politics (Cambridge: MIT Press, 1997); Jürgen Habermas, Between Facts and Norms (Cambridge:‬‬
‫‪MIT Press, 1996).‬‬
‫‪12‬‬
‫‪James Schmidt, ed., What Is Enlightenment? Eighteenth-Century Answers and Twentieth-Century‬‬
‫‪Questions (Berkeley: University of California Press, 1996).‬‬
‫‪13‬‬
‫‪Cornelius Castoriadis, L’institution imaginaire de la société (Paris: Seuil, 1975) and Figures du‬‬
‫‪pensable (Paris: Seuil, 1999).‬‬

‫‪3‬‬
‫السيادة ىدؼ العديد مف االنتقادات التي لف أكررىا ىنا‪ .14‬فشاغمي ىو مظاىر ورموز السيادة‬
‫التي ال يتمثؿ مشروعيا األساسي في الكفاح مف أجؿ االستقبللية‪ ،‬ولكف التوظيؼ األداتي المعمـ‬
‫لموجود البشري والتدمير المادي لؤلجساد البشرية والسكاف‪ .‬مظاىر السيادة ىذه بعيدة عف كونيا‬
‫نموذجا مف الجنوف المذىؿ أو التعبير عف تمزؽ بيف دوافع ومصالح الجسـ والعقؿ‪ .‬في الواقع‪،‬‬
‫المكاف السياسي الذي ما زلنا نعيش فيو‪.‬‬ ‫‪nomos‬‬ ‫ىي‪ ،‬مثؿ معسكرات الموت‪ ،‬ما يشكؿ قانوف‬
‫وعبلوة عمى ذلؾ‪ ،‬تشير التجارب المعاصرة لمتدمير البشري إلى أنو مف الممكف تطوير قراءة‬
‫لمسياسة والسيادة والذات مختمفة عف تمؾ التي ورثناىا مف الخطاب الفمسفي الحداثي‪ .‬فبدال مف‬
‫اعتبار العقؿ حقيقة ىذه الذات‪ ،‬يمكننا أف ننظر إلى فئات أساسية أخرى أقؿ تجريدا وأكثر لمسا‪،‬‬
‫مثؿ الحياة والموت‪ .‬ومف الميـ بالنسبة لمثؿ ىذا المشروع مناقشة ىيغؿ لمعبلقة بيف الموت و"أف‬
‫تصبح ذاتا "‪.‬‬
‫ي تركز تناوؿ ىيغؿ لمموت عمى ثنائية مفيوـ السمبية‪ .‬أوال‪ ،‬اإلنساف ينفي الطبيعة (نفي موجو‬
‫لمخارج في جيود اإلنساف لتطويع الطبيعة الحتياجاتو الخاصة)؛ وثانيا‪ ،‬أنو يحوؿ العنصر‬
‫المنفي مف خبلؿ العمؿ والنضاؿ‪ .‬في تحويؿ الطبيعة‪ ،‬يخمؽ اإلنساف عالما؛ ولكف في ىذه‬
‫العممية‪ ،‬يتعرض أيضا لسمبيتو الخاصة‪ .‬موت اإلنساف‪ ،‬ضمف الباراديـ اليجيمي‪ ،‬طوعي في‬
‫األساس‪ .‬وىو نتيجة لممخاطر التي تفترضيا الذات الواعية‪ .‬ووفقا لييجؿ‪ ،‬فإف "الحيواف" الذي‬
‫يشكؿ الكينونة الطبيعية لمذات اإلنسانية قد ىزـ في ىذه المخاطر‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يصبح اإلنساف‬
‫ذاتا حقا‪ -‬أي ينفصؿ عف الحيواف ‪ -‬في النضاؿ والعمؿ الذي يواجو مف خبللو الموت (يفيـ‬
‫عمى أنو عنؼ السمبية)‪ .‬ومف خبلؿ ىذه المواجية مع الموت يقذؼ اإلنساف في حركة التاريخ‬
‫المستمرة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬تفترض سيرورة (أف تصبح ذاتا) دعـ عمؿ الموت‪ .‬ودعـ عمؿ الموت ىو‬
‫بالضبط كيؼ يحدد ىيجؿ حياة الروح‪ .‬فحياة الروح‪ ،‬كما يقوؿ‪ ،‬ليست ىي الحياة التي تخاؼ مف‬
‫الموت‪ ،‬وتخمص نفسيا مف الدمار‪ ،‬ولكف تمؾ الحياة التي تفترض الموت وتعيش معو‪ .‬فالروح ال‬
‫تصؿ إلى حقيقتيا إال مف خبلؿ إيجاد نفسيا في قطع أو بتر تاـ‪.15‬السياسات إذا ىي الموت‬
‫الذي يعيش حياة إنسانية‪ .‬وىذا يعنى‪ ،‬مثؿ تعريؼ المعرفة المطمقة والسيادة‪ :‬المخاطرة بمجمؿ‬

‫‪14‬‬
‫‪See, in particular, Paul Gilroy, The Black Atlantic: Modernity and Double Consciousness‬‬
‫‪(Cambridge: Harvard University Press, 1993), especially chap. 2.‬‬
‫‪15‬‬
‫‪G. W. F. Hegel, Phénoménologie de l’esprit, trans. J. P. Lefebvre (Paris: Aubier, 1991). See also‬‬
‫‪the critique by Alexandre Kojève, Introduction à la lecture de Hegel (Paris: Gallimard, 1947),‬‬
‫‪especially Appendix II, “L’idée de la mort dans la philosophie de Hegel”; and Georges Bataille,‬‬
‫‪Oeuvres complètes XII (Paris: Gallimard, 1988), especially “Hegel, la mort et le sacrifice,” 326–48,‬‬
‫‪and “Hegel,l’homme et l’histoire,” 349–69.‬‬

‫‪4‬‬
‫حياة الفرد‪ .‬يقدـ جورج باتاي أيضا رؤى نقدية حوؿ كيؼ يييكؿ الموت فكرة السيادة والسياسة‬
‫والذات‪ .‬يستبدؿ باتاي مفيوـ ىيجؿ عف الروابط بيف الموت والسيادة والذات بثبلثة طرؽ عمى‬
‫األقؿ‪ .‬أوال‪ ،‬يفسر الموت والسيادة عمى أنيما نوبات مف المبادلة والغ ازرة ‪-‬أو‪ ،‬بتوظيؼ‬
‫مصطمحاتو الخاصة‪ :‬الفيض‪ .‬بالنسبة لباتاي‪ ،‬الحياة ىي معيبة فقط عندما يأخذىا الموت رىينة‪.‬‬
‫الحياة نفسيا موجودة فقط في دفقات وفي تبادؿ مع الموت‪ .16‬ويقوؿ إف الموت ىو تعفف الحياة‪،‬‬
‫الرائحة النتنة التي ىي المصدر والشرط المقيت لمحياة في الوقت نفسو‪ .‬وبالتالي‪ ،‬وعمى الرغـ مف‬
‫أنو يدمر ما كاف‪ ،‬ويطمس ما كاف مف المفترض أف يستمر في الوجود‪ ،‬ويقمؿ إلى ال شيء الفرد‬
‫الذي يأخذه‪ ،‬فإف الموت ال ينحدر إلى إبادة نقية لموجود‪ .‬بؿ ىو في جوىره وعيا ذاتيا‪ .‬وعبلوة‬
‫عمى ذلؾ‪ ،‬ىو أفخـ شكؿ مف أشكاؿ الحياة‪ ،‬بمعنى أنو التدفؽ والغ ازرة‪ :‬قوة االنتشار‪ .‬وبطريقة‬
‫أكثر جذرية‪ ،‬يسحب باتاي الموت مف أفؽ المعنى‪ .‬وعمى النقيض مف ىيجؿ‪ ،‬الذي ال شيء‬
‫بالنسبة لو يفقد بشكؿ نيائي في الموت؛ فإف الموت في الواقع يحمؿ داللة كبيرة بوصفو واسطة‬
‫الحقيقة ‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬يرسخ باتاي بقوة الموت في مجاؿ البذؿ (اإلنفاؽ المطمؽ‪ ،‬السمة األخرى لمسيادة)‪ ،‬في‬
‫حيف يحاوؿ ىيجؿ الحفاظ عمى الموت داخؿ اقتصاد المعرفة المطمقة والمعنى‪ .‬الحياة أبعد مف‬
‫الفائدة‪ ،‬يقوؿ باتاي‪ ،‬الموت ىو مجاؿ السيادة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإف الموت في ىذه الحالة‪ ،‬ىو نقطة‬
‫يشكؿ فييا التدمير والقمع والتضحية بذال راديكاليا ال رجعة فيو ‪ -‬أي بذال دوف احتياطي –‬
‫بحيث لـ يعد ممكنا أف يحدد بوصفو سمبيا‪.‬‬
‫الموت‪ ،‬تبعا لذلؾ‪ ،‬ىو مبدأ الفيض الخاص‪ ،‬ضد االقتصاد‪ .‬ومف ىنا استعارة الترؼ والطابع‬
‫الفاخر لمموت‪ .‬ثالثا‪ ،‬يقيـ باتاي عبلقة بيف الموت والسيادة والجنسانية‪ .‬وترتبط الجنسانية ارتباطا‬
‫وثيقا بالعنؼ وبانحبلؿ الحدود بيف الجسـ والنفس عف طريؽ نبضات ماجنة وب ارزية‪ .‬وىكذا تيتـ‬
‫الجنسانية بشكميف رئيسييف مف نبضات اإلنساف المستقطبة ػ اإلفراز واالستيبلء ػ وكذلؾ نظاـ‬
‫التابوىات المحيطة بيا‪.17‬‬
‫تكمف حقيقة الجنس وخصائصو القاتمة في تجربة فقداف الحدود التي تفصؿ بيف الواقع واألحداث‬
‫والموضوعات الفنتازية‪ .‬وبالنسبة لباتاي‪ ،‬فإف لمسيادة أشكاؿ كثيرة‪ .‬ولكنيا في نياية المطاؼ‬
‫رفض قبوؿ الحدود التي يفرض الخوؼ مف الموت عمى الذات احتراميا‪ .‬إف العالـ السيادي‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫‪See Jean Baudrillard, “Death in Bataille,” in Bataille: A Critical Reader, ed. Fred Botting and‬‬
‫‪Scott Wilson (Oxford: Blackwell, 1998), especially 139–41.‬‬
‫‪17‬‬
‫‪Georges Bataille, Visions of Excess: Selected Writings, 1927–1939, trans. A. Stoekl (Minneapolis:‬‬
‫‪University of Minnesota Press, 1985), 94–95.‬‬

‫‪5‬‬
‫عرؼ عالـ‬‫يقوؿ باتاي‪" :‬ىو العالـ الذي يمغى فيو حد الموت‪ .‬الموت موجود فيو‪ ،‬ووجوده ي ّ‬
‫العنؼ‪ ،‬ولكف في حيف أف الموت موجود‪ ،‬إال أنو ىناؾ فقط كي يتـ انكاره‪ ،‬ال لشيء إال لذلؾ‪.‬‬
‫فالسيد‪ ،‬يقوؿ باتاي‪" ،‬ىو الذي‪ ،‬كما لو أف لموت ليس موجودا‪ ....‬ال يضع أي اعتبار لحدود‬
‫اليوية أكثر مما يفعمو لحدود الموت‪ ،‬أولنقؿ أف ىذه الحدود ىي نفسيا؛ ىو المتجاوز أو المنتيؾ‬
‫لكؿ ىذه الحدود "‪ .‬وحيث أف المجاؿ الطبيعي لمحظر يشمؿ الموت‪ ،‬مف بيف أمور أخرى (عمى‬
‫سبيؿ المثاؿ‪ ،‬الجنسانية‪ ،‬القذارة‪ ،‬البراز)‪ ،‬تتطمب السيادة "قوة النتياؾ الحظر ضد القتؿ‪ ،‬عمى‬
‫الرغـ مف أف ىذا سيكوف في ظؿ ظروؼ تحددىا العادات والتقاليد"‪ .‬وخبلفا لمتبعية التي ىي‬
‫دائما متجذرة في الضرورة والحاجة المزعومة إلى تجنب الموت‪ ،‬فإف السيادة تدعو بالتأكيد إلى‬
‫خطر الموت‪18 .‬وبتناولو لمسيادة بوصفيا انتياؾ المحظورات‪ ،‬يعيد باتاي فتح مسألة حدود‬
‫السياسة‪ .‬السياسة‪ ،‬في ىذه الحالة‪ ،‬ليست حركة جسورة جدلية لمعقؿ‪ .‬ال يمكف اف يقتفى أثر‬
‫السياسة إال بوصفيا انتياكا لولبيا‪ ،‬مثؿ ذلؾ اإلختبلؼ الذي يشوش فكرة الحد األقصى‪ .‬السياسة‬
‫بصورة أكثر تحديدا‪ ،‬ىي الفرؽ الذي يعمؿ مف خبلؿ انتياؾ تابو‪.19‬‬
‫السمطة الحياتية وعالقة العداوة‪.‬‬
‫وبعد أف قدمت قراءة لمسياسة بوصفيا عمؿ الموت‪ ،‬أنتقؿ اآلف إلى السيادة‪ ،‬كما طرحت في‬
‫الغالب بوصفيا الحؽ في القتؿ‪ .‬وألغراض حجتي‪ ،‬أربط فكرة فوكو عف السمطة الحياتية‬
‫بمفيوميف آخريف‪ :‬حالة االستثناء وحالة الحصار‪ .20‬وأدرس تمؾ المسارات التي توضح كيؼ أف‬
‫حالة االستثناء وعبلقة العداوة أصبحت األساس المعياري لمحؽ في القتؿ‪ .‬في مثؿ ىذه الحاالت‪،‬‬
‫تشير السمطة (وليس بالضرورة سمطة الدولة) بشكؿ مستمر‪ /‬وتدعو إلى االستثناء والطوارئ‬
‫والفكرة المتخيمة عف العدو‪ .‬كما أنيا تعمؿ عمى إنتاج نفس االستثناء والطوارئ والعدو المتخيؿ‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬فإف الس ؤاؿ ىو‪ :‬ما ىي العبلقة بيف السياسة والموت في تمؾ النظـ التي يمكف أف‬
‫تعمؿ فقط في حالة الطوارئ؟ وفي صياغة فوكو‪ ،‬تعمؿ السمطة الحياتية‪ ،‬عمى ما يبدو‪ ،‬مف‬
‫خبلؿ تقسيـ الناس إلى أولئؾ الذيف يجب أف يعيشوا والذيف يجب أف يموتوا‪ .‬وحيف تعمؿ عمى‬
‫أساس اإلنقساـ بيف العيش والموت‪ ،‬فإف ىذه السمطة تعرؼ نفسيا مف خبلؿ العبلقة مع حقؿ‬
‫البيولوجيا ‪ -‬الذي تسيطر عميو وتثبت نفسيا فيو‪ .‬تفترض ىذه السيطرة توزيع األنواع البشرية في‬

‫‪18‬‬
‫‪Fred Botting and Scott Wilson, eds., The Bataille Reader (Oxford: Blackwell, 1997), 318–19.‬‬
‫‪See also Georges Bataille, The Accursed Share: An Essay on General Economy, vol. 1,‬‬
‫‪Consumption,trans. Robert Hurley (New York: Zone, 1988), and Erotism: Death & Sensuality, trans.‬‬
‫‪Mary Dalwood(San Francisco: City Lights, 1986).‬‬
‫‪Bataille, Accursed Share, vol. 2, The History of Eroticism; vol. 3, Sovereignty.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪20‬‬
‫‪On the state of siege, see Schmitt, La dictature, chap. 6.‬‬

‫‪6‬‬
‫مجموعات‪ ،‬وتقسيـ السكاف إلى مجموعات فرعية‪ ،‬وانشاء قطيعة بيولوجية بيف الواحدة واألخرى‪.‬‬
‫وىذا ما يصفو فوكو بمصطمح (يبدو مألوفا لموىمة األولى) العنصرية أو العرقية‪ .21‬ذلؾ العرؽ‬
‫(أو العنصرية بوصفيا ذات صمة بيذه المسألة) والذي يظير بشكؿ بارز في حساب التفاضؿ‬
‫والتكامؿ لمسمطة الحياتية لو ما يبرره تماما‪ .‬كاف لمعرؽ‪ ،‬أكثر مف الفكر الطبقي (األيديولوجية‬
‫الذي تعرؼ التاريخ عمى أنو نضاؿ اقتصادي لمطبقات)‪ ،‬ظبل دائما في الفكر والممارسة السياسية‬
‫الغربية‪ ،‬خاصة إذا تعمؽ األمر بتخيؿ ال‪-‬إنسانية‪ /‬أو حكـ الشعوب األجنبية‪ .‬باالشارة إلى‬
‫الحضور الكمي والشبيو بالشبحي لعالـ العرؽ بشكؿ عاـ‪ ،‬تموضع أرندت جذوره في الخبرة‬
‫المتشظية لآلخرية(الغيرية) وتقترح أف سياسة العرؽ مرتبطة في نياية المطاؼ بسياسة الموت‪.22‬‬
‫وفي الواقع‪ ،‬وبمصطمحات فوكو‪ ،‬فإف العنصرية‪ ،‬قبؿ كؿ شيء‪ ،‬ىي تكنولوجيا تيدؼ إلى‬
‫‪23‬‬
‫وفي اقتصاد السياسات‬ ‫السماح بممارسة السمطة الحياتية"‪ ،‬و" الحؽ السيادي القديـ بالموت "‬
‫الحياتية‪ ،‬فإف وظيفة العنصرية ىي تنظيـ توزيع الموت وتمكيف الدولة مف ظيفة القتؿ‪ .‬ىي‪ ،‬كما‬
‫يقوؿ‪" ،‬شرط القبوؿ بالقتؿ "‪ .24‬يقوؿ فوكو بوضوح إف الحؽ السيادي في القتؿ ‪(droit de‬‬
‫‪25‬‬
‫)‪ glaive‬وميكانزمات السمطة الحياتية مدرجة في الطريقة التي تعمؿ بيا جميع الدوؿ الحديثة؛‬
‫بؿ ويمكف اعتبارىا عناصر تأسيسية لسمطة الدولة في الحداثة‪ .‬وفقا لفوكو‪ ،‬كانت الدولة النازية‬
‫المثاؿ األكثر اكتماال لمدولة التي تمارس حؽ القتؿ‪ .‬ىذه الدولة‪ ،‬كما يدعي‪ ،‬جعمت اإلدارة‪،‬‬
‫والحماية‪ ،‬وتثقيؼ أو تيذيب الحياة تتعايش مع الحؽ السيادي في القتؿ‪ .‬وبواسطة االستقراء‬
‫البيولوجي حوؿ موضوع العدو السياسي‪ ،‬وتنظيـ الحرب ضد خصوميا‪ ،‬وفي الوقت نفسو‪،‬‬
‫تعريض مواطنييا لمحرب‪ ،‬دشنت الدولة النازية الطريؽ لمتوطيد اليائؿ لمحؽ في القتؿ الذي توج‬
‫بمشروع "الحؿ النيائي"‪ .‬وبفعميا ىذا أصبحت النموذج األصمي لتشكيؿ السمطة التي تجمع بيف‬
‫خصائص الدولة العنصرية‪ ،‬والدولة القاتمة‪ ،‬والدولة االنتحارية‪ .‬ويقاؿ إف الخمط الكامؿ بيف‬
‫الحرب والسياسة (والعنصرية والقتؿ واالنتحار)‪ ،‬طالما أنو ال يمكف تمييزىا عف بعضيا البعض‪،‬‬
‫ىو أمر فريد مف نوعو خاص بالدولة النازية‪ .‬إف تصور وجود اآلخر كمحاولة إعتداء عمى‬
‫حياتي‪ ،‬كتيديد مميت أو خطر مطمؽ مف شأف اقصائو البيوفيزيائي أف يعزز قدرتي عمى الحياة‬
‫واألمف ‪ -‬وىذا‪ ،‬في رأيي‪ ،‬واحد مف العديد مف خياالت السيادة المميزة لكؿ مف الحداثة المبكرة‬

‫‪21‬‬
‫‪See Foucault, Il faut défendre la société, 57–74.‬‬
‫‪22‬‬
‫‪“Race is, politically speaking, not the beginning of humanity but its end... , not the natural‬‬
‫‪birth of man but his unnatural death.” Arendt, Origins of Totalitarianism, 157.‬‬
‫‪23‬‬
‫‪Foucault, Il faut défendre la société, 214.‬‬
‫‪24‬‬
‫‪Foucault, Il faut défendre la société, 228.‬‬
‫‪25‬‬
‫‪Foucault, Il faut défendre la société, 227–32.‬‬

‫‪7‬‬
‫والمتأخرة نفسيا‪ .‬يدعـ االعتراؼ بيذا التصور إلى حد كبير معظـ االنتقادات التقميدية لمحداثة‪،‬‬
‫سواء كانت تتعامؿ مع العدمية واعبلنيا عف إرادة السمطة باعتبارىا جوىر الوجود؛ والفيـ‬
‫التشييئ لئلنساف بتحويمو إلى شيء أو موضوع ؛ أو إخضاع كؿ شيء لممنطؽ غير الشخصي‪،‬‬
‫ولسيطرة الحسابات والعقبلنية األداتية‪ .26‬والواقع‪ ،‬مف منظور أنثروبولوجي‪ ،‬إف ما تمثمو ىذه‬
‫االنتقادات ضمنا ىو تعريؼ السياسة باعتبارىا العبلقة الحربية بامتياز‪ .‬كما أنيا تتحدى فكرة أف‬
‫حساب التفاضؿ والتكامؿ لمحياة يمر بالضرورة مف خبلؿ موت اآلخر؛ أو أف السيادة تتكوف مف‬
‫اإلرادة والقدرة عمى أف تقتؿ مف أجؿ أف تعيش‪ .‬ومف وجية نظر تاريخية‪ ،‬جادؿ عدد مف‬
‫المحمميف بأف البنى المادية لئلبادة النازية توجد في اإلمبريالية االستعمارية مف ناحية‪ ،‬وفي‬
‫تسمسؿ الميكانيزمات التقنية لقتؿ الناس مف ناحية أخرى ػ ػ الميكانيزمات التي جرى تطويرىا بيف‬
‫الثورة الصناعية والحرب العالمية األولى‪ .‬ووفقا إلينزو ترافرسو‪ ،‬كانت غرؼ الغاز واألفراف‬
‫تتويجا لعممية طويمة مف التجريد مف اإلنسانية وصناعة الموت‪ ،‬التي كانت أحد سماتيا األصمية‬
‫دمج العقبلنية األداتية مع العقبلنية اإلنتاجية واإلدارية لمعالـ الغربي الحداثي (المصنع‪،‬‬
‫والبيروقراطية‪ ،‬والسجف‪ ،‬والجيش)‪ .‬وبعد أف أصبح آلية‪ ،‬تـ تحويؿ اإلعداـ المتسمسؿ إلى إجراء‬
‫فني بحت‪ ،‬ال شخصي وصامت وسريع‪.‬‬
‫وقد ساعد جزئيا في ىذا التطور القوالب النمطية العنصرية وازدىار العنصرية القائمة عمى الطبقة‬
‫التي أدت‪ ،‬عند ترجمة الصراعات االجتماعية في العالـ الصناعي بمصطمحات العنصرية‪ ،‬إلى‬
‫مقارنة الطبقات العاممة و"األشخاص عديمي الجنسية" في العالـ الصناعي ب "المتوحشيف‬
‫األغبلظ" في العالـ االستعماري‪.27‬‬
‫والواقع أف الروابط بيف الحداثة واإلرىاب تنبع مف مصادر متعددة‪ .‬بعضيا موجود في الممارسات‬
‫السياسية لمنظاـ القديـ‪ .‬ومف ىذا المنظور‪ ،‬فإف التوتر بيف شغؼ الجميور بالدـ ومفاىيـ الثأر‬
‫واالنتقاـ والعدالة أمر بالغ األىمية‪ .‬يبيف فوكو في (المراقبة والمعاقبة) كيؼ أف أعداـ داميف الذي‬
‫كاف سيكوف قاتؿ الممؾ استمر لساعات لنيؿ رضا الحشد‪ 28.‬ومف المعروؼ جيدا الموكب الطويؿ‬
‫مف المدانيف في الشوارع قبؿ التنفيذ‪ ،‬واستعراض أجزاء الجسـ ‪ -‬الطقس التي أصبح سمة قياسية‬
‫لمعنؼ الشعبي ‪ -‬والعرض النيائي لمرأس المقطوع مثبتا عمى رمح‪ .‬يمثؿ ظيور المقصمة في‬
‫فرنسا مرحمة جديدة في "إضفاء الطابع الديمقراطي" عمى وسائؿ التخمص مف أعداء الدولة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪See Jürgen Habermas, The Philosophical Discourse of Modernity: Twelve Lectures , trans.‬‬
‫‪Frederick G. Lawrence (Cambridge: MIT Press, 1987), especially chaps. 3, 5, 6.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪Enzo Traverso, La violence nazie: Une généalogie européenne (Paris: La Fabrique Editions,‬‬
‫‪2002).‬‬
‫‪28‬‬
‫‪Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison (New York: Pantheon, 1977).‬‬

‫‪8‬‬
‫والواقع أف ىذا الشكؿ مف أشكاؿ اإلعداـ التي كانت في السابؽ حقا مقصو ار عمى النببلء امتد‬
‫إلى جميع المواطنيف‪ .‬وفي سياؽ ينظر فيو إلى قطع الرأس بوصفو أقؿ ميانة مف الشنؽ‪ ،‬فإف‬
‫االبتكارات في تكنولوجيات القتؿ ال تيدؼ فقط إلى "تيذيب أو تمديف " طرؽ القتؿ‪ .‬ولكنيا تيدؼ‬
‫أيضا إلى التخمص مف عدد كبير مف الضحايا في فترة زمنية قصيرة نسبيا‪ .‬وفي الوقت نفسو‪،‬‬
‫تظير حساسية ثقافية جديدة يكوف فييا قتؿ عدو الدولة امتدادا لمعبة‪ ،‬لتظير أشكاؿ مف القسوة‬
‫أكثر حميمية‪ ،‬ورىبة‪ ،‬وبطئا‪ .‬ولكف لـ يتبد الخمط بيف العقؿ واإلرىاب بشكؿ واضح جدا في أي‬
‫مكاف كما ىو الحاؿ خبلؿ الثورة الفرنسية‪ .29‬يفسر اإلرىاب خبلؿ الثورة الفرنسية‪ ،‬عمى أنو جزء‬
‫ضروري تقريبا مف السياسة‪ .‬ويزعـ أف الشفافية المطمقة موجودة بيف الدولة والشعب‪ .‬وبوصفو فئة‬
‫سياسية‪ ،‬يتحوؿ "الشعب" تدريجيا مف واقع ممموس إلى رمز ببلغي‪ .‬وكما بيف ديفيد بيتس‪ ،‬يعتقد‬
‫منظمو اإلرىاب أنو مف الممكف التمييز بيف التعبيرات األصيمة لمسيادة وأعماؿ العدو‪ .‬كما‬
‫يعتقدوف أنو مف الممكف التمييز بيف "خطأ" المواطف و "جريمة" الثورة المضادة في المجاؿ‬
‫السياسي‪ .‬وىكذا يصبح اإلرىاب وسيمة لوسـ االنحراؼ في الجسـ السياسي‪ ،‬وتق أر السياسية‬
‫بوصفيا القوة المتنقمة لمعقؿ والمحاولة التائية لخمؽ مساحة حيث يقمؿ "الخطأ"‪ ،‬وتعزز الحقيقة‪،‬‬
‫ويطرد منيا العدو عمى حد سواء‪ .30‬وأخيرا‪ ،‬فإف اإلرىاب ال يرتبط فقط باالعتقاد الطوباوي بالقدرة‬
‫غير المقيدة لمعقؿ اإلنساني‪ ،‬ولكنو يرتبط بوضوح بسرديات مختمفة عف التمكف والتحرر‪ ،‬يرتكز‬
‫معظميا عمى فيـ التنوير لمحقيقة والخطأ‪" ،‬الحقيقي" والرمزي‪ .‬يخمط ماركس‪ ،‬عمى سبيؿ المثاؿ‪،‬‬
‫بيف الكدح (دورة ال نياية ليا مف اإلنتاج واالستيبلؾ البلزمة لمحفاظ عمى حياة اإلنساف) والعمؿ‬
‫(خمؽ التحؼ الدائمة التي تضيؼ إلى عالـ األشياء)‪ .‬وينظر إلى الكدح بوصفو أداة لمخمؽ‬
‫الذاتي التاريخي لمبشرية‪ .‬إف الخمؽ الذاتي التاريخي لمبشرية ىو في حد ذاتو صراع الحياة‬
‫والموت‪ ،‬أي صراع حوؿ المسارات التي ينبغي أف تؤدي إلى حقيقة التاريخ‪ :‬التغمب عمى‬
‫الرأسمالية والشكؿ السمعي والتناقضات المرتبطة بيما‪ .‬وفقا لماركس‪ ،‬مع ظيور الشيوعية والغاء‬
‫عبلقات التبادؿ‪ ،‬سوؼ تظير األمور كما ىي عمية في الواقع؛ وسيقدـ "الحقيقي" نفسو كما ىو‬
‫في الواقع‪ ،‬وسيتـ تجاوز التمييز بيف الذات والموضوع أو الوجود والوعي‪ .31‬ولكف بجعؿ التحرر‬

‫‪29‬‬
‫‪See Robert Wokler, “Contextualizing Hegel’s Phenomenology of the French Revolution and‬‬
‫‪the Terror,” Political Theory 26 (1998): 33–55.‬‬
‫‪30‬‬
‫‪David W. Bates, Enlightenment Aberrations: Error and Revolution in France (Ithaca, N.Y.:‬‬
‫‪Cornell University Press, 2002), chap. 6.‬‬
‫‪31‬‬
‫‪Karl Marx, Capital: A Critique of Political Economy, vol. 3 (London: Lawrence & Wishart,‬‬
‫‪1984), 817. See also Capital, vol. 1, trans. Ben Fowkes (Harmondsworth, England: Penguin, 1986),‬‬
‫‪172.‬‬

‫‪9‬‬
‫البشري يعتمد عمى إلغاء إنتاج السمع‪ ،‬يطمس ماركس االنقسامات اليامة بيف عالـ الحرية الذي‬
‫صنعو اإلنساف‪ ،‬ومجاؿ الضرورة الذي تحدد الطبيعة‪ ،‬وشرطية التاريخ‪ .‬إف االلتزاـ بإلغاء إنتاج‬
‫السمع األساسية وحمـ الوصوؿ المباشر ودوف وسيط إلى "الحقيقي" يجعؿ مف ىذه العمميات ‪-‬‬
‫تحقيؽ ما يسمى بمنطؽ التاريخ وتصنيع الجنس البشري ‪ -‬عمميات عنيفة بالضرورة تقريبا‪ .‬وكما‬
‫ّبيف ستيفف لو‪ ،‬فإف المبادئ المركزية لمماركسية الكبلسيكية ال تترؾ أي خيار سوى "محاولة‬
‫إدخاؿ الشيوعية عف طريؽ األوامر اإلدارية‪ ،‬وىو ما يعني عمميا أنو يجب نزع تسميع العبلقات‬
‫االجتماعية بقوة"‪ .32‬تاريخيا‪ ،‬اتخذت ىذه المحاوالت أشكاال مثؿ عسكرة العمؿ‪ ،‬وانييار التمييز‬
‫بيف الدولة والمجتمع‪ ،‬واإلرىاب الثوري‪ .33‬ويمكف القوؿ إف ىذه التدابير تيدؼ إلى استئصاؿ‬
‫حالة التعددية اإلنسانية األساسية‪ .‬في الواقع‪ ،‬فإف التغمب عمى االنقسامات الطبقية‪ ،‬وذوباف‬
‫الدولة‪ ،‬وازدىار اإلرادة العامة يفترض مسبقا أف التعددية البشرية ىي العقبة الرئيسية أماـ تحقيؽ‬
‫الغايات التاريخية المحددة سمفا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإف الذات في الحداثة الماركسية ىي‪ ،‬في‬
‫األساس‪ ،‬ذات تعتزـ إثبات سيادتيا مف خبلؿ شف قتاؿ حتى الموت‪ .‬وكما ىو الحاؿ مع ىيجؿ‪،‬‬
‫فإف سردية السيطرة والتحرر ىنا ترتبط بوضوح بسردية الحقيقة والموت‪ .‬إف اإلرىاب والقتؿ‬
‫يصبحاف وسيمة لتحقيؽ الغايات الحتمية تاريخيا‪.‬‬
‫يحتاج أي تناوؿ تاريخي لظيور اإلرىاب الحداثي إلى تناوؿ الرؽ أو العبودية‪ ،‬وىي ما يمكف‬
‫الزرعي وعواقبو الشكؿ‬
‫اعتباره مف أولى حاالت التجريب السياسي الحياتي‪ .‬يظير ىيكؿ النظاـ ا‬
‫الرمزي والمتناقض لحالة اإلستثناء‪ .34‬وىذا االشكؿ متناقض ىنا لسببيف‪ .‬أوال‪ ،‬في سياؽ المزرعة‪،‬‬
‫تظير إنسانية الرقيؽ(العبد) باعتباره الرمز المثالي لمظؿ‪ .‬والواقع أف حالة الرقيؽ تنجـ عف خسارة‬

‫‪32‬‬
‫‪Stephen Louw, “In the Shadow of the Pharaohs: The Militarization of Labour Debate and‬‬
‫‪Classical Marxist Theory,” Economy and Society (29) 2000: 240.‬‬
‫‪33‬‬
‫‪On labor militarization and the transition to communism, see Nikolai Bukharin, The Politics‬‬
‫;)‪and Economics of the Transition Period, trans. Oliver Field (London: Routledge & Kegan Paul, 1979‬‬
‫‪and Leon Trotsky, Terrorism and Communism: A Reply to Karl Kautsky (Ann Arbor: University of‬‬
‫‪Michigan Press, 1961). On the collapse of the distinction between state and society, see Karl Marx,‬‬
‫‪The Civil War in France (Moscow: Progress, 1972); and Vladimir Il’ich Lenin, Selected Works in‬‬
‫‪Three Volumes, vol. 2 (Moscow: Progress, 1977). For a critique of “revolutionary terror,” see Maurice‬‬
‫‪Merleau- Ponty, Humanism and Terror: An Essay on the Communist Problem, trans. John O’Neill‬‬
‫‪(Boston: Beacon, 1969). For a more recent example of “revolutionary terror,” see Steve J. Stern, ed.,‬‬
‫‪Shining and Other Paths:War and Society in Peru, 1980–1995 (Durham, N.C.: Duke University‬‬
‫‪Press, 1998).‬‬
‫‪34‬‬
‫‪See Saidiya V. Hartman, Scenes of Subjection: Terror, Slavery, and Self-Making in Nineteenth-‬‬
‫‪Century America (Oxford: Oxford University Press, 1997); and Manuel Moreno Fraginals, The‬‬
‫‪Sugarmill: The Socioeconomic Complex of Sugar in Cuba, 1760–1860 (New York: Monthly Review‬‬
‫‪Press, 1976).‬‬

‫‪11‬‬
‫ثبلثية‪ :‬فقداف "الوطف"‪ ،‬وفقداف الحقوؽ عمى جسده‪ ،‬وفقداف الحالة السياسية‪ .‬وىذه الخسارة‬
‫الثبلثية متطابقة مع الييمنة المطمقة‪ ،‬واالغتراب منذ الوالدة‪ ،‬والموت االجتماعي (الطرد مف‬
‫اإلنسانية كمية)‪ .‬ومف المؤكد أف المزرعة‪ ،‬بوصفيا ىيكبل سياسيا وقانونيا‪ ،‬ىي المكاف الذي‬
‫ينتمي فيو الرقيؽ لسيد‪ .‬فيي ليست مجتمعا ألف المجتمع بحكـ تعريفو ينطوي عمى ممارسة‬
‫سمطة الكبلـ والفكر‪ .‬وكما يقوؿ بوؿ غيمروي‪" ،‬إف أنماط التواصؿ المتطرفة التي تحددىا مؤسسة‬
‫االستعباد الزراعي تممي عمينا أف نعترؼ بالتداعيات الخارجة عف المغة والمناىضة لمخطاب‬
‫لمسمطة الفاعمة في تشكيؿ األفعاؿ التواصمية‪ .‬قد ال يكوف ىناؾ‪ ،‬عمى اإلطبلؽ‪ ،‬أي معاممة‬
‫تبادلية في المزرعة خارج إمكانيات التمرد واالنتحار‪ ،‬والفرار‪ ،‬والحداد الصامت‪ ،‬وليس ىناؾ‬
‫بالتأكيد أي وحدة قواعدية نحوية لمكبلـ لتكوف وسيطا لمعقؿ التواصمي‪ .‬وفي العديد مف النواحي‪،‬‬
‫يعيش سكاف المزرعة بشكؿ غير متزامف "‪ .35‬وبوصفو اداة كادحة‪ ،‬فإف لمعبد ثمف‪ .‬وبوصفو مف‬
‫الممتمكات فإف لو قيمة‪ .‬ىناؾ حاجة إلى عممو‪ .‬فضبل عف استغبلؿ عممو‪ .‬وبالتالي يبقى العبد‬
‫حيا ولكف في حالة غبف واىانة‪ ،‬في عالـ شبو شبحي مف األىواؿ والقسوة الشديدة والبذاءة‪.‬‬
‫ويتجمى اإلتجاه العنيؼ لحياة العبد مف خبلؿ رغبة المشرؼ أف يتصرؼ بطريقة قاسية وغير‬
‫معتادة وفي مشيد األلـ الذي يمحؽ بجسد العبد‪ .36‬ويصبح العنؼ‪ ،‬ىنا‪ ،‬عنص ار في السموؾ‪،37‬‬
‫مثؿ الجمد أو قتؿ الرقيؽ في حد ذاتو‪ :‬عمبل مف أعماؿ التدمير الخالص الذي ييدؼ إلى تثبيت‬
‫الرعب‪ .38‬حياة الرقيؽ‪ ،‬بطرؽ عديدة‪ ،‬ىي شكؿ مف أشكاؿ الموت في الحياة‪ .‬وكما تقترح سوزاف‬
‫باؾ‪ -‬مورس‪ ،‬فإف حالة الرقيؽ تنتج تناقضا بيف حرية التممؾ وحرية الفرد‪ .‬تنشأ عبلقة غير‬
‫متكافئة تسير جنبا إلى جنب مع عدـ المساواة في السمطة عمى الحياة‪ .‬ىذه السمطة عمى حياة‬
‫أخرى تأخذ شكؿ التجارة‪ :‬تنحؿ إنسانية اإلنساف إلى درجة يمكف معيا القوؿ إف حياة العبد‬
‫يمتمكيا السيد ‪ .39‬وألف حياة العبد مثؿ "شيء"‪ ،‬تمتمؾ مف قبؿ شخص آخر‪ ،‬يظير وجود الرقيؽ‬
‫كشكؿ أو كرمز مثالي لمظؿ‪ .‬وعمى الرغـ مف اإلرىاب والعزؿ الرمزي لمرقيؽ‪ ،‬فإنو يحتفظ‬

‫‪35‬‬
‫‪Gilroy, Black Atlantic, 57.‬‬
‫‪36‬‬
‫‪See Frederick Douglass, Narrative of the Life of Frederick Douglass, an American Slave , ed.‬‬
‫‪Houston A. Baker (New York: Penguin, 1986).‬‬
‫‪37‬‬
‫يستخدـ مصطمح "‪ " manners‬الوسائؿ أو الطرؽ ىنا لمداللة عمى الصبلت بيف الرضا االجتماعي والسيطرة االجتماعية‪ .‬وفقا ؿ‬
‫نوربرت إلياس‪ ،‬تجسد الطرؽ أو األساليب ما "يعتبر سموكا مقبوال اجتماعيا" "مبادئ السموؾ"‪ ،‬واطار "‪ ." conviviality‬انظر‪” The :‬‬
‫‪History of Manners, vol. 1, The Civilizing Process, trans. Edmund Jephcott (New York: Pantheon,‬‬
‫‪1978), chap. 2.‬‬
‫‪38‬‬
‫"وكمما عبل صراخيا‪ ،‬كمما جمدىا بقسوة أكبر‪ .‬وكمما ساؿ الدـ بشكؿ أسرع‪ ،‬ىناؾ جمدىا ألطوؿ مدة‪ ،‬يقوؿ دوغبلس في روايتو عف جمد عمتو مف‬
‫قبؿ السيد بمومر‪ .‬كاف يجمدىا ليجعميا تصرخ‪ ،‬ويجمدىا لتصمت‪ .‬وليس حتى يغمبو التعب‪ ،‬حينيا يتوقؼ عف جمد جمد البقرة الذي تخثر بالدـ‪ ....‬كاف‬
‫أشد المشاىد فظاعة "‪.Douglass, Narrative of the Life, 51. On the random killing of slaves, see 67–68 .‬‬
‫‪Susan Buck-Morss, “Hegel and Haiti,” Critical Inquiry 26 (2000): 821–66.‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪11‬‬
‫بوجيات نظر بديمة نحو الوقت والعمؿ والنفس‪ .‬وىذا ىو العنصر الثاني المتناقض في عالـ‬
‫المزارع بوصفو دليبل عمى حالة االستثناء‪ .‬إذ بالرغـ مف معاممتو كما لو أنو غير موجود إال كأداة‬
‫إنتاج‪ ،‬فإف الرقيؽ قادر عمى جر أي موضوع أو أداة أو لغة أو لفتة إلى األداء ومف ثـ أسمبتيا‪.‬‬
‫مخترقا باقتبلع الجذور وعالـ األشياء الخالص الذي ىو ليس إال شظية منو‪ ،‬يستطيع العبد أف‬
‫يثبت القدرات المتمونة لمروابط البشرية مف خبلؿ الموسيقى والجسـ نفسو الذي يفترض أنو ممؾ‬
‫آلخر‪ .40‬واذا كانت العبلقات بيف الحياة والموت‪ ،‬وسياسة القسوة ورموز البذاءة غير واضحة في‬
‫نظاـ المزرعة‪ ،‬إال أنو في المستعمرة وفي ظؿ نظاـ الفصؿ العنصري يظير إلى حيز الوجود‬
‫تشكيبل إرىابيا خاصا سأنتقؿ إليو اآلف‪ .41‬سمة مف سمات ىذا التشكيؿ اإلرىابي ىو تسمسؿ‬
‫السمطة وحالة االستثناء وحالة الحصار‪ .‬ومف األمور الحاسمة في ىذاالتسمسؿ‪ ،‬مرة أخرى‪،‬‬
‫العرؽ‪.42‬‬
‫وفي الواقع‪ ،‬وجد اختيار األعراؽ‪ ،‬وحظر الزيجات المختمطة‪ ،‬والتعقيـ القسري‪ ،‬وحتى إبادة‬
‫الشعوب الميزومة‪ ،‬في معظـ الحاالت‪ ،‬أوؿ أرضية تجريبية لو في العالـ االستعماري‪ .‬وىنا نرى‬
‫أوؿ التوليفات بيف المجزرة والبيروقراطية‪ ،‬التوليفة التي تجسد العقبلنية الغربية‪ .43‬وضعت أرندت‬
‫أطروحة تقوؿ إ ف ىناؾ صمة بيف االشتراكية القومية واإلمبريالية التقميدية‪ .‬ووفقا ليا‪ ،‬فإف الغزو‬
‫االستعماري كشؼ عف احتماؿ وقوع عنؼ لـ يكف معروفا مف قبؿ‪ .‬فما شيده المرء في الحرب‬
‫العالمية الثانية ىو توسيع نطاؽ األساليب التي كانت محجوزة سابقا لؿ "متوحشيف البرابرة غير‬
‫المتمدنيف" لتطاؿ الشعوب "المتحضرة" في أوروبا‪ .‬ففكرة أف التكنولوجيات التي انتيت بانتاج‬
‫النازية كاف ينبغي أف تنشأ في المزرعة أو في المستعمرة‪ ،‬أو‪ ،‬عمى العكس مف ذلؾ ‪ -‬كما في‬
‫أطروحة فوكو ‪ -‬أف النازية والستالينية لـ تفعؿ أكثر مف تضخيـ سمسمة مف اآلليات التي كانت‬

‫‪40‬‬
‫‪Roger D. Abrahams, Singing the Master: The Emergence of African American Culture in the‬‬
‫‪Plantation South (New York: Pantheon, 1992).‬‬
‫‪41‬‬
‫وفي ما يمي‪ ،‬أدرؾ أف األشكاؿ االستعمارية مف السيادة كانت دائما مجزأة‪ .‬وكانت معقدة‪" ،‬أقؿ اىتماما بإضفاء الشرعية عمى‬
‫وجودىا وأكثر عنفا بشكؿ مفرط مف أشكاليا األوروبية"‪ .‬واألىـ مف ذلؾ أف "الدوؿ األوروبية لـ تكف تيدؼ أبدا إلى حكـ األقاليـ‬
‫االستعمارية بنفس التماثؿ والكثافة المطبقة عمى سكانيا‪T. B. Hansen and Finn Stepputat, “Sovereign Bodies: .‬‬
‫‪.)Citizens, Migrants and States in the Postcolonial World” (paper, 2002‬‬
‫‪42‬‬
‫وفي قضية الدولة العنصرية ()‪ ،)(Malden, Mass: Blackwell, 2002‬يقوؿ ديفيد ثيو غولدبيرغ إنو منذ القرف التاسع عشر‪،‬‬
‫ىناؾ عمى األقؿ اثنيف مف التقاليد التاريخية المتنافسة لمعقبلنية العنصرية‪ :‬ا‪( naturism‬عمى أساس ادعاء الدونية) و‪historicism‬‬
‫(عمى أساس االدعاءب "عدـ النضج" التاريخي ‪ -‬وبالتالي "التعميـ" عند السكاف االصمييف )‪ .‬وفي تواصؿ خاص (‪ 23‬آب ‪ /‬أغسطس‬
‫‪ ،) 2002‬يقوؿ إف ىذيف التقميديف طبقا بطريقتيف مختمفتيف عندما يتعمؽ األمر بمسائؿ السيادة‪ ،‬وحاالت االستثناء‪ ،‬وأشكاؿ سمطة‬
‫الموت‪ .‬وفي أريو‪ ،‬يمكف أف تتخذ سمطة الموت أشكاال متعددة‪ :‬رعب الموت الفعمي؛ أو شكؿ "أكثر طيبة " ‪ -‬الذي ينتج عنو تدمير‬
‫ثقافة مف أجؿ "إنقاذ الشعب" مف نفسو‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫‪Arendt, Origins of Totalitarianism, 185–221.‬‬

‫‪12‬‬
‫موجودة بالفعؿ في التشكيبلت االجتماعية والسياسية في أوروبا الغربية (إخضاع الجسـ‪ ،‬والموائح‬
‫الصحية‪ ،‬والداروينية االجتماعية‪ ،‬وتحسيف النسؿ‪ ،‬والنظريات الطبية القانونية عمى الوراثة‪،‬‬
‫والتنكس أو اإلنحطاط‪ ،‬والعرؽ) ىي‪ ،‬في النياية‪ ،‬غير ذات صمة‪ .‬الحقيقة‪ ،‬عمى الرغـ مف ذلؾ‪،‬‬
‫ىي أف المستعمرة في الفكر الفمسفي الحداثي والممارسة والخياؿ السياسي األوروبي تمثؿ المكاف‬
‫الذي تتشكؿ فيو السيادة بشكؿ أساسي مف ممارسة السمطة خارج القانوف ( ‪ab legibus‬‬
‫‪ )solutus‬والمكاف حيث االحتماالت األكبر ألف يأخذ "السبلـ" وجو "حرب ببل نياية"‪ .‬والواقع أف‬
‫ىذا الرأي يتفؽ مع تعريؼ كارؿ شميت لمسيادة في بداية القرف العشريف‪ ،‬أي سمطة البت في‬
‫حالة االستثناء‪ .‬ولتقييـ فعالية المستعمرة بشكؿ صحيح بوصفيا شكبل مف أشكاؿ اإلرىاب‪ ،‬يتعيف‬
‫عمينا أف نمتفت إلى الخياؿ األوروبي نفسو مف حيث صمتو بالمسألة الحاسمة المتمثمة في تدجيف‬
‫الحرب وانشاء نظاـ قضائي أوروبي (‪ .)Jus publicum Europaeum‬وعمى أساس ىذا‬
‫الترتيب كاف ىناؾ مبدآف رئيسياف‪ .‬يفترض أوليا المساواة القانونية بيف جميع الدوؿ‪ .‬وقد طبقت‬
‫ىذه المساواة بشكؿ ممحوظ عمى الحؽ في شف الحرب (أخذ الحياة)‪ .‬والحؽ في شف الحرب يعني‬
‫أمريف‪ .‬فمف ناحية‪ ،‬جرى االعتراؼ بأف القتؿ أو إبراـ السبلـ ىو أحد المياـ البارزة ألي دولة‪.‬‬
‫وجرى ذلؾ جنبا إلى جنب مع االعتراؼ بحقيقة أنو ال يمكف ألي دولة أف تطالب بحكـ خارج‬
‫حدودىا‪ .‬ولكف أيضا‪ ،‬عمى العكس مف ذلؾ‪ ،‬ال يمكف لمدولة أف تعترؼ بأي سمطة فوقيا داخؿ‬
‫حدودىا‪ .‬ومف ناحية أخرى‪ ،‬تعيدت الدولة مف جانبيا ب "بتمديف" طرؽ القتؿ واعطاء أىداؼ‬
‫عقبلنية لفعؿ القتؿ ذاتو‪ .‬ويتعمؽ المبدأ الثاني بإضفاء الطابع اإلقميمي ‪ territorialization‬عمى‬
‫الدولة ذات السيادة‪ ،‬أي تحديد حدودىا في إطار نظاـ عالمي فرض حديثا‪ .‬وفي ىذا السياؽ‪،‬‬
‫أخذ نظاـ الحقوؽ القانونية التي يتمتع بيا كؿ المواطنيف "‪ Jus publicum‬جوس ببميكوـ "‬
‫بسرعة شكؿ التمييز بيف تمؾ األجزاء مف العالـ المتاحة لبلستيبلء مف قبؿ االستعماري مف‬
‫ناحية‪ ،‬ومف ناحية أخرى‪ ،‬أوروبا نفسيا (حيث كاف مف المفترض أف يسود الجوس بوبميكوـ)‪.44‬‬
‫أمر حاسما مف حيث تقييـ فعالية المستعمرة بوصفيا شكبل إرىابيا‪.‬‬
‫يعد ىذا التمييز‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬ا‬
‫فبشكؿ عاـ‪ ،‬وتحت "الجوس ببميكوـ" تكوف الحرب المشروعة‪ ،‬إلى حد كبير‪ ،‬حربا تقوـ بيا دولة‬
‫ضد دولة أخرى‪ ،‬أو عمى وجو أدؽ‪ ،‬حربا بيف دوؿ "متحضرة"‪ .‬إف مركزية الدولة في حساب‬
‫التفاضؿ والتكامؿ لمحرب مستمدة مف حقيقة أف الدولة ىي نموذج الوحدة السياسية‪ ،‬ومبدأ التنظيـ‬
‫العقبلني‪ ،‬وتجسيد فكرة العبلمة العالمية واألخبلقية‪ .‬وفي نفس السياؽ‪ ،‬تشبو المستعمرات الحدود‪.‬‬
‫يقطنيا "المتوحشوف"‪ .‬إف ىذه المستعمرات ليست منظمة في شكؿ دولة ولـ تنشئ عالما بشريا‪.‬‬
‫وال تشكؿ جيوشيا كيانا متميزا‪ ،‬كما أف حروبيا ليست حروبا بيف الجيوش النظامية‪ .‬فيي ال تعني‬

‫‪44‬‬
‫‪Etienne Balibar, “Prolégomènes à la souveraineté: La frontière, l’Etat, le peuple,” Les temps‬‬
‫‪modernes 610 (2000): 54–55.‬‬

‫‪13‬‬
‫تعبئة الذوات السيادية (المواطنيف) الذيف يحترموف بعضيـ البعض كأعداء‪ .‬وال تميز بيف‬
‫المقاتميف وغير المقاتميف‪ ،‬أو مرة أخرى بيف "العدو" و "المجرـ"‪ .45‬ومف ثـ يتعذر التوصؿ إلى‬
‫سبلـ معيا‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإف المستعمرات ىي المناطؽ التي تقؼ فييا الحرب واالضطرابات‪،‬‬
‫والرموز الداخمية والخارجية لمسياسة‪ ،‬جنبا إلى جنب أو بالتبادؿ مع بعضيا البعض‪ .‬وعمى ىذا‬
‫النحو‪ ،‬فإف المستعمرة ىي المنطقة بامتياز حيث يمكف وقؼ ضوابط وضمانات النظاـ القضائي‬
‫‪ -‬المنطقة حيث يعتبر أف عنؼ حالة االستثناء يعمؿ في خدمة "الحضارة"‪.‬‬
‫ويمكف أف تحكـ ىذه المستعمرات في ظؿ انعداـ مطمؽ لمقانوف ينبع مف اإلنكار العنصري ألي‬
‫رابطة مشتركة بيف الغزاة والسكاف األصمييف‪ .‬في نظر الغزاة‪ ،‬الحياة الوحشية ىي مجرد شكؿ‬
‫آخر مف أشكاؿ الحياة الحيوانية‪ ،‬تجربة مرعبة‪ ،‬شيء غريب وراء الخياؿ أو الفيـ‪ .‬في الواقع‪،‬‬
‫وفقا ألرندت‪ ،‬فإف ما يجعؿ المتوحشيف مختمفيف عف البشر اآلخريف ىو الخوؼ مف أف يتصرفوا‬
‫كجزء مف الطبيعة أكثر مف لوف بشرتيـ‪ ،‬وأنيـ يعامموف الطبيعة كما سيدىـ ببل منازع‪ .‬وىكذا‬
‫تظؿ الطبيعة‪ ،‬بكؿ جبللتيا‪ ،‬حقيقة ساحقة مقارنة بما يبدو أنيـ أشباح وغير واقعيييف ويشبيوف‬
‫األرواح‪ .‬إف المتوحشيف ىـ‪ ،‬أو كما لو أنيـ‪ ،‬بشر طبيعيوف" يفتقروف إلى الطابع اإلنساني عمى‬
‫وجو الخصوص‪" ،‬ولذلؾ عندما ذبحيـ األوروبيوف لـ يكونوا مدركيف أنيـ قد ارتكبوا جريمة‬
‫قتؿ"‪ .46‬لكؿ ما سبؽ فإف الحؽ السيادي في القتؿ ال يخضع ألي قاعدة في المستعمرات‪ .‬في‬
‫المستعمرات‪ ،‬قد يقتؿ السيد في أي وقت أو بأي شكؿ مف األشكاؿ‪ .‬فالحرب االستعمارية ال‬
‫تخضع لقواعد قانونية ومؤسساتية‪ .‬وىي ليست نشاطا مقننا قانونيا‪ .‬بدال مف ذلؾ‪ ،‬يتشابؾ‬
‫اإلرىاب االستعماري باستمرار مع األوىاـ الناشئة استعماريا عف البرية والموت والخياؿ لخمؽ‬
‫تأثير الواقع‪ .47‬السبلـ ليس بالضرورة النتيجة الطبيعية لمحرب االستعمارية‪ .‬والواقع أف التمييز‬
‫بيف الحرب والسبلـ ال ينفع‪ .‬والحروب االستعمارية تصور عمى أنيا تعبير عف عدائية مطمقة‬
‫تضع الغازي في مواجية عدو مطمؽ‪ .48‬وتجد جميع مظاىر الحرب والعداء التي تـ تيميشيا في‬
‫المخيمة القانونية األوروبية مكانا إلعادة الظيور في المستعم ارت‪ .‬ىنا‪ ،‬تنيار قصة التمييز بيف‬
‫"غايات الحرب" و "وسائؿ الحرب"؛ وكذلؾ قصة أف الحرب تعمؿ كمنافسو تحكميا القاعدة‪ ،‬بدال‬
‫مف الذبح النقي دوف مخاطر أو تبرير أداتي‪ .‬ومف ثـ‪ ،‬يصبح مف غير المجدي محاولة حؿ أحد‬

‫‪45‬‬
‫‪Eugene Victor Walter, Terror and Resistance: A Study of Political Violence with Case Studies of‬‬
‫‪Some Primitive African Communities (Oxford: Oxford University Press, 1969).‬‬
‫‪Arendt, Origins of Totalitarianism, 192.‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪47‬‬
‫‪For a powerful rendition of this process, see Michael Taussig, Shamanism, Colonialism, and‬‬
‫‪the Wild Man: A Study in Terror and Healing (Chicago: University of Chicago Press, 1987).‬‬
‫‪48‬‬
‫‪On the “enemy,” see L’ennemi, special issue, Raisons politiques, no. 5 (2002).‬‬

‫‪14‬‬
‫المفارقات المستعصية لمحرب التي التقطيا ببراعة ألكسندر كوجيؼ في إعادة تفسيره‬
‫ؿ(فينومينولوجيا الروح) لييغؿ‪ :‬وىي تزامف المثالية والبل ػ ػ إنسانية الظاىرة‪.49‬‬
‫سمطة الموت واالحتالالت االستعمارية في الحداثة المتأخرة‪.‬‬
‫وربما يعتقد أحد أف األفكار المطروحة أعبله تتصؿ بماضي بعيد‪ .‬في الماضي‪ ،‬في الواقع‪،‬‬
‫كانت الحروب اإلمبريالية تيدؼ إلى تدمير القوى المحمية‪ ،‬وتثبيت القوات‪ ،‬ووضع نماذج جديدة‬
‫مف السيطرة العسكرية عمى السكاف المدنييف‪ .‬ويمكف أف تساعد مجموعة مف المساعديف المحمييف‬
‫في إدارة األراضي المغتصبة الممحقة باإلمبراطورية‪ .‬منح السكاف الميزوموف‪ ،‬ضمف‬
‫اإلمبراطورية‪ ،‬وضعا يكرس نبذىـ‪ .‬وفي ىذه التشكيبلت‪ ،‬يشكؿ العنؼ الشكؿ األصمي لمحؽ‪،‬‬
‫ويوفر االستثناء ىيكؿ السيادة‪ .‬وشممت كؿ مرحمة مف مراحؿ اإلمبريالية أيضا بعض‬
‫التكنولوجيات الرئيسية (القارب المدفعي‪ ،‬والكينيف‪ ،‬وخطوط البواخر‪ ،‬وكاببلت التمغراؼ الغواصة‪،‬‬
‫والسكؾ الحديدية االستعمارية)‪ .50‬وكاف االحتبلؿ االستعماري نفسو قضية االستيبلء عمى‬
‫المنطقة الجغرافية الفعمية‪ ،‬ورسـ حدودىا‪ ،‬وتأكيد السيطرة عمى أرض جغرافية وسف مجموعة‬
‫جديدة مف العبلقات االجتماعية والمكانية عمى أرض الواقع‪ .‬كانت كتابة عبلقات مكانية جديدة‬
‫(إضفاء الطابع اإلقميمي)‪ ،‬في نياية المطاؼ‪ ،‬بمثابة إنتاج الحدود والتسمسؿ اليرمي‪ ،‬والمناطؽ‬
‫والجيوب؛ وتخريب ترتيبات الممتمكات القائمة؛ وتصنيؼ الناس وفقا لفئات مختمفة؛ واستخراج‬
‫الموارد؛ وأخيرا‪ ،‬تصنيع مخزوف كبير مف الخياؿ الثقافي‪ .‬أعطت ىذه الخياالت معنى إلصدار‬
‫حقوؽ متباينة لفئات مختمفة مف األشخاص ألغراض مختمفة داخؿ نفس المساحة؛ وباختصار‪،‬‬
‫ممارسة السيادة‪ .‬ولذلؾ فإف المكاف ىو المادة األولية لمسيادة والعنؼ الذي تحممو معيا‪ .‬فالسيادة‬
‫تعني االحتبلؿ‪ ،‬واالحتبلؿ يعني اقصاء المستع َمريف إلى منطقة ثالثة بيف الذاتية والموضوعية‪.‬‬
‫وىذا ىو الحاؿ بالنسبة لنظاـ الفصؿ العنصري في جنوب افريقيا‪ .‬ىنا‪ ،‬كانت البمدة (الضاحية)‬
‫‪ township‬ىي الشكؿ الييكمي أو البنيوي وأصبحت مناطؽ السود ‪homelands‬مصدر‬
‫االحتياطيات (القواعد الريفية) حيث يمكف تنظيـ تدفؽ العمالة الوافدة‪ ،‬وتقيد التحضر في‬
‫أفريقيا‪ .51‬وكما بينت بميندا بوزولي‪ ،‬كانت البمدة عمى وجو الخصوص مكانا حيث " يختبر القير‬
‫‪52‬‬
‫"‪ .‬وبمواصفاتيا االجتماعية والسياسية والثقافية‬ ‫والفقر القاسياف عمى أساس عنصري وطبقي‬

‫‪Kojève, Introduction à la lecture de Hegel. 49‬‬


‫‪50‬‬
‫‪See Daniel R. Headrick, The Tools of Empire: Technology and European Imperialism in the‬‬
‫‪Nineteenth Century (New York: Oxford University Press, 1981).‬‬
‫‪On the township, see G. G. Maasdorp and A. S. B. Humphreys, eds., From Shantytown to‬‬
‫‪51‬‬

‫‪Township: An Economic Study of African Poverty and Rehousing in a South African City (Cape‬‬
‫‪Town:Juta, 1975).‬‬
‫‪52‬‬
‫‪Belinda Bozzoli, “Why Were the 1980s ‘Millenarian’? Style, Repertoire, Space and Authority‬‬

‫‪15‬‬
‫واالقتصادية‪ ،‬كانت البمدة مؤسسة مكانية غريبة مخططة عمميا ألغ ارض السيطرة‪ .53‬استتبع‬
‫تشكيؿ البمدات ومواطف السود قيودا شديدة عمى اإلنتاج لمسوؽ مف قبؿ السود في المناطؽ‬
‫البيضاء‪ ،‬وانياء ممكية األراضي مف قبؿ السود إال في المناطؽ االحتياطية‪ ،‬وعدـ قانونية إقامة‬
‫السود في مزارع البيض (إال إذا كانوا خدما لدى األبيض)‪ ،‬والسيطرة عمى التدفؽ الحضري‪ ،‬ثـ‬
‫الحقا حرماف األفارقة مف المواطنة‪.54‬‬
‫يصؼ فرانتز فانوف تحييز ‪ spatialization‬االحتبلؿ االستعماري بمصطمحات حيوية بارعة‪.‬‬
‫بالنسبة لو‪ ،‬ينطوي االحتبلؿ االستعماري أوال وقبؿ كؿ شيء عمى تقسيـ المكاف إلى مقصورات‪.‬‬
‫وينطوي أيضا عمى وضع تخوـ وحدود داخمية تتجمى في الثكنات ومراكز الشرطة؛ كما أنو ينظـ‬
‫مف قبؿ لغة قوة خالصة‪ ،‬وحضور فوري‪ ،‬وعمؿ متكرر ومباشر‪ ،‬فضبل عف أنو يرتكز عمى مبدأ‬
‫اإلقتصارية أو الحصرية ‪ exclusivity‬التبادلية‪ .55‬ولكف األىـ مف ذلؾ‪ ،‬ىو الطريقة التي تعمؿ‬
‫بيا سمطة الموت‪" :‬المدينة التي ينتمي إلييا الشعب المستع َمر‪ ...‬مكاف سيئ السمعة‪ ،‬مؤىوؿ‬
‫برجاؿ شريريف‪ .‬يولدوف ىناؾ‪ ،‬وال ييـ كثي ار أيف أو كيؼ؛ يموتوف ىناؾ‪ ،‬ال ييـ أيف وال كيؼ‪.‬‬
‫إنيا عالـ ببل رحابة؛ الرجاؿ يعيشوف ىناؾ واحد عمى رأس اآلخر‪ .‬البمدة األصمية ىي بمدة‬
‫جائعة‪ ،‬محرومة مف الخبز والمحوـ واألحذية والفحـ والضوء‪ .‬البمدة األصمية ىي قرية راكدة‪ ،‬وىي‬
‫مدينة جاثية عمى ركبتييا "‪ .56‬وفي ىذه الحالة‪ ،‬تعني السيادة القدرة عمى تحديد مف ييـ ومف‬
‫الييـ‪ ،‬ومف الذي يمكف التخمص منو ومف ال يمكف التخمص منو‪ .‬ويختمؼ االحتبلؿ االستعماري‬
‫في الحداثة المتأخر في نواح كثيرة عف االحتبلؿ في الحداثة المبكرة‪ ،‬وال سيما في دمجو بيف‬
‫االنضباط والسياسات الحياتية‪ ،‬وسياسية الموت‪ .‬والشكؿ األكمؿ ليذا االحتبلؿ ىو سياسات‬
‫الموت في االحتبلؿ االستعماري لفمسطيف‪ .‬ىنا‪ ،‬تستمد الدولة االستعمارية مطالبتيا األساسية‬
‫بالسيادة والشرعية مف سمطة سردىا الخاص لمتاريخ واليوية‪ .‬ىذه الرواية نفسيا مدعومة بفكرة أف‬
‫لمدولة حؽ إليي مقدس في الوجود‪ .‬يتنافس سرد مع آخر عمى الفضاء المقدس ذاتو‪ .‬وألف‬
‫السرديف غير متوافقيف‪ ،‬وألف كبل الشعبيف متداخبلف بشكؿ ال ينفصـ‪ ،‬فإف أي ترسيـ لؤلرض‬
‫عمى أساس اليوية الخالصة أمر شبو مستحيؿ‪ .‬فالعنؼ والسيادة‪ ،‬في ىذه الحالة‪ ،‬يدعياف‬

‫‪in South Africa’s Black Cities,” Journal of Historical Sociology 13 (2000): 79.‬‬
‫‪53‬‬
‫”?’‪Bozzoli, “Why Were the 1980s ‘Millenarian‬‬
‫‪54‬‬
‫‪See Herman Giliomee, ed., Up against the Fences: Poverty, Passes and Privileges in South‬‬
‫‪Africa (Cape Town: David Philip, 1985); Francis Wilson, Migrant Labour in South Africa‬‬
‫‪(Johannesburg:Christian Institute of Southern Africa, 1972).‬‬
‫‪55‬‬
‫‪Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, trans. C. Farrington (New York: Grove Weidenfeld,‬‬
‫‪1991), 39.‬‬
‫‪Fanon, Wretched of the Earth, 37–39.‬‬ ‫‪56‬‬

‫‪16‬‬
‫األساس اإلليي‪ :‬والشعب (‪ )peoplehood‬في حد ذاتو مجبوؿ عمى عبادة معبود واحد‪ ،‬وتصور‬
‫اليوية الوطنية عمى أنيا ىوية ضد اآلخر‪ ،‬ضد اآللو األخرى‪ .‬ومف المفترض أف يدعـ التاريخ‬
‫والجغرافيا والخرائط واألركيولوجيا ىذه المزاعـ‪ ،‬وبالتالي أف تربط اليوية بشكؿ وثيؽ‬
‫بالطوبوغرافيا‪.57‬‬
‫ونتيجة لذلؾ‪ ،‬فإف العنؼ واالحتبلؿ االستعمارييف يكتسباف بشكؿ عميؽ مف خبلؿ إرىاب الحقيقة‬
‫المقدس والحصرية (الطرد الجماعي‪ ،‬واعادة توطيف األشخاص "عديمي الجنسية" في مخيمات‬
‫البلجئيف‪ ،‬وانشاء المستعمرات الجديدة)‪ .‬ويرقد تحت إرىاب المقدس التنقيب المستمر عف العظاـ‬
‫المفقودة؛ الذكرى الدائمة لمجسد الممزؽ إلى ألؼ قطعة والذي ال مثيؿ لو عمى اإلطبلؽ؛ الحدود‪،‬‬
‫أو لنقؿ‪ ،‬عجز المرء عف تمثيؿ "الجريمة األصمية" لنفسو؛ الموت الذي ال يوصؼ‪ :‬إرىاب‬
‫اليولوكوست ‪.58‬‬
‫وعودة إلى القراءة المكانية لػ "فانوف" لبلحتبلؿ االستعماري‪ ،‬فإف االحتبلؿ االستعماري في الحداثة‬
‫المتأخرة لغزة والضفة الغربية يقدـ ثبلث خصائص رئيسية فيما يتعمؽ بعمؿ التشكيؿ اإلرىابي‬
‫المحدد الذي أطمقت عميو سمطة الموت (السمطة النكرووية)‪ .‬األولى ىي ديناميكية التفتيت‬
‫اإلقميمي‪ ،‬إغبلؽ وتوسيع المستوطنات‪ .‬واليدؼ مف ىذه العممية ذو شقيف‪ :‬جعؿ أي حركة‬
‫مستحيمة وتنفيذ االنفصاؿ عمى غرار نموذج دولة الفصؿ العنصري‪ .‬وبالتالي فإف األراضي‬
‫المحتمة مقسمة إلى شبكة معقدة مف الحدود الداخمية وخبليا معزولة مختمفة‪ .‬وفقا إلياؿ وايزماف‪،‬‬
‫مف خبلؿ الخروج مف التقسيـ المستو لؤلرض واإلحتفاء بمبدأ خمؽ حدود ثبلثية األبعاد عبر‬
‫البؤر السيادية‪ ،‬فإف ىذا التشتت والتقسيـ يعيد تعريؼ العبلقة بيف السيادة والمكاف‪ .59‬وبالنسبة‬
‫لوايزماف‪ ،‬تشكؿ ىذه اإلجراءات "سياسات عمودية‪ "the politics of verticality‬ويمكف أف‬
‫يطمؽ عمى السيادة الناجمة عنيا "السيادة العمودية‪ " vertical sovereignty‬وتحت نظاـ‬
‫السيادة العمودية‪ ،‬يعمؿ االحتبلؿ االستعماري مف خبلؿ مخططات الطرؽ السفمية والعموية‪،‬‬
‫وفصؿ المجاؿ الجوي عف األرض‪ .‬األرض نفسيا مقسمة إلى قشرة وجوؼ‪ .‬كما أف االحتبلؿ‬
‫االستعماري محكوـ بسبب طبيعة التضاريس وتنوعيا الطوبوغرافي (قمـ التبلؿ والودياف والجباؿ‬
‫وتجمعات المياه)‪ .‬وبالتالي‪ ،‬تقدـ األرض المرتفعة األصوؿ االستراتيجية غير المتحققة في‬

‫‪57‬‬
‫‪See Regina M. Schwartz, The Curse of Cain: The Violent Legacy of Monotheism (Chicago:‬‬
‫‪University of Chicago Press, 1997).‬‬
‫‪58‬‬
‫‪See Lydia Flem, L’Art et la mémoire des camps: Représenter exterminer , ed. Jean-Luc Nancy‬‬
‫)‪(Paris: Seuil, 2001‬‬

‫‪59‬‬
‫‪See Eyal Weizman, “The Politics of Verticality,” Open Democracy (Web publication at‬‬
‫‪www.openDemocracy.net), 25 April 2002.‬‬

‫‪17‬‬
‫الودياف (فعالية البصر‪ ،‬والحماية الذاتية‪ ،‬والتحصيف البانوبتيكي الذي يمنح النظر إلى العديد مف‬
‫النيايات المختمفة)‪ .‬يقوؿ وايزماف‪ " :‬يمكف اعتبار المستوطنات أجيزة بصرية حضرية لممراقبة‬
‫وممارسة السمطة"‪ .‬وفي ظؿ ظروؼ االحتبلؿ االستعماري في الحداثة المتأخرة‪ ،‬توجو المراقبة‬
‫نحو الداخؿ والخارج عمى حد سواء‪ ،‬والعيف بمثابة سبلح والعكس بالعكس‪ .‬وبدال مف التقسيـ‬
‫القاطع بيف دولتيف عبر خط الحدود‪" ،‬فإف تنظيـ التضاريس الخاص في الضفة الغربية قد خمؽ‬
‫عدة عمميات فصؿ‪ ،‬وحدود مفترضة تتصؿ ببعضيا البعض مف خبلؿ المراقبة والسيطرة " كما‬
‫يقوؿ وايزماف‪ .‬وفي ظؿ ىذه الظروؼ‪ ،‬فإف االحتبلؿ االستعماري ليس فقط أقرب إلى السيطرة‪،‬‬
‫والمراقبة‪ ،‬والفصؿ‪ ،‬بؿ ىو أيضا بمثابة العزؿ‪ .‬إنو احتبلؿ تشظية وتفتيت ‪splintering‬‬
‫‪ ،occupation‬عمى غرار التشظي الحضري المميز لمحداثة المتأخرة (جيوب الضواحي أو‬
‫المجتمعات المسورة)‪.60‬‬
‫مف وجية نظر البنية التحتية‪ ،‬فإف نموذج التشظية لبلحتبلؿ االستعماري يتميز بشبكة مف الطرؽ‬
‫االلتفافية السريعة والجسور واألنفاؽ التي تنسج فوؽ وتحت بعضيا البعض في محاولة لمحفاظ‬
‫عمى "مبدأ الحصرية التبادلية"‪ .‬يقوؿ وايزماف‪" ،‬تحاوؿ الطرؽ االلتفافية فصؿ شبكات المرور‬
‫اإلسرائيمية عف الشبكات الفمسطينية‪ ،‬ويفضؿ أف يتـ ذلؾ دوف السماح ليـ بالمرور أبدا وعمى‬
‫اإلطبلؽ‪ .‬ولذلؾ فيي تؤكد عمى تداخؿ منطقتيف منفصمتيف تعيشاف في المكاف نفسو‪ .‬في النقاط‬
‫حيث تتقاطع الشبكات‪ ،‬يتـ إنشاء فصؿ مؤقت‪ .‬في معظـ األحياف‪ ،‬طرؽ رممية صغيرة مف أجؿ‬
‫السماح لمفمسطينييف بالعبور تحت الطرؽ السريعة الواسعة التي تندفع فييا العربات والشاحنات‬
‫العسكرية اإلسرائيمية بيف المستوطنات "‪.61‬‬
‫وفي ظؿ ظروؼ السيادة الرأسية والتشظية التي يمارسيا االحتبلؿ االستعماري‪ ،‬يتـ فصؿ‬
‫المجتمعات عبر المحور الصادي(المحور الرأسي)‪ .‬وىذا يؤدي إلى انتشار مواقع العنؼ‪ .‬ال تقع‬
‫ساحات القتاؿ فقط عمى سطح األرض‪ .‬ويتحوؿ تحت األرض وكذلؾ المجاؿ الجوي إلى مناطؽ‬
‫صراع‪ .‬ليس ىناؾ استم اررية بيف األرض والسماء‪ .‬وحتى الحدود في المجاؿ الجوي تنقسـ بيف‬
‫الطبقات الدنيا والعميا‪ .‬في كؿ مكاف‪ ،‬يتـ تأكيد رموز األعمى (الذي ىو فوؽ)‪ .‬وبالتالي يكتسب‬
‫احتبلؿ السماء أىمية حاسمة‪ ،‬ألف معظـ أعماؿ الشرطة تتـ مف الجو‪ .‬ويتـ حشد تكنولوجيات‬
‫أخرى مختمفة لتحقيؽ ىذا الغرض‪ :‬أجيزة االستشعار عمى متف الطائرات بدوف طيار )‪،(UAVs‬‬
‫وطائرات االستطبلع الجوي‪ ،‬وطائرات اإلنذار المبكر‪ ،‬وطائرات اليميكوبتر اليجومية‪ ،‬سواتؿ‬
‫رصد األرض‪ ،‬وال تقنيات "اليولوغراماتية"‪ .‬يصبح القتؿ استيدافا بدقة‪ .‬وتضاؼ ىذه الدقة إلى‬

‫‪60‬‬
‫‪See Stephen Graham and Simon Marvin, Splintering Urbanism: Networked Infrastructures,‬‬
‫‪Technological Mobility and the Urban Condition (London: Routledge, 2001).‬‬
‫‪61‬‬
‫”‪Weizman, “Politics of Verticality.‬‬

‫‪18‬‬
‫تكتيكات حرب الحصار في العصور الوسطى التي كيفت مع التوسع الشبكي لمخيمات البلجئيف‬
‫في المناطؽ الحضرية‪ .‬ومف شأف التخريب المنظـ والمنيجي لشبكة البنية التحتية المجتمعية‬
‫والحضرية لمعدو أف يكمؿ االستيبلء عمى موارد األراضي والمياه والمجاؿ الجوي‪ .‬التجريؼ‬
‫‪ bulldozing‬أيضا مف األمور الحاسمة في تقنيات تعطيؿ العدو‪ :‬ىدـ المنازؿ والمدف؛ واقتبلع‬
‫أشجار الزيتوف؛ واطبلؽ النار عمى خزانات المياه ؛ وقصؼ وتشويش االتصاالت اإللكترونية؛‬
‫وتحفير الطرؽ؛ وتدمير محوالت الكيرباء؛ وتخريب مدارج المطار؛ وتعطيؿ أجيزة اإلرساؿ‬
‫التمفزيوني واإلذاعي؛ وتحطيـ أجيزة الكمبيوتر؛ وسمب الرموز الثقافية والسياسية ‪ -‬البيروقراطية‬
‫لمدولة الفمسطينية الموعودة؛ ونيب المعدات الطبية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬حرب البنية التحتية‪- .62‬‬
‫وبينما تستخدـ طائرة ىميكوبتر مف طراز أباتشي ألعماؿ الشرطة في اليواء والقتؿ مف أعمى‪،‬‬
‫تستخدـ الجرافة المدرعة (كاتربيبلر ‪ )D-9‬عمى األرض كسبلح مف أسمحة الحرب والتخويؼ‪.‬‬
‫وعمى النقيض مف االحتبلؿ االستعماري في الحداثة المبكرة‪ ،‬أسس ىذاف السبلحاف تفوؽ أدوات‬
‫التكنولوجيا الفائقة في إرىاب الحداثة المتاخرة‪ .63‬وكما تبيف الحالة الفمسطينية‪ ،‬فإف االحتبلؿ‬
‫االستعماري في الحداثة المتأخرة ىو تسمسؿ سمطات متعددة‪ :‬اإلنضباطية والسياسيات الحياتية‬
‫وسياسات الموت‪.‬‬
‫يضمف الجمع بيف الثبلثة لمسمطة االستعمارية سيطرة مطمقة عمى سكاف األرض المحتمة‪ .‬وحالة‬
‫الحصار ىي في حد ذاتيا مؤسسة عسكرية‪ .‬إنيا تسمح بطريقة قتؿ ال تميز بيف العدو الخارجي‬
‫والداخمي‪ .‬فجميع السكاف ىـ ىدؼ السيادة‪ .‬والقرى والبمدات المحاصرة مغمقة ومعزولة عف‬
‫العالـ‪ .‬ويجري عسكرة الحياة اليومية‪ .‬وتعطى الحرية لمقادة العسكرييف المحمييف الستخداـ‬
‫سمطتيـ التقديرية فيما يتعمؽ بموعد إطبلؽ النار وعمى مف تطمؽ‪ .‬وتتطمب الحركة بيف الخبليا‬
‫اإلقميمية تصاريح رسمية‪ .‬وتدمر المؤسسات المدنية المحمية بصورة منيجية‪ .‬ويحرـ السكاف‬
‫المحاصروف مف وسائؿ دخميـ‪ .‬ويضاؼ القتؿ غير المرئي إلى عمميات اإلعداـ الصريحة في‬
‫ميداف المعركة‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫‪See Stephen Graham, “‘Clean Territory’: Urbicide in the West Bank,” Open Democracy (Web‬‬
‫‪publication at www.openDemocracy.net), 7 August 2002.‬‬
‫‪63‬‬
‫مقارنة مع مجموعة مف القنابؿ الجديدة التي نشرتيا الواليات المتحدة خبلؿ حرب الخميج و الحرب في كوسوفو‪ ،‬ومعظميا تيدؼ‬
‫إلى القاء بمورات الجرافيت لتعطيؿ محطات انتاج وتوزيع الطاقة الكيربائية بشكؿ شامؿ ‪Michael Ignatieff, Virtual War (New‬‬
‫)‪،York: Metropolitan Books 2000‬‬

‫‪19‬‬
‫آالت الحرب و التبعية‬
‫وبعد أف درست أعماؿ سمطة الموت في ظؿ ظروؼ االحتبلؿ االستعماري في الحداثة المتاخرة‪،‬‬
‫أود أف أنتقؿ اآلف إلى الحروب المعاصرة‪ .‬فالحروب المعاصرة تنتمي إلى لحظة جديدة‪ ،‬ويمكف‬
‫فيميا بالكاد مف خبلؿ النظريات السابقة "لمعنؼ التعاقدي" أو أنماط الحروب "العادلة" و‬
‫"الظالمة" أو حتى ذرائعية كارؿ فوف كبلوسفيتز‪ .64‬ووفقا لزيغمونت بوماف‪ ،‬ال تضع حروب‬
‫عصر العولمة الغزو‪ ،‬واالستحواذ‪ ،‬واالستيبلء عمى األراضي ضمف أىدافيا‪ .‬ومف الناحية‬
‫المثالية‪ ،‬فإنيا تقوـ عمى قاعدة اضرب واىرب‪ .‬إف الفجوة المتزايدة بيف وسائؿ التكنولوجيا الفائقة‬
‫والتكنولوجيا الدنيا لـ تكف أبدا واضحة كما كانت في حرب الخميج وحممة كوسوفو‪ .‬وفي كمتا‬
‫الحالتيف‪ ،‬تـ تطبيؽ مذىب "القوة الساحقة أو الحاسمة" بشكؿ كامؿ بفضؿ الثورة العسكرية‬
‫التكنولوجية التي ضاعفت القدرة عمى التدمير بطرؽ لـ يسبؽ ليا مثيؿ‪ .65‬والحرب الجوية مف‬
‫حيث عبلقتيا باالرتفاع والذخائر والرؤية واالستخبارات ىنا مثاؿ عمى ذلؾ‪ .‬وخبلؿ حرب الخميج‪،‬‬
‫أدى االستخداـ المشترؾ لمقنابؿ والقنابؿ الذكية المغمفة باليورانيوـ المستنفد (‪ ،)DU‬واألسمحة‬
‫المقاومة لمتكنولوجيا الفائقة‪ ،‬وأجيزة االستشعار اإللكترونية‪ ،‬والصواريخ الموجية بالميزر‪ ،‬والقنابؿ‬
‫العنقودية وقنابؿ االختناؽ‪ ،‬والقدرات التسممية‪ ،‬والمركبات الجوية بدوف طيار‪ ،‬والذكاء السيبراني‬
‫إلى شمؿ قدرات العدو بسرعة‪ .‬وفي كوسوفو‪ ،‬اتخذ "تفتيت" القدرات الصربية شكؿ حرب البنى‬
‫التحتية األساسية التي استيدفت ودمرت الجسور والسكؾ الحديدية والطرؽ السريعة وشبكات‬
‫االتصاالت ومستودعات تخزيف النفط ومحطات التدفئة ومحطات توليد الكيرباء ومرافؽ معالجة‬
‫المياه‪ .‬ويمكننا أف نخمف‪ ،‬أف تنفيذ ىذه االستراتيجية العسكرية‪ ،‬ال سيما عندما يقترف بفرض‬
‫ا لعقوبات‪ ،‬يؤدي إلى إغبلؽ نظاـ دعـ الحياة لمعدو‪ .‬إف الضرر الدائـ الذي لحؽ بالحياة المدنية‬
‫أمر قاطع بشكؿ خاص‪ .‬فعمى سبيؿ المثاؿ‪ ،‬ترؾ تدمير مجمع بانسيفو لمبتروكيماويات في‬
‫ضواحي بمغراد خبلؿ حممة كوسوفو "المنطقة المجاورة سمية جدا بكموريد الفينيؿ واألمونيا والزئبؽ‬
‫والنفتا والديوكسيف التي تسببت في طمب السيدات الحوامؿ اإلجياض‪ ،‬ونصح جميع النساء في‬
‫المنطقة تجنب الحمؿ لمدة عاميف "‪ .66‬تيدؼ حروب عصر العولمة إلى إجبار العدو عمى‬

‫‪64‬‬
‫‪See Michael Walzer, Just and Unjust Wars: A Moral Argument with Historical Illustrations‬‬ ‫‪(New‬‬
‫‪York: Basic Books, 1977).‬‬
‫‪65‬‬
‫‪Benjamin Ederington and Michael J. Mazarr, eds., Turning Point: The Gulf War and U.S. Military‬‬
‫‪Strategy (Boulder, Colo.: Westview, 1994).‬‬

‫‪66‬‬
‫”‪Thomas W. Smith, “The New Law of War: Legitimizing Hi-Tech and Infrastructural Violence,‬‬
‫‪International Studies Quarterly 46 (2002): 367. On Iraq, see G. L. Simons, The Scourging of‬‬

‫‪21‬‬
‫الخضوع بغض النظر عف العواقب المباشرة‪ ،‬واآلثار الجانبية‪ ،‬و"األضرار المبلزمة " لؤلعماؿ‬
‫العسكرية‪ .‬وبيذا المعنى‪ ،‬فإف الحروب المعاصرة تذكرنا باستراتيجية الحرب التي يتبعيا البدو‬
‫الرحؿ أكثر مف الدوؿ المستقرة أو الحروب اإلقميمية لمحداثة "الغزو واإللحاؽ"‪ .‬في كممات بوماف‪:‬‬
‫"إنيـ ينشروف تفوقيـ عمى السكاف المستقريف بسرعة حركتيـ الخاصة؛ وقدرتيـ عمى النزوؿ مف‬
‫أي مكاف دوف سابؽ إنذار والتبلشي مرة أخرى دوف سابؽ إنذار‪ ،‬وقدرتيـ عمى السفر بخفة وعدـ‬
‫اإلىتماـ بنوع ممتمكاتيـ التي تقيد التنقؿ والقدرة عمى المناورة لمسكاف المقيميف‪."67‬‬
‫وىذه المحظة الجديدة ىي واحدة مف التنقمية(سيولة الحركة والتنقؿ‪ ) global mobility‬العالمية‪ .‬ومف‬
‫السمات اليامة في عصر التنقمية العالمي أف العمميات العسكرية وممارسة الحؽ في القتؿ لـ تعد‬
‫االحتكار الوحيد لمدوؿ‪ ،‬ولـ يعد "الجيش النظامي" ىو األسموب الفريد لتنفيذ ىذه المياـ‪ .‬وال يمكف‬
‫بسيولة المطالبة بالسمطة المطمقة أو النيائية في حيز سياسي معيف‪ .‬وبدال مف ذلؾ‪ ،‬يبرز خميط‬
‫مف الحقوؽ المتداخمة وغير المكتممة لمحكـ‪ ،‬متشابؾ ومتداخؿ بشكؿ ال ينفصـ‪ ،‬تتشابؾ فيو‬
‫افيا حاالت قانونية مختمفة بحكـ األمر الواقع‪ ،‬وتترابط الوالءات التعددية‪ ،‬والسمطات غير‬
‫جغر ً‬
‫المتناظرة‪ ،‬والجيوب‪ .68‬في ىذه المنظمة غير المتجانسة مف الحقوؽ والمطالبات اإلقميمية‪ ،‬فإنو‬
‫مف غير المعقوؿ اإلصرار عمى التمييز بيف العوالـ السياسية "الداخمية" و "الخارجية"‪ ،‬المفصولة‬
‫بحدود واضحة بشكؿ واضح‪ .‬فمنأخذ أفريقيا كمثاؿ عمى ذلؾ‪ .‬ىنا‪ ،‬تغير االقتصاد السياسي‬
‫لمدولة بشكؿ كبير خبلؿ الربع األخير مف القرف العشريف‪ .‬ولـ يعد بإمكاف العديد مف الدوؿ‬
‫األفريقية المطالبة باحتكار العنؼ وبوسائؿ اإلكراه واإلجبار والقسر داخؿ أراضييا‪ .‬كما أنيا ال‬
‫تستطيع المطالبة باحتكار الحدود اإلقميمية‪ .‬وأصبح اإلكراه نفسو سمعة سوقية‪ .‬يتـ شراء وبيع‬
‫القوى العاممة العسكرية في سوؽ ال تعني فييا ىوية المورديف والمشتريف شيئا تقريبا‪ .‬والميميشيات‬
‫الحضرية‪ ،‬والجيوش الخاصة‪ ،‬وجيوش الموردات اإلقميمية‪ ،‬والشرکات األمنية الخاصة‪ ،‬وجيوش‬

‫‪Iraq: Sanctions, Law and Natural Justice , 2d ed. (New York: St. Martin’s, 1998); see also A.‬‬
‫‪Shehabaldin and W. M. Laughlin Jr., “Economic Sanctions against Iraq: Human and Economic‬‬
‫‪Costs,” International Journal of Human Rights 3, no. 4 (2000): 1–18.‬‬
‫‪67‬‬
‫‪Zygmunt Bauman, “Wars of the Globalization Era,” European Journal of Social Theory 4, no.‬‬
‫‪" 1 (2001): 15.‬بعيدوف عف "أىدافيـ‪"،‬مسرعيف فوؽ اولئؾ الذيف يضربونيـ بحيث ال يمكنيـ مف أف يروا بأـ أعينيـ الدمار الذي‬
‫تسببوا بو والدـ الذي أسالوه‪ ،‬الطياروف الذيف تحولو إلى مشغمي الكمبيوتر بالكاد لدييـ فرصة لمتفرس في وجوه ضحاياىـ في وجييـ‬
‫ورؤية البؤس اإلنساني الذي زرعوه"‪.‬يضيؼ بوماف‪" .‬ال يرى المينيوف العسكريوف في عصرنا أي جثث وال جروح‪ .‬قد يناموف جيدا ؛ ال‬
‫وخزات ضمير تبقييـ مستيقظيف "(‪ .)27‬انظر أيضا‪“Penser la guerre aujourd’hui,” Cahiers de la Villa Gillet no. :‬‬
‫‪16 (2002): 75–152.‬‬
‫‪68‬‬
‫‪Achille Mbembe, “At the Edge of the World: Boundaries, Territoriality, and Sovereignty in‬‬
‫‪Africa,” Public Culture 12 (2000): 259–84.‬‬

‫‪21‬‬
‫الدولة کميا تدعي الحؽ في ممارسة العنؼ أو القتؿ‪ .‬تستأجر الدوؿ المجاورة أو حركات‬
‫المتمرديف الجيوش لمدوؿ الفقيرة‪ .‬فناشرو العنؼ مف غير المواطنيف يوردوف مصدريف قسرييف‬
‫حاسميف ىما‪ :‬اليد العاممة والمعادف‪ .‬وتتألؼ الغالبية العظمى مف الجيوش بصورة متزايدة مف‬
‫الجنود المواطنيف‪ ،‬والجنود األطفاؿ‪ ،‬والمرتزقة‪ ،‬والقراصنة أو مراكب القرصنة‪.69 privateers‬‬
‫وىكذا ظيرت الجيوش جنبا إلى جنب مع ما يمكف أف نشير إليو‪ ،‬وفقا لدولوز وغواتاري‪ ،‬آالت‬
‫لمحرب‪ .70 war machines‬وتتكوف آالت الحرب مف قطاعات مف الرجاؿ المسمحيف الذيف‬
‫ينقسموف أو يندمجوف مع بعضيـ البعض تبعا لممياـ التي يتعيف عمييـ القياـ بيا وظروؼ‬
‫تنفيذىا‪ .‬وبوصفيا منظمات منتشرة ومتعددة األشكاؿ‪ ،‬تتميز آالت الحرب بقدرتيا عمى اإلنسبلخ‬
‫والتحوؿ‪ .‬عبلقتيا مع المكاف عبلقة جوالة‪ .‬وفي بعض األحياف يتمتعوف بروابط معقدة مع أشكاؿ‬
‫الدولة (مف الحكـ الذاتي إلى الدمج والتأسيس)‪ .‬وقد تقوـ الدولة‪ ،‬مف تمقاء نفسيا‪ ،‬بتحويؿ نفسيا‬
‫إلى آلة حرب‪ .‬وقد يكوف مناسبا ليا أيضا اف تخصص لنفسيا آلة الحرب القائمة أو تساعد عمى‬
‫خمؽ واحدة‪ .‬تعمؿ آالت الحرب عف طريؽ االقتراض مف الجيوش النظامية مع دمج عناصر‬
‫جديدة تتكيؼ بشكؿ جيد مع مبدأ التجزئة ونزع الحدود‪ .‬الجيوش النظامية‪ ،‬بدورىا‪ ،‬قد تكيؼ‬
‫بسيولة بعض خصائص آالت الحرب‪ .‬تجمع آلة الحرب عددا وفي ار مف الوظائؼ‪ .‬لدييا مبلمح‬
‫منظمة سياسية وشركة تجارية‪ .‬وتعمؿ مف خبلؿ اإلستيبلء والسمب والنيب بؿ وحتى يمكنيا أف‬
‫تصؾ عممتيا الخاصة‪ .‬ومف أجؿ تمويؿ استخراج وتصدير الموارد الطبيعية الموجودة في‬
‫األراضي التي تسيطر عمييا‪ ،‬تقوـ آالت الحرب بإقامة روابط مباشرة مع الشبكات عبر الوطنية‪.‬‬
‫ظيرت آالت الحرب في أفريقيا خبلؿ الربع األخير مف القرف العشريف في عبلقة مباشرة بتآكؿ‬
‫قدرة دولة ما بعد االستعمار عمى بناء األسس االقتصادية لمسمطة والنظاـ السياسي‪ .‬وتشمؿ ىذه‬
‫القدرة زيادة اإليرادات وقيادة وتنظيـ الوصوؿ إلى الموارد الطبيعية داخؿ إقميـ محدد جيدا‪ .‬وفي‬
‫منتصؼ السبعينات‪ ،‬عندما بدت الدولة عاجزة عف تحقيؽ ىذه االستحقاقات‪ ،‬ظيرت صمة‬
‫واضحة بيف عدـ االستقرار النقدي والتفتت المكاني‪ .‬في الثمانينيات‪ ،‬أصبحت التجربة القاسية‬
‫لفقد الماؿ قيمتو فجأة أكثر شيوعا‪ ،‬مع بمداف مختمفة تمر بدورات تضخـ مالي ( شممت التجارب‬

‫‪69‬‬
‫في القانوف الدولي‪ ،‬تعرؼ "سفف أو مراكب القرصنة " بأنيا "سفف ممموكة ألصحابيا بشكؿ خاص تبحر في ظؿ سمسار الحرب‬
‫تمكف الشخص الذي منحت لو أف تيرتكب جميع أشكاؿ العداء المسموح بو في البحر مف خبلؿ استخدامات الحرب "‪ .‬ووظفت‬
‫المصطمح ىنا ليعني التشكيبلت المسمحة التي تعمؿ بشكؿ مستقؿ عف أي مجتمع منظـ سياسيا‪ ،‬في السعي لتحقيؽ مصالح خاصة‪،‬‬
‫سواء تحت قناع الدولة أـ ال‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Janice Thomson, Mercenaries, Pirates, and Sovereigns (Princeton, N.J.: Princeton University Press,‬‬
‫‪1997).‬‬
‫‪70‬‬
‫‪Gilles Deleuze and Felix Guattari, Capitalisme et schizophrénie (Paris: Editions de minuit,‬‬
‫‪1980), 434–527.‬‬

‫‪22‬‬
‫القاسية اجراءات جريئة مثؿ االستبداؿ المفاجئ لمعممة)‪ .‬خبلؿ العقود األخيرة مف القرف العشريف‪،‬‬
‫أثر التداوؿ النقدي عمى الدولة والمجتمع بطريقتيف مختمفتيف عمى األقؿ‪ .‬أوال‪ ،‬شيدنا تجفيفا عاما‬
‫لمسيولة وتركيزىا التدريجي عمى قنوات معينة‪ ،‬خضع الوصوؿ إلييا لظروؼ شديدة القسوة عمى‬
‫نحو متزايد‪ .‬ونتيجة لذلؾ‪ ،‬انخفض فجأة عدد األفراد الذيف منحوا الوسائؿ المادية لمسيطرة عمى‬
‫التابعيف مف خبلؿ الديوف‪ .‬ومف الناحية التاريخية‪ ،‬كاف سبي وتثبيت التابعيف مف خبلؿ آلية‬
‫الديف دائما جانبا محوريا في إنتاج الناس وتكويف العبلقات السياسية‪ .71‬مثؿ ىذه العبلقات‬
‫حاسمة في تحديد قيمة األشخاص وقياس قيمتيـ وفائدتيـ‪ .‬وعندما ال يتـ إثبات قيمتيـ وفائدتيـ‪،‬‬
‫يمكف التخمص منيـ كعبيد أو رىائف أو عمبلء‪ .‬ثانيا‪ ،‬أدى التحكـ في تدفؽ وحركة األمواؿ إلى‬
‫المناطؽ التي يتـ فييا استخراج موارد محددة إلى تمكيف إنشاء اقتصادات جيبية وغير حسابات‬
‫التفاضؿ والتكامؿ القديمة بيف الناس واألشياء‪ .‬أدى تركيز األنشطة المتصمة باستخراج الموارد‬
‫القيمة حوؿ ىذه الجيوب‪ ،‬في المقابؿ‪ ،‬إلى تحويؿ الجيوب إلى أماكف ذات امتيازات فيما يتعمؽ‬
‫بالحرب والموت‪ .‬فالحرب نفسيا تموليا زيادة مبيعات المنتجات المستخرجة‪ .72‬وىكذا ظيرت‬
‫روابط جديدة بيف صناع الحرب‪ ،‬وآالت الحرب‪ ،‬واستخراج الموارد‪ .73‬وتتورط آالت الحرب بدرجة‬
‫عالية في تكويف االقتصادات المحمية أو اإلقميمية عبر الوطنية‪ .‬ففي معظـ األماكف‪ ،‬يؤدي‬
‫االنييار الرسمي في المؤسسات السياسية تحت ضغط العنؼ إلى تشكيؿ اقتصاديات الميميشيات‪.‬‬
‫تصبح آالت الحرب (في ىذه الحالة ميميشيات أو حركات المتمرديف) بسرعة آليات منظمة لمغاية‬
‫لبلستيبلء عمى‪ /‬وفرض الضرائب عمى األراضي والسكاف الذيف تحتميـ وتستفيد مف مجموعة مف‬
‫الشبكات عبر الوطنية والمغتربيف الذيف يقدموف الدعـ المادي والمالي‪ .‬ويرتبط الشكؿ الجغرافي‬
‫الجديد الستخراج الموارد بظيور شكؿ غير مسبوؽ مف الحاكمية ‪ governmentality‬الذي‬
‫يتكوف مف إدارة الجمع‪ .‬يسير استخراج ونيب الموارد الطبيعية مف قبؿ آالت الحرب جنبا إلى‬
‫جنب مع محاوالت وحشية لشؿ وتثبيت فئات كاممة مف الناس مكانيا أو‪ ،‬مف المفارقات‪ ،‬إطبلؽ‬

‫–‪Joseph C. Miller, Way of Death: Merchant Capitalism and the Angolan Slave Trade, 1730‬‬
‫‪71‬‬

‫‪1830 (Madison: University of Wisconsin Press, 1988), especially chaps. 2 and 4.‬‬
‫‪72‬‬
‫‪See Jakkie Cilliers and Christian Dietrich, eds., Angola’s War Economy: The Role of Oil and‬‬
‫‪Diamonds (Pretoria: Institute for Security Studies, 2000).‬‬
‫‪73‬‬
‫‪See, for example, “Rapport du Groupe d’experts sur l’exploitation illégale des ressources‬‬
‫‪naturelles et autres richesses de la République démocratique du Congo,” United Nations Report No.‬‬
‫‪2/2001/357, submitted by the Secretary-General to the Security Council, 12 April 2001. See also‬‬
‫‪Richard Snyder, “Does Lootable Wealth Breed Disorder? States, Regimes, and the Political Economy‬‬
‫‪of Extraction” (paper).‬‬

‫‪23‬‬
‫العناف ليـ‪ ،‬إلجبارىـ عمى التشتت في مناطؽ واسعة لـ تعد ضمف حدود دولة إقميمية‪.‬‬
‫وباعتبارىـ فئة سياسية‪ ،‬يتـ تصنيؼ السكاف إلى المتمرديف والجنود األطفاؿ والضحايا أو‬
‫البلجئيف‪ ،‬أو المدنييف المقعديف بالبتر أو المذبوحيف عمى غرار نماذج التضحيات‪ ،‬في حيف أف‬
‫"الناجيف"‪ ،‬بعد الخروج المروع‪ ،‬محصوريف في المخيمات ومناطؽ اإلستثناء‪ .74‬يختمؼ ىذا‬
‫الشكؿ مف الحاكمية عف القيادة االستعمارية‪ .75‬فقد استبدلت تقنيات الشرطة واالنضباط واالختيار‬
‫بيف الطاعة والمحاكاة التي ميزت الحكـ في االستعمار وما بعد االستعمار تدريجيا ببديؿ أكثر‬
‫مأساوية ألنو أكثر تطرفا‪ .‬أصبحت تقنيات التدمير ممموسة وتشريحية وحسية بصورة أكبر في‬
‫سياؽ يكوف فيو االختيار بيف الحياة والموت‪.76‬‬
‫ولئف ظمت السمطة تعتمد عمى سيطرة صارمة عمى األجساد (أو عمى تركيزىـ في المخيمات)‪،‬‬
‫فإف التكنولوجيات الجديدة لمتدمير ىي أقؿ اىتماما بإدراج األجساد في الجاىزيات اإلنضباطية‬
‫ألف ادراجيـ‪ ،‬عندما يحيف الوقت‪ ،‬سيكوف داخؿ ترتيب االقتصاد األقصى الذي تمثمو اآلف‬
‫"المذبحة"‪ .‬قد أدى تعميـ انعداـ األمف إلى تعميؽ التمييز االجتماعي بيف اؤلئؾ الذيف يحمموف‬
‫أسمحة وأولئؾ الذيف ال يفعموف (‪ .)loi de repartition des armes‬وبصورة متزايدة‪ ،‬لـ تعد‬
‫الحرب تشف بيف جيوش دولتيف ذاتي سيادة‪ .‬بؿ يتـ شنيا مف قبؿ جماعات مسمحة تعمؿ خمؼ‬
‫قناع الدولة ضد جماعات مسمحة ليس ليا دولة بؿ تسيطر عمى مناطؽ متميزة جدا؛ ويتخذ كبل‬
‫الجانبيف السكاف المدنييف غير المسمحيف أو المنظميف في الميميشيات ىدفا لو‪ .‬وفي الحاالت‬
‫حيف يفشؿ المنشقوف المسمحوف في االستيبلء الكامؿ عمى سمطة الدولة‪ ،‬فإنيـ يحرضوف عمى‬
‫تقسيمات إقميمية وينجحوف في السيطرة عمى مناطؽ بأكمميا يديرونيا عمى غرار اإلقطاعات‪،‬‬
‫وخاصة حيف يكوف ىناؾ احتياطي مف المعادف‪ .77‬لـ تختمؼ طرؽ القتؿ كثيرا‪ .‬في حالة‬
‫المجازر عمى وجو الخصوص‪ ،‬تختزؿ األجساد بعد أف تفارؽ الحياة بسرعة إلى وضع ىياكؿ‬

‫‪74‬‬
‫‪See Loren B. Landau, “The Humanitarian Hangover: Transnationalization of Governmental‬‬
‫–‪Practice in Tanzania’s Refugee-Populated Areas,” Refugee Survey Quarterly 21, no. 1 (2002): 260‬‬
‫‪99, especially 281–87.‬‬
‫‪75‬‬
‫‪On the commandement, see Achille Mbembe, On the Postcolony (Berkeley: University of California‬‬
‫‪Press, 2001), chaps. 1–3.‬‬
‫‪76‬‬
‫‪See Leisel Talley, Paul B. Spiegel, and Mona Girgis, “An Investigation of Increasing Mortality‬‬
‫‪among Congolese Refugees in Lugufu Camp, Tanzania, May-June 1999,” Journal of Refugee‬‬
‫‪Studies 14, no. 4 (2001): 412–27.‬‬
‫‪77‬‬
‫‪See Leisel Talley, Paul B. Spiegel, and Mona Girgis, “An Investigation of Increasing Mortality‬‬
‫‪among Congolese Refugees in Lugufu Camp, Tanzania, May-June 1999,” Journal of Refugee‬‬
‫‪Studies 14, no. 4 (2001): 412–27.‬‬

‫‪24‬‬
‫عظمية بسيطة‪ .‬ومف ثـ فإف المورفولوجيا الخاصة تدرجيا في سجؿ العموميات غير المتمايزة‪:‬‬
‫آثار بسيطة مف ألـ غير مدفوف‪ ،‬أجساد فارغة ببل معنى‪ ،‬رواسب غريبة غارقة في ذىوؿ قاسي‪.‬‬
‫ما يمفت النظر في حالة اإلبادة الجماعية في رواندا ‪ -‬حيث تـ الحفاظ عمى عدد مف اليياكؿ‬
‫العظمية في حالة واضحة مرئية‪ ،‬ىذا إف لـ تكف قد نبشت ‪ -‬ىو التوتر بيف تحجر العظاـ‬
‫وبرودتيا الغريبة مف جية‪ ،‬وجموحيا الذي يريد أف يقوؿ‪ ،‬أف يدلؿ عمى شيء ما‪ ،‬مف جية‬
‫أخرى‪ .‬في ىذه الفتافيت اليائمة مف العظاـ‪،‬ال تظير أي أتراكسيا‪ :‬ال شيء سوى الرفض الوىمي‬
‫لمموت الذي حدث بالفعؿ‪ .‬في حاالت أخرى‪ ،‬حيث يحؿ البتر البدني محؿ الموت الفوري‪ ،‬يفتح‬
‫بتر األطراؼ الطريؽ لنشر تقنيات الشؽ واالجتثاث والختاف التي يكوف ىدفيا العظاـ أيضا‪.‬‬
‫تستمر آثار ىذه الجراحة الترميمية لفترة طويمة‪ ،‬في شكؿ ىيئات بشرية عمى قيد الحياة‪ ،‬ولكف‬
‫كماليا الجسدي قد استبدؿ بقطع‪ ،‬وشظايا‪ ،‬وطيات‪ ،‬وحتى بجروح ىائمة عصية عمى االلتئاـ‪.‬‬
‫وظيفتيا ىي أف يبقى مشيد القطع المروع أماـ عيوف الضحية ‪ -‬والناس مف حوليا ‪ -‬حيا‪.‬‬
‫عن الحركة والمعادن‬
‫فمنعود إلى مثاؿ فمسطيف حيث يتواجو منطقاف ال يمكف التوفيؽ بينيما‪ :‬منطؽ االستشياد ومنطؽ‬
‫البقاء‪ .‬وعند دراسة ىذيف المنطقيف‪ ،‬أود أف أتأمؿ في القضيتيف التوأميف الموت واإلرىاب مف‬
‫جية واإلرىاب والحرية مف جية أخرى‪ .‬في المواجية بيف ىذيف المنطقيف‪ ،‬اإلرىاب ليس في‬
‫جانب والموت في الجانب اآلخر‪ .‬اإلرىاب والموت ىما في صميـ كؿ منيما‪ .‬كما يذكرنا إلياس‬
‫كانيتي‪ ،‬الناجي ىو الذي‪ ،‬بعد أف صمد في طريؽ الموت‪ ،‬وشاىد العديد مف الوفيات‪ ،‬ووقؼ‬
‫وسط الساقطيف‪ ،‬ال يزاؿ عمى قيد الحياة‪ .‬أو بتحديد أكثر‪ ،‬الناجي ىو الذي حارب حزمة كاممة‬
‫مف األعداء وتمكف ليس فقط مف اليروب والبقاء عمى قيد الحياة‪ ،‬بؿ وقتؿ مياجميو أيضا‪ .‬وىذا‬
‫ىو السبب‪ ،‬إلى حد كبير‪ ،‬في أف أدنى شكؿ مف أشكاؿ البقاء عمى قيد الحياة ىو القتؿ‪ .‬يشير‬
‫كانيتي إلى أنو في منطؽ البقاء عمى قيد الحياة‪" ،‬كؿ رجؿ ىو عدو كؿ آخر"‪ .‬بؿ وأكثر جذرية‪،‬‬
‫يتحوؿ جزع المرء الموت إلى ارتياح ألف شخصا آخر ىو الذي مات‪ .‬إنو موت اآلخر‪ ،‬وجوده‬
‫المادي كما الجثة‪ ،‬ىو ما يجعؿ الناجي يشعر أنو فريد ومتميز‪ .‬مع قتؿ كؿ عدو يشعر الناجي‬
‫بأماف أكثر‪ .78‬يسير منطؽ االستشياد بطريقة مختمفة‪ .‬إنو يتجسد بييئة "االنتحاري" الذي يثير‬
‫بحد ذاتو عددا مف األسئمة‪ .‬ما الفرؽ الجوىري ىنا بيف القتؿ بصاروخ مروحية أو دبابة والقتؿ‬
‫بجسده ؟ ىؿ التمييز بيف األسمحة المستخدمة إللحاؽ الموت يمنع إنشاء نظاـ لمتبادؿ العاـ بيف‬
‫طريقة القتؿ وطريقة الموت؟ ال يرتدي" االنتحاري" الزي العسكري العادي وال يعرض سبلحا‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫‪See Elias Canetti, Crowds and Power, trans. C. Stewart (New York: Farrar Straus Giroux,‬‬
‫‪1984), 227–80.‬‬

‫‪25‬‬
‫يطارد المرشح لمشيادة أىدافو‪ .‬والعدو ىو الفريسة التي نصب ليا الفخ‪ .‬ومف األمور اليامة في‬
‫ىذا الصدد موقع الكميف‪ :‬محطة لمحافبلت‪ ،‬المقيى‪ ،‬الديسكو‪ ،‬السوؽ‪ ،‬الحاجز‪ ،‬والطريؽ‪،‬‬
‫وباختصار مساحات الحياة اليومية‪ .‬يضاؼ ايقاع الفريسة في الشرؾ إلى موقع الكميف‪ .‬يحوؿ‬
‫المرشح لمشيادة جسده إلى قناع يخفي السبلح الذي سينفجر عما قريب‪ .‬وخبلفا لمدبابات أو‬
‫الصاروخ الذي ىو واضح لمعياف‪ ،‬فإف السبلح الذي يحمؿ في الجسد غير مرئي‪ .‬وبإخفائو‪ ،‬فإنو‬
‫يشكؿ جزءا مف الجسد‪ .‬جزء مف الجسد بشكؿ وثيؽ لدرجة أنو في وقت التفجير يمغي جسـ‬
‫حاممو‪ ،‬الذي يحمؿ معو أجساد اآلخريف عندما ال يفتتيا إلى أشبلء‪ .‬والجسد ال يمغي السبلح‬
‫ببساطة‪ .‬الجسد يتحوؿ إلى سبلح‪ ،‬وليس بالمعنى المجازي ولكف بالمعنى القذائفي حقيقية‪ .‬في‬
‫ىذه الحالة‪ ،‬يسير موتي جنبا إلى جنب مع موت اآلخر‪ .‬ويتـ القتؿ واالنتحار في الفعؿ نفسو‪.‬‬
‫المقاومة والتدمير الذاتي مترادفتاف إلى حد كبير‪ .‬ولذلؾ‪ ،‬فإف توزيع الموت ىو تقميص أو اختزاؿ‬
‫اآلخر والنفس إلى وضع قطع لحـ خامؿ‪ ،‬متناثرة في كؿ مكاف‪ ،‬يصعب تجميعيا قبؿ الدفف‪ .‬في‬
‫ىذه الحالة‪ ،‬الحرب ىي حرب الجسد عمى الجسد (‪ .)guerre au corps-à-corps‬لمقتؿ‪،‬‬
‫يجب عمى المرء أف يقترب قدر اإلمكاف مف جسـ العدو‪ .‬وتفجير القنبمة يتطمب حؿ مسألة‬
‫المسافة‪ ،‬مف خبلؿ االقتراب واإلخفاء‪ .‬كيؼ لنا أف نفسر ىذه الطريقة مف إسالة الدـ التي ال‬
‫‪79‬‬
‫يكوف فييا الموت مجرد موتي ببساطة‪ ،‬ولكنو دائما يسير جنبا إلى جنب مع موت اآلخر؟‬
‫كيؼ يختمؼ عف الموت الذي يحدث نتيجة صاروخ أو دبابة‪ ،‬في سياؽ تحسب فيو تكمفة بقائي‬
‫عمى قيد الحياة بمصطمحات قدرتي واستعدادي لقتؿ آخر؟ في منطؽ الشيادة تمتحـ ارادة الموت‬
‫مع ارادة أخذ عدو معي ‪ ،‬بمعنى ‪ ،‬مع اغبلؽ الباب عمى امكانية الحياة لمجميع‪ .‬يبدو ىذا‬
‫المنطؽ معارضا لمنطؽ آخر‪ ،‬وىو الرغبة في فرض الموت عمى اآلخريف بينما تحمي حياتؾ‬
‫أنت‪ .‬يصؼ كانتي لحظة البقاء عمى قيد الحياة ىذه كمحظة سمطة‪ .‬في مثؿ ىذه الحالة‪ ،‬يتطور‬
‫اإلنتصار مف امكانية وجودؾ ىناؾ بينما اآلخريف (األعداء في ىذه الحالة) لـ يعودوا ىناؾ‪.‬‬
‫يشبو ىذا المنطؽ منطؽ البطولة كما تفيـ كبلسيكيا‪ :‬أف تقتؿ األخريف فيما تبقى موتؾ بعيدا‪ .‬في‬
‫منطؽ الشيادة‪ ،‬تبزع سيميائية جديدة لمقتؿ‪ .‬ليس بالضرورة اف تستند عمى العبلقة بيف الشكؿ‬
‫والجوىر‪ .‬وكما أشرت سابقا‪ ،‬يصبح الجسد ىو زي الشييد الخاص‪ .‬ولكف الجسد عمى ىذا النحو‬
‫ليس موضوعا لمحماية مف الخطر والموت فحسب‪ ،‬الجسد بحد ذاتو ببل سمطة أو قيمة‪ .‬سمطتو‬
‫وقيمتو ىي نتيجة سيرورة التجريد المستندة عمى الرغبة في الخمود‪ .‬وبيذا المعنى‪ ،‬فإف الشييد‬
‫الذي يؤسس لمحظة تفوؽ تتجاوز فييا الذات موتيا الخاص‪ ،‬يمكف أف يرى بوصفو عامبل تحت‬
‫عبلمة المستقبؿ‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬في الموت‪ ،‬يتياوى المستقبؿ في سبيؿ الحاضر ورغبتو في‬

‫‪79‬‬
‫‪Martin Heidegger, Etre et temps (Paris: Gallimard, 1986), 289–322. 76. Heidegger, Etre et temps.‬‬

‫‪26‬‬
‫الخمود‪ ،‬ويمر الجسد المحاصر بمرحمتيف‪ .‬أوال‪ ،‬يتحوؿ إلى مجرد شيء‪ ،‬مادة طيعة‪ .‬وثانيا‪،‬‬
‫الطريقة التي يذىب بيا الجسد لمموت ‪ -‬االنتحار ‪ -‬تمنحو داللة مطمقة‪ .‬جوىر الجسد ومادتو‪،‬‬
‫أو مرة أخرى المادة التي ىي الجسد‪ ،‬يتـ استثمارىا مف أجؿ خصائص ال يمكف استخبلصيا مف‬
‫طابعيا كشيء‪ ،‬ولكف مف نوموس متجاوز خارجيا‪ .‬يصبح الجسـ المحاصر قطعة مف المعدف‬
‫وظيفتيا‪ ،‬مف خبلؿ التضحية‪ ،‬تحقيؽ وجود الحياة األبدية‪ .‬الجسـ يكرر نفسو‪ ،‬وفي الموت‪،‬‬
‫حرفيا ومجازيا‪ ،‬ييرب مف حالة الحصار واالحتبلؿ‪ .‬دعوني أستكشؼ‪ ،‬في الختاـ‪ ،‬العبلقة بيف‬
‫اإلرىاب والحرية والتضحية‪ .‬يقوؿ مارتف ىايدغر إف اإلنساف " ييروؿ إلى الموت" وىذا ىو شرط‬
‫رئيسي لحرية البشرية الحقيقة‪ .80‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إف االنساف حر في أف يعيش حياتو ألنو حر في‬
‫وجوديا لجري اإلنساف نحو الموت‬
‫ً‬ ‫أف يموت موتو‪ .‬وفي حيف أف ىايدغر يفترض جدال وضعا‬
‫ويعتبره حدثا لمحرية‪ ،‬يرى باتاي أف "التضحية في الواقع تكشؼ ال شيء"‪ .‬إنيا بكؿ بساطة‬
‫المظير المطمؽ لمسمبية‪ .‬بؿ ىي أيضا كوميديا‪ .‬بالنسبة لباتاي يكشؼ الموت‪ ،‬عف الجانب‬
‫الحيواني مف الذات البشرية‪ ،‬والذي يشير إليو عبلوة عمى ذلؾ بوصفو "الوجود الطبيعي" لمذات‪.‬‬
‫"لكي يكشؼ المرء عف نفسو في النياية‪ ،‬فانو يجب أف يموت‪ ،‬ولكنو مضطر أف يفعؿ ذلؾ بينما‬
‫ىو عمى قيد الحياة ‪ -‬مف خبلؿ النظر إلى نفسو منقطعا عف الوجود "‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يجب أف‬
‫تكوف الذات البشرية حية تماما في لحظة الموت ذاتيا‪ ،‬لتكوف عمى بينة مف موتيا‪ ،‬لتعيش مع‬
‫انطباع الموت فعبل وفي الحقيقة‪.‬‬
‫الموت نفسو يجب أف يصبح وعيا بالذات في الوقت نفسو عندما يتخمص مف الوجود الواعي‪.‬‬
‫"بمعنى‪ ،‬ىذا ما يحدث (ما يكوف عمى األقؿ عند نقطة الحدوث‪ ،‬أو ما يحدث بطريقة فادحة‬
‫مارقة ) بالحيمة والخداع في التضحية‪ ،‬في التضحية تتماىى الضحية مع الحيواف عند نقطة‬
‫الموت‪ .‬وىكذا يموت وىو يرى نفسو يموت‪ ،‬وحتى‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬بإرادتو‪ ،‬مرة واحدة بسبلح‬
‫التضحية‪ .‬ولكف ىذه لعبة!"‪ .‬وبالنسبة لباتاي‪ ،‬المعب ىو بصورة أو بأخرى وسيمة "تخدع بيا‬
‫الذات نفسيا طوعا‪." 81‬‬
‫كيؼ يرتبط مفيوـ المعب والخداع ب "االنتحاري"؟ ليس ىناؾ شؾ أنو في حالة االنتحاري تتكوف‬
‫التضحية مف قتؿ النفس بشكؿ ميوؿ ودرامي‪ ،‬مف أف يصبح ضحية نفسو (التضحية بالذات)‪.‬‬
‫يتقدـ المضحي بنفسو لتولي السمطة عمى موتو واالقتراب منو مباشرة‪ .‬وربما أف ىذه السمطة‬
‫مشتقة مف االعتقاد بأف تدمير جسد المرء ال يؤثر عمى استم اررية الوجود‪ .‬والفكرة ىي أف الوجود‬
‫خارجنا‪ .‬التضحية بالنفس تتكوف‪ ،‬ىنا‪ ،‬مف إزالة حظر ثنائي التضعيؼ‪ :‬القرباف الذاتي (االنتحار)‬
‫والقتؿ‪ .‬وعمى عكس التضحيات البدئية‪ ،‬مع ذلؾ‪ ،‬ال يوجد حيواف ليكوف بديبل لؤلضحية‪ .‬الموت‬

‫‪80‬‬
‫‪Heidegger, Etre et temps.‬‬
‫‪Bataille, Oeuvres complètes, 336.‬‬ ‫‪81‬‬

‫‪27‬‬
‫ىنا يحقؽ طابع التجاوز‪ .‬ولكف عمى عكس الصمب‪ ،‬ببل بعد تكفيري‪ .‬ال عبلقة لو بالنماذج‬
‫الييجيمية عف الييبة أو االعتراؼ‪ .‬والواقع أف شخصا ميتا ال يستطيع أف يعترؼ بقاتمو‪ ،‬الذي ىو‬
‫أيضا ميت‪ .‬ىؿ ىذا يعني أف الموت يحدث ىنا بوصفو إبادة نقية وعدما‪ ،‬فائضا وفضيحة؟‬
‫وسواء نظر إلييما مف منظور الرؽ أو اإلحتبلؿ االستعماري‪ ،‬فإف الموت والحرية متشابكاف‬
‫بشكؿ ال رجعة فيو‪ .‬وكما رأينا‪ ،‬اإلرىاب ىو سمة تعريفية لكؿ مف نظاـ الرؽ والنظاـ االستعماري‬
‫في الحداثة المتأخرة‪ .‬كبل النظاميف أيضا لحظتاف وخبرتاف خاصتاف لبل ػ حرية‪ .‬أف تعيش تحت‬
‫االحتبلؿ في الحداثة المتأخرة ىو أف تختبر حالة دائمة مف "الوجود في األلـ"‪ :‬اليياكؿ‬
‫المحصنة‪ ،‬والوحدات العسكرية‪ ،‬وحواجز الطرؽ في كؿ مكاف؛ المباني التي تستدعي الذكريات‬
‫المؤلمة مف اإلذالؿ واالستجواب والضرب؛ حظر التجوؿ الذي يسجف مئات اآلالؼ في منازليـ‬
‫الضيقة كؿ ليمة مف الغسؽ إلى الفجر؛ الجنود الذيف يجوبوف الشوارع المعتمة بدورياتيـ‪ ،‬مرتعبوف‬
‫مف ظبلليـ ؛ األطفاؿ الذيف اصيبو بالعمى مف الرصاص المطاطي؛ اآلباء الذيف يضربوف أماـ‬
‫عائبلتيـ؛ الجنود الذيف يتبولوف عمى األسوار‪ ،‬واطبلؽ النار عمى خزانات المياه عمى األسطح‬
‫فقط لممتعة؛ وىتافات الشعارات الحماسية بصوت عاؿ؛ وطرؽ أبواب القصدير اليشة لتخويؼ‬
‫األطفاؿ؛ ومصادرة األوراؽ الثبوتية‪ ،‬أو إلقاء القمامة في وسط حي سكني؛ حرس الحدودوىـ‬
‫يركموف بسطة خضار أويغمقوف الحدود؛ عظاـ مكسورة؛ واطبلؽ النار والوفيات – جنوف مف نوع‬
‫خاص‪ .82‬في مثؿ ىذه الظروؼ‪ ،‬يتسـ انضباط الحياة وضرورات المشقة (الحكـ بالموت)‬
‫بالفيض‪.‬‬
‫ما يربط اإلرىاب والموت والحرية ىو المفيوـ النشووي لمزمانية والسياسة‪ .‬المستقبؿ‪ ،‬ىنا‪ ،‬يمكف‬
‫أف يكوف متوقعا بشكؿ أصيؿ‪ ،‬ولكف ليس في الحاضر‪ .‬والحاضر نفسو ليس سوى لحظة رؤيةػ‬
‫رؤية لحرية لـ تأت بعد‪ .‬الموت في الوقت الحاضر ىو وسيط الخبلص‪ .‬بعيدا عف كونو لقاء مع‬
‫حد‪ ،‬أوحافة‪ ،‬أو حاجز‪ ،‬يختبر الموت بوصفو "الخبلص اإلرىاب والعبودية"‪ .83‬كما يبلحظ‬
‫جيمروي‪ ،‬ىذا التفضيؿ لمموت عمى استمرار العبودية ىو تعميؽ عمى طبيعة الحرية نفسيا (أو‬
‫فقدىا)‪ .‬واذا كاف ىذا الفقد ىو طبيعة ما يعنيو أف توجد بالنسبة لمعبد أو المستعمر‪ ،‬فإف النقص‬
‫نفسو ىو أيضا عمى وجو التحديد الطريؽ الذي ييتـ بوفاتو‪ .‬وباإلشارة إلى ممارسة االنتحار‬
‫الفردي أو الجماعي مف قبؿ العبيد الذيف حشروا في الزواية عمى يد صائدي العبيد‪ ،‬يقترح‬

‫‪82‬‬
‫‪For what precedes, see Amira Hass, Drinking the Sea at Gaza: Days and Nights in a Land‬‬
‫‪under Siege (New York: Henry Holt, 1996).‬‬

‫‪83‬‬
‫‪Gilroy, Black Atlantic, 63.‬‬

‫‪28‬‬
‫جيمروي أف الموت‪ ،‬في ىذه الحالة‪ ،‬يمكف تمثيمو بوصفو قوة ‪ .agency‬ألف الموت ىو ما أستمد‬
‫منو وعميو السمطة‪ .‬ولكف ىذا ىو أيضا المكاف حيث تعمؿ الحرية والنفي‪.‬‬
‫االستنتاج‬
‫في ىذا المقاؿ‪ ،‬جادلت بأف األشكاؿ المعاصرة إلخضاع الحياة لقوة الموت (سياسات الموت‪-‬‬
‫السياسات النكرووية ) تعيد تشكيؿ العبلقات بيف المقاومة والتضحية واإلرىاب بشكؿ عميؽ‪ .‬لقد‬
‫أثبتت أف فكرة السمطة الحياتية غير كافية لمراعاة األشكاؿ المعاصرة إلخضاع الحياة لقوة‬
‫الموت‪ .‬وعبلوة عمى ذلؾ فقد طرحت فكرة "سياسات الموت" و"سمطة الموت " لمراعاة الطرؽ‬
‫المختمفة التي يتـ بيا‪ ،‬في عالمنا المعاصر‪ ،‬نشر األسمحة لصالح أقصى قدر مف الدمار‬
‫لؤلشخاص وخمؽ عوالـ الموت‪ ،‬وأشكاؿ جديدة وفريدة مف نوعيا مف الوجود االجتماعي‪ ،‬يتعرض‬
‫فييا عدد ميوؿ مف السكاف لظروؼ الحياة التي تمنح ليـ وضع الحي الميت‪ .‬وقد أوجز المقاؿ‬
‫أيضا بعض الطوبوغرافيات المقموعة مف القسوة (المزرعة والمستعمرة عمى وجو الخصوص)‪،‬‬
‫واقترحت أف الخطوط بيف المقاومة واالنتحار والتضحية والفداء والشيادة والحرية‪ ،‬تحت ظروؼ‬
‫سمطة الموت‪ ،‬غير واضحة البتة‪.‬‬
‫****‬

‫أشيؿ مبيمبي باحث رئيس في معيد أبحاث الشؤوف االجتماعية واالقتصادية في جامعة‬
‫ويتواترسراند‪ .‬وتشمؿ منشوراتو األخيرة (في ما بعد االستعمار‪ )2001 ،‬و (الصيغ االفريقية‬
‫لمكتابة الذاتية) في دورية الثقافة العامة (شتاء‪.)2002،‬‬

‫أماني أبو رحمة‪ :‬باحثة ومترجمة تعيش في غزة‪ .‬متخصصة أكاديميا بالتكنولوجيا الحيوية‬
‫وتطبيقاتيا البيئية والطبية‪ ،‬وميتمة بنظرية ما بعد الحداثة‪ .‬أحدث كتبيا (أبعد مف فوكو‪:‬‬
‫السياسات الحياتية في عصر الجينوـ‪.)2017 ،‬‬

‫‪29‬‬

You might also like