أسلوب الحوار في سورة الكهف ^L براء وفي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 10

‫جامعة كربالء‬

‫كلية الطب‬

‫اللغة العربية‬

‫"اسلوب الحوار في سورة الكهف "‬

‫إعداد‪//‬بــراء وفي عبد‬

‫‪1‬‬
‫يم))‬ ‫الرحْ َٰم ِن ه‬
‫الر ِح ِ‬ ‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫( ِب ْ‬ ‫(‬
‫{وجا ِد ْل ُه ْم بِالهتِي ِهي أحْ سنُ }‬
‫صدق هللا العلي العظيم‬
‫الحـوار في سورة الكهف‪:‬‬
‫ثمة ظاهرة تسترعي االنتباه في سورة ( الكهف) أال وهي وفرة الحوار ‪ ،‬والحوار حديث‬
‫يدور بين اثنين في األقل ‪ ،‬أو هو كالم يقع بين األديب ونفسه أو من ينزله مقام نفسه (‪، )1‬‬
‫وهو من عناصر القصة أو المسرحية بشكل خاص ‪.‬‬
‫يشغل الحوار في هذه السورة ثالثة أرباعها تقريبا ً ‪ ،‬فآياتها التي تعد مئة وعشر آيات ‪ ،‬منها‬
‫ثالث وثمانون آية في األقل حوارية ‪ .‬والحوار فيها ال يختص بالقصص األربع التي تقوم‬
‫عليها ‪ ،‬بل يشمل الخط الواصل بين هذه القصص جميعا ً ‪ ،‬وهو مخاطبات هللا تعالى لرسوله‬
‫محمد(ص) ‪ ،‬وهو الخط األول الذي جاءت القصص ( ضرب أمثال) لتعززه وتكمله في بناء‬
‫السورة الكلي ‪ .‬واثنتان من هذه القصص‪ -‬وهما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى‬
‫والرجل الصالح – يغلب عليهما الحوار حتى كادتا تتحوالن إلى حواريتين ‪ .‬في هذا الحوار‬
‫تنوعت األطراف المتخاطبة ‪ ،‬ولم يقتصر الحوار على المخاطبات البشرية ‪ ،‬فهناك خطاب من‬
‫هللا تعالى لرسوله محمد (ص) ‪ ،‬وآخر من هللا تعالى إلى المالئكة ‪ ،‬ومن هللا تعالى للعباد ‪،‬‬
‫ومن العباد إلى هللا تعالى ‪ ،‬ومن العباد للعباد ‪ ،‬وأخيرا ً خطاب النفس أو النجوى ‪.‬‬
‫وتنوع آخر في أزمنة الخطاب ‪ ،‬ففي الزمن الماضي ‪ ،‬وفي عالم الغيب ‪ ( :‬وإذ قلنا للمالئكة‬
‫اسجدوا آلدم ) ( اآلية ‪ ، )50‬وفي المستقبل المغيب أيضا ً ‪ ،‬يوم القيامة ( ويوم يقول ‪ :‬نادوا‬
‫شركائي ) ( اآلية ‪ ، )52‬وأما الزمن الحاضر بالنسبة إلى المتخاطبين فكثير ‪.‬العادة أن يبدأ‬
‫كل حوار بفعل ( قال) أو أحد مشتقاته ‪ ،‬ومع ذلك وردت عبارات حوارية مستغنية عن فعل (‬
‫قال) و عن أي إشارة صريحة للقول ‪ ،‬بمعنى أنها جاءت بشكل مباشر ‪ ،‬كما يفعل الحوار في‬
‫المسرحية أو في بعض القصص ‪ ،‬وهو يكثر في مخاطبات هللا تعالى لرسوله الكريم ‪ ،‬مثل (‬
‫فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ً ) ( اآلية‪ ) 6‬وقوله ‪ ( :‬وترى‬
‫الشمس إذا طلعت ت زاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في‬
‫فجوة منه ‪( )..‬اآلية ‪ . ) 17‬ومن البدايات المفاجئة ‪ :‬مخاطبا ً الفتية أهل الكهف ‪ ( :‬فأووا إلى‬

‫‪2‬‬
‫الكهف ينشر لكم ر ُّبكم من رحمته ‪ ،‬ويهيىء لكم من أمركم مرفقا ً ) ( اآلية ‪ )16‬أو مخاطبا ً‬
‫عدو ‪.‬‬
‫الظالمين الموالين للشيطان من البشر ‪ ( :‬أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم ّ‬
‫بئس للظالمين بدالً ) ( اآلية ‪ ، )50‬وقد وردت هذه البدايات في سبعة مواضع ‪ ،‬يضاف إليها‬
‫صيغة شبيهة بالقول مرتين ‪ ،‬وهما ‪ ( :‬واضرب لهم مثالً ) ( اآلية ‪ (, )32‬واضرب لهم مثل‬
‫الحياة الدنيا) ( ‪. )45‬‬
‫أنواع الحوار‪:‬‬
‫يمكن أن نميز نوعين من الحوار ‪ .‬األول‪ :‬الحوار السردي ( القص) ‪ ،‬ووظيفته اإلخبار ‪،‬‬
‫ونجده في الخط األول من بناء السورة ‪ ،‬فيه يخاطب هللا تعالى رسوله محمدا ً (ص) بألوان‬
‫من الخطاب مثل خطابات التلقين والتفهيم أو التأييد مثالً ‪ ،‬ومثل التمهيد للقصص أو التعليق‬
‫ي أنما إلهكم إلهٌ‬ ‫عليها ‪ .‬فمن خطابات التلقين قوله تعالى ‪ ( :‬قل ‪ :‬إنما أنا بش ٌر مثلُكم يُوحى إل ه‬
‫شرك بعباد ِة ر ِبّ ِه أحدا ً ) ( اآلية‬
‫واحد ‪ ،‬فمن كان يرجو لقاء ر ِبّ ِه فليعم ْل عمالً صالحا ً ‪ ،‬وال يُ ْ‬
‫الكهف‬
‫ِ‬ ‫‪ . )110‬وفي التمهيد لقصة أهل الكهف ‪ ،‬قوله تعالى ‪ ( :‬أم حسبت أن أصحاب‬
‫قيم كانوا من آياتنا عجباً) ( اآلية ‪ ، )9‬وفي التعليق عليها ‪ ،‬قوله تعالى ‪ ( :‬ولبثوا في‬ ‫والر ِ‬
‫ه‬
‫واألرض‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫غيب السموا ِ‬ ‫ُ‬ ‫كهفهم ثالث مئ ِة سنين وازدادوا تسعا ً ‪ .‬قل ‪ :‬هللا أعل ُم بما لبثوا له‬
‫وأسم ْع ‪ .‬ما لهم من دونه من ولي ٍ وال يُشركُ في حكم ِه أحدا ً ) (اآليتان‪25‬و‪. )26‬‬ ‫ِ‬ ‫أبصر به‬
‫ْ‬
‫أما النوع الثاني من الحوار ‪ ،‬فهو الحوار الجدلي (الدرامي ) ‪ ،‬وهو حوار يبرز فيه الصراع‬
‫بين المتحاورين باإلضافة إلى الوظائف األخرى مثل تصوير الشخصيات أو تنمية الحدث أو‬
‫القص ‪ ،‬ونجد نماذجه في القصص األربع ال سيما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى‬
‫والرجل الصالح ‪.‬‬
‫ووظيفة الحوار العامة بث الحيوية في النص ‪ ،‬واستحضار الشخوص أمام السمع والبصر ‪.‬‬
‫وليس أفضل في معرفة الشخصيات ودخائل نفوسهم ووجهات نظرهم المختلفة مثل سماعهم‬
‫يتكلمون بأنفسهم ‪ ،‬أو يحاجج بعضهم بعضا ً ‪.‬‬
‫خطاب هللا (عزوجل) للمالئكة ‪:‬‬
‫لم يرد إال في بعض آية ‪ ،‬قوله تعالى ‪( :‬وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم ) ( اآلية‪ . )50‬ومن‬
‫المعلوم أن الحوار مطلوب فيه الدقة واإليجاز ‪ ،‬كما أن من مزايا القصة في القرآن أن يساق‬
‫القدر الموفي بالغرض منها ‪ ،‬ولو كان لمحة عابرة ‪ ،‬كما ورد في هذه العبارة الحوارية‬
‫الدالة على قصة عصيان إبليس حين طلب منه السجود ألبينا (آدم ) عليه السالم ‪ .‬والدور‬
‫الفني لهذه العبارة الحوارية تمهيدها للخطاب الموجه من هللا للذين يوالون الشيطان في اآلية‬
‫وذريته أولياء‬
‫نفسها ‪ ( :‬فسجدوا إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ‪ .‬أفتتخذونه ّ‬

‫‪3‬‬
‫عدو ‪ .‬بئس للظالمين بدالً ) ‪ .‬وهكذا تتناسق مع الموضوع العام للسورة‬
‫من دوني وهم لكم ّ‬
‫الذي هو عقيدة التوحيد أي الوالء هلل وحده والبراء مما سواه كالشيطان ‪ ،‬وتصحيح العقيدة‬
‫وتصحيح منهج النظر والفكر على ضوء العقيدة وسوف نلحظ كل الخطابات الموجهة من هللا‬
‫تعالى لخلقه من مالئكة أو رسول أو بشر ‪ ،‬تنحو منحى خطاب فرد يتكلم ‪ ،‬وهو هللا تعالى ‪،‬‬
‫والطرف الثاني يسمع أو ال يجيب ‪ ،‬وفي ذلك إيحاء بالهيبة والجالل بشكل عام ‪ .‬وحتى‬
‫خطاب البشر إلى هللا تعالى ‪ ،‬كالدعاء ‪ ،‬كما سوف نرى ‪ ،‬يقتصر على كالم طرف واحد أيضا ً‬
‫‪ ،‬لكنه طرف البشر ‪ ،‬وهو يعكس ما في نفوس المتكلمين من خشوع وإجالل هلل عز وجل ‪.‬‬
‫خطاب هللا(عزوجل) للعباد ‪:‬‬
‫ورد في خمسة مواضع ضمن آيات خمس ‪ ،‬أحدها مخاطبة الموالين للشيطان ‪ ( :‬أفتتخذونه‬
‫وذريته أولياء ) ‪ ،‬ثانيها في آية أخرى مواجهتهم بتح ٍ ّد ال قبل لهم به قائالً ‪ ( :‬ويوم يقول ‪:‬‬
‫نادوا شركائي الذين زعمتم ‪ .‬فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ً ) ( اآلية ‪. )52‬‬
‫وقد سبقت اإلشارة إلى دور هذين الموضعين في القص والتناسق مع الموضوع العام ‪،‬‬
‫ثالثها توجيه فتية الكهف المؤمنين إلى المالذ اآلمن ‪ ( :‬فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من‬
‫رحمته ‪ ،‬ويهيىء لكم من أمركم مرفقا ً ) ( اآلية ‪ ، )16‬ووظيفته سرد واقعة من جهة ‪،‬‬
‫وبيان مقدار حب هللا وحمايته لهم ‪ ،‬وتوفير األمن والسالمة لهم ‪ ،‬جزاء على صدق والئهم‬
‫من جهة ثانية رابعها مخاطبة منكري البعث بعد الموت وقد قامت القيامة فعالً‪ ،‬وسيرت‬
‫الجبال ‪ ،‬وحشروا صفا ً لم يُستثن منهم أحد ‪ ( :‬لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ‪ ،‬بل زعمتم‬
‫أن لن نجعل لكم موعدا ً ) ( اآلية ‪ ، )48‬ووروده مفاجئا ً يزيد من التخويف والوعيد ‪.‬‬
‫خامسها خطاب ذي القرنين ‪ ( :‬قلنا يا ذا القرنين ‪ .‬إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم ُحسنا ً ) (‬
‫اآلية ‪ ، )86‬ووظيفته تسمية الرجل أو الشخصية الرئيسة في قصته ‪ ،‬والتعريف بجوانبها ‪،‬‬
‫كالقوة التي حباه هللا إياها ‪ ،‬والشروع باألحداث التي سوف يقوم بها ‪ ،‬مستخدما ً فيها هذه‬
‫القوة العادلة الراشدة ‪ ،‬مما يكمل القصة المرتبطة بموضوع السورة العام ارتباط ( المثل) بما‬
‫يضرب له عادة ‪ .‬وهو هنا صحة عقيدة ذي القرنين ‪ ،‬ووالؤه الكامل لمواله ‪ ،‬كصحة عقيدة‬
‫الفتية المضطهدين ‪ .‬وهنا تقابل يحقق التناسق بين قصتين من سورة واحدة ‪ ،‬فالفتية أهل‬
‫الكهف من الرعية المظلومة ‪ ،‬على حين جاء ذو القرنين حاكما ً عادالً ‪ ،‬ال يظلم أحدا ً ‪ .‬أما‬
‫حين يجتمع الظالم والمظلوم على صعيد واحد ‪ ،‬مثل صاحب الجنتين والرجل المؤمن ‪ ،‬أو‬
‫حين يلتقي التلميذ والمعلم ‪ ،‬كالنبي موسى والرجل الصالح ‪ ،‬فالحوار يحتاج إلى اشتباك‬
‫جدالي ‪ ،‬وتبادل مباشر في الخطاب والمحاجة ‪ ،‬كما سوف نرى خطاب من العباد إلى هللا ‪،‬‬
‫الدعاء ‪:‬‬
‫ورد في موضع واحد وفي آية واحدة ‪ ،‬قوله تعالى على لسان فتية الكهف المؤمنين ‪ ( :‬ر هبنا‬
‫أمرنا رشدا ً ) ( اآلية ‪ . )10‬الخشوع في الخطاب واضح ‪،‬‬ ‫آ ِتنا من لدُنك رحمةً وه ّيىء لنا من ِ‬

‫‪4‬‬
‫والتماس العون والسداد من هللا تعالى وحده ‪ ،‬واضح أيضا ً ‪ .‬وهذا يتناسق مع موضوع‬
‫السورة العام وهو ‪ :‬عقيدة التوحيد وتصحيحها ‪ ،‬وإذا سألت فاسأ ِل هللا ‪ ،‬وإذا استعنت‬
‫ْ‬
‫فاستعن باهلل ‪.‬‬
‫خطاب هللا(عزوجل) للرسول محمد(ص) ‪:‬‬
‫وهو خطاب حافل ورد في عشرة مواضع ضمن ثالث وثالثين آية ‪ ،‬وهذا يتسق مع بناء‬
‫السورة الذي قام على خطين ‪ ،‬أولهما ‪ :‬مخاطبة الرسول (ص) وصحبه الكرام في العهد‬
‫المكي للتثبيت والتلقين والتفهيم والمواساة وغير ذلك مما سوف نبينه ‪.‬‬
‫ويمكن أن نميز في هذا الخطاب نوعين أو مستويين من الخطاب ‪ ،‬أحدهما يقصد به الرسول‬
‫(ص) شخصيا ً ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ ( :‬وات ُل ما أوحي إليك من كتاب ربك ال مبدل لكلماته ولن تجد‬
‫ي ِ يريدون وجهه ‪ ،‬وال‬ ‫من دونه ملتحدا ً واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعش ّ‬
‫ذكرنا ‪ ،‬واتهبع هواهُ ‪،‬‬
‫ُطع من أغفلنا قلبه عن ِ‬ ‫تع ُد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ‪ ،‬وال ت ْ‬
‫وكان أمرهُ فُ ُرطا ً ‪( ).‬اآليتان ‪27‬و‪ )28‬وغرضه التعليم والتفهيم والصبر مع المؤمنين في‬
‫إخالص الوجه هلل عز وج ّل ‪ .‬وجاء قسم وافر منه في تلقين هللا تعالى رسوله المواقف‬
‫والحجج والبراهين في مواجهة المشركين ‪ ،‬مثل اآليات السبع التي اختتمت بها السورة‬
‫مبدوءة بلفظ ( قل ) ثالث مرات ‪ ( :‬قل هل ننبئكم باألخسرين أعماالً ‪ ( )...‬اآليات ‪-103‬‬
‫‪( ) 108‬قل لو كان البحر مدادا ً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا‬
‫ي أنما إلهكم إله واحد ‪ ،‬فمن كان يرجو لقاء‬ ‫بمثله مددا ً ‪ .‬قل ‪ :‬إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إل ه‬
‫شرك بعبادة ربه أحدا ً ) ( اآليتان ‪109‬و‪. )110‬‬
‫ربه فليعم ْل عمالً صالحا ً وال يُ ْ‬
‫المستوى الثاني يُخاطب به الرسول أيضا ً لكنه معدول عنه إلى غيره لغرض بالغي ‪ ،‬مثل‬
‫قوله تعالى ( وترى الشمس إذا طلعت تزاو ُر عن كه ِفهم ذات اليمين وإذا غربتْ تقرضهم ذات‬
‫الشمال ‪ ..‬وتحسبهم أيقاظا ً وهم رقود ‪ ،‬ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ‪ ....‬لو اطلعت‬
‫عليهم لولّيت منهم فرارا ً ولملئت منهم ُرعباً) ( اآليتان ‪17‬و‪ ، ) 18‬فالرسول لم يكن في زمن‬
‫الفتية حتى يرى الشمس حين تطلع عليهم أو تغرب ‪ ،‬أو لم يطلع عليهم ليخاف ‪ ،‬وال‬
‫المقصود به الرسول وحده في الرؤية أو االطالع ‪ ،‬بل الناس كافة ‪ ،‬من خالل مخاطبة جنس‬
‫البشر في شخص الرسول(ص) ‪ .‬وهذا المستوى غرضه السرد أو القص بشكل واضح ‪ ،‬وقد‬
‫غلب على آيات الخط األول ‪ ،‬مما عمل على استكمال جوانب القصص واألحداث المروية‬
‫تمهيدا ً وتعقيبا ً وعرضا ً ‪ ،‬وأسهم في تحديد األزمنة واألمكنة باإلضافة ‪ ،‬إلى وصف‬
‫الشخصيات وصفا ً تحليليا ً أيضا ً على أن في هذا القسم من الخطاب مظهرا ً من مظاهر‬
‫اإلعجاز البياني في القرآن الكريم ‪ ،‬ألنه ليس من مألوف البشر أو األدب العربي أن يخاطب‬
‫المتكلم نفسه ذاتا ً أخرى مباينة كل المباينة ‪ ،‬وهذا خطاب يختلف عن النجوى المعروفة ‪ ،‬فـ(‬

‫‪5‬‬
‫من الواجب أن نذكر – أوالً – مدى التباعد الرئيسي البيّن في الحوار بين الذات المتكلمة‬
‫اآلمرة الحازمة ‪ ،‬والذات المضطربة المجفلة ) (‪ ، )2‬كما يقول مالك بن نبي تعليقا ً على‬
‫صيغة ( اقرأ) التي نزلت في أول آية قرآنية أوحيت على الرسول ‪ ،‬ويضيف الرجل قوله ‪( :‬‬
‫وسنجد فيما بعد ‪ ،‬وإلى النهاية ‪ ،‬أن الذات المحمدية لن تتحدث مع الذات المتكلمة حين‬
‫تخاطبها ‪ ،‬وهذا الصمت – في ذاته – جدير بالمالحظة ‪ ،‬ألنه يسجل إدراك الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم النهائي أمام الظاهرة ‪ ،‬التي سيقف منها منذ ذلك الحين موقف التسليم ) ( ‪. )3‬‬
‫خطاب العباد بعضهم بعضا ‪:‬‬
‫ورد في خمسة مواضع ‪ ,‬وشغل مساحة أربع وثالثين آية ‪ ،‬وهو حوار في أكثره جدلي ‪،‬‬
‫تبرز فيه الخالفات والمحاجة واالنفعاالت العاطفية ‪ ،‬وتتباين المواقف حتى تبلغ القمة ‪ ،‬ثم‬
‫تهدأ وتستقر أخيرا ً ‪ .‬فمما يظهر القلق النفسي والخوف من بطش الطغيان قول الفتية أهل‬
‫فلينظر أيها أزكى طعاما ً ‪ ،‬فليأتكم‬
‫ْ‬ ‫الكهف لبعضهم ‪ ( :‬فابعثوا أحدكم بِو ِرقِكم هذه إلى المدينة ‪،‬‬
‫ف ‪ ،‬وال ُيش ِعرنه بكم أحدا ً ‪ .‬إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو ُيعيدوكم‬ ‫برزق منه ‪ ،‬وليتل ه‬
‫ط ْ‬
‫في ملتهم ‪ ،‬ولن ت ُفلحوا إذن أبدا ً ) ( اآليتان ‪19‬و‪. )20‬‬
‫ومما يرسم الشخصيات حتى يحولها إلى نماذج بشرية من نوعها ‪ ،‬ذلك الحوار الذي دار بين‬
‫وأعز نفرا ً‬
‫ُّ‬ ‫الغني المتغطرس والفقير المؤمن ‪ ( :‬فقال لصاحبه ‪ ،‬وهو يحاوره ‪ :‬أنا أكثر ماالً‬
‫‪ .‬ودخل جنته وهو ظالم لنفسه ‪ .‬قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ً ‪ ،‬وما أظن الساعة قائمة ‪،‬‬
‫ولئن ُرددتُ إلى ربي ألجدنه خيرا ً منها منقلبا ‪ .‬قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي‬
‫سواك رجالً لكنها هو هللا ربي ‪ ،‬وال أُشركُ بربي أحدا ً ‪ .‬ولوال‬ ‫ب ثم من نطفة ثم ّ‬ ‫خلقك من ترا ِ‬
‫إذ دخلت جنتك قلت ما شاء َُّللا ‪ ،‬ال قوة إال باهلل ‪ .‬إن تر ِن أنا أق هل منك ماالً وولدا ً ‪ ،‬فعسى‬
‫سل عليها ُحسبانا ً من السماءِ ‪ ،‬فت ُصبح صعيدا ً زلقا ‪ ،‬أو‬ ‫ربي أن يُؤتيني خيرا ً من جنتك ‪ ،‬ويُر ِ‬
‫يُصبِح ماؤها غورا ً ‪ ،‬فلن تستطيع لهُ طلبا ) ( اآليات ‪. ) 41 -34‬‬
‫ومما يُلحظ فيه الصراع الصاعد إلى درجة التأزم والقمة ثم الحل باإلضافة إلى تصوير‬
‫الشخصيات تصويرا ً حيا ً ‪ ،‬ذلك الحوار الذي دار بين النبي موسى والرجل الصالح ‪ ( :‬قال له‬
‫موسى ‪ :‬هل أتبعُك على أن ت ُعلمني مما عُ ِلّمت ُرشدا‪ .‬قال ‪ :‬إنك لن تستطيع معي صبرا ‪،‬‬
‫وكيف تصبر على ما لم ت ُحط به ُخبْرا ‪ .‬قال ‪ :‬ستجدني إن شاء هللا صابرا ً وال أعصي لك أمرا ً‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬فإن اتبعتني فال تسألني عن شيء حتى أُحدِث لك منه ذِكرا ‪ .‬فانطلقا حتى إذا ركبا في‬
‫السفينة خرقها ‪ .‬قال ‪ :‬أخرقتها لت ُغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ً ‪ .‬قال ‪ :‬ألم أقل إنك لن‬
‫تستطيع معي صبرا ً ‪ .‬قال ‪ :‬ال تؤاخذني بما نسيتُ وال ت ُرهقني من أمري عُسرا ً ‪ .‬فانطلقا حتى‬
‫إذا لقيا غالما ً فقتله ‪ .‬قال ‪ :‬أقتلت نفسا ً زكية بغير نفس لقد جئت شيئا ً نُ ً‬
‫كرا ‪ .‬قال ‪ :‬ألم أقل لك‬
‫إنك لن تستطيع معي صبرا ً ‪ ،‬قال ‪ :‬إن سألت ُك عن شيءِ بعدها فال ت ُصاحبني قد بلغت من‬

‫‪6‬‬
‫ل ُدنّي عُذرا ً ‪ .‬فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يُض ِيّفوهما فوجدا فيها‬
‫جدارا ً يريد أن ينقضه فأقامه ‪ ،‬قال‪ :‬لو شئت ال تخذت عليه أجرا ً ‪ .‬قال ‪ :‬هذا فرا ُ‬
‫ق بيني‬
‫وبينِك سأُنبئ ُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ً ‪ .‬أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في‬
‫البحر ‪ ،‬فأردتُ أن أعيبها ‪ ،‬وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة غصبا ً ‪ .‬وأما الغالم فكان أبواه‬
‫مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرا ً ‪ .‬فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرا ً منه زكاة وأقرب‬
‫ُرحْ ما ‪ .‬وأ ّما الجدار فكان لغالمين يتيمين في المدينة وكان تحته كن ٌز لهما وكان أبوهما‬
‫صالحا ً ‪ ،‬فأراد ربُّك أن يبلغا أشُدههما ‪ ،‬ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك وما فعلت ُه عن أمري‬
‫تسطع عليه صبرا ً ) ( اآليات ‪. )82-66‬‬ ‫ْ‬ ‫‪ .‬ذلك تأويل ما لم‬
‫في كل من المشهدين الحواريين السابقين كانت تطرح قضية فكرية مختلف عليها ‪ ،‬ويظهر‬
‫فيها طرفان ‪ ،‬ثم تدور معركة حجاج تنتهي بنتيجة انتصار موقف أحدهما على اآلخر ‪ .‬ففي‬
‫المشهد األول كان الغني البطر طرفا ً أوالً معتدا ً بماله وولده وبزعم الغلبة له في الدنيا وحتى‬
‫اآلخرة على الطرف اآلخر ‪ ،‬وهو الفقير المؤمن المعتمد على هللا حق االعتماد ‪ ،‬ولما أُحيط‬
‫بجنتي الرجل وبالثمر ‪ ..‬خسر المعركة ‪ ،‬فأعلن ندمه قائالً ‪ ( :‬يا ليتني لم أُشرك بربي أحدا ً )‬
‫بعد فوات األوان ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون هللا وما كان منتصرا ً ‪ .‬هنالك الوالية هلل‬
‫الحق ‪ ،‬هو خير ثوابا ً وخير عُقبا ً ) (اآليتان‪43‬و‪ .)44‬وفي حوارية النبي موسى الطرف‬
‫األول ‪ ،‬والرجل الصالح الطرف الثاني ‪ ،‬كانت القضية المطروحة محدودية علم البشر أمام‬
‫علم هللا تعالى أو الغيب الذي عُ ِلّمه الرجل الصالح ‪ ،‬فالعلم البشري المحدود بظاهر األمور لم‬
‫يستسغ ( خرق سفينة المساكين ‪ ،‬وال قتل الغالم بال ذنب ‪ ،‬وال بناء جدار بال مقابل في قرية‬
‫بخيلة ) فكانت النتيجة أن أوضح الرجل الصالح ما خفي من سر هذه الوقائع لموسى واحدة‬
‫واحدة ‪ ،‬تحقيقا لحكمة هللا وعدله وسعة علمه ‪ .‬وهكذا تصب كل من القضيتين المطروحتين‬
‫في الموضوع العام للسورة ‪ :‬عقيدة التوحيد وتصحيح الفكر والنظر على ضوء هذه العقيدة ‪.‬‬
‫أما الحوار المتعلق بفتية الكهف ‪ ،‬فله ثالثة مشاهد ‪ ،‬أولها الخالف مع قومهم حول التوحيد‬
‫‪ ( :‬لن ندعو من دونه إلها ً لقد قُلنا إذن شططا ً ‪ .‬هؤالء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لوال‬
‫يأتون عليه بسلطان بيّن ‪ ،‬فمن أظلم ممن افترى على هللا كذبا ً ) ( اآليتان ‪14‬و‪، ) 15‬‬
‫والمشهد الثاني خالف بين الفتية أنفسهم حول المدة التي قضوها نائمين ‪ ،‬فاتفقوا على أن‬
‫العلم اليقيني بذلك هلل تعالى وحده ‪ ( :‬قالوا ‪ :‬ربكم أعل ُم بما لبثتم ) (اآلية ‪ ، )22‬والمشهد‬
‫الثالث خالف قومهم بعد مئة سنة ويزيد حول وضعهم وعددهم ‪ ( :‬إذ يتنازعون بينهم أمرهم‬
‫‪ ،‬فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ً ربُّهم أعل ُم بهم ‪ ....‬سيقولون ثالثة رابعهم كلبهم ‪ ،‬ويقولون‬
‫خمسة سادسهم كلبهم رجما ً بالغيب ‪ ( )..‬اآلية ‪ ، )22‬ومرة أخرى ير ّد العلم الحقيقي إلى هللا‬
‫‪...‬أبص ْر به‬
‫ِ‬ ‫هللا أعل ُم بما لبثوا‬ ‫ّ‬
‫عز وجل ‪ ( :‬قل ربي أعل ُم بِعدتِهم ‪( )..‬اآلية ‪ ( )22‬قل ُ‬
‫وأسم ْع‪ ( )..‬اآلية ‪ . ) 26‬انسجاما ً مع الموضوع العام للسورة أيضا ً ‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪7‬‬
‫أما حوار ذي القرنين مع رعيته فال نكاد نحس فيه خالفا ً ‪ ( :‬قالوا ‪ :‬يا ذا القرنين إن يأجوج‬
‫ومأجوج مفسدون في األرض ‪ ،‬فهل نجع ُل لك خ ْرجا ً على أن تجعل بيننا وبينهم س ّدا ً ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ما مكنّي فيه ربي خي ٌر ‪ ،‬فأعينوني بقوة أجع ْل بينكم وبينهم ردما ً ) ( اآليتان ‪94‬و‪ ، ) 95‬بل‬
‫نشهد رحالت ذي القرنين شرقا ٌ وغربا ً وحتى بين السدين منتصرا ً ‪ ،‬وال تطغيه القوة وال‬
‫االنتصارات ‪ ،‬إذ ُيرجع كل ذلك إلى فضل هللا عليه ‪ ،‬وإلى أن القوة الحقيقية هي قوة هللا وحده‬
‫‪ ،‬ال سيما بعد إنجازه بناء الردم وصبه الحديد المصهور ‪ ،‬وعجز قوم يأجوج ومأجوج عن‬
‫أن يظهروه أو ينقبوه فـ‪ ( :‬قال ‪ :‬هذا رحمة من ربي ‪ ،‬فإذا جاء وع ُد ربي جعله دكهاء وكان‬
‫وع ُد ربي حقا ً ) ( اآلية ‪ ، )98‬وهذا انصباب آخر في موضوع السورة العام ‪.‬‬
‫حوار العباد كان منوعا ً بين الرعية والرعاة ‪ ،‬بين الظالم والمظلوم ‪ ،‬بين العالم والمتعلم ‪،‬‬
‫بين العامة أنفسهم ‪ .‬وكان كله يتجه بانسجام إلى موضوع السورة العام ‪ .‬وهذا لون من‬
‫ألوان الربط الفني واإلحكام ‪.‬‬
‫خطاب النفس ‪ ،‬النجوى ‪:‬‬
‫ليس أصدق من كالم النفس في التعبير عن مكنوناتها ودخائلها ‪ ،‬وليس أقوى منه في التأثير‬
‫على السامع أو المتلقي أيضا ً ‪ ،‬ألنه حديث صريح ‪ ،‬يكشف المخبوء بال حرج أو مواربة ‪.‬‬
‫وهذا المخبوء قد يكون بسبب الخوف أو الحياء أو مالبسات أخرى تحول دون التصريح به ‪.‬‬
‫ولما كانت النفس اإلنسانية وبذلك يضاف إلى مزايا الصراحة مزايا الكشف عن مجهول ‪.‬‬
‫هدفا ً أساسا ً في الخطاب القرآني للهداية والتزكية ‪ ،‬كان هذا اللون من الخطاب ذا أهمية‬
‫مضاعفة في سورة الكهف ‪ ،‬النسجامه مع هدف السورة العام من جهة ‪ ،‬وتناسقه مع هدف‬
‫القرآن العام من جهة ثانية ‪.‬‬
‫ويكتسب هذا اللون من الخطاب جانبا ً آخر من األهمية وروده في نهاية المواقف أو المصائر‬
‫‪ ،‬بمثابة ختام أو تعليق أو نتيجة للمقدمة أو المقدمات التي سبقت ‪ ،‬التي قد تكون حوارات‬
‫ونقاشات مفعمة بالحجج واالنفعاالت والم ّد والجزر في األفكار ‪ ،‬أشبه ما تكون بحال غريق‬
‫تالعب به الموج العاصف ‪ ،‬ثم وصل أخيرا ً إلى اليابسة سالما ً ُمعافى ‪ .‬لكن اليابسة قد تكون‬
‫بردا ً وسالما ً ‪ ،‬أو نارا ً وسعيرا ً ‪.‬‬
‫يواجهنا ها اللون من الخطاب في ستة مواضع ‪ ،‬ضمن سبع آيات‬
‫اثنان منهما يتقابالن تقابل الضدين ‪ ،‬على الرغم من أن أحدهما في قصة صاحب الجنتين ‪،‬‬
‫ق ‪ ،‬فيقول ‪ ( :‬ولئن‬ ‫والثاني في قصة ذي القرنين ‪ ،‬األول الغني البطران الطامع بربه بغير ح ّ‬
‫ُرددتُ إلى ربي ألجدنّ خيرا ً منها ُمنقلبا ً ) ( اآلية ‪ ، )36‬واآلخر المتواضع المستسلم لربه‬
‫برغم كل ما تمتع به من قوة وسلطان مشرقا ً ومغربا ً وبناء السد والحديد المصهور ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫( هذا رحمة من ربي ‪ ،‬فإذا جاء وع ُد ربي جعله دكاء ‪ ،‬وكان وع ُد ربي حقا ً )(اآلية‪ )98‬على‬

‫‪8‬‬
‫أن تكرار لفظ الجاللة مع المضاف إليه ( ربي) ثالث مرات فيه من الحالوة والطالوة ما فيه ‪،‬‬
‫وبقدر ما يوجد في كالم ذي القرنين من الطمأنينة يوجد الشك في كالم صاحب الجنتين من‬
‫استخدام (إن) حرف ال شرط ‪ ،‬الذي يفيد الشك عادة وضعف االحتمال ‪ .‬واثنان آخران يعكسان‬
‫الندم والحسرة الشديدين ‪ ،‬أحدهما في الحياة الدنيا ‪ ،‬بعد غرق الجنتين بالحسبان وتدميرهما‪،‬‬
‫وتقليب صاحبهما كفهيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ‪ ( :‬ويقول يا ليتني لم‬
‫أشرك بربي أحدا ً ) (اآلية ‪ ، )42‬والثاني يوم القيامة والحساب في اآلخرة ‪ ( :‬ويقولون يا‬
‫ويلتنا ما لهذا الكتاب ال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ‪ ،‬ووجدوا ما عملوا حاضرا ً ‪ ،‬وال‬
‫يظلم ر ُّبك أحدا ً ) (اآلية ‪. )49‬‬
‫والخامس نجوى الفتية أهل الكهف ‪ ،‬موحدين هلل ‪ ،‬منيبين إليه بكل يقين واطمئنان ‪ ( :‬فقالوا‬
‫رب السموات واألرض لن ندعو من دون ِه إلها ً ‪ ،‬لقد قلنا إذن شططا ‪ .‬هؤالء قو ُمنا‬
‫ربُّنا ُّ‬
‫اتخذوا من دون ِه آلهة لوال يأتون عليهم بسلطان بين ‪ ،‬فمن أظلم ممن افترى على هللا كذبا ً )‬
‫( اآليتان ‪14‬و‪. ) 15‬‬
‫سر الرجل وعالنيته في االستقامة ‪،‬‬ ‫والسادس ‪ ،‬خطاب طريف من نوعه ‪ ،‬حين يستوي ُّ‬
‫وهي حالة نادرة ‪ ،‬أال وهو حديث ذي القرنين مع نفسه المؤمنة ‪ ( :‬قال‪ :‬أما من ظلم فسوف‬
‫نعذبه ‪ ،‬ثم يُر ّد إلى ربه ‪ ،‬فيعذبه عذابا ً نكرا ‪ .‬وأما من آمن وعمل صالحا ً ‪ ،‬فله جزا ًء الحسنى‬
‫‪ ،‬وسنقول له من أمرنا يُسرا ً ) ( اآليتان ‪ 87‬و‪. ) 88‬‬
‫تناسق الحوار مع بناء السورة‬
‫رأينا بناء السورة يقوم على خطين متوازيين ‪ :‬األول خطاب هللا تعالى لرسوله الكريم ‪ ،‬وهو‬
‫في الوقت نفسه خطاب للجماعة المسلمة في العهد المكي ‪ ،‬والخط الثاني ‪ :‬هو القصص أو‬
‫األمثلة المضروبة لتعزيز الخط األول تمثيالً وتوكيدا ً وتوضيحا ً ‪ .‬والمساحة التي يشغلها الخط‬
‫الثاني ‪ ،‬حجمها أكبر بكثير من الخط األول ‪ ،‬يكاد يكون الضعف ‪ ،‬بمعدّل ( ‪ 71‬آية للثاني )‬
‫مقابل ( ‪ 39‬لألول) ‪ .‬وقد جاء الحوار متناسقا ً مع هذا البناء من وجهين ‪:‬‬
‫التناسق األول كان في اتخاذ الحوار السردي وحده طوال مسيرة الخطاب األول من هللا تعالى‬
‫لرسوله الكريم ‪ ،‬فالمولى تعالى وحده يتكلم ‪ ،‬والرسول مصغ صامت ‪ .‬على حين اتخذ الحوار‬
‫الجدلي السمة الغالبة على الخط الثاني ‪ ،‬خط القصص أو األمثلة ‪ ،‬حيث ارتفعت األصوات‬
‫وتباينت وتضاربت بين بني البشر ‪ .‬وهو تناسق أعمق مما نشير إليه ‪ ،‬الستجابته لمنحنيات‬
‫النفوس والمواقف في كل منهما ‪ ،‬ولطبيعة العالقة بين المخاطبين ‪ :‬أي بين هللا تعالى والعباد‬
‫من جهة ‪ ،‬وبين العباد أنفسهم مثالً ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫التناسق الثاني هو المساحة التي شغلها الحوار في كل من الخطين المتوازيين ‪ .‬فقد شغل‬
‫الحوار السردي في الخط األول ما مقداره ثالث وثالثون آية ‪ ،‬على حين شغل الحوار الجدلي‬
‫ما مقداره أربع وثالثون آية ‪ .‬وفي ذلك ما فيه من توازن خفي يعمل عمله في نفس‬
‫المتلقي‪..‬‬

‫المصادر‪/‬‬
‫‪-١‬المعجم األدبي – جبور عبد النور –‬
‫‪٢‬الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – دار القرآن الكريم‬

‫‪10‬‬

You might also like