Professional Documents
Culture Documents
أسلوب الحوار في سورة الكهف ^L براء وفي
أسلوب الحوار في سورة الكهف ^L براء وفي
أسلوب الحوار في سورة الكهف ^L براء وفي
كلية الطب
اللغة العربية
1
يم)) الرحْ َٰم ِن ه
الر ِح ِ َّللا ه
س ِم ه ِ
( ِب ْ (
{وجا ِد ْل ُه ْم بِالهتِي ِهي أحْ سنُ }
صدق هللا العلي العظيم
الحـوار في سورة الكهف:
ثمة ظاهرة تسترعي االنتباه في سورة ( الكهف) أال وهي وفرة الحوار ،والحوار حديث
يدور بين اثنين في األقل ،أو هو كالم يقع بين األديب ونفسه أو من ينزله مقام نفسه (، )1
وهو من عناصر القصة أو المسرحية بشكل خاص .
يشغل الحوار في هذه السورة ثالثة أرباعها تقريبا ً ،فآياتها التي تعد مئة وعشر آيات ،منها
ثالث وثمانون آية في األقل حوارية .والحوار فيها ال يختص بالقصص األربع التي تقوم
عليها ،بل يشمل الخط الواصل بين هذه القصص جميعا ً ،وهو مخاطبات هللا تعالى لرسوله
محمد(ص) ،وهو الخط األول الذي جاءت القصص ( ضرب أمثال) لتعززه وتكمله في بناء
السورة الكلي .واثنتان من هذه القصص -وهما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى
والرجل الصالح – يغلب عليهما الحوار حتى كادتا تتحوالن إلى حواريتين .في هذا الحوار
تنوعت األطراف المتخاطبة ،ولم يقتصر الحوار على المخاطبات البشرية ،فهناك خطاب من
هللا تعالى لرسوله محمد (ص) ،وآخر من هللا تعالى إلى المالئكة ،ومن هللا تعالى للعباد ،
ومن العباد إلى هللا تعالى ،ومن العباد للعباد ،وأخيرا ً خطاب النفس أو النجوى .
وتنوع آخر في أزمنة الخطاب ،ففي الزمن الماضي ،وفي عالم الغيب ( :وإذ قلنا للمالئكة
اسجدوا آلدم ) ( اآلية ، )50وفي المستقبل المغيب أيضا ً ،يوم القيامة ( ويوم يقول :نادوا
شركائي ) ( اآلية ، )52وأما الزمن الحاضر بالنسبة إلى المتخاطبين فكثير .العادة أن يبدأ
كل حوار بفعل ( قال) أو أحد مشتقاته ،ومع ذلك وردت عبارات حوارية مستغنية عن فعل (
قال) و عن أي إشارة صريحة للقول ،بمعنى أنها جاءت بشكل مباشر ،كما يفعل الحوار في
المسرحية أو في بعض القصص ،وهو يكثر في مخاطبات هللا تعالى لرسوله الكريم ،مثل (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ً ) ( اآلية ) 6وقوله ( :وترى
الشمس إذا طلعت ت زاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في
فجوة منه ( )..اآلية . ) 17ومن البدايات المفاجئة :مخاطبا ً الفتية أهل الكهف ( :فأووا إلى
2
الكهف ينشر لكم ر ُّبكم من رحمته ،ويهيىء لكم من أمركم مرفقا ً ) ( اآلية )16أو مخاطبا ً
عدو .
الظالمين الموالين للشيطان من البشر ( :أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم ّ
بئس للظالمين بدالً ) ( اآلية ، )50وقد وردت هذه البدايات في سبعة مواضع ،يضاف إليها
صيغة شبيهة بالقول مرتين ،وهما ( :واضرب لهم مثالً ) ( اآلية (, )32واضرب لهم مثل
الحياة الدنيا) ( . )45
أنواع الحوار:
يمكن أن نميز نوعين من الحوار .األول :الحوار السردي ( القص) ،ووظيفته اإلخبار ،
ونجده في الخط األول من بناء السورة ،فيه يخاطب هللا تعالى رسوله محمدا ً (ص) بألوان
من الخطاب مثل خطابات التلقين والتفهيم أو التأييد مثالً ،ومثل التمهيد للقصص أو التعليق
ي أنما إلهكم إلهٌ عليها .فمن خطابات التلقين قوله تعالى ( :قل :إنما أنا بش ٌر مثلُكم يُوحى إل ه
شرك بعباد ِة ر ِبّ ِه أحدا ً ) ( اآلية
واحد ،فمن كان يرجو لقاء ر ِبّ ِه فليعم ْل عمالً صالحا ً ،وال يُ ْ
الكهف
ِ . )110وفي التمهيد لقصة أهل الكهف ،قوله تعالى ( :أم حسبت أن أصحاب
قيم كانوا من آياتنا عجباً) ( اآلية ، )9وفي التعليق عليها ،قوله تعالى ( :ولبثوا في والر ِ
ه
واألرض
ِ ت
غيب السموا ِ ُ كهفهم ثالث مئ ِة سنين وازدادوا تسعا ً .قل :هللا أعل ُم بما لبثوا له
وأسم ْع .ما لهم من دونه من ولي ٍ وال يُشركُ في حكم ِه أحدا ً ) (اآليتان25و. )26 ِ أبصر به
ْ
أما النوع الثاني من الحوار ،فهو الحوار الجدلي (الدرامي ) ،وهو حوار يبرز فيه الصراع
بين المتحاورين باإلضافة إلى الوظائف األخرى مثل تصوير الشخصيات أو تنمية الحدث أو
القص ،ونجد نماذجه في القصص األربع ال سيما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى
والرجل الصالح .
ووظيفة الحوار العامة بث الحيوية في النص ،واستحضار الشخوص أمام السمع والبصر .
وليس أفضل في معرفة الشخصيات ودخائل نفوسهم ووجهات نظرهم المختلفة مثل سماعهم
يتكلمون بأنفسهم ،أو يحاجج بعضهم بعضا ً .
خطاب هللا (عزوجل) للمالئكة :
لم يرد إال في بعض آية ،قوله تعالى ( :وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم ) ( اآلية . )50ومن
المعلوم أن الحوار مطلوب فيه الدقة واإليجاز ،كما أن من مزايا القصة في القرآن أن يساق
القدر الموفي بالغرض منها ،ولو كان لمحة عابرة ،كما ورد في هذه العبارة الحوارية
الدالة على قصة عصيان إبليس حين طلب منه السجود ألبينا (آدم ) عليه السالم .والدور
الفني لهذه العبارة الحوارية تمهيدها للخطاب الموجه من هللا للذين يوالون الشيطان في اآلية
وذريته أولياء
نفسها ( :فسجدوا إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .أفتتخذونه ّ
3
عدو .بئس للظالمين بدالً ) .وهكذا تتناسق مع الموضوع العام للسورة
من دوني وهم لكم ّ
الذي هو عقيدة التوحيد أي الوالء هلل وحده والبراء مما سواه كالشيطان ،وتصحيح العقيدة
وتصحيح منهج النظر والفكر على ضوء العقيدة وسوف نلحظ كل الخطابات الموجهة من هللا
تعالى لخلقه من مالئكة أو رسول أو بشر ،تنحو منحى خطاب فرد يتكلم ،وهو هللا تعالى ،
والطرف الثاني يسمع أو ال يجيب ،وفي ذلك إيحاء بالهيبة والجالل بشكل عام .وحتى
خطاب البشر إلى هللا تعالى ،كالدعاء ،كما سوف نرى ،يقتصر على كالم طرف واحد أيضا ً
،لكنه طرف البشر ،وهو يعكس ما في نفوس المتكلمين من خشوع وإجالل هلل عز وجل .
خطاب هللا(عزوجل) للعباد :
ورد في خمسة مواضع ضمن آيات خمس ،أحدها مخاطبة الموالين للشيطان ( :أفتتخذونه
وذريته أولياء ) ،ثانيها في آية أخرى مواجهتهم بتح ٍ ّد ال قبل لهم به قائالً ( :ويوم يقول :
نادوا شركائي الذين زعمتم .فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ً ) ( اآلية . )52
وقد سبقت اإلشارة إلى دور هذين الموضعين في القص والتناسق مع الموضوع العام ،
ثالثها توجيه فتية الكهف المؤمنين إلى المالذ اآلمن ( :فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من
رحمته ،ويهيىء لكم من أمركم مرفقا ً ) ( اآلية ، )16ووظيفته سرد واقعة من جهة ،
وبيان مقدار حب هللا وحمايته لهم ،وتوفير األمن والسالمة لهم ،جزاء على صدق والئهم
من جهة ثانية رابعها مخاطبة منكري البعث بعد الموت وقد قامت القيامة فعالً ،وسيرت
الجبال ،وحشروا صفا ً لم يُستثن منهم أحد ( :لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ،بل زعمتم
أن لن نجعل لكم موعدا ً ) ( اآلية ، )48ووروده مفاجئا ً يزيد من التخويف والوعيد .
خامسها خطاب ذي القرنين ( :قلنا يا ذا القرنين .إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم ُحسنا ً ) (
اآلية ، )86ووظيفته تسمية الرجل أو الشخصية الرئيسة في قصته ،والتعريف بجوانبها ،
كالقوة التي حباه هللا إياها ،والشروع باألحداث التي سوف يقوم بها ،مستخدما ً فيها هذه
القوة العادلة الراشدة ،مما يكمل القصة المرتبطة بموضوع السورة العام ارتباط ( المثل) بما
يضرب له عادة .وهو هنا صحة عقيدة ذي القرنين ،ووالؤه الكامل لمواله ،كصحة عقيدة
الفتية المضطهدين .وهنا تقابل يحقق التناسق بين قصتين من سورة واحدة ،فالفتية أهل
الكهف من الرعية المظلومة ،على حين جاء ذو القرنين حاكما ً عادالً ،ال يظلم أحدا ً .أما
حين يجتمع الظالم والمظلوم على صعيد واحد ،مثل صاحب الجنتين والرجل المؤمن ،أو
حين يلتقي التلميذ والمعلم ،كالنبي موسى والرجل الصالح ،فالحوار يحتاج إلى اشتباك
جدالي ،وتبادل مباشر في الخطاب والمحاجة ،كما سوف نرى خطاب من العباد إلى هللا ،
الدعاء :
ورد في موضع واحد وفي آية واحدة ،قوله تعالى على لسان فتية الكهف المؤمنين ( :ر هبنا
أمرنا رشدا ً ) ( اآلية . )10الخشوع في الخطاب واضح ، آ ِتنا من لدُنك رحمةً وه ّيىء لنا من ِ
4
والتماس العون والسداد من هللا تعالى وحده ،واضح أيضا ً .وهذا يتناسق مع موضوع
السورة العام وهو :عقيدة التوحيد وتصحيحها ،وإذا سألت فاسأ ِل هللا ،وإذا استعنت
ْ
فاستعن باهلل .
خطاب هللا(عزوجل) للرسول محمد(ص) :
وهو خطاب حافل ورد في عشرة مواضع ضمن ثالث وثالثين آية ،وهذا يتسق مع بناء
السورة الذي قام على خطين ،أولهما :مخاطبة الرسول (ص) وصحبه الكرام في العهد
المكي للتثبيت والتلقين والتفهيم والمواساة وغير ذلك مما سوف نبينه .
ويمكن أن نميز في هذا الخطاب نوعين أو مستويين من الخطاب ،أحدهما يقصد به الرسول
(ص) شخصيا ً ،كقوله تعالى ( :وات ُل ما أوحي إليك من كتاب ربك ال مبدل لكلماته ولن تجد
ي ِ يريدون وجهه ،وال من دونه ملتحدا ً واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعش ّ
ذكرنا ،واتهبع هواهُ ،
ُطع من أغفلنا قلبه عن ِ تع ُد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ،وال ت ْ
وكان أمرهُ فُ ُرطا ً ( ).اآليتان 27و )28وغرضه التعليم والتفهيم والصبر مع المؤمنين في
إخالص الوجه هلل عز وج ّل .وجاء قسم وافر منه في تلقين هللا تعالى رسوله المواقف
والحجج والبراهين في مواجهة المشركين ،مثل اآليات السبع التي اختتمت بها السورة
مبدوءة بلفظ ( قل ) ثالث مرات ( :قل هل ننبئكم باألخسرين أعماالً ( )...اآليات -103
( ) 108قل لو كان البحر مدادا ً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا
ي أنما إلهكم إله واحد ،فمن كان يرجو لقاء بمثله مددا ً .قل :إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إل ه
شرك بعبادة ربه أحدا ً ) ( اآليتان 109و. )110
ربه فليعم ْل عمالً صالحا ً وال يُ ْ
المستوى الثاني يُخاطب به الرسول أيضا ً لكنه معدول عنه إلى غيره لغرض بالغي ،مثل
قوله تعالى ( وترى الشمس إذا طلعت تزاو ُر عن كه ِفهم ذات اليمين وإذا غربتْ تقرضهم ذات
الشمال ..وتحسبهم أيقاظا ً وهم رقود ،ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ....لو اطلعت
عليهم لولّيت منهم فرارا ً ولملئت منهم ُرعباً) ( اآليتان 17و ، ) 18فالرسول لم يكن في زمن
الفتية حتى يرى الشمس حين تطلع عليهم أو تغرب ،أو لم يطلع عليهم ليخاف ،وال
المقصود به الرسول وحده في الرؤية أو االطالع ،بل الناس كافة ،من خالل مخاطبة جنس
البشر في شخص الرسول(ص) .وهذا المستوى غرضه السرد أو القص بشكل واضح ،وقد
غلب على آيات الخط األول ،مما عمل على استكمال جوانب القصص واألحداث المروية
تمهيدا ً وتعقيبا ً وعرضا ً ،وأسهم في تحديد األزمنة واألمكنة باإلضافة ،إلى وصف
الشخصيات وصفا ً تحليليا ً أيضا ً على أن في هذا القسم من الخطاب مظهرا ً من مظاهر
اإلعجاز البياني في القرآن الكريم ،ألنه ليس من مألوف البشر أو األدب العربي أن يخاطب
المتكلم نفسه ذاتا ً أخرى مباينة كل المباينة ،وهذا خطاب يختلف عن النجوى المعروفة ،فـ(
5
من الواجب أن نذكر – أوالً – مدى التباعد الرئيسي البيّن في الحوار بين الذات المتكلمة
اآلمرة الحازمة ،والذات المضطربة المجفلة ) ( ، )2كما يقول مالك بن نبي تعليقا ً على
صيغة ( اقرأ) التي نزلت في أول آية قرآنية أوحيت على الرسول ،ويضيف الرجل قوله ( :
وسنجد فيما بعد ،وإلى النهاية ،أن الذات المحمدية لن تتحدث مع الذات المتكلمة حين
تخاطبها ،وهذا الصمت – في ذاته – جدير بالمالحظة ،ألنه يسجل إدراك الرسول صلى هللا
عليه وسلم النهائي أمام الظاهرة ،التي سيقف منها منذ ذلك الحين موقف التسليم ) ( . )3
خطاب العباد بعضهم بعضا :
ورد في خمسة مواضع ,وشغل مساحة أربع وثالثين آية ،وهو حوار في أكثره جدلي ،
تبرز فيه الخالفات والمحاجة واالنفعاالت العاطفية ،وتتباين المواقف حتى تبلغ القمة ،ثم
تهدأ وتستقر أخيرا ً .فمما يظهر القلق النفسي والخوف من بطش الطغيان قول الفتية أهل
فلينظر أيها أزكى طعاما ً ،فليأتكم
ْ الكهف لبعضهم ( :فابعثوا أحدكم بِو ِرقِكم هذه إلى المدينة ،
ف ،وال ُيش ِعرنه بكم أحدا ً .إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو ُيعيدوكم برزق منه ،وليتل ه
ط ْ
في ملتهم ،ولن ت ُفلحوا إذن أبدا ً ) ( اآليتان 19و. )20
ومما يرسم الشخصيات حتى يحولها إلى نماذج بشرية من نوعها ،ذلك الحوار الذي دار بين
وأعز نفرا ً
ُّ الغني المتغطرس والفقير المؤمن ( :فقال لصاحبه ،وهو يحاوره :أنا أكثر ماالً
.ودخل جنته وهو ظالم لنفسه .قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ً ،وما أظن الساعة قائمة ،
ولئن ُرددتُ إلى ربي ألجدنه خيرا ً منها منقلبا .قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي
سواك رجالً لكنها هو هللا ربي ،وال أُشركُ بربي أحدا ً .ولوال ب ثم من نطفة ثم ّ خلقك من ترا ِ
إذ دخلت جنتك قلت ما شاء َُّللا ،ال قوة إال باهلل .إن تر ِن أنا أق هل منك ماالً وولدا ً ،فعسى
سل عليها ُحسبانا ً من السماءِ ،فت ُصبح صعيدا ً زلقا ،أو ربي أن يُؤتيني خيرا ً من جنتك ،ويُر ِ
يُصبِح ماؤها غورا ً ،فلن تستطيع لهُ طلبا ) ( اآليات . ) 41 -34
ومما يُلحظ فيه الصراع الصاعد إلى درجة التأزم والقمة ثم الحل باإلضافة إلى تصوير
الشخصيات تصويرا ً حيا ً ،ذلك الحوار الذي دار بين النبي موسى والرجل الصالح ( :قال له
موسى :هل أتبعُك على أن ت ُعلمني مما عُ ِلّمت ُرشدا .قال :إنك لن تستطيع معي صبرا ،
وكيف تصبر على ما لم ت ُحط به ُخبْرا .قال :ستجدني إن شاء هللا صابرا ً وال أعصي لك أمرا ً
.قال :فإن اتبعتني فال تسألني عن شيء حتى أُحدِث لك منه ذِكرا .فانطلقا حتى إذا ركبا في
السفينة خرقها .قال :أخرقتها لت ُغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ً .قال :ألم أقل إنك لن
تستطيع معي صبرا ً .قال :ال تؤاخذني بما نسيتُ وال ت ُرهقني من أمري عُسرا ً .فانطلقا حتى
إذا لقيا غالما ً فقتله .قال :أقتلت نفسا ً زكية بغير نفس لقد جئت شيئا ً نُ ً
كرا .قال :ألم أقل لك
إنك لن تستطيع معي صبرا ً ،قال :إن سألت ُك عن شيءِ بعدها فال ت ُصاحبني قد بلغت من
6
ل ُدنّي عُذرا ً .فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يُض ِيّفوهما فوجدا فيها
جدارا ً يريد أن ينقضه فأقامه ،قال :لو شئت ال تخذت عليه أجرا ً .قال :هذا فرا ُ
ق بيني
وبينِك سأُنبئ ُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ً .أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في
البحر ،فأردتُ أن أعيبها ،وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة غصبا ً .وأما الغالم فكان أبواه
مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرا ً .فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرا ً منه زكاة وأقرب
ُرحْ ما .وأ ّما الجدار فكان لغالمين يتيمين في المدينة وكان تحته كن ٌز لهما وكان أبوهما
صالحا ً ،فأراد ربُّك أن يبلغا أشُدههما ،ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك وما فعلت ُه عن أمري
تسطع عليه صبرا ً ) ( اآليات . )82-66 ْ .ذلك تأويل ما لم
في كل من المشهدين الحواريين السابقين كانت تطرح قضية فكرية مختلف عليها ،ويظهر
فيها طرفان ،ثم تدور معركة حجاج تنتهي بنتيجة انتصار موقف أحدهما على اآلخر .ففي
المشهد األول كان الغني البطر طرفا ً أوالً معتدا ً بماله وولده وبزعم الغلبة له في الدنيا وحتى
اآلخرة على الطرف اآلخر ،وهو الفقير المؤمن المعتمد على هللا حق االعتماد ،ولما أُحيط
بجنتي الرجل وبالثمر ..خسر المعركة ،فأعلن ندمه قائالً ( :يا ليتني لم أُشرك بربي أحدا ً )
بعد فوات األوان ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون هللا وما كان منتصرا ً .هنالك الوالية هلل
الحق ،هو خير ثوابا ً وخير عُقبا ً ) (اآليتان43و .)44وفي حوارية النبي موسى الطرف
األول ،والرجل الصالح الطرف الثاني ،كانت القضية المطروحة محدودية علم البشر أمام
علم هللا تعالى أو الغيب الذي عُ ِلّمه الرجل الصالح ،فالعلم البشري المحدود بظاهر األمور لم
يستسغ ( خرق سفينة المساكين ،وال قتل الغالم بال ذنب ،وال بناء جدار بال مقابل في قرية
بخيلة ) فكانت النتيجة أن أوضح الرجل الصالح ما خفي من سر هذه الوقائع لموسى واحدة
واحدة ،تحقيقا لحكمة هللا وعدله وسعة علمه .وهكذا تصب كل من القضيتين المطروحتين
في الموضوع العام للسورة :عقيدة التوحيد وتصحيح الفكر والنظر على ضوء هذه العقيدة .
أما الحوار المتعلق بفتية الكهف ،فله ثالثة مشاهد ،أولها الخالف مع قومهم حول التوحيد
( :لن ندعو من دونه إلها ً لقد قُلنا إذن شططا ً .هؤالء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لوال
يأتون عليه بسلطان بيّن ،فمن أظلم ممن افترى على هللا كذبا ً ) ( اآليتان 14و، ) 15
والمشهد الثاني خالف بين الفتية أنفسهم حول المدة التي قضوها نائمين ،فاتفقوا على أن
العلم اليقيني بذلك هلل تعالى وحده ( :قالوا :ربكم أعل ُم بما لبثتم ) (اآلية ، )22والمشهد
الثالث خالف قومهم بعد مئة سنة ويزيد حول وضعهم وعددهم ( :إذ يتنازعون بينهم أمرهم
،فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ً ربُّهم أعل ُم بهم ....سيقولون ثالثة رابعهم كلبهم ،ويقولون
خمسة سادسهم كلبهم رجما ً بالغيب ( )..اآلية ، )22ومرة أخرى ير ّد العلم الحقيقي إلى هللا
...أبص ْر به
ِ هللا أعل ُم بما لبثوا ّ
عز وجل ( :قل ربي أعل ُم بِعدتِهم ( )..اآلية ( )22قل ُ
وأسم ْع ( )..اآلية . ) 26انسجاما ً مع الموضوع العام للسورة أيضا ً .
ِ
7
أما حوار ذي القرنين مع رعيته فال نكاد نحس فيه خالفا ً ( :قالوا :يا ذا القرنين إن يأجوج
ومأجوج مفسدون في األرض ،فهل نجع ُل لك خ ْرجا ً على أن تجعل بيننا وبينهم س ّدا ً .قال :
ما مكنّي فيه ربي خي ٌر ،فأعينوني بقوة أجع ْل بينكم وبينهم ردما ً ) ( اآليتان 94و ، ) 95بل
نشهد رحالت ذي القرنين شرقا ٌ وغربا ً وحتى بين السدين منتصرا ً ،وال تطغيه القوة وال
االنتصارات ،إذ ُيرجع كل ذلك إلى فضل هللا عليه ،وإلى أن القوة الحقيقية هي قوة هللا وحده
،ال سيما بعد إنجازه بناء الردم وصبه الحديد المصهور ،وعجز قوم يأجوج ومأجوج عن
أن يظهروه أو ينقبوه فـ ( :قال :هذا رحمة من ربي ،فإذا جاء وع ُد ربي جعله دكهاء وكان
وع ُد ربي حقا ً ) ( اآلية ، )98وهذا انصباب آخر في موضوع السورة العام .
حوار العباد كان منوعا ً بين الرعية والرعاة ،بين الظالم والمظلوم ،بين العالم والمتعلم ،
بين العامة أنفسهم .وكان كله يتجه بانسجام إلى موضوع السورة العام .وهذا لون من
ألوان الربط الفني واإلحكام .
خطاب النفس ،النجوى :
ليس أصدق من كالم النفس في التعبير عن مكنوناتها ودخائلها ،وليس أقوى منه في التأثير
على السامع أو المتلقي أيضا ً ،ألنه حديث صريح ،يكشف المخبوء بال حرج أو مواربة .
وهذا المخبوء قد يكون بسبب الخوف أو الحياء أو مالبسات أخرى تحول دون التصريح به .
ولما كانت النفس اإلنسانية وبذلك يضاف إلى مزايا الصراحة مزايا الكشف عن مجهول .
هدفا ً أساسا ً في الخطاب القرآني للهداية والتزكية ،كان هذا اللون من الخطاب ذا أهمية
مضاعفة في سورة الكهف ،النسجامه مع هدف السورة العام من جهة ،وتناسقه مع هدف
القرآن العام من جهة ثانية .
ويكتسب هذا اللون من الخطاب جانبا ً آخر من األهمية وروده في نهاية المواقف أو المصائر
،بمثابة ختام أو تعليق أو نتيجة للمقدمة أو المقدمات التي سبقت ،التي قد تكون حوارات
ونقاشات مفعمة بالحجج واالنفعاالت والم ّد والجزر في األفكار ،أشبه ما تكون بحال غريق
تالعب به الموج العاصف ،ثم وصل أخيرا ً إلى اليابسة سالما ً ُمعافى .لكن اليابسة قد تكون
بردا ً وسالما ً ،أو نارا ً وسعيرا ً .
يواجهنا ها اللون من الخطاب في ستة مواضع ،ضمن سبع آيات
اثنان منهما يتقابالن تقابل الضدين ،على الرغم من أن أحدهما في قصة صاحب الجنتين ،
ق ،فيقول ( :ولئن والثاني في قصة ذي القرنين ،األول الغني البطران الطامع بربه بغير ح ّ
ُرددتُ إلى ربي ألجدنّ خيرا ً منها ُمنقلبا ً ) ( اآلية ، )36واآلخر المتواضع المستسلم لربه
برغم كل ما تمتع به من قوة وسلطان مشرقا ً ومغربا ً وبناء السد والحديد المصهور ،يقول :
( هذا رحمة من ربي ،فإذا جاء وع ُد ربي جعله دكاء ،وكان وع ُد ربي حقا ً )(اآلية )98على
8
أن تكرار لفظ الجاللة مع المضاف إليه ( ربي) ثالث مرات فيه من الحالوة والطالوة ما فيه ،
وبقدر ما يوجد في كالم ذي القرنين من الطمأنينة يوجد الشك في كالم صاحب الجنتين من
استخدام (إن) حرف ال شرط ،الذي يفيد الشك عادة وضعف االحتمال .واثنان آخران يعكسان
الندم والحسرة الشديدين ،أحدهما في الحياة الدنيا ،بعد غرق الجنتين بالحسبان وتدميرهما،
وتقليب صاحبهما كفهيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ( :ويقول يا ليتني لم
أشرك بربي أحدا ً ) (اآلية ، )42والثاني يوم القيامة والحساب في اآلخرة ( :ويقولون يا
ويلتنا ما لهذا الكتاب ال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ،ووجدوا ما عملوا حاضرا ً ،وال
يظلم ر ُّبك أحدا ً ) (اآلية . )49
والخامس نجوى الفتية أهل الكهف ،موحدين هلل ،منيبين إليه بكل يقين واطمئنان ( :فقالوا
رب السموات واألرض لن ندعو من دون ِه إلها ً ،لقد قلنا إذن شططا .هؤالء قو ُمنا
ربُّنا ُّ
اتخذوا من دون ِه آلهة لوال يأتون عليهم بسلطان بين ،فمن أظلم ممن افترى على هللا كذبا ً )
( اآليتان 14و. ) 15
سر الرجل وعالنيته في االستقامة ، والسادس ،خطاب طريف من نوعه ،حين يستوي ُّ
وهي حالة نادرة ،أال وهو حديث ذي القرنين مع نفسه المؤمنة ( :قال :أما من ظلم فسوف
نعذبه ،ثم يُر ّد إلى ربه ،فيعذبه عذابا ً نكرا .وأما من آمن وعمل صالحا ً ،فله جزا ًء الحسنى
،وسنقول له من أمرنا يُسرا ً ) ( اآليتان 87و. ) 88
تناسق الحوار مع بناء السورة
رأينا بناء السورة يقوم على خطين متوازيين :األول خطاب هللا تعالى لرسوله الكريم ،وهو
في الوقت نفسه خطاب للجماعة المسلمة في العهد المكي ،والخط الثاني :هو القصص أو
األمثلة المضروبة لتعزيز الخط األول تمثيالً وتوكيدا ً وتوضيحا ً .والمساحة التي يشغلها الخط
الثاني ،حجمها أكبر بكثير من الخط األول ،يكاد يكون الضعف ،بمعدّل ( 71آية للثاني )
مقابل ( 39لألول) .وقد جاء الحوار متناسقا ً مع هذا البناء من وجهين :
التناسق األول كان في اتخاذ الحوار السردي وحده طوال مسيرة الخطاب األول من هللا تعالى
لرسوله الكريم ،فالمولى تعالى وحده يتكلم ،والرسول مصغ صامت .على حين اتخذ الحوار
الجدلي السمة الغالبة على الخط الثاني ،خط القصص أو األمثلة ،حيث ارتفعت األصوات
وتباينت وتضاربت بين بني البشر .وهو تناسق أعمق مما نشير إليه ،الستجابته لمنحنيات
النفوس والمواقف في كل منهما ،ولطبيعة العالقة بين المخاطبين :أي بين هللا تعالى والعباد
من جهة ،وبين العباد أنفسهم مثالً .
9
التناسق الثاني هو المساحة التي شغلها الحوار في كل من الخطين المتوازيين .فقد شغل
الحوار السردي في الخط األول ما مقداره ثالث وثالثون آية ،على حين شغل الحوار الجدلي
ما مقداره أربع وثالثون آية .وفي ذلك ما فيه من توازن خفي يعمل عمله في نفس
المتلقي..
المصادر/
-١المعجم األدبي – جبور عبد النور –
٢الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – دار القرآن الكريم
10