Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 2

‫المقالة األولى حول األخالق ( جدلية)‪:‬‬

‫إذا كان اإلنسان من حيث هو كائن عاقل ‪ ،‬هل يمكن عندئذ القول أن أساس القيمة‬
‫األخالقية هو العقل ؟‬
‫‪ -‬طرح المشكلة ‪ :‬تعد مشكلة أساس القيمة الخلقية من أقدم المشكالت في الفلسفة األخالقية وأكثرها إثارة للجدل ؛ إذ‬
‫تباينت حولها اآلراء واختلفت المواقف ‪ ،‬ومن تلك المواقف الموقف العقلي الذي فسر أساس القيمة األخالقية بإرجاعها‬
‫إلى العقل ؛ فهل فعال يمكن تأسيس القيم األخالقية على العقل وحده ؟‬
‫محاولة حل المشكلة ‪:‬‬
‫‪ -‬عرض األطروحة ‪ :‬يرى البعض ‪ ،‬أن مايميز اإلنسان – عن الكائنات األخرى ‪ -‬هو العقل ‪ ،‬لذلك فهو المقياس الذي‬
‫نحكم به على األشياء وعلى سلوكنا وعلى القيم جميعا ‪ ،‬أي أن أساس الحكم على األفعال و السلوكات وإضفاء طابع‬
‫أخالقي عليها هو العقل ‪ ،‬وعليه أٌعتبر المصدر لكل قيمة خلقية ‪ .‬وقد دافع عن هذا الرأي أفالطون قديما والمعتزلة في‬
‫العصر اإلسالمي وكانط في العصر الحديث ‪.‬‬

‫– الحجة ‪ :‬ويؤكد ذلك أن ( أفالطون ‪ 428‬ق م – ‪ 347‬ق م ) قسم أفعال الناس تبعا لتقسيم المجتمع ‪ ،‬فإذا كان‬
‫المجتمع ينقسم إلى ثالث طبقات هي طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة العبيد ‪ ،‬فإن األفعال – تبعا لذلك – تنقسم إلى‬
‫ثالثة قوى تحكمها ثالث فضائل ‪ :‬القوة العاقلة ( تقابل طبقة الحكماء ) وفضيلتها الحكمة والقوة الغضبية ( طبقة الجنود‬
‫) وفضيلتها الشجاعة والقوة الشهوانية ( العبيد ) وفضيلتها العفة ‪ ،‬والحكمة هي رأس الفضائل ألنها تحد من طغيان‬
‫القوتين الغضبية والشهوانية ‪ ،‬وال يكون اإلنسان حكيما إال إذا خضعت القوة الشهوانية والقوة الغضبية للقوة العاقلة ‪.‬‬
‫‪ -‬و عند المعتزلة ‪ ،‬فالعقل يدرك ما في األفعال من حسن أو قبح ‪ ،‬أي أن بإمكان العقل إدراك قيم األفعال والتمييز فيها‬
‫بين ما هو حسن مستحسن وماهو قبيح مستهجن ‪ ،‬وذلك حتى قبل مجيء الشرع ‪ ،‬ألن الشرع مجرد مخبر لما يدركه‬
‫العقل ‪ ،‬بدليل أن العقالء في الجاهلية كانوا يستحسنون أفعاال كالصدق والعدل واألمانة والوفاء ‪ ،‬ويستقبحون أخرى‬
‫كالكذب والظلم والخيانة والغدر ‪ ..‬وان اإلنسان مكلف في كل زمان ومكان ولوال القدرة على التمييز لسقطت مسؤولية‬
‫العباد أمام التكليف ‪.‬‬
‫‪ -‬والعقل عند ( كانط ‪ ) 1804 – 1724‬الوسيلة التي يميز به اإلنسان بين الخير والشر‪ ،‬وهو المشرّع ُ لمختلف‬
‫القوانين والقواعد األخالقية التي تتصف بالكلية والشمولية ‪ ،‬معتبراً اإلرادة الخيرة القائمة على أساس الواجب الركيزة‬
‫األساسية للفعل ألن اإلنسان بعقله ينجز نوعين من األوامر ‪ :‬أوامر شرطية مقيدة ( مثل ‪ :‬كن صادقا ليحبك الناس ) ‪،‬‬
‫وأوامر قطعية مطلقة ( مثال ‪ :‬كن صادقا ) ‪ ،‬فاألوامر األولى ليس لها أي قيمة أخالقية حقيقية ‪ ،‬فهي تحقق أخالق‬
‫منفعة ‪ ،‬وتتخذ األخالق ال كغاية في ذاتها ‪ ،‬وإنما كوسيلة لتحقيق غاية ‪ .‬أما األوامر الثاني فهي أساس األخالق ‪ ،‬ألنها‬
‫ال تهدف إلى تحقيق أي غاية أو منفعة ‪ ،‬بل تسعى إلى انجاز الواجب األخالقي على انه واجب فقط بصرف النظر عن‬
‫النتائج التي تحصل منه لذلك يقول ‪ « :‬إن الفعل الذي يتسم بالخيرية الخلقية فعل نقي خالص ‪ ,‬وكأنما هو قد هبط من‬
‫السماء »‬
‫‪ -‬النقد ‪:‬لكن التصور الذي قدمه العقليون ألساس القيمة األخالقية تصور بعيد عن الواقع اإلنساني ‪ ،‬فالعقل أوال قاصر‬
‫وأحكامه متناقضة ‪ ،‬فما يحكم عليه هذا بأنه خير يحكم عليه ذاك بأنه شر فإذا كان العقل قسمة مشتركة بين الناس فلماذا‬
‫تختلف القيم األخالقية بينهم إذن ؟ ‪ .‬كما يهمل هذا التصور الطبيعة البشرية ‪ ،‬فاإلنسان ليس مالكا يتصرف وفق أحكام‬
‫العقل ‪ ،‬بل هو أيضا كائن له مطالب حيوية يسعى إلى إشباعها ‪ ،‬والتي لها تأثير في تصور الفعل ‪ .‬وأخيرا أن األخالق‬
‫عند كانط هي أخالق متعالية مثالية ال يمكن تجسيدها على ارض الواقع ‪.‬‬

‫– عرض نقيض األطروحة ‪ :‬وخالفا لما سبق ‪ ،‬يرى البعض اآلخر أن العقل ليس هو األساس الوحيد للقيم األخالقية ‪،‬‬
‫باعتبار أن القيمة الخلقية لألفعال اإلنسانية متوقفة على نتائجها وأثارها االيجابية أي ما تحصله من لذة ومنفعة وما‬
‫تتجنبه من الم ومضرة ‪ ،‬وقد تتوقف القيم األخالقية على ما هو سائد في المجتمع من عادات وتقاليد وأعراف وقوانين ‪،‬‬
‫فتكون بذلك صدى لهذه األطروحة االجتماعية ‪ ،‬وقد يتوقف – في األخير ‪ -‬معيار الحكم على قيم األفعال من خير‬
‫( حسن ) أو شر ( قبح ) على اإلرادة اإللهية أو الشرع ‪.‬‬

‫– الحجة ‪ :‬وما يثبت ذلك ‪ ،‬أن القيم األخالقية ماهي إال مسألة حسابية لنتائج الفعل ‪ ،‬وهذه النتائج ال تخرج عن تحصيل‬
‫اللذات والمنافع ؛ فما يحفز اإلنسان إلى الفعل هو دائما رغبته في تحصيل لذة أو منفعة ألن ذلك يتوافق مع الطبيعة‬
‫اإلنسانية فاإلنسان بطبعة يميل إلى اللذة والمنفعة ويتجنب األلم والضرر ‪ ،‬وهو يٌقدم على الفعل كلما اقترن بلذة أو منفعة‬
‫‪ ،‬ويحجم عنه إذا اقترن بألم أو ضرر ‪ ،‬فاللذة والمنفعة هما غاية الوجود ومقياس أي عمل أخالقي ‪ ،‬وهما الخير األسمى‬
‫واأللم والضرر هما الشر األقصى ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ناحية أخرى ‪ ،‬فإن القيم األخالقية بمختلف أنواعها وأشكالها سببها المجتمع ‪ ,‬وما سلوك األفراد في حياتهم‬
‫اليومية إال انعكاس للضمير الجمعي الذي يُهيمن على كل فرد في المجتمع ‪ .‬أي أن معيار تقويم األفعال أساسه المجتمع‬
‫‪ ،‬والناس تصدر أحكامها باالعتماد عليه ‪ ،‬فمثال الطفل حينما يولد ال تكون لديه فكرة عن الخير أو الشر ‪ ،‬فينشأ في‬
‫مجتمع – يتعهده بالتربية والتثقيف – يجد فيه الناس تستحسن أفعاال وتستقبح أخرى ‪ ،‬فيأخذ هذا المقياس عنهم ‪،‬‬
‫فيستحسن ما يستحسنه الناس ‪ ،‬ويستقبح ما يستقبحونه ‪ ،‬فإن هو استقبح مثال الجريمة فألن المجتمع كله يستقبحها ‪ ،‬ومن‬
‫ث ّم يدرك أن كل ما يوافق قواعد السلوك االجتماعي فهو خير وكل ما يخالفها فهو شر ‪ .‬والنتيجة أن القيم األخالقية من‬
‫صنع المجتمع ال الفرد ‪ ،‬وما على هذا الفرد إال أن يذعن لها طوعا أوكرها ‪ ،‬األمر الذي جعل دوركايم ( ‪– 1858‬‬
‫‪ ) 1917‬يقول ‪ « :‬إذا تكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا » ‪ ،‬وكذلك ‪ « :‬إن المجتمع هو النموذج والمصدر‬
‫لكل سلطة أخالقية ‪ ،‬وأي فعل ال يقره المجتمع بأنه أخالقي ‪ ،‬ال يكسب فاعله أي قدر من الهيبة أو النفوذ »‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ناحية ثالثة ‪ ،‬أن معيار الحكم على قيم األفعال من خير أو شر يرتد إلى اإلرادة اإللهية أو الشرع ‪ .‬فـنحن –‬
‫حسب (ابن حزم األندلسي ‪374‬هـ ‪ 456 -‬هـ ) – نستند إلى الدين في تقويم األفعال الخلقية وفق قيم العمل بالخير‬
‫والفضيلة واالنتهاء عن الشر والرذيلة ‪ ،‬وال وجود لشيء حسنا لذاته أو قبيحا لذاته ‪ ،‬ولكن الشرع قرر ذلك ‪ ،‬فما سمّاه‬
‫هللا حسنا فهو حسن وما سمّاه قبيحا فهو قبيح ‪.‬‬
‫كما أن األفعال حسنة أو قبيحة – حسب ما يذهب إليه االشاعرة – باألمر أو النهي اإللهي ‪ ،‬فما أمر به هللا فهو خير وما‬
‫نهى عنه فهو شر ‪ ،‬أي أن األوامر اإللهية هي التي تضفي صفة الخير على األفعال أو تنفيها عنها ‪ ،‬ولذلك – مثال –‬
‫الصدق ليس خيرا لذاته وال الكذب شرا لذاته ‪ ،‬ولن الشرع قرر ذلك ‪ .‬والعقل عاجز عن إدراك قيم األفعال والتمييز فيها‬
‫بين الحسن والقبح ‪ ،‬وليس له مجال إال إتباع ما أثبته الشرع ‪.‬‬
‫‪ -‬النقد ‪ :‬ولكن النفعيون ال يميزون بين الثابت والمتغير وال بين النسبي والمطلق ألن القيم األخالقية قيم ثابتة ومطلقة ‪،‬‬
‫واألخذ باللذة والمنفعة كمقياس لها يجعلها متغيرة ونسبية ‪ ،‬فيصبح الفعل الواحد خيرا وشرا في آن واحد ‪ ،‬خيرا عند هذا‬
‫إذا حقق له لذة أو منفعة ‪ ،‬وشرا عند ذاك إذا لم يحقق أ ًّيا منهما ‪ .‬ثم أن المنافع متعارضة ‪ ،‬فما ينفعني قد ال ينفع غيري‬
‫بالضرورة ‪ ،‬وأخيرا فان ربط األخالق باللذة والمنفعة يحط من قيمة األخالق و اإلنسان معا ً ؛ فتصبح األخالق مجرد‬
‫وسيلة لتحقيق غايات كما يصبح اإلنسان في مستوى واحد مع الحيوان ‪.‬‬
‫ثم أن المدرسة االجتماعية تبالغ كثيرا في تقدير المجتمع واالعالء من شأنه ‪ ،‬وفي المقابل تقلل أو تعدم أهمية الفرد‬
‫ودوره في صنع األخالق ‪ ،‬والتاريخ يثبت أن أفرادا ( أنبياء ‪ ،‬مصلحين ) كانوا مصدرا لقيم أخالقية ساعدت‬
‫المجتمعات على النهوض والتقدم ‪ .‬ومن جهة ثانية ‪ ،‬فالواقع يثبت أن القيم األخالقية تتباين حتى داخل المجتمع الواحد ‪،‬‬
‫وكذا اختالفها من عصر إلى آخر ‪ ،‬ولو كان المجتمع مصدرا لألخالق لكانت ثابتة فيه ولزال االختالف بين أفراد‬
‫المجتمع الواحد ‪.‬‬
‫وبالنسبة للنزعة الدينية فإنه ال يجوز الخلط بين مجالين من األحكام ‪ - :‬أحكام شرعية حيث الحالل والحرام ‪ ،‬وهي‬
‫متغيرة وفق مقاصد الشريعة‬
‫‪ -‬وأحكام أخالقية حيث الخير والشر أو الحسن والقبح ‪ ،‬وهي ثابتة في كل زمان ومكان ‪ .‬مثال ‪ :‬الكل يتفق على أن‬
‫الكذب شر ‪ ،‬أما االستثناء كجواز الكذب في الحرب أو من اجل إنقاذ برئ ( بقصد حفظ النفس الذي هو من مقاصد‬
‫الشريعة ) فال يجعل من الكذب خيراً ‪.‬‬
‫– التركيب ‪ :‬إن اإلنسان في كينونته متعدد األبعاد ؛ فهو إضافة إلى كونه كائن عاقل فإنه كائن بيولوجي أيضا ال‬
‫يتواجد إال ضمن الجماعة التي تؤمن بمعتقد خاص ‪ ،‬وهذه األبعاد كلها لها تأثير في تصور اإلنسان للفعل األخالقي‬
‫وكيفية الحكم عليه ‪ .‬فقد يتصور اإلنسان أخالقية الفعل بمقتضى ما يحكم به علقه ‪ ،‬أو بمقتضى ما يهدف إلى تحصيله‬
‫من وراء الفعل ‪ ،‬أو بمقتضى العرف االجتماعي أو وفق معتقداته التي يؤمن بها ‪.‬‬
‫حل المشكلة ‪ :‬وهكذا يتضح أن أسس القيم األخالقية مختلفة ومتعددة ‪ ،‬وهذا التعدد واالختالف يعود في جوهره إلى‬
‫تباين وجهات النظر بين الفالسفة الذين نظر كل واحدا منهم إلى المشكلة من زاوية خاصة ‪ ،‬أي زاوية المذهب أو‬
‫االتجاه الذي ينتمي إليه ‪ .‬والى تعدد أبعاد اإلنسان ‪ ،‬لذلك جاز القول أن العقل ليس األساس الوحيد للقيم األخالقية ‪.‬‬

You might also like