نصوص

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 30

‫الشرح‬

‫ق د يق ول قائل ‪ :‬إن ال دليل الس ابق يق رر أن اإلنس ان مثالً ‪ ،‬ذل ك األم ر الكلي المعق ول‬
‫موجود فى خارج الذهن ‪ ،‬وهو مجرد من الوضع والكم ‪ ،‬مع أن الواحد منا ال يعقل من‬
‫اإلنسان إال ذلك الهيكل المركب من أعضاء كاليد والعين والحاجب وغير ذلك ‪ ،‬واإلنسان‬
‫بهذه الحالة محسوس ال مجرد التركبة من تلك األعضاء المحسوسة فاإلنسان ال يعقل إال‬
‫وله أعضاء ضوات أقدار متباينة األوضاع على ما يتخيل منه ويخس به ‪.‬‬
‫وقد أجاب ابن سينا فنبه على أن الحال فى كل عضو كلي من تلك األعضاء واألجزاء فى‬
‫كون ه طبيعة معقول ة غ ير محسوسة كالح ال فى اإلنس ان نفسه ‪ ،‬أي أن الدليل السابق كم ا‬
‫يجري فى اإلنسان يجري كذلك فى كل عضو كلي من تلك األعضاء ‪.‬‬

‫الشرح‬
‫سبق أن نبه ابن سينا على خطأ الوهم القائل ‪ :‬أنه ال موجود إال ما هو محسوس ‪ ،‬وذلك‬
‫بمسألة التفتيش فى المحسوسات والخروج عن طريقها إلى إثبات وجود ما ليس بمحسوس‬
‫‪.‬‬
‫وهنا أراد أن يورد تنبيهاً قائماً على أساسين ‪:‬‬

‫أن المنكرين لوجود ما ليس بمحسوس يصدقون بوجود الحس والوهم‬ ‫احدهما ‪:‬‬
‫والعق ل ‪ ،‬وه ذه أم رو ليس ش ئ منه ا ي درك ب الحس أو ال وهم ‪ ،‬إذ‬
‫الحس ليس بمحس وس وال بموه وم ‪ ،‬وك ذلك العق ل ال ذي يم يز بين‬
‫الحس والمحس وس وال وهم والموه وم ‪ ،‬ليس بموه وم فض الً عن أن‬
‫يكون محسوساً‪.‬‬

‫أن بعض ما يتعلق بالمحسوسات وأفرادها الجزئية مدركة بالوهم إن‬ ‫وثانيهما ‪:‬‬
‫لم تكن مدرك ة ب الحس الظ اهر وأم ا طبائعه ا الكلي ة فتك ون ش ئ منه ا‬
‫محسوساً وال متوها ‪.‬‬

‫‪-1-‬‬
‫الشرح‬
‫وهذا تصريح منه بالغرض المقص ود من أول الكالم ‪ ،‬وهو إفادة أن موجد العالم ومبدأة‬
‫مجرد غير محسوس ‪ ،‬ومن ثم سمي هذا البحث تذنيباً ‪.‬‬
‫والحق هنا اسم فاعل فى صيغة المصدر كالعدل ‪ ،‬والمارد به ذو الحقيقة ‪ ،‬أي كل متحقق‬
‫موجود فى األعيان فإنه من حيث حقيقته الذاتية التى هو بها حق ‪ ،‬أي حقيقته المجردة‬
‫عن العوارض المشخصة فهو من هذه الحقيقة واحد غير محسوس وال مشار إليه ‪ ،‬أي أن‬
‫الموج ود الخ ارجي كزي د مثالً إنم ا ك ان محسوس اً بس بب الع وارض المشخص ة ‪ ،‬كالمق ار‬
‫والوضع واألين ‪.‬‬
‫أم ا ل و قط ع النظ ر عن تل ك الع وارض المشخص ة ‪ ،‬ول وحظت حقيقت ه وماهيت ه وهي‬
‫اإلنسانية ‪ ،‬كان مجرد غير محسوس ‪.‬‬
‫وإ ذا ك ان األم ر ك ذلك ف إن معطي ه ذه الحق ائق وجوده ا ‪ ،‬أي ال ذي يعطي ك ل ذي حقيق ة‬
‫تحققه وثبوته ‪ ،‬أولى بأن يكون شيئاً واحداً غير محسوس‪ ،‬ولكن قد يرد سؤال وهو ‪ :‬ما‬
‫وجه هذه األولوية ومقتضيها ؟‬
‫فإذا ثبت وجود موجد به ‪ ،‬به يال كل موجود ذي حقيقة وجوده أفال يجب أن يكون مجرداً‬
‫غير محسوس ‪ ،‬فإذ إن التجرد كمال ‪ ،‬وقد أعطي للمخلوق فال يعقل أن يكون الخالق غ ير‬
‫موجود ‪.‬‬

‫‪-2-‬‬
‫ابن رشد‬

‫العالم أزلي‬
‫يق رر ابن رش د أن ه يوجد تغ ير وحدوث في الع الم من ذ األزل ‪ ،‬ومن ثم فإن الع الم أزلي ‪،‬‬
‫وال يجوز أن يسبقه العدم ‪ ،‬فليس هناك وجود بعد عدم محض ‪ ،‬وذلك ألن العدم ال ينتج‬
‫وجودا ‪ ،‬وكذلك ال عدم بعد وجود ‪ ،‬ألن كل ما يحدث فهو خروج من القوة إلى الفعل ‪،‬‬
‫أو هو رجوع من الفعل إلى القوة ‪.‬‬
‫وإ ذا كان التغير داخل نظام العالم أزلي اً فإنه يستلزم حركة أزلية وهذه تحتاج إلى محرك‬
‫أزلي ولو كان العالم حادث اً لتحتم عينا القول بوجود عالم آخر حادث نشأ عنه وهكذا إلى‬
‫غير نهاية ‪.‬‬
‫أدلة أزلية العالم ‪:‬‬
‫أزلية الفعل اإللهي ‪ :‬وقد أقام ابن رشد نظريته فى قدم العالم على دعائم من أزلية الفعل‬
‫اإللهي ‪ ،‬وهذا الفعل يجب أن يساوق وجود الفاعل الكامل ولكن يجب أن نفرق بين أزلية‬
‫العالم ‪ ،‬وأزلية الباري سبحانه فأزلية الباري تختلف عن أزلية العالم فى الرتبة الذهنية إذ‬
‫إن الباري علة فى العالم ‪ ،‬والعلة مقتدمة على المعلول ويؤيد ابن رشد قوله فى قدم العالم‬
‫– الق ائم على دع ائم من أزلي ة فع ل اإلل ه – ب أقوال عدي دة ‪ ،‬في ( ته افت الته افت ) وفي‬
‫( الكشف عن مناهج األدلة ) ‪.‬‬

‫الشرح‬
‫وأما إذا فرضنا هذا المحدث للعالم أزلي اً فيجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعوالت أزلي اً ‪،‬‬
‫فتكون المفعوالت هي أيض اً أزلية ألن المفعول يجب أن يتعلق به فعل الفاعل فلو فرض‬
‫أن المفعول حادث فإنه يجب أن يتعلق به فعل حادث ‪ ،‬وهذا يستلزم أن يوجد فعل حادث‬
‫من فاعل قديم ‪ ،‬وهم ال يقولون بذلك ‪ ،‬فإن من أصولهم أن القديم ال تحله الحوادث ‪ ،‬ألن‬
‫ذلك يستلزم إما حدوث القديم ‪ ،‬أو قدم الحادث ‪.‬‬
‫وإ ذن فالمحدث للعالم ال يجوز أن يفرض حادث اً وإ ال تسلسل وال أزلي اً وإ ال وجب أن يكون‬
‫العالم الذي هو المفعول أزلياً ‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
‫أزلية الحركة والزمان ‪:‬‬
‫يقرر ابن رشد أن الزمان قديم ال يتصور حدوثه ‪ ،‬وإ ذا كان قديماً ‪ ،‬كانت الحركة قديمة ‪،‬‬
‫ألن الزمان ال يفهم بدون الحركة ‪ ،‬وإ ذن فالمتحرك قديم ‪.‬‬

‫القرآن وقدم العالم ‪:‬‬


‫يبذل ابن رشد جهده فى دعم رأيه ‪ ،‬فى أزلية العالم ‪ ،‬بنصوص من القرآن يقوى بها رأيه‬
‫‪ ،‬حتى يأخذ هذا الرأي نوعاً من القبول والتسليم ‪.‬‬
‫يقول ابن رشد ‪ :‬فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من اآليات الوارة في اإلنباء عن إيجاد‬
‫العالم أن صورته محدثة بالحقيقة ‪ ،‬وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين ‪ ،‬أعني‬
‫غير منقطع وذلك أن قوله تعالى ( وهو الذي خلق السماوات واألرض فى ستة أيام وكان‬
‫عرش ه على الم اء ) يقتض ي بظ اهره إن وج وداً ك ان قب له ذا الوج ود ‪ ،‬وه و الع رش‬
‫والماء ‪ ،‬وزماناً بل هذا الزمان ‪ ،‬أعني المقترن بصورة هذا الوجد ‪ ،‬الذي هو عدد حركة‬
‫الفل ك ‪ .‬وقول ه تع الى ( ي وم تب دل األرض غ ير األرض والس ماوات ) يقتض ى بظ اهرة‬
‫وجوداً ثانياً بعد هذا الوجود ‪ ،‬وقوله تعالى ( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع س ماوات)‬
‫يقتضي بظاهرة أن السموات خلق من شئ ‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫النبوة‬
‫مفهوم وحقيقة النبوة عند الفالسفة‬
‫وقد اعتمد الفارابي – ومن وافقه من الفالسفة في اإلسالم فى تفسير النبوة ومفهومها على‬
‫دع ائم ‪ -‬ميتافيزيقي ة ونفس ية أم ا الدعام ة الميتافيزيقي ة فإنه ا معتم دة على نظري ة العق ول‬
‫العش رة ‪ ،‬وأن العق ل الفع ال ه و آخ ر فيض إلهي فه و منب ع ك ل ش ئ فى ع الم الك ون‬
‫والفساد ‪ ،‬من المعرفة وغيرها وصدر عنه هذا العالم بما فيه من الكثرة والتنوع ‪.‬‬
‫أما اتصال اإلنسان بهذا العقل الفعال فإنه ممكن عن طريقين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬طريق البحث العقلي ‪ ،‬والثاني ‪ :‬طريقة المخيلة ‪.‬‬
‫أم ا األول ‪ :‬فب البحث والنظ ر يس تطيع العق ل اإلنس اني أن ي رقى إلى أعلى درج ات العق ل‬
‫وهي المس تفاد وبه ذا العق ل يمكن لإلنس ان أن يتص ل بالعق ل الفع ال ‪ ،‬فبفض ل الدراس ات‬
‫الطويلة وممارسة الفضائل على أنواعها يستطيع الفيلسوف االصتال باعالم العلوي ‪.‬‬
‫أما الثاني ‪ :‬فهو شأن األنبياء وذلك بطريق المخيلة ‪.‬‬
‫يع رف الن بي بأن ه إنس ان منح مخيل ة قوي ة تمكن ه من االتص ال بالعق ل الفع ال فى مختل ف‬
‫الحاالت ‪.‬‬
‫وقد اعترض على هذا التعريف بأن الفارابي يضع النبي فى مكانة أقل من الفيلسوف وألن‬
‫معرفة الفيلسوف تأتي بطريق العقل والبحث النظري وال شك أن المعارف العقلية أفضل‬
‫من المعارف المتخيلة ألن قوة المخيلة أقل درجة من القوة الناطقة ‪.‬‬
‫إال أن بعض الب احثين ي رى أن الف ارابي ال يأب ه به ذه التفرق ة بين المعلوم ات ال تى ج اءت‬
‫بواس طة الفك ر والبحث‪ ،‬أو بواس طة المخيل ة م ا دام معص دره واح داً وه و العق ل الفع ال ‪،‬‬
‫فالحقيق ة النبوي ة ‪ ،‬والحقيق ة الفلس فية هم ا على الس واء نتيج ة من نت ائج ال وحي ‪ ،‬وأث ر من‬
‫آثار الفيض اإللهي على اإلنسان عن التخيل أو التأمل ‪.‬‬
‫وهم ا ك ان الق ول ف إن الطريق تين مختلفت ان فإنن ا متفق ون على أن العق ل أو الق وة الناطق ة‬
‫افض ل وأوثق من التخيل فتك ون المعرةف ال تى تأتي عن طري ق العق ل أوثق من المعرفة‬
‫التى تأتي عن طريق المخيلة ‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫وبناء على هذه الخواص والمميزات فالنبي عندهم من اجتمع فيه ثالث خصال العلمية ‪،‬‬
‫والخيالي ة ‪ ،‬وق وة الت أثير ‪ ،‬أو بمع نى آخ ر مفه وم الن بي ‪ :‬ه و من ل ه كم ال النفس الناطق ة‬
‫والق وة المخيل ة وق وة الت أثير له ذا فالنبوة ف وق مرتب ة الفلس فة ‪ ،‬والفيلس وف تنقص ه المخيلة‬
‫العظيمة ‪ ،‬وبهذه الخواص للنبي أو الرسول فإنه ال يوجد فرق بين النبي والرسول ‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫الوحي عند أبي يوسف الكندي‬
‫لم يخالف الكندي آراء علماء المسلمين من المتكلمين وغيرهم فى الوحي وأنه كان مؤمن اً‬
‫صادقاً بالوحي والنبوة إيماناً كامالً ولم يفسره تفسيراً فلسفياً كما فعل إخوانه من فالس فة‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ما قرره من أن علوم األنبياء منحة من اهلل وليست مكتسبة كعلوم البشر‬
‫أن الكندي يفرق بين العلوم البشرية وعلوم األنبياء اإللهية من ناحية المصدر والخص ائص‬
‫‪ ،‬وأن عل ومهم م وجزة بين ه محيط ة ب المطلوب ‪ ،‬ويس تمر الكن دي فى توض يح الف رق‬
‫الج وهري بين العلم الكس بي اإلنس اني وبين العلم النب وي اإللهي بمث ال حي تط بيق ل ذلك ‪،‬‬
‫باستدعاء تأملنا فى جواب النبي محمد صلى اهلل عليه وسلم فيما سأله المشركون عنه من‬
‫إحياء عظام الموتى وهي رميم فإن ذلك عند هؤالء السائلين مستبعد كما بين ذلك سبحانه‬
‫وتع الى فى ش أن س ؤال المنك رين ( ق ال من يح يي العظ ام وهي رميم ) ولكن اهلل بإرادت ه‬
‫أوحى إلى رسوله عليه الصالة والسالم بكل وضوح وصراحة ( قل يحييها الذي أنشأها‬
‫أول م رة وه و بك ل خل ق عليم ال ذي جع ل لكم من الش جر األخض ر ن اراً ف إذا أنتم من ه‬
‫توقدون أوليس الذي خلق السماوات واألرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخالق‬
‫العليم "‪.‬‬
‫ف رأى الكن دي وتفك يره فى ال وحي والنب وة مغ اير آلراء فالس فة المس لمين ال ذين ج اءوا من‬
‫بعده ولم نر أحداً من الباحثين أو الكاتبين إال وقال ك إن عقيدته فى الوحي والنوبة عميقة‬
‫وسليمة وموافقة لروح اإلسالم ‪ ،‬وآراء علماء عصره من المتكلمين والمفسرين وغيرهم ‪.‬‬
‫ويب دو أن م ا س اعد الكن دي على اإلل تزام به ذه اآلراء فى ال وحي والنب وة بج انب إيمان ه‬
‫العمي ق ‪ ،‬أن ه نش أ فى الق رون األولى لإلس الم ولم تكن الفلس فة ق د انتش رت ب بين المس لمين‬
‫فأثرت فيه البيئة اإلسالمية المتمسكة بعقائدها وفق نصوص القرآن والسنة ‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫الوحي عند أبي نصر الفارابي‬
‫فالوحي عنده يقوم على ‪:‬‬
‫دعائم ميتافيزيقية وهي القول بالعقول العشرة التى بدأت من فيض اهلل من‬ ‫أوالً ‪:‬‬
‫العقل األول إلى العقل العاشر ‪ ،‬أو المسمى بالعقل الفعال ‪ ،‬وأن هذا‬
‫العقل له تأثير فى جميع الموجودات السفلية ‪.‬‬

‫على ال دعائم النفس ية وهي تق وم على الق وى النفس ية الداخلي ة واتص الها‬ ‫ثانياً‪:‬‬
‫بالعالم اإلنساني الداخلي ‪.‬‬

‫يقوم كذلك على نظرية المعرفة اإلشراقية وهي تحصل بطريقة التصفية‬ ‫ثالثاً ‪:‬‬
‫والعبادة والرياضة النفسية والبعد عن الملذات المادية والتوجه بالكلية إلى‬
‫عالم القدس ‪.‬‬

‫ومما تقدم يتبين لنا أن الوحي عند الفارابي ‪ :‬هو فيض من العقل الفع ال على المخيل ة ‪ ،‬أو‬
‫اتصال القوة المتخيلة بالعقل الفعال والتقاط الصور منه كلية أو جزئية حاضرة كانت أو‬
‫مستقبلة ‪.‬‬

‫االتصال بالعقل أو القوة الناطقة‬


‫‪-8-‬‬
‫وبه ذا يت بين لن ا أن طري ق االتص ال بالعق ل الفع ال عن د الف ارابي ممكن بطري ق البحث‬
‫والنظ ر العقلي وه و للحكم اء والفالس فة وطري ق المخيل ة وكم ال النفس وه و لألنبي اء ل ذلك‬
‫فال ف رق ‪ -‬عن د الف ارابي بين معرف ة العق ل والنب وة أو بين ال دين والفلس فة طالم ا أن‬
‫المصدر أو المنبع واحد وهو العقل الفعال ‪.‬‬
‫ويبدوا أن الفارابي يجعل القوة المخيلة هي الميزة األولى للنبي في االتصال بالعقل الفعال‬
‫يقظة أو نوم اً ‪ ،‬وكذلك للنبي قوة أخرى عقلية وهي القوة القدسية تمكنه من اإلتصال فى‬
‫أي وقت شاء ‪.‬‬
‫وبه ذا يت بين لن ا كي ف يك ون ال وحي عن د الف ارابي فمص در ال وحي ه و مص در المعرف ة‬
‫لإلنسان وأعلى درجة المعرفة اإلنسانية هي التى تأتي عن طريق اإلتصال بالعقل الفعال‬
‫سواء كانت بالمخيلة الممتازة أو العقل اإلنساني الذي وصل إلى كماله ‪.‬‬

‫ابن سينا‬
‫فابن سينا يبني نظريته فى الحي على الدعامة الميتافيزيقية وهو القول بالعقول العشرة ‪،‬‬
‫وعلى الدعامة النفسية والتجربة الشخصية ‪ ،‬حيث يقول نفس ما قال به الفارابي ‪ ،‬ويتبعه‬
‫خطوة خطوة ‪.‬‬
‫إال أن ابن س ينا يخ الف أس تاذه فى األم ور الش كلية كاألس لوب وطريق ة ع رض الفك رة ف إن‬
‫ابن سينا أكثر بسطاً فى العبارة وأزيد توضيحاً وتفصيالً للفكرة ‪.‬‬
‫ومهما يكن من الخالف بينهما فهو ال يخرج عن كونه توضيحاً وتبسيطاً ‪.‬‬
‫ابن رشد وسار على منوال من سبقه من فالسفة اإلسالم‬

‫ابن رشد وسار على منوال من سبقه من فالسفة االسالم فى محاولة التوفيق بين الدين‬

‫‪-9-‬‬
‫والفلسفة‬
‫أم ا رأي ابن رشد عن ال وحي فيب دوا أن ه خ الف الف ارابي وابن س ينا ومن ل ف لفهم ا من‬
‫جانب ووافقهما من جانب آخر ‪.‬‬
‫أما الجانب المخالف فإن آراءه ليست بعيدة عن آراء المتكلمين وعلماء المسلمين ‪ ،‬ومما‬
‫يدل على أنه قريب من مذهبهم بقدر ما هو بعيد عن آراء الفارابي وابن سينا ما يلي ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬نصوصه الواضحة التى لم تدع مجاالً للشك فى أن كالمه وآراءه في الوحي توافق‬
‫م ا ه و مع روف عن د أه ل الس نة والمتكلمين وأن ه اس تدل بم ا اس تدل علم اء المس لمين من‬
‫المتكلمين وغ يرهم ( وم ا ك ان لبش ر أن يكلم ه اهلل إال وحي اً أو من وراء حج اب أو يرس ل‬
‫رسوالً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه على حكيم )‬
‫ويؤيد ذلك أنه لم يبتعد عن كالم المتكلمين وخصوصاً األشعرة ما جاء فى كالمه ع الرآن‬
‫حيث قال فقدتبين لك أن القرآن الذي هو كالم اهلل قديم ‪ ،‬وأن اللفظ الدال عليه مخلوق له‬
‫سبحانه ال لبشر‪.‬‬
‫فابن رشد يرى طريقين لالتصال ‪ :‬طريق الهبوط وهو مخصوص لبعض الناس وطريق‬
‫الصعود وهو بالبحث والنظر وهو ميسور لكل إنسان وبهذا الرأي الثاني يكون ابن رشد‬
‫موافق اً للف ارابي وابن س ينا فى أن اإلتص ال بالع الم العل وي يمكن بطري ق العق ل والبحث‬
‫والنظر ‪.‬‬
‫وال عجب فيم ا ذهب إلي ه ابن رش د ب أن اإلتص ال يك ون بط ريقين ألن ذل ك ار على منهج‬
‫الفالس فة وه و التوفي ق بين ال دين والفلس فة وأن رأي ه األول ي راد ب ه عام ة الن اس – وهم‬
‫الجمهور – في فهم الوحي والنبوة وأما الرأي الثاني فهو للخواص وهم الفالسفة ؟‪.‬‬
‫وله ذا فق د س قط ابن رش د فيم ا س قط في ه الف ارابي وابن س ينا ومن وافقهم ا في رأي ه الث اني‬
‫ويعتبرض عليه بما اعترض عليهم بأن النبوة مكتسبة ‪.‬‬

‫تعقيب‬

‫‪-10-‬‬
‫وق د وجهت إلى ه ذه النظري ة اعتراض ات ش تى ‪ ،‬ن ذكر بعض اً منه ا لنع ر م دى بع د ه ذه‬
‫النظرية عن اإلسالم ونصوصه ‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬وق ول الف ارابي إن للعق ل العاش ر ت أثيراً في الع الم الس فلي وأن ه منب ع ومص در‬
‫للوحي والمعرفة واإللهام‬
‫فى الواق ع أن ه ذه النظري ة ال أس اس له ا وأنه ا مناقض ة لم ا في الق رآن الك ريم‬
‫والسنة والنبوية فهي تقيد إرادة اهلل تعالى المطلقة إذ تجعل الفيض أمراً ضرورياً‬
‫الزماً‪،‬‬
‫يترتب على ذلك أن اهلل محتاج إ لى هذه الوسائط إلبداع الكائنات وبدونها ال يق در‬
‫على ذلك ه ذا القول من اقض لم ا ه و مس لم عن د أه ل الح ق ( أه ل الس نة ) أن اهلل‬
‫حين خلق األشياء المتغايرة لم يحتج إلى وساطة هذه العقول ‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬أما كون العقل العاشر هو مصدر الوحي أو الملك أو الموكل الوحي فإننا لم نر‬
‫أثراً للمالئمة بينهما ‪ ،‬ألن من المسلم به من النصوص أنها لم تستند لجبري ل عليه‬
‫الس الم عمالً على طري ق اإليج اد الت دبير المباش ر ‪ ،‬فجبري ل ليس إال ملك اً كس ائر‬
‫المالئكة كما في قوله تعالى ( ال يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )‬
‫ثالثاً ‪ :‬إن رأي الفارابي ومن تبعه من الفالسفة فى الوحي مناقض لصريح اآلية فى قوله‬
‫تع الى ( وم ا ك ان لبش ر أن يكلم ه اهلل إال وحي اً أو من وراء حج اب أو يرس ل‬
‫رسوالً فيوحي بإذنه من يشاء ) فقد جعل اهلل الوحي أنواع اً منه اإللهام وخطاب‬
‫من وراء حج اب ‪ ،‬ومن ه إرس ال ف أين ه ذا التقس يم فى العق ل الفع ال إذا جعلن اه‬
‫مصدر الوحي ؟‬
‫رابع اً وإ ذا ك ان الق ول ‪ :‬إن اإلتص ال بالعق ل الفع ال للن بي ال يتم عن طري ق المخيل ة‬
‫فحس ب ‪ ،‬ب ل يمكن أيض اً بطري ق العق ل وإ ن ه ذا الطري ق يك ون لألنبي اء وغ ير‬ ‫‪:‬‬
‫األنبي اء ‪ ،‬فيج وز إلنس ان م ا بواس طة العق ل والنظ ر والبحث ومجاه دة النفس‬
‫بالرياض ة والص بر على أن واع العب ادات وغ ير ذل ك من األس باب ح تى يص ل إلى‬
‫مستوى من الكمال فيمكنه االتصال بالعقل الفعال ‪.‬‬
‫ل ذلك أخ ذ علم اء الكالم على ه ذه النظري ة أن النب وة أم ر كس بي ‪ ،‬واهلل ع ز وج ل‬

‫‪-11-‬‬
‫يقول ( اهلل أعلم حيث يجعل رسالته ) فالنبوة خصوصية من اهلل تعالى يختص بها‬
‫من يش اء من عب اده ال يبلغه ا العب د مهم ا ك ان كس به إال بمش يئته تع الى إذن فال‬
‫كسب وال استعداد وال غيرهما يستحق به اإلتصال‬
‫خامس أن ه جع ل ال وحي نوع اً من الظن والخي ال ال قيم ة حقيقي ة ل ه ‪ ،‬وأن ه يمكن أن‬
‫يحصل عليه كل إنسان بل وللمجانين والمرضي والممرورين‪.‬‬ ‫اً ‪:‬‬
‫وس بب ه ذا الخط أ الكب ير ال ذي وق ع في ه فالس فة المس لمين فى تفس يرهم للنب وة‬
‫والوحي هو أن هدفهم هو التوفيق بين العقل والنقل ‪.‬‬

‫طريق إثبات النبوة‬


‫لم يخ الف فالس فة المس لمين المتكلمين فى أن المعج زة هي المنهج األساس ي فى االس تدالل‬
‫على صدق األنبياء ‪ ،‬وبها نستطيع أن نميز النبي عمن سواه من البشر ومع ذلك لم ينكر‬

‫‪-12-‬‬
‫ابن سينا الطرق األخرى بل أقر بها‪.‬‬
‫فإثب ات النب وة ‪ ،‬يراه ا ابن رش د وال تى تص لح على الس واء للخاص ة والعام ة هي الش رائع‬
‫التى جاء بها األنبياء المشتملة على العقائد واألحكام العملية ‪ ،‬والفضائل السلوكية ‪ ،‬فهي‬
‫بوحي من اهلل تعالى فهذا الفعل وهو وضع الشرائع للناس بوحي من اهلل تعالى يدل داللة‬
‫قطعية على أنه نبي وهذا األصل غير مشكوك فيه فى الفطرة اإلنسانية ‪.‬‬
‫ويرى ا بن رشد أن محمداً صلى اهلل عليه وسلم لم يدع النبوة متحديا المعارضين المكذبين‬
‫لرس الته ب أمور خارق ة للطبيع ة أي ب المعجزات الحس ية ب ل ال ذي تح دى ب ه الن اس وجعل ه‬
‫دليالً على صدقه فيما ادعى من رسالته هو الكتاب العزيز وحده أي التشريعات التى جاء‬
‫بها بوحي من اهلل ‪.‬‬

‫ويقرر ابن رشدأن القرآن الكريم نبه على هذين األصلين ‪،‬‬
‫وأما الثاني ‪:‬‬ ‫أما األصل األول ‪:‬‬
‫فه و وج ود ه ذا الص نف من الن اس حيث وه و وض ع الش رائع للن اس ب وحي من اهلل‬
‫يق ول ع ز وج ل ( ق ل م ا كنت ب دعاً من فيقول عز وجل ( يا أيها الناس قد جاءكم‬
‫بره ان من ربكم وأنزلن ا إليكم ن وراً مبين اً )‬ ‫الرسل ) ‪.‬‬
‫ويعنى القرآن الكريم ‪.‬‬

‫وابن رشد يفرق بين نوعين من المعجزة‬


‫‪ )2‬المعجز المعنوي ‪،‬‬ ‫‪ )1‬المعجز البراني ‪،‬‬
‫ه و طري ق مش ترك بين الجمه ور والعلم اء‬ ‫وهو الذي ال يناسب الصفة التى بها سمى‬
‫الن بي نبي اً ‪ ،‬ه و طري ق الجمه ور وإ يمان ه أو بين العامة والخاصة ‪.‬‬
‫بالنبوة ‪،‬‬

‫م ا مض ى يت بين لن ا أن فالس فة المس لمين يتفق ون م ع المتكلمين وعلم اء المس لمين على أن‬
‫المعجزة هي المنهج األساسي فى االستدالل على صدق األنبياء سواء كانت هذه المعجزة‬

‫‪-13-‬‬
‫حسية أو معنوية إال الفالسفة وخاصة ابن رشد فقد خص المعجزة الحسية أو البرانية كما‬
‫يسميها هو لعامة الناس ‪.‬‬
‫وأن المعجزة المعنوية تكون للخاصة والعامة ‪ ،‬بخالف المتكلمين فلم يميزوا فى ذلك بين‬
‫الجمهور والخاصة ‪.‬‬

‫المعجزة عند فالسفة المسلمين‬


‫( الفارابي وابن سينا ) أكثر فالسفة المسلمين‬
‫يفسرون المعجزة تفسيراً مخالفاً لما ذهب إليه المتكلمون وأكثر علماء المسلمين‬
‫وبيان ذلك أن المعجزة عندهم أمر ال يخرج عن الطبيعة ‪ ،‬بل يجري على س نن وأس باب‬
‫طبيعية‪،‬‬
‫وذلك أن النبي له خواص ثالث وهي ‪:‬‬

‫‪-14-‬‬
‫كمال العقل ‪ )2‬والمخيلة الممتازة ‪ )3‬وقوة النفس الناطقة ‪.‬‬ ‫‪)1‬‬
‫ويرى الفالسفة أن المعجزات صادرة عن هذه الخواص الثالث للنبي أو بمعنى آخر أنها‬
‫ترجع إلى فعل النبي ‪.‬‬
‫أم ا كم ال العقل والن بي ال ذي يتمي و بقوت ه العقلي ة إلى أعلى درج ة ص ارت ل ه ق وة الح دس‬
‫والخامس هو انتقال من معلوم إلى معلوم آخر بسرعة هائلة فينتقل من الدليل إلى المدلول‬
‫بال تكلف حتى يدرك أكثر المعقوالت فى وقت قليل بال رؤية وال معلم ‪.‬‬
‫فصاحب هذا الحدس يدرك المعقوالت بهذه السرعة الفائقة التى لم يصل إليها غيره فهذه‬
‫معجزة لنبي من هذه القوة ‪.‬‬
‫وأم ا الق وة المخيلة فق الوا إذا بلغت ه ذه الق وة نهاي ة الكم ال لم تس تغلها الح واس وأعم ال‬
‫البدن استطاعت االتصال بالعقل الفعال أو المالئكة يقظةويفيض عليها بالعلوم والمعارف‬
‫الحاض رة والمس تقبلة ف ترى األش ياء الش ريفة فتك ون لص احبها اإلخب ار عن المغيب ات فه ذه‬
‫معجزة للنبي من هذه القوة ‪.‬‬
‫وأما القوة النفسية الصافية التى تجردت عن المادة بالكلية فهي المهمة عند الفالسفة فى‬
‫تحقي ق المعج زات الحس ية ‪ ،‬ألنه ا تس تطيع أن تطل ع على الع الم العل وي ‪ ،‬فال يبع د أن‬
‫تتص رف ه ذه القوة فى العالم الخ ارجي ‪ ،‬كم ا تتص رف فى ب دنها فإنها ليست منطبعة فى‬
‫األبدان ولكن متصلة بالبدن اتصال المدبر والمتصرف ‪.‬‬
‫ومن كالم الفارابي وابن سينا يتبين أن المعجزات المعنوية أو المعقوالت ترجع إلى كمال‬
‫عقل النبي أو اتصال المخيلة القوية بالعقل الفعال وأما المعجزات الحسية كنزول األمطار‬
‫وهبوب الرياح ونحوها فترجع إلى تأثير قوة النفس النبوية على العالم الخارجي ‪.‬‬

‫ومن هن ا يمكنن ا أن نع رف المعج زة عن د الف ارابي وابن س ينا ومن وافقهم ا من فالس فة‬
‫المس لمين بأنه ا أم ر خ ارق لع ادة البش ر ‪ ،‬حاص ل من كم ال العق ل ‪ ،‬أو اتص ال المخيل ة‬
‫بالعقل الفعال‪ ،‬أو تأثير نفوس األنبياء على الطبيعة ‪.‬‬
‫ونحب أن ننبه إلى أن الفارابي وابن سينا ومن ذهب مذهبهما قد فسروا المعجزة المعنوية‬
‫والحس ية تفس راً نفس ياً مادي اً ألن المعج زات المعنوي ة ص ادرة من العق ل الفع ال بطري ق‬
‫اتصال مخيلة النبي أو عقله وأن المعجزات الحسية صادرة من نفس النبي وأنه يمكن أن‬

‫‪-15-‬‬
‫يأتي بهذه الخوارق فى أي وقت شاء ‪.‬‬
‫لذلك فإنه ال يوجد فرق – عند ابن سينا – بين معجزات األنبياء وما يحدث من األولياء‬
‫والس حرة من ناحي ة المص در ‪،‬ألن كالً منهم ا ص ادر عن النفس اإلنس انية إال أن األنبي اء‬
‫واألولي اء ال تص در عنهم إال أفع ال الخ ير وم ا يوص ل إلى المن افع الدنيوي ة والس عادة‬
‫األخروية بخالف السحرة والمشعوذين ‪.‬‬
‫وجمل ة الق ول أن ابن س ينا – ومن ذهب مذهب ه – يخ الف المتكلمين في مفه وم المعج زة‬
‫وكيفية الحصول عليها سواء أكانت المعجزات حسية أو معنوية فغاية األمر أن المعجزة –‬
‫عند المتكلمين – ترجع إلى فعل اهلل المحض وإ رادته وغذنه وليس فى وسع النبي أن يأتي‬
‫به ا أو يكتس بها بخالف ابن س ينا فإن ه يفس رها تفس يراً مادي اً وأنه ا ترج ع إلى نفس الن بي ‪،‬‬
‫وأن النبي يمكن أن يأتي بها متى أراد ذلك ‪.‬‬
‫هذا فى المعجزات الحسية أما فى المعجزات المعنوية فإنها ترجع إلى كمال القوة المخيلة‬
‫عند النبي ومن ثم اتصاله بالعقل الفعال متى شاء وأراد ‪.‬‬

‫المعجزة عند ابن رشد‬


‫أم ا ابن رش د فق د أق ر ك ذلك بن وعين من المعج زة فهن اك المعج ز الحس ي ال ذي يس ميه ه و‬
‫المعجز البراني ‪ ،‬والثاني المعجز المعنوي أو المعجز األهلي والمناسب ‪.‬‬
‫وأيض اً ي رى ابن رش د األش ياء تختل ف فيم ا بينه ا بم ا لك ل ش ئ من ذات خاص ة وطبيع ة‬
‫خاصة بها يصدر عنه فعله الخاص‪.‬‬
‫والنزاع بين الفالسفة والمتكلمين نزاع جوهري حقيقي ال يقبل الوفاق‪،‬‬
‫فقول ابن سينا ومن وافقه من جعل التأثير للسبب ونفي تدخل الفعل اإللهي ‪،‬‬

‫‪-16-‬‬
‫يهذا القول يتناقض مع ما حكى لنا القرآن الكريم فى معجزات األنبياء الحسية ففي قصة‬
‫إبراهيم عليه السالم حين ألقي فى النار التى تتوفر فيها األسباب العادية وأن إبراهيم عليه‬
‫السالم جسم قابل لالحتراق فكان أثراً حتمياً لقانون الطبيعة حدوث االحتراق ال محالة فى‬
‫ذلك ‪ ،‬ولكن قد تخلف األثر الحتمي مع توفر األسباب والظروف حيث صارت النار برداً‬
‫وسالماً على إبراهيم عليه السالم‪.‬‬
‫ولعل ابن رشد بهذه الحقيقة خالف إخوانه من فالسفة المسلمين في المعجزة الحسية وإ ن‬
‫كانت جارية على قانون السبب والمسبب إال أنها ال تقع إال بوجود أسباب خارجية ‪ ،‬يعبر‬
‫عنه ا بفاع ل خ ارجي ل ذلك ن راه يؤك د لن ا أن ه م ا ينبغي أن يش ك أح د فى أن األس باب ال‬
‫تكتفي بنفسها فى أن تكون عنها مسبباتها ‪ ،‬بل البد لها فى هذا من فاعل من خارج فعله‬
‫شرط في فعلها بل فى وجودها فضالً عن فعلها ‪.‬‬
‫وأن ه ذا الفاع ل يتن اول فعل ه ه ذه الموج ودات بواس طة أم ر معق ول ل ه ه و غ ير ه ذه‬
‫الموج ودات وأض اف ابن رش د أن الفالسفة أنك روا ما قالت الدهرية أن األشياء تحدث ثم‬
‫تفني بعوامل الطبائع نفسها ‪.‬‬
‫أما ابن رشد فإن المعجزة الحسية عنده تتم بأمرين ‪ :‬أوالً تأثير السبب نفسه وثاني اً وجود‬
‫اأسباب الخارجية التى سخرها اهلل فيها ‪.‬‬
‫أم ا الف ارابي وابن س ينا – ومن وافقهم ا – فلم نج د لهم ا ش يئاً يفي د اتفاقهم ا م ع ابن رش د ‪،‬‬
‫في وجود مؤثر خارجي ‪ ،‬بل غاية القول عندهما أنها ترجع إلى النفس النبوية ‪.‬‬

‫تعقيب‬
‫وق ال تع الى ( ولق د أرس لنا رس الً من قبل ك منهم من قصص نا علي ك ومنهم من لم نقص ص‬
‫عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إال بإذن اهلل )‬
‫فهذه اآلية صريحة فى أنه لم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق أو آية إال بعد‬
‫أن يأذن اهلل له فى ذلك فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به ‪.‬‬

‫به ذا المفه وم من الق رآن الك ريم نس تطيع أن نق ول ‪ :‬إن المعج زات ليس ت ص ادرة فق ط من‬
‫اهلل تع الى ‪ ،‬وأنه ا خارق ة للع ادة والس نن الطبيعي ة ب ل إن دالالته ا على ص دق النب وة دالل ة‬

‫‪-17-‬‬
‫قطعية ونازلة منزلة التصديق كما يقول المتكلمون وعلماء المسلمين ألنها ال تقع إال حين‬
‫تقتضيها الضرورة واألسباب ‪.‬‬
‫إذن فمفهوم المعجزة عند فالسفة المسلمين مخالف لما فى القرآن الكريم ‪،‬‬
‫ألن غاي ة األم ر عن دهم فى المعج زة أنهم يجعلونه ا أث راً طبيعي اً عادي اً يج رع إلى النفس‬
‫اإلنس انية وليس ت خارج ة عن نط اق الطبيع ة ‪ ،‬وأن الن بي يمكن أن ي أتي به ا فى أي وقت‬
‫ك ان وعلى أي وج ه ش اء ومن ثم تفق د داللته ا على الص دق دالل ة قطعي ة ولم يكن هن اك‬
‫معنى لتحدي النبي للمنكرين ‪.‬‬
‫ومما ال شك أن هذا التفسير يبعد المعجزة عن حقيقتها التى أردها اإلسالم ‪.‬‬

‫عصمة األنبياء‬
‫أوجب فالس فة اإلس الم عص مة األنبي اء وق رروا أن العص مة ملك ة ال تص در عن ص احبها‬
‫المعاص ي وه ذه الملك ة راس خة فى الن بي بعلم ه مث الب المعاص ي ومن اقب الطاع ة وكم ال‬
‫معرفته ‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫بهذا يتبين لنا أن الفالسفة قالوا بفطرية العصمة في األنبياء وهم في هذا يتفقون مع الش يعة‬
‫‪ ،‬ولكنن ا يجب أن نض ع نص ب أعينن ا أن ق ول العص مة بالملك ة ال ينفي االختي ار عن‬
‫األنبياء ألن مفهوم الملكة عندهم هو القدرة على الفعل أو الترك ‪.‬‬
‫ولكنن ا نالح ظ أن بعض علم اء اإلس الم يأخ ذون على الفالس فة آراء تتن افي م ع الق ول‬

‫‪-18-‬‬
‫بعصمة األنبياء‬
‫فق د ألزم وا فالس فة المس لمين الق ول بج واز الك ذب على األنبي اء فى تبلي غ الرس الة وذل ك‬
‫عن دما ي رون أن ش رع األنبي اء في ه رم وز وإ ش ارات تكتفي العام ة بظاهره ا بينم ا الحقيق ة‬
‫وراء ذلك شئ آخر‬
‫أن إلزام بعض علماء المسلمين فالسفة المسلمين‬
‫بأنهم يجوزون على األنبياء الكذب عمداً فى التبليغ للمصلحة فإن هذا الزم لمذهبهم‬
‫إال أنن ا نس تبعد أن يق ول الفالس فة ذل ك ص راحة ألن ه من أش نع القب ائح وم ا ينبغي ألح د أن‬
‫يقول فى حق الرسل إنهم كاذبون ألن كذبهم يلزم منه كذب المرسل المصدق لهم وهو اهلل‬
‫تع الى ويل زم من ذل ك أيض اً ج واز أن بعض النص وص المنزل ة من اهلل على حقيقته ا ق د‬
‫بدلها األنبياء لمصلحة الجمهور ألن البي لو بلغها على حقيقتها ألنكروها لعدم فهمهم لها ‪.‬‬
‫ولكن هذا الفرض بعيد كل البعد ‪ ،‬ومردود بأن األنبياء يعترفون صراحة بأنهم مأمورون‬
‫بتبليغ ما أوحي إليهم ‪ ،‬وليس فى استطاعتهم أن يغيروا شيئاً منه حيث قال عز وجل على‬
‫لسان نبيه محمد صلى اهلل عليه وسلم ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع‬
‫إال ما يوحي إلى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) يونس ‪.15 :‬‬

‫الفصل الثالث‬

‫مسألة إنكار الفالسفة لحشر األجساد‬


‫ي ذكر الغ زالي فى كتاب ه " ته افت الفالس فة " أن الفالس فة أنك رت البعث لألجس اد وأنك رت‬
‫النعيم واأللم الجس ماني وأولت م ا ذك رت فى الش رع من ذل ك ‪ ،‬بأن ه أمثل ة ض ربت لع وام‬
‫الخل ق ‪ ،‬لتفهيم ث واب وعق اب روح انيين هم ا أعظم مرتب ة من الجس مانيين وق رر الغ زالي‬
‫أنهم فى ذلك مخالفون العتقاد المسلمين كافة‪.‬‬

‫بعد ذلك يبين الغزالي – على لسان الفالسفة – وجه الحاجة إلى العلم فيذكر أن العلم هو‬
‫‪ .‬غذاء القوة العاقلة ولذتها ‪ ،‬والبدن هو العائق للقوة العاقلة عن اإلطالع على المعقوالت‬

‫‪-19-‬‬
‫واللذة العقلية أشرف من اللذة الجسمانية والدليل على ذلك أمران ‪:‬‬

‫أحدهما ‪:‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫األمر الثاني ‪:‬‬ ‫‪2‬‬


‫أن اإلنس ان فى ه ذه ال دنيا ق د ي ؤثر الل ذات أن ح ال المالئك ة أش رف من ح ال الس باع‬
‫العقلي ة على الحس ية ‪ ،‬ف إن ال ذي يتمكن من والخنازير وليس لها اللذات الحسية ‪ ،‬وإ نما‬
‫غلبة العدو ‪ ،‬والشماته به ‪ ،‬يهجر فى سبيل له ا ل ذة الش عور بكماله ا وجماله ا ال ذي‬
‫ذل ك الل ذات الحس ية ‪ ،‬وق د يهج ر اإلنس ان خص ت ب ه فى نفس ها وله ا ل ذة فى إطالعه ا‬
‫األك ل ط ول النه ار ألج ل أن ين ال ل ذة غلب ة على حق ائق األش ياء وقربه ا من رب‬
‫العالمين فى الصفات ال فى المكان ‪.‬‬ ‫الشطرنج مثالً ‪.‬‬

‫بعد ذلك يبين الغزالي وجه الحاجة إلى العمل‬


‫في ذكر أن النفس فى الب دن محجوب ة عن درك حق ائق األش ياء ‪ ،‬الش تغالها بالب دن ‪،‬‬
‫ونزوعها إلى شهواته ‪،‬‬
‫فغ ذا تمكنت تل ك الش هوات من النفس ح تى م ات الب دن ك انت ه ذه الص فات مؤذي ة للنفس‬
‫ألنها تمنعها من لذتها الخاصة بها وهي االتصال بالمالئكة واإلطالع على األمور الجميلة‬
‫اإللهية‬
‫ثم في هذا الوقت ال يكون معها البدن الشاغل لها عن التألم كما كانت قبل الموت ‪،‬‬
‫ثم يبقى معها الحرص والميل إلى الدنيا وأسبابها ولذاتها ‪،‬مع أن البدن –هو اآلله لها فى‬
‫نيل اللذات‪ -‬قد أخذ منها ولم يعد لها أمل فى عودته إلهي ا وال ينجي عن اإلتصاف بهذه‬
‫الهيئات إال اتباع األخالق الفاضلة وتجنب األخالق الذميمة ‪.‬‬
‫هذا هو وجه الحاجة إلى العمل‪،‬‬
‫ومن انعدمت فيه فضيلة العلم والعمل جميعاً فهو الهالك ‪،‬‬
‫ومن جمع الفضيلتين العلمية والعملية فهو العارف العابد ‪ ،‬وهو السعيد المطلق ‪،‬‬
‫ومن نال فضيلة العلم فقط فهو العالم الفاسق ‪ ،‬ويعذب زمانا ‪،‬‬
‫ومن نال الفضيلة العملية دون العلمية فهو ناج ‪ ،‬ولكن ال يحظى بالسعادة الكاملة ‪.‬‬

‫‪-20-‬‬
‫وال يختلف تصوير الغزالي لرأي الفالسفة اإلسالميين عما ذكره الفارابي وابن سينا ‪.‬‬
‫فالف ارابي فى كتاب ه ( آراء أه ل المدين ة الفاض لة ) يقس م النف وس ب النظر إلى مآله ا ثالث ة‬
‫أنواع ‪.‬‬
‫‪ )1‬أوالً ‪:‬‬ ‫‪ )2‬وثانياً ‪:‬‬ ‫‪ )3‬ثالثاً ‪:‬‬
‫نف وس أه ل المدين ة الفاض لة النفوس الجاهلة وهذه تحتاج النف وس الخ يرة وه ذه س تبقى‬
‫بع د الم وت متل ذذة بل ذات‬ ‫ال ذين أص ابهم ش ئ من فى قوامها إلى المادة ‪.‬‬
‫عقلي ة ‪ ،‬ت زداد كلم ا اتص ل‬ ‫الرذائ ل ‪ ،‬وه ذه تبقى بع د‬
‫بعض النفوس ببعض ‪.‬‬ ‫الم وت متألم ة ب ألم الحرم ان‬
‫من تل ك الل ذة العقلي ة ال تى‬
‫كانت للفاضلين الخلص ‪.‬‬

‫وأم ا ابن س ينا فه و يعق د فص الً فى كت اب ( النج اة ) عنوان ه ‪ :‬فص ل فى مع اد األنفس‬


‫اإلنسانية ‪.‬‬
‫وهو يقسم المعاد إلى ما هو مقبول من الشرع وال سبيل إلى إثباته إال من طريق الشريعة‬
‫وتصديق خبر النبوة ‪،‬‬
‫وهو الذي للبدن وقد تكلفت الشريعة ببيان هذا الصنف خصوص اً الشريعة الحقة التى أتانا‬
‫بها نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني ‪،‬‬
‫وقد صدقته الشريعة ‪ ،‬وهو السعادة والشقاوة التى لألنفس ‪ ،‬وإ ن كانت األوهام منا تقص ر‬
‫عن تصورها اآلن فى حياتنا الدنيوية النشغالنا بالدنيا وحاجة البدن ‪.‬‬

‫‪-21-‬‬
‫ونحن إذ قارن ا بين م ا يق رره الف ارابي فى ه ذا الص دد ‪ ،‬وبين م ا يق رره ابن س ينا فس وف‬
‫ن رى أن ابن س ينا أق رب إلى تفهم النص وص ال واردة فى الش رع بش أن الث واب والعق اب‬
‫الحس يين ‪ ،‬غ ير أن ه يجع ل ه ذا الث واب ‪ ،‬وذل ك العق اب الجس ماني خسيس اً وخيالي اً ‪ ،‬وه و‬
‫خاص باألنفس الخسيسة الساذجة ‪.‬‬

‫‪-22-‬‬
‫استدالل الفالسفة على استحالة بعث األجسام‬

‫الدليل األول‬
‫نلخصه فيما يلي ‪ :‬إذا فرضنا إعادة البدن فإن هذا الفرض ال يعدو ثالثة احتماالت ‪:‬‬

‫ال‬ ‫المع روف أن اإلنس ان عب ارة عن الب دن والنفس مع اً ونس بة النفس إلى االحتم‬
‫األول ‪:‬‬ ‫البدن هي نسبة العارض إلى المعروض‪،‬‬
‫ومع نى الم وت انقط اع الحي اة ‪ ،‬بمع نى أن الخ الق يمتن ع عن خلقه ا‬
‫فتنعدم‪،‬‬
‫ومع نى المع اد إع ادة اهلل الب دن ال ذي انع دم ‪ ،‬وإ ع ادة الحي اة ل ه ال تى‬
‫انعدمت‪ ،‬أو أن مادة البدن تبقي تراباً ‪،‬‬
‫ومع نى المع اد أن يجم ع اهلل ذل ك ال تراب ويركب ه على ش كل آدمي ‪،‬‬
‫ويخلق فيه الحياة مرة أخرى وهذا االحتمال باطل بشقيه ‪.‬‬

‫أما األول وهو القول بإع ادة الب دن بع د إعدام ه بالكلية فه و فى الحقيق ة‬
‫بدأ خلق ‪ ،‬ال إعادة له ‪ ،‬ألن اإلعادة تتضمن بقاء شئ وتجدد شئ آخر‬
‫كان األول قد فارقه ثم رجع إليه ‪.‬‬

‫وأما الشق الثاني من هذا القسم وهو الق ول ب أن الب دن ق د انقلب تراب اً‬
‫فهو باق وعادت إليه الحياة فهو قول باإلعادة ولكن ال يكون العائد فى‬
‫الحقيقة هو اإلنسان ألن اإلنسان بنفسه ال بجسمه فيكون ذلك ابتداء خل ق‬
‫اإلنسان ألن الذي حدث هو إعادة التراب إلى صفة الحياة ‪.‬‬

‫‪-23-‬‬
‫ال‬ ‫االحتم‬ ‫النفس جوهر مجرد من المادة وهي باقية بعد الموت‬
‫ومعنى المعاد أن بعد البدن األول بجميع أجزائه بعينها وهذا أيضاً باطل الثاني ‪:‬‬
‫ألن ب دن الميت يتحل ل وتأكل ه الهوام والدي دان وي دخل بعض ها فى بعض‬
‫ويدخل بعضها فى تكوين كائنات أخرى‪،‬‬
‫إذ يتحول التراب فى األرض نباتاً ثم يأكله الحيوان ويتغذى به‪،‬‬
‫فينقلب في ه لحم اً ويأك ل اآلدمي الحي وان ال ذى تغ ذى من ذل ك النب ات‬
‫فيتحول لحماً ويأكل اآلدمي الحيوان الذي تغذى من ذلك النبات‬
‫فيتحول لحماً ويأكل اآلدمي الحيوان الذي يتغذى من ذلك النبات ليتح ول‬
‫لحماً وعظماً ودماً فى األكل ‪،‬‬
‫ف إذا أعي دت األرواح ف إلى أي ب دن يع ود وكي ف يتص ور ع ود األجس ام‬
‫بعد تشتتها وتفرقها وتداخل بعضها في بعض ؟‬
‫وأيض اً إن قلنا بإعادة األجزاء التى مات عليها اإلنسان فنيبغي أن يعاد‬
‫مجذوع األنف ومقطوع الذراع على تلك الحالة التى مات عليها وهذا‬
‫منيع فى أهل الجنة ‪.‬‬

‫االحتمال الثالث‬ ‫أن يقال النفس باقية بعد الموت‬


‫ومعنى المعاد أن ترد تلك النفس إلى بدن ما‪ ،‬سواء كان اجتماعه من‬
‫األجزاء األولى أو من غيرها‬
‫ويك ون العائ د ه و اإلنس ان من حيث أن نفس ه ق د ع ادت ألن اإلنس ان‬
‫إنسان بالنفس ال بالبدن وهذا أيضاً باطل من وجهين ‪:‬‬
‫أح دهما ‪ :‬أن النف وس اإلنس انية غ ير متناهي ة وم واد األب دان‬ ‫‪.1‬‬
‫متناهية ‪ ،‬فال تفي األبدان بعدد النفوس ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن ال تراب ال يص لح لت دبير النفس إال إذا ام تزج‬ ‫‪.2‬‬
‫امتزاج اً أيض ا ه و ام تزاج النطف ة وحينئ ذ يجب أن يف اض علي ه‬
‫من المبدأ الفياض نفس ‪ ،‬فيلزم على ذلك أن يجتمع للبدن نفسان‬

‫‪-24-‬‬
‫وذلك محال ‪ ،‬وقد بطل بهذا مذهب التناسخ ‪.‬‬

‫رد الغزالي على هذا الدليل‬


‫يختار الغزالي االحتال الثالث وهو القول بأن النفس جوهر قائم بنفسه ويبقى بعد الموت ‪،‬‬
‫ومعنى عودته هو أن يخلق اهلل بدنا ما ‪ ،‬وتديره تلك النفس ‪.‬‬
‫وأم ا ق ولهم ب أن النف وس غ ير متناهي ة واألب دان متناهي ة فه و ق ول ال أص ل له ‪ ،‬ألن ه مب ني‬
‫على القول بقدم العالم ‪ ،‬وهو قول باطل بدليل بطالن التسلسل في حوادث ال أول لها ‪.‬‬
‫وأم ا ق ولهم ‪ :‬إن ه ذا ق ول بالتناس خ وه و مح ال ‪ ،‬فيجيب الغ زالي علي ه ب أن م ا ورد فى‬
‫الش رع يجب تص ديقه ‪ ،‬وليكن تناس خاً ‪ ،‬ونحن ننك ر التناس خ فى ه ذا الع الم ‪ ،‬فأم ا بعث‬
‫األجسام فال ننكره سواء سمي تناسخاً أو لم يسم ‪.‬‬

‫الدليل الثاني ‪:‬‬

‫إذا مات اإلنسان تحلل بدنه إلى تراب مثالً ‪،‬‬


‫فال يتصور أن يعود إلى صورة آدمي ‪ ،‬بحيث يستعد ألن ترد النفس إليه ‪،‬‬
‫إال إذا رقي فى أط وار طبيعي ة مختلف ة ب أن يم تزج امتزاج اً يص ير ب ه نبات اً مثالً فيأكل ه‬
‫إنسان فيتحول دما ثم نطفة ثم تلقي تلك النطفة فى رحم فتتحول مضغة ثم علقة ثم جنينا‬
‫ثم طفالً ثم شاباً وهكذا فالبد للتراب لكي يصير إنساناً أن يمر بهذه األطوار ‪،‬‬
‫وانقالبه إنساناً فجأة من غير أن يمهد له بتلك األطوال محال ‪ ،‬وتردده فى هذه األطوار‬
‫البد أن يكون باألسباب الطبيعية المعلومة وعلى ذلك فبعث األجساد محال ‪.‬‬

‫اعتراض الغزالي على هذا الدليل‬

‫يس لم الغ زالي للفالس فة ب أن ال ترقي فى ه ذه األط وار الب د من ه لكي يص ير ال تراب إنس اناً‬
‫ولكن ذلك جائز في لحظة أو في مدة طويلة ‪.‬‬

‫‪-25-‬‬
‫ونحن لم يبين لنا أن البعث يكون بعد أن يمهد له جميع العظام ‪ ،‬والباسها اللحم فى زمان‬
‫طويل أو قصير وليست المناقشة فيه ‪.‬‬

‫ونحن نتف ق م ع م ا ذك ره الغ زالي في بطالن ق ول الفالس فة ب أن البعث روح اني وليس‬
‫جس مانياً ‪ ،‬ولكنن ا نالح ظ أن الغ زالي يكف ر الفالس فة إلنك ارهم بعث األجس اد من أج ل‬
‫مخالفتهم فى ذلك لإلجماع ‪.‬‬

‫فقول الغ زالي ‪ :‬لم يعتق ده أح د من ف رق المس لمين ص ريح فى أن الحكم عليه ا ب الكفر بن اء‬
‫على مخالفتهم إجماع المسلمين مع أن الغزالي فى موضع آخر يقرر أن مخالفة اإلجماع‬
‫ليست مكفرة ‪.‬‬

‫وبناء عليه يكون إنكار الفالسفة لحشر األجساد ليس خاصاً بهم بل هو قول الصوفية أيض اً‬
‫فكيف يتفق نقض الغزالي للفلسافة فى هذه المسألة مع أن هذا هو قول الصوفية ‪.‬‬

‫فلو تأملنا كالم الغزالي فى كتبه المختلفة لوجدناه متضارباً وغير متالئم ‪.‬‬

‫رأي ابن رشد‬

‫ون أتي هن ا بنص كالم ابن رش د فى رده على الغ زالي ال ذي كف ر الفالس فة بس بب ق ولهم‬
‫بالحشر الروحاني دون الجسماني ودعواه أن هذا مخالف إلجماع المسلمين ‪.‬‬

‫يقول ابن رشد ‪ ":‬فإن قال قائل ‪ :‬إن فى الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على‬
‫ظواهره ا ‪ ،‬وأش ياء على تأويله ا وأش ياء اختلف وا فيه ا ‪ ،‬فه ل يج وز أن ي ؤدى البره ان إلى‬
‫تأوي ل لم ا أجمع وا على ظ اهره ‪ ،‬أو ظ اهر م ا أجمع وا على تأويل ه ؟ قلن ا ؟‪ :‬أم ا ل و‬
‫ثبتاإلجماع بطريق يقيني فلم يصح وإ ن كان اإلجماع فيها ظني اً فقد يصح ‪ ،‬ولذلك قال أبو‬
‫حام د وأب و المع الي وغيرهم ا من أئم ة النظ ر ‪ :‬إن ه ال يقط ع بكف ر من خ رق اإلجم اع فى‬
‫التأويل في مثل هذه األشياء ‪.‬‬

‫‪-26-‬‬
‫وقد يدلك على أن اإلجماع ال يتقرر فى النظريات بطريق يقيني كما يمكن أن يتقرر فى‬
‫العمليات أنه ليس يمكن أن يتقر راإلجماع فى مسألة ما فى عصر ما ‪ ،‬إال بأن يكون ذلك‬
‫العص ر عن دنا محص وراً وأن يك ون جمي ع العلم اء الموج ودين فى ذل ك العص ر معل ومين‬
‫عندنا ‪.‬‬

‫وأما كثير من الصدر األول فقد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهراً وباطن اً وأنه‬
‫ليس يجب أن يعلم بالب اطن من ليس من أه ل العلم ب ه ‪ ،‬وال يق در على فهم ه ‪ ،‬مث ل م ا‬
‫روي البخاري عن على رضي اهلل عنه أنه قال ‪ :‬حدثوا الناس بما يعرفون أترديون أن‬
‫يكذب اهلل ورسوله ومثل ما روى من ذلك عن جماعة من السلف ‪.‬‬

‫فكيف يمكن أن يتصور إجماع منقول إلينا عن مسألة من المسائل النظرية ‪.‬‬

‫‪-27-‬‬
‫من كتاب الكشف عن مناهج األدلة البن رشد‬

‫القول فى المعاد وأحواله‬

‫ق د اتف ق الك ل على أن لإلنس ان س عادتين آخرواي ة ودنياوي ة وانب نى ذل ك عن د الجمي ع على‬
‫أصول يعترف بها عند الكل منها أن اإلنسان أشرف من كثير من الموجودات ومنها أنه‬
‫إذا كان كل موجود يظهر من أمره أنه لم يخلق عبث اً ‪ ،‬وأنه إنما خلق لفعل مطلوب منه‬
‫وهو ثمرة وجوده فاإلنسان أحرى بذلك ‪.‬‬

‫وقد نبه اهلل تعالى على وجود هذا المعنى في جميع الموجودات في الكتاب العزيز فقال‬
‫تع الى ( وم ا خلقن ا الس ماء واألرض وم ا بينهم ا ب اطالً ذل ك ظن ال ذين كف روا فوي ل لل ذين‬
‫كف روا من الن ار ) ( وال ذين ي ذكرون اهلل قيام اً وقع وداً وعلى جن وبهم ويتفك رون فى خل ق‬
‫السماوات واألرض ربنا ما خلقت هذا باطالً سبحانك فقنا عذاب النار )‬

‫وإ ذا ك ان اإلنس ان خل ق من أج ل أفع ال مقص ودة ب ه فظه ر أيض اً ان ه ذه األفع ال يجب أن‬
‫تكون خاصة ‪ ،‬وهذه أفعال النفس الناطقة ولما كانت النفس الناطقة جزأين ‪ :‬جزء عملي‬
‫وجزء علمي وجب أن يكون المطلوب األول منه هو أن يوجد كماله فى هاتين القوتين ‪:‬؟‬
‫أعنى الفضائل العملية والفضائل النظرية ‪.‬‬

‫ولما كان الوحي قد أنذر فى الشرائع كلها بأن النفس باقية وقامت البراهين عند العلماء‬
‫على ذلك وكانت النفوس يلحقها بعد الموت أن تتعرى من الشهوات الجسمانية ‪ ،‬فإن كانت‬
‫زكية تضاعف زكاؤها بتعريها من الشهوات الجسمانية وإ ن كانت خبيثة زادتها المفارقة‬
‫خبث اً ‪ ،‬ألنه ا تت أذى بالرزائل التى اكتسبت وتش تد حس رتها على ما فاتها من التزكية عند‬
‫مفارقته ا الب دن ألنه ا ليس ت يمكنه ا االكتس اب إال م ع ه ذا الب دن وإ لى ه ذا المق ام اإلش ارة‬
‫بقول ه تع الى ( أن تق ول نفس ي ا حس رتى على م ا ف رطت فى جنب اهلل وإ ن كنت لمن‬

‫‪-28-‬‬
‫الس اخرين ) اتفقت الش رائع على تعري ف ه ذه الح ال للن اس وس موها الس عادة األأخ يرة‬
‫والشقاء األخير ‪.‬‬

‫ولم ا ك انت ه ذه الح ال ليس له ا فى الش اهد مث ال ‪ ،‬وك ان مق دار م ا ي درك منه ا ب الوحي‬
‫يختل ف فى حق ن بي ن بي ‪ ،‬لتف اوتهم فى ه ذا المع نى أع ني فى ال وحي أختلفت الش رائع فى‬
‫تمثيل األحوال التى تكون ألنفس السعداء بعد الموت وألنفس األشقياء فمنها مالم يمثل ما‬
‫يكون هنالك للنفوس الزكية من اللذة والشقية من األذى ‪ ،‬بأمور شاهدة وصرحوا بأن ذلك‬
‫كله أحوال روحانية ولذات ملكية ‪ .‬ومنها ما اعتد في تمثيلها باألمور المشاهدة أعني أنها‬
‫مثلت اللذات المدركة هنالك باللذات المدركة ها هنا بعد أن نفوا عنه هنالك ما يقترن به‬
‫ههنا من الراحة منه ‪.‬‬

‫فالشرائع كلها – كما قلنا – متفقة على أن للنفوس بعد الموت أحواالً من السعادة أو الشقاء‬
‫ويختلفون فى تمثي ل هذه األح وال وتفهم وجودها للن اس ويشبه أن يكون التمثي ل ال ذي فى‬
‫شريعتنا هذه أتم إفهام اً ألكثر الناس وأكثر تحريك اً لما فى نفوسهم إلى ما هنالك واألكثر‬
‫هم المقصود األول بالشرائع ‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬فهل في الشرائع دليل على بقاء النفس أو تنبيه على ذلك ؟ قلنا ‪ :‬ذلك موجود‬
‫فى الكت اب العزي ز ‪ ،‬وه و قول ه تع الى ( اهلل يت وفى األنفس حين موته ا وال تى لم تمت فى‬
‫منامها ) الزمر ‪42‬‬

‫ووجه الدليل فى هذه اآلية أنه سوى فيها بين النوم والموت في تعطيل فعل النفس فلو كان‬
‫تعط ل فع ل النفس فى الم وت لفس اد النفس ‪ ،‬ال يتغ ير آل ه النفس ال ذي ك ان يجب أن يك ون‬
‫تعطل فعلها فى النوم لفساد ذاتها ‪ ،‬ولو كان ذلك كذلك لما عادت عند االنتباه على هيئتها‬
‫فلما كانت تعود علينا علمنا أن هذا التعطيل ال يعرض لها ألمر لحقها فى جوهرها وإ نما‬

‫‪-29-‬‬
‫ه و ش ئ لحقه ا من ق ل تعط ل آلته ا وأن ه ليس يل زم إذا تعطلت اآلل ه أن تتعط ل النفس‬
‫والموت هو تعطل فواجب أن يكون لآلله كالحال فى النوم ‪.‬‬

‫‪-30-‬‬

You might also like