مقدمة في علم السياسة

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 22

‫‪www.houwirou.akbarmontada.

com‬‬

‫مقــــدمــــة‬

‫أهمية علم السياسة‬


‫تعتبر دراسة السياسة مهمة هائلة لكنها أيضا ً ممتعة‪ .‬فالسياسة عالم من التعقيدات الواسعة‪ ،‬واألسئلة أال محدودة والتحديات التي ال‬
‫نهاية لها‪ .‬ولنتأمل األحداث السياسية خالل العشرين سنة الماضية فقد سقط االتحاد السوفيتي وتفكك في نفس الوقت الذي اقتربت فيه‬
‫أوروبا من تحقيق وحدتها‪ .‬كذلك فإن نفس الجيل الذي شهد نهاية عصر التمييز العنصري في جنوب أفريقيا قد شهد أيضا ً التطهير‬
‫العرقي يجتاح يوغسالفيا السابقة‪ .‬ويعيش البعض اليوم عصر تقنية شرائح ورقائق الكمبيوتر الدقيقة بينما ال يزال البعض اآلخر من‬
‫قبائل البدو الرحل والسكان البدائيين يعيشون بنفس الطريقة التي عاشها أسالفهم منذ عشرات القرون‪ .‬كما أن فكرة القومية التي كانت‬
‫أساس الفاشية والعنصرية في أوروبا خالل الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم ملهما ً للحركات الليبرالية المعاصرة في أنحاء مختلفة‬
‫‪.‬من العالم‬
‫وحقيقة فإن التنوع السياسي العالمي يبدو بال نهاية‪ ،‬فكما يساور القلق كثير من مواطني الواليات المتحدة حول الميزانية واإلنفاق‬
‫الحكومي نجد أن كثيراً من نظرائهم العراقيين يحاولون مجرد البقاء على قيد الحياة على أمل إعادة بناء ما دمرته الحرب األخيرة‪.‬‬
‫وبينما تهتم الصين بتحديث اقتصادها لإليفاء باحتياجات شعبها األكبر في العالم‪،‬ـ نجد أن دولة ديموقراطية صغيرة مثل نيوزلندا يتركز‬
‫‪.‬اهتمامها في متابعة وتقليص اآلثار البيئية والصحية الناتجة عن التجارب النووية التي أجرتها فرنسا أخيراً قريبا ً منها‬
‫كيف يمكننا البدء بتحليل هذه األحداث السياسية المتنوعة؟ أن صعوبة هذه األسئلة كادت في بعض األحيان أن تحبط أبرز علماء‬
‫السياسة‪ ،‬وبينما نواجه ضخامة هذه المهمة ونتبصر فيها فإنه من المفيد أن نأخذ في االعتبار ما الحظه عالم السياسة األمريكي ديفيد‬
‫إيستن من أن السياسة مرتبطة إلى حد كبير بالتغيير‪ .‬فالسياسة هي عالم من التقلبات المتواصلة‪ ،‬والتوترات والتحوالت‪ .‬وهذا التغير‬
‫يمكن أن يكون عالميا ً في تبعاته كما هو الحال في صعود وسقوط القوى العالمية كاإلتحاد السوفيتي والواليات المتحدة‪ ،‬كما يمكن أن‬
‫يكون محليا ً بدرجة كبيرة كما هو الحال عندما يتغلب حزب سياسي على آخر في انتخابات إحدى البلدان‪ ،‬إال أنه وفي عالم يتسم بتنامي‬
‫‪.‬االعتماد المتبادل فإن حتى تلك التغيرات التي تبدو أساسا ً ذات طابع محلي يمكن أن يتردد صداها وتصبح ذات أهمية عالمية‬
‫كذلك فإن السياسة تتعلق أيضا ً بصناعة القرار حول موارد العالم فبينما يمكننا النظر إلى تعليقات ايستن لتقدير مفهوم التغير كمفهوم‬
‫محوري للسياسة يمكننا أيضا ً االستفادة من مقترحات عالم السياسة األمريكي اآلخر هارولد الزويل التي تنظر للسياسة على أنها تقرير‬
‫من يحصل على الموارد المتاحة في العالم ومن ال يستطيع ذلك‪ .‬وتعتبر أفكار الزويل هامة لنا عندما نبدأ في دراسة السياسة ألنها‬
‫توجهنا نحو تساؤالت خادعة ومثيرة في تعقيداتها من مثل لماذا يحتمل أن يعمر المواطن األوربي أطول من المواطن األفريقي جنوب‬
‫الصحراء الكبرى؟ فالسياسة‪ ،‬كما تخبرنا أفكار الزويل‪ ،‬تلعب دوراً كبيراً في هذا المجال‪ .‬فتوقعات الحياة‪ ،‬وتوفر مصادر مياه آمنة‬
‫وفرص الحصول على عمل ذي مردود كاف – كل هذه الجوانب من حياتنا تتأثر بشكل كبير بالقرارات السياسية لحكومات العالم عندما‬
‫تتخذ هذه الحكومات قرارات حول كيفية توزيع موارد هذا العالم‪ .‬فالطب والمياه والغذاء والسكن والعمل ليست ظواهر ال يستطيع‬
‫اإلنسان السيطرة عليها‪ ،‬بل على العكس من ذلك فإن عالم السياسة المكون من قرارات تلك الحكومات هو الذي يؤثر سلبا ً أو إيجابا ً‬
‫على حياة األفراد ويعزز فرص حصولهم على الخدمات األساسية تلك أو يحرمهم منها‪ .‬بمعنى آخر أن السياسة تتضمن خيارات‬
‫الحكومات والمواطنين وخاصة (في المجتمعات التي تتمتع بقدر من الحرية) فيما يتعلق بالطريقة التي من خاللها تقدم الخدمات الطبية‬
‫‪.‬والمياه والغذاء والسكن والعمل لشعوب العالم أو تحرم منها‬
‫ولذلك فقد كان أرسطو واضع أسس علم السياسة محقا عندما أطلق على علم السياسة سيد العلوم‪ ،‬وهو كان يعني بذلك أن كل شيء‬
‫تقريبا ً يحدث ضمن إطار سياسي‪ .‬وذلك ألن قرارات دولة مدينة أثينا (التي عاش فيها) كانت تتحكم في معظم جوانب الحياة‪ .‬إما علم‬
‫السياسة من وجهة نظر عالم السياسة األمريكي هارولد الزويل فهو دراسة "من يحصل على ماذا"‪ .‬ولكن أال يحدد النظام االقتصادي‬
‫من يحصل على ماذا؟ ومع أن ذلك ممكنا في الدول ذات األسواق الحرة ولكن من يقرر‪ ،‬ما إذا كان ينبغي أن يكون هناك نظام لسوق‬
‫يضمن برامجه لتصفح اإلنترنت مع آخر إصدار من ‪ Bill Gate‬حرة؟ من الذي يبلغ بيل جيت‬ ‫مثالً بأنه ينبغي عليه أو ال ينبغي أن ّ‬
‫‪.‬التي ينتجها أيضا ً وهو قرار يساوي باليين الدوالرات‪ .‬أن السياسة متعلقة باالقتصاد بشكل وثيق ‪ ******s‬نوافذ‬
‫ولنفترض أن كارثة طبيعية كالفيضان حدثت‪ ،‬فإن النظام السياسي هو الذي يقرر ماذا كان ينبغي أن نبني مصدّ ات وأين تبنى وأي من‬
‫ضحايا الفيضان ينبغي مساعدته‪ ،‬نعم الفيضان حدث طبيعي ولكن تأثيره على المجتمع يسيطر عليه بدرجة كبيرة النظام السياسي‪.‬‬
‫وماذا عن العلم؟ وعن عالم األحياء الذي يتابع البكتيريا من خالل مجهره؟ هذا ليس سياسة ولكن من الذي يدعم ويمول تعليم أولئك‬
‫العلماء ومؤسساتهم البحثية؟ أال تلعب الحكومة دوراً بارزاً في ذلك؟ إذن فالبكتيريا والفيروسات تعتبر أحياء طبيعية ولكن دراستها‬
‫‪.‬تعتبر في الغالب شأنا ً سياسيا ً‬
‫وحقا ً فإن السياسة تشمل كل تلك القرارات التي تتعلق بكيفية صنع القوانين التي تحكم الحياة المشتركة‪ ،‬هذه القوانين يمكن أن تتخذ‬
‫بطريقة ديموقراطية أو استبدادية‪ ،‬ويمكن أن تدعم السالم أو تشجع العنف ويمكن أن ت ّفعل وتمكن عامل الدول وحتى العوامل غير‬
‫الدولية (مثل النقابات العمالية‪ ،‬ووسائل اإلعالم‪ ،‬الشركات عبر القومية‪...‬إلخ)‪ .‬ومهما كانت تلك القوانين فإن السياسة ترتكز على‬
‫االعتراف بأن حياتنا مشتركة طالما أننا نعيش في أماكن عامة مشتركة مثل أقاليم الدولة‪ .‬فإذا سافر أحدنا على الطريق العام أو توقف‬
‫عند إشارة مرورية أو التحق بجامعة حكومية فإنه بال شك قد أشترك في مكان وموارد تحكمها القوانين المتخذة سياسيا ً والمطبقة من‬
‫قبل الدولة‪ .‬ولذا فبغض النظر عما إذا كنا واعين ومدركين لهذه الحقيقة أم ال فإننا في حياتنا العامة جزءاً من السياسة‪ .‬فنحن كما كان‬
‫الفيلسوف اإلغريقي أرسطو يقول حيوانات سياسية بطبعنا نعيش في عالم من المشاكل واإلمكانيات المشتركة وفعالً وكما أكد أرسطو‬
‫فإن محاولة إخراج أنفسنا من السياسة سيعني إخراج أنفسنا من عالم إنسانيتنا المشتركة‪ .‬باختصار فعندما ندرس السياسة سنرى أنها‬
‫‪.‬تمس كل شيء كما يقول عالم السياسة روبرت دال‬
‫ومع أن كثير من الناس يمقتون السياسة وربما كانوا على حق‪ ،‬فالممارسة السياسية ربما تكون ال أخالقية‪ ،‬فإساءة استخدام السلطة‬
‫والتأثير والفساد الفاضح تعتبر سمات مالزمة للممارسة السياسة‪ ،‬إال إنه مع ذلك ال يجب علينا أن نحب الشيء الذي ندرسه‪ .‬فعالم‬
‫األحياء مثالً يمكن أن يالحظ بكتيريا مسببة لألمراض تحت مجهره‪ ،‬ومع ذلك فهو ال يحب البكتيريا لذاتها لكنه مهتم في معرفة كيف‬
‫تنمو وكيف تؤثر على صحة اإلنسان وكيف يمكن القضاء عليها‪ .‬وكما أن عالم األحياء ال يغضب من البكتيريا ويكسر بالتالي أنبوب‬
‫االختبار الذي يحتويها‪ ،‬ألنه يهتم أوالً بمعرفة تلك األحياء الدقيقة ومن ثم يحاول التوصل إلى طريقة لتحسين صحة وحياة اإلنسان‬
‫‪.‬فكذلك عالم السياسة يحاول أن يفعل الشيء نفسه مع السياسة‬

‫مفاهيم أساسية في علم السياسة‬


‫السياسة ‪1-‬‬
‫ما هي السياسة؟ من وجهة نظرنا فإن السياسة هي العملية التي من خاللها تصنع الجماعة قرارات جماعية مشتركة‪ .‬ويتفاوت حجم‬
‫الجماعة ابتداء من األسرة الواحدة إلى األسرة الدولية‪ .‬كذلك يتم التوصل إلى القرارات بطرق مختلفة منها ‪ :‬العنف‪ ،‬النقاش‪ ،‬األعراف‪،‬‬
‫‪.‬المقايضة والتصويت‪ .‬والشيء الذي يجعل من تلك القرارات سياسية هو طبيعتها المشتركة التي تؤثر على أولئك المنتمين للجماعة‬
‫والسياسة ليست دائما ً قائمة على الخالف‪ ،‬إذ أن أحد األسباب التي تدعو لدراسة السياسة يتمثل في البحث عن الظروف التي تستطيع‬
‫في ظلها الجماعة تحقيق أهدافها سلميا ً وبكفاءة‪ .‬ومن هذا المنظور فإن السياسة تعتبر بناءة وعملية‪ .‬ومع ذلك فإن كثيراً من نكهة‬
‫السياسية تنبع من حقيقة أن أعضاء الجماعة نادراً ما يتفقون‪ ،‬منذ البداية على األقل‪ ،‬على الوجهة التي يسيرون عليها‪ .‬وحتى لو كان‬
‫‪.‬هناك اتفاقا ً على األهداف فإنه يمكن أن يظل هناك اختالفا ً حول الوسائل‬
‫وينبع االختالف في جزء منه من الندرة‪ .‬فمهما كانت قطعة الكيك كبيرة فإنه سيظل بالتأكيد بعض المساومة على حجم القطع‪ .‬وعندما‬
‫تكون المصادر محدودة فإن هذا يعني أن بعض األهداف يمكن أن تعطى أولوية على غيرها‪ .‬لكن الخالف يمكن أن يبرز أيضا ً بسبب‬
‫االختالفات الطبيعية في اآلراء ووجهات النظر‪ .‬فكما يتوجب على قبيلة بدوية ‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬أن تقرر بشكل جماعي عندما تعزم‬
‫على الرحيل فكذلك الحال مع الدولة القومية الحديثة التي يتوجب عليها أن تعزز بشكل مشترك (جماعي) فيما إذا كان ينبغي لها أن‬
‫تذهب إلى الحرب‪ .‬وعندما تكون الجماعة بكاملها مشتركة في اتخاذ القرار فإنه ال يكون هناك إال قراراً واحداً‪ .‬ومن ثم فإن مضمون‬
‫السياسة يشمل رسم األهداف واتخاذ القرارات للجماعة باإلضافة إلى تقرير الكيفية التي ينبغي من خاللها توزيع الموارد ضمن تلك‬
‫‪.‬الجماعة‬
‫ً‬
‫وال يعتبر مجرد وجود مشكلة جماعية كافيا في حد ذاته لتوليد الرغبة السياسية الالزمة إليجاد حل جماعي‪ .‬بل يبدو في الغالب أنه كلما‬
‫كبر حجم الجماعة كلما أصبح التوصل إلى حل أكثر أشكاالً‪ .‬ولنأخذ موضوع البيئة‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬الذي يعتبر في األساس موضوعا ً‬
‫يهم الجميع‪ ،‬وفي مثل هذه الحالة يصبح العالم بأجمعه معنيا ً باألمر‪ .‬فبغض النظر عن من تكون أو أين تعيش إال أنك تشترك مع‬
‫اآلخرين في االهتمام بمنع حدوث الدفء الكوني ونفاذ طبقة األوزون‪ .‬ومع ذلك فإن بلدان العالم تجد أنه من الصعب‪ ،‬على الرغم من‬
‫أننا نتمنى أال يكون مستحيالً‪ ،‬عليها القضاء على تلك المشاكل‪ .‬ويعود هذا في جانب منه إلى حقيقة أن المتسببين الرئيسين في التلوث‬
‫(مثل الواليات المتحدة) هم في الغالب األبطأ من غيرهم في تبني سياسات غير ضارة بالبيئة‪ .‬ولذلك فإن إحدى مشاكل السياسة تتعلق‬
‫بإيجاد تفسير لسبب وجود مثل تلك الفجوة الكبيرة بين االعتراف بالمشكلة الجماعية من جهة واالتفاق على حل جماعي لها من جهة‬
‫‪.‬أخرى‬
‫وبالتالي فإن تعريف السياسة على أنها العملية التي تستطيع من خاللها الجماعة اتخاذ قرارات جماعية يعتبر تعريفا ً محايداً نسبياً‪ .‬أما‬
‫التعريفات األخرى فتعتبر أكثر تخميناً‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬تستخدم السياسة في الخطاب الشعبي في الغالب من منظور انتقادي لإلشارة‬
‫إلى السعي الالأخالقي لتحقيق مصلحة خاصة‪ .‬وعلى النقيض من الجهة األخرى يتمنى بعض المفكرين أن يقصروا استخدام مصطلح‬
‫السياسة على األنماط األكثر تحضراً لصناعة القرار‪ .‬ولذلك يتساءل كريك (‪ )1982‬لماذا نطلق على الصراع على السلطة سياسة بينما‬
‫هو ببساطة صراع على السلطة؟ حيث يفضل كريك‪ ،‬أن يعرف السياسة بشكل أكثر إيجابية على أنها "النشاط الذي من خالله يتم‬
‫التوفيق بين المصالح المختلفة ضمن جماعة ما وذلك بإعطاء تلك المصالح نصيبا ً من السلطة يتوازى مع أهميتها فيما يتعلق برفاه‬
‫وبقاء مجتمعها"‪ .‬لكن المشكلة في هذا التعريف أنه يجرد أو يعزل الخالف عن السياسة‪ ،‬إذ أنه يرى أن السياسة مثاالً ينبغي الوصول‬
‫‪.‬إليه بدالً من أن تكون حقيقية حتى يمكن وصفها‬
‫الحكومة‪2-‬‬
‫يشار إلى أن هناك جانبا ً سياسيا ً لكثير من نشاطنا اليومي‪ ،‬ومع ذلك فإنه كلما تطورت الجماعات والمنظمات االجتماعية وازدادت‬
‫تعقيداً كلما أصبح النشاط السياسي أكثر تكراراً وبرزت أنماط مستقرة لصناعة القرار الجماعي‪ .‬ويطلق على النمط المستقر والمنتظم‬
‫لصناعة القرار بالحكومة‪ .‬فالحكومة‪ ،‬إذن‪ ،‬هي مؤسسة إي منظمة مستمرة بحياة منفصلة عن حياة األفراد المكونين لها في إي وقت‪.‬‬
‫ومن ثم يمكن تعريف الحكومة على أنها المؤسسة التي من خاللها تصنع القرارات لحل المشاكل أو توزيع المنافع واالمتيازات‪ .‬ولذلك‬
‫فإن لدى كل من الجامعات والشركات واألندية‪ ،‬ونقابات العمال حكومة نظراً ألن لديها إجراءات منتظمة التخاذ القرارات وفرض‬
‫‪.‬تطبيقها‪ .‬وبمنظورها األعم فإن الحكومات تشير ببساطة إلى هذا الشرط المتعلق بالقاعدة أو السلطة المنتظمة‬
‫ومع ذلك فإن اهتمامنا سيكون بالقرارات التي تكون جماعية بطبيعتها وتؤثر على المجتمع بكامله‪ .‬أي الحكومة في المحيط العام بدالً‬
‫من الحكومة في المحيط الخاص أو التنظيمات األدنى‪ .‬فنحن مهتمين أساسا ً بالتوجه السياسي للحكومة على المستوى القومي وفي‬
‫الحقيقة فإن مصطلح الحكومة يستخدم في الغالب وفق هذا المنظور‪ ،‬لإلشارة إلى الوزراء الذين يتولون مسئولية الوزارات الرئيسية‪.‬‬
‫‪:‬ويشار هنا إلى أن عملية صنع القرار السياسي في المحيط العام تتميز بثالث خصائص أساسية هي‬
‫صنع القرار السياسي عملية سلطوية‪ .‬فالقرارات ليست بطبيعتها استشارية أو مجرد اقتراحات ‪ ،‬فالقوة أو التهديد باستخدامها تقف ‪1-‬‬
‫وراء تلك القرارات فضال عن وجود مشاعر محددة بأنها ينبغي أن تطاع ‪ .‬وحتى في حالة مخالفه الفرد للقرارات فإنه سيشعر في‬
‫داخله بأنه ينبغي أال يفعل ذلك بل أن بحثه عن أعذار لتبرير فعله ( تجاوز حد السرعة المسموح به مثال) يعتبر في حد ذاته إقرارا من‬
‫الفرد بضرورة اتباع القرارات ‪ .‬هذه المشاعر هي ما يسميها علماء السياسة (الشرعية) أي قبول الشعب واعترافهم بقوانين النظام‬
‫‪ .‬السياسي‬
‫تتميز عملية صنع القرار السياسي بتوزيع اإليجابيات والسلبيات ‪ .‬فالقرارات التي يتخذها النظام السياسي ليست محايدة في نتائجها ‪2-‬‬
‫‪,‬حيث يستفيد منها البعض ويتضرر منها البعض األخر‪ .‬فعندما يقرر النظام السياسي مثال ماذا كان ينبغي رفع أو خفض مقدار‬
‫الضرائب فانه سيكون هناك حتما جماعات مستفيدة من ذلك القرار وأخرى متضررة‪ ،‬وكذلك الحال مع تحديد نطاق السرعة على‬
‫‪.‬الطرقات‬
‫القرارات السياسية في المحيط العام تصنع لمجتمع بكامله وليس لجماعة أو فئة بحالها ‪ .‬فالجامعة أو الشركة مثال تستطيع أن ‪3-‬‬
‫تصنع قرارات سلطوية توزع بموجبها اإليجابيات والسلبيات إال أن قرارها ينطبق فقط على المنتمين إليها وال يتجاوزه لجماعات أو‬
‫منظمات أخرى أما سلطة القرار السياسي في المحيط العام فتشمل كل المجتمع فالبد أن يخضع كل األفراد و المؤسسات والجماعات‬
‫‪.‬لسلطته‬
‫باختصار يمكن القول بأن الحكومة تتخذ قرارات لتحديد من يحصل على األشياء القيمة في المجتمع وذلك لحل الخالفات بين االفراد‬
‫‪:‬والجماعات‪ .‬وفي هذا السياق كتب ديفيد وفي هذا السياق كتب ديفيد إيستن‬
‫حتى في اصغر وابسط المجتمعات يجب أن يتدخل شخص ما باسم المجتمع ومدعوما بسلطة ذلك المجتمع ليقرر كيف تحل الخالفات‬
‫حول األشياء القيمة ‪ ،‬ويمثل هذا التوزيع السلطوي للقيم الحد األدنى من متطلبات أي مجتمع‪ ......‬وكل مجتمع يوفر بعض اآلليات‬
‫مهما كانت بدائية إليجاد حل سلطوي للخالفات حول األهداف التي يسعى للوصول إليها‪ ،‬أي‪ ،‬من يحصل على ما هو متوفر من األشياء‬
‫‪ .‬المرغوبة‬
‫لماذا تعتبر الحكومة ضرورية؟‬
‫إن أفضل طريقة لتقييم الحاجة إلى الحكومة هي النظر إلى الحاالت الالتي تختفي فيها الحكومة بحالتها التي نعرفها‪ .‬ماذا يحدث عندما‬
‫تتنافس جماعات متعددة مع بعضها على القوة في المجتمع ‪ .‬وهناك حاالت حول العالم حدث فيها مثل هذا الفراغ‪ .‬وأحد أبرز األمثلة‬
‫يتمثل في الصومال التي اختفت فيها الحكومة المركزية منذ بداية التسعينات‪ .‬حيث أصبحت العاصمة مقديشو نفسها مقسمة بين عدد‬
‫‪.‬من زعماء الحرب يسيطر كل منهم على جزء منها‬
‫فعندما تنافس زعماء الحرب الصوماليين على السيطرة على مناطق معينة كانت الحرب هي النتيجة ‪ ،‬التي نشرت الخراب والمجاعة ‪.‬‬
‫‪ .‬وبشكل عام فإن تنافس قوى مسلحة معقدة باستخدام السالح وغياب الحكومة الموحدة يعني أو يساوي حربأ ً أهلية‬
‫وكما يشير مثال الصومال فإن أحد األهداف األساسية للحكومة هي حفظ األمن والنظام‪ .‬من خالل حفظ السالم تحمي الحكومة الشعب‬
‫من العنف على أيدي الجيوش الخاصة أو األجنبية‪ .‬كذلك تهدف الحكومة إلى تحقيق العدالة وحماية الناس من عنف المجرمين‪ .‬فإذا‬
‫‪.‬غاب األمن والنظام فليس ممكنا ً تقديم أي منافع أخرى يتوقعها الناس من الحكومة‬
‫إال أن النظام ليس هو القيمة السياسية األهم فقط‪ .‬فالعراق تحت حكم صدام حسين شهد قدراً من النظام‪ .‬إال أن ذلك األمن بالنسبة لعدد‬
‫من العراقيين اتخذ شكل (سالم القبور) حيث قتل عدد كبير من الناس من قبل قوات األمن ألتفه األسباب في بعض األحيان‪ .‬ولذلك فإن‬
‫توفير الحماية من عنف المجرمين المحليين أو الجيوش األجنبية ليس لوحده كافياً‪ .‬فالمواطنون يحتاجون أيضا ً إلى حماية من إساءة‬
‫‪.‬استخدام السلطة من قبل الحكومة‬
‫وتمثل الحرية هدفا ً مهما ً آخر يمكن تحقيقه في ظل الحكومة‪ .‬ولذلك فإن الحرية تمثل قيمة مهمة يمكن للحكومة تعزيزها لكنها يمكن‬
‫‪.‬أيضا ً أن تستخدم ضد الحكومة‬
‫الدولة ‪3-‬‬
‫يتم استخدام مصطلحي الدولة والحكومة في الغالب لإلشارة إلى شيء واحد لكن األكثر دقة هو أن ننظر إلى الدولة على أنها أكثر‬
‫شموالً من مؤسسات الحكومة‪ .‬فالدولة هي النظام السياسي بكامله وبهذا فهي تتضمن السلوك والمواقف السياسية التي تعتبر خارج‬
‫إطار الحكومة‪ .‬وضمن حدود جغرافية معينة فإن الدولة تجسد الثقافة السياسية لمواطنيها والتي بدورها يمكن أن تكون نتاج لقوة‬
‫صناعة القانون التي بأيدي المسئولين في المناصب العامة‪ .‬ولذلك فإن الوحدة الجغرافية ‪ ،‬والثقافة السياسية والعمليات السياسية التي‬
‫تشملها الدولة تجعلها أكثر قابلية لالستمرار والبقاء بين أية ترتيبات محددة للبناءات الحكومية‪ .‬وبهذه النظرة فإن الحكومة يعبر عنها‬
‫‪.‬في العادة بأدوات صياغة وتنفيذ السياسة ضمن حدود الدولة‬
‫ومن ثم فإن مصطلح الدولة يعتبر أوسع نطاقا ً من مصطلح الحكومة ويشمل كل المناصب التي تصنع قرارات جماعية وتقوم على‬
‫تنفيذها للمجتمع بكامله‪ .‬ووفقا ً لهذا المصطلح فإن الوزراء‪ ،‬القضاة والشرعيين‪ ،‬والبيروقراطيين وجنراالت الجيش والشرطة يشكلون‬
‫جميعا ً جزءاً من شبكة واحدة من المناصب العامة وتعرف تلك الشبكة بمصطلح الدولة‪ .‬ومع أن مصطلح الدولة يشير إلى فكرة مجردة‬
‫لكنه مصطلح قوي جداً ‪ ،‬فالدولة يمكن أن تكون مصدراً للنفع أو مصدر للتهديد‪ .‬فمع أن الدولة تعبر عن فكرة مجردة إال أنه باسم‬
‫‪ (Edelman,‬الدولة يسجن أناس ويصبح آخرون أغنياء عن طريق عقود التسليح ويقتل آخرون في الحروب دفاعا ً عنها‬
‫‪1964,P.1).‬‬
‫أننا نعيش اليوم في عالم الدول‪ ،‬فمعظم سطح األرض مقسم في الوقت الحاضر بين دول يدعى كل منها الحق وحدها في حكم إقليمها‬
‫الخاص بها‪ .‬وفي الحقيقة فإن كل الدول تتأثر بالطبع بالتطورات التي تحدث خارج حدودها فكل دولة تتاجر أو تتورط في حروب كما أن‬
‫األفكار ال تعترف بالحدود‪ .‬ومن ثم فليس هناك ما يمكن أن يسمى بدولة منعزلة عن العالم الخارجي‪ .‬ومع ذلك فإن أي دولة مهما كانت‬
‫صغيرة وضعيفة ال تزال ‪ ،‬من الناحية النظرية‪ ،‬تتمتع بالسيادة على إقليمها‪ .‬ومن ثم فماذا نعني بالدولة على وجه التحديد؟‬
‫تشير الدولة إلى مؤسسات صنع القرار السلطوي لمجتمع بكامله‪ ،‬بحيث تصبح كل الجماعات والمؤسسات واألفراد فيها خاضعة لها‬
‫من الناحية القانونية‪ .‬بمعنى آخر أن لها المكانة األعلى قانونيا ً وأن سلطتها إجبارية‪ .‬والدولة كما يقول دال (‪ )1984‬هي المنظم‬
‫‪.‬األساسي لالستخدام الشرعي للقوة ضمن األقاليم‬
‫وهذا ال يعني أن الدولة هي المؤسسة الوحيدة في المجتمع التي تستخدم القوة‪ .‬فهناك بالطبع العنف اإلجرامي‪ ،‬والعنف الرياضي‬
‫والعنف األسري‪ ،‬كما أن هذا التعريف ال يعني أن القوة هي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على وجود الدولة‪ .‬فالعنف يمثل مصدراً غير‬
‫مستقر للسلطة والقوة على األقل على األمد الطويل‪ .‬ولذلك فإن هذا التعريف يعني ضمنا ً أن الدولة يجب عليها أن تدعم وبنجاح‬
‫ادعاءها بتنظيم اللجوء إلى القوة‪ .‬فهناك قلة من الناس يمكن أن يزعموا بأن من حق المجرمين إطالق النار على رجال الشرطة إال أن‬
‫معظم الناس يتفقون على أن هناك ظروفا ً تبرر إقدام رجال الشرطة على إطالق النار على المجرمين – على سبيل المثال في حالة‬
‫‪.‬التعامل مع السارقين المسلحين أو الخاطفين واالرهابيين‬
‫وعندما يصبح احتكار الدولة لالستخدام المشروع للقوة مهدداً فإن استمرار تواجدها يصبح معرضا ً للخطر‪ .‬فالحروب األهلية على سبيل‬
‫المثال تعتبر في حقيقتها خالفا ً حول من ينبغي أن يحكم الدولة في إقليم معين‪ .‬وعندما يستمر ذلك الخالف ال يصبح هناك سلطة شرعية‬
‫‪.‬وربما تختفي الدولة ذاتها‬
‫الدولة القومية*‬
‫يعتبر مفهوم الدولة القومية ذا أصول أوروبية حيث تمت المصادقة رسميا ً على نظام الدولة القومية في معاهدة السالم في وستفاليا‬
‫‪1648‬م التي رسخت السالم بين الفرقاء األوروبيين بعد حرب الثالثين عاما ً ‪.‬ومنذ ذلك الوقت تم تقسيم معظم أرجاء الكرة األرضية‬
‫‪ .‬إلى دول قومية بحدود جغرافية محددة‬
‫إال أن المشاكل تبرز عندما تحتوي حدود الدولة قوميات مختلفة‪ .‬بل و أن كثيراً من تلك الحدود وخاصة في العالم غير األوروبي قد‬
‫رسمت بطريقة عشوائية من خالل قوى االحتالل األوروبية كما هو الحال في معظم أنحاء إفريقيا وكثير من أصقاع آسيا وأمريكا‬
‫الالتينية ‪ .‬وفي مثل هذه الحالة يمكن أن يتسبب افتقاد التجانس القومي في إثارة مشاكل سياسية خطيرة‪ .‬وفي العصر الحاضر شهد‬
‫العالم تفكك دول كانت تعتبر مستقرة نسبيا ً وصناعية كاالتحاد السوفيتي ويوغسالفيا إلى دول قومية اصغر حجما ً وأكثر تجانساًً‪ .‬ويشير‬
‫هذين المثالين إلى هشاشة الدول التي تحاول ضم قوميات عديدة ومختلفة‪ .‬وبدورها شجعت مؤسسة الدولة القومية نمو فكرة‬
‫‪.‬القومية ‪ ،‬التي يمكن تعريفها على أنها الشعور العاطفي بأولوية الوالء للوطن من قبل المواطنين‬
‫ومع أن الماركسية تؤكد على أن الوالء الرئيس للعمال ينبغي أن يكون لطبقتهم االجتماعية إال أن األحزاب الماركسية وجدت بشكل‬
‫مستمر أن العمال قد استبدلوا الوالء الطبقي بالوطنية القومية عندما تتعرض بلدانهم للتهديد‪ .‬ويمكن للحماس القومي أن ي ّمكن‬
‫الحكومة من العمل بكفاءة أكثر لكنه أيضا يمكن أن يتسبب في تشجيع الحكومات كي تسلك نهجا ً أكثر عدوانية ويجعلها اقل تقبالً إليجاد‬
‫‪.‬حلول لخالفاتها مع الدول األخرى‬
‫ويمكن تصنيف الدول إلى ديمقراطية‪ ،‬استبدادية وشمولية‪ .‬وهناك تنوعات في كل من تلك األصناف‪ ،‬إال أن النماذج الثالث تلك توفر‬
‫إطارا أساسيا لألغراض التنظيرية ‪،‬ويمكن التمييز بين كل من األصناف الثالثة من خالل مدى السماح بالممارسة السياسية الحرة‬
‫‪.‬لمواطنيها‬
‫السيادة ‪4-‬‬
‫للدولة وجهان يكون الجانب القاسي منها مختفيا ً عن األنظار وهو يمثل الرغبة في استخدام القوة لتنفيذ رغباتها‪ .‬أما الجانب اللين‪،‬‬
‫الذي ال يقل أهمية‪ ،‬فيستند على قدرة الدولة على إقناع مواطنيها بالطبيعة القانونية والشرعية لسلطتها‪ .‬وترتبط فكرة السيادة بوجه‬
‫‪.‬الدولة اللين‪ ،‬فالسيادة تشير إلى مصدر السلطة في المجتمع حيث أن المفهوم يعتبر قانونيا ً بدالً من أين يكون فعليا ً‬
‫والسيادة تكون للهيئة التي تتمتع بحق صناعة القوانين للبالد ففي بريطانيا على سبيل المثال تتمثل هذه الهيئة في البرلمان‪ .‬وتعتبر‬
‫بريطانيا مثاالً للسيادة الواضحة والمركزة حيث بإمكان البرلمان إصدار أية قوانين دون أن يقيد البرلمانات التي تعقبه‪ ،‬وال يستطيع‬
‫القضاة إبطال تشريعاته كما أنه ليس هناك هيئة أخرى تستطيع إصدار قوانين تطبق في تلك البالد‪ ،‬باستثناء المجموعة األوروبية التي‬
‫تعتبر تشريعاتها ملزمة بشكل مباشر لبريطانيا كما هو الحال مع الدول األعضاء األخرى في المجموعة حتى لو لم يتم الموافقة على‬
‫‪.‬تلك التشريعات من قبل البرلمانات الوطنية‬
‫ومع أن الهيئة المخولة إصدار القانون تمتلك سيادة داخلية – أي الحق في صنع قوانين ملزمة ضمن حدود الدولة‪ .‬إال أن للسيادة بعداً‬
‫خارجيا ً أيضا ً‪ .‬والسيادة الخارجية تشير هنا إلى اعتراف القانون الدولي بأن للدولة سلطانا ً قضائيا ً على اإلقليم‪ .‬وهذا يعني أن الدولة‬
‫مسئولة عن ذلك السلطان القضائي في القانون الدولي‪ .‬وتعتبر السيادة الخارجية موضوعا ً مهما ً ألن جميع الدول تدعي الحق في تنظيم‬
‫العالقات بين بالدها وبقية العالم‪ .‬وفي الحقيقة فإن السيادة الخارجية تزداد أهمية بعدما أصبح العالم أكثر اعتماداً على بعضه البعض‪.‬‬
‫ومن ثم فإن ادعاء السيادة يعني وضع إشارة تحذير للدول األخرى تطالبها باالبتعاد‪ ،‬ومع أنه ليس هناك في الواقع دولة واحدة‬
‫‪ .‬تستطيع أن تفرض سيطرتها الكاملة على األحداث ضمن حدودها إال أن ذلك ال يعني إلغاء لحق الدولة في السيادة‬
‫وتؤكد النظرية التقليدية للسيادة على الحاجة لوجود هيئة سيادية واحدة ضمن إقليم معين‪ .‬وفي هذا السياق الحظ وليام بالكستون في‬
‫تعليقاته على قوانين بريطانيا أن "البد أن يكون في كل دولة سلطة سامية مطلقة ال يمكن مقاومتها أو السيطرة عليها وهي التي لها‬
‫الحق في السيادة‪ ،‬وهنا يلخص بالكستون تفسيراً للسيادة كان قد قدمه أوالً الفيلسوف الفرنسي جان بودين الذي عرف السيادة على‬
‫أنها السلطة غير المقيدة أو غير المقسمة لصناعة القوانين‪ .‬وقد كان هدف بودين يتمثل في الحفاظ على امتيازات الملكية الفرنسية‬
‫‪.‬حيث عزز عمله هذا التطورات الالحقة للملكية المطلقة في فرنسا‬
‫ً‬
‫أما في عالم اليوم األكثر ديموقراطية واعتمادية فإن التعرف على موقع السيادة ال يعتبر سهال كما كانت تفترض ذلك النظرية التقليدية‪.‬‬
‫ففي الواليات المتحدة على سبيل المثال تتوزع السيادة بين الكونجرس والرئيس والمحكمة العليا والواليات الخمسين المكونة لالتحاد‪.‬‬
‫ولدى الواليات المتحدة حكومة دستورية أكثر مما هو الحال في بريطانيا إال أن لديها نظاما ً يشتت السلطة بدالً من تركيزها‪ ،‬ومن ثم‬
‫‪.‬فإن الواليات المتحدة تمثل حالة للسيادة بدون سيد‬
‫وحتى في البلدان ذات الحكومة البرلمانية يمكننا الزعم بأن الشعب يجب على األقل أن يتقاسم السيادة مع البرلمان نظراً ألن سلطة‬
‫البرلمان تنبع جزئيا ً من دوره التمثيلي‪ ،‬ومن ثم فإن تحديد موقع السيادة في الواقع ليس بنفس السهولة التي تقول بها فكرة سمو‬
‫‪.‬البرلمان‬
‫كما يؤدي االعتماد المتبادل بين الدول إلى جعل موضوع السيادة أكثر غموضا ً حيث أن المجال المتنامي لاللتزامات الدولية للدولة‬
‫القومية يقلص مجال المناورة المتاح للحكومات‪ .‬كذلك فإن ظهور العوامل فوق القومية مثل االتحاد األوروبي الذي لديه القدرة على‬
‫تجاوز البرلمانات القومية في بعض الموضوعات يهدد أيضا ً األفكار التقليدية للسيادة‪ .‬وتعمل هذه التغيرات تدريجيا ً على أضعاف فكرة‬
‫السيادة مع تنامي الفجوة بين خيالية السيادة ذات المصدر الوحيد وحقيقة االعتماد المتبادل‪ ،‬مما يعني أن أفكار بودين وبالكستون قد‬
‫‪.‬عفى عليها الزمن‬
‫القوة ‪5-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لقد حاول الناس منذ أقدم العصور فهم قواعد القوة‪ ،‬ولماذا توجد وكيف يمكن الحصول عليها‪ .‬وتعتبر القوة موضوعا أساسيا في‬
‫السياسة فهي إحدى لبنات البناء لعلم السياسة وهي مفهوما ً محوريا ً لهذا العلم بنفس أهمية النقود لالقتصاد‪ .‬وبينما يتقبل كل علماء‬
‫السياسة أهمية القوة إال أنهم يختلفون حول ماهيتها وتحديدها وكيفية قياسها‪ .‬وهناك بشكل عام وجهتا نظر رئيستان حول تعرف‬
‫‪.‬القوة‬
‫األولى‪ ،‬القائمة على فكرة اإلجماع‪ ،‬ت ّعرف القوة بشكل عام على أنها نتاج التأثيرات المقصودة‪ ،‬وبأنها المقدرة على الحصول على ما‬
‫نريد‪ .‬ولنأخذ مثاالً واضحا ً هنا فالرؤساء لديهم قوة أكثر مما لدى الفالحين نظراً ألن الرؤساء يمارسون تأثيراً أكبر على مسيرة‬
‫األحداث‪ .‬ونالحظ هنا أن التأكيد هو على القوة‪ ،‬بمعنى القدرة على تحقيق األهداف‪ ،‬بدالً من القوة بمعنى‪ ،‬ممارسة السيطرة على‬
‫اآلخرين‪ ،‬ويرتبط هذا االقتراب للقوة بعالم االجتماع األمريكي تالكوت بارسونز (‪ )1967‬الذي أعتبر أن القوة السياسية تشير إلى‬
‫مقدرة الحكومة على االعتماد على التزام مواطنيها لتحقيق أهداف مشتركة مثل القانون والنظام والحماية من االعتداء والنمو‬
‫االقتصادي‪ ،‬وكلما كانت الحكومة أكثر قوة كلما كانت أكثر كفاءة على تحقيق أهداف المجتمع‪ .‬وبذلك فإن القوة السياسية بالنسبة‬
‫لبارسونز ليست فقط مجرد تنافس جماعة اجتماعية واحدة أو حزب سياسي مع اآلخرين للفوز بالسيطرة على الدولة وإنما القوة في‬
‫نظره هي األداة التي تمكن الحكام من تحقيق أهداف المجتمع‪ .‬ومع ذلك يعتبر عدد من علماء السياسة وجهة نظر بارسونز هذه ضيقة‬
‫‪.‬جداً "ومحافظة أكثر مما ينبغي"‪ .‬ويعتقدون بأن السياسة أكثر من مجرد عملية تقنية لتطبيق رؤية يعتنقها جميع أفراد المجتمع‬
‫أما الثانية فتنظر في مقابل ذلك إلى السياسة كحلبة صراع حول ماهية األهداف التي ينبغي تحقيقها‪ .‬ولذا فإن أنصارها يميلون إلى‬
‫تعريف القوة من منظور ما هي الرؤية التي تنتصر‪ .‬وما يهم هنا هو تحديد من يدير الدفة‪ .‬على سبيل المثال هل يسيطر على الحكومة‬
‫حزب محافظ هدفه الرئيس حماية مصالح رجال األعمال والشركات؟ أو حزب اشتراكي مهتم بمصلحة االتحادات العمالية؟‬
‫وهنا فإن وجهة النظر الضمنية للقوة تقوم على فكرة الخالف بدالً من اإلجماع ووفق هذا المنظور فإن القوة ‪،‬كما يقول روبرت دال‪،‬‬
‫تعني القدرة على تحقيق المراد في مواجهة المعارضة في العادة وأنها تتمثل في دفع الناس إلى القيام بعمل أشياء لم يكونوا ليقوموا‬
‫‪.‬وهذا يعني القوة بمعنى التغلب والسيطرة بدالً من القدرة على تحقيق أهداف مشتركة ‪ (Dahl-1957).‬بها بمحض اختيارهم‬
‫ومن وجهة نظرنا فإن كال النظرتين السابقتين للقوة تعتبران مهمتان‪ .‬إذ أن السؤال عن ما مقدار القوة التي تتمتع بها حكومة ما هو‬
‫بنفس أهمية السؤال عن من يمارس تلك القوة‪ .‬فالسؤال األول يتعلق بمقدار القوة بينما اآلخر يتعلق بكيفية توزيعها‪ .‬ويوازي السؤال‬
‫المتعلق بمقدار القوة المتاحة لحكومة ما السؤال االقتصادي عن ما هو عدد السلع التي ينتجها اقتصاد ما ومن الجهة األخرى فإن‬
‫السؤال المتعلق بتوزيع القوة "من يمارس القوة؟" يماثل في علم االقتصاد السؤال المتعلق بمن هو الغني ومن هو الفقير؟‬
‫ولتوضيح هذا الفارق بين المعنيين ننظر إلى حالة االتحاد السوفيتي في بداية التسعينات‪ .‬ففي ذلك الوقت ركز معظم المراقبون على‬
‫المناورات السياسية المعقدة التي كانت تدور في موسكو‪ .‬هل فقد جورباتشوف ثقته في االصالحيين ومن ثم أتجه إلى االتجاه المحافظ؟‬
‫وهو تساؤل ممتع بال شك لكنه يتجاهل تضاؤل كمية القوة المتوفرة لدى موسكو آنذاك‪ .‬حيث كانت أكثر التطورات أهمية في االتحاد‬
‫السوفيتي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات تتمثل في انهيار السلطة المركزية‪ .‬فالجمهوريات كانت تتجاهل وغالبا ً ما تناقض األوامر‬
‫الصادرة من السلطة المركزية في موسكو‪ .‬وتوقفت الحكومة المركزية عن القيام بوظيفتها‪ .‬وكانت السفينة السوفيتية تغرق بينما كان‬
‫القادة وكثيراً من الصحافيين يتشاجرون حول من كانت بيده عجلة القيادة‪ .‬ومع ذلك فعندما ال يحكم أحد فماذا يهم من يكون الحاكم؟‬
‫وقد كان االتحاد السوفيتي في حالة احتضاره يعطي مثاالً لكيف يمكن لكمية القوة المتوفرة للحكومة المركزية أن تتضاءل إلى الحد‬
‫‪.‬الذي يصبح معه موضوع توزيعها هامشيا ً‬
‫ويمكن ممارسة القوة بطرق مختلفة‪ .‬وإذا ما سئل شخص للتعبير عن القوة من خالل إيماءه رمزية‪ ،‬فإنه ربما يعبر عن ذلك برفع‬
‫قبضته‪ .‬وتعتبر هذه الصورة مقبولة من بعض الوجوه‪ ،‬فالعنف يعتبر بدون شكل شكالً من أشكال القوة‪ .‬فتكرار الحروب بين الدول‬
‫وداخلها تؤكد أهميتها في التاريخ‪ .‬ولكن إذا كان التاريخ يهتم بما هو أكثر من الحروب فإن القوة أيضا ً تتضمن ما هو أكثر من القسر‪.‬‬
‫تصنيفا ً دقيقا ً ألشكال القوة‪ ،‬عندما قال بأن الناس يحصلون على ما يريدون )‪ (Boulding 1989‬وفي هذا السياق فقد وضع‬
‫‪.‬باستخدام القوة أو التوصل إلى اتفاق أو خلق أو إنشاء التزامات (أنظر جدول ‪ )1.1‬أي أننا يمكن أن نميز بين العصا واالتفاق والحب‬
‫ويرتبط التهديد باستخدام العنف (العصا) بالمؤسسات القسرية مثل الجيش والشرطة‪ .‬ويبرز هذا الخيار عندما يقول أ لـ ب أما أن تفعل‬
‫هذا األمر لي أو‪ .....‬ويعتبر استخدام هذا الشكل أساسا ً لقوة الدولة وعلى الرغم من أنها تعتبر حالً أخيراً في السياسة المدنية العادية‪،‬‬
‫إال أن وجودها يظل داعما ً لعدد من العالقات السياسية‪ .‬فعلى سبيل المثال قد تهدد الدولة بحرماننا من حرياتنا إذا لم ندفع الضرائب أو‬
‫نحارب في صفها أو نطيع قوانينها‪ .‬وغالبا ً ما يكون التهديد ضمنيا ً إال أن ذلك يدل على كفاءته وليس عدم أهميته‪ .‬ولذا يقال بأن العصا‬
‫‪.‬التي تبقى قابعة في الخزانة هي أكبر العصي الموجودة‬
‫أما التبادلية أو (المقايضة) فهي أكثر شيوعا ً وأكثر كفاءة من الخيار السابق "العصا"‪ ،‬ويبرز هذا الخيار عندما يقول أ لـ ب أفعل شيء‬
‫ما لي وفي المقابل أعطيك شيء تريده‪ .‬فبينما يقوم خيار العصا على التهديد بالعقوبات السلبية فإن خيار االتفاق يقوم على توقع‬
‫الفائدة‪ .‬ومع ذلك فإن كال الخيارين السابقين يمثالن شكالن للقوة ألنهما يعبران عن وسيلتين يحاول بهما الفرد أن يغير سلوك فرد‬
‫‪.‬آخر‬
‫وتعتبر المقايضة قاعدة العالقات االقتصادية لكنها مع ذلك تعتبر مهمة جداً في السياسة‪ .‬فعلى سبيل المثال فإن العالقات بين الدولة‬
‫ومواطنيها يتم تحليلها في الغالب وفقا ً لفكرة التعاقد بين الجانبين‪ .‬وتقوم التبادلية على موافقة المواطنين على الخضوع لسلطة الدولة‬
‫في مقابل توفير الدولة لمظلة حمائية لهم‪ ،‬وبتوفيرها لقوة شرطة‪ ،‬ونظام تعليمي‪ ،‬وحد أدنى من الرفاه االجتماعي‪ .‬كما يدفع‬
‫المواطنون الضرائب في مقابل قيام الدولة بتوفير الخدمات‪ .‬ومع أن هذا التعاقد يعتبر خياليا ً إال أن المقايضة التبادلية التي يقوم عليها‬
‫تؤثر على طريقة سلوك المواطنين أي أنه ببساطة عندما يشعر الناس بأن الدولة تعطي مثلما تأخذ فإنهم أكثر احتماالً لطاعتها ومن ثم‬
‫‪.‬يصبح النظام أكثر استقراراً‬
‫أما خلق االلتزامات أو ما يعبر عنه (بالحب) فإنه يشير إلى القدرة على غرس الوالء‪،‬ـ االحترام وااللتزام‪ .‬ويظهر ذلك عندما يقول أ لـ‬
‫ب أفعل شيء ما أريده ألنك تحبني‪ ،‬أو تحترمني أو تشعر بالتزامات تجاهي‪ .‬وعندما ننظر إلى أمثلة لتلك االلتزامات فإننا نفكر طبيعيا ً‬
‫في المقام األول بالمؤسسات االجتماعية مثل األسرة أو المسجد أو جمعيات النفع العام إال انه يمكن القول بأن القدرة على اإللهام أو‬
‫التأثير على الناس هي األكثر أهمية من بين األشكال الثالثة السابقة للقوة‪ .‬وفي هذا السياق فإن القومية والدين تعتبران أمثلة لقوى‬
‫‪.‬قوية ثم استغاللها من قبل القادة (وحتى من قبل المعارضة بشكل أكبر) لدفع الناس للتضحية بأنفسهم‬
‫ويزعم بعض الناس بأن فكرة ممارسة القوة من خالل االلتزام تمثل تناقضا ً في المصطلحات فإذا كان أ يقوم باختياره بعمل ما يريده ب‬
‫فهل يعني ذلك أن أ يمارس في الحقيقة قوة أو سلطة على ب؟ إذا تبرع الناس للقتال في الحرب فهل يعني أن الدولة تمارس قوة أو‬
‫سلطة عليهم من خالل تشجيعهم على تسجيل أسمائهم لالنخراط في الحرب؟ وهذا يعتمد على ما إذا كنا نريد تعريفا ً محدوداً أو واسعا ً‬
‫فاالقتراب المحدود ينظر للقوة على أنها القدرة على فرض وجهات نظر جهة ما ضد المعارضة‪ ،‬إال أن علماء ‪ Power ،‬للقوة‬
‫‪.‬هو الشكل األكثر مكراً للمصطلح ‪Love power‬السياسة الراديكاليين سيزعمون بأن هذا التوجه مقيداً بشكل كبير وأن قوة الحب‬
‫فعلى سبيل المثال يزعم لوكس (‪ )1974‬بأن القوة تمارس كلما تم تجاهل المصالح الحقيقية للناس حتى لو كان هؤالء الناس غير‬
‫مكترثين بمصالحهم‪ .‬وبالنسبة له فإن أ يمارس سلطة أو قوة على ب عندما يؤثر أ على ب بطريقة مناقضة لمصالح ب‪ .‬ولذلك فإن‬
‫المصنع الذي يلوث بلدة ما يمكن أن يخفي ذلك عن السكان‪ .‬وعندئذ يرى لوكس أنه في حالة نجاح المصنع في ذلك فإنه يكون قد‬
‫مارس قوة أو سلطة حتى لو كان السكان غير منتبهين لمشكلة التلوث – ومن ثم غير قادرين على االعتراض عليها‪ .‬حيث أن‬
‫‪.‬مصالحهم قد تضررت‬
‫ً‬
‫وبالمثل فإن الحكومة التي تستغل الحماسة الوطنية لكي تزيد معدالت التجنيد العسكري تمارس أيضا السلطة أو القوة على المجندين –‬
‫ألنه هل من صالحهم التضحية بحياتهم في مكان بعيد؟ وسواء اعتبرنا تلك أمثلة للقوة أو السلطة أم ال إال أنه يجب علينا أن نقبل بأن‬
‫‪.‬المناورة بمعرفة وقيم وتفضيالت اآلخرين تعتبر وبشكل كبير أفضل طريقة للسيطرة عليهم‬
‫جدول ‪1.1‬‬
‫"استخدام القوة "العصا" التوصل التفاق "الجزرة" خلق التزامات "الحب‬
‫الطبيعة تهديد قسري مبادالت إنتاجية عالقات تكاملية‬
‫دافع الطاعة الخوف الكسب الوالء وااللتزام‬
‫المؤسسة عسكرية اقتصادية اجتماعية‬
‫وتتضمن القوة السياسية على نحو نموذجي خليطا ً من القسر أو اإلكراه‪ ،‬والتبادلية وااللتزام‪ .‬ولنأخذ الضرائب كمثال‪ ،‬فأخذ النقود من‬
‫الشعب يعتبر مهمة أساسية لكنها مخادعة يجب أن تقوم بها أي دولة بقدر معقول من الكفاءة على األقل‪ .‬فأحد األسباب التي تدفع‬
‫الناس للدفع هو عنصر اإلكراه خوفا من عقوبة الدولة إذا ضبطوا وهم يتهربون من الدفع‪ .‬أما السبب الثاني فيتمثل في التبادلية‬
‫فالناس مستعدون لدفع الضرائب من أجل الحصول على خدمات مثل الصحة والتعليم والرعاية االجتماعية‪ .‬أما السبب األخير فيمثل في‬
‫الشعور بااللتزام‪ :‬ماذا سيحدث لو لم يدفع كل واحد ضريبته؟ ولذا فإن قوة الدولة الحديثة تستند على قدرتها على االعتماد على مصادر‬
‫‪.‬متنوعة لإللتزام بحيث يدعم كالً منها اآلخر‬
‫‪ :‬وبإيجاز فإننا قد استعرضنا ثالثة تفسيرات للقوة وهي‬
‫‪.‬القوة بمعنى القدرة على إنجاز األهداف الجمعية – ‪1‬‬
‫‪.‬القوة بمعنى القدرة على فرض مشيئة طرف على المعارضة – ‪2‬‬
‫‪.‬القوة بمعنى التأثير على الناس بطريقة تكون معاكسة لمصالحهم الخاصة – ‪3‬‬
‫ويحتمل أن يكون االقتراب الثاني هو المعنى األكثر قربا ً للتفسير الشائع أو المألوف للقوة‪ ،‬ومع ذلك فإن األنماط األخرى األقل قسرية‬
‫(اعتماداً على اإلكراه) تعتبر بنفس األهمية أيضا ً في التأثير على الناس‪ ،‬وفي الواقع فإن عالقات القوة تستند في الغالب على توليفة‬
‫‪.‬من العوامل‬
‫السلطة ‪6-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تعتبر القوة القسرية شكال غير مجديا للحكم تماما كما أن االستعباد يعتبر غير فعال نظرا ألن هناك حاجة لمراقبة العبيد كما أنهم على‬
‫أي حال يفتقدون ألي التزام تجاه عملهم‪ .‬وبناء عليه فإن القوة القسرية تكون غير مستقرة وغير فعالة أيضاً‪ ،‬ولذلك يقال بأن أولئك‬
‫الذين يعيشون بواسطة السيف يموتون غالبا ً بالسيف‪ .‬ومن ثم فإن المعضلة األساسية التي تواجه الحكام تتمثل في كيفية إضفاء‬
‫الشرعية على حكمهم – أي كيف يمكن تحويل القوة إلى سلطة‪ ،‬ولكن ما هي السلطة؟‬
‫تشير السلطة إلى الحق في الحكم‪ ،‬وتظهر عندما يعترف الخاضعون بحق المهيمنين على إصدار األوامر‪ .‬فعلى سبيل المثال يمكن‬
‫لجنرال ما أن يمارس القوة على األسرى من جنود األعداء لكنه ال يملك سلطة عليهم حيث أن سلطته تكون مقتصرة على قواته‬
‫الخاصة‪ .‬وفي نفس الوقت فإن السلطة هي أكثر من مجرد اإلذعان االختياري‪ ،‬فاالعتراف بسلطة الحكام ال يعني الموافقة على‬
‫قراراتهم‪ ،‬أنه يعني فقط القبول بحقهم في إصدار القرارات وواجب األفراد في طاعتها‪ .‬فعلى سبيل المثال يمكن أال توافق على طلب‬
‫‪.‬أستاذك على قراءة هذا الكتاب لكنك هنا تقرأه وهذا يعني أنك قبلت سلطة أستاذك‬
‫وال تزال عالقات السلطة هرمية‪ .‬وفي الحقيقة فهي غالبا ً ما تكون بمثابة ورقة توت تغطي التهديد باستخدام القوة‪ .‬فالجنود على سبيل‬
‫المثال يذعنون للجنراالت ألنهم سيواجهون حكومة عسكرية إذا رفضوا اإلذعان‪ ،‬وهؤالء الذين ي ّدعون السلطة يمكن أال ينتظروا حتى‬
‫يتم االعتراف بتلك السلطة‪ .‬وبالمثل فإن الطالب يذعنون للمعلمين لخشيتهم من العقوبات المترتبة على عدم اإلذعان حتى وأن كانت‬
‫تلك العقوبات أقل بكثير مما يواجهه الجنود أمام محكمة عسكرية‪ .‬وفي الحقيقة فإن العالقات السياسية تجمع نموذجيا ً بين عناصر كل‬
‫‪.‬من القوة والسلطة‬
‫وكما أن للقوة عدة مصادر فكذلك السلطة‪ ،‬ويشار هنا إلى أن عالم االجتماع األلماني الشهير ماكس فيبر قد أورد تحليالً مهما ً لمصادر‬
‫السلطة عندما م ّيز بين ثالثة طرق الضفاء الشرعية على القوة السياسية (أنظر جدول ‪ .)2.2‬ويتمثل النموذج األول في اإلشارة إلى‬
‫‪ :‬قداسة وأهمية التقاليد‬
‫ففي السلطة التقليدية نظراً إلى النظام القائم على أنه مقدس أبدي ال تمس حرمته كما يعتقد سلطة الشخص أو الجماعة المهيمنة على‬
‫اآلخرين‪ ،‬التي عادة ما تأتي عن طريق التوارث‪ ،‬هي مقدرة ومحتوية‪ ،‬وأن الرعية يرتبطون بالحكام من خالل التبعية الشخصية وتقليد‬
‫‪.‬الوالء فضالً عن تدعيم ذلك بواسطة المعتقدات الثقافية مثل الحق المقدس للملوك‬
‫فإن كل أنظمة الحكومات تقريبا ً قبل ظهور الدولة الحديثة تمثل االدعاءات التقليدية للسلطة‪ .‬إال أن السلطة )‪ Blau (1963‬وكما أشار‬
‫التقليدية ال تناسب المجتمعات المتغيرة‪ .‬وفي العالم المعاصر فإن السلطة التقليدية تقدم قاعدة للحكم في عدد محدود من الملكيات‬
‫الوراثية مثل السعودية ونيبال وعمان‪ ،‬حتى أن بعضا ً من تلك األنظمة قد بدأت تذعن لرياح الديموقراطية التي اكتسحت العالم في‬
‫‪.‬أواخر الثمانينات‬
‫وتعتبر السلطة الكاريزمية أو الملهمة النموذج الثاني للسلطة لدى فيبر‪ .‬وهنا يطاع القادة ألنهم يلهبون حماس اتباعهم الذين يضفون‬
‫على أبطالهم صفات استثنائية وأحيانا ً أسطورية‪ .‬وبينما تستند السلطة التقليدية على الماضي فإن السلطة الكاريزمية ترفضه وتزدريه‪.‬‬
‫وخالفا ً لالستخدام الجماهيري فإن الكاريزما بالنسبة لفيبر ليست صفة ضمنية للقائد بل أنها تميز العالقة بين القادة واالتباع‪ .‬فالقادة‬
‫الكاريزميين يعتبرون أشخاصا ً مؤثرين يظهرون في أوقات األزمات والقالقل ويعتبر غاندي ومارتن لوثر كنج ومانديال وعبد الناصر‬
‫وحتى أدولف هتلر أمثلة رئيسة للقادة الكاريزميين‪ .‬كما يعتبر دور الخميني في إعادة صياغة إيران بعد سقوط الشاه في ‪ 1979‬مثاالً‬
‫‪.‬أكثر حداثة لذلك‬
‫ومع ذلك فإن السلطة الكاريزمية تعتبر قصيرة العمر ضمنيا ً إال إذا استطاع القائد الكاريزمي تحويل سلطته إلى مؤسسة دائمة‪ .‬ويطلق‬
‫ففي إيران مثالً استطاع آية هللا الخميني إنشاء نظام ‪ Routinizoition of Charisma ،‬على هذه العملية (روتنة الكاريزما)‬
‫‪.‬إسالمي استمر بعد وفاته في ‪1979‬‬
‫ً‬
‫أما المصدر الثالث للسلطة بالنسبة لفيبر فهو ما يطلق عليه بالنموذج القانوني – العقالني‪ .‬وهذا النموذج هو النقيض تماما للسلطة‬
‫الكاريزمية‪ .‬فهو يعني أن الخضوع ال يكون لشخص وإنما لمجموعة من المبادئ – حكومة القانون بدالً من حكومة األفراد‪ .‬ولذلك فإن‬
‫الخاضعين في منظمة ما يجب أن يذعنوا للمطالب القانونية لرؤسائهم بغض النظر عن من يحتل المناصب العليا‪ .‬وقد أعتقد فيبر بأن‬
‫‪.‬السلطة القانونية العقالنية ستصبح المهيمنة في المجتمع الحديث وقد كان محقا ً‬
‫وتعتبر البيروقراطيات الحديثة أفضل مثال للمنظمات القائمة على السلطة القانونية العقالنية‪ ،‬فنحن نذعن للقوانين ليس بدافع الخوف‬
‫فقط وال بدافع التقاليد أو الوالء الشخصي لقائد الشرطة مثال ولكن ألننا نشعر أن القانون والنظام يعتبر ضروريا ً ومرغوبا ً في مجتمع‬
‫‪.‬عقالني‪ .‬فنحن أذن نعترف بسلطة القانون‪ -‬وليس قوة القائمين على تنفيذه فقط‬
‫وبإمكان السلطة القانونية العقالنية الحد من إساءة استخدام القوة وذلك ألنها قائمة على المنصب وليس الشخص‪ ،‬حيث قد يكون هناك‬
‫مسئولين يتجاوزون صالحياتهم‪ .‬وإذا كان لدينا شجاعة كافية فإننا نستطيع عندئذ أن نرفض اإلذعان وبشكل مشروع‪ .‬والشرطة‬
‫تستطيع أن تستجوبك ولكن في بلد منظم جيداً لن يكون بإمكانهم ضربك أو تعذيبك إذا رفضت اإلجابة‪ .‬وفي الواقع فإن الناس الذين‬
‫يملكون وسائل القوة يستخدمونها في الغالب حتى عندما ال يكونون مخولين القيام بذلك‪ .‬إال أن استناد القوة إلى المنصب بدالً من الفرد‬
‫‪.‬فضالً عن إيضاح حدود تلك القوة يساعد بالفعل على احتواء إساءة استخدامها‬
‫أما نقطة الضعف الرئيسية في تقسيمات فيبر فتتمثل في عدم إعطائه اهتماما ً كافيا ً لكيفية تحويل القوة إلى سلطة‪ ،‬فلنفترض بأن‬
‫شخص ما قاد انقالبا ً عسكريا ً ناجحا ً في دولة صغيرة‪ ،‬وتم طرد الرئيس السابق‪ ،‬وتمت السيطرة على محطة اإلذاعة واستطاع أن يضع‬
‫أحد أقربائه في منصب قيادة الجيش‪ ،‬فماذا عليه أن يفعل بعد ذلك؟ كيف يمكن بناء سلطته حتى ال يواجه نفس مصير سابقه؟ أن هذا‬
‫‪.‬يعتبر عمالً سياسيا ً بحتاُ‪ ،‬فالبندقية يمكن أن تصل بالشخص إلى المنصب ولكنها لن تبقيه هناك لألبد‬
‫‪ (Goodwin ,‬أن مجرد البقاء سيساعد‪ ،‬واإلذعان الذي تم الحصول عليه بداية بالقسر واإلكراه يصبح في النهاية معتاداً‪ .‬وكما يقول‬
‫أن سلطة اليوم هي مسرح كفاح األمس من أجل القوة"‪ .1‬أن مجرد اإلذعان يمكن أن يفيد لبعض الوقت لكن سيكون من" )‪1987‬‬
‫األفضل لو تم تحويل اإلذعان المعتاد إلى والء أصيل‪ .‬ولذلك ال يمكن تجاهل جماهير الشعب ألنه عندما يصبحون مستاءين من أداء‬
‫الحكومة يصبح لدى أعداء تلك الحكومة عذراً أو ربما سببا ً قويا ً لتغييرها‪ .‬باختصار يتحول الفاتحون إلى ملوك من خالل خلقهم‬
‫لمصادر مستقرة للدعم‪ ،‬أما إذا لم يظهروا أي اعتبار لمن يحكمونهم فسوف يواجهون في النهاية مشاكل الحكم غير الكفء وغير‬
‫‪.‬المستقر التي قضت على معظم المستبدين‬
‫جدول ‪ 1.2‬تقسيمات فيبر ألشكال السلطة‬

‫النوع القاعدة المثال‬


‫تقليدي العرف والطرق الراسخة لعمل األشياء الملكية‬
‫كاريزمي التزام قوي جداً تجاه القائد ورسالته عدد من القادة الثوريين‬
‫قانوني عقالني القواعد واإلجراءات – المنصب ال الشخص البيروقراطية‬
‫الشرعية ‪7-‬‬
‫ً‬
‫تعتبر الشرعية مصطلحا ً مماثال للسلطة‪ ،‬فهي تشير أيضا ً إلى القوة المشروعة‪ .‬ويكمن الفرق في أننا نستخدم عادة مصطلح‬
‫"الشرعية" في مناقشة نظام حكومي بكامله بينما تشير السلطة في الغالب إلى مناصب محددة ضمن الحكومة‪ .‬ولذلك فإننا نميل‬
‫‪.‬للحديث عن شرعية النظام لكننا في المقابل نتحدث عن سلطة المسئول‬
‫ومما يزيد في الغموض أن الشرعية تستخدم بطريقتين مختلفتين من قبل منظري وعلماء السياسة‪ .‬فمنظري السياسة يهتمون بالمبادئ‬
‫حيث يرون أن حكومة ما تكون شرعية إذا كان تعمل وفق بعض المبادئ األخالقية – على سبيل المثال أنها كانت منتخبة بطريقة‬
‫عادلة‪ .‬أما علماء السياسة من الجانب اآلخر فهم يهتمون بالسياسة كما هي ‪ ،‬حيث يقولون بأن حكومة ما تكون شرعية إذا كان‬
‫مواطنوها يعتبرونها كذلك‪ ،‬وأن الحكم الديمقراطي يمثل مؤثراً واحداً فقط على الشرعية وفقا ً لوجهة النظر هذه‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬لم‬
‫يكن أحد يصف إيران في ظل آية هللا الخميني على أنها نظاما ً ديموقراطيا‪ ،‬ومع ذلك فقد جاء الخميني إلى السلطة من خالل ثورة‬
‫‪.‬شعبية مما أعطى نظامه شرعية مهمة على األقل في بداية الثورة‪ .‬لكن هذه السلطة قامت على مبادئ إسالمية وليس ديموقراطية‬
‫كذلك من المهم أن نميز بين الشرعية والقانونية‪ ،‬فالشرعية تشير إلى ما إذا كان الناس يقبلون شرعية القانون بينما تشير القانونية‬
‫إلى ما إذا كان القانون صادراً طبقا ً إلجراءات صحيحة كما هو مبينا ً في الدستور عادة‪ .‬ويمكن للتنظيمات أن تكون قانونية دون أن‬
‫تكون شرعية‪ ،‬فعلى سبيل المثال كانت األغلبية السوداء تعتبر وبحق أن قوانين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا غير شرعية‬
‫‪.‬على الرغم من أنها كانت قد صيغت طبقا ً لدستور البالد آنذاك‬
‫وبالمقابل فإن تصرفا ً غير قانونيا ً ينظر اليه في بعض األحيان على أنه تصرف شرعي من قبل بعض شرائح السكان على األقل وخاصة‬
‫عندما يأخذ ذلك التصرف شكل االحتجاج السلمي لتحقيق هدف مشترك‪ .‬فقد وفرت حاالت العصيان المدني في القرن العشرين قوة‬
‫بناءه ألحداث التغيير السياسي المطلوب حول العالم‪ .‬حيث ساهمت في نشوء حركات الدعوة إلى المساواة في حقوق التصويت‬
‫واالستقالل القومي من الحكم االستعماري‪ .‬ويدل نجاح تلك الحركات على أن الشرعية مختلفة عن ‪ ،‬وأكثر أهمية وأساسية‪ ،‬من‬
‫‪.‬القانونية‬
‫خالصة‬
‫السياسة هي العملية التي من خاللها تقوم الجماعات بصنع قرارات جماعية مشتركة‪ .‬وتنبع نكهة السياسة من حقيقة أن أعضاء – ‪1‬‬
‫جماعة ما نادراً ما يتفقون على القرارات التي ينبغي الوصول إليها‪ .‬ومع ذلك فإن دراسة السياسة ال تقتصر فقط على الخالف إذ أنها‬
‫‪.‬أيضا ً تتعلق بكيفية حل الخالف‬
‫كل المجتمعات تقريبا ً تطور مؤسسات متخصصة للتوصل إلى قرارات جماعية مشتركة‪ ،‬والحكومة هي جهاز لصناع القرار – ‪2‬‬
‫للمجتمع بكامله‪ ،‬وتشكل الحكومة عنصراً أساسيا ً للدولة التي تعتبر مصطلحا ً أوسع من الحكومة‪ .‬كذلك تمتد حدود الدولة لتشمل تلك‬
‫‪.‬المؤسسات التي تقدم النصح للحكومة (مثل البيروقراطية) فضالً عن تلك التي تقوم على تطبيق القوانين (مثل الشرطة)‬
‫يمكننا أيضا ً أن نعرف السياسة على أنها ذلك الجهاز الذي يمتلك السيادة بشقيها الداخلي والخارجي‪ ،‬وتشير السيادة الداخلية إلى – ‪3‬‬
‫الحق في إصدار القوانين للبالد‪ ،‬أما السيادة الخارجية فتتبع للجهاز الذي يعترف له دوليا ً بحق االختصاص القضائي والتشريعي على‬
‫اإلقليم‪ .‬وتؤكد النظرية التقليدية للسيادة على أن السيادة يجب أن تكون مقصورة على كيان وحيد‪ ،‬ومع ذلك فإن انتشار القوة وتشتتها‬
‫‪.‬داخل البلدان وازدياد االعتماد المتبادل بينها يشير إلى أن هذه النظرية قد أصبحت أقل أهمية‬
‫بشكل عام فإن القوة هي القدرة على الحصول على ما نريد‪ ،‬وهذا يمارس في الغالب من خالل استخدام القوة على اآلخرين‪ ،‬وهذا – ‪4‬‬
‫‪.‬بدوره يأخذ أشكاالً متعددة منها استخدام العنف‪ ،‬التفاوض وخلق االلتزامات‬
‫تمثل النخبوية والتعددية نموذجين رئيسيين لكيفية توزيع القوة في مجتمعات كبيرة‪ .‬وتشير النخبوية إلى وجهة النظر القائلة بأن – ‪5‬‬
‫أقلية صغيرة تهيمن على كل الحكومات حتى الديموقراطية منها‪ ،‬اما التعددية فتشير إلى وجهة النظر التي تقول بأن عدة جماعات‬
‫‪.‬مختلفة تؤثر على القرارات حتى لو لم تحكم األغلبية ومن ثم فإن التعددية هي حكم األقليات وليس حكم نخبة صغيرة واحدة‬
‫السلطة هي الحق في الحكم‪ ،‬وطبقا ً لفيبر فإن السلطة يمكن إرجاعها إلى التقاليد أو الكاريزما أو القانون‪ .‬وتتميز المجتمعات – ‪6‬‬
‫الحديثة بالسلطة القانونية‪ .‬وتتمثل المهمة الرئيسة للحكام الجدد في تحويل القوة إلى سلطة‪ ،‬والتي تتم في الغالب من خالل تقديم‬
‫‪.‬خدمات لهؤالء الذين يحكمونهم‪ .‬وعندما يخفق الحكام في ذلك فإنهم يفقدون السلطة في الغالب‬
‫الحكومة الشرعية هي تلك التي يعترف لها الناس الذين تحكمهم بسلطتها‪ .‬والشرعية ال تقوم على االنتخابات فقط بل يمكن أن – ‪7‬‬
‫تستند إلى التقاليد والدين والنجاح االقتصادي والعسكري‪ .‬وبالتالي فإن الشرعية تختلف عن القانونية‪ ،‬فالقانون الذي يتمتع بالشرعية‬
‫‪.‬هو الذي يشعر الناس باإللتزام بطاعته‪ ،‬والتنظيم هو الذي يتم إصداره وفقا ً لإلجراءات الدستورية‬

‫علمية علم السياسة‬


‫ما العلم؟‬
‫من الواضح أننا نعيش اليوم في عصر العلم لكن برغم تغلغل العلم في كل شئون حياتنا واالحترام الواسع الذي يلقاه إال أن هناك درجة‬
‫غريبة من سوء الفهم حول ما يعنيه مصطلح العلم بالتحديد‪ .‬فالعلم مرتبط في األذهان بالعاملين في المختبرات ذوي المعاطف‬
‫البيضاء ‪،‬وباألجهزة المختبرية المعقدة‪ ،‬وبالنماذج الرياضية الدقيقة ومع ذلك فإن المصطلح لم يعط في الواقع تعريفا واضحا يستطيع‬
‫من خالله الواحد منا تمييز ما هو علمي وما هو غير ذلك‪ .‬فبرغم أن لدينا حدسا مبدئيا عن ماهية العلم إال أن تعريفه الدقيق يضللنا‪.‬‬
‫‪.‬وهناك بشكل عام طريقتان مختلفتان لتعريف العلم‬
‫تعر ف العلم على أنه "أي ترتيب نظامي للمعرفة المكتسبة والذي يشمل الدراسة المعمقة لموضوع‬ ‫األولى واألوسع استخداما للمصطلح ّ‬
‫ما ثم وضع ما تم تعلمه وفق نوع من الترتيب العقالني‪ .‬حيث يتم تصنيف المعرفة المكتسبة أو ربطها بأجزائها المختلفة من خالل‬
‫برنامج عقلي مدروس‪ .‬ويعتبر العلم من هذا المنظور سمة لكل الحقول األكاديمية ومن بينها الفلسفة والعلوم االجتماعية والرياضيات‪،‬‬
‫‪.‬فضال عن كل محاوالت وضع المعرفة اإلنسانية في ترتيب نظامي‬
‫تع رف العلم من خالل ربطه بالمنهجية العلمية أو التجريبية‪ .‬وتكاد تنحصر المنهجية العلمية في استخدام‬ ‫أما الطريقة الثانية فهي التي ّ‬
‫المعلومات التجريبية بهدف بناء نظريات قادرة على التفسير والتنبؤ‪2.‬‬
‫ويجب النظر إلى هذا التعريف وبعض مصطلحاته بعناية فائقة حتى نفهم ما هي المنهجية العلمية‪ .‬أحد هذه المصطلحات هو المعلومات‬
‫التجريبية‪ .‬فالمعلومة التجريبية هي حقيقة محددة بدقة ويمكن مالحظتها بواحدة أو أكثر من حواسنا الخمس‪ .‬ومن ثم يمكن التأكد من‬
‫صحتها من قبل إي شخص‪ .‬وينبغي اإلشارة هنا إلى أن االعتماد على المعلومات التجريبية فقط يعني استثناء كل القيم واألحكام‬
‫‪.‬األخالقية حول الصواب والخطأ والحسن والقبيح فضال عن االستنتاجات التي يتم التوصل إليها دون التمكن من إعادة التأكد منها‬
‫ويجب النظر إلى هذا التعريف وبعض المصطلحات فيه بعناية فائقة حتى نفهم ما هي المنهجية العلمية‪ .‬أحد هذه المصطلحات هو‬
‫المعلومات التجريبية ‪.‬والمعلومة التجريبية هي حقيقة محددة بدقة ويمكن مالحظتها باستخدام واحدة أو أكثر من حواسنا الخمس و‬
‫بالتالي يمكن التأكد منها من قبل أي فرد ‪ .‬ويبغي اإلشارة هنا إلى أن االعتماد فقط على المعلومات التجريبية يعني استثناء كل القيم‬
‫واألحكام األخالقية حول الصواب والخطأ والحسن و القبيح فضال عن االستنتاجات التي نتوصل إليها لكن ال يمكن التحقق من صحتها‪.‬‬
‫وال تقتصر المنهجية العلمية على جمع الحقائق التجريبية لكنها تحاول استخدامها في صياغة نظريات للتفسير والتنبؤ من خالل خمس‬
‫خطوات أساسية‬
‫‪.‬تجميع الحقائق التجريبية حول موضوع معين ‪1.‬‬
‫دراسة هذه الحقائق بهدف اكتشاف أنماط االختالف والتشابه وهو ما يعرف بالتعميم ‪2.‬‬
‫صياغة الفرضيات التي تفسر لماذا تعتبر التعميم المالحظ صحيحا ‪3.‬‬
‫‪.‬اختبار الفرضية من خالل مالحظاتها مرات عدة تحت ظروف مختلفة‪ .‬والفرضية المتحقق منها تعتبر نظرية ‪4.‬‬
‫استخدام النظرية للتوقع أو التنبؤ مع التحقق من صحة التنبؤات من خالل مالحظة العالم الحقيقي ومن ثم إجراء التعديالت ‪5-‬‬
‫‪.‬المطلوبة عند الحاجة‬
‫ما مدى علمية علم السياسة ؟‬
‫هناك شبه إجماع بين علماء السياسة على أن علم السياسة يعتبر علما من المنظور األول ألنه يحاول أن ينظم معرفتنا بالعالم السياسي‬
‫‪.‬ويضع هذه المعرفة في ترتيب عقالني‪ .‬فحقائق علم السياسة توضع بشكل منظم وليست مجرد تجميع عشوائي ألجزاء المعرفة‬
‫ومع ذلك فليس هناك نفس درجة اإلجماع حول ماذا كان علم السياسة هو علم من منظور المنهجية العلمية أو حتى ماذا كان ينبغي‬
‫محاولة تطبيق تلك الطريقة عليه‪ .‬وهناك على وجه التحديد أربع من المشاكل العملية التي تواجه محاوالت تطبيق المنهجية العلمية‬
‫‪:‬لدراسة المؤسسات اإلنسانية والسلوك اإلنساني هي‬
‫استحالة الفصل التام بين شخصية وقيم عالِم السياسة وموضوع الدراسة وذلك ألنه يدرس مؤسسات إنسانية تؤثر عليه شخصيا أو ‪1-‬‬
‫سلوك إنساني يكون هو جزء منه‪ .‬فعالم الفلك مثال الذي يحاول تحديد المسافة بين كوكبين في النظام الشمسي ال تتأثر نتائجه‬
‫‪.‬بمصالحه الشخصية بعكس اليهودي األمريكي الذي يحاول تحليل السياسة األمريكية في الشرق األوسط‬
‫استحالة إخضاع الظاهرة السياسية للتجربة المعملية‪ .‬ال يستطيع عالم السياسة أن يسيطر على كل المتغيرات المؤثرة على المشكلة ‪2-‬‬
‫‪.‬المدروسة بنفس الطريقة التي يقوم بها عالم الكيمياء مثال‬
‫مشكلة القياس في العلوم االجتماعية‪ .‬ففي العلوم الطبيعية هناك مقاييس واضحة ومحددة للمسافة والوزن والكتلة والزمن وغيرها ‪3-‬‬
‫تمكن من التوصل إلى وصف دقيق للبيئة الطبيعية‪ ،‬أما العلوم االجتماعية فال يقتصر اهتمامها على المسائل المادية المتعلقة بالمسافة‬
‫والزمن والوزن و إنما كذلك بما يمكن أن يطلق عليها األبعاد العقلية والروحية والنفسية للوجود اإلنساني‪ ,‬وهذه األبعاد ال يمكن‬
‫‪.‬قياسها بنفس الدقة والبساطة المتوفرة في العلوم الطبيعية‬
‫وحتى عندما ال تمثل المقاييس مشكلة وحتى عندما تكون كل المتغيرات تحت السيطرة يبقى هناك في الغالب عدد كبير من ‪4-‬‬
‫المتغيرات يستحيل قياسها أو أخذها في االعتبار ‪ .‬باختصار هناك عدد ال نهائي من المتغيرات المؤثرة على موضوع الدراسة مما‬
‫‪.‬يستحيل على الباحث أن يحدد ويقيس كل تلك المتغيرات‬
‫ونتيجة لهذه المشاكل العملية األربع هناك من تساءل عن قدرة علم السياسة على اكتشاف تعميمات وتطوير نظريات لها قدرة تفسيرية‬
‫و تنبؤية فبعد كل شيء يزعم هؤالء أليس كل إنسان وكل تصرف إنساني يعتبر فريدا من نوعه؟ فكيف يمكن إذا التوصل إلي أي نوع‬
‫من التعميم أو النظريات ؟ إال أنه وبرغم هذه المشاكل فإن عالم السياسة ال زال بإمكانه أن يقوم بدراسة علمية مجدية وأن يستفيد من‬
‫المنهجية العلمية ‪ ,‬إذا كان متيقظا وحذرا من أن تؤثر قيمه و تفضيالته على موضوع الدراسة‪ .‬كذلك مع أن عالم السياسة ال يستطيع‬
‫في الغالب أن يقيس أو يتحكم في المتغيرات بنفس الدقة التي يقوم بها عالم الكيمياء مثال إال أنه يستطيع أن يتحكم ويقيس بدقة كثير‬
‫‪.‬من المتغيرات الهامة في دراسته‬
‫والخالصة أن علم السياسة يعتبر علما عند األخذ بالمنظور العقالني المرتب لدراسة الظاهرة السياسية كما يعتبر علم السياسة و إلي‬
‫‪ .‬حد ما علم بمعنى المنهجية العلمية‬

‫فروع علم السياسة الحديث‬


‫هناك اليوم عدة فروع أو حقول ضمن علم السياسة الحديث‪ ،‬أهم تلك الفروع هي النظرية السياسية والفلسفة السياسية‪ ،‬والحكومات‪،‬‬
‫‪.‬والسياسية المقارنة‪ ،‬واإلدارة العامة والسياسة العامة‪ ،‬والعالقات الدولية‪ ،‬والمنهجية وطرق البحث‬
‫النظرية السياسية والفلسفة السياسية وهما مصطلحان يستخدمان غالبا ً بشكل متبادل‪ .‬ويهتم العلماء في هذا النوع باألسئلة – ‪1‬‬
‫المتعلقة باألحكام الق ّي ميه وتاريخ وتطور األفكار لكبار المفكرين السياسيين‪ .‬وأحيانا ً يطلق على الفلسفة السياسية نظرية القيمة أو‬
‫النظرية المعيارية (لتمييزها عن النظرية العلمية‪ /‬التجريبية) وذلك ألنها تهتم أساسا ً بالقيم‪ ،‬والمعايير‪ ،‬والمبادئ األخالقية (الفضيلة)‪.‬‬
‫وتحاول هذه النظرية أن تفحص العالقات بين الحقائق والقيم‪ ،‬واآلراء‪ ،‬وتعتبر النظرية جزءاً مهما ً من علم السياسة ألنها تستخدم في‬
‫‪.‬شرح الظاهرة السياسية والتنبؤ بها‪ .‬كذلك يهتم الفالسفة السياسيون باالبستمولوجيا – أي أصل وطبيعة وحدود المعرفة‬
‫الحكومات يشكل موضوع الحكومات فرعا ً كامالً في علم السياسة وفي هذا الحقل يدرس العلماء بناءات ووظائف الحكومات في – ‪2‬‬
‫مستوياتها المختلفة وعادة ما يكون ذلك ضمن إطار بلد واحد‪ ،‬فضالً عن دراسة المؤسسات مثل مؤسسة الرئاسة أو رئاسة الوزراء‪.‬‬
‫‪.‬ويهتم المختصون في هذا الحقل كذلك بتحليل السلوك السياسي لمجال واسع من المشاركين في العملية السياسية‬
‫السياسة المقارنة وهو فرع واسع جداً يحتوي ضمنه فروعا ً تابعة‪ ،‬ويهتم هذا الفرع وإلى حد كبير بدراسة السياسة الكلية – ‪3‬‬
‫للدول‪ .‬أما اهتمامه الرئيس فيتعلق بمقارنة سياسة وحكومة دول مختلفة‪ .‬وتحت لواء هذا الفرع ينضوي عدد ‪Macro-politics‬‬
‫من المتخصصين في المناطق المختلفة الذين يركزون على مناطق محددة مثل الشرق األوسط‪ ،‬الدول النامية‪ ،‬أمريكا الشمالية وغيرها‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أولئك الذين يضعون دراساتهم في إطار الممارسات والبناءات السياسية المتنوعة للعالم ككل‪ .‬وللدراسات المقارنة أهمية‬
‫كبيرة في علم السياسة فمن خالل المقارنة فقط نتستطيع أن نفهم ون ّق يم مزايا أو مشاكل نظام سياسي معين‪ .‬كذلك تعتبر المقارنة جزءاً‬
‫‪.‬مكمالً لكل األبحاث التجريبية العلمية‬
‫اإلدارة العامة والسياسة العامة يهتم كال الحقالن بدراسة الجوانب اإلدارية للحكومة‪ .‬فالسياسة العامة تركز على تحليل وتقويم – ‪4‬‬
‫السياسات في مجاالت مثل الدفاع‪ ،‬الصحة‪ ،‬التعليم وتنمية الموارد‪ ،‬أما اإلدارة العامة فتهتم أكثر بكيفية صياغة تلك السياسات وتنفيذها‬
‫‪.‬ضمن البناء البيروقراطي الضخم للحكومة‬
‫العالقات الدولية يركز حقل العالقات الدولية على السياسة الخارجية للدول والمنظمات الدولية والقانون الدولي لفهم طبيعة التفاعل ‪5-‬‬
‫بين الدول والعوامل األخرى في المجتمع الدولي‪ .‬ويهتم العلماء في هذا الحقل بشكل خاص بموضوعات من مثل التحكم في النزاعات‬
‫‪.‬بين الدول‪ .‬كما أن هناك تأكيداً على أهمية االقتصاد في مدرسة االقتصاد السياسي الدولي الذي يعتبر جزءاً من هذا الفرع‬
‫المنهجية تهتم المنهجية في علم السياسة بالنظرية التجريبية أو العلمية‪ ،‬حيث يطور المختصون في هذا الفرع إقترابات وتقنيات ‪6-‬‬
‫الستخدامها في كل جوانب علم السياسة‪ ،‬وهم مهتمون على وجه الخصوص بدراسة السياسة بصرامة ودقة شبيهة بما يحدث في‬
‫العلوم الطبيعية‪ .‬ويميل المنهجيون إلى العمل في مجاالت التحليل اإلحصائي‪ ،‬تقنيات استطالعات الرأي ‪ ،‬وعلم الكمبيوتر‪ ،‬أو دراسة‬
‫‪.‬وفلسفة العلم (االفتراضات والمبادئ األساسية للعلم) )كيف نعرف ما نعرفه( ‪ epistemology‬المعرفة‬

‫‪ :‬خالصـــــــة‬
‫لقد اتسع نطاق اهتمام علم السياسة بشكل كبير منذ أن أعترف به رسميا ً كحقل أكاديمي في بداية القرن العشرين‪ ،‬وكثير من األبحاث‬
‫اليوم تنفذ لكي تكون وثيقة الصلة بالمشاكل الداخلية والدولية الحالية‪ .‬وهذا االتجاه ملحوظ بشكل جلي في فرع السياسة العامة الحديث‬
‫‪.‬نسبيا ً الذي يركز على شرح فعل الحكومة داخليا ً ودوليا ً‬
‫وكما هو الحال مع االنقسام العام للمعرفة إلى ثالثة فئات ‪ :‬علوم طبيعية‪ ،‬علوم اجتماعية‪ ،‬وعلوم إنسانية فإنه من المؤكد أن هذه‬
‫الفروع في علم السياسة هي تصنيفات مصطنعة‪ ،‬فهناك تداخل كبير في االهتمامات بينها‪ .‬فموضوعات مثل السلوك‪ ،‬األحزاب‪ ،‬أو‬
‫العنف والثورات تدرس من قبل متخصصين في عدد من تلك الفروع المختلفة وكل يقدم خبرته من منظور مختلف كما يفترض‬
‫‪.‬افتراضات فريدة ويستخدم اقترابات مختلفة‬

‫‪ :‬عالقة علم السياسة بالعلوم األخرى‬


‫نظراً ألن كل شيء تقريبا ً يخضع للسياسة فإن دراسة السياسة تعني دراسة كل شيء تقريباً‪ .‬ولذا يعتبر علم السياسة من أكثر العلوم‬
‫‪.‬انفتاحا ً على العلوم األخرى وتداخالً معها وخاصة العلوم االجتماعية‬
‫التاريخ – ‪1‬‬
‫يعتبر التاريخ أحد أهم المصادر الرئيسة للمعلومات بالنسبة لعالم السياسة‪ ،‬فعندما نناقش سياسة النازية في ألمانيا أو نمو السلطة‬
‫التنفيذية في الواليات المتحدة في ظل حكم الرئيس فرانكلين روزفلت أو حتى ظاهرة الحرب الباردة فنحن ندرس التاريخ‪ .‬إال أن‬
‫المؤرخ وعالم السياسة يبحثان عن أشياء مختلفة ويتعامالن مع المعلومات بطرق مختلفة‪ .‬فالمؤرخ يدرس دائما ً جزء أو حقبة‪،‬‬
‫بتفصيل دقيق باحثا ً في كل الوثائق واألرشيف والسير الذاتية التي يمكن أن يجدها حول هذا الموضوع وبالتالي يجمع كم كبير من‬
‫المعلومات التي تركز على نقطة أو جزئية واحدة فقط دون أن يستطيع توفير تعميمات حولها‪ .‬أما في علم السياسة فإننا يمكن أن نقوم‬
‫بدراسة دقيقة لحقبة زمنية معينة كذلك لكن عالم السياسة كثيرا‬
‫ما يلجأ إلى مقارنة نتائج تلك الدراسة مع دراسات أخرى في نفس الحقبة أو في أماكن أخرى بغرض التوصل إلى جوانب التشابه‬
‫‪.‬واالختالف‪ .‬ولذلك فعندما يلجأ بعض المؤرخين إلى الدراسات المقارنة فإننا نطلق عليهم علماء سياسة‬
‫الجغرافيا البشرية ‪2-‬‬
‫لم يكن موضوع الجغرافيا يحظى باالهتمام الكافي من قبل علماء السياسة برغم أنه يؤثر على دراستهم بشكل يفوق التصور‪،‬‬
‫فالمكونات اإلقليمية للسلوك اإلنساني – مثل الحدود‪ ،‬والمناطق العرقية‪ ،‬تدفق التجارة‪ ،‬مركزة السلطة‪ ،‬والمناطق – لها آثار سياسية‬
‫واضحة‪ .‬فاالضطرابات في شمال إيرلندا‪ ،‬الشيشان والعراق‪،‬ـ وافغانستان تعتبر مشاكل جغرافية‪ ،‬ولذا أصبح هناك اهتماما ً متزايداً اليوم‬
‫‪.‬باستخدام الخرائط لدراسة وتفسير االختالفات السياسية اإلقليمية‬
‫االقتصاد ‪3-‬‬
‫يدّ عي بعض االقتصاديين بأن االقتصاد هو موضوع االهتمام الرئيس للسياسة‪( .‬برغم أن علماء السياسة يدّ عون العكس)‪ ،‬وصحيح أن‬
‫كثيراً من الخالفات السياسية هي في الحقيقة اقتصادية (من يحصل على ماذا؟)‪ .‬كذلك يمكن أن تكون التنمية االقتصادية الكلية شرطا‬
‫أساسيا لنجاح الديموقراطية‪ ،‬فقليل جداً من الدول الفقيرة تعتبر ديموقراطية‪ ،‬كما أن التراجع االقتصادي يمكن أن يهدد الديموقراطية‬
‫‪.‬القائمة كما كان عليه الحال في الرايخ األلماني وربما اليوم في روسيا‬
‫ما هي السياسات التي تشجع التنمية االقتصادية ؟ ما هو الدور الذي يجب أن تلعبه الحكومة؟ ماذا يمكن أن تفعله العملة األوروبية‬
‫‪.‬الجديدة للوحدة األوروبية؟ باختصار عندما يتحول االقتصاد إلى مسائل متعلقة بالسياسة يصبح عندئذ اقتصاد سياسي‬
‫وهناك اليوم مدرسة جديدة نسبيا ً في علم السياسة هي "نظرية االختيار العقالني" متأثرة بالنظرة االقتصادية تؤكد أن البشر يفعلون ما‬
‫‪.‬يحقق مصالحهم‬
‫علم االجتماع ‪4-‬‬
‫يتداخل علم االجتماع مع علم السياسة في بعض األحيان فعالم االجتماع سيمور مارتن ليبست يصنف في نفس الوقت على أنه عالم‬
‫سياسة‪ ،‬بل أنه أول من أوضح العالقة الوثيقة بين الديموقراطية ومستوى الثروة‪ .‬بل أن علم السياسة يبدأ تقليديا ً بالنظر إلى المجتمع‬
‫لمعرفة "من يفكر في ماذا" عن السياسة‪ ،‬ولذلك ومن خالل التدليل على كيفية اختالف وجهات النظر السياسية بين الطبقات‬
‫االجتماعية‪ ،‬المناطق‪ ،‬األديان‪ ،‬الجنس ومجموعات األعمار يوفر علم االجتماع أساسا ً تجريبيا ً لدراسات الثقافة السياسية‪ ،‬الرأي العام‪،‬‬
‫‪.‬واالنتخابات‬
‫االنثربولوجيا ‪5-‬‬
‫للوهلة األولى يبدو أن الدراسات االنثربولوجية التي تركز تقليديا ً على المجتمعات البدائية ليست مهمة بالنسبة لعلم السياسة إال أن‬
‫تقنيات الوصف والمقابالت االنثربولوجية قد تم تبنيها وتوظيفها بشكل مكثف بواسطة علماء السياسة‪ .‬بل أن حقل الثقافة السياسية‬
‫يمكن أن ينظر إليه على أنه فرعا ً من االنثربولوجيا‪ .‬فأنماط اإلذعان واالحترام اليابانية مثالً التي ال نزال نالحظها حتى اليوم تعود‬
‫جذورها إلى أكثر من ألف سنة‪ .‬كذلك ال تزال بعض النظم السياسية الحالية تحتفظ بالقوة السياسية فيها لعائالت أو عشائر قوية‬
‫تقليدياً‪ ،‬ففي وسط آسيا استمرت عائالت األمير التي حكمت في ظل دولة الفرس‪ ،‬واستمرت بعد ذلك‪ ،‬بقيت أيضا ً في ظل حكومات‬
‫القيصر والشيوعية وحتى في الدول التي استقلت من االتحاد السوفيتي حديثا ً هناك‪ .‬أما في أفريقيا فإن التصويت والعنف يتأثران‬
‫‪.‬باالنقسامات القبلية ويأتيان انعكاسا ً لها‬
‫علم النفس ‪6-‬‬
‫يسهم علم النفس وخاصة علم النفس االجتماعي بشكل كبير في فهم علم السياسة وخاصة فيما يتعلق بالشخصيات التي تحتذيها‬
‫السياسة ولماذا وتحت أية ظروف يذعن الناس لرموز السلطة وكيف يمكن للناس أن ي ّكونوا ارتباطاتهم القومية والجماعية‬
‫والتصويتية‪ .‬فالدراسات التي تتناول هتلر و ستالين و ماو تعتبر دراسات نفسية تقريباً‪ .‬كذلك فإن علماء النفس يعتبرون من أفضل‬
‫أصحاب الطرق المنهجية في العلوم االجتماعية أي أنهم يبتكرون طرقا ً لدراسة األشياء بمصداقية أكبر وبتحيز أقل ويعلموننا بأن نشكك‬
‫‪.‬في كثير من المزاعم‪ .‬بل أن طرح األسئلة بطريقة عفوية والتحكم في عوامل محددة هي أساليب تم تطويرها في حقل علم النفس‬
‫‪ :‬مستقبل علم السياسة الحديث‬
‫أن مسحا ً للمجالت األكاديمية اليوم يشير إلى وجود كل من الدراسات المستندة على تطبيق صارم للمنهجية العلمية بجانب الدراسات‬
‫الوصفية المحضة التي تهتم بمتابعة التغير في المؤسسات والعمليات‪ .‬هذا الوضع المركب دفع بعض المعلقين إلى أن يطلق عليه فترة‬
‫ما بعد السلوكية في علم السياسة حيث اصبحوا مقتنعين بأن علم السياسة يستطيع و ينبغي له أن يستوعب اقترابا ً علميا ً للحقل فضال‬
‫‪.‬عن اهتمامه بمبادئ األخالق‪ ،‬الحكمة والقيم‬
‫فهم يوافقون على أن االقتراب الذي يستخدمه عالم السياسة تجاه ‪ Soft ،‬ويمكن تصنيف معظم علماء السياسة اليوم كعلماء مرنين‬
‫الموضوعات المطروحة يحدد نوع األسئلة الموجهة والمنهجية المستخدمة للدراسة‪ .‬ويعترف علماء السياسة "المرنين" أنه يجب أن‬
‫يتم توظيف العمل الوصفي األساسي لمتابعة وتسجيل التغيرات في المجتمعات والمؤسسات السياسية وأننا بحاجة للمالحظات الحدسية‬
‫لتكمل الدراسات التجريبية للحصول على تصور كامل عن المجتمع بكامله‪ .‬وفي نفس الوقت‪ ،‬فإن "االتجاه المرن يستند على التزام‬
‫جوهري بالمبادئ األساسية للعلم"(‪ )3‬فعلم السياسة الحديث يحاول اكتشاف تعميمات وتشابه في السلوك الذي يحكم العملية السياسية‪.‬‬
‫إال أن هذا ليس باألمر اليسير ألنه يتعلق بالسلوك اإلنساني الذي تؤثر فيه عوامل متعددة في كل حالة‪ .‬وعلى علماء السياسة أن‬
‫‪.‬يتعاملوا مع التنوع الحادث طبيعيا ً في العالم الحقيقي‪ ،‬فهم ال يستطيعون خلق ظروف تجريبية والسيطرة عليها‬
‫فالمالحظات الوصفية غير المقصودة ليست جزءاً من علم السياسة ويجب على المحلل أن يتبع التقاليد العلمية‪ ،‬فعلى سبيل المثال يجب‬
‫على دراسات علم السياسة أن تجمع أكبر عدد ممكن من األدلة لتدعيم مزاعمها‪ ،‬وأن توضح منهجيتها‪ ،‬نتائجها واستنتاجاتها بجالء‬
‫وأن تلتزم باألسس العلمية حتى تقترب الدراسة قدر اإلمكان من هدف إمكانية التكرار‪ .‬وعلماء السياسة‪ ،‬بصفتهم أعضاء في المجتمع‬
‫العلمي‪ ،‬يتبنون منظوراً نقديا ً عن أسباب ونتائج الظاهرة السياسية ويتعاملون مع المزاعم بنوع من الشك‪ .‬وقد زعم كارل بوبر ‪،‬‬
‫فيلسوف العلم الحديث‪ ،‬بأن العلم يتقدم نحو هدف مطلق ومع ذلك يمكن الوصول إليه ‪ :‬ونحو اكتشاف مشاكل جديدة وأكثر عمقا ً‬
‫التي تضفي ‪ Paradigm‬وعمومية ونحو إخضاع أسئلتنا األولية إلى امتحان متجدد دائما ً بل وأكثر صرامة(‪ .)4‬أن رؤية العالم أو‬
‫‪.‬الشرعية على اإلجماع األكاديمي حول ما يمثل بحثا ً نموذجياً‪ ،‬تتغير باستمرار‪ ،‬كموضوع السياسة نفسها(‪)5‬‬
‫ومن المهم لطالب السياسة أن يلقوا باالً لالقترابات والطرق المختلفة المستخدمة من قبل علماء السياسة وإيجابيات وسلبيات كل منها‪،‬‬
‫واليوم هناك تنوعا ً كبيراً في فروع واقترابات حقل السياسة ويبقى مع ذلك خالفا ً كبيراً في الحقل بين التوجهات "العلمية" و‬
‫‪".‬اإلنسانية" حيث تركز األولى على شرح التنوعات العلمية بينما تركز األخيرة على التفسيرات اإلنسانية‬

‫النظرية السياسية‬
‫مقدمة‬
‫يتساءل كثير من طالب علم السياسة لماذا نشغل أنفسنا بالنظريات ولماذا ال نصرف جهودنا نحو تجميع أكبر قدر من الحقائق وندع‬
‫تلك الحقائق تنظم نفسها إلى ُك ٍل متماسك؟ ببساطة ال يمكن ذلك‪ .‬فتجميع الحقائق بدون مبدأ يقودنا فقط إلى كم كبير من المعلومات‬
‫عديمة الجدوى‪ .‬ولكي نكون أكثر جدية فإن النظريات يمكن أن تصل إلى درجة مفرطة من التجريد وتنفصل عن العالم الحقيقي إال أنه‬
‫بدون إطار نظري على األقل ال نستطيع حتى أن نعرف ما هي األسئلة التي يجب أن نوجهها‪ .‬وحتى لو قلنا بأنه ليس لدينا أي نظريات‬
‫‪.‬فمن المحتمل أن يكون لدينا بعضها دون أن نشعر‪ ،‬بل أن مجرد نوع األسئلة التي نطرحها وأيا ً منها نبدأ به يمثل بداية للتنظير‬
‫تعتبر النظرية السياسية فرعا ً من فروع علم السياسة وتركز على المسائل المعيارية واألخالقية للسياسة‪ .‬وفي هذا الكتاب سيكون‬
‫هدفنا من دراسة هذا الموضوع ذو شقين فمن جهة نحاول فهم التقاليد التاريخية والنصية للمنظرين ولكننا أيضا ً سنحاول إخراج‬
‫تعاليمهم من إطارها التاريخي لنرى ماذا يمكن لتلك التعاليم أن تقدمه لنا في مجال فهم وإيجاد الحلول للمشاكل السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية التي نعيشها في الوقت الحاضر‪ .‬بمعنى آخر تتضمن النظرية السياسية كالً من دراسة النصوص والتفكير النقدي لما تقدمه‬
‫‪.‬لنا تلك النصوص في مجال المعرفة‬

‫تحليل النظرية السياسية‬


‫قصة الكهف الرمزية الفالطون‬
‫كان أفالطون الذي عاش في الفترة من ‪ 347-427‬قبل الميالد واحداً من الفالسفة البارزين في أثينا القديمة‪ .‬ولد أفالطون ألسرة‬
‫أنجبت قادة سياسيين مشهورين وخدم دولة مدينة أثينا أوال من خالل اشتراكه في الجيش خالل حرب اثينا ضد اسبارطة ‪ ،‬وثانيا وهو‬
‫األهم من خالل إسهاماته الثقافية والعلمية‪ ،‬وقد كون أفالطون فلسفته خالل فترة من النشاط العلمي المتوقد في أثينا القديمة التي الحظ‬
‫يدرسون فن البيان أو‬‫فيها أستاذه سقراط (‪ 399-470‬قبل الميالد) وهو ينتقد السفسطائيين وهم مجموعة الفالسفة الذين كانوا ّ‬
‫البالغة مؤكداً بأن العقل ينبغي أن يهتم بالبحث عن الحكمة – وليس بإتقان البالغة‪ .‬هذه الفكرة الفلسفية التي كان سقراط ينادي بها‬
‫أدت به إلى االصطدام مع النخب السياسية في أثينا الذين حكموا عليه بالموت في ‪399‬ق‪.‬م بتهم العقوق وإفساد الشباب‪ .‬وقد أرعب‬
‫‪.‬هذا التطور أفالطون مما دفعه إلى تكريس حياته للفلسفة مقتفيا ً آثار أستاذه‬
‫لقد عاش كال من سقراط وأفالطون خالل فترة الحروب البيلونيزية التي نشبت بين أثينا وأسبارطة والتي أنتهت بهزيمة أثينا في ‪405‬‬
‫قبل الميالد‪ .‬وفي الفترة من ‪ 387‬قبل الميالد – ‪ 529‬بعد الميالد أصبحت أكاديمية أفالطون مركزاً للتعليم حيث درس أرسطو (‪-384‬‬
‫‪ 322‬قبل الميالد) وغيره في هذه األكاديمية علوم الفلسفة والقانون والرياضيات والمنطق‪ .‬كما أثرت كتابات أفالطون على فالسفة‬
‫في االسكندرية (‪ 15‬قبل الميالد – ‪ 50‬بعد الميالد) الذي دمج التعاليم األفالطونية مع التعاليم ‪ Philo‬آخرين مثل الفيلسوف فيلو‬
‫اليهودية‪ ،‬والقديس أوغسطين (‪430-354‬م) الذي كان لكتاباته في النظرية السياسية المسيحية تأثيراً واضحا ً على صياغة األفكار‬
‫المتعلقة بالعالقات الدينية – والدنيوية خالل العصور الوسطى‪ ،‬باإلضافة إلى المفكر اإلسالمي الشهير ابن رشد (‪1198-1126‬م)‬
‫‪.‬الذي أسهمت أعماله في تطور النظرية القانونية والدينية والسياسية‬
‫لقد كان تأثير سقراط على أفالطون كبيراً إلى الحد الذي جعل أفالطون يستخدم سقراط كرمز رئيسي في عدد من أعماله‪ .‬وفي كتابه‬
‫"الجمهورية" يقدم أفالطون قصة رمزية إليضاح عقبات وثمار التحليل النقدي الفلسفي‪ .‬و ينبغي أن ينظر إلى هذه القصة الرمزية‬
‫المسماة قصة الكهف الرمزية كمثل أو حكاية رمزية للنظرية السياسية نفسها‪ .‬ويكمن غنى وأهمية تعاليم قصة الكهف مثلها في ذلك‬
‫مثل كل القصص الرمزية ليس في التفاصيل الحرفية للقصة وإنما في األسئلة الفلسفية األكبر التي تتضمنها تلك التفاصيل‪ .‬فهي ليست‬
‫‪.‬في الواقع عن الكهوف إطالقا وإنما تتعلق باإلمساك بالمسائل التي البد من فهمها لكي نرى العالم بوضوح‬
‫وفي كتاب "الجمهورية" بدأ أفالطون حكايته الرمزية بشخصية سقراط وهي تخبرنا أن القصة يفترض فيها أن توضح طريقة الوصول‬
‫إلى الفهم والتنوير‪ .‬ولهذا السبب كانت الحكاية مفيدة جداً كمثال للتنظير السياسي‪ ،‬وذلك ألن النظرية السياسية تمثل تاريخ البحث عن‬
‫‪.‬التنوير والفهم حول األسئلة المعيارية للسياسة‬
‫ما هو الظرف اإلنساني المناسب للمعرفة والجهل؟ يؤكد سقراط في هذه القصة بأنه لكي نبدأ اإلجابة على هذا التساؤل البد أن نتخيل‬
‫أنفسنا نعيش في كهف تحت األرض‪ .‬وكسكان لهذا الكهف فنحن غير مكترثين بمعظم المظاهر األساسية لبيئتنا‪ .‬فعلى سبيل المثال نحن‬
‫ال نعرف أننا بالفعل في داخل كهف‪ ،‬كذلك نفترض بأن األشياء التي نالحظها حولنا تمثل كل ما في الوجود‪ ،‬وليس لدينا أية فكرة بأنه‬
‫يوجد فوقنا سطح وسماء وشمس وذلك ألننا وبشكل تلقائي نعتقد بأن ما نراه فقط هو الواقع‪ .‬ويشرح سقراط بطل القصة قائالً بأن قوة‬
‫أبصارنا في الكهف محدودة جداً‪ ،‬فالكهف ضعيف اإلضاءة ومن ثم فإن أبصار األشكال والصور يكون صعباً‪ .‬ولكن نظراً ألننا عشنا‬
‫‪.‬دائما ً في هذا الكهف فإننا ال نشعر بأنه مظلم أو غير واضح فكل شيء سيبدو لنا عاديا ً‬
‫وهناك أشياء في هذا الكهف ال نعرف عنها شيئا ً فنحن ال نستطيع النظر إال إلى اإلمام‪ .‬وبالنظر إلى أننا لم نحاول أبداً النظر إلى الخلف‬
‫فنحن ال نعرف حتى ما إذا كان ذلك ممكنا ً‪ ،‬ولذا فنحن ال ندرك بأننا مقيدون‪ .‬وهناك وراءنا ثالث أشياء مهمة ‪ :‬نار الشعلة المعلقة على‬
‫جدار الكهف‪ ،‬وطريق يؤدي إلى خارج الكهف ومجموعة من الناس تحرك أشياء بحيث تترك لها ظالالً على جدران الكهف ‪.‬في هذا‬
‫الكهف نرى الظالل أمامنا فقط وال ندري أبداً أن هذه مجرد ظالل تشكلت نتيجة لتحرك األشياء أمام نار الشعلة في نهاية الكهف‪.‬‬
‫‪.‬وعندما ال يكون لدينا أي سبب للتفكير بطريقة أخرى فإننا نعتبر تلك الظالل حقيقية‬
‫ولذلك فإن حياتنا هي بمثابة مشاهدة للظالل‪ ،‬ونكون بالتالي مسحورين بعالمنا الذي ال نعرف طبيعته الزائفة أو الفارغة‪ .‬بل أننا‬
‫متأكدين أننا نعرف الحقيقة – فبعد كل شيء نحن نالحظها تجريبيا ً – ومن ثم أصبح رضانا بواقعنا جزءاً من طبيعتنا نحن نشعر بأن‬
‫‪.‬كل شيء على ما يرام‬
‫وفجأة يحدث شيئا ً ما يحطم ويكسر الحياة في الكهف‪ .‬فقد وقف شخص ونظر حوله وبمجرد قيام هذا الشخص بهذه الحركات غير‬
‫المسبوقة والنظر إلى هذه االتجاهات الجديدة بدأ يشعر بإحباط شديد‪ ،‬فالنهوض والنظر حوله ورؤية النار كل هذه الحركات الجريئة‬
‫أجهدت العضالت والعيون التي لم تكن مهيأة لمثل هذه األشياء غير الطبيعية‪ .‬وبدأ هذا الفرد يشعر بالغموض ألنه كان البد أن يكيف‬
‫بصره وتوازنه مع مستجدات الوقوف ورؤية الضوء‪ .‬ويستمر سقراط ليؤكد بأن هذا الفرد حاول أن يرفض حاالً كل ما راءه ألنه بنظره‬
‫غير مألوف‪ ،‬ومن ثم غير حقيقي‪ ،‬وغير طبيعي وغير صحيح‪ .‬هذا الوضع يجعل الفرد يشعر بالقلق الشديد وقد يدفعه بقوة إلى الهروب‬
‫من كل تلك األشياء الجديدة ولكن ماذا يحدث إذا لم يفعل ذلك؟ ماذا يحدث إذا ما صعد الفرد خالل طريق الكهف إلى الخارج؟ هنا‬
‫سيواجه بصدمات أخرى أشد وسيصبح حينئذ أكثر خوفا ً وقلقا ً وذلك الن أشعة الشمس ستكون غير محتملة إطالقا ً بالنسبة لمن عاش‬
‫‪.‬دائما ً في كهف‪ ،‬مما يجعل هذا الفرد فاقداً لألبصار وتائها ً‬
‫ومع ذلك فإن األشياء تبدأ بالتغير تدريجياً‪ ،‬فالعين ستبدأ في التكيف مع الواقع الجديد وسيبدأ الفرد يرى ليس الشمس فقط وإنما أيضا ً‬
‫األرض والسماء والعالم‪.‬ـ ويبدأ يدرك اآلن أن هناك عالما ً كامالً غير حياة الكهف المظلمة‪ ،‬وأن الكهف ليس هو العالم‪ ،‬وأن الحياة‬
‫‪.‬المقيدة ليست حقيقة‪ .‬عندها يعرف السجين السابق كل هذه األشياء‬
‫ويبدأ هذا الفرد المتنور يشعر بحاجة ملحة إلشراك اآلخرين في الكهف في اكتشافه الرائع‪ .‬ولذا تكمل الحكاية قائلة بأن الفرد يعود‬
‫ثانية إلى الكهف ويبدأ في إخبار اآلخرين بالحياة األخرى خارج الكهف وبأنهم مقيدون مع أن بإمكانهم النظر إلى الخلف وبأن الوقوف‬
‫‪.‬والتحول ممكنا ً وأن تلك الظالل التي كانوا يرونها دائما ً هي مجرد صور تشكلت بواسطة حركات لم يروها في السابق إطالقا‬
‫ترى كيف ستكون استجابة السجناء لهذه المزاعم؟ في الحكاية يقرر السجناء بأن هذا الفرد مجنونا ً وخطيراً وبأن بصره قد حدث له‬
‫مكروه‪ .‬وأنه لم يعد يدرك الحقيقة‪ ،‬إذا كان يعتقد بأن النظر إلى الوراء أمراً عادياً‪ .‬أي أن هذا الفرد يهذي هذه هي ردة فعل سكان‬
‫الكهف‪ ،‬وإذا ما استمر في محاولة تحريرهم فإن سقراط يبدو واضحا ً في اإلشارة إلى ما سيحدث عندما قال بأن سكان الكهف‬
‫‪.‬سيقتلونه‬
‫ً‬
‫أننا جميعا ً ربما نكرر رحلة هذا الفرد في قصة أفالطون عندما نفكر نقديا ً حول السياسة‪ ،‬فالتفكير النقدي ليس سهال وفي بعض األحيان‬
‫يكون مشوشا ً ويؤدي في الغالب إلى نتائج مناقضة للوضع القائم في حياتنا الكهفية‪ .‬فالتفكير النقدي حول أهداف الدولة يمكن أن يؤدي‬
‫بنا في االعتقاد بأن ق ّي م مجتمعنا الراهنة ليست أكثر من مجرد ظالل على الجدران‪ .‬ولهذا فإن النظرية السياسية قد أتت بأفكار هي في‬
‫الغالب موضع خالف ومثيرة للمعارضة القوية في بعض األحيان‪ .‬فسقراط نفسه اعتبر خطيراً وحكم عليه بالموت من قبل دولة أثينا‪.‬‬
‫وهذا ما حدث مع معظم المفكرين البارزين فيما بعد الذين طرحوا أسئلة من هذا القبيل‪ ،‬إذ أنه كلما طرح مفكر أسئلة حول المواقف‬
‫‪.‬المعيارية للسياسة مرشداً من خاللها إلى طرق للخروج من الكهف كلما أدى ذلك به إلى منطقة الخالف والصدام مع سكان الكهف‬
‫المفاهيم والنظريات السياسية‬
‫تتطرق معظم النظريات السياسية صراحة أو ضمنا لمفاهيم شائعة في الحياة السياسية‪ .‬ونظرا ألن الفلسفة السياسية تحيط بنطاق‬
‫واسع من القضايا فإنها األكثر احتماال لتحليل معظم تلك المفاهيم‪ .‬أما النظريات ذات التركيز األضيق فإنها يمكن أن تتطلب من الباحثين‬
‫الذهاب إلى ما هو أبعد من محتوى النظرية نفسها للتعرف على االفتراضات الهامة التي يعتنقها الم ّنظر‪ .‬ومن بين أهم المفاهيم‬
‫‪:‬األساسية للنظريات السياسية ما يلي‬
‫أوال ‪ /‬طبيعة الكون‬
‫قد تبدو المعتقدات حول طبيعة الكون بعيدة جدا عن عالم األفكار السياسية لكنها في الحقيقة تعتبر هامة في فهم األفكار السياسية ضمن‬
‫إي حقبة معطاة‪ .‬ومع تغير تفسيرات الكون تغيرت معها وجهات النظر حول دور و مع تغير تفسيرات الكون تغيرت معها وجهات النظر‬
‫‪.‬حول دور وإمكانات الفرد أيضا‬
‫ففي العصور القديمة أعطت رؤية بطليموس عن األرض باعتبارها مركز الكون األفراد شعورا مفرطا باألهمية‪ ،‬بينما دفعت الكنيسة في‬
‫العصور الوسطى إلى القبول بالشقاء الدنيوي وحكمة التراتبية في العالقات االجتماعية والسياسية‪ .‬وجاءت نظريات نيوتن في العصور‬
‫الحديثة لتتحدى هذه األفكار باقتراحها أن الكون محكوم بقوانين يمكن معرفتها وأنه يمكن لألفراد الذين يعملون عقولهم أن يحيطوا‬
‫‪.‬بأسس الشأن الطبيعي فضال عن أسس السياسة والمجتمع‬
‫وخالل القرن التاسع عشر كان هناك اعتقادا واسعا بأن األسس البيولوجية قادرة على تفسير السلوك االجتماعي فقد ألهمت نظرية‬
‫‪.‬تشارلز داروين عن التطور البيولوجي عددا من النظريات االجتماعية التي أكدت على الحتمية وعلى قيمة المنافسة الفردية‬
‫وبرغم أن أفكار القرن العشرين عن العلم والسياسة قد تم تنقيحها بشكل مثير القرن العشرين عن العلم والسياسة قد تم تنقيحها بشكل‬
‫مثير إال أن كل الدالئل تتوقع أن الفكر السياسي سيبقى مرآة تعكس تطور المعرفة حول طبيعة الكون‪ .‬لقد تحدت التطورات في النظريات‬
‫الطبيعية بعضا من اليقينيات التي نسبت للعلم فيما مضى وهذا النقص في مجال اليقينيات قد أنعكس في الفكر السياسي أيضا‪ .‬ولذلك‬
‫‪.‬فإن االعتقاد بحتمية التطور اإلنساني وكفاءة العقل اإلنساني هو اليوم أقل بكثير مما مضى‬
‫ثانيا‪ /‬الطبيعة اإلنسانية‬
‫ً‬
‫ربما يكون االفتراض األهم ألي منظر هو نظرته للطبيعة اإلنسانية ‪.‬وبرغم أنه يحتمل أال يكون مثل هذا االفتراض معلنا إال أن تحليل‬
‫دور القانون وطبيعة االلتزامات السياسية ودور وبناء المجتمع وغيرها من األفكار المرتبطة بالنظرية السياسية التي يصنفها المنظر‬
‫ستعكس فهمه الخاص بالطبيعة اإلنسانية ‪ .‬ويمكن الزعم بأن هناك ثالث وجهات نظر أساسية للطبيعة اإلنسانية‪ .‬األولى تعتقد بأن‬
‫الطبيعة اإلنسانية يحتمل أن تكون صالحة في أساسها وأن األفراد عقالنيون بطبعهم‪ .‬ومن هذا المنطلق يتوقع أن يبني المنظر السياسي‬
‫نظاما ً سياسيا ً يتيح حرية فردية واسعة ويشجع التجربة والتغيير‪ .‬أما النظرة المناقضة الثانية للطبيعة البشرية التي ترى األفراد‬
‫بطبعهم أنانيون وغير جديرون بالثقة فترى أن هناك حاجة إلى نظام سياسي يفرض سيطرة وتحكم على األفراد‪ .‬وفي أواخر القرن‬
‫عالم النفس األمريكي‪ .‬ويؤكد هذا )‪ B.F.Skinner (1904-1990‬العشرين ظهر نموذج ثالث للطبيعة البشرية‪ ،‬عبر عنه بقوة‬
‫النموذج على أن األفراد ليسوا صالحين وال أشرار ‪ ،‬وليسوا أخالقيين أو غير أخالقيين بل أن البيئة هي التي تشكل طباعهم‬
‫وشخصياتهم‪ .‬ولذا يزعم سكنير أنه ليس هناك شئ اسمه العقل أو الروح‪ .‬وأن إيجاد أفراد لطفاء ومتعاونين هو بكل بساطة مرتبط‬
‫بتوفير اإلطار المالئم الذي يعيشون فيه‪ .‬وبالرغم من أن هناك تباينات حول هذه النماذج للطبيعة اإلنسانية إال أنه ينبغي أن تكون هناك‬
‫‪ .‬عالقة ضمنية متماسكة بين المفاهيم المحددة للطبيعة اإلنسانية ووجهات النظر الخاصة عن السياسة في موقف الم ّنظر‬
‫ثالثا‪ /‬النظرة للمجتمع‬
‫ال يمكن لإلفراد أن يعيشوا في عزلة وإنما يعيشون ضمن بعض أشكال العالقات االجتماعية‪ .‬ولذلك فإن تفسيرات طبيعة هذه العالقة‬
‫تؤثر على الكيفية التي ينظر من خاللها الم ّنظر للسياسة‪ .‬فبعض المنظرين نظر إلى السياسة على أنها خاضعة لقوى اجتماعية خاصة‪:‬‬
‫فمارتن لوثر مثال شعر بأن المعتقد الديني كان االرتباط االجتماعي األسمى‪ .‬ومن جانبهم اعتقد الليبراليون الكالسيكيون بشكل عام أن‬
‫النشاط االقتصادي أكثر أهمية لرفاهية الفرد من السياسة الحكومية‪ .‬وربما كان توماس هوبز الفيلسوف االنجليزي في القرن السابع‬
‫‪.‬عشر أخر مفكر ليبرالي يصر على أن الحكومة هي القوة األرضية األعلى‬
‫واختلف المفكرون أيضا في تصورهم لتركيبة المجتمع‪ .‬فبعضهم مثل هيجل زعم بأن المجتمع كائن عضوي‪ .‬وهذه النظرة ترى األفراد‬
‫كأجزاء متكاملة لكل أكبر هو الجماعة‪ .‬بينما زعم آخرون مثل جيري بنثام أنه ليس هناك شئ أسمه مجتمع وإنما هناك فقط أفراد‬
‫منفصلون يعيشون ويعملون ويلعبون معا‪ .‬وهناك وجهة نظر أخرى حديثة ذات شعبية خاصة في الواليات المتحدة ولكن يوجد لها‬
‫أتباع أيضا في بريطانيا وألمانيا تؤكد على الطبيعة التعددية للمجتمع‪ ،‬وأن األجزاء الرئيسة للمجتمع هي الجماعات المتنافسة‬
‫‪.‬والمتنوعة ضمن األمة‬

‫رابعا‪ /‬األنساق االقتصادية‬


‫تستحق الجوانب االقتصادية للمجتمع اهتماما منفصال هنا ألنها قد اعتبرت دائما مهمة جدا للفكر السياسي والسياسة العامة‪ .‬وتعتبر‬
‫الرأسمالية هي النمط المهيمن للنشاط االقتصادي عبر العالم في الوقت الحاضر ‪.‬وفي االقتصاد الرأسمالي تكون وسائل اإلنتاج ذات‬
‫ملكية خاصة ويتم تشجيع النشاطات الفردية لتعظيم األرباح ‪ .‬أما االشتراكية التي نظر إليها غالبا ً كنقيض للرأسمالية فتتبنى ملكية‬
‫الدولة لوسائل اإلنتاج‪ .‬ومع ذلك فهناك أشكال عديدة لالشتراكية ‪ .‬ففي بعض البلدان كالسويد ‪،‬فرنسا ‪ ،‬وبريطانيا ‪ -‬في ظل حزب‬
‫‪ .‬العمال‪ -‬ال تمتلك الدولة إال بعض الصناعات الرئيسية ‪ .‬أما في غيرها كالصين فال يسمح إال بملكية فردية محدودة‬
‫وقد كان اإلقطاع هو النمط الشائع للتنظيم االقتصادي في أوروبا قبل الرأسمالية ولقرون عديدة‪ .‬ويقوم اإلقطاع على شبكات معقدة من‬
‫االلتزامات والحقوق بين طبقات اجتماعية متنوعة‪ .‬وقد كان هناك تشجيعا ً لالستقرار في العالقات االقتصادية واالجتماعية بينما كانت‬
‫‪.‬محاوالت األفراد في التنافس على األرباح غير محبذة‬
‫خامسا‪ /‬أنواع الحكومات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم يعر بعض المفكرين المؤسسات الحكومية اهتماما كبيرا بينما اعتبرها مفكرون آخرون جوهرية وهامة لنظرية سياسية مفيدة‬
‫‪.‬ومفتاحا ً لنظام سياسي مستقر‬
‫لقد أثرت أهداف المنظرين السياسيين على أفكارهم تجاه الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه مؤسسات الحكومة‪ .‬فخالل بداية العصور‬
‫الحديثة خصص بعض المفكرين جهداً كبيراً للدفاع عن الحق المقدس للملوك‪ .‬أما المنظرون الليبراليون الديمقراطيون فقد ركزوا على‬
‫المجالس التشريعية ووظائفها التمثيلية‪ .‬واعتبر الليبراليون الكالسيكيون المحاكم مؤسسات ذات أهمية خاصة للحفاظ على حقوق‬
‫الملكية‪ .‬وقد طور مونتسكيو الفيلسوف الفرنسي في القرن الثامن عشر نظرية معقدة لسلطة متوازنة تقوم المؤسسات الحكومية في‬
‫ظلها بمراقبة بعضها البعض في العملية السياسية ‪ .‬وقد كانت أفكاره تلك ذات تأثير مهم على واضعي الدستور األمريكي الذين كانوا‬
‫‪ .‬مهتمين بحماية األفراد من سلطة الحكومة أكثر من اهتمامهم بالحاجة إلى حكومة قوية‬
‫وفضالً عن األشكال المختلفة للمؤسسات فإن للحكومات تنظيمات مختلفة فيما يتعلق بتوزيع السلطة إقليميا‪ .‬والنوعان األكثر شيوعا‬
‫هما الحكومة الموحدة والحكومة االتحادية‪ .‬ففي الحكومة الموحدة تتركز السلطة على المستوى القومي وتخضع كل الحكومات الفرعية‬
‫فيها للحكومة القومية كما هو الحال في فرنسا والسعودية ومصر‪ ،‬أما الحكومات االتحادية فتتسم بتوزيع السلطة بين مستويين‬
‫للحكومة ضمن نفس اإلقليم‪ .‬وتعتبر الواليات المتحدة مثاال لهذا النموذج من الحكومات بتوزيعها للسلطة بين الحكومة القومية‬
‫‪.‬وحكومات الواليات الخمسين المكونة لالتحاد‬
‫النظريات الكالسيكية‬
‫الفكر السياسي اإلغريقي وفكرة االكتفاء الذاتي‬
‫يميل بعض علماء السياسة إلى إبراز المساهمات الفكرية السابقة على الحضارة اإلغريقية مثل إسهامات حضارات بالد الرافدين‬
‫وحضارات الصين والهند ومصر القديمة ومع أننا ال ننكر ما تضمنه التراث اإلنساني من إسهامات فكرية سابقة على حضارة اإلغريق‬
‫‪:‬إال أن الحضارة اإلغريقية تميزت عن غيرها من الحضارات السابقة بعدد من المزايا الهامة ومنها‬
‫‪.‬تعدد دول المدينة اإلغريقية مع انتمائها لمركب حضاري واحد مما جعل من الممكن الربط بين الجانب الفكري والوجود الحضاري ‪1.‬‬
‫‪.‬تطوير اإلغريق للغة مكتوبة استطاعت حفظ التراث اإلغريقي حتى اآلن ‪2.‬‬
‫‪.‬أن اإلغريق كانوا أول من قرر حق المواطنة الذي يعتبر أساسا مهما للحكم ‪3.‬‬
‫‪.‬تأكيد اإلغريق على مبدأ االكتفاء الذاتي لدول المدينة التي أقاموها ‪4-‬‬
‫وهذا ما حدا بمعظم الباحثين إلى التقرير بأن الفكر السياسي يبدأ مع الفلسفة اإلغريقية‪ .‬وقد حاول الفكر السياسي اإلغريقي في معظمه‬
‫رسم إطار سياسي لحكومة تستهدف إقامة دولة فاضلة تتوزع فيها األعمال ويشارك جميع المواطنين في إنشائها بحيث تقوم على‬
‫‪.‬العدل وتنشد المساواة‬
‫ً‬
‫ويزعم البعض بأن أفالطون هو واضع علم السياسة‪ ،‬فكتابه "الجمهورية" من بين أشياء أخرى قدم وصفا لنظام سياسي مثالي إال أن‬
‫تفسيره كان تأمليا ً إلى حد كبير‪ ،‬كما انتهى األمر بنظامه المثالي إلى أن يكون مماثالً تقريبا ً للفاشية الحديثة أو الشيوعية‪ .‬ففي كتاب‬
‫"الجمهورية" يشير أفالطون إلى أن الهدف األسمى للدولة يتمثل في العدالة وأن أفضل أشكال الحكومات هو ذلك الذي يحاول تحقيق‬
‫العدالة التي هي نابعة من الطبيعة‪ .‬ولذا يفسر أفالطون ذلك بقوله أن إتباعك أو انقيادك لطبيعتك يعني أنك صادق تجاه نفسك‪ .‬أنها فعل‬
‫‪.‬ما هو طبيعي‪ ،‬أمين‪ ،‬وصحيح بالنسبة لك أنها انقياد لفطرتك وهدفك الطبيعي‬
‫وعالوة على ذلك فعندما يتصرف الفرد بعدالة تصبح الدولة أيضا ً عادلة‪ ،‬وإذا ما تبع كل فرد طبيعة‪ ،‬كما يقول أفالطون‪ ،‬فإن األفراد‬
‫سيقسمون أنفسهم إلى ثالث مجموعات رئيسة‪ .‬فبعض األفراد سيكونون بطبعهم أكثر ميالً إلى البحث من العمل اليدوي أو الحرفي‬
‫وبالتالي يصبحون عماالً ‪ ،‬وآخرون سيتجهون بطبعهم إلى األنشطة التي تتضمن المخاطرة الجسدية وبالتالي يصبحون قادة عسكريين‬
‫بينما سيكون اآلخرون مهتمون بشكل طبيعي بالخدمة العامة وصنع السياسة ومن ثم ينضمون إلى طبقة الحكام‪ .‬ويعتقد أفالطون بأن‬
‫الفالسفة بطبيعتهم هم األحق واألجدر بدخول مجموعة الحكام ألنهم أكثر من يستخدم العقل للبحث من الحقيقة‪ .‬وفي هذا النقاش حول‬
‫العدالة فإن االعتبار األكثر أهمية بالنسبة ألفالطون هو أن كل فرد يختار العمل الذي ينسجم مع طبيعته ومن ثم ينتسب إلى المجموعة‬
‫‪.‬التي تنسجم مع ميوله الطبيعية‪ ،‬ومواهبه وقدراته‬
‫وي ّع رف أفالطون الظلم على أنه العمل أو التصرف المناقض للطبيعة‪ ،‬ولذا فإذا حاول فرد ما ممن تؤهله طبيعته ليكون من قادة الجيش‬
‫أن يتجاوز ذلك إلى طبقة الحكام فإن هذا هو الظلم بعينه‪ .‬وإذا ما كان فرد ما تؤهله طبيعة ليكون عامالً لكنه يتمنى أن يرتفع إلى طبقة‬
‫الجنود فهذا من الظلم أيضاً‪ .‬فالخروج من المجموعة التي تؤهلك طبيعتك لالنضمام إليها يضعك في حرب مع العدالة ولذلك فمن المثير‬
‫لالهتمام أن أفالطون يحذر من الطموح ويقف ضد محاولة الحراك االجتماعي إلى األعلى أو األسفل وضد حتى القيام بعمل شيء ما‬
‫فقط ألنه يحظى باالهتمام أو لمجرد وجود القدرة على عمل ذلك‪ .‬فكل تلك األشياء كما يقول أفالطون يمكن أن تبعدنا عن الطبيعة‬
‫‪.‬وتجلب التعاسة والشقاء ألنفسنا والظلم للدولة‬
‫ونالحظ هنا أن نظرية أفالطون تنتقد مجرد النزعة إلى الترقي‪ ،‬أو المنافسة للتفوق على أقرانك أو الطموح في إنجازات أكبر في كل‬
‫مجاالت الحياة ومن ثم فإذا استمعنا إلى أفالطون فمن الممكن أن ننظر بازدراء إلى تلك المحاوالت ويمكن أن نسأل ما إذا كانت كل‬
‫‪.‬طرق المهن هي طبيعية لكل الناس‬
‫إن كتابات أفالطون تثير احتماالت رائعة وكانت موضوعا ً لتعليقات ال تحصى‪ .‬بعض القراء أرعبتهم فكرته عن الطبقات الثالث التي‬
‫يصنف ضمنها األفراد‪ ،‬وصدم أفالطون بعض الناس لكونه يدعو في فكره إلى الهرمية البائسة والتسلطية‪ .‬وبالفعل فقد كان أفالطون‬
‫ناقداً للديموقراطية ألنه كان مقتنعا ً بأن الحكم وصناعة السياسة هي موهبة طبيعية يتملكها بعض الناس‪ ،‬وليس كلهم‪.‬ـ ومن خالل‬
‫تأكيده هذا لم يغضب أفالطون المشاعر الديمقراطية فقط ولكنه صدم أيضا ً بعض المعلقين ودفعهم إلى وصفة باألنانية عندما رأى بأن‬
‫الفالسفة (مثله) هم الطبقة األكثر مالءمة بطبعهم لحكم الدولة المثالية‪ .‬وتأثرت مشاعر بعض المعلقين بزعم أفالطون أن الحياة العادلة‬
‫أكثر أهمية من إ ّتباع الطموح الشخصي‪ .‬أن الشيء المؤكد الوحيد في تلك التفسيرات هو أن أفالطون سيستمر في تحديه لقرائه بإغاظة‬
‫‪.‬البعض وإبهاج اآلخرين‬
‫أما أرسطو‪ ،‬تلميذ افالطون‪ ،‬فقد اختلف مع أستاذه حينما رفض الحكم الذي ال يستند على القانون حتى لو كان صادرا عن فيلسوف‬
‫وأكد على أن الدولة الجيدة ينبغي أن تقوم على القانون المستند على العقل وأن حكم الفرد يمهد للشر‪ .‬واعتقد ارسطو بأن السعادة هي‬
‫هدف الحياة وأن اإلنسان هو كائن اجتماعي في حاجة إلى التوجيه من قبل مجتمع منظم‪ .‬كذلك كان ارسطو أول عالم سياسة إحصائي‬
‫تجريبي‪ .‬فبدال من افتراض وجود نماذج مثالية يمكن التعرف عليها من خالل التحليل العقالني قام ارسطو بدراسة الظروف السياسية‬
‫على أرض الواقع‪ .‬وكجزء من دراسته تناول بالتحليل التاريخ السياسي ألكثر من ‪ 150‬دولة مدينية وقومية في عهده ‪ ،‬ومن خالل‬
‫‪".‬هذه المعلومات وضع كتابه الهام "السياسة‬
‫عاصر كل من أفالطون وأرسطو أفول دولة أثينا وحاوال أن يفهما لماذا وأن يقترحا وسائل للحيلولة دون ذلك‪ .‬لذلك ابتدعا تقليدا ال‬
‫يزال في قلب علم السياسة حتى اليوم‪ :‬متمثالً في البحث عن مصادر وأسباب السالم السياسي واالستقرار‪ .‬ولم يكن أرسطو متردداً في‬
‫‪.‬تعريف وتحديد ما اعتقد أنه األفضل سياسيا ً كما يقول في هذا المقطع‬
‫أن أفضل مجتمع سياسي هو ذلك المكون من مواطني الطبقة الوسطى وهذه الدول أكثر احتماالً ألن تدار بكفاءة وفيها تكون الطبقة‬
‫الوسطى كبيرة‪ .....‬وهي التي يكون لدى أفرادها ملكية معتدلة وكافية‪ .‬وذلك ألنه عندما يمتلك البعض كثيراً وال يجد الباقون شيئا ً فإنه‬
‫من الممكن أن يبرز ديموقراطية متطرفة أو أقلية أوليجاركية واضحة‪ ،‬أو حاكم مستبد‪ ......‬وتكون الديموقراطيات أكثر أمنا ً ودواما ً من‬
‫االوليجاركيات وذلك ألنها تحتوي على طبقة وسطى كثيرة العدد ولديها تأثيراً أكبر على الحكومة‪ ،‬وعندما ال يوجد طبقة وسطى ويكثر‬
‫‪.‬عدد الفقراء بشكل كبير تبرز المشكالت وسرعان ما تزول الدولة‬
‫وبرغم أن أرسطو كتب هذا المقطع في القرن الرابع قبل الميالد إال أنه كان يشرح لماذا تنجح أو تخفق الديموقراطية اليوم‪ .‬وهذا يعتمد‬
‫بدرجة كبيرة على حجم الطبقة الوسطى وهو ما أثبته البحث الحديث‪ .‬لقد كان أرسطو وصفيا ً ومعياريا ً في نفس الوقت‪ :‬حيث استخدم‬
‫الحقائق التي جمعها مع تالميذه لوصف أفضل المؤسسات السياسية‪ .‬وهو الشيء نفسه الذي كان علماء السياسة يفعلونه منذ ذلك‬
‫‪.‬الحين وحتى اليوم وصفا ً وتشخيصا ً‬
‫ويقدم كتاب أرسطو "السياسة" أفكاراً مثيرة لالهتمام حول موضوع المساواة‪ .‬وتوفر لنا قراءة مالحظات أرسطو فرصة للتفكير حول‬
‫ما تتضمنه المساواة‪ .‬فأرسطو يشير إلى أنها يمكن أن تعني أي شيء ويزعم بأن المساواة تخدم البشرية بشكل أفضل عندما تفهم على‬
‫أنها تعني اعتبار متساو للمصالح‪ .‬وبهذا التعريف فإن المساواة ينبغي أن تشجع من قبل الدولة‪ .‬وفي تفسيره لالعتبار المتساوي‬
‫للمصالح يسألنا أرسطو ألن نأخذ في االعتبار األشكال المختلفة للدولة‪ ،‬وأشار إلى ستة أشكال هي ‪ :‬الملكية‪ ،‬االرستقراطية‪،‬‬
‫وعرف كل شكل من خالل معيارين هما ‪ :‬من يحكم وما هي المصالح التي تسعى‬ ‫ّ‬ ‫الجمهورية‪ ،‬االستبدادية‪ ،‬االوليجاركية والديموقراطية‪.‬‬
‫‪ :‬الحكومة لتحقيقها‪ .‬ومن خالل االعتماد على هذين المعيارين قدم أرسطو التعريفات التالية‬
‫‪.‬الملكية ‪ :‬حكم الفرد لمصلحة الجميع •‬
‫‪.‬االستبدادية ‪ :‬حكم الفرد لمصلحة الحكام •‬
‫‪.‬االرستقراطية ‪ :‬حكم القلة لمصلحة الجميع •‬
‫‪.‬االوليجاركية ‪ :‬حكم القلة لمصلحة الحكام •‬
‫‪.‬الجمهورية ‪ :‬حكم الكثرة لمصلحة الجميع •‬
‫‪.‬الديموقراطية ‪ :‬حكم الكثرة لمصلحة الحكام •‬
‫وطبقا ً ألرسطو فإن كالً من الملكية واالرستقراطية والجمهورية تعتبر نماذج حكم مناسبة ألن كل منها يحاول تحقيق المصلحة العامة‪.‬‬
‫وفي هذه األشكال الثالثة للحكومات ‪ ،‬وبغض النظر عن عدد الممسكين بالسلطة‪ ،‬تعمل الدولة على تحقيق المصالح العامة للجميع‪.‬‬
‫وأعتبر أرسطو أن نماذج الحكم الثالثة األخرى المستبدة‪ ،‬االوليجاركية والديموقراطية هي نماذج غير صالحة ألنها ال تهتم إال بتحقيق‬
‫مصالح القائمين على الحكم‪ .‬ففي ظل نموذج الحاكم المستبد تصبح مصالح الحاكم مقدمة على ما سواها‪ .‬وفي النموذج االوليجاركي‬
‫تسعى القلة التي تمسك بزمام السلطة إلى تحقيق مصالحها حتى لو كان على حساب مصالح األغلبية‪ ،‬وفي الديموقراطية تتحكم‬
‫األغلبية في السلطة لكنها تتصرف مثل المستبدين حيث يحكم أفرادها بطريقة نفعية أنانية وينسون مصالح األقلية‪ .‬باختصار أن كل‬
‫‪.‬أشكال الحكومات الفاسدة تنتهك مبدأ االعتبار المتساوي للمصالح فكل منها يتحيز ضد الجماعات األخرى ويضطهدها‬
‫ومن المثير لالهتمام أن أرسطو يرى أن المشاركة المتساوية في عملية صنع القرار هي أقل أهمية من المساواة في نتائج القرار وهذا‬
‫الفارق ملفت جداً للنظر في مقارنته بين الملكيات والديموقراطيات‪ .‬لكننا إذا ما عرفنا المساواة طبقا ً للمشاركة‪ ،‬فيمكن أن تبدو‬
‫الديموقراطية أكثر أخالقية من الملكية‪ .‬إال أن أرسطو يعرف المجتمع الديموقراطي على أنه المجتمع الذي يشارك فيه معظم الناس في‬
‫‪.‬الحكم ولهذا فإن هناك على األقل مشاركة على أسس متساوية (لدى الناس جميعا ً نفس حقوق المشاركة)‬
‫ومع ذلك فإن أرسطو يفضل الملّ كية المستنيرة على الحكومة الديموقراطية ألنه يعتقد بأن األغلبية تحكم ولكن لتحقيق مصالح أفرادها‬
‫ومن ثم فإن القرارات التي تتخذها األغلبية ال تعطى اهتماما ً متساويا ً لمصالح األقلية‪ .‬بينما يعتقد أرسطو أنه برغم عدم وجود مساواة‬
‫في عملية صنع القرار في الحكومة الملّ كية إال أن هناك مساواة فيما يتعلق بنتائج القرارات المتخذة‪ .‬وهنا يبدو واضحا ً ما هو األهم‬
‫بالنسبة ألرسطو أنها ليست المساواة في عملية صنع القرار ولكن المساواة في نتيجة القرار‪ .‬ونالحظ أيضا ً أن أرسطو لم يدعو إلى‬
‫المساواة في الدخل أو السلطة أو حتى المساواة في الحقوق (فهو ال يؤيد إعطاء حقوقا ً متساوية للمشاركة في السياسة في تعريفه‬
‫للدول الشرعية)‪ .‬وتتمحور فكرته عن مسئوليات الدولة في مجال المساواة حول المصلحة‪ .‬فالدول الصالحة هي تلك التي تخدم‬
‫‪.‬المصلحة العامة‪ ،‬أي ليس مصلحة معظم الشعب وإنما مصلحة كل الشعب‬
‫باختصار كانت الفلسفة اإلغريقية تنحو في الغالب نحو المثالية وتؤكد على فكرة االكتفاء الذاتي كأساس لدولة المدينة اإلغريقية‪ .‬كذلك‬
‫‪.‬كانت الدولة ال الفرد محور اهتمام هذا الفكر‬
‫الفكر السياسي الروماني‬
‫تأثر الفالسفة اإلغريق بالمثاليات وبتنوع الممارسات السياسية للدول اإلغريقية ‪ ،‬لكنهم فشلوا في تصور مجتمعا ً غير دول المدينة‬
‫اإلغريقية التي نادراً ما يزيد عدد سكانها عن بضعة اآلف من المواطنين‪ .‬ولذا فقد فوجئوا باألحداث المتسارعة حيث هزم الملك‬
‫المقدوني فيليب دولة مدينة اثينا في ‪ 338‬قبل الميالد وتحولت مقدونيا مركزاً لحكم اإلمبراطور االسكندر المقدوني أبن فيليب‪ .‬وبرغم‬
‫أن ارسطو كان معلما ً خاصا ً لالسكندر إال أنه لم يكن واضحا ما إذا كان االسكندر قد تعلم منه لكنه بالتأكيد لم يكن يحترم سياسة دولة‬
‫المدينة‪ ،‬فقد مد نطاق إمبراطوريته قصيرة العمر من اليونان إلى مصر جنوبا ً ‪ ،‬وبالد السند شرقاً‪ .‬ونادراً ما تثير اإلمبراطوريات فكراً‬
‫‪ .‬سياسيا ً عظيما ً ألنها تميل إلى االهتمام بالسيطرة من خالل اإلدارة بدالً من اعتمادها على القيم والتخيالت‬
‫ولذلك فإن ما كان يحتاجه اإلمبراطور كمرجعية له ورموز لسلطته هو الدين ‪ ،‬وليس تأمالت حول السياسة‪ .‬كما أن الفرد من رعية‬
‫‪ .‬اإلمبراطورية أصبح مهتما ً بشئونه الخاصة بدالً من االهتمام باالكتفاء الذاتي للمجتمع كما كان يسعى إليه كال من افالطون وارسطو‬
‫لقد كانت تجربة روما مختلفة تماما ً عن اثينا‪ ،‬فروما نجحت وازدهرت من خالل انتصارات جيوشها وتفوق إدارتها وفصلها بين‬
‫الشئون العامة والمعتقد الخاص‪ .‬فبرغم االختالفات في المكان ‪ ،‬والقومية ‪ ،‬ومكان اإلقامة إال أن المواطنة الرومانية شجعت الوالء‬
‫للمثال اإلمبراطوري‪ .‬ومع ذلك لم يكن الوالء يعني االنخراط‪ .‬وبينما كانت الدولة بالنسبة لإلغريق هي مواطنيها فقد كانت اإلمبراطورية‬
‫الرومانية بالنسبة لشعوبها ذات هوية خاصة بها‪ .‬لقد تعلم الرومان من خالل عملية عرفت" بالهلنسة " ‪ -‬التي تعني نشر األفكار‬
‫اإلغريقية في جميع أنحاء اإلمبراطورية ‪ -‬لكنهم لم يقلدوا سياسة اإلغريق‪ .‬وقد أقتصر إسهام الرومان على مجال الفكر القانوني وفي‬
‫ربط شعور شعوبهم بالعضوية من خالل القانون والدين‪ .‬وكانت النظرية السياسية الوحيدة في زمن الرومان تتكون من تعبيرات عن‬
‫‪ .‬االقتناع الشخصي والتقديرات المثالية للممارسة السياسية‬
‫وقد مثلت الرواقية معتقداً شخصيا ً ‪ ،‬وتقوم هذه الفلسفة على االعتقاد بأن كل البشر يكونون جزءاً من النظام الكوني منفصالً عن‬
‫المشيئة اإلنسانية‪ .‬وان السعادة الحقيقية ‪ ،‬ممكنة إلى حد ما ‪ ،‬ويمكن التوصل اليها من خالل فهم النظام الطبيعي للحياة ومحاولة‬
‫مطابقة المشيئة الفردية معه قدر المستطاع‪ .‬وقد أكدت هذه الفلسفة على فكرة الفصل بين السياسة واألخالق وعلى القانون الطبيعي‬
‫والدولة العالمية القائمة على المساواة بين الناس وأن كل المفاخر والتمايزات ستنتهي يوما ما لكن اإلنسانية العالمية الشاملة ستبقى ‪،‬‬
‫‪ .‬وهذا يعني سياسيا ً القبول واالنسجام واإليمان بفضيلة الخدمة العامة ‪ ،‬وهي فضائل مناسبة جداً لإلمبراطورية‬
‫ولم يكن غريبا ً أن بوليوبس اإلغريقي الذي حاول اكتشاف أسس نجاح اإلمبراطورية الرومانية قد وجده في القانون الروماني وفي‬
‫الدستور المختلط لروما وهي فكرة مستقاة من ارسطو‪ .‬هذا الدستور المختلط كان يعني مركبـا ً متوازنا بدقة من ثالثة عناصر‪ :‬أولها‬
‫ملكيا (مجلس الحاكم) وثانيها ارستقراطيا (مجلس الشيوخ ) والثالث ديموقراطي ( المجالس الشعبية )‪ .‬وبرغم أن تلك المؤسسات‬
‫وجدت معا ً في أوقات مختلفة من التاريخ الروماني لكنها لم تحقق التوازن الذي تخيله بوليوبس حيث تدهورت المواطنة إلى " رعية "‬
‫‪ .‬لإلمبراطور لكن بوليوبس اعتقد أن المؤسسات الثالث ساعدت في منع حدوث الفساد السياسي بنفس الوتيرة التي حذر منها ارسطو‬
‫وجاء شيشرون ( ‪ 43-106‬قبل الميالد ) ليجمع بين فكرة بوليوبس عن الدستور المختلط مع الفلسفة الرواقية‪ .‬فالدولة بنظره هي‬
‫نتاج قانوني بحيث يجب أن تكون قوانينها متفقة مع قوانين الطبيعة ‪ .‬ويتضمن القانون الطبيعي مجتمعا ً أخالقيا ً من الحقوق‬
‫وااللتزامات تقضي بأن تكون الدولة " جمهورية " أي شيئا ً عاما ً مستنداً على حقوق مدنية متفقة مع العقل والمنطق‪ .‬واعتقد‬
‫شيشرون أن الق ّيم العامة يجب أن تنعكس في القانون اإلنساني والذي بدوره يعتمد على قانون الطبيعة‪ .‬وهذا يعني انبعاث السلطة من‬
‫الشعب ووجوب ممارستها استنادا إلى القانون وضرورة إيجاد مسوغات أخالقية‪ .‬ويبدو أن شيشرون قد ركز في كتاباته على فكرتين‬
‫أساسيتين‪ .‬أوالهما عقيدته الراسخة في أفضلية نظام الدستور المختلط ‪ ،‬وثانيهما إيمانه بنظرية التطور التاريخي للدساتير‪ .‬ومن‬
‫‪ .‬المؤسف أن انتحار شيشرون جاء ثمنا ً لتدخله النشط في سياسة روما الضيقة بعد اغتيال يوليوس قيصر في ‪ 44‬قبل الميالد‬
‫ً‪:‬وقد كتب شيشرون قائال‬
‫القانون هو العقل األكبر الموجود في الطبيعة والذي يحدد ما ينبغي فعله ويحرم ما هو نقيض ذلك‪ .‬هذا العقل هو القانون عندما يكون‬
‫راسخا ً بقوة في العقل اإلنساني‪ .‬ولذا فإنهم يعتقدون بأن القانون هو الذكاء الذي تكون وظيفته الطبيعية هي تحديد التصرف الصحيح‬
‫وتحريم أو منع الخطيئة ‪ ..‬وهذا يعني أن العدالة ال يمكن أن توجد إطالقا إذا لم توجد في الطبيعة وإذا كان باإلمكان القضاء على شكلها‬
‫المستند على المنفعة بواسطة المنفعة ذاتها‪ .‬وإذا لم تكن الطبيعة قاعدة العدالة فإن ذلك يعني القضاء على الفضائل التي يقوم عليها‬
‫المجتمع اإلنساني ( ‪) 6‬‬
‫أما سينيكا الذي عمل وزيرا لدى نيرون وشاهد إحراق روما وبداية انهيار اإلمبراطورية فقد كان متشائما في نظرته للمستقبل ورأى‬
‫استحالة استعادة فترة االزدهار وان روما ساقطة ال محالة ومن ثم بات الحكم المطلق ضرورة ال فكاك منها‪ .‬ولذا أعتقد أن االعتماد‬
‫‪.‬على الطاغية افضل من الجماهير وأن الحكومة هي وليدة الشر البشري وحده وأنها الوسيلة اإللهية لحكم البشر‬
‫باختصار يمكن القول بأن الفكر السياسي الروماني قد هيمنت عليه االتجاهات القانونية وظهر ذلك في اعتبار الدولة نتيجة للقانون وأن‬
‫تحليلها ال ينبغي أن يستند على الحقائق االجتماعية أو الصفات الخلقية وإنما في إطار من الصالحيات والحقوق القانونية وهو ما‬
‫‪.‬افتقده الفكر اإلغريقي‬
‫‪ :‬الفكر السياسي المسيحي‪ :‬التخلي عن فكرة االكتفاء الذاتي‬
‫لقد تبنى معظم المفكرين السياسيين األوربيين في القرون الوسطى وعصر النهضة اقترابا ً دينيا ً لدراسة الحكومة والسياسة‪ ،‬وكانوا‬
‫بالتحديد معياريين يحاولون اكتشاف ما ينبغي أن يكون وغير مبالين‪ ،‬غالبأ‪ ،‬بالواقع "أي حالة العالم الراهن"‪ .‬وتحت تأثير قيم دينية‬
‫وقانونية وفلسفية حاولوا تحديد شكل نظام الحكم الذي يمكن أن يقرب البشر إلى أقرب ما يعتقدون أنه مشيئة هللا‪ .‬ويمكن تفسير‬
‫المسيحية كديانة مثل الرواقية مع مكون إضافي هو اإلنقاذ الشخصي‪ .‬فموقف المسيح بنظرهم تجاه الدولة كان مماثال لموقف‬
‫الرواقيين ‪ :‬حيث تزعم األناجيل أنه عندما واجه المسيح تحدي سؤال الوالء السياسي له أو لإلمبراطور قال " دع ما لقيصر لقيصر‬
‫وما هلل هلل "‪ .‬ومع انه كان من الممكن للرواقيين أن يتفهموا أن لم يكن يتقبلوا تماما ً ثنائية شئون اإلنسان وشئون العالم ‪ ،‬إال أنه ال‬
‫اليهود وال النصارى كان يمكن أن ينظروا لإلمبراطور كنقطة والء أخيرة ‪ .‬فاليهود بحثوا عن الخالص من الخضوع للرومان من خالل‬
‫المسيح الفاتح بينما رفض المسيحيون تأييد إمبراطور وثني ‪ .‬ودفع كال منهما الثمن غاليا ً ‪ .‬ولكن عندما تقبلت روما المسيحية في‬
‫‪ 310 .‬م تكيف المسيحيون مع السلطة الرومانية ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين لم يطلب من المسيحيين معارضة الدولة‬
‫وفي نهاية األمر أنشأت المسيحية في أوربا الغربية نظاما ً واسعا ً للحكم منفصالً عن الحكم الدنيوي ‪ ،‬ولم يكن التحول من الحكم الديني‬
‫إلى الحكم الزمني في أوربا سهالً وال سلسا ً‪ .‬وكان هناك عدد من المزاعم المتناقضة حول السيادة والسلطة بين البابا والملوك‬
‫المحليين‪ .‬بل لقد مضى قرابة ‪ 1000‬عام بين انهيار اإلمبراطورية الرومانية وتبلور نظرية سياسة تضع السلطة السياسية خارج‬
‫نطاق سلطة الكنيسة‪ .‬أما المسيحيون االرثوذكس في القسطنطينية فقد كيفوا أنفسهم مع الحكم الزمني من خالل توليفه من الكنيسة‬
‫والدولة ‪ ،‬إال أن المسيحيين جميعا ً قد أنكروا فكرة االكتفاء الذاتي للمجتمع السياسي اإلغريقي أو عقائد الرومان فالناس بدون محبة هللا‬
‫‪ .‬ال يساوون شيئا ً‬
‫لقد كان األثر غير الديني للمسيحية على السياسة يتمثل في خلق شعور بالتضامن اإلنساني والمساواة الروحية بمعزل عن االنتماء‬
‫القومي أو السياسة أو الحكمة‪ .‬فالرواقيون يمكن أن يتحدثوا عن أخوة روحية لإلنسانية لكن الرواقية بقيت معتقد موظفي‬
‫اإلمبراطورية الرومانية ‪ ،‬أما المسيحية فقد كانت مختلفة كما يزعم القديس اوغسطين ( ‪ )430-354‬فالمسيحيون عاشوا " باألمل‬
‫‪".‬وليس " باألشياء "‪ ،‬بينما لم تستطع الرواقية فلم تستطع التخلص من " األشياء " – الطبقة ‪ ،‬الدولة – التي تقسم الناس‬
‫عاش اوغسطين في شمال إفريقيا وفي الجزائر بالتحديد وكان أول من أجاب عن موقف المسيحيين من الحياة السياسية‪ .‬حيث كتب‬
‫اوغسطين عن مدينتين الدنيوية والروحية تتعايشان عبر التاريخ‪ .‬ويواصل قائال " برغم أنه كان هناك عدد كبير من األمم الكبيرة على‬
‫األرض والتي كانت طقوسها وعاداتها وهويتها وسالحها تتسم بخالفات جوهرية إال أنه لم يكن هناك أكثر من نوعين من المجتمع‬
‫اإلنساني اللذان يمكن أن يسميا مدينتين‪ .‬األولى تتكون من أولئك الذين يريدون الحياة المادية بمباهجها (مدينة الشيطان) واألخرى‬
‫(مدينة هللا) تتكون من أولئك الذين يثمنون الحياة الروحية ‪ ،‬وكل يشعر بسعادة عندما يحقق ما يريد‪ .‬ولم يكن اوغسطين يعني بذلك‬
‫المعنى الحرفي للمدينة وانما يشير بذلك إلى المجتمع‪ .‬كما لم تكن المدينة الروحية محصورة فقط في الكنيسة آنذاك فقد كان هناك أناس‬
‫‪.‬خارج الكنيسة يعيشون للروح‬
‫وبينما يمكن للمدينة الزمنية أن تكون ظالمة أو عادلة إال أن وجودها هو نتيجة للخطيئة اإلنسانية‪ .‬وهؤالء الذين يعيشون للمادة‬
‫يختلطون بأولئك الذين يعيشون للروح وسيبقون معا ً حتى يوم القيامة‪ .‬وحتى يأتي هذا اليوم األخير يجب على الناس أن يطيعوا الدولة‬
‫ويتمتعوا بسالمها لكن عليهم أن يتجهوا بعقولهم إلى هللا‪ .‬ولذلك كان اوغسطين أول من يواجه المعضلة األساسية للمواطن المسيحي ‪.‬‬
‫فقبل مجيء المسيح كانت السياسة اإلغريقية والرومانية ذات نظم مغلقة تعتمد على نفسها لتحديد الهدف والوجهة‪ ،‬لكن المسيح قد‬
‫وعد بمآل جديد وأفضل بعد الموت‪ .‬والدولة يمكنها في أحسن األوقات أن تساعد الكنيسة في هذا المجال لكنها ال يمكن أن تقوم‬
‫‪ .‬بوظائف الكنيسة‬
‫وكانت المشكلة في أن اوغسطين لم يكن قد حدد بشكل كامل حدود الكنيسة الزمنية معتقداً ضمنا ً بأن الكنيسة أو بعض أعضائها يمكن‬
‫أن يبقوا خارج مدينة هللا‪ .‬فضال عن أن أوغسطين قد زعم انه لم يكن بإمكان الكنيسة وال حتى الدولة أن تكون مكتفية ذاتيا ً أو‬
‫منسجمة مع وظيفتها األساسية ‪ ،‬ولذلك كان الفكر السياسي في العصور الوسطى يمثل صراعا ً حول طبيعة المدينتين وعالقاتهما‬
‫‪ .‬المالئمة‬
‫وبعد وفاة اوغسطين بفترة قصيرة انقرضت اإلمبراطورية الرومانية واستبدلت بسلسلة من التنظيمات القبلية ‪ ،‬وانعزلت أوربا الغربية‬
‫عن البحر المتوسط كما أن مراكز المسيحية الشرقية هي األخرى سقطت أو عزلت من خالل تصاعد المد اإلسالمي ولذلك لم يكن هناك‬
‫أهمية كبيرة للفكر السياسي آنذاك في مثل ذلك العالم‪.‬ـ ومع أن اإلمبراطور اإلفرنجي شارلمان استطاع أن يعيد نوعا ً من الوحدة‬
‫اإلمبراطورية في ‪ 800‬م لكنه لم يستطع هو وال أي ممن جاء بعده أن ينشئ إمبراطورية بأهمية اإلمبراطورية الرومانية مما مهد‬
‫الطريق لبروز النظام اإلقطاعي الالمركزي لتنظيم العالقات االجتماعية السياسية‪ .‬وت ّكون اإلقطاع باختصار من وحدات إقليمية متناثرة‬
‫يكون فيها النبيل معتمداً على خدمات التابع والذي بدوره يتحكم في مجموعة كبيرة من الفالحين‪ " .‬والحكم " هنا يتضمن سلسلة من‬
‫االلتزامات المشتركة لألطراف المختلفة وتحوالت في الوالء بين النبالء‪ .‬وقد تطلب بعث الفكر السياسي خارج نطاق الكنيسة ليس فقط‬
‫فكرة جديدة للدولة المكتفية ذاتيا ً وإنما وجهة نظر للناس التي يمكن أن تجد معنى في العالم‪.‬ـ وهذان الشرطان لم يتحققا لقرابة ‪1000‬‬
‫عام منذ تأكيد أوغسطين على اعتماد النظريات حول القيم على الممارسة‪ .‬والممارسة تتطلب اآلن من الكنيسة أن تطبق تراث‬
‫‪ .‬اوغسطين‬
‫وقد أكد البابا جيالسيوس فكرة التنظيم المنفصل للكنيسة والدولة في أوربا الغربية سنة ‪500‬م من خالل مبدأ السفين‪ ،‬حيث زعم أن‬
‫السيفين يرمزان إلى المجالين الدنيوي والديني وإن كالهما يجب أن يتعاونا لضمان السالم والعدالة على األرض الالزمان لتحقيق‬
‫‪ .‬الخالص‪ .‬إال أن كالً منهما يمثل سيفا ً مطلوبا ً إليذاء أولئك الذين يتدخلون في مهمة الكنيسة للخالص‬
‫وقد مثلت هذه النظرية دعوة مفتوحة للصراع مع الحكام الدنيويين مع تحول البابا جريجوري السابع ( قرابة ‪1080‬م ) إلى حاكم ذو‬
‫سيادة مطلقة قادر على السيطرة على تعيينات األساقفة الذين كانوا الجزء األساسي للحكم اإلقطاعي‪ .‬وهو األمر الذي حسم الجدال‬
‫المتعلق بمن له الكلمة الفاصلة في تعيين األساقفة هل هو البابا ام اإلمبراطور؟ هذا الجدال تميز بإثارة االهتمام من جديد بالقانون‬
‫‪ .‬الروماني – وخاصة مسألة ما الذي يجعل الحكم عادالً‬
‫وبحلول القرن الثاني عشر كانت األوضاع في أوربا مستقرة إلى الدرجة التي جعلت من الممكن إعادة النظر في طبيعة الدولة‪ .‬وفي‬
‫هذه األثناء كان جون سالزبوري (‪ ) 1180-1110‬الذي عمل سكرتيرا لرئيس أساقفة كانتربري ‪ ،‬زعيم الكنيسة البريطانية ‪ ،‬قد ألف‬
‫رجل الدولة" الذي وجهه إلى ملك بريطانيا هنري الثاني أمالً في التأثير على الملك ليصبح نموذجا ً" ) ‪ ( Policraticus The‬كتاب‬
‫للحاكم المقبول في الكنيسة‪ .‬وكان الكتاب يعتبر أول نظرية سياسية شاملة منذ اوغسطين وفيه تقبل سالزبوري فكرة شيشرون عن‬
‫أهمية القانون والعدالة‪ .‬فالقانون هو "هدية هللا ومصححا ً لتجاوزات البشر "‪ .‬ولذا فعلى كل من الملك ورعيته اإلذعان للقانون ‪ ،‬بل أن‬
‫حكم الملك يكون شرعيا ً طالما اتبع تعاليم هللا ‪ .‬لكن سالزبوري لم يكرر موقف شيشرون فقط بل تجاوز ذلك إلى وصف " األمير "‬
‫‪.‬كرأس لجسد يجب على العقل أن يوجه كل تصرفاته‬
‫ولذلك " فالمستبد " هو الملك الفاسد الذي تخلى عن العقل ‪ ،‬وهللا والكنيسة‪ .‬ومثل هذا الحاكم ينبغي عصيانه وحتى قتله‪ .‬وأكد‬
‫سالزبوري على أن سلطة الكنيسة أسمى من سلطة الدولة ألن الدولة تستمد حقها في تطبيق القانون من رضا الكنيسة وموافقتها‪ .‬وقد‬
‫مثل هذا الكتاب تغيراً هاما ً في الموقف منذ اوغسطين قبل ‪ 700‬سنة الذي كان قد وصف المملكة الدنيوية "باللصوص الكبار " التي‬
‫نشأت على العنف والتي ال تختلف كثيرا عن "اللصوص الصغار" الذين كان يفترض فيها أن تحاربهم‪ .‬ولم يع ّدل سالزبوري مفهوم‬
‫‪ .‬الدولة فقط ولكن أيضا ً أعاد لها االعتبار كموضوع بحث جدي‬
‫مع أن سالزبوري قد استعار فكرة شيشرون عن الجمهورية إال أنه كان من الصعب عليه وعلى غيره من مفكري العصور الوسطى‬
‫المبالغة في عرفانهم بالجميل للفكر السياسي اإلغريقي والروماني الذي تصور منطقا ً للسياسة بدون الكنيسة‪ .‬ومع إنه لم يتم إعادة‬
‫اكتشاف بعضا من أعمال ارسطو إال في حوالي ‪ 1890‬إال أن الترجمة الالتينية لكتاب "السياسة" كانت متوفرة في بعض الجامعات في‬
‫‪.‬بداية القرن الثالث عشر‬
‫وقد عارضت الكنيسة كتابات ارسطو في بداية األمر ألنها بدأت تقلل من شأن اإليمان في االحتياجات اإلنسانية إال أنه لم يكن من السهل‬
‫حظر أو نقض المنطق األرسطى‪ .‬بل أن القديس توماس األكويني ( ‪ )1274-1224‬كان قد شرع في تكييف أفكار ارسطو السياسية‬
‫على وجه الخصوص ‪ ،‬وبدأ بتقبل اعتقاد ارسطو بأن السعادة هي هدف الحياة وأن اإلنسان هو كائن اجتماعي في حاجة إلى التوجيه‬
‫من قبل مجتمع منظم‪ .‬واتفق االكويني مع ارسطو في أن القانون يسهم في صياغة الشخصية اإلنسانية‪ .‬وكانت المشكلة هي في كيفية‬
‫شرح الطريقة التي من خاللها يمكن للقانون الدنيوي والحياة السياسية أن يصبحا ذوا قيمة روحية‪ .‬وقد قدم توماس االكويني وصفا‬
‫لعالقة منظمة بين كل أنواع القانون ‪ ،‬كل منها يتطلب سلطة واتجاه مختلفين لكنها معتمدة على بعضها‪ .‬فالقانون اإللهي الخالد يعتمد‬
‫يكون القانون‬ ‫على المنطق المقدس الذي يوجه األفكار اإلنسانية نحو ما هو حق ‪ ،‬بينما القانون الطبيعي الذي يتوصل إليه بالعقل ‪ّ ،‬‬
‫اإلنساني ‪ ،‬وأن المنطق كان قادراً على تحسين الصالح العام للمجتمع ‪ .‬وقد وجد توماس االكويني أن فكرة ارسطو عن الدولة‬
‫‪ .‬المحكومة بالعدل تتوافق مع ما يمليه ضمير الحاكم المسيحي‬
‫‪ :‬إعادة االعتبار إلى " االكتفاء الذاتي " الفكر السياسي خالل عصر النهضة‬
‫كتب كل من اوغسطين واالكويني عن الممارسات الفعلية لكل من الكنيسة والدولة أو عن مشاكل محددة بين الكنيسة والدولة‪ .‬وكان‬
‫هناك خالفات حادة حول التمثيل في كل من الكنيسة والدولة ‪ ،‬حيث زعم جزء من المفكرين بان البابا يجب أن يكون مسئوالً أمام هيئة‬
‫منتخبة من األساقفة والكرادلة وليس له الحق في التصرف بمشيئته وهؤالء الذين ناصروا هذا الرأي أصبحوا يعرفون "‬
‫كونوا جمعيات للنبالء للحصول على المال والدعم للحرب إال أن‬ ‫بالمجلسيين"‪ .‬ومع أن الحكام في عدد من دول العصور الوسطى قد ّ‬
‫محاوالت القضاء على مزاعم البابا أو الملك بامتالك السيادة لم تكن ناجحة ‪ .‬وتبعا لذلك لم تكن نظريات العصور الوسطى تمثل جذوراً‬
‫لألفكار الحديثة للديموقراطية األوربية‪ .‬وعلى الجانب اآلخر أصبح النزاع بين الكنيسة والدولة هاما ً جداً لتطور النظرية السياسية ‪.‬‬
‫وكان الدعم الفكري األساسي يتمثل في هيمنة المجال الروحي على الدنيوي ‪ .‬لذا كانت فكرة الفصل بين المجالين تمثل قفزة ضرورية‬
‫‪.‬وهامة لفكر العصور الوسطى‬
‫وخالل النزاع بين الكنيسة والدولة بدأ وكأن الكنيسة تقلد عملية علمنة الدولة ‪ ،‬فالبابوية نفسها أصبحت دولة قوية وجيدة التسلح‪ .‬و‬
‫أثناء النزاع بين البابا ولويس حاكم بافاريا استطاع لويس أن يحصل على دعم المفكر اإليطالي مارسيليو بادو ( ‪، )1343-1280‬‬
‫حيث تحدى مارسيليو مزاعم البابوية من خالل افتراض بسيط‪ :‬المنطق والوحي كانا يمثالن شكالن منفصالن تماما ً للحقيقة ‪ ،‬فالمسائل‬
‫الروحية يمكن معرفتها فقط من خالل الوحي واإليمان بينما يمكن اإلجابة على مسائل السياسة العلمانية ( الدنيوية ) من خالل العقل‬
‫( المنطق ) فقط‪ .‬ومع أنه يمكن للدولة أن تنظم شئونا ً أخالقية وكنسية محددة‪ ،‬ألن رجال الكنيسة هم أيضا ً رعايا للدولة‪ ،‬إال أنه ال‬
‫يمكن للدولة أن تقوم بمهامها إذا تدخلت فيها الكنيسة ‪ ،‬ولذا يجب على الكنيسة أن تقصر اهتمامها على الخالص والحياة األبدية في‬
‫اآلخرة‪ .‬كذلك فإن قانون الكنيسة وقانون الدولة يقفان على أرضيات مختلفة ‪ .‬فقانون الكنيسة مستمد من هللا ومن يخالف هذا القانون‬
‫الكنسي فهو مسئول أمام هللا وليس أمام الدولة ‪ ،‬أما قانون الدولة فهو مستمد من قوة المجتمع واحتياجاته المادية‪ .‬وبناء عليه يزعم‬
‫مارسيليو بادو أن الكنيسة ال يمكنها بعد اآلن أن تشرعن تدخلها في شئون الدولة ‪ ،‬كما أن الدولة ال يمكنها أن تحكم على من يخالف‬
‫‪ .‬قوانينها بدخول النار‪ .‬ولذا فإن قانون وسلطة القوة الدنيوية ( العلمانية ) كافية تماما ً للحياة على األرض‬
‫لقد أرعب التدخل الكنسي في السياسة اإليطالية ليس مارسيليو بادو فقط وإنما أيضا نيقوال ميكافيلي (‪ )1527-1469‬لكن قلق‬
‫ميكافيلي كان من تأثير التدخل على إيطاليا وليس على الكنيسة ‪ .‬وبهذا المنظور عكس ميكافيلي علمانية عصر النهضة في زمن كان‬
‫‪ .‬الشعور الشعبي تجاه سياسة الفاتيكان غير مبال إن لم يكن معاديا ً‬
‫لقد كان مارسيليو وآخرون من مفكري العصور الوسطى آنذاك يبحثون عن " نموذج طبيعي " للدولة ‪ ،‬وقد وصف كل من مارسيليو‬
‫وجون سالزبوري الدولة من خالل مقارنتها بجسم اإلنسان فالدولة المثالية بالنسبة لهما يمكن فهمها من خالل الطبيعة بنفس طريقة‬
‫شيشرون وارسطو ‪ .‬وبمجيء ميكافيلي كانت المقارنة بين الدولة والجسم ال تزال قائمة إال أن مفكري عصر النهضة اعتبروا الدولة‬
‫مؤسسة اجتماعية ونتاجا ً لالتفاق وليس للطبيعة‪ .‬ومع أن ليس من السهل تحديد معنى " النهضة األوربية " ‪ ،‬أو الوالدة الجديدة‬
‫للحياة الفكرية والفنية ( حقبة من النشاط العقلي والفني الشديد ) في أوربا الغربية ‪ ،‬إال أن هناك إجماعا ً حول عدد من الخصائص‬
‫‪ :‬المشتركة لتلك المرحلة منها‬
‫‪ .‬تأكيد على الفردية ووجهة نظر لألحداث بناء على الفعل الفردي )‪(1‬‬
‫‪ .‬رؤية للعالم تنكر المزاعم الخاصة للكنيسة بشأن السلطة الدنيوية أو المعرفة )‪(2‬‬
‫‪ .‬تقدير جديد للعلم واألدب اإلغريقي والالتيني )‪(3‬‬
‫أما أكثر الحقائق وضوحا ً حول ميكافيلي وعصره فهي أن األحداث السياسية قد تجاوزت حدود أي نظرية سياسية ‪ .‬فقد كانت فترة‬
‫فوضى وعنف ‪ ،‬وكانت إيطاليا مقسمة إلى خمس وحدات سياسية رئيسة من بينها دولة الفاتيكان مما تسبب في غزو خارجي متكرر‪.‬‬
‫كما أن عادة استخدام الجنود المرتزقة الشائعة آنذاك جعلت الوالء موضوعا ً للمزايدات التجارية ‪ ،‬مما جعل السياسة في حالة من‬
‫التقلب المتواصل ‪ .‬وبعكس المفكرين السابقين كان ميكافيلي مستشاراً لحاكم علماني ( دنيوي ) ودبلوماسي وعندما هزمت جمهورية‬
‫‪.‬فلورنسا التي كان يعمل لصالحها في ‪1512‬م أضطر للتقاعد القسري والتفرغ للكتابة‬
‫أدت أفكار ميكافيلي إلى إحداث انفصام حاسم مع الفلسفة السياسية الكاثوليكية في العصور الوسطى فقد كان أول مفكر مهم يصر على‬
‫إنشاء سلطة مركزية قوية وعلمانية بدالً من التراتيبيات اإلقطاعية المعقدة التي استمرت لقرون‪ ،‬كما أعاد في كتاباته تحديد نطاق‬
‫‪ .‬السياسة من خالل فصلها عن دالالتها األخالقية ‪ ،‬الدينية والقيمية‬
‫كما أن تعريف ميكافيلي للسياسة قد الغى فكرة الحكم المقدس أو الخطة المقدسة‪ .‬فمن خالل التخلص من رؤية العصور الوسطى‬
‫باعتباراتها األخروية ‪ ،‬ورفض التركيبة القروسطية وأفكار المصدر اإللهي للقانون والعدالة وضع ميكافيلي نظرية خالصة للسياسة‬
‫‪.‬مستندة على القوة وفضل أن يركز على االستيالء على القوة واالحتفاظ بها بغض النظر عن أخالقية الوسيلة‬
‫وخالل كتاباته لم يهتم ميكافيلي كثيراً باستخدامات القوة وبدالً من ذلك كان تركيزه على كيفية االستيالء على القوة والتمسك بها‪ .‬لذا‬
‫كانت القوة بالنسبة له غاية في حد ذاتها وال تحتاج إلى أية تبريرات ‪ ،‬كما أن القوة تحقق ما ال يمكن أن تحققه الثروة أو الشهرة ‪،‬‬
‫فالقوة تضمن فرصا ال نظير لها لتحقيق الذات ‪ ،‬والقوة تخلق مقدرة متعاظمة لمزيد من التوسع ولذلك فالقوة أساسية لتحقيق الطموح‬
‫اإلنساني ‪ .‬واعتقد ميكافيلي أن الطموح هو المسئول األول عن الخالفات المستمرة بين األفراد والدول وأن هناك نضال وخالف مستمر‬
‫في مجال سياسي مزدحم وفوضى دولية ‪ ،‬وفي هذا الوضع يصر ميكافيلي على أن الفرد البطل هو الوحيد القادر على إعادة النظام‬
‫‪ .‬والقضاء على الفوضى‬
‫وفي كتابه " األمير " األكثر شهره يحدد ميكافيلي المهام الجسام التي تواجه البطل ‪ ،‬فاألمير يجب أن ينشئ دولة جديدة وليس أقل من‬
‫ذلك ‪ ،‬بعد أن ثبت لديه عدم جدوى قيم الكنيسة فضال عن أن الظروف المتدهورة ال يمكن التغلب عليها إال من خالل عمل جبار بإرادة‬
‫سياسية‪ .‬لذا كان إنشاء دولة جديدة يمثل ضرورة حيوية ‪ ،‬إال أن ميكافيلي يعترف بأن " ليس هناك أصعب ‪ ،‬أو أكثر غموضا ً فيما‬
‫‪ .‬يتعلق بالنجاح ‪ ،‬أو أكثر خطورة للقيام به‪ ،‬من خلق نظام جديد لألشياء‬
‫لذلك أصر على ضرورة فصل السياسة عن األخالق ‪ ،‬والقيم والدين ‪ ،‬كما أكد على أنه ال ينبغي أن يقيد استخدام القوة من خالل القيم‬
‫السائدة ‪ ،‬بل أن طبيعة السياسة تتطلب في الغالب تجاهالً لكل ما يعتبر جيداً أو سيئاً‪ ،‬ألن األمير الذي يتقيد بالمبادئ األخالقية سيكون‬
‫في وضع سلبي جداً في النزاعات مع األمراء اآلخرون الذين سيتجاهلون االعتبارات األخالقية من أجل تحقيق طموحهم ‪ ،‬ولذا فإن‬
‫الظروف المتقلبة للحياة السياسية تتطلب من األمير أن يتخلى عن مبادئه إذا أراد الحفاظ على سلطته‪ .‬وعند القيام بالمهمة الحاسمة‬
‫‪ .‬إلنشاء دولة جديدة يجب على األمير أن يكون قادراً على التكيف مع الظروف المتغيرة التي ال يحكمها إي ق ّيم‬
‫باإلضافة إلى ذلك فإن األمير من خالل تكييف أفعاله مع الظروف السائدة يكون قادراً على توظيف إمكاناته إلى أقصى حد ممكن ‪،‬‬
‫ففرصة الدخول في مهمة بطولية يجب أن تغتنم وبقوة و إال فإن الحظ يمكن أن يخذل الحاكم الجبان‪ .‬ولذلك فعلى األمير أن يعتمد على‬
‫قدرته الخاصة كلما كان ذلك ممكنا ً وليس على الحظ ألن الحظ ال يمكن مقاومته ‪ .‬إن المشكلة الكبيرة التي تواجه إنشاء دولة جديدة ‪،‬‬
‫‪ .‬وضرورة التصرف أال أخالقي والحاجة إلى العمل الجريء والجسور تتجمع بطريقة ما لتوجب على األمير أن يكون مستعداً للقتال‬
‫ومن خالل االعتماد على كل المواد المتاحة لألمير فإن المهمة البطولية يمكن إنجازها‪ .‬كما أن أهمية إنشاء دولة جديدة تبرر الخطوات‬
‫‪ .‬الضرورية إلنجاز هذا الهدف وكل االعتبارات التي تمنع تحقيق ذلك يجب القضاء عليها‬
‫وقد ألهمت رؤية ميكافيلي هذه لألمير كمؤسس لدولة جديدة المفكرين الذين أتوا بعد ذلك من خالل النظر للدولة على أنها كيان مصطنع‬
‫‪ ،‬فبينما أكد ميكافيلي على إنشاء الدولة من خالل استخدام القوة ركز منظرو العقد االجتماعي على أهمية القبول والتراضي‪ .‬ومع ذلك‬
‫‪ .‬يظل واضحا ً اليوم أن الشئون الدولية يتم العامل معها بالطريقة التي كان ميكافيلي يحبذها‬
‫كذلك يمثل "أمير ميكافيلي" إعادة صياغة ألسطورة البطل السياسي هذه الصياغة الجديدة للبطل السياسي تجذب االنتباه إلى‬
‫استمرارية الفكر السياسي ‪ ،‬فمن الممكن أن نعود إلى الخلف من أمير ميكافيلي إلى أسطورة افالطون عن طبقة الجنود ثم إلى األمام‬
‫شرع باعتباره بطالً سياسيا ً ‪ ،‬وفوق كل ذلك فإن ميكافيلي كان يعبر عن الرغبة الجارفة إلنشاء عالما ً جديداً‬ ‫إلى روسو واستغاثته بالم ّ‬
‫وجيداً ‪ .‬ويرفض معظم المنظرين اليوم تجاهل ميكافيلي لألخالق لكنهم يشاركونه رغبته في تحسين أوضاع العالم‪.‬ـ ولسوء الحظ لم‬
‫يتمكن المنظرون المتأخرون من إقناع القادة السياسيين بأن الوسائل السليمة إلنجاز التغيير أكثر فعالية من الوسائل العنيفة التي حبذها‬
‫‪ .‬ميكافيلي في زمنه‬
‫خالصة‬
‫قدم ميكافيلي في بداية القرن السادس عشر ما أعتقد البعض أنه نقطة االهتمام الرئيس لعلم السياسة الحديث أي التركيز على القوة‪،‬‬
‫حيث كان كتابه الشهير "األمير" يدور حول الحصول على القوة السياسية واستخدامها‪ .‬وقد ع ّد بعض المفكرين ميكافيلي أول فيلسوف‬
‫‪ realist‬حديث ألن دوافعه وتفسيراته لم تكن مرتبطة بالدين بأي شكل‪ .‬ولم يكن ميكافيلي سيئاً‪ ،‬كما يرى البعض‪ ،‬بل كان واقعيا ً‬
‫يزعم أنه لكي يحصل "االمير" على أي شيء إيجابي – مثل توحيد إيطاليا وطرد األجانب الذين أفسدوها – فعليه أن يكون عقالنيا ً‬
‫‪.‬وقاسيا ً في ممارسة القوة‬
‫وبرغم أن هذا االقتراب لم يكن مستحسنا ً من قبل المفكرين السياسيين األمريكيين الذين تجنبوا في بعض األحيان "القوة" باعتبارها‬
‫تجذر في أوربا وأسهم في بروز التحليل النخبوي لموسكا وباريتو‪ ،‬ومايكل كما ت ّعرف األمريكيون بعد‬ ‫قذرة ابتداء‪ ،‬إال أن هذا االقتراب ّ‬
‫ذلك على اقتراب القوة من خالل أعمال عالم العالقات الدولية األلماني الذي هاجر إلى الواليات المتحدة هانز مورغنثو الذي أكد على أن‬
‫‪"".‬كل السياسة هي صراع من أجل القوة‬
‫التحول إلى النظرية السياسية الحديثة‬
‫هناك ثالث تغيرات كبيرة طبعت التحول من النظرية السياسية الكالسيكية والقروسطية إلى النظرية السياسية الحديثة‪ .‬أولها ‪ :‬بروز‬
‫الدولة كوحدة حديثة ‪ ،‬حيث تطورت الدولة كظاهرة زمنية ‪ ،‬علمانية مركزية ‪ ،‬قومية ‪ ،‬إقليمية لم تكن معروفة في األزمنة الماضية‪.‬‬
‫فخالل العصر الكالسيكي اإلغريقي والروماني كانت دولة المدينة واإلمبراطورية النموذجين المهيمنين في التنظيم السياسي ‪ ،‬أما فترة‬
‫القرون الوسطى فقد اتسمت بدرجة مفرطة من الالمركزية‪ .‬فعلى سبيل المثال كانت ألمانيا مقسمة إلى أكثر من ‪ 300‬مقاطعة ‪ ،‬هذا‬
‫‪ .‬التشتت أدى إلى نشوء نظام معقد من االلتزامات المتبادلة عرف باإلقطاع كنموذج مهيمن للتنظيم االجتماعي‬
‫كذلك أسهمت حركة اإلصالح الكنسي البروتستانتية في علمنة الدولة الحديثة‪ .‬ففي زمن حركة اإلصالح في القرن السادس عشر كانت‬
‫الكنيسة الكاثوليكية قد بدأت مرحلة التراجع كقوة زمنية ‪ ،‬وساهم قادة اإلصالح وعلى رأسهم مارتن لوثر وجون كالفن في القضاء‬
‫على الكاثوليكية العالمية في أوربا‪ ،‬كما أسهم نجاح مطالب حرية الرأي‪ ،‬تحرير العقل ‪ ،‬التسامح الديني ‪ ،‬والفصل بين الكنيسة والدولة‬
‫في فقدان الدولة الحديثة معظم إن لم يكن كل خصائصها الدينية‪ .‬وفضالً عن ذلك فإن التركيبة المسيحية للقرون الوسطى التي رأت‬
‫‪ .‬اتحاداً بين الكنيسة ( االعتبارات الدينية ) والدولة ( االعتبارات الدنيوية ) انهارت بفعل هذه التطورات‬
‫وبعكس التنظيمات السياسية الكالسيكية والقروسطية استندت الدولة الحديثة على شعور قوي بالقومية بين مواطنيها وإصرار على‬
‫حماية حدود الدولة ‪ .‬هذه العوامل معا ً أكدت أن الدولة القوية هي الوحدة السياسية األساسية للعالم الحديث وأن القومية هي أقوى‬
‫‪ .‬اإليديولوجيات السياسية ‪ ،‬أي أن دور القومية في العالم الحديث يماثل دور الدين في العصور الوسطى‬
‫أما التغير الكبير الثاني فيتمثل في المواقف الجديدة تجاه دور اإلله ودور اإلنسان في الحياة اليومية‪ .‬فمع ازدياد مناصري الطريقة‬
‫العلمية تعرض دور ما وراء الطبيعة إلى تغييرات كبيرة ‪ ،‬فلم يعد يعتد بالمعجزات وتم البحث عن تفسيرات طبيعية ألحداث الحياة‬
‫اليومية ‪ ،‬وحل العقل محل اإليمان كأداة الكتشاف الحقيقة‪ .‬ولذلك بينما كان عالم العصور الوسطى غيبيا ً ومهتما ً بالخالص كان اهتمام‬
‫‪ .‬العالم الحديث بالمكان واللحظة‬
‫ولم يكن غريبا ً أيضا ً أن يرفض العصر الحديث فكرة النظام المكتشف عقليا ‪ ،‬الموضوعي‪ ،‬األخالقي‪ ،‬فاألفراد المبدعون يستطيعون‬
‫ً‬
‫صياغة قيم جديدة ومؤسسات جديدة أيضاً‪ .‬وفقد مفهوم القانون الطبيعي محتواه الديني واصبح محصوراً بشكل أكبر في حالة الفطرة ‪،‬‬
‫أي القانون ‪ Positive Low‬وهي الحالة التي لم يكن فيها مؤسسات اجتماعية‪ .‬أما في المجتمع المدني فقد أصبح القانون الوضعي‬
‫الذي يضعه اإلنسان موضوعا ً للبحث والدراسة‪ .‬إال أن فقدان المعيار العالمي للق ّيم أدى إلى نشوب الخالف بين التعريفات المتنافسة‬
‫للخير والشر ‪ ،‬والحق والباطل والحقيقة والكذب‪ .‬ولذا فإن ظهور األيديولوجيات ذات األنساق الق ّيمية المختلفة يمكن إرجاعه بشكل‬
‫‪ .‬مباشر إلى انهيار اإليمان في معيار عالمي للق ّيم‬
‫وحلت األيديولوجيات ‪ ،‬كمعتقد دنيوي ( علماني ) مكان اإليمان المقدس للعصور الوسطى‪ .‬ولذا فقد شغلت الليبرالية ‪ ،‬المحافظة ‪،‬‬
‫الرأسمالية ‪ ،‬االشتراكية ‪ ،‬والشيوعية العقل الحديث بنفس الطريقة التي شغلت فيها االعتبارات الدينية اهتمام اوغسطين واالكويني‬
‫خالل العصور الوسطى‪ .‬وهذه اإليديولوجيات برغم أنها تطمح للعالمية إال أنها تعريفات محدودة لطريق المجتمع الصالح والعادل‪.‬‬
‫‪.‬ونظراً ألن العقل ال يستطيع أن يوفق بين االختالفات فقد بقي العالم الحديث مسرعا ً للصراعات األيديولوجية‬
‫أما التغير الكبير الثالث فتمثل في االهتمام الجديد بتقييد القوة السياسية‪ .‬فقد كان هناك تحوالً هاما ً من تبرير القوة المطلقة إلى تبرير‬
‫القيود على ممارسة القوة‪ .‬فكل منظرو العقد اإلجتماعي توماس هوبر ‪ ،‬جون لوك ‪ ،‬جان روسو ‪ ،‬بارون مونتسكيو وضعوا الحقوق‬
‫الطبيعية مالزمة للقانون الطبيعي‪ .‬وتضمنت فكرة الحقوق الطبيعية حكومة ذات قوة مقيدة وليست مطلقة‪ .‬فضالً عن ذلك نظر إلى‬
‫الحقوق على أنها سابقة للواجبات السياسية‪ .‬ونتيجة لذلك تم التأكيد على الحقوق وليس الواجبات‪ .‬وتفترض النظرية السياسية‬
‫الديمقراطية الليبرالية الحديثة أن الشعب هو المصدر الوحيد للشرعية السياسية وليس الملك أو الطبقة المميزة أو الكنيسة‪ ،‬وأن‬
‫الحكومات أنشئت لهدف محدد هو حماية الحقوق الطبيعية لألفراد وتعزيزها‪ ،‬وأنه إذا ما تعرضت حقوق الناس للتهديد أو االنتهاك فإن‬
‫‪ .‬لهم الحق في الثورة وهذا ما أكده إعالن كال من الثورتين األمريكية والفرنسية‬
‫ونظراً ألن إساءة استخدام السلطة كانت أمراً شائعا ً فقد طور المنظرون السياسيون المعاصرون عددا من اآلليات الهادفة إلى التحكم في‬
‫ً‬
‫ممارسة القوة السياسة‪ .‬ويعتبر كال من الدستور المكتوب‪ ،‬الئحة الحقوق ‪ ،‬المجلسين التشريعيين ‪ ،‬فصل السلطات ‪ ،‬المراقبة والتوازن‬
‫‪ ،‬الفيدرالية ‪ ،‬المراجعة القضائية من بين األدوات المستخدمة في الدول الديمقراطية لتقييد استخدام القوة السياسية‪ .‬وبرغم أن كل تلك‬
‫‪ .‬األدوات كانت غير مهمة في العصور القديمة والوسطى إال أنه ال يمكن تصور ديمقراطية حديثة بدونها‬
‫‪:‬نظريات العقد االجتماعي‬
‫جاء ك ّت اب العقد االجتماعي هوبز‪ ،‬لوك‪ ،‬روسو‪" ،‬العقديون"‪ ،‬بعد ميكافيلي بفترة ليست الطويلة‪ ،‬ليبرروا لماذا ينبغي أن تتواجد النظم‬
‫السياسية‪ .‬ومع أنهم اختلفوا حول عدد من النقاط إال أنهم اتفقوا على أن البشر على األقل من حيث المبدأ قد انضموا معا ً ليكونوا ما‬
‫‪.‬سماه روسو "عقداً اجتماعياً" يجب على كل فرد أن يلتزم به‬
‫توماس هوبز وتبرير الحكم المطلق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تبنى توماس هوبز ( ‪ )1679-1588‬مفهوم ميكافيلي عن الطبيعة اإلنسانية وجعله جزءا مركزيا لفلسفته السياسة‪ .‬فاإلنسان بالنسبة‬
‫لهوبز كما هو الحال لميكافيلي كان حيوانا ً شهوانيا ً ‪ ،‬ومع أن موضوعات تلك الشهوة يمكن أن تختلف إال أن الشهوات التي تدفع‬
‫‪ .‬األفراد للعمل متشابهة إن لم تكن متطابقة‬
‫وكما يشير هوبز فإن هناك نزعة عامة لدى كل البشر وهي رغبة دائمة ومتعطشة للقوة والسيطرة ال تنتهي إال بالموت‪ .‬وإن السبب‬
‫وراء ذلك ليس في أن اإلنسان يأمل دائما ً في مزيد من السعادة مما لديه أو أنه ال يقتنع بمقدار معتدل من القوة والسلطة وإنما ألنه ال‬
‫‪ .‬يضمن القوة ووسائل العيش بسعادة بدون الحصول على مزيد من القوة (‪)7‬‬
‫عاصر هوبز ويالت الحرب األهلية اإلنجليزية في القرن السابع عشر وعارض تلك الحرب ألنها بنظرة تخيف األفراد وتجعلهم ال‬
‫يشعرون باألمن‪ .‬وتخيل هوبز أن الحياة في حالة الفطرة ‪ -‬أي قبل ت ّكون المجتمع المتحضر‪ -‬كانت سيئة‪ ،‬وأنه خالل تلك المرحلة كان‬
‫كل فرد عدو لكل فرد آخر "حرب الجميع ضد الجميع"‪ .‬ففي حالة الفطرة ما قبل السياسية هذه حيث لم يكن هناك سلطة قوية تتحكم في‬
‫‪ :‬شهوات األفراد المنفلتة تصبح الحرب هي الوسيلة لكل فرد ضد كل األفراد اآلخرين وفي مثل هذه الحالة‬
‫ال يكون هناك مجاالً للصناعة ألن نتاجها غير مؤكد وتبعا ً لذلك ال يوجد حضارة على األرض ‪ ،‬ال مالحة ‪ ،‬ال مساكن مالئمة ‪ ،‬ال وسائل‬
‫للحركة ‪ ،‬ال معرفة بما على األرض ‪ ،‬ال قيمة للوقت ‪ ،‬ال فنون ‪ ،‬ال آداب ‪ ،‬ال مجتمع ‪ ،‬واألسوأ من ذلك كله خوف مستمر وخطر الموت‬
‫‪ .‬العنيف كما أن حياة اإلنسان متقشفة ‪ ،‬فقيرة ‪ ،‬قذرة ‪ ،‬فظة ومقيدة ‪) 8( .‬‬
‫هذه الظروف المريعة كما اعتقد هوبز يمكن استنتاجها من الظروف التي شهدتها بالفعل بريطانيا أثناء الحروب األهلية‪ .‬فإذا كانت‬
‫السيادة الضعيفة تعنى نزاع مدني فإنه ‪ ،‬يتبع منطقيا‪ ً،‬ال يمكن السماح بسيادة الفوضى أو حرب الكل ضد الكل‪ .‬كذلك فالعالقات بين‬
‫األمم المتنافسة تقدم شاهداً قويا ً لحالة النظرة المليئة بالخوف‪ .‬وأشار هوبز إلى أن الملوك وأفراد السلطة ذات السيادة ‪ ،‬نظراً‬
‫الستقالليتهم ‪ ،‬يعيشون في غيِرة مستمرة وفي حالة من المجالدة حتى الموت‪ .‬باإلضافة إلى ذلك ال يمكن في حالة الفطرة أن يكون‬
‫هناك أي دور لألخالق كوسيلة لتجنب الفوضى ‪ ،‬فاألخالق بالنسبة لهوبز مصطنعة وال توجد إال في مجتمع مدني‪ .‬وللخالص من‬
‫‪ .‬فوضى حياة الفطرة وإنشاء معيار مشترك للقيم يجتمع األفراد معا ً لتشكيل عقد اجتماعي‬
‫وتكمن الصعوبة بالنسبة لهوبز في إيجاد طريقة لألفراد الشهوانيين لتشكيل مجتمع مدني‪ ،‬فهوبز لم يكن متأكداً من أن مجتمع مدني‬
‫قائم على الرضا أمر محتوم‪ .‬فاللغة التي يستخدمها هوبز تشير بوضوح إلى أن الناس يمكن أن يتعايشوا في مجتمع مدني ليس رغبة‬
‫في السالم ولكن من أجل أسباب أكثر أنانية‪ .‬فالدوافع التي تقنع الرجال بالسالم هي الخوف من الموت ‪ ،‬ومثل تلك الدوافع ضرورية‬
‫لحياة مالئمة يؤمل التوصل إليها بجهودهم‪ .‬ويرى هوبز أن العقل سيضع بنوداً مالئمة للسالم الذي من خالله يمكن دفع الرجال لالتفاق‬
‫‪)9(..‬‬
‫ويؤكد هوبز على أن الحاكم السيد يختار من قبل العقد االجتماعي لكنه ليس طرفا ً في ذلك العقد‪ .‬ويكون هدف الحاكم إنشاء معيار‬
‫مشترك يحدد الصواب والخطأ‪ .‬وأصر هوبز على أنه لكي يتم تحقيق هذه المهام فإن سلطة الحاكم يجب أن تكون مطلقة ‪ ،‬وليس هناك‬
‫في كتاباته أدنى إشارة لحكومة مقيدة ‪ ،‬أو مسئولة أو محاسبة‪ .‬والعقد االجتماعي بنظره يجب أن ينتج عن حكومة قوية إذا أرادت‬
‫‪ .‬التخلص من الخوف الناجم عن الشهرة ‪ ،‬فضالً عن ذلك فإن الحاكم القوي هو فقط الذي يضمن عوائد جذابة للمذعنين‬
‫وعلى الجانب اآلخر فإن الضبط السياسي الذي يفوض حاكما ً قويا ً يمكن النظر إليه كمحاولة مدروسة للسيطرة على الطبيعة اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ .‬فهوبز يرى أن فوضى حالة الفطرة هي إمكانية حاضرة دائما ً‬
‫إن السعادة في هذه الدنيا هي تطور مستمر للشهوة من هدف إلى آخر وأن الحصول على الهدف األول ال يكفي وإنما يمهد الطريق‬
‫لآلخر ‪ ،‬والسبب في ذلك أن هدف شهوة اإلنسان ليس االستمتاع مرة واحدة فقط وللحظة زمنية واحدة ولكن ليضمن دائما ً طريق‬
‫شهوته المستقبلية ‪10.‬‬
‫وللخروج من هذا العذاب والشقاء فإن الناس‪ ،‬بزعم هوبز‪ ،‬ومن أجل مصالحهم الذاتية قد انتظموا مع بعضهم بطريقة عقالنية إلنشاء‬
‫المجتمع المدني أو المتحضر‪ .‬ولذا فقد ظهر المجتمع المتحضر بشكل طبيعي نتيجة للخوف‪ .‬وأفترض هوبز أن الناس أيضا ً سيخضعون‬
‫وبسرور للملك‪ ،‬حتى لو كان ملكا ً سيئا ً‪ ،‬وذلك ألن الملكية تمنع الفوضى‪ .‬ونالحظ هنا كيف أن نظرية هوبز بأن المجتمع يستند على‬
‫مصالح ذاتية عقالنية تتناقض مع نظرية أرسطو بأن البشر كانوا حيوانات سياسية منذ والدتهم‪ ،‬فأية نظرية هي الصحيحة؟ (تلميح ‪:‬‬
‫هل عاش البشر كحيوانات منعزلة عن بعضها؟) ولكن أيضا ً نالحظ أن الحاالت التي تحدث عنها هوبز تظهر من وقت آلخر كما هو‬
‫‪.‬الحال في الصومال منذ بداية التسعينات‬
‫جون لوك والحكومة المقيدة‬
‫برغم أن فترة حياة جون لوك ( ‪ )1704-1632‬تداخلت مع حياة توماس هوبز إال أن فلسفتهما السياسية كانت مختلفة بوضوح‪.‬‬
‫فبينما أكد هوبز على ضرورة الحكومة المطلقة للسيطرة على الطبيعة اإلنسانية رأى لوك ضرورة أن يقتصر دور الحكومة على حماية‬
‫الحقوق الشخصية الطبيعية ‪ ،‬بل إن هذا التأكيد على الحقوق م ّثل خاصية أساسية لكتابات جون لوك‪ .‬فمن وجهة نظره يعتبر البشر‬
‫‪ .‬أخالقيين حتى في حالة الفطرة ‪ ،‬ولذا فإن الدولة التي أنشئت من قبل أفراد ما قبل المجتمع السياسي كانت ال بد مؤسسة أخالقية‬
‫وتستند نظرة جون لوك للبشر ككائنات أخالقية على افتراضات عن الطبيعة البشرية مختلفة جداً عن افتراضات هوبز‪ .‬فبرغم أن كالً‬
‫من هوبز ولوك قد أصرا على أن األفراد في حالة من المساواة في حالة الفطرة زعم لوك أن هذه المساواة كانت مساواة أخالقية‬
‫وليست فقط مساواة طبيعية في القوة أو الذكاء‪ .‬فاألفراد ولدوا أحراراً ومستقلون في حالة الفطرة‪ .‬وأكد لوك على أن "الحرية التي‬
‫تمتع بها اإلنسان وحرية العمل وفقا ً لمشيئته تنطلق من كونه كائنا ً عاقالً يستطيع من خالل عقله أن يهتدي إلى القانون الذي يحكم‬
‫‪ .‬نفسه" ‪11‬‬
‫وليس مستغربا ً إذاً أال تحتوي حالة الفطرة لدى لوك أي من المخاطر التي تحدث عنها هوبز‪ .‬ألن لحالة الفطرة ‪ ،‬يزعم لوك ‪ ،‬قانون‬
‫فطري طبيعي يحكمها ويخضع له الجميع ‪ ،‬فضالً عن عقل يعلّم كل البشر بأنهم جميعا ً متساوون ومستقلون ولذا ال ينبغي ألحد أن‬
‫يؤذي آخر في حياته ‪ ،‬صحته ‪ ،‬حريته ‪ ،‬أو أمالكه‪ 12 .‬وبالمقارنة مع حالة الفطرة لدى هوبز فإن حالة الفطرة عند لوك تتضمن عدداً‬
‫‪ .‬من المفاهيم الموجودة في أي مجتمع مدني ( القانون ‪ ،‬الحقوق ‪ ،‬الواجبات ‪ ،‬االلتزامات والملكية )‬
‫ويعتبر الزعم بوجود الملكية في حالة الفطرة حاسما ً في فهم فلسفة لوك‪ .‬وقد برر لوك وجود الملكية في حالة الفطرة من خالل نظرية‬
‫العمل في الملكية حيث أكد على أنه برغم أن األرض وجميع المخلوقات األخرى عليها مشاعة لكل الناس إال أن لكل إنسان ملكيته‬
‫الخاصة به التي ليس ألحد آخر سواه حق فيها ‪ ،‬وإن كل ما يستخلصه من الطبيعة أو يضيفه إليها من خالل عمله بجسده ويديه يجعلها‬
‫‪ .‬من حقه أو ملكه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ولذا فقد طور لوك في حالة الفطرة حجة قوية ليس للدفاع عن الملكية الفردية الخاصة فقط وإنما أيضا التزاما باحترام ما ينتجه‬
‫اآلخرون من خالل العمل‪ .‬وباستثناء حاالت محدودة غير مريحة فإنه لم يكن هناك من سبب يدفع األفراد للتخلي عن حالة الفطرة‪ .‬أما‬
‫الحالة الغير مريحة األكثر أهمية والمكون األساسي المفقود في حالة الفطرة فتتمثل في غياب سلطة معترف بها ومحايدة‪ .‬مما جعل‬
‫الناس غير قادرين على المحافظة على ملكيتهم حيث لم يكن هناك نقود‪ ،‬أو صكوك تملك‪ ،‬أو محاكم قانونية‪ ،‬ولذلك كانت ملكيتهم‬
‫مهددة وغير مؤكدة‪ .‬وألن البشر ‪ ،‬بنظر لوك‪ ،‬عقالنيون ويحبون أنفسهم ومصالحهم فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى النزاع بين األفراد ‪،‬‬
‫‪.‬في الوقت الذي ال يوجد فيه سلطة معترف بها لتحكيم خالفاتهم‪ ،‬ولتصحيح هذا الوضع غير المالئم أبرم األفراد العقد االجتماعي‬
‫ومع ذلك فإن العقد االجتماعي لدى لوك مختلفا ً جداً عن عقد هوبز االجتماعي فبالنسبة لعقد لوك هناك مرحلتان ‪ ،‬في المرحلة األولى‬
‫يتفق األفراد على إنشاء مجتمع وليس حكومة ‪ ،‬أما في المرحلة الثانية فيتفق المجتمع على تشكيل الحكومة‪ .‬وهذا االتفاق هو الذي‬
‫يعطي المجتمع المدني شخصيته األخالقية ويخلق التزاما ً بإتباع قرارات األغلبية‪ .‬لكن ال يمكن لألغلبية أن تنتهك حقوق الملكية ألن "‬
‫الغاية العظيمة والرئيسة من اجتماع الناس في اتحاد وخضوعهم لحكومة هي الحفاظ على ممتلكاتهم‪13.‬‬
‫ولذا فقد أنشأ عقد لوك حكومة مقيدة ‪ ،‬حيث أستمر القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية والتي من بينها حق الملكية في المجتمع المدني‬
‫ووضعت قيوداً على سلطة الحكومة‪ .‬ويحافظ المجتمع المدني على شرعيته فقط طالما حافظ على الحقوق ودعمها والتي تعتبر حقوقا ً‬
‫سابقة على المجتمع نفسه ‪ .‬ووفقا للعقد يجب على المجتمع السياسي أال يخالف األسباب التي أدت إلى نشوئه وهي حماية الحقوق‬
‫‪ .‬الطبيعية ‪ ،‬ولذا كانت القوة المشروعة للمجتمع السياسي تقتصر على ضمان السالم واألمن والصالح العام للناس‬
‫وإذا ما أساءت الحكومة استخدام سلطتها فينبغي إعادة تلك الصالحيات إلى المجتمع ‪ ،‬ومن خالل إعادة السلطة إلى المجتمع تالفى لوك‬
‫العودة إلى حالة الفطرة الهوبزية ‪ .‬فالمجتمع ليس جماهير غير منظمة من األفراد بل إنه كيانا ً قادراً على تشكيل حكومة أخرى‪ .‬وعندما‬
‫‪ :‬تقدم الحكومة على انتهاك تلك الحقوق بشكل صارخ يقول لوك‬
‫عندئذ تكون قد هدمت األساس الذي استندت إليه وانحرفت عن هدفها الذي تعهدت ببلوغه‪...........‬ـ ولهذا فإن البشر يتنازلون‬
‫للحكومة عن سلطات محدودة فقط وأن أحد حدود تلك السلطات هو أن السلطة العليا ال تستطيع أن تنتزع أي جزء من ملكية أي فرد‬
‫بدون موافقته‪ .‬وهكذا فإنه حالما تقوم األكثرية بإقرار االتفاق أو إشتراع الدستور للحكومة فإنه ينبغي لتلك الحكومة أال تتجاوز‬
‫سلطاتها المحددة سنوياً‪ .‬أما إذا تجاوز أي موظف أو حكومة القانون وسلك سلوكا ً غير مشروع وقام بخرق الحقوق الطبيعية للناس‬
‫بطريقة أو بأخرى‪........‬ـ فعندئذ يتوجب على الناس مقاومته ‪14.‬‬
‫جان روسو واإلرادة العامة‬
‫أما جان روسو فقد عاش في فرنسا القرن الثامن عشر ويقول البعض بأنه قد وضع األسس الفلسفية للثورة الفرنسية‪ .‬تقبل روسو‬
‫نظريات هوبز ولوك لكنه عدل بعضا ً من أفكارها‪ .‬فالحياة في حالة الفطرة بالنسبة له كانت سعيدة جداً‪ ،‬وعاش الناس في بدائية نبيلة‬
‫بدون تصنع أو غيِره‪ .‬وأن الذي أفسد البشر ‪ ،‬كما قال روسو‪ ،‬هو المجتمع نفسه‪ .‬ولذا ض ّمن بداية كتابة "العقد االجتماعي" عبارة‬
‫‪".‬شهيرة تقول "أن اإلنسان ولد حراً لكنه أصبح مقيداً في كل مكان‬
‫ومع ذلك زعم روسو بأنه يمكن تحسين المجتمع بشكل جذري مما يؤدي إلى الحرية اإلنسانية‪ .‬فالمجتمع العادل بنظره سيكون مجتمعا ً‬
‫اختياريا ً له مشيئة خاصة به هي "اإلرادة العامة"‪ .‬أي أن إرادة الجميع ستكون مقدمة على اإلرادات الخاصة لألفراد وجماعات‬
‫المصالح‪ .‬وفي مثل تلك التجمعات يكتسب البشر الكرامة والحرية‪ ،‬أي أن المجتمعات هي التي تصنع الناس وليس العكس‪ .‬فإذا كان‬
‫الناس سيئون فذلك ألن المجتمع هو الذي جعلهم كذلك‪ .‬ومن جهة أخرى فإن المجتمع الصالح يستطيع أن يصلح الناس عندما يسيئون‬
‫ً‪.‬التصرف ليكونوا أحرارا‬
‫وقد أحدث الفكر السياسي لجان روسو ( ‪ )1778-1712‬انقساما ً جليا ً في الفلسفة السياسية الحديثة‪ ،‬فعلى أحد الجانبين يقف عصر‬
‫التنوير بتأكيده على العقل بينما يقف على الجانب اآلخر العصر الرومانسي الذي يؤكد على الشعور والعاطفة‪ .‬وقد ساهمت أفكار روسو‬
‫في أفول عصر التنوير وبروز العصر الرومانسي ‪ ،‬حيث تمثل روسو الرومانسية التي تعتبر المشاعر أداة الكتشاف الحقيقة الكبرى‬
‫حول الطبيعة البشرية والمجتمع السياسي بدالً من العقل ‪ .‬فالمشاعر بالنسبة له ليست فقط الشهوات القاسية الالعقالنية التي زعم‬
‫هوبز أنه البد من كبتها وإنما هي العواطف العضوية التي تدفع األفراد لفعل الخير‪ ،‬بل إن روسو نفسه قد مر بتجربة قوية من االنفجار‬
‫‪.‬العاطفي‬
‫ً‬
‫كانت هذه المشاعر موجهة نحو تناقضات النظام االجتماعي وانحراف مؤسساته من جهة وتأكيدا على الطبيعة الصالحة لإلنسان التي‬
‫لم يفسدها إال تلك المؤسسات ‪ .‬وشحنت مثل هذه المشاعر روسو برغبة عاطفية كبيرة لتحسين الظروف اإلنسانية‪ .‬بل إن معظم كتاباته‬
‫كانت تمثل دفعة أخالقية تنبع من اقتناع ديني‪ .‬فقد شغل البحث عن الحقيقة والحرية والفضيلة روسو بنفس الطريقة التي شغل فيها‬
‫‪ .‬البحث عن الخالص مفكري العصور الوسطى‬
‫وفي هذه المهمة اعترف روسو أيضا ً بأن المجتمع المدني ال بد أن يقوم على العاطفة والعقل معاً‪ .‬وتعكس كتاباته محاولة إليجاد قاعدة‬
‫عاطفية للمجتمع السياسي ‪ ،‬حيث اعتقد بأن األساس العقالني الذي اقترحه لوك غير كافيا ً ‪ .‬فلوك كان عقالنيا ً أكثر مما ينبغي ولم يبال‬
‫بالعاطفة ‪ ،‬والمجتمع المدني يمثل بحثا ً عن شعور بالوحدة وليس مجرد أداة لحماية حقوق الملكية‪ .‬وبينما أكد لوك على الصفة‬
‫المحدودة للمجتمع السياسي أصر روسو على التزام غير محدود تقريبا ً من قبل األفراد بإنشاء جماعة سياسية تقوم بدورها بإنشاء‬
‫‪.‬اإلرادة العامة‬
‫ونظراً ألن روسو كان مهتما ً جداً بموضوع إنشاء جماعة سياسية فلم يكن لديه الكثير ليقوله عن حالة الفطرة ‪ ،‬ومع ذلك فإن ما قاله‬
‫يعتبر حاسما ً في فهم المجتمع المدني الذي صاغه‪ .‬فاألفراد في حالة الفطرة بنظره كانوا في وضع شبيه لوضع آدم قبل الخروج من‬
‫اللجنة‪ ،‬وضع عزله ‪ ،‬براءة ‪ ،‬حدس بدون أخالق أو عقل‪ .‬والحديث عن الطبيعة اإلنسانية في هذا الوضع غير مالئم فاإلمكانية هناك‬
‫لكن المؤسسات االجتماعية هي التي تطور تلك اإلمكانية‪ .‬ومن المحزن بالنسبة لروسو أن المؤسسات االجتماعية غالبا ً ما كانت فاسدة‬
‫‪.‬لكنها مع ذلك هي األداة الوحيدة القادرة على تحويل الطبيعة اإلنسانية‬
‫وبخالف هوبز أكد روسو على أن اإلنسان صالح في طبيعته وأن الشر هو من عمل المجتمع إال أن المجتمع برغم كل ذلك كان ضروريا ً‬
‫بالنسبة للفرد ولذا فإن مهمتنا األساسية هي أن نعيد بناءه بطريقة فعاله ونحوله من مجتمع فاسد إلى مجتمع نبيل‪ .‬ولذلك ال يتفق‬
‫‪.‬روسو مع هوبز في أن البشر قد سلّموا مختارين بالخضوع لدولة مطلقة‬

You might also like