Professional Documents
Culture Documents
مشاهد من المقاصد PDF
مشاهد من المقاصد PDF
مشاهد من المقاصد PDF
من المقاصد
الحقوق
تأليف :عبدهللا بن الشيخ املحفوظ بن بيه
الطبعة الخامسة2018 :
-الترقيم الدولي978 9948 18 348 8 :
-الهاتف+971505957039 :
-الفاكس+97124412054 :
-اإليميلResearches@almuwatta.com :
-الفئة العمريةE :
-تم اإلذن بالطباعة من طرف املجلس الوطني لإلعالم
بدولة اإلمارات العربية املتحدة
مدخل 15....................................................
المشهد األول :تعريف المقاصد 25 ..........................
• تعريف المقاصد لغة 27 ................................
اصطالحا 31 ...........................ً • تعريف المقاصد
• مستويات المقاصد 47 ...................................
• خالصة تعريف مقاصد الشريعة 51 .....................
المشهد الثاين :مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد وبها 53 ...
• المقاصد عند الصحابة والتابعين 55 ....................
• المقاصد عند أئمة المذاهب 60 ..........................
• تعريف العقل عند الغربيين 71 ...........................
• العقل يف الشريعة اإلسالمية 75 .........................
• هل للعقل حدود؟ 76 ...................................
المشهد الثالث :موازنات المقاصد 91 .......................
• القضية األولى :المصلحة بين العقل والنقل93 .......... .
ِ
معقوليــــــــــة المعنَى بين ِ
الشـــــــريعة َ ُ
دوران • القضية الثانية:
والتعبد106 ................................................. : ُّ
• القضية الثالثة :التجاذب بين الكــلي والجزئي117 ..... :
المشهد الرابع :أصناف المقاصد 125 .......................
األول :شعب المقاصد 127..................... • التقسيم َّ
• التقسيم الثاين :الكلية -العامة -الخــــــاصة 128 ........
• تقسيم الشاطبي :األصلية والتبعية 129 .................
• مناقشة تقسيم الشاطبي 135 ............................
• أصناف أخرى من المقاصد 137 ........................
• تقسيـــم األصوليين :الضروري -الحاجي -التحسيني ..
141.......................................................
• المقاصــد الكبـرى 148..................................
• أولاً :معيــــار االنتماء إلى المقصد الضروري154...... :
• ثان ًيا :تذبذب االنتـــــماء لبعض القضايا بين الضـــــروري
والحاجي 155 ............................................
المشهد الخامس :استنباط المقاصــــد واستخراجها 165 ......
• جهات استنباط المقصد لدى الشاظبي 167 .............
• استنباط المقاصد عند ابن عاشور 177 ....................
• مقصد الرتك 183 ...................................... :
• طـرق التعرف على المقاصد عند ابن عاشور 225........
المشهد السادس :االستنجاد بالمقاصد واسثمارها243 .........
• تصرف المجتهدين 245..................................
ُ
مداركها 249.......................... المقاص ِد و
ِ • مناحى
• خالصة القول 287.......................................
• ضوابط التعامل مع المقاصد 288........................
• مجاالت االستنجاد بالمقاصد 294......................
خاتمة 321.....................................................
مشاهد من المقاصد
مدخل
قاص ِد ُيعتربُ ُم َك ِّملاً إن هذا الكتاب الذي نُخصصه للم ِ
َ ِّ ُ َ َّ
الفات» -الذي ِ االختِ
الالت و َمجالي ْ ِ لكِتَابِي « َأمالِي الدَّ
ِ باح ِ
األول لم ِ
الالت األلفاظ، ث َد َ َ ���ز َءه صصت ُج ْ ُ َخ
ِ
الكتاب الالت المعاين -وأص ُ��ل هذا ِ والجز َء الثاين ل��دَ ُ
مركز ِدراسات ُ الو ِج ِيز ُمحاضر ٌة بمك َة المكرمة َن َّظمها َ
الشريعة اإلسالم ّية ،وقد أردن��اه ورق�� ًة تعريفي ًة ِ ِ
مقاصد َّ
والر ِ بالج ِ ف هذا االسم ِ
سم، نس وال َفص ِل َّ َ عر ُ للمقاصدُ ،ت ِّ
ِ ِ رسم َمسير َة َتش ُّك ِل
االستكشاف َ
وتاريخ المقاصد، و َت ُ
واالستشفاف ،ال��ذي كان ُمنطل ُقه دع��و ًة رباني ًة قرآني ًة ِ
التفكير والتد ُب ِر ِ ِ الم ِ ِ
اإلنسان يف ركب يف إلعمال العق ِل ُ
ِ
ودالالت الخ ْل ِق
��ات َ ��رق النَّظر( )1يف آي ِ وتنبيهه على ُط ِ
1ـ النظر هو :الفكر والت�أمل واالعتبار واملقاي�سة ور ّد ما غاب عن احل�س �إىل ما وجد
العلم به فيه؛ ال�ستوائهما يف املعنى ،واجتماعهما يف العلة�( .أبو احل�سن الأ�شعري).
15
كتاب
ُ ُ
فالكون واألم��ر ِصنوين، ِ ِ
الخلق ِ
باعتبار ِ
األم��ر؛
كل منهما المسطورُ ،يصدِّ ُق ٌُّ
ُ واألمر كتا ُبه
المنشور ،خۡ ُ
َ ُ اهلل
َ ۡ
ٱلل َر ُّب ٱل َعٰلم َار َك هَّ ُ َ أۡ
ٱلل ُق َوٱل ۡم ُر ۗ َت َب َ ۡ هَ اَ
اآلخر }أل ُل َ
ني{ ِ َ
يعة ّم َِن أۡٱلَمرۡ ع رَش َ ُ َّ َ َ ۡ َ َ ٰلَىَ
(األع��راف} .)54:ثم جعلنٰك
ِ ِ ٖ
َ َّ
فٱتب ِ ۡع َها{ (الجاثية.)18:
طلب شرعيُ ،فهم من القرآن البحث عن المقاصد َم ٌ َ َّ
إن
صريح ،وثانيهما بالتلميح ٌ الكريم يف سياقين :أو ُلهما
من خالل تضافر نصوص التعليل يف مقامات اإليجاب
والتحريم والتحليل:
فالسياق األول :دعو ٌة إلى التد ُّب ِر والتف ُّكر يف آيات الكون
وهي دعو ٌة إلى اكتناه أسرار الخلق وحكم وآيات الوحيِ ،
األمر « َأال َل ُه ا ْل َخ ْل ُق َوالأْ َ ْم ُر».
ِ
الحكمة، وإبراز
ُ تعليل األحكا ِم،ُ أما السياق الثاين :فهو
والمصلحة يف نصوص القرآن الكريم ،وهو تنبي ٌه على ِ
لألمة على البحث عنها كما أب��رزه ِ المقاصد ،وتربي ٌة
األصوليون يف كتاب القياس.
ِ
الخلق الحكمة مِن
ِ ِ
النظر يف يف السياق األول الدعو ُة إلى
واألمر.
16
َ
وأرسل ٍ
بالغة، ٍ
لحكمة البارئ جل وعال خلق خل َقه َ َّ
إن
حۡ َ ّ لَىَ ۡ َۡ ُ ٍ ٍ
دامغة } بَل نقذِف بِٱل ِق ع بحجة إليهم رس َله
ُ َ َ ُ َ ۡ
ٱل َبٰ ِط ِل ف َي ۡد َمغ ُهۥ فإِذا ه َو َزاه ِٞق ۚ{ (األنبياءَ } ،)18:و َما
َ َ ۡ َ َّ َ ٓ َ َ أۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ َ اٗ
خلقنا ٱلسماء وٱلۡرض وما بينهما ب ٰ ِطل ۚ{ (ص،)27:
ّ َ حۡ َ أۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ ٓ اَّ } َما َخلَ ۡق َنا َّ َ َ
ت وٱلۡرض وما بينهما إِل بِٱل ِق{ ٱلسمٰو ٰ ِ
والتدبر يف وحيه ِ بالتفكر يف ِ
خلقه ِ (األحقاف .)3:وأمر
َّ َ َ َ أۡ َ ُ َ َ ْ َََۡ َ ُ
ۡرض ت وٱل ِ ٰ
وت ٱلسمو ِ ٰ وأمره قال}:أولم ينظروا يِف ملك ِ ُ ِ
ٱق رَ َ يَ ۡ َ َ ۡ َ ىَ ٰٓ َ َ ُ َ َ ۡ َو َما َخلَ َق هَّ ُ
ت َب ٱلل مِن شءٖ وأن عس أن يكون ق ِد
َۡ َُ ُۡ ُ َ َ ّ َ َ ُُ ۡ َ َ
(األعراف،)185: َ أۡ َ ِيث بعدهۥ يؤمِنون{ أجلهمۖ فبِأ ِي حد ِۢ
َ َ َ ۡ َ َّ ََ
ۡرض ت وٱل ِ وقال تعالىَ } :و َيتفك ُرون يِف خل ِق ٱلسمٰو ٰ ِ
َّ
َ َّ َ َ َ َ ۡ َ َ َ
ت هٰذا َب ٰ ِطل{ (آل عمران ،)191:وقال ربنا ما خلق
َ َ اَ َ َ َ َّ ُ َ ۡ ُ ۡ َ َ
ان{ (النساء،)82: سبحانه وتعالى} :أ َفل يتدبرون ٱلقرء ۚ
ْ َۡ َ ََ
وقال جل وعال }:أفل ۡم يَ َّدبَّ ُروا ٱلق ۡول{ (المؤمنون،)68:
َ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ أۡ َ ۡ ّ َ َّ َّ ُ ٓ ْ َ َ
ب{ ِ ٰ ب ل ٱل وا ل و أ رك ذ ت ليِ و ِۦ هِ تٰ اي وقال تعالى }:يِلدبروا ء
(ص.)29:
بالتفكر والتَّد ُب ِر قد ورد بصيغة الخرب واالستفهام؛ ِ فاألمر
ُ
ليكون أبلغ يف التقرير وأ ْدع��ى إلى التفكير.وإنَّما كان
17
ِ
والمصلحة ِ
الخلق ِ
حكمة التفكير والتد ُّب ُر وسيل ًة الستكناه
ُ
ِ
النظر ُ
إعمال التَي تتضمنها أحكا ُم الحق .فالتفكير:
ِ
األمور وعواقبها. ِ
مئاالت النظر يف والتدبر: ِ
والخاطر.
ُ ُ
أما السياق الثاين:
الشاطبي ‑ وهو يتحدَّ ث عما سماه بقصد ُّ فقد ع َّبر عن ُه
وضع
َ الشارع يف وض��ع الشريعة ابتداء ‑ بقولهَّ :
«إن
الشرائع إنَّما هو لمصالح العباد يف العاجل واآلجل م ًعا.
وهذه دعوى ال بد من إقامة الربهان عليها صح ًة أو فسا ًدا،
الخالف فيها يف علم ُ وليس هذا موضع ذلك ،وقد وقع
أن أحكام اهلل ليست ُمع َّلل ًة بع َّلة الكالم .وزعم الرازي َّ
أنوأن المعتزل َة اتفقت على َّ أن أفعاله كذلكَّ ، ألبتة ،كما َّ
أحكا َمه تعالى معللة برعاية مصالح العباد ،وأنَّه اختيار
أكثر الفقهاء المتأخرين ،ولما اض ُط َّر يف علم أصول الفقه
إلى إثبات العلل لألحكام الشرعية؛ أثبت ذلك على أنَّه
المعرفة لألحكام خاصة ،وال ّ يع َّلل بمعنى العالمات
حاجة إلى تحقيق األمر يف هذه المسألة.
وضعتْ والمعتمدُ إنَّما هو :أنَّا استقرينا يف الشريعة أنَّها
غيره: العباد استقراء ال ينازع ِ
ِ لمصالحِ
الرازي وال ُ ُّ فيه ُ ً
18
اٗ ِِ
األصلُّ }:ر ُسل لَىَ يقول اَّيف بعثه للرس ِل َ
وهو اهلل تعا َلى ُ فإن َ َّ
َّ ُ هَّ َّ َ َ َ ُ َ ُ ُّمبَ ّ رِش َ
اس ع ٱللِ حجُۢة ين َومنذِرِين لئِ ل يكون ل ِلن ِ ِ
َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ اَّ َ مۡ َ ٗ
َب ۡع َد ٱلرس ِلۚ{ (النساء} ،)165:وما أرسلنك إِل رحة ُ ُّ
ني{ (األنبياء.)107: ّل ِۡل َعٰلَم َ
ِ
َ ذَّ
وقال يف أصل الخلقةَ }:و ُه َو ٱلِي َخل َق َّ َ َ
ت ٱلسمٰو ٰ ِ
ع ٱل ۡ َمآءِ يِلَ ۡبلُ َو ُكمۡ َّ َ َّ َ اَ َ َ ۡ ُ ُ لَىَ َ أۡ َ َ
وٱلۡرض يِف سِتةِ أيا ٖم وكن عرشهۥ
ت ٱلنَّ جۡ ك ۡم أَ ۡح َس ُن َع َم اٗل ۗ{ (ه��ودَ } ،)7:و َما َخلق ُ
ۡ َ َ ُّ ُ
أي
ِ
َ ََ ذَّ اَّ إۡ
ون{(( )1الذاريات } ،)56:ٱلِي خلق ِ نس إِل يِلَ ۡع ُب ُد َوٱل َ
ِ
ۡ اٗ َ َ َ
ۡ َ ۡ َ َ َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ ُّ ُ
ُ ُ حۡ
ك ۡم أ ۡح َس ُن ع َمل ۚ َو ُه َو ٱل َعز ُ
يز ٱلموت وٱليوة يِلبلوكم أي
ِ
ور{ (الملك.)2: ۡٱل َغ ُف ُ
والسنَّة؛
ُ وأما التعاليل لتفاصيل األحكام يف الكتاب
أن ُتحصى؛ كقوله تعالى يف آية الوضوءَ } :ما يُر ُ
يد فأكثر من ْ
ِ
ُ ُ ُ َ ّ َ ُۡ هَّ ُ َ ۡ َ َ َ َ ۡ ُ ّ ۡ َ َ َ َٰ
كن ي ِريد يِلط ِهركم
ٱلل يِلجعل عليكم مِن حر ٖج ول ِ
َ َ ُ َ َّ ُ َ ۡ ُ َ
َو يِلُت ِ َّم ن ِۡع َم َت ُهۥعل ۡيك ۡم ل َعلك ۡم تشك ُرون{ (المائدة،)6:
- 1هذه الآية �أ�شكلت على بع�ض املف�سرين ،وم�ؤدى اال�شكال �أنهم لو خلقوا للعبادة ما
تخلف �أحد عنها ،ونحن نرى �أكرثهم معر�ض ًا عن عبادته تعاىل ،فتعني الت�أويل فذهب
ابن عا�شور �إىل تنوع الإرادة ،وذهب بع�ض �شيوخنا �إىل �إ�ضمار الأمر�- ،أي لآمرهم
بعبادتي -بدليل} َو َما �أُ ِم ُروا �إِلاَّ ِل َي ْع ُبدُوا هَّ
الل{ قال ابن بونه:
والالم يف �إال ليعبدوين لال�ستعارة بال تخمني
19
َ ٰٓ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ ُ
ب َعل ۡيك ُم وقال يف الصيام} :يأيها ٱلِين ءامنوا كت ِ
ُ َ َّ ُ
ِين مِن ق ۡبل ِك ۡم ل َعلك ۡم
َ ع ذَّٱل َ
ّ َ ُ َ َ ُ َ لَىَ
ٱلصيام كما كتِب ِ
َّ َّ َ ٰ َ َ ۡ ٰىَ َ َّ ُ َ
تتقون{ (البقرة ،)183:ويف الصالة} :إِن ٱلصلوة تنه
ۡ َ َۡ َ ٓ
َع ِن ٱلف ۡحشا ِء َوٱل ُمنك ِرۗ{ (العنكبوت ،)45:وقال يف
ُ َ اَّ َ ُ َ َ ُّ ْ
اس القبلة}:ف َولوا ُو ُجوهك ۡم ش ۡط َرهُۥ لئِ َل يَكون ل َِّلن ِ
ُ َ ٌ َ ُ
َعل ۡيك ۡم ُح َّجة{ (البقرة ،)150:ويف الجهاد} :أذِن
ٌ ذَّ َ ُ َ ٰ َ ُ َ َ َّ ُ ۡ ُ ُ ْ َّ هَّ َ لَىَ ٰ َ رۡ ۡ َ َ
صهِم لقدِير{
ۡ ل ِلِين يقتلون بِأنهم ظل ِم ۚوا ِإَون ٱلل ع ن ِ
َ ُ
اص (ال��ح��ج ،)39:ويف القصاصَ }:ولك ۡم يِف ٱلقِ َص ِ
َ َ ٰ ْ ُ ٰٓ َ ٞأۡ َ ۡ َ ٰ َ َ َّ ُ ۡ َ َّ ُ َ
ب لعلكم تتقون{ (البقرة،)179: حيوة يأو يِل ٱللب ِ
َ َ ۡ ُ َ ّ ُ ۡ َ ُ ْ َ ٰىَ
ويف التقرير على التوحيد} :ألست بِربِكمۖ قالوا بل
َ ٰ َ ۡ َ ٓ َ َ ُ ُ ْ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َّ ُ َّ َ ۡ َ ٰ َ َ
ش ِهدنا ۚ أن تقولوا يوم ٱلقِيمةِ إِنا كنا عن هذا غفِل ِني{
(األعراف ،)172:والمقصود التنبيه.
دل االستقراء على هذا ،وكان يف مثل هذه القضية وإذا َّ
مستم ٌّر يف جميع ِ مفيدً ا للعلم؛ فنحن نقطع ب َّ
��أن األم��ر
تفاصيل الشريعة»(.)1
الرعي ِل األول آذان واعي ٌة من َّ إن تلك الدعو َة قد َتلقفتها ٌ َّ
20
ِ
شاهدة النبي هود الوحي و ُمكانت له ميز ُة ومزي ُة ُش ِ
ْ الذي
ِ
المقاصد روحاألعظم ﷺ ُفأشربت أحكامهم وفتاويهم َ
اإلسالمي ألهنا ُتقدم
ِّ أصبحت الح ًقا فلسف َة التَّشريع
ْ التي
ٍ
أساسية: ٍ
أسئلة ِ
لثالثة إجاب ًة
األول :ما مدى استجابة التشريع اإلسالمي ُ ُ
السؤال
بعض القدماء للقضايا البشرية المتجددة وهو ما سماه ُ
بالقضايا الالمتناهية كابن رشد يف البداية.
السؤال الثاين:ما مدى ُمالءمة هذا التشريع للمصالح ُ
اإلنسانية وضرورات الحياة؟
ِ
لالجتهاد السؤال الثالث :ما هي المكان ُة الممنوح ُة ُ
المؤطر بالوحي اإللهي يف التشريع البشري العقلي ُ ِّ
اإلسالمي؟
وإذا كان لدى الغربيين ما ُيسمى بروحِ القوانين ويف
والمحامون القواني َن ويتأولونَها َّ
فإن َ ضوئها ُيفسر القضا ُة
ِ
الغرب قدْ ال تبدو شمولي ًة مستوعب ًة فلسف َة التشري ِع يف
بنظرية المقاصد يف الشريعةِ ِ
والمكان إذا قيست ِ
للزمان
اإلسالمية.
21
المقاصد ُيجيب إيجاب ًيا على تلك ِ إن التَّعا ُم َل مع َّ
الث قضايا لم تبت األسئلة مع اإلشارة بادئ ذي بدء إلى َث ِ
أسباب َ ختصر إلى حدِّ ٍ
كبير َ أن َت
فيها نظرية المقاصد ُيمكن ْ
زال َماثلاًاختالف ال َي ٌُ اختالف المتعاملين بالمقاصد وهو ِ
شيخ والعملية لم َي ُح َّلها ُ ِ لفيف من ال َقضايا الع ِ
قدية ٍ يف
َ
انحاز
َ كان قد وإن َ الشاطِبي الذي ْ إسحاق َّ َ ِ
المقاصد أبو
ِّ
ِ
لظاهر ملة من القضايا ،فإنَّه َتح َّي َـز للنظري ِة المقصدية يف ج ٍ
ُ َّ
ِ
اآلخر. ِ
البعض َّص يف الن ِ
َّف أن تصن َ مر من القضايا ُيمك ُن ْ الز ُ هذه القضايا أو هذه ُّ
تحت هذه العناوين: َ
العقل أم ُ ف المصلحةَ؟ عر ُ األولَ :م ْن ُي ِّ ُ ُ
العنـــوان •
النقل؟ ُ
المع ُقول ِ َّي ِة والتَّع ُب ِد.
بادات َب ْي َن َ الع ُ • العنــوان الثاينِ :
زئي َأ ُّيهما ُي َقـدَّ ُم؟
والج ُُّ لي ُ
• العنوان الثالث :الك ُّ
وسنخصص مشهدً ا من هذا الكتاب لهذه القضايا
الثالث لتوضيح وجه اإلشكال ،وليس لحسم اختالف
التجاذب بين المصالح ُ األقوال التي يمثل قطب رحاها
ملحوظ ًة بالعقل البشري ُأ ُن ًفا وبين النقول موضوع ًة
22
من الشارع ،وبخاصة يف جزئياهتا التي تتناز ِع أحيانًا
أن يقوم بناؤها لوال المرجعيات مع كليات ما كان لها ْ
نات الجزئيات.لبِ ُ
باإلضافة إلى قضايا دعت الحاجة إلى إبرازها كقضية
«العقل يف اإلسالم» ،رد ًا على بابا الفاتيكان ،وقضية «بدعة
الرتك» بين النفاة والدعاة يف مسعى لإلصالح بين تيارين
من أهل السنة دعواهما واحدة ،وتناول جديد بالنوع ْ
وإن
لم يكن جديد ًا بالجنس لالستنجاد بالمقاصد ،ومشهد
خاص بمجاالت تطبيق المقاصد.
وسيكون هذا الكتاب عبارة عن مشاهد من المقاصد
مفتتحا بالتعريف، ً وليس مستوع ًبا لكل المقاصد،
فالتعرف ،فالتصنيف ،فاالستنجاد واالسرتشاد؛ ولهذا ّ
سميناه «مشاهد من المقاصد».
23
المشهد األول
تعريف المقاصد
• تعريف المقاصد لغة :
أردت
َ بفتح َما قبل آخره ‑ إذا مقصد ‑ ِ جمع َ ُ المقاصدُ
المكان بمعنَىِ :
جهة َ أردت
َ المصدر بمعنَى :القصد ،وإذا
القصد ف ُيكسر ما قبل آخره. ِ
مفعل التي يكون فع ُلها من باب القياس ِفي ِ ُ هو
وهذا ََ
الماضي وكس ِر المضا ِرع ،قال ُ
ابن ِ بفتح
ِ ��ر َب» أي َ
«ض َ
ِ
األفعال: المي ِة
مالك يف َّ ٍ
ت ِ
الثــــــالثة ال َيـــــ ْف ِع ْل َ
لــــــ ُه ا ْئ ِ ِم ْن ِذي
أو ما فيه قد ُع ِمال
ـــــــعلٍ لمصد ٍر ْ بِ َم ْف َ
إلى أن يقول بعد بيتين:
مصدرا وسوا ُه ً يف َغي ِر َذا عينَه ْ
افتح
وشذ الذي َعن َ
ذلك اعتزَ ال اكســــــــر َّ
ْ
و«قصد» لها معان عدة مذكورة يف محلها من كتب
اللغة ،كالمقاييس البن ف��ارس ،واللسان البن منظور،
والقاموس المحيط للفيروزابادي.
والنهود.
ُ والعزم
ُ التوجه
ُّ ِ
بالمراد َهو: ُ
اللصيق والمعنَى
قلت: المحيط« :القصدُ َ :
األ ُّم»ُ . ِ ِ
القاموس صاحب
ُ َ
قال
27
التوجهَ ،فأ َّمه بمعنَى قصدَ ه. ُّ َ
األ ُّم
قال الشاعر:
رض نِس ًيا َت ُق ُّصــــــ ُه األ ِ َك َأنَّ َلهــــــا يف َ
ت مـــــك َت َبل ِ
َ َعــــلى َأ ِّمها َوإِن ُت َك ِّل
الصناعة« :أص��ل (ق ص د) ِ اب��ن جنِّي ِف��ي س ِّ��ر ق��ال ُ
والنهود
ُ والتوجه
ُ االعتزام
ُ العرب: وموقعها ِفي كال ِم َ ُ
اعتدال كان ذلك أو َج ْو ٍر. ٍ الشيء ،ع َلى ِ نحو
والنهوض َ ُ
بعض ِ خص يف هذا أص ُله يف الحقيقة ،وإن كان قد ُي ُّ
دون ميلٍ ،أال َترى أ َّنك تقصدُ ِ
االستقامة َ ِ
بقصد المواضع
ِ
والتوج ُه ُّ فاالعتزام
ُ العدل أخرى. َ الجور تار ًة كما تقصدُ َ
جميعا».
ً شامل لهما ٌ
قصده وإليه يقصد بكسر اآليت قصدً ا (.)1
قيام عن النهوض ٌ ُ النهوض ،ويقال: ُ هو
النهود َ
ُ قلت:
ُ
هنوض على كل حال .كما ٌ أعم فهو قعود ،أما النهود فهو ُّ
يف التاج واللسان يف مادة هند.
ُ
أربعة ِ
الباب المستعملة ِفي هذا ُ وتصرفات «قصد»ُ
ألفاظ هي: ٍ
28
قالمقيس ل َف َع َل المتعدِّ ي َ ٌ مصدر
ٌ أولاً :القصدُ َ ،
وهو
األلفية:
َّ مالك ِفي
ٍ ابن
ُ
ثـــــال َث ٍة َك َر َّد ر َّدا
ِمن ِذي َ الم َعـدَّ ى اس َم ْص َد ِر ُ َف ْع ٌل ِق َي ُ
قبل آخ ِره َ
كان َّ��ه:إن ُفتح ما َ ا:المقصدُ ،وقد بي َّنا أن ْ َ ثان ًي
دل على الفعلِ وهوَ :ما َّ اسم مصد ٍرَ ، ويطلق ِ
عليه ُ ُ مصدرا،
ً
بواسطة المصد ِر .ويمتاز الميمي عن غيره من أسماء ِ
المصدر بداللته المباشرة على الفعل ،وبأنه مقيس دون
سواه.
قال العالمة ابن َزين رحمه اهلل تعالى يف الزيادات على
الالمية:
ِ
دئـــــــه بم ْب ِ
سـمـا ُة َمـ ْبـنـا ُه مــــــا زيـدَ ْت َ
راك مـــــــا ُع ِقـال اإلش ُ ميم بكِ ْل َمتِها ْ ٌ
أو ما خلت من حـــــــــروف الفعل بنيته
لف ًظا وقصــدً ا وما أعطى به بــــدال
ـــــــــــسـ ُه وال
ْ والميمي ِق
َّ ومنه االعـــال ُم
ولكــن َن ْق ُلــــــــه ُقبِـال
ْ ت َِقس سوا ُه
��دل على المقصدُ بكسر ما قبل آخ��ره ،وهو ي ُّ ِ ثال ًثا:
ِ
القصد. المكان ،أي على ِ
جهة
29
راب ًعا :المقصو ُد ،وهو اسم مفعول مقيس.
ألن القصدَ ‑ وهو ومعاين ه��ذه األل��ف��اظ متقاربةٌ؛ َّ
قال فِي
اسم المفعولَ ، ِ ُ
يستعمل مرا ًدا به ُ المصدر ‑ قد
ُ
ُ
:ويحصل القصدُ بشر ِع ِ
النظم ِ ِ ِ ِ
نشر البنود عندَ قوله في
«إن القصدَ هنَا بمعنَى المقصود». الحكمَّ ِ:
َ
ستعمل َف ْعل أن ُت ِ
اللغة ْ معروف فِي أمر
ٌ وهو ٌ
قلتَ : ُ
ال يوجدُمنسوج ،مع أنَّه َ بمعنَى مف ُعولَ ،كن َْسج بمعنَى ُ
المفعول فِي فع ِل
ِ ِ
واسم ِ
المصدر كبير فِي المعنَى بي َن ٌ
فرق ٌ
«قصد» و َما فِي معنا ُه كعمد .قال السيالكويت يف «حاشيته
على الشمسية» وهو يتحدث عن (المعنى) أهو مصدر
اسم مكان« :وكذا لفظ المقصد ،وال حاجة ميمي منه أو ُ
حين كونه مصدر ًا إلى جعله بمعنى المقصود ،نص عليه
-قدس سره -يف تحقيق لفظ المجاز يف حواشي شرح
مختصر األصول ،وأما كونه اسم مكان فمبني على تشبيه
ما وقع عليه القصد بما وقع فيه( ،قوله أي المقصد) هذا
الوجه أقرب من حيث المعنى واألول من حيث اللفظ»(.)1
التوجه ،والمقصو ُد ه َ��و الشي ُء ُّ إال َّ
أن القصدَ ه َ��و
� - 1شروح ال�شم�سية ،232 /1الطبعة الأوىل باملطبعة الأمريية 1905م
30
المصدر فإنَّه فِي ُ وهو
المقصدُ بالفتح َ َ إليه ،أ َّما المتوجه ِ
َّ
معنى ما تقدم.
بعض فيحمل َ ُ ِ
القصد، وهو جه ُة ِ ِ
بالكسر َ المقصد أما
يكونَ أنوهو أن ُه يمك ُن ْ روقَ ، بعض ال ُف ِ الشيات التِي ُتفيدُ َ ِ
األكيد، ِ ِ
القصد مباشرةً ،وعلى ِ
المراد المفتوح دالاً ع َلى
َ ُ
األخرى ِ
القصود على ويكون الثاين دا ًّ َ أو االبتدائِ ِّي،
َ ال َ
ِ
المظنونة ِ
التابعة ِ
أو ِ
القصود يدل عليها بالتعليل ،أو التِي ُّ
ِ
اليقين. المقاصد فِي
ِ ِ
تفاوت ِ
باعتبار
اصطالحا : ً • تعريف المقاصد
الفقهاء واألصوليي َن: ِ استعمل يف كال ِم َ ِ
المقاصد إن َ
لفظ َّ
الشارع من عمل أو أي َما َيقصدُ ِ ِ
ُ تار ًة لمقاصد الشريعةْ ،
وبعبارة أخ َ��رى« :مرا ُد ٍ الحكم، ِ كف أو ما يقصد بشر ِع
الذي الخلق» .وهو ِ ِ الحق سبحانَه وتعا َلى يف شرعه مِن ِّ
َ
نصوص الشرعِ؛ فيتماهى أحيانًا بالعل ِل ِ العقول مِن ُ تج ِّل ِ
يه
ٍ
،وبخاصة عندَ ِ
الشيات ِ
بعض اختالف فِي ٍ مع ِ
والحكمَ ،
وعالمات، ٍ ٍ
أمارات مجر َد َ
العلل َّ كالرازي ِ- ّ َمن َيرى -
ٍ
وغايات. كما ْ ِ
وليست ح ً
31
ويجب ْ
أن ننبه هنا ،قبل الخوض يف عبارات الباحثين
عن التعرف على المقاصد ،على َّ
أن كل ما ورد يف كالم
القدماء والمحدثين من تعريف أو تفسير للمقاصد إنما
يحاول إيصال فكرة عن المقاصد مقيدة بالشريعة أو
التشريع إلى المتلقي دون تدقيق يف شكل التعريف ليكون
بالحد الذي يستلزم جنسًا وفصالً ،أو الرسم سواء كانا
تامين أو ناقصين .وإنما اكتفوا بالمعنى العام وهوَّ :
«أن
تصور ذلك
َ تصوره
ُ المعرف للشيء هو الذي يستلزم
ِّ
الشيء أو امتيازه عن كل ما عداه» – .كما يقول صاحب
«الشمسية» يف المنطق.
ولهذا نجد القدماء كالغزالي والشاطبي يعرفون
المقاصد أو القصد بالتشريع بأنه رعاية المصالح وهو
تعريف بالغاية التي أصبحت بمنزلة الفصل يف التعريف
باعتبار المقاصد تمثل الجنس ،وهذا يعني َّ
أن الغايات
التي ال هتدف إلى المصالح خارجة عن الحد ،وهبذا يصبح
تعريف المقاصد بالغايات فقط إنما هو من التفسير ،أي
إبدال لفظ برديف أشهر ،وليس تعريفًا .وال بأس بكل
ذلك يف تعريف المصطلحات فكما يقول السيد الجرجاين
32
يف حاشيته على شرح «الشمسية»«:وأما المفهومات
فإن اللفظ إذا وضع اللغوية واالصطالحية فأمرها سهلَّ ،
يف اللغة أو االصطالح لمفهوم مركب فما كان داخالً فيه
كان ذاتيًا له وما كان خارجًا عنه كان عرضيا له .فتحديد
المفهومات يف غاية السهولة ،وحدودها ورسومها تسمى
حدود ًا ورسومًا بحسب االسم .وتحديد الحقائق يف غاية
الصعوبة ،وحدودها ورسومها تسمى حدود ًا ورسومًا
بحسب الحقيقة»(.)1
معرفة
ال يف سياق المصلحةِّ ، ووردت المقاصد محمو ً
معرفة بصيغة اسم المفعول. بصيغة اسم الفاعل وليست َّ
هذا المعنَى(.)2 ٍ
مختلفة َعن َ ٍ
بعبارات وقد ع َّبر العلما ُء
� - 1شروح ال�شم�سية 340 /1
� -2إنَّ م�صطلح الق�صد له داللة معا�صرة �أحببت �أن �أنبه عليها القارئ :الق�صد
م�صطلح ذو مرجعيات فل�سفية مت�شعبة والق�صد اجتاه العقل �إىل املو�ضوع وهو ي�شري
�إىل اجلانب الإرادي يف الإن�سان وي�شرتطه بع�ض الفال�سفة من �أجل �إقامة احلكم �أو
الإثبات .وي�شري الق�صد يف جملى من جماليه البعيدة �إىل املخيلة املنتجة واملخيلة
التابعة باملعنى الكانتي ،فهو خميلة منتجة عندما يكون حا�ضر ًا متوجه ًا لإقامة حكم
على مو�ضوع (الأحكام الرتكيبية) وهو خميلة تابعة عندما يكون متوجها �إىل املو�ضوع
تبع ًا (الأحكام التحليلية) .وال �شك �أنَّ مفهوم الق�صد مفهوم م�ؤ�س�س يف فل�سفة ه�سرل
عن الظاهريات .كما ي�ؤ�س�س م�صطلح الق�صدية اجلانب الإرادي يف فل�سفة بول ريكور
يف مواجهته مع اجلانب ال�ضروري �أو الال�إرادي وهو مو�ضوع املهم لكتاب الإرادي
واللإرادي (.كريين :دوائر الهريمينوطيقيا �ص 27ترجمة :مندي) وانظر متييز بول
ريكور بني الق�صد لأجل والق�صد لأنَّ .كما يفرق بيار جاكوب بني الق�صدية الأ�صلية
33
بقوله«:نعنِي ِ الغزالي المصلح َة المعتدَّ هبا ُّ فعر َ فقدْ َّ
مقصود الشار ِع(.)1 ِ بالمصلحة المحافظ َة على ِ
حفظ ِ ترجع إ َلى ٍ
مصلحة َ
ال «فكلُّ اهلل: وق َ
ُ ��ال رحم ُه ُ
وكانت مِنْ الكتاب والسن َِّة واإلجماعِ، ِ مقصود ُف ِه َم مِن ٍ
فهي ِ الغريبة التِي ال ِ المصالحِ
تالئم تصرفات الشرعَِ ، ُ
ٍ
مقصود ِ
حفظ رجعت إ َلى
ْ ٍ
مصلحة ُّ
ٌ ...وكل باطل ٌة م َّط َرحة
بالكتاب والسن َِّة واإلجماعِ، ِ شرعي ُعلم كونُه مقصو ًدا ٍّ
قياساْ ،بل ِ
خارجا من هذه األصول ،لكنَّه َ ِ ِ
يسمى ً ال َّ ً فليس
َ
مصلح ًة مرسلةً»(.)2
ِ
بالمحافظة على فسرنا المصلح َة أن َ إلى ْ
قال« :وإذا ّ
يجب اتباعهاْ ،بل للخالف فِي ِ ِ مقصود الشرع ،فالَ وج َه ِ
ُ
حجة»(.)3 ِ
القطع بكونها َّ ُ
للمقاصد ْبل تعري ًفا ِ الغزالي ال يعتربُ تعري ًفا وك�لا ُم
ِ ِّ
المقصود حيث كوهنا محافظ ًة ع َلى ُ للمصلحة مِ��ن
ِ
الكتاب والسنَّة. ِ المفهو ِم مِن
والق�صدية املتفرعة .وكل هذا ينظر يف جماله مع الوعي بحمولته وداللته مقارنة
باملق�صد الأ�صلي والتبعي وما يتفرع منهما عند ال�شاطبي.
- 1الغزايل ،امل�ست�صفى.416 /1 :
- 2نف�س املرجع.430 /1 :
- 3نف�س املرجع ،ونف�س ال�صفحة.
34
توضيحا يف «شفاء الغليل» دون
ً وزاد الغزالي األمر
ربط المصلحة بقصد الشارع إلثبات المناسبة لتعليل
األحكام بل طلب المنفعة ودفع المضرة لتكون مقاصد
المكلفين مبينة لمناسبة الوصف للتعليل حيث يقول:
المعاين المناسبة :ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراهتا.
ويف إطالق لفظ المصلحة أيضا نوع إجمال؛ والمصلحة
ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة .والعبارة الحاوية
لها :أن المناسبة ترجع إلى رعاية أمر مقصود.
أما المقصود فينقسم :إلى ديني وإلى دنيوي .وكل واحد
ينقسم إلى تحصيل وإبقاء .وقد يعرب عن التحصيل بجلب
المنفعة .وقد يعرب عن اإلبقاء بدفع المضرة .يعني أن ما
قصد بقاؤه :فانقطاعه مضرة وإبقاؤه دفع للمضرة .فرعاية
المقاصد عبارة حاوية لإلبقاء ودفع القواطع وللتحصيل
على سبيل االبتداء .وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى
رعاية المقاصد .وما انفك عن رعاية أمر مقصود ،فليس
مناس ًبا .وما أشار إلى رعاية أمر مقصود فهو :المناسب(.)1
إن هذا النص يعرف مقاصد المكلفين المعتربة والتي َّ
- 1الغزايل� ،شفاء العليل ،159حتقيق د� .أحمد الكبي�سي.
35
برعايتها تكون المناسبة ،و ُيعرف المناسب ال��ذي هو
ملتقى الديني والدنيوي :قصد الشارع وقصد المكلف؛
فتحصيل المصالح هو مقصد للمكلفين وتحصيلها على
وجه معين من الشرع هو أيضا قصد الشارع من شرع
الحكم ،وبالتقائهما تدرك المناسبة التي تؤسس للتعليل،
وتتحقق المقاصد التي ترجع جميع المناسبات إلى
رعايتها.
أن نعرف المقاصد بأهنا جلب وبعبارة أخرى ،يمكن ْ
المنفعة ودفع المضرة بناء على قوله :فرعاية المقاصد
عبارة حاوية لإلبقاء ودف��ع القواطع وللتحصيل على
أن المصالح هي سبيل االب��ت��داء .ومعنى ه��ذا الكالم َّ
أصل المقاصد ،وهذا ما أكده الشاطبي بقوله« :المسأل ُة
الشارع قد قصد بالتشريع إقامة ثبت َّ
أن َّ السابعة :إ ًذاَ ،َّ
ٍ
المصالح األخروية والدنيوية ،فذلك على وجه ال ُّ
يختل
ِ
الجزء ،وسوا ٌء لها به نظا ٌم ،ال بحسب ال ُك ِّل وال بحسب
الضرور َّيات أو الحاج َّيات أو
يف ذلك ما كان من قبيل َّ
أنالتَّحسين َّيات ،فإنَّها لو كانت موضوع ًة بحيث يمكن ْ
موضو ًعا
َّشريع ُُ يختل نظا ُمها أو َّ
تنحل أحكا ُمها ،لم يكن الت َّ
36
لها ،إِ ْذ ليس كوهنا مصالح إِ ْذ ذاك بأولى من كوهنا مفاسد،
أن تكون مصالح على اإلطالق، الشارع قاصدٌ هبا ْ لك َّن َّ
وض ُعها على ذلك الوجه أبد ًّيا و ُك ِّل ًّيا وعا ًّما أن يكون ْ فال ُبدَّ ْ
يف جميع أنواع التَّكليف والمك َّلفين من جميع األَحوال،
وكذلك وجدنا األمر فيها ،والحمد هَّلل.
الشريعة، أن األمور ال َّثالثة ك ِّل َّي ٌة يف َّ وأيضا ،فسيأيت بيان َّ ً
ات ،فعلى لت إلى الجزئِي ِ تنز ْتختص على الجملة ،وإِ ْن َّ ال
َّ ُّ
ٍ
بعضاَ ،ف َع َلى َن َظ ِر ا ْل ُك ِّل ِّي ،ك ََما َأن ََّها خص ْت ً وجه ُك ِّل ٍّي ،وإِ ْن َّ
اتَ ،فالنَّ َظ ُر ا ْل ُك ِّل ُّي إِ ْن كَان َْت ُك ِّل َّيةًَ ،فلِ َيدْ ُخ َل َت ْحت ََها ا ْل ُج ْزئِ َّي ُ
ات لاَ َي ْخ ِر ُم ك َْو َن ُه ات ،و َتن َُّز ُله ل ِ ْلج ْزئِي ِ فِيها من َِّز ٌل ل ِ ْلج ْزئِي ِ
َ ُ ُ َّ ُ َّ َ ُ
ِ
ال النِّ َظا ِم في ُك ِّل ًّياَ ،و َه َ��ذا ا ْلم ْعنَى إِ َذا َث َب َت َد َّل َع َلى كَم ِ
َ َ
ِ ِ ِ
الت َّْش ِريعَِ ،وك ََم ُال النِّ َظا ِم فيه َي ْأ َبى َأ ْن َين َْخ ِر َم َما ُوض َع له،
وهو المصالح»(.)1
وقد تقدم قول الشاطبي يف هذا المعنى أن وضع الشرائع
إنما هو لمصالح العباد يف العاجل واآلجل معًا.
أما القرايف فعرف المقاصد يف سياق تعريف األحكام
وهي المتضمن ُة ِ َ
بقوله :األحكا ُم على قسمين :مقاصدُ َ :
62 /2 - 1ال�شاطبي :املوافقات
37
ُ ُ ِ ِ ِ
الطرق وهي للمصالحِ والمفاسد في أنفسها .ووسائلَ :
إليها(.)1 المفضي ُة َ
تتبع المقاصدَ ُ ِ ويقول فِيُ
ٌ«:الوسائل ُ الذخيرة :قاعدة
سائر ُ َ
وكذلك المحرم محرم ٌة َّ فِ��ي أحكامِها فوسيل ُة
األحكام»ِ(.)2
قسمين: ِ أن األحكا َم ع َلى ا«:والجواب َّ
ُ أيض ويقول ً
إليه وسيلةٌ، ووسائل ،فالمقاصدُ كالحج ،والسفر ِ ُ مقاصدُ
ِّ
الكلمة مقصدٌ ،والجها ُد وسيل ٌة ِ ونصر ِ
الدين ��زاز
وإع ُ
()3
ُ
والمندوبات ِ ِ
والمحرمات ِ
الواجبات ��ك مِن ونحو ذل َ ُ
ِ
والمكروهات والمباحات: ِ
ِ
اختالط ِ
مفسدة الزنا مقصدٌ ؛ الشتمالِه ع َلى فتحريم ِّ ُ
ِ
العيدين والنظر وسيلةٌ ،وصال ُة ِ ِ
وتحريم الخلوة ِ
األنساب،
ُ
ِ
األعاجم والمشي إليها وسيلةٌ ،ورطان ُة مندوب،
ٌ مقصدٌ
ُ
الطيبات مقصدٌ ِ إليهُ ،
وأكل مكروهةٌ ،ومخالطتُهم وسيل ٌة ِ
38
ٍ
وسيلة كل وحكم ِّ واالكتساب ل ُه وسيل ٌة مباحةٌ. مباح،
ُ ُ ٌ
كانت ْ ال�ترك ْ
وإن ِ أو ِ
مقصدها فِي اقتضاء الفع ِل ِ ِ حكم ُ
الباب . ِ أخفض من ُه في َ
ذلك ِ َ
المقاصد، ِ ِ
تعيين يكون فِي ُ هذا فاالجتها ُد قدْ تقرر َ إ َذا َّ
ِ
األجنبية. األخت مِن ِ ِ
كتمييز
ِ
المياه ِ
أوص��اف كاالجتهاد فِي
ِ يقع يف الوسائ ِل وقدْ ُ
هو الطهورية. المقدار ،والمقصدُ َ َ ومقاديرها عندَ َمن يعتربُ ِ
ِ
المقصد ِ
الوسيلة إ َلى ِ
إفضاء مهما تب َّي َن عد ُم والقاعد ُة أنَّه َ
الذي اجتهدنَا فِي أن الماء ِ
َ اعتبارها ،كما إ َذا تيقنَّا َّ ُ َ
بطل
يجب إعاد ُته»(.)1 ورد منقط ٍع فإنُّه أوصافِه ماء ٍ
ُ ُ
ِ
قسمان: أيضا«:قاعد ُة األحكا ِم ك ِّلها وقال القرايف ً
أنفسها. للحكم فِي ِ ِ وهي المتضمن ُة مقاصدُ َ ،
الوجوب ِ للمقاصد فِي أحكامِها مِن ِ ووسائل تابع ٌة ُ
ِ
المقاصد تلك وهي المفضي ُة إ َلى َ وغيرهما، ِ ِ
والتحريم
َ
وهي ، وسائلُ ي حيث ِ
ه أنفسها مِن ُ الحكم فِي ِ ِ عنخالية ِ
َ
المقاصد ،فالجمع ُة واجب ٌة مقصدً ا، ِ أخفض رتب ًة مِن ُ
والزنا محر ٌم مقصدً ا ،والخلو ُة واجب وسيلةًِّ ، ٌ والسعي
ُ
129 /2 - 1القرايف :الذخرية
39
سائر األحكام. وكذلك ُ َ محرم ٌة وسيلةً، َّ
والوسائل أقسا ٌم: ُ
المقصد ،كزراعةِ ِ حكم مِنها َما يبعدُ جدّ ًا ،فالَ ُيع َطى
َ
ِ
الخمر. ِ
المفضية إ َلى ِ
العنب
ِ
الخمر. ِ
كعصر ِ
المقصد حكم وما يقرب جدّ ًا فيع َطى
َ
فيختلف العلما ُء ِ
والبعيد؛ ِ
القريب هو مرت ِّد ٌد بي َن
ُ وما َ
الخمر للتخليلِ. ِ ِ
كاقتناء فيه،
األنساب باجتما ِع ِ ُ
اختالط ()1
والمحرم مقصدً ا ها هنا َّ
السابق والالحق ،والعقدُ ِ ِ الرحم من الزوجِ ِ ِ المائين فِي ِ
والتصريح ِ
��وطء، تحريم الوسائ ِل إلفضائِه إ َلى ال حرا ٌم
ُ َ
الوسيلة ،ولما بعد ِ فهو وسيل ُة ِ ِ َ
كذلك إلفضائه للعقدَ ،
واإلكنان أبعدُ منْ ُه»(.)2 ُ لم يحر ُم ِ
التعريض َعن المقصد ْ ُ
عنيتحدث ِ ُ وهو عبارة ِ ِ وال يبعدُ َ
ابن الق ِّيم َ ذلك ع ْن
ِ
المقاصد ِ
تحريم هو مِن ِ ِ ِ ِ
تحريم ر َبا النساء الذي َ الفرق بي َن
تحريم الوسائ ِل(. )3 ِ هو مِن ِ
وتحريم ر َبا الفض ِل ال��ذي َ ِ
منصب ع َلى يدل ع َلى أنَّه المقاصد ُِّ ِ
التحريم إ َلى فإضاف ُة
ٌّ
- 1يعني النكاح يف العدة
192/4
- 2القرايف :الذخرية
- 3ابن القيم� :إعالم املوقعني 107 /2
40
ِ
الحكم. ِ
المقصود بشر ِع ِ
المفسدة ِ
درء
فالمفهوم المشار إليه عند القرايف وابن القيم ال يفرق
بين القصد االبتدائي أو القصد المفهوم من العلة بل
يستند على األصالة يف األمر والنهي مع تلميح إلى تضمين
المصلحة أو المفسدة ،الذي هو المستوى الثاين عند
الشاطبي .فالوسائل عند القرايف هي يف الحقيقة مقاصد
عند الشاطبي ولكنها تبعية.
فيكون للقرايف موقف مميز يجعل األوامر االبتدائية
والنواهي مقاصد إذا اشتملت على الحكمة والمصلحة
المقصودة ،وإذا لم تكن كذلك فليست كذلك؛ بل هي
وسائل ،وهو ما أراده الشاطبي باالبتدائي كما فسره ،إال
أنه صرح أحيانًا أن كل أمر أو هني يتضمن مصلحة حتى
ولو لم يكن ابتدائيا -كما سرتى يف النص الالحق ،-
وخال ًفا لمن يرى أن األمر والنهي ليسا مقصدين بإطالق.
ولنعد إلى المصلحة التي كانت موضو ًعا عند الغزالي
يف جل تعريفاته ،سوى ما أشار فيه إلى مماهاهتا للمقاصد
لتكون عينها ،لنراها تتحول إلى محمول عند الشاطبي يف
إن أحكام الشريعة تشتمل النص التالي«:وكذلك نقول ّ
41
على مصلحة كلية يف الجملة وعلى مصلحة جزئية يف
كل مسألة على الخصوص ،أما الجزئية فما يعرب عنها
كل دليل لحكم يف خاصته وأما الكلية فهي أن يكون كل
مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع يف جميع
حركاته وأقواله واعتقاداته فال يكون كالبهيمة المسيبة
تعمل هبواها حتى يرتاض بلجام الشرع»(.)1
فإذا كانت أحكام الشريعة ال تخلو عن مصلحة جزئية
فإن المقاصد هي هذه المصالح. وكليةّ ،
ِ
للشريعة فيعرف المقاصدَ العا َّمة ُ
الشيخ اب ُن عاشور ِّ أما
والح َكمِ بقولِه« :مقاصد التشريع العامة هي :المعاين
الملحوظة للشارع يف جميع أحوال التشريع أو معظمها،
خاص مِن ٍّ بالكون فِي نو ٍع
ِ تختص مالحظتُها ّ بحيث ال
ِ
الشريعة. أحكا ِم
الشريعة وغايتُها العا َّم ُة ِ أوص��اف
ُ فيدخل فِ��ي َ
ه��ذا ُ
التشريع َعن مالحظتِها. ُ ال يخ ُلو والمعانِي ا َّلتي َ
ليستْ الحكم ��ان مِ��ن ِ ��ض��ا م��ع ٍ وي��دخ ُ��ل فِ��ي َ
ه��ذا أي ً
سائر أنوا ِع األحكا ِم ،ولكنَّها ملحوظ ٌة فِي ِ ملحوظ ًة فِي
املوافقات 123 /3 -1ال�شاطبي:
42
ٍ
كثيرة منها»(.)1 أنوا ٍع
وهذا التعريف الموسع ليس حد ًا منضب ًطا بالجنس
والفصل لمقاصد الشريعة ،وإنما هو لنوع من المقاصد
وهو المقاصد العامة.
َّ
فقال«:إن وحاول عالل الفاسي اإليجاز فحذف العامة
واألس���رار التِي
ُ
ِ
الشريعة الغاي ُة منها، ِ
بمقاصد المرا َد
حكم مِن أحكامِها»(.)2ٍ الشارع عندَ ِّ
كل ُ وضعها
َ
وهذا التعريف وإن كان قريبًا مما ذكره ابن عاشور إال
أنه اختصر المسافة.
ويالحظ أهنما لم يشيرا إلى المصالح ،كما فعل الغزالي
والشاطبي بل اكتفيا بالغايات واألس��رار ،ولعل ذلك ما
الحظه الشريف أحمد الريسوين عندما عرف المقاصد
بأهنا :الغايات التي وضعت الشريعة ألج��ل تحقيقها
لمصلحة العباد.
الح َكم واألسرار والغايات يف إال أنه عندما نتحدث عن ِ
فإن ذلك يستبعد المعنى اللغوي الذي تعريف المقاصد َّ
- 1الطاهر ابن عا�شور :مقا�صد ال�شريعة 165 /3حتقيق ال�شيخ احلبيب بلخوجة.
- 2عالل الفا�سي :مقا�صد ال�شريعة ومكارمها �ص ،111دار ال�سالم ط.2013 /2
43
قد يستعمل اللفظ فيه ،أو المعاين األولى والثانوية التي
قد تفهم من الداللة اللغوية يف عدة مستويات والتي قد
تكون أوال تفسير ًا للفظ بمرادف كقولهم يريد بالقروء
َ رَ َ َّ ۡ َ َ ُ
س ِه َّن
األطهار أو الحيض يف قوله تعالى﴿يتبصن بِأ ِ
نف
ََََ ُ
ثلٰثة ق ُر ٓوءٖ ۚ﴾ (البقرة ،)228:وهو ما يسمى بالمجمل،
أو كداللة العام على أفراده أو بعضها يف العام المراد به
الخصوص أو داللة اللفظ على معناه الحقيقي أو العريف
أو الشرعي أو المجازي ،أو داللة األمر على الوجوب أو
الندب ،أو داللة النهي على التحريم أو الكراهة.
وكذلك الدالالت الثانوية يف المركبات عند البيانيين
مما تشير إليه أس��رار البالغة ،فكل ذل��ك ال يدخل يف
المقاصد بمفهوم اب��ن عاشور وع�لال الفاسي خال ًفا
للشاطبي.
وإن كان ابن عاشور بتقييده بالعامة ال يرد عليه الدرك ْ
يف عدم ذكره للمقاصد االبتدائية ،ومع ذلك فإنه يف تعريفه
للمقاصد الخاصة لم يشأ تعريف المقاصد الجزئية
المبثوثة يف أبواب الفقه والتي يفرتض أن تكون أساس
المقاصد الخاصة وإنما تحدث عن كيفيات مقصودة
44
للشارع لضبط تصرفات الناس ،مما يدل على أنه يتحدث
كلي إذ قال« :الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق عن ِّ
مقاصد الناس النافعة ،أو لحفظ مصالحهم العامة يف
تصرفاهتم الخاصة كي ال يعود سعيهم يف مصالحهم
الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم
العامة إبطاال عن غفلة أو استزالل هوى وباطل شهوة».
لكنه ختمها بما يمكن أن يعترب كلمته األخيرة يف تعريف
المقاصد بقوله«:كل حكمة روعيت يف تشريع أحكام
تصرفات الناس» .وذلك ما يدل على النظرة الكلية للشيخ
الطاهر وإصراره – رحمه اهلل تعالى -على الحكمة ،مما
يستبعد الطلب االبتدائي إليقاع الفعل أو الكف عنه من
قبل الشارع فهو مقصد بغض النظر عن ظهور الحكمة أو
تواريها وكموهنا.
واستعملت المقاصد يف مضمون آخر يتعلق بنوايا
المكلفين وإراداهتم التي تؤثر يف العبادات والمعامالت،
سل ًبا وإيجا ًبا ،إيجا ًدا أو عدما ،وهو ما عرب عنه الشاطبي
بمقاصد المكلفين ،ومن ذلك القاعدة المعروفة «األمور
بمقاصدها».وهي من القواعد الخمس الكربى التي بني
45
عليها الفقه راجع «األشباه والنظائر» للسيوطي وابن نجيم
وغيرهما ،ونشر البنود عند شرح قوله:
الض َر ْرالف ْق ُه على َر ْفــــ ِع َّ َقدْ ُأســــــــس ِ
َ ِّ
الوطــــــــــــ َْر
ـب َ ــق َي ْج ُل ُ وأ َّن َمــــــــا َي ُش َّ
َـك ْ
وأن بالشـــــــ ِ
و َن ْفي َر ْف ِع ال َق ْطــــــــ ِع ّ
ـــــــــــن َف َط ْن
ْ ف وزا َد َم ّـم العــــــــ ُْر ُُي َحك َ
ِ
اصــــد الم َق ِ َـــــــو َن األُ
َبــــــع َ
َ مــــور ت ك ْ
وار ِد
ــــــــــــــــض ِ
ِ مــــــــع َت َك ُّل ٍ
ــــف بِ َب ْع َ َ
وهي قاعدة ترجع إلى الحديث الصحيح المشهور«:إنما
لكل امرئ ما نوى»(.)1 األعمال بالنيات ،وإنما ِّ
مجاالت تطبيقاهتا التعبديات ذات اللبس ،فهي ِ وأهم
ُّ
تفرق بين العبادات والعادات وبين العبادات يف أنفسها؛
ولهذا يقول الزقاق يف المنهج:
ـــــــــــص لِل َّت َع ُّبد
ُ ُــــــــــــل َما ُيخْ َل
ُّ َوك
َــــــــــــــــــان َغالِبًا بِن ِ َّي ٍة بـــــــــــــــــــ ُِدي
َ َأ ْو ك
� -1أخرجه البخاري يف �صحيحه يف مواطن كثرية وم�سلم وغريهما كلها من حديث
عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه ومل ي�صح �إال من حديثه.
46
ٍ
ـــــس َو َما ت ََم َّح َضــــا إِ ْن كــــــــ َ
َان َذا َل ْب
ــــــــو ا ْل َق َضا ٍ
يــــــــة ن َْح َأعنِــــي لِمع ُقولِ
َ َ ْ ْ
ِ ٍ
ـــــــس َفـــــــلاَ ا ْفــــــت َق ْار ت َكن ََجَأ ْو َغ َل َب ْ
....................................................
47
أن الشاطبي عندما تعرض للتقسيم ديني ودنيوي ،إال َّ
وضع المقاصد يف نطاق الحدود اللغوية الفسيحة وهي
المعاين ،مركز ًا على درجات المقاصد ومستوياهتا بين
قصود ابتدائية تصريحية جزئية تتعلق بكل أمر أو هني
على حده داال على قصد الشارع إيجاد الفعل أو الكف
عنه ،وهذا النوع يمكن أن يكون جوا ًبا عن ماذا؟ أي ماذا
قال الشارع وبأي شيء أمر؟ وهذا هو المستوى األول
الذي استبعده ابن عاشور ومن تبعه ،وكان الشاطبي يف
ألن المقاصد االبتدائية هي ذلك مصي ًبا كل اإلصابة؛ ّ
أصل المقاصد وأم الكتاب فيها ،وهي لبنات األساس يف
بناء صرح المقاصد ،فاستبعاد األمر والنهي من مقاصد
الحكم والعلل باإلبطال ،فإنه ما أمر الشارع يعود على ِ
اَّ
ول إِل إال ليطاع وما هني إال ليم َت َث َلَ }،و َما ٓ أَ ۡر َس ۡل َنا مِن َّر ُ
س
ٍ ُْ
هَّ َ ۡ
يِلُ َطاع بِإِذ ِن ٱللِۚ{ (النساء ،)64:فكيف نقول بعدها أن
األمر ليس مقصدا وبأي لغة نفهم المقصد؟
أما المستوى الثاين الذي قد يكون جوا ًبا عن لماذا؟
وهو الموسوم بالغايات والحكم واألس��رار فإنه يمثل
مقاصد منتجة ومولدة ألحكام خارج النص.
48
وشرح هذه الجهة شرحًا يدور حول التعليل وموارده،
فالنكاح لمصلحة التناسل ،والبيع لمصلحة االنتفاع
بالمعقود ،والحدود لمصلحة االزدجار ،منبها على َّ
أن
العلة تعرف بمسالكها المعلومة يف أصول الفقه.
وناقش ما إذا كانت العلة غير معلومة جازمًا بالتوقف
عن الجزم بقصد الشارع ،وبالتالي بعدم تعدية الحكم إلى
المحل المسكوت ،حيث انتهى إلى الفرق بين العبادات
والعادات ،حيث تراعى المعاين يف األخيرة ،ويتوقف مع
النصوص يف األولى ،وسنناقش ذلك الحقًا.
الحكم والتي قد تكون وهذا هو مجال التعليل ومناط ِ
جزئية أو كلية حسب متعلقها.
المستوى الثالث والذي هو يف حقيقته تقسيم باعتبار
آخر؛ أي باعتبار األصالة أو التبعية .وسيأيت للشاطبي
تفسيرها يف تصنيفه للمقاصد.
بأن القصود التابعة هي التي عرفت منونكتفي بالقول َّ
خالل علل األحكام السالفة .مؤكدة لغايات وحكم أخرى
تختلف عنها يف الدرجة والمستوى ضرورة اختالف التابع
عن المتبوع لهذا فهي وإن كانت قد ترد من حيث الصيغة
49
ابتدائية لكنها بحكم انبنائها على المقاصد األصلية فإنه
أفردها يف جهة ثالثة .وسنورد عليه إشكا ً
ال.
وهذه الجهة قد ال يظهر أهنا مما ُتعرف به المقاصد؛
التعرف عليها بالوسائل ُّ ألهن��ا تصنف المقاصد بعد
األخرى ،التي تشير إليها الجهة الثانية ،أي بالمسالك كما
الحظه األستاذ عبد اهلل دراز ،رحمه اهلل تعالى ،مشير ًا إلى
عرف بمسلك المناسبة ،معلقًا على كالم الشاطبي، أهنا ُت َ
معترب ًا َّ
أن جعلها جهة ثالث ًة فيه ٌ
نظر.
أن جعلها جهة ثالثة ناشئ عن كوهنا وال��ذي يظهر َّ
عرف العالقة والفرق بين المقاصد األصلية والمقاصد ُت ِّ
أن األخيرة ُمقوية لحكمة األولى، التابعة ،الذي يقوم على َّ
مستدعية لطلبها وإدامتها ،سواء كانت منصوصة أو مشار ًا
َّعرف على المقصد الذي يكون إليها ،فالكالم هنا عن الت ُ
منصوصًا ،فال داع��ي لتخصيص مسلك المناسبة عن
غيره ،واهلل أعلم.
أما المستوى الرابع أو الجهة الرابعة فإهنا ال ُتضيف
جديدً ا يف تعريف المقاصد بل إهنا تتعلق بجهة أخرى
للتعرف على قصد الشارع إذا سكت ،ويمكن أن توضع
50
يف خانة المقاصد االبتدائية ألهنا تقرر ُحكما غايته رفع
الحرج يف كل مسكوت عنه على حدة حسب الحال التي
بينها ،أو مقصدا كل ًيا كما أراد أبو إسحاق الشاطبي رحمه
اهلل تعالى أن يؤسسه يف مسألة البدعة ،وسنناقشه الحقًا
عندما نذكر نصوص الشاطبي وتعليقنا عليها يف المشهد
الخامس.
• خالصة تعريف مقاصد الشريعة :
وبناء على ما تقدم يمكن أن نركب التعريف التالي:
مقاصد الشريعة ه��ي :المعاين الجزئية أو الكلية
المتضمنة لحكم أو حكمة ،المفهومة من خطاب الشارع
ابتداء ،منها مقاصد أصلية وأخرى تابعة ،وكذلك المرامي
والمرامز والحكم والغايات المستنبطة من الخطاب ،وما
يف معناه من سكوت بمختلف دالالته ،مدرك ًة للعقول
البشرية متضمنة لمصالح العباد معلومة بالتفصيل أو يف
الجملة.
51
المشهد الثاني
مسيرة العمل والتعامل
مع المقاصد وبها
54
• المقاصد عند الصحابة والتابعين :
السلف تلك الدعو َة القرآنية التي أشرنا إليهاُ لقد فهم
واستشفاف ِح َكمها ،فتج َّلى
ِ كشف مقاصد الشريعة ِ إلى
الراسخين يف العلم من أصحاب رسول َ ذلك الفهم يف فقه
وبخاصة الخلفا َء الراشدين رض��ي اهلل عنهم ِ اهلل ﷺ
وغيرهم من الصحابة والتابعين.
ِ
الزكاة، فقاتل أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه مانعي
ورشح وورث الجدَ دون اإلخ��وةّ ، المصحفّ ، َ وجمع
الخليف َة من بعده.
عمر رضي اهلل عنه نفي الزاين البكر بعد أن طب َقه، وأوقف َُ
عام الرمادة وأحل ووضع الخراج ،وع َّلق حدَّ السرقة َ َ
الديوان محل عاقلة النسب لما فهم من قصد الشارع نوط
الحكم بروح التضامن والنصرة.
وباع عثمان رضي اهلل عنه ضال َة اإلبل ،ووضع ثمنها َ
ِ
األخالق بيت المال لما رأى من خراب ِّ
الذمم وتغي ِر يف ِ
تماضر الكلبية منَ وورثمع ثبوت ال َّنهي عن التقاطهاَّ ،
زوجها عبدالرحمن بن عوف عليه الرضى الذي أبا َنها يف
مرض الموت.
55
علي رضي اهلل عنه الص َّناع وق��ال«:ال ُيصلح وضمن ُّ َّ
وكف َّ أن كانت يدُ الصانع يدَ أمانة.الناس إال ذاك» بعد ْ َ
أقام عليهمأن َ هيجوا ،وقاتلهم بعد ْ عن الخوارج حتى َّ
الحج َة ولم يأخذ بحديث بروع بنت واشق.
إلى غير ذلك من قضاياهم وفتاويهم رضي اهلل عنهم يف
أمر منه عليه الصالة والسالم، حكم أو ٌ
ٌ أمو ِر لم يسبق فيها
فخصصوه يف الزمان.عموم َّ
ٌ حكم أو
ٌ أو سبقَ فيها
كأم المؤمنين عائشة بعض الصحابة ِّ - وكذلك كان ُ
وأم سلمة رضي اهلل عنهما وغيرهما من أمهات المؤمنين
والصحابة اآلخرين كابن عباس وابن مسعود وابن عمر
ومعاذ وأبي موسى األشعري وغيرهم -يفتون فيما تجدَّ د
من قضايا؛ اعتما ًدا على ما حفظوه من الوحيين ،وتار ًة
اعتما ًدا على ما فهموه من داللة المقاصد.
إم��ام الحرمين عن القاضي الباقالين قو َله ُ فقد نقل
مراسم
َ عن الصحابة« :كانوا رضي اهلل عنهم ال يقيمون
الة على المرام ِز الدَّ ِ
الجمع والتحرير ويقتصرون على َ
المقاصد»(.)1
� - 1إمام احلرمني :الربهان . 1064 /2
56
أن الصحابة كانوا يكتفون بالمعاين المقصدية دون ومع َّ
فإن األصوليين بعد ذلك حولوا تلك المادة ضبط مقننَّ ،
األصلية من قضايا الصحابة وفتاويهم إلى بناء رائع مربع
الزوايا كرتبيع الكعبة الشريفة ،وكل بناء مربع يسمى كعبة
كما يف قول األسود بن يعفر اإليادي:
الخ َورنق والسدير و َب ٍ
ارق أهل َ
ِ
سنداد ِ
الكعبات من والقصر ذي
فكانت الزاوية األولى :إلحاق جزئي بجزئي منصوص
عليه وهو القياس.
والثانية :استثناء جزئي والعدول به عن كلي تخفي ًفا
لمعنى اجتاله ل��ض��رورة ح��اق��ة أو ح��اج��ة م��اس��ة وهو
االستحسان.
والثالثة :إلحاق جزئي بكلي مصلحي استقرائي وهو
االستصالح.
والرابعة :استثناء من أصل إباحة بناء على مئال متوقع
وهو المعرب عنه بسد الذرائع.
ففي الحالتين األخيرتين مراعاة المصلحة من جهة
الوجود يف األولى ومن جهة العدم يف الثانية فعاد األمر
57
إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة.
وامتدَّ مسلك الصحابة يف االستنباط يف عصر التابعين
متفاوتة « َف َسا َل ْت َأ ْو ِد َي ٌ��ة بِ َقدَ ِر َها» (الرعد،)17:
ٍ ٍ
بنسب
بنصيب ،ومع ذلك كانت اإلشار ُة ٍ ِ
مدرسة وأخذت ُّ
كل ْ
ِ
المقاصد؛ إذ منها ُ
مدرسة ِ
المدينة بأ َّنها مدرسة أهلِ ِ إلى
أهلها على منهج ما ورثوه عمل ِ واستمر ُ َّ ُ
السبعة، الفقهاء
ُ
النبوة ومنهج الصحابة يف رعي المقاصد، ِ من ُت ِ
��راث
دليل على جوا ِز الوقف ،حسب أوقافهم قائم ًة ُ ِ فوجود
ُ
مالك رحمه اهلل تعالى.
أهللهذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية«:ففي الجملة ُ
منعاوفقهاء الحديث مانعون من أن��واع الربا ً ُ المدينة
ِ
الشريعة وأصولها»(.)1 مراعين لمقاصد َ محكما ً
ومن كثرة أخذ مالك رضي اهلل عنه بالمقاصد َّادعى
أبو بكر بن العربي أ َّنه انفرد بذاك قائلاً « :وأما المقاصدُ
والمصالح فهي أيضا مما ان��ف��ر َد به مالك دون سائر
العلماء»(.)2
58
يحمل إعجا ًبا«:ما( )1كانُ وقال أيضا عن مالك تعج ًبا
المقاصد ،وما كان أعر َفه بالمصالح»(.)2 ِ أغوصه على َ
الوريث الشرعي لهذا الفقه ،فراعاه َ ٌ
مالك هو إذ كان
ِ
جهة الوجود يف اتجاهين ،وهما :مراعا ُة المصالح من
جلب المصالحِ .ومن جهة العدم ِ ِ
بقاعدة وهو المع َّبر عنه
المع َّبر عنه بقاعدة درء المفاسد.
ٌ
مالك الناصعة ما اختُص بهِ والذي كان من تجلياته
ِ
ودرء ِ
المرسلة حيث كان مج ِّل ًيا فيه، من إعمال المصالحِ
المفاسد ،الذي يم ِّثل الجانب اآلخر للنظرية المقاصدية،
متمثلاً يف مبدإ سد الذرائع .
وهكذا يقول القاضي ابن العربي -عن مالك الذي
زاد على األحاديث التي تدور عليها البيوع أصلين:-
«فإن مال ًكا زا َد يف األص��ول مراعا َة الشبهة ،وهي التي
يسميها أصحابنا الذرائع وهو األصل الخامس .والثاين
وهو السادس :المصلحةُ ،وهو يف كل معنى قام به قانون
-1تنبيه :هذه «ما» تعجبية :ب�أفعل انطق بعد ما تعجبا� .أما كان بعدها فهي زائدة :وقد
تزاد كان يف ح�شو كما كان �أ�صح علم من تقدما.
واال�ست�شهاد من ابن مالك يف الألفية وفيه �إ�شارة �إىل �صحة علم مالك- .افرتا�ضا-
لدخوله يف املتقدمني.
-2املرجع نف�سه .1098 /3
59
الشريعة ،وحصلت به المنفع ُة العام ُة يف الخليقة .ولم
يساعده على هذين األصلين أحد من العلماء ،وهو يف
القول هبما أق��و ُم قيلاً وأه��دَ ى سبيلاً ،وقد بينا وجوب
القول هبما والعمل بمقتضاهما يف أصول الفقه ومسائل
الخالف»(.)1
لكنه يعود مرة أخرى ليقول إن األم َة متفق ٌة يف الجملة
على اعتبار المقاصد؛ حيث يقول« :القاعدة العاشرة :هي
بسط المقاصد والمصالح التي أشرنا إليها قبل هذا ،وقد
ا َّتفقت األم ُة على اعتبارها يف الجملة ،وألجلها َوضع ُ
اهلل
استصالحا للخلق ،حتى
ً والزواجر يف األرض
َ الحدو َد
تعدَّ ى إلى البهائم»(.)2
• المقاصد عند أئمة المذاهب:
وإذا كانت مراعا ُة المقاصد ظلت ماثلة يف فقه األئمة،
مبكرا يف اجتهادهم اتسا ًعا وضي ًقا ،لصو ًقا
فإن التباين ظهر ً
بالنص وبعدً ا منه.
ويصف الشاطبي هذه االتجاهات المتعارضة يف موقفها
60
من التعامل مع النص -أنقل عنه بالمعنى.-
يهتم بالمعانِي ،وإنما
فأولاً :االتجاه الظاهري الذي ال ُّ
َّ
مظان يقتصر على ظواهر النصوص ،وهم يحصرون
العلم بمقاصد الشارع يف الظواهر والنصوص كموقف
أهل الظاهر من األصناف الزكوية واألن��واع الربوية يف
المطعومات والنقود فيقتصرون على مورد النص وال
يجرون حكم العلة على المماثل فال زكاة يف الرز وال يف
الذرة وال ربوية يف غير األصناف المنصوصة.
أن مقصدَ الشارع ليس يف الظواهر، واالتجاه الثاين :يرى َّ
متمسك،َّ ٍ
ظاهر ويطر ُد هذا يف جميع الشريعة ،فال يبقى يف
هم الباطنة وظهر هذا االتجاه يف القرن األول مع ِ
وهؤالء ُ
الجعد بن درهم أيام الخليفة هشام بن عبدالملك فكان
أول من أنكر خلة إبراهيم عليه السالم وتكليم موسى عليه
ظاهر اآلية ليس مقصو ًدا
َ السالم متمس ًكا بالباطن وهو َّ
أن
وقد أقام عليه الحدَ خالد بن عبداهلل القسري أمير العراقين
من قبل هشام ي��وم األضحى يف القصة المشهورة(،)1
ِ
خالفت ُ
بحيث لو غرق يف ِ
طلب المعنى وأ ْل َح َق هبؤالء َمن ُي ُ
-1انظر الوايف بالوفيات لل�صفدي وغريه.
61
كانت م َّطرحة.
النظري َّْ النصوص المعنَى
ُ
والذي نرتضيه هو االتجاه الثالث الذي شرحه الشاطبي
بقوله:
األمرين جميعا ،على وجهٍِ ِ «والثالث :أن َ
يقال باعتبار
ً
لتجري الشريع ُة
َ خل فيه المعنى بالنَّص ،وال بالعكس؛ ال ُي ُّ
تناقض ،وهو الذي َ اختالف فيه وال
َ على نظام واحد ال
ِ
العلماء الراسخين؛ فعليه االعتماد»ُ(.)1 أكثر
أ ّمه ُ
قلت :وهذا االتجاه الثالث الوسطي مذهب األئمة
األربعة الذين أجروا علل األحكام المعللة على أمثالها،
فشبيه الحالل حالل وشبيه الحرام ح��رام ،وفرقوا بين
المعامالت والعبادات ،فتوسعوا يف اعتبار المقاصد يف
األولى وضيقوا حدود المقاصد يف الثانية ،وإن كان قد نقل
عن بعضهم التعليل يف العبادات كما أجاز األحناف أخذ
القيم يف الزكاة والكفارات بدلاً من األنواع المنصوصة
اعتبارا للمعنى والمقصد.
ً
تقسيم دقيق ،إال أنَّه يحتاج إلى ٌ تقسيم الشاطبي
َ َّ
إن
تجلية تتمثل باختصار فيما يلي:
-1ال�شاطبي :املوافقات .134 /3
62
لقد اختلفت المدارس الفقهية بين متمسك بظاهر
النصوص مع دليل واحد هو االستصحاب ،وهؤالء هم
أهل الظاهر(.)1
بينما ق��ال الشافعية مع الظاهرية بظاهرها وزادوا
القياس ،مع اضطراب يف مذهبهم حول االستصالح.
وهؤالء أقرب إلى حرفية النص.
وزادت المدارس المالكية والحنبلية والحنفية على
الظاهر والقياس فقالت باالستدالل ،وهو لغة :طلب
الدليل .قال الشوكاين« :وهو يف اصطالحهم ما ليس بنص
وعرفه يف نشر البنود على مراقي وال إجماع وال قياس»َّ .
طلب الدليلِ ،ويطلق يف
ُ السعود بقوله« :االستدالل لغ ًة
العرف على إقامة الدليل مطل ًقا من نص أو إجماع أو
غيرهما ،وعلى نوع خاص من الدليل وهو المراد هنا،
ويطلق أيضا على ذكر الدليل» .قال يف النظم:
-1تنبيه :اعلم �أن الظاهرية التي �أ�شار �إليها ال�شاطبي هنا ال تخت�ص با�ستنباط الفروع
من الن�صو�ص ،بل �إنها تتعدى �إىل من يتم�سك بالظواهر يف املجال العقدي ،ويرف�ض
الت�أويل ولو كان �صحيح امل�أخذ وا�ضح املنزع واملهيع .يقول �إمام احلرمني يف «الإر�شاد»:
و«احل�شوية الظاهرية »...بل �إن الظاهرية يو�صف بها النحوي �إذا كان ي�صدف عن
التعليل وين�صرف عن الت�أويل �أحيان ًا ،وقد و�صف ال�شاطبي الإمام ابن مالك ب�أنه من
�أهل الظاهر.
63
يل باإل ْج َما ِع والت َّْمثِ ِ
ليل و َل ْي َس ِ َّص ِم ْن الدَّ ِ ما َل ْي َس بالن ِ
تعرتف بالمعنَى ُ أن المدرس َة المقاصدي َة التي وهذا يعني َّ
ٍ
وزان واحدة وال على ٍ ٍ
درجة ليست على النص ِ
ْ ومعقول ِّ
اعتبار أقرب إلى الظاهرية ،بينما يمكن واحد ،فالشافعي ُة ِ
ُ ُ
أقرب إلى نظرية ِ
والحنفية ِ
والحنبلية ِ
المالكية ِ
المدارس
َ
المقاصد؛ لقولِهم باالستدالل الذي يشمل المصالح
المرسلة وسد الذرائع واالستحسان ،على تفاوت يف
درجة األخذ؛ فحينما يقول المالكية بالمصالح المرسلة
وبثالثة أنواع من االستحسان ‑ يبالغ األحناف يف األخذ
باالستحسان ليستغنوا به عن االستصالح ،ويأخذ الحنابلة
مع المالكية بسد الذرائع وبطرف من االستحسان ،ويرتدد
النقل عنهم يف األخذ بالمصالح المرسلة.
ِ
المشهد تتبلور ص��ور ُة القرن الثانِي ب ْ
��دأت ِ ويف آخ ِ��ر
ُ
والمتساكن والمتداخ ِل والمتقابِل ،وإن كان ِ ِ
المتباين
ِ
والحنبلية لم ِ
والمالكية ِ
الحنفية ِ
الثالثة ِ
المذاهب أئم ُة
المتناثرة فِي
ِ خالل اجتهاداتِهم ِ يعلنوا َعن هو َّيتهم إال من
قواعدَّ ،
فإن ٍ تجسدت فيما بعدُ فِي ْ المسائ ِل الفقهية التِي
اإلمام الشافعي رحمه اهلل س َّطر أصو َله التي كان لدالالت
64
ُّ
والحظ األوىف ،ولم يكتف النصيب األوفر
ُ األلفاظ فيها
بذلك فقد أوضح موقفه من اآلخرين ،وبذلك قدَّ م لنا
مواق َفهم كما يراها ،فتحدَّ ث عن االستحسان ،وعن
الذرائع ،معلنًا موقفه المبدئي الحاسم منها.
وهكذا تم َّيزت اتجاهات داخل المذاهب األربعة التي
روابط نسب العلم باألخذ المباشر بين أئمتها. ُ تجمع بينها
وكما شدَّ د الشافعي يف رفضه لالستحسان باعتباره
تشري ًعا مع أن الشافعي لم يبعد أحيانًا من األخذ بشيء من
االستدالل -كما يقول إمام الحرمين ‑ فقد ر َّد القاضي
أبو بكر الباقالين -وهو مالكي -االستصالح بعبارات
«إن فتْح هذا الباب ليس تجاوز فيها الحدّ قائلاً َّ :
َ قوية
أصل ،ويفضي إلى أن يبقى ُ
أهل النظر بمنزلة األنبياء له ٌ
عليهم السالم ،ولم ينسب ما يرونه إلى الشريعة ،وهو
ذريعة إلى إبطال أهبة الشريعة ،وإلى أن يفعل كل واحد ما
يرى .ثم يختلف ذلك باختالف الزمان والمكان وأصناف
الخلق ،فيبطل ما درج عليه األولون ،وألنه لو جاز ذلك
لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه السياسات إذا راجع
المفتين يف حادثة وأعلموه أهن��ا ليست منصوصة وال
65
أصل لها يضاهيها يجوز له حينئذ العمل باألصوب عنده
صعب ال يستجرئ ٌ والالئق بطريق االستصالح؛ وهذا
الناس أيا َم
ُ عليه متد ِّين ،ولو ساغ ما قاله مالك ال َّتخذ
كسرى أنوشروان يف العدل والسياسة معتربهم؛ وهذا
وتجر ٌؤ على االنحالل عن الدين بالكلية»- . ُّ ممنوع
انتهى كالمه بنقل الجويني يف الربهان(.)1
الجدل قد بلغ أش��دَّ ه يف القرن الثالث مع تقديم َ إن
األحناف رؤيتهم األصولية مستنبطة من فروع مذهبهم مع
عيسى بن أبان ،لتكتمل مع أبي الحسن الكرخي وتلميذه
الجصاص الرازي.
اعتبار تداعيات موقف الشافعي من ُ ولهذا يمكن
االستحسان والذرائع وما ُعزي للقاضي الباقالين وهو
ِ
ووص���ف المستصلحِ مالكي م��ن رد لك ِل استصالح
ِ
لرحلة ضبط الشرع بداي ًةِ كاالنحالل مِن
ِ تليق ٍ
بصفات ال ُ
ِ
صياغة المقاصد.
معروف مجدِّ ُد األصول يف القرن ٌ والباقالين كما هو
الرابع وقد ر َّد إمام الحرمين على القاضي بأن :ما ذكره
� -1إمام احلرمني :الربهان .1115 /2
66
بط والمصير إلى انحالل ورد الض ِ ِ
األمر عن َّ من خروج
األمر إلى آراء ذوي األحالم ،فهذا إنما يلزم مال ًكا رضي
اهلل عنه ورهطه إن صح ما روي عنه (.)1
وش�� َّن إم���ا ُم الحرمين حمل ًة َش�� ْع��واء على مالك يف
االستصالح ،وقد رد عليه المالكي ُة بما هو معروف.
الجويني حملتَه باالعرتاف بأن مال ًكا يعتمدُ ُّ
ويستهل
ُّ
ِ ِ
بار ،إال أنَّه بعد على أقضية الصحابة التي ال ُيشق له فيها ُغ ُ
ٍ
بتأويالت ِ
األقضية ِ
االعرتاف دعا مال ًكا إلى تأويل هذه هذا
ٍ
بعيدة اقرتحها عليه.
وخرجت من عباءة هذا الجدل المقاصدُ .
ومن المفارقات أن يكون الشافعية يف طليعة مؤسسي
الفكر المقاصدي من خ�لال مقوالت إم��ام الحرمين
الجويني وردوده الالذعة على مذهب مالك وأبي حنيفة،
وتلتك الرباهي ُن ُّ يلج النزاع ويحتدم الجدال فعندما ُّ
على حياض االجتهاد ،يف محاولة لضبط أوجهه خارج
نصوص الكتاب والسنة واإلجماع والقياس فيما سمي
والمعيار
َ الح ًقا باالستدالل ‑ كانت المقاصدُ الوسيل َة
-1املراجع نف�سه .1119 /2
67
ِ
بتفاريق لهذا الضبط؛ ألهنا كلي ٌة مشك ِّكة ،وإن كانت قطعية
ِ
عبارة الغزالي تقري ًبا. حسب ٍ
أدلة شتَّى
َ
فلذلك ف��إن البحث العلمي المقنن الستكشاف
المقاصد بدأ مع رسالة الشافعي التي ظهرت يف خضم
الطور الثالث من أطوار تدوين الشريعة التي أشار إليها
سيدي أحمد زروق يف كتابه «قواعد التصوف» والذي
ٍ
أط��وار: ِ
بثالثة مر
ذكر فيه بأن نقل الشريعة وتدوينها َّ
الصحابة حتى هنايةِ ِ
عصر الغالب على طور الرواية وهو
ُ ُ
عصر تدوين السنة بأمر عمر بن ُ القرن األول ،حيث بد َأ
عصرُ عبدالعزيز رضي اهلل عنه المتوىف سنة 102هـ .ثم
التفقه ويف رأينا أن رسالة الشافعي كانت صوى بارزة يف
هذا الطور ،والشافعي رضي اهلل عنه تويف سنة 204هـ.
البحث عن المقاصد انطال ًقا من الرسالة ،ور ِّد ُ وقد بد َأ
اشرتك فيه علما ٌء من َ والجدل حولها ،الذيِ الفعل عليها
أرسخهم القاضي أبو بكر الباقالين، ُ مختلف المذاهب:
إال أن الفلسف َة المقاصدي َة كانت مع الجويني( )1المتوىف
- 1يقول عبد املجيد ال�صغري عن �إمام احلرمني� :إنه مت ّيز عن �سالفيه ومعا�صريه
ب�شيئني اثنني :طرحه لأول مرة مو�ضوع مقا�صد ال�شريعة كعلم جديد متميز بقواطع
�أدلته وبتجاوزه للخالف وا�ستقالله عن املذاهب الفقهية الفروعية بل وعن �أ�صول الفقه
68
سنة 478هـ ،وتلميذه أبي حامد الغزالي (سنة 505هـ )،
وتلميذ الغزالي أبي بكر ابن العربي (سنة 543هـ) ،والعز
بن عبدالسالم (سنة 660هـ) ،وتلميذ هذا األخير القرايف
(سنة 682هـ) .مع آخرين كأبي الحسين البصري وأبي
الخطاب والرازي وغيرهم من األصوليين والمتكلمين.
َ
ليكون يف القرن ْ
وإن َّ
تأخر ر ُّد فع ِل األحناف على الرسالة
ِ
وغيرهم يف ٍ
جدل مع الشافعية الثالث فإنَّهم انخرطوا يف
بعضها إلى دالالت
رجع ُ
مختلف قضايا الخالف ،التي َي ُ
وبعضها إلى معقول النص أي المقاصد.
ُ األلفاظ،
وكانت موافقات الشاطبي -التي يحتفي هبا األصوليون
باعتبارها خاتمة النظر األصولي -مقارنات بين أصول
المتكلمين والفقهاء ،وبه نقلت المقاصد من ظواهر
إلى قوانين أو فلنقل من فن إلى علم .وهي اليوم أحوج
ما تحتاج إلى من يقرؤها قراءة تخرج أفكارها من ركام
الظنية نف�سها؛ ثم �إناطته بهذا العلم املتم ّيز �أخطر مهمة ،مهمة الإنقاذ ال�سيا�سي
واالجتماعي للعامل الإ�سالمي من الهوة التي ر�آها و�شيكة الوقوع .ويف هذا ت�صميم على
ربط مفهوم مقا�صد ال�شريعة بامل�شكل ال�سيا�سي واالجتماعي(.عبداملجيد ال�صغري:
الفكر الأ�صويل و�إ�شكالية ال�سلطة العلمية يف الإ�سالم .)355
قلتُ � :إال �أنه يالحظ �أن �إمام احلرمني عندما يتحدث يف مبحث املنا�سب يف �أ�صول
الفقه «الربهان» يختلف عن توجهاته يف كتبه ال�سيا�سية «الغياثي».
69
التبسيطات والقراءات الظاهرية التي ُأغرقت هبا يف هذا
القرن.
ِ
الكالمية ِ
المدارس تدخلإال أنَّه تجدر اإلشارة إلى أن ُّ
كاألشعرية والماتريدية والمعتزلة والشيعة أ ْث َرى يف مسار
أسسا جديدة للحوار الفكر المقاصدي وأوجدَ ً َ التأصيل
طرح إشكالية ِ
الدائر حول المسألة المقاصدية ،من خالل ْ
التحسين والتقبيح العقليين ،ووجوب الصالح واألصلح
‑ أساسا لتعليل أحكام الباري جل وعال وأفعاله ،مما ً
أوجد مفهوم الباعث يف وصف مناط الحكم ،وقد تحايل
إن المراد بالبعث بعث عليه األصوليون األشاعرة ليقولوا َّ
مار لخوض ِغ ِ
ِ األصولي مدفو ًعا المكلفين ( .)1فكان الفقي ُه
ُّ
علم الكالم ،وأحيانًا السباحة يف بحر الفلسفة األرسطية،
دون أن يكون قد أعدَّ لها زورقها.
الحاكم هل هو العقل أو الشرع؟ ِ هكذا ُطرحت مسأل ُة
بعض أهل السنة فأ َّدى هذا الجدل إلى شطط أحيانًا جعل َ
ِ
بدهية تعليل األحكام؛ ألهنا كاألفعال ،ويتخ َّلص من َينفي َ
إن العل َة أمار ٌة منصوب ٌة على الحكم. التعليل بالقولَّ :
- 1قال يف املراقي :وو�صفها بالبعث ما ا�ستبينا منه �سوى بعث املكلفينا
70
• تعريف العقل عند الغربيين :
شرحا عن العقل قبل الخوض يف التفريعات ً وسنقدم
األصولية:
العقل عند الغربيين Rjaisonمن الكلمة الالتينية
Ratioيف تعريف مبسط هو :ملكة خاصة باإلنسان من
خاللها يمكن أن يفكر(.)1
وهو أداة رقابة الخاطر وسيرورة حركة الفكر إلى
القرار والحركة والباعث على الحركة والفعل .وهو
أيضا مجموعة المبادئ وطرق التفكير التي تتيح صواب ً
الحكم على األشياء واآلراء.
إنه من الكلمات غير المحددة المعنى ،كالحق والخير
والشر وليس كالسواد والتمر والرب.
وقد عرف الغزالي العقل يف «معيار العلم» فقال« :وأما
العقل فهو اسم مشرتك ،تطلقه الجماهير والفالسفة
والمتكلمون على وج���وه مختلفة لمعان مختلفة،
والمشرتك ال يكون له حد جامع.
� -1أ�صل هذا تعليق عن العقل ال �صلة له مبا�شرة باملقا�صد كان ردًّا على ت�صريحات بابا
روما بندكت ال�ساد�س ع�شر التي ا�ست�شهد فيها مبقولة تتهم دين الإ�سالم بالالعقالنية
�أثبتناه هنا للفائدة.
71
أما الجماهير فيطلقونه على ثالثة أوجه :األول :يراد به
صحة الفطرة األولى يف الناس ،فيقال :لمن صحت فطرته
األولى :إنه عاقل ،فيكون حده أنه :قوة هبا يجود التمييز
بين األمور القبيحة والحسنة.
الثاين :يراد به ما يكتسبه اإلنسان بالتجارب من األحكام
الكلية ،فيكون حده أنه :معان مجتمعة يف الذهن ،تكون
مقدمات يستنبط هبا المصالح واألغراض.
الثالث :معنى آخر يرجع إلى وقار اإلنسان وهيأته،
ويكون ح��ده أن��ه :هيئة محمودة لإلنسان يف حركاته،
وسكناته ،وهيآته ،وكالمه ،واختياره.
ولهذا االش�ت�راك يتنازع الناس يف تسمية الشخص
الواحد عاقالً.
فيقول واح��د :هذا عاقل ،ويعني به صحة الغريزة،
ويقول اآلخر :ليس بعاقل ويعني به عدم التجارب ،وهو
المعنى الثاين.
وأما الفالسفة ،فاسم العقل عندهم مشرتك يدل على
ثمانية معان مختلفة:
العقل الذي يريده المتكلمون ،والعقل النظري ،والعقل
72
العملي ،والعقل الهيوالين ،والعقل بالملكة ،والعقل
بالفعل ،والعقل المستفاد ،والعقل الفعال.
فأما األول :فهو الذي ذكره أرسطو طاليس يف كتاب
«الربهان» وفرق بينه وبين العلم ،ومعنى هذا العقل هو
التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة،
والعلم م��ا يحصل للنفس باالكتساب ،ففرقوا بين
المكتسب والفطري ،فيسمى أحدهما عقالً واآلخ��ر
علمًا ،وهو اصطالح محض.
وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به ،إذ قال
القاضي أبو بكر الباقالين يف حد العقل :إنه علم ضروري
بجواز الجائزات ،واستحالة المستحيالت ،كالعلم
باستحالة كون الشيء الواحد قديمًا وحديثًا ،واستحال
كون الشخص الواحد يف مكانين.
وأما سائر العقول فذكرها الفالسفة يف «كتاب النفس».
أما العقل النظري :فهي قوة للنفس تقبل ماهيات األمور
الكلية ،من جهة ما هي كلية.
وه��ي اح�تراز عن الحس ال��ذي ال يقبل إال األم��ور
الجزئية.
73
وكذا الخيال.
وك��أن ه��ذا هو ال��م��راد بصحة الفطرة األصلية عند
الجماهير كما سبق.
وأما العقل العملي :فقوة للنفس ،هي مبدأ التحريك
للقوة الشوقية إلى ما تختاره من الجزئيات ،ألجل غاية
مظنونة ،أو معلومة.
وهذه قوة محركة ،ليس من جنس العلوم ،وإنما سميت
عقلية ألهنا مؤتمرة للعقل ،مطيعة إلشاراته بالطبع ،فكم
من عاقل يعرف أنه مستضر باتباع شهواته ،ولكنه يعجز
عن المخالفة للشهوة ،ال لقصور يف عقله النظري ،بل
لفتور هذه القوة ,التي سميت «العقل العملي»(.)1
بأن أصل األشياءأما العقالنية التي يفسرها الغربيونّ :
يرجع إلى أسباب معقولة .ويختلفون بعد ذلك بين قائل
باستقالل العقل عن التجربة ،سواء كانت العقالنية مطلقة
كما ذهب إليه ديكارت وهو يف هذا أفالطوين،أو نقدية
كما ذهب إليه «كانت» ،وهو مذهب يقابل المذهب
التجريبي للمدرسة االنجليزية يف القرن الثامن عشر مع
- 1الغزايل :معيار العلم �ص 286حتقيق �سليمان دنيا
74
جون لوك وهيوم.
• العقل يف الشريعة اإلسالمية :
وقد خاض المسلمون قبل الغربيين يف هذا الخالف
منذ القرن الثاين الهجري ،الثامن الميالدي ،دون أن
يضعوا حدًّ ا فاصلاً بين العقل والعقالنية ،فقال الشافعي
إنه :قوة تميز بين األشياء وأضدادها .وكان منهم من قال:
إن العقل غريزة تلزم العلوم البديهية .وقال اآلمدي :إنه َّ
العلوم الضرورية التي ال ُخ َّلو لنفس اإلنسان منها بعد
كمال اآللة وعدم أضدادها .وهذا ما رأيناه عند ديكارت.
أما الغزالي :فالعقل عنده غريزي وض��روري وهما:
نظري وتجريبي.
وترتب على هذا أن العقل هل هو متحد بالنسبة لجميع
الناس ال يتفاوت بين شخص وآخر وال بين شعب وآخر؟
هذا ما قال به ال��رازي واب��ن القشيري وغيرهما ،وهذا
مذهب ديكارت من الغربيين الذي يقول :إن العقل هو
أعدل األشياء توزيعا بين البشر.
أما من قال بأنه تجريبي فقال بتفاوته بين األفراد.
وقد جمع بعض العلماء بين ذلك باعرتافهم بوجود
75
ضربين مما يشار إليه بالعقل :عقل غريزي وتجريبي
بغض النظر عن الحقيقة والمجاز ،فالعقل يزيد بالتجارب
وينقص.
• هل للعقل حدود؟
إن بعض الفالسفة الغربيين يرون أنه ال حدود للعقل
وتنازل البعض وقال :ال حدود للعقل إال تلك الحدود
التي يضعها العقل .ورأى بعضهم أن المتخيل يمثل
حدود العقل.
وقد قدم الفيلسوف «كانت» يف «نقد العقل المجرد»
امتداد وحدود هذا العقل .لكن بعضهم اعرتف َّ
بأن العقل
اإلنساين محدود بنهاياته واضطراره بمحيطه الجسدي
المادي واالجتماعي الذي يفرض عليه اضطرارات تشير
إلى محدوديته.
لعل ذلك ما يعنيه الفيلسوف اإلسالمي طه عبدالرحمن
عندما يحذر من العقل بواسطة العقل من أجل العقل.
وبالنسبة لنا معشر المسلمين وم��ن يؤمن برسالة
فإن العقل له سقف حيث تكون دائرة الوحي سماويةَّ ،
وهو فضاء ميتافزيقي فوق سقفه .ومع ذلك َّ
فإن العقل
76
يتعامل مع هذه الدائرة يف نطاق االستحالة العقلية والجواز
والوجوب العقليين.
وهذا النطاق عندنا معشر المسلمين يجب فيه عدم
التعارض ،فما أحاله العقل ال يجيزه الوحي وما يوجبه
العقل يوجبه الوحي.
والجائز وهو حيز اإلمكان قد يقرره الوحي وقد ينفيه
حيث يكون الحكم يف هذه المنطقة للوحي دون اعرتاض
من العقل بالنسبة للمؤمنين الذين يسلمون للوحي يف هذه
الدائرة ،لكنهم يقدمون العقل يف دائرة االستحالة.
ولهذا ترد األحاديث إذا خالفت العقل قال الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي رحمه اهلل يف «ال ُّل َمع» يف باب بيان ما
ُير ُّد به خربُ الواحد« :إذا روى الخربَ ثق ٌة ُر َّد بأمور :أحدها:
أن يخالف موجبات العقول ،فيعلم ُبطالنه ،ألن الشرع
بمجوزات العقول ،وأما بخالف العقول فال». ّ إنما َيرد
«كل حديث رأيته يخالف وقال ابن الجوزي رحمه اهللُّ :
العقول ،أو يناقض األص��ول ،فاعلم أنه موضوع ،فال
تتكلف اعتباره ،أي ال تعترب رواته ،وال تنظر يف َج ْرحهم.
الحس والمشاهدة ،أو ُمباينًا لنص ُّ أو يكون مما يدفعه
77
الكتاب والسنة المتواترة أو اإلجماع القطعي ،حيث ال
يقبل شيء من ذلك التأويل»(.)1
أن ننبه على َّ
أن العقل الذي يشير إليه األستاذ أبو يجب ْ
إسحاق الشيرازي وأبو الفرج بن الجوزي على أساس
أنه يحكم يف رد النصوص عند قيام التعارض ووجود
االستحالة هو العقل الخالص؛ القائم على المسلمات
الربهانية القطعية المقننة يف المنطق ،حيث يمتنع الجمع
بأي اعتبار من االعتبارات الزمانية والمكانية والكيفية
«السلب واإليجاب» والكمية «الكلي والجزئي» والنسب
واإلضافات .وليس العقل المتأثر بالمحسوسات العادية
والمحجوب بالظواهر أو المحكوم بسلطان الهوى
والغرور المعريف الزائف ،فالمنغمس يف الغمرة ينفي ما
هو أقرب إليه من حبل الوريد(.)2
إن القرآن يثبت الجواز العقلي يف سياق االستدالل
-1نقال عن �شبري الهندي «مبادئ علم احلديث و�أ�صوله» حتقيق ال�شيخ عبد الفتاح
�أبوغدة
- 2فرتى من تلك حاله ينفي الأحاديث النبوية ال�شريفة ورمبا رد الآيات القر�آنية،
غافال عن كون التوا�ضع مفتاح باب العلم (وما �أتيتم من العلم �إال قليال) (وفوق كل
ذي علم عليم) �صدق ربنا العظيم ،الذي يعلم وال نعلم ،ويقدر وال نقدر ( ،ربنا ال تزغ
قلوبنا بعد �إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة)
78
ثم ينتقل إلى الحكم النقلي عند الحديث عن أحوال
َ ذَّ َ َّ َ َ َّ ٓ
ٱلس َماءِ اآلخرة وعالم َ الغيب بصفة عامة }وٱلِي نزل مِن
َ دۡ َ ٗ َّ ۡ ٗ َ َ ٰ َ خُ ۡ َ ُ َ َ ٓ َ ۢ َ َ َ رَ ۡ َ
نشنا بِهِۦ بلة ميتا ۚ كذل ِك ترجون{ ماء بِقدرٖ فأ
(الزخرف.)11:
هذا فيما يتعلق بمجال العقائد حيث يعترب العقل دليالً
منتجا منشأ( ،)1أما يف مجال التشريع فينبغي أن نفرق بين ً
-1هذا مذهب الأ�شاعرة ،الذي عرب عنه �إمام احلرمني يف م�س�ألة «النظر» امل�شهورة،
وملخ�صها� :أنَّ �أول ما يجب على العاقل البالغ الق�صد �إىل النظر ال�صحيح ،املف�ضي
�إىل العلم بحدوث العامل .ومعنى هذا �أنَّ املدخل �إىل الإميان هو النظر العقلي .وهذا
ما حكى عليه الق�شريي الإجماع ،قائال� :إن املعرفة واجبة �إجماع ًا ،وال ت�صح �إال بالنظر
«العقلي» وما ال يتم الواجب �إال به فهو واجب .وحكى بع�ضهم الإجماع على جواز التقليد
يف املعرفة �إذا �أمن عرو�ض ال�شبه .وهو مروي عن �أبي عبيداهلل العنربي ،وهو من�سوب
�إىل الأئمة« ،فقد ثبت عن الأولني قبول ال�شهادتني من كل ناطق»-.ح�سب عبارة
املقرتح -قال يف الإ�ضاءة:
لأنه �إميان ُه على خطر ويف املقلد خالف َ
م�ستطر
قلت� :إن ال�شك هو الرتدد بني طرفني ال ترجيح بينهما ،وهذا اليجوز �أن يكون مق�صود ًا
للمكلف ،بل املطلوب هو البحث عن و�سيلة من و�سائل املعرفة التي ح�صرها الأ�شاعرة
م�ستند الوجوب ،هل هو أۡ َال�سمع؟ واملعتزلة يف النظر العقلي ،مع اختالف يف �أ�صل
ُ ْ َ َ
اذا ف َّ َ َ ُ
ۡرض﴾ت َوٱل ِ ۚٱلسمٰو ٰ ِ بناء على ظواهر الآيات الداعية �إىل النظر ﴿ق ِل ٱنظ ُروا م يِ
�إىل غريها ،وهذا مذهب الأ�شاعرة� .أو �أ�صل الوجوب عقلي؟ وهذا مذهب املعتزلة،
بناء على �أ�صلهم يف التح�سني العقلي .خالف ًا للكرامية الذين يرون �أن �أول واجب هو
الإقرار ،وخالف ًا لبع�ض املعتزلة كاجلبائي الذين يرون �أن �أول واجب هو ال�شك(.يراجع
«الإر�شاد �إىل قواطع الأدلة يف �أ�صول االعتقاد»لإمام احلرمني و�شرحه للمقرتح) وقال
املقرتح� :إنَّ هذا كفر على �أ�صلهم.
�أ�صل هذه امل�س�ألة يتعلق بوجوب املعرفة باهلل من خالل النظر العقلي .فوجوب املعرفة
واجب �إجماع ًا ،وهذا اختيار الأ�شاعرة واملعتزلة واملاتريدية ،وذهب ابن حزم �إىل �أنه
ال�سمنية .وا�ستدل املقرتح بجملة من �أقوال ال�صحابة يف اختيار جميع امل�سلمني حا�شا ُّ
79
فضائين :فضاء المعامالت الذي يرجع إلى مصالح البشر
حيث يسير العقل إلى جانب الوحي يف تكامل وانسجام
اختلف العلماء يف وصفه ،فرأى بعضهم َّ
أن الشرع إذا ثبت
يقدم على المصلحة التي يقتضيها العقل ،ورأى البعض
اآلخ��ر أن الشرع قد فوض للعقل يف اعتبار المصالح
هذا الباب ،فمنهم ابن م�سعود ومعاذ بن جبل وعلي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنهم،
وكلهم يذم التقليد .ولكن هذه املعرفة هل هي مرتبطة بالنظر العقلي فيكون واجب ًا؟
وهذا مذهب الأ�شاعرة واملعتزلة� .سوى ما ن�سب للجبائي من �أنّ ال�شك هو �أول واجب،
وقد بينا ف�ساده و�أنه مناق�ض للإميان� .أما ال�شك الذي يعر�ض خلاطر امل�ؤمن ويلم به
فهذا غري ناق�ض ،فقد ورد يف احلديث ما يدل على ذلك ففي احلديث� :إن �أحدنا ليجد
أحب �إليه من يف نف�سه ما لأنْ يحرتق حتى ي�صري حممة �أو يخر من ال�سماء �إىل الأر�ض � َّ
�أنْ يتكلم به ،قال ذلك حم�ض الإميان» .ويف حديث ال�شيخنيَ « :ي�أْ ِتي ال�شَّ ْي َطانُ �أَ َحدَ ُك ْم
ولَ :منْ َخ َلقَ َر َّب َك؟ َف ِ�إ َذا َب َل َغ ُه َف ْل َي ْ�س َت ِع ْذ ولَ :منْ َخ َلقَ َك َذاَ ،منْ َخ َلقَ َك َذاَ ،حتَّى َي ُق َ َف َي ُق ُ
هلل» .قلت :وعليه ا
َ تُ ِ ِ ب نْ آم � : ْ
ل قُ ي
َ ْ
ل َ
ف ا، ً
ئ ي َ
�ش ك َ لذَ م
َ نْ َ َ دَ ِ نْ ِ ْ ج و م َ
ف رواية: ويف ». ه َ ْ ْ
الل َ َ ِ
ت ن ي ل و ِب هَّ ِ
�أنْ يدفعه مبا ورد يف احلديث من الإعرا�ض عنه كارها ذلك اخلاطر ،وكذلك بتذكر
الأدلة ،وبخا�صة حدوث العامل وحاجة كل حمدث �إىل محُ دِ ث �ضرورة ،ولدليل ال�سببية
ودليل العناية باملخلوقات� ،إىل غري ذلك من الأدلة جملة وتف�صي ًال� ،سواء تعلق الأمر
مداركه ب�أدلة وحدانية الباري جل وعال و�أدلة النبوة ،وعليه ا�ستح�ضار جهله و�ضعف
ۡ َ َ هَ ُ َ ُّ ُ ٓ َ ۡ ۡ َ َ
َم�ستعينا باهلل ۡ ،مفو�ضا �إليه مكرر مقولة �سيدنا �إبراهيم ﴿إِذ قال لۥ ربهۥ أسل ِمۖ قال
َ َ
أ ۡسل ۡم ُت ل َِر ّ ِب ٱل َعٰل ِم َني﴾ �أما �أنْ يبقى مرتدد ًا يف الريب مطمئن ًا �إىل ال�شك ف�إنّ ذلك
من �أخطر الأحوال فهو مهدد ب�إدراك املوت يف �أي حلظة على ذلك فيموت على غري
دين� ،أعاذنا اهلل وامل�سلمني من ذلك ،وهذا حال الال�أدريني ،الذين وقفوا على مفرتق
الطرق ومل ي�صدقوا الدال على الطريق ال�صحيح ،ف�ضيعوا �أمانة العقل وخ�سروا مو�سم
احلياة .وقد جاء يف الدعاء امل�أثور :اللهم �إين �أعوذ بك من ال�شك والنفاق وال�شقاق
و�سوء الأخالق – .ونكتفي بهذا القدر دون البحث يف ق�ضية ال�شك االفرتا�ضي �أو
العلمي عند الغزايل وديكارت فذلك مو�ضوع �آخر(يرى تخلي�ص العقل من معارفه
المتحانها و�إعادة النظر فيها) و�إذا كان اجلبائي يعنيه فقد عرب عنه تعبري ًا �سيئ ًا،
ن�س�أله �سبحانه الع�صمة.
80
أساسا للتشريع ،مع اتفاق الطرفين على أن العقل يظل ً
دليال مستكشفا ال غنى عنه.
أما الفضاء الثاين وهو فضاء العبادات التعبدية التي
ترتكز أساسا على الوحي فال سلطان للعقل عليها .ومع
ذلك فإهنا كما يقول الفهري معقولة يف الجملة وإن لم
تعقل يف التفاصيل كالصالة ونحوها.
لقد نجح المسلمون إلى حد كبير يف وقت من األوقات
يف إيجاد تساكن وتعايش بين العقل والفلسفة والدين
والحياة الروحية.
لقد كانت مسألة العقل من أه��م القضايا الفلسفية
ال��ت��ي شغلت المسلمين منذ ال��ق��رن ال��ث��اين الهجري
الثامن الميالدي ،واش�ترك يف الجدل حولها الفالسفة
والمتكلمون واألطباء والفقهاء كما يقول الزركشي،
ويمكن أن نضيف اللغويين المهتمين باالشتقاق
ٌّ
والمرتادفات،وكل نظر إليه من زاوية اللغوي وبالمعاين
االستعمال الذي يخدم فيه.وقد اختلفت الفرق يف تعريفه
إلى ألف قول كما يقول بعضهم.
يمجد اإلس�لام العقل مرتب ًطا بالفضيلة واألخ�لاق
81
ويعطيه أكثر من اسم كلها تشير إلى حقيقته الراشدة
وعالقته بالحكمة.
فهو العقل والحجر والنُّهى ،وسمي عقال ألنه يعقل
صاحبه عن ارتكاب القبائح والرذائل أي يمنعه من ذلك،
وك��ذا سمي حجرا أيضا ألنه يحجر صاحبه أي يمنعه
من ارتكاب الرذائل ويفسر العقل أيضا بأنه نور روحاين
به تدرك النفس األمور أو العلوم الضرورية والنظرية.
ويفسر العقل أيضا بأنه القوة التي هبا يكون التمييز بين
الحسن والقبح.
ُ
وعقل الشيء :فهمه قال تعالىِ } :م ۢن َب ۡع ِد َما َع َقلوهُ
َ َُ ۡ ََُۡ َ
ت وهم يعلمون{ (البقرةَ ،)75 :وق��ال تعالىٓ} :أَلي ٰ ٖ
َ اَ َ ُ َ ُ َ َّ
ل ِق ۡو ٖم َي ۡع ِقلون{ (البقرة} ،)164:أفل ت ۡع ِقلون{ (البقرة:
َ َ ُ َ ُ ْ َ ُ َ
َ } ،)44وقالوا ل ۡو ك َّنا ن ۡس َم ُع أ ۡو ن ۡعقِل{ (الملك،)10:
َ ُ ٓ اَّ ۡ َ
} َو َما َي ۡعقِل َها إِل ٱلعٰل ُِمون{ (العنكبوت ،)43:وأكثر
معنى هذه الكلمة أي العقل يف القرآن أن يكون الفهم
ُ ُ َ ُ َ
نت ۡم ت ۡع ِقلون{ واإلدراك الصحيح أو ما يف معناه }إِن ك
ِج ٍر{ (الفجر،)5: (آل ع��م��ران} ،)118:قَ َس ٞم ّ ذِلِي ح ۡ
َ َ ُ ْ أۡ َ ۡ
ب ٰ
يأو يِل ٱللب ِ واستعمل اللب جمعا مرادا به العقل } ٰٓ
82
َّ َ َّ ُ َ ُ َ
ل َعلك ۡم ت َّتقون{ (البقرة ،)179:وكذلك القلب} :إِن
ب{ (ق ،)37:والفـؤاد ى ل َِمن اَك َن هَ ُلۥ قَ ۡل ٌ يِف َذٰل َِك ذَل ِۡك َر ٰ
َ أۡ َ ۡ َ َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ
}وٱل ف �ِٔ��د ة لعلكم تشكر ون { (ال��ن��ح��ل،)78:
ُّ ىَ ْ َ َ َ ُّ َّ
ٰ
ت أِلو يِل ٱنله{ (طه.)54: والنهى} إِن يِف ذٰل ِك ٓأَلي ٰ ٖ
ويف المقولة المشهورة« :أول ما خلق اهلل العقل وقال:
وعزيت وجاللي ما خلقت خلقا أكرم منك بك آخذ وبك
أعطي وبك أعاقب».
وإن لم يثبت هذا القول عنه عليه الصالة والسالم فإنه
يشير إلى مكانة العقل عند المسلمين.
مصدرا من مصادر المعرفة ً اإلس�لام يجعل العقل
األساسية بل المصدر األول المنتج يف العقائد واإليمان
وأحد المصادر األربعة المؤسسة يف التشريع اإلسالمي
كما يقول حجة اإلسالم أبو حامد الغزالي يف مستصفاه.
والعقل أحد الضرورات الخمس التي يقوم التشريع
اإلسالمي على حمايتها إلى جانب الدين والنفس والنسل
والمال .هذه هي الكليات التي تحكم منظومة التشريع يف
اإلسالم.
83
والعقل مناط التكليف واألمانة التي حملها الباري
جل وعال لإلنسان بعد أن عجزت السموات واألرض
والجبال عن حملها .وحرم الدين اإلسالمي المسكرات
وكلما يؤدي إلى تغييب العقل.
وال يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح وإال
قدم العقل الصريح الصحيح وحمل النقل على التأويل
أو عدم الثبوت .وهذا هو مذهب األشاعرة وجمهور
المتكلمين ،وإن خالف شيخ اإلس�لام اب��ن تيمية يف
جزئيات العقليات.
ودعا القرآن إلى إعمال العقل والفكر ،عندما دعا إلى
التدبر والتفكر يف آيات الكون وآيات الوحي وهي دعوة
ٱل ۡلقُإلى اكتناه أس��رار الخلق وحكم األم��ر } َأ اَل هَ ُل خۡ َ
ۡ َ أۡ َ
وٱلمر ۗ{ (األعراف.)54 :الفتا انتباه اإلنسان إلى الربهان ُ
ُ َ َ اَ َ ٓ َ ُ
ف أنفسِك ۡ ۚم أفل القائم يف نفسه على نفسه من نفسه }و يِ
ُۡ ُ َ
صون{ (الذاريات.)21: تب رِ
َ َ أۡ ٓ ۡ َ
ويف الكون من حولهَ }:و َما َخلق َنا َّ
ٱلس َما َء َوٱلۡرض
ت ٱلل َّ َ َ
ٱلسمٰو ٰ ِ َو َما بَ ۡي َن ُه َما َب ٰ ِط اٗل{ (صَّ } ،)27:ما َخلَ َق هَّ ُ
ۚ
ّ َحۡ َ أۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ ٓ اَّ
وٱلۡرض وما بينهما إِل بِٱل ِق{ (الروم.)8:
84
بالتفكر َيف خلقه والتدبر يف أۡ َوحيه وأمره َقال}: وأمر
َ َ َ َ هَّ ُ َّ َ َ َ َََۡ َ ُ ُ ْ َ ُ
ۡرض وما خلق ٱلل ت وٱل ِ وت ٱلسمٰو ٰ ِ أولم ينظروا يِف ملك ِ
َ َّ َ مِن يَ ۡ
شءٖ{ (األعراف ،)185 :وقال تعالىَ }:و َي َتفك ُرون
أۡ َ ف َخ ۡلق َّ َ َ
ۡرض{ (آل عمران .)191:وقال ت َوٱل ِ ٱلس َمٰو ٰ ِ ِ يِ
َ َ ۡ َ َّ َّ ُ ْ ۡ َ ۡ َ
جل وعال}:أفلم يدبروا ٱلقول{ (المؤمنون.)68:
َ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ أۡ َ ۡ ّ َ َّ َّ ُ ٓ ْ َ َ
ب{ ِ ٰ ب ل ٱل وال و أ رك ذ ت ليِ و ِۦ هِ تٰ اي وقال تعالى }:يِلدبروا ء
(ص.)29:
فاألمر بالتفكر والتدبر قد ورد بصيغة الخرب واالستفهام
ليكون أبلغ يف التقرير وأدعى إلى التفكير.
وإنما كان التفكير والتدبر وسيلة الستكناه حكمة
الخلق والمصلحة التي تتضمنها أحكام الحق.
إن هذه المميزات ال توجد يف أي دين هبذا الوضوح
والتماسك.
وانطالقا من هذا جاءت مقاصد الشريعة تمثل منظومة
كاملة ترد الشريعة إلى أص��ول معقولة تصون مصالح
الناس وتدرأ عنهم المفاسد ،وذلك بعد أن استقرينا من
الشريعة أهنا وضعت لمصالح العباد استقراء ال ينازع فيه
الرازي وال غير الرازي .حسب عبارة الشاطبي.
85
وما االختالف يف التحسين والتقبيح العقليين والصالح
واألصلح بين الفرق اإلسالمية إال دليالً على مكانة العقل.
ف�لا ي��وج��د ت��ع��ارض بين العقل وال��وح��ي ،فالدين
اإلسالمي مثال ال يقبل االستحالة العقلية المتمثلة يف
التثليث والتي تزعم أن الثالثة واحد ،والواحد ثالثة ،وأن
اإلله يحل يف البشر.
فأيهما أحق بالعقالنية التثليث أم التوحيد.
وكثير من علماء الالهوت الغربيين الذين اعتنقوا
اإلس�لام ك��ان ذل��ك بسبب العقالنية التي وجدوها يف
اإلسالم وما وجدوه يف ديانتهم من أمور ال تتماشى مع
العقل.
ومع ذلك فإن دائرة الوحي تحكم دائرة العقل الذي
سلم لها فيما ال يدركه العقل لكنه ال يحيله وإنما المحيل
هو العادة.
ولهذا يقول الغزالي يف المنقذ« :ووراء العقل طور
آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون
وأم��ورا ُأخ��ر ،العقل معزول عنها كعزل
ً يف المستقبل،
قوة التمييز عن إدراك المعقوالت وكعزل قوة الحس
86
عن مدركات التمييز .وكما أن المميز لو عرضت عليه
مدركات العقل ألباها واستبعدها ،فكذلك بعض العقالء
أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ،وذلك عين الجهل :إذ
ال مستند لهم إال أنه طور لم يبلغه ولم يوجد يف حقه،
فيظن أنه غير موجود يف نفسه .واألكمه ،لو لم يعلم
بالتواتر والتسامع األل��وان واألشكال وحكي له ذلك
يقر بـها .وقد قرب اهلل تعالى على
ابتدا ًء ،لم يفهمها ولم ّ
نموذجا من خاصية النبوة ،وهو النوم:
ً خلقه بأن أعطاهم
صريحا وإما يف
ً إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ،إما
كسوة مثال يكشف عنـه التعبير .وهذا لو لم يجربه اإلنسان
من نفسه -وقيل له :إن من الناس من يسقط مغش ًيا عليه
كالميت ،وي��زول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك
الغيب –.ألنكره ،وأقام الربهان على استحالته ،وقال:
القوى الحساسة أسباب اإلدراك ،فمن ال يدرك األشياء
مع وجودها وحضورها ،فبأن ال يدرك مع ركودها أولى
وأحق .وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة .فكما
أن العقل طور من أطوار اآلدمي ،يحصل فيه عين يبصر
بـها أنوا ًعا من المعقوالت ،والحواس معزولة عنها،
87
أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر فالنبوة ً
يف نورها الغيب ،وأمور ال يدركها العقل.
والشك يف النبوة ،إما أن يقع :يف إمكانـها ،أو يف وجودها
ووقوعها ،أو يف حصولها لشخص معين.
ودليل إمكانـها وجودها .ودليل وجودها وجود معارف
يف العالم ال يتصور أن تنال بالعقل ،كعلم الطب والنجوم؛
فإن من بحث عنها علم بالضرورة أهنا ال تدرك إال بإلهام
إلهي وتوفيق من جهة اهلل تعالى ،وال سبيل إليها بالتجربة.
فمن األحكام النجومية ما ال يقع إال يف كل ألف سنة مرة،
فكيف ينال ذلك بالتجربة؟ وكذلك خواص األدوي��ة.
فتبين بـهذا الربهان أن يف اإلمكان وجود طريق إلدراك
هذه األمور التي ال يدركها العقل -وهو المراد بالنبوة
-ال أن النبوة عبارة عنها فقط ،بل إدراك هذا الجنس
الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ،ولها
خ��واص كثيرة سواها .وما ذكرنا ،فقطرة من بحرها؛
نموذجا منها ،وهو مدركاتك يفً إنما ذكرناها ألن معك ُأ
النوم؛ ومعك علوم من جنسها يف الطب والنجوم ،وهي
معجزات األنبياء عليهم الصالة والسالم ،وال سبيل إليها
88
للعقالء ببضاعة العقل أصلاً » (.)1
لقد ك��ان ه��ذا أنموذجًا لفهم المسلمين لفضاءات
الحس والعقل والوحي .وهو المشهد الثالث :المصلحة
بين العقل والنقل.
89
المشهد الثالث
موازنات المقاصد
92
القضية األولى :المصلحة بين العقل والنقل :
وهي ِ وأط َّلت المسأل ُة التي ال ُ
نوع من التأثيرَ ، يزال لها ٌ
هل المصلح ُة التي ُتبنَى عليها األحكا ُم عقلية أم شرعية؟ ْ
هل هي عقلية أم ِ
المصلحة ْ وبعبارة أخرى :ما مرجعي ُة
شرعية؟ وهي مسألة تحيل على مسألة التحسين العقلي.
آخر يف النظر المقاصدي يمكن استجالؤه من إنه وج ٌه ُ
خالل القطوف التالية لوجهتَي نظر:
أولاً :االتجاه الذي يرى أن المصلحة ال تُعرف إال من
قبل الشرع:
فهذا الغزالي رحمه اهلل وهو يتعرض لألصول الموهومة
يف «المستصفى» يطنب يف موضوع المصلحة؛ فبعد أن
االستصالح من األصول الموهومة ذكر أمثل ًة فيما َ أنذكر َّ
ِ ِ ِ قو ِة ِ
المقصد الذي َ مرتبة بحسب المصلحة يتع َّلق بتفاوت َّ
الضرورات ،وإلى ما هيِ ِ
مرتبة تكون فِي
ُ تنتمي ِ
إليه عندما
ِ
والتزيينات ِ
بالتحسينات الحاجات ،وإلى ما يتع َّلق ِ يف ِ
رتبة
كل قسم رتبة الحاجات .ويتعلق بأذيال ِّ أيضا عن ِ وتتقاعدُ ً
ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها .ذلك فحوى
كالمه.
93
ومن جملة هذا الكالم يقول« :ولنفهم أولاً معنَى
ثم أمثلة مراتبها ،المصلحة :هي عبارة يف األصل ِ
المصلحة َّ
عن جلب منفعة أو دفع مضرة .ولسنا نعنى به ذلك؛ فإن
وصالح ُ جلب المنفعة ،ودفع المضرة مقاصدُ الخلق،
الخلق يف تحصيل مقاصدهم .لكنا نعنى بالمصلحة ِ
المحافظة على مقصود الشرع».
ليس االستصالح َ
َ وانتهى الغزالي إلى القول« :وتب َّين َّ
أن
أنشرع ،كما َّ أصلاً خامسا ِ
برأسهْ ،بل َمن
استصلح فقدْ َّ
َ ً
االستصالح على ما َ شرع ،وتبين به َّ
أن َمن استحس َن فقدْ َّ
ذكرنا»(.)1
الشاطبي حيث قال« :وإذا االتجاه هذا ن وال يبعدُ مِ
ُّ
مصالح َّ ٍ
كان معلو ًما من الشريعة يف مواط َن كثيرة أن ثم
َ
يقدر على استنباطها وال أخر غير ما يدركه المكلف ،ال ُ َ
كون المحل محل آخر؛ إذ ال ُيعرف ُ على التعدية هبا يف ٍّ
اآلخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العل ُة ألبتة ،لم يك ْن
فبقيت موقوف ًة على التع ُّبد ْ إلى اعتبارها يف القياس ٌ
سبيل،
ال ما يظهر لألص ِل المع َّلل هبا شبي ٌه إ َّ ْ ِ
المحض؛ ألنَّه لم
امل�ست�صفى .432 - 414 /1 -1الغزايل:
94
ُ
يكون اإلطالق ْأو العمو ِم المع َّلل ،وإ ْذ َ
ذاك ِ تحت َ َ
دخل
الوقوفُ الحكم المع َّلل هبا متع َّبدً ا به ،ومعنى التعبد به ِ أخذُ
فيه من غير زيادة وال نقصان. عند ما حدَّ الشارع ِ
ُ
تحكم بين ُ لم ال
قال للحاكمَ : السائل إذا َ َ والرابعَّ :
أن
فأجاب« :بأين نُهيت عن ذلك»؛ َ الناس وأنت غضبان؟
يشوش عقلي، الغضب ِّ
َ كان مصي ًبا ،كما أنَّه إذا قالَّ :
«ألن
أيضا، ��ان مصي ًبا ً ت يف الحكم؛ ك َ وهو مظنَّة ع��د ِم التثب ِ
ُّ
واألول جواب التعبد المحض ،والثاين جواب االلتفات
جاز إلى المعنى ،وإذا جاز اجتما ُعهما وعدم تنافيهما؛ َ
دل على َّ
أن جاز القصدُ إلى التعبد َّ القصدُ إلى التعبد ،وإذا َ
يصح القصد إلى ما ال ِ توجه هنالك تعبدً ا ،وإ َّ
ُّ يصح ُّ ّ لم
ال ْ
أن يوجدَ أو ال يوجد، ٍ
ممكن ْ إليه من معدوم أو القصدُ ِ
صح المقصو ُد له مطل ًقا ،وذلك صح القصدُ مطل ًقا؛ َّ فلما َّ َّ
جهة التعبد ،وهو المطلوب.
بالحكم، ِ المصلحة مصلح ًة تقصدُ ِ كون أن َ والخامسَّ : ُ
يختص بالشارعِ ،ال مجال والمفسدة مفسد ًة كذلك ،مما ِ
ُّ
للعقل فيه ،بنا ًء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح ،فإذا
الواضع لها فهو ٍ َ
ُ الحكم لمصلحة ما؛ َ َ شرع
َ الشارع قدْ
ُ كان
95
كذلك؛ ِ
إذ َ َ
تكون أن الفكان يمك ُن عقلاً ْ َ مصلحةً ،وإال
األول متساوي ٌة ال قضا َء ِ ِ
وضعها ِ
بالنسبة إلى األشيا ُء ك ُّلها
المصلحة مصلح ًة ِ بحسن وال قبحٍ ،فإ ًذا ُ
كون ٍ للعق ِل فيها
إليه العقل وتطمئن ِ ُ بحيث يصدق ُه ُ هو م ْن قب ِل الشار ِع
ُّ َ
النظر ُ مصالح قدْ َآل ُ هي ُ
فالمصالح م ْن حيث َ ُ النفس؛
ُ
ال ُ
يكون إ َّ التعبدي ال
ِّ تعبديات وما انبنَى ع َلى ٌ فيها إ َلى أهنا َ
تعبد ًّيا»(.)1
يقرر أن الشريع َة إنما ُوضعت الشاطبي عندما ِّ َّ لكن
وأن ح َّ��ق العبد راج��ع إل��ى مصالحه العبادَّ ، ِ لمصالحِ
الدنيوية ،ففيه منافاة العتبار المصالح تعبدية.
ففيه شرعي؛ ِ ِ كمكل ُح ٍ أن َّ
وذلك حين يقول« :كما َّ
ٍّ
أن الشريع َة للعباد إما عاجلاً وإ َّما آجلاً ؛ بناء على َّ ِ حق
ٌّ
العباد ،ولذلك قال يف الحديث: ِ ضعت لمصالحِ ْ إنما ُو
ولم ُي ْش ِركوا ِبه شي ًئا أ َّ ِ ِ
ال «حق العباد ع َلى اهلل إ َذا عبدُ وه ْ ُّ
ُي َع ِّذهبم»(.)2
96
«حق اهللِ» أن ُه ما ُفهم مِن الشر ِع أنَّه ال ِ
تفسير ِّ وعادهتم يف
ٍ
معقول، غير ٌ كان َله معنًى ِ
للمكلف؛ َ خير َة ِ
معقول ْأو ُ فيه
مصالحه يف الدنياْ ،
فإن ِ كان راج ًعا إلى العبد» ما َِ و«حق ُّ
جملة ما يط َلق ِ ِ فهو مِن ِ َ ِ
عليه َ ُ كان من المصالحِ األخروية؛ ُ
يعقل معنا ُهعندهم أنَّه ما ال ُُ ِ
«التعبد» حق هللِ ،ومعنَىأنَّه ُّ
حق اهللِ، ِ
العبادات راجع ٌة إلى ِّ ُ
وأصل ِ
الخصوص، على
العادات راجع ٌة إلى حقوق العباد»(.)1 ِ وأصلُ
أيضا «:فإذا كان كذلك؛ فالمصالح والمفاسد وقال ً
الراجعة إلى الدُّ نيا إنما تفهم على مقتضى ما َغلب ،فإذا
كان الغالب جهة المصلحة؛ فهي المصلحة المفهومة
ُع ْر ًفا ،وإذا غلبت الجهة األخرى؛ فهي المفسدة المفهومة
عر ًفا ،ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسو ًبا إلى الجهة
الراجحة ،فإن رجحت المصلحة؛ فمطلوب ،ويقال فيه: َّ
إنه مصلحة ،وإذا غلبت جهة المفسدة؛ فمهروب عنه،
ويقال :إنه مفسدة ،على ما جرت به العادات يف مثله ،فإن
خرج عن مقتضى العادات؛ فله نسبة أخرى وقسمة غير
هذه القسمة.
- 1نف�س املرجع .539 /2
97
ه��ذا وج��ه النَّظر يف المصلحة الدُّ نيوية والمفسدة
الدُّ نيوية ،من حيث مواقع الوجود يف األعمال العادية.
وأما النظر الثاين فيها من حيث تع ُّلق الخطاب هبا شر ًعا،
فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرهتا مع المفسدة
يف حكم االعتياد؛ فهي المقصودة شر ًعا ،ولتحصيلها
وقع ال َّطلب على العباد ،ليجري قانوهنا على أقوم طريق
وأهدى سبيل ،وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل
المقصود على مقتضى العادات الجارية يف الدُّ نيا ،فإن
تبعها مفسد ُة أو مش َّقةُ؛ فليست بمقصودة يف شرع َّية ذلك
الفعل وطلبه.
وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى
المصلحة يف حكم االعتياد؛ فرف ُعها هو المقصود شر ًعا،
أتم وجوه اإلمكان وألجله وقع النهي ،ليكون رفعها على ّ
كل عقل سليم ،فإن العادي يف مثلها ،حسبما يشهد له ّ
َتبِعتها مصلح ٌة أو لذةٌ ،فليست هي المقصودة بالنهي عن
ذلك الفعل ،بل المقصود ما غلب يف المحل ،وما سوى
ذلك ُم ْل ً
غى يف مقتضى النهي ،كما كانت جهة المفسدة
ملغاة يف جهة األمر.
98
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتربة شر ًعا أو ُ
المفاسد المعتربة شر ًعا هي خالص ٌة غير َم ُشوبة بشيء
وإن ُت ُو ِّهم أهنا َمشوبة، كثيراْ ، من المفاسد ،ال قليلاً وال ً
فليست يف الحقيقة الشرعية كذلك؛ ألن المصلحة
المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد هبا ما يجري يف
الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضى التفات ّ االعتياد
الشارع إليها على الجملة ،وهذا المقدار هو الذي قيل إنه
للشارع يف شرعية األحكام»(.)1 غير مقصود َّ
التربيزي يف كالمه بنق ِل ِ
االتجاه أصرح أه ِل هذا ويم ِّثل
ُّ َ
بكل سبيلٍ، ليست مطلوب ًة ِّ ْ «إن المصلح َة وفيهَّ : القرايفِِّ ،
كل حكم»ٍ . ِ
بواسطة ِّ وال
ليست واجب َة
ْ المصالح
َ «والسر َّ
أن ِ
القول: وانتهى إ َلى
َ
ُّ
الحق ،بل إنمالصفة ذاهتا عندَ أه ِل ِّ ٍ الرعاية وال أهنا مرعي ٌة ِ
ومقتضى الوض ِع َ ِ
الخطاب ِ
لموجب استح َّقت الرعاي َة
حالة أخرى مِن أن يلغي ما اعتربَه يف ٍ
َ
والنصب ،ول ُه تعا َلى ْ
ِ
الحادثة». تأثير َ
لتلك غير ٍ ِ
جنس األحكام ِ جنس المصالحِ فِي ِ اعتبار
َ ويقولَّ :
إن
- 1ال�شاطبي :املوافقات .45 /2
99
جنس األحكام(.)1 ِ يعارضه إلغا ُء المصالحِ فِي ُ
أما االتجاه الثاين :الذي يرى أن العقل كاف يف تقرير
المصلحة ،فتمثله القطوف التالية:
وفيها ت��ن��درج مقولة ال��ع��ز« :معظم مصالح الدنيا
ومفاسدها معروفة بالعقل ،وذلك معظم الشرائع»(.)2
والمصالح
َ المتناسب
َ وي��ق��ول أي��ض��ا« :وم��ن أراد
لم
الشرع ْ َ ذلك على عقله ،بتقدير َّ
أن فليعرض َ ْ والمفاسدَ
حكم منها يخرج عن ٌ ثم يبني عليه األحكا َم ،فال يكا ُد ير ْدَّ ،
ولم يوقفهم على مصلحتِه اهلل به عبا َده ْ ال ما تعبدَ ُ ذلك ،إ َّ
ومفسدتِه»(.)3
حيث يقول: العقل بالشر ِع ُ َ آخر ُ
يربط ولكنه يف موض ٍع َ
ِ
المفاسد ِ
ودرء جلب المصالحِ ِ ومن تت َّبع مقاصدَ الشر ِع يف
بأن هذه عرفان ٌَّ ذلك اعتقا ٌد أو حصل ل ُه م ْن مجمو ِع َ َ
يجوزُ وأن هذه المفسد َة ال يجوز إهما ُلهاَّ ، ُ المصلح َة ال
قياس ٌ ��ص وال وإن لم يك ْن فيها إجماع وال ن ٌّ قربانُها ْ
يوجب ذلك». ُ نفس الشر ِعهم ِ خاص ،فإن َف َ ٌّ
- 1يراجع املرجع ذاته.
.6 /1 - 2العز بن عبد ال�سالم :قواعد الأحكام
-3نف�س املرجع .9 /1
100
لمختصر ِ شرحه ِ حينئذ ما ذك��ره الطوفِ ُّي يف ٍ ويتَّجه
قسموا ��ؤالء الذي َن أن ه ِ :اعلم َّ «قلت ونصه: ِ
ُ ْ ُ الروضةُّ ،
وغير ِ ٍ
ضرورية ٍ
ومرسلة، ٍ
وملغاة ٍ
معتربة المصلح َة إلى
حكم ِ ِ
معرفة والطريق إلى ُ ‑ تعسفوا وتك َّلفوا، ٍ
ضرورية
َّ
ثبت نقول قد َ بأن َ وأقرب ،وذلك ْ ُ أعم من هذا المصالحِ ُّ
بالجملة إجما ًعا، ِ ِ
والمفسدة ِ
للمصلحة مراعا ُة الشر ِع
ُ
الفعل ْ ٍ
حصلناها، مجرد ًة َّ تضم َن مصلح ًة َّ إن َّ وحينئذ نقول
تضمن مصلح ًة َّ وإنتضمن مفسد ًة مجرد ًة نفيناهاْ ، َّ ْ
وإن
تحصيل ُ نظرنا استوى فِي ِ فإن َ وجه ومفسد ًة مِن وجهْ ٍ، مِن ٍ
المرجح؛ ْأو خ َّيرنا المفسدة تو َّقفنا على ِ ودفع ِ
المصلحة
ِّ ُ
يكفي ال ما ِ السرتة إ َّ ِ بينهما ،كما َ ِ
لم يجدْ من ُّ قيل في َمن ْ
أفحش؟ أو ُ الدبر؛ ألنَّه مكشو ًفا يه فقطْ : أحدَ فرج ِ
هل يسرت َ َ
ِ
المصلحتين ِ
لتعارض يتخير؛ ِ
القبل الستقباله به القبلةَ؟ أو ِ َ
ُ
ِ
والمفسدتين؟
تحصيل ُ ِ
األمرين، ترجح أحدُ ذلك ْبل َّ يستو َ ِ لم وإن ْ
العمل بالراجحِ َ ألنالمفسدة فعلناهَّ ، ِ دفع ِ
المصلحة ْأو ُ
كل ما ذكروه يف يتخرج ُّ ِ ِ
متع ِّين شر ًعا.وعلى هذه القاعدة َّ
101
تفصيلهم المصلحة»(.)1
أكثر صراح ًة يف شرحه لألربعين وق��د ك��ان الطويفُّ َ
يقول« :أما المعامالت ونحوها ،فالمتبع حيث ُ ُ النووية،
الناس كما تقرر .فالمصلح ُة وباقِي ِ
أدلة ِ فيها مصلح ُة
َّ
أن يتفقا أو يختلفا .فإن اتفقا فبها ونعمت... الشر ِع إ َّما ْ
تعذر الجمع فاجمع بينهما ....وإن َّ ُ فإن أمك َن وإن اختلفا ْ
الجمع بينهما ُقدمت المصلح ُة على غيرها؛ لقولهﷺ« :ال ُ
الضرر المستلز ِم ِ ِ
خاص يف نفي ضرار»( .)2وهو ضرر وال
ٌّ َ َ
َّ ِ
هي تقديمه ،وألن المصلح َة َ ُ فيجب
ُ لرعاية المصالحِ
ِ
بإثبات األح��ك��ا ِم، سياسة المك َّلفين ِ المقصود ُة م�� ْن
التقديم على ِ األدلة كالوسائِل .والمقاصدُ واجب ُة ِ وباقِي
الوسائل»(.)3
تنفي األشعرية ‑ التِي ِ ِ الغزالي ِ
لمدرسة فبالنسبة
ِّ
ٍ
متفاوتة ٍ
بنسب ِ
الجمهور العقلي وهي مدرس ُة التحسي َن
َّ
ِ
المصلحة، للتعرف على ِ
االرتكاز النص نقط َة ُ
ُّ ‑ يكون ُّ
الشرع باالعتبار شهاد ًة ُ لتشمل ما شهدَ له َ تتسع الدائر ُة ُ ثم
َّ
-1الطويف� :شرح خمت�صر الرو�ضة .214/3
� - 2سبق تخريجه.
-3جنم الدين الطويف :التعيني يف �شرح الآربعني� ،ص 277
102
ثم المناسب المالئم المؤثرَّ ، ِ ِ
كالمناسب لصيق ًة بالنص،
المالئم يف الدرجة ِ ِ
المناسب لتقف يف الحدِّ األع َلى َ
مع َ
بعضهم الثالثة ،وهو الجنس يف الجنس ،والذي يسميه ُ
تظهر شهاد ٌة مع َّينة. لم ْ بالغريب ،وتتوقف إذا ْ
حيث لم المصالح المرسلةَُ ، َ َ
لتشمل تتسع الدائر ُة ُ وقد
تصرفات الشار ِع جنس ُّ ِ تظهر شهاد ٌة معينةٌ ،وتكفى شهاد ُة ْ
أقوال تشير إليه ُ تكون هناك منافا ٌة للشرعِ ،وهذا ما ُ َ دون أن َ
بعض المالكية. ِ
هي المصلح ُة التِي َ ه عندَ ِ
الدائرة فإن نقط َةَّأما الطويفُّ َّ
ِ
النفعية ِ
العقلية ِ
المصلحة ِ
معيار حسب تتدرج يف االتسا ِع
َ ُ
فتصبحُ أن تتو َّقف أما َمه، النص ،بدال من ْ توقف َّ ُ التِي قدْ
كانت ْ الملغا ُة معتربةً ،خال ًفا لجمهور أهل العلم ْ .
وإن
توهم شي ًئا من هذا القبيلِ ،ككال ِم ِّ
العز بعضهم قدْ أقوال ِ ُ
ُ
عرض أن ُت َإليه ،والذي َيرى ْ عبد السال ِم الذي أشرنا ِ بن ِ ِ
لم ِير ْد .ولع َّله يريدُ به الشرع َْ القضايا على العقل كما لو َّ
أن
أمر مس َّل ٌم بِه. التوافق بي َن العق ِل والنق ِل ٌ َ أنَّ
ال يزال لهذه القضية ضرب من البزوغ بعد أن خبت
جذوهتا وكانت شبه محسومة عند أهل السنة من خالل
103
حكما
ً ضبط المناسب واعتبار التحسين العقلي غير مثمر
وإن أشار إلى حكمة ،يستوى يف ذلك منهم من قال به
ومن لم يقل به من جهة أخ��رى .وقد ظهرت يف ثوب
حداثي ال يريد التصريح بمراغمة الوحي لكنه يتوكأ على
المصلحة العقلية أو ما سماه بعضهم بالمقصد الجوهري
الذي يلغي النصوص والمقاصد األخر(.)1
-1من فتنة الت�أويل �إىل فتنة املقا�صد� :إننا �أمام مدر�سة تقول بالظواهر واملقا�صد
لكنها ت�سيء يف ا�ستعمال االثنني �أحيا ًنا جمودًا على الظواهر مع قيام احلاجة واقت�ضاء
التعامل مع املقا�صد و�أحيا ًنا ان�صرا ًفا عن الظواهر مبقا�صد زائفة وغري من�ضبطة
وجتدون �أمثلة لهذه املدر�سة الالمن�ضبطة .فقد دعى بع�ض الباحثني املحدثني �أو
احلداثيني بتعبري �أدق �أن املقا�صد و�سيلة لإحداث ثورة فقهية ال�ستبدال فقه جديد
بفقه قدمي عفا عليه الزمان ح�سب دعواهم ومن ه�ؤالء �أركون وال�شرفى ون�صر �أبوزيد.
و�إن هذا الكالم يحمل تهاويل وظالل �أ�شواق �إىل �إيجاد ت�شريع جديد ولي�س �إىل جتديد
�شريعة ،فا�ستعذبت ديباجته وا�ستح�سنت حلته دون �أن ت�شتمل على جوهر وجود وحد
حمدود فك�أنه ليل ي�صيح بجانبيه نهار يف ر�أي الدينوري يف ت�شنيف امل�سامع وت�أنيق
الأب�صار ،فم�شاهد اخليال �شيء وت�شييد بناء العلم على �أ�س�س ثابتة را�سخة ليكون
�سك ًنا ,وغر�س �شجرته يف ب�ستان املعارف لت�ؤتي ثما ًرا �شيء �آخر.
�إن هذه الدعوات من باب عري�ض الدعوى ورفع العقرية بال�شكوى و�إن �ساورك �شك �أو
مفهوما واحدً ا من هذه املفاهيم �أو مبد�أ بك ًرا من هذه
ً اعرتاك عجب فاطلب من ه�ؤالء
املبادئ �أو قاعدة فريدة من هذه القواعد...
وهي دعوة لركوب مطية املقا�صد للهروب من دميومة مفاهيم ال�شريعة امل�ستنبطة
من الدالالت اللغوية وجتريدها من املعاين التي فهمها الرعيل الذي تلقى الوحي ومن
خالل ما �سموه باملق�صد اجلوهري الذي ي�ضفى الن�سبية على كل معنى ليتالئم معه
ليكون لكل ع�صر �شرعه ولكل زمن �أحكامه دون متييز بني ثابت ومتغري.
ونرجو �أال تكون فتنة كفتنة الت�أويل التي و�صفها ابن ر�شد يف كتابه «الك�شف عن مناهج
الأدلة يف عقائد امللة» ،فقال« :ومثال من �أول �شي ًئا وزعم �أن ما �أوله هو ما ق�صد ال�شرع،
مثال من �أتى �إىل دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ و�صرح بذلك الت�أويل للجمهورُ ،
104
َ
ولعل المقاصدَ الشرعي َة الثالث َة الضروري والحاجي
والتحسني التي يرجع تقسيمها إلى قضاء النقل وهو
الحكم ال��ذي ال يعزل ،ولشهادة العقل وه��و الشاهد
�صحة جميع النا�س �أو الأكرث ،فجاء رجل فلم يالئمه ذلك الدواء املركب الأعظم،
لرداءة مزاج كان به لي�س يعر�ض �إال للأقل من النا�س ،فزعم �أن بع�ض تلك الأدوية
التي �صرح با�سمه الطبيب الأول يف ذلك الدواء ،العام املنفعة ،املركب ،مل ُيرد به
ذلك الدواء الذي جرت العادة يف الل�سان �أن يدل بذلك اال�سم عليه ،و�إمنا �أريد به
دواء �آخر مما ميكن �أن يدل عليه بذلك با�ستعارة بعيدة .ف�أزال ذلك الدواء الأول من
ذلك املركب الأعظم وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن �أنه الذي ق�صده الطبيب .وقال
للنا�س :هذا هو الذي ق�صده الطبيب الأول .فا�ستعمل النا�س ذلك الدواء املركب على
الوجه الذي ت�أوله عليه هذا املت�أول فف�سدت به �أمزجة كثري من النا�س.
فجاء �آخرون �شعروا بف�ساد �أمزجة النا�س عن ذلك الدواء املركب ،فراموا �إ�صالحه
ب�أن �أبدلوا بع�ض �أدويته بدواء �آخر غري الدواء الأول ،فعر�ض من ذلك للنا�س نوع من
املر�ض غري الأول النوع الأول.
فجاء ثالث فت�أول يف �أدوية ذلك املركب ،غري الت�أويل الأول والثاين ،فعر�ض للنا�س من
ذلك نوع ثالث من املر�ض غري النوعني املتقدمني.
فجاء ُمت�أ ِّول رابع فت�أول دواء �آخر غري الأدوية املتقدمة ،فعر�ض منه للنا�س نوع رابع من
املر�ض غري الأمرا�ض املتقدمة.
فلما طال الزمان بهذا املركب الأعظم و�سلط النا�س الت�أويل على �أدويته ،وغيرَّ وها
وبدلوها ،عر�ض منه للنا�س �أمرا�ض �شتى ،حتى ف�سدت املنفعة املق�صودة بذلك الدواء
املركب يف حق �أكرث النا�س.
وهذه هي حال هذه الفرق احلادثة يف هذه ال�شريعة مع ال�شريعة .وذلك �أن كل فرقة
منهم ت�أولت يف ال�شريعة ت�أويلاً غري الت�أويل الذي ت�أولته الفرقة الأخرى وزعمت �أنه
الذي ق�صده �صاحب ال�شرع ،حتى متزق ال�شرع كل ممزق ،وبعد جدً ا عن مو�ضعه
الأول»(.الك�شف عن مناهج الأدلة �ص )149
ً ً
وهذا الكالم ال ينبغي �أن يف�سر على �أنه ميثل رف�ضا باتا من ابن ر�شد احلفيد يو�صد يف
وجه الت�أويل الباب وي�سدل دون امل�ؤول احلجاب ،ف�إن البن ر�شد يف «ف�صل املقال» كالما
�أن�صف فيه الت�أويل و�أعطاه حقه ،و�أهمل الظاهر يف بع�ضه ومنحه م�ستحقه.
105
ِ
ومقتضيات لمطالب العق ِل ِ ال��م��ع��دل ،تم ِّثل سق ًفا
مصالح الدُّ نيا
َ ُ
تربط المئاالت التِي
ِ النظر إلىِ مع
النقلَِ ،
اآلخرة .مع مراعاة مقصد االستخالف الرشيد ِ ِ
بعواقب
واالستعمار السديد والعدل العتيد التي يمكن أن ترتجم
إلى الحكم الرشيد وحسن إدارة الموارد والعدالة يف
التوزيع ويف الحكم ،مع إدماج القيم األخالقية يف طيات
األسس التي تقوم عليها تلك العمارة المشار إلى مفرداهتا
على ضوء المقاصد الكلية والجزئية والعامة والخاصة،
لتشكل يف الشريعة منظومة كاملة كفيلة برعاية معتربات
المصالح ومجتنبات المفاسد.
ِ
معقولية المعنَى بين ِ
دوران الشريعة َ ُ • القضية الثانية:
والتع ُّبد :
واتضحت
ْ بمعقول المعنَى ما ُعرفت حكمتُه ِ ومرا ُدنا
يعقل معناه، ْ لم للعقول ع َّلته .ويقابلهِ
التعبدي ال��ذي ُّْ
رشد الحفيد. ابن ٍ ِ
عبارة ِ النفوس ،حسبِ ِ
تزكية ويرجع إلى ُ
ِ
التعبديات ،فنح ُن ِ
الحكمة يف ذلك انعدا َم وليس معنَى َ َ
مصالح العباد فيها مبثوثة والمنائح موهوبة؛ ِ نجز ُم َّ
أن
َ
ولكن عين البصيرة قد تنبو يف دار الدنيا التي ُيسدل
106
الحجاب على أهلها حتى يكشف الغطاء ويربح الخفاء ُ
يف دار الخلود والبقاء.
فإذا كانت األبصار ال ترى الكوكب الدري يف األفق
القصي فليس عن كسوف ضيائه أو خمود سنائه ،وإنما ِّ
ِ
معرة النعمان يف َ ِ
ذلك من َك َلل األعيان،
أديب َّ ُ وصدق
قولِه:
ِ
والن ّْج ُم ت َْست َْصغ ُر األَ ْب َص ُار ُص َ
ـــــورتَه
الص َغرِ ِ ِ
ْب لل َّط ْرف ال للن َّْج ِم في ِّ َّ
والذن ُ
وأخذ هذا المعنَى منه القاضي الرشيدُ ب ُن الزبير حيث َ
يقول:
يمتِ َهــــا ِ ِ
ـــــــاري وق َ ْـــــــر َر َّن بِ َأ ْط َـم
ال ُتغ َ
اف عـــــــــَلى الــدُّ َر ِر َفإن ََّما ِه َّي َأ ْصـــدَ ُ
ـــــن ِص َغرِ ِ
وال َت ُظ َّن َخفــــــَا َء النَّجــــــْ ِم م ْ
ول َعلى ال َب َصرِ اك َم ْح ُم ٌ ْب فِي َذ َ َّ
فالذن ُ
وي��ذك ُ��ر اب�� ُن حلولو يف الضياء الالمع ناس ًبا لإلمام
بكلي، ٌ الفهريَّ :
التعبدي ال يلزم فيه تعليل بجزئي ،بل ٍّ
َّ «أن
كلي
كالعبادات البدن َّية فإنُّه إنَّما ُيعقل من شرعها معنى ٌّ
ِ
االنقياد ،ويتضم ُن تجديدَ ِ
العباد على شر ِع مرور وهو
ُ
107
ِ
واالنقياد ��ان ،وتح ُّق َق االستسال ِم بعقود اإلي��م ِ ِ ِ
العهد
والنواهي ،وهو سر مداومة األوراد ِ ِ
األوام��ر ِ
بمطاوعة
ٰ ۡ ُ َ ٓ ُ يِ َ يَ ۡ َ َ ۡ َ
ب ِت ٓ ِ واألذكار .قال اهلل تعالى﴿:ٱتل ما أوح إِلك مِن ٱلك َ
َۡ ۡ َ ٱلصل ٰوةَ َت ۡن ىَ ٰ
َّ َ َّ َّ َ
ه َع ِن ٱلفحشاءِ ٱلصل ٰوةَ ۖ إِن َوأق ِ�� ِم
َ َ َ ۡ ُ َ َ ذَ ۡ ُ هَّ َ ۡ رَ ُ َ هَّ ُ َ
ٱلل َي ۡعل ُم َما ت ۡص َن ُعون﴾ وٱلمنك ِرۗ ولِكر ٱللِ أكب ۗ و
(العنكبوت.)45:
ُ
«المنقذ ِ
كتابه الغزالي يف وهو كال ٌم نفيس ،وأشار إليه
ّ
أن عد َد ات ،عندما َّقر َر َّ الضالل» يف كالمه عن التعبدي ِ ِ مِن
َّ
الظهر أرب ًعا والعصر أرب ًعا ِ الصلوات ،فِي
ِ الركعات فِي
ِ
والمغرب ثال ًثا والعشاء أرب ًعا والفجر ركعتين؛ معنًى غير
ِ التناسب بين ِ
الركعات عدد ِ َ يشير إ َلى
مدرك للناس .وكأنه ُ
النبوة» .وهو ال ِ «إن هذا ال ُيرى إ َّ واألوقات قائلاً َّ : ِ
بعين َّ
ِ
الحكمة الخف َّية. يشير إ َلى ُ
الشاطبي َّفرق بين العاديات كما سماها والعبادات إال َّ
أن
َّ
يستتب هذان الوجهان يف ُّ حيث يقول« :فإن قيل :هل
جميع األحكام العاد َّية والعباد َّية أم ال؟
أن قصد المس َّببات الز ُم فإن الذي يظهر لبادئ الرأي َّ َّ
يف ال��ع��اديَّ��ات ،لظهور وج��وه المصالح فيها ،بخالف
108
العبادات؛ فإهنا مبن َّي ٌة على عدم معقول َّية المعنى؛ فهنالك
تتب عد ُم االلتفات إلى المس َّببات؛ ألن المعاينَ المع َّل َل َي ْس ُّ
المفاسد ،وهيِ جنس المصالحِ فيها أو ِ هبا راجع ٌة إلى
وغير ظاهرة يف العباد َّيات ،وإذا كان ُ ظاهرة يف العاد ّيات،
فااللتفات إلى المس َّببات والقصدُ إليها معتربٌ يف ُ كذلك؛
العاديات ،وال سيما يف المجتهد؛ فإن المجتهد إنما يتَّسع
ِ
وااللتفات إليها ،ولوال ذلك مجال اجتهاده بإجراء العل ِل ُ
بنصال ٍّ فق المصالحِ إ َّ يستقم له إجرا ُء األحكام على َو ِ ْ لم
فيبطل القياس ،وذلك غير صحيح .فال بدَّ من ُ أو إجماع،
االلتفات إلى المعاين التي ُش ِرعت لها األحكام والمعاين
بات األحكام . هي ُمس َّب ُ
الغالب عليها َف ْقدَ ظهور ُ أما العباد َّيات ،فلما كان
والرجوع إلى مقتضى النصوص َ المعاين الخاصة هبا،
أج َرى على مقصود الشارع فيها. ِ فيها؛ كان ُ
ترك االلتفات ْ
أن ال واألم��ران بالنسبة إلى المق ِّلد سوا ٌء يف َّ
أن ح َّقه ْ
يلتفت إلى المس َّببات؛ إال فيما كان من ُمدْ َركاته ومعلوماته َ
التصرفات الشرعية» (.)1 َّ العادية يف
-1ال�شاطبي :املوافقات .319 /1
109
وقال الشاطبي« :فإن قيل :قصدُ الشارع إلى المس َّببات
القصد من المك َّلف، ِ دليل على أهنا مطلوب ُة والتفا ُته إليها ٌ
ف قصد المك َّل ِ
ِ فليس المرا ُد بالتكليف إال مطابق ُة و إ َّ
ال
َ
ِ
التكليف كما تب َّين يف ُ يصحلقصد الشارع؛ إ ْذ لو خالفه لم ّ
صح ،فإذا فرضنا هذا موضعه من هذا الكتاب ،فإذا طاب َقه َّ
ٍ
قاصد للمس َّببات ،وقد فرضناها مقصود ًة المك َّلف َ
غير
تكليف قد خالف ٍ للشارع؛ كان بذلك مخال ًفا له ،وكل
القصدُ فيه قصدَ الشارع فباطل كما تب َّين؛ فهذا كذلك» (.)1
ويقول الشاطبي« :والقاعد ُة المستمر ُة يف أمثال هذه
التفرقة بين العبادات والمعامالت :فما كان من العبادات
ألن تظهر المالئمة؛ َّ دون ْ
أن ِ
المنافاة َ ال ُيكتفى فيه بعد ِم
َ
واألصل ُ االلتفات إلى المعاين، ِ األصل فيها التع ّبد َ
دون َ
ِ َ أن ال يقدَ م عليها إال ٍ
للعقول يف مجال بإذن؛ إذ ال فيها ْ ُ
فكذلك ما يتع َّلق هبا مِن الشروط .وما َ اخرتا ِع التع ُّبدات؛
األصل َ كان مِن العاديات ُيكتفى فيه بعدم المنافاة؛ َّ
ألن
ُ
اإلذن االلتفات إلى المعاين دون التع ُّبد ،واألصل فيها ُ فيها
110
ليل على خالفه .واهلل أعلم»(.)1 يدل الدَّ ُ
حتَّى َّ
أيضا« :حكمة التعبد العامة االنقياد وقال الشاطبي ً
ألوامر اهلل تعالى وإف��راده بالخضوع ،والتعظيم لجالله
والتوجه إليه»(.)2
وقد كان أبو حامد الغزالي رائدً ا يف مسألة الفرق بين
التعبديات والعاديات يف كتابيه «شفاء الغليل» و«المنقذ
من الضالل» حيث يقول عن مسألة االلتفات إلى المعاين
إن ذلك يف العاديات لغلبة التعليل وبالعكس من ذلك
فإن التحكم يف التعبديات هو الغالب .وهذه شذرات من
«فإن قيل من تصرفات الشرع ما لم يعقل «شفاء الغليل»ْ :
معناه ،ولم يطلع عليه ،فيحتمل أن يكون هذا التصرف من
جملته؛ ويكون المناسب قد اقرتن به وفا ًقا غير مقصود.
قلنا :هذا كالم من ينكر أصل القياس؛ َّ
فإن هذا السؤال
يتطرق إلى المالئم ،فلعله وقع وفا ًقا وملحوظ الشرع
خفي لم يطلع عليه ،أو هو تحكم ال سبب ٌّ معنى آخر
له ،وقد عضدوا هذا بأن قالوا :عرف من الشارع َّ
أن
111
سوى بينمن تصرفاته تحكمات ال تعقل معانيها؛ إذ َّ
مختلفات ،وفرق بين متماثالت؛ كحكمه بجواز النظر
إلى شعر األمة ،وتحريم النظر إلى شعر الحرة ،ولو لم
ينص على تجويز النظر إلى شعر األم��ة لقال الفقهاء:
األمة يف معنى الحرة ،والمعنى المقتضى للتحريم :خوف
الفتنة ،وهما سيان.
وق��ال بغسل الثوب من ب��ول الصبية ،وب��رش الماء
على بول الغالم ،ولو ذكر أحدهما واقتصر عليه أللحق
القائسون الجانب اآلخر به .إلى أمثال لذلك ضربوها،
وهو وارد على جميع القائسين.
أن ذلك يجري من تصرفات الشرع ووجه االنفصال؛ َّ
مجرى الشاذ النادر ،والغالب من عادته يف التصرفات
اتباع المعاين؛ والواقعة النادرة ال تقطع الغالب المستفاد
ُ
من العادة المتكررة»(.)3
وق��ال الغزالي أيضا« :قلنا :ما يتعلق من األحكام
بمصالح الخلق :المناكحات والمعامالت والجنايات
والضمانات؛ وما عدا العبادات فالتحكم فيها نادر؛ وأما
-3الغزايل� ،شفاء العليل� ،ص ،200حتقيق �أحمد الكبي�سى ،مطبعة الإر�شاد بغداد.
112
العبادات والمقدرات ،فالتحكمات فيها غالبة ،واتباع
المعنى نادر.
ال جرم رأى الشافعي الكف عن القياس يف العبادات
إال إذا ظهر المعنى ظهورا ال يبقى معه ريب؛ ولذلك لم
يقس على التكبير والتسيلم والفاتحة والركوع والسجود
غيرها؛ بل لم يقس على الماء يف الطهارات غيره ،ولم
يقس األب��دال والقيم يف الزكوات على المنصوصات،
ولم يقس يف مسألة األصناف .ومال يف جميع مسائلها إلى
الكف عن القياس ورعاية االحتياط ،ألن مبنى العبادات
على االحتكامات ،ونعنى باالحتكام :ما خفي علينا
وجه اللطف فيه؛ ألنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين،
والمغرب بثالث والعصر بأربع س ً��را ،وفيه نوع لطف
وصالح للخلق استأثر اهلل سبحانه وتعالى بعلمه ،ولم
نطلع عليه .فلم نستعمله واتبعنا فيه الموارد.
ولسنا نقول ذلك ألنا نرى رعاية الصالح واجبًا على
اهلل تعالى ،ولكنا عرفنا من أدلة الشرع َّ
أن اهلل تعالى -
ببعثه الرسل وتمهيد بساط الشرع -أراد صالح أمر
الخلق يف دينهم ودنياهم؛ واهلل سبحانه وتعالى منزه عن
113
التأثر باألغراض ،والتغير بالدواعي والصوارف ،ولكنها
شرعت لمصالح الخلق ،نعقل ذلك من الشرع ال من
العقل ،كيال يظن بنا ظان استمدادنا – يف هذه التصرفات
-من معتقدات أرباب الضالل ،وطبقات االعتزال»(.)1
وحكما
ً قلت :وهذا ال ينايف وجود مقاصد للتعبديات
بواكير كتب المقاصد تتَّجه لبياهنا،
ُ يف العباديات ،كانت
ككتاب الحكيم الرتمذي المتوىف سنة 320هـ «الصالة
ومقاصدها»،وكتاب أب��ي زي��د البلخي يف بيان وجوه
الحكمة يف األوامر والنواهي الشرعية ،وسماه «اإلبانة يف
علل الديانة»(.)2
ِ
السنن للخ َّطابي، ِ
كمعالم ات بغيرها،وقد تمتزج التعبد َّي ُ
أخذ القاضي أبو ومحاسن الشريعة للق َّفال الشاشي .وقدْ َ
تعرضه للمقاصد يف العبادات، بكر بن العربي على الق َّفال ُّ
الحال بالشيخِ المع َّظم أبي بكرُ انتهت
ْ قائال« :ولقد
أن ي ْطرد ذلك -أي :مراعاة المقاصد الشاشي الق َّفال إلى ْ
كبيرا
أبواب العبادات ،وصنف يف ذلك كتا ًبا ً ِ -حتَّى يف
- 1الغزايل� :شفاء الغليل �ص 204
� - 2أبو زيد �أحمد بن �سهل البلخي املتوفى 322والكتاب ذكره ظهري الدين البيهقي يف
كتابه «تاريخ حكماء الإ�سالم» �ص 54
114
أسماه محاس َن الشريعة»(.)1
وقد افتتح العالمة ولي اهللِ الدهلوي كتابه «حجة اهللِ
َّ ُّ ُّ َ
البالغة» بسرد أمثلة كثيرة من الحكم والغايات األخروية
ِ
والزكاة والصو ِم ِ
كالصالة والدنيوية ،لمختلف الطاعات،
ِ
الطاعات مشتمل ٌة على َ
تفاصيل هذه وكذلك َّ
فإن َ والحج،
ِّ
الحكم والمقاصدِ فيض من ِ ِ
الحكم .ويف تضاعيف هذا ٌ ِ
منثور يف مختلف أب��واب الفقه ،كقوله يف تعليل جواز ٌ
ألن به المعرفةَ ،وبروز اليدين ألنه ظهور وجه المرأةَّ :
هبما يبطش.
غير
ولكن المعنى المرا َد من قولهم «إن التعبديات ُ
مع َّللة»؛ أهنا ليست معلل ًة يف أصولها تعليلاً ُينتج ً
قياسا يف
ِ
التعبديات يدخل يف العادات َ
دون ُ القياس الغالب ،وأن
َ
معقولة المعنَى ،مع الجزم بوجود الحكمة. ِ ِ
غير
وقولنا :يف أصولها ،اح�ت�راز ًا من فروعها التي يقع
التقايس بينها.
لقد انبنى على نفي التعليل يف التعبدي نتيجتان:
النتيجة األول��ى :امتناع القياس الجزئي المستند إلى
- 1ابن العربي :القب�س .802 /2
115
العلة ما لم تكن منصوصة أو مفهومة من النص باإليماء.
ونحن هنا نستعمل هذا المصطلح يف مقابل االستصالح
الذي هو نوع من القياس الكلي.
وقيد االستناد إلى العلة يحرتز من قياس الشبه لدى من
يقول به ،فهو يجرى يف التعبديات كقيس الوضوء على
التيمم يف وجوب النية دون أن يكون الحكم معللاً .
وهذه النتيجة األولى لم يوافق عليها األحناف الذين
قاسوا بتنقيح المناط من خالل إلغاء الفارق بين األعيان
التي نص عليها الشارع يف الكفارات والزكوات وبين
األبدال والقيم فسووا بينها يف اإلجزاء عن المكلف باعتبار
أن نفع الفقير هبذا القدر من المال هو مقصود الشارع الذيَّ
أناط الحكم به ،وقد نبه الشاطبي على ذلك حيث يقول:
«وقد يمكن أن تراعى المعاين يف باب العبادات وقد ظهر
منه شيء فيجرى الباقي عليه وهي طريقة الحنفية.»...
أما النتيجة الثانية :فهي َّ
أن العبادات لكوهنا غير قابلة
للتعليل فال يزاد فيها وال ينقص كما أشار إليه الشاطبي
يف كالمه المذكور آنفا« :إذ ال مجال للعقول يف اخرتاع
وضوحا يف الجزء الثالث وهو يفرق
ً التعبدات» .وقد زاده
116
بين العبادات والعاديات بأن األول��ى «فهم من قصده
(الشارع) الوقوف عندما حد هنالك ال الزيادة عليه وال
النقصان».1
• القضية الثالثة :التجاذب بين الكلي والجزئي :
وهذه استشهادات من الشاطبي إذ يقول« :وإذا كان
كذلك ،وكانت الجزئيات وهي أص��ول الشريعة؛ فما
تحتها مستمدَّ ة من تلك األصول الكلية ،شأن الجزئيات
م��ع كلياهتا يف ك��ل ن��وع م��ن أن���واع ال��م��وج��ودات؛ فمن
الواجب اعتبار تلك الجزئيات هبذه الكليات عند إجراء
األدلة الخاصة من الكتاب والسنة واإلجماع والقياس؛ إذ
محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياهتا ،فمن أخذ
معرضا عن كليه فقد أخطأ .وكما َّ
أن ً بنص مثلاً يف جزئي
عرضا عن كليه؛ فهو مخطئ ،كذلك أخذ بالجزئي ُم ًم ْن َ
معرضا عن جزئ ِّيه.
ً من أخذ بالكلي
وبيان ذلك أن تل ِّق َي العلم الكلي إنما هو من َع ْرض ُ
ال فالكلي من حيث هو كلي الجزئيات واستقرائها؛ وإ َّ
-1يراجع يف هذا الكتاب عند كالمه عن اجلهات التي تعرف بها املقا�صد ،وقد اعترب
ال�شاطبي �أنَّ كل زيادة ب�إطالق �أو خمالفة يف هيئة �أو مقدار ي�سمى بدعة قبيحة ،يراجع
تعليقنا عليه.
117
غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ،وألنه ليس بموجود
مضم ٌن يف الجزئيات حسبما تقرر َّ يف الخارج ،وإنما هو
يف المعقوالت؛ فإ ًذا الوقوف مع الكلي مع اإلعراض عن
شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم ٍ وقوف مع
ٌ الجزئي
والجزئي هو مظهر العلم به.
ُّ بالجزئي،
وأيضا؛ فإن الجزئي لم يوضع جزئ ًّيا؛ إال لكون الكلي ً
فيه على التمام وبه قوامه ،فاإلعراض عن الجزئي من
حيث هو جزئي إع��راض عن الكلي نفسه يف الحقيقة،
وذلك تناقض ،وألن اإلعراض عن الجزئي جملة يؤدي
إلى الشك يف الكلي من جهة أن اإلعراض عنه إنما يكون
عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له ،وإذا خالف
دل على َّ
أن الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي؛ َّ
ذلك الكلي لم يتحقق العلم به إلمكان أن يتضمن ذلك
الجزئي جز ًءا من الكلي لم يأخذه المعترب جز ًءا منه ،وإذا
أمكن هذا؛ لم يكن بدٌّ من الرجوع إلى الجزئي يف معرفة
الكلي ال يعترب بإطالقه دون ودل ذلك على َّ
أن الكليَّ ،
َّ
اعتبار الجزئي ،وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة
على قصد الشارع؛ ألن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى
118
أيضا؛ فال بد من اعتبارهما م ًعا يف ذلك ،والجزئي كذلك ً
كل مسألة.
فإذا ثبت باالستقراء قاعدة كلية ،ثم أتى النص على
جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فال
بد من الجمع يف النظر بينهما؛ ألن الشارع لم ينص على
ذلك الجزئي إال مع الحفاظ على تلك القواعد؛ إذ كلي ُة
هذا معلوم ٌة ضرور ًة بعد اإلحاطة بمقاصد الشريعة؛ فال
يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتربه
الشارع ،وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعترب الكلي ويلغى
الجزئي»(.)1
قرر هنا أهمي َة الجزئي ،فإنه َي ُك ُّر يف لكن الشاطبي وهو ُي ُ
حكم ِ
النقض حيث َي ُ القاعدة بما ُيشبه َ مكان آخر على هذه
الكلي ُمحافظ ًة على النظام ِ
بالتقهقر أما َم الجزئي
على ُ
ِّ
قائلاً « :والقاعدة المقررة يف موضعها أنه إذا تعارض
زئي يقتضي وأمر ُجزئي؛ فال ُكلي مقدَّ م َّ
الج َّ
ألن ُ ٌّ ُلي ُ أمر ك ٌّ
ٌ
والكلي يقتضي مصلحة كلية ،وال ينخرم َّ مصلح ًة جزئية،
نظا ُم يف العالم بانخرام المصلحة الجزئية ،بخالف ما
-1ال�شاطبي :املوافقات 176 - 171/ 3
119
فإن المصلحة الكليةإذا قدّ م اعتبار المصلحة الجزئية؛ َّ
ينخرم نظام ك ِّليتها ،فمسألتنا كذلك؛ إ ْذ قد ُعلم َّ
أن العزيمة
كلي ثابت عليه ،والرخصة إنما أمر ٍ
مكلف بالنسبة إلى كل
ٌّ ٌ
أن تكون جزئية ،وحيث يتحقق الموجب، مشروعيتها ْ
كل صورة ُتفرض إال وما فرضنا الكال َم فيه ال يتحقق يف ِّ
لي ينازعه؛ فال ُينجى من طلب الخروج ُ
والمعارض الك ُّ
لي وهو العزيمة(.)1 ُ
عن ال ُعهدة إال الرجوع إلى الك ّ
ويقول القرايف« :ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات
الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع
واختلفت وتزلزت خواطره فيها واضطربت ،وضاقت
نفسه لذلك وقنطت ،واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي
ال تتناهى ،وانتهى العمر ول��م تقض نفسه من طلب
مناها ،ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر
الجزئيات الندراجها يف الكليات ،واتحد عنده ما تناقض
عند غيره وتناسب ،وأجاب الشاسع البعيد وتقارب»(.)2
والقول الفصل يف هذا أنه ال الكلي يقدم بإطالق وال
120
الجزئي كذلك ،وكما يقول باسكال«:ال يمكنني تمثل
الكل دون تمثل األج��زاء وال تمثل الجزء دون تمثل
الكل» .1فقد يلمح المجتهد يف الجزئي معنى من المعاين
ينخزل به عن كليه ويتقاعد به عن مدى عمومه ،فيحكم له
بحكم يختلف عن حكم الكلي كما يف دليل االستحسان
وهو يف حقيقته استثناء جزئي من كلي ،ودليل سد الذرائع
وهو يف أساسه حكم على جزئي مراعاة لمئال أصبح
بمنزلة الكلي فاجتاله عن كليه وهو أصل اإلباحة مثال.
وت��ارة يكون الجزئي عريا عن تلك المعاين فيتقوى
الكلي فيستوعب الجزئي ويهيمن عليه كما يف المصالح
المرسلة ،وال ترجيح يف هذا إال ما يراه المجتهد يف كل
قضية ،وما يسربه يف كل مسألة من خالل األدلة األصولية
التي هي أقرب إلى الضبط وأحكم يف عملية الربط وإن
كانت غير صارمة االنضباط مما أتاح مساحة لالختالف
يف األدلة الحاملة لها.
- 1وك�أن كالم با�سكال مقتب�س من قول �أبي احل�سن العامري« :الكلي مفتقر �إىل
اجلزئي ال لأن ي�صري بدميومته حمفوظ ًا ،بل لأن ي�صري بتو�سطه موجود ًا ،واجلزئي
مفتقر �إىل الكلي ،ال لأن ي�صري بتو�سطه موجود ًا ،بل لأن ي�صري بدميومته حمفوظ ًا.
121
والشاطبي رحمه اهلل تعالى يف تقديم الكلي على
الجزئي يشير إلى أن تقديم الجزئي يؤدي إلى انخرام نظام
أن يف كالمه رحمه اهلل شي ًئا من المبالغة العالم ،وأحسب َّ
إال إذا حمل على الكليات العقلية التي يؤدي انخرامها
إلى اختالل النظام ،وليس يف الكليات الشرعية الفرعية
االجتهادية التي ال تتحد بلوازمها بصرامة وحسم بل قد
تنفك عنها أحيانا كما هو معروف يف محله وقد أشار هو
يف مبحث االستحسان بالحاجة إلى ما يوحي بذلك.
بالكلي تلقي العلم َّ
ِّ وكذلك قوله يف أول الكالم« :إن َ
إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها» ،ليس على
الكلي االستقرائي وحده ،دون غيره حالإطالقه ،فتلك ُ
ِّ
كالكلي الذي ورد كل ًّيا ابتدا ًءا بالنقل من أنواع الكلي،
ِّ َّ هَّ َ َ ِّۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ إۡ ۡ َٰ
ٱلحس ِن{ وقوله كقوله تعالى}إِن ٱلل يأمر بِٱلعد ِل و ِ
الكلي الذي ُفهمت كليتُه ِّ ﷺ« :ال ضرر وال ضرار» ،أو
المبقيحكم العقل ُُ العقلي وهو:
ّ بالعقل كاالستصحاب
على النفي األصلي .واهلل أعلم.
122
123
المشهد الرابع
أصناف المقاصد
126
األول :شعب المقاصد • التقسيم َّ
شعب ٍ بثالث ِ اهتموا إن األصوليي َن المقاصد ِّيين قد َّ
ُّ
المقاصد هي :المقاصدُ العام ُة الكربى التي ِ منتجة مِن
والحاجي ُّ الضروري
ُّ ترجع إليها الشريعةُ ،وهي المقصدُ ُ
ينبثق ُ استقرائي ٍ
تقسيم حصرا؛ بنا ًء على ً والتحسيني
ٍّ ُّ
ِ
ع�� ْن عنوان كبير ه��و« :أن الشريعة لمصالحِ العباد»، َ َّ ٍ ٍ
أن مالحظة ه ِ��ذه المصالحِ يف األحكام وج��دُ وا َّ ِ وعند
األرجح المقياس ثالثة مقايِيس: ِ يشير إ َلى َ َ
ُ ُ الميزان ُ هذا
ثم ِ ِ ِ ِ
الحاجيات َّ ُ جحان الر
يتعلق بالضرورات ،ويليه في ُّ ُ
استقراء أحكا ِم الشر ِع ِ ترتيب مِن التحسينيات ،وهو ُ
ٌ
ملحوظ ًة ببصيرة العقل .هذه هي الشعبة األولى.
تلك الخاص ُة و َتعني َ َّ أما الشعبة الثانية فهي :المقاصدُ
مجال من ٍ ِ
الفقه أو بباب من أب ِ
��واب الخاص َة ٍ المقاصدَ
َّ
ِ
والجهالة ِ
الغرر قة بالبيو ِع فِي من ِع كتلك المتع ِّل ِ َ مجاالتِه،
هو انتظا ُم ٍ والرباِ ،
ترجع إلى مقصد عا ٍّم َ ُ وهذه يف الحقيقة َ
تلك ِ
العدل واإلحسان التِّي تنافي َ ِ ِ ِ
الخلق بقاعدة ِ ِ
شئون
إليه ساب ًقا . التصرفات كما أشرنَا ِ ِ
127
ٍ
ومودة وكذلك المقاصدُ المتعلق ُة بالنكاحِ مِن تناس ٍل َ
الفاسدة ،كحرمة ِ ِ
العقود كثيرا من ٍ
وتراحم ،والتي تناىف ً
المشار إلى حكمتِه ِ المرأة على خالتها أو عمتها ِ تزوج
ُّ
ذلك قطعتُم إن فعلتُم َ عليه الصال ُة والسالم« :إن ُكم ْ بقولِه ِ
ِ ِ
وهو أرحا َمكم»؛ إ ْذ من مقاصد النِّكاح صل ُة األرح��ا ِم َ
ِ
وغيره. مقصدٌ عا ٌّم فِي النكاحِ
وهي:مقصدُ فهي:المقاصدُ الجزئي ُة أما الشعب ُة الثالث ُة ِ
َ
بأمر ِ
الصالة ِ كقصده لفع ِل ِ حكم ع َلى ٍ
حدة ٍ الشار ِع فِي ِّ
كل
َ َ ُ ْ َّ َ
ٱلصل ٰوةَ{ (البقرة.)43: }وأقِيموا
• التقسيم الثاني :الكلية -العامة -الخاصة
أن نعرب عما تقدم بصورة أخرى لنقول :إن كما يمكن ْ
المقاصد تنقسم إلى كلي وهو ما موضوعه كلي من حيث
الصيغة أو المعنى يستغرق أف��راده وآح��اده أو أج��زاءه،
والفرق يف المسور بكل خاصة فإهنا إذا سور هبا المن َّكر
المعرف استغرقت أجزاءه، َّ استغرقت أفراده ،وإذا سور هبا
فمثال األول :كل تمر مأكول ،وال يقال :كل التمر مأكول،
ألنه يستغرق األجزاء ومنها النوى ،أفاد معناه الشرباخيتي،
فاألفراد آحاد متعدد ،واألجزاء أبعاض متحد.
128
والكلي مهما كانت صيغته يقابله الجزئي ،الذي يطلق
هنا على كل األفراد واألبعاض .ويراد به مقصد الشارع يف
كل حكم على حدة.
وإل��ى ع��ام وه��و كالكلي إال أن��ه ال تعنينا فيه صيغة
العموم بقدر ما هنتم بانتشاره يف كل باب كمقصد العدل
واالستخالف وغيرهما من المقاصد ،ويقابله الخاص
الذي قد يعنى خصوصه كونه يف باب واحد أو يف مجال
معين أو يف قضية واحدة ،فالعموم والخصوص نسبيان،
خاصا بالنسبة لما
ً فقد يكون عا ًما بالنظر إلى ما تحته
فوقه حسب االتجاه الذي ينظر إليه ،فهو كالسلم أعاله
المقصد الكلي وأسفل درجة منه المقصد الجزئي وما
بينهما قد يكون كل ًيا أو عا ًما بالنسبة لما تحته وجزئيا
بالنسبة لما فوقه.
• تقسيم الشاطبي :المقاصد األصلية والمقاصد التبعية
ويف هذا السياق من اختالف التعبير الختالف االعتبار
أن الشاطبي الذي قد ذكر يف الجهة الثالثة -من نجد ّ
الجهات التي تعرف هبا مقاصد الشارع -المقاصد
األصلية والتابعة ،باعتبار الثانية مقوية لألولى ومكملة لها،
129
ممثالً بالنكاح لقصد النسل ،وهو القصد األول ،والسكن
واالزدواج والتعاون على المصالح وهي القصود التابعة،
هو نفسه يقسمها بنفس األل��ق��اب؛ أي أصلية وتابعة،
بمضمون آخر ،وذلك يف النص التالي،يقول الشاطبي:
الشرع َّي ُة ضربان :مقاصدٌ «المسألة ال َّثانية :المقاصد َّ
أصل َّيةٌ ،ومقاصدٌ تابعةٌ.
حظ فيها للمك َّلف، فأما المقاصد األصل َّية؛ فهي التي ال َّ َّ
ٍ
كل م َّلة ،وإنَّما قلنا :إنَّها ال الضرور َّيات المعتربة يف ِّ وهى َّ
حظ فيها للعبد من حيث هي ضرور َّيةٌ؛ ألنَّها قيا ٌم بمصالح َّ
ٍ ال دون ٍ َص بِ َح ٍ ٍ ٍ
بصورة دون حال ،وال عا َّمة مطلقة ،ال َت ْخت ُّ
ضروري ٍة
َّ وقت ،لكنَّها تنقسم إلى بوقت دون ٍ ٍ ٍ
صورة ،وال
ضروري ٍة كفائ َّي ٍة.
َّ عين َّي ٍة ،وإلى
مأمور
ٌ كل مك َّلف يف نفسه ،فهو فأ َّما كوهنا عين َّيةً ،فعلى ِّ
بحفظ دينه اعتقا ًدا وعملاً ،وبحفظ نفسه قيامًا بضروريات
حياته ،وبحفظ عقله حف ًظا لمورد الخطاب من ر ِّبه إليه،
وبحفظ نسله التفا ًتا إلى بقاء عوضه يف عمارة هذه الدَّ ار،
ورع ًيا له عن وضعه يف مضيعة اختالط األنساب العاطفة
بالرحمة على المخلوق من مائه ،وبحفظ ِ
ماله استعان ًة َّ
130
وي��دل على ذلك أنَّه ُّ على إقامة تلك األوج��ه األربعة،
اختيار العبد خالف هذه األمور لججر عليه، ُ لو ُفرض
ولحيل بينه وبين اختياره ،فمن هنا صار فيها مسلوب
حظ؛ وإن صار له فيها ٌّ الحظ ،محكو ًما عليه يف نفسهْ ، ِّ
األصلي. المقصد لهذا ٍ
تابعة خرى أ فمن ٍ
جهة ُ
ِّ
وأمَّ��ا كوهنا كفائ َّيةً؛ فمن حيث كانت منوط ًة بالغير
أن يقوم هبا على العموم يف جميع المك َّلفين ،لتستقيم ْ
أن هذا الخاصة إال هبا ،إال َّ َّ األحوال العا َّمة التي ال تقوم
الحق به يف كونه ضرور ًّيا؛ إذ ال ٌ كم ٌل لألَول؛ فهو القسم ُم ِّ
الكفائي قيا ٌم بمصالح أنيقوم العيني إال بالكفائي ،وذلك َّ
َّ ِّ ُّ
مأمور
ٌ عا َّم ٍة لجميع الخلق؛ فالمأمور به من تلك الجهة
تخصيص ألنَّه لم ُيؤمر إذ ذاك ٌ بما ال يعود عليه من جهته
بخاصة نفسه فقط ،وإال صار عين ًّيا ،بل بإقامة الوجود، َّ
وحقيقته أنَّه خليفة اهَّلل يف عباده على حسب قدرته وما
فإن الواحد ال يقدر على إصالح نفسه هيء له من ذلك؛ َّ
ٍ
بقبيلة ،فضلاً ع ْن والقيام بجميع أهله ،فضلاً عن َأ ْن يقوم
اهَّلل الخلق خالئف َأ ْن يقوم بمصالح أهل األرض ،فجعل ُ
الضرور َّيات العا َّمة ،حتى قام الملك يف األرض. يف إقامة َّ
131
عرى من الكفائي ُم ًّ أن هذا المطلوب ويد ُّلك على َّ
َّ
أن القائمين به فِي ظاهر األمر ممنوعون من الحظ شر ًعا َّ ِّ
استجالب الحظوظ ألنفسهم بما قاموا به من ذلك؛ فال
ٍ
مم ْن تولاَّ هم على واليته عليهم، يجوز لوال َأ ْن يأخذ ُأجر ًة َّ
المقضي عليه أو له أجر ًة على أن يأخذ من لقاض ْ ٍ وال
ِّ
لمفت على فتواه، ٍ لحاكم على حكمه ،وال ٍ قضائه ،وال
لمقرض على قرضه ،وال ٍ لمحسن على إحسانه ،وال ٍ وال
ما أشبه ذلك من األمور العا َّمة ا َّلتي للنَّاس فيها مصلح ٌة
الرشا والهدايا المقصود هبا نفس عا َّمةٌ ،ولذلك امتنعت ُّ
ٍ
مفسدة ألن استجالب المصلحة هنا مؤ ٍّد إلى الوالية؛ َّ
الشريعة يف نصب هذه الواليات. عا َّم ٍة ُتضا ُّد حكمة َّ
وعلى هذا المسلك يجري العدل يف جميع األن��ام،
ويصلح النِّظام ،وعلى خالفه يجري الجور يف األحكام،
أن العبادات وهدم قواعد اإلس�لام ،وبالنَّظر فيه يتب َّين َّ
تصح اإلجارة عليها ،وال قصد المعاوضة فيها، ُّ العين َّية ال
سبب للعقاب ٌ وأن تركها دنيوي هباَّ ، ٍّ ٍ
مطلوب وال نيل
موجب تركها ٌ واألدب ،وكذلك النَّظر يف المصالحِ العا َّمة
مفسدة يف العالم. ٍ أي للعقوبة؛ َّ
ألن يف تركها َّ
132
وأم��ا المقاصد التَّابعة ،فهي التي روع��ي فيها حظ َّ
المكلف ،فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من
الشهوات واالستمتاع بالمباحات ،وسدِّ الخلاَّ ت، نيل َّ
أن حكمة الحكيم الخبير حكمت َّ
أن قيام الدِّ ين وذلك َّ
ويستمر بدوا ٍع من قبل اإلنسان تحمله ُّ والدنيا إنَّما يصلح
على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره ،فخلق له شهوة
ليحركهِّ مسه الجوع والعطش؛ ال َّطعام وال��شَّ��راب إذا َّ
ذلك الباعث إلى التَّس ُّبب يف سدِّ هذه الخ َّلة بما أمكنه،
لتحركه إلى اكتساب الشهوة إلى النِّساء ِّ وكذلك خلق له َّ
الموصلة إليها ،وكذلك خلق له االستضرار ِّ األسباب
بالحر والربد وال َّطوارق العارضة ،فكان ذلك داعي ًة إلى ِّ
اكتساب ال ِّلباس والمسكن ،ثم خلق الجنَّة والنَّار ،وأرسل
أن االستقرار ليس ههنا ،وإنَّما هذه الدَّ ار الرسل مبينة َّ ُّ
السعادة األبد َّية َّ
والشقاوة األبد َّية وأن َّ لدار أخرىَّ ، مزرع ٌة ٍ
بالرجوع إلى ما حدَّ ه هنالك ،لكنَّها تكتسب أسباهبا هنا ُّ
الشارع ،أو بالخروج عنه ،فأخذ المك َّلف يف استعمال َّ
الموصلة إلى تلك األغراض ،ولم يجعل له قدر ٌة ِّ األمور
على القيام بذلك وحده ،لضعفه عن مقاومة هذه األمور،
133
فطلب التَّعاون بغيره ،فصار يسعى يف نفع نفسه واستقامة
حاله بنفع غيره ،فحصل االنتفاع للمجموع بالمجموع،
أحد إنَّما يسعى يف نفع نفسه. كل ٍ وإن كان ُّ
ْ
فمن ه��ذه الجهة ص��ارت المقاصد التَّابعة خادم ًة
ومكملة لها ،ولو شاء اهَّلل لك ِّلف هبا مع ِّ للمقاصد األصل َّية
اإلعراض عن الحظوظ ،أو لك ِّلف هبا مع سلب الدَّ واعي
المجبول عليها ،لكنَّه امت َّن على عباده بما جعله وسيل ًة
إلى ما أراده من عمارة الدُّ نيا لآلخرة ،وجعل االكتساب
مباحا ال ممنو ًعا ،لكن على قوانين شرع َّي ٍة لهذه الحظوظ ً
مما يعدُّ ه العبد وأجرى على الدَّ وام َّ هي أبلغ يف المصلحة
َ َ َ اَ َ
ٱلل َي ۡعلَ ُم َوأ ُ
﴿و هَّ ُ
نت ۡم ل ت ۡعل ُمون﴾ (البقرة،)216 : مصلح ًة َ
األخ���روي القصد إلى ِّ ول��و ش��اء لمنعنا يف االكتساب
الحظوظ ،فإنه المالك وله الحجة البالغة ،ولكنَّه ر َّغبنا
وعجل حظي لنا، ٍ
بوعد يف القيام بحقوقه الواجبة علينا
َّ ٍّ
لنا من ذلك حظو ًظا كثير ًة نتمتَّع هبا يف طريق ما كلفنا به،
وإن تلك هي توابعَّ ، ٌ قيل:إن هذه المقاصد َّ فبهذا الحظ
األصول ،فالقسم األول يقتضيه َم ْح ُض العبود َّية ،وال َّثاين
134
يقتضيه ُلطف المالك بالعبيد»(.)1
• مناقشة تقسيم الشاطبي
ٍ
والتابعة ٍ
لألصلية أن ذكرنا استعمال الشاطبي قد سبق ْ
باألمر ِ أن األصلية هي المقصود ُة بمفهوم آخر م��ؤداه َّ
ابتدا ًء ،وبالنهي كذلك ،وهي أيضا العل ُة الباعث ُة على األمر
أو النهي.
وسائل ،وقد تكون حماي ًة َ ُ
تكون ِ
الغالب قد والتابع ُة يف
ِ
لذريعة ِ
النداء سدً ا وقت
َ وسياجا ،كمنع البيع لألصلية
ً
التشاغ ِل عن الجمعة.
األول واهتما ِم ِ ِ
المقصد ِ
أهمية ِ
باعتبار ُ
تكون تابع ًة وقد
ِ
بالنسبة الشار ِع بِه ،كالتناس ِل الذي هو المقصدُ األول
يلحق به من المودة والسكن والتمتع بمال ُ للنكاحِ َ
مع ما
الزوجة واالعتزاز بحسبها ،فهذه تابعة.
وهذا االستعمال هو األوفق لهذا المصطلح (األصلية
والتابعة والتبعية) ،أما استعمالها بالمعنى الذي تشير إليه
النصوص المذكورة آنفًا حيث يكون الفرق هو عدم
وجود حظ للمكلف يف األصلية ،وقيام حظوظ للمكلف
300 /2 - 1ال�شاطبي :املوافقات
135
لبس؛ َّ
ألن عسر ،وما بني عليه فيه ٌ يف التابعة؛ فهو فرق فيه ٌ
الحظوظ يف الحقيقة موجودة يف النوعين.
ال :إن الحظ لغة هو فما معنى الحظوظ؟ فلنقل أو ً
وال��ج��دّ والبخت وجمعه ح��ظ��وظ ،وأم��ا يف َ النصيب
وك��أن الشاطبي رحمه اهلل متأثر َّ مصطلح الصوفية -
به هنا -فالحظوظ عندهم تقابل الحقوق ،فاألولى
متصل ٌة بأهواء النفس ونزوعاهتا الشيطانية – حسب
عبارهتم -والثانية تعني األحوال والمقامات والمعارف
والمعامالت والعبادات.
هذه عبارة بعضهم ،وهبذا ينفسر قوله يف النص« :ر َّغبنا
وعجل لنا ٍ
حظي لناَّ ،
ٍّ بوعد يف القيام بحقوقه الواجبة علينا
من ذلك حظو ًظا كثير ًة . »...
وبه تفهم وجه المقابلة بين الحقوق والحظوظ الذي
يبنى عليه الفرق بين المقاصد األصلية وبين المقاصد
أنأن يكون الفرق مبنيًا على َّ التابعة ،وقد كان باإلمكان ْ
األولى أصول كربى للمقاصد ألهنا ضروري ٌة وشرعي ٌُة مع
وجود الحظ األخروي يف المحافظة على الدين والدنيوي
واألخ��روي معًا يف المحافظة على األنفس واألم��وال
136
والعقول والنسلْ .
وأن تكون الثانية مقاصد للمكلفين
ولكنها وسائل للوصول إلى تلك المقاصد فهي مطلوبة
بقدر ما تحقق من تلك ،فتارة تكون واجبة وتارة تكون
جائزة كالنكاح للتحصين والمال لسد الخلة والملبس
لسرت العورة ،لتفاوت درجات الطلب حسب الحاجة.
• أصناف أخرى من المقاصد
ِ
الخلق جل و َعال يف للباري َّ ِ وهناك مقاصدُ َ قلت:
ستقصى ،فمنها: َ حصى وال ُت واألمر ال ُت َِ
ِ وهي أع َلى مِن ِ
مقاصد المقاصدُ القدر َّي ُة أو الكونيةَ ،
القبضتين كما ِ مقتضى َ ِ
لتحقيق ِ
الخلق ِ
كخلق التشريعِ،
رسول اهلل ِ ِ
أصحاب رجل م ْن الحديث :مرض ٌ ِ جا َء فِي
فقيل له :ما عليه أصحا ُبه يعودونَه فب َكىَ ، ِ َ
فدخل ِﷺ،
«خذ مِن رسول اهللِ ﷺْ : ُ لكيقل َ عبد اهللِ ألم ْ يبكيك يا أبا ِ
َ َ َ
سمعت ُ أقره حتَّى تلقاين؟» .قال :بلى ،ولكنِّي ثم َّ شاربِك َّ
ارك و َتعا َلى َق َب َض َق ْب َض ًة ول« :إِ َّن َ
اهلل َت َب َ رسول اهلل ﷺ َي ُق ُ َ
أخرى وقبض قبض ًة َ َ لهذه وال أبالِي، بِيمين ِ ِه َف َق َالَ :ه ِذه ِ
َ
أدري األخرى ،فقال :هذه لهذه وال أبالي ،فال ِ يعنِى ِ
بيده
َ
137
ِ
القبضتين أنَا»(.)1 أي ِ
في ِّ
َ ََ ُ ُ ذَّ
وهو المفهو ُم مِن قولِه تعالى﴿:ه َو ٱلِي خلقك ۡم َ
ۡ ُ اَ ُ َ
ف ِمنك ۡم كف ِٞر َومِنكم ُّمؤم ِٞنۚ﴾ (التغابن.)2:
الرحــمة كما يف ِ
قوله تعـــــا َلى: ِ أو ِ
لالختالف ِ وخلقهم
َ َ َ اَّ ۡ
ون م َتلِف َ خُ َ اَ َ َ َ
ُ
ني ١١٨إِل َمن َّرح َِم َر ُّبكۚ َول ِذٰل ِك ِ ﴿ول يزال
َ ََ
خلق ُه ۡمۗ﴾ (هود. )119 - 118:
ونبه الشاطبي إلى المقصد القدري التكويني بقوله:
«إن هذا التَّقدير مشير لما ذهب إليه الفالسفة فإن قيلَّ : ْ
الشر ليس بمقصود الفعل ،وإنما أن َّ و َم�� ْن تبعهم مِ�� ْن َّ
خيرهممتزجا ًُ المقصود الخير ،فإذا خلق اهلل تعالى خل ًقا
بشره؛ فالخير هو الذي ُخلق الخلق ألجله ،ولم يخلق ِّ
الش ِّر ،وإن كان واق ًعا به؛ كال َّطبيب عندهم إذا سقى ألجل َّ
البشع المكروه ،فلم َيسقه إ َّياه ألجل َ المر
المريض الدَّ واء ّ
ما فيه من المرارة واألمر المكروه ،بل ألجل ما فيه من
والراحة ،وكذلك اإليال ُم بالفصد والحجامة وقطع الشفاء َّ ِّ
الراحة ودفع ب َّ العضو المتأكل ،إنما قصده بذلك َج ْل ُ
المضار؛ فكذلك عندهم جميع ما يف الوجود من المفاسد
� -1أخرجه �أحمد يف م�سنده .68 /5
138
قلت:
المس َّببة عن أسباهبا ،فما تقدَّ م شبيه هبذا من حيث َ
الشارع -مع قصده التشريع ألجل المصلحة -ال َ َّ
إن
يقصد وجه المفسدة ،مع أنَّها الزمة للمصلحة.
مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين َّ
بأن ٌ أيضا
وهو ً
وأن وقو َعها إنما ِ
مقصودة الوقوعَّ ، غير ُّ
الشرور والمفاسدَ ُ
كبيرا.
علوا ً هو على خالف اإلرادة ،تعالى اهلل عن ذلك ًّ
الخ ْل ِقي
أن كال َم الفالسفة إنما هو يف القصد َ فالجواب َّ
التَّكويني ،وليس كالمنا فيه ،وإنَّما كال ُمنا يف ال َق ْصد
الفرق بينهما يف موضعه من كتاب ُ التَّشريعي ،وقد تب َّين
األوامر والنواهي.
الشريع َة وضعت لمصالح الخلق بإطالق أن َّ ومعلوم َّ
ٍ لج ْلب حسبما تب َّين يف موضعهُّ ،
مصلحة أو فكل ما ُش َ
رع َ
مقصود فيه ما ُيناقض ذلكْ ، ٍ
وإن كان َد ْفع مفسدة؛ ُ
فغير
واق ًعا يف الوجود؛ فبالقدرة القديمة وعن اإلرادة القديمة،
ال يعزب عن علم اهلل وقدرتِه وإرادتِه شي ٌء من ذلك كله
أمر آخر ،له وحكم التشريع ٌ ُ يف األرض وال يف السماء،
واألمر والنهي
ُ وترتيب آخر على حسب ما وضعه، ٌ نظر
ٌ
139
ال يستلزمان إرادة الوقوع ،أو عدم الوقوع ،وإنما هذا
قول المعتزلة ،وبطالنُه مذكور يف علم الكالم؛ فالقصد ُ
الخ ْلقي شيء آخر ،ال مالزمة التَّشريعي شيء ،والقصد َ
بينهما»(.)1
ِ
معروفة قلت :وتوجد مقاصدٌ تشريعي ٌة لكنها ُ
غير
صنو فاألمر ات، المصلحة ،وه��و الموسوم بالتعبدي ِ ِ
ُ ُ َّ أۡ َ ُ َ
ُ ۡ َ ُ ِ َ اَ هَ ُ خۡ َ ۡ
فكما أنَّ الخلق}أل ل ٱللق وٱلمر ۗ{ (األعرافَ ،)54 :
َ الخلق ِ ِ
تدرك جمي ًعا تفصيلاً حصى وال ال ُت َ وح َكمه َ أسرار
َ
وأرض ٍ ٍ
سماوات فالكون من ُ وهي متداخل ٌة ومتضامنةٌ، َ
األوجه. ِ
كل الوجوه ْأو من بعض ِ ُخلق لإلنسان من ِّ ِ ِ
ُ
كم َّما ف َّ َ َ ُ َ َّ
ت َو َما يِف ٱلسمٰو ٰ ِ يِ قال تعا َلىَ }:و َسخ َر ل
فالكون بيئ ُة الحياةِ، ُ ۡ ّ ٗ مَ أۡ َ
ُ ۡرض جِيعا مِن ۚه{ (الجاثية)13: ٱل ِ
ومستودع لإلنسان. ٌ مستقر
ٌ واألرض
ُ
ِ
للمحافظة ٍ
بوظيفة فيه يقو ُم عضو ِ ٍ نفسه ُّ
كل ُ
واإلنسان ُ
ُ َ َ ع َلى ِ
ٱلس ۡم َع ك ُم َّ مسمى} َو َج َعل ل َّ اإلنسان ألج ٍل ِ بقاء
ون{ فالحكم ُة فِي كلِّ َ أۡ َ ۡ َ ٰ َ َ أۡ َ ۡ َ َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ
فِدة لعلكم تشكر وٱلبصر وٱل ٔ
كائن مستقلٍ؛ ال كل ٍ جملة مِن الخاليا ،وفِي ِّ ٍ كل خلية ويف ِّ ٍ
- 1ال�شاطبي ،املوافقات .49 /2
140
تمك ُن اإلحاط ُة بِها.
ِ
المقاصد كما حصر األمر ال يمك ُن ِ فكذلك فِي عا َلم َ
ُ
«:و َف ْو َق ك ُِّل ِذي ِع ْل ٍم َعلِيم»(يوسف.)76 : ِ
أشرنا إليه َ
• تقسيم األصوليين :الضروري -الحاجي -
التحسيني
ِ ِ
تصنيف األصوليين للمقاصد الثالثة فقد َت َ
بلور إلى ُ أما
الشريع َة إلى مقاصد كربى ُ
حيث ر َّد َّ حدٍّ ما مع الجويني
هي المقاصدُ الثالثةُ ،الضروري والحاجي والتحسيني يف
تقاسيم العلل واألصول ُ
حيث قال: ِ ِ
مبحث
لجر ذلك ضرور ًة
الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم َّ َّ
«فإن َ
آيل إلى الضرورة الراجعة إلى ظاهرة ،فمستند البيع إ ًذا ٌ
النوع والجملة؛ ثم قد تمهد يف الشريعة أن األُصول إذا
ثبتت قواعدها ،فال نظر إلى طلب تحقيق معناها يف آحاد
النوع ،وهذا ضرب من الضروب الخمسة.
والضرب الثاين :ما يتعلق بالحاجة العامة ،وال ينتهي
إلى حد الضرورة ،وهذا مثل تصحيح اإلجارة؛ فإهنا مبنية
على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها،
ِ
وضنَّة مالكها هبا على سبيل العار َّية؛ فهذه حاجة ظاهرة
141
بالغة مبلغ الضرورة المفروضة يف البيع وغيره ،ولكن غير ٍ
حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة الشخص الواحد ،من
حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس؛
ضرار ال محالة ،تبلغ مبلغ الضرورة ٌ لنال آحاد الجنس
الراجع إلى يف حق الواحد ،وقد يزيد أثر ذلك يف الضرر َّ
الجنس ما ينال اآلحاد بالنسبة إلى الجنس ،وهذا يتعلق
َبأحكام اإليالة ،والذي ذكرناه مقدار غرضنا اآلن»(.)1
ِ
الراجعة ِ
الضرورة آئل إلىأشار إلى النوع األول بأنَّهٌ :
ِ
بالحاجة العا َّمة. والجملة .والثانِي بأنَّه :ما يتع َّل ُق
ِ إ َلى النو ِع
التحسيني فلم يمنحه هنا لق ًبا بل قال عنه: وهو
الثالث َ ُ أما
ُّ
الثالث :ما ال يتعلق بضرورة حاقة ،وال حاجة ُ «والضرب
ُ
جلب مكرمة أو يف نفي ِ غرض يف لوح فيه ٌ عامة ،ولكنَّه َي ُ
ويجوز أن يلتحق هبذا الجنس طهارة الحدث ُ نقيض لها،
وإزالة الخبث» (.)2
خ��ارج��ا ع��ن دائ���رة هذه ً وجعل التعبدي المحض
المقاصد حيث يقول« :وال��ض��رب الخامس متضمنه
142
العبادات البدنية التي ال يلوح فيها معنى مخصوص ال
من مآخذ الضرورات وال من مسالك الحاجات وال من
مدارك المحاسن»(.)1
وقد أثبت تلميذه أبو حامد هذه المعاين مقتصرا على
ثالثة مقاصد هي:الضروري والحاجي والتحسيني.
ومنح هذا األخير لقبه الذي تابعه عليه األصوليون بعد
ذلك.
المناسب يف مسالكِ ِ وهم يذكرون هذه المقاصدَ ضم َن
لتصنيف األح��ك��ا ِم حسب أهميتها ِ الع َّلة ،يف محاولة
الشرعية ،ورتبتها يف سلم الشريعة ،ووزهن��ا يف ميزان
المصالح والمفاسد ،حيث يقع المقصد الضروري الذي
ُيسمى بالمناسب الضروري يف مقدمتِها ،ثم المقصد
المناسب الحاجي ،ثم المقصد التحسيني. ُ الحاجي وهو
ِ
التصنيف الفقه على هذا ِ وأكثر المؤلفي َن يف أص ِ
��ول ُ
واقتصر يف ِ
نظم ِ
كالسبكي يف جم ِع الجوام ِع وشروحه،
َ ِّ
مراقِي السعود على ذلك حيث يقول: ِ
ضــرور ٌّي َوجا َتتِ َّم ْه
ِ الح ْك َم ْه مِـنْ ُه
ثم المنَاســـِب َعنَي ُت ِ
ُ ْ َّ ُ
-1نف�س املرجع .958 /2
143
لح ِ ِ ِ
الــــــرواج
َّ ــوي يف ـاجي َو َقـــدِّ ِم ال َق َّ َب ْي ُنه َما َمـــا َينْتَمي ل َ
أن المنحى َذكر َّ أن ن َ ناسب ْ ِ الم
يكون من ُ ُ إال أنَّه قدْ
والعز بنُّ الغزالي
ُّ وحا َم حو َله قبله الشاطبي َ
ُّ الذي سل َك ُه
إح َكا َم أحكا ِم أبرز ْ عبد السالم والقرايفُّ ،كان َمنْحى َثر ًيا َ
وانضباط منظومتِها وشمو َلها َ ووضوح ِح َك ِمها َ
ِ
الشريعة
وتابعة وإلى ٍ ٍ
أصلية ففرع المقاصدَ إ َل��ى وانسجا َمهاَّ .
والقصد الثانِي.ِ ِ
األول ِ
القصد
س يف تأصيلِ وأط��ال الشاطبي رحمه اهلل تعالى الن َف َ
أصول الشريعة بالنسبة لهذه َ أن المقاصد الثالثة وبيان َّ
المقاصد ُتعترب جزئي ًة لقوة ه��ذه المقاصد وشمولها
كلي تنتهي إليه لك َّنه واستعالئها وهيمنتها إذ ليس فوقها ٌّ
َيستدرك يف هناية عرضه للعالقة بين الكليات الحاكمة
معا حيث يقول: والجزئيات إلى ضرورة اعتبار االثنين ً
ِ
قصد ُ
الشريعة على ِ
انبنت لـما
«المسألة األول���ىَّ :
��ات ��ث�لاث ِم��ن ال��ض��روري ِ ِ ��ب ال المحافظة على ال��م��رات ِ ِ
وكانت هذه الوجو ُه مبثوث ًة ِفي ْ ِ
والتحسينات، ِ
والحاجيات
الشريعة وأدلتها ،غير مختصة بمحل دون محل، ِ ِ
أبواب
وال بباب دون باب ،وال بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظر
144
أيضا عا ًما ال يختص بجزئية دون أخرى؛ الشرعي فيها ً
ألهنا كليات تقضي على كل جزئي تحتها ،وسواء علينا
جزئيا إضافي َّا أم حقيقي َّا؛ إذ ليس فوق هذه الكليات ًّ أكان
تمت؛ فال كلي تنتهي إليه ،بل هي أصول الشريعة ،وقد َّ ٌّ
يفتقر إلى إثباهتا بقياس أو َ بعضها ح َّتى يصح أن يفقدَ ُ ُّ
وخصوصا؛ً غيره؛ فهي الكافية يف مصالح الخلق عمو ًما
ۡ يۡ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ ۡ َ ُ ألن َ َّ
اهلل تعالى قال﴿:ٱلوم أكملت لكم دِينكم﴾
ش ٖء ۚ﴾ وقال﴿:ما فَ َّر ۡط َنا يِف ۡٱلك َِتٰب مِن يَ ۡ
َّ (المائدة،)3:
ِ
الج َّاد ِة»(.)1
(األنعام ،)38 :ويف الحديثَ « :ت َرك ُت ُك ْم َعلى َ
وقوله« :ال َي ْه ِل ُك َعلى اهللِ إال َهالِ ٌك»( .)2ونحو ذلك من
األدلة الدالة على تمام األمر وإيضاح السبيل».
ِ
المقاصد للنيلي -فقد تحدث ِ
عن ِّ أما الطويف -عاز ًيا
المناسب مبينًا تفاوهتا حيث قال: ِ ِ
خ�لال الثالثة ِم��ن
ِ
إثبات الحكم عقيبه ُمفضيًا إلى ما ُيوافق «المناسب ما كان ُ
ُ
ِ
فكبقاء ُ
المعاش المعاش أو ِفي المعادَّ .أما
ِ العقالء ِفي
ِ نظر
َ
وأما يف المعاد فكتحصيلِ ِ
المالَّ ، والزيادة ِفي
ِ ِ
األنفس
145
رفع العقاب. أو ِ الثواب ْ ِ
للمصلحة ،وتار ًة تكميلاً ِ يكون تحصيلاً ُ الحكم تار ًة ُ ثم
َّ
نظر لمن ُله ٌ مديما لها .إلى أن قال :وهي ظاهر ٌة ْ لها ،وتارة ً
يف األحكام.
الضرورات ،وإلى ِ ينقسم إلى ما هو ُّ
محل ُ المناسبُ ثم َّ
محل التتمات ِّ الحاجات ،وإلى ما هو يف ِ ِّ
محل ما هو يف
التقديم
ِ الرتتيب يف ِ والتكميالت ،وهي يف مراتبها على هذا
ثم الثالث. ثم الثاين َّ ُ
األول َّ التعارض؛ يقدَّ ُم ِ عندَ
ِ
المرسلة، المصالح
ِ أقسامه عندَ ذك ِر ِ ُ
بيان وقد سبقَ
المناسب، ِ ُ
مضمون ألن المصلح َة ��ان واح���دٌ ؛ َّ وال��ب��اب ِ
متضمن للمصلحة. ٌ والمناسب
ُ
أن نفق َة وصف واحدَّ : ٍ أقسامه الثالثة يف ِ اجتماع
ِ ُ
ومثال
ِ
األقارب حاجية ،ونفق َة ٌ ِ
الزوجات ضرورية ،ونفق َة ٌ ِ
النفس
بعضها على بعض على الرتتيب تتم ٌة وتكملة ،ولهذا ُقدِّ م ُ َّ
القريب ،ح َّتى ِ الزوجة ع َلى ِ
نفقة ِ وتأكدت ُ
نفقة المذكورَّ ،
الزمان ،دون نفقتِها. ِ بمضي
ِّ سقطت نفق ُته ْ
متفاوتة يف ٌ ِ
المناسب مراتب
َ أنالتنبيه على َّ ُ وقدْ سبقَ
وعدمه، ِ ِ
القبول ِ
وسرعة ِ
والضعف والقو ِة
َّ ِ
والخفاء ِ
الجالء
146
مناسبات األحكا ِم ِ
لعللها .واهلل ِ نظر ِفي
لمن َظاهر َ
ٌ وذلك
سبحانه وتعالى أعلم»(.)1
ويوضح الشاطبي تفاوت مراتب المقاصد بقوله:
كلي وحفظ المروءات مهم ٌّ الم ِ
هجة ٌّ أن حفظ ُ «وبيان ذلك َّ
حفظا للمروءات ،وإجرا ًءفح ِّرمت النجاسات ً مستحسن؛ ُ
الضرورة إلى ألهلها على محاسن العادات ،فإن دعت َّ
إحياء المهجة بتناول النجس؛ كان تناوله أولى.
وكذلك أصل البيع ض��روري ،ومنع َ
الغ َرر والجهالة
نحسم باب البيع، مكمل ،فلو اشرتط نفي الغرر جملة ال َ
وكذلك اإلجارة ضرورية أو حاجية ،واشرتاط حضور
العوضين يف المعاوضات من باب التكميالت ،ولما
كان ذلك ممكنًا يف بيع األعيان من غير عسر منع من
الس َلم ،وذلك يف اإلجارات ممتنع؛ بيع المعدوم إال يف َّ
باب المعاملة
فاشرتاط وجود المنافع فيها وحضورها يسدُّ َ
هبا ،واإلجارة محتاج إليها؛ فجازت (.)2
-1الطويف� ،شرح خمت�صر الرو�ضة ،385 - 382 /3حتقيق عبداهلل الرتكي ،م�ؤ�س�سة
الر�سالة.
-2ال�شاطبي ،املوافقات .26 /2
147
• المقاصد الكبـرى
والمقاصدُ الكربى والتي سماها بعضهم العالية ال
يقرتح مقصدً ا بنا ًء
ُ عالم
ٍ فكل ُيمكن ِادع ُ
��اء حص ٍر فيهاُّ ،
على ما فهمه .
ُ
وعمل ِّ
الحق تعليم
ُ مقصود الشرع:
ُ كقول ابن رشد:
الحق.
وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم
الحق والعمل الحق ،والعلم الحق هو معرفة اهلل تبارك
وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه ،وبخاصة
الشريفة منها ،ومعرفة السعادة األخ��روي��ة والشقاء
األخروي.
والعمل الحق هو امتثال األفعال التي تفيد السعادة،
وتجنب األفعال التي تفيد الشقاء ،والمعرفة هبذه األفعال
هي التي تسمى العلم العملي.
وهذه األفعال تنقسم قسمين:
أحدهما :أفعال ظاهرة بدنية ،والعلم هبذه هو الذي
يسمى الفقه.
148
والقسم الثاين :أفعال نفسانية ،مثل الشكر والصرب،
وغير ذلك من األخالق التي دعا إليها الشرع أو هنى عنها،
والعلم هبذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم اآلخرة .وإلى
هذا نحا أبو حامد يف كتابه.
ولما كان الناس قد أضربوا عن هذا الجنس وخاضوا
يف الجنس الثاين ،وكان هذا الجنس أملك بالتقوى التي
هي سبب السعادة ،سمى كتابه «إحياء علوم الدين».)1(».
ولي اهللِ الدهلوي« :فالمقصود هو تحصيل صفة وقول ِّ
اإلحسان ،على وجه ال ُيفضي إلى إهمال االرتفاقات
مط حق من الحقوق». الالزمة ،وال إلى َغ ِ
ِ ِ
وقوله« :فم َن المقاصد الجليلة يف التشري ِع أن ُيسدَّ ُ
باب
ِ
التعميق يف الدين»(.)2
االستخالف يف األرض ال��ذي شرحهِ وهناك مقصدُ
الشاطبي بقوله« :المسألة الثانية :قصد ال��ش��ارع من ُّ
ً
المكلف أن يكون قصدُ ه يف العمل موافقا لقصده يف
الش ِ
ريعة؛ التشريع ،والدليل على ذلك ظاهر م ْن َو ْض ِع َّ
- 1ابن ر�شد،ف�صل املقال� :ص ،115حتقيق حممد عابد اجلابري ،مركز درا�سات
الوحدة العربية.
- 2الدهلوي حجة اهلل البالغة 667 /2حتقيق عثمان �ضمريية مكتبة الكوثر
149
إذ قد مر أهنا موضوعة لمصالح العباد على اإلطالق
والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك ُ والعموم،
َّ
وألن الشارع،
ُ خالف ما قصد َ يف أفعاله ،وأن ال َيقصد
المكلف ُخلق لعبادة اهلل ،وذلك راجع إلى العمل على
وفق القصد يف وضع الشريعة -هذا محصول العبادة -
فينال بذلك الجزاء يف الدنيا واآلخرة.
وأي��ض��ا فقد م��ر أن قصد ال��ش��ارع المحافظة على ً
الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات،
وه��و عين ما كلف به العبد؛ فال ُب��د أن يكون مطلو ًبا
بالقصد إلى ذلك ،و إال لم يكن عاملاً على المحافظة؛
ألن األعمال بالنيات ،وحقيقة ذلك أن يكون خليفة اهلل
وأقليف إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعهُّ ،
ذلك خالفته على نفسه ،ثم على أهله ،ثم على كل من
تعلقت له به مصلحة ،ولذلك قال عليه الصالة والسالم:
مسؤول عن َر ِع َّيته».
ٌ « ُك ُّلكم را ٍع وك ُّلكم
ْ ُ َ هَّ ْ
ويف القرآن الكريمَ }:ءام ُِنوا بِٱللِ َو َر ُس هِ
ولِۦ َوأن ِفقوا م َِّما
ني فِيهِۖ{ (الحديد.)7: كم ُّم ۡس َت ۡخلَف َ َ ََ ُ
جعل
أۡ َ ِ
َ َٗ ّ َ ٞ
ۡرض خل ِيفة ۖ{ وإليه يرجع قوله تعالى}:إ ِ يِن جاعِل يِف ٱل ِ
150
َ ُ أۡ َ ۡ َ ُ
ۡرض ف َينظ َر (البقرة ،)30:وقوله} َوي َ ۡس َتخل ِفك ۡم يِف ٱل ِ
َ ُ ُ ذَّ ََۡ ََُۡ َ
ونَ{ (األعرافَ }،)129 :وه َو ٱلِي َج َعلك ۡم ف ت َعمل أۡ كي
َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ ۡ َ َ َ َ َ َ َ
ت ۡرض ورفع بعضكم فوق بع ٖض درج ٰ ٖ لئِف ٱل ِ خ ٰٓ
ٓ َ ُ ّ ُ ُ
يِلَ ۡبل َوك ۡم يِف َما َءاتىٰك ۡمۗ{ (األنعام.)165 :
والخالفة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث قال:
بيته والمرأ ُة راعي ٌة والرجل را ٍع على أه ِل ِ ُ «األمير را ٍع
ُ
مسؤول عن ٌ ِ
على بيت زوجها وولده؛ ف ُك ّلكم را ٍع وكلكم ِ ِ
رع َّيته». ِ
وإنما أيت بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير مختص؛
فال يتخلف عنه فرد من أف��راد الوالية ،عامة كانت أو
قائما خاصة ،فإذا كان كذلك؛ فالمطلوب منه أن يكون ً
مجاريها ِ مقا َم من استخلفهُ ،يجري أحكامه ومقاصدَ ه
()1
وهذا ب ِّيـن.
ووسائل الوسائ ِل ع َلى حدِّ ُ ِ
المقاصد وهناك مقاصدُ
بعضهم ،وهي عبار ٌة لم يفسرها. عبارة ِ ِ
أن المقصدَ األدن��ى يخدم المقصد وال��ذي أت��ص ُّ��و ُره َّ
األعلى ويرمى إلى تحقيقه ،كتحريم المزابنة والغرر ،فهو
-1ال�شاطبي ،املوافقات .23 /3
151
مقصد يف البيوع يرمي إلى تحقيق مقصد أعلى هو العدل.
ِ
صالة ِ
لحضور السعي وسيل ٌة وسائل الوسائلَِّ :
فإن ُ أما
َ
الجمعة ،وترك البيع وسيلة لتحصيل السعي. ِ
قطعية ٍ
ثابتة ٍ نقرر وجو َد مقاصدَ كربَى ولهذا فيمك ُن ْ
أن ِّ
ثانوية ثبو ُتها ٍ حكم التوا ُتر ،ومقاصدَ ِ بأكثر مِن دلي ٍل يف َ
أبواب ِ ِ
باب من كل ٍ ِ
تنتشر في ِّ ٍ
كثبوت العللِ ،ومقاصدَ عامة ِ
ُ
تخص با ًبا واحدً ا ،أو طائف ًة من ٍ
خاصة الشريعة ،ومقاصدَ ِ
ُّ
أحد األبواب .ومقاصد جزئية يف كل أمر وهني، أحكا ِم ِ
المعامالت وبخاصة ِ أمر مقصو ٌد فِي ِ ِ
الغرر والجهالة ٌ فمنع
ُ
ِ
كثير من أحاديث منهيات البيع .وقد ِ ِ ِ
يف البيو ِع من استقراء ٍ ِ
العربي سبع ًة وثالثي َن بي ًعا منه ًّيا عنها بالنَّص يف ِّ ذكر اب ُن َ
كتابه «القبس شرح موطإ مالك بن أنس»(.)1
ِ
المدلول ِ
الثمار المزابنة فِي بي ِع
ِ أما قصدُ الشار ِع لمن ِع
خاص بحديث« :أينقص الرطب إذا يبس؟»( ،)2فهو ِ ِ
عليه
ٌّ
المكيالت والموزونات. ِ بطائفة مِن المسائلِ ،أغل ُبها يف ٍ
ِ ِ ِ
الغرر قسم م َن وقد تكون يف بي ِع الحيوان بجنسه ،وهو ٌ
-1القب�س .792 /2
� -2سبق تخريجه.
152
الجزئي مِن الك ِّلي كذلك ،والنهي ِّ َ
ة منزل ل يتنز
َّ ِ
والجهالة
أن المقصدَ ال َّ
عن بيع حبل الحبلة هو مقصد جزئي؛ إ َّ
أساس الذي يم ِّثل الناسِ ،
ِ العدل بي َن ِ هو إقام ُة
َ األعلى َ
ِ
الحياة ونظا ِم ِ
وللعقود ولنظا ِم ِ
للسلوك ِ
والمعاملة التعام ِل
َ ۡ ۡ الحكم} ،إ َّن هَّ َ
ٱلل يَأ ُم ُر بِٱل َع ۡد ِل{ (النحلِ} ،)90:إَوذا ِ ِ
ۡ ْ ُ ۡ حَ َ ينۡ َ
اس أن تك ُموا بِٱل َ َع ۡد ِل ۚ{ (النساء،)58: َحك ۡم ُتم َب َ ٱنلَّ ِ
َ اَ جَ ۡ َ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ َ ۡ لَىَ ٰٓ اَّ َ ُ ْ ۡ ُ ْ ُ
ع أل ت ۡعدِل ۚوا ٱعدِلوا ه َو نان قو ٍم }ول ي ِرمنكم ش ٔ
َ
ىۖ{ (المائدة.)8: أ ۡق َر ُب ل َِّلت ۡق َو ٰ
يوضحه ،ففي المعامالت: مجال ما ِّ ٍ كل ويظهر فِي ِّ ُ
ۡ ََ ُ ْ ۡ َ ۡ َ ۡ
} وأقِيموا ٱل��وزن بِٱلقِس ِط{ (ال��رح��م��ن ،)9:وهو
ۡ ُ ْ ۡ
اس ٱل ُم ۡس َت ِقي ِم{ (الشعراء.)182: العدلَ } :وزِنوا بِٱل ِق ۡس َط ِ
المقاصد وترا ُب ُطها وتضامنُها ِ وهب��ذا يتِّضح ت��وال��دُ
تتدر ُج ِ
والخصوصَّ ، وتسلسلها وترا ُتبها يف س َّلم العمو ِم ُ
واألخص.
ِّ الخاص
ِّ بي َن العا ِّم واألعم وبين
قد يكون من المناسب أن نضيف هنا قضيتين لهما
تأثيرهما يف تصنيف المقاصد التشريعية المنتجة وهما:
أولاً :معيار االنتماء إلى المقصد الضروري.
ثان ًيا :تذبذب االنتماء لبعض القضايا بينه وبين الحاجي.
153
• أولاً :معيار االنتماء إلى المقصد الضروري :
لقد اضطربت أقوال العلماء يف هذه المسألة:
-فأحيانا يعللون الكليات الخمس بأن الشارع وضع
لها الحدود -وأحيانا يعللوهنا بكوهنا علمت من الدين
بالضرورة كما أشار إليه الشوكاين .وهنا تدخل الواجبات
والجائزات والمنهيات التي علمت من الدين ضرورة.
-وأحيانا ألهنا ضرورة لمصالح العباد وانتظام المجتمع
كما أشار إليه الطويف وغيره .وهو ضروري لقوة المصلحة
المستجلبة كما يشير العز بن عبدالسالم« :طلب الشرع
لتحصيل أعلى الطاعات كطلبه لتحصيل أدناها يف الحد
والحقيقة ،كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع
أدناها إذ ال تفاوت بين طلب وطلب ،وإنما التفاوت بين
المطلوبات من جلب المصالح ودرء المفاسد»(.)1
وهذا يجعل األمر غير محصور والمجال غير مغلق
أمام ما قد يظهر أنه ضرورة حاقة يضطر الناس إليها مما
جعل بعض المقاصديين المعاصرين يضيفون الحرية
والمساواة وغيرهما.
- 1العز ابن عبد ال�سالم القواعد .23 /1
154
• ثان ًيا :تذبذب االنتماء لبعض القضايا بين الضروري
والحاجي.
لقد نشأ ع��ن ه��ذا االض��ط��راب يف حصر وتحديد
الضرورات ثالثة أمور :أولها :اختالفهم يف موقع بعض
القضايا هل هي من باب الضرورات أو الحاجات كالبيع
تجلي ذلك ،فالسبكي واإلجارة والنكاح .وهذه النصوص ّ
«إن البيع من الحاجي»، يف «جمع الجوامع» يقولّ :
وكذلك الفهري يرى أن البيع حاجي إال أنه انتهى إلى
أن شرعية أصل البيع من الضروريات ،فإنه ال يمكن
بقاء الحياة بدون األقوات يف الغالب ،وال يتوصل إليه
إال بالمعاوضات .واختار األبياري أن اإلجارة والبيع من
قبيل الضروريات .وقال إمام الحرمين« :البيع ضروري
بخالف اإلجارة» .وجعل الفهري النكاح من الحاجيات،
وظاهر ك�لام األب��ي��اري أن��ه من الضروريات ألن��ه شرع
لتحصين النفوس»(.)1
واستشكل العبادي يف «اآليات البـينات» جعل حفظ
المال من الضروري والبيع من الحاجي مع أن ضرورية
-1حلولو ،ال�ضياء الالمع ،33 /4الطبعة احلجرية.
155
المال إنما هي لتوقف البنية عليه ،وحينئذ فأي فرق بين
المال الذي يف يده والمال الذي يراد تحصيله بالبيع ،ولم
كان حفظ األول ضرور ًيا دون الثاين مع التوقف على كل
()1
منهما».
كذلك اختلفوا يف صون العرض من الوقيعة فيه هل من
الضروري أو الحاجي.
األمر الثاين :إحداثهم للتتمة وهي الملحق بكل مقصد
ليكون يف مرتبته بشرط أن ال يبطله.
ولكل م��ن المراتب ال��ث�لاث ال��ض��روري والحاجي
والتحسيني ملحق يلحق به يف رتبته ،والتكملة لها شرط
وهو أن ال يعود اعتبارها على األصل باإلبطال كما أفاده
يف نشر البنود(.)2
ومثل األبياري لمكمل الحاجي بنفي الغرر قائال« :إنه
تكملة لها لما يتوقع من خصام ونزاع ،ونفي جميع الغرر
يضيق أبواب المعامالت ويحسم جهات المعاوضات
والتكميالت إنما تراعى إذا لم يفض اعتبارها إلى إبطال
156
المهمات ،فإن أفضى إلى ذلك وجب اإلعراض عن التتمة
تحصيال لألمر المهم ،فوجب المسامحة يف األغرار التي
ال انفكاك عنها مع يسارة ما يفوت ،وبين اليسير والكثير
فروع تجاذب العلماء النظر فيها فمن مائل إلى جانب
العفو ومن مائل إلى جانب المنع»(.)1
قلت :ونفي الغرر يدخل فيما سماه اإلم��ام الطاهر
بالوضوح.
األمر الثالث :اعرتاف بعضهم بعدم انحصار الضروري
وتداخل المقاصد ،قال يف نشر البنود :قد يكون الحاجي
يف األصل ضرور ًيا كاإلجارة لرتبية الطفل ،وهبذا يعلم
عدم انحصار الضروري يف المذكورات(.)2
ويف النهاية فأنا أرى -واهلل سبحانه وتعالى أعلم وأحكم
-أن الكلي الضروري أو الحاجي ال ينبغي حصرهما
حاجزا
ً بالعد اكتفاء بتسويرهما بالحد ،وهو حد ال يضع
لقبـ ًيا وإنما يضع عالمات تؤشر إلى وزن المصلحة ووزن
الدليل وحالة المجتمع وظروفه ليكون التواصل بين
157
منظومتي الضروري والحاجي منسا ًبا ليس بالمعنى الذي
قرره أبو المقاصد األستاذ أبو إسحاق الشاطبي وفطن له
وهو أن الضروري ال يستغني عن الحاجي ألنه بمنزلة
المكمل له ،فقد يختل الضروري باختالل الحاجي،
وكذلك الحاجي مع التحسيني(.)1
فهي عنده كاللبنات المتساندة ولكن بمعنى آخر وهو
- 1قال ال�شاطبي� :إذا ثبت �أن التح�سيني يخدم احلاجي ،و�أن احلاجي يخدم
ال�ضروري؛ ف�إن ال�ضَّ روري هو املطلوب .فهذه مطالب خم�سة ال بد من بيانها:
�أحدها� :أن ال�ضَّ روري �أ�صل ملا �سواه من احلاجي والتكميلي.
والثاين� :أن اختالل ال�ضروري يلزم منه اختالل الباقيني ب�إطالق.
والثالث� :أنه ال يلزم من اختالل الباقيني ب�إطالق اختالل ال�ضروري ب�إطالق.
والرابع� :أنه قد يلزم من اختالل التح�سيني ب�إطالق �أو احلاجي ب�إطالق اختالل
بوجه ما.ال�ضروري ٍ
واخلام�س� :أنه ينبغي املحافظة على احلاجي وعلى التَّح�سيني لل�ضروري.
بيان الأول �أنَّ م�صالح الدِّ ين مبن َّية على املحافظة على الأمور اخلم�سة املذكورة فيما
تقدَّم ،ف�إذا اعترب قيام هذا الوجود الدُّنيوي مبن ًّيا عليها ،حتى �إذا انخرمت مل يبق
للدُّنيا وجود �-أعني :ما هو خا�ص باملك َّلفني والتَّكليف -وكذلك الأمور الأخروية ال قيام
لها �إال بذلك.
َّ َ تجَ
فلو ُعدم الدِّ ين عدم ترت ُُّب اجلزاء املر ى ،ولو ُعدِ َم املكلف لعُدِ َم من َي َتدَّين ،ولو ُعدم
العقل الرتفع التد ُّين ،ولو ُعدم ال َّن�سل مل يكن يف العادة بقاء ،ولو ُعدم املال مل يبق
عي�ش و�أعني باملال ما يقع عليه امللك وي�ستبد به املالك عن غريه �إذا �أخذه من وجهه،
وي�ستوي يف ذلك املطعم وال�شراب واللبا�س على اختالفها ،وما ي�ؤدي �إليها من جميع
املتموالت؛ فلو ارتفع ذلك مل يكن بقاء ،وهذا كله معلوم ال يرتاب فيه من عرف ترتيب
�أحوال الدنيا ،و�أ َّنها زا ٌد للآخرة» .املوافقات 31 /2
قلت :وحتليل ال�شاطبي غري م�سبوق دندن حوله القرايف يف النفائ�س والغزايل يف
ال�شفاء ومل ينعما لوكه وتطرق �إليه الطويف يف املنا�سب دون ا�ستيفاء.
158
أن مفردات الكلي الحاجي ليست مستقرة يف أسفل السلم
ولكنها توجد يف الكلي الضروري متماهية مع مضمونه
ومفاهيمه لكن بعض مضامينها قد يصبح حاج ًيا طب ًقا
لميزان المصلحة ووزن الدليل.
فال غنى ألحدهما عن اآلخر فوضع الحدود عالمة،
والوعد والوعيد عالمة ،وق��وة المصلحة المستجلبة
والمفسدة المستدفعة عالمة ،وقوة الدليل .وكلها تتضامن
يف تشكيل صورة الضروري وتجميع جزئياته.
وطب ًقا لهذا المفهوم الجديد القديم فالبيع مثال هو
ضروري حاجي ،فلو راجعنا النصوص الشرعية لوجدنا أن
البيوع المتعلقة بالطعام قد أحاطها الشارع بقيود وشروط
من التقابض واإلعالن والرتويج ومنع االحتكار لم يحط
به غيرها ،كما قصر المالكية منع البيع قبل القبض على
الطعام دون غيره مما جعل خليال يف التوضيح يقول إهنا
تعبدية ،والقرايف يقول لشرف الطعام .فال يمكن والحال
هذه إال أن نقول إنه من باب الضروري إذا قابلناه ببيع
أدوات التجميل والرتفيه التي تغزو أسواق الجياع ،والتي
جوازا،
ً هي يف أحسن أحوالها تقع يف المقصد التحسيني
159
وهو المقصد الذي يقع فيه منع بيع النجاسات والجيف
وغيرها من محرمات األعيان ماعدا الخمر فإن منع بيعها
ملحق بمقصد العقل وهو ض��روري سدًّ ا للذريعة «إن
الذي حرم شرهبا حرم بيعها» كما يف الحديث الصحيح.
وكذلك منع بيع الصنم سدا لذريعة العبادة فهو ملحق
بحفظ الدين.
مقصورا على جهةً وبما تقدم ال يكون حفظ المال
الحفظ من االعتداء عليه بانتزاعه من يد مالكه ،وال حفظ
مقصورا على منع االعتداء على البضع الذي هو ً النسب
ترجيحا ألحد شقي ً من الضروري بل يدخل فيه النكاح
القاعدة التي ذكرها المقري وغيره ونظمها الزقاق بقوله:
هـل النكـاح قوت أو تفكـُّه إعـفاف والـــد عـليـه يفقـه
تأمــل األم وهل تبعـــــض دعـوى وبتـة بعـتـق يفـرض
قال يف نشر البنود« :واختلف أهل مذهبنا هل النكاح
من باب الحاجيات بناء على أنه تفكه أو من الضروري
بناء على أنه من باب األقوات ،ووجه كونه من الضروري
أنه شرع لتحصين النفوس».
فالذي نختاره أن النكاح قد يكون يف مرتبة الضروري
160
احتياجا شديد ًا ،وقد يكون يف مرتبة الحاجي
ً لمحتاجه
للمحتاج الذي ال يخاف العنت.
وتصير الوقيعة يف العرض يف مرتبة الضروري إذا تعلق
باألنساب ،وبعضه اآلخر يف مرتبة الحاجي وهو رأي
معرتضا على تسوية السبكي للعرض ً لبعض األصوليين
بالمال قائال :إن حفظ العرض قد يكون صيانة لألنساب
عن تطرق الشك فيكون أعلى من المال ومنه ما هو دون
ذلك.
فتتواصل المنظومتان دون تقيد باأللقاب بل بالنظر
لرجحانية المصالح يف ضوء الدليل والقرائن الحافة.
وقد انتبه األصوليون لذلك يف النفقة حيث قرروا أن
الوصف الواحد قد يكون ضرور ًيا حاج ًيا لكن بنسب
وإض��اف��ات ،كالنفقة فإهنا على النفس ضرورية وعلى
الزوجة حاجية كما البن حلولو ،وأضاف الطويف وعلى
األقارب تتمة.
خالصة القول :إن العالقة بين منظومات المقاصد
الثالثة ال ينبغي أن تكون تكاملية كما وصل إليه الشاطبي،
وكما رسمه ابن حلولو يف الضياء الالمع بقوله« :واعلم
161
أن الحاجيات والتحسينيات كالتتمة للضروريات
والتحسينات كالمكملة للحاجيات ،فإن الضروريات هي
أصول المصالح ،وكل تكملة فلها من حيث هي تكملة
شرط وهي أن ال يعود اعتبارها على األصل باإلبطال،
فإنه متى عادت عليه باالعتبار سقط االعتبار»(.)1
بل ال��ذي نقوله هو أن العالقة اندماجية ،ونتفق مع
أن أصلأستاذ المقاصد الشريف /أحمد الريسوين يف َّ
هذا الحصر اجتهادي ،وبالتالي فهو مفتوح لإلضافة مع
االعرتاف مع األستاذ أبي إسحاق يف قواعده أن الكليات
الخمس :الدين والنفس والعقل والنسل والمال ( ،)2هي
-1ابن حلولو ،حا�شية على جمع اجلوامع ،35 /3الطبعة احلجرية.
-2هذا احل�صر اعرت�ض عليه فيل�سوف الإ�سالم املعا�صر طه عبدالرحمن بقوله« :غري
�أن هذا احل�صر ُيعرت�ض عليه من جهتني :من جهة جعل امل�صالح خم�سة �أجنا�س،
ومن جهة اخت�صا�ص امل�صالح ال�ضرورية بهذه الأجنا�س اخلم�سة .ال ميكن الت�سليم
بانح�صار ال�ضروريات يف خم�سة �أجنا�س ،لأن ذلك يخل بال�شروط املنطقية واملنهجية
املطلوبة يف التق�سيم ،فال ي�ستويف �شرط متام احل�صر� ،إذ ال مينع من دخول عنا�صر
�أخرى فيه ،فقد �أدخل بع�ضهم «العر�ض» و»العدل» ،وال يقوم ب�شرط التباين ،فالعن�صر
الواحد من هذه العنا�صر لي�س مباين ًا ملا عداه من العنا�صر الأخرى ،مثل حفظ النف�س
وحفظ العقل؛ كما ال ي�ستويف �شرط التخ�صي�ص ،فلي�س كل عن�صر من هذه العنا�صر
�أخ�ص من الأ�صل املح�صور الذي هو ال�شريعة ،فالدين الذي اعترب عن�صرا هو كذلك
م�ساو لل�شريعة(.جتديد املنهج يف تقومي الرتاث �ص.)111
رَ َ َ َ ُ
كم ّم َِن ّ
ِين َما
ٱدل
ْ ِ َ َ ل ع﴿ش إميان الذي خوطب به كل الر�سل هنا هو َ ال قلت :الدين
ِيس أ ۡن أق ُ
ِيموا ّ
ٱدل َ ِيم َو ُم ىَ ٰ َ ىَ ٓ يَ ذَّ ُ ٗ َ ٓ ۡ ََۡ ۡ َ
ك َو َما َو َّص ۡي َنا بهِۦٓ إبۡ َرٰه َ َو ىَّ ٰ
ِين وس وع ٰٓ ۖ ِ ِ ص بِهِۦ نوحا وٱلِي أوحينا إِل
162
أصل المصالح؛ ولهذا فستظل العناوين الرئيسيةَّ ،
ألن
كل المقاصد األخرى سواء كانت من مقاصد الشارع أو
مقاصد المكلفين غير منافية لها ستبقى راجعة إليها إما
بالتبع أو األيلولة ،فمجمل الكبائر وكبيرات الفضائل
سواء كانت مرجعيتها الفر َد أو موضوعها الجماع َة ال بد
أن تالحظ هذه الكليات بشكل من األشكال أو ضرب من ْ
الضروب ،وإن كانت كلمة «حفظ» التي أطلقها األولون
عنوانًا للمقصد تشير إلى نوع من الحصر فلو أزيلت
ليكون المقصد مثال :الدين والنفس والمال ..إلى آخره
لزال االعرتاض وحصل المطلوب.
وعلى كل حال فمن أراد أن يتعرف إلى المقاصد يف
كل جزئية فما عليه إال أن يرجع إلى ميزان النصوص
وضرورات الناس وحاجاهتم ليثبت المرتبة.
ْ اَ
َول َت َت َف َّرقُوا فِي ۚهِ﴾ لأن هذه الكليات ال تختلف فيها امللل كما يقول ال�شاطبي وغريه ،قال
يف املراقي:
ٌ
دينٌ فنف�س ث ـ ــم عقـ ــل ن�سب م ــال �إىل �ضـ ـ ــرورة تنتـ ــ�سب
ورتنب ولتعطف ـ ـ ــن م�س ـ ــاويا عر�ض ًا على املـ ــال تكن موافيا
فحفظها حتم على الإن�س ــان يف كل �ش ـ ـ ـ ـ ــرعة من الأديان
�إذا فال تداخل فكل واحدة منهن �ضرورة �إن�سانية لقيام جمتمع منظم .واهلل �أعلم.
163
المشهد الخامس
استنباط المقاصد
واستخراجها
166
• جهات استنباط المقصد لدى الشاطبي
ِ
الحكم َّ
بأن يتوص ُل هبا إ َل��ى
َّ ونعنِي ِبه الكيفي َة التِّي
مقصد الشارع من أمر أو هني أو أي خطاب فيه إخبار أو
فعل المعصوم أو تقريره.
الشاطبي منها ألربع جهات ،حيث قال: ُّ تعرضوقد َّ
«يف الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع؛ فنقول ،وباهلل
التوفيق :إنه ُيعرف من جهات:
ِ
التصريح ِّي، االبتدائي ِ
والنهي ِ
األمر إحداها :مجر ُد
ِّ
فوقوع
ُ َ
الفعل؛ أمرا القتضائِه األمر معلو ٌم أنَّه إنَّما َ
كان ً فإن َ َّ
األمر بِه مقصو ُد للشارع ،وكذلك النهي ِ ِ
وجود الفع ِل عندَ
معلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه؛ فعدم وقوعه
أن عدم إيقاع مقصو ٌد له ،وإيقاعه مخالف لمقصوده ،كما َّ
مخالف لمقصوده. ٌ المأمور به
والنهي مِن
ِ ِ
األمر لمن اعتربَ مجر َد ظاهر عا ٌّم َ
ٌ فهذا وج ٌه
َ ٍ غير ٍ ِ
والمصالح ،وهو
َ العلل ولمن اعتربَ نظر إ َلى ع َّلةَ ،
األصل الشرعي.
تحر ًزا من األمر أو النهي الذي وإنما قيدَّ باالبتدائي ُّ
167
َ ۡ َ ۡ ْ ىَ ٰ ۡ هَّ َ َ ُ ْ
ُقصد به غيره؛ كقوله تعالى﴿:فٱسعوا إِل ذِك ِر ٱللِ وذروا
بۡ
ليس هن ًيا مبتد ًأ، النهي ع ْن البي ِع َ ٱلَ ۡي َ ۚع﴾ (الجمعةَّ ،)9:
فإن
َ
النهي المقصودِ ِ ِ
بالسعي؛ فهو من ِ ِ
لألمر بل هو تأكيدٌ
األول ،كما ِ بالقصد الثانِي، ِ
ليس منه ًّيا عن ُه بالقصد َّ فالبيع َ ُ
عي عندَ الس ِ والزنى مثلاً ْ ،بل ألج ِل تعطي ِل َّ هني عن الربا ِّ
قصد الشار ِع مِن ِ ففي َف ِ
هم هذا؛ ِ االشتغال بِه ،و َما شأنُه َ ِ
ِ
المرتجمة ِ
المسألة منشؤه مِن أص ِل واختالف، نظر
ُ ٌ مجرده ٌ َّ
بالصالة يف الدار المغصوبة.
أو النَّهي األم��ر ِ ِ بالتصريح ِّي ت��ح ُّ��ر ًزا مِ��ن ِ وإنما ق َّيد
ال��ذي ليس بمصرح بِ��ه؛ كالنَّهي عن أض ِ
��داد الضمنِي ِ
ْ َّ َ
النهي تضمنَه ِ ِ ِ ِ ِ
ُ واألمر الذي َّ األمر،
تضمنه ُ المأمور به الذي َّ
فهما قيل هبما؛ ُ إن َ واألمر ها ُهنا ْ َّهي ِ َّ ِ
َ عن الشيء ،فإن الن َ
األول؛ إ ْذ مجراهما عندَ القائ ِل ِ ِ ِ
بالقصد الثاني ال بالقصد َّ
فإن قِ َيل المصرحِ بِه ْ . َّ ِ
النهي أو لألمر ِ ِ ِ
التأكيد مجرى هبما َ َ
األمر َ
وكذلك ِ
أوضح في عد ِم القصد . ِ فاألمر بالن ِ
َّفي؛
ُ ُ ُ
المذكور يف مسألة «ما ال يتم ُ ال ِبه، المأمور إ َّ ُ يتم
بما ال ُّ
ِ
مقصود هذا على َّهي فِي َ األمر والن ِ ِ الواجب إال به»؛ فدالل ُة
168
َ
ولذلك متنازع فِيهَ ،فليس داخلاً فيما نح ُن فِيه،
ٌ الشار ِع
ِ
بالتصريحي. والنهي
ُ ُق ِّيد ُ
األمر
أمر هبذا
والنهي ،ولماذا َ
ِ علل األم��رِ
ِ والثانية :اعتبار
اآلخر؟ هذا َ الفعل؟ ولماذا نَهى ع ْن َ
تكون معلوم ًة أو ال :فإن كانت معلوم ًة َ والع َّلة إ َّما ْ
أن
والنهي مِن ِ ِ
األمر وجدت وجد مقتضى ْ ُ
فحيث ا ُّتبعت،
لمصلحة التناسلِ ،والبي ِع ِ القصد أو عدمِه؛ كالنكاحِ ِ
ِ
لمصلحة ِ
والحدود ِ
عليه، ِ
بالمعقود لمصلحة االنتفا ِع ِ
ِ
االزدجار.
الفقه، ِ ِ
أصول ِ
المعلومة يف عرف العل ُة هنا بمسالِكها و ُت ُ
العلل تلك ُ أن مقصو َد الشار ِع ما اقتضتْه َ لم َّ نت ُع َ فإ َذا تع َّي ْ
غير كانت َ وإن ْ مِن الفع ِل ْأو عدمِه ،ومن التس ُّبب أو عدمِهْ ،
عن القط ِع ع َلى الشار ِع أنَّه معلومة؛ فال بدَّ مِن التو ُّقف ِ ٍ
ِ
النظر: ِ
وجهان م َن التوقف هنَا ل ُه
َ أنال َّ
وكذا؛ إ َّ كذا َ قصدَ َ
الحكم ِ عليه فِي َ
ذلك أن ال يتعدَّ ى المنصوص ِ
ُ أحدهماْ :
ِ
بالعلة ألن التعدِّ ي مع الجه ِل السبب المع َّين؛ َّ ِ المع َّين أو
يصح ُّ غير سبيلٍ ،وال وضالل على ِ ٌ غير دليل، تح ُّك ٌم من ِ
ٍ
عمرو ،ونح ُن ال حكما ع َلى ْ ً بما ُوضع الحكم ع َلى زيد َ ُ
169
أن الشارع قصدَ الحكم ِبه ع َلى ٍ
لم ال؛ ألنَّا إ َذا ْ زيد ْأو َ َ َ نعلم َُّ
فنكون قد أقدمنَا ُ كما عليه، يكون ُح ً َ أن َ
ال ذلك أمك َن ْ نعلم َ ْ
ف هنَا لعد ِم الدَّ ليل. على مخالفة الشارعِ؛ فالتو ُّق ُ ِ
أن الموضوعة شر ًعا ْ ِ األصل َفي األحكا ِم َ والثاينَّ :
أن
لذلك َ عرف قصدُ الشار ِع ال ُيتعدَّ ى هبا محا ُّلها حتَّى ُي َ
دليل على ألن عد َم نصبِه دليلاً على التعدِّ ي ٌ التَّعدي؛ َّ
عد ِم التعدِّ ي؛ إ ْذ لو كان عندَ الشار ِع متعديا لنصب ِ
عليه َ ِّ ً
العلة معروفةٌ ،وقد ُخبِر ِ ُ
ومسالك ووضع ل ُه مسل ًكا، دليلاً
َ
مسلك مِن ٌ فلم توجدْ ل ُه عل ٌة يشهدُ لها محل الحكم؛ ْ هبا ُّ
غير ِ ِ أن التعدِّ َي ِ فصح َّ المسالِك؛
المنصوص عليه ُ لغير َّ
مقصود للشارعِ. ٍ
الموضع؛ إ َّ
ال ِ المسلكان كالهما مت ِ
َّج ٌه يف ِ ف��ه ِ
��ذان
ُ
��أن التَّعدِّ َي غير ج��ز ٍم ب َّ ف مِن ِ يقتضي التو َّق َ ِ األو َل أن َّ َّ
إمكان أنَّه مرا ٌد؛ فيب َقى َ ويقتضي َ
هذا ِ مراد،المفروض غير ٍ َ
ُ
يكون مقصو َد َ الناظر باح ًثا حتَّى يجدَ مخ َل ًصا؛ إ ْذ يمك ُن ْ
أن ُ
ِ
يكون مقصو ًدا له ،والثاين يقتضي َ أن َ
ال الشارعِ ،ويمك ُن ْ
نفي التَّعدِّ ي من ِ ِ ٍ ِ
غير مراد؛ فينبني عليه ُ جز َم القضية بأنَّه ُ
ٍ
مقصود َله ،إ ْذ غير ِ غير تو ُّق ٍ
علما أو ظنًا بأنه ُ ويحكم به ً ُ ف،
170
ذلك َّلم نجدْ َ ِ لو َ
دل لنصب عليه دليلاً ّ ،
ولما ْ َ كان مقصو ًدا
ِ ٍ
المعتقد خالف
َ يوضح فإن أ َتى ما ِّمقصودْ ، ع َلى أنَّه ُ
غير
الحكم ،ثم ي َّطلع ِ ِ
كالمجتهد يجز ُم القضي َة يف رجع ِ
إليه، َ
ينسخ جز َمه إلى خالفه. ُ بعدُ على دلي ٍل
ألن أحدَ هما مسلكان متعارضان؛ َّ ِ قيل :فهما ف��إن َ
ْ
ِ
النظر يقتضيه ،وهما فِي ِ واآلخ��ر ال
َ يقتضي التو ُّق َ
ف، ِ
ف ال التو ُّق ُ
سوا ٌء ،فإذا اجتم َعا تداف َعا أحكا َمهما؛ فال يب َقى إ َّ
َّجهان م ًعا؟ فكيف يت َ َ وحدَ ه؛
ِ
بعض المجتهد فِي
ِ ِ
يتعارضان عندَ فالجواب أنَّهما قدْ ُ
يرتجح َّ لم
كدليلين ْ ِ التوقف ألنَّهما ُ فيجب
ُ المسائِل؛
المجتهد ع َلى ِ الحكم عندَ فيتفرع اآلخر، أحدُ هما ع َلى َ
ُ َّ
بحسبِ ِ
يتعارضان تعارض الدليلين ،وق��دْ ال ِ ِ
مسألة
فيقوى وقتين ْأو مسألتَين؛ َ ِ واحد فِي ٍ ٍ
مجتهد مجتهدَ ين ْأو
ٍ
مسألة النفي فِي ِ ُ
ومسلك مسلك التو ُّقف فِي مسألة، ُ عندَ ه
ِ
اإلطالق. تعارض ع َلى َ أخرى؛ فال َ
ِ
العبادات مقصد الشار ِع التفرق َة بي َن ِ وأيضا فقدْ علمنَا مِن ً
باب العبادات جه ُة التع ُّبد ،ويف ِ غلب في ِ ِ ِ
والعادات ،وأنَّه َ
والعكس فِي ُ االلتفات إ َلى المعانِي، ِ ِ
العادات جه ُة باب ِ
171
البابين ٌ
قليل. ِ
��اس ورف�� ِع إزال��ة األن��ج ِ ِ مالك يف ٌ يلتفت ��م َ
ْ ولذلك ل ْ
اشرتط الما َء المط َلق ِ مجر ِد ِ
َ النظافة حتَّى األحداث إ َلى َّ
دون ذلك. حصلت النظاف ُة َ ْ األحداث النيةَْ ،
وإن ِ ويف رف ِع
ومنع والتسليم مقا َمهما، ِ ِ
التكبير إقامة ِ
غير ِ وامتنع مِن
َ َ
مِن إخراجِ القي ِم فِي الزكاة ،واقتصر على مجرد العددِ
َ َ
تقتضي ِ ذلك مِن المسائ ِل التِّي يف الك َّفارات .إلى غير َ
عليه ْأو ما ماث َله. المنصوص ِ
ِ االقتصار ع َلى ِ
عين َ
فقال فيها بقاعدةِ ��اب العادات المعنَى؛ َ ِ و َغ َّلب يف ب ِ
قال فيه« :إ َّن ُه تسع ُة واالستحسان الذي َِ ِ
المرسلة المصالحِ
مر الكال ُم يف هذا يتبع ذلك .وقد َّ العلم» إلى ما ُ ِ ِ
أعشار
والدليل عليه. ُ
فمسلك النفي متم ِّكن يف العبادات، ُ ثبت هذا وإذا َ
التوقف متم ِّك ٌن يف العادات. ِ ُ
ومسلك
ِ
العبادات، ِ
ب��اب أن ُت َ��را َع��ى المعانِي يف وق��دْ يمك ُن ْ
فيجري الباقِي عليه ،وه َ��ي طريق ُة ِ ظهر من ُه ش��ي ٌء َ وق��دْ
ظهر من ُهباب العادات ،وقد َ والتعبدات يف ِ ُ «الحنفية» .
وهي طريق ُة «الظاهرية» ،ولك َّن ، فيجرى الباقِي ِ
عليه ِ شي ٌء
َ
172
العمد َة ما تقدم .وقاعدة النفي األصلي واالستصحاب
راجعة إلى هذه القاعدة.
أن للشارع يف شر ِع األحكا ِم العاد َّية والجه ُة الثالثةَُّ :
والعباد َّية مقاصدَ أصلي ًة ومقاصدَ تابعةً.
ِ
القصد مشروع للتناسل على مثال ذلك النكاح؛ فإن ُه
ٌ
والتعاون على ُ واالزدواج ِ
السكن، طلب ِ
ويليه األول،
ُ ُ َّ
بالحالل، ِ واألخروية؛ من االستمتا ِع ِ ِ
الدنيوية المصالحِ
والتجم ُل ُّ محاسن النِّساء، ِ اهلل مِن خلق ُ إلى ما َ وبالنظر َ ِ
نها أو مِن ِ ِ ِ
بمال المرأة ،أو قيا ُمها عليه وع َلى أوالده م َ
ِ ِ
المحظور مِن ِ والتحفظ مِن الوقو ِع فِي ُ غيرها ْأو إخوتِه،
ِ
بمزيد ِ
الشكر العين ،واالزدي��ا ُد مِن ِ ِ
ونظر شهوة الفرجِ ِ
ذلك. ِّعم مِن اهللِ علِى العبد ،وما أشب َه َ الن ِ
هذا مقصو ٌد للشار ِع مِن شر ِع النكاحِ :فمن ُه فجميع َ ُ
ِ
آخر مشار إليه ،ومنه ما ُعلم بدلي ٍل َ ٌ منصوص عليه أو ٌ
ُص أن ما ن َّ وذلك َّ َ ذلك المنصوص؛ ومسلك استُقرىء مِن َ ٍ
للمقصد األصلِ ِّي، ِ المقصد التاب ِع هو مثبِ ٌت ِ عليه من هذا ِ
ومستجلبٌ ومستودع لطلبِه وإدامتِه، ٌ ومقو لحكمتِه، ٍّ
يحصل بِه ُ ِ
الرتاحم والتواص ِل والتعاطف ،الذي ِ لتوالِي
173
بذلك ع َلى التناسل؛ فاستدللنَا َ ُ مقصدُ الشار ِع األصلِي م َن
ذلك مقصو ٌد للشار ِع مما شأنُه َ ِ أن َّ َّ
ينص عليه َّ لم َّ كل َما ْ
الخطاب يف نكاحِ أ ِّم ِ بن عمر ِ أيضا؛ كما ُر ِوي من فع ِل َ ً
لشرف النَّسب، ِ طالب طل ًبا ٍ بن أبِ��ي بنت علي ِ كلثو ٍم ِ
ِّ
أن شك َّ البيوتات ،وما أشبه ذلك .فال َّ ِ ِ
ومواصلة أرف ِع
وأن قصدَ التس ُّبب ل ُه سائغَّ ، ٌ ِ
المقاصد هذه النكاح لمث ِل ِ
َ
حس ٌن.
األمور مضاد ٌة لمقاصدِ ِ ِ
نواقض هذه َ ذلك يتب َّي ُن َّ
أن وعندَ َ
َّ
ِ
المواصلة كان مآ ُلها إ َلى ضدِّ حيث َ ُ بإطالق ،مِ ْنٍ الشار ِع
نكحها ليح ّلها لم ْن ط َّلقها ِ ِ
كما إ َذا َ والسكن والموافقةَ .
المواصلة التي ِ ِ
لقصد بمنعه مضا ٌّد ثال ًثا؛ فإنَّه عندَ القائ ِل ِ
غير شرط؛ الحياة مِن ِ ِ الشارع مستدام ًة إ َلى انقطا ِع ُ جعلها
نكاح ُ َ
وكذلك ِ
بالطالق. كان المقصو ُد من ُه المقاطع َة إ ْذ َ
ظهورِ المتعة ،وكل نكاحٍ ع َلى هذا السبيل ،وهو أشدُّ يف ِ
لم ُ ِ محافظة الشار ِع على دوا ِم ِ
عما ْ
حيث هنَى َّ المواصلة،
فيه ذلك»(.)1 يكن ِ
ْ
إن الشاطبي كان يمكن أن يستغني عن الجهة قلتَّ : ُ
- 1ال�شاطبي ،املوافقات .140 - 134/ 3
174
الثالثة باعتبارها داخلة يف الجهة األول��ى ض��رورة ،ألن
ورود األمر من الشارع يقتضى طلب اإليقاع كما أن النهي
يقتضي طلب االمتناع ،وكونه ابتدائيًا وهو الذي احرتز
به من األمر التبعي ال يستلزم ذلك ،فاألمر االبتدائي ال
يسلتزم األصالة؛ فاألمر االبتدائي -كما أفهمه -يقتضي
ورود النص به على ح��دة؛ لكن األصالة أو التبعية أو
القصد األول والثاين فإنه مفهوم من جهة أخرى.
فاالبتدائية شيء واألصالة شيء آخر .فلو حذف القيد
يف الجهة األول��ى وأبقي على االبتدائية بمعنى الذي
يفهم من ورود النص كما دلت عليه الفقرة األولى لكان
أوض��ح ،وتكون الجهة الثالثة موضوعة لقسمة أخرى
لألمر االبتدائي أي أنه ينقسم إلى أصلي وتابع.
فاألصلي هو المقصود باألصالة أو بالقصد األول،
والتابع هو ما كان وسيلة أو شرطًا أو مكمال للمقصد
األصلي .ف��األول كالسعي وت��رك البيع يف آية الجمعة.
والثاين كالطهارة يف آية المائدة ،والثالث كالسكن والمودة
يف مقصد التزاوج كما يف آية سورة الروم .وقد ذكره أبو
إسحاق؛ وإال فال فرق بين األصلي والتابع إال بالمعنى
175
الذي يتضمنه كل منهما والوظيفة التي يؤديها ،فكالهما
ابتدائي من حيث الصيغة .ومن الواضح أن اإلمام -رحمه
اهلل تعالى -أراد بوصف االبتدائي التفريق بين القصد
األول والقصد الثاين؛ وحيث إن الصيغة ال فرق فيها كما
قال العز بن عبد السالم« :إذ ال تفاوت بين طلب وطلب،
وإنما التفاوت بين المطلوبات من جلب المصالح ودرء
أن نمنح االبتدائي معنى آخر لتتم المفاسد »،،اخرتنا ّ
القسمة بين النص وبين المقصد خارج النص وهو النوع
الثاين ،واهلل تعالى ولي التوفيق(.)1
أن األصلي هنا هو الذي عرب عنه ينبغي التنبيه هنا إلى َّ
القرايف بالمقصد أي المقصود بالطلب ،وعرب عن التابع
أن الشاطبي يف تصنيفه للمقاصد منح بالوسيلة ،كما َّ
- 1متكن مالحظة �أن الو�صف باالبتدائي الذي ذكره ال�شاطبي يف الأمر والنهي لي�س
متداو ًال -على حد علمي يف علم الأ�صول -ولعل �أ�صوله يف كتب البالغة عند �أتباع
ال�سكاكي وال�سعد التفتازاين ،وذلك يف و�صف اخلطاب ال�ساذج اخلايل من �أية �أداة
للت�أكيد وهو يقابل يف الق�سمة الثالثية :اخلطاب الطلبي والإنكاري .قال ال�سيوطي:
ف�إن يخاطب خايل الذهن من حكم ومن تردد فلتغت ـ ــنى
عن امل�ؤكدات �أو م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــردّدا وطالب ًا فم�ستجيدا �أك ـ ـ ــدا
�أو منكرا فـ ـ ـ ـ ـ ـ�أكدن وـجـ ـ ــوبا بح�سب الإنكار فال�ض ــروبا
�أول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــها �سـ ـ ّـم ابتدائيا وما تاله فهو الطلـ ــبي وان ــتمى
تاليه للإنكــار ثم مقت ـ ـ ــ�ضى ظاهره �إيرادها كما م�ضى
176
األصالة والتبعية معنى آخر ،حيث جعل األولى ما ال حظ
للمكلف به ،والثانية ما فيه حظ كما مضى وقد علقنا عليه.
وينبغي أن نفرق هنا بين بعض المتقابالت يف القصود
ولو من خالل إدراج مصطلح الثانوي يف وصف القصد
التابع؛ ألنه نازل يف الرتبة عن المقصد األصلي ،لكونه
شرطًا له أو مكمال أو وسيلة .ونؤثر العلة بالقصد الثاين
ألهنا ليست نازلة يف الرتبة بل مساوية أو أعلى وألهنا سابقة
يف الوجود -افرتاضا لضرورة تقدم السبب على المسبب
-وإن كانت الحقة يف الورود -على خاطر األصولي .إذ
لوال األصل الجزئي المنصوص لما سارت الخواطر إلى
العلة .أما الثانوي فإنه قد يتزامن يف الورود مع األصلي؛
منصوص وبنفس الصيغة لكنه ناشئ عنه يف الوجود ٌ ألنه
المستد َعى بطلب اإليجاد .فافهم ذلك. ُ
• استنباط المقاصد عند ابن عاشور
أما ابن عاشور يف الجهات فإنه فيما يبدو ظل على
تعريف المقاصد بالحكم والمعاين والعلل مضي ًفا بعدا
آخ��ر هو القطعية الناشئة عن االستقراء حيث استهل
باستقراء الجزئيات للوصول لحكمة متحدة أو تحصيل
177
مفهوم كلي إال أنه يف الطريق الثاين للتعرف على المقاصد
تحدث عن الدالالت الواضحة للقرآن والسنة المتواترة
وهذا يرجعنا إلى المقاصد االبتدائية الجزئية ،ولكن من
زاوي��ة القطع ال��ذي يحاول ابن عاشور أن يضفيه على
المقاصد.
وإذا كان القطع بالورود والثبوت هو المعيار فإنه يكون
يف االبتدائية التي ليست حكما وال عللاً فيتناقض عنده مع
الطريق األول.
ونفس المالحظة تقال عن السنة المتواترة وهي الطريق
الثالث الذي يرتكز على الظن القريب من القطع بالنسبة
للصحابي واالحتمال بالنسبة لمتلقي الخرب.
من هناك ندرك فر ًقا جوهر ًيا بين الشاطبي وابن عاشور
يف زاوية النظر للتعرف على المقاصد.
فالشاطبي بحث عن طريق التعرف على المقصد
من خالل النصوص والمعاين األولى والثانية من حيث
الرتتيب يف سير عملية االستكشاف أو الثانوية من حيث
الرتبة يف العالقة بين المقصد األصلي والتابع ليصل يف
النهاية إلى سبيل رابعة لتوليد المقاصد من خاللها هي
178
سكوت ال��ش��ارع ،تاركًا مسألة الثبوت إل��ى ال��دالالت
األصولية المعروفة ،بينما كان ابن عاشور يرمي إلى تأكيد
ثبوت المقصدية وقوهتا باستقراء الجزئيات للوصول إلى
مقصد كلي أو من خالل نص قطعي داللة وورو ًدا.
إن الجهات التي ذكرها الشاطبي هي بالتأكيد الجهات
التي يتعرف على المقاصد من خاللها ،وه��ي تشمل
الجزئي والكلي الظني والقطعي ،ودالالت األلفاظ
ومعقول النصوص يف ترتيب منطقي يراعي الرتب ويقدم
األهم فالمهم.
لهذا فال يمكن اعتبار ما ذهب إليه ابن عاشور بديال
عن جهات الشاطبي بل ال بد أن ينظر إليه على أنه مكمل
لها باإللحاح على زاوية معينة هي زاوية التأكد من أكادة
المقصدية.
ولهذا فإن الشاطبي يمكن أن يعترب المنطلق األساس
لتعريف المقاصد بمستوياهتا األربعة المتمثلة يف جدلية
المعنى والمفهوم.
وهذا هو المستوى األول.
فالمعنى ما يعنيه المتكلم أو الساكت مأخوذ من العناية،
179
والمفهوم ما يفهمه المتلقي السامع أو المشاهد ،وهما
متحدان بالذات مختلفان باالعتبار ،وذلك إنما يعرف يف
الخطاب االبتدائي ،الذي يمكن أن يعرب عنه بمدلوالت
اللغة وليس فقط يف صيغ األمر والنهي ولكن كل ما فهم
منه مدح أو قدح ،قبول أو رد ،استحسان أو استهجان ،أو
إباحة أو عفو ،أو إذن أو تأكيد ،أو تخفيف أو تشديد.
َ َ َ َ َ ُّ ُ
ك ۡمۖ{ وهذا كما أسلفنا يجيب عن ماذا؟ }ماذا قال رب
(سبأ ،)23:وقد أشار إليه الشاطبي يف مبحث «بيان قصد
الشارع يف وضع الشريعة لإلفهام».
أما المستوى الثاين فهو :ما وراء النص من تعليل أو
مصالح يراد جلبها أو مفاسد يتوخى درؤه��ا .وقد يعرب
عنه بالحكم ألن فيه حكمة توحي بالتعليل والصواب
والرشد ،وباألسرار ألنه يف باطن اللفظ وليس يف ظاهره،
والمرامز التي ترمز إلى المراد حسب عبارة الباقالين.
إذ غال ًبا ما يبدو بعد بحث عقلي أو إبداء من الشارع.
أم��ا المستوى الثالث فهو كاللذين قبله يف عملية
االستكشاف إال أنه أبرزه باعتباره نو ًعا ثال ًثا لنزول رتبته
عن المقصد األصلي وهو تفريع عليه .وقد أبدينا رأينا
180
حوله.
وقد ذكر الشاطبي مستوى رابعًا ،وإنما قرره مستقال؛
ألنه يختلف يف وسيلة التعرف عليه عما قبله ولنزول رتبته
بناء على ذلك يف تأكد المقصدية وهو طريق السكوت؛
لكن الشاطبي يف تفصيل المقاصد العليا أو التي تمثل
أرضية لكل المقاصد ذكر مقصد وضع الشريعة ابتداء
جاز ًما بأنه لمصالح العباد يف العاجل واآلجل فإذا سلمت
هذه المقصدية مع مقدمة وضع الشريعة لإلفهام الذي
ينايف اإلهبام ،وكما قال يف المراقي:
غير الذي ظهر للعقول وما به يعنى بال دليل
وشرحه بأنه ال يكون يف القرآن والسنة حشو وال لفظ
مقصود به غير ظاهره إال بدليل عقلي.
عرف ِبه
مما ُي ُ ِ
ثم ذكر جه ًة رابع ًة بقوله« :الجه ُة الرابع ُة َّ َّ
السكوت عن شر ِع التسبب ،أو عن شرعيةِ ُ ِ
الشارع: مقصدُ
ُّ
ِ
المقتضي َله. مع قيا ِم المعنَىالعم ِل َ
ِ
الحكم ع َلى ضر َبين: سكوت الشار ِع ِ
عن َ ذلك َّ
أن وبيان َُ
ِ
تقتضيه، يسكت عنه؛ ألنَّه ال داعي َة ل ُه َ أحدهماْ :
أن
حدثت بعدَ
ْ كالنوازل التِي
ِ يقدر ألجلِه؛ ُ موجب
َ وال
181
مع ِ ِ
سكت عنها َ َ ثم
لم تك ْن موجود ًة َّ رس��ول اهلل؛ فإنَّها ْ
ِ
الشريعة فاحتاج ُ
أهل حدثت بعدَ َ
ذلك؛ ْ وجودها ‑ وإنما ِ
َ
تقرر فِي كل َّياهتا .وما وإجرائها ع َلى ما َّ ِ النظر فيها ِ إ َلى
��ع إ َلى هذا القسم؛ كجم ِع الصالح راج ٌ ُ السلف
ُ أحد َثه
وتضمين الصنَّاع ،وما أشبه ِ ِ
العلم، ِ
وتدوين المصحف، َ
رسول اهلل ِﷺ ،ولم تك ْن ِ ذكر يف ِ
زمن لم ِ َ
يجر ل ُه ٌ مما ْ ذلك َّ
موجب يقتضيها . ٌ عرض للعم ِل هبا نوازل زمانِه ،وال َ ِ مِن
المقررة شر ًعا ِ القسم جاري ٌة فرو ُعه ع َلى أصولِه فهذا
ُ
الجهات ِ معروف مِن ٌ الشرعي فيها بِال إشكال؛ فالقصدُ
ُّ
قبل. ِ
المذكورة ُ
فلم ِ ِ والثاينْ :
يسكت عن ُه وموجب ُه المقتضي ل ُه قائ ٌم؛ ْ َ أن
ذلك كان يف َ النازلة زائدٌ على ما َ ِ ِ
نزول حكم عندَ يقرر فيه ِ
ٌ
أن قصدَكالنص ع َلى َّ الزمان .فهذا الضرب السكوت ِ
فيه ِ
ِّ ُ
كان َ لما َ ِ
هذا المعنَى أن ال يزا َد فيه وال ين َقص؛ ألنَّه َّ الشار ِع ْ
لم يشرع ِ ِ ب لشر ِع ِ
ثم ْ الحكم العملي موجو ًدا َّ الموج ُ
أن الزائدَ ع َلى صريحا يف َّ ً كان َ
ذلك الحكم دالل ًة عليه؛ َ
كان هنالِك بدع ٌة زائدةٌ ،ومخالف ٌة لما قصدَ ه الشارع؛ إ ْذ ما َ
الوقوف عند ما حدَّ هنالك ،ال الزياد ُة ِ
عليه ُ قصده ُفهم مِن ِ
ُ َ
182
ُ
النقصان منه»(.)1 وال
• مقصد الترك :
إن هذه المسألة -التي يمكن أن تسمى «ببدعة قلتَّ :
ُ
أمر يف محل ترك من قبل الشارع - الرتك» ومعناها فعل ٍ
من أدق األمور التي وقع فيها االلتباس واختلف فيها ،بل
اختصم فيها الناس.
فنقول:
أن تكون من المسائل إن مسألة ال�ترك تشبه ْ أولاً َّ :
االجتهادية التي تختلف فيها أنظار العلماء ،فيرتب بعضهم
عليها حكم الكراهة أو التحريم حسب األدلة التي يسوقها
لجانب ترك الفعل ،بينما ال يعتربها البعض اآلخر دليلاً إال
على مجرد رفع الحرج وعدم لزوم ذلك الفعل المرتوك،
معروضا على عموم األدلة األخرى التي ً فيكون المرتوك
تدل على إباحته أو استحبابه أو كراهته ،وقد تدل على
وجوبه عند قيام مصلحة راجحة أو شمول دليل الوجوب
له أو على التحريم لنشوء مفسدة واضحة.
وهكذا قسم هذا الفريق البدعة إلى خمسة أقسام وقال
- 1ال�شاطبي ،املوافقات .157 /3
183
هؤالء :إن الرتك وحده ليس دليلاً على تحريم وال على
تقريرا والشارع يقول:
ً كراهة ألنه ليس قولاً وال فعال وال
«وما هنيتكم عنه فانتهوا» .ولم يقل :وما تركت.
ونقلوا يف ذلك عن الشافعي رحمه اهلل تعالى قوله:
كل ماله مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به
السلف.
ولكن الشافعية أصلوا تلك المقولة وانضم إليهم
متأخرو المالكية كالقرايف يف تقسيمه البدعة إلى خمسة
أقسام ،وذلك يف الفرق الثاين والخمسين والمائتين « بين
قاعدة ما يحرم من البدع وينهى عنه وبين قاعدة ما ال ينهى
عنه منها»:
وحاصل ما ذهب إليه القرايف من انقسام البدعة إلى
تنزيها،
ً قبيحة وحسنة ،والقبيحة إلى حرام أو إلى مكروه
والحسنة إلى واجبة ومندوبة ومباحة.
ووافقه محشيه ابن الشاط عليه ومحمد الزرقاين وجرى
عليه عمل أصحاب مالك المتأخرين كالزقاق وغيره.
وإليه ذهب اإلمام النووي واإلمام ابن عبدالسالم شيخ
القرايف وغير واحد من أصحاب الشافعي مبنية على ثالثة
184
أمور أيضا.
األول:
أن البدعة حقيقة فيما لم يفعل يف الصدر األول حسنًا أو
قبيحا كان له أصل من أصول الشرع أم ال.
ً
الثاين:
أن جميع ما ورد يف البدع من نحو قوله ﷺ« :كل بدعة
ضاللة» ،عام مخصوص.
األمر الثالث:
التسوية بين العاديات والعبادات يف لحوق البدع وعلى
هذه األسس قسموا البدعة .فالبدعة تدخل يف العادات
كالمكوس التي أحدثها الحكام بعد الصدر األول والجور
يف الحكم من القضاة فالمذموم ما خالف الشرع سواء
كان يف العاديات أو العبادات ،واستهول هؤالء أن يكون
الوعيد على البدعة إال يف منهي عنه وليس يف مسكوت
عنه ثم ما هو األمر الذي كان عليه ﷺ وأصحابه ،إنه اتباع
يف األقوال واألفعال وليس مجرد امتناع عن فعل.
وليكون المرء من الفرقة الناجية عليه أن ينظر إلى
ٱللِ َو ذَّٱل َ
حُّ َ َّ ُ ُ َّ ٞهَّ
ِين أوصافهم يف القرآن الكريم }ممد رسول ۚ
185
ٗ َّ َ َ َ ُ ٓ َ َّ ٓ ُ لَىَ ۡ ُ َّ ُ مَ َ ٓ
حا ُء بَ ۡي َن ُه ۡمۖ ت َرى ٰ ُه ۡم ُرك ٗعا ُس َّجدا معهۥ أشِداء ع ٱلكفار ر
اه ۡم ف ُو ُجوهِهم ّمِنۡ َ ۡ َ ُ َ َ ۡ اٗ ّ َ هَّ ِ َ ۡ َ ٰ ٗاۖ َ ُ
إۡ ِ ُ يِ َيبتغون فضل مِن ٱللِ ورِضون سِيم
يل جن ٱل ف ۡ
م ُ
ه ل
َّ ۡ َ ٰ َ َ َ
ث م و ۚ ة
ِ ىر و ٱتل ف مجودِ ۚ َذٰل َِك َم َثلُ ُه ۡ أثَر ُّ
ٱلس ُ
ِ
َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ِ لَىَ ِ يِ يِ
عٰ از َرهُۥ فٱستغلظ فٱست َوىٰ ف َ ط ُهۥ َ َٔ َك َ ِز ۡر ٍع أَ ۡخ َر َج َش ۡ َٔ
ِينٱلل ذَّٱل َ ار ۗ َو َع َد هَّ ُ ك َّف َ ُ ۡ ُ َ
ٱلز َّراع يِلَ ِغيظ ب ِ ِهم ٱل
ُ ۡ ُ ُّ َ
جب ُسوقِهِۦ يع
ِ
يمۢا{ ت م ِۡن ُهم َّم ۡغفِ َر ٗة َوأَ ۡج ًرا َع ِظ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َّ َ
َءامنوا َوع ِملوا ٱلصٰل ِحٰ ِ
(الفتح.)29 :
َّ ٰٓ ُ َ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ َ ٰ ُ َ َّ ٰٓ ُ َ َّ ٰ ُ َ
}ٱلتئِبون ٱلعبِدون ۡٱلح ِمدون ٱلسئِحون ٱلر ۡكِعون
َ ُ َ َ َ َّ ٰ
وف َوٱنلَّاهون َع ِن ٱل ُمنك ِر ۡ
ج ُدون ٱٓأۡلم ُِرون بِٱل َمع ُر ِ ٱلس ِ
ِني{ (التوبة.)112 : ٱللِ َوب َ ّش ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ هَّ َ ۡ َٰ ُ َ
ون حِ ُ ُ
ِرِ لدودِ ۗ وٱلحفِظ
ولهذا قال النووي« :إن هذه الفرقة موزعة يف طوائف
المجتمع ألن كل من اتصف بصفة من الصفات الحميدة
ألصحاب النبي ﷺ فهو من هذه الفرقة ،فمنهم تجار
صادقون منفقون ،ومنهم علماء ،ومنهم مجاهدون».
وتلويحا
ً تصريحاً ومقتضى ما يفهم من كالم الشاطبي
أن ترك الشارع لفعل شيء من القربات أو لكيفية من
الكيفيات أو مقدار من المقادير دليل على قصده عدم
اإلتيان بذلك الفعل ،وإن إقدام المكلف يف محل الرتك
186
يعترب ابتدا ًعا يف الشرع ،وقد كرر ذلك يف الموافقات ،وزاده
بيانًا وأعلنه إعالنًا يف كتابه «االعتصام» حيث تحدث عن
معاناته مع أهل زمانه يف إلزامهم له بالخروج عن الجماعة
عندما رفض الدعاء عقب الصالة جماعة ،والتزامه بما
يعتقده السنة يف عدم لزوم الدعاء يف الخطبة لألئمة إلى
غير ذلك من مسائل الرتك التي بنى عليها مذهبه يف تعريف
البدعة ،وهو يف هذا مخالف لبعض علماء عصره الذين ال
يرون يف الرتك دليلاً على الكراهة والتحريم.
ومن أبرز من اختلف مع الشاطبي شيخه أبوسعيد بن
لب الذي ألف كتا ًبا يف الرد عليه يف مسألة الدعاء جماع ًة
عقب الصلوات ،لما بلغته فتوى الشاطبي فأنكر ترك
إنكارا شديدً ا ونسب بذلك لإلمام أنه من القائلين ً الدعاء
أن الدعاء ال ينفع وال يفيد .ولم يأل أن يقيد يف ذلك تألي ًفا
سماه «لسان األذكار والدعوات مما شرع أدبار الصلوات»
حججا كثيرة على صحة ما الناس عليه ،جملتها: ً ضمنه
غاية ما يستند إليه المنكر أن التزام الدعاء على الوجه
المعهود إن صح أنه لم يكن من عمل السلف فالرتك
ليس بموجب للحكم يف المرتوك إال جواز الرتك وانتفاء
187
الحرج فيه خاصة وأما تحريم أو كراهة فال ،وال سيما
فيما له أصل جملي كالدعاء ،فإن صح أن السلف لم
يعملوا به فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم
مما هو خير كجمع المصحف ثم نقطه وشكله ثم نقط
اآلي ثم الخواتم والفواتح وتحزيب القرآن والقراءة
يف المصحف يف المسجد وتسميع المؤذن تكبير اإلمام
وتحصير المسجد عوض التحصيب وتعليق الثريات
ونقش الدنانير والدراهم بكتاب اهلل وأسمائه .وقال عمر
بن عبدالعزيز« :تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من
الفجور» .وكذا يحدث لهم ترغيبات بقدر ما أحدثوا من
َََ َُ ْ
الفتور .وجاء :آفة العبادة الفرتة ،ويف القرآن }وتعاونوا
ٱتل ۡق َو ٰ
ب َو َّ لَىَ
ع ٱل ۡ ّ
ىۖ{. رِ ِ
قلت :هذا جزء من كالم ابن لب ،ويضاف إلى ذلك
مآذن المساجد فقد أحدثت واتفق الناس على جوازها
بعد أن اختلفوا يف ابتدائها.
وكذلك تقليد العالم الميت واشرتاء كتب الفقه وبيعها
أمور اختلف فيها ابتداء وأجمع على جوازها انتهاء قال يف
المراقي:
188
والخلف يف تقليد من مات ويف
بيع طروس الفقه االن قد نُفي
وكذلك كتابة األحاديث النبوية وإفرادها بالتأليف فما
حدث كان يف هناية القرن األول وبداية الثاين بأمر عمر بن
عبدالعزيز ولم تكن إال صحف يسيرة كصحيفة عبداهلل بن
عمرو ،وكذلك تجريد المسائل الفقهية كان من محدثات
القرن الثاين وأجمع عليه فيما بعد.
بأن السلف عمل بعضهم وما أشار إليه أبو سعيد ابن لب َّ
محتجا به على الجواز -ذكره ً بما لم يعمل به من قبلهم -
شيخ اإلسالم ابن تيمية ،ولكنه اعتربه ضربًا من البدع،
وكون بعض السلف عمل به ال ينفي عنه صفة البدعة،
وذل��ك بقوله« :وكثير من مجتهدى السلف والخلف
قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما
ألحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة ،وإما آليات فهموا منها
ما لم يرد منها ،وإما لرأي رأوه ،ويف المسألة نصوص لم
تبلغهم.
َ َّ ُ ْ
وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل يف قوله﴿:فٱتقوا
ٱس َت َط ۡع ُت ۡم﴾ ،ويف الصحيح َّ
أن اهَّلل قال« :قد فعلت» هَّ َ
ٱلل َما ۡ
189
وبسط هذا له موضع آخر»(.)1
أما ابن عرفة فأجاب عن مسألة الدعاء جماعة بقوله:
«الحمد هلل ،حاصل السؤال :ما حكم الدعاء على الهيئة
المعهودة يف هذه األمصار عقب صالة الفرض ،وقد كان
سألني عنها بعض الواردين علينا من مدينة سال منذ نحو
من عشرة أعوام ،والجواب:
أن إيقاعه إن ك��ان على نية أن��ه من سنن الصالة أو
فضائلها فهو غير جائز ،وإن كان مع السالمة من ذلك فهو
باق على حكم أصل الدعاء ،والدعاء عبادة شرعية فضلها
من الشريعة معلوم عظمه ،وال أعرف فيها يف المذهب
نصا إال أنه وقع يف العتبية يف كتاب الصالة كراهة مالكً
جالسا.
ً قائما ،فمفهومه عدم كراهته
الدعاء بعد الصالة ً
أيضا كراهة مالك الدعاء عقب القرآن؛ ويف العتبية ً
ولكن األظهر عندي جوازه ،وقد وردت بذلك أحاديث
من المصنفات كسنن النسائي وغيره ال يخلو بعضها من
صحيحا.
ً كون سنده
وأما البدع فقد تكلم الناس عليها من متقدم أو متأخر
- 1جمموع الفتاوى . 191 /19
190
كالقرايف وعز الدين وقسموها إلى أقسام.
والحاصل إسنادها إلى ما شهد الشرع بإلغائه أو اعتباره
أو ما ليس بواحد منهما :فاألول :واجب تركه وإنكاره.
والثاين :معترب اتفا ًقا .ويف الثالث :خالف مشهور ومجال
النظر يف جزئيات المسائل طويل .واهلل أعلم بالصواب»(.)1
وقد وقع خالف يف القرن التاسع بين الحافظ السخاوي
واإلمام البقاعي الشافعي حول النداء الذي كان يفعل يف
الحرم الشريف وامتد إلى مصر قبل صالة الفجر «يادائم
المعروف» فأنكره األخير ورد عليه األول برسالة عنواهنا
«القول المعروف يف الرد على منكر المعروف» ول ٍّكل
أدلة.
ًّ
وقل أن َت ْع ُر َو فرتة من نزاع حول مسألة من قبيل بدع
الرتك.
ويبقى الرتك موضو ًعا غير محسوم ،يختلف العلماء يف
مغزاه ويف مداه ،باإلضافة إلى العمومات التي يدعمون
� - 1شرح ال�سجلما�سي على املنهج ويراجع �شرح املنجور على املنهج وذلك عند قول
الزقاق:
واملحــدثــات بدع ـ ـ ــة لكنـه وما عليه قد �أقر �سنـه
جتب �إن �شملها �أدلت ــه كالكتب وال�ضد بدت �أمثلته
191
هبا موقفهم حسب االتجاه الذي يتوجه صوبه الفقيه ،فهذا
ابن حزم يف المحلى ذكر احتجاج المالك ّية والحنف ّية على
كراهية صالة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي
«إن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا ال يصلوﻬﻧما» ،ورد عليهم
بقوله« :لو صح لما كانت فيه حجة،ألنه ليس فيه أﻬﻧم
رضي اهلل عنهم ﻬﻧوا عنهما».
أيضا« :وذك��روا عن ابن عمر أنّه قال:ما رأيت وقال ً
وأيضا فليس يف هذا لو يصليهما.ورد عليه بقولهً : أحدً ا ّ
صح هني عنهما،ونحن ال ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه».
المحلى(:)1يف الكالم على ركعتين بعد ّ أيضا يف
وقال ً
العصر« :وأما حديث علي،فال حجة فيه أصال ،ألنّه ليس
فيه إال إخباره بما علم من أنه لم َير رسول اهلل ،صالهما،
وليس يف هذا هني عنهما وال كراهة لهما ،فما صام عليه
شهرا كامال غير رمضان وليس هذا بموجب السالم قط ً ّ
كراه ّية صوم شهر كامل تطو ًعا».
يجمع
َ ��أس َأ ْن
«فصل :وال ب َ ٌ وه��ذا ابن قدامة يقول:
ب ْي َن األَ َسابيعِ ،فإ َذا فر َغ منها ركع ل ُك ِّل ُأ ْس ُبو ٍع رك َعت ْين،
-1ابن حزم ،املحلى .271 /2
192
والم ْس َو ُر بن َمخرمة .وبه قال عطا ٌء، فعل ذلك عائشةُِ ، َ
وإسحاق.ُ وطاوس ،وسعيدُ بن ُج ٍ
بير، ٌ
هري ،ومالك ،وأبو والز ُّ وكره ُه اب ُن عمر ،والحسنُّ ،
الركعت ْي ِن ع ْن تأخير َّ
َ َّ
وألن لم يفعل ُه،َّبي ﷺ ْ َّ
حنيفةَ؛ ألن الن َّ
خ ُّل بالم ِ
واالة بينهما. طوافِهما ي ِ
ُ ُ
جوز جم ُعها الصالةَ ،ي ُ ِ أن ال َّط َ ولناَّ ،
واف يجري َمجرى َّ
ُ
وكون بينهما ،ف ُيص ِّليها بعدَ ها ،كذلك ُ
هاهنَا، ؤخ ُر ما ُ و ُي ِّ
َّبي ﷺ لم َّ
وجب كراهةً ،فإن الن َّ ُ لم َيفعل ُه ال ُي َّبي ﷺ ْ الن ِّ
وه باال ِّت ِ
فاق»(.)1 وعين وال ثالثةً ،وذلك غير مكر ٍ ِ ف ُأس ُب َي ُط ْ
ُ ُ
وانبنى على مسألة الرتك اختالف يف كثير من المسائل
تفاوتت أفهام العلماء ومدارك الفقهاء يف فحوى الرتك فيها
فاستحبها البعض وحض عليها وحث ،وأنكرها البعض
اآلخر وهنى عنها وكف ،فمنها مسألة الدعاء بعد الصالة
المكتوبة جماعة ،ومنها قراءة القرآن جماعة يف المسجد
بصوت واحد كما كان عليه عمل أهل الشام كما يقول
ابن رجب وهو ما عرف بتالوة الحزب يف المغرب ،ومنها
التثويب والتصبيح ،ومنها التوسل باألنبياء والصالحين.
-1ابن قدامة ،املغني .233 /5
193
ولكل طائفة يف هذه المسائل أدلتها التي ليس هذا مقام
بسطها.
أوجه داللة الترك :
ومما استدل به القائلون أن الرتك ال يستقل دليال بأنه
أوجها متعددة:
ً يحتمل
مباحا
• أولها :أنه عليه الصالة والسالم قد يرتك شي ًئا ً
فال يدل تركه إال على رفع الحرج من أجل أنه يعافه مثلاً
كرتكه ألكل الضب فلما سئل عنه قال« :إنه لم يكن بأرض
قومي فأجدين أعافه».
وقدم إليه طعام فيه ثوم فلم يأكل منه قال أبو أيوب -
وهو الذي بعث به إليه -يارسول اهلل أحرام هو؟ قال:
ال ولكني أكرهه من أجل ريحه» .الرتمذي قائال :حسن
()1
صحيح.
قلت :ومن المالحظ أنه عليه الصالة والسالم لم يبدأ
باإلخبار عن موجب الرتك حتى سئل.
• ثان ًيا :أنه قد يرتك بعض المستحبات أحيانًا خو ًفا من
أن تفرض على الناس ،فقالت عائشة :وما سبح النبي ﷺ
-1ال�شاطبي ،املوافقات .330 /3
194
سبحة الضحى قط وإين ألسبحها» .وهو يف الصحيح.
وقد ذكر الشاطبي هذا الحديث وفيه أن عائشة كانت
تصلى الضحى ثمان ركعات وتقول :لو نشر لي أبواي ما
تركتها» .وذكر مسألة صالة الرتاويح جماعة.
تفسيرا آخ��ر ل�ترك النبي ﷺ لبعض ً وزاد الشاطبي
المستحبات وهو الخوف من أن يظن فيها أحد من أمته
بعده إذا داوم عليها الوجوب وهو تأويل متمكن -حسب
عبارة الشاطبي -قائال :إن الصحابة عملوا على هذا
االحتياط يف الدين لما فهموا هذا األصل من الشريعة
وكانوا أئمة يقتدى هبم ليبينوا أن تركها غير قادح وإن
كانت مطلوبة».
وذكر مسألة عثمان رضي اهلل عنه يف تركه القصر يف
الحج خوف ظن األع��راب أن الصالة أصبحت ثنائية،
وكذلك ما رواه حذيفة بن َأ ِس ْيد« :شهدت أبا بكر وعمر
فكانا ال يضحيان مخافة أن يرى الناس أهنا واجبة وكان
بالل يقول :ال أبالي أن أضحى بكبش أو دي��ك» .إلى
آخره(.)1
-1ال�شاطبي ،املوافقات 324 /3وما بعدها.
195
• ثال ًثا :أن السلف قد يفعلون بعض األفعال التي
ليست من قبيل السنن المؤكدة فال يظهرون أفعالهم فال
يكون تركهم حجة ،وقد يقولون إهنم ال يريدون إظهار
خلف َأبِي هريرة َ كنت
ذلك العمل ،فعن أبي حازم :قال ُ
يمدُّ يدَ ه حتَّى تب ُل َغ إِ ْب َط ُه ِ
فقلت له ُ للصالة فكان ُ يتوض ُأ َّ
وهو َّ
يا أبا هرير َة ما هذا الوضو ُء فقال يا َبنِى َف ُروخ أنتم ها ُهنَا
سمعت
ُ توض ْأ ُت هذا الوضو َء علمت أنَّكم ها ُهنَا ما َّ ُ لو
الم ْؤمِ ِن َح ْي ُث َي ْب ُل ُغ ِ ِ خلِيلِى ﷺ ُ
يقول « َت ْب ُل ُغ الح ْل َي ُة م َن ُ
الو ُضو ُء»( .صحيح مسلم). َ
وهبذا الصدد يذكر ابن القيم يف كتاب «الروح» يف مسألة
قراءة القرآن إلهداء ثوابه لألموات مانصه« :والقائل أن
أحدً ا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما ال علم له به ،فإن
هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه فما ُيدريه أن السلف
كانوا يفعلون ذلك وال يشهدون من حضرهم عليه بل
يكفي اطالع عالم الغيوب على نياهتم ومقاصدهم ال
سيما والتلفظ بنية اإلهداء ال يشرتط كما تقدم».
لكن ابن القيم يف إعالم الموقعين يعطي لداللة ترك
النبي ﷺ مضمونًا مختل ًفا يتفق مع شيخه شيخ اإلسالم
196
ابن تيمية ومع الشاطبي ،بل جعله من السنة ونصه« :وأما
نقلهم لرتكه ﷺ فهو نوعان وكالهما سنة أحدهما:
تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله كقوله يف شهداء
أحد :ولم يغسلهم ولم يصل عليهم» .وقوله يف صالة
العيد «لم يكن أذان وال إقامة وال نداء» .وقوله يف جمعه
بين الصالتين «ول��م يسبح بينهما وال على أثر واحدة
منهما» ونظائره .والثاين :عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت
هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله؛
فحيث لم ينقله واحد منهم البتة وال حدَّ ث به يف مجمع
أبدا علم أنه لم يكن ،وهذا كرتكه التلفظ بالنية عند دخوله
يف الصالة ،وتركه الدعاء بعد الصالة مستقبل المأمومين
وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو يف
جميع الصلوات ،وتركه رفع يديه كل يوم يف صالة الصبح
بعد رفع رأسه من ركوع الثانية ،وقوله« :اللهم اهدنا فيمن
هديت» يجهر هبا ويقول المأمومون كلهم «آمين» ومن
الممتنع أن يفعل ذلك وال ينقله عنه صغير وال كبير وال
رجل وال امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة ال
ي ِ
خ ُّل به يو ًما واحدً ا ،وتركه االغتسال للمبيت بمزدلفة ُ
197
ولرمي الجمار ولطواف ال��زي��ارة ولصالة االستسقاء
والكسوف ،ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك
خالف السنة؛ فإن تركه ﷺ سنة كما أن فعله سنة ،فإذا
فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله،استحببنا َ
وال فرق»(.)1
قلت وما ذكره يف النوع األول يشبه أن يكون دليلاً ؛
لتوفر الموجب ،أما النوع الثاين فهو محل خالف كبير،
والعالمة ابن القيم يرد على مذهب الشافعي يف مسألة
التلفظ بنية الصالة وقد رواه بعض العراقيين من أصحاب
الشافعي فأوجبوا التلفظ بالنية ،ورده إمام الحرمين يف
هناية المطلب (.)2
والبد من اإلشارة إلى أن ما ذكره يخالف تأكيد العلماء
على حصر األصوليين السنة التشريعية يف القول والفعل
الخلقيةوالتقرير ،ويضاف إليها ما ليس منها كصفاته َ
ُ
والخلقية مع دخول األخيرة يف األسوة.
ومن العلماء الذين حصروها فيما تقدم الشيخ تقي
198
ال��دي��ن اب��ن تيمية حيث يقول «الحديث النبوي عند
اإلط�لاق ينصرف إلى ما حدث به رسول اهلل ﷺ بعد
النبوة من قول أو فعل أو إقرار ،فإن سنته ﷺ ثبتت عن
هذه الوجوه الثالثة وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا
أو إباح ًة وجب اتباعه فيه ﷺ ،فإن اآليات الدالة على نبوة
األنبياء دلت على أهنم معصومون فيما يخربون به عن اهلل
تعالى فال يكون خربهم إال حقًا».
وأما مسألة القنوت يف الركعة الثانية من الصبح فقد
اعتمد فيه الشافعية طر ًفا من حديث أنس وفيه« :أما يف
الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا»(.)1
وهذا خالف ما عليه جمهور األصوليين من أن السنة
قول وفعل وتقرير وليس مجرد ترك.
ولهذا قال ابن رشد يف بداية المجتهد إن« :الشريعة
تتلقى من ثالث طرق هي اللفظ والفعل واإلقرار»(.)2
وقال الطويف«:أما السنة فهي -يف هذا الموطن -أقوال
-1رواه �أحمد والبيهقي والدار قطني وفيه مقال راجع نهاية املطلب 186 /2مع تعليق
عبدالعظيم الديب وتلخي�ص احلبري).
-2ابن ر�شد ،بداية املجتهد .2 /1
199
النبي ،وأفعاله ،وتقريراته»(.)1
وقال الزركشي يف البحر المحيط يف حديثه عن السنة:
«وأما يف االصطالح :فتطلق على ما ترجح جانب وجوده
ترجيحا ليس معه المنع من النقيض، ً على جانب عدمه
وتطلق وهو المراد هنا :على ما صدر من الرسول ﷺ من
واله ِّم ،وهذا األخير لم يذكره
األقوال واألفعال والتقريرَ ،
األصول ُّيون ،ولكن استعمله الشافعي يف االستدالل»(.)2
وهذا قليل من كثير.
وأبعد ابن السمعاين النجعة فقال إن« :تركه للشيء
يدل على وجوب تركه مستدلاً بحديث إمساك الصحابة
عن الضب» .وذلك يف معرض داللة الفعل ،لو دل على
الوجوب لدل عليه الرتك أيضا ،ونكتفي هبذا القدر.
تنبيه :اعلم أن كالم ابن القيم رحمه اهلل تعالى يف الرتك
جاء يف سياق رد طويل على مقلدى المذاهب دل على
سعة علمه وحفظه ولكنه غلب عليه الحكم بالتعارض
يف ورود فعلين عنه عليه الصالة والسالم ،وقد نقل عن
200
الحافظ ابن عبد الرب ولكن الحافظ ابن عبد الرب حمل ما
ورد من اختالف الحديث يف التسليمة والتسليمتين ،وغير
ذلك من هذه المسائل على التخيير كما يف االستذكار؛
وهو أوفق للجمع وأدنى للفهم من دعوى أن الناس يف
أيام مالك قد نسوا الكثير من السنن مع العلم أن ذلك
هو عصر تدوين السنن يف مطلع القرن الثاين ،فرحمه اهلل
تعالى ،فهو يعرب عن رأي خالفه فيه أكثر العلماء.
وليس المقام مقام تفصيل يف هذه المسألة التي حملت
بعض طلبة العلم الذين ليس لهم رسوخ ابن القيم على
أن يهجموا على أئمة المذاهب بأخبار آحاد لم تثبت وإن
ثبتت فلها ما يعارضها ،ولم تنتشر لتصبح كالخرب اليقين
عنه عليه الصالة والسالم أو عن أصحابه .ولنرجع إلى
مسألة بدعة الرتك.
• راب ًعا :كانوا يرتكون بعض المباحات خو ًفا من اعتقاد
الناس أهنا من القربات ،كما كان مالك ال يغسل يديه
قبل الطعام ،وقال لما قدم له أمير المدينة عبد الملك بن
صالح الماء ليغسل يديه قبل الطعام :أما أبو عبداهلل «يعني
نفسه» ال يغسل يديه قبل الطعام» .مع أن مال ًكا ال يرى
201
بأسا بذلك كما صرح به يف موطن آخر ،ولكن يخاف من ً
لزوم الناس لذلك وكأنه واجب ،كما قال يف الموافقات.
خامسا :قد يرتك عليه الصالة والسالم أم ً��را ألنه ً •
خالف األولى فيفعل األولى ويواظب عليه وربما فعل
المرتوك يف أوقات نادرة لبيان الجواز وعدم الكراهة ،فقد
صح أنه عليه الصالة والسالم قدمت إليه ميمونة رضي
اهلل عنها المنديل لينشف به أعضاء طهارته فلم يمسه ويف
رواية :لم يأخذه ،ويف رواية :فر ًَّده.
فعلق إمام الحرمين يف هناية المطلب على ذلك بقوله:
«ولو نشف «شخص» لم ينته أمر ذلك إلى الكراهة ولكن
يقال ترك األولى ،وقد روي أنه عليه السالم نشف أعضاء
وضوئه م��رة وك��ان عليه السالم يواظب على األول��ى
ويأيت بما هو جائز يف األحايين ،فيتبين األفضل بمواظبته
والجائز بنوادر أفعاله(.)1
سادسا :أننا نجد أصحاب رسول اهلل ﷺ يعملون ً •
بعض القربات يف مقام الرتك ويهجمون على العمل بدون
-1اجلويني ،نهاية الطلب يف دراية املذهب ،95 /1حتقيق عبدالعظيم الديب ،دار
املنهاج.
202
سؤال مما يدل على أن تركه ﷺ ليس حائلاً دون عمل
حاجزا دون مباشرة قول أو فعل ،وهو عليه الصالةً وال
والسالم أحيانًا يثني على فعلهم أو يسكت وما المهم وال
و َّبخهم مما يدل على سعة األمر ،فمن ذلك :من قال :يا
من ال تراه العيون وال تخالطه الظنون وال يصفه الواصفون
وال تغيره الحوادث وال يخشى الدوائر يعلم مثاقيل
الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر األمطار وعدد ورق
األشجار وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ال
تواري منه سماء سماء وال أرض أرضا وال بحر ما يف قعره
وال جبل ما يف وعره اجعل خير عمري آخره وخير عملي
خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك فيه .فوكل رسول اهلل ﷺ
باألعرابي رجال فقال إذا صلى فائتني به فلما صلى أتاه
وقد كان ُأهدي لرسول اهلل ﷺ ذهب من بعض المعادن،
فلما أتاه األعرابي وهب له الذهب ،وقال ممن أنت يا
أعرابي؟ قال من بني عامر بن صعصعة يا رسول اهلل ،قال
هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال للرحم بيننا وبينك
يا رسول اهلل فقال إن للرحم حقا ولكن وهبت لك الذهب
لحسن ثنائك على اهلل عز وجل»(.حديث ضعيف)
203
وكذلك المواظب على سورة اإلخالص يف صالته:
كان رجل من األنصار يؤمهم يف مسجد قباء وكان كلما
افتتح سورة يقرأ هبا لهم يف الصالة مما يقرأ به افتتح} ُق ْل
اهَّلل َأ َحدٌ { .حتى يفرغ منه ثم يقرأ سورة أخرى معهاُه َو ُ
وك��ان يصنع ذلك يف كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا
إنك تفتتح هبذه السورة ثم ال ترى أهنا تجزئك حتى تقرأ
بأخرى فإما أن تقرأ هبا وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى ،فقال:
ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم
تركتكم ،وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم
غيره ،فلما أتاهم النبي ﷺ أخربوه الخرب ،فقال« :يا فالن
ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك
على لزوم هذه السورة يف كل ركعة» .فقال :إين أحبها.
فقال« :حبك إياها أدخلك الجنة».
وكذلك يف الحج فقد ثبت أن بعضهم كان يلبي تلبية
فيها زيادة على تلبيته «وأهل الناس هبذا الذي يهلون به
فلم يرد رسول اهلل ﷺ عليهم شيئا منه ولزم رسول اهلل
ﷺ تلبيته».
قال القاضي عياض« :فيه إشارة إلى ما روى من زيادة
204
الناس يف التلبية من الثناء والذكر كتلبية عمر لبيك ذا النعماء
والفضل .وزيادة ابن عمر :والخير بيدك والرغباء إليك.
واستحب االقتصار على تلبيته عليه الصالة والسالم»(.)1
وكذلك ما ورد يف حديث عبداهلل بن عمر عند مسلم:
«غدونا مع رسول اهلل ﷺ من منى إلى عرفات منًّا المل ّبي
ومنا المك ّبر .ويف رواية أخرى «عنده»« :منا المكرب ومنا
المه ّلل فال ينكر عليه وكان يكرب المكرب فال ينكر عليه».
كما يف صحيح مسلم من حديث جابر .ويف الرواية
األخرى« :فمنا المكرب ومنا المهلل وال يعيب أحدنا على
صاحبه».
قال أبوطالب المشكاين :قال أحمد« :والتعريف عشية
عرفة يف األمصار :ال بأس به إنما هو دعاء وذكر اهلل عز
وجل وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث وفعله
()2
إبراهيم».
كل ذلك يدل على إفساح المجال لالجتهاد وأن ترك
الشارع ال يدل على الحظر وال على الكراهة بل إنه يدل
205
على أن ما فعله وواظب عليه هو األولى لكن ال إنكار
يف فعل ما تركه على ما وصفنا من اندراجه ضمن السياق
العام واألصل المتبع والمنهج الفسيح وهو يف حالة التلبية
تعظيمه سبحانه وتعالى وتكبيره.
وإن ذلك محل تقرير من الشارع وثناء أحيانا ،وتقاس
على ذلك كل األوراد الصالحة السالمة من المخالفات.
• ساب ًعا :إن فعل السلف قد يكون نقل عن بعضهم دون
بعض فهل يكون ذلك كاف ًيا لنفي صفة البدعة عنه عند من
يرى بدعة الرتك ،أو ال؟ وعليه فإن تتبع عبد اهلل بن عمر
آلثار النبي عليه وآله الصالة والسالم للتربك( ،)1وعدم
إنكار أحد من الصحابة عليه ال يخرج ذلك الفعل عن
كونه بدعة عند هؤالء وإن االستسقاء عند القرب النبوي
الشريف بتوجيه الخطاب إلى النبي ﷺ باستسق لنا»
َّيلي ،عن -1ومن ذلك ما �أخرجه مالك يف املوط�أ عن حممد بن عمرو بن حلحل َة الد ِّ
حممد بن عمران الأن�صاريِّ ،عن �أبيه� ،أنه قال :عدل �إيل عبداهلل بن عمر و�أنا ناز ٌل
حتت �سرح ٍة بطريق مكة ،فقال :ما �أنزلك حتت هذه ال�سرحة؟ فقلتُ � :أردتُ ظ َّلها .فقال
هل غ ُري ذلك؟ فقلتُ :ال ،ما �أنزلني �إال ذلك .فقال عبداهلل بن عمر :قال ر�سول اهلل
�صلى اهلل عليه و �سلم� :إذا كنت بني الأخ�شبني من منى -ونفح بيده نحو امل�شرق -ف�إنَّ
ال�س َر ُر .به َ�س ْرح ٌة ُ�س َّر حتتها �سبعون نب ًّيا» .قال ابن عبدالرب :ويف هناك واد ّيا ُ
يقال لهِّ :
هذا احلديث دلي ٌل على التربك مبوا�ضع الأنبياء وال�صاحلني ومقاماتهم وم�ساكنهم،
و�إىل هذا ق�صد عبداهلل بن عمر بحديثه هذا(.التمهيد «�شروح املوط�أ)86 /12
206
يعترب عند هؤالء بدعة فاحشة أوصلها بعضهم إلى الكفر
مع ورود أثر عن فعل شخص له إما صحابي أو تابعي
وإبالغ ذلك لعمر بن الخطاب رضي اهلل عنه ولم ينكره،
وهذا األثر أخرجه ابن أبي شيبة كالتالي :حدثنا أبو معاوية
عن األعمش عن أبي صالح عن مالك الدار -قال :وكان
الناس قحط يف زمن
خازن عمر على الطعام -قال أصاب َ
عمر ،فجاء رجل إلى قرب النبي ﷺ فقال :يا رسول اهلل
استسق ألمتك فإهنم قد هلكواُ .فأتِ َي الرجل يف المنام
فقيل له ائت عمر فأقرئه السالم وأخربه أنكم مسقيون
وقل له عليك الكيس عليك الكيس ،فأتى عمر فأخربه
فبكى عمر ثم قال :يا رب ال آلو إال ما عجزت عنه»(.)1
وأخرجه البيهقي وصححه الحافظان ابن حجر يف الفتح
وابن كثير يف البداية والنهاية ،وقد نازع بعضهم يف عنعة
األعمش بما هو معروف من الخالف عند المحدثين يف
عنعنة المدلس إذا لم يكن ذلك غال ًبا عليه ،واألعمش
ضابط لغلبة موافقة حديثه للضابطين.
- 1ابن �أبي �شيبة ،امل�صنف ،64 /17حتقيق حممد عوامة� ،شركة دار القبلة.
207
قال يف طلعة األنوار:
اعتبر ْن فإن غلب
بالضابطين َ
وفق فضابط وإال يجتنب
وهنا يدق الفرق بين ما هو مستند إلى السلف وما
ليس كذلك وبين ما هني عنه سدا للذريعة وما هنى عليه
باألصالة.
وق��ال��وا :إن��ه لو صح ف��إن ما فهم من أص��ول العقيدة
ينفيه ،وإن الصحابة ما فعلوه؛ وهنا يكون اإلشكال بين
المدرستين يف ضبط ترك السلف ويف فهم ما هو عبادة ال
تصرف إال هلل ويف استعمال المجاز يف اإلسناد كقول عمر
للنبي عليه الصالة والسالم« :هال أمتعتنا بعامر» .كما يف
صحيح مسلم .وذلك حين ترحم النبي ﷺ على عامر
بن األكوع ،ففهم عمر من ذلك اإلشارة إلى موت عامر
فقال تلك المقالة ،وهي يف ظاهرها طلب منه للنبي ﷺ
أن يبقى عامرا ح ًيا وهو أمر ال يقدر عليه إال اهلل وما رءا
منكرا.
عليه الصالة والسالم يف ذلك ً
فالنسب واإلض��اف��ات والنيات والطويات هي التي
تحكم يف كالم الناس.
208
ولعل االختالف هنا يرجع إلى مسألة الدعاء ومفهومه
بين ما يكون عبادة إذا وجه إلى الباري جل وعال وبين
ت َعلُوا ْ ُد اَع ٓ َء َّ
ٱلر ُسو ِل
اَّ جَ ۡ
ما يكون نداء إذا وجه إلى غيره }ل
ضكم َب ۡعضا ۚ{ (النور.)63:
ٗ ُ َ ۡ َ ُ َ ُ اَ ٓ ۡ
بينك ۡم كدعءِ َبع ِ
ومفهوم حياته عليه الصالة والسالم يف ال�برزخ بين
حديث« :حيايت خير لكم تحدثون ويحدث لكم وممايت
خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت
اهلل وما رأيت من شر استغفرت اهلل لكم»(.)1
وه��و ي��دل على استمرار صلته بأمته .وبين حديث
الحوض الصحيح« :ما تدرى ما أحدثوا بعدك» .مما يفهم
-1رواه البزار ،قال احلافظ العراقي يف كتاب اجلنائز من «طرح الترثيب» �إ�سناده
جيد ،وقال الهيثمي يف «جممع الزوائد» رجاله رجال ال�صحيح ،حدثنا يو�سف بن
مو�سى حدثنا عبد املجيد بن عبدالعزيز بن �أبي رواد عن �سفيان عن عبد اهلل بن
ال�سائب عن زاذان عن عبد اهلل -ابن م�سعود -عن النبي ﷺ قال� :إن هلل مالئكة
�سياحني يبلغوين عن �أمتي ال�سالم وقال حياتي خري لكم ....وروي عن �أن�س من طريق
خرا�ش ورواه احلارث ابن �أبي �أ�سامة يف م�سنده وابن عدي يف الكامل وقال العراقي:
�ضعيف ل�ضعف خرا�ش ,ورواه احلارث بن �أبي �أ�سامة يف م�سنده من مر�سل بكر املزين
و�ضعف ب�أحد رواته ولكن خرجه �إ�سماعيل القا�ضي من طريق �صحيح عن بكر الزبي
يرفعه وهو �إ�سناد �صحيح اعرتف ب�صحته احلافظ ابن عبد الهادي وعن احلكيم
الرتمذي يف العر�ض على الأنبياء والآباء ب�إ�سناد فيه �ضعف .وكذلك الق�سطالين يف
�شرح البخاري ،وقال ال�سيوطي يف كتاب «املعجزات واخل�صائ�ص» �إ�سناده �صحيح،
وكذلك قال علي القاري وال�شهاب اخلفاجي يف �شرح ال�شفاء ،و�أو�صل بع�ضهم طرقه
�إىل ع�شرين طري ًقا �أ�صحها طريق البزار.
209
منه أنه عليه الصالة والسالم لم تعد له عالقة بعالم الدنيا،
خالفًا لمن حمل ذلك على المرتدين؛ ألنما يعرض عليه
هو أعمال المؤمنين.
إلى غير ذلك من البناء العقدي الذي نشأ عنه -يف
القرنين السابع والثامن -خالف شديد يراجع خاصة يف
كتب شيخ اإلسالم ابن تيمية واإلمام السبكي وغيرهما.
وعلى ذلك يحمل كثير من اآلثار التي وردت كقصة
األعرابي عند محمد بن عبداهلل العتبي والتي ال يكاد يخلو
كتاب من كتب المناسك منها ،وقد جاء إلى القرب الشريف
ومستغفرا:
ً مستغي ًثا
يا خير من دفنت بالقاع أعظمـــه
فطاب من طيبهن القاع واألكـم
نفسي الفــداء لقبر أنت ســــاكنـه
فيه العفاف وفيه الجود والكـرم
وإن كان ابن عبد الهادي يف «ال��ص��ارم» يحكم على
إسنادها بأنه مظلم.
وحكايات أخرى كثيرة(.)1
-1كحكاية الإمام �أبي بكر املقري احلافظ الثقة عما فعله وكان معه احلافظ الطرباين
210
اإلسناد المجازي ودرء التكفير:
��إن مسألة اإلسناد المجازي بين الحقيقة وأخيرا ،ف َّ
ً
والمجاز من مدارات االختالف ،فالمجيز يرى أن الطلب
مجازي ومن معهود العرب إسناد الفعل إلى َمن له عالقة
مجازا وتوس ًعا يف الكالم ،وقد ورد يف القرآن الكريم من ً به
ذلك الكثير .فمنه فعل اإلضالل.
فقد ورد مسندً ا إلى الباري جل وعال يف أكثر من آيــــة
َ ٓ َ ٓ ُ ُّ
ضل َمن يَشا ُء َو َي ۡهدِي َمن يَشا ُء ۚ{ (النحل.)93: }ي ِ
ُ ُّ َ َ َ ُٓ
ضل من يشاء وورد مسندً ا إلى المغوين من البشر}:ي ِ
َ َ ٓ َ َ َّ َ ٓ اَّ َ ٓ
َو َي ۡهدِي َمن يَشا ُء ۚ{ (األحزاب}،)67:وما أضلنا إِل
َ ۡ
ٱل ُم ۡج ِر ُمون{ (الشعراء .)99:ومسندً ا إلى الشيطان ،قال
َ َ تعالـــى:
ٰىَ ُّ َّ َ اَّ ُ َ َ َّ َ ُكت َ َ
ضل ُهۥ َو َي ۡهدِيهِ إِل ُ ُ
ب عل ۡيهِ أنهۥ من ت َولهُ فأنهۥ ي ِ } ِ
واحلافظ �أبو ال�شيخ بن حبان ثالثتهم من �أكرب �أئمة احلديث يف القرن الرابع الهجري
وكانوا يف امل�سجد النبوي فذهب املقري �إىل القرب ال�شريف و�شكا اجلوع لر�سول اهلل
ﷺ ونام هو و�أبو ال�شيخ وبقي الطرباين يقظان فجاءهم علوي ومعه غالم يحمل
الطعام وقال ياقوم هل �شكومت �إىل النبي ﷺ لأنه ر�آه يف النوم و�أمره بذلك.
وهي حكاية ذكرها الذهبي يف �سري �أعالم النبالء وال�سمهودي يف وفاء الوفاء �إىل
حكايات كثرية مذكورة يف كتب القوم وبع�ضها م�سند �إىل كتاب «م�صباح الظالم يف
امل�ستغيث بخري الأنام يف اليقظة واملنام» للحافظ حممد بن مو�سى املالكي املتوفى
�سنة 683هـ.
211
ري{ (الحج .)4:وقال تعالى حكاية عنه: ٱلسع
ِ َع َذاب َّ
ۡ ُ َّ َ ّ َ َ أَ ُ ِ َّ َّ ُ ۡ َ أَ ُ
ِ
ضلنهم ولمن ِينهم{ (النساء.)119: }ول ِ
وكذلك فعل «زي��ن» مسندً ا إلى الباري ،قال َ تعالى:
َ َ َ َ ّ َ ۡ ُ رۡ َ } َو َك َذٰل َِك َز َّي َ
ِني ق ۡتل أ ۡول ٰ ِده ِۡم شك ِ م ٱل ِن م ري
ٖ ِ ث ِك ل ن
رُ َ اَ ٓ ُ ُ
شكؤه ۡم{ (األنعام .)108:ومسندً ا للشيـــطان:
ۡ ُ ۡ َ َّ َ َ ُ ُ َّ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ َ ٰ َ
}ِإَوذ زين لهم ٱلشيطن أعملهم{ (األنفال.)48:
ومسندً ا إلى الشركاءَ }:وك ََذل ِ َك َز َّي َن ل ِ َكثِ ٍير مِ َن ا ْل ُم ْش ِركِي َن
َاؤ ُهم{ (األنعام.)137: َقت َْل َأ ْولاَ ِد ِه ْم ُش َرك ُ
وج��اء مبن ًّيا لما لم يسم فاعلهَ «:أ َف َم ْن ُز ِّي�� َن َل�� ُه ُسو ُء
َع َملِه»(فاطر .)8:وكذلك ج��اءت الهداية مسندة إلى
الباري ج َّلت ُقدرتهَ }:ي ْه ِدي َم ْن َي َشاء{ (البقرة.)142:
َّ����ك َلتَه ِدي إِ َل��ى ِص��ر ٍ
اط َ ومسندة إل��ى نبيه ﷺَ }:وإِن َ ْ
ُم ْست َِقيم{ (الشورى.)52:
ِنك ۡم أَن ي َ ۡس َتقِيمَ ُ َ ٓ
ونفاها}:ل َِمن شا َء م وأثبت المشيئة
َ َ َ َ َ ٓ ُ َ اَّ ٓ َ َ َ ٓ َ هَّ ُ َ ُّ ۡ َ ٰ َ
٢٨وما تشاءون إِل أن يشاء ٱلل رب ٱلعل ِمني {٢٩
ََ ََۡ َ ۡ
ت إِذ (التكوير .)28-29:ونفى الرمي وأثبته}:وما رمي
ٱلل َر ىَ ٰ ك َّن هَّ َ ََۡ َ َ
م{ (األنفال.)17: ت َول ٰ ِ رمي
212
وذل��ك كله الخ��ت�لاف االعتبار مما ال يخفى على
العقالء.
ومعلوم أن العرب تسند إلى ظرف الفعل ،كما يف قوله
ٱلل إ َذا ي َ رۡ
ۡ َ يَّ
س{ (الفجر .)4:أي يسرى فيه، ِ تعالى}:و ِ ِ
وقولهم :هناره صائم وليله قائم.
لـه ٍّم يا ِ
وتسند إلى سببه ،كما يف قول النابغة« :كليني َ
ب» ناص ِ ُأميم َة ِ
ََْ
وه��ذه أح���وال المجاز المرسل المعروفة يف كتب
البالغة.
ولهذا فإن الحكم بالتناقض كما أصل المناطقة يفتقر
إلى االتفاق يف ثمان وحدات كلها ترجع إلى نسبة واحدة
هي اتحاد النسبة الحكمية.
وكما يقول أب��و حامد ف��إن اختالف األح���وال ينفي
التناقض .وأض��اف :فإذا تطرق التعدد واالنفصال إلى
شيء من هذه الجملة انتفى التناقض».
ولهذا فقد نص العلماء على أن قائل :مطرنا بنوء
كذا،كافر؛ إذا جعل التأثير للنجم دون الباري جلت
قدرته ،مؤمن إذا كان يقصد الوقت الذي جرت العادة
213
فيه بنزول المطر .قال المرتضى :ويف الحديث« :من قال
سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم وكفر باهلل».
قال الزجاج« :فمن قال مطرنا بنوء كذا ،وأراد الوقت
ولم يقصد إلى فعل النجم فذلك واهلل أعلم جائز كما جاء
عن عمر رضي اهلل عنه أنه استسقى بالمصلى ثم نادى
العباس :كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال :إن العلماء هبا
يزعمون أهنا تعرتض يف األفق سبعا بعد وقوعها .فواهلل ما
مضت تلك السبع حتى غيث الناس.
فإنما أراد عمر :كم بقي من الوقت الذي جرت به
العادة أنه إذا تم أتى اهلل بالمطر؟ قال ابن األثير :أما من
جعل المطر من فعل اهلل تعالى وأراد بقوله :مطرنا بنوء
كذا ،أي يف وقت كذا وهو هذا النوء الفالين ،فإن ذلك
جائز ،أي أن اهلل تعالى قد أجرى العادة أن يأيت المطر يف
هذه األوقات .ومثل ذلك روي عن أبي منصور» (.تاج
العروس عند مادة ناء).
فإذا كان التأويل سائغًا مع ورود النص بالتكفير بناء
على النيات والقصد فألن ال يكفر بما لم يرد بخصوصه
نص أولى.
214
فلو منعت سدًّ ا للذريعة لما كان ذلك بعيدً ا حتى ال
يقع العوام الذين يخفى عليهم ذلك يف ألفاظ موهمة .أما
التكفير فهو أمر فيه صعوبة كبيرة لقيام هذه االحتماالت
فال يكفر إال َمن اعتقد أن للشخص المستغاث به قدرة
مستقلة عن قدرة اهلل تعالى وإرادة مستقلة عن قدره.
ويظهر من فقرات لشيخ اإلسالم أن قضية سد الذرائع
بالنسبة للعوام حاضرة يف ذهنه دون الخاصة الذين تأول
توسلهم ،وه��ذا نص الفقرات :فيحمل ق��ول القائل:
أسألك بنبيك محمد ،على أنه أراد :إنى أسألك بإيمانى
به وبمحبته ،وأتوسل إليك بإيمانى به ومحبته ،ونحو
ذلك ،وقد ذكرتم أن هذا جائز بال نزاع .قيل :من أراد هذا
المعنى فهو مصيب ىف ذلك بال نزاع ،وإذا حمل على هذا
المعنى كالم من توسل بالنبى ﷺ بعد مماته من السلف
كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن اإلمام أحمد
وغيره كان هذا حسنا ،وحينئذ فال يكون ىف المسألة نزاع.
ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ وال يريدون هذا
المعنى ،فهؤالء الذين أنكر عليهم من أنكر.
وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل
215
بدعائه وشفاعته ،وهذا جائز بال نزاع ،ثم إن أكثر الناس ىف
زماننا ال يريدون هذا المعنى هبذا اللفظ (.)1
��رارا من تكفير الناس ذكر الذهبي ما يلي« :رأيت وف ً
لألشعري كلمة أعجبتني ،وهي ثابتة رواه��ا البيهقي:
سمعت أب��ا ح��ازم العبدوي ،سمعت زاه��ر بن أحمد
السرخسي يقول :لما قرب حضور أجل أبي الحسن
علي
األشعري يف داري ببغداد ،دعاين فأتيته ،فقال :اشهد ًّ
أين ال ُأ َك ِّفر أحدً ا من أهل القبلة ،ألن الكل يشيرون إلى
معبود واحد ،وإنما هذا كله اختالف العبارات.
-1جمموع الفتاوى . 221/1قلت� :إن التو�سل به �صلى اهلل عليه و�سلم يف حياته يف غري
ح�ضرته ثابتٌ ب�أمره يف حديث الأعمى �أخرج البخاري يف تاريخه الكبري والرتمذي
يف �أواخر الدعوات من جامعه وابن ماجه يف �صالة احلاجة من �سننه والن�سائي يف
عمل اليوم والليلة و�أبو نعيم يف معرفة ال�صحابة والبيهقي يف دالئل النبوة وغريهم
على اختالف ي�سري يف غري مو�ضع اال�ست�شهاد ،و�صححه جماعة من احلفاظ ،منهم:
الرتمذي ،وابن خزمية ،وابن حبان ،واحلاكم ،والطرباين ،و�أبو نعيم ،والبيهقي،
واملنذري ،والنووي ،وابن حجر ،والهيثمي ،وال�سيوطي وغريهم:
عن عثمان بن حنيف ر�ضي اهلل عنه « �أن رجال �ضريرا �أتى النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم فقال :ادع اهلل �أن يعافيني .فقال�( :إن �شئت �أخرت ذلك ،وهو خري ،و�إن �شئت
دعوت) .قال :فادعه .قال :ف�أمره �أن يتو�ض�أ ،فيح�سن و�ضوءه ،وي�صلي ركعتني ،ويدعو
بهذا الدعاء فيقول( :اللهم �إين �أ�س�ألك ،و�أتوجه �إليك بنبيك حممد نبي الرحمة يا
حممد �إين توجهت بك �إىل ربي يف حاجتي هذه ،فتق�ضى يل اللهم �شفعه يف ،و�شفعني
فيه) .اهـ
216
قلت :وبنحو هذا أدين ،وكذا كان شيخنا ابن تيمية يف
أواخر أيامه يقول :أنا ال ُأ َك ِّفر أحدً ا من األمة .ويقول :قال
فمن الزم النبي ﷺ« :ال يحافظ على الوضوء إال مؤمن»َ .
الصلوات بوضوء فهو مسلم»(.)1
ثم إن االتجاه القائل بأن كل بدعة قبيحة وإن الحسن
ال يسمى بدعة فإنه ال يمنع التخصيص وهنا يقع التقاء
الطرفين يف نقطة دقيقة تكاد تجعل الخالف بينهما لفظ ًّيا.
فقد قال شيخ اإلسالم ابن تيمية بعد كالم طويل إلثبات
عموم «إن كل بدعة ضاللة» :فقد تبين أن الجواب عن
كل ما يعارض به من أنه حسن وهو بدعة ،إما بأنه ليس
ببدعة وإم��ا بأنه مخصوص ،فسلمت دالل��ة الحديث،
وهذا الجواب إنما هو إذا ثبت حسنه(.)2
وكرر ذلك أكثر من مرة.
وإذا تدبرت يف أساس موقف االتجاه الثاين وجدته
يدور حول الحسن ليخصص به ،فعندما يقول النووي:
إن حديث «من أح��دث يف أمرنا» الحديث مخصوص
217
بحديث «من سن يف اإلسالم سنة حسنة ».....إنما يريد
بذلك التماس الحسن ال��ذي يخصص بنفس الدرجة
حديث «وكل بدعة ضاللة».
ولهذا قسم هذا الفريق البدعة إلى قبيحة وحسنة.
مخصوصا،
ً وقد ال تسميها بدعة وسمها إحدا ًثا حسنًا
ومما يؤيد هذا الفهم التوفيقي أن األمثلة التي اختلفوا
فيها كان محور احتجاجهم يف الغالب ليس اإلحداث
أو الحدوث ولكن حول الدليل الخاص أو العام الذي
يشمل األمر المحدث.
ولهذا فإن أصحاب تقسيم البدع اعتمدوا على الشاهد
العام يف مسائل استحبوها وقد قال الزقاق(:)1
وهل دعا األذين ليال والنـدا
لــــــهـا بغـــير لفــــــظـه ومـــــــا بــدا
من قولــه أصبـح واهلل حمـد
مستحـــــــسنات ال،نعم ،ذا فاعتمد
-1وهو علي بن القا�سم التجيبي املالكي املتوفى 912هـ ونظمه �سماه «املنهج املنتخب»
اخت�صر به قواعد املقري التي ترجع يف �أ�صولها �إىل املدر�سة القرافية.
218
لشاهـد الشــــــــرع بأن الجنسا
معتبر فطـب بـــــــــــــــذاك نفســــــا
وهو يشير يف األبيات وما قبلهن لالختالف الواصب
بين علماء المالكية يف تعريف البدعة ويف الفروع الفقهية
المرتتبة على هذا االختالف والتي ترجح يف الكثير منها
عند المتأخرين جانب الحسن.
وهذا ما أشار إليه «بال»« ،نعم» فبال يشير إلى االتجاه
المنكر وبنعم إلى االتجاه المقرر وبقوله :ذا فاعتمد»
يشير إلى الرتجيح .وبقوله :لشاهد الشرع بأن الجنسا...
يشير إلى التعليل.
وإذا راجعت عشرات المسائل المختلف فيها بين
الطرفين وجدهتم يتناقشون حول الدليل الخاص وحتى يف
بعض القضايا التي احتد فيها النزاع كمسألة التوسل ،فإن
شيخ اإلسالم حصره استقرائ ًيا يف ثالثة أمور منصوصة،
وبنفس الدليل احتج اآلخرون بجواز التوسل ،باعتبار
المنصوص شاهدً ا لغير المنصوص ،باإلضافة إلى حديث
األعمى الذي دار الجدال حول تأويله ،وقد صححه شيخ
اإلسالم لكنه تأوله بدعائه عليه الصالة والسالم.
219
وإن كانت مسألة التوسل عند الطرفين تدخل يف تعريف
الخالف الفقهي ألهنا تدور حول إثبات حكم شرعي من
حيث التحريم أو الجواز.
وحتى يف مسئلة االستغاثة التي تشتمل على شحنة عقدية
ألن البعض رفعها عن درجة النهي الدال على التحريم
المدلول عليه بحديث« :ال تستغيثوا بي إنما يستغاث
باهلل» إلى درجة الشرك األكرب أو األصغر .تراهم يف أثناء
اإليراد واإلص��دار -على الرغم من األصل العام الذي
اعتمده المنكر أو المقر حيث اعتمد األول على اآليات
العامة يف ن��داء األصنام واألن��داد ،واعتمد األخ��ر على
أصل الشفاعة والتربك بالشعر والريق -تراهم ينزلون إلى
األدلة الخاصة فيستدل شيخ اإلسالم بالحديث المذكور،
ولكي يرد االعتضاد بأصل الشفاعة بقوله إن االستغاثة
لها معنيان عام وخاص ،فالعام ال مانع منه وإنما الخاص،
فهو ما ال يقدر عليه إال اهلل ،فهو محل الحديث ،ويرد
اآلخ��رون بضعف ابن لهيعة وتدليسه -وهو أحد رواة
حديث الطرباين المشار إليه -وبأن الحديث ورد على
سبب هو أمر المنافق الذي كان يؤذي المسلمين ،فقال
220
أبو بكر رضي اهلل عنه نستغيث برسول اهلل ﷺ على هذا
خاصا هبذه الحالة للتشديد يف شأنه بأن المنافق ،فيكون ً
وكل أمره إلى اهلل تعالى وتكون حادثة عين ال عموم لها.
وهنا أيضا فهل يمكن التوفيق بأن النهي يدل على
التحريم ويكون محر ًما يف الحالة التي أشار إليها شيخ
اإلس�لام وه��ي ما ال يقدر عليه إال اهلل ألن االستغاثة
بالمخلوق واردة يف أحوال كثيرة ،ومنها أحاديث الشفاعة
وغيرها ،أو يكون الممنوع هو لفظ االستغاثة .واهلل أعلم.
ونجد ال�برزل��ي تلميذ اب��ن عرفة يطرد نفس الدليل
ويعكسه عندما يقول« :إذا كانت مسألة الرتاويح جماعة
إنما تركت يف زمنه عليه الصالة والسالم لقيام المانع وهو
خوف أن تفرض ،فإن الدعاء جماعة لم يكن يف زمنه خو ًفا
وعكسا».
ً من أن يفرض بنفس العلة طر ًدا
تنبيه :اعلم أن كل ما ذكرناه -يف هذه المسئلة التي
جرت خال ًفا تجاوز حدود آداب االختالف بين طوائف ًّ
من أهل السنة دعواها واح��دة ومصادرها واح��دة هي
الكتاب والسنة وفهم سلف األم��ة ويرتبطون بوشائج
فقل أن تجد منهم من لم يأخذ عن اآلخر – إنما المشيخة َّ
221
هي مقدمات تحتاج إلى بحث منصف للوصول إلى حد
أدنى من االتفاق .وهذا ما توخيناه وهلل الحمد.
خالصة القول:
إن أصل هذا الخالف يدور على ثالثة أصول:
أولاً :هل البدعة صنف واحد أم أهنا أصناف بحسب
الدليل الذي يشملها؟
ثان ًيا :هل الرتك مع قيام الداعي يف التعبديات له داللة
على النهي أو ال داللة له على ذلك؟
ثال ًثا :الفرق بين الموجب وبين المقتضى.
راب ًعا :الفرق بين إضافة المرتوك إلى عبادة محدودة
واعتقاده جزءا مكمال لها فال يشرع أو عدم إضافته فيرد
إلى أصل اإلباحة أو االستحباب.
ونحن نرى صحة ما ذهب إليه اإلم��ام ابن عرفة من
التفصيل بين ما أضيف إلى عبادة بحيث يصبح وكأنه
جزء منها فهذا غير مشروع.
ونضيف إليه ثالثة ضوابط هي:
حكما شرع ًيا كالوجوب أو الندب ً أولاً :أن ال يعطى
إذا لم يكن مشمولاً بدليل كاألدلة المتعلقة بالذكر الدالة
222
على استحبابه يف كل األحوال فال يجوز لمن اختار تلك
األذكار أن يقول إهنا واجبة مثلاً إال إذا كانت بنذر.
الضابط الثاين :أن ال يحكم لها بثواب معين فإن من
يحدد الثواب ومقاديره هو الشارع والدليل على ذلك أن
كثيرا
الصحابي الذي قال :اللهم ربنا ولك الحمد حمدً ا ً
طي ًبا مباركًا فيه ،لوال أن الشارع أخرب بعظم ثواهبا ما كان
ألحد أن يحدد لها ثوا ًبا معينًا.
إال أنه يدل من جهة أخرى على أنه ال حرج على من
أنشأ محامد يف إطار ما علم من صفات اهلل تعالى وأسمائه
وأن األمر ليس فيه توقيف فهو عليه الصالة والسالم لم
يلمه على ذلك بل أقره وأثنى عليه.
الضابط الثالث :أن ال يشمل ال��م�تروك دليل هني
بالتحريم أو الكراهة.
تلك هي الضوابط التي سبق عن ابن عرفة شيخ المالكية
بعضها فمن ترك شي ًئا احتيا ًطا فال لوم عليه ،ومن فعل
استكثارا من الخير فهو على خير وال
ً القربات بضوابطها
ينبغي أن ينكر البعض على البعض يف مواطن االجتهاد بله
التشنيع والتبديع «وإنما األعمال بالنيات».
223
ويف المسألة مجال فسيح وميدان واسع ولوال خوف
اإلطالة والخروج عن الغرض لذكرنا من مسائل الصحابة
والسلف ما يدل على سعة األم��ر فعال وتركًا وإعمالاً
وإهمالاً .واهلل سبحانه وتعالى أعلم.
الجهات األربعِ ولنرجع إلى ما كنا بصدده من تقرير
ُ
الشيخ الذي ركَّز ِ
عليه عندَ الشاطبِي ،وقد َتر َك االستقراء ِ
َ َ
ٍ
عاشور. اب ُن
ِ
للجهات أنَّه ِ
لالستقراء فِي عدِّ ِه الشاطبي َ
إغفال َّ
ولعل
ِّ
عرف هبا المقاصدُ مباشر ًة وابتداء، الجهات التِي ُت ُ
ِ ذكر
إنما َ
ِ
المذكورات، بواسطة ه ِ��ذه
ِ ُ
يكون أمَّ��ا االستقرا ُء فإنَّما
وليس جه ًة مستق َّلة ،وإنَّما هو أداة للتأكد من المقصدية َ
سما مِن ِ
ليس ق ًأو من رتبة ثبوهتا أو مكانتها ،فاالستقرا ُء َ
المذكورات وإنما هو عينها .فافهم ذلك فإنه دقيق واهلل ِ
الموفق .إن االستقراء إنما هو يف حقيقته سرب للظاهرة
يف االطراد من خالل عينات متعددة ،فهو ينقل الظاهرة
من الجزئي إلى الكلي ،ومن الظني إلى القطعي ،لكن لو
كان الخطاب كل ًيا يف داللته أو قطع ًيا يف وروده ال تكون
لالستقراء حاجة .إن المقصدية مفهومة بداية من كل
224
جزئية؛ ولهذا فإن الشاطبي جعل االستقراء مسل ًكا عندما
كان يستنبط الكليات ،وذلك يف حديثه عن مقصد وضع
الشريعة ابتداء لمصالح العباد.
• طرق التعرف على المقاصد عند ابن عاشور :
قال ابن عاشور وهو يسرد طرق التعرف على المقاصد:
الشريعة يف ِ استقراء
ُ أعظمها،
ُ الطريق األول :وه��و
تصرفاتِها ،وهو على نوعين:
اآلئل ُ المعروفة عل ُلها،ِ أعظمهما :استقرا ُء األحكا ِم ُ
ِ
بطرق مسالك الع َّلةَّ .
فإن ِ ِ
تلك العل ِل المثبتة ِ
إلى استقراء َ
بسهولة، ٍ ِ
الشريعة ِ
بمقاصد ِ
العلم َ
حصول ِ
باستقراء العل ِل
أل َّننَا إ َذا استقرينَا عللاً كثير ًة متماثل ًة فِي كونِها ضاب ًطا
نستخلص منها حكم ًة واحدة، ّحدة أمك َن ْ
أن لحكمة مت ٍ ٍ
َ
ِ
استقراء ستنتج مِن شرعي ،كما ُي فنجز ُم بأنَّها مقصدٌ
ُ ٌّ
قواعد المنطِق.
ِ حسب
َ تحصيل مفهو ٍم ك ّل ٍّي ُ ِ
الجزئيات
ِ
بمسلك ِ
الثابتة ِ
المزابنة عنالنهي ِ مثاله :أنَّنا إذا علمنا ع ّل َة ِ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
لمن اإليماء في قول رسول اهلل ﷺ يف الحديث الصحيحِ َ
يبس؟». الرطب إذا َ «أينقص ُّ ُ ِ
بالرطب: ِ
التمر سأ َله عن بي ِع
225
قال :نعم .قال« :فال إذن»(.)1 َ
ِ
بمقدار ُ
الجهل ِ
المزابنة هي ِ
تحريم أن عل َة فحصل لنَا ّ َ
المبيع باليابس. الرطب منهما ِ ِ
ُ أحد العوضين ،وهو ُّ
أن الجزاف بالمكيلِ ،وعلمنا َّ ِ النهي ع ْن بي ِع وإذا علمنا
َ
ِ ِ ِ جهل ِ
علمنا بطريق استنباط الع َّلة .وإذا ْ العوضين أحد ع ّلتَه ُ
ِ
الخديعة بين نفي َهت لأن ع ّ بالغبن ،وعلمنا َّ ِ مِ القيا ِ
إباحة عد َم
ُ
قول الرسول عليه السالم للرجل الذي قال له: بنص ِ األُ َّمة ِّ
بايعت ف ُقل :ال ِخالبة»(.)2 َ إين أخدع يف البيع« :إذا
العلل ك َّلها استخلصنا منها مقصدً ا َ إذا علمنا ه ِ��ذه
ِ
المعاوضات. الغر ِر فِي ُ
إبطال َ واحدً ا ،وهو:
خطر ْأو اشتمل على ٍ َ ٍ
تعاوض كل أن َّ خالف يف َّ ٌ يبق
فلم َ ْ
تعاوض باطل.
ٌ ثمن أو أج ٍل -فهو ثمن أو ُم ٍ غرر -يف َ ٍ
المسلم
ُ يخطب
َ النهي ع ْن أن نعلم
ومثال آخر :وهو أننا ُ ٌ
َ
أن يسو َم على سومِه، مسلم آخر ،والنهي ع ْن ْ
َ
ٍ ِ
خطبة على
الوحشة التِي ُ
تنشأ ِ ذلك مِن ذلك هو ما يف َ أن ع ّل َة َ ونعلم َّ ُ
� -1أخرجه �أبو داود يف كتاب البيوع والإجارات ،باب ما يف بيع التمر بالتمر رقم 3359
والرتمذي يف كتاب البيوع ،باب ما جاء يف النهي عن املحاقلة واملزابنة وقال حديث
ح�سن �صحيح رقم 1225ورواه غريهما.
� -2أخرجه البخاري وم�سلم.
226
فنستخلص من منفعة مبتغاة،الحرمان مِن ٍ ِ السعي فِي ِ ع ْن
ُ
األخوة بي َن المسلمي َن ،فنستخد ُم َّ ذلك مقصدً ا هو :دوا ُم
الخطبة بعدَ ِ ِ
حرمة ِ
بانتفاء إلثبات الجز ِم ِ ذلك المقصدَ َ
األو ُل الخطبة والسو ِم بعدَ السوم ،إذا ك َ ِ
الخاطب َّ ُ ��ان
عما رغ َبا فِيه. أعرضا َّ َ األول قدْ والسائم َّ
ُ
النوع الثاني من هذا الطريق :استقراء أدل��ة أحكام ِ ِ
ُ
تلك الع ّل َة بأن َ اشرتكت يف ع ّلة ،بحيث يحصل لنا اليقي ُن َّ
مقصدٌ مرا ٌد للشارع.
مثا ُله :النهي عن بي ِع الطعا ِم َ ِ
طلب رواجِ قبل قبضه ،ع َّلتُه ُ ُ
الطعا ِم فِي األسواق.
والنهي عن بي ِع الطعا ِم بالطعا ِم نسيئةً ،إذا ُحمل على ُ
الذمة أن ال يب َقى الطعا ُم يف ِّ إطالقِه عندَ الجمهور ،ع ّلتُه ْ
ِ
رواجه. ُ فيفوت
ُ
مسلم عن ٍ ِ
لحديث االحتكار فِي الطعا ِم ِ والنهي ِ
عن ُ
َّ
معمر مرفو ًعا« :من احتكر طعا ًما فهو خاطئ» .علتُه
()1 ٍ
إقالل الطعا ِم مِن األسواق. ُ
وتيسير رواج الطعا ِم العلم َّ
بأن ُ
يحصل ِ
االستقراء فبهذا
َ َ ُ
� -1أخرجه م�سلم وغريه باب حترمي االحتكار يف الأقوات رقم.1605
227
مقاصد الشريعة. ِ تناولِه مقصدٌ من
إنونقولَّ : ُ المقصد فنجعله أص�ًل�اً ِ فنعمدُ إلى هذا
واإلقالل إنماَ بصور مِن المعاوضات، ِ الرواج إنما يكون َ
ِ ٍ
يرتكون التبا ُي َع. َ بصور من المعاوضات؛ إِذ ُ
الناس ال ُ
يكون
خشى معه عد ُم رواجِ الطعام. المعاوضات ال ُي َ ِ فما عدا
تجوز الشرك ُة والتولي ُة واإلقال ُة يف الطعام ُ ولذلك قلنا:
الرقاب الذي ِ بعتق األمر ِ ِ قبضه .ومن هذا القبي ِل كثر ُة قبل ِ َ
حصول الحرية. َ ِ
الشريعة ِ
مقاصد أن من د َّلنا على َّ
الطريق الثاين :أدل��ة القرآن الواضح ُة الداللة ،التي
غير ما هو ظاهرها يكون المرا ُد منها َ َ يضعف احتمال ْ
أن ُ
بحيث ال َي ُشك يف المراد منها ُ بحسب االستعمال العربي،
دخل على نفسه ش َّكا ال يعتدّ به. أن ي ِ
ال من شا َء ْ ُ إ َّ
ِ
الص َيام{ ب َع َل ْي ُك ُم ِّ أال ترى أنا نجزم بأن معنى}:كُت َ
ظاهر هذا َ قال أحدٌ َّ :
إن اهلل أوجبه .ولو َ أن َ (البقرةَّ )183 :
خطأ من القول. الورق لجا َء ً ِ مكتوب يف أن الصيا َم اللفظ َّ ِ
ٌ
ِ
بنسبة يحصل اليقي ُن ُ اللفظ قطع َّي ُه ِ متواتر فالقرآن لكونِه
ُ
َ
ظني ه عليه إلى الشار ِع تعالى ،ولكنَّه لكونِ ِ يحتويِ ما
َّ
ِ
احتمال تطر ُق ٍ ٍ ِ
يضعف ُّ ُ واضحة داللة يحتاج إلى ُ الداللة
228
ثان إليها. معنًى ٍ
الداللة َت َسنّى لنا ِ المتن قو ُة َظ ِّن ِ انضم إلى قطع ّية فإذا
َّ
الجدل يف الفقه، ِ الخالف عندَ يرفع ٍ ُ
َ شرعي منه ُ ٍّ مقصد أخذ
حُ ُّ ۡ َ َ َ اَ يؤخذ من قوله تعالىَ }:و هَّ ُ
اد{ ٱلل ل يِب ٱلفس ُ مثل ما
َ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ اَ َ ۡ ُ ُ ٓ ْ
يأيها ٱلِين ءامنوا ل تأكلوا (البقرة ،)205:وقولهٰٓ }:
َ اَ
ٰ َ ۡ َ ۡ ََٰ ُ َ ۡ َ ُ
أمولكم بينكم بِٱلب ِط ِل{ (النساء ،)29:وقوله} :ول
ى{ (فاطر ،)18:وقوله}:إ َّن َما يُر ُ ٰ َ َ ُ َ َۡ ُ َۡ ٞ
يد ِ ِ ۚ ر خ ت ِزر وازِرة وِزر أ
ٱلمرۡ ك ُم ۡٱل َع َد ٰ َوةَ َو بۡٱلَ ۡغ َضا ٓ َء ف خۡ َ َّ ۡ َ ٰ ُ َ ُ َ َ ۡ َ ُ
يِ ۡ ِ ٱلشيطن أن يوق ِع بين
ك ُم ٱل ُي رۡ َ ُ ُ هَّ ُ ُ ۡ ۡ
س س{ (المائدة ،)91:وقوله}:ي ِريد ٱلل ب ِ َوٱل َمي ِرِ
َ
س{ (البقرةَ } ،)185:و َما َج َعل ك ُم ۡٱل ُع رۡ َ ُ
يد ِب َو اَل يُر ُ
َ ِ
َ ۡ ّ ۡ َ ۡ ُ
ج{ (الحج.)22: ِين مِن ح َر ٖ ۚ عليكم يِف ٱدل ِ
شرعي أو ٍ
بمقصد تصريح كل آية من هذه اآليات ففي ّ
ٍّ ٌ
تنبي ٌه على مقصد.
الطريق ال يوجدُ ُ الثالث :السن ُة المتواترةُ .وهذا ُ ُ
الطريق
مثال إال يف حالين: له ٌ
ِ
مشاهدة الحاصل من ُ المعنوي التواتر الحال األول:
ُّ ُ
علم ُ الصحابة عملاً من ِ عمو ِم
فيحصل لهم ٌ النبي ﷺ ِّ
229
جميع المشاهدين. يستوي ِ
فيه ذلك ِ بتشريٍع يف َ
ُ
ِ
الدين قسم المعلو ِم م��ن ��ع
��ال ي��رج ُ وإل��ى ه��ذا ال��ح ِ
ُ
القريب من المعلو ِم ِ الشرعي وقسم العم ِل ِ
بالضرورة،
ِّ ُ
الجارية المع َّبر عن ِ ِ
الصدقة ِ
مشروعية ض��رورةً؛ ُ
مثل
بالح ُبس. ِ
بعضها ُ
شريحا ً مالك حي َن بل َغهَّ :
أن العمل هو الذي عناه ٌ ُ وهذا
ِ ُ
بس ع ْن الحبس ،ويقول :أن ال َح َ يقول بعد ِم انعقاد ُ
شريحا تك ّلم ببالده ً فقال مالك :رحم اهلل فرائض اهلل؛ َ ِ
-يعني الكوفة ‑ ولم َي ِرد المدينة ،فيرى آثار األكابر من
وأصحابه والتابعي َن بعدَ هم وما ح َّبسوا ِ النبي ﷺ أزواجِ
ّ
رسولِ صدقات
ُ من أموالهم ال يطع ُن فيها طاع ٌن ،وهذه
أحاط َ فيما
ال َ أن ال يتك َّلم إ ّ ِ
للمرء ْ ِ
وينبغي اهللِ سبع ُة حوائِط.
ِبه ُخربًا.
ككون ُخ ِ
طبة ِ ِ
العبادات كثيرةٌ، وأمثل ُة هذا العم ِل يف
العيدين بعدَ الصالة. ِ
الصحابة مِن
ِ ِ
آلحاد عملي ،يحصل ٌّ تواتر
الحال الثاينٌ :
ستخلص من بحيث َي ُ رسول اهلل ﷺ ِ ِ
أعمال ِ
مشاهدة تكرر
ُ ُّ
مجموعها مقصدً ا شرع ًيا. ِ
230
قيس قال :كنَّا على بن ٍ األزرق ِِ البخاري عن ِّ ففي صحيحِ
نضب عن ُه الما ُء .فجا َء أ ُبو ْبرز َة َ باألهواز ،قدْ ِ شاطئ ٍ
هنر ِ
فانطلقت
ْ فرسه،فرس ،فقا َم يص ِّلي وخ ّلى َ ٍ األسلمي على
ُّ
ثم جا َء فأخذهاَّ ،َ فرتك صال َته وتبعها حتَّى أدركَها الفرسَ . ُ
فأقبل يقول :انظروا َ رجل َله ٌ
رأي فقضى صال َته .وفينا ٌ َ
فقال: فأقبل َترك صال َته مِن أج ِل َفرسَ . هذا الشيخِ َ إلى َ
إن منزلِي رسول اهللِ ﷺ وقالَّ : َ فارقت
ُ ما عنَّفنِي أحدٌ ُ
منذ
آت أهلِي إ َلى الليلِ. وتركت الفرس لم ِ ُ صليت
ُ مرتاخٍ ،فلو
َ ْ
تيسيره». رسول اهللِ ﷺ فر َأى مِن ِ َ صحب وذكر أنَّه
َ َ
استخلص رسول اهلل ﷺ المتعدد َة ِ ِ أفعالَ فمشاهد ُته
َ
ِ
الصالة قطع التيسير .فر َأى َّ مقاصد الشر ِع ِ أن مِن منها َّ
أن َ َ
استئناف صالتِه أو َلى ِ ثم العو َد إلى ِ ِ
من أج ِل إدراك فرسه َّ
ِ
مشقة الرجو ِع إلى ِ تجشم استمراره على صالتِه َمع ُّ ِ مِن
أهلِه راجلاً .
مظنون ظنًّا قري ًبا من ٌ بالنسبة إلى أبي برز َة ِ فهذا المقصدُ
بالنسبة إلى غيره -الذين َي ْروي إليهم خربه ِ القطع ،ولكنَّه
ِ
وحسن ِ
التقليد -مقصدٌ محتمل؛ ألنه يتل ّقى منه على ِ
وجه ُ َ
231
الظ ِّن به»(.)1
تابعة، أصلية وأخرى ٍ ٍ الشاطبي إلى مقاصدَ ولقد صنفها
َ ُّ
الفقه بما يف ِ ِ
أبواب أكثر
شملت َ ْ وهي مقاصدُ ال تحصى
ذلك أبواب العبادات. َ
فروج ِ ِ
وتوسع اب ُن عاشور يف المعامالت واألنكحة َّ َّ
أوضح َ ُ
بحيث ِ
الحقوق أنواع
َ للرواجِ يف البيوعَِّ ،
وأصل
شرح مقاصدَ َ ِ
وكذلك َ الحق.
بنظرية ِّ سمى إلى حدٍّ ما َما ُي َّ
باعتباره جذم نظام العائلة ،وغيره من المقاصد ِ النكاحِ
الخاصة بأبواب الفقه.
أو المحدود َة أن هذه المقاصدَ الجزئي َة ِ والحق َّ
ُّ قلت: ُ
ِ ِ
كم ،وكلها عندَ باألبواب ال ُتحصى .فالشريع ُة ك ُّلها ح ٌّ
ُ
اإلنسان. غايات يس َعى إليها ٌ التأم ِل
الغزالي رحمه اهلل تعالى يف ٍ
حامد فاألمر كما قال أبو
ُّ ُ
ِ
أصل من أصول هذه المقاصد بعدَ مسلك اإليماء ،وهو ٌ ِ
يدخل ُ يكثر وال مما ُ ذكر أمثل ًة لإليماء« :هذا وأمثا ُله َّ أن َ ْ
التنبيه ال تنضبط .وقد أطنبنَا يف ِ تحت الحصر .فوجو ُه َ
القدر كاف ههنا». ٍ كتاب «شفاء الغليل» وهذا ِ تفصيلِها يف
ُ
-1ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة .56 /3
232
حدث َ ٍ
حكم كلالجنس ُّ ِ يلتحق هبذا ُ وأض��اف« :بل
ِ
كحدوث كان مِن األقوال، وصف حادث ،سوا ٌء َ ٍ عقيب
َ
والح ّل عندَ البي ِع والنكاحِ والتصرفات؛ أو من ِ ِ
الملك
واإلت�لاف؛ أو من ِ الذمة عند القت ِل كاشتغال ِِّ األفعال،
ِ
العصير، طريان الشدّ ة على ِ الشرب عندَ ِ كتحريمِ الصفات،
أن يقال: ينقدح ْ الحيض ،فإنَّه ِ ِ
طريان الوطء عندَ ِ ِ
وتحريم
ُ
هذا، ال َ
سبب ،ولم يتجدّ د إ َّ ٍ ال بتجدُّ ِد الحكم إ َّ ُ «ال يتجدّ ُد
لم يناسب»(.)1 وإن ْ السبب ْ ُ هوفإ ًذا َ
جهة أخرى ٍ عرف من أن المقاصدَ ُت ُ قـلـت :ويع ُّن لي َّ ُ
لجهات الشاطبِ ِّي األربعِ، ِ ِ
بالنسبة أن تعتربَ خامس ًة يمك ُن ْ
ُ
ال�ت�رك م��راد ًف��ا ِ
ه��ي جه ُة ال�ت�رْك .ول��ي َ
��س َ ُ
ة الجه ه وه���ذ
��رك متعمد من الشارع ،كرتكهِ ٌ هو ت ُ
َّ للسكوت ،فالرتك َ
السجو َد يف مواض ِع السجود ،وتركِه ص�لا َة الرتاويحِ ،
بيان مرتبة هذه العبادات، الذي ُيعرف منه قصدُ الشار ِع َ
تفرض وال يعتقدَ فيها الوجوب حتَّى ال َ ِ وأهنا ال تر َقى إلى
الفرض.
أما الرتك الذي لم تقم عليه قرينة القصد فهو موضوع
� -1أبو حامد الغزايل امل�ست�صفى .301 /2
233
ال؟خالف بين العلماء هل يمكن أن يكون مناط حكم أو ً
كما أسلفنا يف هذا الكتاب.
��ار التِي تقو ُم مقا َم
تعرف من مث َبت األخ��ب ِ
ُ كما أهن��ا
أمر ُ
يطول تت َب ُّعه. وهو ٌ ِ
األوامر ،ومنف ِّيها الذي يعتربُ نواهيَ ،
ِ
وفتاويهم؛ ألنَّهم ِ
الصحابة كما أنَّها ُتعرف من أحكا ِم
كانوا يتَّبعون المقاصدَ والمعاينَ .
ِ
الصحابة الجملة المفهو ُم من ِ قال الغزالي« :وعلى
ِ
الرأي درك المعانِي على ِ واالقتصار يف
ُ باع المعانِي ا ّت ُ
مسائلَ درك اليقين؛ِ فإهنم حكموا يف اشرتاط ِ ِ الغالب َ
دون ِ
ِ
ومتباينة المناهجِ ،ال ِ
الطرق ِ
متفاوتة َ
بمسالك ٍ
مختلفة
األغلب األرجحِ ،وهو ِ بالرأيِ الحكم
ُ يجمع جمي َعها إ َّ
ال ُ
النبي عليه الصالة والسالم ِ
المرا ُد باالجتهاد الذي َّقرر ُّ
معا ًذا عليه»(.)1
المسوى شرحِ المو َّطا كال ًما َّ هلوي يف ُّ ولي اهللِ الدِّ قال ُّ
المقاصد« :و ُت ُ
عرف ِ ِ
استنباط موض ًحا ألص ِ
��ول ِّ جام ًعا
يدل على الرضا الذي خطاب للشار ِع ُّ ٍ كل المقاصدُ من ِّ
يدل على الندبْ ،أو ُّ ِ الوجوب ِ
أو ِ يتفاوت ليم ِّثل درج َة ُ
-1الغزايل �شفاء الغليل �ص.195
234
ِ
الكراهة». التحريم ِ
أو ِ يتفاوت ليم َّثل درج َة ُ السخط الذي ِ
ذلك يف مقدِّ متِه لذلك الشرح بقوله :أ َّما الرضا وع َّبر ع ْن َ
الرضا والسخط، فيعلم من الصي ِغ الدا َّلة على ِّ ُ ُ
والسخط
ِ
والبعد، ِ
والقرب والرحمة واللعنة، ِ والحب والبغض، ِّ
ِ
المرض ِّيين مث ِل األنبياء والمالئكة وأه ِل ِ ونسب ُة الفع ِل إلى
غير المرض ِّيين مث ِل الشياطين ،والمنافقين، الجنَّة ،أو إلى ِ
الجزاء المر َّتب على ِ ِ
وبيان والطلب ،والمنعِ، ِ وأه ِل النار.
المسك ،أو العرف مث ِل ِ ِ ٍ
بمحمود يف ِ
والتشبيه الفعل،
النبي ﷺ ِ
م واهتما الكلب، العرف مث ِل ِ
قيء ِ ي مذمو ٍم فِ
ِّ
حضور ِ
داعيه. ِ بفعلِه ،أو اجتنابِه عنه َ
مع
الرضا المؤك َِّد المسمى بالوجوب، التمييز بي َن ِّ ُ أ َّما
ِ
السخط المسمى بالندب ،وع ِ
��ن غير المؤك َِّد والرضا ِ َ
َّ
المسمى غير المؤكَّد ِ
المسمى بالحر َمة ،والسخط ِ المؤكَّد
َّ َّ
وأصرحه ما ُ فيحصل بتت ُّبع الدالئ ِل الشرع َّية، ُ بالكراهة،
َ
لم يؤ ِّد زكا َة مالِه ُم ِّثل مثل قوله ﷺ« :م ْن ْ
مخالفه ُ ِ ِ ب َّي َن َ
حال
القيامة شجا ًعا أقرع» .وقوله ﷺ« :م ْن ال فال ِ َله ما ُله يو َم
حرج».
الشيء رك َن ِ وجعلُ يحل»لفظ« :يجب» و«ال ُّ مثل ِ
235
البالغ ع َلى فعلِه أو تركِه، ُ الكفر ،والتشديدُ ِ اإلسالم ،أو
«ليس مِن المرو َءة» و«ال ينبغي». ومثلَ : ُ
عمر: ِ ذلك ُ الصحابة يف َ ِ ِ
الفقهاء مِن
مثل قول َ حكمُ ثم
َّ
بنعمر وعبادة ِ ابن َ وقول ِ ِ ليست بواج َب ٍة»، ْ ِ
التالوة «سجد ُة
الصامِت« :إن الوتر ليس بواجب».
ٍ
طاعة؟ أو ُ
تكميل هل هو المطلوب ِْ وبالتأم ِل يف ِ
حال
ِ
السمت؟ ِ
وحسن ِ
الوقار باب هو مِن ِ ِ
سدٌّ لذريعة اإلثم؟ ْأو َ
ِ
أرك��ان رك��ن مِ��نٍ داخ��ل فِ��ي
ٌ غير مؤكَّد ،أم ه َ��و ُ
فيكون َ
فيكون مؤ َّكدً ا»(.)1ُ ِ
الكبائر؟ اإلسال ِمْ ،أو إثم مِن
وقد أبان ذلك وزاد عليه يف كتابه «حجة اهلل البالغة»
فقال« :ب��اب كيفية فهم المعاين الشرعية من الكتاب
والسنة :واعلم أن الصيغة الدالة على الرضا والسخط
هي الحب والبغض والرحمة واللعنة والقرب والبعد
ونسبة الفعل إلى المرضيين أو المسخوطين كالمؤمنين
والمنافقين والمالئكة والشياطين وأهل الجنة والنار
والطلب والمنع وبيان ال��ج��زاء المرتتب على الفعل
والتشبيه بمحمود يف العرف أو مذموم واهتمام النبي ﷺ
-1ويل اهلل الدهلوي امل�سوى من �أحاديث املوط�أ .49 /1
236
بفعله أو اجتنابه عنه مع حضور دواعيه ،وأما التمييز بين
درجات الرضا والسخط من الوجوب والندب والحرمة
والكراهية ،فأصرحه ما بين حال مخالفه مثل «من لم يؤد
زكاة ماله مثل له» الحديث وقوله ﷺ «ومن ال فال حرج»
ثم اللفظ مثل يجب وال يحل وجعل الشيء ركن اإلسالم
أو الكفر والتشديد البالغ على فعله أو تركه ومثل -ليس
من المروءة وال ينبغي -ثم حكم الصحابة والتابعين يف
ذلك كقول عمر رضي اهلل عنه :إن سجدة التالوة ليست
بواجبة ،وقول علي رضي اهلل عنه إن الوتر ليس بواجب
ثم حال المقصد من كونه تكميال لطاعة أو سدا لذريعة
إثم أو من باب الوقار وحسن األدب ،وأما معرفة العلة
والركن والشرط فأصرحها ما يكون بالنص مثل «كل
مسكر حرام» «ال صالة لمن لم يقرأ بأم الكتاب» :ال تقبل
صالة أحدكم حتى يتوضأ» ثم باإلشارة واإليماء مثل
قول الرجل :واقعت أهلي يف رمضان ،قال :أعتق رقبة»،
وتسمية الصالة قياما وركوعا وسجودا يفهم أهنا أركاهنا.
قوله ﷺ« :دعهما فإين أدخلتهما طاهرتين»( .)1يفهم
� -1أخرجه البخاري ،باب �إذا �أدخل رجليه وهما طاهرتان.
237
اش�تراط الطهارة عند لبس الخفين ثم أن يكثر الحكم
بوجود الشيء عند وجوده أو عدمه عند عدمه حتى يتقرر
يف الذهن عليه الشيء أو ركنيته أو شرطيته بمنزلة ما يدب
يف ذهن الفارسي من معرفة موضوعات اللغة العربية عند
ممارسة العرب واستعمالهم إياها يف المواضع المقرونة
بالقرائن من حيث ال ي��دري وإنما ميزانه نفس تلك
المعرفة ،فإذا رأينا الشارع كلما صلى ركع وسجد ودفع
الرجز وتكرر ذلك جزمنا بالمقصود .وإن شئت الحق عنه ّ
فهذا هو المعتمد يف معرفة األوصاف النفسية مطلقا ،فإذا
رأينا الناس يجمعون الخشب ويصنعون منه شيئا يجلس
عليه ويسمونه السرير ،نزعنا من ذلك أوصافه النفسية ،ثم
تخريج لمناط اعتما ًدا على وجدان مناسبة أو على السرب
والحذف .وأما معرفة المقاصد التي بني عليها األحكام،
فعلم دقيق ال يخوض فيه إال من لطف ذهنه واستقام
فهمه ،وكان فقهاء الصحابة تلقت أصول الطاعات واآلثام
من المشهورات التي أجمع عليها األمم الموجودة يومئذ
كمشركي العرب كاليهود والنصارى ،فلم تكن لهم حاجة
إلى معرفة لـ َِّمياهتا وال البحث عما يتعلق بذلك ،أما قوانين
238
التشريع والتيسير وأحكام الدين فتلقوها من مشاهدة
مواقع األم��ر والنهي ،كما أن جلساء الطبيب يعرفون
مقاصد األدوية التي يأمر هبا بطول المخالطة والممارسة
وكانوا يف الدرجة العليا من معرفتها ،ومنه قول عمر رضي
اهلل عنه لمن أراد أن يصل النافلة بالفريضة :هبذا هلك من
قبلكم .فقال النبي ﷺ «أصاب اهلل بك يا ابن الخطاب».
وق��ول ابن عباس رضي اهلل عنهما يف بيان سبب األمر
بغسل يوم الجمعة ،وقول عمر رضي اهلل عنه :وافقت ربي
يف ثالث .وقول زيد رضي اهلل عنه يف المنهي عنها :إنه كان
يصيب الثمار مراض قشام دمان الخ ،وقول عائشة رضي
اهلل عنها« :لو أدرك النبي ﷺ ما أحدثه النساء لمنعهن من
المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل ،وأصرح طرقها ما
بين يف نص الكتاب والسنة»(.)1
ِ
اإليمان ُت ُ
مثل ُمستود ًعا قلت :ويبدو لي أن ُش َ
عب ُ
شتمل على معنى كل ُش ٍ
عبة َت ُ ألن َ ِ
الستنباط المقاصد؛ َّ
ِ
العبادات أم من ِجنس كانت من ِجنس من المعاين ،سوا ًء ْ
المعامالت.
-1الدهلوي ،حجة اهلل البالغة .288 /1
239
المقاصد إ َّ
ال ِ حصرِ دليل على وبالجملة فإن ُه ال يوجدُ ٌ ِ
كانت مقاصدَ كلي ًة ْأو جزئي ًة أصلي ًة ْأو ْ االستقراء ،سوا ٌء
تاب َعةً.
الشريعة من ِ نصوصِ وهذا االستقرا ُء المعتمدُ على
ِ ِ ِ ِ
مسالك غرار المقاصد على التعرف على خالل وسائ ِل ُّ
كانت ْ الحصر ،ال��تِ��ي ْ
وإن ِ دع���وى َ الع َّل ِة ‑ أ َّدى إل��ى
الضروري بالمقاصد الثال َثة: ِ مقبول ًة فِي تع ُّلق األحكا ِم
ِّ
الشريعة يمك ُن ِ كل أحكا ِم وأن َّ والحاجي والتحسينيَّ ،
ِّ ِّ
يمنع لم فإن َ ِ
نم ُيها إلى إح��دَ ى المراتب الثالث؛ َّ ِ
ْ ذلك ْ
تكون مقصود ًة للشارعِ، ُ أخرى عام ًة ِ ِ
من إيجاد مقاصدَ َ
تلك مع َ تتقاطع َُ تتعلق هبا األحكا ُم تع ُّل ًقا مصلح ًّيا وبالتالِي ُ
العمارة ،ومقصدُ ِ المقاصد ،وال تتباي ُن معها ،فمقصدُ ِ
تلك المقاصد. شك من َ بدون ٍّ ِ هذهواالستخالفِ ،
ِ ِ
العبادة
ِ
األصول ِ
أبواب يكون بتت ُّبع ُ ِ
المقاصد والتعرف على ُّ
يقول الشاطبِ ُّي: وبخاصة مسالك العلة ،ولهذا ُ ِ ِ ٍ
ظهر لنَا مِن ِ
المصالح في التكليف َ
ِ
َ أنالثالثَّ :ُ الوج ُه
الشر ِع أنَّها ع َلى ضر َبين:
��ول إل��ى معرفتِه بمسالكِه أحدُ هما :ما يمك ُن ال��وص ُ
240
ِ ِ
واإلش���ارة ،والسربِ، المعرو َفة؛ كاإلجماعِ ،وال��ن ِّ
��ص،
وغيرها ،وهذا القسم هو الظاهر ِ
الذي نع ِّل ُل ِ ِ
والمناسبة،
ُ ُ َ
إن شرعي َة األحكا ِم ألجلِه»(.)1
بِه ،ونقولَّ :
241
المشهد السادس
االستنجاد بالمقاصد
واستثمارها
244
• تصرف المجتهدين
واستخراجها مِنِ أن المقاصدَ بعدَ استنباطِها نعني هبذا َّ
كيف نجنِي ثمرهتا؟ وكيف مكامنِها يجب أن نبحث عن َ
تنجدنا وترفدنا وتسعفنا وتتحفنا بفوائد تشريعية؟
ِ
المستثمر ترشيح
ُ هو
استثمار لها َ ٍ أن َّأول والجوابَّ :
ِ
الوصف وليكون مجتهدا موصو ًفا هبذا َ الذي هو المجتهدُ
ِ
المقاصد. ِ
بمعرفة فال بدَّ مِن ا ِّتصافِه
دعامتين مِن
ِ الشاطبي اجتها َد المجتهدي َن على ُّ لقد بنَى
ِ
المعرفة ،هما:
ِ ِ فيما يتع َّلق ِ ِ
األلفاظ بدالالت أولاً :معرف ُة اللغة العربية َ
ِ
النصوص. ِ
ومقتضيات
الشريعة جمل ًة وتفصيلاً إذا تع َّلق ِ ِ
مقاصد ثان ًيا :معرف ُة
وذلك فِي َ ِ
والمفاسد، االجتها ُد بالمعانِي مِن المصالحِ
قبل أشار َ ِ
االجتهاد ،وقدْ الخامسة مِن مسائ ِل ِ ِ
المسألة
َ
قال« :إنَّما الثانية عندما َِ ِ
المسألة المعنى فِي ذلك إ َلى َ
هذا َ
َ
ين :أحدُ هما: اتصف بوص َف ِ لمن ِ ُ
َ تحصل درجة االجتهاد َ
الشريعة ع َلى كمالِها». ِ ِ
مقاصد فهم
ُ
245
لم َير مِن ِ
دراز في تعليقه ع َلى هذه الجملة بأنَّه ْ
ِ ِ وذكر ُ ِ
َ
غير الشاطبِ ِّي. الشرط َ َ اشرتط َهذا َ األصوليي َن َمن
المتمثلة فِي
ِ ِ
القوية ِ
العبارات هبذه قلت :والشاطبي ِ
ُّ ُ
ِ
المقاصد ِ
وفهم المقاصد «جمل ًة وتفصيلاً »، ِ ِ
معرفة
ذلك شر ًطا ضرور ًيا وال غنَى ‑ باعتبار َِ «على كمالها»
البعض يشير إ َلى معنًى عا ٍّم قد يع ِّب ُر عن ُه ِ
ُ عن ُه للمجتهد ‑ ُ
وتقديمها ع َلى الجزئ َّية» كما ِ القواعد الكل َّية ِ ِ
«بمالحظة
ِ
الحرمين. إليه إما ُم أشار ِ
َ
َ
تكون ِ ِ
وأش��ار اب ُن السبكي في ش��روط المجتهدْ :
أن ِ
ِّ َ
بمعظم ق��واع��د الشرعِ،ِ ِ َ
يحيط العلو ُم ملك ًة ل�� ُهْ ،
وأن
يفهم هبَا مقصو َد الشارعِ، ُ يكتسب قو ًة
ُ ُ
بحيث ويمارسها َ
ِ ِ ِ ْ ِ
الدين وتكررت في كالمه -ت��اجِ الدين -وأبيه ِّ
تقي
السبكِ ِّي فِي شرحِ المنهاجِ .
مقاصد ِ ِ
معرفة ِ
الفقيه إ َلى عاشور الحتياجِ ٍ وتعر َض اب ُن َّ
فقال: الشريعة َ ِ
يقع ع َلى ِ ف المجتهدين ِ ِ َّ
بفقههم في الشريعة ُ َ تصر َإن َّ
أنحاء:ٍ ِ
خمسة
ِ فهم أقوالِها ،واستفاد ُة
تلك مدلوالت َ األو ُلُ : النحو َّ ُ
246
وبحسب النق ِل ِ االستعمال ال ُّل ِّ
غوي، ِ بحسبِ ِ
األق��وال،
ِ
االستدالل ُ
عمل اللفظية التِي هبَ��ا ِ ِ
بالقواعد الشرعي ِّ
أصول الفقهِ. ِ علم ِ َ َّ ِ
الفقه ِّي .وقدْ تكفل بمعظمه ُ
الحت ْ يعارض األد ّل َة التِي ُ عما
البحث ّ ُ النحو الثانِي: ُ
نظره فِ��ي استفادةِ إعمال ِ َ َ
استكمل ِ
للمجتهد ،والتي ِ
بطل مما ُي ُ تلك األدلَّ�� َة سالم ٌة َّ أن َ مدلوالتِها ،ليستيق َن َّ
باإللغاء والتنقيحِ . ِ عليها ِ
داللتَها ويقضي َ
عارض أعم َله ،وإ َذا ِ الم
عن ُ سالم ِ ٌ َ
الدليل أن فإ َذا استيق َن َّ
بالدليلين م ًعاْ ،أو ِ كيفية العم ِل ِ نظر فِي أل َفى ل ُه
معارضا َ ً
اآلخر. أحدهما ع َلى َ رجحان ِ ِ
ِ
أق��وال حكمه فِ��ي ُ ��م ِ
ي��ر ْد قياس ما ل ْ ُ الثالث: ُ النحوُ
علل عرف َأن َي َ فيه ،بعدَ ْ الشار ِع ع َلى ح ْك ِم ما ورد حكمه ِ
ُ َ َ
ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
المب َّينة يف بطريق من ُطرق مسالك العلة ُ الثابتة التشريعات
أصول الفقه.
حدث للن ِ
َّاس َ ث حاد ٍحكم لفع ٍل أو ِ ٍ الرابع :إعطا ُء النحو
ْ ُ ُ
الشريعة، ِ الح للمجتهدي َن مِن أد َّل ِة فيما َ حكمه َ ُ عرف
ال ُي ُ
ال له نظير يقاس ِ
عليه. ُ و َ ُ ٌ
ِ
الثابتة ِ
الشريعة بعض أحكا ِم ِ الخامس :تل ِّقي النحو
ُ ُ
247
ِ يعرف ِع َل َل أحكامِها وال حكم َة
الشريعة ْ عندَ ه َت َل ِّق َي َمن ْ
لم
حكمة ِ ِ
إدراك بالقصور َعن ِ نفسه ِ ِ
فهو يتّهم َ في تشريعهاَ .
ِ ْب َس َع ِة علمه فِي َجن ِ
الشريعة، ويستضعف َ ُ منها،الشار ِع َ
دي.
النوع بالتع ُّب ِّ َ هذا فيسمي َ ِّ
الشريعة فِي هذهِ ِ معرفة مقاصدِ ِ ٍ
فالفقي ُه بحاجة إ َلى
ِ
األنحاء ك ِّل َها(.)1
اهلل حجي َة المصالحِ مالك رحم ُه ُ أثبت ٌ النحو َ ِ وفِي هذا
ِ
الشرعية بمراعاة الكلي ِ
ات ِ قال األئم ُة أيضا َ وفيه ً المرس َل ِةِ .
َّ
()2
الضرور َّية ،وألح ُقوا هبَا الحاج ّي ِة والتحسين ّي ِة»...
ويتوح ُل فِي ِ
العلماء بعضيقص ُر ُ ِ َ
َّ أيضا« :ومن هنا ِّ وقال ً
استنباط أحكا ِم ِ يقتصر فِي األغالط حي َنِ ضخاض مِن ٍ َخ
ُ
اللفظ ِ ويوج ُه رأ َيه إ َلى ِ
األلفاظ، ِ
اعتصار الشريعة ع َلىِ
ِّ
يستخرج ُل َّبه.َ ويأمل ْ
أن ُ يزال يق ِّل ُبه ويح ِّل ُله مقتن ًعا بِه ،فال ُ
يحف بالكال ِم مِن ُّ بما ِ
ويهمل ما قدمنا ُه من االستعانة َ
ِ ُ
أدق مقا ٍم وإن َّ والسياقَّ . ِ ِ
واالصطالحات ِ
القرائن حا َّف ِ
ات
عليها مقا ُم التشريعِ»(.)3 ِ ِ فِي
وأحوجه إلى االستعانة َ َ الداللة
-1ابن عا�شور مقا�صد ال�شريعة .40 /3
-2نف�س املرجع .41 /3
-3نف�س املرجع .81 /3
248
المقاص ِد و مداركُها : ِ • مناحي
إسحاق َ ِ
المقاصد أ ُبو دندن حو َله أ ُبو َ ِ
:ولبيان ما قلـت
ُ
عاشور رحمهما اهلل ٍ الطاهر ب ُن ُ ُ
الشيخ الشاطبي والعالم ُة ُّ
تعالى نقول :المراد باالستنجاد هو إدراك طبيعة التعامل ُ
مع المقاصد وبالمقاصد ،وأهن��ا ليست تر ًفا ذهن ًيا وال
ثقافة عامة يتعاطاها الصحفي واالجتماعي وال موضو ًعا
فلسف ًيا مجر ًدا أو نظر ًيا.
إهنا أداة الستنباط األحكام الشرعية الخمسة ،وبالتالي
لتكون كذلك ال بد أن تنزل من سماء التنظير إلى أرض
العمليات ،ومن التصور الذهني إلى ميدان التطبيقات.
منحى مِن أكثر من ثالثي َن ً
ِ ِ ِ
إنَّه ُيستنجدُ بالمقاصد في َ
ِ
المحائر لها كلم َة نستعير َ األص��ول ،يمك ُن ْ
أن ِ مسائ ِل
َ
ِ
ظباء ومكانس الح َكم، لؤلؤ ِ ِ سة؛ ألنَّها مكام ُن واألكن ِ ِ
ُ
أجناسها:ِ وأقناس وجذور أرومتِها، المقاصد،
ُ ُ
ِ
االجتهاد المسألة ِّ
محل ِ ِ
بخصوص نص حيث َ أولاً ُ :
ال َّ
وصف جام ٍع ٍ ِ
لوجود عليها وجوده فِي ِ ِ
فتقاس َ ُ نظيرها، مع
َ
هو الع َّلة. َ
تمس الحاج ُة إلى إخراجِ حيث يوجدُ عمو ٌم ُّ ُ ثان ًيا:
249
ص مخص ٍ ِّ دون ظهور بعض مشموالتِه مِن دائرة العمومَ ، ِ
بالمقاصد ِ ِ
التخصيص النوع مِن قياس ،وهذا ٍ نص ْأو ِ
ُ من ٍّ
ِ
االستحسان. ِ
ضروب يعتربُ ضر ًبا مِن
يكون مخال ًفا ُ نص لك َّن تطبي َقه قدْ حيث يوجدُ ٌّ ُ ثال ًثا:
أخرى. نصوص َ ٍ لمت مِن قاعدة ُع ْ ٍ ألص ٍل ْأو
ِ
القرينة لجأ إ َلى بيان ،ف ُي ُ المجمل إ َلى ٍ ُ يحتاج حيث راب ًعاُ :
ُ
المقصد َّي ِة لبيانِه.
َ
ليكون ِ
المقصد ِ
بداللة ِ
الظاهر عدل ع ِ
��ن خامساُ :ي ُ ً
أساس التأويلِ. َ المقصدُ
المقاصدِ ِ
النصوص ع َلى ضوء ِ الرتجيح بي َن سادسا:
ُ ً
خاصا . ِ
ألصق بالمقصد وير ُّد ًّ ُ ليقدِّ م المجتهدُ عا ًّما َيرى أنَّه
بقياس ع َلى َما يخال ُفه. ٍ نص ْأو يعتضدُ ٌّ
غيره.المدينة التوقيفي مِن ِ ِ تمييز عم ِل أه ِل ِ ساب ًعا :فِي
ِّ
الرأي، ِ حمل ع َلى الذي ُي ُ قول الصحابِي ِ لتمييز ِ ِ ثامنًا:
ِّ
مِن قولِه ِ
الرفع. حمل ع َلى َّ الذي ُي ُ
ال مناسب َة نص و َ ُ إح��داث ُح ٍ ِ تاس ًعا :فِي
حيث ال َّ كم
بنوعيه .ومراعا ُة ِ المناسب المعتربِ ِ أي فِي انعدا ِم مع َّينةْ ،
ِ
المرسلة. ِ
بالمصلحة تسمى ِ
المقصد هنا َّ
250
الحماية وال��ذرائ�� ِع ِ للمقاصد فِ��ي ِ حتاج
ع��اش��راُ :ي ُ ً
ِ
وبالنظر هذا الدلي ِل بسدِّ الذرائ ِع والمئاالت ،وقدْ يع َّب ُر ع ْن َ ِ
ِ
المئاالت. فِي
أو األمر ِ
ِ ِ
مناط ِ
الحكم درجة ونو ِع ِ تقرير عش َر: الحادي َ ِ
ُ
أو َّ
الذ ِّم. أو المدحِ ِ النهي ِ ِ
مندوب؟ٌ هو تحر ٌيم ْأو كراه ٌة ْأو هل َ فنعنِى بالنوعِْ :
نفسها، الواجبات فِي ِ ِ تفاوت َما بي َن َ وبالدرجة نعنِى: ِ
لغيره ،وحرا ٌم كذلك . واجب لذاتِه ْأو ِ ٌ َ
فهناك
عليه الصال ُة والسال ُم، الحكم بِه ِ ِ عشر :خصوصي ُة الثاين َ
لغيره.ْأو عمومِه ِ
عشر :مفهو ُم المخال َف ِة. الثالث َ ُ
عشر :مفهو ُم المواف َق ِة. الرابع َ ُ
عشر :تقييدُ المط َل ِق. الخامس َ ُ
األسباب وقصدُ المسب َّبات. ِ وضع
ُ عشر: السادس َ ُ
االستصحاب.
ُ عشر: السابع َ ُ
ُ
االستحسان. عشر: الثامن َ ُ
ِ
والمصلحة ِ
المعتربة ِ
المصلحة الفرق بي َن ُ عشر: التاسع َ ُ
الملغاة. ِ
251
ِ
التعارض. الجمع بي َن األد َّل ِة عندَ
ُ العشرون:
َ
ِ
التعارض. الرتجيح بي َن األد َّل ِة عندَ والعشرون:
َ الحادي ِ
ُ
أو المنف َّي ِة منزل َة األخبار المثبتَة ِ ِ الثاين والعشرونُ :
تنزيل
ِ
والنواهي. ِ
األوامر
ومعقولية المعنَى. ِ الثالث والعشرون :بي َن التع ُّب ِد ُ
المقصد المؤ ِّثر ِ ِ
طبيعة االختالف فِي
ُ والعشرون:
َ الرابعُ
الحكم. ِ
في ُ
الخامس والعشرون :تعدد المقاصد أو االقتصار على
مقصد واحد مما يؤثر يف الحكم.
َ
دون ِ
الناس ِ
بعض اختصاص
ُ السادس والعشرون: ُ
بح ٍ
كم. بعض ُ ٍ
ليس تفصيلاً مما َ أفعال المقتدَ ى بِه َّ السابع والعشرونُ : ُ
ٍ
ألمر.
ِ
العفو. الدال ع َلى
السكوت ُّ ُ الثامن والعشرون: ُ
المشاهدِ.
ِ التاسع والعشرون :إشار ُة النبِ ِّي ﷺ إلفها ِم ُ
العقود فِي التصحيحِ ِ ِ
قصود الثالثون :مراعا ُة
َ المنحى َ
ِ
والشروط. ِ
واإلبطال
بالمقاصد يف ِ ادي وال َّثالثونُ :يستنجدُ المنحى الح ِ
َ َ
252
كايسة الص ِ
رفة وعقود ِ الم ِ ِ ِ َت ْم ِ
ِّ المعروف ع ْن ُعقود ُييز ُعقود َ
حكما بين حكمين.
ً التربعات إلعطاء العقد
المنحى الثاين والثالثون :أن العلة المستنبطة ال يمكن
أن تلغي الحكم المعلل هبا يف حال تخلف العلة عن
الحكم.
المنحى الثالث والثالثون :فهم مقصد الشارع من داللة
اللفظ سواء كان لفظ الشارع أو لفظ راوي الحديث مما
حكما تختلف درجته باختالف الصيغ. ً يرتب
المنحى الرابع والثالثون :قد يؤثر مقصد عام يالحظه
المجتهد من خالل نصوص عدة يف الحد من تأثير مقصد
خاص ليخفف من اطراده ومن إلحاحه يف كل المحال.
256
ِ
البينات. ِ
اآليات
ِ
لربوية وصف الكي ِل مثلاً إذا اع ُتربَ عل ًة ُ قلت :مثا ُله: ُ
الوصف المستب َقى فِي ُ ِ
أصناف الطعا ِم األرب َعة؛ أل َّن ُه َ
هو ِ
المناسب فيه المناسبةُ؛ َّ
ألن ال تظهر ِ السربِ عندَ أبِي حنيف َة َ
َ ُ
تضم َن مصلح ًة ْأو َد َر َء مفسدةً. كما يقول يف التنقيح هو :ما َّ
البنود فِي ِ يقول فِي ِ
نشر خاص ٌة كما ُ َّ فالمناسب ُة مالءم ٌة
شرحه لقولِه فِي مراقِي السعود: ِ
ـب ا ْل ِذي ت ََض َّمنَا ِ
المنَاس ُ ُث َّم ُ
الح ْك ِم َع َل ْيه َما ا ْعتــَنَى ُّب ُ ت ََرت َ
ـــه ا َّل ِـذي َشـرع ِمـن إِب ِ
عاد بِ ِ
َ َ ْ ْ
ب ِذي سدَ ِ
اد َمـــــ ْفسـَدَ ٍة َأ ْو َج ْل ِ
َ
مثال بمقص ٍدُ ، َ ص خص ُ
ِ
المنحى الثاين :يتم َّث ُل في عمو ٍم ُي َّ
ص هذا آلل ِ دقة ِ ��ك :منع الص ِ ذل َ
فيخص ُ َّ النبي ﷺ ِّ بيت ُ َّ
الفيء َما يسدُّ َخ َّلتَهم ،فإ َذا ِ له ْم مِن لم يك ْن ُ بما إ َذا ْ العمو ُم َ
غيرهم ،كما فإن سدَّ َخلتِهم أو َلى مِن سدِّ َخ َّل ِة ِ لهم َّ َلم يك ْن ْ
يرا ُه المالكي ُة والحنف َّيةُ.
ِ
للجنب الحائض مِ��ن عمو ِم من ِع ال��ق ِ
��رآن ِ واستثنا ُء
��ار ال��ق ِ
��رآن لمصلحة اس��ت��ذك ِ ِ استحسا نًا عندَ م��ال ٍ
��ك
257
الكريم وحفظِه. ِ
خاص ٍّ ��ص مقتضى ن ٍّ َ الثالث :ال��ع ُ
��دول ع�� ْن ُ المنحى
عن العم ِل األحناف ِ ِ ِ
كعدول لمخالفتِه أصلاً ْأو قاعدةً،
لقاعدة من ِع بي ِع الطعا ِم بالطعا ِم ِ المصر ِاة لمخالفتِه ِ
بحديث
َّ
ِ ِ
ثابت بنصوص ٌ أمر نسي َئةً ،وقاعدة من ِع المزابنة ،وهو ٌ
أخرى. َ
بمقصد أو َلى ْأو ٍ ِ
النص إ َلى اإلخالل
َ تطبيق ِّ ُ كما ْلو أ َّدى َ
تغريب الزانِيِ أع َلى ،كامتناع عمر رضي اهلل عنه من تطبيق
الحديث الصحيحِ ؛ أل َّن ُه يؤ ِّدي ِ ذلك فِي ورود َ ِ البكر ،مع ِ
ِ
بالكفار. ِ
المنف ِّي ِ
التحاق إلى
وأن اإلبقا َء الناسَّ ، ِ ِ
هداية حرص الشار ِع ع َلى وقدْ ُعلم
ُ
ِ
العقوبة ِ
تطبيق دائرة اإلسال ِم أو َلى مِن ِ المسلم فِي ِ على
ِ
بالنفي اهلل عن ُه :ك َفى علي رضي ُ قال عليه وافتتانِه .وقد َ ِ
ّ
فتنةً.
مخصصا ً ومعنى ذل��ك أن المجتهد اعترب المقصد
لعموم النص ،فهو يف قوة االستثناء ،فكأن الشارع يغرب
سنة إال إذا خيف كفره.
اهلل
رضي ُ عمرابن َ اهلل عنها خربَ ِ رضي ُ ور َّدت عائش ُة
َ َ
258
ثابت عام، ٍ ببكاء أهلِه» ،بأص ٍل ِ الميت يعذب َ عنهماَّ :
«إن
َ اَّ َ ُ َ َ ُۡ ُ َ ۡ ٞ
ى{ (النجم.)38: وهو}أل تزر وازرة وزر أخ َر ٰ َ
ِ ِ ِ
قال المالكي ُة والحنابل ُة أيضا« :و َ
ال ِ
الدليلين َ وجم ًعا بي َن
عمر ع َلى يوص بِه» ،حملاً لخربِ ِ ِ ٍ ُي َّ
ابن َ لم
عذ ُب ببكاء ْ
الموصى بِه.
وهذا الصنيع هو تعامل مقصدي يحصر معنى الحديث
مخصصا فيدرأ التعارض. ً يف الموصى به ،فيكون المقصد
ويعضد هذا الفهم أهنم كانوا يف الجاهلية يوصون بالنياحة
كما يف قول طرفة:
ت َفانعــــيني بِما َأنا َأهــــــ ُل ُه َفإِن ُم ُّ
يب يـــــــــــا اِبنَ َة َمعبــ َِد الج َ َو ُش ِّقي َع َل َّي َ
وقول لبيد:
ِ
بوهــــــما عيش َأ ُ َتاي َأن َي َ ت ََمــــــنّى ابن َ
َوهــــــــَل َأنا إِلاّ ِمـــــــن َربي َع َة َأو ُم َضر
َف ُقوما َف ُقوال بالذي قـَدْ َع ِل ْمتـــــــــ َُما
ـــــم َشا وجهًا وال ِ وال تَخْ ِ
تحلقا َش َع ْ
ــــر ْ َ ْ َ َ
هو المــــر ُء الذي ال خــــــلي َل ُه و ُقوال َ
ديق َوال غـــــَدَ ْر الص َخان َّ أضــــــاعَ ،وال َ َ
259
الســــــــــالَ ِم ع َليكُما إلى َ ِ
اسم ّ
ثم ُ الح ْول َّ
اعتذر ك حوالً كامالً ِ
فقد ِ
ْ ـــــن َي ْب َ ْ َو َم ْ
مالك بن الريب:
بــور َو َس ِّلمـــــــــــي إِذا ُّ ِ
مت َفاعتادي ال ُق َ
َواديا سقيت السحاب الغ ِ ِ مس ُأ الر ِ
َ َ َعلى َّ
أما عائشة رضي اهلل عنها فقد قدمت عموم اآلية وردت
الخرب جملة وتفصيلاً ،قائلة عن ابن عمر« :إنه ما كذب
ولعله نسي أو أخطأ».
بيان المجم ِل بالمعنى المقصدي، المنحى الرابعُ : َ
لفظ مجمل ٌ- ��اف للقرء -وه��و ٌ ِ ومثا ُله تفسير األح��ن ِ
ُ
هو ِ ِ
ألن العد َة ُشرعت لرباءة الرحم. بالحيض َّ ِ
والحيض َ
ُ
تلك الربا َء ِة. عالم ُة َ
ٍ
لقرينة النص ِ
ظاهر العدول عن ُ المنحى الخامس:
ِّ
ِ
المالكية أساس التأويلِ ،كتأوي ِل فيكون المقصدُ ُ ٍ
مقصدية،
َ
يتفرقا». ِ ِ َ ِ
لم َّ بالخيار َما ْ «المتبايعان حديث: واألحناف
بالمتساومين كما يقول الشريف التلمساين يف كتابه مفتاح
الوصول إلى تخريج الفروع على األصول.
ظاهره إلى معنًى ِ فظ َعن صرف ل ِ َّل ِ هو َ َّ
ُ التأويل َ وألن
260
ِ االنضباط فِي
ُ
المعامالت، مرجوحٍ لدليلٍ ،والمقصدُ َ
هو
ضبط .وقد أشار َ ال حدَّ ل ُه وال ِ
المجلس َ وألن البقا َء فِي َّ
مالك رحمه اهلل إلى ذلك يف الموطأ.
ِ
ضوء ين ع َلى الرتجيح بي َن ُعمو َم ِ المنحى السادس:
ُ
أحد النصين، علة يف ِ وجود ٍ ِ ُ
يتمثل يف المقصد الذي قد
الجمهور خ�برَ« :م�� ْن بدَّ ل ِ ِ
كتقديم ��ر، وفقدها فِي َ
اآلخ ِ ِ
المرتدة على ما ورد يف ِ قتل دينَه فاقت ُلوه» الذي يقتضي َ
األو َل النساء؛ َّ ِ النهي ع ْن قت ِل ِ الصحيحين مِن
ِ
ألن الخربَ َّ
ِ
الحربية خال ًفا النهي َفي الثانِي ع َلى تضمن العل َة فحملوا
َ َّ
واألول ع َلى
َ ألبي حنيف َة فِي حم ِل الثانِي ع َلى العمو ِم،
ِ
الخصوص.
قال يف مراقي السعود يف المرجحات:
والمدَ ين والخَ َب ُر الذي َج َم ْع َ
وع َّل ًة َك َقت ِْل مــــ َْن َر َج ْع حكْما ِ
ُ ً
ـــه لِـــــــــعـ َّل ٍـة تَـ َقــــدُّ ُم
وما بِ ِ
َ
ٍ ٍ
وما بِتَوكيـد َ ِ
وخوف ُي ْع َل ُ
ـــــــم
ِ
الشافعية ِ
كتعضيد به، الش ِ ِ
قياس َّ نص فِي مقابِل وتعضيدُ ٍّ
«كان يسلتُه َ ني أ َّن ُه حديث عائش َة َ
الم ِّ اهلل عنها يف َ رضي ُ َ
261
أصل بأن المني ُ ثم يقو ُم فيص ِّلى» َّ ِ ِ ع ْن ثوبِه
َّ اإلذخر َّ بعرق
ِ
قاعدة اإلنسان طهار ُته ،فِي مقاب ِل ِ ِ
كرامة فمقتضى
َ ِ
اإلنسان
مالك ٌ السبيلين ،كما ذهب ِ
إليه ِ نجاسة الخارجِ مِن ِ
أحد ِ
َ
ِ
البول. قياسا ع َلى ً
يحتج ِ ِ
تمييز عم ِل أه ِل المدينة الذي ُ السابع: المنحى
ُّ ُ َ
غير مع َّلل ُحمل إن َ ِ
فعمل أه ِل المدينة ْ القائلون بِه؛ ُ َ ِبه
كان َ
ِ
التوقيف. ع َلى
حجةً. ُ ِ ِ كان من ُه ع ْن ِ وما َ
يكون َّ والرأي فالَ االجتهاد طريق
ال تفيدُ فِي الرتجيحِ ،كما التمييز و َ ِ فالمقاصدُ هنَا تفيدُ فِي
ِ
البنود نشر ِ ِ ِ ِ ِ
��ار إليه الباجي في الفصول ،ونسب ُه في َ أش َ
لألكثر. ِ
حمل ع َلى الذي ُي ُ قول الصحابِي ِ تمييز ِ ُ المنحى الثامن:
ِّ
ِ
الرأي. حمل ع َلى الذي ُي ُ الرف ِع مِن قولِه ِ
خالف َ التوقيف إ َذا ِ محمول ع َلى ُ الصحابي فقول ُ
ِّ
القياس. َ
القياس :فقال أبوحنيفة :ال يكون حجة. َ وإ َذا َ
وافق
عنها: اهلل تعا َلى َ رضي ُ َ قول عائش َة القياس ُ َ خالف
َ فمما َّ
هذا التحديدَ فإن َ ِ
بطن أ ِّمه سنتان»؛ َّ ِ ِ
«أكثر ما يب َقى الولدُ في ِ ُ
262
عبارة التلمسانِي فِي مفتاحِ ِ ِ
حسب ٍ
بقياس. ال يهتدَ ى إِ ِ
ليه َ ُ
ِ
الوصول.
ال توجدُ مناسب ٌة حيث َُ ٍ
حكم ُ
إحداث المنحى التاسع:
ترجع الذي بالمناسب المرس ِل ِ ِ سمى
ُ وهو َما ُي َّ معتربةٌَ ،
أمير السجون مِن قِب ِل ِ ِ كإحداث ِ المصالح المرسلةُ؛ ُ
ِ
إليه
وقولِ اهلل عن ُه ل��رد ِع المجرمي َن، رضي ُ َ عمر
المؤمني َن َ
المعروف هبا «وتو ُّق ُع ِ ِ
بالسرقة المته ِم ِ
بضرب ِ
المالكية
َّ
البنود. ِ يقول فِي ِ
نشر هو المصلح ُة المرسلةُ» كما ُ ِ
اإلقرار َ
األموال برد ِع المجرمي َن. ِ هو صيان ُة أن المقصدَ َ ال َّ إ َّ
الحماية والذرائ ِع ِ للمقاصد فِي
ِ يحتاج العاشر: المنحى
ُ ُ َ
والنظر فِي ِ وهو المع َّب ُر عن ُه بسدِّ الذرائ ِع َ
ِ
والمئاالت.
ِ
المئاالت.
ِ العينة بنا ًء ع َلى ِ
قصد منع المالكي ُة والحنابل ُة َ
بيع وقدْ َ
تحريم َ فهموا قصدَ الشار ِع الربا؛ ألهنُم ُ التحاي ِل ع َلى َّ
إليها. الزيادة و َما ُ ِ
يئول َ
بالعينة، ِ المرابين« :فتار ًة يذكر َ
حيل ُ قال اب ُن القيم وهو ُ
عليه، ِ بالشرط المتقدِّ م المتواطأِ ِ وتار ًة بالمح ِّلل ،وتار ًة
اهلل والكرا ُم ٍ يطلقون العقدَ مِن ِ َ
علم ُ غير اشرتاط ،وقدْ َ ثم
َّ
263
حضر أنَّه عقدُ ر َبا ،مقصو ُده ِ
والمتعاقدان و َمن َ
الكاتبون
َ
ليس إ َّ ٍ
ال. مؤجل ًة بعشرة نقدً ا َ عشر َّ َ بيع خمس َة وروح��ه ُ ُ
غيره. حرف جا َء لمعنَى فِي ِ ٌ ِ
كخروجها ِ
السلعة ُ
ودخول
ٍ
عجوة مسألة مدِّ ِ كما فع ُلوا (الشافعية) فِي فهالَّ فعلوا ههنَا َ
يجعل وسيل ًة إلى ر َبا ُ ��م ،وقالوا :قدْ ودره ٍ َ ��م بمدٍّ ودره ٍ
بعض يساوي َ ِ ِ
الجانبين يكون المدُّ فِي ِ
أحد َ الفضل ْ
بأن
كيف العجب! َ ِ ُ الجانب َ ِ مدٍّ فِي
التفاضل .فياهلل َ فيقع
اآلخر ُ
الذرائع الموصل ُة ُ وأبيحت َ
تلك ْ تلك الذريع ُة رمت َ ُح ْ
بجنسها ِ
الحلية خالصا؟!وأي َن مفسد ُة بي ِع ِ
النسيئة إ َلى ر َبا
َ ً
مفسدة الحي ِل ِ الثمن إ َلى ِ الصياغة بح ِّظها مِن ِ ِ
ومقابلة
كل بل َّية ،وإ َذا وأصل ِّ ُ ٍ
مفسدة أساس ِّ
كل هي ِ ِ
ُ الربوية التي َ َّ
الجاهل ما شاء ،وباهللِ
التوفيق»(.)1 ُ َ ُ َ الحق فليق ِل حصحص ُّ َ
يكون مِن أه ِل العين َِة. َ واشرتط المالكي ُة للمن ِع ْ
أن َ
ِ
الحكم مرتبة الحكم ونو ِع ِ تقرير
المنحى الحادي عشرُ :
َّهي.األمر والن ِ ِ ِ
مناط
َ َ
ِين يأ ُّي َها ذَّٱل َ كتابة الدينٰٓ }: ِ أمر ِ
الجمهور َّ
أن كرتجيحِ
َ َ
ىٗ َ ۡ ىَ َء َام ُن ٓوا ْ إ َذا تَ َدايَ ُ
نتم ب ِ َديۡ ٍن إ ِ ٰٓل أ َج ٖل ُّم َس ّم فٱك ُت ُبوهُۚ{ ِ
- 1ابن القيم �إعالم املوقعني .143 - 142 /1
264
ملكٌ َّ
ألن الدي َن ِ
واالستحباب ِ
للندب (البقرة)282:
أن يو ِّثقه ،خال ًفاْ يجب
ُ أن يسق َطه ف�لاَ للدائن يمك ُن ْ ِ
للطربي والظاهرية.
َ اَ ُ ُ ۡ ۡ
الرقيق فِي قولِه تعالى}:فكت ِبوهم إِن ِ وكذلك كتاب ُة َ
َ
األمرأن َ الجمهور َّ
ُ َعل ِۡم ُت ۡم فِي ِه ۡم خيرۡٗ اۖ{ (النور)33:؛ يرى
ترجع ِ
المواساة وأن قضا َيا عليه بي ُعه َّال يجب ِ ِ
للندب؛ ألنَّه َ
ُ ُ
ِ
والخاطر؛ خال ًفا ِ
النفس ِ
وطيب ِ
واالستحباب ِ
الندب إ َلى
الطربي. لما روي عن عمر رضي اهلل عنه ،وما ذهب ِ
إليه
ُّ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ ْ َ
عليه الصال ُة الحكم بِه ِ ِ عشر :خصوصي ُة المنحى الثاين َ
والسال ُم .
الوجوب؛ فالعل ُة هنَاِ خوف
َ كرتك الرتاويحِ جماع ًة ِ
بزمنِ ِ
الرتك ِ
اختصاص دليل على وهي المقصدُ ٌ - ِ -
َ
النَّبي ﷺ.
ِ
بعض األحيان فِي
ِ ِ
بعض السجود فِي
ِ وكذلك ت ُ
��رك َ
النجم. ِ ِ ِ
سجدات القرآن ،كخاتمة سورة ْ
بحث مفهو ِم ِ تدخل المقاصدُ فِي ُ َ
الثالث َ
عشر: المنحى
ِ
المخالفة، ِ
لداللة مفهو ِم وذلك أحيانًا تعضيدً ا َ ِ
المخالفة،
وتار ًة ر ًدا وتفنيدً ا .
265
اعتبار مفهو ِم ِ الجمهور مِنُ
فمن األول:ما ذهب ِ
إليه َ
َخلاً َقدْ ُأ ِّب ْ ِ ِ ِ
مر َها ��رت ف َث ُ اع ن ْ المخالفة في حديثَ « :م ْن َب َ
بيعت ْ المبتاع»()1؛ مفهو ُمه أنَّها إ َذا يشرتط َُ أنال ْ للبائِع؛ إ َّ
جهةِ ذلك مِن اإلب��ار فثمر ُتها للمشرتِيَ ،ع َّضدوا َ ِ َ
قبل
الثمرة حتَّى ِ بقصد الشار ِع مكافأ َة َمن قا َم ع َلى ِ المعنَى
الذي فإن البائع هو ِ التأبير َّ ِ بيعت بعدَ ْ صلحت؛ ألنَّها إ َذا ْ
َ َ
هو الذي ِ عليها فاستح َّقها ،وأ َّما قب َله َّ
فإن المشرتِي َ َ قا َم
عليها فاستح َّقها. عالجها وقا َم َ َ
اإلبار ْأو ِ قبلبيعت َ أن الثمر َة للبائ ِع ْ أ َّما أ ُبو حنيف َة فر َأى َّ
بعدَ ه ع َلى أصلِه فِي ن ْف ِي مفهو ِم المخال َف ِة.
باالعتماد ع َلى ِ ِ
المخالفة أمَّ��ا الثاين وه َ��و ر ُّد مفهو ِم
ِ
المخالفة المقصد ِّي ،فمن ُه :ر ُّد أبِي حنيف َة لمفهو ِم ِ المعنَى
َ ْ ُ َ َ ۡ مَ َ ُ ُ
ت ح ٖل فأنفِقوا َعل ۡي ِه َّن }ِإَون ك َّن أ ْول ٰ ِ فِي قولِه تعا َلى:
الجمهور فهم َح ىَّ ٰ َ َ ۡ َ مَ ۡ َ ُ َّ
ُ ت يضعن حلهنۚ{ (الطالق ،)6:فقدْ َ
الحائل -ال نفق َة َ ُ من ُه َّ
لها بنا ًء غير الحام ِل َ -
وهي أن َ
ِ نوع مِن مفهو ِم ِ
المخالفة؛ فر َّد وهو ٌ ع َلى مفهو ِم الشرطَ ،
� -1أخرجه البخاري يف ال�صحيح :كتاب امل�ساقاة ،باب الرجل يكون له مم ًرا �أو ِ�شرب
يف حائط �أو نخل رقم 2379وكتاب ال�شروط ،باب �إذا باع نخلاً قد �أبرت رقم 2716
وم�سلم يف ال�صحيح :كتاب البيوع ،باب من باع نخلاً عليها ثمر رقم 1543
266
الحائل محبوس ٌّة بعدَّ تِه ،وبالتالِي َ ذلك أبو حنيف َة قائِلاً َّ :
إن َ
ِ
الزوجة ِ
حبس النفقة ناشئ ٌة ع ْن ِ ألن مشروعي َة فلها النفق ُة َّ َ
بالعدَّ ة.
فحوى ِ
ويسمى َ َّ الموافقة المنحى الرابع عشر :مفهو ُم
الداللة اللفظ َّية. ِ ِ
القياس وبي َن وهو مرتدد بين ِ
ِّ َ اَ َ َ ُ َّ ُ َ ٓ ُّ الخطابَ ،
مثا ُله :قو ُله تعا َلى}:فل تقل لهما أ ٖف{ (اإلسراء،)23:
قصد الشار ِع لربِّهما ِ رف مِن الضرب لِما ُع َ فإنَّما ُفهم من ُه
ُ
لمطلق األ َذى .خال ًفا لمن جعله مفهوما مِن ِ
جهة ِ المنافِي
ً ُ َ
الحاجب. ِ اللغوي ِ
كابن ِّ الوض ِع
إن مالحظ َة المطلقَّ : ِ المنحى الخامس عشر :تقييدُ
ولهذا فعند َما َ بالنظرية المقصد َّية؛ ِ هو َما نعنِيه المعنَى َ
ِ
كمالحظة ال يق َّيدُ بالمق ِّي ِد، المطلق َ َ األحناف َّ
أن ُ ُ
يالحظ
كفارة القت ِل فق َّيدها ِ ِ
رقبة التفريق بي َنَ قصد ال��ش��ار ِع ِ
فلم يقيدْ ها ِ ِ ِ ِ ِ
والظهار ْ اليمين كفارة ورقبة باإليمان،
حكم ِ حكم القت ِل وبي َن ِ المرتبتين بي َن ِ ِ
الختالف ِ
باإليمان؛
والظهار؛ فإنما يبنون على ما فهموه من قصد ِ ِ
اليمين
الشارع.
فهموا مِن المطلق فإنَّما ُ َ الجمهور عند َما ق َّيدوا ُ َ
وكذلك
267
دون ِ
غيرها. المؤمنة َ ِ ِ
الرقاب ِ
تحرير تشجيع قصد الشار ِع ِ
َ
ِ فهمو ُه مِن ِ
قصد مبني ع َلى َما ُ فالخالف بي َن الطرفين ٌّ ُ
الشارع. ِ
الشاطبي بوض ِع ُّ عشرَ :م��ا سما ُه السادس َ َ المنحى َ
األسباب يستلز ُم ِ فوضع ِ
األسباب وقصد المس َّببات؛ ِ ِ
ُ
الشارع .
َ بات ،أعنِي قصدَ الواض ِع إ َلى المسب ِ
ّ
والدليل على ذلك أمور (والكالم للشاطبي): ُ
لم تك ْن األسباب ْ َ قاطعون َّ
بأن َ أن العقال َء «أحدُ هاَّ :
فقطْ ،بل مِن موجودات ْ
ٌ هي َ
ُ
حيث ن ألنفسها مِ ِ أسبا ًبا
ِ
القصد كذلك؛ لز َم مِن َ أخ ُر ،وإ َذا َ
كان أمور َ حيث ُ ُ
عنها ٌ ينشأ َ
ينشأ عنها مِن المس َّببات. وضعها أسبا ًبا القصدُ إلى ما ُ ِ إ َلى
لجلب ِ رعت أن األحكا َم الشرعي َة إنما ُش ْ والثاينَّ :
وهي مس َّببا ُتها قط ًعا ،فإذا كنَّا المفاس ِدِ ، ِ المصالحِ أو ِ
درء ْ
عت ألجل المس َّببات؛ لز َم َمن األسباب إنما ُش ِر ْ َ أنَعلم َّ ن ُ
األسباب القصدُ إ َلى المس َّببات- )1(»...وقد ِ القصد إ َلى
تقدم بقية كالمه.-
أن���واع
َ المنحى السابع ع��ش��ر :االس��ت��ص��ح��ابَّ :
إن
-1ال�شاطبي املوافقات .311 /1
268
ٍ
وبخاصة ٍ
ومقصد ٍ
حكمة ال تخ ُلو مِ��ن ِ
االستصحاب َ
المبقي ع َلى الن ْفي» .فـ« َ
ال ِ حكم العق ِلِ «استصحاب
ُ
االختيار لإلنسانِ
ِ ِ
بالنص» يشهدُ لمقصد أص ِل تكليف إلاَّ َ
ِّ
فرتك تمليه فطر ُته وعق ُلهَ . ِ بحسب ما ِ ِ
واالنطالق، والحر َّي ِة
عنها» كما جاء يف «وترك أشيا َء ع َفا َ َ ِ
العفو الشارع مساح َة ُ
الحديث.
ِ
االستصحاب قائلي َن: دليل األحناف َ ُ وعندما ض َّعف
إثبات َ َ
يحاولون ِ
االستحقاق كانُوا يصلح للدف ِع َ
دون ُ إنَّه
أثر ِ
إحداث ٍ قائما َ
دون لإلبقاء ع َلى وض ٍع َ ِ حكم الن ْف ِي ِ
كان ً
يورث ولكنَّه َ
ال ُ ال إلى الن ْف ِي؛ فالمفقو ُد َ
ال ال يستندُ إ َّ جديد َ ٍ
يرث فِي رأيِهم. ُ
تنازع هو ِ ِ َ
ُ الجمهور َ بينهم وبي َن سبب الخالف ُ ُ فكان
ٍ
نصوص. نزاع
مقاصدَ ،وليس َ
كان عدولاًاالستحسان :سوا ًء َ
ُ المنحى الثامن عشر:
ِ
تخصيص للمصلحة فِي
ِ ِ
نظائرهاْ ،أو مراعا ًة ِ
بالمسألة َعن
يراعي الحاالت ِ
ِ بالعرف ،فإنَّه فِي ِ
أكثر ِ عا ٍّم ،أو استثنا ًء
ِ
الزكاة ِ
األحناف إعطا َء ِ
كاستحسان معنًى مِن المعانِي؛
269
ِ ِ
تجب نفقتُه على ُ لمن ال ُتع َطى َ أن الزكا َة َ مع َّ الفقير َ لعبد
ِ
بإغناء هي غنا ُه ع ِ المن ةَ حكم باعتبار ف ْق ِر عائِلهَّ ،
وأن ِ الغير؛ ِ
َ
العائِل.
أرض الخراجِ ِ ِ
اشرتاء جواز
َ واستحسان اإلما ِم أحمدَ ِ
الحكمة بي َن اإلخ��راجِ ِ ف��رق فِ��ي ٍ بيعها؛ ل ِ َل ْمحِ ومن ِع ِ
فمن ِ ��اف بي َن ري ِ��ق كتفريق األح��ن ِ ِ ِ
الحبيب َ واإلدخ���ال،
يفطر البغيض ِ ِ ِ
عاف ،فالَ ُ الذي ُي ُ وريق ابتل َعه فسدَ صو ُمه،
اإلمساك ع ْن ُ أن الحكم َة مِن الصو ِم نظرا إلى َّ الصائم ً ُ ِبه
غير مشتَهى. ِ ِ
األخير ُ وريق الشهوةُ .
األسنان ،بي َن ِ كذلك فِي الصو ِم فِي بل ِع َما بي َن َ وتفريقهم ِ
الذي بذلك وبين الرفي ِع ِ َ َّ
يستلذ الذي مِن شأنِه ْ
أن الوضي ِع ِ
َ
ذلك.نفسه َ تعاف ُ ُ
ِ
المدين الدين ِ
عن ِ ِ
إسقاط جواز
َ ِ
المالكية ِ
واستحسان
قض َي بِه أن ي ِ للمدين ٌ ِ ِ مقابل ِ َ
مال يمك ُن ْ َ كانالدائن إ َذا َ زكاة
كان ُمعد ًما. الزكاة إ َذا َ ِ ِ
إجزاء الدي َن ،وعد ِم
ِ
المعتربة ِ
المصلحة الفرق بي َن ُ عشر: التاسع َ المنحى
ُ
اإللغاء فإنَّه ِ كان ُيعرف بدلي ِل وإن َ والمصلحة المل َغاةْ ، ِ
أقوى. ٍ ٍ ٍ ِ َ
كذلك بمقابلة مصلحة بمفسدة ْأو بمصلحة َ يعرف
ُ
270
أعظمِ الضررين ،وترجيحِ ِ أخف
ِّ ِ
ارتكاب وهي قاعد ُة َ
المصلحتين .قال يف مراقي السعود: ِ
.........................
يك الفسا ُد أبعدـَا إن ُ وألـــــ ِغ ْ
كاألسـارى
َ اإلصالح
َ رجحِ أو ِّ
للنصــــــــــارى
َ ينفع
بما ُ تُفدَ ى َ
ِ
واألولويات ،وك ُّله ِ
الموازنات اآلن ِ
بفقه نسميه َ ِ وهذا ما
المقاصد.ِ مبني ع َلى ٌّ
المؤمن مقصدٌ ِ ِ
مسائل يف فقه األقليات :فقو ُة ِ ُ منها
ِ
المؤمن وأحب إلى اهللِ مِن ٌّ خير
القوي ٌ ُّ شرعي «المؤم ُن ٌّ
وبعض المناكرِ ِ الضعيف»( ،)1ولكن تعاطي البيو ِع الفاسدةِ ِ
َ َّ
يمنح الجماع َة ُ ولو َ
كان المسلمين ْ ِ ديار ِ
غير للمقيم فِي ِ ِ
المتوخاة. َّ تغلب المصلح َة ُ أن مفسد َته ال َّ ثرا ًء ومكان ًة إ َّ
العلماء المعاصري َن. ِ ِ
ألنظار المعروضة
َ وهي مِن المسائِل َ
ِ
االنتقال من دار الكفر إ َذاِ ِ َ ِ
منع بعض الشافعية ِ َ
وكذلك ُ
دار ِ ِ ِ يستطيع إقام َة َ
باعتبار أنَّها بوجوده ُ شعائره ُ المسلم
ُ كان
� -1أخرجه م�سلم يف ال�صحيح:كتاب القدر ،باب يف الأمر بالقوة وترك العجز واال�ستعانة
رقم 2052وابن ماجه يف ال�سنن رقم 79و�أحمد يف امل�سند رقم 370وغريهم.
271
إقامة ِ
دار ِ ِ
باعتبار وصف الدَّ ار؛ ُ انتقل تغ َّير إسال ٍم ،وإ َذا َ
الطريقة -مقصدً ا شرع ًيا( .يراجع يف ِ اإلسال ِم -ولو ِ
هبذه
الفتوى وفق ُه األقليات). ذلك كتا ُبنا :صناع ُة َ
ِ
التعارض الجمع بي َن األدل ِ��ة عندَ ُ المنحى العشرون: َ
ِ ِ ِ ِ
توضأ حديثَ « :من َّ وجوب ال ُغس ِل للجمعةَ ،
مع كحديث
األو ُل ع َلى َمن توجدُ من ُه رائح ٌة مل َّ فيح ُ ونعمت»()1؛ ُ ْ فبها َ
ِ
جمعكذلك .ف ُي ُ َ ويحمل الثاني ع َلى َمن َ
ليس ُ موذيةٌ،
األمر ِ مقصد الشار ِع مِن ِ ِ
تعيين ِ
طريق الخربين َعن ِ بي َن
حديث عائش َة ِ ذلك فِي وردت اإلشار ُة إ َلى َ ْ بال ُغسل .وقدْ
اهلل عنها. ِ
رض َي ُ
بالمقصد يف ِ الرتجيح المنحى الحادي والعشرون:
ُ
تخيير ِ عباس فِي ٍ حديث ِ
ابن ِ األخبار ،كرتجيحِ ِ تعارضِ
مغيث وهو عبد ،ع َلى خربِ األسود ٍ تحت
عتقت َ ْ بريرةَ ،أهنَّا
هو ألن مقصدَ الشار ِع َ حراَّ ، كان ً بن يزيد عن عائشة أنَّه َ
العبد .وهذا مذهب مالك ِ تحت
َ الحرة ضرر ِ
بقاء ِ رفع
َّ ُ
وأحمد والشافعي واألوزاع��ي والليث بن سعد خال ًفا
ألبي حنيفة والثوري الذين اعتمدوا على مقصد آخر يف
� -1أخرجه �أبو داود ،باب يف الرخ�صة يف ترك الغ�سل يوم اجلمعة.
272
تخييرها ولو كان حرا ألهنا لم تكن لها يف أصل النكاح
إرادة وال رأي ألن سيدها هو الذي زوجها فلما عتقت
كانت حريتها مالئمة لمراجعة ما عقده سيدها.
األخبار المنف َّية أو ِ ُ
تنزيل المنحى الثاين والعشرون:
ِ
اإلثبات ذلك فِي مثال َ والنواهيُ ، ِ ِ
األوامر المث َب ِتة منزل َة
َ َ َ ام إبۡ َرٰه َ قو ُله تعا َلى}:فِيهِ َء َاي ٰ ُ ۢ َ ّ َ ُ َ َّ ٞ
ِيمۖ َو َمن دخل ُهۥ ت بيِنٰت مق ِ
ُّ بۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ
اع إ ِ يَ ۡ َّ اَ َ َ ٗ َ هَّ لَىَ
لهِ ت م ِن ٱستط ِ ي ٱل ِج ح ِ
اس ٱنل ع كن ءامِناۗ وللِ ِ
َ ۡ َ اٗ
ني{(آل ن َعن ٱل َعٰلم َ
ِ ٱلل َغ ٌّ ك َف َر فَإ َّن هَّ َ
ِ
َ
ن يل َو َ
م ۚ سب ِ
ِ يِ
ِ
قصد صدق الخربِ ال ُبدَّ مِن ِ
فهم ِ ِ
فلضرورة عمران)97:
أي أ ِّمنوه. األمر ْ بأن الخربَ هنا ُيراد بِه ُ الشار ِع َّ
ُ َ
ت َّب ُصون بِك ۡم فإِن
َ ِين َي رَ َ وكذلك فِي قولِه تعالى }:ذَّٱل َ َ
اَ َ ُ َ
هَّ َ ُ ْ َ َ ُ اَ َ َ ُ َ
كن لك ۡم ف ۡت ٞح ّم َِن ٱللِ قال ٓوا أل ۡم نكن َّم َعك ۡم ِإَون كن
ُ ۡ َ ۡ َ َ ۡ ُ َۡ َ ۡ ۡ َ َۡ ََۡ ُْٓ َ ٞ ۡ َٰ َ َ
ين ن ِصيب قالوا ألم نستحوِذ عليكم ونمنعكم ل ِلكفِ ِر
ّ َ ۡ ُ ۡ َ َ هَّ ُ حَ ۡ ُ ُ َ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َ َ جَ ۡ َ َ
مِن ٱلمؤ ِمن ِنيۚ فٱلل يكم بينكم يوم ٱل ِقيمةِۗ ولن يعل
ع ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ َ لَىَ هَّ ُ ۡ َ
ِني َسبِيل{ (النساء)141: ٱلل ل ِلكٰفِ ِرين
أي ال تجعلوا للكافري َن علي ُكم سبيلاً . النهي ْ ُ ُيستفا ُد منه
كما ذكر الشاطبي(.)1
-1املوافقات .156 /1
273
النص: ِ ِ ُ
الثالث والعشرون :بي َن التعبد ومعقول َّية ِّ المنحى
للقياس؛ إ ْذ أنَّه مرحل ٌة سابق ٌة ِ تكرارا
ً ليس
المنحى َ َ إن َ
هذا َّ
البحث َعن الع َّلة ِ أن الخطو َة األو َل��ى َ
قبل للقياس؛ إ ْذ َّ ِ
عقل معنا ُه األمر َأو النهي تعبد ًّيا ال ُي ُ ُ تقرير ما إذا َ
كان ُ هي
ُ َ
خاص ٍّ وغير
َ هو معقول المعنَى َ فيتوقف عندَ حدِّ هْ ،أو َ ُ
بحث ع ْن ع َّلتِه. بمحلِه ف ُي ُ
العلماء فِي ِ ٍ
اختالف بي َن قطب لت هذه الخطو َة م َّث ْ إن ِ َّ
َ
الكلب؛ ِ اإلناء مِن ولو ِغ ِ كاألمر بغس ِل ِ ِ
النصوص، عشرات ِ
ِ
الجمهور ومعقولية المعنَى عندَ ِ ِ
المالكية بي َن التع ُّب ِد عندَ
فيفيدُ النجاسةَ.
قبضه؛ بي َن التع ُّب ِد عندَ قبل ِ والنهي َعن بي ِع الطعا ِم َ ِ
البن ع َّباس: الجمهور تب ًعا ِ ِ ومعقولية المعنَى عندَ ِ ِ
المالكية
«وأحسب أن كل شيء كالطعام».
ث؛ بي َن التع ُّبد عندَ االسترباء مِن الخب ِ ِ باإليتار فِي
ِ ِ
واألمر
َ
فيكفى ومعقولية المعنَى عندَ المالكية ِ ِ ِ
والشافعية ِ
الحنابلة
َّ
ِّ
المحل. إنقا ُء
ِ
بحوالة السلم؛ بي َن التعلي ِل ِ مسألة تأجي ِل ِ َ
وكذلك
ليكون مظنَّ ًة َ األجل طويلاً نسب ًيا ُ َ
يكون فيجب ْ
أن ُ األسواقِ
274
القاسم، ِ عشر يو ًما عندَ ِ
ابن ��واق ،كخمس َة لحوالة األس ِ ِ
َ
ِ ِ آخر ِ ِ
تسليم كاشرتاط غير األج ِل وإذا ُوجدت العل ُة بسبي ٍل َ
تختلف فيه ُ األسعار أنبعيد ُيظ ُّن َّ مكان ٍ ٍ فيه فِي المس َل ِم ِ
َ
الزمان . ِ المكان منزل َة ُ فينز ُل السلم َّ ِ محل ِ
عقد عنها يف ِّ
ِ ِ
بحوالة لم ينظروا إلى التعلي ِل خال ًفا لألحناف الذي َن ْ
بثالثة أ َّيا ٍم عندَ هم ،وال عرب َة ِ األسواق ،وبالتالِي ُيكت َفى ِ
رشد فِي ٍ المكان ،كما ُيفهم مِن كال ِم ِ
ابن ِ ِ
بتغير عندهم
ِ
المجتهد. ِ
بداية
ِ
طبيعة االخ��ت�لاف فِ��ي ُ المنحى ال��راب��ع وال��ع��ش��رون:
ِ
السالفة ِ
الكلب كمسألة ولو ِغ ِ ِ
الحكم، المقصد المؤ ِّث ِر فِي ِ
الكلب، ِ لعابنجاسة ِ ِ راجع إ َلى الجمهور أنَّه الذكر؛ فيرى ِ
ٌ ُ
خوف ِ يرجع إ َلى صحي مقصدٌ َّهان أ الجدّ ويرى ابن ٍ
رشد
ُ ٌّ ُ َ
العدوى. َ
واالقتصار ِ
المقاصد المنحى الخامس والعشرون :تعدُّ ُد
ُ
ِ ِ ٍ ٍ
كمسألة نق ِل لحو ِم الحكم، مما يؤ ِّث ُر يف ع َلى مقصد واحد َّ
ِ
ألن مقصدَ ذلكَّ ، جواز َ َ فيرى المالكي ُة الهدْ ِي إ َلى اآلفاقَ ،
الشار ِع إخراج هدي للمساكين يف الحرم.
ذلك أن َ مساكين الحر ِم بِه؛ إ ْذ َّ ِ اختصاص َ ويرى الحنابل ُة َ
275
ابن قدا َمة. عبارة ِ ِ حسب ك. أحدُ مقصدَ ِي النس ِ
َ ُ
ِ
الناس ِ
بعض اختصاص
ُ المنحى السادس والعشرون:
ٍ
بحكم. ٍ
بعض َ
دون
وهو ٍ ِ َ
آخرَ ، غير المنحتم بوجه َ «ويختص ُ ُّ الشاطبي: ُّ قال
دون وقت َ بحسب ٍ ِ نفسه ف فِي ِ بكل مك َّل ٍ يصلح ِّ فيما
ُ النظر َ ُ
النفوس ِ
شخص؛ إذ ٍ وشخص َ
دون ٍ حال، دون ٍ وحال َ ٍ وقت، ٍ
ُ
واحد ،كما ٍ األعمال الخاص ِة ع َلى ِو ٍ
زان ِ ِ
قبول ليست فِي ْ
َّ
ُ ِ
يدخل فرب عم ٍل صالحٍ أنَّها في العلو ِم والصنائ ِع كذلك؛ َّ
ِ
بالنسبة كذلكَ ُ
يكون ضرر ْأو فرتةٌ ،وال بسبِبه ع َلى رج ٍل
ٌ
والشيطان فِيه ِ ِ
النفس يكون ُّ
حظ ُ ورب عم ٍل َّ آخ َر، إ َلى َ
ويكون بري ًئا ُ آخر، أقوى من ُه فِي عم ٍل َ بالنسبة إ َلى العام ِل َ
ِ
فصاحب هذا ُ دون بعض؛ األعمال َ ِ ِ
بعض ذلك يف من َ
النفوس َ عرف ِبه نورا َي ُ هو الذي ُرزق ً الخاص َ ِّ ِ
التحقيق
تحملها للتكاليف، ُّ وتفاوت إدراكها ،وقو َة َ ومراميها،
عرف التفا َتها وصربَها ع َلى حم ِل أعبائها ،أو ضعفها ،و َي ُ
ُ ِ ِ ِ
يحمل على إ َلى الحظوظ العاجلة ،أو عد ِم التفاتها؛ َ
فهو
أن يليق هبَا ،بنا ًء ع َلى َّ النصوص ما ُ ِ نفس مِن أحكا ِم ٍ ِّ
كل
يخص التكاليف؛ فكأنَّه ِ الشرعي يف تل ِّقي ذلك المقصو ُد َ
ُّ ُّ
276
ثبت مما َ التحقيق؛ لك ْن َّ ِ والتكاليف َ
هبذا َ عمو َم المك َّلفين
ثبت إطال ُقه األول العا ُّم ،ويق َّيدُ به ما َ التحقيق َّ ِ عمو ُمه فِي
ِ
األول ثبت ل ُه فِي يضم قيدً ا أو قيو ًدا لما َ ُّ األول ،أو ِ يف
المناط هنَا. ِ ِ
تحقيق القيود .هذا معنَى ِ بعض ُ
فإن َما سوا ُه قدْ ِ هذا االجتهاد؛ َّ ِ ِ
الدليل ع َلى صحة َ ُ وبقي
َ
تحت داخل ٌ وهو ِ ِ ِ َ تك َّفل
َ األصوليون ببيان الداللة عليهَ ،
ِ
الداللة ِ
مطلق تحت مندرجا َ ُ
فيكون ِ
المناط؛ ِ
تحقيق عمو ِم
ً
الداللة عليه؛ ِ ِ
خصوص تشوف أحدٌ إ َلى عليه ،ولك ْن ْ ِ
إن َّ
بحول اهللِ. ِ تيسرمنها ما َّ نذكر َ فاألد َّل ُة عليه كثير ٌة ُ
ِ
مختلفة ع ْن ٍ ٍ
أوقات سئل فِي أن النبي ﷺ َ ذلك َّ فم ْن َ
َّ
بعض ِ بذلك يف َ ف وعر َ وخير األعمالَّ ، ِ أفض ِل األعمال،
كل بأجوبة مختل َف ٍةُّ ، ٍ فأجاب
َ غير س��ؤال؛ األوق��ات مِن ِ ِ
مع القتضى َ َ مل ع َلى إطالقِه أو عمومِه واحد منها لو ُح َ ٍ
غيره التضا َّد فِي التفضيل . ِ
أي ِ ِ
ففي «الصحيح» أنَّه عليه الصال ُة والسال ُم سئلُّ :
��م م��ا َذا؟ ق��ال :ث َّ ��ان ب��اهللِ»َ . ق��ال« :إي��م ٌ أفضل؟ َ ُ األع��م ِ
��ال
«حج ٌّ ثم ما َذا؟ قال: قالَّ : قال« :الجها ُد فِي سبي ِل اهللِ»َ .
277
مربور»(.)1ٌ
ليس ِ المنحى السابع والعشرونُ :
مما َأفعال المقتدَ ى به َّ
ٍ
ألمر. تفصيلاً
الصادرة من أه ِل ِ ِ
باألفعال الشاطبي« :االقتدا ُء قال َ
ُّ
ِ
وجهين: يقع على ِ
االقتداء ُ
دل ممن َّ ِ ِ َ أحدهماْ :
يكون المقتدَ ى به يف األفعال َّ أن
النبي ﷺْ ،أو فِع ِل ِ ِ ُ
الدليل على عصمته ،كاالقتداء بفع ِل ِّ
بالعادة أو بالشر ِع أنَّهم ال ِ
أه�� ِل اإلجماعِ ،أو ما ُي ُ
علم
المدينة ع َلى ِ
رأي ِ يتواطؤون ع َلى الخطأِ؛ كعم ِل أه ِل ُ
مالك.... ٍ
إيقاع الفع ِل ِ
المقتدي أن يقصدَ فالقسم األول :ال يخلو ْ
َ ُ
عليه المقتدَ ى بِه ،ال يقصدُ بِه ِ الذي أوق َعه الوجه ِ
ِ ع َلى
ذلك ،سواء عليه أفهم مغزاه أم ال؟ من غير زيادة ،أو ال َ إ َّ
يزيد عليه تنْو َي ُة المقتدَ ى به يف الفعل أحسن المحامل مع
األحسن،َ المحم ِل
َ احتماله يف نفسه؛ فيبني يف اقتدائه على
رتب عليه األحكا َم و ُي َف ِر ُع عليه المسائل. ويجعله أصلاً ُي ُ
� -1أخرجه البخاري وم�سلم عن �أبي هريرة واللفظ مل�سلم وزاد البخاري�»:إميان باهلل
ور�سوله» 25 /5وما بعدها..
278
حسب ِ االقتداء بِه على ِ ِ
صحة َ
إشكال يف األول؛ فال ُ فأ َّما
بالنبي ﷺ ِّ ما ق��رر ُه األصوليون ،كما اقتدَ ى الصحاب ُة
ِ
النعلين يف هبي ،وخل ِع الذ ِ
الخاتم َّ ِ
ع كنز ؛ ٍ
كثيرة يف أشياء
ِّ
ِ
العمرة عا َم واإلحالل مِن
ِ ِ
السفر، ِ
واإلفطار يف ِ
الصالة،
الصحابة التِي أجمعوا عليها، ِ ُ
أفعال َ
وكذلك الحديبية،
وما أشبه ذلك»(.)1
ِ
العفو الدال على السكوت ُّ ُ الثامن والعشرون: ُ المنحى
فرائض فال تضيعوها ونَهى َعن أشيا َء َ فرض اهلل َ «إن َ دليلهَّ :
تنتهكوها وحدَّ حدو ًدا فال تعتدوها ،وعفا َعن أشيا َء َ فال
نسيان فالَ تبح ُثوا عنها»(.)2 ٍ بكم َ
ال َعن رحم ًة ْ
ِ
العفو الشاطبي مرتب َة حديث حس ٌن ،أخذ منه ٌ وهو
ُّ
ألن ترك االستفصال يف طعام قسما مستقلاً ؛ ّ باعتبارها ً ِ
الذين أوتوا الكتاب يدل على جواز ذبحهم.
ٍ
إشارة الشارع مِن المنحى التاسع والعشرون :ما يقصدُ
ُ
الفتوى .قال َ ِ
سياق عرف بِه قصدُ الشار ِع فِي ونحوهاُ ،ي ُ
279
فهو ِ ِ الشاطبي« :ما ُيقصدُ بِه اإلفها ُم يف
االستعمال؛ َ معهود ُّ
ِ
المصرحِ به كقوله عليه الصال ُة والسال ُم: ِ ِ ِ
قائم مقا َم القول
َّ ٌ
وهكذا»(.)1 َ «الشهر َ
هكذا ُ
أجاب الفت َيا باب َمن ِ قلت :وعن َ
َ البخاري بقولهُ : ُّ ْون ُ
ِ
حديثين: فذكر ِ بإشارة ِ
اليد ِ ِ
الرأسَ ، أو
أرمي قبل ْ
أن ذبحت َ
ُ : حجتِه َ
فقال َّ ي سئل فِ أن النبي ﷺ َ َّ
َ َّ
َ
فأومأ أذبح قبل ْ حلقت َ حرجَ ، قالَ : بيده َ فأومأ ِ َ
أن َ ُ وقال: ال َ
حرج». بيده :و َ ِ
ال َ
سمعت أبا هرير َة َعن النبِي ﷺ ُ سالم َ
قال ٍ والثاين :ع ْن
الهرج».ُ ويكثر
ُ الجهل والفت ُن ُ ويظهر
ُ العلم
ُ قال« :يقبض
فحر َفها هكذا بيده َّ
َ ِ الهرج؟ فقال ُ رسول اهللِ و َما َ قيل :يا
القتل. كأن ُه يريدُ َ
اليد وحركتِها تحريف ِ ِ هم مِن ذلك ُف َ «كأن َ حجرَّ : ٍ قال اب ُن
ِ
الروايات ِ
معظم لم َأرها َفي ِ ِ
كالضارب ،لك َّن هذه الزياد َة ْ
فإن أ َبا عوان َة روا ُه الراوى َعن حنظلةََّ ، ِ ِ
تفسير وكأنَّها مِن
وقال َفي عاصم ع ْن حنظلةََ ، ٍ الدوري َعن أبِي ِّ ِ
عباس َعن
280
عنق اإلنسان»(.)1 يضرب َ ُ عاصم كأنَّه ٍ آخره :وأرانَا أ ُبو ِ
العقود فِي التصحيحِ ِ ِ
قصود المنْحنى الثالثون :مراعا ُة
ِ
والشروط. ِ
واإلبطال
لكل ٍ جعل ِّ اهلل تعا َلى َ
عقد أن مال ًكا رحم ُه ُ ومعنَى هذا َّ
مالئمة و َ ٍ
ال قصو ًدا مالئم ًة وقصو ًدا منافي ًة وقصو ًدا َ
غير
ِ ِ ٍ
باع
تأثير الشروط على هذه القصود؛ فم ْن َ ب َ منافية ،ور َّت َ
بطل شرط ُي ُ ٌ فهذا يهب َ أن َ بشرط ْ ِ
يبيع المشرتِي وال َ ال َ
منها حري ُة ِ ِ ِ مناف للتمت ِع ٍ
بحقوق الملكية التي َ العقدَ ألنَّه
رهن ْأو حمي ٍل ٍ ِ
بشرط باع ِ ِ ِ
التصرف في المملوك .وم ْن َ ُّ
ِ
صحيحين لمالءمته للتو ُّثق من نتائج ِ الشرط والعقدُ ُ َ
كان
ِ
العقد. العقد ،والوفاء بمقتضياتِه التِي هي مِن ِ
قصد َ
مالك فيِ ٌ وفصل ِ َ وأمَّ��ا أ ُب��و حنيف َة
فأبطل بالشروطَّ ،
الواردة فِي ِ ِ
األحاديث يجمع بي َن ُ ٌ
تفصيل وهو
الشروط َ
ِ
الباب. ِ
سعيد وسؤالِه ٍ ِ
الوارث ِ
بن وقدْ ذكر العلماء قص َة ِ
عبد ُ َ
وابن أبِي لي َلى واختالفِهم فِي ِ وابن شربم َة ِ ألبِي حنيف َة
ِ
المسألة. بحديث روا ُه فِي ٍ منهم الشروط واحتجاجِ ٍّ ِ
كل ُ
-1ابن حجر ،فتح الباري .219 /1
281
مييز ِ
بالمقاصد يف َت ِ المنحى الحادي والثالثونُ :يستنجدُ
الصرفِ ِة إلحداث ِ
المكايسة ِّ
ِ ِ
المعروف عن ُعقود ُ
ِ
ُعقود َ
حكم بين حكمين مما يجيز التجاوز عن بعض أسباب
الفساد من غرر وجهالة وشبهة ربا.
المنحى الثاين والثالثون :أن العلة المستنبطة ال يمكن
أن تلغي الحكم المعلل هبا يف حال تخلف العلة ،كالثمنية
يف النقدين بأن صار الذهب والفضة أو أحدهما غير رائج
يف الثمنية فإن ذلك ال يؤثر يف أصل ربويتهما ألن الربوية
منصوصة من الشارع متحققة فال تكر عليها علة مستنبطة
بالبطالن .وم��ن جهة أخ��رى ف��إن مقصد الربوية يمنع
التفاضل يف النوع ،والنسيئة يف الجنسين مقصد أصلى
ابتدائي صريح فال يكر عليه مقصد تابع يف الرتبة مظنون
يف الجملة.
المنحى الثالث والثالثون :فهم مقصد الشارع من داللة
اللفظ سواء كان لفظ الشارع ،أو لفظ راوي الحديث ،مما
حكما تختلف درجته باختالف الصيغ ،كاستعمال ً يرتب
لفظ «هنى» فإهنا تدل على أن الحكم المرتتب على النهي
ليس بالقوي لقيام االحتمال وبسبب االجمال أو ما
282
سماه الزركشي بالعموم ألن النهي قد يدل على الكراهة
أو التحريم فما هو كداللة النهي «بال تفعل» الدالة على
التحريم».
وسمى القاضى ابن العربي الصيغة األول��ى بالنهي
من الدرجة الثانية والصيغة الثانية «ال تفعل» بالنهي من
الدرجة األولى وذلك يف مسألة النهي عن بيع الثمرة قبل
بدو صالحها ،فحديث ابن عمر فيه «هني» وحديث زيد
بن ثابت فيه «ال تبايعوا »..لكنه ورد يف آخر حديث زيد
«كالمشورة لهم» فأثرت يف قوة النهي مما أثار حفيظة ابن
العربي قائلاً :لكنه عقب عليها بما غير الدليل وأتعب يف
التأويل فقال« :كالمشورة لهم» فجعل ذلك زيد يف ظاهر
الحديث رأ ًيا عرضه ال هن ًيا حرمه(.)1
المنحى الرابع والثالثون :قد يؤثر مقصد عام يالحظه
المجتهد من خالل نصوص عدة يف الحد من تأثير مقصد
خاص ،ليخفف من اطراده ومن إلحاحه يف كل المحال،
ومن هذا القبيل تأثير الحاجة يف ممنوعات ضعيفة نسب ًيا؛
الستثناء الشارع من عمومها ولقوة المصلحة المعارضة
-1ابن العربي ،القب�س .778 /2
283
تقدم على العلة المانعة يقول اب��ن العربي« :القاعدة
السابعة :اعتبار الحاجة يف تجويز الممنوع كاعتبار
الضرورة يف تحليل المحرم ،ومن ذلك استثناء القرض
من تحريم بيع الذهب بالذهب إلى أجل ،وهو شيء انفرد
به مالك لم يجوزه أحد من العلماء سواه لكن الناس
كلهم اتفقوا على جواز التأخير فيه من غير شرط بأجل
وإذا جاز التفرق قبل التقابض بإجماع فضرب األجل أتم
للمعروف وأبقى للمودة.
وعول يف ذلك علماؤنا على قول النبي ﷺ« :إن رجلاً
كان فيمن كا ن قبلكم استسلف من رجل ألف دينار إلى
أجل فلما حل األج��ل طلب مرك ًبا يخرج فيه إليه فلم
قرطاسا وكتب فيه إليه ونقر خشبة فجعل فيها
ً يجده فأخذ
القرطاس واأللف دينار ورمى هبا يف البحر وقال :اللهم
إنه قد قال لي حين دفعها إلي أشهد لي قلت كفى باهلل
شهيدً ا أو قال ايتني بكفيل قلت كفى باهلل كفيال ،اللهم
أنت كفيل بإبالغها ،فخرج صاحب األلف إلى ساحل
البحر يحتطب فدفع البحر له العود فأخذه فلما فلقه وجد
المال والقرطاس ثم إن ذلك الرجل وجد مرك ًبا فأخذ
284
المال وركب فيه وحمل إليه المال فلما عرضه عليه قال
له قد أدى اهلل أمانتك» .فإن قيل هذا شرع من قبلنا .قلنا:
كلما ذكر النبي ﷺ لنا مما كان عملاً لمن قبلنا يف معرض
المدح فإنه شرع لنا ،وقد مهدنا ذلك يف كتب األصول،
وم��ن ذل��ك حديث العرايا وبيع التمر الموضوع على
األرض ،وفيه من الربا ثالثة أوجه:
• بيع الرطب باليابس.
• والعمل بالحزر والتخمين يف تقدير المالين الربويين.
()1
• وتأخير بالتقابض.
قلت :وليس مجرد الحاجة هو الذي رجح ولكن قصد
مرجحا كما ذكرنا فإن العرايا والقرض هي ً المعروف كان
من باب المعروف والشارع متشوف إليه ،وكذلك نجد
التخفيف يف مجال المشاركات فأجاز فيها للحاجة بعض
الجهالة والغرر وقد يختلف العلماء يف ذلك.
أم��ا تشوف ال��ش��ارع للتعاون والتضامن فهو ثابت
َ َ َ َ ُ ْ لَىَ
بالكتاب والسنة ،أما الكتاب فقوله تعالى}:وتعاونوا ع
ىۖ{ (المائدة ،)2:والتعاون يف الكسب المباح ٱتل ۡق َو ٰ
ب َو َّٱل ۡ ّ
رِ ِ
-1ابن العربي ،القب�س .790 /2
285
هو من الرب وما حديث األشعريين عن جمع األزواد إال
من هذا القبيل ،ومن ذلك ما ورد يف الشركة بخصوصها
من الحديث القدسي :إن اهلل يقول« :أنا ثالث الشريكين
ما لم يخن أحدهما صاحبه.)1(»...
وحديث السائب بن أبي السائب المخزومي أنه كان
شريك النبي ﷺ يف أول اإلسالم فلما كان يوم الفتح قال
له عليه الصالة والسالم مرحبا بأخي وشريكي ال يداري
()2
وال يماري.
إل��ى غير ذل��ك من األخبار التي ت��دل على اإلق��رار،
ُ خُ َ
ويشير إلى معنى الشركة قوله تعالىِ}:إَون تال ُِطوه ۡم
َ ۡ ُ ُ
فإِخ َوٰنك ۡ ۚم{ (البقرة )220:يف أموال اليتامى ،واستشهد
اب��ن رش��د الجد رحمه اهلل تعالى به على ج��واز خلط
الذهوب واقتسامها بعد الصياغة كما يف المعيار ،ولهذا
أبيح يف شركة العنان الوكالة يف مجهول.
وأبيحت الجهالة يف مشاركات أخرى من المزارعات
والمساقاة ستأيت.
� -1أخرجه �أبو داوود وقد عل بالإر�سال و�أعله بع�ضهم بجهالة الراوي.
� -2صححه احلاكم والذهبي.
286
ِ ِ ِ
نشرها مرة لو أردنا َ تسج ُل ألول َّ وهذه المناحي التي َّ
ِ
كبيرا ،لك ْن
لكانت جز ًءا ً ْ تب(-)1 نش ُر بعدَ الطية ال ُك ُ -كما ُت ّ
أصولُ أن المقاصدَ ِهي هو اإلشار ُة إ َلى َّ هذا َ مقصو ُدنا مِن َ
والمدارك أمثل ٌة للوشائجُِ ِ
المناحي ِ
وهذه الفقه بعينِها، ِ
ِ
النظر وأعملنَا َ ولو أمعنَّا الحميمة والتداخ ِل والتواصلِْ ،
الفكر ألض ْفنا إليها غيرها. َ
البعض ُ النحو» كما عزا ُه َ «انح َ
هذا العلم ُِ ِ
لطالب ُ
فأقول
األسود الدؤلِي.
ِ يخاطب أ َبا
ُ اهلل عن ُهرضي ُ َ علي
إلى ِّ
َ
• خالصة القول:
وحكمها وغايا ُتها ومراميها ِ
الشريعة روح َّ
ُ إن المقاصدَ ُ
ومغازيها.
المقاصد مِن مبال ٍغ
ِ َ
حول تباينت آرا ُء الباحثي َن
ْ وقدْ
حيث جعله قطع ًيا ُ لحدود عمومِها ِ ٍ
متجاوز ِ
اعتبارها فِي
وجعل شمو َلها م��ط��ر ًدا ،غافلاً أو متجاهلاً ما يعرتِى َ
ِ
معوقات للشمول مِن
ِ ِ
التخصيص ،وما ينربِى العمو َم مِن
ٍ ِ ِ
تخصهالها معان ُّ التنصيص .فأل َغوا أحكا َم الجزئيات التي َ
مقصد شاملٍ.ٍ تحتبدعوى انضوائِها َ َ
� -1شطر بيت لذي الرمة �أوله :من دمنة ن�سفت عنها ال�صبا ُ�س ُفع ًا
287
الجزئية إ َلى ِ ِ
بالنصوص ِ
للمقاصد متعلق ٍ
مجانب ومِ ْن
النص تعرتض َّ ُ والحكم التِي
َ غاية تلغي المقاصدَ والمعاينَ ٍ
فهي ِ ُ َ ِ الجزئِ َّي ،وتحدُّ مِن مدَ ى
وتشير إلى ظرفيتهَ ، تطبيقه
ِ
المناداة اعتباره إ َلى حدِّ ِ ص لمدَ ى والمخص ِ كالمق ِّي ِد ل ُه
ِّ
بإبطال المصالحِ . ِ
الكلي ى وذاك ،يعطِ َ هذا وسط بي َن َ ٌ الصحيح والمنهج
َّ ُ ُ
المزالق ِ لهذه نصيبه ،ويضع الجزئي فِي نصابِه .وقد انتبه ِ
َ َّ ُ َ
الجزئي ِّ تغييبِ حذر مِن حيث َّاهلل تعا َلى ُ الشاطبي رحم ُه ُ ُّ
الكلي في التعام ِل ِ ِ ِ ِ
عندَ مراعاة الك ِّلي ،ومن اإلعراض عن ِ
ِّ
مع الجزئِ ِّي. َ
وإذا كان بعض المقاصديين يف هذا العصر قد استشعر
إمكانية استقالل المقاصد عن علم أصول الفقه فبما قدَّ منا
ِ
الفقه ِ
أصول ِ
المقاصد َعن ِ
استقالل نكون قدْ رمينَا نظري َة ُ
اندماج الروحِ فِي الجسد، َ االندماج بينهما َ بالفند ،وأبنَّا ِ
والمعدود فِي العدد. ِ
َفإِنْ ال َي ُك ْنها َأ ْو َت ُكن ُه َفإِ َّن ُه َأ ٌخ َأ َ
رض َع ْت ُه ُأ ُّمها بِ ِلبانِها
• ضوابط التعامل مع المقاصد:
والمتعامل مع المقاصد عليه أن يراعي الضوابط
288
الثمانية التالية -لعله بذلك يكون أق��رب إل��ى الدقة
والصرامة العلمية -حتى ال يقع يف خطإ يف التعامل
وخطل يف التداول وهي:
الضابط األول :هو التحقق من المقصد األصلي الذي
التحقق من المقصدُّ من أجله ُشرع الحكم؛ ألنه بدون
األصلي ال يمكن أن يعلل به؛ إذ يمكن أن ينصرف األمر
إلى التعبد مباشرة؛ ألن األصل يف المصلحة تعبدي كما
يقول الشاطبي ألن الشارع هو الذي حدَّ دها ،وهي مسألة
مختلف فيها .قال إمام الحرمين :ما ال يعقل معناه على
التثبت ال ُي َّ
حكم المعنى فيه»( .)1ومنها عشرات المسائل.
ظاهرا
ً الضابط الثاين :أن يكون ذلك المقصدُ وص ًفا
ً
منضبطا؛ ألنه إذا لم يكن كذلك فال يمكن التعليل به؛
فالغرر مثال يورث البغضاء ،والبغضاء صفة نفسية ،فهو
من باب الحكمة التي قد نلجأ إليها للتعليل هبا على
خالف ،وذلك عند تعذر االنضباط يف الوصف ،قال يف
المراقي:
289
ومن شروط الوصف االنضباط
إال فـحـــــــــكـمـة بها يـنـاط
الضابط الثالث :أن نحدد درج��ة المقصد يف سلم
المقاصد هل هو يف مرتبة الضروري أو مرتبة الحاجي
ألن التعامل معهما ليس على وتيرة واحدة ،هل هو مقصد
أصلي أو تابع.
الضابط الرابع :النظر يف النصوص الجزئية المؤسسة
للحكم ألنه من خاللها يمكن ضبط التصرف يف ضوء
تأكيد الشارع على الحكم أو عدمه للتعرف على المقصد
ومكانته وضبط التعامل معه إلغاء أو إثبا ًتا لما يعارضه من
الضرورات الحاقة أو الحاجات الماسة.
الضابط الخامس :هل المقصد المعلل به منصوص أو
مستنبط ،يف الحالة األولى يرتفع الحكم بزواله ويف الثانية
ال يرتفع لكنه يمكن أن يخصص كالثمنية بالنسبة للنقدين.
الضابط السادس :أن ال يكون المقصد المعلل فيه
م��ردود ًا بقادح النقض كاالستعجال والمعاملة بنقيض
القصد.
الضابط السابع :أن ال يكون معارضًا بمقصد آخر
290
أولى منه باالعتبار ،فيستصحب أصل النص أو يرجح بين
مقصدين.
الضابط الثامن :أن ال يكون محل إلغاء بالنص أو
اإلجماع أو القياس السالم من المعارض.
علم
فوق ِ ربى َ ِ
للمقاصد أصولاً ك َ ُ
الفصلَّ :
إن ُ
والقول
ِ
األص��ول، ِ
بمباحث األص���ول ،وأص��ولاً عام ًة مشتبك ًة ِ
ال أ َّنها ِفي خدمتِها مفصل ًة لها ذلك إ َّ أخص ِمن َ ُّ وأخرى
َ
مبين ًة تار ًة ومكمل ًة تار ًة أخرى.
تغيب عنهاحكم ،وال ُ ٌ يعزب عنها
ُ ِ
الشريعة ال ُ
فمنظومة
ِح ٌ
كمة.
وهي مقصدُربىَ ، ِ
للمقاصد الك َ َ
األصوليون وقد َّ
تفطن
ِ
التكليف، ِ
مبحث ِ
واالمتثال يف ِ
االبتالء العبادة ومقصدُ ِ
كما اهتم الشاطبي بمقصد وضع الشريعة ابتداء لمصالح
العباد ومقصد االستخالف وغيرهما من أنواع المقاصد
التي ال تتولد عنها فروع وقد سماها ابن عاشور بالعالية
أحيا ًنا.
يتجدد عطاؤُ ه
ُّ زاخ���را
ً ُ
ي��زال ال ِ
المقاصد َ بحر
لكن َ َّ
ِ
اتجاهين: وذلك ِفي
َ وبخاصة ِفي قضا َيا الفروع المتجدِّ دة
291
تظهر
ْ ولم
الماضيْ ، ِ ِ
الزمن يقم موج ُبها ِفي لم ْ قضا َيا ْ
الشاطبي ُّ أشار ِ
إليه كما َ ِ
الزمان َ فقام ِفي َ
هذا إليهاَ : ُ
الحاجة َ
مقتضاها َ يكن
لم ْ الصحابة أحكا ًما ِفي قضا َيا ْ ِ ِفي إحداث
ِ
نوازل يكن ِمن ولم ْ والسالم ْ ُ عليه الصال ُة قائما ِفي زمنِه ِ ً
وتضمين الصناع. ِ العلم
ِ ِ
وتدوين ِ
المصحف كجمع
ِ زمانِه،
حسب عبارتِه. َ
لكن َّ العلماء،
ُ فيها
فاختلف َ َ ق��ام موج ُبها َ وقضا َيا
هذا ِ
المفاسد يف َ ترج ِحالمصالح أ ِو ُّ
ِ ِ
رجحان ِ
مقتضيات
المرجوح.
ِ ِ
بالقول َ
األخذ ِ
الزمان اقت ََضت
الحب نجدُ ه عندَ العلماء ٌ ٌ
وطريق واضح
ٌ مذهب
ٌ وهذا
أرجح ِمنُ هو َ
يأخذون زما ًنا بقول َ ِ
المذاهب ِ
مختلف ِمن
ثم يهجرو َنه ٌ
واحتياطَّ ، ٌ
عزيمة ُ
واألخذ ُبه ُ
الدليل ُ
حيث
البلوى وعس ِر االحرتا ِز والمش َّق ِة الحق لعمو ِم َ ٍ ِفي ٍ
وقت
ِ
المفسدة . ِ
ودرء ِ
المصلحة ِ
وفوات
ِ
بقول ِ
الزمن ردحا مِن ِ
األحناف في أخذهم ً
ُ ِ كما َ
فعل َ
ِ
لمقتضيات األئمة يف بعض المسائل ،وعد ُلوا ع ْن َ
ذلك ِ
ِ
القرآن والعلو ِم ِ
تعليم االستئجار ع َلى ِ الزمان ،فأجازوا ِ
مع ِ
االرتحال َ المرأة مِن
ِ الشرعية ،وكإجازتِهم امتنا ِع ِ
292
هذا الزمان قدْ فسدُ وا ،وقضايا كثيرة مِن َ ِ أهل ألن َ زوجها؛ َّ ِ
اختالف
َ زمان ال ٍ خالف
َ ِ
الخالف بعض النوعِ ،وجعلوا َ
ٍ
وبرهان. دلي ٍل
ِ ِ
جريان العملِ، لقاعدة أصلوا َّهم َّ أمَّ��ا المالكي ُة فإن ْ
الغرب ِ ِ
ب�لاد مالك ع َلى ضوئِها فِ��ي ٍ مذهب فراج ُعوا
َ
يه َع ْن عم ِل يختلف فِ ِ
ُ طر ٌ
عمل لكل ُق ٍ فكان ِّ َ اإلسالمِي،
فاس وقرطب َة وتونُس ،فأعم ُلوا ٍ المجاور ،كعم ِل ِ ِ
القطر
راجحها إ َذا ترج ِ
المصالح
ُ حت َّ األقوال وأهم ُلوا ِ َ ِ ضعيف
َ
وحكموا الغوادي والروائحِ ، ِ ِ
المقاصد وماسوا َم َع رياحِ
ُ ُ
سبب من ِ ٍ ِ
لعروض القول الصحيحِ ِ بتقديم الضعيف ع َلى ِ ِ
مفسدة . ٍ مصلحة أو ِ
درء ٍ جلب ِ
ْ
جرى ْ
عمل إن َ الضعيف ْ َ وقدِّ م
َّصل قد ات ْ سبب ِ ٍ ِبه ِمن ِ
أجل
ِ
السعود. قال فِي مراقِي كما َ َ
الرجحان فِي مئاتِ ِ َ
تعديل ِ ِ
ور َّتبوا ع َلى هذه القاعدة
الشخصيةَ ،
دون ِ ِ
واألحوال ِ
المعامالت المسائلِ ،ك ّلها فِي
يجوز إجرا ُء العم ِل نصوا فيها على أنَّه ال ِ ِ
ُ العبادات التي ُّ
ترك الجم ِع فِي واحدة هي ُ
َ
ٍ ٍ
مسألة فيها مع أهنم أجروه يف َ
293
المطر فِي عم ِل أه ِل فاس ،قال ناظم «عمليات فاس»: ِ
بالقرويين جرى واألندلس
عملهم بترك جمع يا ندس
والمراد بالقرويين واألندلس :عدوتا مدينة فاس.
يتعلق بالمفتِي مجرى العملِ: واشرت ُطوا شرو ًطا َ
منها َما ُ
الذي مِن أجلِه
يعرف السبب ِ
َ َ للفتوىْ ،
وأن َ مِن كونِه أهلاً
ِ
القول الضعيف(.)1 ِ
القول الراجحِ إ َلى دل ِ
عن ُع َ
• مجاالت االستنجاد بالمقاصد :
االستنجاد
ُ المجاالت التِي ُ
يجب ِ وبنا ًء ع َلى َما تقدَّ م َّ
فإن
ٍ
مجاالت: تتمثل ِفي ثالثِة
ُ فيها واستثما ِرها ِ
بالمقاصد َ
إعمالِ ِ
ض��وء ِ
الفقه ع َلى ِ
أص���ول أولاً ِ :ف��ي تفعيلِ
لتوسيع الدوائر األربع التي ذكرناها ِ المقاصد ِفي بنيتِها؛
ِ
ِ
االستحسان يف المشهد الثاين من هذا الكتاب وهي :دائرة
ِ
المئاالت األقيسة وم��راع ِ
��اة ِ ِ
واستنباط واالستصالح
ِ
والذرائع ،حتى ال تكون األصول عقيمة والفروع يتيمة... ِ
آخر َما أشر َنا ِ
إليه. إ َلى ِ
ويمكن أن نعرب عن إعمال المقاصد يف هذه الدوائر بأن
-1تراجع ال�شروط اخلم�سة لإجراء العمل يف كتابنا «�صناعة الفتوى وفقه الأقليات».
294
مراعاة المعنى المقصدي إما أن تكون بمعنى جزئي وهو
إلحاق فرع بأصل خاص يف محل مخصوص وهذا هو
القياس.
أو إحداث حكم يف محل بناء على كلي حيث ال يوجد
أصل خاص وهذا ما يسمى باالستصالح.
أو استثناء جزئي لمعنى يخصه من كلي ثابت بالدليل
وهذا هو االستحسان.
أو تغيير حكم عما يقتضيه الظاهر نظرا إلى المئاالت
وهذا ما يسمى سد الذرائع.
هذه االتجاهات األربعة هي بحق وحقيقة مجاالت
المقاصد ،وقد قدمنا اإلشارة إلى بعض أمثلتها وأهمها
االستحسان ،وصدق اإلمام مالك حيث يقول :إنه تسعة
ِ
النصوص ِ
عمومات تخصيص
ُ يتاح
أعشار العلم ألن به ُ
دعا ِفي العملِ وال وليس َ
ذلك بِ ً َ ِ
الشرعية وتقييد مطلقاهتا.
بدع َة ِمن النحلِ .
هذامسألة ِمن َ
ٍ عن ِ
إيراد العربي ْ ِّ أجاب أبو بك ٍر ُ
ابن َ وقدْ
عروضا؟ بقوله:ً تصير النقود
ُ هل ِ
الصياغة ْ ِ
مسألة النوع ِفي
ِ
متوعدٌ
َّ ِ
عليه منصوص
ٌ ِ
العلماء :الر َبا جماعة ِمن
ٌ َ
«وقال
295
تعارضت ْ مستنبطة ،فقدْ ٌ والمصالح
ُ فيه ،والمقاصدُ ِ
متفق عليها ٌ منصوص َ ٌ وهي الربا َ إحداهما قاعد ُة ِّ ُ ِ
قاعدتان:
ٌ
مستنبطة وهي
والمقاصدَ ، ِ المصالح
ِ والثانية قاعد ُة ُ ِفيها.
رجح قاعد ُة أن ُت َّ يتساويان؟ فضلاً َعن ْ ِ فكيفَ فيها
مختلف َ ٌ
المصالح والمقاصد؟ ِ
ٌ
جماعة. َ
القول هذا واستهول ََ
منصوصا ِ
عليه ً وإن َ
كان فإن الر َبا ْ سمح؛ َّ ٌ والجواب ِ
فيه ُ
والمحال، ِ ِ
األحوال عام ِفي وهي الزياد ُة فإ َّن ُه ٌّ َ ِفي ذاتِه،
سةالمؤس ِ ِّ بالقواعد ِ َ
فكيف ِ
بالقياس صص يتخ ُ والعموم َّ ُ
العامة»(.)1 َّ
الحاجي هذا المفهو َم إسحاق الشاطبي َ َ أصل أ ُبو وقدْ َّ
َّ ُّ
«ومما ينبنِي ع َلى َّ األصولي قائلاً :ِّ
واض ًعا إيا ُه فِي ِ
إطاره
هذا األص ِل قاعد ُة االستحسان»(.)2 َ
جزئية فِي ٍ ٍ
بمصلحة ��ذمالك :األخ ُ ٍ ِ
مذهب وه َ��و فِي
ِ
االستدالل ِ
تقديم الرجوع إ َلى
ُ مقابِ ِل دلي ٍل ك ِّل ٍّي .ومقتضا ُه
يرجع إ َلى ْ لم القياس ،فإِ َّن َمن استحس َن ْ ِ المرس ِل ع َلى َ
-1ابن العربي ،القب�س .820 /2
-2املوافقات . 193 /5
296
ِ علم مِن مجر ِد ذوقِه وتشه ِ
قصد رجع إ َلى َما َ َ يه ،وإن ََّما ِّ َّ
ِ
تلك األشياء المفروضة . ِ أمثال َ ِ ِ
الشار ِع في الجملة ،يف ِ
ذلك أن َ ال ّ فيها أم ً��را؛ إ ّ القياس َ ُ يقتضي ِ كالمسائ ِل التِي
ِ ِ ِ ِ
أخ��رى ،أو األم َ��ر ي��ؤ ِّدي إ َلى ف��وات المصلحة من جهة َ
هذا فِي األصلِ: َّفق َ وكثيرا ما يت ُ ً مفسدة كذلك. ٍ ِ
جلب
ُ
فيكون مع التكميلِ ِّي؛ والحاجي َ ُّ الحاج ِّي، ِ معالضروري َ ُّ
��روري ي��ؤ ِّدي إ َل��ى حرجٍ ِّ القياس مطل ًقا فِي ال��ض ِ إج��را ُء
وكذلك َ موضع الحرجِ ، ُ موارده ف ُيستثنَى بعض ِ ِ ومشقة فِي ٍ
مع التكميلِ ِّي، فِ
الضروري َ
ِّ التكميلي أو ِّ معَ الحاجي
ِّ ي
ظاهر.
ٌ وهوَ
كالقرض مثلاً فإنَّه ِربًا فِي ِ ول ُه فِي الشر ِع أمثل ٌة كثيرةٌ:
أبيح لِما أجلٍ ،ولكنَّه َ بالدرهم إ َلى َ ِ الدرهم
ُ األصلِ؛ أل َّن ُه
بقي لو بحيثُ ، ن المحتاجي ى ل ِ
والتوسعة ع َ ِ
الرفق ن يه مِ فِ ِ
َ ْ َ
ضيق ع َلى المكلفي َن. ذلك ٌ لكان فِي َ َ ع َلى أص ِل المن ِع
ِ ِ
الرطب بيع
تمرا؛ فإن ُه ُ بخرصها ً َ العرية ومث ُله ُ
بيع
ِ
بالنسبة الرفق ورف ِع الحرجِ ِ فيه مِن باليابس ،لكنه أبيح لما ِ ِ
ُ َ َ
امتنع مطل ًقا لكان وسيل ًة لمن ِع َ والم َعرى ،ولو المعري ُ ِ إ َلى
المتنع
َ ِ
القرض امتنع فِي َ النسيئة ِ
لو ِ أن ر َبا كما َّ اإلعراءَ .
297
ِ
الوجه . الرفق مِن َ
هذا ِ ُ
أصل
وجمع ِ
للمطر ِ
والعشاء ِ
المغرب الجمع بي َن ومث ُله
ُ ُ
السفر الطويل، ِ والفطر فِي
ُ وقصر الصالة، ُ المسافر،
الخوف . ِ وصال ُة
والقرض ُ التداوي، ِ العورات فِي ِ االطالع ع َلىُ ومث ُله
المنع ،وأشيا ُء الدليل العام ِ
يقتضي ُ وإن َ
كان والمساقاةُْ ،
َ ُّ
هذا القبي ِل كثيرةٌ. مِن َ
فإن حقي َقتَها هذا السبيلِ؛ َّ صات التِي ع َلى َ الرتخ ِ ُّ وسائر
ُ
المآل فِي تحصي ِل المصالحِ أو درءِ ِ ِ
اعتبار ترجع إ َلى
ْ ُ
ِ
الدليل العا ُّم يقتضي ُ حيث َ
كان الخصوصُ ، ِ المفاسد ع َلى ِ
هذا الدلي ِل العا ِّم أل َّدى مع أص ِل َ ذلك ،ألنَّا ْلو بقينَا َ منع َ َ
فكان مِن َ ِ
المصلحة، الدليل مِن ُ ذلك إ َلى رف ِع َما اقتضا ُه َ
المآل إ َلى أقصا ُه . ِ رعي َ
ذلك ِ
الواجب ُ
هبذه القول ِ ِ ِ
صحة األدل��ة ال��دال َِّ��ة ع َلى ِ نمط مِن هذا ٌ
مالك وأصحا ُبه. القاعدة ،وعليها بنَى ٌ ِ
إيثار ِ
تفسير االستحسان« :بأنَّه ُ ِ العربي فِي ِّ قال اب ُن وقدْ َ
ِ
والرتخيص، ِ
االستثناء طريقِ مقتضى الدلي ِل ع َلى َ ِ
ترك
بعض مقتضياتِه». ِ يعار ُض بِه فِي لمعارضة ما َ
ِ
298
ِ
األيمان للعرف ،كر ِّد ِ ترك الدلي ِل ثم جعله أقسا ًما :فمن ُه ُ َّ
ِ
األجير ِ
كتضمين ِ
إ َل��ى العرف .وتركُه إلى المصلحة، ِ
كإيجاب الغر ِم ع َلى َمن َ
قطع ِ المشرت َِك .أو تركُه لإلجماعِ،
القاضي .وتركُه يف اليسير لتفاهته لرفع المشقة ِ ذنب ِ
بغلة َ
اليسير في ِ ِ ِ
وإيثار التوسعة على الخلق ،كإجازة التفاض ِل
اليسير. ِ وصرف فِي ٍ ِ
وإجازة بي ٍع ِ
الكثيرة، ِ
المراطلة
االستحسان عندنَا وعندَ ُ وق��ال فِي أحكا ِم القرآن: َ
استمر الدليلين ،فالعمو ُم إ َذا ِ بأقوى ُ ِ
َّ العمل َ الحنفية َ
هو
تخصيص ِ
يريان فإن مال ًكا وأ َبا حنيف َة والقياس إ َذا ا َّطر َد؛ َ
َ ُ
ٍ ِ بأي دلي ٍل َ
ظاهر ْأو معنَى. كان من العمو ِم ِّ
بالمصلحة ،ويستحس ُن أبو ِ خص مالك ْ ويستحس ُن ٌ
أن ُي َّ
بخالف ِ ِ
الوارد ِ
الصحابة الواحد مِن ِ يخص ِ
بقول أنحنيف َة ْ
َّ
ونقض الع َّلة .وال َ ِ
القياس تخصيص ِ
ويريان م ًعا القياس، ِ
َ
الذي ثبتت تخصيصا .وهذا ِ الشافعي لع َّل ِة الشر ِع إ َذا ْ َيرى
ً ُّ
اقتصار ع َلى ٍ مآالت األحكا ِم مِن ِ
غير ِ نظر فِي هو ٌ ال َ قا َ
والقياس العا ّم»(.)1 ِ مقتضى الدلي ِل العا ِّم َ
تدخ ُل لما تقدَّ م مِن كال ِم الشاطبي فأقول :قدْ ُ ونتيج ًة َ
ِّ
-1ال�شاطبي ،املوافقات .209 - 205 /4
299
يكون عمو ًما ُ ِ
الغالب تخصيص عمو ٍم ،وفِي ِ الحاج ُة فِي
ضعي ًفا ،كإجازة مالك تالوة القرآن للحائض ،والحيض
جنابة ،وإجازة ابن قدامة للسفتجة مع ما فيها من مفهوم
«قرض جر نف ًعا» للمصلحة ،وإجازة الشافعية لبيع أرزاق
الجند قبل قبضها ،وهم ال يجيزون البيع قبل القبض.
عليها ��ون الجزئي ُة ال���وار ُد أن ت��ك َ الضعف ْ ِ ومعنَى
َ
ويختلف فِي دخولِها فِي ُ ِ
الصور، ِ
نوادر التخصيص مِنُ
حكم العا ِّم. ِ
قال فِي مراقِي السعود: َ
َاد ٌر فِي ِذي ال ُع ُمو ِم َيدْ ُخ ُل هل ن ِ ْ
َف ُينْ َق ُلومـــــط َل ٍق ْأو ال ِخال ٌ ُ
ِ
لندرة ببال المتك ِّلم ال يخطر غال ًبا ِ ِ
بالنادر َما َ ويعنِي
ُ
تجوز المسابق ُة ع َلى الفيلِ، ُ بعضهمَ :
ال قال ُ وقوعه ،ولذا َ ِ
سبق إلاَّ
ال َ ذلك قوله ﷺ « َ واألصل فِي َ ُ بعضهم. وجوزها ُ َّ
خف». فِي ٍّ
ِ
اإلثبات قال زكر َّيا :وج ُه عمومِه مع أن ُه نكر ٌة واقع ٌة فِي
خف»، كان فِي ٍّ إن َ ال ْالتقدير «إ ّ
ُ
الشرط معنًىِ ،
إذ ِ أنَّه فِي ح ِّي ِز
300
تعم(.)1 سياق َّ والنكر ُة فِي ِ
الشرط ُّ
ِ ِ
نسى، ال َت َ للقرآن ،حتَّى َ الحائض مالك تالو َة ٌ وأجاز
َ
ص لعام. مخص ٌ ِّ وهو
َ
ليست مِن ْ ص الحاج ُة َ -
وهي تخص ُ ِّ كيف
قلتَ : وإ َذا َ
ِ
الكتاب ِ
وظواهر ِ
نصوص صات اللفظية ِ -مِن المخص ِ
َّ
ِ
والقياس؟ ِ
وغيرها كاإلجما ِع والمفهو ِم بنوعيه ِ والسن ِّة
التخصيص للمعنى وه��و مقصد ُ يعزى قلت :إنَّما َ ُ
معروف فِي ٌ أمر
وذلك ٌ َ ِ
الحاجة، التيسير المعتمد ع َلى
عن الشاطبِ ِّي. المذهبين الحنفي والمالكِي كما تقدَّ م ِ ِ
ِّ ِّ
المسائل التِي َ أن ِ
هذه ِ
عليه َّ ينبغي التنبي ُه وإن ال ِ��ذي ِ َّ
تخصيصا كانت
ْ للحاجة؛ فإنَّها ْ
وإن ِ أجازها َ أجازها َمن َ
ً
ِ
والنهي ِ
للقرآن، ِ
الجنب ِ
قراءة النهي ع ْن ِ مِن العمو ِم فِي
القبض؛ فإنَّه ِ قبل والنهي َعن بي ٍع َ ِ يجر نف ًعا، قرض ُّ ٍ ع ْن
حديث َ المخصوصة؛ َّ
ألن ِ ضعيف فِي المسائ ِل ٌ عمو ٌم
حديث ُ وهو ِ جنابة ِ ِ ِ الجنب جا َء فِي ِ
الحائضَ ، غير معرض
لراوي بالنسبة ِ ِ ِ
النادرة ِ
الصورة ِ
بمنزلة الحيضُ َ
فكان علي،
ٍّ
الحديث.
� -1سيدي عبد اهلل ن�شر البنود 208/ 1وما بعدها.
301
تشتمل ُ السفتجة -وهي منفع ٌة َ
ال ِ فإن استثنا َء وكذلك َّ َ
َ
بالنسبة للمتك ِّلم؛ فإنَّه ِ ِ
النادرة ِ
الصور ع َلى زيادة -مِن
باألصالة الزياد َة ِ جر النف ِع فإنَّه يعنِي عند َما يتحدَّ ُ
ث َعن ِّ
ف ذلك .وع َلى هذا نبه ابن قدام َة مِن طر ٍ نحو َ أو الهد َّي َة أو ِ ِ
ْ َّ ُ
بخصوصها. ِ تحريمها أي ِ نص فِي قال :إن ُه َ خفي عند َما َ
ال َّ ٍّ
نوادر أن ِ
ذلك في مسألة األرزاق ،ومعلو ٌم َّ ِ ِ مثل َ و ُق ْل َ
َ
كما أسل ْفنا(.)1 ِ مختلف فِي ِ
دخولها في العمو ِم َ َ ٌ الصور
فهل يمكن أن يقال إن النهي عن التصوير ال يشمل
الصورة الفوتغرافية ألهنا صورة نادرة غير موجودة يف
ذلك العصر فال تكون مشمولة بالعموم أو اشرتاكها معها
من باب االشرتاك اللفظي غير المؤثر كخنزير الماء كما
يقول ابن رشد يف البداية.
الفقه ،ولكنَّ ُه سيجدِّ ُده ِ ذلك ل ْن يغ ِّير بناء أص ِ
��ول إن َ َّ
َ َ
ويمنحه الحيوي َة الالز َمةَ. ُ
ِ
تقديم اجتهاد مستق ٍل ٍ سيتاح هذا التفعي ِل ِ
وفِي ضوء َ
ُ ُ
االجتهاد ،التِي ِ ِ
آليات ِ
خالل الجديدة مِن ِ فِي القضا َيا
ِ
االقتصادية ِ
المشكالت كل استيعاب ِِّ ستكون قادر ًة ع َلى ُ
-1ينظر كتابي «�صناعة الفتوى».
302
ِ
دراسة ينطلق مِن ُ الذي المناط ِ ِ ِ
تحقيق ِ
واالجتماعية ،بعدَ
بكل تعقيداتِه. الواق ِع ِّ
المناسبة التِي تح ِّق ُق المقاصدَ ِ ِ
األق��وال اختيار
ُ ثان ًيا:
��ت نسبتُها كانت مهجورةً ،ما دام ْ ْ الشرعيةَ ،حتَّى ول ْ��و
ودعت إليها الحاجةُ. ْ ثقة، صحيحةً ،وصادر ًة عن ٍ
ْ
اشرتطها المالكي ُة للعم ِل َ الشروط الثالث ُة التِي ُ هي
تلك َ َ
بالضعيف.
قوي بسبب ظهور دليله ضعيف ع َلى ٍ ٍ ترجيح ٍ
قول ٍّ قول ُ
وهذا أو كثرة القائلين به ،فيرجح عليه القول الضعيفَ ،
ِ المقصد فِي
ِ قو ِة
الوقت الرتجيح كما أسلفنَا يعتمدُ ع َلى َّ ُ
الحاضر. ِ
ٍ
أبواب. هذه المعايير سأضرب أمثل ًة مِن ِ
عدة فألطب َق ِ
ُ َ َّ
قبل الحج مثلاً مسأل ُة الرمِي َ ِّ ففي بالعباداتِ : ِ ألب��د َأ
العلم ،وقدْ ِ لقول ِ
أكثر أه ِل ِ مخالف ٌ قول ال��زوال وهو ٌ ِ
ِ
والفقهاء الصحابة والتابعي َن ِ العلماء مِن ِ بعضقال ِبه ُ َ
ابن أبِي شيبة، عباس عندَ ِ ٍ منقول َعن ِ
ابن ٌ فهو
اآلخري َن؛ َ
وعطاء فِي ٍ وقول طاووس ُ الزبير عندَ الفاكِهي، ِ ابنوع ْن ِ
اهلل عنه، ِ ِ إحدَ ى الروايتين ،واإلم��ا ِم
رضي ُ َ الباقر محمد
303
ابن عقي ٍل قول ِ وهو ُ والرواي ُة المرجوح ُة َعن أبِي حنيفةََ ،
والرافعي من الشافعية. ِ
الحنابلة، الجوزي مِن ِ
وابن
ِّ ِّ
وجها بأن األيام كلها وقت رمي وخرج إمام الحرمين ً
فلو رمى يف أي يوم منها كان أداء وصح رميه وهو وجه
غريب.
يدل الذي ُّ القول الراجح فيستندُ إلى فع ِل الشار ِع ِ ُ أما
ُ
ِ
الزوال . أي بعد وجوب الرمي يف هذا الوقت؛ ْ ِ على
الواجب، ُ الحج منهاِّ َ
أفعال مجمل؛ َّ
ألن ٌ وفعل الشار ِع ُ
خالف َ كالتحصيب مثلاً ،وقدْ ِ الجائز،
ُ ومنها السنَّة ،ومنها
وأقرهم الرتتيبَّ ، ِ عليه الصال ُة والسال ُم فِي بعضهم أفعا َله ِ ُ
حرج.
ال ْ ذلك قائلاً ْ :
افعل و َ ع َلى َ
بعضهم نسبه ابن جرير باإلضافة إلى أن الرمي سنَّ ٌة عندَ ِ
إلى أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها.
ِ
األفعال ِ
وجوب ودالل ُة «خذوا عني مناسككم» ع َلى
ِ األمر مِن
ِ ِ لما فِي ِ ضعيف ٌة مِن
الخالف داللة وجهين :أولاً َ :
والقدر والوقف
ُ والندب الوجوب عشر قولاً : ِ
ففيه اثنا
ُ ُ ُ َ
والتفصيل ..إلخ.ُ ُ
المشرتك
الحج ومستحباتِه. ِّ ِ
بسنن مخصوص
ٌ و«مناسككم» عا ٌّم
304
ِ
المواصالت ُ
وسائل عصرٍ أما الواقع :فكثر ُة الحجاجِ فِي
هلكت ْ الزمان فأ َّدت لزحا ٍم َ ِ
وقاربت َ
المكان ِ
ضيقت ِ
فيه
ِ
وتضاعفت المشقةُ. األنفس ِ
فيه
ُ
األنفس إحدى ِ الشرعي :المحافظ ُة ع َلى المقصدُ
ُۡ َ اَ ُّ َ ۡ ُ ُ ٓ ْ َ ُ َ ُ ۡ َّ هَّ َ اَ َ
الضرورات }ول تقتلوا أنفسك ۚم إِن ٱلل كن بِكم
ِيما{ (النساء.)29: َرح ٗ
َ َ ُ
التيسيرَ }:و َما َج َعل َعل ۡيك ۡم ُ اآلخر:
ُ الشرعي
ُّ المقصدُ
ِ ج{ اآلي ُة مِن َ ّ
الحج ،)78وال ِّ (سورة ِين م ِۡن ح َر ٖ ۚ يِف ٱدل ِ
الحج بدلي ِل «افعل وال حرج» ،وأدل ٌة ِ
فريضة س َّيما فِي
ِّ
كثير ٌة ال تحصى.
النتيجةُ:
راجحا ومتعينًا ً الشرعي
ُّ القول المرجوح َجعله المقصدُ
قبل الزوال. فيجوز الرمي َ ُ
ُ
قوي بسبب ظهور دليله ضعيف ع َلى ٍ ٍ ترجيح ٍ
قول ٍّ قول ُ
وهذا أو كثرة القائلين به ،فيرجح عليه القول الضعيف َ
ِ المقصد فِي ِ قو ِة
الوقت الرتجيح كما أسلفنَا يعتمدُ ع َلى َّ ُ
ِ
الحاضر .
القول الراجحِ ِ إن مكان َة أق��ول لطلبتِي َّ ُ ولهذا فإنَّي َ
305
ِ
عليه محفوظةٌ ،وحقو َقه مصونةٌ؛ لك َّن المقاصدَ تح ُكم
تختفي التقاعد ،ريثما ِ ِ ال تحي ُله إ َلى إجازة ،و ٍَ بالذهاب فِي
ِ
َ
ِ ِ
الضعيف مكانَه . ُ ُ
القول تبوأ المصلح ُة التي من أجلِها َّ
النظر فِي الدلي ِل ِ ميزان يتم َّث ُل فِي
ٍ يحتاج إ َلىُ األمر
ولك َّن َ
ظاهرا يكون إ َّ
ال ُ الذي قدْ َ
ال القول الراجح ِ ُ الذي يستندُ ِ
إليه ِ
ً ُ
قياسا ْأو فعلاً محتملاً . ْأو ً
ُ
يكون الثبوت قدْ ِ وأيضا مِن ِ
جهة الداللةً . ِ هذا مِن ِ
جهة
ونحوه. ٍ
آحاد خربَ
َ
يكون مِن أه ِل َ يجب ْ
أن ُ
ِ
الضعيف ِ
بالقول َ
القائل إنثم َّ َّ
ألن ُيقتدَ ى هبِم. أهل ْ رفت مكانتُهم ،وأنَّهم ٌ العلم الذي َن ُع ْ ِ
متاحاْ ،بل ومتعينًا . بالمقصد ً َ الرتجيح
ُ ُ
يكون َ
وبذلك
هذا النو ِع فِي مختلف عشرات المسائ ِل مِن َ ُ ولدينا
الفقه وال س َّيما يف المعامالت التي تستندُ إلى ِ ِ
أب��واب
ِ
الضرورات. لة منزل َة المنز ِ
الضرورات والحاجات َّ ِ
تفعيل النظرية المقاصدية فِي وضع فلسفة إسالمية ُ ثال ًثا:
شاملة تجيب على األسئلة التي يطرحها العصر يف مختلف
القضايا الكربى التي تشغل اإلنسان وشغلته منذ القدم يف
الكون والنظم السياسية واالقتصادية واالجتماعية لتفسير
306
مختلف الظواهر اإلنسانية ومظاهر العالقات وتقديم
قوانين عامة تنطلق من ثنائية الوحي والعقل.
وهي فلسفة تبدأ بإرساء المنهج وتحرير المفردات
وعقد المقارنات ووضع الكليات بعد استقراء الجزئيات
ودراسة التجارب البشرية والمقوالت المتنوعة ،بغض
النظر عن االتفاق واالختالف معها آخ��ذة يف االعتبار
ضرورات الحياة وحاجياهتا يف كل زمان ومكان.
ولعل سلوك المجتمع ومؤسساته وعالقة الفرد هبا
ونوع السلوك اإلنساين يف الجملة هو الجانب الذي ال
يزال يحوم حوله الباحثون.
والمباحث الفلسفية كثيرة ومتنوعة بتنوع قضايا
واهتمامات اإلنسان المعرفية والروحية والمادية يف
محاولة إليجاد قانون ما يكون مرتكزا لحكم ما أو مقاربة
من نوع ما تؤسس لتوجه أو تفسر ظاهرة أو سلوكًا.
المجال السياسي:
��ورى ِ
م��ي��دان ال��ن��ظ ِ
��م؛ ك��ال��ش َ وي��ج��د ذل��ك تطبيقه يف
ِ
المجالس النيابية وأنواع التمثيل ِ
وانتخاب ِ
والديمقراطية
المباشر وغير المباشر.
307
إن نظام الشورى يصب يف جدول واحد هو «العدالة» يف َّ
أن توفر لإلنسان ما نقدر ونظن َّ
أن اإلسالم ،والتي بإمكاهنا ْ
الديمقراطي َة تبحث عنه من إسعاد ،وما نظن أهنا لم تصل
إليه َبعدُ باعتبار الديمقراطية كالشورى وسيلة وليست
غاية ،والديمقراطية محطة من محطات اإلبداع اإلنساين
وليست هناية التاريخ ،فالبحث عن إسعاد اإلنسان إذن هو
هدف مشرتك للديمقراطية والشورى م ًعا.
والشورى نظام متعدد األوج��ه واألشكال قائم على
دعامتين ،دعامة الرتاضي ودعامة العدل ،وهو بحث
دائم عن األفضل للوصول إلى األمثل ،وليس لمصلحة
األكثرية دون األقلية ،بل لمصلحة الجميع.
ي��ؤخ��ذ على ال��ش��ورى أهن��ا ل��م تتجسد ت��اري��خ�� ًي��ا يف
مؤسسات محكمة صادة عن االستبداد مانعة من حيف
الحكام ،ونحن ال ننكر الحاجة إلى ذلك ،ولكنها يف وقت
فاعلية النظام اإلسالمي أعطت أفضل ما يمكن يف وقت
ما من التاريخ بحسب الزمان واإلنسان إال أنه يجب أن
ينظر إليها كموجه وليس كنظام مفصل ،واإلنسان مكلف
شر ًعا بصياغة ذلك النظام طب ًقا للموجهات الكربى التي
308
يجب أن تتضافر ليكون نظام شوري وهي :العدل الذي
يستبعد حيف األكثرية األثنية أو الدينية على األقلية من
أي نوع .والرتاضي الذي ال يفرز أقلية ساخطة كما هو
حال الديموقراطية ،إننا من خالل نظام شوري حقيقي
يمكن أن نداوي ذلك الخلل.
إن مقاصد الشريعة هي النرباس لتكوين مثل تلك
الفلسفة.
كثيرا وثناء جميال
لقد قالوا عن الديموقراطية شي ًئا ً
ومنه :إن الديمقراطية هي النظام الذي يعرتف باألفراد
والجماعات بوصفهم ذوا ًتا ،أي النظام الذي يحميهم.
والديمقراطية تتحدد على نحو أوضح باألعداء الذين
تقارعهم أكثر مما تتحدد بالمبادئ التي تدافع عنها.
ينبغي تحديد الديمقراطية ال بوصفها تغ ُّلب الجامع
وال��ش��ام��ل على الخصوصيات ،ب��ل بوصفها مجمل
الضمانات المؤسساتية التي تتيح الجمع بين وحدة
العقل الوسائلي وبين تنوع الذاكرات ،الجمع بين التبادل
والحرية .فالديمقراطية هي سياسة االعرتاف باآلخر(.)1
-1يراجع يف ذلك كتاب �أالن تورين «ما هي الدميوقراطية» من�شورات دار ال�ساقي ط.2
309
هذا أفضل ما يقال عنها إال أن بعضهم يقول -الفيلسوف
أن الديمقراطية لم الفرنسي أالن باديو « :-والحقيقة ّ
تستطع أن تخ ّفف حدّ ة العنف داخل المجتمعات الغربية
إال بواسطة تحويل هذا العنف إلى الخارج.
الواليات المتحدة األمريكية هي يف حالة حرب شبه
دائمة منذ قرن ونصف ،إذا اعتربنا ،1918 - 1914
حروب التحرير ،حرب كوريا ،حرب فيتنام ،العراق،
الصراع الفلسطيني -اإلسرائيلي ..دون أن ننسى الحروب
الثانوية حيث تتدخل الديمقراطيات َك َي ٍد ثانية ،إهنا لكذبة
أن نقول إنه بفضل الديمقراطيات نحن نعيش يف عالم بال
عنف .الديمقراطية لم تنه العنف بل صدّ رته إلى الخارج
ألنّه إذا كانت ساحة ديمقراطية خاضعة للرأسمالية تريد
نسبي.
البقاء ،عليها أن تكون ساحة رخاء ّ
إن مسارات الديمقراطية كما هي ال تكفي الحتواء ّ
الصراعات والصدامات الطبقية الناجمة عن الفوارق
يتحول ذلك إلى عنف ،يجب ّ االجتماعية ،ولكي ال
إيجاد نوع من الرخاء يظهر وكأنه ال يوجد يف أماكن
أخرى .ويجب حماية هذا الرخاء ..هكذا يولد مفهوم
310
ّ
التدخالت الحماية ،القوانين ضدّ المهاجرين األجانب،
إن العنف صاحب عملية تراكم الرأسمال العسكريةّ ...
البدائي وظهور الديمقراطيات ،أ ّما االزدهار الرأسمالي
فقد كان على حساب شعوب ،منها التي أفنيت تماما،
وقد وقعت حروب ومجازر ال حصر لها .وهذا العنف ما
مستمرا ،وال يمكن له إال أن ينمو ويتسع يف ظروف
ً زال
كهذه...
يتم استخدام مبادرات جديدة سياسية صدقني إذا لم ّ
مروعة.
وشعبية ،فإننا نسير نحو حروب ّ
هل معنى ذلك أن نتخلى عن الديمقراطية؟
فرنسي ،أع��رف أنني أتمتّع بالكثير منّ كمواطن
االمتيازات ،إذن أطلب فقط أن نعي ثمنها الباهظ ،والذي
يزداد ارتفاعا يوما بعد يوم.
لقد أثرت -منذ قليل -عدد ضحايا الشيوعية ،نستطيع
أن نجيب ،إنّه ومنذ الخمسينات من القرن الماضي ،قتلت
الواليات المتحدة وحلفاؤها يف الغرب من الناس ما لم
تفعله أي بالد أخرى .إنني عائد من إسرائيل وفلسطين
حيث رأيت هذا الجدار الذي يمتدّ على طول الض ّفة..
311
ما الذي لم نفعله تجاه حائط برلين؟ واآلن نبني جدرانا
كل مكان ،فلسطين المكسيك ...وبعدد من القتلى يف ّ
الحديدي (نسبة
ّ إن الستار يضاهي قتلى الشيوعيةّ ..
للعالم الشيوعي السابق) كان يمنع الناس من الخروج..
والجدران األمنية الحالية تمنعهم من الدخول ..األنظمة
تورد العنف للداخل ،والديمقراطية تصدّ ره... االشرتاكية ّ
أن ت��ك��ون ج�لاد ش��ع��وب أخ���رى ع��وض��ًا ع��ن شعبك
بالتحديد ،هل هذا أمر مح ّبذ فعلاً ؟»(.)1
وي��ق��ول الفيلسوف األل��م��اين ل��ي��و س��ت�راوس« :إن
الديمقراطية هي استبداد العدد األكرب» ،وفعال فإنك ترى
األكثرية ولو كانت بنسبة قليلة من األصوات المعرب عنها
تستأثر بالحكم والثروة واألقلية محرومة ومضطهدة وقد
يدوم ذلك وقتًا طويال حيث يستعمل الحزب الحاكم كل
الوسائل للبقاء يف الحكم.
أال يحق لنا أن نوجد نظا ًما مستوحى من مبدإ الشورى
ومقصد العدالة األعلى؛ إليجاد حل أفضل ،ونعنى
بالديمقراطية والشورى حقيقة النظامين ال الصور المزيفة
-1مقابلة Liberationالثالثاء 27يناير 2009م .
312
والمنافقة كتلك االنتخابات التي تمثل ديمقراطية الواجهة
يف بعض النظم العربية(.)1
يف المجال االقتصادي:
يمكن اعتبار مقاصد الشريعة يف المعامالت المالية
ممثلة للفلسفة اإلسالمية للمعامالت يف اإلطار الجامع
الناظم لمختلف فروعها ،بينما تعترب األحكام الفقهية
التفصيلية لمختلف األبواب والمتعلقة بالعقود وشروطها
والتي تنشأ عنها الصحة والبطالن بمنزلة التشريعات.
إن موقف الشريعة الفريد من المال ينسجم مع الحقيقة
التي عليها يقوم بناء هذا الدين من أن الكون كله ملك هلل
جل وعال فليس المال فقط وإنما اإلنسان أيضا يف كل
اَ ُ ۡ َّ
وحركاته}:قل إ ِ اَن َصل يِت تقلباته وتصرفاته وسكناته
رَ َ َ هَّ َ ّ ۡ َ ٰ َ اي َو َم َم َي َ َ حَ ۡ َون ُ ُ
شيك ِ ل ١٦٢ ني م
ِ ل ع ٱل ب
ِ ر ِ للِ اتيِ م و ك يِ س
ني( {١٦٣األنعام162 : ت َو َأنَا ۠ أَ َّو ُل ٱل ۡ ُم ۡسلِم َهَ ُلۥ َوب َذٰل َِك أُم ِۡر ُ
ِ ۖ ِ
.)163 -
بقدر ما يخضع اإلنسان كيانه لهذه الحقيقة يكون
صالحه وتمام النعمة عليه ورضاهَ } :و َما أِلَ َحد ع َ
ِندهۥُ
ٍ
-1راجع كتابنا «حوار عن بعد حول حقوق الإن�سان».
313
َََ َۡ ٰ اَّ ۡ َ ٓ َ َ ۡ َ ّ أۡ َ لۡىَ ّ ۡ َ جُ ۡ
ت َز ٰٓ
ى ١٩إِل ٱبتِغاء وجهِ ربِهِ ٱلع ٢٠ولسوف مِن نِعمةٖ
ض ( {٢١الليل.)19-21 : يَ ۡر ىَ ٰ
إن هذا الموقف يجعل اإلنسان مستخل ًفا وفر ًعا وليس َّ
فإن حريته يف التصرف مضبوطة أصلاً يف الملكية ولهذا َّ
بالضوابط التي يضعها المالك األصلي.
أن ُتراعىأن المصلحة العامة يجب ْ ومعنى ذلك عمل ًيا َّ
يف النظام االقتصادي مما يستلزم إمكانية بل أحيانًا ضرورة
أن تكون ممثلة للمصالح تدخل الدولة التي يفرتض ْ
العامة ،مما قد يتناىف مع الرأسمالية المتوحشة المتمثلة
يف مذهب آدم اسميث واتباعه من أمثال فريديريك هايك
القائمة على النأي بالكلية عن أي تدخل للدولة انطال ًقا
من فكرة «اليد الخفية للسوق» وتطبي ًقا لمبدأ الحرية
المطلقة للفرد واستبعاد قانون األخ�لاق والقيم عن
المنظومة االقتصادية بعكس النظرة اإلسالمية.
وقد حاولت تطبيق الرؤية المقاصدية يف كتابي «مقاصد
المعامالت وم��راص��د ال��واق��ع��ات» فضربت أمثل ًة يف
اتجاهين :يف اتجاه جمود المجامع الفقهية يف موضوعات
314
فيها سعة .ويف اتجاه اجتهادات مقاصدية غير منضبطة
لبعض لجان الفتوى يف المجال االقتصادي.
وقد تناولت مجموعة من القضايا الملحة جعلتها
التضخم ،ومسألة بيع دين السلم ُّ موضو ًعا للدراسة وهي:
العوضين .ومسألة عقود لغير من هو عليه .ومسأل ُة تأجي ِل ِ
الخيارات .وعقود المستقبليات ،والتأمين ،واإليجار
المنتهي بالتمليك ،فلينظر هناك.
فقـه األقليــات :
ِ
الجمهور فسخ فمذهب
ُ وزوجها نصراينٌّ: ُ تسلم
ُ المرأ ُة
ِ
الممتحنة ُ
الدليل آي ُة ِ
انقضاء العدَّ ة؛ فورا ْأو بعدَ
ُّ اَ َّ ٞ اَ ۡ ىَ النكاح؛ إ َّما ً
َ حَ ُ ّ ُ َّ ُ
ج ُعوه َّن إِل ٱلكفارِۖ ل ه َّن حِل ل ُه ۡم َول ه ۡم يِلون
ُ َ اَ َ ۡ
}فل تر ِ
َ
ل ُه َّنۖ{ (الممتحنة.)10 :
قرار المجلس األوربي - :إسالم المرأة وبقاء زوجها
على دينه:
بعد اط�لاع المجلس على البحوث وال��دراس��ات
المختلفة يف توجهاهتا والتي تناولت الموضوع بتعميق
وتفصيل يف دورات ث�لاث متتالية واستعراض اآلراء
الفقهية وأدلتها مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله ومقاصد
315
ال��ش��رع ،وم��ع م��راع��اة ال��ظ��روف الخاصة التي تعيشها
المسلمات الجديدات يف الغرب حين بقاء أزواجهن
على أدياهنم ،فإن المجلس يؤكد أنه يحرم على المسلمة
أن تتزوج ابتداء من غير المسلم ،وعلى هذا إجماع األمة
سل ًفا وخل ًفا ،أما إذا كان ال��زواج قبل إسالمها فقد قرر
المجلس يف ذلك ما يلي:
أولاً :إذا أسلم الزوجان معا ولم تكن الزوجة ممن
يحرم عليه الزواج هبا ابتداء «كالمحرمة عليه حرمة مؤبدة
بنسب أو رضاع» فهما على نكاحهما.
ثان ًيا :إذا أسلم الزوج وحده ،ولم يكن بينهما سبب من
أسباب التحريم وكانت الزوجة من أهل الكتاب فهما
على نكاحهما.
ثال ًثا :إذا أسلمت الزوجة وبقى الزوج على دينه فيرى
المجلس:
أ -إن كان إسالمها قبل الدخول هبا فتجب الفرقة حالاً .
ب -إن كان إسالمها بعد الدخول وأسلم الزوج قبل
انقضاء عدهتا،فهما على نكاحهما.
ج -إن كان إسالمها بعد الدخول ،وانقضت العدة ,فلها
316
أن تنتظر إسالمه ولو طالت المدة ،فإن أسلم فهما على
نكاحهما األول دون حاجة إلى تجديد له.
د -إذا اختارت الزوجة نكاح غير زوجها بعد انقضاء
العدة فيلزمها طلب فسخ النكاح عن طريق القضاء.
راب ًعا :ال يجوز للزوجة عند المذاهب األربعة بعد
انقضاء عدهتا البقاء عند زوجها ،أو تمكينه من نفسها.
ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها
بكامل الحقوق والواجبات الزوجية إذا كان ال يضيرها
يف دينها وتطمع يف إسالمه ،وذلك لعدم تنفير النساء من
الدخول يف اإلسالم إذا علمن أهنن سيفارقن أزواجهن
ويرتكن أس��ره��ن ،ويستندون يف ذل��ك إل��ى قضاء أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب يف تخيير المرأة يف الحيرة
التي أسلمت ولم يسلم زوجها« :إن شاءت فارقته وإن
شاءت قرت عنده» ،وهي رواية ثابتة عن يزيد بن عبد
اهلل الخطمي .كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب إذا أسلمت النصرانية ام��رأة اليهودي أو
أيضا رواية
النصراين كان أحق ببضعها ألن له عهدً ا ،وهي ً
ثابتة .وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي والشعبي
317
وحماد بن أبي سليمان».
أمير ِي المؤمني َن الروايات عن َ ٌ قلت :فإذا ثبتت هذه
عنهما اهلل ُ
رضي ُ َ
ٍ
طالب بن أبِي وعلى ِ ِّ ِ
الخطاب عمر ِ
بن َ
الدين ب ُن تيمي َة بقا َء النكاحِ ِ تقي
ويرى ُّ الزهريَ ،
ّ وهو رأى
ال يقرهبَا ،وهذه الفتوى ليست عرية أن َ يفسخ ع َلى ْ ْ لم
َما ْ
ِ
رسول اهلل ﷺ ِ عن الدليل األصلي وهو قضي ُة زينب ِ
بنت َ
األو ِل ع َلى الصحيحِ . ِ ِ
ر َّدها ألبِي العاصي بالعقد َّ
نساء خرج َن ٍ خاصة فِي
ٍ ٍ
بحالة تتعلق
ُ ِ
الممتحنة وآي ُة
ِ
الحرب. بدينه َّن مِن ِ
دار ِ فرارا
ً
ِ
بعض الحكم عندَ ِ يمنع عمو َم ُ السبب قدْ ِ وخصوص
ُ
عليه المازري فِي شرحِ الربهانِ الفقه .نص ِ ِ ِ
أصول ِ
علماء
َّ
وغيره ،وممن قال بذلك أبو الفرج من المالكية وقال به من
الشافعية المزين والدقاق والقفال وبه قال أبو ثور وحكاه
أبوحامد االسفرايني عن مالك وأشار ابن خويزمنداد إلى
اختالف قول مالك يف هذا استقراء من اختالف قوله يف
غسل اآلنية التي ولغ فيها كلب وفيها طعام.
غير الز ٍم. جائزا َ نكاحا ً النكاح ً ُ ُ
فيكون
غير تحت أزواجٍ َ َ ِ
الغرب الواقع :نسا ٌء يسلم َن فِي
318
الرجل زوجتَه ُ يتبع ِ
كبارا في الس ِّن وقدْ ُ مسلمي َن ،أحيانًا ً
كما ور َد الفراق فقدْ ترتدُّ َ ُ عليهما رض ِ فِي اإلسال ِم ،فإ َذا ُف َ
هبذا المعنَى. سؤال مِن أمري َكا َ ٍ فِي
ِ
بحمد اهلل وانتشار اإلسال ِم ِ
العالم ُ
تواصل هو
ُ الجديدُ َ :
ِ
النساء. وبخاصة بي َن تعا َلى
َّ
والتبشير .والمحافظ ُة ع َلى ُ التيسير
ُ الشرعي:
ُّ المقصدُ
ِ
التنفير. الدين مقصدٌ أع َلى ،وعد ُم ِ
يكفي قال :إنَّه ِ المقصد اب ُن تيم َّية عندما َ ِ وقدْ انتب َه َ
لهذا
أسلمت.ْ زوجها إ َذا
َ ُ
ستفارق تعلم أهنَا
أن َ تنفيرا ْ
ً
ه��ذا قرار وك��ان َ َ زوج��ه��ا. ِ ��ع ُ ِ
ج��واز بقائها م َ النتيجةُ:
واإلفتاء خال ًفا للمجام ِع ِ ِ
للبحوث المجلس األور ِّب��ي ِ
األخرى. ِ
الفقهية
َ
ٍ
بقروض ِ
الغرب بيوت فِي ٍ والقائم ُة طويلةٌ :منْها اشرتا ُء
ِ
والنخع ِّي. مذهب أبِي حنيف َة ِ البنوك اعتما ًدا ع َلى ِ مِن
ِ
المعامالت، وهناك قضا َيا جديد ٌة أخرى من أن��وا ِع َ
غير المسلمي َن وعيادتِهم وتعزيتِهم؛ اعتما ًدا هتنئة ِ وجواز ِ
مذهب اإلما ِم أحمدَ ،والتِي أ َّيدها ِ الثالثة فِي
ِ ِ
الرواية ع َلى
319
ِ ِ كما فِي ِ
للمرداوي(.)1 اإلنصاف اب ُن تيمي َة للمصلحة َ
ٍ
بمعيار الفتاوى وضبطِها َ
ِ
مراجعة ولهذا فإنِّي أد ُعو إ َلى َ
لوزن المش َّق ِة ِ فحص الواق ِع ِ ثالثي األضالعِ ،يقو ُم ع َلى ِّ
ثم ِ ِ ِ ِ ِ
والحاجة التي تطب ُعه ،وتقويم العناصر المستحدثةَّ ،
ينطبق ُ الذيخالل النص الجزئِي ِ ِ حكم مِن
ٍ البحث َع ْن ُ
ِّ ِّ
إبراز ثم ُ ِ ِ ِ ِ عليه إ َذا ُوجدَ َ ،مع ِ
فحص درجته ومرتبة حكمهَّ ،
كقصد التيسير مثلاً ،أو ِ الشرعي كُل ًيا أو عا ًما ِ
المقصد
ِّ
هذا ِ
الفرع ،وم ْن خالل َ ُ رجع إليه بالباب الذي َي ُ ِ خاصا ً
هي صناع ٌة مركب ٌة ِ ِ ِ
الفتوى التي َ َ تصدر
ُ الدقيق المعيار
وليست بسي َطةً. ْ
عادلة لكنَّ ُه من ��رط راب�� ٍع خ��ارج الم ِ باإلضافة إلى ش ٍ ِ
َ ُ
قرر النتيج َة ِ لوازمها وهو َّ
هندس هذه العملية الذي ُي ُ أن ُم َ
بصيرا بالمصالحِ الش ِ
ريعة رتاضا يف َّ يكون ُم ً َ أنيجب ْ
ً ُ
بتوازنات َمن ُظو َمتِها ،وقد آثرنا ُ عتربة فيها ُم ِ
تمر ًسا الم ِ
ُ
ُمصطلح االرتياض على مصطلح االجتهاد لئال نصطدم
بشروط االجتهاد الصعبة التحصيل من جهة ولتسهيل
اإلفتاء يف هذه القضايا إذا ضبطت بمعاييرها ،وهي كلمة
320
استعملها المالكية يف مسألة تمييز المصالح واالعتماد
على المقاصد.
ٍ ِ
العناصر قدْ يؤ ِّدي إ َلى إهمال أي مِن ِ
كارثة هذه َ ٍّ إ ْذ َّ
أن
مخالف لروحِ
ٌ َ
وذلك ٍ
سياسية، ٍ
اجتماعية ْأو ٍ
اقتصادية ْأو
ِ ِ ِ الشر ِع وم��ي ِ
العدل واإلح��س��ان } َو َأق��ي ُ��م��وا ا ْل َ
���و ْز َن ��زان
ط{ (الرحمن.)9: بِا ْل ِقس ِ
ْ
تكوين فقهاء مقاصديين فِي دوراتٍ ِ كما أد ُع��و إ َلى
ِّ َ َ
ِ ٍ
َّسم بروحِ الجد َّية واالنفتاحِ والتواض ِع لتحصي ِل مكث َّفة تت ُ
ِ
الشريعة. المرتاض فِي معانِي
ِ العال ِ ِم
خاتمة
لقد لخصنا يف هذا الكتاب الوجيز :الحد ،والتعريف،
ووسائل التعرف على المقاصد ،وتصنيف المقاصد،
وتصريف أوجه الفوائد الذي دعوناه باالستنجاد لتوليد
الفروع ،وتخريج األحكام الجزئية ،اسرتشا ًدا بالمقاصد
أو اعتما ًدا عليها ،وضبط كيفية التعامل ،وتجنب معوقات
العمل هبا.
وإذا استعملنا اللغة األصولية لوصف ما تقدم قلنا:
إن وسائل التعرف مسالك ،ويمكننا أن نضيف إليها
321
االستنجاد باعتبار ما قدم فيه إنما هو أمثلة للمسالك
تأصيلاً وتفصيلاً وتفري ًعا وتفعيالً ،ووصفنا عملية ضبط
التعامل بالمقاصد -التي تشخص معوقات التعامل -بأهنا
تعامل مع القوادح فتكون للمقاصد مسالك ٌ يف حقيقتها
ولها قوادح كما للعلة يف األصول مسالك وقوادح.
قد مرت بك أيها القارئ تعاريف كثيرة للمقاصد وكلها
صحيح وقاصد ،لكنها تعرب عن زوايا مختلفة ورؤى يف
مرايا متنوعة .فمن التعاريف ما يتسم بالعموم واإلجمال،
ومنها ما يتصف بالشمول والتفصيل.
فمن األول تعريف أبي حامد الغزالي :فرعاية المقاصد
عبارة حاوية لإلبقاء ودفع القواطع ،،وهو هناك يتحدث
عن المقصود الذي ينقسم إلى ديني ودنيوي .فالمطلوب
تحصيله وإب��ق��اؤه هو المصلحة والمعرب عنه بجلب
المنفعة ،وانقطاعه هو المضرة.
فالمقاصد حينئذ منافع تجلب ومضار تتجنب .وقد
شرح الشاطبي ذلك َّ
بأن القصد بالتشريع إقامة المصالح
األخروية والدنيوية.
وهذا النوع من التعاريف العامة أشرنا إلى بعضه تحت
322
عنوان «المقاصد الكربى» من تعريف ابن رشد والدهلوي
وغيرهما.
أما التعاريف المفصلة والشاملة ،فمعنى الشمول فيها
أهن��ا :محيطة بأنواع القصود الكلية والجزئية ،ومعنى
التفصيل أهنا :لم تقتصر على الحكم واألسرار والغايات
التي ترتأى من خالل النص؛ بل اعتربت مجرد الطلب
أمر ًا وهنيًا مقصد ًا ،بناء على طلب اإليقاع واالمتناع.
ولهذا فقد أكدنا على أهمية االنطالق من التعريف
اللغوي للمقاصد إلحاطته وشموله وت��راب��ط مراتب
المقاصد فيه وتساندها وتعاضدها ب��دءا من المقصد
االبتدائي إلى المقصد الثاين ،ومن المقصد الجزئي إلى
الكلي ،ومن األصلي إلى التابع ،ومن الخصوص إلى
العموم ،وهي معان متداخلة.
ولعل ما نقلناه عن اإلمام الشاطبي يف تصنيفه للمقاصد
يوضح المنحى الذي نحينا إليه ،وبذلك ننأى قليال يف
بحثنا هذا عما حاول البعض تأس ًيا باألستاذ ابن عاشور
ِ
والح َكم الملحوظة من تعريف المقاصد بأهنا :المعاين
للشارع يف جميع أح��وال التشريع أو معظمها ،بحيث
323
خاص من أحكام ٍّ تختص مالحظتُها بالكون يف نو ٍع ّ ال
الشريعة.
أوص���اف الشريعة وغايتُها العا َّم ُةُ فيدخل يف ه��ذا ُ
التشريع عن مالحظتِها.
ُ والمعانِي التِّي َ
ال يخ ُلو
ليست ملحوظ ًة ْ الحكممعان من ٍِ أيضا ُ
ويدخل يف هذا ً
ٍ
كثيرة يف سائر أنواع األحكام ،ولكنَّها ملحوظ ٌة يف أنوا ٍع
()1
منها
ألن ذلك محمول على المقاصد الكلية وليس تعري ًفا َّ
لمقاصد الشريعة بإطالق ،وطب ًقا للتعريف الذي اخرتناه
كان التصنيف شاملاً لما أشرنا إليه من جزئي وكلي وعام
وخاص.
إال أن التصنيف ك��ان يلتفت إل��ى زاوي��ة أخ��رى هي
موضوع المقاصد ومحتواها.
وبالنسبة للتصنيف فالشيء الذي ينبغي أن نالحظه
ويعلق بالخاطر هو أولاً أن المقاصد مراتب بحسب
وظائفها فمنها ما سماه بعضهم بالمقاصد العالية التي
ال تولد فرو ًعا ألهنا ال تنتج أحكا ًما جزئية لكنها تحدد
-1الطاهر ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة 165 /3 :حتقيق ال�شيخ احلبيب بلخوجة.
324
موجهات وقوانين عامة تؤسس لفلسفة إسالمية ذات
تأثير غير مباشر على أحكام الفروع كمقصد االستخالف،
أن الشريعة لمصالح العباد ومقصد عمارة ومقصد َّ
الكون ،ومقصد العدل لما يستتبعه من وضع إطار للرؤية
الكونية ولسلوكيات اإلنسان يف شتى المجاالت وبخاصة
يف النظام األسري والمجتمعي ونظام الحكم واالقتصاد
وال��م��ج��ال اإلن��س��اين وه��ي م��ج��االت تحكم قواعدها
المباشرة المقاصد الكلية المولدة للتشريع التي تمثل
السقف والمظلة لمجاالت التشريع المختلفة .ويتعلق
األمر هنا بالمقاصد الثالثة الكربى التي يرى الشاطبي أهنا
كلي الكليات وأنه ال منتهى وراءها وأن الكليات األخرى
إنما هي جزئيات بالنسبة إليها بما يف ذلك أصول الفقه
نفسها وهو يشير بذلك إلى بعدي الشمول والعموم،
ولذلك فإن المقاصد العامة أو الخاصة األخرى تنتمي
إليها بشكل من األشكال وتنضوى تحت لوائها بصورة
من الصور ،فالمقاصد المالية مثال كالرواج والوضوح
والثبات والحفظ والعدل ترجع يف متعلقها إلى أحد
المقاصد الثالثة ،فهي بحسب أكادهتا أو تراخيها إما أن
325
تكون من الضروري أو الحاجي أو التحسيني ،وهنا يربز
الموضوع الثاين وهو معيار تصنيف الجزئيات يف سلم
الضروري والحاجي والتحسيني.
معيارا
ً ومحاولة لضبط كل واح��د منها فقد وضعنا
ثنائ ًيا يعتمد على وزن المصلحة من حيث الوجود -
للجزئية المستهدفة -والمفسدة من حيث العدم ،وميزان
النصوص الشرعية ذات العالقة يف جمع بين العز بن عبد
السالم الذي قال :إنه ال فرق بين هني وهني وأمر وأمر إال
بقدر المصلحة المستجلبة والمفسدة المدروءة ،وبين من
يقول إن عالمة وضع الشارع للحد هي المؤشر الذي يشير
على انتماء الفرع للضروري ويميز المقصد الضروري
عن قسيميه ،ويميز بين أنواع الضروري الذي هو متفاوت
يف كلياته مع االتفاق على أهنا كلها من الضروري وتبقى
مكوناهتا لتكون محل خ�لاف كالبيع وعالقته بحفظ
المال ،وكالنكاح يف عالقته بحفظ النسل ،وكالربا يف
عالقته بحفظ المال.
وقد أوضحنا أن أكثر جزئيات المقاصد ال مستقر لها وال
مستودع إال بميزان النصوص وأوزان المصالح والمفاسد،
326
وبالتالي فقد تجول يف سلم المنظومة المقاصدية بعض
الجزئيات كالبيع طب ًقا لمتعلقه وموضوعه.
وأما االستنجاد بالمقاصد فهو الثمرة التي يجنيها الفقيه
من مقاصد الشريعة والتي كانت يف منهجنا هذا ملتقى
الفروع باألصول إهنا استنباط للفروع من خالل المقاصد
بأدوات أصولية تضبط تعامل الفقيه وتحفظ عملية إعمال
فكره من الخطأ وتعصم بيانه من الخطل وتنظم إيقاع
خطاه يف االجتهاد فال يغلو يف إعمال مقاصد موهومة
أو معارضة بما هو آكد الختالف يف الرتبة أو الدرجة
كحاجي مقابل ضروري أو جزئي مقابل كلي.
و ُع ْجنا على آلية الرتجيح يف الفروع وبخاصة يف نطاق
مرجوحا لضعف الدليلً الحاجي العام لرتجيح قول كان
وليس النعدامه بناء على مقصد تأكد أو وضع تجدد.
وأخيرا :أشرنا إلى االستنجاد بالمقاصد يف صياغة ً
فلسفة إسالمية معاصرة تجيب على مختلف األسئلة يف
شتى المجاالت السياسية واالقتصادية واالجتماعية.
أن يكون وجيز ًاوهبذا نختم هذا الكتاب الذي أردنا ْ
حسب اإلمكان و ُملم ًعا إلى ما وراءه من بيان ألنه كان
327
منص ًبا على موضوع العالقة بين أصول الفقه ومقاصد
الشريعة من زاوية تطبيقية من خالل تفعيل المقاصد عن
طريق أبواب أصول الفقه كما تقدم يف مناحى االستنجاد
إال أن المنهجية اقتضت التعريف والتعرف والتصنيف.
وعلى اهلل قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
328
330