در الثقافة نهاني نهاينيييييييييي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 19

‫جامعة عبد المالك السعدي‬

‫األستاذ‪ :‬وديع جعواني‬


‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫السنة الدراسية‪2019-2018 :‬‬
‫مارتيل‬
‫درس‪ :‬الثقافة الحضرية والثقافة القروية‬ ‫شعبة الفلسفية وعلم االجتماع وعلم‬
‫النفس‬
‫الحصص‬ ‫سير الدروس‬ ‫المحاور الكبرى‬

‫‪-1‬التفكير السوسيولوجي‪ /‬األنثروبولوجي في التحضر منذ اليونان؛‬


‫‪-I‬الثقافة مكون‬
‫‪-2‬األبعاد السوسيولوجية للثقافة؛‬
‫‪ 3‬حصص‬ ‫انثروبولوجي‬
‫‪-3‬األبعاد االنثروبولوجية للثقافة‪.‬‬
‫وسوسيولوجي‬

‫‪-1‬ابن خلدون والتمييز بين ثقافة البدو والحضر؛‬


‫‪-2‬دوركايم والتمييز على أساس التضامن؛‬
‫‪ -II‬الثقافة الحضرية‪/‬‬
‫‪ 3‬حصص‬ ‫‪-3‬البيروقراطية الفيبيرية والثقافة الحضرية الجديدة؛‬
‫المدينية‬
‫‪-4‬مدرسة شيكاغو‪ ،‬الهجرة والتنوع الثقافي الجديد؛‬
‫‪ -5‬زيمل والثقافة الحضرية‪.‬‬
‫‪-1‬الثقافة الريفية في علم االجتماع الفرنسي‪ :‬ماندراس وليفبغ؛‬ ‫‪ -III‬الثقافة‬
‫حصتين‬
‫‪ -2‬الثقافة القروية في السوسولوجيا المغربية‪.‬‬ ‫الريفية‪/‬القروية‬
‫‪-1‬التلفاز ودورها في انتشار الثقافة السائدة‬
‫‪-2‬شبكات التواصل ودورها في نشر الثقافة الخاصة(ثافة األقليات‬
‫‪-IV‬الثقافة في ظل‬
‫حصتين‬ ‫والثقفتة القروية)؛‬
‫العولمة‬
‫‪-‬مانويل كاستيل وتأثير المعلوميات على الثقافة‪.‬‬

‫‪-1‬الثقافة الحضرية في السوسولوجيا المغربية؛‬


‫‪-3‬الثقاة القروية في المرحلة االستعمارية وما بعد االستعمار وفي‬ ‫‪-V‬الثقافة الحضرية‬
‫حصتين‬ ‫األلفية الثالثة‪.‬‬ ‫والقروية بالمغرب‬

‫‪1‬‬
‫المحور األول ‪ :‬الثقافة مكون انثروبولوجي وسوسيولوجي‪.‬‬
‫ال يمكن الحديث عن الثقافة من دون استحضار مركبات ؛ الدين والطقوس؛ اللغة والتواصل؛ العالقات القرابية؛ اللباس‬
‫واالحتفاالت؛ وشكل السكن والتحضر وغيرها‪ ،‬من األبعاد التي يصعب الفصل فيها بين اإلنساني‪/‬الذاتي واالجتماعي مع‬
‫البيئي‪/‬العمراني‪ .‬مكونات يتداخل فيها الكمي والكيفي‪ ،‬الثابت و المتغير‪ ،‬الشمولي والمحلي‪ ،‬الظاهر والخفي‪ ،‬الجمعي والفرداني‪،‬‬
‫القابل لالنتشار‪/‬النقل والخاص‪ .‬ومنه فهي موضوع يتقاسمه علمين (االنثروبولوجيا والسوسيولوجيا)‪ .‬ويصعب الحديث عن حدود أو‬
‫نهايات‪ .‬فعلم االجتماع يدرس كل هذه الظواهر‪ ،‬كما أن االنثروبولوجيا تتخذ من اإلنسان الجماعاتي‪ /‬المجموعاتي‪ ،‬القبلي‬
‫و العشائري‪ ،‬ومن عاداته وقيمه وكل مظاهر حياته موضوعا مركزيا‪ ،‬وخاصة ذلك اإلنسان المختلف أو الثقافة المهمشة والبعيدة‪،‬‬
‫ألنها كعلم أسست في البداية من أجل دراسة المتوحش والبدائي والمتخلف‪.‬‬
‫‪-1‬التفكير السوسيولوجي‪ /‬األنثروبولوجي في الثقافة والتحضر منذ اليونان؛‬

‫إن ال تفكير في الثقافة والتحضر ال يمكن أن يستقيم من دون الوقوف عند لحظة اليونان‪ ،‬بما هي كتابة عميقة للتاريخ‬
‫اإلنساني(كل ما هو عظيم يولد عظيما)‪ .‬فمع أفالطون تشكل الوعي والفكر اإلنساني على مبادئ أخرى مختلفة لما كانت سائدة‪.‬‬
‫انتقد الوضع الراهن‪ ،‬ورأى ضرورة إحالل أخرى تقوم على أسس الدفاع عن الحق (حالة سقراط) وتعزيز الشجاعة ( محاورة‬
‫الخيس) والمثابرة في محاورة خارميندس والدفاع عن الخير والفضيلة ونقد األنانية (محاورات فيليب وبروتاغوراس وجورجياس)‪.‬‬
‫كما أن كتابه "الجمهورية" هو دعوة إلرساء ثقافة العدالة المطلقة والتنظيم العقالني للسلطة السياسية وللعالقات القرابية واالجتماعية‬
‫(مشاعية الجنس) وتراتبية السلطة وغيرها‪ .‬وهي نفس األفكار التي دافع عنها العدمي ديوجين الكلبي وإن كان بمنطق مختلف‪ .‬أما‬
‫أرسطو فقد سارع إلى إبراز األبعاد الثقافية لليونانيين في تلك المرحلة‪ ،‬سواء من الناحية السياسية(االكسيولوجية) أو‬
‫المعرفية(االبيستميولوجية)‪ ،‬ويتجلى ذلك من خالل "نظام الدولة"‪ ،‬حيث يرى أن النظام السليم والراقي يتحقق من خالل "دولة‬
‫المدينة" التي البد أن تضمن مجموعة من الشروط ‪:‬‬
‫‪ ‬توفير كافة المواد الغذائية ؛‬
‫‪ ‬توفر أدوات وآالت الفنون ؛‬
‫‪ ‬توفير السالح والعتاد العسكري للدفاع ؛‬
‫‪ ‬وجود إحتياطات من الثروات والعناصر المختلفة للحاالت الطارئة في الحروب ؛‬
‫‪ ‬وجود العنصر الديني من خالل الكهنة ؛‬
‫‪ ‬وجود مرافق عامة ؛‬
‫‪ ‬وجود رجال للقضاة‪.‬‬
‫ويرى أرسطو على أنه يجب أن يكون للمدينة موقع إستراتيجي من حيث أن يكون مالئما للصحة على أن يستقبل أشعة‬
‫الشمس من الشرق ويكون له منفذ على الجنوب ألن برده أيسر وأن تكون المدينة منظمة من الداخل حتى يؤدي السكان وظائفهم‬
‫بسهولة وأن تكون محصنة ومحمية من اإلعتداءات الخاريجية‪ ،‬ويجب العمل على تطوير وسائل الدفاع بإستمرار ويشترط أن ال‬
‫تكون المدينة كبيرة وعدد سكانها كبير بحيث يصعب تنظيمها وأن التكون صغيرة وعدد سكانها قليل فال يمكن لها عند ذلك أداء‬
‫مهامها وواجباتها بل يجب أن تكون متوسطة وأن يكون هناك تناسب بين مساحتها وسكانها حتى يعرف السكان بعضهم من خالل‬
‫الصدقات واألخوة وأيضا حتى ال يختل نظامها‪ ،‬وللمحافظة على عدد سكان أي مدينة من التزايد كان اإلغريق يعتمدون على تحديد‬
‫النسل من خالل اإلجهاض وإعدام المشوهين والضعاف من األطفال ‪.‬‬
‫هذا عند اليونان‪ ،‬أما في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬فال يمكن تجاوز الدور الذي يلعبه ابن خلدون في التفكير في التاريخ والمجتمع‬
‫ودراسته للفروق بين المجتمعات على أساس نظرية العمران والعصبية وتعاقب الحضارات‪ ،‬فقد اهتم بالتمييز بين الثقافة‬
‫والتحضر‪ ،‬وخصص لذلك قسما مهما من كتابه "مقدمة ابن خلدون حول العمران البشري والتمييز بين البدو والحضر"‪ ،‬والتي‬
‫تناول فيها العناصر االتية‪:‬‬
‫‪ ‬فصل حول أن أجيال البدو والحضر طبيعية؛‬
‫‪ ‬فصل في أن البدو أقدم من الحضر؛‬
‫‪ ‬فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر؛‬
‫‪ ‬فصل في أن أهل البادية شجعان وأهل المدينة جبناء‪.‬‬

‫إن التفكير في الثقافة كمكون انساني‪ ،‬لم ينضج بشكل عملي إال في فترة األنوار‪ ،‬عندما حاول األوروبيون فهم أسباب‬
‫الحروب والتفتت والصراع والتحكم‪ ،‬ومراجعة التفكير السائد‪ ،‬القائم على مركزية الدين واالستخالف اإللهي لذوي الكفاءات‬
‫الكاريزماتية "األمير" أو "النسبية" الملوك أو "االقتصادية" النبالء‪ .‬ومنه بدأ التفكير في الخروج من وضعية الحجر مع كانط‪،‬‬

‫‪2‬‬
‫والميل للخير مع روسو وللطبيعة العدوانية لإلنسان مع هوبر‪ ،‬والتي تحتاج إلى إعادة إخضاعها لسلطة الجماعة‪ ،‬وإرادتها‬
‫المتمثلة في اختيار حاكم يستطيع فرض الحق الجماعي ولو بالقوة‪.‬‬
‫‪-2‬الثقافة مكون انرثوبولوجي‪:‬‬
‫كانت الثقافة من خصوصيات االنثروبولوجيا منذ بدايتها ‪ ،‬لكن مع ذلك يصعب تحديد تعريف واضح للمفهوم‪ .‬فمصطلح‬
‫‪1‬‬

‫"الثقافة" لم يظهر في المعاجم واألدبيات الحديثة إال في القرن ‪ ،13‬وخاصة في القواميس الفرنسية‪ ،‬والذي ينحدر من الكلمة الالتينية‬
‫‪ ،cultiva‬التي يقصد بها العناية باألرض والماشية‪ .‬وبقي مرتبطا بالفالحة والزراعة إلى نهاية القرن السابع عشر‪ ،‬حيث بدأ الحديث‬
‫عن التمييز بين مفهوم الحضارة والثقافة‪ ،‬وأخذت الكلمة تتخذ معنى مجاز في القواميس‪ ،‬وخاصة في قاموس األكاديمية الفرنسية‬
‫نشرة ‪ ،1718‬ولقد كان هناك الصراع بين األدباء الفرنسيين واأللمان حول اختيار واستعمال المفهومين‪ ،‬الفرنسيين يميلون إلى‬
‫الحضارة واأللمان إلى الثقافة‪.‬‬
‫اهتم االثنولوجيوين التطوريوين البريطانيون وخاصة تايلور بتعرف المفهوم‪ ،‬ويعتبر أول من حاول تقديم تعريف علمي له‬
‫من خالل دراساته في المكسيك‪ ،‬وذلك عن طريق تفحص مفهوم "البقايا الثقافية"‪ ،‬والبحث عن أصول الثقافة وعن آليات تطورها‪،‬‬
‫وتوصل إلى تفسير ذلك في كتابه المرجعي حول الدراسات الثقافية "الثقافة البدائية" الصادر سنة ‪ .1871‬ويعتبر أول عالم‬
‫انثروبولوجي‪/‬اثنولوجي درس المفهوم بشكل نسقي وعام‪ ،2‬وتوصل إلى أن ثقافة الشعوب البدائية المعاصرة تمثل بصفة عامة الثقافة‬
‫األصلية الخاصة باإلنسانية‪ .‬حيث يرى أن الشعوب المتحضرة حتما مرت مما تمر منه الشعوب البدائية‪ ،‬وأن تطورها ال يمر‬
‫بالضرورة وفق نفس الوثيرة‪ .3‬وبذلك وضع تايلور تعريفه الشهير‪ ،‬والذي يمكن اعتباره تفسيرا تطوريا للثقافة‪ ،‬كونيا وخطيا‪ ،‬ومن‬
‫الضروري أن تمر كل الحضارات من نفس المرحلة البدائية‪ ،‬وبالتالي يميل أكثر إلى كونية الثقافة‪ .‬ولقد تناول الثقافة بالمفرد‪ ،‬ولم‬
‫يتحدث عن ثقافات‪.‬‬
‫إن التعريف الذي قدمه تايلور في كتابه "الثقافة البدائية‪ "1871‬هو ذلك الذي يقول فيه عن الثقافة‪ " :‬ذلك الكل المركب الذي‬
‫يشمل المعرفة والمعتقدات والفن واألخالق والقانون واألعراف والقدرات والعادات األخرى التي يكتسبها اإلنسان باعتباره عضوا ً‬
‫في المجتمع "‪ .4‬ومما يالحظ على هذا تعريف تايلور‪:‬‬
‫‪ ‬أنه وصفي وموضوعي وليس معياريا‪ ،‬وهذا ما كان يسعى إليه علماء اإلنسان بشكل عام؛‬
‫‪ ‬يعبر عن نظرة شمولية للحياة االجتماعية لإلنسان ؛‬
‫‪ ‬أن الثقافة وفق هذا التعريف تكتسب بعدا جماعيا ( باعتباره عضوا ً في مجتمع؛‬
‫‪ ‬أن الثقافة في نهاية مكتسبة‪ ،‬وبالتالي فهي ال تنشأ عن الوراثة البيولوجية‪.‬‬
‫إذا كان تايلور ينطلق من وجهة نظر تطورية وكونية ومبدع التعريف العلمي لمفهوم الثقافة‪ ،‬فإن األنثربولوجي األلماني‪-‬‬
‫األمريكي فرنس بواز ‪ Franz Boas‬سيتناولها من منظور تخصيصي‪ 5‬أو محلي‪ .‬فمن خالل دراساته لقبائل االسكيمو ودراساته‬
‫الميدانية لهنود كولومبيا البيريطانية حاول فهم أثر الوسط الطبيعي في مجتمع االسكيمو‪ ،‬وتوصل إلى أن االختالف بين المجموعات‬
‫البشرية ذو طبيعة ثقافية وليس عرقية‪ ،‬حيث انتقد مفهوم العرق‪ ،‬باعتباره مجموعة من السمات الطبيعية التي تخص مجموعة‬
‫بشرية‪ ،‬وقد أكد على غياب خصائص عرقية ثابتة‪ ،‬وانتقد مسألة الصلة بين السمات الفيزيائية والسمات الذهنية‪ ،‬ويرى أنه ال توجد‬
‫تباينات بيولوجية بين األوليين والمتأخرين‪ ،‬بل توجد اختالفات ثقافية‪ ،‬ومنه وضع مفهوم الثقافة في مقابل مفهوم العرق‪ .‬وكان‬
‫منهجه قائما على دراسة الثقافات بمعناها الجمعي ال الفردي‪ ،‬وقد انتقد نظرية العرق ونظرية التطور معا‪ .‬وأكد على النسبية الثقافية‪.‬‬
‫ويمثل االتجاه الثقافي في االنثروبولوجيا‪.‬‬
‫ومن أبرز أفكار بواز" الشخصية الثقافية"‪ ،‬ومن أهم كتبه "العرق واللغة والثقافة"‪ ،‬والذي يؤكد فيه على أن اللغة والثقافة‬
‫يلعبان دورا محددا في االختالفات بين الشعوب أهم من الوراثة‪ .‬ولقد واصلت تلميذتاه روث بنديكت ومارغريت ميد البحث في‬
‫ميدان الثقافة‪ .‬فاألولى من خالل دراساتها وضعت ما يسمى بالمدرسة الثقافية أو الثقافة والشخصية ‪personnalité et culture‬‬
‫لكونها ركزت على البعد الثقافي في الحياة االجتماعية‪ ،‬ويعد كتابها "أنماط الثقافة‪ "1943‬األكثر تأثيرا في االنثروبولوجيا الثقافية‪،‬‬
‫واعتبرت أن الثقافة هي المحدد لشخصية الفرد‪ ،‬فكل ثقافة تقدم أجوبة لمشاكل أفرادها ولكل ثقافة خصوصيتها‪.‬‬
‫تأخر االهتمام االنثروبولوجي الفرنسي بمفهوم الثقافة‪ ،‬نظرا ألن الفرنسيين كانوا يفضلون استعمال مفهوم الحضارة عوض الثقافة‪،‬‬
‫ونظريا للصراع االيديولوجي بين األلمان والفرنسيين‪ ،‬والذي تجلى في اختيار المفاهيم‪ .‬في فرنسا كان االهتمام بالثقافة محدود‪،‬‬
‫ولقد حاول ستراوس أن يعرف الثقافة من منظور بنيوي‪ ،‬ووضع لها تعريفا‪ ،‬باعتبارها‪" :6‬مجموعة من األنساق الرمزية التي‬

‫‪ - 1‬بربريك‪ ،‬رحال‪ ،2014 ،‬مدخل إلى االنثروبولوجيا‪ ،‬دار ابي رقراق للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ ،1‬ص ‪.76‬‬
‫‪ - 2‬كوش‪ ،‬دونيس‪ ،2007 ،‬مفهوم الثقافة في العلوم االجتماعية‪ ،‬ترجمة منير السعيداني‪ ،‬ص ‪.33-32‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪- 4‬كوش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪- 5‬نفسه‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪- 6‬نفسه‪ ،‬ص ‪78‬‬
‫‪3‬‬
‫تتصدرها اللغة وقواعد التزاوج والعالقات االقتصادية والفن والعلم والدين" فكل هذه األنساق تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه‬
‫الحقيقة الطبيعية والحقيقة االجتماعية‪ .‬وكان االهتمام األمريكي أكثر نجاحا والتفاتة‪ ،‬وخاصة تيار األنثروبولوجيا الثقافية بالثقافة‬
‫بشكل واضح‪ ،‬بسبب أن أمريكا تتشكل من مزيد من األعراق واألجناس‪ ،‬مهاجرون‪ 7‬وسكان أصليون‪ .‬ولذلك تبنى األمريكيون‬
‫تعريفا إجرائيا للثقافة‪ ،‬باعتبارها "مجموعة من المواقف واألفكار والسلوكات المشتركة بين أفراد المجتمع‪ ،‬وأيضا النتائج المادية‬
‫لهذه السلوكات"‪.8‬‬

‫بعد المدرسة الثقافية ستظهر المدرسة الوظيفية‪ ،‬خاصة مع البريطاني البو لوني مالنوفسكي‪ ،‬والذي سينطلق من نقد موقف‬
‫المدرسة االنتشارية للثقافة‪ ،‬التي تختزلها في سمات تجمع وتوصف لذاتها من دون سياقاتها في النسق الشامل‪ ،‬حيث يرى على أن‬
‫لكل عاة ول كل شيء وفكرة ومعتقد وظيفية حيوية ما‪ ،‬وتضطلع بمهمة‪ ،‬وتمثل جزءا من الكلية العضوية غير القابلة للتجاوز‪ .9‬ولقد‬
‫نظر إلى الثقافة باعتباره كال متجانسا‪ ،‬كل عنصر ثقافي يؤدي وظيفة في تناغم مع باقي العناصر في إطار نسق كلي‪.‬‬
‫بعد ذلك ستظهر مدرسة الثقافة والشخصية‪ ،‬والتي سيكون من أهم رواده ادوارد سابير وروث بندكث تلميذة بواز ومارغريت‬
‫ميد‪ ،‬وكلهم يشتركون في نقطة أساسية‪ ،‬تقوم على أن نقد انتشار السمات الثقافية وتجاهلها الختالف تصرفات األفراد المرتبطة بكل‬
‫ثقافة‪ ،‬فالثقافة ال تفسر بخاصيات بيولوجية‪ ،‬بل بالمحددات الثقافية‪ .‬والفرد يتشرب منذ بدايته النموذج عبر نسق كامل من المحفزات‬
‫والنواهي‪ ،‬وبالتالي فالثقافة تتغير من مجتمع إلى آخر‪ ،‬بتغير أشكال التربية والضغط‪ .‬ويذهب لينتون وكاردينار كذلك إلى نفس‬
‫االتجاه‪ ،‬إال أنهم يتحدثون عن "الشخصية األساسية"‪ ،‬ويرون على أن كل شخص يكتسب ثقافة قومه ويصبح شخصا اعتياديا‪ ،‬ال‬
‫يختلف عنهم‪ ،‬هذا النمط االعتيادي هو ما ساماه ب" الشخصية األساسية"‪.‬‬
‫إذا كان تايلور يقدم تصورا كونيا للثقافة فان بواز ينطلق من تصور خاص ومحدود‪ ،‬فمن خالله بعتثه ودراسته لتأثير الوسط‬
‫الطبيعي في شعوب االسكيمو‪ ،‬توصل إلى أن التنظيم االجتماعي كانت تحده الثقافة أكثر من العناصر الطبيعية‪ .10‬ولقد كان مهووسا‬
‫باالختالف والنسبية الثقافية‪ ،‬ويتحدث عن الثقافات ال ثقافة واحدة‪ ،‬ففرانز بواس ‪ 1942-1858‬من أسرة يهودية ألمانية ذات تفكير‬
‫ليبرالي متأثر بالمسالة العنصرية درس الفيزياء والرياضيات ثم الفيزياء البشرية ثم االنثروبولوجيا بدا دراسته الميدانية لألجناس‬
‫واألعراف البشرية في شمال أمريكا "الثقافة تعبر بشكل خاص عن كون اإلنسان إنسان ويجب احترامها وحمايتها تتضح من خالل‬
‫اللغة والمعتقدات واألعراف والفن ‪ ...‬كما أنها المفهوم األصلح لتنوع البشرية ألنه ال وجود الختالف طبيعي بيولوجي بين‬
‫البدائيين والمتحضرين اال اختالف في الثقافة التي مفهومها يقابل مفهوم العرق"‪ .‬لهذا درس الثقافات بدل من الثقافة الواحدة معتمد‬
‫على المنهج االستقرائي الميداني‪.‬‬
‫‪-3‬التفكير السوسيولوجي في الثقافة‪:‬‬
‫داخل علم االجتماع يالحظ على أن الثقافة تتخذ معنى باعتبارها توجد في كل مكان وفي كل ما يهم الحياة اإلنسانية‪ ،‬فهي‬
‫بتعبير انغليز وهيوستن كل األفكار والمعتقدات والقيم‪ . 11‬يصعب تحديدها‪ ،‬فهي واحدة من المصطلحات التي تصف الحياة اإلنسانية‪،‬‬
‫لكنها تنفلت من كل تحديد‪ ،‬ويصعب تحديدها بتعريف واحد‪ ،12‬ولقد حاول اثنان من علماء اإلجتماع الفريد كروبر وكاليد كلوكهون‬
‫في خمسينيات القرن الماضي إحصاء الدالالت المتنوعة لكلمة ثقافة ولمفهوم حضارة ووجدوا أكثر من ‪ 164‬تعريفا‪ .13‬ويصفان‬
‫أربعة من بين التعاريف الحديثة للمفهوم في علم االجتماع ‪:‬‬

‫الثقافة العليا والفن والحضارة؛‬ ‫‪‬‬


‫تهذيب النفس ؛‬ ‫‪‬‬
‫المنتجات الثقافية كالكتب واألفالم؛‬ ‫‪‬‬
‫الحياة الكلية لمجموعة من األفراد‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫هذا ولقد حاول العالمان أن يقدما تعريفا للمفهوم من خالل ستة أجزاء‪:14‬‬

‫‪ ‬تتألف من أنماط فكرية وقيم ومعتقدات شائعة بين مجموعة من األفراد؛‬

‫‪- 7‬نفسه ‪ ،‬ص ‪.54‬‬


‫‪- 8‬بوبريك‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.81‬‬
‫‪ - 9‬كوش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪،58‬‬
‫‪ - 10‬نفسه‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ - 11‬انغليز‪ ،‬جون وهيوسون‪ ،‬جون‪ ،‬مدخل الى سيويلوجيا الثقافة‪ ،‬ترجمة لما نصير‪ ،‬المركز العربي لألبحاث ودراسات السياسيات‪ ،‬ط ‪ ،2013 ،1‬ص ‪.15‬‬
‫‪ - 12‬نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ 13‬نفسه‪ ،‬ص ‪16‬‬
‫‪- 14‬انغليز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.17-18‬‬
‫‪4‬‬
‫ثقافة مجموعة ما تميزها عن المجموعة األخرى‪ ،‬ثقافة األمة الفرنسية تختلف عن ثقافة طبقة اجتماعية كالطبقة العمالية‬ ‫‪‬‬
‫وتختلف عن ثقافة جماعة أثنية؛‬
‫تحتوي الثقافة على معنى‪ ،‬بواسطته يستط يع الفرد أن يفهم ويستوعب ويستجيب فكريا لما يدور من أمور؛‬ ‫‪‬‬
‫تتجسد األفكار والمعتقدات في الرموز؛‬ ‫‪‬‬
‫الثقافة تعلم‪ ،‬وتقل م جيل آلخر؛‬ ‫‪‬‬
‫الثقافة اعتباطية‪ ،‬فهي نتيجة للنشاط اإلنساني وليست من أفعال الطبيعة‪ ،‬معرضة للتغير‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫يعتبر التفكير في الثقافة عرضيا في علم االجتماع‪ ،‬لكن منذ بداية علماء االجتماع وهم يتناولون قضايا ال تبتعد عن المفهوم‪،‬‬
‫ويعتبر اميل دوركايم أول من تناول المفهوم في كتابه حول التربية األخالقية‪ .‬كما أن ماكس فيبر تناوله من خالل الدين البروتستانتي‬
‫ودوره في خلق ثقافة العمل واالستثمار واإلنتاج‪ ،‬بما هي بداية لظهور الرأسمالية كفر وممارسة وثقافة اقتصادية واجتماعية‪ .‬ومن‬
‫جهة أخرى تناول بيير بورديو المفهوم من خالل كتاباته عن التلفزة ونظرية إعادة اإلنتاج ونظرية الرساميل‪ .‬وإذا كان االختالف‬
‫سائدا بين علماء االنثروبولوجيا حول تحديد مفهوم الثقافة وحول خصائصه‪ ،‬بين التطوريين واإلنتشاريين والوظيفين‪ ،‬فان األمر بقي‬
‫سائدا حتى في علم االجتماع وخاصة الفرنسي منها‪ ،‬فبين من يرى أنها ذات طبيعة موحدة(دوركايم)‪ ،‬ومن يرى على انها مختلفة‬
‫ومتعددة(ليفي وبروهل ‪ ،)Levy-Bruhl‬ومن ينظر إليها بمثابة ايديولوجيا(ماركس)‪ ،‬ومن يرى أنها صناعة هدفها خلق ثقافة‬
‫جماهيرية(رواد مدرسة فرانكفورت)‬
‫أ‪-‬دوركايم والمقاربة الموحدة لظواهر الثاقفة‪ :‬لم يهتم بالثقافة بشكل أساسي ويمكن أن نصنفه ضمن األبحاث االنثربولوجية‬
‫الفرنسية‪ 15‬وضمن السوسيولوجيا‪ ،‬نظرا لما ساهم به من خالل مجلته الحولية االجتماعية سنة ‪ ،1897‬كما قدم من خالل مذكرته‬
‫حول مفهوم الحضارة مع مارسل موس‪ ،‬التي نشرت سنة ‪ 1913‬تصورا موضوعيا وال معياري للحضارة‪ ،‬من خالل التأكيد على‬
‫تعدد الحضارات من دون أن يعني إبطال وحدة اإلنسانية‪ ،‬ويقول" ليست حضارة شعب ما سوى مجموعة من ظواهره االجتماعية‪،‬‬
‫والكالم عن شعب جاهل أو من دون حضارة أو طبيعة هو كالم عن أشياء ال وجود لها"‪ .16‬ويرى أن الثقافة تسهم في األداء‬
‫المنسجم للمجتمع بأكمله‪ ،‬وقد انطلق من تفسيرات وظيفية للثقافة‪ ،‬و حاول الحديث عنها انطالقا من تفسيره لالغتراب أو الضياع‬
‫‪ ،anomie‬حيث يؤكد على ا نه من دون اإليمان بالمعتقدات التي تعززها المعايير الثقافية سيشعر الفرد بالضياع واالنعزال في‬
‫المجتمع الحديث‪ ،‬فوظيفة الثقافة هي الحفاظ على ضمان الحفاظ على األنماط اإلجتماعية‪.17‬‬
‫ب‪-‬ليفي وبروهل ‪ Levy-Bruhl‬والمقاربة االختالفية للثقافة‪ :‬يريان على أنه ال وجود لما يسمى ب" سوسيولوجيا الثقافة" لكن‬
‫الكثير من التيارات السوسيولوجية تتخذ من الثقافة موضوعا لها‪ ،‬بشكل أو بأخر‪ ،‬مثل السوسسولوجيا البنيوية أو نظرية الفعل‬
‫والسوسيولوجيا الظاهراتية وغيرها‪ .‬وانقسم رواد علم االجتماعي والفكر االجتماعي في أوروبا في القرن ‪ 19‬إلى اتجاهين رواد‬
‫الحركة التنويرية ورواد الحركة الرومانسية‪ ،‬األوائل وضعيون‪ ،‬واآلخرون يميلون إلى أهمية التأويل والخيال والتفكير في العلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬كان الفكر التنويري سائدا في فرنسا‪ ،‬من طرف أعمال كونت ودوركايم‪ ،‬أما الثاني فكان سائدا في ألمانيا من خالل أعمال‬
‫ماكس فيبر وماركس فليهليم دلتاي وهيردر وغيرهم‪.‬‬

‫كان األلمان ينظرون للثقافات على أنها تتكون من أنماط فكرية ومواقف ومشاعر وأساليب خاصة بها‪ ،‬وأن لكل دولة ثقافتها‬
‫الخاصة والفريدة التي ال تقارن بثقافة الدول األخرى‪18‬؛ ففي ألمانيا نظر الرومانسيون إلى الثقافة على اعتبارها تشير إلى جوانب‬
‫من الحياة اإلنسانية بما في ذلك األفكار والقيم الروحية‪ " 19‬ولذلك أكد دليتاي وهيردر على أنه من الصعب دراستها دراسة‬
‫سوسيولوجية وضعية أو عليمة كما أدى علماء االجتماع الفرنسيون‪ .‬ففي فرنسا نظرت الحركة التنويرية إلى فكرة الحضارة بشكل‬
‫آخر‪ ،‬نظرة ايجابية ألنها كانت توحي بالتطور الفكري والمادي‪ ،‬وكانوا يشعرون أن المجتمع الحديث أرقى من مجتمع القرون‬
‫الوسطى‪ ،‬وقد نظرت السوسسولوجيا المنبثقة عن مبادئ التنوير إلى الثقافة على أنها " أساليب فكرية مركبة روجت لها مجموعات‬
‫معينة كرجال الدين واالرستقراطيين حتى يشوشوا على أذهان اآلخرين ويحافظون على السلطة‪"20‬‬

‫‪- 15‬كوش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.44‬‬


‫‪- 16‬نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪- 17‬نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ - 18‬انغليز‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ - 19‬نفسه‪ ،‬ض‪.32‬‬
‫‪- 20‬نفسه‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪5‬‬
‫ج‪-‬كاركل مراكس‪ :‬الثقافة مجرد ايديولوجيا‪ :‬يرى عكس ما دهب إليه هيغل‪ ،‬حيث أكد على أن المجتمع هو الذي ينتج األفكار وليس‬
‫العكس ‪،‬ويرى أن المجتمع هو الذي ينتج الثقافة وليست الثقافة هي التي تنج المجتمع‪ .21‬ماركس‪ :‬لقد رأى ماكس فيها مجرد‬
‫ايديولويجا‪ ،‬وغالبا ما تعلب دورا اجتماعي تخبئ وراءه القوى االجتماعية وتساعدهم على ممارسة السلطة بفاعلية‪.‬‬

‫د‪ -‬مدرسة فرانكفورت وصناعة ثقافة جماهيرية ‪ :‬من خالل عمليات النقد والمراجعة ألفكار ماركس وفيبر ومراجعة فكر علم‬
‫االجتماع الفرنسي توصلوا إلى أن الثقافة ما هي إال صناعة‪ ،‬وهي الفكرة التي دافع عنها ادورنو وهوركهايمر في كتابهما "جدلية‬
‫التنوير"‪ ،‬حيث يرون على أنها صناعة هدفها صناعة ثقافة جماهيرية عن طريق األفالم والصحف وغيرها‪.22 ،‬‬

‫‪- 21‬نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪ - 22‬نفسه‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪6‬‬
‫المحور الثاني ‪ :‬الثقافة الحضرية‪ /‬المدينية عند رواد علم االجتماع‬

‫اهتم علماء االجتماع الكالسيكيون بالثقافة الحضرية‪ ،‬لكن بشكل عرضي‪ ،‬ويمكن التمييز بين الدراسات العربية‬
‫الوصفية(مقدمة ابن خلدون)‪ ،‬والدراسات الغربية التحليلية لظواهر لها عالقة وطيدة بالمدينة وتنظيماتها(المدينة عند ماكس فيبر) أو‬
‫باألبعاد التنظيمية والتضامنية (في تقسيم العمل لدوركايم) والتأثيرات على المدينة‪ ،‬ومنها تأثيرات الهجرة أو االختالف الثقافي‬
‫داخل المدينة على االندماج والتكامل بين سكان المدينة الواحدة(مدرسة شيكاغو)‪ .،‬فالحديث عن الثقافة الحضرية يتخذ طابعا مستثرا‬
‫في اعمال الرواد‪ ،‬الذين تمسكوا بالمجتمع وحاولوا كشف االليات التي تحرك ما هو اجتماعي(دوركايهم) وما اقتصادي وسياسي‬
‫(ماكس فيبر) وما قيمس وثقافي (دوركايم وابن خلدون) وما اليات مضمرة للهيمنة (بيير بورديو)‬
‫‪-1‬ابن خلدون والتمييز بين ثقافة البدو والحضر؛‬
‫لقد كان كتاب المقدمة البن خلدون مؤلفا عبقريا‪ ،‬فريد من نوعه في التاريخ العربي واإلنساني‪ .‬بمثابة تقديم لكتاب ضخم لعبد‬
‫الرحمان ابن خلدون‪ ،‬لكنه هو الذي اشتهر به‪ .‬وتمت ترجمته إلى العديد من اللغات نظرا لألهمية التي يضطلع بها‪ .‬حيث اعتبره‬
‫بعض المؤرخين والفالسفة وعلماء االجتماع مدخال للكثير من العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ .‬ولقد اعتنى فيه بشكل أساسي بنظرية‬
‫العمران‪ ،‬التي وصفت بمثابة بداية لمجموعة من النظريات االقتصادية والسياسية ومدخال لتأسيس علم االجتماع‪.‬‬
‫اهتم ابن خلدون في قسم "العمران البشري " بالتمييز بين الناس على أساس الخصب والجوع‪ ،‬وكان القسم الثاني المتعلق‬
‫بالعمران الب دوي من أهم الفصول التي تتناول نظريته في التمييز بين الثقافة على أساس بيئي وسكني‪ ،‬حيث ميز بين السلوك الريفي‬
‫والحضري‪ ،‬حيث انطلق من التأكيد على أن االختالف بين البدو والحضر طبيعي يعود إلى طبيعة نشاطهم‪ ،‬فمن يعتمد الفالحة‬
‫والرعي تدعوه الضرورة إلى العيش في الباد ية‪ ،‬بينما يتجه اآلخرون إلى العيش وفق ثقافة الحضر كلما حصل لهم ما فوق حاجتهم‬
‫من الغنى والقوت‪ ،‬وهو ما يدفعهم إلى السكون واإلكثار من القوت والمالبس وتوسعة البيوت واختطاط المدن واألمصار‪ . 23‬ويذهب‬
‫إلى أن البداوة أقدم من الحضر وسابقة عليه‪ ،‬وأن البادية أصل العمران واألمصار‪ ،‬ويقول"قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على‬
‫الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم"‪ ،‬ويقول " ال‬
‫شك إن الضروري أقدم م ن الحاجي" ويقول " فالبدو اصل للمدن والحضر وسابق عليه"‪ ،24‬وفيما يخص الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬يرى‬
‫أن " أهل البدو اقرب إلى الخير من أهل الحضر"‪ ، 25‬كما أنهم اقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر‪ ،‬ألنهم يجتمعون ويدافعون عن‬
‫أنفسهم وال يحتاجون لجيش أو لقوة وال يثقون في غيرهم‪ ،‬في حين أن أهل المدن انغمسوا في الراحة والنعيم وتركوا أمر الدفاع إلى‬
‫واليهم‪.26‬‬

‫‪-2‬دوركايم والتمييز على أساس التضامن وتقسيم العمل‬

‫دوركايم لم يكتب عن الثقافة‪ ،‬وإنما اعتنى بها في سياقات دراساته وتأسيسه لقواعد المنهج في علم االجتماع‪ .‬وتعتبر دراساته‬
‫" تقسيم العمل اال جتماعي" " واالنتحار" " والتربية وعلم االجتماع" "األشكال األولية للحياة الدينية" من بين الكتابات التي تحفل‬
‫بالمعاني والقيم والمبادئ‪ .‬ولعل كتابه "في تقسيم العمل االجتماعي" من بين أهم الكتابات التي تناولت مسألة التمييز على أساس‬
‫طبيعة المجتمع‪ .‬هذا وتحضر الثقاف ة عند اميل دوركايم بأشكال مضمرة وأخرى معلنة‪ ،‬األولى في نظريته حول تقسيم العمل‬
‫والتضامن والتنشئة االجتماعية والتربية ودراسته لالنتحار والثانية في كتابه حول التربية األخالقية‪.‬‬

‫كتب دوركايم "في تقسيم العمل االجتماعي" سنة ‪ 1893‬في إطار محاولة سوسيولوجية وفلسفية لفهم سيرورة تشكل المجتمع‬
‫من خالل اتحاد الناس‪ .‬و ظهر لعالم االجتماع الفرنسي أن التصنيع يغير المجتمع من البساطة واالتساق إلى التخصص واالختالف‪.‬‬
‫على خالف كارل ماركس الذي اهتم كثيرا بالمؤثرات السلبية للتغريب والعقالنية التي الزمت النظام الرأسمالي‪ ،‬لم يرى دوركايم‬
‫في االنتقال من التقليد إلى الحداثة باعثا على القلق أو مؤشرا على االنحطاط األخالقي‪ .‬لكنه‪ ،‬عوضا عن ذلك‪ ،‬ركز على ذلك‬
‫االنتقال ليكشف عن المهام الجديدة لآلليات المستحدثة‪.‬‬

‫ولقد استقى دوركايم مالحظاته وتحليالته من األجواء العامة التي أفرزتها الثورة الصناعية (التحول إنتاج البضائع بوفرة‬
‫هائلة نتيجة اندثار المهن التقليدية أمام زحف اآلالت التي صممت للقيام بمهمات غاية في التخصص وفرضت على العمال تناسق‬

‫‪- 23‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمان بن محمد‪ ،‬الدرويش‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد‪ ،‬ط ‪ ،1‬ص ص ‪،.244-243‬‬
‫‪- 24‬نفسه‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪ - 25‬نفسه‪ ،‬ص ‪.248‬‬
‫‪ - 26‬نفسه‪ ،‬ص ‪.251‬‬
‫‪7‬‬
‫وتضافر مجهوداتهم)‪ .‬وأقام دوركا يم دراسته لظاهرة تقسيم العمل في المجتمع على تصوره لنوعين مختلفين من المجتمعات‪ .‬فإذا‬
‫كان المجتمع األول يتصف بالبساطة ويتميز بالتضامن اآللي وينعدم فيه تقسيم العمل أو يوجد في شكل إرهاصات باهتة‪ ،‬يكون‬
‫المجتمع الثاني الحداثي حائزا على التضامن العضوي ومستندا على تقسيم واسع للعمل‪.‬‬

‫يعتبر عالم االجتماع الفرنسي تقسيم العمل حقيقة اجتماعية مادية تؤشر على المحددات المرتبطة بالتخصصات والمسؤوليات‪.‬‬
‫ففي المجتمعات البسيطة‪ ،‬يؤدي الناس الكثير من المهام المختلفة ويتحملون عددا كبيرا من المسؤوليات‪ .‬أما في المجتمعات الحديثة‬
‫نالحظ أن الناس يحتلون مواقع أكثر تخصصا ويتحركون في نطاق ضيق من المهام والمسؤوليات‪ .‬يقول دوركايم في مقدمة كتابه‪":‬‬
‫على الرغم من أن تقسيم العمل ليس حديث المنشأ‪ ،‬فإن المجتمعات بدأت منذ نهاية القرن الماضي (الثامن عشر) فقط تدرك هذا‬
‫القانون الذي خضعت له حتى ذلك الحين م ن دون إدراك‪ .‬لقد أدرك بعض المفكرين‪ ،‬بال ريب‪ ،‬أهميته حتى منذ العصور القديمة‪.‬‬
‫ومع ذلك كان آدم سميث أول من حاول أن يقدم نظرية مفصلة ومحكمة حول هذا القانون‪ .‬واألكثر من ذلك أنه كان أول من سك‬
‫هذا المصطلح الذي أعاره علم االجتماع لعلم األحياء فيما بعد"‪.27‬‬

‫درس الروابط االجتماعية ‪ lien social‬في عملية االنتقال من المجتمعات التقليدية إلى الصناعية‪ ،‬وهنا يطرح أشكال‬
‫عمليات التحول في هذه الروابط عبر عمليات التحول في التنظيم االقتصادي واالجتماعي والسياسي‪ .‬وحاول في كتابه التمييز بين‬
‫شكلي التضامن‪ ،‬وتوصل إلى أن التضامن العضوي هو نتيجة الختالف الوظائف وتنوعها‪ ،‬هذا التنوع في حذ ذاته هو دافع‬
‫لالرتباط بين الناس بشكل منعكس ‪ . réciproque‬وقد توصل في النهاية إلى أن التضامن الحديث هو نتيجة مباشرة لتقسيم العمل‬
‫بينها األول كان طبيعيا ألنه يقوم على التشابه واالنتماء‪ .‬ومنه أكد على أن تقسيم العمل االجتماعي (ليس في المصنع فقط) هو‬
‫مصدر التضامن االجتماعي والتماسك االجتماعي ‪ ،cohésion sociale‬فتقسيم العمل يمكن من إحداث التكامل ‪rendent les‬‬
‫‪ .hommes complémentaires‬وهنا يصف هذا التكامل باألخالقي ‪ morale‬ألنه يمكن من العيش المشترك‪ .‬ويرى أن وظيفة‬
‫تقسم العمل أخالقية واجتماعية" إن الوظائف االقتصادية التي يمكن أن يؤديها(تقسيم العمل) قليلة مقارنة مع التأثير األخالقي‬
‫الذي يحدثه‪ ،‬ووظيفته األساسية هي أن يخلق بين شخصين أو أكثر اإلحساس بالتضامن"‪.28‬‬

‫وفي معرض حديثة عن ثقافة التضامن يرى أن تنشا أشكال أخرى منه‪ ،‬ومنها تقسيم العمل الشاذ أو المرضي ‪،anomique‬‬
‫والذي يعتبره نتيجة للتخصص واالختالف المتزايد الذي ينتج خالله الترابط والتكامل بين المهن والوظائف والمهمنات‪ ،‬وينشا‬
‫نتيجة لالزمات الصناعية والسياسية والفشل‪ ،‬وكل نقص سيؤدي إلى نقص في التكامل والتماسك االجتماعي وهنا يقول" إذا كان‬
‫تقسيم العمل ال ينتج تضامنا فهذا بسبب ان العالقات بين العناصر ‪/‬المكونات ‪ organes‬ليست مضبوطة‪ ،‬فهي في حالة من الشذوذ‬
‫‪.29 "anomie‬‬

‫إن دوركايم لم يقف فقط عند تقسيم العمل بل تناول ظاهرة االنتحار‪ ،‬والتي أرجعها إلى ثقافة جديدة‪ ،‬تقوم باألساس على‬
‫غياب التماسك االجتماعي‪ ،‬وغياب اإلحساس باالنتماء‪ ،‬وهو ما يظهر بشكل واضح داخل المدن‪ ،‬بسبب سيادة التضامن العضوي‪،‬‬
‫وظهور األشكال الشاذة من تقسم العمل‪ .‬أما في كتابه التربية األخالقية‪ 30‬فيركز يركز على أهمية الحياة األخالقية أو الثقافة‬
‫األخالقية‪ ،‬والتي ال يمكن أن تتأس من دون مجموعة من العناصر الضرورية ومنها‪:‬‬

‫‪ ‬روح الخضوع للنظام؛‬


‫‪ ‬التعلق بالهيئات االجتماعية؛‬
‫‪ ‬واستقالل اإلرادة؛‬

‫ثم اهتم بكيفية تشكل األخالق عند الطفل‪ ،‬والتي حددها في مجوعة من الخصائص ‪:‬‬

‫‪- 27‬دوركايم ‪ ،‬اميل‪ ،‬في تقسيم العمل االجتماعي‪.‬‬


‫‪28‬‬
‫‪-DURKHEIM, E. 2007, De la division du travail social, Paris, PUF, p. 19‬‬
‫‪29‬‬
‫‪-ibid, p. 360‬‬

‫‪ - 30‬دوركايم‪ ،‬اميل‪ ،‬التربية األخالقية‪ :‬ترجمة محمد السيد بدوي‬

‫‪8‬‬
‫‪ ‬أهمية النظام وخاصة تعلم النظام المدرسي‬
‫‪ ‬العقوبات المدرسية؛‬
‫‪ ‬التعلق بالهيئات االجتماعية( اآلخرين‪ ،‬البيئة المدرسية‪ ،‬تدريس العلوم والفنون)‪.‬‬

‫تحضر الثقافة إذن عند إميل دوركايم وإن كان بشكل مضمر‪ ،‬فهي المكون الذي عرف تمايزا واختالفا بين المجتمعات‬
‫التقليدية وأخرى حديثة‪ ،‬سواء من حيث التنظيم أو التدبير االقتصادي والسياسي أو من حيث أشكال التماسك االجتماعي والتربية‬
‫الالدينية‪ .‬إن دوركايم إذن ومن منظور كلياني تطوري ووظيفي يتناول هذا البعد في شكله االيجابي‪ ،‬وإن كان يؤكد على األشكال‬
‫الشاذة سواء االنتحار أو لتقسيم العمل أو للتنشئة االجتماعية(الصراع بين األجيال) وحدوث الظواهر االجتماعية غير الطبيعية أو‬
‫االعتيادية المرضية‪ .‬فالثقافة هي تلك الخصائص المشتركة المتطورة أحيانا والثابتة أخرى داخل المجتمع‪.‬‬

‫‪-3‬البيروقراطية الفيبيرية والثقافة الحضرية الجديدة؛ ماكس فيبر عالمة فارقة في علم االجتماع العام ((السوسيولوجيا التفهمية و‬
‫دراسته للظواهر من خالل "النماذج المثالية")‪ ،‬وفي علم االجتماع الحضري بشكل أدق‪ ،‬فقد خص هذا األخير بكتاب غاية في‬
‫األهمية‪ ،‬المدينة ‪ ،la cité‬الصادر سنة ‪ ،...‬والذي نفى فيه فكرة التقدم والتحضر إلى اإلمام التي كانت سائدة آنذاك‪ ،‬فقد أكد على أن‬
‫النموذج المثالي للتحضر ليس هو مدن القرن ‪ 19‬و‪ ،20‬بل المدن المكتفية بذاتها (مدن القرون الوسطى)‪ .‬اهتم فيه بتعريف المدينة‬
‫واعتمد مقاربة تاريخية تتبع أشكال التحضر والمدنية منذ الحضارات األولى(الهند والصنين واإلسالم إلى الحضارة الغربية‬
‫الوسيطية والحديثة)‪،‬وأكد على أنه يجب أن تسيطر فيها العالقات التجارية وأن تتوفر فيها مجموعة من الشروط‪:‬‬

‫‪ ‬وجود الحصن؛‬
‫‪ ‬السوق والمحكمة واالستقالل الذاتي والذي سماه بالنموذج المثالي"‪.‬‬
‫إن اهتمامه بالثقافة لم يكن في حد ذاته‪ ،‬بل جاء من خالل تتبع أشكالها السائدة داخل المدينة الحديثة‪ ،‬ومن أهمها‪:‬‬
‫‪ ‬العقالنية‪ :‬فمن خالل التركيز على بعدين أساسين(البعد االقتصادي ‪ :‬باعتبارها وحدة اقتصادية تنتج سلعا وتقيم تبادالت‬
‫تجارية وعقارية وخدماتية وتنتج موارد بشرية ومالية‪ ،‬يتحكم فيها منطق عقالني أكثر من أي شيء آخر)؛‬
‫‪ ‬البيروقراطية ‪ :‬تتجلى في البعد السياسي في بحثها عن االستقاللية الترابية واإلدارية يشكل دائم؛‬
‫‪ ‬التبعية‪ :‬تسود داخل المدن الحديثة بينما سادت االستقاللية "المجتمع الحضري الكامل" المدن في القرون الوسطى المحصنة‬
‫والمعتمدة على اكتفاء ذاتي‪.‬‬

‫لقد حاول ماكس فيبر أن يبين أن الحداثة والعقالنية هي ما تميز المجتمعات الحديثة‪ ،‬وهي التي أدت إلى رفع السحر عن‬
‫العالم‪ ،‬وجعلت من العلم روحا لثقافة والعصر‪ ،‬ما انعكس على تطور العلوم التجريبية واستقالل الفنون وتطور الثقافة‬
‫الجماهيرية‪ .‬وقد كان مختلفا تماما مع تونيز الذي تحدث عن مجتمعين المجتمع المحلي والمجتمع أو الرابطة‪ ،‬وعن الذين‬
‫نظروا إلى المدن الحديثة على أنها إنتاج وتطور طويل وحتمي للمجتمع‪ ،‬فماكس فيبر من جهته يرى أن التاريخ ال يعني‬
‫بالضرورة تحقيق التقدم‪ .‬وبين أن أوربا قد بدأ ت تشهد مجتمعات محلية حضرية تعتمد أساسا على التجارة وتتمتع بقدر ملحوظ‬
‫من االستقالل الذا تي‪ ،‬وهذا يعني أن المحدد الرئيسي للوسط الحضري يعود إلى وجود مركز تجاري وهو السوق ‪،Marché‬‬
‫باعتباره شكل للتجمع البشري‪ .‬فالوسط الحضري حسب ماكس فيبر هو شكل اقتصادي ينبغي أن يتوفر فيه على سوق محلي‪،‬‬
‫يتجاوز اإلنتاج فيه والتبادل سكان المدينة (الوسط الحضري) إذ أنه نتيجة التخصص اإلنتاجي للسوق‪.‬‬
‫‪-4‬مدرسة شيكاغو‪ ،‬الهجرة والتنوع الثقافي الجديد؛‬
‫نشأت هذه المدرسة االجتماعية من أجل دراسة ظاهرة الهجرة والمشاكل المترتبة عنها بالمدينة‪ .‬جددت على مستوى‬
‫المناهج والطرق‪ ،‬واهتمت بالميدان‪ ،‬أكثر من اعتمادها على الفهم والتأويل‪ ،‬انطلقت من الفاعل‪ ،‬وتأثرت بالمدرسة الدوركايمية‬
‫الوضعية‪ .‬مختبر فريد لعلم االجتماع‪ ،‬تناولت المدينة والهجرة والمشاكل االجتماعية المرتبطة بها والتحضر بأشكاله الكمية والكيفية‬
‫كموضوع أساسي‪ .‬ومن بين روادها الذين نجد عندهم اهتماما باالنعكاسات الثقافية للتحوالت التي طرأت على المدينة‪ ،‬كل من‬
‫بروبرت بارك ولويس ورث‪.‬‬
‫‪ ‬روبرت بارك والثقافة الحضرية‪ :‬تتجلى الثقافة الحضرية من منظور بارك في القيم الجديدة التي نشأت داخل مدينة‬
‫شيكاغو‪ ،‬بسبب التقسيم المعقد للعمل‪ ،‬الذي ينتج عن المنافسة الصناعية الشديدة‪ ،‬ويرى أن وجود السوق وتطوره القيم‬
‫الرأسمالية يؤدي إلى انهيار الطرق التقليدية للحياة‪ ،‬واستبدالها بقيم أخرى تقوم على المصلحة الوظيفية والمهنية‪ ،‬لقد اهتم‬
‫بوسائل االتصال الجماهيري‪ ،‬وأكد على كونها تحولت من االتصال الشفوي وعالقات المواجهة المباشرة التي حلت محلها‬

‫‪9‬‬
‫طرق رسمية روتينية وغير شخصية‪ ،‬وتعتبر مقالته الشهيرة "المدنية مقترحات لبحﺙ السلوك اإلنساني في البيئة‬
‫الحضرية'' هي التي تتضمن أفكاره‪ .‬وفي معرض تحليله للمدن الكبرى يؤكد على أنها تتميز باختفاء الروابط العاطفية‬
‫التقليدية وظهور قيم المصلحة الفردانية‪.‬‬
‫‪ ‬المدينة من منظور "لويس ويرﺙ" ‪ : Louis Wirth‬درس "لويس ويرث" ‪ Louis Wirth‬حجم المدينة وتأثيرها على‬
‫الحياة االجتماعية‪ ،‬وتوصل إلى أن الحجم والكثافة وعدم التجانس هو ما يحدد التنظيم االجتماعي داخل الوسط الحضري‪.‬‬
‫فزيادة حجم المدينة يساهم في خلق طرق اتصال غير مباشرة‪ .‬كما أن ارتفاع عدد السكان يؤدي إلى تنوع المجتمع وإلى‬
‫تقسيم العمل االج تماعي‪ ،‬الشيء الذي يجعل أفراد المجتمع يتعاملون فقط وفق مجموعة من التبادالت االجتماعية‪ .‬إلى جانب‬
‫ذلك فإن التنوع االجتماعي يعمل بالضرورة إلى تحرير األفراد من الضبط االجتماعي الذي يمارسه أفراد الجماعة‪ ،‬مثل ما‬
‫يوجد في المجتمعات الريفية أو القروية ‪ .‬هذا واعتبر لويست ويرت أن التحضر ثقافة وأسلوب حياة‪ ،‬وليس تكيفا مع البيئة‬
‫أو الطبيعة‪ ،‬ألن اإلنسان ليس كالحيوان‪ ،‬هذا االخير يتكيف مع الطبيعة‪ ،‬أما اإلنسان فهو يتفنن في انتاج المدن‪ ،‬فلكل مدينة‬
‫طابعها‪ ،‬وبالتالي فالتمدن مسألة إبداع وليس تكيف‪ .‬هذا وركز اهتمامه ويرث أساسا على تحليل العالقات االجتماعية بين‬
‫األفراد في السياقات الحضرية‪ ،‬ففي مقال له بعنوان "الحياة الﺤﻀرﻴة كطريقة للحياة " والتي نشرها سنة ‪ 1938‬قدم‬
‫ويرث تحديدا واضحا للمدخل السوسيوثقافي في معالجة مختلف الموضوعات الحضرية‪ .‬وكلما زاد المجتمع‬
‫المحلي اتساعا زاد التماسك ضعفا وكذلك الحال بالنسبة لتماسك الجماعات األولية‪ .‬فالمدن الحديثة هي مجال لتزايد‬
‫الجماعات األولية المكتفية والمنغلقة على ذاتها‪.‬‬
‫‪ -5‬زيمل والثقافة الحضرية‪ :‬يعتبر جورج زيمل من أهم أعالم السوسيولوجيا عامة والسوسيولوجيا األلمانية على الخصوص‪ .‬ويعد‬
‫منظرا للتفاعل و"لألشكال االجتماعية"‪ ،‬حيث يرى أن الحياة االجتماعية نتاج الحركة المتناقضة بين الحياة والشكل‪ .‬فالحياة غريزة‬
‫وخلق ورغبة وعواطف وانفعال‪ ،‬وتجديد‪ ،‬أما األشكال فهي توافقات ومؤسسات وقواعد ومعايير تؤطر الحياة االجتماعية‪ .‬اقترح‬
‫زيمل في كتابه "السوسيولوجيا" الصادر سنة ‪ ،1908‬دراسة أشكال التنشئة االجتماعية‪ ،‬إذ يرى أنه على السوسيولوجيا دراسة‬
‫جميع الحاالت التي يمارس فيها األفراد تأثيرا على بعضهم البعض‪ ،‬ويشدد على أن جميع أشكال التبادل بين األفراد مهما كانت‬
‫كبيرة أو صغيرة تستحق الدراسة‪.‬‬

‫وقد حاول في أشهر كتبه "الجسر والباب" الذي ظهر عام ‪ 1909‬تقديم تحليل إحيائيا للحيثيات االجتماعية‪ ،‬فهو يرى أن‬
‫الحياة االجتماعية حركة ال تتوقف العالقات بين األفراد من خاللها عن تعديل بعضها البعض‪ .‬وهذه العالقات على شاكلة الجسر‬
‫الذي يربط والباب الذي يفصل‪ ،‬هي عالمات لميول متضاربة نحو التماسك والتبعثر‪ .‬ومن أهم ما قدمه فيما يخص الثقافة الحضرية‬
‫نظريته "المجهولية"‪ ،‬باعتبارها الخاصية المميزة للوسط الحضري‪ ،‬فهي تقوم على عالقات اجتماعية منفصلة ومتباعدة‪ ،‬فأفراد‬
‫المجتمع يجهلون بعضهم البعض‪ ،‬حتى وإن كانوا في عالقة الجيرة‪ ،‬فالحياة بالوسط الحضري تتسم باستقالل أفرادها‪ ،‬فهم غالبا ما‬
‫يتميزون بصفة الفردانية والنفعية‪ ،‬وهذا يرجع أساسا في نظره إلى حجم المدينة‪ ،‬التي أثرت بشكل كبير في العالقات االجتماعية‬
‫وجعلت الفرد أكثر وعيا بذاته وأكثر حرية‪ ،‬لكنه في الوقت نفسه هو أضعف من ناحية العالقة مع اآلخر‪ .‬بصيغة أخرى يوضح‬
‫زيمل اآلثار المتعارضة للمدينة الكبيرة على شخصية الحياة الحضرية أو الحياة المدنية بلغة العصر‪ ،‬حيث تمنح في نفس الوقت‬
‫هامشا من الحرية واإلقصاء‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫المحور الثالث‪ :‬الثقافة الريفية‬
‫إن الحديث عن الثقافة القروية يدفعنا إلى التمييز بين العديد من المقاربات‪ ،‬في علم االجتماع بين المدرسة األمريكية‬
‫والفرنسية والمغربية‪ .‬ويمكن الوقوف عند التحوالت العميقة التي حدثت بالقرية بعد الثورة الصناعية‪ ،‬لكن التغير العميق في البنيات‬
‫االجتماعية والذهنية كان مصاحبا للتحوالت العميقة على مستوى تدبير المجال الفالحي‪ ،‬خاصة بعد الحرب العالمية األولى‪ ،‬حيث‬
‫تزايد توظيف التقنيات في اإلنتاج الفالحي‪ .‬ومع ذلك لم يكن هذا هو العامل األساس في تغير الثقافة القروية‪ ،‬بل عامل االنتقال من‬
‫مجاالت ريفية إلى حضرية أو تأثير تطور الحياة المدينية‪ ،‬الكهرباء والمرافق العمومية والمدرسة وتقنيات اإلعالم(الراديو والتفلزة‪،‬‬
‫وبعد ذلك االنترنيت) كانت عوامل حاسمة في تغير الثقافة الريفية‪.‬‬
‫إن الثقافة الريفية اليوم هي نتيجة للتفكك والحداثة والصناعة‪ ،‬فاالنتقال من فالحة معاشية إلى أخرى صناعية‪ ،‬كان له دور‬
‫محوري في عمليات التحديث والتطوير المادي والرمزي‪ ،‬سواء من حيث أشكال البناء والسكن والطرقات والمرافق العمومية‪ ،‬أو‬
‫من حيث أشكال الحياة‪ ،‬التي أصبحت قريبة من تلك التي يمكن مالحظتها بالمدن‪ .‬هذا وساهم التصنيع الفالحي في تزايد الوعي‬
‫بأهمية االنتقال من اإلنتاج الفردي إلى اإلنتاج التعاوني‪ ،‬ومنه ظهرت التعاونيات الكبرى ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬كنتجية‬
‫لضغط اقتصاد السوق‪ .‬إن التغيرات الكمية والمادية في العالم القروي كانت وراء تحوالت اجتماعية وثقافية‪ ،‬سواء على مستوى‬
‫الروابط االجتماعية أو تقسيم العمل أو الهجرة أو العالقات العائلية أو الوعي السياسي وطرق العيش‪.‬‬
‫‪-1‬الدراسات الفرنسية‪:‬‬
‫إن الحديث عن المجتمع الفالحي أو القرية‪ ،‬من الناحية السوسيولوجية يدفعنا إلى الحديث عن فترة السبعينايت والثنمانيات‪،‬‬
‫الفترة التي عرفت تزايد الدارسات حول الريف‪ ،‬ومن أهمها كتاب هنري ليفبغ " ‪La vallé des campagne, études‬‬
‫‪ "sociologiques du rurale 1963‬و"الحق في المدينة ‪ ،"1968‬وكتابات هنرى ماندراس " نهاية الفالحين ‪ "1967‬و‬
‫"سوسيولوجيا القرية الفرنسية ‪ "1965‬ودراسات جون رونار وميشال روبير وبول ريمبو وآخرون‪ .‬ويعتبر هنري ماندراس من‬
‫بين المتخصصين في علم االجتماع القروي‪ ،‬والذي تنبأ في كتابه "نهاية الفالحين" بنهاية الثقافة الريفية التقليدية‪ ،‬وظهور أخرى‬
‫يوجهها السوق‪ ،‬وتتحكم فيها اآللة‪ ،‬ويصبح الفالح بمثابة منتج‪ ،‬وال يمارس الفالحة إال كمهنة‪ ،‬والتي ال تنعكس على فكره وطبيعة‬
‫عيشه‪ ،‬التي أصبحت اقرب إلى النموذج الحضري‪ ،‬منها إلى نمط العيش الريفي‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى اهتم هنري ليفبغ بدراسة انعكاس التحضر على الثقافة الريفية‪ ،‬حيث يرى ان المدن الصناعية ستختفي‬
‫وسيظهر النموذج الحضري الجديد‪ ،‬التي يتميز باالتساع المستمر على حساب الضواحي والهوامش‪ ،31‬وستمتد على األراضي‬
‫الفالحية‪ ،‬ويرى في كتابه "من الريفي إلى الحضري" الصادر سنة ‪ 1970‬على أن التحوالت الكبرى في السوق وتزايد تدخل‬
‫السلطات العمومية من أجل التحكم في التعمير سيؤدي إلى تزايد الضغط على الريف وتحولها إلى مناطق حضرية‪ ،‬ما سينعكس‬
‫على الفكر والثقافة‪ ،‬بحيث سيساهم ارتفاع ثمن العقار في خلق ثقافة استهالكية جديدة‪ ،‬ونمط عيش قريب من ذلك الذي يوجد‬
‫بالمدينة‪.‬‬
‫إن المقاربات الكالسيكية للثقافة الريفية كانت تؤكد على أهمية عمليات التحضر أو التعمير‪ ،‬في تغير الثقافة القروية‪ ،‬ومن‬
‫أهمها دراسات هنري ماندراس وهنري ليفبغ وجون رونارد‪ ،‬بينما بدأت الدراسات منذ سنوات التسعينات يؤكد على دور التحول‬
‫التقني وتطور الصناعة الغذائية والتحديث الزراعي الشديد في تغير الفكر ‪ ،‬إضافة إلى تزايد الهجرة المعاكسة اتجاه الريف سواء‬
‫بانجلترا أو فرنسا أو الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وانفتاح الشركات الكبرى على االستثمار في الميدان الفالحي‪.‬‬
‫لقد سيطرت نماذج للتفسير الثقافة القروية سنوات الثمانينيات ومن أهمها نموذج التحديث الفالحي ‪la modernization‬‬
‫‪ agricole‬و الديناميات ‪ ، 32 les mobilités‬ويؤكد جيل الفرتي ‪ Laferté Gilles‬على أن المجتمع الفالحي يشهد نهاية القروي‬
‫بالمعنى الكالسيكي وظهور مجموعات أو تعاونيات سوسي ومهنية‪ ،‬تدافع عن حقوقها‪ ،‬وتنتظم في شكل تعاونيات أو جمعيات‪،33‬‬
‫ويرى أنه صاحب التحوالت اإلنتاجية والتحديثية ظهور طبقات اجتماعية في العالم الريفي‪.‬‬
‫ولقد ساهم هنري ليفبغ في تأسيس مفمهوم " جماعة الفالحين ‪ ، " communauté paysanne‬ليعبر به عن ظهور‬
‫‪34‬‬

‫فكر جديد يقوم على اإلحساس باالنتماء إلى ميدان مهني‪ ،‬وإلى مجال محدد‪ ،‬ألفراده نفس األهداف والحقوق‪ ،‬ويعبرون عن ثقافة‬
‫مختلفة عن المدينة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪-Costes , Laurence , Le Droit à la ville de Henri Lefebvre : quel héritage politique et scientifique, Dans Espaces et‬‬
‫‪sociétés 2010/1-2 (n° 140-141), pages 177 à 191.‬‬
‫‪32‬‬
‫‪-Laferté, Gilles, des études rurales à l’analyse des espaces sociaux localises, sociologie, 2014/4 vol 5. P 423-439.‬‬
‫‪33‬‬
‫‪-idem.‬‬
‫‪34‬‬
‫‪-Alphandey, pierre et Sencédé, yannick, l’émergence de la sociologie rurale en France, études rurales 2009/1, N 183, p 23-40.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪-2‬الثقافة الريفية بالمغرب(يمكن الرجوع إلى المحور الخامس)‪.‬‬
‫من الصعب الحديث اليوم عن ثقافة ريفية بالمغرب‪ ،‬فالقرية أصبحت بمثابة مدينة ضعيفة الكثافة‪ ،‬بل استطاعت العالقات‬
‫الشبكية وتقنيات اإلعالم والمدرسة والكهرباء أن تنتج لنا ثقافة مشتركة بين المجالين‪ ،‬كما أن االنتقال من مغرب قروي سنوات‬
‫االستعمار إلى آخر أكثر حضرية منذ العشرية األولى من األلفية الثالثة‪ ،‬يمكن من القول على أن الثقافة أصبحت وطنية‪ ،‬سواء على‬
‫مستوى الروابط العائلية(التفكك األسري ونمط األعراس والزواج ) أو على مستوى تقسيم العمل(التضامن العضوي بدل اآللي الذي‬
‫كان سائدا في الريف المغربي)‪ ،‬أو ما يتعلق بالوعي السياسي(الممانعة والرفض)‪ ،‬هذا‪ ،‬ومن جهة أخرى تزايد الترقي االجتماعي‬
‫عن طريق التعلم والمدرسة‪ ،‬وتزايد االرتباط بوسائل اإلعالم الحديثة(الفضائيات‪ ،‬االنترنيت‪ ،‬مواقع التواصل االجتماعي والصحافة‬
‫االلكترونية‪.)...‬‬
‫هن اك تحول عميق داخل القرية المغربية اليوم على مستوى السكن واللباس وعادات الغذاء والسهر واالحتفال واالستهالك‬
‫والنظرة إلى المرأة‪ ،‬التي أصبحت أكثر تحررا‪ .‬ومع ذلك ما زلنا في حاجة إلى الكثير من الدراسات المتعددة التخصصات من أجل‬
‫فهم عميق للتحوالت الثقافية بالقرية المغربية‪ .‬صحيح أن العديد من الدراسات اهتمت بما هو ديني(الدين والمجتمع لعبد العني‬
‫منديب)‪ ،‬أو علم االجتماع القروي مع عبد الرحيم العطري‪ ،‬أو دراسة عادات الزواج وصورة المرأة مع رحمة بورقية أو الجنسانة‬
‫مع المرنيسي أو التحوالت االجتماعية مع المختار الهراس‪ ،‬لكن ما زلنا في حاجة إلى دراسات تقيس التحول الثقافي باألساس‪،‬‬
‫خاصة مع التأثير العميق لثروة التواصل الشبكي والرقمي‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫المحور الرابع‪ :‬الثقافة في ظل العولمة‬

‫اهتم علماء االجتماع بتأثير التحول من الثنائية القطبية إلى المركزية الغربية‪ ،‬األمريكية واألوروبية تحديدا على االقتصاد‬
‫والسياسة والثقافة‪ .‬تنوعت النظريات والبراديغات‪ ،‬من قبيل‪ ،‬المجتمع العالمي ‪ la société mondiale‬وما بعد الدولة الوطنية‪ .‬لكن‬
‫ما يهمنا نحن هو اهتمام علماء اإلجتماع بتأثير العولمة على الثقافة‪ ،‬هل يمكن الحديث عن مساهمتها في تشكل ثقافة كونية؟ وهل‬
‫مكنت من تقليص الفوارق بين العالم القروي المهمش والحضري؟ هل تم توحيد آليات الثقافة‪ ،‬الدين‪ ،‬اللغة‪ ،‬اللباس واألكل التوا صل‬
‫وهل ساهمت فعال في صناعة اإلنسان الكوني أم ساهمت في نقل الثقافة المختلفة؟‬ ‫التعاون و االنفتاح؟‬
‫إن العولمة في تسعينيات القرن الماضي قد تعمقت بفعل االنتقال إلى العصر الشبكي(مانويل كاستيل) وإلى المجتمع المفتوح‪،‬‬
‫أو عصر التواصل الالمحدود‪ ،‬وخاصة في بداية األلفية الثالثة‪ ،‬مع اتساع استخدام الجيل الثاني من االنترنيت‪ ،‬الذي تميز باالنتقال‬
‫من اإلخبار إلى نظام المواقع والصفحات االجتماعية التفاعلية‪ .‬لكن في هذه الفترة كانت التلفاز قد انتقلت من اإلرسال الوطني‬
‫المحدود إلى عصر الفضائيات‪ .‬وبالتالي اتخذت العولمة مجموعة من األبعاد‪ ،‬أساسها االعالماتية والرقمية‪ ،‬التي كانت وراء تطور‬
‫الحياة وأشكال التواصل‪.‬‬
‫لقد تطورت العديد من النظريات والدراسات حول العولمة‪ ،‬ففي الوقت الذي تزايد فيه االهتمام بها سياسيا في بداية القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وذلك من خالل الرغبة في نشر الماركسية أو الشيوعية أو اللبرالية‪ ،‬بدأ الحديث عن العولمة االقتصادية ما بعد الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬في حين تزايد الحديث عن عولمة أمريكية بعد انهيار المعسكر السوفياتي‪ .‬هذه األشكال من العولمة كانت الثقافة هي‬
‫ذرعها وهدفها األساسي‪.‬‬
‫لقد تعدد النظريات حول العولمة‪ ،‬بين من يؤكد على أهميتها‪ ،‬وبين من ينظر إلى سلبياتها‪ .‬فيهي كظاهرة ال يمكن أن ينكر‬
‫تأثيراتها أحد‪ .‬ولقد تناول عالم االجتماع البولوندي‪-‬البريطاني زجمنت بومان ‪ BAUMAN Z‬التكاليف البشرية لها‪ ،‬في كتابة "‬
‫الصادر سنة ‪ ،1999‬واهتم آخرون بالمدن والثقافة الشمولية ‪Les villes‬‬ ‫‪35‬‬
‫‪"Le coût humain de la mondialisation‬‬
‫‪ ،globales‬من أمثال ‪ Freitag Barbara36‬عالمة االجتماع األلمانية‪ ،‬أما فريق ثالث فقد تناول خطورة عولمة الثقافة‪ ،‬ومن أهمهم‬
‫االنثروبولوجي الفرنسي جون بيير وارنيي‪ ،Warnier, Jean-Pierre 37‬في حين ركز آخرون‪ ،‬ومنهم عالمة االجتماع األمريكية‬
‫ساسكيا ساسن على التأثيرات االقتصادية والسياسية للعولمة‪.‬‬
‫سوسيولوجيا العولمة عند ساسكيا ساسن‪ :‬إذا كان بعض علماء االجتماع يركزون على تأثيرات العولمة على الجوانب الثقافية‪،‬‬
‫فإن ساسكيا ساسن تناولت ما هو اقتصادي وسياسي باألساس‪ .‬لكن ذلك سينعكس على ما هو ثقافي‪ .‬فعالمة االجتماع‬
‫العالمية(الهولندية واألمريكية) حاولت أن تدرس العولمة من الناحية السوسيولوجية في مؤلفها" سوسيولوجيا العولمة"‪ ،‬مركزة على‬
‫دور الدولة الوطنية والسيادية‪ ،‬وموظفة مجموعة من المفاهيم" االقتصاد الكوني" و "المدينة الكونية" و"الطبقات الكونية البازغة"‬
‫و" التشكيالت الكونية"‪ .‬ولقد حاولت توضيح موقفها من خالل النقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪ ‬تغير النظام القديم القائم على السلطة إلى أخر قائم على السوق الكوني؛‬
‫‪ ‬القومي فرعي كموقع للعولمة؛‬
‫‪ ‬شبكات المدن الكونية عابرة للحدود‪ ،‬فالنشاط االقتصادي ذو الطبيعة الكونية يعيد جزئيا تشكيل النظم القائمة وويساهم في‬
‫تشكيل أخرى‪ ،‬ومنها المدن الكونية‪ ،‬والتي تشكل بدورها نطاق القوة‪ ،‬الذي يشمل قدرات مطلوبة لصالح العمليات الكونية‬
‫للشركات واألسواق‬
‫‪ ‬ظهور األجندات الالقومية للدولة ‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫‪35‬‬
‫‪-BAUMAN Z., Le coût humain de la mondialisation, Hachette, 1999 /1998.‬‬
‫‪36‬‬
‫‪- Freitag, Barbara. 2002. "Les villes globales dans les sociétés de l'information." Diogène no. 1 (197): pp81-95.‬‬
‫‪37‬‬
‫‪-Warnier, Jean-Pierre, 2008, La mondialisation de la culture, Collection : Repères; Éditeur : La Découverte.‬‬
‫‪- 38‬ساسن‪ ،‬ساسكيا‪،‬علم اجتماع العولمة‪ ،‬ترجمة علي عبد الرزاق جلبي‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ ،2014 ،1‬ص ‪.31-30‬‬
‫‪13‬‬
‫فالعولمة التي تتناولها في كتابها تصفها ب«حيوان يصول ويجول بقوة وبسرعة متعاظمة»‪ ،‬تنظر إليها بمثابة محرك ال‬
‫واعي‪ ،‬يتميز بالعظمة والقوة يصعب الحد من تأثيراته‪ ،‬وخاصة االقتصادية منها‪ .‬وتشير إلى أن العولمة الراهنة هي الصورة‬
‫األكثر اكتماال ألشكال «بدائية» من العولمة كانت «المدن» هي أحد تعبيراتها األولى‪ ،‬إذ أنها تضم مجموعة من األفراد الذين‬
‫ينتمون إلى مشارب مختلفة وعليهم أن يجدوا صيغة للتعايش في بوتقة واحدة تجمعهم‪ .‬وتولي أهمية خاصة في تحليالتها‬
‫ل«سوسيولوجية العولمة» لدور الدولة‪ ،‬التي ينبغي عليها أن تتدخل بوصفها عامال طبيعيا في قيادة العالم المعولم‪ .‬لكنها بصدد‬
‫«فقدان طبيعته التاريخية» المتمثلة في ضبط إيقاع النشاط االقتصادي لبلدانها‪ .‬لكنها‪ ،‬أي الدولة‪ ،‬أبدت في المرحلة األخيرة‬
‫عجزها عن الرقابة على النشاطات المالية وعن ضبط آلياتها‪ .‬وبالنتيجة دخلت الدولة في «صراع» مع مفهوم السيادة الوطنية‬
‫وفقدت الكثير من سلطتها‪ ،‬خاصة في ميدان الحقوق االجتماعية‪.‬‬
‫لقد أكدت على أن الدولة الوطنية اليوم أصبحت عاجزة عن الحد من االقتصاد الكوني ‪ ،‬وال تقوى على مسايرة‬
‫‪39‬‬

‫التطورات الهائلة على مستوى الشبكات الرقمية‪ ،‬باعتبارها آلية منة آليات العولمة التواصلية واإلعالمية‪ .40‬كما أن حديثها عن‬
‫المدن الكونية يأتي في سياق الحديث عن ما تنعم به بعض المدن الكبرى من قوة اقتصادية وسياحية وثقافية تؤهلها ألن تكون‬
‫بمثابة النموذج الحي للثقافة السائدة‪.‬‬

‫إذا كانت ساسن تركز على السياسي واإلقتصادي في حديثها عن التأثيرات الثقافية للعولمة‪ ،‬فإن مايك فيدرسون يرفض‬
‫الحديث عن ثقافة عالمية‪ ،‬وينفي ذلك‪ ،‬حيث ينطلق من طرح السؤال‪ :‬هل هناك ثقافة عالمية؟‪ ،41‬ويصل إلى أنه من المستحيل وجود‬
‫ثقافة كونية‪ ،‬بمعنى ثقافة متجانسة ومتكاملة‪ ،‬لكن إذا تحدتنا بمنطق االندماج والتفكك الثقافي فاألمر ممكن‪ ،‬حيث يمكن أن تظهر‬
‫ثقافة ثالثة متوسطة بين الثقافة المحلية والثقافة الكونية‪ ،‬ويقول "يتضح من مختلف أشكال ردود أفعال إزاء عملية العولمة أن‬
‫احتماالت نشأة ثقافة عالمية موحدة ضعيفة‪ ،‬وأن هناك ثقافات عالمية متعددة"‪ .42‬ومن جهة أخرى يتساءل انطوني سميث عن‬
‫إمكانية إقامة ثقافة كونية‪ ،‬تلك التي حلم بها المفكرون اللبراليون واالشتراكيون‪ ،‬وبين على أن هؤالء حلموا بالكونية‪ ،‬بينما سيطرت‬
‫في الفترة ما قبل الحرب العالمية الدولة القومية والثقافة الخاصة‪ ،‬لكن بعد الحرب سرعان ما تم الرجوع إلى التكتالت والقومية‪،43‬‬
‫وأكد على بداية ظهور ثقافات عبر قومية‪ 44‬وثقافة عالمية "بعد صناعية"‪ ،‬ورغم كل ذلك يقول "يتضح أننا ما نزال بعيدين عن‬
‫رسم خارطة للثقافات العالمية‪ ،‬والمثال الكوني الذي ال يستطيع أن يحل محل عالم قوامه الدول"‪.45‬‬
‫ولقد تنوعت المقاربات التي اهتمت بالعولمة وانعكاساتها الثقافية واالجتماعية‪ ،‬ومن أهمهم تحليل انطوني غيدنز ودراسة‬
‫فيك جورج وبول ويلدينغ ودراسة ليسلي سلنز‪ .‬فاألول استعمل مفهوم "الطريق الثالث" للتوليف بين قيم االشتراكية(عدالة‬
‫التوزيع) وقيم الرأسمالية(الحافز)‪ ،‬وذلك من أجل الخروج من األزمة التي تعيشها المجتمعات الحديثة‪ ،‬وبين على أن الثقافة هي‬
‫المتغير األساسي في عملة العولمة‪ ،‬ومتسائال عن كيفية صمود هوية األفراد والجماعات اإلثنية أمام الثقافة الكوكبية المكتسحة‬
‫باستخدام االقتصاد والسياسة كبوابات تلج من خاللها إلى المجتمعات‪ ،‬ويرى أن العولمة تنازعها ثالث مدارس أساسية‪:46‬‬
‫‪ ‬المشككون‪ :‬الذين يؤكدون على أن العولمة لقيت من االهتمام أكثر مما تستحقه؛‬
‫‪ ‬المتعولمون‪ :‬يرون أنها ظاهرة حقيقية تتبدى في كل مكان؛‬
‫‪ ‬التحولييون‪ :‬يرون على أنها تمثل سببا في العديد من التحوالت االجتماعية‪ ،‬لكن النظام العالمي يجتاز مرحلة من التحول‪.‬‬
‫بينما يذهب كل من فيك جورج وبول ويلدينغ إلى تصنيف أربعة مقاربات في كتابهما "العولمة والرعاية االجتماعية"‪،‬‬
‫ومنها؛ أنصار التطور التكنولوجي والمتشائمون الماركسيون والبرغماتيون التعدديون والدوليون المتشككون‪ .‬ومن جهة‬
‫أخرى يضع مقاربة ليسلي سكلير أربعة مقاربات رئيسية‪:‬‬
‫‪ ‬مقاربة النظم العالمية‪:‬‬

‫‪- 39‬نفسه‪ ،‬ص ‪54‬‬


‫‪- 40‬نفسه‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪- 41‬فيدرسون‪ ،‬مايك‪ ،‬ثقافة العولمة ‪ ،‬القومية والعولمة والحداة‪،‬ةترجمة عبد الوهال علوب‪ ،‬سلسلسلة دار الفكر‪ ،‬ط ‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪ - 42‬فيدرسون ‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ - 43‬نفسه‪ ،‬ص ‪.164-163‬‬
‫‪- 44‬نفسه ص ‪.164‬‬
‫‪ - 45‬نفسه‪ ،‬ص‪.179‬‬
‫‪- 46‬مناصرية‪ ،‬ميمونة‪ ،‬قراءة سوسيولوجية في المقاربات النظرية للعولمة‪ ،‬مجلة علوم االنسان والمجتمع‪ ،‬العدد ‪ 5‬مارس ‪ ،2013‬ص ‪.256‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ ‬مقاربة الثقافة الكوكبية‪:‬‬
‫‪ ‬مقاربة المجتمع الكوكبي‪:‬‬
‫‪ ‬مقاربة الرأسمالية الكوكبية‪.‬‬
‫عموما فالعولمة كظاهرة‪ ،‬من الصعب الحديث عن قدرتها على توحيد العالم أو جعل الثقافة واحدة‪ .‬ولقد أظهرت‬
‫األزمة االقتصادية العالمية في العشرية األولى من األلفية الثالثة عن الرجعة الكبرى‪ ،‬وتزايد الرغبة في الحمائية والعودة‬
‫إلى الدولة السيادية والثقافة الخاصة‪ ،‬وهو ما دعمه خروج بريطانيا من االتحاد األوروبي‪ ،‬والنقاش الدائر حول تفكيكه‬
‫يوضح األزمة الحقيقة‪ ،‬التي تعيشها النظريات الكبرى المتفائلة بجدوى العولمة‪ .‬فهناك اليوم من المنظرين من يتناول‬
‫‪ ،COOPER‬ومن يعود إلى إخفاقات األشكال األولى للعولمة‬ ‫‪47‬‬
‫المصطلح ويؤكد على حدوده‪ ،‬ومن أهمهم كوبر‬
‫‪ ،BERGER‬في حين يرى آخرون على أنها ظاهرة جماعية‪ ،‬مثل غاي‬ ‫‪48‬‬
‫الماركسية واللبرالية وغيرها كبرجي‬
‫روشي‪ .49‬وهناك من يؤكد على التعددية الثقافية في ظل العولمة‪ ،‬ويرى محدودية قدرتها على إقصاء الثقافة المحلية أو‬
‫القضاء عليها‪ ،‬وهو ما يذهب إليه ارماند ماتالر ‪ Armand Mattelart‬عالم االجتماع البلجيكي‪ -‬الفرنسي‪.50‬‬
‫ومع ذلك فالعولمة الثقافية تتخذ أشكاال مختلفة اليوم‪ ،‬لكن الشكل األكثر تأثيرا ليس االقتصادي أو السياسي أو‬
‫اإليديولوجي‪ ،‬بل التواصلي والتفاعلي‪ ،‬في ظل مجتمع المعرفة والمعلومة واإلعالم‪ ،‬حيث أصبح الحديث عن ثقافة كونية‪،‬‬
‫ثقافة رقمنة اإلنسان‪ ،‬وجعله كائنا افتراضيا‪ ،‬يجد ذاته في التواصل االفتراضي وفي التفاعل غير المباشر وداخل روابط‬
‫اجتماعية ثانوية أكثر منها حقيقية أو قوية‪ .‬ومنه يجب التفكير في األشكال الجديدة للعولمة‪ ،‬تلك األشكال الخفية التي انتقل‬
‫فيها المجتمع من الواقع إلى الرقمي‪ ،‬وانتقل معها موضوع العلوم االجتماعية من المجتمع أو الفرد إلى الرسالة والتغريدة‬
‫واإلعجاب كأصغر وحدة للدراسة‪.‬‬

‫المحور الخامس ‪ :‬الثقافة الحضرية والقروية بالمغرب‬


‫ال يمكن الحديث عن الثقافة الحضرية والقروية بالمغرب دون استحضار التحوالت االجتماعية العميقة‪ ،‬منذ االستقالل‪،‬‬
‫فالفكر والوعي والممارسة والطقوس والقيم االجتماعية تنزع اليوم نحو التوحيد أكثر من التمييز بين الوسطين‪ .‬انتقل البلد من مجتمع‬
‫قروي أيام االستعمار إلى آخر مديني في األلفية الثالثة‪ ،‬سواء من حيث شكل العمران ووجود المرافق العمومية أو االرتباط بالميدان‬
‫الفالحي‪ ،‬كنشاط إنتاجي‪ .‬ولقد سرعت التطور التقني‪ ،‬على مستوى تقنيات التواصل‪ ،‬خاصة مع الفضائيات واالنترنيت من وثيرة‬
‫النمذجة بين المجالين‪.‬‬
‫لقد تغير شكل العائلة‪ ،‬ونمط اإلنتاج في الريف وطبيعة التضامن والتعاون والوعي السياسي وغيره‪ .‬هذا وقد حضي التغير‬
‫االجتماعي والتحوالت باهتمام واسع منذ بداية االستقالل في القرية والمدينة المغربية‪ ،‬ورغم ذلك لم تكن الثقافة من بين المواضيع‬

‫‪47‬‬
‫‪- COOPER F., « Le concept de mondialisation sert-il à quelque chose ? », Critique internationale, n° 10, Janvier 2001 .‬‬
‫‪48‬‬
‫‪- BERGER S., Notre première mondialisation. Leçons d'un échec oublié, Seuil, 2003 .‬‬
‫‪49‬‬
‫‪-Rocher, Guy (2001), « La mondialisation : un phénomène pluriel », dans Daniel Mercure (dir.), Une société-monde? Les‬‬
‫‪dynamiques sociales de la mondialisation, Les Presses de l’Université Laval/De Boeck, Sainte-Foy, Bruxelles.‬‬
‫‪50‬‬
‫‪-MATTELART, A., Diversité culturelle et mondialisation, Paris, Repères -La Découverte, 2007 (l r e éd., 2005).‬‬

‫‪15‬‬
‫المركز ية رغم أنها من مظاهر هذا التحول‪ .‬ولقد كان علماء االجتماع الغربيين من أمثال الزاريف وبول باسكون وجاك بيرك‬
‫واالنغلكوساكسونيون من بين األوائل الذين حاولوا اكتشاف حجم التغير بعد المغرب االستعماري الذي ساد فيه الوعي السياسي‬
‫والقيم الدينية والقيم االجتماعية كالتضامن‪ .‬بينما في سنوات الثمانينيات فقد ظهرت ثلة أخرى تهتم بدراسة المجتمع المغربي من‬
‫خالل قضايا المدرسة والتعليم أو السياسية واالقتصاد أو الهجرة أو مكانة المرأة‪ .‬وفي العشرية األولى من األلفية الثالثة فقد ظهرت‬
‫العديد من الدارسات التي تبنت الديني والجنسانية ومقاربة النوع كقضايا محورية في تصورها للثقافة القرية والحضرية‪ .‬إن الحديث‬
‫عن الثقافة القروية الحضرية يمكن أن نميز فيه بين ثالث محطات‪:‬‬
‫‪ ‬البعد العصبي والقبلي للثقافة أيام االستعمار‪:‬‬
‫لقد تميز مغرب االستعمار بت شابه ثقافي إلى حد كبير بين المدينة والقرية‪ ،‬فرغم اختالف األنشطة بين المجالين‪ ،‬إال أن القيم‬
‫االخالقية واالجتماعية ا و العائلية كانت قريبة من التشابه‪ .‬فمغرب هذه الفترة كانت يتميز بالوحدة االجتماعية واإلحساس باالنتماء‪،‬‬
‫الذي تكرسه القيم الدينية‪ ،‬إضافة إلى االيخاء والتعاون أيام الحصاد والزراعة والبناء واألفراح والوفيات‪ ،‬فالكل كان يحس باالنتماء‬
‫إلى نفس الحي أو المدينة‪ .‬وكانت القيم العائلية من بين أهم ما يميز المجتمع‪ ،‬فهناك ارتباط وثيق بين األجيال داخل العائلة الممتدة‪.‬‬
‫لكن أهم ما كان يطب ع البلد من الناحية االثنولوجية أو االنثروبولوجي‪ ،‬والذي حاولت أن تكشفه الدراسات الغربية هو الطابع القبلي‬
‫والعصبي للبلد‪ .‬حيث ركزت الكثير منها على ذلك‪ ،‬وكشفت عن ثقافة االنتماء للعصبية‪ ،‬ومن أهمها دراسة موليراس‪ ،‬لقبائل الريف‬
‫وأهل جبالة في كتابه " المغرب المجهول" الصادر في جزئين‪ ،‬أوله كان سنة ‪ ،1895‬ودراسات ادومنت دوتي " مراكس" و" في‬
‫القبيلة"‪.‬‬
‫هذا وال يخفى كذلك على أن الدراسات األولى للمغرب كشفت عن الطابع الديني المميز للشخصية المغربية‪ ،‬سواء بالقرية أو‬
‫بالمدينة‪ ،‬ولقد حاولت بعض الدراسات االخرى أن تكشف عن الطبيعة االنقسامية للمغرب‪ ،‬خاصة مع ميشو بلير عندما تم إصدار‬
‫الظهير البربري في ثالثينيات القرن الماضي‪ ،‬وهي األطروحة التي وظف ها روبير مونطاني في دراسته لقبائل سوس‪ ،‬لكن هذه‬
‫األ طروحة تعرضت للكثير من النقد من طرف االنثروبولوج يا االستعمارية نفسها‪ ،‬ومن طرف بعض الباحيثين األوروبيين أنفسهم‪،‬‬
‫من أمثال جاك بيرك وبول باسكون‪.‬‬
‫إن أهم ما ميز المرحلة االستعمارية من جهة أخرى هو تلك الثقافة السياسية‪ ،‬التي ال يمكن التمييز فيها بين الريفي و‬
‫الحضري‪ ،‬فالكل يحس باالنتماء إلى نفس األرض والوطن‪ .‬هذه الثقافة نابعة من القيم الدينية والقبلية والعصبية‪ ،‬التي تميز أبناء‬
‫البلد‪ ،‬كما تنبع من غياب التمييز القبلي أو العصبي عندما يتعلق األمر بالوطن والدين‪ .‬ومنه فالثقافة المغربية أيام االستعمار لم تكن‬
‫نابعة من مكان العيش وال من طريقة اإلنتاج أو تقسيم العمل‪ ،‬لكن كانت نابعة من القيم الدينية والوطنية‪ .‬ومنه يصعب الحديث عن‬
‫تمايز ثقافي بين الريف والمدينة‪.‬‬
‫‪ ‬التمايز الثقافي بين الريف والمدينة في مغرب االستقالل‪:‬‬
‫عرفت السنوات األولى لالستقالل تحوالت عميقة داخل المجتمع المغربي‪ ،‬سواء داخل الريف أو المدينة‪ .‬ومن‬
‫أ همها تزايد فقدان الثقة في المؤسسات واألحزاب الوطنية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬تزايدت االختالالت بين المجالين‪،‬‬
‫ففي الوقت الذي تم فيه االهتمام بالمدينة‪ ،‬عن طريق تزويدها بالمرافق والتجهيزات العمومية‪ ،‬بقي الريف على حاله‪ ،‬وهو‬
‫ما انعكس على مستوى الترقي االجتماعي وعلى ظروف الحياة بالمدينة‪ .‬هذه الفترة تزايد فيها االهتمام بالتحوالت‬
‫االجتماعية والثقافية بالقرية‪ ،‬ومن أهم من تناول هذا الموضوع نجد غرغوري الزاريف‪ ،‬الذي بين طبيعة التمايزات‬
‫الثقافية بين المجالين‪ ،‬انطالقا من معالجته للتغيرات االجتماعية‪ .51‬وفي هذا الشأن ومن هذه المقاربة التاريخية االجتماعية‬
‫انطلق غريغوري الزاريف في دراسته للتغير االجتماعي بالمغرب‪ ،‬حيث يرى الزاريف أن بوادر التغير الذي عرفته‬
‫القرى المغربية ظهرت بشكل جلي بعد االستقالل‪ ،‬لكن هذا ال يعني أن جميع عوامل التغير ظهرت خالل هذه الفترة‪ ،‬ألن‬
‫بعضها بدأ في التأثير منذ زمن بعيد‪ ،‬وتفاعلت مع عوامل جديدة بعد االستقالل لينتج عنها هذا التغير االجتماعي الواضح‬
‫في المجتمع القروي المغربي‪ .52‬وقد حدد الزاريف عوامل التغير االجتماعي في أربعة عناصر أساسية‪ ،36‬ومنها‪ :‬الظواهر‬
‫اإليديولوجية المرتبطة باالستقالل‪ ،‬تغلغل الدولة واختراقها للمجال القروي‪ ،‬ثم المشاكل المرتبطة بالتزايد الديموغرافي‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫‪-Grigori Lazarev (1978). « Changement social et développement : Etudes sociologiques sur le Maroc ». In : B.E.S.M. Rabat :‬‬
‫‪nouvelle édition. p 130.‬‬
‫‪52‬‬
‫‪-Grigori Lazarev (2014).Ruralité et changement social : Etudes sociologiques. Rabat : Editeur FLSH Rabat. Impression‬‬
‫‪Bouregreg. p127.‬‬
‫‪16‬‬
‫وأخيرا تنقيد القرى إن ‪ ،monétarisation des campanes) (la‬والتي تعني سيادة ثقافة النقود في العالقات‬
‫االجتماعية وانتشار المعامالت النقدية في أداء األجور بعد االنتقال من االقتصاد المعاشي إلى اقتصاد السوق‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى هناك من انتبه إلى قيم الفالح‪ ،‬والفرو قات بين الخطاب الذي يحمله الفالح وبين أشكال اإلنتاج‬
‫والممارسة‪ ،‬وخاصة مع برونو ايتيان‪ ،53‬هذا وتنبه آخرون للطبيعة المركبة للمجتمع المغربي‪ ،54‬ومن أهمهم بول باسكون‪،‬‬
‫الذي اهتم بالتحوالت اإلجتماعية والقيمية داخل القرية المغربية في دراسته الصادرة سنة ‪ 1980‬بعنوان "دراسات‬
‫قروية"‪ ،‬وتناول الهجرة كقيمة جديدة وكسلوك اجتماعي جديد‪ ،‬حيث تتبع تنقل قبائل سوس إلى جرادة في دراسته التي‬
‫نشرت سنة ‪. 1954‬‬
‫هذا وعرفت هذه المرحلة دراسة مكثفة للثقافة عند الفالحين‪ ،‬حيث ظهر كتاب "ريمي لوفو" الفالح المغربي مدافعا‬
‫عن العرش" أو كتبات االنثروبولوجي االنجليزي جلنر واألمريكي واتربوري‪ ،‬وكلها تؤكد على الطبيعة االختالفية‬
‫المتزايدة بين الريف والمدية‪ ،‬وهي نفس التحوالت التي حاول الكثير من الباحثين المغاربة تناولها والتركيز عليها‪ ،‬خاصة‬
‫عبد اللطيف بنشريفة‪ 55‬أو محمد كسوس‪.56‬‬
‫وفي نفس اإلطار ذهب العديد من الباحثين المغاربة واألجانب إلى االهتمام بدراسة آثار وانعكاسات التغير‬
‫االجتماعي في المجتمع المغربي‪ .‬ومن أهم هؤالء الباحثين نخص بالذكر رحمة بورقية‪ ،‬المختار الهراس‪ ،‬وعبد الجليل‬
‫حليم‪ ،‬غريغوري الزاريف‪ ،‬فاطمة مسدالي‪ .‬أما المختار الهراس فقد حاول البحث في التحوالت التي عرفتها مناطق‬
‫أقصى شمال غرب المغرب خالل المرحلة االستعمارية وفترة االستقالل‪ .‬وهي تحوالت تركت آثارا بالغة على‬
‫التنظيمات القبلية‪ ،‬التي عرفت جراء ذلك المزيد من التأزم والتفكك‪ .‬ولعل من أبرز مظاهر هذا التحول‪ ،‬في نظره‬
‫انغالق “الحياة القبلية” ضمن حدودها الدنيا‪ ،‬وتغير طبيعة الروابط الزبونية‪ ،‬إضافة إلى تقليص الحياة المشتركية‪ ،‬بما‬
‫‪. 37‬‬
‫ترتب عنه من تصدر للنزعات الفردية وفسح المجال أمام تطور عالقات اجتماعية ذات صبغة طبقية متزايدة‬
‫ومما سبق‪ ،‬يظهر أن استنتاجات المختار الهراس تنم عن رؤية تحليلية نظرية عميقة للتغير االجتماعي‪ .‬ولعل ما‬
‫يؤكد ذلك‪ ،‬هو ما يخلص إليه في مناسبات علمية أخرى حينما أشار إلى أن كل مجتمع إنساني يتضمن ديناميات تغير‬
‫وقوى اجتماعية وسياسية تدفع به في اتجاه أوضاع جديدة‪ ،‬ويحتوي في طياته على ميل “طبيعي” إلى تعديل الكفة‬
‫واستعادة التوازن‪ ،‬ضمانا لالستمرار وحفاظا على حد أدنى من التماسك االجتماعي ‪ . 57‬ومن هنا يبدو أن الهراس قد‬
‫تأثر بالنظريات الوظيفية وأصبح لديه توجه وظيفي في تحليالته وتفسيراته السوسيولوجية‪ .‬ويتأكد لنا ذلك من خالل‬
‫طبيعة المفاهيم التي يستعملها‪ ،‬ثم كذلك سعيه إلى البحث عن أسباب قارة مفسرة للتغير االجتماعي‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى اعتبرت الباحثة رحمة بورقية أن تحليل التحول أو التغير ال ينبغي أن ينطلق من مقاربة معيارية‪،‬‬
‫تطلق عليه حكما إيجابيا أو سلبيا‪ ،‬وإنما من مقاربة تعتبره ظاهرة تاريخية واجتماعية تتطلب الفهم والتفسير‪. 34‬‬
‫‪ ‬تقارب الثقافة بين العالمين في ظل المغرب المعولم والمنفتح‪:‬‬
‫تميزت سنوات التسعينيات وبداية األلفية باالهتمام بالعالم القروي أكثر وبتمدرس الفتاة وفك العزلة عن القرية والحد من‬
‫الهجرة‪ ،‬وغيرها من البرامج الهيكلية‪ ،‬وهو ما انعكس على الثقافة القروية باألساس‪ .‬ولقد تزامن ذلك مع االنتقال من المجتمعات‬
‫ما بعد الحداثية أو بعد ال صناعية إلى مجتمعات شبكية أو رقمية أو إعالمية‪ ،‬خاصة بعد االنفتاح الكبير على مستوى التواصل‬
‫واإلعالم ‪ ،‬وهو ما ساهم في تغير الثقافة بالريف والمدينة على حد سواء‪ .‬فإذا كانت الثقافة قد نزعت إلى االختالف في المرحلة‬
‫األولى من االستقالل فإنها مع األلفية الثالثة بدأت تتوحد وتتقارب‪ .‬لكن مع ذلك ركزت بعض الدراسات ومنها أبحاث رحمة‬
‫بورقية على تغير نظام القيم األخالقية في القرى المغربية‪ ،‬سواء عادات الزواج أو دور المرأة وشكل العائلة المغربية وتراجع‬
‫الرغبة في اإلنجاب عدد كبير من األطفال‪ .58‬كما اهتمت دراسة محمد بو النعناع بالتغير االجتماعي‪ ،59‬وهي نفس القيمة‬

‫‪53‬‬
‫‪-Bruno Etienne, la paysannerie dans le discours et ala pratique , CNRS, les problèmes agraire au Maroc, paris, 1977.‬‬
‫‪54‬‬
‫‪-Paul, pascon la nature composite de la société marocaine, BESM , N 155-156 ? 1986 P 211.‬‬
‫‪55‬‬
‫‪-Benchrifa, A. 1988 Transfert culturel urbain, comportement individuel des agriculteurs et problèmes de développement‬‬
‫‪agricole: éléments d'une problématique, FLSH Rabat, serie colloque N 10.‬‬
‫‪ - 56‬محمد جسّوس‪( ،‬مداخلة) "ندوة حول تحوالت المجتمع المغربي ‪":‬المشروع‪ ،‬العدد ‪ ،6‬يناير‪ -‬فبراير‪ ،1986 ،‬ص ‪114‬‬
‫‪ - 57‬المختار الهراس (‪ ). 2000/1999‬بروز الفرد داخل العائلة في أنجرة‪ :‬الهوية االقتصادية‪ ،‬وصراعات الجنس واألجيال ‪.‬بحث لنيل دكتوراه الدولة في علم االجتماع‬
‫تحت إشراف فاطمة المرنيسي‪ .‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ .‬ص ‪.244‬‬
‫‪ -58‬رحمة بورقية "األرياف المغربية في ظل التحوالت الكبرى للمجتمع"‪ :‬جامعة بن زهر‪ ،‬منشورات كليّة اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬في الفكر والحضارة والمجال‪ ،‬دروس‬
‫جامعية افتتاحية‪ ، 1984 – 2002‬دار المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ ،2002 ،‬ص ‪25858‬‬
‫‪ - 59‬بو النعناع‪ ،‬محمد‪ ،‬سوسيولوجيا التغير االجتماعي‪:‬رؤية نظرية تحليلية‪ ،‬مجلة جيل العلوم اإلنسانية واالجتماعية العدد ‪ 34‬ص ‪.85‬‬
‫‪17‬‬
‫اإلجتماعية التي أكدت عليها دراسات فاطمة مسدالي‪ 60‬والحبيب امعمري‪ ،‬هذا األخير ركز على دور العولمة في التغير‬
‫االجتماعي القيمي واألخالقي واالجتماعي‪ ،‬سواء باألرياف أو بالمدن‪ ،‬خاصة في دراسته سنة ‪.611988‬‬
‫ومن جهة أخرى نجد بعض الدراسات التي تركز على تزايد قيم الفر دانية داخل المجتمع المغربي‪ ،‬باعتبارها قيمة ثقافة‬
‫جديدة‪ ،‬نتيجة للتفكك االجتماعي وتقسيم العمل المتزايد وتنامي الصراع بين الجنسين واألجيال وتحديث اإلنتاج الفالحي‪ ،‬وهي‬
‫دراسة قدمها المختار الهرس سنة ‪ 2000/1999‬لنسل شهادة الدكتوراه‪ .62‬بينما تناولت بورقية في كتاب آخر مسألة التحول في‬
‫ظل المجتمع المغربي‪ ،‬من خالل تغير ثقافة العائلة وثقافة الزواج والعالقة بين الجنسين وثقافة اإلنجاب وتأثير المدرسة على‬
‫نظام القيم بالريف‪.63‬‬
‫إن األلفية الثالثة قد عرفت تراجع الفروقات الثقافية الكبرى بين الريف والمدينة‪ ،‬سواء على مستوى التضامن‪ ،‬فلم يعد‬
‫هناك تضامن كما كان سائدا‪ ،‬فالعالقات االجتماعية المترابطة التي كانت تعرفها القرية‪ ،‬خاصة أيام المواسم واإلنتاج الفالحي‬
‫واألعراس لم تعد بتلك العمق الذي كانت عليه‪ .‬أما عن القيم األخالقية‪ ،‬فالريف لم يعد مجاال للمحافظين بل أصبحت تحكمه القيم‬
‫الجيدة‪ ،‬القائمة على االستمتاع والتلذذ‪ ،‬ولم يعد الكفاف والمعاشي محددا لخصائصه‪ .‬وعرفت االرياف تعنوعا كبيرا من حيث‬
‫الوظائف والمهن‪ ،‬وتم التخلص من االنتماء إلى طبقة الفالحين‪ ،‬وتغير شكل السكن والمراق وتعمق األمر مع وجود المدارس‬
‫الثانوية وربط األرياف بوسائل االتصال واإلعالم الحديثة وانتشار الهواتف الذكية والفضائيات‪.‬‬
‫فليس هناك اختالف على المستوى الطقوس الدينية أو العالقات االجتماعية(التفكك) أو شكل العائلة‪ ،‬حيث سادت العائلة‬
‫النووية وتراجع التماسك االجتماعي وتوسع االنفتاح اإلعالمي والرقمي‪ .‬وبالتالي اتجهنا إلى توحيد الثقافة الريفية والحضرية‬
‫أكثر منه إلى اختالفها‪ ،‬وانتقلنا إلى مجتمعات شبكية بتعبيرات مانويل كاسيل تربطنا فيها عالقات كثيرة مع أناس ال نعرفهم‪،‬‬
‫لكن هذه العالقات ثانوية باألساس‪.‬‬

‫‪60‬مسدالي فاطمة (‪). 2005‬المجتمع القروي الدكالي والتغير المرتبط بتدخل الدولة الزمامرة نموذجا ‪.‬الرباط‪ :‬دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬
‫‪ -61‬امعمري لحبيب‪ ،2010 ،‬التغير االجتماعي ورهانات العولمة ‪.‬فاس‪ :‬منشورات دار ما بعد الحداثة‪ .‬الجزء األول‪.‬‬
‫‪62‬المختار الهراس ‪ ،2000/1999 ،‬بروز الفرد داخل العائلة في أنجرة‪ :‬الهوية االقتصادية‪ ،‬وصراعات الجنس واألجيال ‪.‬بحث لنيل دكتوراه الدولة في علم االجتماع‬
‫تحت إشراف فاطمة المرنيسي‪ .‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪.‬‬
‫‪63‬بورقية رحمة (‪ ). 2004‬مواقف‪ :‬قضايا المجتمع المغربي في محك التحول ‪.‬الدار البيضاء‪ :‬مطبعة النجاح الجديدة‪.‬‬

‫‪18‬‬
19

You might also like