نهايات

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 50

‫‪1‬‬

‫نـهــايـات ‪ ...‬عبد الرحمن منيف‬

‫إنه القح ط‪ ..‬م رة أخ رى! وفي مواسم القحط تتغ ير الحي اة واألش ياء‪ ,‬وح تى البشر يتغ يرون‪ ,‬وطب اعهم‬
‫يرا ما تتك رر‪,‬‬
‫تتغ ير‪ ,‬تتولد في النف وس أح زان تب دو غامضة أول األم ر‪ ,‬لكن لحظ ات الغض ب‪ ,‬ال تي كث ً‬
‫جموحا‪ ,‬ويمكن أن تأخذ أش كاالً ال حصر له ا‪ .‬أما إذا م َّرت الغي وم عالية‬
‫ً‬ ‫تفجرها بسرعة‪ ,‬تجعلها معادية‪,‬‬
‫ّ‬
‫دِّي!‬ ‫تائم والتح‬ ‫س ريعة‪ ,‬فحينئذ ترتفع الوج وه إلى أعلى وقد امتألت بنظ رات الحقد والش‬
‫وحين يجيء القحط ال ي ترك بيتًا دون أن يدخل ه‪ ,‬وال ي ترك إنس ا ًنا إالَّ ُ‬
‫ويخلّف في قلبه أو في جس ده أث ًرا‪.‬‬
‫الم ْحل‬
‫وإ ذا ك ان المس ّنون قد تع ودوا‪ ,‬منذ ف ترة طويل ة‪ ,‬لف رط ما م َّر بهم من أي ام قاس ية‪ ,‬على س نوات ُ‬
‫وعض ة الج وع‪ ,‬وك انت المخ اوف تمأل قل وبهم حين يف ّك رون فيه ا‪ ,‬ف الكثيرون غ يرهم ال يق درون على‬
‫ّ‬
‫جانب ا‪ ,‬بإص رار ق وي أول األم ر‪,‬‬
‫مواجهتها بالتصميم نفسه‪ ,‬ألن الكمي ات القليلة من الحب وب ال تي توضع ً‬
‫ف المج رى‪.‬‬ ‫زادا في أي ام الج وع ال تلبث أن تتس ّرب أو تختفي‪ ,‬كما يتس ّرب م اء النبع أو كما يج ّ‬
‫لتك ون ً‬
‫وتب دأ بعد ذلك مح اوالت البحث المض ني عن خ بز الي وم‪ ,‬وخالل ه ذا البحث ت تراكم األح زان والمخ اوف‬
‫مرعبا تظهر آثاره في وجوه الصغار‪ ,‬وفي سهوم الرجال وشتائمهم‪ ,‬وفي الدموع الص غيرة‬
‫ً‬ ‫شبحا‬
‫لتصبح ً‬
‫ال تي تتس اقط من عي ون النس وة دون أس باب واض حة! َّإنه القحط م رة أخ رى‪ .‬وها هو ذا يس وق أمامه‬
‫أشياء ال حصر لها‪ ,‬وال يعرف أحد كيف تتجمع هذه األشياء وكيف تأتي‪ .‬فالفالحون ال ذين ك انوا يحمل ون‬
‫س الل ال بيض وي نزلون بها إلى أط راف المدينة‪ ,‬ويتج رأون بعض األحي ان ويص لون إلى وسط األس واق‬
‫المليئة بالبشر‪ ,‬والرع اة ال ذين ك انوا يأخ ذون أجر س نة كاملة بض عة خ راف‪ ,‬وك انوا يس وقونها في بداية‬
‫لتوه ا‪ ,‬لكي يبيعوها‬
‫فصل الربيع‪ ,‬ومعها الحمالن الص غيرة‪ ,‬وك انوا يض عونها على ص دورهم ألنها ول دت ّ‬
‫في المدين ة‪ ,‬ثم أولئك الباعة الم اكرون ال ذين يحمل ون على دوابهم العنب وال تين والتف اح‪ ,‬ويحمل ون‬
‫موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة ال تي تع ّودوا اس تعمالها أوزا ًن ا‪ ,‬ويب الغون أول األمر في‬
‫األسعار التي يطلبونها إن كل هؤالء إذا ج اءوا في مواسم القحط يج يئون بهيئ ات مختلفة ش ديدة الغراب ة‪:‬‬
‫أما أص واتهم القوية الص اخبة‬
‫ك انت مالبس هم ممزقة وغريبة األل وان‪ ,‬وعي ونهم مليئة ب الحزن والخ وف‪َّ ,‬‬
‫فكانت تنزلق إلى الداخل‪ ,‬وبدالً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة‪ ,‬حتى إنهم كانوا يض طرون‬
‫يوجهها لهم أص حاب ال دكاكين في‬
‫إلى إع ادة ما يقول ون بضع م رات‪ ,‬بن اء على األس ئلة الفظة ال تي ّ‬
‫المدينة‪ ,‬والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤالء الناس قدر ما ينظرون إلى األيدي أو إلى تلك الصرر‬
‫الص غيرة المربوطة بإحك ام في أط راف المالبس ال تي يض عونها على أجس ادهم أو على رؤوس هم‪ .‬ك ان‬
‫ه ؤالء إذا ج اءوا في مثل ه ذه الس نين ال ي بيعون ال بيض والفاكهة والزيت ون والخ راف‪ ,‬وإ نما يح اولون‬
‫ش راء أقصى ما تس مح به نق ودهم القليلة من ال دقيق والس كر‪ .‬ح تى الرع اة ال ذين ك انوا ش ديدي ال نزق‬
‫يفض لون الع ودة م رة أخ رى ومعهم دوابهم‪,‬‬
‫ويبالغون في المقابل الذي يطالبون به ثم ًنا للخ راف‪ ,‬وك انوا ّ‬
‫‪2‬‬

‫دون ش عور باألسف ألنهم لم ي بيعوا ولم يش تروا ح تى ه ؤالء يتحول ون في مثل ه ذه الس نة إلى رج ال‬
‫متوسلين‪ ,‬ألنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المس ّنة‪ ,‬إذ أص بحوا يخ افون خوفًا حقيقيًّا‬
‫ّ‬ ‫مترددين‬
‫ّ‬
‫أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش‪.‬‬
‫أما الباعة ال ذين تع ّودوا المجيء في كل المواس م‪ ,‬ح املين من كل موسم ثم اره‪ ,‬وفي بعض األحي ان‬
‫شيئا في هذه المواس م‪ ,‬وك َّأنهم مجموعة من القنافذ تك ورت‬
‫يعد أحد يراهم يحملون ً‬
‫للتجول والفرجة‪ ,‬فلم ُ‬
‫وهربت أشياءها إلى باطن األرض!‬
‫ّ‬
‫ألن العالقة بين المدينة وما يحيط بها هي من الق وة‬
‫استغرابا‪َّ ,‬‬
‫ً‬ ‫لو اقتصر األمر على هذه المظاهر لما أثار‬
‫يميز بس رعة التغ ير المف اجئ ال ذي أخذ يتك ون‪ ,‬لكن مع تلك المظ اهر‬
‫واالس تمرار بحيث ال يمكن ألحد أن ّ‬
‫ك انت أش ياء أخ رى كث يرة تحص ل‪ .‬فالتج ار ال ذين تع ّودوا على تق ديم الق روض الص غيرة للفالحين‪,‬‬
‫مليئا بالش روط والتعنت‪ ,‬ثم ما‬
‫واستيفائها أضعافًا مض اعفة في المواس م‪ ,‬اتخ ذوا موقفًا‪ ,‬ب دا‪ّ ,‬أول األم ر‪ً ,‬‬
‫وا‪.‬‬ ‫وا أن امتنع‬ ‫لبث‬
‫أسبابا وخص ومات‪ .‬أما ال ذين اس تمروا في تق ديم بعض المس اعدات‪ ,‬فقد رفض وا أن‬
‫ً‬ ‫تماما‪ ,‬وافتعلوا لذلك‬
‫ً‬
‫وأصروا على ش روط جدي دة‪ .‬أص ُّروا على أن تس ّجل أقس ام كب يرة من‬
‫ّ‬ ‫يكون سدادها في المواسم القادمة‪,‬‬
‫األراضي التي يمتلكها الفالحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم‪ ,‬وفي محاولة إلثبات حسن النية ق الوا الكلم ات‬
‫دائم ا‪( :‬ال دنيا حي اة وم وت‪ ,‬واإلنس ان ال يض من نفسه في الي وم ال ذي يعيش في ه‪,‬‬
‫ال تي يقولها ال دائنون ً‬
‫فكيف يضمن حياة أوالده الصغار بعد موته?)‪ .‬كانوا ال يكتفون بذلك‪ ,‬ك انوا يض يفون‪( :‬وكما ق ال اهلل ع َّز‬
‫اتب بالع دل‬
‫وجل في كتابه الك ريم‪ :‬إذا ت داينتم ب َد ْين إلى أجل مس ًّمى ف اكتبوه و ْليكتُ ْب بينكم ك ٌ‬
‫والفالح ون ال ذين ق ابلوا إص رار ه ؤالء ال دائنين بإص رار أق وى‪ ,‬ورفض وا تس جيل األراض ي‪ ,‬أول األم ر‪,‬‬
‫الحلي الذهبية والفض يَّة القديم ة‪ ,‬وال تي جمعت خالل ف ترات طويلة‬
‫ّ‬ ‫اض طر الكث ير منهم إلى اس تخراج‬
‫عوض ا من الطحين والس كر وبعض أمت ار من الخ ام‪ .‬وفي وقت آخر وافق بعض هم على‬ ‫ً‬ ‫سابقة‪ ,‬وق ّدموها‬
‫التن ازل وق ّدم األراضي والبس اتين ال تي طلبها ال دائنون‪ .‬ومع كل ص فقة جدي دة ك انت أثم ان األرض في‬
‫القرى تتراجع‪ ,‬وكان التجار ي زدادون تص ًلبا وال يوافق ون إالَّ بش روطهم‪ ,‬وبعد أن تتم جميع اإلج راءات!‬
‫أيضا‪ :‬تأتي األم راض الغامض ة‪ ,‬وتعقبها الوفي ات‪ .‬ك ان الكب ار يموت ون من‬
‫ومع القحط تأتي أشياء أخرى ً‬
‫الح زن‪ ,‬والص غار تنتفخ بط ونهم وتص يبهم الص فراء ثم يتس اقطون‪ .‬وإ ذا ك ان الن اس قد تع ّودوا على‬
‫الم وت‪ ,‬ولم يعد يخيفهم كما ك ان األمر في أوق ات أخ رى‪ ,‬ب رغم أنه يتس بب كل األوق ات في تفج ير آالف‬
‫إن حالة أق رب إلى االنتظ ار الي ائس ك انت تح وم ف وق كل بيت وتس بح في دم‬
‫األحزان واألحق اد القديم ة‪ ,‬ف َّ‬
‫كل مخل وق‪ .‬ح تى ال دواب في حواك ير ال بيوت‪ ,‬أو في أط راف البس اتين‪ ,‬ك انت تس يطر عليها حالة من‬
‫أس‪.‬‬ ‫بية والي‬ ‫العص‬
‫وفي ه ذي الس نين‪ ,‬ومع الج وع والم وت‪ ,‬ت أتي أف واج ال حصر لها من الطي ور‪ .‬ومثلما ك انت الغي وم‬
‫تمر مسرعة‪ ,‬كذلك ك انت الطي ور‪ .‬فقد ك انت أفواجها تع بر في كل األوق ات‪ ,‬ح تى في الليل‬
‫الخفيفة العالية ّ‬
‫‪3‬‬

‫العمي ق‪ ,‬عالية ص ائتة‪َّ ,‬‬


‫وكأنها ذاهبة إلى الم وت أو إلى مجه ول ال تع رف م تى أو أين س يكون‪.‬‬
‫كان الناس ينظ رون إلى الطي ور نظ رة مليئة ب الحزن واألس ى‪ .‬تمن وا لو ك انت قريب ة‪ ,‬أو لو تتوقف قليالً‪,‬‬
‫يعوض هم عن الج وع ال ذي يه ّدهم‪ ,‬لكن الطي ور تواصل طيرانها المتعب لعلّها‬ ‫ٍ‬
‫لعلهم يظف رون بع دد منها ّ‬
‫يئا م ا‪ ,‬لكن ه ذا الش يء ال‬
‫تصل إلى مك ان ما‪ .‬والن اس ال يتوقف ون عن النظر والحس رة‪ ,‬ويتوقع ون ش ً‬
‫يحصل أب ًدا‪ ,‬ألن أس راب الك ركي وال وز ال بري‪ ,‬وعش رات األس راب من الطي ور األخ رى واص لت رحلتها‬
‫المجه دة دون توقّ ف‪ .‬أما أس راب القطا والك دري فقد ب دأت تظهر بين ف ترة وأخ رى‪ .‬والفالح ون ال ذين‬
‫تعلم وا أن ه ذا الن وع من الطي ور ال ي ترك أماكنه الص حراوية‪ ,‬ويق ترب من المن اطق المزروع ة‪ ,‬إالَّ إذا‬
‫عض ه الج وع وأض ناه العطش‪ .‬ولم تعد واح ات الص حراء أو الخ وابي المتن اثرة في أم اكن عدي دة تح وي‬
‫ّ‬
‫قط رة م اء‪ ,‬فقد الحظ وا أن ه ذه الطي ور ب دأت تتخلى عن الح ذر والخ وف‪ ,‬أول األم ر‪ ,‬مدفوعة بغري زة‬
‫اء‪.‬‬ ‫رات من الم‬ ‫ات أو قط‬ ‫ان لعلها تلتقط بضع حب‬ ‫دفع إلى أي مك‬ ‫اء‪ ,‬فتن‬ ‫البق‬
‫َّإنها المأس اة نفس ها تتك ّرر م رة أخ رى أم ام عي ون الفالحين‪ ,‬وهم قد تع ّودوا الص بر واالنتظ ار‪ ,‬وتع ّودوا‬
‫رددون إذا س ئلوا عن المواسم والزراع ة‪( :‬المواسم ال‬ ‫أكثر من ذلك أن يب دوا التش اؤم والتحف ظ‪ ,‬وك انوا ي ّ‬
‫تعني األمطار التي تأتي فقط‪ ,‬وإ نما أمور أخرى كثيرة)‪ .‬ف إذا حص لت لجاجة في الس ؤال ك انوا يختص رون‬
‫كل شيء بالكلمات التالية‪( :‬المواسم تعني ما يقسمه اهلل وما يتركه الطير)‪ ,‬ألنهم في أعماقهم يخافون كل‬
‫ش يء‪ ,‬يخ افون انحب اس المطر في الش هور ال تي يجب أن يس قط فيه ا‪ ,‬أما إذا ج اء مبك ًرا ونما ال زرع‬
‫شبرا أو شبرين عن األرض‪ ,‬فكانوا يخافون أن يأتي مطر غزير بعد ذلك االنقطاع‪ ,‬وعندها تغرق‬ ‫وارتفع ً‬
‫هي ًنا متفرقً ا‪ ,‬وفي األوق ات ال تي‬
‫األرض وتنمو األعشاب الطفيلية ويفسد أو يق ّل الموسم‪ .‬فإذا ج اء المطر ّ‬
‫إن الخ وف يظل ح تى األي ام األخ يرة من أي ار‪ ,‬حين تش تد الح رارة فج أة وتح رق كل‬
‫يجب أن يأتي فيه ا‪ ,‬ف َّ‬
‫ش يء‪ ,‬فتخيب اآلم ال وت تراجع الوع ود ال تي أعطاها الرج ال للنس اء ب أثواب جدي دة‪ ,‬وللفتي ان ال ذين‬
‫تجاوزوا سن البلوغ وأصبحوا يطمح ون إلى ال زواج إن ج اءت المواسم الجدي دة ب الخير‪ .‬إن ه ذه الوع ود‬
‫يوما بعد آخر ألن (الشوبة) جاءت وقضت على كل شيء!‬
‫تتراجع ً‬
‫إن أح ًدا ال يحب أن يت ذكر أي ام القح ط‪ .‬أما إذا ج اءت قاس ية جارف ة‪ ,‬وإ ذا تك رر مجيئها س نة بعد أخ رى‪,‬‬
‫َّ‬
‫يفضلون الموت أو القتل ثم الرحيل على هذا االنتظار القاسي‪ ,‬وآخ رون ين دفعون إلى حالة من‬
‫فالكثيرون ّ‬
‫القسوة واالنتقام ال يتصورها أحد فيهم‪ ,‬بل ويستغربها هؤالء الناس أنفس هم في غ ير ه ذه األوق ات‪ ,‬وفي‬
‫ممن يرس لها‪ ,‬فال ب َّد أن تك ون‬
‫غ ير ه ذه الظ روف‪ .‬وإ ذا ك ان اإلنس ان ال يس تطيع أن ينتقم من الغي وم أو ّ‬
‫هن اك ض حايا من ن وع آخ ر‪ .‬ف األزواج ال ذين أب دوا من الس ماحة الش يء الكث ير‪ ,‬ولم يتع ودوا الش تيمة أو‬
‫ترددون في أن‬
‫يغيروا هذه العادات بسهولة‪ ,‬ودون شعور بال ذنب‪ .‬ك انوا ال ي ّ‬
‫الضرب‪ ,‬كانوا مستعدين ألن ّ‬
‫يض ربوا ويص رخوا ألتفه األس باب‪ .‬وال ذين ك انوا يب دون الم رح ويظه رون التف اؤل‪ ,‬يتحول ون فج أة إلى‬
‫ويع ّدون كل ما ت أتي به‬
‫رج ال قس اة بوج وههم وتص رفاتهم‪ .‬وح تى أولئك ال ذين ك انوا ش ديدي اإليم ان َ‬
‫السماء امتحا ًنا لإلنسان‪ ,‬ال يلبثون أن يصبحوا ضحايا وأك ثر الن اس ش تيمة وتج ديفًا‪ ,‬ح تى ليس تغرب َمن‬
‫‪4‬‬

‫ع رفهم من قبل كيف ك ان ه ؤالء الن اس يخزن ون في ص دورهم ه ذا المق دار الهائل من الش تائم واألفك ار‬
‫المحرمة!‬ ‫الخاطئة‬
‫هكذا كان القسم األكبر من الناس في تلك السنة القاس ية الطويل ة‪ .‬وإ ذا ك ان لكل قرية ولكل مدينة في ه ذا‬
‫الع الم مالمحها وطريقتها في الحي اة‪ ,‬ولها أس ماؤها ومقابره ا‪ ,‬وإ ذا ك ان لكل قرية ومدينة مخاتيرها‬
‫ومجانينه ا‪ ,‬ولها نهرها أو نبع الم اء ال ذي تس تقي من ه‪ ,‬وفيها مواسم األع راس بعد الحص اد‪ ,‬فقد ك ان‬
‫أيض ا حياتها وطريقتها في المع اش‪ ,‬وك ان لها مقبرتها وأعراس ها‪ ,‬وك ان في الطيبة مجانينها‬
‫للطيبة ً‬
‫دائما وال يتذكرهم الناس في كل األوقات‪ ,‬وإ ن ك ان لهم حض ورهم‬
‫أيضا‪ .‬لكن هؤالء المجانين ال يظهرون ً‬
‫ً‬
‫كبارا وأقوياء في أوقات معينة‪ ,‬وك انوا حمقى وش ديدي الغرابة في أوق ات‬
‫وجنونهم الخاص‪ ,‬بحيث كانوا ً‬
‫رى‪.‬‬ ‫أخ‬
‫دائما أعراسها وأحزانها‪ .‬ك انت األع راس‪ ,‬في أغلب األحي ان‪ ,‬بعد الحص اد‪ ,‬وك انت األح زان‬
‫وكان للطيبة ً‬
‫إن األح زان‬
‫حين ينقطع المطر وتمحل األرض‪ .‬وإ ذا كانت األعراس تعني بعض الن اس‪ ,‬ولبعض ال وقت‪ ,‬ف َّ‬
‫وفي سنوات المحل‪ ,‬تعني جميع الناس‪ ,‬وتمتد فترة طويلة‪.‬‬
‫الطيبة مثل أي مك ان في ال دنيا‪ ,‬لها أش ياؤها ال تي تفخر به ا‪ .‬قد ال تب دو ه ذه األش ياء خط يرة‪ ,‬أو ذات‬
‫أهمية بالنسبة ألماكن أخ رى‪ ,‬لكنها بالنس بة للطيبة ج زء من المالمح ال تي تميزها عن غيرها من الض يع‬
‫تكونت بفعل الزمن‪ ,‬وبفعل الطبيعة القاسية‪ ,‬كما لم يحصل في أم اكن أخ رى‪ .‬ف إذا‬
‫والقرى‪ .‬وهذه األشياء َّ‬
‫الجرس ص لبة‬
‫كانت األصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى‪ ,‬حتى لتبدو أصوات الفالحين عالية ْ‬
‫المخارج‪ ,‬وبعض األحيان س ريعة‪ ,‬وتتخللها مجموعة من ِ‬
‫الح َكم واألمث ال‪ ,‬كما هي الع ادة ل دى الكث ير من‬
‫الفالحين في أنح اء عدي دة من الع الم‪ ,‬نظ ًرا للع ادة وللمس افات ال تي تفصل الن اس بعض هم عن بعض في‬
‫الحقول‪ ,‬أو حين يضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة‪ ,‬أو على تلك ال تي ت ذهب بمزاجها الغ ريب إلى‬
‫أماكن بعيدة أو مجهولة‪ ,‬أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض‪ ,‬وما يحيط بها من الحواكير‬
‫والبس اتين الص غيرة ال تي ت زرع فيها أن واع عدي دة من الخض راوات ‪ -‬ف إن ه ذه األس باب‪ ,‬وغيرها كث ير‪,‬‬
‫خلقت طبيعة معينة‪ ,‬وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقة خاصة‪ ,‬ح تى ليظن َمن يس مع الح ديث وال‬
‫يفهم طبيعة الناس أو عالقاتهم‪َّ ,‬أنهم يتعاركون‪ ,‬أو أن الخالف بينهم وصل إلى درجة من الحدة‪ ,‬ال َّ‬
‫بد أن‬
‫تعقبه أمور أخرى! ‪.‬‬
‫يئا‪ ,‬خاصة بالنس بة للفالحين أو ال ذين يعرف ون طب ائعهم‪.‬‬
‫لو اقتصر األمر في الطيبة على ذلك لما ع ني ش ً‬
‫تعوده أهل الطيبة‪ ,‬حيث يلج أون في أك ثر األحي ان‬
‫لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي ّ‬
‫إلى االس تطراد والت ذكر‪ ,‬ويس رفون في رواية القصص والت اريخ‪ ,‬فإنه ل وال ه ذه الص فة لما ظه رت تلك‬
‫تميز البشر في ذلك المك ان‪ ,‬وما يحيط به من ق ًرى‬
‫الطبيعة الخاص ة‪ ,‬ولما ظه رت تلك الخش ية ال تي ّ‬
‫أيضا!‬
‫وضياع‪ ,‬وقد تصل إلى المدينة‪ ,‬أو بعض أطرافها ً‬
‫‪5‬‬

‫كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقة العجيبة التي تجعل األمور ذات أهمية ش ديدة‪.‬‬
‫خاص ا من الن اس‪ ,‬وتجعلهم‬
‫ًّ‬ ‫نوعا‬
‫وهذه الميزة التي يتوارثها األبناء عن اآلباء‪ ,‬تجعلهم في نظر الكث يرين ً‬
‫أكثر من ذلك قادرين على التأثير في اآلخرين‪ ,‬وربما إقناعهم‪ .‬وال يمكن تفسير هذا األمر على أنه ض رب‬
‫من االحتي ال أو التملُّق‪ ,‬كما ال يمكن أن ُي َع ّد دليالً على نزعة ش ريرة‪ ,‬ولكنها الع ادة بتكرارها ال دائم‪ ,‬ثم‬
‫تلك اللي الي الطويل ة‪ ,‬لي الى الس مر واألح اديث الس ائبة‪ ,‬ثم التح ديات‪ ,‬وما تج ّر إلي ه‪ ,‬ولي الى الص يف أو‬
‫شجية وأقرب ما‬
‫الشتاء‪ ,‬في البيادر أو إلى جانب النبع‪ ,‬وحول المواقد‪ .‬لقد كانت األحاديث تجري سريعة ّ‬
‫تك ون إلى الحلم‪ .‬وك ان ال ذين ال يحس نون المش اركة في أح اديث من ه ذا الن وع‪ ,‬ال يلبث ون أن يص بحوا‬
‫رددون القصص ال تي‬ ‫بش ًرا مختلفين إذا ُوج دوا بين أن اس آخ رين‪ ,‬عندئذ يب دأون بإع ادة ما س معوا وي ّ‬
‫رويت في الطيبة‪ ,‬ثم يضيفون إليها ما شاؤوا من الخيال‪ ,‬فتبدو َّ‬
‫وكأنها أقرب إلى الذكاء والمه ارة‪ ,‬فتث ير‬
‫من اإلعجاب بمقدار ما تثير من الحسد‪.‬‬
‫غيرا‪ ,‬يع رف كيف يس مع‪ ,‬وإ ن ك ان الص غار‪ ,‬بش كل خ اص‪ ,‬أك ثر ق درة على‬
‫كبيرا كان أم ص ً‬
‫وابن الطيبة‪ً ,‬‬
‫اإلص غاء‪ ,‬ولربما ردَّدوا فيما بينهم أو في أنفس هم‪ ,‬ما س معوا م رات كث يرة‪ ,‬ح تى تترسخ في ال ذاكرة‬
‫األش ياء فال تض يع وال تنس ى‪ ,‬يض اف إليها أفك ار وأمث ال تَ ِرد عفو اللحظة وتمليها الظ روف‬
‫الطارئة ال تي يواجهونه ا‪َّ .‬إنهم يلج أون إلى ذلك كله لكي تب دو أح اديثهم أك ثر تش ويقًا وأك ثر أهمية!‬
‫والطيبة ال تي تعتمد على المطر والزراعة‪ ,‬وعلى ذلك الش ريط الض يق من األرض ال ذي ترويه العين‪,‬‬
‫الم ْحل‪ .‬وإ ذا كانت تس تعد ل ذلك بح رص ش ديد‪ ,‬بتربية بق رة‬
‫دائما أن تأتي سنوات ُ‬
‫تحس في أعماقها خوفًا ً‬
‫ّ‬
‫فإنها في س نوات المحل ال تس تطيع أن تطعم‬ ‫أو اثن تين في كل بيت‪ ,‬وبتربية ع دد من رؤوس الغنم‪َّ ,‬‬
‫أبناءه ا‪ ,‬ول ذلك تس رف فيما تعطي للرع اة‪ ,‬وتح اول أن تتخلص من ال دواب الباقية ب ذبحها أو بيعه ا‪.‬‬
‫إن ُرعاتها من البراعة بحيث يحس دهم‬
‫وبرغم أن ع دد الرع اة في الطيبة أقل بكث ير من الق رى األخ رى‪ ,‬ف َّ‬
‫الكث يرون‪ ,‬ف الراعي ال ذي يس رح بغنم عش رة بي وت‪ ,‬ويع رف كيف يتص رف في كل الفص ول‪ ,‬وإ لى أين‬
‫ي ذهب‪ -‬ه ذا ال راعي‪ ,‬ب رغم غيابه الطويل في الفالة‪ ,‬يظهر فج أة في س نوات المح ل‪ ,‬ويمتلك دالّة على‬
‫أما المزايا‬
‫أص حاب الغنم الس ابقين‪ ,‬بحيث ين ام ويق وم في أي بيت يريد دون ش عور ب الحرج أو ال تردُّد‪َّ .‬‬
‫الخفية ال تي يمتلكها الرع اة وال تظهر للن اس في المواسم الجي دة فال تلبث أن تظهر في س نوات القح ط‪.‬‬
‫ويتحول قسم منهم إلى الصيد‪ ,‬لكن العادات ال تي اكتس بوها في ال رعي ال‬
‫ّ‬ ‫فهم يرابطون في مداخل القرية‪,‬‬
‫تف ارقهم‪ .‬وأهل الطيبة ال ذين يمت ازون بق درة خارقة على الح ديث‪ ,‬ي دركون أن الرع اة فق دوا ه ذه الم يزة‬
‫لك ثرة ما عاش وا مع الحيوان ات في ال براري‪ ,‬لكنهم يعرف ون كيف يس تطيع ه ؤالء أن يتج اوزوا الص مت‬
‫أيض ا كيف يس تعملون تلك اآلالت الخش بية‪,‬‬
‫يرددونها في الفالة‪ ,‬ويعرف ون ً‬
‫بتلك األغ اني العجيبة ال تي ّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫والتي ال يحسن استعمالها غيرهم‪ ,‬في مواسم األعراس والحصاد‪ ,‬وربما في حاالت الحزن ً‬
‫ُناس ا ال‬
‫به ذه الطريق ة‪ ,‬وبمعرفة األم اكن ال تي تعيش فيها الحيوان ات‪ ,‬يص بح الرع اة في مواسم الجف اف أ ً‬
‫غ نى عنهم‪ ,‬لكنهم في أغلب األحي ان ال يتقن ون الص يد‪ ,‬وليست بينهم وبين الص يادين م ودة‪ .‬فهم ال‬
‫‪6‬‬

‫يرا من‬
‫يحب المس نون أن يس ّموها‪ ,‬ويحت الون كث ً‬
‫يتخل ون عن الغن اء أو عن تلك اآلالت الش يطانية‪ ,‬كما ّ‬
‫أجل إب داء ب راعتهم في كل األوق ات‪ ,‬خاصة إذا تجمع الن اس‪ ,‬وك انت هن اك ض رورة من ن وع ما!‬
‫الطيبة بداية الص حراء‪ .‬من ناحية الش رق البس اتين والنبع والس وق بعد ذل ك‪ ,‬وعند األف ق‪ ,‬تب دأ سلس لة‬
‫الجب ال‪ .‬ومن ناحية الش مال والغ رب تمتد س هول فس يحة‪ ,‬يتخلّلها بين مس افة وأخ رى بعض الهض اب‪.‬‬
‫وهذه السهول تزرع بأنواع كثيرة من الحبوب‪ .‬كانت تزرع بالحنطة والشعير والكرسنة والبرس يم وبعض‬
‫قريبا من األش جار المثم رة‪ .‬أما‬
‫أصناف البق ول‪ ,‬وفي األم اكن القريبة من البل دة ترتفع مس اكب الخض رة‪ً ,‬‬
‫ذراعا بعد آخر‬ ‫تدريجيا‪ ,‬وتخالطها الحج ارة الكلس ية‪ ,‬وتب دأ تُ ِ‬
‫قفر‬ ‫ّ‬ ‫من ناحية الجنوب فكانت األرض تشحب‬
‫ً‬
‫حتى تتحول في بداية األفق إلى كثبان رملية‪ ,‬وبعد ذلك تبدأ الصحراء‪.‬‬
‫في المواسم الجي دة تخض ّر الطيبة وتعبق من كل جهاتها‪ ,‬وتمتلئ ب الورد والنبات ات العجيبة األل وان‬
‫واألش كال في بداية الربي ع‪ .‬ح تى الجهة الجنوبية ال تي تب دو في أواخر الص يف متجهمة قاس ية‪ ,‬ال يع رف‬
‫اإلنس ان وال يس تطيع أن يفسر كيف ك انت ق ادرة على أن تق ذف من جوفها كل ه ذه الكن وز‪ ,‬وكيف ك انت‬
‫أفواجا اللتق اط الثم ار العجيبة المخب وءة في بطن األرض‪,‬‬
‫ً‬ ‫تشد أهل الطيبة في بداية الربيع لكي ي ذهبوا‬
‫وما يخالط ذلك المهرج ان من ال ذكريات عن أي ام ك انت فيها الحي اة أك ثر روعة وخص ًبا‪ .‬إن ه ذه البل دة‬
‫تتصف بمزايا وصفات ليست متاحة لكثير من القرى المجاورة‪ .‬حتى الرعاة األغراب الذين كانوا يحلم ون‬
‫يرا من م راعي الطيب ة‪ ,‬وال يتج اوزون ح دًّا‬
‫بالوصول إلى المراعي الخصبة‪ ,‬ال يجرؤون على االقتراب كث ً‬
‫معي ًنا‪ ,‬ألنهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدة‪ ,‬وما قد يرتكبونه من حماق ات إن اعت دى‬
‫غريب على رزقهم أو حياتهم‪.‬‬
‫أيضا ال ذين عاش روا أهله ا‪ .‬وإ ذا ك انت‬
‫هذه األمور يعرفها ويتصف بها كل من عاش في الطيبة‪ ,‬ويعرفها ً‬
‫بعض الق رى ق ادرة على أن تق ذف من جوفها أبن اء كث يرين‪ ,‬وت رميهم في أنح اء األرض كله ا‪ ,‬وتفقد بعد‬
‫يرا‪ ,‬ألنها تولّد في نف وس أبنائها حني ًنا من ن وع ال ينس ى‪ .‬وح تى‬‫فإن الطيبة تختلف كث ً‬
‫ذلك كل صلة بهم‪َّ ,‬‬
‫رددون دون انقط اع اسم الطيب ة‪ ,‬ويحن ون إلى أيامها الماض ية‪,‬‬ ‫يرا‪ ,‬ك انوا ي ّ‬
‫ال ذين س افروا وابتع دوا كث ً‬
‫ويتمن ون لو ع ادوا إليها ذات ي وم ليعيش وا ما تبقَّى لهم من العم ر‪ .‬وال ذين ال ي ذهب بهم التفك ير والخي ال‬
‫أياما جميلة‪ ,‬ويت ذ ّكرون كل‬
‫هذا المذهب‪ ,‬كانوا يف ّكرون في العودة إليها بين فترة وأخرى‪ ,‬وهناك يقضون ً‬
‫ما حصل في س نوات س ابقة‪ ,‬ويم رون على كل ال بيوت‪ ,‬ويجلس ون في مقهى الس وق ومقهى النب ع‪,‬‬
‫ويعب ون اله واء بق وة وش هوة لعله يمنحهم ق وة تم ّكنهم من مواجهة األي ام المقبلة واالس تمرار في الحي اة‬
‫ّ‬
‫الجديدة التي بدأوا يحيونها في أماكن أخرى!‬
‫إن األي ام القاس ية يص بح‬
‫وإ ذا كان الناس يفضلون‪ ,‬في بعض األوقات‪ ,‬تذ ّكر األيام الجميلة من الماض ي‪ ,‬ف َّ‬
‫لها جم ال من ن وع خ اص‪ .‬ح تى الص عوبات ال تي عاش وها تتح ول في ال ذاكرة إلى بطولة غامض ة‪ ,‬وال‬
‫يصدقون أنهم احتملوا ذلك كله واستمروا بعد ذلك!‬
‫‪7‬‬

‫ه ذا الوف اء ال ذي يك ّنه أهل الطيبة لبل دتهم ال يقتصر على ش يء دون غ يره‪ ,‬وال يقتصر على المقيمين‬
‫طلبا للرزق أو الدراسة‪ ,‬وعاشوا في أماكن بعيدة‪ ,‬ال يكتفون بأن يرس لوا الطحين‬
‫وحدهم‪ ,‬فالذين سافروا ً‬
‫والس كر والرس ائل وبعض الحاج ات األخ رى إلى البل دة‪ .‬إنهم ي أتون لقض اء وقت غ ير قص ير في الطيبة‬
‫أيضا‪ ,‬خاصة بعد أن يعجزوا عن إقناع أقربائهم بالسفر إليهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ألما عميقً ا‪ ,‬وتولد في النف وس أحزا ًنا ال‬
‫ص حيح أن ه ذه الف ترات ال تي يقض ونها في الطيبة تس ّبب لهم ً‬
‫تشح وتكاد تنقطع من النب ع‪ ,‬وي رون المج رى وقد‬
‫يعرفون كيف يكتمونها‪ ,‬خاصة حين يرون المياه وهي ّ‬
‫َّ‬
‫جف‪ ,‬ثم يتملكهم شعور باالختناق حين يسمعون أصوات الفؤوس وهي تهوي على األش جار الجاف ة‪ .‬ف إذا‬
‫إن‬
‫أض يفت إلى ذلك أخب ار ال ذين رحل وا وغيَّبتهم األرض من األص دقاء واألقرب اء‪ ,‬الص غار والكب ار‪ ,‬ف َّ‬
‫جديدا‪ .‬يبدأ القادمون‪ ,‬برغم صغر س نهم‪ ,‬يلوم ون‬
‫ً‬ ‫يتحول إلى حالة عصبية‪ ,‬ويأخذ الحديث مجرى‬
‫الحزن ّ‬
‫الكبار‪ ,‬ويوجهون لهم كلمات التقريع‪:‬‬
‫‪ -‬قلنا لكم مئ ات الم رات‪ :‬ه ذه األرض ال تطعم ح تى الج رذان‪ ,‬وأنتم‪ ,‬هن ا‪ ,‬تتش بثون بها‪َّ ,‬‬
‫وكأنها الجن ة‪.‬‬
‫اتركوها‪ ,‬ارحلوا إلى المدينة‪ ,‬هناك يمكن أن تجدوا حياة أفضل من هذه الحياة التي تعيشونها ألف م رة!‬
‫وحين يصمت المقيمون‪ ,‬خاصة من المس ّنين‪ ,‬ويتطلّع ون بح زن إلى وج وه ال ذين يتكلم ون‪ ,‬ي تراءى لهم‪,‬‬
‫للحظ ات‪ ,‬أنهم لم ي روا ه ذه الوج وه‪ ,‬ولم يعرفوها من قب ل‪ .‬وي تراءى لهم في لحظ ات أخ رى أن الكلم ات‬
‫تماما وجعلتهم يتكلمون مثل هذا الكالم‪ .‬وتمتد‬
‫التي يسمعونها قالها أناس غيرهم‪ ,‬أو أن المدينة أفسدتهم ً‬
‫في أذهان المسنين صور ال نهاية لها‪ ,‬صور الطيبة في كل الفترات‪ ,‬حين كان العشب ينبت على الصخور‬
‫أنفاس ا‬
‫ً‬ ‫ويعب ون‬
‫وعلى س طوح المن ازل‪ ,‬وحين ك انت الين ابيع تتفجر من كل مك ان‪ ,‬ك انوا يت ذكرون ذلك ّ‬
‫أيض ا من‬ ‫عميقة َّ‬
‫وكأنهم يتنفسون رائحة الخص وبة تتولد من كل الكائن ات‪ ,‬ليس من البشر وح دهم‪ ,‬وإ نما ً‬
‫فيتحرك اللعاب‬
‫ّ‬ ‫الحيوانات والجماد‪ .‬يتذكرون كل شيء‪ ,‬ويتذكرون أكثر مذاق األطعمة التي كانوا يأكلونها‬
‫في أفواههم!‬
‫تقروا في المدينة البعي دة‪ ,‬ال يعن ون ما‬
‫وب رغم أن األبن اء ال ذين هج روا الطيبة منذ وقت طوي ل‪ ,‬واس ّ‬
‫يرا ما تتك رر‪ ,‬تحملهم على أن يقول وا كل‬
‫فإن تلك الص عوبات ال تي كث ً‬
‫تماما‪ ,‬أو ال يقصدون إليه‪َّ ,‬‬
‫يقولونه ً‬
‫إن ه ؤالء في م واطنهم‬
‫ش يء‪ ,‬وتحملهم أك ثر على أن يفك روا به ذه الطريق ة‪ .‬ومع ذل ك‪ ,‬وب الرغم من ه‪ ,‬ف َّ‬
‫الجدي دة ال يكفّ ون عن ذكر الطيب ة‪ ,‬والح ديث عن مزايا موهومة ال تتمتع بها أي بل دة أخ رى في المنطقة‬
‫إن تعلقهم بالطيبة ي دفعهم في ح االت كث يرة‪ ,‬وفي لحظ ات‬
‫كلها‪ .‬كان ه ؤالء األبن اء ال يكتف ون بالح ديث‪ ,‬ف َّ‬
‫الش وق الم ِّ‬
‫ذكرة‪ ,‬ألن يفعل وا أش ياء ال حصر لها وال تخطر بب ال‪ :‬ك انوا يقيم ون أف راحهم في الطيب ة‪,‬‬
‫يج ّددون ه ذه األف راح في الطيب ة‪ ,‬يبعث ون أبن اءهم خالل فص ول الص يف‪ ,‬لكي يعيش وا مثلما عاش وا حين‬
‫غارا‪ .‬وحين تأخ ذهم النش وة ي دعون أص دقاءهم لقض اء بض عة أي ام في ه ذه البقعة الرائع ة‪( :‬في‬
‫ك انوا ص ً‬
‫الطيبة السماء قريبة‪ ,‬شديدة الص فاء‪ ,‬واللي الي هن اك مليئة بنش وة ال تج دونها في أي مك ان آخر من ه ذا‬
‫الع الم‪ .‬أما الفواك ه‪ ,‬أما األلب ان‪ ,‬كالجبنة حين تك ون طازج ة‪ ,‬والزب دة حين تقط ف‪ ,‬وال دجاج والخ راف‬
‫‪8‬‬

‫الصغيرة وهي تشوى على نار الحطب‪ ...‬أما هذه األشياء وأخرى وغيرها في الطيبة‪ ,‬فال يمكن أن يكون‬
‫فالح َجل واألرانب‪ ,‬وحتى الحيوان ات المتوحشة ال تي انقرضت في‬ ‫لها مثيل‪ .‬ثم هناك الصيد‪ .‬الصيد وفير‪َ ,‬‬
‫معظم البق اع‪ ,‬يمكن أن توجد في بعض األودية العميقة المحيطة بالطيب ة‪ .‬والين ابيع الغزي رة‪ ,‬إن الين ابيع‪,‬‬
‫تتفجر من ش قوق األرض‪ ,‬وتت دفّق من تحت كل ص خرة‪ .‬ومي اه ه ذه‬
‫إذا ك انت أمط ار تلك الس نة وف يرة‪ّ ,‬‬
‫الينابيع باردة نقية‪ ,‬حتى‬
‫إن اإلنسان ال يشبع حين يشرب من تلك المياه)‪ .‬هكذا كانت األحاديث تج ري‪ .‬أما إذا ج اءت فاكهة الطيبة‬
‫أبدا من تقليبها والنظر إليها‪ .‬ك انوا يفض لون‬
‫إلى المدينة‪ ,‬في سالل صغيرة‪ ,‬فكان هؤالء األبناء ال يملّون ً‬
‫يرا ما‬
‫يقدموها إلى ضيوفهم‪ ,‬وأن يتحدثوا عنها‪ .‬أما إذا جرى الحديث عن أجبان المدينة وألبانها‪ ,‬فكث ً‬‫أن ّ‬
‫ك انت وج وه ه ؤالء األبن اء تتغ ير‪ ,‬تم رق مثل ومض ات خاطفة مظ اهر الق رف وال ذكرى في وقت واح د‪,‬‬
‫شيئا من الطع ام غ ير ذاك ال ذي ي أتي من الطيبة!‬
‫يتذوقوا ً‬
‫ويتصورون للحظات أنهم غير قادرين على أن ّ‬
‫أشياء كثيرة تتولّد في النفوس‪ ,‬في نفوس المقيمين والراحلين‪ ,‬وهذه األشياء من الت داخل والتعقيد بحيث‬
‫ال يستطيع أحد أن يفسرها‪.‬‬
‫يئا يج ذب اإلنس ان‬‫صحيح أن الطيبة‪ ,‬مثل أماكن أخرى كثيرة‪ ,‬ش حيحة األرض‪ ,‬قليلة المي اه‪ ,‬لكن فيها ش ً‬
‫محكما‪ .‬وإ ذا بدأ المس ّنون الحديث‪ ,‬في السهرات الطويلة خالل الص يف‪ ,‬ف َّإنهم يتح دثون‬
‫ً‬ ‫شدا‬
‫ويشده إليها ّ‬
‫ّ‬
‫كثيرا لهؤالء الذين أتوا من المدينة‪( .‬قبل سنين كث يرة ك انت الجب ال المحيطة بالطيبة خض راء‬
‫بلغة تروق ً‬
‫مثل البس اتين‪ ,‬لكن األت راك‪ ,‬وهم يبن ون س كة الحدي د‪ ,‬ثم وهم يس ّيرون القط ارات‪ ,‬لم ي تركوا ش جرة إالَّ‬
‫يهمهم من أين‪ .‬واألش جار ال تي لم يس تطيعوا الوص ول إليه ا‪ ,‬ال تي‬
‫وقطعوها‪ .‬ك انوا يري دون أخش ًابا‪ ,‬وال ّ‬
‫ك انت في المعاصي وفي قمم الجب ال‪ ,‬أحرقوها وهم يرحل ون‪ .‬أما الجب ال ال تي ترونها عارية اآلن من‬
‫صغارا‪ .‬كان الفارس يضيع في الغابات الكثيفة‬
‫ً‬ ‫المدينة البعيدة وحتى الطيبة‪ ,‬فقد رأيناها خضراء حين كنا‬
‫هول القريبة من الطيبة)‪.‬‬ ‫تي تمأل الس‬ ‫ال‬
‫صورا ال نهاية له ا‪ ,‬وأبن اء الطيبة ال ذين س معوها م رات كث يرة‪ ,‬ك ان‬
‫ً‬ ‫مثل هذه األحاديث توقد في األذهان‬
‫يروق لهم أن يدفعوا المسنين الستعادتها مرات ومرات‪ ,‬خاصة وهم يستقبلون ض يوفًا من المدين ة‪ .‬ك انوا‬
‫يري دون‪ ,‬بطريقة غامض ة‪ ,‬أن يثبت وا م يزة خاصة لبل دتهم‪ .‬وه ذه الم يزة‪ ,‬وإ ن ك انت ال تظهر بالوض وح‬
‫الذي يشتهون في الوقت الحاضر‪َّ ,‬‬
‫فإنها تكمن في مكان ما‪ ,‬وال َّ‬
‫بد أن تظه ر‪ .‬ويض يفون بمكر وغم وض‪:‬‬
‫(ليس هناك أفضل من أن يقضي اإلنسان أيامه األخيرة في هذه البلدة المبارك ة)‪ .‬وب المكر نفس ه‪ ,‬ي دفعون‬
‫يتحدثوا عن األعمار‪ .‬وهذا الحديث الذي يروق لبعض الرجال‪ ,‬ك ان ي زعج النس اء وي دفعهن‬
‫المس ّنين ألن ّ‬
‫إلى المقاطع ة‪ ,‬وبعض األحي ان إلى االس تفزاز‪ ,‬لكن ال يك اد الح ديث يأخذ مج رى ج ّديًّا م رة أخ رى‪ ,‬ح تى‬
‫يتحدث المس ّنون عن نقاوة اله واء وعذوبة الم اء‪ ,‬ويتح دثوا عن فوائد الن وم المبكر واليقظة المبك رة‪ ,‬ثم‬
‫نوع األكل الذي يأكلونه‪ ,‬ويعزون األمراض الجدي دة والم وت المبكر والمف اجئ‪ ,‬ال ذي ي داهم المدين ة‪ ,‬إلى‬
‫معوا بها من قبل!‬ ‫باب لم يألفوها ولم يس‬ ‫مجموعة من األس‬
‫‪9‬‬

‫وأحاديث السهر تبدأ دون منطق وبال نظام‪ ,‬وقد يتخللها بعض األلعاب البريئة‪ .‬وتلك األم ور تج ري عف ًوا‬
‫للحظ ة‪ ,‬وبال تخطيط س ابق‪ .‬ومهما تش ّعبت وتباع دت‪ ,‬ومثلما ب دأت بالغاب ات واألش جار والين ابيع‪ ,‬فال ب َّد‬
‫أيض ا عن أي ام القحط والص عوبات ال تي عاش تها الطيبة خالل تلك الس نين‪ .‬وإ ذا ك انت‬
‫أن يج ري الح ديث ً‬
‫الل ذة واألي ام الرائعة المليئة بالخصب تح ّرك المش اعر‪ ,‬ف إن المص اعب ال تي عاش ها البشر وتغلب وا عليها‬
‫تحرك مشاعر أخرى‪ ,‬مشاعر تزخر بالقوة وبعظمة من نوع خاص‪ ,‬ح تى أبن اء الطيبة ال ذين س معوا ه ذه‬
‫األح اديث م رات كث يرة‪ ,‬يل ّذ لهم أن يس معوها من جديد‪ ,‬وفي كل م رة تب دو لهم جدي دة مليئة بالبطولة‬
‫يرا ما ك ان ي أتي في‬
‫والعبر‪( :‬كنا نأكل األعشاب وجذور النباتات‪ .‬كنا نأكل الجرابيع‪ .‬حتى الج راد ال ذي كث ً‬
‫س نوات المحل‪ ,‬أو ال ذي يس ّبب المح ل‪ ,‬كنا نأكل ه‪ .‬ص حيح أن الحي اة آن ذاك ك انت في منتهى القس وة‬
‫والصعوبة‪ ,‬لكن الرجال في تلك األيام كانوا رجاالً‪ ,‬كانوا أقوي اء وق ادرين على االحتم ال والص بر‪ ,‬وك انوا‬
‫ق ادرين على أن ي أكلوا الص خر‪ .‬أما رج ال ه ذه األي ام‪ .)...‬ويبتسم بعض المس ّنين‪ ,‬ويت ذكر اآلخ رون‪.‬‬
‫وينظ رون بعض هم في وج وه بعض‪ ,‬وبعض هم في وج وه أبن ائهم‪ ,‬ثم في وج وه الض يوف!‬
‫هذا جزء مما تعنيه الطيبة في ذاكرة أبنائها‪ .‬أما إذا ج اء القحط فال يبقي أحد من أهل الطيب ة‪ ,‬س واء ك ان‬
‫يعيش فيها أو ك ان بعي ًدا عنها‪ ,‬إالَّ ويحس بم رض من ن وع م ا‪ ,‬وال يلبث ه ذا الم رض أن يتح ول إلى‬
‫يحرض هم لكي يج يئوا أو يبعث وا‬
‫ه اجس ثم إلى ك ابوس‪ .‬وب رغم أن األبن اء البعي دين ال يحت اجون إلى َمن ّ‬
‫إن ه ذه المس اعدات ال تق وي على مواجهة الك رب والوق وف في وجه‬
‫إلى البل دة بكل ما يس تطيعون‪ ,‬ف َّ‬
‫المص ائب ال تي تت والى بس رعة‪ .‬فحين يب دأ النبع ي تراخى والس اقية تض مر‪ ,‬ثم تجف في نهايته ا‪ ,‬يص بح‬
‫لتوها وب دأت تتخلى عن قش رتها‪ .‬وفي ه ذه األوق ات تب دأ األش جار بال ذبول‪ ,‬ثم‬
‫حية م اتت ّ‬
‫المج رى مثل ّ‬
‫الجف اف‪ .‬ك انت أش جار المش مش أولى األش جار ال تي تم وت‪ ,‬ثم تب دأ بعد ذلك األش جار األخ رى‪ .‬وتب ور‬
‫مواسم الج وز والزيت ون‪ ,‬وتص بح الطيبة كالحة قبيح ة‪ ,‬ويغلب عليها ل ون الص فرة‪ .‬ومن ناحية الجن وب‪,‬‬
‫تهب لتغطي كل ش يء‪,‬‬
‫ب دل الفقع والكم اء والحميض واألن واع الكث يرة من الفط ر‪ ,‬تب دأ عواصف الرم ال ّ‬
‫وتخيم على سماء الطيبة موجة من الغبار الممرض‪ ,‬وتتكاثر أفواج الذباب والغربان على الفطائس وعلى‬
‫ّ‬
‫دوي مكتوم ينذر بشؤم ما‪ .‬وفي هذه السنين ال َّ‬
‫بد أن يموت عدد كب ير‬ ‫وتتحول األصوات إلى ّ‬
‫َّ‬ ‫بقايا البراز‪,‬‬
‫يرون!‬ ‫ّدرها الكث‬ ‫ياء لم يق‬ ‫َّد أن تحصل أش‬ ‫اس‪ .‬وال ب‬ ‫من الن‬
‫ال تقتصر ه ذه الحالة على البش ر‪ ,‬إذ تمتد إلى الحيوان ات والطي ور‪ ,‬فالحيوان ات ال تي ك انت تمأل منطقة‬
‫زءا من نهاراتها في س كينة أق رب إلى الدعة‬
‫شاسعة ح ول الطيبة وتس رح بال مب االة ورخ اوة‪ ,‬وتقضي ج ً‬
‫من الش بع واالمتالء‪ ,‬ال تلبث أن تتح ول إلى حيوان ات نزقة ش ديدة الجفلة كث يرة الحرك ة‪ ,‬بحثًا عن ش يء‬
‫تأكل ه‪ ,‬ثم تتح ّول إلى الشراسة والعن اد‪ ,‬فتب دو هائج ة‪ ,‬ويمكن أن تتص رف بجم وح يصل درجة األذى‪.‬‬
‫وأخيرا يضربها الهزال والمرض‪ ,‬وفي هذه الحالة يتراكض أص حابها بعص بية لكي يتخلص وا منها بال ذبح‬
‫ً‬
‫بيع‪.‬‬ ‫أو ال‬
‫أما الطي ور ال تي تع بر س ماوات كث يرة متجهة إلى حيث تجد رزقها‪ ,‬فقد ك انت تع بر س ماء الطيبة بس رعة‬
‫‪10‬‬

‫ودون أن تتوق ف‪َّ ,‬‬


‫وكأنها بغري زة غامض ة‪ ,‬ومنذ أزم ان موغلة في الق دم‪ ,‬وبت وارث ف ذ‪ ,‬تع رف كيف‬
‫تتج اوز الطيبة وإ لى أين ت ذهب‪ ,‬ع دا تلك الطي ور الص حراوية القاس ية الملعون ة‪ ,‬فقد ك انت ت ترك أم اكن‬
‫قريبا منه ا‪ ,‬وتب دأ من هن اك معركتها األزلية مع البشر وبقايا‬
‫كث يرة في ه ذا الع الم وتتجه إلى الطيبة أو ً‬
‫اء‪.‬‬ ‫رات الم‬ ‫الحب وقط‬
‫خاص ا‪,‬‬
‫ًّ‬ ‫نوعا‬
‫وإ ذا ك ان لكل مدينة وبل دة وقرية جنونها ومجانينه ا‪ ,‬ف إن جن ون الطيبة أن واع كث يرة‪ ,‬لكن ً‬
‫أكثر من غيره‪ ,‬يظهر في سنوات الجفاف‪ .‬وه ذا الن وع يطغى على غ يره ويك اد يك ون الوحي د‪ .‬إنه جن ون‬
‫الص يد‪ .‬ح تى ال ذين ال يمارس ون ه ذه الهواي ة‪ ,‬وينظ رون إليها نظ رة ت تراوح بين الزراية وال رفض‪,‬‬
‫موجعا ألن‬
‫ً‬ ‫ويفسرونها على أنها أقرب إلى الغفلة ورغبة الكس ل‪ ,‬ف َّإنهم يكتش فون فج أة في أنفس هم حني ًنا‬
‫يصبحوا صيادين بشكل ما‪ .‬قد تدفعهم إلى ذلك الرغبة لتأمين ال رزق‪ ,‬أو لط رد الطي ور الجارحة واالنتق ام‬
‫منه ا‪ ,‬لعل بعض الحب وب تبقي وتنبت في الس نة التالي ة‪ ,‬أو لعل تلك الحب وب تتفتح عن بعض أوراق‬
‫دو ما!‬
‫خض راء تأكلها الحيوان ات الجائع ة‪ .‬وربما ك ان ال دافع إلى ذلك كله الرغبة في االنتق ام من ع ٍّ‬
‫خبا من أي س نة س ابقة‪ .‬ح تى في س نة المجاعة‬ ‫ددا وأك ثر ص ً‬
‫ك ان مج انين الطيبة في ه ذه الس نة أك ثر ع ً‬
‫الكبيرة‪ ,‬التي أعقبت الحرب‪ ,‬لم يظهر مثل هذا العدد‪ ,‬ولم تظهر مثل ه ذه الحال ة‪ .‬إذ ما ك اد موسم الص يد‬
‫يبدأ حتى أخرج هؤالء المجانين البنادق القديمة من مخابئها‪ ,‬مس حوا عنها الغب ار‪ ,‬نظَّفوها جي ًدا‪ ,‬وب دأوا‬
‫يضعون الخطط ويتحدثون‪ .‬لم يكتفوا بذلك‪ ,‬ابتدعوا وس ائل ص يد جدي دة‪َّ ,‬‬
‫وتفنن وا في تحض ير الخرط وش‬
‫واختراعه‪ .‬ولكي ينتقم أولئك المج انين‪ ,‬المص ابون به ذا الم رض منذ وقت طوي ل‪ ,‬من أي ام ماض ية‪ ,‬حين‬
‫كانوا سخرية أهل الطيبة‪ ,‬لجأوا إلى المكر والدهاء‪ ,‬فلم يتركوا أح ًدا إالَّ وأغ روه بالص يد‪َّ .‬‬
‫وأكدوا أن ه ذه‬
‫وزع وا على الكث يرين‪ ,‬مجا ًن ا‪,‬‬
‫الطريقة وحدها يمكن أن تنقذ البلدة‪ .‬ولكي ينجحوا في لعبتهم حتى النهاية ّ‬
‫عددا من الخرطوش الذي يصنعونه بأيديهم وبوسائلهم البدائية‪ ,‬واتخ ذوهم مس اعدين لهم في تحض ير كل‬
‫ً‬
‫ما من ش أنه أن يس هل مهمتهم‪ ,‬وق الوا بص وت واض ح‪( :‬ليس أس هل من الص يد‪ ,‬ولكي يص بح اإلنس ان‬
‫تماما مثلما يتعلم الس باحة)‪ .‬وال ذين اس تمعوا إليهم بانتب اه لم يص دقوا‬
‫َّادا يجب أن يم ارس الص يد‪ً ,‬‬
‫صي ً‬
‫ّر‬ ‫اكر ج‬ ‫راء الخفي الم‬ ‫ر‪ ,‬لكن اإلغ‬ ‫آذانهم‪ ,‬أول األم‬
‫ينضمون إلى مجانين البلدة‪ ,‬وكان الواف دون الج دد يمتلئ ون‬
‫ّ‬ ‫فيوما بعد يوم كان مجانين آخرون‬
‫الكثيرين‪ً ,‬‬
‫يرا من الطي ور‪ ,‬وبين عش ية وأخ رى يتحول ون إلى مهووس ين ال يعرف ون‬
‫زه ًوا حين تص يب طلق اتهم ط ً‬
‫ان إلى آخر‪.‬‬ ‫ور من مك‬ ‫ركض وراء الطي‬ ‫دوء إالَّ بالقتل وال‬ ‫الراحة واله‬
‫هكذا بدأت اللعبة أول األمر‪ ,‬وهي وإ ن بدأت صغيرة خفية‪ ,‬فقد أثارت حنق ع دد كب ير من المس نين‪ ,‬ومن‬
‫اة‪.‬‬ ‫رزق والحي‬ ‫يلة لل‬ ‫يد على أنه وس‬ ‫رون إلى الص‬ ‫ذين ينظ‬ ‫ال‬
‫لقد ك انت اللعبة أق رب إلى العبث وال تناسب الرج ال ال ذين يق ّدرون مس ؤولياتهم‪ ,‬ويجب أن ينش غلوا‬
‫يوما بعد آخ ر‪ .‬لكن اللعبة تك بر وتتسع كل ي وم‪ .‬وال ذين أب دوا بعض‬
‫ب الهموم الكب يرة ال تي أخ ذت ت زداد ً‬
‫تردد ما لبث وا أن تراجع وا‪ ,‬خاصة حين أخ ذوا يش اهدون طي ور القطا محمولة بالعش رات‪ .‬أما حين‬
‫ال ّ‬
‫‪11‬‬

‫يقلبونها ليتأك دوا من كمية اللحم فيها فك انوا يقول ون بص وت ع ال‪ - :‬ض عيفة‪ ..‬نعم إنها أض عف من أي‬
‫ابقة!‬ ‫نة س‬ ‫س‬
‫ولكي يتأكدوا من أن ما يقولونه هو الحقيقة‪ ,‬كانوا يقلّبونها مرة أخرى‪ ,‬ويش ّدون على ص دورها‪ .‬وبه ذه‬
‫أما‬
‫ويحسون برغبة مغرية‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫الحركات اإلضافية‪ ,‬وبضغط األصابع على اللحم الطري‪ ,‬كانت مواقفهم تتغير‬
‫تردد ي تراجع مع كل رقم جدي د‪ ,‬لكن دون إعالن‪ ,‬ودون كلم ات‪ ,‬ويك ون كل‬
‫حين يب دأون بع ّدها فك ان ال ّ‬
‫دأ اللعبة!‬ ‫رارا داخليًّا أن يب‬
‫ً‬ ‫واحد منهم قد اتخذ ق‬
‫نوعا من الفتنة أو الجن ون‪ ,‬وال يليق بالرج ال في‬
‫والمس ّنون ال ذين ص رخوا بغض ب‪ ,‬وع دُّوا ه ذا اله وس ً‬
‫ريعا وبش كل عل ني‪ ,‬لكن‬
‫مثل ه ذه المحنة القاس ية‪ ,‬ما لبث وا أن تراجع وا‪ .‬ص حيح أنهم لم يفعل وا ذلك س ً‬
‫طابعا ّلي ًنا أق رب إلى النصح‪:‬‬
‫يوما بعد آخ ر‪ ,‬وب دأت كلم اتهم تأخذ ً‬
‫اعتراض اتهم ب دأت تقل وت تراجع ً‬
‫‪ -‬اذهبوا إلى المدينة واعملوا هن اك‪ .‬أما أن تنتش روا في ه ذه األرض الغ براء‪ ,‬وأن تتش ردوا بين الجب ال‬
‫إن ذلك مض يعة لل وقت‪.‬‬
‫والص حراء‪ ,‬من أجل طي ور جائع ة‪ ,‬وليس فيها س وى العصب وال ريش‪ ,‬ف َّ‬
‫يهز الش باب رؤوس هم إش ارة إلى أنهم س معوا ما قاله المس ّنون‪ ,‬دون أن تع ني اإلش ارة موافقة أو‬
‫وحين ّ‬
‫يف‪:‬‬ ‫ّنين يض‬ ‫ان بعض المس‬ ‫ا‪ ,‬ك‬ ‫رفض‬
‫ً‬
‫دة!‬ ‫رة واح‬ ‫ائب َّ‬
‫فإنها تجيء م‬ ‫اءت المص‬ ‫‪ -‬إذا ج‬
‫يهيئ ون الخرط وش‪ ,‬ينظّف ون‬
‫وتستمر اللعبة تكبر‪ ,‬ويستمر الشباب في ترتيب لوازم الص يد للي وم الت الي‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫قطعا من القماش الملون الملئ بالثقوب الستدراج الطيور واالحتيال عليها‪ .‬وحين ي رى‬
‫البنادق‪ ,‬يصنعون ً‬
‫إصرارا ال يتزعزع‪ ,‬كانت لهجة الكثيرين تص بح أك ثر حن ًّوا وخوفًا‪:‬‬
‫ً‬ ‫المس ّنون ذلك‪ ,‬ويجدون لدى الشباب‬
‫ذروا!‬ ‫ابس‪ ,‬يجب أن تح‬ ‫ارود يأكل األخضر والي‬ ‫ذا الب‬ ‫‪-‬ه‬
‫ويرقب المس ّنون بعناية الطريقة ال تي ُيص نع بها الخرط وش ليتأ ّك دوا من أن الش باب يفعل ون ذلك دون ما‬
‫اع‪:‬‬ ‫رر بال انقط‬ ‫دة تتك‬ ‫انت كلمة وحي‬ ‫إذا َّ‬
‫تأكدوا ك‬ ‫إ‪ .‬ف‬ ‫خط‬
‫اف!‬ ‫ير عس‬ ‫ون الكب‬ ‫‪ -‬كل البالء من المجن‬
‫غارا‪ ,‬هو نفسه عس اف ال ذي يب دو‬
‫اء ورج االً‪ ,‬كب ًارا وص ً‬
‫عساف الرجل ال ذي يعرفه أهل الطيبة كلهم‪ ,‬نس ً‬
‫ّ‬
‫راه أو يجلس معه أحد‪.‬‬ ‫ع‪ ,‬وقلما ي‬ ‫بة للجمي‬ ‫والً بالنس‬ ‫ا ومجه‬ ‫غامض‬
‫ً‬
‫بين األربعين والخمسين‪ ,‬طويل مع انحناءة صغيرة‪ ,‬ض امر لكنه ق وي البنية‪ ,‬أع زب ألس باب يختلف فيها‬
‫يرا‪ .‬قيل إنه ك ان يريد ابنة عم ه‪ ,‬لكن أباها رفض (ألن عس افًا بال عمل وال يس تطيع أن يع ول‬
‫الن اس كث ً‬
‫زوج وج اءه أوالد)? وقيل إن الفت اة رفضت وه دَّدت أن تح رق نفس ها إن هم أجبروها‬‫نفس ه‪ ,‬فكيف إذا ت َّ‬
‫على ال زواج ب ه‪ ,‬وتعللت بغرابة الطبع والقس وة‪ .‬وحين س ئلت أمه ا‪ ,‬في وقت مت أخر‪ ,‬أب دت اس تنكارها‬
‫الش ديد‪ ,‬وق الت إن ح ذاء ابنتها يع ادل رأس ه ذا المتش رد ال ذي يعيش في ال براري والمغ ارات‪ ,‬ووص فته‬
‫أيضا‪ .‬ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير‪ .‬إن هذه القضية التي شغلت‬
‫بالمجنون ً‬
‫الطيبة وقتًا ما انتهت بص مت وه دوء‪ ,‬ولم تعد تش غل أح ًدا‪ .‬أما ما خلّفته من نت ائج فاسم جديد لعس اف‪:‬‬
‫‪12‬‬

‫اهتماما بهذا األمر‪ ,‬تح َّول ل ديهم ه ذا االهتم ام مع األي ام إلى ن وع‬
‫ً‬ ‫أبو ليلى‪ .‬وبعض الذين استمروا يبدون‬
‫من الطرافة والسخرية‪ ,‬خاصة وأن عسافًا يرفض اإلجابة عن أي سؤال له عالقة بهذا الموضوع‪ .‬وهكذا‬
‫غريبا!‬
‫ً‬ ‫تعود الناس أن يكون عساف بهذا الشكل‪ ,‬ولو ظهر بشكل آخر لبدا‬
‫َّ‬

‫غارا‪ ,‬هو نفسه عس اف ال ذي يب دو‬


‫اء ورج االً‪ ,‬كب ًارا وص ً‬
‫عساف الرجل ال ذي يعرفه أهل الطيبة كلهم‪ ,‬نس ً‬
‫ّ‬
‫راه أو يجلس معه أحد‪.‬‬ ‫ع‪ ,‬وقلما ي‬ ‫بة للجمي‬ ‫والً بالنس‬ ‫ا ومجه‬ ‫غامض‬
‫ً‬
‫بين األربعين والخمسين‪ ,‬طويل مع انحناءة صغيرة‪ ,‬ضامر لكنه ق وي البني ة‪ ,‬أع زب ألس باب يختلف فيها‬
‫يرا‪ .‬قيل إنه ك ان يريد ابنة عم ه‪ ,‬لكن أباها رفض (ألن عس افًا بال عمل وال يس تطيع أن يع ول‬
‫الن اس كث ً‬
‫زوج وج اءه أوالد)? وقيل إن الفت اة رفضت وه دَّدت أن تح رق نفس ها إن هم أجبروها‬‫نفس ه‪ ,‬فكيف إذا ت َّ‬
‫على ال زواج ب ه‪ ,‬وتعللت بغرابة الطبع والقس وة‪ .‬وحين س ئلت أمه ا‪ ,‬في وقت مت أخر‪ ,‬أب دت اس تنكارها‬
‫الش ديد‪ ,‬وق الت إن ح ذاء ابنتها يع ادل رأس ه ذا المتش رد ال ذي يعيش في ال براري والمغ ارات‪ ,‬ووص فته‬
‫أيضا‪ .‬ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير‪ .‬إن هذه القضية التي شغلت‬ ‫بالمجنون ً‬
‫الطيبة وقتًا ما انتهت بص مت وه دوء‪ ,‬ولم تعد تش غل أح ًدا‪ .‬أما ما خلّفته من نت ائج فاسم جديد لعس اف‪:‬‬
‫اهتماما بهذا األمر‪ ,‬تح َّول ل ديهم ه ذا االهتم ام مع األي ام إلى ن وع‬
‫ً‬ ‫أبو ليلى‪ .‬وبعض الذين استمروا يبدون‬
‫من الطرافة والسخرية‪ ,‬خاصة وأن عسافًا يرفض اإلجابة عن أي سؤال له عالقة بهذا الموضوع‪ .‬وهكذا‬
‫غريبا!‬
‫ً‬ ‫دا‬ ‫كل آخر لب‬ ‫كل‪ ,‬ولو ظهر بش‬ ‫ذا الش‬ ‫اف به‬ ‫ون عس‬ ‫اس أن يك‬ ‫َّود الن‬ ‫تع‬
‫عاما بعد ع ام ما دام عس اف يك بر‪ .‬وإ ذا ك انت‬
‫صغيرا شغلته قض ية الص يد‪ ,‬وه ذه القض ية ك برت ً‬
‫ً‬ ‫منذ كان‬
‫ولعا وتعلقً ا‪.‬‬
‫غيرا‪ ,‬ويفعل ما يفعله الص بيان في مثل عم ره‪ ,‬فقد ك ان أك ثرهم ً‬
‫بس يطة وبدائية حين ك ان ص ً‬
‫أما حين م ات أب وه‪ ,‬فقد اس تغرق في ه ذه الهواية الخط رة‪ .‬لم يعد يكتفي بما يفعله الص غار‪ .‬ك ان يقلد‬
‫الكبار ويذهب حيث يذهبون‪ ,‬وكان يحاول باستمرار ابتداع وسائل جديدة للصيد‪ .‬ونتيجة له ذا الوضع فقد‬
‫اكتسب ع ادات خاصة أق رب إلى الغراب ة‪ .‬ك ان يقضي وقته في البس اتين‪ ,‬ب دأ الت دخين في س ّن مبك رة‪,‬‬
‫أص بح كث ير التفك ير والتأمل في كل ما حوله من طبيعة وبشر وحيوان ات‪ ,‬وك ان في أغلب األحي ان بعي ًدا‬
‫رين‪.‬‬ ‫اه اآلخ‬ ‫الحه تج‬ ‫مت س‬ ‫ون بينهم فالص‬ ‫اس‪ ,‬أما حين يك‬ ‫عن الن‬
‫تغي رت طباعه أك ثر من قب ل‪ ,‬فب دل أن يع ود إلى البل دة ويص بح‬ ‫َّ‬
‫ظل يتطور بهذا الش كل‪ ,‬وحين م اتت أُمه‪ّ ,‬‬
‫غريبا أن‬
‫ً‬ ‫مثل اآلخ رين‪ ,‬ي زرع ويحصد ويس تقر‪ ,‬فقد اش ترى بندقية ص يد من الن وع الق ديم‪ .‬وب دا األمر‬
‫يكون فتًى في الثالثة عشرة يقلد الكبار ويالحق الطي ور ال تي ال يف ّكر فيها َمن ك ان في عم ره‪ ,‬وأن يقضي‬
‫ٍل إلى آخر‪.‬‬ ‫واد إلى آخر ومن جب‬‫ًدا ينتقل من ٍ‬ ‫دة وحي‬ ‫ارج البل‬ ‫وقته كله خ‬
‫إن أجزاء كبيرة من حياة عساف بعد ذلك مجهولة‪ ,‬وح تى لو أراد هو نفسه أن يس تعيد حياته‪ ,‬فلن يت ذكر‬
‫إالَّ الشيء القليل‪ ,‬لن يتذكر أحداثًا كبيرة أو مهمة‪ ,‬سوى تلك التي لها عالقة بالص يد‪ :‬أين ض رب ال ذئب?‬
‫‪13‬‬

‫بردا‪ ,‬بعد أن سقط الثلج وت راكم بكثافة‬


‫وكيف ضربه? كم مرة اضطر للنوم في المغارات خوفًا من الموت ً‬
‫ليسد الطرق ويجعل الحركة ص عبة? ويت ذكر ع دد الم رات ال تي رفض أن يض رب إن اث الحجل ألنها ك انت‬
‫تس وق أمامها أفراخها الص غيرة‪ .‬إن ه ذه ال ذكريات وما يش بهها ال تع ني أح ًدا غ يره‪ ,‬وح تى لو أراد أن‬
‫تطيع أحد أن يتابعه!‬ ‫داخالً‪ ,‬وال يس‬ ‫ا مت‬ ‫غامض‬
‫ً‬ ‫دو‬ ‫إن حديثه يب‬
‫َّ‬ ‫دث ف‬ ‫يتح‬
‫يوما بعد آخر إلى حالة من الغرابة واالنط واء‪ ,‬ويص بح بطبيعته أميل إلى‬
‫ه ذا الن وع من البشر يتح ول ً‬
‫االبتعاد عن الناس أو االهتمام بهم‪ ,‬كما أن له عالمه الخاص وهمومه التي ال يشاركه فيها اآلخ رون‪ .‬أما‬
‫طريقته في التعب ير فتك ون قاس ية فظ ة‪ ,‬وقد ت ؤذي إذا لم تفهم ه ذه الطبيعة ويحسن التعامل معها‪.‬‬
‫تعودت على عساف كما تعودت على ه ذه األنم اط‪ ,‬ولم يعد‬
‫طا كثيرة من البشر‪ّ ,‬‬
‫والطيبة‪ ,‬التي عرفت أنما ً‬
‫رث أو ص مته‪ ,‬وح تى الش تائم ال تي يطلقها في بعض األحي ان‪ ,‬إذا حاص ره أحد وانه الت عليه‬
‫مظه ره ال ّ‬
‫حرجا أو خص ومات‪ ,‬إذ ما تك اد تب دأ ح تى تأخذ ش كالً‬
‫األس ئلة واالس تفزازات‪ ,‬لم تعد ه ذه األم ور تث ير ً‬
‫تعود على ه ذه الحي اة ك ان يجد ص عوبة كب يرة في‬
‫ساخرا َّأول األمر ثم ضاح ًكا في النهاية‪ .‬وعساف الذي َّ‬
‫ً‬
‫أن يغيرها‪ .‬وفي المرات القليلة التي كان يضطر فيها إلى اس تبدال بعض من مالبسه يفعل أش ياء ال تخطر‬
‫طرا لش راء ح ذاء جدي د‪ ,‬ال يس تطيع أن‬
‫على ب ال وال يفعلها أي عاق ل‪ .‬فحين يبلي ح ذاؤه ويك ون مض ًّ‬
‫يستعمل الحذاء ال ذي يش تريه مباش رة; فك ان ي دخل عليه تع ديالت كب يرة‪ ,‬تفس ده في بعض الح االت‪ .‬ك ان‬
‫قص الجلد عند األص بعين الص غيرين‪ ,‬وك ان يض رب الح ذاء ض ربات قوية بعد أن يض عه في‬
‫يلجأ إلى ّ‬
‫الم اء‪ .‬ولو س أله أحد عن ذلك لما ك ان لديه ش يء يقول ه‪ ,‬ح تى هو ال يع رف لم اذا يفعل ما يفعل ه‪ .‬ولو‬
‫يئا مم اثالً‪ ,‬ك ان يم زق الس راويل في‬
‫اقتصر األمر على األحذية له ان وفُهم‪ ,‬لكنه ك ان يفعل بمالبسه ش ً‬
‫قطعا من الجلد‬
‫ددا من الرقع الملون ة‪ ,‬وفي بعض األحي ان ً‬ ‫مواضع كث يرة‪ ,‬وفي تلك المواضع يخيط ع ً‬
‫الط ري‪ .‬إن ه ذا ش أن من ش ؤونه‪ ,‬وال يس تطيع أحد أن يناقشه أو يقنعه بغ ير ذل ك‪ .‬أما في أي ام األعي اد‪,‬‬
‫يئا في مظه ره‪,‬‬‫يغير ش ً‬
‫مضطرا إلى أن يمر على معظم بيوت الطيبة‪ ,‬كما هي العادة‪ ,‬فكان ال ّ‬ ‫ًّ‬ ‫وحين يكون‬
‫كما تع َّود الن اس أن يفعل وا‪ ,‬وقد يب الغ فيلبس أس وأ ما في غرفته الص غيرة‪ ,‬وهي الغرفة الوحي دة ال تي‬
‫جزءا من ال دار‪ ,‬ولم يبق إالَّ على الغرفة الداخلية‬
‫بقيت له بعد أن باع البستان َّأول األمر‪ ,‬ثم باع بعد ذلك ً‬
‫غيرة‪.‬‬ ‫اكورة ص‬ ‫وح‬
‫تنكارا‪ .‬الش يء‬
‫هكذا تع َّود أهل الطيبة على عس اف‪ ,‬ونتيجة األلفة واالس تمرار‪ ,‬لم يعد يث ير تس اؤالً أو اس ً‬
‫كلب ا‪ .‬ولقد ب الغ‬
‫الوحيد الذي أثار اهتمام الناس ذات يوم‪ ,‬ولم يستمر هذا الشيء ط ويالً‪ ,‬أن عس افًا اقت نى ً‬
‫يرا‪ ,‬حين س ئل عن الكلب‪ ,‬في الح ديث عن أهميته وأص له‪ ,‬وب الغ أك ثر من ذلك في تحديد المبلغ ال ذي‬ ‫كث ً‬
‫ضائعا‪ ,‬ربما من صياد غريب‪ ,‬فجاء ب ه‪ .‬وتج رأ‬‫ً‬ ‫دفعه ثم ًنا له‪ .‬وقد قيل مرات كثيرة إن عسافًا وجد الكلب‬
‫بعض الن اس في الطيبة وق ال إن عس افًا س رقه! وعس اف ال ذي س مع بعض ما يقوله الن اس‪ ,‬ك ان يبتسم‬
‫دون اهتم ام‪ ,‬ويطبطب على ظهر الكلب بم ودة‪ ,‬ويق ول ل ه‪( :‬اس مع ما يق ول الهب ل)‪ .‬وخالل ه ذه الف ترة‬
‫تعود في البيت‪ ,‬وقضى بعد ذلك أسبوعين في الطيبة‪ ,‬لم يخ رج خاللهما إلى‬
‫قضى عساف وقتًا أطول مما َّ‬
‫‪14‬‬

‫فسر األمر بالخوف ‪ .‬فالذين قالوا إنه سرق الكلب‪ ,‬كانوا متأك دين من ذلك أك ثر من ذي قب ل‪,‬‬
‫الصيد‪ .‬وقد ّ‬
‫أما الذين قالوا‬
‫ألن األمر لو كان له سبب آخر لما خشي عساف الخروج إلى الصيد واصطحاب كلبه معه‪َّ .‬‬
‫إن عسافًا وجده‪ ,‬فقد كانوا على يقين أن الكلب س يعود إلى أص حابه حالما يخ رج من ال دار ويص بح ح ًّرا‪,‬‬
‫شيئا لو ه رب الكلب وع اد إلى أص حابه! أما الحقيقة فهي أن عس افًا ال يثق‬
‫ولن يستطيع عساف أن يفعل ً‬
‫إالَّ بما يفعل ه‪ ,‬وال يتأكد إالَّ إذا فعل الش يء بنفس ه‪ ,‬ول ذلك‪ ,‬وبعد أن رافق ص يادين ج اءوا إلى الطيبة من‬
‫مك ان بعي د‪ ,‬ونتيجة للجهد ال ذي بذله معهم‪ ,‬وألنه دلّهم على أم اكن مناس بة للحج ل‪ ,‬ثم تن ازل لهم عن‬
‫الطيور الخمسة التي اص طادها‪ ,‬أعط وه ذلك الكلب‪ .‬لكن عس افًا لم يكن واثقًا ب الكلب ثقة كافية‪ ,‬وقد أجهد‬
‫يدربه‪ ,‬فأثار بذلك سخرية أهل الطيبة‪ .‬ومن جملة ما فعله عساف في هذه الفترة‪,‬‬‫نفسه لفترة طويلة لكي ّ‬
‫إضافة إلى المدة التي قضاها في البيت‪ ,‬أنه ربط الكلب بحبل وبدأ يتجول به في األماكن القريبة‪ ,‬واشترى‬
‫له كمية من (الح امض حل و)‪ ,‬وح اول أن يعلمه ع ادات جدي دة‪ .‬والن اس ال ذين رأوه يج ّر الكلب بالحبل‬
‫رة‪:‬‬ ‫خرية مري‬ ‫دوا س‬ ‫ويالً وأب‬ ‫حكوا ط‬ ‫ض‬
‫يد!‬ ‫ون يربط كلب الص‬ ‫روا‪ ..‬المجن‬ ‫‪ -‬انظ‬
‫اعد َمن!‬ ‫لمن‪ ,‬أو َمن يس‬
‫يد َ‬ ‫دري َمن يص‬ ‫‪ -‬ال أحد ي‬
‫لم يكتف وا ب ذلك وإ نما انض موا إلى ال ذين اتهم وه بس رقة الكلب‪ ,‬ولو لم يكن األمر ك ذلك لما فعل ما يفعله‬
‫اآلن!‬
‫تماما‪.‬‬
‫بهه ً‬ ‫روا إنه يش‬ ‫دة ‪ .‬انظ‬ ‫دتهما أُم واح‬ ‫الق! ربما ول‬ ‫بحان الخ‬ ‫‪-‬س‬
‫إن ذلك كله من تاريخ الطيبة األقرب إلى النسيان‪ .‬فبعد أن أصبح عس اف والكلب متالزمين‪ ,‬ب دت ص ورتا‬
‫بها قويًّا بين عس اف والكلب‪ ,‬من حيث ض خامة‬ ‫االثنين واح دة‪ ,‬وتج رأ بعض الخبث اء‪ ,‬وق الوا إن هن اك ش ً‬
‫األنف وك بر األذنين‪ ,‬ومن الص وت المكت وم األق رب إلى الغرغ رة‪ .‬ط بيعي لم يس تطع أحد أن يق ول ه ذا‬
‫عس افا‪ ,‬وال أحد ينظر إليه إالَّ‬
‫الكالم مباش رة لعس اف‪ ,‬أو في أثن اء وج وده‪ ,‬لكن أح ًدا ال يس ِّمي الكلب إالَّ َّ‬
‫رة!‬ ‫تلك النظ‬
‫إن الطيبة مثل كل الق رى والبل دان األخ رى ال تي تش بهها‪ ,‬من حيث القس وة والس خرية ورغبة التن در‬
‫أيض ا‪ ,‬خاصة إذا ك ان ه ؤالء مثل عس اف‪ .‬إذ ما يك اد يظهر‬
‫واختالق بعض األكاذيب‪ ,‬وفي اغتياب الن اس ً‬
‫في غبش الص باح األول وي راه أحد ح تى يمتلئ وجه َمن ي راه بابتس امة أق رب إلى الس خرية‪ ,‬ويس أله تلك‬
‫أما إذا ط الت الس هرات وامتألت‬
‫األس ئلة عن الص يد والكلب‪ ,‬وعن العج ائب ال تي يراها في البري ة! َّ‬
‫اخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫يئا س‬
‫ً‬ ‫ول ش‬ ‫برع أحد ويق‬ ‫َّد أن يت‬ ‫اديث‪ ,‬فال ب‬ ‫باألح‬
‫ره!‬ ‫افًا يحمل الكلب على ظه‬ ‫وم عس‬ ‫‪ -‬رأيت الي‬
‫حكة تمأل حلقه‪:‬‬ ‫ول آخر والض‬ ‫ويق‬
‫‪ -‬رأيت الي وم عس افًا الحقيقي يحمل البندقية ويص يد‪ ..‬وال ب َّد أن يك ون هو الص ياد وليس ه ذا الك ذوب‪.‬‬
‫الث‪:‬‬ ‫ول ث‬ ‫ويق‬
‫‪15‬‬

‫‪ -‬أطلق عس اف الن ار على ديك حجل فلم يص به‪ ,‬وأص اب الكلب‪ ,‬ول ذلك فهو كلب أع ور!‬
‫عما يجاورها‪ ,‬إذ ال ب َّد‬
‫شيئا ما حصل في وقت من األوقات‪ ,‬لكن طريقة الطيبة في نقل األخبار تختلف َّ‬
‫إن ً‬
‫أن يكون في أي قصة يرويها أحد من أهل الطيبة مقدار من الص حة‪ .‬فعين الكلب المطف أة ك انت هك ذا منذ‬
‫الي وم األول ال ذي وصل الكلب إلى الطيب ة‪ .‬وإ ذا ك ان عس اف قبله هك ذا ولم يس أل كيف ع ورت عينه أو‬
‫يئا‪ .‬أما الطيبة ف روت ذلك على أنه وقع‬
‫متى‪ ,‬فقد قال ذات يوم إن ذلك ربما وقع في الصيد‪ ,‬ولم يضف ش ً‬
‫لعس اف‪ ,‬ومع ذلك الكلب‪ .‬وإ ذا ك ان عس اف اض طر إلى حمل الكلب ذات م رة‪ ,‬فقد فعل ذلك بعد معركة‬
‫مريرة بين كلبه وذئب‪ ,‬وكاد عساف ذاته يموت خالل تلك المعركة‪ .‬أما الكلب ف ُنهش في أكثر من موضع‪,‬‬
‫ولو تُ رك لم ات! أما ح ديث البندقية ال تي ي زعم بعض أهل الطيبة أنه رأى الكلب يحملها ويص يد بها فال‬
‫ألن الكلب‪ ,‬وبعد ت دريب طوي ل‪ ,‬ك ان يس اعد في حمل قسم من‬
‫أس اس له البت ة‪ ,‬وإ نما هو وهم وحس د; َّ‬
‫نانه!‬ ‫أن يحمل دي ًكا من الحجل بين أس‬ ‫يد‪ ,‬ك‬ ‫الص‬
‫كثيرا أي ام‬
‫والطيبة التي تحب الفكاهة والسخرية‪ ,‬مثل غيرها من القرى‪ ,‬في أوقات الراحة والفرح‪ ,‬تتغير ً‬
‫الم ْح ل‪ .‬تص بح بل دة أق رب إلى الس واد‪ ,‬تغطّيها‬
‫األح زان‪ ,‬وتتغ ير أك ثر أي ام تش ّح األمط ار وت أتي س نوات ُ‬
‫الظلمة عند الغروب‪ ,‬وتمتد فوقها موجة من الصمت واألحزان‪ ,‬وتبدو لياليها طويلة ساكنة‪ ,‬ع دا أص وات‬
‫الكالب المش ّردة الجائع ة‪ ,‬وطلق ات تائهة في بعض األحي ان‪ .‬وف وق الطيب ة‪ ,‬في مثل ه ذه األي ام‪ ,‬تنتشر‬
‫وم!‬ ‫قها ذات ي‬ ‫يز تلك الرائحة إالَّ من عرفها أو ّ‬
‫تنش‬ ‫ذرة‪ ,‬لكن ال يم‬ ‫رائحة ثقيلة من‬
‫يرة!‬ ‫ياء كث‬ ‫تتغير أش‬
‫ام ّ‬ ‫ذه األي‬ ‫وفي ه‬
‫ه ذه الس نة ليست مثل أي س نة س ابقة‪ .‬هك ذا ب دأت منذ األي ام األولى للش تاء‪ .‬فلم تهطل األمط ار المبك رة‬
‫دادا‬
‫التي تنتظرها جميع القرى الواقعة على أط راف البادي ة‪ ,‬وال تي تبشر بموسم خص ب‪ ,‬وتحمل معها أع ً‬
‫ويق ال إن تلك النبات ات ت نزل من الس ماء مع المط ر‪ .‬ه ذه الس نة ج اءت‬
‫ال حصر لها من النبات ات البري ة‪ُ ,‬‬
‫بري اح ب اردة ش ديدة القس وة ولم تجئ باألمط ار‪ .‬وأهل الطيبة ال ذين تع ّودوا على اس تقبال مثل ه ذه‬
‫وألن أي ام الخ ير أم امهم ال‬
‫الش تاءات الب اردة لم يس تغربوا ولم يت برموا‪ ,‬ألنهم ما زال وا في َّأول الش تاء‪َّ ,‬‬
‫ت زال كث يرة وطويل ة‪ .‬لكن المس ّنين ال ذين خ بروا دورات الطبيع ة‪ ,‬وعرف وا بش ائر الخ ير من ن ذر القح ط‪,‬‬
‫دخل الخ وف قل وبهم‪ :‬ك ان خوفًا أق رب إلى الح زن‪ ,‬وارتفعت في ذاك رتهم أي ام مثل ه ذه األي ام‪ ,‬ثم ج اءت‬
‫أما‬
‫يرا ج اء الم وت‪ .‬ومع ذلك كتم وا مش اعرهم في ص دورهم وص متوا‪َّ .‬‬
‫بع دها المص ائب واألم راض وأخ ً‬
‫ًّنا واألقل دراية‬ ‫غر س‬ ‫رون‪ ,‬األص‬ ‫ال اآلخ‬ ‫الرج‬
‫بالمواسم والطبيعة‪ ,‬فقد نظروا إلى السماء بتساؤل‪ ,‬وداخلهم الشك فيما يعرفون من أم ور‪ .‬وحين س ألهم‬
‫الصغار إن كان الكماء والفطر والحميض والخبيز وعشرات النبات ات البرية األخ رى‪ ,‬س تأتي ه ذه الس نة‪,‬‬
‫يرا‪ ,‬واكتف وا بإجاب ات غامض ة‪,‬‬
‫وكأن مثل هذه األسئلة تحمل لهم امتحا ًنا عس ً‬
‫َّ‬ ‫نظروا إلى الصغار بارتياب‪,‬‬
‫دي‪:‬‬ ‫رب إلى التح‬ ‫أق‬
‫‪ -‬الش تاء في ّأول ه‪ ,‬وأنتم مرضى بش يء لم نعرفه عن دما كنا في أعم اركم‪ .‬أنتم مرضى باألس ئلة ال تي ال‬
‫‪16‬‬

‫واب لها!‬ ‫ج‬


‫والص غار ال ذين لم يكتف وا ولم يقتنع وا بإجاب ات اآلب اء‪ ,‬ذهب وا إلى األمه ات وأمط روهن بأس ئلة ال تنتهي‪:‬‬
‫(م تى ن ذهب إلى التش ّول للفق ع)?)‪( ,‬م تى ن ذهب إلى الكم اء?)‪( ,‬هل س نجد كمي ات كب يرة من الفطر ه ذه‬
‫السنة‪ ,‬كما وجدناها في السنة الماضية?)‪ .‬وإ ذا كان األبناء‪ ,‬في مثل هذه السن‪ ,‬ال يجرؤون على مناقشة‬
‫إلحاح ا‪ ,‬واألمه ات بطريقة غامض ة‪,‬‬
‫ً‬ ‫اآلب اء أو اإللح اح بس ؤالهم‪ ,‬ف َّإنهم على األمه ات أك ثر ج رأة وأك ثر‬
‫وتتميز بمكر خفي‪ ,‬يح اولن بكل الوس ائل أن يص رفن األبن اء عن مثل ه ذه األس ئلة‪ ,‬لكن الوع ود تبقي‬ ‫ّ‬
‫قائم ة‪ ,‬وال رؤوس تش تعل بعش رات الرغب ات واألحالم‪ .‬أما إذا نظ رت النس وة في وج وه الرج ال‪ ,‬خاصة‬
‫فكن يق رأن في تلك الوج وه مص اعب األي ام القادمة وآالمها ال تي ال يمكن أن تُنسى!‬
‫المس نين‪َّ ,‬‬
‫هكذا بدأ الش تاء في ه ذه الس نة‪ .‬وإ ذن ك ان كل ي وم ي أتي وال ي أتي المط ر‪ ,‬يحمل معه مزي ًدا من العص بية‬
‫تحجرت التربة من ال برودة‪ ,‬وعبثت بها العص افير‬
‫للذين يذهبون إلى الحقول‪ ,‬وينظرون إليها بحزن‪ ,‬وقد ّ‬
‫الموس مية ال تي ت أتي بأع داد كب يرة وتخلق في الجو دويًّا ال ينقطع منذ الفجر وح تى الغ روب‪ ,‬وال ت رهب‬
‫ذيرا‬
‫هذه العصافير الفزاع ات الس وداء ال تي تُنصب في أم اكن عدي دة من الحق ول‪ .‬إن كل ي وم يمر يحمل ن ً‬
‫وهما ثقيالً أق رب إلى الح زن في قل وب النس اء‪ .‬أما حين‬
‫جدي ًدا‪ ,‬ويض يف خوفًا جدي ًدا في قل وب الرج ال‪ًّ ,‬‬
‫ممض ا يش به حد الموسى يس يطر على البل دة‪( :‬هل‬
‫ًّ‬ ‫إن انتظ ًارا‬
‫يعصف الجو وتعربد الري اح الب اردة‪ ,‬ف َّ‬
‫ستحمل ه ذه الري اح المط ر? هل س ينبت ال زرع بعد ه ذا الجف اف الطويل? وإ ذا ج اءت قط رة أو قطرت ان‪,‬‬
‫فمن يض من المطر في آذار ونيس ان?)‪ .‬وته ّوم في ال رؤوس أس ئلة من ن وع آخ ر‪( :‬ما دام الموسم قد‬ ‫َ‬
‫انتهى‪ ,‬فقد ك ان على اهلل أن يبعث لنا باألمط ار الموس مية المبك رة‪ .‬لو ج اءت تلك األمط ار ألخ رجت لنا‬
‫ق فيه إالَّ أي ام وينقضي‬
‫يئا نأكله ويعوض نا عن التعب والم وت‪ ,‬لكن الموسم انتهى‪ ,‬وآذار لم تب َ‬
‫البرية ش ً‬
‫دون قطرة مطر‪ ,‬وال أحد يعرف كيف ستكون الحياة بعد ذلك!)‪.‬‬

‫تماما هطل المط ر‪ .‬ك ان مط ًرا غزي ًرا اس تمر ي ومين متوال يين‪ .‬وخالل ه ذين الي ومين‬
‫وفي نهاية آذار ً‬
‫فرح ا‪ ,‬وفي بعض‬
‫تغيرت وجوه الناس وتصرفاتهم‪ ,‬حتى الذين ال عالقة لهم بالزراعة مباش رة ب دوا أك ثر ً‬
‫ّ‬
‫األحيان أقرب إلى الخفة في التعبير عن ذلك الف رح‪ ,‬وتج رأ الكث يرون وق الوا‪( :‬موسم ه ذه الس نة‪ ,‬خاصة‬
‫بالنسبة للصيفي‪ ,‬سيكون أحسن من جميع المواسم التي شهدناها من قب ل)‪ .‬لكن ال ذين يزرع ون‪ ,‬وال ذين‬
‫يئا آخ ر‪ .‬وفي ه ذه األي ام‪ ,‬وبعد أن‬
‫عرف وا دورات الطبيع ة‪ ,‬لم يتكلم وا ولم يتف اءلوا‪ ,‬ك انوا ينتظ رون ش ً‬
‫أش رقت الش مس ومألت الك ون في الي وم الث الث‪ ,‬ما لبث ال ذين امتنع وا عن ال زرع في بداية الموس م‪ ,‬أن‬
‫يرا مثل غ يرهم!‬
‫زرعا وف ً‬
‫حرث وا األرض على عج ل‪ ,‬واس تعانوا بكل الوس ائل‪ ,‬لكي يض منوا ألنفس هم ً‬
‫مزاجا يختلف عن‬
‫ً‬ ‫لكن مطر آذار بغزارته وجنونه ال يمكن أن يقنع المس ّنين وال يرض يهم‪ .‬إن له ؤالء‬
‫كونته الطبيعة واألي ام الطويلة والمخ اوف‪ ,‬وربما يتولّد ألس باب غامضة‬
‫غ يرهم‪ ,‬وه ذا الم زاج ربما ّ‬
‫‪17‬‬

‫يقربه أك ثر‬
‫مجهولة! وقد تكون له عالقة باألرض ذاته ا‪ ,‬إذ يش عر أي واحد من ه ؤالء ب أن كل ي وم جديد ّ‬
‫أرض ا من ن وع ما يمكن أن‬
‫إن أمنية خفية تدفعه ألن يتم نى ً‬‫ف أكثر من األرض‪ .‬وما دام األمر هك ذا‪ ,‬ف َّ‬
‫تس تقبل لحمه وعظام ه‪ ,‬ويحس بنفس الخف اء أن ه ذا الجف اف ال ذي تس ّرب عميقًا إلى األرض‪ ,‬ثم تلك‬
‫الرخ اوة اللزجة ال تي ج اء بها مطر آذار‪ ,‬ال يناس بان‪ ,‬ويتم نى لو أنه ال يغ ادر الحي اة في مثل الس نة‬
‫الغم والسأم من ه ذه ال دورة العاتية‬
‫كبيرا في قلوب المس ّنين وأصابهم ّ‬
‫القاسية‪ .‬وحتى لو بلغ اليأس مبل ًغا ً‬
‫كريما الئقً ا‪ ,‬أن يم وت في ال وقت ال ذي أنهي كل ما‬
‫للطبيع ة‪ ,‬فقد ك ان كل واحد منهم يريد أن يم وت موتًا ً‬
‫يجب أن يفعله في هذه الحياة‪ ,‬وأن يغادر ال دنيا به دوء وس الم‪ ,‬دون جلب ة‪ ,‬ولكن ب احترام يناسب عم ره‪.‬‬
‫أما أن يم وت مثلما يم وت الص غار‪ ,‬أو مثلما تم وت ال دواب‪ ,‬بطريقة مفاجئ ة‪ ,‬ودون إن ذار من أي ن وع‪,‬‬
‫أس!‬ ‫عور عميق بالي‬ ‫ذا يدفعه إلى ش‬ ‫إن موتًا مثل ه‬ ‫ف‬
‫ومثلما توقّع المس ّنون حصلت األمور بعد ذلك‪ :‬ف الزرع ال ذي اه َّ‬
‫تز في أعم اق التربة من األمط ار الغزي رة‬
‫بنموها ال زاهي‪ ,‬رغم‬ ‫ال تي س قطت في نهاية آذار‪ ,‬ما لبث أن ش َّ‬
‫ق األرض وب دأ ينم و‪ .‬ك انت ال زروع ّ‬
‫المسافات المتباعدة فيما بينها‪ ,‬نتيجة لهجوم العصافير وتقليب المحاريث‪ ,‬ك انت بنموها قوية واثق ة‪ ,‬وما‬
‫كادت شمس نيسان تحتض نها بال دفء ح تى انتعشت وتح ّركت أك ثر من قب ل‪ .‬وإ ذا ك ان الفالح ون‪ ,‬بتف اؤل‬
‫رددون بإص رار أن ما يحت اجون إليه مط رة أو مط رتين في نيس ان‪ ,‬األولى في النصف األول‪,‬‬ ‫موه وم‪ ,‬ي ّ‬
‫والثانية في نهايت ه‪ ,‬ثم مط رة أخ يرة في منتصف أي ار‪ ,‬رغم ه ذا التف اؤل ال ذي يح اولون من خالله أن‬
‫يقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا غيرهم‪ ,‬فقد كانت مثل هذه األمني ات مس تحيلة‪ ,‬ألن الس نة من ب دايتها ك انت‬
‫تن ذر بالقحط‪ .‬ق ال ه ذا المس ّنون في داخلهم‪ ,‬وق ال ه ذا عس اف بص وت ع ال وأم ام جميع الن اس‪ .‬ولو أن‬
‫مقنع ا‪.‬‬
‫جوابا واض ًحا أو ً‬
‫ً‬ ‫أحدا سأل عسافًا عن السبب الذي يدعوه ألن يق ول مثل ه ذا الق ول‪ ,‬لم يكن يملك‬
‫ً‬
‫ول‪:‬‬ ‫أن يق‬ ‫ان يكتفي ب‬ ‫ك‬
‫ونكم!‬ ‫يء بعي‬ ‫رون كل ش‬ ‫وف ت‬ ‫ه‪ ,‬وس‬ ‫ذا ما أقول‬ ‫روا‪ ,‬ه‬ ‫‪ -‬انتظ‬
‫والن اس حين يس معون ه ذا الكالم من عس اف تتملكهم العص بية ويص بحون س ريعي الغض ب‪ ,‬وأق رب إلى‬
‫التحدِّي‪ ,‬لكن في ق رارة أنفس هم يحس ون أن ما يقوله ه ذا المجن ون ال يش به الكالم ال ذي يقوله غ يره‪ .‬إن‬
‫أمر ال يعرفونه‪.‬‬ ‫ة‪ ,‬وربما مرتبطة ب‬ ‫ة‪ ,‬حقيقة خفية غامض‬ ‫يئا من الحقيق‬
‫ً‬ ‫فيه ش‬
‫أحس المس ّنون‪ ,‬ثم توقع وا‪ ,‬ب دأت كلم ات التح ذير تتس رب من أف واههم‪ ,‬ثم كلم ات الخ وف‪ ,‬وفي‬
‫ومثلما َّ‬
‫ديد‪:‬‬ ‫وح ش‬ ‫الوا بوض‬ ‫وقت الحق ق‬
‫ّرت على الطيبة!‬ ‫تي م‬ ‫نين ال‬ ‫عب الس‬ ‫نة من أص‬ ‫ذه الس‬ ‫تكون ه‬ ‫‪-‬س‬
‫ّنين‪:‬‬ ‫يف أحد المس‬ ‫زين يض‬ ‫ذكر الح‬ ‫ير والت‬ ‫ات من التفك‬ ‫وبعد لحظ‬
‫ّرت على الطيبة من قبل‪.‬‬ ‫ذه م‬ ‫نة مثل ه‬ ‫ذكر أن س‬ ‫‪ -‬ال أت‬
‫يء بعد ذلك!‬ ‫اف حصل كل ش‬ ‫ال عس‬ ‫ّنون‪ ,‬ومثلما ق‬ ‫ومثلما توقع المس‬
‫يوما بعد آخر‪ ,‬كان عساف ال يهدأ وال يس تريح‪ ,‬إذ‬
‫يلف الطيبة من كل جوانبها‪ ,‬ويزداد ً‬
‫الغم الذي ّ‬
‫في هذا ّ‬
‫‪18‬‬

‫دق بعض األب واب‪ .‬ك ان يخت ار تلك‬


‫ما يك اد يع ود بعد الغ روب‪ ,‬ح امالً معه عش رات الطي ور‪ ,‬ح تى يب دأ ي ّ‬
‫األب واب بعناي ة‪ ,‬ويف ّكر في ذلك من قبل ط ويالً‪ .‬ك ان مع كل طلقة ين وي ح تى قبل س قوط الط ير‪( :‬أنت ألُم‬
‫ص بري)‪( ,‬وأنت ل داود األعمى)‪( ,‬وأنت لس عيد ال ذي ال يتقن في ه ذه ال دنيا س وى إنج اب البن ات)!‬
‫هك ذا ك ان يفعل وهو يط ارد الطي ور‪ .‬وحين ي دق األب واب‪ ,‬ولكي ال يخلق ذلك الخ وف الغ امض الم تربص‬
‫في كل القل وب‪ ,‬وال ذي يعلن عن نهاية ص ديق أو ق ريب‪ ,‬ك انت الكلم ات ال تي يطلقها عس اف في اله واء‬
‫اب‪:‬‬ ‫وقبل أن يفتح له الب‬
‫اف‪ ,‬جئت ألمسي عليكم!‬ ‫‪ -‬أنا عس‬
‫ور ومشى!‬ ‫ون قد ألقى بعض الطي‬ ‫ه‪ ,‬يك‬ ‫ال علي‬ ‫وقبل أن يس مع الكلم ات ال تي تنه‬
‫يئا‪ .‬وحالما ينتهي من‬
‫يرا‪ ,‬وفي بعض األحي ان ال يبقي ش ً‬ ‫َّ‬
‫ك ان يفعل ذلك كل ليلة‪ ,‬وال يبقي لنفسه إال ط ً‬
‫هذه المهمة‪ ,‬وعلى ضوء فانوس صغير يب دأ بتحض ير خرط وش الي وم الت الي‪ .‬يب دأ مهمة ال تع رف التعب‬
‫أحالما ال‬
‫ً‬ ‫أو التوقف‪ ,‬وال يكاد يأكل لقمة في نهاية السهرة حتى يغط في نوم عمي ق‪ .‬وفي ه ذا الن وم ي رى‬
‫حصر له ا‪ ,‬ك انت ت تراءى له آالف الص ور‪ :‬كيف ك انت الطيبة وكيف هي اآلن?! ويس أل نفس ه‪ :‬لم اذا‬
‫يوما بعد آخ ر?! أما حين تظهر له ص ور األش جار والطي ور‪ ,‬ثم ص ورة الم اء‬
‫تصبح الحي اة أك ثر ص عوبة ً‬
‫الج اري دون توق ف‪ ,‬وص ورة الربيع يغطي مس احات ال نهاية له ا‪ ,‬فك ان ي رى كل ش يء يط ير‪ .‬ك انت‬
‫الس ماء تمتلىء ب الطيور‪ ,‬وك ان الص يادون ال يص يدون إالَّ في المواسم والطي ور ال تي يجب أن تُص اد‪ .‬ثم‬
‫أما حين يب دأ المطر بالس قوط ويخ اف أن توحل األرض وتمنعه من الع ودة‬
‫تظهر له ص ور ال ذين م اتوا‪َّ ,‬‬
‫فك ان ي ركض‪ ,‬وعند ذلك يف زع ويس تيقظ من نومه وقد امتأل خوفًا أن يك ون ال وقت قد فات ه‪ .‬وحين يحس‬
‫برائحة الغب ار تمأل جو الغرفة يف رك عينيه لكي يتأ ّكد من ال وقت‪ .‬ك انت له س اعة في داخله ال تخطئ‪ .‬لم‬
‫تخطئ مرة واحدة ط وال ه ذه الس نين‪ ,‬ال تخطئ في الص يف وال في الش تاء‪ .‬ح تى ال ذين ك انوا ي أتون إلى‬
‫المنبه ة‪,‬‬
‫يرا من أجل رحلة الص يد مع عس اف‪ ,‬وينص بون الس اعات ّ‬ ‫الطيبة من المدين ة‪ ,‬ويس تعدون كث ً‬
‫ويص درون األوامر الص ارمة إلى المس ّنين لكي يوقظ وهم في ال وقت المناس ب‪ ,‬لئال ي تركهم عس اف‬
‫ويمش ي‪ ,‬بحجة أن الش مس ستش رق ويض يع الي وم‪ ,‬ولكي يكون وا في (المق وس) عند الش روق‪ ,‬ح تى‬
‫اعته!‬ ‫اف ال يخطئ وال تخطئ س‬ ‫ون وعس‬ ‫انوا يخطئ‬ ‫ؤالء ك‬ ‫ه‬
‫رد‬
‫تعود خالل فترة طويلة أن يخ رج إلى الص يد وحي ًدا مع كلب ه‪ ,‬ك ان يجد ص عوبة في أن ي ّ‬
‫وعساف الذي ّ‬
‫ال ذين يطلب ون الخ روج مع ه‪ ,‬خاصة من الض يوف‪ ,‬أو في س نة من س نوات القح ط‪ .‬ك ان يتم نى لو يبقي‬
‫أمحلت األرض وابتعدت الغيوم ولم يعد عند الناس شيء يأكلون ه?‬ ‫وحيدا‪ ,‬لكن ماذا يستطيع أن يفعل وقد ْ‬
‫ً‬
‫ردد لنفسه بإص رار أنه لن ي ترك أح ًدا‬
‫ح تى أم اكن الص يد ال تي خبأها لنفسه في ف ترات س ابقة‪ ,‬وك ان ي ّ‬
‫ِ‬
‫يص لها‪ ,‬ولن ي دل أح ًدا عليه ا‪ ,‬ال يس تطيع أن يمتنع ط ويالً في إخفائه ا‪ ,‬لكن ك ان ينبه بتأكيد ح ازم‪:‬‬
‫اقي!‬ ‫اث‪َّ ,‬إنها رزقنا الب‬ ‫وا اإلن‬ ‫‪ -‬ال تقتل‬
‫يف‪:‬‬ ‫ًدا يض‬ ‫وا جي‬ ‫ًدا أنهم فهم‬ ‫ون متأك‬ ‫وحين ال يك‬
‫‪19‬‬

‫غيرة ولونها واضح‪.‬‬ ‫ل‪ ,‬ص‬ ‫اث الحج‬ ‫اث‪ ,‬إن‬ ‫‪ -‬اإلن‬
‫ول‪:‬‬ ‫ان يق‬ ‫ات فك‬ ‫يح والمعلوم‬ ‫ًدا من التوض‬ ‫ألوه مزي‬ ‫أما إذا س‬
‫ان‪.‬‬ ‫ال‪ ,‬جب‬ ‫ل‪ ,‬مثل بعض الرج‬ ‫‪ -‬ديك الحج‬
‫ابع‪:‬‬ ‫حك‪ ,‬ثم يت‬ ‫وههم ويض‬ ‫وينظر في وج‬
‫زاه‪ ,‬مل َّون أك ثر من األن ثى‪ ,‬ويط ير قبلها!‬ ‫‪ -‬إنه يخ اف على نفسه كث يرا‪ ,‬وهو بل ون ٍ‬
‫ً‬
‫ويه ّزون رؤوس هم داللة المعرف ة‪ ,‬لكن عس افًا يخ اف ه ؤالء الص ّيادين‪ ,‬ويك ره الجبن اء والخبث اء منهم‪,‬‬
‫يرا تص يده‪ .‬ك ان يق ول بص وت ملئ باألسى‪:‬‬ ‫ويخ اف أك ثر من ذلك أن ي أتي ي وم ال تجد الطيبة ط ً‬
‫يرا‪,‬‬
‫غدا‪ ,‬وس تبقي لنا إذا حافظنا عليه ا‪ .‬أما إذا قتلناها كله ا‪ ,‬إذا طاردناها كث ً‬
‫‪ -‬هذه الطيور لنا‪ ,‬اليوم أو ً‬
‫ان آخر‪.‬‬ ‫وف تنتهي أو تبحث عن مك‬ ‫فس‬
‫ور الحجل‪:‬‬ ‫تماما من طي‬
‫راءت له األرض خالية ً‬ ‫بية وقد ت‬ ‫رخ بعص‬ ‫ويص‬
‫‪ -‬اس معوا‪ ,‬إذا انتهت ه ذه الطي ور وج اءت س نة من س نوات المح ل‪ ,‬وإ ذا ظلَّت الحكومة تك ذب س نة بعد‬
‫سنة وال تب ني الس ّد‪ ,‬فتأ ّك دوا أن أهل الطيبة س يموتون على بك رة أبيهم‪ .‬أنا متأكد من ذل ك‪ ,‬فهل يس تطيع‬
‫ور?‬ ‫ّرة أن يقتل البشر والطي‬ ‫ابن ح‬
‫هكذا كان الحديث يج ري في بداية كل رحل ة‪ .‬ورغم ذلك يض طر عس اف لقي ادة قافلة الص يادين إلى أم اكن‬
‫الحج ل‪ ,‬لكنه يلجأ إلى المكر أغلب األحي ان‪ :‬ك ان يق ودهم إلى األم اكن الص عبة‪ ,‬إلى األم اكن البعي دة‬
‫رحيم ا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يرا من قس وته ويجعله‬
‫والخطرة‪ ,‬وكان يعرف أن التعب أو الخ وف إذا دخل قلب الص ياد يفق ده كث ً‬
‫هك ذا ك ان يفعل في بداية الموس م‪ .‬أما إذا قست الحي اة على الطيبة أك ثر من قبل وحاص رها الج وع وب دأ‬
‫كثيرا من القيود ال تي ك ان يفرض ها على نفسه وعلى اآلخ رين‪ ,‬لكنه‬
‫يتردد في أن يتجاوز ً‬
‫يفتك بها‪ ,‬فكان ّ‬
‫يبرر ه ذه الخطيئة ال تي تعذّب ه‪:‬‬
‫يتألم‪ ,‬يشتعل بالشتائم ويرتكب الكثير من الحماقات‪ .‬كان يقول لنفسه لكي ّ‬
‫(إذا لم يأكل الن اس الحجل فس وف تأكله بن ات آوى وال ذئاب‪ ,‬وح تى لو نجا بعض ه ذه المخلوق ات‬
‫الملعون ة‪ ,‬فس وف ي أتي الرعي ان لكي يلتقط وا ال بيض‪ .‬ويجب أالّ يم وت أهل الطيبة)‪.‬‬
‫إن له فلس فة خاصة تك ّونت مع األي ام ومن التج ارب‪ ,‬ح تى لو أراد أن يق ول بضع كلم ات لكي يفسر ما‬
‫ي دور في عقله فلن يس تطيع‪ .‬أما إذا س أله أحد لم اذا يفعل ه ذا الش يء‪ ,‬ولم اذا ال يفعل ذاك‪ ,‬فك ان يش عر‬
‫ول‪:‬‬ ‫ان يق‬ ‫الحيرة والعجز‪ .‬ك‬ ‫ب‬
‫ياد!‬ ‫ذا يفعل الص‬ ‫يد‪ ,‬هك‬ ‫ذه هي طريقة الص‬ ‫‪-‬ه‬
‫يئا آخر!‬
‫ً‬ ‫يف ش‬ ‫وال يض‬
‫بهذه الطريقة كان يتعامل مع الصيد‪ ,‬وبهذه الفلسفة الغامضة يتص رف‪ ,‬ويريد من اآلخ رين أن يتص رفوا‪.‬‬
‫ف إذا ج اء موسم الطي ور المه اجرة يش عر بغبطة داخلية عميق ة‪ .‬ك ان يق ول بص وت ع ال واضح الن برات‪,‬‬
‫معه‪:‬‬ ‫ان أن يس‬ ‫ويريد من كل إنس‬
‫ياد نفسه!‬ ‫ده‪ ,‬وليثبت الص‬ ‫ّمر كل واحد منكم عن زن‬ ‫‪ -‬ليش‬
‫‪20‬‬

‫كان يقول مثل هذا الكالم لكي يض لِّل الص يادين اآلخ رين ويص رفهم عن الحج ل‪ .‬وه ؤالء الص يادون ال ذين‬
‫كثيرا من الحجل‪ ,‬وحفيت أقدامهم وهم يتسلقون الصخور العالية أو وهم يهبطون األودية السحيقة‪,‬‬
‫تعبوا ً‬
‫كانوا في قرارة أنفسهم يقبلون هذا الكالم ويوافقون عليه‪ ,‬وفي نطاق التبرير يقولون ألنفسهم ولبعضهم‪:‬‬

‫ّدقه وأن نتبعه!‬ ‫ذا فيجب أن نص‬ ‫ول ه‬ ‫اف‪ ,‬يق‬ ‫يادين‪ ,‬عس‬ ‫يخ الص‬ ‫‪ -‬ما دام ش‬
‫مجردا‪ ,‬كان يسبقهم إلى أماكن الطيور المهاجرة وممراتها‪ ,‬وكان ال يبخل عليهم‬
‫ً‬ ‫مكرا‬
‫وكي ال يترك األمر ً‬
‫بأي معلومات تس اعدهم وتم ّكنهم من ص يد أوف ر‪ .‬وهم بتق دير غ امض ين دفعون‪ ,‬ي ذهبون حيث يري د‪ ,‬إلى‬
‫يحددها‪ .‬بهذه الطريقة يض من أن بعض طي ور الحجل ال ت زال حية‬ ‫األماكن التي يحددها وفي األوقات التي ّ‬
‫في المعاص ي‪ .‬ك ان يق ول لنفسه بثق ة‪( :‬حالما تش عر ب األمن وبابتع اد أص وات الطلق ات ال ب َّد أن ت نزل إلى‬
‫أماكنها وتعيش مرة أخرى بس الم‪ .‬وم رة أخ رى س تفقس وتب دأ الف روخ الجدي دة تمأل الجب ال والودي ان)!‬
‫صحيح أن عسافًا في أعماقه يدرك أن كل حيوان وكل ط ير يع رف كيف ي دافع عن نفسه وإ لى أين ي ذهب‪,‬‬
‫إالَّ أنه حين يرى الصيادين األغرار يزدادون قسوة ورعونة‪ ,‬ويخرقون كل قاعدة‪ ,‬كان يق ول لنفسه ب ألم‪:‬‬
‫(يقتل ون الن اس به ذه الطريق ة‪ .‬والحجل يع رف كيف يختفي )‪ .‬ويض يف بعد ف ترة ص مت طويل ة‪( :‬حين‬
‫ط اردوا الغ زالن وقتلوها كلها أص بحت الص حراء مثل ق بر كب ير‪ ,‬ال ترسل إالَّ الغب ار والم وت‪ ,‬ويجب أن‬
‫يء)‪.‬‬ ‫وا كل ش‬ ‫يرهم فال يقتل‬ ‫ون أهل الطيبة أذكى من غ‬ ‫يك‬
‫ك ان الحج ل‪ ,‬في مثل ه ذه الس نين‪ ,‬وبغري زة غامضة‪ ,‬ح تى بالنس بة لعس اف نفس ه‪ ,‬يع رف كيف يختفي ‪,‬‬
‫ح تى ليب دو وكأنه انق رض نهائيًّا‪ ,‬ولن ي أتي ش روق أو غ روب في ي وم من األي ام القادمة ويس مع ص وته‬
‫مثل دجاج ات تائهة في س فوح الجب ال الش رقية‪ .‬عند ذاك ك ان الص يادون‪ ,‬ح تى األغ رار العني دون‪,‬‬
‫خصوص ا القط ا‪ ,‬تب دأ‬
‫ً‬ ‫يرا في ه ذا التح ول المف اجئ أن طي ور الص حراء‪,‬‬‫يتحول ون‪ .‬وال ذي يس اعد كث ً‬
‫يوما بعد آخر من الطيب ة‪ ,‬وبان دفاعها األرعن بحثًا عن الحب والم اء تع ّرض نفس ها للهالك‪,‬‬
‫ب االقتراب ً‬
‫حتى األوالد الصغار‪ ,‬في أوقات معينة‪ ,‬وبتلك الوسائل البدائية ال تي يملكونها‪ ,‬يس تطيعون االحتي ال عليها‬
‫دد منها!‬ ‫طياد ع‬ ‫واص‬
‫يئا إلى ط ائر ج ّني‪ ,‬وب رغم‬
‫يئا فش ً‬
‫لكن تبقي قوة الحياة هي األقوى‪ ,‬إذ يتحول القطا‪ ,‬هذا الطائر اإلبل ه‪ ,‬ش ً‬
‫إن ق وة أخ رى تس يطر عليه وتوجه ه‪ .‬فالقطا الط ائش ال ذي يمكن أن يقتل بالعش رات‬ ‫الج وع والعطش ف َّ‬
‫ذرا‪ .‬والص يادون‬
‫يرا ح ً‬
‫والمئات في بداية الموسم‪ ,‬والذي ال يم يز الص ياد من الفالح‪ ,‬ال يلبث أن يص بح ط ً‬
‫نوعا من ال ترفع في بداية الموس م‪ ,‬ويص فون القطا بعش رات األوص اف الرديئ ة‪ ,‬يص فونه‬
‫ال ذين يب دون ً‬
‫يوما بعد آخر وقد‬
‫بقس وة لحمه وغبائ ه‪ ,‬وبانع دام الل ذة نهائيًّا في ص يده‪ ,‬ح تى ه ؤالء يج دون أنفس هم ً‬
‫انساقوا إلى مالحقته‪ .‬وفي هذه الفترة‪ ,‬ولتبرير هذا السلوك‪ ,‬يقول ون بص وت ع ال فيه تلك الكبري اء ال تي‬
‫رورين‪:‬‬ ‫يادين المغ‬ ‫تميز الص‬
‫ّ‬
‫رى‪.‬‬ ‫ور األخ‬ ‫ذرا من الطي‬
‫ً‬ ‫ثر ح‬ ‫بح أك‬ ‫رب وتن ّكح‪ ,‬وأص‬ ‫ض‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪21‬‬

‫يرة‪:‬‬ ‫ؤالء بثقة كب‬ ‫يف بعض ه‬ ‫ويض‬


‫يد الحجل!‬ ‫عب من ص‬ ‫يده اآلن أص‬ ‫‪ -‬إن ص‬
‫أياما ص عبة مري رة‪ ,‬وتبحث عن طريقة لتواصل الحي اة‪,‬‬
‫هك ذا تب دأ ال دورة تتغ ير‪ .‬والطيبة ال تي تعيش ً‬
‫تتغاضى عن أشياء كثيرة‪ ,‬بما فيها رعونة الش باب وان دفاعهم إلى الص يد به وس لم يتع وده أحد ولم يكن‬
‫يزهم من قبل‪.‬‬ ‫يم‬
‫يد كله‪.‬‬ ‫َّد أن يقضي على الص‬ ‫ولكم ال ب‬ ‫ذي يمأل عق‬ ‫ون ال‬ ‫ذا الجن‬ ‫‪-‬ه‬
‫يف‪:‬‬ ‫يزه‪ ,‬يض‬ ‫ذي يم‬ ‫نزق ال‬ ‫ية‪ ,‬وفيها ذلك ال‬ ‫ات قاس‬ ‫وبكلم‬
‫ام!‬ ‫تعد لتلك األي‬ ‫د‪ ,‬وعلينا أن نس‬ ‫ِ‬
‫أت بع‬ ‫عبة لم ت‬ ‫ام الص‬ ‫‪ -‬األي‬
‫ف إذا س مع كلم ات الس خرية والتح دي‪ ,‬وإ ذا اتهم وه أنه يريد الته رب‪ ,‬ك ان بانفع ال يجيب‪:‬‬
‫وصبرا‪ ,‬فالقطا سيصل إليكم‪ ,‬ولن تحت اجوا ألن ت ذهبوا إليه!‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إذا وفّرتم الخرطوش‪ ,‬إذا كنتم أكثر عقالً‬
‫لكن الش باب ال يس معون‪ ,‬وتظل دوافع مش ؤومة وقوية ت دفعهم ألن ينتقم وا‪ ,‬ألن يتب اروا‪ .‬وتح ديات مثل‬
‫هذه تدفع الطيبة ثمنها‪ .‬فالطيور التي كانت تهجم برعونة في بداية الموس م‪ ,‬ال يلبث الخ وف أن يتملكه ا‪,‬‬
‫تغير ه ذه الطي ور طريقة حياته ا‪,‬‬
‫وتبدأ البحث عن أماكن أخرى‪ ,‬أو تغير مواعيد مجيئها وهربها‪ .‬بكلمة; ِّ‬
‫وتصبح الحياة لكل مخلوق أكثر قسوة وأكثر صعوبة‪ .‬ح تى عس اف نفس ه‪ ,‬ال ذي ك ان يع ود بأع داد وف يرة‬
‫من الطي ور‪ ,‬يب دأ يواجه الص عوبة نفس ها ال تي يواجهها الص يادون األغ رار‪ ,‬ويب دأ ص يده يق ل‪ ,‬ويص بح‬
‫امرة‪.‬‬ ‫رب إلى المغ‬ ‫نيا وأق‬
‫ً‬ ‫يد عمالً مض‬ ‫الص‬
‫دأ وال يتوقف!‬ ‫افًا ال يه‬ ‫لكن عس‬
‫بدأت إذن األيام الصعبة القاسية‪ .‬ومثلما اختارت الطيبة أن تكون في ه ذا الموقع من الع الم‪ ,‬على أط راف‬
‫تتحمل كل ما يواجهها من مك اره وص عاب‪ .‬وإ ذا‬
‫البادي ة‪ ,‬فقد اخت ارت الص يد والش جاعة‪ ,‬وع رفت كيف َّ‬
‫إن‬
‫ؤمن بها خ بزه‪ ,‬ف َّ‬
‫تفرق عادة بين الن اس‪ ,‬وتجعل كل إنس ان يبحث لنفسه عن طريقة ي ِّ‬
‫كانت المجاعات ّ‬
‫واحدا‪ .‬وما عدا تلك الفئة‬
‫ً‬ ‫وجسدا‬
‫ً‬ ‫تقرب بين الناس في الطيبة‪ ,‬وتجعلهم أُسرة واحدة‬ ‫المجاعات واألحزان ِّ‬
‫الص غيرة ال تي ج اءت من مك ان بعي د‪ ,‬واخت ارت الطيبة س ك ًنا له ا‪ ,‬وظلَّت تعمل وتتص رف ب روح الغرب اء‬
‫إن البشر إذا واجه وا المص اعب ب روح من التع اون والمش اركة‪,‬‬
‫وخوفهم‪ ,‬رغم ما ق دَّم لها أهل الطيب ة‪ ,‬ف َّ‬
‫تبدو هذه المصاعب أقل قس وة‪ ,‬ويمكن التغلُّب عليه ا‪ .‬وبه ذه الطريقة الف ذة المليئة بالبطولة الص امتة‪ ,‬لم‬
‫ي ترك أحد يم وت دون أن تق دم إليه أقصى المعون ات‪ ,‬وأغلب األحي ان بش كل خفي ال يدركه أح د‪ .‬فاألُسر‬
‫الكبيرة العدد‪ ,‬والتي ال تقوي على مواجهة الحياة‪ ,‬كانت تفتح أبواب بيوتها‪ ,‬في س اعة من س اعات الليل‬
‫وي رمى داخلها بكمية من الحنطة أو قليل من الس كر والش اي والص ابون‪ .‬والن اس ال ذين فق دوا‬ ‫أو النهار‪ُ ,‬‬
‫كل ما يملكون ثم ًنا للبذار‪ ,‬ثم ثم ًنا لبعض األشياء التي اشتروها من المدينة‪ ,‬ك ان ه ؤالء يج دون مس اعدة‬
‫ال تيسر للذين هم أكثر قدرة منهم‪ .‬حتى المقع دون وذوو العاه ات‪ ,‬قد َّ‬
‫تكفل بهم ع دد من الش باب‪ ,‬وك انوا‬
‫كن‬
‫أما النس اء األرامل فقد َّ‬
‫وغالبا ما يك ون حس اء من الطي ور أو الهريس ة‪َّ .‬‬
‫ً‬ ‫يق ّدمون لهم األكل المطب وخ‪,‬‬
‫‪22‬‬

‫يرة‪.‬‬ ‫ترة موضع رعاية كب‬ ‫ذه الف‬ ‫في ه‬


‫لكن الطيبة ال تي تس تطيع أن تطعم أبناءها أج زاء من لحمها ال تق وي على مواجهة مثل ه ذه المص ائب‬

‫سنة بعد أخرى بصدرها المكشوف وإ مكاناتها المحدودة‪ .‬وبرغم أن المس ِّنين ح ذّروا كث ً‬
‫يرا من اإلس راف‪,‬‬

‫وطلب وا من كل بيت أن يقتصد ما وس عه االقتص اد‪ ,‬وأن َي ُع َّد األي ام ال تي ال ت زال الطيبة تعيش ها اآلن ً‬
‫أياما‬
‫إن الطيبة ظلت تعيش على أمل غ امض‪ ,‬وظلت‬
‫رخية‪ ,‬وبعدها ستأتي المص ائب الكب يرة كثيفة متالحق ة‪ ,‬ف َّ‬
‫ممض ا!‬
‫ًّ‬ ‫يئا ما‪ ,‬لكن ه ذا األمل لم يتحقق كما توهَّمه الكث يرون‪ ,‬وأص بح االنتظ ار ط ويالً‬ ‫تنتظر ش ً‬
‫واألبناء في المدن البعيدة لم ينتظروا صرخات االستغاثة وإ َّنما ب ادروا إلى تق ديم كل ما يس تطيعون‪ .‬بعث وا‬
‫أيض ا يطلب ون أن ي أتي‬
‫بكميات من الحنطة والشعير‪ ,‬وبعثوا بالعدس والسكر والش اي والص ابون‪ ,‬وبعث وا ً‬
‫خصوصا الذين تق دَّموا في العم ر‪ ,‬ال‬
‫ً‬ ‫عدد من األهل واألصدقاء‪ ,‬لينزلوا عندهم في المدينة‪ .‬وأهل الطيبة‪,‬‬
‫جوعا‬
‫ً‬ ‫يقوون على االس تجابة لمثل ه ذه الطلب ات‪ ,‬وال يتص ورون أنفس هم يرحل ون ت اركين غ يرهم للم وت‬
‫شا‪ .‬إن مجرد تصور شيء مثل هذا يولِّد في النفوس خجالً ال يس تطيعون احتماله‪ ,‬ول ذلك ال يجيب ون‬ ‫وعط ً‬
‫عن مثل هذه الرسائل‪ ,‬وال يلبونها‪ .‬واألبناء الذين رحلوا‪ ,‬وظلوا على صلة مع البلدة يعرفون جي ًدا أن ما‬
‫يطلبونه أق رب إلى المس تحيل‪ ,‬ولن يس تجيب إليه أحد‪ ,‬ول ذلك ب الغوا أول األمر في إرس ال كل ما‬
‫يس تطيعون‪ ,‬ثم ب دأوا يتواف دون إلى البل دة‪ ,‬للزي ارة أول األم ر‪ ,‬ثم للمش اركة بطريقة ما من أجل الوق وف‬
‫أياما‬
‫شيئا‪ .‬ك انت الزي ارات تمتد ً‬
‫في وجه هذا الكرب القاسي‪ ,‬لعلهم يستطيعون عمل شيء‪ ,‬أو أن يتعلموا ً‬
‫وتتك ّرر في أوق ات متقارب ة‪ ,‬كما ال تقتصر على المش اركة الوجدانية أو الرغبة في تع ذيب النفس‪ ,‬وإ نما‬
‫ك انت ترافقها أش ياء كث يرة‪ :‬كمي ات إض افية من الحنطة والش عير‪ ,‬أث واب من الخ ام‪ ,‬وك انت ت أتي معها‬
‫الوع ود والكلم ات الكب يرة‪ .‬وإ ذا ك انت تلك الوع ود أقسى األش ياء وأص عبها لكل إنس ان في الطيب ة‪ ,‬فقد‬
‫عذابا ال يطيق أحد أن يتحمله‪( .‬لم يبق إالَّ القليل ويب دأ بعد ذلك بن اء الس د‪ .‬والسد‬
‫أصبحت في هذه السنة ً‬
‫أيض ا‪( :‬إنه قبل‬
‫المهمون في العاص مة)‪ ,‬وق الوا ً‬
‫ُّ‬ ‫إذا قام لن تعطش الطيبة ولن تجوع‪ .‬هكذا قال لنا الرجال‬
‫نهاية الخري ف‪ ,‬وقبل موسم األمط ار‪ ,‬س تبدأ اآلالت تشق التربة وت دفع أمامها الص خور‪ ,‬وس وف ي أتي‬
‫أعينكم!)‪.‬‬ ‫ترون ذلك ب‬ ‫ين‪ ,‬وس‬ ‫ال والمهندس‬ ‫ات العم‬ ‫مئ‬
‫وأهل الطيبة ال ذين يقبل ون األش ياء ال تي ت أتي ويوزعونها بعدالة مفرط ة‪ ,‬ك انوا يس معون كلم ات المدينة‬
‫قريبا من الطيب ة‪ ,‬ليجمع المي اه ال تي تت دفق س يوالً‬
‫الكب يرة‪ ,‬ويس معون عن السد ال ترابي ال ذي سينشأ ً‬
‫جارفة في بعض المواس م‪ ,‬ثم تنتهي إلى ب اطن األرض‪ .‬وال أحد يع رف كيف تغ ور ه ذه المي اه أو إلى أين‬
‫ت ذهب‪ ,‬وال تبقي من تلك الس يول غ ير تلك الكمي ات الكب يرة من الحصى والمج اري العميقة ال تي ج رفت‬
‫ود!‬ ‫يرة والوع‬ ‫ات الكب‬ ‫وى الكلم‬ ‫اس‬‫أيض‬
‫أج زاء من األراضي والبس اتين! وال تبقي ً‬
‫ك ان أهل الطيبة يس معون ذلك بص مت ح زين‪ ,‬وال ي درون أيك ذبون أبن اءهم أو أولئك الرج ال الرابض ين‬
‫هن اك في األبنية الكب يرة المغلقة? ك انوا يقول ون ألنفس هم‪( :‬لقد قيل لنا مثل ه ذا الكالم م رات كث يرة‪,‬‬
‫يء‬ ‫نة‪ ,‬وال ش‬ ‫نة وراء س‬ ‫نوات‪ ,‬س‬ ‫وتنقضي الس‬
‫‪23‬‬

‫يوما‬ ‫يتغ ير)‪ .‬وأهل الطيبة ال ذين تع َّودوا نس يان السد والطريق والكهرب اء في مواسم الخ ير‪ ,‬ولم ِّ‬
‫يفكروا ً‬
‫واحدا أن يحصلوا على مثل ه ذه الخ يرات‪ ,‬ف َّإنهم في مواسم القحط يت ذكرون ك ّل ش يء‪ ,‬يت ذكرون هيئ ات‬
‫ً‬
‫الرج ال ال ذين أت وا‪ ,‬والكلم ات ال تي قالوه ا‪ ,‬ويت ذكرون أن بعض ال ذين ج اءوا زائ رين مع أبن اء لهم إلى‬
‫أيض ا في المن اطق‬‫الطيبة في س نوات س ابقة‪ ,‬س نوات الخصب والمواسم الطيب ة‪ ,‬وذهب وا إلى الص يد ً‬
‫المحيطة بالبلدة‪ ,‬ورجعوا وقد امتألوا بنشوة‪ ,‬وتصرفوا في لحظ ات معينة مثل األطف ال‪ ,‬وب دوا ص ادقين‪-‬‬
‫مهما‪ ,‬بحيث ال ي ذكر اس مه إالَّ كما ت ذكر أس ماء األنبي اء‬
‫يرا ًّ‬
‫إن بعض ه ؤالء أص بح في المدينة البعي دة كب ً‬
‫ذكرون الطيب ة‪ ,‬ونس وا أص دقاءهم‪ ,‬وانتهى األم ر‪ .‬والطيبة تعض على‬ ‫واألولى اء‪ .‬إن ه ؤالء لم يع ودوا يت َّ‬
‫جراحها في مواسم القحط والجف اف‪ .‬أما في مواسم الخ ير فال تكف عن أن تبعث بس الل المش مش في‬
‫بداية الموسم‪ ,‬ثم بسالل العنب والتين في نهايته‪ ,‬وبين الموسمين تبعث اللبن والجبن وال بيض والخ راف‬
‫شيئا من المدينة‪ .‬تبعث الطيبة كل هذا برضا أقرب إلى الحبور‪ .‬ويتصور اآلباء‬ ‫أيضا‪ ,‬وال تنتظر ً‬
‫الصغيرة ً‬
‫واألمهات‪ ,‬وهم يبعثون بالسالل وأكياس اللبن في الس يارة الص غيرة ال تي ت ذهب في الص باح الب اكر‪َّ ,‬أنهم‬
‫تأخروا عن موعد سيارة الموظفين‪ ,‬أو إن لم‬ ‫يحسون بالمرارة والحزن إن َّ‬ ‫ال يقومون بواجب فقط‪ ,‬وإ نما ّ‬
‫يستطيعوا قطف التين في ال وقت المناس ب! والطيبة ال تي لم تتنكر ولم تتغ ير‪ ,‬وظلَّت وفية لكل ش يء فيها‬
‫ولكل إنس ان ع اش فيها أو م َّر بها في ي وم من األي ام‪ ,‬خلقت ه ذا الوف اء الفذ في أبنائها‪ ,‬وال ذي ال يوجد‬
‫دة‪.‬‬ ‫رى البعي‬ ‫ا في الق‬ ‫أيض‬
‫رى‪ ,‬وال يوجد ً‬ ‫مثيل له فيما جاورها من الق‬
‫في ه ذه الس نة القاس ية الملعونة ج اء ع دد كب ير من أبن اء الطيب ة‪ ,‬ج اءوا دون طلب ودون إيع از من أي‬
‫أحسوا بالحزن العمي ق‪ ,‬والم وا‬
‫نوع‪ ,‬وما كادت أرجلهم تطأ أرض الطيبة‪ ,‬وعيونهم تالمس بيوتها‪ ,‬حتى ُّ‬
‫كثيرا على َّأنهم تأخروا حتى هذا الوقت‪ ,‬وشعروا بتأنيب الض مير ح تى ق ارنوا حي اتهم في المدينة‬
‫أنفسهم ً‬
‫بحي اة الن اس في الطيب ة‪ .‬لكن ه ذا الح زن وه ذا الن دم تراجعا بس رعة ليحل مكانهما الرغبة القوية في أن‬
‫يئا‪ ,‬لع َّل الطيبة تنجو ه ذه الم رة‪ ,‬ولعلها تحيا وتس تمر إلى أن ُيب نى الس د‪ ,‬أو يقع ش يء ما في‬
‫يفعل وا ش ً‬
‫المدينة البعي دة‪ ,‬ويص بح من الممكن بعد ذلك مواجهة الطبيعة القاس ية دون انتظ ار للوع ود الكاذبة أو‬
‫نوات‪.‬‬ ‫نة وينقطع س‬ ‫أتي س‬ ‫ذي ي‬ ‫للمطر اإلبله ال‬
‫نزع الذين وص لوا لت ّوهم مالبس المدين ة‪ ,‬ولبس وا مثلما ك انوا يفعل ون حين ك انوا في البل دة قبل س نوات‪.‬‬
‫يرا على ال ذين‬
‫وخالل اليوم األول مروا على أكثر بيوت الطيبة‪ ,‬وسألوا عن الرج ال والنس اء‪ ,‬وحزن وا كث ً‬
‫م اتوا‪ ,‬وف ّك روا في أم ور واقتراح ات كث يرة‪ ,‬وق َّرروا بينهم وبين أنفس هم ع دة أم ور‪ ,‬إن هم ع ادوا إلى‬
‫المدينة مرة أخرى‪ .‬لم يكتفوا بذلك‪ ,‬بل وزعوا ما ج اءوا ب ه‪ ,‬وكتب وا رس ائل عدي دة إلى أقرب اء وأص دقاء‬
‫في المدينة البعي دة وفي المهجر‪ .‬وفي الليل س هروا ط ويالً يف ّك رون ويتكلم ون‪ ,‬لكنهم ك انوا يحس ون في‬
‫أعم اقهم ب المرارة تك وي له اتهم مع كل كلمة يقولونه ا‪َّ ,‬‬
‫ألنهم لم يكون وا متأك دين من ش يء!‬
‫وإ ذا ك انت الطيبة كث يرة الص بر والتس امح‪ ,‬وتغفر للغرب اء مثلما تغفر ألبنائه ا‪َّ ,‬‬
‫فإنها تع رف الغضب في‬
‫مواسم الجفاف‪ ,‬وهذا الغضب الذي قد يأخذ ش كالً هي ًنا في بعض األوق ات يتح ول في النهاية إلى جن ون ال‬
‫‪24‬‬

‫ّوره أحد‪.‬‬ ‫يطيقه وال يتص‬


‫ان بعيد‪:‬‬ ‫درس في مك‬ ‫ابًّا ي‬ ‫ان ش‬ ‫ادمين‪ ,‬وك‬ ‫ال أحد الق‬ ‫ق‬
‫‪ -‬الن اس هن اك ال يفعل ون كما تفعل ون أنتم هن ا‪َّ ,‬إنهم‪ ,‬هن اك‪ّ ,‬‬
‫يحول ون الكلم ات إلى ق وة‪ .‬ق وة منظمة‬
‫وت‪.‬‬ ‫اجالً قبل أن يلتهمنا الم‬ ‫يئا ع‬
‫ً‬ ‫ة‪ ,‬ويجب أن نفعل مثلهم ش‬ ‫ومحارب‬
‫ماء‪:‬‬ ‫تنكار‪ ,‬ويقلب نظراته بين األرض والس‬ ‫فتيه باس‬ ‫ّن‪ ,‬وهو يقلب ش‬ ‫ال رجل مس‬ ‫ق‬
‫دنا أن نفعل?‬ ‫اذا تري‬ ‫‪ -‬وم‬
‫ابع الرجل‪:‬‬ ‫اب ت‬ ‫وقبل أن يجيب الش‬
‫‪ -‬يجب أن تع رف‪ ,‬ال أحد يس تطيع مقاومة الحكوم ة‪ .‬علينا أن نك ون عقالء ِّ‬
‫ونفكر فيما نس تطيع عمله‪.‬‬
‫بية‪:‬‬ ‫اب بعص‬ ‫ال الش‬ ‫ق‬
‫‪ -‬القحط إذا جاء تنامون سن ًة كاملة‪ ,‬وإ ذا لم يجئ ترسلون الدعاء والرسائل وال ش يء غ ير ذل ك‪ ,‬وبه ذه‬
‫الطيبة!‬ ‫تبقي‬ ‫لن‬ ‫الطريقة‬
‫اب‪:‬‬ ‫ال والد ذلك الش‬ ‫ق‬
‫تحمل الن اس تلك الس نوات وعاش وا‬
‫‪ -‬الطيبة‪ ,‬يا ولدي‪ ,‬باقية‪ ,‬لقد م َّرت س نوات ص عبة كث يرة مثل ه ذه‪َّ ,‬‬
‫ك‪ ,‬وظلَّت الطيبة‪.‬‬ ‫بعد ذل‬
‫خرية‪:‬‬ ‫اب بس‬ ‫َّ‬
‫رد الش‬
‫‪ -‬الموت والحياة في مثل هذه الظروف متساويان‪ .‬انظ روا إلى األرض واألش جار وال دواب‪ .‬وانظ روا في‬
‫وج وه البش ر‪ ,‬إن كل ش يء يم وت‪ ,‬وإ ذا ج اءت س نة مثل ه ذه الس نة فلن يبقي ش يء!‬
‫يتطور لكن حين دخل الضيوف‪ ,‬الذين جاءوا عصر ذلك اليوم‪ ,‬إلى‬
‫كان يمكن لهذا الحديث أن يستمر وأن ّ‬
‫المضافة‪ ,‬تغيَّر الجو فجأة‪.‬‬

‫تقريبا‪ ,‬جاء أربعة من الضيوف‪ ,‬جاءوا مع أص دقاء لهم من‬


‫ً‬ ‫في عصر ذلك اليوم‪ ,‬في نهاية فصل الصيف‬
‫أهل الطيب ة‪ ,‬ج اءوا في س يارتين‪ ,‬إح داهما س يارة جيب واألخ رى ف ولكس ف اكن ص غيرة رمادي ة‪ .‬وعلى‬
‫ال رغم من أن أبن اء الطيب ة‪ ,‬المقيمين وال راحلين‪ ,‬يتميَّزون برهافة الحس ودماثة الخل ق‪ ,‬ويعرف ون كيف‬
‫يعضُّون على جراحهم بصمت ويكتمون أحزانهم بصبر عجيب‪ ,‬حتى يخطئ الكث يرون في فهمهم أو تحديد‬
‫إن الكث ير من المت اعب والمش اكل ال تي يري دون بحثها والح ديث فيها حين يخل ون ألنفس هم‪,‬‬
‫مش اعرهم‪ ,‬ف َّ‬
‫جانبا‪ ,‬ويتح دَّثون بطريقة مختلفة حين ي أتي الض يوف‪ .‬والمس ُّنون ال ذين تع َّودوا على كتم‬‫يتركونها ً‬
‫مشاعرهم وانتظار األوقات المناسبة للح ديث‪ ,‬يختلف ون عن الرج ال األص غر س ّنا‪ ,‬إذ ُيص اب ه ؤالء بن وع‬
‫من الحمى وال يقوون على كتم األفكار والمشاعر التي تمأل صدورهم‪ ,‬خاصة في موسم مثل هذا الموسم‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫ك انت هن اك رغبة ألن يتح دث بعض الرج ال للم رة األخ يرة‪ ,‬أم ام الض يوف‪ .‬وإ ذا ك ان الكث يرون من أهل‬
‫يتحدثوا للمرة األخيرة‪ ,‬في أمر السد‪ ,‬م تى‬
‫الطيبة قد انتظروا بصبر فارغ مجيء األبناء من المدينة‪ ,‬لكي ّ‬
‫يجب أن يق وم وم اذا فعل وا من أجل قيام ه‪ ,‬وأنهم لم يع ودوا ق ادرين على االنتظ ار أك ثر مما فعل وا‪ ,‬وإ ذا‬
‫وتحمل وا الس نين الماض ية بص مت فلن يس تطيعوا بعد الي وم احتم ال ذل ك‪ ,‬وس وف يلج أون إلى‬
‫َّ‬ ‫ص بروا‬
‫تي يمتلكونها‪.‬‬ ‫درة ال‬ ‫دى الق‬ ‫ة‪ ,‬بم‬ ‫اك في المدين‬ ‫ار هن‬ ‫اع الكب‬ ‫دة إلقن‬ ‫ائل جدي‬ ‫وس‬
‫تماما حين رأوا عصر ذلك اليوم س يارتين غريب تين‬ ‫ُّ‬
‫إذا كان أهل الطيبة قد انتظروا طويالً‪ ,‬فقد خاب ظنهم ً‬
‫أما حين تعانق اآلب اء واألمه ات مع أبن ائهم العائ دين‪ ,‬فقد طغت للحظ ات ق وة الحب على‬
‫تدخالن الضيعة‪َّ .‬‬
‫ق وة العت اب‪ ,‬وجاشت ال دموع في العي ون وغلبت جميع المش اعر األخ رى‪ .‬ونتيجة ذلك ت راجعت األفك ار‬
‫والكلمات الغاضبة لتحل مكانها مشاعر المودة وكلمات الترحيب‪ .‬والضيوف الذين لم يروا الطيبة قبل هذه‬
‫أما حين ق ابلتهم‬
‫شيئا مختلفًا‪ ,‬ولم يحسوا ب ذلك ال دوي ال داخلي ال ذي يولّ ده الجف اف‪َّ .‬‬
‫المرة‪ ,‬لم يروا فيها ً‬
‫أحس وا ب دفء داخلي وحس دوا ه ؤالء الن اس على ه ذا الرضا‬ ‫االبتس امات الواس عة وال ترحيب الح ار فقد ُّ‬
‫ذي يمتلكونه!‬ ‫ال‬
‫به ذه الطريقة ت أجَّلت أُم ور كث يرة وحلَّت أخ رى مكانه ا‪ .‬فاألش ياء ال تي حملها األبن اء من المدينة ُوِّزعت‬
‫بعناي ة‪ ,‬واختلى بعض المس ِّنين لينص حوا بعض هم ً‬
‫بعض ا أن يتص رفوا بحكم ة‪ ,‬ولكي يطلب وا من الش باب‬
‫دائم ا‪ ,‬دون إث ارة ألي أح زان أو مش اكل‪ .‬وق الوا في أنفس هم‪( :‬س يبقى‬
‫اح ترام الض يوف مثلما تع َّودوا ً‬
‫يوما أو ي ومين ثم يرحل ون‪ ,‬وبعد ذلك س وف نقلب ال دنيا على رؤوس ه ؤالء األبن اء الع اقّين‪,‬‬
‫الض يوف ً‬
‫يئا في ال دنيا س وى إرس ال بعض الحاج ات في مواسم الجف اف‪ ,‬وك أن الطيبة أص بحت‬
‫الذين ال يعرف ون ش ً‬
‫للمتسولين والجياع‪ ,‬ويجب أن تبقي كذلك)‪ .‬أما الوعود الكثيرة عن المياه التي ستتدفق ط وال أي ام‬
‫ّ‬ ‫مأوى‬
‫أما عن األسماك التي ستزرع في البحيرة‪ ,‬عن القنوات التي ستمتد إلى مسافات بعي دة‪ ,‬فقد انتهى‬ ‫السنة‪َّ ,‬‬
‫األمر كله‪ ,‬ولم يبق إالَّ صدى الكلمات ّ‬
‫يتردد كل بضع سنين‪ ,‬شفقة أو حس رة على ه ذه البل دة ال تي تم وت‬
‫وم‪.‬‬ ‫يوما بعد ي‬
‫ً‬
‫اعر‬ ‫انت مش‬ ‫ذا ك‬ ‫اعات األولى‪ ,‬وهك‬ ‫انت الس‬ ‫ذا ك‬ ‫هك‬
‫أحس وا بغري زتهم أن كل ش يء قد تغيَّر في البل دة‪ ,‬وأن األي ام ال تي يعيش ها‬
‫الن اس‪ ,‬وأبن اء الطيبة ال ذين ُّ‬
‫أهلها من القس وة إلى درجة لم يكون وا يتص ورونها‪ ,‬ورأوا التغيُّرات العميقة ال تي دخلت في كل ش يء‬
‫عما تفيض‬ ‫كثيرا‪ ,‬وأن أي كلمات تق ال اآلن ال ب َّد أن تك ون ع اجزة وال ِّ‬
‫تعبر َّ‬ ‫يلمحونه‪ .‬شعروا أنهم أذنبوا ً‬
‫وألنهم تع َّودوا على ش كل معين من التص رفات‪ ,‬فقد فهم وا من‬ ‫وألن الض يوف قد أت وا‪َّ ,‬‬
‫به قل وبهم‪َّ .‬‬
‫النظرات‪ ,‬من اإلش ارات‪ ,‬وح تى من لمس ات األي دي‪ ,‬أن الطيبة تغلي وال ب َّد أن تنفجر بش كل أو آخر‪ ,‬لكن‬
‫غريبا وطريفًا!‬
‫ً‬ ‫ألن الض يوف ب دا لهم كل ش يء‬ ‫جانب ا‪َّ ,‬‬
‫ه ذه المش اعر تُ ركت ً‬
‫ألن الض يوف ج اءوا له ذه الغاي ة‪ .‬وما دام‬ ‫أما حين انعقد مجلس الس مر فقد َّ‬
‫تركز الح ديث على الص يد‪َّ ,‬‬ ‫َّ‬
‫ذا ما حصل!‬ ‫إن ه‬
‫َّ‬ ‫ذا‪ ,‬ف‬ ‫دون ه‬ ‫يوف يري‬ ‫الض‬
‫‪26‬‬

‫أيض ا على الص بر‪,‬‬


‫وأهل الطيبة الذين كانوا قادرين على التحدِّي والغضب في أوقات معينة‪ ,‬كانوا قادرين ً‬
‫ويلجأون إلى كل الوسائل لمواجهة الجوع والموت‪ .‬وحين ُيذكر الص يد وس يلة لمواجهة المجاع ة‪ ,‬وإ نق اذ‬
‫تردد كلمة واح دة‪َّ ,‬‬
‫وكأنها كلمة الس ر‪ :‬أين عس اف? ودون عن اء كب ير يت برع الكث يرون‬ ‫ما يمكن إنق اذه‪ ,‬ت ّ‬
‫لمناداته‪ ,‬إلحضاره‪ .‬وفي غمرة الحزن والجوع والتح دِّي ومواجهة الم وت‪ ,‬ومن أجل التغلُّب على الح زن‬
‫والج وع والم وت‪ ,‬تفلت كلمة س اخرة‪ ,‬أق رب إلى الدعاب ة‪ .‬يق ول أحد الحاض رين‪ ,‬ليتغلب على المناقشة‬
‫تنتهي‪:‬‬ ‫رف كيف س‬ ‫دأت وال يع‬ ‫تي ب‬ ‫ادة ال‬ ‫الح‬
‫افًا حيًّا أو ميتًا!‬ ‫روا عس‬ ‫افًا‪ ,‬احض‬ ‫‪ -‬نريد عس‬
‫قريبا من الب اب‪ .‬وأهل‬
‫عصبيا مخط وف الوج ه‪ ,‬وبغمغمة ال تك اد تُفهم‪ ,‬ألقى التحي ة‪ ,‬وجلس ً‬
‫ّ‬ ‫دخل عساف‬
‫الطيبة الذين تع َّودوا على عس اف‪ ,‬وقبل وا جنون ه‪ ,‬رفض وا بكث ير من اإلص رار أن يص طحب كلبه معه إلى‬
‫يرا‪ ,‬قابله ب رفض أشد قس وة وأشد إص رارا‪,‬‬
‫سهراتهم وإ لى مجالسهم‪ .‬وهذا ال رفض ال ذي آذي عس افًا كث ً‬
‫ح تى انتهى األمر إلى ذلك االتف اق الض مني ب أن ي دخل عس اف إلى المجلس دون أن يص افح أح ًدا‪ ,‬وأن‬
‫إن عالقته بمج الس البل دة‬
‫مكره ا‪ ,‬ف َّ‬
‫ً‬ ‫قريبا من الب اب‪ .‬وإ ذا ك ان عس اف قد قَِب َل ه ذه الش روط‬
‫يبقي كلبه ً‬
‫نادرا‪ .‬أما إذا جاء ض يف إلى البل دة من أجل الص يد‪ ,‬فقد‬ ‫َّ‬
‫وأحاديثها قليلة إلى درجة أن الناس ال يرونه إال ً‬
‫أيضا‬
‫كان ّأول الذين يجب دعوتهم وحضورهم هو عساف‪ .‬وعساف الذي ال يحب حضور المجالس‪ ,‬يكره ً‬
‫وي ُعدُّهم‪ ,‬في أغلب األحيان‪ ,‬ثقالء شديدي البالدة والخور‪ ,‬لكن مثلما علّمته الطيبة‪ ,‬كان‬
‫هؤالء الضيوف‪ً ,‬‬
‫ير!‬ ‫يتحمل الكث‬
‫َّ‬ ‫ان‬ ‫املتهم‪ ,‬ومن أجل ذلك ك‬ ‫احبتهم وإ لى مج‬ ‫طرا إلى مص‬
‫ًّ‬ ‫مض‬
‫أما حين جلس قرب الب اب وأجلس كلبه‬
‫أحس أن األمر غير عادي‪َّ .‬‬
‫في هذه األمسية‪ ,‬وحين أتوا بعساف‪َّ ,‬‬
‫إلى جانب ه‪ ,‬فقد س مع أك ثر من ص وت ي دعوه إلى ص در المجلس‪ ,‬وإ زاء رفض ه‪ ,‬نهض واحد من أبن اء‬
‫يغير مكان ه‪.‬‬
‫يحيي عسافًا بحرارة أول األم ر‪ ,‬ثم يس حبه بق وة لكي ِّ‬ ‫الطيبة القادمين مع الضيوف‪َّ ,‬‬
‫ومد يده ِّ‬
‫استمر األمر بعض الوقت‪ ,‬بين القب ول وال رفض‪ ,‬إلى أن اق ترح أحد المس ِّنين انتق ال عس اف وبق اء الكلب‬
‫ان‪.‬‬ ‫حيث ك‬
‫إن في حي اة كل إنس ان لحظ ات من الخص وبة ال ي دركها‪ ,‬وال يع رف م تى أو كيف تأتيه أو كيف تنفجر في‬
‫داخل ه‪َّ .‬إنها تن دفع فج أة‪ ,‬تعربد مثل الري اح أو مثل األمط ار الغزي رة المفاجئ ة‪ ,‬وتطغى على كل ش يء‪,‬‬
‫أرض رملية عطشى!‬ ‫ٍ‬ ‫لتوها في‬
‫وكأنها مي اه غ ارت ّ‬ ‫ومثلما ت أتي فج أة تنتهي ك ذلك‪َّ ,‬‬
‫مكره ا‪ ,‬ليلتقي ببعض‬
‫ً‬ ‫هذه اللحظ ات ال يخطط لها أحد وال ي دبرها أحد‪ ,‬ح تى لو أراد‪ .‬وعس اف ال ذي ج اء‬
‫الوج وه ال تي لم يرها من قب ل‪ ,‬وقد ال يراها م رة أخ رى بعد أن تغ ادر الطيب ة‪ ,‬وال ذي أغض بته كلمة أحد‬
‫المس ِّنين حين طلب منه أن ُيبقي كلبه عند وص يد الب اب‪ ,‬وجد نفسه فج أة في ع الم من الوجد وأق رب ما‬
‫يك ون إلى التجلِّي‪ ,‬إذ ما ك اد ُيس أل عن الص يد‪ ,‬وعن ع دد الطي ور ال تي ص ادها ذلك الي وم‪ ,‬وكيف ك ان‬
‫َّ‬
‫وتمنى أك ثر من ذلك لو يس تطيع‬ ‫وتمنى لو أنه لم ي ِ‬
‫أت‪,‬‬ ‫َّ‬ ‫أحس باالختن اق‪,‬‬
‫الموسم بص ورة عام ة‪ ,‬ح تى َّ‬
‫مغ ادرة المجلس‪ .‬لكنه ك ان يع رف أهل الطيب ة‪ ,‬يع رف مق دار ال ود القاسي ال ذي ُّ‬
‫يكنونه ل ه‪ ,‬ويحس أن‬
‫‪27‬‬

‫رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله من أرض وبشر وأشجار ومي اه‪ ,‬وأن ه ذه الرابطة تك ون‬
‫تي تمر على الطيبة‪.‬‬ ‫نة ال‬ ‫ذه الس‬ ‫عبة مثل ه‬ ‫نة ص‬ ‫وى حين تمر س‬ ‫أشد وأق‬
‫مما‪ ,‬أول األم ر‪ ,‬أالّ يتكلم‪ ,‬ف إذا حاص روه باألس ئلة‪ ,‬ولم يجد مج االً لله رب‪ ,‬فال أقل من بضع‬
‫ك ان مص ً‬
‫وأحس أن قلبه يخفق بض ربات س ريعة أك ثر‬
‫َّ‬ ‫مع ا‪,‬‬
‫كلم ات يقوله ا‪ ,‬لكن فج أة امتأل بش عور األلفة والتح دِّي ً‬
‫يئا لم يفعله من قبل‪.‬‬
‫ً‬ ‫مما تع ّود حين يك ون في مثل ه ذا الموق ف‪ ,‬وق َّرر أن يفعل ش‬
‫موجودا‪ ,‬أنه ألول م رة في حيات ه‪ ,‬ق َّرر أن يخ وض معركة لم يخض‬
‫ً‬ ‫يتذ ّكر هو نفسه‪ ,‬ويتذ ّكر كل َمن كان‬
‫دائما من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة‪ ,‬إذ ما كادت األسئلة تنهال علي ه‪,‬‬
‫مثلها من قبل‪ ,‬رغم ما ُيقال ً‬
‫ِّد‪:‬‬ ‫رخ بتح‬ ‫تى ص‬ ‫يد‪ ,‬ح‬ ‫وكلها عن الص‬
‫ان!‬ ‫ال يا حص‬ ‫ال‪ ...‬تع‬ ‫‪ -‬تع‬
‫اف‪.‬‬ ‫دام عس‬ ‫اء‪ ,‬انسل ليجلس عند أق‬ ‫أة‪ ,‬ومثل حية ملس‬ ‫وانتفض الكلب فج‬
‫وعم ال ذهول‪ .‬والمس ّنون ال ذين يملك ون‪,‬‬
‫كانت الحركة مفاجأة‪ ,‬لم يتوقعها أح د‪ ,‬وللحظ ات خيَّمت الدهشة َّ‬
‫أحسوا أن ص وت عس اف‪ ,‬وهو ي دعو كلب ه‪ ,‬غ ير م ألوف‪ ,‬وال يمكن‬
‫أغلب األحيان‪ ,‬الحق باألمر والنهي‪ُّ ,‬‬
‫مقاومت ه‪ .‬تب ادلوا النظ رات فيما بينهم‪ ,‬ونظ روا إلى عس اف‪ ,‬لكن ألول م رة في حي اتهم الطويلة الحافلة‬
‫يكتش فون في عينيه بريقًا قاس ًيا وحش يًّا‪ ,‬ودون وعي أو إرادة‪ ,‬ت راجعت كلم ات االع تراض لتحل مكانها‬
‫اب‪.‬‬ ‫يء من العت‬ ‫يرا عن األسف وش‬ ‫ً‬ ‫رؤوس تعب‬ ‫زات ال‬ ‫ه‬
‫لم ينتظر عس اف‪ ,‬اعت دل في جلس ته‪ ,‬أج ال نظ رة طويلة في وج وه الن اس ال ذين خيَّم عليهم الص مت‪,‬‬
‫مس د على ظه ره أك ثر من م رة‪ ,‬ودون أن‬
‫مع ا‪ ,‬امت دَّت ي ده إلى الكلب‪َّ ,‬‬
‫وبطريقة مليئة بالمحبة والحن ان ً‬
‫دأ‪:‬‬ ‫اطب نفسه‪ ,‬ب‬ ‫د‪َّ ,‬‬
‫وكأنه يخ‬ ‫ينظر إلى أح‬
‫مرت عليكم? هل تظن ون‬ ‫‪ -‬ماذا ُّ‬
‫تظنون يأهل الطيبة? هل تظ ّنون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي َّ‬
‫َّأنكم ستواص لون الحي اة ح تى ت أتي األمط ار م رة أخ رى? إن َمن يظن ذلك أق رب إلى الجن ون‪.‬‬
‫نفس ا عميقًا من س يجارته‪ ,‬وتطلع في وج وه الرج ال م رة أخ رى‪ ,‬ثم ت ابع‪:‬‬ ‫عب ً‬
‫توقف لحظ ة‪َّ .‬‬
‫يبق بيننا وبين الموت إالَّ ذراع‪ ,‬وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن ن وفره‬
‫‪ -‬قلت لكم ألف مرة‪ :‬لم َ‬
‫حين ت أتي األمط ار م رة أخ رى‪ .‬قلت لكم مئ ات الم رات وأنتم ال تس معون ه ذا الكالم‪ ,‬وب دل ذلك ت زدادون‬
‫يوما بعد يوم‪ .‬قلت لكم‪ :‬اتركوا إن اث الحجل للس نوات القادم ة‪ ,‬إنها رزقنا الب اقي‪ .‬قلت لكم‪ :‬وفّ روا‬
‫حماقة ً‬
‫يوما بعد آخر ت زدادون‬
‫الخرط وش وال تُفزع وا الط ير‪ ,‬وعن دها س يأتي إليكم ب دل أن ت ذهبوا إلي ه‪ ,‬لكنكم ً‬
‫وتحد ًيا‪ .‬قلت لكم‪ :‬انقلوا من النبع ِح ْمل حمارين أو ثالثة حمير وارموا بها في الخ وابي القريب ة‪ ,‬ثم‬
‫ّ‬ ‫عنادا‬
‫ً‬
‫اربض وا هن اك ح تى ت أتي الطي ور‪ ,‬ف امتألت وج وهكم باالبتس امات الس اخرة‪ ,‬وقلتم‪ :‬عس اف انهب ل‪ ,‬ألنه‬
‫يطلب منا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الم اء ونرميه في الص حراء‪ .‬واآلن ت أتون به ؤالء األفندية وتتظ اهرون‬
‫بالنبل والك رم وتطلب ون من عس اف أن يص طحبهم إلى الص يد‪ ,‬وأن يجعلهم يص يدون! م اذا يس تطيع أن‬
‫يص يد ه ؤالء أو غ يرهم ما دمتم مألتم ال دنيا بالطلق ات المجنونة تب ذرونها في اله واء‪ ,‬ح تى لم يبق ط ير‬
‫‪28‬‬

‫من طي ور الس ماء أو حي وان من حيوان ات األرض إالَّ وس مع ع ً‬


‫ددا ال حصر له من الطلق ات?‬
‫دة‪:‬‬ ‫ابع بلهجة جدي‬ ‫يوف‪ ,‬ثم ت‬ ‫وه الض‬ ‫َّرك يديه بطريقة يائسة‪ ,‬وتطلّع في وج‬ ‫وح‬
‫‪ -‬يا سادة‪ ,‬ك ان الحجل يصل إلى أب واب ال بيوت‪ .‬ك انت الغ زالن واألرانب تمأل الس هل كل ه‪ .‬ك انت مم رات‬
‫يفض ل‪ .‬هك ذا ك ان األمر في‬
‫الترغل كث يرة إلى درجة أن عس افًا نفسه يحت ار إلى أين ي ذهب وأي المم رات ّ‬
‫األوقات السابقة‪ ,‬وأهل الطيبة بدل أن يحافظوا على ه ذه النعم ة‪ ,‬لم ي تركوا أي ابن ع اهرة ولمس افة ألف‬
‫كيلو إالَّ ودلُّوه على الطيبة‪ .‬اعذروني‪ ,‬أنا ال أقصد أي واحد منكم‪ ,‬أنتم على عيوننا وعلى رؤوسنا‪ ,‬لكني‬
‫أقصد الص يادين اآلخ رين ال ذين ي أتون من كل مك ان‪ ,‬وك أن ليس في ال دنيا س وى الطيب ة‪ ,‬وه ؤالء ال ذين‬
‫ي أتون ال يعرف ون س وى ش يء واحد‪ :‬القت ل‪ .‬ك انوا يقتل ون كل ما تقع عليه أعينهم‪ .‬ك انوا يقتل ون إن اث‬
‫الحجل قبل ذكورها‪ ,‬ألن ال ذكور وهي تجفل وتط ير من الخ وف‪ ,‬ك انت تخلّف في قل وب ه ؤالء الص يادين‬
‫يرا‪ ,‬وبعد أن يس تعيدوا ش جاعتهم تط ير اإلن اث فيض ربونها‪ .‬والش يء نفسه يفعلونه ب الغزالن‬ ‫خوفًا كب ً‬
‫واألرانب وكل الحيوان ات األخ رى‪ ,‬وحين يع ودون محملين بالص يد الكث ير ال يكتف ون ب أن يع ودوا إلى هنا‬
‫أنواعا من‬
‫ً‬ ‫م رة أخ رى‪ .‬إنهم ي دلّون أص دقاءهم وأص دقاء أص دقائهم‪ ,‬إلى عاشر ج ّد‪ ,‬ويحض رون معهم‬
‫الس الح ال يتص ورها عقل وال يقاومها ص خر‪ .‬وبه ذه الطريق ة‪ ,‬وس نة بعد أخ رى‪ ,‬أقف رت الطيب ة‪ .‬واآلن‬
‫تري دون من عس اف أن يس تولد لكم الطي ور والحيوان ات وال أع رف أي عف اريت أخ رى? م اذا يس تطيع‬
‫بيض ويفقس?)‪.‬‬ ‫ذي ي‬ ‫يح جديد? هل هو ال‬ ‫ل? هل هو مس‬ ‫اف أن يفع‬ ‫عس‬
‫تقر على ظهر الكلب‪ ,‬وينظر إلى الوج وه ال تي اعترتها الدهشة وخيَّم عليها‬
‫ومن جديد امت دَّت ي ده لتس َّ‬
‫مت‪:‬‬ ‫الص‬
‫‪ -‬لم يخلق الص يد لألغني اء أو ال ذين يقتلهم الزهق والش بع‪ .‬لقد خلق للفق راء‪ ,‬ولل ذين ال يملك ون خ بز‬
‫يومهم‪ .‬وعساف الذي قضى حياته كلها في البرية ال يصيد في مواسم الخير إالَّ ما يمأل معدته ومعدة ه ذا‬
‫أما في مواسم الجف اف‪ ,‬ولكي ال يم وت الن اس في الش وارع‪ ,‬فيمكن أن يك ون الص يد حالً‪ ,‬كما‬
‫الحي وان‪َّ .‬‬
‫هو الح ال ونحن نس تبدل بخ بز القمح خ بز الش عير‪ ,‬لكن ال أحد يفهم في الطيبة وفي غيرها من الم دن‬
‫روحا ش ريرة ال تمتلكها ال ذئاب أو أي حيوان ات أخ رى‪ ,‬وله ذا‬
‫والق رى‪ .‬إن اإلنس ان في ه ذه األي ام يمتلك ً‬
‫الس بب نواجه الي وم الج وع‪ ,‬وس يكون الج وع غ ًدا أشد وأص عب‪َّ .‬إنني أرى ذلك كما أراكم اآلن‪ .‬وإ َّنني‬
‫أخ اف من الغد أك ثر مما أخ اف الي وم ال ذي أعيش في ه‪ .‬ه ذا ما ص نعناه بأي دينا!‬
‫وبطريقة أقرب إلى الفظاظة والي أس تح َّرك عس اف يريد أن ينهض ليمش ي‪ .‬وإ ذا ك ان كالمه قد خلق ج ّوا‬
‫فإن حركة غ ير عادية س رت في الجمي ع‪ .‬ك انت‬
‫متوترا‪ ,‬شديد الحرج‪ ,‬خاصة ألهل الطيبة تجاه ضيوفهم‪َّ ,‬‬‫ً‬
‫حركة س ريعة غامض ة‪ ,‬وفيها ذلك االحتج اج اللذيذ ال ذي يش يع االع تراف الض مني ب أن ما قاله ذلك‬
‫المجن ون هو الحقيقة ذاته ا‪ ,‬وال يمكن ألحد أن ينكرها أو يتنكر له ا‪ ,‬وأن ما قاله ك ان يجب أن ُيق ال!‬
‫يرا عن الص يد في الطيب ة‪ ,‬وعن عس اف‬ ‫ق ال نعيم‪ ,‬وقد ج اء مع الض يوف من المدين ة‪ ,‬وتح دَّث معهم كث ً‬
‫أيض ا عن غرابة طبع ه‪ ,‬ق ال ليخفف من كالم عس اف‪:‬‬
‫ومقدرته الفائقة في الص يد‪ ,‬وتح ّدث ً‬
‫‪29‬‬

‫‪ -‬ما قلت ه‪ ,‬يا عم عس اف‪ ,‬هو الحقيق ة‪ ,‬لكن أنت تع رف أي جن ون يعيش في قلب الص ياد!‬
‫دافع عن نفسه‪:‬‬ ‫لمة‪َّ ,‬‬
‫وكأنه ي‬ ‫يوف‪ ,‬بلهجة مستس‬ ‫ال أحد الض‬ ‫ق‬
‫دها!‬ ‫ة‪ ,‬وليس في الطيبة وح‬ ‫يد في كل المنطق‬ ‫‪ -‬لقد انقطع الص‬
‫وألول م رة يقهقه عس اف‪ ,‬كما لم يفعل ذلك في حياته إالَّ م رات قليل ة‪ ,‬وق ال بص وت مليء بالس خرية‪:‬‬
‫انين?!‬ ‫كنها المج‬ ‫دها يس‬ ‫ال إن الطيبة وح‬ ‫ومن ق‬
‫‪َ -‬‬
‫اف‪:‬‬ ‫ًدا أض‬ ‫ولكي تفهم كلماته جي‬
‫‪ -‬لقد وصل الجن ون إلى كل مك ان‪ .‬وه ذه األس لحة الجدي دة ما ك ان لها أن توج د‪ ,‬ح تى لو ص نعها بعض‬
‫المج انين في األم اكن البعي دة‪ ,‬ما ك ان لها أن تص ل‪ ,‬أو أن تس تعمل في الص يد‪َّ .‬إنها تقتل كل ش يء‪ ,‬وال‬
‫يئا!‬
‫ً‬ ‫تبقي ش‬
‫خرية‪:‬‬ ‫اد إلى لهجة الس‬ ‫ومن جديد ع‬
‫ألن منها الحك ام‬
‫‪ -‬إذا كانت المناطق األخرى تنعم بالمي اه والخض رة‪ ,‬وتحصل على ما تري ده دون عن اء‪َّ ,‬‬
‫جوعا!‬
‫ً‬ ‫أم َحلت م ات الن اس‬
‫إن الطيبة بل دة مس كينة‪ ,‬إذا أمط رت ال دنيا وج دت لقمته ا‪ ,‬وإ ذا ْ‬
‫والعس كر‪ ,‬ف َّ‬
‫رى تغيَّرت لهجته‪:‬‬ ‫رة أخ‬ ‫وم‬
‫‪ -‬فيما مضى‪ ,‬قبل س نوات كث يرة‪ ,‬كنا نح ارب الج وع ونتغلب عليه ب الطيور ال تي ت أتي‪ ,‬بالحيوان ات ال تي‬
‫ق ش يء‪ .‬ف إذا‬
‫أما ه ذه األي ام فلم يب َ‬
‫تق ترب من البل دة‪ ,‬وكنا نق اوم الج وع حين نأكل الج راد والجرابيع‪َّ ,‬‬
‫اس تمرت الح ال هك ذا فلن تمضي ف ترة قص يرة ح تى تص بح الطيبة م أوى للب وم والوطاويط!‬
‫ورة الطيبة‪:‬‬ ‫تعرض ص‬ ‫يف آخر بلهجة خجولة وهو يس‬ ‫ال ض‬ ‫ق‬
‫‪ -‬س معت أن س دًّا س ُيبنى عن دكم‪ ,‬وأن ه ذا السد س يروي مس احات واس عة‪ ,‬أليس ك ذلك?‬
‫ِّنين‪:‬‬ ‫ال أحد المس‬ ‫ق‬
‫‪ -‬مثلما سمعت‪ ,‬يا ولدي‪ ,‬س معنا‪ .‬الف رق بيننا وبين ك‪ ,‬أننا س معنا ه ذا منذ وقت طوي ل‪ ,‬ولقد ق ال لنا ذلك‬
‫دري!‬ ‫ة‪ ,‬لكن َمن ي‬ ‫ار في المدين‬ ‫الكب‬
‫َّز رأسه بأسف‪.‬‬ ‫خرية وه‬ ‫وع من الس‬ ‫حك الرجل بن‬ ‫وض‬
‫رقية‪:‬‬ ‫ار الجهة الش‬ ‫ال مخت‬ ‫ق‬
‫وارا مناس ًبا للص يد‪ ,‬وه ؤالء الك رام لن ينس وا الطيب ة‪,‬‬
‫‪ -‬اتركوا اآلن هم وم القري ة‪ .‬المهم أن ترتب وا مش ً‬
‫رعة!‬ ‫ّد بس‬ ‫اء الس‬ ‫ؤولين لبن‬ ‫اع المس‬ ‫وفروا أي جهد من أجل إقن‬ ‫ولن ي‬
‫وتح َّول الجو فج أة‪ .‬هجم أحد الق ادمين على عس اف‪ ,‬وقبَّله على رأسه‪ ,‬وق ال بطريقة مغرية‪:‬‬
‫ًدا!‬ ‫ير غ‬ ‫يد وف‬ ‫ود بص‬ ‫وف نع‬ ‫رس‪ ,‬وس‬ ‫تكون قائد الحملة يا بط‬ ‫‪-‬س‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ِّنين‬ ‫ال أحد المس‬ ‫ق‬
‫وت!‬ ‫ده يمكن أن ينقذ الطيبة من الم‬ ‫يد وح‬ ‫يرا‪ .‬إن الص‬
‫يدا كب ً‬
‫ً‬ ‫‪ -‬يجب أن تص يدوا ص‬
‫بمن فيهم الضيوف‪ ,‬حول عساف‪ ,‬وبدأ اإلعداد لمشوار الغد‪.‬‬
‫وتحلقت المجموعة‪َ ,‬‬
‫‪30‬‬

‫اق الليلة الفائتة‪:‬‬ ‫اف ِّ‬


‫ليؤكد اتف‬ ‫ال عس‬ ‫ق‬
‫‪ -‬لو ذهبنا إلى الحجل فس وف نرجع بأي ٍِد فارغ ة‪ .‬قتل وا الحجل لمس افة ألف كيل و‪َّ .‬‬
‫أما الك دري فقد تن ّكح‪,‬‬
‫أصبح يخاف من الرجال واألشباح‪ ,‬ويطير من مسافات بعيدة‪ .‬لذلك يجب أن ن ذهب إلى أقصى مك ان‪ ,‬وما‬
‫رى‪.‬‬ ‫تطير كل مجموعة لألخ‬
‫وف ّ‬ ‫يارات فس‬ ‫دام معنا س‬
‫تبين من خاللها سوى برق ات‬
‫توقف قليالً وأجال عينيه في الوجوه حوله‪ .‬كانت العتمة تمأل كل شيء‪ ,‬وال ّ‬
‫تمص ها الش فاه‪ ,‬ق ال عس اف وهو يتح ّرك‪:‬‬
‫س ريعة للعي ون أو ت وهج الس جائر المش تعلة حين ّ‬
‫طارتكم!‬ ‫‪ -‬أنتم وحظّكم‪ ,‬أنتم وش‬
‫نوعا من ال برودة اللذي ذة‪ ,‬والرج ال ال ذين‬
‫في غبشة الليل المت أخر ك انت ري اح ناعمة تمأل الك ون وتخلّف ً‬
‫انحشروا في الس يارتين‪ ,‬ك انوا أميل إلى الص مت والتأم ل‪ .‬ص حيح أنهم تب ادلوا بعض األح اديث الس ريعة‪,‬‬
‫لكنها كانت في مجملها للتغلب على الصمت والسأم‪ ,‬وفي محاولة لخلق تحريض متبادل‪ ,‬وبدافع األمني ات‬
‫قبل أي شيء‪ .‬وعساف الذي جلس في س يارة الجيب‪ ,‬وك انت في المقدمة‪ ,‬ك ان ش ديد الص مت‪ ,‬ولم يجب‬
‫ول‪:‬‬ ‫أن يق‬ ‫ان يكتفي ب‬ ‫ة‪ ,‬ك‬ ‫ات قليل‬ ‫تي ُو ِّجهت إليه إالَّ بكلم‬ ‫ئلة ال‬ ‫عن األس‬
‫رى!‬ ‫وف ن‬ ‫بروا وس‬ ‫‪ -‬اص‬
‫بين ف ترة وأخ رى‪ ,‬وألن عس افًا هو ال ذي يع رف الطري ق‪ ,‬ك ان يح ّدد ويص در األوامر‪:‬‬
‫‪ -‬يمين‪.‬‬
‫ار‪.‬‬ ‫‪ -‬يس‬
‫ار!‬ ‫رى إلى اليس‬ ‫رة أخ‬ ‫‪-‬م‬
‫والسائق الذي يستجيب بطاعة ودون اعتراض‪ ,‬ك ان يخطئ بعض األحي ان‪ ,‬فب دل أن يس تدير إلى اليس ار‪,‬‬
‫كما طلب منه عس اف‪ ,‬ك ان يس تدير إلى اليمين‪ ,‬لكن ما يك اد يفطن إلى خطئه ح تى يس تدير بق وة ليأخذ‬
‫االتج اه الص حيح‪ .‬والس يارة الخلفي ة‪ ,‬ال تي ك انت تس ير على مس افة بعي دة نس بيًّا‪ ,‬لتتجنب الغب ار الك ثيف‬
‫يدا‪ ,‬وك انت تتوقع باس تمرار‬
‫المتطاير من الجيب‪ ,‬كانت ت رى في كل حرك ة‪ ,‬في كل التفات ة‪ ,‬مفاج أة أو ص ً‬
‫هادئا‪ .‬وحين س أله أحد الجالس ين في المقعد‬
‫شيئا‪ .‬لكن عس افًا ال ذي ع رف ه ذه األرض بش كل جي د‪ ,‬ك ان ً‬
‫ً‬
‫بية‪:‬‬ ‫اب بعص‬ ‫ادق‪ ,‬أج‬ ‫داد البن‬ ‫ان إلع‬ ‫وقت قد ح‬ ‫ان ال‬ ‫الخلفي إن ك‬
‫بر!‬ ‫رج‪ .‬اص‬ ‫اح الف‬ ‫بر مفت‬ ‫‪ -‬الص‬
‫ذئبا?‬
‫ً‬ ‫أو‬ ‫أرنبا‬
‫ً‬ ‫نجد‬ ‫أن‬ ‫يحتمل‬ ‫أال‬ ‫‪-‬‬
‫أرانب?‬ ‫بقيت‬ ‫وهل‬ ‫‪-‬‬
‫ذه األرض أرض أرنب!‬ ‫ور أن ه‬ ‫‪ -‬أتص‬
‫ور!‬ ‫‪ -‬ال تتص‬
‫دوي الص اخب لس يارة الجيب‪ ,‬ولم‬
‫وانقطع الحديث م رة أخ رى‪ .‬لم يكن يس مع خالل ه ذا الص مت س وى ال ّ‬
‫‪31‬‬

‫وائها‪.‬‬ ‫وي المنبعث من أض‬ ‫ور الق‬ ‫دها الن‬ ‫تي يول‬ ‫احة ال‬ ‫رى إالَّ المس‬ ‫تكن ت‬
‫َّإنها إحدى المرات القليلة التي يتوغل أبناء الطيبة وضيوفهم إلى هذه المسافة البعيدة في الصحراء‪ .‬ومع‬
‫كل ميل جديد تتغير طبيعة التربة ويتغير اله واء‪ .‬فالمنطقة المحيطة بالطيبة متنوعة التض اريس‪ ,‬متفاوتة‬
‫أشد التف اوت‪ ,‬إذ تب دأ ببعض الص خور الس وداء‪َّ ,‬‬
‫وكأنها ح دود الطيبة من ه ذه الناحي ة‪ ,‬ثم تليها الكثب ان‬
‫الترابية ال تي تتخللها بعض الص خور الكلس ية‪ ,‬ثم األرض الحص بة الش ديدة التن وع‪ .‬وتتس اوى في ه ذه‬
‫األرض قطع الحج ارة الص غيرة مع الترب ة‪ .‬وتظل هك ذا‪ ,‬مع تف اوت بس يط‪ ,‬مس افة طويل ة‪ ,‬ح تى يقطعها‬
‫ٍ‬
‫واد‪ ,‬وه ذا ال وادي يص بح خالل فصل الش تاء مج ًرى للس يول واألمط ار‪ ,‬وال يك اد اإلنس ان يتج اوزه‪,‬‬
‫وينعطف فج أة ناحية الغ رب‪ ,‬ولمس افة ميل أو اث نين‪ ,‬ح تى تب دأ الص حراء تظهر‪.‬‬
‫تب دأ الص حراء ّأول األمر بخج ل‪َّ ,‬‬
‫وكأنها تك َّونت في التو واللحظ ة‪ ,‬إذ ما ت زال تحمل بعض مالمح األرض‬
‫متشابها وأق رب ما تك ون إلى راحة الي د‪,‬‬
‫ً‬ ‫واحدا‬
‫ً‬ ‫نسيجا‬
‫ً‬ ‫التي تجاورها‪ ,‬لكن تدريجيًّا تتغير األرض‪ ,‬لتصبح‬
‫من حيث االس تقامة‪ ,‬مع الت واءات ص غيرة ومتفرق ة‪ ,‬وكثب ان رملية تظهر وتغيب‪ ,‬بين ف ترة وأخ رى‪.‬‬
‫وت واضح‪:‬‬ ‫اف بص‬ ‫ال عس‬ ‫حراء‪ ,‬ق‬ ‫دأت الص‬ ‫حين ب‬
‫ائعا لم تص له بعد طلق ات‬
‫أرنبا ض ً‬
‫‪ -‬ال ذين على الش بابيك يمكن أن يمألوا بن ادقهم‪ .‬هنا يمكن أن نجد ً‬
‫انين!‬ ‫المج‬
‫سمعت أصوات البنادق وهي تُفتح‪ ,‬ثم س معت أص وات الخرط وش وهي‬‫وبطريقة آلية‪ ,‬شديدة االستجابة‪ُ ,‬‬
‫تس تقر‪ .‬ق ال عس اف‪ ,‬وهو يلتفت إلى الخل ف‪ ,‬ويكلم الرجل ال ذي جلس في وسط المقعد الخلفي‪:‬‬
‫اني ‪ ...‬هنا!‬ ‫وف تجلس مك‬ ‫يد الحقيقي س‬ ‫ان الص‬ ‫‪ -‬حين نصل إلى مك‬
‫سأل نعيم‪ ,‬وهو يسوق الس يارة‪ ,‬وقد ش عر ب الخوف أن يتخلَّى عس اف عنهم في ه ذه الص حراء الرهيبة‪:‬‬
‫اف?‬ ‫‪ -‬وأنت‪ ,‬يا عم عس‬
‫ألول مرة‪ ,‬منذ بداية الرحلة‪ ,‬ابتسم عساف‪ ,‬ونظر إلى الس ائق‪ ,‬ثم إلى الرج ال ال ذين يجلس ون في المقعد‬
‫الخلفي‪ .‬كانت بداية أضواء الفجر تنتشر بهدوء وتتس رب إلى داخل الس يارة‪ .‬وبعد أن تملَّى من وج وههم‬
‫ال‪:‬‬ ‫ق‬
‫يارة‪.‬‬ ‫بي على األرض‪ ,‬وأنتم في الس‬ ‫‪ -‬أنا وكل‬
‫ا في الخلف‪:‬‬ ‫جالس‬
‫ً‬ ‫ان‬ ‫ة‪ ,‬وك‬ ‫أله أحد الثالث‬ ‫س‬
‫يد?‬ ‫‪ -‬وكيف سنص‬
‫خرية‪:‬‬ ‫اف بس‬ ‫ال عس‬ ‫ق‬
‫يد!‬ ‫تي تص‬ ‫يارة هي ال‬ ‫‪ -‬الس‬
‫اف بلهجة مختلفة‪:‬‬ ‫ًدا لم يفهم كالمه أض‬ ‫أحس أن أح‬
‫ولما َّ‬
‫‪ -‬بعد أن طارد الصيادون الطير وأتعبوه‪ ,‬بدأ يخاف من كل شيء‪ ,‬وال يمكن أن ُيصاد اآلن إالَّ بالسيارة‪.‬‬
‫دة‪:‬‬ ‫ال بلهجة جدي‬ ‫ه‪ ,‬وق‬ ‫توقف قليالً‪ ,‬تطلع حوالي‬
‫‪32‬‬

‫‪ -‬حين ت رون رفًّا من الك دري أو القطا يجب أن تغ يروا عليه بأقصى س رعة‪ ,‬وقبل أن يط ير كل ه‪ ,‬قبل أن‬
‫ور!‬ ‫ذوا منه بعض الطي‬ ‫د‪ ,‬يمكن أن تأخ‬ ‫يبتع‬
‫طرب بين يديه حين أمسك البندقية‪:‬‬ ‫يارة يض‬ ‫ود الس‬ ‫أل نعيم‪ ,‬ومق‬ ‫س‬
‫اف?‬ ‫‪ -‬وأنت يا عم عس‬
‫اب‪.‬‬ ‫جعة وأج‬ ‫رة مش‬ ‫اف نظ‬ ‫نظر إليه عس‬
‫‪ -‬ال تخ ف‪ ,‬س نبقي أنا والكلب على األرض‪ ,‬وال ذي يفلت منكم‪ ,‬ال ذي يط ير باتج اهي ويق ترب‪ ,‬س وف‬
‫يبي!‬ ‫ون نص‬ ‫يك‬
‫أحس عس اف أنه وصل المك ان المناس ب‪ ,‬نظر إلى األفق نظ رة دائرية واس عة‬
‫بعد ف ترة من الس ير‪ ,‬ولما َّ‬
‫ظن الجميع أن عس افًا رأى‬ ‫َّ‬
‫ليتأكد‪ .‬وبحركة من ي ده‪ ,‬مع غمغمة غ ير واض حة‪ ,‬طلب من نعيم أن يق ف‪َّ .‬‬
‫قويا بالمفاج أة‪ ,‬لكن عس افًا وهو يفتح الب اب‪,‬‬
‫عورا ّ‬
‫ألن الوقفة الس ريعة ال تي وقفها نعيم خلقت ش ً‬
‫يدا‪َّ ,‬‬
‫ص ً‬
‫دوء َّ‬
‫وكأنه يلقي موعظة‪:‬‬ ‫ال به‬ ‫نزول‪ ,‬ق‬ ‫ويطلب من الكلب ال‬
‫يرا‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن نبقي في دائرة‪ ,‬وهذه ال دائرة قد تتسع وقد تض يق‪ ,‬لكنها تبقي دائ رة‪ ,‬والط ير لن يبعد كث ً‬
‫بعض ا‪ ,‬ويجب أن يفهم جماعة الس يارة الثانية ه ذا‪.‬‬ ‫ما عليكم إالَّ أن تعرف وا كيف تس اعدون بعض كم ً‬
‫غامض ا‪,‬‬
‫ً‬ ‫بعد قليل وص لت الس يارة الثاني ة‪ ,‬ووقفت به دوء إلى ج انب الجيب‪ ,‬ولكي ال ي ترك عس اف األمر‬
‫ال‪:‬‬ ‫وت ع‬ ‫ال بص‬ ‫ق‬
‫‪ -‬س نبقي أنا والكلب على األرض‪ ,‬وأنتم‪ ,‬كل في اتج اه تط اردون الط ير‪ ,‬والك دري في مثل ه ذا ال وقت ال‬
‫يخاف وهو بطيء الطيران‪ ,‬ويمكن أن تصل السيارة إلى وسط الرف وال يطير‪ ,‬وإ ذا كنتم صيادين فسوف‬
‫يرا!‬
‫ً‬ ‫يد كث‬ ‫ون الص‬ ‫يك‬
‫اطب نفسه‪:‬‬ ‫اف َّ‬
‫كأنه يخ‬ ‫وأض‬
‫أحدا غيرنا لم يصل هذا المكان منذ ف ترة طويل ة‪ ,‬وما دام الط ير غ ير مض روب َّ‬
‫فإنه ال يجفل‪,‬‬ ‫‪ -‬أعتقد أن ً‬
‫يرا!‬
‫ً‬ ‫يد كث‬ ‫يكون الص‬ ‫وس‬
‫اء الطيبة‪:‬‬ ‫ال أحد أبن‬ ‫ق‬
‫يد على مراحل‪.‬‬ ‫عة ويمكن أن نتص‬ ‫يارة واس‬ ‫‪ -‬األفضل أن تبقي معنا يا أبا ليلى‪ ,‬الس‬
‫األرض‪.‬‬ ‫على‬ ‫أبقي‬ ‫أن‬ ‫األفضل‬ ‫‪-‬‬
‫اف‪:‬‬ ‫توقف لحظة ثم أض‬
‫هنا‪.‬‬ ‫يجلس‬ ‫واألخ‬ ‫‪-‬‬
‫وأش ار إلى الش خص ال ذي يجلس في وسط المقعد الخلفي‪ ,‬يطلب منه أن يتح َّول ليجلس مكانه!‬
‫ابع‪:‬‬ ‫ة‪ ,‬ت‬ ‫االً ألي مناقش‬ ‫ترك مج‬ ‫يرة‪ ,‬ولكي ال ي‬ ‫مت قص‬ ‫ترة ص‬ ‫وبعد ف‬
‫تطير للس يارة الثاني ة‪ ,‬وأنا‬
‫بعض ا‪ :‬كل س يارة ّ‬
‫‪ -‬األفضل أن تكون وا في الس يارات‪ ,‬وأن تس اعدوا بعض كم ً‬
‫يد!‬ ‫رف كيف أص‬ ‫ذه الطريقة أع‬ ‫على األرض‪َّ ,‬‬
‫ألنني به‬
‫‪33‬‬

‫وخالل بضع دق ائق‪ ,‬وبتوض يحات عدي دة ومتزاي دة‪ ,‬خاصة من أبن اء الطيبة ال ذين يرافق ون الض يوف‪,‬‬
‫تم االتف اق على كل ش يء‪ .‬وقبل أن‬
‫وبمش اركة قص يرة‪ ,‬لكنها حاس مة وش ديدة الوض وح من عس اف‪َّ ,‬‬
‫تتح رك الس يارتان‪ ,‬كل واح دة باتج اه‪ ,‬م َّد نعيم إلى عس اف بعلبة من الخرط وش‪ ,‬وأطفأ أن وار الس يارة‪.‬‬
‫يد!‬ ‫دأت رحلة الص‬ ‫وب‬
‫هواء الصباح الطري يمأل الكون بنعومة خائفة أقرب إلى الل ذة الراعش ة‪ ,‬وه ذه الل ذة تتس رب إلى العظ ام‬
‫أما المدى الفسيح‪ ,‬بال نهاي ة‪ ,‬فيولد رهبة خاصة ال تول دها إالَّ ح االت ولحظ ات معينة في الك ون‬
‫مباشرة‪َّ .‬‬
‫والطبيع ة‪ .‬الص حراء المترامي ة‪ ,‬ب ذلك الل ون الرصاصي في غبش الص باح‪ ,‬ال يماثلها إالَّ البح ر‪َّ .‬‬
‫أما‬
‫الشعور بالضآلة واالنتهاء‪ ,‬ثم االندماج مرة أخرى‪ ,‬فال يتولد إالَّ في عصف الرياح المجنون وفي األمطار‬
‫الغزي رة ال تي تب دأ لكي ال تنتهي‪ .‬وش عور الظلمة ال ذي يلف كل ش يء‪ ,‬ويجعل المخل وق‪ ,‬خاصة إذا ك ان‬
‫بش ًرا‪ ,‬ض ئيالً متالش ًيا‪َّ ,‬‬
‫فإنه يطغى على اإلنس ان في الص حراء أك ثر مما يطغى في أي مك ان آخ ر‪ ,‬ح تى‬
‫ليش عر اإلنس ان أنه م تروك ووحي د‪ ,‬إلى درجة ال تخطر على بال ه‪ .‬ومن ش عور الوح دة يتولّد الخ وف‬
‫والرهبة واالنتظ ار ورغبة التخفي والص راخ واالتح اد مع ش يء ما وآالف المش اعر األخ رى ال تي تعجز‬
‫ات‪.‬‬ ‫عنها كل الكلم‬
‫دوا أق وى‬
‫حتى في األوقات التي يكون اإلنسان مع اآلخرين‪ ,‬يحس أنه في الصحراء وحيد‪ ,‬وأنه يواجه ع ًّ‬
‫منه آالف الم رات‪ .‬وه ذا الع دو ال يمكن أن يق اوم‪ ,‬لكن من الض روري مص ادقته‪ ,‬أو االحتي ال عليه‪,‬‬
‫روطه‪.‬‬ ‫ان إلى ش‬ ‫واإلذع‬
‫هكذا كان شعور الصيادين وهم يواجهون هذا العالم ألول مرة‪ .‬حتى الذين ج اءوا برغبة ال تق اوم للص يد‪,‬‬
‫وض من أي ش روط‪ ,‬داخلهم الخ وف واس تقرت في قل وبهم رهبة غامض ة‪( ,‬م اذا لو ض عنا?)‪( ,‬م اذا لو‬
‫غرزت السيارات في الرمال الصاخبة الملعونة?)‪( ,‬وهذه الطي ور‪ ,‬ألم تجد مكا ًنا غ ير ه ذا المك ان الب ائس‬
‫فيه?)‪.‬‬ ‫لتعيش‬
‫وفي مثل هذه الظ روف يص بح اإلنس ان‪ ,‬مهما امتلك من الق وى‪ ,‬ومهما عرب دت فيه التح ّديات‪ ,‬أق رب إلى‬
‫الضآلة‪ .‬يتمنى لو كان أكثر عقالً ولم يدخل هذه التجربة‪ .‬حتى الصيد في هذا المكان الفس يح الم وحش له‬
‫ُّ‬
‫والتأكد من‬ ‫طعم مختل ف‪ ,‬يص بح أق رب إلى المغ امرة الخط رة يمارس ها اإلنس ان برغبة إثب ات الق درة‬
‫الوجود‪ ,‬أكثر مما تحمل من لذة المطاردة واالنتظار واالنقض اض‪ .‬ففي الص حراء يمتلك ص فات تنفجر في‬
‫داخله فجأة‪ .‬يمتلك صفات التواضع ومحاولة التع ُّرف والص بر‪ .‬ويتطلع إلى كل ما حوله بح يرة أق رب إلى‬
‫اؤل‪.‬‬ ‫التس‬
‫إن اإلنس ان نفسه يص بح مخلوقًا آخر‬
‫أما إذا انفج رت رف وف الك دري كما تنفجر القنابل بين األرج ل‪ ,‬ف َّ‬
‫َّ‬
‫يتح ّول فج أة إلى إبله يط ارد ظل ه‪ ,‬إلى إنس ان يع ارك نفسه ويريد أن يقضي عليها قبل أن يقضي على‬
‫الغ ير‪ ,‬فيغ ادره الخ وف وت زول منه الرهبة ويتح ّول بين لحظة وأخ رى إلى وحش من ن وع خ اص‪ .‬ف إذا‬
‫تج اوز ه ذه اللحظ ة‪ ,‬ومضى عليها زمن طوي ل‪َّ ,‬‬
‫فإنه ينظر إليها بن وع من اإلعج اب يصل حد الغ رور‪,‬‬
‫‪34‬‬

‫سالما?)‪( .‬هل يشبه صيد الصحراء أي ص يد آخر‬


‫ً‬ ‫ويتساءل بزهو‪( :‬هل دخلت هذه التجربة وخرجت منها‬
‫ون?)‪.‬‬ ‫في الك‬
‫هك ذا ب دأت الرحل ة‪ .‬وأي محاولة الس تعادة تلك اللحظ ات تقف ع اجزة بائسة أم ام ه ذا الملك وت الش امخ‬
‫يء‪.‬‬ ‫ذي يمأل كل ش‬ ‫ال‬
‫فالسيارتان حين بدأتا الحركة تملَّك كل َمن فيهما خوف مف اجئ‪ ,‬ولم يس تطع أي إنس ان من البشر الس بعة‬
‫ودا‪.‬‬
‫يئا ذكيًّا أو أن يتص رف تص رفًا واض ًحا مقص ً‬ ‫ال ذين ك انوا محش ورين فيهما أن يق ول ش ً‬
‫ك انت حركة الس يارتين بطيئة أول األم ر‪ ,‬وبال اتج اه‪ .‬وك ان الس ائقان‪ ,‬وكل واحد في أي من الس يارتين‪,‬‬
‫ينظر إلى اآلخ رين‪ ,‬ينظر إلى ال ذين حوله وينظر إلى الس يارة األخ رى‪ ,‬ولقد امتأل بمش اعر الخ وف‬
‫واالنتظار‪ ,‬وتملكته في لحظات معينة مشاعر الندم أنه جاء إلى ه ذا المك ان‪ ,‬وإ لى ه ذا الن وع من الص يد‪.‬‬
‫إن حالة أق رب‬
‫وب رغم أن المس افة بين الس يارتين لم تكن بعي دة‪ .‬وال تزيد على بضع مئ ات من األمت ار‪ ,‬ف َّ‬
‫مزروعا في الص حراء وش بحه يبتعد‬
‫ً‬ ‫إلى العجز س يطرت على الجميع في ال وقت ال ذي ظ َّل فيه عس اف‬
‫أما كلبه ال ذي ك ان واض ًحا خالل بعض ال وقت‪ ,‬فقد أخذ يبتعد ويص غر ح تى تالشى‬
‫ويختفي كل لحظ ة‪َّ .‬‬
‫تماما!‬
‫ً‬
‫رف من الك دري‪ .‬ب دا في عتمة الن ور األولى أش به‬
‫في إحدى اللحظات العمياء‪ ,‬وعلى غير انتظ ار‪ ,‬انفجر ّ‬
‫بالطيور األسطورية‪ .‬كان النفجاره دوي هائل‪َّ ,‬‬
‫وظل هذا الدوي وقتاً ط ويالً‪ ,‬ال يمأل اآلذان والعي ون فق ط‪,‬‬
‫أما الطلق ات الخ ائرة المرتجفة ال تي ت والت‪ ,‬الواح دة بعد‬
‫أيض ا يس تقر في القل وب ويس يطر عليه ا‪َّ .‬‬
‫بل ً‬
‫يئا س وى موجة من ال دخان األزرق تالشى ت دريجيًّا مع ري اح الص باح‪.‬‬ ‫األخ رى‪ ,‬فلم تخلف ش ً‬
‫َّإنها المفاجأة األولى‪ .‬وإ ذا كان كل واحد من الص يادين ال ذين ك انوا في س يارة الجيب‪ ,‬وال ذين التق وا به ذا‬
‫أما ص يادو‬‫إصرارا وتملكته مشاعر الخيب ة‪ ,‬فقد ق ال الجميع كلم ات بائسة لت برير الفش ل‪َّ .‬‬
‫ً‬ ‫الرف‪ ,‬قد امتأل‬
‫ّ‬
‫السيارة األخ رى فنظ روا بحس رة وحق د‪ ,‬وق َّرروا في أعم اقهم أالّ يكون وا خ ائبين به ذا المق دار‪ .‬والكلم ات‬
‫العرج اء ال تي تبادلها رك اب الس يارة الجيب‪ ,‬فيما بينهم‪ ,‬لت برير ه ذه الخيب ة‪ ,‬قابلتها ش تائم وتح ديات من‬
‫رى!‬ ‫يارة األخ‬ ‫اب الس‬ ‫رك‬
‫َّإنها التجربة األولى‪ .‬ومثل كل التج ارب الفاش لة‪ ,‬وفي جميع المج االت‪ ,‬يتولّد في اإلنس ان ن وع من‬
‫رف يتالشى في األفق مبتع ًدا ح تى أس رعت‬
‫اإلص رار أق رب ما يك ون إلى الرعون ة‪ ,‬إذ ما ك اد ذلك ال ّ‬
‫معا‪ ,‬وخيَّم التحفّز الحذر على الجميع‪ .‬امتدت البنادق أكثر من السابق‪ ,‬وب رقت العي ون بالحقد‪.‬‬
‫السيارتان ً‬

‫طا كث يرة من الص يادين‪ ,‬وك انوا ش ديدي الح ذر والدقة في أن يطلق وا أي‬
‫وأبن اء الطيبة ال ذين عرف وا أنما ً‬
‫كلمات أو أوصاف لتقييم الصيادين اآلخرين‪ ,‬كانوا متأ ّكدين من ش يء واح د‪َ :‬من ال يع رف الص حراء‪َ ,‬من‬
‫لم ي َر ه ذا الط ير‪ ,‬ال ب َّد أن ُيص اب بالخيبة بعد الرحلة األولى‪ .‬لم يقول وا ه ذا الكالم مباش رة‪َّ ,‬‬
‫لكنهم ك انوا‬
‫يرا‪ ,‬وأس رفوا في الح ديث عن‬
‫واثقين بهذا االقتناع‪ ,‬خاصة وأن أغلب الض يوف ال ذين ج اءوا‪ ,‬وادَّع وا كث ً‬
‫‪35‬‬

‫يرا ما ادَّعى‬
‫يئا مختلفً ا‪ .‬إذ كث ً‬
‫الطي ور ال تي ص ادوها‪ ,‬وعن األم اكن ال تي ذهب وا إليه ا‪ ,‬أثبتت التجربة ش ً‬
‫الص يادون أن جب ال الطيبة أقسى من أي جب ال رأوه ا‪ ,‬وأن حجل الطيبة ملع ون إلى درجة أنهم لم ي روا‬
‫أما إذا ذهب وا إلى مم رات الترغل‪ ,‬وع ادوا‬
‫حجالً آخر مثله‪ .‬كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجب ال‪َّ .‬‬
‫بصيد قليل‪ ,‬فك انوا يع زون ذلك إلى أس باب وهمية وأق رب إلى الغب اء‪ .‬اآلن‪ ,‬في ه ذه الص حراء الفس يحة‪,‬‬
‫هذا الطير ال ذي يرونه ينفجر أم امهم ويث ير اس تفزازهم‪ ,‬ال يعرف ون أي أك اذيب يمكن أن يقولوها لتفس ير‬
‫هذه الخيبة! ولكنها عادة من عادات الصيادين‪ ,‬حين يندفعون برعونة زائدة إلى التح دي‪ ,‬ثم إلى الت برير‪,‬‬
‫ذب!‬ ‫يرا إلى الك‬
‫ً‬ ‫وأخ‬
‫ددا من الرف وف وط ار بعض ها ح ول‬ ‫رف ث ان‪ .‬ومثلما واجهت س يارة الجيب ع ً‬ ‫رف األول ط ار ّ‬ ‫بعد ال ّ‬
‫ددا مم اثالً‪ ,‬وربما أك ثر‬
‫إن الس يارة األخ رى ق ابلت ع ً‬ ‫الس يارة‪َّ ,‬‬
‫وكأنه ك ان داخل قفص ثم انفلت فج أة‪ ,‬ف َّ‬
‫قليالً‪ .‬وإ ذا ك ان لص يادي ه ذه الس يارة بعض المع اذير‪ ,‬ح ول ض يق الش بابيك‪ ,‬وع دم إمكانية التح ُّرك‬
‫فإن صيادي سيارة الجيب كانوا أقل قدرة على التبرير‪.‬‬
‫بسهولة‪َّ ,‬‬

‫كانت السيارتان‪ ,‬وهما تبحث ان عن دائ رة لت دورا فيه ا‪ ,‬تمتلئ ان بن وع من الح رج أق رب إلى الخج ل‪ ,‬وفي‬
‫بعض اللحظ ات أق رب إلى الخ وف‪ .‬فبعد أك ثر من س اعة‪ ,‬وبعد أن ط ارت عش رات الرف وف من الك دري‪,‬‬
‫وك انت الحص ىلة ثالثة طي ور في الف ولكس ف اكن‪ ,‬وط يرين في س يارة الجيب‪ ,‬تملكت الجميع رغبة في‬
‫توس يع قطر ال دائرة‪ ,‬في محاولة الكتش اف مج ال واسع والع ودة بص يد أوف ر‪ .‬ك انوا يش عرون بن وع من‬
‫الخجل‪ ,‬وكان كل واحد متأك ًدا أنهم لو ع ادوا إلى عس اف به ذه الحص ىلة‪ ,‬بعد كل الطلق ات المجنونة ال تي‬
‫مألت الفضاء‪ ,‬فسوف يسخر منهم‪ .‬وهذا الش عور لم يقتصر على رك اب س يارة واح دة‪ ,‬أو على واحد من‬
‫عورا ض منيًّا ص امتًا‪ ,‬لم يس تطع أحد أن يقول ه‪ ,‬لكن كل واحد تص َّرف ب دافع منه‬
‫الص يادين فقط‪ .‬ك ان ش ً‬
‫وتحت ت أثيره‪ .‬ح تى الرغبة أو الكلم ة‪ ,‬ال تي يقولها أي واحد في ال ذهاب إلى ه ذا المك ان أو ذاك لم تكن‬
‫اعتراض ا من أح د‪ .‬ك ان الجميع يمتلئ خوفً ا‪ ,‬خاصة وأن كل واحد ق دَّر أن عس افًا قد اص طاد مئ ات‬
‫ً‬ ‫تجد‬
‫ور!‬ ‫الطي‬
‫فإن مشاعر أخرى ك انت ترفع رأس ها بين لحظة‬
‫وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضة‪َّ ,‬‬
‫وأخ رى‪ :‬الخ وف من الص حراء‪ ,‬والتيه في ه ذا البحر القاسي ال ذي ليس له بداية وليس له نهاية!‬
‫حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع‪ ,‬وارتفعت معها الحرارة وارتفع الغبار‪ ,‬ش عر الجميع برغبة‬
‫قاسيا مري ًرا‪ ,‬خاصة وأن عس افًا ك ان قد نبَّههم إلى أن الك دري مع‬
‫اللقاء مرة أخرى‪ ,‬مهما بدا هذا اللقاء ً‬
‫تق دم النه ار يرح ل‪ ,‬وأنه ي ذهب إلى أم اكن بعي دة بحثًا عن الم اء والطع ام‪ .‬وأن الص يد خالل النه ار من‬
‫يرة‪.‬‬ ‫دوى إلى درجة كب‬ ‫دم الج‬ ‫عوبة وع‬ ‫الص‬
‫وبطريقة غامضة مليئة ب التردُّد‪ ,‬ب دأت الس يارتان تتجه ان إلى منتصف ال دائرة‪ .‬وإ ذا ك ان لكل مك ان في‬
‫‪36‬‬

‫وألن كل‬
‫ألن كل ذرة منها دائ رة‪َّ ,‬‬
‫إن الص حراء ملعونة إلى درجة ال رجم‪َّ ,‬‬
‫ال دنيا دائ رة‪ ,‬ولها منتص ف‪ ,‬ف َّ‬
‫ريحا غربية ك انت في‬
‫مكان منتصف الدائرة‪ .‬ومع ذلك‪ ,‬وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه ال ريح‪ ,‬وت ذ ّكرهم أن ً‬
‫بداية الرحل ة‪ ,‬ب دأت ال دائرة تض يق ت دريجيًّا‪ ,‬وبعد س اعة من البحث‪ ,‬ومن النظر الم دقق‪ ,‬رأت س يارة‬
‫اء الطيبة‪:‬‬ ‫ال أحد أبن‬ ‫ردُّد ق‬ ‫ة‪ ,‬ودون ت‬ ‫واد والزرق‬ ‫الجيب زواالً بين الس‬
‫اف!‬ ‫اف‪ ...‬ذاك هو عس‬ ‫‪ -‬عس‬
‫وبلهفة أق رب إلى الوج د‪ ,‬ودون تس اؤل أو انتظ ار‪ ,‬اتجهت الس يارة نح وه‪ ,‬وبعد دق ائق ك انت الس يارة‬
‫لت‪.‬‬ ‫رى قد وص‬ ‫األخ‬
‫ريب من ه‪ ,‬وك انت البندقية ملق اة إلى جانب ه‪َّ ,‬‬
‫وكأنها ال تعني ه‪.‬‬ ‫منبطحا على الرم ل‪ ,‬والكلب ق ٌ‬
‫ً‬ ‫ك ان عس اف‬
‫كومها مثل تل ص غير إلى جانب ه‪,‬‬‫أما الطيور التي اصطادها فقد َّ‬‫كان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفة‪َّ ,‬‬
‫اه واحد‪...‬‬ ‫انت مناقيرها باتج‬ ‫وك‬
‫أما‬
‫رقما مس تحيالً‪َّ .‬‬ ‫ًّ‬
‫حين نظ روا إلى تل الطي ور أُص يبوا ب ذهول حقيقي‪ ,‬ك انت بالنس بة لهم تال مس تحيالً‪ً ,‬‬
‫حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظر إليها عساف بدهشة أق رب إلى االس تغراب‪ ,‬لكنه بس رعة‬
‫ال بطريقة أبوية للتخفيف عنهم‪:‬‬ ‫ته‪ ,‬وق‬ ‫لملم دهش‬
‫‪ -‬الص يد في الس يارة يحت اج إلى التع ُّود‪ ,‬والرف وف ال تي ك انت تط ير من عن دكم ك انت ت أتي إلى هنا!‬
‫ال بتواضع‪:‬‬ ‫ادها فقد ق‬ ‫تي ص‬ ‫ور ال‬ ‫دد الطي‬ ‫يوف عن ع‬ ‫أله أحد الض‬ ‫أما حين س‬
‫َّ‬
‫ّدها‪.‬‬ ‫رين‪ ,‬لم أع‬ ‫والى العش‬ ‫‪-‬ح‬
‫همه األساسي أن يتأ ّكد إذا ق ابلوا رفوفًا كث يرة أم ال? وإ ذا ك انت‬
‫ولم يس أل عن الع دد ال ذي ص ادوه‪ ,‬ك ان َّ‬
‫لوا إليها?‬ ‫ارت بعد أن وص‬ ‫ربت من قبل أم أنها ط‬ ‫ض‬‫دة‪ ,‬وهل ُ‬ ‫قريبة أم بعي‬
‫عند هذا الحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد‪ .‬ولو ت رك األمر ألبن اء الطيبة أو لعس اف الق ترح أن‬
‫يعودوا‪ ,‬وإ لى جانب صخرة في الوادي الذي اجت ازوه يمكن أن يس تريحوا‪ ,‬وأن ي أكلوا‪ ,‬وك ان من الممكن‬
‫ظم رحلة ص يد ثاني ة‪ ,‬في م رة أخ رى‪ .‬لكن األم ور‪ ,‬في أغلب‬ ‫أن يق ال إن ه ذا الص يد ك ٍ‬
‫اف‪ ,‬وس وف تن ّ‬
‫األحي ان‪ ,‬تس ير بطريق ال يق دره اإلنس ان وال يتوقعه‪ .‬وإ ذا ك ان الض يوف هم ال ذين يحكم ون‪ ,‬وهم ال ذين‬
‫عما يريدونه مباش رة‪ .‬وعس اف‬
‫رفيعا بحيث ال يمكن أن يفص حوا َّ‬
‫إن أهل الطيبة امتلك وا خلقًا ً‬
‫يق ّررون‪ ,‬ف َّ‬
‫اء‪:‬‬ ‫ال مجاملة ولكي يبعد أي إمكانية للبق‬ ‫ذي ق‬ ‫ال‬
‫‪ -‬الص يد انتهى‪ ,‬فمنذ اآلن وح تى الغ روب‪ ,‬لن نجد رفًّا واح ًدا‪ ,‬وإ ذا وج دنا أي ّ‬
‫رف فس وف يط ير من‬
‫ًدا‪.‬‬ ‫ائرا واح‬
‫ً‬ ‫ان أن يأخذ منه ط‬ ‫دة‪ ,‬وال يمكن ألي إنس‬ ‫افة بعي‬ ‫مس‬
‫وبعد أن تبادل أبن اء الطيبة النظر فيما بينهم‪ ,‬ومع عس اف‪ ,‬نظ روا في وج وه الض يوف‪ ,‬ثم اق ترح أح دهم‬
‫ردُّد‪:‬‬ ‫يوف دون ت‬ ‫ًوى عند الض‬ ‫اقتراحا وجد ه‬
‫ً‬
‫‪ -‬يمكن أن ن ذهب اآلن حيث يريد عس اف‪ ,‬وبعد أن نتغ دى ونس تريح نق وم بمش وار ص غير قبل الغ روب‪,‬‬
‫ود إلى الطيبة‪.‬‬ ‫دها نع‬ ‫وبع‬
‫‪37‬‬

‫لم تكن الجلس ة‪ ,‬في ال وادي‪ ,‬تحت ظالل الص خور‪ ,‬مريح ة‪ ,‬إذ رغم رطوبة المك ان‪ ,‬ك انت ريح الص حراء‬
‫ف وتتك ّوم على‬
‫ش ديدة اللفح والح رارة‪ ,‬وك انت تحمل معه ا‪ ,‬بين ف ترة وأخ رى‪ ,‬ذرات من الرم ال تس ّ‬
‫المنح درات الواطئة‪ ,‬غ ير المنتظم ة‪ ,‬وال تي تش كل مج رى الس يول أي ام الش تاء‪.‬‬
‫في هذه الجلس ة‪ ,‬وال تي ش رب خاللها الجمي ع‪ ,‬وتح ّدثوا عن أش ياء ال حصر له ا‪ ,‬ك ان عس اف في البداية‬
‫تحدث بشكل غير مفه وم‪َّ ,‬‬
‫وكأنه يح ّدث نفس ه‪ .‬أما‬ ‫أقرب إلى الصمت‪ .‬وفي المرات القليلة التي تكلم فيها‪ّ ,‬‬
‫ول‪:‬‬ ‫أن يق‬ ‫اكن‪ ,‬فقد اكتفى ب‬ ‫ادها‪ ,‬وفي أي أم‬ ‫تي ص‬ ‫ات ال‬ ‫ئل عن الحيوان‬
‫س‬
‫عن دما ُ‬
‫‪ -‬ما فائدة الح ديث عن األش ياء الماض ية‪ ,‬ما دام اإلنس ان غ ير ق ادر اآلن على أن يص طاد أي حي وان?!‬
‫وحين ألحُّوا عليه أن يح دِّثهم عن أك ثر م رة ص اد فيه ا‪ ,‬وعن ع دد الطي ور واألرانب ال تي ص ادها‪ ,‬ق ال‬
‫ّدة‪:‬‬ ‫بح‬
‫إلي كوحش‪ ,‬أنا إنس ان‪ ,‬نعم إنس ان مثلي مثلكم‪ ,‬وليس بي ني وبين أي مخل وق ع داء من أي‬ ‫‪ -‬ال تنظروا ّ‬
‫نوع‪ .‬فإذا كانت الطي ور والحيوان ات تغري ني وأُطارده ا‪َّ ,‬‬
‫فألنني أش عر بحاجة أك ثر مما أش عر بل ذة‪ .‬وح تى‬
‫لو كانت هناك لذة‪َّ ,‬‬
‫فإنها ال تصل باإلنس ان إلى ح دود اإلب ادة والفت ك‪ .‬ح تى ال ذي ي رغب في ام رأة‪ ,‬ويريد‬
‫أما إذا ك ان أحم ق‪ ,‬وإ ذا فعل‬ ‫أن يعتصرها بين يديه إلى األبد‪َّ ,‬‬
‫فإنه غير قادر على أن يفعل ذلك بال حدود‪َّ .‬‬
‫بد أن ينتهي بشكل م ا‪ .‬وأن ا‪ ...‬عس اف ال ذي ال يعرفه أهل الطيبة إالَّ‬
‫شيئا ال يناسب الطبيعة البشرية‪ ,‬فال َّ‬
‫ً‬
‫تائها في البراري‪ ,‬وال يالحق إالَّ الطيور والحيوان ات‪ ,‬أنا عس اف الفه د‪ ,‬ال أرغب في الص يد لمج رد القتل‬
‫ً‬
‫رورية‪.‬‬ ‫ات الض‬ ‫مما يجب إالَّ في األوق‬
‫ثر ّ‬ ‫يد أك‬ ‫وال أص‬
‫أما األفك ار ال تي دارت في رأسه ومألت عقله‬
‫كان يريد أن يتحدث أكثر‪ ,‬وبطريقة أفضل‪ ,‬لكنه لم يستطع‪َّ .‬‬
‫وهو مس تلق على جنب ه‪ ,‬وكلبه بقرب ه‪ ,‬فقد ك انت كث يرة إلى درجة ال يس تطيع أن يحاص رها‪ ,‬أن يقوله ا‪.‬‬
‫كأس ا جدي دة‬
‫إن كلماته تب دو غامضة فج ة‪ ,‬وقد ال يفهمها أح د‪ .‬وحين ش رب ً‬
‫وح تى لو أراد أن يتكلم ف َّ‬
‫وامتأل نشوة شعر بأنه يستطيع أن يتكلم بشكل أفضل‪ ,‬خاصة وأن اآلخرين قد تكلموا دون أن يطلب منهم‬
‫أحد ذل ك‪ ,‬ودون أن يك ون لكالمهم أي مع نى أو ض رورة‪ .‬لقد تكلم وا بتلك الطريقة الفخمة المليئة‬
‫فكر أك ثر من م رة في أن يص رخ‪ ,‬أن يض حك‬ ‫باألك اذيب‪ ,‬وال تي ال يتقنها إالَّ المتعلم ون وأبن اء الم دن‪َّ .‬‬
‫بسخرية‪ ,‬لكنه ابتلع أكثر ما كان يريد أن يقول ه‪ ,‬واكتفى ب أن ينظر إلى الوج وه‪ ,‬وأن ي راقب التص رفات‪.‬‬
‫ك ان عس اف في ذلك الي وم حزي ًنا إلى درجة ال يت ذكر معها أنه ح زن به ذا المق دار‪ ,‬وش عر ب أن ثقالً أق رب‬
‫إلى الصخرة يجثم على ص دره‪ .‬وإ ذا ك ان قد تع ّود أن يص در األوامر إلى الص يادين األغ رار‪ ,‬وأن يق ودهم‬
‫في المسارب الض يقة ويتق ّدمهم في المعاص ي‪ ,‬ليثبت لهم بطريقة ما أنهم ما زال وا بحاجة إلى وقت طويل‬
‫لكي يتعلموا معنى الصيد‪ ,‬وأن يتصرفوا بطريقة مليئة بالحكمة والذكاء‪ ,‬ويم يزوا بين الطي ور ال تي تُص اد‬
‫وتلك ال تي يجب أن تُ ترك لتعيش‪ ,‬إذا ك ان قد تع َّود ذلك ومارسه بمك ر‪ ,‬وألس باب غامضة في بعض‬
‫األحيان‪ ,‬فلقد كان في هذا اليوم أقرب إلى االستسالم واليأس‪ ,‬وكان مستعدًّا ألن يفعل ما يري ده اآلخ رون‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫لو أن عس افًا تماسك في لحظة معين ة‪ ,‬لو أنه رفض بإص رار‪ ,‬مثلما تع ّود‪ ,‬االس تجابة إلى رعونة الش باب‬
‫وخفتهم‪ ,‬لو أن الح زن فارقه والي أس لم يس يطر علي ه‪ ,‬لو أن الخم رة لم تتص اعد أبخرتها القوية الح ادة‬
‫أن المكان كان غير هذا المكان‪ ,‬لما حصل شيء‪ .‬لكن قوة خفي ة‪,‬‬
‫إلى الرؤوس في هذا اليوم الصيفي‪ ,‬لو َّ‬
‫أق رب إلى الباله ة‪ ,‬ولعلَّها حكيمة بمق دار ال يدركه عقل اإلنس ان‪ ,‬هي ال تي ق َّررت كل ش يء!‬
‫فقبل أن ينتصف النهار‪ ,‬وبعد أن استراحت القافلة أكثر من ساعتين بدا الزمن لضيوف الطيبة ال ذين أت وا‬
‫ومن ع اش في مثل ه ذه األم اكن‪ .‬إذ ما ك اد أح دهم‬‫يحس ه أهل الطيب ة‪ً ,‬‬
‫عما ّ‬‫يئا مختلفًا ّ‬
‫من المدين ة‪ ,‬ش ً‬
‫يق ترح الع ودة إلى الص يد‪ ,‬ح تى اس تجاب اآلخ رون بس رعة وس هولة‪ .‬وك َّأنهم اتفق وا على ذلك من قب ل‪.‬‬
‫ائرا‪ ,‬وب دا أنهم غ ير‬
‫استسالما ح ً‬
‫ً‬ ‫وعساف الذي نظر إلى أبناء الطيبة نظرة تساؤل‪ ,‬وجد في عيون هؤالء‬
‫دورا أقرب إلى الحماقة‪ ,‬ويستجيبون ألي رغبة يطلبها ه ؤالء‬
‫قادرين على اتخاذ أي قرار‪ ,‬وأنهم يمثلون ً‬
‫األفندية‪.‬‬
‫بعد ت ردُّد لم يط ل‪ ,‬نهض عس اف وبلهجة مليئة بالس خرية والتح دِّي‪ ,‬ق ال يخ اطب كلبه‪:‬‬
‫وحفً دتها‪,‬‬
‫تورثها إلى أوالدها ً‬
‫فإنها تتعلم أش ياء كث يرة ثم ّ‬ ‫‪ -‬ال يتعلم اإلنسان إالَّ بالتجرب ة‪َّ ,‬‬
‫أما الحيوان ات َّ‬
‫ان‪...‬‬ ‫أما اإلنس‬
‫اة‪َّ .‬‬ ‫ها وتواصل الحي‬ ‫دافع عن نفس‬ ‫ذه الطريقة ت‬ ‫وبه‬
‫وض حك بس خرية‪ ,‬وبال مناقش ات طويلة اخت ار عس اف مكا ًنا جدي ًدا‪ ,‬ق ال ليقنع نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬قد ال تك ون الطي ور هن اك مض روبة‪ ,‬وقد نجد بعض األش واك تس تظل به ا‪ ,‬ونحن وما قُ ِس م لنا!‬
‫وبالطريقة نفس ها‪ ,‬وباإلص رار نفس ه‪ ,‬حين وصل إلى المك ان ال ذي ي راه مناس ًبا للص يد‪ ,‬أوقف الس يارة‬
‫زل‪.‬‬ ‫ه‪ ,‬ثم ن‬ ‫زل كلب‬ ‫وأن‬
‫لينبه‬
‫ال ّ‬ ‫أما حين ق ال أحد أبن اء الطيبة بص ٍوت ع ٍ‬
‫لم يتكلم ه ذه الم رة أي كلمة‪ ,‬لم يك رز ب أي موعظ ة‪َّ .‬‬
‫الجميع‪:‬‬
‫ألن الطريق إلى الطيبة طوي ل‪ ,‬ويجب أن نصل مبك رين‪.‬‬
‫‪ -‬س نلتقي هنا بعد س اعة وأقصى حد س اعتين‪َّ ,‬‬
‫حين ق ال الرجل ه ذه الكلم ات‪ ,‬ه َّز عس اف رأسه داللة الموافق ة‪ ,‬ول َّوح بي ده بطريقة دائري ة‪ ,‬وقد فُهمت‬
‫دائرة‪ ,‬وفهمت على َّأنها تحية‪.‬‬ ‫يبقى في منتصف ال‬ ‫تلك الحركة على َّأنه س‬
‫الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور‪ ,‬والرمل أك ثر س خونة من الجم ر‪ ,‬حتَّى الكلب وهو ينقل‬
‫كأنه يمشي على أش واك ح ادة أو‬ ‫أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى االس تغاثة أو االحتج اج‪ ,‬أو َّ‬
‫زجاج مكسور‪ .‬وحين أقلعت السيارتان بسرعة خلفتا وراءهما س حابة كب يرة من الغب ار‪ ,‬لفَّت عس افًا فب دا‬
‫احتجاجا وركض لمس افة وراء إح دى‬
‫ً‬ ‫أما الكلب فقد ع وى‬
‫زءا من الص حراء الممت دة بال انته اء‪َّ .‬‬
‫ج ً‬
‫اد ببطء‪.‬‬ ‫يارتين‪ ,‬ثم ع‬ ‫الس‬
‫وإ ذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود‪ ,‬في البحار والمحيطات‪ ,‬على قمم الجبال وفي أعماق األودي ة‪,‬‬
‫في األص قاع المتجم دة وفي ظلمة الغاب ات‪ -‬إذا ك انت الطبيعة في كل ه ذه األم اكن تن ذر ب التحول وتبعث‬
‫بإش ارات من ن وع م ا‪ ,‬ب أن ذلك العنف وان ال داخلي لم يعد يق وي على االحتم ال وس وف يقلب جل ده في‬
‫‪39‬‬

‫اللحظة التالي ة‪ ,‬فالص حراء الغامضة القاس ية الموحشة المفاجئة تتج اوز ق وانين الطبيعة لتثبت ه ذه‬
‫القوانين‪ .‬فلم تمض ساعة حتى ُج َّنت الدنيا‪ :‬هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كل شيء‪ .‬ك انت الزوابع ت دفع‬
‫الكثب ان الرملية وتس فّها كما تفعل الري اح ب األمواج‪ ,‬فتت دحرج الرم ال بس رعة كما لو أنها كتل من القطن‬
‫الهش أو بقايا أوراق محترق ة‪ ,‬ح تى إن اإلنس ان ما أن يس تدير قليالً ليتَّقي ه ذا الجن ون المف اجئ ح تى‬
‫يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلك الجمر الصغير الن اعم َّ‬
‫وكأنه س قط من ن ار ال تع رف التوقف أو االنطف اء‪.‬‬
‫إن ما حصل في ذلك اليوم الصيفي‪ ,‬في أعماق الصحراء‪ ,‬وعلى مسافة غير قص يرة من الطيب ة‪ ,‬ال يمكن‬
‫أن يس تعيده أحد دون أن يبكي‪ .‬ف الخوف ال ذي مأل ال دنيا خالل تلك الس اعات ك ان من الق وة وال ذهول إلى‬
‫تعبر عن أي ش يء‪.‬‬
‫درجة أن ال أحد يس تطيع أن يت ذكر ما حص ل‪ .‬ح تى الكلم ات تب دو باهتة ع اجزة‪ ,‬وال ِّ‬
‫وأبن اء الطيبة ال ذين ك انوا يعرف ون بغري زتهم طبيعة الص حراء وقس وتها‪ ,‬من رائحة اله واء‪ ,‬من لمع ان‬
‫الس ماء القاس ي‪ ,‬من الزوابع ال تي تج اوزت ال وادي وع برت الس هل كله ح تى وص لت إلى الطيب ة‪ ...‬إن‬
‫ه ؤالء لم يص دقوا اله ول ال ذي يرونه أم ام عي ونهم‪َّ .‬إنه ش يء لم يش هدوا مثله طيلة حي اتهم‪ .‬والض يوف‬
‫ال ذين أص ابهم الهل ع‪ ,‬وال ذين فق دوا الق درة على التص ُّرف‪ ,‬تحول وا إلى مجموعة من ال دمى المتوس لة‬
‫وا!‬ ‫ًدا‪ :‬أالّ يموت‬ ‫يئا واح‬
‫ً‬ ‫دون ش‬ ‫انوا يري‬ ‫ة‪ .‬ك‬ ‫الباكي‬
‫وفي غم رة الخ وف يفقد البشر الق درة على التص ُّرف‪ ,‬فب دل أن يوقف وا الس يارات وينتظ روا‪ ,‬ك انت‬
‫العواصف الرملية القاس ية هي ال تي تح ّركهم‪ ,‬هي ال تي تق ودهم‪ .‬وفي الم رات القليلة ال تي توقف وا فيها‬
‫وج اءت الزوابع حاملة الرم ال الس اخنة‪ ,‬ص رخوا ب رعب‪ ,‬وش عروا ب الموت يطبق على رق ابهم‪ .‬ودون‬
‫انتظ ار وب دوافع غريزية ح اولوا اله رب‪ .‬وإ ذا ك انت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وق درتها على‬
‫فإن السيارة األخرى بدت مثل سلحفاة ضالة ال تعرف إلى أين تذهب أو متى تم وت‪ .‬وحين ق ال‬
‫السيطرة‪َّ ,‬‬
‫معا‪ ,‬فقد ش عر الجميع بن وع‬
‫يرا إلى درجة تتطلب بق اء الس يارتين ً‬
‫أن األمر أص بح خط ً‬
‫أحد أبن اء الطيبة ب َّ‬
‫قريب ا‪ ,‬بل أص َّر على أن يمشي قبل الجيب‪ ,‬وعلى‬
‫من الراح ة‪ .‬ولم يكتف س ائق الف ولكس ف اكن ب أن يبقي ً‬
‫ار قليلة منها‪.‬‬ ‫افة أمت‬ ‫مس‬
‫انتظ ار الم وت في ه ذه الص حراء أص عب من الم وت آالف الم رات‪ .‬ف الموت هنا ال ي أتي فج أة‪ ,‬ال ي أتي‬
‫متنكرا‪ ,‬وال ي أتي بس رعة ويقضي على كل ش يء‪ ,‬وإ َّنما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف على ش بابيك‬
‫ً‬
‫يسف حفنة من الرمال في األفواه والعي ون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السيارات‪ ,‬وبين لحظة وأخرى يعربد‪ ,‬يصرخ‪ ,‬يلطم الوجوه‪,‬‬
‫وبعد أن يمل من ه ذا الم زاح ي تراجع قليالً‪ُ ,‬ليقعي مثل ذئب‪ ,‬انتظ ًارا لجولة أخ رى‪ .‬والجولة األخ رى ال‬
‫هلعا في العي ون‪,‬‬
‫تنتظر ط ويالً‪ ,‬إذ تص عد مثل البخ ار مس رعة جارفة قوي ة‪ ,‬فتولد يبوسة في الحل وق‪ً ,‬‬
‫دق‬
‫ممض ا‪ ,‬بالخش ونة الكاوية نفس ها‪ ,‬ب الجبروت نفسه ال ذي ال يع رف ال تراجع‪ ,‬ي ّ‬
‫ًّ‬ ‫انتظ ًارا آخر قاس ًيا‬
‫لة‪.‬‬ ‫ات قوية متواص‬ ‫رى دقّ‬ ‫رة أخ‬ ‫بابيك م‬ ‫الش‬
‫وبين انتظار وانتظار يموت اإلنسان‪ ,‬يموت ألف مرة‪ ,‬يفقد الثقة‪ ,‬تتالشى إرادته‪ ,‬يسقط‪ ,‬ينهض‪ ,‬يترنح‪,‬‬
‫يمتلئ حلقه بأدعية خائفة ال يعرف كيف أتت‪ ,‬يصرخ دون صوت‪ ,‬ينظر في وجوه اآلخرين ل يرى وجه ه‪,‬‬
‫‪40‬‬

‫يتذ ّكر‪ ,‬يق اوم‪ ,‬ينه ار‪ ,‬يس قط‪ .‬يم وت م رة أخ رى‪ ,‬ينهض من الم وت‪ ,‬يتأمل األمت ار القليلة ال تي يمكن أن‬
‫تُرى عبر الشبابيك‪ ,‬يالمس حبات الرمل المتسربة في كل مكان‪ ,‬يمأل حلقه بجرعة ماء ويستبقيها ألط ول‬
‫ف ترة لعلَّها تم ّده بمزيد من الق وة على المقاوم ة‪ ,‬على الص مود‪ ,‬يفقد الق درة على الح ديث‪ ,‬يفقد الق درة‬
‫تمام ا‪ ,‬يريد‬
‫على ابتالع الم اء‪ ,‬يتح ّول الم اء إلى ملح‪ ,‬يتح ول الزبد إلى زب د‪ ,‬يريد أن يص رخ‪ ,‬أن يم وت ً‬
‫اء‪ ,‬ظالًّ‪ ,‬وينتظر!‬
‫ً‬ ‫ه‪ ,‬يريد م‬ ‫أة وتبتلع‬ ‫ق األرض فج‬ ‫ّ‬ ‫أن تنش‬
‫حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخ ر‪ ,‬يتح ّول إلى ذرات ص غيرة‪ ,‬الثاني ة‪ ,‬والدقيقة هي كل ال زمن‪.‬‬
‫ثم يب دأ ذلك ال زمن ب التفتت إلى ما ال نهاية‪ ,‬كالص حراء بال نهاي ة‪ ,‬ويطبق كالخيط المبل ول القاس ي‪ ,‬يش ّد‬
‫اخرا‬
‫يحزها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها‪ ,‬ويظل هكذا موتًا مؤ ّك ًدا منتظ ًرا س ً‬
‫دون توقف على الرقبة‪ّ ,‬‬
‫فيحس اإلنس ان باالختن اق‪ ,‬وتتص اعد ض ربات القلب‪ ,‬وترتفع درج ات الح رارة‪ ,‬ويتح ّول ل ون‬
‫ّ‬ ‫ؤجالً‪,‬‬
‫م ّ‬
‫ار أو العويل‪.‬‬ ‫وف االنفج‬ ‫تطيع الواحد أن ينظر إلى اآلخر خ‬ ‫ة‪ ,‬وال يس‬ ‫وه إلى الزرق‬ ‫الوج‬
‫والح رارة المنبعثة من األرض أو المنزلقة من ش مس الس ماء المتوحشة ال ت ترك لإلنس ان لحظة من‬
‫الت وازن والتفك ير‪ .‬فالظلمة حين تطبق تجعل اإلنس ان يحس بض ٍ‬
‫آلة متناهي ة‪ ,‬ويتض اعف رعبه مئ ات‬
‫رات‪.‬‬ ‫الم‬
‫فبعد انتظ ار طويل طوي ل‪ ,‬لعل ال ريح ته دأ وتص بح الرؤية ممكن ة‪ ,‬ب دت الش مس تميل نحو الغ روب‪ ,‬لم‬
‫يرها أحد تفعل ذل ك‪ ,‬لم يرها أحد ت نزلق مثلما تفعل في البح ر‪ ,‬لكن من الن ور الب اهت المت داخل مع ذرات‬
‫الرمال‪ ,‬من ذلك االنكسار التدريجي في الحرارة‪ ,‬يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا الس مت بعد أن ظلّت‬
‫ار‪.‬‬ ‫اعات النه‬ ‫وال س‬ ‫رؤوس ط‬ ‫وق ال‬ ‫نقة ف‬ ‫مثل حبل المش‬
‫أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل‪ ,‬ألن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض‬
‫إلى درجة يمكن ان تولد الش يء ونقيض ه‪ ,‬وت دفع اإلنس ان ألن يفعل الش يء ونقيض ه‪ .‬ف الحرارة المنبعثة‬
‫من الش مس‪ ,‬وال تي ك انت أشد األع داء‪ ,‬ب دت حنو ًنا مض يئة حين أخ ذت الش مس ذلك الميل من ذرة‬
‫حلما‬
‫أما النور الوه اج ال ذي ك ان ينفجر من كل األش ياء خالل س اعات النه ار كله ا‪ ,‬فقد أص بح ً‬
‫باالنتهاء‪َّ .‬‬
‫ائعا والظلمة تطبق ت دريجيًّا‪ .‬والري اح ال تي ك انت تح ّدد االتجاه ات‪ ,‬ويمكن أن تق ود اإلنس ان إلى مك ان‬
‫ض ً‬
‫اء‪.‬‬ ‫ات عمي‬ ‫اء األولى إلى عويل ولطم‬ ‫َّولت في ظلمة المس‬ ‫معين‪ ,‬تح‬
‫إنه الموت وال شيء غيره‪ ,‬هكذا قال كل واحد في نفسه‪ .‬واإلنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق‬
‫نهائي ا‪ ,‬أما ذلك الع ري الح اد الفاضح في كل‬
‫ّ‬ ‫على كل ش يء‪ ,‬ح تى على الم وت‪َّ ,‬‬
‫فإنه يري ده ص اعقًا ك امالً‬
‫إن ه ذا الن وع من الم وت ال تمتلكه س وى‬ ‫ش يء‪ ,‬ال دمار ال ذي يفتّت الخاليا بقس وة تش به النهش‪ ,‬ف َّ‬
‫رف التوقُّف أو الراحة‪.‬‬ ‫ذي ال يع‬ ‫اح ال‬ ‫ان الري‬ ‫ل‪ ,‬وفي فيض‬ ‫حراء في اللي‬ ‫الص‬
‫دمره وال تتركه!‬
‫ه ذا هو اإلنس ان‪ ,‬ذلك المخل وق الض ئيل المتالش ي‪ ,‬في مواجهة ق وة غاش مة ال ت ّ‬
‫وق‪:‬‬ ‫وت مخن‬ ‫اء الطيبة بص‬ ‫ال أحد أبن‬ ‫ق‬
‫اف‪.‬‬ ‫اعدك يا عس‬ ‫‪ -‬اهلل يس‬
‫‪41‬‬

‫اف‪:‬‬ ‫ان عس‬ ‫ائق مك‬ ‫انب الس‬ ‫ذي جلس إلى ج‬ ‫ال ال‬ ‫ق‬
‫اف?‬ ‫حيح‪ ,‬أين عس‬ ‫‪-‬ص‬
‫وغاصت الكلم ات في األف واه م رة أخ رى‪ ,‬وخيَّم الص مت‪ ,‬لكنه ذلك الص مت الم دوي ال ذي ينفجر في كل‬
‫لحظة‪ ,‬في كل شيء‪ ,‬والذي تسمع ولولته في كل الخاليا‬

‫في وقت م ا‪ ,‬وال أحد يمكن أن يح ّدد م تى ك ان ذلك ال وقت‪ ,‬وكم من ال زمن قد م َّر‪ ,‬ب دأت ال ريح ت تراجع‪,‬‬
‫يئا‪ ,‬وإ ن ظلّت الس ماء مكت نزة ب ذلك الس واد الثقيل الق اهر‪ ,‬وحين ب دأ‬
‫يئا فش ً‬
‫وب دأ عصف الرم ال يخف ش ً‬
‫س ائق الس يارة الجيب يش عل األض واء ويطفئه ا‪ ,‬فقد ب دت حركة ذكية مليئة بالمع اني‪ .‬ق ال الج الس إلى‬
‫جانبه‪:‬‬
‫أتي إلنقاذنا!‬ ‫َّد أن يرانا أحد وي‬ ‫‪ -‬ال ب‬
‫ائق‪:‬‬ ‫ذي يجلس في المقعد الخلفي وراء الس‬ ‫ال ابن الطيبة ال‬ ‫ق‬
‫‪ -‬يجب أن تش غل الس يارة وت دور ع دة م رات لع َّل عس افًا يرانا أو ن راه فن ذهب إليه أو ي أتي إلينا!‬
‫دون مناقشة ودون تس اؤل‪ ,‬ب دأت الس يارة ت دور مثل حي وان مرب وط‪ .‬وبين لحظة وأخ رى‪ ,‬ك ان الس ائق‬
‫اة‪.‬‬ ‫ون فيه النج‬ ‫يئا يحصل وتك‬
‫ً‬ ‫َّل ش‬ ‫ه‪ ,‬لع‬ ‫ور ويطفئ‬ ‫عل الن‬ ‫يش‬
‫ال ابن الطيبة‪:‬‬ ‫ق‬
‫ده‪...‬‬ ‫هولة‪ ,‬أما إذا لم نج‬ ‫ود إلى الطيبة بس‬ ‫ذنا ونع‬ ‫افًا يمكن أن ينق‬ ‫دنا عس‬ ‫‪ -‬إذا وج‬
‫وس كت‪ .‬تطلعت إليه العي ون دون أن ت راه‪ .‬وإ ذا ك انت الظلمة قد خلقت خوفًا من ن وع جدي د‪ ,‬وإ ذا ك ان‬
‫إن ه ذه الكلم ات انفج رت داخل الس يارة َّ‬
‫وكأنها نهاية كل‬ ‫الش عور بالنج اة ب دا مثل خفق ات قلب م ريض‪ ,‬ف َّ‬
‫يء!‬ ‫ش‬
‫يق ول ال ذين وص لوا عصر الي وم الت الي في ثالث س يارات‪ ,‬إح داهما لس الح البادي ة‪ ,‬وع ثروا على‬
‫السيارتين‪ ,‬إنهم وج دوا أغلب الرج ال بين الحي اة والم وت‪ .‬ك ان ع دد منهم فاق ًدا ال وعي‪ ,‬وك ان اآلخ رون‬
‫أما سيارة الفولكس فاكن فقد انغرزت إطاراتها الخلفية في الرمال وأص بحت‬
‫في حالة من اإلعياء الشديد‪َّ .‬‬
‫تع ْد ق ادرة على الحرك ة‪ ,‬ووج دوا الحبل ال ذي ح اولت الجيب‬ ‫في حالة من اإلنه اك إلى درجة أنها لم ُ‬
‫تمام ا‪,‬‬
‫أما كمية المي اه ال تي ك انت في الس يارتين فقد نف دت ً‬
‫اس تعماله لس حبها قد تقطّع في ع دة مواض ع‪َّ ,‬‬
‫ق إالَّ أوان فارغة ّ‬
‫يخش فيها الرم ل‪ ,‬ويق ول ه ؤالء إنهم لو ت أخروا س اعة أو أقل لم ات جميع َمن‬ ‫ولم تب َ‬
‫شون على وجوه الرجال الماء‪ ,‬وب دأوا يكلم ونهم‪ ,‬لم يس تطع أي من‬ ‫أما حين بدأوا ير ّ‬
‫كان في السيارتين‪َّ .‬‬
‫كالما واض ًحا‪ ,‬ك انت غمغم ات أق رب إلى أص وات الحيوان ات‪ .‬ولقد بكى اثن ان من‬ ‫الرجال السبعة أن يتكلم ً‬
‫يرا عن ف رح‬‫الرجال السبعة‪ ,‬أحدهما من أبناء الطيبة‪ ,‬ولم تع رف أب ًدا أس باب ذلك البك اء‪ ,‬وهل ك انت تعب ً‬
‫يء آخر!‬ ‫أو عن ش‬
‫‪42‬‬

‫تطع أحد أن يجيب‪.‬‬ ‫اف‪ ,‬لم يس‬ ‫ؤال عن عس‬ ‫اح في الس‬ ‫ائق‪ ,‬ورغم اإللح‬ ‫وبعد بضع دق‬
‫ال بلهجة ال تقبل المناقشة‪:‬‬ ‫كرية ق‬ ‫يارة العس‬ ‫انوا في الس‬ ‫ذين ك‬ ‫ال ال‬ ‫لكن قائد الرج‬
‫افًا‪.‬‬ ‫وف نجد عس‬ ‫ًدا‪ ,‬وس‬ ‫وا أب‬ ‫اكنكم‪ ,‬ال تتحرك‬ ‫وا في أم‬ ‫‪ -‬ابق‬
‫ال البادية َّ‬
‫وكأنه يطمئن الجميع‪:‬‬ ‫ال أحد رج‬ ‫ق‬
‫نجده!‬ ‫ا‪ ,‬وس‬ ‫قريب‬
‫ون ً‬ ‫َّد أن يك‬ ‫‪ -‬ال ب‬
‫قريبا‬
‫وبخفة متناهية قفز إلى البيك آب‪ ,‬دون أن يحس أحد‪ ,‬مخت ار المنطقة الش رقية‪ ,‬وأخذ مكا ًنا حص ي ًنا ً‬
‫وة‪.‬‬ ‫امي بق‬ ‫رة‪ ,‬وأمسك بالحديد األم‬ ‫من القم‬
‫كانت الصحراء الممتدة بصفرتها المائلة إلى زرقة مثل حلقة ال أفق لها وال نهاية‪ .‬وحين انطلقت الس يارة‬
‫بدوي مفاجئ صرخ الذي بكى من الضيوف‪ ,‬وركض وراءها‪ ,‬ثم سقط على األرض وأخذ بالعويل‪ ,‬وح تى‬
‫حين ُحمل وأُعيد إلى الس يارة وأُعطي قط رات من الم اء‪ ,‬ظلَّت دموعه تتس اقط دون توق ف‪ ,‬ثم غطَّى‬
‫ترة طويلة‪.‬‬ ‫ذلك ف‬ ‫َّل ك‬ ‫وجهه بيديه وأجهش‪ ,‬وظ‬
‫قويا في العث ور على عس اف‪ .‬وإ ذا ك ان الص مت‪ ,‬في ح االت‬
‫كان الحشد الكبير ينتظر‪ ,‬وكان األمل ال يزال ً‬
‫كثيرة‪ ,‬أفضل وسيلة للتعبير‪ ,‬فقد ظلَّت أسئلة الرجال الذين جاءوا من الطيبة بال إجابة‪ ,‬وإ ن كانت إجابتها‬
‫أما حين س قطت بعض ال دموع‬ ‫واضحة قوية في الوج وه‪ ,‬في الحرك ات‪ ,‬في الش فاه المتش قّقة المفط ورة‪َّ .‬‬
‫ف الجميع عن الكالم‪ .‬وانش ّدت العي ون إلى كل االتجاه ات لعلَّها ت رى بش ًرا أو زواالً‪ ,‬وك ان أمل‬‫فقد ك َّ‬
‫واحد‪ ,‬مثل نسمة باردة‪ ,‬يخفق في كل ص در‪ ,‬وارتفعت ابته االت ال تخطر على ب ال وال نهاية له ا‪ ,‬وك انت‬
‫دوه‪.‬‬ ‫اف حيًّا وأن يج‬ ‫ون عس‬ ‫دعاء‪ ,‬أن يك‬ ‫به ال‬ ‫رب إلى التمتمة وتش‬ ‫أق‬
‫لقد انبثقت في تلك اللحظ ات آالف الص ور في أذه ان الرج ال ال ذين ينتظ رون‪ .‬وتلك الص ور‪ ,‬وإ ن ب دت‬
‫بياض ا‪ :‬حين ك ان‬
‫ً‬ ‫وحا وأكثرها‬
‫فإن صورة عساف كانت أش دها وض ً‬‫متداخلة مضطربة‪ ,‬وأقرب إلى الحلم‪َّ ,‬‬
‫ويوزعها بمه ارة ال تخطئ‪ .‬حين ك ان يم ّزق بعض المواضع من أحذيته وثياب ه‪.‬‬
‫يع ود بعش رات الطي ور ّ‬
‫حين كان يجمع الخرطوش الفارغ من الص يادين األغ رار ويتأمله بعناية ثم يحض ره بعناية أك ثر ليس تعمله‬
‫لما تخلَّى نهائيًّا عن الخرط وش المص نوع من ال ورق المق وي‬
‫في اليوم التالي ويتأ ّكد بنفسه من قوته‪ .‬ثم َّ‬
‫واس تعاض عنه بخرط وش النح اس‪ ,‬وكيف ك ان يحتفظ ببعض ه ذه الخ راطيش في جيب جل دي ص غير‬
‫ويؤكد‪ ,‬إالَّ (لقتل‬
‫ِّ‬ ‫لص قه على ص دره‪ ,‬كيف ك انت الطلق ات تب دو ش ديدة اللمع ان وال يس تعملها‪ ,‬كما يق ول‬
‫الوح وش) ‪ -‬إن ه ذه الص ور‪ ,‬وعش رات غيره ا‪ ,‬تم ّر في ه ذه اللحظ ات مثل ش ريط طوي ل‪ ,‬وكل إنس ان‬
‫ق عنه األرض وينفجر فج أة كما تنفجر الطلق ة‪ .‬وأهل الطيبة ال ذين تع َّودوا على‬
‫أن عس افًا ستنش ّ‬
‫متأ ّكد َّ‬
‫عس اف وغياباته ال تي قد تط ول ي ومين أو ثالث ة‪ ,‬حين تحاص ره الثل وج أو يفيض ال وادي‪ ,‬إذا ك انوا قد‬
‫تماما من ش يء واح د‪ :‬س ينفجر عس اف‬ ‫ِ‬
‫تع َّودوا عليه وألف وا كل ش يء يص در عن ه‪ ,‬فقد ك انوا متأ ّك دين ً‬
‫بينهم‪ ,‬وأن الس يارة حين تع ود يائسة مثقلة بالخيبة والح زن س تجده وسط المجموع ة‪ ,‬يتح ّدث بتلك‬
‫الطريقة المبهم ة‪ ,‬الحافلة باألص وات غ ير المفهوم ة‪ ,‬عن ري اح البارحة وعن جن ون الطبيعة وغ در‬
‫‪43‬‬

‫يروض ها أو يحت ال‬


‫الص حراء‪ ,‬ويجب أن يض يف في النهاي ة‪ :‬اإلنس ان أق وى من الطبيع ة‪ ,‬ويع رف كيف ّ‬
‫عليها!‬
‫كانت األفك ار والص ور تتالح ق‪ ,‬وك انت النس مات الطرية ال تي ب دأت تهب مع ميالن الش مس نحو الغ روب‬
‫يأس ا يق وي كل لحظ ة‪ .‬وفي خضم األفك ار والص ور‪ ,‬ومع كل نس مة‬
‫تولد أمالً يق وي كل لحظ ة‪ ,‬وتولد ً‬
‫جدي دة ك انت العي ون ت دور‪ ,‬والص مت يق وى‪ ,‬إلى أن ج اءت تلك الص رخة المفاجئة المدوي ة‪ - :‬ه ذه هي‬
‫يارة!‬ ‫الس‬
‫يبق أحد في مكانه‪,‬‬
‫عذابا من عمر بأكمله‪ .‬لم َ‬
‫لحظات قاسية من التوتر أقسى من أي لحظات أخرى وأشد ً‬
‫ح تى أولئك الرج ال المتعب ون‪ ,‬وال ذين لفَّت على رؤوس هم الخ رق المبلل ة‪ ,‬ش عروا بن وع من التح دِّي‬
‫فمن لم يس تطع النه وض وال ركض مع اآلخ رين تج اه الس يارة‪ ,‬تح َّرك في مكانه أو غيَّر جلس ته‬
‫والق وة‪َ ,‬‬
‫نزل‪.‬‬ ‫افًا وهو ي‬ ‫هد عس‬ ‫ليش‬
‫كانت وجوه الرجال وهي تطل من فوق شديدة القسوة والصرامة‪ ,‬وللحظ ات والس يارة تق ترب ثم تتوق ف‪,‬‬
‫ق منه أث ر‪ ,‬لكن فج أة‪,‬‬ ‫َّ‬
‫تأكد الجميع أنهم لم يج دوا عس افًا‪ .‬لقد غمرته الرم ال وابتلعته األرض ولم يب َ‬
‫والمخت ار يمسك الحديد األم امي‪ ,‬ويه زه بعص بية أول األم ر‪ ,‬ثم يص رخ ويش ير إلى الخلف‪.‬‬
‫ترك الرجال يستديرون ح ول الس يارة‪ .‬التفت بص البة وبطء‪ ,‬ح تى إذا نظ روا ورأوا عس افًا هك ذا‪ ,‬ص رخ‪,‬‬
‫تيمة‪:‬‬ ‫رب إلى الش‬ ‫راخه أق‬ ‫ان ص‬ ‫ك‬
‫الي‪.‬‬ ‫اه‪ .‬راح الغ‬ ‫ذين قتلن‬ ‫اف ‪ ...‬ونحن ال‬ ‫‪ -‬راح عس‬
‫ديق‪.‬‬ ‫دم التص‬ ‫رب إلى ع‬ ‫اء وأق‬ ‫مليئا بكآبة خرس‬
‫مفجعا ً‬
‫ً‬ ‫ًرا‬ ‫ان منظ‬ ‫ك‬
‫يابس ا متخش ًبا وقد تقلَّصت عض الت وجهه وب دت على‬
‫ك ان عس اف في ق اع البيك آب‪ ,‬ك ان هن اك‪ ,‬ك ان ً‬
‫أطراف الش فتين ابتس امة هي م زيج من األلم والي أس والس خرية‪ ,‬وب دا َّ‬
‫كأنه يريد أن يتكلم! وحين اس تمر‬
‫المخت ار في الهي اج ثم البك اء‪ ,‬واتض حت الص ورة ح ادة نازفة متج برة‪ ,‬س معت أص وات نش يج مكت وم‪,‬‬
‫وتس اقطت ال دموع‪ .‬ك ان لس قوط ال دموع رنين ق وي موجع َّ‬
‫وكأنه نهاية لف ترة طويلة من الزم ان!‬
‫كيف يمكن للبشر أن يصمتوا بهذا المقدار ولهذه الف ترة الطويل ة? كيف يس تطيعون نس يان جميع الكلم ات‬
‫ام?‬ ‫ذفون من األرح‬ ‫اة بها وهم ينق‬ ‫دأوا الحي‬ ‫تي ب‬ ‫وات ال‬ ‫واألص‬
‫ف‪ ,‬كيف يمكن ذلك?‬ ‫كي‬
‫امتين!‬ ‫اعتين‪ ,‬ظلُّوا ص‬ ‫ثر من س‬ ‫تمر أك‬ ‫ذي اس‬ ‫وال الطريق ال‬ ‫ط‬
‫وناظرا إلى األمام باس تمرار‪ ,‬طلب من‬
‫ً‬ ‫قابضا بقوة على حديد القمرة‪,‬‬
‫ً‬ ‫والمختار الذي َّ‬
‫ظل واقفًا في مكانه‪,‬‬
‫أيض ا‪ ,‬أن ي ذهب الجميع إلى‬
‫قائد السيارة العس كرية التابعة لق وة البادي ة‪ ,‬بكلم ات متلجلج ة‪ ,‬لكن واض حة ً‬
‫بيته‪ .‬حصل ذلك حين ت وقَّفت الس يارة في م دخل الطيب ة‪ ,‬وحين ب دت جم وع الن اس وهي تنتظ ر‪ ,‬وتح اول‬
‫يء حصل‪.‬‬ ‫رف أي ش‬ ‫أن تع‬
‫يميز اآلخ رين إالَّ من‬
‫تخيم على كل ش يء‪ ,‬وال يس تطيع اإلنس ان أن ِّ‬
‫ق ال المخت ار‪ ,‬في الظلمة ال تي ّ‬
‫‪44‬‬

‫واتهم‪:‬‬ ‫أص‬
‫وف نلتقي‪.‬‬ ‫تي‪ ,‬هنالك س‬ ‫الوا إلى بي‬ ‫‪ -‬تع‬
‫وبطريقة خفية حافلة بالحن ان والعذوبة والخ وف والتق ديس‪ُ ,‬حملت جثة عس اف إلى ال داخل‪ُ .‬وض عت في‬
‫وقريبا من يده اليمنى وضعت البندقية‪ ,‬وبحركات آلية‪,‬‬
‫ً‬ ‫صدر المضافة‪ ,‬ووضع إلى جانب الرأس فانوس‪,‬‬
‫تم ذلك به دوء وإ تق ان‪ ,‬طلب المخت ار من الجمع أن يجلس وا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كأنها ُرتِّبت منذ وقت طويل‪ ,‬وبعد أن َّ‬
‫الصمت‪ ,‬الصمت‪ ,‬وال شيء غير الص مت‪ ,‬وما ع دا النظ رة الثقيلة الحافلة ب الحزن‪ ,‬والمرتس مة على تلك‬
‫إن الطيبة من أعجب األم اكن وأكثرها غراب ة‪ ,‬ال تس تطيع أن تفضح‬
‫الوج وه الملهوفة المتس ائلة‪ ,‬ف َّ‬
‫يرا ما تق ول ذلك الش يء بطريقتها الخاص ة‪,‬‬ ‫يئا َّ‬
‫فإنها كث ً‬ ‫عواطفها بس هولة‪ ,‬وح تى لو أرادت أن تق ول ش ً‬
‫دو مألوفة أو مفهومة!‬ ‫تي قد ال تب‬ ‫وال‬
‫أما رج ال البادية ال ذين س اعدوا في حمل الجث ة‪ ,‬فقد ق ال العريف ال ذي‬
‫لم يتج رأ أحد أن يس أل المخت ار‪َّ ,‬‬
‫ودهم‪:‬‬ ‫يق‬
‫باحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ًدا ص‬ ‫ذهب ونجهز التقرير لرفعه غ‬ ‫وف ن‬ ‫‪-‬س‬
‫ان!‬ ‫ادرت المك‬ ‫يارة‪ ,‬وغ‬ ‫َّركت الس‬ ‫ار تح‬ ‫ودون انتظ‬
‫ومحمر العينين‪ ,‬والذي ك ان يتح َّرك في بعض األحي ان حرك ات طائشة‬
‫ّ‬ ‫والمختار الذي كان بادي العصبية‪,‬‬
‫يعبر عن ه‪.‬‬
‫يئا‪ ,‬ك ان يق اوم في نفسه ذلك الك ابوس ال ذي ال يطيق أن يحتفظ به وال يق وي أن ِّ‬
‫ال تع ني ش ً‬
‫وهو إذ كان قد برع في كل األوقات على أن يدير الحديث‪ ,‬وأن يتكلم بطريقة ال يحسنها غ يره في الطيبة‪,‬‬
‫كرا‪ ,‬ويق دم أص عب األم ور وأكثرها مش قة‪,‬‬ ‫وال ذي ك ان يوصف َّ‬
‫رش على الم وت س ً‬ ‫بأنه ق ادر على أن ي ّ‬
‫أما حين‬
‫ضائعا خائفًا‪ ,‬وبدا شديد العصبية بحركات يديه ووجه ه‪َّ .‬‬
‫ً‬ ‫تائها‬
‫بأيسر الوسائل وأكثرها قبوالً‪ ,‬بدا ً‬
‫انتظم مجلس الطيبة‪ ,‬كما لم يحصل ذلك من قبل‪ ,‬ووسط الصمت القاسي الذي خيَّم على كل ش يء‪ ,‬انفجر‬
‫وع‪:‬‬ ‫ّدمات من أي ن‬ ‫د‪ ,‬ودون مق‬ ‫ار‪ ,‬دون أن يطلب إليه أح‬ ‫وت المخت‬ ‫ص‬
‫روا إليه‪.‬‬ ‫امكم‪ ,‬انظ‬ ‫اف‪ ...‬إنه أم‬ ‫ذا عس‬ ‫‪-‬ه‬
‫اء‪:‬‬ ‫ابع بلهجة يخنقها البك‬ ‫ة‪ ,‬دون أن يلتفت‪ ,‬ثم ت‬ ‫َّز رأسه بلوع‬ ‫وه‬
‫‪ -‬عس اف الحص ان‪ ,‬عس اف الغيم ة‪ ,‬أبو الفق راء‪ ,‬ال ذي ال ين ام س اعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة‬
‫تمر الن اس‪ ...‬عس اف زينة الرج ال‪ ,‬ت رككم‬
‫وتبقى‪ ...‬عس اف ال ذي يحب الجمي ع‪ ,‬ويقتل نفسه ح تى يس ّ‬
‫اآلن‪ ,‬ترككم وحيدين تح اربون (‪ )...‬العس كر والج راد‪ ,‬وال أحد يع رف أي ق وي أخ رى‪ ,‬وم اذا سيحصل!‬
‫كاد أن يواص ل‪ ,‬خاصة وأن كلماته ن زلت إلى قل وب الرج ال َّ‬
‫وكأنها الس كاكين الملتهب ة‪ ,‬فح ركت ال رؤوس‬
‫تغي رت أفك اره واض طربت‪:‬‬ ‫ودفعت حب ات من ال دموع لكي تتس اقط بص مت‪ ,‬لكن فج أة ّ‬
‫‪ -‬ما فائ دة الكلم ات اآلن? يمكن أن نك رز من ه ذه اللحظة وح تى ي وم القيام ة‪ ,‬لكن كل ي وم يس قط منا‬
‫يء!‬ ‫يتغير ش‬
‫دينا‪ ,‬وال ّ‬ ‫جار بأي‬ ‫نا وتقطع األش‬ ‫وق رؤوس‬ ‫بيوت ف‬ ‫قط ال‬ ‫ال‪ ,‬وتس‬ ‫الرج‬
‫وع‪:‬‬ ‫يغير الموض‬
‫ّن يريد أن ِّ‬ ‫ال رجل مس‬ ‫ق‬
‫‪45‬‬

‫ات‪.‬‬ ‫ّدق أن الرجل م‬ ‫اعة ال أص‬ ‫ذه الس‬ ‫تى ه‬ ‫‪-‬ح‬


‫ار‪:‬‬ ‫ال المخت‬ ‫ق‬
‫‪ -‬انتظ ر‪ ,‬وس وف تران ا‪ ,‬واح ًدا بعد آخ ر‪ ,‬نه وي على وجوهنا وتطمرنا الرم ال‪ ,‬وقد ال نجد َمن ينقّط في‬
‫اء‪.‬‬ ‫رة م‬ ‫حلوقنا قط‬
‫وقَهقَ َه المخت ار بطريقة تختلط فيها الس خرية بالنش يج‪ ,‬وب الحزن الك اوي‪ ,‬ثم أض اف‪:‬‬
‫ان!‬ ‫ذا الحص‬ ‫تماما كما حصل مع ه‬
‫‪ً -‬‬
‫اف وال يرفعهما‪:‬‬ ‫ِّوب عينيه إلى عس‬ ‫ال رجل وهو يص‬ ‫ق‬
‫ات? كيف حصل ما حصل?‬ ‫‪ -‬لكن كيف م‬
‫يغير جلس ته‪ ,‬ألن الموض وع يحت اج إلى بعض الحرك ات واإلش ارات‪ ,‬ولكي يخلق في‬
‫ق ال المخت ار وهو ِّ‬
‫أثير المناسب‪:‬‬ ‫اس الت‬ ‫وس الن‬ ‫نف‬
‫أن عس افًا‬
‫‪ -‬اسمعوا‪ ,‬كدنا نعود‪ ,‬يئسنا من البحث‪ ,‬درنا في كل مكان‪ ,‬بحثنا في كل األمكنة التي تص ّورنا َّ‬
‫برا‪ ,‬ق ال إن ه ذه‬
‫برا ش ً‬‫بعيدا‪ ,‬ومقبل‪ ,‬الذي يعرف الصحراء ش ً‬
‫ذهب إليها‪ ,‬خاصة وأن السيارات لم تذهب ً‬
‫يادا يع رف أين ي ذهب‪ ,‬وال يمكن أن ي ذهب أبعد من ذل ك‪ .‬بحثن ا‪,‬‬
‫هي أم اكن الص يد‪ ,‬وعس اف باعتب اره ص ً‬
‫بحثنا‪ ,‬وقائد البادية‪ ,‬وقف أك ثر من م رة على ظهر قم رة الس يارة وتطلع في كل االتجاه ات مس تعمالً ذلك‬
‫المنظار الذي يرى اإلبرة من مسافة طويلة‪ ,‬لكن ال ش يء‪ .‬ومقب ل‪ ,‬ال ذي يملك عي ون ص قر‪ ,‬تطلع في كل‬
‫االتجاه ات‪ ,‬ولكن ال ش يء‪ .‬ك دنا نع ود‪ .‬كنا متأ ّك دين أن عس افًا ُدفن تحت الرم ال وال يمكن ألحد أن ي راه‪.‬‬
‫وة‪.‬‬ ‫يارة بق‬ ‫رة الس‬ ‫دأ مقبل يخبط قم‬ ‫أة ب‬‫لكن فج‬
‫مترد ًدا ّأول األمر‪ ,‬لكن فجأة‬ ‫توقَّفت السيارة‪ ,‬نزل القائد‪ ,‬ونزل السائق‪ ,‬ومقبل َّ‬
‫ظل ينظر باتجاه معين‪ .‬بدا ّ‬
‫تمام ا‪ ,‬ولك ني رأيت نس ًرا‬ ‫ص رخ‪ - :‬يجب أن نتجه إلى الناحية اليس رى‪َّ ,‬‬
‫ألنني أرى نس ًرا‪ ,‬لست ِّ‬
‫متأك ًدا ً‬
‫يئا!‬
‫ً‬ ‫وينقض به ذه الطريقة فال ب َّد أن هن اك ش‬ ‫ّ‬ ‫يح وم‪ ,‬وما دام ه ذا الط ير يعلو‬
‫وقبل أن يكمل مقبل كالمه‪ ,‬وضع القائد المنظ ار المق ّرب على عيني ه‪ ,‬حيث أش ار مقب ل‪ ,‬وه َّز رأسه داللة‬
‫ار‪.‬‬ ‫ائق أن يتوجه ناحية اليس‬ ‫رعة طلب من الس‬ ‫الشك ّأول األم ر‪ ,‬ثم ب دا متأ ّك ًدا‪ ,‬وبس‬
‫لمسافة كبيرة بدت األرض مثل راحة الكف‪ ,‬ال ش يء أب ًدا‪ .‬والنسر ال ذي لم يكن ي رى ّأول األم ر‪ ,‬ب دا مثل‬
‫نقطة سوداء في الفضاء البعيد‪ ,‬كان يصعد ويهبط‪ .‬وحين رأيناه ّأول مرة‪ ,‬غاب ثانية‪ .‬تص ّورنا األمر كله‬
‫يخيم على كل ش يء‪ ,‬واألرض‬ ‫يئا‪ ,‬لكن والس يارة تتجه حيث يري د‪ ,‬والس كون ِّ‬
‫وهم ا‪ ,‬وأن مقبالً لم ي َر ش ً‬
‫ً‬
‫ازم‪:‬‬ ‫ال مقبل ُّ‬
‫بتأكد ج‬ ‫دة زوال‪ .‬ق‬ ‫افة بعي‬ ‫دا على مس‬ ‫ًدا‪ ,‬ب‬ ‫يئا أب‬
‫ً‬ ‫خاوية ال تظهر ش‬
‫له لنتأ ّكد!)‪.‬‬ ‫يء‪ ,‬ويجب أن نص‬ ‫طَّ على ش‬ ‫ذا النسر ح‬ ‫‪( -‬ه‬
‫وأس رعت الس يارة‪ ,‬وتعلَّقت عيوننا حيث يش ير مقب ل‪ ,‬وفي كل دقيقة نق ترب أك ثر ف أكثر ح تى ِّ‬
‫تأكدنا من‬
‫جالس ا مثل رج ل‪ .‬ك ان بس واده الق اتم ش ديد الوض وح‪ ,‬وترتفع‬
‫ً‬ ‫وج ود النس ر‪ .‬ك ان من مس افة بعي دة يب دو‬
‫خما‬
‫فشيئا ما دمنا نقترب‪ .‬وحين أصبحت المسافة بيننا ال تزيد على مئات األمتار طار‪ .‬ب دا ض ً‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬
‫قامته ً‬
‫‪46‬‬

‫واد‪.‬‬ ‫انب الس‬ ‫اض في لونه إلى ج‬ ‫ان البي‬ ‫والً‪ ,‬وب‬ ‫مه‬
‫وحا وقس وة مما كنا‬
‫ومع كل خطوة تقتربها السيارة‪ ,‬حيث كان النسر يربض‪ ,‬ب دت لنا الص ورة أك ثر وض ً‬
‫ور‪.‬‬ ‫نتص‬
‫رابض ا‪ ,‬وك ان‬ ‫تماما ك ان الكلب‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ك ان عس اف م دفو ًنا في الرم ل‪ ,‬لم يكن يظهر إال رأس ه‪ ,‬وف وق ال رأس ً‬
‫ياجا ح ول‬
‫أيض ا‪ ,‬لكن بطريقة غريبة للغاي ة‪ :‬ك ان يش كل س ً‬
‫الج زء األك بر من جسد الكلب م دفو ًنا بالرمل ً‬
‫نه‪.‬‬ ‫ان يحتض‬ ‫ه‪ .‬ك‬ ‫ا رأس‬ ‫خصوص‬
‫ً‬ ‫اف‪,‬‬ ‫جسد عس‬
‫ًحا‪.‬‬ ‫يء واض‬ ‫لنا رأينا كل ش‬ ‫ولما وص‬
‫ال مقبل بثقة‪:‬‬ ‫ق‬
‫‪ -‬عس اف م ات قبل الكلب‪ ,‬وال ب َّد أن بعض الطي ور‪ ,‬ربما ه ذا النسر أو غ يره‪َّ ,‬‬
‫أحس ت وع رفت ب ذلك‪,‬‬
‫وجاءت لتأخذ نصيبها منه‪ ,‬لكن الكلب‪ ,‬وفي محاولة لحماية عس اف ص ارعها ح تى ص رعته‪ .‬انظ روا إلى‬
‫ال دماء المتجم دة ف وق رأس الكلب‪ ,‬لقد َّ‬
‫مزقته بمناقيرها لتصل إلى عس اف‪ ,‬وفيما هو ي دافع عن نفس ه‪,‬‬
‫ات من العطش أو من النهش)‪.‬‬ ‫ون قد م‬ ‫م‪ ,‬وال بد أن يك‬ ‫اف‪َّ ,‬‬
‫تهش‬ ‫وعن عس‬
‫تمام ا‪ .‬المط رة‬
‫قال مقبل ذلك وامتدَّت يده إلى الرم ال تزيحها وتس حب جثة عس اف‪ .‬الجثة مدفونة بالرمل ً‬
‫فارغة‪ ,‬وعساف يقبض على البندقية بق وة‪ ,‬وال ب َّد أن يك ون قد ق ام وس قط ع دة م رات‪َّ ,‬‬
‫ألن ي ده اليس رى‬
‫ِّ‬
‫وهش م‬ ‫ملتوية ومزرقّ ة‪ .‬ومن حسن حظه أنه س قط على وجه ه‪ ,‬لو ك ان في وضع آخر ألَ َكل النسر عينيه‬
‫وجه ه‪ ,‬والكلب حين رأى عس افًا يس قط ن ام فوقه‪ :‬ال ب َّد أنه ح اول إنق اذه بش كل أو ب آخر‪ ,‬لكن العاص فة‬
‫نين!‬ ‫وى من االث‬ ‫انت أق‬ ‫ك‬
‫اف‪.‬‬ ‫ذه الطريقة انتهى عس‬ ‫به‬
‫وخيم‬ ‫كأنه يح اول أن يمنع رأسه من الس قوط أو َّ‬
‫كأنه يت ذكر‪ِّ .‬‬ ‫س كت المخت ار‪ ,‬وضع يديه تحت ص دغيه‪َّ ,‬‬
‫اف‪:‬‬ ‫ر‪ ,‬أض‬ ‫الم آخ‬ ‫وت من ع‬ ‫ا‪ ,‬ص‬‫تمام‬
‫وت مختلف ً‬ ‫ص مت ثقي ل‪ .‬وبص‬
‫‪ -‬كان بودِّي لو حملنا الكلب معنا‪ ,‬كان يستحق ذل ك‪ ,‬لكن لم أج رؤ على ط رح الفك رة‪ ,‬ب دت لي ال تناسب‬
‫أما حين حملنا الجثة ووض عناها في البيك آب‪ ,‬فقد ظللت على األرض‬
‫الموقف وال يمكن أن يفهمها أح د‪َّ .‬‬
‫لبعض ال وقت‪ ,‬وكنت أنظر إلى الكلب‪ .‬لم أس تطع أن أرفع نظ ري عن ه‪ ,‬لكن قائد الس يارة العس كرية‪ ,‬ق ال‬
‫بصوت عصبي‪ ,‬وإ ن ك ان فيه بعض القس وة‪( :‬لم تنته مهمتنا بع د‪ ,‬علينا أن نصل إلى الجماع ة‪ .)...‬ولما‬
‫صعدت إلى السيارة ومررت إلى جانب الجثة‪ ,‬نظرت إليها بإمعان‪ ,‬بدا لي وجهه شديد الحزن‪ ,‬وال أعرف‬
‫كيف سمعت صوت عساف‪ ,‬سمعته يقول‪( :‬والكلب‪ !?...‬هل تتركون الكلب?) وبسرعة‪ ,‬وبخ وف اق تربت‬
‫من الجن ديين الل ذين كانا في مقدمة الس يارة‪ ,‬ولم أس تطع أن أنظر بعد ذلك إلى الخل ف‪ .‬كنت خائفً ا‪ ,‬كنت‬
‫علي الخ وف أك ثر عن دما م الت الش مس إلى‬
‫تماما من أن أرى عسافًا‪ ,‬أو أن أسمع كلماته‪ ,‬وسيطر ّ‬
‫خائفًا ً‬
‫المغيب‪ ,‬وتص ّورت ال ذين ينتظ رون‪ ,‬وتص ّورت الطيبة والبشر وال أع رف أي أح زان أخ رى)‪.‬‬
‫يرون‪:‬‬ ‫يتعودها الكث‬
‫زن لم ّ‬ ‫دت في لهجته َّ‬
‫رنة ح‬ ‫ّنين‪ ,‬وقد ب‬ ‫ال أحد المس‬ ‫ق‬
‫‪47‬‬

‫ور!‬ ‫تراب لكي ال تأكله الطي‬ ‫وا عليه ال‬ ‫واجب أن تهيل‬ ‫ان من ال‬ ‫‪-‬ك‬
‫بية‪:‬‬ ‫ار بعص‬ ‫رد المخت‬
‫أتي به‪.‬‬ ‫واجب أن ن‬ ‫ان ال‬ ‫‪-‬ك‬
‫ال الرجل المسن‪:‬‬ ‫ق‬
‫تراب‪.‬‬ ‫ال عليها ال‬ ‫رم لها أن ُيه‬ ‫وت‪ ,‬لكن األك‬ ‫ات حين تم‬ ‫‪ -‬ال يمكن أن تحمل الحيوان‬
‫دم‪ ,‬ولم يتكلم‪.‬‬ ‫ديد والن‬ ‫زن الش‬ ‫دت عليه عالئم الح‬ ‫ار رأسه وقد ب‬ ‫َّز المخت‬ ‫ه‬
‫رن‪:‬‬ ‫احب الف‬ ‫ال ص‬ ‫ق‬
‫‪ -‬أعجب ش يء في ه ذه ال دنيا العالقة بين اإلنس ان وما حوله من أش ياء‪ ,‬من حيوان ات وأش جار وبي وت‬
‫ألن فيها‬
‫يرا عن الطيبة يتعلّق بها اإلنس ان في ح االت كث يرة‪َّ ,‬‬
‫وأنه ار‪ ,‬ح تى الص حراء ال تي ال تبعد كث ً‬
‫ألن‬
‫نجات ه‪ ,‬ول وال ذلك لما ذهب عس اف إلى هن اك‪ .‬ك ان يريد أن يخلص الطيب ة‪ ,‬ويخلّص ني أنا بال ذات‪َّ ,‬‬
‫ًدا‪.‬‬ ‫رن لم تعد تكفي أح‬ ‫رج من الف‬ ‫بحت تخ‬ ‫تي أص‬ ‫األرغفة القليلة ال‬
‫دأ يتكلم‪:‬‬ ‫قطت حين ب‬ ‫امتًا‪ ,‬لكن دمعة س‬ ‫َّل ص‬ ‫ال رجل ظ‬ ‫ق‬
‫‪ -‬في الطيب ة‪ ,‬كما في أي مك ان آخر من ه ذا الع الم‪ ,‬ما يحت اج إلى تغي ير هو اإلنس ان‪.‬‬
‫وص مت لحظ ة‪ ,‬جفَّف دموعه ال تي ك انت تتس اقط دون إرادة على ّ‬
‫خديه وأض اف‪ - :‬لو أننا فهمنا ما ك ان‬
‫انت حالنا اآلن أفضل‪.‬‬ ‫اف يقوله لك‬ ‫عس‬
‫ّنين‪:‬‬ ‫ال أحد المس‬ ‫ق‬
‫ود‪.‬‬ ‫اف‪ ,‬ذهب ولن يع‬ ‫‪ -‬لقد رحل عس‬
‫بية‪:‬‬ ‫ال بعص‬ ‫ًدا آخر ق‬ ‫ابع‪ ,‬لكن واح‬ ‫اد أن يت‬ ‫زن وك‬ ‫توقَّف قليالً‪ ,‬ابتسم بح‬
‫أخرة!‬ ‫ياء مت‬ ‫أتي األش‬ ‫ان ت‬ ‫‪ -‬أغلب األحي‬
‫وقت‪:‬‬ ‫وده طيلة ال‬ ‫غير لم يفطن أحد لوج‬ ‫اب ص‬ ‫ال ش‬ ‫ق‬
‫‪ -‬إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المط ر‪ ,‬وال تفعل ش ً‬
‫يئا س وى انتظ ار المط ر‪ ,‬فس وف يم وت الجميع كما م ات‬
‫وأ!‬ ‫اف‪ ,‬وربما أس‬ ‫عس‬
‫ار‪:‬‬ ‫ال المخت‬ ‫ق‬
‫‪ -‬أك بر ظلم لعس اف َّأننا تركن اه يح ارب وح ده‪ ,‬ح تى الكلب ك ان أحسن من ا‪ ,‬لقد ح اول إنق اذه‪ ,‬ونحن لم‬
‫نفعل‪.‬‬
‫ال‪:‬‬ ‫ال أحد الرج‬ ‫ق‬
‫وتنهد بح زن ثم أض اف‪:‬‬
‫َّ‬ ‫أما الكلب ف انظروا‪ ,‬ه ذه هي ال دنيا!‬
‫ظلما أن ن ترك البش ر‪َّ ,‬‬
‫‪ -‬واهلل األك ثر ً‬
‫أن عس افًا يريد أن يم وت‪ ,‬وأنه س يقتل نفسه بش كل ما‪ ,‬إذا لم يكن في ه ذه الرحلة ففي‬
‫‪ -‬كنت أع رف َّ‬
‫رحلة غيره ا‪ ,‬إذا لم يكن في الص حراء فتحت أك وام الثلج‪ ,‬وأنتم تت ذكرون حياته كله ا‪ ,‬ت ذكرون كم م رة‬
‫رة بحثنا عنه‪.‬‬ ‫اع وكم م‬ ‫ض‬
‫‪48‬‬

‫أة‪:‬‬ ‫ال فج‬ ‫ّنين ق‬ ‫ديث‪ ,‬لكن أحد المس‬ ‫ان يريد أن يواصل الح‬ ‫ك‬
‫‪ -‬يستغرب اإلنسان أنه في حاالت كثيرة ال يمكن التفريق بين الحيوانات والبش ر‪ .‬وربما ك انت الحيوان ات‬
‫أفضل من بشر كث يرين‪َّ .‬‬
‫لكنني منذ ج اء ه ذا الكلب إلى الطيبة تش اءمت وقلت ال ب َّد أن يقتل ه ذا الكلب‪.‬‬
‫دة‪:‬‬ ‫ار بح‬ ‫ال المخت‬ ‫ق‬
‫اه‪.‬‬ ‫ذين قتلن‬ ‫افًا‪ ,‬نحن ال‬ ‫‪ -‬الكلب لم يقتل عس‬
‫‪ -‬ال يهم َمن قتل اآلخ ر‪ ,‬المهم اآلن أن عس افًا‪ ,‬ال ذي يرقد هن ا‪ ,‬ال يس مع وال يحس بوجودنا‪.‬‬
‫دة‪:‬‬ ‫ار بح‬ ‫ال المخت‬ ‫‪-‬ق‬
‫ال!‬ ‫يء‪ ,‬ويفهم كل ما ُيق‬ ‫مع كل ش‬ ‫مع‪ .‬نعم إنه يس‬ ‫‪ -‬ال‪ ,‬إنه يس‬
‫ّنين‪:‬‬ ‫ال أحد المس‬ ‫ق‬
‫‪ -‬يا أبناء الطيبة‪ ,‬ال تكونوا حمقى أكثر مما يجب‪ .‬الرجل انتهى اآلن‪ ,‬وال يمكن ألي قوة على األرض أن‬
‫نائما بس الم‪ ,‬واس هروا ح تى‬
‫ادرا على ذل ك‪ ,‬وإ ذا أردتم أن تكرم وا عس افًا ف دعوه ً‬
‫تعيده‪ ,‬وليس غير اهلل ق ً‬
‫ده اليها‪.‬‬ ‫واء الفجر نحمله إلى األرض لنعي‬ ‫باح‪ ,‬ومع أول أض‬ ‫الص‬
‫وبطريقة أقرب إلى الغموض والتح دي ب دأت الس هرة‪ .‬ب دأت بن وع من التك ريم ال ذي لم تتع وده الطيبة من‬
‫عورا بالرهبة خيَّم على‬
‫قب ل‪ ,‬ربما نتيجة للخ وف أو لبقايا اقتناع ات ومواقف تج اه الم وت‪ .‬وب رغم أن ش ً‬
‫عددا من الناس‪ ,‬بمن فيهم الض يوف‪ ,‬ك ان َّ‬
‫يتمنى لو أن األمر لم يأخذ ه ذا الش كل‪ ,‬لكن إزاء‬ ‫الجميع‪ ,‬وأن ً‬
‫َ‬
‫بية‪:‬‬ ‫ار بعص‬ ‫ال المخت‬ ‫ديد‪ ,‬ق‬ ‫ال الش‬ ‫ات االنفع‬ ‫رار مبهم‪ ,‬وفي لحظة من لحظ‬ ‫إص‬
‫يء‪.‬‬ ‫هد كل ش‬ ‫اف لتش‬ ‫‪ -‬يجب أن تبقي معنا يا عس‬
‫وأدار رأس ه‪ ,‬وعين اه مغمض تان‪ ,‬وي داه ترتفع ان بطريقة تحمل مع اني ال حصر له ا‪ ,‬وت ابع َّ‬
‫كأنه يخ اطب‬
‫نفسه‪:‬‬
‫تبقي معنا‪.‬‬ ‫اف‪ ,‬وس‬ ‫تم ْت‪ ,‬يا عس‬
‫‪ -‬أنت لم ُ‬
‫ان بعيد‪:‬‬ ‫ال رجل من مك‬ ‫ق‬
‫يء!‬ ‫ة‪ ,‬واآلن انتهى كل ش‬ ‫يئة اهلل يا جماع‬ ‫وت بمش‬ ‫اة والم‬ ‫‪ -‬الحي‬
‫بية‪:‬‬ ‫اب بعص‬ ‫ال ش‬ ‫ق‬
‫جميعا!‬
‫ً‬ ‫اة منا‬ ‫ثر حي‬ ‫وت‪ ,‬وهو اآلن أك‬ ‫اف لن يم‬ ‫‪ -‬عس‬
‫ال رجل مسن‪:‬‬ ‫ق‬
‫رف فوقنا اآلن‪.‬‬ ‫دي‪ ,‬إن المالئكة ترف‬ ‫‪ -‬ال تكفر يا ول‬
‫مليئا بالذكاء والمك ر‪ ,‬لكي يخ رج‬
‫قال أبو زكور‪ ,‬الذي يبني كل شيء في الطيبة‪ ,‬حتى القبور‪ ,‬وبدا كالمه ً‬
‫وب‪:‬‬ ‫وف من القل‬ ‫الخ‬
‫فإما أن تقرأوا الق رآن وتتح دثوا‪ ,‬أو لي ذهب‬
‫غدا‪َّ ,‬‬
‫بعيدا‪ ,‬وعلينا واجب ثقيل ً‬
‫‪ -‬يا جماعة‪ ,‬الصباح ال يزال ً‬
‫باح‬ ‫ود في الص‬ ‫كل واحد إلى بيته ونع‬
‫‪49‬‬

‫بية‪:‬‬ ‫ار بعص‬ ‫ال المخت‬ ‫ق‬


‫وح‪.‬‬ ‫اب مفت‬ ‫ذهاب‪ ,‬فالب‬ ‫‪َ -‬من يريد ال‬
‫ابع‪:‬‬ ‫يرى وقع كلماته وت‬ ‫اس ل‬ ‫وه الن‬ ‫ونظر في وج‬
‫‪ -‬أما أنا فلن أن ام لحظة واح دة‪ ,‬وس وف أس هر في ه ذه الغرف ة‪ ,‬إلى ج انب الرج ل‪ ,‬ح تى يطلع الن ور‬
‫بره!‬ ‫ونحمله إلى ق‬
‫‪ -‬أما أنا فلن أن ام لحظة واح دة‪ ,‬وس وف أس هر في ه ذه الغرف ة‪ ,‬إلى ج انب الرج ل‪ ,‬ح تى يطلع الن ور‬
‫بره!‬ ‫ونحمله إلى ق‬
‫وبه ذه الطريقة العجيبة ب دأت س هرة من ن وع لم تألفه الطيبة ق ط‪ .‬تح دَّث أك ثر الموج ودين‪ ,‬تح ّدثوا عن‬
‫ًدا‪.‬‬ ‫ا لم يفهمها أهل الطيبة جي‬
‫قصص‬
‫ً‬ ‫يوف رووا‬ ‫تى الض‬ ‫يرة‪ ,‬ح‬ ‫ياء كث‬ ‫أش‬
‫في تلك الس هرة قيلت أش ياء وأش ياء‪ ,‬وعس اف مس جًّى ووجهه مكش وف‪ ,‬والض وء ي تراقص على وجهه‬
‫أيض ا‪ ,‬والن اس ال يري دون أن يتوقف وا‬
‫وعلى وج وه اآلخ رين فيخلق ج ًّوا من الغرابة والخ وف‪ ,‬والجن ون ً‬
‫دة‪.‬‬ ‫لحظة واح‬
‫أيض ا‪ ,‬فقد‬
‫وإ ذا ك انت ه ذه األح اديث قد ت والت دون منط ق‪ ,‬وربما دون ض رورة واض حة‪ ,‬ودون مغ ًزى ً‬
‫روه‪.‬‬ ‫مت‪ ,‬أن يقه‬ ‫اوموا الص‬ ‫ع‪ ,‬أن يق‬ ‫يطر على الجمي‬ ‫انت الرغبة تس‬ ‫ك‬
‫تح ّدثوا عن الكالب والغ زالن والحم ير‪ ,‬تح ّدثوا عن فيض ان ال وادي‪ ,‬وعن جف اف النب ع‪ ,‬وتح ّدثوا عن‬
‫عس اف وعن البش ر‪ ,‬وتج رأ واحد وق ال أبياتًا من الش عر‪ ,‬وك اد أحد الرعي ان أن يس تعمل ناي ه‪ ,‬ل وال أن‬
‫اب!‬ ‫وة بالعت‬ ‫رة تختلط فيها القس‬ ‫وة ونظر إليه نظ‬ ‫ًّنا انتزعه منه بق‬ ‫رجالً مس‬
‫ال أحد يت ذ ّكر بدقة األش ياء ال تي قيلت أو َمن قاله ا‪ ,‬لكن حين ت ذكر الطيب ة‪ ,‬وحين تهجم األح زان‪ ,‬وإ ذا‬
‫جرى الحديث في وقت من األوقات عن نهايات البشر والحيوانات‪ ,‬وحتى األشجار‪ ,‬فال َّ‬
‫بد أن ترتد ص ورة‬
‫ّد‪ :‬بالنهاية!‬ ‫يء واح‬ ‫ذ ّكر بش‬ ‫تلك الليلة العجيبة لت‬
‫وتقيأ واحد منهم بعد أن نظر إلى الجثة المم دَّدة أك ثر من‬ ‫حتى الضيوف الذين َّ‬
‫تخش بوا في بداية الس هرة‪ّ ,‬‬
‫فإنهم بطريقة غريزية أقرب ما تكون إلى حالة من حاالت التطهر التي يلجأ إليها اإلنسان في أوق ات‬ ‫مرة‪َّ ,‬‬
‫معين ة‪ ,‬نس وا كل ش يء‪ ,‬أو هك ذا أوح وا ألنفس هم‪ ,‬وانس اقوا في ال دهاليز المظلمة ال تي ق ادهم إليها أهل‬
‫الطيب ة‪ ,‬وظلُّوا يس معون ويتح دثون‪ .‬لكن الخ وف ك ان ي ربض في كل حرك ة‪ ,‬ح تى حركة األجس ام وهي‬
‫تستدير لتقاوم التعب والخدر‪ ,‬وحتى السعال الذي يأتي فجأة‪ ,‬ثم قطرات ال دموع ال تي تتس اقط دون إرادة‪,‬‬
‫ك انت تخلق الخ وف والجفل ة‪ .‬ثم ج اءت القصص ال تي قيلت تلك الليلة لتجعل الح زن ملتص قًا بالجلد‬
‫والعظام‪ ,‬ولتحفر في القلوب مج رى عميقًا ال يتوقف عن ال نزف كلما ذك رت الطيب ة‪ ,‬وكلما ج رى الح ديث‬
‫عن الحيوان ات‪ ,‬وح تى عن ال بيوت حين تته دم‪ ,‬ح تى عن الغب ار المتخلف من كل ش يء ك انت له رائحة‬
‫دود لها‬ ‫أحزان ال ح‬ ‫ذ ّكر ب‬ ‫خاصة ت‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
50

You might also like