Professional Documents
Culture Documents
نهايات
نهايات
نهايات
إنه القح ط ..م رة أخ رى! وفي مواسم القحط تتغ ير الحي اة واألش ياء ,وح تى البشر يتغ يرون ,وطب اعهم
يرا ما تتك رر,
تتغ ير ,تتولد في النف وس أح زان تب دو غامضة أول األم ر ,لكن لحظ ات الغض ب ,ال تي كث ً
جموحا ,ويمكن أن تأخذ أش كاالً ال حصر له ا .أما إذا م َّرت الغي وم عالية
ً تفجرها بسرعة ,تجعلها معادية,
ّ
دِّي! تائم والتح س ريعة ,فحينئذ ترتفع الوج وه إلى أعلى وقد امتألت بنظ رات الحقد والش
وحين يجيء القحط ال ي ترك بيتًا دون أن يدخل ه ,وال ي ترك إنس ا ًنا إالَّ ُ
ويخلّف في قلبه أو في جس ده أث ًرا.
الم ْحل
وإ ذا ك ان المس ّنون قد تع ودوا ,منذ ف ترة طويل ة ,لف رط ما م َّر بهم من أي ام قاس ية ,على س نوات ُ
وعض ة الج وع ,وك انت المخ اوف تمأل قل وبهم حين يف ّك رون فيه ا ,ف الكثيرون غ يرهم ال يق درون على
ّ
جانب ا ,بإص رار ق وي أول األم ر,
مواجهتها بالتصميم نفسه ,ألن الكمي ات القليلة من الحب وب ال تي توضع ً
ف المج رى. زادا في أي ام الج وع ال تلبث أن تتس ّرب أو تختفي ,كما يتس ّرب م اء النبع أو كما يج ّ
لتك ون ً
وتب دأ بعد ذلك مح اوالت البحث المض ني عن خ بز الي وم ,وخالل ه ذا البحث ت تراكم األح زان والمخ اوف
مرعبا تظهر آثاره في وجوه الصغار ,وفي سهوم الرجال وشتائمهم ,وفي الدموع الص غيرة
ً شبحا
لتصبح ً
ال تي تتس اقط من عي ون النس وة دون أس باب واض حة! َّإنه القحط م رة أخ رى .وها هو ذا يس وق أمامه
أشياء ال حصر لها ,وال يعرف أحد كيف تتجمع هذه األشياء وكيف تأتي .فالفالحون ال ذين ك انوا يحمل ون
س الل ال بيض وي نزلون بها إلى أط راف المدينة ,ويتج رأون بعض األحي ان ويص لون إلى وسط األس واق
المليئة بالبشر ,والرع اة ال ذين ك انوا يأخ ذون أجر س نة كاملة بض عة خ راف ,وك انوا يس وقونها في بداية
لتوه ا ,لكي يبيعوها
فصل الربيع ,ومعها الحمالن الص غيرة ,وك انوا يض عونها على ص دورهم ألنها ول دت ّ
في المدين ة ,ثم أولئك الباعة الم اكرون ال ذين يحمل ون على دوابهم العنب وال تين والتف اح ,ويحمل ون
موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة ال تي تع ّودوا اس تعمالها أوزا ًن ا ,ويب الغون أول األمر في
األسعار التي يطلبونها إن كل هؤالء إذا ج اءوا في مواسم القحط يج يئون بهيئ ات مختلفة ش ديدة الغراب ة:
أما أص واتهم القوية الص اخبة
ك انت مالبس هم ممزقة وغريبة األل وان ,وعي ونهم مليئة ب الحزن والخ وفَّ ,
فكانت تنزلق إلى الداخل ,وبدالً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة ,حتى إنهم كانوا يض طرون
يوجهها لهم أص حاب ال دكاكين في
إلى إع ادة ما يقول ون بضع م رات ,بن اء على األس ئلة الفظة ال تي ّ
المدينة ,والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤالء الناس قدر ما ينظرون إلى األيدي أو إلى تلك الصرر
الص غيرة المربوطة بإحك ام في أط راف المالبس ال تي يض عونها على أجس ادهم أو على رؤوس هم .ك ان
ه ؤالء إذا ج اءوا في مثل ه ذه الس نين ال ي بيعون ال بيض والفاكهة والزيت ون والخ راف ,وإ نما يح اولون
ش راء أقصى ما تس مح به نق ودهم القليلة من ال دقيق والس كر .ح تى الرع اة ال ذين ك انوا ش ديدي ال نزق
يفض لون الع ودة م رة أخ رى ومعهم دوابهم,
ويبالغون في المقابل الذي يطالبون به ثم ًنا للخ راف ,وك انوا ّ
2
دون ش عور باألسف ألنهم لم ي بيعوا ولم يش تروا ح تى ه ؤالء يتحول ون في مثل ه ذه الس نة إلى رج ال
متوسلين ,ألنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المس ّنة ,إذ أص بحوا يخ افون خوفًا حقيقيًّا
ّ مترددين
ّ
أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش.
أما الباعة ال ذين تع ّودوا المجيء في كل المواس م ,ح املين من كل موسم ثم اره ,وفي بعض األحي ان
شيئا في هذه المواس م ,وك َّأنهم مجموعة من القنافذ تك ورت
يعد أحد يراهم يحملون ً
للتجول والفرجة ,فلم ُ
وهربت أشياءها إلى باطن األرض!
ّ
ألن العالقة بين المدينة وما يحيط بها هي من الق وة
استغراباَّ ,
ً لو اقتصر األمر على هذه المظاهر لما أثار
يميز بس رعة التغ ير المف اجئ ال ذي أخذ يتك ون ,لكن مع تلك المظ اهر
واالس تمرار بحيث ال يمكن ألحد أن ّ
ك انت أش ياء أخ رى كث يرة تحص ل .فالتج ار ال ذين تع ّودوا على تق ديم الق روض الص غيرة للفالحين,
مليئا بالش روط والتعنت ,ثم ما
واستيفائها أضعافًا مض اعفة في المواس م ,اتخ ذوا موقفًا ,ب داّ ,أول األم رً ,
وا. وا أن امتنع لبث
أسبابا وخص ومات .أما ال ذين اس تمروا في تق ديم بعض المس اعدات ,فقد رفض وا أن
ً تماما ,وافتعلوا لذلك
ً
وأصروا على ش روط جدي دة .أص ُّروا على أن تس ّجل أقس ام كب يرة من
ّ يكون سدادها في المواسم القادمة,
األراضي التي يمتلكها الفالحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم ,وفي محاولة إلثبات حسن النية ق الوا الكلم ات
دائم ا( :ال دنيا حي اة وم وت ,واإلنس ان ال يض من نفسه في الي وم ال ذي يعيش في ه,
ال تي يقولها ال دائنون ً
فكيف يضمن حياة أوالده الصغار بعد موته?) .كانوا ال يكتفون بذلك ,ك انوا يض يفون( :وكما ق ال اهلل ع َّز
اتب بالع دل
وجل في كتابه الك ريم :إذا ت داينتم ب َد ْين إلى أجل مس ًّمى ف اكتبوه و ْليكتُ ْب بينكم ك ٌ
والفالح ون ال ذين ق ابلوا إص رار ه ؤالء ال دائنين بإص رار أق وى ,ورفض وا تس جيل األراض ي ,أول األم ر,
الحلي الذهبية والفض يَّة القديم ة ,وال تي جمعت خالل ف ترات طويلة
ّ اض طر الكث ير منهم إلى اس تخراج
عوض ا من الطحين والس كر وبعض أمت ار من الخ ام .وفي وقت آخر وافق بعض هم على ً سابقة ,وق ّدموها
التن ازل وق ّدم األراضي والبس اتين ال تي طلبها ال دائنون .ومع كل ص فقة جدي دة ك انت أثم ان األرض في
القرى تتراجع ,وكان التجار ي زدادون تص ًلبا وال يوافق ون إالَّ بش روطهم ,وبعد أن تتم جميع اإلج راءات!
أيضا :تأتي األم راض الغامض ة ,وتعقبها الوفي ات .ك ان الكب ار يموت ون من
ومع القحط تأتي أشياء أخرى ً
الح زن ,والص غار تنتفخ بط ونهم وتص يبهم الص فراء ثم يتس اقطون .وإ ذا ك ان الن اس قد تع ّودوا على
الم وت ,ولم يعد يخيفهم كما ك ان األمر في أوق ات أخ رى ,ب رغم أنه يتس بب كل األوق ات في تفج ير آالف
إن حالة أق رب إلى االنتظ ار الي ائس ك انت تح وم ف وق كل بيت وتس بح في دم
األحزان واألحق اد القديم ة ,ف َّ
كل مخل وق .ح تى ال دواب في حواك ير ال بيوت ,أو في أط راف البس اتين ,ك انت تس يطر عليها حالة من
أس. بية والي العص
وفي ه ذي الس نين ,ومع الج وع والم وت ,ت أتي أف واج ال حصر لها من الطي ور .ومثلما ك انت الغي وم
تمر مسرعة ,كذلك ك انت الطي ور .فقد ك انت أفواجها تع بر في كل األوق ات ,ح تى في الليل
الخفيفة العالية ّ
3
ع رفهم من قبل كيف ك ان ه ؤالء الن اس يخزن ون في ص دورهم ه ذا المق دار الهائل من الش تائم واألفك ار
المحرمة! الخاطئة
هكذا كان القسم األكبر من الناس في تلك السنة القاس ية الطويل ة .وإ ذا ك ان لكل قرية ولكل مدينة في ه ذا
الع الم مالمحها وطريقتها في الحي اة ,ولها أس ماؤها ومقابره ا ,وإ ذا ك ان لكل قرية ومدينة مخاتيرها
ومجانينه ا ,ولها نهرها أو نبع الم اء ال ذي تس تقي من ه ,وفيها مواسم األع راس بعد الحص اد ,فقد ك ان
أيض ا حياتها وطريقتها في المع اش ,وك ان لها مقبرتها وأعراس ها ,وك ان في الطيبة مجانينها
للطيبة ً
دائما وال يتذكرهم الناس في كل األوقات ,وإ ن ك ان لهم حض ورهم
أيضا .لكن هؤالء المجانين ال يظهرون ً
ً
كبارا وأقوياء في أوقات معينة ,وك انوا حمقى وش ديدي الغرابة في أوق ات
وجنونهم الخاص ,بحيث كانوا ً
رى. أخ
دائما أعراسها وأحزانها .ك انت األع راس ,في أغلب األحي ان ,بعد الحص اد ,وك انت األح زان
وكان للطيبة ً
إن األح زان
حين ينقطع المطر وتمحل األرض .وإ ذا كانت األعراس تعني بعض الن اس ,ولبعض ال وقت ,ف َّ
وفي سنوات المحل ,تعني جميع الناس ,وتمتد فترة طويلة.
الطيبة مثل أي مك ان في ال دنيا ,لها أش ياؤها ال تي تفخر به ا .قد ال تب دو ه ذه األش ياء خط يرة ,أو ذات
أهمية بالنسبة ألماكن أخ رى ,لكنها بالنس بة للطيبة ج زء من المالمح ال تي تميزها عن غيرها من الض يع
تكونت بفعل الزمن ,وبفعل الطبيعة القاسية ,كما لم يحصل في أم اكن أخ رى .ف إذا
والقرى .وهذه األشياء َّ
الجرس ص لبة
كانت األصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى ,حتى لتبدو أصوات الفالحين عالية ْ
المخارج ,وبعض األحيان س ريعة ,وتتخللها مجموعة من ِ
الح َكم واألمث ال ,كما هي الع ادة ل دى الكث ير من
الفالحين في أنح اء عدي دة من الع الم ,نظ ًرا للع ادة وللمس افات ال تي تفصل الن اس بعض هم عن بعض في
الحقول ,أو حين يضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة ,أو على تلك ال تي ت ذهب بمزاجها الغ ريب إلى
أماكن بعيدة أو مجهولة ,أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض ,وما يحيط بها من الحواكير
والبس اتين الص غيرة ال تي ت زرع فيها أن واع عدي دة من الخض راوات -ف إن ه ذه األس باب ,وغيرها كث ير,
خلقت طبيعة معينة ,وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقة خاصة ,ح تى ليظن َمن يس مع الح ديث وال
يفهم طبيعة الناس أو عالقاتهمَّ ,أنهم يتعاركون ,أو أن الخالف بينهم وصل إلى درجة من الحدة ,ال َّ
بد أن
تعقبه أمور أخرى! .
يئا ,خاصة بالنس بة للفالحين أو ال ذين يعرف ون طب ائعهم.
لو اقتصر األمر في الطيبة على ذلك لما ع ني ش ً
تعوده أهل الطيبة ,حيث يلج أون في أك ثر األحي ان
لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي ّ
إلى االس تطراد والت ذكر ,ويس رفون في رواية القصص والت اريخ ,فإنه ل وال ه ذه الص فة لما ظه رت تلك
تميز البشر في ذلك المك ان ,وما يحيط به من ق ًرى
الطبيعة الخاص ة ,ولما ظه رت تلك الخش ية ال تي ّ
أيضا!
وضياع ,وقد تصل إلى المدينة ,أو بعض أطرافها ً
5
كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقة العجيبة التي تجعل األمور ذات أهمية ش ديدة.
خاص ا من الن اس ,وتجعلهم
ًّ نوعا
وهذه الميزة التي يتوارثها األبناء عن اآلباء ,تجعلهم في نظر الكث يرين ً
أكثر من ذلك قادرين على التأثير في اآلخرين ,وربما إقناعهم .وال يمكن تفسير هذا األمر على أنه ض رب
من االحتي ال أو التملُّق ,كما ال يمكن أن ُي َع ّد دليالً على نزعة ش ريرة ,ولكنها الع ادة بتكرارها ال دائم ,ثم
تلك اللي الي الطويل ة ,لي الى الس مر واألح اديث الس ائبة ,ثم التح ديات ,وما تج ّر إلي ه ,ولي الى الص يف أو
شجية وأقرب ما
الشتاء ,في البيادر أو إلى جانب النبع ,وحول المواقد .لقد كانت األحاديث تجري سريعة ّ
تك ون إلى الحلم .وك ان ال ذين ال يحس نون المش اركة في أح اديث من ه ذا الن وع ,ال يلبث ون أن يص بحوا
رددون القصص ال تي بش ًرا مختلفين إذا ُوج دوا بين أن اس آخ رين ,عندئذ يب دأون بإع ادة ما س معوا وي ّ
رويت في الطيبة ,ثم يضيفون إليها ما شاؤوا من الخيال ,فتبدو َّ
وكأنها أقرب إلى الذكاء والمه ارة ,فتث ير
من اإلعجاب بمقدار ما تثير من الحسد.
غيرا ,يع رف كيف يس مع ,وإ ن ك ان الص غار ,بش كل خ اص ,أك ثر ق درة على
كبيرا كان أم ص ً
وابن الطيبةً ,
اإلص غاء ,ولربما ردَّدوا فيما بينهم أو في أنفس هم ,ما س معوا م رات كث يرة ,ح تى تترسخ في ال ذاكرة
األش ياء فال تض يع وال تنس ى ,يض اف إليها أفك ار وأمث ال تَ ِرد عفو اللحظة وتمليها الظ روف
الطارئة ال تي يواجهونه اَّ .إنهم يلج أون إلى ذلك كله لكي تب دو أح اديثهم أك ثر تش ويقًا وأك ثر أهمية!
والطيبة ال تي تعتمد على المطر والزراعة ,وعلى ذلك الش ريط الض يق من األرض ال ذي ترويه العين,
الم ْحل .وإ ذا كانت تس تعد ل ذلك بح رص ش ديد ,بتربية بق رة
دائما أن تأتي سنوات ُ
تحس في أعماقها خوفًا ً
ّ
فإنها في س نوات المحل ال تس تطيع أن تطعم أو اثن تين في كل بيت ,وبتربية ع دد من رؤوس الغنمَّ ,
أبناءه ا ,ول ذلك تس رف فيما تعطي للرع اة ,وتح اول أن تتخلص من ال دواب الباقية ب ذبحها أو بيعه ا.
إن ُرعاتها من البراعة بحيث يحس دهم
وبرغم أن ع دد الرع اة في الطيبة أقل بكث ير من الق رى األخ رى ,ف َّ
الكث يرون ,ف الراعي ال ذي يس رح بغنم عش رة بي وت ,ويع رف كيف يتص رف في كل الفص ول ,وإ لى أين
ي ذهب -ه ذا ال راعي ,ب رغم غيابه الطويل في الفالة ,يظهر فج أة في س نوات المح ل ,ويمتلك دالّة على
أما المزايا
أص حاب الغنم الس ابقين ,بحيث ين ام ويق وم في أي بيت يريد دون ش عور ب الحرج أو ال تردُّدَّ .
الخفية ال تي يمتلكها الرع اة وال تظهر للن اس في المواسم الجي دة فال تلبث أن تظهر في س نوات القح ط.
ويتحول قسم منهم إلى الصيد ,لكن العادات ال تي اكتس بوها في ال رعي ال
ّ فهم يرابطون في مداخل القرية,
تف ارقهم .وأهل الطيبة ال ذين يمت ازون بق درة خارقة على الح ديث ,ي دركون أن الرع اة فق دوا ه ذه الم يزة
لك ثرة ما عاش وا مع الحيوان ات في ال براري ,لكنهم يعرف ون كيف يس تطيع ه ؤالء أن يتج اوزوا الص مت
أيض ا كيف يس تعملون تلك اآلالت الخش بية,
يرددونها في الفالة ,ويعرف ون ً
بتلك األغ اني العجيبة ال تي ّ
أيضا.
والتي ال يحسن استعمالها غيرهم ,في مواسم األعراس والحصاد ,وربما في حاالت الحزن ً
ُناس ا ال
به ذه الطريق ة ,وبمعرفة األم اكن ال تي تعيش فيها الحيوان ات ,يص بح الرع اة في مواسم الجف اف أ ً
غ نى عنهم ,لكنهم في أغلب األحي ان ال يتقن ون الص يد ,وليست بينهم وبين الص يادين م ودة .فهم ال
6
يرا من
يحب المس نون أن يس ّموها ,ويحت الون كث ً
يتخل ون عن الغن اء أو عن تلك اآلالت الش يطانية ,كما ّ
أجل إب داء ب راعتهم في كل األوق ات ,خاصة إذا تجمع الن اس ,وك انت هن اك ض رورة من ن وع ما!
الطيبة بداية الص حراء .من ناحية الش رق البس اتين والنبع والس وق بعد ذل ك ,وعند األف ق ,تب دأ سلس لة
الجب ال .ومن ناحية الش مال والغ رب تمتد س هول فس يحة ,يتخلّلها بين مس افة وأخ رى بعض الهض اب.
وهذه السهول تزرع بأنواع كثيرة من الحبوب .كانت تزرع بالحنطة والشعير والكرسنة والبرس يم وبعض
قريبا من األش جار المثم رة .أما
أصناف البق ول ,وفي األم اكن القريبة من البل دة ترتفع مس اكب الخض رةً ,
ذراعا بعد آخر تدريجيا ,وتخالطها الحج ارة الكلس ية ,وتب دأ تُ ِ
قفر ّ من ناحية الجنوب فكانت األرض تشحب
ً
حتى تتحول في بداية األفق إلى كثبان رملية ,وبعد ذلك تبدأ الصحراء.
في المواسم الجي دة تخض ّر الطيبة وتعبق من كل جهاتها ,وتمتلئ ب الورد والنبات ات العجيبة األل وان
واألش كال في بداية الربي ع .ح تى الجهة الجنوبية ال تي تب دو في أواخر الص يف متجهمة قاس ية ,ال يع رف
اإلنس ان وال يس تطيع أن يفسر كيف ك انت ق ادرة على أن تق ذف من جوفها كل ه ذه الكن وز ,وكيف ك انت
أفواجا اللتق اط الثم ار العجيبة المخب وءة في بطن األرض,
ً تشد أهل الطيبة في بداية الربيع لكي ي ذهبوا
وما يخالط ذلك المهرج ان من ال ذكريات عن أي ام ك انت فيها الحي اة أك ثر روعة وخص ًبا .إن ه ذه البل دة
تتصف بمزايا وصفات ليست متاحة لكثير من القرى المجاورة .حتى الرعاة األغراب الذين كانوا يحلم ون
يرا من م راعي الطيب ة ,وال يتج اوزون ح دًّا
بالوصول إلى المراعي الخصبة ,ال يجرؤون على االقتراب كث ً
معي ًنا ,ألنهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدة ,وما قد يرتكبونه من حماق ات إن اعت دى
غريب على رزقهم أو حياتهم.
أيضا ال ذين عاش روا أهله ا .وإ ذا ك انت
هذه األمور يعرفها ويتصف بها كل من عاش في الطيبة ,ويعرفها ً
بعض الق رى ق ادرة على أن تق ذف من جوفها أبن اء كث يرين ,وت رميهم في أنح اء األرض كله ا ,وتفقد بعد
يرا ,ألنها تولّد في نف وس أبنائها حني ًنا من ن وع ال ينس ى .وح تىفإن الطيبة تختلف كث ً
ذلك كل صلة بهمَّ ,
رددون دون انقط اع اسم الطيب ة ,ويحن ون إلى أيامها الماض ية, يرا ,ك انوا ي ّ
ال ذين س افروا وابتع دوا كث ً
ويتمن ون لو ع ادوا إليها ذات ي وم ليعيش وا ما تبقَّى لهم من العم ر .وال ذين ال ي ذهب بهم التفك ير والخي ال
أياما جميلة ,ويت ذ ّكرون كل
هذا المذهب ,كانوا يف ّكرون في العودة إليها بين فترة وأخرى ,وهناك يقضون ً
ما حصل في س نوات س ابقة ,ويم رون على كل ال بيوت ,ويجلس ون في مقهى الس وق ومقهى النب ع,
ويعب ون اله واء بق وة وش هوة لعله يمنحهم ق وة تم ّكنهم من مواجهة األي ام المقبلة واالس تمرار في الحي اة
ّ
الجديدة التي بدأوا يحيونها في أماكن أخرى!
إن األي ام القاس ية يص بح
وإ ذا كان الناس يفضلون ,في بعض األوقات ,تذ ّكر األيام الجميلة من الماض ي ,ف َّ
لها جم ال من ن وع خ اص .ح تى الص عوبات ال تي عاش وها تتح ول في ال ذاكرة إلى بطولة غامض ة ,وال
يصدقون أنهم احتملوا ذلك كله واستمروا بعد ذلك!
7
ه ذا الوف اء ال ذي يك ّنه أهل الطيبة لبل دتهم ال يقتصر على ش يء دون غ يره ,وال يقتصر على المقيمين
طلبا للرزق أو الدراسة ,وعاشوا في أماكن بعيدة ,ال يكتفون بأن يرس لوا الطحين
وحدهم ,فالذين سافروا ً
والس كر والرس ائل وبعض الحاج ات األخ رى إلى البل دة .إنهم ي أتون لقض اء وقت غ ير قص ير في الطيبة
أيضا ,خاصة بعد أن يعجزوا عن إقناع أقربائهم بالسفر إليهم.
ً
ألما عميقً ا ,وتولد في النف وس أحزا ًنا ال
ص حيح أن ه ذه الف ترات ال تي يقض ونها في الطيبة تس ّبب لهم ً
تشح وتكاد تنقطع من النب ع ,وي رون المج رى وقد
يعرفون كيف يكتمونها ,خاصة حين يرون المياه وهي ّ
َّ
جف ,ثم يتملكهم شعور باالختناق حين يسمعون أصوات الفؤوس وهي تهوي على األش جار الجاف ة .ف إذا
إن
أض يفت إلى ذلك أخب ار ال ذين رحل وا وغيَّبتهم األرض من األص دقاء واألقرب اء ,الص غار والكب ار ,ف َّ
جديدا .يبدأ القادمون ,برغم صغر س نهم ,يلوم ون
ً يتحول إلى حالة عصبية ,ويأخذ الحديث مجرى
الحزن ّ
الكبار ,ويوجهون لهم كلمات التقريع:
-قلنا لكم مئ ات الم رات :ه ذه األرض ال تطعم ح تى الج رذان ,وأنتم ,هن ا ,تتش بثون بهاَّ ,
وكأنها الجن ة.
اتركوها ,ارحلوا إلى المدينة ,هناك يمكن أن تجدوا حياة أفضل من هذه الحياة التي تعيشونها ألف م رة!
وحين يصمت المقيمون ,خاصة من المس ّنين ,ويتطلّع ون بح زن إلى وج وه ال ذين يتكلم ون ,ي تراءى لهم,
للحظ ات ,أنهم لم ي روا ه ذه الوج وه ,ولم يعرفوها من قب ل .وي تراءى لهم في لحظ ات أخ رى أن الكلم ات
تماما وجعلتهم يتكلمون مثل هذا الكالم .وتمتد
التي يسمعونها قالها أناس غيرهم ,أو أن المدينة أفسدتهم ً
في أذهان المسنين صور ال نهاية لها ,صور الطيبة في كل الفترات ,حين كان العشب ينبت على الصخور
أنفاس ا
ً ويعب ون
وعلى س طوح المن ازل ,وحين ك انت الين ابيع تتفجر من كل مك ان ,ك انوا يت ذكرون ذلك ّ
أيض ا من عميقة َّ
وكأنهم يتنفسون رائحة الخص وبة تتولد من كل الكائن ات ,ليس من البشر وح دهم ,وإ نما ً
فيتحرك اللعاب
ّ الحيوانات والجماد .يتذكرون كل شيء ,ويتذكرون أكثر مذاق األطعمة التي كانوا يأكلونها
في أفواههم!
تقروا في المدينة البعي دة ,ال يعن ون ما
وب رغم أن األبن اء ال ذين هج روا الطيبة منذ وقت طوي ل ,واس ّ
يرا ما تتك رر ,تحملهم على أن يقول وا كل
فإن تلك الص عوبات ال تي كث ً
تماما ,أو ال يقصدون إليهَّ ,
يقولونه ً
إن ه ؤالء في م واطنهم
ش يء ,وتحملهم أك ثر على أن يفك روا به ذه الطريق ة .ومع ذل ك ,وب الرغم من ه ,ف َّ
الجدي دة ال يكفّ ون عن ذكر الطيب ة ,والح ديث عن مزايا موهومة ال تتمتع بها أي بل دة أخ رى في المنطقة
إن تعلقهم بالطيبة ي دفعهم في ح االت كث يرة ,وفي لحظ ات
كلها .كان ه ؤالء األبن اء ال يكتف ون بالح ديث ,ف َّ
الش وق الم ِّ
ذكرة ,ألن يفعل وا أش ياء ال حصر لها وال تخطر بب ال :ك انوا يقيم ون أف راحهم في الطيب ة,
يج ّددون ه ذه األف راح في الطيب ة ,يبعث ون أبن اءهم خالل فص ول الص يف ,لكي يعيش وا مثلما عاش وا حين
غارا .وحين تأخ ذهم النش وة ي دعون أص دقاءهم لقض اء بض عة أي ام في ه ذه البقعة الرائع ة( :في
ك انوا ص ً
الطيبة السماء قريبة ,شديدة الص فاء ,واللي الي هن اك مليئة بنش وة ال تج دونها في أي مك ان آخر من ه ذا
الع الم .أما الفواك ه ,أما األلب ان ,كالجبنة حين تك ون طازج ة ,والزب دة حين تقط ف ,وال دجاج والخ راف
8
الصغيرة وهي تشوى على نار الحطب ...أما هذه األشياء وأخرى وغيرها في الطيبة ,فال يمكن أن يكون
فالح َجل واألرانب ,وحتى الحيوان ات المتوحشة ال تي انقرضت في لها مثيل .ثم هناك الصيد .الصيد وفيرَ ,
معظم البق اع ,يمكن أن توجد في بعض األودية العميقة المحيطة بالطيب ة .والين ابيع الغزي رة ,إن الين ابيع,
تتفجر من ش قوق األرض ,وتت دفّق من تحت كل ص خرة .ومي اه ه ذه
إذا ك انت أمط ار تلك الس نة وف يرةّ ,
الينابيع باردة نقية ,حتى
إن اإلنسان ال يشبع حين يشرب من تلك المياه) .هكذا كانت األحاديث تج ري .أما إذا ج اءت فاكهة الطيبة
أبدا من تقليبها والنظر إليها .ك انوا يفض لون
إلى المدينة ,في سالل صغيرة ,فكان هؤالء األبناء ال يملّون ً
يرا ما
يقدموها إلى ضيوفهم ,وأن يتحدثوا عنها .أما إذا جرى الحديث عن أجبان المدينة وألبانها ,فكث ًأن ّ
ك انت وج وه ه ؤالء األبن اء تتغ ير ,تم رق مثل ومض ات خاطفة مظ اهر الق رف وال ذكرى في وقت واح د,
شيئا من الطع ام غ ير ذاك ال ذي ي أتي من الطيبة!
يتذوقوا ً
ويتصورون للحظات أنهم غير قادرين على أن ّ
أشياء كثيرة تتولّد في النفوس ,في نفوس المقيمين والراحلين ,وهذه األشياء من الت داخل والتعقيد بحيث
ال يستطيع أحد أن يفسرها.
يئا يج ذب اإلنس انصحيح أن الطيبة ,مثل أماكن أخرى كثيرة ,ش حيحة األرض ,قليلة المي اه ,لكن فيها ش ً
محكما .وإ ذا بدأ المس ّنون الحديث ,في السهرات الطويلة خالل الص يف ,ف َّإنهم يتح دثون
ً شدا
ويشده إليها ّ
ّ
كثيرا لهؤالء الذين أتوا من المدينة( .قبل سنين كث يرة ك انت الجب ال المحيطة بالطيبة خض راء
بلغة تروق ً
مثل البس اتين ,لكن األت راك ,وهم يبن ون س كة الحدي د ,ثم وهم يس ّيرون القط ارات ,لم ي تركوا ش جرة إالَّ
يهمهم من أين .واألش جار ال تي لم يس تطيعوا الوص ول إليه ا ,ال تي
وقطعوها .ك انوا يري دون أخش ًابا ,وال ّ
ك انت في المعاصي وفي قمم الجب ال ,أحرقوها وهم يرحل ون .أما الجب ال ال تي ترونها عارية اآلن من
صغارا .كان الفارس يضيع في الغابات الكثيفة
ً المدينة البعيدة وحتى الطيبة ,فقد رأيناها خضراء حين كنا
هول القريبة من الطيبة). تي تمأل الس ال
صورا ال نهاية له ا ,وأبن اء الطيبة ال ذين س معوها م رات كث يرة ,ك ان
ً مثل هذه األحاديث توقد في األذهان
يروق لهم أن يدفعوا المسنين الستعادتها مرات ومرات ,خاصة وهم يستقبلون ض يوفًا من المدين ة .ك انوا
يري دون ,بطريقة غامض ة ,أن يثبت وا م يزة خاصة لبل دتهم .وه ذه الم يزة ,وإ ن ك انت ال تظهر بالوض وح
الذي يشتهون في الوقت الحاضرَّ ,
فإنها تكمن في مكان ما ,وال َّ
بد أن تظه ر .ويض يفون بمكر وغم وض:
(ليس هناك أفضل من أن يقضي اإلنسان أيامه األخيرة في هذه البلدة المبارك ة) .وب المكر نفس ه ,ي دفعون
يتحدثوا عن األعمار .وهذا الحديث الذي يروق لبعض الرجال ,ك ان ي زعج النس اء وي دفعهن
المس ّنين ألن ّ
إلى المقاطع ة ,وبعض األحي ان إلى االس تفزاز ,لكن ال يك اد الح ديث يأخذ مج رى ج ّديًّا م رة أخ رى ,ح تى
يتحدث المس ّنون عن نقاوة اله واء وعذوبة الم اء ,ويتح دثوا عن فوائد الن وم المبكر واليقظة المبك رة ,ثم
نوع األكل الذي يأكلونه ,ويعزون األمراض الجدي دة والم وت المبكر والمف اجئ ,ال ذي ي داهم المدين ة ,إلى
معوا بها من قبل! باب لم يألفوها ولم يس مجموعة من األس
9
وأحاديث السهر تبدأ دون منطق وبال نظام ,وقد يتخللها بعض األلعاب البريئة .وتلك األم ور تج ري عف ًوا
للحظ ة ,وبال تخطيط س ابق .ومهما تش ّعبت وتباع دت ,ومثلما ب دأت بالغاب ات واألش جار والين ابيع ,فال ب َّد
أيض ا عن أي ام القحط والص عوبات ال تي عاش تها الطيبة خالل تلك الس نين .وإ ذا ك انت
أن يج ري الح ديث ً
الل ذة واألي ام الرائعة المليئة بالخصب تح ّرك المش اعر ,ف إن المص اعب ال تي عاش ها البشر وتغلب وا عليها
تحرك مشاعر أخرى ,مشاعر تزخر بالقوة وبعظمة من نوع خاص ,ح تى أبن اء الطيبة ال ذين س معوا ه ذه
األح اديث م رات كث يرة ,يل ّذ لهم أن يس معوها من جديد ,وفي كل م رة تب دو لهم جدي دة مليئة بالبطولة
يرا ما ك ان ي أتي في
والعبر( :كنا نأكل األعشاب وجذور النباتات .كنا نأكل الجرابيع .حتى الج راد ال ذي كث ً
س نوات المحل ,أو ال ذي يس ّبب المح ل ,كنا نأكل ه .ص حيح أن الحي اة آن ذاك ك انت في منتهى القس وة
والصعوبة ,لكن الرجال في تلك األيام كانوا رجاالً ,كانوا أقوي اء وق ادرين على االحتم ال والص بر ,وك انوا
ق ادرين على أن ي أكلوا الص خر .أما رج ال ه ذه األي ام .)...ويبتسم بعض المس ّنين ,ويت ذكر اآلخ رون.
وينظ رون بعض هم في وج وه بعض ,وبعض هم في وج وه أبن ائهم ,ثم في وج وه الض يوف!
هذا جزء مما تعنيه الطيبة في ذاكرة أبنائها .أما إذا ج اء القحط فال يبقي أحد من أهل الطيب ة ,س واء ك ان
يعيش فيها أو ك ان بعي ًدا عنها ,إالَّ ويحس بم رض من ن وع م ا ,وال يلبث ه ذا الم رض أن يتح ول إلى
يحرض هم لكي يج يئوا أو يبعث وا
ه اجس ثم إلى ك ابوس .وب رغم أن األبن اء البعي دين ال يحت اجون إلى َمن ّ
إن ه ذه المس اعدات ال تق وي على مواجهة الك رب والوق وف في وجه
إلى البل دة بكل ما يس تطيعون ,ف َّ
المص ائب ال تي تت والى بس رعة .فحين يب دأ النبع ي تراخى والس اقية تض مر ,ثم تجف في نهايته ا ,يص بح
لتوها وب دأت تتخلى عن قش رتها .وفي ه ذه األوق ات تب دأ األش جار بال ذبول ,ثم
حية م اتت ّ
المج رى مثل ّ
الجف اف .ك انت أش جار المش مش أولى األش جار ال تي تم وت ,ثم تب دأ بعد ذلك األش جار األخ رى .وتب ور
مواسم الج وز والزيت ون ,وتص بح الطيبة كالحة قبيح ة ,ويغلب عليها ل ون الص فرة .ومن ناحية الجن وب,
تهب لتغطي كل ش يء,
ب دل الفقع والكم اء والحميض واألن واع الكث يرة من الفط ر ,تب دأ عواصف الرم ال ّ
وتخيم على سماء الطيبة موجة من الغبار الممرض ,وتتكاثر أفواج الذباب والغربان على الفطائس وعلى
ّ
دوي مكتوم ينذر بشؤم ما .وفي هذه السنين ال َّ
بد أن يموت عدد كب ير وتتحول األصوات إلى ّ
َّ بقايا البراز,
يرون! ّدرها الكث ياء لم يق َّد أن تحصل أش اس .وال ب من الن
ال تقتصر ه ذه الحالة على البش ر ,إذ تمتد إلى الحيوان ات والطي ور ,فالحيوان ات ال تي ك انت تمأل منطقة
زءا من نهاراتها في س كينة أق رب إلى الدعة
شاسعة ح ول الطيبة وتس رح بال مب االة ورخ اوة ,وتقضي ج ً
من الش بع واالمتالء ,ال تلبث أن تتح ول إلى حيوان ات نزقة ش ديدة الجفلة كث يرة الحرك ة ,بحثًا عن ش يء
تأكل ه ,ثم تتح ّول إلى الشراسة والعن اد ,فتب دو هائج ة ,ويمكن أن تتص رف بجم وح يصل درجة األذى.
وأخيرا يضربها الهزال والمرض ,وفي هذه الحالة يتراكض أص حابها بعص بية لكي يتخلص وا منها بال ذبح
ً
بيع. أو ال
أما الطي ور ال تي تع بر س ماوات كث يرة متجهة إلى حيث تجد رزقها ,فقد ك انت تع بر س ماء الطيبة بس رعة
10
يقلبونها ليتأك دوا من كمية اللحم فيها فك انوا يقول ون بص وت ع ال - :ض عيفة ..نعم إنها أض عف من أي
ابقة! نة س س
ولكي يتأكدوا من أن ما يقولونه هو الحقيقة ,كانوا يقلّبونها مرة أخرى ,ويش ّدون على ص دورها .وبه ذه
أما
ويحسون برغبة مغريةَّ .
ّ الحركات اإلضافية ,وبضغط األصابع على اللحم الطري ,كانت مواقفهم تتغير
تردد ي تراجع مع كل رقم جدي د ,لكن دون إعالن ,ودون كلم ات ,ويك ون كل
حين يب دأون بع ّدها فك ان ال ّ
دأ اللعبة! رارا داخليًّا أن يب
ً واحد منهم قد اتخذ ق
نوعا من الفتنة أو الجن ون ,وال يليق بالرج ال في
والمس ّنون ال ذين ص رخوا بغض ب ,وع دُّوا ه ذا اله وس ً
ريعا وبش كل عل ني ,لكن
مثل ه ذه المحنة القاس ية ,ما لبث وا أن تراجع وا .ص حيح أنهم لم يفعل وا ذلك س ً
طابعا ّلي ًنا أق رب إلى النصح:
يوما بعد آخ ر ,وب دأت كلم اتهم تأخذ ً
اعتراض اتهم ب دأت تقل وت تراجع ً
-اذهبوا إلى المدينة واعملوا هن اك .أما أن تنتش روا في ه ذه األرض الغ براء ,وأن تتش ردوا بين الجب ال
إن ذلك مض يعة لل وقت.
والص حراء ,من أجل طي ور جائع ة ,وليس فيها س وى العصب وال ريش ,ف َّ
يهز الش باب رؤوس هم إش ارة إلى أنهم س معوا ما قاله المس ّنون ,دون أن تع ني اإلش ارة موافقة أو
وحين ّ
يف: ّنين يض ان بعض المس ا ,ك رفض
ً
دة! رة واح ائب َّ
فإنها تجيء م اءت المص -إذا ج
يهيئ ون الخرط وش ,ينظّف ون
وتستمر اللعبة تكبر ,ويستمر الشباب في ترتيب لوازم الص يد للي وم الت اليّ :
ّ
قطعا من القماش الملون الملئ بالثقوب الستدراج الطيور واالحتيال عليها .وحين ي رى
البنادق ,يصنعون ً
إصرارا ال يتزعزع ,كانت لهجة الكثيرين تص بح أك ثر حن ًّوا وخوفًا:
ً المس ّنون ذلك ,ويجدون لدى الشباب
ذروا! ابس ,يجب أن تح ارود يأكل األخضر والي ذا الب -ه
ويرقب المس ّنون بعناية الطريقة ال تي ُيص نع بها الخرط وش ليتأ ّك دوا من أن الش باب يفعل ون ذلك دون ما
اع: رر بال انقط دة تتك انت كلمة وحي إذا َّ
تأكدوا ك إ .ف خط
اف! ير عس ون الكب -كل البالء من المجن
غارا ,هو نفسه عس اف ال ذي يب دو
اء ورج االً ,كب ًارا وص ً
عساف الرجل ال ذي يعرفه أهل الطيبة كلهم ,نس ً
ّ
راه أو يجلس معه أحد. ع ,وقلما ي بة للجمي والً بالنس ا ومجه غامض
ً
بين األربعين والخمسين ,طويل مع انحناءة صغيرة ,ض امر لكنه ق وي البنية ,أع زب ألس باب يختلف فيها
يرا .قيل إنه ك ان يريد ابنة عم ه ,لكن أباها رفض (ألن عس افًا بال عمل وال يس تطيع أن يع ول
الن اس كث ً
زوج وج اءه أوالد)? وقيل إن الفت اة رفضت وه دَّدت أن تح رق نفس ها إن هم أجبروهانفس ه ,فكيف إذا ت َّ
على ال زواج ب ه ,وتعللت بغرابة الطبع والقس وة .وحين س ئلت أمه ا ,في وقت مت أخر ,أب دت اس تنكارها
الش ديد ,وق الت إن ح ذاء ابنتها يع ادل رأس ه ذا المتش رد ال ذي يعيش في ال براري والمغ ارات ,ووص فته
أيضا .ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير .إن هذه القضية التي شغلت
بالمجنون ً
الطيبة وقتًا ما انتهت بص مت وه دوء ,ولم تعد تش غل أح ًدا .أما ما خلّفته من نت ائج فاسم جديد لعس اف:
12
اهتماما بهذا األمر ,تح َّول ل ديهم ه ذا االهتم ام مع األي ام إلى ن وع
ً أبو ليلى .وبعض الذين استمروا يبدون
من الطرافة والسخرية ,خاصة وأن عسافًا يرفض اإلجابة عن أي سؤال له عالقة بهذا الموضوع .وهكذا
غريبا!
ً تعود الناس أن يكون عساف بهذا الشكل ,ولو ظهر بشكل آخر لبدا
َّ
فسر األمر بالخوف .فالذين قالوا إنه سرق الكلب ,كانوا متأك دين من ذلك أك ثر من ذي قب ل,
الصيد .وقد ّ
أما الذين قالوا
ألن األمر لو كان له سبب آخر لما خشي عساف الخروج إلى الصيد واصطحاب كلبه معهَّ .
إن عسافًا وجده ,فقد كانوا على يقين أن الكلب س يعود إلى أص حابه حالما يخ رج من ال دار ويص بح ح ًّرا,
شيئا لو ه رب الكلب وع اد إلى أص حابه! أما الحقيقة فهي أن عس افًا ال يثق
ولن يستطيع عساف أن يفعل ً
إالَّ بما يفعل ه ,وال يتأكد إالَّ إذا فعل الش يء بنفس ه ,ول ذلك ,وبعد أن رافق ص يادين ج اءوا إلى الطيبة من
مك ان بعي د ,ونتيجة للجهد ال ذي بذله معهم ,وألنه دلّهم على أم اكن مناس بة للحج ل ,ثم تن ازل لهم عن
الطيور الخمسة التي اص طادها ,أعط وه ذلك الكلب .لكن عس افًا لم يكن واثقًا ب الكلب ثقة كافية ,وقد أجهد
يدربه ,فأثار بذلك سخرية أهل الطيبة .ومن جملة ما فعله عساف في هذه الفترة,نفسه لفترة طويلة لكي ّ
إضافة إلى المدة التي قضاها في البيت ,أنه ربط الكلب بحبل وبدأ يتجول به في األماكن القريبة ,واشترى
له كمية من (الح امض حل و) ,وح اول أن يعلمه ع ادات جدي دة .والن اس ال ذين رأوه يج ّر الكلب بالحبل
رة: خرية مري دوا س ويالً وأب حكوا ط ض
يد! ون يربط كلب الص روا ..المجن -انظ
اعد َمن! لمن ,أو َمن يس
يد َ دري َمن يص -ال أحد ي
لم يكتف وا ب ذلك وإ نما انض موا إلى ال ذين اتهم وه بس رقة الكلب ,ولو لم يكن األمر ك ذلك لما فعل ما يفعله
اآلن!
تماما.
بهه ً روا إنه يش دة .انظ دتهما أُم واح الق! ربما ول بحان الخ -س
إن ذلك كله من تاريخ الطيبة األقرب إلى النسيان .فبعد أن أصبح عس اف والكلب متالزمين ,ب دت ص ورتا
بها قويًّا بين عس اف والكلب ,من حيث ض خامة االثنين واح دة ,وتج رأ بعض الخبث اء ,وق الوا إن هن اك ش ً
األنف وك بر األذنين ,ومن الص وت المكت وم األق رب إلى الغرغ رة .ط بيعي لم يس تطع أحد أن يق ول ه ذا
عس افا ,وال أحد ينظر إليه إالَّ
الكالم مباش رة لعس اف ,أو في أثن اء وج وده ,لكن أح ًدا ال يس ِّمي الكلب إالَّ َّ
رة! تلك النظ
إن الطيبة مثل كل الق رى والبل دان األخ رى ال تي تش بهها ,من حيث القس وة والس خرية ورغبة التن در
أيض ا ,خاصة إذا ك ان ه ؤالء مثل عس اف .إذ ما يك اد يظهر
واختالق بعض األكاذيب ,وفي اغتياب الن اس ً
في غبش الص باح األول وي راه أحد ح تى يمتلئ وجه َمن ي راه بابتس امة أق رب إلى الس خرية ,ويس أله تلك
أما إذا ط الت الس هرات وامتألت
األس ئلة عن الص يد والكلب ,وعن العج ائب ال تي يراها في البري ة! َّ
اخرا:
ً يئا س
ً ول ش برع أحد ويق َّد أن يت اديث ,فال ب باألح
ره! افًا يحمل الكلب على ظه وم عس -رأيت الي
حكة تمأل حلقه: ول آخر والض ويق
-رأيت الي وم عس افًا الحقيقي يحمل البندقية ويص يد ..وال ب َّد أن يك ون هو الص ياد وليس ه ذا الك ذوب.
الث: ول ث ويق
15
-أطلق عس اف الن ار على ديك حجل فلم يص به ,وأص اب الكلب ,ول ذلك فهو كلب أع ور!
عما يجاورها ,إذ ال ب َّد
شيئا ما حصل في وقت من األوقات ,لكن طريقة الطيبة في نقل األخبار تختلف َّ
إن ً
أن يكون في أي قصة يرويها أحد من أهل الطيبة مقدار من الص حة .فعين الكلب المطف أة ك انت هك ذا منذ
الي وم األول ال ذي وصل الكلب إلى الطيب ة .وإ ذا ك ان عس اف قبله هك ذا ولم يس أل كيف ع ورت عينه أو
يئا .أما الطيبة ف روت ذلك على أنه وقع
متى ,فقد قال ذات يوم إن ذلك ربما وقع في الصيد ,ولم يضف ش ً
لعس اف ,ومع ذلك الكلب .وإ ذا ك ان عس اف اض طر إلى حمل الكلب ذات م رة ,فقد فعل ذلك بعد معركة
مريرة بين كلبه وذئب ,وكاد عساف ذاته يموت خالل تلك المعركة .أما الكلب ف ُنهش في أكثر من موضع,
ولو تُ رك لم ات! أما ح ديث البندقية ال تي ي زعم بعض أهل الطيبة أنه رأى الكلب يحملها ويص يد بها فال
ألن الكلب ,وبعد ت دريب طوي ل ,ك ان يس اعد في حمل قسم من
أس اس له البت ة ,وإ نما هو وهم وحس د; َّ
نانه! أن يحمل دي ًكا من الحجل بين أس يد ,ك الص
كثيرا أي ام
والطيبة التي تحب الفكاهة والسخرية ,مثل غيرها من القرى ,في أوقات الراحة والفرح ,تتغير ً
الم ْح ل .تص بح بل دة أق رب إلى الس واد ,تغطّيها
األح زان ,وتتغ ير أك ثر أي ام تش ّح األمط ار وت أتي س نوات ُ
الظلمة عند الغروب ,وتمتد فوقها موجة من الصمت واألحزان ,وتبدو لياليها طويلة ساكنة ,ع دا أص وات
الكالب المش ّردة الجائع ة ,وطلق ات تائهة في بعض األحي ان .وف وق الطيب ة ,في مثل ه ذه األي ام ,تنتشر
وم! قها ذات ي يز تلك الرائحة إالَّ من عرفها أو ّ
تنش ذرة ,لكن ال يم رائحة ثقيلة من
يرة! ياء كث تتغير أش
ام ّ ذه األي وفي ه
ه ذه الس نة ليست مثل أي س نة س ابقة .هك ذا ب دأت منذ األي ام األولى للش تاء .فلم تهطل األمط ار المبك رة
دادا
التي تنتظرها جميع القرى الواقعة على أط راف البادي ة ,وال تي تبشر بموسم خص ب ,وتحمل معها أع ً
ويق ال إن تلك النبات ات ت نزل من الس ماء مع المط ر .ه ذه الس نة ج اءت
ال حصر لها من النبات ات البري ةُ ,
بري اح ب اردة ش ديدة القس وة ولم تجئ باألمط ار .وأهل الطيبة ال ذين تع ّودوا على اس تقبال مثل ه ذه
وألن أي ام الخ ير أم امهم ال
الش تاءات الب اردة لم يس تغربوا ولم يت برموا ,ألنهم ما زال وا في َّأول الش تاءَّ ,
ت زال كث يرة وطويل ة .لكن المس ّنين ال ذين خ بروا دورات الطبيع ة ,وعرف وا بش ائر الخ ير من ن ذر القح ط,
دخل الخ وف قل وبهم :ك ان خوفًا أق رب إلى الح زن ,وارتفعت في ذاك رتهم أي ام مثل ه ذه األي ام ,ثم ج اءت
أما
يرا ج اء الم وت .ومع ذلك كتم وا مش اعرهم في ص دورهم وص متواَّ .
بع دها المص ائب واألم راض وأخ ً
ًّنا واألقل دراية غر س رون ,األص ال اآلخ الرج
بالمواسم والطبيعة ,فقد نظروا إلى السماء بتساؤل ,وداخلهم الشك فيما يعرفون من أم ور .وحين س ألهم
الصغار إن كان الكماء والفطر والحميض والخبيز وعشرات النبات ات البرية األخ رى ,س تأتي ه ذه الس نة,
يرا ,واكتف وا بإجاب ات غامض ة,
وكأن مثل هذه األسئلة تحمل لهم امتحا ًنا عس ً
َّ نظروا إلى الصغار بارتياب,
دي: رب إلى التح أق
-الش تاء في ّأول ه ,وأنتم مرضى بش يء لم نعرفه عن دما كنا في أعم اركم .أنتم مرضى باألس ئلة ال تي ال
16
تماما هطل المط ر .ك ان مط ًرا غزي ًرا اس تمر ي ومين متوال يين .وخالل ه ذين الي ومين
وفي نهاية آذار ً
فرح ا ,وفي بعض
تغيرت وجوه الناس وتصرفاتهم ,حتى الذين ال عالقة لهم بالزراعة مباش رة ب دوا أك ثر ً
ّ
األحيان أقرب إلى الخفة في التعبير عن ذلك الف رح ,وتج رأ الكث يرون وق الوا( :موسم ه ذه الس نة ,خاصة
بالنسبة للصيفي ,سيكون أحسن من جميع المواسم التي شهدناها من قب ل) .لكن ال ذين يزرع ون ,وال ذين
يئا آخ ر .وفي ه ذه األي ام ,وبعد أن
عرف وا دورات الطبيع ة ,لم يتكلم وا ولم يتف اءلوا ,ك انوا ينتظ رون ش ً
أش رقت الش مس ومألت الك ون في الي وم الث الث ,ما لبث ال ذين امتنع وا عن ال زرع في بداية الموس م ,أن
يرا مثل غ يرهم!
زرعا وف ً
حرث وا األرض على عج ل ,واس تعانوا بكل الوس ائل ,لكي يض منوا ألنفس هم ً
مزاجا يختلف عن
ً لكن مطر آذار بغزارته وجنونه ال يمكن أن يقنع المس ّنين وال يرض يهم .إن له ؤالء
كونته الطبيعة واألي ام الطويلة والمخ اوف ,وربما يتولّد ألس باب غامضة
غ يرهم ,وه ذا الم زاج ربما ّ
17
يقربه أك ثر
مجهولة! وقد تكون له عالقة باألرض ذاته ا ,إذ يش عر أي واحد من ه ؤالء ب أن كل ي وم جديد ّ
أرض ا من ن وع ما يمكن أن
إن أمنية خفية تدفعه ألن يتم نى ًف أكثر من األرض .وما دام األمر هك ذا ,ف َّ
تس تقبل لحمه وعظام ه ,ويحس بنفس الخف اء أن ه ذا الجف اف ال ذي تس ّرب عميقًا إلى األرض ,ثم تلك
الرخ اوة اللزجة ال تي ج اء بها مطر آذار ,ال يناس بان ,ويتم نى لو أنه ال يغ ادر الحي اة في مثل الس نة
الغم والسأم من ه ذه ال دورة العاتية
كبيرا في قلوب المس ّنين وأصابهم ّ
القاسية .وحتى لو بلغ اليأس مبل ًغا ً
كريما الئقً ا ,أن يم وت في ال وقت ال ذي أنهي كل ما
للطبيع ة ,فقد ك ان كل واحد منهم يريد أن يم وت موتًا ً
يجب أن يفعله في هذه الحياة ,وأن يغادر ال دنيا به دوء وس الم ,دون جلب ة ,ولكن ب احترام يناسب عم ره.
أما أن يم وت مثلما يم وت الص غار ,أو مثلما تم وت ال دواب ,بطريقة مفاجئ ة ,ودون إن ذار من أي ن وع,
أس! عور عميق بالي ذا يدفعه إلى ش إن موتًا مثل ه ف
ومثلما توقّع المس ّنون حصلت األمور بعد ذلك :ف الزرع ال ذي اه َّ
تز في أعم اق التربة من األمط ار الغزي رة
بنموها ال زاهي ,رغم ال تي س قطت في نهاية آذار ,ما لبث أن ش َّ
ق األرض وب دأ ينم و .ك انت ال زروع ّ
المسافات المتباعدة فيما بينها ,نتيجة لهجوم العصافير وتقليب المحاريث ,ك انت بنموها قوية واثق ة ,وما
كادت شمس نيسان تحتض نها بال دفء ح تى انتعشت وتح ّركت أك ثر من قب ل .وإ ذا ك ان الفالح ون ,بتف اؤل
رددون بإص رار أن ما يحت اجون إليه مط رة أو مط رتين في نيس ان ,األولى في النصف األول, موه وم ,ي ّ
والثانية في نهايت ه ,ثم مط رة أخ يرة في منتصف أي ار ,رغم ه ذا التف اؤل ال ذي يح اولون من خالله أن
يقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا غيرهم ,فقد كانت مثل هذه األمني ات مس تحيلة ,ألن الس نة من ب دايتها ك انت
تن ذر بالقحط .ق ال ه ذا المس ّنون في داخلهم ,وق ال ه ذا عس اف بص وت ع ال وأم ام جميع الن اس .ولو أن
مقنع ا.
جوابا واض ًحا أو ً
ً أحدا سأل عسافًا عن السبب الذي يدعوه ألن يق ول مثل ه ذا الق ول ,لم يكن يملك
ً
ول: أن يق ان يكتفي ب ك
ونكم! يء بعي رون كل ش وف ت ه ,وس ذا ما أقول روا ,ه -انتظ
والن اس حين يس معون ه ذا الكالم من عس اف تتملكهم العص بية ويص بحون س ريعي الغض ب ,وأق رب إلى
التحدِّي ,لكن في ق رارة أنفس هم يحس ون أن ما يقوله ه ذا المجن ون ال يش به الكالم ال ذي يقوله غ يره .إن
أمر ال يعرفونه. ة ,وربما مرتبطة ب ة ,حقيقة خفية غامض يئا من الحقيق
ً فيه ش
أحس المس ّنون ,ثم توقع وا ,ب دأت كلم ات التح ذير تتس رب من أف واههم ,ثم كلم ات الخ وف ,وفي
ومثلما َّ
ديد: وح ش الوا بوض وقت الحق ق
ّرت على الطيبة! تي م نين ال عب الس نة من أص ذه الس تكون ه -س
ّنين: يف أحد المس زين يض ذكر الح ير والت ات من التفك وبعد لحظ
ّرت على الطيبة من قبل. ذه م نة مثل ه ذكر أن س -ال أت
يء بعد ذلك! اف حصل كل ش ال عس ّنون ,ومثلما ق ومثلما توقع المس
يوما بعد آخر ,كان عساف ال يهدأ وال يس تريح ,إذ
يلف الطيبة من كل جوانبها ,ويزداد ً
الغم الذي ّ
في هذا ّ
18
غيرة ولونها واضح. ل ,ص اث الحج اث ,إن -اإلن
ول: ان يق ات فك يح والمعلوم ًدا من التوض ألوه مزي أما إذا س
ان. ال ,جب ل ,مثل بعض الرج -ديك الحج
ابع: حك ,ثم يت وههم ويض وينظر في وج
زاه ,مل َّون أك ثر من األن ثى ,ويط ير قبلها! -إنه يخ اف على نفسه كث يرا ,وهو بل ون ٍ
ً
ويه ّزون رؤوس هم داللة المعرف ة ,لكن عس افًا يخ اف ه ؤالء الص ّيادين ,ويك ره الجبن اء والخبث اء منهم,
يرا تص يده .ك ان يق ول بص وت ملئ باألسى: ويخ اف أك ثر من ذلك أن ي أتي ي وم ال تجد الطيبة ط ً
يرا,
غدا ,وس تبقي لنا إذا حافظنا عليه ا .أما إذا قتلناها كله ا ,إذا طاردناها كث ً
-هذه الطيور لنا ,اليوم أو ً
ان آخر. وف تنتهي أو تبحث عن مك فس
ور الحجل: تماما من طي
راءت له األرض خالية ً بية وقد ت رخ بعص ويص
-اس معوا ,إذا انتهت ه ذه الطي ور وج اءت س نة من س نوات المح ل ,وإ ذا ظلَّت الحكومة تك ذب س نة بعد
سنة وال تب ني الس ّد ,فتأ ّك دوا أن أهل الطيبة س يموتون على بك رة أبيهم .أنا متأكد من ذل ك ,فهل يس تطيع
ور? ّرة أن يقتل البشر والطي ابن ح
هكذا كان الحديث يج ري في بداية كل رحل ة .ورغم ذلك يض طر عس اف لقي ادة قافلة الص يادين إلى أم اكن
الحج ل ,لكنه يلجأ إلى المكر أغلب األحي ان :ك ان يق ودهم إلى األم اكن الص عبة ,إلى األم اكن البعي دة
رحيم ا.
ً يرا من قس وته ويجعله
والخطرة ,وكان يعرف أن التعب أو الخ وف إذا دخل قلب الص ياد يفق ده كث ً
هك ذا ك ان يفعل في بداية الموس م .أما إذا قست الحي اة على الطيبة أك ثر من قبل وحاص رها الج وع وب دأ
كثيرا من القيود ال تي ك ان يفرض ها على نفسه وعلى اآلخ رين ,لكنه
يتردد في أن يتجاوز ً
يفتك بها ,فكان ّ
يبرر ه ذه الخطيئة ال تي تعذّب ه:
يتألم ,يشتعل بالشتائم ويرتكب الكثير من الحماقات .كان يقول لنفسه لكي ّ
(إذا لم يأكل الن اس الحجل فس وف تأكله بن ات آوى وال ذئاب ,وح تى لو نجا بعض ه ذه المخلوق ات
الملعون ة ,فس وف ي أتي الرعي ان لكي يلتقط وا ال بيض .ويجب أالّ يم وت أهل الطيبة).
إن له فلس فة خاصة تك ّونت مع األي ام ومن التج ارب ,ح تى لو أراد أن يق ول بضع كلم ات لكي يفسر ما
ي دور في عقله فلن يس تطيع .أما إذا س أله أحد لم اذا يفعل ه ذا الش يء ,ولم اذا ال يفعل ذاك ,فك ان يش عر
ول: ان يق الحيرة والعجز .ك ب
ياد! ذا يفعل الص يد ,هك ذه هي طريقة الص -ه
يئا آخر!
ً يف ش وال يض
بهذه الطريقة كان يتعامل مع الصيد ,وبهذه الفلسفة الغامضة يتص رف ,ويريد من اآلخ رين أن يتص رفوا.
ف إذا ج اء موسم الطي ور المه اجرة يش عر بغبطة داخلية عميق ة .ك ان يق ول بص وت ع ال واضح الن برات,
معه: ان أن يس ويريد من كل إنس
ياد نفسه! ده ,وليثبت الص ّمر كل واحد منكم عن زن -ليش
20
كان يقول مثل هذا الكالم لكي يض لِّل الص يادين اآلخ رين ويص رفهم عن الحج ل .وه ؤالء الص يادون ال ذين
كثيرا من الحجل ,وحفيت أقدامهم وهم يتسلقون الصخور العالية أو وهم يهبطون األودية السحيقة,
تعبوا ً
كانوا في قرارة أنفسهم يقبلون هذا الكالم ويوافقون عليه ,وفي نطاق التبرير يقولون ألنفسهم ولبعضهم:
ّدقه وأن نتبعه! ذا فيجب أن نص ول ه اف ,يق يادين ,عس يخ الص -ما دام ش
مجردا ,كان يسبقهم إلى أماكن الطيور المهاجرة وممراتها ,وكان ال يبخل عليهم
ً مكرا
وكي ال يترك األمر ً
بأي معلومات تس اعدهم وتم ّكنهم من ص يد أوف ر .وهم بتق دير غ امض ين دفعون ,ي ذهبون حيث يري د ,إلى
يحددها .بهذه الطريقة يض من أن بعض طي ور الحجل ال ت زال حية األماكن التي يحددها وفي األوقات التي ّ
في المعاص ي .ك ان يق ول لنفسه بثق ة( :حالما تش عر ب األمن وبابتع اد أص وات الطلق ات ال ب َّد أن ت نزل إلى
أماكنها وتعيش مرة أخرى بس الم .وم رة أخ رى س تفقس وتب دأ الف روخ الجدي دة تمأل الجب ال والودي ان)!
صحيح أن عسافًا في أعماقه يدرك أن كل حيوان وكل ط ير يع رف كيف ي دافع عن نفسه وإ لى أين ي ذهب,
إالَّ أنه حين يرى الصيادين األغرار يزدادون قسوة ورعونة ,ويخرقون كل قاعدة ,كان يق ول لنفسه ب ألم:
(يقتل ون الن اس به ذه الطريق ة .والحجل يع رف كيف يختفي ) .ويض يف بعد ف ترة ص مت طويل ة( :حين
ط اردوا الغ زالن وقتلوها كلها أص بحت الص حراء مثل ق بر كب ير ,ال ترسل إالَّ الغب ار والم وت ,ويجب أن
يء). وا كل ش يرهم فال يقتل ون أهل الطيبة أذكى من غ يك
ك ان الحج ل ,في مثل ه ذه الس نين ,وبغري زة غامضة ,ح تى بالنس بة لعس اف نفس ه ,يع رف كيف يختفي ,
ح تى ليب دو وكأنه انق رض نهائيًّا ,ولن ي أتي ش روق أو غ روب في ي وم من األي ام القادمة ويس مع ص وته
مثل دجاج ات تائهة في س فوح الجب ال الش رقية .عند ذاك ك ان الص يادون ,ح تى األغ رار العني دون,
خصوص ا القط ا ,تب دأ
ً يرا في ه ذا التح ول المف اجئ أن طي ور الص حراء,يتحول ون .وال ذي يس اعد كث ً
يوما بعد آخر من الطيب ة ,وبان دفاعها األرعن بحثًا عن الحب والم اء تع ّرض نفس ها للهالك,
ب االقتراب ً
حتى األوالد الصغار ,في أوقات معينة ,وبتلك الوسائل البدائية ال تي يملكونها ,يس تطيعون االحتي ال عليها
دد منها! طياد ع واص
يئا إلى ط ائر ج ّني ,وب رغم
يئا فش ً
لكن تبقي قوة الحياة هي األقوى ,إذ يتحول القطا ,هذا الطائر اإلبل ه ,ش ً
إن ق وة أخ رى تس يطر عليه وتوجه ه .فالقطا الط ائش ال ذي يمكن أن يقتل بالعش رات الج وع والعطش ف َّ
ذرا .والص يادون
يرا ح ً
والمئات في بداية الموسم ,والذي ال يم يز الص ياد من الفالح ,ال يلبث أن يص بح ط ً
نوعا من ال ترفع في بداية الموس م ,ويص فون القطا بعش رات األوص اف الرديئ ة ,يص فونه
ال ذين يب دون ً
يوما بعد آخر وقد
بقس وة لحمه وغبائ ه ,وبانع دام الل ذة نهائيًّا في ص يده ,ح تى ه ؤالء يج دون أنفس هم ً
انساقوا إلى مالحقته .وفي هذه الفترة ,ولتبرير هذا السلوك ,يقول ون بص وت ع ال فيه تلك الكبري اء ال تي
رورين: يادين المغ تميز الص
ّ
رى. ور األخ ذرا من الطي
ً ثر ح بح أك رب وتن ّكح ,وأص ض
ُ -
21
سنة بعد أخرى بصدرها المكشوف وإ مكاناتها المحدودة .وبرغم أن المس ِّنين ح ذّروا كث ً
يرا من اإلس راف,
وطلب وا من كل بيت أن يقتصد ما وس عه االقتص اد ,وأن َي ُع َّد األي ام ال تي ال ت زال الطيبة تعيش ها اآلن ً
أياما
إن الطيبة ظلت تعيش على أمل غ امض ,وظلت
رخية ,وبعدها ستأتي المص ائب الكب يرة كثيفة متالحق ة ,ف َّ
ممض ا!
ًّ يئا ما ,لكن ه ذا األمل لم يتحقق كما توهَّمه الكث يرون ,وأص بح االنتظ ار ط ويالً تنتظر ش ً
واألبناء في المدن البعيدة لم ينتظروا صرخات االستغاثة وإ َّنما ب ادروا إلى تق ديم كل ما يس تطيعون .بعث وا
أيض ا يطلب ون أن ي أتي
بكميات من الحنطة والشعير ,وبعثوا بالعدس والسكر والش اي والص ابون ,وبعث وا ً
خصوصا الذين تق دَّموا في العم ر ,ال
ً عدد من األهل واألصدقاء ,لينزلوا عندهم في المدينة .وأهل الطيبة,
جوعا
ً يقوون على االس تجابة لمثل ه ذه الطلب ات ,وال يتص ورون أنفس هم يرحل ون ت اركين غ يرهم للم وت
شا .إن مجرد تصور شيء مثل هذا يولِّد في النفوس خجالً ال يس تطيعون احتماله ,ول ذلك ال يجيب ون وعط ً
عن مثل هذه الرسائل ,وال يلبونها .واألبناء الذين رحلوا ,وظلوا على صلة مع البلدة يعرفون جي ًدا أن ما
يطلبونه أق رب إلى المس تحيل ,ولن يس تجيب إليه أحد ,ول ذلك ب الغوا أول األمر في إرس ال كل ما
يس تطيعون ,ثم ب دأوا يتواف دون إلى البل دة ,للزي ارة أول األم ر ,ثم للمش اركة بطريقة ما من أجل الوق وف
أياما
شيئا .ك انت الزي ارات تمتد ً
في وجه هذا الكرب القاسي ,لعلهم يستطيعون عمل شيء ,أو أن يتعلموا ً
وتتك ّرر في أوق ات متقارب ة ,كما ال تقتصر على المش اركة الوجدانية أو الرغبة في تع ذيب النفس ,وإ نما
ك انت ترافقها أش ياء كث يرة :كمي ات إض افية من الحنطة والش عير ,أث واب من الخ ام ,وك انت ت أتي معها
الوع ود والكلم ات الكب يرة .وإ ذا ك انت تلك الوع ود أقسى األش ياء وأص عبها لكل إنس ان في الطيب ة ,فقد
عذابا ال يطيق أحد أن يتحمله( .لم يبق إالَّ القليل ويب دأ بعد ذلك بن اء الس د .والسد
أصبحت في هذه السنة ً
أيض ا( :إنه قبل
المهمون في العاص مة) ,وق الوا ً
ُّ إذا قام لن تعطش الطيبة ولن تجوع .هكذا قال لنا الرجال
نهاية الخري ف ,وقبل موسم األمط ار ,س تبدأ اآلالت تشق التربة وت دفع أمامها الص خور ,وس وف ي أتي
أعينكم!). ترون ذلك ب ين ,وس ال والمهندس ات العم مئ
وأهل الطيبة ال ذين يقبل ون األش ياء ال تي ت أتي ويوزعونها بعدالة مفرط ة ,ك انوا يس معون كلم ات المدينة
قريبا من الطيب ة ,ليجمع المي اه ال تي تت دفق س يوالً
الكب يرة ,ويس معون عن السد ال ترابي ال ذي سينشأ ً
جارفة في بعض المواس م ,ثم تنتهي إلى ب اطن األرض .وال أحد يع رف كيف تغ ور ه ذه المي اه أو إلى أين
ت ذهب ,وال تبقي من تلك الس يول غ ير تلك الكمي ات الكب يرة من الحصى والمج اري العميقة ال تي ج رفت
ود! يرة والوع ات الكب وى الكلم اسأيض
أج زاء من األراضي والبس اتين! وال تبقي ً
ك ان أهل الطيبة يس معون ذلك بص مت ح زين ,وال ي درون أيك ذبون أبن اءهم أو أولئك الرج ال الرابض ين
هن اك في األبنية الكب يرة المغلقة? ك انوا يقول ون ألنفس هم( :لقد قيل لنا مثل ه ذا الكالم م رات كث يرة,
يء نة ,وال ش نة وراء س نوات ,س وتنقضي الس
23
يوما يتغ ير) .وأهل الطيبة ال ذين تع َّودوا نس يان السد والطريق والكهرب اء في مواسم الخ ير ,ولم ِّ
يفكروا ً
واحدا أن يحصلوا على مثل ه ذه الخ يرات ,ف َّإنهم في مواسم القحط يت ذكرون ك ّل ش يء ,يت ذكرون هيئ ات
ً
الرج ال ال ذين أت وا ,والكلم ات ال تي قالوه ا ,ويت ذكرون أن بعض ال ذين ج اءوا زائ رين مع أبن اء لهم إلى
أيض ا في المن اطقالطيبة في س نوات س ابقة ,س نوات الخصب والمواسم الطيب ة ,وذهب وا إلى الص يد ً
المحيطة بالبلدة ,ورجعوا وقد امتألوا بنشوة ,وتصرفوا في لحظ ات معينة مثل األطف ال ,وب دوا ص ادقين-
مهما ,بحيث ال ي ذكر اس مه إالَّ كما ت ذكر أس ماء األنبي اء
يرا ًّ
إن بعض ه ؤالء أص بح في المدينة البعي دة كب ً
ذكرون الطيب ة ,ونس وا أص دقاءهم ,وانتهى األم ر .والطيبة تعض على واألولى اء .إن ه ؤالء لم يع ودوا يت َّ
جراحها في مواسم القحط والجف اف .أما في مواسم الخ ير فال تكف عن أن تبعث بس الل المش مش في
بداية الموسم ,ثم بسالل العنب والتين في نهايته ,وبين الموسمين تبعث اللبن والجبن وال بيض والخ راف
شيئا من المدينة .تبعث الطيبة كل هذا برضا أقرب إلى الحبور .ويتصور اآلباء أيضا ,وال تنتظر ً
الصغيرة ً
واألمهات ,وهم يبعثون بالسالل وأكياس اللبن في الس يارة الص غيرة ال تي ت ذهب في الص باح الب اكرَّ ,أنهم
تأخروا عن موعد سيارة الموظفين ,أو إن لم يحسون بالمرارة والحزن إن َّ ال يقومون بواجب فقط ,وإ نما ّ
يستطيعوا قطف التين في ال وقت المناس ب! والطيبة ال تي لم تتنكر ولم تتغ ير ,وظلَّت وفية لكل ش يء فيها
ولكل إنس ان ع اش فيها أو م َّر بها في ي وم من األي ام ,خلقت ه ذا الوف اء الفذ في أبنائها ,وال ذي ال يوجد
دة. رى البعي ا في الق أيض
رى ,وال يوجد ً مثيل له فيما جاورها من الق
في ه ذه الس نة القاس ية الملعونة ج اء ع دد كب ير من أبن اء الطيب ة ,ج اءوا دون طلب ودون إيع از من أي
أحسوا بالحزن العمي ق ,والم وا
نوع ,وما كادت أرجلهم تطأ أرض الطيبة ,وعيونهم تالمس بيوتها ,حتى ُّ
كثيرا على َّأنهم تأخروا حتى هذا الوقت ,وشعروا بتأنيب الض مير ح تى ق ارنوا حي اتهم في المدينة
أنفسهم ً
بحي اة الن اس في الطيب ة .لكن ه ذا الح زن وه ذا الن دم تراجعا بس رعة ليحل مكانهما الرغبة القوية في أن
يئا ,لع َّل الطيبة تنجو ه ذه الم رة ,ولعلها تحيا وتس تمر إلى أن ُيب نى الس د ,أو يقع ش يء ما في
يفعل وا ش ً
المدينة البعي دة ,ويص بح من الممكن بعد ذلك مواجهة الطبيعة القاس ية دون انتظ ار للوع ود الكاذبة أو
نوات. نة وينقطع س أتي س ذي ي للمطر اإلبله ال
نزع الذين وص لوا لت ّوهم مالبس المدين ة ,ولبس وا مثلما ك انوا يفعل ون حين ك انوا في البل دة قبل س نوات.
يرا على ال ذين
وخالل اليوم األول مروا على أكثر بيوت الطيبة ,وسألوا عن الرج ال والنس اء ,وحزن وا كث ً
م اتوا ,وف ّك روا في أم ور واقتراح ات كث يرة ,وق َّرروا بينهم وبين أنفس هم ع دة أم ور ,إن هم ع ادوا إلى
المدينة مرة أخرى .لم يكتفوا بذلك ,بل وزعوا ما ج اءوا ب ه ,وكتب وا رس ائل عدي دة إلى أقرب اء وأص دقاء
في المدينة البعي دة وفي المهجر .وفي الليل س هروا ط ويالً يف ّك رون ويتكلم ون ,لكنهم ك انوا يحس ون في
أعم اقهم ب المرارة تك وي له اتهم مع كل كلمة يقولونه اَّ ,
ألنهم لم يكون وا متأك دين من ش يء!
وإ ذا ك انت الطيبة كث يرة الص بر والتس امح ,وتغفر للغرب اء مثلما تغفر ألبنائه اَّ ,
فإنها تع رف الغضب في
مواسم الجفاف ,وهذا الغضب الذي قد يأخذ ش كالً هي ًنا في بعض األوق ات يتح ول في النهاية إلى جن ون ال
24
ك انت هن اك رغبة ألن يتح دث بعض الرج ال للم رة األخ يرة ,أم ام الض يوف .وإ ذا ك ان الكث يرون من أهل
يتحدثوا للمرة األخيرة ,في أمر السد ,م تى
الطيبة قد انتظروا بصبر فارغ مجيء األبناء من المدينة ,لكي ّ
يجب أن يق وم وم اذا فعل وا من أجل قيام ه ,وأنهم لم يع ودوا ق ادرين على االنتظ ار أك ثر مما فعل وا ,وإ ذا
وتحمل وا الس نين الماض ية بص مت فلن يس تطيعوا بعد الي وم احتم ال ذل ك ,وس وف يلج أون إلى
َّ ص بروا
تي يمتلكونها. درة ال دى الق ة ,بم اك في المدين ار هن اع الكب دة إلقن ائل جدي وس
تماما حين رأوا عصر ذلك اليوم س يارتين غريب تين ُّ
إذا كان أهل الطيبة قد انتظروا طويالً ,فقد خاب ظنهم ً
أما حين تعانق اآلب اء واألمه ات مع أبن ائهم العائ دين ,فقد طغت للحظ ات ق وة الحب على
تدخالن الضيعةَّ .
ق وة العت اب ,وجاشت ال دموع في العي ون وغلبت جميع المش اعر األخ رى .ونتيجة ذلك ت راجعت األفك ار
والكلمات الغاضبة لتحل مكانها مشاعر المودة وكلمات الترحيب .والضيوف الذين لم يروا الطيبة قبل هذه
أما حين ق ابلتهم
شيئا مختلفًا ,ولم يحسوا ب ذلك ال دوي ال داخلي ال ذي يولّ ده الجف افَّ .
المرة ,لم يروا فيها ً
أحس وا ب دفء داخلي وحس دوا ه ؤالء الن اس على ه ذا الرضا االبتس امات الواس عة وال ترحيب الح ار فقد ُّ
ذي يمتلكونه! ال
به ذه الطريقة ت أجَّلت أُم ور كث يرة وحلَّت أخ رى مكانه ا .فاألش ياء ال تي حملها األبن اء من المدينة ُوِّزعت
بعناي ة ,واختلى بعض المس ِّنين لينص حوا بعض هم ً
بعض ا أن يتص رفوا بحكم ة ,ولكي يطلب وا من الش باب
دائم ا ,دون إث ارة ألي أح زان أو مش اكل .وق الوا في أنفس هم( :س يبقى
اح ترام الض يوف مثلما تع َّودوا ً
يوما أو ي ومين ثم يرحل ون ,وبعد ذلك س وف نقلب ال دنيا على رؤوس ه ؤالء األبن اء الع اقّين,
الض يوف ً
يئا في ال دنيا س وى إرس ال بعض الحاج ات في مواسم الجف اف ,وك أن الطيبة أص بحت
الذين ال يعرف ون ش ً
للمتسولين والجياع ,ويجب أن تبقي كذلك) .أما الوعود الكثيرة عن المياه التي ستتدفق ط وال أي ام
ّ مأوى
أما عن األسماك التي ستزرع في البحيرة ,عن القنوات التي ستمتد إلى مسافات بعي دة ,فقد انتهى السنةَّ ,
األمر كله ,ولم يبق إالَّ صدى الكلمات ّ
يتردد كل بضع سنين ,شفقة أو حس رة على ه ذه البل دة ال تي تم وت
وم. يوما بعد ي
ً
اعر انت مش ذا ك اعات األولى ,وهك انت الس ذا ك هك
أحس وا بغري زتهم أن كل ش يء قد تغيَّر في البل دة ,وأن األي ام ال تي يعيش ها
الن اس ,وأبن اء الطيبة ال ذين ُّ
أهلها من القس وة إلى درجة لم يكون وا يتص ورونها ,ورأوا التغيُّرات العميقة ال تي دخلت في كل ش يء
عما تفيض كثيرا ,وأن أي كلمات تق ال اآلن ال ب َّد أن تك ون ع اجزة وال ِّ
تعبر َّ يلمحونه .شعروا أنهم أذنبوا ً
وألنهم تع َّودوا على ش كل معين من التص رفات ,فقد فهم وا من وألن الض يوف قد أت واَّ ,
به قل وبهمَّ .
النظرات ,من اإلش ارات ,وح تى من لمس ات األي دي ,أن الطيبة تغلي وال ب َّد أن تنفجر بش كل أو آخر ,لكن
غريبا وطريفًا!
ً ألن الض يوف ب دا لهم كل ش يء جانب اَّ ,
ه ذه المش اعر تُ ركت ً
ألن الض يوف ج اءوا له ذه الغاي ة .وما دام أما حين انعقد مجلس الس مر فقد َّ
تركز الح ديث على الص يدَّ , َّ
ذا ما حصل! إن ه
َّ ذا ,ف دون ه يوف يري الض
26
رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله من أرض وبشر وأشجار ومي اه ,وأن ه ذه الرابطة تك ون
تي تمر على الطيبة. نة ال ذه الس عبة مثل ه نة ص وى حين تمر س أشد وأق
مما ,أول األم ر ,أالّ يتكلم ,ف إذا حاص روه باألس ئلة ,ولم يجد مج االً لله رب ,فال أقل من بضع
ك ان مص ً
وأحس أن قلبه يخفق بض ربات س ريعة أك ثر
َّ مع ا,
كلم ات يقوله ا ,لكن فج أة امتأل بش عور األلفة والتح دِّي ً
يئا لم يفعله من قبل.
ً مما تع ّود حين يك ون في مثل ه ذا الموق ف ,وق َّرر أن يفعل ش
موجودا ,أنه ألول م رة في حيات ه ,ق َّرر أن يخ وض معركة لم يخض
ً يتذ ّكر هو نفسه ,ويتذ ّكر كل َمن كان
دائما من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة ,إذ ما كادت األسئلة تنهال علي ه,
مثلها من قبل ,رغم ما ُيقال ً
ِّد: رخ بتح تى ص يد ,ح وكلها عن الص
ان! ال يا حص ال ...تع -تع
اف. دام عس اء ,انسل ليجلس عند أق أة ,ومثل حية ملس وانتفض الكلب فج
وعم ال ذهول .والمس ّنون ال ذين يملك ون,
كانت الحركة مفاجأة ,لم يتوقعها أح د ,وللحظ ات خيَّمت الدهشة َّ
أحسوا أن ص وت عس اف ,وهو ي دعو كلب ه ,غ ير م ألوف ,وال يمكن
أغلب األحيان ,الحق باألمر والنهيُّ ,
مقاومت ه .تب ادلوا النظ رات فيما بينهم ,ونظ روا إلى عس اف ,لكن ألول م رة في حي اتهم الطويلة الحافلة
يكتش فون في عينيه بريقًا قاس ًيا وحش يًّا ,ودون وعي أو إرادة ,ت راجعت كلم ات االع تراض لتحل مكانها
اب. يء من العت يرا عن األسف وش ً رؤوس تعب زات ال ه
لم ينتظر عس اف ,اعت دل في جلس ته ,أج ال نظ رة طويلة في وج وه الن اس ال ذين خيَّم عليهم الص مت,
مس د على ظه ره أك ثر من م رة ,ودون أن
مع ا ,امت دَّت ي ده إلى الكلبَّ ,
وبطريقة مليئة بالمحبة والحن ان ً
دأ: اطب نفسه ,ب دَّ ,
وكأنه يخ ينظر إلى أح
مرت عليكم? هل تظن ون -ماذا ُّ
تظنون يأهل الطيبة? هل تظ ّنون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي َّ
َّأنكم ستواص لون الحي اة ح تى ت أتي األمط ار م رة أخ رى? إن َمن يظن ذلك أق رب إلى الجن ون.
نفس ا عميقًا من س يجارته ,وتطلع في وج وه الرج ال م رة أخ رى ,ثم ت ابع: عب ً
توقف لحظ ةَّ .
يبق بيننا وبين الموت إالَّ ذراع ,وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن ن وفره
-قلت لكم ألف مرة :لم َ
حين ت أتي األمط ار م رة أخ رى .قلت لكم مئ ات الم رات وأنتم ال تس معون ه ذا الكالم ,وب دل ذلك ت زدادون
يوما بعد يوم .قلت لكم :اتركوا إن اث الحجل للس نوات القادم ة ,إنها رزقنا الب اقي .قلت لكم :وفّ روا
حماقة ً
يوما بعد آخر ت زدادون
الخرط وش وال تُفزع وا الط ير ,وعن دها س يأتي إليكم ب دل أن ت ذهبوا إلي ه ,لكنكم ً
وتحد ًيا .قلت لكم :انقلوا من النبع ِح ْمل حمارين أو ثالثة حمير وارموا بها في الخ وابي القريب ة ,ثم
ّ عنادا
ً
اربض وا هن اك ح تى ت أتي الطي ور ,ف امتألت وج وهكم باالبتس امات الس اخرة ,وقلتم :عس اف انهب ل ,ألنه
يطلب منا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الم اء ونرميه في الص حراء .واآلن ت أتون به ؤالء األفندية وتتظ اهرون
بالنبل والك رم وتطلب ون من عس اف أن يص طحبهم إلى الص يد ,وأن يجعلهم يص يدون! م اذا يس تطيع أن
يص يد ه ؤالء أو غ يرهم ما دمتم مألتم ال دنيا بالطلق ات المجنونة تب ذرونها في اله واء ,ح تى لم يبق ط ير
28
-ما قلت ه ,يا عم عس اف ,هو الحقيق ة ,لكن أنت تع رف أي جن ون يعيش في قلب الص ياد!
دافع عن نفسه: لمةَّ ,
وكأنه ي يوف ,بلهجة مستس ال أحد الض ق
دها! ة ,وليس في الطيبة وح يد في كل المنطق -لقد انقطع الص
وألول م رة يقهقه عس اف ,كما لم يفعل ذلك في حياته إالَّ م رات قليل ة ,وق ال بص وت مليء بالس خرية:
انين?! كنها المج دها يس ال إن الطيبة وح ومن ق
َ -
اف: ًدا أض ولكي تفهم كلماته جي
-لقد وصل الجن ون إلى كل مك ان .وه ذه األس لحة الجدي دة ما ك ان لها أن توج د ,ح تى لو ص نعها بعض
المج انين في األم اكن البعي دة ,ما ك ان لها أن تص ل ,أو أن تس تعمل في الص يدَّ .إنها تقتل كل ش يء ,وال
يئا!
ً تبقي ش
خرية: اد إلى لهجة الس ومن جديد ع
ألن منها الحك ام
-إذا كانت المناطق األخرى تنعم بالمي اه والخض رة ,وتحصل على ما تري ده دون عن اءَّ ,
جوعا!
ً أم َحلت م ات الن اس
إن الطيبة بل دة مس كينة ,إذا أمط رت ال دنيا وج دت لقمته ا ,وإ ذا ْ
والعس كر ,ف َّ
رى تغيَّرت لهجته: رة أخ وم
-فيما مضى ,قبل س نوات كث يرة ,كنا نح ارب الج وع ونتغلب عليه ب الطيور ال تي ت أتي ,بالحيوان ات ال تي
ق ش يء .ف إذا
أما ه ذه األي ام فلم يب َ
تق ترب من البل دة ,وكنا نق اوم الج وع حين نأكل الج راد والجرابيعَّ ,
اس تمرت الح ال هك ذا فلن تمضي ف ترة قص يرة ح تى تص بح الطيبة م أوى للب وم والوطاويط!
ورة الطيبة: تعرض ص يف آخر بلهجة خجولة وهو يس ال ض ق
-س معت أن س دًّا س ُيبنى عن دكم ,وأن ه ذا السد س يروي مس احات واس عة ,أليس ك ذلك?
ِّنين: ال أحد المس ق
-مثلما سمعت ,يا ولدي ,س معنا .الف رق بيننا وبين ك ,أننا س معنا ه ذا منذ وقت طوي ل ,ولقد ق ال لنا ذلك
دري! ة ,لكن َمن ي ار في المدين الكب
َّز رأسه بأسف. خرية وه وع من الس حك الرجل بن وض
رقية: ار الجهة الش ال مخت ق
وارا مناس ًبا للص يد ,وه ؤالء الك رام لن ينس وا الطيب ة,
-اتركوا اآلن هم وم القري ة .المهم أن ترتب وا مش ً
رعة! ّد بس اء الس ؤولين لبن اع المس وفروا أي جهد من أجل إقن ولن ي
وتح َّول الجو فج أة .هجم أحد الق ادمين على عس اف ,وقبَّله على رأسه ,وق ال بطريقة مغرية:
ًدا! ير غ يد وف ود بص وف نع رس ,وس تكون قائد الحملة يا بط -س
مازحا:
ً ِّنين ال أحد المس ق
وت! ده يمكن أن ينقذ الطيبة من الم يد وح يرا .إن الص
يدا كب ً
ً -يجب أن تص يدوا ص
بمن فيهم الضيوف ,حول عساف ,وبدأ اإلعداد لمشوار الغد.
وتحلقت المجموعةَ ,
30
وائها. وي المنبعث من أض ور الق دها الن تي يول احة ال رى إالَّ المس تكن ت
َّإنها إحدى المرات القليلة التي يتوغل أبناء الطيبة وضيوفهم إلى هذه المسافة البعيدة في الصحراء .ومع
كل ميل جديد تتغير طبيعة التربة ويتغير اله واء .فالمنطقة المحيطة بالطيبة متنوعة التض اريس ,متفاوتة
أشد التف اوت ,إذ تب دأ ببعض الص خور الس وداءَّ ,
وكأنها ح دود الطيبة من ه ذه الناحي ة ,ثم تليها الكثب ان
الترابية ال تي تتخللها بعض الص خور الكلس ية ,ثم األرض الحص بة الش ديدة التن وع .وتتس اوى في ه ذه
األرض قطع الحج ارة الص غيرة مع الترب ة .وتظل هك ذا ,مع تف اوت بس يط ,مس افة طويل ة ,ح تى يقطعها
ٍ
واد ,وه ذا ال وادي يص بح خالل فصل الش تاء مج ًرى للس يول واألمط ار ,وال يك اد اإلنس ان يتج اوزه,
وينعطف فج أة ناحية الغ رب ,ولمس افة ميل أو اث نين ,ح تى تب دأ الص حراء تظهر.
تب دأ الص حراء ّأول األمر بخج لَّ ,
وكأنها تك َّونت في التو واللحظ ة ,إذ ما ت زال تحمل بعض مالمح األرض
متشابها وأق رب ما تك ون إلى راحة الي د,
ً واحدا
ً نسيجا
ً التي تجاورها ,لكن تدريجيًّا تتغير األرض ,لتصبح
من حيث االس تقامة ,مع الت واءات ص غيرة ومتفرق ة ,وكثب ان رملية تظهر وتغيب ,بين ف ترة وأخ رى.
وت واضح: اف بص ال عس حراء ,ق دأت الص حين ب
ائعا لم تص له بعد طلق ات
أرنبا ض ً
-ال ذين على الش بابيك يمكن أن يمألوا بن ادقهم .هنا يمكن أن نجد ً
انين! المج
سمعت أصوات البنادق وهي تُفتح ,ثم س معت أص وات الخرط وش وهيوبطريقة آلية ,شديدة االستجابةُ ,
تس تقر .ق ال عس اف ,وهو يلتفت إلى الخل ف ,ويكلم الرجل ال ذي جلس في وسط المقعد الخلفي:
اني ...هنا! وف تجلس مك يد الحقيقي س ان الص -حين نصل إلى مك
سأل نعيم ,وهو يسوق الس يارة ,وقد ش عر ب الخوف أن يتخلَّى عس اف عنهم في ه ذه الص حراء الرهيبة:
اف? -وأنت ,يا عم عس
ألول مرة ,منذ بداية الرحلة ,ابتسم عساف ,ونظر إلى الس ائق ,ثم إلى الرج ال ال ذين يجلس ون في المقعد
الخلفي .كانت بداية أضواء الفجر تنتشر بهدوء وتتس رب إلى داخل الس يارة .وبعد أن تملَّى من وج وههم
ال: ق
يارة. بي على األرض ,وأنتم في الس -أنا وكل
ا في الخلف: جالس
ً ان ة ,وك أله أحد الثالث س
يد? -وكيف سنص
خرية: اف بس ال عس ق
يد! تي تص يارة هي ال -الس
اف بلهجة مختلفة: ًدا لم يفهم كالمه أض أحس أن أح
ولما َّ
-بعد أن طارد الصيادون الطير وأتعبوه ,بدأ يخاف من كل شيء ,وال يمكن أن ُيصاد اآلن إالَّ بالسيارة.
دة: ال بلهجة جدي ه ,وق توقف قليالً ,تطلع حوالي
32
-حين ت رون رفًّا من الك دري أو القطا يجب أن تغ يروا عليه بأقصى س رعة ,وقبل أن يط ير كل ه ,قبل أن
ور! ذوا منه بعض الطي د ,يمكن أن تأخ يبتع
طرب بين يديه حين أمسك البندقية: يارة يض ود الس أل نعيم ,ومق س
اف? -وأنت يا عم عس
اب. جعة وأج رة مش اف نظ نظر إليه عس
-ال تخ ف ,س نبقي أنا والكلب على األرض ,وال ذي يفلت منكم ,ال ذي يط ير باتج اهي ويق ترب ,س وف
يبي! ون نص يك
أحس عس اف أنه وصل المك ان المناس ب ,نظر إلى األفق نظ رة دائرية واس عة
بعد ف ترة من الس ير ,ولما َّ
ظن الجميع أن عس افًا رأى َّ
ليتأكد .وبحركة من ي ده ,مع غمغمة غ ير واض حة ,طلب من نعيم أن يق فَّ .
قويا بالمفاج أة ,لكن عس افًا وهو يفتح الب اب,
عورا ّ
ألن الوقفة الس ريعة ال تي وقفها نعيم خلقت ش ً
يداَّ ,
ص ً
دوء َّ
وكأنه يلقي موعظة: ال به نزول ,ق ويطلب من الكلب ال
يرا.
-يجب أن نبقي في دائرة ,وهذه ال دائرة قد تتسع وقد تض يق ,لكنها تبقي دائ رة ,والط ير لن يبعد كث ً
بعض ا ,ويجب أن يفهم جماعة الس يارة الثانية ه ذا. ما عليكم إالَّ أن تعرف وا كيف تس اعدون بعض كم ً
غامض ا,
ً بعد قليل وص لت الس يارة الثاني ة ,ووقفت به دوء إلى ج انب الجيب ,ولكي ال ي ترك عس اف األمر
ال: وت ع ال بص ق
-س نبقي أنا والكلب على األرض ,وأنتم ,كل في اتج اه تط اردون الط ير ,والك دري في مثل ه ذا ال وقت ال
يخاف وهو بطيء الطيران ,ويمكن أن تصل السيارة إلى وسط الرف وال يطير ,وإ ذا كنتم صيادين فسوف
يرا!
ً يد كث ون الص يك
اطب نفسه: اف َّ
كأنه يخ وأض
أحدا غيرنا لم يصل هذا المكان منذ ف ترة طويل ة ,وما دام الط ير غ ير مض روب َّ
فإنه ال يجفل, -أعتقد أن ً
يرا!
ً يد كث يكون الص وس
اء الطيبة: ال أحد أبن ق
يد على مراحل. عة ويمكن أن نتص يارة واس -األفضل أن تبقي معنا يا أبا ليلى ,الس
األرض. على أبقي أن األفضل -
اف: توقف لحظة ثم أض
هنا. يجلس واألخ -
وأش ار إلى الش خص ال ذي يجلس في وسط المقعد الخلفي ,يطلب منه أن يتح َّول ليجلس مكانه!
ابع: ة ,ت االً ألي مناقش ترك مج يرة ,ولكي ال ي مت قص ترة ص وبعد ف
تطير للس يارة الثاني ة ,وأنا
بعض ا :كل س يارة ّ
-األفضل أن تكون وا في الس يارات ,وأن تس اعدوا بعض كم ً
يد! رف كيف أص ذه الطريقة أع على األرضَّ ,
ألنني به
33
وخالل بضع دق ائق ,وبتوض يحات عدي دة ومتزاي دة ,خاصة من أبن اء الطيبة ال ذين يرافق ون الض يوف,
تم االتف اق على كل ش يء .وقبل أن
وبمش اركة قص يرة ,لكنها حاس مة وش ديدة الوض وح من عس افَّ ,
تتح رك الس يارتان ,كل واح دة باتج اه ,م َّد نعيم إلى عس اف بعلبة من الخرط وش ,وأطفأ أن وار الس يارة.
يد! دأت رحلة الص وب
هواء الصباح الطري يمأل الكون بنعومة خائفة أقرب إلى الل ذة الراعش ة ,وه ذه الل ذة تتس رب إلى العظ ام
أما المدى الفسيح ,بال نهاي ة ,فيولد رهبة خاصة ال تول دها إالَّ ح االت ولحظ ات معينة في الك ون
مباشرةَّ .
والطبيع ة .الص حراء المترامي ة ,ب ذلك الل ون الرصاصي في غبش الص باح ,ال يماثلها إالَّ البح رَّ .
أما
الشعور بالضآلة واالنتهاء ,ثم االندماج مرة أخرى ,فال يتولد إالَّ في عصف الرياح المجنون وفي األمطار
الغزي رة ال تي تب دأ لكي ال تنتهي .وش عور الظلمة ال ذي يلف كل ش يء ,ويجعل المخل وق ,خاصة إذا ك ان
بش ًرا ,ض ئيالً متالش ًياَّ ,
فإنه يطغى على اإلنس ان في الص حراء أك ثر مما يطغى في أي مك ان آخ ر ,ح تى
ليش عر اإلنس ان أنه م تروك ووحي د ,إلى درجة ال تخطر على بال ه .ومن ش عور الوح دة يتولّد الخ وف
والرهبة واالنتظ ار ورغبة التخفي والص راخ واالتح اد مع ش يء ما وآالف المش اعر األخ رى ال تي تعجز
ات. عنها كل الكلم
دوا أق وى
حتى في األوقات التي يكون اإلنسان مع اآلخرين ,يحس أنه في الصحراء وحيد ,وأنه يواجه ع ًّ
منه آالف الم رات .وه ذا الع دو ال يمكن أن يق اوم ,لكن من الض روري مص ادقته ,أو االحتي ال عليه,
روطه. ان إلى ش واإلذع
هكذا كان شعور الصيادين وهم يواجهون هذا العالم ألول مرة .حتى الذين ج اءوا برغبة ال تق اوم للص يد,
وض من أي ش روط ,داخلهم الخ وف واس تقرت في قل وبهم رهبة غامض ة( ,م اذا لو ض عنا?)( ,م اذا لو
غرزت السيارات في الرمال الصاخبة الملعونة?)( ,وهذه الطي ور ,ألم تجد مكا ًنا غ ير ه ذا المك ان الب ائس
فيه?). لتعيش
وفي مثل هذه الظ روف يص بح اإلنس ان ,مهما امتلك من الق وى ,ومهما عرب دت فيه التح ّديات ,أق رب إلى
الضآلة .يتمنى لو كان أكثر عقالً ولم يدخل هذه التجربة .حتى الصيد في هذا المكان الفس يح الم وحش له
ُّ
والتأكد من طعم مختل ف ,يص بح أق رب إلى المغ امرة الخط رة يمارس ها اإلنس ان برغبة إثب ات الق درة
الوجود ,أكثر مما تحمل من لذة المطاردة واالنتظار واالنقض اض .ففي الص حراء يمتلك ص فات تنفجر في
داخله فجأة .يمتلك صفات التواضع ومحاولة التع ُّرف والص بر .ويتطلع إلى كل ما حوله بح يرة أق رب إلى
اؤل. التس
إن اإلنس ان نفسه يص بح مخلوقًا آخر
أما إذا انفج رت رف وف الك دري كما تنفجر القنابل بين األرج ل ,ف َّ
َّ
يتح ّول فج أة إلى إبله يط ارد ظل ه ,إلى إنس ان يع ارك نفسه ويريد أن يقضي عليها قبل أن يقضي على
الغ ير ,فيغ ادره الخ وف وت زول منه الرهبة ويتح ّول بين لحظة وأخ رى إلى وحش من ن وع خ اص .ف إذا
تج اوز ه ذه اللحظ ة ,ومضى عليها زمن طوي لَّ ,
فإنه ينظر إليها بن وع من اإلعج اب يصل حد الغ رور,
34
طا كث يرة من الص يادين ,وك انوا ش ديدي الح ذر والدقة في أن يطلق وا أي
وأبن اء الطيبة ال ذين عرف وا أنما ً
كلمات أو أوصاف لتقييم الصيادين اآلخرين ,كانوا متأ ّكدين من ش يء واح دَ :من ال يع رف الص حراءَ ,من
لم ي َر ه ذا الط ير ,ال ب َّد أن ُيص اب بالخيبة بعد الرحلة األولى .لم يقول وا ه ذا الكالم مباش رةَّ ,
لكنهم ك انوا
يرا ,وأس رفوا في الح ديث عن
واثقين بهذا االقتناع ,خاصة وأن أغلب الض يوف ال ذين ج اءوا ,وادَّع وا كث ً
35
يرا ما ادَّعى
يئا مختلفً ا .إذ كث ً
الطي ور ال تي ص ادوها ,وعن األم اكن ال تي ذهب وا إليه ا ,أثبتت التجربة ش ً
الص يادون أن جب ال الطيبة أقسى من أي جب ال رأوه ا ,وأن حجل الطيبة ملع ون إلى درجة أنهم لم ي روا
أما إذا ذهب وا إلى مم رات الترغل ,وع ادوا
حجالً آخر مثله .كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجب الَّ .
بصيد قليل ,فك انوا يع زون ذلك إلى أس باب وهمية وأق رب إلى الغب اء .اآلن ,في ه ذه الص حراء الفس يحة,
هذا الطير ال ذي يرونه ينفجر أم امهم ويث ير اس تفزازهم ,ال يعرف ون أي أك اذيب يمكن أن يقولوها لتفس ير
هذه الخيبة! ولكنها عادة من عادات الصيادين ,حين يندفعون برعونة زائدة إلى التح دي ,ثم إلى الت برير,
ذب! يرا إلى الك
ً وأخ
ددا من الرف وف وط ار بعض ها ح ول رف ث ان .ومثلما واجهت س يارة الجيب ع ً رف األول ط ار ّ بعد ال ّ
ددا مم اثالً ,وربما أك ثر
إن الس يارة األخ رى ق ابلت ع ً الس يارةَّ ,
وكأنه ك ان داخل قفص ثم انفلت فج أة ,ف َّ
قليالً .وإ ذا ك ان لص يادي ه ذه الس يارة بعض المع اذير ,ح ول ض يق الش بابيك ,وع دم إمكانية التح ُّرك
فإن صيادي سيارة الجيب كانوا أقل قدرة على التبرير.
بسهولةَّ ,
كانت السيارتان ,وهما تبحث ان عن دائ رة لت دورا فيه ا ,تمتلئ ان بن وع من الح رج أق رب إلى الخج ل ,وفي
بعض اللحظ ات أق رب إلى الخ وف .فبعد أك ثر من س اعة ,وبعد أن ط ارت عش رات الرف وف من الك دري,
وك انت الحص ىلة ثالثة طي ور في الف ولكس ف اكن ,وط يرين في س يارة الجيب ,تملكت الجميع رغبة في
توس يع قطر ال دائرة ,في محاولة الكتش اف مج ال واسع والع ودة بص يد أوف ر .ك انوا يش عرون بن وع من
الخجل ,وكان كل واحد متأك ًدا أنهم لو ع ادوا إلى عس اف به ذه الحص ىلة ,بعد كل الطلق ات المجنونة ال تي
مألت الفضاء ,فسوف يسخر منهم .وهذا الش عور لم يقتصر على رك اب س يارة واح دة ,أو على واحد من
عورا ض منيًّا ص امتًا ,لم يس تطع أحد أن يقول ه ,لكن كل واحد تص َّرف ب دافع منه
الص يادين فقط .ك ان ش ً
وتحت ت أثيره .ح تى الرغبة أو الكلم ة ,ال تي يقولها أي واحد في ال ذهاب إلى ه ذا المك ان أو ذاك لم تكن
اعتراض ا من أح د .ك ان الجميع يمتلئ خوفً ا ,خاصة وأن كل واحد ق دَّر أن عس افًا قد اص طاد مئ ات
ً تجد
ور! الطي
فإن مشاعر أخرى ك انت ترفع رأس ها بين لحظة
وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضةَّ ,
وأخ رى :الخ وف من الص حراء ,والتيه في ه ذا البحر القاسي ال ذي ليس له بداية وليس له نهاية!
حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع ,وارتفعت معها الحرارة وارتفع الغبار ,ش عر الجميع برغبة
قاسيا مري ًرا ,خاصة وأن عس افًا ك ان قد نبَّههم إلى أن الك دري مع
اللقاء مرة أخرى ,مهما بدا هذا اللقاء ً
تق دم النه ار يرح ل ,وأنه ي ذهب إلى أم اكن بعي دة بحثًا عن الم اء والطع ام .وأن الص يد خالل النه ار من
يرة. دوى إلى درجة كب دم الج عوبة وع الص
وبطريقة غامضة مليئة ب التردُّد ,ب دأت الس يارتان تتجه ان إلى منتصف ال دائرة .وإ ذا ك ان لكل مك ان في
36
وألن كل
ألن كل ذرة منها دائ رةَّ ,
إن الص حراء ملعونة إلى درجة ال رجمَّ ,
ال دنيا دائ رة ,ولها منتص ف ,ف َّ
ريحا غربية ك انت في
مكان منتصف الدائرة .ومع ذلك ,وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه ال ريح ,وت ذ ّكرهم أن ً
بداية الرحل ة ,ب دأت ال دائرة تض يق ت دريجيًّا ,وبعد س اعة من البحث ,ومن النظر الم دقق ,رأت س يارة
اء الطيبة: ال أحد أبن ردُّد ق ة ,ودون ت واد والزرق الجيب زواالً بين الس
اف! اف ...ذاك هو عس -عس
وبلهفة أق رب إلى الوج د ,ودون تس اؤل أو انتظ ار ,اتجهت الس يارة نح وه ,وبعد دق ائق ك انت الس يارة
لت. رى قد وص األخ
ريب من ه ,وك انت البندقية ملق اة إلى جانب هَّ ,
وكأنها ال تعني ه. منبطحا على الرم ل ,والكلب ق ٌ
ً ك ان عس اف
كومها مثل تل ص غير إلى جانب ه,أما الطيور التي اصطادها فقد َّكان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفةَّ ,
اه واحد... انت مناقيرها باتج وك
أما
رقما مس تحيالًَّ . ًّ
حين نظ روا إلى تل الطي ور أُص يبوا ب ذهول حقيقي ,ك انت بالنس بة لهم تال مس تحيالًً ,
حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظر إليها عساف بدهشة أق رب إلى االس تغراب ,لكنه بس رعة
ال بطريقة أبوية للتخفيف عنهم: ته ,وق لملم دهش
-الص يد في الس يارة يحت اج إلى التع ُّود ,والرف وف ال تي ك انت تط ير من عن دكم ك انت ت أتي إلى هنا!
ال بتواضع: ادها فقد ق تي ص ور ال دد الطي يوف عن ع أله أحد الض أما حين س
َّ
ّدها. رين ,لم أع والى العش -ح
همه األساسي أن يتأ ّكد إذا ق ابلوا رفوفًا كث يرة أم ال? وإ ذا ك انت
ولم يس أل عن الع دد ال ذي ص ادوه ,ك ان َّ
لوا إليها? ارت بعد أن وص ربت من قبل أم أنها ط ضدة ,وهل ُ قريبة أم بعي
عند هذا الحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد .ولو ت رك األمر ألبن اء الطيبة أو لعس اف الق ترح أن
يعودوا ,وإ لى جانب صخرة في الوادي الذي اجت ازوه يمكن أن يس تريحوا ,وأن ي أكلوا ,وك ان من الممكن
ظم رحلة ص يد ثاني ة ,في م رة أخ رى .لكن األم ور ,في أغلب أن يق ال إن ه ذا الص يد ك ٍ
اف ,وس وف تن ّ
األحي ان ,تس ير بطريق ال يق دره اإلنس ان وال يتوقعه .وإ ذا ك ان الض يوف هم ال ذين يحكم ون ,وهم ال ذين
عما يريدونه مباش رة .وعس اف
رفيعا بحيث ال يمكن أن يفص حوا َّ
إن أهل الطيبة امتلك وا خلقًا ً
يق ّررون ,ف َّ
اء: ال مجاملة ولكي يبعد أي إمكانية للبق ذي ق ال
-الص يد انتهى ,فمنذ اآلن وح تى الغ روب ,لن نجد رفًّا واح ًدا ,وإ ذا وج دنا أي ّ
رف فس وف يط ير من
ًدا. ائرا واح
ً ان أن يأخذ منه ط دة ,وال يمكن ألي إنس افة بعي مس
وبعد أن تبادل أبن اء الطيبة النظر فيما بينهم ,ومع عس اف ,نظ روا في وج وه الض يوف ,ثم اق ترح أح دهم
ردُّد: يوف دون ت ًوى عند الض اقتراحا وجد ه
ً
-يمكن أن ن ذهب اآلن حيث يريد عس اف ,وبعد أن نتغ دى ونس تريح نق وم بمش وار ص غير قبل الغ روب,
ود إلى الطيبة. دها نع وبع
37
لم تكن الجلس ة ,في ال وادي ,تحت ظالل الص خور ,مريح ة ,إذ رغم رطوبة المك ان ,ك انت ريح الص حراء
ف وتتك ّوم على
ش ديدة اللفح والح رارة ,وك انت تحمل معه ا ,بين ف ترة وأخ رى ,ذرات من الرم ال تس ّ
المنح درات الواطئة ,غ ير المنتظم ة ,وال تي تش كل مج رى الس يول أي ام الش تاء.
في هذه الجلس ة ,وال تي ش رب خاللها الجمي ع ,وتح ّدثوا عن أش ياء ال حصر له ا ,ك ان عس اف في البداية
تحدث بشكل غير مفه ومَّ ,
وكأنه يح ّدث نفس ه .أما أقرب إلى الصمت .وفي المرات القليلة التي تكلم فيهاّ ,
ول: أن يق اكن ,فقد اكتفى ب ادها ,وفي أي أم تي ص ات ال ئل عن الحيوان
س
عن دما ُ
-ما فائدة الح ديث عن األش ياء الماض ية ,ما دام اإلنس ان غ ير ق ادر اآلن على أن يص طاد أي حي وان?!
وحين ألحُّوا عليه أن يح دِّثهم عن أك ثر م رة ص اد فيه ا ,وعن ع دد الطي ور واألرانب ال تي ص ادها ,ق ال
ّدة: بح
إلي كوحش ,أنا إنس ان ,نعم إنس ان مثلي مثلكم ,وليس بي ني وبين أي مخل وق ع داء من أي -ال تنظروا ّ
نوع .فإذا كانت الطي ور والحيوان ات تغري ني وأُطارده اَّ ,
فألنني أش عر بحاجة أك ثر مما أش عر بل ذة .وح تى
لو كانت هناك لذةَّ ,
فإنها ال تصل باإلنس ان إلى ح دود اإلب ادة والفت ك .ح تى ال ذي ي رغب في ام رأة ,ويريد
أما إذا ك ان أحم ق ,وإ ذا فعل أن يعتصرها بين يديه إلى األبدَّ ,
فإنه غير قادر على أن يفعل ذلك بال حدودَّ .
بد أن ينتهي بشكل م ا .وأن ا ...عس اف ال ذي ال يعرفه أهل الطيبة إالَّ
شيئا ال يناسب الطبيعة البشرية ,فال َّ
ً
تائها في البراري ,وال يالحق إالَّ الطيور والحيوان ات ,أنا عس اف الفه د ,ال أرغب في الص يد لمج رد القتل
ً
رورية. ات الض مما يجب إالَّ في األوق
ثر ّ يد أك وال أص
أما األفك ار ال تي دارت في رأسه ومألت عقله
كان يريد أن يتحدث أكثر ,وبطريقة أفضل ,لكنه لم يستطعَّ .
وهو مس تلق على جنب ه ,وكلبه بقرب ه ,فقد ك انت كث يرة إلى درجة ال يس تطيع أن يحاص رها ,أن يقوله ا.
كأس ا جدي دة
إن كلماته تب دو غامضة فج ة ,وقد ال يفهمها أح د .وحين ش رب ً
وح تى لو أراد أن يتكلم ف َّ
وامتأل نشوة شعر بأنه يستطيع أن يتكلم بشكل أفضل ,خاصة وأن اآلخرين قد تكلموا دون أن يطلب منهم
أحد ذل ك ,ودون أن يك ون لكالمهم أي مع نى أو ض رورة .لقد تكلم وا بتلك الطريقة الفخمة المليئة
فكر أك ثر من م رة في أن يص رخ ,أن يض حك باألك اذيب ,وال تي ال يتقنها إالَّ المتعلم ون وأبن اء الم دنَّ .
بسخرية ,لكنه ابتلع أكثر ما كان يريد أن يقول ه ,واكتفى ب أن ينظر إلى الوج وه ,وأن ي راقب التص رفات.
ك ان عس اف في ذلك الي وم حزي ًنا إلى درجة ال يت ذكر معها أنه ح زن به ذا المق دار ,وش عر ب أن ثقالً أق رب
إلى الصخرة يجثم على ص دره .وإ ذا ك ان قد تع ّود أن يص در األوامر إلى الص يادين األغ رار ,وأن يق ودهم
في المسارب الض يقة ويتق ّدمهم في المعاص ي ,ليثبت لهم بطريقة ما أنهم ما زال وا بحاجة إلى وقت طويل
لكي يتعلموا معنى الصيد ,وأن يتصرفوا بطريقة مليئة بالحكمة والذكاء ,ويم يزوا بين الطي ور ال تي تُص اد
وتلك ال تي يجب أن تُ ترك لتعيش ,إذا ك ان قد تع َّود ذلك ومارسه بمك ر ,وألس باب غامضة في بعض
األحيان ,فلقد كان في هذا اليوم أقرب إلى االستسالم واليأس ,وكان مستعدًّا ألن يفعل ما يري ده اآلخ رون.
38
لو أن عس افًا تماسك في لحظة معين ة ,لو أنه رفض بإص رار ,مثلما تع ّود ,االس تجابة إلى رعونة الش باب
وخفتهم ,لو أن الح زن فارقه والي أس لم يس يطر علي ه ,لو أن الخم رة لم تتص اعد أبخرتها القوية الح ادة
أن المكان كان غير هذا المكان ,لما حصل شيء .لكن قوة خفي ة,
إلى الرؤوس في هذا اليوم الصيفي ,لو َّ
أق رب إلى الباله ة ,ولعلَّها حكيمة بمق دار ال يدركه عقل اإلنس ان ,هي ال تي ق َّررت كل ش يء!
فقبل أن ينتصف النهار ,وبعد أن استراحت القافلة أكثر من ساعتين بدا الزمن لضيوف الطيبة ال ذين أت وا
ومن ع اش في مثل ه ذه األم اكن .إذ ما ك اد أح دهميحس ه أهل الطيب ةً ,
عما ّيئا مختلفًا ّ
من المدين ة ,ش ً
يق ترح الع ودة إلى الص يد ,ح تى اس تجاب اآلخ رون بس رعة وس هولة .وك َّأنهم اتفق وا على ذلك من قب ل.
ائرا ,وب دا أنهم غ ير
استسالما ح ً
ً وعساف الذي نظر إلى أبناء الطيبة نظرة تساؤل ,وجد في عيون هؤالء
دورا أقرب إلى الحماقة ,ويستجيبون ألي رغبة يطلبها ه ؤالء
قادرين على اتخاذ أي قرار ,وأنهم يمثلون ً
األفندية.
بعد ت ردُّد لم يط ل ,نهض عس اف وبلهجة مليئة بالس خرية والتح دِّي ,ق ال يخ اطب كلبه:
وحفً دتها,
تورثها إلى أوالدها ً
فإنها تتعلم أش ياء كث يرة ثم ّ -ال يتعلم اإلنسان إالَّ بالتجرب ةَّ ,
أما الحيوان ات َّ
ان... أما اإلنس
اةَّ . ها وتواصل الحي دافع عن نفس ذه الطريقة ت وبه
وض حك بس خرية ,وبال مناقش ات طويلة اخت ار عس اف مكا ًنا جدي ًدا ,ق ال ليقنع نفسه:
-قد ال تك ون الطي ور هن اك مض روبة ,وقد نجد بعض األش واك تس تظل به ا ,ونحن وما قُ ِس م لنا!
وبالطريقة نفس ها ,وباإلص رار نفس ه ,حين وصل إلى المك ان ال ذي ي راه مناس ًبا للص يد ,أوقف الس يارة
زل. ه ,ثم ن زل كلب وأن
لينبه
ال ّ أما حين ق ال أحد أبن اء الطيبة بص ٍوت ع ٍ
لم يتكلم ه ذه الم رة أي كلمة ,لم يك رز ب أي موعظ ةَّ .
الجميع:
ألن الطريق إلى الطيبة طوي ل ,ويجب أن نصل مبك رين.
-س نلتقي هنا بعد س اعة وأقصى حد س اعتينَّ ,
حين ق ال الرجل ه ذه الكلم ات ,ه َّز عس اف رأسه داللة الموافق ة ,ول َّوح بي ده بطريقة دائري ة ,وقد فُهمت
دائرة ,وفهمت على َّأنها تحية. يبقى في منتصف ال تلك الحركة على َّأنه س
الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور ,والرمل أك ثر س خونة من الجم ر ,حتَّى الكلب وهو ينقل
كأنه يمشي على أش واك ح ادة أو أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى االس تغاثة أو االحتج اج ,أو َّ
زجاج مكسور .وحين أقلعت السيارتان بسرعة خلفتا وراءهما س حابة كب يرة من الغب ار ,لفَّت عس افًا فب دا
احتجاجا وركض لمس افة وراء إح دى
ً أما الكلب فقد ع وى
زءا من الص حراء الممت دة بال انته اءَّ .
ج ً
اد ببطء. يارتين ,ثم ع الس
وإ ذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود ,في البحار والمحيطات ,على قمم الجبال وفي أعماق األودي ة,
في األص قاع المتجم دة وفي ظلمة الغاب ات -إذا ك انت الطبيعة في كل ه ذه األم اكن تن ذر ب التحول وتبعث
بإش ارات من ن وع م ا ,ب أن ذلك العنف وان ال داخلي لم يعد يق وي على االحتم ال وس وف يقلب جل ده في
39
اللحظة التالي ة ,فالص حراء الغامضة القاس ية الموحشة المفاجئة تتج اوز ق وانين الطبيعة لتثبت ه ذه
القوانين .فلم تمض ساعة حتى ُج َّنت الدنيا :هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كل شيء .ك انت الزوابع ت دفع
الكثب ان الرملية وتس فّها كما تفعل الري اح ب األمواج ,فتت دحرج الرم ال بس رعة كما لو أنها كتل من القطن
الهش أو بقايا أوراق محترق ة ,ح تى إن اإلنس ان ما أن يس تدير قليالً ليتَّقي ه ذا الجن ون المف اجئ ح تى
يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلك الجمر الصغير الن اعم َّ
وكأنه س قط من ن ار ال تع رف التوقف أو االنطف اء.
إن ما حصل في ذلك اليوم الصيفي ,في أعماق الصحراء ,وعلى مسافة غير قص يرة من الطيب ة ,ال يمكن
أن يس تعيده أحد دون أن يبكي .ف الخوف ال ذي مأل ال دنيا خالل تلك الس اعات ك ان من الق وة وال ذهول إلى
تعبر عن أي ش يء.
درجة أن ال أحد يس تطيع أن يت ذكر ما حص ل .ح تى الكلم ات تب دو باهتة ع اجزة ,وال ِّ
وأبن اء الطيبة ال ذين ك انوا يعرف ون بغري زتهم طبيعة الص حراء وقس وتها ,من رائحة اله واء ,من لمع ان
الس ماء القاس ي ,من الزوابع ال تي تج اوزت ال وادي وع برت الس هل كله ح تى وص لت إلى الطيب ة ...إن
ه ؤالء لم يص دقوا اله ول ال ذي يرونه أم ام عي ونهمَّ .إنه ش يء لم يش هدوا مثله طيلة حي اتهم .والض يوف
ال ذين أص ابهم الهل ع ,وال ذين فق دوا الق درة على التص ُّرف ,تحول وا إلى مجموعة من ال دمى المتوس لة
وا! ًدا :أالّ يموت يئا واح
ً دون ش انوا يري ة .ك الباكي
وفي غم رة الخ وف يفقد البشر الق درة على التص ُّرف ,فب دل أن يوقف وا الس يارات وينتظ روا ,ك انت
العواصف الرملية القاس ية هي ال تي تح ّركهم ,هي ال تي تق ودهم .وفي الم رات القليلة ال تي توقف وا فيها
وج اءت الزوابع حاملة الرم ال الس اخنة ,ص رخوا ب رعب ,وش عروا ب الموت يطبق على رق ابهم .ودون
انتظ ار وب دوافع غريزية ح اولوا اله رب .وإ ذا ك انت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وق درتها على
فإن السيارة األخرى بدت مثل سلحفاة ضالة ال تعرف إلى أين تذهب أو متى تم وت .وحين ق ال
السيطرةَّ ,
معا ,فقد ش عر الجميع بن وع
يرا إلى درجة تتطلب بق اء الس يارتين ً
أن األمر أص بح خط ً
أحد أبن اء الطيبة ب َّ
قريب ا ,بل أص َّر على أن يمشي قبل الجيب ,وعلى
من الراح ة .ولم يكتف س ائق الف ولكس ف اكن ب أن يبقي ً
ار قليلة منها. افة أمت مس
انتظ ار الم وت في ه ذه الص حراء أص عب من الم وت آالف الم رات .ف الموت هنا ال ي أتي فج أة ,ال ي أتي
متنكرا ,وال ي أتي بس رعة ويقضي على كل ش يء ,وإ َّنما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف على ش بابيك
ً
يسف حفنة من الرمال في األفواه والعي ون.
ّ السيارات ,وبين لحظة وأخرى يعربد ,يصرخ ,يلطم الوجوه,
وبعد أن يمل من ه ذا الم زاح ي تراجع قليالًُ ,ليقعي مثل ذئب ,انتظ ًارا لجولة أخ رى .والجولة األخ رى ال
هلعا في العي ون,
تنتظر ط ويالً ,إذ تص عد مثل البخ ار مس رعة جارفة قوي ة ,فتولد يبوسة في الحل وقً ,
دق
ممض ا ,بالخش ونة الكاوية نفس ها ,ب الجبروت نفسه ال ذي ال يع رف ال تراجع ,ي ّ
ًّ انتظ ًارا آخر قاس ًيا
لة. ات قوية متواص رى دقّ رة أخ بابيك م الش
وبين انتظار وانتظار يموت اإلنسان ,يموت ألف مرة ,يفقد الثقة ,تتالشى إرادته ,يسقط ,ينهض ,يترنح,
يمتلئ حلقه بأدعية خائفة ال يعرف كيف أتت ,يصرخ دون صوت ,ينظر في وجوه اآلخرين ل يرى وجه ه,
40
يتذ ّكر ,يق اوم ,ينه ار ,يس قط .يم وت م رة أخ رى ,ينهض من الم وت ,يتأمل األمت ار القليلة ال تي يمكن أن
تُرى عبر الشبابيك ,يالمس حبات الرمل المتسربة في كل مكان ,يمأل حلقه بجرعة ماء ويستبقيها ألط ول
ف ترة لعلَّها تم ّده بمزيد من الق وة على المقاوم ة ,على الص مود ,يفقد الق درة على الح ديث ,يفقد الق درة
تمام ا ,يريد
على ابتالع الم اء ,يتح ّول الم اء إلى ملح ,يتح ول الزبد إلى زب د ,يريد أن يص رخ ,أن يم وت ً
اء ,ظالًّ ,وينتظر!
ً ه ,يريد م أة وتبتلع ق األرض فج ّ أن تنش
حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخ ر ,يتح ّول إلى ذرات ص غيرة ,الثاني ة ,والدقيقة هي كل ال زمن.
ثم يب دأ ذلك ال زمن ب التفتت إلى ما ال نهاية ,كالص حراء بال نهاي ة ,ويطبق كالخيط المبل ول القاس ي ,يش ّد
اخرا
يحزها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها ,ويظل هكذا موتًا مؤ ّك ًدا منتظ ًرا س ً
دون توقف على الرقبةّ ,
فيحس اإلنس ان باالختن اق ,وتتص اعد ض ربات القلب ,وترتفع درج ات الح رارة ,ويتح ّول ل ون
ّ ؤجالً,
م ّ
ار أو العويل. وف االنفج تطيع الواحد أن ينظر إلى اآلخر خ ة ,وال يس وه إلى الزرق الوج
والح رارة المنبعثة من األرض أو المنزلقة من ش مس الس ماء المتوحشة ال ت ترك لإلنس ان لحظة من
الت وازن والتفك ير .فالظلمة حين تطبق تجعل اإلنس ان يحس بض ٍ
آلة متناهي ة ,ويتض اعف رعبه مئ ات
رات. الم
فبعد انتظ ار طويل طوي ل ,لعل ال ريح ته دأ وتص بح الرؤية ممكن ة ,ب دت الش مس تميل نحو الغ روب ,لم
يرها أحد تفعل ذل ك ,لم يرها أحد ت نزلق مثلما تفعل في البح ر ,لكن من الن ور الب اهت المت داخل مع ذرات
الرمال ,من ذلك االنكسار التدريجي في الحرارة ,يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا الس مت بعد أن ظلّت
ار. اعات النه وال س رؤوس ط وق ال نقة ف مثل حبل المش
أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل ,ألن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض
إلى درجة يمكن ان تولد الش يء ونقيض ه ,وت دفع اإلنس ان ألن يفعل الش يء ونقيض ه .ف الحرارة المنبعثة
من الش مس ,وال تي ك انت أشد األع داء ,ب دت حنو ًنا مض يئة حين أخ ذت الش مس ذلك الميل من ذرة
حلما
أما النور الوه اج ال ذي ك ان ينفجر من كل األش ياء خالل س اعات النه ار كله ا ,فقد أص بح ً
باالنتهاءَّ .
ائعا والظلمة تطبق ت دريجيًّا .والري اح ال تي ك انت تح ّدد االتجاه ات ,ويمكن أن تق ود اإلنس ان إلى مك ان
ض ً
اء. ات عمي اء األولى إلى عويل ولطم َّولت في ظلمة المس معين ,تح
إنه الموت وال شيء غيره ,هكذا قال كل واحد في نفسه .واإلنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق
نهائي ا ,أما ذلك الع ري الح اد الفاضح في كل
ّ على كل ش يء ,ح تى على الم وتَّ ,
فإنه يري ده ص اعقًا ك امالً
إن ه ذا الن وع من الم وت ال تمتلكه س وى ش يء ,ال دمار ال ذي يفتّت الخاليا بقس وة تش به النهش ,ف َّ
رف التوقُّف أو الراحة. ذي ال يع اح ال ان الري ل ,وفي فيض حراء في اللي الص
دمره وال تتركه!
ه ذا هو اإلنس ان ,ذلك المخل وق الض ئيل المتالش ي ,في مواجهة ق وة غاش مة ال ت ّ
وق: وت مخن اء الطيبة بص ال أحد أبن ق
اف. اعدك يا عس -اهلل يس
41
اف: ان عس ائق مك انب الس ذي جلس إلى ج ال ال ق
اف? حيح ,أين عس -ص
وغاصت الكلم ات في األف واه م رة أخ رى ,وخيَّم الص مت ,لكنه ذلك الص مت الم دوي ال ذي ينفجر في كل
لحظة ,في كل شيء ,والذي تسمع ولولته في كل الخاليا
في وقت م ا ,وال أحد يمكن أن يح ّدد م تى ك ان ذلك ال وقت ,وكم من ال زمن قد م َّر ,ب دأت ال ريح ت تراجع,
يئا ,وإ ن ظلّت الس ماء مكت نزة ب ذلك الس واد الثقيل الق اهر ,وحين ب دأ
يئا فش ً
وب دأ عصف الرم ال يخف ش ً
س ائق الس يارة الجيب يش عل األض واء ويطفئه ا ,فقد ب دت حركة ذكية مليئة بالمع اني .ق ال الج الس إلى
جانبه:
أتي إلنقاذنا! َّد أن يرانا أحد وي -ال ب
ائق: ذي يجلس في المقعد الخلفي وراء الس ال ابن الطيبة ال ق
-يجب أن تش غل الس يارة وت دور ع دة م رات لع َّل عس افًا يرانا أو ن راه فن ذهب إليه أو ي أتي إلينا!
دون مناقشة ودون تس اؤل ,ب دأت الس يارة ت دور مثل حي وان مرب وط .وبين لحظة وأخ رى ,ك ان الس ائق
اة. ون فيه النج يئا يحصل وتك
ً َّل ش ه ,لع ور ويطفئ عل الن يش
ال ابن الطيبة: ق
ده... هولة ,أما إذا لم نج ود إلى الطيبة بس ذنا ونع افًا يمكن أن ينق دنا عس -إذا وج
وس كت .تطلعت إليه العي ون دون أن ت راه .وإ ذا ك انت الظلمة قد خلقت خوفًا من ن وع جدي د ,وإ ذا ك ان
إن ه ذه الكلم ات انفج رت داخل الس يارة َّ
وكأنها نهاية كل الش عور بالنج اة ب دا مثل خفق ات قلب م ريض ,ف َّ
يء! ش
يق ول ال ذين وص لوا عصر الي وم الت الي في ثالث س يارات ,إح داهما لس الح البادي ة ,وع ثروا على
السيارتين ,إنهم وج دوا أغلب الرج ال بين الحي اة والم وت .ك ان ع دد منهم فاق ًدا ال وعي ,وك ان اآلخ رون
أما سيارة الفولكس فاكن فقد انغرزت إطاراتها الخلفية في الرمال وأص بحت
في حالة من اإلعياء الشديدَّ .
تع ْد ق ادرة على الحرك ة ,ووج دوا الحبل ال ذي ح اولت الجيب في حالة من اإلنه اك إلى درجة أنها لم ُ
تمام ا,
أما كمية المي اه ال تي ك انت في الس يارتين فقد نف دت ً
اس تعماله لس حبها قد تقطّع في ع دة مواض عَّ ,
ق إالَّ أوان فارغة ّ
يخش فيها الرم ل ,ويق ول ه ؤالء إنهم لو ت أخروا س اعة أو أقل لم ات جميع َمن ولم تب َ
شون على وجوه الرجال الماء ,وب دأوا يكلم ونهم ,لم يس تطع أي من أما حين بدأوا ير ّ
كان في السيارتينَّ .
كالما واض ًحا ,ك انت غمغم ات أق رب إلى أص وات الحيوان ات .ولقد بكى اثن ان من الرجال السبعة أن يتكلم ً
يرا عن ف رحالرجال السبعة ,أحدهما من أبناء الطيبة ,ولم تع رف أب ًدا أس باب ذلك البك اء ,وهل ك انت تعب ً
يء آخر! أو عن ش
42
تطع أحد أن يجيب. اف ,لم يس ؤال عن عس اح في الس ائق ,ورغم اإللح وبعد بضع دق
ال بلهجة ال تقبل المناقشة: كرية ق يارة العس انوا في الس ذين ك ال ال لكن قائد الرج
افًا. وف نجد عس ًدا ,وس وا أب اكنكم ,ال تتحرك وا في أم -ابق
ال البادية َّ
وكأنه يطمئن الجميع: ال أحد رج ق
نجده! ا ,وس قريب
ون ً َّد أن يك -ال ب
قريبا
وبخفة متناهية قفز إلى البيك آب ,دون أن يحس أحد ,مخت ار المنطقة الش رقية ,وأخذ مكا ًنا حص ي ًنا ً
وة. امي بق رة ,وأمسك بالحديد األم من القم
كانت الصحراء الممتدة بصفرتها المائلة إلى زرقة مثل حلقة ال أفق لها وال نهاية .وحين انطلقت الس يارة
بدوي مفاجئ صرخ الذي بكى من الضيوف ,وركض وراءها ,ثم سقط على األرض وأخذ بالعويل ,وح تى
حين ُحمل وأُعيد إلى الس يارة وأُعطي قط رات من الم اء ,ظلَّت دموعه تتس اقط دون توق ف ,ثم غطَّى
ترة طويلة. ذلك ف َّل ك وجهه بيديه وأجهش ,وظ
قويا في العث ور على عس اف .وإ ذا ك ان الص مت ,في ح االت
كان الحشد الكبير ينتظر ,وكان األمل ال يزال ً
كثيرة ,أفضل وسيلة للتعبير ,فقد ظلَّت أسئلة الرجال الذين جاءوا من الطيبة بال إجابة ,وإ ن كانت إجابتها
أما حين س قطت بعض ال دموع واضحة قوية في الوج وه ,في الحرك ات ,في الش فاه المتش قّقة المفط ورةَّ .
ف الجميع عن الكالم .وانش ّدت العي ون إلى كل االتجاه ات لعلَّها ت رى بش ًرا أو زواالً ,وك ان أملفقد ك َّ
واحد ,مثل نسمة باردة ,يخفق في كل ص در ,وارتفعت ابته االت ال تخطر على ب ال وال نهاية له ا ,وك انت
دوه. اف حيًّا وأن يج ون عس دعاء ,أن يك به ال رب إلى التمتمة وتش أق
لقد انبثقت في تلك اللحظ ات آالف الص ور في أذه ان الرج ال ال ذين ينتظ رون .وتلك الص ور ,وإ ن ب دت
بياض ا :حين ك ان
ً وحا وأكثرها
فإن صورة عساف كانت أش دها وض ًمتداخلة مضطربة ,وأقرب إلى الحلمَّ ,
ويوزعها بمه ارة ال تخطئ .حين ك ان يم ّزق بعض المواضع من أحذيته وثياب ه.
يع ود بعش رات الطي ور ّ
حين كان يجمع الخرطوش الفارغ من الص يادين األغ رار ويتأمله بعناية ثم يحض ره بعناية أك ثر ليس تعمله
لما تخلَّى نهائيًّا عن الخرط وش المص نوع من ال ورق المق وي
في اليوم التالي ويتأ ّكد بنفسه من قوته .ثم َّ
واس تعاض عنه بخرط وش النح اس ,وكيف ك ان يحتفظ ببعض ه ذه الخ راطيش في جيب جل دي ص غير
ويؤكد ,إالَّ (لقتل
ِّ لص قه على ص دره ,كيف ك انت الطلق ات تب دو ش ديدة اللمع ان وال يس تعملها ,كما يق ول
الوح وش) -إن ه ذه الص ور ,وعش رات غيره ا ,تم ّر في ه ذه اللحظ ات مثل ش ريط طوي ل ,وكل إنس ان
ق عنه األرض وينفجر فج أة كما تنفجر الطلق ة .وأهل الطيبة ال ذين تع َّودوا على
أن عس افًا ستنش ّ
متأ ّكد َّ
عس اف وغياباته ال تي قد تط ول ي ومين أو ثالث ة ,حين تحاص ره الثل وج أو يفيض ال وادي ,إذا ك انوا قد
تماما من ش يء واح د :س ينفجر عس اف ِ
تع َّودوا عليه وألف وا كل ش يء يص در عن ه ,فقد ك انوا متأ ّك دين ً
بينهم ,وأن الس يارة حين تع ود يائسة مثقلة بالخيبة والح زن س تجده وسط المجموع ة ,يتح ّدث بتلك
الطريقة المبهم ة ,الحافلة باألص وات غ ير المفهوم ة ,عن ري اح البارحة وعن جن ون الطبيعة وغ در
43
واتهم: أص
وف نلتقي. تي ,هنالك س الوا إلى بي -تع
وبطريقة خفية حافلة بالحن ان والعذوبة والخ وف والتق ديسُ ,حملت جثة عس اف إلى ال داخلُ .وض عت في
وقريبا من يده اليمنى وضعت البندقية ,وبحركات آلية,
ً صدر المضافة ,ووضع إلى جانب الرأس فانوس,
تم ذلك به دوء وإ تق ان ,طلب المخت ار من الجمع أن يجلس وا. َّ
كأنها ُرتِّبت منذ وقت طويل ,وبعد أن َّ
الصمت ,الصمت ,وال شيء غير الص مت ,وما ع دا النظ رة الثقيلة الحافلة ب الحزن ,والمرتس مة على تلك
إن الطيبة من أعجب األم اكن وأكثرها غراب ة ,ال تس تطيع أن تفضح
الوج وه الملهوفة المتس ائلة ,ف َّ
يرا ما تق ول ذلك الش يء بطريقتها الخاص ة, يئا َّ
فإنها كث ً عواطفها بس هولة ,وح تى لو أرادت أن تق ول ش ً
دو مألوفة أو مفهومة! تي قد ال تب وال
أما رج ال البادية ال ذين س اعدوا في حمل الجث ة ,فقد ق ال العريف ال ذي
لم يتج رأ أحد أن يس أل المخت ارَّ ,
ودهم: يق
باحا.
ً ًدا ص ذهب ونجهز التقرير لرفعه غ وف ن -س
ان! ادرت المك يارة ,وغ َّركت الس ار تح ودون انتظ
ومحمر العينين ,والذي ك ان يتح َّرك في بعض األحي ان حرك ات طائشة
ّ والمختار الذي كان بادي العصبية,
يعبر عن ه.
يئا ,ك ان يق اوم في نفسه ذلك الك ابوس ال ذي ال يطيق أن يحتفظ به وال يق وي أن ِّ
ال تع ني ش ً
وهو إذ كان قد برع في كل األوقات على أن يدير الحديث ,وأن يتكلم بطريقة ال يحسنها غ يره في الطيبة,
كرا ,ويق دم أص عب األم ور وأكثرها مش قة, وال ذي ك ان يوصف َّ
رش على الم وت س ً بأنه ق ادر على أن ي ّ
أما حين
ضائعا خائفًا ,وبدا شديد العصبية بحركات يديه ووجه هَّ .
ً تائها
بأيسر الوسائل وأكثرها قبوالً ,بدا ً
انتظم مجلس الطيبة ,كما لم يحصل ذلك من قبل ,ووسط الصمت القاسي الذي خيَّم على كل ش يء ,انفجر
وع: ّدمات من أي ن د ,ودون مق ار ,دون أن يطلب إليه أح وت المخت ص
روا إليه. امكم ,انظ اف ...إنه أم ذا عس -ه
اء: ابع بلهجة يخنقها البك ة ,دون أن يلتفت ,ثم ت َّز رأسه بلوع وه
-عس اف الحص ان ,عس اف الغيم ة ,أبو الفق راء ,ال ذي ال ين ام س اعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة
تمر الن اس ...عس اف زينة الرج ال ,ت رككم
وتبقى ...عس اف ال ذي يحب الجمي ع ,ويقتل نفسه ح تى يس ّ
اآلن ,ترككم وحيدين تح اربون ( )...العس كر والج راد ,وال أحد يع رف أي ق وي أخ رى ,وم اذا سيحصل!
كاد أن يواص ل ,خاصة وأن كلماته ن زلت إلى قل وب الرج ال َّ
وكأنها الس كاكين الملتهب ة ,فح ركت ال رؤوس
تغي رت أفك اره واض طربت: ودفعت حب ات من ال دموع لكي تتس اقط بص مت ,لكن فج أة ّ
-ما فائ دة الكلم ات اآلن? يمكن أن نك رز من ه ذه اللحظة وح تى ي وم القيام ة ,لكن كل ي وم يس قط منا
يء! يتغير ش
دينا ,وال ّ جار بأي نا وتقطع األش وق رؤوس بيوت ف قط ال ال ,وتس الرج
وع: يغير الموض
ّن يريد أن ِّ ال رجل مس ق
45
واد. انب الس اض في لونه إلى ج ان البي والً ,وب مه
وحا وقس وة مما كنا
ومع كل خطوة تقتربها السيارة ,حيث كان النسر يربض ,ب دت لنا الص ورة أك ثر وض ً
ور. نتص
رابض ا ,وك ان تماما ك ان الكلب َّ
ً ك ان عس اف م دفو ًنا في الرم ل ,لم يكن يظهر إال رأس ه ,وف وق ال رأس ً
ياجا ح ول
أيض ا ,لكن بطريقة غريبة للغاي ة :ك ان يش كل س ً
الج زء األك بر من جسد الكلب م دفو ًنا بالرمل ً
نه. ان يحتض ه .ك ا رأس خصوص
ً اف, جسد عس
ًحا. يء واض لنا رأينا كل ش ولما وص
ال مقبل بثقة: ق
-عس اف م ات قبل الكلب ,وال ب َّد أن بعض الطي ور ,ربما ه ذا النسر أو غ يرهَّ ,
أحس ت وع رفت ب ذلك,
وجاءت لتأخذ نصيبها منه ,لكن الكلب ,وفي محاولة لحماية عس اف ص ارعها ح تى ص رعته .انظ روا إلى
ال دماء المتجم دة ف وق رأس الكلب ,لقد َّ
مزقته بمناقيرها لتصل إلى عس اف ,وفيما هو ي دافع عن نفس ه,
ات من العطش أو من النهش). ون قد م م ,وال بد أن يك افَّ ,
تهش وعن عس
تمام ا .المط رة
قال مقبل ذلك وامتدَّت يده إلى الرم ال تزيحها وتس حب جثة عس اف .الجثة مدفونة بالرمل ً
فارغة ,وعساف يقبض على البندقية بق وة ,وال ب َّد أن يك ون قد ق ام وس قط ع دة م راتَّ ,
ألن ي ده اليس رى
ِّ
وهش م ملتوية ومزرقّ ة .ومن حسن حظه أنه س قط على وجه ه ,لو ك ان في وضع آخر ألَ َكل النسر عينيه
وجه ه ,والكلب حين رأى عس افًا يس قط ن ام فوقه :ال ب َّد أنه ح اول إنق اذه بش كل أو ب آخر ,لكن العاص فة
نين! وى من االث انت أق ك
اف. ذه الطريقة انتهى عس به
وخيم كأنه يح اول أن يمنع رأسه من الس قوط أو َّ
كأنه يت ذكرِّ . س كت المخت ار ,وضع يديه تحت ص دغيهَّ ,
اف: ر ,أض الم آخ وت من ع ا ,صتمام
وت مختلف ً ص مت ثقي ل .وبص
-كان بودِّي لو حملنا الكلب معنا ,كان يستحق ذل ك ,لكن لم أج رؤ على ط رح الفك رة ,ب دت لي ال تناسب
أما حين حملنا الجثة ووض عناها في البيك آب ,فقد ظللت على األرض
الموقف وال يمكن أن يفهمها أح دَّ .
لبعض ال وقت ,وكنت أنظر إلى الكلب .لم أس تطع أن أرفع نظ ري عن ه ,لكن قائد الس يارة العس كرية ,ق ال
بصوت عصبي ,وإ ن ك ان فيه بعض القس وة( :لم تنته مهمتنا بع د ,علينا أن نصل إلى الجماع ة .)...ولما
صعدت إلى السيارة ومررت إلى جانب الجثة ,نظرت إليها بإمعان ,بدا لي وجهه شديد الحزن ,وال أعرف
كيف سمعت صوت عساف ,سمعته يقول( :والكلب !?...هل تتركون الكلب?) وبسرعة ,وبخ وف اق تربت
من الجن ديين الل ذين كانا في مقدمة الس يارة ,ولم أس تطع أن أنظر بعد ذلك إلى الخل ف .كنت خائفً ا ,كنت
علي الخ وف أك ثر عن دما م الت الش مس إلى
تماما من أن أرى عسافًا ,أو أن أسمع كلماته ,وسيطر ّ
خائفًا ً
المغيب ,وتص ّورت ال ذين ينتظ رون ,وتص ّورت الطيبة والبشر وال أع رف أي أح زان أخ رى).
يرون: يتعودها الكث
زن لم ّ دت في لهجته َّ
رنة ح ّنين ,وقد ب ال أحد المس ق
47
ور! تراب لكي ال تأكله الطي وا عليه ال واجب أن تهيل ان من ال -ك
بية: ار بعص رد المخت
أتي به. واجب أن ن ان ال -ك
ال الرجل المسن: ق
تراب. ال عليها ال رم لها أن ُيه وت ,لكن األك ات حين تم -ال يمكن أن تحمل الحيوان
دم ,ولم يتكلم. ديد والن زن الش دت عليه عالئم الح ار رأسه وقد ب َّز المخت ه
رن: احب الف ال ص ق
-أعجب ش يء في ه ذه ال دنيا العالقة بين اإلنس ان وما حوله من أش ياء ,من حيوان ات وأش جار وبي وت
ألن فيها
يرا عن الطيبة يتعلّق بها اإلنس ان في ح االت كث يرةَّ ,
وأنه ار ,ح تى الص حراء ال تي ال تبعد كث ً
ألن
نجات ه ,ول وال ذلك لما ذهب عس اف إلى هن اك .ك ان يريد أن يخلص الطيب ة ,ويخلّص ني أنا بال ذاتَّ ,
ًدا. رن لم تعد تكفي أح رج من الف بحت تخ تي أص األرغفة القليلة ال
دأ يتكلم: قطت حين ب امتًا ,لكن دمعة س َّل ص ال رجل ظ ق
-في الطيب ة ,كما في أي مك ان آخر من ه ذا الع الم ,ما يحت اج إلى تغي ير هو اإلنس ان.
وص مت لحظ ة ,جفَّف دموعه ال تي ك انت تتس اقط دون إرادة على ّ
خديه وأض اف - :لو أننا فهمنا ما ك ان
انت حالنا اآلن أفضل. اف يقوله لك عس
ّنين: ال أحد المس ق
ود. اف ,ذهب ولن يع -لقد رحل عس
بية: ال بعص ًدا آخر ق ابع ,لكن واح اد أن يت زن وك توقَّف قليالً ,ابتسم بح
أخرة! ياء مت أتي األش ان ت -أغلب األحي
وقت: وده طيلة ال غير لم يفطن أحد لوج اب ص ال ش ق
-إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المط ر ,وال تفعل ش ً
يئا س وى انتظ ار المط ر ,فس وف يم وت الجميع كما م ات
وأ! اف ,وربما أس عس
ار: ال المخت ق
-أك بر ظلم لعس اف َّأننا تركن اه يح ارب وح ده ,ح تى الكلب ك ان أحسن من ا ,لقد ح اول إنق اذه ,ونحن لم
نفعل.
ال: ال أحد الرج ق
وتنهد بح زن ثم أض اف:
َّ أما الكلب ف انظروا ,ه ذه هي ال دنيا!
ظلما أن ن ترك البش رَّ ,
-واهلل األك ثر ً
أن عس افًا يريد أن يم وت ,وأنه س يقتل نفسه بش كل ما ,إذا لم يكن في ه ذه الرحلة ففي
-كنت أع رف َّ
رحلة غيره ا ,إذا لم يكن في الص حراء فتحت أك وام الثلج ,وأنتم تت ذكرون حياته كله ا ,ت ذكرون كم م رة
رة بحثنا عنه. اع وكم م ض
48
أة: ال فج ّنين ق ديث ,لكن أحد المس ان يريد أن يواصل الح ك
-يستغرب اإلنسان أنه في حاالت كثيرة ال يمكن التفريق بين الحيوانات والبش ر .وربما ك انت الحيوان ات
أفضل من بشر كث يرينَّ .
لكنني منذ ج اء ه ذا الكلب إلى الطيبة تش اءمت وقلت ال ب َّد أن يقتل ه ذا الكلب.
دة: ار بح ال المخت ق
اه. ذين قتلن افًا ,نحن ال -الكلب لم يقتل عس
-ال يهم َمن قتل اآلخ ر ,المهم اآلن أن عس افًا ,ال ذي يرقد هن ا ,ال يس مع وال يحس بوجودنا.
دة: ار بح ال المخت -ق
ال! يء ,ويفهم كل ما ُيق مع كل ش مع .نعم إنه يس -ال ,إنه يس
ّنين: ال أحد المس ق
-يا أبناء الطيبة ,ال تكونوا حمقى أكثر مما يجب .الرجل انتهى اآلن ,وال يمكن ألي قوة على األرض أن
نائما بس الم ,واس هروا ح تى
ادرا على ذل ك ,وإ ذا أردتم أن تكرم وا عس افًا ف دعوه ً
تعيده ,وليس غير اهلل ق ً
ده اليها. واء الفجر نحمله إلى األرض لنعي باح ,ومع أول أض الص
وبطريقة أقرب إلى الغموض والتح دي ب دأت الس هرة .ب دأت بن وع من التك ريم ال ذي لم تتع وده الطيبة من
عورا بالرهبة خيَّم على
قب ل ,ربما نتيجة للخ وف أو لبقايا اقتناع ات ومواقف تج اه الم وت .وب رغم أن ش ً
عددا من الناس ,بمن فيهم الض يوف ,ك ان َّ
يتمنى لو أن األمر لم يأخذ ه ذا الش كل ,لكن إزاء الجميع ,وأن ً
َ
بية: ار بعص ال المخت ديد ,ق ال الش ات االنفع رار مبهم ,وفي لحظة من لحظ إص
يء. هد كل ش اف لتش -يجب أن تبقي معنا يا عس
وأدار رأس ه ,وعين اه مغمض تان ,وي داه ترتفع ان بطريقة تحمل مع اني ال حصر له ا ,وت ابع َّ
كأنه يخ اطب
نفسه:
تبقي معنا. اف ,وس تم ْت ,يا عس
-أنت لم ُ
ان بعيد: ال رجل من مك ق
يء! ة ,واآلن انتهى كل ش يئة اهلل يا جماع وت بمش اة والم -الحي
بية: اب بعص ال ش ق
جميعا!
ً اة منا ثر حي وت ,وهو اآلن أك اف لن يم -عس
ال رجل مسن: ق
رف فوقنا اآلن. دي ,إن المالئكة ترف -ال تكفر يا ول
مليئا بالذكاء والمك ر ,لكي يخ رج
قال أبو زكور ,الذي يبني كل شيء في الطيبة ,حتى القبور ,وبدا كالمه ً
وب: وف من القل الخ
فإما أن تقرأوا الق رآن وتتح دثوا ,أو لي ذهب
غداَّ ,
بعيدا ,وعلينا واجب ثقيل ً
-يا جماعة ,الصباح ال يزال ً
باح ود في الص كل واحد إلى بيته ونع
49