يطلق لفظ االشتراكية Socialismللتعبير عن الكثير من
المعاني المختلفة، فأحيانا ً يطلق على مجرد تدخل الدولة في النشاط االقتصادي، وبذلك تكون االشتراكية نقيضا ً لسياسة الحرية االقتصادية .كما يطلق ،أحياناً، للتعبير عن تدخل الدولة في حياة العمال ،والطبقات الفقيرة ،بهدف سن التشريعات االجتماعية ،واالقتصادية ،التي تخفف معاناتهم ،وتمنحهم بعض المزايا. إال أن االشتراكية ،من الناحية العلمية ،تعني النظام الذي تؤول فيه ملكية مواد اإلنتاج ،واألراضي ،واآلالت ،والمصانع للدولة .بمعنى آخر ،فإن االشتراكية ،على خالف ما تقتضيه الرأسمالية ،تقوم على الملكية الجماعية لعناصر اإلنتاج المختلفة. أخذت االشتراكية ،في الفكر االقتصادي والتطبيق الفعلي، صورتين ،صورة االشتراكية الخيالية ،وصورة االشتراكية الماركسية نسبة إلى كارل ماركس .فقبل ظهور االشتراكية الماركسية ،كان المنادون باالشتراكية يحاولون تصوير عالم خيالي ،تسود فيه مبادئ االشتراكية الخيالية ،وتنعدم فيه مساوئ النظم االجتماعية ،واالقتصادية ،السائدة ،محاولين إقناع األفراد، والحكومات، بالمشاركة في إقامة هذا العالم الخيالي .وكان اعتمادهم ،في ذلك، على التأثير العاطفي المصحوب بسر ٍد للمساوئ االجتماعية ،واالقتصادية ،التي كانت سائدة في تلك الفترة .ومن هذا المنطلق فإن االشتراكية الخيالية لم تكن ذات أساس علمي تحليلي ،وإنما كانت مجرد تخيالت وأحالم ،ليس لها أساس علمي. أما الصورة الثانية من صور االشتراكية فكانت االشتراكية الماركسية ،أو االشتراكية العلمية ،التي حاول كارل ماركس بناءها على أساس علمي، محاولة لتميزها عن االشتراكية الخيالية ،ولدحض حجج الرأسمالية ،التي اعتمدت المنهج العلمي أداة رئيسية في تحليلها للقضايا االقتصادية المختلفة.
.2الجذور التاريخية للمذهب االشتراكي
يرجع الكثير من مؤرخي الفكر االقتصادي المذهب االشتراكي إلى الفيلسوف اليوناني أفالطون ،الذي ص ّور في كتابه (الجمهورية) مجتمعا ً مثاليا ً يعيش فيه الناس حياة ملؤها السعادة ،والحرية ،والعدالة .وقد بنى أفالطون هذا المجتمع على ثالث فئات من الناس هي: الفئة األولى :فئة الصناع ،الذين يبنون المنازل ،وينتجون الطعام، والمالبس. الفئة الثانية :فئة المحاربين ،الذين يدافعون عن الوطن ضد العدوان الخارجي. الفئة الثالثة :فئة الحكام الفالسفة ،الذين يتم اختيارهم بكل عناية ودقة، ويحرم عليهم كل أنواع الملكية الخاصة ،حتى ينصرفوا إلى رعاية حكمهم وإقامة العدل بين الناس. وقد كان أفالطون يهدف ،من وراء ذلك ،إلى تصوير مدينة مثالية ،يعيش فيها الناس سعداء متحابين ،وتزول منها كل صور الظلم االجتماعي، والسياسي، واالقتصادي .ورغم أن أفكاره ظلت أفكاراً خيالية بعيدة عن التطبيق الواقعي، إال أنها ظلت حاضرة في أذهان الكثير من الفالسفة والمفكرين. فمنذ عهد أفالطون ،لم يمر جيل إال ويظهر فيه مفكر ،أو فيلسوف ،يحاول مقاومة مساوئ نظام الملكية الخاصة ،عن طريق تصوير مجتمع خيالي تنعدم فيه الملكية الخاصة ،ويعيش فيه الناس أحراراً من كل القيود المادية والمعنوية .فقد أفضت القرون ،التي فصلت بين عهد أفالطون ،وعصر اإلصالح الديني بالكثير من األفكار التي تدعو للمساواة ،والملكية العامة للمجتمع ،وغير ذلك من األفكار ،التي تدعو للعدالة االجتماعية ألكبر عدد ممكن من المواطنين .وقد تبنى هذه األفكار الكثير من الفالسفة ،والشعراء ،والقساوسة ،اعتقاداً منهم بأن شيوعية المجتمع هي الحالة الطبيعية ،وأن القانون الوضعي ،الذي أوجد عدم المساواة والملكية الخاصة، والفروق الطبقية بين الناس ،ليس هو التفسير السليم لقانون السماء. أما في عصر اإلصالح الديني ،في أوربا ،في القرن السادس عشر ،فقد أثار مارتن لوثر الشكوك حول الملكية الخاصة ،وع ّدها من السيئات التي يجب أن يتخلص منها المجتمع .إال أن هذه اآلراء ظلت محبوسة في اإلطار التخيلي ،بعيدة عن التطبيق على أرض الواقع ،خاصة في ظل النفوذ القوي ،الذي كان يتمتع به الملوك واألمراء .واستمر الحال على هذا المنوال ،حتى وضع كارل ماركس أساس االشتراكية العلمية ،التي كانت تهدف إلى تقويض مبادئ الرأسمالية ،وساندها في ذلك التفاوت الطبقي ،واالضطهاد الكبير ،الذي عانته طبقة العمال ،في الدول األوربية ،خالل القرن التاسع عشر .وقد أخذت االشتراكية صوراً مختلفة حيث راوحت بين االشتراكية الخيالية ،واالشتراكية اإلصالحية ،مروراً باالشتراكية الماركسية أو العلمية .ومما الشك فيه أن إسهام مفكري هذا المذهب قد أثرى الفكر االقتصادي ،وساعد في تطوره ،خاصة أنها قد أخذت على عاتقها البحث عن نواقص النظام الرأسمالي وعيوبه.
.3عيوب النظام االقتصادي االشتراكي
من الصعب أن يخلو نظام اقتصادي من العيوب ،ومهما نجح هذا
النظام في عالج عيوب ما قبله من نظم ،إال أن هناك بعض العيوب التي تشوب هذا النظام ومن أهمها: عدم وجود الحافز القومي لضمان مزيد من تشجيع العمال على اإلنتاج ،وبالتالي إمكانية حدوث نوع من التراخي من جانب بعض المسؤولين عن إدارة أمور المشروع في ظل النظام االشتراكي ،وكذلك ضرورة توفير جهاز إداري ورقابي ضخم ،ألن الدولة هي المسؤول عن المشروعات في ظل النظام االشتراكي، ويؤدى ذلك إلى زيادة تكاليف اإلنتاج من خالل وجود مزيد من اإلجراءات الروتينية وتعطيل العمل داخل الجهاز اإلداري للدولة. عدم كفاءة أسلوب التخطيط المركزي إلدارة االقتصاد القومي ،فقد أثبتت التجربة والواقع انه رغم المزايا المتعددة التي يحققها التخطيط االقتصادي، إال أنه يحتوي على عيوب متعددة أهمها :أن السلطات التي تتولى التخطيط قد ال تملك المعلومات الكافية الالزمة للتخطيط على النحو األكمل، فضالً عن أن الواقع قد اثبت أن التخطيط يجر معه ذيوالً من البيروقراطية الخانقة ،ويمهد لسيطرة الحزب الواحد في السلطة .كذلك فإن التخطيط كان يتم كثيراً على حساب فعالية اإلنتاج القومي وكفاءته والسلوك االقتصادي القويم. ومن العيوب كذلك عدم وجود الحافز الستخدام وسائل إنتاجية حديثة؛ األمر الذي أدى ذلك إلى تخلف المعدات واآلالت المستخدمة في العمليات اإلنتاجية وما لذلك من آثار سلبية على جودة اإلنتاج ،وكذلك عدم الخبرة الكافية في مجال العالقات التجارية الخارجية .كذلك ضعف جودة السلع التي تنتجها الدول االشتراكية مقارنة بالدول الرأسمالية الصناعية .وبإحالل الملكية الجماعية والتخطيط االقتصادي الشامل ،فإن أفكاراً مثل المنافسة وقوى العرض والطلب وجهاز األثمان لتوجيه الموارد وحافز الربح الشخصي ال تجد لها مكانا ً في االقتصاد االشتراكي .فبدالً من المنافسة بين المشروعات يكون هناك التنسيق المتكامل بينها .ويتم تخطيط المشروعات وتنفيذها وتوجيه الموارد في المجتمع عموماً ،وفقا ً ألهداف عينية مادية وليس نقدية ،ويكون الهدف تحقيق اإلنتاج وإنجازه ،وليس الربح الشخصي .نخلص من هذا أن للنظام الرأسمالي مزاياه وعيوبه ،كما أن للنظام االشتراكي مزاياه وعيوبه.
.4الحزب الشيوعي في روسيا ،البداية والنهاية
في مارس عام ،1898انعقد المؤتمر األول لحزب العمال
االشتراكي الديمقراطي الروسي ،الذي أصبح فيما بعد الحزب الشيوعي ،وقد تكون هذا المؤتمر، من 9مندوبين فقط يمثلون أربعة اتحادات عمالية ،وعمال إحدى الصحف ،وعصبة اليهود االشتراكية الديمقراطية .وقد اجتمع هؤالء المندوبون التسعة في مدينة منسك في األيام الثالثة األولى من مارس ،واعتبروا أنفسهم حزباً، ودعوا إلى اإلطاحة بحكم آل رومانوف ،ثم عادوا إلى منازلهم حيث اعتقل ثمانية منهم على الفور .وقد تمكن خلفاؤهم بعد أقل من 22عاما ً من اإلطاحة بالحكومة الروسية، معتمدين في ذلك على عبقرية رجل لم يكن من بين هؤالء التسعة ،ولم يحضر اجتماع منسك الشهير ،هو فالديمير أوليانوف ،الذي سمى نفسه (لينين) كما اختار لنفسه أيضا ً أسماء مختلفة ،في أوقات متعددة. ولد لينين ألب كان مدرساً ،عالي الثقافة ،إال أنه طرد من المدرسة بسبب اشتراكه في أعمال االحتجاج الطالبية .وبينما كان لينين يتعلم في بيته ،اكتشف أعمال كارل ماركس ،التي تبشر بانهيار الرأسمالية ،وسقوط إمبراطورياتها ،ورغم أن لينين قد حصل على ليسانس في القانون ،إال أن ولعه بالماركسية قاده إلى سويسرا ،التي نشأت في أحضانها الماركسية الروسية ،حيث التقى بليخانوف .وبعد عودة لينين إلى روسيا ،تم اعتقاله ،ومحاكمته ،والحكم عليه بالسجن في سيبريا، ولذلك فقد كان لينين بعيدا حينما ولد حزب العمال االشتراكي الديمقراطي في منسك عام 1898م .وفي عام 1900م هرب من سيبريا، وجمع قواه مع بليخانوف مرة أخرى ،وأسس في ميونخ جريدة بعنوان الشرارة ،كانت بعثا ً جديد لحزب العمال االشتراكي الديمقراطي الروسي .وكانت جريدة لينين .وفي عام 1903م عقد مؤتمر جديد لحزب العمال االشتراكي الديمقراطي الروسي. وأطلق لينين على حزبه اسم (طليعة الطبقة العاملة ومنقذها). وبعد العديد من المناقشات ،والمناوشات ،واالنشقاقات انقسم الحزب إلى جزأين ،هما: (البالشفة) أي األغلبية ،و(المناشفة) ،أي األقلية .وكان هذا االنقسام تعبيراً عن االختالف في اإلستراتيجية الثورية لكال الطرفين .وانحاز لينين إلى البالشفة ،بينما انضم بليخانوف إلى المناشفة وإن ظل الطرفان ينتميان إلى حزب واحد هو حزب العمال االشتراكي الديمقراطي الروسي. وقد خاض البالشفة والمناشفة كل بطريقته حربا ً ثورية ،طويلة، ضد حكم آل رومانوف القيصري .وحينما اندلعت ثورة عام 1905م قاد تروتسكي ـ وهو أحد المناشفة البارزين ـ أول تنظيم سوفيتي عمالي في مدينة سان بطرسبورج .وبعد سحق هذه الثورة ونفي تروتسكي إلى سيبريا ،إال أنه سرعان ما هرب إلى الخارج. وفي عام 1912م كان لينين وجماعته قد قويت شوكتهم ،وتمكنوا من طرد المناشفة خارج الحزب .وقامت الحرب العالمية األولى وبسبب مظالم آل رومانوف، وفسادهم ،ثم هزيمتهم أمام جحافل الجيوش األلمانية ،ثارت ضدهم الجماهير، وأسقطت حكم القيصر نيقوال الثاني في مارس عام 1917م. وفي هذا المناخ الثوري ظهر لينين وأطلق صيحته الشهيرة: (إن الجماهير تريد األرض والخبز ولكن الحكومة الثورية التي خلفت القيصر ال تحقق لها هذه المطالب ولذلك فالبد أن يقاتل البالشفة من أجل الثورة االشتراكية) وكانت هذه الظروف الثورية في صالح البالشفة ،الذين أصبحوا يعدون بمئات األلوف .وقد حدث في ذلك الحين أن ترك تروتسكي صفوف المناشفة لينضم إلى بالشفة لينين .ودعا البالشفة إلى ثورة مسلحة إلطاحة حكومة كيرنسكي، الثورية وفي 8 نوفمبر عام 1917م تمكنوا من االنتصار ،وشكلوا الحكومة وحدهم برئاسة لينين، وعين ترويسكي وزيراً للخارجية في هذه الحكومة. في العام نفسه أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية ،ففاز البالشفة بنسبة 25%فقط من مجموع األصوات بينما فازت األحزاب االشتراكية المعتدلة األخرى بنسبة %62من األصوات ،أما النسبة المتبقية وهي %13فقد فازت بها األحزاب البورجوازية .وبعد أول اجتماع عقدته الجمعية التأسيسية ،قرر لينين حلها كما قرر حظر نشاط جميع األحزاب باستثناء حزبه البلشفي ،الذي أطلق عليه اسم (الحزب الشيوعي السوفييتي) وفرض لينين هذا الحظر بالقوة ،وأعمال العنف ،واالغتياالت ضد زعماء هذه األحزاب وكوادرها ،دون تفرقة بين االشتراكيين والبورجوازيين. وتم ذلك كله تحت شعار (مطاردة منظمات الثورة المضادة). وفي عام 1919م عقد الحزب الشيوعي السوفيتي مؤتمره الثاني ،الذي أعطى الحزب الهيمنة المطلقة على كل شئ في االتحاد السوفيتي ،ورغم أن تروتسكي كان قد عقد (صلح برست ليتوفسك) مع األلمان ،إال أن ثمن هذا الصلح كان باهظاً ،حيث تضمن فصل بولندا ،وجمهوريات البلطيق وكذلك أوكرانيا عن روسيا السوفييتية. وتدخلت إنجلترا ،وفرنسا ،واليابان ،والواليات المتحدة ،لمحاولة إسقاط السلطة السوفييتية ،دون جدوى ،وتم جالء قوات البلدان األربعة فيما بعد عن األراضي السوفيتية .وأقبل السوفييت على تأميم كل االقتصاد السوفيتي في الصناعة، والزراعة ،وإلغاء كل مظاهر الملكية الخاصة تقريبا ً .وفي عام 1920م شعر السوفيت بالمأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه ،حيث انخفض اإلنتاج بنسب واضحة .وفي عام 1921م قتلت المجاعة الماليين من أبناء الشعوب .وأمام هذه الكارثة ،تراجع لينين عن التأميم الكامل لوسائل اإلنتاج ،واتبع ما سماه باسم (السياسة االقتصادية الجديدة) ،وأعاد الملكية الخاصة في كثير من القطاعات اإلنتاجية. وأصيب لينين بأزمة قلبية وظلت صحته في تدهور حتى توفي عام 1924عن 53عاما ً فقط. وقد ترك لينين الحزب الشيوعي السوفيتي وهو منقسم بشأن السياسة االقتصادية الجديدة ،التي كان تروتسكي وغيره ينتقدونها، باعتبارها عودة إلى الرأسمالية .وكان تروتسكي الوريث الطبيعي للينين ،ولكن آلة الحزب كلها كانت في يد السكرتير العام ،جوزيف ستالين ،الذي كان قد اكتسب أهميته النضالية ،من تدبيره وتنفيذه لعدة سرقات مسلحة ،من أجل تمويل الحزب ،أثناء الكفاح ضد القيصرية. وقد طالب لينين في وصيته خلفاءه تنحية ستالين ،ولكن ستالين استطاع أن يسرق السلطة من الجميع ،بمساعدة اثنين من رفاق لينين الكبار، هما "كاسينيف" و"زينوفيف" .ثم انقلب ستالين عليهما ،هما اآلخران ،بعد ذلك، وتحالف مع كل من "بوخارين" و"ريكوف" ،وهما من الشيوعيين المحافظين .وفي عام 1936م أصبح ستالين قيصر روسيا الذي ال ينازع. وطوال هذه الفترة ،ظل الحزب الشيوعي حزب أقلية ،حيث لم يكن عدد أعضائه يتجاوز عشرة في المائة من الناخبين الروس .وقد عطل ستالين الحزب كله ،حيث لم يعقد مؤتمر للحزب خالل الفترمن من 1929إلى 1952م، ضل أن يدير األمور وف ّ بنفسه .وفي عام 1953م توفي ستالين ،وخلفه في أمانة الحزب الشيوعي نيكيتا خروشوف ،الذي حاول تصحيح سياسات ستالين ،إال أن حركات التمرد ضد الشيوعيين في كل من بولندا ،والمجر ،في عام 1956م ،اضطرته إلى التخلي عن سياسته الجديدة، والعودة إلى النظام القديم. وفي عام 1964م ،أطيح خروشوف ،وخلفه ليونيد بريجينيف، الذي قمع ثورة تشيكوسلوفاكيا في عام 1968م ،وغزا أفغانستان عام 1979م، ووضع دستوراً أشد تطرفا ً في عام 1977م ينص على أن الحزب الشيوعي هو القوة القائدة والمرشدة للمجتمع السوفيتي .واستمر الحال في االتحاد السوفيتي حتى جاء ميخائيل جورباتشوف ،رئيسا ً لالتحاد السوفييتي في عام ،1985وأعلن سياسة البيريسترويكا .وتعني هذه السياسة إجراء اإلصالحات االقتصادية ،وفقا ً للخيار االشتراكي ،أي أنها ال تعني التحول نحو النظام الرأسمالي ،كما يعتقد البعض. وفي هذا الخصوص يقول جورباتشوف" :إننا نقوم بإصالحاتنا وفقا ً للخيار االشتراكي ،ونحن نبحث داخل االشتراكية ،وليس خارجها ،عن إجابات لكل األسئلة المطروحة ،ونحن نق ّوم نجاحاتنا وأخطاءنا على السواء ،بمعايير اشتراكية، والذين يأملون بأننا سنبتعد عن الطريق االشتراكي سيصابون بخيبة أمل كبيرة. ولهذا السبب فإن كل قسم من برنامج البيريسترويكا يرتكز على مبدأ مزيد من االشتراكية ،ومزيد من الديموقراطية .إن االشتراكية نظاما ً اجتماعيا ً فنيا ً وبصفتها طريقة للحياة ،تملك إمكانيات ضخمة للتطور الذاتي، واإلتقان الذاتي، وعلينا أن نكشف عنها ،وتملك إمكانيات ضخمة ،كذلك ،لحل المشكالت الرئيسية للتقدم العلمي ،والتكنولوجي ،واالقتصادي ،والثقافي ،والفكري، للمجتمع المعاصر ،ولتطوير اإلنسان الفرد ،وهذا ما يشير إليه الطريق، الذي اختارته بالدنا منذ أكتوبر 1917م ،الطريق ،الذي كان مليئا ً بصعوبات عديدة ،وأحداث فاجعة ،وعمل مجهد ،كما كان مليئا ً في الوقت نفسه بانتصارات وإنجازات عظيمة". ونتيجة لهذا اإليمان العميق بقدرة االشتراكية ،بصفتها نظاماً ،على
إصالح الخلل االقتصادي ،واالجتماعي ،الذي كان يعانيه االتحاد
السوفيتي ،فقد فضل الرئيس السوفيتي جورباتشوف خطة االقتصادي السوفييتي "ستانيسالف شاتالين"، التي كانت تقوم على مبدأ السلطة االقتصادية للشعب وتتضمن تحويل أكثر من ثالثة أرباع االقتصاد السوفيتي إلى القطاع الخاص ،وتحويل الشركات الكبرى إلى شركات مساهمة ،وبيع المنشآت الصغيرة إلى القطاع الخاص والسماح للمزارعين باإلنسحاب من المزارع الجماعية ،التي سيتم تفكيكها ،وتسليم قطعة من األرض وقدر من رأس المال ،لكل مزارع ،دعما ً للمبادرات الفردية. وفي 19أكتوبر عام 1990م حظي الرئيس السوفييتي بموافقة مجلس السوفيت األعلى على خطته االقتصادية ،التي تتضمن خطة شاتالين، وترمي إلى التحول من أسلوب التخطيط المركزي القديم ،إلى االقتصاد الحر ،مؤكداً أن ذلك ليس خروجا ً على االشتراكية ،ولكنه في الواقع تقوية لها .وقد كانت هذه الخطة تسعى إلى خفض عجز الموازنة ،وخفض اإلنفاق العام ،وزيادة إنتاج السلع االستهالكية ،وزيادة اإلنتاج الزراعي فضالً عن رفع األسعار بنسبة .%70 ورغم القوة النظامية ،التي كانت تتمتع بها هذه الخطة ،إال أن رياح التغيير التي شهدها العالم االشتراكي لم تتح الفرصة لتحقيق التطبيق الكامل للخطة .فقد انتعشت القوميات ،والعرقيات ،وأخذت تسعى إلى االستقالل .وانتهى األمر مع بزوغ فجر عام 1992م إلى تحول اإلمبراطورية السوفيتية إلى خمس عشرة جمهورية مستقلة على رأسها جمهورية روسيا.
.5صور أخرى من التحول عن االشتراكية
لقد أعطى جورباتشوف الضوء األخضر ،لجماهير أوربا الشرقية، التي خرجت في حشود ضخمة تؤيد ما يطالب به من إصالح للنظام السياسي واالقتصادي في المجتمع الشيوعي .أما ما كان يحدث في حكومات أوربا الشرقية فهو ـ طبقا لمبدأ جورباتشوف ـ أمر يخص سيادة كل دولة .وفيما يلي التطورات الهامة في الخريطة السياسية ألوربا الشرقية: في بولندا أطاحت حركة (تضامن) بالحكومة الشيوعية ،وحكمت البالد عناصر غير شيوعية ألول مرة ،وأصبح الحزب الشيوعي هامشيا ً. في المجر تم حل الحزب الشيوعي المجري ،وقيام حزب اشتراكي ديمقراطي خلفا ً له، يؤمن بالتعددية الحزبية ،وبالديمقراطية ،وتبنى قوانين السوق ،كما أعيدت كتابة الدستور وخرج إلى حيز الوجود بعض أحزاب المعارضة. في تشيكوسلوفاكيا خرجت الجماهير في مظاهرات ضخمة تنادى باإلصالح ،واختفى وجه الزعيم الشيوعي التشيكى ميلوس جاكيس ،الذي كان قد وافق عام 1968على الغزو السوفيتي للعاصمة براغ بعد إطاحة دوبتشيك .ودعا فاتسالف هاقل ،رئيس تشيكوسلوفاكيا الجديد ،إلى محو كل آثار النظام الشيوعي السابق في البالد ،الذي كان استمر 44 عاماً ،وتعهد بإقامة دولة جديدة تحترم فيها حقوق اإلنسان. في رومانيا خرجت جماهير الشعب في مظاهرات تطالب باإلصالح ،وانتهت بإعدام الرئيس شاوشيسكو بعد مصادمات عنيفة مع حرسه الخاص ،بعد اتهامه بالخيانة ،ونهب أموال الدولة .وفي يوليو 1990م ،وافق برلمان رومانيا من حيث المبدأ على خطة تع ّد اللبنة األولى نحو التحول إلى نظام االقتصاد الحر .وقد نصت الخطة على توزيع نسبة عشرين في المائة من القيمة التقديرية للصناعات المملوكة للدولة ،على الشعب ،على أن يتم هذا التوزيع في صورة سندات ،أو صكوك تطرح للتداول في سوق لألوراق المالية ،يتم تشكيلها في حينه. في بلغاريا استقال أقوى وأصلب رجال الحكم في صوفيا الرئيس ،تيدور جينيكوف ،بعد أن تولى رياسة الحزب والدولة زهاء 35عاماً ،وقد بدأت رياح التغيير تعصف بالنظام الشيوعي هناك. في ألمانيا الشرقية انتهت األزمة ،التي أحاطت بها ،إلى االستسالم للدعوة إلى التطور والديموقراطية ،فاستقال الرئيس هونيكر الشيوعي المتشدد ،من جميع مناصبه، واختارت اللجنة المركزية للحزب إيجون كرينتس خلفا ً له .وكان البد من هذه التوجهات المستجدة على المسرح السياسي رغم عناد ومعارضة هونيكر ألي إصالح ،إذ لم تكتف الجماهير بالتظاهر ،والمناداة بالحرية .هذا في الوقت الذي كان فيه ألوف األلمان الشرقيين يغادرون بلدهم ،هربا ً إلى ألمانيا الغربية عن طريق المجر ،أو تشيكوسلوفكيا ،أو بولندا أو غيرها من المنافذ .كما تهاوى جدار برلين ،وعاد شعب ألمانيا الشرقية ليعيش خلف ما تبقى من هذا الجدار .ورغم ما يقال عن أن فترة حكم إيجون كرينتس كانت مرحلة انتقالية ،إال أنه أمام التيار الجارف اضطر إلى االعتراف بأن ألمانيا الشرقية ال يمكن أن تعيش بمعزل عن التغيير الذي يجتاح أوربا ،وأن بيريسترويكا جورباتشوف ضرورية لمواجهه الموقف. وفي مساء 30يونيه 1990م جاء اإلعالن عن دمج النظامين االقتصاديين في دولتي ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية ،بعد أن قررت األخيرة جعل المارك األلماني الغربي العملة الرسمية فيها ،واتباع نظام اقتصاد السوق الحرة .وقد تمت فعالً هذه الوحدة االقتصادية بين الدولتين في أول يوليو 1990م ،لتكون خطوة تاريخية ،على طريق التوحيد السياسي الشامل لأللمانيتين. وفي 31أغسطس 1990م تم التوقيع المبدئي على معاهدة توحيد شطري ألمانيا، في مدينة برلين الشرقية ،بعد التوصل إلى تسوية آخر العقبات أمام هذه الوحدة. وتحدد المعاهدة الشروط القانونية لتوحيد شطري ألمانيا.