إشكالية الجسد حين يصبح مصيدة :تنميط المرأة بين الطبيعة والمجتمع
أنور حامد
بي بي سي-لندن ديسمبر /كانون األول 7 2016
صدر الصورةPRESS ASSOCIATION،
التعليق على الصورة، تتمحور تربية الفتاة منذ الصغر على دورها المستقبلي كزوجة تتعرض المرأة خالل حياتها إلى عملية تنميط وقولبة جسدية وذهنية ونفسية ،لتهيئتها للدور االجتماعي الذي يعدها له المجتمع. كتبت الفيلسوفة الفرنسية المعروفة بأفكارها النسوية سيمون دو بوفوار "اإلنسان ال يولد امرأة بل يصبح ذلك الحقا" . ليست اإلشارة هنا إلى كيان المرأة البيولوجي بالطبع ،بل إلى كيانها اآلخر :العاطفي ،النفسي، االجتماعي. ما أرادت دو بوفوار قوله هو أن المرأة تخضع لعملية "تنميط" تكسبها الهوية التي يعرفها بها المجتمع كامرأة. إعالن وما هي مالمح هذه الهوية يا ترى ؟ من الصعب االتفاق على مالمح محددة ،فهي تختلف باختالف الثقافات ،وإن كان هناك اتفاق عابر للثقافات على بعض تلك المالمح. ربما القاسم المشترك بين الثقافة السائدة في المجتمعات الرأسمالية الغربية وتلك التي تسود في مجتمعات الشرق العربي مثال ،أن أحد معرفات الهوية النسائية هو وظيفتها الجنسية.
صدر الصورةNATALIE GARLAND ،
التعليق على الصورة، مع وجود التمييز الجنسي إال أني في وضع أفضل ألني بيضاء البشرة ومن الطبقى الوسطى تقول ناتالي غارالند ،طالبة دكتوراة وباحثة أمريكية في شؤون النسوية في جامعة UCLفي لندن: "الطريق الذي نسلكه حتى نتحول إلى نساء متعدد الطبقات والمستويات وصعب التعريف، نشأت في عائلة يهودية أمريكية علمانية مترابطة ،حيث يتوقع من النساء الزواج واإلنجاب والمحافظة على اإلرث اليهودي .وتحظى المرأة بالتقدير أيضا لنجاح تحرزه أو لذكاء تحظى به ،وكل هذا يشكل عبئا نفسيا علي ،لكنه قد يكون محفزا". وترى ناتالي أنها في وضع محظوظ أكثر من مثيالتها في أماكن أخرى من العالم،ألنها امرأة بيضاء تنتمي للطبقة الوسطى وتعيش في الغرب ،لذلك ،وبالرغم من وجود التمييز الجنسي إال أن فرصها لتحديه أفضل من مثيالتها في أماكن أخرى من العالم خاصة إذا كن ينتمين إلى طبقة اجتماعية اقل حظا. شرك إسمه الجسد إذن الهاجس المشترك هو الزواج ،كوظيفة بيولوجية منوط بها إعادة إنتاج القبيلة كحد أدنى، وما يتبع ذلك من متطلبات تتغير من ثقافة ألخرى. ابتداء من هذه الوظيفة المعرفة لشخصيتها االجتماعية وسلوكها وحتى حركات جسدها العفوية، تبدأ عملية تشكيل المرأة. ما يمكن مالحظته ،وبغض النظر عن الثقافة االجتماعية السائدة ،هو الوعي المكثف للمرأة بجسدها ،الذي تحس به كشرك. يمكن مالحظة أبسط مظاهر هذا اإلحساس بمراقبة سلوك المرأة الدائم الذي ينم عن وعي لحظي ومكثف بجسدها في سياق جنسي محض. حين ينحني الرجل اللتقاط شيء ما مثال يفعل ذلك باسترخاء وبدون أن يحس من يراه أن هناك ما يشغله خارج نطاق الشيء الذي يلتقطه. في حال المرأة يبدو األمر أكثر تعقيدا ،حتى للناظر من بعيد ،فهي بحركة عفوية تشد بلوزتها إلى األعلى خوفا من أن تكشف الحركة صدرها أمام الناظرين. وكذلك فعليها أن تنتبه إلى أن قميصها لن تنحسر من الخلف أو أن بنطالها لن ينخفض عن خصرها ويكشف ثيابها الداخلية. تقول د.نوال السعداوي في كتابها "المرأة والجنس" إن جزءا من تربية الفتيات (في مصر ،لكن مصر ليست استثناء من هذه الناحية) يركز على ضرورة أن تنتبه الفتاة إلى كيفية جلوسها، بحيث ال تنفرج الساقان ،مثال ،بشكل يجعل ثيابها الداخلية ظاهرة لمن يجلس في مقابلها.ويجب أن ال تضع ساقا على ساق ،ألن هذا يخدش الصورة Uالنمطية للفتاة الخجولة. في كتابها "الجنس الثاني" تناقش سيمون دو بوفوار تطور العالقة بين المرأة وجسدها ،ودور المجتمع في ذلك. في هذا الكتاب تقول دو بوفوار ،الحائرة بين الفلسفة الوجودية التي تعتنقها وبين جنوحها نحو الفكر النسوي ،إن جسد المرأة يمكن أن يتحول إلى "شرك" كذلك يمكن أن يصبح وسيلتها للعبور نحو حريتها. ترى دو بوفوار أن ليس الجسد بمفهومه البيولوجي هو الذي "يشكل" وعي المرأة به سلبيا أو إيجابيا ،بمعنى كمنطلق للحرية أو للحياة المقيدة ،بل كيفية استجابتها له (طبعا من خالل تفاعلها االجتماعي). التفاعل االجتماعي وتشكل "المرأة" في المجتمع العربي في الثقافة العربية التي تحتفي بالرجولة (من حيث عدم التحرج من اإلعالن عنها ،بل وفي سياقات معينة تشجيع التباهي بمظاهرها) ،فإن أول ما يغرس بالفتاة هو "ضرورة التكتم" على مظاهر أنوثتها الجوهرية ،في الوقت الذي يضع أكثر من خط تحت المظاهر السطحية. تقول علياء الزعبي ،خريجة أدب إنجليزي من حيفا:
صدر الصورة،علياء الزعبي
التعليق على الصورة، كانت أحالم علياء كبيرة :أن تسافر ،أن تتعلم ،أن تصبح ما تريد "الغريب أنه من خالل نشأتي وخاصة في فترة مراهقتي كان علي أن أطبق جميع معايير االنوثة من الخارج وأن أجعل نفسي قالبا ً اسمنتيا ً من الداخل ,أن أراقب خطواتي كي ال تكون طريقة سيري رجالية ,أن اضفي ارجحة خفيفة للوركين حين أمشي ,أن ال أضحك بصو ٍ ت أضع الوانا ً في شعري حتى لو كانت مؤقتة". َ عال حتى لو كانت النكتة مثيرة للضحك،أن ال تجتاز الفتاة المرحلة الحرجة بين "الطفولة" و"األنوثة" فتتغير المعايير والقوالب U.تتابع علياء: "حين انتقلت من الصف التاسع الى الصف العاشر ،بدأت طلبات الزواج تطرق باب بيتنا " هنا توضع الفتاة في مواجهة بين أحالمها الخاصة وبين الدور المنوط بها ،ويلعب الحظ وظروف العائلة دورا في مساحة الهامش الذي يترك لها .علياء وصلت إلى نقطة المنتصف . "أبي ليس ابا ُ فاشيا ُ لهذا فقد كان سبب رفض ِه للعرسان دائما ً أني ال أزال صغيرة في السن ،في الثانوية كانت أحالمي كبيرة :أن أسافر ,أن أتعلم ,أن أصبح ما أريد ,أنهيت ثانويتي ,لم أسافر ,تعلمت ..لم أصبح ما أريد" . بداية الرحلة تبدأ عملية التكتم على مظاهر األنوثة العميقة مع بلوغ الفتاة ،فأول مظاهر هذا البلوغ مواجهة تجربة مبهمة ،ال يجري في العادة تهيئتها لها من قبل األم ،وذلك تكريسا لموضوع الكتمان والحرج ،هذه التجربة هي الدورة الشهرية األولى. هذه أول تجربة مربكة في عالقة الفتاة العربية مع جسدها. يستمر التكتم بعد تصالح الفتاة مع الظاهرة وفهمها لماهيتها ،فيفترض أن تحتفظ بها سرا ،فال تتحدث عنها ،وتشتري الفوط الصحية وتتخلص منها بالسر بعد استخدامها .هذا ما تناولته أفالم ولقطات فيديو ساخرة مؤخرا ،حيث بدأ البعض في كسر حاجز الصوت حول هذا الموضوع وتستمر التربية االجتماعية برسم التدرب على إتقان الدور الجنسي المنوط بالفتاة مستقبال ضمن مؤسسة الزواج ،فتبدأ عند نقطة معينة بأخذ اتجاه معاكس. في كتابها "نساء على أجنحة الحلم" تستشهد عالمة االجتماع المغربية الكاتبة فاطمة المرنيسي بأقدم النصوص السردية الشرقية التي ترجمت إلى العربية خالل العصر الذهبي لإلسالم (ألف ليلة وليلة) عن مأزق شهرزاد :المرأة التي كان عليها أن تتقن فنون المناورة في لعبة الموت، فمطلوب منها أن ترفه عن الملك ثم تمنحه جسدها مقابل أن ال يقتلها. تمثل هذه الحكاية بشكل صادم مأزق المرأة في لعب الدور ونقيضه في عالقتها بالرجل ،حتى تحوز على رضاه. مراحل التنميط بعد مرحلة البلوغ تكون الفتاة قد دخلت أولى مراحل التشكيل الجنساني والتي تصاحب مرحلة نضوجها العاطفي والجسدي ،أي بداية تشكيل وعيها األنثوي وتدريبها على استعراض انوثتها. في هذه المرحلة يبدأ التشكيل االجتماعي المنوط به رسم مالمح دورها المستقبلي ،وعالقتها بالرجل :تبدأ العائلة بتدريبها على األعمال المنزلية ومن ثم توزيع تلك األعمال عليها :تنظيف، طهي ،خدمة ذكور العائلة. بعد أن تتجاوز الفتاة سن العشرين يكون قد غرس في وعيها أنها اآلن "تنتظر النصيب" ،أي قدوم شاب لطلب الزواج بها. في هذه المرحلة تواصل ما بدأته في المرحلة السابقة :استكمال االستعداد للمرحلة المقبلة، الزوجية ،فتبدأ في تعلم أصول الماكياج والتمكن من مهارات الطبخ ،وفي نفس الوقت تعيش مع هاجس أن "يفوتها القطار" أو بمفهوم المجتمع أن "تصبح عانسا" ،أي تتجاوز السن الذي يجعلها جذابة للرجال. في هذه المرحلة أيضا تحاط الفتاة بمجموعة من "الحكم" واألمثال الشعبية التي تمجد المؤسسة الزوجية "ظل رجل وال ظل حيط" ،من أجل تكريس إحساسها بالحاجة للرجل (مهما بلغت درجة استقالليتها) ،وهو الهاجس الذي يصاحبها بعد الزواج ويجعلها تخشى من أن تفقد ذلك "الظل" بالطالق أو بأن يتزوج بأخرى أو بالخيانة الزوجية. الجسد المحرم ،الجسد الحالل خالل المرحلة التي تسبق الزواج تبقى عالقة المرأة بجسدها ملتبسة ،محاطة بالتحذيرات: عيب ،حرام .وهذا ما يحرمها من إمكانية الحصول على وعي جنسي ،ولو على مستوى التعرف الحميم على جسدها الخاص . ثم فجأة تتزوج ،ويكون عليها بين عشية وضحاها ،أن تقتحم عالم الجنس وكأن شيئا لم يكن، فالجنس فجأة يصبح واجبا مقدسا ،ألنه مرتبط بإسعاد شريك حياتها "بالحالل". ما الذي يجري في غرفة النوم ؟ ليست هناك الكثير من الدراسات حول تاثير سكب الماء الساخن بشكل مفاجئ على جسد غمر بالثلج لسنوات طويلة ،وإمكانية قفز المشاعر والجسد من وعي إلى وعي نقيض.. على المستوى اللفظي ،فجأة يصبح التعامل مع الجسد مباحا بل مستحبا ،ابتداء من األسئلة الفضولية ألم الزوجة والزوج ،في األيام األولى ،إلى "االطمئنان على الحمل" في الشهور التي تلي ،إلى التدخل في عدد األطفال الذين تنجبهم ...الخ Uالخ الخ. الرأي اآلخر طبعا عدد كبير من الفتيات يتصالحن بشكل أو بآخر مع النمط الذي يرتإيه المجتمع ،وال يعشن حالة اغتراب عنه. تقول شيماء (إسم مستعار ) إنها لم تحس بأي ضغط نفسي خالل تربيتها ،وال حتى بعد الزواج ،فهي متدينة ملتزمة ،وترى أن وضعها متماه مع قناعاتها الدينية. واستشهدت شيماء باآلية القرآنية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ،وهي مقتنعة أن الزواج وتكوين العائلة هي إرادة هللا. أما نسرين عيسى ،طالبة جامعية تعيش في الواليات المتحدة فترى أن الصورة غير واقعية بالمرة ،وأن تجربتها الشخصية تعكس دورا محدودا للمجتمع ودورا أكبر بكثير للعائلة.
صدر الصورة،نسرين عيسى
التعليق على الصورة، ال دخل للمجتمع ،أنا نتاج تربية عائلتي فقط تقول نسرين ":أنا نشأت في عائلة و لم أنشأ في مجتمع ،نشأت في منزل و َلم أنشأ في الشارع، و في الحقيقة كلنا هكذا و المجتمع ال عالقة له بنا ال من بعيد وال من قريب إال من أراد لنفسه التأخر عن القافلة ورضي بحالِه .انا نشأت في عائلة محافظة حتى بعد ما توفي ابي عنا كانت أمي هي االم و األب في آن واحد و ال اذكر انني سمعت منها مصطلحات مشابهة لـ" حين تصبحين زوجة " أو افعلي هذا " حتى تكوني زوجة مثالية " أو حتى ان تعلمني الطبخ كي أكون زوجة ماهرة في الطبخ" ،لم اذكر انها دست لنا مصطلح المجتمع في نقاشاتنا ،فإن أذنت كان برضاها ال برضى المجتمع و إن منعت كان اختياراً منها ال من المجتمع"، وتضيف نسرين أنها تفكر بالقرارات الذاتية التي قبل ان تتخذها ،وبم سيلحقه هذا القرار بها من ايجابيات أو سلبيات وال تفكر بالمجتمع أبداً" ،عائلتي ال ُترغم على الزواج و ال تمنع الزواج عنوه ايضاً ،تعطيني االحقية في االختيار و الترك في حال شعرت بعدم االرتياح ال ُم َبرر ،و تعطيني القوة التي اتجعلني سيدة نفسي فعائلتي بقوامها الصحيح بعيداً عن المجتمع لم تميعني و لم تجعلني أعاني من فوبيا "ماذا سيقول عني المجتمع "، "كسر القالب" إذن الكثير الفتيات تكون مادة سهلة للتشكيل ،وال تبدي مقاومة تذكر ،أما من تعترض على المسار العام فتواجه مأزقا .
صدر الصورة،إيمان ر يان
التعليق على الصورة، في داخلي فتاتان ،وسأحتاج لوقت طويل للتحرر من إحداهما تقول إيمان ريان ،وهي موظفة في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ،حاولت التحرر من النمط الذي أقحم عليها: "أنا اآلن أعيش حالة صراع داخلي :العائلة تعني لي الكثير ويعز علي أن أخيب آمالهم ،لكني أريد أن اشبه نفسي أكثر ،أن أخلع الشال المفروض علي ،أن أختار ثيابي بما يتالءم مع شخصيتي ،لكني ال أستطيع ،لقد غرسوا في داخلي كيف يجب أن أمشي وكيف أتكلم وما هي الثياب التي أرتديها .أحس أن بداخلي فتاتين مختلفتين طوال الوقت :واحدة بشخصية قوية وواثقة ،وأخرى من ذكريات وتربية الماضي". وتسهب إيمان في الحديث عن "فخ االزدواجية" التي تسيطر على حياتها ،لكنها ترى أنها مسألة وقت ،وسيأتي اليوم الذي تطلق فيه العنان للبنت الحرة بداخلها ،لكنها تأسف على الوقت والطاقة الضائعة في هذا الصراع U،والتي كان يمكن أن تستغلها لتحقيق إنجازات.