Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 287

‫المدخل لدراسة الفقه‬

‫اإلسالمً‬

‫د‪.‬سعد خلٌفة العبار‬


‫أستاذ الفقه اإلسبلمً‬
‫كلٌة الحقوق‪ -‬جامعة بنؽازي‬
‫الطبعة الثانٌة‬
‫‪2016‬م‬

‫ـ‪3‬ـ‬
‫عنوان الكتاب‪ :‬المدخل لدراسة الفقه اإلسبلمً‬
‫المؤلؾ‪ :‬الدكتور سعد خلٌفة العبار‬
‫الطبعة الثانٌة‪2016 :‬م‬
‫الوكالة اللٌبٌة للترقٌم الدولً الموحد للكتاب‬
‫دار الكتب الوطنٌة‬
‫بنؽازي‪ -‬لٌبٌا‬
‫ردمك ‪ISBN 978-9959-1-0428-1‬‬

‫ـ‪4‬ـ‬
‫إهداء‬

‫إىل روح أخي هوسى‬

‫هغ التضرع إىل املوىل أن جيعلنا ممن يشفغ هلن‬

‫يوم العرض العظين‬

‫ـ‪5‬ـ‬
‫ُ‬
‫‪‬‬
‫ونعوذ به من‬ ‫إنّ الحمدَ هلل‪ ،‬نحم ُده ونستعٌ ُنه ونتوبُ إلٌه ونستؽفرُ ه‬
‫ت أعمالِنا‪ ،‬من ٌه ِد ِه هللا فبل مُضل له‪ ،‬ومن ٌُضلل فبل هادي‬
‫شرور أنفسِ نا وسٌبا ِ‬
‫ِ‬
‫له‪ ،‬ونصلً ونسلم على سٌدنا محمد‪ ،‬عب ُد هللا ورسولُه‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن‬
‫بإحسان إلى ٌوم الدٌن‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ِتبعهم‬
‫ٌ‬
‫حقٌقة ال جدال فٌها‪ ،‬جاءت‬ ‫اإلسبلم و ُسمُوّ شرٌعته‬ ‫فإن عظم َة‬
‫ِ‬
‫نصوصُ الشرٌعة مؤٌد ًة لها‪ ،‬وكان تارٌخ المسلمٌن األول شاهداً علٌها ودلٌبلً‬
‫على صدقها‪ ،‬ولمّا كانت الشرٌعة اإلسبلمٌة خاتم َة الشرابع السماوٌة وكتابُها‬
‫ً‬
‫حاوٌة لكل ما‬ ‫ب السماوٌة نزوالً كان حقٌقا ً على هللا تعالى أن ٌجعلها‬
‫آخر الكت ِ‬
‫َ‬
‫لق فً كل األزمنة واألمكنة إلى ٌوم‬ ‫ٌقٌم أمر الدٌن والدنٌا وٌُصلح حال َ‬
‫الخ ِ‬
‫الدٌن‪.‬‬
‫وقد ظل المسلمون ٌطبقون الشرٌعة فً كل عبلقاتهم‪ ،‬وٌحتكِمون إلٌها‬
‫فً أقضٌتهم‪ ،‬فعاشوا بذلك أعز ًة أقوٌاء‪ ،‬فأناروا للبشرٌة سبٌل الخٌر‪ ،‬وكانوا‬
‫خٌر أم ٍة أُخرجت للناس‪ ،‬ولما ران علٌهم االستعمار تبٌَّن له أن احتكامهم إلى‬
‫َ‬
‫ب ربهم وسنة نبٌهم هما مصدر قوتهم‪ ،‬فكانت ؼاٌته ص َّدهم عن دٌنهم‪،‬‬
‫كتا ِ‬
‫بقوانٌن من صُنع البشر‪ ،‬تخالؾ ما فً مجتمعنا‬
‫َ‬ ‫بتركِهم لشرٌعتهم واستبدالِها‬
‫بنظم قانونٌ ٍة من‬
‫ٍ‬ ‫ونظم‪ ،‬فأصبحت الشعوب اإلسبلمٌة ُتحكم‬
‫ٍ‬ ‫ت‬
‫المسلم من عادا ٍ‬
‫خارجها‪ ،‬ففقدت استقبللها التشرٌعً‪ ،‬ونجح عدوها فً تفتٌت وحدتها‪ ،‬فذ َّل‬
‫المسلمون وهانوا بعد أن أعرضوا عن كتاب ربهم وسنة رسوله‪ ،‬وانقطعت‬
‫اللُّح َمة بٌن المواطن والقانون‪ ،‬وصار كل همِّه البحث عن وسٌلة للتحاٌل على‬
‫أحكامه‪.‬‬

‫ـ‪6‬ـ‬
‫ولقد تنبه رجال الفقه والقانون المسلمون إلى هذا الخطر‪َّ ،‬‬
‫وحذروا من‬
‫عواقبه‪ ،‬وطالبوا بالرجوع إلى الفقه اإلسبلمً‪ ،‬باعتباره مصدر كل القوانٌن‪،‬‬
‫بعد أن تبٌَّن لهم أن االحتكام إلى قوانٌن مستوردة أمرٌ ٌرفضه ضمٌر األمة‪،‬‬
‫وال ٌحقق مصالحها‪ ،‬بل ٌشعُر معه المواطن بالتبعٌة واإلذالل‪ ،‬وهو ٌحتكم إلى‬
‫ما ال ٌؤمن بقدسٌته‪ ،‬وال ٌلمس عدالته‪ ،‬وقد بدأت هذه الدعوة ُتؤتً ثمارها‪،‬‬
‫حٌث صار الفقه اإلسبلمً ٌُدرَّ س فً كلٌات الحقوق‪ ،‬وتوالت القوانٌن المستمدة‬
‫من الفقه اإلسبلمً فً الصدور فً كثٌر من البلدان اإلسبلمٌة‪ ،‬كما بدأ رجال‬
‫شطر الفقه اإلسبلمً‪ ،‬للتعرؾ على‬
‫َ‬ ‫القانون فً العالم الؽربً ٌولون وجُ وههم‬

‫ما به من مبادئ و ُن ٍ‬
‫ظم قادر ٍة على تحقٌق التوازن بٌن مصالح الفرد والمجتمع‪،‬‬
‫نظراً لما ٌتمتع به الفقه اإلسبلمً من دق ٍة فً الصٌاؼة وبراع ٍة فً األسلوب‪،‬‬
‫ال ٌدانٌه فٌهما تشرٌع آخر‪.‬‬
‫ً‬
‫ضرورٌة لمن ٌَدرُ سُ القانون‪،‬‬ ‫وبهذا أصبحت دراسة الفقه اإلسبلمً‬
‫ألن كثٌراً من القوانٌن مستمدةٌ منه‪ ،‬والبد لدراسته من التمهٌد لذلك فً دروس‬
‫ً‬
‫عامة‪ ،‬وترسُم له صور ًة واضح َة المعالِم‪ٌ ،‬عود إلٌها كلَّما‬ ‫ُتعطً الطالب فكر ًة‬
‫اشتبه علٌه أمر‪ ،‬بحٌث ٌتعرؾ خبللها على هذا الفقه وأدوار تكوِّ نه وما طرأ‬
‫علٌه من ازدهار وجمود وأسباب كل منهما‪ ،‬كما ٌتعرؾ على أهم المدارس‬
‫الفقهٌة وطرٌقة مجتهدٌها فً االستنباط‪ ،‬للوقوؾ على أسباب اختبلؾ الفقهاء‪،‬‬
‫لٌكون ذلك حافزاً على اإلقتداء بهم‪ ،‬كما تعرُض هذه الدروس لبٌان أهم‬
‫من االحتجاج بها‪ ،‬وكذلك لبعض النظرٌات‬ ‫مصادر الفقه وموقؾ الفقهاء‬
‫والقواعد الفقهٌة‪.‬‬
‫بقدر من الوضوح والعمق‪ ،‬دون‬
‫وسنحاول عرض هذه الموضوعات ٍ‬
‫الخوض فً التفاصٌل‪ ،‬مع تج ُّنب االختصار واإلطالة فً ؼٌر موضعها‪ ،‬بل‬
‫ـ‪7‬ـ‬
‫ٌ‬
‫وسط بٌن ذلك قواما‪ ،‬ونحن إذ نكتب ذلك نسأله تعالى العون والتوفٌق‪ ،‬وأن‬
‫ٌُلهمنا الرُّ شد‪ ،‬وٌهدٌنا إلى الحق وٌثبتنا علٌه‪ ،‬وأن ٌجعل هذا العمل فً مٌزان‬
‫ب َسل ٌٍِم ‪ ،‬إنه‬ ‫ون إِالَّ َمنْ أَ َتى َّ َ‬
‫هللا ِب َق ْل ٍ‬ ‫حسناتنا‪ ،‬وزاداً لنا ‪ْ ٌَ ‬و َم الَ ٌَن َفعُ َما ٌل َوالَ َب ُن َ‬
‫أكر ُم مسبول وأفض ُل مأمول‪ ،‬إنه نعم المولى ونعم النصٌر‪.‬‬
‫المؤلؾ‬

‫ـ‪8‬ـ‬
‫مبحث تمهٌدي‬
‫التعرٌف بالشرٌعة والفقه‬
‫قبل دراسة تارٌخ الفقه اإلسبلمً األمر ٌقتضً التعرٌؾ بالشرٌعة‪،‬‬
‫ومدى حاجة بنً البشر إلٌها‪ ،‬وأُسسها العامة‪ ،‬وهذا ما سنخصص له المطلب‬
‫األول‪ ،‬وبٌان معنى الفقه وأقسامِه وفضلِه‪ ،‬وهذا ما سنعرض له فً المطلب‬
‫الثانً‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫التعرٌف بالشرٌعة‬
‫الحاجة إلى الشرائع‪:‬‬
‫اإلنسانُ اجتماعًٌّ بطبعِه وخِلقتِه‪ٌ ،‬صبو إلى الحٌاة مع ؼٌره (‪ ،)1‬وٌنفُرُ‬
‫مجتمع من الناس‪ ،‬وألنه‬
‫ٍ‬ ‫من الخِلوة واإلنفراد‪ ،‬ألن هللا تعالى خلَق ُه لٌعٌش فً‬
‫ؼٌره فً حاج ٍة إلٌه‪ ،‬فق َِوى كل فر ٍد لوحدِه‬
‫َ‬ ‫فً حاج ٍة دابم ٍة إلى ؼٌره‪ ،‬كما أنَّ‬
‫قاصرةٌ عن تلبٌة كل حاجاته‪ ،‬ولذا اندفع إلى التعاون مع اآلخرٌن وتكوٌن‬
‫مجتمع ٌُش ُّكل إطاراً لهذا التعاون(‪.)2‬‬
‫ٍ‬
‫كما أن اإلنسان ُخلِق وله شهوةٌ تدفعه إلى الشر‪ ،‬فٌعتدي على ؼٌره‪،‬‬
‫وٌرتكب المحرمات‪ ،‬ألنه مجبو ٌل على حُبِّ الذات‪ ،‬وفً المقابل له عق ٌل ٌدفعه‬
‫(‪،)3‬‬ ‫كبح ِجماح هذه الشهوات‬
‫إلى الطرٌق السوي‪ ،‬لكنه ال ٌمكنه وحده َ‬
‫والختبلؾ المصالح والطبابع والحاجات اختلؾ الناس‪ ،‬وظهرت الحاجة ُ‬
‫منذ‬

‫‪ٛٝ -1‬زج ٓح ‪٣‬إًذ‪ ٙ‬جُ‪ٞ‬جهغ‪ ،‬ألٕ ضق‪ ُّٞ‬س ئٗغح ٍٕ ‪٣‬ؼ‪٤‬ؼ ُ‪ٞ‬قذ‪ ٙ‬ذذ‪ٓ ٕٝ‬ؿطٔغ ‪ ٞٛ‬مشْ خٌ ٖٓ جُ‪ٝ ْٛٞ‬جُخ‪٤‬حٍ‪ .‬ص‪٣‬ذجٕ‪:‬‬
‫ؿ‪ٝ ،4‬سجؾغ ٓوذٓس جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.36-35‬‬
‫‪ -2‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.30‬‬
‫‪ -3‬جُوطحٕ‪ :‬ؿ‪ٓ ،7‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.13‬‬

‫ـ‪9‬ـ‬
‫حق حقه‪ ،‬حتى‬
‫نظام ٌساند العقل وٌردع الشهوة‪ ،‬لٌكفل لكل ذي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بد ِء َ‬
‫الخلٌِقة إلى‬
‫ال تسُود الفوضى بٌن الناس‪ ،‬فٌأخذ القوي ما ٌرٌد بقوته‪ ،‬وٌفقد الضعٌؾ ما‬
‫ٌحتاج إلٌه بسبب ضعفه‪ ،‬فكان أن وضعت الجماعات اإلنسانٌة ُنظما ً هدفها‬
‫فضُّ المنازعات وإحقاق الحق‪ ،‬وإن كان ذلك بسُلطة القوي على الضعٌؾ‪ ،‬إذ‬
‫كانت القوة هً التً تحسم كل نزاع (‪ ،)1‬كما أن تلك ال ُنظم كانت بعٌد ًة عن‬
‫الكمال‪ ،‬ألنها عم ٌل بشريٌ‪ ،‬فالقانون الوضعً مهما َس َما واضعه ال ٌمكنه أن‬
‫ً‬ ‫ٌأتً كامبلً‪ ،‬لعدم كمال واضعه (‪ ،)2‬ولهذا كانت النظم الوضعٌة ع‬
‫ُرضة للتبدٌل‬
‫واإللؽاء والتعدٌل‪ ،‬لتبلفً عٌوبها‪ ،‬وس ِّد الثؽرات التً تتكاثر فً بنابها كلما‬
‫طال أم ُد تطبٌقها (‪ ،)3‬وهً فً كل األحوال ال تخلو من عٌوب‪ ،‬لخضوعها‬
‫إلرادة واضعٌها‪ ،‬والتً قد تحٌ ُد بهم عن الحق‪ ،‬ولذا كان خضوع المخاطبٌن‬
‫البٌن‬ ‫َ‬
‫المط ِ‬ ‫بهذه القوانٌن ألحكامها رهٌنا ً بقوة القابمٌن على تنفٌذها وضعؾِ‬
‫ٌ‬
‫فرصة للخروج علٌها لم ٌتوانوا عن اإلفادة‬ ‫سنحت لهؤالء‬ ‫باإلمتثال لها‪ ،‬وكلَّما َ‬
‫منها(‪ ،)4‬فاإلمتثال لهذه القوانٌن منبعُه إذاً الخوؾ من العقاب‪ ،‬وكلما أ ِم َنه المرء‬
‫قانون ٌملِك‬
‫ٍ‬ ‫واحترام فً نفسه لهذه القوانٌن‪ ،‬وعلٌه البد من‬
‫ٍ‬ ‫زالت ك ُّل هٌب ٍة‬
‫ظاهرهم وباطنهم‪ ،‬وٌكون اإلمتثال له عن رضا ورؼبة‪ ،‬ال عن‬
‫َ‬ ‫على الناس‬
‫ُنع الخالق (‪ ،)5‬فكان من رحمته‬
‫لتشرٌع من ص ِ‬
‫ٍ‬ ‫خوؾٍ ورهبةٍ‪ ،‬ولن ٌكون هذا إال‬
‫تعالى أن أرسل إلى عباده رسبلً مبشرٌن ومنذرٌن‪ ،‬لٌُرسُوا لهم النظم التً تبٌِّن‬

‫‪ -1‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪.6‬‬


‫‪ -2‬ػِ‪ ٢‬ػِ‪٘ٓ ٢‬ق‪ٞ‬س‪ :‬ؿ‪.51‬‬
‫‪ -3‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪.20‬‬
‫‪ -4‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.30‬‬
‫‪ -5‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪.21‬‬

‫ـ ‪ 10‬ـ‬
‫(‪ ،)1‬ألن‬ ‫الحقوق‪ ،‬وتحمً الضعٌؾ‪ ،‬وتصون األرواح واألعراض واألموال‬
‫‪:‬‬ ‫حِكمته تعالى تأ َبى أن ٌَترُك اإلنسان ببل إرشا ٍد إلى طرٌق الحق‪ ،‬وقد قال‬
‫اإل ْن َسانُ أَنْ ٌُ ْت َر َك س ًُدى‪ ،)2(‬أي ال ٌُؤمر وال ٌُنهى‪ ،‬وما األمر والنهً‬ ‫َ‬
‫‪‬أ ٌَحْ َسبُ ْ ِ‬
‫إال بٌانٌ لمناهج السلوك وقواعدَ تنظٌم شبون اإلنسان‪ ،‬وهذا هو القانون أو‬
‫الشرٌعة‪.‬‬
‫ولما وصلت البشرٌة إلى مرحلة النضج بعث تعالى لها تشرٌعا ً شامبلً‬
‫لك ِّل زمان ومكان‪ ،‬ج َم َع بٌن الدٌن والدنٌا‪ ،‬وحفِظ لئلنسان كرامته وحقوقه‬
‫وحقوق مجتمعه‪ ،‬بٌنما كان الشرابع السابقة تقتصر على تنظٌم حٌاة جماع ٍة‬
‫ً‬
‫عامة لكل البشر ولكل‬ ‫ت محدد‪ ،‬أما الشرٌعة اإلسبلمٌة فقد جاءت‬
‫معٌن ٍة فً وق ٍ‬
‫ً‬
‫باقٌة خالد ًة بعكس‬ ‫األزمنة‪ ،‬ولذا جاءت معجزتها ُم َم ً‬
‫ثلة فً القرآن الكرٌم‬
‫معجزات الرسل السابقٌن‪ ،‬التً كانت مؤ َّقتة‪ٌ ،‬ضعُؾ أثرُ ها فً النفوس بمرور‬
‫الزمن‪ ،‬ألنها قُصِ د بها إقناع المعاصرٌن لنزول دعوة ذلك الرسول فقط (‪ ،)3‬إذ‬
‫رسول قاصر ًة على قومه‪ ،‬إلصبلح ما َف َسد من عقابدهم‬
‫ٍ‬ ‫كانت رسال ُة ك ِّل‬
‫عصرها‪ ،‬وللمحافظة على‬
‫ِ‬ ‫وأخبلقهم‪ ،‬فكانت ك ُّل رسال ٍة عبلجا ً وقتٌا ً لمشاكل‬
‫عقٌدة التوحٌد (‪ ،)4‬ألن آثار األمراض االجتماعٌة لم تكن تمتد إلى مجتمعات‬
‫حٌن من الدهر‪ ،‬لقِل ِة اإلتصاالت بٌن الشعوب وصعوبتها‪ ،‬فكان‬
‫ٍ‬ ‫أخرى إال بعد‬
‫مجٌاُ رسال ٍة إلى أم ٍة ما كفٌ ٌل بالقضاء على ذلك المرض‪ ،‬فبل ٌنتشر فً‬
‫مرض اجتماعً ال ٌلبث أن ٌنتشر‬
‫ٍ‬ ‫األرض‪ ،‬أما اآلن فالحال مختلؾ‪ ،‬فظهور‬

‫‪ -1‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.7‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُو‪٤‬حٓس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.36‬‬
‫‪ -3‬أذ‪ ٞ‬جُلط‪ٞ‬ـ‪ :‬ؿ‪.14‬‬
‫‪ -4‬جُوطحٕ‪ :‬ؿ‪.11‬‬

‫ـ ‪ 11‬ـ‬
‫رسل إلى‬
‫ٍ‬ ‫بعد مد ٍة قصٌر ٍة إلى مجتمعات أخرى‪ ،‬ولما كان ال ٌتس ّنى إرسال‬
‫جمٌع المجتمعات‪ ،‬لكثرة األمراض‪ ،‬وللحاجة إلى عدد كبٌر من الرسل‪ ،‬وحتى‬
‫وٌصٌر أمرُ هم بٌن الناس مبتذالً‪ ،‬لم ٌكن هناك من ُب ٍّد من‬
‫َ‬ ‫ال ُ‬
‫ٌكثر عد ُدهم‬
‫إرسال رسال ٍة واحد ٍة جامع ٍة لكل وسابل اإلصبلح‪ ،‬وعام ٍة لجمٌع البشر ببل‬
‫استثناء‪ ،‬فكانت رسالة اإلسبلم(‪.)1‬‬
‫ولهذا نبلحظ أن القرآن الكرٌم عندما ٌحكً رساالت السابقٌن ٌنسبُ‬
‫‪َ ‬ولَ َق ْد أَرْ َس ْل َنا ُنوحا ً إِلَى‬ ‫نوح علٌه السبلم‬
‫كل نبً إلى قومه‪ ،‬إذ قال عن ٍ‬
‫صالِحا ‪ ،)3(‬وقال‬ ‫َق ْو ِم ِه‪ ، ‬وقال عن صالح علٌه السبلم ‪َ ‬وإِلَى َثمُودَ أَ َخا ُه ْم َ‬
‫( ‪)2‬‬

‫عن لوطٍ علٌه السبلم ‪َ ‬ولُ ً‬


‫وطا إِ ْذ َقا َل لِ َق ْو ِم ِه ‪ ،)4 ( ‬وتحدث عن شعٌ ٍ‬
‫ب علٌه‬
‫ش َع ٌْبًا ‪ ،)5(‬وقال عن موسى علٌه السبلم ‪ُ ‬ث َّم‬ ‫السبلم فقال ‪َ ‬وإِلَى َم ْد ٌَ َن أَ َخا ُه ْم ُ‬
‫َب َع ْث َنا مِنْ َبعْ ِد ِه ْم م َ‬
‫ُوسى ِب َ ٌَا ِت َنا إِلَى فِرْ َع ْو َن َو َم َل ِب ِه‪ ،)6(‬وقال فً شأن عٌسى علٌه‬
‫ُوال إِلَى َبنًِ إِسْ َرابٌِ َل ‪ ،)7(‬ولكنه قال فً شأن محمد ‪‬قُ ْل ٌَا أَ ٌُّ َها‬ ‫السبلم ‪َ ‬و َرس ً‬
‫ار َك الَّذِي َن َّز َل ْالفُرْ َق َ‬
‫ان َعلَى‬ ‫ال َّناسُ إِ ِّنً َرسُو ُل َّ ِ‬
‫هللا إِلَ ٌْ ُك ْم َج ِمٌعً ا ‪ ، ‬وقال ‪َ ‬ت َب َ‬
‫( ‪)8‬‬

‫ُبعث إلى‬ ‫ون ل ِْل َعالَم َ‬


‫ٌِن َن ِذٌرً ا ‪ ،)9(‬وفً الحدٌث الشرٌؾ "كان النبً ٌ ُ‬ ‫َع ْب ِد ِه لِ ٌَ ُك َ‬

‫‪ٓ -1‬كٔذ جُذع‪ٞ‬ه‪ :٢‬ؿ‪ٓٝ 25‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز ‪ٞٛ‬د‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.25‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.72‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.79‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.84‬‬
‫‪ -6‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.102‬‬
‫‪ -7‬ع‪ٞ‬سز آٍ ػٔشجٕ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.48‬‬
‫‪ -8‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.158‬‬
‫‪ -9‬ع‪ٞ‬سز جُلشهحٕ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.1‬‬

‫ـ ‪ 12‬ـ‬
‫ً‬
‫عامة (‪ ،)1‬ألن الشرابع السابقة أتى ك ُّل منها‬ ‫ً‬
‫خاصة‪ ،‬وب ُ‬
‫ُعثت إلى الناس‬ ‫قوم ِه‬
‫مجتمع محدد (‪ ،)2‬أما الشرٌعة اإلسبلمٌة فقد جاءت‬
‫ٍ‬ ‫خلل معٌن‪ ،‬فً‬
‫لمعالجة ٍ‬
‫ً‬
‫جامعة‪،‬‬ ‫ً‬
‫رسالة‬ ‫شامل للدٌن والدنٌا‪ ،‬ولكل األزمنة واألمكنة‪ ،‬فصارت‬
‫ٍ‬ ‫بنظام‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫مانعة‪ ،‬ألنها أؼنت عن‬ ‫ٌ‬
‫رسالة‬ ‫ألنها عالجت كل األمور المتعلقة بالبشر‪ ،‬وهً‬
‫نظام آخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أيِّ‬
‫وفوق هذا كله تمٌزت الشرٌعة اإلسبلمٌة عن الشرابع السماوٌة السابقة‬
‫بأنها أوسعُ نطاقا ً من حٌث الزمان والمكان والموضوع‪ ،‬فمن حٌث الزمان‬
‫ٌ‬
‫رسالة جدٌدة‪ ،‬أما الشرٌعة‬ ‫ً‬
‫سارٌة إلى أن تأتً‬ ‫كانت الشرابع السابقة تبقى‬
‫اإلسبلمٌة فقد جاءت لتسري ُ‬
‫منذ بد ِء نزولها إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬ومن حٌث‬
‫ً‬
‫قرٌة أو قُرى متجاورة‪،‬‬ ‫معٌن ٌسكن‬
‫ٍ‬ ‫لمجتمع‬ ‫المكان كانت الشرابع السابقة تأتً‬
‫ٍ‬
‫ت واحد‪ ،‬ألن ك َّل نبًٍّ مكلؾٌ‬
‫ولذلك قد ٌتعاصر وجود أكثر من نبً فً وق ٍ‬
‫نطاق إقلٌمً محدود‪ ،‬أما الشرٌعة اإلسبلمٌة فهً رسالة لكل من‬
‫ٍ‬ ‫برسال ٍة فً‬
‫على األرض ببل استثناء‪ ،‬فلٌس هناك أنبٌا ٌء آخرون لمجتمعات أخرى‪ ،‬ومن‬
‫بمضمون أساسً‪ ،‬وهو التوحٌد‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫حٌث الموضوع كانت الشرابع السابقة تأتً‬
‫ُت ِتب َعه ببعض األحكام الدنٌوٌة‪ ،‬التً تعالج مشكلة أو مشاكل اجتماعٌة معٌنة‪،‬‬
‫أما اإلسبلم فقد جاء لٌعالج كل المشاكل‪ ،‬حتى ٌستؽنً البشر عن مجٌا الرسل‬
‫بعد ذلك(‪.)3‬‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ جُقالز‪ ،‬أذ‪ٞ‬جخ جعطورحٍ جُورِس‪ ،‬ذحخ ه‪ ٍٞ‬جُ٘ر‪ُ  ٢‬ؾ ِؼِص ُ‪ ٢‬جُشك ٓغؿذجً ‪ٝ‬ه‪ٜٞ‬سجً‪،‬‬
‫قذ‪٣‬ع سهْ ‪.427‬‬
‫‪ٝ -2‬ئٕ جضلوص ًَ جُؾشجتغ ك‪ ٢‬ئهشجس جإل‪ٔ٣‬حٕ ذحهلل ‪ٝ‬جُرؼع ‪ٝ‬جُ‪ ّٞ٤‬ج‪٥‬خش‪.‬‬
‫‪ٓ -3‬كٔذ جُذع‪ٞ‬ه‪ :٢‬ؿ‪ ،37‬جُ٘ؿحس‪ :‬ؿ‪.35-34‬‬

‫ـ ‪ 13‬ـ‬
‫مفهوم الشرٌعة‪:‬‬
‫مورد الماء‪ٌ ،‬قال‪َ :‬ش َرعت اإلبل إذا وردت‬ ‫الشرٌع ُة ً‬
‫لؽة تد ُّل على ِ‬
‫الشرٌعة‪ ،‬وهً المكان الذي تشرب منه‪ ،‬كما تدل على الطرٌقة المستقٌمة (‪،)1‬‬
‫ٌع ٍة م َِن ْاألَمْ ِر َفا َّت ِبعْ َها‪ ،)2(‬وقد اُستعٌر‬ ‫كما فً قوله تعالى ‪ُ ‬ث َّم َج َع ْل َن َ‬
‫اك َعلَى َش ِر َ‬
‫هذا المعنى للطرٌقة اإللهٌة‪ ،‬فصارت الشرٌعة ُتطلق على األحكام التً س َّنها‬
‫رسول من رسله (‪ ،)3‬سواء تعلقت هذه األحكام بالعمل‬
‫ٍ‬ ‫لسان‬
‫ِ‬ ‫تعالى لعباده على‬
‫ً‬
‫شرٌعة ألنها مستقٌمة ال إنحراؾ فٌها‪،‬‬ ‫أو االعتقاد أو األخبلق‪ ،‬وقد ُسمٌِّت‬
‫وألنها سبٌ ٌل لحٌاة األرواح كما أن الماء سبٌ ٌل لحٌاة األبدان(‪.)4‬‬
‫ومن الشرٌعة بهذا المعنى أُشتق لفظ شرَّ ع بمعنى أنشأ الشرٌعة‪ ،‬وعلى‬
‫هذا فالتشرٌع اإلسبلمً كلُّه كان فً حٌاته ‪ ،‬ومصدره الوحً‪ ،‬حٌث كمُلت‬
‫ت لَ ُك ْم دٌِ َن ُك ْم َوأَ ْت َم ُ‬
‫مْت َعلَ ٌْ ُك ْم‬ ‫الشرٌعة فً حٌاته ‪ ،‬مِصداقا ً لقوله تعالى ‪‬أَ ْك َم ْل ُ‬

‫ٌت لَ ُك ُم ْ ِ‬
‫اإلسْ َبل َم دٌِ ًنا ‪ ،)5(‬وبهذا فلفظ الشارع ال ٌُطلق إال على هللا‬ ‫نِعْ َمتًِ َو َرضِ ُ‬
‫جل وعبل‪ ،‬ألنه ال مُنشِ ا لؤلحكام ؼٌرُ ه (‪ ،)6‬والشرٌعة اإلسبلمٌة بهذا تكون هً‬
‫األحكام المنزل ِة على سٌدنا محمد ‪ ،‬وهً تنقسم إلى ثبلثة أقسام(‪:)7‬‬
‫ِ‬ ‫جمل ُة‬
‫ت هللا تعالى وصفاته واإلٌمان به‬
‫‪ -‬أحكام اعتقادٌة‪ :‬وهً المتعلقة بذا ِ‬
‫وبرسله ومبلبكته وكتبه والٌوم اآلخر وما فٌه من حساب وثواب وعقاب‪،‬‬

‫‪ -1‬جُؿ‪ٛٞ‬ش‪ :١‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪ ،1236‬جُضذ‪٤‬ذ‪ :١‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.394‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُؿحغ‪٤‬س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.17‬‬
‫‪ -3‬جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،16‬ؿ‪.163‬‬
‫‪ -4‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪ٓ ،27‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.11‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.3‬‬
‫‪ -6‬جُذ‪٣‬رحٗ‪ :٢‬ؿ‪ٓ ،8‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪ ،11‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.7‬‬
‫‪ -7‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.23‬‬

‫ـ ‪ 14‬ـ‬
‫وموضوع دراستها علم الكبلم‪.‬‬
‫‪ -‬أحكام أخبلقٌة‪ :‬وهً المتعلقة بتهذٌب النفوس واصبلحها‪ ،‬وبٌان ما‬
‫ٌجب أن ٌكون علٌه المسلم فً عبلقاته اإلجتماعٌة‪ ،‬كاألحكام المبٌِّنة للفضابل‬
‫التً ٌجب أن ٌتحلى بها اإلنسان‪ ،‬كالصدق واألمانة والصبر والتواضع‪،‬‬
‫واألحكام المبٌِّنة للرذابل التً ٌتوجب على المرء التخلً عنها‪ ،‬كالكذب ُ‬
‫وخلؾ‬
‫الوعد والتكبر والخٌانة‪ ،‬واألحكام األخبلقٌة ٌبحثها علم األخبلق‪.‬‬
‫‪ -‬أحكام عملٌة‪ :‬وتشمل أحكام عبلقة اإلنسان بخالقه‪ ،‬كأحكام الصبلة‬
‫والصوم والحج‪ ،‬وأحكام عبلقة اإلنسان بؽٌره من الناس‪ ،‬كأحكام البٌع والهبة‬
‫والزواج والطبلق‪ ،‬وهذه ٌبحثها علم الفقه‪.‬‬
‫مقارنة التشرٌع اإلسالمً بالقانون الوضعً‪:‬‬
‫تختلؾ الشرٌعة اإلسبلمٌة عن الشرابع الوضعٌة فً نشأتها ومصدرها‬
‫وؼاٌتها‪ ،‬ولهذا فمن العبث مقارنتها بالتشرٌعات الوضعٌة الصادرة عن بشر‬
‫عُرضة للخطأ‪ ،‬ؼاٌتهم مما ٌصدرونهم من تشرٌعات تحقٌق مصالحهم‪ ،‬أو‬
‫تكٌٌؾ المجتمع وفق ؼاٌات رسموها له‪ ،‬ومع هذا لو عقدنا مقارنة بٌن التشرٌع‬
‫اإلسبلمً والقوانٌن الوضعٌة لتبٌَّن لنا رُ جحان جانب التشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬وذلك‬
‫لؤلسباب التالٌة‪:‬‬
‫‪ -1‬من ناحٌة المصدر التشرٌع اإلسبلمً مصدره إلهً‪ ،‬ألنه من عند‬
‫هلل ‪ ،)1(‬أما النبً ‪ ‬فهو مبلِّ ٌػ‬ ‫المنزه عن الخطأ‪ ،‬قال تعالى ‪‬إِ ِن ْالحُ ْك ُم إِ َّال ِ َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫هللا‬
‫لؤلحكام ولٌس له سلطة التشرٌع‪ٌَ  ،‬ا أَ ٌُّ َها الرَّ سُو ُل َبلِّ ْػ َما أ ُ ْن ِز َل إِلٌَ َ‬
‫ْك مِنْ‬
‫اس َما ُن ِّز َل إِلٌَ ِْه ْم ‪ ،)1(‬فمُنشاُ الحُ كم هو‬ ‫الذ ْك َر ِل ُت َبٌ َِّن لِل َّن ِ‬ ‫ِّك‪َ  ، ‬وأَ ْن َز ْل َنا إِلٌَ َ‬
‫ْك ِّ‬ ‫( ‪)2‬‬
‫َرب َ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جألٗؼحّ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.58‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.69‬‬

‫ـ ‪ 15‬ـ‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وعم ُل الرسول ‪ ‬هو بٌا ُنه وتبلٌ ُؽه للخلق‪ ،‬وعم ُل المجتهدٌن هو‬
‫استنباط الحكم من النصوص‪ ،‬ولمَّا كان التشرٌع اإلسبلمً مصدره إلهً فإن‬
‫ً‬
‫هٌبة واحتراما فً‬ ‫قواعده ال تقبل التعدٌل أو التبدٌل أو اإللؽاء‪ ،‬وهذا أكس َبه‬
‫النفوس‪ ،‬ألن واضع هذه األحكام خبٌرٌ حكٌم‪ ،‬ال ٌخفى علٌه شٌا (‪ ،)2‬فهو من‬
‫خلَ َق الناس وٌعلم ما ٌُصلِحهم وٌُصلِح لهم دنٌاهم وآخرتهم‪ ،‬أما التشرٌع‬
‫الوضعً فهو من صنع اإلنسان‪ ،‬واإلنسان دابما ً قاصرٌ فً تفكٌره‪ ،‬محدو ٌد فً‬
‫إدراكه‪ ،‬مهما اتسع عِ لمه‪ ،‬فهو ٌقصُرُ عن معرفة ما ٌح ِّقق المصلحة وٌلبًِّ‬
‫حٌن آخر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫عاجز عن عِ لمِها فً‬ ‫الحاجة دابماً‪ ،‬ألنه لو علِمها فً حٌن فهو‬
‫ولهذا كثٌراً ما ُتلؽى القوانٌن و ُتعدل‪ ،‬ألنها تصبح بعد مدة من صدورها ؼٌر‬
‫محققة لمصالح األمة‪ ،‬والتً كانت هً هدؾ القانون عند وضعه‪ ،‬بل إن بعض‬
‫ً‬
‫شعبٌة عند إصدارها‪ ،‬لعدم توافقها مع مصالح‬ ‫ً‬
‫معارضة‬ ‫القوانٌن تصادؾ‬
‫الناس وأحوالهم‪ ،‬كما أن التطبٌق ٌكشؾ عن عٌوب القوانٌن‪ ،‬فٌحاول‬
‫واضعوها س َّد ما بها من ثؽرات بإصدار قوانٌن الحِقة مع ِّدلة لها‪ ،‬بٌنما قواعد‬
‫الشرٌعة ثابتة‪ ،‬ألن واضعها علٌم بأحوال الناس وما ٌصلُح لهم‪.‬‬
‫فالتشرٌع الوضعً ٌستمد أحكامه من سلطان الدولة التً تس ُّنه وتعدلُه‬
‫وتلؽٌه حسب حاجتها‪ ،‬وهو عم ٌل إنسانً قاصرٌ‪ ،‬ألن مُصدِره نفسُه ؼٌر منز ٍه‬
‫عن الخطأ والهوى‪ ،‬كما أن التزام الفرد به ٌكون بقوة الدولة دون أن ٌتحرك‬
‫ضمٌره بدافع الطاعة (‪ ،)3‬وبقا ُء هذه القوانٌن مطب ً‬
‫ّقة رهٌنٌ ببقا ِء مُصدِرها‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘كَ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.44‬‬


‫‪ -2‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪ٓ ،42‬كٔذ ‪ٞ٣‬عق ٓ‪ٞ‬ع‪ :٠‬ؿ‪.72‬‬
‫‪ٛٝ -3‬زج ٓح ِٗكظ‪ ٚ‬ك‪ ٢‬عِ‪ٞ‬ى ذؼل ر‪ ١ٝ‬جُػشجء جُز‪ُ٣ ٖ٣‬خشؾ‪ ٕٞ‬صًحز أٓ‪ٞ‬جُ‪ ْٜ‬ػٖ سمح ‪ٝ‬ه‪٤‬د ٗلظ‪٣ٝ ،‬طوحػغ‪ٕٞ‬‬
‫ػٖ دكغ جُنشجتد جُط‪ ٢‬ضلشم‪ٜ‬ح جُذ‪ُٝ‬س‪ٓ ،‬غ أٗ‪ٜ‬ح ض٘لن ك‪ٝ ٢‬ؾ‪ ٚ‬جُٔقِكس جُؼحٓس‪ٓٝ ،‬ح ‪ٛ‬زج ئال ألٕ جُضًحز ضٌِ‪٤‬ق‬
‫ؽشػ‪ ٢‬أٓح جُنشجتد كطٌِ‪٤‬ق هحٗ‪ .٢ٗٞ‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ ‪.23‬‬

‫ـ ‪ 16‬ـ‬
‫ممسكا ً بزمام األمور‪ ،‬وكلما تؽٌرت أداة الحكم تؽٌر معها ما صدر من قوانٌن‪،‬‬
‫إذ كثٌراً ما شاهدنا قوانٌن تسقط مع سقوط واضعٌها عن سدة الحكم‪ ،‬لتحل‬
‫محلها تشرٌعات أخرى‪ ،‬تعبر عن مصالح الحكام الجدد(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬التشرٌع اإلسبلمً ؼاٌته أع ّم وأشمل‪ ،‬ألنه ّ‬
‫نظم عبلقة المرء بنفسه‬
‫وبربه وببنً جنسه‪ ،‬ولهذا نصَّ على أحكام العبادات والمعامبلت‪ ،‬ألن اإلسبلم‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫ودولة‪ ،‬ولذا البد أن تتناول أحكامه كل العبلقات التً تشملها أمور الدٌن‬ ‫دٌنٌ‬
‫والدولة(‪ ، )2‬أما القوانٌن الوضعٌة فتقتصر على تنظٌم عبلقة المرء باآلخرٌن‬
‫ً‬
‫دولة أم أفراداً‪ ،‬وال تهتم بالعبادات رؼم ما فٌها من‬ ‫ً‬
‫جماعة كانوا أم‬ ‫فقط‪،‬‬
‫إصبلح للفرد وتهذٌب لسلوكه‪.‬‬
‫‪ -3‬كل تصرؾ إنسانً له حكمان فً التشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬أحدهما‬
‫ٌتعلق بأثر التصرؾ بٌن الناس‪ ،‬واآلخر ٌتعلق بالقصد الحقٌقً منه‪ ،‬ألن‬
‫نظم الصِ لة بٌن اإلنسان وؼٌره من بنً البشر‪َّ ،‬‬
‫ونظم صِ لته‬ ‫التشرٌع اإلسبلمً َّ‬
‫بربه بصدد نفس المسألة‪ ،‬ولهذا فهو ٌحاسِ ب على األعمال الخارجٌة والنواٌا‬
‫الباطنٌة‪ ،‬بمعنى أن للتصرؾ حكمٌن فً الشرٌعة‪ ،‬أحدهما دنٌوي بحسب‬
‫ظاهره‪ ،‬واآلخر أخروي بحسب حقٌقته الباطنة‪ ،‬وهذا بخبلؾ التشرٌع‬
‫الوضعً‪ ،‬فإنه ٌقتصر على بٌان حكم األعمال الخارجٌة‪ ،‬وال ٌُعنى بالنواٌا إال‬
‫إذا ظهرت للعالم الخارجً (‪ ،)3‬وثمرة هذا التمٌٌز أن التصرؾ ٌكتسب صفة‬
‫الحِل والحُ رمة شرعا ً بحسب نٌة صاحبه‪ ،‬رؼم أن الظاهر قد ال ٌتوافق مع‬
‫ذلك‪ ،‬مما ٌكون معه التصرؾ صحٌحا ً فً ظاهره‪ ،‬ومحرَّ ما فً حقٌقته‪ ،‬وهذا‬

‫‪ -1‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪ ،79‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.17‬‬


‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬جُلط‪ٞ‬ـ‪ :‬ؿ‪.10‬‬
‫‪ً -3‬رحسز‪ :‬ؿ‪.81‬‬

‫ـ ‪ 17‬ـ‬
‫التمٌٌز ال ٌعرفه القانون أصبلً‪ ،‬ولهذا كان للتصرؾ فٌه حك ٌم واحد بحسب‬
‫ظاهره(‪.)1‬‬
‫‪ -4‬أحكام التشرٌع اإلسبلمً ٌخشاها المرء فً السِّر والعلن‪ ،‬ألنه ال‬
‫ٌمكنه التهرب من تطبٌقها‪ ،‬أو اإلحتٌال فً ذلك‪ ،‬فلو تنصَّل من عقاب الدنٌا‬
‫ت ال محالة‪ ،‬ألن عٌن الشارع ال تؽفل وال تنام‪ ،‬ولذا كان‬
‫فعقاب اآلخرة آ ٍ‬
‫المسلمون األوابل ٌؤثِرون رضا هللا تعالى‪ ،‬وٌعترفون بما ارتكبوه من‬
‫ي‪ ،‬ولو قاموا بها بعٌداً عن أعٌن الناس‪ ،‬وهذه الخشٌة من هللا هً التً‬
‫معاص َ‬
‫تفسِّر لنا قِلة المنازعات بٌن الناس فً صدر اإلسبلم (‪ ،)2‬وهذا بخبلؾ القانون‬
‫الوضعً‪ ،‬إذ ٌحاول اإلنسان اإلفبلت من أحكامه ما استطاع إلى ذلك سبٌبلً‪ ،‬بل‬
‫إن الناس تف َّننوا فً أسالٌب اإلفبلت من تطبٌق القوانٌن‪ ،‬وكانت السعادة‬
‫تؽمرهم كلَّما أفلحوا فً ذلك‪ ،‬فكان اإلمتثال لؤلحكام الشرعٌة عن اقتناع‪،‬‬
‫عن خوؾ (‪ ،)3‬لشعور الناس أنَّ التشرٌعات‬ ‫واإلمتثال لؤلحكام القانونٌة‬
‫بشر‬
‫الوضعٌة عُرضة للخطأ‪ ،‬وربما تكون متحٌزة أو ظالمة‪ ،‬لصدورها عن ٍ‬
‫ؼٌر معصومٌن‪ٌ ،‬تأثرون بمصالحهم وعواطفهم الشخصٌة والظروؾ المحٌطة‬

‫‪ -1‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،29-28‬جُقحذ‪ :٢ٗٞ‬ؿ‪.17‬‬


‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬جُلط‪ٞ‬ـ‪ :‬ؿ‪.10‬‬
‫‪ُٜٝ -3‬زج ُٔح ُقشّٓص جُخٔش ك‪ ٢‬فذس جإلعالّ ذحدس جُٔغِٔ‪ ٕٞ‬ئُ‪ ٠‬جُطخِـ ٓٔح ُذ‪ ٖٓ ْٜ٣‬خٔ‪ٞ‬س‪ ،‬الهط٘حػ‪ْٜ‬‬
‫ذنش‪ٝ‬سز جالٓطػحٍ ُألٓش جإلُ‪ ،٢ٜ‬ك‪ ٢‬ق‪ ٖ٤‬إٔ جُ‪ٞ‬ال‪٣‬حش جُٔطكذز ُٔح أسجدش ضخِ‪٤‬ـ ؽؼر‪ٜ‬ح ٖٓ ٓنحس جُخٔش‬
‫أفذسش ع٘س ‪ ّ1930‬هحٗ‪ٗٞ‬ح ً ؾ َشّ ذ‪٤‬غ جُخٔ‪ٞ‬س ‪ٝ‬ؽشجء‪ٛ‬ح‪ّٜٓٝ ،‬ذش ُزُي ذذػح‪٣‬س ‪ٝ‬جعؼس‪ ،‬ق‪٤‬ع أفذسش ضغؼس‬
‫‪ 250‬ؽخقح ً ‪ٝ‬قرظ ٗقق‬ ‫آالف ِٓ‪ ٕٞ٤‬فلكس ك‪ ٢‬ذ‪٤‬حٕ ٓنحس جُخٔش‪ٝ ،‬هذ أد‪ ٟ‬ضطر‪٤‬ن ‪ٛ‬زج جُوحٗ‪ ٕٞ‬ئُ‪ ٠‬هطَ‬
‫ِٓ‪ٓٝ ٕٞ٤‬قحدسز جُٔال‪ ٖٓ ٖ٤٣‬جألٓ‪ٞ‬جٍ‪ٓٝ ،‬غ ‪ٛ‬زج جمطشش جُكٌ‪ٓٞ‬س ئُ‪ ٠‬ئُـحت‪ ٚ‬ع٘س ‪ ،ّ1933‬ألٗ‪ ُٚ ٌٖ٣ ُْ ٚ‬أ‪١‬‬
‫د‪ٓٝ ،‬غ ‪ٛ‬زج‬
‫أغش ك‪ ٢‬جُ٘ل‪ٞ‬ط ‪٣‬كِٔ‪ٜ‬ح ػِ‪ ٠‬هحػط‪ٝ ٚ‬جقطشجٓ‪ ،ٚ‬ذؼٌظ جألغش جُؾشػ‪ ٢‬جُز‪٣ ُْ ١‬غرو‪ ٚ‬دػح‪٣‬س أ‪ٗ ٝ‬ؾش ًط ٍ‬
‫أقذظ أغش‪ ٙ‬ك‪ ٢‬جه٘حع جُٔغِٔ‪ ٖ٤‬ذنش‪ٝ‬سز جإلٓطػحٍ ُ‪ .ٚ‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ ‪.43 -42‬‬

‫ـ ‪ 18‬ـ‬
‫بهم(‪ ،)1‬أما التشرٌعات اإللهٌة فلن تكون إال عادلة‪ ،‬ألن واضعها أنزلها لكل‬
‫عباده‪ ،‬وأراد بها تحقٌق مصالحهم جمٌعا‪.‬‬
‫‪ -5‬رؼم إتفاق القوانٌن الوضعٌة مع األحكام الشرعٌة فً الؽالب من‬
‫األحكام إال أن القوانٌن الوضعٌة قد ُتجٌز ما تحرِّ مه الشرٌعة كالربا‬
‫واإلجهاض‪ ،‬وقد تحظر ما تبٌحه الشرٌعة كاإلجتماع فً مكان معٌن(‪.)2‬‬
‫‪ -6‬التشرٌع اإلسبلمً وُ لِد متكامبلً‪ ،‬فً حٌن أن التشرٌع الوضعً ٌلبًِّ‬
‫الحاجات الحاضرة فقط وقت تشرٌعه‪ ،‬أو فً ما هو منظور من المستقبل‪ ،‬ثم‬
‫بعد فترة ٌظهر عجزه عن حكم ما َج َّد من حوادث ‪ ،‬مما ٌدعو إلى تعدٌله‪ ،‬كما‬
‫أن التشرٌع الوضعً خاصٌ بجماعة معٌنة‪ ،‬فً وقت معٌن‪ ،‬مما ٌدعو إلى‬
‫تؽٌٌره كلما تطورت الجماعة وتب َّدلت أحوالها‪ ،‬أما الشرٌعة فهً صالحة‬
‫لعصر دون‬
‫ٍ‬ ‫لقوم دون آخرٌن‪ ،‬أو‬
‫ت ٍ‬ ‫للتطبٌق فً كل زمان ومكان‪ ،‬ألنها لم تأ ِ‬
‫ً‬
‫وافٌة بمطالب كل الجماعات ولو تؽٌَّر العصر‪ ،‬إذ بعد أن‬ ‫عصر‪ ،‬بل جاءت‬
‫ً‬
‫صالحة للتطبٌق رؼم‬ ‫مرَّ على ظهورها أكثر من خمس َة عشر قرنا ً ال تزال‬
‫تؽٌر ظروؾ الحٌاة‪ ،‬بٌنما اندثرت عشرات القوانٌن وانقلبت مبادؤها إلى عكس‬
‫ما أُرٌد منها بعد فترة من ظهورها‪ ،‬لتخلُّفِها عن مساٌرة حٌاة المجتمع(‪.)3‬‬
‫‪ -7‬الفقه اإلسبلمً ُ‬
‫طبِّق خ الل قرون عدٌدة‪ ،‬فً مختلؾ األقطار‪،‬‬
‫وعاصر الرخاء والشدة‪ ،‬والسٌادة واالستعباد‪ ،‬واإلزدهار والجمود‪ ،‬فكانت له‬
‫ثروة فقهٌة ال مثٌل لها‪ٌ ،‬جد فٌها كل فرد أو جماعة أو بلد حلوالً لكل مشاكله‪،‬‬
‫أما التشرٌعات الوضعٌة فهً ولٌدة ببلد الؽرب‪ ،‬وقد استمدها منها بعض ببلد‬

‫‪ -1‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.6‬‬
‫‪ -2‬جُذ‪٣‬رحٗ‪ :٢‬ؿ‪.12‬‬
‫‪ -3‬جُوطحٕ‪ :‬ؿ‪.17-16‬‬

‫ـ ‪ 19‬ـ‬
‫اإلسبلم‪ ،‬وعمرها ال ٌزٌد على قرنٌن على أبعد تقدٌر‪ ،‬بعد أن تحقق ألهل تلك‬
‫البلدان فص ُل الدٌن عن شبون الحٌاة الدنٌوٌة(‪.)1‬‬
‫‪ -8‬األصل فً الجزاء الدٌنً أن ٌكون أُخروٌا ً فقط‪ ،‬كما فً عقوبة‬
‫الحقد والحسد‪ ،‬ولكن متطلبات الحٌاة وضرورة الحفاظ على استقرار المجتمع‬
‫وضمان حقوق األفراد اقتضى اقترانه بجزاء دنٌوي فً أحوال عدٌدة‪ ،‬كما فً‬
‫عقوبة القتل والسرقة‪ ،‬أما التشرٌع الوضعً فجزاء مخالفته دنٌوي فقط(‪.)2‬‬
‫ض الجزاء فقط‪ ،‬بل إنها ُتثٌب‬
‫كما أن الشرٌعة ال تحمً أحكامها بفرْ ِ‬
‫الطابع‪ ،‬مما ٌقلِّل من حاالت الفِرار من تطبٌق األحكام الشرعٌة‪ ،‬إلستشعار‬
‫الناس الخشٌة من هللا تعالى‪ ،‬ولو ضعُفت رقابة المخلوق(‪ ،)3‬أما القانون فٌعاقب‬
‫المخالؾ دون إثابة الطابع‪ ،‬وما هذا إال ألن طاعة الشرٌعة عبادة‪ ،‬أما طاعة‬
‫القانون فلٌست كذلك دابماً‪ ،‬بل إنها قد تكون معصٌة‪ ،‬إذا كان النص القانونً‬
‫ٌأمر بما هو مخالؾ للشرٌعة‪.‬‬
‫أسس التشرٌع اإلسالمً‪:‬‬
‫لكل تشرٌع دعابم ٌرتكز علٌها‪ ،‬وبها تكون قوته وضعفه‪ ،‬ولمَّا كان‬
‫اإلسبلم قد جاء إلصبلح أحوال الناس‪ ،‬وإٌجاد نظام ٌكفل لهم االستقرار‪ ،‬فبلبد‬
‫له إذاً من تؽٌٌر ما ألِفه الناس قبل اإلسبلم‪ ،‬ولهذا كان ٌأمر وٌنهى‪ ،‬مراعٌا ً فً‬
‫ً‬
‫عامة هً‪:‬‬ ‫ذلك حال المخاطبٌن وما ٌحقق مصالحهم‪ ،‬وقد راعى فً ذلك أُسسا ً‬
‫‪ -1‬نفً الحرج‪:‬‬
‫راعى الشارع التٌسٌر على الناس‪ ،‬ألنه علٌ ٌم خبٌر بأحوالهم‪ ،‬وما هُم‬

‫‪ -1‬ػِ‪ ٢‬ػِ‪٘ٓ ٢‬ق‪ٞ‬س‪ :‬ؿ‪.41‬‬


‫‪ -2‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.22‬‬
‫‪ -3‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪.79‬‬

‫ـ ‪ 20‬ـ‬
‫علٌه من صحة ومرض‪ ،‬وقوة وضعؾ‪ ،‬ولهذا جاءت التكالٌؾ الشرعٌة فً‬
‫حدود اإلستطاعة‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ ‬ما ٌ ُِرٌ ُد َّ‬
‫هللاُ لِ ٌَجْ َع َل َعلَ ٌْ ُك ْم مِنْ َح َر ٍج ‪ ،)1(‬وقوله‬
‫هللاُ ِب ُك ُم ْالٌُسْ َر َو َال ٌ ُِرٌ ُد ِب ُك ُم ْالعُسْ َر ‪ ،)2(‬وقوله ‪َ ‬ال ٌُ َكلِّؾُ َّ‬
‫هللاُ َن ْفسً ا إِ َّال‬ ‫‪ُِ ٌ‬رٌ ُد َّ‬
‫وُ سْ َع َها‪ ،)3(‬وقد ثبت أنه ‪ ‬ما ُخٌِّر بٌن أمرٌن إال اختار أٌسرهما‪ ،‬ما لم ٌكن‬
‫إثما ً(‪ ،)4‬كما ثبت عنه ‪ ‬قوله‪ٌ" :‬سروا وال تعسروا" (‪ ،)5‬بل إنه دعا على من‬
‫شق على أمته بقوله‪" :‬اللهم من ول ًَِ من أمر أمتً شٌبا ً َّ‬
‫فشق علٌهم فاشقُق‬ ‫ٌ ُ‬
‫علٌه‪ ،‬ومن ول ًَِ من أمر أمتً شٌبا فرفِق بهم فأرفُق به" (‪ ،)6‬ولهذا لم ٌكن فً‬
‫األحكام الشرعٌة ما تضٌق به النفوس‪ ،‬وٌصعُب أداؤه‪ ،‬ألن المشقة لٌست من‬
‫أؼراض الشارع‪ ،‬فؽاٌته هً تحقٌق المصالح ودفع المضار (‪ ،)7‬ولكن هذا ال‬
‫شٌا منها‪ ،‬فنفًُ الحرج‬
‫ٍ‬ ‫ٌعنً إنتفاء أصل المشقة‪ ،‬ألن التكلٌؾ ال ٌتحقق إال مع‬
‫معناه رفع المشقة التً ال ٌطٌقها اإلنسان وال ٌحتملها‪ ،‬ولٌس رفعُ ك ِّل مشقة(‪.)8‬‬
‫ورؼم كثرة النصوص الدالة على التٌسٌر فإنه قد ٌنجم عند التطبٌق‬
‫بعض المشقة فً أحوال معٌنة لبعض الناس‪ ،‬مع أنها مٌسورة لؽٌرهم‪ ،‬ألن‬
‫ولرفع هذه‬ ‫ً‬
‫عامة‪ ،‬دون النظر لفر ٍد أو حادث ٍة معٌنة‪،‬‬ ‫األحكام الشرعٌة جاءت‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫ورخص فً‬ ‫المشقة سنَّ الشارع رُ َخصا ً عند الضرورة‪ ،‬منها أنه َش َرع الصوم‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.6‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.185‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.286‬‬
‫‪ -4‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جألدخ‪ ،‬ذحخ جُطؿح‪ٝ‬ص ك‪ ٢‬جألٓش‪ ،‬حدٌث رقم ‪.4785‬‬
‫‪5‬‬
‫‪ -‬صحٌح البخاري‪ :‬كتاب األدب‪ ،‬باب قول النبً ‪ٌ ‬سروا وال تعسروا‪ ،‬حدٌث رقم ‪.5774‬‬
‫‪ٓ -6‬غ٘ذ أقٔذ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.24101‬‬
‫‪ -7‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.69‬‬
‫‪ -8‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.133-123‬‬

‫ـ ‪ 21‬ـ‬
‫َّ‬
‫ورخص لمن ال ٌقدر على القٌام فً‬ ‫الهرم‪،‬‬
‫الفطر للمسافر والمرٌض والشٌخ ِ‬
‫الصبلة أن ٌصلً كٌفما استطاع‪ ،‬وأباح عند الضرورة ما كان محظوراً‪،‬‬
‫كتناول المٌتة ولحم الخنزٌر والخمر والنطق بكلمة الكفر عند اإلكراه علٌها‪،‬‬
‫شرع التٌمم‪ ،‬واعتبر‬
‫ولمن عجز عن استعمال الماء للوضوء أو لم ٌجده َ‬
‫اإلكراه والمرض والخطأ والنسٌان والجهل من األعذار التً تقتضً التخفٌؾ‬
‫ورفع اإلثم(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬التدرج فً التشرٌع‪:‬‬
‫ظهر اإلسبلم بٌن العرب وقد تأصَّلت فً نفوسهم عادات ال ٌسهُل‬
‫ً‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬وإال تحقق الحرج‪ ،‬فاقتضت حكمته تعالى أن ٌتدرج فً‬ ‫اقتبلعها‬
‫أحكامه ِرفقا ً بهم‪ ،‬ولهذا نزل القرآن منجَّ ما ً حسب الحوادث‪ ،‬ولم ُتشرع أحكام‬
‫ً‬
‫إجابة عن سؤال‪ ،‬أو بٌانا ً لحُ كم حادثة‬ ‫ً‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬بل كانت األحكام تأتً‬ ‫السنة‬
‫وقعت‪ ،‬أو بنا ًء على تقدٌر الشارع أن حكما ً معٌنا ً قد آن أوان تشرٌعه‪ ،‬وهذا‬
‫كله ٌجعل التشرٌع موصوفا ً بالتدرج‪ ،‬لٌتم تحوٌل الناس عن طِ باعهم الذمٌمة‬
‫إلى طِ باع جدٌدة بصور ٍة أسهل وأرفق‪.‬‬
‫فالخمر تم َّكنت من نفوس أهل الجاهلٌة‪ ،‬فأكثروا من ُ‬
‫شربها‪ ،‬حتى تؽ َّنى‬
‫شعراؤهم بها‪ ،‬وأشادوا بها وبشاربٌها‪ ،‬ولما أراد الشارع تحرٌمها تدرج فً‬
‫ذلك‪ ،‬ألن النفوس لم تكن مهٌَّأة لئلقبلع عنها‪ ،‬فقال تعالى ‪ٌَ ‬سْ أَلُو َن َك َع ِن ْال َخمْ ِر‬
‫اس َوإِ ْث ُم ُه َما أَ ْك َبرُ مِنْ َن ْفع ِِه َما ‪ ،)2(‬ولم‬
‫ٌِه َما إِ ْث ٌم َك ِبٌرٌ َو َم َنافِعُ لِل َّن ِ‬
‫َو ْال َمٌْسِ ِر قُ ْل ف ِ‬
‫كثر إثمه َو َجب تر ُكه‪،‬‬ ‫ٌصرِّ ح بالتحرٌم‪ ،‬وإن كان ذلك ٌُفهم ضِ مناً‪ ،‬ألن ما ُ‬
‫وتر َكها‬
‫ولهذا استمر الناس فً شربها قابلٌن نأخذ منفعتها ونترك إثمها‪َ ،‬‬

‫‪ -1‬جُٔقذس جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.122‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.219‬‬

‫ـ ‪ 22‬ـ‬
‫ٌ‬
‫جماعة من‬ ‫شرب‬
‫‪ ،‬ولما ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫بعضهم قابلٌن ال حاج َة لنا فٌما فٌه إث ٌم كبٌر‬
‫الصحابة خمراً‪ ،‬وقاموا للصبلة وهم سُكارى‪ ،‬فخلطوا فً القراءة‪ ،‬حرّ مها‬
‫ٌِن آَ َم ُنوا َال َت ْق َربُوا الص ََّبل َة َوأَ ْن ُت ْم‬
‫تعالى فً أوقات الصبلة بقوله ‪ٌَ ‬ا أَ ٌُّ َها الَّذ َ‬
‫لكسر عاد ِة إدمان ُ‬
‫شربها‪ ،‬ولتنافً تعاطٌها‬ ‫ِ‬ ‫ارى َح َّتى َتعْ لَمُوا َما َتقُولُ َ‬
‫ون ‪،)2(‬‬ ‫ُس َك َ‬
‫فقدان للوعً وقِلة مباالة‪ ،‬وهذا‬
‫ٍ‬ ‫مع مقاصد الصبلة‪ ،‬لِما ٌؽلُب على السكران من‬
‫شوع ُ‬
‫وخضوع‪ ،‬ولما كانت الصلوات‬ ‫ال ٌستقٌم مع ما ٌلزم للصبلة من ُخ ٍ‬
‫خمساً‪ ،‬وأوقاتها متقاربة‪ ،‬كؾَّ الصحابة عن شربها نهاراً‪ ،‬واكتفوا بذلك لٌبلً‪،‬‬
‫ربها‪ ،‬ثم حُ رِّ مت الخمر نهابٌا ً بعد أن تهٌأت النفوس‬ ‫مما ضٌَّق من فُ َرص ُ‬
‫ش ِ‬
‫لقبول التحرٌم بقوله تعالى ‪‬إِ َّن َما ْال َخمْ رُ َو ْال َمٌْسِ رُ َو ْاألَ ْن َ‬
‫صابُ َو ْاألَ ْز َال ُم ِرجْ سٌ مِنْ‬
‫ٌحتج األمر إال‬ ‫ان َفاجْ َت ِنبُوهُ‪ ،)3(‬ولصراحة هذه اآلٌة فً التحرٌم لم‬ ‫َع َم ِل ال َّشٌ َ‬
‫ْط ِ‬
‫ِ‬
‫إلى مُنا ٍد ٌنادي فً جنبات المدٌنة بأن الخمر قد حُرِّ مت‪ ،‬فبادر القوم إلى‬
‫اإلقبلع عنها‪ ،‬وإهراق ِز َقاقِها‪.‬‬
‫والزنا كان مباحا ً ثم حُ رِّ م‪ ،‬وكانت عقوبته اإلٌذاء بالقول والحبس فً‬
‫البلتًِ ٌَأْت َ‬
‫ٌِن ْال َفا ِح َش َة مِنْ ن َِسا ِب ُك ْم َفاسْ َت ْش ِه ُدوا َعلٌَ ِْهنَّ أَرْ َب َع ًة‬ ‫البٌت‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ ‬و َّ‬
‫ت أَ ْو ٌَجْ َع َل َّ‬
‫هللاُ لَهُنَّ‬ ‫ِم ْن ُك ْم َفإِنْ َش ِه ُدوا َفأَمْ سِ ُكوهُنَّ فًِ ْال ُبٌُو ِ‬
‫ت َح َّتى ٌَ َت َو َّفاهُنَّ ْال َم ْو ُ‬
‫ان ٌَأْ ِت ٌَا ِن َها ِم ْن ُك ْم َف َ ُذو ُه َما َفإِنْ َتا َبا َوأَصْ لَ َحا َفأَعْ ِرضُوا‬
‫ٌبل ( ‪َ )15‬واللَّ َذ ِ‬ ‫َس ِب ً‬
‫الزانًِ َفاجْ لِ ُدوا ُك َّل َوا ِح ٍد‬ ‫الزا ِن ٌَ ُة َو َّ‬
‫َع ْن ُه َما‪ ،)4(‬ثم شددت العقوبة بقوله تعالى ‪َّ ‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ون ِب َّ ِ‬
‫اهلل َو ْال ٌَ ْو ِم‬ ‫ٌِن َّ ِ‬
‫هللا إِنْ ُك ْن ُت ْم ُت ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ِم ْن ُه َما ِماْ َب َة َج ْلدَ ٍة َو َال َتأ ُخ ْذ ُك ْم ِب ِه َما َرأ َف ٌة فًِ د ِ‬

‫‪ -1‬جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.200‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪ٝ ،43‬سجؾغ جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.200‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.90‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬طحٕ ‪.16-15‬‬

‫ـ ‪ 23‬ـ‬
‫‪ ،)1(‬فثبت الجلد بالقرآن لؽٌر‬ ‫ْاآلَخ ِِر َو ْل ٌَ ْش َه ْد َع َذا َب ُه َما َطا ِب َف ٌة م َِن ْالم ُْؤ ِمن َ‬
‫ٌِن‬
‫المحصن‪ ،‬وثبت الرجم للمحصن بالسنة الشرٌفة(‪.)2‬‬
‫والصبلة فُرضت فً أول األمر ركعتٌن بالؽداة وركعتٌن بالعشً‪ ،‬فلما‬
‫ألِفها الناس فُرضت الصلوات الخمس‪ ،‬وكانت ركعتٌن ركعتٌن ما عدا‬
‫وزٌدت فً صبلة الحضر إلى‬ ‫ُ‬
‫المؽرب‪ ،‬ثم أقِرَّ ت الركعتان فً صبلة السفر‪ِ ،‬‬
‫أربع ركعات فً كل من الظهر والعصر والعشاء(‪.)3‬‬
‫ِب َعلَ ٌْ ُك ُم‬‫شرع أوالً ثبلثة أٌام من كل شهر فً قوله تعالى ‪ُ ‬كت َ‬ ‫والصٌام ُ‬
‫ت ‪،)4(‬‬ ‫ون ( ‪ )183‬أٌََّامًا َمعْ ُدودَ ا ٍ‬
‫ٌِن مِنْ َق ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َت َّتقُ َ‬
‫ِب َعلَى الَّذ َ‬
‫ص ٌَا ُم َك َما ُكت َ‬
‫ال ِّ‬
‫ثم فُرض صوم شهر رمضان‪ ،‬بعد أن ألِؾ الناس الصوم‪ ،‬وذلك بقوله تعالى‬
‫ُ‬
‫ت م َِن ْالهُدَ ى َو ْالفُرْ َق ِ‬
‫ان‬ ‫ان الَّذِي أ ْن ِز َل فٌِ ِه ْالقُرْ آَنُ ه ًُدى لِل َّن ِ‬
‫اس َو َب ٌِّ َنا ٍ‬ ‫ض َ‬ ‫‪َ ‬شهْرُ َر َم َ‬
‫َف َمنْ َش ِهدَ ِم ْن ُك ُم ال َّشه َْر َف ْل ٌَصُمْ ُه‪.)5(‬‬
‫ومن التدرج فً التشرٌع أن هللا جل وعبل أمر المسلمٌن بالعفو عن‬
‫المشركٌن فً أول األمر والصبر علٌهم واإلعراض عنهم وتركِ مقاتلتهم‪ ،‬ألن‬
‫ِّك َال‬ ‫المسلمٌن كانوا ضِ عافاً‪ ،‬وذلك فً قوله تعالى ‪‬ا َّت ِبعْ َما أُوح ًَِ إِلٌَ َ‬
‫ْك مِنْ َرب َ‬
‫ٌِن ‪ ،)6(‬فلما اشتد ساعد المسلمٌن إذِن لهم فً‬ ‫إِلَ َه إِ َّال ه َُو َوأَعْ ِرضْ َع ِن ْال ُم ْش ِرك َ‬
‫ون ِبأ َ َّن ُه ْم ُ‬
‫ظلِمُوا َوإِنَّ َّ َ‬
‫هللا‬ ‫القتال دفاعا ً عن أنفسهم فً قوله تعالى ‪‬أُذ َِن لِلَّذ َ‬
‫ٌِن ٌُ َقا َتلُ َ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘‪ٞ‬س‪ :‬ؿ‪.2‬‬


‫‪ -2‬جُؾحكؼ‪ :٢‬جُشعحُس‪ ،‬ؿ ‪ ،247‬جألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.660‬‬
‫‪ -3‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ جُقالز‪ ،‬ذحخ ً‪٤‬ق كشمص جُقالز ك‪ ٢‬جإلعشجء؟‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.343‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬طحٕ ‪.184-183‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪ٝ ،185‬سجؾغ جُؾحكؼ‪ :٢‬جُشعحُس‪ ،‬ؿ ‪ ،157‬جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.275‬‬
‫‪ -6‬ع‪ٞ‬سز جألٗؼحّ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.106‬‬

‫ـ ‪ 24‬ـ‬
‫َعلَى َنصْ ِر ِه ْم لَ َق ِدٌرٌ ‪ ، ‬ثم َفرض علٌهم القتال بقوله تعالى ‪َ ‬و َقا ِتلُوا فًِ َس ِب ِ‬
‫( ‪)1‬‬
‫ٌل‬
‫ٌِن ٌُ َقا ِتلُو َن ُك ْم َو َال َتعْ َت ُدوا إِنَّ َّ َ‬
‫هللا َال ٌُحِبُّ ْالمُعْ َتد َ‬
‫ٌِن‪.)2(‬‬ ‫َّ ِ‬
‫هللا الَّذ َ‬
‫والتدرج فً التشرٌع أحد العوامل التً ساعدت على تقبل التشرٌع‬
‫اإلسبلمً واالمتثال له‪ ،‬وفٌه تٌسٌر على المخاطبٌن به‪ ،‬وهو المبلبم لحالة‬
‫العرب األمٌٌن آنذاك(‪ ،)3‬ولهذا كان أول ما نزل من القرآن آٌات العقٌدة والبعث‬
‫والجزاء‪ ،‬فلما ثاب الناس إلى اإلسبلم نزل الحبلل والحرام‪ ،‬وبٌانا ً لهذا تقول‬
‫عابشة أم المؤمنٌن رضً هللا عنها‪" :‬كان أول ما نزل من القرآن سورةٌ نز َل‬
‫ثاب الناس إلى اإلسبلم نزل الحبلل والحرام‪،‬‬
‫فٌها ذِكرُ الجنة والنار‪ ،‬حتى إذا َ‬
‫ولو نزل أول األمر ال تزنوا لقالوا‪ :‬ال ندع الزنا أبداً‪ ،‬ولو نزل ال تشربوا‬
‫الخمر لقالوا‪ :‬ال ندع شرب الخمر أبداً(‪.)4‬‬
‫‪ -3‬قلة التكالٌف‪:‬‬
‫بالوسع والطاقة‪ ،‬فبل تكلٌؾ بما ال ٌُطاق‪،‬‬
‫التكالٌؾ فً اإلسبلم مرتبطة ِ‬
‫وهذا ٌتجلى فً أن األحكام الشرعٌة كانت قلٌلة‪ ،‬فلم ُتشرع إال على قدر‬
‫الحاجات التً دعت إلٌها‪ ،‬ولم ُتشرع أحكا ٌم لح ِّل مسابل افتراضٌة أو للفصل‬
‫ٌ‬
‫الزمة لعدم الحرج‪ ،‬ألن فً‬ ‫فً منازعات محتملة الوقوع (‪ ،)5‬وقلة التكالٌؾ‬
‫كثرتها إٌقاعٌ لمن أراد االلتزام بها فً الحرج‪ ،‬ومن دَ َر َ‬
‫س القرآن الكرٌم َعلِم ما‬
‫وسهُل علٌه العمل بها‪ ،‬وٌدل على هذا‬ ‫فٌه من أوامر ونواهً فً زمن قلٌل‪َ ،‬‬
‫ٌِن آَ َم ُنوا َال َتسْ أَلُوا َعنْ أَ ْش ٌَا َء إِنْ ُتبْدَ لَ ُك ْم َتس ُْؤ ُك ْم َوإِنْ‬
‫قوله تعالى ‪ٌَ ‬ا أَ ٌُّ َها الَّذ َ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُكؽ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.39‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.190‬‬
‫‪ -3‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪ ،111‬خالّف‪ :‬ؿ‪ ،19‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪.36‬‬
‫‪ -4‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ كنحتَ جُوشإٓ‪ ،‬ذحخ ضأُ‪٤‬ق جُوشإٓ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.4707‬‬
‫‪ -5‬خالّف‪ :‬ؿ‪.20‬‬

‫ـ ‪ 25‬ـ‬
‫هللاُ َع ْن َها َو َّ‬
‫هللاُ َؼفُورٌ َحلٌِ ٌم ‪ ،)1(‬وقوله‬ ‫َتسْ أَلُوا َع ْن َها ح َ‬
‫ٌِن ٌُ َن َّز ُل ْالقُرْ آَنُ ُتبْدَ لَ ُك ْم َع َفا َّ‬
‫‪ ‬وقد سُبل عن الحج أفً كل عام ٌا رسول هللا‪ ،‬فقال‪" :‬لو قلت نعم لوجبت ‪،‬‬
‫ولما استطعتم‪ ،‬ذرونً ما ترك ُتكم‪ ،‬إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم‬
‫واختبلفهم على أنبٌابهم"(‪ ،)2‬وقوله ‪" :‬أعظم المسلمٌن فً المسلمٌن جُ رْ ما ً من‬
‫أمر لم ٌُحرَّ م على المسلمٌن فحُ رِّ م علٌهم من أجل مسألته"(‪.)3‬‬
‫سأل عن ٍ‬
‫ولهذا كان ‪ٌ ‬نهى أصحابه عن السؤال عمَّا سكتت عنه النصوص‪،‬‬
‫وٌطلب إلٌهم األخذ باألصل‪ ،‬وهو اإلباحة‪ ،‬وٌؤكد هذا قوله ‪" :‬إن هللا فرض‬
‫فرابض فبل تضٌعوها ‪ ،‬وحرَّ م حرمات فبل تنتهكوها‪ ،‬وح ّد حدوداً فبل تعتدوها‪،‬‬
‫وسكت عن أشٌاء من ؼٌر نسٌان فبل تبحثوا عنها"(‪ ،)4‬فالشرٌعة لم ُتثقِل كواهل‬
‫أتباعها بكثرة األوامر والنواهً‪ ،‬والمتتبع لؤلحكام الشرعٌة ٌبلحظ مظاهر هذا‬
‫األساس التشرٌعً‪ ،‬فالعبادات المشروعة قلٌلة بالنسبة للشرابع األخرى‪،‬‬
‫فالصلوات خمسٌ فً الٌوم واللٌلة‪ ،‬والصوم شهرٌ فً العام‪ ،‬والحج مرةٌ فً‬
‫العمر‪ ،‬والمحرمات قلٌلة بالنسبة لما هو مباح‪ ،‬ولهذا جاءت على سبٌل‬
‫الحصر‪ ،‬كالمحرمات من النساء واألطعمة‪ ،‬بٌنما األصل أن األشٌاء مباحة‬
‫دون حصر بطابفة معٌنة(‪.)5‬‬
‫‪ -4‬تحقٌق العدالة بٌن الناس‪:‬‬
‫الناس فً نظر الشرٌعة سواء‪ ،‬ال تفاضل بٌنهم فً الحقوق والواجبات‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.101‬‬


‫‪ -2‬جُغٖ٘ جٌُرش‪ُِ ٟ‬ر‪ٜ٤‬و‪ً :٢‬طحخ جُكؽ‪ ،‬ذحخ ‪ٝ‬ؾ‪ٞ‬خ جُكؽ ٓشز ‪ٝ‬جقذز‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.8403‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُغ٘س‪ ،‬ذحخ ُض‪ ّٝ‬جُغ٘س‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.4610‬‬
‫‪ٝ ،4316‬سجؾغ جذٖ قضّ‪ :‬جإلقٌحّ ك‪ ٢‬أف‪ٍٞ‬‬ ‫‪ -4‬عٖ٘ جُذجسهط٘‪ً :٢‬طحخ جُشمحع‪ ،‬ذحخ جُشمحع‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ‬
‫جألقٌحّ‪ ،‬ؼ‪ ،8‬ؿ‪ ،1067‬جذٖ جُو‪ :ِّْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.71‬‬
‫‪ -5‬ئذشج‪ ْ٤ٛ‬ػرذ جُشقٖٔ‪ :‬ؿ‪.20‬‬

‫ـ ‪ 26‬ـ‬
‫بسبب مال أو حسب أو جنس أو لون‪ ،‬فكل الناس سواسٌة‪ ،‬ال فضل لعربً‬
‫على أعجمً إال بالتقوى‪ ،‬وفً هذا المعنى ٌقول تعالى ‪َ ‬وإِ َذا َح َكمْ ُت ْم َبٌ َْن ال َّن ِ‬
‫اس‬
‫أَنْ َتحْ ُكمُوا ب ْال َع ْد ِل ‪ ،)1(‬وٌقول أٌضا ً ‪‬إنَّ َّ ْ‬
‫ان َوإٌِ َتا ِء ذِي‬ ‫اإلحْ َس ِ‬ ‫هللا ٌَأمُرُ ِب ْال َع ْد ِل َو ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْالقُرْ َبى َو ٌَ ْن َهى َع ِن ْال َفحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر َو ْال َب ْؽًِ ‪ ، ‬وٌقول جلت قدرته ‪ٌَ ‬ا أَ ٌُّ َها‬
‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬

‫هلل َولَ ْو َعلَى أَ ْنفُسِ ُك ْم أَ ِو ْال َوالِدَ ٌ ِ‬


‫ْن‬ ‫ش َهدَ ا َء ِ َّ ِ‬
‫ٌِن ِب ْالقِسْ طِ ُ‬
‫ٌِن آَ َم ُنوا ُكو ُنوا َق َّوام َ‬
‫الَّذ َ‬
‫ٌن‪ ،)3(‬ولهذا لما أرادت قرٌش إعفاء امرأ ٍة من شرفاء قرٌش من إقامة‬ ‫َو ْاألَ ْق َر ِب َ‬
‫حد السرقة علٌها‪ ،‬وش َّفعوا فً ذلك أسامة بن زٌد ‪ ،‬األثٌر المقرب للرسول‬
‫‪ ،‬قال ‪ ‬له منكراً فعله‪" :‬أتشفع فً حد من حدود هللا"‪ ،‬ثم قام فخطب قاببل‪:‬‬
‫" أٌها الناس إنما أهلك الذٌن من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فٌهم الشرٌؾ تركوه‪،‬‬
‫وإذا سرق فٌهم الضعٌؾ أقاموا علٌه الحد‪ ،‬وأٌ ُم هللا لو أن فاطمة بنت محم ٍد‬
‫سرقت لقطعت ٌدها"(‪.)4‬‬
‫فها هً النصوص الشرعٌة لم تقصُر العدالة على طابفة أو جنس‪،‬‬
‫ُّ‬
‫تحث على‬ ‫وحذرت من ترك العدل ألي سبب‪ ،‬فنراها‬ ‫وإنما طلبتها للجمٌع‪َّ ،‬‬
‫العدل‪ ،‬وتن ِّفر من الظلم وتحرِّ مه‪ ،‬فالعدالة فً اإلسبلم مطلوبة من ولً األمر‬
‫راع مسبول عن رعٌته‪ ،‬وقد كانت سببا ً فً‬
‫والقاضً واألب والزوج‪ ،‬ومن كل ٍ‬
‫دخول كثٌر من الناس فً اإلسبلم‪ ،‬وما دامت العدالة مطلوبة فالظلم محظور‬
‫‪َ ‬و َال‬ ‫شرعاً‪ ،‬ولهذا نرى النصوص الشرعٌة تن ِّفر منه‪ ،‬كما فً قوله تعالى‬
‫ُون إِ َّن َما ٌ َُؤ ِّخرُ ُه ْم لِ ٌَ ْو ٍم َت ْش َخصُ فٌِ ِه‬ ‫هللا َؼاف ًِبل َعمَّا ٌَعْ َم ُل َّ‬
‫الظالِم َ‬ ‫َتحْ َس َبنَّ َّ َ‬
‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.58‬‬
‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘كَ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.90‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.134‬‬
‫‪ -4‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جُكذ‪ٝ‬د‪ ،‬ذحخ هطغ جُؾش‪٣‬ق ‪ٝ‬ؿ‪٤‬ش‪ ،ٙ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪ ،1688‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ جُكذ‪ٝ‬د‪،‬‬
‫ذحخ ئهحٓس جُكذ‪ٝ‬د ػِ‪ ٠‬جُؾش‪٣‬ق ‪ٝ‬جُ‪ٞ‬م‪٤‬غ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.6405‬‬

‫ـ ‪ 27‬ـ‬
‫ْاألَب َ‬
‫ْصارُ ‪ ،)1(‬وقوله ‪" :‬الظلم ظلمات ٌوم القٌامة"(‪.)2‬‬
‫وقد طبّق ‪ ‬مبدأ العدالة‪ ،‬مساوٌا ً بٌن أقاربه وؼٌرهم من الناس‪ ،‬ولهذا‬
‫لما أهدر فً حجة الوداع ما بقً من ربا الجاهلٌة بدأ بإهدار ربا عمه العباس‪،‬‬
‫رؼم أنه أقرب الناس إلٌه (‪ ،)3‬كما طبق الخلفاء الراشدون هذا المبدأ‪ ،‬حٌث قال‬
‫أمركم‬
‫ٌت َ‬‫بكر الصدٌق ‪ ‬فً أول خطبة له‪ٌ" :‬ا أٌها الناس إنً قد وُ لِّ ُ‬
‫أبو ٍ‬
‫بخٌركم‪ ،‬فإن أحسنت فأعٌنونً‪ ،‬وإن أسأت فقومونً‪ ،‬وإن أقواكم عندي‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ولست‬
‫الضعٌؾ حتى آخذ له بحقه‪ ،‬وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه‬
‫الحق"(‪ ،)4‬كما قال عمر بن الخطاب ‪ ‬للمصري القبطً الذي شكا إلٌه من‬
‫ابن عمرو بن العاص ‪" :‬اضرب ابن األكرمٌن"‪ ،‬رداً لحقه علٌه‪ ،‬ثم قال‬
‫لعمرو‪" :‬متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"‪.‬‬
‫‪ -5‬تحقٌق مصالح الناس‪:‬‬
‫جاءت الشرٌعة لتحقٌق مصالح الناس جمٌعاً‪ ،‬رؼم اختبلؾ البٌبات‬
‫ٌ‬
‫عامة لكل البشر ولكل عصر‪ ،‬إذ لو لم ت ُكن محققة‬ ‫ٌ‬
‫شرٌعة‬ ‫واألزمان‪ ،‬ألنها‬
‫ً‬
‫رحمة بهم‪ ،‬ولهذا ٌقول‬ ‫ضٌق منها‪ ،‬مع أنها جاءت‬
‫ٍ‬ ‫لمصالحهم لكانوا فً‬
‫الفقهاء‪" :‬حٌث توجد المصلحة فث َّم شرعُ هللا"‪ ،‬ألن كل ما ال ٌؤدي إلى تحقٌق‬
‫المصلحة ٌكون إما خروج عن التشرٌع‪ ،‬أو سوء فهم أو تطبٌق له(‪ ،)5‬فالشرٌعة‬
‫بفعل أو تصحِّ حه إال ألنه ٌحقق منفعة للناس فً الدنٌا واآلخرة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ال تطلب القٌام‬
‫فعل أو تبطلَه إال لما فٌه من مفسدة‪.‬‬
‫وال تنهى عن ٍ‬
‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز ئذشج‪ :ْ٤ٛ‬ج‪٣٥‬س ‪.42‬‬
‫‪ -2‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ جُٔظحُْ‪ ،‬ذحخ جُظِْ ظِٔحش ‪ ّٞ٣‬جُو‪٤‬حٓس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2315‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُٔ٘حعي‪ ،‬ذحخ جُخطرس ‪ ّٞ٣‬جُ٘كش‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3305‬‬
‫‪ -4‬أذ‪ ٞ‬ػر‪٤‬ذ‪ :‬ؿ‪.12‬‬
‫‪ -5‬ذِطحؾ‪ :٢‬ؿ‪.116‬‬

‫ـ ‪ 28‬ـ‬
‫ومن مظاهر هذا األصل ما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬وجود النسخ فً الشرٌعة اإلسبلمٌة وقت نزولها‪ ،‬أي فً العصر‬
‫(‪ ،)1‬فقد‬ ‫بحكم شرعً آخر متأخر عنه‬ ‫حكم شرعً‬
‫رفع ٍ‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫النبوي‪ ،‬ممثبل فً ِ‬
‫ٌشرعُ هللا تعالى حكما ً لموافقته لمصالح الناس وقت تشرٌعه‪ ،‬ثم تزول تلك‬
‫بحكم آخر‪ٌ ،‬كون محققا ً للمصلحة الجدٌدة (‪ ،)2‬ومن أمثلة ذلك‬
‫ٍ‬ ‫المصلحة‪ ،‬فٌأتً‬
‫أن عدة المتوفى عنها زوجها كانت عاما ً كامبلً‪ ،‬وٌجب على الزوج أن ٌوصً‬
‫ون أَ ْز َواجً ا َوصِ ٌ ًَّة‬
‫ٌِن ٌُ َت َو َّف ْو َن ِم ْن ُك ْم َو ٌَ َذرُ َ‬
‫لها بالنفقة والسُكنى‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ ‬والَّذ َ‬
‫اج ‪ ،)3(‬وقد كان هذا الحكم مناسبا ً فً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِأل ْز َوا ِج ِه ْم َم َتاعً ا إِلَى ال َح ْو ِل َؼٌ َْر إِ ْخ َر ٍ‬
‫أول التشرٌع لِ َما علٌه العرب فً جاهلٌتهم من حبسهم زوجة المتوفً زمنا ً‬
‫عمرها‪ ،‬تلبس فٌه أسوأ ثٌابها‪ ،‬فلو ُ‬
‫ش ِرعت العدة أقل‬ ‫ِ‬ ‫طوٌبلً‪ ،‬ربما ٌمتد إلى ِ‬
‫آخر‬
‫من عام لنفرت منها النفوس‪ ،‬ولَمَّا أذعنوا للحكم الجدٌد واطمأنوا إلٌه نسخه‬
‫الشارع‪ ،‬وجعل العدة أربعة أشهر وعشر اً فً قوله تعالى ‪َ ‬والَّذ َ‬
‫ٌِن ٌُ َت َو َّف ْو َن ِم ْن ُك ْم‬
‫ون أَ ْز َواجً ا ٌَ َت َربَّصْ َن ِبأ َ ْن ُفسِ ِهنَّ أَرْ َب َع َة أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرً ا‪.)4(‬‬
‫َو ٌَ َذرُ َ‬
‫‪ -‬إذنه ‪ ‬فً زٌارة القبور بعد أن كان قد نهى عن ذلك خشٌة فساد‬
‫العقٌدة‪ ،‬كما حدث مع الٌهود‪ ،‬عندما َّ‬
‫عظموا قبور أنبٌابهم‪ ،‬حتى اتخذوها‬
‫مساجد‪ ،‬وهذا ٌؤدي إلى الشرك‪ ،‬ولكن لمَّا سكن اإلٌمان القلوب أذِن ‪ ‬لهم فً‬
‫زٌارتها‪ ،‬بقوله‪" :‬كنت نهٌ ُتكم عن زٌارة القبور‪ ،‬فقد أُذِن لمحمد فً زٌارة قبر‬

‫‪ -1‬جذٖ جُكحؾد‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪ ،185‬جُوشجك‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،109‬جألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.638‬‬
‫‪ -2‬جُ٘غخ ُ‪ٝ‬ؾذ أ‪٣‬نح ك‪ ٢‬جُو‪ٞ‬جٗ‪ ٖ٤‬جُ‪ٞ‬مؼ‪٤‬س‪ٗ ٞٛٝ ،‬حؽة ػٖ هق‪ٞ‬س ِػِْ ‪ٝ‬جمؼ‪ٜ٤‬ح ذأق‪ٞ‬جٍ جُ٘حط ‪ٝ‬ذٔح ع‪٤‬وغ ٖٓ‬
‫ق‪ٞ‬جدظ‪ً ،‬ؾلص قحٍ ‪ٝ‬ه‪ٞ‬ػ‪ٜ‬ح ػٖ ػ‪ٞ٤‬خ ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُو‪ٞ‬جٗ‪ ،ٖ٤‬أٓح جُ٘غخ ك‪ ٢‬جُؾش‪٣‬ؼس كقحدس ػٖ هللا جُٔك‪٤‬وُ ػِٔ‪ ُٚ‬ذٌَ‬
‫ؽ‪٤‬ة‪ٝ ،‬ؿح‪٣‬ط‪ ٖٓ ٚ‬رُي جُطذسؼ ك‪ ٢‬ضؾش‪٣‬ؼحض‪ ،ٚ‬ض‪٤‬غ‪٤‬شجً ػِ‪ ٠‬جُ٘حط ‪ٝ‬ضكو‪٤‬وح ً ُٔقحُك‪ .ْٜ‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ ‪.34‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.240‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪ٝ ،234‬سجؾغ جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.227-226‬‬

‫ـ ‪ 29‬ـ‬
‫أمه‪ ،‬فزوروها فإنها ُت َذ ِّكر اآلخرة" (‪ ،)1‬فالمصلحة كانت فً المنع من الزٌارة‪،‬‬
‫ثم صارت فً اإلذن بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تحرٌم كل ما ٌكون ضررُ ه أكثر من نفعه‪ ،‬ولهذا حُرِّ مت الخمر‪ ،‬ألن‬
‫ضررها بإفساد العقل أكثر من انتفاع البابع بربح بٌعها والشارب بلذة شربها‪،‬‬
‫وحُرِّ م الربا ألن ضرره على المدٌن أكثر من منفعة الربح التً تعود على‬
‫الدابن‪.‬‬
‫‪ -‬تقدٌم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند تعارضهما‪ ،‬ألن‬
‫الضرر الذي ٌلحق الجماعة أشد من الضرر الذي ٌلحق الفرد‪ ،‬ولهذا منعت‬
‫الشرٌعة االحتكار‪ ،‬وأجازت لولً األمر نزع الملكٌة الخاصة إذا تطلبت‬
‫المصلحة العامة ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تشرٌع الرُ َخص عند وجود مشقة فً تطبٌق الحكم الشرعً‪ ،‬كإباحة‬
‫النطق بكلمة الكفر عند اإلكراه علٌه‪ ،‬حِفظا ً لبقاء النفس‪ ،‬وإباحة تناول‬
‫المحرمات عند الضرورة‪ ،‬وإباحة الفطر فً رمضان للمسافر والمرٌض‪ ،‬وفً‬
‫هذا كله دفعٌ للمشقة‪ ،‬مما تتحقق معه المصلحة و ُتدرأ المفسدة‪.‬‬

‫المطلب الثانً‬
‫التعرٌف بالفقه‬
‫معنى الفقه‪:‬‬
‫الفقه ً‬
‫لؽة العِل ُم بالشٌا والفه ُم له‪ ،‬وؼلب على عِ لم الدٌن لشرفه (‪ ،)2‬وقد‬
‫‪ْ ٌَ )27‬ف َقهُوا‬ ‫‪َ ‬واحْ لُ ْل ُع ْقدَ ًة مِنْ ل َِسانًِ (‬ ‫ورد بهذا المعنى فً قوله تعالى‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف جُطشٓز‪ً :١‬طحخ جُؿ٘حتض‪ ،‬ذحخ جُشخقس ك‪ ٢‬ص‪٣‬حسز جُور‪ٞ‬س‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1054‬‬
‫‪ -2‬جُؿ‪ٛٞ‬ش‪ :١‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪ ،2243‬جُل‪٤‬ش‪ٝ‬صآذحد‪ :١‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.291‬‬

‫ـ ‪ 30‬ـ‬
‫ش َعٌْبُ َما َن ْف َق ُه َك ِثٌرً ا ِممَّا َتقُو ُل‪ ،)2(‬وقوله ‪‬لَ ُه ْم قُلُوبٌ‬
‫َق ْولًِ‪ ،)1(‬وقوله ‪َ ‬قالُوا ٌَا ُ‬
‫فهم األحكام‬ ‫ُ‬ ‫( ‪)3‬‬
‫َال ٌَ ْف َقه َ‬
‫ُون ِب َها ‪ ، ‬وقد أطلق الفقه فً صدر اإلسبلم على ِ‬
‫الشرعٌة‪ ،‬سواء كانت اعتقادٌة أو أخبلقٌة أو عملٌة‪ ،‬أي أن معناه فهْم أحكام‬
‫‪َ ‬و َما َك َ‬
‫ان‬ ‫الدٌن‪ ،‬وقد استخدمه القرآن الكرٌم بهذا المعنى فً قوله تعالى‬
‫ون لِ ٌَ ْنفِرُ وا َكا َّف ًة َفلَ ْو َال َن َف َر مِنْ ُك ِّل فِرْ َق ٍة ِم ْن ُه ْم َطا ِب َف ٌة لِ ٌَ َت َف َّقهُوا فًِ ال ِّد ِ‬
‫ٌن‬ ‫ْالم ُْؤ ِم ُن َ‬
‫ون ‪ ،)4(‬واستعمله ‪ ‬بهذا المعنى‬ ‫َولِ ٌُ ْنذِرُ وا َق ْو َم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلٌَ ِْه ْم لَ َعلَّ ُه ْم ٌَحْ َذرُ َ‬
‫فً قوله‪" :‬من ٌ ُِرد هللا به خٌراً ٌفقهه فً الدٌن"(‪ ،)5‬وقد ظل إطبلق الفقه بمعنى‬
‫فهْم كل األحكام الشرعٌة إلى عصر أبً حنٌفة‪ ،‬حٌث أطلق على علم الكبلم‬
‫"الفقه األكبر"‪ ،‬تمٌٌزا له عن الفقه األصؽر‪ ،‬أي فقه المسابل العملٌة‪ ،‬فً كتاب‬
‫ألَّفه فً مسابل العقٌدة(‪ ،)6‬وبعد تطور العلوم‪ ،‬وتح ّدد نطاق كل علم‪ ،‬صار الفقه‬
‫ٌُطلق على فهم األحكام العملٌة دون سواها‪ ،‬ولهذا عرَّ فه العلماء بأنه "العلم‬
‫باألحكام الشرعٌة العملٌة المكتسب من األدلة التفصٌلٌة" (‪ ،)7‬وهذا التعرٌؾ‬
‫ٌضع عدة قٌود على مفهوم الفقه‪ ،‬هً‪:‬‬
‫‪َ -‬وصْ ؾُ الفقه بأنه العلم باألحكام الشرعٌة ٌستبعد منه العلم باألحكام‬
‫التً مصدرها العقل‪ ،‬مثل الكل أكبر من الجزء‪ ،‬أو التً مصدرها الحس‬
‫والتجربة‪ ،‬مثل كون الخمر مُذهبة للعقل‪ ،‬والعِلم بشروق الشمس وؼروبها‪،‬‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز ه‪ :ٚ‬ج‪٣٥‬س ‪.27-26‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز ‪ٞٛ‬د‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.91‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.179‬‬
‫‪-4‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.123‬‬
‫‪ٞٓ -5‬هأ ٓحُي‪ً :‬طحخ جُؿحٓغ‪ ،‬ذحخ جُوذس‪ -‬جُ٘‪ ٢ٜ‬ػٖ جُو‪ ٍٞ‬ذحُوذس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1667‬‬
‫‪ -6‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪ ،62‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪.32‬‬
‫‪ -7‬جُـضجُ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،4‬جُوشجك‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،57‬جألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.229‬‬

‫ـ ‪ 31‬ـ‬
‫وإدراك الحرارة والبرودة‪.‬‬
‫ُخرج من الفقه األحكام الشرعٌة‬
‫‪َ -‬وصؾُ األحكام بأنها عملٌة ٌ ِ‬
‫االعتقادٌة‪ ،‬كالعلم بوجود هللا تعالى والعلم بصفاته‪ ،‬ألن مجالها علم الكبلم‪ ،‬كما‬
‫ُخرج منه األحكام األخبلقٌة‪ ،‬مثل كون الصبر والصدق والشجاعة والكرم‬
‫ٌ ِ‬
‫صفات حسنة‪ ،‬وكون أضدادها صفات قبٌحة‪ ،‬ألنها لٌست أعماالً وإنما هً‬
‫فرد لها عل ٌم مستقل‪ ،‬هو علم األخبلق‪ ،‬ولكن لو‬‫ُ‬
‫صفات لمن اتصؾ بها‪ ،‬ولهذا أ ِ‬
‫اتخذت هذه الصفات صورة األعمال‪ ،‬كإعطاء صدقة للوصؾ بالكرم‪ ،‬أو‬
‫الهرب من المعركة للوصؾ بالجبن‪ ،‬فإنها تدخل ضمن نطاق علم الفقه‪ ،‬وبهذا‬
‫فإن علم الفقه ٌقتصر على األحكام العملٌة المتعلقة بأفعال العباد‪ ،‬وبٌان‬
‫وبطبلن‪ ،‬كالعلم‬
‫ٍ‬ ‫وتحرٌم وإباح ٍة وصح ٍة‬
‫ٍ‬ ‫ب ووكراه ٍة‬
‫ب وند ٍ‬
‫أحكامها من وجو ٍ‬
‫بوجوب الصبلة والصوم وأركانهما وشروطهما‪ ،‬وحرمة القتل والسرقة‪،‬‬
‫ووجوب قراءة الفاتحة فً الصبلة‪.‬‬
‫الموحى‬
‫َ‬ ‫ُخرج من الفقه العلم‬
‫‪ -‬هذا العلم موصوؾ بأنه مكتسب‪ ،‬وهذا ٌ ِ‬
‫‪ ‬باألحكام الشرعٌة‪ ،‬ألنه عل ٌم‬ ‫به‪ ،‬كعلم جبرٌل علٌه السبلم وعلم الرسول‬
‫(‪ ،)1‬كما أن‬ ‫مباشِ رٌ من هللا تعالى‪ ،‬ولم ٌُكتسب باالجتهاد والنظر فً األدلة‬
‫الشخص المقلِّد للفقهاء من ؼٌر اجتهاد منه ال ٌُسمى فقٌهاً‪ ،‬ألن علمه باألحكام‬
‫نظر واستدالل باألدلة وإنما تل َّقاه عن إمامه من ؼٌر اجتهاد‬
‫لم ٌنشأ عن ٍ‬
‫وبحث(‪ ،)2‬كما أن األحكام الشرعٌة التً وردت بها نصوص صرٌحة فً‬
‫الكتاب والسنة ال ٌُسمى العلم بها فقهاً‪ ،‬ألنه لٌس بطرٌق البحث واالجتهاد‪،‬‬
‫حٌث دلَّت النصوص على هذه األحكام بشكل قطعً‪ ،‬وإن كانت كلمة فقه‬

‫‪ -1‬جذٖ جُكحؾد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.25‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُكحؾد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،30‬جألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.230‬‬

‫ـ ‪ 32‬ـ‬
‫شملت هذا النوع من األحكام فً العصور الحدٌثة(‪.)1‬‬
‫‪ -‬هذا العلم مكتسب من األدلة التفصٌلٌة‪ ،‬والتً ٌدل كل دلٌل منها على‬
‫معٌن‪ ،‬بعٌداً عن التجرٌد والعمومٌة‪ ،‬ألن ؼاٌته‬
‫ٍ‬ ‫فعل‬
‫خاص لواقعة أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫حكم‬
‫ٍ‬
‫تطبٌق النص الشرعً على واقعة معٌنة‪ ،‬أما األدلة ؼٌر التفصٌلٌة فمجالها علم‬
‫أصول الفقه‪ ،‬والذي ٌضع القواعد التً تح ِّدد سُبل االستنباط من النصوص‬
‫والطرٌقة الصحٌحة لبلجتهاد وتبٌن شروطه(‪.)2‬‬
‫هذا وٌُسمى من اتصؾ بهذا العلم فقٌهاً‪ ،‬وذلك إذا كان على معرفة‬
‫ٌسٌر منها ال ٌجعله فقٌهاً‪ ،‬وإال صار كل‬
‫ٍ‬ ‫قدر‬
‫بأؼلب األحكام الشرعٌة‪ ،‬فمعرفة ٍ‬
‫الناس فقهاء‪ ،‬ألن لكل منهم علما ً ببعضها‪ ،‬ولكن ال ٌجب لوصفه بالفقٌه معرفته‬
‫بكل األحكام الشرعٌة‪ ،‬وال ٌُطلق وصؾ الفقٌه إال على العارفٌن باألحكام‬
‫الشرعٌة لؤلفعال اإلنسانٌة‪ ،‬أما المتخصصون فً ؼٌر الفقه فبل ٌُسمَّون فقهاء‪،‬‬
‫كالفبلسفة والمفسرٌن وعلماء الحدٌث والطب والفٌزٌاء والفلك وؼٌرهم‪ ،‬حٌث‬
‫ٌُنسب ك ٌل منهم إلى علمه(‪.)3‬‬
‫ٌ‬
‫مستنبط بالرأي واالجتهاد‪ ،‬ولهذا ال ٌجوز أن ٌُسمى هللا‬ ‫والفقه عل ٌم‬
‫تعالى فقٌهاً‪ ،‬ألنه ال ٌخفى علٌه شٌا‪ ،‬ولم َّ‬
‫ٌتلق علمه عن ؼٌره أو ببذل جُ هد‬
‫‪ ‬وال جبرٌل علٌه السبلم فقٌهاً‪ ،‬ألن علمهما‬ ‫منه‪ ،‬كما ال ٌُسمى الرسول‬
‫نظر واستدالل وإنما عن إخبار هللا تعالى لهما‪.‬‬
‫باألحكام الشرعٌة لم ٌنشأ عن ٍ‬
‫وبهذا ٌتضح لنا أن الشرٌعة أع ُّم من الفقه‪ ،‬ألنها تشمل األحكام‬

‫‪ -1‬قغحٕ‪ :‬ؿ‪ٝ ،8‬هحسٕ ٓكٔذ ًٔحٍ جُذ‪ ٖ٣‬ئٓحّ‪ :‬ؿ‪.14‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُكحؾد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،30‬جألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.230‬‬
‫‪ٓ -3‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.46‬‬

‫ـ ‪ 33‬ـ‬
‫االعتقادٌة واألخبلقٌة والعملٌة‪ ،‬بٌنما ٌقتصر الفقه على األحكام العملٌة (‪ ،)1‬كما‬
‫أن الشرٌعة إنشا ٌء لؤلحكام‪ ،‬وهذا ٌكون هلل تعالى فقط‪ ،‬أما الفقه فهو فهْم هذه‬
‫األحكام‪ ،‬وهذا عم ٌل بشريٌ (‪.)2‬‬
‫أقسام األحكام العملٌة‪:‬‬
‫الفقه اإلسبلمً نظا ٌم دٌنً دنٌوي‪ ،‬ألن الشارع الحكٌم َّ‬
‫نظم أمور الدٌن‬
‫والدنٌا‪ ،‬حٌث َّ‬
‫نظم عبلقة اإلنسان بربه وبؽٌره من األفراد وعبلقته بمجتمعه‬
‫وعبلقة الدولة اإلسبلمٌة بؽٌرها من الدول فً حالًْ السلم والحرب‪ ،‬فهو نظا ٌم‬
‫شام ٌل لكل العبلقات‪ ،‬ألن اإلسبلم لٌس عقٌد ًة فقط‪ ،‬بل هو دٌنٌ ودولة(‪ ،)3‬ونظراً‬
‫ال ُك َّتاب إلى قسمٌن تسهٌبلً لفهمها‬ ‫لتنوع األحكام الفقهٌة وكثرتها فقد قسمها‬
‫وبٌان خصابصها‪ ،‬حٌث قُسِّمت إلى‪:‬‬
‫‪ -‬عبادات‪ :‬وهً األحكام الشرعٌة التً تنظم عبلقة المرء بربه‪ ،‬ببٌان ما‬
‫فرضه علٌه وما نهاه عنه‪ ،‬وٌُقصد بها التقرب إلٌه‪ ،‬طلبا ً لرضاه‪ ،‬وخوفا ً من‬
‫عقابه‪ ،‬وشكره على نعمه‪ ،‬كالصبلة والصٌام والحج‪.‬‬
‫‪ -‬معامالت‪ :‬وتشمل األحكام التً ِّ‬
‫تنظم عبلقة الفرد بالدولة وبؽٌره من بنً‬
‫البشر وعبلقة الدولة اإلسبلمٌة بالدول األخرى‪ ،‬وٌُقصد بهذه األحكام المحافظة‬
‫على حقوق الناس وتحقٌق مصالحهم ودفع الفساد عنهم وحفظ األمن والنظام‬
‫داخل الدولة اإلسبلمٌة والمجتمع الدولً‪ ،‬والؽاٌة األساسٌة من المعامبلت هً‬
‫ٌ‬
‫طاعة هلل‪ ،‬ومخالفتها معصٌة‬ ‫تحقٌق المصالح الدنٌوٌة‪ ،‬ومع هذا فإن امتثالها‬
‫له‪ ،‬ومن أمثلتها البٌع والرهن والوصٌة ومراعاة حقوق الجٌران واألسرى‬

‫‪ -1‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.24‬‬


‫‪ -2‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪.65‬‬
‫‪ٓ -3‬كٔذ ‪ٞ٣‬عق ٓ‪ٞ‬ع‪ :٠‬ؿ‪.113‬‬

‫ـ ‪ 34‬ـ‬
‫وقواعد الحرب‪.‬‬
‫والفارق بٌن القسمٌن أن العبادات مقصدها التقرب إلى هللا تعالى‬
‫وشكره‪ ،‬والمعامبلت هدفها مصلحة دنٌوٌة‪ ،‬وإن كانت العبادات تحقق مصالح‬
‫العباد والمعامبلت فً اتباعها طاعة هلل تعالى‪ ،‬ولكن ذلك ٌتحقق تبعا ً ال‬
‫أصبلً(‪ ،)1‬كما أن العبادات ٌجب اتباعها دون البحث عن عِ للها‪ ،‬ألن العقل ال‬
‫ً‬
‫ناهٌة‪ ،‬وكل ما نعرفه عن‬ ‫ٌمكنه إدراك عللها‪ ،‬إذ جاءت بها النصوص آمر ًة أو‬
‫عِ للها مما وردت به النصوص أو عرفناه باالستنباط ال أثر له فً بٌان‬
‫أحكامها(‪ ،)2‬كما أنها ثابتة ال تتأثر باختبلؾ البٌبة والزمان‪ ،‬أما المعامبلت‬
‫فاألصل فٌها قٌامها على العقل‪ ،‬ولهذا جاءت أحكامها مقرونة بعللها‪ ،‬لٌُفه َم أن‬
‫الحُ كم ٌكون مصاحبا ً لعلَّته‪ ،‬فإن تؽٌرت العِلة تؽٌَّر الحكم بما ٌناسب وجه‬
‫(‪ )4‬استعملوا عقولهم فً‬ ‫المصلحة(‪ ،)3‬ولهذا نرى العقبلء فً زمن الفِترات‬
‫تشرٌعها‪ ،‬فأصابوا فً الكثٌر منها‪ ،‬وإن جا َنبهم التوفٌق فً بعضها‪ ،‬ولمَّا جاء‬
‫كثٌر مما تعاملوا به(‪.)5‬‬
‫ٍ‬ ‫اإلسبلم أقرهم على‬
‫فضل الفقه والفقهاء‪:‬‬
‫فرض هللا تعالى طلب العلم على المسلمٌن‪ ،‬حٌث قال ‪" :‬طلبُ العلم‬
‫ٌ‬
‫فرٌضة على كل مسلم" (‪ ،)6‬وقد بٌنت أفضلٌته عدة أحادٌث شرٌفة‪ ،‬منها قوله‬
‫‪َ " :‬م ن سلَ َك طرٌقا ً ٌبتؽً فٌه علما ً سلك هللا به طرٌقا ً إلى الجنة‪ ،‬وإن‬

‫‪ -1‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.14‬‬


‫‪ -2‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪ٓ ،34‬كٔذ ‪ٞ٣‬عق ٓ‪ٞ‬ع‪ :٠‬ؿ‪.115‬‬
‫‪ -3‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.25‬‬
‫‪ -4‬جُلِطشز ‪ ٢ٛ‬جُٔذز جُط‪ ٢‬ذ‪ ًَ ٖ٤‬سع‪ .ٖ٤ُٞ‬جذٖ ٓ٘ظ‪ٞ‬س‪ :‬ؼ ‪ ،8‬ؿ‪ ،174‬جُؿ‪ٛٞ‬ش‪ :١‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.777‬‬
‫‪ -5‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪.34‬‬
‫‪ -6‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُٔوذٓس‪ ،‬ذحخ كنَ جُؼِٔحء ‪ٝ‬جُكع ػِ‪ ٠‬هِد جُؼِْ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.224‬‬

‫ـ ‪ 35‬ـ‬
‫المبلبكة لتضع أجنحتها ِرضا ً لطالب العلم‪ ،‬وإن العالم لٌستؽفِرُ له منْ فً‬
‫السموات ومن فً األرض‪ ،‬حتى الحٌتان فً الماء‪ ،‬وفض ُل العالِم على العابد‬
‫كفضل القمر على سابر الكواكب‪ ،‬إن العلماء ورث ُة األنبٌاء‪ ،‬إن األنبٌاء لم‬
‫ٌورِّ ثوا دٌناراً وال درهما ً إنما ورَّ ثوا العلم‪ ،‬فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر"(‪.)1‬‬
‫ولما كانت العلوم تشرُؾ بشرؾ موضوعها كان علم الفقه أشرؾ‬
‫العلوم‪ ،‬ألنه ٌبحث فً أحوال اإلنسان الدٌنٌة والدنٌوٌة‪ ،‬وقد َّ‬
‫حث الشارع على‬
‫االشتؽال به‪ ،‬ألن به ٌتبٌن الناس الحبلل من الحرام‪ ،‬والصحٌح من الباطل‪،‬‬
‫ت ْالح ِْك َم َة َف َق ْد أُوت ًَِ َخٌْرً ا‬
‫وذلك لقوله تعالى ‪ُْ ٌ‬ؤتًِ ْالح ِْك َم َة َمنْ ٌَ َشا ُء َو َمنْ ٌ ُْؤ َ‬
‫َك ِثٌرً ا‪ ،)2(‬والحكمة ‪ -‬كما بٌنها ابن عباس رضً هللا عنهما‪ -‬هً معرفة القرآن‬
‫وأحكام الحبلل والحرام(‪.)3‬‬
‫وقد دعا الشارع المؤمنٌن إلى التفقه فً أمور دٌنهم بذات الصٌؽة التً‬
‫ون لِ ٌَ ْنفِرُ وا َكا َّف ًة‬
‫ان ْالم ُْؤ ِم ُن َ‬
‫دعاهم بها إلى الجهاد فً سبٌله‪ ،‬بقوله تعالى ‪َ ‬و َما َك َ‬
‫َفلَ ْو َال َن َف َر مِنْ ُك ِّل فِرْ َق ٍة ِم ْن ُه ْم َطا ِب َف ٌة لِ ٌَ َت َف َّقهُوا فًِ ال ِّد ِ‬
‫ٌن َولِ ٌُ ْنذِرُ وا َق ْو َم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا‬
‫ون ‪ ،)4(‬ألن اإلجتهاد فً معرفة أحكام الشرع ٌعادل الجهاد‬ ‫إِلٌَ ِْه ْم لَ َعلَّ ُه ْم ٌَحْ َذرُ َ‬
‫ٌ‬
‫وتقوٌة لدعابمه‪ ،‬فاآلٌة الكرٌمة‬ ‫كلٌهما دفاعٌ عن الدٌن‬
‫فً سبٌل هللا‪ ،‬ألن ِ‬
‫واضحة الداللة فً إفادة أنه ال ٌنبؽً أن ٌخرج كل المؤمنٌن إلى الجهاد‪ ،‬بل‬
‫ٌخرج بعضهم للجهاد فً مٌدان المعركة‪ ،‬وٌخرج بعضهم للجهاد فً مٌدان‬
‫العلم النافع‪ ،‬وهو التفقه فً الدٌن‪ ،‬ألن قٌام الدٌن ال ٌكون إال بالجهاد والفقه‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جُطشٓز‪ً :١‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ كنَ جُلو‪ ٚ‬ػِ‪ ٠‬جُؼرحدز‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2682‬‬
‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.269‬‬
‫‪ -3‬ضلغ‪٤‬ش جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.571‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.123‬‬

‫ـ ‪ 36‬ـ‬
‫معا ً(‪ ، )1‬كما أن الجهاد نفسه ٌحتاج إلى الفقه‪ ،‬إذ ال ٌتم على وجهه الصحٌح إال‬
‫بعد معرفة أحكامه الشرعٌة‪ ،‬والشك أن ما وصل إلٌه المسلمون من ضعؾٍ‬
‫وتخلؾ فً عصرنا الحاضر ٌرجع ال إلى تركهم الجهاد فقط بل وإلى تركهم‬
‫التفقه فً أمور حٌاتهم‪ ،‬واعتمادهم على علوم ؼٌرهم(‪.)2‬‬
‫ولما كان الفقه عل ٌم جلٌل فقد كان للعلماء‪ ،‬ال سٌما علماء الفقه‪ ،‬فض ٌل‬
‫كبٌرٌ عند ربهم‪ ،‬نتبٌنه فً قوله تعالى ‪‬إِ َّن َما ٌَ ْخ َشى َّ َ‬
‫هللا مِنْ عِ َبا ِد ِه ْال ُعلَ َما ُء ‪،)3(‬‬
‫كما أن الشارع فضَّل العالِم على العابد‪ ،‬وهذ ٌؤكده قوله ‪" :‬فض ُل العالِم على‬
‫البدر على سابر الكواكب" (‪ ،)4‬وقوله ‪" :‬فقٌ ٌه واح ٌد‬
‫ِ‬ ‫كفضل القمر لٌل َة‬
‫ِ‬ ‫العابد‬
‫أش ُّد على إبلٌس من ألؾ عابد" (‪ ،)5‬كما قال ‪" :‬من ٌ ُِرد هللاُ به خٌراً ٌفقهه فً‬
‫كثٌر العبادة"(‪.)7‬‬
‫ِ‬ ‫الدٌن"(‪ ،)6‬وقال أٌضا ً‪" :‬قلٌ ُل الفقه خٌرٌ من‬
‫ومن هذا كله تظهر لنا أهمٌة دراسة الفقه اإلسبلمً‪ ،‬وٌبدو هذا بالنسبة‬
‫لطالب كلٌة الحقوق‪ ،‬باعتباره القاضً والفقٌه والمحامً ؼداً‪ ،‬محققا ً لعدة فوابد‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -‬التعرؾ على التراث الفقهً الذي تركه األجداد‪ ،‬وبٌان ما وصلوا إلٌه من‬
‫اعتزاز بشرٌعتهم‪ ،‬لوفابها بمصالح الدٌن والدنٌا‪.‬‬
‫‪ -‬المقارنة بٌن الفقه اإلسبلمً والقانون الوضعً‪ ،‬وتلمُّس أوجُ ه الكمال فً‬

‫‪ -1‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.233‬‬


‫‪ -2‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪.9‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز كحهش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.28‬‬
‫‪ -4‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ جُكع ػِ‪ ٠‬هِد جُؼِْ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3641‬‬
‫‪ -5‬فك‪٤‬ف جُطشٓز‪ً :١‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ كنَ جُلو‪ ٚ‬ػِ‪ ٠‬جُؼرحدز‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2681‬‬
‫‪ -6‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُٔوذٓس‪ ،‬ذحخ كنَ جُؼِٔحء ‪ٝ‬جُكع ػِ‪ ٠‬هِد جُؼِْ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.221‬‬
‫‪ -7‬جُ‪٤ٜ‬طٔ‪ً :٢‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ جُخ‪٤‬ش ًػ‪٤‬ش ‪٣ ٖٓٝ‬ؼَٔ ذ‪ ٚ‬هِ‪ ،َ٤‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.514‬‬

‫ـ ‪ 37‬ـ‬
‫الشرٌعة وأوجه القصور فً القانون‪.‬‬
‫ً‬
‫طوٌلة من الزمن‪ ،‬وطالبُ كلٌ ِة‬ ‫‪ -‬التشرٌع اإلسبلمً ُ‬
‫طبِّق فً الببلد العربٌة مد ًة‬
‫الحقوق ٌدرُ س تارٌخ القانون الرومانً‪ ،‬أال ٌجدر به التعرؾ على ما ُ‬
‫طبِّق إلى‬
‫اآلن فً ببلده بدالً من دراسة تارٌخ قانون انزوى منذ زمن بعٌد!‬
‫‪ -‬كثٌرٌ من النصوص القانونٌة‪ ،‬السٌما فً مجال األحوال الشخصٌة والحدود‬
‫والقصاص‪ ،‬مستم ٌد من الفقه اإلسبلمً‪ ،‬ولذا فدراسته ستفٌد فً فهمها‬
‫وتفسٌرها من قِبل القضاة والمحامٌن بل والمتقاضٌن‪.‬‬
‫‪ -‬القاضً مطالبٌ قانونا ً بالرجوع إلى الشرٌعة اإلسبلمٌة الستكمال ما ٌج ُده‬
‫نقص فً نصوص القانون‪ ،‬مما ٌُوجب علٌه دراسة الفقه‪ ،‬وٌجعلها فً ؼاٌة‬
‫من ٍ‬
‫األهمٌة‪.‬‬
‫‪ -‬الفقه اإلسبلمً هو الدعامة األساسٌة فً الكفاح ضد الؽزو الفكري الؽربً‪،‬‬
‫ألن المستشرقٌن ال ٌقفون من العقٌدة اإلسبلمٌة ذات الموقؾ العدابً الذي‬
‫ٌقفونه من الفقه اإلسبلمً‪ ،‬ولهذا كان التراث الفقهً هو خط الدفاع األول عن‬
‫اإلسبلم‪ ،‬وهذا ما تنبه إلٌه المصلحون‪ ،‬إذ كانت الحركات اإلصبلحٌة تبدأ من‬
‫َبعْ ِ‬
‫ث هذا الفقه‪ ،‬والدعوة إلى تجدٌده وإظهاره بالمكانة التً تلٌق به‪ ،‬والشك أن‬
‫أول خطوة للقٌام بهذا كله هً دراسة أساسٌاته وقواعده‪.‬‬

‫ـ ‪ 38‬ـ‬
‫الباب األول‬
‫تارٌخ الفقه اإلسالمً‬
‫ٌتضمن علم التارٌخ ذِكر الوقابع وتحدٌد أوقات وقوعها وما كان لها‬
‫من أثر فً حٌاة البشر‪ ،‬ومحاولة الربط بٌنها‪ ،‬والبحث فً أسباب وقوعها‪،‬‬
‫علم من العلوم ٌُعنى ببحث نشأة هذا العلم ومراحل تطوره‬
‫وبهذا فتارٌخ أي ٍ‬
‫نتاج فكريٍ لخدمته‪.‬‬
‫وحٌاة رجاله القابمٌن علٌه وما قدموه من ٍ‬
‫علم على حِدة بالدراسة التارٌخٌة‪،‬‬
‫ولم ٌعرؾ المسلمون تخصٌص كل ٍ‬
‫بل إن تارٌخ العلوم كان ٌتم عرضه بصورة مجملة فً كتب التارٌخ العام عند‬
‫ذِكر الوقابع‪ ،‬والحدٌث عن سِ ٌر مشاهٌر الرجال‪ ،‬والتعرٌؾ بالحالة العلمٌة‬
‫لعصر من العصور‪ ،‬أما إفراد تارٌخ عِ لم معٌن بالدراسة‪ ،‬وتنسٌقه تنسٌقا ً قابما ً‬
‫أساس علمًٍ فهذا أسلوبٌ جدٌ ٌد فً الدراسة‪ ،‬لم ٌظهر إال فً العصر‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫الحدٌث‪ ،‬وإن كنا نجد بذور ذلك فً بعض كتب السابقٌن‪ ،‬السٌما عند ابن‬
‫خلدون‪ ،‬والذي أفرد الباب السادس من مقدمته للحدٌث عن العلوم‪ ،‬وخصَّ‬
‫الفصل السابع منه بعلم الفقه‪.‬‬
‫ومع كثرة الكتابات الحدٌثة فً موضوع تارٌخ الفقه إال أن ذلك ال‬
‫ٌحول دون معاودة الكتابة فٌه‪ ،‬إلختبلؾ الؽاٌة‪ ،‬حٌث حرص بعض ال ُك َّتاب‬
‫على مجرد العرض التارٌخً للحوادث وبٌان تسلسلها والبحث عن عِ للها‪،‬‬
‫ولكننا نقصد من إعادة الكتابة محاولة رسم تخطٌط عام‪ٌ ،‬ظهر فٌه المنهج الذي‬
‫سار علٌه السابقون‪ ،‬فهذا أولى من ذلك السرد التارٌخً‪ ،‬والذي سٌأتً َع َرضا ً‬
‫ً‬
‫ؼاٌة فً ح ِّد ذاته‪ ،‬بحٌث نستلهم منه األسلوب األمثل لفهم نصوص الشرٌعة‪،‬‬ ‫ال‬
‫ألن الفقه هو خط الدفاع األول عن الشرٌعة‪ ،‬ونقطة بداٌة أي محاولة‬
‫إصبلحٌة‪ ،‬ؼاٌتها العودة إلى اإلسبلم الصحٌح‪.‬‬
‫ـ ‪ 39‬ـ‬
‫فصول ثبلثة‪ ،‬نعرض فً األول‬
‫ٍ‬ ‫وهذا ٌقتضٌنا تقسٌم هذا الباب إلى‬
‫منها ألدوار الفقه اإلسبلمً من خبلل تتبُّع نشأة هذا الفقه ومراحل تطوره‪ ،‬وما‬
‫طرأ علٌه على مر العصور من قوة وضعؾ وجمود ونهوض‪ ،‬والعوامل التً‬
‫َّأثرت فً ذلك كلِّه‪ ،‬واألسباب التً جعلت للفقه مكانته فً حٌاة المسلمٌن حٌنا ً‬
‫من الدهر‪ ،‬وتلك التً انتزعت منه فٌما بعد هذه السٌطرة‪ ،‬وأدت تقرٌبا إلى‬
‫إقصابه عن الحٌاة العلمٌة‪ ،‬وقصْ ِره على المسابل الشخصٌة والعبادات‪ ،‬مع‬
‫بٌان طرق الفقهاء فً التألٌؾ فً عهود الرقً واالنحطاط‪ ،‬وما كان لهذه‬
‫أثر فً اإلحسان إلى الفقه أو اإلساءة إلٌه‪ ،‬ونتناول فً الفصل‬
‫األسالٌب من ٍ‬
‫كل منها فً االستنباط وأهم رجالها‪ ،‬أما فً‬
‫الثانً أهم المذاهب الفقهٌة ومنهج ٍ‬
‫الفصل الثالث فسنعرض لبعض ال ُّشبهات التً أُثٌرت حول الفقه‪ ،‬والتً حاول‬
‫بها البعض عرقلة مسٌرته‪ ،‬ولكن قبل هذا كله سنعرض لبٌان مبلمح حٌاة‬
‫ُّس ما أحدثه اإلسبلم فً حٌاتهم من تؽٌٌر‪.‬‬
‫العرب فً جاهلٌتهم‪ ،‬لتلم ِ‬
‫مطلب تمهٌدي‬
‫حالة العرب قبل اإلسالم‬
‫ظهرت الشرٌعة اإلسبلمٌة بٌن العرب فً شبه الجزٌرة العربٌة بنزول‬
‫الوحً‪ ،‬و َن َمت فٌها‪ ،‬ومنها خرجت إلى البلدان األخرى‪ ،‬ولما كان للبٌبة تأثٌر‬
‫فً كل شٌا فبلبد إذاً لدراسة تارٌخ هذه الشرٌعة من إلقاء نظرة على حالة‬
‫العرب قبل اإلسبلم‪ ،‬ألنهم الذٌن نزل القرآن الكرٌم بلؽتهم‪ ،‬ونشأ التشرٌع‬
‫بٌنهم‪ ،‬وذلك للوقوؾ على بواعث إنزال هذه الشرٌعة‪ ،‬وما أحدثته فً حٌاة‬
‫العرب من تؽٌٌر‪ ،‬إذ رؼم أن أسباب الو َهن واالنحبلل قد أدركت فً ذلك‬
‫الزمن سابر األمم‪ ،‬لكنها كانت أكثر بروزاً عند العرب فً جاهبٌتهم‪.‬‬

‫ـ ‪ 40‬ـ‬
‫فقد عاش العرب قبل اإلسبلم حٌاة بدابٌة (‪ ،)1‬محورها القبٌلة‪ ،‬والتً‬
‫كانوا عنها ٌدافعون‪ ،‬وبأمجادها ٌتفاخرون‪ ،‬ولها ٌتعصبون‪ ،‬تناصرهم سواء‬
‫كانوا على حق أم على باطل‪ٌ ،‬‬
‫أمة ببل ضوابط‪ ،‬ال سلطان فٌها إال للقوة‪ ،‬وال‬
‫والء للفرد إال لقبٌلته‪ ،‬له ما ألفرادها وعلٌه ما علٌهم (‪ ،)2‬فلم ٌخضعوا لسلطة‬
‫مركزٌة أو دولة‪ ،‬بل كانوا قبابل متفرقة‪ ،‬أولعوا بشرب الخمر ولعِب المٌسر‪،‬‬
‫وانتشر بٌنهم وأ ُد البنات‪ ،‬خوفا ً من الفقر أو العار‪ ،‬وكانت حٌاتهم كلها سلبٌ‬
‫ونهبٌ ‪ ،‬ساد فٌها التنافس على الرٌاسة‪ ،‬فتع َّدد الحكام‪ ،‬واضطربت األمور‪،‬‬
‫وانتشرت الحروب التً كانت تقوم بسبب االختبلؾ على السٌادة‪ ،‬أو السٌطرة‬
‫على موارد الكؤل‪ ،‬وقد تقوم ألتفه األسباب (‪ ،)3‬فقد كان ْ‬
‫فخرُ ك ِّل قبٌلة فً قتال‬
‫ب أموالها وسبً نسابها‪ ،‬ولهذا لجأت بعض‬‫األخرى‪ ،‬وس ْفكِ دماء أبطالها وسل ِ‬
‫ً‬
‫تقوٌة لكلٌهما‪ ،‬ومع ولعهم بالقتال كان من‬ ‫القبابل إلى التحالؾ مع ؼٌرها‪،‬‬
‫تقالٌدهم إٌقاؾ الحرب‪ ،‬بل تحرٌمها فً األشهر الحُرُ م‪ ،‬وهً ذو القعدة وذو‬
‫الحجة ومحرم ورجب(‪.)4‬‬
‫وقد أدت هذه الحروب إلى إعبلء شأن الرجل والحط من قدر المرأة‪،‬‬
‫ألنه أقدر منها على القتال‪ ،‬ولهذا هُضمت حقوقها‪ ،‬وحُرمت من المٌراث‪،‬‬
‫(‪،)5‬‬ ‫صبلً من نفقات معٌشتها‬
‫وشاع وأ ٌدها‪ ،‬خشٌة وقوعها فً األسر‪ ،‬أو تن ُّ‬

‫‪ -1‬ئر ًحٕ أؿِر‪ ْٜ‬ذذ‪ٝ‬جً ‪٣‬طشذق‪ٞٓ ٕٞ‬جعْ جُـ‪٤‬ع‪٣ٝ ،‬شقِ‪ ٕٞ‬ك‪ ٢‬عر‪ َ٤‬هِد جُٔشػ‪ٝ ،٠‬ئٕ ػحػ ذؼن‪ ْٜ‬ك‪ ٢‬جُٔذٕ‬
‫ً‪٤‬ػشخ ‪ٌٓٝ‬س ‪ٝ‬ف٘ؼحء ‪ٝ‬جُطحتق‪.‬‬
‫‪ -2‬جُذ‪٣‬رحٗ‪ :٢‬ؿ‪.19‬‬
‫‪ -3‬جُضق‪ :٢ِ٤‬ؿ‪.21‬‬
‫‪ٓ -4‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.36‬‬
‫‪ٌ -‬بدو أن الوأد بسبب الفقر عرفته الطبقة الفقٌرة‪ ،‬وهم األؼلبٌة من األعراب‪ ،‬وقد كان شامبلً لجمٌع األبناء‬
‫‪5‬‬

‫‪َ ‬و َال َت ْق ُتلُوا أَ ْو َال َد ُك ْم‬ ‫حتى الذكور‪ ،‬بدلٌل أن المنع القرآنً جاء شامبلً للذكور واإلناث‪ ،‬وذلك فً قوله تعالً‬

‫ـ ‪ 41‬ـ‬
‫فقضى افسبلم على هذه الفوضى‪ ،‬أح َّل مبادئ العفو والتسامح محل هذه‬
‫الحروب‪ ،‬وحفظ للمرأة حٌاتها وكرامتها‪ ،‬وأمر بحُ سن العِشرة بٌن الزوجٌن‪.‬‬
‫وقد تعاونت أمٌتهم مع البداوة على إبعادهم عن الحضارة والعلم‪ ،‬فلم‬
‫ب ٌدرُ سُ ونها‪ ،‬كما‬
‫سس‪ ،‬وال علوم مدونة فً كت ٍ‬ ‫ُ‬
‫تكن لهم حضارة تقوم على أ ٍ‬
‫فأثرت‬‫أمة حكمتهم َّ‬
‫كان لجٌرانهم من الفُرس والروم‪ ،‬ومع هذا لم ٌثبت أن ً‬
‫فٌهم‪ ،‬كما ٌح ُدث عاد ًة لؤلمم التً ٌعترٌها نوعٌ من الضعؾ‪ ،‬فتقع تحت الحكم‬
‫األجنبً‪ ،‬وٌُسرع المؽلوب إلى تقلٌد الؽالب (‪ ،)1‬ولكن لٌس معنى هذا تجرُّ دهم‬
‫من كل فضل‪ ،‬بل كان لهم نصٌب من ذلك‪ ،‬وإن اختلط فٌه الطٌب بالخبٌث‪ ،‬إذ‬
‫امتازوا بالشجاعة والكرم واإلٌثار وحماٌة الجار‪ ،‬كما كان لهم شٌاٌ من النظم‬
‫تح ُكم معامبلتهم‪ ،‬وإن لم تصدر عن سلطة تشرٌعٌة أو هٌبة معٌنة‪ ،‬لعدم‬
‫معرفتهم لنظام الدولة‪ ،‬فقد كانت أوضاعا ً وتقالٌد استفادوها من الببلد المجاورة‬
‫لهم‪ ،‬عند اتصالهم بها عن طرٌق الرحبلت التجارٌة‪ ،‬أو من خبلل البٌبة‬
‫والمجتمع الفِطري البسٌط (‪ ،)2‬ومع هذا فأ َثرُ العالم الخارجً فً حٌاة العرب‬
‫كان قلٌبلً‪ ،‬اقتصر على المناطق المجاورة لجزٌرة العرب وما جلبه التجار‬
‫أثناء رحبلتهم‪ ،‬فعاش العرب فً شبه عزل ٍة عمَّا ٌدور حولهم لصعوبة‬
‫اإلتصال(‪.)3‬‬

‫َخ ْش ٌَ َة إِم َْبل ٍق َنحْ نُ َنرْ ُزقُ ُه ْم َوإٌَِّا ُك ْم ‪ ‬سورة اإلسراء‪ :‬اآلٌة ‪ ،31‬وقوله تعالى ‪َ ‬و َال َت ْق ُتلُوا أَ ْو َال َد ُك ْم مِنْ إِم َْبل ٍق َنحْ نُ‬
‫َنرْ ُزقُ ُك ْم َوإٌَِّا ُه ْم ‪ ‬سورة األنعام‪ :‬اآلٌة ‪ ،151‬إال أن حاالت وأد البنات كانت أكثر من حاالت وأد الذكور‪،‬‬
‫للحاجة للذكور فً الحروب وحُب العرب لهم أكثر من البنات‪ ،‬أما الوأد بسبب العار فقد اختصت به البنات‪،‬‬
‫ومع هذا لم ٌكن شابعا ً وإال انقرضت أجٌال العرب‪ .‬شرؾ الدٌن‪ :‬ص ‪.20‬‬
‫‪ٓ -1‬كٔذ ‪ٞ٣‬عق ٓ‪ٞ‬ع‪ :٠‬ؿ‪.14‬‬
‫‪ٓ -2‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.19‬‬
‫‪ٓ -3‬كٔذ هر‪٤‬غ‪ :٢‬ؿ‪.13‬‬

‫ـ ‪ 42‬ـ‬
‫وعموما كانت مكة وأهلها نموذجا ً لحٌاة الجاهلٌة‪ ،‬إذ كانت مركزاً‬
‫تجارٌا ً هاماً‪ ،‬ذا قُدسٌة خاصة‪ ،‬تح َّكمت فٌها مظاهر الجاهلٌة من تفاخر‬
‫باألنساب واألحساب والجاه والمال‪ ،‬وسٌطرت علٌها نزعة استبداد القوي‬
‫بالضعٌؾ‪ ،‬وسٌطرة الؽنً على الفقٌر (‪ ،)1‬وألهمٌتها التجارٌة وثراء أهلها أقرَّ‬
‫العرب لقرٌش بالتقدم علٌهم فً كل شٌا‪ ،‬فلم ٌُعرؾ أنهم دانوا ألح ٍد ؼٌرها أو‬
‫أ ُّدوا له أتاوة(‪.)2‬‬
‫هذا مجمل عن حٌاة العرب فً جاهلٌتهم‪ ،‬ومع هذا األمر ٌحتاج إلى‬
‫نواح عدة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بعض التفصٌل فً‬
‫فمن الناحٌة الدٌنٌة أنكر بعضهم وجود الخالق والبعث بعد الموت‪،‬‬
‫وهؤالء أخبر عنهم القرآن الكرٌم فً قوله تعالى ‪َ ‬و َقالُوا َما ه َ‬
‫ًِ إِ َّال َح ٌَا ُت َنا ال ُّد ْن ٌَا‬
‫ُوت َو َنحْ ٌَا َو َما ٌُ ْهلِ ُك َنا إِ َّال الدَّهْ رُ ‪ ،)3(‬أما من أقرُّ وا بالخالق والبعث فقد عرفوا‬
‫َنم ُ‬
‫دٌانات ثبلثة‪ ،‬هً الٌهودٌة فً المدٌنة وما حولها‪ ،‬والمسٌحٌة وكان اتباعها‬
‫قِلة‪ ،‬والوثنٌة وهً الدٌانة الؽالبة (‪ ،)4‬وع َبدَ بعض العرب الجن والكواكب‪ ،‬كما‬
‫وُ جد بعض الراؼبٌن عن دٌانات قومهم‪ ،‬وهؤالء أنكروا عبادة األصنام‪،‬‬
‫وعرفوا ما فً الكتب السماوٌة‪ ،‬دون أن ٌدخلوا فً ٌهودٌة أو نصرانٌة‪ ،‬وقد‬

‫‪ -1‬ؾ‪ٞ‬جد ػِ‪ :٢‬ؿ‪.91‬‬


‫‪ -2‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪ ،39‬ئر ُْ ضطؼشك ٌٓس ُـض‪ ٝ‬أؾ٘ر‪ ٢‬ئال ٓكح‪ُٝ‬س جألقرحػ جالضقحٍ ذكِلحت‪ْٜ‬‬
‫‪ٛ571‬ـ)‪ٝ ،‬هرَ رُي‬ ‫جُش‪ٓٝ‬حٕ‪ ،‬ذؼذ جُغ‪٤‬طشز ػِ‪ ٠‬جُكؿحص‪ٛ ٌُٖٝ ،‬ز‪ ٙ‬جُٔكح‪ُٝ‬س ُٓ٘‪٤‬ص ذاخلحم ؽذ‪٣‬ذ ػحّ جُل‪( َ٤‬‬
‫قح‪ ٍٝ‬جإلعٌ٘ذس جألًرش جُغ‪٤‬طشز ػِ‪ ٠‬جُكؿحص‪ ٌُٖ ،‬أعط‪ ُٚٞ‬كؾَ ك‪ ٢‬جُ‪ٞ‬ف‪ ٍٞ‬ئُ‪ٜ٤‬ح‪ .‬ؾ‪ٞ‬جد ػِ‪ :٢‬ؿ ‪.91-90‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُؿحغ‪٤‬س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.23‬‬
‫‪ -4‬سؿْ جٗطؾحس جُؼرحدز جُ‪ٞ‬غ٘‪٤‬س ذ‪ ٖ٤‬أؿِد جُورحتَ جُؼشذ‪٤‬س ئال إٔ ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُؼو‪٤‬ذز جُٔؾطشًس ُْ ضُلِف ك‪ ٢‬ض‪ٞ‬ق‪٤‬ذ ‪ٛ‬ز‪ٙ‬‬
‫جُورحتَ ‪ٝ‬ؾؼِِ‪ٜ‬ح ًٔؿطٔغٍ ٓطشجذو‪ ،‬ألٕ جُؼقر‪٤‬س جُورِ‪٤‬س جُوحتٔس ػِ‪ ٠‬أعحط سجذطس جُذّ قحُص د‪ ٕٝ‬رُي‪ .‬ئذشج‪ ْ٤ٛ‬ػرذ‬
‫جُشقٖٔ ئذشج‪ :ْ٤ٛ‬ؿ‪ٓ ،39‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.37‬‬

‫ـ ‪ 43‬ـ‬
‫وتفكٌر‪ ،‬دون أن ٌُجاهروا‬
‫ٍ‬ ‫وتأمل‬
‫ٍ‬ ‫ع ُِرفوا باألحناؾ‪ ،‬حٌث عاشوا فً عُزل ٍة‬
‫نظر إلٌهم قومهم نظر َة‬
‫ب رابهم‪ ،‬ولهذا لم تكن عبلقتهم سٌبة مع قومهم‪ ،‬بل َ‬
‫احترام وتقدٌر‪ ،‬وكانوا ٌلجبون إلٌهم فً ح ِّل كثٌر من المعضبلت(‪.)1‬‬
‫وقد َف َشت عبادة األصنام بٌن أهل الجاهلٌة‪َّ ،‬‬
‫فعظموها وقرَّ بوا لها‬
‫القرابٌن‪ ،‬وجعلوها الوسٌط بٌنهم وبٌن ربهم‪ ،‬العتقادهم أنها تقرِّ بهم إلى هللا‬
‫‪َ ‬ما َنعْ ُب ُد ُه ْم إِ َّال لِ ٌُ َقرِّ بُو َنا إِلَى َّ ِ‬
‫هللا‬ ‫تعالى‪ ،‬كما جاء على لسانهم فً قوله تعالى‬
‫ُز ْل َفى‪ ،)2(‬وقد تكاثر عدد األصنام‪ ،‬فوضعوها حول الكعبة‪ ،‬وقام السَّدَ َنة على‬
‫خدمتها‪ ،‬حتى بلؽت قبٌل ظهور اإلسبلم ‪ 360‬صنماً‪ ،‬أعظمها هُبل (‪ ،)3‬وفضبلً‬
‫عن الصور العدٌدة لؤلنبٌاء والمبلبكة‪ ،‬التً استوردت هً واألصنام من ببلد‬
‫الشام ؼالباً‪ ،‬صنع بعض أهل مكة تماثٌل خاصة بهم على منوالها‪ ،‬ووضعوها‬
‫فً بٌوتهم(‪.)4‬‬
‫وكان لكل قبٌلة عربٌة صنمها عند الكعبة‪ ،‬تح ُّج إلٌه‪ ،‬وقد جلب وضعُ‬
‫األصنام حول الكعبة األمن واالستقرار والثراء ألهل مكة‪ ،‬بما ٌحمله الحجاج‬
‫معهم من أموال وهداٌا لؤلصنام وسدنتها‪ ،‬كما جلب لهم خدمتهم للكعبة‬
‫وحجاجها مكانة سامٌة بٌن العرب (‪ ،)5‬وقد أُشٌر إلى رزق قرٌش من البٌت‬
‫ٌبلف ِِه ْم ِرحْ لَ َة‬
‫ْش (‪ )1‬إِ َ‬ ‫ٌبلؾِ قُ َرٌ ٍ‬
‫إل َ‬
‫الحرام وحصولها على األمن فً قوله تعالى ‪ِ ِ ‬‬
‫َ ْ‬ ‫صٌْؾِ ( ‪َ )2‬ف ْل ٌَعْ ُب ُدوا َربَّ َه َذا ْال َب ٌْ ِ‬
‫وع‬‫ت ( ‪ )3‬الَّذِي أط َع َم ُه ْم مِنْ جُ ٍ‬ ‫ال ِّش َتا ِء َوال َّ‬

‫‪ -1‬ؾ‪ٞ‬جد ػِ‪ :٢‬ؿ‪.61-60‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُضٓش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.3‬‬
‫‪ٓ -3‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.40‬‬
‫‪ -4‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.82-81‬‬
‫‪ -5‬ؾ‪ٞ‬جد ػِ‪ :٢‬ؿ‪ ،62‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪.39‬‬

‫ـ ‪ 44‬ـ‬
‫َوآَ َم َن ُه ْم مِنْ َخ ْوؾٍ ‪ ،)1(‬وقد حمل هذا االستقرار واألمن أهل مكة على إٌثار‬
‫حٌاة الراحة واإلنؽماس فً اللهو والعبث أكثر من إتخاذ وسابل الدفاع عن‬
‫ببلدهم والعناٌة بالقبلع والحصون‪ ،‬معتمدٌن فً أمنهم من هجوم القبابل‬
‫العربٌة على مكة على قداستها ومكانتهم بٌن العرب(‪.)2‬‬
‫وقد كانت لهم عبادات من صوم وصبلة وحج‪ ،‬فصاموا ٌوم عاشوراء‪،‬‬
‫وطافوا حول الكعبة‪ ،‬وصلُّوا ودعوا حولها‪ ،‬إال أن ذلك لم ٌكن مبنٌا ً على نٌة‬
‫ص َبل ُت ُه ْم‬ ‫‪َ ‬و َما َك َ‬
‫ان َ‬ ‫خالصة هلل‪ ،‬وقد أوضح القرآن الكرٌم ذلك فً قوله تعالى‬
‫ت إِ َّال ُم َكا ًء َو َتصْ ِد ٌَ ًة َف ُذوقُوا ْال َع َذ َ‬
‫اب ِب َما ُك ْن ُت ْم َت ْكفُرُ َ‬
‫ون ‪ ،)3(‬وبلؽوا من‬ ‫عِ ْندَ ْال َب ٌْ ِ‬
‫سخافة العقل حداً أنهم صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها‪ ،‬فلما جاعوا‬
‫أكلوها‪ ،‬وقد أُزٌلت األصنام وصور األنبٌاء والمبلبكة عام الفتح‪ ،‬وحُ ِّطم كل ما‬
‫فً البٌوت من أوثان بعد أن تم تصحٌح العقٌدة‪.‬‬
‫وفً مجال العالقات األسرٌة ‪ ،‬أو ما ٌُعرؾ اآلن باألحوال الشخصٌة‪،‬‬
‫(‪ )4‬والولٌمة عند‬ ‫عرؾ أهل الجاهلٌة الخِطبة والزواج الذي نعرفه الٌوم‬
‫الزفاؾ‪ ،‬فأقرهم اإلسبلم على ذلك‪ ،‬كما حرَّ موا على الرجل التزوج بأمه وبنته‬
‫وأخته وعمته وخالته وبنت أخٌه وبنت أخته‪ ،‬وحرَّ موا على المرأة الزواج بأحد‬
‫(‪ ،)5‬فأقرتهم الشرٌعة على ذلك‪،‬‬ ‫أصولها أو فروعها أو أخوالها أو أعمامها‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز هش‪٣‬ؼ‪.‬‬
‫‪ -2‬جُقحُف‪ :‬جُ٘ظْ جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪.44‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جألٗلحٍ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪ .35‬جٌُٔحء ‪ ٞٛ‬جُطقل‪٤‬ش‪ٝ ،‬جُطقذ‪٣‬س جُطقل‪٤‬ن‪ ،‬ضلغ‪٤‬ش جُٔشجؿ‪ :٢‬ؼ ‪ ،9‬ؿ‪.204‬‬
‫‪ -4‬ئال إٔ جُٔ‪ٜ‬ش ًحٕ ‪٣‬أخز‪ٝ ٙ‬جُذ جُلطحز‪ ُْٝ ،‬ضٌٖ ٓ‪ٞ‬جكوط‪ٜ‬ح ػِ‪ ٠‬جُض‪ٝ‬جؼ ؽشهح ً ُطٔحٓ‪ ٚ‬ذَ ُ‪ٜ٤ُٞ‬ح ئؾرحس‪ٛ‬ح ػِ‪٠‬‬
‫جُض‪ٝ‬جؼ ذٖٔ ‪٣‬شؿر‪ .ٚ‬ئذشج‪ ْ٤ٛ‬ػرذ جُشقٖٔ ئذشج‪ :ْ٤ٛ‬ؿ ‪.40‬‬
‫‪ -5‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪ ،28‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪.41‬‬

‫ـ ‪ 45‬ـ‬
‫وكرهوا الجمع بٌن األختٌن‪ ،‬ولم ٌحرِّ موه‪ ،‬فحرَّ مته الشرٌعة(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫ومع هذا عرفوا أنواعا ً من األنكحة أبطلها اإلسبلم‪ ،‬منها نكاح المُقت‪،‬‬
‫وفٌه ٌتزوج أكبر أوالد المتوفً بزوجة أبٌه‪ ،‬باعتبارها مِلكا ً موروثاُ‪ ،‬دون مهر‬
‫ودون توقؾ على رضاها‪ ،‬أو ٌزوِّ جها لمن ٌشاء وٌأخذ مهرها‪ ،‬فإن لم ٌرؼب‬
‫فً ذلك انتقل هذا الحق إلى إخوته فأقاربه األقرب فاألقرب‪ ،‬وله أٌضا ً أن‬
‫حُرِّ م هذا الزواج بقوله‬ ‫ٌمتنع عن تزوٌجها حتى تموت‪ ،‬فٌرث أموالها‪ ،‬وقد‬
‫ان َفا ِح َش ًة‬ ‫تعالى ‪َ ‬و َال َت ْنكِحُ وا َما َن َك َح آَ َباؤُ ُك ْم م َِن ال ِّن َسا ِء إِ َّال َما َق ْد َسلَ َ‬
‫ؾ إِ َّن ُه َك َ‬
‫َو َم ْق ًتا َو َسا َء َس ِب ً‬
‫ٌبل ‪ ،)2(‬وعرفوا نكاح المُتعة‪ ،‬وهو التزوج بامرأة مدة معٌنة‪،‬‬
‫وقد أُبٌح هذا الزواج فً صدر اإلسبلم للضرورة أثناء الجهاد‪ ،‬ثم حرمه ‪،)3(‬‬
‫وعرفوا نكاح الشِ ؽار‪ ،‬وهو تزوٌج الرجل مولٌِّته آلخر على أن ٌزوجه ذلك‬
‫اآلخر من فً والٌته دون مهر‪ ،‬بل ُتع ُّد ك ٌّل منهما مهراً لؤلخرى‪ ،‬وقد سُمً‬
‫شؽاراً لخلوه من المهر‪ ،‬وهو منهً عنه بقوله ‪" :‬ال شِ ؽار فً اإلسبلم" (‪،)4‬‬
‫وعرفوا نكاح االستبضاع‪ ،‬وفٌه ٌُرسل الرجل امرأته إلى آخر‪ ،‬لرؼبته فً‬
‫إنجاب ولد ٌحمل صفات ذلك الرجل‪ ،‬وعرفوا نكاح األخدان‪ ،‬وهو اجتماع‬
‫رجال دون العشرة على امرأة واحدة‪ ،‬فإن حملت جمعتهم ونسبت الولد إلى من‬
‫تختاره منهم‪ ،‬والذي ٌكون فً الؽالب أكثرهم شبها ً بالطفل‪ ،‬دون أن ٌستطٌع‬
‫ص َنا ٍ‬
‫ت َؼٌ َْر‬ ‫‪‬مُحْ َ‬ ‫الزوج االمتناع عن قبوله‪ ،‬وهذا الزواج محرم بقوله تعالى‬
‫ت أَ ْخدَ ٍ‬
‫ان‪.)5(‬‬ ‫ت َو َال ُم َّتخ َِذا ِ‬
‫م َُساف َِحا ٍ‬

‫‪ -1‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.90‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪ٝ ،22‬سجؾغ ضلغ‪٤‬ش جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،227‬جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.103‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جٌُ٘حـ‪ ،‬ذحخ ٌٗحـ جُٔطؼس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1151‬‬
‫‪ -4‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جٌُ٘حـ‪ ،‬ذحخ ضكش‪ٌٗ ْ٣‬حـ جُؾـحس ‪ٝ‬ذطالٗ‪ ،ٚ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1415‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.25‬‬

‫ـ ‪ 46‬ـ‬
‫وكانوا ال ٌرون حداً لتعدد الزوجات‪ ،‬بل لكل منهم الزواج بعد ٍد من‬
‫ٌر العربً‬
‫النسوة بحسب قدرته المالٌة والجسمٌة ومركزه فً قبٌلته‪ ،‬إذ لم َ‬
‫ضٌراً فً الزواج بأكبر عدد من النساء‪ ،‬سعٌا ً إلنجاب أكثر ما ٌستطٌع من‬
‫ً‬
‫تقوٌة له ولقبٌلته (‪ ،)1‬وربما ٌعود سبب ذلك إلى كثرة عدد النساء‬ ‫المحاربٌن‪،‬‬
‫ً‬
‫ضحٌة للحروب الجاهلٌة‪ ،‬فلما جاء اإلسبلم‬ ‫قٌاسا ً إلى عدد الرجال‪ ،‬لذهابهم‬
‫أربعة من النساء‪ ،‬فً قوله تعالى ‪َ ‬فا ْنكِحُ وا َما َط َ‬
‫اب‬ ‫ً‬ ‫أباح التعدد بما ال ٌتجاوز‬
‫اع َفإِنْ ِخ ْف ُت ْم أَ َّال َتعْ ِدلُوا َف َواحِدَ ًة‪.)2(‬‬ ‫لَ ُك ْم م َِن ال ِّن َسا ِء َم ْث َنى َو ُث َبل َ‬
‫ث َورُ َب َ‬
‫كما أن الطبلق عندهم ال ٌقؾ عند حدٍ‪ ،‬فكانت المرأة تقضً دهرها ال‬
‫هً زوجة‪ ،‬وال هً مطلقة‪ ،‬فرفع اإلسبلم عنها هذا الظلم‪ ،‬وقصر الطبلق على‬
‫ثبلث مرات‪ٌ ،‬راجعها زوجها عقِب الطلقتٌن األولى والثانٌة فقط‪ ،‬وذلك فً‬
‫ان َو َال ٌَ ِح ُّل لَ ُك ْم‬‫ك ِب َمعْ رُ وؾٍ أَ ْو َتسْ ِرٌ ٌح ِبإِحْ َس ٍ‬ ‫ان َفإِمْ َسا ٌ‬ ‫قوله تعالى ‪َّ ‬‬
‫الط َبل ُق َمرَّ َت ِ‬
‫أَنْ َتأْ ُخ ُذوا ِممَّا آَ َت ٌْ ُتمُوهُنَّ َش ٌْ ًبا إِ َّال أَنْ ٌَ َخا َفا أَ َّال ٌُقٌِ َما حُ ُدودَ َّ ِ‬
‫هللا َفإِنْ ِخ ْف ُت ْم أَ َّال ٌُقٌِ َما‬
‫دَت ِب ِه ت ِْل َك حُ ُدو ُد َّ ِ‬
‫هللا َف َبل َتعْ َت ُدو َها َو َمنْ ٌَ َت َع َّد‬ ‫اح َعلٌَ ِْه َما فٌِ َما ا ْف َت ْ‬ ‫حُ ُدودَ َّ ِ‬
‫هللا َف َبل جُ َن َ‬
‫ُون ( ‪َ )229‬فإِنْ َطلَّ َق َها َف َبل َت ِح ُّل لَ ُه مِنْ َبعْ ُد َح َّتى‬ ‫الظالِم َ‬ ‫هللا َفأُولَب َ‬
‫ِك ُه ُم َّ‬ ‫حُ ُدودَ َّ ِ‬
‫اج َعا إِنْ َظ َّنا أَنْ ٌُقٌِ َما حُ ُدودَ‬‫اح َعلٌَ ِْه َما أَنْ ٌَ َت َر َ‬
‫َت ْنك َِح َز ْوجً ا َؼٌ َْرهُ َفإِنْ َطلَّ َق َها َف َبل جُ َن َ‬
‫ُنوة الحقٌقٌة فأبطله اإلسبلم بقوله تعالى‬ ‫هللا‪ ،)3(‬وكان التبنً عندهم كالب َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫هللا َفإِنْ لَ ْم َتعْ لَمُوا آَ َبا َء ُه ْم َفإِ ْخ َوا ُن ُك ْم فًِ ال ِّد ِ‬
‫ٌن‬ ‫‪ْ ‬ادعُو ُه ْم ِآلَ َباب ِِه ْم ه َُو أَ ْق َس ُ‬
‫ط عِ ْندَ َّ ِ‬
‫َو َم َوالٌِ ُك ْم‪.)4(‬‬

‫‪ -1‬جُقحُف‪ :‬جُ٘ظْ جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪.51‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.3‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.230-229‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جألقضجخ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.5‬‬

‫ـ ‪ 47‬ـ‬
‫كظهر‬
‫ِ‬ ‫وعرفوا الظِ هار‪ ،‬وهو أن ٌقول الرجل لزوجته‪" :‬أنت علًَّ‬
‫أمً"‪ ،‬واعتبروه طبلقاً‪ ،‬فأبطل اإلسبلم اعتبار الظِ هار طبلقاً‪ ،‬وع َّده قوالً منكراً‬
‫وزوراً‪ ،‬وأوجب فٌه كفارة‪ ،‬ال ٌحق للزوج أن ٌمس زوجته إال بعد القٌام بها‪،‬‬
‫ون ِم ْن ُك ْم مِنْ ن َِساب ِِه ْم َما هُنَّ أ ُ َّم َهات ِِه ْم‬ ‫ٌِن ٌ َ‬
‫ُظاهِرُ َ‬ ‫وقد بٌّن تعالى ذلك فً قوله ‪‬الَّذ َ‬
‫ون ُم ْن َكرً ا م َِن ْال َق ْو ِل َو ُزورً ا َوإِنَّ َّ َ‬
‫هللا‬ ‫إِنْ أ ُ َّم َها ُت ُه ْم إِ َّال َّ‬
‫البلبًِ َولَ ْد َن ُه ْم َوإِ َّن ُه ْم لَ ٌَقُولُ َ‬
‫ون لِ َما َقالُوا َف َتحْ ِرٌرُ َر َق َب ٍة‬ ‫ون مِنْ ن َِساب ِِه ْم ُث َّم ٌَعُو ُد َ‬ ‫ُظاهِرُ َ‬ ‫ٌِن ٌ َ‬
‫لَ َعفُ ٌّو َؼفُورٌ (‪َ )2‬والَّذ َ‬
‫ون َخ ِبٌرٌ ( ‪َ )3‬ف َمنْ لَ ْم ٌَ ِج ْد‬ ‫ون ِب ِه َو َّ‬
‫هللاُ ِب َما َتعْ َملُ َ‬ ‫ظ َ‬ ‫مِنْ َقب ِْل أَنْ ٌَ َت َماسَّا َذلِ ُك ْم ُت َ‬
‫وع ُ‬

‫ْن مِنْ َقب ِْل أَنْ ٌَ َت َماسَّا َف َمنْ لَ ْم ٌَسْ َتطِ عْ َفإِ ْط َعا ُم سِ ِّت َ‬
‫ٌن‬ ‫ْن ُم َت َت ِاب َعٌ ِ‬
‫َفصِ ٌَا ُم َشه َْرٌ ِ‬
‫مِسْ كٌِ ًنا‪.)1(‬‬
‫وعرفوا التوارث‪ ،‬وكان أساسه القدرة على الدفاع عن القبٌلة ومناصرة‬
‫القبٌلة‪ ،‬ولهذا ُخصَّ به الذكور البالؽون فقط‪ ،‬بحسب درجة قرابتهم للمٌت‪،‬‬
‫فكان المٌراث لؤلبناء األكبر فاألكبر‪ ،‬وحُ ِرم منه النساء واألطفال‪ ،‬ألنهم ال‬
‫قدرة لهم على المشاركة فً الحروب‪ ،‬بل هم عُرضة للسبً‪ ،‬أما اإلسبلم فقد‬
‫جعل المٌراث لكل األبناء‪ ،‬ذكوراً وإناثاً‪ ،‬ولؽٌرهم من األقارب‪ ،‬وحدد نصٌب‬
‫كل وارث بصورة دقٌقة‪.‬‬
‫وفً المجال الجنائً أقر اإلسبلم بعض ما كان ٌسٌر علٌه أهل‬
‫الجاهلٌة فً المجال العقابً‪ ،‬كقطع ٌد السارق الٌمنى (‪ )2‬والقصاص‪ ،‬ولكنهم لم‬
‫ٌقفوا بالعقاب عند االقتصاص من الجانً وحده‪ ،‬بل تجاوزوه إلى جمٌع أفراد‬
‫قبٌلته‪ ،‬ألنها كانت فً نظرهم مسبولة عن جرٌمته‪ ،‬ما لم تخلعه وتقطع صلتها‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔؿحدُس‪ :‬ج‪٣٥‬حش ‪.4-2‬‬


‫‪ -2‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.93‬‬

‫ـ ‪ 48‬ـ‬
‫به‪ ،‬دون تفرقة فً هذا بٌن القتل العمد والقتل الخطأ (‪ ،)1‬أما اإلسبلم فقد قصر‬
‫ت َرهٌِ َن ٌة ‪ ،)2(‬بعد أن‬ ‫المسبولٌة على الجانً‪ ،‬بقوله تعالى ‪ُ ‬ك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س ِب َما َك َس َب ْ‬
‫وردع للمعتدٌن‪ ،‬فً قوله تعالى‬
‫ٍ‬ ‫حقن للدماء‬ ‫ٍ‬ ‫أقر مبدأ القصاص لِما فٌه من‬
‫ب ‪ ،)3(‬كما أقرت الشرٌعة فرض الدٌة‬ ‫اص َح ٌَاةٌ ٌَا أُولًِ ْاألَ ْل َبا ِ‬ ‫‪َ ‬ولَ ُك ْم فًِ ْالق َ‬
‫ِص ِ‬
‫(‪)4‬‬
‫والقسامة‪ ،‬وهً اختٌار أهل القتٌل عند عدم معرفة القاتل‬ ‫على العاقلة‬
‫خمسٌن من أهل المحلة التً وُ ِجد فٌها‪ٌ ،‬حلفون أنهم ما قتلوه‪ ،‬وال عرفوا قاتله‪،‬‬
‫فإن حلفوا حُ كِم بالدٌة على جمٌع أهل المحلة ألولٌاء القتٌل‪ ،‬وإن لم ٌحلفوا‬
‫حُ بسوا حتى ٌحلفوا أو ٌُقِروا(‪ ،)5‬ولكن تطبٌق ذلك لم ٌكن بإشراؾ سلطة عامة‪،‬‬
‫مما ترتب علٌه اللجوء إلى الثأر‪ ،‬بٌنما جعله اإلسبلم بٌد القاضً لٌحكم دون‬
‫تحٌُّز(‪.)6‬‬
‫وفً المعامالت المالٌة تعاملوا فً ضوء ما ورثوه عن دٌانة إبراهٌم‬
‫علٌه السبلم‪ ،‬وتأثروا بما جلبه الٌهود معهم من معامبلت لمَّا قدِموا إلى جزٌرة‬
‫العرب من ببلد الشام‪ ،‬طلبا ً للعٌش قبل مٌبلد المسٌح‪ ،‬وفراراً من اضطهاد‬
‫الرومان لهم بعد ظهور المسٌحٌة‪ ،‬وقد زاولوا التجارة والزراعة وصناعة‬

‫‪ -1‬ئذشج‪ ْ٤ٛ‬ػرذ جُشقٖٔ‪ :‬ؿ‪ ،43‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪.36‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُٔذغش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.38‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.179‬‬
‫‪ًٝ -4‬حٕ هر‪ ٍٞ‬أ‪ َٛ‬جُؿح‪٤ِٛ‬س ُِذ‪٣‬س ًرذ‪ َ٣‬ػٖ جُوقحؿ جخط‪٤‬حس‪٣‬حً‪ٝ ،‬ك‪ ٢‬أق‪٤‬حٕ ًػ‪٤‬شز دُ‪٤‬الً ػِ‪ ٠‬جُنؼق ‪ٝ‬جُؿرٖ‪،‬‬
‫‪ ُْٝ‬ضٌٖ ٓكذدز جُٔوذجس‪ ،‬ذَ ضُ ِشى ضوذ‪٣‬ش‪ٛ‬ح إلضلحم جُخق‪ ٢ٛٝ ،ّٞ‬ذ‪ٜ‬زج ضخطِق ذحخطالف ٓشًض جُؿحٗ‪ٝ ٢‬جُٔؿ٘‪٢‬‬
‫ػِ‪ٓٝ ،ٚ٤‬غ ‪ٛ‬زج كحُؼحدز ؾشش ػِ‪ ٠‬جػطرحس د‪٣‬س جُٔشأز ٗقق د‪٣‬س جُشؾَ‪ .‬ئذشج‪ ْ٤ٛ‬ػرذ جُشقٖٔ‪ :‬ؿ ‪ ،43‬جذٖ جُو‪:ْ٤‬‬
‫ؼ‪ ،2‬ؿ‪.100‬‬
‫‪ -5‬عٖ٘ جُ٘غحت‪ً :٢‬طحخ جُوغحٓس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪،4707‬‬
‫‪ -6‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.18‬‬

‫ـ ‪ 49‬ـ‬
‫أدوات الحرب وبٌعها للعرب (‪ ،)1‬كما تعامل العرب كالٌهود بالربا‪ ،‬رؼم ما فٌه‬
‫من ظلم للمدٌن‪ ،‬فحرَّ مه اإلسبلم بقوله تعالى ‪َ ‬وأَ َح َّل َّ‬
‫هللاُ ْال َبٌ َْع َو َحرَّ َم الرِّ َبا ‪،)2(‬‬ ‫ٍ‬
‫ٌستر ّق مدٌِ َنه إن عجز عن الوفاء بالدٌن‪ ،‬فطلب اإلسبلم‬ ‫ِ‬ ‫وكان الدابن عندهم‬
‫إمهاله حتى ٌمكنه السداد‪ ،‬ور َّؼب فً إبرابه من الدٌن فً قوله تعالى ‪َ ‬وإِنْ‬
‫ُون ‪،)3(‬‬ ‫ْس َر ٍة َوأَنْ َت َ‬
‫ص َّدقُوا َخٌْرٌ لَ ُك ْم إِنْ ُك ْن ُت ْم َتعْ لَم َ‬ ‫ان ُذو عُسْ َر ٍة َف َنظِ َرةٌ إِلَى َمٌ َ‬
‫َك َ‬
‫بل جعل األداء على بٌت المال عند ثبوت العجز عن السداد‪ ،‬بأن جعل‬
‫‪‬إِ َّن َما الصَّدَ َق ُ‬
‫ات‬ ‫الؽارمٌن أحد األصناؾ التً ُتعطى لها الزكاة‪ ،‬بقوله تعالى‬
‫ٌِن‬ ‫ب َو ْال َؽ ِ‬
‫ارم َ‬ ‫ٌِن َعلَ ٌْ َها َو ْالم َُؤلَّ َف ِة قُلُو ُب ُه ْم َوفًِ الرِّ َقا ِ‬
‫ٌِن َو ْال َعا ِمل َ‬
‫ل ِْلفُ َق َرا ِء َو ْال َم َساك ِ‬
‫ٌل‪.)4(‬‬
‫ْن الس َِّب ِ‬ ‫ٌل َّ ِ‬
‫هللا َو ِاب ِ‬ ‫َوفًِ َس ِب ِ‬
‫وكان التعاقد عندهم فً األصل رضابٌاً‪ ،‬فتعاملوا بالبٌع واإلجارة‬
‫والرهن والوكالة واإلعارة وؼٌرها من العقود‪ ،‬لكنهم عرفوا بعض العقود‬
‫الشكلٌة كبٌع الحصاة والمُبلمسة والمُنا َبذة‪ ،‬فإذا تساوم رجبلن الشٌا‬
‫المعروض للبٌع فإن لمسه المشتري أو وضع علٌه حصا ًة أو َن َبذ البابع السلعة‬
‫(‪ ،)5‬كما شاع‬ ‫إلى المشتري تم العقد من ؼٌر توقؾً على تحقق الرضا منهما‬
‫بٌنهم الؽش وإخفاء عٌوب السلع والنجش (‪ )6‬وتصرٌة دواب الحلب (‪ ،)7‬فجاء‬

‫‪ -1‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪.43‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.275‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.280‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.60‬‬
‫‪ -5‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،262 ،4‬جُغرٌ‪ :٢‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪ ،172‬جذٖ ؾض‪ :١‬ؿ‪.283‬‬
‫‪ -6‬جُ٘ؿؼ ‪ٝ‬ع‪ِ٤‬س جقط‪٤‬حُ‪٤‬س ضطكن ذحُض‪٣‬حدز ك‪ ٢‬غٖٔ جُغِؼس جُٔؼش‪ٝ‬مس ُِر‪٤‬غ ال سؿرس ك‪ ٢‬ؽشجت‪ٜ‬ح ذَ ُذكغ جُـ‪٤‬ش ئُ‪٠‬‬
‫ؽشجت‪ٜ‬ح ذػٖٔ أػِ‪ ٖٓ ٠‬عؼش‪ٛ‬ح جُكو‪٤‬و‪ .٢‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.165‬‬
‫‪ -7‬جُطقش‪٣‬س ‪ ٢ٛ‬ػذّ قِد جُك‪ٞ٤‬جٕ أ‪٣‬حٓح ً ُ‪٤‬ؿطٔغ جُِرٖ ك‪ ٢‬مشػ‪ ٚ‬ك‪٤‬ـطش ذ‪ ٚ‬جُٔؾطش‪٣ٝ ١‬ض‪٣‬ذ ك‪ ٢‬غٔ٘‪ ٚ‬ظ٘ح ً ٓ٘‪ ٚ‬إٔ‬
‫رُي ػحدز ُ‪ .ٚ‬جُغشخغ‪ :٢‬ؼ‪ ،13‬ؿ‪ ،38‬جذٖ هذجٓس‪ :‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.149‬‬

‫ـ ‪ 50‬ـ‬
‫اإلسبلم ووضع لهم قواعد تنظم معامبلتهم بقوله تعالى ‪ٌَ ‬ا أَ ٌُّ َها الَّذ َ‬
‫ٌِن آَ َم ُنوا َال‬
‫اض ِم ْن ُك ْم ‪ ،)1(‬وحددت‬ ‫ار ًة َعنْ َت َر ٍ‬ ‫َتأْ ُكلُوا أَمْ َوالَ ُك ْم َب ٌْ َن ُك ْم ِب ْالبَاطِ ِل إِ َّال أَنْ َت ُك َ‬
‫ون ت َِج َ‬
‫السنة الشرٌفة ضوابط المعامبلت المشروعة‪ ،‬وبٌَّنت صورها ؼٌر المشروعة‪،‬‬
‫كما عرفوا الوصٌة‪ ،‬وأجازوها للوارث وؼٌر الوارث‪ ،‬دون تحدٌد لمقدارها‪،‬‬
‫فجعلها اإلسبلم فً ما ال ٌزٌد على ثلث التركة‪ ،‬وأوقؾ ما زاد على الثلث أو‬
‫كان لوارث على إجازة الورثة(‪.)2‬‬
‫وفً المجال العلمً لم ٌكن للعرب أي دراٌة بالعلوم إال ما اكتسبوه‬
‫بالتجربة التً أملتها علٌهم طبٌعة الحٌاة فً الصحراء‪ ،‬ألنهم كانوا ً‬
‫أمة أمٌة‪ ،‬ال‬
‫تعرؾ القراءة وال الكتابة‪ ،‬فأقر اإلسبلم ما وجده من هذه العلوم مفٌداً‪،‬‬
‫كمعرفتهم بالنجوم واإلهتداء بها فً البر والبحر‪ ،‬كما عرفوا العٌِافة‪ ،‬وهً‬
‫رمًُ الطٌر بحصاة‪ ،‬إن طار ٌمٌنا ً تفاءلوا‪ ،‬وإن طار شماالً تشاءموا‪ ،‬فأبطلها‬
‫اإلسبلم‪ ،‬ألنها إدعاء للعلم بالؽٌب‪ ،‬وكذلك الحال فً االستقسام باألزالم‪ ،‬وهً‬
‫أقدا ٌح ثبلثة‪ ،‬مكتوبٌ على أحدها أمرنً ربً‪ ،‬وعلى الثانً نهانً ربً‪ ،‬وال‬
‫شٌا على الثالث‪ ،‬وكانوا ٌشاورونها فً أمورهم‪ ،‬فإن خرج األول مضوا فً‬
‫أمرهم‪ ،‬وإن خرج الثانً أحجموا عنه‪ ،‬وإن خرج الثالث ضربوها مرة أخرى‪،‬‬
‫حتى ٌخرج األول أو الثانً‪ ،‬كما كان لهم بعض العلم بالتارٌخ وأخبار األمم‬
‫السابقة والشعر والطب(‪.)3‬‬
‫ولَّد الحاجة إلى‬ ‫وفً المجال السٌاسً كان نظام الحكم قبلٌاً‪ ،‬مما‬
‫التجمع والعصبٌة القبلٌة‪ ،‬وكانت السٌادة فً كل قبٌلة لشٌخها‪ ،‬فهو الذي ٌقودها‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.29‬‬


‫‪ -2‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُ‪ٞ‬فح‪٣‬ح‪ ،‬ذحخ ٓح ال ‪٣‬ؿ‪ٞ‬ص ُِٔ‪ٞ‬ف‪ ٢‬ك‪ٓ ٢‬حُ‪ ،ٚ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2864‬‬
‫‪ -3‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪ ،83‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ ‪ ،2‬ؿ‪.73‬‬

‫ـ ‪ 51‬ـ‬
‫ِّ‬
‫وٌمثلها أمام القبابل األخرى‪ ،‬وٌفصل فً الخصومات بٌن أفرادها‪،‬‬ ‫فً الحرب‪،‬‬
‫وهذا الشٌخ ٌستمد قوته من قوة القبٌلة نفسها‪ ،‬ألنه لٌس لدٌه جٌش (‪ ،)1‬ولهذا لو‬
‫تمرَّ د فر ٌد على سلطاته فلٌس بإمكانه فرض عقوبة علٌه أحٌاناً‪ ،‬وكان كل ما‬
‫ٌتعرض له هو ؼضبُ القبٌلة وسخطها‪ ،‬مما قد ٌضطره إلى هجرها واالنضمام‬
‫إلى أمثاله من المتمردٌن‪ ،‬وقد تطرد القبٌلة أحد أفرادها‪ ،‬لسوء ُخلُقه أو ارتكابه‬
‫خلعها له‪ ،‬فتنقطع‬
‫جناٌة ال ترؼب فً تحمل المسبولٌة عنها‪ ،‬حٌث تعلن َ‬
‫عبلقتها به‪ ،‬وٌصبح دمُه هدراً ال ُتطالب القبٌلة به‪ ،‬وال تكون فً المقابل‬
‫مسبولة عن أفعاله (‪ ،)2‬وقانون كل قبٌلة تستمده من األعراؾ السابدة فً‬
‫ملزمة للجمٌع‪ ،‬حتى شٌخ القبٌلة‪ ،‬وأهم القبابل‬
‫عصرها‪ ،‬وهذه األعراؾ كانت ِ‬
‫العربٌة قبٌلة قرٌش‪ ،‬وكانت فً مكة‪ ،‬وإن امتازت بقٌام نظامها السٌاسً على‬
‫الشورى‪ ،‬من خبلل اجتماع زعمابها فً دار الندوة(‪.)3‬‬
‫أما التنظٌم القضائً فلم ٌكن مستنداً إلى قواعد ثابتة‪ ،‬بل كان فضُّ‬
‫المنازعات بٌن األفراد ٌتم عن طرٌق االنتقام الشخصً‪ ،‬وما قد ٌستتبعه من‬
‫نشوب الحرب بٌن القبٌلتٌن‪ ،‬ألن الدم –حسب رأٌهم‪ -‬ال ٌؽسله إال الدم(‪ ،)4‬وفً‬
‫بعض األحٌان ٌتم فض النزاع عن طرٌق التحكٌم‪ ،‬مع مراعاة شخصٌة‬
‫المحكوم علٌه والمحكوم له‪ ،‬وهذا أدى إلى اختبلؾ األحكام بحسب مكانة‬
‫المحكوم علٌه والمحكوم له‪ ،‬وكان القضاة ؼالبا ً من الكهنة الذٌن ٌتظاهرون بأن‬
‫لدٌهم قُدرة ؼٌبٌَّة تكشؾ عن إرادة األلهة‪ ،‬وكان تنفٌذ األحكام ٌستند إلى مدى‬

‫‪ٓ -1‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.23‬‬


‫‪ -2‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.53-52‬‬
‫‪ -3‬ؾ‪ٞ‬جد ػِ‪ :٢‬ؿ‪ ،72‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.71‬‬
‫‪ -4‬ص‪٣‬ذجٕ‪ٓ ،37 :‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.29‬‬

‫ـ ‪ 52‬ـ‬
‫الح َكم من احترام من قِبل المحكوم علٌه وقوة من صدر الحُ كم‬
‫ما ٌتمتع به َ‬
‫لصالحه(‪ ،)1‬نظراً النقسام المجتمع إلى قِلة ؼنٌة جاهلة متحكمة وكثرة فقٌرة‬
‫ضعٌفة مسلوبة الحقوق بل حتى الحٌاة أحٌانا ً‪.‬‬
‫ما سبق كله كان داخل الجزٌرة العربٌة‪ ،‬وخارجها كانت األحوال ال‬
‫تقِل فً الفوضى عنها داخلها‪ ،‬فقد تقاسمت العالم دولتا الفرس والروم‪ ،‬ومع أن‬
‫ً‬
‫حافلة بأسباب القوة‬ ‫ً‬
‫مملكة متماسكة األركان‬ ‫كبلً منهما كانت تبدو ظاهرٌا ً‬
‫والحضارة‪ ،‬لكنها فً واقع األمر كانت متعفنة‪ٌ ،‬نخر فٌها الفساد‪ ،‬وٌمؤل حٌاتها‬
‫الصراع الداخلً والخارجً‪ ،‬فعبادة الفرس قامت على المجوسٌة القابمة على‬
‫ُخرافة ازدواجٌة اآللهة‪ :‬إله الخٌر وإله الشر‪ ،‬والمجتمع انقسم إلى طبقات‪،‬‬
‫ٌسٌطر أعبلها على من هو أقل منه‪ ،‬فٌستعبده وٌستؽله‪ ،‬مما أفرز من ٌدعو‬
‫إلى اإلطاحة بهذا النظام‪ ،‬وإبداله بإباحٌة فوضوٌة مبنٌة على اإلشتراك فً‬
‫النساء واألموال‪ ،‬فازداد سوء الحال سوءً‪ ،‬بٌنما قامت دٌانة الرومان على الدٌن‬
‫المسٌحً‪ ،‬محرَّ فا ً وفق ما ٌحقق سٌطرة الحكام على الرقاب‪ ،‬وتسخٌره إلذالل‬
‫الناس وضمان انقٌادهم(‪.)2‬‬
‫(‪ ،)3‬ف ُسفِكت‬ ‫وكانت الحروب بٌن هاتٌن الدولتٌن ال ٌنطفا أ ُ َوارُ ها‬
‫الدماء‪ ،‬وأُثقِل الرعٌة بالضرابب‪ ،‬تموٌبلً لهذه الحروب ولبذخ الحكام ورجال‬

‫‪ -1‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪ُٜٝ ،25‬زج ًحٕ ذؼل جُكٌٔحء ‪٣‬أخز‪ٓ ٕٝ‬غروح ً جُؼ‪ٜٞ‬د ‪ٝ‬جُٔ‪ٞ‬جغ‪٤‬ن ُطأً‪٤‬ذ هر‪ ٍٞ‬جُٔطخحفٔ‪ ٖ٤‬ذكٌٔ‪.ْٜ‬‬
‫ٓكٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.33‬‬
‫‪ -2‬جُ٘ؿحس‪ :‬ؿ‪.26‬‬
‫‪٣ٝ -3‬رذ‪ ٝ‬إٔ جُٔغطل‪٤‬ذ جُ‪ٞ‬ق‪٤‬ذ ٖٓ ضِي جُكش‪ٝ‬خ ‪ ْٛ‬أ‪ َٛ‬جُؿض‪٣‬شز ‪ٝ‬ذحألخـ أ‪ٌٓ َٛ‬س‪ ،‬ألٕ ؾض‪٣‬شض‪ ْٜ‬أفركص ‪٢ٛ‬‬
‫جُطش‪٣‬ن جُ‪ٞ‬ق‪٤‬ذ ج‪ُِ ٖٓ٥‬طؿحسز ذ‪ ٖ٤‬جُؾشم ‪ٝ‬جُـشخ‪ ،‬كط‪ُٞٞ‬ج جُ‪ٞ‬عحهس جُطؿحس‪٣‬س ذو‪ٞ‬جكِ‪ ْٜ‬جُط‪ٗ ٢‬وِص جُغِغ ػرش جُرش‬
‫ال جُركش‪.‬‬

‫ـ ‪ 53‬ـ‬
‫الدولة(‪ ،)1‬ونظراً ألن كلتا الدولتٌن كانت مضطرة لبلحتفاظ دابما لنفسها بقوات‬
‫دفاعٌة باهظة التكالٌؾ فقد استعان الطرفان فً صراعهما بالعرب‪ ،‬حٌث أسس‬
‫الفرس إمارة الحٌِرة على نهر الفرات‪ ،‬وكوّ ن الرومان إمارة الؽساسنة فً‬
‫(‪ ،)2‬ورؼم كل‬ ‫الشام‪ ،‬فتأثر عرب اإلمارتٌن بثقافة من والوه من األجانب‬
‫الخسابر البشرٌة والمادٌة لم تفلح الدولتان فً التخلً عن تحاسدهما وتنافسهما‪،‬‬
‫بل مزقهما االستبداد الداخلً‪ ،‬فكان الصراع طاحنا ً بٌن رجال ٍ‬
‫كل منهما‪ ،‬فأتى‬
‫(‪)3‬‬
‫كل منهما‬
‫معه بالمهالك على وتٌر ٍة تبدو مستمرة ‪ٌُ ،‬ضاؾ لهذا أن الحكم فً ٍ‬
‫كان ٌقوم على االضطهاد الدٌنً لمخالفً دٌانة الدولة‪.‬‬
‫وبهذا فإن األحوال تهٌأت الستقبال من ٌصلحها‪ ،‬وٌنقذ الناس من‬
‫اضطراب العقٌدة وفساد األخبلق والعصبٌة للقبٌلة‪ ،‬وٌخلِّص الضعفاء من تح ُّكم‬
‫وٌحطم قواعد الكبرٌاء والفوارق بٌن الطبقات‪ ،‬وٌقضً على التمٌٌز‬‫ِّ‬ ‫األقوٌاء‪،‬‬
‫العنصري‪ ،‬وٌرفع من َقدر المرأة‪ ،‬وٌشٌع المحبة والتنافس فً الخٌر بدل‬
‫التفرق والتباؼض‪ ،‬ولكن الناس أحباء لما ألفوه ولو كان خاطباً‪ ،‬أعداء لما‬
‫جهلوه ولو كان حقاً‪ ،‬فأعرضوا عن دعوة الحق‪ ،‬فقارعهم الرسول ‪ ‬بالحجة‪،‬‬
‫ودعاهم إلى إعمال عقولهم‪ ،‬فظهر اإلسبلم‪ ،‬وبدأ نورُ ه ٌشِ ع حتى شمل الكون‪.‬‬

‫‪ -1‬جُقحُف‪ :‬ؿ‪.36‬‬
‫‪ -2‬جُوطحٕ‪ :‬ؿ‪.25‬‬
‫‪ٓ -3‬ؿٔ‪ٞ‬ػس ٖٓ جُٔغطؾشه‪ُِ َٛ :ٖ٤‬وحٗ‪ ٕٞ‬جُش‪ٓٝ‬حٗ‪ ٢‬ضأغ‪٤‬ش ػِ‪ ٠‬جُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪٢‬؟ ؿ ‪.125‬‬

‫ـ ‪ 54‬ـ‬
‫الفصل األول‬
‫أدوار الفقه اإلسالمً‬
‫ً‬
‫دفعة واحدة بل على مدى خمس َة عشر قرناً‪،‬‬ ‫لم ٌتكون الفقه اإلسبلمً‬
‫ال ُك َّتاب تقسٌم‬ ‫بدأت منذ بزوغ فجر اإلسبلم إلى عصرنا الحاضر‪ ،‬وقد اعتاد‬
‫حٌاة الفقه اإلسبلمً إلى أدوار‪ ،‬بحسب ما ٌتسم به كل دور من خصابص‬
‫تمٌزه عن ؼٌره من حٌث حالة الفقه ومصادره وعمل الفقهاء فٌه‪ ،‬وإن اختلفت‬
‫طرابقهم فً تحدٌد عدد هذه األدوار‪ ،‬تبعا ً الختبلفهم فً طرٌقة البحث التً‬
‫فضَّلها ك ٌل منهم‪ ،‬وٌمكن تقسٌم العصور التً مر بها الفقه اإلسبلمً إلى ما‬
‫ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬عصر الرسالة‪ ،‬وٌشمل التشرٌع فً عصر النبوة‪ ،‬وهو عصر التأسٌس‪.‬‬
‫‪ -‬عصر الخلفاء الراشدٌن‪.‬‬
‫‪ -‬عصر ما بعد الخلفاء الراشدٌن‪ ،‬وهو عصر صؽار الصحابة وكبار التابعٌن‪،‬‬
‫وٌبدأ من سنة ‪40‬هـ‪ ،‬وٌمتد إلى أوابل القرن الثانً الهجري‪.‬‬
‫‪ -‬عصر األبمة المجتهدٌن‪ ،‬وٌبدأ من أوابل القرن الثانً الهجري إلى منتصؾ‬
‫القرن الرابع الهجري‪.‬‬
‫‪ -‬عصر االنتصار للمذاهب والتقلٌد‪ ،‬وٌبدأ من منتصؾ القرن الرابع الهجري‬
‫إلى ما قبل عصر النهضة‪.‬‬
‫‪1286‬هـ‬ ‫‪ -‬عصر النهضة الحدٌثة‪ ،‬وٌبدأ بظهور مجلة األحكام العدلٌة سنة‬
‫إلى اآلن‪ ،‬وٌشمل االتجاهات الحدٌثة فً إحبلل الفقه اإلسبلمً بدالً من‬
‫القوانٌن الوضعٌة‪ ،‬أو تصحٌح القوانٌن الوضعٌة بما ٌتماشى وأحكام الشرٌعة‪.‬‬
‫ورؼم تحدٌد بداٌة ونهاٌة كل دور وربطها بأسباب معٌنة فإن هذا كله‬
‫ً‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬حتى توجد‬ ‫أمرٌ تقرٌبًٌ‪ ،‬ألن الفقه لم ٌنتقل من دور إلى دور‬
‫ـ ‪ 55‬ـ‬
‫فواصل زمنٌة بٌن هذه األدوار‪ ،‬بل كان االنتقال تدرٌجٌاً‪ ،‬ولهذا كانت هذه‬
‫األدوار متداخلة‪ ،‬فنهاٌة كل دور تتشابه مع بداٌة الدور البلحق له‪ ،‬وإذا كان‬
‫من السهل علٌنا إدراك تقسٌم هذه األدوار اآلن فذلك ؼٌر مٌسور لمن عاصروا‬
‫تلك األحداث‪ ،‬ألن األحداث ال ُت َ‬
‫درك آثارها وٌمكن مقارنتها بؽٌرها إال بعد‬
‫وقوعها بمدة من الزمن(‪.)1‬‬

‫المبحث األول‬
‫دور الرسالة‬
‫ٌشمل العصر الذي عاش فٌه النبً ‪ ،‬وقد بدأ بنزول الوحً واستمر‬
‫حتى وفاته ‪ ‬سنة ‪11‬هـ‪ ،‬وكانت مدته ‪ 22‬سنة وشهرٌن و ‪ٌ 22‬وما (‪ ،)2‬أي‬
‫من سنة ‪610‬م إلى سنة ‪632‬م‪ ،‬وهو عصر التشرٌع بمعناه الدقٌق‪ ،‬أي بمعنى‬
‫‪ ‬إلى‬ ‫إنشاء األحكام‪ ،‬وقد كان ذلك عن طرٌق الوحً‪ ،‬وبإنتقال الرسول‬
‫‪‬‬ ‫الرفٌق األعلى انقطع الوحً‪ ،‬بعد أن َكمُلت الشرٌعة‪ ،‬أما عمل الرسول‬
‫فكان تبلٌػ األحكام المنزلة إلٌه عن طرٌق الوحً‪ ،‬ولم تكن له سلطة إنشاء‬
‫األحكام‪ ،‬ألنه مأمور بالحكم بٌن الناس بما أنزل هللا ‪َ ‬وأَ ِن احْ ُك ْم َب ٌْ َن ُه ْم ِب َما أَ ْن َز َل‬
‫هللاُ ‪ ،)3(‬وإذا لم تكن للنبً ‪ ‬سلطة التشرٌع فإنها لن تكون لمن جاء بعده من‬ ‫َّ‬
‫فقهاء ومجتهدٌن‪ ،‬ولهذا انحصر عملهم فً البحث عن هذه األحكام واستنباطها‬
‫من مصادرها(‪.)4‬‬
‫وفً هذا العصر عالج اإلسبلم أحوال العرب‪ ،‬فبدأ بإصبلح العقٌدة‪،‬‬

‫‪ -1‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.102‬‬
‫‪ -2‬أقٔذ جُؼؿ‪ٞ‬ص‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.38‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.49‬‬
‫‪ -4‬قغحٕ‪ :‬ؿ‪ ،23‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.46‬‬

‫ـ ‪ 56‬ـ‬
‫بالدعوة إلى عبادة هللا وحده وتركِ عبادة األوثان‪ ،‬ولما استقرت أمور العقٌدة‬
‫اتجه إلى وضع نظام للحٌاة‪ ،‬فجاءت أحكام األسرة والعبادات واألموال والجهاد‬
‫وؼٌرها‪ ،‬وقد مكث ‪ ‬بعد البعثة بمكة حوالً ثبلث عشرة سنة‪ ،‬وبالتحدٌد اثنا‬
‫عشرة سنة وخمسة أشهر وثبلثة عشر ٌوماً‪ ،‬ثم هاجر إلى المدٌنة‪ ،‬فمكث بها‬
‫حوالى عشر سنٌن‪ ،‬وبالتحدٌد تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أٌام(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬التشرٌع فً مكة(‪:)2‬‬
‫فً مكة كان المسلمون ق ً‬
‫ِلة مستضعفٌن‪ ،‬لم تتكون منهم أمة‪ ،‬ولهذا‬
‫اقتضت طبٌعة الدعوة فً هذه المرحلة أن ٌكون التشرٌع موجها ً إلى إرساء‬
‫ً‬
‫ممثلة فً التوحٌد والرسالة والٌوم اآلخر‪،‬‬ ‫الدعابم األساسٌة للدعوة الجدٌدة‪،‬‬
‫فعالج التشرٌع أحوال العرب‪ ،‬لٌكون إٌمانهم عن اقتناع‪ ،‬ولٌتكون منهم دعاةٌ‬
‫لهذه الدعوة‪ ،‬ولهذا اهتم بإصبلح العقٌدة ومكافحة الوثنٌة‪ ،‬بالدعوة إلى عبادة‬
‫هللا تعالى ونب ِذ ما كان ٌعبده الناس‪ ،‬ألن إصبلح العقٌدة هو األساس الذي ٌُبنى‬
‫علٌه ما عداه‪ ،‬وألن الناس لن ٌقبلوا أحكام اإلسبلم إال إذا صلُحت عقٌدتهم‬
‫وآمنوا باهلل وبوحدانٌته‪ ،‬وقد كان أسلوب القرآن فً ذلك الحث على التوحٌد‪،‬‬
‫ب‬
‫واالعتبار بما كان من تارٌخ األمم السابقة مع أنبٌابهم‪ ،‬وما القوه من عقا ٍ‬
‫لمخالفتهم دعوة رسلهم‪ ،‬والدعوة إلى ترك العادات الجاهلٌة‪ ،‬كوأد البنات وقتل‬
‫وطلب إلٌهم التحلً بالفضابل والتعاون على البر والتقوى‪،‬‬
‫َ‬ ‫النفس بؽٌر حق‪،‬‬
‫ودعاهم إلى إعمال عقولهم‪ ،‬والتفكر فً ملكوت السموات واألرض‪ ،‬وترك‬
‫تقلٌدهم األعمى آلبابهم‪.‬‬
‫ولم ٌتناول القرآن الكرٌم شٌبا ً من التشرٌعات العملٌة إال بالقدر الذي‬

‫‪ -1‬جُخنش‪ :١‬ؿ‪ ،9‬جُقحذ‪ :٢ٗٞ‬ؿ ‪ً ،46‬لحك‪ٝ ٢‬جُؾش‪٣‬ق‪ :‬ؿ‪.42‬‬


‫‪ -2‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.406-103-102‬‬

‫ـ ‪ 57‬ـ‬
‫ٌتصل بحماٌة العقٌدة‪ ،‬كتحرٌم تناول المٌتة والدم وما لم ٌُذكر اسم هللا علٌه‪ ،‬أو‬
‫ما كان له أثرٌ فً ارتباط المخلوق بالخالق وتوجٌه النفس إلى الخٌر كالصبلة‪،‬‬
‫وقد استؽرق هذا كله نحو ثلثً القرآن‪ ،‬ألن تشرٌع هذه األحكام ولٌ ُد الحاجة‪،‬‬
‫وال حاج َة إلى األحكام العملٌة آنذاك‪ ،‬لقلة المسلمٌن‪ ،‬وألن السلطان مدة إقامة‬
‫داع لتشرٌع األحكام التً تنظم‬
‫النبً ‪ ‬بمكة كان بٌد المشركٌن‪ ،‬فلم ٌكن هناك ٍ‬
‫شبون الدولة‪ ،‬ألنه لم توجد دولة إسبلمٌة قبل الهجرة(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬التشرٌع فً المدٌنة(‪:)2‬‬
‫لما أُبطِ لت العصبٌة القبلٌة‪ ،‬وأُبدِل بها الوالء لئلسبلم‪ ،‬ورسخت العقٌدة‬
‫‪ ‬بالهجرة إلى المدٌنة‪ُ ،‬‬
‫فكثر عدد‬ ‫فً النفوس‪ ،‬أذِن هللا تعالى لرسوله‬
‫المسلمٌن‪ ،‬وتكونت من المهاجرٌن واألنصار ٌ‬
‫أمة‪ ،‬صار لها شبون الدولة‪،‬‬
‫فدعت الحاجة إلى سن التشرٌعات المنظمة لعبلقات أفراد األمة بعضهم‬
‫ببعض‪ ،‬وعبلقاتهم مع ؼٌرهم فً حالًْ السلم والحرب‪ ،‬حٌث نزلت اآلٌات‬
‫المبٌنة ألحكام الحٌاة الدٌنٌة والدنٌوٌة من عبادات ومعامبلت وجناٌات‬
‫وموارٌث ووصاٌا ونظام لؤلسرة‪ ،‬و ُ‬
‫ش ِرعت األحكام التً تنظم شبون القضاء‪،‬‬
‫كما ُ‬
‫ش ِرع الصوم والزكاة‪ ،‬وتناول التشرٌع المدنً تحرٌم الربا وأحكام الجهاد‬
‫فً حال النصر أو الهزٌمة‪ ،‬وما تبعه من معاهدات بٌن المسلمٌن وؼٌرهم‬
‫وقواعد معاملة األسرى‪.‬‬
‫وعموما ً لم ٌترك الوحً ناحٌة من نواحً الحٌاة إال نظمها‪ ،‬ولكن ال‬
‫ٌنبؽً أن ٌُفهم من هذا أن كل ما جاء من تشرٌعات كان جدٌداً‪ ،‬بل منه ما كان‬
‫معموالً به فً الجاهلٌة‪ ،‬وتم صبؽه بالصبؽة اإلسبلمٌة‪ ،‬ألن اإلسبلم ٌنظر‬

‫‪ -1‬ػرحط قٔحدز‪ :‬ؿ‪.46‬‬


‫‪ -2‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.407‬‬

‫ـ ‪ 58‬ـ‬
‫لؤلشٌاء من وجهة ما فٌها من مصلحة أو مفسدة‪ ،‬وٌرتب علٌها أحكامها تبعا ً‬
‫لذلك(‪ ،)1‬فما كان صالحا ً من أحكام أهل الجاهلٌة أبقاه‪ ،‬وما كان منها فاسداً‬
‫ألؽاه‪ ،‬وما جمع بٌن األمرٌن أبطل ما فٌه من فساد‪ ،‬وقد نزل فً هذه المرحلة‬
‫ما ٌقرب من ثلث القرآن‪ ،‬وكان أؼلبه فً شأن التشرٌعات العملٌة‪ ،‬إال أن‬
‫القرآن استمر فً تناول المسابل التً سبق عرضها فً التشرٌع فً مكة‪.‬‬
‫ممٌزات التشرٌع فً العصر النبوي‪:‬‬
‫‪ ،‬مصداقا ً لقوله‬ ‫‪ -1‬اكتمال أصول الشرٌعة وقواعدها قبل وفاته‬
‫ٌت لَ ُك ُم ْ ِ‬
‫اإلسْ َبل َم‬ ‫ت لَ ُك ْم دٌِ َن ُك ْم َوأَ ْت َم ُ‬
‫مْت َعلَ ٌْ ُك ْم نِعْ َمتًِ َو َرضِ ُ‬ ‫تعالى ‪ْ ‬ال ٌَ ْو َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫دٌِ ًنا‪ ،)2(‬وعلى هذا ٌكون زمن التشرٌع قد انتهى بوفاته ‪ ،‬وكل ما كان بعد‬
‫ذلك هو مجرد تطبٌق للقواعد واستنباط من النصوص‪.‬‬
‫‪ -2‬واقعٌة التشرٌع‪ ،‬فلم ٌقم على افتراض وقابع أو تخٌّلها‪ ،‬بل كان‬
‫ً‬
‫إجابة عن سؤال أو رداً على استفتاء أو‬ ‫الوحى ٌنزل بمناسبة حادث ٍة معٌنة أو‬
‫فصبلً فً قضٌة عُرضت على النبً ‪ ،)3(‬وقلَّما نزلت تشرٌعات ؼٌر مسبوقة‬
‫بسؤال أو سبب‪ ،‬ولهذا نجد بعض اآلٌات الكرٌمة مص َّدرة بكلمة ٌسألونك أو‬
‫ٌستفتونك‪ ،‬حٌث وردت كلمة ٌستفتونك فً القرآن مرتٌن‪ ،‬فً قوله تعالى‬
‫‪َ ‬و ٌَسْ َت ْف ُتو َن َك فًِ ال ِّن َسا ِء‪ ،)4(‬وقوله ‪ٌَ ‬سْ َت ْف ُتو َن َك قُ ِل َّ‬
‫هللاُ ٌُ ْفتٌِ ُك ْم فًِ ْال َك َبللَ ِة ‪ ،)5(‬أما‬
‫ً‬
‫إجابة عن أحكام‬ ‫كلمة ٌسألونك فقد وردت خمس عشرة مرة‪ ،‬تسعٌ منها‬

‫‪ -1‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪.57‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.4‬‬
‫‪ -3‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،125‬جُقحذ‪ :٢ٗٞ‬ؿ‪.172‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.126‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.175‬‬

‫ـ ‪ 59‬ـ‬
‫ٌِت لِل َّن ِ‬ ‫عملٌة ‪ ،‬وذلك فً قوله تعالى ‪ٌَ ‬سْ أَلُو َن َك َع ِن ْاألَ ِهلَّ ِة قُ ْل ه َ‬
‫(‪)1‬‬
‫اس‬ ‫ًِ َم َواق ُ‬
‫ْن َو ْاألَ ْق َر ِب َ‬
‫ون قُ ْل َما أَ ْن َف ْق ُت ْم مِنْ َخٌ ٍْر َفل ِْل َوالِدَ ٌ ِ‬
‫َو ْال َح ِّج‪ٌَ  ، ‬سْ أَلُو َن َك َم َاذا ٌُ ْن ِفقُ َ‬
‫( ‪)2‬‬
‫ٌن‬
‫ٌل ‪ٌَ  ، ‬سْ أَلُو َن َك َع ِن ال َّشه ِْر ْال َح َر ِام ِق َت ٍ‬ ‫َو ْال ٌَ َتا َمى َو ْال َم َساك ِ‬
‫( ‪)3‬‬
‫ال‬ ‫ْن الس َِّب ِ‬ ‫ٌِن َواب ِ‬
‫ون قُ ِل‬‫فٌِ ِه‪ٌَ  ، ‬سْ أَلُو َن َك َع ِن ْال َخمْ ِر َو ْال َمٌْسِ ِر ‪َ  ، ‬و ٌَسْ أَلُو َن َك َم َاذا ٌُ ْن ِفقُ َ‬
‫( ‪)5‬‬ ‫( ‪)4‬‬

‫ْال َع ْف َو‪َ  ،)6(‬و ٌَسْ أَلُو َن َك َع ِن ْال ٌَ َتا َمى قُ ْل إِصْ َبل ٌح لَ ُه ْم َخٌْرٌ ‪َ  ،)7(‬و ٌَسْ أَلُو َن َك َع ِن‬
‫ٌِض قُ ْل ه َُو أَ ًذى ‪ٌَ  ، ‬سْ أَلُو َن َك َم َاذا أ ُ ِح َّل لَ ُه ْم ‪ٌَ  ، ‬سْ أَلُو َن َك َع ِن ْاألَ ْن َف ِ‬ ‫ْال َمح ِ‬
‫( ‪)9‬‬ ‫( ‪)8‬‬
‫ال‬
‫ُول ‪ ،)10(‬وكانت كثٌرٌ من اآلٌات المبٌنة لؤلحكام تنزل‬ ‫قُ ِل ْاألَ ْن َفا ُل ِ َّ ِ‬
‫هلل َوالرَّ س ِ‬
‫بسبب حادثة معٌنة‪ ،‬كما فً نزول آٌات الظِ هار‪ ،‬بعد أن ظاهر أوس بن‬
‫الصامت من زوجته خولة بنت ثعلبة(‪ ،)11‬وما رواه سعد بن أبً وقاص ‪ ‬أنه‬
‫نفر من المهاجرٌن واألنصار‪ ،‬فقالوا له‪" :‬تعال نطعمك‪ ،‬ونسقٌك‬
‫أتى على ٍ‬
‫خمراً"‪ ،‬وذلك قبل تحرٌمها‪ ،‬ففعل‪ ،‬فذكر القوم المهاجرٌن واألنصار‪ ،‬فقال‬
‫سعد‪" :‬المهاجرون خٌرٌ من األنصار"‪ ،‬فضربه رج ٌل َّ‬
‫فشق أنفه‪ ،‬فأتى سع ٌد‬
‫‪‬إِ َّن َما ْال َخمْ رُ َو ْال َمٌْسِ رُ‬ ‫رسول هللا ‪ ،‬وأخبره بما حدث‪ ،‬فنزل قوله تعالى‪:‬‬

‫‪ -1‬أٓح جُرو‪٤‬س كوذ ‪ٝ‬سدش ذؾإٔ أقٌحّ جػطوحد‪٣‬س أ‪ ٝ‬ك‪ ٢‬فذد جُوقـ جُوشآٗ‪.٢‬‬
‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.188‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.215‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.217‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.219‬‬
‫‪ -6‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.219‬‬
‫‪ -7‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.220‬‬
‫‪ -8‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.222‬‬
‫‪ -9‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.5‬‬
‫‪ -10‬ع‪ٞ‬سز جألٗلحٍ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.1‬‬
‫‪ -11‬سجؾغ ج‪٣٥‬حش ‪ ٖٓ 4-1‬ع‪ٞ‬سز جُٔؿحدُس ‪ٝ‬جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،17‬ؿ‪.269‬‬

‫ـ ‪ 60‬ـ‬
‫ان َفاجْ َت ِنبُوهُ ‪ ،)2 ( -)1(‬كما جاءت‬
‫ْط ِ‬‫صابُ َو ْاألَ ْز َال ُم ِرجْ سٌ مِنْ َع َم ِل ال َّشٌ َ‬
‫َو ْاألَ ْن َ‬
‫سؤال أو بسبب واقع ٍة معٌنة‪ ،‬منها أن‬ ‫ٍ‬ ‫إجابة عن‬ ‫ً‬ ‫كثٌرٌ من األحادٌث الشرٌفة‬
‫بعض الصحابة سأل النبً ‪ ‬بقوله‪" :‬إنا نركب البحر‪ ،‬ونحمل معنا القلٌل من‬
‫الماء‪ ،‬فإن توضأنا به عطِ شنا‪ ،‬أفنتوضأ من ماء البحر؟" فقال ‪" :‬هو الطهور‬
‫‪" :‬إن أبا‬ ‫ماؤه‪ ،‬ال ِح ُل مٌتته" (‪ ،)3‬وما رُ ِوي أن هند بنت عتبة قالت للنبً‬
‫ُ‬
‫أفأخذ منه وهو ال ٌعلم؟‬ ‫سفٌان رج ٌل شحٌح‪ ،‬ولٌس ٌعطٌنً ما ٌكفٌنً وولدي‪،‬‬
‫فقال‪ُ " :‬خذِي ما ٌكفٌك وولدك بالمعروؾ"(‪.)4‬‬
‫ترد أحكا ٌم ؼٌر مسبوقة بسؤال أو حادثة‪ ،‬ألن الشارع ق َّدر‬
‫ومع هذا قد ِ‬
‫أن األوان قد آن لتشرٌع هذه األحكام‪ ،‬كما فً تشرٌع أحكام الزكاة والشورى‬
‫وتفصٌل بعض أحكام األسرة والعقوبات والمٌراث(‪.)5‬‬
‫‪ -3‬لم ٌكن هناك مجا ٌل لبلختبلؾ أو تع ُّدد اآلراء فً صدد الواقعة‬
‫الواحدة‪ ،‬ألن النبً ‪ ‬هو المرجع فً التشرٌع والقضاء والفتوى‪ ،‬ولم ٌلجأ أح ٌد‬
‫من الصحابة إلى ؼٌره (‪ ،)6‬كما أن ما صدَر من فتاوى عن الصحابة فً الببلد‬
‫‪ ،‬ألن االجتهاد‬ ‫البعٌدة عن النبً ‪ ‬لٌس له أي قٌمة تشرٌعٌة إال إذا أقره‬
‫لٌس مصدراً تشرٌعٌا ً فً هذا العصر‪ ،‬وألن سلطة التشرٌع فً هذا العصر‬
‫حكم فً واقعة‬
‫كانت للرسول ‪ ‬وحده‪ ،‬وما كان ألح ٍد ؼٌره أن ٌستقل بتشرٌع ٍ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.90‬‬


‫‪ -2‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ كنحتَ جُقكحذس‪ ،‬ذحخ كنَ عؼذ ذٖ أذ‪ ٢‬وقاص ‪ ،‬حدٌث رقم ‪.1748‬‬
‫‪ٓٝ ،59‬غ ‪ٛ‬زج هذ ال ‪ ٌٕٞ٣‬جُؿ‪ٞ‬جخ ػِ‪ ٠‬هذس‬ ‫‪ -3‬عٖ٘ جُ٘غحت‪ً :٢‬طحخ جُط‪ٜ‬حسز‪ ،‬ذحخ ٓحء جُركش‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ‬
‫جُغإجٍ‪ ،‬ذَ ‪ُِ٣‬كن ذ‪ٓ ٚ‬ح ‪ٓ ٞٛ‬طؼِن ذ‪ً ،ٚ‬كٌْ ٓ‪٤‬طس جُركش ‪٘ٛ‬ح ذحُ٘غرس ُٔحء جُركش‪.‬‬
‫‪ -4‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ جُ٘لوحش‪ ،‬ذحخ ئرج ُْ ‪٘٣‬لن جُشؾَ كِِٔشأز إٔ ضأخز ذـ‪٤‬ش ػِٔ‪ ،ٚ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.5049‬‬
‫‪ -5‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪.116‬‬
‫‪ -6‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.65‬‬

‫ـ ‪ 61‬ـ‬
‫‪‬‬ ‫لنفسه أو لؽٌره‪ ،‬أو ٌقضً باجتهاده فً خصومة‪ ،‬ألنه مع وجود النبً‬
‫بٌنهم‪ ،‬وتٌسُّر الرجوع إلٌه فً ما ٌعرُض لهم آنذاك‪ ،‬لم ٌكن ألحدهم من مبرر‬
‫لتشرٌع األحكام أو اللجوء إلى الؽٌر(‪.)1‬‬
‫ً‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬بل نزل مفرقا ً حسب الوقابع‪ ،‬وذلك‬ ‫‪ -4‬لم ٌنزل التشرٌع‬
‫ً‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬وسبب هذا هو جع ُل‬ ‫على خبلؾ الشرابع السابقة التً نزلت‬
‫التشرٌع أقرب للفهم والقبول‪ ،‬حتى ال ٌنفر منه أهل الجاهلٌة‪.‬‬
‫‪ -5‬انتهى هذا العصر ولم ٌدون فٌه شٌاٌ ؼٌر القرآن الكرٌم‪ ،‬ألمره ‪‬‬
‫صحابته بكتابته‪ ،‬ونهٌه لهم عن كتابة السنة‪ ،‬خشٌة اختبلطها بالكتاب الكرٌم‪.‬‬
‫مصادر التشرٌع فً هذا العصر‪:‬‬
‫مصادره هً الوحً بقسمٌه المتلو وهو القرآن الكرٌم وؼٌر المتلو‬
‫وهو السنة الشرٌفة‪ ،‬ومع هذا فقد ثبت أن النبً ‪ ‬اجتهد (‪ ،)2‬إما لتأخر الوحً‬
‫أو للحاجة العاجلة لبٌان حكم الواقعة (‪ ،)3‬ثم ٌنزل الوحً لٌقرَّ ه على اجتهاده أو‬
‫ٌبٌن له األولَ َى فً الحكم‪ ،‬وإن كان عدم وصوله ‪ ‬بإجتهاده إلى الصواب فً‬
‫الحكم ال ٌُع ُّد خطأً‪ ،‬ألن الخطأ إنما ٌكون بعد وجود قاعدة تحدد الصواب قبل‬
‫صدور الفعل‪ ،‬وٌخالفها المخطا‪ ،‬أما النبً ‪ ‬فقد اجتهد فً ما ال نص فٌه(‪.)4‬‬
‫وكما اجتهد ‪ ‬فقد اجتهد صحابته رضوان هللا علٌهم‪ ،‬إما لبُعدهم عنه‬
‫أو خوفهم من فوات فرصة بٌان حكم المسألة الواقعة‪ ،‬فإن عادوا إلٌه عرضوا‬

‫‪ -1‬خالّف‪ :‬ؿ‪ ،11‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪.40‬‬


‫‪ -2‬جالؾط‪ٜ‬حد ‪ ٞٛ‬ذزٍ جُؿ‪ٜ‬ذ ك‪ ٢‬جعط٘رحه قٌْ ؽشػ‪َُ٘٣ ُْ ٢‬ـ ػِ‪ ٚ٤‬فشجقس‪ ،‬أٓح ُ‪ً ٞ‬حٕ جُ٘ـ فش‪٣‬كح ً ًذالُس‬
‫ه‪ ُٚٞ‬ضؼحُ‪ٝ ٠‬ال ضوطِ‪ٞ‬ج جُ٘لظ جُط‪ ٢‬قشّ هللا ئال ذحُكن ػِ‪ ٠‬قشٓس جُوطَ كال ‪٣‬غٔ‪ ٠‬جؾط‪ٜ‬حدجً‪ ،‬ألٕ جُلو‪٣ ُْ ٚ٤‬رزٍ ؾ‪ٜ‬ذجً‬
‫فً الوصول إلى الحكم الشرعً‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬أما الؽالب من أمره ‪ ‬أنه كان ٌنتظر نزول الوحً لٌأتٌه بحكم المسألة‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.50‬‬

‫ـ ‪ 62‬ـ‬
‫علٌه األمر‪ ،‬فإن كان صوابا ً أقرهم علٌه‪ ،‬وإن كان خطأ ً نبَّه علٌه‪ ،‬وبٌَّن لهم‬
‫‪ ‬أو من صحابته لٌس‬ ‫الحكم الصحٌح‪ ،‬ومع هذا فاالجتهاد سوا ٌء من النبً‬
‫مصدراً تشرٌعٌا ً مستقبلً فً هذا العصر‪ ،‬كما هو الحال فً العصور التالٌة (‪،)1‬‬
‫ألنه عاب ٌد إلى الوحً‪ ،‬وألن إعمال الفكر مع احتمال الصواب والخطأ ال معنى‬
‫له مع وجود من إلٌه المرجع فً كل شبون الشرٌعة‪ ،‬وهو الرسول ‪ ،‬ولهذا‬
‫لم ٌكن الصحابة ٌرجعون فً ما ٌعرض لهم من أمور إلى الكتاب رأساً‪ ،‬بل‬
‫كان ‪ٌ ‬بٌنه لهم‪ ،‬إذ كان هو المرجع فً بٌان القرآن وفً الفتوى والقضاء(‪.)2‬‬
‫وعموما ً فقد اجتهد ‪ ‬وأذِن لصحابته فً االجتهاد‪ ،‬لٌرسم لهم طرٌق‬
‫بٌان حكم ما ٌج ُّد من حوادث بعد وفاته (‪ ،)3‬ولٌرفع الحرج عن المجتهدٌن من‬
‫بعده إذا لم ٌصلوا باجتهادهم إلى الصواب‪ ،‬وعدم توجٌه اللوم لهم ماداموا قد‬
‫بذلوا الجهد(‪ ،)4‬وتنبٌههم إلى أالَّ ٌتعصبوا آلرابهم أو ٌحمِلوا الناس علٌها قهراً‪،‬‬
‫وقد رأوا النبً ‪ٌ ‬عدِل عن رأٌه لمَّا نزل القرآن الكرٌم معاتبا ً له ومبٌنا ً‬
‫للصواب‪ ،‬وألن المصلحة تقتضً اإلذن للصحابة باالجتهاد‪ ،‬وتدرٌبهم علٌه‪،‬‬
‫حتى إذا آل األمر إلٌهم من بعده ٌكونون قد مارسوا االجتهاد‪ ،‬وتمرَّ سوا علٌه‪،‬‬
‫وكانوا قدو ًة فً ذلك لمن بعدَ هم‪.‬‬
‫ومع هذا هناك فارق بٌن اجتهاده ‪ ‬واجتهاد صحابته ومن بعدَ هم من‬
‫العلماء‪ ،‬ألن اجتهاده بمنزلة الوحً‪ ،‬ألنه ال ٌحتمل إقراره على الخطأ‪ ،‬ألن‬
‫ُوحى إلٌه بوجه الصواب‬
‫تركه ‪ ‬إذا لم ٌُصِ ب الحكم فً اجتهاده دون أن ٌ َ‬

‫‪ٓ -1‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪ ،410‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.56‬‬


‫‪ -2‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،132‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪ ،99‬خالّف‪ :‬ؿ‪.17‬‬
‫‪ -3‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪ ،56‬أذ‪ ٞ‬ص‪ :ٞٛ‬ؿ‪ ،15‬ذِطحؾ‪ :٢‬ؿ‪.38‬‬
‫‪ٓ -4‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪ ،87‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.58‬‬

‫ـ ‪ 63‬ـ‬
‫إقرار للخطأ‪ ،‬وهذا ٌستحٌل على هللا تعالى (‪ ،)1‬أما اجتهاد ؼٌره من الفقهاء فإنه‬
‫ٌحتمل الصواب والخطأ‪ ،‬ألنه صادرٌ عن ٍ‬
‫بشر ٌصٌبون وٌخطبون‪ ،‬ومن أمثلة‬
‫اجتهاده ‪ ‬ما ٌلً‪:‬‬
‫أسر المسلمون بعض المشركٌن‪ ،‬ولم ٌكن هناك نصٌ شرعً‬
‫‪ -‬فً بدر َ‬
‫‪‬‬ ‫ٌبٌن الحكم الواجب تطبٌقه بشأن أسرى الحرب‪ ،‬ولمَّا انتظر الرسول‬
‫الوحً‪ ،‬ولم ٌنزل‪ ،‬كان فً هذا إذنٌ من هللا تعالى له باالجتهاد‪ ،‬وعندبذ طلب‬
‫المشورة من أصحابه‪ ،‬فرأى عمر ‪ ‬قتلهم‪ ،‬ألنهم أبمة الكفر‪ ،‬وقد وقفوا ضد‬
‫الدعوة‪ ،‬وعذبوا المؤمنٌن‪ ،‬ونهبوا أموالهم بمكة‪ ،‬مما اضطرهم إلى الهجرة‪،‬‬
‫فإن تركهم المسلمون بعد أن ظفروا بهم أع ُّدوا العدة‪ ،‬وتوجهوا لقتالهم مرة‬
‫أخرى‪ ،‬فكانت مصلحة الحفاظ على الدعوة وأرواح المسلمٌن وأموالهم تقتضً‬
‫قتل هؤالء األسرى‪ ،‬ورأى أبو بكر ‪ ‬إطبلق سراحهم‪ ،‬وأخذ الفِدٌة منهم‪ ،‬ففً‬
‫ذلك مصلحة لهم‪ ،‬ألنهم ذوي قُربى‪ ،‬وقد ٌهدٌهم هللا لئلٌمان‪ ،‬فٌتقوى بهم الدٌن‬
‫بعد أخ ِذ الفدٌة منهم‪ ،‬والتً ستكون فابدتها على المسلمٌن أكثر من الفابدة من‬
‫قتلهم(‪ ،)2‬ولمَّا لم ٌكن قد نزل وحًٌ فً حكمهم فقد وافق ‪ ‬على رأي أبً بكر‪،‬‬
‫ان لِ َن ِبًٍّ أَنْ ٌَ ُك َ‬
‫ون‬ ‫فنزل الوحً معاتبا ً له‪ ،‬ومبٌنا ً للصواب فً قوله تعالى ‪َ ‬ما َك َ‬
‫هللاُ ٌ ُِرٌ ُد ْاآلَخ َِر َة َو َّ‬
‫هللاُ‬ ‫ض ال ُّد ْن ٌَا َو َّ‬
‫ون َع َر َ‬ ‫ض ُت ِرٌ ُد َ‬ ‫لَ ُه أَسْ َرى َح َّتى ٌ ُْثخ َِن فًِ ْاألَرْ ِ‬
‫هللا َس َب َق َل َم َّس ُك ْم فٌِ َما أَ َخ ْذ ُت ْم َع َذابٌ َعظِ ٌ ٌم‪.)3(‬‬
‫ٌز َحكٌِ ٌم (‪َ )67‬ل ْو َال ِك َتابٌ م َِن َّ ِ‬‫َع ِز ٌ‬
‫قبلها‬
‫بأعذار ِ‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬فً ؼزوة َتبوك أراد البعض التخلؾ عن القتال‪ ،‬وتعلَّلوا‬
‫النبً ‪ ‬دون تحري مدى صدقها‪ ،‬فعاتبه هللا تعالى على تعجّ له باإلذن لهم‬

‫‪ -1‬ػرذ جُشقٖٔ ضحؼ‪ :‬ؿ‪.133‬‬


‫‪ -2‬جُطرش‪ :١‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.63‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جألٗلحٍ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪ٝ ،68-67‬أٗظش جُٔح‪ٝ‬سد‪ :١‬ؿ‪.46-45‬‬

‫ـ ‪ 64‬ـ‬
‫صدَ قُوا َو َتعْ لَ َم‬ ‫هللاُ َع ْن َك لِ َم أَ ِذ ْن َ‬
‫ت لَ ُه ْم َح َّتى ٌَ َت َبٌ ََّن لَ َك الَّذ َ‬
‫ٌِن َ‬ ‫بالتخلؾ بقوله ‪َ ‬ع َفا َّ‬
‫ْال َكاذ ِِبٌن‪ ،)1(‬ألن منهم الصادقٌن فً أعذارهم‪ ،‬ومنهم المنافقٌن الذٌن كانوا‬
‫سٌتخلفون عن الجهاد ولو لم ٌأذن لهم الرسول ‪ ‬بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لما توفى عبد هللا بن أ ُ َبًْ بن سلول زعٌم المنافقٌن جاء ابنه عبد هللا‬
‫‪ ‬إلى الرسول ‪ٌ ‬سأله أن ٌعطٌه قمٌصه لٌك ِّفنه فٌه‪ ،‬فأعطاه له‪ ،‬ثم سأله أن‬
‫ٌصلً علٌه‪ ،‬فقام ‪ ‬لٌصلى علٌه‪ ،‬لكن عمر ‪ ‬أخذ بثوب النبً ‪ ‬قاببلً‪:‬‬
‫كٌؾ تصلً علٌه وقد نهاك ربك أن تصلً علٌه؟ فقال ‪ :‬إنما خٌَّرنً هللا فقال‬
‫‪‬اسْ َت ْؽفِرْ لَ ُه ْم أَ ْو َال َتسْ َت ْؽفِرْ لَ ُه ْم إِنْ َتسْ َت ْؽفِرْ لَ ُه ْم َس ْبع َ‬
‫ٌِن َمرَّ ًة َفلَنْ ٌَ ْؽف َِر َّ‬
‫هللاُ لَ ُه ْم‪،)2(‬‬
‫وسأزٌد على السبعٌن‪ ،‬فقال عمر‪ :‬إنه منافق‪ ،‬فصلَّى رسول هللا ‪ ‬علٌه‪ ،‬فنزل‬
‫ات أَ َب ًدا َو َال َتقُ ْم َعلَى َقب ِْر ِه إِ َّن ُه ْم َك َفرُ وا‬
‫ص ِّل َعلَى أَ َح ٍد ِم ْن ُه ْم َم َ‬‫قوله تعالى ‪َ ‬و َال ُت َ‬
‫منافق أبداً(‪.)4‬‬ ‫ٍ‬ ‫ون‪ ،)3(‬فما صلى ‪ ‬بعده على‬ ‫ِب َّ ِ‬
‫اهلل َو َرسُولِ ِه َو َما ُتوا َو ُه ْم َفاسِ قُ َ‬
‫وكما اجتهد ‪ ‬اجتهد صحابته فً عهده‪ ،‬سواء فً حضرتِه أو فً‬
‫‪ ‬خصمان‬ ‫ؼٌابه‪ ،‬بل إنه أذِن لبعضهم باالجتهاد أمامه‪ ،‬إذ جاء رسول هللا‬
‫ٌختصمان‪ ،‬فقال لعمرو بن العاص ‪ :‬اقض بٌنهما ٌا عمرو‪ ،‬فقال عمرو‪:‬‬
‫قال ‪ :‬وإن كان‪ ،‬قال عمرو‪ :‬فإذا قضٌت‬
‫أنت أولى بذلك منً ٌا رسول هللا‪ ،‬ؾ‬
‫بٌنهما فما لً؟ قال ‪ :‬إن أصبت القضاء فلك عشر حسنات‪ ،‬وإن أنت اجتهدت‬
‫فأخطأت فلك حسنة" (‪ ،)5‬ولهذا لمَّا بعث ‪ ‬معاذ بن جبل ‪ ‬إلى الٌمن معلما ً‬
‫وقاضٌا ً سأله‪" :‬كٌؾ تصنع إن َعرض لك قضاء؟ قال‪ :‬أقضً بما فً كتاب‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.43‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.80‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.84‬‬
‫‪ -4‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ ضلغ‪٤‬ش جُوشإٓ‪ ،‬ذحخ ه‪ ُٚٞ‬جعطـلش ُ‪ ْٜ‬أ‪ ٝ‬ال ضغطلش ُ‪ ،ْٜ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.4393‬‬
‫‪ٓ -5‬غ٘ذ أقٔذ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.17396‬‬

‫ـ ‪ 65‬ـ‬
‫هللا‪ ،‬فقال ‪ :‬فإن لم ٌكن؟ قال‪ :‬فبسنة رسوله‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم ٌكن؟ قال معاذ‪:‬‬
‫اجتهد برأًٌ ال آلوا‪ ،‬أي ال أُقصِّر‪ ،‬فسُر ‪ ‬بذلك‪ ،‬وقال‪ :‬الحمد هلل الذي وفق‬
‫رسول رسول هللا لما ٌُرضً هللا ورسوله"(‪.)1‬‬
‫كما أنّ اجتهادات الصحابة حال حٌاته ‪ ‬كثٌرة‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -‬بعد العودة من ؼزوة األحزاب‪ ،‬أمر ‪ ‬أصحابه بالخروج إلى بنً‬
‫العصر إال فً بنً قرٌضة"‪ ،‬فصلى بعضهم‬
‫َ‬ ‫قرٌضة قاببل‪" :‬ال ٌصلٌن أحدكم‬
‫فهم أن القصد هو اإلسراع‪ ،‬وصلّى بعضهم بعد الوصول‪،‬‬
‫فً الطرٌق‪ ،‬ألنه ِ‬
‫تمسكا ً بظاهر النص‪ ،‬فأقرهما ‪ ‬على اجتهادهما(‪.)2‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ -‬لما حاصر المسلمون بنً قرٌضة رضوا بتحكٌم سعد بن معاذ‬
‫بٌنهم وبٌن المسلمٌن‪ ،‬فحكم بقتل المحاربٌن وسبًْ ؼٌرهم‪ ،‬قٌاسا ً لهم على حكم‬
‫ُون َّ َ‬
‫هللا َو َرسُولَ ُه‬ ‫ارب َ‬ ‫المحاربٌن المذكورٌن فً قوله تعالى‪ :‬إِ َّن َما َج َزا ُء الَّذ َ‬
‫ٌِن ٌ َُح ِ‬
‫ٌِه ْم َوأَرْ جُ لُ ُه ْم مِنْ‬
‫ُصلَّبُوا أَ ْو ُت َق َّط َع أَ ٌْد ِ‬ ‫َو ٌَسْ َع ْو َن فًِ ْاألَرْ ِ‬
‫ض َف َس ًادا أَنْ ٌُ َق َّتلُوا أَ ْو ٌ َ‬
‫ض َذل َِك لَ ُه ْم خ ِْزيٌ فًِ ال ُّد ْن ٌَا َولَ ُه ْم فًِ ْاآلَخ َِر ِة َع َذابٌ‬ ‫خ َِبلؾٍ أَ ْو ٌُ ْن َف ْوا م َِن ْاألَرْ ِ‬
‫َعظِ ٌم‪ ،)3(‬وهؤالء عاونوا المشركٌن ضد المسلمٌن فً ؼزوة األحزاب‪ ،‬وقٌل‬
‫قٌاسا ً لهم على أسرى بدر الذٌن عُوتب فٌهم النبً ‪ ،‬وقد أقر ‪ ‬اجتهاد سعد‬
‫بقوله‪" :‬حكمت فٌهم بحكم هللا"(‪.)4‬‬
‫‪ -‬لمَّا خرج صحابٌان فً سفر‪ ،‬وحضرت الصبلة‪ ،‬وال ماء معهما‬
‫تٌمما وصلٌا‪ ،‬ثم وجداه قبل حلول وقت الصبلة التالٌة‪ ،‬فتوضأ أحدهما وأعاد‬

‫‪ -1‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جألهن‪٤‬س‪ ،‬ذحخ جالؾط‪ٜ‬حد ك‪ ٢‬جُونحء‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3592‬‬
‫‪ -2‬ضلغ‪٤‬ش جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪ ،117‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.204‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.33‬‬
‫‪ -4‬أذ‪ ٞ‬ػر‪٤‬ذ‪ :‬ؿ‪ ،149‬ضلغ‪٤‬ش جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.121‬‬

‫ـ ‪ 66‬ـ‬
‫‪ ‬بقوله للذي لم ٌُعِد‪ :‬أصبت السنة‪،‬‬ ‫الصبلة‪ ،‬ولم ٌُعِدها اآلخر‪ ،‬فصوّ بهما‬
‫وأجزأتك صبلتك‪ ،‬وقال للذي توضأ وأعاد‪ :‬لك الجر مرتٌن(‪.)1‬‬
‫‪ ‬سلطة‬ ‫ومع هذا كله هذه الوقابع ال تدل على أن ألح ٍد ؼٌر النبً‬
‫إصدار األحكام أثناء حٌاته‪ ،‬ألن هذه األمثلة إما صدرت فً حاالت خاصة‪،‬‬
‫َّ‬
‫تعذر فٌها العودة للرسول ‪ ،‬لبُع ِد الشقة أو خشٌة فوات فرصة بٌان الحكم‪ ،‬أو‬
‫كان القضاء فٌها مجرد تطبٌق للنصوص على الوقابع (‪ ،)2‬ولهذا كان كل ما‬
‫صدر من اجتهادات عن الصحابة رضوان هللا علٌهم ؼٌر ملزم لؽٌرهم من‬
‫‪ ،)3(‬فقد كانت تلك االجتهادات مجرد آراء‬ ‫المسلمٌن إال إذا أقره النبً‬
‫استشارٌة تتعرض للقبول والرفض‪ ،‬ولهذا اقتصر الصحابة على االجتهاد عند‬
‫‪ ،‬ولم ٌثبت أن أحدهم‬ ‫الحاجة فقط‪ ،‬وعند عدم تمكنهم من مراجعة النبً‬
‫اجتهد أمامه إال إذا أذِن له فً ذلك‪ ،‬ولم ٌوجد حكم تشرٌعً فً العهد النبوي‬
‫إال ومصدره الوحً‪ ،‬إما مباشرة أو عن طرٌق إقراره تعالى إلجتهاد معٌن‬
‫بواسطة رسوله ‪.‬‬

‫المبحث الثانً‬
‫دور الخلفاء الراشدٌن‬
‫ٌبدأ هذا الدور بتولًِّ أبً بكر ‪ ‬الخبلفة بعد وفاته ‪ ‬سنة ‪ 11‬هـ‪،‬‬
‫وٌنتهً بمقتل علً بن أبً طالب ‪ ‬آخر الخلفاء الراشدٌن سنة ‪40‬هـ‪ ،‬وفٌه‬
‫‪ ،‬فكان منهم الحكام‬ ‫عاش كبار الصحابة الذٌن حملوا لواء اإلسبلم بعده‬
‫والقادة والقضاة والمجتهدٌن‪.‬‬

‫‪ -1‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.265‬‬


‫‪ -2‬خالّف‪ :‬ؿ‪ ،13‬جُوطحٕ‪ :‬ؿ‪.85‬‬
‫‪ٓ -3‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.61‬‬

‫ـ ‪ 67‬ـ‬
‫وقد كان ما تركه ‪ ‬من أحكام للوقابع كافٌا ً لو لم ٌمتد سلطان اإلسبلم‬
‫إلى ما وراء الجزٌرة العربٌة‪ ،‬إال أن هذا العصر حدثت فٌه حروب الردة‪،‬‬
‫وفُتِحت ببلد فارس والعراق وشمال افرٌقٌا‪ ،‬ودخل أكثر أهلها فً اإلسبلم‪،‬‬
‫أمور لم ٌكن لهم بها عه ٌد من‬
‫ٍ‬ ‫فامتزج المسلمون العرب بهم‪ ،‬وتعرَّ فوا على‬
‫ت ونظما ً لم ٌألفوها‪ ،‬فكان لزاما ً على الصحابة بٌان حكمها‬
‫قبل‪ ،‬ووجدوا عادا ٍ‬
‫الشرعً‪ ،‬وهم الذٌن عاصروا النبً ‪ ،‬وشاهدوا أفعاله‪ ،‬واستمعوا إلى أقواله‪،‬‬
‫وألنهم أقدر الناس على فهم القرآن الكرٌم‪ ،‬لنزوله بلؽتهم‪ ،‬ومعرفتهم بأسباب‬
‫نزول آٌاته‪.‬‬
‫أما قبل هذا العصر فقد كانت الحوادث التً تتطلب حكما ً شرعٌا ً قد‬
‫وقعت كلها داخل جزٌرة العرب‪ ،‬إذ عاش ‪ ‬طوال حٌاته بٌن مكة والمدٌنة‪،‬‬
‫وكان المسلمون من العرب فقط‪ ،‬فكانت عاداتهم وتقالٌدهم متماثلة‪ ،‬ولكن بعد‬
‫أن جاء نصر هللا والفتح‪ ،‬ودخل الناس فً دٌن هللا أفواجاً‪ ،‬وانساح المسلمون‬
‫فً مُلك قٌصر وكسرى‪ ،‬تعرَّ فوا على ما ال عهْد لهم به‪ ،‬فً ببل ٍد ذات حضارة‬
‫وعادات وتقالٌد لم ٌألفوها‪ ،‬وظهرت بسبب الفتح حوادث كثٌرة(‪.)1‬‬
‫وبهذا كله نما الفقه واتسع‪ ،‬وإن ظل فقها ً واقعٌا ً ٌتتبع الحوادث بعد‬
‫وقوعها‪ ،‬إلنشؽال الصحابة بالفتوحات وإدارة شبون الببلد المفتوحة وشدة‬
‫َورعِ هم وخشٌة الوقوع فً الخطأ إن افترضوا الوقابع وحاولوا وضع الحلول‬
‫لها‪ ،‬ومع هذا لم ٌدون شٌا من العلوم الشرعٌة‪ ،‬بل كانت الؽلبة للحفظ‪ ،‬إذ‬
‫‪ ‬فً‬ ‫اقتصر التدوٌن على القرآن الكرٌم‪ ،‬حٌث جُ مِع فً عهد أبً بكر‬
‫مصحؾٍ واحدٍ‪ُ ،‬نسِ خت منه عدة نسخ فً عهد عثمان ‪.‬‬

‫‪ -1‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،119 ،1‬جُذ‪ٝ‬جُ‪٤‬ر‪ :٢‬أف‪ ٍٞ‬جُلو‪ ،ٚ‬ؿ‪.82 ،16‬‬

‫ـ ‪ 68‬ـ‬
‫منهج الصحابة فً االستنباط‪:‬‬
‫لم ٌفارق الرسول ‪ ‬هذه الدنٌا إال بعد تكامل الشرٌعة‪ ،‬ولهذا اقتصر‬
‫عمل صحابته من بعده على التطبٌق ال التشرٌع‪ ،‬وقد ساروا فً ذلك على‬
‫المنهج الذي رسمه لهم (‪ ،)1‬حٌث رو ي عن علً بن أبً طالب ‪ ‬قال‪" :‬قلت‬
‫ٌا رسول هللا أرأٌت إن عُرض لنا أمرٌ لم ٌنزل فٌه قرآن ولم ِ‬
‫تمض فٌه سنة‬
‫منك؟ قال‪ :‬تجعلونه شورى بٌن العابدٌن من المؤمنٌن‪ ،‬وال تقضونه برأي‬
‫خاص ٍة"(‪ ،)2‬وبنا ًء علٌه لجأ الصحابة لبٌان حُ كم ما ٌُعرض علٌهم من مسابل‬
‫إلى الكتاب فالسنة ثم اجتهدوا‪ ،‬ألنه لم ٌعُد بٌنهم من كان ٌؽنٌهم عن االجتهاد‪،‬‬
‫وهو الرسول ‪ ،‬وكان إلجتهادهم مظهران‪ ،‬فهو جماعً إذا تٌسَّر اجتماع‬
‫أُولًِ األمر من الصحابة‪ ،‬وتارة ٌكون اجتهاداً فردٌا ً بإعمال الفكر إذا تعذرت‬
‫الشورى(‪.)3‬‬
‫وقد طبَّق الخلفاء هذا المنهج‪ ،‬إذ رُ ِوي أن أبا بكر ‪ ‬إذا وردَ علٌه أمرٌ‬
‫نظر فً كتاب هللا‪ ،‬فإن لم ٌجد ما ٌقضً به نظر إلى السنة الشرٌفة‪ ،‬فإن لم‬
‫َ‬
‫ٌجد ما ٌقضً به جمع أُولًِ األمر واستشارهم‪ ،‬فإن أجمعوا على رأي عمِل‬
‫به‪ ،‬وكذلك كان ٌفعل عمر ‪ ،‬فإن لم ٌجد فً الكتاب والسنة حكما ً نظر هل‬

‫‪ -1‬ئال إٔ ‪ٛ‬زج ال ‪٣‬ؼ٘‪ ٢‬إٔ ًَ ‪ٝ‬جق ٍذ ٖٓ جُٔغِٔ‪ ٖ٤‬ذآٌحٗ‪ ٚ‬جُشؾ‪ٞ‬ع ئُ‪ ٠‬جُ٘ق‪ٞ‬ؿ ذ٘لغ‪ٝ ٚ‬ك‪ٓ ْٜ‬ح ضذٍ ػِ‪ٖٓ ٚ٤‬‬
‫أقٌحّ‪ ،‬ألٕ ؿحُد جُٔغِٔ‪ً ٖ٤‬حٗ‪ٞ‬ج ٖٓ جُؼحٓس جُز‪ ٖ٣‬ال ‪٣‬ط‪ٞ‬فِ‪ ٕٞ‬ئُ‪ ٠‬ك‪ ْٜ‬جُ٘ق‪ٞ‬ؿ ئال ذ‪ٞ‬جعطس ٖٓ ‪ُ٣‬ل‪ ْٜٜٔ‬ئ‪٣‬ح‪ٛ‬ح‪،‬‬
‫‪ٝ‬خحفس إٔ جُ٘ق‪ٞ‬ؿ ُْ ضٌٖ هذ ُٗؾشش ذ‪ ٖ٤‬جُٔغِٔ‪ٗ ٖ٤‬ؾشجً ػحٓحً‪٣ ،‬ؿؼِ‪ٜ‬ح ك‪ٓ ٢‬ط٘ح‪ٓ ًَ ٍٝ‬غِْ ك‪ٛ ٢‬زج جُؼقش‪،‬‬
‫ألٕ ٗق‪ٞ‬ؿ جُوشإٓ ًحٗص ٓذ‪ٗٝ‬س ك‪ ٢‬فكق ٓكل‪ٞ‬ظس ك‪ ٢‬جُر‪٤‬ص جُ٘ر‪ٝ ١ٞ‬ذ‪ٞ٤‬ش ذؼل جُقكحذس‪ٝ ،‬جُغ٘س ُْ ضذ‪ٕٝ‬‬
‫أفالً‪ ،‬كحػطٔذ جُٔغِٔ‪ ٕٞ‬ػِ‪ُ ٖٓ ٠‬ذ‪ ٚ٣‬ػِْ ذ‪ٜ‬ز‪ ٙ‬جُ٘ق‪ٞ‬ؿ ك‪ٓ ٢‬ؼشكس جألقٌحّ جُؾشػ‪٤‬س‪ُٜٝ ،‬زج سأ‪ ٟ‬جُؼِٔحء ٖٓ‬
‫جُقكحذس إٔ ػِ‪ٝ ْٜ٤‬جؾرح ً ‪٣‬وطن‪ ْٜ٘ٓ ٢‬ذ‪٤‬حٕ جألقٌحّ جُؾشػ‪٤‬س ُِٔغِٔ‪ٗٝ ٖ٤‬ؾش جُ٘ق‪ٞ‬ؿ جُٔكل‪ٞ‬ظس ػ٘ذ‪ٖٓ ْٛ‬‬
‫هشإٓ ‪ٝ‬ع٘س ػِ‪ ٠‬ػحٓس جُٔغِٔ‪ .ٖ٤‬خالّف‪ :‬ؿ‪.31-30‬‬
‫‪ -2‬جُ‪٤ٜ‬طٔ‪ً :٢‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ جُو‪٤‬حط ‪ٝ‬جُطوِ‪٤‬ذ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.844‬‬
‫‪ -3‬جُؼٔش‪ :١‬ؿ‪ ،224‬جُذ‪ٝ‬جُ‪٤‬ر‪ :٢‬أف‪ ٍٞ‬جُلو‪ ،ٚ‬ؿ ‪.13‬‬

‫ـ ‪ 69‬ـ‬
‫كان ألبً بكر قضاء‪ ،‬فإن وجده حكم به بعد أن ٌقتنع بأسبابه‪ ،‬وإال اجتهد برأٌه‬
‫ولو خالؾ رأي أبً بكر ‪ ،)1(‬فإن لم ٌكن ألبً بكر قضاء جمع عمر رؤساء‬
‫الناس واستشارهم وعمِل بما أجمعوا علٌه (‪ ،)2‬وكذلك كان ٌفعل عثمان وعلً‬
‫رضً هللا عنهما‪ ،‬إذا كانا ٌعتمدان عل ى الكتاب فالسنة ثم على قضاء من‬
‫سبقهما‪ ،‬فإن لم ٌجدا الحكم رجعا إلى استشارة الصحابة فً األمر‪.‬‬
‫وبهذا فإن سلطة بٌان الحكم الشرعً لم ٌسندها الصحابة إلى الخلٌفة‪،‬‬
‫بل كانت مسبولٌة استنباط األحكام جماعٌة من قِبل كل الصحابة‪ ،‬وال ٌمتاز‬
‫أحدهم عن ؼٌره إال بجودة فقهه وعمق معرفته بالكتاب والسنة وأحوال‬
‫المسلمٌن ومصالحهم(‪.)3‬‬
‫فالصحابة إذاً لجأوا إلى الكتاب فالسنة فاإلجماع فاإلجتهاد الفردي‪،‬‬
‫ٌرد حكمه‬
‫وذلك بتفسٌر النصوص الشرعٌة من الكتاب والسنة‪ ،‬أو قٌاس ما لم ِ‬
‫على ما ورد حكمه‪ ،‬أو إعمال الفكر وفق ما ٌحقق مصلحة المسلمٌن‪ ،‬مما‬
‫أظهر فابدة اجتهادات الصحابة فً العصر النبوي‪ ،‬والتً وإن لم ٌكن لها قٌمة‬
‫تشرٌعٌة آنذاك‪ ،‬إال أنها رسمت لهم طرٌق االجتهاد الصحٌح بعد وفاته ‪.‬‬
‫وقد كان االجماع مٌسوراً فً عصر الصحابة‪ ،‬لسكنِهم المدٌنة المنورة‪،‬‬
‫وألن عمر ‪ ‬لم ٌكن ٌسمح لعلماء الصحابة بمؽادرتها إال لحاجة ُملِحّ ة‪ ،‬ولكن‬
‫بداٌة من عصر عثمان ‪ ‬تفرق الصحابة‪ ،‬وسكنوا البلدان البعٌدة‪ ،‬فلم ٌعد‬
‫اإلجماع ممكناً‪ ،‬بل إن اإلجماع لم ٌتحقق إال فً هذا العصر‪ ،‬لعدم الحاجة إلٌه‬
‫فً العصر النبوي‪ ،‬ألن الوحً كان ٌستبعده‪ ،‬لوجود النبً ‪ ‬باعتباره المرجع‬

‫‪ -1‬ذِطحؾ‪ :٢‬ؿ‪.532‬‬
‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.62‬‬
‫‪ٓ -3‬كٔذ ًٔحٍ جُذ‪ ٖ٣‬ئٓحّ‪ :‬ؿ‪.217‬‬

‫ـ ‪ 70‬ـ‬
‫فً كل األحكام‪ ،‬وذلك لعصمته من الخطأ‪ ،‬وبوفاته ‪ ‬انقطع الوحً‪ ،‬وانتقلت‬
‫العِصمة من الخطأ إلى األمة‪ ،‬فظهر اإلجماع كدلٌل شرعً (‪ ،)1‬وال ٌعنً هذا‬
‫اشتراك كل الصحابة فً اإلجماع‪ ،‬بل كان ٌتم فقط استشارة من تهٌأ وجوده‬
‫من أُولً األمر‪ ،‬دون التوقؾ لمشاورة جمٌع الصحابة‪ ،‬ومن ذلك أن عمر ‪‬‬
‫لما خرج إلى الشام علِم بالوباء‪ ،‬فاستشار من معه من الصحابة‪ ،‬ولم ٌنتظر‬
‫الؽاببٌن‪ ،‬أو ٌُراسل أهل المدٌنة‪ ،‬ولما أُشٌر علٌه بالرجوع ممن معه رجع (‪،)2‬‬
‫ولهذا لم ٌثبت عن أيٍ من الخلفاء األربعة استدعاءه أُولً األمر من الصحابة‬
‫أمر علٌهم‪ ،‬كما لم ٌثبت ولو مرة واحدة أن‬
‫من الؽزوات أو األسفار‪ ،‬لعرض ٍ‬
‫جمٌع المجتهدٌن من الصحابة‪ ،‬ولو كانوا داخل المدٌنة‪ ،‬صرّ حوا برأٌهم فً‬
‫مسألة ما‪ ،‬واتفقوا فٌها على رأيٍ واحد‪ ،‬بل كان تعدد آراء المجتهدٌن‬
‫الحاضرٌن هو الؽالب‪ ،‬وكان الخلٌفة ٌأخذ برأي األؼلبٌة أو ٌُقنِع أؼلبهم برأٌه‪،‬‬
‫وٌظل المخالفون محتفظٌن بخبلفهم (‪ ،)3‬وإن كان هذا ال ٌعنً وجوب بحث‬
‫مدى تحقق اإلجماع بصدد كل المسابل قبل التطرق لآلراء الفردٌة‪ ،‬بل إن‬
‫المسألة قد تكون جزبٌة‪ ،‬فٌجٌب عنها من سُبل من الصحابة‪ ،‬دون عرضها‬
‫على ؼٌره‪ ،‬أما لو كان موضوع االجتهاد أمراً عاماً‪ٌ ،‬تعلق بالكافة أو ٌمُس‬
‫أساسٌات الدولة فبلبد من عقد اجتماع بخصوصه‪ ،‬لبحث األمر وتقلٌبه على‬
‫جمٌع احتماالته(‪.)4‬‬
‫وعند عدم تحقق اإلجماع أو عند عدم الحاجة إلٌه ٌلجأ الصحابة إلى‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.218‬‬


‫‪ -2‬ضلغ‪٤‬ش جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪.77‬‬
‫‪ -3‬ذِطحؾ‪ :٢‬ؿ‪.540‬‬
‫‪ -4‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.251‬‬

‫ـ ‪ 71‬ـ‬
‫اآلراء الفردٌة‪ ،‬دون أن ٌرى أحدهم أن فتواه ملزمة لؽٌره‪ ،‬بل إنهم احترموا‬
‫رأي مخالفٌهم‪ ،‬ومن ذلك أن عمر ‪ ‬أثناء خبلفته لق ًَِ رجبلً له قضٌة‪ ،‬فسأله‬
‫ُ‬
‫لقضٌت بكذا‪ ،‬فقال‬ ‫عنها‪ ،‬فقال‪" :‬قضً علًََّ زٌ ٌد بكذا"‪ ،‬فقال عمر‪ :‬لو كنت أنا‬
‫الرجل‪ :‬وما ٌمنعك واألمر لك؟ فأجابه عمر‪ :‬لو كنت أر ُّد َك إلى الكتاب والسنة‬
‫ُ‬
‫ولست أدري أي الرأٌٌن أحق عند هللا‬ ‫لفعلت‪ ،‬ولكنً أردك إلى الرأي‪،‬‬
‫تعالى"(‪ ،)1‬ولم ٌنقُض ما قضى به زٌد‪.‬‬
‫ولهذا لم ٌكن أحد من الصحابة ٌرى أن رأٌه هو الصواب‪ ،‬فكثٌرٌ منهم‬
‫كان ٌقول بعد اإلفتاء‪" :‬هذا رأًٌ‪ ،‬فإن ٌكن صوابا ً فمن هللا‪ ،‬وإن كان خطأ ً‬

‫فمنً"(‪ ،)2‬ولذا لما أفتى عمر ‪ ،‬وكتب كاتبه فتواه‪ ،‬ثم كتب بعدها "هذا ما‬
‫رأى هللا ورأى عمر"‪ ،‬ن َهرهُ وقال‪" :‬بل أكتب هذا ما رأى عمر‪ ،‬فإن ٌكن‬
‫صوابا ً فمن هللا‪ ،‬وإن ٌكن خطأ فمِن عمر"(‪.)3‬‬
‫ورؼم احتمال رأي الصحابً للصواب والخطأ فإنه كان ٌُسرّ إذا وافق‬
‫اجتهاده السنة الشرٌفة‪ ،‬ومن ذلك أن عمر ‪ ‬لمّا خرج إلى الشام‪ ،‬وعلِم بالوباء‬
‫قبل دخولها‪ ،‬شاور من معه من الصحابة‪ ،‬فأشار بعضهم بالدخول‪ ،‬وبعضهم‬
‫بالعودة‪ ،‬فوافق عمر ‪ ‬على عدم الدخول‪ ،‬وعندبذ عاد عبد الرحمن بن عوؾ‬
‫بأرض فبل ُتقدِموا‬
‫ٍ‬ ‫‪ ،‬وكان ؼاببا‪ ،‬وقال‪ :‬سمعت النبً ‪ٌ ‬قول‪" :‬إذا سمعتم به‬
‫ي أن رجبلً تزوج ولم ٌفرض‬
‫‪ ،‬ورُ ِو َ‬
‫(‪)4‬‬
‫علٌها"‪ ،‬فحمد عمرُ هللا وسُر بذلك‬
‫مهر‬
‫‪ ‬بأن لها َ‬ ‫إلمرأته مهراً‪ ،‬ومات قبل الدخول بها‪ ،‬فقضى ابن مسعود‬

‫‪ -1‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.65‬‬


‫‪ -2‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬جُو‪ ٍٞ‬جُٔل‪٤‬ذ‪ ،‬ؿ‪.33‬‬
‫‪ -3‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.54‬‬
‫‪ -4‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪.77‬‬

‫ـ ‪ 72‬ـ‬
‫مثلِها من النساء‪ ،‬فقام معقل بن سنان األشجعً وقال‪" :‬بهذا قضى النبً ‪ ‬فً‬
‫بُرُ وع بنت واشِ ق األشجعٌة"‪ ،‬ففرح عبد هللا ‪ ‬لموافقة قوله للسنة الشرٌفة(‪.)1‬‬
‫وبهذا صار االجتهاد فً هذا العصر مصدراً مستقبلً من مصادر الفقه‪،‬‬
‫بعد أن لم ٌكن اجتهاده ‪ ‬واجتهاد صحابته فً عصره كذلك‪ ،‬ألن االجتهاد فً‬
‫ٌنكره‪ ،‬أما االجتهاد بعد عصره ‪‬‬ ‫َ‬ ‫العصر النبوي مرجعه الوحً‪ٌ ،‬صوِّ به أو‬
‫فبل مر ِجع له ٌصوِّ به أو ٌنكره‪ ،‬ولهذا أُعتبر مصدراً مستقبلً‪ ،‬ال ٌمنع من العمل‬
‫‪ " :‬إذا حكم الحاكم‬ ‫به احتمال الخطأ‪ ،‬ألن اإلثم مرفوع عن المجتهد بقوله‬
‫‪2‬‬
‫اجتهد فأخطأ فله أجر"( )‪.‬‬
‫فاجتهد فأصاب فله أجران‪ ،‬وإذا حكم ؾ‬
‫أمثلة من اجتهادات الصحابة‪:‬‬
‫‪ 130‬فقط‬ ‫لم ٌكن جمٌع الصحابة من المجتهدٌن‪ ،‬بل ع ُِرؾ منهم‬
‫باإلفتاء‪ ،‬أكثرهم فتوى عمر وعلً وابن مسعود وابن عباس وعابشة أم‬
‫المؤمنٌن وزٌد بن ثابت وابن عمر‪ ،‬والمتوسطون منهم أبو بكر وعثمان وأبو‬
‫موسى األشعري وسعد بن أبً وقاص وسلمان الفارسً ومعاذ بن جبل وأنس‬
‫بن مالك وأبو سعٌد ُ‬
‫الخدري وعبد هللا بن عمرو بن العاص وأبو هرٌرة‪ ،‬ومن‬
‫المقلٌن فً الفتوى بحٌث ال ُتروى عن أحدهم إال فتوى واحدة أو فتاوى معدودة‬
‫الحسن والحسٌن وأسامة بن زٌد وفاطمة الزهراء وأبو عبٌدة وعمار بن ٌاسر‬
‫رضً هللا عنهم (‪ ،)3‬ولم ٌكتسب الصحابة هذا الحق فً بٌان األحكام من تعٌٌن‬
‫الخلٌفة أو انتخاب األمة لهم‪ ،‬بل لِما لهم من مزاٌا شخصٌة‪ ،‬ولطول صحبتهم‬
‫للنبً ‪ ، ‬وحفظهم للقرآن‪ ،‬وعلمهم بأسباب النزول واألحادٌث الشرٌفة‪ ،‬السٌما‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جٌُ٘حـ‪ ،‬ذحخ جُشؾَ ‪٣‬طض‪ٝ‬ؼ ‪ٝ‬ال ‪٣‬لشك ُ‪ٜ‬ح‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1891‬‬
‫‪ -2‬جُٔقذس جُغحذن‪ً :‬طحخ جألقٌحّ‪ ،‬ذحخ جُكحًْ ‪٣‬ؿط‪ٜ‬ذ ك‪٤‬ق‪٤‬د جُكن‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2314‬‬
‫‪ -3‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪.12 ،1‬‬

‫ـ ‪ 73‬ـ‬
‫‪ ،‬فكانوا أهبلً ألن ٌرجع إلٌهم‬ ‫أن كثٌراً منهم كانوا من مستشاري النبً‬
‫المسلمون‪ ،‬وٌثقوا بما ٌصدر عنهم‪ ،‬ومن اجتهاداتهم ما ٌلً‪:‬‬
‫عقوبة شارب الخمر‪:‬‬
‫رؼم تحرٌمها بنص الكتاب لم ٌرد فٌه مقدار عقوبتها‪ ،‬وإنما ورد فً‬
‫‪ ‬مقدار الجلد‪ ،‬بل قال‪" :‬من شرب‬ ‫السنة أنها الجلد‪ ،‬دون أن ٌحدد‬
‫فأجلدوه"(‪ ،)1‬وهذا ٌعنً أن الجلد ورد مطلقاً‪ ،‬ولم ٌح َّدد مقداره‪ ،‬وٌؤٌد هذا ما‬
‫برجل قد شرب‪ ،‬فقال ‪" :‬اضربوه‪ ،‬قال أبو‬ ‫ٍ‬ ‫رواه أبو هرٌرة ‪ ‬أنه أ ُ َ‬
‫تً‬
‫هرٌرة‪ :‬فم َّنا الضارب بٌده‪ ،‬ومنا الضارب بنعله‪ ،‬ومنا الضارب بثوبه" (‪ ،)2‬فلمَّا‬
‫تحا َقر أهل الشام العقوبة بعث خالد بن الولٌد إلى عمر بن الخطاب رضً هللا‬
‫عنهما ٌشاوره فً األمر‪ ،‬فقال علً ‪" :‬أراه إذا شرب َسكِر‪ ،‬وإذا سكر هذى‪،‬‬
‫وإذا هذى افترى‪ ،‬وعلى المفتري ثمانون"‪ ،‬قٌاسا ً لعقوبة السُكر على عقوبة‬
‫ت ُث َّم لَ ْم ٌَأْ ُتوا ِبأَرْ َب َع ِة‬ ‫ُون ْالمُحْ َ‬
‫ص َنا ِ‬ ‫القذؾ الواردة فً قوله تعالى‪َ  :‬والَّذ َ‬
‫ٌِن ٌَرْ م َ‬
‫ٌِن َج ْلدَ ًة ‪ ،)3(‬وقد أجمع الصحابة على ذلك‪ ،‬إال أن عمر‬
‫ش َهدَ ا َء َفاجْ لِ ُدو ُه ْم َث َمان َ‬
‫ُ‬
‫‪ ‬لم ٌلتزم بهذا الحد‪ ،‬بل إذا جاءه الرجل القوي ضربه ثمانٌن جلدة‪ ،‬وإذا‬
‫‪ ‬لم ٌكن استحداثا ً‬ ‫جاءه الرجل الضعٌؾ ضربه أربعٌن‪ ،‬وما فعله عمر‬
‫للحكم‪ ،‬بل ٌوافق ما أراده النبً ‪ ‬من تقدٌر للعقوبة بما ٌكفل زجر الجانً‬
‫دون إهبلكه‪ ،‬ولهذا اختلؾ مقدارها بإختبلؾ حالته(‪.)4‬‬
‫عدم إقامة الحدود فً أرض العدو‪:‬‬

‫‪ٓ -1‬غ٘ذ أقٔذ ذٖ ق٘رَ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.16481‬‬


‫‪ -2‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُكذ‪ٝ‬د‪ ،‬ذحخ جُكذ ك‪ ٢‬جُخٔش‪ ،‬قذ‪٣‬ع سم ّ ‪.4477‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘‪ٞ‬س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.4‬‬
‫‪ -4‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.211‬‬

‫ـ ‪ 74‬ـ‬
‫(‪ ،)1‬ولما عُرضت‬ ‫نهى ‪ ‬عن إقامة حد السرقة فً الؽزو أو السفر‬
‫على الصحابة حوادث أخرى ؼٌر السرقة‪ ،‬وكانوا فً حالة حرب‪ ،‬ولم ٌرد‬
‫بشأنها نصّ انتهوا إلى تأجٌل توقٌع العقوبة‪ ،‬لببل ٌلحق الضرر بالمسلمٌن‪ ،‬ألن‬
‫المحدود قد تأخذه العِزة باإلثم فٌرتد وٌلحق بالعدو‪ ،‬أو ألن الضرر سٌلحق‬
‫بالمسلمٌن لضعفهم أمام عدوهم وطمعِه فٌهم إذا رآهم ٌقٌمون الحد على أحد‬
‫قادة الجٌش‪ ،‬كما حدث مع الولٌد بن عقبة‪ ،‬ولهذا االجتهاد سنده من السنة‬
‫الشرٌفة‪ ،‬حٌث أجَّ ل ‪ ‬حد الزنا عن الحامل حتى تضع‪ ،‬وعن المرضع حتى‬
‫تفطم الرضٌع‪ ،‬وإذا كان التأجٌل هنا لمصلحة الجنٌن أو الرضٌع‪ ،‬وهو شخص‬
‫واحد‪ ،‬فتأجٌل العقوبة لمصلحة األمة اإلسبلمٌة هنا أولى(‪.)2‬‬
‫عدم قطع ٌد السارق فً أحوال معٌنة‪:‬‬
‫فً عهد عمر ‪ ‬اجتاحت الناس حال ُة جد ٍ‬
‫ب وفقر اضطروا معها إلى‬
‫أخ ِذ مال ؼٌرهم‪ ،‬فأسقط عنهم حد السرقة‪ ،‬مكتفٌا ً بتعزٌر السارق‪ ،‬معتبراً أنه‬
‫قد اندفع لجرٌمته بدافع الحاجة ال اإلجرام‪ ،‬وهذا ُ‬
‫شبهة تدفع الحد‪ ،‬وبنا ًء علٌه‬
‫لم ٌقطع ؼِ لمان حاطب بن أبً بلتعة‪ ،‬وقد سرقوا ناقة رجل من مُزٌنة‬
‫وانتحروها‪ ،‬وخاطب حاطبا ً بقوله‪" :‬أما وهللا لوال أنً أعلم أنكم تستعملونهم‬
‫ً‬
‫ؼرامة‬ ‫وتجٌعونهم حتى لو وجدوا ما حرَّ م هللا ألخذوه‪ ،‬ولكن ألؼرم َّنك‬
‫تو ِجعك"‪ ،‬وسأل المزنً‪ :‬بكم ناقتك؟ فقال‪ :‬بأربعمابة درهم‪ ،‬فأمر حاطبا ً‬
‫بإعطابه ثمانمابة درهم(‪.)3‬‬
‫قتل الجماعة بالواحد‪:‬‬

‫‪ -1‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُكذ‪ٝ‬د‪ ،‬ذحخ جُشؾَ ‪٣‬غشم ك‪ ٢‬جُـض‪ ٝ‬أ‪٣‬وطغ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.4408‬‬
‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.19-17‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.22‬‬

‫ـ ‪ 75‬ـ‬
‫رجل من الٌمن قتلته امرأة أبٌه وخلٌلها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫رُفعت إلى عمر ‪ ‬قضٌ ُة‬
‫س ِبال َّن ْف ِ‬
‫س ‪،)1(‬‬ ‫‪‬ال َّن ْف َ‬ ‫فتردد أٌقتل الجماعة بالواحد أم ال‪ ،‬ألن هللا تعالى ٌقول‪:‬‬
‫ً‬
‫جماعة اشتركوا فً سرقة جزور‪ ،‬فأخذ هذا عضواً‬ ‫فقال علً ‪ :‬أرأٌت لو أنَّ‬
‫وهذا عضواً‪ ،‬أكنت قاطِ عهم؟ قال عمر ‪ :‬نعم‪ ،‬فقال علً ‪ :‬فكذلك‪ ،‬فعمِل‬
‫عمر برأٌه‪ ،‬وكتب إلى عامله على الٌمن أن أُقتلهُما‪ ،‬فلو اشترك فٌه أهل‬
‫صنعاء كلهم لقتلتهم به (‪ ،)2‬وقد وافقه الصحابة على ذلك‪ ،‬ألنه لو لم ٌق ُتل‬
‫الجماعة بالواحد لضاع دم القتٌل‪ ،‬وضاع معه الهدؾ من القصاص الذي‬
‫شرعه هللا ألجله‪.‬‬
‫نكاح المتعة‪:‬‬
‫أفتى ابن عباس رضً الهد عنهما بصحته عند الضرورة‪ ،‬ألن النبً ‪‬‬
‫َّ‬
‫رخص فٌه ثم نهى عنه عام الفتح‪ ،‬ف َف ِهم أن الرخصة كانت لضرورة الجهاد‬
‫والنهً لزوالها‪ ،‬بٌنما أفتى ؼٌره من الصحابة ببطبلنه‪ ،‬ألنهم فهموا أن النهً‬
‫األخٌر كان مطلقاً‪ ،‬وقد رجع ابن عباس إلى رأي الصحابة فً آخر حٌاته(‪.)3‬‬
‫منع الزواج بالكتابٌة‪:‬‬
‫ُ‬
‫الزواج بها مشروع كالزواج بالمسلمة‪ ،‬ألنها تؤمن بالهة‪ ،‬وذلك لقوله‬
‫ٌِن أُو ُتوا ْال ِك َت َ‬
‫اب ِح ٌّل لَ ُك ْم َو َط َعا ُم ُك ْم ِح ٌّل‬ ‫ات َو َط َعا ُم الَّذ َ‬ ‫تعالى ‪ْ ‬ال ٌَ ْو َم أ ُ ِح َّل لَ ُك ُم َّ‬
‫الط ٌِّ َب ُ‬
‫ٌِن أُو ُتوا ْال ِك َت َ‬
‫اب مِنْ‬ ‫ات م َِن الَّذ َ‬ ‫ت َو ْالمُحْ َ‬
‫ص َن ُ‬ ‫ات م َِن ْالم ُْؤ ِم َنا ِ‬ ‫لَ ُه ْم َو ْالمُحْ َ‬
‫ص َن ُ‬
‫َق ْبلِ ُك ْم‪ ،)4(‬وبهذا مضى عهد الرسول ‪ ‬وعهد أبً بكر ‪ ،‬ولكن عمر ‪‬‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.45‬‬


‫‪ -2‬جػالّ جُٔ‪ٞ‬هؼ‪ :ٖ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.163‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جٌُ٘حـ‪ ،‬ذحخ ٌٗحـ جُٔطؼس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪ ،2073‬جُؿقحؿ‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.146‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.5‬‬

‫ـ ‪ 76‬ـ‬
‫رأى منعه‪ ،‬إذ تبٌَّن له أن األفضل الزواج بالمسلمة‪ ،‬ولكنه لم ٌحرِّ مه‪ ،‬بل رأى‬
‫ُقبل الناس على ؼٌر‬
‫أن المصلحة تقتضً تفضٌل المسلمة علٌها‪ ،‬حتى ال ٌ ِ‬
‫المسلمات دون حُسن اختٌار‪ ،‬وٌتركوا المسلمات‪ ،‬مما ٌُلحق الضرر باألسرة‪،‬‬
‫ً‬
‫ٌهودٌة بالمدابن‪ٌ ،‬أمره بتركها‪،‬‬ ‫ولهذا كتب إلى حذٌفة بن الٌمان ‪ ،‬وقد تزوج‬
‫فرد حذٌفة‪ :‬أحرام هً؟ فكتب إلٌه عمر‪ :‬ال‪ ،‬ولكن أخاؾ أن ٌقتدي بك‬
‫المسلمون‪ ،‬فٌختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن‪ ،‬وكفى بذلك فتنة لنساء‬
‫المسلمٌن(‪.)1‬‬
‫منع النساء من الخروج للمساجد‪:‬‬
‫ُ‬
‫أذِن ‪ ‬للنساء بالخروج إلى المساجد بقوله‪" :‬ال تمنعوا إماء هللا مساجد‬
‫هللا‪ ،‬ولكن لٌخرجن وهن تفبلت"(‪ ،)2‬أي ؼٌر متطٌبات‪ ،‬فكن ٌخرجن محتشِ مات‬
‫إلقامة الصبلة وتعلم أحكام الدٌن‪ ،‬وفً هذا مصلحة‪ ،‬ولكن األحوال تؽٌرت بعد‬
‫ذلك‪ ،‬وضعفت النفوس‪ ،‬وصار فً خروجهن مفسدة‪ ،‬فرأى الصحابة منعهن‬
‫تحقٌقا للمصلحة‪ ،‬إذ لو استمر الحكم بإباحة الخروج لهن مع تؽٌُّر الحال ألدى‬
‫إلى مفسدة عظٌمة‪ ،‬تزٌد على ما ٌجلبه خروجهن من مصلح ِة تعلم أحكام الدٌن‬
‫وإدراك صبلة الجماعة‪ ،‬وهذا هو رأي السٌدة عابشة أم المؤمنٌن رضً هللا‬
‫عنها‪ ،‬إذ قالت لمَّا رأت أن الفساد سٌترتب على خروجهن‪" :‬لو أدرك رسول‬
‫َ‬
‫أحدَث النساء لمنعهن المساجد"‪ ،‬ومع هذا هناك من الصحابة من‬ ‫هللا ‪ ‬ما‬
‫وقؾ عند ظاهر النص‪ ،‬وقال باإلذن لهن بالخروج للمساجد ولو تؽٌرت‬
‫األحوال‪ ،‬وهذا هو رأي ابن عمر رضً هللا عنهما‪ ،‬لكن ابنه عارضه بقوله‪:‬‬
‫"وهللا ال نأذن لهن‪ ،‬فٌتخذنه ُدؼبلً" أي فساداً‪ ،‬فس َّب ُه وؼضب علٌه وقال‪" :‬أقول‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جُر‪ٜ٤‬و‪ :٢‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪.172‬‬


‫‪ -2‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُقالز‪ ،‬ذحخ خش‪ٝ‬ؼ جُ٘غحء ئُ‪ ٠‬جُٔغؿذ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.565‬‬

‫ـ ‪ 77‬ـ‬
‫قال رسول هللا‪ :‬إبذنوا لهن‪ ،‬وتقول‪ :‬ال نأذن لهن"(‪.)1‬‬
‫مٌراث الجد مع اإلخوة األشقاء أو ألب(‪:)2‬‬
‫ٌرد فً المسألة نص‪ ،‬ولهذا اختلؾ فٌها الصحابة‪ ،‬أٌُق َّدم الجد على‬
‫لم ِ‬
‫اإلخوة ألنه أصل‪ ،‬واإلخوة ٌُحجبون باألب فٌُحجبون كذلك بالجد‪ ،‬أم ٌشترك‬
‫معهم لتساوٌهم فً القرابة‪ ،‬ألن كبلً منهم ٌتصل بالمٌت عن طرٌق األب؟ رأى‬
‫أبو بكر ‪ ‬أن الجد كاألب‪ ،‬واألب ٌحجب اإلخوة‪ ،‬فكذلك الجد‪ ،‬ألن القرآن‬
‫ت ِملَّ َة آَ َبابًِ إِب َْراهٌِ َم َوإِسْ َح َ‬
‫اق َو ٌَعْ قُ َ‬
‫وب ‪،)3(‬‬ ‫سمَّاه أبا ً فً قوله جل وعبل ‪َ ‬وا َّت َبعْ ُ‬
‫حٌث سمَّى إبراهٌم وإسحاق أبا ً مع أنهما جدٌن لٌوسؾ علٌه السبلم‪ ،‬وبهذا‬
‫الرأي قال ابن عباس وابن عمر وعابشة أم المؤمنٌن رضً هللا عنهم‪ ،‬وقد كان‬
‫هو رأي عمر ‪ ، ‬إال أنه رجع إلى قول زٌد بن ثابت وعلً وابن مسعود‬
‫رضً هللا عنهم‪ ،‬بإشتراك اإلخوة مع الجد‪ ،‬لتساوٌهم فً القرابة‪ ،‬ألنهم ٌدلون‬
‫إلى المٌت عن طرٌق واحد وهو األب(‪.)4‬‬
‫محاربة مانعً الزكاة‪:‬‬
‫بعد وفاته ‪ ‬امتنع بعض األعراب عن أداء الزكاة‪ ،‬فرأى أبو بكر ‪‬‬
‫قِتالهم‪ ،‬فقال له عمر ‪ :‬كٌؾ تقاتلهم وقد قال ‪ :‬أُمرت أن أقاتل الناس حتى‬
‫ٌقولوا ال إله إال هللا وأن محمداً رسول هللا‪ ،‬وٌقٌموا الصبلة‪ ،‬وٌؤتوا الزكاة‪ ،‬فإذا‬
‫فعلوا عصموا منً دمابهم وأموالهم إال بحقها (‪ ،)5‬فقال أبو بكر ‪ :‬ألم ٌَقُل إال‬
‫بح ِّقها‪ ،‬فمن ح ِّقها إٌتاء الزكاة كما أن من حقها إقامة الصبلة‪ ،‬فرجع عمر إلى‬

‫‪ -1‬جُٔقذس جُغحذن‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.568‬‬


‫‪ -2‬أٓح جإلخ‪ٞ‬ز ألّ ك‪ٓ ْٜ‬كؿ‪ٞ‬ذ‪ ٕٞ‬ذحُؾوحء ‪ٝ‬ذحإلخ‪ٞ‬ز ألخ ‪ٝ‬ذحُؿذ ذاضلحم جُؼِٔحء‪.‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.38‬‬
‫‪ -4‬عٖ٘ جُر‪ٜ٤‬و‪ :٢‬ؼ‪ ،6‬ؿ‪ ،246‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.379‬‬
‫‪ -5‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جإل‪ٔ٣‬حٕ‪ ،‬ذحخ جألٓش ذوطحٍ جُ٘حط قط‪٣ ٠‬و‪ُٞٞ‬ج ال ئُ‪ ٚ‬ئال هللا‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2233‬‬

‫ـ ‪ 78‬ـ‬
‫رأي أبً بكر‪ ،‬وأعانه على تنفٌذه(‪.)1‬‬
‫عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم‪:‬‬
‫لما فُ ِرضت الزكاة كان من مستحقٌها المؤلفة قلوبهم‪ ،‬وهم من أسلَ َم‬
‫ً‬
‫وتقوٌة للمسلمٌن‬ ‫وفً إٌمانه ضعؾٌ ‪ ،‬فٌُعطون منها ترؼٌبا ً لهم فً اإلسبلم‬
‫ٌِن َو ْال َعا ِمل َ‬
‫ٌِن‬ ‫ات ل ِْلفُ َق َرا ِء َو ْال َم َساك ِ‬
‫ودفعا ً لؤلذى عنهم‪ ،‬لقوله تعالى ‪‬إِ َّن َما الصَّدَ َق ُ‬
‫ٌل‬
‫ْن الس َِّب ِ‬ ‫ٌل َّ ِ‬
‫هللا َو ِاب ِ‬ ‫ٌِن َوفًِ َس ِب ِ‬ ‫ارم َ‬ ‫ب َو ْال َؽ ِ‬ ‫َعلَ ٌْ َها َو ْالم َُؤلَّ َف ِة قُلُو ُب ُه ْم َوفًِ الرِّ َقا ِ‬
‫هللا َو َّ‬
‫هللاُ َعلٌِ ٌم َحكٌِ ٌم‪ ،)2(‬ولهذا أعطاهم ‪ ،‬حٌث أعطى األقرع بن‬ ‫ٌض ًة م َِن َّ ِ‬
‫َف ِر َ‬
‫حابس ً‬
‫مابة من اإلبل‪ ،‬وعٌٌُنة بن حِصْ ن مثلها (‪ ،)3‬كما أقطع أبو بكر ‪ ‬عٌٌنة‬
‫أرضاً‪ ،‬وأش َهدَ على ذلك‪ ،‬ولٌس فً القوم عمر ‪ ،‬فانطلق إلٌه لٌش َهد له‪ ،‬لكنه‬
‫رفض‪ ،‬ألنه رأى أن هللا تعالى َّ‬
‫أعز اإلسبلم وأؼناهُ عن المؤلفة قلوبهم‪ ،‬فسببُ‬
‫إعطابهم‪ ،‬وهو ضعؾ المسلمٌن‪ ،‬قد زال بعد أن صاروا أعزة‪ ،‬وهذا االجتهاد‬
‫من عمر ‪ ‬لٌس تعطٌبلً أو إلؽا ًء للنص‪ ،‬بل لعدم توافر شروط تطبٌقه‪ ،‬ونظٌر‬
‫ذلك أن الفقراء ٌُعطون من الزكاة لعلَّ ِة الفقر‪ ،‬فإن صاروا أؼنٌاء ال ٌستحقون‬
‫شٌباً‪ ،‬لزوال عِ لة اإلعطاء وهً الفقر‪ ،‬وكذلك صفة التألٌؾ قد تتوافر فً‬
‫ي اإلسبلم انتفت‪ ،‬وإذا ضعُؾ وجدت(‪ ،)4‬فالؽاٌة من‬
‫قو َ‬
‫عصر دون عصر‪ ،‬فإذا ِ‬
‫‪ ‬كان‬ ‫تشرٌع حكم المؤلفة هً إعزاز المسلمٌن‪ ،‬وإعطاء المؤلفة فً عهده‬
‫ً‬
‫وسٌلة لهذه الؽاٌة‪ ،‬أما بعد كثرة المسلمٌن عدم إعطابهم هو ما ٌؤدي إلى‬
‫حال كثرة المسلمٌن إذال ٌل لؤلمة‪ ،‬وإظهارٌ‬
‫إعزاز المسلمٌن‪ ،‬ألن إعطاءهم فً ِ‬

‫‪ -1‬جذٖ ض‪٤ٔ٤‬س‪ :‬ؿ‪ ،63‬عٖ٘ جُ٘غحت‪ً :٢‬طحخ جُؿ‪ٜ‬حد‪ ،‬ذحخ ‪ٝ‬ؾ‪ٞ‬خ جُؿ‪ٜ‬حد‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3091‬‬
‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.60‬‬
‫‪ -3‬أذ‪ ٞ‬ػر‪٤‬ذ‪ :‬ؿ‪.406‬‬
‫‪ -4‬أذ‪ ٞ‬ػر‪٤‬ذ‪ :‬ؿ‪ ،351‬جذٖ جُ‪ٜٔ‬حّ‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.14‬‬

‫ـ ‪ 79‬ـ‬
‫لها بمظهر الضعؾ‪ ،‬وهذا عكس ما كان فً عهده ‪ ،)1(‬بل وفٌه تشجٌعٌ لذوي‬
‫النفوس الخبٌثة على التعالً على اإلسبلم والكٌد له طمعا ً فً العطاء‪ ،‬وهذا‬
‫ضرر ٌلحق بالدٌن‪.‬‬
‫عدم قسمة األراضً المفتوحة(‪:)2‬‬
‫فتح الشام والعراق رأى الفاتحون تقسٌم األراضً المفتوحة علٌهم‪،‬‬
‫بعد ِ‬
‫كما تقسم الؽنابم‪ ،‬مثلما فعل ‪ ‬بأراضً بنً النضٌر وبنً قرٌظة‪ ،‬ولكن عمر‬
‫‪ ‬رفض تقسٌم األراضً المفتوحة‪ ،‬ورأى تر َكها بأٌدي أهلها‪ ،‬وفرض‬
‫الضرابب علٌها‪ ،‬لئلنفاق على المحتاجٌن وشبون الدولة وتقوٌة الجٌش‪ ،‬وقد‬
‫وافقه فً نهاٌة األمر أؼلب الصحابة‪ ،‬لِ َما رأوه فً رأٌه من تقدٌم للمصلحة‬
‫العامة على الخاصة عند التعارض (‪ ،)3‬وسند عمر ‪ ‬فً رأٌه أن تقسٌم النبً‬
‫ملزماً‪ ،‬بل هو مترو ٌ‬
‫ك لولً األمر‪،‬‬ ‫‪ ‬لؤلراضً المفتوحة بٌن الفاتحٌن لٌس ِ‬
‫‪ ‬قسَّم أرض خٌبر لمَّا رأى‬ ‫إن رأى المصلحة فً التقسٌم أمضاه‪ ،‬ألنه‬
‫المصلحة فً ذلك‪ ،‬تعوٌضا ً لفقراء المهاجرٌن عن أموالهم التً فقدوها فً‬
‫مكة‪ ،‬لكنه رأى بعد ذلك أن المصلحة فً عدم التقسٌم‪ ،‬ولهذا لم ٌقسم أرض‬
‫مكة بٌن الفاتحٌن‪ ،‬مما ٌعنً أن لولً األمر الخٌار فً ذلك‪ ،‬بحسب ما ٌراه من‬
‫مصلحة(‪.)4‬‬
‫ضوال اإلبل‪:‬‬
‫ً‬
‫طلٌقة فً عهد النبً ‪ ،‬لنهٌه عن إمساكها بقوله‪:‬‬ ‫كانت ضوال اإلبل‬

‫‪ -1‬جُؼٔش‪ :١‬ؿ‪.273‬‬
‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬ػر‪٤‬ذ‪ :‬ؿ‪.78-74‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.81‬‬
‫‪ٓ -4‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.531‬‬

‫ـ ‪ 80‬ـ‬
‫تر ُد الماء وتأكل الشجر حتى ٌلقاها‬
‫"ما لك ولها‪ ،‬معها سقاؤها وحذاؤها‪ِ ،‬‬
‫ربها"(‪ ،)1‬أي صاحبها‪ ،‬واستمر الحال كذلك حتى تؽٌرت األحوال‪ ،‬وامتدت‬
‫األٌدي إلٌها‪ ،‬فأمر عثمان ‪ ‬بإمساكها وتعرٌفها‪ ،‬فإن جاء صاحبها أخذها‪،‬‬
‫عطً ثمنها‪.‬‬
‫َ‬ ‫وإال بٌعت ووُ ضِ ع ثمنها فً بٌت المال‪ ،‬فإن جاء صاحبها أ ُ‬

‫ومن خبلل هذه األمثلة ٌتضح لنا أن منهج الصحابة فً استنباط‬


‫األحكام كان ٌعتمد على الرجوع لنصوص الكتاب والسنة ثم االجتهاد بتفسٌر‬
‫نصوصها‪ ،‬كما فً مسابل نكاح المتعة والمٌراث ومحاربة مانعً الزكاة وعدم‬
‫إعطاء المؤلفة قلوبهم نصٌبا ً من الزكاة الوارد ذكرها‪ ،‬أو بالنظر لما ٌحققه من‬
‫مصلحة للمسلمٌن‪ ،‬كما فً مسابل عدم إقامة الحدود فً أرض العدو وقتل‬
‫الجماعة بالواحد ومنع الزواج بالكتابٌة ومنع النساء من الخروج إلى المساجد‬
‫وعدم قسمة األراضً المفتوحة وضوال اإلبل‪ ،‬أو بقٌاس ما لم ٌرد فٌه حكم‬
‫خاص فً النصوص الشرعٌة على ما ورد نص بحكمه‪ ،‬كما فً قٌاس عقوبة‬
‫شرب الخمر على عقوبة القذؾ‪.‬‬
‫أسباب اختالف الصحابة فً االستنباط‪:‬‬
‫اجتهد الصحابة رضوان هللا تعالى علٌهم واختلفوا عند استنباطهم‬
‫لؤلحكام‪ ،‬وهذا االختبلؾ لٌس عٌباً‪ ،‬بل هو ظاهرةٌ صحٌِّة‪ ،‬ألنه ٌدل على‬
‫انعدام التقلٌد‪ ،‬فك ٌل منهم كان ٌُدلً برأٌه فً المسألة دون مجاملة لؽٌره أو‬
‫خشٌة معارضته‪ ،‬كما أنهم لم ٌختلفوا إال بحق‪ ،‬إذ لم ٌجادل أحدهم إال بدلٌل‪،‬‬
‫باطل أو مجرد الخبلؾ‪ ،‬وإذا ما اختلفوا‬
‫ٍ‬ ‫ولم ٌكن ؼرضه من االختبلؾ إحقاق‬
‫سرعان ما ٌفٌبون إلى الحق حٌن ٌتبٌن لهم (‪ ،)2‬وقد ظهر هذا فً أول مسالة‬

‫‪ٞٓ -1‬هأ جإلٓحّ ٓحُي‪ً :‬طحخ جألهن‪٤‬س‪ ،‬ذحخ جُونحء ك‪ ٢‬جُِوطس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1482‬‬
‫‪ -2‬جُغرحػ‪ :٢‬ؿ‪.127‬‬

‫ـ ‪ 81‬ـ‬
‫اختلؾ فٌها المسلمون بعد وفاته ‪ ،‬وهً مسألة تولً الخبلفة‪ ،‬فبعد جدال بٌن‬
‫‪ ،‬فانظر كٌؾ انتهى‬ ‫المهاجرٌن واألنصار انتهى األمر بتولٌة أبً بكر‬
‫دم واحدة أو‬
‫إجماع‪ ،‬ودون إراقة قطرة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الخبلؾ فً هذه المسألة الهامة إلى‬
‫تفرُّ ق المسلمٌن إلى أحزاب ٌ َّتهم بعضها البعض اآلخر بالتهم الباطلة‪ ،‬وٌكٌد‬
‫له‪ ،‬وعموما ً فقد كان لبلختبلؾ فً االستنباط أسبابه والتً منها‪:‬‬
‫االختالف فً فهم مدلوالت القرآن الكرٌم‪:‬‬
‫لم ٌختلؾ الصحابة فً ثبوت القرآن الكرٌم‪ ،‬ألنه قطعًّ الثبوت‪ ،‬وإنما‬
‫نشأ ذلك عن اشتماله على ألفاظ قطعٌَّة الداللة‪ ،‬كألفاظ األعداد‪ ،‬وهذه لم ٌختلفوا‬
‫الزا ِن ٌَ ُة َو َّ‬
‫الزانًِ َفاجْ لِ ُدوا ُك َّل َوا ِح ٍد ِم ْن ُه َما ِماْ َب َة‬ ‫‪َّ ‬‬ ‫فٌها‪ ،‬كما فً قوله تعالى‬
‫َج ْلدَ ٍة‪ ،)1(‬فلفظ مابة قطعً الداللة‪ ،‬ال ٌحتمل زٌاد ًة أو نقصاً‪ ،‬ولكن الكتاب‬
‫الكرٌم احتوى على ألفاظ ظنٌة الداللة‪ ،‬إلحتمالها أكثر من معنى‪ ،‬ولهذا اختلؾ‬
‫ات‬ ‫‪َ ‬و ْالم َ‬
‫ُطلَّ َق ُ‬ ‫الصحابة فً فهم المراد منها‪ ،‬كما فً لفظ قُرء فً قوله تعالى‬
‫ٌَ َت َربَّصْ َن ِبأ َ ْنفُسِ ِهنَّ َث َبل َث َة قُرُ و ٍء ‪ ،)2(‬فبعضهم ٌرى أن القُرْ ء هو الحٌض‪،‬‬
‫وبعضهم ٌرى أنه ُ‬
‫الطهر‪ ،‬وثمرة الخبلؾ أن عدة المرأة ال تنتهً عند األولٌن‬
‫إال بإنتهاء الحٌضة الثالثة‪ ،‬وتنتهً عند الفرٌق الثانً بمجرد الدخول فً‬
‫الحٌضة الثالثة‪ ،‬ولكل فرٌق أدلته‪ ،‬والخبلؾ فً المسألة لٌس مجردَ خبلؾٍ‬
‫نظري‪ ،‬بل ٌترتب علٌه جملة من اآلثار منها حق الزوج فً مراجعة زوجته‪،‬‬
‫ومدى حِل زواج الؽٌر بها‪ ،‬وحق المطلقة فً اإلرث إن توفى زوجها‪ ،‬وؼٌر‬
‫ذلك‪.‬‬
‫التعارض الظاهري بٌن النصوص القرآنٌة‪:‬‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘‪ٞ‬س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.2‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.228‬‬

‫ـ ‪ 82‬ـ‬
‫ما دامت النصوص القرآنٌة من عند هللا تعالى فبل ٌمكن أن تتعارض أو‬
‫تتناقض‪ ،‬إذ ٌستحٌل أن ٌصدر عن الشارع دلٌبلن متناقضان‪ ،‬وإنما ٌنشأ ذلك‬
‫التعارض فً ذهن المجتهد ال فً النصوص ذاتها‪ ،‬ودلٌل هذا قوله تعالى ‪َ ‬ولَ ْو‬
‫اخت َِبل ًفا َك ِثٌرً ا ‪ ،)1(‬ومن أمثلة التعارض‬ ‫ان مِنْ عِ ْن ِد َؼٌ ِْر َّ ِ‬
‫هللا لَ َو َج ُدوا فٌِ ِه ْ‬ ‫َك َ‬
‫‪َ ‬والَّذ َ‬
‫ٌِن ٌُ َت َو َّف ْو َن‬
‫الظاهري ما ظهر لبعض الصحابة من تعارض قوله تعالى‬
‫ون أَ ْز َواجً ا ٌَ َت َربَّصْ َن ِبأ َ ْنفُسِ ِهنَّ أَرْ َب َع َة أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرً ا‪ )2(‬مع قوله تعالى‬
‫ِم ْن ُك ْم َو ٌَ َذرُ َ‬
‫ضعْ َن َحمْ لَهُنَّ ‪ ،)3(‬فالمتو َّفى عنها زوجها ؼٌر‬ ‫ت ْاألَحْ َم ِ‬
‫ال أَ َجلُهُنَّ أَنْ ٌَ َ‬ ‫وال ُ‬ ‫‪َ ‬وأ ُ َ‬
‫أشهر وعشر‪ ،‬عمبلً باآلٌة األولى‪ ،‬والمطلقة الحامل تعت ُّد‬
‫ٍ‬ ‫الحامل تعت ُّد بأربعة‬
‫بوضع الحمل‪ ،‬عمبلً باآلٌة الثانٌة‪ ،‬فبما تعتد الحامل المتو َّفى عنها زوجها‪،‬‬
‫ِ‬
‫أشهر وعشر أم بوضع الجمل؟‬
‫ٍ‬ ‫بأربعة‬
‫ٌرى علً وابن عباس رضً هللا عنهم أنها تعتد بأبعد األجلٌن‪ :‬وضع‬
‫الحمل أو عدة الوفاة‪ ،‬أٌهما أكثر‪ ،‬عمبلً باآلٌتٌن معاً‪ ،‬ألنه ال تعارض بٌنهما‪،‬‬
‫ً‬
‫ناسخة لؤلولى‪ ،‬فإن وضعت حملها قبل مرور أربعة‬ ‫ألن اآلٌة الثانٌة لٌست‬
‫أشهر وعشر انتظرت حتى تنقضً هذه المدة‪ ،‬وإن انقضت هذه المدة قبل‬
‫ٍ‬
‫وضع الحمل انتظرت وضع الحمل‪ ،‬بٌنما ذهب عمر وابن مسعود رضً هللا‬
‫عنهما إلى أنها تعتد بوضع الحمل‪ ،‬وإن جاء قبل مرور أربعة أشهر وعشر‪،‬‬
‫ً‬
‫ناسخة لها فً‬ ‫ألن آٌة عدة الوفاة نزلت أوالً‪ ،‬ثم نزلت آٌة عدة الحامل‪ ،‬فكانت‬
‫موضع التعارض‪ ،‬وهو الحامل المتوفى عنها زوجها (‪ ،)4‬وٌؤٌد هذا الرأي أن‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.82‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.234‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُطالم‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.4‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -‬القرطبً‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.175-174‬‬

‫ـ ‪ 83‬ـ‬
‫بأٌام قلٌلة فأحلَّها ‪ ‬لؤلزواج(‪.)1‬‬
‫ُبٌعة األسلمٌة َولدت بعد وفاة زوجها ٍ‬
‫س َ‬
‫االختالف فً العلم بالسنة‪:‬‬
‫اختلؾ الصحابة فً العِلم بالسنة الشرٌفة‪ ،‬فمنهم المُكثِر ومنهم ال ُمقِل‪،‬‬
‫وس ْبقِه إلى اإلسبلم‪ ،‬وقدرته على الحفظ‬ ‫( ‪)2‬‬
‫لطول حٌاته وصُحبتِه للنبً ‪َ ، ‬‬
‫ِ‬ ‫تبعا ً‬
‫والتذكر‪ ،‬وانشؽاله بالعبادة عن تعلم الحدٌث‪ ،‬أو انصرافه إلى الجهاد وشبون‬
‫الخبلفة وإمارة الجٌوش (‪ ،)3‬وقد ساعد على تفاوت إحاطة الصحابة بالسنة عدم‬
‫تدوٌنها فً هذا العصر كما دوِّ ن القرآن‪ ،‬ولذا كان منهم من ٌحفظ من األحادٌث‬
‫ما ال ٌحفظه ؼٌره‪ ،‬فنشأ االختبلؾ بٌنهم بسبب ذلك‪ ،‬فقد ُتعرض المسألة فٌُفتً‬
‫فٌها أحدهم باجتهاد لعدم عِ لمه بالحدٌث‪ ،‬وٌُفتً اآلخر بعكس ذلك االجتهاد‬
‫لعلمِه بالحدٌث‪ ،‬ومن ذلك أن ابن عباس رضً هللا عنهما كان ٌفتً بأن الحامل‬
‫المتو َّفى عنها زوجها تعتد بأبعد األجلٌن‪ ،‬حتى بلؽه حدٌث سُبٌعة األسلمٌة أنها‬
‫لمَّا وضعت حلَّت فأفتى به(‪.)4‬‬
‫العمل بالرأي‪:‬‬
‫كان الصحابً ٌعمل برأٌه إذا لم ٌ ِجد نصا ً فً المسألة‪ ،‬ثم ٌظهر النص‬
‫‪ ‬أفتى فً مسألة‬ ‫فٌعود عن اجتهاده‪ ،‬ومن ذلك أن أبا موسى األشعري‬
‫مٌراث برأٌه‪ ،‬لكن ابن مسعود ‪ ‬لم ٌوافقه‪ ،‬لعِلمه بالحدٌث‪ ،‬فرجع أبو موسى‬
‫إلى قول ابن مسعود‪ ،‬وكان أبو هرٌرة ‪ٌُ ‬فتً من أصبح جُ ُنبا ً ّأال صوم له‪،‬‬
‫ُصبح‬
‫‪ ‬كان ٌ ِ‬ ‫ألنه لم ٌبلؽه ما روته عابشة أم المؤمنٌن رضً هللا عنها أنه‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬مسند ابن حنبل‪ :‬حدٌث رقم ‪.26889‬‬
‫‪ -2‬إذ حدّث النبً ‪ ‬قوما ً بما لم ٌحدِّث به آخرٌن‪ ،‬وحضر بعض القوم أمامه وقابع لم ّ‬
‫ٌطلِع علٌها ؼٌرهم‪ .‬أبو‬
‫زهو‪ :‬ص‪.108‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬ػرذ جُؼحٍ‪ :‬ؿ‪.102‬‬
‫‪ -4‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ َ٤ٗ :٢‬جأل‪ٝ‬هحس‪ ،‬ؼ‪ ،6‬ؿ‪.287‬‬

‫ـ ‪ 84‬ـ‬
‫نص من الكتاب‬
‫‪ ،‬وعند عدم وجود ٍ‬
‫(‪)1‬‬
‫جُ ُنبا ً من ِجماع ثم ٌصوم ذلك الٌوم‬
‫والسنة ٌلجأ الصحابة إلى إعمال الرأي‪ ،‬وهذا قد ٌؤدي إلى اختبلؾ آرابهم‪ ،‬فقد‬
‫ً‬
‫واقعة على واقعة وٌقٌسها ؼٌره على واقعة أخرى‪ ،‬وقد ٌعطً‬ ‫ٌقٌس صحابً‬
‫الصحابً الواقعة حكما ً بحسب ما ٌترتب على ذلك من مصلحة‪ ،‬وهذا ٌختلؾ‬
‫تحدٌده باختبلؾ األشخاص‪ ،‬إذ رأٌنا أبا بكر ‪ٌ ‬رى أن المصلحة فً إطبلق‬
‫أسرى بدر وأخذ الفدٌة منهم‪ ،‬بٌنما رأى عمر ‪ ‬أن المصلحة فً قتلهم‪.‬‬
‫اختالف األحوال والظروف‪:‬‬
‫األحكام الشرعٌة ُ‬
‫ش ِرعت لتحقٌق مصالح‪ ،‬لكن المصلحة تتأثر‬
‫فوجب تؽٌُّر األحكام تبعا ً لتؽٌر الظروؾ‪ ،‬السٌما أن البٌبات‬
‫بالظروؾ‪َ ،‬‬
‫أدى هذا إلى اختبلؾ األحكام‪ ،‬وقد رأٌنا ذلك فً‬
‫مختلفة‪ ،‬فاختلفت المصالح‪ ،‬ؾ‬
‫مسألة ضوال اإلبل‪.‬‬
‫ً‬
‫مقارنة بما‬ ‫ومع هذا فالخبلؾ بٌن الصحابة فً االستنباط لٌس شاسعا ً‬
‫سٌكون علٌه الحال فً العصور التالٌة‪ ،‬وذلك لما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬اجتماع الصحابة بالمدٌنة‪ ،‬ممَّا م َّكن من تح ُّقق االجماع‪ ،‬لقٌام الحكم على‬
‫الشورى‪.‬‬
‫‪ -‬واقعٌة الفقه‪ ،‬إذ لم ٌحاولوا افتراض الوقابع وضبطِ أحكامها‪ ،‬إلنشؽالهم‬
‫بالفتوحات وإدارة شبون الدولة الولٌدة‪ ،‬ولهذا كانوا ال ٌفتون إال فٌما وقع فعبلً‪،‬‬
‫وكرهوا تقدٌر المسابل واالنشؽال ببٌان حكمها‪ ،‬ومع قِلة اإلفتاء ٌقِل االختبلؾ‪،‬‬
‫ِ‬
‫ولذا كان كثٌرٌ منهم ٌتورَّ ع عن الفتوى‪ ،‬وٌُحٌل المسألة على ؼٌره خشٌة‬
‫الخطأ‪ ،‬ومن هذا أن زٌد بن ثابت ‪ ‬كان إذا سُبل عن مسألة قال‪ :‬هل وقعت؟‬

‫‪ -1‬جُٔ‪ٞ‬هأ‪ً :‬طحخ جُق‪٤‬حّ‪ ،‬ذحخ ف‪٤‬حّ جُز‪٣ ١‬قرف ؾ٘رح ً ك‪ ٢‬سٓنحٕ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.641‬‬

‫ـ ‪ 85‬ـ‬
‫فإن قٌل‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬دعوها حتى تقع‪.‬‬
‫‪ -‬قلة الحوادث الجدٌدة فً عصرهم‪ ،‬إذ لم تكن فً الكثرة مثل ما وصلت إلٌه‬
‫فً العصور البلحقة‪.‬‬
‫‪ ،‬من كثرة الرواٌة (‪،)1‬‬ ‫‪ -‬قلة رواٌة الحدٌث‪ ،‬وتنفٌر الخلفاء‪ ،‬السٌما عمر‬
‫وتشددهم فً قبول األحادٌث‪ ،‬مما ضٌَّق من ش َّقة الخبلؾ‪ ،‬ألن األحادٌث إذ‬
‫كثرت تعارضت واختلفت فٌها وجهات النظر‪ ،‬وإذا قلَّت ضعُؾ الخبلؾ‪.‬‬
‫وعموما ً منهج الصحابة فً االجتهاد كان ٌقوم على النظر إلى العلة‬
‫التً ُبن ًَِ علٌها الحكم‪ ،‬والتوسع فً االجتهاد عند بعضهم‪ ،‬وعلى الوقوؾ عند‬
‫ظاهر النص عند بعضهم اآلخر‪ ،‬وكان على رأس الفرٌق األول عمر وابن‬
‫مسعود وزٌد بن ثابت وعلً بن أبً طالب رضً هللا عنهم‪ ،‬وكان زعٌم‬
‫اإلتجاه الثانً عبد هللا بن عمر رضً هللا عنهما‪ ،‬ومر ُّد ذلك طبٌعة الفقٌه ونمط‬
‫تفكٌره‪ ،‬ولٌس اعتقاده عدم جواز اإلتجاه المخالؾ‪ ،‬ألن من الناس من ٌأخذ‬
‫نفسه بالوقوؾ عند ظاهر النص‪ ،‬ومنهم من ٌلتمس علله (‪ ،)2‬وكِبل اإلتجاهٌن‬
‫‪ ‬بالصبلة عند‬ ‫كان موجوداً فً العصر النبوي‪ ،‬وٌؤكد هذا حادثة أمره‬
‫الذهاب لؽزوة خٌبر‪ ،‬إال أن كبلً منهما نما وازدهر فً عصر الخلفاء‪ ،‬وواصل‬
‫نموه فٌما بعد‪ ،‬مما أدى إلى ظهور نزعتٌن فً االجتهاد‪ ،‬ع ُِرفتا فٌما بعد‬
‫بمدرسة الحدٌث ومدرسة الرأي‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫دور صغار الصحابة وكبار التابعٌن‬
‫ٌبدأ هذا الدور بوفاة علً بن أبً طالب ‪ ‬فً رمضان سنة ‪40‬هـ‪،‬‬
‫‪ -1‬جذٖ هط‪٤‬رس‪ :‬ؿ‪.30‬‬
‫‪ -2‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪ ،50‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪.127‬‬

‫ـ ‪ 86‬ـ‬
‫فانتهى بذلك عصر الخلفاء الراشدٌن‪ ،‬وتولى معاوٌة بن أبً سفٌان السلطة بعد‬
‫أن صالحه الحسن بن علً ‪ ،‬وإن لم ٌستقر له األمر تماماً‪ ،‬حٌث استمرت‬
‫مناوأة الخوارج والشٌعة له ولخلفابه من بعده‪ ،‬مما كلَّؾ الدولة وكلَّفهم الكثٌر‬
‫من المال والرجال‪ ،‬وٌمتد هذا الدور إلى أوابل القرن الثانً الهجري‪ ،‬وهو‬
‫عصر بلػ فٌه الخبلؾ بٌن المسلمٌن أش َّده‪ ،‬حتى كان بأسُهم بٌنهم شدٌداً‪ ،‬وس ُه َل‬
‫علٌهم الترامً بألفاظ الكفر والفسوق والعصٌان والتراشق بنبال الموت‪،‬‬
‫وانقسموا إلى ف َِرق‪ ،‬وطال التفرق كل فرقة على حِدة‪ ،‬فانتثر أصحابها فً عدة‬
‫فرق أصؽر‪ ،‬وربما وصل الخبلؾ بٌنهم إلى درجة العداء الصارخ والتقاتل‪،‬‬
‫وتمادى بعضهم فً دعاوٌه إلى درج ٍة أخرجته من ِرب َقة الدٌن‪ ،‬وقد تمٌَّز هذا‬
‫العصر بعدة سمات‪ ،‬أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬التفرق السٌاسً‪:‬‬
‫‪ ‬على ٌد ُثل ٍة من الجُ ند‬ ‫كان المسلمون ٌداً واحد ًة حتى قُتِل عثمان‬
‫الثابرٌن علٌه‪ ،‬وبُوٌع اإلمام علً ‪ ‬بالخبلفة‪ ،‬وما كادت البٌعة تتم له حتى‬
‫ٌ‬
‫ثبلثة من كبار الصحابة‪ ،‬ناصبوه‬ ‫دبَّت الخبلفات بٌن المسلمٌن‪ ،‬إذ خرج علٌه‬
‫العداء‪ ،‬وهم طلحة بن عبٌد هللا والزبٌر بن العوام رضً هللا عنهما‪ ،‬ألنهما‬
‫رأٌا أنه خذل عثمان فً مناهضته للثابرٌن علٌه‪ ،‬وقعد عن طلب الجناة‬
‫ّ‬
‫واعتزا بأنهما من الستة الذٌن انتخبهم عمر ‪ ‬حٌن وفاته‬ ‫لبلقتصاص منهم‪،‬‬
‫للشورى فً أمر الخبلفة‪ ،‬كما خرج علٌه معاوٌة بن أبً سفٌان ‪ ،‬ألنه رأى‬
‫نفسه أقرب الناس من عثمان‪ ،‬وأحقهم فً االقتصاص من الجناة‪ ،‬وقد انتهى‬
‫أمرُ طلحة والزبٌر فً موقعة الجمل‪ ،‬بعد أن انحسرت المعركة عن ثبلثة عشر‬

‫ـ ‪ 87‬ـ‬
‫ألؾ قتٌل من أصحابهما وألؾِ قتٌل من أصحاب علً (‪ ،)1‬واشتبك جٌش علً‬
‫ومعاوٌة فً سهل صِ ِّفٌن بالشام‪ ،‬ولما أحسَّ معاوٌة بالهزٌمة طلب التحكٌم‪،‬‬
‫وأمر جنده برفع مصحؾ دمشق األعظم على رؤوس الرماح (‪ ،)2‬بعد أن فُقِد‬
‫ٌ‬
‫خمسة وأربعون ألفا ً منهم من أصحاب‬ ‫فً المعركة سبعون ألؾ قتٌل‪،‬‬
‫معاوٌة(‪ ،)3‬فانقسم رأي أصحاب علً ‪ ‬بٌن أن ٌتركوا الحرب نزوالً على‬
‫طلب خصومهم وأن ٌستمروا فً القتال حذراً من هذه الحٌلة‪ ،‬وأخٌراً رجَّ ح‬
‫اإلمام علً قبول الهدنة والتحكٌم حقنا ً لدماء المسلمٌن‪ ،‬فانقسم أصحابه إلى‬
‫رضً ما ارتضاه‪ ،‬واستمر على والبه له‪ ،‬وفرٌق رفض ذلك‪،‬‬
‫َ‬ ‫فرٌقٌن‪ ،‬فرٌق‬
‫وخرج على طاعته‪ ،‬راؼبا ً فً االستمرار فً قتال معاوٌة‪ ،‬معارضا ً فكرة‬
‫التحكٌم‪ ،‬وبهذا رجع المسلمون أعدا ًء متخاصمٌن‪ٌ ،‬ح ُكم السٌؾ بٌنهم‪ ،‬بعد أن‬
‫كانوا إخوانا ً متحابٌن‪ ،‬وظهرت طوابؾُ على المسرح السٌاسً اإلسبلمً‪ ،‬لكل‬
‫طابف ٍة مبادؤها‪ ،‬فاعتزت بما جنحت إلٌه من آراء‪ ،‬والت َّفت حول من تثق به من‬
‫ذوي المكانة فٌها‪ ،‬فاتخذته إماما ً لها‪ ،‬وحصرت الثقة العلمٌة فٌمن انتمً إلٌها‬
‫من فقهاء‪ ،‬مع سوء ظنها بمن عداهم‪ ،‬حتى أن اإلجماع فً هذا العصر لم ٌعُد‬
‫(‪ ،)4‬وذلك بسبب هذه الصراعات‪،‬‬ ‫ممكناً‪ ،‬إال ما تحقق عن طرٌق الصدفة‬
‫وتفرُّ ق العلماء فً األمصار المفتوحة‪ ،‬فبعد أن كانوا فً عصر الخلفاء‬
‫لعرض‬
‫ِ‬ ‫مجتمعٌن فً المدٌنة المنورة‪ ،‬وكان من السهل على الخلٌفة دعوتهم‬
‫المسألة علٌهم صار اجتماعهم متعذراً‪ ،‬لتفرقهم وتفرق نزعاتهم السٌاسٌة‪.‬‬

‫‪ -1‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.271‬‬
‫‪ -2‬جُؾحذ‪ :٢‬ؿ‪.15‬‬
‫‪ -3‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.272‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -‬وذلك بأن تتفق أقوالهم فً مسألة ما دون قصد منهم‪.‬‬

‫ـ ‪ 88‬ـ‬
‫وهذه الطوابؾ التً أفرزها هذا الصراع هً‪:‬‬
‫أ‪ -‬الخوارج(‪:)1‬‬
‫وهم الذٌن خرجوا على طاعة اإلمام علً ‪ ‬بعد التحكٌم‪ ،‬ألنهم رأوا‬
‫أن التحكٌم خطأ (‪ ،)2‬لدخولهم الحرب وهم موقنون أن الحق معهم‪ ،‬والتحكٌم‬
‫شك فً أي الفرقتٌن على حق‪ ،‬وهذا الشك ال ٌتفق مع اإلٌمان‪ ،‬ألن حُ كم‬
‫معاوٌة واض ٌح ال ٌحتاج إلى تحكٌم‪ ،‬فهُم قاتلوه ألنهم على حق‪ ،‬وما قام به من‬
‫طلب للتحكٌم مجرد خدعة للحصول على هدنة ٌكسب بها الحرب‪ ،‬ولهذا صار‬
‫شِ عارهم "ال حُ كم إال هلل"‪ ،‬ورفضوا الرجوع إلى طاعة اإلمام علً ‪ ‬إال بعد‬
‫أن ٌُعلِن على نفسه الكفر بقبوله التحكٌم‪ ،‬وٌنقض ما أبرمه مع معاوٌة‪ ،‬ولما‬
‫ٌبِسوا من عودته إلٌهم اتخذوا عبد هللا بن وهب الراسبً أمٌراً علٌهم‪ ،‬فدعاهم‬
‫إلى الخروج من الكوفة إلى قرٌة قرٌبة منها تسمى حروراء‪ ،‬فسُمٌت هذه‬
‫‪،‬‬ ‫الطابفة بالحرورٌة‪ ،‬كما ُسمّوا خوارج لخروجهم على طاعة اإلمام علً‬
‫أو لخروجهم ‪ -‬حسب رأٌهم‪ -‬فً سبٌل هللا تعالى(‪.)3‬‬
‫وقد استقر رأٌهم على قتل ك ِّل من اشترك فً التحكٌم‪ ،‬لٌعود األمر‬
‫فج َر ْ‬
‫ت بٌنهم وبٌن جٌش علً‬ ‫شورى بٌن المسلمٌن كما كان قبل التحكٌم‪َ ،‬‬
‫خطوب شدٌدة‪ ،‬فقاتلهم وقاتلوه‪ ،‬فأضعؾ ذلك من مركزه أمام خصمه‬
‫معاوٌة(‪ ،)4‬وأخٌراً ت َّم لهم قت ُل اإلمام علً ‪ ،‬وحاولوا ق ْتل عمرو بن العاص‬
‫‪ ‬لكنهم قتلوا ناببه خطأ ً أثناء الصبلة‪ ،‬ولم ٌتمكنوا من الفتك بمعاوٌة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬الشهرستانً‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪ ،114‬التمٌمً‪ :‬ص ‪.79-60‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ ‬إلى قبول التحكٌم بقولهم بعد أن عرض معاوٌة التحكٌم‪ :‬القوم‬ ‫‪ -‬مع أنهم هم الذٌن ألجأوا اإلمام علً‬
‫ٌدعوننا إلى كتاب هللا وأنت تدعونا إلى السٌؾ‪ .‬الشهرستانً‪ :‬ج ‪ ،1‬ص‪.114‬‬
‫‪ -3‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪ ،75‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.117‬‬
‫‪ -4‬جُؾحذ‪ :٢‬ؿ‪.37‬‬

‫ـ ‪ 89‬ـ‬
‫شخص معٌن‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ت معٌن أو‬
‫وبصدد الخبلفة رأوا أنها ال تنحصر فً بٌ ٍ‬
‫بل إنها تكون باالختٌار الحر المستند إلى إرادة الجمهور‪ ،‬فٌنتخب المسلمون‬
‫من ٌرونه صالحا ً للقٌام بأمرهم‪ ،‬ولو كان من ؼٌر قرٌش والعرب‪ ،‬والخلٌفة‬
‫تجب طاعته بعد انتخابه‪ ،‬ما لم ٌخرج عن حدود الدٌن‪ ،‬فإن خرج عنها وجبت‬
‫معصٌته وعزله والخروج علٌه‪ ،‬فإن لم ٌنعزل َو َجب قتله‪ ،‬ومن أُختٌر خلٌفة‬
‫لٌس له التنازل أو التحكٌم فً أمر الخبلفة‪ ،‬وال مانع لدٌهم من تعدد الخلفاء‬
‫بتعدد البلدان(‪.)1‬‬
‫وبناء على هذه اآلراء صحّ حوا خبلفة أبً بكر وعمر وعثمان فً‬
‫صدرها األول‪ ،‬وخبلفة علً قبل قبوله التحكٌم‪ ،‬لِصحّ ة انتخابهم‪ ،‬فلما حاد‬
‫عثمان عن سٌرة سابقٌه أوجبوا عزله وتبرأوا منه‪ ،‬كما تبرأوا من علً لقبوله‬
‫التحكٌم‪ ،‬ومن معاوٌة ألخذه السلطة بالقوة‪.‬‬
‫والخوارج ال ٌختلفون كثٌراً مع جمهور الفقهاء فً الفروع الفقهٌة‪،‬‬
‫وإن كانت لهم آرا ٌء خرجوا بها عن اإلجماع‪ ،‬لتشددهم فً الدٌن‪ ،‬واعتمادهم‬
‫على السنة التً وصلتهم عن طرٌق علمابهم‪ ،‬ومن آرابهم‪:‬‬
‫‪ -‬تكفٌر مرتكب الكبٌرة والقول بخلوده فً النار‪ ،‬ألن اإلٌمان فً‬
‫نظرهم عقٌدةٌ وعمل‪ ،‬ولٌس عقٌد ًة فقط‪ ،‬إذ ما جدوى أن ٌلوك اإلنسان كلمة‬
‫التوحٌد بلسانه ‪ -‬حسب رأٌهم‪ -‬وتتسابق جوارحه إلى ما نهاه عنه ربه(‪ ،)2‬ولهذا‬

‫ك ّفروا عثمان ألنه لم ٌسِ ر على ِ‬


‫نهج أبً بكر وعمر رضً هللا عنهما فً‬

‫‪ -1‬ذَ ئٕ ٖٓ جُخ‪ٞ‬جسؼ ٖٓ سأ‪ ٟ‬أٗ‪ ٚ‬ال قحؾس ذحألٓس ئُ‪ ٠‬ئٓحّ‪ٝ ،‬ػِ‪ ٠‬جُ٘حط إٔ ‪٣‬ؼِٔ‪ٞ‬ج ذٌطحخ هللا ٖٓ ضِوحء أٗلغ‪،ْٜ‬‬
‫‪ٓ ٢ٛٝ ٕ192‬و‪ُٞ‬س‬ ‫د‪ ٕٝ‬ع‪٤‬طشز أق ٍذ ػِ‪ٛٝ ،ْٜ٤‬زج ٓح هقذ‪ ٙٝ‬ذو‪ ُْٜٞ‬جُؾ‪٤ٜ‬ش "ال قٌْ ئال هلل"‪ ،‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‬
‫هحٍ ػ٘‪ٜ‬ح جإلٓحّ ػِ‪ ٢‬أٗ‪ٜ‬ح ًِٔس قن أس‪٣‬ذ ذ‪ٜ‬ح ذحهَ‪ .‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ ‪ ،1‬ؿ‪.116‬‬
‫‪ٓ -2‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.495‬‬

‫ـ ‪ 90‬ـ‬
‫الحكم‪ ،‬وآثر أهل بٌته ورفعهم على الشعب‪ ،‬وك ّفروا علٌا ً ومعاوٌة وأبا موسى‬
‫الشعري وعمرو بن العاص إلشتراكهم فً التحكٌم‪.‬‬
‫‪ -‬أوجبوا الخروج على طاعة اإلمام الجابر فً جمٌع الظروؾ‬
‫واألحوال‪ ،‬ولم ٌقولوا بال َّت ِقٌَّة (‪ )1‬التً قال بها الشٌعة‪ ،‬دون أن ٌعفٌهم من‬
‫الخروج على هذا اإلمام ضعفُهم أو قوّ ته‪.‬‬
‫‪ -‬لم ٌقبلوا أحادٌث الصحابة إال العُّدول منهم‪ ،‬ولما ثبت لدٌهم عدالة كل‬
‫الصحابة قبل فتنة التحكٌم‪ ،‬فقد قبلوا كل أحادٌثهم التً رُ وٌت قبل الفتنة‪ ،‬أما‬
‫والحكمٌن ومن رضً بالتحكٌم فقد‬
‫َ‬ ‫بعدها فلما ك ّفروا عثمان وعلً ومعاوٌة‬
‫رُ وٌت عنهم أحكام ؼرٌبة‪ ،‬تخالؾ األحادٌث التً ردوها لطعنهم فً عدالة‬
‫رواتها ال جهبلً منهم بالدٌن (‪ ،)2‬ومن أمثلة هذه األحكام إباحة الجمع بٌن المرأة‬
‫وعمتها أو خالتها‪ ،‬وإنكارهم رجم الزانً المحصن رؼم ورود ذلك فً السنة‪،‬‬
‫والقول بجواز الوصٌة للوارث رؼم قوله ‪" :‬ال وصٌة لوارث"(‪.)3‬‬
‫ً‬
‫حجة شرعٌة‪ ،‬كما أنكروا اإلجماع ألنه‬ ‫‪ -‬أنكروا القٌاس ولم ٌعتبروه‬
‫ٌنطوي على االعتراؾ برأي ؼٌرهم‪.‬‬
‫والمبلحظ أن آراء الخوارج الفقهٌة انبثقت عن أعمالهم التً قاموا بها‪،‬‬
‫السٌما فٌما ٌتعلق بمقاومة الحاكم وتكفٌر مرتكب الكبٌرة وعدم جواز التخلً‬
‫عن الحكم‪ ،‬فكانت آراؤهم تبرٌراً لما قاموا به من أعمال تجاه اإلمام علً ‪،‬‬
‫وأكثر من اعتنق مبدأ الخوارج كانوا عربا ً بدواً‪ ،‬انض ّم إلٌهم بعض الموالً‪،‬‬

‫‪ -1‬جُطو‪٤‬س ‪ ٢ٛ‬ئخلحء قو‪٤‬وس جُؼو‪٤‬ذز خ‪ٞ‬كح ً ٖٓ مشس أ‪ ٝ‬سؾحء ٗلغ‪ .‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬جُو‪ ٍٞ‬جُٔل‪٤‬ذ‪ ،‬ؿ ‪ٛ 46‬حٓؼ ‪.1‬‬
‫‪ -2‬جُغرحػ‪ :٢‬ؿ‪.133‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬أبو زهرة‪ :‬ص ‪ .74 ،67‬والحدٌث أخرجه البخاري‪ :‬كتاب الوصاٌا‪ ،‬باب ال وصٌة لوارث‪ ،‬حدٌث رقم‬
‫‪.2596‬‬

‫ـ ‪ 91‬ـ‬
‫ً‬
‫رؼبة فً تولً منصب ما‪ ،‬وقد ع ُِرؾ الخوارج بتشددهم فً العبادة‪،‬‬ ‫ربما‬
‫وإخبلصهم لعقٌدتهم‪ ،‬وشجاعتهم النادرة‪ ،‬والتمسك بظواهر النصوص دون فهم‬
‫معانٌها(‪ ،)1‬والتهور وحُب الجدال والخصومة‪ ،‬والتعصب آلرابهم‪ ،‬وقد‬
‫وقوٌت شوكتهم‪ ،‬ولكنها ضعفت‬
‫استمرت دعوتهم طوال أٌام الدولة األموٌة‪ِ ،‬‬
‫بعد مدة من حكم العباسٌٌن‪ ،‬ثم لم ٌلبثوا أن انحطت صولتهم بعد أن خاضوا‬
‫ضد الدولتٌن حروبا ً كلفت كبل منهما الكثٌر من األموال والرجال‪.‬‬
‫وقد انقسم الخوارج إلى فرق كثٌرة‪ ،‬منها المتشدد‪ ،‬ومنها المعتدل‪ ،‬ومن‬
‫أهمها فرقة األزارقة‪ ،‬أتباع نافع بن األزرق‪ ،‬وهم أكثر الخوارج تطرفاً‪ ،‬إذ‬
‫حكموا بكفر كل من خالؾ رأٌهم‪ ،‬ولهذا استحلوا الؽدر بمن خالفهم‪ ،‬وع ُّدوا‬
‫وأكل ذبٌحته والزواج منه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ذلك جهاداً فً سبٌل هللا‪ ،‬وامتنعوا عن الصبلة خلفه‬
‫وأباحوا ماله ودمه‪ ،‬ومنعوا التوارث معه(‪.)2‬‬
‫ومنها االباضٌة أتباع عبد هللا بن اباض المتوفً سنة ‪ 80‬هـ‪ ،‬وهم أكثر‬
‫فرق الخوارج اعتداالً وقُربا ً من أهل السنة‪ ،‬إذ لم ٌمنعوا التوارث بٌن الخوارج‬
‫وؼٌرهم من المسلمٌن والزواج منهم والصبلة خلفهم وأكل ذبٌحتهم‪ ،‬ألنهم رأوا‬
‫أن مخالفٌهم من المسلمٌن لٌسوا مشركٌن‪ ،‬وإن كانوا لٌسوا مؤمنٌن‪ ،‬وألنهم‬
‫مسلمون فدماؤهم ودٌارهم ال ت ِحلّ‪ ،‬وال ٌُؽنم منها إال أدوات القتال فقط(‪.)3‬‬
‫وٌج َمع بٌن كل فرق الخوارج القول بالتبروء من عثمان وعلً‬
‫ومعاوٌة رضً هللا عنهم‪ ،‬وتقدٌم ذلك على كل طاعة‪ ،‬وقد انقرضت فرقهم‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫فً سورة الفتح‪:‬‬ ‫‪ -‬ومن ذلك أنهم رأوا أن األنبٌاء ٌُحتمل أن ٌرتكبوا الكبابر‪ ،‬مستمدٌن ذلك من قوله تعالى‬
‫ك َومَا َتأ َ َّخرَ ‪ ‬اآلٌتان ‪ ،2-1‬وال شك أن هذا القول‬ ‫ك َّ‬
‫هللاُ مَا َت َق َّد َم مِنْ َذ ْن ِب َ‬ ‫ك َف ْتحً ا م ُِبٌ ًنا ( ‪ )1‬لٌِ َْؽفِرَ لَ َ‬
‫‪‬إِ َّنا َف َتحْ َنا لَ َ‬
‫ٌترتب علٌه تكفٌر النبً ‪ٓ ٌُٚٗٞ ،‬شضٌرح ً ٌُر‪٤‬شز‪ٛٝ ،‬زج ٓح ال ‪٣‬ورِ‪ ٚ‬ػحهَ‪.‬‬
‫‪ -2‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪.83‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.103‬‬

‫ـ ‪ 92‬ـ‬
‫ولم َ‬
‫ٌبق منها إال بعض االباضٌة فً سلطنة ُع َمان والجزابر والجبل الؽربً فً‬
‫لٌبٌا‪.‬‬
‫ب‪ -‬الشٌعة(‪:)1‬‬
‫وهم أتباع اإلمام علً ‪ ‬الذٌن ظلوا على الوالء له بعد التحكٌم‪،‬‬
‫‪ ،‬وال‬ ‫فأحبوه وذرٌته وأفرطوا فً ذلك‪ ،‬فأ ّدعوا أنه أفضل الخلق بعد النبً‬
‫فارق بٌنهما إال النبوة‪ ،‬وأنه معصوم من الخطأ‪ ،‬وكذلك من بعدَ ه من األبمة‪،‬‬
‫ولهذا فكل من عاداه أو أبؽضه أو حاربه هو عدوٌ هلل خال ٌد فً النار مع الكفار‬
‫والمنافقٌن(‪ ،)2‬ولذا لم ٌعترفوا بخبلفة بنً أمٌّة‪ ،‬وجوّ زوا الخروج علٌهم كلما‬
‫(‪ ،)3‬حٌث‬ ‫سنحت الفرصة‪ ،‬ألن اإلمامة منصبٌ إلهًٌ‪ ،‬ال مجال فٌه للشورى‬
‫أوصى ‪ ‬لعلً ‪ ‬بها باإلسم حسب قول البعض وبالوصؾ حسب قول‬
‫بعضهم اآلخر(‪ ،)4‬وبها ٌكون مؽتصبا ً للخبلفة كل من سبق اإلمام علً إلٌها أو‬
‫نازعه فٌها أو عارض ذرٌته من بعده فٌها‪ ،‬ألن الحق فٌها انتقل منه بعد وفاته‬

‫‪ -1‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،149‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.33‬‬


‫‪ -2‬أقٔذ صً‪ ٢‬ضلحق‪ :٠‬ؿ‪.131‬‬
‫‪ٝ -3‬ذ‪ٜ‬زج ال ‪٣‬ؿ‪ٞ‬ص للنبً ‪ ‬ئؿلحُ‪ٝ ٚ‬ال ضل‪٣ٞ‬ن‪ ٚ‬ئُ‪ ٠‬جألٓس‪ ،‬ذَ ‪٣‬ؿد ػِ‪ ٚ٤‬ضؼ‪ ٖ٤٤‬جإلٓحّ‪ ،‬ألٗ‪ٓ ٚ‬قذس جألقٌحّ‪ٞٛٝ ،‬‬
‫‪ٝ‬قذ‪ ٙ‬جُٔؼق‪ ،ّٞ‬أٓح جألٓس كِ‪٤‬غص ًزُي‪ ،‬ذَ ‪٣‬ؿ‪ٞ‬ص ػِ‪ٜ٤‬ح جُغ‪ٝ ٜٞ‬جُ٘غ‪٤‬حٕ ‪ٝ‬جسضٌحخ جُٔلحعذ‪ .‬جذٖ خِذ‪:ٕٝ‬‬
‫ؿ‪ ،196‬جُؾحذ‪ :٢‬ؿ‪.46‬‬
‫‪ٝ -4‬ع٘ذ جُؾ‪٤‬ؼس ك‪ٛ ٢‬زج قذ‪٣‬ع ُخْ‪ٝ ،‬جُز‪ ٞٛ ١‬ػٔذز ًَ جُلشم جُؾ‪٤‬ؼ‪٤‬س ك‪ ٢‬ئغرحش جُ‪ٞ‬ف‪٤‬س ذحُخالكس ُؼِ‪،٢‬‬
‫‪ٝ‬خق‪ٓٞ‬ط‪ ْٜ‬جُٔر٘‪٤‬س ػِ‪ ٠‬رُي ُِقكحذس‪ٝ ،‬ذحألخـ جُخِلحء جُػالغس‪ ٌُٚ٘ ،‬قذ‪٣‬ع ٌٓز‪ٝ‬خ‪ ،‬ال أعحط ُ‪ ٚ‬ػ٘ذ‬
‫جُؿٔ‪ٜٞ‬س‪ ،‬ألٕ جُؼوَ ال ‪٣‬إ‪٣‬ذ‪ ،ٙ‬ئر ‪٣‬غطك‪ َ٤‬جضلحم ؾٔ‪ٜٞ‬س جُقكحذس ػِ‪ً ٠‬طٔحٕ أٓش ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُ‪ٞ‬ف‪٤‬س جُط‪٣ ٢‬ضػْ جُؾ‪٤‬ؼس‬
‫أٗ‪ٜ‬ح فذسش ػٖ جُ٘ر‪  ٢‬ػِ‪ٓ ٠‬أل ٓ٘‪ ْٛٝ ،ْٜ‬أقشؿ ػِ‪ٗ ٠‬ؾش أقٌحّ جُذ‪ًٔ ٖ٣‬ح صدرت عنه ‪ ‬فً أمور أهَ‬
‫أ‪٤ٔٛ‬س ٖٓ جُخالكس ذٌػ‪٤‬ش‪ ُٞٝ ،‬أد‪ ٟ‬ذ‪ ْٜ‬جألٓش ئُ‪ٓ ٠‬ؼحدجز جُكٌحّ‪ٝ ،‬الؽي إٔ ًطٔحٕ أٓش ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُ‪ٞ‬ف‪٤‬س ئٕ فذسش‬
‫هذ ‪٣‬قَ ذٖٔ ًطٔ‪ٜ‬ح ئُ‪ٓ ٠‬شضرس جٌُلش‪ ٞٛٝ ،‬ك‪ ًَ ٢‬جألق‪ٞ‬جٍ ال ‪٣‬شكؼ‪ ٚ‬ػٖ ٓشضرس جُلغن‪ٛٝ ،‬ز‪ ٙ‬ض‪ٜٔ‬س خط‪٤‬شز ال‬
‫‪٣‬ؿ‪ٞ‬ص ئُقحه‪ٜ‬ح ذ٘وِس جُؾش‪٣‬ؼس ٖٓ صحابته ‪ ،‬وال ٌلٌق به هو نفسه أن ٌكون أصحابه من الفساق المخادعٌن‬
‫الكاتمٌن للحق‪ .‬السباعً‪ :‬ص ‪.132‬‬

‫ـ ‪ 93‬ـ‬
‫إلٌهم‪ ،‬وإن كان بعض الشٌعة ٌصحّ حون خبلفة أبً بكر وعمر رضً هللا‬
‫عنهما لتجوٌزهم تقدٌم المفضول لئلمامة مع وجود األفضل منه‪ ،‬إذا كان‬
‫تقدٌمه محققا ً لمصلحة المسلمٌن (‪ ،)1‬أما ح ّكام بنً أمٌة ‪-‬السٌما معاوٌة‪ -‬فهُم ال‬
‫ٌعترفون بخبلفتهم‪ ،‬لعدم أحقٌتهم فٌها لمنازعتهم اإلمام علً فٌها‪.‬‬
‫باق على حقه فً الخبلفة حتى بعد التحكٌم‪،‬‬
‫ولما كان اإلمام علً ‪ٍ ‬‬
‫ولم ٌمنعه منها إال استشهاده ؼِ ٌلة وؼدراً على ٌد عبد الرحمن بن ملجم‬
‫الخارجً‪ ،‬فإنها تنتقل إلى أوالده من بعده‪ ،‬ألنه البد أن ٌكون قد أوصى‬
‫بالخبلفة لمن بعده من أبنابه‪ ،‬كما أوصى له النبً ‪ ،‬ولهذا باٌع الشٌعة ابنه‬
‫الحسن‪ ،‬أكبر أبنابه من فاطمة الزهراء رضً هللا عنها‪ ،‬لكنه تنازل عنها‬
‫لمعاوٌة‪ ،‬حقنا ً لدماء المسلمٌن (‪ ،)2‬فسكتوا على مضض‪ ،‬وتحٌّنوا الفرص‪ ،‬حتى‬
‫مات معاوٌة وتولى ابنه ٌزٌد‪ ،‬فاستنهضوا الحسٌن بن علً ‪ ‬للخروج على‬
‫ٌزٌد‪ ،‬فخرج إلى العراق‪ ،‬طمعا ً فً استرداد حقه فً الخبلفة‪ ،‬لكنه قُتِل فً‬
‫كرببلء‪ ،‬ولح َِق بأهله عسؾُ ٌزٌد وجنده‪ ،‬حتى لم َ‬
‫ٌبق من ذرٌة الحسن‬
‫والحسٌن إال أطفا ٌل صؽار‪ ،‬ال ٌتعلق بهم أمل الشٌعة فً النهوض بالدعوة‪،‬‬
‫وهنا اختلؾ الشٌعة فً من هو أحق باإلمامة‪ ،‬فمنهم من رأى أنها انتقلت بعد‬
‫مقتل الحسٌن إلى أخٌه من أبٌه محمد بن علً المعروؾ بابن الحنفٌة‪ ،‬ومنهم‬
‫من رأى أنها محصورة فً أبناء اإلمام علً ‪ ‬من فاطمة رضً هللا عنها‪،‬‬
‫وقد صارت بعد ق ْتل الحسٌن حقا ً ألوالد الحسن‪ ،‬ألنه أكبر إخوته‪ ،‬فأوالده أحق‬
‫حق ألبناء الحسٌن‪ ،‬ألنه قُتِل فً سبٌلها‪ ،‬أما الحسن‬
‫بها‪ ،‬وهناك من رأى أنها ٌ‬

‫‪ -1‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،146‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪.35‬‬


‫‪ -2‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.276‬‬

‫ـ ‪ 94‬ـ‬
‫حق فٌها(‪ ،)1‬وكل هذا الخبلؾ أدى إلى‬
‫فقد تنازل عنها‪ ،‬مما لم ٌعُد معه ألوالده ٌ‬
‫انقسام الشٌعة إلى عدة فرق‪ ،‬أهمها الزٌدٌة واإلمامٌة واإلسماعٌلٌة‪.‬‬
‫ومن أهم آراء الشٌعة التً م ٌّزتهم عن غٌرهم ما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬تفسٌر القرآن الكرٌم بما ٌتفق مع مبادبهم وآرابهم الفقهٌة‪ ،‬وترك ما‬
‫عداه من تفاسٌر‪ ،‬مهما كانت درجة صحتها(‪.)2‬‬
‫‪ -‬تجرٌح الصحابة ورد أحادٌثهم‪ ،‬إال من ع ُِرؾ بوالبه لعلً ‪ ،‬ألن‬
‫ٌوال علٌا ً فقد خان وصٌة النبً ‪ ‬فً رأٌهم‪ ،‬ولٌس أهبلً للثقة‪ ،‬ولهذا لم‬
‫ِ‬ ‫من لم‬
‫ي عن طرٌق أبمتهم وأهل البٌت فقط‪.‬‬
‫ٌقبلوا من األحادٌث إال ما رُ ِو َ‬
‫‪ -‬ال ٌعترفون باإلجماع إال إذا صدَ َر عن أهل البٌت‪ ،‬ألنهم ٌقولون‬
‫بعصمة أبمتهم دون ؼٌرهم من المسلمٌن‪ ،‬وألن االعتراؾ باإلجماع ٌؤدي إلى‬
‫اإلعتراؾ بأقوال ؼٌر الشٌعة من الصحابة والتابعٌن الذٌن لم ٌوالوا اإلمام‬
‫علً‪ ،‬وهم ال ٌعتدون برأٌهم‪ ،‬كما لم ٌعترؾ الشٌعة بالقٌاس‪ ،‬ألنه رأي والدٌن‬
‫ال ٌؤخذ عندهم بالرأي‪ ،‬وإنما ٌؤخذ عن هللا ورسوله واألبمة المعصومٌن فقط‪.‬‬
‫‪ -‬صحَّ حوا زواج المتعة‪ ،‬استدالالً بقوله تعالى ‪َ ‬ف َما اسْ َتمْ َتعْ ُت ْم ِب ِه ِم ْنهُنَّ‬
‫ٌض ًة ‪ ،)3(‬وقد كان هذا الزواج جابزاً لضرورة الجهاد فً‬ ‫َف َ ُتوهُنَّ أُجُ َ‬
‫ورهُنَّ َف ِر َ‬
‫صدر اإلسبلم‪ ،‬ثم حرَّ مه ‪.‬‬
‫‪ -‬ال ٌجٌزون زواج المسلم بالكتابٌة‪ ،‬استدالالً بقوله تعالى ‪َ ‬و َال ُتمْ سِ ُكوا‬
‫ِص ِم ْال َك َواف ِِر‪ ،)4(‬فً حٌن ٌرى الجمهور إباحته‪.‬‬
‫ِبع َ‬

‫‪ -1‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪ ،200‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪.39 ،37‬‬


‫‪ -2‬الؽ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.437‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.24‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُٔٔطك٘س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.10‬‬

‫ـ ‪ 95‬ـ‬
‫‪ -‬لهم آراء خاصة بهم فً المٌراث‪ ،‬منها تقدٌم ابن العم الشقٌق على‬
‫العم ألب‪ ،‬و قد رأوا أن األنبٌاء ٌورثون‪ ،‬و لذا لم ٌقبلوا حدٌث "ال ُن َ‬
‫ورث‪ ،‬وما‬
‫تركناه صدقة" (‪ ،)1‬والظاهر أن دافعهم لهذا هو رأٌهم فً الخبلفة‪ ،‬ألنهم ٌرون‬
‫أن اإلمام علً ‪ ‬أولى بالخبلفة من العباس بن عبد المطلب ‪ ،‬وعلً ابن‬
‫عم شقٌق للنبً ‪ ،‬والعباس عمه ألبٌه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ج‪ -‬الجمهور‪:‬‬
‫وهم من لم ٌؤٌِّدوا الخوارج أو الشٌعة‪ ،‬والصحابة فً نظرهم عُدول‬
‫قبل الفتنة وبعدها‪ ،‬سواء فً ذلك من انؽمس فٌها ومن جا َن َب َها‪ ،‬ولم ٌروا أن‬
‫الخبلفة وصٌة ألحد‪ ،‬بل إن الخلٌفة ٌُنتخب من أك َفاء قرٌش إن وُ ِجد‪ ،‬وإال من‬
‫ؼٌرهم‪ ،‬وال ٌفاضلون بٌن الخلفاء والصحابة‪ ،‬بل ٌؤولون ما كان بٌنهم من‬
‫بكفر وال إٌمان‪ ،‬وقد‬
‫ٍ‬ ‫خصومات بأنها اجتهادات فً أمور سٌاسٌة‪ ،‬ال ترتبط‬
‫اعتمدوا على األحادٌث التً ثبتت لدٌهم صحتها‪ ،‬ولو دخل فً أسانٌدها رجال‬
‫من الفرق األخرى(‪.)2‬‬
‫‪ -2‬تفرق الصحابة‪:‬‬
‫ترتب على كثرة الفتوحات فً هذا العصر تفرُّ ق الصحابة فً األمصار‬
‫المفتوحة‪ ،‬مجاهدٌن وقضا ًة ووال ًة وتجاراً ومعلمٌن ومفتٌن‪ ،‬وقد َّأثر تفرقُهم فً‬
‫الفقه‪ ،‬إذ توافد على فقهاء الصحابة أهل الببلد المفتوحة ممن شرح هللا‬
‫صدورهم لئلسبلم‪ ،‬لٌستفتوهم فً أمور دٌنهم‪ ،‬وٌبٌِّنوا لهم حكم هللا تعالى فٌما‬
‫هم علٌه من معامبلت‪ ،‬كما أن المسلمٌن أنفسهم وجدوا من العادات‬
‫ج َّد من‬ ‫والمعامبلت ما ال عهد لهم به فً ببلدهم‪ ،‬فدعاهم هذا إلى عرض ما‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جُؿ‪ٜ‬حد ‪ٝ‬جُغ‪٤‬ش‪ ،‬ذحخ ه‪ ٍٞ‬جُ٘ر‪  ٢‬ال نورث‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1759‬‬
‫‪ -2‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.214‬‬

‫ـ ‪ 96‬ـ‬
‫مسابل‪ ،‬نشأت بسبب اختبلطهم بؽٌرهم‪ ،‬على فقهاء الصحابة‪ ،‬وقد كان كل فقٌه‬
‫ٌُفتً فٌما ٌُعرض علٌه معتمداً على ما حفظه من السنة وما علِمه من فتاوى‬
‫كبار الصحابة‪ ،‬مما أدى إلى انتشار رواٌة الحدٌث وكثرة االختبلفات الفقهٌة‪،‬‬
‫ألن كل فقٌه منهم كان ٌُفتًِ بما ٌراه دون أن ٌل َقى ؼٌره أو ٌناقشه فً رأٌه‪،‬‬
‫وقد كانت تعرض على فقهاء كل قطر قضاٌا ال تعرض على ؼٌرهم‪ ،‬الختبلؾ‬
‫قطر آلخر‪ ،‬مما أدى إلى كثرة الفتاوى‪ ،‬ومن َث َّم‬
‫المعامبلت والعادات من ٍ‬
‫اختبلؾ الفقهاء‪ ،‬فصار اإلجماع متعذر التح ّقق بعد أن كان مٌسوراً أٌام اجتماع‬
‫لمنع عمر ‪ ‬لهم من مؽادرتها‪ ،‬وقد تخرَّ ج على ٌد‬ ‫فقهاء الصحابة فً المدٌنة‪ِ ،‬‬
‫ٌ‬
‫جماعة من التابعٌن‪ ،‬تل ُّقوا علمه‪ ،‬وشاركوه أحٌانا فً اإلفتاء بعد‬ ‫كل صحابً‬
‫اعترافه لهم بهذا الحق‪ ،‬فكان أن تأثر علماء كل قطر من التابعٌن بالصحابً أو‬
‫الصحابة الذٌن تعلموا على أٌدٌهم‪ ،‬وساروا على منهجهم فً الفتوى‪ ،‬ووثِق‬
‫أهل كل بلد بعلماء ببلدهم‪ ،‬لمعرفتهم بهم‪ ،‬ومخالطتهم لهم‪ ،‬فساروا على‬
‫نهجهم‪ ،‬ولم ٌعُد من السهل علٌهم التحول‪ ،‬أو تحوٌلهم‪ ،‬عما ألِفوه إلى ؼٌره‪،‬‬
‫السٌما أنه ال حاجة ملحَّ ة تدعوهم إلى ذلك‪.‬‬
‫‪ -3‬ظهور نزعتٌن فً االجتهاد‪:‬‬
‫سار التابعون على نهج الصحابة فً االستنباط‪ ،‬لتلقٌهم الفقه عنهم‪،‬‬
‫ولهذا ظهرت لدٌهم نزعتا االجتهاد اللتان ع ُِرفتا عند الصحابة‪ ،‬وأخذ هذان‬
‫االتجاهان تتضح معالمهما روٌداً روٌداً لدى فقهاء هذا العصر من حٌث‬
‫االعتماد على الحدٌث أو على الرأي‪ ،‬وإن كان هذا ال ٌعنً أن من ٌعتمد فً‬
‫فتاوٌه على الحدٌث ٌرفض اإلعتداد بالرأي كلٌة‪ ،‬أو أن من ٌأخذ بالرأي‬
‫ٌرفض العمل باألحادٌث‪ ،‬وإنما ٌعنً ؼلَبة الرأي على الحدٌث من حٌث عدد‬
‫الفتاوى المستمدة منه‪ ،‬أو َؼلبة الحدٌث على الرأي‪ ،‬فكل الفقهاء متفق ون على‬
‫ـ ‪ 97‬ـ‬
‫وجوب العمل بالسنة‪ ،‬وأنها المصدر الثانً للتشرٌع بعد القرآن الكرٌم‪ ،‬وعلى‬
‫رفض العمل بالرأي القابم على ؼٌر دلٌل‪.‬‬
‫وقد ساعد على ظهور مدرسة الحدٌث فً الحجاز أنه موطن السنة‪،‬‬
‫والحٌاة فٌه لم تتؽٌر كثٌراً عمّا كانت علٌه فً العصر النبوي‪ ،‬ولؽلبة الورع‬
‫على أهله‪ ،‬ولبُعدهم عن العراق موطن الفتنة لم ٌظهر فٌهم الوضع فً الحدٌث‪،‬‬
‫ولهذا وثِقوا بما عندهم من أحادٌث‪ ،‬ووجدوا فٌها وفً أقوال الصحابة حكما ً لِما‬
‫صادفهم من حوادث‪ ،‬ولم ٌكونوا بهذا فً حاجة إلى إعمال الرأي إال نادراً‪،‬‬
‫وٌرجع وقوؾ هذه المدرسة عند النصوص وعدم اإلكثار من الرأي إلى التأثر‬
‫بطرٌقة الصحابً الجلٌل عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضً هللا عنهما‪ ،‬ال ُمقِل‬
‫من استعمال الرأي‪ ،‬والمتعلق بالسنن‪ ،‬وكذلك قلة ما ٌعرض لهم من حوادث لم‬
‫ٌكن لها نظٌر فً العصر النبوي وعصر الصحابة‪ ،‬مع كثرة ما عندهم من‬
‫أحادٌث وفتاوى للصحابة(‪.)1‬‬
‫وقد تمٌزت هذه المدرسة بعدم اإلكثار من الشروط لقبول األحادٌث‪،‬‬
‫لعدم انتشار الوضع بٌنهم‪ ،‬وبااللتزام بالفقه الواقعً‪ ،‬ولهذا كرهوا السؤال عمّا‬
‫لم ٌقع‪ ،‬ألنه ٌضطرهم إلى استعمال الرأي الذي ٌكرهونه‪ ،‬وٌؤدي أحٌانا إلى‬
‫فرض المسابل وتقدٌر وقوعها‬
‫َ‬ ‫الفتوى بالهوى‪ ،‬ولذا عابوا على العراقٌٌن‬
‫واالشتؽال باإلجابة عنها‪.‬‬
‫وقد كان لهذه المدرسة فض ُل المحافظة على الحدٌث وجمعِه‪ ،‬لكنها‬
‫كانت سببا ً ؼٌر مباشر فً وضع األحادٌث المكذوبة‪ ،‬ألن أبمتها لمَّا كانوا ال‬
‫ٌتجهون إلى الرأي لحل المشاكل التً ال نص فٌها‪ ،‬فقد أكثروا من االعتماد‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬ألن الحٌاة فً الحجاز لم تتأثر بما أحدثته الحضارتان الفارسٌة والرومانٌة من مظاهر‪ ،‬فقد استمر الناس‬
‫ٌعٌشون على الحالة التً كان علٌها النبً ‪ ‬وصحابته‪ .‬كبارة‪ :‬ص‪.93‬‬

‫ـ ‪ 98‬ـ‬
‫على الحدٌث‪ ،‬ولو كان خبر آحاد‪ ،‬مما أتاح الفرصة لضعاؾ النفوس لوضع‬
‫أحادٌث مكذوبة‪ ،‬ونسبتها إلى النبً ‪ ،‬لمَّا الحظوا تطلُّع رجال هذه المدرسة‬
‫إلى األحادٌث(‪.)1‬‬
‫وقد قام فق ُه مدرسة الحدٌث على فق ِه ابن عمر‪ ،‬وانتقل علمه إلى فقهاء‬
‫المدٌنة السبعة‪ ،‬وهم سعٌد بن المسٌّب وسلٌمان بن ٌسار وعروة بن الزبٌر بن‬
‫العوام وخارج َة بن زٌد بن ثابت وعبٌد هللا بن عتبة بن مسعود وأبو بكر بن‬
‫عبد الرحمن بن الحارث بن هشام والقاسم بن محمد بن أبً بكر الصدٌق‪ ،‬وهم‬
‫الذٌن ٌجمعهم قول الشاعر‪:‬‬
‫رواٌتهم لٌست عن العلم خارجة‬ ‫إذا قٌِل من العلم سبع ُة أبحُ ٍر‬
‫بكر سلٌمانُ خـارجة(‪.)2‬‬
‫سعـٌ ٌد أبو ٍ‬ ‫قاسم‬
‫ٍ‬ ‫فقل هم عبٌ ُد هللا عروةُ‬
‫الز َهري وربٌع َة الرأي‪ ،‬ثم‬
‫ثم انتقل علم هؤالء السبعة إلى ابن شهاب ُ‬
‫تفرَّ ع أهل الحدٌث إلى مالكٌة وشافعٌة وحنابلة‪ ،‬وانضم إلٌهم الظاهرٌة واإلمام‬
‫األوزاعً واللٌث بن سعد والثوري‪.‬‬
‫أما مدرسة الرأي فقد ظهرت بذورُ ها فً المدٌنة المنورة‪ ،‬من خبلل‬
‫منهج بعض الصحابة الذٌن ؼلبت علٌهم نزعة الرأي‪ ،‬كعمر وعلً وابن‬
‫مسعود رضً هللا عنهم‪ ،‬لكن ازدهارها كان فً العراق‪ ،‬بسبب قِلة الحدٌث به‬
‫قٌاسا ً إلى ما لدى أهل الحجاز‪ ،‬ألن المسلمٌن لم ٌدخلوه إال فً عهد عمر ‪،‬‬
‫ٌدون الحدٌث َبعْ د فإنه لم ٌصلهم‬
‫ولبُعدِه عن الحجاز موطن الصحابة‪ ،‬ولما لم َّ‬
‫منه إال ما جاء به الصحابة الذٌن انتقلوا إلى هناك مع الجٌش الفاتح‪ ،‬كابن‬
‫مسعود وعلً وسعد بن أبً وقاص وسلمان الفارسً وؼٌرهم‪ ،‬ورؼم قِلة‬

‫‪ٓ -1‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.84‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.23‬‬

‫ـ ‪ 99‬ـ‬
‫األحادٌث فالحوادث فً العراق كانت كثٌرة‪ ،‬حٌث كان مهْد الفتن والثورات‪،‬‬
‫كما كانت أعرافه تخالؾ أعراؾ الحجاز‪ ،‬نظراً لتكوّ ن المجتمع العراقً آنذاك‬
‫مزٌج من العرب والعجم‪ ،‬بخبلؾ الحجاز الذي ؼلب علٌه العنصر‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫العربً‪ ،‬مما أدى إلى ظهور حوادث جزبٌة كثٌرة فً العراق أكثر مما ظهر‬
‫دٌث شاع فً العراق‪ ،‬السٌما من قِبل‬ ‫فً الحجاز‪ ،‬كما أن الوضع فً الح‬
‫المنتسبٌن للشٌعة‪ ،‬والذٌن وإن عجزوا عن مواجهة الدولة َج َهاراً لكنهم لم‬
‫ٌعجزوا عن وضع أحادٌث تؤٌد مذهبهم‪ ،‬وقد عاونهم فً ذلك بعض أعداء‬
‫ً‬
‫قلٌلة فٌما ٌُروى‬ ‫الدٌن الذٌن تس َّتروا بسِ تار المحبة آلل البٌت‪ ،‬ولهذا كانت الثقة‬
‫من أحادٌث بالعراق‪ ،‬فلجأ علماؤه إلى تفهُّم النصوص واالجتهاد بالرأي‪،‬‬
‫وتمتاز هذه المدرسة عن سابقتها بكثرة تفرٌع المسابل وافتراض وقوعها‪،‬‬
‫لكثرة ما ٌُعرض علٌهم من حوادث وقلة رواٌتهم من الحدٌث‪ ،‬إلشتراطهم فٌه‬
‫شروطا ً ال ٌَسلَم معها إال القلٌل منه‪ ،‬تمٌٌزاً للصحٌح منه عن ؼٌره‪ ،‬ولهذا‬
‫خافوا من رواٌته‪ ،‬لورعِ هم وكثرة المكذوب منه فً ببلدهم‪ ،‬وقد قام فقه مدرسة‬
‫الرأي على فقه ابن مسعود ‪ ،‬والذي خطا على مسلَك عمر ‪ ،‬ونهج منهجه‬
‫فً التفكٌر واالستنباط‪ ،‬وكذلك اإلمام ‪ ،‬وإن كان تأثٌره فً فقه هذه المدرسة‬
‫قلٌبلً‪ ،‬لقِصر مدة إقامته بالكوفة‪ ،‬وعدم ثقة العلماء بناقلً آرابه الفقهٌة‪ ،‬لتشٌُّعهم‬
‫له‪ ،‬ولهذا اقتصروا على ما رواه عنه تبلمٌذ ابن مسعود(‪.)1‬‬
‫وأشهر الفقهاء الذٌن أخذوا الفقه عن ابن مسعود علقمة بن قٌس ال ُّنخعً‬
‫واألسود بن ٌزٌد ال ُّنخعً ومسروق بن األجدع الهمذانً وعُبٌدة بن عمرو‬
‫السلَ َمانً و ُ‬
‫شرٌح بن الحارث القاضً (‪ ،)2‬وكان إبراهٌم النخعً تلمٌذ علقمة‬

‫‪ -1‬جذٖ هط‪٤‬رس‪ :‬ؿ‪ ،54‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.21‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.25‬‬

‫ـ ‪ 100‬ـ‬
‫على رأس أهل الرأي‪ ،‬ومنه انتقل فقههم إلى حمَّاد بن أبً سلٌمان‪ ،‬ومنه إلى‬
‫أبً حنٌفة‪ ،‬والذي على ٌدٌه أخذت هذه المدرسة مكانتها فً مواجهة مدرسة‬
‫المدٌنة‪.‬‬
‫ورؼم ؼلبة فِقه الرأي على أهل العراق‪ ،‬وفِقه الحدٌث على فقهاء‬
‫الحجاز‪ ،‬فإن من علماء الحجاز من كان ٌمٌل إلى الرأي‪ ،‬وٌسلُك مسلَك أهل‬
‫العراق فً اجتهاده‪ ،‬كربٌع َة بن عبد الرحمن شٌخ اإلمام مالك‪ ،‬حتى لُ ِّقب‬
‫وكره الرأي‪ ،‬كابن‬
‫بربٌعة الرأي‪ ،‬ومن أهل العراق من مال إلى النصوص‪ِ ،‬‬
‫أبً لٌلً وعامر بن ُ‬
‫شراحٌل الملقب بالشعبً‪ ،‬بل إن ابن حنبل رؼم معٌشته‬
‫بالعراق هو أكثر عمبلً بالنصوص من أهل الحجاز‪.‬‬
‫‪ -4‬شٌوع رواٌة الحدٌث‪:‬‬
‫قبل وفاة عمر ‪ ‬لم تنتشر رواٌة الحدٌث خارج المدٌنة‪ ،‬لمنعه كبار‬
‫الصحابة من الهجرة منها‪ ،‬وال داخلها لنهٌه عن اإلكثار من الرواٌة‪ ،‬خشٌ َة‬
‫الكذب على النبً ‪ ،‬أو االنشؽال بالحدٌث عن القرآن الكرٌم‪ ،‬أو اختبلطه به‪،‬‬
‫(‪،)1‬‬ ‫ولقلة حاجة الصحابة إلى التحدٌث لقِلة الوقابع والتزامهم بالفقه الواقعً‬
‫وبعد مقتل عمر ‪ ‬تفرق الصحابة فً البلدان المفتوحة‪ ،‬وتولَّى كثٌرٌ منهم‬
‫التعلٌم‪ ،‬فالتؾَّ حوله تبلمٌذ ٌنقلون عنه ما سمعه من أحادٌث‪ ،‬رؼم اختبلؾ‬
‫الصحابة فً العلم بها‪ ،‬إذ منهم المُقل ومنهم المُكثر‪ ،‬وما ٌعلمُه أحدهم من‬
‫أحادٌث ربما ال ٌعلمُه آخرون‪ ،‬ولكثرة الحوادث وتنوعها َك ُثرت رواٌة‬
‫األحادٌث‪ ،‬إذ اضطر الناس للبحث عن حكم ما ٌحدث لهم‪ ،‬وال ملجأ لهم إال‬
‫الصحابة‪ ،‬والذٌن اعتمدوا فً فتاوٌهم على ما عندهم من أحادٌث‪ ،‬وقد أدى هذا‬

‫‪ -1‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪.134‬‬

‫ـ ‪ 101‬ـ‬
‫إلى اختبلؾ ما ٌُروى من األحادٌث باختبلؾ البلدان‪ ،‬فتمسَّك أهل كل بلد بما‬
‫رُ وي عن الصحابة الذٌن استوطنوه‪َّ ،‬‬
‫فتأثر أهل المدٌنة بمروٌات ابن عمر‬
‫‪،‬‬ ‫وعابشة وأبً هرٌرة رضً هللا عنهم‪ ،‬وأهل مكة بما ٌروٌه ابن عباس‬
‫وأهل مصر بما ٌروٌه عبد هللا بن عمرو بن العاص ‪ ،‬وأهل العراق برواٌة‬
‫أنس بن مالك وأبً موسى األشعري وعلً وابن مسعود رضً هللا عنهم‪ ،‬وقد‬
‫أوجد اختصاص كل قطر بمح ِّدثٌن اختبلفا ً فً الفتاوى‪ ،‬الختبلؾ الوقابع‬
‫َ‬
‫واختبلؾ الفقهاء فً االستنباط من ذات الحدٌث‪.‬‬
‫‪ -5‬الوضع فً الحدٌث‪:‬‬
‫تقول الكذابٌن‪ ،‬ألن وجوده‬ ‫ً‬
‫ُصانة من ُّ‬
‫كانت السنة الشرٌفة فً عهده ‪ ‬م‬
‫بٌن ظهرانً المسلمٌن كان كفٌبلً بكشؾِ زٌؾ الكذابٌن‪ ،‬السٌما أن الوحً‬
‫مازال ٌنزل علٌه‪ ،‬وكثٌراً ما فضح سرَّ المنافقٌن‪ ،‬ولهذا لم ٌجرؤ أحد على‬
‫التقول على النبً ‪ ‬فً حٌاته‪ ،‬كما أن الشٌخٌن أبا بكر وعمر رضً هللا‬
‫عنهما من بعده احتاطا لصحة األحادٌث‪ ،‬وأرهبا المنافقٌن واألعراب من التزٌُّد‬
‫فٌها‪ ،‬ولكن لمَّا وقعت الفتنة فً زمن عثمان ‪ ‬وجد الكذب على النبً ‪ ‬إلى‬
‫الظهور سبٌبلً‪ ،‬بعد أن اشت َّد الصراع بٌن علً ومعاوٌة وأنصارهما (‪ ،)1‬وبهذا‬
‫ٌمكن اعتبار سنة ‪ 40‬هـ الحد الفاصل بٌن صفاء السنة الشرٌفة ودخول الوضع‬
‫ً‬
‫وسٌلة لخدمة األؼراض السٌاسٌة‪ ،‬ألن اإلنقسام السٌاسً الذي‬ ‫فٌها‪ ،‬واتخاذها‬
‫حدث بعد التحكٌم بٌن علً ومعاوٌة أخذ شكبلً دٌنٌاً‪ ،‬حٌث ظهرت الفرق‬
‫السٌاسٌة التً حاول كل منها تأٌٌد موقفه بتأوٌل آٌات القرآن الكرٌم واألحادٌث‬
‫النبوٌة بما ٌتفق مع مبادبه السٌاسٌة (‪ ،)2‬بل ووضع بعضُهم أكاذٌب فً صورة‬

‫‪ -1‬أذ‪ ٞ‬ص‪ :ٞٛ‬ؿ‪.479‬‬


‫‪ -2‬جُغرحػ‪ :٢‬ؿ‪.75‬‬

‫ـ ‪ 102‬ـ‬
‫أحادٌث نسبوها إلى النبً ‪ ،‬وانتهز الدخبلء على اإلسبلم فرص َة اإلقبال على‬
‫فروجوا أباطٌلهم بٌن الناس فً صورة أحادٌث‪ ،‬بقصد إفساد الدٌن‪،‬‬
‫األحادٌث َّ‬
‫وذلك لس ِّد باب التحرٌؾ فً آٌات الكرٌم فً وجوههم‪ ،‬لوعدِه تعالى بحفظ‬
‫ون ‪ ،)1(‬ولذا لم ٌستطٌعوا‬ ‫الذ ْك َر َوإِ َّنا لَ ُه لَ َحاف ُ‬
‫ِظ َ‬ ‫كتابه بقوله ‪‬إِ َّنا َنحْ نُ َن َّز ْل َنا ِّ‬
‫الوصول لم ربهم إال بالولوج من باب السنة‪.‬‬
‫وكان المنتسبون إلى الشٌعة أكثر الفرق وضعا ً لؤلحادٌث‪ ،‬حٌث‬
‫وضعوا أحادٌث فً فضل أبمتهم‪ ،‬كعلً والحسن والحسٌن وؼٌرهم‪ ،‬بقصد‬
‫إثبات أن الخبلفة لهم ال لبنً أمٌة‪ ،‬وواجههم المتعصبون لبنً أمٌة ثم لبنً‬
‫العباس بذات األمر‪ ،‬حٌث وضعوا أحادٌث فً فضابل معاوٌة والعباسٌٌن‪،‬‬
‫فاعِ لٌن بالحدٌث ما كان ٌفعله خصومهم‪ ،‬ولم ٌسْ لَم من الوضع إال الخوارج‪،‬‬
‫ألن الكذب على النبً ‪ ‬من الكبابر التً ٌُك َّفر مرتكبها حسب ر أٌهم‪ ،‬ولهذا‬
‫قٌل أن أص َّح األحادٌث حدٌث الخوارج(‪.)2‬‬
‫وٌمكن إجمال األسباب التً أدت إلى الوضع فً ما ٌلً(‪:)3‬‬
‫‪ -‬التعصب لل ِجنس‪ ،‬ومحاولة الشعوبٌٌن الذٌن تس َّتروا بثوب اإلسبلم‬
‫وحُب آل البٌت إفساد الدٌن‪ ،‬بإثارة الببلبل بٌن المسلمٌن‪ ،‬الستعادة سلطانهم‬
‫السابق أو على األقل الثأر من الذي أزاله‪ ،‬بتشوٌه محاسن اإلسبلم وإشاعة‬
‫الفُرقة بٌن أتباعه‪.‬‬
‫والوعاظ القصص‪ ،‬ونسبتها إلى النبً ‪ ،‬ألنه ال‬
‫َ‬ ‫‪ -‬نسْ ُج القصَّاصٌن‬
‫َه َّم لهؤالء إال جع ُل الناس ٌتباكون فً مجالسهم على ما فً قصصهم من‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُكؿش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.9‬‬


‫‪2‬‬
‫‪ -‬السباعً‪ :‬ص‪.83-81‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.89-79‬‬

‫ـ ‪ 103‬ـ‬
‫أهوال‪ ،‬وال أدعى لتصدٌق الجهلة لها إال نسبتها إلى النبً ‪.‬‬
‫‪ -‬التعصب للمذهب أو الموقؾ السٌاسً‪ ،‬حٌث وضع البعض أحادٌث‬
‫لدعم ما رآه من موقؾ سٌاسً‪ ،‬كما فعل بعض المنتسبٌن للشٌعة‪ ،‬أو تأٌٌداً‬
‫فضل أبً‬
‫ِ‬ ‫كوضع البعض أحادٌث فً بٌان‬
‫ِ‬ ‫للمذهب الفقهً الذي ٌنتمً إلٌه‪،‬‬
‫حنٌفة وذ ِّم الشافعً أو العكس‪.‬‬
‫‪ -‬لجوء بعض الجهلة إلى وضع أحادٌث لترؼٌب الناس فً الدٌن‪ ،‬ظنا ً‬
‫منهم أنهم بهذا الصنٌع ٌتقربون إلى هللا‪ ،‬وٌخدمون دٌنه‪ ،‬وٌحبِّبون الناس فً‬
‫العبادات والطاعات‪ ،‬كاألحادٌث التً وضعها البعض لبٌان فضل سور معٌنة‬
‫وذ َّكروهم بقوله ‪" :‬من كذب‬ ‫من القرآن (‪ ،)1‬فلما أنكر العلماء علٌهم ذلك‪،‬‬
‫علًَّ متعمداً فلٌتبوأ مقعدَ ه من النار"(‪ ،)2‬قالوا‪ :‬نحن نكذب له ال علٌه‪.‬‬
‫‪ -‬تقرُّ ب البعض إلى الملوك واألمراء بوضع أحادٌث تتوافق مع‬
‫دعواهم السٌاسٌة ما هُم علٌه من طِ باع وأهواء‪ ،‬كما فعل ؼٌَّاث بن إبراهٌم‬
‫ال ُّنخعً لما دخل على الخلٌفة المهدي العباسً فوجده ٌلعب بالحمام فقال له‪:‬‬
‫حافر أو جناح"‪ ،‬فزاد فً الحدٌث أو جناح‬ ‫ٍ‬ ‫بق إال فً ُخؾٍّ أو‬
‫قال ‪" :‬ال َس َ‬
‫تملُّقا ً للمهدي‪ ،‬فلما قام قال له المهدي‪ :‬أشه ُد أن ق َفاك قفا َّ‬
‫كذاب(‪.)3‬‬
‫‪ -‬تؽالًِ البعض وادعاء أنهم ال ٌقبلون إال حكما ً وارداً فً الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬مما دعا بعض الوضاعٌن إلى نسبة كبلم الصحابة والعلماء وؼٌرهم‬
‫من العرب إلى النبً ‪.‬‬

‫‪ -1‬جذٖ هط‪٤‬رس‪ :‬ؿ‪.52 ،9‬‬


‫‪ٓ -2‬غ٘ذ أقٔذ ذٖ ق٘رَ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1416‬‬
‫‪ -3‬جُز‪ٛ‬ر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.258‬‬

‫ـ ‪ 104‬ـ‬
‫ولما انتشر الوضع نهّض العلماء لمقاومته‪ ،‬فوضعوا قواعد تبٌن‬
‫الحدٌث الصحٌح من المكذوب (‪ ،)1‬وتع َّقبوا الوضاعٌن‪ ،‬وفضحوا أعمالهم‪،‬‬
‫َّ‬
‫وحذروا الناس منهم بذِكر اسم كل وضَّاع عبلنٌة‪ ،‬لٌكونوا عبر ًة لؽٌرهم‪،‬‬
‫وح َّددوا األكاذٌب التً اختلقها ك ٌّل منهم فً صورة أحادٌث‪ ،‬وقد قام العلماء فً‬
‫سبٌل ذلك برحبلت طوٌلة‪ ،‬وتتبَّعوا الرواة‪ ،‬ودرسوا سٌرتهم‪ ،‬وذلك فً علم‬
‫الجرح والتعدٌل‪ ،‬والذي ٌبحث فً أحوال الرواة وأمانتهم وعدالتهم وضبطهم‬
‫أو عكس ذلك من كذب أو نسٌان أو وهْ م‪ ،‬وهو علم ظهر فً عصر صؽار‬
‫الصحابة وتابع تطوره فً عهد التابعٌن ومن بعدَ هم‪.‬‬
‫ومع هذه الجهود فإن الوضاعٌن‪ ،‬وإن لم ٌصلوا إلى م ربهم‪ ،‬لكن‬
‫صنٌعهم كان عقبة فً سبٌل أداء الفقٌه لمهمته‪ ،‬إذ صار علٌه النظر أوالً فً‬
‫الحدٌث وتحرِّ ي مدى صحته‪ ،‬ثم استنباط األحكام منه‪ ،‬بعد أن كانت مهمته‬
‫مقصور ًة على استنباط األحكام منه فقط دون البحث فً مدى صحة الحدٌث(‪،)2‬‬
‫وعلى ك ٍّل فقد عرقل الوضع تق ُّدم الفقه‪ ،‬النشؽال العلماء فً أثناء انتشاره‬
‫بتوثٌق السنة‪ ،‬ولذا اشترط بعضهم لقبول األحادٌث شروطا ً معٌنة‪ ،‬وبالػ‬
‫بعضهم فٌها فق َّل اعتمادهم على السنة‪ ،‬ولجأوا بذلك إلى التوسع فً الرأي‪.‬‬
‫‪ -6‬انصراف األموٌٌن عن الدٌن إلى السٌاسة‪:‬‬
‫ا َّتسم عصر الخلفاء الراشدٌن بالهدوء واالستقرار فً الحكم وبالتدٌن‪،‬‬
‫ولهذا لم تختلؾ وجهات النظر بٌن المسلمٌن كثٌراً‪ ،‬ولم تحدث بٌنهم منازعات‬
‫كثٌرة‪ ،‬ولكن بعد تولًِّ بنً أمٌة الحكم تؽٌَّر كل هذا‪ ،‬ألنهم لم ٌكونوا كأسبلفهم‬
‫من الخلفاء الراشدٌن فً الورع والتدٌن‪ ،‬فقد كان ج ُّل اهتمامهم بالشبون‬

‫‪ -1‬ضحذغ ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُو‪ٞ‬جػذ ٓإ ًَّذزً ذ٘ٔحرؼ ٖٓ جألقحد‪٣‬ع جُٔ‪ٞ‬م‪ٞ‬ػس ػ٘ذ ٓقطل‪ ٠‬جُغرحػ‪ :٢‬ؿ ‪.112-99‬‬
‫‪ -2‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪ ،84‬جُذ‪٣‬رحٗ‪ :٢‬ؿ ‪.153‬‬

‫ـ ‪ 105‬ـ‬
‫السٌاسٌة للدولة‪ ،‬حٌث حرصوا على تثبٌت دعابم حكمهم والقضاء على‬
‫الخارجٌن على سلطانهم‪ ،‬وكان وُ التهم وحاشٌتهم على منوالهم‪ ،‬فً حٌن كانت‬
‫األمة أكثر تمسكا ً بدٌنها من ح َّكامها‪.‬‬
‫فقد استه َّل معاوٌة حكمه بتثبٌت السلطة فً ٌد ذرٌته من بعده‪ ،‬فجعل‬

‫والٌة العهد البنه ٌزٌد‪ ،‬وهذا عم ٌل لم ٌُسبق إلٌه‪ ،‬محوِّ الً بهذا الخبلفة إلى ٍ‬
‫حكم‬
‫وراثًٍ‪ٌ ،‬قوم على انتخاب صوري للخلٌفة (‪ ،)1‬كما اعترؾ معاوٌة بأ ُ َّ‬
‫خوة زٌاد‬
‫ٌرض عنه المسلمون لمخالفته للسنة (‪ ،)2‬وكان ٌعتمد على‬
‫َ‬ ‫بن أبٌه‪ ،‬وهذا ما لم‬
‫رأٌه الخاص وما علٌه العرؾ فً زمانه‪ ،‬وإن خالؾ السنة الصحٌحة‪ ،‬فنبَّهه‬
‫العلماء إلى ذلك فلم ٌرتدع‪ ،‬مما أثار معارضتهم له‪ ،‬ومن ذلك أنه باع إنا ًء من‬
‫ذهب بأكثر من وزنه‪ ،‬فقال له أبو الدرداء ‪ :‬سمعت النبً ‪ٌ ‬نهى عن مثل‬
‫هذا‪ ،‬فقال معاوٌة‪ :‬ال أرى بهذا بأساً‪ ،‬فحلؾ أبو الدرداء أال ٌسكن الشام‪،‬‬
‫وخرج منها(‪ ،)3‬كما استولى معاوٌة على أموال المسلمٌن‪ ،‬وأنفقها فً مصالحه‬
‫الخاصة‪ ،‬بشراء ضمابر الناس وإفسادهم ضد اإلمام علً ‪ ،‬ومحاولة فضِّ‬
‫األنصار من حوله‪ ،‬وأحدث من مظاهر الترؾ وبناء القصور ما لم ٌكن‬
‫مسبوقا ً إلٌه‪ ،‬كما استباح حكام بنً أمٌة مكة المكرمة‪ ،‬رؼم أن هللا تعالى‬
‫‪ ‬لها (‪،)5‬‬ ‫حرَّ مها(‪ ،)4‬واستباحوا حُرمة المدٌنة المنورة رؼم تحرٌم الرسول‬
‫حٌث أباح ٌزٌد بن معاوٌة المدٌنة لجُ نده ثبلث َة أٌام‪ُ ،‬سفِكت فٌها الدماء و ُسلِبت‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬حسن إبراهٌم حسن وعلً إبراهٌم حسن‪ :‬ص ‪.7‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬وهذا مخالؾ لقوله ‪" :‬الولد للفراش وللعاهر الحَ جَ ر"‪ .‬مسند أحمد بن حنبل‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.25566‬‬
‫‪ -3‬جُؾحكؼ‪ :٢‬جُشعحُس‪ ،‬ؿ‪.466‬‬
‫‪ -4‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُٔ٘حعي‪ ،‬ذحخ ضكش‪ ْ٣‬قشّ ٌٓس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2017‬‬
‫‪ -5‬جُٔ‪ٞ‬هأ‪ً :‬طحخ جُؿحٓغ‪ ،‬ذحخ كنَ جُٔذ‪٘٣‬س‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1579‬‬

‫ـ ‪ 106‬ـ‬
‫األموال و ُهتِكت أعراض المؤمنات المحصنات (‪ ،)1‬وأذِن عبد الملك بن مروان‬
‫للحجاج بن ٌوسؾ الثقفً ‪-‬الذي عشِ ق إذالل الناس بالقهر والعسؾ‪ -‬فً‬
‫سولت له نفسه من فضابع إلخضاع أهلها بعد ثورة‬
‫استباحة مكة‪ ،‬ففعل بها ما َّ‬
‫‪ ‬وأبنابه‬ ‫عبد هللا بن الزبٌر‪ ،‬وؼٌرُ خاؾٍ ما أمر به ٌزٌد من قتل الحسٌن‬
‫وأبناء عمومته‪.‬‬
‫وكان من نتابج ابتعاد األموٌٌن عن الدٌن وحرصهم على السٌاسة عدم‬
‫مباٌعة الصحابة لهم‪ ،‬ونق ِد تصرفاتهم‪ ،‬مما أؼضب الحكام‪ ،‬فاضطهدوهم‪ ،‬كما‬
‫صنع الحجاج مع أنس بن مالك ‪ ‬وسعٌد بن جُ بٌر وعبد الرحمن بن أبً‬
‫لٌلى(‪ ،)2‬وكذلك صنٌع عبد الملك بن مروان مع سعٌد بن المسٌّب‪ ،‬عندما أمر‬
‫والٌه على المدٌنة بأخذ البٌعة منه للولٌد بن عبد الملك‪ ،‬فلما أ َبى ضربه الوالً‬
‫وأهانه وطاؾ به فً المدٌنة(‪.)3‬‬
‫وكان من نتابج ما سبق كله أن اعتزل كثٌر من العلماء الحٌاة العامة‪،‬‬
‫ولزموا مدٌنة الرسول ‪ ،‬منصرفٌن إلى نشر السنة واالشتؽال بتأسٌس علم‬
‫الفقه الذي ٌجب أن تسٌر علٌه حٌاة المسلمٌن‪ ،‬و ْفق منهج نظري‪ ،‬ولو خالؾ‬
‫الواقع ذلك‪ ،‬واجدٌن فً فعلهم هذا متن َّفسا ً عمَّا فً صدورهم‪ ،‬معلنٌن رأٌهم‬
‫مأمن من ؼض َبة الحكام(‪.)4‬‬
‫ٍ‬ ‫بإسم الدٌن‪ ،‬لٌكونوا فً‬
‫ولهذا كله لم تتابع الحركة العلمٌة مسٌرتها كما كانت علٌه فً عصر‬
‫الخلفاء الراشدٌن‪ ،‬للتنافر بٌن العلماء وحكام بنً أمٌة‪ ،‬العتراضهم على حكم‬

‫‪ -1‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،8‬ؿ‪ ،221‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.280‬‬


‫‪ -2‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪ ،290‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،8‬ؿ‪.133‬‬
‫‪ -3‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،9‬ؿ‪.101‬‬
‫‪ -4‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.116‬‬

‫ـ ‪ 107‬ـ‬
‫ً‬
‫وممارسة‪ ،‬إذ انعدم التواصل بٌن مركز الخبلفة فً‬ ‫األموٌٌن نشأ ًة ومظهراً‬
‫الشام ومراكز العلم فً الحجاز والعراق‪ ،‬وزاد من جمود الحركة العلمٌة‬
‫اعتماد الدولة األموٌة على العنصر العربً فً إدارة شبون الدولة‪ ،‬مما أذ َكى‬
‫النزعة القومٌة عند المسلمٌن ؼٌر العرب‪ ،‬والذٌن كانوا فً نظر أولبك الحكام‬
‫فً مرتبة أقل من العرب‪ ،‬ولهذا لم تفرض الدولة َعطا ًء للمحاربٌن من الموالً‬
‫أسو ًة بالعرب‪ ،‬ولم تسمح لهم بركوب الخٌل أثناء الجهاد‪ ،‬وكان الحجاج بن‬
‫ٌوسؾ ال ٌسمح لهم بالخروج من قُراهم‪ ،‬حٌث ختم اسم قرٌة ك ٍّل منهم على‬
‫ٌده‪ ،‬فإن وُ ِجد خارجها أُعِ ٌد إلٌها جبراً عنه‪ ،‬وكانوا ال ٌرتضون زواج أحد‬
‫الموالً بعربٌة‪ ،‬حٌث لم ٌروه ُكفبا ً لها(‪ ،)1‬وقد أدى هذا إلى كثرة االضطرابات‬
‫ومحاوالت الخروج على سلطان الدولة من قِبل الشٌعة والخوارج وأنصارهما‬
‫من المسلمٌن ؼٌر العرب‪ ،‬مما كلَّؾ الدولة الكثٌر من الجنود واألموال‪ ،‬وما‬
‫نتج عن ذلك من ثورات وقبلقل أُرٌقت فٌها الدماء‪ ،‬مما َّ‬
‫حول العراق إلى شبه‬
‫مأ َتم كبٌر (‪ ،)2‬بل إن هذه الفِرق الخارجة عن سلطان بنً أمٌة ظهرت فً‬
‫َّ‬
‫وهزت قواعد الحكم األموي إلى أن أطاحت به (‪ ،)3‬وبعد أن‬ ‫المؽرب وفارس‪،‬‬
‫تم إبعاد أهل العلم من ؼٌر العرب عن أخ ِذ مكانهم البلبق بهم لم ٌجد العلماء‬
‫العرب المكانة التً تلٌق بهم‪ ،‬ألن معظم حكام بنً أمٌة لم ٌُعرفوا بالعلم أو‬
‫بتشجٌعه‪ ،‬بعكس العباسٌٌن الذٌن حكموا بعدهم‪ ،‬وهذا كله لم ٌعُد معه للشورى‬

‫وتحول الفقه روٌدا روٌداً إلى ٍ‬


‫علم نظري ٌقوم على اإلفتراض‪ ،‬وٌبتعد‬ ‫َّ‬ ‫مكان‪،‬‬

‫‪ -1‬ضلغ‪٤‬ش جُطرش‪ :١‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪ ،147‬جذٖ ػرذ سذ‪ :ٚ‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.174 ،147‬‬
‫‪ -2‬هِؼس ؾ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.27‬‬
‫‪ -3‬جُ٘رشج‪ :١ٝ‬ؿ‪.53‬‬

‫ـ ‪ 108‬ـ‬
‫عن الحٌاة العملٌة الواقعٌة(‪.)1‬‬
‫ومع هذا فقد كان من خلفاء بنً أمٌة من تمسَّك بالدٌن‪ ،‬وحرص على‬
‫تشجٌع العلماء‪ ،‬كعمر بن عبد العزٌز‪ ،‬الذي ع ُِرؾ بالعدل وإحٌاء السنة‪ ،‬ولهذا‬
‫‪ ‬من حٌث‬ ‫ال عجب أن ٌعتبر المسلمون خبلفته كخبلفة عمر بن الخطاب‬
‫عدله وزهده‪.‬‬
‫ومهما ٌكن فالتارٌخ ٌذ ُكر لنا فتوحات األموٌٌن بفخر‪ ،‬فرقعة الدولة‬
‫تزد فً العصر العباسً عمَّا كانت علٌه فً العصر األموي‪ ،‬الذي‬
‫اإلسبلمٌة لم ِ‬
‫فُتِحت فٌه كثٌر من البلدان‪ ،‬وٌعود الفضل فً ذلك إلى أن بنً أمٌة كانوا‬
‫ٌُولُون الجٌوش الفاتحة كل عناٌتهم‪ ،‬وٌرسلون أبناءهم على رأسها‪.‬‬
‫نماذج من فقه التابعٌن‪:‬‬
‫تأثر فقهاء هذا العصر بمن سبقهم من الصحابة فً االجتهاد‪ ،‬فكانت‬
‫أكثر مسابل الخبلؾ فً هذا الدور ترجع إلى الخبلؾ بٌن مدرستً الرأي‬
‫والحدٌث‪ ،‬ومن اجتهاداتهم ما ٌلً‪:‬‬
‫دٌة أصابع المرأة‪:‬‬
‫روى اإلمام مالك أن ربٌع َة الرأي قال‪" :‬سألت سعٌد بن المُسٌّب كم فً‬
‫إصبع المرأة؟ فقال‪ :‬عشرٌ من اإلبل‪ ،‬فقلت‪ :‬كم فً إصبعٌن؟ قال‪ :‬عشرون من‬
‫اإلبل‪ ،‬فقلت‪ :‬كم فً ثبلث؟ فقال‪ :‬ثبلثون من اإلبل‪ ،‬فقلت‪ :‬كم فً أربع؟ قال‪:‬‬
‫عشرون من اإلبل‪ ،‬فقلت‪ :‬حٌن َع ُ‬
‫ظم جُ رحُ ها واشتدت مصٌبتها نقص عقلُها –‬
‫أي دٌتها‪ ،-‬فقال سعٌد‪ :‬أعراقً أنت؟ فقلت‪ :‬بل عا ِل ٌم متثبت أو جاه ٌل متعلم‪،‬‬
‫فقال سعٌد‪ :‬هً السنة" (‪ ،)2‬وذلك ألن المرأة تكون دٌتها كدٌَّة الرجل حتى تبلػ‬

‫‪ -1‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.144‬‬


‫‪ -2‬جُٔ‪ٞ‬هأ‪ً :‬طحخ جُؼو‪ ،ٍٞ‬ذحخ ػوَ جألفحذغ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1562‬‬

‫ـ ‪ 109‬ـ‬
‫الثلث من دٌته‪ ،‬فعند ذلك تكون على النصؾ منها‪ ،‬ولمَّا كان عق ُل األربع‬
‫أصابع أكثر من ثلث الدٌة الكاملة‪ ،‬أي المابة من اإلبل‪ ،‬فقد ت َّم تنصٌفُها‪،‬‬
‫فصارت عشرٌن فقط‪.‬‬
‫وهذا النص ٌؤكد لنا أمرٌن‪ ،‬هما أن مبلمح مدرستً الحدٌث والرأي قد‬
‫تمٌَّزت فً أواخر القرن األول الهجري‪ ،‬ألن سعٌد بن المُسٌب توفى سنة‬
‫ً‬
‫صفة شابعة‪ ،‬ولهذا سأل‬ ‫‪94‬هـ(‪ ،)1‬وأنَّ نسب َة أهل الرأي إلى العراق أصبحت‬
‫ابن المسٌب ربٌعة‪ :‬أعراقًٌّ أنت؟(‪.)2‬‬
‫ُحكم الرفع عند الركوع والرفع منه فً الصالة‪:‬‬
‫لمَّا اجتمع األوزاعً وأبوحنٌفة بمكة قال األوزاعً‪ :‬ما ل ُكم ال ترفعون‬
‫أٌدٌكم عند الركوع وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنٌفة‪ :‬ألنه لم ٌصح عن النبً ‪‬‬
‫سالم عن أبٌه عن‬ ‫فٌه شٌا‪ ،‬فقال األوزاعً‪ :‬كٌؾ وقد ح َّدثنً ُ‬
‫الز َهري عن ٍ‬
‫الرسول ‪ ‬أنه كان ٌرفع ٌدٌه إذا افتتح الصبلة وعند الركوع وعند الرفع منه‪،‬‬
‫فقال أبو حنٌفة‪ :‬ح َّدثنا حمَّاد عن إبراهٌم عن علقمة واألسود عن ابن مسعود أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬كان ٌرفع ٌدٌه عند افتتاح الصبلة‪ ،‬وال ٌعود إلى شٌا من ذلك‪،‬‬
‫سالم عن أبٌه‪ ،‬وتقول ح َّدثنً حمَّاد‬ ‫فقال األوزاعً‪ :‬أُحدثك عن ُ‬
‫الز َهري عن ٍ‬
‫عن إبراهٌم‪ ،‬فقال أبو حنٌفة‪ :‬كان حمَّاد أفقه من الزهري‪ ،‬وكان إبراهٌم أفقه‬
‫من سالم‪ ،‬وعلقمة لٌس دون ابن عمر‪ ،‬وإن كان البن عمر صُحبة أو له فضل‬
‫صحبة فاألسود له فض ٌل كبٌر‪ ،‬وعبد هللا هو عبد هللا‪ ،‬فسكت األوزاعً"‪ ،‬وهذا‬
‫ٌدل على ثقة كل منهما برواة مدرسته‪ ،‬إلطبلعه على أحوالهم‪ ،‬وأنَّ فتاوٌه‬

‫‪ -1‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪ ،57‬جذٖ خٌِِّحٕ‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.375‬‬


‫‪ٓ -2‬كٔذ ًٔحٍ جُذ‪ ٖ٣‬ئٓحّ‪ :‬ؿ‪.229‬‬

‫ـ ‪ 110‬ـ‬
‫كانت بحسب ما علِمه من أحادٌثهم(‪.)1‬‬
‫ر ُّد شهادة األقارب لبعضهم‪:‬‬
‫اشترط القرآن الكرٌم عدالة الشهود لقبول شهادتهم فً قوله تعالى‬
‫‪َ ‬وأَ ْش ِه ُدوا َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ‪ ،)2(‬وال ٌمنع توافر العدالة أن ٌكون الشاهد قرٌبا ً‬
‫للمشهود له‪ ،‬ولهذا َق ِبل الصحابة شهادة القرٌب لقرٌبه‪ ،‬لعدم اتهام أحدهم فً‬
‫عدالته‪ ،‬لؽلَبة الورع على النفوس‪ ،‬وبمرور الزمن َ‬
‫ضعُؾ الورع‪ ،‬وصار‬
‫األقارب ؼٌر موثوق بشهادتهم ألقاربهم‪ ،‬فرفض التابعون قبولها دفعا ً للمفاسد‪،‬‬
‫ولهذا لم ٌقبلوا شهادة الولد لوالده‪ ،‬واألم ألبنابها‪ ،‬وال شهادة أبنابها لها‪ ،‬وكذلك‬
‫شرٌحا ً‬
‫شهادة أحد الزوجٌن لآلخر‪ ،‬والدلٌل على تؽٌر الحكم بتؽٌر األحوال أن ُ‬
‫القاضً‪ ،‬وقد عاش ‪ 120‬سنة‪ ،‬وول ًَِ قضا َء الكوفة أكثر من سبعٌن سنة (‪،)3‬‬
‫ي أن خصما ً قال فً قضٌة رُفعت إلى‬
‫كان ٌقبل شهادة القرٌب لقرٌبه‪ ،‬إذ رُ ِو َ‬
‫ُ‬
‫شرٌح من امرأة‪ :‬هذا أبوها وهذا زوجها‪ٌ ،‬رٌد الطعن فً عدالة الشاهدٌن‪،‬‬
‫فقال ُ‬
‫شرٌح‪ :‬فمن ٌشهد للمرأة إال أبوها وزوجها‪ ،‬لكنه بعد تؽٌر أحوال الناس‬
‫رفض قبول شهادة القرٌب لقرٌبه(‪.)4‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫عصر األئمة المجتهدٌن‬
‫هذا الدور أهم أدوار الفقه‪ ،‬حٌث استمر نحو ‪ 250‬سنة‪ ،‬تبدأ من أوابل‬
‫القرن الثانً الهجري‪ ،‬وتستمر إلى منتصؾ القرن الرابع الهجري‪ ،‬وبهذا‬

‫‪ -1‬جُذ‪ :١ِٞٛ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.331‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُطالم‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.2‬‬
‫‪ -3‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪ ،80‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،9‬ؿ‪.22‬‬
‫‪ -4‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.204‬‬

‫ـ ‪ 111‬ـ‬
‫ٌكون أطول أدوار الفقه اإلسبلمً‪ ،‬إال –وبكل أسؾ‪ -‬عصر التقلٌد والجمود‪،‬‬
‫وفً هذا العصر ازدهر الفقه‪ ،‬وا َّتسعت دابرته‪ ،‬وتم تدوٌنه وضبط قواعده‪ ،‬كما‬
‫تم تدوٌن السنة وبٌان الصحٌح منها وؼٌر الصحٌح‪ ،‬ودوِّ نت فتاوى الصحابة‬
‫والتابعٌن‪ ،‬وظهر الفقهاء النوابػ الذٌن أسَّسوا المذاهب الفقهٌة‪ ،‬فهو بحق عصر‬
‫ازدهار الفقه اإلسبلمً‪ ،‬بل إن اإلزدهار شمل كل العلوم ومناحً الحٌاة‪ ،‬مما‬
‫ٌمكننا معه وصفه بأنه عصر الحضارة اإلسبلمٌة‪ ،‬وقد أثمر كل هذا ثرو ًة‬
‫ً‬
‫فقهٌة أؼنت الدولة اإلسبلمٌة باألحكام على سِ عة أرجابها واختبلؾ شعوبها‪.‬‬
‫وسٌاسٌا ً بدأ هذا العصر بالقضاء على مُلك بنً أمٌة‪ ،‬وتحول الخبلفة‬
‫إلى بنً العباس‪ ،‬والذٌن استقر لهم الحكم‪ ،‬رؼم محاوالت الشٌعة والخوارج‬
‫مناهضتهم‪ ،‬لكن عبد الرحمن الداخل تم َّكن من تكوٌن دولة أموٌة جدٌدة فً‬
‫األندلس(‪ ،)1‬ولتدعٌم مُلكِهم‪ ،‬وتصارُ عا ً فٌما بٌنهم على الحكم‪ ،‬استعان المأمون‬
‫العباسً بالفرس ضد أخٌه محمد األمٌن وأنصاره من العرب‪ ،‬فسٌطر الفرس‬
‫على شبون الدولة بعد تمكٌنهم المأمون من زعامتها‪ ،‬ثم استعان المعتصم‬
‫باألتراك للقضاء على هٌمنة الفرس‪ ،‬لكنهم بدورهم سٌطروا على أمور‬
‫ً‬
‫بداٌة‬ ‫الخبلفة‪ ،‬وأزاحوا العرب عنها‪ ،‬فلم ٌب َْق لهم إال سلطان إسمًٍ فقط‪ ،‬وذلك‬
‫من سنة ‪230‬هـ(‪ ،)2‬حٌث أصبحت سلطات الخلٌفة تتقلص روٌداً روٌداً‪ ،‬مقابل‬
‫ازدٌاد نفوذ األتراك‪ ،‬حتى حُ َّق لهم تنصٌب الخلفاء وعزلهم والتصرؾ فً‬
‫شبون الدولة ومواردها‪ ،‬وبالجملة فقد كان حال بنً العباس بعد عصر‬
‫اإلزدهار مجرد سلسلة طوٌلة من المنازعات بٌن رجال الدولة على االستبثار‬
‫بالسلطان وتقاسم النفوذ‪ ،‬على مرأى من الخلفاء‪ ،‬بل بتدخلهم أحٌانا ً لتؽلٌب‬

‫‪ -1‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.203‬‬
‫‪ -2‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.362 ،325-323‬‬

‫ـ ‪ 112‬ـ‬
‫طرؾ على آخر‪.‬‬
‫ورؼم أن هذا العصر ُ‬
‫كثرت فٌه الفتن والحروب‪ ،‬مما ٌُوحً بعدم‬
‫صبلحٌة هذا الواقع للنشاط الفكري‪ ،‬إال أن العكس هو الذي حدث‪ ،‬حٌث‬
‫ازدهر الفقه‪ ،‬بل كل العلوم‪ ،‬بفضل الرجال العظام الذٌن عاشوا فً هذا‬
‫العصر‪ ،‬والذٌن استفادوا مما تركه السابقون‪ ،‬وزادوا علٌه بما أ َّداهم إلٌه‬
‫مثلت‬‫نشاطهم الفكري‪ ،‬وعموما ً فقد أدى إلى هذا االزدهار عدة عوامل َّ‬
‫خصابص هذا العصر‪ ،‬منها ما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -1‬تشجٌع العلماء‪:‬‬
‫ً‬
‫وحماٌة له‪ ،‬بإدعابهم‬ ‫أقام بنً العباس دولتهم سنة ‪132‬هـ بإسم الدٌن‪،‬‬
‫أن ؼاٌتهم إعادة الخبلفة إلى آل البٌت‪ ،‬رؼم ما كان من انحراؾ فً سلوك‬
‫بعض خلفابهم‪ ،‬ال ٌتفق مع مظهر دولتهم الدٌنً‪ ،‬إذ اتخذ خلفاؤهم الدٌن مطٌ ًَّة‬
‫ً‬
‫وحماٌة لهذا المظهر الدٌنً لم ٌقصُر‬ ‫لبسط سلطانهم‪ ،‬وتثبٌت أركان دولتهم (‪،)1‬‬
‫بنً العباس اهتمامهم على األمور السٌاسٌة كبنً أمٌة‪ ،‬وأعلنوا المساواة بٌن‬
‫العرب وؼٌرهم من الرعٌة‪ ،‬فرضخ الجمٌع لسلطان الدولة‪ ،‬وعمِلوا على بنابها‬
‫كدولة إسبلمٌة قوٌة‪ ،‬ظهر على ساكنٌها الثراء والمٌل إلى حٌاة الترؾ‪ ،‬ولم‬
‫ٌضطهد أو ٌهمل بنً العباس الفقهاء كاألموٌٌن‪ ،‬بل جعلوا الدٌن المحور الذي‬
‫تدور علٌه أعمال الدولة ومرافقها وأوجه النشاط فٌها‪ ،‬فاستدعى ذلك تقرٌب‬
‫الخلفاء للفقهاء‪ ،‬ووضعِهم فً المكان البلبق بالفقه الذي ٌحملونه‪ ،‬ممَّا شجع‬
‫العلماء على زٌادة الجهد ومواصلة البحث واستنباط األحكام التً تحقق مصالح‬
‫األمة‪ ،‬ومن مظاهر ذلك أنَّ أبا جعفر المنصور أشار على اإلمام مالك بوضع‬

‫‪ -1‬جُقحُف‪ :‬جُ٘ظْ جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪.270‬‬

‫ـ ‪ 113‬ـ‬
‫كتابه الموطأ‪ ،‬وحاول جعل ُه القانون العام للدولة‪ ،‬وكذلك حاول هارون الرشٌد‪،‬‬
‫ب فً‬
‫والذي قرَّ ب إلٌه أبا ٌوسؾ‪ ،‬وجعله قاضً القضاة‪ ،‬وطلب إلٌه وضع كتا ٍ‬
‫السٌاسة المالٌة للدولة‪ ،‬فوضع كتاب الخراج‪ ،‬وبالػ البعض من خلفاء بنً‬
‫العباس فً إظهار تكرٌمهم للفقهاء‪ ،‬كما فعل هارون الرشٌد حٌنما بعث ولدٌه‬
‫األمٌن والمأمون إلى اإلمام مالك‪ ،‬لٌعلمهما الفقه مع سابر الناس‪ ،‬بعد أن رفض‬
‫الحضور إلٌهما فً بؽداد‪ ،‬كما شجَّ ع العباسٌون ع ْقدَ المناظرات فً مجالسهم‪،‬‬
‫وك فؤوا المتفوقٌن من العلماء‪ ،‬وأوصوا والتهم بالرجوع إلى الفقهاء لح ِّل ما‬
‫ٌعرُض لهم من مشاكل‪ ،‬فدعا هذا كله الفقهاء إلى بذل الجهد فً التعرؾ على‬
‫أحكام الشرع الواجبة التطبٌق على ما ٌقع من حوادث وما ٌج ُّد من مسابل‪.‬‬
‫‪ -2‬حرٌة الرأي‪:‬‬
‫ال عجب أن ٌنمو الفقه فً هذا العصر‪ ،‬وٌصبح األساس الذي تقوم‬
‫علٌه شبون الدولة‪ ،‬والمرجع فً القتوى والقضاء‪ ،‬ألن الحرٌة الفكرٌة كانت‬
‫ً‬
‫مكفولة للجمٌع‪ ،‬دون إلزام الدولة ألحد بوجوب إتباع مذهب معٌن فً‬
‫االستنباط ‪ ،‬مما جعل القاضً والمفتً ٌعلنون آراءهم بحسب ما ٌؤدي إلٌه‬
‫اجتهادهم‪ ،‬دون التقٌد برأي سابق أو إلتزام مذهب معٌن‪ ،‬وقد كانت هذه الحرٌة‬
‫موضع رعاٌة الخلفاء‪ ،‬فحرصوا على العناٌة بها‪ ،‬ولو كانوا موضع تنفٌذها‪ ،‬إذ‬
‫كان القاضً ُترفع إلٌه الخصومة فً حادث ٍة أح ُد طرفٌها الخلٌفة‪ ،‬وقد ٌحكم‬
‫علٌه‪ ،‬وٌمتثل الخلٌفة لحكمه‪ ،‬إذ ال قٌد على حرٌة االجتهاد إال توافر شروطه‪،‬‬
‫وقد أدت هذه الحرٌة الفكرٌة إلى نمو الفقه وتنوِّ ع أحكامه‪.‬‬
‫ولم ٌع ِّكر صفو هذه الحرٌة إال مسألة َخ ْل ِق القرآن‪ ،‬التً أثارها المأمون‬
‫العباسً والمعتزلة ضد علماء الحدٌث‪ ،‬لحملِهم على القول بها‪ ،‬ورؼم اإلهانة‬
‫والتعذٌب فهذه الدعوة‪ ،‬وإن لم َت ُزل بوفاة المأمون‪ ،‬واستمرت بعده مد ًة‪ ،‬لكنها‬
‫ـ ‪ 114‬ـ‬
‫اندثرت بعد ذلك بانتصار علماء الحدٌث(‪.)1‬‬
‫كما أن هذه الحرٌة كانت فً ؼٌر الشبون السٌاسٌة‪ ،‬فإن تع َّداها الفقٌه‬
‫وعذب لتحدٌثه بالحدٌث القاضً بأن لٌس‬ ‫نال ُه األذى‪ ،‬حٌث أُهٌِن اإلمام مالك‪ِّ ،‬‬
‫على مُستكر ٍه طبلق (‪ ،)2‬إذ رأى فٌه العباسٌون دعو ًة إلبطال بٌعة المنصور‪،‬‬
‫وعوقب أبو حنٌفة على رفضه تولً القضاء‪ ،‬لتفسٌر ذلك بعدم والبه للدولة‪.‬‬
‫‪ -3‬اتساع الدولة وكثرة الوقائع‪:‬‬
‫امتدت دولة بنً العباس من الصٌن شرقا ً إلى األندلس ؼرباً‪ ،‬وضمَّت‬
‫شعوبا ً مختلفة فً الدٌن والعادات والتقالٌد والمعامبلت وأوجُ ه النشاط‪ ،‬حٌث‬
‫وُ ِجدت فً العراق العادات والنظم الفارسٌة‪ ،‬وفً الشام ومصر وشمال افرٌقٌا‬
‫العادات والنظم الرومانٌة‪ ،‬كما وُ ِجدت نظ ُم وعادات أهل السند واألندلس‬
‫فعرض من دخل فً اإلسبلم من أهل تلك البلدان عاداته وتقالٌده‬
‫وؼٌرهم‪َ ،‬‬
‫على فقهاء اإلسبلم‪ ،‬فأقرُّ وا بعضه وأنكروا بعضه‪ ،‬فأصبحت الحٌاة فً كل‬
‫ملو ً‬
‫نة باللون اإلسبلمً‪ ،‬وو ِجدت فً كل قطر أحكا ٌم لٌست فً‬ ‫أقالٌم الدولة َّ‬
‫ؼٌره‪ ،‬نظراً إلختبلؾ البٌبات‪ ،‬بل إن الواقعة الواحدة قد تحضى بأحكام‬
‫متعددة‪ ،‬نظراً الختبلؾ وجهات نظر الفقهاء‪ ،‬ولذا أحس علماء كل إقلٌم‬
‫بحاجتهم إلى التعرؾ على ما فً األقالٌم األخرى‪ ،‬وقاموا فً سبٌل ذلك‬
‫برحبلت علمٌة‪ ،‬حٌث رحل الشافعً إلى المدٌنة والعراق ومصر‪ ،‬ورحل‬
‫ربٌع ُة الرأي من المدٌنة إلى العراق‪ ،‬ورحل محمد بن الحسن الشٌبانً من‬
‫العراق إلى المدٌنة‪ ،‬فحصل التقارب على أٌدٌهم بٌن أهل الرأي وأهل الحدٌث‪.‬‬

‫‪ -1‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.328‬‬
‫‪ٗٝ -2‬ـ جُكذ‪٣‬ع "‪ٝ‬مغ ػٖ أٓط‪ ٢‬جُخطأ ‪ٝ‬جُ٘غ‪٤‬حٕ ‪ٓٝ‬ح جعطٌش‪ٞٛ‬ج ػِ‪ "ٚ٤‬أخشؾ‪ ٚ‬جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُطالم‪ ،‬ذحخ‬
‫هالم جٌُٔ َش‪ٝ ٙ‬جُ٘حع‪ ،٢‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2045‬‬

‫ـ ‪ 115‬ـ‬
‫ورؼم أن اإلمام مالك لم ٌؽادر المدٌنة إال أن طبلب العلم وفدوا إلٌه‪،‬‬
‫فتعرَّ ؾ على عاداتهم وأحوال بلدانهم‪ ،‬ونقلوا علمه إلى أقطارهم‪ ،‬وكان من‬
‫ثمار هذه الرحبلت التقرٌب بٌن المذاهب‪ ،‬وإكمال كل فقٌه ما نقصه من علم‬
‫بما عند اآلخرٌن‪.‬‬
‫‪ -4‬نمو الحركة العلمٌة‪:‬‬
‫نهضت األمة اإلسبلمٌة فً هذا العصر نهوضا ً كبٌراً‪ ،‬ش َمل جوانب‬
‫الحٌاة كلها‪ ،‬حٌث بلؽت الحركة العلمٌة ما لم تبلؽه من قبل‪ ،‬ومع أنَّ بدءها كان‬
‫فً أواخر الدور السابق لكن ازدهارها كان فً هذا العصر بسبب عوامل عدة‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -‬ترجمة علوم الشعوب األخرى‪ ،‬السٌما الٌونان والفرس‪ ،‬كالفلسفة‬
‫وال َفلك والرٌاضٌات والكٌمٌاء‪ ،‬ومع أن الترجمة بدأت فً عصر بنً أمٌة إال‬
‫ؼرم باآلداب الٌونانٌة‬‫ُ‬
‫أن ازدهارها كان فً عصر المأمون بن الرشٌد‪ ،‬الذي أ ِ‬
‫وآراء ارسطو الفلسفٌة(‪.)1‬‬
‫‪ -‬دخول الموالً فً اإلسبلم‪ ،‬إذ حملوا معهم علوم بلدانهم السابقة‪،‬‬
‫وهذا أدى إلى تداخل األفكار وتقاربها وظهور علماء نوابػ من الموالً‬
‫ً‬
‫وخاصة ممن كانوا خدما ً أو رقٌقا ً للصحابة المشهورٌن بالعلم والفتوى‪ ،‬كنافِع‬
‫مولى ابن عمر وعِ كرمة مولى ابن عباس رضً هللا عنهم‪ ،‬وبهذا لم ٌعُد الفقه‬
‫قاصراً على العرب كما كان الحال قبل هذا العصر‪ ،‬وقد أدى لهذا انشؽال‬
‫العرب بالحكم والسٌاسة والجهاد وعدم اشتراك الموالً ؼالبا ً فً شٌا من هذه‬
‫األعمال‪ ،‬فانصرفوا إلى البحث واالجتهاد فً الفقه‪ ،‬وبرع فٌه كثٌر منهم‪ ،‬مما‬

‫‪ -1‬جُ٘رشج‪ :١ٝ‬ؿ‪ ،196‬هر‪٤‬غ‪ :٢‬ؿ‪.59-58‬‬

‫ـ ‪ 116‬ـ‬
‫دعا بعض الكتاب إلى القول بأن َح َملة العلم فً هذا العصر كان أكثرهم من‬
‫الموالً‪ ،‬بعد أن كانت الؽلبة فٌه فً العصور السابقة للعرب(‪.)1‬‬
‫ٌ‬
‫وثٌق بعلوم الدٌن‪ ،‬كالنحو والتارٌخ وعلوم‬ ‫‪ -‬ابتكارعلوم لها اتصا ٌل‬
‫الحدٌث‪.‬‬
‫‪ -5‬المناظرات بٌن الفقهاء‪:‬‬
‫نتج عن تمتع فقهاء هذا العصر بحرٌة الرأي مع اختبلؾ مناهجهم فً‬
‫االستنباط اشتداد الجدل بٌنهم‪ ،‬ولهذا ُ‬
‫كثرت المناظرات بٌن المجتهدٌن فً‬
‫مسابل الفقه‪ ،‬فكان كل مجتهد ٌعرض رأٌه وٌؤٌده باألدلة وٌناقش رأي‬
‫معارضٌه وٌحاول دحْ ض أدلتهم‪ ،‬وكانت المناظرات ُتجرى مشافهة فً حلقات‬
‫الدروس والمساجد ومواسم الحج ومجالس الخلفاء‪ ،‬وقد تتم بالمراسبلت إن‬
‫تباعدت األقطار بٌن المتناظرٌن‪ ،‬كما فً المناظرة بٌن اإلمامٌن مالك واللٌث‬
‫بن سعد فً حجٌة عمل أهل المدٌنة المنورة(‪.)2‬‬
‫وكانت المناظرات دلٌبلً على قص ِد الفقهاء الوصول إلى الحق‪ ،‬وتفهُّم‬
‫ما لدى الؽٌر من أحكام‪ ،‬ولهذا أدت إلى ازدهار الفقه‪ ،‬إذ حملت كثٌراً من‬
‫الفقهاء على التسلُّح بسبلح معارضٌهم‪ ،‬فأهل الحدٌث تسلَّحوا بالرأي وأهل‬
‫الرأي تسلَّحوا بسبلح الحدٌث‪ ،‬لٌتوصل كل فرٌق إلى هزٌمة مناظِ ره‪ ،‬كما أن‬
‫هذه المناظرات كثٌراً ما قرَّ بت بٌن ِوجهات نظر الفقهاء‪.‬‬
‫ورؼم أن المناظرات عُرفت منذ عصر الصحابة إال أنها بلؽت أش ّدها‬
‫فً هذا العصر‪ ،‬لكثرة العلماء وتنوع الحٌاة االجتماعٌة وإطبلل الفكر‬
‫لم ُتنقل لنا‬ ‫اإلسبلمً على ؼٌره من الحضارات األخرى وعلومها‪ ،‬إال أنها‬

‫‪ -1‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪ ،543‬قغحٕ‪ :‬ؿ‪ٓ ،73‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.80‬‬
‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.100-94‬‬

‫ـ ‪ 117‬ـ‬
‫على حقٌقتها ‪ ،‬بل تناولها المتأخرون بالتحرٌؾ والتبدٌل واختلقوا مناظرات‬
‫ً‬
‫استجابة لداعً العصبٌة المذهبٌة‪ ،‬سعٌا ً للتؽلب على‬ ‫ونسبوها إلى أبمتهم‪،‬‬
‫وهدم مذهبه والتنفٌر منه(‪.)1‬‬
‫الرأي المخالؾ ْ‬
‫‪ -6‬تدوٌن العلوم‪:‬‬
‫كان القرآن مدونا ً قبل هذا العصر‪ ،‬حٌث تم تدوٌنه فً العصر النبوي‬
‫ُ‬
‫ونسخه فً عهد عثمان رضً هللا عنهما‪ ،‬ولكن لم ٌتم‬ ‫وجمعُه فً عهد أبً بكر‬
‫تدوٌن الفقه والسنة وأصول الفقه‪ ،‬إذ كان اعتماد العلماء على ما حُ فظ فً‬
‫الصدور‪ ،‬أما فً هذا العصر فقد بلػ التدوٌن شأنا ً عظٌماً‪ ،‬ولم ٌقتصر على‬
‫تدوٌن العلوم الطبٌعٌة‪ ،‬بل طال العلوم الشرعٌة‪ ،‬حٌث ُدونت السنة الشرٌفة‬
‫وعلوم الفقه والتفسٌر وأصول الفقه‪.‬‬
‫مستقل بذاته‪ ،‬بل كان‬
‫ٍ‬ ‫فقبل هذا العصر لم ٌكن تفسٌر القرآن مدونا ً ٍ‬
‫كعلم‬
‫التفسٌر ٌُروى عن الرسول ‪ ‬كما ُتروى األحادٌث‪ ،‬العتماد كل منهما على‬
‫الرواٌة(‪ ،)2‬وكان الصحابة ٌعتمدون فً هذا على الحفظ‪ ،‬فاختلط التفسٌر‬
‫تفسٌر قلٌبلً وؼٌر مرتب‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫نتٌجة لذلك‪ ،‬وقد كان ما رُ ِوي عنه ‪ ‬من‬ ‫بالحدٌث‬
‫على ترتٌب اآلٌات والسور كما هو الحال اآلن فً كتب التفسٌر‪.‬‬
‫وقد رُ وي عن الصحابة تفسٌر كثٌر من اآلٌات‪ ،‬واعتمدوا فً ذلك على‬
‫ما سمعوه عن الرسول ‪ ،‬أو رُ وي لهم أو ما علموه من أسباب النزول‪ ،‬وإن‬
‫كان بعضهم ٌفسر بعض اآلٌات باجتهاده‪ ،‬ومع هذا لم ٌتمٌز التفسٌر عن‬
‫الحدٌث بل ظل مختلطا ً به كما هو الحال فً العصر السابق(‪.)3‬‬

‫‪ -1‬قغحٕ‪ :‬ؿ‪.72‬‬
‫‪ -2‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.320‬‬
‫‪ -3‬الؽ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.60‬‬

‫ـ ‪ 118‬ـ‬
‫‪ ‬وصحابته من‬ ‫وانكب التابعون على حفظ ما رُ ِوي عن الرسول‬
‫تفسٌر آلٌات القرآن‪ ،‬وأضافوا إلٌه الكثٌر مما أ َّداهم إلٌه اجتهادهم‪ ،‬ولكن هذه‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫مختلطة بالسنة واألحكام الفقهٌة‪.‬‬ ‫التفاسٌر ظلت‬
‫كعلم مستقل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫شرع العلماء فً تدوٌن التفسٌر‬
‫وفً نهاٌة عصر التابعٌن َ‬
‫حٌث تولى علماء كل بلد جمع ما رواه أبمتهم عن النبً ‪ ‬وصحابته وتابعٌهم‪،‬‬
‫كما فعل أهل مكة فً تفسٌر ابن عباس رضً هللا عنهما‪ ،‬وأهل الكوفة فً ما‬
‫ي عن ابن مسعود ‪ ،‬ومع هذا لم ٌكن هذا التفسٌر مرتبا ً ِوفق اآلٌات‬
‫رُ ِو َ‬
‫والسور أو وفق أبواب الفقه(‪.)1‬‬
‫وفً العصر العباسً جمع العلماء هذه التفاسٌر ور َّتبوها ِوفق اآلٌات‬
‫والسور‪ ،‬وقد اتبعوا بصورة عامة أسلوبٌن فً التدوٌن‪:‬‬
‫ي عن النبً ‪ ‬أو‬
‫األول ٌعتمد على القرآن الكرٌم نفسه وعلى ما رُ ِو َ‬
‫أحد صحابته‪ ،‬حٌث تفسَّر اآلٌة ب ٌة أخرى أو بحدٌث أو أثر عن صحابً أو‬
‫تابعً أو من بعدهم من العلماء‪ ،‬وهو ما ٌعرؾ بالتفسٌر بالمأثور‪ ،‬ومن أهم‬
‫كتبه تفسٌر ابن جرٌر الطبري وتفسٌر ابن كثٌر‪.‬‬
‫والثانً ٌعتمد أصحابه على االجتهاد بالرأي‪ ،‬وٌتوسعون فً ذلك‬
‫بحسب علمهم باللؽة وأسباب نزول اآلٌات ومقاصد القرآن‪ ،‬دون إؼفال المأثور‬
‫من السنة وأقوال الصحابة ومن بعدهم من العلماء‪ ،‬وهو ما ٌعرؾ بالتفسٌر‬
‫بالرأي‪ ،‬وأهم كتبه مفاتٌح الؽٌب لمحمد بن عمر الرازي‪ ،‬وروح المعانً‬
‫لؤللوسً‪.‬‬
‫ومع هذا ال نكاد نجد من كتب التفسٌر كتابا ً ٌقتصر على أحد‬

‫‪ -1‬جُغ‪ٞ٤‬ه‪ :٢‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.190‬‬

‫ـ ‪ 119‬ـ‬
‫األسلوبٌن‪ ،‬فؽالبها ج َمع بٌنهما‪ ،‬وإن تمٌَّزت كتب التفسٌر عن بعضها باألسلوب‬
‫الؽالب فٌها‪.‬‬
‫ولما تعددت العلوم‪ ،‬وتمٌزت عن بعضها‪ ،‬واستقل كل علم منها باسم‬
‫خاص‪ ،‬صار القرآن ٌفسر وفق مناهج مختلفة‪ ،‬وألؼراض متعددة‪ ،‬فأهل الفقه‬
‫ُعنون فً تفاسٌرهم ببٌان األحكام الشرعٌة التً اشتملت علٌها اآلٌات ك ٌل‬
‫ٌ ْ‬
‫حسب مذهبه‪ ،‬كما فعل القرطبً فً الجامع ألحكام القرآن وابن العربً فً‬
‫أحكام القرآن‪ ،‬وهذان مالكٌان‪ ،‬والجصَّاص الحنفً فً أحكام القرآن‪ ،‬واهتم‬
‫علماء الكبلم بالجانب العقابدي فً القرآن‪ ،‬كما فعل الزمخشري فً تفسٌر‬
‫الكشاؾ‪ ،‬وألَّؾ أهل اللؽة كتبا ً فً شرح معانً ألفاظ القرآن‪ ،‬مثل تفسٌر البحر‬
‫المحٌط ألبً حٌَّان‪ ،‬فصار القرآن أساسا ً لنهضة المسلمٌن‪ ،‬ومرجعا ً لكل‬
‫العلوم(‪.)1‬‬
‫وكما ُد ِون التفسٌر فً هذا العصر دوِّ نت السنة الشرٌفة‪ ،‬بعد أن كان‬
‫اعتماد الصحابة فً السابق فً نقلها على الحفظ‪ ،‬ألنهم أمٌّون‪ ،‬وخاصة أن‬
‫النبً ‪ ‬قضى بٌنهم ثبلثا ً وعشرٌن سنة‪ ،‬فكان تدوٌن أعماله وكلماته من‬
‫الصعوبة بمكان‪ ،‬ألنه ٌحتاج إلى تفرغ كثٌر من الصحابة للقٌام به‪ ،‬رؼم قلة‬
‫الكتبة‪ ،‬وانشؽالهم بتدوٌن القرآن(‪ ،)2‬وأٌضا للنهً عن كتابة األحادٌث بقوله ‪:‬‬
‫(‪ ،)3‬وإن كان‬ ‫"من كتب عنً سوى القرآن فلٌمحُ ه‪ ،‬وح ِّدثوا عنً وال حرج"‬
‫البعض ٌحمل هذا النهً على كتبة الوحً فقط‪ ،‬مخاف َة اختبلطه بؽٌره‪ ،‬وٌؤكد‬
‫هذا أن عبد هللا بن عمرو بن العاص ‪ ‬نهته قرٌش عن كتابة الحدٌث‪ ،‬وقالوا‬

‫‪ -1‬ذذسجٕ‪ :‬دسجعحش ق‪ ٍٞ‬جُوشإٓ‪ ،‬ؿ‪ ،104‬جُذ‪٣‬رحٗ‪ :٢‬ؿ‪ ،179‬جُقرحؽ‪ :‬ؿ ‪.143‬‬


‫‪ -2‬جُغرحػ‪ :٢‬ؿ‪.59‬‬
‫‪ -3‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جُض‪ٛ‬ذ ‪ٝ‬جُشهحتن‪ ،‬ذحخ جُطػرص ك‪ ٢‬جُكذ‪٣‬ع‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3004‬‬

‫ـ ‪ 120‬ـ‬
‫له‪" :‬إنك تكتب كل شٌا تسمعه عن الرسول ‪ ،‬وهو بشرٌ ٌتكلم فً الؽضب‬
‫والرضا"‪ ،‬فأمسك عن الكتابة‪ ،‬وذكر ذلك للنبً ‪ ،‬فقال له‪" :‬أُك ُتب‪ ،‬فوالذي‬
‫نفسً بٌده ما خرج منً إال الحق" (‪ ،)1‬كما أنّ أبا شاة طلب من النبً ‪ٌ ‬وم‬
‫‪ ‬لصحابته‪:‬‬ ‫الفتح‪ ،‬وهو ٌخطب على راحلته‪ ،‬أن ٌكتب له ُ‬
‫الخطبة‪ ،‬فقال‬
‫"أكتبوا ألبً شاة"(‪.)2‬‬
‫ومع هذا فما ُكتِب من السنة فً العهد النبوي كان قلٌبلً جداً ‪ ،‬وال ٌمكن‬
‫اعتباره تدوٌنا ً رسمٌاً‪ ،‬لعدم إعبلنه على الناس كافة‪ ،‬بل هو مجرد محاوالت‬
‫فردٌة(‪ ،)3‬لقِلة الكتبة وإلنشؽال الصحابة بالؽزوات‪ ،‬ولهذا كان االعتماد على‬
‫الحفظ ال التدوٌن‪.‬‬
‫ولم ٌحاول أبو بكر ‪ ‬تدوٌن السنة فً عصره‪ ،‬لقِصر مدة خبلفته‪،‬‬
‫وانشؽاله والصحابة بحروب الردة‪ ،‬وقد حاول عمر ‪ ‬كتابة السنة فً عهده‬
‫لكنه أعرض عن ذلك‪ ،‬رؼم أن الصحابة أشاروا علٌه بالتدوٌن لما استشارهم‬
‫فً ذلك‪ ،‬خشٌ َة انشؽال المسلمٌن بها عن القرآن‪ ،‬وإلنشؽالهم بالفتوحات وإدارة‬
‫شبون الببلد المفتوحة‪ ،‬ولكن الفتوحات أدت بالصحابة إلى اإلكثار من الرواٌة‪،‬‬
‫إلعتماد الناس علٌهم فً اإلفتاء‪ ،‬بسبب كثرة المسابل الفقهٌة‪.‬‬
‫ولما حدثت األحداث ال ِجسام بعد فتنة التحكٌم بٌن علً ومعاوٌة رضً‬
‫‪ ‬إلى ضرورة تدوٌن السنة تدوٌنا ً‬ ‫هللا عنهما‪ ،‬تنبَّه عمر بن عبد العزٌز‬
‫شامبلً‪ ،‬إلنتشار الوضع‪ ،‬ولزوال الخشٌة من اختبلط السنة بالقرآن‪ ،‬لتدوٌنه فً‬

‫‪ -1‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ ًطحخ جُؼِْ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3646‬‬
‫‪ -2‬عٖ٘ جُطشٓز‪ً :١‬طحخ جُؼِْ‪ ،‬ذحخ ٓح ؾحء ك‪ ٢‬جُشخقس ك‪ ،ٚ٤‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2667‬‬
‫‪ -3‬سجؾغ ػشمح ً ُ‪ٜ‬ز‪ ٙ‬جُٔكح‪ٝ‬الش جُلشد‪٣‬س ُطذ‪ ٖ٣ٝ‬ذؼل جألقحد‪٣‬ع ٖٓ هِرَ ػذد ٖٓ جُقكحذس ػ٘ذ فرك‪٢‬‬
‫جُقحُف‪ :‬ػِ‪ ّٞ‬جُكذ‪٣‬ع ‪ٓٝ‬قطِك‪ :ٚ‬ؿ ‪.33-24‬‬

‫ـ ‪ 121‬ـ‬
‫‪100‬هـ إلى عامِله بالمدٌنة‬ ‫المصاحؾ وانتشارها بٌن المسلمٌن‪ ،‬فكتب سنة‬
‫المنورة أبً بكر محمد بن حزم‪ٌ ،‬أمره بجمع السنة خشٌ َة ضٌاعها بذهاب‬
‫ح َّفاظها من العلماء‪ ،‬وهً نفس الحكمة التً دعت إلى جمع القرآن بعد اشتداد‬
‫القتل بالقُرَّ اء فً الٌمامة‪.‬‬
‫ولكن ابن عبد العزٌز توفى قبل أن ٌبعث إلٌه ابن حزم ما جمعه‪ ،‬ومع‬
‫هذا فإن صنٌعه شجَّ ع العلماء على تدوٌن السنة‪ ،‬إلشتداد الحاجة إلٌها‪ ،‬وتع ُّدد‬
‫المدارس الفقهٌة‪ ،‬وانتشار الوضع فً الحدٌث‪ ،‬بل وكر ِّد فِعل على ازدهار فقه‬
‫الرأي فً العراق‪ ،‬وممن قام بالتدوٌن آنذاك الثوري بالكوفة وابن شهاب‬
‫ُ‬
‫الز َهري ومالك بالمدٌنة واللٌث بن سعد بمصر واألوزاعً بالشام وؼٌرهم‪ ،‬إال‬
‫أن كتبهم لم ٌصلنا منها شٌا إال موطأ اإلمام مالك‪.‬‬
‫وتلت هؤالء طبقة أصحاب الكتب الستة الصحاح‪ ،‬وهم البخاري (ت‬
‫‪256‬هـ) ومسلم (ت ‪261‬هـ) وابن ماجه ( ‪273‬ت هـ) وأبو داود ( ‪275‬ت‬
‫هـ) والترمذي (ت ‪279‬هـ) وال َنسابً (ت ‪303‬هـ)‪ ،‬وهذا بالنسبة للجمهور‪،‬‬
‫‪328‬هـ) ومن ال‬ ‫أما الشٌعة فأهم المجموعات عندهم الكافً لل ُكلٌنً (ت‬
‫ٌحضره الفقٌه البن بابوٌه (ت‪381‬هـ) واالستبصار وتهذٌب األحكام للطوسً‬
‫(ت‪460‬هـ)‪ ،‬وتسمى هذه الكتب األخبار الربعة (‪ ،)1‬وقد اقتصر فٌها الشٌعة‬
‫على األحادٌث المروٌة عن طرٌق علمابهم وأبمتهم من آل البٌت‪ ،‬لعدم‬
‫اعترافهم بما رواه ؼٌرهم من أحادٌث‪ ،‬والثقة فقط فً ما رواه رجالهم وأبمتهم‪.‬‬
‫ولم تقؾ جهود العلماء عند جمع السنة وتدوٌنها وترتٌبها‪ ،‬بل قامت‬
‫ٌ‬
‫طابفة منهم بالبحث فً أحوال الرواة من حٌث العدالة والضبط‪ ،‬وبٌَّنوا الشروط‬

‫‪ -1‬أذ‪ ٞ‬ص‪ :ٞٛ‬ؿ‪.379‬‬

‫ـ ‪ 122‬ـ‬
‫الواجب توافرها فٌمن ُتقبل رواٌته‪ ،‬وأطلقوا على ذلك علم الجرح والتعدٌل‪،‬‬
‫حٌث فصَّلوا فٌه أسباب الجرح التً ٌُر ُّد معها الحدٌث‪ ،‬وأفرد بعض العلماء‬
‫للثقاة من الرواة كتبا ً خاصة ولؽٌر أهل الثقة كتبا ً أخرى‪ ،‬ومن أشهر علماء‬
‫القطان (ت ‪189‬هـ) وعبد الرحمن بن مهدي‬ ‫الجرح والتعدٌل ٌحٌى بن سعٌد َّ‬
‫(ت‪198‬هـ) وٌحٌى بن َمعٌِن (ت ‪233‬هـ) وأحمد بن حنبل (ت‪241‬هـ)‪.‬‬
‫وبذلك تعددت علوم الحدٌث‪ ،‬وأدى كل علم منها دوره فً خدمة السنة‬
‫الشرٌفة‪ ،‬والتً صارت فً هذا الدور عِ لما ً مستقبلً‪ ،‬له رجاله الذٌن َ‬
‫قصروا‬
‫بحوثهم علٌها‪ ،‬وإن لم ٌكن لهم نفوذ فً الفقه واالستنباط‪.‬‬
‫وبالنسبة للفقه فلم ٌدون فً عهدي الرسالة والخلفاء حتى األحكام‬
‫المُجمع علٌها‪ ،‬لببل ٌنشؽل به الناس عن القرآن الكرٌم‪ ،‬وألنه مجرد اجتهادات‬
‫تحتمل الصواب وؼٌره‪ ،‬فبل ٌصح َحم ُل الناس علٌها وإلزامهم بها (‪ ،)1‬ولذا لم‬
‫ٌبدأ تدوٌن الفقه إال فً عهد بنً أمٌة‪ ،‬بتسجٌل أحكام القضاة‪ ،‬حٌث قام فقهاء‬
‫بجمع فتاوى من كان ببلدهم من الصحابة‪ ،‬فجمع فقهاء المدٌنة فتاوى‬
‫ِ‬ ‫ك ّل بلد‬
‫ابن عمر وعابشة وابن عباس رضً هللا عنهم‪ ،‬وجمع فقهاء الكوفة فتاوى ابن‬
‫تطور األمر بظهور‬
‫مسعود وقضاٌا علً وؼٌرهما من علماء الكوفة‪ ،‬ثم َّ‬
‫المذاهب الفقهٌة حٌث كان إمام المذهب ٌُملًِ على تبلمٌذه آراءه الفقهٌة‪ ،‬كما‬
‫كان ٌفعل أبو حنٌفة وأصحابه ومالك‪ ،‬أو ٌدونها بنفسه‪ ،‬كما كان ٌفعل الشافعً‪.‬‬
‫وتشٌر الرواٌات التارٌخٌة إلى أن علماء الشٌعة كانوا أسبق من علماء‬
‫الجمهور إلى التدوٌن‪ ،‬ألن إعتقادهم بعصمة أبمتهم دفعهم إلى تدوٌن‬
‫اجتهاداتهم(‪ ،)2‬ولهذا كان المجموع لئلمام زٌد بن علً بن الحسٌن (ت‬

‫‪ -1‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ك‪ ٢‬جُطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪ٓ ،150‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.60‬‬
‫‪ -2‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.184‬‬

‫ـ ‪ 123‬ـ‬
‫‪121‬هـ) أقدم الكتب الفقهٌة‪.‬‬
‫وفً هذا العصر أُستحدِث علم األصول‪ ،‬والذي ُبٌِّنت فٌه القواعد التً‬
‫استعان بها الفقهاء فً استنباط األحكام الشرعٌة‪ ،‬ومع أن للصحابة والتابعٌن‬
‫تدون فً عصرهم‪ ،‬وإن كان باإلمكان‬
‫مناهجهم فً االستنباط إال أنها لم َّ‬
‫معرفتها من خبلل ما جرى بٌنهم من مناظرات وما صدر عنهم من فتاوى (‪،)1‬‬
‫وأول ما وصل إلٌنا مدونا ً فً هذا العلم كتاب الرسالة لئلمام الشافعً‪ ،‬والذي‬
‫دون فٌه قواعد هذا العلم‪ ،‬ثم ِتبعه العلماء فً دراسة مباحث هذا العلم‪ ،‬وتناوُ لِها‬
‫َّ‬
‫بالشرح والتحرٌر والتوسٌع‪.‬‬
‫وقد كان لتدوٌن هذه العلوم أثرُ ه فً ازدهار الفقه‪ ،‬فقب َل التدوٌن كان‬
‫الفقهاء ٌبذلون جهوداً مُضْ ً‬
‫نٌة فً البحث عن تفسٌر اآلٌة وما ورد فً ذلك من‬
‫سنن وآثار عن الصحابة والتابعٌن‪ ،‬والتعرؾ على األحادٌث والتأكد من صحة‬
‫ٍ‬
‫سندها وعدالة رواتها‪ ،‬وتتبُّع آثار العلماء السابقٌن ومواطن إجماعهم‪ ،‬أما بعد‬
‫تخصص بعض العلماء فً هذه العلوم وتدوٌنها صار األمر مٌسوراً‪ ،‬فتفرَّ َغ‬
‫الفقهاء لبحث أحكام الوقابع التً ُتعرض علٌهم‪.‬‬
‫كما ساعد التدوٌن على ظهور الدراسة المقارنة للفقه‪ ،‬حٌث استطاع‬
‫الفقٌه اإلطبلع على آراء الفقهاء اآلخرٌن‪ ،‬والتعرؾ على أدلتهم‪ ،‬والموازنة‬
‫بٌن كل اآلراء‪ ،‬ومناقشة أدلة كل فرٌق وبٌان موقفه فً ذلك‪ ،‬كما جرَّ أ التدوٌن‬
‫على االستنباط‪ ،‬إذ كان بعضهم قبل التدوٌن ٌتوقؾ عن اإلفتاء فً بعض‬
‫المسابل التً ال ٌجد فٌها نصا ً من الكتاب أو السنة‪ ،‬خشٌة القول فً دٌن هللا‬
‫بؽٌر حق‪ ،‬أما بعد ازدهار التدوٌن فقد وُ ِجدت مادةٌ ؼزٌرة أمام الفقهاء‬

‫‪ -1‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.405‬‬

‫ـ ‪ 124‬ـ‬
‫ٌستخلصون منها األحكام الفقهٌة‪.‬‬
‫وبهذا ساعد التدوٌن على تطور الفقه وازدهاره‪ ،‬بأن ٌسَّر للفقهاء سُبل‬
‫االجتهاد وو َّفر علٌهم الكثٌر من الجهد والوقت‪ ،‬استفادوا منه فً البحث‬
‫واالستنباط‪ ،‬بدالً من إضاعته فً البحث عن األدلة وتحرِّ ي مدى صحتها‬
‫ونِسبتها إلى قابلٌها‪.‬‬
‫‪ -7‬نشأة الفقه التقدٌري‪:‬‬
‫بدخول كثٌر من الناس فً اإلسبلم عُرضت على الفقهاء مسابل كثٌرة‬
‫جداً‪ ،‬وكان ما ٌُعرض على مجته ٍد ما قد ٌخالؾ ما ٌُعرض على ؼٌره‪ ،‬فأخذ‬
‫الفقهاء ٌنظرون فً كل ما ٌُطرح علٌهم من مسابل‪ ،‬وما ٌص ُدر عن ؼٌرهم من‬
‫فتاوى‪ ،‬بل وأخذوا ‪-‬السٌما فقهاء العراق‪ٌ -‬فترضون المسابل التً ٌُحتمل‬
‫وقوعها‪ ،‬وٌُق ِّدرون لها األحكام‪ ،‬وطال األمر أحٌانا ً حتى ما ٌستحٌل وقوعه‪،‬‬
‫بحلول مستقبلٌَّة لكثٌر من القضاٌا الفقهٌة المتوقع حدوثها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فأم َّد الفقهاء العامة‬
‫وأحدث ذلك أثره الحسن على الحالة الفقهٌة لهذا العصر‪.‬‬
‫وهذا بخبلؾ الحال قبل هذا الدور‪ ،‬والذي تمٌَّز فٌه الفقه باالقتصار‬
‫على بٌان حكم ما وقع فقط من مسابل‪ ،‬وسببُ االفتراض الحرٌة الفكرٌة التً‬
‫سادت هذا العصر‪ ،‬وحٌاة الترؾ والراحة التً عاشها أهله‪ ،‬وتطور أسالٌب‬
‫العنان للبحث واإلفتراض‪ ،‬سواء من العامة‬
‫البحث‪ ،‬وتدوٌن العلوم‪ ،‬مما أطلق َ‬
‫ُّ‬
‫تضخم الفقه عند أهل العراق‪ ،‬السٌما عند أبً‬ ‫أو من الفقهاء‪ ،‬فأدى ذلك إلىى‬
‫حنٌفة‪ ،‬باعتباره أول من افترض المسابل‪ ،‬ودفع هذا ؼٌره من الفقهاء إلى إبداء‬
‫آرابهم فً المسابل المطروحة أثناء المناظرات‪ ،‬سواء كانت واقعٌة أو‬
‫افتراضٌة‪ ،‬خشٌ َة الهزٌمة فً المناظرة‪ ،‬رؼم كراهٌتهم فً األصل إلفتراض‬
‫المسابل‪.‬‬
‫ـ ‪ 125‬ـ‬
‫وقد كان الفقه اإلفتراضً ٌدور فً ؼالبه على ثبلثة موضوعات‪،‬‬
‫كانت أساسا ً لمبات بل آالؾ المسابل‪ ،‬وهً الرقٌق والتصرؾ فٌه‪ ،‬وطبلق‬
‫الزوجة‪ ،‬واألٌمان والحنث فٌها‪.‬‬
‫من اجتهادات علماء هذا العصر‪:‬‬
‫عن الوارث بن سعد قال قدِمت مكة‪ ،‬فوجدت فٌها ابن أبً لٌلى وابن‬
‫وشر َط‬
‫َ‬ ‫رجل باع بٌعا ً‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫شبرمة وأبا حنٌفة‪ ،‬فسألت أبا حنٌفة قلت‪ :‬ما تقول فً‬
‫شرطاً‪ ،‬قال‪ :‬البٌعُ باطل والشرط باطل‪ ،‬ثم أتٌت ابن أبً لٌلى فسألته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫البٌعُ جابز والشرط باطل‪ ،‬ثم أتٌت ابن ُ‬
‫شبرمة فسألته‪ ،‬فقال‪ :‬البٌعُ جابز‬
‫ٌ‬
‫ثبلثة من فقهاء العراق اختلفوا فً مسألة‬ ‫والشرط جابز‪ ،‬فقلت‪ :‬سبحان هللا‪،‬‬
‫واحدة‪ ،‬فأتٌت أبا حنٌفة فأخبرته بما قاال‪ ،‬فقال‪ :‬ال أدري ما قاال‪ ،‬حدثنً عمرو‬
‫بٌع وشرط‪ ،‬البٌع باطل‬
‫‪ ‬نهى عن ٍ‬ ‫بن شعٌب عن أبٌه عن جده أن النبً‬
‫والشرط باطل‪ ،‬ثم أتٌت ابن أبً لٌلى فأخبرته بما قاال‪ ،‬فقال‪ :‬ال أدري ما قاال‪،‬‬
‫‪ ‬أن‬ ‫حدثنً هشام بن عروة عن أبٌه عن عابشة قالت‪ :‬أمرنً رسول هللا‬
‫أشتري بُرٌرة فأعتِقها‪ ،‬البٌع جابز والشرط باطل‪ ،‬ثم أتٌت ابن شبرمة فأخبرته‬
‫بما قاال‪ ،‬فقال‪ :‬ال أدري ما قاال‪ ،‬فعن جابر بن عبد هللا رضً هللا عنهما قال‪:‬‬
‫باع رسول هللا ‪ً ‬‬
‫ناقة و َش َرط حِمبلنا ً إلى المدٌنة‪ ،‬البٌع جابز والشرط جابز(‪.)1‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫عصر التقلٌد والجمود‬
‫ٌبدأ هذا الدور من منتصؾ القرن الرابع الهجري‪ ،‬وٌمتد إلى سنة‬
‫‪ 1286‬هـ‪ ،‬وهو ٌشمل مرحلتٌن متماٌزتٌن من عدة وجوه‪ ،‬وإن اشتركتا فً‬

‫‪ -1‬جُ‪٤ٜ‬طٔ‪ً :٢‬طحخ جُر‪ٞ٤‬ع‪ ،‬ذحخ جُقلوط‪ ٖ٤‬ك‪ ٢‬فلوس أ‪ ٝ‬جُؾشه ك‪ ٢‬جُر‪٤‬غ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3686‬‬

‫ـ ‪ 126‬ـ‬
‫صف ٍة عامة هً الجمود وعدم التطور‪ ،‬حٌث تبدأ المرحلة األولى من منتصؾ‬
‫القرن الرابع الهجري حتى سقوط بؽداد على ٌد هوالكو حفٌد جنكٌز خان سنة‬
‫‪ 656‬هـ‪ ،‬أي منتصؾ القرن السابع الهجري‪ ،‬وتبدأ الثانٌة من سقوط بؽداد‬
‫وتنتهً بظهور مجلة األحكام العدلٌة سنة ‪1286‬هـ‪.‬‬
‫المرحلة األولى‪ -‬نصرة المذاهب الفقهٌة‪:‬‬
‫فً هذه المرحلة أخذ الضعؾ ٌ ُدبّ فً جسم الدولة العباسٌة‪ ،‬فتقطعت‬
‫دول تتنازع النفوذ والسلطان‪ ،‬وٌكٌد بعضها لبعض‪،‬‬
‫أوصالها‪ ،‬وانقسمت إلى ٍ‬
‫فأحاطت بالمسلمٌن المِحن‪ ،‬بسبب تفرقهم وتنازعهم على الحكم وظهور العداء‬
‫صراع أثخن األمة بالجراح‪ ،‬وارتكب خبلله حكام الجور من‬
‫ٍ‬ ‫بٌن دوٌبلتهم‪ ،‬فً‬
‫ٌ‬
‫نقمة على‬ ‫الفضابع ما ٌعجز عنه الحصر‪ ،‬ونسبوه إلى الدٌن‪ ،‬وما هم إال‬
‫أتباعه(‪ ،)1‬واستمر الحال على هذا المنوال من التقاتل وانشؽال المسلمٌن بقتال‬
‫إخوانهم عن قتال أعدابهم‪ ،‬منت ِّقبلً من سٌا إلى ما هو أسوأ منه‪ ،‬حتى وقعت‬
‫الحروب الصلٌبٌة التً كادت تقضً على هذه الدوٌبلت واحد ًة بعد األخرى‪،‬‬
‫وخلفاء بنً العباس إزاء كل هذا ال َحول لهم وال َطول‪ ،‬فبل ٌُصدِرون أمراً‪،‬‬
‫وإن أصدروه ال قدرة لهم على تنفٌذه‪ ،‬ولٌس لهم من الخبلفة إال إسمها‪،‬‬
‫عاجزٌن عن إخماد الثورات المُندلعة حولهم‪ ،‬المستهدِفة القضاء على مُلكِهم‬
‫الذي صار ٌتفتت روٌداً روٌداً‪ ،‬فدبَّ الضعؾ فً أرجاء الدولة العباسٌة‪،‬‬
‫فرض هٌمنتها على بؽداد عاصمة الخبلفة‪ ،‬فضبلً‬
‫ِ‬ ‫وعجزت سلطتها حتى عن‬
‫عن أطراؾ الدولة‪ ،‬فذهبت هٌبتها من النفوس بعد عِ ّز‪َ ،‬‬
‫وضعُفت شوكتها بعد‬
‫قوة‪ ،‬وصارت تتقلب بٌن حالً السوء والضعؾ إلى أن سقط عر ُ‬
‫شها على ٌد‬

‫‪ -1‬جُقحُف‪ :‬جُ٘ظْ جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪.279‬‬

‫ـ ‪ 127‬ـ‬
‫المؽول سنة ‪ 656‬هـ‪ ،‬باكتساحهم بؽداد والقضاء على حكم العباسٌٌن(‪.)1‬‬
‫وقد َّأثر كل هذا فً الحركة العلمٌة عموماً‪ ،‬واالجتهاد الفقهً بوج ٍه‬
‫خاص‪ ،‬إذ بعد أن بلػ الفقه أَ ْو َج ُه فً الدور السابق أخذ فً الضعؾ روٌداً‬
‫فٌهم روح البحث‪ ،‬وأصبح أهل‬ ‫روٌداً‪ ،‬حتى ؼلَب التقلٌد على أهله‪ ،‬وماتت‬
‫ث مذهبً‪ٌ ،‬تعصبون له‪ ،‬وٌلتزمون منهجه‪ ،‬سواء كان موافقا ً‬
‫الفقه أسرى لترا ٍ‬
‫للكتاب والسنة أو معارضا ً لهما‪َ ،‬فسادَ الجهل وانتشرت البدع والخرافات (‪ ،)2‬إذ‬
‫بعد أن كان مُرٌ ُد الفقه ٌدرُ سُ القرآن والسنة ثم ٌدلو باجتهاده فً مسابل الفقه‪،‬‬
‫كتاب فقٌ ٍه معٌ ٍَّن من رجال مذهبه‪ ،‬وال ٌنظر للشرٌعة إال من‬
‫َ‬ ‫صار ٌدرُ س‬
‫خبلله‪ ،‬وأصبح الفقٌه َمن ٌحفظ ما استنبطه سابقوه ال َمن ٌستنبط األحكام من‬
‫مصادرها‪ ،‬فإن ت َّم له ذلك صار من الفقهاء الذٌن لهم حق اإلفتاء والقضاء‪،‬‬
‫حتى أصبحت المذهبٌة ظاهر ًة طبٌعٌة‪ ،‬وصار التقلٌد هو المنهج الذي ٌسٌر‬
‫علٌه رجال هذا العصر(‪.)3‬‬
‫وقد بذل أنصار كل مذهب من المذاهب األربعة المعروفة جهوداً فً‬
‫تأٌٌد مذهب إمامهم‪ ،‬واإلشادة به وبمن وااله‪ ،‬وماتت فٌهم نزعة االجتهاد‪ ،‬حتى‬
‫إن أحدهم ما كان ٌُ ِجٌز لنفسه أن ٌقول فً مسأل ٍة ما قوالً ٌخالؾ ما أفتى به‬
‫إمام مذهبه‪ ،‬وكأنَّ الحق نزل على لسان هذا اإلمام وحده‪ ،‬وهذا ٌؤكد ترسخ‬
‫التقلٌد والتبعٌة‪ ،‬وٌُضفً العصمة على األبمة السابقٌن‪ ،‬وٌرفع اجتهاداتهم إلى‬
‫مرتبة تعلو على النصوص الشرعٌة‪.‬‬

‫‪ -1‬سجؾغ ‪ٝ‬فلح ً ُـض‪ ٝ‬جُٔـ‪ُ ٍٞ‬رـذجد ‪ٝ‬جُلنحتغ جُط‪ ٢‬جسضٌر‪ٛٞ‬ح ػ٘ذ ػرذ جُغالّ أذ‪ٗ ٞ‬حؾ‪ ٢‬ك‪ٓ ٢‬وذٓط‪ٌُ ٚ‬طحخ‬
‫جُكحفَ ٖٓ جُٔكق‪ُ ٍٞ‬ألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.30-22‬‬
‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.8-7‬‬
‫‪ -3‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،163‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.5‬‬

‫ـ ‪ 128‬ـ‬
‫وبدالً من بحث حكم ما ٌعرض للمجتمع من مشاكل انشؽل رجال الفقه‬
‫فً هذا العصر ببحث الفروض التً ال ٌُتصور وقوعها‪ ،‬فنراهم ٌبحثون عن‬
‫حكم نصؾ تطلٌقة والزواج بالجنٌة وما ٌرتبه من آثار فً شأن النسب‬
‫والمٌراث وؼٌر ذلك(‪.)1‬‬
‫ولمَّا لم ٌكن فً هذا العصر نظا ٌم تشرٌعً ٌقصُر الفتوى على من هو‬
‫أه ٌل لها فقد تصدى لئلفتاء من لم ٌتأهل له‪ ،‬فكانت تصدر بصدد المسألة‬
‫الواحدة عدة آراء متعارضة‪ُ ،‬تنسب كلها إلى الشرٌعة‪ ،‬مما حٌَّر الناس وأزعج‬
‫العلماء‪ ،‬فأفتى أهل العلم فً أواخر القرن الرابع الهجري بس ِّد باب االجتهاد‬
‫واالقتصار على ما ُدوِّ ن فً المذاهب األربعة المعروفة‪ ،‬م َّدعٌن اإلجماع على‬
‫ذلك(‪ ،)2‬مخافة أن ٌلِج باب االجتهاد من لٌس أهبلً له‪ ،‬فٌُفسد أمور الدٌن‪ ،‬فً‬
‫ظاهر ٍة تمثل ذروة االستسبلم‪ ،‬إال أن هؤالء أخطأوا بهذه الفتوى رؼم أنهم‬
‫أرادوا بها االصبلح‪ ،‬ألن فتواهم هذه أ َّدت إلى جمود الفقه وعجزه عن مساٌرة‬
‫تطور الزمن‪ ،‬وفوق مخالفتها للنصوص الشرعٌة التً تجٌز االجتهاد وتدعو‬
‫إلٌه‪ ،‬فقد ترتب علٌها مفاسد ثبلثة‪ ،‬هً‪:‬‬
‫‪ْ -‬‬
‫عزل الشرٌعة عن الناس بسبب وقوؾ المقلدٌن عند ما رُ ِوي عن‬
‫أبمتهم فً كل مسألة‪ ،‬فخرج الناس عن الشرٌعة تحاشٌا ً لهذا التخلؾ والجمود‬
‫إلى القوانٌن الوضعٌة مر ًة وإلى التحاٌل على الشرٌعة مر ًة أخرى‪ ،‬ألن تلك‬
‫االجتهادات مع أنها حققت مصالح الناس فً عصر األبمة المجتهدٌن‪ ،‬لكنها لم‬

‫‪ -1‬أذ‪ ٞ‬جُلط‪ٞ‬ـ‪ :‬ؿ‪.171‬‬


‫‪ -2‬جإلٗقحف ‪٣‬وطن‪ ٢‬إٔ ٗزًش إٔ دػ‪ ٟٞ‬عذ ذحخ جالؾط‪ٜ‬حد ُْ ضؿذ هر‪ٞ‬الً ػ٘ذ جُخ‪ٞ‬جسؼ ‪ٝ‬جُك٘حذِس ‪ًٝ‬زُي ػ٘ذ‬
‫جُؾ‪٤‬ؼس جإلٓحٓ‪٤‬س‪ٝ ،‬جُز‪ ٖ٣‬ظِ‪ٞ‬ج ػِ‪ ٠‬سأ‪ ْٜ٣‬جُغحذن ذ‪ٞ‬ؾ‪ٞ‬خ جؾط‪ٜ‬حد ػِٔحت‪ُ ،ْٜ‬ؼقٔط‪ ٖٓ ْٜ‬جُخطأ ك‪ ٢‬سأ‪ ،ْٜ٣‬ذَ ئٕ‬
‫جُظح‪ٛ‬ش‪٣‬س ضطشك‪ٞ‬ج ك‪ ٢‬رُي ‪ٝ‬أ‪ٝ‬ؾر‪ٞ‬ج جالؾط‪ٜ‬حد قط‪ ٠‬ػِ‪ ٠‬ػحٓس جُ٘حط ذوذس هحهط‪ٓ .ْٜ‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪،‬‬
‫ؿ‪ٝ ،720‬جُٔشجؾغ جُط‪ ٢‬أؽحس ئُ‪ٜ٤‬ح ؿ ‪ ،762‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪ ،330‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.303‬‬

‫ـ ‪ 129‬ـ‬
‫تعُد كذلك فً عصور التقلٌد‪.‬‬
‫‪ -‬قفل سُبل الرقً والتقدم فً وجه األمة بفتاوى تدعو لعدم التطور‪،‬‬
‫بحجة أن ما صدر من مخترعات حدٌثة ال ٌجوز التعامل به‪ ،‬لعدم إباحة ذلك‬
‫من السابقٌن‪ ،‬فصار التقلٌد قٌداً ثقٌبلً فً أرجُ ل من ٌرٌد النهوض باألمة‪.‬‬
‫‪ْ -‬‬
‫خلق الحجج للطاعنٌن فً الشرٌعة من أعدابها للهجوم علٌها‪ ،‬برمٌها‬
‫بالجمود والتأخر وعدم مساٌرة الزمن‪ ،‬وهذا ٌظهر من تتبع تارٌخ هجمات‬
‫ً‬
‫مقرونة بعصور التقلٌد‪ ،‬أما فً عصور‬ ‫أعداء الشرٌعة علٌها‪ ،‬إذ جاءت‬
‫النضوج واالجتهاد فبل شٌا من ذلك بل جدا ٌل وتناظر بٌن فقهاء اإلسبلم(‪.)1‬‬
‫أسباب التقلٌد‪:‬‬
‫ساعد على هذا التقلٌد والجمود عدة عوامل‪ ،‬تضافرت حتى أنتجته‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -‬ضعؾ الدولة العباسٌة‪ ،‬وعدم تشجٌع الدوٌبلت التً أتت بعدها‬
‫للعلماء‪ ،‬بل انشؽلت بخبلفاتها السٌاسٌة‪ ،‬وانصرؾ ملوكها إلى تدبٌر أمور‬
‫الحرب والمكابد أو اتقابها‪ ،‬مما أدى إلى عزوؾ العلماء عن البحث‪ ،‬وبعد أن‬
‫كان الخلفاء ٌشجعون العلماء‪ ،‬ومجالسهم تدور فٌها المناظرات بٌن العلماء‬
‫صار ال ٌرتادها إال من ٌُحسن اللهو والؽناء(‪.)2‬‬
‫‪ -‬تدوٌن المذاهب الفقهٌة‪ ،‬فوجد أهل هذا العصر فٌما ُكتِب حُ كما ً لِما‬
‫حدث وما سٌحدث‪ ،‬من خبلل الفقه االفتراضً‪ ،‬حتى ظنوا أن األوابل لم‬
‫ٌتركوا لؤلواخر شٌبا ً لٌجتهدوا فٌه‪ ،‬ومما ساعد على هذا ما للقدماء من مكان ٍة‬
‫علمٌة جدٌرة بالتقدٌر واالحترام‪.‬‬

‫‪ -1‬ؽِر‪ :٢‬ضؼِ‪ َ٤‬جألقٌحّ‪ ،‬ؿ‪.383‬‬


‫‪ -2‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.159‬‬

‫ـ ‪ 130‬ـ‬
‫‪ -‬تولً القضاء فً هذا العصر من لٌس أهبلً لبلجتهاد‪ ،‬لضعؾ الدولة‬
‫وسٌطرة االضطهاد‪ ،‬فكان الحكام ٌختارون للقضاء من ٌنفذ رؼباتهم‪ ،‬ولو كان‬
‫من ؼٌر ذوي العلم (‪ ،)1‬وصارت والٌة القضاء محبلً للمساومة‪ ،‬فتقلَّدها من‬
‫لٌس أهبلً لها‪ ،‬فانحرؾ بها عن الحق والعدل‪ ،‬وحتى القضاة المجتهدٌن قٌُِّدت‬
‫حرٌتهم فً االجتهاد‪ ،‬بإلزامهم بإتباع المذهب الذي ارتضته الدولة‪ ،‬إذ تعصَّب‬
‫الفاطمٌون للمذهب اإلسماعٌلً‪ ،‬واألٌوبٌون للمذهب الشافعً‪ ،‬واألتراك‬
‫روح االجتهاد‪ ،‬وصار من ٌرؼب فً‬
‫َ‬ ‫للمذهب الحنفً (‪ ،)2‬وهذا كله أضعؾ‬
‫تولً القضاء ٌعكِؾ على دراسة المذهب الذي ترتضٌه الدولة دون ؼٌره‪.‬‬
‫‪ -‬استهانة كثٌر من فقهاء هذا العصر بأنفسهم‪ ،‬خشٌ َة نق ِد زمبلبهم لهم‬
‫لو طرقوا باب االجتهاد‪ ،‬واعتزاز بعضهم بشٌوخ مذهبهم‪ ،‬مما جعلهم ٌتوهمون‬
‫عجزهم عن استنباط األحكام‪ ،‬ولو بذلوا الجهد فً سبٌل ذلك‪ ،‬ظنا ً منهم أنهم لم‬
‫ٌتأهلوا للنظر فً الشرٌعة‪ ،‬وأن الفضل قد حازه السابقون‪ ،‬مع أنهم لم ٌَ ِقلُّوا عن‬
‫شٌوخهم تمتعا ً بالقدرة على الفهم‪ ،‬بل لقد توافر لهم من وسابل البحث ما لم ٌكن‬
‫لسابقٌهم‪.‬‬
‫‪ -‬الدعاٌة التً قام بها المتعصبون لنشر مذاهب أبمتهم‪ ،‬مما صرفهم‬
‫عن النظر فً الكتاب والسنة‪ ،‬فصار أحدهم ال ٌرجع إلى النصوص إال لٌلتمس‬
‫فٌها ما ٌؤٌد مذهب إمامه‪ ،‬وقد استعانوا فً هذه الدعاٌة أحٌانا ً بالحكام‪ ،‬والذٌن‬
‫أنشأوا المدارس‪ ،‬وقصروا التعلٌم فٌها على المذهب الذي رؼِ بوه‪ ،‬وخصَّصوا‬
‫المكاف ت للمعلمٌن والتبلمٌذ‪ ،‬مما أدى إلى التسابق على دراسة هذا المذهب‪،‬‬
‫ِّ‬
‫والحط من ؼٌره‪.‬‬ ‫واإلنصراؾ عن ؼٌره‪ ،‬والتفانً فً إعبلء شأنه‪،‬‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.344‬‬


‫‪ٓ -2‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.104‬‬

‫ـ ‪ 131‬ـ‬
‫جهود العلماء فً هذه المرحلة‪:‬‬
‫انحصرت جهودهم فً نصرة مذاهب أبمتهم‪ ،‬وذلك كما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬تعلٌل ما استنبطه األبمة من أحكام لم ٌذكروا عِ للها‪ ،‬وبمعرفة هذه العلل‬
‫تمكنوا من اإلفتاء فٌما لم ٌرد فٌه حكم عن األبمة السابقٌن من مسابل مماثلة‪.‬‬
‫‪ -‬الترجٌح بٌن األقوال المحتلفة فً المذهب إذا اختلؾ النقل عن اإلمام‪ ،‬وذلك‬
‫قول فً مسأل ٍة واحدة (‪ )1‬أو الترجٌح بٌن ما قاله اإلمام‬
‫إذا ورد عنه أكثرُ من ٍ‬
‫وما قاله تبلمٌذه‪ ،‬وٌكون الترجٌح بحسب الثقة بناقلً اآلراء‪ ،‬أو إتفاق الرواٌة‬
‫مع قواعد المذهب‪ ،‬أو قُ ِ‬
‫ربها من الكتاب والسنة وؼٌرهما من األدلة‪.‬‬
‫‪ُ -‬نصرة المذهب بنشر ما علٌه إمامه من العلم الواسع والنبوغ والقدرة على‬
‫االستنباط‪ ،‬وتألٌؾ الكتب فً مناقبه‪ ،‬ونِسبة صفات المدح ونعوت الكمال إلٌه‪،‬‬
‫َّ‬
‫وحط من شأنهم‪،‬‬ ‫وربما تطرَّ ؾ البعض فنا َل من األبمة المخالفٌن لمذهبه‪،‬‬
‫ونسب من النقابص إلٌهم ما هم َّ‬
‫منزهٌن عنه‪.‬‬ ‫َ‬
‫وقد تكون النصرة بترجٌح مذهبه فً مسألة معٌنة‪ ،‬ببٌان حُ ججه‬
‫ودحض حجج مخالفٌه‪ ،‬وإن كان الترجٌح دابما ً ٌكون لرأي مذهبه‪ ،‬ولو كانت‬
‫حججه واهٌة‪ ،‬وهذا ما لم ٌكن علٌه فقهاء الصحابة والتابعٌن وأبمة المذاهب‪،‬‬
‫والذٌن كانوا ٌرون الخبلؾ فً الفقه أمراً طبٌعٌاً‪ ،‬فلم ٌَعِب أحدهم على ؼٌره‬
‫رأٌه‪ ،‬ولم ٌُنقِص من مكانته العلمٌة‪ ،‬ولم ٌصرح بأن رأٌه هو الحق الذي ال‬
‫تجوز مخالفته‪.‬‬
‫ولهذا لم ٌتم تكوٌن مذاهب جدٌدة فً هذا العصر‪ ،‬رؼم وجود بعض‬
‫المجتهدٌن فٌه‪ ،‬بل إن بعض المذاهب اندثر‪ ،‬لعدم وجود تبلمٌذ ٌقومون على‬

‫‪ -1‬ئٓح ذغرد خطأ ذؼل ٗحهِ‪ ٢‬آسجت‪ ٚ‬أ‪ ٝ‬ذغرد أٗ‪ ٚ‬سأ‪ ٟ‬سأ‪٣‬ح ً كأخز‪ ٙ‬ػ٘‪ ٚ‬ذؼل ضالٓ‪٤‬ز‪ ٙ‬غْ سؾغ ػ٘‪ ٚ‬ئُ‪ ٠‬ؿ‪٤‬ش‪ٙ‬‬
‫ك‪ٞ‬ػح‪ ٙ‬ذؼل جُطالٓ‪٤‬ز د‪ ٕٝ‬ذؼن‪ ْٜ‬ج‪٥‬خش‪.‬‬

‫ـ ‪ 132‬ـ‬
‫نشرها والدعاٌة لها‪ ،‬كمذهب األوزاعً والثوري وداود الظاهري واللٌث بن‬
‫سعد‪ ،‬حتى لم ٌعُد لها ِذكرٌ إال فً بطون الكتب‪.‬‬
‫كثرت مجالسها فً هذا العصر‪ ،‬ولكن ؼرضها لم ٌكن‬ ‫‪ -‬المناظرات‪ ،‬وقد ُ‬
‫حكم شرعً صحٌح بل التعصب للمذهب وإرضاء الحكام الذٌن‬
‫الوصول إلى ٍ‬
‫قصدوا الظهور أمام الناس بالتدٌن‪ ،‬لتنطلق األلسُن بالثناء علٌهم‪ ،‬فإن انحاز‬
‫الحاكم إلى رأي ن َّكل بمن عارضه‪ ،‬وبهذا صارت المناظرات سبٌبلً للنزاع ال‬
‫الوصول إلى الحكم الصواب‪ ،‬وانقلبت إلى مهاترات ال تعرؾ للحق سبٌبلً (‪،)1‬‬
‫فانتهز ذلك أعداء الدٌن‪ ،‬وأوقدوا نار الخبلؾ‪ ،‬مما تفرقت معه األمة فِرقا ً‬
‫وطمع فٌها من كان ٌخشى بأسها‪ ،‬وكاد األمر ٌصل إلى تحرٌم العمل‬
‫َ‬ ‫ومذاهب‪،‬‬
‫بالمذاهب األخرى أو االنتقال إلٌها أو الصبلة خلؾ إمام منها أو الزواج بمن‬
‫ٌتبعها من النساء (‪ ،)2‬ومع هذا كله فالمناظرات لم َتخ ُل من فابدة‪ ،‬ألنها أثارت‬
‫الهمم للبحث عن حجج الخصوم وأدلتهم‪ ،‬كما أنها عرضت آراء المذاهب‬
‫ِ‬
‫وأكسب ُه بعض الحٌاة(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫األخرى والردود علٌها‪ ،‬مما أثرى الفقه‬
‫‪ -‬تنظٌم فقه المذهب وجمعه ودعمه باألدلة‪ ،‬وذِكر المسابل التً تخالفه فٌها‬
‫المذاهب األخرى‪ ،‬وبٌان رُ جْ حانه علٌها‪.‬‬
‫ورؼم أهمٌة هذه األعمال إال أن ؼاٌتها نصرة المذاهب مما قلَّل من‬
‫أهمٌتها‪ ،‬ألن فقهاء هذا العصر حصروا أبحاثهم فً دابرة ضٌقة فً حدود‬
‫المذهب الذي انتموا إلٌه‪ ،‬وأصبح فً نظرهم أن كل ما قاله إمامهم صحٌح ال‬
‫ٌحتمل الشك‪ ،‬وأن اآلراء التً للمذاهب األخرى خاطبة إذا كانت ال توافق ما‬

‫‪ -1‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.9‬‬


‫‪ -2‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬جُو‪ ٍٞ‬جُٔل‪٤‬ذ‪ ،‬ؿ‪.40‬‬
‫‪ -3‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.112‬‬

‫ـ ‪ 133‬ـ‬
‫فً مذهبهم‪ ،‬وقد أدى تقدٌس آراء السابقٌن والسمو بها عن مستوى النقد إلى‬
‫عدم االكتراث بما ٌظهر من آراء جدٌدة ولو كان لها من السداد والقوة ما‬
‫لها(‪.)1‬‬
‫المرحلة الثانٌة‪ -‬التقلٌد المطلق‪:‬‬
‫تبدأ هذه المرحلة من منتصؾ القرن السابع الهجري بسقوط بؽداد سنة‬
‫‪656‬هـ ( ‪1258‬م) فً ٌد المؽول‪ ،‬وتمتد إلى أوابل القرن الثالث عشر‬
‫الهجري‪ ،‬وهً أطول مرحلة فً تارٌخ الفقه اإلسبلمً‪ ،‬إذ بلؽت ستة قرون‬
‫تقرٌباً‪ ،‬وفٌها بلػ المسلمون أقسى حاالت الضعؾ والتفرق‪ ،‬إذ انطفأ مصباح‬
‫اإلسبلم فً األندلس‪ ،‬واستولى األتراك العثمانٌون على أؼلب العالم اإلسبلمً‪،‬‬
‫وانتهت باحتبلل االستعمار األوربً للعالم اإلسبلمً بعد إزاحة الحكم‬
‫العثمانً‪ ،‬وهذا كله أدى إلى ضعؾ الفقه‪ ،‬وسٌادة التقلٌد المطلق‪ ،‬فصار هو‬
‫األصل‪ ،‬وبات من ٌحاول االجتهاد خارجا ً عن اإلجماع مرم ٌّا ً بكل نقٌصة(‪.)2‬‬
‫وقد انحصر عمل رجال هذا العصر فً حفظ ما َس َبق وتردٌده‪ ،‬وكان‬
‫همهم اختصار كتب من سبقهم‪ ،‬لِفُتور هِمة طلبة العلم عنها لطولها‪ ،‬ولمَّا كانت‬
‫لؽتهم العربٌة ضعٌفة فقد تحولت كتاباتهم إلى ما ٌشبه األلؽاز‪ ،‬حتى كأنها ما‬
‫أُلِّفت ل ُتفهم‪ ،‬فعجز الراؼبون فً الفقه عن فهمها‪ ،‬مما دعا إلى شرح‬
‫المختصرات‪ ،‬بل اضطروا إلى شرح هذه الشروح‪ ،‬فكانت هناك المتون‪ ،‬وهً‬
‫الكتب المختصرة‪ ،‬والشروح وهً التً شرحت المختصرات‪ ،‬وشروح‬
‫الشروح‪ ،‬وتسمى الحواشً‪ ،‬وهناك تعلٌقات على هذه الحواشً‪ ،‬تسمى‬
‫التقرٌرات‪ ،‬إلستدراك النقص أو جبلء الؽامض أو تصحٌح الخطأ فً تلك‬

‫‪ -1‬أذ‪ ٞ‬جُلط‪ٞ‬ـ‪ :‬ؿ‪.171‬‬


‫‪ -2‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪.103‬‬

‫ـ ‪ 134‬ـ‬
‫المتون أو شر وحها أو حواشٌها أو ضرب األمثلة لؤلحكام التً وردت بالمتون‬
‫وشروحها‪ ،‬وقد خلت هذه الكتب جمٌعها ؼالبا ً من ذِكر األدلة‪ ،‬وعرض آراء‬
‫عقٌم ٌدور فً حلقة‬
‫ٍ‬ ‫ونقاش‬
‫ٍ‬ ‫ك ألفاظ‬
‫المذاهب األخرى‪ ،‬وصار الفقه بها مجرد ح ِّ‬
‫مفرؼة ال ُتنتِج وال ُتفٌد‪.‬‬
‫بكثٌر من الكتب فً هذا العصر إال أنها ‪ -‬لؤلسؾ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫ومع أن الفقه ظفر‬
‫وجَّ هت عناٌتها إلى األلفاظ وبٌان معانٌها‪ ،‬وابتعدت عن جوهر العلم‪ ،‬مما جعل‬
‫لع علٌها الوقوؾ على معانً ألفاظها ‪ ،‬وبهذا ألحق التقلٌد بالفقه َ‬
‫بالػ‬ ‫َّ‬
‫َه َّم المط ِ‬
‫الضرر‪ ،‬وصارت ؼاٌة رجاله فهم عبارات الكتب‪ ،‬فتركوا النظر فً الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬ظنا ً منهم أنهم لم ٌبلؽوا مب َ‬
‫ْلػ سابقٌهم فً االجتهاد‪.‬‬
‫ومثال ذلك كتاب "بداٌة المبتدئ" لبرهان الدٌن المرؼٌنانً‪ ،‬الذي‬
‫شرحها محمود البابرتً فً "العناٌة"‪ ،‬وهذه‬
‫َ‬ ‫شرحه فً كتابه "الهداٌة‪ ،‬والتً‬
‫َ‬
‫شرحها كمال الدٌن بن الهُمام فً "شرح فتح القدٌر"‪ ،‬وجاء سعْ دي جلَبً‬
‫شرحه‬
‫َ‬ ‫فوضع تقرٌرات على هذا الشرح‪ ،‬ومن هذا أٌضا ً مختصر خلٌل‪ ،‬الذي‬
‫كثٌرٌ من المالكٌة‪ ،‬بعد أن بلػ فٌه اإلختصار ؼاٌته‪ ،‬ألنه عبارة عن مختصر‬
‫مختصر المختصر‪ ،‬ولهذا كادت عباراته أن تكون ألؽازاً‪ ،‬فأُلِّفت فً بٌانها هذه‬
‫الشروح‪ ،‬إذ هو اختصار لمختصر ابن الحاجب‪ ،‬الذي هو اختصار لتهذٌب‬
‫البرادعً‪ ،‬وهذا بدوره اختصار لمختصر ابن أبً زٌد القٌروانً‪ ،‬الذي‬
‫اختصر فٌه المدونة الكبرى لسحنون بن عبد السبلم‪ ،‬وصار مختصر خلٌل‬
‫ظهر قلب‪ ،‬ألنه رموز ال ُتفهم إال بالرجوع للعدٌد من الشروح‬
‫ِ‬ ‫ٌُحفظ عن‬
‫والحواشً والتعلٌقات‪َ ،‬‬
‫وؼدا بعضُ دارسً الفقه المالكً ٌُفنًِ عمره فً حفظه‪،‬‬
‫مقرراً بذلك جمود الفقه وعجزه‪.‬‬
‫الفتاوى‪ ،‬وٌرجع ذلك إلى أن‬
‫َ‬ ‫وقد تمٌَّزت هذه المرحلة بتألٌؾ كتب‬
‫ـ ‪ 135‬ـ‬
‫ً‬
‫مرتبة على أبواب‬ ‫كثٌراً ممن تصدوا لئلفتاء جمعوا فتاوٌهم فً كتب‪ ،‬وجعلوها‬
‫الفقه‪ ،‬وكان أسلوب الكتب ٌجرى على طرٌقة ذِكر السؤال واتباعه بالجواب‬
‫واألدلة التً ٌستند علٌها‪ ،‬وإن كانت الوقابع ُتذكر أحٌانا دون أسبلة‪ ،‬وقد بٌَّنت‬
‫(‪ ،)1‬ومنها الفتاوى‬ ‫هذه الكتب مبلبمة الفقه للواقع‪ ،‬وتطوره بتطور الزمان‬
‫الزٌنٌة لزٌن الدٌن بن ُنجٌم (ت ‪970‬هـ)‪ ،‬والفتاوى الخٌرٌَّة لخٌر الدٌن الرملً‬
‫ً‬
‫نسبة إلى‬ ‫(ت ‪1081‬هـ) والفتاوى الهندٌة‪ ،‬المعروفة بالفتاوى العالمكٌِرٌة‪،‬‬
‫عالمكٌِر أحد ملوك الهند‪ ،‬والذي أنفق على تألٌفها من قِبل مجموعة من علماء‬
‫الهند‪ ،‬وكل ما سبق فً المذهب الحنفً‪ ،‬أما الشافعٌة فلهُم الفتاوى الكبرى‬
‫الفقهٌة البن َح َجر الهٌ َتمً (ت ‪940‬هـ)‪ ،‬وفتاوى الرملً (ت ‪1004‬هـ)‪ ،‬وفً‬
‫الفقه الحنبلً هناك فتاوى ابن تٌمٌة (ت ‪728‬هـ)‪.‬‬
‫والواضح أن تدوٌن الفقه ازدهر فً عصر التخلؾ والتقلٌد كما هو‬
‫الحال فً عصر االزدهار الفقهً‪ ،‬لكنه فً عصر االزدهار كانت ؼاٌته‬
‫التجدٌد واإلضافة‪ ،‬فً حٌن انحصرت ؼاٌته فً عصر التخلؾ فً التنسٌق‬
‫والترتٌب واالختصار والشرح والتعلٌق دون اإلضافة‪ ،‬فصار مجرَّ د ازدهار‬
‫شكلً‪ ،‬ؼاٌ ُته االختصار و ُنصرة المذاهب(‪.)2‬‬
‫ورؼم سٌادة التقلٌد فً هذا العصر فقد ظهر فٌه مجتهدون رفضوا‬
‫الخنوع لهذا الجمود‪ ،‬ودعوا إلى نبذ التقلٌد‪ ،‬و َبعْ ِ‬
‫ث روح االجتهاد بالرجوع إلى‬
‫الكتاب والسنة وما كان علٌه السلؾ الصالح‪ ،‬ومن هؤالء المجتهدٌن ابن تٌمٌة‬
‫(‪728‬هـ) الذي لق ًَِ فً دعوته ع َنتا ً شدٌداً‪ ،‬حتى ُز َج به فً السجن آخر األمر‪،‬‬
‫ومات فٌه‪ ،‬وقد ناصره فً دعوته‪ ،‬وسار على نهجه تلمٌذه ابن القٌم‬

‫‪ -1‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.166‬‬


‫‪ -2‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪.30‬‬

‫ـ ‪ 136‬ـ‬
‫(‪751‬هـ)‪ ،‬فلق ًَِ ذات مصٌر أستاذه‪ ،‬فأُودِع معه السجن‪ ،‬ومنهم أٌضا اإلمام‬
‫الشاطبً (ت ‪790‬هـ) والشوكانً (ت ‪1250‬هـ)‪ ،‬وقد تعرض هؤالء الفقهاء‬
‫جمٌعا لنقد معاصرٌهم‪ ،‬لخروجهم على التقلٌد السابد فً تلك اآلونة‪.‬‬

‫المبحث السادس‬
‫عصر النهضة الحدٌثة‬
‫ٌبدأ هذا الدور بظهور مجلة األحكام العدلٌة سنة ‪1286‬هـ (‪1876‬م)‪،‬‬
‫باعتبارها أول تقنٌن َّ‬
‫منظم لؤلحكام الفقهٌة‪ ،‬وٌستمر إلى وقتنا الحاضر‪،‬‬
‫وسٌاسٌا ً بدأ بترنح الدولة العثمانٌة تحت وطأة االستعمار األوروبً‪ ،‬واستٌبلبه‬
‫على أجزابها قطراً قطراً‪ ،‬وصحِب هذا الؽزو السٌاسً ؼزوٌ ثقافً وفكري‪،‬‬
‫أو َهم المسلمٌن أن تمسكهم باإلسبلم هو سبب تخلفهم‪ ،‬لعدم مساٌرته للزمن‪،‬‬
‫واتهم المشتؽلٌن به بالرجعٌة والتخلؾ‪ ،‬فأحلَّت كل دولة استعمارٌة قوانٌنها‬
‫(‪ ،)1‬فنام‬ ‫محل الفقه اإلسبلمً‪ ،‬وتركت للفقه فقط مسابل األحوال الشخصٌة‬
‫العدو قرٌر العٌن‪ ،‬بالؽا ً أقصى أمانٌه‪ ،‬مستعٌنا ً على ذلك ببعض أدعٌاء العلم‬
‫والتحضر‪ ،‬ممن انتسب إلى اإلسبلم من أبنابه‪ ،‬فكانوا أضرَّ علٌه من أعدابه‬
‫وخصومه(‪.)2‬‬
‫وقد أ ُ ِتبعت فً ذلك خطة تقوم على األسس التالٌة(‪:)3‬‬
‫‪ -‬إصدار قوانٌن فً مسابل جُزبٌة‪ ،‬كً ٌتفتت جسم الفقه اإلسبلمً‬
‫شٌبا ً فشٌباً‪ ،‬تحاشٌا ً ألي اضطراب شعبً لو تم اصدار تقنٌنات شاملة لكل‬
‫المسابل‪.‬‬

‫‪ -1‬جُضق‪ :٢ِ٤‬ؿ‪ ،483‬جُؼطحس‪ :‬ؿ‪.32‬‬


‫‪ -2‬أقٔذ صً‪ ٢‬ضلحقس‪ :‬ؿ‪.70‬‬
‫‪ -3‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.267-265‬‬

‫ـ ‪ 137‬ـ‬
‫‪ -‬ربط تفسٌر القوانٌن المطبقة‪ ،‬حتى المسابل المستمدة من الفقه‬
‫اإلسبلمً‪ ،‬بالتراث القانونً الؽربً‪.‬‬
‫‪ -‬اسناد تطبٌق القوانٌن المستمدة من األحكام الشرعٌة‪ ،‬حتى فً مجال‬
‫األحوال الشخصٌة‪ ،‬لقضا ٍة أجانب أو متشبعٌن بالثقافة القانونٌة الؽربٌة‪.‬‬
‫‪ -‬جعل لؽة القانون وتداوله هً لؽة المستعمر‪ ،‬حتى تنقطع صلته تماما ً‬
‫بالفقه اإلسبلمً‪.‬‬
‫‪ -‬حصر تطبٌق الشرٌعة اإلسبلمٌة فً مسابل األحوال الشخصٌة‪،‬‬
‫وعلى المسلمٌن فقط‪ ،‬وحتى هذه الناحٌة طالتها بعض القوانٌن ذات المنشأ‬
‫الؽربً‪.‬‬
‫وبعد قٌام الحركات التحررٌة بعد الحرب العالمٌة الثانٌة‪ ،‬والتً أثمرت‬
‫اإلستقبلل السٌاسً‪ ،‬بدأت الدول اإلسبلمٌة تستعٌد هوٌَّتها‪ ،‬وتسعى للتحرر من‬
‫جمٌع ألوان التبعٌة‪ ،‬ولهذا رجعت إلى الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬ألنها أدركت أنه ال‬
‫هوٌة لها إال باإلسبلم‪ ،‬وإن كان ذلك بخطوات بطٌبة متباعدة‪ ،‬فن َشط الفقه‪،‬‬
‫واتجه العلماء إلى اإلفادة من جمٌع المذاهب‪ ،‬وانقضى عصر التعصب‬
‫المذهبً‪ ،‬الذي سٌطر على الفقه اإلسبلمً قرونا ً عدٌدة‪ ،‬وصار الفقه ٌ َ‬
‫ُدرس‬
‫ُظهر‬ ‫( ‪)1‬‬ ‫ً‬
‫دراسة مقارنة بٌن أقوال الفقهاء والقانون الوضعً وآراء شراحه ‪ ،‬بما ٌ ِ‬
‫سب َْق الفقه اإلسبلمً‪ُّ ،‬‬
‫وتفوقه على القوانٌن الوضعٌة‪.‬‬
‫كما سار ال ُك ّتاب على هذا النسق فً مؤلفاتهم‪ ،‬وتركوا المذهبٌة‬
‫والشؽؾ باالختصار والعناٌة باأللفاظ‪ ،‬وصاروا ٌتناولون مشاكل الحٌاة بالبحث‬
‫العمٌق‪ ،‬لوضع الحلول المبلبمة لها‪ ،‬بل صاغ بعضهم بعض المسابل الفقهٌة‬

‫‪ -1‬جُؼطحس‪ :‬ؿ‪ ،52‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.249‬‬

‫ـ ‪ 138‬ـ‬
‫فً مواد قانونٌة‪ ،‬وقام من أتى بعدهم بشرح تلك المواد‪.‬‬
‫كما تطور القضاء فً هذا العصر‪ ،‬فصار القاضً ٌصدر حكمه على‬
‫ضوء جمل ٍة من القوانٌن‪ ،‬مستمدة من الفقه من ؼٌر تقٌد بمذهب معٌن‪ ،‬كما كان‬
‫علٌه الحال فً عصور الجمود‪ ،‬فزال الزمن الذي كان الفقهاء ٌحصرون فٌه‬
‫أنفسهم ضمن أحكام مذهب معٌن‪ٌ ،‬رون فٌه الحق وفً ؼٌره الباطل دون‬
‫النظر لؤلدلة(‪.)1‬‬
‫وهذه النهضة الحدٌثة تضافرت عدة عوامل على إنتاجها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬انتشار الطباعة‪ ،‬مما أعان على إحٌاء التراث الفقهً الذي كان حبٌس‬
‫المكتبات الخاصة وقصور الحكام ومكتبات أوروبا‪ ،‬مخطوطا ً ؼٌر منشور‪،‬‬
‫فٌسَّرت وسابل النشر الحصول علٌه واإلفادة منه‪.‬‬
‫‪ -‬ظهور جُملة من العلماء الداعٌن إلى اإلصبلح اإلجتماعً‪ ،‬متخذٌن‬
‫من العودة إلى الشرٌعة شعاراً لمحاربة االستعمار والنهوض باألمة‪.‬‬
‫‪ -‬ظهور الحركة القومٌة الداعٌة لوحدة األمة‪ ،‬والتً رأت ‪-‬فً جانب‬
‫منها‪ -‬فً العودة للشرٌعة سبٌبلً لتحقٌق الوحدة ومحاربة االستعمار والخبلص‬
‫من هٌمنته‪.‬‬
‫‪ -‬فشل القوانٌن المستمدة من الؽرب فً تحقٌق ؼاٌات المجتمع‪ ،‬مما‬
‫أٌقن معه حكام األمة أن التمادي فً هذا السبٌل سٌؤدي إلى إزدٌاد سخط‬
‫الرعٌة علٌهم‪ ،‬ف ثروا العودة للفقه اإلسبلمً‪ ،‬حفاظا ً على كراسٌهم‪.‬‬
‫ممٌزات هذا الدور‪:‬‬
‫‪ -1‬ظهور مجلة األحكام العدلٌة‪:‬‬

‫‪ -1‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪.171‬‬

‫ـ ‪ 139‬ـ‬
‫كانت األحكام الشرعٌة منثور ًة فً الكتب الفقهٌة لكل مذهب‪ ،‬وهذه‬
‫الكتب تتفاوت فً درجة أهمٌتها‪ ،‬فقد ٌُوجد فً بعضها من اآلراء ما ال ٌوجد‬
‫فً ؼٌره‪ ،‬كما أن اآلراء تتعدد ال من مذهب إلى آخر بل وفً المذهب الواحد‪،‬‬
‫مما ٌُصعِّب مهمة القضاة‪ ،‬وتختلؾ معه األحكام‪ ،‬ولما اتجه العثمانٌون إلى‬
‫إصبلح القضاء سعوا إلى توحٌد قوانٌن الدولة‪ ،‬وجعْ لِها فً متناول القضاة‬
‫والمتقاضٌن‪ ،‬وكونوا لهذا الؽرض سنة ‪1869‬م لجنة لوضع قانون للمعامبلت‬
‫المدنٌة‪ ،‬أصدرت مجلة األحكام العدلٌة بعد سبع سنوات من العمل‪ ،‬وكانت أول‬
‫محاول ٍة للخروج من التقلٌد المطلق السابد فً الدور السابق‪.‬‬
‫والمجلة مأخوذة أساسا ً من كتب المذهب الحنفً‪ ،‬وقد أ ُ ُّت ِبع فٌها أسلوب‬
‫القوانٌن الحدٌثة‪ ،‬بتقسٌمها إلى موا ٍد مسلسلة‪ ،‬وتمٌزت بسهولة العبارة‪،‬‬
‫قول واحدٍ‪ ،‬دون الخوض فً الخبلفات الفقهٌة‪ ،‬لٌسهل‬
‫واالقتصار على ٍ‬
‫تطبٌقها‪ ،‬وهً بهذا أول محاولة رسمٌة لصٌاؼة قانون مدنً مستمد من الفقه‬
‫اإلسبلمً‪.‬‬
‫وباعتبار المجلة فتحا ً جدٌداً فً تدوٌن الفقه اإلسبلمً وأسلوب دراسته‬
‫فقد ظهرت لها عدة شروح‪ ،‬أهمها شر ُح علً حٌدر بالتركٌة‪ ،‬وقد عرَّ به فهمً‬
‫ٌ‬
‫وجٌز كثٌرُ التداول‪.‬‬ ‫الحُ سٌنً‪ ،‬وشر ُح سلٌم رستم باز‪ ،‬وهو شر ٌح‬
‫وقد ساعدت المجلة على تحقٌق نهضة فقهٌة كبٌرة‪ ،‬تمثلت فً كثرة‬
‫شروحها‪ ،‬واتساع نطاق تطبٌقها‪ ،‬كما أفادت فً استمرار العمل بأحكام الفقه‬
‫اإلسبلمً ودراسته فً الببلد التً طبِّقت فٌها فترة طوٌلة‪ ،‬فلم تستطع حكومات‬
‫االحتبلل معها فرض قوانًنها ذات األصول الؽربٌة بذات السرعة والسهولة‬

‫ـ ‪ 140‬ـ‬
‫التً حدث ذلك بها فً ببلد إسبلمٌة أخرى لم تطبق فٌها المجلة(‪.)1‬‬
‫وقد ُ‬
‫طبِّقت المجلة منذ صدورها فً تركٌا والببلد العربٌة الخاضعة‬
‫لها‪ ،‬إال قلب الجزٌرة العربٌة والٌمن‪ ،‬كما لم تطبق فً مصر‪ ،‬الستقبللها عن‬
‫تركٌا قبل ظهور المجلة‪ ،‬ولذا رفض الخِدٌوي إسماعٌل تطبٌق المجلة‪ ،‬وطبَّق‬
‫بدالً عنها قانونا ً وضعٌاً‪ ،‬هو عبارة عن ترجمة لقانون نابلٌون الصادر سنة‬
‫‪ 1804‬م‪ ،‬فكان فعله هذا أول تقنٌن وضعً فً مجال المعامبلت مستمد من‬
‫القوانٌن الؽربٌة‪.‬‬
‫‪1912‬م‪ ،‬بعد شروع‬ ‫وقد استمر العمل بالمجلة فً لٌبٌا إلى سنة‬
‫إٌطالٌا فً ؼزوها للٌبٌا‪ ،‬وفً تركٌا إلى سنة ‪1924‬م‪ ،‬عندما أعلن مصطفى‬
‫كمال أتاتورك جمهورٌته العِلمانٌة‪ ،‬بعد إطاحته بخبلفة بنً عثمان‪ ،‬واس ُتبدلت‬
‫المجلة وسابر التشرٌعات المستمدة من الفقه اإلسبلمً بقوانٌن مترجمة حرفٌا ً‬
‫‪1976‬م فً‬ ‫عن القوانٌن األوربٌة (‪ ،)2‬وقد كان آخر تطبٌق للمجلة سنة‬
‫األردن‪ ،‬حٌث اُستبدلت بقانون وضعً‪.‬‬
‫‪ -2‬اتساع نطاق التقنٌن‪:‬‬
‫فً هذا العصر صدرت عدة قوانٌن فً موضوعات مختلفة‪ ،‬السٌما فً‬
‫مجال األحوال الشخصٌة‪ ،‬حٌث أصدرت الدولة العثمانٌة سنة ‪1917‬م قانون‬
‫حقوق العابلة‪ ،‬متضمنا ً أحكام الزواج للمسلمٌن ولؽٌرهم بحسب شرابعهم‪،‬‬
‫وبالنسبة للمسلمٌن كانت النصوص فً األصل مستمدة من المذهب الحنفً‪،‬‬
‫ولكن بعضها أُخ َِذ من المذاهب األخرى (‪ ،)3‬وكانت الدولة العثمانٌة قد أصدرت‬

‫‪ -1‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.273‬‬


‫‪ٓ -2‬كٔقحٗ‪ :٢‬ؿ‪.219‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.201-200‬‬

‫ـ ‪ 141‬ـ‬
‫قانونها التجاري سنة ‪1950‬م‪ ،‬وقانونها الجنابً سنة ‪1958‬م‪ ،‬وؼٌرها كثٌر‪،‬‬
‫والتً رؼم تأثرها بالقوانٌن الؽربٌة لكنها لم تنفصل ً‬
‫كلٌة عن أصولِها‬
‫الشرعٌة(‪.)1‬‬
‫وفً النصؾ الثانً من القرن العشرٌن صدرت تقنٌنات عدٌدة فً‬
‫الببلد العربٌة‪ ،‬السٌما فً نطاق القانونٌن المدنً والجنابً‪ ،‬حٌث جعل‬
‫واضعوها ُنصْ ب أعٌُنهم القواعد الشرعٌة والنظرٌات الفقهٌة‪ ،‬فجعلوا الشرٌعة‬
‫اإلسبلمٌة أحد مصادر التشرٌع المدنً‪ ،‬وجاءت نصوص هذه القوانٌن فً‬
‫الكثٌر من أحكامها التفصٌلٌة مستمد ًة من الفقه اإلسبلمً‪ ،‬فصار القاضً فً‬
‫أحكامه بٌن اثنٌن‪ ،‬إما أن ٌطبق أحكاما ً ال تتناقض مع الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬وإما‬
‫أن ٌطبق أحكام الشرٌعة ذاتها‪.‬‬
‫ولكن األساس الذي استمدت منه الدول العربٌة تقنٌناتها فً مجال‬
‫قوانٌن العقوبات واإلجراءات المدنٌة والجنابٌة كان ؼربٌا ً فً ؼالبه‪ ،‬إذ تش َّكل‬
‫من قوانٌن فرنسا وانجلترا وسوٌسرا وإٌطالٌا‪ ،‬فأخذت كل دولة عربٌة منها فً‬
‫ً‬
‫جملة من أحكام تشرٌعات هذه الدول‪ ،‬وحاولت التنسٌق بٌنها‪ ،‬مما جعل‬ ‫قانونها‬
‫القانون العربً المعاصر ٌمثل صور ًة ً‬
‫حٌة للحاضر العربً المتفسخ‪ ،‬وأوضح‬
‫دلٌل على الفُرقة واالضطراب‪ ،‬وسببا ً للضعؾ والتبعٌة واالختبلؾ‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلفادة من جمٌع المذاهب‪:‬‬
‫دعا بعض المصلحٌن فً هذا العصر إلى اإلفادة من جمٌع المذاهب‬
‫ونبذ التقلٌد‪ ،‬تٌسٌراً على الناس‪ ،‬وتمشٌا ً مع مقاصد الشرٌعة التً تدعوا إلى‬
‫ب واح ٍد تضٌٌقا ً على الناس‪ ،‬وكان من أبرز‬
‫رفع الحرج‪ ،‬ألن فً التمسك بمذه ٍ‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.195-192‬‬

‫ـ ‪ 142‬ـ‬
‫دعاة هذا اإلتجاه جمال الدٌن األفؽانً (ت ‪1898‬م)‪ ،‬وتلمٌذه محمد عبده (ت‬
‫‪1906‬م) ‪ ،‬وكان من نتابج دعوتهما تشكٌل لجنة من كبار علماء الفقه فً‬
‫مصر سنة ‪1916‬م‪ ،‬لوضع قانون لؤلحوال الشخصٌة‪ ،‬ورؼم قٌام اللجنة‬
‫بعملها إال أن القانون لم ٌُصدَر‪ ،‬للمعارضة التً القاها من مؤٌدي المذاهب‪،‬‬
‫ومع هذا فإن الدعوة لئلفادة من كل المذاهب وعدم التقٌد بمذهب معٌن استمرت‬
‫وأثمرت نتابجها‪ ،‬حٌث صدرت عدة قوانٌن‪ ،‬أستمدت أحكامها من مختلؾ‬
‫المذاهب‪ ،‬فصدر منها فً مصر قانون المٌراث والوقؾ والوصٌة‪ ،‬كما‬
‫صدرت عدة قوانٌن ق َّننت جزبٌا ً أحكام الزواج والطبلق (‪ ،)1‬وصدر فً سورٌا‬
‫سنة ‪1953‬م أول قانون عربً متكامل لؤلحوال الشخصٌة‪ ،‬مستمداً أحكامه من‬
‫الفقه اإلسبلمً بجمٌع مذاهبه ولو كانت من ؼٌر المذاهب األربعة المعروفة(‪.)2‬‬
‫وقد استمرت الدعوة اإلصبلحٌة‪ ،‬وتردد صداها خارج مصر على ٌد‬
‫محمد إقبال فً الباكستان وعبد الرحمن الكواكبً فً سورٌا ومحمد الطاهر بن‬
‫عاشور فً تونس‪ ،‬وعبلَّل الفاسً فً المؽرب‪ ،‬وكان من ثمارها ظهور إتجاه‬
‫جدٌد ؼاٌته تٌسٌر دراسة الفقه‪ ،‬بعمل موسوعات فقهٌة لكل المذاهب‪ُ ،‬تفرَّ غ‬
‫شكل ّ‬
‫منظم‪ ،‬لٌسهُل الرجوع إلٌها‪ ،‬وقد قامت بهذا‬ ‫ٍ‬ ‫الموضوعات الفقهٌة فٌها فً‬
‫العمل كلٌة الشرٌعة بجامعة دمشق‪ ،‬منذ سنة ‪1956‬م‪ ،‬وبعد الوحدة بٌن مصر‬
‫وسورٌا سنة ‪1958‬م أُضِ ٌؾ إلى لجنة الموسوعة عدد من علماء مصر‪،‬‬
‫والذٌن اقتصر تشكٌل اللجنة علٌهم بعد اإلنفصال سنة ‪1961‬م(‪ ،)3‬كما أُنشِ بت‬
‫ٌ‬
‫موسوعة للفقه اإلسبلمً قامت بإصدار فهارس لعدد من‬ ‫فً الكوٌت‬

‫‪ -1‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.304 -298‬‬


‫‪ -2‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ‪ ،365‬أقٔذ جُؾحكؼ‪ :٢‬ؿ‪.121‬‬
‫‪ -3‬ػِ‪ ٢‬ػِ‪٘ٓ ٢‬ق‪ٞ‬س‪ :‬ؿ‪.114‬‬

‫ـ ‪ 143‬ـ‬
‫الموضوعات الفقهٌة بداٌة من سنة ‪1967‬م‪ ،‬إال أنها توقفت عن العمل منذ سنة‬
‫رواس قلعة ِجً بإعداد موسوعات عدٌدة لفقه‬
‫‪1972‬م‪ ،‬وقام كذلك د‪ .‬محمد َّ‬
‫كبار الصحابة والتابعٌن وؼٌرهم من العلماء‪ٌُ ،‬والً نشرها تِباعا ً‪.‬‬
‫ولم تقتصر العودة للشرٌعة على مصر بل شملت كل الدول اإلسبلمٌة‪،‬‬
‫إذ سارعت بعد استقبللها بصورة تدرٌجٌة إلى إحبلل قوانٌن مصدرها الفقه‬
‫اإلسبلمً محل القوانٌن التً فرضها علٌها المستعمر‪ ،‬وواكب ذلك َع ْقد العدٌد‬
‫من الندوات والمؤتمرات‪ ،‬التً أ َّكدت على ضرورة العودة إلى الشرٌعة‪،‬‬
‫واإلعتماد علٌها كمصدر أساسً للقانون العربً‪.‬‬
‫كما اتجه عدد من المستشرقٌن إلى دراسة الفقه اإلسبلمً‪ ،‬بعد أن‬
‫كانت دراساتهم قبل ذلك تهتم باألدب واللؽة والتصوؾ‪ ،‬ولذا تم تنظٌم دراسة‬
‫الفقه فً الجامعات الؽربٌة‪ ،‬وأُنشبت معاهد متخصصة لدراسته‪ ،‬بعد أن‬
‫اعترؾ الؽرب بمكانته‪ ،‬حٌث ُعقِدت فً هذا اإلطار عدة مؤتمرات منها‬
‫المؤتمر الدولً للقانون المقارن فً دورتٌه ببلهاي سنتً ‪1932‬م‪1937 ،‬م‪،‬‬
‫‪1948‬م‪ ،‬والمجْ َمع الدولً للحقوق‬ ‫والمؤتمر الدولً للمحامٌن ببلهاي سنة‬
‫‪1951‬م‪ ،‬حٌث ع َقد ك ٌل منها‬ ‫المقارنة بكلٌة الحقوق بجامعة بارٌس سنة‬
‫أسبوعا ً لدراسة الفقه اإلسبلمً‪ ،‬وأوصى ك ٌل منها بتب ِّنً الدراسة الفقهٌة‬
‫المقارنة والتشجٌع علٌها (‪ ،)1‬وتوالى بعد ذلك عق ُد الندوات والمؤتمرات‪ ،‬حٌث‬
‫‪1951‬م‪ ،‬والثانً بدمشق‬ ‫ُعقِد أسبوع الفقه اإلسبلمً األول فً بارٌس سنة‬
‫سنة ‪ 1951‬م كذلك‪ ،‬وندوة التشرٌع اإلسبلمً فً البٌضاء بلٌبٌا سنة ‪1972‬م‪،‬‬
‫وع َقد مجْ مع البحوث اإلسبلمٌة دورات عدٌدة بالقاهرة(‪.)2‬‬

‫‪ -1‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.209‬‬


‫‪ -2‬جُؼطحس‪ :‬ؿ‪ٛ ،37‬حٓؼ ‪.2‬‬

‫ـ ‪ 144‬ـ‬
‫وفً لٌبٌا اتخذ إتجاه العودة إلى الشرٌعة أسلوبٌن‪ ،‬األول مراجعة‬
‫التشرٌعات المعمول بها وتصحٌحها بما ٌتوافق مع الشرٌعة‪ ،‬أخذاً من مختلؾ‬
‫ش ِّكلت لهذا‬
‫المذاهب‪ ،‬مع تخٌِّر أٌسر الحلول ومراعاة المصلحة العامة‪ ،‬وقد ُ‬
‫الؽرض سنة ‪1971‬م لجانٌ من ذوي االختصاص‪ ،‬والثانً إصدار قوانٌن‬
‫مستمدة من الفقه بمختلؾ مذاهبه‪ ،‬وفً هذا اإلطار أُصدرت تشرٌعات الحدود‬
‫فً سبعٌنات القرن الماضً‪ ،‬وقانون الزواج والطبلق وآثارهما سنة ‪1984‬م‪،‬‬
‫وقانون شبون القاصرٌن سنة ‪1992‬م‪ ،‬وقانون القصاص والدٌة سنة ‪1995‬م‪.‬‬
‫ومما سبق كله نخلص إلى أن العودة للفقه اإلسبلمً باستمداد القوانٌن‬
‫منه هً ؼاٌة كل المسلمٌن‪ ،‬باعتباره سبٌبلً للوحدة‪ ،‬وعامبلً من عوامل‬
‫التقرٌب بٌن األقطار العربٌة‪ ،‬إذ ال ٌُعقل ونحن نحارب االستعمار أن نلجأ إلى‬
‫قوانٌن مستمدة من ثقافته لتح ُكمنا ونحن نسعى إلى الخبلص منه‪ ،‬كما أن‬
‫ب على القضاة‬
‫طور دراسته‪ ،‬حٌث َو َج َ‬
‫َّ‬ ‫استمداد القوانٌن من الفقه اإلسبلمً‬
‫دراسته دراسة متخصصة‪ ،‬ألنهم سٌطبِّقون قوانٌن مستمدة منه‪ٌ ،‬تولون‬
‫تفسٌرها‪ ،‬وهذا ما ال ٌمكن للمحامٌن والمتقاضٌن تجاهله‪.‬‬

‫ـ ‪ 145‬ـ‬
‫الفصل الثانً‬
‫المذاهب الفقهٌة‬
‫نشأت هذه المذاهب بعد بداٌة القرن الثانً الهجري وإبَّان حُ كم‬
‫العباسٌٌن‪ ،‬وكانت أحد نتابج حرٌة الرأي واالجتهاد التً سادت عصرهم‪ ،‬وقد‬
‫صار له أتباعٌ‬
‫َ‬ ‫تكون ك ٌّل منها من إمام‬ ‫كان لها أثرٌ ٌ‬
‫بالػ فً ازدهار الفقه‪ ،‬حٌث َّ‬
‫كثٌرون‪ ،‬ولهذا اقترنت هذه المذاهب بأسماء مؤسسٌها‪ ،‬وهً على كثرتها‬
‫لٌست تجزبة لئلسبلم‪ ،‬بل هً مناهج فً فهم النصوص الشرعٌة وأسالٌب فً‬
‫دونها‬
‫ب من اآلراء التً َّ‬
‫استنباط األحكام من مصادرها‪ ،‬وٌتكون فقه كل مذه ٍ‬
‫اإلمام بنفسه‪ ،‬أو أمبلها على تبلمٌذه‪ ،‬أو جمعها أتباعه من بعده‪ ،‬وكذلك آراء‬
‫تبلمٌذه الذٌن نهجوا نهْجه‪ ،‬وتقٌَّدوا بطرٌقته فً البحث‪ ،‬وإن اختلفوا معه فً‬
‫بعض األحكام الجزبٌة‪.‬‬
‫وأهم هذه المذاهب مذاهب أهل السنة األربعة‪ ،‬وهً المذهب الحنفً‬
‫والمالكً والشافعً والحنبلً‪ ،‬وهً متقاربة ألنها تعتمد فً االستنباط على‬
‫الكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬وتختلؾ فً نطاق األخذ بالرأي‪ ،‬إذ كان أبو حنٌفة‬
‫نطاق أضٌق‪ ،‬وإن ك َّنا‬
‫ٍ‬ ‫ٌعطً للرأي مجاالً واسعاً‪ ،‬بٌنما أخذ به ؼٌره على‬
‫نبلحظ أن عدد أتباع هذه المذاهب كان فً األؼلب متناسبا ً مع قِدمها ومٌلِها إلى‬
‫االجتهاد والتوسع فٌه‪ ،‬فكان المذهب الحنفً أقدمها ظهوراً وأكثرها عمبلً‬
‫باالجتهاد وأكثرها أتباعاً‪ ،‬والمذهب الحنبلً آخرها ظهوراً وأضٌقها عمبلً‬
‫المذهبن المالكً والشافعً بٌنهما فً كل هذا‪.‬‬
‫ا‬ ‫بالرأي وأقلها أنصاراً‪ ،‬وكان‬
‫وٌرجع بقاء هذه المذاهب وانتشارها إلى تدوٌن آراء علمابها‪ ،‬وهذا ما‬
‫لم ٌتوافر لمن سبقهم من صحابة وتابعٌن‪ ،‬مع أنهم أكثر علماً‪ ،‬وإلى قٌام‬
‫التبلمٌذ بنشر هذه المذاهب والدفاع عنها ودعوة الناس لبللتزام بها‪.‬‬
‫ـ ‪ 146‬ـ‬
‫ومن المذاهب الباقٌة إلى اآلن‪ ،‬باإلضافة إلى مذاهب الجمهور‪ ،‬مذاهب‬
‫الشٌعة‪ ،‬وهناك مذاهب اندثرت‪ ،‬كمذهب األوزاعً واللٌث بن سعد والمذهب‬
‫الظاهري وؼٌرها‪.‬‬
‫وهذه المذاهب كلها‪ ،‬باقٌة ومندثرة‪ ،‬منها ما كان للسٌاسة دخ ٌل فً‬
‫تكوٌنه وتأثٌر فً منهجه‪ ،‬كمذاهب الخوارج والشٌعة‪ ،‬ومنها ما كان ولٌد‬
‫البحث العلمً‪ ،‬كالمذهب الحنفً والمالكً والشافعً والحنبلً وكل المذاهب‬
‫المندثرة‪.‬‬
‫أوال‪ -‬مذاهب أهل السنة‪:‬‬
‫‪ -1‬المذهب الحنفً‪:‬‬
‫ٌُنسب إلى اإلمام أبً َحنٌِفة النعمان بن ثابت (‪ ،)1‬أقدم األبمة األربعة‬
‫مولداً‪ ،‬وأكثرهم بٌن المسلمٌن أتباعاً‪ ،‬قضى معظم حٌاته فً عهد بنً أمٌة‪،‬‬
‫وشهد جانبا ً من حكم بنً العباس‪ ،‬وهو عصر ُ‬
‫كثرت فٌه الفتن واالضطرابات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وضمَّت الدولة اإلسبلمٌة شعوبا ً عدٌدة‪ ،‬واتسعت فٌه الحٌاة المادٌة بعد اتساع‬
‫الفتوحات‪ ،‬وازدهرت فٌه الترجمة والعلوم‪.‬‬
‫انحدر أبو حنٌفة من أسر ٍة فارسٌة ثرٌة‪ ،‬وولِد بالكوفة سنة ‪80‬هـ‪ ،‬وبها‬
‫نشأ‪ ،‬وعاش ببؽداد‪ ،‬وٌعتبر من تابعً التابعٌن‪ ،‬ألنه وإن أدرك بعض الصحابة‬
‫ٌلتق واحداً منهم‪.‬‬
‫إال أنه لم ِ‬
‫بدأ حٌاته بدراسة علم الكبلم‪ ،‬وتن َّقل بٌن الكوفة والبصرة كثٌراً من أجل‬
‫لزم حمَّاد بن أبً سلٌمان مد ًة طوٌلة‪ ،‬وتأثر ب رابه فً الفقه وبطرٌقته‬
‫ذلك‪ ،‬ثم ِ‬
‫فً االجتهاد‪ ،‬وقد تلقى حماد الفقه عن إبراهٌم ال ُّنخعً‪ ،‬الذي أخذه عن عم أمه‬

‫‪ -1‬ك‪ ٢‬ضشؾٔس أذ‪ ٢‬ق٘‪٤‬لس جٗظش جذٖ خٌِحٕ‪ :‬ؼ ‪ ،5‬ؿ‪ ،405‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪ ،86‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪،10‬‬
‫ؿ‪ ،107‬جذٖ جُؼٔحد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.225‬‬

‫ـ ‪ 147‬ـ‬
‫علقمة بن قٌس ال ُّنخعً‪ ،‬الذي تلقاه عن ابن مسعود ‪ ،‬والذي بعثه عمر ‪‬‬
‫أٌام خبلفته إلى الكوفة لتعلٌم أهلها الفقه(‪.)1‬‬
‫كما درس أبو حنٌفة فتر ًة من حٌاته على ٌد اإلمام زٌد بن علً زٌن‬
‫العابدٌن وجعفر الصادق‪ ،‬وتعلَّم عِ ْلم ابن عباس وابن عمر رضً هللا عنهم عن‬
‫طرٌق تبلمٌذهم‪ ،‬وهكذا اجتمع له علم ابن مسعود وعلً وعمر وابنه وابن‬
‫عباس وزٌد وجعفر الصادق رضً هللا عنهم‪ ،‬وحٌن توفى حماد سنة ‪120‬هـ‬
‫جلس أبو حنٌفة مجلِسه فً حلقة الدرس‪ ،‬بعد أن اتفق تبلمٌذ حماد على‬
‫ورعا ً تقٌا ً عمٌق التفكٌر قوي الحجة حاضر البدٌهة‬
‫استخبلفه بعده‪ ،‬وقد كان ِ‬
‫َح َسن التخلص‪ ،‬ما ناظر أحداً إال انتصر علٌه بالحجة والدلٌل‪ ،‬شدٌد العطؾ‬
‫شهد له شٌوخه وأقرانه وتبلمٌذه‬
‫على تبلمٌذه‪ ،‬إما ٌم فً الفقه دون منازع‪ِ ،‬‬
‫وحتى خصومه بسعة اإلطبلع و ِح َّدة الذكاء‪ ،‬حتى عُد حامل لواء الرأي‬
‫والقٌاس فً العراق فً عهده‪ ،‬ولهذا قال عنه الشافعً‪" :‬الناس فً الفقه عِ ٌا ٌل‬
‫على أبً حنٌفة"‪ ،‬كان كثٌر الترحال‪ ،‬حٌث أقام بمكة المكرمة ست سنوات‪،‬‬
‫ت عدٌدة‪ ،‬لقً خبللها اإلمام مالك‪ ،‬ولِعمله بالتجارة كان واسع‬
‫وزار المدٌنة مرا ٍ‬
‫مٌسور الحال‪ ،‬فلما ع ُِرض علٌه القضاء فً عهد بنً أمٌة ثم فً عهد‬
‫َ‬ ‫المال‬
‫بنً العباس‪ ،‬لتبٌِّن مدى والبه للدولة القابمة‪ ،‬رفض تولٌه‪ ،‬لِ َما رآه من ظلم‬
‫الحكام‪ ،‬فنال ُه من ذلك أذى شدٌداً (‪ ،)2‬وقد توفى رحمه هللا سنة ‪150‬هـ‪ ،‬فٌكون‬
‫بهذا قد عاش نحو سبعٌن سنة‪ 52 ،‬منها فً العصر األموي‪ ،‬ونحو ‪ 18‬سنة‬

‫‪ -1‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪ ،43‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،7‬ؿ‪.162‬‬


‫‪ٝ -2‬جُظح‪ٛ‬ش إٔ جألر‪ٗ ٟ‬حُ‪ُ ٚ‬شكن‪ ٚ‬ض‪ ٢ُٞ‬جُونحء‪ ،‬ألٕ ًػ‪٤‬شجً ٖٓ ػِٔحء ػقش‪ ٙ‬سؿر‪ٞ‬ج ػٖ ‪ٛ‬زج جُٔ٘قد‪ ،‬ذَ‬
‫ذغرد ػذّ ‪ٝ‬الت‪ُِ ٚ‬ذ‪ُٝ‬س جُوحتٔس‪ ،‬ئر ًحٕ ك‪ُِ ٌَ ٤ٓ ٚ٤‬ؾ‪٤‬ؼس ‪ٝ‬جػطوحد ذأٗ‪ ْٜ‬ػِ‪ ٠‬قن‪ٝ ،‬ئٌٗحس ػِ‪ ٠‬جألٓ‪ ٖ٤٣ٞ‬ذُؼذ‪ ْٛ‬ػٖ‬
‫جُذ‪ٝ ٖ٣‬ئٌٗحس ُكو‪ٝ ْٜ‬قن ذ٘‪ ٢‬جُؼرحط ك‪ ٢‬ض‪ ٢ُٞ‬جُغِطس ذحُو‪ٞ‬ز ٓغ ٓح سآ‪ ٖٓ ٙ‬ظِٔ‪ُِ ْٜ‬شػ‪٤‬س‪ .‬عشجؼ ‪ٝ‬قغ‪:ٖ٤‬‬
‫ؿ‪.176‬‬

‫ـ ‪ 148‬ـ‬
‫فً العصر العباسً‪.‬‬
‫أصول مذهبه‪:‬‬
‫لم ٌدون أبو حنٌفة أصول منهجه فً االستنباط‪ ،‬فقام فقها ُء مذهبه من‬
‫بعده باستخبلص قواعده فً االستنباط من فروعه المنقولة عنه‪ ،‬وقد قام فقه‬
‫أبً حنٌفة على العلم والتجربة‪ ،‬فعِلمُه حصَّله من كبار أساتذته‪ ،‬وهم من أ ِج َّبلء‬
‫التابعٌن‪ ،‬وتجربته أخذها من عمله بالتجارة‪ ،‬مما جعل فقهه ٌواكب تطور‬
‫الحٌاة(‪ ،)1‬وتتمثل أصول مذهبه فً العمل بالكتاب والسنة‪ ،‬وإن ع ُِرؾ عنه‬
‫التشدد فً قبول األحادٌث‪ ،‬إلنتشار الوضع فً عصره‪ ،‬ولهذا لم ٌقبل إال‬
‫راو واح ٍد فقد‬
‫األحادٌث التً اشتهرت بٌن العلماء‪ ،‬أما األحادٌث التً ٌروٌها ٍ‬
‫وضع شروطا ً للتأكد من صحتها‪ ،‬ثم ٌعمل بإجماع الصحابة‪ ،‬فإن تعددت‬
‫أقوالهم اختار منها ما ٌراه أقرب للنصوص‪ ،‬وال ٌخرج عن أقوالهم إلى قول‬
‫ؼٌرهم‪ ،‬فإن لم ٌكن للصحابة فً الواقعة قولٌ‪ ،‬وانتهى األمر إلى التابعٌن لم‬
‫ٌلتزم أقوالهم بل ٌجتهد كما اجتهدوا‪ ،‬ثم ٌعمل بالقٌاس‪ ،‬وقد توسَّع فٌه‪َ ،‬ف َفاق‬
‫سابقٌه ومعاصرٌه‪ ،‬لر ِّده كثٌراً من األحادٌث‪ ،‬وتقدٌره للمسابل قبل أن تقع‬
‫وبٌان حكمها‪ ،‬ثم ٌعمل باالستحسان‪ ،‬وقد أكثر من األخذ به‪ ،‬ثم ٌأخذ بالمصالح‬
‫المرسلة والعرؾ‪ ،‬وقد تمٌز مذهبه باإلكثار من القٌاس وقِلة األحادٌث‬
‫واالشتؽال بالفقه التقدٌري‪ ،‬والذي كان العلماء قبْل ُه ٌكرهونه‪ ،‬وٌرون فٌه‬
‫وشؽبلً للناس فً ما ال فابدة فٌه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫إضاعة للوقت‪،‬‬
‫ولم ٌُعرؾ عن اإلمام أنه ألَّؾ كتابا ً فً الفقه‪ ،‬إذ كل ما ُنسِ ب إلٌه‬
‫رسابل صؽٌرة‪ ،‬كرسالت ِه المسماة الفقه األكبر‪ ،‬وهً فً علم الكبلم‪ ،‬ورسالة‬

‫‪ٓ -1‬كٔذ ًٔحٍ جُذ‪ ٖ٣‬ئٓحّ‪ :‬ؿ‪.246‬‬

‫ـ ‪ 149‬ـ‬
‫العالِم والمتعلم‪ ،‬كما روى عنه تبلمٌذه عدة مسانٌد فً الحدٌث‪ ،‬وصلت إلى‬
‫خمسة عشر مسنداً‪ ،‬جمعها قاضً القضاة محمد بن محمود الخوارزمً‬
‫(ت‪665‬هـ) فً مجل ٍد واحدٍ‪ ،‬أسماه جامع المسانٌد‪ ،‬ومع هذا فإن آراءه الفقهٌة‬
‫ُنقلت إلٌنا‪ ،‬وكان ذلك على ٌد تبلمٌذه‪ ،‬وأشهرهم‪:‬‬
‫أبو ٌوسف(‪:)1‬‬
‫‪113‬هـ‪ ،‬وتوفى‬ ‫هو ٌعقوب بن إبراهٌم األنصاري الكوفً‪ ،‬وُ لِد سنة‬
‫سرٌع الحفظ‪ ،‬أفقه أهل عصره‪ ،‬مُكثرٌ من‬
‫َ‬ ‫سنة ‪182‬هـ‪ ،‬كان حا َّد الذكاء‬
‫الحدٌث‪ ،‬لكن رأي أبً حنٌفة َؼلَب علٌه‪ ،‬تتلمذ البن أبً لٌلى ثم ألبً حنٌفة‪،‬‬
‫لكل منهما‪ ،‬كان فقٌراً فأمده أبو حنٌفة بالمال‪ ،‬فكان أكبر تبلمٌذه‬
‫تسع سنٌن ٍ‬
‫َ‬
‫معٌن له على نشر مذهبه‪ ،‬وهو أول من ألؾ الكتب فٌه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وأفضل‬
‫تولى قضاء بؽداد‪ ،‬ثم جعله هارون الرشٌد قاضً القضاة‪ ،‬وهو أول‬
‫من تولى هذا المنصب‪ ،‬فلم ٌعٌِّن قضا ًة إال على المذهب الحنفً‪ ،‬ورؼم تتلمذه‬
‫لئلمام إال أنه كان مجتهداً مثله‪ ،‬ولذا خالفه فً عدة مسابل‪ ،‬ألخذِه الحدٌث عمن‬
‫ولقً مالكاً‪ ،‬وأخذ عنه‪ ،‬فرجع عن بعض‬
‫َ‬ ‫اتصل بهم‪ ،‬حٌث رحل إلى المدٌنة‪،‬‬
‫آرابه التً أخذها عن أبً حنٌفة إلى قول مالك‪ ،‬وقد أدى لقاؤه به إلى التقرٌب‬
‫بٌن مدرستً العراق والحجاز‪ ،‬ودعم آراء المذهب الحنفً بالحدٌث(‪.)2‬‬
‫محمد بن الحسن(‪:)3‬‬
‫هو محمد بن الحسن الشٌبانً‪ ،‬وُ لِد سنة ‪132‬هـ‪ ،‬وتوفى سنة ‪189‬هـ‪،‬‬

‫‪ -1‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪ ،134‬جذٖ جُؼٔحد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،298‬جذٖ خٌِحٕ‪ :‬ؼ‪ ،6‬ؿ‪.378‬‬
‫‪ -2‬جُوشجك‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.35‬‬
‫‪ -3‬جذٖ جُؼٔحد‪ :‬ؼ ‪ ،1‬ؿ ‪ ،321‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،10‬ؿ ‪ ،202‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ ‪ ،135‬جذٖ خٌِحٕ‪:‬‬
‫ؼ‪ ،4‬ؿ‪ ،184‬جٌُِ٘‪ :١ٞ‬ؿ‪.163‬‬

‫ـ ‪ 150‬ـ‬
‫نشأ بالكوفة‪ ،‬وعاش ببؽداد‪ ،‬تتلمذ لئلمام سنتٌن‪ ،‬وبعد وفاته تتلمذ ألبً ٌوسؾ‪،‬‬
‫ورحل إلى المدٌنة‪ ،‬فدرس على مالك ثبلث سنٌن‪ ،‬كما أخذ عن الثوري‬
‫واألوزاعً‪ ،‬وقابل الشافعً ببؽداد وناظره‪ ،‬فجمع فقه أهل الرأي وأهل‬
‫الحدٌث‪ ،‬وتولى قضاء الرَّ َّقة فً عهد الرشٌد‪ ،‬ثم عُز َل‪ ،‬له كتبٌ كثٌرةٌ‪ ،‬هً‬
‫عِ ماد المذهب الحنفً‪ ،‬سجَّ ل فٌها آراءه الفقهٌة وما أخذه عن اإلمام وعن أبً‬
‫ٌوسؾ‪.‬‬
‫ُزفر(‪:)1‬‬
‫هو ُزفر بن الهُذٌل الكوفً‪ ،‬عربً األصل أما أمه ففارسٌة‪ ،‬ولد سنة‬
‫‪110‬هـ وتوفى سنة ‪ 158‬هـ‪ ،‬كان من أهل الحدٌث ثم ؼلب علٌه الرأي لصلته‬
‫بأبً حنٌفة‪ ،‬فكان من أقٌس أصحابه‪ ،‬عاش عابداً زاهداً مقببلً على طلب العلم‪،‬‬
‫ناظر أبا ٌوسؾ فؽلبه‪ ،‬ع ُِرض علٌه القضاء مرتٌن فأبى‪ ،‬ف ُهدِم منزله فً‬
‫المرتٌن‪ ،‬وألنه كان قلٌل المخالفة لئلمام لم ٌكن له دورٌ كبٌرٌ فً المذهب‪.‬‬
‫هؤالء أشهر أصحاب أبً حنٌفة الذٌن أخذوا العلم عنه‪ ،‬وشاركوه‬
‫الرأي‪ ،‬ونقلوا آراءه للناس‪ ،‬ودافعوا عنها‪ ،‬فتوسَّع بواسطتهم المذهب‪،‬‬
‫ً‬
‫مجتمعة بالمذهب الحنفً‪ ،‬مع أنها‬ ‫وامتزجت آراؤهم ب راء أستاذهم‪ ،‬وسمٌِّت‬
‫ٌ‬
‫خلٌط من آراء أبً حنٌفة وآراء تبلمٌذه‪ ،‬ولم ٌفكر أحدهم فً االنفصال عنه‪،‬‬
‫كما انفصل الشافعً عن أستاذه مالك‪ ،‬وأحمد بن حنبل عن أستاذه الشافعً‪،‬‬
‫ورؼم مخالفتهم له فً مواضع عدٌدة‪ ،‬حٌن علموا بالسنن التً لم تبلؽه‪ ،‬أو لم‬
‫تثبت لدٌه صحتها‪ ،‬فإن الصبؽة الؽالبة على هؤالء التبلمٌذ هً التأثر ب راء‬
‫أبً حنٌفة‪ ،‬والسٌر على منواله(‪.)2‬‬

‫‪ -1‬جذٖ جُؼٔحد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،243‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪ ،135‬جذٖ خٌِحٕ‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪ ،317‬جٌُِ٘‪ :١ٞ‬ؿ‪.75‬‬
‫‪ -2‬جُؾشذحف‪ :٢‬ؿ‪.27‬‬

‫ـ ‪ 151‬ـ‬
‫تورد كتب األحناؾ آراءهم فً مسأل ٍة ما تذ ُكر آراء‬
‫ولهذا عندما ِ‬
‫ً‬
‫داعمة كل رأي بدلٌله‪،‬‬ ‫التبلمٌذ مع رأي اإلمام‪ ،‬إما موافقٌن له أو مخالفٌن‪،‬‬
‫وهذا راجعٌ لطرٌقة اإلمام فً التدرٌس‪ ،‬والتً قامت على الشورى‪ ،‬إذ كان‬
‫ٌعرض المسألة على تبلمٌذه‪ ،‬لٌُجٌب عنها ك ٌّل منهم‪ ،‬وبعد النقاش إن اتفقوا‬
‫دونه أحدهم‪ ،‬وإن تعددت أقوالهم ُدوِّ نت كلها‪ ،‬وأُشِ ٌر‬
‫على رأي أمبله علٌهم‪ ،‬أو َّ‬
‫كل منهم‪ ،‬وهذا أدى إلى قوة المذهب‪ ،‬وأفاد فً‬
‫إلى قابلٌها‪ ،‬مع ذِكر دلٌل ٍ‬
‫ً‬
‫ومرونة‪ ،‬لتعدد‬ ‫تكوٌن تبلمٌذه‪ ،‬وتعوٌدهم على البحث‪ ،‬وأكسب المذهب سِ ً‬
‫عة‬
‫األقوال فٌه‪.‬‬
‫هذا وٌُطلق على أبً حنٌفة وأبً ٌوسؾ الشٌخان‪ ،‬ألنهما شٌخا محمد‬
‫بن الحسن‪ ،‬وٌُسمى أبو ٌوسؾ ومحمد الصاحبٌن‪ ،‬لصحبتهما ألبً حنٌفة‪،‬‬
‫وٌُطلق على أبً حنٌفة ومحمد الطرفان‪ ،‬ألن أبا ٌوسؾ ٌتوسطهما فً السن‪،‬‬
‫أما ُزفر فٌُذكر باسمه‪ ،‬ومع أن أبا حنٌفة لم ٌدوِّ ن كتبا ً تحمل آراءه الفقهٌة‪ ،‬إال‬
‫أنه ترك تبلمٌذاً قاموا من بعده بتدوٌن مذهبه ونشر آرابه‪ ،‬إذ ٌُعد أبو ٌوسؾ‬
‫أول من صنؾ الكتب فً المذهب‪ ،‬ومنها كتاب الخراج‪ ،‬الذي كتبه لهارون‬
‫الرشٌد‪ ،‬مبٌنا ً فٌه السٌاسة المالٌة للدولة‪ ،‬كما وضع كتاب اختبلؾ أبً حنٌفة‬
‫وابن أبً لٌلى‪ ،‬وله كتاب الرد على سِ ٌَر األوزاعً‪.‬‬
‫أما محمد بن الحسن فكتبه هً المعتمدة فً المذهب‪ ،‬وهً نوعان‪،‬‬
‫كتب ظاهر الرواٌة‪ ،‬وهً األصل أو المبسوط‪ ،‬والجامع الصؽٌر‪ ،‬والجامع‬
‫ت‬
‫الكبٌر‪ ،‬والسِ ٌَر الكبٌر‪ ،‬والسٌر الصؽٌر‪ ،‬والزٌادات‪ ،‬أما كتب النوادر فلم تأ ِ‬
‫الثقات‪ ،‬فكانت أقل أهمٌة من كتب ظاهر الرواٌة‪ ،‬وهً كتب األمالً‬ ‫برواٌة ِّ‬
‫فً الفقه‪ ،‬والكٌسانٌات‪ ،‬والرُّ قٌَّات‪ ،‬والهارونٌات‪ ،‬وزٌادة الزٌادات‪ ،‬وكتاب الرد‬
‫على أهل المدٌنة‪ ،‬وكتاب اآلثار‪.‬‬
‫ـ ‪ 152‬ـ‬
‫والمذهب الحنفً هو الؽالب فً عصرنا فً ببلد الشام والعراق ومصر‬
‫وتركٌا والجمهورٌات السوفٌٌتٌه سابقا ً والباكستان والهند وما حولها‪ ،‬وهو بهذا‬
‫أكثر مذاهب الجمهور انتشاراً‪ ،‬وٌرجع ذلك إلى كثرة تبلمٌذ أبً حنٌفة‪،‬‬
‫وقٌامهم بنشر مذهبه من بعده‪ ،‬السٌما من تولى منهم القضاء‪ ،‬وكثرة تفرٌعات‬
‫المذهب‪ ،‬مما أوجد للناس حلوالً لكل ما َع َرض لهم‪ ،‬وقٌام الدول‪ ،‬السٌما الدولة‬
‫العباسٌة‪ ،‬بتبنً هذا المذهب‪ ،‬والعمل على نشره‪.‬‬
‫‪ -2‬المذهب المالكً‪:‬‬
‫ٌُنسب إلى مالك بن أنس األصبحً (‪ ،)1‬إمام دار الهجرة‪ ،‬وُ لِدَ سنة‬
‫‪93‬هـ‪ ،‬وتوفى سنة ‪ 179‬هـ‪ ،‬وهو بهذا من تابعً التابعٌن‪ ،‬حٌث أدرك بنً‬
‫أمٌة ونهاٌة دولتهم‪ ،‬وقٌام دولة بنً العباس‪ ،‬وُ لِدَ بالمدٌنة‪ ،‬وبها عاش كل‬
‫كثٌر من‬
‫ٍ‬ ‫حٌاته‪ ،‬ولم ٌرحل عنها إال حاجا ً لمكة المكرمة‪ ،‬وقد أخذ العلم عن‬
‫التابعٌن‪ ،‬حٌث تتلمذ أوالً على عبد الرحمن بن هُرمُز‪ ،‬الملقب باألعرج‪ ،‬كما‬
‫أخذ عن نافع مولى ابن عمر‪ ،‬وعن ابن شِ هاب ُ‬
‫الز َهري‪ ،‬وكان شٌخه فً الفقه‬
‫ربٌعة بن عبد الرحمن‪ ،‬الملقب بربٌعة الرأي‪.‬‬
‫وقد جلس مالك للرواٌة واإلفتاء وتدرٌس الفقه والحدٌث بالمسجد‬
‫شهد له سبعون من كبار العلماء أنه أه ٌل لذلك‪ ،‬مع أنه لم‬
‫النبوي‪ ،‬وذلك بعد أن ِ‬
‫ٌجاوز السابعة عشرة‪ ،‬ولهذا قال عنه الشافعً‪" :‬مالك حجة هللا على َخ ْلقِه"‪،‬‬
‫وقال‪" :‬إذا ُذكِر العلماء فمالك النجم"‪ ،‬ولمكانته العلمٌة ض ُِرب به المثل‪ ،‬فقٌل‪:‬‬
‫ً‬
‫عناٌة شدٌد ًة باألحادٌث‪ ،‬فكان ال ٌروٌها‬ ‫"ال ٌُف َتى ومال ٌ‬
‫ك بالمدٌنة"‪ ،‬وقد اعتنى‬
‫إال بعد أن ٌؽتسل وٌتطٌب وٌلبس أحسن ما لدٌه من ثٌاب‪ ،‬وهذا الحب للسنة‬

‫‪ -1‬أٗظش ضشؾٔط‪ ٚ‬ػ٘ذ جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ ‪ ،67‬جذٖ جُؼٔحد‪ :‬ؼ ‪ ،1‬ؿ ‪ ،289‬جذٖ خٌِحٕ‪ :‬ؼ ‪ ،4‬ؿ ‪ ،135‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪:‬‬
‫جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،10‬ؿ‪ ،174‬جُوحم‪ ٢‬ػ‪٤‬حك‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،107‬جذٖ كشق‪ :ٕٞ‬ؿ‪ ،17‬جذٖ ٓخِ‪ٞ‬ف‪ :‬ؿ‪.27‬‬

‫ـ ‪ 153‬ـ‬
‫تضمَّن حبه لصاحبها‪ ،‬حٌث أحب بلده المدٌنة المنورة‪ ،‬وفضَّل مجاورة النبً‬
‫‪ ‬حتى بعد دعوة الخلفاء له للخروج معهم‪ ،‬وهذا المقام الكبٌر للمدٌنة فً نفسه‬
‫‪ ‬أنه‬ ‫تجلَّى فً تصرفاته وم ْنزعِ ه الفقهً‪ ،‬وقد بلػ من توقٌره لمكانة النبً‬
‫دابة تطأ ُ بحافرها أرضا ً ٌضم ترابها جسد النبً ‪.‬‬
‫استحى أن ٌركب ً‬
‫وقد صار مالك إمام أهل الحجاز‪ ،‬إذ انتهى إلٌه فق ُه أهل المدٌنة‬
‫وفقهابها السبعة‪ ،‬فكان مح َّل ثناء فقهاء الرأي وفقهاء الحدٌث معاً‪ ،‬وللتزود من‬
‫علمه رحل إلٌه علماء األقطار األخرى‪ ،‬كمحمد بن الحسن واللٌث بن سعد‬
‫والشافعً واألوزاعً وؼٌرهم‪.‬‬
‫وقد كان مالك ذكٌا ً حافظا ً تقٌاً‪ ،‬قوٌا ً فً الدفاع عن الحق‪ ،‬معتزالً الحٌاة‬
‫السٌاسٌة فً عصره‪ ،‬متجنبا ً الحكام والخارجٌن علٌهم‪ ،‬لمَّا رأى استبداد الحكام‬
‫عصر ُ‬
‫كثرت‬ ‫ٍ‬ ‫وتسخٌرهم الدٌن لدعم مركزهم فً الحكم‪ ،‬السٌما أنه عاش فً‬
‫فٌه الثورات‪ ،‬وساد ظلم الحكام‪ ،‬وانتشر سفك الدماء‪.‬‬
‫كره الجدل‪ ،‬ألن المجادِل ٌتعصب ؼالبا ً لرأٌه‪ ،‬وٌلتمس األدلة ولو‬
‫كما ِ‬
‫كانت واهٌة للدفاع عن وجهة نظره‪ ،‬ولهذا كان ال ٌرد إال على المسابل الواقعة‬
‫فعبلً‪ ،‬وٌكره التوسع فً تقدٌر المسابل‪ ،‬ولو كانت متوقعة الحدوث‪ ،‬لِما قد‬
‫ٌؤدي إلٌه افتراضها من جدال (‪ ،)1‬وقد أؼنته كثرة الوقابع التً ُتعرض علٌه‬
‫من ِق َبل الوافدٌن علٌه من مختلؾ األقطار أو من ِق َبل التبلمٌذ المبلزمٌن له عن‬
‫افتراض المسابل وتقدٌر أحكامها‪ ،‬ولكثرة علمه بالحدٌث ن َه َج فً تدرٌسه‬
‫الطرٌقة اإللقابٌة الخالٌة من المناقشة وتبا ُدل الرأي مع التبلمٌذ‪ ،‬ولهذا لم ٌُنقل‬
‫إلٌنا اختبلؾ بٌنه وبٌن تبلمٌذه فً حٌاته‪ ،‬لكن ذلك حدث بعد وفاته‪ ،‬عند تطبٌق‬

‫‪ -1‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪ ،290‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.78‬‬

‫ـ ‪ 154‬ـ‬
‫التبلمٌذ ألصول المذهب على الوقابع‪.‬‬
‫وكان مالك ال ٌقول إال ما ٌعلم‪ ،‬فبل ٌتحاشى قول ال أدري (‪ ،)1‬ولهذا لمَّا‬
‫أربع منها فقط‪ ،‬وقال فً‬
‫ٍ‬ ‫سُبل عن أربعٌن مسألة فً مجلس واحد‪ ،‬أجاب عن‬
‫الباقً‪" :‬ال أدري"(‪ ،)2‬كما كان ال ٌخشى فً الحق أحداً‪ ،‬جربٌا ً فً إعبلنه وإن‬
‫أؼضب ذوي السلطان‪ ،‬صبوراً على ما ل ِح َقه من ضرر فً سبٌله‪ ،‬فناله األذى‬
‫المكره‪ ،‬حٌث رأى‬
‫َ‬ ‫وض ُِرب من أجل بعض فتاوٌه‪ ،‬كإفتابه بعدم لزوم طبلق‬
‫فٌه العباسٌون نقضا ً لبٌعتهم‪ ،‬وتهوٌنا ً للثورة علٌهم‪ ،‬ألنهم كانوا ٌ ِ‬
‫ُكرهون الناس‬
‫على الحلؾ بالطبلق عند البٌعة‪ ،‬وكذلك فتواه لمن سأله عن البؽاة الخارجٌن‬
‫على طاعة الخلفاء أٌجوز قتالهم؟ فقال‪" :‬إن خرجوا على مِثل عمر بن عبد‬
‫العزٌز فنعم"‪ ،‬فقال السابل‪" :‬فإن لم ٌكن مثله"‪ ،‬فقال‪" :‬دعهم ٌنتقم هللا من ظالم‬
‫بظالم‪ ،‬ثم ٌنتقم من كلٌهما"‪.‬‬
‫ث معاً‪ ،‬وٌُعد أ قدم تدوٌن‬
‫وقد وضع كتاب الموطأ‪ ،‬وهو كتاب فق ٍه محدٌ ٍ‬
‫للحدٌث وصل إلٌنا‪ ،‬حٌث ر َّتبه على أبواب الفقه‪ ،‬وج َم َع فٌه حدٌث أهل‬
‫وضمَّنه آراءه فً‬ ‫الحجاز‪ ،‬وأضاؾ إلٌه أقوال الصحابة وفتاوى التابعٌن‪،‬‬
‫بعض المسابل‪ ،‬وعمِل فٌه نحو أربعٌن سنة‪ ،‬ولهذا أراد المنصور العباسً‬
‫تعلٌقه فً الكعبة‪ ،‬ثم حاول هارون الرشٌد حمْ َل الناس علٌه‪ ،‬وجعْ لِه قانونا ً عاما ً‬
‫للدولة‪ ،‬لكن مالكا ً رفض‪ ،‬لتفرق الصحابة فً األمصار‪ ،‬وألن فً تعدد آراء‬
‫العلماء رحمة باألمة‪.‬‬
‫أصول مذهبه‪:‬‬
‫لم ٌدوِّ ن اإلمام مالك أصول مذهبه وقواعده فً االستنباط بصورة‬

‫‪ -1‬جُوشجك‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.51‬‬


‫‪ -2‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.288‬‬

‫ـ ‪ 155‬ـ‬
‫مفصلة‪ ،‬ولكنه صرَّ ح ببعضها فً الموطأ‪ ،‬واستنبط فقهاء مذهبه بعضها اآلخر‬
‫من الفتاوى المنقولة عنه‪ ،‬وتتمثل أصول مذهبه فً العمل بالكتاب فالسنة‬
‫فاإلجماع‪ ،‬وتشمل السنة فً نظره أحادٌث النبً ‪ ‬وفتاوى الصحابة وعمل‬
‫أهل المدٌنة‪ ،‬والذي اعتبره بمثابة الحدٌث المتواتر‪ ،‬ألنه ٌمثل رواٌتهم‬
‫الجماعٌة عن الرسول ‪ ، ‬ورواٌة جماعة عن جماعة أولى بالتقدٌم من رواٌة‬
‫فرد عن فرد‪ ،‬ولهذا ق َّدم عمل أهل المدٌنة على خبر اآلحاد‪ ،‬فإن لم ٌكن فً‬
‫المسألة نصٌ أخذ بالقٌاس فاالستحسان فالمصالح المرسلة‪ ،‬والتً توسع فً‬
‫األخذ بها‪ ،‬وبهذا ٌظهر أن مالكا ً كان ٌنهج نهْج مدرسة الحدٌث‪ ،‬والتً تمٌزت‬
‫بالوقوؾ عند السنن واآلثار‪ ،‬وكان ٌكره افتراض المسابل اقتدا ًء بالسلؾ من‬
‫أهل الحجاز‪.‬‬
‫ومع أنه أقام بالمدٌنة‪ ،‬ولم ٌتحول عنها حتى لمَّا طلب منه هارون‬
‫الرشٌد الخروج معه إلى بؽداد‪ ،‬إال أن طبلب العلم قصدوه من مختلؾ‬
‫األقطار‪ ،‬والزموه وأخذوا عنه ونشروا فقهه فً أوطانهم بعد عودتهم إلٌها‪،‬‬
‫وقد تعلم على ٌدٌه الشافعً‪ ،‬والذي انفصل عنه وصار صاحب مذهب مستقل‪،‬‬
‫كما تعلم علٌه محمد بن الحسن ثبلث سنٌن‪ ،‬لكنه ظل على والبه ألبً حنٌفة‪،‬‬
‫ومن أشهر تبلمٌذه الذٌن نشروا مذهبه‪ ،‬وساروا على منهجه ابن وهْ ب وابن‬
‫القاسم وأشهب وأصبػ بن الفرج‪ ،‬وهؤالء من مصر‪ ،‬وأشهر التبلمٌذ المؽاربة‬
‫أسد بن الفرات وعبد السبلم بن سعٌد التنوخً المعروؾ بسُحنون‪.‬‬
‫و ُتعد المدونة الكبرى أهم كتب الفقه المالكً‪ ،‬وقد جمعها أسد بن‬
‫الفرات فً األسدٌة‪ ،‬ثم أخذها عنه سُحنون‪ ،‬ورتبها ونشرها عن طرٌق أخذه‬
‫آلراء مالك عن ابن القاسم‪.‬‬
‫والمذهب المالكً هو الؽالب اآلن فً الحجاز والمؽرب العربً كله بما‬
‫ـ ‪ 156‬ـ‬
‫فٌه لٌبٌا‪ ،‬كما ٌنتشر فً مصر والسودان وبعض الدول اإلفرٌقٌة‪ ،‬وقد كان هو‬
‫مذهب أهل األندلس‪.‬‬
‫‪ -3‬المذهب الشافعً‪:‬‬
‫ْ‬
‫المطلَبً القرشً (‪ ،)1‬وُ لِد بؽزة سنة‬ ‫أسسه محمد بن إدرٌس الشافعً‬
‫‪150‬هـ‪ ،‬وتوفى بمصر سنة ‪204‬هـ‪ ،‬وقد عاش فً العصر العباسً‪ ،‬وهو‬
‫عصر ازدهرت فٌه العلوم ودوِّ نت‪ ،‬وانتشرت الترجمة‪ ،‬واتسعت رقعة الدولة‬
‫اإلسبلمٌة‪ ،‬وتعددت شعوبها‪ ،‬وظهرت مبلمح التمٌز بٌن مدرستً الحدٌث‬
‫والرأي‪ ،‬واتسع نطاق الجدل والمناظرة بٌن الفِرق اإلسبلمٌة‪ ،‬كالمعتزلة وأهل‬
‫الحدٌث‪ ،‬وسٌطر الفرس على مقالٌد الحكم بعد أن ناصروا المأمون ضد أخٌه‬
‫محمد األمٌن وأنصاره من العرب(‪.)2‬‬
‫وقد نشأ الشافعً ٌتٌماً‪ ،‬فحملته أمه بعد مولده بعامٌن إلى مكة موطن‬
‫آبابه‪ ،‬فحفظ القرآن فً صِ باه‪ ،‬ثم خرج إلى البادٌة فتعلَّم اللؽة والشِ عر‪ ،‬كما‬
‫حفظ الموطأ وهو صؽٌر‪ ،‬وتف َّقه على مسلم بن خالد الزنجً‪ ،‬شٌخ الحرم‬
‫ومفتً مكة‪ ،‬وتتلمذ لمالك وتأثر به‪ ،‬والزمه حتى وفاته سنة ‪179‬هـ‪.‬‬
‫ولطلب العلم رحل إلى الٌمن‪ ،‬وتولى عمبلً هناك‪ ،‬وا ُ ِ‬
‫تهم بالتشٌع سنة‬
‫‪184‬هـ‪ ،‬فحُ مِل إلى الرشٌد فً بؽداد للتحقٌق معه‪ ،‬وبعد أن ثبتت براءته لق ًَِ‬
‫محمد بن الحسن‪ ،‬وأخذ عنه علما ً كثٌراً‪ ،‬وتحاشى مناظرته إجبلالً له‪ ،‬فلما أل َّح‬
‫علٌه محمد فً أن ٌناظره ناظره وانتصر علٌه‪.‬‬
‫ثم رحل إلى مكة المكرمة‪ ،‬وأخذ ٌُلقًِ الدروس فً المسجد الحرام‪،‬‬
‫‪195‬هـ‪ ،‬ووضع‬ ‫ومكث بها تسع سنٌن‪ ،‬ثم رحل مرة أخرى إلى بؽداد سنة‬

‫‪ -1‬ك‪ ٢‬ضشؾٔس جإلٓحّ جُؾحكؼ‪ ٢‬أٗظش أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ ‪.482-436‬‬


‫‪ -2‬جُؾشذحف‪ :٢‬ؿ‪ ،121‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.453-452‬‬

‫ـ ‪ 157‬ـ‬
‫مذهبه القدٌم‪ ،‬وأخٌراً استقر بمصر سنة ‪200‬هـ‪ ،‬ووضع مذهبه الجدٌد‪ ،‬وهو‬
‫بمثابة تعدٌل لبعض آرابه‪ ،‬وعُدول عن بعضها اآلخر‪ ،‬ولٌس نسخا ً لمذهبه‬
‫السابق‪ ،‬نظراً لِ َما وجده فً مصر من عادات وأحوال تخالؾ ما كان قد وجده‬
‫فً العراق‪.‬‬
‫والشافعً عال ٌم بالفقه والحدٌث‪ ،‬قويُ الحجة‪ ،‬فصٌ ُح اللسان‪ ،‬كرٌ ٌم‪،‬‬
‫شاعرٌ‪ ،‬مخلصٌ فً طلب الحق‪ ،‬حسنُ التصرؾ‪ ،‬وقد تمٌز بأنه نشر مذهبه‬
‫بنفسه عن طرٌق رحبلته وتدوٌنه له بنفسه‪ ،‬ولم ٌقُم بهذا ؼٌرُ ه من األبمة‬
‫األربعة‪.‬‬
‫أصول مذهبه(‪:)1‬‬
‫درس الشافعً فقه أهل الحجاز والعراق‪ ،‬كما تلقى فقه أكثر فقهاء‬
‫عصره‪ ،‬كاألوزاعً واللٌث بن سعد‪ ،‬فاجتمع لدٌه فقه أؼلب العلماء‪ ،‬وأفاده‬
‫ذلك فً تكوٌن منهجه الفقهً‪ ،‬وساعده على ذلك أن الفقه فً عصره كان‬
‫مدوناً‪ ،‬مما جعل من المٌسور علٌه الرجوع إلٌه‪ ،‬ولهذا مزج الشافعً بٌن‬
‫طرٌقة أهل الرأي وطرٌقة أهل الحدٌث‪ ،‬فجاء مذهبه وسطا ً بٌن مذهبً‬
‫دون هذه األصول فً كتابه الرسالة وطبَّقها فً فتاوٌه‪.‬‬
‫األحناؾ والمالكٌة‪ ،‬وقد َّ‬
‫وكان ٌعتمد فً االستنباط على القرآن فالسنة‪ ،‬وٌعمل بخبر اآلحاد إذا‬
‫كان الراوي ثقة‪ ،‬ودافع عنه دفاعا ً شدٌداً‪ ،‬ولهذا ق َّدمه على القٌاس‪ ،‬ووقؾ‬
‫حٌاته على الدفاع عن السنة‪ ،‬مما كان سببا ً فً عُلو ْقدره عند علماء الحدٌث‪،‬‬
‫حتى سموه ناصر السنة‪ ،‬ثم ٌعمل باإلجماع فقول الصحابً‪ ،‬فإن اختلفت أقوال‬
‫الصحابة اختار أقربها إلى الكتاب والسنة‪ ،‬ثم ٌعمل بالقٌاس‪ ،‬لكنه رفض األخذ‬

‫‪ -1‬جُؾحكؼ‪ :٢‬جُشعحُس‪ ،‬ؿ‪.58 ،39‬‬

‫ـ ‪ 158‬ـ‬
‫باالستحسان الذي قال به أهل الرأي (‪ ،)1‬وٌبدو من شأنه أنه أخذ بالعرؾ‪ ،‬وهذا‬
‫دون الشافعً فقهه بنفسه‪،‬‬
‫ما ٌتضح من تؽٌّر اجتهاده لمَّا نزل مصر‪ ،‬وقد َّ‬
‫فترك كتبا ً كثٌرة‪ ،‬أهمها كتاب الرسالة‪ ،‬وهو أول ما ُكتِب فً علم أصول الفقه‪،‬‬
‫وكتاب األم‪ ،‬وهو فً الفقه‪.‬‬
‫وقد أخذ فقهه كثٌرون‪ُ ،‬ع ّدوا من تبلمٌذه‪ ،‬منهم أحمد بن حنبل وداود‬
‫الظاهري وأبو ثور وابن جرٌر الطبري‪ ،‬وهؤالء صاروا فٌما بعد أصحاب‬
‫مذاهب مستقلة‪ ،‬ومن أشهر تبلمٌذه الذٌن ظلوا على مذهبه أبو ٌعقوب‬
‫البُوٌْطً‪ ،‬وهو أكبر أصحابه‪ ،‬ولهذا كان ٌعتمد علٌه فً اإلفتاء‪ ،‬واستخلفه على‬
‫أصحابه بعد موته‪ ،‬وبسبب فتنة القول ْ‬
‫بخل ِق القرآن ُس ِجن فً بؽداد‪ ،‬وبها توفى‬
‫سنة ‪231‬هـ‪ ،‬ومنهم إسماعٌل بن ٌحٌى الم َُزنً‪ ،‬والذي وضع الكتب التً علٌها‬
‫مدار المذهب الشافعً‪ ،‬وإلٌه ٌرجع الفضل فً انتشاره‪ ،‬ولهذا قال عنه‬
‫‪264‬هـ‪ ،‬ومنهم الربٌع‬ ‫الشافعً‪" :‬المُزنً ناصر مذهبً"‪ ،‬وقد توفى سنة‬
‫المُرادي‪ ،‬وهو راوٌة كتب الشافعً‪ ،‬وعن طرٌقه وصل إلٌنا كتابا الرسالة‬
‫واألم‪ ،‬وقد توفى سنة ‪270‬هـ‪ ،‬والمبلحظ أن تبلمٌذ الشافعً ٌتبعون إمامهم‪،‬‬
‫فبل ٌخالفونه إال نادراً‪ ،‬وهذا بخبلؾ األحناؾ‪ ،‬والمذهب الشافعً منتشر اآلن‬
‫فً مصر وبعض أنحاء الشام والهند وجنوب شرق آسٌا‪.‬‬
‫‪ -4‬المذهب الحنبلً(‪:)2‬‬
‫مؤسسه أحمد بن محمد بن حنبل بن هبلل الشٌبانً‪ ،‬عربً النسب‪ ،‬وُ لِد‬
‫ببؽداد سنة ‪164‬هـ‪ ،‬وبها توفى سنة ‪241‬هـ‪ ،‬وبذا فقد عاش فً العصر‬
‫العباسً‪ ،‬والذي تؽلَّب فٌه العنصر الفارسً على العرب‪ُ ،‬‬
‫كثر النزاع على‬

‫‪ -1‬جُؾحكؼ‪ :٢‬جألّ‪ ،‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪.246‬‬


‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.453 -484‬‬

‫ـ ‪ 159‬ـ‬
‫الحكم‪ ،‬وصار للمعتزلة سلطانٌ وقوة‪ ،‬وت َّم تدوٌن األحادٌث‪ُ ،‬‬
‫وكثرت المناظرات‬
‫فً الفقه والعقابد(‪.)1‬‬
‫نشأ ابن حنبل ٌتٌم األب‪ ،‬وحفظ القرآن فً صباه‪ ،‬ثم درس الحدٌث‪،‬‬
‫ورحل فً طلبه إلى مكة والمدٌنة والٌمن والشام‪ ،‬حتى صار إمام المح ِّدثٌن فً‬
‫ُنازع‪ ،‬ولهذا قال عنه الشافعً‪" :‬خرجت من بؽداد فما خلَّ ُ‬
‫فت فٌها‬ ‫زمانه دون م ِ‬
‫رجبلً أفضل وال أعلم وال أفقه من ابن حنبل"‪.‬‬
‫تعلم الفقه أوالً على أبً ٌوسؾ‪ ،‬كما إلتقى الشافعً بمكة عند ذهابه‬
‫للحج‪ ،‬والتقاه بعد ذلك ببؽداد‪ ،‬فصار أعلم تبلمٌذه‪ ،‬وكان الشافعً ٌعوِّ ل علٌه‬
‫فً صحة األحادٌث أحٌاناً‪ ،‬لكثرة علمه بالسنة‪ ،‬ولهذا قٌل‪" :‬أن أحمد أخذ الفقه‬
‫عن الشافعً أوالً‪ ،‬ثم أخذ الشافعً عنه الحدٌث"‪ ،‬ثم أصبح ابن حنبل مجتهداً‬
‫مستقبلً‪ ،‬فكان تقٌاً‪ ،‬متصفا ً بكثرة علمه بالسنة‪ ،‬صابراً على الببلء‪ ،‬مكثراً من‬
‫موضع احترام وإجبلل كل من عرفه‪ ،‬شدٌد‬
‫َ‬ ‫العبادة‪ ،‬شجاعا ً فً قول الحق‪،‬‬
‫التعلق بسٌرة النبً ‪ ،‬ولهذا لم ٌجلس لئلفتاء إال بعد أن بلػ األربعٌن من‬
‫عمره‪ ،‬ألنه ‪ ‬لم ٌُكلَّؾ بالدعوة إال فً هذه السن‪ ،‬وقد ؼلب على مجلسه‬
‫الوقار والسكٌنة‪ ،‬ألنه ٌرى أن ما ٌشتؽل به عبادة ممثلة فً رواٌة الحدٌث‪.‬‬
‫وقد تج َّنب ابن حنبل حكام عصره‪ ،‬فلم ٌساٌرهم فً ما هُم فٌه‪ ،‬وال‬
‫دعاهم إلى إتباع ؼٌره‪ ،‬حفاظا ً على نفسه‪ ،‬وتجنبا ً إلثارة الفتن وتفكك‬
‫الجماعة(‪ ،)2‬مبتعداً عن التزلؾ وتولًِّ مناصب القضاء لهم‪ ،‬وقد كانت له وقفة‬

‫‪ -1‬جُؾشذحف‪ :٢‬ؿ‪ ،158‬جُوطحٕ‪ :‬ؿ‪.1‬‬


‫‪ٓ -2‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.680‬‬

‫ـ ‪ 160‬ـ‬
‫مشهودة فً محنة القول ْ‬
‫بخل ِق القرآن (‪ ،)1‬أٌام المأمون العباسً سنة ‪218‬هـ‪،‬‬
‫فنال ُه من جرابها أذى شدٌداً‪ ،‬وحُ ِبس ‪ 28‬شهراً‪ ،‬حتى قٌل أن هللا أعز اإلسبلم‬
‫برجلٌن‪ :‬بأبً بكر ٌوم الردة‪ ،‬وابن حنبل ٌوم المحنة(‪.)2‬‬
‫أصول مذهبه(‪:)3‬‬
‫اعتمد ابن حنبل فً مذهبه على نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬ثم عمِل‬
‫بفتاوى الصحابة عند عدم وجود نص‪ ،‬وال ٌتجاوزها إلى ؼٌرها‪ ،‬فإن تعددت‬
‫آراء الصحابة اختار أقربها إلى الكتاب والسنة‪ ،‬وأحٌانا ً ٌتوقؾ عن الفتوى إذا‬
‫لم ٌجد م َُرجِّ حا ً ألحد تلك اآلراء‪ ،‬بأن ٌذكر أقوالهم وال ٌجزم بترجٌحه واحداً‬
‫منها‪ ،‬ثم ٌأخذ بالقٌاس عند عدم وجود نص من الكتاب والسنة أو قوالً‬
‫لصحابً‪ ،‬كما ٌعمل بالمصالح المرسلة وس ّد الذرابع واالستصحاب‪ ،‬وبهذا فهو‬
‫رج ُل حدٌث أكثر منه رج ُل فقه‪ ،‬إذ أقام فتاوٌه على السنة وآثار الصحابة‬
‫والتابعٌن أكثر من اعتماده على االجتهاد بالرأي(‪.)4‬‬
‫وقد ترك ابن حنبل كتبا ً كثٌر ًة‪ ،‬أهمها المُسند‪ ،‬والذي احتوى على نحو‬

‫‪ -1‬جؽطذ جُؿذٍ ق‪ٛ ٍٞ‬ز‪ ٙ‬جُٔغأُس ك‪ ٢‬ػقش جُٔأٓ‪ ،ٕٞ‬جُز‪ ١‬جػط٘ن ٓرذأ جُٔؼطضُس جُوحتَ ذإٔ جُوشإٓ ٓخِ‪ٞ‬م‪ٝ ،‬أؾرش‬
‫ّ‬
‫‪ٝ‬ػزخ جٌُػ‪٤‬ش‪ ْٜ٘ٓ ،‬جذٖ ق٘رَ‪ ُْٝ ،‬ض٘ط ِ‪ٛ ٚ‬ز‪ ٙ‬جُلط٘س‬ ‫جُؼِٔحء ػِ‪ ٠‬جُو‪ ٍٞ‬ذزُي‪٣ ُْٝ ،‬ورَ ٓ٘‪ ْٜ‬جُطضجّ جُقٔص‪ ،‬كأ‪ٛ‬حٕ‬
‫ذٔ‪ٞ‬ش جُٔأٓ‪ ،ٕٞ‬كوذ أ‪ٝ‬ف‪ ٠‬خِ‪٤‬لط‪ ٚ‬جُٔؼطقْ ذحالعطٔشجس ك‪ٜ٤‬ح‪ٝ ،‬جُز‪ ١‬قرظ جذٖ ق٘رَ ‪ 28‬ؽ‪ٜ‬شجَ‪ ،‬غْ ؾحء جُ‪ٞ‬جغن‬
‫جُؼرحع‪ ٢‬ذؼذ‪ ٙ‬كٔ٘غ جذٖ ق٘رَ ٖٓ جُطكذ‪٣‬ع ‪ٝ‬جُلط‪ُٝ ٟٞ‬وحء جُ٘حط‪ ،‬كحعطٔش ٓكطؿرح ً ػ٘‪ ْٜ‬قط‪ٓ ٠‬حش جُ‪ٞ‬جغن ‪ٝ‬ؾحء‬
‫جُٔط‪ٝ ،ًَٞ‬جُز‪٘ٓ ١‬غ جُخ‪ٞ‬ك ك‪ٛ ٢‬ز‪ ٙ‬جُٔغأُس‪ٝ ،‬هشّخ ئُ‪ ٚ٤‬جُؼِٔحء‪ ،‬كحٗط‪ٜ‬ص ذزُي ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُٔك٘س‪ٓ .‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ‬
‫جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.677-676‬‬
‫‪ -2‬ذَ ئٕ ػِ‪ ٢‬ذٖ جُٔذ‪ ٢٘٣‬هحٍ‪ٓ" :‬ح هحّ أق ٌذ ك‪ ٢‬جإلعالّ ٓػَ ٓح هحّ جذٖ ق٘رَ"‪ُٔٝ ،‬ح ذِؾ ه‪ٛ ُٚٞ‬زج أذح ػر‪٤‬ذ جُوحعْ‬
‫ذٖ عالّ هحٍ ٓؼِوح ً ػِ‪" :ٚ٤‬فذم ػِ‪ ،٢‬ئٕ أذح ذٌش ‪ٝ‬ؾذ ‪ ّٞ٣‬جُشدز أٗقحسجً ‪ٝ‬أػ‪ٞ‬جٗحً‪ٝ ،‬أقٔذ ذٖ ق٘رَ ُْ ‪ُٚ ٌٖ٣‬‬
‫أٗقحس ‪ٝ‬ال أػ‪ٞ‬جٕ" ضحس‪٣‬خ جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬ؼ‪ ،10‬ؿ‪ٗ 335‬والً ػٖ ٓكٔذ أذ‪ ٞ‬ص‪ :ٞٛ‬ؿ‪.353‬‬
‫‪ -3‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.26-22‬‬
‫‪ -4‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.205‬‬

‫ـ ‪ 161‬ـ‬
‫الزهد‪ ،‬وكتابا ً عن الصبلة‪ ،‬إال أنه لم ٌدون‬
‫أربعٌن ألؾ حدٌث‪ ،‬كما ترك كتاب ُّ‬
‫دونها تبلمٌذه بعد‬
‫فتاوٌه‪ ،‬ألنها فً نظره مجرد آراء قد ٌتبدل فٌها اجتهاده‪ ،‬وقد َّ‬
‫‪290‬هـ)‪،‬‬ ‫‪266‬هـ) وعبد هللا (ت‬ ‫وفاته‪ ،‬ومن أشهرهم ولدٌه صالحا ً (ت‬
‫وكذلك أبا بكر بن هانا األثرم (ت ‪273‬هـ) وأحمد بن محمد المِرْ وزي (ت‬
‫‪728‬هـ)‬ ‫‪275‬هـ)‪ ،‬ومن أشهر الحنابلة أحمد بن تٌمٌة‪ ،‬صاحب الفتاوى (ت‬
‫‪751‬هـ)‪ ،‬صاحب اعبلم الموقعٌن عن رب‬ ‫وتلمٌذه ابن قٌم الجوزٌة (ت‬
‫العالمٌن‪ ،‬وزاد المعاد فً ْ‬
‫هديِ خٌر العباد‪ ،‬والطرق الحُ كمٌَّة فً السٌاسة‬
‫الشرعٌة‪ ،‬وؼٌرها‪.‬‬
‫ومع هذا فالمذهب الحنبلً أقل مذاهب أهل السنة انتشاراً‪ ،‬رؼم تجدٌده‪-‬‬
‫بل وتجدٌد الفقه اإلسبلمً بصفة عامة‪ -‬على ٌد ابن تٌمٌة وابن القٌم‪ ،‬ألن ما‬
‫سبقه من مذاهب كان قد استقر‪ ،‬وعمِل الناس به‪ ،‬ولبُعد رجاله عن السلطان‬
‫ومناصب القضاء وعن االجتهاد بالرأي‪ ،‬وتعصُّب الحنابلة الشدٌد ومهاجمتهم‬
‫لمخالفٌهم‪ ،‬وهذا المذهب منتشر اآلن فً السعودٌة ودول الخلٌج‪ ،‬وقد زاد من‬
‫انتشاره حركة محمد بن عبد الوهاب فً نجْ د فً القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫ثانٌا‪ -‬مذاهب الشٌعة‪:‬‬
‫ناص َر‬
‫َ‬ ‫الشٌعة ً‬
‫لؽة األتباع واألنصار(‪ ،)1‬وفً االصطبلح ُتطلق على منْ‬
‫علٌا ً ‪ ‬وأبناءه‪ ،‬وأقر بإمامتهم (‪ ،)2‬وٌرى بعض الشٌعة أن فرقتهم أقدم الفرق‬
‫اإلسبلمٌة‪ ،‬إذ ظهرت دعوتهم عقِب وفاته ‪ ،‬إال أنها خمدت بالبٌعة ألبً بكر‬
‫ثم لعمر رضً هللا عنهما‪ ،‬حسما ً للخبلؾ بٌن المسلمٌن‪ ،‬والنشؽالهم‬

‫‪ -1‬جُقكحـ‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.1240‬‬


‫‪ -2‬جُغ‪٤‬ذ ‪ٛ‬حؽْ ٓؼش‪ٝ‬ف‪ :‬ػو‪٤‬ذز جُؾ‪٤‬ؼس جإلٓحٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪ٓ ،13‬ؾحس ئُ‪ ٚ٤‬ػ٘ذ ٓذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ ‪.713‬‬

‫ـ ‪ 162‬ـ‬
‫‪ ،‬بسبب النزاع على‬ ‫بالفتوحات(‪ ،)1‬لكن أمر الشٌعة اشتد بوفاة عثمان‬
‫الخبلفة‪ ،‬والتً رأوا أنها ٌ‬
‫حق إلهًٌ لئلمام علً ‪ ،‬إذ اإلمام فً رأٌهم كالنبً‪،‬‬
‫ُوحى إلٌه (‪ ،)2‬ولذا ٌختاره هللا كما ٌختار رسله‪ ،‬وٌعصمه من الخطأ‬
‫إال أنه ال ٌ َ‬
‫والمعصٌة‪ ،‬وٌودع عنده أحكامه(‪.)3‬‬
‫وقد أجمع الشٌعة على أحقٌة اإلمام علً فً الخبلفة‪ ،‬وأنها من بعده‬
‫لولدٌه الحسن والحسٌن‪ ،‬ثم لعلً زٌن العابدٌن‪ ،‬ثم تفرقوا بعد ذلك فٌمن هو‬
‫أحق باإلمامة إلى عدة فرق‪ ،‬اختلفت فٌما بٌنها حتى أن بعضها ٌك ِّفر بعضها‬
‫اآلخر‪ ،‬وبالػ بعضها فً التشٌع إلى حد تألٌه اإلمام علً (‪ ،)4‬بل زعم بعضهم‬
‫أن النبوة كانت لعلً إال أن جبرٌل أخطأ ونزل على محمد (‪ ،)5‬وادعى بعضهم‬
‫النبوة‪ ،‬وأباح كل المحرمات (‪ ،)6‬ولمَّا كانت هذه الفرق ال تتفق مع العقٌدة‬

‫‪ -1‬ػرذ جُكغ‪ ٖ٤‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.60-56‬‬


‫‪ٓ ،102-101‬ؾحس ئُ‪ ٚ٤‬ػ٘ذ ٓذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪،‬‬ ‫‪ -2‬آٍ ًحؽق جُـطحء‪ :‬أفَ جُؾ‪٤‬ؼس ‪ٝ‬أف‪ُٜٞ‬ح‪ ،‬ؿ‬
‫ؿ‪.742‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.740‬‬
‫‪ُ٘٣ -4‬غد رُي ئُ‪ ٠‬جُلشهس جُغرث‪٤‬س‪ ،‬أهذّ جُلشم جُؾ‪٤‬ؼ‪٤‬س‪ٝ ،‬هذ أعغ‪ٜ‬ح ػرذ هللا ذٖ عرأ جُ‪ٜٞ٤‬د‪ ١‬جُ‪ ،٢٘ٔ٤‬ق‪٤‬ع أظ‪ٜ‬ش‬
‫ئعالٓ‪ ٚ‬ك‪ ٢‬خالكس ػػٔحٕ‪ ،‬دجػ‪٤‬ح ً ئُ‪ ٠‬جُػ‪ٞ‬سز مذ‪ٓ ،ٙ‬غطـالً ؿند جُؼحٓس ػِ‪ ٠‬ػٔحُ‪ٝ ،ٚ‬هذ هؼٖ جذٖ عرأ ك‪٢‬‬
‫الرسول ‪ ُٚ ‬ذحُخالكس ‪ٝ‬ػقٔس جألتٔس‪ٝ ،‬آٖٓ ذـ‪٤‬رس‬ ‫جُخِلحء هرَ ػِ‪ ٢‬سم‪ ٢‬هللا ػ٘‪ٝ ٚ‬ػ٘‪ٝ ،ْٜ‬جدػ‪ٝ ٠‬ف‪٤‬س‬
‫جإلٓحّ ػِ‪ٝ ٢‬ػش‪ٝ‬ؾ‪ ٚ‬ئُ‪ ٠‬جُغٔحء‪ٌ٘ٓ ،‬شجً ٓ‪ٞ‬ض‪ ،ٚ‬ذَ ئٗ‪ ٚ‬ع‪٤‬ؼ‪ٞ‬د ػ‪ٞ‬دز ظحكشز ض٘ؾش جُؼذٍ ‪ٝ‬ضون‪ ٢‬ػِ‪ ٠‬جُؿ‪ٞ‬س‬
‫خحف إٔ ‪ٛ‬ز‪ ٙ‬جُٔرحدب ٓغطٔذز ٖٓ جُٔزج‪ٛ‬د جُلِغل‪٤‬س ‪ٝ‬جُذ‪٣‬حٗحش جُؾشه‪٤‬س ٖٓ ذ‪ٞ‬ر‪٣‬س ‪ٗٝ‬قشجٗ‪٤‬س‬
‫ٍ‬ ‫‪ٝ‬أ‪ٝ ،ِٚٛ‬ؿ‪٤‬ش‬
‫‪ٜٞ٣ٝ‬د‪٣‬س‪ .‬سجؾغ جُؾحذ‪ :٢‬ؿ‪ ،36-25‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪ ،255 ،21‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،174‬جذٖ هط‪٤‬رس‪ :‬ؿ‪.50‬‬
‫‪ٛٝ -5‬ز‪ ٢ٛ ٙ‬جُطحتلس جُ ُـشجذ‪ِّ٤‬س‪ .‬جذٖ هط‪٤‬رس‪ :‬ؿ ‪.50‬‬
‫‪ٝ -6‬رُي ‪ ٞٛ‬جُٔخطحس جُػول‪ ،٢‬سأط جُطحتلس جٌُ‪٤‬غحٗ‪٤‬س‪ ٢ٛٝ ،‬كشهس جٗؾوص ػٖ جُغرث‪٤‬س‪ٝ ،‬هذ ًحٕ خحسؾ‪٤‬ح ً غْ ضؾ‪ّ٤‬غ‪،‬‬
‫‪ٝ‬رُي ُطكو‪٤‬ن ٓطٔؼ‪ ٚ‬ك‪ ٢‬جُكٌْ‪ٓ ،‬طخزجً ٖٓ جُطؾ‪٤‬غ ‪ ٍ٥‬جُر‪٤‬ص ‪ٝ‬ع‪ِ٤‬سً ُزُي‪ًٝ ،‬زُي جُلشهس جُخطَّحذ‪٤‬س جُط‪ ٢‬أعغ‪ٜ‬ح أذ‪ٞ‬‬
‫جُخطَّحخ جألعذ‪ٝ ،١‬جُز‪ ١‬أق َّ ًَ جُٔكحسّ‪ًٝ ،‬زُي كؼَ جُٔـ‪٤‬شز ذٖ عؼ‪٤‬ذ ػ٘ذٓح جدػ‪ ٠‬جُ٘ر‪ٞ‬ز ُ٘لغ‪ٝ ،ٚ‬إٔ ؾرش‪َ٣‬‬
‫‪٣‬أض‪ ٚ٤‬ذحُ‪ٞ‬ق‪ ٖٓ ٢‬جُغٔحء‪ٝ ،‬أٗ‪٣ ٚ‬ك‪ ٢٤‬جُٔ‪ٞ‬ض‪ًٝ ،٠‬زُي كؼَ ٓكٔذ ذٖ ٗقش جُُ٘ٔ‪٤‬ش‪ ،١‬جُز‪ ١‬صػْ أٗ‪ٗ ٚ‬ر‪ٓ ٢‬شعَ‪،‬‬
‫‪ٝ‬أٓؼٖ ك‪ ٢‬جُـِ‪ ٞ‬ئُ‪ ٠‬قذ ئعوحه جُؾش‪٣‬ؼس ذطكِ‪ٓ َ٤‬ح قشَّّ هللا‪ .‬سجؾغ جُؾحذ‪ :٢‬ؿ ‪ ،54-37‬جُ٘‪ٞ‬ذخط‪ :٢‬كِشم جُؾ‪٤‬ؼس‪،‬‬

‫ـ ‪ 163‬ـ‬
‫اإلسبلمٌة‪ ،‬وال مع آراء الشٌعة المعتدلٌن‪ ،‬بل هم أعدا ٌء للدٌن اتخذوا من التشٌع‬
‫ستاراً لهدمه‪ ،‬فقد تبرأ منهم الشٌعة‪ ،‬وأكد ذلك اإلمام زٌن العابدٌن بقوله لبعض‬
‫برح حبُّكم لنا حتى أصبح عاراً علٌنا"(‪ ،)1‬وأهم فرق‬
‫من بالؽوا فً تقدٌسه‪" :‬ما ِ‬
‫الشٌعة التً كان لها أثر واضح فً عقٌدتهم الشٌعة الزٌدٌة واإلمامٌة‬
‫واإلسماعٌلٌة‪.‬‬
‫‪ -1‬الزٌدٌة(‪:)2‬‬
‫ُنسِ بوا إلى اإلمام زٌد بن علً زٌن العابدٌن بن الحسٌن بن علً بن أبً‬
‫طالب‪ ،‬والذي وُ لد بالمدٌنة سنة ‪80‬هـ‪ ،‬وتهٌأ للخبلفة بالعلم واالجتهاد‪ ،‬فأخذ‬
‫عِ لم التابعٌن وآل البٌت‪ ،‬وخرج فً طلبه إلى العراق‪ ،‬ثم عاد إلى المدٌنة‪ ،‬وقد‬
‫امتاز بالذكاء والشجاعة والتقوى ومحبة الناس له وهٌبته فً نفوسهم‪ ،‬إذ كان‬
‫عالما ً زاهداً فقٌهاً‪ ،‬اتفقت كلمة علماء السنة والشٌعة على علمه وفضلِه‪.‬‬
‫قام بالدعوة ضد بنً أمٌة وقاتلهم‪ ،‬فبوٌع بالخبلفة فً الكوفة‪ ،‬لكنه قُتِل‬
‫حرقت جثته سنة ‪122‬هـ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫صلِب وأ ِ‬‫على ٌد عاملهم ٌوسؾ بن عمر الثقفً‪ ،‬و ُ‬
‫بأمر من هشام بن عبد الملك(‪.)3‬‬
‫ٍ‬
‫ومذهب الزٌدٌة أقرب مذاهب الشٌعة إلى أهل السنة‪ ،‬السٌما مدرسة‬
‫حرَّ موا أكل ذبٌحة‬ ‫األحناؾ‪ ،‬لكنهم خالفوا الجمهور فً عدة مسابل‪ ،‬حٌث‬
‫الكتابً‪ ،‬ولم ٌُ ِجٌزوا المسح على الخفٌن والزواج بالكتابٌة‪ ،‬واعتبروا صبلة‬

‫ؿ‪ٓ ،93 ،66 ،65‬ؾحس ئُ‪ ٚ٤‬ػ٘ذ جُؾحذ‪ :٢‬ؿ ‪ ،106 ،92‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ ‪ ،270 ،40-38‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ ‪،1‬‬
‫ؿ‪ ،149‬جذٖ هط‪٤‬رس‪ :‬ؿ‪ ،50‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪ ،228 ،46 ،23‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.198‬‬
‫‪ -1‬جُغ‪٤‬ذ ‪ٛ‬حؽْ ٓؼش‪ٝ‬ف‪ :‬ػو‪٤‬ذز جُؾ‪٤‬ؼس جإلٓحٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪ٓ ،244‬ؾحس ئُ‪ ٚ٤‬ػ٘ذ ٓذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.715‬‬
‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.685-650 ،48-44‬‬
‫‪ -3‬جُٔغؼ‪ٞ‬د‪ :١‬ؿ‪.295‬‬

‫ـ ‪ 164‬ـ‬
‫التراوٌح بدعة(‪ ،)1‬وأضافوا "حًَّ على خٌر العمل" فً األذان واإلقامة‪ ،‬ولكنهم‬
‫وافقوا أهل السنة‪ ،‬وخالفوا ؼٌرهم من الشٌعة‪ ،‬بأن أبطلوا نكاح المتعة‪.‬‬
‫وبحسب ما ٌراه اإلمام زٌد اإلمامة تتعٌن بالوصؾ ال باالسم (‪ ،)2‬وذلك‬
‫بأن ٌكون اإلمام فاطمٌاً‪ ،‬عالماً‪ ،‬شجاعاً‪ٌ ،‬جاهر بالحق‪ ،‬وٌخرج على السلطان‬
‫القابم مطالبا ً باإلمامة‪ ،‬سواء كان من أوالد الحسن أم الحسٌن‪ ،‬ومع هذا فإن‬
‫إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه جابزة فً رأٌه إذا اقتضت‬
‫مصلحة األمة ذلك (‪ ،)3‬وبنا ًء علٌه صحَّ ح زٌد خبلفة أبً بكر وعمر‪ ،‬وإن رأى‬
‫أن علٌا ً أفضل منهما‪ ،‬ألن خبلفتهما حققت مصلحة األمة‪ ،‬ولذا لم ٌُبح لنفسه‬
‫الطعن فٌهما‪ ،‬بل إنه لم ٌُك ِّفر أحداً من الصحابة(‪.)4‬‬
‫وبهذا فإن زٌداً ٌنفً وجود وصٌ ٍة بالخبلفة لئلمام علً‪ ،‬فالخبلفة فً‬
‫رأٌه تخضع لما ٌحقق مصلحة األمة‪ ،‬ومن األفضل فً رأٌه أن ٌكون الخلٌفة‬
‫من أبناء فاطمة‪ ،‬لكنه لم ٌقُل بعصمة األبمة التً ترفعهم إلى مرتبة النبوة‪ ،‬بل‬
‫هم كسابر البشر ٌُحتمل وقوعهم فً الخطأ(‪.)5‬‬
‫وال ٌزال المذهب الزٌدي هو الؽالب فً الٌمن إلى اآلن‪ ،‬وتتمثل‬
‫أصوله فً الكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬والذي ٌتحقق بإتفاق جمٌع مجتهدي األمة‬
‫أو بإتفاق المجتهدٌن من آل البٌت‪ ،‬وأقوال الصحابة والقٌاس واالستحسان‬
‫والمصلحة المرسلة‪.‬‬

‫‪ -1‬أٓح جُؾ‪٤‬ؼس جإلٓحٓ‪٤‬س كقكك‪ٛٞ‬ح ئٕ أدِّ‪٣‬ص كُشجد‪ ٟ‬ال ؾٔحػسً‪ٝ ،‬جػطرش‪ٝ‬ج َّ‬
‫عٖ ػٔش ذٖ جُخطحخ ُِؿٔحػس ك‪ٜ٤‬ح‬
‫ذذػسً ٓخحُلسً ُِؾشع‪ .‬ػرذ جُكغ‪ ٖ٤‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ ‪ ،212-208‬أقٔذ صً‪ ٢‬ضلحقس‪ :‬ؿ‪.80‬‬
‫‪ -2‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.197‬‬
‫‪ -3‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪.35‬‬
‫‪ -4‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.155‬‬
‫‪ -5‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬جُٔ‪ٞ‬مغ ٗلغ‪.ٚ‬‬

‫ـ ‪ 165‬ـ‬
‫وفقه الزٌدٌة ٌتبلقى فً أحكام المعامبلت كثٌراً مع فقه األحناؾ‪ ،‬لوحدة‬
‫البٌبة‪ ،‬ولتبلقً زٌد وأبً حنٌفة وأخذِه عنه‪ ،‬بل إنه َّ‬
‫حث الناس على الخروج‬
‫مع اإلمام زٌد بقوله‪" :‬إن خروجه ٌُضاهً خروج جده ٌوم بدر"‪ ،‬كما أن زٌداً‬
‫أوصى أتباعه بالرجوع إلى مذهب أبً حنٌفة فً ما ال فتوى فٌه فً مذهبه‪.‬‬
‫ومن أشهر كتب الزٌدٌة كتاب المجموع‪ ،‬وهو أقدم كتاب فقهً وصل‬
‫إلٌنا‪ ،‬وقد حوى ما ورد عن اإلمام زٌد‪ ،‬وقد جمعه تلمٌذه أبو خالد الواسطً‪،‬‬
‫(‪ ،)1‬ولهم كذلك‬ ‫وإن كان البعض ٌشكك فً نسبة هذا الكتاب إلى اإلمام زٌد‬
‫كتاب البحر ُ‬
‫الزخار الجامع لمذاهب علماء األمصار ألحمد بن ٌحٌى المرتضً‬
‫الزبٌدي (ت ‪840‬هـ)‪.‬‬
‫‪ -2‬الشٌعة اإلثنا عشرٌة‪ -‬الجعفرٌة‪ -‬اإلمامٌة(‪:)2‬‬
‫ُنسبوا إلى اإلمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علً زٌن العابدٌن‪،‬‬
‫الذي وُ لِد بالمدٌنة سنة ‪80‬هـ‪ ،‬وتوفى سنة ‪148‬هـ‪ ،‬وقد تعلم على ٌد أبٌه‬
‫وج ّده‪ ،‬وتتلمذ له مالك والثوري‪ ،‬فكان إماما ً فً الفقه والحدٌث‪ ،‬عابداً‪ ،‬زاهداً‪،‬‬
‫ورعاً‪ ،‬سخٌاً‪ِ ،‬‬
‫ورث علم أهل البٌت‪ ،‬وعمل على نشره‪ ،‬واعتزل الحٌاة‬ ‫ذكٌاً‪ِ ،‬‬
‫السٌاسٌة‪ ،‬فلم ٌطلب الخبلفة لنفسه‪ ،‬بعد أن رأى الفضابع ُترتكب فً حق آل‬
‫البٌت‪ ،‬لمَّا خذلهم الشٌعة‪ ،‬و َف َ‬
‫ض َح من ألصق ب ل البٌت صفات العصمة والنبوة‪،‬‬
‫فلم ٌُ ِجز لنفسه وال لؽٌره الطعن فً أبً بكر وعمر والتبرؤ منهما‪ ،‬كما فعل من‬
‫َخلَف ُه فً مذهبه‪ ،‬ولعلمه ومكانته من النبً ‪ ‬هابه الناس‪ ،‬وأجمعوا على حبه‬
‫واحترامه‪ ،‬ولو كانوا مختلفٌن معه فً الرأي‪.‬‬
‫وخبلفا ً لما ٌراه جعفر الصادق اعتقد اإلمامٌة أن الرسول ‪ ‬أوصى‬

‫‪ -1‬أٗظش ك‪ ٢‬أعرحخ جُطؼٖ ك‪ٗ ٢‬غرس جٌُطحخ ئُ‪ ٠‬جإلٓحّ ص‪٣‬ذ ‪ٝ‬جُشد ػِ‪ٜ٤‬ح‪ ،‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪ :‬ؿ ‪.318-314‬‬
‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.722-688 ،55-48‬‬

‫ـ ‪ 166‬ـ‬
‫بالخبلفة لعلً بالذات‪ ،‬ثم ألوالده من بعده‪ ،‬وأن األبمة معصومون من الخطأ‪،‬‬
‫وقد َّ‬
‫خطأوا أبا بكر وعمر رضً هللا عنهما‪ ،‬وؼالى بعضهم فحك َم بكفرهما‪،‬‬
‫وتبرأ منهما‪ ،‬وأباح لنفسه الطعن فٌهما (‪ ،)1‬مدعٌا ً أن علٌا ً ‪ ‬ارتضى خبلفة‬
‫من سب َقه متنازالً عن حقه فً الخبلفة حفظا ً لدماء المسلمٌن‪ ،‬وتحقٌقا ً‬
‫لمصلحتهم العامة(‪.)2‬‬
‫وقد وافق الجعفرٌة الزٌدٌة فً القول باإلمامة‪ ،‬لكنها عند الزٌدٌة تتعٌن‬
‫بالوصؾ‪ ،‬ولذا فهً ال تقؾ عند عد ٍد معٌن‪ ،‬أما عند اإلمامٌة فتتعٌن باإلسم‪،‬‬
‫وهً محصورة فً اثنً عشر إماما ً فقط‪ ،‬وهم علً‪ ،‬والحسن‪ ،‬والحسٌن‪،‬‬
‫وعلً زٌن العابدٌن‪ ،‬ومحمد الباقر أخو زٌد بن علً‪ ،‬ثم ابنه جعفر الصادق‪،‬‬
‫وموسى الكاظم ابن جعفر‪ ،‬وعلً بن موسى الرضً‪ ،‬ومحمد التقً‪ ،‬وعلً‬
‫النقً‪ ،‬والحسن العسكري الزكً‪ ،‬وآخرهم محمد المهدي المن َتظر‪ ،‬وال تنتقل‬
‫الخبلفة من بعده ألحد‪ ،‬ألنه لم ٌمُت حسب رأٌهم‪ ،‬بل اختفى من الدنٌا سنة‬
‫‪260‬هـ‪ ،‬وسٌخرج فً آخر الزمان‪ ،‬فٌمؤل األرض عدالً وأمنا ً بعد أن مُلبت‬
‫جوراً وخوفاً‪ ،‬ولهذا أسموه المن َتظر‪ ،‬وعلماؤهم نواب عنه فً ؼٌبته (‪ ،)3‬وقد‬
‫خالؾ اإلمامٌة أهل السنة فً بعض مسابل المٌراث‪ ،‬فكانوا ال ٌورِّ ثون النساء‬
‫من العقار بل من المنقول فقط‪ ،‬ورأوا أن األنبٌاء ٌُورثون‪ ،‬وق َّدموا ابن العم‬
‫الشقٌق على العم ألب فً المٌراث‪ ،‬وؼاٌتهم من هذا حصْ رُ الخبلفة فً علً‬
‫وذرٌته دون عمه العباس‪.‬‬
‫كما رأوا أن اإلجماع ٌتحقق بإتفاق أهل البٌت‪ ،‬إذا وافق قولُهم قول‬

‫‪ -1‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.197‬‬


‫‪ -2‬ػرذ جُكغ‪ ٖ٤‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.396‬‬
‫‪ -3‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪ ،201‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.169‬‬

‫ـ ‪ 167‬ـ‬
‫اإلمام المعصوم‪ ،‬ولهذا لم ٌعت ُّدوا بإجماع الصحابة إذا لم ٌكن علً معهم‪ ،‬ولم‬
‫ٌعترفوا بالقٌاس ألنه رأي‪ ،‬واألحكام إنما ُتنال عن اإلمام‪ ،‬والذي كانت أقواله‬
‫عندهم كالنصوص الشرعٌة‪ ،‬لعدم قابلٌة أقواله للخطأ‪ ،‬إلتصافه بالعصمة التً‬
‫تمنعه من الخطأ والسهو والنسٌان والمعصٌة(‪.)1‬‬
‫‪ ‬مُبطِ ٌل للصوم‪ ،‬وٌجب فٌه القضاء‬ ‫ورأوا أن الكذب على النبً‬
‫والكفارة‪ ،‬وال ٌقع الطبلق عندهم إال إذا صدر أمام شاهدٌن (‪ ،)2‬استدالالً بقوله‬
‫ارقُوهُنَّ ِب َمعْ رُ وؾٍ َوأَ ْش ِه ُدوا َذ َويْ َع ْد ٍل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تعالى ‪َ ‬فأمْ سِ ُكوهُنَّ ِب َمعْ رُ وؾٍ أ ْو َف ِ‬
‫ِم ْن ُك ْم‪ ،)3(‬والطبلق الثبلث فً مجلس واحد ٌقع به طلقة واحدة فقط عنهم (‪،)4‬‬
‫ولٌس ثبلث كما ٌرى الجمهور‪ ،‬وٌحرِّ مون زواج المسلم بالكتابٌة‪ ،‬استدالالً‬
‫ِص ِم ْال َك َواف ِِر ‪ ،)5(‬وٌجٌزون زواج المتعة (‪،)6‬‬ ‫بقوله تعالى ‪َ ‬و َال ُتمْ سِ ُكوا ِبع َ‬
‫ٌض ًة ‪،)7(‬‬ ‫مستدلٌن بقوله تعالى ‪َ ‬ف َما اسْ َتمْ َتعْ ُت ْم ِب ِه ِم ْنهُنَّ َف َ ُتوهُنَّ أُجُ َ‬
‫ورهُنَّ َف ِر َ‬
‫بٌنما ٌرى الجمهور حُرمة هذا الزواج‪.‬‬
‫واإلمامٌة أكثر مذاهب الشٌعة أتباعا ً فً عصرنا ‪ ،‬وموطنهم الرسمً‬
‫هو إٌران‪ ،‬وٌنتشر مذهبهم فً العراق‪ ،‬كما ٌُعرؾ فً لبنان والباكستان‬
‫وسورٌا وافؽانستان‪ ،‬وٌرجع فقههم إلى الكتاب وفق تفسٌر األبمة المعصومٌن‬

‫‪ٓ ،103 ،93‬ؾحس ئُ‪ ٚ٤‬ػ٘ذ ٓذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪،‬‬ ‫‪ -1‬جُغ‪٤‬ذ ‪ٛ‬حؽْ ٓؼش‪ٝ‬ف‪ :‬ػو‪٤‬ذز جُؾ‪٤‬ؼس جإلٓحٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‬
‫ؿ‪.741‬‬
‫‪ -2‬أقٔذ صً‪ ٢‬ضلحقس‪ :‬ؿ‪ ،156 ،96‬ذ‪ٔ٘٤‬ح جإلؽ‪ٜ‬حد ػِ‪ ٠‬جُطالم ػ٘ذ جُؿٔ‪ٜٞ‬س ٓ٘ذ‪ٝ‬خ‪.‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُطالم‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.2‬‬
‫‪ -4‬أقٔذ صً‪ ٢‬ضلحقس‪ :‬ؿ‪ ،157‬ذ‪ٔ٘٤‬ح ضوغ ذ‪ ٚ‬غالظ هِوحش ػ٘ذ جُؿٔ‪ٜٞ‬س‪.‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُٔٔطك٘س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.10‬‬
‫‪ -6‬ػرذ جُكغ‪ ٖ٤‬ؽشف جُذ‪ :ٖ٣‬ؿ‪.183‬‬
‫‪ -7‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.24‬‬

‫ـ ‪ 168‬ـ‬
‫من الخطأ فً نظرهم‪ ،‬والسنة المروٌة عن أبمتهم‪ ،‬ولم ٌعترفوا باإلجماع‪ ،‬ومن‬
‫اعتبره دلٌبلً أراد به إجماع أهل البٌت‪ ،‬فإن اتفق ؼٌرهم من العلماء فبلبد أن‬
‫ٌكون اإلمام المعصوم معهم‪ ،‬وهذا ٌعنً أن الحجة لقول اإلمام فقط‪ ،‬سواء كان‬
‫وحده أو كان معه ؼٌره‪ ،‬وأنكروا القٌاس واالستحسان‪ ،‬ورأوا أن أقوال اإلمام‬
‫المعصوم هً المصدر الوحٌد لكل ما ال نص فٌه‪ ،‬ألن هللا تعالى أودعه‬
‫أحكامه‪ ،‬ولذا ال داعً لبلجتهاد‪ ،‬ألن اإلمام لدٌه حك ٌم لما سٌحدث من مسابل‬
‫ٌ‬
‫مقدمة عند اإلمامٌة حتى على أقوال الصحابة‪،‬‬ ‫بعد وفاته ‪ ،‬وأقوال اإلمام‬
‫ألنهم بخبلفِه ؼٌر معصومٌن(‪.)1‬‬
‫وأهم كتب اإلمامٌة فً الفقه كتاب الحبلل والحرام لئلمام موسى‬
‫الكاظم‪ ،‬وكتاب شرابع اإلسبلم فً مسابل الحبلل والحرام لجعفر بن الحسن‬
‫المعروؾ بالمحقق الحِلً‪ ،‬وقد شرحه محمد حسن النجفً فً كتابه جواهر‬
‫الكبلم شرح شرابع اإلسبلم‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلسماعٌلٌة(‪:)2‬‬
‫هم فرقة من اإلمامٌة ظهرت فً العصر العباسً‪ ،‬و َنسبوا أنفسهم إلى‬
‫إسماعٌل بن جعفر الصادق‪ ،‬فجعلوه اإلمام بعد أبٌه‪ ،‬مخالفٌن اإلمامٌة الذٌن‬
‫جعلوا اإلمامة بعد جعفر البنه موسى الكاظم‪ ،‬وهم فً األصل طابفة من‬
‫المجوس‪ ،‬دخلوا اإلسبلم ظاهراً للدس فٌه والكٌد له‪ ،‬متخذٌن من التشٌع آلل‬
‫البٌت ستاراً لدعواهم(‪.)3‬‬

‫‪ٓ -1‬كٔذ قغ‪ ٖ٤‬ىَ ًحؽق جُـطحء‪ :‬أفَ جُؾ‪٤‬ؼس ‪ٝ‬أف‪ُٜٞ‬ح‪ ،‬ؿ ‪ٓ ،121‬ؾحس ئُ‪ ٚ٤‬ػ٘ذ ٓذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪،‬‬
‫ؿ‪ .753‬أقٔذ صً‪ ٢‬ضلحقس‪ :‬ؿ‪.191‬‬
‫‪ -2‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.56-14‬‬
‫‪ -3‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪ ،293‬جُؾ‪ٜ‬شعطحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.192‬‬

‫ـ ‪ 169‬ـ‬
‫ولهم تعالٌم خرجوا بها عن‬ ‫وٌُعد اإلسماعٌلٌة من ُؼبلة الشٌعة‪،‬‬
‫اإلسبلم‪ ،‬منها زعْ مهم أن الشعابر الدٌنٌة ال ُتلزم إال العامة‪ ،‬أما الخاصة فؽٌر‬
‫ملزمٌن بها‪ ،‬وأن األنبٌاء سواس العامة‪ ،‬أما الخاصة فأنبٌاؤهم الفبلسفة‪،‬‬
‫وأباحوا ألتباعهم نكاح البنات واألخوات و ُ‬
‫شرْ ب الخمر وتعاطً سابر اللذات‪،‬‬
‫وزعموا أن معنى الصبلة هو مواالة إمامهم‪ ،‬وأن الحج هو زٌارته‪ ،‬والصوم‬
‫هو اإلمساك عن إفشاء سره‪ ،‬بل إنهم شككوا فً كل الكتب السماوٌة‪ ،‬ودعوا‬
‫(‪ ،)1‬كما زعموا أن‬ ‫إلى إبطال الشرابع‪ ،‬وأنكروا المعاد والنشور من القبور‬
‫للقرآن معانً ظاهرة وباطنة‪ ،‬ولهذا ٌجب تأوٌله ال التمسك بحرفٌَّته‪َ ،‬فسُموا من‬
‫َّك َح َّتى ٌَأْ ِت ٌَ َك‬ ‫(‪)2‬‬
‫أجل هذا بالباطنٌة ‪ ،‬ومن ذلك تفسٌرهم لقوله تعالى ‪َ ‬واعْ ب ُْد َرب َ‬
‫ْال ٌَقٌِنُ ‪ ‬بأنه ٌعنً أنَّ من َ‬
‫( ‪)3‬‬
‫عرؾ العبادة سقطت عنه فرضٌَّتها‪ ،‬ألنه وصل‬
‫إلى مرحلة الٌقٌن‪ ،‬وؼٌر ذلك من التأوٌبلت الباطلة(‪.)4‬‬
‫والمذهب اإلسماعٌلً هو آخر مذاهب الشٌعة ظهوراً‪ ،‬حٌث ظهر فً‬
‫مصر‪ ،‬وانتشر بها على ٌد الفاطمٌٌن‪ ،‬لكنه اندثر بعد قضاء صبلح الدٌن على‬
‫دولتهم‪ ،‬وفِقه اإلسماعٌلٌة ؼٌر مشهور‪ ،‬وهم ٌعتمدون فٌه على كتاب دعابم‬
‫اإلسبلم للقاضً النعمان بن محمد التمٌمً المؽربً (ت ‪263‬هـ)‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬المذاهب البائدة‪:‬‬
‫هذه المذاهب لم ٌُكتب لها البقاء‪ ،‬فبل أتباع لها اآلن‪ ،‬إما لعدم تدوٌن‬
‫أصحابها لها‪ ،‬أو لعدم وجود تبلمٌذ ٌنشرونها‪ ،‬أو ألسباب أخرى‪ ،‬ومنها‬

‫‪ -1‬جذٖ قضّ‪ :‬جُلشم ذ‪ ٖ٤‬جُلِشم‪ ،‬ؿ‪ ،296‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.394‬‬


‫‪ -2‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.201‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُكؿش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.99‬‬
‫‪ -4‬جُطٔ‪ :٢ٔ٤‬ؿ‪.296‬‬

‫ـ ‪ 170‬ـ‬
‫المذهب الظاهري ومذاهب األوزاعً واللٌث بن سعد والثوري وؼٌرهم‪.‬‬
‫‪ -1‬المذهب الظاهري(‪:)1‬‬
‫أسّسه داود بن علً الذي وُ لِد بالكوفة سنة ‪202‬هـ‪ ،‬وعاش ببؽداد‪ ،‬وبها‬
‫توفى سنة ‪270‬هـ‪ ،‬أتاه هللا علما ً ؼزٌراً بالسنة‪ ،‬وكان ذكٌا ً جرٌبا ً فً الحق‪،‬‬
‫أخذ الفقه عن كتب الشافعً وتبلمٌذه‪ ،‬وأُع ِجب به‪ ،‬وتعصَّب لمذهبه‪ ،‬فألّؾ فً‬
‫فضابله كتابٌن‪ ،‬لِ َما رآه من اعتماده على السنة‪ ،‬ور ِّده على فقهاء الرأي‪،‬‬
‫ألخذهم باالستحسان وإكثارهم من القٌاس‪ ،‬ثم خالفه ألخذه بالقٌاس‪.‬‬
‫بخ ْلق‬
‫نفر منه العلماء‪ ،‬لعدم تهٌّبه ألحد عند المناقشة‪ ،‬وقوله َ‬
‫ومع علمه َ‬
‫القرآن‪ ،‬وٌُعد مذهبه أبعد المذاهب عن األخذ بالقٌاس‪ ،‬وأكثرهم تمسكا ً بالسنة‪،‬‬
‫فالشرٌعة فً نظره نصوصٌ فقط‪ ،‬وال رأي فٌها ألحدٍ‪ ،‬ولهذا أبطل القول‬
‫بالرأي وجمٌع ما ٌندرج فٌه من قٌاس واستحسان ومصلحة مرسلة وؼٌرها‪.‬‬
‫وقد منع التقلٌد دون تدبّر (‪ ،)2‬إذ ال ٌجوز للشخص عنده أن ٌقلِّد ؼٌره‪،‬‬
‫بل علٌه االجتهاد‪ ،‬فإن لم ٌستطعه سأل ؼٌره‪ ،‬ولكن ال ٌُقبل قوله إال بعد أن‬
‫ٌق ِّدم له دلٌله من الكتاب أو السنة أو اإلجماع‪ ،‬وقد أجاز لكل من ٌفهم اللؽة‬
‫العربٌة التكلم فً الدٌن‪ ،‬ألن المجتهد المخطا –حسب رأٌه‪ -‬أفضل عند هللا‬
‫من المقلد المُصٌب (‪ ،)3‬وهذا جرَّ أ العامة على استنباط األحكام دون أن ٌكونوا‬
‫أهبلً لذلك‪ ،‬مما تسبَّب فً نقمة الفقهاء على داود بن علً‪.‬‬
‫وتنحصر أصوله فً ظاهر نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬دون تأوٌل أو‬
‫تعلٌل‪ ،‬ألن التعلٌل هو أساس القٌاس والظاهرٌة ٌرفضونه كلِّ ً‬
‫ٌة‪ ،‬ثم ما أجمع‬

‫‪ -1‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.597-544‬‬


‫‪ -2‬جذٖ قضّ‪ :‬جُٔكِ‪ ،٠‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.60‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.64‬‬

‫ـ ‪ 171‬ـ‬
‫علٌه الصحابة استناداً إلى نص‪ ،‬أما اجماعهم المستند إلى االجتهاد فبل ٌراه‬
‫ً‬
‫حجة‪ ،‬وكذلك إجماع التابعٌن ومن بعدَ هم‪ ،‬لعدم إمكان حصرهم أو الوقوؾ‬
‫على آرابهم (‪ ،)1‬كما رفض العمل بالقٌاس واالستحسان والمصلحة المرسلة‬
‫وسد الذرابع والعرؾ‪ ،‬ولعدم مساٌرة فقه الظاهرٌة للحٌاة وتطورها لجأوا إلى‬
‫القٌاس لكنهم أسموه دلٌبلً‪ ،‬وقد أكثروا من االعتماد على النصوص‪ ،‬السٌما‬
‫السنة‪ ،‬ولو كانت خبر آحاد‪ ،‬طالما ثبت لدٌهم صحتها‪.‬‬
‫وٌرجع الفضل فً معرفتنا بهذا المذهب إلى علً بن حزم األندلسً‬
‫(ت ‪456‬هـ)‪ ،‬والذي كان أشد تمسكا ً بالظاهرٌة من داود نفسه‪ ،‬وكان قد‬
‫تحول إلى مذهب داود‪ ،‬بعد أن درس فقه من سبقه‬ ‫أُع ِجب بمذهب الشافعً‪ ،‬ثم َّ‬
‫من أهل رأيٍ وحدٌثٍ‪ ،‬كما درس الفلسفة والتارٌخ‪ ،‬إال أنه كان حاداً فً‬
‫ب َّؽضه إلى معاصرٌه من فقهاء‬ ‫أسلوبه‪ ،‬عنٌفا ً فً رده على مخالفٌه‪ ،‬مما‬
‫وحكام‪.‬‬
‫وكان للمذهب أتباعٌ فً العراق واألندلس‪ ،‬لكنه اضمح َّل منذ القرن‬
‫الخامس الهجري‪ ،‬وانقرض فً القرن الثامن الهجري‪ ،‬ولم ٌعُد له من أثر إال‬
‫فً الكتب‪ ،‬وذلك لتشدٌده على الناس‪ ،‬فقد كان للظاهرٌة آراء لم ُتعرؾ عند‬
‫ؼٌرهم‪ ،‬وأهم كتب المذهب ما تركه ابن حزم‪ ،‬والذي ألَّؾ كتبا ً كثٌر ًة‪ ،‬منها‬
‫اإلحكام ألصول األحكام‪ ،‬وهو فً أصول الفقه‪ ،‬والم َُحلَّى‪ ،‬وهو فً‬
‫أصول ِ‬
‫الفقه‪ ،‬كما كانت له كتبٌ أخرى‪ ،‬ضاعت باإلحراق والتمزٌق‪.‬‬
‫‪ -2‬مذهب األوزاعً(‪:)2‬‬
‫ٌُنسب إلى عبد الرحمن بن محمد األوزاعً‪ ،‬الذي وُ لِد فً َبعْ لَ َبك بلبنان‬

‫‪ -1‬جألسٓ‪ :١ٞ‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.725‬‬


‫‪ -2‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،10‬ؿ‪ ،115‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪.76‬‬

‫ـ ‪ 172‬ـ‬
‫سنة ‪88‬هـ‪ ،‬وبها نشأ ٌتٌم األب‪ ،‬ثم تحوّ ل إلى بٌروت‪ ،‬وبها توفى سنة‬
‫‪157‬هـ‪ ،‬كان إمام أهل الشام فً الفقه والحدٌث‪ ،‬وقد أسس فقهه على الحدٌث‪،‬‬
‫وكره التوسع فً القٌاس‪.‬‬
‫ِ‬
‫كان معاصراً لئلمام مالك‪ ،‬ولذا أخذ ك ٌل منهما عن اآلخر‪ ،‬وقد ع ِم َل‬
‫أهل الشام بمذهبه قرنٌن‪ ،‬ثم ؼلب علٌه مذهب الشافعً‪ ،‬كما كان لمذهبه‬
‫السٌادة فً أوابل حكم األموٌٌن لؤلندلس‪ ،‬ثم ضعُؾ فً مواجهة المذهب‬
‫المالكً‪ ،‬ولم ٌصلنا من كتبه إال سِ ٌَر األوزاعً‪ ،‬الذي رواه أبو ٌوسؾ فً‬
‫كتابه الرد على سِ ٌَر األوزاعً‪ ،‬ونقض رده على أبً حنٌفة‪ ،‬كما رواه الشافعً‬
‫فً كتابه األم وعلَّق علٌه‪.‬‬
‫‪ -3‬مذهب اللٌث بن سعد(‪:)1‬‬
‫وُ لِد اللٌث بمصر سنة ‪94‬هـ‪ ،‬وبها توفى سنة ‪175‬هـ‪ ،‬وقد أخذ الفقه‬
‫طلبه إلى مكة وبؽداد والمدٌنة‪ ،‬وبها‬
‫عن بعض التابعٌن بمصر‪ ،‬كما رحل فً ِ‬
‫ً‬
‫حجة فً العلم‪ ،‬حتى أن قضاة مصر كانوا ٌرجعون‬ ‫لق ًَِ اإلمام مالك‪ ،‬وٌُعد‬
‫إلٌه‪ ،‬وقد أجمع العلماء على علوِّ مرتبته فً الفقه والحدٌث‪ ،‬حتى ُع َّد إمام أهل‬
‫مصر فً زمانه‪َ ،‬عرض علٌه المنصور العباسً والٌة مصر فأبى‪ ،‬وقد جرت‬
‫بٌنه وبٌن اإلمام مالك مراسبلت‪ ،‬حٌث أخذ علٌه اعتماده على عمل أهل‬
‫المدٌنة فً فتاوٌه‪.‬‬
‫وللٌث مذهبٌ خاص‪ ،‬لكنه لم ٌصمد أمام مذهبً الشافعً ومالك‪ ،‬اللذٌن‬
‫تقاسما مصر بعد وفاته‪ ،‬لعدم تدوٌنه لمذهبه‪ ،‬وقِلة أصحابه‪ ،‬وٌؤكد هذا قول‬
‫الشافعً‪" :‬اللٌث أفقه من مالك إال أن أصحابه لم ٌقوموا به"‪.‬‬

‫‪ -1‬جذٖ خٌِحٕ‪ :‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪ ،127‬جذٖ جُؼٔحد‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،285‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪.78‬‬

‫ـ ‪ 173‬ـ‬
‫وعند اإلفتاء كان اللٌث ٌأخذ بالكتاب فالسنة‪ ،‬كما أخذ بإجماع‬
‫الصحابة‪ ،‬وعند اختبلؾ أقوالهم كان ٌختار من بٌنها‪ ،‬كما عمل بالقٌاس‪ ،‬لكنه‬
‫رفض األخذ بعمل أهل المدٌنة‪.‬‬
‫‪ -4‬مذهب الثوري)‪:)1‬‬
‫ٌُنسب إلى سفٌان بن سعٌد الثوري الكوفً‪ ،‬مح ِّد ٌ‬
‫ث فقٌه‪ ،‬وُ لِد سنة‬
‫‪97‬هـ‪ ،‬وتوفى سنة ‪ 161‬هـ‪ ،‬وهو بهذا ٌُعد من تابعً التابعٌن‪ ،‬اتفق العلماء‬
‫على إمامته فً الحدٌث والفقه‪ ،‬كان مجتهداً من مدرسة الحدٌث‪ ،‬أقام فقهه على‬
‫السنة وأقوال الصحابة‪ ،‬كما أخذ باإلجماع وسد الذرابع والمصلحة المرسلة‪،‬‬
‫لكن دابرة القٌاس كانت لدٌه ضٌقة‪.‬‬
‫ٌك ُثر أتباعه مثله‪ ،‬وقد أراد‬
‫عاصر أبا حنٌفة‪ ،‬ؼٌر أن مذهبه لم ْ‬
‫المنصور تولٌته قضاء الكوفة‪ ،‬وكتب له كتابا ً على أال ٌعترض علٌه فً‬
‫حُكمه‪ ،‬فرمى الكتاب فً نهر دجلة‪ ،‬واختفى عن الناس حتى وفاته‪.‬‬
‫والمذاهب البابدة أصحابها كلهم من أهل السنة‪ ،‬ومنهم أٌضا ابن ُ‬
‫شبرُ مة‬
‫وابن أبً لٌلى وعامر بن ُ‬
‫شراحٌِل الشعبً‪ ،‬وهً كلها ال أتباع لها اآلن‪ ،‬وال‬
‫أثر لها إال فً الكتب‪.‬‬

‫‪ -1‬جذٖ ًػ‪٤‬ش‪ :‬جُرذج‪٣‬س ‪ٝ‬جُ٘‪ٜ‬ح‪٣‬س‪ ،‬ؼ ‪ ،10‬ؿ‪ ،134‬جُؾ‪٤‬شجص‪ :١‬ؿ‪.84‬‬

‫ـ ‪ 174‬ـ‬
‫الفصل الثالث‬
‫مفترٌات أثٌرت حول الشرٌعة‬
‫أثار البعض عدة مفترٌات حول الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬للطعن فٌها‪،‬‬
‫وتبرٌر اللجوء إلى القوانٌن المستوردة‪ ،‬بأن ادعى أن فقهاء الشرٌعة ٌختلفون‬
‫فً آرابهم‪ ،‬مما تتعدد معه األحكام الفقهٌة‪ ،‬وٌصعُب معها تحدٌد حكم واحد‬
‫للمسألة‪ ،‬فٌكون من البلزم اللجوء إلى القانون‪ ،‬ألنه ٌضع حكما ً واحداً ٌسهُل‬
‫فهمه وتطبٌقه‪ ،‬وبذا ٌتم تحاشً الجدل وتشتت الرأي‪ ،‬كما ادعى البعض أنَّ‬
‫الشرٌعة استمدت بعض أصولها من القانون الرومانً‪ ،‬بٌنما حاول البعض‬
‫التملص من أحكام الشرٌعة بالتحاٌل على تطبٌقها‪.‬‬
‫أوال‪ -‬اختالف الفقهاء(‪:)1‬‬
‫ظنَّ بعض من ال عِ لم لهم أن اختبلؾ االجتهادات فً الفقه اإلسبلمً‬
‫نقٌِصة‪ ،‬وتم ّنوا لو لم ٌكن فٌه إال مذهب واحد‪ ،‬وقد عرفنا من خبلل عرض‬
‫مناهج الفقهاء أنهم متفقون على وجوب الرجوع إلى الكتاب أوالً ثم السنة متى‬
‫صحَّ ت ثم اإلجماع متى تحقق ثم إلى الرأي على اختبلؾ بٌنهم فً مداه‪ ،‬وبهذا‬
‫فهم متفقون على أصول االستنباط‪ ،‬إال أنهم اختلفوا فً النتابج التً ٌُوصِ ل إلٌها‬
‫هذا المنهج عند بٌان ك ٍّل منهم للحكم الشرعً لمسألة ما‪ ،‬وٌرجع هذا االختبلؾ‬
‫إلى عدة أسباب منها)‪:)2‬‬
‫‪ -‬االختبلؾ فً فهم معانً بعض األلفاظ الواردة فً الكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪ -‬االختبلؾ فً العلم باألحادٌث‪ ،‬فقد ٌصل الحدٌث إلى أحدهم فٌعمل به‪ ،‬وال‬

‫‪ -1‬جُقحذ‪ :٢ٗٞ‬ؿ‪ ،324-311‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ‪.196-165‬‬


‫‪ -2‬جذٖ ض‪٤ٔ٤‬س‪ :‬سكغ جُٔالّ‪ ،‬ؿ ‪ ،10‬جُؾ‪ًٞ‬حٗ‪ :٢‬جُو‪ ٍٞ‬جُٔل‪٤‬ذ‪ ،‬ؿ ‪ٓٝ 42‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪ ،‬جُغُّرٌ‪ :٢‬ؼ ‪ ،2‬ؿ ‪،261-254‬‬
‫جُذ‪ :١ِٞٛ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.162-140‬‬

‫ـ ‪ 175‬ـ‬
‫طرٌق ؼٌر موثوق به فٌترُ كه‪ ،‬وهذا ٌؤدي إلى‬
‫ٍ‬ ‫ٌصِ ل إلى ؼٌره أو ٌصِ لَه عن‬
‫العمل باالجتهاد‪ ،‬مما قد تختلؾ معه الفتوى‪.‬‬
‫وموسع‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬االختبلؾ فً األخذ بالقٌاس بٌن مضٌِّق لدابرته‬
‫‪ -‬االختبلؾ فً بعض األدلة ومدى االعتماد علٌها كاالستحسان والمصالح‬
‫المرسلة وقول الصحابً‪ ،‬حٌث أخذ بها بعض الفقهاء دون بعضهم اآلخر‪،‬‬
‫صدر عنهم من أحكام‪.‬‬
‫َ‬ ‫فاختلؾ ما‬
‫‪ -‬اختبلؾ المصالح واألحوال واألعراؾ بحسب اختبلؾ البٌبة والزمان‪.‬‬
‫ومن خبلل عرْ ض أسباب اختبلؾ الفقهاء ٌتضح لنا أن االختبلؾ لم‬
‫ٌكن ناشبا ً عن هوى فً نفوسهم‪ ،‬ومع هذا فاالختبلؾ فً ذاته لٌس عٌباً‪ ،‬إذ‬
‫ي عن صاحب‬ ‫اختلؾ الصحابة مع قربهم من زمن النبوة‪ ،‬وتل ِّقٌهم ْ‬
‫الهد‬
‫الرسالة(‪ ،)1‬ولكن بعض أعداء الدٌن استؽلوا هذا األمر للطعن فً الشرٌعة‪،‬‬
‫بأن زعموا أن اختبلؾ الفقهاء فً االجتهاد ٌؤدي إلى تناقض األحكام‬
‫الشرعٌة‪ ،‬ألن بعض الفقهاء ٌح ُكم ب ِح ِّل الشٌا‪ ،‬وٌح ُكم بعضهم اآلخر بتحرٌمه‪،‬‬
‫وهذا ٌعنً أن الشرٌعة ُتحِل الشٌا وتحرِّ مه فً نفس الوقت‪ ،‬وقد تأثر بهذا‬
‫الزعم من ال فهْم له من المسلمٌن‪ ،‬فظنوا أن اختبلؾ االجتهادات نقٌصة‪،‬‬
‫وتمنوا لو لم ٌكن هناك فً اإلسبلم إال مذهب واحد‪ ،‬كما أن الدول اإلسبلمٌة‬
‫اتجهت تحت تأثٌر هذا الزعم إلى استجبلب قوانٌن جاهزة من الؽرب‪ ،‬ظا َّن ًّة أنَّ‬
‫هذا هو سبٌل اللحاق بالؽرب والخروج من دابرة التخلؾ‪ ،‬وكأن اإلسبلم‬
‫الع َوام أن القانون‬
‫والفقهاء هم سبب تخلؾ العالم اإلسبلمً‪ ،‬حتى ظن أؼلب َ‬
‫األمثل واألصلح للتطبٌق هو القانون الؽربً‪ ،‬ولم ٌعُد أح ٌد من المتعلمٌن –إال‬

‫‪ٓ -1‬ذً‪ٞ‬س‪٘ٓ :‬ح‪ٛ‬ؽ جالؾط‪ٜ‬حد‪ ،‬ؿ‪.140‬‬

‫ـ ‪ 176‬ـ‬
‫القلة‪ٌ -‬جادل فً ذلك‪ ،‬وإن كان الواقع ٌدحض هذا الزعم‪ ،‬ألن تطبٌق تلك‬
‫القوانٌن المستوردة لم ٌزدد معه المسلمون إال تخلفا ً‪.‬‬
‫وٌبدو هذا الزعم ؼٌر صحٌح‪ ،‬ألن القابلٌن به خلطوا بٌن الفقه‬
‫والشرٌعة‪ ،‬وظ ُّنوا أن اجتهادات الفقهاء هً ذات الشرٌعة‪ ،‬مع أنها لٌست كذلك‪،‬‬
‫ألن الشرٌعة هً األحكام التً أنزلها هللا تعالى فً كتابه وبٌنتها السنة‪ ،‬وقد‬
‫جاءت فً صورة قواعد عامة تصلح للتطبٌق فً كل زمان ومكان‪ ،‬وهذه‬
‫المنزه عن النقابص واألخطاء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫القواعد ال تناقض بٌنها‪ ،‬ألنها من عند هللا‬
‫اخت َِبل ًفا‬ ‫ان مِنْ عِ ْن ِد َؼٌ ِْر َّ ِ‬
‫هللا لَ َو َج ُدوا فٌِ ِه ْ‬ ‫ِصداق ذلك قوله تعالى ‪َ ‬ولَ ْو َك َ‬
‫ُ‬ ‫وم‬
‫( ‪)1‬‬
‫َك ِثٌرً ا‪ ، ‬أما الفقه فهو ما ِ‬
‫فهمه المجتهدون من النصوص الشرعٌة من أحكام‪،‬‬
‫وهو بهذا عم ٌل بشري ٌحتمل الخطأ والصواب‪ ،‬بٌنما الشرٌعة وضع األحكام‪،‬‬
‫وهذا ال ٌكون إال هلل تعالى‪ ،‬ومن هذا نتبٌن أن اختبلؾ الفقهاء مجاله الفقه ال‬
‫الشرٌعة‪ ،‬ومع هذا فهذا االختبلؾ لٌس عٌبا ً ٌُرمى به الفقه والفقهاء‪ ،‬وذلك لما‬
‫ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬الشرٌعة شرعت االجتهاد‪ ،‬واالجتهاد بطبٌعته ٌؤدي إلى االختبلؾ‪ ،‬وبهذا ال‬
‫ٌكون االختبلؾ عٌباً‪ ،‬ألنه ٌؤدي إلى تع ُّدد األقوال‪ ،‬فٌمكن اختٌار أقربها إلى‬
‫الصواب وأٌسرها عند التطبٌق‪ ،‬ولهذا قال عمر بن عبد العزٌر ‪" :‬ما أحبُّ‬
‫أن أصحاب رسول هللا ‪ ‬لم ٌختلفوا‪ ،‬ألنه لو كان قوالً واحداً لكان الناس فً‬
‫ضٌق‪ ،‬وإنهم أبمة ٌُقتدَ ى بهم‪ ،‬فلو أُخِذ بقول رج ًل منهم ك َّنا فً سِ عة" (‪ ،)2‬كما‬
‫رفض اإلمام مالك ما عزم علٌه المنصور العباسً‪ ،‬ومن بعده هارون الرشٌد‪،‬‬
‫من جعْ ل الموطأ قانونا ً عاما ً للدولة اإلسبلمٌة‪ ،‬ألن الصحابة اختلفوا فً الرأي‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.82‬‬


‫‪ -2‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.125‬‬

‫ـ ‪ 177‬ـ‬
‫وكان فً تعدد أقوالهم رحمة(‪.)1‬‬
‫‪ -‬القانون شرعٌا ً كان أم وضعٌا ً ال ٌمكن أن ُتبٌن فٌه أحكام كل الحوادث‬
‫الجزبٌة‪ ،‬ألنها متجددة ومتؽٌرة‪ ،‬فلو نصَّ التشرٌع على كل أحكامها َّ‬
‫لتعذرت‬
‫معرفتها لكثرتها‪ ،‬وألدى ذلك إلى تناقض بعض أحكامها مع بعضها اآلخر‪،‬‬
‫ولهذا كان القانون شرعٌا ً كان أم وضعٌا ً عبارة عن قواعد عامة تقبل التطبٌق‬
‫على كل الحوادث الجزبٌة‪ ،‬وهذا ما علٌه كل القوانٌن الوضعٌة‪ ،‬إذ جاءت‬
‫نصوصها فً صورة قواعد عامة ثم اختلؾ ُ‬
‫شرَّ احها فً تفسٌرها وتطبٌقها‬
‫على الحوادث الجزبٌة‪ ،‬كما اختلؾ القضاة فً تطبٌقها‪ ،‬فكان الفعل الواحد‬
‫محظوراً على رأيٍ ومباحا ً على رأيٍ آخر‪ ،‬ولمَّا كان هذا األمر مقبوالً فً‬
‫القوانٌن الوضعٌة فلِما ٌُعاب على الفقه اإلسبلمً؟ ومع هذا فاختبلؾ الفقهاء‬
‫كان نتٌجة طبٌعٌة لما جاء به القرآن الكرٌم من إطبلق الحرٌة للعقول فً‬
‫التفكٌر‪ ،‬إذ كٌؾ ٌحثهم على حرٌة الرأي ثم ٌقٌدهم فً اجتهاداتهم؟‬
‫ومن كل ما سبق نتبٌن عدم صحة هذا التوهم‪ ،‬بل إن اختبلؾ القفهاء‬
‫هو من مفاخر الشرٌعة‪ ،‬ألنه أنتج ثرو ًة فقهٌة جعلت األمة فً ؼِ نى عن‬
‫ؼٌرها‪ ،‬وهذا أمرٌ محمو ٌد‪ ،‬أما االختبلؾ المذموم فهو ما كان فً العقابد‪ ،‬ألنه‬
‫ٌؤدي إلى تفرق األمة(‪.)2‬‬
‫ثانٌا ًا‪ -‬تأثر الفقه اإلسالمً بالقانون الرومانً(‪:)3‬‬
‫ظهر اإلسبلم فً جزٌرة العرب ومنها انطلق إلى البلدان المجاورة‪،‬‬

‫‪ -1‬جُذ‪ :١ِٞٛ‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.145‬‬


‫‪ -2‬جُضسهح‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ ،191‬أذ‪ ٞ‬ص‪ٛ‬شز‪ :‬ؿ‪.12‬‬
‫‪ -3‬ؽِر‪ :٢‬جُٔذخَ ُِطؼش‪٣‬ق ذحُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ ‪ ،305 -298‬ذذسجٕ‪ :‬جُؾش‪٣‬ؼس جإلعالٓ‪٤‬س‪ ،‬ؿ ‪ ،23-11‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪:‬‬
‫ؿ‪ ،29-20‬ك‪٤‬طض ؾ‪٤‬شجُذ‪ :‬ؿ‪ٓٝ 53‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬

‫ـ ‪ 178‬ـ‬
‫ومن بٌنها أقالٌم كانت تحت سٌطرة الدولة الرومانٌة‪ ،‬كالشام ومصر ولٌبٌا‪،‬‬
‫وقد أدى هذا إلى حلول الشرٌعة اإلسبلمٌة محل القانون الرومانً الذي كان‬
‫مطبقا ً فً تلك األقالٌم‪ ،‬فأثار البعض مسألة عبلقة الفقه اإلسبلمً بالقانون‬
‫الرومانً‪ ،‬وقد أثار هذه الدعوى بعض المستشرقٌن منذ زمن بعٌد للطعن فً‬
‫الشرٌعة‪ ،‬حٌث زعموا أن الفقه اإلسبلمً استمد بعض أصوله وقواعده من‬
‫القانون الرومانً‪ ،‬وقد انتهت المسألة بعد أخ ٍذ ور ٍّد إلى اعتراؾ رجال القانون‬
‫فً الؽرب بأن الفقه اإلسبلمً تشرٌعٌ قاب ٌم بذاته لٌس مأخوذاً من ؼٌره‪ ،‬وبهذا‬
‫ٌكون عرْ ض المسألة هنا من باب العِلم بها فقط‪.‬‬
‫وأو ُل زعْ ٍم بتأثٌر القانون الرومانً فً الشرٌعة اإلسبلمٌة ٌعود إلى‬
‫ُحام إٌطالً ٌدعى ‪ Dominico Gatteschi‬دومنٌكو ؼاتٌسكً‪ ،‬عاش فً‬
‫م ٍ‬
‫‪1856‬م عن القوانٌن العثمانٌة‪،‬‬ ‫االسكندرٌة‪ ،‬وأصدر كتابا ً باإلٌطالٌة سنة‬
‫ورؼم عدم معرفته بالعربٌة وبالتركٌة فقد أشار فً كتابه إلى وجود قواعد‬
‫وزعم أن القواعد القانونٌة‬
‫َ‬ ‫مشتركة بٌن قانون جستنٌان والشرٌعة اإلسبلمٌة‪،‬‬
‫الرومانٌة دخلت إلى اإلسبلم فً زي األحادٌث الموضوعة التً ُنسبت إلى‬
‫(محمد)(‪.)1‬‬
‫ثم توالت محاوالت المستشرقٌن لتأكٌد العبلقة بٌن القانون الرومانً‬
‫والشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬حٌث حمل شِ ْلدون آموس لواء الهجوم على الفقه‬
‫اإلسبلمً‪ ،‬مقرِّ راً أن "الشرع المحمدي" لٌس إال القانون الرومانً مع َّدالً ِو ْفق‬
‫األحوال السٌاسٌة للببلد العربٌة‪ ،‬وتابعه فً ذلك دي بور الهولندي وسواس‬
‫باشا وؼولد زٌهر‪ ،‬وإن كان هذا األخٌر قد عدَل عن رأٌه فً كتاباته البلحقة‪،‬‬

‫‪ٓ -1‬وحُس ًحسُ‪ ٞ‬أُل‪ٗٞ‬غ‪٘ٓ :ٞ‬ؾ‪ٞ‬سز ك‪ً ٢‬طحخ ‪ُِ َٛ‬وحٗ‪ ٕٞ‬جُش‪ٓٝ‬حٗ‪ ٢‬ضأغ‪٤‬ش ػِ‪ ٠‬جُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪٢‬؟ ؿ ‪.9‬‬

‫ـ ‪ 179‬ـ‬
‫وخاصة فً كتابه العقٌدة والشرٌعة فً اإلسبلم(‪.)1‬‬
‫وقد احتج هؤالء الزاعمون لدعواهم بأن القانون الرومانً س َبق الفقه‬
‫اإلسبلمً فً الوجود‪ ،‬فكان طبٌعٌا ً أن ٌتأثر المتأخر فً الزمن بما سبقه‪،‬‬
‫وخاصة أن الصحابة كانوا ٌسافرون فً سبٌل التجارة إلى الشام‪ ،‬ومن خبلل‬
‫تلك الرحبلت تعرفوا على القانون الرومانً‪ ،‬ولمَّا فتحوا ببلد الشام استولوا‬
‫على ما بها من قوانٌن وأدخلوها فً الفقه اإلسبلمً الذي كان فً طور‬
‫التكوٌن‪ ،‬وٌؤٌد ذلك التشابه بٌنهما فً بعض القواعد مثل قاعدة البٌنة على من‬
‫ادعى والٌمٌن على من أنكر‪ ،‬وقاعدة المصالح المرسلة فً الفقه اإلسبلمً فهً‬
‫بذاتها مبدأ المنفعة فً القانون الرومانً‪ ،‬وكذلك التشابه فً بعض أحكام عقود‬
‫البٌع واإلجارة(‪.)2‬‬
‫منكر أو جاهل‪ ،‬ألن األسبقٌة فً‬
‫ٍ‬ ‫إال أن هذا الكبلم ال ٌصدر إال عن‬
‫الوجود ال ٌنتج عنها دابما التأثر المزعوم‪ ،‬فإلتقاء الحضارات ألم ٍة ؼالبة وأم ٍة‬
‫مؽلوبة ٌكون التقلٌد فٌه من قبل المؽلوب للؽالب (‪ ،)3‬وسبب ذلك أن المؽلوب‬
‫ٌعتقد الكمال فً من ؼلَ َبه‪ ،‬ولهذا ٌنقاد إلٌه‪ ،‬وٌذهب إلى التشبه به (‪ ،)4‬كما أنَّ‬
‫خروج الصحابة للتجارة إلى ببلد الشام ال ٌستلزم تعلمهم للقانون الرومانً‪،‬‬
‫ألن التارٌخ لم ٌُثبت أن أحدهم خرج لطلب العلم بببلد الشام أو بؽٌرها قبل‬
‫ظهور اإلسبلم‪ ،‬وبعد ظهوره كان الوحً ٌنزل ولم ٌلجأوا فً أسبلتهم إال للنبً‬
‫‪ ،‬وقد كان االتصال بٌن التجار العرب والرومان محدوداً‪ ،‬ألن الدولة‬

‫‪ُِ َٛ -1‬وحٗ‪ ٕٞ‬جُش‪ٓٝ‬حٗ‪ ٢‬ضأغ‪٤‬ش ػِ‪ ٠‬جُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ :٢‬ؿ‪.144‬‬


‫‪ -2‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.155‬‬
‫‪ -3‬ئذشج‪ ْ٤ٛ‬ػرذ جُشقٖٔ‪ :‬ؿ‪.48‬‬
‫‪ -4‬جذٖ خِذ‪ :ٕٝ‬ؿ‪.147‬‬

‫ـ ‪ 180‬ـ‬
‫الرومانٌة خصَّصت أسواقا ً معٌنة تنزل بها القوافل ‪ ،‬لٌكون التجار العرب تحت‬
‫رقابة الدولة (‪ ،)1‬كما أنه لم ٌثبت أنه ‪ ‬بعث أحد صحابته إلحضار القوانٌن‬
‫الرومانٌة من ببلد الشام‪ ،‬أو أمره بتعلمها‪ ،‬ولم ٌذهب بنفسه من أجل ذلك‪ ،‬إذ لم‬
‫ولمدة قصٌرة فً كل من الرحلتٌن‪،‬‬ ‫ٌخرج قبل البعثة إلى الشام إال مرتٌن‪،‬‬
‫األولى عندما كان فً الثانٌة عشرة من عمره مع عمه أبً طالب‪ ،‬والثانٌة‬
‫عندما كان فً الخامسة والعشرٌن بتجارة للسٌدة خدٌجة قبل زواجه بها‪ ،‬ولم‬
‫ٌرافقه فً هاتٌن الرحلتٌن إال عرب ُخلَّص ال معرفة لهم بالقانون الرومانً‪،‬‬
‫ولم ٌختلط أثناء الرحلتٌن بأحد رجال القانون الرومانً‪ ،‬ولم ٌكن هناك سببٌ‬
‫ٌدعو الدولة الرومانٌة لتعلٌم النبً ‪ ‬قبل البعثة قواعد هذا القانون‪ ،‬إذ لم تجْ ِر‬
‫العادة بوقوع ذلك مع التجار العرب القادمٌن إلى الشام(‪.)2‬‬
‫ِصر‬
‫وبهذا فإن الرسول ‪ ‬لم ٌكن على معرفة بالقانون الرومانً‪ ،‬لق َ‬
‫مدة بقابه بالشام‪ ،‬ولعدم ثبوت لقابه بأحد رجال القانون الرومانً فً رحلتٌه‬
‫إلى الشام‪ ،‬ولعدم تصور تعلمه له بنفسه‪ ،‬ألنه قانون مكتوب‪ ،‬وهو ال علم له‬
‫بالقراءة والكتابة‪ ،‬كما لم ٌثبت تعلُّم الفقهاء المسلمٌن من صحابة ومن بعدَ هم‬
‫لهذا القانون‪ ،‬ألنه لم ٌترجم إلى العربٌة‪ ،‬كما فعل المسلمون مع علوم الفرس‬
‫والٌونان والرومان من طب وفلسفة وآداب وؼٌرها‪ ،‬ولم ٌثبت تعلمهم للؽة التً‬
‫ُكتِب بها‪ ،‬ولم ٌح ِّدثنا التارٌخ عن فقٌه مسلم تعلم على ٌد معلم أجنبً‪ ،‬فأخذ عنه‬
‫القانون الرومانً‪ ،‬بل تعلموا جمٌعا ً على ٌد فقهاء مسلمٌن‪ ،‬وكثٌراً ما جرت‬
‫المناظرات بٌن الفقهاء ولم ٌستند أحدهم فٌها إلى إحدى مواد القانون الرومانً‬

‫‪ٓ -1‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.28‬‬


‫‪ -2‬ص‪٣‬ذجٕ‪ :‬ؿ‪.76‬‬

‫ـ ‪ 181‬ـ‬
‫أو ٌستعمل لفظا ً أو مصطلحا ً مستعاراً من اللؽة البلتٌنٌة أو اإلؼرٌقٌة (‪ ،)1‬أو‬
‫اقتبس بعض مسابل القانون الرومانً مؤٌداً لها أو مقارنا ً لها بما علٌه الحال‬
‫ومعرضا ً عنها (‪ ،)2‬ولو كان هذا قد حدث‬
‫ِ‬ ‫فً الفقه اإلسبلمً أو حتى ناقداً لها‬
‫لكان األوزاعً إمام أهل الشام قد ثبت عنه ذلك‪ ،‬ولكن العكس هو ما حصل‪،‬‬
‫ألنه ب َنى فقهه على الكتاب والسنة‪ ،‬حتى أُعتبر من فقهاء مدرسة الحدٌث‪،‬‬
‫ٌضاؾ إلى هذا أن الفقه اإلسبلمً نشأ أساسا ً فً العراق والحجاز‪ ،‬وهما أبعد‬
‫ما ٌكون عن ببلد الروم (‪ ،)3‬وقد كان هذا اإلدعاء بالتأثٌر ٌصْ ُدق لو ازدهر‬
‫الفقه اإلسبلمً فً ببلد الشام ومصر‪ ،‬ولكن لم تنشأ بهما مذاهب فقهٌة ذات أثر‬
‫فً الفقه اإلسبلمً كما هو الحال فً العراق والحجاز‪ ،‬وحتى لو كان‬
‫األوزاعً متأثرا بالقانون الرومانً فإنه ال أثر لفقهه إلندثاره بعد وفاته بوقت‬
‫ؼٌر طوٌل (‪ ،)4‬بل إن المسلمٌن فتحوا ببلد فارس وشمال إفرٌقٌا واألندلس‬
‫والسِّند وما جاورها فلو كان لقوانٌن الببلد المفتوحة أثرٌ فً الفقه اإلسبلمً‬
‫لظهر أثر قوانٌن الفرس واألقباط والهنود وؼٌرهم‪ ،‬ولكان أكبر األثر لقوانٌن‬
‫الفرس‪ ،‬لسٌطرتهم على مقالٌد الحكم فً الدولة العباسٌة إبَّان عهد اإلزدهار‬
‫ً‬
‫وخاصة أن الفرس بعد فتح‬ ‫الفقهً‪ ،‬ما لم ٌكن للروم نظٌرٌ ٌماثله أو ٌُدانٌه‪،‬‬
‫ببلدهم دخلوا فً دٌن هللا أفواجا ً ‪ ،‬بٌنما لم ٌتم فتح ببلد الروم إال بعد زمن‬
‫طوٌل‪ ،‬ولم ٌدخل من الروم فً اإلسبلم إال أفراد قبلبل‪ ،‬ورؼم قٌام الفقه فً‬
‫عصر االزدهار على الموالً فلم ٌوجد من بٌنهم فقٌ ٌه واحد من أصل رومً‪.‬‬

‫‪ٓ -1‬وحٍ ‪ُِ َٛ‬وحٗ‪ ٕٞ‬جُش‪ٓٝ‬حٗ‪ ٢‬ضأغ‪٤‬ش ػِ‪ ٠‬جُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ :٢‬ؿ ‪.130‬‬
‫‪ٓ -2‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.32‬‬
‫‪ٓ -3‬وحٍ ‪ُِ َٛ‬وحٗ‪ ٕٞ‬جُش‪ٓٝ‬حٗ‪ ٢‬ضأغ‪٤‬ش ػِ‪ ٠‬جُلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ :٢‬ؿ ‪.139‬‬
‫‪ -4‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.96-94‬‬

‫ـ ‪ 182‬ـ‬
‫كما أن التشابه فً بعض القواعد ال ٌدل على أن الفقه اإلسبلمً‬
‫استمدها من القانون الرومانً‪ ،‬ألن ذلك التشابه سطحً‪ ،‬وألن هذه القواعد‬
‫توجد فً كل الشرابع‪ ،‬وكثٌرٌ من المباحث الفقهٌة كاألحوال الشخصٌة‬
‫والعقوبات والموارٌث كان معروفا ً عند الفراعنة واإلؼرٌق وؼٌرهم من األمم‬
‫السابقة على الرومان ‪ ،‬فلِ َم ال ٌُقال أن الفقه اإلسبلمً تأثر بها؟ ومما ٌقطع‬
‫الصلة بٌن الفقه اإلسبلمً والقانون الرومانً أن الفقه اإلسبلمً ُبنًِ من أول‬
‫نشأته على العدالة التً تقتضً المساواة بٌن األفراد‪ ،‬بٌنما ُبنًِ القانون‬
‫الرومانً على التمٌٌز بٌن األفراد ‪ ،‬ك ٌّل بحسب قوته ومركزه‪ ،‬ألن المجتمع‬
‫الرومانً انقسم إلى طبقات‪ ،‬ولكل طبقة نظامها‪ ،‬ولهذا كان االعتداء الواقع‬
‫شخص من عامة الناس‪ ،‬وجناٌة‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫عقوبة مما ٌقع على‬ ‫على الشرٌؾ أش ُّد‬
‫الشرٌؾ عقوبتها أقل من عقوبة ؼٌره‪ ،‬وقد انفرد كل من التشرٌعٌن بأنظمة ال‬
‫توجد فً اآلخر‪ ،‬ففً الفقه اإلسبلمً ُن ُ‬
‫ظم لم ٌعرفها القانون الرومانً كالو ْقؾ‬
‫ومنع الزواج بسبب الرضاع وأحكام العبادات‪ ،‬بٌنما انفرد القانون الرومانً‬
‫ُ‬
‫بنظم ال نظٌر لها فً الفقه اإلسبلمً كنظام السٌادة الزوجٌة والسلطة األبوٌة‬
‫والتبنً‪.‬‬
‫وهناك ُنظم عرفها المسلمون والرومان لكنها مختلفة من حٌث القواعد‪،‬‬
‫فكبلهما عرؾ العقاب على الجرابم‪ ،‬وبٌنما العقوبة محددة فً الفقه اإلسبلمً‬
‫بؽض النظر عن الشخص ومكانته ‪ ،‬فإنها تختلؾ بحسب الطبقة التً ٌنتمً‬
‫إلٌها الشخص فً القانون الرومانً‪ ،‬وقد عرؾ التشرٌعان نظام الزواج‪ ،‬وبٌنما‬
‫هو فردي فً القانون الرومانً ٌمكن أن ٌتعدد عند المسلمٌن‪ ،‬والمهر فٌه ٌُدفع‬
‫للزوجة عند المسلمٌن وٌُدفع للزوج عند الرومان‪ ،‬وعرؾ المسلمون والرومان‬
‫المٌراث ولكن بٌنما نصٌب الرجل كالمرأة عند الرومان له مثل حظ االنثٌٌن‬
‫ـ ‪ 183‬ـ‬
‫فً اإلسبلم‪ ،‬وعرفا الطبلق وهو بٌد الرجل من حٌث األصل فً الفقه‬
‫اإلسبلمً ولكنه حق مشترك بٌن الزوجٌن عند الرومان(‪.)1‬‬
‫وبهذا فإنه ال أثر للقانون الرومانً على الفقه اإلسبلمً‪ ،‬بل إن الفقه‬
‫اإلسبلمً انتقل إلى أوربا عن طرٌق األندلس‪ ،‬كما نقله الفرنسٌون وخاصة‬
‫الفقه المالكً إلى أوربا أثناء حملتهم على مصر‪ ،‬وهذا ٌتضح من خبلل تتبُّع‬
‫مواد القانون المدنً الفرنسً‪ ،‬والتً نجد الكثٌر منها موافق بل مستمد من الفقه‬
‫المالكً‪ ،‬وإذا كان هناك شبه اجماع من قبل الؽربٌٌن على إنكار ذلك فإن‬
‫البحث المقارن بٌن القوانٌن ٌثبت هذا التشابه‪.‬‬
‫ومن كل ما سبق نخلص إلى أن الشرٌعة اإلسبلمٌة ال عبلقة لها‬
‫بالقانون الرومانً‪ ،‬ألنها نشأ ت مستقلة عنه ‪ ،‬ونما فقهها وازدهر بعٌداً عن هذا‬
‫القانون الذي بدأ على شكل عادات‪ ،‬أما الفقه اإلسبلمً فقد استمد أحكامه من‬
‫مصادر أخرى لٌس بٌنها اإلحالة على قانون أجنبً‪ ،‬فالصلة إذاً منقطعة بٌن‬
‫الشرٌعة اإلسبلمٌة والقانون الرومانً‪ ،‬ألن هذا القانون ٌعتمد على العقل‬
‫البشري فً استنباط أحكامه‪ ،‬أما الشرٌعة فتستقً أحكامها أساسا ً من الوحً‪،‬‬
‫ُتصور التوفٌق بٌن نظامٌن قانونٌٌن وصبل إلى هذه الدرجة من‬
‫فكٌؾ ٌ َّ‬
‫االختبلؾ؟‬
‫ثالثا‪ -‬التحاٌل على األحكام الشرعٌة‪:‬‬
‫الحٌل من الشبهات التً أثٌرت حول الشرٌعة‪ ،‬حٌث قرر بعض أعداء‬
‫الدٌن أن التحاٌل على اسقاط الحقوق وإبطال الواجبات أص ٌل م َّتبع فً‬
‫الشرٌعة‪ ،‬ألنها تحافظ على األشكال سواء بقٌت معها الحقٌقة أم ال‪ ،‬واستندوا‬

‫‪ٓ -1‬ذً‪ٞ‬س‪ :‬جُٔذخَ ُِلو‪ ٚ‬جإلعالٓ‪ ،٢‬ؿ‪.34‬‬

‫ـ ‪ 184‬ـ‬
‫فً هذا الزعم على حٌل ُنقلت عن بعض من انتسبوا إلى الفقه فً عصور‬
‫التقلٌد والجمود ووجهوا عناٌتهم إلى األلفاظ دون الؽوص فً معانٌها‪.‬‬
‫متى نشأت الحٌل؟‬
‫نسب البعض إلى أبً حنٌفة ابتداع الحٌل‪ ،‬ولهذا سمَّوه إمام أهل الحٌل‪،‬‬
‫كما ُسمًِّ إمام أهل الرأي‪ ،‬ولكن هذا ؼٌر صحٌح‪ ،‬ألن الحٌل عُرفت قبله‪،‬‬
‫وؼاٌة األمر أن أبا حنٌفة توسع فً الحٌل أكثر من ؼٌره‪ ،‬ولهذا ُنسبت إلٌه‪،‬‬
‫كما ُنسب إلٌه العمل بالرأي وجُ عل إماما فٌه رؼم وجوده قبله‪.‬‬
‫وكما ُنسب إلى أبً حنٌفة ابتداع العمل بالحٌل ُنسب إلٌه كتابٌ فٌها كان‬
‫موضع ذم العلماء‪ ،‬ولكن هذه النسبة خاطبة‪ ،‬ألن وضعه لهذا الكتاب لم ٌثبت‪،‬‬
‫‪161‬هـ)‪،‬‬ ‫وأول كتاب وصل إلٌنا فً الحٌل هو كتاب الخصَّاؾ الحنفً (ت‬
‫وقد اشتمل على حٌل فً أبواب المعامبلت وبعض مسابل الزكاة والزواج‪،‬‬
‫وبازدٌاد التنافس والمناظرات بٌن العلماء‪ ،‬وخاصة بٌن األحناؾ والشافعٌة‪،‬‬
‫ً‬
‫ودعاٌة لمذهبهم‬ ‫دخل الشافعٌة هذا المجال‪ ،‬حُ با ً فً الظهور أمام الحكام والناس‬
‫ً‬
‫رؼبة فً الدنٌا‪ ،‬ولهذا وضعوا فٌها كتباً‪ ،‬لكنها عم ٌل تقلٌدي ؼلب علٌه‬ ‫أو‬
‫التكلُّؾ والتكرار‪.‬‬
‫حكم الحٌل فً الشرٌعة‪:‬‬
‫بالرجوع للنصوص الشرعٌة نجد أن بعضها نهى عن الحٌل وحرَّ مها‬
‫كحدٌث "ال ٌُجمع بٌن متفرق وال ٌُفرَّ ق بٌن مجتمع خشٌ َة الصدقة" (‪ ،)1‬وتحرٌم‬
‫نكاح التحلٌل فً قوله ‪" :‬لعن هللا المحلِّل والمحلَّل له" (‪ ،)2‬كما أن بعض‬
‫النصوص أباحت حٌبلً معٌنة‪ ،‬ففً قصة أٌوب علٌه السبلم أرشده تعالى إلى‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ جُضًحز‪ ،‬ذحخ ال ‪٣‬ؿٔغ ذ‪ٓ ٖ٤‬طلشم ‪ٝ‬ال ‪٣‬لشم ذ‪ٓ ٖ٤‬ؿطٔغ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1382‬‬
‫‪ -2‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جٌُ٘حـ‪ ،‬ذحخ جُطكِ‪ ،َ٤‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2076‬‬

‫ـ ‪ 185‬ـ‬
‫ِك ضِ ْؽ ًثا َفاضْ ِربْ‬
‫طرٌقة ٌتخلص بها من ٌمٌنه‪ ،‬وذلك فً قوله تعالى ‪َ ‬و ُخ ْذ ِب ٌَد َ‬
‫ص ِابرً ا نِعْ َم ْال َع ْب ُد إِ َّن ُه أَ َّوابٌ ‪ ،)1(‬كما أقر ‪ ‬بعض‬ ‫ِب ِه َو َال َتحْ َن ْ‬
‫ث إِ َّنا َو َج ْد َناهُ َ‬
‫‪‬‬ ‫صحابته على ما صدر عنهم من حٌل‪ ،‬ومن ذلك أن عبد هللا بن رواحة‬
‫ً‬
‫جارٌة له‪ ،‬فلما رأته زوجته ثارت علٌه وهددته بسكٌن‪ ،‬وقالت له‪" :‬لو‬ ‫واقع‬
‫وجد ُتك على هذه الحال مرة أخرى لوجأ ُتك" أي ضربتك‪ ،‬فأنكر‪ ،‬فقالت‪" :‬فاقرأ‬
‫إن كنت صادقا ً"‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وأن النـار مثوى الكافرٌن‬ ‫شـه ُ‬
‫دت بــأن وعْ ــد هللا حــق‬ ‫ِ‬
‫وفوق العرش ربُّ العالمٌنا‬ ‫وأن العرش فوق الما ِء طاؾٍ‬
‫مــبلبك ُة اإللــه َّ‬
‫مسومٌنــــا‬ ‫ٌ‬
‫مــبلبكة شــــدا ٌد‬ ‫وتحمــــله‬
‫‪ ‬فضحك ولم‬ ‫بت بصري"‪ ،‬فبلػ ذلك النبً‬ ‫فقالت‪" :‬آمنت باهلل َّ‬
‫وكذ ُ‬
‫ٌُنكره‪ ،‬وهذا تحاٌل بإظهار القراءة تخلصا من ؼِ ٌرة الزوجة(‪.)2‬‬
‫وبناء على هذا قرر العلماء أن الحٌل نوعان‪ :‬نوع ممنوع ونوع ؼٌر‬
‫ممنوع‪ ،‬ولكن ما هو معٌار التمٌٌز بٌن النوعٌن؟‬
‫ٌرد تحدٌد لذلك فً النصوص الشرعٌة لجأ العلماء إلى االجتهاد‪،‬‬
‫لمَّا لم ِ‬
‫و ُنقلت عنهم أقوا ٌل كثٌرة فً تحدٌدها‪ ،‬نقتصر منها على تحدٌد ابن القٌم للحٌل‬
‫فً كتابه اعبلم الموقعٌن(‪ ،)3‬حٌث قسمها إلى أربعة أنواع‪ ،‬هً‪:‬‬
‫‪ -‬حٌ ٌل محرَّ مة قُصِ د بها الحرام‪ ،‬كتظاهر مُحْ ِرم بالصٌد لٌقتل إنسانا ً برٌباً‪،‬‬
‫فالحرمة هنا للحٌلة وللنتٌجة‪.‬‬
‫‪ -‬حٌ ٌل مباحة قُصِ د بها محرَّ م‪ ،‬كالسفر لقطع الطرٌق‪ ،‬فالوسٌلة مباحة لكنها‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز ؿ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.44‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.203‬‬
‫‪ -3‬ؼ‪ :3‬ؿ‪ٓٝ 346‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬

‫ـ ‪ 186‬ـ‬
‫أُتخذت وسٌلة إلى الحرام‪ ،‬فحرُ مت الوسٌلة لتحرٌم الؽاٌة‪.‬‬
‫أمر مشروع إتخذها الشخص سبٌبلً إلى الحرام‪،‬‬
‫‪ -‬حٌلة موضوعة لئلفضاء إلى ٍ‬
‫كالتزوج بإمرأة لتحلٌلها آلخر‪ ،‬واإلقرار بدٌْن ألحد الورثة لحرمان سواه‪.‬‬
‫‪ -‬وسٌلة محرَّ مة قُصد بها أمرٌ مشروع‪ ،‬كأن ٌكون له دٌْن جحدهُ المدٌن‪ ،‬وال‬
‫ٌقٌم على ذلك شاهديْ زور‪ ،‬وكذلك جحْ دهُ للودٌعة نظٌر ما له‬
‫بٌِّنة له علٌه ‪ ،‬ؾ‬
‫من دٌْن جحدَ ه صاحب المال المودَ ع لدٌه‪.‬‬
‫موقف العلماء من الحٌل‪:‬‬
‫أخذ أبو حنٌفة بمبدأ الحٌل ورُ ِوي عنه الكثٌر فً ذلك‪ ،‬ؼالبه فً مسابل‬
‫األٌمان والطبلق‪ ،‬ألنه رأى تفنن أهل العراق فً هذه األٌمان ثم ٌضطرون إلى‬
‫البحث عن طرٌق للتخلص منها‪ ،‬أما األبمة الثبلثة اآلخرون فلم ٌُنقل عنهم‬
‫شٌا تحت عنوان الحٌل‪ ،‬ولكن فتاوٌهم حوت على ما ٌنطبق علٌه اسم الحٌل‪،‬‬
‫ورؼم أن ما أجازه أبو حنٌفة من حٌل ال ٌتناقض مع الشرٌعة إال أن بعض‬
‫أتباع مذهبه أخذوا القدر الذي أجازه وجعلوه مبدأً عاما ً طبَّقوه فً كل أبواب‬
‫الفقه‪ ،‬فافترض هؤالء المسابل واحتالوا على نصوص الشرٌعة‪ ،‬بؽرض‬
‫إضاعة الحقوق وإسقاط الواجبات وتحلٌل المحرمات‪ ،‬ومن ذلك أنهم أفتوا‬
‫المرأة التً ترٌد التخلص من زوجها بأن ترتد عن اإلسبلم أو تزنً مع ابنه‬
‫من ؼٌرها لتحرُ م علٌه‪ ،‬ومن أراد إسقاط الزكاة أفتوه بهبة ماله قبل تمام الحول‬
‫واسترداده بعده‪ ،‬وأفتوا باإلقرار بكل المال ألحد الورثة لحرمان اآلخرٌن من‬
‫المٌراث‪ ،‬كما أفتوا بجواز نكاح التحلٌل (‪ ،)1‬فالمتأخرون استحدثوا حٌبلً ال‬
‫‪ ،‬ولو علموها‬ ‫تصِ ح نسبتها إلى األبمة المتقدمٌن‪ ،‬ألنهم لم ٌقولوا بها‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.187‬‬

‫ـ ‪ 187‬ـ‬
‫ألنكروها(‪ ،)1‬إذ بتتبع الحٌل الصادرة عن رجال التقلٌد ٌتضح أنها صادرة إما‬
‫عن جهل بالشرٌعة وحكمتها أو عن خطأ فً فهْم نصوصها‪ ،‬حٌث ظنَّ من‬
‫أفتى بها أنه مُصٌب رؼم أنه لجهلِه كان على خطأ(‪.)2‬‬
‫وبهذا ٌظهر لنا أن الحٌل الباطلة لٌست أصبلً فً الفقه اإلسبلمً‪ ،‬وأنَّ‬
‫األبمة المجتهدٌن منها براء‪ ،‬ألنها لٌست إال أحد ثمار التقلٌد والتخلؾ الناجم‬
‫عن الجهل بالشرٌعة‪ ،‬وقد حارب ابن تٌمٌة الحٌل لمَّا الحظ انتشار اإلفتاء بها‬
‫فً عصره‪ ،‬كما كان ابن القٌم من الواقفٌن ضدها‪ ،‬وهو أكثر من أولى دراستها‬
‫عناٌته من العلماء‪ ،‬حٌث بٌَّن أن الحٌل التً تعارض الشرٌعة محرَّ مة‪ ،‬لِما فٌها‬
‫من مضار‪ ،‬ألنها تؤدي إلى فِعل الحرام وترْ ك الواجب‪ ،‬ولما تتضمنه من‬
‫المكر والخداع‪ ،‬مما ٌؤدي إلى اإلؼراء بها والداللة علٌها وتعلٌمها من ال‬
‫ٌحسنها‪ ،‬ولهذا فإن صاحبها ال ٌتوب عنها ؼالبا ً بل ٌتمادى فً فعلها‪ ،‬وهو بهذا‬
‫مخادعٌ هلل ولرسوله‪ ،‬وفِعْ له هذا ٌسلِّط على الدٌن أعداءه‪ ،‬فٌقدحون فٌه وٌسٌبون‬
‫ٌ‬
‫إعانة واضحة على اإلثم والعدوان (‪ ،)3‬ألن الشارع‬ ‫الظن برسوله ‪ ،‬وفً هذا‬
‫ٌسُد الطرق إلى المفاسد‪ ،‬فً حٌن ٌفتح المحتال بالحٌل الطرق إلى المفاسد‪ ،‬كما‬
‫أنه ال ٌُعقل أن ٌضع الشارع حكما ً لِما فٌه من مصلحة ثم ٌجٌز الحٌل للتخلص‬
‫منه‪ ،‬إذ فً ذلك نقضٌ لحُ كم الشارع‪ ،‬كما فً الزكاة‪ ،‬إذ لمَّا ُ‬
‫ش ِرعت لسد حاجة‬
‫الفقراء ففً إجازة االحتٌال على دفعها بهبة المال قبل تمام الحول إبطال‬
‫لمقصود الشارع وإلحاق للضرر بالفقراء‪ ،‬وهذا ما ال ٌُقبل ال عقبلً وال شرعا ً‪.‬‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.291‬‬


‫‪ -2‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.217 ،211 ،190‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪ ،200 ،171‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪ٓٝ 385‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬

‫ـ ‪ 188‬ـ‬
‫الباب الثانً‬
‫مصادر الفقه اإلسالمً‬
‫لكل قانون سواء كان وضعٌا ً أم سماوٌا ً مصادره التً ٌستمد منها‬
‫أحكامه‪ ،‬ومصادر الفقه اإلسبلمً كثٌرة‪ ،‬وٌمكن تقسٌمها إلى نوعٌن‪:‬‬
‫‪ -‬مصادر نقلٌة‪ ،‬وهً التً ال ْ‬
‫دخل للمجتهد فً تكوٌنها‪ ،‬كالكتاب‬
‫والسنة واإلجماع والعرؾ وفتوى الصحابً وشرْ ع َمن ق ْبلَنا‪.‬‬
‫‪ -‬مصادر عقلٌة‪ ،‬وهً التً للمجتهد ْ‬
‫دخل فً تكوٌنها‪ ،‬كالقٌاس‬
‫واالستحسان واالستصبلح‪.‬‬
‫ومع هذا فكِبل النوعٌن مُحتا ٌج إلى اآلخر‪ ،‬ألن االستدالل بالمنقول‬
‫ٌحتاج إلى كثٌر من النظر والتأمل‪ ،‬واالستدالل بالمعقول ال ٌكون صحٌحا ً إال‬
‫إذا كان فً حدود ما دلَّت علٌه النقول‪ ،‬وإذا دق َّقنا النظر تبٌن لنا أن جمٌع‬
‫المصادر التً ُتستقى منها األحكام الفقهٌة ترجع كلها إلى الوحً‪ ،‬حتى السنة‪،‬‬
‫ألنه ‪ ‬ال ٌنطق عن الهوى إن هو إال وحً ٌوحى‪ ،‬وما المصادر األخرى إال‬
‫تطبٌق للوحً ومحاوالت لفهم النصوص الشرعٌة من كتاب وسنة‪.‬‬

‫الفصل األول‬
‫المصادر النقلٌة‬
‫وتشمل الكتاب والسنة واإلجماع وفتوى الصحابً والعرؾ وشرْ عُ َمن‬
‫قبلَنا‪.‬‬
‫أوال‪ -‬الكتاب‪:‬‬
‫القرآن الكرٌم هو معجزة اإلسبلم الخالدة‪ ،‬أنزله تعالى على رسولنا ‪‬‬
‫ُخرج به الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬وٌهدٌهم إلى الصراط المستقٌم‪،‬‬
‫لٌ ِ‬
‫فحرص الصحابة ومن تبعهم من المسلمٌن على حفظه وفهمه والعمل بموجبه‪،‬‬
‫ـ ‪ 189‬ـ‬
‫‪ ‬فً كتابة شٌا عنه سواه‪ ،‬فاهتم‬ ‫فكان فً ذلك شرؾٌ لهم‪ ،‬ولم ٌأذن‬
‫المسلمون من بعده ‪ ‬بجمعه وتدوٌنه ونشره وتحسٌن كتابته وتفسٌره والبحث‬
‫فً جوانب ببلؼته وإعجازه إلى عصرنا الحاضر‪ ،‬ألنه جاء وافٌا ً بمصالح‬
‫الدٌن والدنٌا‪ ،‬حاوٌا ً فً نصوصه على عبلج مشكبلت اإلنسانٌة فً شتى‬
‫مرافق الحٌاة‪.‬‬
‫وقد تكفل هللا تعالى بحفظه بقوله ‪َ ‬ال ُت َحرِّ كْ ِب ِه ل َِسا َن َك لِ َتعْ َج َل ِب ِه ( ‪)16‬‬
‫إِنَّ َعلَ ٌْ َنا َجمْ َع ُه َوقُرْ آَ َنه ‪ ،)1(‬وضمِن حفظه وصٌانته بقوله جل شأنه ‪‬إِ َّنا َنحْ نُ‬
‫ون ‪ ،)2(‬ولذا لما تح َّدى اإلنس والجن أن ٌأتوا بمثله‬ ‫الذ ْك َر َوإِ َّنا لَ ُه لَ َحاف ُ‬
‫ِظ َ‬ ‫َن َّز ْل َنا ِّ‬
‫عجزوا عن ذلك‪ ،‬فثبت إعجازه‪ ،‬ألن هللا تعالى حفظه من التحرٌؾ والتبدٌل‪،‬‬
‫والقرآن هو المصدر األساسً للفقه اإلسبلمً‪ ،‬إذ ٌجب الرجوع إلٌه أوالً‬
‫للتعرؾ على األحكام الشرعٌة‪ ،‬وقد وصفه النبً ‪ ‬بقوله‪" :‬فٌه نبأ ُ من كان‬
‫قبلَكم‪ ،‬وخبر ما بعدكم‪ ،‬وحُ كم ما بٌنكم‪ ،‬وهو الفصل لٌس بالهزل‪ ،‬من تركه من‬
‫جبَّار قصمه هللا‪ ،‬ومن ابتؽى الهُدى فً ؼٌره أضله هللا‪ ،‬وهو حبل هللا المتٌن‪،‬‬
‫وهو الذكر الحكٌم‪ ،‬وهو الصراط المستقٌم‪ ،‬هو الذي ال تزٌػ به األهواء‪ ،‬وال‬
‫تلتبس به األلسنة‪ ،‬وال ٌشبع منه العلماء‪ ،‬من قال به صدق‪ ،‬ومن عمِل به أ ُ ِجر‪،‬‬
‫ِي إلى صراطٍ مستقٌم"(‪.)3‬‬
‫ومن حكم به عدل‪ ،‬ومن دعا إلٌه ُهد َ‬
‫‪َ ‬ذل َِك ْال ِك َتابُ َال َرٌ َ‬
‫ْب فٌِ ِه ه ًُدى‬ ‫وقد سُمً بالكتاب لقوله تعالى‪:‬‬
‫ٌِن‪ ،)4(‬كما ُسمًِّ قرآنا لقوله تعالى‪ :‬لوال ُن ِّز َل َعلَ ٌْ ِه ْالقُرْ آَنُ جُ مْ لَ ًة َواحِدَ ًة‬
‫ل ِْل ُم َّتق َ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُو‪٤‬حٓس‪ :‬ج‪٣٥‬طحٕ ‪.17-16‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُكؿش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.9‬‬
‫‪ -3‬فك‪٤‬ف جُطشٓز‪ً :١‬طحخ كنحتَ جُوشإٓ‪ ،‬ذحخ كنَ جُوشإٓ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2906‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.2‬‬

‫ـ ‪ 190‬ـ‬
‫ادَك َو َر َّت ْل َناهُ َترْ ت ً‬
‫ٌِبل‪ ،)1(‬وقد ُسمًِّ كتابا ً وقرآنا ً لتنبٌه المسلمٌن‬ ‫َك َذل َِك لِ ُن َثب َ‬
‫ِّت ِب ِه فُ َؤ َ‬
‫إلى وجوب كتابته وحفظه قراء ًة‪ ،‬بحٌث ال ٌُؽنً أحدهما عن اآلخر‪ ،‬كما ُسمًِّ‬
‫ار َك الَّذِي َن َّز َل ْالفُرْ َق َ‬
‫ان‬ ‫فرقانا ً ألنه ٌفرِّ ق بٌن الحق والباطل‪ ،‬لقوله تعالى‪َ  :‬ت َب َ‬
‫ٌِن َن ِذٌرً ا ‪ ،)2(‬ورؼم أن القرآن معروؾُ للجمٌع إال أن‬ ‫ون ل ِْل َعالَم َ‬
‫َعلَى َع ْب ِد ِه لِ ٌَ ُك َ‬
‫العلماء ع ُنوا بتعرٌفه‪ ،‬لبٌان ما تجوز الصبلة به وما ال تجوز‪ ،‬وما ٌكون حجة‬
‫فً استنباط األحكام وما ال ٌكون‪ ،‬وما ٌُك َّفر جاحده وما ال ٌُك َّفر‪ ،‬وقد عرَّ فوه‬
‫‪ ،‬باللفظ العربً‪ ،‬المنقول إلٌنا‬ ‫بأنه "كبلم هللا المنزل على سٌدنا محمد‬
‫بالتواتر"(‪ ،)3‬ومن التعرٌؾ نتبٌن خصابص القرآن‪ ،‬وهً‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه كبلم هللا تعالى‪ ،‬وبهذا ال ٌُعد كبلم سوى هللا من الرسل‬
‫والمبلبكة والجن والبشر قرآناً‪ ،‬لقوله تعالى‪َ  :‬وإِ َّن ُه لَ َت ْن ِزٌ ُل َربِّ ْال َعالَم َ‬
‫ٌِن‪.)4(‬‬
‫‪ -2‬أنه منز ٌل على سٌدنا محمد ‪ ‬من عند هللا بألفاظه ومعانٌه‪ ،‬كً ال‬
‫ُرضة للتبدٌل أو التؽٌٌر لو أُنزل بمعناه فقط‪ ،‬ولهذا ال تجوز رواٌته‬
‫ً‬ ‫ٌكون ع‬
‫بالمعنى‪ ،‬وال إبدال لفظ محل لفظ‪ ،‬ولو ساواه فً المعنى‪ ،‬وهذا ما ٌمٌزه عن‬
‫مة بمعناها من هللا‪ ،‬وصاؼها النبً ‪ ‬بألفاظ من عنده‪ ،‬فإن‬ ‫األحادٌث‪ ،‬ألنها مُل َه ٌ‬
‫أُمِر بإضافتها إلى هللا ُسمًّ حدٌثا ً قدسٌاً‪ ،‬إلضافته إلى الذات المقدسة‪ ،‬وإن لم‬
‫ٌؤمر بذلك ٌُضاؾ الحدٌث إلٌه‪ ،‬وٌسمى حدٌثا ً نبوٌاً‪ ،‬والصبلة تكون بالقرآن ‪،‬‬
‫وال تصح بالحدٌث‪ ،‬والقرآن ال ٌمسه إال طاهر‪ ،‬والمُحدِث له مس الحدٌث‪.‬‬
‫‪ -3‬القرآن لفظه عربً‪ ،‬لقوله تعالى‪ :‬إِ َّنا أَ ْن َز ْل َناهُ قُرْ آَ ًنا َع َر ِب ًٌّا لَ َعلَّ ُك ْم‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُلشهحٕ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.32‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُلشهحٕ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.1‬‬
‫‪ -3‬جُضسهحٗ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.13‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُؾؼشجء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.192‬‬

‫ـ ‪ 191‬ـ‬
‫ون‪ ،)1(‬وهذا ٌمٌزه عن كتب هللا ألنبٌابه السابقٌن‪ ،‬كالتوراة واإلنجٌل‪،‬‬ ‫َتعْ ِقلُ َ‬
‫ألنها أُنزلت بؽٌر اللسان العربً‪َ  ،‬و َما أَرْ َس ْل َنا مِنْ َرس ٍ‬
‫ُول إِ َّال ِبل َِس ِ‬
‫ان َق ْو ِم ِه ‪،)2(‬‬
‫كما ٌمٌزه عن الترجمة‪ ،‬ألنها لٌست قرآناً‪ ،‬بل هً تفسٌر للقرآن‪ ،‬ولهذا ال‬
‫تصح الصبلة بها‪ ،‬ألن المصلً مأمور بقراءة القرآن‪ ،‬لقوله تعالى‪َ  :‬فا ْق َرءُوا‬
‫َما َت ٌَس ََّر ِم ْن ُه(‪ ،)3‬والترجمة لٌست قرآناً‪ ،‬ولهذا ٌصلً العاجز عن النطق بالقرآن‬
‫بالعربٌة فً جماعة‪ ،‬أو ٌصلً ساكتا ً مستحضراً معنى العبادة والمناجاة‪،‬‬
‫وٌسقط عنه ركن القراءة حتى ٌقدِر علٌه‪ ،‬كما ٌصلً العاجز عن القٌام قاعداً‬
‫حتى ٌقدر على القٌام‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ال ٌصح االعتماد علٌها فً استنباط األحكام‪،‬‬ ‫ورؼم جواز الترجمة‬
‫ألنها عم ٌل شخصً ٌحتمل الخطأ فً فهم القرآن عند نقل ألفاظه من لؽة إلى‬
‫أخرى‪ ،‬ألن الترجمة فه ُم المترجم الشخصً للنص‪ ،‬ولٌست النص ذاته‪.‬‬
‫‪ -4‬القرآن منقول إلٌنا بالتواتر‪ ،‬أي من جماعة إلى أخرى ٌُؤ َمن إتفاق‬
‫كل منها على الكذب‪ ،‬وهذا ٌؤكد صحته‪ ،‬إذ كتبه عن الرسول ‪ ‬جماعة من‬
‫الكتاب‪ ،‬وحفظه جماعة من الصحابة ال ٌمكن تواطؤهم على الكذب‪ ،‬ونقله‬
‫عنهم جمع آخر فً كل عصر حتى وصل إلٌنا مكتوبا ً فً المصاحؾ ومحفوظا ً‬
‫من ؼٌر تحرٌؾ أو تبدٌل‪ ،‬وهذا بخبلؾ التوراة واإلنجٌل اللذٌن لم ٌثبت‬
‫تدوٌنهما إال بعد أكثر من قرن من وفاة موسى وعٌسى علٌهما السبلم‪.‬‬
‫ومع إتفاق العلماء على أن ما ُنقل بطرٌق أُحادي لٌس قرآناً‪ ،‬فبل تصح‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.2‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز ئذشج‪ :ْ٤ٛ‬ج‪٣٥‬س ‪.4‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُٔضَٓ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.20‬‬
‫‪ -4‬ذذُ‪ً َ٤‬طحذس آ‪٣‬س ك‪ً ٢‬طحخ النبً ‪ ‬إلى قٌصر ملك الروم بلؽته‪.‬‬

‫ـ ‪ 192‬ـ‬
‫الصبلة به‪ ،‬وال ٌُحْ كم ب ُكفر منكر قرآنٌته‪ ،‬فقد اختلفوا فً االحتجاج به واستنباط‬
‫األحكام منه‪ ،‬فقد رفض الشافعٌة والمالكٌة االستدالل بالقراءة الشاذة المنقولة‬
‫بطرٌق أُحادي‪ ،‬كقراءة ابن مسعود فً كفارة الٌمٌن "فمن لم ٌجد فصٌام ثبلثة‬
‫أٌام متتابعات" بزٌادة كلمة متتابعات‪ ،‬وفً عقوبة السرقة "فاقطعوا أٌمانهما"‬
‫بدل كلمة أٌدٌهما (‪ ،)1‬ودلٌلهم أن هذه القراءة لٌست قرآنا ً ألنها لم تتواتر‪،‬‬
‫‪ ‬مأمور بتبلٌػ‬ ‫ولٌست سنة ألنها ُنقلت على أنها قرآن ال سنة‪ ،‬ولما كان‬
‫القرآن للناس ً‬
‫كافة فبل ٌتفق هذا مع سماعه من صحابً واحد فقط‪ ،‬ولو ص َّح‬
‫ذلك فاألولى العمل بما صرَّ ح به ‪ ‬و ُنقل عنه بالتواتر‪.‬‬
‫لكن األحناؾ والحنابلة ٌستدلون بها ألنها فً رأٌهم خ َبر آحاد على‬
‫األقل‪ ،‬وهو ٌجب العمل به ألنه سنة‪ ،‬إذ ٌُعتبر بمثابة تفسٌر للقرآن(‪.)2‬‬
‫والراجح هو رأي الشافعٌة والمالكٌة‪ ،‬ألن القراءة الشاذة لٌست إال فهما ً‬
‫لآلٌة من الصحابً‪ ،‬وهو بهذا لٌست قرآناً‪ ،‬فهً تفسٌر لآلٌة سمعه الصحابً‬
‫من النبً ‪ ،‬أو هو مجرد اجتهاد منه‪.‬‬
‫‪ -5‬القرآن ٌُطلق على كل جزء منه وعلى مجموع ما بٌن دفتً‬
‫المصحؾ‪ ،‬ولهذا فإن األحكام تثبت لكل القرآن ولكل جزء منه من حٌث عدم‬
‫جواز الصبلة إال به‪ ،‬وتكفٌر جاحده‪ ،‬وكونه حجة فً استنباط األحكام‪ ،‬وعدم‬
‫جواز مسه إال من طاهر‪.‬‬
‫نزول القرآن منجما ًا(‪ )3‬وحكمة ذلك‪:‬‬

‫‪ -1‬أٗظش ج‪٣٥‬حش ‪ ٖٓ 89 ،38‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪.‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُكحؾد‪ :‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.21‬‬
‫‪ -3‬جُؼِٔحء ‪٣‬غٔ‪ ٕٞ‬جُوطؼس ٖٓ جُوشإٓ جُط‪ٗ ٢‬ضُص دكؼس ‪ٝ‬جقذز ٗؿٔحً‪ ،‬ض٘ض‪ٜ٣‬ح ً ُِوشإٓ ػٖ ُلع جُطلش‪٣‬ن ‪ٝ‬جُطوط‪٤‬غ‪،‬‬
‫‪٣ٝ‬ؾر‪ٛ ٕٜٞ‬ز‪ ٙ‬جُوطغ ذحُ٘ؿ‪ ٖٓ ّٞ‬ق‪٤‬ع إٔ ًَ ٗؿْ ُ‪ ٚ‬جعطوالُ‪ٝ ٚ‬م‪٤‬حؤ‪ ٞٛٝ ،ٙ‬ك‪ٗ ٢‬لظ جُ‪ٞ‬هص ؾضء ٖٓ ٓؿٔ‪ٞ‬ػس‬
‫ٖٓ جٌُ‪ٞ‬جًد‪ .‬الؽ‪ :ٖ٤‬ؿ‪.15‬‬

‫ـ ‪ 193‬ـ‬
‫مجزأ بحسب‬ ‫َّ‬ ‫نزل القرآن فً ‪ 23‬سنة‪ ،‬وكان ٌنزل مُنجَّ ماً‪ ،‬أي‬
‫الحوادث والمناسبات‪ ،‬وأول ما نزل منه قوله تعالى‪ :‬ا ْق َر ْأ ِباسْ ِم َرب َ‬
‫ِّك الَّذِي‬
‫ت لَ ُك ْم دٌِ َن ُك ْم َوأَ ْت َم ُ‬
‫مْت‬ ‫َخلَ َق‪ ،)1(‬والمشهور أن آخر ما نزل منه ‪ْ ‬ال ٌَ ْو َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫اإلسْ َبل َم دٌِ ًنا‪ ،)2(‬وقٌل هو قوله تعالى‪َ  :‬وا َّتقُوا ٌَ ْومًا‬ ‫ٌت لَ ُك ُم ْ ِ‬‫َعلَ ٌْ ُك ْم نِعْ َمتًِ َو َرضِ ُ‬
‫ت َو ُه ْم َال ٌ ُْظلَم َ‬
‫ُون‪.)3(‬‬ ‫هللا ُث َّم ُت َو َّفى ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س َما َك َس َب ْ‬ ‫ُون فٌِ ِه إِلَى َّ ِ‬
‫ُترْ َجع َ‬
‫وقد ٌسأل البعض لماذا نزل القرآن منجماً‪ ،‬ولم ٌنزل دفعة واحدة‪ ،‬وهذا‬
‫األمر تساءل عنه المشركون‪ ،‬وصاؼوا سؤالهم فً صٌؽة استنكار ال استفهام‪،‬‬
‫ٌِن َك َفرُ وا لَ ْو َال ُن ِّز َل َعلَ ٌْ ِه ْالقُرْ آَنُ‬
‫وقد حكى تعالى عنهم ذلك بقوله‪َ  :‬و َقا َل الَّذ َ‬
‫جُ مْ لَ ًة َواحِدَ ًة ‪ ،)4(‬وقد أتى الجواب فً ذات اآلٌة مبٌنا ً السبب بقوله تعالى‪:‬‬
‫ادَك َو َر َّت ْل َناهُ َترْ ت ً‬
‫ٌِبل ‪ ،‬وهذان سببان ٌمكن أن ٌضاؾ إلٌهما‬ ‫‪َ ‬ك َذل َِك لِ ُن َثب َ‬
‫ِّت ِب ِه فُ َؤ َ‬
‫ؼٌرهما‪ ،‬وعموم اً ٌمكن حصر أسباب التنجٌم فٌما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -1‬تمكٌنه ‪ ‬من حفظه وتبلٌؽه للناس‪ ،‬ألنه أمًِّ ال ٌقرأ وال ٌكتب‪،‬‬
‫ث َو َن َّز ْل َناهُ َت ْن ِز ً‬ ‫لقوله تعالى‪َ  :‬وقُرْ آَ ًنا َف َر ْق َناهُ لِ َت ْق َرأَهُ َعلَى ال َّن ِ‬
‫اس َعلَى م ُْك ٍ‬
‫( ‪)5‬‬
‫ٌبل ‪‬‬
‫والمُكث هو التأمل‪.‬‬
‫‪ -2‬التٌسٌر على العرب فً حفظه وفهمه والعمل به‪ ،‬ألنهم أمٌون ال‬
‫معرفة لهم بالكتابة‪ ،‬فلوال التنجٌم ما استطاع أحد من الصحابة حفظ القرآن‪،‬‬
‫لعدم تفرؼهم لذلك‪ ،‬النشؽالهم بالجهاد وبمصالحهم الخاصة‪ ،‬ولَ َما استطاع‬
‫ً‬
‫دفعة واحدة لذات السبب‪.‬‬ ‫أحدهم كتابته‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُؼِن‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.1‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.3‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.281‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُلشهحٕ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.32‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جإلعشجء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.106‬‬

‫ـ ‪ 194‬ـ‬
‫‪ -3‬لمعرفة الناسخ والمنسوخ‪.‬‬
‫‪ -4‬ألنه نزل وفق الحوادث والمناسبات‪ ،‬وألن نزوله مفرقا ً ٌتناسب‬
‫والتدرج الذي فٌه رحمة بالعباد‪ ،‬وهذا أبعث على قبول أحكامه وفهمه‪ ،‬إذ لو‬
‫لشق على العرب فهمه وثقُلت علٌهم تكالٌفه‪.‬‬ ‫ً‬
‫دفعة واحدة َّ‬ ‫نزل‬
‫وبهذا فالقرآن بخبلؾ الكتب السماوٌة نزل منجماً‪ ،‬إذ لو نزلت الكتب‬
‫السابقة مفرَّ قة ل َما كان هناك ما ٌدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن‬
‫منجماً‪ ،‬ومما ٌؤكد أن الكتب السماوٌة السابقة أنزلت دفعة واحدة قوله تعالى‬
‫ُوسى ْال َؽ َ‬
‫ضبُ‬ ‫فً شأن التوراة ‪َ ‬ف ُخ ْذ َما آَ َت ٌْ ُت َك ‪ ،)1(‬وقوله ‪َ ‬ولَمَّا َس َك َ‬
‫ت َعنْ م َ‬
‫أَ َخ َذ ْاألَ ْل َو َ‬
‫اح‪.)2(‬‬
‫داللة القرآن على األحكام‪:‬‬
‫نصوص القرآن كلها قطعٌة الثبوت ال شك فً صحتها‪ ،‬لوصولها إلٌنا‬
‫بطرٌق متواتر‪ ،‬وألن هللا تكفل بحفظ القرآن‪ ،‬كما أن القرآن ُكتب كله بٌن ٌدي‬
‫الرسول ‪ ، ‬ثم جُ مع بعد وفاته مباشرة‪ ،‬وكان القرآن خبلل جمٌع المراحل‬
‫التارٌخٌة من عصر النبوة إلى عصرنا الحاضر محفوظا ً فً الصدور ومكتوبا ً‬
‫فً المصاحؾ‪ ،‬وبالتالً ال مجال للشك فً أي آٌة من آٌاته‪ ،‬أما داللة ألفاظه‬
‫على األحكام فقد تكون قطعٌة وقد تكون ظنٌة‪.‬‬
‫فهً تكون قطعٌة إذا كانت ال تحتمل إال معنى واحداً‪ ،‬كما فً مدلول‬
‫نصؾ فً قوله تعالى‪َ  :‬ولَ ُك ْم نِصْ ؾُ َما َت َر َك أَ ْز َواجُ ُك ْم إِنْ لَ ْم ٌَ ُكنْ لَهُنَّ َولَ ٌد ‪،)3(‬‬
‫ومدلول السدس فً قوله تعالى ‪َ  :‬و ِألَ َب َو ٌْ ِه ِل ُك ِّل َوا ِح ٍد ِم ْن ُه َما ال ُّس ُدسُ ِممَّا َت َر َك إِنْ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.144‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.154‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.12‬‬

‫ـ ‪ 195‬ـ‬
‫ت ُث َّم لَ ْم‬ ‫ُون ْالمُحْ َ‬
‫ص َنا ِ‬ ‫ان لَ ُه َولَ ٌد ‪ ، ‬ولفظ أربعة فً قوله تعالى‪َ  :‬والَّذ َ‬
‫ٌِن ٌَرْ م َ‬
‫( ‪)1‬‬
‫َك َ‬
‫ٌِن َج ْلدَ ًة‪.)2(‬‬
‫ش َهدَ ا َء َفاجْ لِ ُدو ُه ْم َث َمان َ‬‫ٌَأْ ُتوا ِبأَرْ َب َع ِة ُ‬
‫وقد تكون داللة اللفظ على الحكم ظنٌة‪ ،‬إذا كان اللفظ ٌحتمل أكثر من‬
‫ات ٌَ َت َربَّصْ َن ِبأ َ ْنفُسِ ِهنَّ َث َبل َث َة‬ ‫‪ْ ‬الم َ‬
‫ُطلَّ َق ُ‬ ‫معنى‪ ،‬كلفظ قرء فً قوله تعالى‪:‬‬
‫قُرُ و ٍء‪ ،)3(‬فإنه ٌحتمل معنى الحٌض ومعنى الطهر‪ ،‬ولهذا اختلؾ الفقهاء فً‬
‫معناه‪ ،‬وكقوله تعالى‪َ  :‬وامْ َسحُ وا ِبرُ ءُوسِ ُك ْم ‪ ،)4(‬فإنه ٌحتمل أن ٌكون المسح‬
‫لكل الرأس أو لبعضه‪ ،‬بٌنما األلفاظ القطعٌة لٌست محبلً لبلجتهاد واالختبلؾ‪،‬‬
‫ألن ذلك ٌؤدي إلى الخروج عن النص القرآنً‪.‬‬
‫والقرآن أصل التشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬ألنه بٌَّن أسس الشرٌعة كلها ‪ ،‬سواء‬
‫كانت اعتقادٌة أو أخبلقٌة أو عملٌة‪ ،‬وقد عن ى بتفصٌل أحكام األولٌْن‪ ،‬أما‬
‫األعمال فقد بٌَّنها بصورة مجملة‪ ،‬إال فٌما ال ٌتؽٌر بتؽٌر األٌام كالموارٌث‬
‫أحكام العقٌدة ال‬ ‫والعبادات وبعض أحكام األسرة والعقوبات‪ ،‬وسبب ذلك أن‬
‫تتؽٌر بمرور الزمان‪ ،‬أما األعمال فهً متجددة ومختلفة من مكان آلخر‪ ،‬ولهذا‬
‫مرنة صالحة للتطبٌق‬
‫جاءت النصوص بشأنها على هٌبة قواعد عامة‪ ،‬لتكون ِ‬
‫فً كل عصر ومكان‪.‬‬
‫جمع القرآن وكتابته‪:‬‬
‫كان ‪ٌ ‬حفظ ما ٌُوحى إلٌه حٌن نزوله‪ ،‬كما كان ٌُبلِّػ ما نزل علٌه من‬
‫القرآن لمن حضره من الصحابة‪ ،‬وكان له َكتبة للوحً‪ ،‬منهم الخلفاء األربعة‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.11‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘‪ٞ‬س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.4‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.228‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.6‬‬

‫ـ ‪ 196‬ـ‬
‫وأ ُ َبًْ بن كعب وزٌد بن ثابت ومعاوٌة والزبٌر بن العوام وخالد بن الولٌد‬
‫رضً هللا عنهم‪ ،‬وكانوا ٌكتبون على سعؾ النخٌل والحجر الرقٌق وما تٌسر‬
‫من عظام وجلد‪ ،‬وتوضع صورة فً البٌت النبوي‪ ،‬وٌأخذ ك ٌّل منهم لنفسه‬
‫صورة‪ ،‬كما كان ‪ٌُ ‬علِمهم بمكان اآلٌة والسورة بحسب ما ٌُعلِمه جبرٌل‪،‬‬
‫والذي كان ٌعرض علٌه ما نزل من القرآن مرة فً رمضان من كل عام‪ ،‬فكان‬
‫ٌقرأ وٌتلو ‪ ‬بعده‪ ،‬لكنه عرضه علٌه فً عامه األخٌر مرتٌن‪ ،‬وقد حفظه‬
‫الصحابة حسب العرضة األخٌرة‪ ،‬وإن لم ٌكونوا على درجة واحدة فً الحفظ‪،‬‬
‫بل منهم من حفظه كله‪ ،‬ومنهم من حفظ بعضه‪.‬‬
‫ورؼم كتابة القرآن على عهده ‪ ‬إال أنه لم ٌُجمع‪ ،‬ألنه كان ٌنتظر‬
‫الوحً حتى آخر حٌاته‪ ،‬إذ ربما نزل علٌه شٌا‪ ،‬ولخشٌته من اعتماد الصحابة‬
‫على المكتوب فتضعؾ همتهم عن الحفظ رؼم أنه أقوى وأدعى لعدم التبدٌل‪،‬‬
‫ولصعوبة توفٌر أدوات الكتابة‪ ،‬ولم ٌنتقل ‪ ‬إلى الرفٌق األعلى إال والقرآن‬
‫كله محفوظ ومرتب فً صدور الصحابة ومكتوب لكنه ؼٌر مجموع‪.‬‬
‫ولما تولَّى أبو بكر ‪ ‬الخبلفة ُ‬
‫وكثر ق ْتل الصحابة فً الٌمامة سنة‬
‫ً‬
‫وخشٌة ضٌاع شٌا منه بموت القرَّ اء اقترح عمر‬ ‫‪12‬هـ أثناء حروب الردة ‪،‬‬
‫‪ ‬جمْ عه‪ ،‬فوافقه أبو بكر على ذلك‪ ،‬وكلَّؾ زٌد بن ثابت ‪ ‬بجمعه من ِ‬
‫الرقاع‬
‫وصدور الصحابة‪ ،‬ولم ٌكتؾِ بواح ٍد منهما زٌاد ًة فً االحتٌاط‪ ،‬رؼم أنه كان‬
‫ٌحفظ القرآن كله عن ظهر قلب‪ ،‬وقد عاونه فً الجمع أ ُ َبًْ بن كعب وعل ي‬
‫وعثمان رضً هللا عنهم‪ ،‬وسمَّاه أبو بكر مصحفاً‪ ،‬ووضعه عنده وأذِن لعامة‬
‫المسلمٌن أن ٌنسخوا منه أو ٌقابلوا ما عندهم من المكتوب علٌه‪ ،‬ثم وُ ضِ ع عند‬
‫عمر ‪ ،‬وبعد وفاته عند ابنته حفصة أم المؤمنٌن ‪ ،‬ثم وُ ضع عند عبد هللا بن‬
‫عمر ‪ ،‬وظل عنده إلى أن محاه مروان بن الحكم والً المدٌنة لمعاوٌة‪ ،‬كما‬
‫ـ ‪ 197‬ـ‬
‫جمع بعض الصحابة مصاحؾ ألنفسهم‪ ،‬لكنها نادراً ما اشتملت على كل‬
‫القرآن‪ ،‬إذ كان ٌوجد فً بعضها ما ال ٌوجد فً بعضها اآلخر‪.‬‬
‫‪ ‬عند ؼزوه ألرمٌنٌا‬ ‫وفً سنة ‪20‬هـ الحظ حُذٌفة بن الٌمان‬
‫وأذربٌجان اختبلؾ أهل العراق وأهل الشام فً القراءة‪ ،‬فرفع األمر إلى‬
‫عثمان ‪ ،‬والذي رأى جمْ ع الناس على مصحؾ واحد وحرْ ق ما عداه توحٌداً‬
‫للقراءات‪ ،‬وكً ال تكون هذه المصاحؾ الخاصة سبٌبلً للخطأ والتحرٌؾ أو‬
‫التبدٌل فً القرآن فً المستقبل‪ ،‬وكلّؾ بإعداد النسخ زٌد بن ثابت وثبلثة من‬
‫قرٌش هم عبد هللا بن الزبٌر وسعٌد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن‬
‫هشام‪ ،‬وأمرهم بالنسخ من المصحؾ الموجود عند حفصة أم المؤمنٌن ثم ر ِّده‬
‫ً‬
‫نسخة لكل قطر‪ ،‬وبهذا حسم عثمان ‪ ‬االختبلؾ وحصَّن القرآن‬ ‫إلٌها‪ ،‬وأرسل‬
‫من أن ٌتطرق إلٌه شٌا من التحرٌؾ‪ ،‬والفرق بٌن تدوٌن أبً بكر وتدوٌن‬
‫عثمان أن مصحؾ أبً بكر ؼاٌته حماٌة القرآن من أن ٌضٌع منه شٌا‪ ،‬أما‬
‫تدوٌن عثمان فؽاٌته توحٌد الكتابة وسد باب االختبلؾ فً القراءة‪.‬‬
‫ً‬
‫خالٌة من التشكٌل وال ُّنقط‪ ،‬ل ِؽ َنى الناس‬ ‫وقد كانت المصاحؾ العثمانٌة‬
‫عنها‪ ،‬العتمادهم على الحفظ‪ ،‬فلما فسد لسان الناس بسبب اختبلط العرب‬
‫بؽٌرهم‪ ،‬وحتى ال ٌقع خطأ فً قراءة القرآن وضع أبو األسود ال ُّدوءلً‬
‫(ت‪69‬هـ) قاضً البصرة لزٌاد بن أبٌه أمٌر العراق عبلمات لضبط أواخر‬
‫‪90‬هـ) فوضع نقاطا ً على‬ ‫الكلمات‪ ،‬ثم جاء بعده نصر بن عاصم اللٌثً (ت‬
‫الحروؾ المتشابهة للتمٌٌز بٌنها‪ ،‬ومن بعده قام الخلٌل بن أحمد (ت ‪170‬هـ)‬
‫بوضع عبلمات التشكٌل المعروفة لنا اآلن‪ ،‬وقد استمرت عناٌة العلماء بالقرآن‬
‫والو ْقؾ وؼٌرها مما ٌعٌن على التبلوة‪ ،‬وإن‬
‫فوضعوا عبلمات ألحكام التجوٌد َ‬
‫لم ٌؽٌِّروا من الرسْ م العثمانً الموجود بالمصاحؾ األصلٌة‪ ،‬وبظهور الطباعة‬
‫ـ ‪ 198‬ـ‬
‫طبع القرآن فً أوربا طبعات ؼٌر معتمدة بداٌة من سنة ‪1530‬م‪ ،‬ولم تظهر‬‫ُ‬
‫أول طبعة إسبلمٌة للقرآن إال سنة ‪1787‬م‪ ،‬ثم ُ‬
‫طبع فً إٌران بداٌة من سنة‬
‫‪1923‬م‪ ،‬بإشراؾ األزهر وباعتماد‬ ‫‪1828‬م‪ ،‬ولم ٌطبع فً مصر إال سنة‬
‫لجنة متخصصة فً القراءات(‪.)1‬‬
‫المكً والمدنً من القرآن‪:‬‬
‫نزل القرآن فً ‪ 23‬سنة‪ ،‬جز ٌء منه فً مكة موجها ً إلى المجتمع‬
‫الجاهلً لدعوته إلى اإلٌمان‪ ،‬والجزء اآلخر نزل فً المدٌنة لتنظٌم أمور‬
‫المجتمع المسلم‪ ،‬فكان من الطبٌعً أن ٌكون هناك اختبلؾ بٌن موضوعات‬
‫كبل الجزبٌن‪.‬‬
‫وللعلماء أقوال ثبلثة فً تحدٌد مفهوم المكً والمدنً من القرآن‪ ،‬فقد‬
‫قال بعضهم أن المكً ما كان خطابا ً ألهل مكة‪ ،‬والمدنً ما كان خطابا ً ألهل‬
‫المدٌنة‪ ،‬ولكن ٌُعترض على هذا القول بأن بعض اآلٌات موجهة لسابر الناس‪،‬‬
‫وهً بهذا ال تندرج تحت هذا التقسٌم‪ ،‬بل إن أكثر سور القرآن لم ٌُفتتح بأحد‬
‫الخطابٌن‪ ،‬وقال بعضهم أن المكً ما نزل بمكة والمدنً ما نزل بالمدٌنة‪،‬‬
‫وٌُعترض على هذا بأنه ال ٌشمل ما نزل خارج مكة والمدٌنة‪ ،‬والراجح أن‬
‫المكً ما نزل من القرآن قبل الهجرة‪ ،‬والمدنً ما نزل بعدها سواء نزل‬
‫بالمدٌنة أو بالقرب منها بل ولو نزل فً مكة بعد الفتح‪.‬‬
‫وحسب هذا القول األخٌر القرآن المكً استؽرق نزوله الفترة التً‬
‫قضاها ‪ ‬فً مكة بعد البعثة وقبل الهجرة‪ ،‬واستؽرق نزول القرآن المدنً‬
‫الفترة التً عاشها ‪ ‬بعد الهجرة‪.‬‬

‫‪ -1‬جُقرحؽ‪ :‬ؿ‪ ،95-94‬جُ٘ر‪ٜ‬حٕ‪.193 :‬‬

‫ـ ‪ 199‬ـ‬
‫ومجموع سور القرآن ‪ 114‬سورة‪ ،‬منها ‪ 29‬سورة مدنٌة‪ ،‬و ‪85‬‬
‫متفق علٌه ؼالباً‪ ،‬لكن هذا ال ٌعنً أن‬
‫ٌ‬ ‫مكٌة‪ ،‬ونزول القرآن المكً والمدنً‬
‫السورة كلها إما مكٌة وإما مدنٌة‪ ،‬بل إن بعض السور وإن كانت مكٌة إال أن‬
‫بعض آٌاتها مدنً‪ ،‬وكذلك العكس‪.‬‬
‫كٌف نعرف المكً من المدنً؟‪:‬‬
‫ٌكون ذلك من خبلل الحوادث التارٌخٌة‪ ،‬إذا ارتبطت السورة أو اآلٌة‬
‫بحادثة أو ؼزوة ٌُعرؾ تارٌخها‪ ،‬من ذلك أن سورة األحزاب تحدثت عن‬
‫ؼزوة الخندق‪ ،‬وسورة الفتح تتعلق بصلح الحدٌبٌة‪ ،‬وسورة األنفال تتحدث عن‬
‫الؽنابم التً ؼنمها المسلمون ٌوم بدر‪ ،‬ولكن لٌست كل السور واآلٌات مرتبطة‬
‫بحوادث تارٌخٌة‪ ،‬ولهذا ال سبٌل لمعرفة المكً والمدنً إال اللجوء إلى ما ورد‬
‫عن الصحابة الذٌن عاصروا الوحً وعرفوا أسباب نزوله‪ ،‬فعن ابن مسعود‬
‫‪ ‬قال‪ " :‬وهللا الذي ال إله ؼٌره ما أُنزلت سورة من كتاب هللا إال أنا أعلم أٌن‬
‫أُنزلت‪ ،‬وال أُنزلت آٌة من كتاب هللا إال أنا أعلم فٌ َم أُنزلت"(‪.)1‬‬
‫وقد أوردت بعض الكتب تحدٌداً للسور المكٌة والمدنٌة‪ ،‬كما أن‬
‫المصاحؾ المطبوعة تشٌر إلى المكً والمدنً‪ ،‬معتمد ًة فً ذلك على ما ذكره‬
‫‪،‬‬ ‫العلماء‪ ،‬ومع هذا فهناك عدة أمارات ُتعٌن على التمٌٌز بٌن المكً والمدنً‬
‫منها(‪:)2‬‬
‫‪ -‬اآلٌات المتعلقة باصبلح العقٌدة وتهذٌب النفوس والدعوة إلى التوحٌد‬
‫وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وذِكر القٌامة والجنة ونعٌمها والنار وأهوالها‬
‫أؼلبها مكٌة‪ ،‬بٌنما اآلٌات المبٌنة لؤلحكام كالعبادات والمعامبلت المالٌة ونظام‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف جُرخحس‪ً :١‬طحخ كنحتَ جُوشإٓ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.4716‬‬


‫‪ -2‬جُضسًؾ‪ :٢‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ٓٝ 188‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬

‫ـ ‪ 200‬ـ‬
‫الدولة واألسرة من زواج وطبلق ومٌراث وؼٌرها أؼلبها مدنً‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ؽلب على القرآن المكً الخطاب بلفظ "ٌا أٌها الناس"‪ ،‬لتناسبه مع‬
‫األحوال بمكة‪ ،‬إذ القصد دعوة الناس جمٌعا ً إلى الدخول فً الدٌن الجدٌد‪ ،‬أما‬
‫أسلوب الخطاب المدنً فٌؽلب علٌه التعبٌر بلفظ "ٌا أٌها الذٌن آمنوا" لتناسبه‬
‫مع األحوال بالمدٌنة‪ ،‬ألن التشرٌعات كانت موجهة للمؤمنٌن‪.‬‬
‫‪ -‬تتمٌز اآلٌات المكٌة ؼالبا ً بالقِصر‪ ،‬لٌتمكن ‪ ‬وصحابته من حفظها‪،‬‬
‫ألنهم كانوا حدٌثً عهد بالقرآن‪ ،‬وٌؽلُب على اآلٌات المدنٌة الطول‪ ،‬الشتمالها‬
‫على كثٌر من األحكام مما تظهر معه الحاجة إلى عرض التفاصٌل‪.‬‬
‫‪ -‬كل السور التً تناولت ذِكر المنافقٌن مدنٌة‪ ،‬ألن النفاق لم ٌظهر إال‬
‫بعد الهجرة‪ ،‬إال سورة العنكبوت فهً مكٌة‪ ،‬حٌث ورد ذكرهم فً اآلٌات من‬
‫‪ 1‬إلى ‪ 13‬منها‪ ،‬وعند التدقٌق ٌظهر لنا أن هذه اآلٌات نزلت فً المدٌنة‪.‬‬
‫‪ -‬السجدات كلها بالسور المكٌة إال سورة الحج فهً مدنٌة‪.‬‬
‫‪ -‬كل سورة فٌها قصة آدم وإبلٌس أو ذِكر قصص األنبٌاء السابقٌن فهً‬
‫مكٌة إال البقرة‪.‬‬
‫‪ -‬كل سورة وردت فٌها كلمة كبل فهً مكٌة ألنها للردع والزجر‪.‬‬
‫آل‬ ‫‪ -‬كل سورة فً أولها حروؾ التهجً هً مكٌة سوى البقرة و‬
‫عمران فهما مدنٌتان بإجماع وفً الرعد خبلؾ‪.‬‬
‫‪ -‬كل سورة أمرت بالجهاد أو أذِنت به وتحدثت عن أحكامه فهً مدنٌة‪.‬‬
‫فائدة التمٌٌز بٌن المكً والمدنً‪:‬‬
‫‪ -‬فهم اآلٌة وتفسٌرها على وجه أفضل‪ ،‬وخاصة إذا وقفنا مع ذلك على‬
‫أسباب النزول‪.‬‬
‫‪ -‬الوقوؾ على السٌرة النبوٌة من خبلل تتبع نزول اآلٌات وما‬
‫ـ ‪ 201‬ـ‬
‫ٌصاحبها من أحداث وأسباب نزول‪.‬‬
‫ثانٌا ًا‪ -‬السنة‪:‬‬
‫لؽة الطرٌقة المعتادة خٌراً كانت هذه الطرٌقة أم شراً (‪ ،)1‬وذلك‬ ‫السنة ً‬
‫ٌبل ‪،)2(‬‬ ‫ت َّ ِ‬
‫هللا َتحْ ِو ً‬ ‫ت َّ ِ‬
‫هللا َت ْبد ً‬
‫ٌِبل َولَنْ َت ِجدَ لِ ُس َّن ِ‬ ‫كما فً قوله تعالى‪َ  :‬فلَنْ َت ِجدَ لِ ُس َّن ِ‬
‫وقوله ‪" :‬من سنَّ فً اإلسبلم ً‬
‫سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمِل بها من‬
‫بعده من ؼٌر أن ٌنقص من أجورهم شٌا‪ ،‬ومن سنَّ فً اإلسبلم ً‬
‫سنة سٌبة كان‬
‫بعده من ؼٌر أن ٌنتقص من أوزارهم‬ ‫علٌه وزرها ووزر من عمل بها‬
‫شٌا"(‪.)3‬‬
‫‪ ‬من قول أو فعل أو‬ ‫وٌراد بها فً اصطبلح الفقهاء ما ُنقل عنه‬
‫‪ ،‬كقوله‪" :‬إنما األعمال‬ ‫تقرٌر‪ ،‬فالسنة القولٌة هً األحادٌث التً تل َّفظ بها‬
‫بالنٌات"(‪ ،)4‬والسنة الفعلٌة هً ما صدر عنه من أفعال ٌُقصد بها التشرٌع‪،‬‬
‫كصبلته ووضوبه وحجه وأمره بقطع ٌد السارق الٌمنى من الرسػ‪ ،‬والسنة‬
‫التقرٌرٌة هً سكوته عن انكار فعل أو قول صدر فً حضوره أو فً ؼٌابه‬
‫وعلِم به مما ٌدل على جواز الفعل‪ ،‬ألنه ‪ ‬ال ٌسكت عن باطل أبداً ‪ ،‬كاقراره‬
‫لمعاذ بن جبل ‪ ‬لمَّا قال له أنه سٌجتهد برأٌه إذا لم ٌجد فً الكتاب والسنة‬
‫حكما ً للمسألة‪ ،‬وإقراره للصحابٌٌن اللذٌن أعاد أحدهما الصبلة ولم ٌُعِدها‬
‫اآلخر‪ ،‬لما صلٌا بالتٌمم ثم وجدا الماء قبل خروج وقت الصبلة‪.‬‬
‫حكم أفعاله ‪:‬‬

‫‪ -1‬أعحط جُرالؿس‪ :‬ؿ‪.310‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز كحهش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.43‬‬
‫‪ٓ -3‬غ٘ذ جذٖ ق٘رَ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪18693‬‬
‫‪ -4‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُض‪ٛ‬ذ‪ ،‬ذحخ جُ٘‪٤‬س‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.4227‬‬

‫ـ ‪ 202‬ـ‬
‫لٌس كل ما صدر عنه ‪ٌ ‬كون تشرٌعا ً لؤلمة ٌجب العمل به‪ ،‬بل إن‬
‫أفعاله نوعان‪:‬‬
‫‪ -‬نوع ملزم لؤلمة‪ ،‬كالصبلة والوضوء والصٌام‪ ،‬ألنه صدر عنه‬
‫باعتباره نبٌا ً ومبلؽا ً عن هللا تعالى‪.‬‬
‫‪ -‬نوع ؼٌر ملزم لؤلمة‪ ،‬وٌشمل ما صدر عنه بمقتضى طبٌعته‬
‫البشرٌة‪ ،‬كاألكل والشرب واللباس‪ ،‬فهذا ال ٌجب متابعته علٌه‪ ،‬وإن كان ذلك‬
‫مستحباً‪ ،‬وفعله ‪ ‬لها ال ٌقتضً أكثر من إباحتها‪ ،‬وٌشمل كذلك ما كان خاصا ً‬
‫كوصاله فً الصوم والزواج بأكثر من أربعة أو بدون مهر ووجوب صبلة‬
‫به ِ‬
‫الضحى علٌه‪ ،‬فهذا ٌجب عدم اتباعه فٌه‪.‬‬
‫أقسام السنة‪:‬‬
‫تنقسم السنة من حٌث سندها‪ ،‬أي من حٌث رواٌتها عن الرسول ‪ ‬إلى‬
‫عدة أقسام‪ ،‬ألن الحدٌث إما أن ٌكون متصل اإلسناد وٌسمى مسنداً‪ ،‬أو ٌكون‬
‫منقطع اإلسناد وٌسمى مُرسبلً‪ ،‬والمسند نوعان‪ ،‬متواتر وخبر آحاد‪ ،‬وزاد‬
‫الحنفٌة قسما ً ثالثا ً وهو المشهور أو المستفٌض‪.‬‬
‫والمتواتر ما رواه جماعة عن جماعة ٌُؤ َمن اتفاقهم على الكذب من‬
‫‪ ‬جمعٌ من‬ ‫زمن النبوة إلى عصر التدوٌن‪ ،‬وذلك بأن ٌروٌه عن النبً‬
‫الصحابة‪ٌ ،‬روٌه عنهم جمْ عٌ من التابعٌن‪ ،‬وٌروٌه عنهم جمعٌ من تابعً‬
‫التابعٌن‪ ،‬وال عِ برة بالتواتر بعد ذلك‪ ،‬ألن أخبار اآلحاد تواترت بعد التدوٌن‪.‬‬
‫والمتواتر ٌفٌد الٌقٌن‪ ،‬ألنه قطعً الثبوت‪ ،‬ولهذا ٌك َّفر جاحده‪ ،‬وبه ٌأخذ‬
‫كل الفقهاء‪ ،‬ومن أمثلته الكثٌر من السنن الفعلٌه إلطبلع جمهور الصحابة على‬
‫أفعاله ‪ ‬المتكررة كالوضوء والصبلة والصٌام وتناقلهم لها ونقلها إلى من‬
‫بعدهم‪ ،‬أما السنة القولٌة فالمتواتر فٌها قلٌل‪ ،‬ومن أمثلته حدٌث "من كذب علًَّ‬
‫ـ ‪ 203‬ـ‬
‫متعمداً فلٌتبوأ مقعده من النار" (‪ ،)1‬والتواتر نوعان ‪ :‬لفظً ومعنوي‪ ،‬فالتواتر‬
‫راو متفقا ً مع ما ٌروٌه اآلخرون فً اللفظ‬
‫ٌكون لفظٌا ً إذا كان ما ٌروٌه كل ٍ‬
‫والمعنى‪ ،‬كقوله ‪" :‬من كذب علًَّ متعمداً فلٌتبوأ مقعده من النار"‪ ،‬إذ رواه‬
‫بهذا اللفظ عن الرسول ‪ ‬أكثر من مابة صحابً‪ ،‬وٌكون التواتر معنوٌا ً إذا‬
‫كان ما ٌروٌه كل واحد من الرواة مختلفا ً فً لفظه مع ما ٌروٌه اآلخرون لكنه‬
‫متفق معه فً المعنى‪ ،‬كحدٌث رفع الٌدٌن عند الدعاء‪ ،‬فقد رُ ِوي نحو من مابة‬
‫ؾ تتفق كلها فً معنى مشترك وهو‬
‫حدٌث فً مناسبات مختلفة وبعبارات مختل ة‬
‫رفع الٌدٌن عند الدعاء‪.‬‬
‫أما المشهور فهو ما كان أُحادي األصل فً عهد الصحابة ثم تواتر بعد‬
‫‪ ‬ثم رواه جمعٌ فً العصرٌن‬ ‫ذلك‪ ،‬فهو ما رواه أحد الصحابة عن النبً‬
‫الثانً والثالث‪ ،‬ومثاله حدٌث "إنما األعمال بالنٌات" فقد رواه عمر ‪ ‬ثم نقله‬
‫عنه جمعٌ متواتر‪ ،‬وكذلك حدٌث بنً اإلسبلم على خمس‪ ،‬فقد رواه ابن عمر‬
‫‪ ‬ونقله عنه جمعٌ متواتر‪ ،‬والمشهور ال ٌفٌد الٌقٌن بل ٌفٌد طمأنٌنة قوٌة تؤكد‬
‫صحته‪ ،‬أي ظنا ً قرٌبا ً من الٌقٌن‪ ،‬ألنه قطعً الثبوت عن الصحابً‪ ،‬ولهذا ٌجب‬
‫العمل به لكن جاحده ال ٌُك َّفر‪.‬‬
‫وخبر اآلحاد‪ ،‬ومعظم السنة من هذا النوع‪ ،‬هو ما لم ٌبلػ حد التواتر أو‬
‫الشهرة‪ ،‬بأن رواه عن النبً ‪ ‬أحد الصحابة وكذلك رواه واحد فً عصر‬
‫التابعٌن ومن بعدهم‪ ،‬وهو ال ٌفٌد الٌقٌن بل الظن‪ ،‬ألن فً نسبته إلى النبً ‪‬‬
‫شبهة‪ ،‬ولهذا ال ٌك َّفر جاحده‪ ،‬وتبعا ً لذلك اختلؾ الفقهاء فً األخذ به ووضعوا‬
‫شروطا ً للتأكد من صحته ك ٌل بحسب مذهبه‪.‬‬

‫‪ٓ -1‬غ٘ذ أقٔذ ذٖ ق٘رَ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1416‬‬

‫ـ ‪ 204‬ـ‬
‫‪،‬‬ ‫أما المُرسل فهو ما انقطع اسناده‪ ،‬بأن رواه تابعً عن الرسول‬
‫وجمهور الفقهاء ٌعملون به‪ ،‬أما الشافعً فبل ٌعمل إال بمراسٌل سعٌد بن‬
‫المُسٌّب‪ ،‬ألنه تتبعها فوجدها متصلة اإلسناد‪ ،‬ألن سعٌداً ال ٌروي إال عن ثقة‪،‬‬
‫بٌنما لم ٌعمل الظاهرٌة بالمرسل‪ ،‬لجهالة الصحابً الذي رواه عن الرسول ‪،‬‬
‫وهذا ٌشكك فً صحته‪.‬‬
‫حجٌة السنة ومنزلتها من القرآن‪:‬‬
‫‪ ،‬حٌث وردت‬ ‫السنة واجبة اإلتباع‪ ،‬ألن هللا أمرنا بطاعة الرسول‬
‫آٌات قرآنٌة تأمر بطاعته ‪ ‬وتنهى عن مخالفته‪ ،‬وتجعل طاعته طاعة هلل‪،‬‬
‫هللا َوالرَّ سُو َل ‪ ،)1(‬وقوله‪َ  :‬منْ ٌُطِ ِع الرَّ سُو َل َف َق ْد‬ ‫منها قوله تعالى‪ :‬قُ ْل أَطِ ٌعُوا َّ َ‬
‫ون َعنْ أَمْ ِر ِه أَنْ ُتصِ ٌ َب ُه ْم ِف ْت َن ٌة أَ ْو‬
‫ٌِن ٌ َُخالِفُ َ‬
‫َّ ( ‪)2‬‬
‫هللا ‪ ، ‬وقوله‪َ  :‬ف ْل ٌَحْ َذ ِر الَّذ َ‬
‫اع َ‬ ‫أَ َط َ‬
‫ٌُصِ ٌ َب ُه ْم َع َذابٌ أَلٌِ ٌم ‪ ،)3(‬وقوله‪َ  :‬و َما آَ َتا ُك ُم الرَّ سُو ُل َف ُخ ُذوهُ َو َما َن َها ُك ْم َع ْن ُه‬
‫ون َح َّتى ٌ َُح ِّكم َ‬ ‫َفا ْن َتهُوا‪ ، ‬وقوله تعالى‪َ  :‬ف َبل َو َرب َ‬
‫ِّك َال ٌ ُْؤ ِم ُن َ‬
‫( ‪)4‬‬
‫ُوك فٌِ َما َش َج َر‬
‫ْت َوٌ َُسلِّمُوا َتسْ لٌِمًا‪.)5(‬‬
‫ضٌ َ‬ ‫َب ٌْ َن ُه ْم ُث َّم َال ٌَ ِج ُدوا فًِ أَ ْنفُسِ ِه ْم َح َرجً ا ِممَّا َق َ‬
‫ُ‬
‫تركت فٌكم أمرٌن‬ ‫كما د ّل على حجٌتها ومنزلتها من الكتاب قوله ‪" :‬‬
‫لن تضلوا بعدي أبداً ما إن تمسكتم بهما ‪ :‬كتاب هللا وسنتً" (‪ ،)6‬وإقراره لمعاذ‬
‫بن جبل ‪ ‬لما قال‪" :‬أقضً بكتاب هللا‪ ،‬فإن لم أجد فبسنة رسوله"‪ ،‬كما أن‬
‫الصحابة أجمعوا على وجوب اتباع سنته ‪ ‬فً حٌاته وبعد مماته‪ ،‬ولهذا كانوا‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز آٍ ػٔشجٕ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.32‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.80‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘‪ٞ‬س‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.63‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُكؾش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.7‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.65‬‬
‫‪ -6‬جُٔ‪ٞ‬هأ‪ً :‬طحخ جُؿحٓغ‪ ،‬ذحخ جُوذس‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1614‬‬

‫ـ ‪ 205‬ـ‬
‫‪ ‬دون أن ٌفرِّ قوا بٌن حكم مصدره‬ ‫ٌمتثلون لكل األحكام التً أمرهم بها‬
‫القرآن وحكم مصدره السنة‪ ،‬ولم ٌجٌزوا ألحد اإلجتهاد فً حال علمه بالسنة‪،‬‬
‫بل كان أحدهم ٌترك رأٌه إذا علِم الحدٌث بعد ذلك‪.‬‬
‫وإنما تأخرت مرتبة السنة عن القرآن ألنها عبلوة على كونها بٌان‬
‫للقرآن فإنها ال تخرج عن قواعده العامة‪ ،‬فمرجع السنة فً الحقٌقة هو‬
‫نصوص القرآن‪ ،‬ألننا عندما نعمل بالسنة إنما نعمل فً الحقٌقة بالكتاب‪ ،‬ألنها‬
‫‪ ،‬ال‬ ‫‪ ،‬وهو مُطرِّ ؾ بن عبد هللا‬ ‫مبٌِّنة له‪ ،‬ولهذا لما قٌل ألحد الصحابة‬
‫تحدثونا إال بالقرآن‪ ،‬قال‪" :‬وهللا ما نبؽً بالقرآن بدالً وإنما نرٌد من هو أعلم‬
‫بالقرآن منا" (‪ ،)1‬ألنه ‪ ‬إنما ٌتلقى ما ٌصدر عنه من الوحً‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫‪َ ‬و َما ٌَ ْنطِ ُق َع ِن ْال َه َوى ( ‪ )3‬إِنْ ه َُو إِ َّال َوحْ ًٌ ٌ َ‬
‫ُوحى ‪ ،)2(‬وما رواه حسان بن‬
‫عطٌة أن الوحً كان ٌنزل وٌأتً جبرٌل للرسول ‪ ‬بالسنة التً تفسره (‪،)3‬‬
‫ومع هذا السنة مصدر مستقل من مصادر التشرٌع‪ ،‬وهً تأتً بعد القرآن‪،‬‬
‫ألنها إما مفسرة للقرآن‪ ،‬فتكون متأخرة عنه‪ ،‬ألنها تابعة له‪ ،‬وإما مكمِّلة له‬
‫وهً بهذا ال تخرج عن قواعده‪ ،‬وبنا ًء علٌه إن جاء فً السنة ما ٌعارض‬
‫(‪)4‬‬
‫إال بعد‬ ‫القرآن وجب رده وتقدٌم القرآن‪ ،‬ألنه ال ٌُنظر إلى السنة‬ ‫ظاهره‬
‫التحقق من عدم اشتمال القرآن على حكم ما جاءت به‪.‬‬
‫أنواع األحكام التً جاءت بها السنة‪:‬‬
‫هذه األحكام قد تكون مطابقة لما فً الكتاب ومؤكدة له‪ ،‬كوجوب‬

‫‪ -1‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.26‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘ؿْ‪ :‬ج‪٣٥‬طحٕ ‪.4-3‬‬
‫‪ -3‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.26‬‬
‫‪ -4‬جُطؼحسك ظح‪ٛ‬ش‪ ١‬كوو‪ ،‬أٓح ك‪ ٢‬جُكو‪٤‬وس ك‪ٜ‬زج جكطشجك ال ‪ٝ‬ؾ‪ٞ‬د ُ‪ ،ٚ‬ئر ال عر‪ َ٤‬ئُ‪ٝ ٠‬ؾ‪ٞ‬د قذ‪٣‬ع فك‪٤‬ف‬
‫ٓخحُق ُٔح ك‪ ٢‬جُوشإٓ جٌُش‪.ْ٣‬‬

‫ـ ‪ 206‬ـ‬
‫الصبلة والزكاة والصوم والحج وتحرٌم الشرك وشهادة الزور وشرب الخمر‬
‫والربا وعقوق الوالدٌن‪ ،‬ومن هذا قوله ‪" :‬استوصوا بالنساء خٌراً" (‪ ،)1‬فإنه‬
‫مؤكد لقوله تعالى‪َ  :‬و َعاشِ رُ وهُنَّ ِب ْال َمعْ رُ وؾِ ‪ ،)2(‬وحدٌث "ال ٌحل المرئ مسلم‬
‫بطٌب نفس منه"(‪ ،)3‬فإنه مؤكد لقوله تعالى‪َ  :‬و َال َتأْ ُكلُوا‬
‫ة‬ ‫من مال أخٌه شٌا إال‬
‫أَمْ َوالَ ُك ْم َب ٌْ َن ُك ْم ِب ْالبَاطِ ِل‪.)4(‬‬
‫وقد تأتً السنة مفسرة ومبٌنة لما فً الكتاب‪ ،‬ألن هللا تعالى منح رسوله‬
‫الذ ْك َر لِ ُت َبٌ َِّن لِل َّن ِ‬
‫اس َما‬ ‫‪ ‬حق تفسٌر النصوص بقوله عز وجل‪َ  :‬وأَ ْن َز ْل َنا إِلٌَ َ‬
‫ْك ِّ‬
‫‪ ‬الصبلة الوسطى الواردة فً قوله تعالى‪:‬‬ ‫ُن ِّز َل إِلٌَ ِْه ْم ‪ ،)5(‬حٌث فسَّر‬
‫ت َوالص ََّبل ِة ْالوُ سْ َطى ‪ )6(‬بأنها صبلة العصر‪ ،‬كما أن‬
‫صلَ َوا ِ‬ ‫‪َ ‬حاف ُ‬
‫ِظوا َعلَى ال َّ‬
‫الصبلة وردت مجملة فً الكتاب وجاءت السنة وبٌنت أوقاتها وكٌفٌة أدابها‬
‫وعدد ركعاتها‪ ،‬والزكاة جاءت مجملة فً الكتاب وحددت السنة مقادٌرها‪،‬‬
‫وكذلك األمر بالنسبة للحج والصوم ‪ ،‬وعقوبة القطع وردت مطلقة فً قوله‬
‫َّار َق ُة َفا ْق َطعُوا أَ ٌْ ِد ٌَ ُه َما‪ )7(‬وحددت السنة أنه من الرسػ‪.‬‬
‫َّار ُق َوالس ِ‬
‫تعالى‪َ  :‬والس ِ‬
‫وقد تأتً السنة مكملة للقرآن‪ ،‬بأن تأتً بحكم مسألة جزبٌة سكت عن‬
‫بٌان حكمها‪ ،‬وقد ثبت إضافته ‪ ‬ألحكام ؼٌر موجودة تفصٌبلً فً الكتاب‪،‬‬
‫كتحرٌم الجمع بٌن المرأة وعمتها ومنع الحابض من الصوم والصبلة وعدم‬

‫‪ -1‬جُغٖ٘ جٌُرش‪ُِ ٟ‬ر‪ٜ٤‬و‪ً :٢‬طحخ جُوغْ ‪ٝ‬جُ٘ؾ‪ٞ‬س‪ ،‬ذحخ قن جُٔشأز ػِ‪ ٠‬جُشؾَ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.14258‬‬
‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.19‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ جُذجسهط٘‪ً :٢‬طحخ جُر‪ٞ٤‬ع‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.90‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.188‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُ٘كَ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.144‬‬
‫‪ -6‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.238‬‬
‫‪ -7‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.83‬‬

‫ـ ‪ 207‬ـ‬
‫التوارث بٌن المسلم والكافر ومنع القاتل من المٌراث وزكاة الفطر‪ ،‬وبهذا‬
‫المعنى تكون السنة مصدراً تشرٌعٌا ً مستقبلً‪ ،‬ألنها قد ورد فٌها أحكام لم ِ‬
‫ترد‬
‫فً الكتاب‪ ،‬إال أنها فً هذا ال تخرج عن القواعد العامة فً الكتاب‪.‬‬
‫ثالثا ًا‪ -‬اإلجماع‪:‬‬
‫(‪ ،)1‬ومن ذلك قوله‬ ‫لؽة اإلتفاق على الشٌا أو العزم علٌه‬ ‫اإلجماع ً‬
‫تعالى‪َ  :‬فأَجْ ِمعُوا أَمْ َر ُك ْم‪ ،)2(‬أي اعزموا‪ ،‬واصطبلحا ً هو اتفاق المجتهدٌن من‬
‫(‪ ،)3‬فبل أثر إلتفاق‬ ‫أمة محمد ‪ ‬فً عصر ما بعد وفاته على حكم شرعً‬
‫العامة أو خِبلفهم‪ ،‬والبد من اتفاق جمٌع المجتهدٌن عند الجمهور‪ ،‬وإن كان‬
‫بعض العلماء ٌكتفً برأي األكثرٌة (‪ ،)4‬ولذا لو خبل عصر ما من المجتهدٌن لم‬
‫ٌتحقق اإلجماع‪ ،‬وإذا وُ ِجد عدد منهم فً أي زمن تحقق اإلجماع باتفاقهم مهما‬
‫كان عددهم‪ ،‬إن كانوا أكثر من واحد‪ ،‬ألن الواحد قد ٌخطا‪ ،‬فبل ٌكون رأٌه‬
‫حجة قطعٌة‪ ،‬وال ٌعتد بإجماع فً حٌاته ‪ ،‬ألنه إن وافقهم فٌما اتفقوا علٌه‬
‫كان سنة تقرٌرٌة‪ ،‬وإن خالفهم سقط ما اتفقوا علٌه وثبت خبلفه بالسنة‪ ،‬والبد‬
‫‪ ،‬فبل ٌُعد اتفاق المجتهدٌن من أتباع‬ ‫أن ٌكون المجتهدٌن من أمة محمد‬
‫األنبٌاء السابقٌن أو الكفار إجماعا ً ال قبل اإلسبلم وال بعده‪ ،‬الختصاص أمة‬
‫محمد ‪ ‬بالعصمة من الخطأ‪ ،‬ألن قول ؼٌر المسلمٌن ؼٌر مقبول فً المسابل‬
‫الدٌنٌة‪ ،‬والبد أن ٌكون اإلجماع فً شأن حكم شرعً‪ ،‬فإن كان الحكم دنٌوٌا ً أو‬
‫كان حكما ً دٌنٌا ً ؼٌر اجتهادي كأحوال اآلخرة وعبلمات الساعة مما ٌُعتمد فً‬

‫‪ -1‬جُقكحـ‪ :‬ؼ‪ ،3‬ؿ‪.1199‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز ‪ٗٞ٣‬ظ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.71‬‬
‫‪ -3‬جألع٘‪ :١ٞ‬ؿ‪.451‬‬
‫‪٣ٝ -4‬ش‪ٓ ٟ‬حُي إٔ جإلؾٔحع ‪٣‬طكون ذاضلحم أ‪ َٛ‬جُٔذ‪٘٣‬س‪ ،‬أٓح جُؾ‪٤‬ؼس ك‪٤‬ش‪ ٕٝ‬أٗ‪٣ ٚ‬طكون ذٔ‪ٞ‬جكوس ئضلحم ٓؿط‪ٜ‬ذ‪ ْٜ٣‬أ‪ٝ‬‬
‫ٓؿط‪ٜ‬ذ‪ ١‬جألٓس ُو‪ ٍٞ‬جإلٓحّ‪٣ٝ ،‬ش‪ ٟ‬جُظح‪ٛ‬ش‪٣‬س ضكوو‪ ٚ‬ذاضلحم جُقكحذس د‪ ٕٝ‬ؿ‪٤‬ش‪.ْٛ‬‬

‫ـ ‪ 208‬ـ‬
‫معرفته على النقل فقط أو كان حكما ً دٌنٌا ً ثبت بدلٌل قطعً كوجوب الصبلة‬
‫فبل ٌعتبر إجماعاً‪ ،‬ألنه ثابت قبل اإلجماع بدلٌل ال شبهة فٌه‪ ،‬والبد أن ٌكون‬
‫االتفاق بٌن مجتهدي عصر واحد‪ ،‬وإن خالفهم مجتهدو العصور البلحقة‪ ،‬إذ‬
‫العبرة بإتفاق مجتهدي عصر واحد ال كل العصور وإال استحال تحقق اإلجماع‬
‫قبل ٌوم القٌامة‪.‬‬
‫حجٌة اإلجماع‪:‬‬
‫اإلجماع الصرٌح حجة عند الجمهور‪ٌ ،‬جب العمل به وتحرُ م مخالفته‪،‬‬
‫ودلٌلهم قوله تعالى‪َ  :‬و َمنْ ٌُ َشاق ِِق الرَّ سُو َل مِنْ َبعْ ِد َما َت َبٌ ََّن لَ ُه ْالهُدَ ى َو ٌَ َّت ِبعْ َؼٌ َْر‬
‫ت مَصِ ٌرً ا ‪ ،)1(‬فاآلٌة تفٌد أن‬ ‫ٌل ْالم ُْؤ ِمن َ‬
‫ٌِن ُن َولِّ ِه َما َت َولَّى َو ُنصْ لِ ِه َج َه َّن َم َو َسا َء ْ‬ ‫َس ِب ِ‬
‫اتباع سبٌل المؤمنٌن واجب‪ ،‬وأن مخالفته معصٌة‪ ،‬وسبٌلهم هو ما أجمعوا‬
‫علٌه‪ ،‬وبهذا فاإلجماع واجب اإلتباع(‪.)2‬‬
‫ومن السنة استدلوا باألحادٌث الدالة على عصمة األمة من الخطأ كقوله‬
‫(‪ ،)3‬كما أن العقل ٌقر حجٌة اإلجماع‪،‬‬ ‫‪" :‬ال تجتمع أمتً على ضبللة"‬
‫الستحالة أن ٌتفق جمٌع المجتهدٌن على خطأ‪ ،‬وال ٌنتبه إلٌه واح ٌد منهم‪.‬‬
‫‪َ ‬فإِنْ‬ ‫لكن الخوارج لم ٌعترفوا باإلجماع‪ ،‬مستدلٌن بقوله تعالى‪:‬‬
‫ُول ‪ ،)4(‬فقد جعل هللا المرجع الكتاب‬ ‫ازعْ ُت ْم فًِ َشًْ ٍء َفرُ ُّدوهُ إِلَى َّ ِ‬
‫هللا َوالرَّ س ِ‬ ‫َت َن َ‬
‫والسنة‪ ،‬فبل ٌصح أن ٌكون اإلجماع مرجعا ً شرعٌا ً‪.‬‬
‫كما لم ٌعترؾ بعض الشٌعة باإلجماع‪ ،‬ولم ٌقبلوا إال إجماع أهل البٌت‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.115‬‬


‫‪ -2‬جُوشهر‪ :٢‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.386‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُلطٖ‪ ،‬ذحخ جُغ‪ٞ‬جد جألػظْ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3950‬‬
‫‪ -4‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.59‬‬

‫ـ ‪ 209‬ـ‬
‫فقط‪ ،‬أو اإلجماع الذي اشترك فٌه اإلمام المعصوم‪ ،‬وهذا فً الحقٌقة لٌس‬
‫‪‬إِ َّن َما ٌ ُِرٌ ُد َّ‬
‫هللاُ‬ ‫إجماعاً‪ ،‬بل هو رأي لئلمام وحده‪ ،‬ودلٌل هؤالء قوله تعالى‪:‬‬
‫ُطه َِّر ُك ْم َت ْط ِهٌرً ا ‪ ،)1(‬حٌث رأوا أن الخطأ‬ ‫س أَهْ َل ْال َب ٌْ ِ‬
‫ت َوٌ َ‬ ‫لٌِ ُْذه َ‬
‫ِب َع ْن ُك ُم الرِّ جْ َ‬
‫ِرجْ س‪ ،‬فبل ٌجوز على أهل البٌت‪ ،‬ولكن هذا الدلٌل محل نظر من جهتٌن‪،‬‬
‫األولى أن مفهوم أهل البٌت لٌس كما قال الشٌعة‪ ،‬ألن ما سبق اآلٌة المستدل‬
‫بها وما لحِقها ٌدل على أن المراد بأهل البٌت أمهات المؤمنٌن‪ ،‬ألن الخطاب‬
‫فً سٌاق اآلٌات ألزواج النبً ‪ ،‬قال تعالى‪ٌَ  :‬ا ن َِسا َء ال َّن ِبًِّ لَسْ ُتنَّ َكأ َ َح ٍد م َِن‬
‫ضعْ َن ِب ْال َق ْو ِل َف ٌَ ْط َم َع الَّذِي فًِ َق ْل ِب ِه َم َرضٌ َوقُ ْل َن َق ْو ًال‬ ‫ال ِّن َسا ِء إِ ِن ا َّت َق ٌْ ُتنَّ َف َبل َت ْخ َ‬
‫َمعْ رُ و ًفا ( ‪َ )32‬و َقرْ َن فًِ ُبٌُو ِت ُكنَّ َو َال َت َبرَّ جْ َن َت َبرُّ َج ْال َجا ِهلِ ٌَّ ِة ْاألُولَى َوأَقِمْ َن‬
‫س‬ ‫هللاُ لٌِ ُْذه َ‬
‫ِب َع ْن ُك ُم الرِّ جْ َ‬ ‫الز َكا َة َوأَطِ عْ َن َّ َ‬
‫هللا َو َرسُولَ ُه إِ َّن َما ٌ ُِرٌ ُد َّ‬ ‫الص ََّبل َة َوآَت َ‬
‫ٌِن َّ‬
‫ت َّ ِ‬
‫هللا‬ ‫ُطه َِّر ُك ْم َت ْط ِهٌرً ا ( ‪َ )33‬و ْاذ ُكرْ َن َما ٌُ ْتلَى فًِ ُبٌُو ِت ُكنَّ مِنْ آَ ٌَا ِ‬ ‫أَهْ َل ْال َب ٌْ ِ‬
‫ت َوٌ َ‬

‫ان لَطِ ٌ ًفا َخ ِبٌرً ا‪ ، ‬والثانٌة أن ِ‬ ‫َو ْالح ِْك َم ِة إِنَّ َّ َ‬


‫( ‪)2‬‬
‫الرجْ س كما ٌتضح من اآلٌات‬ ‫هللا َك َ‬
‫لٌس الخطأ فً االجتهاد كما ٌقول الشٌعة بل هو ما ٌُنقِص من ْقدر النبوة من‬
‫المعاصً‪ ،‬فقد شاء هللا أن ٌطهرهن منه‪ ،‬ألن الخطأ فً االجتهاد لٌس معصٌة‪،‬‬
‫لقوله ‪" :‬إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران‪ ،‬وإن أخطأ فله أجر"‪.‬‬
‫أٌهم‪ ،‬وألن‬ ‫كما لم ٌأخذ الظاهرٌة باإلجماع لعدم امكانٌة تحققه فً ر‬
‫النبً ‪ ‬لما سأل معاذاً ‪ ‬عن األدلة التً ٌعتمد علٌها فً قضابه‪ ،‬لم ٌذكر‬
‫اإلجماع من بٌنها‪ ،‬وقد أقره على ذلك‪.‬‬
‫صوب معاذاً ‪ ‬لما أتى باألدلة‬
‫وضعؾ هذا الدلٌل ٌكمن فً أنه ‪َّ ‬‬
‫ً‬
‫حجة فً زمانه ‪ ،‬واإلجماع ال‬ ‫التً ٌمكن العمل بها فً ذلك الوقت‪ ،‬وتعتبر‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جألقضجخ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.33‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جألقضجخ‪ :‬ج‪٣٥‬حش ‪.34-33-32‬‬

‫ـ ‪ 210‬ـ‬
‫ٌُعتبر حجة فً حٌاته ‪ ،‬ولهذا لم ٌُذكر ضمن األدلة التً ٌصح الرجوع إلٌها‬
‫‪ ‬لمعاذ ‪ ‬فً االجتهاد‪ ،‬وهو فرد‪ ،‬فإن‬ ‫لبٌان الحكم الشرعً‪ ،‬ولما أذِن‬
‫اجتهاد مجتهدي األمة‪ ،‬والذي ٌؤول إلى اتفاق‪ ،‬أولى بالقبول‪.‬‬
‫‪ ،‬ألنه منع‬ ‫ً‬
‫وخاصة فً عصر عمر‬ ‫وقد تحقق اإلجماع فعبلً‪،‬‬
‫الصحابة المجتهدٌن من مؽادرة المدٌنة‪ ،‬وقد أجمع الصحابة على قتال مانعً‬
‫الزكاة وجمع القرآن فً مصحؾ واحد وزٌادة األذان الثانً ٌوم الجمعة‬
‫وتحرٌم شحم الخنزٌر رؼم أن القرآن حرم لحمه فقط‪.‬‬
‫اإلجماع السكوتً‪:‬‬
‫ٌتحقق اإلجماع بإتفاق المجتهدٌن على حكم واحد‪ ،‬إن كانوا فً مجلس‬
‫واحد‪ ،‬أو بموافقة كل منهم على الحكم بعد أن ُتعرض علٌه المسألة‪ ،‬إذا كانوا‬
‫فً مجالس متفرقة‪ ،‬وهذا إجماع صرٌح‪ ،‬وقد ٌكون اإلجماع سكوتٌاً‪ ،‬بأن ٌتكلم‬
‫البعض فً المسألة وٌسكت اآلخرون‪ ،‬بعد عِ لمهم بالحكم ومُضِ ً مدة للتأمل‬
‫أٌه‪ ،‬وكان‬ ‫بعد صدور الحكم دون وجود مانع ٌخٌؾ الساكت من إبداء ر‬
‫السكوت مجرداً مما ٌدل على الرضا‪ ،‬وكان االستحسان ؼٌر مصحوب بما ٌدل‬
‫على الكراهٌة‪ ،‬وإال كان إجماعا ً صرٌحا ً فً األول‪ ،‬ولم ٌتحقق اإلجماع فً‬
‫ٌ‬
‫موافقة‬ ‫الحالة الثانٌة‪ ،‬واإلجماع السكوتً حجة عند الحنابلة وأكثر الحنفٌة‪ ،‬ألنه‬
‫ضمنٌة من الساكتٌن على ما صدر من البعض‪ ،‬إذ لو كان رأٌهم خطأ ألنكروه‬
‫علٌهم‪ ،‬ألن إعبلن الرأي بالموافقة من كل أهل الفتوى ؼٌر معتاد‪ ،‬بل المعتاد‬
‫‪ ،‬وال‬ ‫فً كل عصر أن ٌتولى كبار العلماء الفتوى وٌسلِّم الباقون لهم بذلك‬
‫ٌبدون رأٌهم إال فً حال عدم الموافقة‪ ،‬ألن السكوت عن الحق حرام‪.‬‬
‫وٌرى الظاهرٌة وبعض الجمهور أنه لٌس إجماعاً‪ ،‬ولهذا ال ٌُعتد به‪،‬‬
‫ألن السكوت ٌحتمل الموافقة وعدمها‪ ،‬ومع هذا االحتمال ال ٌصح االستدالل‬
‫ـ ‪ 211‬ـ‬
‫ت قول‪ ،‬ألن اإلدعاء بتحقق اإلجماع بسكوت باقً‬
‫به‪ ،‬إذ ال ٌُنسب لساك ٍ‬
‫المجتهدٌن ٌحمِّلهم ِتبعة رأي لم ٌصدر عنهم‪ ،‬وتفسٌر سكوتهم بالم وافقة لم ٌقُم‬
‫علٌه دلٌل‪ ،‬إذ لو كانوا موافقٌن لصرَّ حوا بذلك‪.‬‬
‫رابعا ًا‪ -‬فتوى الصحابً‪:‬‬
‫‪ٌ ‬عتبر حجة‪،‬‬ ‫ْقو ُل الصحابً كنا نفعل أو نقول كذا فً زمن النبً‬
‫‪ ‬لٌس‬ ‫ألنه سنة رواها هذا الصحابً‪ ،‬كما أن اجتهاد الصحابة فً حٌاته‬
‫مصدراً للتشرٌع‪ ،‬ألنهم كانوا ٌرجعون إلٌه فً اجتهادهم‪ ،‬فٌبٌن لهم وجه‬
‫الصواب أو الخطأ‪ ،‬فٌكون المصدر هو السنة ال اجتهادهم‪ ،‬وهذا ال خبلؾ فٌه‬
‫بٌن العلماء‪ ،‬وإنما الخبلؾ فً اجتهاد الصحابة بعد وفاته ‪ ،‬وفً شأنه اتفق‬
‫العلماء على ما ٌلً‪:‬‬
‫‪-1‬إن اتفق الصحابة على حُ كم كان قولهم حجة على ؼٌرهم‪ ،‬ألنه‬
‫إجماع صرٌح‪ ،‬وكذلك صدور الفتوى من أحدهم ولم ٌُعرؾ لها مخالؾ‪ ،‬ألنها‬
‫بمثابة إجماع سكوتً‪.‬‬
‫‪ -2‬قول الصحابً لٌس حجة على صحابً آخر‪ ،‬ألن الصحابة اختلفوا‬
‫فً كثٌر من المسابل‪ ،‬ولو كان قول أحدهم حجة على ؼٌره لما حدث ذلك‬
‫االختبلؾ‪.‬‬
‫أما الخبلؾ فكان بشأن مدى حجٌة قول الصحابً بالنسبة للتابعٌن ومن‬
‫بعدهم‪ ،‬وفً صدده ظهر اتجاهان‪:‬‬
‫األول‪ ،‬وهو رأي الجمهور‪ ،‬وٌرى من قال به حجِّ ٌة فتوى الصحابً‪،‬‬
‫ألن الصحابة أفقه األمة ‪ ،‬وؼٌرهم ال ٌساوٌهم فً هذا‪ ،‬ألن أحدهم كان ٌرى‬
‫الرأي فٌنزل القرآن بموافقته‪ ،‬كما رأى عمر ‪ ‬فً أسرى بدر أن ُتضرب‬
‫أعناقهم‪ ،‬ورأى أن ٌُتخذ مقام إبراهٌم مصلَّى‪ ،‬ورأى عدم الصبلة على عبد هللا‬
‫ـ ‪ 212‬ـ‬
‫أقرب‬ ‫بن أ ُ َبًْ بن سلول المنافق فنزل القرآن بموافقته‪ ،‬وألن فتوى الصحابً‬
‫إلى فهم روح الشرٌعة وأهدافها‪ ،‬ألن إدراك الصحابة ألحكام الشرٌعة أكثر من‬
‫إدراك ؼٌرهم‪ ،‬فٌكون رأٌهم أولى باإلتباع‪ ،‬كما ٌجوز أن ٌكون ذلك الحكم‬
‫سمعه الصحابً من الرسول ‪ ،‬ولو كان أساس الحكم هو القٌاس فقٌاس‬
‫الصحابة أفضل من قٌاس ؼٌرهم‪ ،‬والمبلحظ أن الصحابة كثٌراً ما كانوا‬
‫ٌذكرون األحكام التً بٌنها الرسول ‪ ‬لهم من ؼٌر أن ٌنسبوها إلٌه‪ ،‬فأبو بكر‬
‫‪ ‬مثبلً لم ٌُرْ َو عنه إال مابة حدٌث‪ ،‬رؼم أنه صحب النبً ‪ ‬من قبل مبعثه‬
‫‪ ‬وبقوله وفعله وسٌرته‪ ،‬وكذلك كل‬ ‫إلى وفاته‪ ،‬فكان أعلم األمة بالنبً‬
‫الصحابة الكبار رواٌتهم قلٌلة بالنسبة لما سمعوه‪ ،‬ولو رووا كل ما سمعوه‬
‫وشاهدوه لزادوا على رواٌة أبً هرٌرة ‪ ‬أضعافا ً مضاعفة‪ ،‬وهو الذي لم‬
‫ٌصحب النبً ‪ ‬إال أربع سنوات‪ ،‬ومع هذا هو أكثر الصحابة رواٌة للحدٌث‪.‬‬
‫َّابقُ َ‬
‫ون‬ ‫وٌستدل الجمهور على حجٌة فتوى الصحابة بقوله تعالى‪َ  :‬والس ِ‬
‫ان َرضِ ًَ َّ‬
‫هللاُ َع ْن ُه ْم‬ ‫ار َوالَّذ َ‬
‫ٌِن ا َّت َبعُو ُه ْم ِبإِحْ َس ٍ‬ ‫ص ِ‬‫ٌن َو ْاألَ ْن َ‬ ‫ْاألَ َّولُ َ‬
‫ون م َِن ْال ُم َها ِج ِر َ‬
‫َو َرضُوا َع ْن ُه ‪ ،)1(‬ووجه االستدالل أن هللا أثنى علٌهم وعلى من ِتبعهم فكان‬
‫اتباعهم واجباً‪ ،‬كما استدلوا بحدٌث "علٌكم بسنتً وسنة الخلفاء الراشدٌن"(‪.)2‬‬
‫والثانً هو رأي الشٌعة‪ ،‬إذ رأوا أن قول الصحابً ال ٌعتبر حجة‪ ،‬ألن‬
‫مصادر التشرٌع عندهم هً الكتاب والسنة وأقوال األبمة المعصومٌن‪،‬‬
‫والصحابة ؼٌر معصومٌن‪ ،‬وقد وافقهم بعض المتأخرٌن من الجمهور‬
‫كالؽزالً والشوكانً فً هذا الر أي‪ ،‬ألن الصحابً مجته ٌد ٌجوز علٌه الخطأ‪،‬‬
‫‪ ،‬فبل ٌكون عندبذ قول الصحابً‬ ‫فالعصمة من الخطأ لم تثبت لؽٌر النبً‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُط‪ٞ‬ذس‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.100‬‬


‫‪ -2‬عٖ٘ جُر‪ٜ٤‬و‪ً :٢‬طحخ آدجخ جُوحم‪ ،٢‬ذحخ ٓح ‪٣‬ون‪ ٢‬ذ‪ ٚ‬جُوحم‪٣ٝ ٢‬لط‪ ٢‬ذ‪ ٚ‬جُٔلط‪ ،٢‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.19709‬‬

‫ـ ‪ 213‬ـ‬
‫حجة‪ ،‬واختبلؾ الصحابة فً الفتاوى ٌؤكد احتمال وقوع الخطأ منهم‪.‬‬
‫وقد ر َّد هؤالء األدلة النصٌة السابقة بحجَّ ة أنها فً معرض الثناء الذي‬
‫ٌو ِجب حُ سن االعتقاد فً دٌنهم ومحلِّهم عند هللا تعالى‪ ،‬وال ٌوجب تقلٌدهم‪ ،‬ألن‬
‫النبً ‪ ‬أثنى على آحاد الصحابة ولم ٌتمٌز هؤالء بوجوب تقلٌدهم‪ ،‬فحسب‬
‫رأي هؤالء مقام الصُّحبة عظٌم‪ ،‬ولكنه فً نطاق الفضٌلة وارتفاع الدرجة‪ ،‬وال‬
‫‪ ‬فً حجٌة القول وإلزام‬ ‫ٌلزم من ذلك أن ٌكون الصحابة بمنزلة الرسول‬
‫الناس بوجوب اإلتباع‪ ،‬ألن بعض التابعٌن خالفوا أقوال الصحابة ولم ٌُن َكر ذلك‬
‫علٌهم‪ ،‬بل إن بعض الصحابة رجع عن رأٌه إلى رأي التابعً‪ ،‬ولو كان قول‬
‫الصحابً حجة على ؼٌره من المجتهدٌن لما جاز تقدٌم قول التابعً علٌه‪،‬‬
‫درع له‬
‫ٍ‬ ‫ومن ذلك أن علٌا ً ‪ ‬تحاكم إلى ُ‬
‫شرٌح القاضً ‪ ،‬وهو تابعً ‪ ،‬فً‬
‫وجدها عند ٌهودي‪ ،‬وأثبت علً دعواه بإحضار مواله قُ ْنبر وابنه الحسن‬
‫‪ٌ ‬رى‬ ‫لٌشهدا له‪ ،‬فر َّد شرٌح شهادة الحسن‪ِ ،‬‬
‫وقبل شهادة قنبر‪ ،‬وكان علً‬
‫جواز شهادة االبن ألبٌه‪ ،‬كما أن ابن عباس ‪ ‬أفتى فٌمن نذر أن ٌذبح ابنه‬
‫بذبْح مابة من اإلبل‪ ،‬فعلِم مسروق بذلك ‪ ،‬وهو تابعً ‪ ،‬فخالفه وأفتى بذبح شاة‬
‫واحدة‪ ،‬وقال لٌس ولده خٌراً من إسماعٌل ‪ ،‬وقد فداه هللا بذبح عظٌم‪ ،‬فرجع ابن‬
‫عباس إلى قول مسروق‪.‬‬
‫والراجح هو راي الجمهور‪ ،‬ألن الصحابة أكثر علما ً بالشرٌعة‪ ،‬ورأٌهم‬
‫لنا خٌرٌ من رأٌنا ألنفسنا‪ ،‬ونحن ال نأخذ به على أنهم حلوا محل الرسول ‪ ‬بل‬
‫ألن رأٌهم أقرب إلى الصواب من قولنا‪ ،‬ومع هذا كله فقول الصحابً ال ٌعفً‬
‫المجتهد من طلب الدلٌل‪ ،‬فمتى وجده لم ٌجُ ْز له العدول عنه إلى قول ؼٌره‪،‬‬
‫ولو كان صحابٌاً‪ ،‬فإن لم ٌكن ثمة دلٌل فإتباع قول الصحابً أولى من القول‬
‫بالهوى والرأي ؼٌر المستند إلى الدلٌل‪.‬‬
‫ـ ‪ 214‬ـ‬
‫منزلة فتوى الصحابً‪:‬‬
‫تأتً عند من ٌعمل بها بعد الكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬وتتقدم على‬
‫القٌاس‪ ،‬و إذا اختلؾ الصحابة فً فتاوٌهم فبلبد للمجتهد من االختٌار من بٌنها‬
‫إذا لم ٌتمكن من التوفٌق بٌنها‪ ،‬ألنه ال ٌمكنه العمل بها جمٌعاً‪ ،‬وقد كان‬
‫أقرب إلى نصوص الكتاب والسنة (‪ ،)1‬أما أبو‬ ‫الشافعً ٌختار منها ما ٌراه‬
‫حنٌفة فكان ٌختار منها ما ٌشاء وٌدع ما ٌشاء‪ ،‬وال ٌتعداها إلى أقوال التابعٌن‪،‬‬
‫وٌرى الحنابلة أن األولى االختٌار بحسب القرب من الكتاب والسنة ثم بحسب‬
‫عِ لم الصحابً(‪.)2‬‬
‫شرع من ق ْبلَنا‪:‬‬
‫خامسا ًا‪ْ -‬‬
‫شاءت سنته تعالى فً خلقِه أن تأتً أحكامه للناس على مراحل‪ ،‬مما‬
‫استوجب تعدد الرسل‪ ،‬فكانت رساالت إبراهٌم ونوح وموسى وعٌسى وؼٌرهم‬
‫ُلزمة‪ ،‬بعضها اعتقادي تتفق فٌه كل الرساالت‪،‬‬
‫علٌهم السبلم‪ ،‬وفٌها أحكام م ِ‬
‫وبعضها عملً قد ٌختلؾ من شرٌعة إلى أخرى‪ ،‬وكل شرٌعة تأمر وتنهى‪،‬‬
‫وقد تأمر بما جاء فً سابقتها‪ ،‬وقد تزٌد علٌه‪ ،‬وقد تنهى عنه‪ ،‬وقد تخفؾ منه‪،‬‬
‫وقد تحكً الشرٌعة البلحقة أحكام الشرابع السابقة دون أن تأمر بها أو تنهى‬
‫عنها‪ ،‬وهذا ما حدث مع الشرٌعة اإلسبلمٌة فدرسه علماء األصول تحت‬
‫عنوان َشرْ ع من قبلنا‪ ،‬فما المقصود به عندهم؟‬
‫ٌُقصد به ما شرعه هللا فً الشرابع السماوٌة من األحكام العملٌة‪،‬‬
‫وعرفناه عن طرٌق الكتاب والسنة‪ ،‬ولهذا ما لم ٌرد ذِكره فٌهما من أحكام‬
‫الشرابع السابقة ال ٌعتبر شرْ عا ً لنا ببل خبلؾ‪ ،‬لعدم الثقة بصحة رواٌته‪ ،‬ومن‬

‫‪ -1‬جُؾحكؼ‪ :٢‬جألّ‪ ،‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪.247‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.30‬‬

‫ـ ‪ 215‬ـ‬
‫باب أولى ال ٌدخل فً الموضوع الشرابع الوضعٌة السابقة على اإلسبلم‬
‫كشرٌعة حمورابً والفراعنة واإلؼرٌق والرومان‪.‬‬
‫وما شرعه هللا على من سبقنا منه ما ورد فً شرٌعتنا ما ٌقرُّ ه‪ ،‬وهو‬
‫بهذا شرعٌ لنا‪ ،‬ال ألنه ورد فً شرٌعة سابقة بل ألن شرٌعتنا تأمرنا بإتباعه‪،‬‬
‫ص ٌَا ُم َك َما ُكت َ‬
‫ِب‬ ‫ِب َعلَ ٌْ ُك ُم ال ِّ‬ ‫كالصوم فقد قال تعالى فٌه‪ٌَ  :‬ا أَ ٌُّ َها الَّذ َ‬
‫ٌِن آَ َم ُنوا ُكت َ‬
‫ٌِن مِنْ َق ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َت َّتقُ َ‬
‫ون ‪ ،)1(‬وتشرٌع األضحٌة بقوله ‪ ‬لما سُبل‬ ‫َعلَى الَّذ َ‬
‫عنها‪" :‬سن َة أبٌكم إبراهٌم" (‪ ،)2‬ومنه ما ثبت فً شرٌعتنا نسخه‪ ،‬وهو بهذا ؼٌر‬
‫ثابت فً حقنا‪ ،‬من ذلك أنه تعالى فرض على من قبلنا أنه إذا أذنب أحدهم‬
‫ُوسى لِ َق ْو ِم ِه‬ ‫وأراد التوبة فعلٌه أن ٌقتل نفسه‪ ،‬وذلك فً قوله تعالى‪َ  :‬وإِ ْذ َقا َل م َ‬
‫ار ِب ُك ْم َفا ْق ُتلُوا أَ ْنفُ َس ُك ْم َذلِ ُك ْم‬ ‫َ‬
‫ٌَا َق ْو ِم إِ َّن ُك ْم َظلَمْ ُت ْم أ ْنفُ َس ُك ْم ِبا ِّت َخا ِذ ُك ُم ْالعِجْ َل َف ُتوبُوا إِلَى َب ِ‬
‫ار ِب ُك ْم ‪ ،)3(‬ومن هذا أٌضا قوله ‪" :‬أ ُ ِحلَّت لً الؽنابم ولم تحِل‬ ‫َخٌْرٌ لَ ُك ْم عِ ْندَ َب ِ‬
‫أخذ الؽنابم كان محرَّ ما ً على الؽانمٌن ثم‬
‫ألح ٍد من قبلً" (‪ ،)4‬وهذا ٌدل على أن ْ‬
‫أ ُبٌح فً شرٌعتنا‪.‬‬
‫وهذا كله محل إتفاق بٌن الفقهاء‪ ،‬إال أنهم اختلفوا فٌما ورد من أحكام‬
‫الشرابع السابقة فً الكتاب والسنة من ؼٌر إنكار لها وال إقرار‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫ؾ ِب ْاألَ ْنؾِ َو ْاأل ُ ُذ َن‬
‫ْن َو ْاألَ ْن َ‬
‫س َو ْال َعٌ َْن ِب ْال َعٌ ِ‬ ‫‪َ ‬و َك َت ْب َنا َعلٌَ ِْه ْم فٌِ َها أَنَّ ال َّن ْف َ‬
‫س ِبال َّن ْف ِ‬
‫ار ٌة َل ُه ‪ ،)1(‬فإنه‬
‫ص َّد َق ِب ِه َفه َُو َك َّف َ‬
‫ِصاصٌ َف َمنْ َت َ‬ ‫ِب ْاأل ُ ُذ ِن َوالسِّنَّ ِبالسِّنِّ َو ْالجُ رُ َ‬
‫وح ق َ‬
‫ش ِرع فً التوراة لبنً إسرابٌل‪ ،‬فالجمهور ٌرون االلتزام به‪ ،‬ألن‬ ‫إخبار عما ُ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.183‬‬


‫‪ -2‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جألمحق‪ ،٢‬ذحخ غ‪ٞ‬جخ جألمك‪٤‬س‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.3127‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.54‬‬
‫‪ -4‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جُٔغحؾذ ‪ٞٓٝ‬جمغ جُقالز‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.521‬‬
‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.45‬‬

‫ـ ‪ 216‬ـ‬
‫حكاٌته فً نصوص شرٌعتنا لٌست لمجرد اإلخبار‪ ،‬وإنما هً لئلتباع والعمل‪،‬‬
‫لقوله تعالى‪ :‬إِ َّنا أَ ْن َز ْل َنا ال َّت ْو َرا َة فٌِ َها ه ًُدى َو ُنورٌ ٌَحْ ُك ُم ِب َها ال َّن ِبٌ َ‬
‫ُّون ‪ ،)1(‬فاآلٌة‬
‫ا أنه ‪‬‬ ‫تصرِّ ح بأن التوراة ٌحكم بها النبٌون‪ ،‬والشك أن رسولنا منهم‪ ،‬كم‬
‫رجع إلى التوراة عندما ترافع إلٌه الٌهود فً زنا المحصن‪.‬‬
‫بٌنما ٌرى الظاهرٌة وبعض الجمهور أن ذلك ال ٌكون شرعا ً لنا‪ ،‬ألن‬
‫ٌ‬
‫مخصوصة بأمم معٌنة بٌنما شرٌعتنا عامة‪ ،‬وهً ناسخة لكل‬ ‫الشرابع السابقة‬
‫ما سبقها من شرابع‪ ،‬فبل تكون الشرابع السابقة شرعا ً لنا ما لم ٌوجد فً شرعنا‬
‫‪‬لِ ُك ٍّل َج َع ْل َنا ِم ْن ُك ْم‬ ‫ما ٌدل على االلتزام بها‪ ،‬وقد استدل هؤالء بقوله تعالى‪:‬‬
‫خاصة‪ ،‬وبُعثت إلى‬ ‫ً‬ ‫شِ رْ َع ًة َو ِم ْن َهاجً ا‪ ،)2(‬وبحدٌث‪" :‬كان النبً ٌُبعث إلى قومه‬
‫ً‬
‫عامة" (‪ ،)3‬إذ لكل أمة شرٌعة‪ ،‬فبل ُتطالب أمة باالمتثال لشرٌعة أمة‬ ‫الناس‬
‫أخرى‪ ،‬كما استدلوا بأنه ‪ ‬أقرَّ معاذاً ‪ ‬على األخذ باالجتهاد إذا لم ٌجد فً‬
‫المسألة حكما ً فً الكتاب والسنة‪ ،‬ولو كان شرع من قبلنا مصدراً ألحكامنا لما‬
‫جاز العدول عنه إلى االجتهاد‪ ،‬ولو كان شرع من قبلنا شرعٌ لنا لوجب على‬
‫النبً ‪ ‬تعلمه وكذلك أمته‪ ،‬ولوجب على مجتهدي األمة البحث عنه والسؤال‬
‫عمَّا فٌه عند حدوث الوقابع المخ َتلؾ فٌها فٌما بٌنهم‪.‬‬
‫والراجح ما ٌراه الجمهور‪ ،‬ألن شرٌعتنا نسخت من الشرابع السابقة ما‬
‫تناقض معها‪ ،‬ولم تنسخها نسخا ً كامبلً‪ ،‬وما ذكره القرآن أو السنة من شرع من‬
‫قبلنا هو حك ٌم شرعً وصل إلٌنا دون ما ٌفٌد نسخه‪ ،‬فوجب العمل به‪ ،‬والقرآن‬
‫مص ِّد ٌق للكتب السماوٌة واألصل فٌه إقرار ما ورد فً تلك الشرابع إال ما ثبت‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.44‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.48‬‬
‫‪ -3‬عٖ٘ جُذجسٓ‪ً :٢‬طحخ جُقالز‪ ،‬ذحخ جألسك ًِ‪ٜ‬ح هح‪ٛ‬شز‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1389‬‬

‫ـ ‪ 217‬ـ‬
‫نسخه‪ ،‬وألن شرع من قبلنا لم ٌُذكر فً حدٌث معاذ ‪ ‬ألن القرآن ٌشمله‪.‬‬
‫سادسا ًا‪ -‬العرف‪:‬‬
‫العرؾ هو ما اعتاده الناس ولم ٌعارضه الشرع‪ ،‬وهو ٌختلؾ عن‬
‫العادة‪ ،‬ألنها قد تكون فردٌة أما العرؾ فبل ٌكون إال عادة جماعٌة‪ ،‬وهو‬
‫بمعان‬
‫ٍ‬ ‫نوعان‪ :‬لفظً وفعلً‪ ،‬فاللفظً هو تعارؾ الناس على استعمال ألفاظ‬
‫معٌنة‪ ،‬كتعارفهم على إطبلق لفظ الولد على الذكر دون البنت مع أنه فً اللؽة‬
‫ٌشمل النوعٌن‪ ،‬كما فً قوله تعالى‪َ  :‬ولَ ُك ْم نِصْ ؾُ َما َت َر َك أَ ْز َواجُ ُك ْم إِنْ لَ ْم ٌَ ُكنْ‬
‫ُ‬
‫ْن ‪،)2(‬‬ ‫هللاُ فًِ أَ ْو َال ِد ُك ْم ل َِّلذ َك ِر م ِْث ُل َح ِّظ ْاأل ْن َث ٌٌَ ِ‬
‫لَهُنَّ َولَ ٌد ‪ ،)1(‬وقوله‪ :‬يوصِ ٌ ُك ُم َّ‬
‫وتعارفهم على إطبلق اللحم على ما عدا السمك رؼم أنه ٌشمله فً اللؽة‪ ،‬ولهذا‬
‫وصفه القرآن بأنه لحم فً قوله تعالى‪َ  :‬وه َُو الَّذِي َس َّخ َر ْال َبحْ َر لِ َتأْ ُكلُوا ِم ْن ُه‬
‫لَحْ مًا َط ِر ًٌّا‪.)3(‬‬
‫والعرؾ الفعلً مثاله تعارؾ الناس على تعجٌل أجرة المسكن قبل‬
‫سكنه وعلى تعطٌل العمل بعض أٌام األسبوع وتقدٌم بعض الصدَاق وتأخٌر‬
‫بعضه وعلى أن تكون ولٌمة عقد الزواج عند الزوجة وولٌمة الزفاؾ عند‬
‫الزوج‪.‬‬
‫والعرؾ ٌكون عاما ً إذا اعتاده جمٌع الناس‪ ،‬وٌكون خاصا ً إذا ساد لدى‬
‫طابفة معٌنة كالمحامٌن أو ساد فً مكان معٌن‪.‬‬
‫شروط العرف‪:‬‬
‫‪ -1‬أن ٌؽلُب استعماله عند من تعارفوا علٌه‪ ،‬فإن كانوا ٌتعاملون به‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.12‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.11‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘كَ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.14‬‬

‫ـ ‪ 218‬ـ‬
‫أحٌانا ً فبل ٌسمى عرفاً‪ ،‬وبهذا فالعرؾ ٌختلؾ عن اإلجماع‪ ،‬ألنه ٌتحقق باعتبار‬
‫ألمر ال ٌُعارض نصا ً أو إجماعاً‪ ،‬واإلجماع ال ٌتحقق إال بإتفاق‬
‫ٍ‬ ‫أؼلب الناس‬
‫المجتهدٌن أما العرؾ فٌكون منهم ومن العامة‪ ،‬كما أن اإلجماع حجة على‬
‫جمٌع الناس والعرؾ حجة على من تعارفوا علٌه فقط‪.‬‬
‫‪ -2‬أال ٌخالؾ األحكام الشرعٌة‪ ،‬ألن اعتبار العرؾ إذا عارضها فٌه‬
‫إلؽاء لها‪ ،‬ألن نصوص الشرٌعة مقدمة على العرؾ‪ ،‬إذ جاءت الشرٌعة‬
‫إلخضاع المكلفٌن ال أن تخضع هً ألعرافهم‪ ،‬كما أن الحكم الشرعً حُ جة‬
‫على الجمٌع بٌنما العرؾ حجِّ ٌته قاصرة على من تعارفوا علٌه فقط‪ ،‬ولهذا ال‬
‫ٌؽٌر من الحرمة اعتٌاد بعض الناس أو كلهم شرب الخمر أو التعامل بالربا‪،‬‬
‫وهذا ٌعنً أن مرتبة العرؾ متأخرة عن النصوص الشرعٌة‪.‬‬
‫‪ -3‬أال ٌصرح أحد العاقدٌْن بخبلفه‪ ،‬ألن العرؾ ٌكمِّل إرادة العاقدٌن‪،‬‬
‫فإن صرَّ حا بخبلفِه وجب إعمال ما صرحا به ال ما جرى علٌه العرؾ فً‬
‫التعامل‪ ،‬فلو اشترطت الزوجة تعجٌل الزوج للمهر فبل ٌؤثر فً الشرط كون‬
‫العرؾ جارٌا ً على أن ٌعجِّ ل الزوج نصؾ المهر وٌؤجل النصؾ اآلخر‪ ،‬ولو‬
‫اشترط المشترى تأجٌل الثمن فبل أهمٌة الحتجاج البابع بجرٌان العرؾ بتعجٌل‬
‫الثمن‪ ،‬ولو اشترط المشتري أن نفقات تسجٌل العقد على البابع فبل ٌؤثر فً هذا‬
‫العرؾ الجاري بأن النفقات على المشتري‪.‬‬
‫حجٌة العرف‪:‬‬
‫للعرؾ حجِّ ٌته فً الشرٌعة‪ ،‬إذ راعته فً كثٌر من أحكامها‪ ،‬ألن فٌه‬
‫ً‬
‫رعاٌة لمصالح الناس ودفعا ً للحرج عنهم‪ ،‬ودلٌل ذلك قوله تعالى‪ُ  :‬خ ِذ ْال َع ْف َو‬

‫ـ ‪ 219‬ـ‬
‫ٌِن‪ ،)1(‬ولما كان العرؾ أساس التشرٌع فً‬ ‫َو ْأمُرْ ِب ْالعُرْ ؾِ َوأَعْ ِرضْ َع ِن ْال َجا ِهل َ‬
‫الجاهلٌة فقد أقرَّ ت الشرٌعة بعض أعرافهم كالبٌع واإلجارة والزواج‪ ،‬وع َّدلت‬
‫بعضها كاإلقتراض بالربا‪ ،‬حٌث أقرت اإلقتراض وألؽت الربا‪ ،‬وألؽت بعضها‬
‫كالثأر ووأد البنات وشرب الخمر‪.‬‬
‫واألحكام المستمدة من العرؾ لها مٌزتان هما أن الناس على عِ ٍلم‬
‫مسبق بها مما ٌقلل من اختبلفهم فٌها‪ ،‬وأنها أحكام مألوفة لهم العتٌادهم علٌها‬
‫قبل إلزامهم بها شرعاً‪ ،‬ولهذا راعى الصحابة ومن بعدَ هم من الفقهاء األعراؾ‬
‫السابدة بٌن الناس فً فتاوٌهم‪ ،‬وبنوا علٌها عدة قواعد شرعٌة منها ‪ :‬المعروؾ‬
‫عرفا ً كالمشروط نصاً‪ ،‬والثابت بالعرؾ كالثابت بالنص‪ ،‬والعادة مح َّكمة‪،‬‬
‫والحقٌقة ُتترك بداللة العادة‪ ،‬أي أن األلفاظ ُتحمل فً تصرفات الناس على‬
‫معانٌها بٌنهم ال على معانٌها الحقٌقٌة فً أصل اللؽة‪.‬‬
‫ال‬
‫وللعرؾ حجٌته ما لم ٌخالؾ الكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬فإن خالفها ؾ‬
‫ٌعتد به ووجب تؽٌٌره‪ ،‬كتعارؾ الناس التعامل بالربا أو أخذ الرشوة‪ ،‬ألن‬
‫إعمال العرؾ هنا فٌه إهمال للنص الشرعً‪ ،‬وإال أصبح العرؾ هو التشرٌع‬
‫والنصوص الشرعٌة مجرد شكل فقط‪.‬‬
‫تطبٌقات العرف‪:‬‬
‫من تطبٌقات العرؾ أن الشخص لو حلؾ أال ٌضع قدمه فً بٌتك لفُ ِهم‬
‫أن مراده دخوله ال مجرد وضع القدم‪ ،‬ولو و َّكله فً شراء لحم فاشترى سمكا ً‬
‫المشرفة على الهبلك إلجازة‬
‫ِ‬ ‫كان مخالفا ً للوكالة‪ ،‬وللشخص ذبْح شاة ؼٌره‬
‫العرؾ التصرؾ فً مال الؽٌر فً هذه الحالة دون إذنه‪ ،‬ألن المنع من‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جألػشجف‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.199‬‬

‫ـ ‪ 220‬ـ‬
‫ك التصرؾ هنا هو الضرر‪ ،‬ولو‬
‫التصرؾ فً مال الؽٌر كان للضرر وتر ُ‬
‫ادعى فقٌرٌ أن ثرٌا ً استدان منه مبلؽا ً كبٌراً وال بٌنة له ال ٌُص َّدق ‪ ،‬ألن العرؾ‬
‫ٌكذبه‪ ،‬ولو حلؾ أال ٌأكل لحما ً لم ٌحنث بأكل السمك‪ ،‬والسب ٌحدد العرؾ‬ ‫ِّ‬
‫معنى ألفاظه‪ ،‬ولو حلؾ أن ٌمشً إلى بٌت هللا انصرؾ قوله إلى الحج أو‬
‫العمرة‪ ،‬وإذا لم ٌُبٌَّن مقدار المهر المعجل والمؤجل فً العقد كان الحكم‬
‫للعرؾ‪.‬‬
‫ولما كان العرؾ مبناه ما اعتاده الناس فإنه ٌتؽٌر إذا تؽٌرت عاداتهم‪،‬‬
‫ولهذا قرَّ ر الفقهاء أنه ال ٌُنكر تؽٌر األحكام بتؽٌر األزمان‪ ،‬وقرروا أن اختبلؾ‬
‫األحكام مبناه تؽٌُّر العرؾ‪ ،‬فهو اختبلؾ عصر وزمان ال اختبلؾ حجة‬
‫وبرهان‪ ،‬ألن بعض األحكام قد ُتؤتًِ ثمارها فً زمن و ُتؤتًِ عكس ذلك فً‬
‫زمن آخر‪ ،‬من ذلك أن الواجبات الشرعٌة كتعلٌم القرآن واإلمامة ُ‬
‫وخطبة‬
‫الجمعة لم ٌكن ُ‬
‫أخذ األجرة علٌها جابزاً‪ ،‬ألنها عبادات‪ ،‬والعبادة أجرُ ها على‬
‫هللا‪ ،‬ولكن المتأخرٌن لمَّا الحظوا قُعود الهمم عن القٌام بها أفتوا بجواز أخذ‬
‫ضرر عام بعد أن‬
‫ٍ‬ ‫األجرة على القٌام بها‪ ،‬ألن تطبٌق الحكم السابق ٌُفضً إلى‬
‫لم ٌوجد من ٌقبل القٌام بها حِسْ ً‬
‫بة هلل تعالى‪.‬‬

‫ـ ‪ 221‬ـ‬
‫الفصل الثانً‬
‫المصادر العقلٌة‬
‫وتشمل القٌاس واالستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرابع‬
‫واالستصحاب‪.‬‬
‫أوال‪ -‬القٌاس‪:‬‬
‫ال ٌمكن ألي تشرٌع أن ُتحٌط نصوصه بجمٌع أحكام الحوادث‬
‫والمسابل الفرعٌة‪ ،‬وإنما ٌقتصر عادة على ذِكر األصول العامة‪ ،‬وٌترك أمر‬
‫التطبٌق إلى القضاة والفقهاء‪ ،‬لٌجتهدوا فً أحكام المسابل الجزبٌة‪ ،‬وٌحاولوا‬
‫إلحاق الحكم بما هو منصوص علٌه‪ ،‬والشرٌعة تتجاوب مع ذلك ‪ ،‬مراعا ًة لحُ كم‬
‫التطور وتج ُّدد الحوادث وتشعُّب القضاٌا‪ ،‬فنراها تنص فً مصدرٌها األصلٌٌن‬
‫أرواحهم‬ ‫ً‬
‫تاركة التفاصٌل لمجتهدي األمة الذٌن تشبَّعت‬ ‫على القواعد العامة‬
‫بمقاصد الشرع وأحاطت مداركهم بدقابق التشرٌع‪ ،‬ومن هنا برزت الحاجة إلى‬
‫االجتهاد بالرأي الصحٌح‪ ،‬وهو ما ٌُسمى القٌاس‪.‬‬
‫والقٌاس لؽة التقدٌر والتسوٌة بٌن شٌبٌن ‪ ،‬واصطبلحا ً هو إلحاق ٍ‬
‫(‪)1‬‬
‫أمر‬
‫ال نص فٌه من الكتاب والسنة واإلجماع ب خر منصوص على حكمه وتطبٌق‬
‫حكمه علٌه إلشتراكهما فً العلة التً ُ‬
‫ش ِرع ألجلها الحكم(‪.)2‬‬
‫فإذا ورد نص أو إجماع بحكم الواقعة وعرؾ المجتهد علة الحكم‪ ،‬ثم‬
‫الحظ وجود نفس العلة فً واقعة أخرى‪ ،‬فإنه ٌؽلب على الظن االشتراك فً‬
‫الحُ كم بٌن الواقعتٌن‪ ،‬فٌُلحِق ما لم ٌُ َنص علٌه بما ورد فٌه نص‪ ،‬وٌسمى هذا‬
‫اإللحاق بالقٌاس‪ ،‬ومن أمثلته الحكم بكراهٌة اإلجارة بعد النداء لصبلة الجمعة‬

‫‪ُ -1‬غحٕ جُؼشخ‪ :‬ؼ‪ ،8‬ؿ‪.740‬‬


‫‪ -2‬أٗظش ػرذ جُغالّ أذ‪ٗ ٞ‬حؾ‪ :٢‬ؿ‪.261‬‬

‫ـ ‪ 222‬ـ‬
‫قٌاسا ً على كراهٌة البٌع التً ُنصّ على حكمها ‪ ،‬ل َما فً ذلك من اإلشؽال عن‬
‫الصبلة‪ ،‬وحرمان الموصى له قاتِل الموصِ ً من الوصٌة إلحاقا ً له بالوارث‬
‫قاتل المورث لمَّا استعجل اإلرث قبل أوانه فرُ َّد علٌه قصده وحُ ِرم منه‪ ،‬حتى ال‬
‫تكون المعصٌة سببا ً فً جلب المنفعة‪ ،‬وتحرٌم اإلجارة على اإلجارة ‪ ،‬قٌاسا ً لها‬
‫على الخطبة والبٌع المنهً عنهما بحدٌث "ال ٌِبعْ بعضكم على بٌع بعض‪ ،‬وال‬
‫خطب بعض "(‪ ،)1‬إلتحادهما فً علة اإلٌذاء‪.‬‬
‫ة‬ ‫ٌخطب بعضكم على‬
‫أركان القٌاس‪:‬‬
‫له أربعة أركان هً‪:‬‬
‫‪ -‬مقٌس علٌه‪ ،‬وهو ما ورد نصٌ بحكمه‪ ،‬وٌُسمى أصبلً‪.‬‬
‫‪ -‬مقٌس‪ ،‬وهو ما لم ٌرد نصٌ بحكمه‪ ،‬وٌسمى فرعا ً‪.‬‬
‫‪ -‬العلة‪ ،‬وهً الوصؾ المشترك بٌن األصل والفرع‪ ،‬والذي ألجله ُ‬
‫ش ِرع الحكم‬
‫فً األصل‪.‬‬
‫‪ -‬حكم األصل‪ ،‬وهو الحكم الشرعً الثابت لؤلصل بنص أو إجماع وٌرٌد‬
‫المجتهد تطبٌقه على الفرع لوجود نفس الوصؾ فٌه‪.‬‬
‫شروط القٌاس‪:‬‬
‫ٌُشترط فً األصل أن ٌكون ثابتا ً بنصٍّ من الكتاب أو السنة أو مجْ معا ً‬
‫علٌه‪ ،‬وٌشترط فً الفرع تحقق العلة فٌه‪ ،‬وٌشترط فً الحكم أن ٌكون معلبلً‬
‫بعلة ٌدركها العقل‪ ،‬ولهذا ال ٌصح القٌاس على ما قام الدلٌل على اختصاصه‬
‫‪ ‬به ‪ ،‬كزواجه بأكثر من أربعة وتحرٌم الزواج بنسابه من بعده‪ ،‬واألحكام‬
‫الخاصة ببعض الصحابة كالحكم بقبول شهادة ُخزٌمة بن ثابت ‪ ‬وحده‪ ،‬وقٌام‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جٌُ٘حـ‪ ،‬ذحخ ضكش‪ ْ٣‬جُخطرس ػِ‪ ٠‬خطرس أخ‪ ،ٚ٤‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1412‬‬

‫ـ ‪ 223‬ـ‬
‫شهادته مقام شهادة رجلٌن‪ ،‬إذ ال ٌصح قٌاس شهادة ؼٌره من األمة ولو كان‬
‫أفضل منه كالخلفاء الراشدٌن على شهادته‪ ،‬كما ال ٌصح القٌاس على المق َّدرات‬
‫الشرعٌة التً ال ُتدرك علتها كأعداد الركعات ومقادٌر الحدود والكفارات‪،‬‬
‫واألحكام الثابتة بالقٌاس ال ٌُقاس علٌها‪ ،‬وإنما ٌُقاس على الحكم األصلً‪ ،‬لببل‬
‫ٌكون فً ذلك إطالة ببل فابدة‪ ،‬وٌشترط اتحاد العلة فً األصل والفرع‪ ،‬ألن‬
‫الشٌا إنما ٌُلحق بؽٌره إذا ساواه من جمٌع الوجوه‪ ،‬وٌجب أال ٌكون فً الفرع‬
‫حكم مخالؾٍ للقٌاس‪.‬‬
‫نص أو إجماع ٌدل على ٍ‬
‫حجٌة القٌاس‪:‬‬
‫القٌاس حُ جة شرعٌة عند الجمهور‪ٌ ،‬جب اللجوء إلٌه عند عدم النص‬
‫ار ‪ ،)1(‬واالعتبار هو‬ ‫أو اإلجماع‪ ،‬لقوله تعالى‪َ  :‬فاعْ َت ِبرُ وا ٌَا أُولًِ ْاألَب َ‬
‫ْص ِ‬
‫االنتقال من الشٌا إلى ؼٌره‪ ،‬وهذا هو القٌاس‪ ،‬ألن فٌه نقبلً للحكم من األصل‬
‫إلى الفرع‪ ،‬كما رُ ِوي أنه ‪ ‬قال لمعاذ ‪ ‬لما بعثه إلى الٌمن قاضٌا ً‪ :‬بما تحكم؟‬
‫فقال‪ :‬بكتاب هللا‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم تجد؟ قال‪ :‬فبسنة رسوله‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم تجد؟ قال‪:‬‬
‫اجتهد برأًٌ‪ ،‬فأعجب به ‪ ،‬واالجتهاد بالرأي البد أن ٌعتمد على أصل‪ ،‬وهذا‬
‫هو القٌاس‪.‬‬
‫كما أنه ‪ ‬لمّا بعث أبا موسى األشعري ‪ ‬إلى الٌمن قاضٌاً‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫بما تقضً؟ قال‪" :‬إن لم أجد الحكم فً الكتاب والسنة قِست األمر باألمر‪ ،‬فما‬
‫كان أقرب إلى الحق عمِلت به"‪ ،‬فها هو ٌصرّ ح بالعمل بابلقٌاس‪ ،‬والرسول ‪‬‬
‫ٌقرُّ ه على ذلك‪ ،‬ولهذا لما سألت امرأةٌ النبً ‪ ‬عن أبٌها‪ ،‬وقد أدركه الحج ولم‬
‫ٌستطع لكبره ‪ ،‬أٌنفعه إن حججْ ُ‬
‫ت عنه؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فإنه لو كان على أبٌك دٌْن‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُكؾش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.2‬‬

‫ـ ‪ 224‬ـ‬
‫قضٌته(‪ ،)1‬ووجه االستدالل أنه ‪ ‬ألحق دٌْن هللا بدٌْن اآلدمً فً وجوب‬
‫القضاء ونفعه‪ ،‬وهذا هو القٌاس‪ ،‬وقد أجمع الصحابة على االحتجاج بالقٌاس‪،‬‬
‫إذ اختاروا أبا بكر ‪ ‬للخبلفة‪ ،‬قٌاسا ً لئلمامة الدنٌوٌة على اإلمامة فً الصبلة‪،‬‬
‫عندما أنابه ‪ ‬فٌها‪ ،‬فقالوا‪" :‬رض ٌَه رسول هللا لدٌننا أفبل نرضاه لدنٌانا" (‪،)2‬‬
‫كما قاس علً ‪ ‬ح َّد ُ‬
‫شرْ ب الخمر على حد القذؾ بقوله‪" :‬أراه إذا ِ‬
‫شرب‬
‫َسكِر‪ ،‬وإذا َسكر هذى ‪ ،‬وإذا هذى افترى ‪ ،‬فعلٌه حد المفتري" (‪ ،)3‬كما أن‬
‫‪ ،‬والحوادث ؼٌر‬ ‫نصوص القرآن متناهٌة محدودة النتهاء الوحً بوفاته‬
‫متناهٌة‪ ،‬والبد من بٌان حكم كل الوقابع‪ ،‬وهذا ال ٌتحقق إال بقٌاس ما لم ٌُنص‬
‫علٌه على ما ُنص علٌه فً الكتاب والسنة‪ ،‬كما أن التماثل فً الصفات بٌن‬
‫األصل والفرع ٌوجب التساوي فً الحكم‪ ،‬ألن نظٌر الحق البد أن ٌكون حقاً‪،‬‬
‫ونظٌر الباطل البد أن ٌكون مثله باطبلً‪ ،‬والقول بعكس ذلك ٌوقِع فً تناقض‬
‫تأباه الشرٌعة‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫وبعض الشٌعة‪ ،‬ودلٌلهم نهً القرآن عن‬ ‫ولم ٌأخذ بالقٌاس الظاهرٌة‬
‫األخذ بالظن فً قوله تعالى‪ :‬إِنَّ َّ‬
‫الظنَّ َال ٌ ُْؽنًِ م َِن ْال َح ِّق َش ٌْ ًبا ‪ ،)5(‬والقٌاس‬
‫ظن ألنه ٌبنى على استنتاج علة فً المقٌس علٌه‪ ،‬فٌكون منهٌا ً عن اتباعه‬
‫والعمل به‪ ،‬وبهذا ال ٌمكن أن ٌكون حجة فً إثبات األحكام الشرعٌة‪ ،‬كما أن‬
‫القٌاس ٌؤدي إلى االختبلؾ فً الرأي والتناقض فً األحكام ‪ ،‬وهذا منهً عنه‪،‬‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُٔ٘حعي‪ ،‬ذحخ جُكؽ ػٖ جُك‪ ٢‬ئرج ُْ ‪٣‬غططغ‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2909‬‬
‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.210‬‬
‫‪ -3‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.211‬‬
‫‪ -4‬جُٔكِ‪ :٠‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪ٓٝ 56‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز ‪ٗٞ٣‬ظ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.36‬‬

‫ـ ‪ 225‬ـ‬
‫ازعُوا َف َت ْف َشلُوا َو َت ْذ َه َ‬
‫ب ِرٌحُ ُك ْم‪.)1(‬‬ ‫بقوله تعالى‪َ  :‬و َال َت َن َ‬
‫ولكن دلٌل هؤالء محل نظر‪ ،‬ألنه ٌخص الحكم بالهوى‪ ،‬بٌنما القٌاس‬
‫ٌستند إلى علة حقٌقٌة‪ ،‬وال ٌكون إال بعد إعمال الفكر‪ ،‬كما أن التنازع المنهً‬
‫عنه شرعا ً هو ما كان فً العقابد و أصول الدٌن واألمور العامة كسٌاسة الدولة‬
‫وشبون الحرب‪ ،‬وال ٌشمل االختبلؾ فً المسابل الجزبٌة‪ ،‬ألنه ال ٌترتب علٌها‬
‫تفرُّ ق المسلمٌن‪ ،‬وقد أدى إؼفال هؤالء للقٌاس بهم إلى نتابج ؼرٌبة‪ ،‬منها‬
‫تقرٌرهم أن سُؤر الخنزٌر طاهر‪ ،‬وهو ما تبقى من ُ‬
‫شرْ به‪ ،‬بٌنما سُؤر الكلب‬
‫نجس‪ ،‬لورود النص بنجاسة سؤر الكلب فقط‪ ،‬وبول الكلب والخنزٌر طاهر‬
‫وبول اإلنسان نجس‪ ،‬لورود النص بذلك‪ ،‬وقرروا أن لُعاب الكلب نجس وبوله‬
‫طاهر لذات التعلٌل‪.‬‬
‫والقٌاس وإن تأخر عن اإلجماع إال أنه أعظم منه أثراً‪ ،‬لكثرة ما ٌرجع‬
‫إلٌه من أحكام فقهٌة‪ ،‬ألن اإلجماع مسابلة محصورة ‪ ،‬ولم ٌُزد علٌها منذ عهد‬
‫الصحابة‪ ،‬أما القٌاس فبل ٌُشترط فٌه اتفاق المجتهدٌن‪ ،‬بل لكل مجتهد أن ٌقٌس‬
‫كل ما لم ٌرد حكمه على ما ورد حكمه‪.‬‬
‫ثانٌا‪ -‬االستحسان‪:‬‬
‫االستحسان لؽة اعتبار الشٌا حسنا ً (‪ ،)2‬واصطبلحا ً هو العدول فً‬
‫مسألة عن مثل ما حُ كِم به فً أمثالها لسبب ٌقتضً هذا العدول‪ ،‬أي هو عدول‬
‫(‪،)3‬‬ ‫لدلٌل رجَّ ح لدٌه هذا العدول‬
‫ٍ‬ ‫حكم استثنابً‬
‫كم كلً إلى ٍ‬
‫المجتهد عن حُ ٍ‬
‫وإٌضاح ذلك أن المجتهد ٌرى أنه إذا أجرى القٌاس على عمومه أوقع ذلك فً‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جألٗلحٍ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.46‬‬


‫‪ -2‬جُقكحـ‪ :‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪.2099‬‬
‫‪ -3‬أذ‪ٗ ٞ‬حؾ‪ :٢‬ؿ‪.321‬‬

‫ـ ‪ 226‬ـ‬
‫ضٌق وحرج أو فوّ ت مصلحة أو أدى إلى مفسدة‪ ،‬فٌع ُدل عن ذلك إلى ٍ‬
‫حكم‬ ‫ٍ‬
‫آخر لدلٌل شرعً آخر ٌقتضً هذا العدول‪ ،‬فكان االستحسان بهذا عبلج اً لِما‬
‫ٌترتب على عموم القٌاس فً حال ٍة مخصوصة من حرج‪ ،‬ولهذا قال األحناؾ‬
‫أن "القٌاس ٌقتضً الحظر واالستحسان ٌقتضً اإلباحة"‪ ،‬ولذا عرَّ فوه بأنه‬
‫ترْ ُ‬
‫ك القٌاس واألخذ بما هو أرفق بالناس‪.‬‬
‫حجٌة االستحسان‪:‬‬
‫أكثر األحناؾ من األخذ باالستحسان‪ ،‬ألنهم أكثروا من استعمال‬
‫القٌاس‪ ،‬كما أخذ به الحنابلة والمالكٌة‪ ،‬واعتبروه حجة بعد الكتاب والسنة‬
‫واإلجماع والقٌاس (‪ ،)1‬ودليل هؤالء ا آلٌات الحاثة على اتباع األمر الحسن‪،‬‬
‫كقوله تعالى‪َ  :‬وا َّت ِبعُوا أَحْ َس َن َما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ٌْ ُك ْم مِنْ َر ِّب ُك ْم ‪ ،)2(‬بٌنما أنكر الشافعً‬
‫األخذ به وقال‪" :‬من استحسن فقد شرّ ع"‪ ،‬بل وخصَّ االستحسان ِبباب فً كتابه‬
‫األم سمّاه إبطال االستحسان‪ ،‬ولكن ْقول الشافعً ال ٌنطبق على االستحسان‬
‫وفق ما ٌراه الجمهور‪ ،‬إذ لٌس قوالً بالهوى من ؼٌر سند شرعً بل هو ترجٌح‬
‫لدلٌل على دلٌل‪ ،‬والظاهر أن تطبٌقات الشافعً تؤكد عمله باالستحسان‪ ،‬وأنه‬
‫أنكر االستحسان القابم على القول المجرد عن الدلٌل‪ ،‬وهذا ال ٌنطبق على‬
‫استحسان الفقهاء السابقٌن‪.‬‬
‫كما أنكر العمل باالستحسان الظاهرٌة والشٌعة‪ ،‬وقد استدل هؤالء‬
‫هللاُ َو َال َت َّت ِبعْ أَهْ َوا َء ُه ْم ‪ ،)3(‬ولهذا ال‬
‫بقوله تعالى‪َ  :‬وأَ ِن احْ ُك ْم َب ٌْ َن ُه ْم ِب َما أَ ْن َز َل َّ‬
‫ؼٌر ذلك تشرٌع بالهوى‪ ،‬كما أن الرسول ‪ ‬ما‬
‫ٌجوز الحكم إال بالنص‪ ،‬ألن َ‬

‫‪ -1‬جُؾحهر‪ :٢‬ؼ‪ ،4‬ؿ‪.209‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُضٓش‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.55‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُٔحتذز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.48‬‬

‫ـ ‪ 227‬ـ‬
‫أساسه العقل‪،‬‬ ‫كان ٌُفتً باالستحسان‪ ،‬وإنما كان ٌنتظر الوحً‪ ،‬واالستحسان‬
‫وفٌه ٌستوي العالم والجاهل‪ ،‬فلو جاز االستحسان ألح ٍد لجاز لكل إنسان أن‬
‫ٌشرِّ ع لنفسه شرعا ً جدٌداً‪ ،‬ولكان أهل العقول أولى بذلك‪ ،‬ولو كانوا ؼٌر‬
‫فقهاء‪ ،‬والراجح رأي الجمهور‪ ،‬ألن رأي معارضٌهم ٌ ْنصب على االستحسان‬
‫بالهوى وبؽٌر دلٌل شرعً‪ ،‬فً حٌن أن االستحسان عند الجمهورهو استثناء‬
‫مسألة جزبٌة بدلٌل شرعً من أصل كلً‪ ،‬أو ترجٌح قٌاس على قٌاس بسن ٍد‬
‫شرعً‪.‬‬
‫ثالثا ًا‪ -‬المصالح المرسلة‪:‬‬
‫قصد الشارع بتشرٌع األحكام تحقٌق مصالح الناس ود ْفع المفاسد عنهم‪،‬‬
‫ولذا أباح ما ؼلبت منفعته وحرَّ م ما ؼلبت مفسدته‪ ،‬وبنا ًء علٌه انقسمت‬
‫المصالح إلى ثبلثة أنواع‪:‬‬
‫األول‪ :‬ما قام دلٌل شرعً على اعتبارها ورعاٌتها‪ ،‬كحفظ النفس الذي‬
‫شرع من أجله القصاص‪ ،‬وحفظ المال الذي حرَّ م أكله بالباطل وأوجب‬
‫التعوٌض بالتعدي علٌه‪ ،‬وحفظ العقول الذي د ّل على رعاٌتها تحرٌم‬
‫المسكرات‪.‬‬
‫الثانً‪ :‬ما قام دلٌل شرعً على إلؽابها‪ ،‬كاالستسبلم للعدو‪ ،‬فقد ٌظهر‬
‫أن فٌه مصلحة ‪ ،‬وهً حفظ النفس من القتل ‪ ،‬لكنها مصلحة ألؽاها الشارع‬
‫لمصلحة أرجح منها‪ ،‬وهً االحتفاظ بعزة األمة وكرامتها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما لم ٌقم دلٌل شرعً على اعتبارها أو إلؽابها‪ ،‬وهً المسماة‬
‫بالمصالح المرسلة‪ ،‬أي المطلقة عن دلٌل اعتبارها أو إلؽابها‪.‬‬
‫وبهذا فالمصلحة المرسلة هً كل مصلحة ؼٌر مقٌدة بنص شرعً‬
‫ٌقرر اعتبارها أو عدم اعتبارها‪ ،‬وٌكون فً اعتبارها جلب منفعة أو د ْفع‬
‫ـ ‪ 228‬ـ‬
‫مفسدة‪ ،‬ولم ٌعتبرها الحنفٌة والشافعٌة أصبلً قابما ً بذاته بل أدخلوها فً القٌاس‪،‬‬
‫فإن لم ٌكن للمصلحة نصٌ ٌمكن ردها إلٌه فإنها تكون ملؽاة‪ ،‬وبالمصلحة‬
‫‪ ،‬وسنده فً ذلك‬ ‫المرسلة قال ابن حنبل ومالك والذي أكثر من األخذ بها‬
‫استقراء فتاوى الصحابة والمجتهدٌن فً ما لم ٌرد فٌه نص‪ ،‬حٌث ثبت لدٌه‬
‫عملهم بما تؤٌده المصلحة‪ ،‬ومن ذلك أن الصحابة جمعوا القرآن فً مصحؾ‬
‫وال نص من الكتاب أو السنة ٌوجب أو ٌحرم جمعه‪ ،‬وأمر عثمان ‪ ‬بتوحٌد‬
‫كتابة المصحؾ وحرْ ق ما عداه ‪ ،‬وزاد األذان الثانً ٌوم الجمعة إلعبلم الناس‬
‫بالصبلة‪ ،‬وقتل عمر ‪ ‬الجماعة بالواحد ‪ ،‬ألن القتٌل معصوم الدم ‪ ،‬ولو لم‬
‫‪ ،‬وهً حماٌة‬ ‫ٌؤخذ القصاص من الجماعة ألدى ذلك إلى فوات المصلحة‬
‫األنفس‪ ،‬وأسقط سهم المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ألنه رأى أن المصلحة فً إعطابهم‪ ،‬وهً‬
‫ضعْ ؾ المسلمٌن ‪ ،‬لم تعد موجودة‪ ،‬كما أمر بنفً نصر بن حجاج من المدٌنة‬
‫لتشبٌب النساء به‪ ،‬وأوقؾ تنفٌذ حد السرقة عام المجاعة‪ ،‬ولم ٌقسِّم األراضً‬
‫المفتوحة على الفاتحٌن‪ ،‬وقد ّ‬
‫مثل الؽزالً للعمل بالمصلحة بكفار تترَّ سوا‬
‫بجماعة من األسرى المسلمٌن ‪ ،‬لو كففنا عنهم ؼلبونا على دار اإل سبلم‪ ،‬ولو‬
‫رمٌنا الترس قتلنا مسلما ً معصوم الدم‪ ،‬فٌجوز ذلك حفظا ً لسابر المسلمٌن‪.‬‬
‫وللعمل بالمصلحة المرسلة البد من توافر الشروط التالٌة‪:‬‬
‫‪ -‬أن تكون المصلحة حقٌقٌة ال وهمٌة‪ ،‬وذلك بأن تجلب منفعة أو تدفع مفسدة‪.‬‬
‫‪ -‬أن تكون المصلحة عامة ال شخصٌة‪.‬‬
‫‪ -‬أال تعارض حكما ً ثبت بنص أو إجماع‪ ،‬ولهذا ال ُتراعى مصلحة المرابً فً‬
‫زٌادة دخله من الربا‪ ،‬ألن ذلك ٌخالؾ نصا ً شرعٌاً‪ ،‬وال ُتراعى مصلحة البنت‬
‫فً المساواة مع الذكر فً المٌراث‪ ،‬ألنها ُتعارض قوله تعالى‪ :‬ل َِّلذ َك ِر م ِْث ُل َح ِّظ‬

‫ـ ‪ 229‬ـ‬
‫ُ‬
‫ْاأل ْن َث ٌٌَ ِ‬
‫ْن‪ ،)1(‬ولهذا عِ ٌب على ٌحٌى بن ٌحٌى اللٌثً فتواه للخلٌفة األندلسً‬
‫الذي جا َم َع جارٌته فً نهار رمضان بأن ٌصوم ستٌن ٌوماً‪ ،‬ألن العتق مٌسور‬
‫له‪ ،‬ألن تشدد ٌحٌى فً إلزام الخلٌفة بصٌام شهرٌن مخالؾ لما ورد عن النبً‬
‫‪ ‬من مطالبة من جامع فً نهار رمضان بالعتق إن استطاع‪ ،‬وإال فعلٌه صٌام‬
‫ستٌن ٌوماً‪ ،‬وإال فعلٌه إطعام ستٌن مسكٌناً‪ ،‬إذ الكفارة مرتبة َ‬
‫حسب االستطاعة‬
‫دون تفصٌل بٌن ملِك وؼٌره‪ ،‬وهذا ٌدل على أن رؼبة الشارع هً تحرٌر‬
‫الرقاب أوالً ثم الصٌام ثم اإلطعام‪.‬‬
‫ومن أمثلة األحكام التً بُنٌت على المصلحة المرسلة فً عصرنا‬
‫فرضُ الضرابب على القادرٌن لئلنفاق على ال م صالح العامة وتحدٌد أسعار‬
‫السلع وتنظٌم السٌر على الطرق والضمان االجتماعً وتحرٌم ذبح إناث‬
‫ً‬
‫محافظة على الثروة الحٌوانٌة وا إللزام بحمْ ل البطاقات‬ ‫الحٌوانات الصؽٌرة‬
‫الشخصٌة وإتباع قواعد معٌنة عند الخروج من الببلد ودخولها‪.‬‬
‫هذا وٌقتصر مجال العمل بالمصلحة المرسلة على المعامبلت فقط‪ ،‬ألن‬
‫المصلحة فٌها ٌمكن إدراكها‪ ،‬وال ٌتجاوزها إلى العبادات‪ ،‬ألن الشارع حدد‬
‫وسابل معٌنة للتقرب إلٌه‪ ،‬فوجب االقتصار بصددها على ما وردت به‬
‫ت بها نص‪ ،‬ألن فتح باب التشرٌع‬
‫النصوص‪ ،‬ولهذا ال ٌصح إنشاء عبادة لم ٌأ ِ‬
‫بالمصلحة فً نطاق العبادات ٌؤدي إلى تؽٌٌر شعابر هللا والتبلعب بها‪.‬‬
‫رابعا ًا‪ -‬سد الذرائع‪:‬‬
‫الذرٌعة هً الوسٌلة المؤدٌة إلى الشٌا‪ ،‬فإن كانت مُفضٌة إلى حرام‬
‫كانت محرمة ووجب منعها‪ ،‬وإن كانت تؤدي إلى أمر مطلوب شرعا ً كانت‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.176‬‬

‫ـ ‪ 230‬ـ‬
‫مطلوبة‪ ،‬ولهذا كان ما ال ٌتم الواجب إال به واجباً‪ ،‬ألن الذرابع ُتفتح و ُتسد‬
‫و ُتندب و ُتكره و ُتباح بحسب ما ُتفضً إلٌه من مصالح‪ ،‬ولكن أكثر ما ٌُطلق‬
‫اسم الذرابع على الوسابل المؤدٌة إلى الشر والفساد‪ ،‬ألن األحكام الشرعٌة‬
‫قسمان‪ ،‬مقاصد وهً ما كانت مصلحة أو مفسدة فً ذاتها‪ ،‬ووسابل مفضٌة إلى‬
‫هذه المقاصد‪ ،‬والفعل ٌكون وسٌلة إلى الفساد فٌُمنع بؽض النظر عن قص ِد‬
‫فاعله‪ ،‬ألن المنظور إلٌه هو م ُل الفعل‪ ،‬فإن كان م لُ ُه فساداً كان الفعل المؤدي‬
‫إلٌه ممنوعاً‪ ،‬سداً لذرٌعة الفساد‪ ،‬وإن لم ٌقصد الفاعل ذلك‪.‬‬
‫وسد الذرابع مشهو ٌد له بالكتاب والسنة وعمل الصحابة‪ ،‬فمن الكتاب‬
‫هللا َف ٌَ ُسبُّوا َّ َ‬
‫هللا َع ْد ًوا ِب َؽٌ ِْر‬ ‫ون َّ ِ‬ ‫قوله تعالى‪َ  :‬و َال َت ُسبُّوا الَّذ َ‬
‫ٌِن ٌَ ْدع َ‬
‫ُون مِنْ ُد ِ‬
‫عِ ْل ٍم‪ ، )1(‬رؼم أن من ٌسُب األصنام ٌرٌد االنتصار للدٌن‪ ،‬ونٌته حسنة‪ ،‬ولكن‬
‫فعله سٌترتب علٌه سب هللا تعالى‪ ،‬وهذا أكبر المفاسد‪ ،‬ومن السنة نهٌه ‪ ‬عن‬
‫االحتكار سداً لذرٌعة التضٌٌق على الناس‪ ،‬ونهٌه الدابن عن قبول هدٌة مدٌِنه‬
‫سداً لذرٌعة الربا‪ ،‬ونهٌه عن سب والدي اآلخرٌن لببل ٌسب والدٌه فً قوله ‪:‬‬
‫"إن من أكبر الكبابر أن ي لعن الرجل والدٌه‪ ،‬قٌل‪ٌ :‬ا رسول هللا كٌؾ ٌلعن‬
‫أب الرجل فً لعن أ باه‪ ،‬ويلعن أم ه فٌلعن أمه" (‪،)2‬‬
‫الرجل والدٌه؟ قال‪ :‬يلعن َا‬
‫وامتناعه ‪ ‬عن ق ْتل من ظهر نفاقه ‪ ،‬لببل ٌتحدث الكفار أن محمداً ٌقتل‬
‫ً‬
‫ذرٌعة للحاق‬ ‫أصحابه‪ ،‬ونهٌه عن إقامة حد السرقة فً الؽزو‪ ،‬لببل ٌكون‬
‫المحدود بالكفار‪ ،‬وتحرٌمه الجمع بٌن المرأة وعمتها أو خالتها‪ ،‬خشٌة القطٌعة‬
‫ً‬
‫ذرٌعة للعزوؾ عن‬ ‫بٌنهما‪ ،‬وقد منع عمر ‪ ‬الزواج بالكتابٌة كً ال ٌكون‬
‫الزواج بالمسلمات‪ ،‬وقطع الشجرة التً تمت تحتها مباٌعة الرسول ‪ ‬لما وجد‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جألٗؼحّ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.108‬‬


‫‪ -2‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ :‬أذ‪ٞ‬جخ جُ٘‪ ،ّٞ‬ذحخ ذش جُ‪ٞ‬جُذ‪ ،ٖ٣‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.5141‬‬

‫ـ ‪ 231‬ـ‬
‫الناس فً خبلفته ٌذهبون إلٌها وٌصلُّون عندها‪ ،‬وذلك لمَّا خاؾ من تمادٌهم فً‬
‫تقدٌس هذه الشجرة فٌعبدونها كما عبدوا األحجار من قبل‪ ،‬وخاصة أنهم قرٌبو‬
‫عهْد بمثل ذلك‪.‬‬
‫وجمٌع المجتهدٌن أخذوا بسد الذرابع‪ ،‬وأكثرهم أخذاً به المالكٌة‬
‫ً‬
‫تقوٌة للعدو‪ ،‬وأجازوا‬ ‫والحنابلة‪ ،‬ولهذا أجازوا فداء األسرى بالمال مع أن فٌه‬
‫شهادة الزور إلنقاذ برئ‪ ،‬وحرَّ موا بٌع السبلح لقُ َّطاع الطرق وعند الفتنة‪ ،‬وبٌع‬
‫العنب لمن ٌتخذه خمراً‪ ،‬وحرَّ موا زواج التحلٌل وبٌع العٌِ َنة وأجازوا دفع‬
‫الرشوة بقصد دفع الظلم إذا لم ٌجد المظلوم سبٌبلً إال ذلك‪.‬‬
‫خامسا ًا‪ -‬االستصحاب‪:‬‬
‫االستصحاب ً‬
‫لؽة جعْ ُل الشٌا مصاحبا ً لشٌا آخر (‪ ،)1‬واصطبلحا ً جعْ ل‬
‫الحكم الثابت فً الماضً باقٌا ً فً الحال حتى ٌقوم الدلٌل على تؽٌٌره‪ ،‬أي هو‬
‫استدامة ما كان ثابتا ً ونفً ما كان منفٌا ً ‪ ،‬فكل ٍ‬
‫(‪)2‬‬
‫أمر ُعلِم وجوده ثم حصل شك‬
‫فً عدم وجو ده حُ كِم ببقابه استصحابا ً لؤلصل‪ ،‬والعكس بالعكس‪ ،‬فمن حضر‬
‫إذا تطهَّر‬ ‫عقد زواج له أن ٌشهد بالزوجٌة ما لم ٌقم الدلٌل على زوالها‪ ،‬و‬
‫شخص فالطهارة تستمر حتى ٌثبت خبلفها‪ ،‬وذمة الشخص برٌبة من الدٌْن‬
‫حتى ٌثبت شؽلها به‪ ،‬وإذا علِمت شراء شخص لمنزل فلَ َك أن تشهد بملكٌته له‬
‫حتى ٌثبت لدٌك العكس‪ ،‬وال ٌجوز لك صٌام ٌوم الشك ألن األصل شعبان‪ ،‬فبل‬
‫صٌام حتى ٌثبت انتهاء شهر شعبان وبداٌة رمضان‪.‬‬
‫وٌكون االستصحاب باستصحاب البراءة األصلٌة‪ ،‬أي العدم‪ ،‬فإذا ادعى‬
‫شخص على آخر دٌْنا ً وأنكره هذا‪ ،‬ولم ٌستطع المدعً إثبات الدٌن اُعتبرت‬

‫‪ -1‬أعحط جُرالؿس‪ :‬ؿ‪.384‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُو‪ :ْ٤‬ؼ‪ ،1‬ؿ‪.339‬‬

‫ـ ‪ 232‬ـ‬
‫ذمة المدعى علٌه برٌبة‪ ،‬ألن األصل براءة الذمة‪ ،‬كما ٌكون باستصحاب الحكم‬
‫ستفتً فً‬
‫َ‬ ‫األصلً لبلشٌاء وهو ا إلباحة‪ ،‬ما لم ٌقم الدلٌل على خبلفه‪ ،‬فمن أ ُ‬

‫حكم حٌوان أو جماد أو عمل‪ ،‬ولم ٌجد دلٌبلً شرعٌا ً ٌدل على خبلفه‪ ،‬فً وسعه‬
‫الحكم إبباحته استصحابا ً للحكم األصلً‪.‬‬
‫ُثبت الحقوق‪ ،‬وجانب سلبً‬
‫واالستصحاب له جانبان‪ ،‬جانب إٌجابً ٌ ِ‬
‫ٌدفعها‪ ،‬فالمفقود ٌُحْ كم باستمرار حٌاته استصحابا ً لحاله التً كان علٌها حٌن‬
‫الف ْقد‪ ،‬وٌثبُت له جانبان‪ ،‬جانب إٌجابً ٌ ِ‬
‫ُثبت له الحقوق من الؽٌر كالمٌراث‬
‫والوصٌة‪ ،‬وجانب سلبً ٌمنع انتقال ملكه إلى الؽٌر الستمرار حٌاته‪.‬‬
‫وقد قال الجمهور بالجانبٌن معاً‪ ،‬أما الحنفٌة فرأوا أن االستصحاب‬
‫ً‬
‫حجة إلبقاء الحقوق الثابتة وٌمنع من‬ ‫صالح للدفع ال لئلثبات‪ ،‬بحٌث ٌصلح‬
‫ُثبت لصاحبه حقا ً جدٌداً لم ٌكن له من قبل‪ ،‬وثمرة‬
‫طلب زوالها‪ ،‬لكنه ال ٌ ِ‬
‫الخبلؾ تظهر فً المفقود‪ ،‬فإنه ٌعتبر حٌا ً استصحابا ً لحٌاته السابقة للفقد‪ ،‬وهذا‬
‫ٌو ِجب له المٌراث عند الجمهور‪ ،‬ألن االستصحاب عندهم ٌصلح للدفع‬
‫‪ ،‬ألن االستصحاب عندهم للدفع دون‬ ‫واإلثبات‪ ،‬وال ٌو ِجبه عند األحناؾ‬
‫اإلثبات‪.‬‬
‫وهناك قواعد فقهٌة تنظم االستصحاب‪ ،‬منها قاعدة األصل بقاء ما كان‬
‫على ما كان‪ ،‬فلو ادعى المقترض دفع الدٌْن إلى المقرض ‪ ،‬والذي أنكر ذلك ‪،‬‬
‫اعتبر الدٌن باقٌا ً فً ذمة المقترض‪ ،‬ألن األصل بقاؤه فً ذمته حتى ٌثبت‬
‫خبلؾ ذلك‪ ،‬ولو فُقِد شخص فلم ُتعْ لم حٌاته أو موته اُعتبر حٌاً‪ ،‬ألن هذا هو‬
‫األصل‪ ،‬ومنها قاعدة الٌقٌن ال ٌزول بالشك‪ ،‬فإن شك المتوض ي فً انتقاض‬
‫وضوبه لم ٌنتقض وكان له الصبلة به ما لم ٌثبُت العكس‪.‬‬
‫حجٌة االستصحاب‪:‬‬
‫ـ ‪ 233‬ـ‬
‫االستصحاب هو آخر األدلة الشرعٌة التً ٌلجأ إلٌها المجتهد‪ ،‬فبلبد أن‬
‫ٌبحث عن حكم المسألة فً جمٌع األدلة الشرعٌة السابقة‪ ،‬فإن لم ٌجده لجأ إلى‬
‫ُثبت حكما ً جدٌداً بل ٌستمر باالستصحاب الحكم‬
‫االستصحاب‪ ،‬وهو هنا ال ٌ ِ‬
‫ٌ‬
‫حجة إلبقاء ما‬ ‫الثابت بالدلٌل الدال علٌه‪ ،‬ولهذا ٌقول العلماء أن االستصحاب‬
‫كان على ما كان ‪ ،‬ال إلثبات ما لم ٌكن‪ ،‬وقد توسّع الظاهرٌة فً االستناد إلى‬
‫االستصحاب‪ ،‬ألنهم ضٌّقوا من نطاق الدلة الشرعٌة‪ ،‬وحصروها فً الكتاب‬
‫والسنة واإلجماع‪ ،‬فنراهم فً كل موضع أخذ فٌه ؼٌرهم بالقٌاس أخذوا هم فٌه‬
‫باالستصحاب‪ ،‬وجاء بعدهم الشافعٌة والحنابلة والمالكٌة‪ ،‬ثم الحنفٌة لتوسعهم‬
‫فً االجتهاد بالرأي‪.‬‬

‫ـ ‪ 234‬ـ‬
‫الفصل الثالث‬
‫القواعد الفقهٌة‬
‫‪َ ‬وإِ ْذ‬ ‫القاعدة لؽة األساس (‪ ،)1‬وبهذا المعنى وردت فً قوله تعالى‪:‬‬
‫ٌَرْ َفعُ إِب َْراهٌِ ُم ْال َق َواعِ دَ م َِن ْال َب ٌْ ِ‬
‫ت َوإِسْ مَاعِ ٌ ُل ‪ ،)2(‬واصطبلحا ً هً حك ٌم كلًّ‬
‫ٌنطبق على كل جزبٌاته أو أكثرها ‪ٌ ،‬مكن بواسطته معرفة أحكام الجزبٌات‬
‫التً ٌندرج موضوعها تحت موضوع القاعدة (‪ ،)3‬وتمتاز هذه القواعد باإلٌجاز‬
‫فً عبارتها والدقة فً صٌاؼتها وشمولها لكثٌر من الفروع الجزبٌة‪.‬‬
‫وهذه القواعد قد تكون نصوصا ً بذاتها‪ ،‬ال تختلؾ فً ألفاظها عن لفظ‬
‫النص الشرعً‪ ،‬مثل قاعدة "ال ضرر وال ضرار"‪ ،‬وقاعدة "البٌنة على من‬
‫ٌ‬
‫حدٌث نبوي‪ ،‬وقد تكون القاعدة‬ ‫ادعى والٌمٌن على من أنكر"‪ ،‬فك ٌل منهما‬
‫مستنبطة من جملة من النصوص الشرعٌة‪ ،‬كقاعدة نفً الحرج وقاعدة وجوب‬
‫سد الذرابع‪.‬‬
‫ومن القواعد ما ٌنطبق على جمٌع جزبٌاته‪ ،‬بحٌث ال ٌخرُ ج عن حكمها‬
‫شٌا من الجزبٌات المندرجة تحت موضوعها‪ ،‬وتكون هذه القاعدة َّ‬
‫مط ِردة‪،‬‬
‫وهذا النوع من القواعد قلٌل الوجود‪ ،‬ومنها ما ٌنطبق على أؼلب الجزبٌات‪،‬‬
‫وتكون القاعدة هنا أؼلبٌة‪ ،‬وهذا هو الكثٌر الؽالب فً القواعد‪ ،‬ومع هذا ْ‬
‫فكون‬
‫القواعد أؼلبٌة ال ٌُنقِص من قٌمتها‪ ،‬ألن الجزبٌات التً خرجت عن حكمها‬
‫اُستثنٌت بدلٌل شرعً أو بقاعدة فقهٌة أخرى‪ ،‬لحكمة اقتضت ذلك‪ ،‬كتحقٌق‬
‫قدر أكبر من العدالة أو تحقٌق المصلحة أو د ْفع الحرج‪ ،‬ولهذا ال تناقض بٌن‬

‫‪ -1‬جُضذ‪٤‬ذ‪ :١‬ؼ‪ ،2‬ؿ‪.470‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.127‬‬
‫‪ -3‬ذحص‪ :‬ؿ‪.17‬‬

‫ـ ‪ 235‬ـ‬
‫هذه القواعد‪ ،‬ألن المجال الذي تعمل فٌه كل قاعدة لٌس هو المجال الذي تعمل‬
‫فٌه القاعدة األخرى(‪.)1‬‬
‫نبذة تارٌخٌة عن القواعد الفقهٌة)‪:)2‬‬
‫لم توضع القواعد الفقهٌة فً وقت واحد‪ ،‬وإنما صٌؽت بالتدرج على‬
‫مر الزمان‪ ،‬من وقت نزول التشرٌع إلى نهاٌة عصر االجتهاد‪ ،‬على أٌدي كبار‬
‫الفقهاء‪ ،‬وقد قام فقهاء جمٌع المذاهب بجمع هذه القواعد فً كتب خاصة‪ ،‬وأول‬
‫‪17‬‬ ‫من صاؼها أبو طاهر الدباس‪ ،‬والذي جمع قواعد المذهب الحنفً فً‬
‫قاعدة‪ ،‬ثم جاء أبو الحسن الكرْ خً الحنفً‪ ،‬أ‬
‫ؾلؾ رسالته فً القواعد ‪ ،‬فبلػ بها‬
‫‪ 37‬قاعدة‪ ،‬ثم جاء أبو زٌد الدبوسً الحنفً ‪ ،‬وألؾ كتابه تأسٌس النظر‪ ،‬والذي‬
‫اشتمل على ‪ 86‬قاعدة‪ ،‬ومن بعده وضع العِز بن عبد السبلم الشافعً كتابه‬
‫قواعد األحكام فً مصالح األنام‪ ،‬ومن بعده تلمٌذه القرافً المالكً والذي حوى‬
‫كتابه الفروق على ‪ 548‬قاعدة‪ ،‬كما حوى كتاب ابن رجب الحنبلً على ‪160‬‬
‫قاعدة‪ ،‬ثم جاء السُّبكً الشافعً وجبلل الدٌن السٌوطً الشافعً وزٌن الدٌن بن‬
‫أسماه األشباه والنظابر‪،‬‬ ‫ُنجٌم الحنفً ‪ ،‬ووضع ك ٌل منهم كتابا ً فً القواعد‬
‫وأخٌراً جاءت مجلة األحكام العدلٌة َ‬
‫فحوت فً مقدمتها على ‪ 99‬قاعدة‪.‬‬
‫أهم القواعد الفقهٌة‪:‬‬
‫أكثر اتساعا ً وشم والً من ؼٌره من القواعد‪،‬‬ ‫ٌُراد باألهم هنا ما هو‬
‫ويعتبر كاألركان األساسٌة التً ٌتفرع عنها الكثٌر من القواعد التً تعتبر أقل‬
‫شم والً واتساعا ً منها‪ ،‬وٌختلؾ مسلك العلماء فً تعٌٌن أهم القواعد‪ ،‬إذ ٌرى‬
‫العز بن عبد السبلم أن األحكام الفقهٌة كلها ترجع إلى قاعدة جلب المصالح‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ٗ :‬لظ جُٔ‪ٞ‬مغ‪.‬‬


‫‪ -2‬أقٔذ ‪ٞ٣‬عق‪ :‬ؿ‪.296-289‬‬

‫ـ ‪ 236‬ـ‬
‫ودرء المفاسد‪ ،‬بٌنما ٌرى أؼلب العلماء أن أهم القواعد هً األمور بمقاصدها‪،‬‬
‫والٌقٌن ال ٌزول بالشك‪ ،‬وال ضرر وال ضرار‪ ،‬والعادة مح َّكمة‪ ،‬والمشقة تجلب‬
‫التٌسٌر‪.‬‬
‫القاعدة األولى‪ -‬األمور بمقاصدها‪:‬‬
‫(‪ ،)1‬ومعناها أن أعمال‬ ‫أصل القاعدة حدٌث "إنما األعمال بالنٌات"‬
‫الشخص تتكٌؾ بحسب قصدِه من إجرابها‪ ،‬فقد ٌعمل اإلنسان عمبلً بقص ٍد معٌّن‬
‫فٌترتب علٌه حكم شرعً ‪ ،‬وٌعمل نفس العمل بقص ٍد آخر فٌترتب علٌه حكم‬
‫آخر‪ ،‬وقد ٌعمل شخصان فعلٌن متماثلٌن ك ٌّل منهما ٌقصد من فعله ؼٌر ما‬
‫ٌقصده اآلخر‪ ،‬فٌختلؾ الحكم الشرعً للفعلٌن الختبلؾ القصد‪ ،‬ومن تطبٌقات‬
‫هذه القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬الزواج مستحب فً األصل‪ ،‬لكنه ٌحْ رُ م إذا كان بقصد اإلضرار بالزوجة‪.‬‬
‫‪ -‬إمساك الزوجة أحب إلى هللا من تسرٌحها‪ ،‬لكنه ٌحرُ م إذا كان بقصد‬
‫اإلضرار بها‪.‬‬
‫‪ -‬الوضوء أو الؽسل ٌُحتمل أن ٌكون للنظافة أو الصبلة أو لرفع الجنابة‪ ،‬والنٌة‬
‫تحدد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬صبلة أربع ركعات النٌة تحدد هل هً ظهر أم عصر‪ ،‬نافلة أم فرض؟‬
‫‪ ،‬أم‬ ‫‪ -‬القتل ؼٌر المشروع النٌة تحدد هل هو قتل عمدي ٌجب فٌه القصاص‬
‫قتل خطأ ٌجب فٌه الدٌة والكفارة‪.‬‬
‫‪ -‬لو قال آلخر ُخ ْذ هذا الدٌنار‪ ،‬فإن قصد بإعطابه التبرع كان ذلك هبة‪ ،‬وإن لم‬
‫ٌقصده كان قرضا ً واجب الرد‪.‬‬

‫‪ -1‬عٖ٘ أذ‪ ٢‬دج‪ٝ‬د‪ً :‬طحخ جُطالم‪ ،‬ذحخ ك‪ٔ٤‬ح ػ٘‪ ٢‬ذ‪ ٚ‬جُطالم ‪ٝ‬جُ٘‪٤‬حش‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2201‬‬

‫ـ ‪ 237‬ـ‬
‫وٌبلحظ أن النٌة المجردة التً لم ٌقترن بها عمل ال ٌترتب علٌها حكم‬
‫دنٌوي‪ ،‬فمن َنوى تطلٌق زوجته ال ٌقع طبلقه إال بعد التلفظ به‪ ،‬ومن َنوى بٌع‬
‫منزله ولم ٌنطق بما ٌدل على نٌته لم ٌقع ما نواه‪ ،‬ولو نوى ؼصْ ب مال شخص‬
‫آخر ولم ٌفعل‪ ،‬وتلؾ المال فً ٌد صاحبه ال ٌضمنه‪.‬‬
‫كما أن األفعال واأللفاظ الصرٌحة ٌترتب علٌها الحكم دون الحاجة إلى‬
‫نٌة‪ ،‬كما لو قال آلخر ِبعتك هذا البٌت أو أوصٌت له به ‪ ،‬ص َّح البٌع والوصٌة‪،‬‬
‫أما األفعال ؼٌر الصرٌحة فٌختلؾ حكمها باختبلؾ قصد الفاعل منها‪ ،‬فمن‬
‫وجد لُقطة فأخذها بقصد تملكها اُعتبر ؼاصباً‪ ،‬وٌضمنها لصاحبها إذا تلفت فً‬
‫ٌده ببل تع ٍّد أو تقصٌر منه‪ ،‬فإن أخذها بقصد حفظها وتعرٌفها لردها إلى‬
‫صاحبها إن ظهر ‪ ،‬وتلفت فً يده ببل تع ٍّد وال تقصٌر منه ال ٌضمنها‪ ،‬ألنه‬
‫ٌعتبر أمٌنا ً‪.‬‬
‫وٌتفرع عن هذه القاعدة قاعدة أخرى‪ ،‬وهً العبرة فً العقود للمقاصد‬
‫والمعانً ال لؤللفاظ والمبانً‪ ،‬ألن العقود من التصرفات التً ٌباشرها اإلنسان‪،‬‬
‫ولمَّا كان المنظور إلٌه فً ترتٌب األحكام َقصْ د فاعلها فكذلك الحكم فً العقود‪،‬‬
‫إذ ال ٌترتب الحكم على مجرد اللفظ بل على القصد الحقٌقً الذي ٌقصده‬
‫العاقدان منه‪ ،‬ألن القصد الحقٌقً من الكبلم هو المعنى‪ ،‬وإنما اُعتبرت األلفاظ‬
‫لداللتها على المقاصد‪ ،‬ولهذا ال ٌُهمل جانب األلفاظ ً‬
‫كلٌة بل إنها ُتراعى ما‬
‫دامت مبٌِّنة للمعنى‪ ،‬فإن اختلؾ عنها أُهملت واعتبر القصد الحقٌقً الذي‬
‫ٌُعرؾ من خبلل العبارات التً ٌتلفظ بها العاقدان أو من مبلبسات التعاقد‪،‬‬
‫ومن تطبٌقات هذه القاعدة أنه لو قال له‪ :‬وهبتك المنزل بكذا كان بٌعا ً ال هبة‪،‬‬
‫وكذلك لو قال له‪ :‬أعرتك السٌارة بكذا مدة شهر كان العقد إجار ًة ال إعارة‪ ،‬ألن‬
‫اإلعارة تملٌك المنفعة بدون عِ َوض‪ ،‬أما اإلجارة فتملٌك المنفعة بع َِوض‪.‬‬
‫ـ ‪ 238‬ـ‬
‫القاعدة الثانٌة‪ -‬الٌقٌن ال ٌزول بالشك‪:‬‬
‫ْ‬
‫الجزم بوقوع الشٌا أو عدم وقوعه‪ ،‬والشك تردد الفعل‬ ‫الٌقٌن حُ صول‬
‫بٌن الوقوع وعدم الوقوع دون ترجُّ ح أحدهما‪ ،‬ومعنى القاعدة أن األمر المتٌقن‬
‫ال ٌزول بالشك الطارئ علٌه‪ ،‬وإنما ٌزول بٌقٌن مثله‪ ،‬ألن الٌقٌن قوي والشك‬
‫ضعٌؾ‪ ،‬والقوي ال ٌزول إال بمثله أو بأقوى منه‪ ،‬ودلٌل صدق القاعدة حدٌث‬
‫ٌدر كم صلى ثبلثا ً أم أربعا ً فلٌطرح الشك ولٌب ِ‬
‫ْن‬ ‫"إذا شك أحدكم فً صبلته فلم ِ‬
‫على ما استٌقن" (‪ ،)1‬وهذا الحدٌث وإن كان وارداً فً الصبلة فإنه ٌشمل كافة‬
‫المعانً الداخلة فً موضوعه‪ ،‬وذلك عن طرٌق القٌاس‪ ،‬ولهذا فإن من سافر‬
‫وانقطعت أخباره مدة طوٌلة أورث ذلك شكا ً فً حٌاته‪ ،‬لكنه ال ٌزٌل الٌقٌن‬
‫السابق وهو حٌاته‪ ،‬ولهذا ال تقسَّم أمواله ما لم ٌثبت موته أو ٌحكم القاضً‬
‫باعتباره مٌتاً‪ ،‬وٌُعتبر مٌتا ً من ٌوم صدور الحكم ال من ٌوم فقدِه‪ ،‬أما لو سافر‬
‫شخص فً سفٌنة وثبت ؼرقها فٌُحكم بموته‪ ،‬لزوال حٌاته السابقة بٌقٌن آخر‪،‬‬
‫ولو أقرَّ آلخر بدٌْن بقوله‪ :‬أظن أننً مدٌنٌ لك بمابة دٌنار ؾ‬
‫ال أثر لهذا اإلقرار‪،‬‬
‫ألن األصل براءة الذمة‪ ،‬وهذا ٌقٌن ال ٌزٌله الظن‪ ،‬ومن ثبت نكاحه ال تزول‬
‫زوجٌته إال بٌقٌن‪ ،‬ومن ملَ َك شٌبا ً ال تزول ملكٌته له إال بثبوت ما ٌزٌلها‪ ،‬وهذه‬
‫القاعدة ٌندرج تحتها عدة قواعد فرعٌة منها‪:‬‬
‫‪-1‬األصل بقاء ما كان على ما كان‪:‬‬
‫معنى القاعدة أن الشٌا ٌُحكم بدوام حاله التً هو علٌها ما لم ٌقم الدلٌل‬
‫على خبلؾ ذلك‪ ،‬والقاعدة أساسها االستصحاب‪ ،‬وهو إثبات ما كان ثابتا ً فً‬
‫الماضً ونفً ما كان منفٌا ً فٌه‪ ،‬ألن البقاء هو األصل المتٌقن منه‪ ،‬والعدم‬

‫‪ -1‬فك‪٤‬ف ٓغِْ‪ً :‬طحخ جُٔغحؾذ‪ ،‬ذحخ جُغ‪ ٜٞ‬ك‪ ٢‬جُقالز ‪ٝ‬جُغؿ‪ٞ‬د ُ‪ ،ٚ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.888‬‬

‫ـ ‪ 239‬ـ‬
‫طارئ مشكوك فٌه‪ ،‬ال ٌمكنه إزالة الٌقٌن السابق‪ ،‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‬
‫أنه إذا ادعى المدٌن تسلٌم الدٌن للدابن فأنكر وال بٌنة ألحدهما فالقول ْقول‬
‫الدابن‪ ،‬ألن الدٌن تعلق بذمة المدٌن فً الماضً‪ ،‬فٌُستصحب الحال الماضً‪،‬‬
‫ما لم ٌُثبت المدٌن العكس‪.‬‬
‫‪ -2‬األصل براءة الذمة‪:‬‬
‫معنى القاعدة أن األصل عدم انشؽال ذمة اإلنسان بحق آلخر‪ ،‬ألن كل‬
‫إنسان ٌولد وذمته برٌبة من أي حق للؽٌر‪ ،‬وشؽلُها ٌكون بالتصرفات التً‬
‫ٌُجرٌها‪ ،‬ولهذا فالقدر المتٌقن هو براءة الذمة‪ ،‬وشؽلُها مشكوك فٌه‪ ،‬ولذا فمن‬
‫المدع ى علٌه ذلك‬
‫َ‬ ‫ادعى على آخر أنه استدان منه ماالً أو أتلؾ له شٌبا ً وأنكر‬
‫المدعى علٌه‪ ،‬ألن األصل براءة الذمة‪ ،‬وعلى المدعِ ً إثبات دعواه‬
‫َ‬ ‫فالقول قول‬
‫بالبٌنة‪ ،‬والمتهم برئ حتى تثبت إدانته‪ ،‬ولهذا ٌفسر الشك لمصلحته‪ ،‬ألنه مع‬
‫حصول شك فً إدانته ترجَّ ح جانب البراءة‪ ،‬ولو اختلفا فً قٌمة المال المتلَؾ‬
‫فالقول قول من أتلفه‪ ،‬ألن األصل براءة ذمته من الزٌادة‪ ،‬ولو أقرَّ لشخص‬
‫بألؾ دٌنار ثم أقرَّ له فً الٌوم التالً بأ لؾ كان علٌه ألؾ واحد‪ ،‬ألن األصل‬
‫براءة ذمته‪ ،‬فٌُحمل اإلقرار الثانً على التأكٌد‪.‬‬
‫‪ -3‬األصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته‪:‬‬
‫المراد بالحادث هنا الشٌا الذي لم ٌكن موجوداً ثم وُ جد‪ ،‬فإذا وقع‬
‫اختبلؾ فً زمن حدوثه فإنه ٌُنسب إلى أقرب أوقاته إلى الحاضر‪ ،‬ألن وجوده‬
‫فً الزمن البعٌد مشكوك فٌه‪ ،‬ووجوده فً أقرب أوقاته متٌقن‪ ،‬ألن من ٌزعم‬
‫حدوثه فً الزمن البعٌد ال ٌُنكر وجوده فً الزمن القرٌب‪ ،‬ومن تطبٌقات هذه‬
‫القاعدة ما ٌلً‪:‬‬
‫حامل فانفصل الولد حٌا ً وظل حٌا ً مدة ببل ألم ثم مات‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬لو ضرب بطن امرأة‬
‫ـ ‪ 240‬ـ‬
‫ال ٌعتبر قاتبلً‪ ،‬ألن الظاهر أن الولد مات بسبب آخر ؼٌر الضرب‪.‬‬
‫‪ -‬لو اشترى جهازاً واستعمله مدة سلٌما ً ثم َ‬
‫فسد ال ٌرجع على البابع بشٌا ما لم‬
‫ٌثبُت تعٌِّبه عند البابع‪.‬‬
‫‪ -‬إذا تزوج مسلم كتابٌة وتوفً عنها وعن ورثة آخرٌن‪ ،‬فا َّدعت أنها كانت‬
‫إسبلمها كان بعد وفاة‬ ‫مسلمة قبل وفاته وطلبت تورٌثها‪ ،‬وادعى الورثة أن‬
‫الزوج‪ ،‬ولٌس لها حق فً المٌراث‪ ،‬فالقول للورثة‪ ،‬ألن إسبلمها حادث‬
‫فٌُضاؾ إلى أقرب األوقات‪ ،‬وهو ما بعد وفاة الزوج‪.‬‬
‫ت قول‪ ،‬لكن السكوت فً معرض الحاجة إلى البٌان بٌان‪:‬‬
‫لسك ٍ‬
‫‪ -4‬ال ٌُنسب ا‬
‫هذه القاعدة تتضمن أمرٌن‪ ،‬األول أن الساكت ال ٌُنسب له شٌا‪ ،‬ألن‬
‫عدم القول هو المتٌقن‪ ،‬وداللة السكوت على أمر آخر مشكوك فٌها‪ ،‬فبل ٌزول‬
‫الٌقٌن بهذا الشك ما لم تؤٌده قرابن راجحة‪ ،‬ومن تطبٌقات ذلك أن من أتلؾ‬
‫الؽٌر ماله بحضوره وسكت ال ٌعتبر ذلك رضا منه باإلتبلؾ‪ ،‬والثانً إذا كان‬
‫ٌ‬
‫داللة عرفٌة فهو بمثابة البٌان‪ ،‬ومن ذلك أن من ترك ماله عند آخر ‪،‬‬ ‫للسكوت‬
‫ٌ‬
‫ودٌعة عندك ‪ ،‬وسكت المودع لدٌه ‪ ،‬انعقدت الودٌعة ‪ ،‬وسكوت‬ ‫وقال له هذا‬
‫البنت البكر عند استبذان ولٌها لها فً زواجها رضا منها بالعقد‪.‬‬
‫‪ -5‬ال عِ برة بالتوهُّم‪:‬‬
‫التوهم هو اإلحتمال البعٌد النادر الحصول‪ ،‬وهذا التوهم ال ٌُبنى علٌه‬
‫حكم‪ ،‬ألنه شك‪ ،‬واألحكام ُتبنى على الٌقٌن‪ ،‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‪:‬‬
‫ً‬
‫ورثة ؼٌر هؤالء قُضِ ً لهم باإلرث‪ ،‬وال عبرة‬ ‫‪ -‬لو قال الشهود ال نعلم للمٌت‬
‫باحتمال ظهور وارث آخر‪ ،‬ألن ذلك متوهم فقط‪.‬‬
‫‪ -‬لو شهد الشهود ا لعدول عند القاضً وجب علٌه الحكم بشهادتهم‪ ،‬وال عبرة‬
‫باحتمال كذبهم أو خطبهم‪ ،‬ألن هذا أمر متوهم‪.‬‬
‫ـ ‪ 241‬ـ‬
‫‪ -6‬ال عِ برة بالظن الب ٌِّن خطؤه‪:‬‬
‫ومعنى القاعدة أنه إذا بُنً حك ٌم على ظن ثم تبٌن خطؤه َ‬
‫بط َل ذلك‬
‫الحكم‪ ،‬وذلك كما فً هذه التطبٌقات‪:‬‬
‫‪ -‬أعطى شخص آلخر نقوداً على ظنِّ أنه مدٌن له بها ثم تبٌن أنه لٌس مدٌنا ً‬
‫له‪ ،‬فإنه ٌستعٌدها‪ ،‬وال ٌعتبر هذا األداء إقراراً بدٌن علٌه‪.‬‬
‫‪ -‬من أتلؾ مال ؼٌره على ظن أنه ماله علٌه الضمان وال عبرة بظنه الخاطا‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‪ -‬ال ضرر وال ضِ رار‪:‬‬
‫ٌ‬
‫حدٌث نبويٌ شرٌؾ‪ ،‬وهً تتضمن حكمٌن‪:‬‬ ‫هذه القاعدة بلفظها‬
‫األول‪ :‬أنه ال ٌجوز للشخص اإلضرار بؽٌره فً جسده أو ماله أو‬
‫شرفه‪ ،‬ألن الضرر ظلم وهو ممنوع شرعاً‪ ،‬سواء نشأ الضرر عن فعل ؼٌر‬
‫مشروع أو عن فعل مباح‪ ،‬أما ما ٌتسامح فٌه الناس عادة والفعل الواجب القٌام‬
‫به فالضرر الناتج عنه ال ٌعتبر ضرراً ممنوعا ً‪.‬‬
‫الثانً‪ :‬ال ٌجوز مقابلة الضرر بالضرر‪ ،‬بل على المتضرر ر ْفع األمر‬
‫للقضاء إللزام مُحدِث الضرر بإزالته أو تعوٌض المتضرر‪ ،‬فإن قابل‬
‫المتضرر الضرر بمثله أُعتبر معتدٌا ً‪ .‬وٌتفرع عن هذه القاعدة قواعد كثٌرة‬
‫منها‪:‬‬
‫‪-1‬الضرر ال ٌُزال بمثله‪:‬‬
‫أشد‬ ‫الضرر وإن وجبت إزالته لكنه ال ٌزال بإحداث ضرر مثله أو‬
‫منه‪ ،‬بل ٌشترط إلزالته عدم اإلضرار بالؽٌر أو كون الضرر البلحق به خفٌفاً‪،‬‬
‫أشد فبل‬ ‫فإن ترتب على إزالة الضرر ضرر مماثل ٌقع على الؽٌر أو ضرر‬
‫تجب إزالته‪ ،‬وذلك كما فً التطبٌقات التالٌة‪:‬‬
‫‪ -‬لٌس للمشتري رد المبٌع المعٌب بعٌب قدٌم إذا حدث فٌه عٌب آخر عنده بل‬
‫ـ ‪ 242‬ـ‬
‫له الرجوع بنقصان الثمن‪.‬‬
‫‪ -‬من أتلؾ ماالً للؽٌر ال ٌجوز للمتضرر أن ٌُتلِؾ له ماالً مقابل ذلك‪ ،‬بل له‬
‫المطالبة بالتعوٌض‪.‬‬
‫‪ -‬ال ٌحق للتجار منعُ من أنشأ محبلً فجذب الكثٌر من المشترٌن مما ألحق بهم‬
‫الكساد‪ ،‬ألن م ْنعه من التجارة ضررٌ ٌماثل الضرر الذي لحق بهم‪.‬‬
‫‪ -‬من أشرؾ على الهبلك له أن ٌأخذ مال ؼٌره دفعا ً للجوع‪ ،‬فإن كان صاحب‬
‫المال محتاجا ً إلٌه مثله فبل ٌحِق له أخذه‪ ،‬ألنه بدفع الضرر عن نفسه ألحق‬
‫بالؽٌر ضرراً مساوٌا ً لِما قد ٌلحقه من ضرر‪.‬‬
‫‪ -2‬الضرر األشد ٌُزال بالضرر األخف‪:‬‬
‫أشد‬ ‫الضرر ٌزال بضرر أقل منه‪ ،‬وال تجوز إزالته بضرر مثله أو‬
‫منه‪ ،‬ومن ذلك ما ٌلً‪:‬‬
‫‪ -‬إذا عجز م ُِرٌد الصبلة عن استقبال القبلة صلَّى كما استطاع‪ ،‬ألن ترْ ك هذا‬
‫الشرط أخؾ من ترك الصبلة‪.‬‬
‫خشً على نفسه الهبلك جوعا ً له أن ٌأخذ من مال ؼٌره ما ٌدفع به‬
‫َ‬ ‫‪ -‬من‬
‫الهبلك عن نفسه‪ ،‬جبراً عن صاحبه‪ ،‬ما لم ٌكن صاحب المال محتاجا ً إلٌه‬
‫كإحتٌاج الجابع له‪.‬‬
‫‪ٌ -‬جوز حبْس المدٌن المماطل الذي تظ َهر قدرته على السداد دفعا ً للضرر عن‬
‫الدابنٌن‪.‬‬
‫‪ -‬لو طلب صاحب الحصة األكثر القِسمة وشرٌكه ٌتضرر من ذلك أُجٌب‬
‫صاحب األكثر‪ ،‬ألن ضرره من عدم القسمة أعظم من ضرر شرٌكه‪.‬‬
‫‪ٌُ -4‬ختار أهون الشرٌن‪:‬‬
‫‪ -5‬إذا تعارضت مفسدتان ُروعِ ًَ أعظمهما ضرراًا بإرتكاب أخفهما‪:‬‬
‫ـ ‪ 243‬ـ‬
‫هاتان القاعدتان فً معنى القاعدة السابقة‪ ،‬وال اختبلؾ بٌنها إال فً‬
‫األلفاظ‪ ،‬ولهذا تصلح أمثلتها كتطبٌقات لهما‪.‬‬
‫‪ٌُ -6‬تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام‪:‬‬
‫الضرر العام ٌصٌب عامة الناس‪ ،‬والضرر الخاص ٌصٌب فرداً أو فبة‬
‫قلٌلة‪ ،‬وهو دون الضرر العام‪ ،‬ولهذا ٌُدفع الضرر العام وإن أدى ذلك إلى‬
‫حدوث ضرر خاص‪ ،‬وعلى هذه القاعدة بُنً منعُ الطبٌب الجاهل دفعا ً لضرره‬
‫عن عامة الناس‪ ،‬وإن كان فً منعه ضررٌ له‪ ،‬وجاز دخول المنزل لمنع‬
‫سرٌان الحرٌق إلى بٌت مجاور له‪ ،‬وجاز تحدٌد أسعار السلع عند زٌادة التجار‬
‫ألثمانها واحتكارهم لها‪ ،‬وجاز نزعُ الملكٌة الخاصة لتحقٌق منفعة عامة‪.‬‬
‫‪ -7‬درء المفاسد أولى من جلب المصالح‪:‬‬
‫القصد من تشرٌع األحكام دفع المفاسد عن الناس وجلب المصالح لهم‪،‬‬
‫فإن تع ا رضت مفسدة ومصلحة بأن كان الحصول على المنفعة ال ٌكون إال‬
‫بإجراء المفسدة فإن المفسدة ُتدرأ ولو ترتب على ذلك ترك المنفعة أو عدم‬
‫الحصول علٌها‪ ،‬ألن الشرع حرص على ترك المنهٌات أكثر من حرصه على‬
‫تحقٌق المأمورات‪ ،‬ولهذا ح َّتم ترك جمٌع المفاسد ودعا الناس إلى أن ٌأتوا من‬
‫المأمورات ما استطاعوا‪ ،‬حٌث قال ‪" :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوه ما استطعتم‪،‬‬
‫وإذا نهٌتكم عن شٌا فاجتنبوه"(‪ ،)1‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‪:‬‬
‫عمل ٌُنتج ضرراً بالؽٌر أكثر من المنفعة التً تعود‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬منعُ الشخص من إجراء‬
‫علٌه‪ ،‬كمنع مالك المنزل من فتح نافذة تطل على نساء جاره‪ ،‬ولو كان فٌها‬
‫منفعة له‪.‬‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جُذجسهط٘‪ً :٢‬طحخ جُكؽ‪ ،‬ذحخ جُٔ‪ٞ‬جه‪٤‬ص‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.204 /2668‬‬

‫ـ ‪ 244‬ـ‬
‫‪ -‬منع الجار من التصرؾ فً ملكه تصرفا ً ٌضر بجٌرانه‪.‬‬
‫‪ -‬منع التجارة بالمحرمات من خمر ومخدرات مع ما فٌها من عابد اقتصادي‪.‬‬
‫فإن كانت المنفعة تفوق المفسدة قُ ّدمت المنفعة‪ ،‬وال ٌُنظر للمفسدة‬
‫القلٌلة‪ ،‬فالتكلم بالكذب مفسدة لكنه جابز إن أرٌد به اإلصبلح بٌن المتخاصمٌن‪،‬‬
‫ولو أراد ظالم أخذ ودٌعة ممن أودعت لدٌه ؼصبا ً جاز له الكذب وانكارها‬
‫ً‬
‫محافظة علٌها‪.‬‬
‫‪-8‬ال ُغنم بال ُغرم‪:‬‬
‫بمعنى أن من ٌنال ن ْفع شٌا علٌه أن ٌتحمل ضرره‪ ،‬ومن ذلك أن‬
‫الشركاء ٌتحملون الخسارة بنسبة حصصهم فً مال الشركة‪ ،‬ألنهم ٌنالون‬
‫الربح بنسبة هذه الحصص‪ ،‬ونفقات صٌانة المنزل المشترك تكون على‬
‫الشركاء بنسبة حصصهم فٌه‪ ،‬كما هو الحُ كم فً تقسٌم ؼلَّته‪ ،‬ورسوم تسجٌل‬
‫العقار فً السجل العقاري ٌتحملها المشتري ألنه المنتفع بهذا التسجٌل‪.‬‬
‫القاعدة الرابعة‪ -‬المشقة تجلب التٌسٌر‪:‬‬
‫ٌراد بالمشقة الجالبة للتٌسٌر ما ٌجاوز الحدود العادٌة وال ٌطٌقها‬
‫اإلنسان‪ ،‬وال ٌراد بها المشقة الطبٌعٌة التً تن ُتج عاد ًة عند أداء الواجبات‪ ،‬فهذ ه‬
‫ال ٌخلو منها أي عمل‪ ،‬وهذه ال ٌناسبها التٌسٌر والتخفٌؾ‪ ،‬ألن التخفٌؾ فٌها‬
‫ٌعتبر إهماالً وتفرٌطاً‪ ،‬وهذا ٌقضً على التشرٌع من أصله‪.‬‬
‫فإذا ظهرت مشقة ال ٌطٌقها اإلنسان فً أي أمر فإن الشارع ٌهوِّ ن هذه‬
‫المشقة‪ ،‬ألن فٌها حرجاً‪ ،‬والحرج ممنوع عن المكلؾ‪ ،‬وال ٌشترط فً المشقة‬
‫التً تجلب التٌسٌر أن تبلػ درجة االضطرار بل ٌكفً أن تبلػ درجة الحاجة‪.‬‬
‫وهذه القاعدة سندها قوله تعالى‪ُِ ٌ :‬رٌ ُد َّ‬
‫هللاُ ِب ُك ُم ْالٌُسْ َر َو َال ٌ ُِرٌ ُد ِب ُك ُم‬

‫ـ ‪ 245‬ـ‬
‫ْالعُسْ َر‪ ،)1(‬وقوله تعالى ‪َ  :‬ال ٌُ َكلِّؾُ َّ‬
‫هللاُ َن ْفسً ا إِ َّال وُ سْ َع َها لَ َها ‪ ،)2(‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ؾ َع ْن ُك ْم ‪ )3(‬وقوله ‪" :‬إن هللا وضع عن أمتً الخطأ‬ ‫هللاُ أَنْ ٌ َُخ ِّف َ‬
‫‪ُِ ٌ‬رٌ ُد َّ‬
‫استكرهوا علٌه" (‪ ،)4‬ولهذا على المجتهد أن ٌراعً فً اجتهاده‬ ‫ِ‬ ‫والنسٌان وما‬
‫عدم إٌقاع المشقة ‪ ،‬بل ٌختار من األمور أٌسرها ‪ ،‬ما لم تعارض نصا ً شرعٌاً‪،‬‬
‫وهذه القاعدة ٌتفرع عنها عدة قواعد منه‪:‬‬
‫‪-1‬الضرورات تبٌح المحظورات‪:‬‬
‫الضرورة ظرؾ قاهر ٌلجا اإلنسان إلى فعْ ل المحرَّ م‪ ،‬وهذه القاعدة‬
‫مستفادة من استثناء القرآن حاالت االضطرار الطاربة بقوله تعالى‪ :‬إِ َّن َما َحرَّ َم‬
‫اغ َو َال‬ ‫ُ‬ ‫ٌر َو َما أ ُ ِه َّل ل َِؽٌ ِْر َّ ِ‬
‫هللا ِب ِه َف َم ِن اضْ طرَّ َؼٌ َْر َب ٍ‬ ‫َعلَ ٌْ ُك ُم ْال َم ٌْ َت َة َوال َّد َم َولَحْ َم ْال ِخ ْن ِز ِ‬
‫ص َل لَ ُك ْم َما َحرَّ َم َعلَ ٌْ ُك ْم إِ َّال َما‬ ‫َعا ٍد َفإِنَّ َّ َ‬
‫هللا َؼفُورٌ َرحٌِ ٌم ‪ ،)5(‬وبقوله‪َ  :‬ق ْد َف َّ‬
‫ط ِررْ ُت ْم إِلَ ٌْ ِه‪ ،)6(‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‪:‬‬ ‫اضْ ُ‬
‫‪ٌ -‬جوز للطبٌب الكشؾ عن عورات المرضى إذا تو َّقؾ على ذلك عبلجهم‪.‬‬
‫‪ٌ -‬جوز أكل المٌتة وأخذ مال الؽٌر لدفع الهبلك عن النفس‪.‬‬
‫‪ -‬للشخص قتل الحٌوان الصابل إنقاذاً لحٌاته‪.‬‬
‫والضرورة ال تبٌح كل المحظورات بل البد أن تكون أكثر شِ دة من‬
‫األمر المحظور‪ ،‬فلو كانت مساوٌة لها أو أقل منها فبل تبٌحها‪ ،‬ولهذا لو هدد‬
‫شخص آخر فبل‬
‫ٍ‬ ‫قطع أحد أعضابه لٌجبره على قتل‬‫آخر بالقتل أو ْ‬
‫شخصٌ َ‬

‫‪ -1‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.185‬‬


‫‪ -2‬ع‪ٞ‬سز جُروشز‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.286‬‬
‫‪ -3‬ع‪ٞ‬سز جُ٘غحء‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.28‬‬
‫‪ -4‬عٖ٘ جذٖ ٓحؾ‪ً :ٚ‬طحخ جُطالم‪ ،‬ذحخ هالم جٌُٔش‪ٝ ٙ‬جُ٘حع‪ ،٢‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2045‬‬
‫‪ -5‬ع‪ٞ‬سز جُ٘كَ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.115‬‬
‫‪ -6‬ع‪ٞ‬سز جألٗؼحّ‪ :‬ج‪٣٥‬س ‪.119‬‬

‫ـ ‪ 246‬ـ‬
‫ٌجوز له قتله‪ ،‬ألن الضرورة هنا مساوٌة للمحظور فً حالة التهدٌد بالقتل أو‬
‫أقل منها فً حالة ا لتهدٌد بقطع العضو‪ ،‬فإذا ارتكب الجرٌمة عوقب هو ومن‬
‫أكرهه‪.‬‬
‫كما أنَّ من المحظورات ما ال ٌباح أبداً‪ ،‬وإن كان االضطرار ٌرفع‬
‫اإلثم‪ ،‬وهذا ٌكون فً حاالت اإلكراه على الكفر أو القتل أو الزنا‪ ،‬فالتهدٌد ولو‬
‫بالقتل إلكراه الشخص على الكفر ال ٌُبٌح له الكفر‪ ،‬ولكنه ٌبٌح له التظاهر به‬
‫مع اطمبنان قلبه باإلٌمان‪ ،‬والتهدٌد ولو بالقتل إلكراه الشخص على قتل ؼٌره‬
‫ال ٌبٌح له قتله‪ ،‬وإن كان لو قتله ال قصاص علٌه بل القصاص على من أكرهه‬
‫على ذلك على رأي بعض الفقهاء‪ ،‬واإلكراه ولو بالقتل على الزنا ال ٌبٌح‬
‫للمرء اإلقدام علٌه شرعاً‪ ،‬وإن كان ٌُسقِط عنه العقوبة‪.‬‬
‫‪ -2‬الضرورة تقدَّ ر بقدَ ِرها‪:‬‬
‫ومعناها أن ما أُبٌح للضرورة ٌق َّدر ْ‬
‫بقدر ما تندفع به هذه الضرورة‪،‬‬
‫وال ٌُرتكب من المحرم إال هذا القدر‪ ،‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬من اضطر إلى أكل المٌتة خشٌة الهبلك جوعا ً ال ٌأكل منها إال بقدر ما ٌُبقً‬
‫على حٌاته وال ٌشبع‪.‬‬
‫‪ -‬رؤٌةالطبٌب لعورة المرٌض تتق ّدر بالحاجة إلٌها‪.‬‬
‫‪ -‬من احتاج إلى اإلقتراض بالربا ٌقترض بقدر ما ٌُزٌل الضرورة وال ٌزٌد‪.‬‬
‫‪ -3‬االضطرار ال ٌُبطل حق الغٌر‪.‬‬
‫إذا نشأ عن العمل الذي أباحته الضرورة ٌ‬
‫حق للؽٌر فهذا الحق ال ٌُبطله‬
‫االضطرار‪ ،‬بل ٌكون المضطر ملزما ً بضمان هذا الحق‪ ،‬ألن االضطرار عذرٌ‬
‫مسقِط لئلثم والعقوبة‪ ،‬لكنه ال ٌُبطل حق الؽٌر‪ ،‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬لو اضطر السابق إلى سحْ ق مال ؼٌره وجب علٌه الضمان وال ٌخلِّصه‬
‫ـ ‪ 247‬ـ‬
‫االضطرار من ذلك‪.‬‬
‫كره شخص على إتبلؾ مال ؼٌره فصاحب المال ال ٌبطل حقه بل له‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬لو أ ِ‬
‫المكره بحسب األحوال‪.‬‬
‫َ‬ ‫المكره أو‬
‫ِ‬ ‫العودة بالضمان على‬
‫القاعدة الخامسة‪ -‬العادة مح ّكمة‪:‬‬
‫العادة هً تكرر الشٌا حتى ٌتقرر فً النفوس وٌكون مقبوالً منها‪،‬‬
‫وهً مح ّكمة أي أنها المرجع عند النزاع إذا لم ٌرد فً المسألة نص شرعً‪،‬‬
‫فإن ورد وجب العمل بموجبه‪ ،‬وال ٌجوز تقدٌم العادة علٌه‪ ،‬ألنها قد ُتبنى على‬
‫باطل أما النص فبل ٌُعقل أن ٌُبنى علٌه‪ ،‬وتطبٌقا ً لهذ القاعدة فإن منْ د َفع قماشا ً‬
‫إلى من ٌخٌطه‪ ،‬وهو معروؾ بأخذ األجرة على ذلك استحق األجرة‪ ،‬وكل ما‬
‫جرى العرؾ على اعتباره من مشتمبلت المبٌع كالحدٌقة المحٌطة بالمنزل‬
‫ٌدخل فً العقد ولو لم ٌُذكر فٌه‪ ،‬ولو ترك الرجل ولده عند صانع ٌعلِّمه‬
‫حرفته‪ ،‬ولم ٌشترط أحدهما على اآلخر أجراً‪ ،‬وطالب الرجل بأجرة عمل ولده‪،‬‬
‫وطالب الصانع بأجرة تعلٌمه للولد‪ ،‬كان العرؾ هو المرجع فً فض النزاع‪،‬‬
‫والنوم فً الفنادق واألكل فً المطاعم ٌستلزم دفع المال‪ ،‬ألن العرؾ ٌقضً‬
‫بذلك‪ ،‬وٌتفرع عن هذه القاعدة عدة قواعد منها‪:‬‬
‫‪-1‬استعمال الناس حجة ٌجب العمل بها‪:‬‬
‫التعامل الجاري بٌن الناس إذا لم ٌكن مخالفا ً للنص هو حجة ٌجب‬
‫الرجوع إلٌها والعمل بها‪ ،‬ألن هذا االستعمال أشبه باإلجماع‪ ،‬ومن تطبٌقات‬
‫هذه القاعدة أنه لو و َّكل شخصٌ شخصا ً فً الدفاع عنه فً خصومة ولم ٌشترط‬
‫له أجرة‪ ،‬فإن كان الوكٌل ممن اتخذ الوكالة فً الخصومة حرفة كان له أجر‬
‫الم ِْثل‪ ،‬ألن التعامل جرى على ذلك‪ ،‬وإن لم ٌكن ممن اتخذ الوكالة فً‬
‫الخصومة حرفة إؾنه ٌكون متبرعا ً ال أجرة له‪.‬‬
‫ـ ‪ 248‬ـ‬
‫‪ -2‬المعروف عرفا ًا كالمشروط شرطا ًا‪:‬‬
‫األمور المعروفة بٌن الناس فً المعامبلت تعتبر كأنها مشروطة عند‬
‫اجرابها‪ ،‬كما لو تم النص علٌها فً العقد‪ ،‬ومن تطبٌقات هذه القاعدة‪:‬‬
‫‪ ،‬ألنه من‬ ‫‪ -‬إذا استعمل أحد مال ؼٌره المعد لبلستؽبلل فعلٌه أجر الم ِْثل‬
‫المعروؾ أن المال المعد لبلستؽبلل ال ٌستعمل إال بأجرة‪.‬‬
‫‪ -‬النوم فً الفنادق واألكل فً المطاعم ٌستلزم دفع األجرة‪ ،‬ألن العرؾ ٌقضً‬
‫بذلك‪ ،‬وإن لم ٌُذكر ذلك من قبل طرفً العقد‪.‬‬
‫‪ -3‬التعٌٌن بالعرف كالتعٌٌن بالنص‪:‬‬
‫التعٌٌن الثابت بالعرؾ فً أمر من األمور ٌعتبر كالتعٌٌن الثابت‬
‫بالنص علٌه فً العقد‪ ،‬فإذا كان العرؾ ٌخصص بعض التصرفات بشٌا َو َجب‬
‫مراعاة هذا التخصٌص فً المعامبلت‪ ،‬كما لو ُنصَّ على هذا التخصٌص عند‬
‫إجراء المعاملة ‪ ،‬ومن ذلك أن التوكٌل بالبٌع ٌُحمل على البٌع ببل ضرر‪ ،‬ألن‬
‫هذا التخصٌص هو المتعارؾ علٌه‪ ،‬فلٌس للوكٌل بٌع شٌا ٌضره التبعٌض‪،‬‬
‫بأن ٌبٌع نصفه‪ ،‬ألن ذلك ٌجلب ضرراً للمو ِّكل‪.‬‬
‫‪ -4‬ال ٌُنكر تغٌر األحكام بتغٌر األزمان‪:‬‬
‫األحكام التً تتؽٌر بتؽٌر األزمان هً المبنٌة على العرؾ‪ ،‬ألنه بتؽٌر‬
‫األزمان تتؽٌر عادات الناس فتتبدل أعرافهم وتتؽٌر األحكام المبنٌة علٌها‪ ،‬أما‬
‫الحكام المبنٌة على نص قطعً الداللة فبل تتؽٌر أحكامها مهما تبدلت األزمان‪،‬‬
‫ألن دلٌلها ال ٌتؽٌر‪ ،‬ومن تطبٌقات ه ذه القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬كان خٌار الرؤٌة ٌسقط برؤٌة ؼرفة واحدة من ؼرؾ المنزل المبٌع‪ ،‬لجرٌان‬
‫أفتى‬ ‫العرؾ على بناء الدور على نمط واحد‪ ،‬ولمَّا تؽٌر العرؾ فً البناء‬
‫الفقهاء بعدم سقوط الخٌار برؤٌة ؼرفة واحدة‪ ،‬بل البد من رؤٌة كل الؽرؾ‪.‬‬
‫ـ ‪ 249‬ـ‬
‫‪ -‬ذهب أ بو حنٌفة إلى عدم لزوم تزكٌة الشهود فً دعوى المال‪ ،‬ما لم ٌطعن‬
‫لصبلح الناس فً زمانه‪ ،‬ولكن تؽٌر األحوال وفساد الذمم أدى‬
‫ِ‬ ‫فٌهم الخصوم‪،‬‬
‫بمن بعدَ هُ من الفقهاء إلى الفتوى بضرورة تزكٌة الشهود‪ ،‬لعدم مباالة الناس‬
‫بشهادة الزور‪.‬‬
‫سادسا ًا‪ -‬قواعد أخرى‪:‬‬
‫هذه القواعد ال تندرج ضمن القواعد الخمس الكبرى السابقة‪ ،‬وسنختار‬
‫منها األكثر تطبٌقا ً فً الواقع واألكثر حاجة للعلم به‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫مورد النص‪:‬‬ ‫َ‬
‫مساغ لالجتهاد فً ِ‬ ‫‪-1‬ال‬
‫االجتهاد ٌكون فً المسابل التً لم ٌرد فٌها نص صرٌح‪ ،‬أما ما ورد‬
‫فٌه نص صرٌح فبل ٌجوز االجتهاد فٌه‪ ،‬فورود نص بتحرٌم الربا ال ٌجٌز‬
‫االجتهاد لتحلٌله‪ ،‬وورود نص بأن للذكر مثل حظ االنثٌٌن فً المٌراث ال ٌجٌز‬
‫االجتهاد للمساواة بٌن الذكر واألنثى‪.‬‬
‫‪ -2‬ما ُح ِّرم أخذه ُح ِّرم إعطاوه‪:‬‬
‫إعطاء الشٌا المحرم للؽٌر وأخذه منه سواء فً الحرمة‪ ،‬ألن المطلوب‬
‫شرعا ً إزالة المحرمات‪ ،‬فإذا عجز اإلنسان عن إزالتها فبل أقل من امتناعه عن‬
‫المساهمة فً زٌادتها والمعاونة على وقوعها‪ ،‬ولهذا ال ٌجوز إعطاء الرشوة‬
‫وال أخذها‪ ،‬لحدٌث "لعن هللا الراشً والمرتشً"(‪ ،)1‬كما ال ٌجوز التعامل بالربا‬
‫أخذاً وإعطاءً‪ ،‬لحدٌث "لعن رسول هللا ‪ ‬آكل الربا وموكله" (‪ ،)2‬كما ال ٌجوز‬
‫للوصً أن ٌعطً شٌبا ً من مال الٌتٌم ‪ ،‬وال ٌجوز له أن ٌأخذ لنفسه منه إال‬
‫أجرته‪.‬‬

‫‪ٓ -1‬غ٘ذ جذٖ ق٘رَ‪ :‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.27477‬‬


‫‪ -2‬فك‪٤‬ف جُطشٓز‪ً :١‬طحخ جُر‪ٞ٤‬ع‪ ،‬ذحخ أًَ جُشذح‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.1206‬‬

‫ـ ‪ 250‬ـ‬
‫‪-3‬األصل فً األشٌاء اإلباحة‪:‬‬
‫هذه القاعدة تخص المعامبلت المالٌة فقط ال العبادات‪ ،‬فالشٌا الذي لم‬
‫ٌسبق وجود حكم شرعً جزبً له ‪ ،‬وال ٌوجد ما ٌدل على تحرٌمه ‪ٌ ،‬عتبر‬
‫مباحاً‪ ،‬ألن األصل اإلباحة حتى ٌثبت الحظر‪.‬‬
‫‪-4‬البٌنة على من ادعى والٌمٌن على من أنكر‪:‬‬
‫هذه القاعدة بلفظها حدٌث نبوي‪ ،‬والعقل كذلك ٌؤٌدها‪ ،‬ألن إدعاء‬
‫المدعِ ً مخالؾ للظاهر‪ ،‬ولهذا فهو ضعٌؾ وٌحتاج إلى بٌنة توٌده‪ ،‬وكبلم‬
‫المدعى علٌه موافق للظاهر‪ ،‬ولذا ال ٌحتاج إلى ما ٌقوٌه سوى الٌمٌن‪ ،‬وألن‬
‫َ‬
‫األصل براءة الذمة‪ ،‬وعلى المدعِ ً أن ٌثبت صحة دعواه بالبٌنة‪ ،‬فإن عجز‬
‫المدعى علٌه‪ ،‬وأساس القاعدة أن اإلدعاء ككل خبر‬
‫َ‬ ‫عن ا إلثبات فله تحلٌؾ‬
‫ٌحتمل الصدق والكذب‪ ،‬والبد من بٌنة ترجح أحد اإلحتمالٌن‪.‬‬
‫‪-5‬البٌنة حجة متعدٌة واإلقرار حجة قاصرة‪:‬‬
‫البٌنة هً ما ٌُظهر الشٌا‪ ،‬وتطلق ؼالبا ً على الشهادة‪ ،‬وهً حجة‬
‫متعدٌة تتجاوز المشهود علٌه إلى ؼٌره ممن له عبلقة بموضوع القضٌة‪ ،‬ألنها‬
‫حجة القضاء‪ ،‬والقاضً والٌته عامة‪ ،‬ولذا ال تقتصر الحجة على المحكوم علٌه‬
‫فقط‪ ،‬أما اإلقرار فهو إخبار اإلنسان عن حق علٌه آلخر‪ ،‬وهو حجة قاصرة‬
‫على المقِر‪ ،‬ال تتجاوزه إلى ؼٌره‪ ،‬لعدم والٌته علٌه‪ ،‬وإلحتمال كذب ال ُمقِر‬
‫وقٌامه بالتوأطؤ مع الم َقر له إلضاعة حق شخص آخر‪.‬‬
‫ومع هذا ٌقدم اإلقرار على البٌنة إذا اجتمعا‪ ،‬ألنه أقوى‪ ،‬وهذا ال ٌتنافى‬
‫مع القول بأن اإلقرار حجة قاصرة على المقر والبٌنة حجة متعدٌة‪ ،‬ألن‬
‫الضعؾ والقوة ٌختلفان عن التعدي واالقتصار‪ ،‬فاقتصار اإلقرار على ال ُمقِر ال‬
‫ٌنافً قوة اإلقرار‪ ،‬وضعؾ البٌنة ال ٌنافٌه كونها متعدٌة‪ ،‬ومن فروع هذه‬
‫ـ ‪ 251‬ـ‬
‫المورث فً مواجهة أحد‬
‫َ‬ ‫القاعدة أن الشخص لو أثبت بالبٌنة دٌنا ً له على‬
‫الورثة فالحكم به ٌسري فً حق بقٌة الورثة الذٌن لم ٌصدر الحكم فً‬
‫مواجهتهم‪ ،‬فإن صدر الحكم بنا ًء على إقرار وارث واحد فبل ٌسري فً حق‬
‫ؼٌره من الورثة‪.‬‬
‫‪-6‬إذا اجتمع المباشر والمتسبب أُضٌف الحكم إلى المباشر‪:‬‬
‫المباشر هو من أحدَث الضرر بفعله‪ ،‬والمتسبب هو من أحدث السبب‬
‫الذي أدى إلى إحداث الفعل الضار‪ ،‬فإن اجتمع المباشر والمتسبب كان الضمان‬
‫على المباشر‪.‬‬
‫‪ -‬فلو حفر إنسانٌ حفر ًة فً طرٌق عام‪ ،‬فألقى ؼٌره حٌوانا ً فٌها ض ِم َنه‪ ،‬ألنه‬
‫المباشر لئللقاء‪ ،‬وال شٌا على الحافر‪ ،‬ألن الحفر وحده ال ٌترتب علٌه تلؾ‬
‫الحٌوان لو لم ٌنضم إلٌه فعل المباشر وهو إلقاء الحٌوان‪ ،‬أما لو سقط الحٌوان‬
‫بنفسه فً الحفرة فالضمان على من حفرها‪.‬‬
‫لزمهم الضمان دون القاضً رؼم‬
‫‪ -‬إذا رجع الشهود عن شهادتهم بعد الحكم ِ‬
‫أنه المباشر‪ ،‬ألنه مجبرٌ على الحكم بعد شهادتهم‪ ،‬وٌأثم إن امتنع عن الحكم بعد‬
‫المكرهٌن له‪ ،‬ولو‬
‫ِ‬ ‫المكره على الحكم‪ ،‬والشهود هم‬
‫َ‬ ‫أدابهم للشهادة‪ ،‬ألنه بمثابة‬
‫لزم القاضً بالضمان المتنع الناس عن تولً القضاء‪ ،‬وهذا ال ٌحقق المصلحة‬ ‫ُ‬
‫أ ِ‬
‫العامة‪.‬‬
‫‪-7‬من استعجل شٌئا ًا قبل أوانه عوقب بحرمانه‪:‬‬
‫أساس هذه القاعدة سد الذرابع‪ ،‬ومعناها أن من ٌتخذ وسٌلة ؼٌر‬
‫مشروعة استعجاالً منه للحصول على مقصوده حُ ِرم منه جزا َء استعجاله‪ ،‬ومِن‬
‫ذلك حرمان الوارث من المٌراث إذا قتل مورثه ببل سبب مشروع‪ ،‬وحرمان‬
‫الموصى له من الوصٌة إذا قتل الموصِ ً ببل سبب مشروع‪.‬‬
‫َ‬
‫ـ ‪ 252‬ـ‬
‫الباب الثالث‬
‫النظرٌات الفقهٌة‬
‫النظرٌات هً المفاهٌم الكبرى التً ٌؤلؾ ك ٌل منه ا على حِدة نظاما ً‬
‫حقوقٌا ً منبثا ً فً الفقه متحكما ً فً كل ما ٌتصل بموضوعه‪ ،‬ودراستها مفٌدة فً‬
‫تكوٌن ال َملَ َكة الفقهٌة وجمْ ع ش َتات الفكرة‪ ،‬وسندرس هنا نظرٌات الحق‬
‫واألموال والملكٌة‪.‬‬
‫أوالًا‪ -‬نظرٌة الحق‪:‬‬
‫تعرٌفه‪:‬‬
‫معان عدة‪ ،‬ترجع كلها إلى الثبوت والوجوب‪ ،‬منها أنه‬
‫ٍ‬ ‫للحق فً اللؼة‬
‫من أسماء الهل الحسنى‪ ،‬والقرآن‪ ،‬وهو ضد الباطل‪ ،‬وقد ٌعنً األمر المقضً‪،‬‬
‫والعدل‪ ،‬والموجود الثابت‪ ،‬والصدق‪ ،‬والموت‪ ،‬واإلسبلم‪ٌ ،‬قال‪ :‬حق األمر إذا‬
‫وجب ووقع ببل شك (‪ ،)1‬ولم ٌبعد الفقهاء فً فهمهم للحق عن هذا المعنى‬
‫أضفى علٌه‬ ‫اللؽوي‪ ،‬حٌث عرفه البعض بأنه الحكم الذي قرره الشارع و‬
‫مستحقة شرعا ً(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫حماٌته‪ ،‬وعرفه آخرون بأنه مصلحة‬
‫أقسام الحقوق‪:‬‬
‫‪-1‬حق هللا‪ :‬وهو ما ٌتعلق به النفع العام دون اختصاص أحد بعٌنه‪ ،‬ونسبته إلى‬
‫هللا قُصد بها اإلعبلء من شأنه‪ ،‬ومثاله العبادات والكفارات وحرمة الزنا‪ ،‬وهذا‬
‫الحق ال ٌمكن ألحد اسقاطه أو التنازل عنه(‪ )3‬كعقوبة السرقة والزنا‪ ،‬ألنه ُ‬
‫ش ِرع‬
‫لمصلحة عامة‪ ،‬ال ٌشوبُها ؼرض شخصً‪ ،‬وال ٌستباح هذا الحق ب إ باحة أحد‬

‫‪ -1‬جُضذ‪٤‬ذ‪ :١‬ؼ‪ ،6‬ؿ‪.513‬‬


‫‪ -2‬أٗظش جُغش‪٣‬ط‪ :٢‬ؿ‪ٓٝ 12‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح ‪ٝ‬جُٔشجؾغ جُط‪ ٢‬أؽحس ئُ‪ٜ٤‬ح‪.‬‬
‫‪ -3‬جذٖ ض‪٤ٔ٤‬س‪ :‬ؿ‪.34-32‬‬

‫ـ ‪ 253‬ـ‬
‫له‪ ،‬فلو أباحت امرأة ألحد أن ٌزنً بها فالحرمة رؼم ذلك باقٌة‪.‬‬
‫‪ -2‬حق العبد‪ :‬وهو ما ٌتعلق به مصلحة خاصة (‪ ،)1‬كحق الدٌة وبدل المتلفات‬
‫وبدل المؽصوب‪ ،‬وهذا الحق ٌستباح بإباحة مالكه له‪ ،‬وٌجوز له اسقاطه‬
‫والتنازل عنه‪.‬‬
‫‪ -3‬ما اجتمع فٌه الحقان وحق هللا هو الؽالب ‪ :‬كحد القذؾ‪ ،‬ألن فٌه نفعا ً عاماً‪،‬‬
‫وهو منع الفساد ‪ ،‬وهذا حق هلل‪ ،‬وفٌه حماٌة لعرض المقذوؾ ‪ ،‬وهذا حق للعبد‪،‬‬
‫لكن حق هللا هو الؽالب عند األحناؾ‪ ،‬ولهذا ال ٌسقط حد القذؾ باسقاط‬
‫المقذوؾ له‪ ،‬بٌنما عند الجمهور حق العبد هو الؽالب‪ ،‬ولذا ٌسقط الحد باسقاطه‬
‫له‪.‬‬
‫‪ -4‬ما اجتمع فٌه الحقان وحق العبد هو الؽالب‪ :‬ومثاله القصاص‪ ،‬ففٌه حق هلل‬
‫لنفعه العام‪ ،‬وهو منع الفساد‪ ،‬وفٌه حق للعبد وهو االستمتاع بالحٌاة‪ ،‬لكن حق‬
‫العبد هو الؽالب‪ ،‬ولهذا لولً الدم العفو عن القصاص‪.‬‬
‫وٌرى األحناؾ أن حق هللا وحق العبد إذا اجتمعا فً شٌا و ُن ِّفذ أحدهما‬
‫سقط اآلخر‪ ،‬ولهذا قالوا ال ٌجتمع فً السرقة قطعٌ وضمان‪ ،‬وال ٌجتمع ح ٌّد‬
‫وصداق فً إكراه على الزنا‪ ،‬بٌنما ٌرى ؼٌرهم عدم التنافً بٌن الحقٌن‪ ،‬فبل‬
‫ٌمنع تنفٌذ أحدهما من تنفٌذ اآلخر‪.‬‬
‫الحقوق المالٌة وغٌر المالٌة‪:‬‬
‫الحقوق المالٌة هً المتعلقة باألموال ومنافعها‪ ،‬كحق تملك األشٌاء‬
‫والدٌون والمنافع‪ ،‬والحق المالً ٌكون شخصٌا ً إذا قرره الشارع لشخص على‬
‫شخص آخر‪ ،‬كحق المشتري فً تسلم المبٌع من البابع‪ ،‬وحق البابع فً تسلم‬

‫‪ -1‬جُٔشؾغ جُغحذن‪ :‬ؿ‪.72‬‬

‫ـ ‪ 254‬ـ‬
‫الثمن من المشتري‪ ،‬وٌكون حقا ً عٌنٌا ً إذا قرره الشارع لشخص على شٌا‪،‬‬
‫كحق المؽصوب منه نحو الشٌا المؽصوب‪.‬‬
‫والحقوق ؼٌر المالٌة هً التً ال تتعلق بالمال‪ ،‬كالحقوق العابلٌة‬
‫كوالٌة األب على ابنه وسلطته على زوجته وحق األم فً حضانة ابنها وحق‬
‫الصؽٌر على والده فً أن ٌربٌه‪ ،‬وتلحق الحقوق السٌاسٌة بالحقوق ؼٌر‬
‫المالٌة‪.‬‬
‫الحقوق التً تقبل االسقاط والتً ال تقبله‪:‬‬
‫األصل أن الحقوق تسقط باسقاطها من قِبل صاحب الحق‪ ،‬واستثنا ًء‬
‫هناك أحوال معٌنة ال تسقط فٌها الحقوق ولو أعلن ذلك صاحبها وهً‪:‬‬
‫‪ -‬عدم وجوب الحق ْ‬
‫بعد‪ ،‬كإسقاط الزوجة نفقتها التً لم ٌدخل وقتها‪.‬‬
‫‪ -‬اعتبار الشارع وصفا ً معٌنا ً فً صاحب الحق مبلزما ً له ال ٌنفك عنه‪،‬‬
‫كإسقاط األب حقه فً الوالٌة على الصؽٌر‪ ،‬فإن الحق ال ٌسقط بإسقاط األب له‬
‫أو سكوته عن اشتراطه‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان فً االسقاط تؽٌٌر لؤلوضاع الشرعٌة‪ ،‬كإسقاط المطلِّق رجعٌا ً حقه‬
‫فً مراجعة زوجته‪.‬‬
‫على حقوق الؽٌر‪ ،‬كإسقاط الحاضنة حقها فً‬ ‫‪ -‬إذا كان االسقاط ٌؤثر‬
‫الحضانة‪ ،‬ألن للصؽٌر حقا ً فً الحضانة‪ ،‬وح ُّقه مقدم على حق ؼٌره‪ ،‬وكذلك‬
‫اسقاط المسروق منه حقه فً حد السرقة‪ ،‬واسقاط المطلِّق حقه فً عدة مطلقته‪،‬‬
‫ألن هلل تعالى حقا ً فً حد السرقة والعدة‪ ،‬وحقه أؼلب من حق العبد‪ ،‬فٌقدم‬
‫علٌه‪.‬‬
‫استٌفاء الحقوق‪:‬‬
‫ُستوفى حق هللا بأدابه كامبلً إن أ َّداه من وجب علٌه مختاراً أو استوفاه‬
‫ٌ ْ‬
‫ـ ‪ 255‬ـ‬
‫ولً األمر جبراً عنه‪ ،‬متى كان حقا ً مالٌا ً كالزكاة‪ ،‬فإن كان حق هللا بالكؾ عن‬
‫المحارم تحقق بتركها وعقاب المعتدي علٌها‪ ،‬وال ٌُوقِع العقوبة إال ولً األمر‪،‬‬
‫وٌستوفٌها كاملة‪ ،‬وال تجوز الشفاعة فٌها‪.‬‬
‫إٌاه‬ ‫أما حق العبد فعلى صاحبه استبلمه ممن وجب علٌه إن سلمه‬
‫مختاراً‪ ،‬فإن امتنع وظفر صاحب الحق بذات حقه أو جنس حقه وخشِ ًَ من‬
‫نشوء فتنة فلٌس له ذلك إال بقضاء القاضً منعا ً للنزاع‪ ،‬فإن ظفر بجنس حقه‬
‫قاض عند الجمهور‪،‬‬
‫أو ذاته دون خشٌة فتنة أو عداوة فله استٌفاؤه دون قضاء ٍ‬
‫ولٌس له ذلك إال بقضاء القاضً عند المالكٌة‪ ،‬ألن الرسول ‪ ‬لما جاءته هند‬
‫بنت عتبة ُم َّدعٌة أن زوجها أبا سفٌان رج ٌل شحٌح‪ ،‬ال ٌعطٌها ما ٌكفٌها وولدها‬
‫‪ ‬لها‪" :‬خذي ما ٌكفٌك وولدك‬ ‫إال ما أخذت منه وهو ال ٌعلم‪ ،‬قال‬
‫بالمعروؾ"(‪ ،)1‬فد َّل هذا على أن من ظفر بحقه ال ٌستوفٌه إال بحكم القاضً‪،‬‬
‫وذهب ؼٌر المالكٌة إلى أن له ذلك‪ ،‬ألن هندَ أفتاها الرسول ‪ ‬بجواز أن تأخذ‬
‫حقها‪ ،‬وهذه فتوى عامة ولٌست حكما ً قضابٌاً‪ ،‬إذ لو كانت حكما ً قضابٌا ً لبلَّػ‬
‫المدعى علٌه بالدعوى وطلب البٌنة من المدعً‪.‬‬
‫التعسف فً استعمال الحق‪:‬‬
‫ٌتحقق التعسؾ إذا ثبت لئلنسان حق لكنه لم ٌلتزم الحدود المشروعة‬
‫فً استخدامه‪ ،‬بل ألحق بنفسه أو بؽٌره ضرراً‪ ،‬والتعسؾ حرام‪ ،‬وهو ٌتحقق‬
‫بأحد األسباب التالٌة‪:‬‬
‫‪ -‬أن ٌقصد من استعمال حقه اإلضرار بؽٌره‪ ،‬كإمساك الزوجة أو السفر بها‬
‫بقصد اإلضرار بها‪ ،‬أو الوصٌة لئلضرار بالورثة أو الدابنٌن‪ ،‬واإلقرار بدٌْن‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جُ٘غحت‪ً :٢‬طحخ آدجخ جُونحز‪ ،‬ذحخ هنحء جُكحًْ ػِ‪ ٠‬جُـحتد ئرج ػشك‪ ،ٚ‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.5420‬‬

‫ـ ‪ 256‬ـ‬
‫ؼٌر صحٌح لئلضرار بالورثة‪ ،‬أو طبلق المرٌض زوجته طبلقا ً بابنا ً لحرمانها‬
‫من المٌراث‪.‬‬
‫‪ -‬أن ٌقصد من استعمال الحق ؼرضا ً ؼٌر مشروع‪ ،‬كتزوجه المرأة لتحلٌلها‬
‫آلخر‪.‬‬
‫مساو‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬أن ٌترتب على استعمال الحق ضرر أكبر من المصلحة المقصودة أو‬
‫لها‪ ،‬كاحتكار السلع بقصد رفع السعار‪ ،‬وبٌْع السبلح لقطاع الطرق‪ ،‬وبٌع‬
‫العنب لمن ٌعصرُ ه خمراً‪ ،‬فإن كان الضرر قلٌبلً فبل ٌُمنع صاحب الحق من‬
‫استعماله‪ ،‬كالمصلحة من وراء تحدٌد النسل بحجة حماٌة االقتصاد وتوفٌر‬
‫الؽذاء للسكان‪.‬‬
‫إضرار بالؽٌر‪،‬‬ ‫‪ -‬أن ٌترتب على استعمال الحق استعماالً ؼٌر مالوؾ‬
‫كاستبجار سٌارة وتحمٌلها ما ال تطٌقه فتتلؾ‪ ،‬أو إحراق شٌا فً أرضه عند‬
‫اشتداد الرٌح فتتضرر مزروعات جاره‪ ،‬فإن استعمل حقه استعماالً مألوفا ً فله‬
‫ذلك‪ ،‬كالطبٌب ٌُجري عملٌة جراحٌة ِو ْفق أصول المهنة لكن المرٌض ٌموت‪.‬‬
‫‪ -‬أن ٌصٌب الؽٌر ضرر لعدم االحتٌاط فً استعمال الحق‪ ،‬كمن ٌصوِّ ب بندقٌة‬
‫إلى صٌْد فتنحرؾ الطلقة وتقتل إنساناً‪ ،‬أو من ٌرى خٌاالً فً ُ‬
‫ظ ْلمة فٌظنه‬
‫صٌداً فٌرمٌه وٌقتله فإذا به إنسان‪ ،‬أما لو أُتخذت االحتٌاطات فله استعمال‬
‫حقه‪ ،‬كوضْ ع الفتات بعدم االقتراب‪ ،‬فمن ٌصاب عندبذ فهو المخطا‪.‬‬
‫فعلَى المتعسؾ جبره‪ ،‬وٌكون ذلك‬
‫فإن حدث من جراء التعسؾ ضرر َ‬
‫بإزالة الضرر‪ ،‬كإزالة الجدار الذي س َّد الضوء عن مسكن الجار‪ ،‬أو التعوٌض‬
‫كمن أتلؾ نفسا ً أو عضواً خطأ‪ ،‬أو بإبطال التصرؾ كزواج التحلٌل‪ ،‬أو بالمنع‬
‫من استعمال الحق‪ ،‬كمن أراد السفر بزوجته بقصد اإلضرار بها‪ ،‬أو بعقابه‪،‬‬
‫كعقاب رافعً الدعاوى الكٌدٌة بقصد التشهٌر بالناس‪.‬‬
‫ـ ‪ 257‬ـ‬
‫ثانٌا‪ -‬نظرٌة األموال‪:‬‬
‫المال ً‬
‫لؽة ما ٌحوزه اإلنسان فعبلً من حٌوان وعقار ونبات ونقود‬
‫وؼٌرها‪ ،‬أما ما ال ٌحوزه كالطٌر فً الهواء والصٌد فً الصحراء والسمك فً‬
‫الماء فبل ٌسمى ماالً (‪ ،)1‬واصطبلحا ً هو ما ٌمكن حٌازته واالنتفاع به انتفاعا ً‬
‫معتاداً‪ ،‬ؾما ال ٌُحاز كالهواء وحرارة الشمس والذكاء والعدالة‪ ،‬وما أمكن‬
‫حٌازته ولكن ال ٌمكن االنتفاع به كاألطعمة الفاسدة ولحم المٌتة وتذكرة الطابرة‬
‫بعد استعمالها‪ ،‬وما أمكن حٌازته ولكن ال ٌمكن االنتفاع به انتفاعا ً ٌُعتد به‬
‫الناس كقطرة ماء وحبة قمح فبل ٌسمى ماالً‪ ،‬وال ٌشترط حٌازة الشٌا فعبلً‬
‫لٌكون ماالً‪ ،‬بل الشرط إمكان حٌازته‪ ،‬ولهذا تعتبر الطٌور والحٌوانات الهابمة‬
‫فً الصحراء أمواال(‪.)2‬‬
‫تقسٌمات األموال‪:‬‬
‫‪ -1‬تقسٌم المال بحسب الضمان إلى مال متقوم وغٌر متقوم‪:‬‬
‫فالمتقوم ما له قٌمة فً نظر الشرع‪ ،‬وٌشمل ما ٌُباح االنتفاع به حال‬
‫السِّعة واالختٌار وحٌِز بالفعل كالنقود والبٌوت واألراضً المملوكة ألصحابها‪.‬‬
‫وؼٌر المتقوم ما ٌجوز االنتفاع به قبل حٌازته‪ ،‬كالمعادن فً باطن‬
‫األرض والسمك فً الماء‪ ،‬وكذلك المال الذي حٌِز بالفعل لكن الشرع حرَّ م‬
‫إذ ال‬ ‫االنتفاع به حال السِّعة واالختٌار ‪ ،‬كالخمر والخنزٌر بالنسبة للمسلم‪،‬‬
‫ٌجوز له االنتفاع بهما إال فً حال الضرورة‪ ،‬وؼٌر المسلم هما مال متقوم‬
‫بالنسبة له عند الحنفٌة‪ ،‬ألننا أُمِرْ نا بتركِهم وما ٌدٌنون‪ ،‬وعند الجمهور هما مال‬
‫ؼٌر متقوم بالنسبة له‪ ،‬ألنهم مأمورون بأن تكون معامبلتهم على ِو ْفق معامبلت‬

‫‪ -1‬جُضذ‪٤‬ذ‪ :١‬ؼ‪ ،8‬ؿ‪.131‬‬


‫‪ -2‬أٗظش جُغش‪٣‬ط‪ :٢‬ؿ‪ٝ 35‬جُٔشجؾغ جُط‪ ٢‬أؽحس ئُ‪ٜ٤‬ح‪.‬‬

‫ـ ‪ 258‬ـ‬
‫المسلمٌن‪ ،‬ألن لهم ما للمسلمٌن وعلٌهم ما علٌهم‪.‬‬
‫وثمرة اعتبار المال متقوما ً أو ؼٌر متقوم تتمثل فً أن العقود المالٌة‬
‫ترد على مال متقوم‪ ،‬فإن كان محلها مال ؼٌر متقوم َ‬
‫بط َل العقد‪ ،‬ولهذا‬ ‫البد أن ِ‬
‫ال ٌصح بٌع الموال المباحة وال هبتها ‪ ،‬وال بٌع الخمر والخنزٌر من ؼٌر‬
‫المسلم (وهذا عند الجمهور) وٌصح بٌعهما من الذمًِّ (عند الحنفٌة) لتقومها‬
‫بالنسبة له‪.‬‬
‫‪ -2‬تقسٌم المال باعتبار الثبات إلى منقول وعقار‪:‬‬
‫المنقول ما ٌمكن نقله من مكان آلخر‪ ،‬كالنقود والحٌوانات والسٌارات‬
‫وكل شٌا ما عدا األرض‪ ،‬والعقار عند الجمهور هو كل ما ال ٌمكن نقله من‬
‫مكان آلخر مطلقاً‪ ،‬وهو بهذا ٌشمل األرض فقط مبنٌة أم ال‪ ،‬أما البناء والشجر‬
‫القابمٌن علٌها فلٌسا من العقارات‪ ،‬أما المالكٌة فالعقار عندهم هو ما ال ٌمكن‬
‫نقله من مكان آلخر مع بقاء هٌبته وشكله‪ ،‬وعلى هذا ٌُعتبر البناء واألشجار‬
‫من العقار إلتصالهما باألرض وعدم إمكان نقلهما مع بقاء شكلهما ‪ ،‬بل إنهما‬
‫ٌتؽٌران فٌصبح الشجر حطبا ً والبناء أنقاضا ً‪.‬‬
‫وٌتمثل أثر التمٌٌز بٌن العقار والمنقول فً أن ال ُّش ْف َعة تثبت فً العقار‬
‫دون المنقول‪ ،‬وعند بٌع أموال القاصر سداداً لدٌونه على الوصً أن ٌبدأ ببٌع‬
‫المنقوالت قبل العقار‪ ،‬وكذلك عند بٌع مال المدٌن المحجور علٌه سداداً لدٌنه‪،‬‬
‫كما ال ٌجوز بٌع المنقول قبل قبضه بإتفاق الفقهاء ‪ ،‬لحدٌث " من ابتاع طعاما ً‬
‫فبل ي ِبعْ ُه حتى يقبضْ ه"(‪ ،)1‬أما العقار فبل ٌجوز بٌعه قبل القبض إال عند‬
‫هلك قبل القبض َ‬
‫بط َل‬ ‫الشٌخان‪ ،‬ألن المنقو ل ٌعرُض له الهبلك كثٌراً‪ ،‬فإن َ‬

‫‪ -1‬عٖ٘ جُذجسٓ‪ً :٢‬طحخ جُر‪ٞ٤‬ع‪ ،‬ذحخ جُ٘‪ ٢ٜ‬ػٖ ذ‪٤‬غ جُطؼحّ هرَ جُورل‪ ،‬قذ‪٣‬ع سهْ ‪.2559‬‬

‫ـ ‪ 259‬ـ‬
‫البٌع‪ ،‬فكان التصرؾ فٌه محت ِمبلً للبطبلن‪ ،‬فصار من االحتٌاط اإلنتظار إلى‬
‫حٌن قبضه‪.‬‬
‫‪-3‬تقسٌم المال من حٌث التماثل إلى مِثلً وقٌِمً‪:‬‬
‫المثلً هو ما تماثلت أفراده ولم تتفاوت تفاوتا ً ٌعتد به‪ ،‬أي ما له نظٌر‬
‫فً األسواق‪ ،‬كالمكٌبلت والموزونات والمعدودات كالفواكه واألقمشة والكتب‬
‫أفراده‬ ‫صنِع بواسطة آلة‪ ،‬والقٌمً ما تفاوتت‬
‫ذات الطبعة الواحدة وكل ما ُ‬
‫تفاوتا ً ٌُعتد به كالحٌوانات ولو كانت متحدة الجنس والمنازل والحُ لً واألثاث‪،‬‬
‫نظراً الختبلفها فً المزاٌا من حٌث المادة والحجم والصفات‪.‬‬
‫والتفرقة بٌن المثلً والقٌمً من نتابجها أن المثلً ٌجب بإتبلفه ْ‬
‫مثلُه ال‬
‫ال قٌمته‪ ،‬ألنه المعادِل له‪ ،‬أما القٌمً فؤلنه ال مثٌل له فٌكون الضمان بقدر‬
‫قٌمته‪ ،‬كما أن األموال القٌمٌة ال تعتبر أمواالً ربوٌة لعدم تساوٌها ولو كانت‬
‫من جنس واحد‪ ،‬ولذا ٌجوز بٌع الكثٌر منها فً مقابل القلٌل من جنسه‪ ،‬كبٌع‬
‫شاة بشاتٌن‪ ،‬وٌختص الربا باألموال المثلٌة فقط‪.‬‬
‫‪-4‬تقسٌم المال باعتبار مالكه إلى مال عام ومال خاص‪:‬‬
‫ذ‬ ‫األموال الخاصة هً ما دخلت فً م ِْلك أحد معٌّن‪ ،‬وٌحق له عندئ‬
‫التصرؾ فٌها بكل ما هو مشروع‪ ،‬وله منع الؽٌر من ذلك إال بإذنه‪ ،‬واألموال‬
‫العامة هً ما ال تدخل فً م ِْلك أحد معٌن‪ ،‬وٌحق عندبذ لكل فرد اإلنتفاع بها‬
‫دون التصرؾ فٌها للؽٌر‪ ،‬والمال الخاص قد ٌتحول إلى عام ب إرادة المالك‬
‫كو ْقفِه ألرضه لبناء مسجد‪ ،‬أو جبراً عنه كما لو ُن ِزعت ملكٌة أرضه لجعْ لها‬
‫مسجداً أو طرٌقاً‪ ،‬وقد ٌتحول المال العام إلى خاص‪ ،‬كما لو أزٌل الوقؾ عن‬
‫األرض المخصصة مقبرة أو أ ُعٌدت األرض المنزوعة ملكٌتها للمصلحة‬
‫العامة إلى مالكها السابق‪.‬‬
‫ـ ‪ 260‬ـ‬
‫ثالثا ًا‪ -‬نظرٌة الملكٌة‪:‬‬
‫الملكٌة ً‬
‫لؽة حٌازة اإلنسان المال مع اإلنفراد بالتصرؾ فٌه (‪ ،)1‬وشرعا ً‬
‫هً عبلقة شرعٌة بٌن اإلنسان والمال تجعله مختصا ً به اختصاصا ً ٌمنع ؼٌره‬
‫عنه وٌم ِّكنه من التصرؾ فٌه بكل ما هو جابز شرعا ً(‪.)2‬‬
‫أنواع الملك‪:‬‬
‫أوال‪ٌ -‬تنوع إلى ملكٌة ع ٌْن ومنفعة ود ٌْن‪:‬‬
‫فمِلك العٌن‪ ،‬وٌسمى مِلك الرقبة‪ ،‬هو أن ٌكون المِلك وارداً على ذات‬
‫الشٌا‪ ،‬كاألموال المنقولة من حٌوانات وآالت‪ ،‬وكملك العقارات‪ ،‬ومِلك المنفعة‬
‫هو أن ٌكون للمالك حق اإلفادة فقط من الشٌا مع المحافظة على عٌنه‪ ،‬مثل‬
‫ملك السكنى واستعمال األدوات وقراءة الكتب بطرٌق اإلعارة أو اإلجارة‪،‬‬
‫كبدل القرض وقٌمة‬
‫ِ‬ ‫ومِلك الدٌن ٌكون إذا ثبت لشخص فً ذمة آخر ٌ‬
‫مبلػ مالً‬
‫ما أتلفه الشخص من مال ؼٌره وثمن ما اشتراه منه‪.‬‬
‫ومِلك العٌن ٌعنً كأ صل ملكٌة المنفعة دون العكس‪ ،‬ألن الشخص قد‬
‫ٌملك منفعة الشٌا دون ملكه لعٌنِه كالعٌن المستأجرة‪.‬‬
‫ثانٌا ًا‪ٌ -‬تنوع إلى ملك تام وملك ناقص‪:‬‬
‫الملكٌة إما أن تقع على ذات الشٌا ومنافعه معاً‪ ،‬بحٌث ٌثبت معها‬
‫للمالك كل الحقوق المشروعة‪ ،‬وٌكون مِلكه تاماً‪ ،‬أو تقع على منافع الشٌا فقط‬
‫أو على ذاته فقط‪ ،‬وتسمى مِلكا ً ناقصاً‪ ،‬وهذا على أنواع ثبلثة هً‪:‬‬
‫‪-1‬ملك الرقبة أو العٌن فقط‪:‬‬
‫ٌتحقق عندما تكون العٌن مملوكة لشخص والمنفعة مملوكة آلخر‪ ،‬وهو‬

‫‪ -1‬جُضذ‪٤‬ذ‪ :١‬ؼ‪ ،7‬ؿ‪.189‬‬


‫‪ -2‬جذٖ جُ‪ٜٔ‬حّ‪ :‬ؼ‪ ،5‬ؿ‪ٝ ،74‬جٗظش جُغش‪٣‬ط‪ :٢‬ؿ‪ٓٝ 43‬ح ذؼذ‪ٛ‬ح‪.‬‬

‫ـ ‪ 261‬ـ‬
‫أقل أنواع الملك الناقص وجوداً‪ ،‬ألنه جاء على خبلؾ األصل فً الملكٌة‪ ،‬ألن‬
‫المقصود من ملك العٌن االنتفاع بها‪ ،‬فإذا ثبت ملكها دون االنتفاع بها كان ذلك‬
‫شاذاً‪ ،‬إال أنه أُجٌز تشجٌعا ً على أعمال البر عند نهاٌة الحٌاة‪ ،‬وهو ٌثبت فً‬
‫صورتٌن من الوصٌة‪ ،‬هما‪:‬‬
‫‪ -‬أن ٌُوصً المالك بمنفعة العٌن لشخص مدة معلومة‪ ،‬فإن م ِْلك العٌن بعد‬
‫موت الموصً ٌنتقل إلى ورثته‪ ،‬ومِلك المنفعة ٌنتقل إلى الموصى له‪ ،‬وعلى‬
‫أجبروا على ذلك‪ ،‬وبعد انتهاء مدة‬
‫للموصى له‪ ،‬فإن امتنعوا ِ‬
‫َ‬ ‫الورثة تسلٌم العٌن‬
‫الوصٌة تعود ملكٌة االنتفاع للورثة‪ ،‬وٌصبح ملكهم تاما ً‪.‬‬
‫‪ -‬إذا أوصى بملكٌة الرقبة لشخص وبمنفعة ذات الشٌا آلخر‪ ،‬وبعد موته َق ِب َل‬
‫ك ٌّل منهما الوصٌة‪ ،‬فإن م ِْلك كل منهما ٌكون ناقصاً‪ ،‬و ُتسلَّم العٌن للمنتفع‬
‫لٌستوفً حقه‪ ،‬فإن انتهت مدة الوصٌة عادت لمالك العٌن وأصبح ملكه تاما ً‪.‬‬
‫وفً هذا النوع من الملك لٌس لصاحب الرقبة االنتفاع بها أو التصرؾ‬
‫كهدم البٌت مثبلً‪ ،‬وال ٌزول ملك الرقبة‬
‫فٌها على وجه ٌضر بمالك المنفعة ْ‬
‫بموته بل تنتقل ملكٌة الرقبة لورثته‪ ،‬فإن هلكت العٌن زال ملكه‪ ،‬أما مِلك‬
‫االنتفاع فبل ٌزول بتملٌك العٌن للؽٌر‪ ،‬إذ لمالك العٌن بٌعها لؽٌر مالك المنفعة‪،‬‬
‫ولو دون رضاه‪ ،‬وإذا أتلفها صاحب العٌن فعلٌه ضمان قٌمة المنفعة لمالك‬
‫المنفعة‪ ،‬أما النفقات البلزمة إلستٌفاء المنفعة وضراببها فتكون على مالك‬
‫المنفعة‪.‬‬
‫‪ -2‬ملك المنفعة فقط وحق االنتفاع شخصً‪:‬‬
‫هو اختصاص ٌبٌح لمن ثبت له استٌفاء المنفعة بنفسه أو تمكٌن الؽٌر‬
‫منها بع َِوض أو بدونه ‪ ،‬ما لم ٌوجد مانع شرعً ‪ ،‬أو ٌُنص فً العقد على ؼٌر‬
‫ذلك‪ ،‬و أسباب هذا المِلك هً اإلباحة من المالك‪ ،‬والعقود الواردة على المنافع‬
‫ـ ‪ 262‬ـ‬
‫كاإلجارة واإلعارة والوقؾ والوصٌة بالمنافع‪ ،‬واإلذن العام كاالنتفاع بالمرافق‬
‫المخصصة للمنفعة العامة كالطرق والمدارس والمصحات‪ ،‬وهذا النوع من‬
‫الملك من خصابصه قبول التقٌٌد بالزمن والمكان والصفة‪ ،‬كمن أعار سٌارته‬
‫آلخر فله أن ٌقٌد انتفاعه بها بمدة شهر أو سنة‪ ،‬وأن ٌحدد مكان سٌره بها‪،‬‬
‫واألشخاص الذٌن ٌركبونها‪ ،‬وٌضمن مالك المنفعة قٌمة العٌن إذا تع َّدى علٌها‪،‬‬
‫كما ٌضمن نقصانها بتعدٌه علٌها‪ ،‬ألنه تع َّدى على مِلك ؼٌره‪ ،‬وتكون نفقات‬
‫االنتفاع بالعٌن وصٌانتها على مالك المنفعة إذا ملَ َكها مجاناً‪ ،‬ألن ال ُؽ ْنم بال ُؽرْ م‪،‬‬
‫وهذا عند األحناؾ‪ ،‬وعند الجمهور النفقات على مالك العٌن‪ ،‬ألن التبرعات‬
‫بؽٌر عِ َوض‪ ،‬فلو أُلزم بالنفقات صارت بعِوض‪ ،‬فإن مل َكها بعِوض كانت‬
‫النفقات على حسب ما ُنصّ علٌه فً العقد‪.‬‬
‫وٌنتهً ملك المنفعة بانقضاء مدة االنتفاع إن كان منصوصا ً علٌها فً‬
‫العقد‪ ،‬كما ٌنتهً هذا المِلك بهبلك العٌن المنتفع بها أو تعٌبها بعٌب ٌتعذر معه‬
‫تعطل محرك السٌارة‪ ،‬وعند‬‫استٌفاء المنفعة‪ ،‬كما لو انهدم المنزل المستأجر أو َّ‬
‫انتهاء هذا الحق على المنتفع تسلٌم العٌن إلى مالكها ما لم ٌُلحق به ذلك‬
‫ضرراً‪ ،‬كأن انتهت المدة المحددة لبلنتفاع باألرض والزرع لم ٌنضح بعد‪،‬‬
‫ونظٌر هذا استبجار سٌارة مدة معلومة وانتهاء المدة قبل الوصول إلى المكان ‪،‬‬
‫فإن العٌن تبقى فً ٌد المنتفع‪ ،‬وٌجب علٌه أجر المِثل‪.‬‬
‫‪ -3‬حق االنتفاع العٌنً‪:‬‬
‫هو حق متعلق باألعٌان ال األشخاص‪ ،‬فهو ٌتقرر للعٌن وٌظل معها‬
‫ولو انتقلت ملكٌتها للؽٌر‪ ،‬وهو بهذا بخبلؾ حق االنتفاع الشخصً الذي ٌثبت‬
‫لشخص وكان لشخصه دخ ٌل فٌه كالوصٌة لفبلن‪ ،‬وٌُسمى حق االنتفاع العٌنً‬
‫حق اإلرتفاق‪ ،‬وهو ٌثبت لعقار على عقار آخر مالكه ؼٌر مالك العقار الذي له‬
‫ـ ‪ 263‬ـ‬
‫حق اإلرتفاق‪ ،‬وهو بهذا ٌشمل حقوق الشرب والمجرى والمسٌل والمرور‪.‬‬
‫أنواع حق اإلرتفاق‪:‬‬
‫‪-1‬حق الشرب‪ :‬هو حق الحصول على نصٌب من الماء لسقً األرض أو‬
‫الدواب‪.‬‬
‫‪ -2‬حق المجرى‪ :‬هو أن ٌكون لشخص حق إجراء الماء فً مِلك الؽٌر لٌصل‬
‫إلى مِلكه إلستٌفاء حق الشرب‪.‬‬
‫‪ -3‬حق ال َمسٌل‪ :‬هو حق صرؾ الماء الز ابد عن الحاجة أو بعد استعماله فً‬
‫الم صرؾ العام‪ ،‬سواء كان ظاهراً أم بواسطة أنابٌب فً باطن الرض‪ ،‬وهو‬
‫ٌخالؾ حق المجرى‪ ،‬ألنه لصرؾ المٌاه وذاك لجلبها‪.‬‬
‫‪ -4‬حق المرور‪ :‬هو أن ٌكون للشخص حق السٌر فً ملك ؼٌره لٌصل إلى‬
‫ملكه‪.‬‬
‫‪ -5‬حقوق الجوار‪ :‬وهً نوعان‪:‬‬
‫أ‪-‬حق الجوار الجانبً‪ :‬وٌتمثل فً امتناع الجار عن أن ٌحدث فً بنابه عمبلً‬
‫برضه جداراً ٌمنع الهواء والضوء‬
‫ٌضر بجاره ضرراً ال ٌُحْ تمل‪ ،‬كأن ٌُحدِث أ‬
‫عن جاره أو ٌستعمل آلة تقلق راحته أو توهن مبانٌه‪ ،‬فإن فعل شٌبا ً من ذلك أثِم‬
‫دٌانة‪ ،‬ولكن لٌس للجار عند الشافعٌة والحنابلة ومتقدمً الحنفٌة منعه من هذا‬
‫التصرؾ‪ ،‬ألنه ٌتصرؾ فً ملكه‪ ،‬بٌنما له ذلك عند المالكٌة ومتأخري الحنفٌة‪،‬‬
‫ألنه أحدث فعبلً أضر بالؽٌر‪ ،‬فكان متعسفا ً فً استعمال حقه‪ ،‬هذا ومعٌار‬
‫الضرر هنا هو العرؾ السابد‪ ،‬فاستعمال آلة فً منطقة صناعٌة لٌس ضرراً‬
‫بٌنما هو فً حً مأهول ضرر فاحش‪.‬‬
‫ب‪ -‬حق التعلً‪ :‬هو أن ٌكون لئلنسان الحق فً تعلٌة بنابه على بناء ؼٌره على‬
‫وجه الدوام واالستقرار‪ ،‬وعلى ك ّل من صاحب ال ُّس ْفل وصاحب الع ِْلو عدم‬
‫ـ ‪ 264‬ـ‬
‫اإلضرار بجاره‪ ،‬فلٌس لصاحب السفل أن ٌُحدث بمِلكه ما ٌضر صاحب العلو‪،‬‬
‫كأن ٌُحدث فٌه ما ٌوهِن أساس المبنى‪ ،‬ولٌس لصاحب العلو تحمٌل المبنى ما‬
‫ال ٌطٌقه‪ ،‬كً ال ٌنهدم بناء صاحب السفل‪ ،‬أو ٌدق على السقؾ دقا ً شدٌداً‬
‫ٌزعجه‪ ،‬ولٌس ألحدهما هدم بناءه تعدٌا ً لئلضرار باآلخر‪ ،‬فإن فعل أُجبر على‬
‫إعادته‪ ،‬لٌتمكن اآلخر من استٌفاء حقه‪.‬‬
‫الملكٌة التامة‪:‬‬
‫هً أن ٌكون للمالك حق التصرؾ فً العٌن ومنافعها بكل التصرفات‬
‫المشروعة‪ ،‬سواء كان المال منقوالً أم عقاراً‪ ،‬وال تتقٌد حرٌته فً ذلك إال بعدم‬
‫اإلضرار بالؽٌر واألوامر الصادرة عن السلطة العامة تحقٌقا ً لمصلحة عامة‪،‬‬
‫ْ‬
‫كنزع الملكٌة للمنفعة العامة ‪ ،‬واالستٌبلء المؤقت على المال عند حصول‬
‫الكوارث أو الؽزو‪ ،‬والقٌود المفروضة على تنظٌم المبانً‪.‬‬
‫خصائص الملك التام‪:‬‬
‫‪ -‬للمالك االنتفاع بما َمل َكه بأي وجه من ؼٌر تقٌد بزمان أو مكان أو شكل‬
‫معٌن‪ ،‬ما لم ٌكن تصرفه محرما ً شرعاً‪ ،‬كجعْ ل داره منتدى للقمار أو شرب‬
‫الخمر‪.‬‬
‫‪ -‬هذا المِلك ؼٌر مؤقت‪ ،‬فلٌس له زمن ٌنتهً به‪ ،‬إذ ال ٌنتهً إال بهبلك العٌن‬
‫أو انتقالها إلى ملك الؽٌر باإلرث أو بتصرؾ شرعً ناقل للملكٌة كالبٌع‬
‫والهبة‪.‬‬
‫‪ -‬ال ضمان على المالك إذا أتلؾ ما ٌملكه‪ ،‬ولكن ذلك قد ٌؤدي إلى إثبات سفهه‬
‫والحجْ ر علٌه‪ ،‬فٌُمنع من التصرؾ فً ماله وٌتواله عنه ؼٌره‪ ،‬وقد ٌعاقب على‬
‫فعله‪.‬‬
‫أسباب الملكٌة التامة‪:‬‬
‫ـ ‪ 265‬ـ‬
‫‪ -‬حٌازة المال المباح الذي ال مالك له‪.‬‬
‫‪ -‬العقود الناقلة للملكٌة كالبٌع والهبة‪.‬‬
‫‪ -‬الخِبلفة عن المالك إما جبراً عنه باإلرث‪ ،‬أو باختٌاره بالوصٌة‪.‬‬
‫ثالثا ًا‪ٌ -‬تنوع الملك من حٌث مدى اختالطه بمِلك الغٌر إلى متمٌز وشائع‪:‬‬
‫الملك المتمٌز هو المحدد ؼٌر المختلط بملك الؽٌر‪ ،‬والشابع هو ما‬
‫اختلط بملك الؽٌر وشاع فٌه دون تعلق بجزء معٌن ‪ ،‬كمنزل أو قطعة أرض أو‬
‫سٌارة ورثها جمْ عٌ من الورثة‪ ،‬فإن ملكٌة كل منهم لنصٌبه تتعلق بجزء مختلط‬
‫بملك الؽٌر‪.‬‬
‫وحكم المال الشابع أنَّ لكل واحد من الشركاء حق االنتفاع به بما ال‬
‫ٌضر اآلخرٌن‪ ،‬ولهذا له بٌع حصته الشابعة‪ ،‬ولو دون إذن الشركاء‪ ،‬فإن لم‬
‫ٌتفقوا على االنتفاع به ‪ ،‬وكان قاببلً للقسمة ‪ ،‬قُسِّم بٌنهم ولو جبراً ‪ ،‬بنا ًء على‬
‫طلب أحدهم‪ ،‬فإن لم ٌقبل القسمة قُسِّم بٌنهم قِسمة مُهاٌأة زمانٌة بأن ٌنتفع كل‬
‫واحد به زمنا ً بمقدار نصٌبه‪ ،‬أو مُهاٌأة مكانٌة بأن ٌنتفع كل منهم بمكان منه‬
‫ٌتبادلونه بٌنهم‪ ،‬فإن لم ٌكن ذلك ممكنا ً أو اختلفوا فً القسمة ِبٌع المال جبراً‬
‫عنهم وقُسِّم الثمن علٌهم حسب أنصبتهم‪ ،‬هذا وتكون نفقات صٌانة المال الشابع‬
‫بقدر نصٌبه‪ ،‬فإن امتنع بعضهم كان‬
‫قبل قِسمته على جمٌع الشركاء ‪ ،‬ك ٌّل ِ‬
‫م تنع بدفع ما علٌه‪ ،‬فإن قام أحدهم‬ ‫لآلخرٌن رفع األمر للقضاء لٌُلزم الم‬
‫باإلصبلح بدون إذن اآلخرٌن أو القاضً فبل ٌرجع علٌهم بشٌا ‪ ،‬ألنه ٌعتبر‬
‫متبرعا ً‪.‬‬
‫نزع الملكٌة على سبٌل الجبر‪:‬‬
‫األصل أن منْ َملَك شٌبا ً ملكٌة تامة ال ٌُنزع منه إال برضاه‪ ،‬ولكن قد‬
‫توجد أسباب تدعو إلى نزع ملكٌة الشٌا بقٌمته دون رضا صاحبه‪ ،‬إما لدفع‬
‫ـ ‪ 266‬ـ‬
‫ضرر خاص ٌلحق شخصا ً آخر أكبر من الضرر الذي ٌلحق المالك من جبره‬
‫على نقل ملكه للؽٌر‪ ،‬وإما لدفع ضرر عام بضرر خاص تقدٌما ً للمصلحة‬
‫العامة على الخاصة‪ ،‬وهذه الدواعً هً‪:‬‬
‫‪ -‬بٌع مال المدٌن المماطل جبراً عنه وفا ًء لدٌنه‪ ،‬ألن فً مماطلته لدابنٌه إساءة‬
‫لهم‪.‬‬
‫‪ -‬نزع الملكٌة للمنفعة العامة‪ ،‬كتوسعة طرٌق أو إنشاء مستشفى‪ ،‬وقد حدث‬
‫ذلك فً عهد عمر ‪ ،‬إذ نزع ملكٌة بعض الدور المحٌطة بالمسجد الحرام‪،‬‬
‫ثم تكرر ذلك فً عهد عثمان ‪ ،‬ولم ٌنكره أحد من الصحابة فكان إجماعا ً‪.‬‬
‫‪ -‬تسعٌر السلع وإجبار أصحابها على البٌع بالسعر الذي حدده ولً األمر‪،‬‬
‫وإجبار المحتكر على بٌع ما عنده بثمن المثل‪.‬‬
‫‪ -‬فرض الضرابب وجباٌتها‪ ،‬وجمع الزكاة جبراً من الممتنعٌن‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم باإلنفاق على من ٌجب على الشخص اإلنفاق علٌهم كزوجته وأوالده‬
‫وأبوٌه‪.‬‬
‫‪ -‬أحكام المٌراث فإنها توزٌع ألموال الناس بما قد ال ٌرتضونه‪.‬‬
‫‪ -‬أخذ العقار بال ُّش ْفعة‪ ،‬ألن الشفٌع إنما ٌتملك العقار المبٌع جبراً عن المشتري‬
‫بما قام علٌه من ثمن‪.‬‬
‫‪ -‬ما قاله األبمة مالك والشافعً و أبو ٌوسؾ من جواز رفع دعوى حِسْ بة ضد‬
‫من ترك حٌوانه جابعاً‪ ،‬فٌأمره القاضً باإلنفاق علٌه‪ ،‬فإن امتنع باع القاضً‬
‫بعض ماله لئلنفاق على ذلك الحٌوان‪.‬‬

‫ـ ‪ 267‬ـ‬
‫المصادر‬
‫‪ -1‬إبراهٌم (إبراهٌم عبد الرحمن)‪ :‬المدخل لدراسة الفقه اإلسبلمً‪1990 ،‬م‪،‬‬
‫دار الثقافة للنشر والتوزٌع‪ ،‬عمان‪.‬‬
‫‪،4‬‬ ‫‪ -2‬ابن تٌمٌة (أحمد بن عبد الحلٌم)‪ :‬رفع المبلم عن األبمة األعبلم‪ ،‬ط‬
‫‪1392‬هـ‪ ،‬المكتب اإلسبلمً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -3‬ابن جزي (محمد)‪ :‬قوانٌن األحكام الشرعٌة ومسابل الفروع الفقهٌة‪،‬‬
‫‪1968‬م‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -4‬ابن الحاجب (عثمان بن عمر)‪ :‬مختصر المنتهى‪ ،‬مراجعة وتصحٌح‪:‬‬
‫شعبان محمد إسماعٌل‪1973 ،‬م‪ ،‬مكتبة الكلٌات األزهرٌة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪1355 ،1‬هـ‪ ،‬إدارة الطباعة‬ ‫‪ -5‬ابن حزم (على بن أحمد)‪ :‬المحلَّى‪ ،‬ط‬
‫المنٌرٌة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -6‬ابن حزم (علً بن أحمد)‪ :‬اإلحكام فً أصول األحكام‪ ،‬الناشر‪ :‬زكرٌا علً‬
‫ٌوسؾ‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -7‬ابن حنبل (أحمد بن محمد)‪ :‬مسند اإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬ط ‪1978 ،1‬م‪،‬‬
‫المكتب اإلسبلمً للطباعة والنشر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -8‬ابن خلدون (عبد الرحمن)‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ط ‪1978 ،1‬م‪ ،‬دار القلم‪،‬‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪ -9‬ابن خلِّكان (أحمد بن محمد)‪ :‬وفٌات األعٌان وأنباء أبناء الزمان‪ ،‬تحقٌق‪:‬‬
‫إحسان عباس‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -10‬ابن عبد ربه (ٌوسؾ)‪ :‬االستٌعاب فً معرفة األصحاب‪ ،‬تحقٌق‪ :‬علً‬
‫محمد البجاوي‪ ،‬مكتبة نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -11‬ابن العماد (عبد الحً)‪ :‬شذرات الذهب فً أخبار من ذهب‪ ،‬المكتب‬
‫ـ ‪ 268‬ـ‬
‫التجاري للطباعة والنشر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -12‬ابن فرحون (إبراهٌم)‪ :‬الدٌباج المذهب فً معرفة أعٌان علماء المذهب‪،‬‬
‫دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -13‬ابن قتٌبة (عبد هللا بن مسلم)‪ :‬المعارؾ‪ ،‬تحقٌق‪ :‬محمد إسماعٌل الصاوي‪،‬‬
‫ط‪1970 ،2‬م‪ ،‬دار إحٌاء التراث العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -14‬ابن قدامة (عبد هللا بن أحمد)‪ :‬الم ُْؽنً على مختصر أبً القاسم عمر بن‬
‫الحسٌن الخ َِرقً‪ ،‬مكتبة الجمهورٌة العربٌة ومكتبة الكلٌات األزهرٌة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -15‬ابن قٌم الجوزٌة (محمد بن أبً بكر)‪ :‬اعبلم الموقعٌن عن رب العالمٌن‪،‬‬
‫راجعه وقدم له‪ :‬طه عبد الرؤوؾ سعد‪1973 ،‬م‪ ،‬دار الجٌل‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -16‬ابن كثٌر (عماد الدٌن إسماعٌل)‪ :‬تفسٌر القرآن‪ ،‬العظٌم‪ ،‬دار إحٌاء الكتب‬
‫العربٌة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -17‬ابن كثٌر (عماد الدٌن إسماعٌل)‪ :‬البداٌة والنهاٌة‪ ،‬ط ‪1974 ،2‬م‪ ،‬مكتبة‬
‫المعارؾ‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -18‬ابن ماجه (محمد بن ٌزٌد)‪ :‬سنن ابن ماجه‪ ،‬تحقٌق‪ :‬محمد فؤاد عبد‬
‫الباقً‪1952 ،‬م‪ ،‬دار إحٌاء الكتب العربٌة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -19‬ابن مخلوؾ (محمد)‪ :‬شجرة النور الزكٌة‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -20‬ابن أنس (مالك)‪ :‬الموطأ‪ ،‬رواٌة ٌحٌى بن ٌحٌى اللٌثً‪ ،‬تحقٌق أحمد‬
‫راتب عرموش‪ ،‬ط‪1971 ،1‬م‪ ،‬دار النفابس‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -21‬ابن أنس (مالك)‪ :‬المدونة الكبرى‪ ،‬رواٌة سحنون بن سعٌد التنوخً عن‬
‫ابن القاسم‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -22‬ابن الهُمام (محمد بن عبد الواحد السٌواسً)‪ :‬شرح فتح القدٌر‪ ،‬المكتبة‬
‫التجارٌة الكبرى‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫ـ ‪ 269‬ـ‬
‫أبً داود‪ ،‬ط ‪1952 ،1‬م‪ ،‬شركة‬ ‫‪ -23‬أبو داود (سلٌمان بن األشعث)‪ :‬سنن‬
‫مكتبة ومطبعة مصطفى البابً الحلبً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -24‬أبو زهرة (محمد)‪ :‬تارٌخ المذاهب اإلسبلمٌة فً السٌاسة والعقابد وتارٌخ‬
‫المذاهب الفقهٌة‪ ،‬دار الفكر العربً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪1958 ،1‬م‪ ،‬مطبعة‬ ‫‪ -25‬أبو زهو (محمد محمد)‪ :‬الحدٌث والمحدثون‪ ،‬ط‬
‫شركة مصر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -26‬أبو عبٌد (أبو القاسم بن سبلم)‪ :‬األموال‪ ،‬تحقٌق وتعلٌق‪ :‬خلٌل هرَّ اس‪،‬‬
‫‪ 1975‬م‪ ،‬مكتبة الكلٌات األزهرٌة ودار الفكر للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -27‬أبو الفتوح (أبو المعاطً حافظ)‪ :‬المدخل لدراسة التشرٌع اإلسبلمً‪،‬‬
‫ط‪1980 ،1‬م‪ ،‬دار النجاح الجدٌدة‪ ،‬الدار البٌضاء‪.‬‬
‫‪،1‬‬ ‫‪ -28‬أبو ناجً (عبد السبلم)‪ :‬علم أصول الفقه والحكم فً اإلسبلم‪ ،‬ط‬
‫‪1990‬م‪ ،‬منشورات الجامعة المفتوحة‪ ،‬طرابلس‪.‬‬
‫‪ -29‬احمٌد (عبد هللا أحمد عثمان)‪ :‬إجمال البٌان فً مباحث من علوم القرآن‪،‬‬
‫‪1978‬م‪ ،‬منشورات جامعة قارٌونس‪ ،‬بنؽازي‪.‬‬
‫‪ -30‬األرموي (محمد بن الحسٌن)‪ :‬الحاصل من المحصول فً أصول الفقه‪،‬‬
‫تحقٌق‪ :‬عبد السبلم أبو ناجً‪1994 ،‬م‪ ،‬منشورات جامعة قارٌونس‪ ،‬بنؽازي‪.‬‬
‫‪ -31‬األسنوي (عبد الرحٌم بن الحسن)‪ :‬التمهٌد فً تخرٌج الفروع على‬
‫األصول‪ ،‬تحقٌق وتعلٌق‪ :‬محمد حسن هٌتو‪ ،‬ط ‪1981 ،2‬م‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪ -32‬إمام (محمد كمال الدٌن)‪ :‬مقدمة لدراسة الفقه اإلسبلمً‪ ،‬ط ‪1996 ،1‬م‪،‬‬
‫المؤسسة الجامعٌة للدراسات والنشر والتوزٌع‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪1968‬م‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪ -33‬اآلمدي (علً بن محمد)‪ :‬اإلحكام فً أصول األحكام‪،‬‬
‫ـ ‪ 270‬ـ‬
‫ومطبعة محمد علً صبٌح وأوالده‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ ،3‬دار إحٌاء التراث العربً‪،‬‬ ‫‪ -34‬باز (سلٌم رستم)‪ :‬شرح المجلة)‪ :‬ط‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪ -35‬البخاري (محمد بن إسماعٌل)‪ :‬صحٌح البخاري‪1978 ،‬م‪ ،‬مطابع دار‬
‫الشعب‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -36‬بدران (بدران أبو العٌنٌن)‪ :‬الشرٌعة اإلسبلمٌة تارٌخها ونظرٌة الملكٌة‬
‫والعقود‪ ،‬مؤسسة شباب الجامعة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪.‬‬
‫‪ -37‬بدران (بدران أبو العٌنٌن)‪ :‬دراسات حول القرآن‪ ،‬مؤسسة شباب‬
‫الجامعة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪.‬‬
‫‪1997 ،2‬م‪،‬‬ ‫‪ -38‬بلتاجً (محمد)‪ :‬منهج عمر بن الخطاب فً التشرٌع‪ ،‬ط‬
‫مكتبة الشباب‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪1354 ،1‬هـ‪ ،‬دابرة‬ ‫‪ -39‬البٌهقً (أحمد بن الحسٌن)‪ :‬السنن الكبرى‪ ،‬ط‬
‫المعارؾ العثمانٌة‪ ،‬حٌدرآباد‪ ،‬الهند‪.‬‬
‫‪ -40‬تاج (عبد الرحمن)‪ :‬السٌاسة الشرعٌة والفقه اإلسبلمً‪ ،‬ط ‪1953 ،1‬م‪،‬‬
‫دار التألٌؾ‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -41‬الترمذي (محمد بن عٌسى)‪ :‬سنن الترمذي بشرح اإلمام ابن العربً‪،‬‬
‫ط‪1931 ،1‬م‪ ،‬المطبعة المصرٌة باألزهر‪.‬‬
‫‪ -42‬تفاحة (أحمد زكً)‪ :‬اإلسبلم عقٌدة وشرٌعة‪ ،‬ط ‪1979 ،1‬م‪ ،‬دار الكتاب‬
‫اللبنانً ودار الكتاب المصري‪.‬‬
‫‪ -43‬التمٌمً (عبد القادر بن طاهر ا إلسفرابٌنً)‪ :‬ال َفرْ ق بٌن الف َِرق‪ ،‬تحقٌق‪:‬‬
‫محمد محًٌ الدٌن عبد الحمٌد‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -44‬الجصاص (أبو بكر بن أحمد الرازي)‪ :‬أحكام القرآن الكرٌم‪ ،‬طبعة‬
‫ـ ‪ 271‬ـ‬
‫مصورة عن الطبعة األولى‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -45‬الجوهري (إسماعٌل بن حمَّاد)‪ :‬الصحاح‪ ،‬تحقٌق‪ :‬أحمد عبد الؽفور‬
‫عطار‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -46‬حسان (حسٌن حامد)‪ :‬المدخل لدراسة الفقه اإلسبلمً‪1981 ،‬م‪ ،‬شركة‬
‫الطوبجً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -47‬حسن (إبراهٌم) وحسن (علً إبراهٌم)‪ :‬النظم اإلسبلمٌة‪ ،‬مكتبة النهضة‬
‫المصرٌة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫أصول الفقه‪ ،‬ط ‪1968 ،2‬م‪ ،‬دار النهضة‬ ‫‪ -48‬حمادة (عباس متولً)‪:‬‬
‫العربٌة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -49‬الخضري (محمد)‪ :‬تارٌخ التشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬ط ‪1970 ،9‬م‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪َّ -50‬‬
‫خبلؾ (عبد الوهاب)‪ :‬خبلصة تارٌخ التشرٌع ا إلسبلمً‪ ،‬ط‪1982 ،2‬م‪،‬‬
‫دار القلم‪ ،‬الكوٌت‪.‬‬
‫‪ -51‬الدارقطنً (علً بن عمر)‪ :‬سنن الدارقطنً‪1386 ،‬هـ‪ ،‬دار المحاسن‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ -52‬الدارمً (عبد هللا بن عبد الرحن السمرقندي)‪ :‬سنن الدارمً‪1987 ،‬م‪،‬‬
‫دار الكتاب العربً‪.‬‬
‫‪ -53‬الدسوقً (محمد)‪ :‬دعابم العقٌدة فً ا إلسبلم‪ ،‬ط‪1990 ،1‬م‪ ،‬كلٌة الدعوة‬
‫اإلسبلمٌة‪ ،‬طرابلس‪.‬‬
‫‪ -54‬الدهلوي (الشٌخ أحمد المعروؾ بشاه ولً الدٌن)‪ :‬حجة هللا البالؽة‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫دار المعرفة للطباعة والنشر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -55‬الدوالٌبً (محمد معروؾ)‪ :‬المدخل إلى علم أصول الفقه‪ ،‬ط‪1965 ،5‬م‪،‬‬
‫ـ ‪ 272‬ـ‬
‫دار الكتاب الجدٌد ودار العلم للمبلٌٌن‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫إلسبلمً‪،‬‬ ‫‪ -56‬الدٌبانً (عبد المجٌد عبد الحمٌد)‪ :‬المدخل إلى دراسة الفقه ا‬
‫ط‪1994 ،1‬م‪ ،‬منشورات جامعة قارٌونس‪ ،‬بنؽازي‪.‬‬
‫‪ -57‬الذهبً (محمد بن أحمد)‪ :‬مٌزان اإلعتدال فً نقد الرجال‪ ،‬تحقٌق‪ :‬علً‬
‫محمد البجاوي وفتحٌة علً البجاوي‪ ،‬دار الفكر العربً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪1966‬م‪ ،‬دار لٌبٌا للنشر‬ ‫‪ -58‬الزبٌدي (محمد مرتضى)‪ :‬تاج العروس‪،‬‬
‫والتوزٌع‪ ،‬بنؽازي‪.‬‬
‫‪ -59‬الزحٌلً (وهبه)‪ :‬نظام اإلسبلم‪ ،‬منشورات جامعة قارٌونس‪ ،‬بنؽازي‪.‬‬
‫‪ -60‬الزرقا (مصطفى أحمد)‪ :‬الفقه اإلسبلمً فً ثوبه الجدٌد‪ ،‬ج ‪ ،1‬المدخل‬
‫الفقهً العام‪ ،‬ط‪1961 ،7‬م‪ ،‬مطبعة جامعة دمشق‪.‬‬
‫‪ -61‬الزرقانً (محمد عبد العظٌم)‪ :‬مناهل العرفان فً علوم القرآ ن‪ ،،‬ط ‪،3‬‬
‫دار إحٌاء الكتب العربٌة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -62‬الزركشً (محمد بن عبد هللا)‪ :‬البرهان فً علوم القرآن‪ ،‬تحقٌق‪ :‬محمد‬
‫أبو الفضل إبراهٌم‪ ،‬ط‪1972 ،2‬م‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -63‬زٌدان (عبد الكرٌم)‪ :‬المدخل لدراسة الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬ط ‪1982 ،7‬م‪،‬‬
‫مكتبة القدس ومؤسسة الرسالة‪ ،‬بؽداد‪.‬‬
‫‪،2‬‬ ‫‪ -64‬السباعً (مصطفى)‪ :‬السنة ومكانتها فً التشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬ط‬
‫‪1978‬م‪ ،‬المكتب اإلسبلمً‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪ -65‬السبتً (عٌاض بن موسى)‪ :‬ترتٌب المدارك وتقرٌب المسالك لمعرفة‬
‫أعٌان مذهب مالك‪ ،‬مطبعة فضالة‪ ،‬المؽرب‪.‬‬
‫‪ -66‬السبكً (عبد الوهاب بن علً)‪ :‬األشباه والنظابر‪ ،‬تحقٌق‪ :‬عادل أحمد‬
‫عبد الموجود وعلً محمد عوض‪ ،‬ط‪1991 ،1‬م‪ ،‬دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫ـ ‪ 273‬ـ‬
‫‪ -67‬سراج (محمد أحمد) وحسٌن (أحمد فراج)‪ :‬تارٌخ الفقه اإلسبلمً‪،‬‬
‫‪1999‬م‪ ،‬دار المطبوعات الجامعٌة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪.‬‬
‫‪ -68‬السرخسً (شمس الدٌن)‪ :‬المبسوط‪1324 ،‬هـ‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -69‬السرٌتً (عبد الودود)‪ :‬المدخل لدراسة بعض النظرٌات فً الفقه‬
‫اإلسبلمً‪1997 ،‬م‪ ،‬دار المطبوعات الجامعٌة‪ ،‬اإلسكندرٌة‪.‬‬
‫‪ -70‬السٌوطً (جبلل الدٌن عبد الرحمن)‪ :‬األشباه والنظابر فً قواعد وفروع‬
‫فقه الشافعٌة‪ ،‬دار إحٌاء الكتب العربٌة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -71‬الشابً (علً)‪ :‬الشٌعة فً إٌران‪1980 ،‬م‪ ،‬الجامعة التونسٌة‪.‬‬
‫أصول الشرٌعة‪ ،‬ط ‪،2‬‬ ‫‪ -72‬الشاطبً (إبراهٌم بن موسى)‪ :‬الموافقات فً‬
‫‪1975‬م‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -73‬الشافعً (أحمد)‪ :‬المدخل للشرٌعة اإلسبلمٌة‪1977 ،‬م‪ ،‬الدار الجامعٌة‪،‬‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪ -74‬الشافعً (محمد بن إدرٌس)‪ :‬الرسالة‪ ،‬تحقٌق‪ :‬أحمد محمد شاكر‪ ،‬ط ‪،2‬‬
‫‪1979‬م‪ ،‬مكتبة التراث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -75‬الشافعً (محمد بن إدرٌس)‪ :‬األم‪1968 ،‬م‪ ،‬سلسلة كتاب الشعب‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -76‬الشرباصً (أحمد)‪ :‬األبمة الربعة‪ ،‬دار الجٌل‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -77‬شرؾ الدٌن (عبد الحسٌن)‪ :‬النص واالجتهاد‪ ،‬ط ‪1960 ،2‬م‪ ،‬دار النهج‪،‬‬
‫صور‪.‬‬
‫‪1974 ،2‬م‪،‬‬ ‫‪ -78‬شرؾ الدٌن (عبد العظٌم)‪ :‬تارٌخ التشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬ط‬
‫منشورات جامعة قارٌونس‪ ،‬بنؽازي‪.‬‬
‫‪ -79‬شلبً (محمد مصطفى)‪ :‬المدخل فً التعرٌؾ بالفقه اإلسبلمً‪1969 ،‬م‪،‬‬
‫دار النهضة العربٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫ـ ‪ 274‬ـ‬
‫‪ -80‬شلبً (محمد مصطفى) ‪ :‬تعلٌل األحكام‪1981 ،‬م‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪،‬‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪ -81‬الشهرستانً (محمد بن عبد الكرٌم)‪ :‬الملل والنحل‪ ،‬تحقٌق‪ :‬عبد العزٌز‬
‫محمد الوكٌل‪1968 ،‬م‪ ،‬مؤسسة الحلبً وشركاؤه‪ ،‬للنشر والتوزٌع‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -82‬الشوكانً (محمد بن علً)‪ :‬نٌل األوطار من أحادٌث سٌد األخٌار شرح‬
‫منتقى األخبار‪ ،‬مكتبة التراث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -83‬الشوكانً (محمد بن علً)‪ :‬القول المفٌد من أدلة االجتهاد والتقلٌد‪،‬‬
‫تحقٌق‪ :‬عبد الرحمن عبد الخالق‪ ،‬ط‪1980 ،2‬م‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الكوٌت‪.‬‬
‫‪ -84‬الشٌرازي (أبو إسحاق)‪ :‬طبقات الفقهاء‪ ،‬تحقٌق‪ :‬إحسان عباس‪،‬‬
‫‪1970‬م‪ ،‬دار الرابد العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -85‬الصابونً (عبد الرحمن)‪ :‬محاضرات فً المدخل لعلم الفقفه‪1965 ،‬م‪،‬‬
‫مدٌرٌة الكتب والمطبوعات الجامعٌة‪ ،‬جامعة حلب‪.‬‬
‫‪ -86‬الصالح (صبحً)‪ :‬النظم اإلسبلمٌة نشأتها وتطورها‪ ،‬ط‪1976 ،3‬م‪ ،‬دار‬
‫العلم للمبلٌنٌن‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -87‬الصالح (صبحً)‪ :‬علوم الحدٌث ومصطلحه‪ ،‬ط ‪1977 ،9‬م‪ ،‬دار العلم‬
‫للمبلٌٌن‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -88‬الصبّاغ (محمد)‪ :‬لمحات فً علوم القرآ ن واتجاهات التفسٌر‪1973 ،‬م‪،‬‬
‫المكتب اإلسبلمً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -89‬عبد العال (عبد العال أحمد) وأبو العبل (أبو العبل علً)‪ :‬دراسات فً‬
‫علوم الحدٌث‪1973 ،‬م‪ ،‬دار التراث العربً للطباعة والنشر‪.‬‬
‫‪ -90‬العجوز (أحمد محًٌ الدٌن)‪ :‬مناهج الشرٌعة اإلسبلمٌة‪1981 ،‬م‪ ،‬مكتبة‬
‫المعارؾ‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫ـ ‪ 275‬ـ‬
‫‪ -91‬العطار (عبد الناصر)‪ :‬تطبٌق الشرٌعة اإلسبلمٌة فً العالم اإلسبلمً‪،‬‬
‫‪1979‬م‪ ،‬مطبعة السعادة‪.‬‬
‫‪1983 ،1‬م‪ ،‬دار الحداثة‬ ‫‪ -92‬علً (جواد)‪ :‬تارٌخ العرب فً اإلسبلم‪ ،‬ط‬
‫للطباعة والنشر والتوزٌع‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ ،‬ط ‪1981 ،1‬م‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪ -93‬العمري (نادٌة شرٌؾ)‪ :‬اجتهاد الرسول‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫‪ -94‬الؽزالً (محمد بن محمد)‪ :‬المستصفى‪ ،‬مكتبة المثنى ودار إحٌاء التراث‬
‫العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪1952 ،2‬م‪،‬‬ ‫‪ -95‬الفٌروزآبادي (مجد الدٌن ٌعقوب)‪ :‬القاموس المحٌط‪ ،‬ط‬
‫شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابً الحلبً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -96‬فٌتزجٌرالد (س‪.‬ؾ)‪ :‬ال َّدٌْن المزعوم للقانون الرومً على القانون‬
‫اإلسبلمً‪ ،‬تعرٌب‪ :‬محمد سلٌم العوا‪ ،‬منشور ضمن كتاب هل للقانون الرومً‬
‫تأثٌر على الفقه اإلسبلمً؟ ط‪1973 ،1‬م‪ ،‬دار البحوث العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -97‬قبٌسً (محمد)‪ :‬تدوٌن القرآن الكرٌم‪ ،‬ط‪1981 ،1‬م‪ ،‬دار اآلفاق الجدٌدة‪،‬‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪،1‬‬ ‫‪ -98‬القرافً (أحمد بن إدرٌس)‪ :‬الذخٌرة‪ ،‬تحقٌق‪ :‬محمد حجً‪ ،‬ط‬
‫‪1994‬م‪ ،‬دار الؽرب اإلسبلمً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ ،2‬دار إحٌاء‬ ‫‪ -99‬القرطبً (محمد بن أحمد)‪ :‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬ط‬
‫التراث العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -100‬القشٌري (مسلم بن الحجاج)‪ :‬صحٌح مسلم بشرح النووي‪ :‬شركة مكتبة‬
‫ومطبعة مصطفى البابً الحلبً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪،1‬‬ ‫‪ -101‬القطان (مناع)‪ :‬التشرٌع والفقه فً اإلسبلم تارٌخا ً ومنهجاً‪ ،‬ط‬
‫ـ ‪ 276‬ـ‬
‫‪1976‬م‪ ،‬مكتبة وهبه‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -102‬قلعة جً (محمد روّ اس)‪ :‬موسوعة فقه إبراهٌم النخعً‪ ،‬ط‪1986 ،2‬م‪،‬‬
‫دار النفابس‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪1997 ،1‬م‪ ،‬دار النفابس‪،‬‬ ‫‪ -103‬كبارة (عبد الفتاح)‪ :‬الفقه المقارن‪ ،‬ط‬
‫بٌروت‪.‬‬
‫‪ -104‬كفافً (محمد عبد السبلم) والشرٌؾ (عبد هللا)‪ :‬فً علوم القرآن‪،‬‬
‫دراسات ومحاضرات‪1977 ،‬م‪ ،‬دار النهضة العربٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪1968‬م‪،‬‬ ‫‪ -105‬الشٌن (موسى شاهٌن)‪ :‬الآللً الحسان فً علوم القرآن‪،‬‬
‫مطبعة دار التألٌؾ‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -106‬اللكنوي (محمد عبد الحً)‪ :‬الفوابد البهٌة فً تراجم الحنفٌة‪ ،‬دار‬
‫المعرفة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -107‬الماوردي (علً بن محمد بن حبٌب)‪ :‬األحكام السلطانٌة والوالٌات‬
‫الدٌنٌة‪1982 ،‬م‪ ،‬دار الكتب العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪،3‬‬ ‫‪ -108‬محمصانً (صبحً)‪ :‬األوضاع التشرٌعٌة فً الدول العربٌة‪ ،‬ط‬
‫‪1965‬م‪ ،‬دار العلم للمبلٌٌن‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪1960 ،1‬م‪ ،‬دار‬ ‫‪ -109‬مدكور (محمد سبلّم)‪ :‬المدخل للفقه اإلسبلمً‪ ،‬ط‬
‫النهضة العربٌة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -110‬مدكور (محمد سبلّم)‪ :‬مناهج االجتهاد فً اإلسبلم فً األحكام الفقهٌة‬
‫والعقابدٌة‪1974 ،‬م‪ ،‬مطبوعات جامعة الكوٌت‪.‬‬
‫‪1953 ،2‬م‪ ،‬شركة‬ ‫‪ -111‬المراؼً (أحمد مصطفى)‪ :‬تفسٌر المراؼً‪ ،‬ط‬
‫مكتبة ومطبعة مصطفى البابً الحلبً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -112‬المسعودي (علً بن الحسٌن)‪ :‬مروج الذهب‪ ،‬دار الرجاء‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫ـ ‪ 277‬ـ‬
‫‪ -113‬منصور (علً علً)‪ :‬الشرٌعة اإلسبلمٌة ومدى صبلحٌتها للحلول محل‬
‫القوانٌن الوضعٌة وكٌفٌة ذلك‪ ،‬بحث منشور ضمن الوثابق والدراسات الخاصة‬
‫‪1972 ،1‬م‪ ،‬مطبعة‬ ‫بتطبٌق أحكام الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬ط‬
‫المحكمة العلٌا (اللٌبٌة)‪.‬‬
‫‪ -114‬موسى (محمد ٌوسؾ)‪ :‬المدخل لدراسة الفقه اإلسبلمً‪ ،‬دار الفكر‬
‫العربً‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -115‬نالٌنو (كارلو ألفونسو)‪ :‬نظرات فً عبلقات الفقه ا إلسبلمً بالقانون‬
‫الرومً‪ ،‬منشور ضمن كتاب هل للقانون الرومً تأثٌر على الفقه اإلسبلمً؟‬
‫ط‪1973 ،1‬م‪ ،‬دار البحوث العلمٌة‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -116‬النبراوي (فتحٌة)‪ :‬تارٌخ النظم والحضارة اإلسبلمٌة‪ ،‬ط ‪1981 ،2‬م‪،‬‬
‫دار المعارؾ‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪1977 ،1‬م‪،‬‬ ‫‪ -117‬النبهان (محمد فاروق)‪ :‬المدخل للتشرٌع اإلسبلمً‪ ،‬ط‬
‫وكالة المطبوعات –الكوٌت‪ ،‬دار القلم‪ -‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ -118‬النسابً (أحمد بن شعٌب)‪ :‬سنن النسابً‪ ،‬ط ‪1964 ،2‬م‪ ،‬شركة مكتبة‬
‫ومطبعة مصطفى البابً الحلبً‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -119‬الهٌتمً (نور الدٌن علً بن أبً بكر)‪ :‬مجمع الزوابد ومنبع الفوابد‪،‬‬
‫ط‪1967 ،2‬م‪ ،‬دار الكتاب العربً‪ ،‬بٌروت‪.‬‬
‫‪ٌ -120‬وسؾ (أحمد)‪ :‬الفقه اإلسبلمً (تطوره‪ -‬قواعده الكلٌة)‪1990 ،‬م‪ ،‬دار‬
‫الثقافة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫ـ ‪ 278‬ـ‬
‫الفهرس‬
‫الموضوع ‪.................... ...............................................‬الصفحة‬
‫إهداء ‪5...........................................................................‬‬
‫‪...............................‬‬
‫‪..6‬‬ ‫تقدٌم ‪...........................................‬‬
‫‪..........................‬‬
‫‪.9‬‬ ‫مبحث تمهٌدي‪ -‬التعرٌؾ بالشرٌعة والفقه ‪.........‬‬
‫المطلب األول‪ -‬التعرٌؾ بالشرٌعة ‪9............................................‬‬
‫الحاجة إلى الشرابع ‪9...........................................................‬‬
‫مفهوم الشرٌعة ‪14................................................................‬‬
‫مقارنة التشرٌع اإلسبلمً بالتشرٌع الوضعً ‪15................................‬‬
‫أسس التشرٌع اإلسبلمً ‪20.....................................................‬‬
‫‪ -1‬نفً الحرج ‪20...............................................................‬‬
‫‪ -2‬التدرج فً التشرٌع ‪22......................................................‬‬
‫‪ -3‬قلة التكالٌؾ ‪25..............................................................‬‬
‫‪ -4‬تحقٌق العدالة بٌن الناس ‪26.................................................‬‬
‫‪ -5‬تحقٌق مصالح الناس ‪28....................................................‬‬
‫المطلب الثانً‪ -‬التعرٌؾ بالفقه ‪30..............................................‬‬
‫معنى الفقه ‪30...................................................................‬‬
‫أقسام األحكام الفقهٌة ‪34........................................................‬‬
‫فضل الفقه والفقهاء ‪35..........................................................‬‬
‫الباب األول‪ -‬تارٌخ الفقه اإلسبلمً ‪39.........................................‬‬
‫مطلب تمهٌدي‪ -‬حالة العرب قبل اإلسبلم ‪40...................................‬‬
‫الفصل األول‪ -‬أدوار الفقه اإلسبلمً ‪55........................................‬‬
‫ـ ‪ 279‬ـ‬
‫المبحث األول‪ -‬دور الرسالة ‪56...................................................‬‬
‫التشرٌع فً مكة‪57.................................................................‬‬
‫التشرٌع فً المدٌنة‪58..............................................................‬‬
‫ممٌزات التشرٌع فً العصر النبوي ‪59...........................................‬‬
‫مصادر التشرٌع فً هذا العصر ‪62...............................................‬‬
‫المبحث الثانً‪ -‬دور الخلفاء الراشدٌن‪67.........................................‬‬
‫منهج الصحابة فً االستنباط‪69...................................................‬‬
‫أمثلة من اجتهادات الصحابة ‪73...................................................‬‬
‫عقوبة شارب الخمر‪74............................................................‬‬
‫عدم إقامة الحدود فً أرض العدو ‪75.............................................‬‬
‫عدم قطع ٌد السارق فً أحوال معٌنة ‪75..........................................‬‬
‫قتل الجماعة بالواحد‪76............................................................‬‬
‫نكاح المتعة ‪76......................................................................‬‬
‫منع الزواج بالكتابٌة ‪76............................................................‬‬
‫منع النساء من الخروج إلى المساجد‪77...........................................‬‬
‫مٌراث الجد مع اإلخوة األشقاء أو ألب‪78........................................‬‬
‫محاربة مانعً الزكاة‪78...........................................................‬‬
‫عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم‪79......................................................‬‬
‫عدم قسمة األراضً المفتوحة‪80..................................................‬‬
‫ضوال اإلبل ‪81.....................................................................‬‬
‫أسباب اختبلؾ الصحابة فً االستنباط ‪81........................................‬‬
‫االختبلؾ فً فهم مدلوالت القرآن الكرٌم ‪82.....................................‬‬
‫ـ ‪ 280‬ـ‬
‫التعارض الظاهري بٌن النصوص القرآنٌة‪83....................................‬‬
‫االختبلؾ فً العلم بالسنة ‪84......................................................‬‬
‫العمل بالرأي ‪84....................................................................‬‬
‫اختبلؾ األحوال والظروؾ‪85....................................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ -‬دور صؽار الصحابة وكبار التابعٌن‪87.........................‬‬
‫‪-1‬التفرق السٌاسً ‪87.............................................................‬‬
‫أ‪-‬الخوارج ‪89.......................................................................‬‬
‫ب‪-‬الشٌعة ‪93........................................................................‬‬
‫ج‪-‬الجمهور ‪96.....................................................................‬‬
‫‪ -2‬تفرق الصحابة ‪96..............................................................‬‬
‫‪ -3‬ظهور نزعتٌن فً االجتهاد‪97.................................................‬‬
‫‪ -4‬شٌوع رواٌة الحدٌث‪101......................................................‬‬
‫‪ -5‬الوضع فً الحدٌث ‪102.......................................................‬‬
‫‪ -6‬انصراؾ األموٌٌن عن الدٌن إلى السٌاسة‪105...............................‬‬
‫نماذج من فقه التابعٌن‪109.........................................................‬‬
‫دٌة أصابع المرأة ‪109..............................................................‬‬
‫حكم الرفع عند الركوع والرفع منه فً الصبلة‪110..............................‬‬
‫رد شهادة بعض القارب لبعضهم‪111.............................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ -‬عصر األبمة المجتهدٌن‪111.....................................‬‬
‫‪ -1‬تشجٌع العلماء‪113.............................................................‬‬
‫‪ -2‬حرٌة الرأي ‪114...............................................................‬‬
‫‪ -3‬اتساع الدولة وكثرة الوقابع‪115...............................................‬‬
‫ـ ‪ 281‬ـ‬
‫‪ -4‬نمو الحركة العلمٌة‪116........................................................‬‬
‫‪ -5‬المناظرات بٌن الفقهاء‪117....................................................‬‬
‫‪ -6‬تدوٌن العلوم‪118...............................................................‬‬
‫‪ -7‬نشأة الفقه التقدٌري‪125........................................................‬‬
‫من اجتهاد علماء هذا العصر‪126.................................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ -‬عصر التقلٌد والجمود‪126.....................................‬‬
‫المرحلة األولى‪ -‬مرحلة نصرة المذاهب الفقهٌة‪127.............................‬‬
‫أسباب التقلٌد ‪130..................................................................‬‬
‫جهود العلماء فً هذه المرحلة‪132................................................‬‬
‫المرحلة الثانٌة‪ -‬مرحلة التقلٌد المطلق‪134........................................‬‬
‫المبحث السادس‪ -‬عصر النهضة الحدٌثة ‪137....................................‬‬
‫ممٌزات هذا الدور ‪139............................................................‬‬
‫‪ -1‬ظهور مجلة األحكام العدلٌة ‪139..............................................‬‬
‫‪ -2‬اتساع نطاق التقنٌن ‪141.......................................................‬‬
‫‪ -3‬اإلفادة من جمٌع المذاهب‪142.................................................‬‬
‫الفصل الثانً‪ -‬المذاهب الفقهٌة‪146...............................................‬‬
‫أوالً‪ -‬مذاهب أهل السنة‪147.......................................................‬‬
‫‪ -1‬المذهب الحنفً‪147............................................................‬‬
‫أصول مذهبه ‪149..................................................................‬‬
‫‪ -2‬المذهب المالكً ‪153...........................................................‬‬
‫أصول مذهبه ‪155..................................................................‬‬
‫‪ -3‬المذهب الشافعً‪157...........................................................‬‬
‫ـ ‪ 282‬ـ‬
‫أصول مذهبه ‪158..................................................................‬‬
‫‪ -4‬المذهب الحنبلً ‪159...........................................................‬‬
‫أصول مذهبه ‪161..................................................................‬‬
‫ثانٌا ً‪ -‬مذاهب الشٌعة‪162...........................................................‬‬
‫‪ -1‬الزٌدٌة ‪164.....................................................................‬‬
‫‪ -2‬الشٌعة اإلثنا عشرٌة‪166.......................................................‬‬
‫‪ -3‬اإلسماعٌلٌة ‪169................................................................‬‬
‫ثالثا ً‪ -‬المذاهب البابدة‪170..........................................................‬‬
‫‪ -1‬المذهب الظاهري ‪171.........................................................‬‬
‫‪ -2‬مذهب األوزاعً‪172..........................................................‬‬
‫‪ -3‬مذهب اللٌث بن سعد‪173......................................................‬‬
‫‪ -4‬مذهب الثوري‪174.............................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ -‬مفترٌات أثٌرت حول الشرٌعة‪175...............................‬‬
‫أوالً‪ -‬اختبلؾ الفقهاء‪175..........................................................‬‬
‫ثانٌا ً‪ -‬تأثر الفقه اإلسبلمً بالقانون الرومانً ‪178................................‬‬
‫ثالثا ً‪ -‬التحاٌل على األحكام الشرعٌة‪184..........................................‬‬
‫متى نشأت الحٌل‪185..............................................................‬‬
‫حكم الحٌل فً الشرٌعة ‪185.......................................................‬‬
‫موقؾ العلماء من الحٌل ‪187......................................................‬‬
‫الباب الثانً‪ -‬مصادر الفقه اإلسبلمً ‪189........................................‬‬
‫الفصل الول‪ -‬المصادر النقلٌة‪189.................................................‬‬
‫أوالً‪ -‬الكتاب ‪189...................................................................‬‬
‫ـ ‪ 283‬ـ‬
‫نزول القرآن منجما ً وحكمة ذلك‪193..............................................‬‬
‫داللة القرآن على األحكام‪195.....................................................‬‬
‫جمع القرآن وكتابته‪196...........................................................‬‬
‫المكً والمدنً من القرآن‪199.....................................................‬‬
‫كٌؾ نعرؾ المكً من المدنً؟‪200...............................................‬‬
‫فابدة التمٌٌز بٌن المكً والمدنً‪201..............................................‬‬
‫ثانٌا ً‪ -‬السنة ‪202....................................................................‬‬
‫حكم أفعاله ‪202................................................................. ‬‬
‫أقسام السنة ‪203.....................................................................‬‬
‫حجٌة السنة ومنزلتها من القرآن‪205..............................................‬‬
‫أنواع األحكام التً جاءت بها السنة‪206..........................................‬‬
‫ثالثا ً‪ -‬اإلجماع ‪208..................................................................‬‬
‫حجٌة اإلجماع ‪209.................................................................‬‬
‫اإلجماع السكوتً ‪211..............................................................‬‬
‫رابعا ً‪ -‬فتوى الصحابً‪212........................................................‬‬
‫منزلة فتوى الصحابً‪215.........................................................‬‬
‫خامسا ً‪ -‬شرع من قبلنا‪215.........................................................‬‬
‫سادسا ً‪ -‬العرؾ ‪218.................................................................‬‬
‫شروط العرؾ ‪218.................................................................‬‬
‫حجٌة العرؾ ‪219..................................................................‬‬
‫تطبٌقات العرؾ ‪220...............................................................‬‬
‫الفصل الثانً‪ -‬المصادر العقلٌة‪222...............................................‬‬
‫ـ ‪ 284‬ـ‬
‫أوالً‪ -‬القٌاس ‪222...................................................................‬‬
‫أركان القٌاس ‪223..................................................................‬‬
‫شروط القٌاس ‪223..................................................................‬‬
‫حجٌة القٌاس ‪224...................................................................‬‬
‫ثانٌا ً‪ -‬االستحسان ‪226..............................................................‬‬
‫حجٌة االستحسان ‪227..............................................................‬‬
‫ثالثا ً‪ -‬المصالح المرسلة ‪228.......................................................‬‬
‫رابعا ً‪ -‬سد الذرابع‪230.............................................................‬‬
‫خامسا ً‪ -‬االستصحاب ‪232..........................................................‬‬
‫حجٌة االستصحاب ‪233............................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ -‬القواعد الفقهٌة‪235................................................‬‬
‫نبذة تارٌخٌة عن القواعد الفقهٌة‪236..............................................‬‬
‫أهم القواعد الفقهٌة ‪236............................................................‬‬
‫القاعدة األولى‪ -‬األمور بمقاصدها‪237............................................‬‬
‫القاعدة الثانٌة‪ -‬الٌقٌن ال ٌزول بالشك ‪239........................................‬‬
‫القاعدة الثالثة‪ -‬ال ضرر وال ضرار‪242..........................................‬‬
‫القاعدة الرابعة‪ -‬المشقة تجلب التٌسٌر‪245........................................‬‬
‫القاعدة الخامسة‪ -‬العادة محكمة‪248...............................................‬‬
‫سادسا ً‪ -‬قواعد أخرى‪250..........................................................‬‬
‫الباب الثالث‪ -‬النظرٌات الفقهٌة‪253...............................................‬‬
‫أوالً‪ -‬نظرٌة الحق‪253.............................................................‬‬
‫تعرٌفه ‪253..........................................................................‬‬
‫ـ ‪ 285‬ـ‬
‫أقسام الحقوق ‪253..................................................................‬‬
‫الحقوق المالٌة وؼٌر المالٌة ‪254..................................................‬‬
‫الحقوق التً تقبل اإلسقاط والتً ال تقبله‪255.....................................‬‬
‫استٌفاء الحقوق ‪255................................................................‬‬
‫التعسؾ فً استعمال الحق‪256....................................................‬‬
‫ثانٌا ً‪ -‬نظرٌة األموال‪258..........................................................‬‬
‫تقسٌمات األموال ‪258..............................................................‬‬
‫‪ -‬تقسٌم المال بحسب الضمان إلى مال متقوم وؼٌر متقوم‪258..................‬‬
‫‪ -‬تقسٌم المال باعتبار الثبات إلى منقول وعقار‪259..............................‬‬
‫‪ -‬تقسٌم المال من حٌث التماثل إلى مثلً وقٌمً ‪260.............................‬‬
‫‪ -‬تقسٌم المال باعتبار مالكه إلى مال عام ومال خاص‪260......................‬‬
‫ثالثا ً‪ -‬نظرٌة الملكٌة‪261...........................................................‬‬
‫أنواع الملك ‪261....................................................................‬‬
‫أوالً‪ -‬تنوع الملكٌة إلى ملكٌة عٌن ومنفعة ودٌن‪261.............................‬‬
‫ثانٌا ً‪ -‬تنوع الملكٌة إلى ملك تام وملك ناقص‪261.................................‬‬
‫الملكٌة التامة ‪265...................................................................‬‬
‫خصابص الملك التام‪265..........................................................‬‬
‫أسباب الملكٌة التامة‪265...........................................................‬‬
‫ثالثا ً‪ -‬تنوع الملك من حٌث مدى اختبلطه بملك الؽٌر إلى متمٌز وشابع‪266...‬‬
‫نزع الملكٌة على سبٌل الجبر‪266.................................................‬‬
‫المصادر ‪268.......................................................................‬‬

‫ـ ‪ 286‬ـ‬
‫ـ ‪ 287‬ـ‬

You might also like