Professional Documents
Culture Documents
Asaad - Elasady سكنى المكان
Asaad - Elasady سكنى المكان
5
79 ....................................................................................................... ـ فضاءات
81 ................................................................................................ ـ فضاء اخللوة
85 ....................................................................................... ـ فضاءات مفتوحة
91 ........................................................................................................... ـ التفرد
6
إىل :
سكين . . .سكن كلماتي
7
يتوجه املؤلف بالشكر والتقدير لكـل من آزر جهوده ،النـاقد
يـاسني النصري والقـاص والروائـي لــؤي محـزة عباس ،ركين
العناية املكانية ،والشكر موصول جلريدة (تكست) الثقافية
البصرية وكادرها ملا أولوه من حمبة وإهتمام .
9
تقديم
الكتابة من الداخل
ياسني النصري
1
فـي كتابه «سكنى املكان» يواصل الدكتور أسعد األسدي حبثه فـي ثقافة
العمارة مكانياً ،فـيوسع من ثوب الثقافة املكانية باملمارسة املعمارية بصفته
مهندساً معمارياً جيد فـي تصميم العمارة وتنفـيذها طريقة لقراءة ظالل
الفضاء الداخلي/النفسي ،والفضاء اخلارجي/االجتماعي ودورمها فـي
صياغة وجود إنساني مل يكن مقتصراً على الساكنني ،وإمنا على فعل السكن،
وهو فعل العين كما يقال فـي الظاهراتية وفعل قصدي موجه إليه البحث.
ومن هنا فهو يعلّق أي تاريخ للمكان وال يلتفت إليه إال بوصفه نسيجاً من
جتارب حية متداخلة تغين املكان وتعدّد أزمنته ،فالزمان هبذا املعنى أثر فاعل
من آثار املكان ال حمض وعاء لتحقق أحداث عابرة .إن فعل السكنى عنده هو
الفعل الذي يشكل وعي احلضور به وعياً بفاعلية األشياء على اإلنسان .ومن
هنا جند أن األشياء اليت تعامل معها ضمن فعل السكنى حتولت إىل أدوات
إنسانية اكتسبت املعرفة والتأثري عرب عالقتها املكانية باإلنسان ،فاملقتنيات
واألشياء البيتية مثال تشرتك فـي فعل السكنى ،وتشارك فـي بنية األلفة
البيتية ،بل وتسهم فـي حتديد اللغة وتصفـيتها عندما ترتكز فـي ممارسة
حمددة ،هذه األشياء ليست معزولة عن تطور اللغة فـي إمكان أن حتافظ
11
عليها باألمساء أو أن تتغري تبعا لالستعمال .الدكتور اسعد األسدي يعيد
تصورنا عن هذه احلال االنتقالية لألشياء واملقتنيات من كوهنا أشياء فـي
السوق إىل أشياء مؤنسنة فـي السكن ،مقيمة مع اإلنسان ومؤثرة فـي جمرى
حياته ،تؤلف سياقاً سكنياً هلا ولإلنسان وتصبح مبوجب هذا السياق جزءاً
من بنية الشحنة املكانية اليت تؤلف لغتها باملمارسة وتدخل بتواصل الفتها،
عندما يعاد تشكلها من جديد ،سياقات احلداثة ،ألهنا أصبحت بعضاً من
تركيبة املكان وليس ضمن تركيبة املقتنيات ،فبقدر ما تكون األشياء أكثر
ثباتا فـي املكان ،تبدو غري ملحقة به ،إهنا اجلزء احلي الذي يؤكد حيويته
ويعمّق أثره فـي مسار حياتنا ،مبا يؤمّن له من وجود قادر على التشكل
والتواصل واحلوار ،األشياء فـي مثل هذا الوجود حتقق كائنيتها وتبين
معمارها املعنوي داخل معمارية املكان وهي ترفد شحنته وتعمّق أثره .إن
تداخل الكثري من أشياء البيت فـي أحالمنا دليل على جتاوزها رغبة االقتناء
إىل الفعل النفسي ،إن ذكرياتنا وأخيلتنا هي من صنع العالقة بني اإلنسان
وبيته ،عرب معنى السكنى .ما حيدث دائما هو أن الكيفـية اليت نعيد هبا إنتاج
وعينا باملكان تتم عرب التحوالت كما يقول لوفـيفر والتبدالت اليت حتدث
فـي أشياء السكن/البيت ،وعرب هذه التبدالت والتحوالت حتدث اإلشارات
ــ والتعبري للوفـيفر أيضا ــ والرموز واالبتكارات كلها ،فهناك دائما مثة من
جيرّب ويدرك ويتخيّل ،والبنية الثالثية هذه تتطلب إنسانا جيرّب األشياء
حياتياً ،يبتكر منطاً جديداً من العالقة معها ،وإنسانا يدرك أن العالقة تو ّلد
أخيلة ورموزاً.
يويل الدكتور اسعد األسدي أمهية للجسد داخل السكن ،وإن مل يذكره
بالتخصيص ،بل يذكر اإلنسان ،اإلنسان اجلسد هو غريه اإلنسان املعين
باجلسد ،اجلسد هنا حتقق الوجود املادي ،إشغال احليز ،بناء معناه الذي
12
حتققه العالقة مع السكنة اآلخرين ،فاجلسد هو حامل العالقة وحمموهلا
خاصة فـي البيت ،واألكثر خصوصية فـي حيز اجلسد ،حيث األسرة هي
اجملتمع الصغري الذي يرتبط مبا يشغله من حيز ،وهو البيت وفعل السكنى
فـيه ،واجلسد فـي العالقات البيتية يؤلف سياقاً معرفـياً غاية فـي التعقيد
والوضوح معا ،فهو جسدي اخلاص ،وفـي الوقت نفسه هو جزء من أجساد
تؤلف أسرة ،ولذلك يويل علم االجتماع اجلسد فـي بنية السكن أمهية
استثنائية فمشكلة السكنى مشكلة اجتماعية وجسدية حيررها املكان البييت
أو يقيدها ،أما إذا خرج اجلسد للمجتمع ،وإىل فضاء املدينة ،جنده يكتسي
محاية من اآلخرين بالقول املوجز وباحلركة املقتصدة الدقيقة ،واملسار
الواضح .حتدث الفوضى فـي الشارع عندما ال توجد مسافة تنظم عملية
املشاركة وتوجه حريّة الفرد بناء على طبيعة العالقة مع حريّة اآلخر ،املسافة
هي مت ّثل واع ملعنى الصلة الذي يؤمّن جما ًال أعمق للعالقات املنتظمة ،إن
الذات حتقق ذاتيتها بناء على تنوّع العالقة بني جمالني :خاص ،تنمو فـيه
العالقات احلميمة وتزدهر ،وعام ،تنتظم فـيه طبيعة مغايرة من العالقات
عرب احلد والتنظيم ،ينتقل اجلسد من حمدودية العالقات داخل األسرة ،إىل
فوضويتها فـي فضاء املدينة احلر ،يبقى فـي هذا الفضاء احلر مقيدا أكثر
حبرمانه من معرفة ما يفصله عن اآلخرين أو ما يقربه منهم .
فـي سياق معرفـي آخر ،يطرح الكتاب مجلة إشكاليات عن عالقة اإلنسان
باألشياء ،األمر الذي تتطلبه احلداثة فـي معاجلتها احلضور اإلنساني ضمن
جتربة إشغال احليز ،لذلك ال يبنى السكن بعيداً عما حتمله هذه التجربة
من ظالل إنسانية ،واملراقبة الالحقة ال تولد معرفة بل املراقبة اآلنية عندما
حيتل اجلسد والشيء حيزمها اخلاص املالئم هلما ،يوفر البيت مبفهومه
العام هذه األلفة ،مثلما يهيئ مساحة أوسع من التشكل العاطفـي ألنه تكوين
13
أمومي ،كل األشياء فـيه جتاوزت خصوصيتها ،بل ألغتها واندجمت فـي حلم
يقظة البيت/العامل .
سعى الكاتب بوضوح إىل جتريد األشياء من مقوالهتا السابقة وطرحها
للممارسة االجتماعية املنفتحة معتمداً على متاهيها باأللفة ،من قبيل ان
األشياء فـي تاريخ تداوهلا ميكن سلب التاريخ الشخصي منها ،فتاريخ
األشياء هو استعماهلا ،واألشياء ال حتيا من دون تاريخ خاص هبا ،صنعته عرب
وجودها العملي ،وهذا التاريخ هو هويتها اليت تتداول هبا فـي استعماالهتا
اليومية ،السلعة اجليدة تاريخ ،لكن االستعمال اليومي لألشياء يسلبها هذه
التارخيية ،وجيعلها حاضرة منفتحة على املستقبل ،إهنا لعبة للفنية ولعبة
لالعب ،وهذان احلقالن :الفنية والالعب ال غرض هلما بتاريخ اللعبة/
السلعة/الشيء ،إنك ال تتحدث عن تاريخ اإلناء وكيفـية صنعه ومن الذي
فكر فـيه عندما تستعمله كجزء من بنية العالقات السكنية فـي البيت ،وإمنا
يتحدث اإلناء حلظة االستعمال عن تاريخ عالقته مع اإلنسان عرب الكيفـية
اليت تطورت هبا هذه العالقة .يرفع الدكتور اسعد األسدي األشياء من
تارخييتها ويضعها فـي الالتارخيية ألن منهجيته الظاهراتية تعلّق أي تاريخ
للشيء ،تاريخ الشيء هو استعماله اآلني ،ومبرور اآلنية عرب االستعماالت
يتكون تاريخ الشيء اجلديد الذي هو تاريخ االستعمال املتحرك ،وليس تاريخ
صناعته ،ليس مكان إنتاجه ،وال هوية من أنتجه ،هبذه الرؤية سنجد أن
األشياء كلها قابلة ألن تكون معاصرة عندما نضعها حتت الرؤية االستعمالية.
فـي سياق معرفـي جديد ،وهو سياق بصري تركييب ،جند أن أية
كتلة ستذوب عند الرؤية ،تتفكك وتتحول إىل جزئيات صغرية أو خطوط
ومستويات ،تتالشى كالدخان ،فالرؤية استعمال وممارسة وتغيري ،ستتحول
الكتلة الصلبة إىل دخان ،إن ما نراه من كتلة ليست إال حلظة ال تتكرر إال
14
عرب آلية غري ثقافـية ،جتمعت هبا اخلطوط والنقاط واملواد ،وهذا التجمع
الكتلي ليس قاراً وال ثابتاً بقدر ما هو حالة لتفعيل أجزائه آنيا .تفتيت
الكتلة فـي العمارة هو بناؤها وليس تدمريها عرب صيانتها بأن تبقى جامدة،
لذلك يذوّب الكاتب مفهوم الكتلة فـي مفهوم العيش لتحقق الكتابة رؤيتها
فـي تأمل العناصر ومالحظة املفردات وهي تتشكل فـي مكوّن يعيش حواراً
متصالً مع غريه من مكونات األلفة فـي املكان ،ليجعل من األعمدة فـي البيت
تكويناً أليفاً يرفع عنه صالبته وحضوره الثقيل ،ويذهب جلماليته ليمنحها
فرصة قول كلمتها فـي إشغال الفراغ ،وحتقيق توظيفها اجلمايل الذي لن
يكتمل إال بإدراك طبيعتها ،هذا تذويب ملفهوم الكتلة حلظة تدخل فـي عالقة
انسجام مع السكن والساكن عرب جتميع موادها ألداء غرض مجايل ،على
الرغم من أهنا كتلة وقتية ميكن تفكيكها وبعثرة أجزائها ،وبالتايل فاللوحة
التشكيلية مثال ،ليست جدارا صلباً أو حاجزاً ملا وراء تكويناهتا ،إن ما فـيها
أو ما خلفها مكشوف ،عرب الرؤية العميقة اليت تضع عناصرها ،املرئية منها
وغري املرئية ،فـي عالقة تواصل ،وهي تتشكل مبقدار ما حتقق من تضافر
ونسج بني عناصرها ،إن املعرفة ال تتم إ ّال عرب أجزاء قابلة للتواصل والتكوين
من جديد ،وليس عرب كتلة ال تتفكك ،إن ما جيعل املعرفة قائمة ودائمة هو
قدرهتا على بناء أشكال جديدة من أجزاء متفرقة وقدمية ،وهو ما أُشري
إليه باملقتنيات ،كمبدأ من مبادئ ما بعد احلداثة أي امليل إىل اعتماد البنية
اجلزئية ،الساخرة ،واهلزلية ،واالعتباطية ،والكائنة على السطح املكاني،
وليس فـي عمق املاضي ،فـي حلمة األفكار القارة .
كيف نكتب عن األشياء ،رمبا لن يصل بنا التساؤل إىل أجوبة معينة ،ولكن
أن نكتب معناه أن نعرف ،واملعرفة املكانية حتتاج إىل أدوات غري تلك اليت نقرأ
فـيها نصاً سردياً ،يسميها الدكتور اسعد األسدي الكتابة من الداخل ،فـي
15
العمارة كما فـي أي نص لفظي ،جيب أن تكون الكتابة من الداخل ،مبعنى
معرفة مكونات الشيء الذي تكتب عنه وتبيّن عناصره ،مثة عالقة بني توازن
الصب الكونكرييت للبناء ووجود خارطة هندسية ومهندس ،فـي إطار العالقة
املكانية جند أن شحنات املكان هي اليت تؤسس لثقافة السكن ومن ثم على
الساكن أن يفهمها كي ميكنه التعايش معها ،الكثري من عمال املقابر تآلفوا مع
شحنة القرب ،انسجموا معها عندما هيمنوا عليها ،والكثري من مرضى الفوبيا
يعيدون صياغة القبور فـي األمكنة املظلمة ألهنم يعيشون حتت هيمنة املكان
املغلق وظالمه ،الكتابة من الداخل تعين التحرر من كل ماهو خارجي مسبق،
إيديولوجي معطى ،ثقافـي قار ،نص مهيمن ،احلرية فـي الرؤية هي الفعل
فـي بناء النص املكاني احلديث .
2
ال أحتدث عن حيوية مثل هذه الكتابات داخل املنجز الثقافـي ،ولكين
أشري إىل أن التفكري سيكون عاجزا عن أن يعطي صورة عن شيء ما من دون
أن يعرف مكوناته املكانية األوىل ،تقول مدرسة ما بعد احلداثة ال ميكنك
أن تسيطر معرفـياً بدون أن تسيطر على اجلغرافـيا ،ولك أن تفهم هذه
املقولة بإبعادها االبستمولوجية والتطبيقية على مستويات السرد واللوحة
التشكيلية والعمارة والشعر وحتى إيديولوجيا اإلنسان املعاصر ،هذه الكتابة
تعيد التفكري إىل نقطة الصفر ،عندما نبدأ وكأن كل املعارف ال تبدأ إال بعد
أن نفهم مكوهنا الفضائي ،وقد عبّر سوسري بذلك عن اللغة ببنية التعامد
واألفقي املكانيني ،وحديثاً ال جتد فعال ليس له بعد مكاني ،مثل هذا التصور
الذي يدخل مليدان اللغة كان غائبا ال بل عد جزءا من الظرفـية املؤكد حلركة
األفعال ،فـي حني أن أي فعل ال يكشف عن جذره الفضائي أو اجلغرافـي
16
يكون قاصراً على االستمرار لغوياً ،ومن هنا حتاول الكتابة اجلديدة أن تأخذ
بيد القارئ للكيفـية اليت يقرأ هبا جمتمعه وفكره وثقافته وللكيفـية اليت يكتب
هبا نصه ،هذه الكتابات هي فرشة ممهدة ألرضية بكر فـي النقدية العربية،
ونأمل أن يتكامل مشروعها فـي التعبري عن إمياهنا بأن الكتابة عن األشياء
اليومية واملألوفة هي األرضية اليت تؤسس رؤية واعية للنصوص اإلبداعية.
إن ما نفكر به معمارياً هو ما نفكر به حياتياً ،فالعمارة ليست بناء كتلياً
صلباً ،بقدر ما هي خلوة للروح كي تستقر وتبدع وتنتج فـي دواخلها املضيئة،
العمارة منظومة مكانية يتكلم عربها الفضاء كما يقول يوري لومتان ،شفافة
تُخرتق بالرؤية القصدية وبفاعل آني حيدد العالقة معها.
3
ابتداء من مفارقة العنوان ،حيث السكن مكاناً واملكان سكناً ،يدخلنا الدكتور
أسعد األسدي فـي حلمة الشيء وحلائه ،وعلى الرغم من قرب العالقة بني
السكنى وهو يعين الوعي باختاذ مكان للعيش ،وسكن املكان الذي ال نعرف
إال أن يصبح غامضاً وعمومياً ،يرتاوح معنى السكن بني سكنى املكان ،وسكن
املكان ،وعندما يكون املعنى «سكنى» أي املأوى والبيت والعيش ،يتداخل فـيه
الفعل اإلنساني ويتماهى فـي حضور واحد ،وهو ما دارت عليه كتابات هذا
اجلهد املتميز .
مل تكن احلداثة حمض مقوالت يتداوهلا بعضنا ،بل هي إجراءات عملية،
تشمل اآلداب والفنون والعمارة واملدينة واجملتمع واالقتصاد والناس ،وأية
قطيعة بني واحدة وأخرى تُحدث خلالً فـي مفاهيم احلداثة ،وتعطل التصور
الكلي عنها .
الدكتور أسعد األسدي مهندس معماري له إسهامات عديدة فـي اهلندسة
17
املعمارية ،تنظرياً وإجراءات ،ومن هنا فهو يقدم فـي هذا الكتاب تصوراً
منضبطاً إىل حد ما عن العالقة بني املكان واحلداثة ،ولذلك فرؤيته
للحداثة تتم عرب منظور حمدد ،إهنا تتحقق عرب العمارة البيتية ،وكما يقول
«نيتشه» الرؤية ال تكون إال عرب منظور حمدد فقط ،وكذلك املعرفة تتم من
منظور حمدد أيضا ،لذلك جتد املؤلف يقدم وجهات نظر خمتلفة هي ما
مياثل عدد األمكنة فـي الواقع ،فعدد األمكنة هو عدد وجهات نظرنا كما
يقول «ديفـيد هارفـي» ،وهذه األمكنة وإن احتواها اسم واحد« :بيت» إال أهنا
ليست متجانسة ،فعرب كل نص أو معاجلة جند أنفسنا إزاء بيوت خمتلفة،
ومن هنا أيضا يكون ثراء هذا الكتاب الذي يؤسس لعالقة منهجية بني
العمارة والقراءة األدبية ،وهو ما حنتاجه لتقريب الفضاءات الكونكريتية،
الصلبة والعمودية ،من مداركنا السردية والشعرية والنقدية .
مبا أن عمارتنا ال تتجاوز اخلمسة طوابق فـي معظم األحوال ــ وحنن
هنا نرصد احلالة العراقية ــ فلن تكون لدينا عمارة إال باملفهوم اخللدوني
وهي عمران اإلنسان واملدن ،ولكن الدكتور أسعد األسدي ال يعايش العمارة
ذات الطوابق القليلة فحسب ،بل ويركز على البيت فـيها ،أو مبعزل عنها،
وفـي تركيزه على السكن فـي العمارة أو خارجها ال جنده يويل أمهية كبرية
لفضائية هذا البناء العايل ،أو لبيت فـي الطابق العشرين أو الثمانني ،حيث
يبتعد السكن عن األرض ،ليولد إيهاما بالكواكب والنجوم ،وتصبح الرؤية
حملقة مبا هو غري مؤطر ،جل معاجلاته تقع ضمن فضائية العمارة أو البيت
املضطجع ،وليس الواقف أو العمودي ،سنجد أن رؤيته هذه قد احتمت هبا
مفهومية السكن الذي تقع عليه رؤيتنا ،وليس العكس ،ألن السكن األفقي
يُحاور عرب توافق العني مع األذنني ،أي الرؤية األفقية للصوت وللعني،
بينما يُحاور السكن العمودي عرب جدلية العمود ،عرب الزمن الوجودي ،وقد
18
خيتفـي االثنان من املتابعة فال العني ترى البعيد وال األذن تسمع ما يدور،
هذا اإلهبام هو فـي صلب مغايرة سكن البيت عندما يكون كل شيء فـيه
مرئياً ومسموعاً .
4
مل تكن العالقة بني العمود واحلضارة اعتباطية ،بل استجابة ميثولوجية
للوجود ،فالعمود يعين الوجود الفاعل ،الوجود املتحدي ،وتعين الزمنية
األفقية ،التاريخ ،واملشاعية ،والرؤية املسطحة اليت تشدك إىل املاضي ،عرب
األعمدة تتغري اجملتمعات ،وتؤسس حلضارة متطلعة ،فالتغيري والرؤية إىل
األعلى حتد للقوى الغيبية اليت تشدنا إىل الوراء ،فالسحرة والشياطني
ال يعيشون فـي السماء ،بل يهبطون منها ليمارسوا أفعاهلم على األرض،
اإلنسان وحده يتحرر من جاذبية األرض ،لينطلق للسماء كي ينقذ نفسه
وأحالمه من القوى األفقية الغيبية والتارخيية .هكذا تقرتح الشعوب
مدهنا متطلعة للمستقبل ،ومشاركة بفاعلية اجلماعة للتغيري ،فـي حني ال
تتطور الشعوب اليت تبين عمارهتا أفقيا ،وخبط مستقيم كما لو أن اجلميع
مشدودون إىل حقائق ثابتة ويقينية .
ما جيعل سكن الدكتور أسعد رومانسيا ،حمبباً ،أنه يعيد تشكيله ثقافـياً،
وليس معمارياً ،وهذا ما يقرّب الصورة احللمية للواقع كما لو أهنا أشغال
جزئية على جدار أو خلوة أو سطح ،هذه البنية األفقية صادقة وحمببة
ألننا نعيش فـيها ،نبين فـي ظالهلا ذواتنا وحنيا توارخينا .
19
5
20
سكنى المكان
سكنى املكان
علوق
بيوت
بيوت جديدة
عمارة املدينة اآلتية
21
سكنى املكان
مع إن املدينة التي نسكن فيها واحدة ،غري إن مداخلها واملنافذ اىل أعامقها
ليست واحدة ،إذ إن لكل منا مدخله اىل املدينة ومساراته فيها ،وصورهتا
املتفردة التي يبنيها ،وسعادته التي جينيها .ونحن نتلقى كرم الوجود وهو
يأيت بفعل املعرفة ،بام هو خاصتنا ومدينتنا وعاملنا .ومع إن يف املدينة سوانا ،
فاخلالص يف أن ننفذ اىل مانرى ،وأن نقدم لآلخرين قو ً
ال خمتلف ًا عام ألفوه.
يف العامرة ،اجلسد الذي نسكنه ويسكننا هو الذي يتلمس املكان ،يلجأ
اىل األرض ،يتحسس اجلدران ويرقب السقوف ،تعرتض خطواته األعمدة
والسطوح .اجلسد الذي يصعب إهيامه ،ليكون إنشغال العامرة باملكان حدث ًا
واقعي ًا ،بوصفها فن ًا يستهلك املكان ويعيد إنتاجه .ومع إن للعامرة قدرة
قراءة املكان وتأويله ،غري إن ذلك يتجسد مادي ًا يف ما يطال املكان من حتول،
ليكون ما تعتقده العامرة عن املكان هو ما تقوله يف صورة مكان ،يف حضور
األشياء وإستحضارها ،يف سعيها لبناء األلفة بني األشياء والوصول بذلك
اىل صورة العامل .يقول (بورخس) ( ...يقبل املرء هبذه األشياء املتنافرة
التي نسميها العامل ملجرد أهنا توجد مع ًا) ،إذ يف وجود األشياء مع ًا مدخل
لقبوهلا .ونحن نضع األشياء معا ألهنا مقبولة ،بمثل قبولنا تلك األشياء
ألهنا موجودة مع ًا .فاملسألة يف العامل سكن كل األشياء هو حال وجودها .
23
ومع إن لكل موجود يف العامل مكانه الذي اليشغله سواه ،ومع إن املكان يف
العامل متصل يف حتوالته كلها ،فإن مهمة العامرة أن جتاور األشياء واألمكنة
وأن تداخلها ،أو أن تتعمد مباعدهتا وعزهلا عن بعضها .فالوجود مع ًا حال
ذو عواقب شعورية وذهنية خمتلفة ،وقد ال يكون التوافق يف نمط وجود
األشياء وحده ممكن ًا أو مقبو ً
ال ،إذ ليس قليل القيمة بذاته أن توجد األشياء
لصق بعضها ،فهو حال يصعب إختزاله ،غري إننا يف اإلبداع نعيد ترتيبه كي
يؤدي اىل تكافل األشياء ،وتوصلها لبناء عوامل متاميزة .
حتاول العامرة أن تبني يف املكان تفرده ،يف اخلارج حيث يسكن املبنى
أمكنة غري متامثلة ،تكون مهمته تلمس معطياهتا يف حوار يتكفل املبنى
مبارشته .وحيدث يف العامرة أن يتحول املكان اىل ال مكان ،عندما تفشل
األبنية يف تلقي مكاهنا حيث حتل ،ويصبح يف حضورها الالمنتمي اىل عامل
يرعاها إقرتاف ال عامرة ،يعجز مكاهنا الذي تلده عن أن يكون مكانا ،إذ إن
ما يتوجب عىل العامرة بلوغه ،هو إيقاظ املكان يف الالمكان بوصفه املمكن
الذي جيهز للحضور .كام يتولد املبنى يف الداخل يف مدى ما يتولد عنه ،وهو
مبنى خيتلف عن سواه يف إختالف ما يأيت به من مكان ،حيث تستعاد حكاية
الفعل اإلنساين يف رواية جديدة ،فيكون العيش يف املبنى غري ما تعودناه،
هروب ًا من عودة الفعل نحو أفق حكايته .وبذلك يتكفل املكان بتجلية
القصد واملعنى وهو يستحيل بعد ًا للوجود اإلنساين ،وليس حمض فضاء
حلضور الوجود.
وإذ جتدك مشغو ً
ال بعمق يف مبنى تصوغ فضاءاته الداخلية حماطة
24
بسواها ،وهو يبدأ حواره حيث يسكن شارع ًا يف املدينة ،يدامهك الفضاء
اخللفي املهمل ،يف هدوء وصمت ،ساخر ًا كمن يدري أن ال مفر منه .
تسأل ،هل ثمة أماكن سلب ما نعتني به من أماكن ؟ بفعل متايز اإلستعامالت
وتعالق الفضاءات ،فتكون بعض األمكنة خادمة وبعضها خمدومة ،أو
تكون أمكنة داخل األمكنة وأخرى خارجها ،وأمكنة ثالثة تصل بني تلك
األمكنة ،دون أن يرتدى املكان اىل الال مكان .وإذ تواصل العامرة مهمتها،
تأيت ببعض األماكن اىل الضوء وتذهب بأخرى اىل الظل ،غري إهنا ال هتمل
يف كل حال إيقاظ املكان يف الالمكان ،إذ تعتني أيضا بالفضاء اخللفي املهمل
بوصفه فضا ًء خلفي ًا مهم ً
ال .كام تديم األمكنة حتوالهتا ،فاملكان الذي تسكن
فيه يصبح ال مكانا حاملا هتجره ،واملكان الذي تذهب اليه من جديد هو
املكان .عندما يكون املكان موضوع معايشة وعناية وجتربة يصبح مكان ًا ،وله
خصوصية التجربة واملعايشة التي ألفها ،وإذ هيجر املكان يفتقد اىل الكثري
ال ،يسكنهامن مكانيته .فعندما نغادر البيوت تصبح خراب ًا ،تستحيل أطال ً
الرتاب والظالم والصمت ،يسكنها الغياب .املكان الذي تسكنه هو ليس
املكان الذي تغيب عنه ،املكان املهجور مكان آخر .وقد يكون مكاين هو
املكان ،وما ليس بمكاين كيف يل أن أدرك مكانيته .
البيت الذي أسكنه ال أفتقد السكن يف سواه .البيوت التي نسكنها
صغرية أو كبرية ،البيوت الصغرية ليست صغرية حق ًا ،والبيوت الكبرية
ليست كبرية اىل هذا احلد .يف البيوت الصغرية يبدو الفضاء كافي ًا ،واألشياء
قريبة ومتاحة وعند املنال ،واألشخاص الذين يشاركونك املكان موجودون
25
أمامك وقريبون ،والعائلة التي تسكن البيت جتد رسيع ًا أشياءها التي تريد،
كام إهنا ال ُت ُ
سكن معها إال األشياء التي هي يف حاجة اليها ،فالبيت ال يتسع
اىل املزيد الفائض من األشياء .أنت وعائلتك وما جتنونه معكم حلاجة اليه
وبمحبة ،تسكنون بيت ًا ال يعود صغري ًا كام قد نتوهم بل ٍ
كاف .والبيت الكبري
يتيه فيه األشخاص عن بعضهم ،وتتيه عنهم األشياء وهي تزداد وتتعدد كي
متأل الفضاءات وتشغل اجلدران ،تتباعد إثر تباعد اجلدران ،فالفضاءات
الواسعة تعربها خطوات األشخاص العديدة والطويلة وهم يتوزعون يف
الغرف والصاالت ،حيث فضاء اجللوس ومشاهدة التلفاز ،وفضاء آخر
يلهو فيه األطفال ،وفضاء ثالث جتالس فيه سيدة املنزل جليساهتا .فضاء
اجللوس هو اآلن فضاءات ،وفعالية اجللوس هي اآلن متعددة وخمتلفة،
ويومك هنا مفتت وممدود يف عديد الفضاءات وإتساعها ،وجملس العائلة
مفتت هو اآلخر ،فللرجال جملسهم ولألطفال وللسيدات ،والعائلة موزعة
بني متاحات اجللوس واإلستعامل ومتعدداهتا من الصاالت العديدة
والواسعة ،فالبيت كبري واألشياء التي تسكنه كثرية وكبرية ،النافذة والباب
واجلدار ومربع البالطة وشاشة التلفاز وطاولة الطعام وخزانة الثياب
والكريس اهلزاز ،كل األشياء هنا كبرية ،ويصبح البيت وهو يتسع لك
ولعائلتك وللمزيد من اآلخرين يقصدونك يوما ما ،واألشياء أيض ًا ،ماتلح
احلاجة اليه اآلن وما حيتمل أن تقصده يف القادم من األيام ،يصبح البيت
الكبري أفق ما تأمل ويأملون ولن يكون كبريا وحسب بل فائض .
لك أن تسكن ركنا يف العامل ،يسعك وجتد طريقك اليه يف هدوء وصرب،
وليس لك أن تسكن بقية العامل ،يف بقية العامل يسكن ما يتمكن منه اآلخرون.
26
علوق
27
يف سعة هذا العامل هو مكانك الذي تنتمي اليه ،وهو مرصدك الذي يأتيك
بصورة العامل واألشياء ،وإذ تغريه تتغري صورة العامل من حولك ويتغري
العامل ،ويقع التشويش يف معلوماتك البرصية ،وحيل التيه يف املعرفة ،وكيف
للوعي واحلس أن يقعا عندما ال يكون لك مرصد ترقب منه سواك ،فيكون
هو الثابت الذي يبرص املتغريات من حوله ،يف صورة يتيحها املرصد لعامل
يدون كتاباته وجتلياته يف مديات تلك الصورة .وهكذا تبنى حياتنا اليومية
ّ
يف عديد األمكنة ،أحدها يؤدي اىل اآلخر ،مكان بسعة ما وزاوية رصد ما
يؤدي اىل مكان آخر بسعة أخرى وزاوية رصد خمتلفة .أمكنة بمعطيات
ولقى ذهنية وحسية ،هي التي جتتمع لتؤدي صورة العامل .وقد يبدو املكان
املجرد فكرة مؤسسة ومنظمة لإلدراك ،غري إن املهم يف األمر هو األمكنة
موضوع التلقي واملعارشة والعلوق ،تلك التي تقدم للعقل معلوماته احلسية
يدون تقرير الوعي بالوجود .
والذهنية وهو ّ
نعلق يف املكان ويعلق فينا ،حيمل سكان القرية قريتهم حني حي ّلون يف
املدينة ،وحيمل سكان املدينة مدينتهم حني يسكنون القرية .يف احلي الذي
أسكن ،شيخ وعجوز يسكنان رصيف الشارع ،جيمعان بعض األحجار
وقطع ًا من اخلشب اىل بعضها وفوق بعضها ،ليسندا وسادة خشبية تسعهام،
يغطياهنا بفراش سميك رث ،وجيلسان أو يرقدان فوقها ،إن يف الصباح وإن
يف املساء خارج سور البيت ،حيث أصادف أحيانا حضور من يزورمها من
أوالدمها وصغارهم ،جيلسون قرهبام عىل حافة الوسادة اخلشبية وقامشتها
الثقيلة البالية .شيخ وعجوز ،يبدو إهنام يرثان أمكنة القرية التي علقا فيها
28
وعلقت يف أجسادهم ،يأتيان هبا اىل املدينة ويسكناها أرصفة الشوارع ،مها
ورثة بيوت القرية التي تسكن فضا ًء مفتوح ًا متصال بالسامء ،يرقب املارة من
الناس واحليوانات ،ال يألفان أن يركنا اىل بيوت املدينة ،حيث األسوار التي
تعزهلا عن الرصيف والشارع ،وألن الصيف عاد من جديد ،ترامها وقد
عادا اىل جلستهام تلك ،يمضيان النهار ومها يلوذان بظالل صغرية تصنعها
مظلة متهرئة من مشبكات القصب الكالح ،ويأيت املساء فيقضيان نومتهام
يف العراء ملتصقني ،وعندما يغفوان ومتر اىل جوارمها العجالت ،هتدّ ىء
من رسعتها وختفت أضواءها ،التريد إيقاظهام ،إن لنومهام سطوة تربك
احلركة يف الشارع وهو يمر لصقهام هادئ ًا مضطرب ًا خج ً
ال ،الشارع سكنهام
وليس معرب ًا لآلخرين كام تدعو اىل ذلك خمططات املدينة .ونحن أيضا ورثة
حكايات أمكنة القرية ،نسكنها يف بيتنا اجلديد وسط املدينة ،إذ نرتقي الس ّلم
يف ليايل الصيف اىل سطح ترطب برذاذ املاء منذ العرص كي ننام هناك ،تصل
عيوننا أضواء النجوم ،وتلك هي سليقة الريف ،النوم عىل سطوح املنازل،
وكيف ملن أمىض طفولته يف القرية أن يقر اىل غرف بيوت املدينة ويغفو حتت
سقوفها القريبة الدافئة.
بودي لو أعلق يف كل يشء ،كل مكان ،أدخل الغرفة كي أرقب جدراهنا
وألواهنا وأشياءها ،وأميض وقتا طوي ً
ال فيها ،أدخلها ذاكريت وعزلتي،
وأعيد جتليتها يف هدوء يكشف عنها و تكشف عنه وهي تتكشف فيه.
أدخل الكتاب ،وأقرأه كلمة بعد كلمة ،أعيد قرائته وهو يعيد حضوره يف
كل قراءة جديدة ،أقرأ اجلملة وأعيد قراءهتا ،أتلوها ،أنصت لكلامهتا وهي
29
تدخل أذين ،والكلمة أتلفظها من جديد ،حرفا بعد حرف ،أعلق فيها ،يف
الكلمة ،يف اجلملة ،يف الكتاب ،يف الغرفة ،أعلق يف مدينتي ،يف العامل .أي
عالقة عميقة وحازمة وهنائية هي العلوق ،تلك الكلمة التي يبهرين إكتشافها
وهي تقود خطاي اىل األشياء واملدينة والعامل .العلوق بقاء مديد يف األمكنة،
وزمان يساكنك العامل يف صمت يعرب الساعات واأليام ،علوق ينبع من
علوق ،وعلوق يؤدي اىل علوق ،ينقذنا من زمحة األشياء ،من تواليها ،ومن
تسارع العامل ،يعيد لألشياء ثباهتا ،وللوجوه مالحمها ،فال تغيب يف تعدد
جتلياهتا ،خارج العلوق هيدر العامل حتوالته التائهة دونام ضفاف .
يف رواية (غرفة مثالية لرجل مريض) للروائية اليابانية (يوكو اوغاوا)
تعلق بطلة الرواية يف غرفة يف مشفى حيث يرقد أخوها منتظرا هنايته بصمت،
إهنا تقول (هنا ال أشعر بوطأة الوقت اذا مل أجد ما أفعله ،ففي وسعي البقاء
لساعات من دون أن أفعل شيئا ،إذ يكفي أن أراقب أخي مستمتعة بنظافة
غرفته التي ال تضاهى لكي أشعر بالرىض) .كانت تتلمس نظافة السطوح
واألشياء ،تبرص بريقها وصفاء ألواهنا ،وهي تركن اىل فضاء صغري مألوف،
يكفيها عن عامل مضطرب خارج الغرفة .وقد يعلق البعض يف أمكنة ملتبسة
تقود خطواته اىل احلرية ،مثل بطل رواية (املقربة) للروائي العراقي (حممد
شاكر السبع) ،وهو يقصد مدينة النجف لرشاء قطعة أرض يف مقربهتا ،
تكون مالذ ًا مأمو ً
ال جلسده البارد ،غري إنه يعلق هناك فال يقوى عىل مغادرة
املدينة ،كام لو كان ينتظر رقدته األخرية .ليست الغرف كلها عىل أية حال
تدعونا لنعلق فيها ،وال حتى املدن كلها.
30
صغار ًا كنا ،نصنع بيوتا من وسائد ،نرتبها حولنا ،تصطف جوار بعضها
وتتعاىل ،تاركة فتحة صغرية نعربها اىل الداخل ،حيث نجلس هناك يف فضاء
صغري حياذينا ،تدور حوله الوسائد ،ونسميه بيت ًا ،نصنعه ونعلق فيه وسط
فضاء الغرفة الواسع العريض ،الذي نحل فيه ونشعر إنه كبري وأكثر من
حاجتنا اىل مانسميه بيت ًا ،صغار ًا كنا ،ومانفعله نتاج شعور يرقى يف القيمة
اىل اللزوم ،ينبىء بام نحلم به وما نحن يف حاجة اليه ،وهو ينجيل يف الزمان
القادم عن مؤسسات من الدور واألبنية والسكنى.
31
بيوت
مسا ًء ،وبعد أن تناولت قدح الشاي الدايفء ،تذكرت صوت اهلاتف
الذي فاجأين وكنت أجول يف زمحة السوق ظهرية ذاك النهار ،يسألني عربه
أحد األصدقاء أن أجيب دعوته اىل جولة يف شوارع املدينة ،نتحاور خالهلا
عن مالمح البيوت التي ترتبع مساحات الفضاءات ،وترسم جهد مالحمها
صورة للعامرة جديدة ومتحولة .وافقت يف احلال ،مقرتحا أن نبدأ اجلولة
ال ،وتلمس سطوحها وتلقي خطاهبا واإلنحناء يف ترقب البيوت القديمة أو ً
جلالل حضورها ،وقد عربت عقود ًا من السنني يف رفقة أهنار املدينة ،ويف
تلقي هنارات شمسها الصيفية احلارقة ،وهي بداية أجدها منفذا إلدراك ما
هو جديد من بيوت املدينة .
ـ ما رس تعلقك بام هو قديم ؟ وما الذي تبقى لدى هذه البيوت لكي
تقوله ؟
ـ ال خيلو يشء من قول ،أما عن هذه البيوت فلدهيا الكثري ،واملهم يف
األمر أن نستمع لذلك القول ونقرأ كلامته .
إن أول ما هيمني يف هذه البيوت والتي ننسبها اىل طراز العامرة التقليدية
هو خضوعها للتقاليد .إذ إن العامرة التي تتأسس عىل تقاليد معامرية ختصها
33
يتاح هلا أن تبني أسلوب ًا يميزها .وعندما يكون مصدر هذه التقاليد نوايا
املجتمع املحتكمة اىل فكر وعادات وقيم هلا حضورها وتدخلها يف سلوك
األفراد وتنظيم عالقاهتم االجتامعية ،كام هو احلال يف التقاليد التي نفذت اىل
بنية البيوت ومالحمها ،فإن العامرة يف هذه احلال تكون صورة مقبولة ومنتمية
اىل جمتمعها .وليس أقل من عالقة األنتامء مدخ ً
ال لقبول األشكال املعامرية
وألفتها وإدراك رسالتها ،لكي تكون يف عداد ما هو مجيل مما تتلقاه األبصار
كل يوم.
البيوت التقليدية نتاج العقل الذي يؤسس لتقاليد يقرتحها ،ويعتمدها
يف إنتاج موضوعات اخللق احلضارية واإلبداعية ،والعامرة إحداها ،يكون
من دواعي الثقة واإلنحياز اىل تلك التقاليد ،العمل عىل تكرار إستحضارها
والعودة اىل إستشارهتا ،كام يتجىل يف ظاهرة العودة والتكرار واملامثلة التي
حتتفظ هبا نتاجات العامرة التقليدية .وهي ظاهرة ليست قليلة األمهية يف
إشارهتا اىل قبول هذه التقاليد وتأكيد عوامل نجاحها وتراكم اخلربة يف
التوصل اىل املثمر فيها.
مع التفكري واملامرسة التقليديني كان اإلعرتاف املجتمعي واملعريف بقيمة
وجود التقاليد وإحرتام سطوهتا ،هو بعض مالمح املحافظة التي وسمت
املجتمع التقليدي ،التي خلفت ما يمكن أن يحُ كى وما يمكن أن ُيستعاد يف
هيأة مميزة .والبيوت التقليدية هي بعض املدينة التقليدية ،وتلك مدينة مفقودة
ضاعت حتت معول التجديد ،وتوزعت بقايا أشالئها املتشظية خلف وجوه
الشوارع اجلديدة ،التي ما برحت سهامها تنفذ عرب نسيج املدينة العمراين،
34
حممولة عىل عجالت متسارعة عىل مرأى املارة الذين تغزوهم الدهشة .غري
إن احليوية التي نحلم أن حترض عىل الدوام ،تكمن يف أن ينمو جديد املدينة
من قديمها ،وأن جتتمع األزقة امللتوية بعد أن متر أمام البيوت اىل الساحات،
وأن حتبو أقدام املارة حانية عىل أحجار األرصفة وهم يمرقون أمام األبنية
وعرب األسواق ،وأن تبقى العجالت بعيدة عن املمرات املكتظة ،يتاح هلا إثر
ذلك أن تنطلق مرسعة ،وهي مالمح تفتقدها مدينتنا احلارضة .
ـ أنت كام أرى تستعيد حلم املدينة القديمة ،وهي مل تعد سوى خراب !
ـ خراب ! كل األشياء تشيخ وكل املدن تشيخ ،ويف مدينة كالتي نأوي
إليها ،حيث البيئة القاسية بشمس صيفها الالهبة ورياحها الصحراوية
املرتبة حينا والدبقة حين ًا آخر ،وبأمطارها التي تداهم البيوت وسقوفها
املطلية بالطني ومزاريبها املسدودة ،ال أجد سبي ً
ال أمام اجلدران كي حتتفظ
بربيق طابوقها عىل الرغم من حثيث جهدها لكي حتتمي ،وهي تتقارب
ويظلل بعضها البعض االخر .ومع إن البيوت تبني جدران غرفها العلوية
املطلة عىل الزقاق بسطوح خشبية باردة مزخرفة ،ومزينة بزجاج ملون ذي
إرشاقات المعة ودافئة يف فضاء الغرفة ،وتلك بعض عطايا الشناشيل التي
تربز عن اجلدران ،مؤدية عناية األبنية بإلقاء ظالهلا الباردة عىل وجوه املارين
يف األزقة ظهرية النهارات الصيفية املدجنة ،ومع إن اجلدران الطابوقية
تثخن وتتامسك وتسد املنافذ يف املفاصل بني الطابوق باجلص أمام سيول
املطر ،غري إن السنني متر واملدينة تشيخ أمام عيون سكاهنا املتقاعسني عن
ملسة عناية ،إذ يعوزنا جهد الصيانة ونزعة احلفاظ أم ً
ال يف بقاء املدينة وجتديد
35
شباهبا .وما خراب املدينة إال هجاء لسكاهنا وهم يرقبون أفول اجلامل
ومغادرة رعاياه من ملسات كانت ترقد عىل سطوح األبنية وجدراهنا .
ـ عن أي مجال تتحدث ؟
ـ ....مجال احلرفة وجهد الصنعة والعناية وثمرة زمان العمل الطويل
والعنيد ،حيث يغزل احلريف والب ّناء السطوح املعامرية ،عاملني اليد والفكر يف
شكل املادة البنائية وتفاصيل مفرداهتا ،باحثني عن قدرهتا عىل بلوغ الشكل،
حيفرون يف اجلدران الذوق واخلربة واملعرفة ،وخيزنون احلس الرهيف،
ويصنعون احلضور يف األشياء ،ال يغادروهنا إال اىل بقاء .عناية ومهارة حرفية
نفتقدها اليوم وقد غابت ليس عن اجلدران فحسب إنام غابت بدء ًا عن
العقول واألصابع .
ـ نحن اآلن كام تعلم يف زمان ما بعد احلداثة ،زمان مجاليات الرسعة
والتحول والتعدد ،أين منا ما حتلم به !
املنظرينصالحيةالطرزاألقليميةألنمتارسحضور ًا ـيقرتحالبعضمن ّ
ناجح ًا ومسامهة خالقة يف زمن عامرة ما بعد احلداثة .وهي طرز متثل جتارب
معامرية ناجحة يف جمتمعاهتا ومقبولة بدليل عمق حضورها و ُبعد زمنيته.
ويف بنية مدينة صغرية وتقليدية هلا عامرة متيزها مثل مدينتنا ،يعمل سوانا
عىل صيانة بقاياها وعمل املزيد لتأكيد خصوصية عامرهتا ،يف نية عرصنة
بنيتها وإعادة توظيفها إلستعامالت جديدة ،ليس أقل من إعتامدها فرصة
لفضاءات املتعة والرتفيه ،وربام السياحة لسكان املدينة وزوارها .ويف مثل
هذا احلال يكون من املالئم إحتفاظ املدينة بإيقاع هادىء ،وهي تستضيف
36
حركة السابلة وتقدم جتلياهتا يف توافق مع حركة توافدهم ،ليكون متاح ًا هلم
التمعن يف السطوح البنائية وتذوق نتوءاهتا ومجال زخارفها .إن عقل مابعد
احلداثة الذي تذكرين به وهو يسود زماننا احلايل ،يفتح أبواب ًا واسعة للمزيد
من التنوع والتعدد يف األفكار ،وليس عصي ًا قبول ما هو قديم عندما ننجح
يف إعادة صياغته وتأويله ،كي يديم احلياة تواص ً
ال مع ما هو جديد .وهذا
أحد وجوه ما بعد احلداثة من دون شك وليس كل حكايتها كام يمكن أن
نتذكر .إن اإلحتفال بام هو قديم ومتوارث والوصول اىل جتديده وإحيائه هو
مصدر شعور بالسعادة .إذ نعاين مجيع ًا احلنني ملايض األمكنة ،حيث تسكن
الذكريات وصور زماننا املفارق وبقايا وجوه الرفقة .وليس أقل من ذلك
دعوة اىل التمكن من املايض ،يف إعادة إستحضاره وإيوائه يف املستقبل .ومن
هنا تتولد رغبتنا يف أن حتتفظ املدينة بعامرهتا وتستعيد يف اجلديد من أبنيتها ما
هو قديم ليتجدد.
ـ وهل جتد ذلك من مهامت البيوت اجلديدة يف املدينة ؟
ـ إن أي مبنى جديد حيرض لكي يشغل جزء ًا من املدينة حيتله لعقود قادمة،
يلزمه أن يعي عواقب حضوره .وليس أقلها نيته أن يكون مؤثر ًا ومتحاور ًا
مع جماوراته ،ومسامها يف جتديد اخلطاب الذي تدعو اليه ثقافة العامرة .ويف
مدينة ذات إبداع ومبدعني يرقبوهنا كل يوم ويقرأون فضاءاهتا ومبانيها يف
نصوصهم األدبية والفنية ،ال شك أن تواجهك الدعوة اىل التجديد لكي
يظهر للمدينة وجه آخر تلتذ بقراءته النصوص .مدينة متحولة تتولد عنها
قصائد وقصص وحكايات ،ودون ذلك حيل بكلامتنا وبعيوننا الظمأ .
37
إن عىل مهندس العامرة أن يعي حاجة اإلنسان اىل إستدعاء املتعة يف
حضور األبنية ،وهي املوجودات األكثر قرب ًا من إنساهنا واألكثر هيمنة يف
الوجود والبقاء .وجتاه حلم القصيدة واحلكاية ،علينا أن نخلق األشكال
ذات املعلومة احلسية اجلديدة ،حيث إن البيوت التي ما برحت تتوالد حتاول
ذلك ولكن بتخبط ،يعجز يف أمثلة كثرية عن إجرتاح طراز خمتلف ومتميز.
ثمة والشك نزوع اىل إدخال مواد بنائية جديدة وما يتبع ذلك من لغة
خمتلفة ،غري إهنا تربك لغة العامرة التقليدية ،وتنسى سعي ًا قيميا يلزم عقد
التواصل مع ما هو قديم وموروث .وربام أتاح املناخ الذهني املعارص أفقا
حلرية التغيري التي تأذن بام حيدث ،مما يصعب عىل أحدنا أن يعارض ما هو
موجود بسهولة .ولكن أمام هذا السيل من توالد البيوت ،نحن يف حاجة اىل
يقظة إلتزام وليس اإلنجرار اىل تقديم كل ما خيطر يف بال.
ـ .........
عندما رن اهلاتف من جديد ،كنت ما أزال مستغرقا يف خيااليت .صديقي
من جديد وقد وجدتني متحمسا لكي ألتقيه يف الغد ،يساورين قلق مل أحتسبه
من قبل ،ترى ما الذي سيقوله هذا الصديق عن عاشق معمر للطابوق
البرصي مثيل ؟
38
بيوت جديدة
البيوت مالذ االنسان يف هذا العامل ،نمط معامري بالغ احلضور يف
املدينة ،تشغل حيز ًا كبري ًا من مساحتها التخطيطية ،حتفظ لغتها وأساليبها
املعامرية ،أو تشيع فيها طراز ًا جديد ًا ،كام هو احلال يف مدينتي خالل العقود
الثالثة األخرية ،حيث غلبت عىل بيوهتا اجلديدة مالمح مل يسبق هلا شيوع،
واجهات عالية معمدة ،جمهزة برشفات واسعة مميزة ،وإستعامل مواد بنائية
تقرتح مفردات لغة معامرية مل تكن متداولة يف موروث عامرة املدينة .حترض
أجسادا عالية ،يشغل مساحتها األمامية طابق علوي يشكل مع الطابق
األريض كتلة ذات هيمنة شكلية ،وحضور نصبي ،بشكل خاص يف بيوت
تسكن شوارع عريضة ذات حركة سري كثيفة ،تؤثر يف حضور املبنى املفرد
وهو ينحو اىل األستعراض متظاهر ًا بمالمح مثرية ،ليكون رمز ًا معامري ًا يف
موضعه .وعوض أن يكون بعض مشهد الشارع أو الزقاق ،كام هو حال
البيت التقليدي ،حياول البيت اآلن النفاذ اىل ذاكرة املدينة بوصفه مكون ًا
مهيمن ًا يف السياق احلرضي .يالحظ إحتفاء هذه البيوت بالعمود ،عنرص ًا
معامري ًا شاع حضوره يف واجهاهتا ،يتعدد ويتكرر ويتطاول متعالي ًا ،يبدأ
بقاعدة وينتهي بقمة ،يعالج سطحه اخلارجي بأساليب زخرفية وتشكيلية
خمتلفة ،ومن النادر أن خيلو بيت جديد من عدد من األعمدة ،وهي حتمل
39
سقف ًا بارز ًا عن كتلة املبنى ،يظلل فضاء املرآب أو الرشفات الناتئة وبعض
السطوح العمودية ،فيقلل من أرضار أشعة الشمس يف الشهور احلارة من
السنة .وكان لغلبة حضور األعمدة يف واجهات هذه البيوت أن أصبحت
من ميزاهتا ،حتى إن ثمة بيوت ًا تقليدية قديمة أعيد ترميمها وجتهيزها
باألعمدة املتطاولة نزوع ًا اىل حماكاة ماهو شائع يف كل بيت جديدُ .يعدُّ
ذلك تبسيطا يؤثر يف القيمة التعبريية التي يمكن أن جيهزها العمود لواجهة
املبنى ،بوصفه عنرص ًا معامري ًا ذا دالالت متعددة ،تؤكد التزام ًا بالثبات
األنشائي ،وإستعادة ملكون أسايس يف العامرة يف خمتلف حتوالهتا .كام حيظى
الباب يف هذه البيوت بإهتامم خاص ،فيكون هو اآلخر مزخرف ًا بنقوش
معدنية وخشبية وزجاجية ملونة ،يتعاىل فيبلغ مقياس ًا مديني ًا وال يعود حمض
باب بحجم وشكل متوقعني ،وربام إحتل اجلزء العلوي منه رشفة أمامية
حماطة بالعناية .ويالحظ إن اإلهتامم اإلستثنائي بالباب هو درس موروث
من البيوت التقليدية ذات الفناء الوسطي ،غري إن الباب يف البيت التقليدي
كان حيىض بالعناية بوصفه عنرص ًا متفرد ًا يف واجهة البيت ،ال تنافسه يف
احلضور عنارص أخرى ،كام هو احلال يف البيوت اجلديدة ،حيث السطوح
البارزة والرشفات والسقوف املعمدة ومعاجلات إهناء السطوح اخلارجية
بأشكال وألوان شتى ،تعرض حضور الباب اىل ماينافسه ويقلل من هيمنته
عىل شكل البيت .ومتثل الرشفات مفاصل مكانية تبارش عالقة الفضاءات
الداخلية مع الفضاء اخلارجي ،حيث يمكن ملن يأوي اىل الرشفة أن يتعامل
مع ما حوله بطريقة أكثر وضوح ًا وحتدد ًا من أن يسرتق النظر من خالل
40
نافذة وحسب .ويف حضور الرشفات حماولة أخرى إلستعادة حلم البيت
التقليدي ذي الشناشيل ،غري إن الشناشيل كانت توفر إتصا ً
ال برصي ًا من
الداخل نحو اخلارج من دون التمكن من فعل إسرتاق معاكس ،وهو أمر
حيفظ ملن يف الداخل الكثري من اخلصوصية واإللتفاف عىل طقس داخيل غري
مستباح .وتلك إمكانية ال تتوفر عليها رشفات البيوت اجلديدة ،مما أدى اىل
ندرة إستعامل هذه الرشفات ،وإستحال وجودها إثراء للواجهة بمكون
معامري يمتلك قدرات تعبريية إفتقد للكثري منها ،بسبب غياب التوظيف
املتوقع واملمكن لفضاء الرشفة .
إن غياب الطراز التقليدي يف التجارب املعامرية احلديثة ،أدى اىل تنوع
أشكال البيوت اجلديدة يف جتارب فردية ملهندسني وبنائني منقطعة عن ما
تقدمه خربة العامرة التقليدية ،وهو تعدد يف األشكال جعل من الصعب
عليها أن تقدم قي ًام طرازية واضحة وحمددة ،وكان غياب مادة الطابوق
وتغلب مادة احلجر ومقرتحاهتا يف تفاصيل معامرية غريمألوفة ،قد ألبس
البيوت ثوب ًا طرازي ًا يلهج بكالم خيتلف عن هلجة عامرة املدينة التقليدية
وكالمها .ومع إن التحوالت الطرازية يف العامرة حالة متوقعة ومقبولة ،غري
إن املهم يف األمر أن تكون هذه التحوالت ذات عالقة مع الطرز السابقة،
وأن تقع حتت إمكان السيطرة عىل تنويعاهتا ،من أجل تغيري ال يؤدي اىل
تنويعات عاجزة عن إيفاء تنظيم جديد ملكونات الشكل ،أكثر توافق ًا مع
نمط احلياة الذي تعيشه العائلة .وبقصد الدفاع عن النزوع اىل التعددية،
نحرص أن يكون التعدد يف األساليب نتاج فعل إبداعي معتنى به ،وبجهود
41
مهندسني معامريني متخصصني ،أمال يف حتوالت للطراز تنحو اىل تأكيد
اهلوية املعامرية يف شكل آخر .
إن إنشاء بيت جديد واقعة يمكن أن حتدث يف هدوء ،واملهم يف األمر
هو أن يقدم هذا البيت منجز ًا إبداعي ًا منتمي ًا اىل سياق معامري ،يكون يف
حضوره ما يديم هذا السياق ،ويؤكد القدرة عىل اإلبداع والتجديد .
42
عمارة املدينة اآلتية
43
نتاج زمان العوملة ،وأمام سيل من األشكال املعامرية العديدة بني متوقع
أو غريب ،علينا أن نستحرض من جديد مهمة العامرة يف بناء عالقة مع ما
حوهلا ،ملتزمة باإلنتامء اىل بيئتها واىل واقع القيم األخالقية واحلضارية
لإلنسان ،فتكون عامرة مدينتنا اآلتية متواصلة مع املوروث املعامري وهي
حتتفي به ،كائنات مكتملة أو مستعادة يف حضور جديد .واملوروث هو
ليس ذاكرة املدينة وقد تعرضت للمعارشة واإلستهالك يف عيون التلقي،
وغفت عىل صور للجدران متكررة ورتيبة فحسب ،بل إن املوروث من
جانب آخر هو نتاج خربة مستمرة وطويلة من تعامل اإلنسان مع معطيات
واقعه املعاش ،وقدراته التقنية والفكرية .وهو خالصة لتجارب جتاوزت
عرب الزمن والتكرار الكثري من أخطائها وهنات حماوالهتا ،وهي خربات
يمكن توظيفها يف إنتاج عامرة قادمة ،تأيت برؤيا جديدة وآفاق إبداع شكيل
يديم تواصله مع جتارب أسهمت يف بلوغ الكثري من مقومات هوية العامرة
يف املدينة .وتكون عامرة املدينة اآلتية عامرة طموح ًا يف إقرتاح معايري وأنامط
معيشية أكثر رفاهية وتطور ًا .وهي بذلك تستجيب إلحدى مهامهتا التي
تك ّفل اخلطاب املعامري بالدعوة اليها ،يف أن تسهم العامرة يف تطوير الواقع
احلضاري لألنسان ،من خالل تدخلها يف أسلوب توظيف املكان وإقرتاح
الفعاليات وتنظيم العالقات بينها ،واإلرتقاء بحال اخلدمات يف األبنية
وتطوير مستلزماهتا .
ويف مدى عالقة العامرة باملكان بوصفه رصيد ًا جغرافي ًا وحسي ًا ،تكون
من أوىل مهامت العامرة اآلتية أن ترمم عالقة األنسان باألمكنة ،وتعالج
44
حل بالعاطفة ،بعد أن وظفت زوايا وأمكنة يف املدينة سجون ًا ومنايف،
خراب ًا ّ
خلفت خوف ًا يف النفوس وفيض ًا من الشعور بالكره جتاه شوارع وأبنية
وجدران ونوافذ .من املهم أن تزال مثل تلك األبنية ،وأن يعاد إشغال
مواقعها بأبنية وإستعامالت جديدة ،تكشف عن حنو املدينة عىل سكاهنا
ودفء العالقة املمكنة بني اإلنسان واألبنية من حوله .وبذلك تؤكد العامرة
حضورها يف املكان ،حميلة ما هو معطى اىل فضاءات معامرية مالئمة لفعل
إنساين نافع ،يديم إحساس اإلنسان باملكان وشعوره باإلنتامء ،ويعيد الروح
من جديد لفكرة املواطنة ،حيث جيد اإلنسان يف املدينة أخري ًا مالذه اآلمن .
يراد من العامرة اآلتية أن تضع يدها عىل املدينة كلها ،تبسط نفوذها
عىل أمكنتها وأزقتها ،تدجن الصحراء واألهنار والنخيل ،فيستحيل النهر
يف املدينة فضا ًء للعبور وليس لألنقطاع عن الضفة الثانية ،حيث يمكن
للمدينة التي تسكن إحدى الضفتني أن تقرأ صورهتا يف الضفة الثانية،
تدخلنا البساتني وتقربنا من النخالت العديدات الباقيات ،ومن يفء ظالهلا،
فتحرض املدينة كيان ًا متواص ً
ال عىل ضفتي النهر ،ومتتلك عندها النهر كله
وهو يمتد نسغ ًا من احلياة والتواصل واملتعة ،تعربه جسور رشيقة آمنة تطل
عليه بوداعة ،تصغي اىل أمواجه وترقب أضواءه ،فال يعود النهر مهدور ًا،
ويتحرر الكورنيش الذي يرافقه من كثري من اخلوف القديم ،الذي كان يتأتى
عن غموض يسكن أبنية ضخمة ،هائلة ،يصعب التقرب منها أو دخوهلا.
هو غموض يتسلط عىل األمكنة ،يغتال نوافذ األبنية فال تعود نافذة ،ويغتال
أرصفة الشوارع فال يتاح عبورها ،فقد كان وطن ًا خميف ًا يغتصب البيوت
45
والشوارع ويتربع هبا اىل الطغاة .نتطلع يف اآليت لعامرة تبلغ باملدينة احلدود،
كي يتاح لنا أن نرقب اجلوار ،نامرسه ،من دون أن هنرب اىل الداخل
منحرسين مسافات شاسعة خوف ًا من خطر قادم تعلمنا أن نخشاه ،وبذلك
يمكن لنا أن ننسى عدا ًء أزعجنا طوي ً
ال وقد بات اآلن قدي ًام .
46
جدران وشظايا
اجلدار
جدران مائلة
جدران الشظايا
صدوع
47
اجلـدار
بدت متذمرة هذه املرة أيض ًا ،بيتها اجلديد وقد دخلته مملوء باجلدران،
أينام تدور يقابلها جدار ،متاما كام هو احلال يف بيتها القديم ،غادرته عىل أمل
أن تلقى هنا جدرانا أقل عدد ًا وأهون حضور ًا ،غري أهنا حمارصة كام لو كانت
تأذن بدوام حضور اجلدران.
هم الفضاء املعامري أن يتوفر عىل اإلحاطة ،صف من األعمدة
ّ
متتابعة ومتباعدة تدور حول فضاء ما لتنشىء جدار ًا ،الواح من الزجاج
شفافة وملونة تتجاور وتتعاىل مقرتحة جدارا ،أعواد من القصب متداخلة
ومرتاصة يعربها الضوء خافتا ،أحجار ،كتل من الطابوق تتجاور وترتاكب
وترتاص فتبلغ بذلك سطوة اجلدار .ينسج يف بنيته ذاهتا معطيات الفراغ
والكتلة يف شبكة من الفوهات والصالدة ،فيكون حضوره بعض غياب
الفراغ ومدى سيادة الكتلة .ويف حاالته كلها حيفظ اجلدار حدود الكيان
ويرعى هوية األمكنة وهو يدور حول الفضاء يف فعل إحاطة .إثم اإلحاطة
أن تقرتف العزلة ،وإثم العزلة أن تبتكر اجلدران .واجلدار جدل بني أن حييط
وبني أن يعزل .وأن تنيشء جدارا فهو فعل يعادل يف بناء الفضاء املعامري
حدثا كارثيا ،يأذن إذ يقع بتاميزات ومسميات ،مهمة العامرة أن تقيم عالقة
بني هذه التعددات ،الداخل واخلارج ،املؤنسن والطبيعي ،الظل و الضوء،
49
الرس والعلن ،املالذ والشيوع ،الغياب واحلضور .كام تنجح العامرة بوساطة
جدار يأذن بنافذة يف أن تؤسس لعالقة مع ماحياذهيا من األشياء ،ويستحيل
ما حوهلا مشهد ًا يتلقاه شاغلو األبنية.
اجلدار بنية الوعي يف العامرة ،وثيقة ما يتحسسه وما يتلقاه مما حياذيه
ويصدم ذاكرته .وكام اللغة حترض يف الوعي كلامت إذ تغيب االشياء،
وتبني يف عاملها املجرد معرفة وخطابا يتاميز يف وجود خمتلف ومكتف وهو
ينثال مستغرقا مديات تشكله ،ينسج اجلدار معرفة تقرأ ما حوهلا متمظهرا
بام يرتشح من قراءاته .جدار يقدم يف اخلارج الرمز واإلشارة واإليامءة
والتواصل مع الناس واملدينة ،ويف الداخل يتلمس تنظيم احلركة والفعل
والعالقة مع األشياء ،حيث يأذن بوقوع التاميز وإقرتاف العبور .كيف
يتاح يل أن أتغاىض عن بداهة حضور اجلدار إذ يواجهني اآلن اىل تلمس
حدث وجوده ،وعبور فوهة الباب طرف اجلدار األيرس ،حيث املربعات
البالستيكية البيضاء الصغرية والعديدة ألزرار املصابيح ،وهي حتتل مساحة
تتوزعها يف جتاور منتظم ،يعلوها مفتاح املروحة السقفية ،واىل مزيد من
العلو حيث قصبة الضوء احلليبية وظالل ضوئها البارد حول مستطيل محلها
املعدين ،لون اجلدار وخشونة دهانه املطفأ ...وقائع شكلية ومزيد من األشياء
تسكن اجلدار ،تشغلنا عن تلقيه فنتوه عنه كام نتوه عن سواه .تقف بني
إحساسنا والعامل كلامت وأفكار وخياالت ،ختترص مديات الوعي يف عجالة
ال تكايفء يف أية حال تسكعات احلس يف عطايا حضور األشياء ،احلضور
الصارم وامللموس الذي نغفله ونفتقده يف صالبة رخام البداهة .معطيات
50
عديدة نلهو هبا عن رؤية األشياء عارية .اجلدار حتتله الصور واإلعالنات
واملعلقات ،حتيله بقية مساحات تائهة ومفتتة غري مشغولة ،يضيع وهو
حيتمل ما يستضيفه وسط فضاء يفتقد فيه احلضور ،يسكنه الباب والنافذة
وزحام الفوهات والسطوح .كيف لباب أن يتطاول جوار جدار ،ولنافذة
أن تحُ َفر يف ال جدار ،ولسقف أن يمتد سابحا عرب الفضاء خفيف الوطأة
تأمنه اجلدران ،نية أن تتاميز األشياء وهي تتجاور يف عالقة أشد حساسية من
رفقة متوقعة وساذجة .يدور التلقي من الباب اىل اجلدار والسقف واألرض
والنافذة ،يف موجودات ومسميات ال تتامهى مع بعضها يف تواصل يقرتف
حتوله اىل مستوى جديد من
اهلدر اىل جتلية عالقات مقروءة توقف اهلدرّ ،
التعايش واحلياة.
ليس عىل اجلدار وهو يتكرر يف كل حضور سوى أن يكون جدارا مل
تألفه اجلدران .لقد كان اجلدار الذي توصلت اليه يف املبنى مهيمنا ،يدور يف
حنو ويصعد سابحا نحو األعىل ،حيفره حمراب غائر ،يعلوه قوس طابوقي
مزخرف ،تقابل اجلدار هادئة وجوه املصلني ،وهي تتلو الكلامت املقدسة
والدعاء ينفذ عرب اجلدار املتقوس أمامها ،تنسج مالحمه زخارف كتابية
العود.
وتكوينات من أشكال هندسية ال متل َ
اجلدار وهو حيرض منبثق ًا عن األرض يف فعل تعامد مهيمن ،ينشغل
طوي ً
ال يف بناء متايزه وإنتاج عموديته ،وأفقية السطح الذي حيمله يف عناء
مشهود .ترتاصف األحجار عمودية هذه املرة ،تزخرفها مفاصل التجاور
الصاعدة معلنة بدء اجلدار .ويف أحيان يلتذ جدار بمفصل أفقي يوازي
51
األرض ،يغور اىل الداخل ممتلئا بالظل الداكن إشارة بدء إنطالق نحو
األعىل .تطال اخلفة بعض اجلدران إذ ترأف يف وطأهتا باألرض ،تعلو وتدور
يف هيمنة تريد العامرة أن تتواضع عنها هذه املرة ،كام يف نصوص بعد حديثة،
أفقا ينساب منحنيا ،تتنافذ فيها السطوح ،األفقي منها والعمودي ،يف دراما
الهية حتار وأنت ترقبها يف تبني هيأة الفضاءات يف الداخل ،يضمر الكثري
من وقائعه الكارثية يف حلول هدوء غامض .تلتبس يف التلقي األشياء ،حيث
الذاكرة مسميات ومتايزات وخربة فضاءات وسطوح هندسية متعامدة.
تريد الذائقة اآلن عيونا بكرا وذاكرة مؤرشفة غري مكتظة ،اجلديد الذي
تتلقاه بعضه قديم وبعضه جديد ،يف جدران تتحرر من لعبتها املألوفة ،فال
تعود متوازية وال متعامدة وال متساندة ،تتكرس وتتداخل ومتيل كام لو كانت
تتداعى ،غري إهنا مصبوغة بطالء المع وبألوان لطيفة زرقاء وخرضاء ومحراء
وصفراء ،يف فعل متويه هادىء عام تقرتفه أوضاعها املرتبكة واملربكة ،تقلق
الذائقة غري إهنا تنمو صوب إثراء احلس ولشدما يتاح ألهدافها مرمى.
يف إحدى األمسيات وكنت ما أزال متعب ًا ،شغلني جدار حياذي الرسير
ال ،هكذا كنت أراه يميل نحوي قلي ً
ال .مل أستطع حيث أستلقي ،كان مائ ً
ال وكنت أخشى أن يسقط عىل جسدينا .أجابت النوم .أيقظت زوجتي خج ً
وهي نصف يقظة ( لن يسقط ،إنه حمشور بني األرض والسقف ،بني مائ ً
ال
هكذا لكنه لن يسقط أبد ًا ،حاول أن تنام ) .مل يسقط اجلدار يف تلك الليلة،
وبعد أكثر من أعوام عرشة ،امليل الذي يف اجلدار مازال كام هو غري إنه مل
يسقط ،وما زال حتى الساعة حمشور ًا بني أرض الغرفة والسقف.
52
جدران مائلة
يف هدوء وإرصار واثقني ،أبدت السيدة التي بقيت شهور ًا عديدة تدور
عىل مشاغل املهندسني املعامريني إعتذارها وهي تتلفظ كلامت الرفض
ملخطط الدار التي أمضيت وقت ًا ثري ًا يف إعداده .كانت واضحة وحمددة يف
بيان أسباب رفضها .إهنا ال ترتيض يف أية حال ،وجود هذا اجلدار املائل،
الذي يمتد بني غرفة الضيوف وفضاء جلوس العائلة .جدار مائل ،تسألني
يف إستغراب ،ملاذا يميل هذا اجلدار ؟ كنت قد جعلته مائال وهو يمتد اىل هناية
غرفة الضيوف ،كي يتواضع حجم الفضاء وهو يلتف حول مائدة الطعام
هناك يف اخللف ،وتلك ال حتتاج اىل فضاء بسعة فضاء اجللوس يف مقدمة
الغرفة ،كام إن يل مآرب يف ميل اجلدار ،إذ أريد له أن يتدخل يف اإلنتباه كي
أسكنه شاشة التلفاز ،ويكون امليل بذلك دعوة واضحة لإلنشغال بمقتنيات
ذلك اجلدار ،ليس عبث ًا أن يميل .كنت أخالف تلك السيدة الرأي ،إذ مل
يكن لوجود امليل يف اجلدار مايثري يف داخيل مشاعر سلبية .غري إين قبلت
إعتذارها الذي جنبني ،حنقا اليكف عن لومي حد الساعة ،لسيدة أخرى
عجوز تلطف زوجها يوما وقبل تشييد منزله الذي أسكنته جدارا مائ ً
ال هو
اآلخر ،يمتد بني غرفة العائلة وفضاء املطبخ .كنت أنوي أن أدين هذا اجلدار
من الرؤية وأزيده حضورا ،وقد محلته دواليب مفتوحة خلزن أشياء عديدة،
53
يصبح تناوهلا من قبل سيدة املنزل إذ يميل اجلدار أكثر يرس ًا ،وهي تعد
الطعام وتبحث متربمة عن تلك األشياء ،غري إن العجوز مازالت تشتم
ذلك اجلدار املائل ،كام لو إنه يدوس أطراف ردائها يف عناد وتواصل يثريان
فزعها .ويف بيتي اآلن جدار مائل ،أعرب بمحاذاته من فضاء املطبخ جوار
مساحة السلم اىل فضاء اجللوس ،وهو يميل و يتسع لنافذة تستحيل مرصدا
يرقب الفضاء احلدائقي املفتوح ،الذي حياذي اجلدار ويسكن مربعا وسط
أمر بجانبه ،يذهب برصي متلذذا بألوان الزهور ،ونقاء خرضة
الدار ،وإذ َّ
أوراق الكينوكاربس املتعالية يف ثبات .مل نستغرب يوما حضور هذا اجلدار
املائل يف بيتنا .ما بال تلك العجوز.
اجلدران ال متيل يف وضع أفقيتها وحسب ،بل هي قد متيل يف وضع
عموديتها أيضا ،كام يف مبنى القسم املعامري ،الذي جعلت جداره األمامي
يميل يف عموديته اىل أمام مرتفعا لطابقني ،حتفره فوهات ضيقة وطويلة
تقف يف تراص ،تأيت بضوء النهار متلطفا اىل فضاء املرسم يف الداخل،
حيث تستعيد أعمدة اجلدار شاقوليتها وهي حتاذي اجلدار األمامي املائل.
جدار كبري متعال ومائل ،ينقسم جدارين حييطان بفضاء الدخول الواسع،
ويميالن يف الفضاء املفتوح اىل أمام ،يف دعوة واضحة لدخول القادمني،
ومباهاة جدران األبنية القريبة ،الواقفة عموديا دون أن نشعر منذ سنني.
يف مبنى إداري جديد ،إقرتحت أن يتكون من كتل بنائية ثالث ،متيل يف
وضع أفقيتها وهي تتالقى وتتقاطع بزوايا ميل متفاوتة وغري متوقعة .كنت
أريد للمبنى أن يبدو متحرك ًا ،كام لو كانت كتله العديدة قد غادرت وضعا
54
مستقرا أوال ،وهي تتجه يف حركيتها نحو وضع مستقر آخر .غري إهنا وحال
عالقات تقاطعها بزوايا ميل غري مألوفة ،تعلن نزوعا للدوران ،وتكشف
عن قلق وغياب ثبات يناقض إستقرار ًا يعدُ به ثقل جدراهنا ،وضخامة
حجوم كتلها .األبنية اليوم تغادر ثباهتا وإستقرارها اىل تيه الدوران واحلركة
التي ال تعد بالوقوف من جديد .العامل كله يدور ويدور ،ملاذا تبقى األبنية
وحدها واقفة ؟
الكتل الثالث ذاهتا ،أوقفتها يف مبنى آخر ،وهي تتالقى وتتقاطع عموديا،
متيل عن شاقوليتها بزوايا إنحراف خمتلفة وغري متوقعة ايضا .تقودين الفكرة
ذاهتا ،أشياء العامل تتحرك وتدور ،تظهر وختتفي ،تلتف حول بعضها فيظهر
منها ما يظهر وخيتفي ما خيتفي ،وتتبادل األشياء واألشكال إشغال املشهد.
يأيت بعضها اىل احلضور يف حال ،وخيتفي حال حضور يشء آخر .ملاذا ال
تفقد األبنية ايضا هدوءها وثبات مشهدها وتأذن أن يمسها الرقص ؟
يمتد اجلدار حتى يقاطع آخر يف عالقة تعامد واضحة وحمددة ،وقد يميل
اجلدار عن وضعه األفقي أو العمودي املعهود ،ويكشف عن وضوح نية
يف النزوع اىل حال آخر .امليل هو إنحياز وحدث مشهود يالقي احلس
فيزيد من حضور األشياء .إنحراف عام هو واضح ومتوقع نحو إحتامالت
غموض ما هو ممكن .وامليل حال حركة ينبىء عن حدوثها ويعد بتواصلها،
حيث تغادر اجلدران ثباهتا نحو تيه ما يأيت به الدوران .اجلدار وهو يميل
ال ال نأمن حماذاته ،وتغطس فيه أوزان معلقة يف عن شاقوليته يستحيل ثقي ً
اهلواء تشدّ ه اىل األرض ،وهي التي كانت تنفذ عرب شاقوليته يف هدوء ،غري
55
إنه يميل متواني ًا عن السقوط ،إذ إن العامرة التي تبدأ يف وقوف اجلدار،
تتأكد حني يميل معاندا قلق السقوط ،كام إهنا تضمحل وهو يغادر عموديته
ويواصل ميله حتى يلتصق باألفق .هل يف وقوف األشياء مائلة سخرية
ما ؟ وهل تسخر اجلدران الشجاعة من جدية اجلدران الشاقولية املهذبة
وإنضباطها ؟ قد تواصل اجلدران املائلة سخريتها املستهرتة حد السقوط
يف األفقية .بعض األشياء وهي متيل ،متيل أحيانا يف صواب كاشفة عن نية
امليل ومعاندة توقع األستقامة .وقد متيل األشياء يف خطأ ،معلنة غياب
األستقامة ،ومفتقدة اىل قصدية اإلنحراف الذي يقيم يقظة الذهن ويديم
حيوية احلس.
يف القيلولة ،يمد جسده املتعب عىل رسير مزدوج يتسع حلضور رشيكته
يف املساء ،غري إنه يف الظهرية حيتل املكان بالكامل ،وينام مائال كي يشغل
الرسير عىل سعته ،فال يعود شاعرا بوجود مكان يتسع لغائب ،فهو ال
يريد أن يفتقد رشيكته ساعة تغيب .يف اإلستلقاء املائل عىل الرسير زيادة
يف مكانية احلضور ،وهيمنة عىل غياب اآلخر .وهو ليس سعة يف احلضور
ومتدد يف املكان حسب ،بل هو إقتناص أفق أرحب من احلرية والسعة ،تلك
التي تتيح إمكانية النوم مائال .املكان عريض ،وجتده وهو ينام يدور فيه و
يدور ،من وضع ميل اىل آخر ،دون أن يالقيه يف التيه جسد آخر.
56
جدران الشظايا
58
ونشأ توق أخاذ اىل ما هو جتريب يف القصور عن الكامل ،يف نتاج ال يكمله
حتى ما هو آت .فيبقى اإلكتامل أمال معلقا وقادما يف ما هو قادم دون أن
يكون حا ّ
ال كام هو احلال يف ما هو قادم ،إذ هو املأمول واملؤجل .فالكامل
مؤجل واملعنى مؤجل ،وبقيته عىل الدوام يف موضع اإلنتظار ،أفق واسع
يدعو اىل اإلبداع واإلختالف واإلضافة .اخلراب والتهديم الذي من حولنا
مل يعد قبيحا ،أمام قصد التحرر مما كان يف حضور كامالته ثقيال عىل احلس
والوعي ،إذ كان شيئا مفروغا منه .واآلن حيرك اخلراب يف األشياء من حولنا
قدرهتا عىل إثارة العقل والذاكرة واحلس ،وهي تكشف عن مديات أعامقها
وخباياها وقد جتلت حا ّلة يف موضع الظهور ،ثرية بالغموض الذي يتأتى
من حدثيتها .فال تعود األشياء وال األشكال مفروغا منها ،بل هي فيض
متواصل أمام التلقي متوقد الذهن ،يف خطوطها املستقيمة واملنحنية ،يف
أجتاهات وزوايا وحركات تطاير وتشظية ،يف ديمومة من اهلذيان يف لغة
الشكل ال يبلغ كام قد نأمل الصمت .غموض وتيه وإلتباس ،واملزيد مما
يربك الصورة وهيز مالحمها املرتاقصة واملتسارعة ،يف لعبة رسد متواصلة،
ومشاهد حضور وجتل متداخلة ينبت بعضها من بعض ،يلدها وتلده يف
تواصل ال يمل .ال يشء منقطع عن سواه ،األشكال واألشياء واألكوان
متداخلة ،حيل بعضها يف بعض ،اليقني وحده يديم لعبته الساخرة من
األشياء ،إذ يوقفها يف حمطات الصمت واإلنتظار ،غري إن املسافات تالحق
بعضها غري مبالية بنوايا املعرفة.
األشياء يف جتل ال يكتمل ،والوعي يف تلق ال ينتهي ،الوجوه ال تقول
59
نصها اىل النهاية ،والكلامت ال تكشف عن دالالهتا مهام تكرر حضورها
وعاد .الكائنات املعامرية تطاهلا آثار اللعبة فال تعود مستقرة ،وال تنوي
اإلحياء بذلك .تعمل ،وهلا رغبة اإليفاء بوعودها ماكنة إلداء فعل إنساين،
غري إهنا ماكنة تنتج الفعل بمثل ما تؤويه .البيت ينتج السكنى بمثل ما
تنتجه أفعال السكن ،ونحن نسكن اىل إقرتاحات البيوت كام تبنى هي
سكنا إلقرتاحاتنا .األمكنة هي التي تنتج مناخاهتا وتؤسس نمط األفعال يف
فضاءاهتا .هل يكون الفضاء مكعبا بجدران مربعة ومتعامدة وثابتة ؟ وهل
يطال اليقني النافذة فوهة الضوء ،وهي فوهة كون مضطرب اىل كون أكثر
إضطرابا ؟ واجلدار كيف يقف صلدا يف قامة من الصمت إذ هو كائن بني
عاملني يضجان بالصوت والضوضاء واحلركة ،والليل والنهار ،واحلميم
واملشاع ،والدايفء والبارد ؟ أي إفتعال جلدار يقف هادئا كام لو أثقله العقل
ومن حوله تضطرب األشياء عائمة يف الشك والعاطفة ؟ آن للعامرة أن تسع
منافذها احلس فتأيت اىل وجود يمور حتوال وإختالفا ،يف جدراهنا املائلة
وأشكاهلا املتداخلة ونوافذها املتشظية ،فتهذي األشكال وترصخ السطوح،
وذلك العلن عىل ضمور ما يقول هو بعض ما تدعوه املعرفة حكاية.
ترى ما الذي أ ّمل بالذائقة إذ تتلقى شظايا األشكال وتقبلها ،باحثة عن
املزيد من لقى األشياء وبقاياها .أي خالص تأيت به الشظايا من صمت
األشكال املهذبة ،األنيقة والصامتة ،أي وعود بام هو قادم يف أثر التشوهات
الشكلية صوب اهلدوء واإلكتامل موضع اإلنتظار من جديد .يسكن
التلقي اآلن مسار الرحلة ،وطرق التواءاهتا ،وتيه مساراهتا ،وقلق أهواهلا
60
غري املتوقعة ،وال ينوي بلوغ املحطات احلاسمة .رحلة التلقي ريادة جمهول
ماقبل اليقني ،وإنغامس يف قلق املعرفة وهي تصطاد املحتمل ،ومتد أصابعها
املرتعشة يف ظلمة املجهول القادم اىل الضوء ،نتاج القصد وضباب املعنى
إذ تنغمس فيه األشياء ،يقرأها الوعي وتنطقها الكلمة.
61
صدوع
64
أن يغري ألواهنا توايل اخلريفات ،وال يعود يف قدرهتا أن تسكن العمر وحتمله
اىل الزمن القادم.
وأذى تتعرض
الصدوع التي تنمو عىل السطوح هي بعض متزق وهتدم ً
له أجساد األشياء .قد يميش الصدع مستقي ًام وقد يسري منحني ًا ،وقد يلف
ويدور وهو يتقدم متحركا دونام إجتاه حمدد ،ماد ًا خطواته يف ُمتاح الضعف يف
جسد املادة ،فاضحا إحتامالت اخللل والتحلل .حني يكون الصدع مستقيام
يمكن لألشياء أن تستعيد إكتامهلا .الصدع الذي يكون عابث ًا ،وحده يشري
اىل التهدم ويؤذن بالتشظي ،غري إن الشظايا جتد من يعيد اليها السكينة ،يف
تكوين جديد لغته الشظايا وخارطته الصدوع والشقوق التائهة.
بنطال قطني جديد أزرق ،ممحو لونه يف مكان وممزق يف مكان آخر،
متكرس جلده يف مفصل الركبة ،كام لو كنت إرتديته وأمضيت الساعات
جالسا القرفصاء ،يبدو رث ًا عىل الرغم من جدته ،يف آثار إستهالك مديد ترك
بقاياه عىل قامشة البنطال األنيقة.
أغنية عاطفية هادئة ،تأخذك مشاهدها الصادمة اىل منشأ صناعي أو
خمزن ألدوات وأشياء عتيقة ،تلحظ املكان مملوء ًا بمعدات يدوية وأخشاب
وبقايا مكائن مهملة وعاطلة ،درجات س ّلم متهدمة ،وسقيفة تكاد تتساقط
عنها ألواحها وهي تتكشف عن بعض حطام ،وبنطال املغنية ممزق ورث
بلون حائل يوافق ألوان األشياء واملكان من حوله ،غري إن اللحن مازال يمد
يف عذوبته والكلامت ال تني تقرأ اللطف والدفء يف القول.
البيت الذي دعيت اليه ظهرية يوم شتائي بارد ،جدرانه إذ لقيته من
65
اخلارج تشكو قدمها ،تعربها الشقوق خطوط ًا لينة ومتكرسة ،وأنت تذهب
اىل الشعور بجالل تلك اجلدران ،تقودك اىل الداخل حيث زهو األناقة
والعناية ،يف سطوح بيضاء صقيلة تغزو حافاهتا نقوش وزخارف هندسية
دقيقة وملونة ،وتلحظ كم أنت يف فضاء داخيل محيم غاية يف التهذيب.
الثقوب والشقوق والصدوع ،املحتمل جتليها يف األشياء وهي تستحيل
رثة يف زمان قادم ،تأيت اىل اللحظة احلارضة ،مالمح جادة يف أشياء أنيقة
وجديدة ،يف نية إستحضار عطايا الزمان القادم ،كام لو كانت بعض احلارض.
تداخل يف األزمنة يلم آثار القدامة وجالهلا يف تألق احلارض وهبائه.
شق يرسمه املنشار وهو ينفذ يف خشبة املرسح ،ويدور حول منصة
اإللقاء ،منشغل فيها بجدية واضحة من يقرأ خطاب ًا مطو ً
ال ،بعد دقائق
عديدة تكتمل دورة املنشار وهتبط يف ضوضاء دائرة مرسومة ،فيلقى شاغل
املرسح جسده حطاما حتت خشب األرضية املتهدمة.
66
حوارية العمارة
حوارية العمارة
صمت األبنية وكالمها
67
حوارية العمارة
أمامي اآلن آنية حلمل الزهور عىل شكل كرة ،إقتطع من أسفلها بقدر
موضع إستنادها ،وإقتطع قدر أكرب من أعالها فوهة لنفاذ أعواد الزهر.
لوهنا الفخاري المع بأثر معاجلة جسد اإلناء بدهان شفاف ،يكشف عن
غضون يف نعومة الفخار وييضء طوقا عريضا مذهبا أسفل ثلثها العلوي،
حيمل آثار حركة موجات متوازية تدور حول بدن اآلنية .كروية اإلناء غري
تامة التناظر ،ثمة سوء يف الصنع وال شك عجز عن أداء كامل الكروية.
فوهة اإلناء ممتلئة بأعواد الزهر اخلرضاء اللينة ،تف ّتحت عنها زهور صفراء
مرشقة بلون عباد الشمس .وريقات الزهر الضيقة املستدقة تبدأ غامقة،
ولكن لوهنا يفتح وهي تتطاول متعالية ،وإذ جتلس اآلنية عىل الطاولة ،تلقي
ظلها يف اجلانب اآلخر البعيد عن مصدر الضوء يف الغرفة ،حتاور لوحة
معلقة عىل اجلدار تضم وردة صفراء شاردة .أجدين مشغو ً
ال يف قراءة آنية
الزهر واستنطاقها حماو ً
ال ترمجة حكايتها ،و الكشف عن عالقة تقيمها مع
ٍ
وكلامت .تقرأ خطاب الشكل األشياء واإلنسان ،وهو يتفتح عيون ًا وآذان ًا
الذي حيرض يف اآلنية ،إذ حتكي األشياء وهي تكون ،و تصدق رؤيا نعتقدها
يف خربة تسكن الذاكرة ،أو تذهب يف اخليال ،تبدأ جواب ًا عن سؤال وقراءة
69
ملعلومة واقرتاح ًا لفكرة .وبذلك فإن األشياء حترض مرغوبة ومقرتحة ،وهي
تديم جالء احلكاية.
يف العامرة يبدأ حوار األبنية يف العالقات بني مكوناهتا وأشكاهلا ،فيكون
التوافق أو التضاد بني تلك املكونات واألشكال حوار ًا .وعندما ال يطيق
لون ما أن جياور لون ًا آخر ،فذلك منطق حواري يمكن تبنيه يف إنشاء
عالقات جتاور األلوان أو تباعدها .وال يتطلب األمر من األشكال فع ً
ال يقل
عن هذا احلوار احليس الذي يتولد عنها .وتعمد األبنية أن تقيم حوارها مع
ما حوهلا من بيئة قريبة ،يمد املبنى جدرانه لكي يتحسسها ويتوافق معها،
كام هو حال البيت التقليدي الذي جيهد نفسه وهو حياور ما حوله .حلظة
تلتهب الشمس يف اخلارج ،تتجاور البيوت وتتالصق لكي حتمي بعضها
من سياط اللهب الساخن ،تقابل بعضها متقاربة وهي تفتح أبواهبا عىل أزقة
ضيقة مظللة .ويف الداخل تنال البيوت من السامء حصة مقبولة ،حتل غاممة
فوق رشفات وأروقة داخلية تلقي ظالهلا الباردة يف فناء الدار الوسطي،
حيث تفتح أبواب الغرف العديدة وهي تقذف ضوضاء كلامت تتلقفها
اجلدران الصاعدة نحو السامء والشمس واملطر .
يف بيوت حديثة حتاول أن تستعيد بطريقة ما حلم الفناء الوسطي ،يف
فضاء داخيل مزدوج األرتفاع يصل الطابق العلوي مع الطابق االريض ،غري
ال حمدود ًا ومفتع ً
ال .فهو يأيت ضمن بنية معامرية خمتلفة عام إنه ينجز تواص ً
كان حيكم البيت التقليدي ،الذي إنبنى عىل اإلنفتاح اىل الداخل ،لب البيت
وبؤرة التقاء الفضاءات وإنفتاح اإلنغالقات كلها .ولكن البيت احلديث
70
الذي إختار أن يغلق الداخل وينفتح اىل اخلارج ،ويقيم معه حوار ًا أفقي ًا
عرب النوافذ واجلدران ،يف مدينة حديثة تقطع أوصاهلا الشوارع العريضة
املشمسة ،يف هذا البيت ،تصبح إستعادة حلم الفناء الداخيل إستعادة ناقصة،
فض ً
ال عن إقرتاف املبنى الكثري من اإلغرتاب ،وهو جيرتح أسلوب ًا معامري ًا
آخر ،ويتكلم لغة طرازية غري متوافقة مع ما هو مألوف ومتعود عليه يف َ
عامرة املدينة .إن العالقة املقرتحة بني جديد العامرة وقديمها ،توجب أن
نقف عىل ما يريد اجلديد أن يستعيده من القديم ،وما يمكن أن يبلغه من
إفرتاق عنه .وألن املهم يف األشياء وهي تتكلم ،هو ما لدهيا كي تقوله ،فذلك
وحده الذي يفتح أمامها فضاء اإلصغاء ،فإن مهمة أشكال األبنية ،أن تقول
جديدا متوفر ًا عىل فطنة التواصل مع ما هو تقليدي ،وأن تعي نواياها اىل
التجديد .أما أن تقول األبنية كالم ًا معاد ًا ،وتستهلك أشكا ً
ال تفتقد اىل ما
هو مثري وخمتلف ،فإهنا تستحيل أحجارا وأشكاال صامتة ال تنطوي عىل
قول ،ويستحيل حوار تلك البيوت مههامت ال تنبس بكلمة مفهومة .غري إن
العامرة بوصفها فع ً
ال ابداعي ًا ،مطالبة بأن تقدم يف كل جتلٍ جديد هلا ،كالم ًا
آخر ورواية أخرى حلكايتها املستعادة واملتواصلة .فام الذي يربر حضور
مبنى ال يقول جديد ًا ،وما الذي يتيح له أن حيتل مكان ًا يف املدينة ،عندما يعجز
عن التصويت بتوزيع جديد جلملة حلنية قديمة .
يف مدينتي ثمة أبنية ال جتيد الكالم ،عىل الرغم من إهنا تفغر فاها وتصوت
عالي ًا ،غري إن ما نسمعه إثر ذلك أصوات حروف من فم ال جييد الكالم،
تأتأة متقطعة ومتباعدة ،أصوات ًا متشنجة ال تنجز كلمة وال تبني مجلة وال
71
تبلغ معلومة ،ألهنا كتل بنائية فقرية وقبيحة ومملة ،مل حتظ بالعناية واإلبداع،
و مل متسها أيدي فنان أو حريف .فكانت نتاج أنصاف األشياء ،وأثالث
القدرات ،وأرباع اخلياالت ،واملزيد من العجز عن بلوغ مجال األشكال
وهي تصبو لكامهلا .ثمة أبنية أخرى ،تقول كالم ًا قلي ً
ال ،تتلفظ بمفردة
شكلية أو أخرى ال ينوي شكل املبنى أن ينطق بسواها ،تدور لتحرض عىل
اجلدران ،فتصبح تلك املفردات لقلتها وضمورها وبساطتها عاجزة عن
إيفاء ظمأ التلقي خلطاب حيس غني .ويف مبنى آخر يقرتح مفردة شكلية
ال لقوس مث ً
ال يعيد حضوره ويكرره يف تكوينات خمتلفة ،توفر ما ،شك ً
للمبنى من خالل التالعب يف حضور املفردة النجاح يف إثراء حكاية املبنى،
وتضمينها الكثري من احلس الذي يلقى صوته اهلادئ إصغاء ًا يف التلقي.
وهو غري حال مبنى يعمد اىل الرصاخ هبدير من مفردات تتعاىل أصواهتا
وتتزاحم أشكاهلا ،فتستحيل ضوضاء حسية جتعل من التلقي جهد ًا عاجز ًا
عن متابعة احلكاية والوقوف عىل مقاصد واضحة .ويكمن يف تناوب هذه
اإلحتامالت من خطاب األبنية جهد اإلبداع يف إختيار ما يقوله إلشغال
فضاء التلقي وإثراء املدينة .
أسمعها ،أصوات رصاخ وأنني وشكوى ،تأيت من نوافذ األبنية وتترسب
من جدراهنا وقد تعرضت اىل األذى والتهديم .قضبان من خشب الصاج
رسقت وتكرست وأحرقت .وضاعت شناشيل النوافذ املتعالية التي كانت
ترقب صفحة النهر وشطآن النخيل يف اجلانب اآلخر من املدينة .الباب
الواسع بقوسه نصف الدائري املتسامح ،وهو يدور يف علياء املدخل بدعوة
72
متلهفة اىل لقاء ،ما عاد الباب وال القوس وال تلك اللهفة .أصبح النداء
حزين ًا خاوي ًا .وما عادت األبواب محُ ب ًة وال النوافذ حاني ًة ،وال اجلدران آوي ًة.
إهنا تنتظر من يربت عىل اكتافها ،ويعيد ترتيب أحجارها وتلوين سطوحها،
والعودة بالربيق اىل نوافذها ،يف إنتظار زمان قادم مأمول .
73
صمت األبنية وكالمها
من نافذيت املسائية الواسعة ،أرقب وجه املدينة .وإذ يأتيني مشهدها
املألوف ضامرا ،تقرتح خميلتي للمدينة مشهد ًا آخر .أبنية مؤلفة من سطوح
مميزة ،ملونة بألوان شتى ،متجاورة ومتقابلة بزوايا عالقات متفاوتة .أبنيتي
التي أراها يف صورة حاملة للمدينة ،هي أبنية ال تقول كل يشء ،ألنه ليس من
مهمتها أن تقول كل يشء ،وليس يف قدرهتا ذلك ،بل املهم يف األمر أن يقول
املبنى شيئا ما يكون إسهاما يميزه .غري إن ما يمكن أن يقال يتطلب صمتا
يأذن بالقول ،يتطلب هدوءا وبياضا وما هو مألوف ،كي يكون يف جتيل ما
حيرض نفاذا جيرتح ا ِ
جلدة .إذ يف فضاء الصمت والبياض واملألوف ،يمكن
أن حيرض الصوت واللون واجلديد ،فيكون الصوت مسموعا وهو يغادر
الصمت ،ويكون اللون مرئيا إذ حيل يف البياض ،ويكون الشكل مدركا
حيث خيتلف عام هو مألوف .واإلختالف يف أشكال األبنية هو حتول نحو
اجلديد فيها ،وإرتياد أفق ما هو ممكن ،الذي يكون يف نيته التمكن من فهم
ما هو معروف والنفاذ اىل تيه ما هو قادم.
يقول املبنى شيئا عماّ هو وعماّ يقع فيه ،يقول شيئا عمن يسكنه ،وعن
صخب احلياة وضوضاء األفعال اليومية التي ترتاكم آثارها فوق جدرانه.
75
يقول شيئا يف حوار من جياوره أو يواجهه ،هيمس قوال يف ما يسكنه وما
يسكن اليه ،يقف جدار املبنى يف شكل يتوصل اليه ولون يتميز به ،كي يؤدي
قوله يف هدوء ووضوح .يعرب القول نافذة مرشعة اىل الرياح والشمس ،أو
فوهة مضيئة يف الليل يف حديقة تغزوها ظلمة املساء ،أو تنفذ بني اشجارها
خيوط ضوء املصباح اللييل الكسول .والقول يف العامرة حضور وحتول،
يؤدي رؤى ترقب ما حوهلا وتتدخل فيه ،كام يف أشكال أبنية حتكي أكثر
مما ّ
تذكر ،يف أشكال متشظية وملتوية ومتداخلة ،تكاد إذ حترض تقول كالما
متواصال وطويال ،كثريا ما يتنوع ،غري إن فيه متيز ًا من دون لغو .عندما
تصبح أشكال األبنية مألوفة ،يقل كالمها ويستحيل مع الزمان صمتا،
وحيث يستحيل الشكل طرازا ينفذ اىل لغته اهلدوء ،وتضمحل مالحمه
وهي تسكن طويال يف الذاكرة .وإذ نقرتح املزيد من األشكال ،قد نحفر
مكعبا يف املكعب ونزحيه قليال ،أو قد نلصق املكعب عىل مكعب آخر ،أو أن
تكون العالقة بينهام أشد رشاسة ،إذ خيرتق مكعب مكعبا ثاني ًا ،تعربه كتل
هرمية تربز يف جهة أخرى ،غري إن تلك العالقة وعىل الرغم من حدثيتها
الصادمة ما تزال ممكنة القراءة .هي كتل متعددة يف حركة نفاذ وتنافذ ،ومع
إن يف سكوهنا الكثري من احلركة ،ويف حدثها املزيد من التواصل ،غري إهنا ما
تزال مفهومة ،وهي تقول ما يمكن إستعادته والتحاور معه ،وهو غري أن
تأيت بكل األشياء والكلامت ،وجتاورها اىل بعضها ،وتلقي هبا واحدة فوق
األخرى ،أمال يف قول مجلة ليس يف قدرتنا قراءهتا عىل أية حال ،كام يف بيوت
املدينة اجلديدة وهي حتتل حميا الشوارع ،تأيت بألوان وأشكال وتكوينات
76
يفتقد حضورها اىل التوافق .تتطاول مكوناهتا اىل احلضور يف خيالء وعناد،
يصعب عىل بعضها أن تعي ما حياذهيا من أشكال أو ألوان ،ينقطع خطاهبا
يف أحيان ،إذ يصعب أن تأتلف يف إنتاج قول ،فينتج عن حضورها هذيان
معجم من املفردات التي تعجز عن اداء مجلة مفهومة .ولشدما تربكني نزوة
البعض أن يثري واجهات األبنية بشطط من املفردات والعنارص املعامرية
واألشكال ،من دون ّ
تذكر أن النصوص اإلبداعية هي موضوع للقراءة،
ليكون الكالم هادئا خفيض الصوت يف حوارات اجلامعة ،حيث يمكن أن
تروى احلكايات دونام إرتباك ،واألشكال يمكن هلا أن تتجاور وحترض اىل
بعضها يف هدوء وحياد ،أمال يف التلقي والقبول ،غري إن مباراة األصوات
واألشكال كام يقرتح البعض ،توقعنا يف الضوضاء والفوىض ،وال مهرب
عندها من مغادرة املكان.
إن علينا أن نحذر طويال قبل أن نجاور بني لونني ،أو أن نقرتح
شكال لصق آخر ،فاألشياء حترض اىل بعضها ،غري أن األمر ليس سهال كام
قد نتوهم ،إذ تأيت األشياء واألشكال واأللوان ومعها حكايتها التي تروهيا
ونقرأها ،ويصعب أن جتتمع حكاية بأخرى اليديم تواصلهام برهان .وقد
نقرتف عىل أية حال فوىض إستحضار األشياء ونتيه عند ذاك عن األنس
بحضورها ،وتغيب ألفة اإلحتفاء بضيوف الوعي والتلقي.
ثمة عامل للكلمة وعامل لإلحساس ،هو أكثر إضطرابا وتطلبا اىل العمق
والرؤية يف بناء النظام والقصد فيه ،األمر الذي يستدعي بدءا أن نعرتف
لألشياء بحضورها ،وأن ندرك عمق أصواهتا وحواراهتا ،وأن نتذكر إن
77
لألشياء لغتها التي سبقت طويال لغة الكلامت ،وإن هلا أصواتا متأل العامل
باهلذيان ،األمر الذي يدعونا اىل تنظيم حضور األشياء ،وترتيب جتاور
األشكال واأللوان واملفردات ،فالعامرة ليست موسيقى متجمدة كام حيلو
للبعض أن يقول ،بل صاخبة ،قبل أن نتدخل يف تنظيم نغامهتا يف نص مكاين
تدخل يف الشكل الواقعي للموجودات ،تكون هلا
مقروء ومؤثر .والعامرة ّ
عواقب مادية وشعورية مؤثرة يف حياتنا اليومية ،ويف نمط عالقتنا مع العامل،
يف حضورها الذي يصدم الوعي قبل أن تستدعيه الذائقة.
ال خيلو يشء من قول كام يتبني لنا ونحن نتأمل خطاب األشياء ،وبني
ماتقوله األشياء ومايتلقاه املتلقي ،كيف للصمت أن يدلف اىل املعادلة ،ما
مل تستحرضه األشياء معها ،ظ ً
ال عميق ًا من ظالهلا ،وهي تأيت ليس بالقول
وحده بل والصمت أيضا .يأيت الصوت الذي يتلفظ الصمت ،والصمت
فضاء الكالم ال غيابه ،اللون الذي يأيت بالبياض ،إذ البياض فوهة اللون
هوة اليه ،والشكل اجلديد الذي ّ
يذكر باملألوف ويستحرض بقايا ما ال ّ
هو مدرك ،فال يعود املدرك مفقودا يف الغياب ،بل حاال يف ما هو خمتلف
وجديد ،يف هيأة من إكتفى ومل اإلحتفاء مباركا حضور ما هو قادم .وبني
الصوت والصمت ،اللون والبياض ،اجلديد واملألوف ،نقرأ األشياء وهي
تغادر الظلمة كي حترض يف الوجود.
78
فضاءات
فضاء اخللوة
فضاءات مفتوحة
التفرد
79
فضاء اخللوة
يف البيوت ،حيرشه البعض أسفل الس ّلم ،وحيدا يف إنتظار قادم وحيد.
أو قد يدلف اليه بريق اجلدران الصقيلة ،وضباب الزجاج املعتم ،وتشغله
سعة مرفهة من الفضاء تأذن لك أن تلهو بأوقاتك اخلاصة يف عزلة كاملة
.وقد تصادفه يف مبنى عام ،جياور شاغليه عزلة لصق عزلة .أو قد تقودك
اليه الرضورة يف تيه فضاء قيص أو يف بعض جدار أو بقية سقف ،كي ختتيل
بعض الوقت رفق جسد ثقيل مضطرب .يف كل نية لفعل إنساين يستدعي
مكانا تنبت العامرة ،حتى يف بعض العامرة أو يف ضعف حاهلا أو بقيتها.
مل يكن ليطمئن حلضوره يف مكان قبل أن جيد طريقه اىل فضاء اخللوة .إذ
وهو يدخل مبنى جديدا ،جتده يدور يف غرفه وممراته باحثا متلهفا قلقا ،حتى
إذا دلف اىل فضاء بجدران المعة ،تتوزعه خمادع صغرية قد التبلغ جدراهنا
السقف ،تراه يقف وسط الفضاء هادئا متامسكا ،ثم يفتح صنبور املاء إذ
يلقى وجهه باسام مطمئنا يف صفحة املرآة التي يصادفها معلقة اىل اجلدار.
بعد ذلك يمكن أن يعود وسط اآلخرين ،يشاركهم أفعاهلم وحواراهتم و
يؤدي التزاماته ،إنه اآلن يف حال مطمئنة ،حتى إذا دامهته احلاجة اىل اخللوة
فإنه ال يتيه أو حيار ،ألنه بات يعرف طريقه اىل مايريد.
ذات هنار ،كان يعرب وصديقه املسافة بني مدينتني ،وقد بلغا رضورة
81
التوقف ودخول مبنى طيني خرب ،تتوزعه فضاءات خلوة منزوعة السقف،
معزولة بجدران قصرية التباري طوله ،تغلقها دون إحكام أبواب معدنية
يعربها الضوء يف ثقوب عديدة تتوزع جسدها املتلوي واملتغضن .دخل
خلوته اىل جوار خلوة صديقه .كان حيل يف املكان اهلدوء ،غري إن أصواتا
بدائية بدأت يف احلضور ،ترافقها كلامت قليلة منحازة اىل الصوت وهو
يعرب مديات السكون ،أعقبتها ضحكات قصرية إمتدت اىل نوبة من املرح،
مرح مديد وضحكات بقهقهات جملجلة ال يمنعها من العبور جدار ،وال
يصدها عن الوصول سقف ،تقطعها كلامت نادرة وخاصة ،حتى إستحال
جتاور الصديقني يف فضائي اخللوة املرحني ،وعواقب ذلك من الضحك
وتبادل الكلامت ،منفذا اىل تقارب شخصيهام ،وتكشف له ألول مرة ،إن
صديقه الذي يعرفه طويال ليس كام ألفه ثرثارا وحسب ،بل وطريف أيضا
.كانت دقائق ثرية بتقارب ورصاحة وتنافذ ،مل ُتتح له قبل أن يدلفا هذه
البناية اخلربة ،التي تعد باخللوة دون أن تراعي حشمة إيواء فعالية خاصة،
قاصدة طرافة الفعل والتنحي عن خصوصيته اىل املزيد من الود والتقارب،
بتأثري الرصاحة التي يضطرك اليها فضاء خلوة ييسء فهم اخللوة ،ويرفع عن
املخادع السقوف ،يف عامرة تتقاعس عن إكتامل مبناها اىل فضاء قليل العزلة،
يدعوك اىل مغادرة الصمت وجتلية القهقهات .وقد تكون خلوة يف فضاء
مفتوح ،دون جدران وأبواب وسقوف ،ولكن ثمة غاممة من الظلمة تسرت
أجساد اآلدميني القريبة من بعضها ،وهم يتبادلون بعض الكلامت التي ال
تعوزها الطرافة ،رفق دوران إبريق املاء تلوكه األكف العديدة ،تفرغه من
82
املاء يف صوت خرير لعوب ،يف الليل الذي حيمي اخللوة ،إذ يلم األجساد
املشغولة بالتحرر من أعباء الدفء الذي يغادر يف هدوء وصمت ،غري إن
أصوات احلوار احلميم تقطع حجاب الصمت ،حتوله كركرات وأصوات
حروف ممدودة الهية .الزمان كام يتبني هو أيضا مادة العامرة وليس املكان
وحده ،حيث جتد الوقت الذي تنفقه رفق األمكنة .
تدخل مرة فضاء خلوة صغري ًا ال تربو مساحته عىل مرت مربع واحد .باب
يفتح اىل اخلارج ،ثم فضاء بسعة فعل اخللوة اليزيد عن فرصة للجلوس.
اجلدران املحيطة قريبة ،مطلية بلون هاديء ،تغلف بعض مساحاهتا مربعات
خزفية صغرية بألوان قزحية .الباب الصامت بلون داكن ومقبض ذهبي
المع ،متسكه وتتلذذ بربودته ،إنه قريب من وجهك .صنبور املاء يصب
يف حوض مرمري أبيض .ويأتيك يف هدوء صوت مروحة اهلواء الصغرية،
وهي متكث يف السقف القريب كي تأخذ بأنفاس الفضاء اىل أعىل .كل
األشياء قريبة منك وواضحة يف فضاء يسكنه اهلدوء ،متيزه نظافة الفتة جتعله
مقبوال وكأنه مكان خاص بك مل يدخله سواك ،إذ ال أثر ملستخدم سبقك
اليه .حتميك مساحة اخللوة املقتصدة حد الكفاف ،من أن حياذيك تطفل،
فاملكان اليتسع لغري خلوتك ،يف صمت يبدي إحرتاما لكفاف الفضاء
وإحاطته للجسد بحميمية ودفء .أنت يف خلوة ويف عجلة من أمرك ،ال
وقت لديك ملالقاة جدران طويلة عالية ،وال الركون اىل فضاء كبري .تكفيك
أشياء قليلة وركن صغري من مكان بسعة برهة زمان اخللوة ،تغادره بعدها
اىل رفاهية األمكنة وسعة الشوارع ،وقد عدت خفيفا متحررا من جديد .إن
83
العامرة يف ضيق املكان كام هي يف سعته ،فقد يتسع فضاء اخللوة يف وضوح،
لتتقاسمه جدران من ألواح زجاجية نصف شفافة ،حتيل املكان الواسع
أمكنة متجاورة ومتقابلة ،تستحرض أشياء مرمرية بيضاء فاخرة ،ومرايا بسعة
اجلدار ،ونافذة عريضة تتوزع مساحتها زجاجات ملونة ،تتلوى عىل جانبيها
قامشة الستائر البيض األنيقة .وعىل مدى سعة هذا الفضاء فإنه يبقى فضا ًء
شخصيا ،حيرض فيه صوت مجيل ،وكلامت عتاب جلسد حزين متهدل،
يلتصق باجلدار وهو يمد قدمني نديني ،يمسحان برودة الرخام الرصايص
الالمع .ليس للجامل كام يبدو أن يغادر املكان حتى وأن دخلته وحيدا.
وأنت هناك يف فضاء اخللوة ،سعة وصفاء وجدران من مرايا ،أينام تدور يتاح
لك أن تلتقي جسدك.
84
فضاءات مفتوحة
يف البيت الذي أقطن ،إقرتحت فضا ًء حدائقي ًا مفتوح ًا ،يتوارى خلف
الواجهة األمامية .حيارصين كل صباح ،بحث ًا عن ورود وأوراق تتلقف
الندى ،وسيقان أشجار أزرعها ،فتطاول اجلدران الصاعدة يف هدوء
خت ّلفه أشكال النوافذ املربعة ،وقضبان مشبكات احلديد املائلة .يدعوين يف
سويعات الظهرية الشتائية الدافئة ملباهاة القطة املتوثبة ،متوء بصوت لينّ
متقطع ،بعظيامت السمكة املشوية ،نأكلها جمتمعني حول طاولة دائرية
زلقة ،بتلذذ يطال أقراص اخلبز احلارة ،تأتينا مشوية رفقها دعاء بالعافية.
الفضاء احلدائقي الذي إقرتحته ،فضاء لتناول ظهرية الشتاء حافلة بالشمس،
وأمسيات الصيف الفاترة حارض فيها القمر ،ومعارشة جدران البيت مترشبة
باملطر حينا وبالدفء حينا آخر.
يف العامرة ،تبلغ إشكالية عامرة الفضاء احلدائقي املفتوح حد ًا من التعقيد
ال يقل عن تعقيد عامرة الفضاء الداخيل املغلق .ويف حني يتاح لك يف
الداخل ،أن تقوم بتنظيم الفضاءات املعامرية يف ضوء العالقات الوظيفية،
وإسلوب احلركة واإلنتقال بني الفضاءات ،وحيث يمكن توفري بيئة
مكيفة للفضاء املغلق ،فإن احلال يف معاجلة الفضاء اخلارجي املفتوح يكون
بالتكون ؟ نجد أن
ّ أمر ًا خمتلف ًا .وإذ نسأل عن الفضاء اخلارجي كيف يبدأ
85
الفضاء متاح قبل أن يبلغ التحديد أو أن يقيده مفهوم معامري ،غري إن
العامرة عندما حتدث يف جدار غرفة ،إنام تتولد عامرة يف فضاء داخيل مغلق،
وتتولد عامرة يف فضاء خارجي مفتوح .فاألبنية واملنشآت بفضاءاهتا املغلقة،
تنجز وهي تتقابل وتتجاور نمط ًا من اإلحاطة والتمكن من فضاء خارجي
يمسها و يتحرك زلق ًا بني كتلها وإىل جوارها ،وحيظى من خالل ذلك بقدر
من التعريف واملفهمة ،يكون يف مدى كبري بعض تلك الفضاءات الداخلية
املغلقة ،يشكل إمتداد ًا هلا وتواص ً
ال مع دواخلها ،عرب األبواب والنوافذ
واجلدران ،ألن اجلدار الذي ينغلق حميطا بالداخل ،إنام يظلل فضا ًء متمكن ًا
منه يف اخلارج .ويف مدى من التأمل والفهم ،فإن الفضاء اخلارجي املفتوح
هو بعض مكونات الفضاء الداخيل املغلق ،إذ ال يتاح ملبنى أن يعلن عن
نفسه ،وال يتاح لفضاء داخيل أن يرقب العامل ويتعامل معه ويتنفس بيئته
بغري حصة من فضاء خارجي مفتوح .لكل من الفضائني حصة يف تقاسم
هذا العامل ،حتى إذا جتاوز الفضاء املغلق عىل مساحة الفضاء املفتوح ،كان
يف ذلك ضمور يف إنفتاحية الفضاء املغلق وإيغال يف إنغالقيته .واذا جتاوز
الفضاء املفتوح عىل مساحة الفضاء املغلق ،كان يف ذلك ضمور يف إنغالقية
الفضاء املفتوح وإيغال يف إنفتاحيته ،إذ إن الفضاء املفتوح يف حاجة اىل مدى
من اإلنغالق يبلغه ،حيث تقوم الفضاءات املغلقة واملجاورات ،وحمتوياته
من األشياء واملكونات بتعريفه وحتديده والتمكن منه .ألن حمض فضاء
مفتوح هو فضاء أويل غري خاضع لتدخالت الفعل اإلنساين .ولذلك فإن
جهود الكتل البنائية املتعالية ،وتقنيات تنظيم الفضاءات املفتوحة وإشغاهلا
86
بالشوارع وممرات احلركة ،واجلدران الواقفة واألشجار ومكونات احلدائق،
هي جهود تتعمد اإلمساك بالفضاء اخلارجي وتأثيثه ،لكي حيسبه اإلنسان
مأوى ألفعاله التي ينجزها خارج األبنية ،وأنامط العيش التي يامرسها هناك،
حيث يمدنا الفضاء املفتوح بعالقات جديدة وخمتلفة بني اإلنسان وما حوله،
يف فراغ من إنشغال الزمان ويف مساحة من املكان يسكنها أو يرقبها ،بأن
نلفت إنتباهه اىل ما حيرض حوله من أشياء ،ونحن نجيد تقديمها يف مشهد
معتنى به ،يتوفر عىل إيقاع زماين وشعوري يؤديه نمط العالقة مع األشياء،
يف القرب أو البعد ،الوضوح أو الغموض ،احلضور أو الغياب ،ولكل ذلك
مداخل تكمن يف الشكل واملعطيات البنائية لألشياء ونمط حضورها.
إن مرأى الفضاءات املفتوحة موضوع ثراء حيس وشيئي ليس أقل مما
يتوقع من مرأى األبنية والفضاءات املغلقة ،يف مديات التعامل مع املعطيات
البيئية التي تصبح مادة أساسية للمنجز املعامري وهو يتعامل مع الرياح يف
خمتلف حاالهتا ،والشمس وهي تالعب األشياء والعامل لعبة الضوء والظل،
واملطر الذي ينرش الفرح مع حباته الثقيلة ويطلق الضحكات اهلاربة ،ويف
آفاق مد البرص ،وحركة الشوارع والعجالت ،وأعمدة اإلنارة واهلاتف،
ولوحات اإلعالن ومنحوتات املدينة الشاخصة ،وأثاث احلدائق وتنوع
األشجار والورود واملساحات اخلرض ،و التواءات األهنار النافذة يف احلدائق
ويف جسد املدينة ،واجلسور التي تعربها حانية ،واألصوات التي تتدخل يف
ترتيب البعد الفضائي وتؤثث الفراغ بالصوت والصمت والصدى.
نبني الفضاءات املفتوحة ونتيح ملن يمر اىل جوارها الكثري من املتعة،
87
يرقب مبتكراهتا وعامل أشيائها ،غري إن ذلك ليس كل ما نبتغيه من إشغال
فضاء خارجي مفتوح بالكثري من املعاجلات التجميلية ،بل األهم يف األمر،
هو أن نكشف عن العمق األجتامعي املمكن يف التعامل مع الفضاء املفتوح،
بأن نقود خطى املشاة داخل فضاءات احلدائق وعبور ممراهتا والوصول
اىل مساحاهتا الكاملة ،بلوغ ظالل األشجار وسطوح املساطب ،واإليواء
هناك لزمان ما .وعندما يبلغ املشاة عمق احلدائق ،تكون أمامنا مهمة إبتكار
توظيفات متأل الزمان واملكان بام خيلق الشعور باملتعة .املاميش واملمرات
اىل جوار فضاء حدائقي أو داخله ،يمكن أن تكون فرصة لإلنتقال بني
موضعني ،يود أحدنا أن ال تطول .وعند ذاك نأمل أن يكون املمشى بني
املوضعني مستقي ًام ،يف حني ثمة ممشى آخر يدور بنا يف فلك احلديقة وجييد
أداء مهمته ،التي تتكفل بإطالعنا عىل معطيات املكان ،فيتلوى عابر ًا جوار
مسطبة ،أو دائر ًا حول مساحة مزهرة أو حوض ماء ،أو واقفا أمام كشك لبيع
املرطبات متأم ً
ال واجهة معروضاته .تبدو مهمة املمشى يف احلالتني خمتلفة،
تبع ًا لشكل احلركة داخل الفضاء احلدائقي ،أو إلقامة عالقة بني جماوراته
من األبنية ،وقد يكون املمشى قرار ًا تصميمي ًا لتنميط إستعامل األمكنة وبناء
العالقة بني مكوناهتا وإثراء توظيفاهتا.
عندما ينتصب أحدنا واقف ًا يف فضاء مفتوح ،يدامهه شعور بثقل الفضاء
املمتد بشكل ال متناه من فوقه ومن حوله ،فيدرك إنه يف فراغ ليس له من
سلطة عليه .غري إن جدار ًا يرتفع لبضعة أمتار ،يمكن أن يعيننا عىل إمتالك
قدر من الفضاء جياوره ويدور حوله ،يمكننا إلتقاطه واإلحساس به واإلنتامء
88
اليه .ويف هنار صيفي مشمس ،يتوقع أن يتسع هذا الفضاء املدجن اىل مدى
ما يسقطه اجلدار من ظل .غري إن جدار ًا يبنى يف فضاء حدائقي ،يؤ ّمن
مهامت أخرى ،إذ هو جدار يقام يف بيئة ،يراد له حيث ينتصب أن يقيم عالقة
مع الشمس والرياح واملطر .ولكي يؤدي دور ًا يف عامرة احلديقة ،فإن عليه
أن يصغي اىل ما حوله ،ويعلن حوار ًا هادئ ًا مع الشمس وهو يتلقاها ويلقي
يف الظل ظالهلا ،ومع الريح يصدها وهيدىء من هيجاهنا ،ومع املطر يغسل
أحجاره .إذ إن جدار ًا يف فضاء حدائقي مفتوح ،ليس أقل من عارض يراد
له أن ال يسلك معرتض ًا اال وهو يقصد ذلك ،كاشف ًا للعامل من حوله صور ًا
جيسد ما حوله.
جسد ذاته حيث ينوي أن ّ
يشرتك يف توليدها ،ف ُي ّ
يف الفضاء احلدائقي املفتوح ،حيتمل أن نقرتح للمسطبة مكان ًا ال يقود
اليه أحد .وقد حتتل مسطبة أخرى مكان ًا يتنافس عليه الرواد ،أو أن تنفق
شجرة ما الكثري من جسدها يف تظليل بقعة ال يأوي اليها أحد ،أمام شجرة
أخرى يكتظ يف ظالهلا الكثريون .إن قراءة متأنية للمكان تكشف عن
جغرافيته وبؤر العطاء املتوقعة فيه ،وعن فضاءات الضوضاء واهلدوء
املحتملة لشاغيل احلديقة .وثمة طوبوغرافية خفية تكون مهمتنا الكشف
عنها ،وإحرتام تدخالهتا يف موضعة األشياء واملكونات ،إذ للحديقة
وجود مسبق ،قبل أن متسها يدنا وقبل أن تتقصد عقولنا تصميمها عىل وفق
إسلوب ما .وهذا الوجود املسبق يتأتى من عوامل عديدة ،بعضها جماورات
احلديقة ،واملمرات النافذة اليها القادمة من دواخل األبنية ومسالك
احلركة القريبة ،وبعضها من تدخالت العوامل البيئية واجلغرافية األخرى
89
وهيمنة حضورها .عوامل عديدة تكون مهمة الكشف عنها وإستقرائها
مادة مؤسسة يف ختطيط الفضاءات املفتوحة .وهي طبيعة األشياء وطبيعة
األفعال ،يف تعدد مرجعياهتا ،وهي تتدخل يف بناء شمولية الرؤية اإلبداعية
ملنجز ما .وهو ما حيدث يف تصميم الفضاءات احلدائقية املفتوحة ،حيث
التعدد من مقومات رؤيا املهندس املعامري ،الذي يكون إنشائي ًا يف مدى،
ال باخلصائص اجلغرافية ومتعمق ًا يف النفس البرشية يف مدى آخر ،ومنشغ ً
والبيئية ،وواعي ًا ملتطلبات الرشط األقتصادي ،وداعي ًا ملعونة مهندس زراعي
يقرتح مسميات األشجار وأنواعها ،بام يالئم اخلصائص املعامرية والفراغية
التي يقرتحها تصميم الفضاء املفتوح .يف شمولية إنتاج بيئة إنسانية ،تتكاتف
ال يف أن يكون النتاج بعض ًا منأنامط معرفية وخربات وجتارب متعددة ،أم ً
املدينة ،متوفر ًا عىل حيوية الفعل ،وعوامل شيوع اخليال وإثراء الذاكرة ،
ألبتكار نمط جديد من األلفة هو نتاج تضافر مزاج الطبيعة ومعرفة األنسان.
يف حلظة من الكتابة ،كنت أدور يف حديقة وسطية ،بني أبنية متقابلة يف
املوقع الذي أعمل فيه ،أرقب إزهار الورود ونمو سيقان األشجار وشيوع
اخلرضة يف مساحات كانت جرداء لسنني طويلة ،وال أدري كيف وجدتني
أتبع الفضاء املفتوح يقود خطاي اىل الشوارع ،ولقيتني أقرأ يف املدينة ظمأها
القديم لفضاء حدائقي مفتوح حيفل بمن يتدخل يف بناء شكله بعناية،
ال من بقاء الفضاءات ويسهم يف تشييد عامرة مفرداته ،وتأمني ألفته ،بد ً
املفتوحة خالية ،اال من جدران حائلة وطارئة ،عديدة ومتكاثرة ،كل يوم
تنهض جدران جديدة حائلة وطارئة ،عديدة ومتكاثرة.
90
التفرد
التفرد حال يف الوجود هو الوجود .ليس من شبه بني إثنني يغلب عىل
اخلالف بينهام ،فالشبه بدء وإثره يأيت اخلالف والتفرد .العامل األشيائي واحد
يف عزلة ،أنت من يتعاطاه فردا ،فيستحيل عاملك الذي متيزه عاملا متفردا،
يف صورة يدلك اليها هنج يف الوعي واملعرفة ختتاره ،وأنت جتد دربك اىل
الوجود متفرد ًا حيف بك اآلخرون ،ترقبهم وترقب العامل من حولك يف
رؤيا ،يكون فيها التلقي للبصرية العارفة أكثر وضوحا ومقروئية وجدوى.
ويف املكان ،تزيح عنك العناء وتقر اىل هناءة الكريس ،مجاله ونبله ،ذكاؤه
وفطنته ،عظمته وكربياؤه ،إنه يسعك وحدك .تلحظ كم هو مهذب وأنيق
ومثقف هذا املخلوق ،األكثر ماحيتفي بالفرد يف كل امللكوت اىل مدى تعجز
عنه كثري من األشياء .حيتفي بوجودك فردا ال يدانيك فيه أحد .الكريس ،أي
جبار وأية سلطة ،وأي عطاء ثر ونبيل إذ يأتيك وحدك .كم جت ّله ومتجده
وتقبل يديه ،تركع عند قدميه ،مذهو ً
ال من حدة بسالته إذ ال يتسع لسواك. ّ
َمن ِمن أشياء العامل إاله جيازف وبعناد أن اليتسع لسواك ،وكم عظيام أن
جتد يف الكريس هذا املصري املذهل ،أن الحياذيك أحد وأنت حممي بسلطة
هذا املالذ املهيب ،يبعد عنك ماليس منك ،فتشغله جالسا يف ثبات وهدوء.
يقول (سيوران) (أن نعيش حقا يعني أن نرفض اآلخرين ،فالقبول هبم
91
يتطلب التخيل عن األشياء ،كبح مجاح الذات ،الترصف ضد الفطرة،
إضعاف النفس .نحن النتصور احلرية اال ألنفسنا والنبسطها عىل القريبني
منا اال بشق النفس) ( .)1وترى إن املشاركة عالقة ملتبسة ،مربكة وآثمة،
وهي تنفذ اىل الوجود والفعل واحللم .إذ كيف يمكن لك أن تنام فردا
وأنت مكتنف يف سعة الرسير بأقدام الرشيك الدافئة ،وكيف لك أن ترشب
الشاي ساخنا وهو تلطف قد الجييده أو حيرص عليه رفيق الظهرية .رشيك
حتارصك عواطفه وكلامته حد قول ما حيلو له من قول ،رشاكة تغمرك بواهم
احلس حتى اليعود لتفردك منفذ .تنتظم أحالمك وهي تستحرض صورته
املعشوقة ،يساكنك املكان فتغمره أو يغمره ،تلونه أو يلونه ،تناله أو يناله،
وتبحث يف الظلمة قانطا عن ضوء يمكن له أن يدل اليك وحدك.
تنجيل يف عينيك حرية األشياء وهي حتارص بعضها ،إذ حتاذهيا وتزامحها
يف األزمنة واألمكنة ،ويلوذ يف رأسك السؤال ،كيف جتد الغرفة مكاهنا يف
البيت ،موطنها الذي اليزحيها عنه فضاء آخر .كيف جيد فضاء النوم مأواه
املتفرد ،فال يدانيه يف سعة العيش فضاء آخر .وكيف جيد شاغلو الدار
أرسهتم ،قبل أن يصادفهم وهم يتسللون اىل عزلتهم ،حراس
دروهبم اىل ّ
الوضع األجتامعي األبدي ،احلريصون عىل سكب الساعات الطويلة ،أمام
شاشة التلفاز وهي هتذر بحكايات مكرورة.
يف البيت ،ترقب اجلدران وهي تلتف أمامك لتدور حول الفضاءات،
تسمي الفعل اليومي ومتيزه وحتميه .غري إهنا هتدر بذلك الكثري من التواصل.
1ـ سيوران ـ تاريخ ويوتوبيا ـ ترمجة :ادم فتحي ـ داراجلمل ـ 2010ـ ص . 24
92
و قد يؤذن ستار شفاف أو حاجز جزئي من خشب مشبك وهو حياول
اإلحاطة ،باملأمول من عبور األصوات والكلامت والوجوه .ويف مكان
العمل ،حيث متيض وقتك يف قاعات الدرس ،يلتزم الطلبة اهلدوء .ويف
املمر املحاذي لصق جدار القاعة ،تسمع حوارا وضوضاء وضحكات.
وتتساءل ،عندما نرفع اجلدار مابني القاعة واملمر ،هل يعرب هدوء القاعة
اىل املمر ،أم تدخل ضوضاء املمر اىل القاعة؟ أي سلوك سوف يعم فضاء
القاعة واملمر حيث اليعود بينهام جدار؟ كيف يمكن احلفاظ عىل متايز
الفضائني عىل الرغم من تواصلهام املتعمد؟ وإذ يعرب حاجز شفاف بني
القاعة واملمر ،كيف يتأتى لكل من الفضائني أن يبلغ تفرده؟ وتذهب يف
خيالك اىل ما رغبت ،ترفع جدار املرسم الذي يعزله عن ممر احلركة وفضاء
اإلنتظار جواره .ممارسة الدرس تقع اآلن يف العلن .اهلدوء الذي خيتص به
املرسم ينفذ بسلطته اىل املمر املحاذي .املتحركون هناك يمضون اىل اهلدوء
اآلن .يرقبون املرسم والطلبة واألساتذة ،وفعل الدرس ال يستحيل ممارسة
أكاديمية إعتيادية حتفها جدران قاعة ،بل يصبح الدرس بعد زوال اجلدران،
بعض ثقافة احلضور يف مبنى القسم الدرايس .ومايلبث املكوث يف املبنى أن
يكون ،شبه العيش يف مشغل معامري ،يشرتك فيه عابرو فضاءات املبنى،
الذين يصادف حضورهم عرض ًا ملرشوع معامري ،أو مناقشة له أو حوار ًا
حوله .أرفع اجلدران ،و أبقي عىل السقوف ،فيكون لكل فضاء يف املبنى
عال وسقف واطيء بلون أو شكل سقف يميزه وحيفظ تفرده .سقف ٍ
خمتلف .سقوف متاميزة متايز الفضاءات واإلستعامالت املتعددة وهي تتوزع
93
زوايا املبنى .كل من يف املبنى يمكن له أن يصادف اآلخر ،من يمكث يف
قاعة الدرس ،ومن يعمل يف مكتبه ،ومن يسري يف املمرات .وتشيع يف املبنى
عادات جديدة حتفظ لكل فضاء عزلته عوض ًا عن غياب اجلدران ،وقد
كانت جتعل من عزلة الفضاء الواحد ممكنة بسهولة ساذجة ،دون أن تفلح يف
إنضاج سلوك استعاميل خمتلف حيمي الفضاء إذ تغيب ،يف تنوع كثافة احلركة
ويف تباين حاالت الصمت والكالم وهدوء الفضاءات أو تعايل أصواهتا .
يمكن اآلن إضافة إحاطات زجاجية شفافة حول الفضاءات لتفعيل كفاءة
العزل الصويت بينها ،مع إتاحة دائمة لتواصل برصي يعرب مديات املبنى .هي
جدران زجاجية تصل برصيا بني فضاءات ذات مناخات صوتية متعددة،
وتلقاك يف حال كالم ،يرقبك اآلخرون ،تصمت أو تضحك ،تشري أو تلعن،
تتحرك جيئة وذهابا ،وأنت يف عيون ليس من يشاركك الفضاء فحسب،
بل كل من يدلف اىل املبنى ،ويستحيل املسموع مرئي ًا ،وهييمن تلقي املرئي
عىل غياب املسموع ،فينجيل احلوار إشارات وإيامءات ال كلامت ،وتسود
لغة أخرى تستبدل الصوت بالصمت ،والكلمة باحلركة واإلشارة ،وختتفي
نية اإلستامع لآلخرين وهم يظهرون يف املشهد ،وتنمو الرغبة يف ترمجة
حركاهتم وسكناهتم اىل معاين ودالالت تؤسس لتوظيف لغة جديدة .ال
يعود الزما أن حترض يف قاعة الدرس كي يصلك مايقال ،بل تبلغ من صورة
ماترى الكثري من معنى مايقال .كام إن من يدرك حضوره يف املشهد البرصي
حيمل برسالة
لآلخر ،يسعى اىل إنضاج لغة إشاراته كي يقدم جتليا ذا قيمةّ ،
مضمونية أو تعبريية ،هو املسموع من املقربني اليه يف الفضاء املعامري ،مرئي
94
لكل سكان املبنى ،لينمو يف الفضاء املتواصل خطاب برصي ينقل معلومة
وجيهز للقراءة فيثقل محولة الوجوه ،واليعود التجيل كلمة أخاذة تصل
املسامع ،بل إشارة ملاحة تسكن مشهدا يطول ويمتد رغبة يف تلقي تكشفات
ال متل .
يمكن لك أن تكون يف املكان وحدك ،أو أن يكون املكان لك وحدك،
تنفذ اليه وينفذ اليك ،تتمكن منه كام يمكن له أن يتمكن منك ،عندما تصوغ
يف املكان تفردا خيصك فيكون مكانك ،إذ يبنى املكان يف العامرة يف وضع
شكيل يصور واقعا ثقافيا ينتمي اليه إنسان املبنى ،وكلام وجدنا إختيارات
الفرد املؤسسة لنمط حياته وأفعاله يف املكان ،كان ذلك منفذا لتفرده وتفرد
الوقائع املكانية حلياته.
95
في ماهية العمارة
97
وظيفة العمارة وماهيتها
قد يصاب أحدهم باخليبة وهو يقرأ كلمة (الوظيفة) يف سياق احلديث
عن العامرة اليوم ،حيث تتبارى أشكال األبنية من دون نية إخبار عن عالقة
تلك األشكال بالوظيفة التي تسكن املبنى .غري إن األمر وببساطة صادمة،
إن العجلة التي وجدنا السبيل اىل إخرتاعها ،ال يمكن اال أن تكون دائرية،
كي يتاح لنا إعتامدها عجلة يمكن حتريكها لقصد تسبب أوال يف حدوثها،
أما الكالم عن عجلة مربعة فهو كالم يف نفي العجلة وإستحالتها ،وهو
إشعار يمكن له أن يوحي بدالالت أخرى سوى توظيف العجلة ملا تعودت
عليه .ونريد يف قولنا يف العجلة ،تشبيها لقولنا يف رضورة الوظيفة يف العامرة،
حلد نفي العامرة يف حال نفي وظيفتها .والوظيفة لدى (موكاروفسكي) تعني
إستعامل اليشء لغرض معني إستعامال متكررا يلقى قبوال إجتامعيا ،وليس
إستعامال وحيدا أو إستعامال متكررا من قبل شخص واحد( .)1وهو قول
يمكن أن يدلنا عىل إن لكل يشء يف الوجود اإلنساين وظيفة ،تتأتى من عالقة
اإلنسان بذلك اليشء وإيراده يف سياق توظيف ما .ويف العامرة ،تتضمن
الوظيفة كل األغراض التي يكون املبنى معنيا بخدمتها وجتهيز متطلباهتا،
وأن يكون بذلك متوافر ًا عىل املالءمة والراحة كام كان (فرتوفيوس) يدعو
إىل ذلك ،عىل الرغم من إن توافر املالءمة والراحة يف املبنى هي مسألة معقدة
99
ومعيار خيتلف من شخص آلخر ،ومن وقت آلخر ،ومن مكان آلخر .كام
إن وظيفة املبنى ال تشري إىل توفره عىل متطلبات راحة اجلسد فحسب ،بل
راحة العقل والنفس أيض ًا .و ذلك أفق متغري وصعب التحديد ،يكشف عماّ
يقع للوظيفة ،بوصفها أحد األبعاد الثابتة يف العامرة من تغري ،حينام تقيم
عالقة مع األبعاد املتحولة فيها ،املكانية والزمانية واإلنسانية ،التي متارس
تأثريها حاملا حترض العامرة يف وجود واقعي هلا يف مبنى ما .ويمكن القول
بأن حتول الوظيفة بتأثري ما يقع للعامرة يف وجودها الفردي يف مبنى ،يرتك
الفرصة عريضة أمام إمكانية إستعامل املبنى بكيفيات وكفاءات خمتلفة،
يتمثل األمر عىل وجه العموم ،يف لزوم توفر املبنى عىل متطلبات إستيعاب
تدخل الوظيفة يف العامرة
فعل التوظيف عىل إختالف حاالته .ومما يزيد أمر ّ
وضوح ًا ،إن العامرة تشتمل يف العادة وبشكل جوهري عىل مشكلة ،مثل كل
يشء يصنعه اإلنسان يكون قد نشأ عن مشكلة ،وإنه يعبرّ عن حل هادف
هلا .وتبع ًا لذلك فإن املهمة األوىل للمهندس املعامري ،كام يقول ( نوربرغ ـ
ال للمشكلة التي يصادفها املبنى ،وتلك هي وظيفته شولز ) هي أن يقدم ح ً
التي متثل نقطة اإلنطالق يف احلل املعامري( ،)2حيث تساعد الوظيفة يف أن
يكون املبنى عىل مستوى املخطط وأشكال الفضاءات ومسالك احلركة،
فض ً
ال عن إلتزامات املتانة اإلنشائية والتعبري اجلاميل ،بام حيقق كفاية وكامال
مرجوين يف العامرة.
وقد كان (افالطون) يقول بأن كل يشء يف الوجود يكون ظهوره وكامل
وجوده وفق ًا لغاية معينة يؤدهيا( ،)3كام إن ما يفرض أو ً
ال حني نروم أن
100
نصنع شيئ ًا ما كام يقول ( ابن سينا ) هو غاية ذلك اليشء ،ومنه ُيستنبط سائر
ما قبل الغاية ومابعدها ( .)4والغائية هي قانون طبيعي يقوم عليه وجود
األشياء كلها ،عىل فهم إهنا النزوع إىل توظيف اليشء نحو إستعامل معني .إذ
ال يمكن ختيل يشء يف الطبيعة ،بدء ًا من امليكروفيزياء كام يذكر (باشالر ) من
دون عمل حيققه هذا اليشء ( .)5وال خترج العامرة عن دائرة هذا اإلمجاع ،يف
كون الوظيفة هي فكرة أساسية مولدة ودائمة احلضور يف العامرة ،كام تؤكد
آراء الباحثني يف مسميات ومصطلحات خمتلفة ،مثل الرضورة أو احلاجة
أو الفائدة أو الغاية ،غري إهنا مسميات تؤدي املسألة ذاهتا .فنجد يف مالحظة
(الربيت) يف كتبه العرشة عن العامرة ،بأن سبب والدة أي مبنى ،إنام يعود إىل
الرضورة أو احلاجة .يؤيده يف ذلك (لوجري) الذي يؤكد بأن العامرة تتأصل
يف الرضورة .ويرى (لودويل) بأن ما يظهر يف العامرة ويكشف عن نفسه
هو ما يمتلك وظيفة حمددة ،وجيد مسوغه يف الرضورة واحلاجة ،ولذلك
فهو يمنع كل ما يضاد هذه املبادئ التي يعدّ ها حجر الزاوية يف العامرة.
وهلذا فإن الرشط املهم يف العامرة لدى (وطن) هو أن تكون مالئمة لتحقيق
احلاجات والوظائف األنسانية التي تكلف هبا .وكان (لوكوربوزييه) قد ذكر
بأن القول بالعامرة الوظيفية هو ثرثرة ،ألن العامرة وظيفية بالتأكيد ،واذا مل
تكن العامرة وظيفية ،ما الذي يمكن هلا اذن أن تكون ؟ (.)6
لقد رأى (بلوندل) بأن العامرة جيب أن تتميز عن باقي الفنون اجلميلة
كالتصوير والنحت ،ألن املعامريني وبسبب تأثري اجلانب الوظيفي يف
مهامهتم ال يمكن أن يسمحوا ألنفسهم بأن يكونوا شكليني بدرجة مطلقة.
101
فالعامرة هي أكثر من جمرد قضية تناسب ومجال ،إذ جيب أن تكون ذات فائدة
حمددة( .)7ويف رأي ( لويس كان ) فإن األبنية ليست جمرد أشكال جتريدية ،
بل هي دائ ًام موجودات يف خدمة املؤسسات اإلنسانية ،البيت مبنى ألجل
السكن والراحة ،واملدرسة مبنى ألجل التعليم ،حيث تسكن املؤسسة
املبنى فيكون بيتها ( .)8ونجد يف فلسفة (فتجنشتني) األخرية ،إن الفصل بني
ما خيدم غرض ًا أو غاية ،وبني ما هو غاية يف ذاته ،هو فصل زائف بالنسبة إىل
طبيعة العامرة ،ألن العامرة هي الفن الوحيد الذي ال ُيعدُّ غاي ًة بحد ذاته(.)9
فالعامرة وعىل الرغم من إنجازاهتا الشكلية والتعبريية ،ال تكون وال يمكن
هلا أن تب ّلغ خطاهبا التعبريي ،قبل أن تتوافر عىل إمكانية التوظيف .وعندما
جتد العامرة مربرها الوظيفي ،يكون يف قدرهتا أن حتقق متطلبات الوظيفة يف
كيفيات شكلية خمتلفة ،تبع ًا لقدرة املهندس املعامري اإلبداعية .وهذا األمر
يعني بأن الوظيفة ليست بعض ما يسبب أن تكون العامرة وحسب ،بل
هي أيض ًا بعض غاية ما يتعلق هبا .ونحن يف واقع األمر ال نستعمل ما هو
موجود عىل الدوام ،وبالقدر ذاته ومنذ البدء ،إنام نوجد ما نحن يف حاجة إىل
إستعامله ،يف صياغة شكلية هي ليست ممارسة تلقائية ،بل ممارسة قصدية
يكون اإللتزام الوظيفي أحد العوامل املؤثرة بوضوح يف بلوغ نتائجها.
وعىل الرغم من إن الوظيفة إلتزام تضع العامرة نفسها أمام مهمة اإليفاء به،
غري إن هذا اإللتزام ليس نتاج موقف أخالقي معني ،بل هو يف حقيقة األمر
نتاج إلتزام ماهوي ،ذو عالقة بطبيعة العامرة ذاهتا ،يتأكد يف أن العامرة هي
وظيفية يف علتها ويف غايتها .وقد شغلتنا الوظيفة يف هذا املقال ،ليس يف
أهنا إستثامر للعامرة ،بل يف كوهنا مقوم ًا أساسيا يف بناء ماهيتها .
102
اهلوامش
1- Mukarovsky, jan, (the problem of functions in architecture), in
، مكتبة النهضة املرصية، ابو العال عفيفي: ترمجة،) (املدخل إىل الفلسفة، ارزفلد، كولبة-3
.) 211 (ص1965 الطبعة اخلامسة،القاهرة
(ص1967 ، بريوت، دار املرشق، اجلزء الثاين،) (تفسري ما بعد الطبيعة، ابن رشد-4
.) 479
وزارة الثقافة،عادل العوا. د: ترمجة،) ( الفكر العلمي اجلديد، غاستون، باشالر-5
.) 63 (ص1969 ، دمشق،واالرشاد القومي
6- Kaufmann, emil (architecture in the age of reason), dover publications
103
الشكل املعماري
والتعبري عن الوظيفة
106
يشء من خالهلا لقصد تعبريي أو دعائي أو سواه ،يمتلك قيمة ومعقولية
يف وجوده بالنسبة إىل العلبة .ويف العامرة وبسبب تعقيد خطاهبا اجلاميل،
نتيجة إحتكامه إىل نسبية القيم وحتوالت اآليديولوجيا والطراز والذوق،
فإن املبنى الذي يمكن أن يعمل مثل آلة ،ال يبدو عىل الدوام كام لو إنه آلة،
حيث تكون تعبريية الشكل مفارقة يف أحيان لعمل املبنى ،بسبب غموض
متعمد يف العامرة ،خيتلف عن وضوح مقصود يف اآللة ،وهي تكشف عن
أرسارها وعن إنضوائها عىل معرفة تقنية وعلمية ،يكون اإلنسان يف حاجة
إىل إدراكها رصيد ًا معرفي ًا ألجل التعامل مع تلك اآللة .أما عن املعرفة يف
العامرة ،فهي ليست معدة عىل الدوام للكشف والتعليم ،بل تعد يف أحيان
كثرية للتأويل ،حيث ينطوي الشكل يف مثل تلك احلاالت عىل الغموض،
الذي ال يكون يف العادة غموض إهيام ،بل غموض إحياء يسكن املبنى من
اخلارج ،يف حني يكشف املبنى يف الداخل الكثري من أرساره يف بنية املخطط
وتنظيم الفضاءات .ويمكن مالحظة إن العالقة بني الوظيفة والشكل،
التي تكشف عن دور الوظيفة يف بناء الشكل ،وعن دور الشكل يف التعبري
عن الوظيفة ،هي عالقة تؤدي اىل نفاذ الوظيفة اىل احلقل اجلاميل كام يرى
(ارهنيم) ،من خالل ترمجتها بوساطة أنامط التعبري الشكيل( ،)5حيث يكمن
اجلامل احلقيقي يف العامرة ،عىل حد قول (سكروتن) يف تكييف الشكل
بالنسبة إىل الوظيفة( .)6وبني وضوح الشكل يف التعبري عن الوظيفة ،أو
غموضه يف اإلحياء هبا ،قد نرى اليشء ونسأل عماّ هو ،دون أن تكفينا رؤية
شكله يف التعريف بامهيته .وقد نعرف إستعامله ووظيفته ،ونسأل أيض ًا كيف
107
يكون اليشء الذي نراه هو اليشء الذي ندّ عيه ونعتقده ،عندما ال نجد عالقة
واضحة بني الشكل والوظيفة ،فالشكل ال يقدم داللة عىل ماهية اليشء
طاملا هو غامض ،ال يكشف عن إستعامله ،وحتى لو علمنا بوظيفة اليشء
فإننا ال نقتنع بامهيته ما مل تكن ثمة عالقة ّ
جتل واضح أو إحياء مقنع بالوظيفة
يف الشكل .عندما يكشف الشكل عن الوظيفة ويعرب عنها أو يوحي هبا،
عندها فقط يمكن للشكل أن يعرب عن ماهية اليشء ويقدم داللة عليه .وعىل
الرغم من ذلك ،فإن التجربة الواقعية تبني أن الوظيفة يف العامرة من التعقيد
والتحول ،ما يصعب أن تتشكل هيأة املبنى يف حدود اإلتصال املبارش
وإلتزام التعبري عنها وحسب ،بل إن مقومات أخرى يف املاهية ،جتد فرصتها
للحضور والتجيل وإثراء الرسالة التعبريية للمبنى ،كام البعد األنشائي
والبعد اجلاميل وأبعاد اإلنتامء ،عىل مدى التحول الذي تتصف به ،بام يأيت عىل
الشكل باملتوقع من العطايا وغري املتوقع مما يأذن به األبداع.
108
اهلوامش
1- Lesnikowski, Wojiech G, (Rationalism and romanticism in Architecture),
McGraw-hill Biik Company , New York, 1982 (p 168) .
، حممود محندي. ترمجة،) (ارسجة الفن املعامري احلديث الثالثة، جوزيف، هونت-2
. )47 (ص،1978 متوز، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة.)يف جملة (افاق عربية
يف، ترمجة سيزا قاسم،) (الفن باعتباره حقيقة سيميوطيقية، جان، موكاروفسكي-3
.)127 (ص، منشورات عيون، اجلزء الثاين،)(مدخل إىل السيميوطيقا
4- Arnheim, Rudolf, (from function to expression), in (aesthetic inquiry),
peardsley and suhueller (edi), Dickeson Publishing company Inc,
Belmont, Carifomia , USA, 1967 (p 205 , 207).
5- ibid, (p 212).
6- Scruton, roger,(the aesthetics of architecture), methuen and co. Ltd,
London ,1979 (p 6).
109
الزمان يف العمارة
ليس يف املكان وحده توجد األشياء ،بل يف الزمان أيض ًا .والزمان كام
يقول (ايغلتن) هو ليس وسط نتحرك فيه كام تتحرك القنينة يف هنر ،بل هو
تركيبة حياة اإلنسان ذاهتا ،فهو يشء تم صنع اإلنسان منه قبل أن يكون
شيئ ًا يمكن قياسه( .)1وهذا كالم يالئم الكثري منه وصف العامرة ،كام يتاح
له أن يصف سواها .فهي أيض ًا يشء بعض مادته الزمان ،إذ إن العامرة ال
تبدأ وال تدرك وال تفعل وال تدوم اال يف الزمان .ولست أنوي هنا الوقوف
عىل ماهية الزمان ،وكل ما أنويه هو حماولة تذكر وقائع مصادفته ،وشهود
تلك األحايني إذ حيرض حاال يف سواه أو ساكنا اليه ،مثل كائن يصعب
وصفه ،يدور حول األشياء ويتمرأى فيها ،ويتأسس هذا الكيان التجريدي
(الزمان) يف العامرة يف حلظات مكانية ثابتة ،ختتزنه وتوحي به ،فيبقى يف
الغرف والفضاءات وعىل سطوح اجلدران واألبنية .ويظهر الزمان الزم ًا
يف العامرة يف بدء اإلنتفاع هبا .حيث إن إداء الفعل الوظيفي الذي جل
مهمة العامرة أن تؤويه ،والذي هو مكون أسايس يف ماهيتها ،ال يكون اال
يف زمان يؤويه أيض ًا .فالعامرة ال تنتهي يف كيان مادي هو املبنى ،بل هي تبدأ
فيه ،وال تكون اال عندما حتدث يف مبارشة احلياة اإلنسانية يف املبنى ،فيكون
زمان الفعل هو بعض حياهتا وبعض عامرهتا .وإن ما حيدث حقيقة يف إثناء
111
ممارسة األفعال اإلنسانية يف األبنية ،هو ّ
متكن االنسان وبمساعدة املبنى عىل
أن يمسك بالزمان ،ويثريه يف إستغراق حياة الفعل والوظيفة .
وفض ً
ال عن زمان الفعل اإلنساين يف العامرة ،فإن يف تلقي املبنى والكشف
عن جتلياته الشكلية وقراءة مالحمه التعبريية ،وهو كيان معقد ومتعدد
السطوح ومتنوع األشكال والكتل البنائية ،ما يستلزم زمان ًا يطول ويتنوع
بفعل ما يتضمنه من قراءة للمبنى .وكام يقول (زيفي) ليس ثمة عمل من
أعامل العامرة منذ الكوخ األول إىل البيت احلديث واملدرسة والكنيسة،
يمكن أن خيترب ويدرك بدون الزمان الالزم ألجل إكتشافه .حيث يتحرك
اإلنسان خالل املبنى ويرقبه من وجهات وزوايا نظر خمتلفة خيتارها بنفسه،
وكل ذلك زمان يمنح الفضاء والعامرة وجود ًا حقيقي ًا متكام ً
ال ( . )2وال
شك فإن يف زمان الفعل الوظيفي يف املبنى ،ويف زمان تلقي اإلنسان للمبنى،
ما يمثل فرصة ألن يألف اإلنسان األمكنة ،فيكون زمان ألفة املبنى هو
بعض ماهيته ،ألن املبنى يتحصل بتأثري ألفته عىل سامت ومالمح إضافية
جديدة ،من خالل عالقته باإلنسان الذي يتعايش معه .إذ يزداد البيت يف
كونه بيت ًا بقدر بقائه يف الزمان ،فهو اآلن ٌ
بيت ،وطاملا تقادم الزمان عليه
فإنه يزداد إمتالك ًا هلويته وتاكيد ًا هلا .ومن هنا يتدخل الزمان يف إنه مكون
يف العامرة وليس فقط مستوعب ًا ألفعاهلا وحلضورها .ويزيد تأثري الزمان يف
العامرة مع بقاء العامرة يف الزمان عامرة ،وتزيد عالقة اإلنسان هبا ،فيستحيل
عمر املبنى أن يكون بعض ماهيته .وكام يقول (رسكن) فإن أجماد األبنية
ال تكمن يف صخورها أو يف ما يزينها من ذهب ،إنام يكمن جمدها الفعيل
112
يف قدمها ،فهو جمدها الكامن يف ثباهتا العظيم إزاء كل ما هو إنتقايل (.)3
كام إن العامرة التي توظف يف إيواء الفعل اإلنساين تتمكن من إيواء الزمان
يف املكان ،من خالل إثراء املبنى باملالمح ،التي تثري الوعي وختتزن زمان
والدته يف التلقي ،حيث ال يمكن ملبنى من دون مالمح ثرية أو عميقة عىل
الرغم من بساطة حضورها ،أن يثري الوعي ويستغرق زمان ًا للتلقي يبقيه
يف الذاكرة .ويمكن إدراك متكن العامرة من إيواء الزمان من خالل بنية
الشكل وإيقاعاته التكوينية ،وهي توحي بإيقاع زماين ،يتأكد يف التكرار ويف
لعبة الضوء والظل ،والليل والنهار التي تتواصل داخل املبنى وخارجه،
وتقيم عالقة املبنى مع الزمان الطبيعي يف جتلياته البيئية املؤثرة يف الفعل
االنساين ،ويف توفري مستلزمات مالءمته .حيث تشرتط كثري من االفعال
احلياتية يف املبنى مثل هذا التواصل مع الزمان والبيئة اخلارجية .ويف كتابه
(جدلية الزمن) يشري (باشالر) إىل دور اإليقاعات الزمانية أو البنية اإليقاعية
للزمان ،يف إثراء اجلو اإلنفعايل واحليايت لإلنسان ،ويصل إىل إنه ليس عبثا
أن يكون للشعر أثر يف ترفيه اإلنسان( .)4ويمتلك اإليقاع يف العامرة هو
اآلخر تلك القدرة عىل إثراء احلياة اإلنفعالية لإلنسان ،كام يتجسد ذلك يف
إيقاعية التكوينات الشكلية يف األبنية ،فيكون هلذه البنى الزمانية التي تقدمها
العامرة تأثري يف كيفية إدراكنا للزمان وعيشنا فيه ،ألهنا تقدم إحياءات بأزمنة
واقعية يمكن أن متثل أزمنة حقيقية ،كام يدعو إىل ذلك (بوم) حيث يقول بأن
الزمان الذي نشعر إنه يمر برسعة ونحن نامرس نشاط ًا ممتع ًا ،والزمان الذي
ال ونحن يف إنتظار زائر ملّا ِ
يأت بعد ،هي يشعرنا بامللل حني يمر بطيئ ًا متثاق ً
113
أزمنة حقيقية مثل تلك التي تنبض هبا ساعاتنا اليدوية( .)5وهو أفق جيعل
من الزمان الذي يسكن األبنية ،يف أمكنتها وأشكاهلا ومالحمها ،بعض فعل
العامرة يف حياة اإلنسان ،حيث متسك بالزمان وتقدم نظام ًا مقرتح ًا له وهي
تفعل فعلها يف تنظيم زمان األمكنة .وقد كانت الكنيسة يف ما يقوله (لوفيفر)
تنظم الساعات واألعامل عىل رنة أجراسها ،وتنظم تقويم األيام تبع ًا لتعاقب
األعياد ،فيستحيل الزمان حدث ًا إجتامعي ًا متعين ًا مقتطع ًا يف الطبيعة ( .)6وال
يمكن لكالم عن الزمان يف العامرة أن يغفل اإلشارة إىل الرتاث ،بوصفه
عمق ًا زمني ًا حيرض يف شكل معامري موروث ،إذ تشكل اخلربة واألشكال
الرتاثية بعض الرصيد الشكيل وبعض املمكن الذي تتعاطاه العامرة ،فيحرض
الزمان يف مضامني تقدمها مفردات وتكوينات شكلية قادمة من عامرة ماضية
وطراز معامري قديم ،وحيرض الشكل املوروث يف مبنى حديث خمتزنا تاريخ
املفردة الشكلية وإحياءاهتا التعبريية ،حيث يمتلك الطراز املعامري فض ً
ال عن
قيمته األسلوبية والشكلية ،داللة عىل زمان معني يرتبط به ،يستحرضه حيثام
أس ُتعيد يف مبنى جديد آخر ،فنكتشف يف الشكل املعامري زمن ًا مضارع ًا يف
شكل مبتكر ،وزمن ًا ماضي ًا يف شكل موروث ،وهو تداخل زمني يمكن أن
ندركه يف أبنية املدينة أو يف مبنى مفرد يستثمر معطيات الرتاث يف بناء شكله،
فيحتوي املبنى اجلديد عىل يشء من املبنى القديم ،الذي يصبح هو اآلخر
حمتوي ًا عىل يشء من املبنى اجلديد ،يف ديمومة وتواصل زماين يبني وحدة
أسلوبية وتعبريية .فالعامرة كام يقول (رسكن) إنام جتهز وسائل لالحتفاظ
باملايض وإدخاله يف الذاكرة ،ويصفها بأهنا املتغلب عىل النسيان( .)7ويتبني
114
من ذلك تأثري الرتاث يف العامرة وهو حيرض مكون ًا يف حارضها وحداثتها،
ويكون مايض العامرة بعض ماهيتها املتكونة وبعض جتليها احلارض ،يقول
(بونتا) إن مادة العامرة ليست احلجارة ،بل هي إبداع إنساين مشحون باإلرث
احلضاري للمجتمع ( .)8وجيد (باالسام ) إن التقاليد والرتاث مها قضية ذات
داللة عميقة تتعلق باحلس التارخيي ،الذي يدعو املعامري إىل أن يبدع ليس
باإلندماج مع جيله احلارض فحسب ،بل مع الشعور بكل اإلبداع احلارض
واملايض ،ليكونا مع ًا يف وجود واحد ،وهي دعوة لإلحساس بام هو جمرد من
الزمان ،وبام هو زماين ،وبام يمكن أن جيمع بني اإلثنني مع ًا ،فيجعل املبدع
تقليدي ًا ويف الوقت نفسه واعي ًا ملكانه يف الزمان وحداثته( .)9وال شك يف أن
تراث العامرة الذي حيرض يف حداثتها ،وهو ينجز ديمومة وتواصال ووحدة،
مكون من أبعاد العامرة ،يستغرقه بناء ماهيتها،
إنام يؤكد بأن الزمان هو بعد ّ
وحيرض مضمون ًا يف جتلياهتا الشكلية املنتمية إىل أزمنتها املختلفة .ويكشف
بذلك عن تدخل البعد الزماين ومضامينه الرتاثية بوصفه بعد ًا إنتامئي ًا للعامرة،
وعن فعله يف حتول العامرة وتغريها ،يف ضوء حتوله بعد ًا متغري ًا ،يمثل أحد
افاق نسبية ما هو مطلق وحتول ما هو ثابت يف ظاهرة العامرة.
115
اهلوامش
-1ايغلتن ،تريي ( ،مقدمة يف النظرية األدبية ) ،ترمجة :ابراهيم جاسم العيل ،دار الشؤون
الثقافية العامة ،بغداد ( 1992،ص .)71
2- Zevi, Bruno , (architecture as Space), Horzon press,new York ,1957 (p
27).
-3الدعمي ،حممد عبد احلسني( ،انتصار الزمن) ،دار افاق عربية ،بغداد( 1985 ،ص
.) 98
-4باشالر ،غاستون( ،جدلية الزمن) ،ترمجة :د .خليل امخد خليل املؤسسة اجلامعية
للدراسات والنرش ،بريوت ،الطبعة االوىل( 1982 ،ص .) 12 ،11 ،10
-5برجيز ،جون ،ب ،بيت ،ف ،ديفيد( ،الكون املرآة) ،ترمجة هناد العبيدي ،دار واسط
للدراسات والنرش والتوزيع ،بغداد ( 1986ص .) 89
-6لوفيفر ،هنري( ،يف علم اجلامل ) ،ترمجة حممد عيتاين دار احلداثة بريوت (ص .) 96
7- Frank,Ellen Eve, (Literary architecture) , university of califomia
-8بونتا ،خوان بابلو ( ،العامرة وتفسريها ) ،ترمجة :سعاد عبد عيل مهدي ،دار الشؤون
الثقافة العامة ،بغداد ( 1996 ،ص .) 39
9- Pallasmaa, juhani, (tradition and modernity), in (the architectural
116
مجال العمارة وماهيتها
كان (افالطون) يتحدث عن وجود مجال واحد مطلق تشرتك فيه األشياء
اجلميلة كلها ،وهو مجال ثابت ال يتغري ،يتميز عن األشياء اجلميلة ويكون
منفص ً
ال عنها .غري إن (ارسطو) ينظر إىل اجلميل بوصفه وجود ًا ملوجود ال
بوصفه موجود ًا مستق ً
ال وقائ ًام بذاته ( ،)1فهو يقدم مفهوم ًا للجامل يتضمن
إرتباط اجلامل باألشياء اجلميلة وإعتباره أحد ابعاد وجودها .وخالف ًا ملا يقدمه
(ارسطو) من إشارة إىل حضور واقعي للجامل ،فإن ثمة آراء أخرى تذهب
إىل إن اجلامل ال يمتلك وجود ًا موضوعي ًا يف األشياء ،بل إن وجوده يكمن يف
التلقي وحسب ،كام نجد ذلك عند (هيوم) الذي يقول بأن اجلامل هو ليس
كيفية توجد يف األشياء ذاهتا ،وإنام يوجد اجلامل يف الفكر الذي يتأمل تلك
األشياء .ومن شأن كل فكر أن يدرك مجا ً
ال مغاير ًا ( .)2غري إننا لو نفرتض
نقيض ما يقوله (هيوم) ونؤكد بأن اجلامل هو كيفية توجد يف األشياء ،فإن
ذلك ال يؤدي إىل أن يكون ما ندركه من اجلامل ثابتا وواحد ًا ،لكي يكون يف
تغاير ما ندركه من مجال األشياء مربر ًا ألن يرفع (هيوم) اجلامل من األشياء
ويضعه يف الفكر الذي يتأملها .بل عىل العكس متام ًا ،إن مجال األشياء
الذي قد حيرض نتاج تدخلنا يف إنتاجها ،هو أيضا بعض عواقب ما نعتقده
عن األشياء وما نعرفه عنها .وعندما يكون موضوع إنشغالنا هو العامرة
117
بوصفها حقال إبداعيا ،سنجد يف األبنية التي يمكن هلا أن تكون يف ذاهتا
مستقلة عنا ،عىل الرغم من تدخلنا يف إجيادها ويف منحها القيمة ،سيكون
إعتقادنا يف مجال املبنى ،مثل أي وهم معريف آخر ،ال يمكن له أن يصف املبنى
كام هو يف ذاته ،ويف وجوده املوضوعي ،مستقال عن كل تعقيدات عملية
املعرفة ،وإن اإلعتقاد بجامل العامرة ،وعىل الرغم من كونه إعتقادا حيرض يف
جانب التلقي ،غري إنه ليس فعال منقطعا عن العامرة بوصفها وجودا شيئيا،
وال يمكن هلذا اإلعتقاد يف كل حال أن يتعرف عىل ما ال وجود له .ولذلك
فإن اإلعتقاد بجامل الشئ هو إعتقاد يقرأ خصائص موضوعية قائمة يف
الشئ ،ويشري اىل وجود معني فيه يثري الشعور باجلامل ،ولكنه إعتقاد متغاير
ومتعدد ،بسبب من طبيعته كفعل معريف يتصف بالنسبية والذاتية واجلزئية
والتغري .وإذا كان مجال العامرة إعتقاد ًا يبنيه املتلقي وهو يرقب األبنية ،فإن
السؤال الذي نرغب يف طرحه اآلن هو مالذي جيب أن يتوافر عليه املبنى،
ألجل أن يكون مجيأل ،وألجل أن نعتقد يف مجاله ؟
نجد مع الفلسفة األغريقية أن مجال الشئ عند (افالطون) هو ما يرغمنا
عىل األعجاب به وهو غاية عملنا عندما يبلغ العمل ذروة إتقانه .وعند
(ارسطو) فإن كلمة (مجال) تدل عىل ما حتتويه األشياء من خصائص تدعونا
اىل حبها واإلعجاب هبا ( . )3إذن فإن مجال اليشء يف أن حيتوي عىل ما يبلغ
به ذروة قوته فيدعونا اىل اإلعجاب به .وإن املبنى أو شكل تقديمه الذي
حيقق الرىض هو مصدر مجاله ،كام يؤيد ذلك (كانت) يف إن اجلامل هو إنتظام
األجزاء وتناسقها بشكل يعطي لذة ورىض نفسيني( .)4ونجد يف اخلطاب
118
النظري حول العامرة من يوافق هذه األفكار ،يف ضامن اإلحياء بجامل املبنى
من خالل شكل حضوره ،كام يف رأي (الربيت) وهو يستند اىل (فرتوفيوس)،
فيجد أن اجلامل هو يف توافق األجزاء يف الكل بطريقة معينة ،تضمن أن ال
يضاف جزء أو يزال من دون أن يتحول الشئ اىل األسوأ .وألجل احلصول
عىل ذلك فال شئ ،كام يقول (الربيت) ،أكثرمن التناسبات عونا ،وهي تضمن
لكل جزء من املبنى حجمه وشكله وموقعه املحدد ضمن الكل( . )5
وقد بقي تفسري اجلامل املعامرى ملدى طويل معتمدا آراء (فرتوفيوس)
ىف إعتبار اجلامل قضية تناسب ترتبط مع نظام يامثل تناسبات جسم األنسان.
غري إن (بورك) كتب الحقا ،إن اجلامل العالقة له بالتناسب وال باملنفعة،
بل هو ينتج عن خصائص مثل الصغر والنعومة واألناقة( ،)6حيث يمتلك
الشكل ما جيعل املبنى مثريا لإلعجاب والشعور باملتعة ،فيكون بذلك مبنى
مجي ً
ال .وهي آراء تبحث عن اجلامل يف ما يقرأه التلقي يف الشكل ،ويف زوايا
جزئية منه .غري إننا نرغب يف النفاذ اىل مفهوم شمويل ملعيار اجلامل ،يتجاوز
املداخل اجلزئية لبلوغه .وألن اجلامل مفردة يمكن هلا أن تصف أشياء كثرية،
فسوف نذهب اىل البحث عن مدخل منهجي ،يمكن له أن حيرر اجلامل
بوصفه قيمة من حالته املطلقة يف وصف األشياء املختلفة ،اىل إعتباره مجاال
يتعلق بالعامرة عىل وجه التحديد ،فيكون وصفا هلا وجزءا منها ،ويمكن لنا
أن نجد السبيل اىل ذلك ،عندما يتاح لنا أن نتأكد من صواب ما نفرتضه
هنا ،بأن خصائص املبنى التي جتعله مجيال ،إنام تصدر من خالل عالقة املبنى
بامهيته ،فيكون املبنى مجيال بقدر ما يتوافر عىل مقومات ماهيته ،بأن يكون
119
ما هو .وألن املاهية هي حكم معرفة متيز الشئ وتعرفه بام جيعله خمتلفا عن
سواه ،وإن ليس فيها الكثري من حكم القيمة ،إذ إن الشئ حيقق ماهيته
ويكون ما هو بدءا ،وبعد ذلك يمكن له أن يكون مجيال أو غري مجيل ،فال
يكون مجال الشئ مجاال معامريا قبل أن يكون الشئ عامرة ،متثل هذه الفرضية
أساس بناء حكم القيمة حيث تتدخل ماهية العامرة يف بلوغ مجاهلا.ونجد إن
ثمة مدخلني يؤديان إىل دوام تعلق املاهية باجلامل ،يتمثل املدخل األول ،ىف
إن اجلامل هو أحد مبادئ العامرة الثالثة األساسية التى قدمها (فرتوفيوس)،
حيث قال بأن العامرة تقوم عىل مقومات ثالثة ،هي توفرها عىل متطلبات
الوظيفة واملتانة واجلامل ،وقد وافقه العديد من املعامريني واملفكرين ،كام
يمكن أن نالحظ ذلك عندما نقوم بمراجعة لتاريخ نظرية العامرة .فالعامرة
ولكي حتقق ماهيتها ،عليها أن تكون مجيلة .وإن كون العامرة مجيلة وبمقدار
ما تزيد يف حتقيق مجاهلا ،فإهنا يف املحصلة إنام تزيد ىف إنجاز ماهيتها ،ألن كل
تقدم يف اجلامل هو تقدم يف إنجاز املاهية.اما املدخل الثاين الذي يديم العالقة
الطردية بني املاهية واجلامل ،فهو قول (الغزايل) يف (كيمياء السعادة) (بأن
مجال كل شئ وحسنه يف أن حيرض كامله الالئق به ،فإذا كان مجيع كامالته
املمكنة حارضة فهو يف غاية اجلامل) .فاجلامل هو إكتامل شيئية الشئ ،وإن
حضور الكامالت املمكنة للعامرة ،هو الذي يبني ماهيتها ويميزها عن
سواها من األشياء ،بأن جيعل العامرة هي هي .وال يكون مجاال توفر الشئ
عىل سواه ،عندما اليكون ذلك بعض ماهيته ،إذ ليس من اجلامل أن يتوافر
املبنى عىل شئ من الكريس مث ً
ال ،أو أن يتوافر البيت عىل شئ من املدرسة،
120
اال عندما يكون جزءا من ماهية البيت أن يتوافر عىل شئ من املدرسة.إن
البيت الذي يكون بيتا ألنه مجيل ،عىل وفق معيار إن اجلامل هو أحد مبادئ
العامرة ،يكون باملقابل مجيال عندما حيقق ماهيته بوصفه بيتا .وإن مجال العامرة
يتكشف ويتأكد ىف كم أنجزت العامرة من ماهيتها .هذا األمر يعني بأننا
النستطيع أن نفرتض مجال العامرة من خارج ما تتطلبه ماهيتها .فإن العامرة
هي التي تقرتح مجاهلا ،ألهنا مجيلة بالنسبة اىل ذاهتا ،واملبنى مجيل بالنسبة
اىل ذاته ،إعتامدا عىل ماهيته التي تأسست عرب تاريخ حضوره وجغرافيته.
فيكون البيت مجيال نسبة اىل كل البيوت ،التي أسهمت وال تزال يف بناء ماهية
البيت .وإن كل ما يتدخل يف إنجاز ماهيته ،يتدخل يف إنجاز مجاله .
إن هذه العالقة يني املاهية واجلامل ،تكشف عن كون اجلامل معيارا
لكينونة األشياء بالنسبة اىل ذاهتا ،وليس قيمة مستقلة عن األشياء .وكام
تبني ،فقد أصبح من الصعب أن نتحدث عن مجال الشئ قبل أن نعرف ما
هو .وعندما نحيل البحث عن مجال العامرة اىل ماهيتها ،فنحن إنام نحيله
اىل جمال معريف ،ليس أقل غموضا من مفهوم اجلامل ذاته .غري إن إرتباط
أحدمها باآلخر ،اجلامل باملاهية ،يكشف عن مادة فكرية ملموسة وأقل
غموضا .وإننا إذ ندرك بأن مجال الكريس هو بقدر ما يتاح له أن حيقق كونه
كرسيا ،وإن مجال املبنى يكون بقدرما ينجز كونه مبنى ،فنحن بذلك إنام
نميز بني مجالني :مجال الكريس ومجال املبنى ،مكتشفني بأن لكل شئ مجاله
اخلاص الذي يتعلق بامهيته وينتج عنها .وبذلك نمنح مضمونا حمددا ملفهوم
اجلامل ،مل يكن يمتلكه قبل أن يرتبط بشئ ما عىل وجه التحديد .ويكون
121
اجلامل إذن شكال ملعيار ،ال يمتلك مضمونه وحمتواه القيمي ،إال من خالل
تدخل املاهية وتوحدها معه.إن العامرة التي متتلك وظيفة متيزها عن أي
ظاهرة أخرى ،واملبنى الذي يمتلك شكال يميزه عن سواه من األشياء،
له ايضا مجال خيصه وخيتلف به عن مجال ما عداه .وال يكون للعامرة ذلك
التصور اال من خالل إرتباط مجاهلا بامهيتها .ومن هنا فإن اجلواب عن
ّ
الكيفية التي تكون العامرة هبا مجيلة يذهب اىل وجوب أن تكون العامرة،
بدء ًا عامرة ،وتكون العامرة أكثر مجاال ،عندما تكون أكثر ما يمكن أن تكون
بوصفها عامرة .فاجلامل يف العامرة هو من نتائج حتقق ماهيتها ،وإن ثمة بداية
حمتملة ألن تكون العامرة مجيلة ،يف أن تكون عامرة .
كان (سقراط) يعتقد أن البيت األكثر مجاال هو البيت الذي جيد فيه مالكه
الراحة والسعادة يف فصول السنة كلها ،وأن حيمي فيه أشياءه( .)7ويقول
(سكروتن) إن إحساسنا بجامل األشكال املعامرية ال يمكن أن يعزل عن
فكرتنا عن املبنى وعن الوظيفة التي خيدمها ،إذ إن إحساسنا بجامل شئ ما
يعتمد عىل فكرتنا عام هو ذلك الشئ(.)8ولقد توصلنا يف مواضع أخرى،
اىل إن العامرة ،هي مبنى يتوافرعىل متطلبات إيواء اإلنسان .وقد كان من
نتائج ذلك التوصل أن يتوافر املبنى عىل املتانة والثبات اإلنشائي ،وأن
تتحقق فيه املالءمة والكفاءة الوظيفيتني ،عندما تتحقق فيه معايري املأوى.
وحقيقة األمر ،فإن كون املبنى مأوى يتوافر عىل املالءمة الوظيفية ويمتلك
الثبات واملتانة اإلنشائية ،هو بذاته قضية ذات رصيد مجايل كثري القيمة ،حيث
يكون املبنى مجيال عندما يكون مبنى ،ويكون املبنى مجيال بقدر ما يكون
122
مأوى أيضا ،ألن يف ذلك حضور الكثريمن ماهيته بوصفه عمال معامريا.
أما البحث عن اجلامل يف العامرة بقصد اجلامل ذاته ،أو اإلهتامم بالشكل
املعامري لغرض مجال الشكل ،فهو أفق جيد مداه يف ما يراه البعض من أن
العامرة هي أكثرمن جمرد مأوى .ونحن نرى أن العامرة يمكن أن تكون أكثر
من جمرد مأوى ،ىف إجتاه أن يكون املأوى أكثر إيواءا يف العامرة ،أو يف أن
تكون عامرة مع إهنا مأوى .إذ ليس للعامرة أن تكون عامرة اىل النهاية ،و مهام
كان هلا أن تكون ،إال بأن تكون مأوى ،ألن كيفية املأوى ومهام تعرضت اىل
العناية الشكلية فإهنا ال جتعل من املأوى شيئ ًا آخر ،بل إن العناية بالكيف هي
إيغال يف إمكانية أن يكون املأوى مأوى ،وقدما بإجتاه أن يقصد الشئ ذاته،
وأن يؤكد ماهيته ىف جتلياته الشكلية واجلاملية ،ويف ذلك تشكيل ملا يريد أن
يكون من طبيعة الشئ وبعض ماهيته يف كيفية أن يكون عىل مستوى الشكل
وجتليات املاهية.
123
اهلوامش
، بريوت، دار القلم، الكويت، وكالة املطبوعات،) ( ارسطو، عبد الرمحن. د، بدوي-1
. ) 268 ( ص1980 ،الطبعة الثانية
2- Hume, david (on the standard of taste), in (aesthetics), stolnitz, (edi),
الدار املرصية للتأليف، امحد محدي حممود. د: ترمجة،) (مبادئ الفن، كولنجوود-3
)54 ،51 (ص.1966 ،والرتمجة
منشورات بحسون، حممد شفيق شيا. د: ترمجة،) (النظريات اجلاملية،. إ، نوكس-4
.)47 ،46 (ص1985 ، بريوت،الثقافية
5- Alberti , leone battista , ,(ten books on architecture) , alec tiranti
124
اجلمال واآللفة يف العمارة
يف الكالم عن اجلامل ،ينبغي عدم إغفال حقيقة أن اجلامل يتأصل يف
نزعة ذاتية لدى اإلنسان ،بأن جيعل األشياء التي يصنعها جديدة ومثرية
ومجيلة بقدر ما يستطيع ذلك ،إذ ال يكفي اإلنسان أن تكون األشياء التي
ينتجها موجودة ،وال أن تكون دائمة الوجود ،أو أن تكون مفيدة ومالئمة
فحسب ،بل أن تكون مجيلة أيض ًا .ولذلك فإن ما جيعل تلك األشياء مجيلة،
ليس إننا نراها اآلن مجيلة ،بل يف إننا نريدها منذ البدء أن تكون مجيلة ،يف
دواعي اإلبداع .وجيد (برونوفسكي) إن أهم حافز يف إرتقاء اإلنسان هو
متعته يف ممارسة مهاراته ،ورغبته يف جتويد ما يقوم بعمله يف املرة القادمة (.)1
تلمح اىل إن املهمة اجلاملية هي مهمة عىل قدر من الصعوبة، وهذه املالحظة ّ
بسبب إن أمامها أفق ًا الهنائي ًا ،وال يبلغ حتى النهاية اإلكتامل .ويف العامرة
التي هي موضوع خللق متجدد ومتغري ،فإن اجلامل يبقى هو الفائض
الذي ال يمكنه األرتواء أبد ًا .ويمكن القول إن العامرة التي متتاز بحضور
شامل ومؤثر يف حياة اإلنسان ،يف وجود يمأل املدينة ،هي يف حاجة اىل أن
تكون عىل وفق مقاصد مجالية .حيث إن غاية اجلامل تأكيد لوجود اليشء
ذاته .يقول (موكاروفسكي) إن الوظيفة اجلاملية حتول كل ما متسك به اىل
عالمة( .)2والعالمة هي ما حييل اىل نفسه ،فيصري اليشء الدال هو املدلول،
125
ويكون يف حتول الشكل أو اليشء اىل عالمة ،ما يؤكد وجوده من دون
احلاجة اىل تكراره أو إقرتاح صياغة شكلية أخرى .وحيقق اجلامل للمبنى
ال يصعب التطاول عليه ،ويضفي كام ً
ال ليس من املالئم أن حضور ًا مكتم ً
يمسه التشويه ،وحيافظ بذلك عىل كيان املبنى .كام يالحظ وعىل الرغم من
تغري أشكال األبنية وطرزها ،وتغري وظائفها عرب الزمن ،فإن ما يبقى منها
ال وما جيعلها مقبولة هو رصيدها اجلاميل ،إذ نجد إن األبنية ذات مقبو ً
الطرز املعامرية القديمة التي تتوفر عىل مقومات الثبات اإلنشائي ،والقدرة
عىل اإلستخدام عىل الرغم من تغري الوظيفة املحتمل ،وبسبب تضمني
بنيتها الشكلية ما يثري الشعور باجلامل ،فإهنا متتلك حضور ًا قيمي ًا حيوي ًا لدى
املتلقي يديم إستعامهلا طاملا بقيت قائم ًة.
وحييلنا بقاء القيمة اجلاملية يف العامرة اىل الكالم عن نوعني من اجلامل،
يرى اخلطاب النظري وجودمها يف العامرة ،أحدمها طبيعي واآلخر مألوف.
حتى إذا تغريت قيمة ما هو متحول من مجال مألوف لسبب من أسباب
حتوله ،فإن ما هو ثابت من مجال طبيعي يضمن للعامرة دوام قيمتها اجلاملية.
وينتج اجلامل الطبيعي عن املواد البنائية ،وأساليب تنفيذ املبنى ،وعن التناظر
الدال عىل تناسب بني األجزاء املكونة للمبنى وبينها وبني الكل ،وهي
بعض خصائص الوجود املوضوعي لألبنية ومكوناته ،يف حني ينتج اجلامل
اآلخر عن األلفة والذوق والتعود .حيث تتدخل عوامل التحول اإلنسانية
واحلضارية يف إقرتاح ما هو مجيل .وقد كان (السري كريستوفر رن) يقول
إن من شأن األلفة أن تولد مشاعر ود جتاه أشياء ليست مجيلة بحد ذاهتا(.)3
126
ويؤيده يف ذلك (باشالر) الذي يرى إن بيتا بائسا إذا طالعناه بألفة فسوف
يبدو مجي ً
ال ( .) 4واأللفة التي يريد هلا اخلطاب النظري أن تكتشف يف املبنى
مجا ً
ال تسهم يف بنائه ،هي األلفة ذاهتا التي متثل أحد مقومات فعل اإليواء
الذي حيكم عالقة اإلنسان مع املبنى ،يف التمكن من املكان من خالل فعل
إنساين يتعامل مع املكان يف ديمومة من الزمان .ويمكن القول إن املأوى
يزداد عامرة بقدر ما يبقى مأوى .وتكشف ألفة اإلنسان للمأوى عن مجال
ال بقدر ما نألفه ،ويزداد مجا ً
ال فيه وتب ّني لذلك اجلامل .فيكون املبنى مجي ً
ال بسبب عالقة اجلامل بتحقيق ماهيتهبزيادة أمد ألفته .ويكون املبنى مجي ً
يف أن يكون مأوى من جهة ،و يزداد مجا ً
ال بسبب عالقة اجلامل باأللفة من
جهة ثانية .ويف دوام بقاء املبنى ،ليس ثمة ما هيدد اجلامل فيه بسبب ألفته
فحسب ،بل ما يثري مجا ً
ال آخر من خالل اإلستغراق يف ألفته .إن (الربيت)
يف تأكيداته حول ما هو مالئم ومنظم ومناسب يضع اجلامل يف قلب فعالية
البناء ،ويؤكد إنه ليس من املالئم فصل ما هو مجايل عن باقي عنارص اإلنجاز
املعامري .وإن املالئمة واجلامل يتخلالن كل عمل املعامري ،إذ ال يمكن
اإلنشغال بمعاجلة مشكلة اإلنشاء يف عزلة عن معاجلة متطلبات املالئمة أو
اجلامل .ولذلك فإن الشبكة املفهومية والعلمية التي جيهزها ما هو (مناسب)
يمكن هلا أن تقدم تصور ًا لكل املشاكل التي تواجه املعامري( .)5ويعني ذلك
إن اجلامل ذاته يفرتض به أن يكون مناسب ًا أيضا ً ،فال يكون مجا ً
ال متحرر ًا
أو مستق ً
ال عن كونه معد ًا ملقاصد إنشائية أو وظيفية ،وإن عنرص ًا أو مكون ًا
ال ،فال يمكن له أن يتحرر من كونه ما يف املبنى ،ومهام تقصد أن يكون مجي ً
127
مكون ًا يف هيكل أو يف جدار أو يف فضاء ،وعندها ينتمي اىل سياق داللة
وتوظيف خمتلف ،ال يعني تناقضا مع كونه عنرصا مجاليا ولكن جيعل مجاله
حمسوب ًا بالنسبة اىل توظيفاته األخرى وسياقات إنتامئه اىل نظام إنشائي أو
إستعاميل معني .حتى الزخرفة التي هي يف بعض حاالهتا مضافة اىل املبنى
بقصد جتميله ،ال تكون متحررة من حقيقة إهنا زخرفة معامرية ،تتجسد يف
مكون مادي هو جزء من هيكل أو سطح ،ال يتحرر من إلتزام إنشائي بكل
األحوال ،وال خيرج عن متطلبات الفعل الوظيفي وال يتناقض معه .إذ ال
نجد للزخرفة فرصة متامثلة يف السطوح البنائية كلها حيث يؤثر توظيف
املبنى يف إسلوب زخرفته ،وقد يقرتب من إختصار الكثري منها ،من دون أن
خيترصها بالكامل ،ألن الزخرفة مرتبطة بالعالقة بني املادة ومالحمها ،بني
اهليكل والشكل ،وبني الشكل ودقة تنفيذه .
إن اهليكل الذي ينشئ املبنى يكون مجي ً
ال بقدر ما حيقق وظيفته اإلنشائية،
بعد أن يبني اهليكل غالف ًا حيوي فضاءا يتطلب جدران ًا وسطوح ًا بنائية.
وهكذا يكون اليشء مجي ً
ال إعتامد ًا عىل ماهيته وبدء ًا منها ،فيكون مجال ما
هو إنشائي متعلق ًا وملتزما بوظيفته اإلنشائية ،ويكون مجال ما هو إستعاميل
مرتبط ًا بإستعامليته ،ويتجىل مجال العامرة بمقدار ماتكون عامرة .
128
اهلوامش
-1برونوفسكي ،ج( ،إرتقاء االنسان) ،ترمجة :د .موفق شخاشريو ،سلسلة عامل املعرفة،
املجلس الوطني للثقافة والفنون واالداب ،الكويت ،اذار ( 1981ص )68
-2ستيمبل ،وولف دييتري( ،املظاهر النوعية للتلقي) ،جملة (العرب والفكر العاملي)،
مركز االنامء القومي ،بريوت ،العدد ،3صيف ( ،1988ص )128
-3بونتا ،خوان با بلو( ،العامرة وتفسريها) ،ترمجة :سعاد عبد عيل مهدي ،دار الشؤون
الثقافية العامة ،بغداد( 1996 ،ص )50
-4باشالر ،غاستون( ،مجاليات املكان) ،ترمجة :غالب هلسا ،دار اجلاحظ للنرش ،وزارة
الثقافة واالعالم ،بغداد( 1980 ،ص )42
5- Scruton , roger,(the aesthetics of architecture), methuen and co.
129
واقعية العمارة وال واقعيتها
ينظر اىل العامرة يف اخلطاب النظري عىل إهنا عمل فني ،من دون جتاهل
إلتزاماهتا األخرى .ويف مدى كون العامرة إبداع ًا فني ًا ،ننشغل هنا بمعاجلة
تعقيد العالقة بني العامرة بوصفها فن ًا ،وبني الواقع املوضوعي عىل إنه أحد
مصادرها يف اإلبداع .وال شك إن العالقة بني العمل الفني والواقع ،تكمن
يف أن الواقع يمثل الكثري من مادة العمل الفني ،كام يمثل معيار ًا يف قبول
العمل الفني وتلقي خطابه اجلاميل واملعريف .فقد حاول اإلنسان منذ وجد أن
ينتج إبداعه متأثر ًا بام حوله وما أتيح له أن حياكيه إعجاب ًا وثقة بجامل ما هو
طبيعي ،وإعتقاد ًا منه بقدرته عىل إستحضار اجلامل املثايل وإمكانية الكشف
عنه .وكان من نتاج ذلك عامرة غنية بالصور واألشكال العضوية ،يف طرز
العامرة يف احلضارات القديمة ،التي إغتنت باألشكال والزخارف املستوحاة
من الطبيعة .حتى إن أشكال األعمدة التي ما برحت حتمل سقوف األبنية،
كانت هي األخرى حماكاة جلذورها ذات األشكال النباتية واإلنسانية .وقد
تطورت أساليب املحاكاة يف اإلبداع الفني ،من التعامل مع السطح الظاهر
للمخلوقات الطبيعية ،اىل النفاذ اىل عمق قوانني بنائها .فكانت املحاكاة يف
اإلبداع الكالسيكي حماكاة للشكل وحماكاة لبنيته ،كام يف إعتامد عالقات
تناسبية تبني الشكل املعامري مستمدة من بنية اجلسد اإلنساين والطبيعي،
131
متمثلة يف ما أسموه (النسبة الذهبية) ،التي تم إعتامدها بشكل تفصييل يف
أبعاد األعمدة وتشكيل واجهات األبنية وخمططاهتا .كام إن قوانني (املنظور)
يف الفن التشكييل هي قوانني مستمدة من مصادر واقعية ،لتحكم وجود
األشياء وحضورها املرئي يف الفن و الواقع .ويف النحت ،مل تغادر مالمح
اجلسد البرشي أماكنها املعتادة ،ومل تفقد األطراف من أطواهلا واألشياء من
حجومها ،بل يأيت الفنان ليؤكدها ويذهب هبا اىل مديات مثالية .غري إن هذا
التمثل للواقع املوضوعي وإستعادته شك ً
ال أو بنية يف العمل الفني ،ما عاد
أمر ًا كافي ًا .لذا فقد رشع الفنان يف البحث عن ذاته وعن قدراته عىل اخللق
يف صورة أخرى للواقع ينوي تقديمها ،مفرتق ًا بذلك عن مرجعيات ما كان
حياكيه ،بقصد أن يؤسس مملكة إبداعية متجددة ،ويقرتح واقع ًا آخر ضمن
الواقع الذي يعيش فيه .وقد متثل ذلك يف التالعب بقوانني الواقع وهو
حيرض يف العمل الفني .فقد أدرك الفنان إن مكونات الواقع تبلغ مديات
جديدة ومبتكرة من الداللة واملعنى وال تعود ملك ًا لواقعها ،عندما تنتمي
اىل عالقة بنائية جديدة ،أو أن تتعرض اىل اإلنحراف والتشويه واإلختالف
عن حالتها الواقعية .وتبع ًا لذلك تعرض الشكل الطبيعي اىل اإلنحراف
والتحول واىل اإلقتصاد يف احلضور ،وإستحال هذا الشكل وعىل الرغم من
مالحمه املعقدة خطوطا مقتصدة تكتفي من املوضوع بام هو جوهري،
ليكون نتاج ذلك صورة تعبريية تستعيد من املرجع بعضه املؤثر واملهيمن،
يف ضوء قراءة الفنان للواقع ورؤيته يف كيفية تقديمه اىل املتلقي .وثمة
جذور لذلك قديمة ،تتكشف عنها األنامط الزخرفية يف العامرة االسالمية،
132
حيث تتعرض األشكال النباتية اىل اإلنبناء يف عالقات من التكرار والتناظر
واإلقتصاد يف الشكل ،تقرب ًا من األشكال اهلندسية التجريدية ،متخطية قلق
تكرار املوضوع الطبيعي ،وهو ما كان منهج ًا مكروه ًا يف الفن االسالمي.
وهذه حقيقة تكشف عن قدم التأثري الذي مارسه الفكر يف بلورة إسلوب
فني معني .
ويف العامرة املعارصة ،حيرض القلق ذاته يف النظر اىل العامرة ،مما نحى
باملهندس املعامري جتاه البحث عن قوانني وعالقات بنائية جديدة ،تربئ
الشكل املعامري من احلضور ثقيل الوطأة لعنارص واقعية ،يف لون ومالمح
وصالدة املادة البنائية وقوانني إنشائها .وكذلك يف وظيفة املبنى وعالقاهتا،
التي تصبح الزمة أم ً
ال يف أن حييا املبنى وينجح يف إداء وظيفته .غري إن
املهندس املعامري يسعى اىل جتاوز واقعيته هذه وسواها من الرشوط .فعىل
الرغم من وجود إلتزام بقوانني إنشاء األبنية ،اال إن ثمة إنحراف ًا يف حضورها
التعبريي عىل مستوى الشكل ،بأن نحاول اإلحياء بثبات املبنى وتوفره عىل
مقومات نظام إنشائي موثوق ،يف إشارة اىل عالقة إنشائية ما ،كام يف حال
عمود حيرض يف واجهة مبنى وهو حيمل جرس ًا ثقي ً
ال ،تلبية لرغبة املتلقي
بوضع اليد عىل ما يوحي بإستقرار املبنى .وقد نعمد بدافع اإلنحراف
واإلختالف عن ما هو واقعي ،اىل اإلحياء بال إستقرار املبنى يف صورة جدار
متهدم ،أو عمود ينقطع عن محل جرس ينوي اإلستناد اليه ،ويف ذلك إستثامر
للنتائج الشعورية املحتملة بقصد اإلحياء باإلستقرار اإلنشائي جمسد ًا ،جتاوز ًا
لسلطة احلضور وإقرتاح إن غياب اليشء ليس أقل أمهية من حضوره .وأمام
133
رغبة املتلقي يف أن يرقب مادة بنائية مألوفة ،ال يمتنع املهندس املعامري من
إنجاز تكوينات شكلية حترر املادة من واقعية حضورها ،وحتيلها اىل شكل
يطغى عىل احلضور املادي .فتصبح الطابوقة مفردة يف بنية زخرفية أكثر مما
هي طابوقة .كام نحاول التحرر من واقعية الوظيفة وجتسدها التعبريي يف
شكل املبنى ،فبعد أن ساد زمان الدعوة اىل شكل يتبع الوظيفة ويوحي هبا،
إلتفت الفكر املعامري اىل تعقيد عالقة الوظيفة باملبنى ،وصعوبة إختزال تلك
العالقة اىل إلتزام تعبري الشكل عنها ،يف كون الوظيفة حالة معقدة ومتغرية
ومن الصعب مفهمتها ،وبات من الصعب إلزام الفضاء املعامري بوظيفة
حمددة ،األمر الذي دعا اىل أن يتحرر الشكل من مهمة التعبري عن تلك
الوظيفة ،نحو أفق إيفاء الفضاء املعامري ملتطلبات وظائف إنسانية متعددة.
وما عادت الوظيفة هي املطلق الذي يقرتح الشكل ،بل هنالك احلضور
املحتمل ملقاصد مجالية ورمزية يمكن أن تنتهي اىل شكل معامري ،يكون
ما يمكن أن يكون ،من دون أن يتجاهل التزاماته الوظيفية واإلنشائية،
ويقدم املبنى بذلك عم ً
ال فني ًا نافذا يف ما هو حمتمل ،متكشفا عن شكل جديد
يقصد متام اإلرتواء الذي يبتغيه اإلنسان من العامرة ،يف املالئمة واإلستقرار
والشعور باجلامل .
134
د .أسعد األسدي
ـ مهندس معامري وكاتب
ـ مواليد (البرصة) عام .1962
ـ بكالوريوس يف اهلندسة املعامرية /جامعة بغداد ـ عام .1985
ـ ماجستري يف العامرة األسالمية/جامعة بغداد ـ عام .1990
ـ دكتوراه يف نظرية العامرة/جامعة بغداد ـ عام .1998
ـ رئيس قسم اهلندسة املعامرية/جامعة البرصة منذ تأسيسه عام 2002حتى عام . 2007
ـ إستشاري اهلندسة املعامرية ـ جامعة البرصة.
ـ مهندس أستشاري ـ نقابة املهندسني العراقية.
ـ األعامل املنشورة
( -1شعرية العامرة )/املوسوعة الصغرية ،العدد (/)466دار الشؤون الثقافية العامة /
بغداد. 2002 ،
( -2أشكالية معرفة العامرة)/كتاب العدد يف جملة (مسارات)/العدد األول/السنة
الثانية/بغداد ،ربيع .2006
( -3بيوت ومدينة وافول)/مشاركة يف كتاب (املكان العراقي ـ جدل الكتابة والتجربة)
حترير د .لؤي محزة عباس ـ دراسات عراقية ،بغداد ،بريوت. 2009 ،
ـ األعامل املعامرية
ـ أنجز التصاميم املعامرية ألكثر من ( )80مرشوع ًا ألبنية خمتلفة األستعامالت ،بني منفذ
أو قيد التنفيذ ،يف مدن البرصة وميسان وذي قار واملثنى وبغداد.
135