Professional Documents
Culture Documents
تفسير - آيات - الأحكام - للسايس- (13) التدرج في تحريم الخمر
تفسير - آيات - الأحكام - للسايس- (13) التدرج في تحريم الخمر
واحلنفية ال يرون هذا.
نصت اآلية الكرمية على أ ّن كفارة اليمني اإلطعام ،أو الكسوة ،أو التحرير.
إىل هنا ّ
وقد اختلف العلماء يف متعلّق خطاب التكليف ،فذهب بعض املعتزلة إىل أ ّن الواجب اجلميع،
ويسقط ابلبعض.
وقيل :الواجب واحد بعينه عند هللا ،ويتعني بفعل املكلف ،فيختلف ابلنسبة للمكلفني.
يام ثَالثَِة أ هَايٍّم واشرتط احلنفية فيها ِ
وقيل غري هذا ،واملسألة معروفة يف علم األصول ،فَ َم ْن َملْ َِجي ْد فَص ُ
التتابع ،وهو مذهب ابن عباس وجماهد ،وأخرج احلاكم وابن جرير وغريهم من طريق صحيح أ ّن أيب
بن كعب كان يقرأ اآلية هكذا (ثالثة أايم متتابعات) « »1وروي هذا أيضا عن ابن مسعود ،وقال
سفيان :نظرت يف مصحف الربيع فرأيت فيه( :فمن مل جيد فصيام ثالثة أايم متتابعات) .
حيتج هبا ،ولعلها مل تثبت عنده. وأما الشافعي فال يشرتط التتابع ،ألنه يرى أن هذه قراءات شاذّة ال ّ
اح َفظُوا أ َْميانَ ُك ْم أي احفظوا أنفسكم من احلنث فيها ،أو الارةُ أ َْميانِ ُك ْم إِذا َحلَ ْفتُ ْم وحنثتمَ .و ْ ذلِ َ
ك َك هف َ
ضةً تبذلوها وأقلوا من احللف ،فإ ّن ذلك مسقط هليبتكم ،وهو حينئذ يف معىن قولهَ :وال َجتْ َعلُوا ه
اَّللَ ُع ْر َ
ِأل َْميانِ ُك ْم [البقرة ]224 :ومنه قول الشاعر:
قليل األالاي حافظ ليمينه ...إذا بدرت منه األليّة ّبرت
وقيل :إ ّن معىن ذلك راعوها حىت ال حتنثوا فيها ،فتلزمكم الكفارة.
اَّللُ لَ ُك ْم آايتِِه لَ َعله ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن أي مثل هذا البيان الشايف ّبني هللا لكم أحكامه ،لتشكروه
ني ه َكذلِ َ
ك يُـبَِّ ُ
على ما أنعم عليكم.
__________
( )1رواه احلاكم يف املستدرك على الصحيحني (. )539 /2
()388/1
طان س ِم ْن َع َم ِل ال ه
ش ْي ِ
الم ِر ْج ٌ
صاب َو ْاألَ ْز ُ
ِ
اخلَ ْم ُر َوال َْم ْيس ُر َو ْاألَنْ ُآمنُوا إِ همنَا ْ هِ
قال هللا تعاىل :اي أَيُّـ َها الذ َ
ين َ
ضاء ِيف ْ
اخلَ ْم ِر ِ اجتَنِبُوهُ لَ َعله ُك ْم تُـ ْفلِ ُحو َن ( )90إِ همنا يُ ِري ُد ال ه
ش ْيطا ُن أَ ْن يُوق َع بَـ ْيـنَ ُك ُم ال َْع َ
داوةَ َوالْبَـغْ َ فَ ْ
صالةِ فَـ َه ْل أَنْـتُ ْم ُم ْنـتَـ ُهو َن ( )91اخلمر :اسم ملا خامر العقل اَّلل َو َع ِن ال ه والْمي ِس ِر ويص هد ُكم عن ِذ ْك ِر هِ
َ َْ ََ ُ ْ َ ْ
خاص مبا كان من ماء العنب النيّئ الذي غلى واشتد وغطّاه من األشربة ،أاي كان نوعها ،أو هو ّ
وقذف ابلزبد.
حرمت ،ومل يكن العرب يعرفون اخلمر يف غري املأخوذ من ماء العنب ،فاخلمر
يرى احلنفية أ ّن اخلمر ّ
عندهم اسم هلذا النوع فقط ،وما وجد فيه خمامرة العقل من غري هذا النوع ال يسمى مخرا ،أل ّن اللغة
ال تثبت من طريق القياس ،واحلرمة عندهم تتعدى إىل املسكر ألهنا معلولة ابإلسكار ،ال ألن املسكر
مخر.
ويرى غريهم أ ّن اخلمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه ،فغري ماء العنب حرام ابلنص إِ همنَا ْ
اخلَ ْم ُر
َوال َْم ْي ِس ُر إخل.
والواقع :أنه قد وردت آاثر خمتلفة يف معاين اخلمر ،فقد روي عن ابن عمر أنّه قال« :حرمت اخلمر
وما ابملدينة منها شيء. »..
ولقد كان ابملدينة من املسكرات نقيع التمر والبسر ،فدل ذلك على أن ابن عمر وهو عريب ما كان
يرى أ ّن اسم اخلمر يتناول هذين ...
ويف مقابل هذا روى عكرمة عن ابن عباس قال :نزل حترمي اخلمر وهو الفضيخ نقيع البسر ،وهذا
يدل على أ ّن ابن عباس يرى أ ّن غري العنب يسمى مخرا.
وروى اثبت عن أنس قال :حرمت علينا اخلمر يوم ح ّرمت وما جند مخور األعناب إال القليل ،وعامة
مخوران البسر والتمر.
حرمت اخلمر وهي من العنب والتمر والعسل واحلنطة
وروي عنه أنّه سئل عن األشربة ،فقالّ :
والشعري والذرة ،فكان عنده أ ّن ما أسكر من هذه األشربة فهو مخر.
حرمت وهي من مخسة أشياء من :العنب والتمر والعسل واحلنطة
وروي عن عمر أنه قال :إ ّن اخلمر ّ
والشعري ،واخلمر ما خامر العقل.
وروي عن النيب صلّى هللا عليه وسلّم أنه قال« :إن من احلنطة مخرا ،وإن من الشعري مخرا ،وإن من
الزبيب مخرا ،وإن من التمر مخرا ،وإن من العسل مخرا» «. »1
وروي عنه صلّى هللا عليه وسلّم أنه قال« :اخلمر من هاتني الشجرتني النخلة والعنب» «. »2
ولقد أطلنا بذكر هذه اآلاثر ملعرفة منشأ اخلالف ،واحلنفية يقولون فيما خالف
__________
( )1و ( )2سبق خترجيه].....[ .
()389/1
مذهبهم من هذه األخبار :إهنا لبيان احلكم الشرعي ،واحلرمة ابلقياس لتحقيق علة احلرمة ،وهي
اإلسكار يف القدر املسكر من هذه األشياء.
وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا يف التسمية ،والكالم إمنا هو يف احلكم،
واملسلمون مجيعا حبمد هللا متفقون يف احلكم من حيث احلرمة إال شيئا يروى عن أيب حنيفة يف حل
القليل من غري األصناف األربعة ،وهو ما مل يبلغ ح ّد اإلسكار ،وقد نص بعض املتأخرين من احلنفية
على أ ّن هذه الرواية ال جيوز العمل هبا وال الفتوى ،حىت يف خاصة النفس ،وأ ّن احلكم أ ّن ما أسكر
كثريه فقليله حرام.
غري أنّه يتبع الكالم يف احلرمة كالم يف األحكام األخرى كالنجاسة واحل ّد ،فمن يرى أ ّن هذه األشياء
مخر ،وأهنا يشملها اسم اخلمر يقول :إهنا جنسة بقوله تعاىل:
ِر ْج ٌ
س وأ ّن فيها احلد الذي ثبت بدليله املعروف يف الفقه.
ومن يرى أهنا حرام من طريق القياس إلسكارها .هل يرى أ ّن النجاسة ووجوب احلد ثبت للخمر
لإلسكار وخمامرة العقل ،فينقل احلكم ،وهو النجاسة ووجوب احلد ،كما نقل احلرمة ابلقياس
لإلسكار ،أم هو يرى أ ّن الذي ثبت بعلة اإلسكار إمنا هو احلرمة فقط ،فال يعدي النجاسة ووجوب
احلد إىل غري ماء العنب واألشربة املعدودة عنده.
وهل يورث اخلالف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط احلد؟ ذلك جيب الرجوع فيه إىل الفقه
وقواعده ،فإ ّن ذلك ال ارتباط له ابآلية اليت معنا.
وامليسر :أصله من تيسري أمر اجلزور ابالجتماع على القمار يف توزيعه .وقد ّبني ذلك عند تفسري قوله
اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر [البقرة. ]219 :
ك َع ِن ْ
تعاىل :يَ ْسئَـلُونَ َ
وقد روي عن اإلمام علي أنّه الشطرنج.
وعن عثمان ومجاعة أنّه النرد ،وقال مجاعة من أهل العلم :القمار كله من امليسر .ويراد منه :متليك
املال ابملخاطرة ،فكل خماطرة ابملال قمار ،وهو من امليسر ،وهو حرام.
س أي قذر تعافه العقول .وعن الزجاج :الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح ،وقد يطلق الرجس ِر ْج ٌ
على النجس.
اجتَنِبُوهُ أي اجتنبوا الرجس لَ َعله ُك ْم تُـ ْفلِ ُحو َن راجني الفالح ِمن َعم ِل ال ه ِ
ش ْيطان من تسويله وتزيينه .فَ ْ ْ َ
هبذا االجتناب.
ولقد شدد هللا يف اآلية الكرمية أمر اخلمر وامليسر تشديدا يصرف النفوس عنه إىل غري عود ،فص ّدرت
اجلملة (إبمنا) وقران ابألصنام واألزالم وَها ما َها من الشناعة ،ومسيا رجسا من عمل الشيطان ،وذاك
غاية القبح ،مث أمر ابجتناهبما ،وأضاف
()390/1
يفر منهما ،مث جعل اجتناهبما سببا للفالح والفوز ،فهل مع هذا
االجتناب إىل أعياهنما ،حىت كأهنم مما ّ
كله يعود الناس إليهما ،إن ذلك حلسرة؟! ولقد أردف هللا ذلك ببيان املضار اليت تنجم من جراء
اخلمر وامليسر ،عسى أن يكون يف ذلك ذكرى ملن ألقى السمع فقال:
اخلَ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِر أي بسبب تعاطيهما ،أما
ضاء ِيف ْ ِ إِ همنا يُ ِري ُد ال ه
ش ْيطا ُن أَ ْن يُوق َع بَـ ْيـنَ ُك ُم ال َْع َ
داوةَ َوالْبَـغْ َ
اخلمر فإهنّا تذهب العقل ،ومىت ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال اجملانني ،ولو كان جمنوان لغفر
الناس له ما يكون منه من أذى ،فيتأذى الناس منه ويبغضونه ملا يلحقهم من شره ،وال عذر له،
فيغرس يف قلوهبم الغل والضغينة ،وما جر عليه ذلك إال اخلمر .وأما امليسر فإنه يف حال انشغاله
ابلقمار يكون فاقد اإلحساس والشعور ،ال يبايل ابملال َيرج من يده إىل غري رجعة ،طمعا يف أن ينال
أكثر منه ،فإذا رجع خاسرا أكل قلبه احلسد ،وامتألت نفسه حقدا وحفيظة ،ورمبا أداه ذلك إىل قتل
من ظن أنّه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة ،وإن مل متكنه رجع إىل نفسه ابلقتل ،أو ابهلم
واالكتئاب ،وإن صادفه احلظ وكان راحبا امتأل قلب صاحبه عليه غال وضغينة .واحلوادث منا يف
السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد .دع ما يتخذه كل املتقامرين من وسائل خسيسة ،وأميان كاذبة
يستعملوهنا يف سبيل حتقيق أطماعهم ،وكثريا ما أودت تلك الوسائل أبصحاهبا.
صالةِ بعد أن ّبني األضرار اليت تعود على املتقامرين واملخمورين يف ويص هد ُكم عن ِذ ْك ِر هِ
اَّلل َو َع ِن ال ه ََ ُ ْ َ ْ
ضاران ابلدين أيضا ،فإهنّما مينعان من
الدنيا ّبني أ ّن ضررَها ليس قاصرا على الدنيا فقط ،بل َها ّ
الذكر ومن الصالة ،ومىت منعا من الذكر والصالة فقد صار الشخص فاجرا ،ال يرقب يف هللا إال وال
ذمة ،فهو مستهرت ،ال يبايل ما يرتكب من اآلاثم ،فماذا مينعه ،وقد بعد من الصالة اليت تنهى عن
الفحشاء واملنكر.
فَـ َه ْل أَنْـتُ ْم ُم ْنـتَـ ُهو َن يف هذه اجلملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية ،وأ ّن األمر من الشدة
واهلول حبيث ال مينعه إال انتظار اجلواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حني مسعها ،وقد كان طلب
البيان الشايف بعد آية البقرة قولة اخلائف الوجل :انتهينا اي رب .ولقد سبق القول يف سورة البقرة أن
آية اخلمر [ ]219اليت فيها ،كانت أول ما نزل يف اخلمر ،مث نزلت آية النساء ،مث هذه.
وأخرج الربيع أنه ملا نزلت آية البقرة قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم« :إن ربكم يقدم يف حترمي
اخلمر» مث نزلت آية النساء .فقال النيب صلّى هللا عليه وسلّم« :إن ربكم يقدم يف حترمي اخلمر» مث
فحرمت اخلمر عند ذلك.
نزلت آية املائدة ّ
()391/1
اح َذ ُروا فَِإ ْن تَـ َولهْيـتُ ْم فَا ْعلَ ُموا أَهمنا َعلى َر ُسولِنَا الْبَالغُ
ول َو ْ
يعوا ال هر ُس َ َطيعوا ه ِ
اَّللَ َوأَط ُ
ِ
قال هللا تعاىلَ :وأ ُ
ني ( )92أمر ابلطاعة يف كل ما جاء عن هللا والرسول صلّى هللا عليه وسلّم ويدخل فيه ما جاء يف ال ُْمبِ ُ
اخلمر وامليسر دخوال أوليا ،وحتذير عن املخالفة ،فإهنّا موقعة يف املهالك فَِإ ْن تَـ َولهْيـتُ ْم أعرضتم ومل
ِ
ني وقد بلّغكم فانقطعت حجتكم ،وانسد تعملوا مبا أمرمت به فَا ْعلَ ُموا أَهمنا َعلى َر ُسولنَا الْبَالغُ ال ُْمبِ ُ
أمامكم سبيل االعتذار ،ومل يعد لكم مطمع يف التعلّة ،وإن ذلك لتهديد شديد.
آمنُوا َو َع ِملُوا ِ ات ج ِ قال هللا تعاىل :لَْيس َعلَى اله ِذين آمنُوا و َع ِملُوا ال ه ِ ِ
ناح فيما طَع ُموا إِذا َما اتهـ َق ْوا َو َ صاحل ُ ٌ َ َ َ َ
ِ ِ ِ ال ه ِ ِ
ني ( )93روي عن ابن عباس وجابر ب ال ُْم ْحسن َ سنُوا َو ه
اَّللُ ُحي ُّ آمنُوا مثُه اتهـ َق ْوا َوأ ْ
َح َ صاحلات مثُه اتهـ َق ْوا َو َ
حرمت اخلمر قالت والرباء بن عازب وأنس بن مالك وغريهم يف سبب نزول هذه اآلية :أنه ملا ّ
الصحابة :كيف مبن ماتوا وهم يشربوهنا؟ فأنزل هللا تعاىل هذه اآلية «. »1
وقد فهم عمر بن اخلطاب هذا املعىن من اآلية .وقد أراد أن يقيم احلد على قدامة بن مظعون حني
شهد عليه الشهود أبنه شرهبا .روى الزهري أن اجلارود سيد بين عبد القيس وأاب هريرة شهدا على
قدامة بن مظعون أنه شرب اخلمر ،وأراد عمر أن جيلده.
ناح فِيما فقال قدامة :ليس لك ذلك ،ألن هللا يقول :لَْيس َعلَى اله ِذين آمنُوا و َع ِملُوا ال ه ِ ِ
صاحلات ُج ٌ َ َ َ َ
حرم هللا. ِ
طَع ُموا فقال عمر :إنك أخطأت التأويل اي قدامة ،إذا اتقيت اجتنبت ما ّ
والطعم يطلق يف اللغة على التذوق والتلذذ مبا يؤكل ويشرب وهو هنا هبذا املعىن.
وحبسب ما ذكران من سبب النزول يكون معىن اآلية :ليس على من آمن ابهلل واتقاه وعمل صاحلا
جناح فيما تناوله من احملرمات قبل حترميها إذا ما اتقى هللا يف حمارمه ،وآمن به ،وعمل صاحلا ،مث
استمر على هذه التقوى وهذا اإلميان يف املستقبل ،مث اتقى هللا فيما أحل له ،وأحسن يف استعماله.
املكررين يف اآلية ،وتعرف معىن اإلحسان الذي زيد
ومن هذا الذي قلنا تعرف معىن التقوى واإلميان ّ
املفسرون لبيان أنه ال تكرار يف اآلية ،ولنذكر بعضا منها ،فقد
فيها ،وهو وجه من وجوه كثرية أوردها ّ
قال بعضهم :إن التقوى واإلميان األولني يراد هبما حصول أصل التقوى ،وأصل اإلميان ،والثانيني يراد
منهما الثبات والدوام ،والتقوى الثالثة اتقاء ظلم العباد مع ضم اإلحسان إليه.
وذهب بعضهم إىل أن التقوى األوىل تقوى احملرمات قبل نزول هذه اآلية،
__________
( )1انظر الدر املنثور يف التفسري ابملأثور للسيوطي (. )171 /3