VELSSEVA

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 336

‫شرف‪-‬إخاء‪-‬عدل‬ ‫الجمهورية اإلسالمية الموريتانية‬

‫وزارة التهذيب الوطني‬

‫دروس ونصوص‬
‫للسوابع األدبية العصرية‬
‫لجنة التأليف‬
‫محمد لولي ولد اليدالي‬
‫مستشار تربوي بالمعهد التربوي الوطني‬
‫‪ -‬محفوظ بن حنفي (م‪ .‬تربوي)‬ ‫‪ -‬محمد محمود ولد أممد (م‪ .‬تربوي)‬
‫‪ -‬محمد بن أحمد جدو (ق ب ت)‬ ‫‪ -‬سيدي محمد بن حماتي (أستاذ)‬
‫‪ -‬الشيخ سيدي محمد بن سيد أحمد (ق ب ت) ‪ -‬محمد يسلم بن حمود (ق ش إ)‬

‫راجعه كل من‪:‬‬
‫مفتش تعليم ثانوي‬ ‫‪ -‬إسلم بن سيدي أحمد سالم‬
‫مفتش تعليم ثانوي‬ ‫‪ -‬محمد لولي ولد اليدالي‬
‫‪ -‬الشيخ سيدي محمد بن سيدي أحمد أستاذ تعليم ثانوي‬

‫‪1‬‬
‫المعهد التربوي الوطني‬

‫‪2‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫هذا الكتاب ليس بدعا من الكتب الفلسفية األخرى‪ ،‬إذ يعالج مجموعة من‬
‫اإلشكاالت المختلفة وهي التي حددتها الوثيقة الرسمية للبرامج التي أعدتها المفشية‬
‫العامة للتعليم الثانوي‪.‬‬
‫يتناول المحور األول مفهوم الفلسفة كإشكالية ترفض تجمد المعنى في هذا الرأي‬
‫أو ذاك ولعل الطبيعة الممانعة تمثل السمة الجوهرية لكافة قضايا الفلسفة كما يتناول هذا‬
‫المحور مناهج الفلسفة وقيمتها وعالقة الفلسفة بالعلم والدين اإلسالمي‪ ،‬ثم يقدم صورة‬
‫مركزة عن التيارات الفلسفية الكبرى (المثالية والمادية)‪ ،‬ويختم بالحديث عن مذاهب‬
‫فلسفية أخرى كالوضعية والوجودية والظاهرتية والبنيوية‪.‬‬
‫في هذا المحور تتم مراجعة بعض الدروس التي تلقاها التلميذ في السنة الخامسة‬
‫كمفهوم الفلسفة والمن هج وعالقة الفلسفة بكل من العلم والدين‪ .‬وقد ارتأينا حذف بعض‬
‫الدروس من الطبعة األولى لهذا الكتاب مثل‪ :‬نشأة الفلسفة وخصائص التفكير الفلسفي‬
‫لكون كتاب الفلسفة للسنة الخامسة يتعرض لهذين الدرسين بشكل جيد (انظر الكتاب)‪.‬‬
‫في المحور الثاني تتم معالجة موضوع أساسي في الفلسفة هو موضوع "العلوم‬
‫اإلنسانية"الذي يتناول إشكالية ذات أبعاد مختلفة إذ يتناول كل منها اإلنسان في بعد من‬
‫أبعاده ‪ ،‬ومن أكبر ما تواجهه هذه العلوم التحديات التي تقف في وجه دراسة الظاهرة‬
‫اإلنسانية دراسة علمية ولذا كان الحديث عن العوائق االبستمولوجية أمرا الزما لمقاربة‬
‫هذا الموضوع‪.‬‬
‫أما المحور الثالث فيتناول إشكالية أساسية في الفكر الفلسفي وهي المتعلقة‬
‫بدراسة الشخصية‪.‬‬
‫وتناول هذا الموضوع يكون من باب مقاربة مفاهيمية كمنطلق أول ثم الحديث‬
‫عن العوامل المؤثرة في الشخصية وهذا ال يتم إال بذكر رأي بعض مدارس علم النفس‬
‫خاصة مدرسة التحليل النفسي‪.‬‬
‫كما يتناول المحور الرابع السياسة وهي محور أصيل في الفلسفة‪ ،‬وأول كتاب‬
‫ألف فيها للفيلسوف اليوناني افالطون‪ ،‬ويتناول هذا الباب من خالل الحديث عن مفهوم‬
‫الدولة ونشأتها و وظائفها ومقوماتها وأشكال النظم السياسية‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ومن الطبيعي جدا أن تكون السياسة ضمن برنامج الفلسفة‪ ،‬ذلك أن التلميذ في‬
‫الباكلوريا يعتبر طالبا جامعيا بالقوة‪ ،‬وينبغي أن يكون له رأي في المجال السياسي‪،‬‬
‫وفلسفة السياسة تنمي ملكة الحوار وقبول الرأي اآلخر‪ ،‬وتبين أن االختالف في وجهات‬
‫النظر ظاهرة إيجابية‪ ،‬وليس بغريب في مجال الفكر الفلسفي المؤسس على تعدد اآلراء‬
‫وتباينها‪.‬‬
‫وفي المحور األخير يتناول الكتاب إشكالية "الحرية" أو مفهومها وهو مفهوم‬
‫يسقط محتواه كل مرة ويتجدد إال أن المعنى كان دائما داال على انتفاء القسر واإلكراه‪...‬‬
‫بحيث يشعر الفرد بأن له إرادة حرة تسمح له بفعل كذا أو تركه‪ ،‬ورغم تعدد اآلراء‬
‫واختالفها ظلت الحرية كمفهوم مجرد غير مدركة إذ هي وعي وعي الوعي‪ ،‬وما عليه‬
‫مدار الحديث وغاية المبحث إدراك معنى التحرر‪.‬‬
‫وقد راعينا في تأليف هذا الكتاب الجمع بين الدروس والنصوص‪ ،‬فيبدأ بالجانب‬
‫النظري تأطيرا لإلشكال الذي يتناوله ثم يقدم نصوصا تؤصل الرأي وتعبر بأصالة عن‬
‫رأي الفيلسوف في إشكال مخصوص‪.‬‬
‫وإن تضافر ثالثة عوامل في الدرس الفلسفي يمكن بحول هللا تعالى من فهمه‬
‫واستيعابه من قبل التالميذ‪ ،‬وهذه العوامل هي‪:‬‬
‫‪ -‬تأطير نظري للدرس‬
‫‪ -‬نص تطبيقي يقاس عليه‬
‫‪ -‬جهود األستاذ‬
‫وفي تقديرنا فإن الغاية المتوخاة من الكتاب لتتوقف بشكل كلي على المجهود‬
‫الذي يبذله األستاذ‪ ،‬فالكتاب مجرد أداة تربوية تساعد األستاذ على إيصال مضامين‬
‫الدروس‪ ،‬ومهما كانت جودته فلن تكون له قيمة تربوية – تذكر‪ -‬في غياب مجهود‬
‫األس تاذ الذي يساعد على استخراج األفكار والمضامين المعرفية وإيصالها إلى التلميذ‬
‫الذي هو الهدف األول واألخير من العملية التربوية في جميع مراحلها وأبعادها‪.‬‬

‫وهللا الموفق والهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المحور األول‪:‬‬
‫مفهوم الفلسفة‬

‫‪5‬‬
6
‫ما الفلسفة؟‬
‫(إشكالية التعريف)‬
‫كلمة فلسفة في االشتقاق اللغوي كلمة مركب من كلمتين يونانيتين هما‪:‬‬
‫"فيال" و "سوفيا" أي "محبة الحكمة"‪ ،‬وعندما ترجم العرب الفلسفة اليونانية‬
‫استعملوا كلمة "الحكمة" للتعبير عنها‪ ،‬وكلمة "حكيم" للداللة عل الفيلسوف‬
‫الذي هو "محب الحكمة"‪ ،‬إال أن لفظ "فلسفة" أصبح هو التعبير الشائع لدى‬
‫‪1‬‬
‫المشتغلين بالفلسفة) (‪.‬‬

‫إن هذا التعريف االشتقاقي – والذي أصبح متجاوزا‪ -‬لن يفيدنا كثيرا‬
‫في بلوغ ما نطمح إليه من توضيح مفهوم "الفلسفة" التي قد يكون من أطرف‬
‫تعريفاتها أنها «علم التعاريف» ؛ حيث تهتم بوضع تعاريف وحدود لألشياء‬
‫التي تتخذها موضوعا لها‪.‬‬

‫إن وجه الغرابة في هذا يكم ن في أن الفلسفة التي تسع إل تعريف‬


‫األشياء مازالت تقف عاجزة عن تعريف ذاتها تعريفا جامعا مانعا كما يقول‬
‫المناطقة ! إال أن األمر قد يبدو مفهوما ومقبوال إذا عرفنا أنه ال توجد فلسفة‬
‫واحدة وإنما فلسفات قد يساوي عددها عدد الفالسفة أنفسهم‪ ،‬واألمر هو ذاته‬
‫بالنسبة للتعاريف ! أضف إل ذلك أن أي فيلسوف إنما يتعامل –في الغالب‪-‬‬
‫مع "أشياء" غير ملموسة‪ ،‬أي مع أفكار ومفاهيم وتصورات مجردة‪ ،‬مما‬
‫يستتبعه بالضرورة أن ال يكون التعبير عنها عل درجة كافية من الوضوح‪،‬‬
‫خاصة و أن الفيلسوف إنما ينطلق في عمله‪ ،‬وتفكيره‪ ،‬وتعريفاته من اجتهاده‬
‫الشخصي الذي قد ال يتطابق مع االجتهاد الشخصي لفيلسوف أو شخص آخر‪.‬‬
‫إال أننا –رغم ذلك‪ -‬نرى ضرورة استعراض نماذج من تلك‬
‫التعريفات‪ ،‬نظرا لما يتيحه ذلك للمبتدئين من تكوين تصور أولي للموضوع‬
‫الفلسفي كتوطئة لممارسة عملية "التفلسف" ذاتها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬دعائم الفلسفة –إدريس خضير– الدار التونسية للنشر بتونس والمؤسسة الوطنية‬
‫للكتاب بالجزائر ص‪11‬‬
‫‪7‬‬
‫وسنتناول تعريف الفلسفة من حيث الداللة االصطالح من خالل الحقب‬
‫الفلسفية التاريخية‪:‬‬

‫الفلسفة وليدة اليونانية‪:‬‬


‫يجمع نقاد الفكر الفلسفي عل أن الفكر الفلسفي نشأ وازدهر في بالد‬
‫اليونان ما بين القرن (‪ 6‬و ‪ 3‬قبل الميالد) فقد حل الفيلسوف محل العراف‬
‫و الساحر وأصبح المواطن اليوناني يفكر بذاته وشهدت المدينة اليونانية‬
‫تطورا شمل كافة ميادين الحياة‪ ،‬فكان من الممكن أن تسبق البطولة األدبية‬
‫البطولة الفلسفية ‪ ،‬لكن وبفضل هذا التطور توفر لإلنسان اليوناني كل ما هو‬
‫ضروري لسد حاجياته وتفرد بعض الناس للتفكير والتأمل وهم من يسمون‬
‫أنفسهم بالفالسفة‪ -‬محبي الحكمة‪ ،‬وكان بحثهم عن الحقيقة لذات الحقيقة وليس‬
‫لغايات أخرى كما يرى أرسطو‪.‬‬
‫ويعتبر العالم الرياضي اليوناني فيتاغورس )‪ 497-572‬ق‪.‬م( أول من‬
‫نحت لفظ "فيلسوف" باعتباره "محب الحكمة" والتي تعني «التعمق في‬
‫التفكير والتأمل»‪ ،‬أما الرجل الحكيم فهو «ذلك الشخص الذي يتحرر مما‬
‫يشده إل الواقع اليومي‪ ،‬وينسلخ من خضم الحياة الجارية لينصرف إل‬
‫التفكير والنظر في شؤون الكون والحياة‪ ،‬وفي اإلنسان ومصيره»‪.1‬‬
‫أما أول من تفلسف بهذا المعن فالراجح أنه طاليس )‪ 546-640‬ق‪.‬م(‬
‫الذي هو أحد"الحكماء السبعة"‬

‫أما السفسطائيون وعل رأسهم (ابروتاغوراس ‪074-084‬ق‪.‬م)‬


‫و(جورجياس ‪573-084‬ق‪.‬م) فقد حولوا الفلسفة إل نوع من التالعب باأللفاظ‬
‫والكلمات والدالالت‪ ،‬وهو ما يمنح السفسطائي المقدرة عل إثبات القضية‬
‫ونقيضها وذلك لقدرتهم عل تطويع اللغة والتصرف في ألفاظها‪ .‬وهم يعملون‬
‫عل إثبات القضية ونقيضها وبالتالي إنكار الحقيقة المطلقة وهو ما سيكون‬
‫التصدي له بمثابة الهم األول لـ (سقراط ‪533-068‬ق‪.‬م)‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬دروس الفلسفة لطالب الباكلوريا المغربية – دار النشر المغربية‪ -‬الدار البيضاء ص‪:‬‬
‫‪. 14 – 13‬‬
‫‪8‬‬
‫نماذج من تعاريف الفلسفة‪:‬‬

‫لقد اتجه (سقراط ‪ 533-063‬ق‪.‬م) بالفلسفة وجهة مختلفة وانصرف‬


‫بالتفكير الفلسفي إل البحث في اإلنسان وما يهمه من أمور كالسياسة‬
‫واألخالق حت قيل إن سقراط قد "أنزل الفلسفة من السماء إل األرض"‬
‫ويعرف سقراط الفلسفة بأنها «معرفة اإلنسان نفسه»‪.‬‬

‫أفالطون‪ 507-027( :‬ق م) يعرف افالطون الفلسفة بقوله «معرفة‬


‫الحقائق المطلقة الكامنة وراء ظواهر األشياء»‪.1‬‬
‫أما أرسطو (‪ 523-580‬ق‪.‬م) فقد فرق بين معنيين للفلسفة‪ :‬معن عام‬
‫يسميه "الفلسفة النظرية" التي تضم الرياضيات‪ ،‬والطبيعيات‪ ،‬واإللهيات‪،‬‬
‫وذلك في مقابل "الفلسفة العملية" التي تهتم بشؤون السياسة‪ ،‬واألخالق‪،‬‬
‫وتدبير المنزل‪.‬‬
‫أما المعن الثاني فهو ما يسميه‪" :‬الفلسفة األول " وهي البحث في‬
‫جميع الموجودات وفي حقائق األشياء‪ ،‬وصوال إل الكشف عن عللها األول‬
‫وغاياتها القصوى‪.‬‬
‫ويعرفها بقوله‪« :‬معرفة الوجود من حيث هو وجود»‬
‫وفي القرون الوسط اكتست الفلسفة الوسيطة الناتجة عن احتكاك‬
‫الديانتين اإلسالمية والمسيحية بالتراث اليوناني القديم‪ ،‬ومن هنا نفهم مدى‬
‫التشابه وربما التطابق بين هذه التعريفات وتلك التي مرت بنا عند الفالسفة‬
‫اليونيين‪.‬‬
‫فعل نفس المنوال سار القديس (اوغسطين) و(توما االكويني) في‬
‫الغرب المسيحي والفكر الالهوتي كما هو الشأن بالنسبة للفالسفة المسلمين‪،‬‬
‫وبالجملة فإن الفلسفة في العصر الوسيط كانت مجرد سالح فكري موجه‬
‫لخدمة الدين سواء كان إسالميا أو مسيحيا وهو ما عبر عنه هيكل بقوله‪« :‬لم‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬دروس الفلسفة مصدر سابق ص ‪.33‬‬
‫‪9‬‬
‫تكن الفلسفة في القرون الوسط إال الهوتا ولم يكن الالهوت إال فلسفة‪،‬‬
‫والفيلسوف هو الذي يبحث في الالهوت بحثا منظما»‬
‫فهذا أبو يعقوب الكندي (‪ 961-896‬م)‪ :‬يعرف الفلسفة بأنها «العلم‬
‫بحقائق األشياء‪ :‬إنياتها ومائياتها وعللها بقدر طاقة اإلنسان» وهي‪« :‬العلم‬
‫التام المؤدي إل فعل الخير»‬
‫ويقسم الفلسفة إل ثالثة أقسام ( أولها العلم الرياضي في التعلم وهو‬
‫أوسطها في الطبع‪ ،‬والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع‪ ،‬والثالث‬
‫علم الربوبية وهو أعالها في الطبع‪.)..‬‬

‫ويعتبر الكندي الفلسفة أعل الصناعات اإلنسانية منزلة وأشرفها مرتبة‬


‫ألن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق‪.‬‬
‫وبنفس المعن يرى الفارابي‪553-233( :‬هـ) أن الفلسفة هي‪« :‬البحث‬
‫في الموجودات بما هي موجودة» ‪ ،‬وذلك من خالل دراستها للحكمة اإللهية‬
‫والمنطقية والرياضية‪.‬‬
‫أما ابن سينا )‪1037-980‬م( فنجده ‪-‬في رسالته الطبيعيات‪ -‬يتحدث عن‬
‫الحكمة بوصفها ( استكماال للنفس اإلنسانية بتصور األمور والتصديق‬
‫بالحقائق النظرية والعملية عل قدر الطاقة اإلنسانية)‪ ،1‬إذ اإلنسان –في‬
‫نظره‪ -‬خلق جاهال وخلوا من كل معرفة بشؤون الكون‪ ،‬وبالتالي فليس أمامه‬
‫إال استخدام عقله وتفكيره لكشف الحقائق التي يجهلها سواء كانت تلك الحقائق‬
‫نظرية أم عملية‪ ،‬وبذلك يستطيع "تجاوز النقص الموجود فيه ويرتفع من‬
‫مرتبة الحياة البهيمية إل مرتبة اإلنسانية العاقلة‪.‬‬

‫وقال ابن رشد (‪333-324‬هـ)‪ :‬الشارح األول ألرسطو بما قال به‬
‫أرسطو من أن الفلسفة هي‪« :‬دراسة الوجود من حيث هو وجود» واعتبر‬
‫الفلسفة «صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة»‪.‬‬
‫ولئن كانت الفلسفة الحديثة خطت خطوات نحو األمام مستفيدة من تقدم‬
‫العلوم فإنها ظلت تهتم بالمعرفة في جانبها الكلي الشامل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬دعائم الفلسفة – مصدر سابق ص ‪.32‬‬
‫‪10‬‬
‫وهكذا فإن شمولية الموضوع الفلسفي‪ ،‬وما يبدو من موسوعية‬
‫الفيلسوف هو ما دفع ديكارت )‪1650-1596‬م) في تصديره لكتاب مبادئ‬
‫الفلسفة إل القول الحكمة هي «العلم التام المؤدي إل فعل الخير» وقد شبه‬
‫الفلسفة بشجرة جذورها الميتافيزيقا‪ ،‬وجذعها العلم الطبيعي‪ ،‬وغصونها‬
‫المتفرعة من هذا الجذع هي العلوم األخرى‪.‬‬

‫إال أن هذا الوضع سيشهد تغيرا مهما خالل العصر الحديث مع تبلور‬
‫الروح العلمي الجديد وما أحدثه من قطيعة مع اإلرث الوسيط خصوصا بعد‬
‫استقالل العلوم عن بعضها وعن الفلسفة‪ ،‬واتجاه العلماء نحو التخصص‪ ،‬ليس‬
‫في كل علم عل حدة فقط‪ ،‬وإنما أيضا في الفرع الواحد من العلم الواحد‪،‬‬
‫حت برزت دعوات قوية تدعو للتخلي عن الفلسفة وإعالن إخفاقها‪ ،‬غير أن‬
‫الفلسفة لن تلبث أن تتحول إل خطاب نقدي وتحليلي للعالم وأسسه‪ ،‬ومناهجه‪،‬‬
‫ونتائجه‪ ،‬أي إل "ابستملوجيا"*‪.‬‬
‫تلك صورة مبسطة لمشكل الفلسفة واهتماماتها الكبرى عبر العصور‪،‬‬
‫وهي صورة لن تسعفنا –بشكل كامل‪ -‬في بلوغ مبتغانا المتمثل في أن نستنبط‬
‫للفلسفة تعريفا جامعا مانعا‪ ،‬إال أننا نستطيع القول – دون أن نجانب الصواب‬
‫كثيرا‪ -‬إن الفلسفة هي لون من ألوان التفكير اإلنساني له طبيعته وخصائصه‬
‫المميزة التي قد يكون التعرف عليها أمرا مفيدا لما نحن بصدده من محاولة‬
‫رسم صورة أكثر اتضاحا عن الفلسفة‪.‬‬
‫ولهذا نخلص إل القول بأن من يتأمل التعريفات السابقة يالحظ أن‬
‫الفلسفة لم تتقدم ولكن الدهشة التي كانت مبعث السؤال كانت تنطلق من‬
‫الوضع الوجودي العام لإلنسان ولهذا نعتبر أن للفلسفة عالقة بالواقع وأن‬
‫الفيلسوف يعيش بيننا وهو يواصل بحثه عن الحقيقة ‪.‬‬
‫يقول (كارل ياسبرس)‪« :‬إن جوهر الفلسفة هو في البحث عن الحقيقة‬
‫ال في امتالكها وهي تصبح غيرها إذا استحالت إل معرفة موضوعية في‬
‫صيغ نهائية جاهزة تنتقل من واحد إل آخر»‪.‬‬
‫إن وصف الفيلسوف بأنه شخص أجنبي عل الواقع وأن الفلسفة فكر‬
‫مجرد يت عال عل الواقع والتاريخ والمجتمع وصف ال يستند عل حقيقة‬
‫الممارسة الفلسفية اللهم ما كان من قول افالطون «من أن الفيلسوف ال يتأمل‬
‫الوجود إال ككل»‪ ،‬ولكنه ال يتعال عل الواقع إال ليفهمه‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫وإذا رجعنا إل قول (نيتشه) «إن الفيلسوف يسع دائما إل االنتصار‬
‫عل الت اريخ والعلو عل الزمان وعدم االنخراط في سلسلته األبدية»‪ ،‬فذلك‬
‫يعني أن التاريخ والزمان مدارهما عل التبدل والتغير في حين أن مقصد‬
‫الفيلسوف هو ضبط حقائق ال يعتريها تبدل وال تغير‪ ،‬أما أنه مرتبط بواقعه‬
‫فهذا أمر ال جدال فيه‪ ،‬وكل فلسفة هي انعكاس للواقع الذي أنتجها والفيلسوف‬
‫نتاج ذلك الواقع‪ ،‬وهذا ما ذهب إليه (هوسرل) في كتابه‪« :‬تاريخ الفلسفة‬
‫الغربية» من أن كل فلسفة البد أن تكون صدى لمختلف تحديدات ظرفها‬
‫التاريخي‪ ،‬ويؤيد هذا ما ذهب إليه هيجل في قوله‪« :‬إن أفضل وعي يمكن أن‬
‫تحصله حقيق ة تاريخية عن نفسها هو الوعي الذي يتحصل لدى فالسفتها‪،‬‬
‫وهذا يعني أن كل فلسفة وليدة ظرفها التاريخي»‪.‬‬
‫وقد حاول (ماركس) رد الفلسفة إجماال إل إفراز من افرازات‬
‫المجتمع تتكفل االيديولوجيا* الكلية بتفسيرها حسب (كارل مانهايم) وتعين‬
‫معالمها خصائص البنية التحتية حسب (ماركس)‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ ‬االبستمولوجيا‪ :‬الدراسة النقدية للمبادئ والفروض والنتائج بمختلف العلوم عل حد‬
‫تعبير ال الند‬
‫‪ ‬االيديولوجيا‪ :‬علم األفكار وأول من استخدم هذا اللفظ الفيلسوف الفرنسي‪( :‬دي‬
‫ستوت دي تراسيت‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ -1‬سئل أحدهم‪ :‬ما هي الفلسفة؟ فأجاب ال أدري ! حلل وناقش؟‬
‫‪« -2‬الفلسفة هي حاجة الحاجات المشبعة» ما رأيك؟‬
‫‪ -3‬إل أي حد يمكن القول «إن الفلسفة ال موضوع لها»؟‬

‫‪12‬‬
‫مناهج الفلسفة وقيمتها‬
‫أوال‪ :‬مناهجها‪:‬‬
‫إذا كان الباحثون في الرياضيات والعلوم التجريبية قد استقر رأيهم في‬
‫ما يتعلق بإشكالية المنهج في هذه العلوم فإن األمر يختلف في الفلسفة‪ ،‬وهذا‬
‫ما يفسر تباين آراء الفالسفة حول المنهج األكثر مالئمة لدراسة اإلشكاالت‬
‫الفلسفية ‪.‬‬

‫تعريف المنهج‪:‬‬
‫« المنهج عموما هو الطريق الواضح في التعبير عن شيء أو في عمل‬
‫شيء‪ ،‬أو في تعليم شيء‪ ،‬طبقا لمبادئ معينة‪ ،‬وبنظام معين بغية الوصول إل‬
‫غاية معينة»(‪.)1‬‬

‫ومن أهم المناهج الفلسفية‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬المنهج الحواري المعروف بالتوليد السقراطي‪:‬‬


‫يعتمدا لمنهج التوليدي السقراطي عل مرحلتين‪:‬‬
‫األول ‪ :‬التهكم ‪ :‬وهو وضع السؤال مع تصنع الجهل‪ ،‬فسقراط ال يقم‬
‫شيئا لكنه يطرح جملة من األسئلة وكان يقول «كل ما أعرفه هو أنني ال‬
‫أعرف شيئا»‪.2‬‬
‫الثانية‪ :‬التوليد ‪ :‬وهو استخراج الحقائق من النفس عن طريق األسئلة‬
‫واالعتراضات حت يكتشف المحاور الحقيقة بنفسه وهو كان يولد األفكار كما‬
‫كانت أمه قابلة تولد النساء يقول‪« :‬صحيح أن اإلله لم يسمح لي بأن ألد ولكنه‬
‫سمح لي باستخالص األفكار من عقول الرجال كما تستخلص القابالت األجنة‬
‫من بطون أمهاتهم»‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬معجم الفلسفة ‪ /‬مراد وهبة ويوسف كرم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي ج ‪3‬‬
‫‪13‬‬
‫لقد اتخذ من االعتراف بالجهل أداة هجومية وتحول لديه إل سالح‬
‫خطابي استخدمه ضد السفسطائيين المتباهين بحكمتهم والمتظاهرين بمعرفة‬
‫ليست لديهم‪ ،‬بحيث يتم عن طريق هذا المنهج فضح تالعبهم باأللفاظ‬
‫والدالالت‪.‬‬
‫كما يتأسس هذا المنهج عل العبارة «اعرف نفسك بنفسك»‪ ،‬وتعني‬
‫العبارة أن مهمة الفلسفة معرفة اإلنسان نفسه‪ ،‬فالمعرفة الحقيقية هي معرفة‬
‫األشياء عل نحو موضوعي بالتركيز عل الربط بين الفضيلة والمعرفة‪،‬‬
‫وكل فعل خاطئ يصدر عن الجهل وإذا عرف اإلنسان ما هو الفعل الصواب‬
‫فإنه سيفعل ما هو حق‪ .‬ورغم ما قد يالحظ عل هذا المنهج فإنه قد لعب دورا‬
‫كبيرا في تقوية أركان الفكر الفلسفي في وجه السفسطائيين منكري القيم‪ ،‬حيث‬
‫استطاع بواسطة هذا المنهج دحض حجج الخصوم ومن ثم مساعدتهم في‬
‫اكتشاف الحقيقة بأنفسهم‪.‬‬
‫ونستعرض في هذا المجال محاورة بين الفيلسوف (سقراط) وأحد‬
‫محاوريه‪ ،‬الذي قال له بتلهف‪ :‬يا سقراط‪ ،‬أتعلم ما سمعت عن أحد طالبك؟‬
‫انتظر سقراط لحظة ثم رد قائال‪ :‬قبل أن تخبرني أود أن تجتاز امتحانا‬
‫صغيرا‪ ..‬فقبل أن تخبرني عن طالبي نأخذ لحظة للوقوف عل ما كنت‬
‫ستقوله‪ ..‬أوال‪ :‬هل أنت متأكد أن ما ستخبرني به صحيح؟‬
‫رد الرجل ‪ :‬ال‪ ..‬في الواقع لقد سمعت الخبر‪..‬‬
‫قال سقراط‪ :‬أنت لست متأكدا أن ما ستخبرني به صحيح أو خطأ؟ ثانيا‪:‬‬
‫هل ما ستخبرني به عن طالبي شيء طيب؟‬
‫رد الرجل‪ :‬ال‪ ..‬لكن هو العكس‪.‬‬
‫تابع سقراط إذن أنت ستخبرني بشيء سيء عن طالبي‪ ،‬عل الرغم من‬
‫أنك لست متأكدا من أنه صحيح؟ بدأ الرجل يشعر بالحرج‪.‬‬
‫تابع سقراط ثالثا‪ :‬هل ما ستخبرني عن طالبي سيفيدني؟‬
‫رد الرجل‪ :‬في الواقع ال‪.‬‬
‫تابع سقراط ‪ :‬إذن أنت ستخبرني بشيء ليس بصحيح وال بطيب وال‬
‫بذي فائدة أو قيمة‪ ..‬فما الداعي إلخباري به؟‬
‫‪14‬‬
‫ثانيا‪ :‬المنهج الشكي‪:‬‬
‫يعتبر الشك «التردد بين نقيضين ال يرجح العقل أحدهما عل اآلخر‬
‫‪1‬‬
‫وذلك لوجود أمارات متساوية في الحكمين أو لعدم وجود أية أمارة فيهما»‬
‫وينقسم الشك إل شك مذهبي وشك منهجي‪.‬‬
‫ا – الشك المذهبي‪ :‬وهو الذي نادت به جماعة الشكاك وعل رأسها‬
‫(بيرون) ويعني الشك المذهبي اعتماد الشك لذاته مذهبا أي الشك من أجل‬
‫الشك وهو ما يعني تعليق الحكم ونفي الحقيقة بشكل مطلق‪.‬‬
‫ب – الشك المنهجي‪ :‬وقد استخدمه كل من حجة اإلسالم الغزالي‬
‫وديكارت‪.‬‬
‫‪ – 1‬الغزالي (‪343-034‬هـ) يقول الغزالي عن طبيعة اليقين الذي‬
‫يبحث عنه في رحلته الشكية «إن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم‬
‫انكشاف ا ال يبق معه ريب‪ ،‬وال يقارنه إمكان الغلط والوهم‪ ،‬وال يتسع القلب‬
‫لتقدير ذلك بل األمان من الخطإ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة أو تحديا‬
‫بإظهار بطالنه –مثال‪ -‬من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم يورث ذلك شكا‬
‫وإنكارا‪ ،‬فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثالثة فلو قال لي قائل‪ :‬ال‪ ،‬بل‬
‫الثالثة أكبر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا وقلبها‪ ،‬وشاهدت ذلك منه لم‬
‫أشك ‪-‬بسببه – في معرفتي‪ ،‬ولم يحصل لي منه إال التعجب من كيفية قدرته‬
‫عليه‪ ،‬فأما الشك فيما علمته فال‪ ،‬ثم علمت أن كل ما ال ألعمه عل هذا الوجه‬
‫وال أتيقن عل هذا النوع من اليقين فهو علم ال ثقة به وال أمان معه‪ ،‬وكل‬
‫علم ال أمان معه فليس بعلم يقيني»‪.2‬‬
‫ويقول الغزالي كذلك‪ :‬إن من لم يشك لم ينظر‪ ،‬ومن لم ينظر لم يبصر‪،‬‬
‫ومن لم يبصر بقي في العم والضالل‪.‬‬
‫‪ – 2‬ديكارت‪ :‬مثلت الفلسفة الديكارتية ثورة في مجال الفكر الفلسفي‪،‬‬
‫عندما ركزت عل أهمية اكتشاف الفكر لقيمته وتخليص العقل من كل األفكار‬
‫المسبقة واآلراء السائدة‪ ،‬ولكن ذلك ال يتم إال باتباع منهج واضح يساعد العقل‬
‫في تجنب الخطأ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬معجم الفلسفة د‪ /‬جميل صليبا‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬المنقذ من الضالل الغزالي‬
‫‪15‬‬
‫ويحدد ديكارت طبيعة هذا المنهج الذي لن يكون استقرائيا ألن‬
‫االستقراء يوصلنا إ ل معارف متفرقة غير يقينية‪ ،‬وإذا كان اليقين يتجل في‬
‫وضوح المعاني وتسلسلها عل ما نرى في الرياضيات‪ ،‬فإن المنهج البد أن‬
‫يكون استنباطيا أي ينتقل من البسيط إل المركب الغامض وهذا «هو المنهج‬
‫الوحيد المشروع ألن العقل واحد ويسير عل نحو واحد في جميع‬
‫الموضوعات»(‪.)1‬‬
‫فالعقل في نظر ديكارت أعدل قسمة بين الناس أو هو أكثر توزعا بين‬
‫الناس والفرق بين الجميع يكون في توظيفه‪.‬‬
‫وليستيقن هذا العقل ويبتعد عن الخطأ عليه أن يعتمد أربع خطوات‬
‫تمثل المنهج عند ديكارت وهي‪:‬‬
‫القاعدة األولى (قاعدة البداهة)‪« :‬أن ال أتلق عل اإلطالق شيئا عل‬
‫أنه حق ما دمت لم أتبين بالبداهة أنه كذلك‪ ،‬أي أن أعني بتجنب التعجل‬
‫والتشبث باألحكام السابقة‪ ،‬وأن ال أدخل في أحكامي إال ما يتمثل لعقلي في‬
‫وضوح وتميز»‪ .‬ويعني ذلك اإلدراك بالحدس المباشر أو االستنباط وأن‬
‫نقصي من دائرة العلم ليس فقط جميع الوقائع التاريخية بل أيضا كل معن‬
‫يستلزمه تفسير الظواهر الطبيعية وال نتمثله أو نتخيله‪ ،‬ويرى البعض أن هذه‬
‫القاعدة عبارة عن إ عالن حرية الفكر وإعالن ثورته عل كل العقائد ليعبر‬
‫عن تفوق إدراكه‪.‬‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬أو (قاعدة التحليل)‪« :‬أن أقسم كل واحدة من‬
‫المعضالت التي أبحثها إل عدد من األجزاء الممكنة والالزمة لحلها عل‬
‫أحسن وجه»‪ .‬أي أن أذهب من المركب إل بسائطه ومن الكل إل أجزائه‪.‬‬

‫القاعدة الثالثة أو (قاعدة التركيب)‪« :‬أن أسير بأفكاري بنظام فأبدأ‬


‫بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة‪ ،‬وأرتقي بالتدرج إل أكثر الموضوعات‬
‫تركيبا‪ ،‬فأرضا النظام حت بين األمور التي ال تتال بالطبع»‪ .‬وهنا يتدخل‬
‫العقل إذ ال يقوم العلم إال عل النظام‪.‬‬
‫القاعدة الرابعة أو قاعدة (اإلحصاء والمراجعة)‪« :‬أن أقوم في كل‬
‫مسألة بإحصاءات شاملة‪ ،‬سواء في الفحص عل الحدود الوسط أو في‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬يوسف كرم ‪ /‬تاريخ الفلسفة‬
‫‪16‬‬
‫استعراض عناصر المسألة‪ ،‬بحيث أتحقق أنني لم أغفل شيئا»‪ .‬هذه القاعدة‬
‫تمكن من تحقيق القاعدة السابقة وتهدف إل استيعاب كل ما يتصل بمسألة‬
‫معينة‪ ،‬وترتيب العناصر التي يتوصل إليها‪.‬‬
‫ويرى يوسف كرم بأن‪:‬‬
‫«المنهج عند ديكارت يبين القواعد العملية التي يجب اتباعها إلقامة‬
‫العلم‪ ،‬وال يحلل أفعال العقل ويدلل عل صدقها ومواطن الخطإ فيها»(‪.)1‬‬
‫يعتمد المنهج عند ديكارت عل مبدإ الشك واليقين‪ ،‬حينما تكون عقولنا‬
‫محكومة بأحكام مسبقة ورثناها منذ الطفولة‪ ،‬أو تلك المستقاة من الحس‪ ،‬هنا‬
‫البد من الشك كطريقة للوصول إل ما هو يقيني‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬المنهج الظاهراتي أو الفينومينولوجي عند (هوسرل)‪:‬‬


‫وقبل أن نحدد طبيعة هذا المنهج‪ ،‬سنتحدث عن الظاهراتية بصورة‬
‫عامة‪.‬‬
‫الظاهراتية‪ :‬هي وصف الظاهرة وصفا مستقال عن الوسائط المادية‬
‫التجريبية ويعتمد عل تحليل الموضوع تحليال عقليا‪ ،‬مبنيا عل القصدية في‬
‫الشعور وعل التتالي في عملية التحليل ويتحدد بدور الشعور المحض أو‬
‫الخالص‪ ،‬وير اد من وراء ذلك تأكيد أن الصورة تنتقل من المعرفة السطحية‬
‫الحسية إل المعرفة المجردة التي تتعال في مراتبها ومنازلها إل أن تتحد‬
‫مع المطلق الذي يختزن في جوهره الحقيقة‪.‬‬

‫وكما جاء في الموسوعة العلمية‪« :‬الظاهراتية أو الفينومينولوجية‬


‫تتعلق عموما بدراسة وصفية أولية للمعط الظاهراتي‪ ،‬ألجل تشكل صورة‬
‫مجردة‪ ،‬وهذه الوصفية ترتبط بضرورة تحديد الشروط العامة للظاهرة‬
‫باعتبارها نفسها تمثل رعدا جوهريا للكائن»‪.‬‬

‫وفي ظل الصراع بين المدرسة التجريبية والمدرسة العقالنية‬


‫الديكارتية في الفكر الغربي‪ ،‬كان ال خالف محتدما حول مشروعية المنهج‬
‫الذي يوصلنا إل المعرفة وما يتعلق به من حيث عالقة الذات والموضوع‬
‫فقد حاولت الظاهراتية أن تقضي عل ذلك السجال بأن قدمت منهجا قائما‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬يوسف كرم ‪ /‬تاريخ الفلسفة‪/‬نفس المرجع السابق )‪.(2-1‬‬
‫‪17‬‬
‫عل الكوجيتو الديكارتي‪ ،‬فبدل أنا أفكر إذن أنا موجود‪ ،‬يصبح المبدأ‬
‫الظاهراتي «أنا أفكر إذن أنا المفكر فيه»‪.‬‬
‫ويمكن تلخيص المنهج الظاهراتي في ما يلي‪:‬‬
‫‪ – 1‬ال يوجد موضوع خارج ما أفكر فيه وال يمكن أن أفكر في‬
‫موضوع خارج بؤرة الذات‪.‬‬
‫‪ – 2‬ضرورة بناء السؤال ضمن مقولة الشيء في ذاته واختزال مقولة‬
‫الشيء في ذاته ولذاته‪.‬‬
‫‪ – 3‬وعي السؤال في مقولة الثالثة‪( :‬الماضي – الحاضر) (الماضي ‪+‬‬
‫الحاضر)‪.‬‬
‫‪ – 4‬االنتقال من أفق السؤال إل ظاهراتية التأويل (اللغة – الجمال –‬
‫المنطق)‪.‬‬
‫‪ – 5‬االنتقال من جاذبية التفكير إل قصديته‪ ،‬أي عدم فصل العملية‬
‫الشعورية عن المدركات‪.‬‬
‫ويعتمد المنهج عل ما يلي‪:‬‬
‫ا – نظرية المعن ‪ :‬تحاول أن تفصل المعن عن الحد المنطقي‪ ،‬وتربط‬
‫المعن مباشرة باألدوات الخاصة لحالة الشعور القصدي‪ ،‬فإدراك معن‬
‫(الشجرة) ال يكمن في الحد المنطقي‪ ،‬الذي يعبر عن صيغة التجريد‪ ،‬بل يكمن‬
‫معناها فيما تحمله الشجرة من مدركات في شعوري الخالص‪ ،‬وفيما تصبغه‬
‫الذات الشاعرة عل الموضوع (الشجرة) من صفات وأحكام‪.‬‬

‫ب – القصدية‪ :‬ركز هوسرل في العملية المعرفية عل القصد والنية‬


‫باعتبارها موجه ة عملية اإلدراك فالوعي الخالص يالزم بالضرورة هذا‬
‫الوجود‪ ،‬ذلك أن الموضوع ال يعرف التعالي إال من خالل وعيه‪ ،‬لكنه الذات‬
‫التي تمثل قطبين‪ :‬قطب كونه موضوعا يستمد من تجربتي وجوده‪ ،‬وقطب‬
‫لكونه موضوعا أساسيا لوعيي الخالص‪ ،‬وحين ذلك يكون الوعي الخالص‬
‫مطلبا للذات العارفة عن طريق القصدية والنية التي تتأسس من خالل سلسلة‬
‫التجارب التي مرت بها الذات العارفة من خالل لحظة فلسفية تمت نتيجة‬
‫الشعور بموضوع معين‪ ،‬يقول هوسرل‪« :‬إن الشعور بشيء ال يعني أن نفرغ‬
‫الشعور من هذا الشيء‪ ،‬بل أن نجعله ينتجه‪ ،‬حيث إن كل الظواهر لها تكوينها‬
‫القصدي الذي يوجه اإلدراك نحوها تلقائيا»‪.‬‬

‫ج – نظرية الحصر‪ :‬يرفض هوسرل الشك الديكارتي كمنهج لمعرفة‬


‫ماهية الموضوع‪ ،‬ويرى أن الشك هو نفسه عملية يصدر من خاللها الفكر‬
‫‪18‬‬
‫حكما عل حكم‪ ،‬وعليه فإن المنهج الظاهراتي يخلصنا من عملية إصدار‬
‫األحكام نتيجة ميله في خطاب الوعي الخالص إل التعالي (ونقصد بذلك أن‬
‫اإلدراك المرتبط بالوعي الخالص والمسيج بالقصدية‪ ،‬يجنح أحيانا إل مرحلة‬
‫الحصر واإلقصاء‪ ،‬بمعن رفض األ حكام والتوقف عن إصدار األحكام ريثما‬
‫ينجلي الوعي الخالص)(‪.)1‬‬

‫وهذه النظرية تحاول إعطاء العقل فرصة لتأمل الموضوع تأمال وصفيا‬
‫ماهويا‪ ،‬وذلك من خالل ربط الموضوع باألحوال النفسية التي تتحدد وفق‬
‫تفاعالت الذات مع أحوالها الشعورية‪.‬‬
‫إن المنهج الظاهراتي ال يهمه الحكم في ذاته بل كيف استطاع المتأمل‬
‫أن يصل إل ماهية وكنه الموضوع‪.‬‬

‫وتمر عملية الحصر بالمراحل التالية‪:‬‬


‫‪ -‬إقصاء الحكم القبلي والجاهز عن الموضوع‪.‬‬
‫‪ -‬حصر الماهية وتتحقق عملية المعرفة بالتركيب بين عملية‬
‫اإلقصاء والنية‪ ،‬وهنا تكون الحقيقة عن تيار من التجارب‬
‫المتعاقبة من الشعور‪ ،‬حيث ستتمظهر أفعاال مجردة‪ ،‬وربما‬
‫يتطابق ذلك مع مقولة (كانط)‪« :‬فإن الظواهر البد أن تخضع‬
‫لتصور االشتراك (األثر المتبادل)‪ ،‬وهكذا تكون المبادئ العقلية‬
‫أساس األحكام الصحيحة موضوعيا مع أنها أحكام تجريبية‪،‬‬
‫وهنا يصبح المحمول مربوطا بالموضوع‪ ،‬والموضوع معط‬
‫أساسيا للمحمول»‪.‬‬

‫إ ن الحقيقة في المنهج الظاهراتي ليست شيئا مستقال فهي مجرد ظاهرة‬


‫مجردة‪ ،‬والظاهر ما هو في آخر األمر إال مشروع نية ووعي‪ ،‬وعليه قيل‪:‬‬
‫«الظاهراتية مذهب الحقيقة»‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬المنهج الفينومينولوجي‪ /‬عبد القادر بو عرفة‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫رابعا‪ :‬المنهج البنيوي‪:‬‬
‫تأسس هذا المنهج عل يد (كلود لفي شتراوس)‪ ،‬وانتشر بعد ذلك عل‬
‫يد مجموعة من المفكرين من أمثال‪ ( :‬فرديناند دي سوسير) و (جاك الكان) و‬
‫(ميشل فوكو) و (لوسيان كولدمان)‪.‬‬

‫ويتركز هذا المنهج عل أن كل شيء له بنية في شكل منظومة‪ ،‬أو‬


‫نسق له نظامه الخاص وتركيبه الذاتي ووحدته وانسجامه الداخلي وقوانينه‬
‫التي تضبطه وتسمح باستمراريته‪ .‬وهو محاولة الكشف عن القوانين الداخلية‬
‫التي تخضع لها بنية األشياء باعتبارها نسقا معط ال نهتم بماضيه أو‬
‫بمستقبله أو ما يمكن أن يطرأ عليه من تغير في المستقبل‪.‬‬

‫ويعتبر المنهج البنيوي أن النزعة التجريبية والنزعة التاريخية ال‬


‫يسمحان بالوصول إل البنية الحقيقية للظاهرة‪ .‬ويميز بين مستويين من‬
‫التحليل للظواهر االجتماعية (تحليل أفقي‪ :‬سنكرونيكي) و(تحليل عمودي‪:‬‬
‫دياكروني كي أو التحليل التزامن والتزمن)‪.‬‬

‫فالتحليل األفقي يهدف إل دراسة العالقات الداخلية لبنية الظاهرة‬


‫المدروسة لغوية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو سيكولوجية‪ ،‬وال يهتم‬
‫بوضعية الظاهرة أو ما يمكن أن تكون عليه في المستقبل أي عدم االهتمام‬
‫بالبعد الزمني في الدراسة بل يهتم بالبنية كما هي معطاة كنسق‪ ،‬من العالقات‬
‫التي تضبطها قوانين معينة ويعتبرون بذلك المنهج التاريخي منهجا عقيما‬
‫وعائقا ابستيمولوجيا‪.‬‬

‫وتتميز البنية بما يلي‪:‬‬


‫‪ -‬الظواهر توجد في شكل مجموعات مترابطة ومنعزلة عن‬
‫السياق التاريخي أو التطوري‪.‬‬
‫‪ -‬التركيز عل العالقة بين الظواهر وتركيبها الخاص‪ ،‬أي أنها‬
‫تتمسك بقوانين تركيبها‪.‬‬
‫‪ -‬النظام‪ :‬الظاهرة تتشكل من نظام متجانس وسكوني‪ ،‬يمكنه أن‬
‫يتحول لكن هذه التحويالت تبق ال زمنية ثابتة‪ ،‬أي أنها تتحرك‬
‫في إطار البنية نفسها‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪ -‬الضبط الذاتي‪ :‬ويعني أنها تستطيع أن تضبط ذاتها‪ ،‬وهذا ما‬
‫يؤدي إل الحفاظ عليها كما أنه يؤدي إل بعض االنغالق‪.‬‬
‫ويعتبر (كلود لفي شتراوس) من بين البنيويين الذين ركزوا عل‬
‫جمودية البنية ورفض السياق التاريخي «وباعتبار البنيوية طريقة فال يمكن‬
‫أن تكون محدودة التطبيقات‪ ،‬وبالتالي البد أن تدخل في صالت مع جميع‬
‫الطرق األخرى‪ ،‬وهي ال تتناقض مع األبحاث الوراثية والنفعية‪ ،‬بل تدعمها‬
‫بأدواتها الجبارة»(‪.)1‬‬

‫ورغم أهمية مفهوم البنية وما أحدثته من تغير في الدراسات اإلنسانية‪،‬‬


‫فإ نه مع ذلك ال يمكن أن نفصل البنية عن سياقها التاريخي والذاتي وعن‬
‫مجموع محيطها‪ ،‬فتتداخل عوامل الظاهرة بعضها ببعض‪ ،‬يجعل من الصعب‬
‫معرفة عالقات األشياء دون النظر إل العوامل المؤثرة فيها‪ ،‬سواء كانت‬
‫خارجية أو داخلية‪ .‬ومع ذلك فقد أحدث هذا المنهج ثورة في الدراسات‬
‫اإلنسانية خصوصا الدراسات اللغوية التي كانت محور البحث لدى (كلود لفي‬
‫شتراوس)‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬قيمة الفلسفة‪:‬‬


‫لقد اختلف الفالسفة حول قيمة الفلسفة‪ ،‬كما اختلفوا حول تعريفها‪ ،‬وإن‬
‫تعرضت حديثا لكثير من الهجوم بعد استقالل العلوم عنها‪ ،‬وبدأ السؤال عن‬
‫قيمتها يحتل حيزا مهما في البحث الفلسفي‪.‬‬

‫وللحديث عن قيمة الفلسفة البد من الرجوع إل تاريخها‪ ،‬فلقد كان‬


‫البحث الفلسفي تحوال في تاريخ العقل البشري‪ ،‬عند االنتقال من االعتماد‬
‫عل األساطير في تفسير ظواهر الكون إل العقل‪ ،‬واتخذ من الدهشة‬
‫والتساؤل ورفض األفكار المسبقة منهجا للوصول إل الحقيقة‪ ،‬فالفيلسوف‬
‫جاء إذن برؤى فكرية جديدة وكان الهدف األول للفلسفة هو المعرفة واإلجابة‬
‫عل األسئلة الكلية واأللغاز الكونية‪ ،‬وبتعبير هيرقليطس‪ :‬يجب أن نصغي‬
‫لحكمة اللوغوس‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬ميشيل فوكو‪ -‬البنيوية‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫ولقد حاول الفالسفة األول أن يقدموا تفسيرات رغم سذاجتها إال أنها‬
‫كانت ثورة فكرية في ذلك الوقت وشكلت الفلسفة صرحا للفكر اإلنساني‪،‬‬
‫حيث اعتبر سقراط الفلسفة تبحث عن اإلزعاج وتوقظ من السبات العميق‪.‬‬
‫إن صراع سقراط مع السفسطائيين الذين أنكروا الحقيقة وجعلوها ذاتية‬
‫«اإلنسان مقياس كل شيء» كما يقول الزعيم السفسطائيين (بروتاغوراس)‬
‫وحشروها في الفردية‪ ،‬كما أنكروا القيم اإلنسانية الجامعة‪ ،‬واتخذوا تصنع‬
‫العلم الكامل والخطابة لخداع الناس وتغليب المصلحة الشخصية عل‬
‫المصلحة العامة‪.‬‬

‫هذا في المجال النظري‪ ،‬أما فيما يتعلق بعالقة الفلسفة بالحياة‬


‫وبالمجتمع‪ ،‬فلقد كانت والدة الفلسفة بسبب محاولة اإلنسان لتغيير حياته‬
‫وإصالح مجتمعه‪ ،‬حيث ذهب هيجل‪ :‬إل أ ن الدفاع عن الفلسفة هو دفاع عن‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫وليست جمهورية ا فالطون سوى محاولة إلصالح المجتمع اليوناني‪،‬‬


‫بل إ ن أية فلسفة ينظر إليها خارج إطارها الزماني والمكاني تبق جوفاء‪.‬‬

‫وحديثا وبعد تطور العلم أصبح البعض ينظر إل الفلسفة نظرة ازدراء‬
‫أو في أحسن الحاالت نظرة شفقة إال أن تطور العلم وما يخلق من مشاكل‬
‫تتعلق بالمنهج والنتائج وعدم تمكن العلم من حل بعض األلغاز المتعلقة‬
‫بالكون‪ ،‬كل ذلك فسح المجال للفلسفة كي تبق حية‪ ،‬غير أنه مهما يكن من‬
‫عدم قدرة الفلسفة عل إعطاء إجابات قاطعة أو قابلة للبرهان‪ ،‬فإنها تجعلنا‬
‫نعي جزءا من المهام وتدفعنا إ ل صون هذا االهتمام التأملي بالكون وحمايته‬
‫من خطر اإلبادة الذي يحدق به ويهدده فيما لو اقتصرنا عل البحث عن‬
‫معرفة يقينية كل اليقين‪ ،‬وهو ما دفع باشالر‪ :‬إل القول بأن التفكير الفلسفي‬
‫يذهب بعيدا وبسرعة‪.‬‬

‫إن اإلنسان بالفطرة مسكون بحب االطالع وحب المعرفة ويتخذ من‬
‫التفلسف وسيلة تنمية للفكر وحل األمور التي تعرضه في حياته‪ ،‬وكل ما‬
‫نعرفه اليوم من تقدم كان بسبب التأمل والتفكير‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وكذلك فإن الفلسفة تفتح أمامنا آفاقا ال تخطر عل بالنا‪ ،‬وتساهم في‬
‫إجالل الموضوعات التي نتأملها (وبذلك تحرر اتباعها من وجهات النظر‬
‫الشخصية والضيقة‪ ،‬وتفتح آفاقا لإلنسان بعيدا عن دائرة المنفعة الشخصية)‪،‬‬
‫وهو ما نجده في عبارة فولتير‪ :‬مهما اختلفت معي في الرأي فإني سأدافع‬
‫عنك إل آخر رمق في حياتي‪ ،‬حت تعبر عن رأيك بحرية‪.‬‬

‫وتبق قيمة الفلسفة تتجل في سعي اإلنسان إل المعرفة والتحرر‬


‫واالنعتاق وإل حياة أفضل‪ ،‬وإل عالم تسود فيه العدالة وتتحقق فيه إنسانية‬
‫اإلنسان بعيدا عن التطرف والتعالي‪ ،‬في وقت تحتاج فيه اإلنسانية إل رؤى‬
‫فكرية منفتحة تأخذ المصالح البشرية ككل متكامل‪ ،‬تسع الجميع دون أن‬
‫يصطدم أو يبتلع بعضه بعضا‪.‬‬

‫األسئلة‬
‫‪ -1‬ادكر أهمية المنهج بالنسبة للبحث الفلسفي‪.‬‬
‫‪ -2‬كيف تتحدد قيمة الفلسفة ؟‬
‫‪ -3‬يقول هيدجير‪« :‬إن من يحيا يحيا من أجل الحقيقة»‪ ،‬حلل وناقش؟‬

‫‪23‬‬
‫الفلسفة والعلم‬
‫شكلت العالقة بين الفلسفة والعلم إحدى اإلشكاليات التي استوقفت‬
‫الفالسفة والعلماء عل حد سواء وقد زاد من حدة حالة االستقطاب هذه طبيعة‬
‫التحوالت التي شهد العلم بمختلف فروعه مما جعل بعض العلماء يسع بكل‬
‫أدواته إل إعالن انفصال العلم عن الفلسفة والخروج من عباءتها رغم‬
‫العالقة الحميمة بين اإلثنين‪ ،‬إذا الفلسفة قديما تشمل كل المعارف اإلنسانية بل‬
‫إنها كانت تسم أم العلوم‪.‬‬
‫والفلسفة والعلم لهما نفس الغاية ويتوكئان عل نفس المبدأ وهو حب‬
‫الحقيقة فما الصلة بين الفلسفة والعلم وما وجه االختالف وااللتقاء بينهما؟‬
‫وهل العالقة القائمة بينهما عالقة تكامل أم إقصاء‪.‬‬

‫‪ - 1‬االتصال‪:‬‬
‫ا – تصور القدماء‪ :‬الفلسفة كوحدة للعلوم‬
‫ينظر القدماء إل الفلسفة نظرة معيارية تفضيلية معتقدين أنها العلم‬
‫األسم وذلك لطابعها الشمولي من حيث إنها هي المتضمنة لمبادئ وغايات‬
‫كل العلوم‪.‬‬

‫ويمكن أن نجد لدى أرسطو إشارات واضحة إل أن الفلسفة هي العلم‬


‫المهيمن وهو الذي يقر في كتابه ما بعد الطبيعة بوجود علم مهيمن وعلم تابع‪.‬‬
‫وفي ترتيبه للعلوم يميز زعيم المشائية بين فلسفة أول وهي ما يعبر عنه‬
‫ب الميتافيزيقا‪ ،‬أو ما بعد الطبيعة وفلسفة أخرى ليست سوى علوم طبيعية‪،‬‬
‫فالفلسفة األول هي المهيمنة والعلوم األخرى هي التابعة‪.‬‬
‫ولعل أهم ما تتميز به الفلسفة "كأم للعلوم" عند أرسطو هو طابعها‬
‫الشمولي فهي تتناول الوجود في كليته أما العلم فيدرس موضوعات جزئية‬
‫كالجسم والذرة‪ .‬فالجزئيات التي يتمحور حولها العلم منضوية تحت الكليات‬
‫في الفلسفة‪ .‬وهو ما قاد أرسطو إل تعريف الفيلسوف بأنه هو "الذي يعرف‬
‫كل العلوم قدر اإلمكان"‬

‫‪24‬‬
‫ب – تصور المحدثين‪ :‬ديكارت‬

‫في كتاب "المبادئ" تبدو الفلسفة عند ديكارت إطارا يشمل كل العلوم‬
‫حيث يقول‪ " :‬الفلسفة شجرة جذورها الميتافيزياء وجذعها الفيزياء وأغصانها‬
‫التي تتفرع عنها بقية العلوم األخرى‪" ...‬الطب والميكانيكا واألخالق"‪.‬‬

‫وال يخف أن أبا الفلسفة الحديثة المدفوع برياح التغيير التي تهب عل‬
‫أوربا في عصر نهضتها والمسكون بهاجس التغيير إلقامة العلوم عل أساس‬
‫صلب أي " عل الصخر والصلصال بدل الرمل المتحرك" كما يقول لم‬
‫يستطع أن يتحرر من رقبة التصور األرسطي فقد بقيت الفلسفة عل يديه كما‬
‫كانت وحدة للعلوم وهو الذي عاصر اإلرهاصات األول الستقالل العلوم عن‬
‫الفلسفة‪ .‬ففي رسالة إل ميرسان ‪ Mersenne‬بتاريخ ‪ 3603/43/28‬يقول‬
‫ديكارت "إن هذه التأمالت الستة جماع الفيزياء كما أراها"‪.‬‬

‫ولم يكتف ديكارت بتأسيس العلوم تأسيسا ميتافيزيقيا فوحدة الفلسفة‬


‫والعلم ال تقتصر عل المبدإ الذي هو العقل وال عل الغاية التي هي إدراك‬
‫الحقيقة بل عل المنهج فمنهاج العلم أو الرياضيات يتأسس عل قاعدتي‬
‫التحليل والتركيب وهما القاعدتان المتضمنتان في قواعد تدبير العقل والتي‬
‫تلخص المنهاج الفلسفي عند ديكارت الرامي إل تحقيق مشروعه الطافح‬
‫بالوعود في إعادة بناء المعرفة بعد مسح الطاولة‪.‬‬

‫وخالفا لما يراه أرسطو وديكارت فإن العلم يعد مقاربة موضوعية‬
‫للمعرفة وكانت الفلسفة مقاربة ذاتية فهما إذن خطابان مختلفان‪.‬‬

‫‪ - 2‬االنفصال‪:‬‬
‫تجدر اإلشارة إل أن استقالل العلوم قد حصل تدريجيا‪ ،‬وكان لعلم‬
‫الفلك السبق حيث استقل في القرن ‪ 33‬عل يد كوبرنيك وكيبللير‪ ،‬ثم استقلت‬
‫الفيزياء لتكون كمية عل يد غاليلي في القرن ‪ 36‬بعد أن كانت كيفية‪ ،‬وتتال‬
‫استقالل العلوم حت انفصــالت العلوم اإلنسانية عن الفلسفة في القرن ‪. 24‬‬
‫‪25‬‬
‫لقد أصبح جليا اليوم أن نضج الخطاب العلمي وتسلحه بالمناهج‬
‫الصارمة والمقاييس الدقيقة‪ ،‬قد أفض إل تقلص هيمنة الفلسفة‪ .‬وهذا الوضع‬
‫االنفصالي الذي جسده استقالل العلوم في العصر الحديث يمكن أن يرى فيه‬
‫تبدل لوضع الفيلسوف من حال كونه منتجا للمعرفة إل مستهلك لها‪ .‬وتبدل‬
‫في وضع الفلسفة من ملكة للعلوم إل خادمة لها‪.‬‬

‫وكانت بوادر االنفصال بين الفلسفة والعلم بادية في التحذير النيوتوني‬


‫"أيتها الفيزياء حذار من الميتافيزياء"‪ .‬والكانطية بوصفها سليلة للفيزياء‬
‫النيوتونية‪ ،‬قد رأت ومن منظورها النقدي أن كل العلوم قد حققت ثورتها التي‬
‫بموجبها دخلت إل الطريقة الواثقة للعلم وأن الفلسفة قد فشلت في تحقيق‬
‫ثورة مماثلة وما نقد العقل أو محاكمته إال بغية تحقيق ثورة كوبرنيكية في‬
‫الفلسفة يرى كانط أن الكانطية هي التي تمثلها‪.‬‬

‫وبدعوى تحليل تاريخي يتحد الموقف الوضعي وسليله العلموي من‬


‫منطلق االنبهار بالعلم واالنتصار له‪ ،‬في أن الفلسفة غدت بشكل أو بآخر‬
‫متجاوز ة‪ ،‬وهو ما يستلزم ضرورة االستعاضة عن الفلسفة بالعلم؛ األمر الذي‬
‫أبرزه كونت في قانون الحاالت الثالث وهي‪:‬‬
‫‪ – 1‬الحالة الالهوتية والخيالية‬
‫‪ – 2‬الحالة الميتافيزيقية أو التأملية‬
‫‪ – 3‬الحالة الوضعية أو العلمية‪.‬‬

‫وتمثل الحالة الوضعية أو العلمية طور رجولة الفكر البشري‪ ،‬أما‬


‫الفلسفة أو نمط التفكير في الحالتين الالهوتية والميتافيزيقية فتعبر عن طوري‬
‫صبا ومراهقة هذا الفكر‪ .‬وتأسيسا عل ذلك تكون المعرفة العلمية اليوم هي‬
‫المعرفة الوحيدة المشروعة لهذا حينما أنشأ كونت ‪ A. Conte‬علم االجتماع‬
‫سماه "الفيزياء االجتماعية"‪.‬‬

‫وفي رأي دائرة فيي نا أن التحليل المنطقي يكشف مدى التعارض بين‬
‫قضايا العلم ذات المعن ‪ ،‬والتي تخضع لمبدأ التثبت التجريبي وبين أشباه‬
‫القضايا الفلسفية الخالية من المعن والتي تعاني من سوء التركيب اللغوي‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫وال يخف أن الوضعية قد سقطت في التناقض عندما أكدت عل‬
‫ضرورة تجاوز الفلسفة‪ ،‬فهي بذلك تتخذ موقفا فلسفيا‪ ،‬فلطالما عد "االستهزاء‬
‫بالفلسفة تفلسفا" وفق ما يرى باسكال"‪.Pascal‬‬

‫وتبيانا لتناقص الموقف الوضعي يقول انجلز "إن الذين يتقولون عل‬
‫الفلسفة يقعون في أسوء الفلسفة"‪.‬‬

‫ويرى آ لتوسير أنه بالرغم من استقالل العلوم عن الفلسفة فهنالك اتصال‬


‫غير مباشر مؤداه وجود ما يسميه آلتوسير "بعلم الفالسفة" و"فلسفة العلماء‬
‫العفوية" فقد ال تكون الفلسفة سوى التعبير الجهر عما اسر به العلم‪ ،‬فالعلم‬
‫سيظل دوما بحاجة إل الفلسفة ألنه ينتج نظريات يعجز تماما عن أن‬
‫يستخلص منها ما يترتب عنها‪ ،‬وإبراز أثرها في الميادين األخرى ولهذا رأى‬
‫برنار آن "اإلنسان ميتافيزيقي بالطبع" فقد بدأ بالميتافيزيقا ولم يبدأ بالعلم‪.‬‬

‫ولئن كان العلمويون والوضعيون قد عمدوا إل نفي قيمة الفلسفة بدافع‬


‫االنبهار بالعلم كالموقف الذي نجده لدى الرأي العامي العفوي وهو يقيم‬
‫الفلسفة انطالقا من معيار النجاعة‪ ،‬فهذا التقويم قد تبين خطأه مع هيدغر‬
‫‪ Heidegger‬فال ينبغي تصور الفلسفة معرفة كبقية المعارف‪ ،‬بل هي نشاط‬
‫ذهني ورياضة عقلية قبل كل شيء‪ .‬إنها تفكير نقدي ال يقدم أية معرفة جديدة‬
‫لكنها تسائل المعارف األخرى وتعمل عل مراجعتها وهي كمشروع نقدي‬
‫تظل دوما "أم العلوم" وفق تأكيد هوسرل ‪.Husserl‬‬

‫فالفلسفة بحث في الواقع وفي ما وراءه إذ هي تبحث في المسائل التي‬


‫يقصيها العلم باسم الموضوعية‪ ،‬بيد أن اإلنسان ليس بحاجة فقط إل الحقائق‬
‫العلمية لنجاعتها بل أيضا يحتاج إل المعن الذي تضفيه الفلسفة عل الوجود‬
‫البشري‪ .‬وقد تبين اليوم عجز العلم عن حل كل مشكالت اإلنسان بل أصبح‬
‫هو ذاته مصدر الخطر الذي يهدد اإلنسان ذلك أن هربارت ماركوز‬
‫‪ Marcuse‬يحمله مسؤولية تدهور أوضاع اإلنسان في العصر الراهن‪ .‬لكن‬
‫مع شيوع النظرة العقالنية العلمية وهيمنتها في المجال األخالقي والسياسي‬
‫واالقتصادي فال يجب أن نحمل العلم مسؤولية تدهور أوضاع اإل نسان اليوم‬

‫‪27‬‬
‫ألن المسؤول الحقيقي عن ذلك هو سوء استخدام العلم وتكالب بعض‬
‫األطراف عل تحقيق المنفعة‪ ،‬ذلك أن العلم ليس له أخالق وال يمكن أن يكون‬
‫ال أخالقيا حسب ما يرى بوانكاري‪.‬‬
‫وإذا كان علينا أن نستخلص أن النهضة األوروبية وليدة الثورات‬
‫العلمية كانت نتا ج تراكمات الفكر الفلسفي فهذا الفكر الفلسفي هو الذي ترتب‬
‫عنه التقدم العلمي الذي يعيشه الغرب فهل من سبيل إل التقدم العلمي‬
‫بمحاربة الفلسفة؟‬
‫تحليل الفروق بين الفلسفة والعلم‪:‬‬
‫العلم‬ ‫الفلسفة‬
‫قائم عل التجربة واالهتمام بالوقائع‬ ‫قائمة عل التأمل المجرد‬
‫يبحث في الجزئيات‬ ‫تبحث في الكليات‬
‫يبحث عن الكيفيات‬ ‫تبحث في الماهيات‬
‫العلم وصفي‬ ‫الفلسفة برهانية‬
‫يقوم عل االستقراء‬ ‫تقوم عل االستنباط‬
‫باالتفاق وإجماع العقول‬ ‫تتميز باالختالف‬
‫يقيني قطعي‬ ‫معرفة ظنية احتمالية‬
‫بحث عن األسباب القريبة‬ ‫بحث عن األسباب البعيدة‬
‫يقبل النتائج النهائية‬ ‫ال تقبل نتائج نهائية‬
‫يتطور‬ ‫ال تتطور‬

‫ورغم االختالف بين الفلسفة والعلم فمن وجهة نظر كل من ياسبرس‬


‫ح‪.‬ت دوزانتي‪ ،‬كل فلسفة تتوكأ عل علم معين‪:‬‬
‫السقراطية معتمدة عل الطب‪ ،‬واألفالطونية الهندسة الفيثاغورثية‬
‫والك رتزيانية عل الرياضيات‪ ،‬وعل الخصوص الهندسة التحليلية والكانطية‬
‫سليلة الفيزياء النيوتونية‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬هل ينشأ العلم عن مجرد حب الحقيقة؟‬
‫‪ – 2‬هل التحكم في الطبيعة مشروع معقول؟‬

‫‪28‬‬
‫‪ – 3‬إل أي حد يمكن القول مع أريك فيل ‪ Eric Weil‬بأن‪" :‬الفلسفة‬
‫علمية فائقة ألنها ترفض أن تكون علما"؟‬
‫‪ – 4‬هل يجب الدفاع عن العلم؟‬
‫‪ – 5‬هل التطور التقني عل الحقيقة يغير اإلنسان؟‬

‫الفلسفة واإلسالم‬
‫لم يهتم العرب في عهودهم األول مع الفتح بما عند األمم األخرى من‬
‫علوم وفلسفات النشغالهم بالفتوحات وتنظيم األمصار لكن ما إن استقرت‬
‫‪29‬‬
‫أحوالهم وتوطدت دعائم دولتهم حت راحوا يشجعون االطالع عل العلوم‬
‫الدخيلة لتلك األمم‪ .‬وقد اتسع النقاش ليأخذ شكل معركة كالمية وفلسفية حول‬
‫جدوى الفلسفة ومدى مطابقتها أو ابتعادها عن حرفية النص القرآني وبدأ‬
‫التساؤل عن مدى تطابق المعقول الفلسفي مع المنقول الديني؟ وأي مسوغ‬
‫لدعوى أن التوفيق بين الفلسفة واإلسالم مضربهما معا؟‬
‫لعل أكبر معركة نشبت بين المتكلمين تلك التي اشتد أوارها بين‬
‫المعتزلة الذين اعتمدوا العقل بشكل مطلق في فهم اإلشكاالت وحلها وبين‬
‫األشعرية الذين نشدوا الحقيقة الدينية عن طريق اإلدراك العقلي لكنهم لم‬
‫يستسلموا للعقل استسالما كامال ألن له برأيهم قوة محدودة ال تقوى عل‬
‫اإلحاطة بأسرار الكون الخفية ولذلك كانوا يقدمون النص الديني عل النظر‬
‫الفلسفي في كثير من مواضع التناقض والتعارض‪.‬‬
‫ويتفق المعتزلة عل أن المعارف كلها معقولة واجبة بالنظر العقل ي‬
‫وأن معرفة هللا وكذلك شكر النعم ومعرفة الحسن والقبيح واجبة بالعقل واتباع‬
‫الحسن واجتناب القبيح‪ ،‬كل ذلك يجب بالعقل إذ "العقل قبل ورود السمع"‪،‬‬
‫يقول الشهرستاني واصفا بعض أعالم المعتزلة‪ :‬الجبائي وابنه أبو هاشم‬
‫« أثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إل مقدرات األحكام ومؤقتات‬
‫الطاعات التي ال يتطرق إليها العقل» ‪ ،‬وذلك ما يدل عل النزعة العقلية‬
‫الغالبة عل المعتزلة‪.‬‬
‫كان المسلمون في ظل التعاليم اإلسالمية بمنج عن تأثيرات الفلسفة‬
‫وتياراتها العقلية بالر غم من توسعهم في البلدان شرقا وغربا حت غزت‬
‫الفلسفة اليونانية الفكر العربي اإلسالمي ووضعته أمام تحديات مصيرية‬
‫كبيرة ال عهد له بها‪ ،‬فإذا علماء األمة اإلسالمية ينقسمون بين مؤيد للفكر‬
‫الفلسفي اليوناني‪ ،‬وداع إل توظيف العقل في كل أنشطة الفكر اإلسالمي‬
‫ليكون هذا األخير عل مستوى سابقه في القوة والمتانة واإلقناع‪ ،‬وبين منكر‬
‫للنظرة الفلسفية الخالصة وداع إل التزام تعاليم الشرع دون سواها في النظر‬
‫والتحليل من غير التفكر لقدرات العقل في الفهم والتفسير‪ .‬وكان أبرز الذين‬
‫تتلمذوا عل الفكر اليوناني وبالغوا في تمجيده الكندي وأبو نصر الفارابي‬
‫وابن سينا وكان هؤالء هدف حملة الغزالي في كتابه «تهافت الفالسفة»الذي‬
‫زعزع به حجة اإلسالم أركان الفلسفة في عصره وجعل الكثير من المعجبين‬

‫‪30‬‬
‫بها يتريثون في قبولها أو ين صرفون عن تعاليمها ثم جاء ابن رشد القرطبي‬
‫األندلسي فصنف «تهافت التهافت» في الرد عل الغزالي واالنتصار للفلسفة‪.‬‬
‫ويعتبر التوفيق بين الفلسفة والدين الغاية التي يرمي إليها المشروع‬
‫الفلسفي األول لفالسفة اإلسالم مع الكندي‪ ،‬إذ يرى الكندي أنه ال مسوغ للنهي‬
‫عن النظر في كتب القدماء لذلك «ينبغي أن يعظم شكرنا لآلتي بيسير من‬
‫الحق فضال عن من أت بكثير في الحق إذا أشركونا في ثمار فكرهم»‪ .‬وفي‬
‫معرض حثه عل التفكير الفلسفي يضيف الكندي «ينبغي أن ال نستحي من‬
‫الحق واقتناء الحق من أين أت وإن أت من األجناس القاصية عنا واألمم‬
‫المباينة لنا فإنه الشيء أول بطالب الحق من الحق‪ ،‬وليس ينبغي بخس الحق‬
‫وال تحقير قائله وال اآلتي به فال أحد بخس الحق بل كل يشرفه الحق»ويوجه‬
‫الكندي خطابه هذا إل الفقهاء ولمتكلمي عصره الذين منعوا النظر في كتب‬
‫األوائل واتهموا أهلها بالزيغ والكفر‪ ،‬ووفق حجة سجالية‪ ،‬يرى الكندي أن‬
‫الفقهاء إما أن يقولوا إن الفلسفة واجبة أو ليست واجبة إذا قالوا واجبة وجبت‬
‫عليهم وإن قالوا ليست واجبة تعين الدليل وهو من علم األشياء بحقائقها أي‬
‫الفلسفة‪.‬‬

‫وهذا التناقض فاضح‪ ،‬ومع ذلك يمكن القول بأن التوفي ق مع الكندي لم‬
‫يتجاوز حدود التأليف أو التركيب بين الرأي الديني والمنهج الفلسفي‪.‬‬
‫ولئن كان الكندي قد عاش في عهد قوة ووحدة دولة الخالفة‪ ،‬فقد عاش‬
‫الفا رابي في عهد االنقسامات والصراعات السياسية فآثر حياة العزلة‬
‫واالشتغال بالفلسفة حيث يجب أن يسود االنسجام والتوفيق بين الفلسفة والدين‬
‫لكي يسود الوئام والتناغم في الحياة االجتماعية والسياسية‪ ،‬وتكون المدينة‬
‫فاضلة‪ .‬يقول الفارابي‪« :‬الملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة»‪ .‬ذلك أن الملة أي‬
‫الدين والفلسفة ك الهما معرفة مستوحاة من العقل الفعال الذي في فلك القمر إذ‬
‫يوحي العقل الفعال عل العقل المستفاد للفيلسوف الحقائق ويوحي إل مخيلة‬
‫النبي مثاالتها وأشباهها‪ .‬يقول الفارابي‪« :‬فيما يوحيه العقل الفعال إل عقله‬
‫المنفعل يصبح فيلسوفا وبما بوحيه إل مخيلته يصبح نبيا مرسال»‪ .‬والفرق‬
‫بين الفلسفة والدين في نظر الفارابي أن الدين يهتم بالجزئيات والفلسفة تهتم‬
‫بالكليات وأن « الفلسفة هي التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملة‬

‫‪31‬‬
‫الفاضلة»‪ .‬ويمثل ابن سينا في ها المجال امتدادا للفارابي لذلك عرفا‬
‫بالفارابيين‪.‬‬
‫ومن موقف يقر بأنه «ال فلسفة وال فالسفة في اإلسالم» يهاجم الغزالي‬
‫المتفلسفة في اإلسالم وعل الخصوص الفرابي وابن سينا اللذين ورثا بقايا‬
‫كفرية عن األقدمين وحاصل آرائهما ينقسم إل ثالثة أقسام هي‪:‬‬
‫‪ – 1‬قسم يجب التكفير به‪.‬‬
‫‪ – 2‬وقسم يجب التبديع به‪.‬‬
‫‪ – 3‬وقم يستوجب التسليم وال يجب إنكاره أصال‪.‬‬
‫وقد صنف الغزالي تهافت الفالسفة للرد عل الفالسفة فيها يستوجب‬
‫التكفير والتبديع وذلك «لبيان تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلق‬
‫باإللهيات» فإن كان المنطق والرياضيات من العلوم البرهانية‪ .‬التي ال سبيل‬
‫إل مجاحدتها وال شيء منها يتعلق بالدين نفيا وإثباتا «رغم ذلك تتولد عنهما‬
‫آفتا القبول والرد» وما "انشغل أحد بآفة إال وانحل عن رأسه لجام التقوى‪.‬‬
‫فإن اإللهيات هي موطن أخطاء الفالسفة حيث خالفوا أصول الدين وفروعه‬
‫في مسائل يبلغ عددها عشرين مسألة والمخالفة ألصول الدين مستوجبة‬
‫التكفير والمخالفة للفروع المستوجبة التبديع‪.‬‬
‫وفي معرض دفاعه عن الفالسفة يرى ابن رشد أن الشريعة تستوجب‬
‫النظر الفلسفي ف من أراد أن يعلم هللا تبارك وتعال وسائر الموجودات‬
‫بالبرهان عليه أن يتقدم أوال فيعلم أنواع البراهين وشروطها «وال يعني فعل‬
‫الفلسفة شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها»‪ ،‬والشرع قد ندب‬
‫إل اعتبار الموجودات وحث عل ذلك تارة باستعمال األمر كما في قول هللا‬
‫تعال ‪{ :‬فاعتبروا يا أول األبصار} ويرى ابن رشد أن «من منع النظر في‬
‫كتب الحكمة من كان‪+-‬‬

‫أهال للنظر فيها كمن منع العطشان شرب البارد العذب حت مات ألن‬
‫قوما شرقوا به فماتوا»‪.‬‬
‫وال خالف بين الفلسفة والنقل فيما ال يرد فيه نص أما ما ورد فيه نص‬
‫فإن اتفق مع العقل فال خالف وإن لم يتفق معه يجب تأويل النص حت يوافق‬
‫العقل «والتأويل هو إخراج اللفظ من الداللة الحقيقية إل الداللة المجازية‬
‫دون أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز» ويخلص ابن رشد إل‬
‫‪32‬‬
‫توافق بين الشرع والحكمة معلنا أن «الفلسفة صاحبة الشريعة واألخت‬
‫الرضيعة كالهما حق والحق ال يضاد الحق وإنما يؤيده ويشهد له» وكامتداد‬
‫لهذا الموقف التوفيقي يرى ابن خل دون أن مجال إدراك العقل هو المحسوسات‬
‫أما ما وراء المحسوسات كالغيبيات فال سبيل إل معرفته بالعقل بل يعرف‬
‫بالنقل‪.‬‬
‫وبذلك يرسم ابن خلدون حدودا للعقل معتبرا أنه من حيث ينتهي النقل‬
‫يبدأ العقل‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إل أن المسلمين قد أخذوا عناصر من فلسفتهم من‬
‫مؤلفات أفالطون وأرسطو وكتاب التاسعات الفلوطين االسكندراني المنحول‬
‫واعتبروها بمثابة عقل كوني وكان غرض الخلفاء العباسيين وخصوصا‬
‫المأمون التحاكم مع خصومه عليه‪ .‬لكن سرعان ما رأى الخصوم في نتائج‬
‫ذلك العقل الكوني كفرا وضالال معلنين شعار «من تمنطق تزندق» فهل‬
‫يمكن بعد ذلك اعتبار الصراع الفلسفي انعكاسا لصراع سياسي أعمق؟‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬قيل‪" :‬العقل يخير والشرع يجبر" ما رأيك؟‬
‫‪ – 2‬هل يتناف المعقول مع المنقول؟‬
‫‪ – 3‬هل يمكن التحرر من الفلسفة؟‬
‫‪ – 4‬قيل‪" :‬ابتلع الغزالي الفلسفة فلم يستطع أن يهضمها وال أن يتقيأها"‬
‫كيف ذلك؟‬

‫‪33‬‬
‫التيارات الفلسفية الكبرى‬
‫(المثالية – المادية)‬
‫تصدير‪:‬‬
‫«الفكر امتداد خفي واالمتداد فكر ظاهري» اسبينوزا‬
‫« الوجود دالة الفكر‪ ،‬فإذا كان الموضوع الجوهري للفلسفة هو إعطاء‬
‫تعريف للوجـــود فينبغي أن نبحث في الفكــر عن مبدأ هذا‬
‫التعريف» برونشفيك‬
‫«إن وجود الموجود هو أن يدرك أو يدرك» باركلي‬
‫«كل ما هو عقلي فهو واقعي وكل ما هو واقعي فهو عقلي» هيجل‬
‫« اعتقد العدد األكبر من أولئك الذين تفلسفوا ألول مرة بأن أصل‬
‫األشياء يوجد في شكل مادة» أرسطو‬
‫«المثالية هي وجهة نظر الروح المنفصلة عن الجسد» فيورباه‬
‫« ليس وعي الناس هو ما يحدد كيانهم بل عل العكس إن كسانهم‬
‫االجتماعي هو ما يحدد وعيهم» ماركس‪.‬‬

‫يطرح الفكر الفلسفي إشكالية جوهرية هي‪ :‬إشكالية الفكر والواقع أو‬
‫إشكالية العقل والمادة ‪ ،‬وظل الفكر الفلسفي يتأرجح بين تيارين كبيرين يتأسس‬
‫أحدهما عل الفكر والثاني عل المادة‪ ،‬فعل أي أساس يقوم هذا االختالف‬
‫بين هذين التيارين‪.‬‬
‫يقوم هذا االختالف عل أربعة عوامل تتعلق باألسبقية والتأسيس فما‬
‫هي تلك العوامل‪:‬‬

‫ا – األسبقية والتأسيس في الوجود‪ :‬أي أيهما أسبق في الوجود الفكر أم‬


‫الواقع؟ هذا السؤال الذي يشكل المحور الرئيسي للعمل الفلسفي والذي بموجبه‬
‫يتحدد التيار المثالي باعتباره يعني القول بإعطاء األولية للروح أو الفكر‪،‬‬
‫بحيث يتحدد التيار المادي في من يرى أسبقية المادة عل الفكر في الوجود‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ب – مصدر المعرفة‪ :‬أي هل يتوصل العقل إل معارفه بذاته؟ أم أن‬
‫كلما يتم معرفته ينبع من العالم الخارجي ويمر عبر التجربة؟‪.‬‬
‫إن الفيلسوف المثالي في تناوله لهذا اإلشكال يذهب إل أن ما نعرفه‬
‫عن العالم الخارجي متوقف عل إدراكنا له أو إدراكنا لكائن أسم منا‪ ،‬أي‬
‫آن المثالي يرفض أي وجود موضوعي مستقل عن الفكر للعالم الخارجي‪،‬‬
‫وهو ما يؤمن به الفيلسوف المادي‪ ،‬أي هذا الوجود الموضوعي المستقل عن‬
‫الفكر للعالم الخارجي‪.‬‬
‫ج‪ -‬مصدر القيم‪ :‬هل هي نابعة من ذواتنا وثابتة؟ أم أن مصدرها هو‬
‫الواقع االجتماعي؟‬

‫د – ما الوجود‪ :‬أي ما حقيقته؟ هل هو من طبيعة مادية واحدة أم ثنائية‬


‫هي الفكر والمادة أو الروح واالمتداد؟‬

‫تلك أهم العوامل التي تحدد طبيعة أي نسق فلسفي من حيث النزوع‬
‫المادي أو المثالي‪ ،‬والتي من خاللها يتجل أن هناك اتجاهين فكريين أساسيين‬
‫يتقاسمان تاريخ الفكر الفلسفي‪ ،‬ويكتسي كالهما طابعا متعارضا مع اآلخر‪،‬‬
‫كما تؤكد هذه الثنائية أن تاريخ الفلسفة هو في الحقيقة تاريخ صراع بين‬
‫منهجين متناقضين لتغيير العالم قصد معرفة قوانينه ‪.‬‬
‫فالمادي يعالج الظواهر من حيث ارتباطها وتفاعالتها المادية في‬
‫التغيير والتطور ويكشف عن الجوانب الداخلية المتضادة التي يشكل الصراع‬
‫فيها مصدر هذا التطور‪.‬‬

‫أما المثالي أو"الميتافيزيقي"‪ ،‬فكان له تسويغ تاريخي يقتصر عل‬


‫تحليل الظواهر وتصنيفها نوعيا دون النظر إل القرائن التي تربط بينها‬
‫والتي تساهم في قبولها وتمددها‪ .‬غير أن انقسام الفكر الفلسفي أو تعدد‬
‫المذاهب إل هذين التيارين ال يعني التطابق واالنسجام التام بين النزعات‬
‫المثالية أو المادية فيما بينها‪ ،‬بل إن كل تيار يختلف هو فيما بينه عل بعض‬
‫األمور األخص‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وقد كان القرن ‪ 37‬هو أول قرن شهد االهتمام بتضييق األنساق الفلسفية‬
‫إل نسق مادي وآخر مثالي‪ ،‬كما كان "ليبنز" هو أول من استخدم كلمة‬
‫(مثالي) كمقابل لكمة مادي‪.‬‬

‫فما المقصود بالمثالية؟ وما هي النزعات التي توصف بهذا الوصف؟‬


‫وعل أي أساس كان التمايز فيما بينها؟ وفي المقابل ما المادية؟ وما أهم‬
‫الماديات؟‬
‫إنهما تياران ال يكونان مدخلين مختلفين لفهم العالم‪ ،‬بل وتفسيرين‬
‫متناقضين‪.‬‬

‫أوال‪ :‬المثالية ‪:L’idéalisme‬‬


‫يطلق لفظ المثالية بوجه عام عل النزعة الفلسفية التي تقوم عل رد‬
‫كل وجود إل الفكر بأوسع معانيه‪ ،‬وهي بهذا المعن مقابلة للواقعية الوجودية‬
‫التي تقرر أن هناك وجودا مستقال عن الفكر‪ .‬وتتخذ صورة المثالية الذاتية أو‬
‫المثالية الشخصية عندما ترد الوجود إل الفكر الفردي‪ .‬كما تتخذ صورة ثانية‬
‫ترد الوجود فيها إل الفكر بوجه عام ‪.‬‬
‫وقد عرفها "الالند" بأنها‪« :‬االتجاه الفلسفي الذي يرجع كل وجود إل‬
‫الفكر بالمعن األعم لهذه الكلمة»‪.‬‬

‫وقد كان أول من استعمل لفظ المثالية في اللغة الفلسفية فالسفة القرن‬
‫‪ 11‬خاصة "ليبنيز ‪ ،"Leibniz‬الذي جعل المثالي مقابال للمادي‪ .‬ثم أطلقت بعد‬
‫ذلك عل مثالية "أفالطون ‪ "Platon‬لقوله بالمثل التي هي نماذج العالم الحسي‬
‫وصوره‪ ،‬وأصوله ولها وجود مفارق في عالم خاص بها يسم عالم‬
‫المعقوالت وتسم المثالية الوجودية أو الموضوعية‪.‬‬

‫ثم أطلقت بعد ذلك في القرن ‪ 38‬عل مذهب باركلي الذي يطلق عليه‬
‫الالمادية‪ .‬وتطلق المثالية عند كانط عل مذهب من يقول إن وجود األشياء‬
‫في المكان خارج الفكر أمر مشكوك فيه‪ ،‬أو أمر ال يمكن البرهان عليه‪ ،‬أو‬
‫أمر باطل ومستحيل)‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وأول صور هذه المثالية مثالية ديكارت اإلشكالية التي ال تسلم إال‬
‫بوجود حقيقة واحدة ال يتطرق إليها الشك وهي «األنا»‪.‬‬

‫وثاني صورة لهذه المثالية حسب كانط هي مثالية بركلي الوثوقية أو‬
‫القطعية التي تنكر وجود المكان أو وجود األشياء المحايدة المتعلقة به‪.‬‬
‫كما قد أطلق اسم المثالية عل مذاهب فلسفية أخرى كمذهب (فخته)‬
‫ومذهب (شيلنغ) ومذهب (هيغل) المسم بالمثالية المطلقة‪.‬‬

‫وتأخذ المثالية معاني ودالالت تتداخل وتتباين حسب العلوم المرتبطة‬


‫بها كعلم األخالق وعلم الجمال وعلم االجتماع‪.‬‬

‫من هنا فإن المثالية تعني أن ال حقيقة إال للذات المفكرة وأن حقيقة‬
‫األشياء في قابليتها بأن تدرك عن العقول أو الذوات المفكرة‪ ،‬كما أنها تعني‬
‫مختلف االتجاهات التي تسوي بين المعرفة والوجود عل اعتبار أنهما شيء‬
‫واحد‪ ،‬ففيها الذات تسبق الموضوع والفكر يسبق الواقع‪ ،‬والمثالي هو من‬
‫يربط وجود األشياء بإدراك الذات لها‪.‬‬

‫وتتلخص المثالية في القول بأن استقالل الطبيعة واكتفاءها بذاتها ليس‬


‫إال مجرد وهم‪ ،‬والبد لها مما تعتمد عليه وأن ما تعتمد عليه ليس إال العقل أو‬
‫الروح‪.‬‬

‫ولعل من أهم ما ي نبغي اإلشارة إليه في هذا اإلطار أن معالجة التصور‬


‫المثالي تقتضي التوقف عند جوهر الفوارق واالختالفات الواسعة بين الفالسفة‬
‫والمثاليين وهو ما سنحاول نقاشه وإثارته في الفقرات التالية مؤكدين انه حت‬
‫ومع هذا االختالف والتباين تبق التيارات المثالية مجمعة عل القول بأن‬
‫وجود األشياء الخارجية متوقف عل وجود القوى التي تدركها فإذا انعدمت‬
‫هذه القوى استحال وجود العالم الخارجي‪.‬‬

‫‪ – 1‬المثالية المفارقة أو الموضوعية عند أفالطون‪:‬‬


‫‪37‬‬
‫يرتبط مصطلح المثالية بافالطون فهو صاحب أقدم مثالية عرفت بهذا‬
‫االسم فقد قسم افالطون الوجود إل قسمين كبيرين غير متساويين هما‪ :‬العالم‬
‫المعقول والعالم المحسوس‪ ،‬ثم يعود فيقسم كال منهما إل قسمين آخرين‪:‬‬
‫فالعا لم المحسوس ينقسم إل ظالل وانعكاسات ثم إل األشياء الجزئية نفسها‬
‫في حين قسم العلوي عل عالم رياضيات وعالم مثل‪ .‬ويعتبر مثاليا حين‬
‫يذهب هنا إل القول بأن العالم المعقول هو عالم أبدي وأزلي وهو أصل لكل‬
‫شيء في الكون‪.‬وتتناغم مراحل المعرفة عند أفالطون مع التقسيم اآلنف‬
‫الذكر حين يقسمها إل مرحلة اإلدراك أو الوهم‪ ،‬ومرحلة الظن‪ ،‬ومرحلة‬
‫الفهم أو االستدالل ومرحلة التعقل معتبرا «المعرفة تذكر والجهل نسيان»‪،‬‬
‫ذاهبا إل القول‪ « :‬النظر إل األشياء الواقعية‪ ،‬يساعدنا أن نتذكر الحقائق‬
‫المثالية‪ ،‬التي تعتبر األشياء الواقعية بمثابة تجسيد جزئي لها»(‪.)1‬‬

‫وقوله إذا أردنا أن نعرف شيئا معرفة مطلقة فالبد لنا أن نتحرر من‬
‫الجسد‪ ،‬وأن ننظر إل الحقائق الواقعية نظرة الروح وحدها»(‪.)2‬‬

‫ومعن هذا أن المعرفة التي تأتي بها الحواس ليست معرفة يقينية‪،‬‬
‫وإنما هي معرفة ظنية تخمينية ألن موضوعها متغير‪ .‬فالمعرفة هي معرفة‬
‫الحقائق التي ال تتغير ولذا بالنسبة ال فالطون فإن المعرفة اليقينية هي معرفة‬
‫العقل وحده وهي قسمان معرفة متأتية عن طريق الفهم وهي المعرفة‬
‫الرياضية وهي معرفة أقل يقينا من المعرفة المتأتية عن طريق العقل‬
‫الخالص أي معرفة المثل التي تمت بواسطة التعقل‪.‬‬

‫وتبرز كذلك مثالية إفالطون في قوله بنظرية (المحاكاة) في األخالق‬


‫والجمال‪ ،‬فالج مال الحقيقي يوجد في عالم المثل وكذلك الخير والحكم‪ ،‬يقول‬
‫أفالطون‪ « :‬البشرية لن تضع حدا للشر إال عندما يتمتع الفالسفة الحقيقيون‬
‫بالسلطة السياسية أو عندما يصبح السياسيون بمعجزة ما فالسفة حقيقيين»(‪.)3‬‬

‫‪1‬‬
‫محاورات‬ ‫‪ -‬افالطون‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬نفس المصدر السابق‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬نفس المصدر السابق‬
‫‪38‬‬
‫ويشكل القول في الثنائية في كل شيء السمة المميزة لمثالية أفالطون‬
‫سواء عل المستوى االنطلوجي؛ عالم علوي معقول‪ ،‬عالم سفلي محسوس‪،‬‬
‫أو عل مستوى اإلنسان‪ :‬روح وجسد‪ ،‬فكر‪ ،‬ومادة‪ ،‬أو عل مستوى‬
‫ابستمولوجي‪ :‬معرفة ظنية محسوسة‪ ،‬ومعرفة ظنية معقولة‪.‬‬

‫وقد وصفت هذه المثالية بالمفارقة بالنظر إل أن المثل ليست من صنع‬


‫العقل المدرك لها‪ ،‬بل كانت قائمة بذاتها في عالم مثالي مفارق‪ .‬وكذلك كان‬
‫العقل المدرك لها يلتزم بموضوع اإلدراك الذي هو المثل وال يؤثر فيه‪ ،‬بل‬
‫إن الموضوع هو الذي يؤثر فيه‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬المثالية اإلشكالية ديكارت )‪1650-1596‬م(‪.‬‬
‫لعل من الصعوبة بمكان قراءة النسق المثالي الديكارتي‪ ،‬المتطلع إل‬
‫تأسيس المعرفة في لحظة الحادثة‪ ،‬والمملوءة بالرغبة في القطيعة مع‬
‫الماضي‪ ،‬باعتبار ديكارت رائد الحداثة وأبو نهضتها –دون االنطالق من‬
‫الشك المنهجي الذي شكل محور االرتكاز للنسق الديكارتي ومنهج اليقين‬
‫عنده‪.‬‬
‫إن النطالق ديكارت من الشك األثر البارز في وصف نسقه بالمثالية‬
‫اإلشكالية فهو حسب كانط «لحظة معقولة»(‪ )1‬حيث إنها قد أسست لنوع جديد‬
‫من التفكير الفلسفي فأوصلت ديكارت إل اكتشاف األنا المفكرة أو الذات‬
‫العارفة أو الكوجتو الديكارتي «أنا أفكر إذا أنا موجود»‪ ،‬واعتبر بذلك‬
‫مؤسس المثالية الحديثة‪ ،‬كين كان يفصل بين الفكر والوجود‪ ،‬ويرى أن العالم‬
‫الخارجي ال يدرك إال بعد إدراك األفكار‪ ،‬هذه األفكار التي يقدم ديكارت‬
‫تصنيفا لها عل ثالث صور‪:‬‬
‫‪ -‬األفكار العرضية‪ :‬وهي التي تستمد من التجربة الحسية وهي‬
‫غامضة ال تكون معرفة صحيحة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة الكتاب المقرر من سادسة مغربية‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫‪ -‬األفكار الفطرية ‪ :‬وهي ال تستقي من التجربة الحسية‪ ،‬وال تنشأ‬
‫من التركيب الخيالي‪ ،‬وتتميز بالوضوح والبساطة‪ ،‬وهي قبلية‬
‫ال عالقة لها بالتجربة(‪.)1‬‬
‫ويخلص ديكارت في هذا اإلطار إل أن األفكار أوضح من األشياء(‪.)2‬‬
‫مدفوعا إل ذلك بإعجابه بدقة ووضوح وتقنية الرياضيات‪ ،‬وكذلك‬
‫اعتقاد أن المعرفة تبدأ بالعقل الحتوائه عل األفكار الفطرية‪.‬‬

‫وقد اشترط الممارسات األخالقية بالعقل‪ ،‬وهي مثالية في هذا المجال‬


‫تربط القضايا بإراد ة هللا وعنايته كما تربط وجود الكون بوجود هللا المتصف‬
‫عنده بكونه‪ ( :‬ال متناهيا‪ ،‬أزليا‪ ،‬منزها عن التغيير‪ ،‬وخلق جميع األشياء‬
‫الموجودة(‪ .)3‬هذه الثنائية في الوجود لدى ديكارت تنسحب عل اإلنسان‬
‫حيث‪ :‬نقف أمام واقعين مطلقين تماما هما‪ :‬العقل والمادة‪.‬‬
‫ال مادية األسقف جورج بار كلي )‪1753-1684‬م( ‪:‬‬
‫جاءت مثالية باركلي كرد فعل عل النزاعات اإللحادية في القرن‬
‫الثامن عشر‪ .‬فسع باركلي إل تفنيد أفكار هذه الفلسفات عن طريق إثبات‬
‫استحالة وجود المادة مستقلة عن الفكر‪.‬‬

‫فهو يرى أننا ال ندرك األشياء إال كإحساسات يقول‪« :‬لست أدري إن‬
‫كان لغيري تلك القوة العجيبة‪ ،‬قوة تجريد المعاني‪ ،‬أما أنا فأجد أن لي قوة‬
‫تخيل معان ي الجزئيات التي أدركتها‪ ،‬وتركيبها وتفصيلها عل أنحاء مختلفة‬
‫‪ ...‬ولكن يجب عل كل أن يكون لها شكل ولون»‪.‬‬

‫فباركلي يحاول أن يثبت أن األشياء مساوية لإلحساسات‪ ،‬واإلحساسات‬


‫مشاعر والمشاعر أفكار‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬نصوص الفلسفة في الباكلوريا ‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬المعهد التربوي الوطني‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‪ ،‬الكتاب المقرر‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع السابق‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫إذن ليس الوجود إال أفكارا فما ندركه موجود وما ال ندركه غير‬
‫موجود‪.‬‬

‫أو بعبارته المشهورة «وجود الوجود في أن يدرك» فال وجود للمادة‬


‫كشيء مستقل عن الذات المدركة‪ ،‬ولكن مع ذلك يعترف بوجود األشياء‬
‫ك إحساسات لكن وجودها بالنسبة لباركلي مرتبط بالذات المدركة‪ ،‬ألن الوجود‬
‫عملية إدراك‪ ،‬ولهذا يرى باركلي أن وجود شيء معين هو أن ندركه‪ ،‬كما أن‬
‫استمرار هذا الوجود يعني أن هناك ذاتا إلهية تدركه باستمرار فباركلي يختم‬
‫مثاليته في النهاية برد الوجود إل هللا(‪ )1‬في كتابه (المحاورات الثالث) بين‬
‫هيال وفيلونوس يقول باركلي‪« :‬سل البستاني لم يعتقد بوجود شجرة (الكريز)‬
‫في الحديقة‪ ،‬سيخبرك أنه يعتقد بوجودها ألنه يراها ويلمسها‪ ،‬وفي كلمة‬
‫واحدة ألنه يدركها بحواسه‪ ،‬ثم ا سأله بعد ذلك لم يعتقد أن شجرة البرتقال غير‬
‫موجودة‪ ،‬وسينبئك أنه يعتقد بعدم وجودها ألنه ال يدركها‪ ،‬وعل ذلك فإن‬
‫الشيء الواقعي أو ماله وجود عنده هو ما يدركه بحواسه‪ ،‬أما ما ال يدركه‬
‫فيقول عنه إنه غير موجود»(‪.)2‬‬

‫مثالية كانط )‪1804-1724‬م( ‪:‬‬


‫المثالية النقدية أو المتعالية الترانسدانتالية‪:‬‬
‫هذه الفلسفة تعرف أيضا بالمثالية النقدية كما تعرف بالمثالية المتعالية‬
‫وهي تمتاز عن الم ثاليات السابقة في نفيها للوجود الجوهري للفكر‪ ،‬ونفيها‬
‫لقدرة الفكر عل اإلدراك المباشر يقول كانط‪« :‬إن القضية التي يدافع عنها‬
‫المثاليون المعترف بهم منذ ظهور المدرسة اإليلية حت األسقف باركلي؛ هي‬
‫القضية اآلتية « كل معرفة تستخلص من الحواس ومن التجربة ليست إال‬
‫وهما‪ ،‬فالحقيقة ال توجد إال في أفكار الذهن المجرد أو العقل الخالص» ‪.‬‬
‫وعل العكس م ن ذلك فإن المبدأ الذي يحكم مثاليتي‪ ،‬ويحددها هو المبدأ اآلتي‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬ما هي الفلسفة ‪ ،‬د‪ .‬حسين علي‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬نفس المصدر‪ ،‬ص ‪.338‬‬
‫‪41‬‬
‫« كل معرفة لألشياء نستخلصها من الذهن أو من العقل الخالص فحسب‪ ،‬ليس‬
‫إال وهما‪ ،‬فالحقيقة ال توجد إال في التجربة»(‪.)1‬‬
‫من هنا يظهر أن مثالية كانط من نوع خاص جدا فهي إن اتفقت مع‬
‫المثالية التقليدية في جانب فإنها تختلف عنها في جانب وعن ذلك يتحدث كانط‬
‫«لما كانت الحواس ال تدرك أبدا األشياء في ذاتها‪ ،‬بل ظواهرها فقط‪ ،‬ولما‬
‫كانت هذه الظو اهر هي مجرد تمثالت للقوة الحاسة‪ ،‬فإن المكان وكذلك‬
‫األجسام التي يحتويها هي بالضرورة مجرد تمثالت فينا فال وجود لها إال في‬
‫فكرنا»‪.‬‬
‫ويتساءل أليس هذا بصراحة ما نسميه مثالية؟‬
‫ويستطرد قائال‪« :‬يؤكد المذهب المثالي أنه ال وجود لكائنات أخرى‬
‫غير الكائنات العاقلة ‪ ...‬أما أنا فأقول عل العكس توجد موضوعات‬
‫محسوسة وخارجة عني وهي معطاة لنا ولكننا ال ندري ما يمكن أن تكون‬
‫(‪)2‬‬
‫عليه في ذاتها‪ ،‬إننا ال نعرف غير ظاهرها»‬

‫إذا كان كانط قد اختلف عن المثاليات السابقة فإنه قد انتقد أيضا المادية‬
‫وخاصة دافيد هيوم الذي ينكر وجود روابط تربط أجزاء الواقع ومعطياته‬
‫الحسية‪ ،‬وليصل كانط إل هذا الموقف المتجاوز للطر حين السابقين قام‬
‫بتحليل ملكة المعرفة انطالقا من موقفه المبني عل أن المعرفة موجودة وأن‬
‫المطلوب هو تحديد حدودها الفعلية‪( ،‬ماذا يمكنني أن أعرف؟)‪ .‬فميز وصوال‬
‫إل هذه الغاية بين نوعين من األحكام ؛ أحكام تحليلية تزيد المفاهيم وضوحا‬
‫في الذهن ولكنها ال تزيد العلم –أحكام تركيبة قبلية وهي أساس العلم‬
‫والمعرفة وتحليلها يبين أن المعرفة تتكون من مادة وصورة‪ ،‬فالمادة هي‬
‫معطيات الحس‪ ،‬والصورة هي العقل أو الفكر وتتحدد حدود المعرفة بحدود‬
‫التعاون والتالزم بين هاتين المسألتين وتبدأ عملية المعرفة بعمل أول قوة في‬
‫الذهن وهي الحساسية‪.‬‬

‫الحساسية‪ :‬وهي القدرة عل االتصال بالواقع الخارجي فنحن نكتسب‬


‫من الواقع الخارجي معطيات حسية متعددة ننظمها بواسطة الزمان والمكان‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬حسين علي ‪ ،‬ما هي الفلسفة‪ ،‬ص ‪.364‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع السابق‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫وهما إطاران سابقان عل التجربة فتكون حدوسا حسية بإمكانها أن تتحول‬
‫إل قضايا معرفية عن طريق الفهم‪.‬‬

‫الفهم‪ :‬وهو الملكة الثانية في الذهن ويعرف بأنه قدرتنا عل التفكير في‬
‫مواضيع الحساسية ويقوم عل تمييز التشابه والتناقض وخلق االرتباط‬
‫الموضوعي بين أجزاء الواقع‪ ،‬فالفهم هو تفسير للظواهر وإعادتها إل‬
‫ظواهر أخرى‪ ،‬ولهذا قيل عنه بأنه عل عكس الحساسية حكم موضوعي‬
‫بموجبه ترتبط الحدوس الحسية ببعضها البعض عن طريق مقوالت العقل‬
‫مثل ‪ :‬الوحدة والكثرة والقلة‪...‬‬

‫فالفهم يعمل في حدود الحس ألنه في رأي كانط «ال حدس إال الحدس‬
‫الحسي»‪.‬‬
‫وهذا ما جعل كانط يفترض تالزما ضروريا بين معطيات الحس‬
‫ومعطيات الذهن يقول (كانط)‪« :‬الحدوس الحسية بدون مفاهيم عمياء‬
‫والمفاهيم بدون حدوس حسية جوفاء»‪.‬‬

‫وجعله أيضا يميز بين مستويين للوجود‪ :‬وجود لذاتنا ووجود لذاته‪.‬أي‬
‫الشي ءف ظاهره والش ءف ذاته‪.‬‬
‫العقل الخالص‪ :‬وهو الملكة التي بحث في المواضيع الميتافيزيقية والتي‬
‫تعمل منفصلة عن الحس والتفكر في الشيء ذاته‪ .‬هذا التفكير الذي ينتهي إل‬
‫التناقضات‪.‬‬

‫ولكل هذه األسباب ونتيجة للتميز الحاسم بين مثالية كانط وغيرها من‬
‫المثاليات األخرى يطلق عل مثاليته اسم المثالية النقدية‪ ،‬والنقد عند كانط هو‬
‫نقد العقل المجرد وتفنيد الدليل العقلي الخالص الذي ال يستند إل الوجود‬
‫الحسي والخبرة الحسية‪ ،‬إن النقدية الكانطية تنقد العقل المجرد بإظهار أن‬
‫البرهان العقلي الخالص يوقعنا دائما في نقائض‪.‬‬

‫المثالية المطلقة عند هيغل )‪1831-1770‬م( ‪:‬‬

‫‪43‬‬
‫«لقد قدم (كانت ‪ )Kant‬خدمة كبرى إل الفلسفة حين أشار إل‬
‫متناقضات العقل‪ ،‬ذلك ألن التعرف عل هذه المتناقضات قد ساعد إل حد‬
‫كبير في التخلص من صرامة الفهم الميتافيزيقي ‪ ،‬كما ساعد في لفت األنظار‬
‫إل حركة الفهم الجدلية‪ ،‬ومع ذلك فالبد من أن نضيف أن كانط لم يتجاوز‬
‫قط حدود النتيجة السلبية‪ ،‬وهي أن الشيء في ذاته ال يمكن معرفته‪ ،‬دون أن‬
‫يستكشف ما تعنيه التناقضات من الناحية اإليجابية‪ .‬وهذه الناحية اإليجابية‬
‫هي‪ :‬أن كل ما يوجد وجودا فعليا يتضمن في جوفه عناصر متناقضة في آن‬
‫واحد‪ ،‬وبالتالي فإن معرفته تعني إدراكه كوحدة حتمية من التعينات‬
‫المتناقضة»(‪.)1‬‬

‫من هنا يبدو أن طبيعة المعرفة عند هيغل عقلية وليس ثمة سوى‬
‫العقل‪ ،‬والمعيار في التمييز بين األنواع المختلفة لنشاط العقل هو الموضوع‪.‬‬
‫فإذا انصب نشاط العقل عل موضوع حسي يسم إدراكا‪ ،‬وإذا انصب عل‬
‫تصور ذهني كان تخيال مما يعني أن العقل عند هيغل يمر بمراحل في إدراكه‬
‫لألشياء وفقا لعالقة الذات بالموضوع‪ :‬مرحلة مباشرة إيجابية‪ ،‬مرحلة ثانية‬
‫معارضة أو سلبية لألولي – مرحلة ثالثة هي مرحلة الجمع بين المرحلتين‬
‫السابقتين أي أن العقل عند هيغل يمر بـ‪:‬‬

‫ا – الوعي الحسي‪ :‬وهو مرحلة اإلحساس بصفة عامة وتبدو في‬


‫ظاهرها غنية وعميقة غير أن الواقع هو أنها أكثر ألوان المعارف فقرا‬
‫وضحالة‪.‬‬

‫ب – اإلدراك الحسي‪ :‬وفيها يتم إدراك الموضوع باستمرار كموضوع‬


‫مغلق بالكلية أووسط مجموعة من الكليات‪ .‬معبر عن شيء واحد له خواص‬
‫كثيرة‪ ،‬ولكن الشيء حين يكون واحدا وكثيرا في آن معا فإن ذلك يعني أنه‬
‫متناقض مع نفسه‪ ،‬مما يدفع إل االنتقال إل مرحلة جديدة هي مرحلة الفهم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬حسن علي مرجع سابق‬
‫‪44‬‬
‫ج – مرحلة الفهم‪ :‬إن تناقض الموضوع مع نفسه حيث إنه واحد وهو‬
‫أيضا كثير أي جزئي وكلي غير أن عنصر الكلية هنا يعني الكلية الحسية‬
‫(بيضاء ‪ -‬صلبة – مكعبة ‪ )...‬وهي كلية مشروطة ولكن وجودها يفرض عند‬
‫هيغل وجود كليات غير مشروطة هي الكليات العقلية ‪.‬‬

‫‪ - 2‬مرحلة الوعي الذاتي‪ :‬لم تكن تعني مراحل الوعي المباشر (الوعي‬
‫الحسي – اإلدراك الحسي – الفهم) إال المرحلة األول من مراحل المعرفة‬
‫الهيغلية والتي يتم االنتقال منها إل مرحلة الوعي الذاتي والتي تعني أن‬
‫الكليات العقلية غير المشروطة التي تمثل حقيقة الشيء ما هي إال مكونات‬
‫للعقل أو مجموعة من األفكار العقلية أي أنها ليست سوى (الذات) في الواقع‪.‬‬
‫والذات ليست سوى الفكر ومن ثم فإن الموضوع ليس سوى الفكر‪ ،‬والذات‬
‫في رحلة اكتشافها حقيقة الموضوع لن تجد ببساطة سوى نفسها فهي حين‬
‫تعي األشياء ال تمارس سوى وعي ذاتي‪.‬‬

‫‪ – 3‬مرحلة العقل‪ :‬توصلنا إل أن الذات والموضوع متحدان ألن‬


‫الذات ال ترى إال نفسها في الموضوع غير أن ذلك يعني عند هيغل أن إدراك‬
‫الذات لألشياء الخارجية ال يعني سوى إدراكها لذاتها أي يعني عنده أن الفكر‬
‫هو حس مشترك بين الذات واألشياء ومع ذلك فهما متمايزان فالذات شيء‬
‫والموضوع شيء آخر وهذا هو عامل االنفصال‪.‬‬

‫فالموضوع متميز عن الذات لكنه مع ذلك متحد معها في وقت واحد‪.‬‬


‫وهكذا يكون العقل هو مركب المرحلتين (الوعي المباشر والوعي الذاتي)‪.‬‬

‫وهنا يتضح أن المراحل السابقة كانت شريطا لشيء واحد هو العقل‬


‫الذي يظهر في نهايتها مت اكتملت المعرفة‪.‬‬

‫وخالصة القول إ ن في المثالية المطلقة عند هيغل؛ يتحرك الفكر إذن‬


‫من مرحلة الوعي المباشر إل نقيضها الوعي الذاتي ليتحول إل مرحلة ثالثة‬
‫هي مرحلة التركيب‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ففي الوعي المباشر يضع العقل الموضوع كقضية (إثبات)‪ ،‬وفي‬
‫الوعي الذاتي يضع الذات كنقيض للموضوع (نفي)‪ ،‬أما المرحلة الثالثة ينفي‬
‫النفي السابق ليكون أمام التركيب‪.‬‬

‫فالعقل دوما يسير عبر هذه الحركة الثالثية (اإلثبات – النفي – نفي‬
‫النفي) فالفكر يطرح أطروحة يقوم في مقابلها نقيض ثم يرتفع إل التركيب‬
‫(نفي النفي) الذي يصبح بدوره قضية تستدعي نقيضها ثم تركيبا جديدا‪ ،‬وهو‬
‫ما ينتهي عبره الشيء في ذاته عند كانط ‪.Kant‬‬

‫من هنا جاء اعتبار هيغل ‪ Hegel‬الوجود خاضعا للصيرورة التي هي‬
‫حالة االنتقال المستمر بسبب وجود التناقض الذي يتم حسب القانون الهيغلي‬
‫(إثبات – نفي – نفي النفي)‪ ،‬وقد طبقه عل الجغرافيا والتاريخ فاعتبر‬
‫األرض مكونة من ثالثة أنواع من التضاريس‪ :‬الجبال والوديان والبحار‪ ،‬كما‬
‫اعتبر أن التاريخ مر بثالث مراحل هي‪ :‬المرحلة الشرقية والمرحلة اليونانية‬
‫والمرحلة الحديثة‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬ما هو المعيار الذي يقسم الفكر إل مثالية ومادية ؟‬
‫‪ – 2‬لماذا نحن أمام مثاليات متعددة ولسنا أمام مثالية واحدة؟‬
‫‪ – 3‬ما المقصود بالمثالية الموضوعية؟‬
‫‪ – 4‬لماذا سميت مثالية باركلي بالالمادية؟‬
‫‪ – 5‬عل أي أساس يمكننا القول إن هيغل بدأ من حيث انته كانط؟‬

‫ثانيا‪ :‬التيار المادي‬


‫المادة لغة واصطالحا‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫تطلق المادة في اللغة عل كل شيء يكون مددا لغيره‪ ،‬ومادة الشيء‬
‫أصوله وعناصره التي يتركب منها حسيا كانت أو معنوية كمادة البناء ومادة‬
‫البحث‪.‬‬
‫والمادة فلسفيا‪ :‬هي الجسم الطبيعي الذي نتناوله عل حاله أو تحوله‬
‫إل شيء آخر لغاية معينة(‪ )1‬وفي االصطالح األرسطي هي المعن المقابل‬
‫للصورة ‪ ...‬وتدل إما عل العناصر غير المعينة التي يمكن أن يتألف منها‬
‫الشيء أي إمكان محض (مادة أول أو هيول )‪.‬‬
‫أو تدل عل المعطيات الطبيعية والعقلية المعينة التي يعمل الفكر عل‬
‫إكمالها وإنضاجها‪.‬‬
‫وبالمعن الديكارتي مقابلة للصورة‪ ،‬من جهة وللفكر من جهة أخرى‪،‬‬
‫ويرجع التقابل بينها وبين الصورة إل أن الجسم مؤلف من شيئين‪ :‬شكله‬
‫الهندسي وهو صورته‪ ،‬وجوهره وهو مادته‪ ،‬أما التقابل بينها وبين الفكر‬
‫فيعود إل أن المادة كتلة طبيعية ندركها بالحدس الحسي لوجودها خارج‬
‫العقل‪ ،‬في حين أن الفكر شيء داخلي مجرد عن المادة ولواحقها‪.)2(..‬‬
‫أما كانط فإنه يطلق المادة عل معطيات التجربة الحسية من جهة ما‬
‫هي مستقلة عن قوالب العقل‪ .‬كمادة الظاهرة عنصرها الحس‪ ،‬أما صورتها‬
‫فهي العالقات التي تضبطها وتنظم حدوثها‪.‬‬
‫ويتحدد التيار المادي باعتباره المذهب الذي يفسر كل شيء باألسباب‬
‫المادية‪ ،‬ويطلق في علم ما بعد الطبيعة عل مذهب الذين يقولون إن المادة‬
‫وحدها هي الجوهر الحقيقي الذي به تفسر جميع ظواهر الحياة‪ ،‬وجميع‬
‫أحوال النفس وهو بهذا المعن مقابل للمذهب الروحي‪ ،‬الذي يثبت وجود‬
‫جوهر مستقل عن المادة هو الروح‪.‬‬
‫وفي علم النفس يعني المذهب المادي القول بأن جميع أحوال الشعور‬
‫هي ظواهر ثانوية ناتجة عن الظواهر الفسيولوجية المقابلة لها‪.‬‬

‫ومن هنا يبدو أن مشكل التعريف الذي طرح كإشكال لدى التيار‬
‫المثالي يطرح أيضا في التفكير المادي‪ ،‬وتصوره للكون واإلنسان‪ ،‬والمجتمع‬

‫‪1‬‬
‫جميل اصليبا ج ‪.2‬‬ ‫‪ -‬المعجم الفلسفي‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫‪47‬‬
‫والتاريخ والمعرفة‪ ،‬ورغم وحدة المنطلقات فإن االتجاه المادي يصنف إل‬
‫ماديات‪:‬‬

‫أوال‪ :‬المادية اليونانية‪:‬‬


‫يتمثل الفكر المادي القديم بفالسفة اليونان‪ ،‬وأول من بحث في أصل‬
‫الكون والطبيعية هو طاليس الذي نص عل أن الماء هو المصدر الذي نتج‬
‫عنه كل شيء‪ ،‬قائال‪ « :‬الماء هو قوام الموجودات بأسرها‪ ،‬فال فرق بين هذا‬
‫اإلنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إال االختالف في كمية الماء الذي يتركب‬
‫منه هذا الشيء أو ذاك»(‪.)1‬‬
‫‪ -‬وذهب هيرقليطس إل أن النار «هي جوهر األشياء‪ ،‬حيث إن‬
‫العالم بالنسبة إليه لم يضعه أحد قط بين اآللهة أو البشر إنما هو‬
‫ذاته يكون الجميع وسوف يبق إل األبد نارا حية ال تخمد‪ ،‬بها‬
‫مقادير تشتعل‪ ،‬ومقادير تنطفئ»(‪. )2‬‬
‫ولذا فالنار رمز إل الكون حيث هو في جريان مستمر ما بين أضداد‬
‫التوتر « يحيا النار موت الهواء‪ ،‬ويحيا الهواء موت النار‪ ،‬ويحيا الماء موت‬
‫التراب ‪ ،‬ويحيا التراب موت الماء» فالنار هي العنصر الخالق في الكون‬
‫حيث منها ينبثق كل شيء وعليها يعود كل شيء‪.‬‬

‫أما ديموقريطس فقد ذهب إل أن أصل األشياء جميعا هو «الذرات»‪،‬‬


‫ومنها يتكون تركيب الموجودات قاطبة حيث ال يوجد في الكون غير الذرات‪،‬‬
‫وهي تتحرك دون أن تكون هنالك قوة محركة تسيطر عليها من الخارج‪ ،‬بل‬
‫تكون هكذا من طبيعتها دون هدف أو غاية وعل هدي ديموقريطس سار‬
‫أبيقور حيث أكد أن كل األشياء مكونة من ذرات‪ ،‬وكذلك الرواقيون الذين‬
‫يرون أن ليس في الوجود غير المادة وأن ما لم يحس ال يعرف‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جميل اصليبا ج ‪.2‬‬ ‫‪ -‬المعجم الفلسفي‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫‪48‬‬
‫وخالصة القول إن الفلسفة اليونانية القديمة تمكنت فيها ومنذ لحظة‬
‫ميالدها النزعة المادية حت وإن طبعت المادية اليونانية القديمة بطابع تأملي‪،‬‬
‫مع أن ذلك ال ي نفي أن المادية اليونانية قد استطاعت مع ديموقريطس أن‬
‫تحدس حقيقة الكون العتباره يتركب من ذرات وهو أمر أكده تطور العلوم‬
‫فيما بعد‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المادية الميكانيكية (الحديثة)‪:‬‬


‫ظهر التيار المادي برداء علمي في العصر الحديث نتيجة انفصال‬
‫العلوم الطبيعية عن الفلسفة فكثرت النظريات المادية وتشعبت(‪ .)1‬فكان‬
‫توماس هوبس من أوائل من أعلنوا أن حقيقة العالم هي الحركة وليس هناك‬
‫أرواح مغايرة للمادة وإنما هي أجسام طبيعية تطورت حت وصلت إل درجة‬
‫من الرقي العالي لم تستطع حواسنا إدراكها‪.‬‬

‫دعم المذهب‬ ‫ويذهب أيضا بارون دى هولباخ )‪ (1789-1723‬إل‬


‫المادي والثناء عل حقائقه وجعل المتري )‪ (1751-1709‬الروح من وظائف‬
‫المادة الحية لإلنسان‪.‬‬
‫وتعتبر التطورات في النظريات الجديدة التي وضعت من طرف‬
‫كوبرنيك وكبلير وغاليلي ونيوتن والتي ارتج لها الواقع الفكري اإلنساني‬
‫بدحض االلتفافات السلطوية التي لبست قناع الدين كيما‬
‫تفهم العلم وتبق شريعة أبدا‪ ،‬فشكلت ردة فعل بكل قوة في الفكر المادي‪.‬‬

‫وتنقسم المادية الميكانيكية إل قسمين‪ :‬ميكانيكية قديمة والميكانيكية‬


‫الحديثة ويذهب الميكانيكيون بصورة عامة إل أنه ال وجد إال للمادة وحركتها‬
‫وتعرف المادة الميكانيكية الحديثة بمادية القرن )‪ .(19‬وقد حصلت نتيجة تأثير‬
‫فيزياء نيوتن التي تفسر الوجود انطالقا من مبدأي المادة والحركة‬
‫ومشاهيرها‪ :‬ديدرو – فولتير – ومونتسكيو ‪...‬ا لخ‬

‫‪1‬‬
‫وزارة التربية التونسية‬ ‫‪ -‬هللا الوجود اإلنسان‬
‫‪49‬‬
‫وقد تابع جهودهم الفيلسوف األلماني فيور باخ الذي اعتبر المادة أساس‬
‫الوجود(‪ ،)1‬واعتبر الفكر مجرد حركة المادة الميكانيكية ‪.‬‬

‫وقد تبلورت المادية الميكانيكية تحت تأثير مجموعة عوامل أساسية‬


‫أهمها‪ :‬التقدم العلمي أثناء القرنين )‪:(18-17‬‬
‫القطعية مع أساليب التفكير القديم‬ ‫‪-‬‬
‫المذهب التجريبي االنجليزي وخاصة نظرية جون لوك في‬ ‫‪-‬‬
‫المعرفة التي تعتبر التجربة مصدر المعرفة‪.‬‬
‫الصراع االجتماعي بين الطبقة البرجوازية الصاعدة والطبقة‬ ‫‪-‬‬
‫اإلقطاعية‪.‬‬
‫التحرر من هيمنة الكنيسة التي تحد من حرية التفكير‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ثالثا‪ :‬المادية الجدلية (الدياليكتيكية)‪:‬‬


‫جاءت المادية الجدلية عند كارل ماركس وانجليز امتدادا طبيعيا للمادية‬
‫الحديثة وإن كانت ت تقدم هذه المادية ‪ ،‬فهي ترى أن هذه االتجاهات المادية‬
‫آلية ميكانيكية ال تعترف إال بشكل واحد من أشكال حركة المادة؛ هي الحركة‬
‫(‪)2‬‬
‫الميكانيكية ومن ثم تنظر هذه المادية إل الطبيعة نظرة ميتافيزيقية‬
‫وتحصر نفسها في الطبيعة دون التاريخ ‪ ،‬وترى بأن الدماغ (يفرز التفكير‪،‬‬
‫مثلما تفرز الكبد المادة الصفراء أو كما تهضم المعدة الطعام(‪ .)3‬أي (اإلنسان‬
‫يأكل قبل أن يفكر) كما يقول فيور باخ‪ .‬وهذا بالرغم من أن المادية الجدلية‬
‫تقول بأسبقية الوجود المادي واالجتماعي عل الوجود الفكري‪ ،‬يقول ماركس‬
‫« ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم‪ ،‬بل عل العكس من ذلك أن‬
‫وجودهم االجتماعي هو الذي يحدد وعيهم»(‪.)4‬‬
‫‪1‬‬
‫المغرب‪.‬‬ ‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‬
‫‪2‬‬
‫د‪ /‬محمد عابد الجابري‬ ‫‪ -‬دروس في تاريخ الفلسفة‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫‪4‬‬
‫المغرب‬ ‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‬
‫‪50‬‬
‫من هنا يتبن أن الفرق بين المادية الميكانيكية والمادية الجدلية هو أن‬
‫الموضوع أو العالم الخارجي ال ينظر إليه في األول إال عل شكل تأمل بينما‬
‫تنظر الثانية أي المادية الجدلية إليه في حقيقته المتحركة ال في مظهره‬
‫الساكن‪ ،‬أي أن ما يميز المادة هو حركتها الدائمة‪ :‬ميكانيكية – فيزيائية –‬
‫كيماوية ‪ -‬بيولوجية – اجتماعية‪.‬‬

‫وهكذا يكون عالم الحقائق الموضوعية هو عالم حركة دائمة بفعل‬


‫تناقضاتها‪.‬‬

‫يقول لنين «الديالكتيك هو دراسة هذه التناقضات نفسها‪ ،‬خاصة الباطنية‬


‫منها»‪.‬‬

‫ولعل أوضح من يحدد المادية الجدلية الماركسية كتجاوز للمادية‬


‫الكالسيكية (فيور باخ وغيره)‪ ،‬وما يميزها عنها هو‪:‬‬

‫ا – أن المادية الجدلية تدع "االلتزام " التزمت بالعلم في تفكيرها‬


‫وعملت عل االطالع عل مسير العالم ‪ ،‬وما يحقق ه في مختلف النواحي‬
‫البيولوجية واالقتصادية والرياضية والفيزيائية وضرورة االطالع عل‬
‫التاريخ بل إن ماركس وانجليز كادا أن يفردا التاريخ بالعلمية‪ ،‬عكس فيور‬
‫باخ الذي يفصل التاريخ عن المادية‪.‬‬
‫ولعل هذا أيضا ما جعل المادية الجدلية تتجاوز سمة الجمود والسكون‬
‫في مادية فيورباخ؛ (لكل شيء قسماته المميزة الثابتة) وتأخذ بعين االعتبار‬
‫باالكتشافات العلمية الحديثة خاصة ما يتعلق بنظرية تحول الطاقة واكتشاف‬
‫الخلية(‪ )1‬التي أثبتت للمادة العضوية تاريخا مرت خالله بتفاعالت وتطورات‬
‫وتغيرات هامة‪.‬‬
‫ب ‪ -‬كما تجاوزت المادية الجدلية الماركسية مادية فيور باخ حيث‬
‫نظرت إل اإلنسان ال كماهية ونوع بل كفاعلية عاملة منتجة باعتباره‬
‫«مجمعا للعالقات االجتماعية» وهو ما طبعها بصفة المادية التاريخية يقول‬
‫‪1‬‬
‫ماركس‬ ‫‪ -‬مبادئ الفلسفة‬
‫‪51‬‬
‫انجليز‪ « :‬إننا ال نعيش في الطبيعة فحسب بل نعيش كذلك في المجتمع‬
‫اإلنساني وهذا األخير يملك أيضا ‪-‬مثله مثل الطبيعة‪ -‬تاريخ تطوره‬
‫وعلمه»(‪.)1‬‬
‫ج ‪ -‬وفي جدلية الذات والموضوع كعامل محدد للتيار المادي والتباين‬
‫فيه‪ ،‬فقد ذهبت المادية الجدلية إل القول‪« :‬إن المعرفة اإلنسانية ليست مجرد‬
‫انعكاس للواقع‪ ،‬واإلنسان ليس مجرد وعاء سلبي لالنطباعات اآلتية من‬
‫العالم الخارجي‪ ،‬بل إن المعرفة اإلنسانية هي نتاج التفاعل الحاصل بين العقل‬
‫والعالم الخارجي يقول ماركس‪ « :‬لو كان مظهر األشياء يتطابق مع جوهرها‬
‫لصار كل علم غير الزم»(‪ )2‬وقال‪« :‬الوسط يصنع اإلنسان بقدر ما يصنع‬
‫اإلنسان وسطه»(‪.)3‬‬
‫من هنا تتجل النظرة الشمولية للمادية الجدلية عند ماركس والتي تبرز‬
‫مدى أخذ مـاركس بالمنهج الجـدلي الذي جعله يأخـ ذ بعين االعتبار تعقد‬
‫الظواهر اإلنسانية وتداخل العوامل وتشابك العلل‪ ..‬رادا بذلك البنية الفوقية‬
‫(السياسة والقانون واألخالق) إل البنية التحتية عالقات اإلنتاج والوعي‬
‫االجتماعي)‪.‬‬

‫ويمكن القول بأن المادية الجدلية فلسفة ومنهاج وممارسة‪ ،‬وهي تؤسس‬
‫فلسفتها عل مقوالت هي‪:‬‬
‫‪ -‬المادة‬
‫‪ -‬الحركة‬
‫‪ -‬التناقض‬
‫‪ -‬الممكن والواقعي‬
‫‪ -‬الشكل والمضمون‬
‫وهذه الفلسفة تقوم عل منهج مؤسس عل ثالثة قوانين هي‪:‬‬
‫‪ – 1‬قانون وحدة المتناقضات وصراعها‬
‫‪ – 2‬قانون التحول من الكم إل الكيف والعكس‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‬
‫‪-2‬‬
‫الفكر اإلسالمي والفلسفة المغرب‬
‫‪-3‬‬
‫نفس المرجع السابق‬
‫‪52‬‬
‫‪ – 3‬قانون نفي النفي‪.‬‬

‫ويعني القانون األول‪ :‬أن التناقض يوجد داخل الشيء الواحد‪ ،‬وأن‬
‫أشياء العالم تتألف كلها من متناقضات‪ ،‬سواء منها المواد الجامدة أو الحية أو‬
‫الهيئات االجتماعية‪ ،‬وهذا التناقض هو أساس كل تطور ونمو يقول لينين‪:‬‬
‫«إن النمو هو صراع األضداد»(‪ ،)1‬وهذا التناقض ينقسم إل تناقضات داخلية‬
‫تتم داخل الشيء الواحد‪ ،‬وخارجية مع المحيط الذي يوجد فيه وأشيائه‪.‬‬

‫والتناقض الداخلي هو أساس التبدل‪ ،‬وهو أساس فعل التناقضات‬


‫الخارجية وتميز كذلك هذه المادية في التناقض بين تناقض رئيس وتناقض‬
‫ثانوي فاألول هو ما يقوم بالدور الحاسم في عملية الصراع ويحدد شكل‬
‫التطور والنمو ‪.‬‬

‫أما القانون الثاني فيعتبر أن التزايد التدريجي في التغيرات التي تلحق‬


‫الكم‪ ،‬والتي تكون أول األمر ضعيفة غير مشاهدة‪ ،‬تؤدي عندما تصل إل‬
‫درجة معينة إل تغيرات كيفية جذرية تختفي معها الكيفية القديمة لتحل محلها‬
‫(‪.)2‬‬
‫كيفية جديدة ينتج عنها بدورها تغيرات كمية‬

‫كما يعني هذا القانون ظهور شيء جديد من صلب القديم ليحل محله‪،‬‬
‫دون أن يعني ذلك محو القديم بكل جوانبه السلبية وااليجابية‪.‬‬

‫في حين يعني القانون الثالث‪ :‬أن التطور يسلك خطا صاعدا بمعن أنه‬
‫يسير من أدن إل أعل ‪ ،‬وهو المحدد لالتجاه العام لتطور العالم المادي‬
‫واالجتماعي ‪ ،‬فنفي النفي يعني ظهور شيء جديد من صلب القديم ليحل محله‬
‫جديد آخر‪ ،‬أي أن الجديد الثاني ينفي الجديد األول دون أن يكون ذلك يعني‬
‫محو القديم بكل جوانبه السلبية واإليجابية‪ .‬بل إنه في كل شيء جديد شيء من‬
‫القديم‪ ،‬وهو ذاك الشيء الذي يعيق حركة التطور‪ ،‬من هنا كان نفي النفي ال‬

‫‪1‬‬
‫د‪ /‬جميل صلبا‬ ‫‪ -‬تاريخ الفلسفة الغربية‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬دروس في تاريخ الفلسفة مرجع سابق‬
‫‪53‬‬
‫يعني الدوران في حلقة مفرغة أو التكرار بل يعني نموا مطردا وتقدما‬
‫مستمرا‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬هل يمكن القول بأن كل النزاعات المادية أخذت من المادية‬
‫اليونانية ؟‬
‫‪ – 2‬ما اإلضافة التي أضافتها المادية الميكانيكية؟‬
‫‪ – 3‬ما األسس المؤثرة في المادية الجدلية؟‬

‫‪54‬‬
‫الوضعية‬
‫أنكر الفالسفة الوضعيون الفلسفة التقليدية التي يهتم أصحابها بالكشف‬
‫عن مجاهل الوجود ومعرفة أسراره الخفية والتعرف عل حقيقة الموجودات‬
‫وكنه األشياء وفهم النفس البشرية‪ ،‬ولم تعترف هذه الوضعية بشقيها‬
‫الكالسيكي والمعاصر بغير الواقع المحسوس الخاضع للمالحظة والتجربة‪،‬‬
‫وقد أعلن زعيمها (أ‪ .‬كونت) رفضه للميتافيزيقا بقضها وقضيضها كما‬
‫رفضها أصحاب الوضعية المنطقية المعاصرة كذلك‪.‬‬

‫‪ – 1‬الوضعية الكالسيكية (أوجست كونت )‪:(1857-1798‬‬


‫أوجست كونت أول فيلسوف لم يولد أفكاره بشكل مباشر من كانط لكن‬
‫مع ذلك هناك وشائج تشد كونت إل كانط‪ ،‬فهذا األخير ليس اقل معارضة‬
‫للميتافيزيقا التأملية من (كونت)‪ ،‬إال أنه لم ينكر أن ثمة بعض المعن في‬
‫الحديث عن الشيء في ذاته وإن كان وراء متناول اإلدراك البشري‪ ،‬ونقد‬
‫(كانط) للعقل لم يتجاوز بصورة أساسية الرأي التقليدي بأن الجهد العملي ال‬
‫يستنفد حياة العقل‪ ،‬فهو يرى أن للدين واألخالق والفن جانبا عقليا ال يمكن‬
‫إنكاره‪.‬‬

‫أما (كونت) فيرفض أن يخرج من نطاق العلم بغية الحصول عل‬


‫تبرير نقدي يجعله الصيغة الوحيدة للمعرفة اإلنسانية ومنذ البداية كان مقياسه‬
‫للعقالنية هو مقياس العلم‪ ،‬كما أن رفضه لالهوت والميتافيزيقا مبني عل أن‬
‫ما يذهبان إليه ال يمكن تبريره بمناهج البحث العلمي‪ ،‬وعليه فإن العالم الذي‬
‫يصفه العلم هو العالم الواقعي‪ ،‬ومنهاجه هو منهاج المعرفة عينها‪ ،‬وهذا ال‬
‫يعني « أن كونت عدو صريح لألخالق أو الدين بل يعني أنه يجب أال نفكر‬
‫بهما بعد اآلن كمنافسين للعلم في مجاله المخصوص‪.)1(»..‬‬

‫‪1‬‬
‫هنري أيكن‬ ‫‪ -‬عصر األيديولوجيا‬
‫‪55‬‬
‫هذا الفيلسوف كان يهدف إل غرس عقلية ال تفكر باصطالحات غير‬
‫علمية‪ ،‬وترفض قضايا الالهوت والميتافيزيقا بكل بساطة فهو ال يقبل أية‬
‫قضية باعتبارها صادقة ما لم يمكن التأكد منها بمناهج العلوم‪.‬‬

‫يذهب (هنري ايكن) إل أن أ‪ .‬كونت مثل (هيغل) يصطنع اتجاها أو‬


‫منهجية تمكنه من التعامل مع جميع التيارات الدينية والفلسفية التي سبقته إذ‬
‫يعاملها عل أساس أنها «لحظات» ال مفر منها في التطور التاريخي للفكر‬
‫البشري نحو كماله في الفلسفة الوضعية‪.‬‬

‫قانون الحاالت أو المراحل الثالث‪:‬‬

‫ال يحاول الوضعيون البرهنة عل نسبية المعرفة بتحليل العقل ونقده بل‬
‫يبرهنون عليها بما توهموه تاريخا للعقل فيرى (كونت) أن العقل البشري مر‬
‫بثالث مراحل أو ثالثة أدوار‪ ،‬وهذه المراحل هي‪:‬‬
‫‪ -‬المرحلة الالهوتية‬
‫‪ -‬الميتافيزيقية‬
‫‪ -‬الوضعية‪.‬‬

‫ففي المرحلة األول يبحث العقل في كنه الموجودات واصلها‬


‫ومصيرها والظو اهر تحدث بفعل كائنات سامية تختفي وراء الطبيعة المرئية‬
‫كاآللهة‪ ،‬ومن خصائص الوعي الالهوتي أن ال يفرق بدقة بين السؤالين‬
‫«كيف؟» و«لماذا؟»‪ ،‬وبالتالي فإنه ال يفرق بين ما ندعوه شرحا وما ندعوه‬
‫تسويغا ‪ ،‬وينتج عن ذلك أن هذا الوعي يفهم العالم بشكل أسطوري كما لو كان‬
‫نظاما روحيا يتم فيه التفكير بالغايات اإلحيائية لألشياء عل أنها عوامل فاعلة‬
‫تسبب سلوك األشياء عل النحو الذي تسلكه‪.‬‬

‫ولهذه المرحلة ثالثة أقسام‪:‬‬


‫ففي األول يتم التعامل مع األشياء المادية وكأنها حية لها مشاعرها‬
‫وأغراضها ويتم في الثاني ( مرحلة تعدد اآللهة) تبسيط تدريجي لهذا اإلحياء‬

‫‪56‬‬
‫التعددي‪ ،‬فيبدأ تصور «اآللهة» وكأنها قوة خفية تتحكم بجميع أصناف‬
‫الظواهر ‪.‬‬

‫أما القسم الثالث‪ :‬فهو طور التوحيد ويكون بضم القوى بعضها إل‬
‫بعض بصيغة رئيس موحد لآللهة ينظر إليه عل أنه خالق الكون ومدبر أمره‬
‫مباشرة أو عن طريق وكالء في المرتبة دونه يطيعون أوامره(‪ )1‬أما المرحلة‬
‫الثانية فهي المرحلة الميتافيزيقية وفيها يظل العقل يبحث كنه الموجودات‬
‫وأصلها‪ ،‬ولكنه يرتقي فيتخل عن الكائنات غير المرئية‪ ،‬ويرد الظاهر إل‬
‫علل مجردة خفية يتوهمها في با طن األشياء وبهذا يكون العقل خالف الدور‬
‫الالهوتي في كونه أحل المجرد مكان المشخص‪.‬‬

‫وأهم خصائص هذه المرحلة أن الميتافيزيقي يطابق السبب العقلي مع‬


‫العلة ويفترض تبعا لذلك أنه يستطيع بالتفكير وحده شرح علل األشياء‪ ،‬فهو‬
‫يقدم ما توصل إليه عن طريق التأمل العقلي‪ ،‬وكأن قضايا الموجود يمكن‬
‫تسويتها عن طريق التحليل العقلي الصرف‪.‬‬

‫وما ينبغي أن نالحظه في هذه المرحلة أن المشاهدة (المالحظة) تحتل‬


‫مكانا ثانويا‪.‬‬

‫وفي المرحلة الثالثة‪ ،‬المرحلة الوضعية يتخل العقل عن الطريقتين‬


‫السابقتين في البحث موضوعا ومنهجا‪ ،‬فال يهتم بالبحث في أصل الكون‬
‫ومصيره‪ ،‬ولكن يهتم بمعرفة الظواهر والكشف عن قوانينها‪ ،‬ويستغني عن‬
‫العلل بوضع القوانين أي العالقات المطردة بين الظواهر‪ ،‬ويقيم استنتاجاته‬
‫عل أساس من المشاهدة ويكون السؤال‪ :‬كيف حدث هذا؟ وليس لماذا حدث‬
‫هذا؟ وبهذه الطريقة – كما يرى كونت‪ -‬نشأ العلم الوضعي الذي أخذ مكان‬
‫الفلسفة‪ ،‬ويقتصر دور العقل هنا فقط عل التقصي عن العالقات المنطقية التي‬
‫تربط بين الفرضيات العلمية ذاتها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫هنري أيكن‬ ‫‪ -‬عصر اإليديولوجيا‬
‫‪57‬‬
‫وهذه المرحلة ما هي إال نظرية في المعرفة يقدمها (أ‪ .‬كونت)‪ ،‬وهي‬
‫تجريبية بالمعن األعم لهذا االصطالح‪ ،‬فهو يرى أن التفكير العلمي كله ملزم‬
‫بقبول اختبارات المالحظة كشواهد قاطعة عل صحة أية فرضية‪ ،‬ويمكن أن‬
‫تظهر مرحلتان في حقيقة زمنية واحدة‪ .‬وينبغي أن تفهم الظواهر المفردة عل‬
‫أنها جزء من أصناف كاملة تضم الظواهر المماثلة‪ ،‬وإذا كانت العالقات التي‬
‫تصفها نظرية علمية ما عالقات وجود فإن كونت يسمي عندئذ النظرية قانونا‬
‫«سكونيا» (استاتيكيا) ‪ ،‬وإذا كانت عالقات تعاقب أو استمرار فالقانون‬
‫«حركي» (ديناميكي)‪.‬‬

‫يرى (كونت) أن هذين المستويين ضروريان للعلم‪ ،‬وأن أيا منهما ال‬
‫يفضل اآلخر بشيء‪ .‬ومع هذا فإن (كونت) اليقبل بوحدة العلوم كمثل أعل ‪،‬‬
‫وهو لم يكن من أنصار اإلرجاع‪ ،‬فكان يعارض أي تصنيف يسع إل رد‬
‫علم االجتماع إل علم األحياء‪ ،‬أو علم األحياء إل الفيزياء‪ ،‬ويرى أن الفرق‬
‫بين العلوم يتعلق فقط بمجاالتها أو التعميم في قوانينها‪ ،‬فالتجربة تكشف عن‬
‫تنوع كبير في أنماط متمايزة من الظواهر التي تختلف من حيث التعقيد‬
‫ويتطلب شرحها أو إيضاحها عددا من النظريات‪.‬‬

‫إن وحدة العلم التي يسع إليها (كونت) هي الوحدة المنهجية‪ ،‬وهي‬
‫التزام مشترك من طرف الباحثين العلميين بالمنطق وباختيارات المالحظة‬
‫والتجربة‪.‬‬

‫أما ما يتعلق بالسلوك البشرى فيرى أن هناك علمين أساسيين لهذا‬


‫السلوك هما الفيزيولوجيا وعلم االجتماع‪ ،‬وأي نظام ثالث يهدف إل معالجة‬
‫ظواهر نفسية خاصة يعتبره (كونت) من قبيل األساطير‪ ،‬وتجدر اإلشارة إل‬
‫أن كونت هو من وضع مصطلح «السوسيولوجيا» (علم االجتماع) ويعني به‬
‫علما لما يولد بعد‪ ،‬ويرى أنه بتحديد قوانينه وضبطه يمكن فهم السلوك‬
‫البشري في جميع أبعاده السياسية واالقتصادية واألخالقية‪ ،‬ويرفض كونت بل‬
‫يعارض بشدة أية دراسة تاريخية للظواهر االجتماعية‪ ،‬ذلك أن التاريخ –في‬
‫نظره‪ -‬يزودنا بركام من مالحظات تساعد في أفضل أحوالها عل تقديم‬
‫مالحظات للتعميم لكنها ال تقدم لنا النظريات‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وأخيرا تجدر اإلشارة إل توضيح في فلسفة (أ‪ .‬كونت)‪ ،‬وهو أنه في‬
‫كتاباته األخيرة صار يعتبر فلسفته تقدم األساس من أجل «ديانة إنسانية »‬
‫جديدة زعم أنها وحدها التي تالئم عقلية الناس في عصر العلم‪ ،‬ذلك أن الديانة‬
‫التقليدية تتطلب قبول اعتقادات الهوتية غير علمية والديانة الجديدة التي يبشر‬
‫بها فهي ديانة إنسانية تقدمية متنورة تكرس نفسها بدون أنانية لمبادئ محبة‬
‫الغير وخدمته‪.‬‬

‫وقد قيل ‪ :‬إن (كونت) لم يقنع بإعالن ديانته الجديدة بل اندفع يزينها‬
‫بطقوس متقنة جعلتها موضع سخرية نقاده(‪.)1‬‬
‫ولنا أن نستغرب ما جعل (كونت) يأتي بديانة جديدة‪ ،‬ما الذي يدفعه إل‬
‫ذلك؟ لقد تبين له بدون شك أن لإلنسان اهتمامات أكبر‪ ،‬وأنه يدرك بفطرته‪،‬‬
‫الحاجة إل التعلم بما هو فوق الواقع وبعيدا عن الحس‪.‬‬

‫‪ - 2‬الوضعية المنطقية المعاصرة‪:‬‬


‫اسم أطلقه (امبلومبرج) و(فايجل) عام ‪ 3353‬عل الجماعة الفلسفية‬
‫الصادرة عن جماعة (فيينا) سنة ‪ ، 3328‬ويستخدم هذا االسم استخداما مهوشا‬
‫بصدد الحديث عن الفلسفة التحليلية‪ ،‬ويترأسها (مورتس شليك) ومن أعضائها‬
‫البارزين (ودلف كار ناب) و(برجمان) (فتجنشتين)‪.‬‬

‫وهي اتجاه فلسفي يهدف إل هدم الفلسفة حين أقصر أتباعه وظيفة‬
‫الفلسفة عل تحليل اللغة تحليال منطقيا‪ ،‬وقد رد الوضعيون المناطقة كل ألوان‬
‫المعرفة العلمية إل الخبرة الحسية واستبعدوا كل ما ال يمكن التثبت من‬
‫صحته بالتجربة متأثرين بذلك بالوضعية الكالسيكية‪.‬‬

‫وكانت ه ذه الفلسفة التجريبية تقوم عل مناهج التحليل المنطقي ألنها‬


‫تدين بشطر كبير من اتجاهها إل المنطق الرمزي وتحليله النقدي الذي أبان‬
‫عل يد (فتجنشتين) أن التجريبية يمكن أن تقوم وتتأسس عل التحليل‬

‫‪1‬‬
‫هنري أيكن‪.‬‬ ‫‪ -‬عصر األيديولوجيا‬
‫‪59‬‬
‫المنطقي وهذا ال ينفي القول بأن هذه الوضعية تهدف إل وضع فلسفة علمية‬
‫جديدة‪.‬‬
‫وينص تقريرها الرسمي عل أن من أهدافها الرئيسية؛ وضع أساس‬
‫قوي للعلم‪ ،‬والبرهنة عل أن قضايا الميتافيزيقا ال تحمل معن يمكن أن يحكم‬
‫عليه بالصواب أو الخطأ ومن ثم ينبغي رفضها واالكتفاء بالقضايا التي يمكن‬
‫التثبت من صحتها منطقيا أو تجريبيا‪.‬‬

‫وتتفق الوضعية المنطقية المعاصرة مع الوضعية الكالسيكية في ثالث‬


‫نقاط هي‪:‬‬
‫‪ ‬رفض الميتافيزيقا‬
‫‪ ‬التأكيد عل أهمية التجريب‬
‫‪ ‬رفض بناء أي نسق فلسفي يقدم رؤية عن طبيعة الواقع‪.‬‬

‫وإذا كانت الوضعيتان متفقتين في هذه النقاط فإنهما تختلفان في أمور‬


‫أخرى إذ تهتم الكالسيكية بالمشاكل العامة للعلوم في إطار (فلسفة عامة) في‬
‫حين تهتم المعاصرة بتحليل نتائج العلوم‪.‬‬

‫‪ - 3‬أسس الوضعية المنطقية المعاصرة‬


‫إذا كانت الوضعية الكالسيكية تقوم أساسا عل تحليل العقل البشري‬
‫انطالقا من الحاالت الثالث التي تمثل تطور العقل في نظر كونت‪ ،‬فإن‬
‫المعاصرة تتأسس عل ‪:‬‬

‫‪ – 1‬مبدأ التحقق التجريبي‪:‬‬


‫ويفيد رفض التمييز بين ما هو محسوس قابل للمالحظة وما ليس بقابل‬
‫للمالحظة‪ ،‬ونرى كما يقول (رايشنباخ)‪« :‬أن المالحظة الحسية هي المعيار‬
‫الوحيد المقبول للحقيقة غير الفارغة»(‪.)1‬‬

‫‪1‬‬
‫المغرب‪.‬‬ ‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‬
‫‪60‬‬
‫ومن أجل وضع حد للذاتية اشترط الوضعيون المناطقة أن يتم التحقق‬
‫عل يد مالحظين عل األقل حيث يكون معيار الصدق أو الكذب هو اتفاقهما‬
‫أو اختالفهما‪.‬‬

‫‪ – 2‬رفض الميتافيزيقا‪:‬‬

‫لقد أحدثت هذه الوضعية قطيعة مع الفلسفات التي تبحث القضايا‬


‫الميتافيزيقية مثل أصل الكون وغايته والبحث عن الماهية الحقيقة لألشياء‪،‬‬
‫وترى أن العلماء وحدهم هم الذين لهم الحق في الحديث عن حقيقة الواقع‬
‫الطبيعي واإلنساني‪ ،‬بينما تنحصر مهمة الفالسفة في تحليل نتائج العلوم‪،‬‬
‫وذلك بواسطة لغة رمزية صارمة ال مجال فيها للغموض وااللتباس‪.‬‬
‫ومن األسباب التي أدت إل رفض الميتافيزيقا من طرف المناطقة‬
‫الوضعيين أنها ال تصمد في وجه مبدأ التحقق التجريبي‪ ،‬وذلك أن قضاياها‬
‫هي أشباه قضايا‪ ،‬ويصفونها بأنها فارغة من المعن ‪.‬‬

‫‪ – 3‬أصناف القضايا‪:‬‬

‫إذا كان الوضعيون يرجعون جميع القضايا سواء كانت فيزيائية أو‬
‫رياضية أو فلسفية إل اللغة‪ ،‬واعتبروها قضايا لغوية في األساس قابلة‬
‫للتحليل المنطقي فإنهم عند تحليلهم للقضايا المختلفة يميزون بين ثالثة أنواع‬
‫من القضايا‪:‬‬

‫‪ -‬قضايا تحليلية‪ :‬وهي التي ال يضيف محمولها جديدا إل‬


‫الموضوع‪ ،‬وذلك لكون المحمول متضمنا في الموضوع مثل‪:‬‬
‫السماء فوقنا‪ ،‬وقولنا‪ ، 1 + 3 = 4 :‬فبإمكاننا عن طريق التحليل‬
‫التأكد من أن )‪ (1+3‬متضمنة في )‪ . (4‬وهذه القضية ما هي إال‬
‫قضية تحليلية واضحة إال أنها تعتبر من الناحية المنطقية‬
‫والواقعية تحصيل حاصل‪.‬‬
‫‪ -‬قضايا تركيبية ‪ :‬وهي عل العكس من التحليلية إذ أن المحمول‬
‫فيها ليس متضمنا في الموضوع بل يضيف جديدا مثل قولنا‪:‬‬
‫‪61‬‬
‫الضوء ينتشر بشكل تموجي أو حبيبي‪ ،‬فهذا الحكم ليس متضمنا‬
‫في الموضوع إذ يمثل إضافة واضحة ويرى (كارناب) أن‬
‫قضايا العلوم الطبيعية تنتمي كلها إل هذا النوع من القضايا‪.‬‬

‫‪ -‬أشباه القضايا‪ :‬وهي التي ال يمكن وصفها بأنها تحليلية وال‬


‫تركيبية وكل ما يمكن أن يقال عنها في نظر الوضعيين‬
‫المناطقة‪ :‬إنها مغالطات وقد قال (فتجنشتين) ‪« :‬إن معظم‬
‫القضايا واألسئلة التي كتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة‪ ،‬بل‬
‫هي خالية من المعن ‪ )1(»..‬والسبب في ذلك كما بينا سابقا أنها‬
‫ال يمكن التأكد من صحتها بالتجريب كما أنها ليست قضايا‬
‫رياضية يمكن تحليلها تحليال منطقيا والتحقق من مدى صدقها‬
‫أو كذبها‪.‬‬

‫ونخلص مما تقدم أن هذه الوضعية المعاصرة ليست اقل عداوة للفلسفة‬
‫من الوضعية الكالسيكية لكن اختزال الفكر البشري في مجال واحد‬
‫كالرياضيات أو الطبيعيات هو انتقاص لهذا الفكر‪ ،‬ثم إن التصورات التي‬
‫شهدها العلم في مجال الفيزياء والرياضيات يطرح إشكاالت جديدة تفرض‬
‫مراجعة التصورات القديمة المتعلقة بمفاهيم المنهج التجريبي كالمالحظة‬
‫المباشرة والحتمية والقانون‪ ،‬وتلك المتعلقة بطبيعة المكان هل هو مستو؟ أم‬
‫يمكن أن يكون محدبا مقعرا أم كرويا؟ األمر الذي ستكون له انعكاساته عل‬
‫مستوى النتائج المتوصل إليها‪ ،‬هل هي صحيحة؟ هل تمثل الحقيقة كما هي أم‬
‫النسبية والالتعين هما ذروة ما توصل إليه الفكر اإلنساني في القرن العشرين؟‬
‫ومن ثم فال مسوغ لرفض الميتافيزيقا‪.‬‬

‫ورفض الميتافيزيقيا ليس ممكنا‪ ،‬ألن التفكير في هذا الكون ومآله‪،‬‬


‫والنفس أو الروح التي نحملها في طياتنا‪ ،‬وما بعد الموت هي أمور تفرض‬
‫نفسها عل جميع العقول‪ ،‬يستوي في ذلك المؤمن والملحد‪ ،‬والتشكك في هذا‬
‫بمجرد القول ال يؤثر في الميتافيزيقا التي تفرض نفسها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المغرب‪.‬‬ ‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‬
‫‪62‬‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬هل يمكن اعتبار قانون الحاالت الثالث قانونا علميا ؟‬
‫‪ – 2‬هناك من يرى أن (كونت) استوح مراحل قانون الحاالت‬
‫الثالث من هيغل ‪ ،‬ما رأيك؟‬
‫‪ – 3‬ماذا يعني أ‪ .‬كونت بقوله‪" :‬إن وحدة العلوم هي الوحدة‬
‫المنهجية"؟‬
‫‪ – 4‬هل بإمكان اإلنسان التخلص من التفكير الميتافيزيقي كما تذهب‬
‫إل ذلك الوضعيتان؟‬

‫‪63‬‬
‫الوجودية‬
‫الوجودية ا تجاه غايته تحديد الوجود بصفة عامة والوجود اإلنساني‬
‫بصفة خاصة ونستخلص من هذا التعريف أن الوجودية نزعة إنسانية من أهم‬
‫ممثليها "سارتر" و"كيركجارد" ويعتبر هذا األخير مؤسسها بما هي فلسفة‬
‫مناقضة للمثالية عند هيجل ورغم أن كالهما ينطلق من فكرة أن التناقض هو‬
‫قوام الوجود لكن إذا كان هيجل يرى أن التناقض موصل جدليا إل مرحلة‬
‫ثالثة هي مرحلة التأليف يرى كيركجارد أن التناقضات المؤلفة للحياة اليومية‬
‫تبق قائمة وال يمكن تجاوزها وشعور اإلنسان بالتناقضات في واقعه المعيشي‬
‫هو علة قلقه ذلك القلق المؤسس للفكر والذي هو شرط الوعي مع جان بول‬
‫سارتر‪.‬‬

‫وتفهم الوجودية عل أنها فلسفة الكرتزيانية فإ ذا كان ديكارت من‬


‫خالل فكرة الكوجيتو "أنا أفكر أنا موجود" يقول بأسبقية الماهية عل الوجود‬
‫ويقصد بالوجود االنبثاق في العالم أو القذف في العالم حيث يظل الوجود‬
‫وجودا فارغا أو وجودا في ذاته حسب تعبير سارتر إل أن يتخذ ماهيته بأن‬
‫يختار عمال أو ممارسة يضفي بها معن عل وجوده وهكذا فإن اإلنسان في‬
‫نظر الوجودية ليس إنسانا بالتفكير وإنما هو كذلك عن طريق الممارسة أو‬
‫البراكسيس ويترتب عل أسبقية الوجود عل الماهية ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬أن يكون اإلنسان حرا حرية مطلقة يختار ماهيته بنفسه اختيار ا‬
‫غير مشروط وتعتبر الحرية عند سارتر جوهر اإلنسان يقول‪:‬‬
‫«الحرية هي اإلنسان في اإلنسان» وحرية اإلنسان ليست‬
‫فردية بل هي عامة لكل إنسان ذلك ألن اإلنسان عندما يختار‬
‫ماهيته ال يكون قد اختارها لنفسه بل اختارها لكل الناس‪ ،‬كما‬
‫يترتب عل أسبقية الوجود عل الماهية أن يكون اإلنسان‬
‫مسؤوال مسؤولية تتجاوز حدوده الفردية ففي الوقت الذي يكون‬
‫فيه مسؤوال عن ذاته يكون مسؤوال عن اإلنسانية جمعاء‬
‫وتجاوز المسؤولية لحدوده الشخصية هو علة القلق يعد‬
‫كالدهشة عند أرسطو بداية الفلسفة وتعتبر الوجودية عند سارتر‬
‫امتداد الظاهراتية أو الفينومينولوجيا حيث يرى سارتر أن‬
‫‪64‬‬
‫معرفة األنا مالز مة لمعرفة اآلخر حت وإن كان اآلخر ينفي‬
‫وجودي بما يتصوره عني فهذا هو علة جزعي وقلقي منه إذن‬
‫"اآلخر هو الجحيم" حسب عبارة سارتر في الجلسة السرية‪.‬‬

‫يمكن تلخيص محاور التفكير الوجودي فيما يلي‪:‬‬


‫‪ – 1‬أسبقية الوجودية عل الماهية‪ :‬فاإلنسان يوجد أوال ثم يختار من‬
‫سيكون في المستقبل‪ ،‬أي هو الذي يقرر مصيره بنفسه‪ ،‬فالماهية‬
‫هي دائما مشروع مستقبلي‪ ،‬هكذا نجد أن الطفل يعمل من أجل‬
‫شبابه والشاب يعمل من أجل رجولته وهكذا‪ ...‬إذن وجود اإلنسان‬
‫هو ما يفعله‪ ،‬فأفعاله هي التي تحدد وجوده وتكوينه «اإلنسان‬
‫مشروع وليس موضوعا»‪.‬‬
‫‪ – 2‬الفردية‪ :‬اإلنسان كائن فردي ألنه ال يعترف إال بما يحبه‬
‫ويشتهيه‪ ،‬وال حقيقة عنده إال ما يهمه وما ينفعل له‪ .‬يقول‬
‫كيركجارد‪« :‬الحقيقة ما أحياه وما أنفعل له» ويرى هيدجرأن‬
‫الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود يدفع اإلنسان إل‬
‫السقوط بين الناس في الحياة اليومية الزائفة‪.‬‬
‫‪ – 3‬الحرية‪ :‬اإلنسان حر‪ ،‬وهذه الحرية تعبر عن صميم وجودي‪،‬‬
‫فاإلنسان عندما يختار بين الرغبات فإنه يشعر بذاته الحرة المستقلة‬
‫والمتميزة‪ ،‬يقول سارتر‪« :‬الشعور بالذات يقتضي الحرية والحرية‬
‫تقتضي اإلمكانية‪ ،‬ألن الحرية تتضمن االختيار وكل اختيار هو‬
‫اختيار بين ممكنات» وفي االختيار مخاطرة فالبد إذن من تصميم‬
‫واع باألسباب واألهداف‪.‬‬
‫‪ – 4‬القلق‪ :‬أعظم مظاهر الوجود يقول هيدجر‪« :‬القلق هو الذي ينبه‬
‫إل الوجود» لواله لما استيقظ اإلنسان من سباته وتعرف عل‬
‫اهتماماته واكتشف أخطاءه‪.‬‬
‫القلق من أن يكون االختيار سيئا وبالتالي الرسوب‪ ،‬وهيدجر يرى أن‬
‫القلق ليس ثمرة الحياة‪ ،‬بالحياة تتضمن الموت منذ هي حياة‪ ،‬فمنذ أن يولد‬
‫اإلنسان يكون ناضجا للموت‪ ،‬والموت يجعلني أشعر بالفردية إل أبعد‬
‫‪65‬‬
‫الحدود‪ ،‬فال أحد يستطيع الموت بدال مني‪ ،‬ولذلك كان الموت أعظم ما يعبر‬
‫عن وجودي الفردي الحق‪.‬‬
‫يقدم مؤسس الوجودية المؤمنة سورين كيركجارد ‪Sorein‬‬
‫‪ 3833 – 3835 Kieckegaard‬نظاما فلسفيا بالمعن المعروف‪ ،‬حينما يهاجم‬
‫أعنف هجوم فلسفة هيجل وذلك بسبب طابعها "العمومي" وبسبب اتجاهها‬
‫الموضوعي‪ ،‬وهو ينكر إمكان التوفيق والمصالحة أي إمكان هدم المعارضة‬
‫بين القضية ونقيضها في تركيب جديد عقالني ومنظم‪ ،‬ويؤكد كير كجارد‬
‫أولوية الوجود عل الماهية وربما كان هو أول من أعط كلمة "وجود"‬
‫معناها "الوجودي"‪.‬‬
‫وقد جمع كيركجارد إل نظريته عن القلق نظرية في وحدة اإلنسان‬
‫الفرد وعزلته عزلة كاملة في مواجهة اإلله‪ ،‬ونظرية في المصير التراجيدي‬
‫(المأساوي) لإلنسان‪ .‬وقد رأى أن اللحظة هي تركيب يجمع بين الزمان‬
‫والخلود‪.‬‬
‫إل جانب تأثير كيركجارد كان "لفينومينولوجيا" هوسرل تأثير عظيم‬
‫عل الفلسفة الوجودية ويستعمل كل من "هيدجير و "مرسل" و"سارتر"‬
‫المنهج "الفينو مينولوجي" عل الرغم من أنهم ال يقبلون قضايا هسرل‬
‫األساسية‪ ،‬وال حت موقفه المبدئي‪ .‬كذلك فإن الوجودية تأثرت تأثرا ظاهرا‬
‫بفلسفة الحياة‪ ،‬وهي تدفع بهذا االتجاه إل أبعد مما وصل إليه بتطوير مذهبه‬
‫في الفعل والنشاط وتحليالته حول الزمان ونقده للمذهب العقلي ونقده كذلك‬
‫في كثير من األحيان للعلوم الطبيعية‪ ،‬ويمكن اعتبار برجسون ودلتاي وعل‬
‫األخص نيتشه أسالفا للوجودية‪.‬‬
‫أخيرا فإن الفلسفة الميتافيزيقية الجديدة كان لها دور هام في تكوين‬
‫الفلسفة الوجودية‪ ،‬وذلك أن كل الوجوديين يعالجون مشكالت ميتافيزيقية‬
‫باألصالة موضعها "الوجود" وبعضهم مثل هيدجر‪ ،‬يتميز بمعرفته المتعمقة‬
‫للمذاهب الميتافيزيقية عند اليونان وفي القرون الوسط المسيحية‪ ،‬وحين‬
‫يتفان الوجوديون في أن يصلوا إل الوجود في ذاته‪ ،‬فإنهم يجتهدون في‬
‫نفس الوقت في أن يتغلبوا عل النزعة المثالية وأن يتعدوها‪ ،‬ومع ذلك فإن‬

‫‪66‬‬
‫األخص ياسبرس ال يزالون يخضعون خضوعا قويا لتأثير‬ ‫بعضهم وعل‬
‫النزعة المثالية‪.‬‬
‫وهكذا فإن الوجودية تظهر من منعطف االتجاهين الكبيرين الذين قاما‬
‫بقطع صالت مع الفكر السائد في القرن التاسع عشر الميالدي كما أنها متأثرة‬
‫في نفس الوقت بحركة أخرى مميزة للفلسفة الغربية في القرن العشرين‬
‫الميالدي أال وهي الفلسفة الميتافيزيقية‪.‬‬
‫والسمة المشتركة بين مختلف الفلسفات الوجودية في القرن العشرين‬
‫الميالدي هي أنها جميعا ابتدأت من تجربة حية معيشة تسم تجربة‬
‫الوجودية‪ .‬ومن الصعب تعريفها تعريفا دقيقا وهذه التجربة تختلف من‬
‫فيلسوف آلخر من هؤالء الوجوديين‪.‬‬
‫وهكذا فإن تلك التجربة تأخذ في حالة ياسبرس شكل إدراك هشاشة‬
‫الوجود وهي مع هيدجر شكل التجربة السر باتجاه الموت‪ .‬وفي حالة سارتر‬
‫تجربة الغثيان وال يخفي الوجوديون أبدا أ ن فلسفتهم نشأت من تجربة من هذا‬
‫القبيل‪.‬‬

‫الوجودية المؤمنة والملحدة‪:‬‬

‫توجد في الوجودية فوارق عميقة تميز فالسفتها فيما يتعلق بموقفهم‬


‫الفكري اتجاه الدين حيث نجد كال من كيركجارد وغاب لاير مرسال يمثالن‬
‫الوجودية المؤمنة ‪.‬‬
‫إن الفكرة الجوهرية في فلسفتها هي أن اإليمان ليس حالة من أحوال‬
‫الفكر وال ينتسب إل العقل وإنما هو واقعة من وقائع الذات الفردية المتجسدة‬
‫وال يمكن أن يرد إل األنا التجريبية يقول مار سال ‪« :‬الصلة بيني وبين هللا‬
‫‪ ...‬هي بالنسبة لي مبدأ اإلبداع الحقيقي ألنني بالصالة والدعاء أشارك في‬
‫منبع وجودي»‪.‬‬
‫وتنطلق فلسفات الوجود من تأمالت كيركجارد الدينية التي ترتكز عل‬
‫اإليمان بوجود اإلله وفكرة الوجود أمام هللا فالفرد هو الوجود واإلله هو العلو‬
‫‪67‬‬
‫ووجود اإلنسان ما ال وجود له أمام العلو وبعبارة أخرى حينما يشعر اإلنسان‬
‫بخطئه أنه أمام هللا فذلك الشعور شعور المرء بخطئه هو شعوره أنه أمام هللا‬
‫أصال‪.‬‬
‫بينما نجد الفالسفة الذين يمثلون الوجودية الملحدة مثل سارتر وهيدجر‬
‫لهم فلسفتهم ذات الطابع اإللحادي المعروف‪ ،‬فهم اشد الفالسفة نقدا للمسيحية‪.‬‬
‫وتعيب الوجودية الملحدة كل فكرة لتجاوز ذات اإلنسان وتحييده فهي‬
‫أسوأ تنازل لإل نسان عن حقوقه إذ ال وجود للعظمة إال في الحرية التي يبني‬
‫بها اإلنسان لنفسه مصيرا جديرا به‪ .‬ألن الحياة هي الخير األسم وكل ما‬
‫يدعو إل الزهد فيها والقضاء عليها شر وخيم‪ ،‬الحياة نفسها قيمة في ذاتها‬
‫وهي قادرة عل أن تجعل من نفسها غرضا وغاية‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬هل تنحصر حقيقة اإلنسان في رأي مذهب ما؟‬
‫‪ – 2‬هل يمكن اعتبار الوجود هو الالمفكر فيه وما لم يفكر فيه فقط؟‬
‫‪ – 3‬ما الفرق بين الوجود والموجود"؟‬
‫‪ – 4‬هل تنشأ الفلسفة عن القلق؟‬
‫‪ – 5‬أيهما سابق عل اآلخر الوجود أم الماهية؟‬
‫‪ - 6‬هل تحد المسؤولية من حرية الفرد؟‬

‫‪68‬‬
‫البنيوية‬
‫‪ – 1‬تمهيد‪:‬‬
‫إ نه من الصعب إيجاد ميزة للبنيوية‪ ،‬ذلك أنها ارتدت أشكاال كثيرة‬
‫التنوع ال تسمح بتقديم قاسم مشترك‪ ،‬وأن البنيات المعروفة اكتسبت معان ي‬
‫تزداد اختالفا في العلوم المعاصرة والنقاشات الجارية بين البنيويين أنفسهم‬
‫ال في الفلسفة وحدها‪ ،‬بل في االتجاهات الفكرية األخرى التي حاورتهم‬
‫وأخذت منهم وشككت في أسس مناهجهم‪ ،‬وسبيال إل تجاوز هذا الوضع‬
‫اإلشكالي‪ ،‬يجدر بنا منهجيا أن نحدد مصطلح البنيوية عل المستوين‬
‫االشتقاقي واالصطالحي‪.‬‬

‫‪ ‬المعنى االشتقاقي‪:‬‬
‫البنيوية مشتقة من كلمة بنية )‪ (structure‬اآلتية من الالتينية‪ ،‬بمعن‬
‫بن ‪ ،‬أي ركب وأنشأ‪ ،‬وقد استعملت كلمة البنيوية في البيولوجيا‪ ،‬حيث‬
‫اعتبرت العضوية الحية كبنية يستحيل عزل إحدى وظائفها دون تغيير‬
‫مجموعة العضوية‪ ،‬واستعملت البنيوية في السيكولوجيا مع المدرسة‬
‫الجشطالتية‬
‫في دراستها لإلدراك‪ ،‬حيث اعتبرته بنية ال يهتم فيها باألجزاء إال في‬
‫مرحلة الحقة من اإلدراك‪ ،‬حيث الكل هو الذي يفرض نفسه‪ ،‬كما تتداخل مع‬
‫مصطلح بنية مجموعة أخرى من المصطلحات‪ ،‬كالدعامة والنظام والنسق‬
‫والمنظومة‪.‬‬
‫أما أول ظهور لمصطلح بنية‪ ،‬فكان في سنة ‪ 3323‬في مؤتمر اللغويين‬
‫"ببراغ"‪.‬‬

‫‪ ‬المعنى االصطالحي‪:‬‬
‫تعتبر البنيوية تيارا فلسفيا وإن كان جل أقطابه في مختلف الميادين‬
‫يرفضون اعتبار أنفسهم فالسفة‪ ،‬أما التصور الخاص للبنيويين عن طبيعة‬
‫‪69‬‬
‫األشياء‪ ،‬فهو أن كل شيء مهما كان هذا الشيء له بنية‪ ،‬تشكل نسقا من نظامه‬
‫الخاص‪ ،‬وتركيبه الذاتي‪ ،‬وانسجامه الداخلي وقوانينه التي تضبطه وتسمح‬
‫باستمراريته(‪ ،)1‬أما المنهج الذي تبناه البنيويون‪ ،‬والذي يسم عادة بالمنهج‬
‫البنيوي‪ ،‬فهو الذي يحاول الكشف عن القوانين الداخلية التي تخضع لها بنية‬
‫األشياء ويعمل عل االنطالق من البنية باعتبارها نسقا معط ال يهتم بماضيه‬
‫أو مستقبله‪ ،‬وما يمكن أن يطرأ عليه من تغيير‪ ،‬بل يهتم بالبنية كماهية معطاة‬
‫في لحظة الدراسة‪ ،‬إال أنه تجب اإلشارة إل أن التيار البنيوي المعاصر ليس‬
‫تيارا متجانسا‪ ،‬حيث نجد اختالفا إل درجة التمايز بين أقطاب البنيوية جعلت‬
‫بعضهم يرفض االنتساب إل البنيوية مثل الفيلسوف الفرنسي "لوي آلتسير"‪،‬‬
‫ولتوضيح هذه الفكرة نقول إن هنالك اختالفا بين البنيويين في كل مجال‪ ،‬مثل‬
‫االختالف الموجود في اللسانيات بين بنيوية "تربوتسكوي"‪ ،‬و"جاكبسون"‪،‬‬
‫ومثلهم "فيردناند دسوسير"‪ ،‬وبين البنيوية التحويلية‪ ،‬أو المدرسة التوليدية‬
‫ل"شومسكي" و"هاريس"‪ ،‬كما أن هنالك اختالفا بين بنيوية "راد كليف‬
‫بروان"‪ ،‬و"وكلود لفي شتراوس" في مجال االنتربولوجيا‪ ،‬وفي حقل الفلسفة‬
‫هنالك اختالف بين "لوي آلتوسير" و "ميشل فوكو"‪.‬‬
‫وعل العموم يمكن تقسيم البنيوية إل ثالثة تيارات هي‪:‬‬
‫‪ -‬بنيوية وظيفية‬
‫‪ -‬بنيوية صورية‬
‫‪ -‬بنيوية تكوينية‪.‬‬
‫وهنالك اختالف في تصورات هذه التيارات الثالثة وطرق البحث التي‬
‫تتبعها‪ ،‬فالبنيوية الوظيفية‪ ،‬والتي يمثلها في السوسيولوجيا األمريكيان‬
‫"النررشفلد" "برسانس" نجدها تتصور رغم أخذها بفكرة الكلية والنسقية‪،‬‬
‫وعدم فصل عنصر ما عن بنيته‪ ،‬بنية الظاهرة التي تدرسها تصورا تجريبيا‬
‫باعتبارها معطاة في التجربة‪ ،‬والواقع المحسوس‪ ،‬وبهذا المعن يمكن إدماج‬
‫"راد كليف بروان" الذي يرفض القول بوجود البنية خارج ما هو معط في‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة مرجع سابق‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫الواقع في إطار بنيوية تجريبية ‪ ،‬كما يمكن إدماج "ماليونو فسكي" الذي‬
‫ير فض الفصل بين البنية ووظيفتها في إطار بنيوية وظيفية‪.‬‬
‫أما البنيوية الصورية فترى عل العكس من التجريبية الوظيفية أن‬
‫الدراسة العلمية ألية ظاهرة يجب أن تفصل بين البنية كمجموعة من العالقات‬
‫وبين الوظيفة –أي مضمون تلك العالقات‪ -‬كما ترفض البنيوية الصورية‬
‫اعتبار البنية معطاة في الواقع التجريبي‪ ،‬وأنه من الممكن مالحظتها ومن ثم‬
‫تقول بأن البنيات والتشكيالت المختلفة الموجودة في الواقع ما هي إال‬
‫تعبيرات مختلفة عن واقع خفي‪ ،‬هو الحقيقي وإذا ما عرفناه نستطيع تفسير‬
‫مختلف البنيات‪ ،‬وهذا الواقع الخفي هو ما يسميه "كلود لفي شتراوس"‬
‫(بالالشعورية البنيوية)‪ ،‬ويمثل البنيوية الصورية في اللغة "دي سوسير"‬
‫و"جاكبسون "‪ ،‬وفي علم النفس "جاك الكان" وفي الفلسفة "آلتوسير"‬
‫و"غودلييه" و"ميشل فوكو" وفي األنتربولوجيا "كلود لفي شتراوس" والذي‬
‫يعتبر ملهم جل البنيويين المعاصرين‪.‬‬
‫أما فيما يخص البنيوية التكوينية‪ ،‬ويمثلها "لوسيان كولدمان" للدراسات‬
‫األدبية واالجتماعية‪ ،‬و"جان بياجي" في مجال علم نفس الطفل فإنها تفرض‬
‫الفصل بين البنية والوظيفة‪ ،‬وتؤكد عل الطابع التحويلي الذي يتغير بتغيير‬
‫المعطيات والشروط البيئية‪ ،‬من ثم ال ترفض البنيوية التكوينية التاريخ‪،‬‬
‫بمعن أن البنية تتطور وتنمو وتتحول‪.‬‬

‫أصول البنيوية‪:‬‬

‫بينا من قبل وجود اختالفات في التيار البنيوي المعاصر‪ ،‬وإذا كان‬


‫األمر كذلك يكون كل كالم عن أصول البنيوية مثارا للصعوبات‪ ،‬مثلما يثيره‬
‫الكالم عن الخصائص المميزة للفكر البنيوي المعاصر‪ ،‬ذلك أن هنالك اختالفا‬
‫حت في المصادر التي ينهل منها كل تيار من التيارات البنيوية‪ ،‬فإذا كان‬
‫"آلتوسير" يعتبر "هيغل" مجرد شبح ميتافيزيقي فإن "جلود مان" يعتبره‬

‫‪71‬‬
‫مصدرا من مصادر البنيوية التكوينية‪ ،‬وإذا كانت الوظيفية تربطها بالفلسفة‬
‫الوضعية أكثر من رابطة‪ ،‬خاصة في نزعتها التجريبية‪ ،‬فإن بنيوية "لفي‬
‫شتراوس" الصورية تبدي عداء شديدا للوضعية التجريبية‪ ،‬وعل العموم فقد‬
‫أخذت البنيوية مفهوم البنية من البيولوجيا‪ ،‬وعل الخصوص السيكولوجيا‬
‫الجشطالتية‪ ،‬والدراسات اللغوية المعاصرة‪ ،‬فأخذت عنها التناسق والتنظيم‪،‬‬
‫واالنسجام‪ ،‬والوحدة الداخلية‪ ،‬والترابط بين مختلف عناصر البنية العضوية‪.‬‬
‫وللبنيوية عالقة عضوية بالرياضيات التي استلهم منها البنيويون وعل‬
‫رأسهم "لفي شتراوس" طريقتها في التفكير (فرضية استنباطية)‪ ،‬وبالنسبة‬
‫للفيزياء أخذت منها البنية درسا هاما‪ ،‬وهو طرح الواقع التجريبي المعط‬
‫والبحث عن البنيات الخفية في الظواهر ‪ ،‬إل جانب ما سبق نجد أن هناك‬
‫عالقة بين البنيوية والدراسات االبستمولوجية المعاصرة‪ ،‬فأخذوا مثال مفهوم‬
‫القطيعة االبستمولوجية "لباشالر" التي تعبر عن االنتقال من األيديولوجيا‬
‫والفلسفة كمرحلة قبل علمية إل مرحلة تأسيس العلم‪.‬‬

‫مفهوم البنية عند البنيويين‪:‬‬

‫هي نسق من التحوالت يخضع لقوانين من حيث هو نسق‪ ،‬وذلك في‬


‫مقابل خصائص التي تتمتع بها العناصر المكونة للبنية‪.‬‬
‫إن التحليل البنيوي كأداة منهجية وطريقة في فهم الظواهر المختلفة يقوم‬
‫عل أساس تصور خاص للواقع المدروس‪ ،‬باعتباره ينتظم في شكل بنية‪،‬‬
‫وهذا ما عبر عنه "لفي شتراوس" حينما أكد (أن كل شيء شخصية‪ ،‬هيئة‪،‬‬
‫مجتمع‪ ،‬ثقافة‪ ،‬آلة‪ ...‬ما لم يكن معدوم الشكل يملك بنية)‪ ،‬ويرى "شتراوس"‬
‫أن أي ظاهرة ال تستحق أن يطلق عليها اسم بنية ما لم تتوفر فيها شروط‬
‫معينة حددها في أربع مميزات‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ – 1‬نطلق عل ظاهرة ما اسم بنية عندما تكون عناصر تلك الظاهرة‬
‫مترابطة فيما بينها‪ ،‬بحيث تشكل أنظومة أو نسقا تحكم العالقة‬
‫فيما بين عناصره قواعد محددة‪.‬‬
‫‪ – 2‬إن أي تحول في عنصر ما ينعكس عل باق العناصر‪ ،‬بحيث‬
‫يعطي نموذجا يشكل في حد ذاته بنية لها قواعدها‪ ،‬ويترتب عل‬
‫ذلك أن هنالك عددا من البنيات بقدر عدد التحوالت التي تطرأ‬
‫عل البنية األصلية والبنية المرجعية‪.‬‬
‫‪ – 3‬ويترتب عل ما سبق أننا نستطيع التنبؤ بما سيطرأ عل بنية حين‬
‫يحدث تغير في أحد عناصرها‪.‬‬
‫‪ – 4‬إل جانب ذلك يشترط في البنية التي يضعها الباحث كنموذج‬
‫للتفسير أن تكون شاملة للوقائع المالحظة‪ ،‬وعل األقل في‬
‫الجوانب األساسية للظاهرة المدروسة‪.‬‬

‫التحليل األفقي والتحليل العمودي‪:‬‬


‫يقوم المنهج البنيوي بتحليله عل أساس التمييز بين مستوين في التحليل‬
‫أحدهما يهتم بماض الظاهرة‪ ،‬وبالتحوالت التي طرأت عليها‪ ،‬والثاني يهتم‬
‫بالظاهرة كما هي في لحظة الدراسة باعتبارها بنية أو منظومة معطاة‪ ،‬لها‬
‫قواعدها ‪ ،‬التي تضبط العالقات بين عنصرها‪ ،‬ويهدف هذا المستوى الثاني‬
‫من التحليل إل الكشف عن البنية وقاعدتها الكامنة وراء العالقات بين‬
‫العناصر الماثلة للمالحظة‪ ،‬ويسم المستوى األول بالتحليل التاريخي‬
‫(العمودي الدياكرونوكي)‪ ،‬ويسم المستوى الثاني (التحليل األفقي‬
‫السانكرونيكي)‪.‬‬

‫التحليل البنيوي ومبدأ الموضوعية‪:‬‬


‫‪73‬‬
‫كثي را ما اعتبرت الحقائق التي يتوصل إليها العلماء في مجال العلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬بأنها حقائق ذاتية غير موضوعية‪ ،‬وذلك لعاملين أساسيين‪ ،‬أحدهما‬
‫يتعلق بارتباط المالحظ بالموضوع المالحظ‪ ،‬الشيء الذي يفتح المجال لتأثير‬
‫المالحظ والعامل الثاني التأثير للمصلحة الخاصة للمالحظ في دراسته‪ ،‬إال أن‬
‫"لفي شتراوس" يرى أن التحليل البنيوي يسمح لنا بتحقيق الموضوعية في‬
‫دراستنا للظواهر المختلفة‪ ،‬ويرجع ذلك إل أن الظواهر المدروسة‪،‬‬
‫كالوحدات اللغوي ة للغة ما‪ ،‬أو نسق اجتماعي معين يتم التعبير عنها بطريقة ال‬
‫شعورية‪ ،‬وهذه الصيغة الالشعورية ألنماط السلوك المختلفة ال تتأثر وال‬
‫تتقرر رغم معرفته بقواعد لغته‪ ،‬ثم عل حد تعبير "لفي شتراوس" (أن يفهم‬
‫المالحظ الظاهرة ال يكفي لتغييرها)‪.‬‬
‫وما يتحكم في الظواهر في نظر كلود لفي شترواوش هو "الالشعور‬
‫البنيوي" الذي يبعد أي أثر لإلنسان في تشكل الظواهر ‪ ،‬وهذا ما يساعد عل‬
‫تحقيق الموضوعية في دراسة الظواهر أو البنيات المختلفة‪.‬‬

‫مناقشة عامة حول البنيوية‪:‬‬


‫نالحظ أن البنيوية تعرضت النتقادات عنيفة من طرف مفكرين ينتمون‬
‫لتيارات فكرية متباينة‪ ،‬مثل الماركسيين‪" ،‬كهنري لفيفر" و"لوسيان أكلود‬
‫مان" و"آدم شافت"‪ ،‬ومن طرف وجوديين مثل "جان بول سارتر"‪ ،‬ثم‬
‫انتقادات من طرف االبستمولوجيين "كجان بياجي"‪ ،‬وهذه االنتقادات منها ما‬
‫له طابع إيديولوجي‪ ،‬فمن الناحية االبستمولوجية نال حظ أن البنيوية خاصة‬
‫بنيوية "لفي شتراوس" تنتهي إل موقف فلسفي تأملي عندما تؤكد دوام‬
‫الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬وترفض كل حركة تطور أو تقدم معتبرة ذلك مظاهر‬
‫خادعة ال ترى في تعدد الث قافات واختالف اللغات إال صياغات مختلفة بمنطق‬
‫ال شعوري شامل وعام في المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬وأن هذا المنطق سابق عل‬
‫الحياة االجتماعية والتجارب الشخصية والحضارية‪ ،‬بل سابق عل التربية‬
‫والتعليم والجهاز العضوي‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫إن تصور "لفي شتراوس" عن العقل البشري بهذا الشكل باعتباره ال‬
‫متغيرا وال زمانيا‪ ،‬ومماثال لذاته في كل لحظة وحضارة –الذي ال يتأثر‬
‫بظروف المجتمع أو النشاط السيكولوجي‪ -‬هذا العقل يذكرنا عل حد تعبير‬
‫"جان بياجي" بمثل أفالطون وجواهره الثابتة‪ ،‬والتي ال تتأثر بالعالم‬
‫المحسوس‪.‬‬
‫أما من الناحية اإليديولوجية فإننا نالحظ تطرف البنيويين في ادعاءاتهم‬
‫التي تعتبر التحليل البنيوي يسجل نهاية لإليديولوجيات‪ ،‬وتأسيسا لمنهج علمي‬
‫صارم ودقيق‪ ،‬بعيدا عن تأثر الذات وميولها‪ ،‬بل إن البنيويين يرون أن ال‬
‫دخل للوعي ما دام المنطق الالشعوري هو الذي يوجه كل نشاط وسلوك‪،‬‬
‫وفعالية اإلنسان في أي نشاط ‪ ،‬ومن ثم أعلنوا نهاية الذات اإلنسانية‪ ،‬إال أننا‬
‫نرى عل حد تعبير "جان بياجي" (إن وجود البنيات هو بحد ذاته بنيتها‬
‫وإنشاؤها) أي دليل عل وجود الذات البانية‪ ،‬ومن ثم فإن اعتبار الذات البانية‬
‫خاصة في مجال الفن الذي يعتبر تكسيرا لكل ما هو مألوف كما قال "لوي‬
‫آلتسير" مجرد أسطورة ال ينم في حقيقة األمر إال عن نزعة تكنوقراطية‬
‫وجبرية جديدة‪ ،‬ذلك أننا ال نستطيع تصور وجود مسرح دون كاتب‪.‬‬
‫إن رفض البنيويين للتاريخ‪ ،‬وفصلهم للبنيات عن الممارسة العملية‬
‫يجعل البنيوية صورة جديدة للفلسفة اإليلية‪ ،‬كما صاغها "بارمنيدس"‬
‫و"زينون االيلي" الذي أنكر كل حركة‪ ،‬كذلك بالنسبة لرفض البنيويين للفلسفة‬
‫باعتبارها خطابا ايديولوجيا (قبل علمي) ‪ ،‬وإن هذا الرفض ال يكفي إلخفاء‬
‫المصادرات الفلسفية التي يتبناها البنيويين وعل رأسهم "شتراوس"‪.‬‬
‫إن المنهج البنيوي لكي يحتفظ بقيمته العلمية يحتاج إل تصفية حساب‬
‫مع مخلفات النزعة الوضعية‪ ،‬كما يحتاج إل التحرر من دغمائية النزعة‬
‫العلموية التي سادت منتصف القرن التاسع عشر وإذا كان كما قال "روبرت‬
‫بال نشي" ( عل الرياضيين أن ال ينسوا التجربة كمصدر استوحوا منه‬
‫فرضياتهم الرياضية) ‪ ،‬فإنه باألحرى عل البنيويين أن يدركوا أنه ما إن‬
‫ننس روابط البنيوية مع العمليات التي انطلقت منها‪ ،‬وما إن ننس واقعية‬

‫‪75‬‬
‫البنية التي تصل إليها حت ننسف إمكانيات المنهج البنيوي ونجعل منه فلسفة‬
‫قابلة للتجاوز‪.‬‬
‫وعل العموم فإن تاريخ البنيوية طويل مليء بالسجال‪ ،‬بيد ان الدرس‬
‫الذي يجب أن نستخلصه من هذا التاريخ‪ ،‬هو أن البنيوية ال يمكن أن تشكل‬
‫موضوعا لعقيدة أو فلسفة‪ ،‬وإال ألمكن تجاوزها بسرعة‪ ،‬بل تشكل بالضرورة‬
‫طريقة مع كل ما تنطوي عليه هذه اللفظة من التقنية‪ ،‬وباعتبارها كذلك فال‬
‫يمكن لها إال أن تكون محدودة بتطبيقاتها‪ ،‬ومنفتحة من ناحية أخرى(‪.)1‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬ما البنيوية ؟‬
‫‪ – 2‬هل هي تيار متجانس‪ ،‬أم تيارات مختلفة؟‬
‫‪ – 3‬ما المجاالت البارزة التي ظهرت من خاللها البنيوية؟‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬كتاب البنيوية لجان بياجي‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫النصوص‬

‫‪77‬‬
78
‫( ‪: )1‬‬ ‫النص‬
‫ظهور الفلسفة‬
‫تقديم‪:‬‬
‫لقد سجل الفكر البشري مع اليونان ابتداء من القرن ‪ 6‬ق‪.‬م‪ .‬طفرة هامة‬
‫(أي تحوال نوعيا) تمثلت في االنتقال من أسلوب خاص في التفكير (نمط‬
‫التفكير األسطوري والنظرة الشاعرية للكون واإلنسان) إل أسلوب التفكير‬
‫الفلسفي المعتمد باألساس عل "اللوغوس" ومن هنا يمكننا القول بأن التفكير‬
‫الفلسفي قد تبلور في شكل يتعارض مع األسطورة هذا ما يفسره المسار الذي‬
‫اتخذته الفلسفة منذ خطواتها األول وكما يصفه تيودور ويزمان في هذا‬
‫النص‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫كانت النظرة األسطورية (الميتولوجية))‪ (1‬إل العالم –التي سبقت‬
‫النظام)‪(2‬‬ ‫المذاهب الفلسفية األول لليونان القديمة مباشرة‪ ،‬هي أيديولوجيا‬
‫المشاعي البدائي‪ .‬وقد عكس تطور األساطير (وتحولها إل نوع من الديانة‬
‫وظهور األفكار عن األلوهية ونشأة الكون وعلم الكونيات التي فسرها بعد‬
‫ذلك طبيعيا فالسفة اليونان األوائل)‪ – (3‬عكس هذا التطور) المراحل‬
‫األساسية لتطور المجتمع السابق إل ظهور الطبقات‪ .‬وفي ذلك المجتمع لم‬
‫تكن للفرد نظرة إل العالم خاصة به‪ .‬وما كان يمكن للفلسفة أن توجد بعد‪،‬‬
‫ألنه كما كتب أ‪.‬ف‪ .‬لوسيف – هنالك كانت القبيلة هي التي تفكر وتحدد‬
‫أهدافها ولم يكن الفرد ملزما بأن يفكر‪ ،‬ألن القبيلة كانت هي عنصر الحياة‪،‬‬
‫وكانت عنصر الحياة يصنع داخل الفرد بطريقة عفوية‪ ،‬أي بطريقة غريزية‪،‬‬
‫ال كفكر منطوق بطريقة واعية‪.‬‬

‫ويتفق ظهور الفلسفة القديمة مع فترة تشكل المجتمع الطبقي عندما‬


‫كانت األساطير ال تزال الشكل السائد للوعي االجتماعي‪ ،‬والواقع أن الفالسفة‬
‫األوائل كانوا فالسفة لمجرد أنهم دخلوا في صراع مع النظرة األسطورية‬
‫التقليدية إل العالم‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫عندما كانت األساطير ال تزال تسيطر عل عقول الناس ما كانوا‬
‫ليفكروا أبدا في أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال "ما هي الحكمة"؟ فلقد أجابت‬
‫األساطير عل هذا السؤال‪ .‬وعل كثير غيره بأكثر الطرق جالء‪ ،‬وأدى‬
‫ظهور الفلسفة إل االستعاض ة عن األساطير والنبوءات الكهنوتية‪ ،‬بتفكير‬
‫اإلنسان ذاته في العالم والحياة اإلنسانية‪ ،‬مستقال عن أية سلطة دخيلة‪ .‬وظهر‬
‫أناس بإمكانهم أن يدهشوا اآلخرين باالستدالل عل أمور لم يفكر فيها أحد قط‬
‫أو لم يجرؤ عل أن يضعها موضع التساؤل من قبل‪.‬‬

‫والشك أن هؤالء الناس كانوا يعدون في البداية مجانين‪ .‬كانوا يسمون‬


‫أنفسهم فالسفة‪ ،‬أي محبين للحكمة‪ .‬في البدء جاء الفالسفة‪ ،‬ثم ظهر اسم‬
‫"الفيلسوف" وبعد ذلك ظهر مصطلح "الفلسفة"‪.‬‬

‫كان طاليس يعتقد أن كل شيء وجد قد نشأ في األصل من الماء وقال‬


‫هرقليطس‪ :‬إن الكون وليد الكائنات الفانية والخالدة عل السواء‪ .‬وكانت هذه‬
‫العبارات قوانين ثورية أقامت نمطا نقديا من التفكير مستقال عن األساطير‬
‫وعن التقاليد الدينية‪.‬‬

‫عل أنه إن كانت تعاليم المفكرين اليونانيين األوائل غير خالية من‬
‫العناصر األسطورية‪ .‬وقد قال (هيجل) إن األسطورة تعبير"عن عجز الفكر‬
‫الذي ال يستطيع أن يقيم ذاته عل نحو مستقل" لقد دل تطور الفلسفة عل‬
‫ابتعاد مطرد عن األساطير‪ .‬وخاصة عن الفكرة األسطورية عن اصل الحكمة‬
‫الذي يتجاوز الطبيعة‪ .‬ولقد كان هذا هو السبب الذي حدا بهيجل ألن يكتب أن‬
‫"مكانة العرافة قد أحتلها اآلن الوعي الذاتي لكل شخص يفكر"‪.‬‬

‫ومن العسير أن نقول من كان أول من سم نفسه فيلسوفا‪ .‬وربما يكون‬


‫هو "فيتاغورس" فطبقا لما ذكره ديوجين الالبرتي‪ :‬سأل ليون‪-‬طاغية‬
‫فليونيس‪ -‬فيتاغورس عن من يكون؟ فأجابه فيتاغورس‪ :‬أنا فيلسوف" ولما‬
‫كانت الكلمة غير مألوفة لسائله‪ ،‬فإن فيتاغورس قدم تفسيرا للتعبير الجديد‪.‬‬
‫ويكتب ديوجين الاليرتي‪" :‬قارن الحياة باأللعاب األولمبية‪ .‬كانت هناك ثالثة‬
‫أنواع بين الجموع التي تحضر األلعاب‪ .‬بعضهم جاء للمنافسة بالمالحظة‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫وهكذا األمر في الحياة‪ .‬بعض الناس ولد ليكون عبدا للجاه أو اإلغراء أو‬
‫الثراء وآخرون‪- ،‬وهم الذين كانوا حكماء‪ -‬يسعون إل الحقيقة وحدها"‪.‬‬
‫توحي هذه الروا ية بأن فيتاغورس فسر الحكمة بأنها شيء مقصور‬
‫عل القلة المختارة‪ .‬ومع ذلك فإنه –طبقا لمصادر أخرى‪ -‬كان يذهب إل أن‬
‫اآللهة وحدها تملك الحكمة‪ .‬وعل أي حال فإن نظرية فيتاغورس تكشف‬
‫اتجاها عاما نحو إنزال الحكمة "السماوية" إل األرض‪.‬‬

‫هكذا فإن بزوغ الفلسفة اليونانية قد انطوى عل االعتقاد المتزايد بأن‬


‫الحكمة – بوصفها المثل األعل السامي للمعرفة والسلوك الذي بدونه ال‬
‫يمكن للحياة اإلنسانية أن تكون جديرة وال شريفة‪ -‬يمكن تحقيقها من خالل‬
‫جهود الفرد نفسه؛ وكان هذا يعني أن مصدر المعرفة ال يكمن في التصديق‬
‫بالخرافة والمعرفة‪ ،‬وفي طلب الكمال العقلي واألخالقي‪ .‬وهكذا نرى أن‬
‫تناقضا بين اإليمان بالخرافة والمعرفة ينشأ مع البداية األول النبثاق الفلسفة‪.‬‬

‫تيودور ويزمان‬
‫(تطور الفكر الفلسفي)‬
‫ترجمة سمير كرم‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -‬النظرة األسطورية‪ :‬النظرة المبنية على القصص الخيالية‪ ،‬الوهمية الخارقة للعادة‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪ -‬األيديولوجيا‪ :‬هنا تعني مجموعة المبادئ واألفكار التي على أساسها يقوم النظام‬ ‫‪2‬‬
‫االجتماعي والسياسي للجماعة‪.‬‬
‫‪ -‬فالسفة اليونان األوائل‪ :‬فالسفة الطبيعة (الحكماء السبعة) النظام المشاع‪ :‬نظام يقوم على‬ ‫‪3‬‬
‫إشاعة الملكية (الشيوعية البدائية) وتنعدم فيه الطبقات االجتماعية‪.‬‬

‫األسئلة‬
‫‪81‬‬
‫‪ - 1‬بين كيف أن ظهور الفلسفة في القديم ينبني عل التحرر من‬
‫هيمنة األسطورة؟‬
‫‪ - 2‬بم ارتبطت نشأة الفلسفة عند اليونان ؟‬
‫استخلص األمثلة التي وردت في النص عن الفالسفة اليونــان‬
‫األوائل مبرزا المقصود منها من منظور الكاتب‪.‬‬
‫‪ -3‬ما هو تصور فيتاغورس للفلسفة وهل ما يزال معتمدا اليوم ؟‬
‫‪ -4‬ما عالقة هذا بتعريف ديكارت الفلسفة ؟‬
‫‪ -5‬وضح مدلول إنزال الحكمة السماوية إل األرض‪.‬‬
‫‪ -6‬هل توافق الكاتب فيما ذهب إليه من أن تناقضا بين اإليمان‬
‫بالخرافة والمعرفة يبرز مع ظهور الفلسفة ؟‬

‫( ‪: )2‬‬ ‫النص‬

‫‪82‬‬
‫طريقة التوليد‬
‫تقديم‪:‬‬
‫ينبغي للفلسفة في نظر سقراط أن تنصرف عن دراسة مشاكل طبيعية‬
‫وأن تتجه نحو دراسة اإلنسان (اعرف نفسك بنفسك) وستكتشف عندها أن‬
‫المعرفة التي تبحث عنها كامنة في اإلنسان يقول سقراط‪" :‬إن الكتابة‬
‫كالتصوير بدون حياة‪ ،‬وكما ال يجيب الرسم كذلك ال تنطق الكتابة ‪ ..‬وليست‬
‫الكلمة المكتوبة إال شبحا للكلمة المدونة في روح المتعلم"‪ ،‬يبق السؤال الذي‬
‫يطرح نفسه هو كيف نتمكن من استخراج هذه المعارف الكامنة‪ ،‬وبأي منهج؟‬
‫يجيب سقراط بأن ذلك يتم بواسطة المنهج التوليدي‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫التوليد السقراطي‪:‬‬
‫‪ ...‬إن فن التوليد عندي يشمل إذن كل الوظائف التي تضطلع بها‬
‫المولدات‪ ،‬ولكنه يختلف عن فنهن حيث إنه يخلص الرجال ال النساء‪ ،‬ويراقب‬
‫أنفسهم ال أبدانهم‪ ،‬ولكن الفائدة الرئيسية لفني هي أنه يجعلنا بالتأكيد قادرين‬
‫عل التثبت مما إذا كان ذهن الشباب يلد وهما كاذبا أو ثمرة حقيقية وفعلية‪.‬‬
‫زد عل ذلك أنني أ شترك معهن في كوني عقيما في مجال الحكمة‪ .‬ثم إن‬
‫مؤاخذتي غالبا عل أنني اسأل (استفهم) اآلخرين دون إقرار أي شيء أبدا‬
‫ألنه ليست لدي أي حكمة‪ -‬مؤاخذة ال تخلو من الصدق والسبب هو ذا‪ :‬وهو‬
‫أن اإلله أرغمني عل توليد اآلخرين ولكنه لم يسمح لي بأن ألد‪ .‬لست إذن‬
‫حكيما بالمرة‪ ،‬وليس باستطاعتي أن أتقدم بأي اكتشاف رائع في الحكمة تلده‬
‫نفسي‪ .‬ولكن كل الذين يتعلقون بني‪ -‬رغم أن بعضهم يبدو جاهال تماما في‬
‫البداية‪ -‬يحققون كلهم أثناء تبادلهم معي‪ ،‬إذا سمح لهم اإلله بذلك‪ ،‬تقدما عجيبا‬
‫ال في حكمهم فقط ولكن كذلك في حكم اآلخرين‪ .‬إنني لم أعلمهم أبدا شيئا‬
‫وإنهم عثروا بأنفسهم عل كثير من األشياء الجميلة في أنفسهم وولدوها‪ ،‬وهذا‬
‫أمر واضح وضوح النهار‪ .‬ولكن إن ولدوها فذلك بفضل اإلله وبفضلي أنا‪.‬‬
‫افالطون "التييتات"‬
‫األسئلة‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ - 1‬حدد أوجه الشبه واالختالف القائمة بين التوليد السقراطي وفن‬
‫القابالت؟‬
‫‪ - 2‬هل ترى بأن وصف (سقراط) لنفسه بأنه "عقيم فيما يخص‬
‫الحكمة" تعبير عن جهل أو عن تواضع؟‬
‫‪ -3‬اشرح العبارة‪" :‬إنني لم أعلمهم أبدا شيئا"‪.‬‬
‫‪ -4‬هل لطريقة التوليد صدى في التربية المعاصرة ؟‬

‫( ‪: )3‬‬ ‫النص‬
‫أسطورة الكهف‬
‫‪84‬‬
‫تقديم‪:‬‬
‫يرى افالطون بأن معرفتنا تتفاوت في درجة اقترابها من العالم المثالي‬
‫فهناك موازاة بين الوجود والمعرفة يوضحها افالطون في الكتاب السادس من‬
‫الجمهورية عل هذا النحو‪ :‬إذا أخذنا خطا وقسمناه عل جزأين غير‬
‫متساويين ثم قسمنا كل جزء منهما إل جزأين آخرين غير متساويين في‬
‫النسبة ذاتها واف ترضنا أن أحد الجزأين الرئيسيين يمثل العالم المحسوس‬
‫واآلخر العالم المعقول ثم قارنا األجزاء الثانوية من حيث وضوحها وعدمه‪،‬‬
‫فإننا نجد أن الجزء األول في خط العالم المحسوس يتألف من األشباح‪ ،‬وتمثل‬
‫الظالم وانعك اساتها والجزء الثاني يشمل األجزاء التي تتكون وتفسد وكل ما‬
‫يقع تحت الحواس‪ ،‬أما خط العالم المعقول ففيه جزءان ثانويان كذلك وفي‬
‫الجزء األسفل منهما تستخدم الروح األشكال التي يقدمها العالم المحسوس‬
‫باعتبارها انعكاسات وال يمكن أن يكون البحث في هذا الجزء افتراضيا‪ ،‬ألن‬
‫العقل ال يرتقي هنا إل مبدإ أول بل يهبط إل األسفل من الجهة األخرى‪،‬‬
‫ولكن في الجزء األعل من هذا الخط تتجاوز الروح الفرضيات فتصل إل‬
‫مبدإ ال يعتمد عل أية فرضية ألنه فوق كل الفرضيات‪ ،‬وال تستخدم‬
‫االنعكاسات كما هو الحال في الجزء الثاني بل تنتقل من مثال إل مثال حت‬
‫تصل إل المبدأ األول وهو مثال الخير كما توضحه هذه المحاورة‪:‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫* سقراط‪ :‬تخيل رجاال قبعوا في مسكن تحت األرض عل شكل‬
‫كهف‪ ،‬تطل فتحته عل النور‪ ،‬ويليها ممر يوصل إل الكهف‪ ،‬هناك ظل‬
‫هؤالء الناس منذ نعومة أظفارهم (‪ ،)1‬وقد قيدت أرجلهم وأعناقهم بأغالل‪،‬‬
‫بحيث ال يستطيعون التحرك من أماكنهم‪ ،‬وال رؤية أي شيء سوى ما يقع‬
‫أمام أنظارهم‪ ،‬إ ذ تعوقهم األغالل عن التلفت حولهم برؤوسهم‪ .‬ومن ورائهم‬
‫تضيء نار اشتعلت عن بعد في موضع عال‪ ،‬وبين النار والسجناء طريق‬
‫مرتفع‪ ،‬ولتتخيل)‪ (2‬عل طول هذا الطريق جدارا صغيرا‪ ،‬مشابها لتلك‬
‫الحواجز التي نجدها في مسرح العرائس المتحركة‪ ،‬والتي تخفي الالعبين‬
‫وهم يعرضون ألعابهم‪.‬‬
‫غلوكون‪ :‬إني أتخيل ذلك‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ -‬ولتتصور اآلن‪ ،‬عل طول الجدار الصغير‪ ،‬رجاال يحملون‬
‫شت أنواع األدوات الصناعية‪ ،‬التي تعلو عل الجدار‪ ،‬وتشمل‬
‫أشكاال للناس والحيوانات وغيرها‪ ،‬صنعت من الحجر أو‬
‫الخشب أو غيرها من المواد‪ .‬وطبيعي أن يكون بين حملة هذه‬
‫األشكال من يتكلم ومن ال يقول شيئا‪.‬‬
‫فقال إنها حقا لصورة عجيبة تصف نوعا غريبا من السجناء‪.‬‬
‫‪ -‬إنهم ليشبهوننا‪ ،‬ذلك أوال ألن السجناء في موقعهم هذا ال يرون‬
‫من أنفسهم ومن جيرانهم شيئا غير الظالل التي تلقيها النار‬
‫عل الجدار المواجه لهم من الكهف‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬وكيف يكون األمر عل خالف ذلك ما داموا عاجزين طوال‬
‫حياتهم عن تحريك رؤوسهم؟‬
‫‪ -‬كذلك فإنهم ال يرون من األشياء التي تمر أمامهم إال القليل‪.‬‬
‫‪ -‬بال جدال‪.‬‬
‫‪ -‬وعل ذلك فإذا أمكنهم أن يتخاطبوا‪ ،‬أال تظنهم يعتقدون أن‬
‫كلماتهم ال تشير إال إل ما يرونه من الظالل؟‬
‫‪ -‬هذا ضروري‪.‬‬
‫‪ -‬وإن كان هناك أيضا صدى يتردد من الجدار المواجه لهم‪ ،‬فهال‬
‫يظنون كلما تكلم أحد الذين يرون من ورائهم‪ ،‬أن الصوت آت‬
‫من الظل البادي أمامهم؟‬
‫‪ -‬فقال بال شك‪.‬‬
‫فاستطردت قائال‪ :‬فهؤالء السجناء إذن ال يعرفون من الحقيقة في كل‬
‫شيء إال ظالل األشياء المصنوعة؟‬
‫‪ -‬ال مفر من ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬فلتتأمل اآلن ما الذي سيحدث بالطبيعة إذا رفعنا عنهم قيودهم‬
‫وشفيناهم من جهلهم فلنفرض أننا أطلقنا سراح واحد من هؤالء‬
‫السجناء وأرغمناه عل أن ينهض فجأة‪ ،‬ويدير رأسه‪ ،‬ويسير‬
‫رافعا عينيه نحو النور عندئذ تكون كل حركة من هذه الحركات‬
‫مؤلمة له وسوف ينبهر إل حد يعجز معه عن رؤية األشياء‬
‫التي كان يرى ظاللها من قبل فما الذي تظنه سيقول‪ ،‬إذا أنبأه‬
‫‪86‬‬
‫أحد بأن ما كان يراه من قبل وهم باطل‪ ،‬وإن رؤيته اآلن أدق‬
‫ألنه أقرب إل الحقيقة‪ ،‬ومتجه صوب أشياء أكثر حقيقة؟‬
‫ولنفرض أننا أريناه مختلف األشياء التي تمر أمامه‪ ،‬ودفعناه‬
‫تحت إلحاح أسئلتنا إل أن يذكر لنا ما هي‪ ،‬أال تظنه سيشعر‬
‫بالحيرة‪ ،‬ويعتقد أن األشياء التي كان يراها من قبل أقرب إل‬
‫الحقيقة من تلك التي نريها له اآلن؟‬
‫إنها ستبدو أقرب كثيرا إل الحقيقة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وإذا أرغمناه عل أن ينظر إل نفس الضوء المنبعث عن النار‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫أال تظن أن عينيه ستؤلمانه‪ ،‬وأنه سيحاول الهرب والعودة إل‬
‫األشياء التي تمكنه رؤيتها بسهولة‪ ،‬والتي يظن أنها أوضح‬
‫بالفعل من تلك التي نريد إياها اآلن؟‬
‫أعتقد ذلك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إذا ما اقتدناه رغما عنه ومضينا به في الطريق الصاعد الوعر‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫فال نتركه حت يواجه ضوء الشمس أال تظنه سيتألم وسيثور‬
‫ألنه اقتيد عل هذا النحو‪ ،‬بحيث إنه حالما يصل إل النور‬
‫تنبهر عيناه من وجهه إل حد ال يستطيع معه أن يرى أي شيء‬
‫مما نسميه اآلن أشياء حقيقة؟‬
‫إنه لن يستطيع ذلك‪ ،‬عل األقل في بداية األمر‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فاستطردت قائال‪ (3) :‬إنه يحتاج في الواقع إل التعود تدريجيا قبل أن‬
‫يرى األشياء في ذلك العالم األعل ‪ .‬ففي البداية يكون أسهل األمور أن يرى‬
‫الظالل ثم صور الناس وبقية األشياء منعكسة عل صفحة الماء‪ .‬ثم األشياء‬
‫ذاتها وبعد ذلك يستطيع أن يرفع عينيه إل نور النجوم والقمر فيكون تأمل‬
‫األجرام المساوية وقبة السماء ذاتها في الليل أيسر له من تأمل الشمس‬
‫ووهجها في النهار‪.‬‬
‫‪ -‬بال شك‪.‬‬
‫‪ -‬وآخر ما يستطيع أن يتطلع إليه هو الشمس‪ ،‬ال منعكسة عل‬
‫صفحة الماء أو عل جسم آخر‪ ،‬بل كما هي في ذاتها‪ .‬وفي‬
‫موضعها الخاص‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ضروري‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫‪ -‬وبعد ذلك سيبدأ في استنتاج أن الشمس هي أصل الفصول‬
‫والسنين وأنها تتحكم في كل ما في العالم المنظور‪ ،‬وأنها‪،‬‬
‫بمعن ما علة كل ما كان يراه هو ورفاقه في الكهف‪.‬‬
‫‪ -‬الواقع أن هذا ما سينتهي إليه بعد كل هذه التجارب‪.‬‬
‫‪ -‬فإذا ما عاد بذاكرته بعد ذلك إل مسكنه القديم‪ ،‬وما كان يعد فيه‬
‫حكمة‪ ،‬وإل رفاقه السجناء أال تظنه سيغتبط لذلك التغيير الذي‬
‫طرأ عليه‪ ،‬ويرث لحالهم؟)‪. (4‬‬
‫‪ -‬بكل تأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬فإذا ما كانت لديهم عادة إضفاء مظاهر الشرف والتكريم عل‬
‫بعضهم البعض‪ ،‬ومنح جوائز لصاحب أقوى عينين ترى‬
‫الظالل العابرة‪ ،‬وأقوى ذاكرة تستعيد الترتيب الذي تتعاقب به‬
‫أو تقترن في ظهورها‪ ،‬بحيث يكون –تبعا لذلك‪ -‬أقدرهم عل‬
‫أن يستنتج أيها القادم‪ ،‬أتظن أن صاحبنا هذا تتملكه رغبة في‬
‫هذه الجوائز‪ ،‬أو أنه سيحسد من اكتملت لهم ألقاب الشرف‬
‫ومظاهر القوة بين أولئك السجناء؟ ! لن يشعر بما شعر به أخيل‬
‫عند هوميروس)‪ (5‬من أنه يفضل ألف مرة أن يكون عل‬
‫األرض مجرد خادم أجير عند فالح فقير وأن يتحمل كل‬
‫الشرور الممكنة‪ ،‬وال يعود إل أوهامه القديمة أو العيش كما‬
‫كان يعيش من قبل؟‬
‫فقال‪ :‬إني أوافقك عل رأيك هذا‪ ،‬فخير له أن يتحمل أي شيء من أن‬
‫يعود إل تلك الحياة‪.‬‬
‫فاستطردت قائال‪ :‬فلتتصور أيضا ماذا يحدث لو عاد صاحبنا واحتل‬
‫مكانه القديم في الكهف ألن تنطفئ عيناه من الظلمة حين يعود فجأة من‬
‫الشمس؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬فإذا كان عليه أن يحكم عل هذه الظالل من جديد‪ ،‬وأن يناقش‬
‫السجناء الذين لم يتحرروا من أغاللهم فقط‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫تكون عيناه فيه ما زالت معتمة زائغة‪ ،‬وقبل أن تعتاد الظلمة‪،‬‬
‫وهو أمر يحتاج إل بعض الوقت‪ ،‬ألن يسخروا منه ويقولوا إنه‬
‫‪88‬‬
‫لم يعد إل أعل إال لكي يفسد أبصارهم وإن الصعود أمر ال‬
‫يستحق منا عناء التفكير فيه؟ فإذا ما حاول أحد أن يحررهم من‬
‫أغاللهم‪ ،‬ويقودهم إل أعل ‪ ،‬واستطاعوا أن يضعوا أيديهم‬
‫عليه‪ ،‬ألن يجهزوا عليه بالفعل؟‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬بالتأكيد)‪.(6‬‬
‫أفالطون (الجمهورية)‬
‫ترجمة فؤاد زكريا‬

‫التعليق‪:‬‬
‫مالحظة‪ :‬أسطورة الكهف‪ ،‬نجد في بعض المراجع "أمثولة الكهف"‬ ‫‪-‬‬
‫وتسوغ هذه المراجع استخدام هذا اللفظ بأن المقصود هو ترجمة "آلي‬
‫غوزى" التي هي أسلوب رمزي ووصفي لتوضيح فكرة مجردة إال أن‬
‫االصطالح الشائع هو أسطورة الكهف‪.‬‬
‫* سقراط‪ :‬فيلسوف يوناني ولد بأثينا سنة ‪ 074‬ق‪.‬م‪ .‬وتوف بها سنة‬
‫‪ 533‬ق‪ .‬م‪ ،‬لم يكتب شيئا ولم تعرف أفكاره إال من خالل ما كتبه تلميذه‬
‫إفالطون في مختلف محاوراته حيث يعتبره رمزا للحكمة وما يميز سقراط‬
‫وفاؤه لرسالته التي فضل أن يموت من أجلها‪.‬‬
‫)‪ (1‬منذ نعومة أظافرهم‪ :‬منذ الصغر‪.‬‬
‫)‪ (2‬التخيل‪ :‬الخيال عند الفالسفة القدماء قول للنفس يحفظ ما يدركه‬
‫الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غياب المادة وهو ما يعرفه اآلن‬
‫بالتخيل وله نوعان أحدهما تمثيلي واآلخر مبدع ويطلق الخيال‪ :‬أيضا عل‬
‫الصورة المشخصة التي تمثل المعن المجرد وهذا المعن مألوف في الشعر‬
‫واألدب والفن عموما وهو المقصود منها‪.‬‬
‫)‪ (3‬يرى كورنيفورد أن هذه الجملة تتضمن مغزى هاما في‬
‫األسطورة‪ ،‬فقد سبق الفالطون أن حذر من خوض المشكالت األخالقية مع‬
‫األذهان غير المدربة عليها وها هو ذا يدعم رأيه السابق باإلشارة إل العين‬
‫التي يبهرها الضوء فتعجز عن اإلبصار‪ ،‬عل ذلك فإنه يحدد فترة عشر‬
‫سنوات لدراسة الرياضة الصرف حت يعتاد الذهن الكالم في المشكالت‬
‫األخالقية المجردة والصعود منها إل صورة الخبر – أي أن المقصود من‬
‫‪89‬‬
‫هذه الفترة الطويلة هو إعداد الذهن تدريجيا حت ال يصيبه من االضطراب ما‬
‫أصاب هذا السجين‪.‬‬
‫(المترجم)‬

‫)‪ (4‬يشير افالطون هنا إل العلم التجريبي بمعناه المعتاد‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحالة كان تعريفه دقيقا إل حد بعيد إذ أن العلم هو المتعلق بترتيب الظواهر‬
‫وتعاقبها‪ ،‬وغايته تمكيننا من التنبؤ بالسلوك المقبل لهذه الظواهر‪ .‬ومثل هذه‬
‫المعرفة التجريبية في نظره ناقصة ألنها ال ترق إل المبدأ األول لألشياء‬
‫جميعا‪.‬‬
‫(المترجم)‬

‫)‪ (5‬هيمروس‪ :‬شاعر يوناني أعم صاحب األوديسية‪.‬‬


‫)‪ (6‬اإلشارة هنا واضحة إل موت سقراط عل أيدي األثينيين حين‬
‫حاول من وجهة نظره أن يحررهم من جهلهم‪.‬‬
‫(المترجم)‬

‫صاحب النص‪:‬‬
‫*أفالطون فيلسوف يوناني ولد بأثينا سنة ‪ 028‬ق م وتوف سنة ‪508‬ق‬
‫م تتلمذ عل كراتيل وتأثر بهيرقليطس قبل أن يصبح التلميذ المعجب بسقراط‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬بين مستويات المعرفة لدى افالطون مبرزا قيمة كل مستوى‬


‫لديه‪.‬‬
‫‪ - 2‬قارن بين التفكير الفلسفي والتفكير العامي مع تحديد األسس التي‬
‫يقوم عليها كل منهما من خالل النص‪.‬‬
‫‪ -3‬هل ترى بأن سقراط (المحاور) هو ذلك الذي يكتفي بطرح‬
‫السؤال ألنه ال يعرف شيئا أم أن الحوار بني عل أساس آخر؟‬
‫‪90‬‬
91
‫(‪: )4‬‬ ‫النص‬
‫التفلسف يقظة‬
‫تقديم‪:‬‬
‫تمثل الفلسفة لونا من ألوان التفكير لدى اإلنسان يقوم عل فكرة‬
‫ضرورة مجابهة الكون بما فيه من مشاكل تقلق وتحير العقل المتعطش إل‬
‫الوقوف عل دقائق األشياء‪ ،‬وإذا كانت ال تتمتع بثقة كل المفكرين فإنها عل‬
‫األقل قادرة عل نزع ثقة جلهم لما تتصف به من محاولة جريئة في سبيل‬
‫خالص اإلنسان مما يجابهه من مشاكل تهدد استقراره وكيانه وفي هذا السياق‬
‫يكتب ياسبرس‪:‬‬
‫ـــــــــــــ‬
‫ما شأن الفلسفة ها هنا؟‬
‫إنها تعلمنا عل األقل أال ننخدع‪ ،‬ولكنها ال تجيز استبعاد أي حدث‬
‫وال أي إمكانية كما تعلمنا مواجهة الكارثة المحتملة‪ ،‬وهي تثير القلق من‬
‫صميم طمأنينة العالم‪ ،‬غير أنها تحظر أيضا حماقة اعتبار الكارثة كارثة ال‬
‫مرد لها‪ ،‬ألن أمر المستقبل رغم كل شيء بيدنا أيضا‪.‬‬
‫فإذا ما غدت الفلسفة حازمة في فكرها‪ ،‬مقنعة الناس‪ ،‬جديرة بالثقة‬
‫بفضل أولئك الذين تتكلم بأفواههم‪ ،‬صارت عامل خالص‪ ،‬فهي وحدها القادرة‬
‫عل إصالح طريقة التفكير‪ .‬وحت إذا ما أخفق اإلنسان إخفاقا كليا – وهو‬
‫أمر ممكن – صانت الفلسفة كرامته طوال فترة انحداره‪ ،‬فالقول الفصل‬
‫لإلنسان الذي –عند اإلخفاق – يحدوه الحب ويحتفظ بثقة في أسس األشياء‪،‬‬
‫يستعص فهمها‪.‬‬

‫كارل ياسبرس‬
‫تدريب عل المنهج الفلسفي‬

‫‪92‬‬
‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬ما قيمة الفلسفة؟‬


‫‪ - 2‬ما الذي يسوغ القول بأن "المستقبل رغم كل شيء بيدنا؟‬
‫وما أبعاد ذلك؟‬
‫‪ -3‬هل يبدو لك هذا القول منطقيا‪" :‬أمر المستقبل رغم كل شيء‬
‫بيدنا"؟‬

‫‪93‬‬
‫(‪: )5‬‬ ‫النص‬
‫ضرورة الشك‬

‫تقديم‪:‬‬
‫جاء الفيلسوف الفرنسي ديكارت بروح فلسفية جديدة قوامها التحري‬
‫والتمحيص‪ ،‬فكان لزاما عليه أن يقف من اإلرث الفلسفي الذي يحمله موقفا‬
‫نقديا جعله ينطلق من الشك في جميع معارفه ولقد كان النطالقه من الشك‬
‫كلحظة أولية في منهجه للبحث عن الحقيقة أثر كبير في بلورة عالقة الوعي‬
‫بالعالم الخارجي كما يوضحه هذا النص‪:‬‬

‫ـــــــــــــ‬

‫ل يس من األمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت‬


‫طائفة من اآلراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة‪ ،‬وأن ما بنيته منذ ذلك الحين‬
‫مبادئ هذه حالها من الزعزعة واالضطراب ال يمكن إال أن يكون‬ ‫عل‬
‫مشكوكا فيه جدا‪ ،‬وال يقين فيه أبدا‪ .‬فحكمت حينئذ بأنه البد لي مرة في‬
‫حياتي من الشروع الجدي في إطالق نفسي من جميع اآلراء التي تلقيتها في‬
‫اعتقادي من قبل‪ ،‬والبد من بدء بناء جديد من األسس‪ ،‬إذا كنت أريد أن أقيم‬
‫في العلوم شيئا وطيدا مستقرا‪ ،‬ولكن هذا المشروع بدا مشروعا ضخما جدا‬
‫فانتظرت حت أبلغ سنا يكون نضجها حائال دون أن أصل سنا أخرى بعدها‬
‫أكون أصلح فيها لتنفيذه‪ ،‬وهذا ما جعلني أرجئ األمر طوال هذا الزمن‪،‬‬

‫‪94‬‬
‫حت غدوت أعتقد أنني أكون مخطئا إن أننا أنفقت في االستزادة من التدبر ما‬
‫بقي لي من وقت العمل‪.‬‬

‫فاليوم وقد واتتني الظروف المالئمة لهذا الغرض‪ ،‬إذا خلصت فكري‬
‫من كافة ضروب المشاغل وأخليت نفسي بحمد هللا من هزات االنفعاالت‪،‬‬
‫وظفرت لنفسي براحة مؤكدة في عزلة مطمئنة‪ ،‬سوف أفرغ جديا وفي حرية‬
‫لتقوية كافة آرائي القديمة عل وجه العموم‪ ،‬ليس يلزم لهذا أن أبين أنها كلها‬
‫زائفة‪ :‬فهذا أمر قد ال أنتهي منه أبدا‪ ،‬ولكن ما دام العقل يقنعني من قبل بأنه‬
‫ال ينبغي أن أكون أقل حرصا عل االمتناع عن تصديق األشياء التي لم تبلغ‬
‫مرتبة اليقين جميعا أن أجد في كل واحد منها سببا للشك‪ ،‬ومن أجل هذا لن‬
‫أكون بحاجة إل النظر في كل واحد منها عل حدة –فإن هذا يكون عمال ال‬
‫آخر له‪ -‬ولكن لما كان تقويض األسس يجر معه بالضرورة بقية البناء‪،‬‬
‫فسأوجه الهجوم أوال إل المبادئ التي كانت تعتمد عليها آرائي القديمة كلها‪.‬‬

‫كل ما تلقيته حت اليوم وآمنت بأنه أصدق األشياء وأوثقها قد اكتسبته‬


‫من الحواس أو بواسطة الحواس‪ .‬غير أني جربت هذه الحواس في بعض‬
‫األحيان فوجدتها خداعة‪ ،‬ومن الحكمة أن ال نطمئن كل االطمئنان إل من‬
‫خدعنا ولو مرة واحدة‪.‬‬

‫ولكن قد يقال ‪ :‬لئن كانت الحواس تخدعنا بعض األحيان في أشياء‬


‫أشياء كثيرة أخرى ال‬ ‫صغيرة جدا وبعيدة جدا عن متناولنا‪ ،‬فقد نقع عل‬

‫‪95‬‬
‫نستطيع أن نشك فيها شكا يقبله العقل‪ ،‬وإن كنا نعرفها بطريقة الحواس‪ ،‬مثال‬
‫ذلك أني هاهنا جالس قرب النار البس عباءة المنزل‪ ،‬وهذه الورقة بين يدي‬
‫وأشياء أخرى من هذا القبيل‪ ،‬وكيف أستطيع أن أنكر‪ ،‬أن هاتين اليدين يداي‬
‫وهذا الجسم جسمي؟ اللهم إال إذا أصبحت مثيال لبعض المخبولين الذين‬
‫اختلت أدمغتهم‪ :‬فما ينفكون يؤكدون أنهم ملوك‪ ،‬في حين أنهم فقراء جدا‪،‬‬
‫وأنهم يلبسون ثياب موشاة بالذهب واألرجوان‪ ،‬في حين أنهم في غاية العري‪،‬‬
‫أو يتخيلون أنهم أحرار‪ ،‬إن لهم أجساما من زجاج إال أنهم مجانين ولن أكون‬
‫أنا أقل منهم إسرافا وبخال إذا اقتديت بهم ونسجت عل منوالهم‪.‬‬

‫لكن ينبغي علي هنا أن أعتبر أني إنسان‪ ،‬وأن من عادتي لذلك أن‬
‫أنام‪ ،‬وأني أرى في أحالمي عين األشياء التي يتخيلها هؤالء المخبولون في‬
‫يقظتهم‪ ،‬بل قد أرى أحيانا أشياء أبعد عن الواقع مما يتخيلون‪ .‬كم من مرة‬
‫وقع لي أني أرى في المنام أني في هذا المكان البس ثيابي‪ ،‬وأني قرب النار‬
‫مع أني أكون في سريري متجردا من ثيابي يبدو لي اآلن أني ال أنظر إل‬
‫هذه الورقة بعينين نائمتين‪ ،‬وإن هذا الرأس الذي أهزه ليس ناعسا‪ ،‬وأنني إنما‬
‫أبسط هذه اليد وأقبضها عن قصد ووعي‪ ،‬وأن ما يقع في النوم ال يبدو مثل‬
‫هذا كله وضوحا ولكن عندما أجيل التفكير في األمر‪ ،‬أتذكر أنني كثيرا ما‬
‫انخدعت في النوم بأشياء هذه الرؤى‪ .‬وعندما أقف عند هذا الخاطر أرى‬
‫بغاية الجالء أنه ليس هناك أمارات يقينية نستطيع بها أن نميز بين اليقظة‬
‫والنوم تمييزا دقيقا‪ .‬فيساورني الذهول وإن ذهولي لعظيم‪ ،‬حت أنه يكاد يصل‬
‫إل إقناعي بأني أنام‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫ديكارت (التأمالت في الفلسفة األول )‬
‫ترجمة ‪ :‬عثمان أمين ص ‪33/35‬‬

‫صاحب النص‪:‬‬
‫ديكارت عاش ما بين )‪ (1650-1596‬أصيب بخيبة أمل إثر تخرجه‬
‫من معهد الفليش اليسوعي حيث درس علوم عصره إذقال لقد دخلت هذا‬
‫المعهد وكنت أظن بأنني سأكون العالم الذي ال يرد له قول فإذا بي أتخرج‬
‫وأنا أجهل إنسان موجود‪ .‬ويعتبر شكه تعبيرا عن ذلك نظرا النحطاط المعرفة‬
‫في عصره‪ ،‬كان كثير الترحال في البالد األوروبية ألف مجموعة كتب منها‪:‬‬
‫مقالة الطريقة‪ ،‬مبادئ الفلسفة والتأمالت حيث اقتطف هذا النص‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬ما مسوغات شك ديكارت؟‬


‫‪ - 2‬اشرح قول المؤلف‪" :‬لما كان تقويض األسس يجر معه بقية‬
‫البناء فسأوجه الهجوم أوال إل المبادئ التي كانت تعتمد عليها‬
‫آرائي القديمة كلها"‪.‬؟‬
‫‪ -3‬اشرح بإيجاز الطريقة التي سلكها الفيلسوف التخاذ الشك منهجا‬
‫للوصول إل الحقيقة‪.‬‬
‫‪ -4‬إل أي حد يمكن اعتبار الشك وسيلة لليقين؟‬

‫(‪: )6‬‬ ‫النص‬


‫الفلسفة والعلم‬
‫‪97‬‬
‫تقديم‪:‬‬
‫شهدت الفلسفة عبر التاريخ مسارين‪:‬‬
‫األول كانت فيه تفكيرا عاما ال تمايز فيه بين العلوم إذ تحوي مختلف‬
‫العلوم عل اختالفها‪ ،‬والثاني بقيت محصورة في دائرة الميتافيزيقا وذلك حين‬
‫انفصلت عنها العلوم‪ ،‬غير أنها ال تنظر إل االنفصال بوصفه انتقاصا من‬
‫قيمتها وحدا من سلطتها‪.‬‬
‫ـــــــــــــ‬
‫كثيرا ما نالحظ في تاريخ العلوم عمل مسارين إثنين‪ :‬مسار يطرح بكل‬
‫بساطة األخطاء (التي تضمحل تماما) ومسار يسجل من جديد المعار ف‬
‫والعناصر النظرية السابقة في إطار المعارف الجديدة المكتسبة والنظريات‬
‫الجديدة التي وقع بناؤها‪ .‬وعموما نحن أمام جدلية مضاعفة‪ ،‬جدلية طرح كلي‬
‫"لألخطاء" وجدلية احتواء النتائج القديمة التي ال زالت صالحة واكتف‬
‫بإدخال تغيير عليها في المنظومة النظرية الجديدة المكتسبة‪.‬‬
‫إن تاريخ الفلسفة يعمل بصفة مغايرة تماما فعمله يتم عبر صراع من‬
‫أجل هيمنة األشكال الفلسفية الجديدة عل القديمة‪ :‬تاريخ الفلسفة هو صراع‬
‫بين اتجاهات متحققة في تشكيالت فلسفية فهو دائم الصراع من أجل الهيمنة‪.‬‬
‫لكن تحدث هنا مفارقة ألن هذا الصراع ال يؤدي إل تعويض هيمنة بأخرى‬
‫وال ينتهي بطرح نهائي للتشكيلة الفلسفة الماضية أي طرح للخصم (باعتباره‬
‫خطأ) فال وجود للخطإ في الفلسفة بالمعن الذي نعطيه لهذه الكلمة في مجال‬
‫العلوم‪ ،‬فال يقع اال نتصار الكلي عل الخصم وبالتالي ال يقع التخلص منه‬
‫نهائيا وال يشطب من الحياة التاريخية‪.‬‬

‫كتاب الفلسفة وفلسفة العلماء العفوية‬


‫ألتوسر (ترجمة رضا الزواري)‬
‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬هل للخطأ أثر إيجابي في تقدم العلم؟‬


‫‪98‬‬
‫‪ - 2‬كيف تفهم بأن الصراع أو االختالف بين األنساق الفلسفية هو‬
‫من أجل الهيمنة ال من أجل التسابق إل إدراك الحقيقة وإبرازها؟‬
‫‪ -3‬كيف نفهم قول الكاتب‪" :‬ال وجود للخطأ في الفلسفة"؟‬

‫(‪: )7‬‬ ‫النص‬

‫موقف الشريعة من الحكمة اليونانية‬


‫‪99‬‬
‫تقديم‪:‬‬
‫لم تظهر الفلسفة عند اليونان إال من خالل تحطيم كل البدا هات حول‬
‫العقل والمعرفة والحقيقة والكون واإلنسان والخير والسعادة‪ ،‬والحكمة ذاتها‪،‬‬
‫أي من خالل إبراز عدم يقين التصورات السائدة وضرورة إقامة تصورات‬
‫جديدة‪ ،‬ولكن ماذا ستكون وضعية الفلسفة داخل المجتمع اإلسالمي الذي‬
‫يشكل الدين ثقافته الرسمية؟ ما هي وضعيتها داخل مجتمع حقق استيالء ثقافيا‬
‫أساسا‪ .‬قوامه الوحي المنزل؟ في هذا النص يجيب ابن رشد‪:‬‬

‫ــــــــــــ‬
‫فإن الغرض من هذا القول أن نفحص عل جهة النظر الشرعي‪ ،‬هل‬
‫النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ ‪ ...‬أو محظور؟ أم مأمور به؟‬
‫إما عل وجه الندب‪ ،‬وإما عل جهة الوجوب فنقول‪ :‬إن كان فعل الفلسفة‬
‫ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات‪ ،‬واعتبارها من جهة داللتها عل‬
‫الصانع أعني من جهة ما هي مصنوعات‪ ،‬فإن الموجودات إنما تدل عل‬
‫الصانع بمعرفة صنعها‪ ،‬وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة‬
‫بالصانع أتم‪.‬‬
‫وكان الشرع قد ندب إل اعتبار الموجودات بالعقل‪ ،‬وتطلب معرفتها‬
‫به فذلك بين في غير ما آية من كتاب هللا تبارك وتعال ‪ ،‬مثل قوله‪{ :‬فاعتبروا‬
‫يا أول األبصار} وهذا نص عل وجوب استعمال القياس العقلي‪ ،‬أو العقلي‬
‫والشرعي معا‪.‬‬
‫ابن رشد‬
‫فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال‬

‫صاحب النص‪:‬‬
‫أ بو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد من أشهر فالسفة اإلسالم‪،‬‬
‫ولد في مدينة قرطبة (‪324‬هـ ‪3326 -‬م) وتول منصب القضاء في اشبيلية‬
‫ومنصب قاضي القضاة‪ .‬وضع شروحا وتفاسير عل مؤلفات أرسطو‪ .‬توف‬
‫)‪. (1198-598‬‬

‫‪100‬‬
‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬هل يحدد النص معالم موقف بن رشد من الفلسفة؟‬


‫‪ - 2‬هل هنالك فرق بين الحقيقة في الدين‪ ،‬والحقيقة التي تبحث عنها‬
‫الفلسفة؟‬
‫‪ -3‬حلل هذا القول وناقشه‪:‬‬
‫"إن الحق ال يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"‪.‬‬

‫(‪: )8‬‬ ‫النص‬


‫مهمة الفلسفة‬
‫تقديم‪:‬‬
‫‪101‬‬
‫يتناول هيجل في نصه مهمة الفلسفة التي يحصرها في دراسة الواقع‬
‫الفعلي بغية معرفة مدى اتفاقه واختالفه مع العقل لكي نتمكن من تغيير هذا‬
‫الواقع إذا كان غير معقول ليصبح متمشيا مع العقل‪ ،‬إن مهمتنا كما يقول‬
‫هيجل في كتاب "فلسفة الحق" تتمثل في تلخيص "العقلي" األزلي مما يلحق‬
‫به من عابر عرضي‪ ،‬لذا نجد الفلسفة ال تأتي إال عندما يستكمل الواقع مسار‬
‫تكونه‪.‬‬

‫ـــــــــــــ‬
‫إن مهمة الفلسفة لتنحصر في تصور ما هو كائن‪ ،‬ألن ما هو كائن‬
‫ليس إال العقل نفسه‪ .‬وبالنسبة للفرد نفسه‪ ،‬فإن كالمنا هو ابن عصره‪ .‬وبالمثل‬
‫يمكن أيضا أن نقول عن الفلسفة إنها عصرها ملخصا في الفكر‪ .‬وكما أنه من‬
‫الحمق أن نتصور إمكان تخلي الفرد لزمانه أو اجتيازه لرودوس)‪ (1‬فإنه لمن‬
‫الحماقة أيضا أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص‪ .‬وإذا تجاوزت‬
‫فعال نظرية ما تلك الحدود وبنت عالمها عل نحو ما ينبغي أن يكون عليه‪،‬‬
‫فإن هذا العالم يكون له ال محالة وجود‪ ،‬لكن في ظن صاحبه فحسب‪ ،‬وهو‬
‫عنصر غير متماسك وقابل ألي انطباع (‪.)...‬‬
‫بقي أن نسوق كلمة أخرى حول االدعاء بتعليم ما ينبغي أن يكون‬
‫عليه العالم‪ .‬فنحن نالحظ أن الفلسفة‪ ،‬عل أي حال تأتي دائما متأخرة جدا‪.‬‬
‫فهي بوصفها‪ .‬فكرة "العالم" ‪ ،‬ال تظهر إال حين يستوفي الواقع مسار تكونه‬
‫ويأتي عل نهايته‪ .‬إن ما يعلم ه لنا المفهوم هو أيضا ما يكشف التاريخ عنه‬
‫بنفس الضرورة‪ ،‬وهو أنه من خالل نضج الكائنات فحسب‪ ،‬يظهر المثل‬
‫األعل تجاه الواقع ويعيد بناء هذا العالم ذاته في صورة مسلكة عقلية‪ ،‬بعد‬
‫إ دراكه في جوهره وحين ترسم الفلسفة لوحتها الرمادية‪ ،‬فتضع لونا رماديا‬
‫فوق لون رمادي‪ ،‬فإن صورة من صور الحياة قد شاخت‪ .‬لكن ما تضعه‬
‫الفلسفة من لون رمادي فوق لون رمادي ال يمكن أن يحدد شباب الحياة ولكنه‬
‫يفهمها فحسب‪ ،‬إن بومة منير فا)‪ (2‬ال تبدأ في الطيران إال عند الغروب‪.‬‬
‫هيجل‪( :‬أصول فلسفة الحق)‬
‫ترجمة ‪ :‬إمام عبد الفتاح (مع بعض التعديل)‬
‫‪102‬‬
‫دار التنوير للطباعة والنشر‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ – 1‬رودوس‪ :‬اسم لجزيرة ولكن تعني الكلمة أيضا وردة‪ ،‬والوردة رمز للمرح والبهجة‬
‫والمتعة‪ .‬ومن وظيفة الفيلسوف في رأي هيجل‪ ،‬أن يجد البهجة والمتعة فيما هو حاضر باكتشاف العقل‬
‫الكامن فيه‪ .‬وبعبارة أخرى فإن الفلسفة يمكن "أن ترفص" طربا للمتعة التي تجدها في هذا العالم وليست‬
‫بحاجة إلى تأجيل "رقصتها" أعني متعتها وبهجتها حتى تفرغ من بناء المثل األعلى للدولة في مكان آخر‪.‬‬
‫(المترجم)‪.‬‬
‫‪ – 2‬بومة مينيرفا‪ :‬آلهة مينيرفا هي آلهة الحكمة عند الرومان ولقد اتخذ القدماء من‬
‫"البومة" رمزا للحكمة نظرا ألنها تمثيل إلى الصمت والهدوء من ناحية وألنها تميل من ناحية أخرى إلى‬
‫التواجد في األماكن البعيدة والمهجورة فكأنها تميل إلى العزلة والتفكير‪ .‬وهيجل يقصد ب "بومة مينيرفا"‬
‫هنا الفلسفة التي ال تبدأ أعمالها إال بعد أن يكتمل بناء الواقع المادي العقلي (المترجم)‪.‬‬
‫‪ – 3‬هيجل (جورج ويليام فريدريك) فيلسوف ألماني ولد بستود قارت سنة ‪ 1111‬وتوفى سنة‬
‫‪.1331‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما المسوغات الفلسفية التي جعلت هيجل يحصر مهمة الفلسفة في‬
‫فهم ما هو كائن؟ وكيف توفق بين هذه الفكرة وبين كونه مثاليا؟‬
‫‪ - 2‬وضح داللة القول‪" :‬الفلسفة تأتي دائما متأخرة جدا فهي بوصفها‬
‫فكرة العالم ال تظهر إال حين يستوفي الواقع مسار تكونه ويأتي‬
‫عل نهايته"‪.‬‬
‫‪ -3‬ما عس يكون دور الفيلسوف –وهو الذي يأتي دائما متأخرا –‬
‫في عالم تحكمه الضرورة؟‪.‬‬
‫(‪: )9‬‬ ‫النص‬

‫الفلسفة وليدة عصرها‬


‫تقديم‪:‬‬
‫‪103‬‬
‫يرى معظم الناس أن الفالسفة يعيشون خارج واقعهم في بروج معزولة‬
‫عن مجتمعاتهم حيث يكونون ألنفسهم عالما من الخيال والوهم لكن تاريخ‬
‫الفلسفة كما يرويه ماركس مل ء بالشواهد التي تفند هذه التهمة وتبين ارتباط‬
‫الفلسفة بالوضعية االجتماعية وروح العصر الذي صدرت عنه فالفيلسوف‬
‫مهما قيل عنه يعكس عصره لكنه بالتأكيد يتجاوزه‪.‬‬
‫ـــــــــــــ‬
‫إن الفالسفة ال يخرجون من األرض كالفطر)‪ (1‬بل إنهم ثمرة‬
‫عصرهم وبيئتهم إذ في األفكار الفلسفية تتجل أدق طاقات الشعوب وأثمنها‬
‫وأخفاها‪.‬‬
‫الذي يضع الخطوط الحديدية بأيدي العمال هو نفس الفكر‬ ‫الفكر)‪(2‬‬ ‫إن‬
‫الذي يخلق المذاهب الفلسفية في أدمغة الفالسفة‪.‬‬
‫فالفلسفة ليست خارجة عن الواقع‪ ...‬وبما أن كل فلسفة حقيقية هي‬
‫زبدة زمانها فالب د أن يحين الوقت الذي يكون فيه للفلسفة عقد مع واقع‬
‫عصرها وعالقات متبادلة بينها وبين هذا الواقع ال من الداخل فقط من حيث‬
‫وعندها لن تعود‬ ‫مظاهرها)‪(3‬‬ ‫محتواها بل وأيضا من الخارج من ناحية‬
‫الفلسفة تضاربا بين المذاهب بل مجابهة للواقع أي فلسفة العالم الحاضر‪...‬‬
‫وإذا لم يهضم األفراد المنعزلون الفلسفة الحديثة ويهلكوا لسوء هضم‬
‫فلسفي فليس ذلك دليال ضد الفلسفة كما أن الضرر الذي يلحق بعض المارة‬
‫من جراء انفجار آلة تسخين ال يعد دليال ضد علم الميكانيكا‪.‬‬
‫ماركس‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪104‬‬
‫(‪ )1‬الفطر‪ :‬يعني بذلك أن الفالسفة ال يبرزون (دفعة واحدة) في فراغ الفطريات التي تنمو‬
‫منفردة وفي عزلة عما سواها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المقصود هو الفكر المرتبط بالزمان وهو يتطور من ناحية الخلق المادي والروحي‪ .‬وال‬
‫يمكن فصل التقدم الفكري عن التقدم المادي‪.‬‬
‫(‪ )3‬ال تتأثر الفلسفة بالزمان من ناحية محتواها فقط بل وايضا من ناحية الصيغ التي تقدم‬
‫فيها‪.‬‬

‫صاحب النص‪:‬‬
‫ماركس )‪ (1883-1818‬فيلسوف‪ ،‬سياسي واقتصادي ألماني يهودي‬
‫وضع مذهبا جديدا في المعرفة هو المادية الجدلية وفي فلسفة التاريخ يعرف‬
‫بالمادية التاريخية بمشاركة رفي ق نضاله انجلز‪ ،‬من أهم مؤلفاته‪ :‬رأس المال‪،‬‬
‫مساهمة في نقد االقتصاد السياسي والفلسفة‪ ،‬نظرية فائض القيمة – االقتصاد‬
‫السياسي والفلسفي‪ ،‬بؤس الفلسفة‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬هل ترى أنه من الضروري أن ترتبط الفلسفة بواقع عصرها أم‬
‫أنها ينبغي أن تضرب في اآلفاق البعيدة عن هذا الواقع؟ عزز‬
‫موقفك بحجج‪.‬‬
‫‪ - 2‬كيف يبدو لك جدوى الفلسفة من خالل النص؟‬
‫‪ -3‬هل يعكس الفيلسوف واقعه فقط أم إنه يعمل عل تجاوزه؟‬

‫(‪: )11‬‬ ‫النص‬


‫الفلسفة الوضعية‬

‫تقديم‪:‬‬

‫‪105‬‬
‫وقف أوجست كونت من الفلسفة موقفا ذا طبيعة خاصة‪ ،‬فهو لم‬
‫يفرضها بشكل كامل‪ ،‬ولكن يرى ضرورة اختزال اهتماماتها في أمور هي‬
‫أقرب إل العلم منها إل الفلسفة كالمبادئ العامة المشتركة بين العلوم‪.‬‬

‫ــــــــــــ‬

‫استخدم لفظ فلسفة االستخدام الذي يقبله األقدمون‪ ،‬وأرسطو عل‬


‫الخصوص‪ ،‬من حيث إنها تعني المنظومة العامة للمفاهيم البشرية (‪ )...‬أما‬
‫عبارة فلسفة وضعية فلست أعني بها فحسب‪ ،‬مقارنة مع "علوم وضعية"‪ ،‬إال‬
‫الدراسة الخاصة للمفاهيم العامة لمختلف العلوم‪ ،‬من حيث هي خاضعة لمنهج‬
‫واحد ‪ ،‬ومن حيث إنها تشكل أجزاء مختلفة لبرنامج عام للبحث‪.‬‬

‫يكفي إذن أن نجعل من دراسة المفاهيم العامة العلمية تخصصا هاما‬


‫ينضاف إل باقي التخصصات‪ .‬وت قوم طبقة جديدة من العلماء المكونين تكوينا‬
‫مالئما‪ ،‬غير مستغرقين ‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬في الدراسات التخصصية في أي‬
‫فرع من فروع الفلسفة الطبيعية‪ ،‬تكون مهمتها الوحيدة‪ ،‬وانطالقا من األخذ‬
‫بعين االعتبار الحالة الراهنة لمختلف العلوم الوضعية‪ ،‬تحديد روح كل منها‬
‫تحديدا دقيقا‪ ،‬والكشف عن عالئقها وإبراز تسلسلها وتلخيص جميع مبادئها‬
‫المشتركة فيما بينها مع التقيد دوما بالقواعد األساسية للمنهج الوضعي‪.‬‬

‫(أوغست كونت)‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬إل أي حد يمكن اعتبار الوضعية مجرد موقف نقدي للفلسفة‬
‫القديمة ؟‬
‫‪ - 2‬ما الذي يقصده الكاتب بقوله"إنها تعني المنظومة العامة للمفاهيم‬
‫البشرية؟‬
‫‪ -3‬بأي معن يمكن القول‪ :‬إن الوضعية لم تتجاوز ما كان سائدا في‬
‫الفلسفة من تعميم وغياب للوحدة؟‬

‫‪106‬‬
107
‫أسئلة الباب‬
‫‪ - 1‬إن رفضنا للفلسفة هو الذي يوقعنا في أسوإ فلسفة‪ .‬ما رأيك؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3388‬‬
‫‪ – 2‬هل يمكن لمشكل فلسفي أن يصبح متجاوزا؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3332‬‬
‫‪ – 3‬البحث عن الحقيقة هو الغاية الوحيدة الالئقة باإلنسان‪ .‬ما رأيك؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3335‬‬
‫‪ – 4‬هل يمكن القول إن الشك مفيد للمعرفة ضار بالعمل؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3330‬‬
‫‪ – 5‬هل يمنعنا اختالف الفلسفات من معرفة الحقيقة؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪2434‬‬
‫‪ – 6‬هل يمكن القول‪ :‬إن قاعد البداهة عند ديكارت تأسيس للفكر الثوري في‬
‫الفلسفة؟‬
‫‪ – 1‬هل يغنينا العلم بما حققه من نتائج دقيقة عن الفلسفة؟‬
‫‪ – 3‬بأي معن يمكن القول‪ :‬إن قيمة الفلسفة تلتمس فيما هي عليه من عدم‬
‫اليقين؟‬
‫‪ – 9‬كيف تفسر هذا القول‪ :‬إن الفلسفة خالصة عصرها؟‬
‫‪ – 11‬حدددددددد العـددددددـالقات المنطقيــددددددـة القائمددددددـة بددددددين الفكددددددر الفلسددددددفي‬
‫واألديستيمولوجيا‪.‬‬
‫‪ – 11‬إل أي حد يمكن القول‪ :‬إن الشك طريق اليقين؟‬

‫‪108‬‬
‫المحور الثاني‪:‬‬
‫العلوم اإلنسانية‬

‫‪109‬‬
‫تصدير‬
‫" إن العلوم اإلنسانية لم ترث حقال قد رسمت معالمه‪ ،‬وربما‬
‫قدر تقديرا إجماليا ولكنه ترك بورا" ميشل فوكو‬
‫"إن المؤرخ هو ينشأ كل المواد التي يعمل عليها أو إذا شئنا‬
‫إنه يعيد إنشائها" لوسيان فيفر‬
‫حال من االعتدال في قول الخبر‬ ‫" إذا كانت النفس عل‬
‫ابن خلدون‬ ‫أعطته حقه من التمحيص والنظر"‬
‫"عندما يتكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا"‬
‫دوركايم‬
‫" هل يمكن دراسة الظاهرة اإلنسانية بعيدا عن الذات‬
‫ولواحقها"‬

‫‪110‬‬
‫العلوم اإلنسانية‬
‫بدأت البوادر األول للعلوم اإلنسانية في الظهور خالل القرن السادس‬
‫عشر مع (بونتيني) و(رايلي) و(ماكدفلي) ‪ ،‬وابن خلدون في القرن السادس‬
‫عشر‪.‬‬
‫ولعل األسباب الحقيقية وراء ظهور العلوم اإلنسانية نهاية القرن ‪33‬‬
‫اختفاء ظاهرة التمركز حول الذات‪ ،‬واقتفاء بالعلوم التجريبية‪ ،‬واستجابة‬
‫لرغبة جامحة لدى العلماء في فهم وتفسير سلوك اإلنسان بطريقة علمية‬
‫تسمح بوضع قوانين أو ضوابط لهذه العلوم وربما بالتنبؤ بمساراتها‬
‫المستقبلية‪.‬‬

‫وسنتناول في هذا المحور الموضوعات أو العناوين التالية‪:‬‬


‫* إشكالية التسمية‬
‫* موضوع العلوم اإلنسانية‬
‫* خصائص الظاهرة اإلنسانية‬
‫* نماذج من العلوم اإلنسانية‬

‫أوال‪ :‬إشكالية التسمية‪:‬‬

‫إننا هنا بصدد معالجة إشكالية ابستيمولوجية متعلقة بموضوع معقد‬


‫هو الظاهرة اإلنسانية وما تثيره من مشاكل منهجية مرتبطة بتحديد طرق‬

‫‪111‬‬
‫وآليات الدراسة المناسبة لفهم وتفسير هذه ال ظاهرة بكل أبعادها السيكولوجية‪،‬‬
‫والسوسيولوجية‪ ،‬والتاريخية‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫وهذه اإلشكالية انعكست عل محاولة تحديد المصطلح المالئم‬


‫استخدامه عند دراسة تلك الظواهر؛ حيث نجد ثالث تسميات مختلفة هي‪:‬‬
‫"اإلنسانيات أو الدراسات اإلنسانية"‪" ،‬العلوم المعنوية أو الروحية "‪ ،‬ثم‬
‫"العلوم اإلنسانية"‪.‬‬

‫‪ ‬اإلنسانيات أو الدراسات اإلنسانية‪:‬‬

‫والذين أطلقوا عل هذه العلوم‪ :‬اإلنسانيات أو الدراسات اإلنسانية‬


‫فضلوا مصطلح "اإلنسانيات" أو "الدراسات اإلنسانية" رافضين وصفها‬
‫بصفة "العلمية" تعللين بأ ن هذه الظو اهر يستحيل التوصل فيها إل حقائق‬
‫موضوعية مماثلة لتلك الحقائق التي تتوصل إليها العلوم الطبيعية‪ ،‬وبالتالي‬
‫فإن مستخدمي هذا المصطلح من أمثال‪" :‬كارل بوبر" ال يخفون سعيهم للحط‬
‫من قيمة المعارف التي يتوصل إليها في ميدان "اإلنسانيات" التي اعتبروها‬
‫مفعمة بالمفاهيم الميتافيزيقية‪ ،‬ويغلب عليها الطابع الفلسفي التأملي البعيد عن‬
‫روح العلم ومنهجه‪ .‬وهو نفس الموقف الذي تبناه أنصار "الوضعية المنطقية‬
‫المعاصرة" مثل‪" :‬ادلف كار ناب" و"رايشنباخ"‪.‬‬

‫‪ ‬العلوم المعنوية أو الروحية‪:‬‬


‫أما القائلين بالعلوم المعنوية أو الروحية فينطلقون من أن هذا‬
‫المصطلح استخدمته المدرسة األلمانية التي رأت أن الظواهر اإلنسانية ال‬
‫يمكنها أن ترق إل مستوى الدراسة العلمية المعروفة في العلوم الوضعية؛‬
‫حيث ذهب "وليام دلتاي" (وكذلك أتباع المدرسة الفينومينولوجية مثل "ماكس‬
‫شلر") إل التمييز بين "المادة" و"الروح"‪ ،‬معتبرين المادة موضوعا للعلوم‬
‫الطبيعية بفعل قابليتها لتطبيق المنهج التجريبي وخضوعها للمالحظة‬
‫‪112‬‬
‫والتجربة‪ ،‬وبالتالي إمكانية اكتشاف القوانين الدقيقة التي تحكمها‪ ،‬وذلك عل‬
‫اعتبار أن المادة تخضع للحتمية الطبيعية‪ ،‬وأن األحكام التي نصدرها عليها‬
‫تكون ذات صبغة موضوعية‪ ،‬عكس "الظواهر اإلنسانية" التي تصعب‬
‫معالجتها بالطرق التجريبية نظرا للدور الذي يلعبه عنصر "الوعي" والتأثير‬
‫الناتج عن تدخل "اإلرادة" ‪ ،‬وبالتالي فإن كل ما هو متاح لنا في مواجهة هذه‬
‫الظواهر إنما هو "فهمها" بدل محاولة "تفسيرها"‪.‬‬

‫ويعتبر تمييز "كانط" بين عالم "الضرورة" الذي هو الطبيعة‪ ،‬وعالم‬


‫"الحرية" الذي هو اإلنسان أساسا لهذا التمييز بين "المادة" و"الروح" عند‬
‫مستخدمي مصطلح "العلوم المعنوية أو الروحية"‪.‬‬

‫‪ ‬العلوم اإلنسانية‪:‬‬
‫أما مستخدمو هذا المصطلح فيؤكدون عل إمكانية دراسة الظواهر‬
‫اإلنسانية (بكل أبعادها ومستوياتها) دراسة علمية من شأنها التوصل إل‬
‫حقائق وقوانين موضوعية مشابهة لتلك التي تتوصل إليها العلوم الطبيعية‪،‬‬
‫وذلك باستخدام المنهج التجريبي بجمع خطواته‪ :‬من مالحظة وفرضية‪،‬‬
‫وتجريب‪ ،‬وصياغة قانون‪.‬‬

‫وتعتبر المدرسة السلوكية التي يتزعمها "جون واطسون" من أشهر‬


‫أنصار هذا الرأي في ميدان "علم النفس"‪ ،‬أما في ميدان "السوسيولوجيا"‬
‫فنجد "المدرسة الوضعية الفرنسية" بزعامة "أوغست كونت" و"أميل‬
‫دوركايم" والتي تدعوا إل دراسة الظواهر االجتماعية كـ"شيء" وذلك‬
‫لتحقيق شرط الموضوعية‪ ،‬ولضمان التطبيق الصحيح للمنهج التجريبي‪ .‬أما‬
‫المدرسة الوثائقية بزعامة(رانكه) و "النغلو" و"سنيوبوس" فقد رأت أنه‬
‫باإلمكان تطبيق المنهج التجريبي في التاريخ تماما كما يطبق في العلوم‬
‫الطبيعية‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫والواقع أن مصطلح "العلوم اإلنسانية" أصبح هو السائد اآلن‪ ،‬في‬
‫حين اختفت باقي المصطلحات التي عرفتها المراحل األول لنشأة العلوم‬
‫اإلنسانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫وقد عكس تعدد المصطلحات هذا –في جانب منه – ذلك الصراع‬
‫األيديولوجي الذي سببه التعصب الثقافي إلحدى الحضارات األوربية الثالث‬
‫الرئيسية؛ حيث اتسمت الفلسفة األلمانية بطابع مثالي‪ ،‬بينما اصطبغت الثقافة‬
‫الفرنسية بصبغة وضعية‪ ،‬في حين طغت النزعة الحسية عل الثقافة‬
‫االنجليزية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬موضوع العلوم اإلنسانية‪:‬‬


‫تهتم العلوم اإلنسانية بدراسة الظواهر اإلنسانية المختلفة سواء كانت‬
‫سيكولوجية‪ ،‬أو سوسيولوجية‪ ،‬أو تاريخية‪ ،‬حيث نجد "علم النفس" و"علم‬
‫االجتماع" و"علم التاريخ" بصفتها علوما «تهتم بدراسة مواقف اإلنسان‬
‫وأنماط سلوكه‪ ،‬أو هي علوم تدرس الواقع اإلنساني للتعرف عل ما هو ثابت‬
‫فيه بعد تحليله والكشف عن نظمه وقوانينه»(‪.)1‬‬

‫فالعلوم اإلنسانية إذن تخاطب «اإلنسان باعتباره كائنا يحيا‪ ،‬ويتكلم‪،‬‬


‫وينتج؛ فمن حيث هو كائن يعتقد أن له وظائف وحاجيات‪ ،‬ومن ثم ينفتح‬
‫أمامه مجال يرتبط من خالله بمجموعة من اإلحداثيات المتحركة‪ .‬وبصفة‬
‫عامة فإن وجوده الجسماني يجعله يتقاطع –من هذا الجانب أو ذاك‪ -‬مع‬
‫الكائن الحي المنتج لألشياء واألدوات‪ ،‬كما يقوم بمبادلة ما هو في حاجة إليه‪،‬‬
‫وذلك بتنظيم شبك ة من العالقات التي يتوزع من خاللها كل ما يمكن أن‬
‫يستهلكه؛ إذ يجد نفسه في نقطة يتقاطع فيها مع اآلخرين‪ .‬وأخيرا يتمكن من‬
‫بناء عالم رمزي من خالل اللغة يرتبط فيه بماضيه وباألشياء وبالغير‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا العالم أيضا‪ ،‬يتمكن من بناء شيء ما يجوز أن نطلق عليه‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفلسفة لطالب الباكلوريا ج‪ – 2‬الجمهورية الجزائرية ص ‪.334‬‬
‫‪114‬‬
‫اسم "معرفة" هذه المعرفة التي يكونها عن ذاته هي ما تحاول العلوم اإلنسانية‬
‫تشكيل بعض أوجهها»(‪.)1‬‬

‫غير أن هذه "المعرفة" التي يحاول اإلنسان تكوينها عن ذاته واجهت‬


‫–وما زالت تواجه‪ -‬تحديات وعوائق ابستيمولوجية فرضتها طبيعة الظاهرة‬
‫اإلنسانية وخصوصيتها المميزة‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬خصائص الظاهرة اإلنسانية‪:‬‬


‫يرى "ماكس ابالنك" أن « كل عملية الفكر العلمي جهد مستمر لنزع‬
‫كل العناصر االنتروبولوجية وإقصائها؛ أي علينا أن ننس اإلنسان لندرس‬
‫الطبيعة ولنكشف القوانين الطبيعية ونصوغها»(‪.)2‬‬

‫إذا كان ذلك صحيحا‪ ،‬فهل ينطبق األمر عل اإلنسان؟ وهل نستطيع‬
‫أن ننس اإلنسان في اللحظة التي ندرسه فيها؟ وهل بإمكان دارس الظواهر‬
‫اإلنسانية أن يتخلص من خصوصياته كإنسان ليدرس هذه الظواهر؟ وهل‬
‫تتجل لنا الظواهر اإلنسانية بذ ات الدرجة من الوضوح والشفافية التي تتجل‬
‫لنا بها الظواهر الطبيعية‪ ،‬والفيزيائية‪ ،‬والبيولوجية مثال؟ أم أن للظاهرة‬
‫اإلنسانية خصوصيتها المميزة والتي تلزم مراعاتها بانتباه وحذر عند‬
‫دراستها؟‬

‫إن جل الدارسين للظواهر اإلنسانية يعترفون بخصوصية هذه‬


‫الظواهر ومميزاتها األساسية والتي يمكن أن نجمل أهمها في اآلتي‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬نقال عن ‪ :‬الفلسفة السنة الثانية من سلك الباكلوريا‬
‫(مسلك اآلداب والعلوم اإلنسانية) سلسلة "منا" ص‪.80 :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي الفلسفة‪ ،‬مصدر سابق ص ‪.048‬‬
‫‪115‬‬
‫‪ – 1‬الظاهرة اإلنسانية ظاهرة معقدة‪:‬‬
‫ذلك أن كل ظاهرة إنسانية تتشكل من جملة عناصر متشابكة بشكل‬
‫يصعب معه تكميم هذه الظاهرة أو تحديد العنصر أو العناصر األساسية‬
‫الفاعلة والمؤثرة فيها بشكل دقيق‪ ،‬مما يعقد مهمة الدارس ويحفها بمخاطر‬
‫االنزالق خلف األحكام المبسطة والنظرة التجزيئية المخلة بضرورات‬
‫الدراسة العلمية للظاهرة‪ .‬من ذلك مثال‪ :‬كثافة العوامل التي يمكن أن تكون‬
‫سببا في ظاهرة إنسانية ما كالحروب‪ ،‬أو البطالة‪ ،‬أو التخلف‪ ،‬أو كتداخل‬
‫العوامل االجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والجسمية‪ ،‬والعقلية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والتربوية‪،‬‬
‫والوراثية في مرض نفسي ما بشكل ربما استحال معه فصل أو تمييز‬
‫المتغيرات البسيطة عن بعضها البعض‪ ،‬وهو ما جعل بعضهم يعتبر الحادثة‬
‫الفيزيائية بكل عالقاتها الرياضية مجرد "لعبة أطفال" إذا ما قورنت بالظواهر‬
‫اإلنسانية !‬

‫‪ – 2‬الظاهرة اإلنسانية ظاهرة متغيرة باستمرار‪:‬‬


‫ذلك أن الظاهرة اإلنسانية ال تثبت عل حالة واحدة؛ بل هي متغيرة‬
‫في الزمان والمكان‪ ،‬ومن أمثلة تغيرها في الزمان "وعي" اإلنسان وإدراكه‬
‫الذي ينمو‪ ،‬ويتطور‪ ،‬ويتغير باستمرار وفي مراحل مختلفة من الطفولة‪ ،‬إل‬
‫المراهقة‪ ،‬إل البلوغ‪ ..‬ومن ذلك أيضا المقوالت االقتصادية التي كشف‬
‫"ماركس" عن حقيقة كونها متغيرة‪ ،‬وغير ثابتة عكس ما تصوره‬
‫االقتصاديون الكالسيكيون‪.‬‬

‫ومن أمثلة تغير هذه الظواهر في المكان ما نالحظه من اختالف‬


‫الصور التي تأخذها ظاهرة اجتماعية ما كالثورات والحروب من مجتمع‬
‫آلخر‪ ،‬واختالف هذه الظواهر (حت لو تعاصرت زمانا) في شروط قيامها‬
‫وفي النتائج المترتبة عليها‪ .‬وفي هذا الصدد كان تأكيد ابن خلدون عل أنه ال‬
‫يمكن قياس أحوال العمران البشري بعضها عل بعض‪ ،‬فيما كشف‬
‫"شومسكي" عن «الطابع اإلبداعي في اللغة والمتمثل في إنتاج تراكيب جديدة‬
‫‪116‬‬
‫تحول دون ضبط اللغة في قواعد ثابتة والتنبؤ بما سيحدث فيها»(‪ .)1‬وكلها‬
‫أمثلة تكشف لنا مدى صعوبة تحديد قوانين دقيقة تعكس العالقات الثابتة في‬
‫ظاهرة إنسانية ما‪.‬‬

‫‪ – 3‬الظاهرة اإلنسانية ظاهرة نسبية‪:‬‬


‫إن ظاهرة التغير المستمر تبدو ذات صلة بظاهرة أخرى هي ظاهرة‬
‫النسبية‪ ،‬ذلك أن الظاهرة اإلنسانية ليست ذات قيمة مطلقة‪ ،‬بل إن قيمتها ال‬
‫تتح دد إال منسوبة لظروفها الخاصة والتي قد تختلف في الزمان والمكان‪ ،‬أي‬
‫من عصر آلخر‪ ،‬ومن بلد لغيره‪ ،‬وباختالف الشعوب والمجتمعات الذي يمليه‬
‫اختالف الظروف والثقافات والحاجات‪ ،‬وما يترتب عل ذلك من مؤسسات‬
‫مختلفة تظهر هنا أو هناك استجابة لحاجات متنوعة ومتباينة حسب الظروف‬
‫واألوضاع التي «إن تشابهت في أمر فإنها تختلف في أمور» حسب تعبير‬
‫ابن خلدون‪ .‬ولعل هذا هو ما دفع "ماركس" «إل التمييز بين أنماط اإلنتاج‬
‫المعروفة (المشاعية البدائية‪ ،‬والعبودي‪ ،‬واإلقطاعي ‪ ،‬والرأسمالي) وبين‬
‫"نمط اإلنتاج اآلسيوي"»‪.‬‬

‫هذا فضال عن اختالف القيم المعيارية والنظرة التي ننظر بها إل‬
‫الظاهرة الواحدة؛ من ذلك مثال‪ :‬أن ما يعتبر كرما في ثقافة مجتمع معين قد‬
‫يعتبر إسرافا وتبذيرا في ثقافة مجتمع آخر‪ ،‬وما يعتبر شجاعة عند قوم قد‬
‫يكون تهورا في نظر آخرين‪ ،‬وقد تنظر أنت إل ممارسة معينة باعتبارها‬
‫ضربا من الفوض والممارسة البهيمية وانعدام األخالق اإلنسانية‪ ،‬بينما‬
‫يعت برها غيرك أسلوبا مشروعا لممارسة الحرية والتعبير عن الذات ! ألسنا في‬
‫مجتمعاتنا اإلسالمية تعتبر الحجاب ثوبا محتشما وعنوانا عل األخالق‬
‫الرفيعة للمرأة المسلمة‪ ،‬فيما يرى فيه آخرون عنوانا للتخلف والجمود وحت‬
‫"اإلرهاب" والتطرف؟‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة ‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.034‬‬
‫‪117‬‬
‫إن ذلك قد يكون من األسباب التي دفعت "جون دوي" للقول بأنه‬
‫« ربما كان تناول بعض الباحثين للمشكالت اإلنسانية من ناحية االستهجان‬
‫واالستحسان الخلقيين‪ ،‬ومن ناحية الخبث والطهر أكبر العقبات التي تقف في‬
‫طريق تطوير المناهج السديدة في مجال الدراسات االجتماعية»‪.‬‬
‫إن هذا االختالف والتباين في ظروف وقيمة وأوضاع الظاهرة‬
‫اإلنسانية تبعا الختالف األزمنة واألمكنة هو الذي أدى إل صعوبة – وربما‬
‫استحالة‪ -‬تعميم األحكام التي نتوصل إليها في مجال ما عل مجال آخر‪ ،‬أو‬
‫في مجتمع عل غيره‪ ،‬أو مؤسسة عل أخرى‪.‬‬
‫إن صعوبة تطبيق قواعد "التعميم" و"التجريد" (المعروفة في العلوم‬
‫الطبيعية) عل العلوم اإلنسانية هو بعض ما نعنيه بنسبية الظاهرة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ – 4‬الظاهرة اإلنسانية ظاهرة واعية‪:‬‬


‫لعل من أهم األسباب التي ساعدت عل تطور العلوم الطبيعية وما‬
‫حققته من إنجازات وفتوحات عظيمة هو طبيعة الموضوع الذي تدرسه هذه‬
‫العلوم‪ ،‬والمتمثلة في كونه موضوعا ماديا ذا وجود موضوعي مستقل عن‬
‫ذواتنا‪ ،‬مما يسمح لنا بالتعامل معه "كشيء" مستقل ال تربطنا به أي مشاعر‬
‫أو عالقات وجدانية أو نفسية‪ ،‬وذلك عكس الظاهرة اإلنسانية المتسمة بعنصر‬
‫الوعي الذي البد أن يؤثر فيها عند الدارسة في شكل "نية" أو "إرادة" أو‬
‫"قصد" أو "غاية"‪.‬‬

‫إن الظاهرة اإلنسانية ليست شيئا مستقال عنا بل هي كامنة فينا متأثرة‬
‫بنا‪ ،‬مؤثرة فينا؛ حيث الدارس هو عين المدروس‪ ،‬وهذا هو ما حدا «بفرويد‬
‫مثال إل تغيير طريقة التنويم المغناطيسي بطريقة التداعي الحر‪ ،‬خاصة مع‬
‫بعض المرض المثقفين الذين يصعب تنويمهم لقوة النقد والمعارضة لديهم‬
‫الشيء الذي يحول دون تجلي المكبوتات‪( ..‬كما أن) تدخل الوعي هذا هو‬

‫‪118‬‬
‫الذي يحول دون إعادة بناء الحادثة التاريخية بأمانة وموضوعية (نظرا)‬
‫(‪)1‬‬
‫لتدخل المزاج واإلرادة والرغبة والميول الخاصة للمؤرخ»‬
‫‪ – 5‬الظاهرة اإلنسانية ظاهرة خفية‪:‬‬

‫يرى "غاستون باشالر" أن "الواقع العلمي" واقع مبني‪ ،‬وأن الظاهرة‬


‫الطبيعية هي ظاهرة "منشأة ومصنعة" ‪ ،‬أي أنها غير معطاة في التجربة‪ ،‬وأن‬
‫الظاهرة الفيزيائية ال تتضح لنا حقيقتها من مجرد مالحظتها ألنها ظاهرة‬
‫"خفية" ‪ ،‬وأن ما يتجل لنا في الظاهر المحسوس كثيرا ما يكون خادعا‬
‫ومضلال ألن « عادة الحياة اليومية هي وحدها التي تحملنا عل االعتقاد بأن‬
‫اتخاذ عالقات إنتاج اجتماعية شكل "شيء" هو أمر عادي وبسيط» كما يقول‬
‫ماركس‪.‬‬

‫إذا كان األمر كذلك في الظواهر الفيزيائية والطبيعية –بشكل عام‪-‬‬


‫فإن األمر أجل وأوضح عندما يتعلق بالظواهر اإلنسانية التي تصعب‬
‫مالحظتها بالمعاينة المباشرة سواء كانت هذه الظواهر نفسية‪ ،‬أم اجتماعية‪ ،‬أم‬
‫تاريخية؛ إذ أن المجال اإلنساني مجال ينبض بالحياة‪ ،‬ويزخر بالمعاني‬
‫واإليحاءات‪ ،‬وبالرموز واإلشارات‪ ..‬مما يجعل حقائقه تختفي وراء حجب‬
‫كثيفة من العوائق والتحديات االبستيمولوجية التي تفرضها طبيعة هذه‬
‫الظواهر‪ ،‬والتي ينطبق عليها أكثر من غيرها – ما ذهب إليه ماركس من أنه‬
‫«لو كان مظهر األشياء يتطابق مع جوهرها‪ ،‬لصار كل علم غير الزم»‪ .‬تلك‬
‫هي أهم الخصوصيات المميزة للظاهرة اإلنسانية‪ ،‬وقد انعكست بوضوح –‬
‫لتخلق مشاكل وتحديات جدية‪ -‬عند محاولة تحديد المنهج المالئم للدراسة في‬
‫ميدان العلوم اإلنسانية‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.033‬‬
‫‪119‬‬
‫‪ - 1‬هل يمكننا أن ندرس الظواهر اإلنسانية دراسة علمية؟‬
‫اذكر أهم اآلراء المتعلقة بالموضوع‪.‬‬
‫‪ - 2‬إل أي حد تختلف الظاهرة اإلنسانية عن غيرها من الظواهر‬
‫الطبيعية؟‬
‫‪ -3‬يقول ""اكلود لفي شتراوس"‪« :‬إن علينا طرح الظاهر إذا كنــا‬
‫نتطلع إل تفهم العالم» ناقش هذا الرأي عل ضوء ما تعرفه من‬
‫خصائص الظاهرة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫علم التاريخ‬
‫ليس ثمة شك في أن اإلنسان قد اهتم منذ أمد بعيد بتحديد الوقت‬
‫وتقسيم ديمومة الزمان والتاريخ للحوادث والظواهر الطبيعية والبشرية‬
‫المرتبطة بحياته‪ ،‬وال يزال هذا اإلنسان يبحث في تلك الحوادث والوقائع‬
‫لالستفادة منها في حاضره و مستقبله واستخالص العبر التي يزخر بها‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫والتاريخ في اللغة الوقت وتاريخ الشيء وقته وغايته‪ ،‬وفي‬
‫االصطالح «علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية‪ ،‬وحقيقتها كما قال ابن‬
‫خلدون‪ « :‬خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض‬
‫لطبيعة ذلك العمران من األحوال‪ ،‬مثل التوحش والتأنس والعصبيات‬
‫وأصناف التغلبات للبشر بعضهم عل بعض‪ ،‬وما ينشأ عن ذلك من الملك‬
‫والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاني‬
‫(‪)1‬‬
‫والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من األحوال»‬
‫فالتاريخ إذن يشمل كل ما يحدث في االجتماع البشري‪ ،‬مما جعل (سقراط)‬
‫يعتبر التاريخ مرادفا للمعرفة البشرية الماضية برمتها‪ ،‬عل عكس أرسطو‬
‫الذي اعتبره جمع الوثائق‪.‬‬
‫وقد يقتصر بعض المؤرخين عل ذكر أسباب الحوادث وتمحيص‬
‫األخبار وتعليل الوقائع ونقد ال وثائق‪ ،‬وهذا ما يعرف بالتاريخ االنتقادي الذي‬
‫يسع إل الدقة والعلمية بمفهومه الحديث كعلم من العلوم اإلنسانية‪ .‬أما إذا‬
‫اهتم المؤرخ باستخالص العبر من الماضي لفائدة األفراد أو المجتمعات أو‬
‫الدول‪ ،‬كان تاريخه يتناول جوانب أخرى من الحياة كالتربية أو السياسة‬
‫أو‪ ....‬أما إذا تجاوز ذلك كله إل تعليل الوقائع لمعرفة كيفية حدوثها وأسباب‬
‫نشوئها كان تاريخه فلسفيا أو فلسفة للتاريخ والتاريخي عند بعضهم ضد‬
‫النظري أو المنطقي فقد يوجد بين حادثتين رابط منطقي دون وجود رابط‬
‫تاريخي (‪ ،)2‬ولذلك يرى بيكون أن التاريخ هو «العلم باألمور الجزئية» لذا‬
‫هو ضد الفلسفة التي هي«العلم باألمور الكلية»‪ ،‬فيذهب (بيكون) كما ذهب‬
‫(أرسطو) من قبله إل أن التاريخ مغاير للفلسفة بطريقته ال بموضوعه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬المعجم الفلسفي جميل صليا ‪ ،‬ص ‪.227‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬المعجم الفلسفي الالند ‪ ،‬ص ‪.033‬‬
‫‪121‬‬
‫وقد تأثرت دراسة التاريخ وروايته لفترة طويلة باألفكار العيبية‬
‫واألسطورية والميتافيزيقية‪ ،‬قبل أن يتحرر من األوهام والقوى الغيبية التي‬
‫كان يعتقد أنها تتحكم في حركة التاريخ وتطوره وذلك عل يد (هيرودوت)‬
‫باعتماده عل العقل وحده في تقصي األخبار والروايات التاريخية مما جعله‬
‫يلقب بأبي التاريخ‪ ،‬وفي العصور الوسط تأثر المؤرخون بالثقافة الالهوتية‬
‫كما نجد عند القديس أوغسطين من المسيحيين والمسعودي والطبري من‬
‫المسلمين الذين يربطون بين األحداث التاريخية وأفكار ومفاهيم دينية كالعناية‬
‫اإللهية أو التدبير اإللهي‪ ،‬ولغايات الجزاء والعقاب‪ ،‬كما كثر اهتمام مؤرخي‬
‫القرون الوسط بسير الملوك ورجال الدين‪.‬‬
‫ومنذ القرن ‪ 38‬الذي سادت فيه النزعة العق النية في كل مجال‪ ،‬بدأ‬
‫المؤرخون يبتعدون عن النزعة الالهوتية‪ ،‬وبدأ اهتمامهم بدراسة األحداث‬
‫االجتماعية واالقتصادية والسياسية والثقافية عل أسس عقالنية‪ ،‬وذلك عل‬
‫يد (هيوم) و(فولتير) و(ديدرو) و(كوند رسيه) و(كانط) وغيرهم‪ ،‬غير أن‬
‫(إيف الكوست) يرى أنــه «لــم يكتب قبـل القرن ‪ 33‬ألحد أن يفوت‬
‫(نيوكديس) سوى ابن خلدون‪ ،‬فاألول اخترع التاريخ وعل يد الثاني اكتسب‬
‫هذا التاريخ صبغته العلمية»(‪ )1‬حيث بين ابن خلدون مزالق المؤرخين‬
‫وأسباب وقوعهم في األخطاء‪ ،‬كما حدد خصائص الظاهرة التاريخية وعدم‬
‫الدقة في استخدام الطرق المجردة في دراسة الحوادث التاريخية وقياس‬
‫بعضها عل بعض‪ ،‬كما وضع القواعد لمنهج النقد في التاريخ وتحقيق‬
‫الروايات‪ ،‬إل درجة تضا هي عمل المدارس التاريخية في القرنين ‪ 33‬و ‪24‬‬
‫(‪)2‬‬
‫مما جعله ب حق مؤسس علم التاريخ واالجتماع الحديثين في رأي الكثيرين‬
‫يقول ابن خلدون‪ « :‬يحتاج صاحب هذا الفن إل العلم بقواعد السياسة وطبائع‬
‫الموجودات واختالف األمم والبقاع واألعصار في السير واألخالق والعوائد‬
‫والنحل والمذاهب وسائر األحوال» وهذه النظرة العلمية هي العامل األساسي‬
‫الذي أدى إل تطور المعرفة العلمية لحوادث التاريخ وماضي اإلنسان خاصة‬
‫مع المدارس الهيجلية والماركسية والوضعية وربط أحداثه بالعامل‬
‫االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفي ص ‪.588‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي حسن شحات‬
‫‪122‬‬
‫كما كان للمدرسة الوثائقية مع (رانكه) و(النغلو) و(سينيوبوس)‬
‫وغيرهما دور كبير في تقريب التاريخ من دقة وموضوعية العلوم الطبيعية‪،‬‬
‫وقد كان لمدرسة الحوليات مع (شارل البروس) و(مارك بلوخ) وغيرهم دور‬
‫كبير أيضا في دفع عملية البحث التاريخي الشامل للحياة اليومية للمجتمعات‬
‫بعيدا عن الحوادث الخارجة عن إطار حياة الناس العاديين ومع المدرسة‬
‫البنيوية تم التحول من االهتمام بالتاريخ كحدث وطريقة في التحليل إل‬
‫االهتمام بالنسق ب دل التاريخ وبالتحليل السينكرونيكي (التزامني) بدل التحليل‬
‫الدياكرونيكي (التسلسلي)‪.‬‬
‫ولما كان الحاضر الذي يعيشه اإلنسان فردا كان أو مجتمعا هو عبارة‬
‫عن نهاية لماض‪ ،‬وبداية لمستقبل‪ ،‬وحد مشترك بين الزمانين كان اهتمام‬
‫اإلنسان دائما بالتاريخ‪ ،‬ألن جدلية الحاضر والمس تقبل ألي مجتمع ال يمكن‬
‫فصلها عن تاريخه‪ ،‬لذا يتم استلهام الماضي وإعادة صياغته حسب متطلبات‬
‫العصر والتطلعات للمستقبل‪ ،‬من خالل دراسة األنظمة الفكرية والحوادث‬
‫االجتماعية واالقتصادية والسياسية عبر التاريخ‪ ،‬ذلك أن علم التاريخ هو‬
‫دراسة سائر ما يحدث في العمران البشري كما يقول ابن خلدون ولكن إل‬
‫أي مدى يمكن إعادة بناء الماضي؟ وما هي الصعوبات التي تعترض سبيل‬
‫المؤرخ (‪. )1‬‬
‫إن اإلجابة عن هذين السؤالين تتطلب تناول إشكاليتين تتعلق األول‬
‫بطبيعة الظ اهرة أو الحادثة التاريخية‪ ،‬في حين تتعلق الثانية بالمؤرخ‬
‫وموضوعيته في البحث‪ ،‬فالدارس هو اإلنسان والمدروس هو ماضيه‬
‫فالحادثة التاريخية تتميز بالتفرد والخصوصية‪ ،‬مما يجعل تكرارها مستحيال‬
‫ألنها حدثت ألسباب وفي ظروف اختفت كلها بال عودة فال يمكن إعادة بناء‬
‫حدث تاريخي من جديد‪ ،‬إذ ال يمكن مثال إعادة ثورة أو حرب أو مجاعة أو‬
‫نهضة أو رجل عظيم أو منظومة فكرية أو ازدهار دولة أو اندثارها ورغم‬
‫إمكانية حدوث مثل هذه الظواهر دائما‪ ،‬إال أن كل ظاهرة تظل فريدة من‬
‫نوعها ومتميزة عن غيرها‪ ،‬ومن هنا كانت الظاهرة التاريخية ككل ظاهرة‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفي ص ‪530‬‬
‫‪123‬‬
‫إنسانية مختلفة عن الظاهرة الطبيعية التي يتحكم الدارس فيها ويعيد تجربتها‬
‫مت شاء(‪.)1‬‬
‫فالمؤرخ كما يقول (بوينكاري) يسع إل التأكد من أن هذا الرجل و‬
‫ذلك الحدث كانا هنا في زمن معين‪ ،‬أما عالم الطبيعة فال يهتم بهذا ألنهما‬
‫ذهبا ولن يعودا أبدا وهذا ما جعل البعض يؤكد عل فردية الظاهرة التاريخية‬
‫وارتباطها بزمان ومكان عاش فيه اإلنسان تلك الظاهرة الفريدة متأثرا بها‬
‫ومؤثرا فيها ثم مات وماتت معه فلم يبق إال اآلثار‪ ،‬ولهذا فإن الظاهرة‬
‫التاريخية تفقد صفتها كلما فقدت عنصري الزمان والمكان(‪ . )2‬إن الحدث‬
‫التاريخي من التعقد والغموض «بحيث تصبح الحادثة الفيزيائية بعالقاتها‬
‫الرياضية لعبة أطفال أمام تشابك القوانين في أي حادث تاريخي صغير»(‪. )3‬‬

‫إن كل إعادة لبناء الحا دث التاريخي يصطدم ال محالة بجدلية‬


‫الحاضر مع الماضي والمستقبل والتأثير المتبادل بينهما‪ ،‬كما في كل فعل‬
‫إنساني ونشاط فكري‪ ،‬فالمؤرخ يتأثر بطريقة أو بأخرى بالواقع االجتماعي‬
‫والمصالح الطب قية أو االتجاهات الدينية‪ ،‬أو القومية‪ ،‬مما حدا بريمون آرون‬
‫إل القول‪« :‬لم تعد المعرفة بالتاريخ قائمة في قص ما حدث نقال عن وثائق‬
‫مخطوطة‪ ،‬ولكنها قائمة في ما نريد أن نكتشفه»(‪. )4‬‬

‫إن الخطوة األول في عمل المؤرخ هي بحق كما قال أرسطو جمع‬
‫الوثائق والتثبت منها بكل الوسائل وفحصها فحصا دقيقا‪ ،‬فهي األثر المادي‬
‫الوحيد الذي ال يمكن في غيابه الوصول إل فهم الحوادث الماضية‪.‬‬

‫ورغم أهمية تلك الوثائق إال أنها تحتاج إل االستنطاق وحل ألغازها‬
‫ورموزها «فيجب أن ن حاول إعادة بناء التاريخ بكل ثمن مع وجود تلك‬
‫الوثائق أو بدونها‪ ،‬فكل ما يكون من اإلنسان يتأثر باإلنسان ويستخدم في‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي الجزء األول ص ‪....‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفي ص ‪533‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع والصفحة‬
‫‪124‬‬
‫سبيل اإلنسان‪ ،‬ويعبر عن اإلنسان‪ ،‬ويعني الحضور والحيوية والذوق‬
‫والصور الموجودة عن اإلنسان كما يقول لويسيان فيفر(‪. )1‬‬

‫فمعرفة الماضي ال يمكن أن تكون مباشرة‪ ،‬لذا تحتاج حساسية مرهفة‬


‫وعمقا من أجل إعادة بناء الكل الضائع من خالل الجزء المتبقي لدينا كما‬
‫يقول دلتاي‪.‬‬
‫لذا فإن معرفة الماضي دائما معرفة نسبية ناقصة عل المؤرخ سد‬
‫ثغراتها إلعادة بنائها وهذا يحتاج إل ثقافة موسوعية كما يقول (جورج‬
‫زيمل)‪ ،‬وهو ما جعل البعض يعتبر التاريخ فنا‪ ،‬وليس علما «فالحوادث‬
‫الماضية ال وجود لها بالفعل إال إذا فكر اإلنسان فيها» كما يقول (اكروتش )‪.‬‬
‫إن معرفتنا بالماضي معرفة نسبية تختلف من حادث آلخر ومن‬
‫عصر آلخر ومن مؤرخ إل مؤرخ ولذا ال يمكن تعميم األحكام في التاريخ‬
‫وال قياس حادث عل آخر‪ ،‬ألن التاريخ يتحدى المنطق وال يخضع له كما‬
‫يقول ابن خلدون ألن المنطق الوحيد الذي يخضع له هو منطق التغير‬
‫والتحول الذي يحتاج إل عقلية جدلية لفهمه واستيعابه(‪.)2‬‬
‫وقد مهدت كل تلك الدراسات النقدية للتاريخ عل يد ابن خلدون‬
‫و(دلتاي) و(كولنجورد) و(زيمل) و(كاسيرر) والمدرسة الماركسية إل‬
‫ظهور مدرسة اآلنال أو الحوليات كأهم مدرسة تاريخية معاصرة تميزت‬
‫بالبحث في ك لية الحدث التاريخي وشموليته واالهتمام بالشكلية االقتصادية‬
‫االجتماعية كإطار لدراسة الحدث التاريخي ال يمكن فهمه خارجه‪ .‬ويرى‬
‫أصحاب هذه المدرسة أن عل المؤرخ أن يدرس الحدث التاريخي في كليته‬
‫ويعرضه عرضا شامال وهو ما يسمونه باألطروحة‪ ،‬ثم يقوم بدراسة نقدية‬
‫للحدث وت سمي نقض األطروحة‪ ،‬وفي األخير يخرج بخالصة تحليلية تسم‬
‫بالتركيب‪ .‬إ ن عمل المؤرخ يبدأ بدراسة الوثائق التي هي المادة التي يجرى‬
‫عليها المالحظات والتجارب‪ ،‬يقول (سينيوبوس) من المدرسة الوثائقية إنه‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬نفس المصدر والصفحة‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة ‪ ،‬ص ‪.586‬‬
‫‪125‬‬
‫«حيث ال توجد الوثائق ينعدم التاريخ» وبوجودها يمكن إعادة بنائه بدقة‬
‫تصل إل دقة العلوم الطبيعية والوصول إل حقائق ال تقل عنها يقينا»(‪.)1‬‬

‫وتنقسم الوثائق إل نوعين ‪ :‬وثائق غير إرادية ‪ ،‬ووثائق إرادية‪،‬‬


‫فاألول هي التي لم ينتجها أحد ولم تحفظ عن قصد كالحفريات واآلثار ولها‬
‫أهمية بالغة لدى المؤرخ‪ ،‬أكثر من غيرها‪ .‬أما الثانية (الوثائق اإلرادية) فقد‬
‫تعمد اإلنسان إنشاءها وحفظها لغاية عامة أو خاصة‪.‬‬
‫لذا عل المؤرخ عدم الوثوق بصحتها إال بعد الكثير من الفحص‬
‫والنقد ألن من دون الحوادث واألخبار قد يفوته بعضها وقد يتجاهل البعض‬
‫جهال أو عمدا حسب فهمه وعالقته بتلك الحوادث‪ ،‬فهو إنسان والحوادث‬
‫تتعلق بالبشر‪ ،‬مما يجعل ال موضوعيته وعدم حياده فيما كتب أمرا مفترضا‬
‫كثيرا‪ ،‬فعل المؤرخ اليوم نقد الوثائق شكال ومضمونا‪ ،‬فقد تكون بالية أو‬
‫بكتابة ولغة قديمة لذا أصبح المؤرخون يستعينون بعلوم مختلفة كعلم الرسوم‬
‫والصور (اإلكوغرافيا) وعلم الكتابة القديمة (البالغرافيا) وعلم اآلثار‬
‫(األركيولوجيا) وغيرها من العلوم المساعدة‪ ،‬فعل المؤرخ أن يقوم بالنقد‬
‫المادي للوثيقة أي صحة نسبتها إل من كتبها‪ ،‬ثم يقوم بالنقد المعنوي أي‬
‫صدق الرواية وخلفية صاحبها وكفاءته‪.‬‬

‫يقول ابن خلدون‪ « :‬إن األخبار إذا اعتمد فيها عل مجرد النقل ولم‬
‫تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران واألحوال في االجتماع‬
‫اإلنساني‪ ،‬وال قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذهاب فربما لم يؤمن‬
‫فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق»(‪.)2‬‬

‫وعند الحديث عن علم التاريخ البد من تناول ثالثة مفاهيم أساسية في‬
‫هذا العلـم وهي ‪ :‬الموضوعيـة في التـاريخ‪ ،‬والحتميــة التاريخية‪ ،‬والمصادفة‬
‫في التاريخ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع ص ‪533‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي ‪ ،‬الجزء األول ‪ ،‬ص ‪.334‬‬
‫‪126‬‬
‫‪ – 1‬الموضوعية في التاريخ‪:‬‬
‫أثار هذا الموضوع جدال بين فريقين أحدهما مؤيد إلمكانية حصول‬
‫الموضوعية في دراسة الحوادث التاريخية وبالتالي اعتبروا التاريخ علما‬
‫واآلخر يعترض عل علمية التاريخ الستحالة الموضوعية في دراسته‬
‫للحوادث ألنها فريدة وال تتكرر‪ ،‬وألن المؤرخ ال يستطيع التزام الحياد‬
‫وتجنب الذاتية‪ ،‬ولكن البعض يرى أن المؤرخ قد يصل إل أكبر قدر من‬
‫الموضوعية باالبتعاد عن كل الم زالق وتجنب اآلراء والميول الشخصية أثناء‬
‫دراسة التاريخ وذلك بجعل البحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة والكشف عنها‬
‫هدفه األول واألخير واستخدام كل استقراء واستنباط ونقد وتحليل للروايات‬
‫والوقائع والحوادث التاريخية‪.‬‬

‫‪ – 2‬الحتمية التاريخية‪:‬‬

‫يرى البعض أن الحديث عن وجود حتمية في الحوادث التاريخية‬


‫حديث ال معن له‪ ،‬غير أن المؤرخ أثناء بحثه في وقائع التاريخ يالحظ وجود‬
‫بعض االضطراد في تلك الحوادث وثباتا لبعض االتجاهات يمكن من إدراك‬
‫ظواهر خاصة أو جزئية عن طريق إدراك وفهم عالقاتها بالنظم العامة ‪.‬‬
‫كالنظام الديني أو السياسي أو االقتصادي أو الثقافي‪ ،‬وهنا يصبح المؤرخ‬
‫ك عالم االجتماع مثلما يصبح عالم االجتماع أحيانا كالمؤرخ نظرا لتداخل‬
‫العلمين وتبادلهما للخدمات‪.‬‬

‫‪ – 3‬الصدفة في التاريخ‪:‬‬
‫إن الحوادث الماضية لم تجر في الزمن مستقلة وال معزولة عن حياة‬
‫الناس وظروفهم االجتماعية‪ ،‬واالقتصادية والسياسية‪ ،‬بل هي وليدة أسباب‬
‫عديدة متشابكة‪ ،‬ولذا ال يمكن النظر إليها وكأنها صدفة‪ ،‬فال وجود للصدفة‬
‫حسب قانون النسبية أو القوانين التجريبية العلمية‪ ،‬فلكل حادث سبب ولكننا قد‬
‫نجهل هذا السبب‪ ،‬فحدوث الوقائع التاريخية نتيجة للصدفة فرضية ال معقولة‬
‫«فإذا كان هناك سبب جزئي ما –كمعركة وقعت صدفة – هو ما أدى إل‬

‫‪127‬‬
‫انهيار دولة ما‪ ،‬فإن هنالك سببا عاما جعل الدولة تنهار بمعركة واحدة‪ ،‬ألن‬
‫التيار العام يجرف األعراض الجزئية» كما يقول (مونتسكيو)(‪.)1‬‬

‫فلسفة التاريخ‪:‬‬
‫فلسفة التاريخ هي‪« :‬البحث في العوامل األساسية المؤثرة في سير‬
‫الوقائع التاريخية ودراسة القوانين العامة المسيطرة عل نمو الجماعات‬
‫اإلنسانية وتطورها عل مر العصور»(‪.)2‬‬

‫ويعود ظهور فلسفة التاريخ إل القرن ‪ 38‬عل يد ميشل فوكو في‬


‫كتابه «العلم الجديد» الذي يعد مؤسسها‪ ،‬وإن كان البحث في فلسفة التاريخ‬
‫قام به كثيرون أمثال القديس أوغسطين وابن خلدون و(ميكيافلي) و(جان‬
‫بودن) و(جون لوك) و(هيجل) و(ماركس) و(كونت) وكثيرون غيرهم‪.‬‬
‫وجميع فالسفة التاريخ يبحثون عن القوانين العامة لتطور األمم‪ ،‬فمنهم من‬
‫يرجع ذلك إل تأثير الفكر أو العقل البشري ومنهم من يرجعه إل تأثير الدين‬
‫أو تأثير الرجال العظام‪ ،‬ومنهم من يرجعه إل تأثير العوامل االقتصادية(‪.)3‬‬

‫إن فالسفة التاريخ ال يكتفون بمعرفة حوادث التاريخ الجزئية‬


‫المتفرقة‪ ،‬وإنما يتجاوزونها إل البحث عن الصيرورة التاريخية وحلقاتها‬
‫المتتاليةـ‪ ،‬حسب حتمية ال تتغير وقانون واحد يفترضونه‪ ،‬وذلك لوضع‬
‫نظرية عامة لتفسير الصيرورة اإلنسانية والتاريخ البشري ككل موحد‪.‬‬
‫وسنقتصر هنا عل ثالث نظريات كنماذج من فلسفة التاريخ وهي‬
‫عل التوالي‪ :‬فلسفة التاريخ الهيجلية وفلسفة التاريخ الماركسية‪ ،‬ثم فلسفة‬
‫التاريخ الوضعية الكونتية‪.‬‬

‫فلسفة التاريخ عند هيجل‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي ص ‪.330‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬المعجم الفلسفي جميل صليبا ص ‪.223‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي ص ‪333‬‬
‫‪128‬‬
‫يذهب هيجل إل أن المتأمل للتاريخ يكتشف تدريجيا تطورا ذا داللة‬
‫خاصة ومعن أعمق مما يبدو في الظاهر من أحداث التاريخ وتعاقبها‪ ،‬وقد‬
‫أطلق عل ذلك المعن وتلك الداللة اسم (الفكرة) التي هي في تطور مستمر‬
‫وصراع ديالكتيكي تاريخي ال يتوقف‪ ،‬وهو ما يفضي إل الشعور بالحرية‬
‫ضد كل اغتراب‪ .‬وقد استخلص (هيجل) مبدأ الفكرة في تفسير التاريخ من‬
‫مذهبه الفلسفي العام‪ ،‬فطبق قوانين التطور الديالكتيكي عل التاريخ السياسي‬
‫والديني وتاريخ الفنون مثلما فعل في تاريخ الفلسفة(‪ )1‬فالتاريخ في نظره ليس‬
‫إال بسط الشعور الذاتي بالحرية الكامنة في الروح اإلنسانية أو روح العالم‪،‬‬
‫فتقدم اإلنسانية يأتي نتيجة الصراع والتأليف‪.‬‬

‫فهناك دائما في كل عصر فكرة أو حركة أو قضية تسود‪ ،‬ثم تظهر‬


‫فكرة أخرى مناقضة‪ ،‬فيحدث التصادم أو الصراع بين الفكرتين ثم يتمخض‬
‫عن ذلك الصراع فكرة جديدة ناتجة عن تأليف بين الفكرتين السابقتين‪ ،‬فتتقدم‬
‫اإلنسانية خطوة إل األمام في اتجاه الحقيقة‪ ،‬ثم تصبح الفكرة الثالثة التأليفية‬
‫قضية جديدة تتلوها قضية مضادة‪ ،‬فتأليف جديد‪ ،‬وهكذا تستمر حركة تطور‬
‫الفكر والمجتمعات والتاريخ اإلنساني بال انقطاع حسب تلك الحتمية‬
‫الطبيعية(‪.)2‬‬

‫ولقد كان لفلسفة التاريخ الهيجلية تأثير كبير عل المفكرين من بعده‬


‫رغم أن الهيجليين اليساريين يذهبون إل أن هيجل ال يحرر اإلنسان إال‬
‫نظريا كما انتقدوه في تصوره الخاطئ في نظرهم «بأنه تغلب عل االغتراب‬
‫عن طريق الشعورية كما لو كانت الفلسفة هي هدف التاريخ»(‪ )3‬وبهذه‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي‪ ،‬ص ‪.333‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي حسن حسن شحات ص ‪.300‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬كتاب الفلسفة التونسي‬
‫‪129‬‬
‫االنتقادات اتجهت الهيجلية اليسارية بفلسفة التاريخ إل تصور عملي أدى إل‬
‫ظهور فلسفة التاريخ الماركسية‪.‬‬

‫فلسفة التاريخ الماركسية‪:‬‬

‫يرى ماركس أن تطور الحوادث التاريخية كان وسيظل نتيجة‬


‫للعوامل االقتصادية وعالقات اإلنتاج‪.‬‬

‫وقد أسس ماركس ديالكتيكا أو جدلية للتاريخ تقوم عل عالقة اإلنسان‬


‫بالطبيعة‪ ،‬وعل العالقات السائدة بين الطبقات في المجتمع‪ ،‬فاعتبر أن وسائل‬
‫اإلنتاج المادي واألساليب االقتصادية هي التي تفرز جميع أنماط الحياة‬
‫االجتماعية والدينية والسياسية والثقافية‪ .‬فالعالقات التي تسود في مختلف‬
‫جوانب الحياة في كل مجتمع ال يمكن تفسيرها ال بذاتها وال بفكرة التطور‬
‫العام للروح اإلنساني كما يقول هيجل‪ ،‬بل يجب البحث عنها في األساس‬
‫االقتصادي الذي يقوم عليه البناء االجتماعي عامة‪ ،‬وفي قوى اإلنتاج خاصة‬
‫‪.‬‬

‫ويميز ماركس بين البنية التحتية والبنية الفوقية ويرى أنه باإلمكان‬
‫رد المجتمع إل بنيتين سواء عل المستوى المادي أو المستوى الفكري هما‬
‫البنية التحتية والبنية الفوقية وتمثل العوامل االقتصادية والمادية (البنية‬
‫التحية)‪ ،‬كما تمثل األفكار والمبادئ والنظريات (البنية الفوقية)‪ ،‬وأي تغيير‬
‫في البناء السفلي يتبعه حتما تغير في البناء الفوقي‪ ،‬فهناك إذن تفاعل وتأثير‬
‫متبادل بين كال األساسين أو البنائين‪ ،‬أي أن هناك تأثيرا مشتركا بين العوامل‬
‫الفكرية والعوامل المادية في كل مجتمع(‪.)1‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي – حسن شحات – ص ‪.533‬‬
‫‪130‬‬
‫فلسفة التاريخ الوضعية‪:‬‬
‫تقوم فلسفة التاريخ عند كونت عل قانون المراحل أو((الحاالت‬
‫الثالث)) المشهور الذي فسر به م راحل تطور التاريخ والفكر البشري‪ ،‬وهذه‬
‫المراحل هي‪ :‬المرحلة الدينية أو الالهوتية التي كان العقل البشري فيها يفسر‬
‫الظواهر تفسيرا غيبيا سحريا أو أسطوريا‪ ،‬ثم المرحلة الميتافيزيقية أو‬
‫الفلسفية التي كان اإلنسان يفسر فيها الظواهر اعتمادا عل مفاهيم فلسفية‬
‫مجردة‪ ،‬و أخيرا وصل اإلنسان إل المرحلة الوضعية وهي التي يفسر فيها‬
‫الظو اهر بإرجاعها إل قوانين مستنبطة من المالحظة والتجربة‪ ،‬والمنهج‬
‫التاريخي والمنهج المقارن‪ .‬ثم يستعرض كونت التاريخ اإلنساني مطبقا هذه‬
‫التقسيمات عل العصور والمجتمعات البدائية القديمة والمتوسطة والحديثة‪.‬‬

‫وهكذا نالحظ أن (أوجست كونت) يفسر التغيرات االجتماعية‬


‫واالقتصادية والسياسية التي حدثت وتحدث في المجتمعات البشرية عبر‬
‫التاريخ بعامل واحد هو العقل أو التفكير البشري وتطوراته في مراحل‬
‫التاريخ‪ ،‬شأنه في ذلك شأن كل فالسفة التاريخ الذين يرجعون حركة التاريخ‬
‫وتطور البشرية إل عامل أو محرك واحد‪.‬‬

‫ومن كل ما تقدم نالحظ أن تدوين الحوادث والروايات ال يخلو دائما‬


‫من األخطاء ألن « الكذب متطرق للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه فمنها‬
‫التشيعات لآلراء والمذاهب» كما يقول ابن خلدون‪ ،‬مما يفرض عل‬
‫المؤرخين والباحثين القيام بنقد الوثائق والتحقق من الروايات والتحليل‬
‫وفحص الحوادث والوقائع التاريخية ومحاولة إعادة بنائها وذلك للوصول إل‬
‫نتائج يحقق فيها المؤرخ من الوضعية والدقة في النتائج أكبر قدر ممكن‪.‬‬

‫أما فالسفة التاريخ فقد حاولوا الكشف عن قوانين تطور البشرية دفعة‬
‫واحدة وبحثوا في القانون الكلي قبل أن يستقرئوا جزئياته فجاءت أحكامهم‬

‫‪131‬‬
‫عامة ومجردة‪ ،‬الستسالمهم للتفكير والتأمل النظري بعيدا عن التعليل العلمي‪.‬‬
‫فقد يكون لحركة التاريخ وتطور البشرية قانون واحد أو عدة قوانين‪ ،‬إال أن‬
‫استنباط هذه القوانين يجب أن يستند إل استقراء دقيق وواسع ال إل مجرد‬
‫التصور الفلسفي المحض‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما خصائص الظاهرة التاريخية؟‬
‫‪ - 2‬من أين يبدأ عمل المؤرخ؟‬
‫‪ -3‬هل يستطيع المؤرخ أن يكون موضوعيا؟‬

‫‪132‬‬
‫علم النفس‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫لقد ظل فهم السلوك اإلنساني مطلبا ملحا يراود الفالسفة والعلماء وسبيال إل‬
‫ذلك المبتغ ظهرت دراسات وأبحاث حاولت تقديم مقاربات لفهم هذا‬
‫السلوك‪ .‬وا ختلف الجميع في فهم وتحليل الحالة النفسية وما يختفي وراءها من‬
‫ألغاز‪ ،‬ومما زاد من تعقيد هذه الظاهرة أن مجال الدراسة هو اإلنسان من‬
‫حيث هو ذات مفردة تفكر وتحب وتكره‪ ،‬تتذكر وتتخيل‪ ،‬وتفعل وتنفعل‪ ،‬تؤثر‬
‫وتتأثر‪ ،‬إل غير ذلك من الظواهر النفسية التي تطبع السلوك اإلنساني والذي‬
‫هو ناجم عن وجوده في بيئة طبيعية واجتماعية‪ ،‬يسع فيها إل تحقيق‬
‫حاجاته المادية والمعنوية‪.‬‬
‫إن هذا النشاط سواء كان عقليا أو انفعاليا أو اجتماعيا هو الذي يتناوله علم‬
‫النفس فكيف ندرس الظاهرة النفسية؟‬

‫إشكالية علم النفس‪:‬‬


‫يدرس علم النفس السلوك الذي هو كل نشاط يقوم به الكائن الحي‬
‫وكل فعل أو حركة تصدر عنه سواء كان ظاهرا كالكالم والحركة أو باطنا‬
‫كالتفكير وا لتذكر وفي كلتا الحالتين فإن هذا النشاط وتلك األفعال تأخذ مظهرا‬
‫خارجيا يمكن أن يشاهده الغير وباطنا خفيا ال يشعر به أو يدركه غير‬
‫صاحبه‪ ،‬بيد أن قدرة علم النفس عل دراسة الحالة النفسية لإلنسان كانت إل‬
‫وقت ليس بعيدا محل شك وذلك لعدم توفر هذا العلم عل شروط الدراسة‬
‫العلمية التي تحققت في مجاالت علمية أخرى‪ ،‬بل إن البعض اعتبر بأن علم‬
‫النفس ال يخرج عن نطاق التأمل الفلسفي ومع ذلك فإن تطور األبحاث في‬
‫علم النفس جعلت الجميع يقر أخيرا بأنه إضافة نوعية في مجال األبحاث‬
‫الهادفة إل فهم وتحليل السلوك اإلنساني وإن كانت مدارس علم النفس‬
‫اختلفت في فهمها ومقاربتها للحالة النفسية لإلنسان ومن أبرز تلك المدارس‪:‬‬
‫‪ - 1‬المدرسة السلوكية‪:‬‬

‫‪133‬‬
‫ترى أن موضوع علم النفس هو دراسة السلوك اإلنساني دراسة‬
‫موضوعية باعتباره استجابة فيزيولوجية لمنبهات خارجية أو نتيجة تأثير‬
‫متبادل بين الكائن الحي وبيئته‪ ،‬فالسلوك في النهاية هو مجموعة أفعال‬
‫منعكسة تغنينا عن أخذ الشعور بعين االعتبار‪ ،‬وما دام السلوك هو مجموعة‬
‫من ردود األفعال التي تقوم ب ها األعضاء تجاه المثيرات التي تعاينها فإن‬
‫السلوك عندئذ قابل للمالحظة الخارجية وهو ما يعني إمكانية االستعانة‬
‫بمعطيات مناهج علوم الفيزياء والبيولوجيا وفي هذا اإلطار يقول العالم‬
‫األمريكي ورائد السلوكية (واطسون) "لقد انته السلوكيون إل أنه ال يمكن‬
‫أن يقتنعوا بالعمل في الالمحسوسات واألشياء الغامضة وقد صمموا عل‬
‫إحدى اثنتين إما أن يتخلوا عن علم النفس أو يحيلوه علما طبيعيا" ويقول في‬
‫موضع آخر‪ " :‬علم النفس كما يراه السلوكي هو شعبة تجريبية موضوعية‬
‫خالصة من العلم الطبيعي هدفه النظري التنبؤ بالسلوك وضبطه‪ ،‬وليس‬
‫االستنباط جزءا رئيسيا من مناهجه ‪ ،‬وال القيمة العلمية لحقائقه تقوم عل‬
‫استعدادها ألن تعبر عن نفسها بألفاظ الشعور‪."...‬‬

‫ولقد حان الوقت الذي يترك فيه علم النفس كل إشارة إل الشعور إذ‬
‫لم تعد به حاجة بعد إل أن يخدع نفسه في حسبان أنه يجعل الحاالت العقلية‬
‫موضوعا لمالحظاته ومن الممكن أن نعرف علم النفس بأنه علم السلوك"(‪.)1‬‬
‫وصفوة القول في هذا المقام أن المدرسة السلوكية ترى أن فهم الحالة‬
‫النفسية لإلنسان ال يتطلب الغوص في أعماق وجدانه واالستماع إليه ليصف‬
‫شعوره وإنما يتأت بالدراسة الموضوعية لسلوكه الخارجي باعتباره تعبيرا‬
‫واضحا عن تلك الحالة‪ ،‬فالحاالت النفسية المتعددة كالتعب والخوف والغضب‬
‫وغيرها ليست حاالت باطنية فقط بل يمكن مشاهدة ظواهرها الخارجية في‬
‫السلوك اإلنساني كتراخي اليدين مثال أو اصفرار الوجه أو اضطراب‬
‫الحركة‪ ،‬وهكذا استخدم السلوكيون وسائل القياس والمالحظة والتقدير الكمي‬
‫لفهم السلوك‪ ،‬مما رفع علم النفس إل مرتبة العلم فأصبحت له قوانينه‪ ،‬بيد أن‬
‫ذلك ال ينفي وجود قصور لدى المدرسة السلوكية‪ ،‬فاإلنسان الذي سع إل‬
‫فهمه كائن عاقل يتأثر بعوامل كثيرة ولذلك فقد يظهر لنا في سلوكه عكس ما‬
‫يضمر‪ ،‬بل إن البكاء مثال الذي نستدل به عل اآللم والخوف قد يكون أعل‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفلسفة لطالب الباكلوريا الجزائر‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫درجة من درجات الفر ح أو اللذة ثم إنه إذا كان السلوك لدى أنصار المدرسة‬
‫السلوكية يحدث بطريقة آلية نتيجة وجود مثير‪ ،‬فإن المثير الواحد قد يفسر‬
‫تفسيرات متعددة من طرف عدد من األشخاص‪ ،‬فسلوك الهندوسي وما يتسم‬
‫به من رهبة وخشوع عند رؤيته بقرة مثال ال يسلكه غيره‪ ،‬وحت بالنسبة‬
‫للفرد فإن المثير الواحد ال يعطي دائما نفس االستجابة‪ ،‬فقد يتقبل الفرد لفظا‬
‫معينا في موقف عل أنه دعاية وقد يثيره ويستفزه نفس اللفظ في موقف آخر‪.‬‬

‫والمنهج المستخدم في هذه المدرسة هو المنهج الموضوعي‪:‬‬


‫يدرس هذا المنهج الحالة النفسية لإلنسان باالعتماد عل السلوك‬
‫الخارجي القابل للمالحظة والتجريب‪ ،‬وهكذا فإن المنهج الموضوعي في علم‬
‫النفس هو محاولة لفهم وتفسير الظواهر النفسية بطريقة موضوعية ال ـاخذ‬
‫بعين االعتبار الحالة الوجدانية الداخلية كأساس للدراسة وإنما تسع إل‬
‫مالحظة الظاهرة النفسية في أبعادها القابلة للدراسة الموضوعية‪.‬‬
‫وقد اعتمد المنهج الموضوعي عل قواعد الدراسة العلمية المعتمدة‬
‫في المجاالت العلمية األخرى ليحصل عل نتائج قابلة للقياس‪.‬‬
‫وقد اغتذت المدرسة السلوكية من التجارب التي أجراها العالم‬
‫الفيزيولوجي الروسي (بافلوف) عل الكالب‪.‬‬
‫وكان زعيم المدرسة السلوكية (واطسون) يقول‪ :‬اعطوني عشرة‬
‫أطفال أصحاء وسأضمن لكم أن أجعل من هذا فنانا وهذا أديبا وهذا نجارا‬
‫وهذا لصا‪.‬‬
‫وترى هذه المدرسة أن السلوك اإلنساني يمكن تفسيره تفسيرا‬
‫ميكيانيكيا أي أنه ينحل إل مثير واستجابة‪.‬‬

‫‪ - 2‬المدرسة الشعورية‪:‬‬
‫وترى أن الظاهرة النفسية هي حالة وجدانية داخلية وال يمكن فهمها‬
‫أو التعامل معها من الخارج وإنما بالرجوع إل الشخص نفسه حيث يستطيع‬
‫باالستبطان أو التأمل الداخلي أن يتأمل نفسه ويدرس شعوره الداخلي وأحواله‬
‫النفسية المختلفة‪ .‬فالشخص هو الذي يستطيع مالحظة ما يجري في شعوره‬
‫من خبرات حسية أو عقلية أو انفعالية مالحظة منظمة صريحة تستهدف‬
‫وصف هذه الحاالت وتحليلها أو تأويلها أحيانا‪ ،‬فاإلنسان الذي يعيش هذه‬
‫‪135‬‬
‫الحالة هو المعني ب فهمها ودراستها والتعبير عنها ‪ ،‬فكأن الشعور يتوزع بين‬
‫الحادث الذي نعيشه كالخوف مثال وتأمل هذا الحدث لتقسم بذلك النفس إل‬
‫متأمل ومتأمل لذلك تسم هذه الطريقة بطريقة المالحظة الداخلية أو‬
‫االستبطان ومن أبسط صورها وأقل ها تعقيدا في حياتنا اليومية ما نفعله عندما‬
‫نخبر صديقا أو طبيبا عن ما نشكو من آالم أو ضيق أو حين نذكر لشخص ما‬
‫نراه أو نسمعه أو نتذوقه‪ ،‬وقد يتعلق هذا االستبطان بالحاالت الشعورية‬
‫الحاضرة أو الماضية كأن تطلب من شخص أن يصف لك شعوره وهو يتابع‬
‫مباراة لكرة قدم أو أن يذكر لك حزنه عل صديق توف منذ مدة‪ ،‬وعل‬
‫العموم فاالستبطان هو فعل إرادي حيث يمعن اإلنسان النظر في الحادث‬
‫النفسي ويحلله محاوال ت بيين دواعيه وأسبابه والكشف عن القوانين التي‬
‫تجمعه بأمثاله‪ ،‬لكن بالرغم من النتائج التي حققتها المدرسة الشعورية فإنه ال‬
‫يعتد بها كطريقة علمية ألنها تدرس حاالت فردية ال يمكن أن يالحظها إال‬
‫صاحبها وحده والتفكير العلمي ال يقوم عل الفردي الذاتي بل يقوم عل‬
‫المو ضوعي العام الذي يشترك في مالحظاته عدة مالحظين‪ ،‬كما أن الظاهرة‬
‫النفسية ال يمكن استرجاعها بنفس الوضوح وال عفوية‪ ،‬باإلضافة إل أن اعتماد‬
‫هذه الطريقة يجعل األطفال خارج نطاق الدراسة فكونهم ال يستطيعون التعبير‬
‫عن مشاعرهم يجعل فهم حالتهم النفسية متعذرا‪.‬‬
‫وقد اعتمدت هذه المدرسة منهج االستبطان في دراسة الظاهرة‬
‫النفسية‪.‬‬

‫منهج االستبطان‪:‬‬
‫اعتمدت المدرسة الشعورية منهج االستبطان أو المنهج الذاتي وهو‬
‫الذي يتجه إل الحوادث النفسية في بطانتها الداخلية فالحالة الشعورية هي‬
‫حالتي أنا أختبرها بنفسي وأحياها بنفسي وأحسها إحساسا مباشرا‪ ،‬وتمتاز‬
‫الحالة الشعورية بأنها داخلية وال مادية وتتصف بالديمومة ولذلك فإن أفضل‬
‫وسيلة لفهمها هي التأمل الذاتي الداخلي الذي يقوم به الفرد باعتباره خير من‬
‫يصف حالته الوجدانية وهذا يعني أن الفرد أصبح ذاتا وموضوعا في نفس‬
‫الوقت‪.‬‬
‫وقد وجهت لهذا المنهج بعض االنتقادات منها ‪:‬‬
‫‪ ‬صعوبة استرجاع الحوادث النفسية التي مرت في الماضي‬
‫‪136‬‬
‫مع‬ ‫‪ ‬اعتماد منهج االستبطان عل تأمالت فردية وهو ما يتناف‬
‫الدراسة العلمية التي تقوم عل المالحظ الموضوعية‬
‫‪ ‬صعوبة تطبيق هذا المنهج عل األطفال الذين يتعذر عليهم وصف‬
‫حالتهم الشعورية‬
‫‪ ‬يقتضي هذا المنهج قدرا من الصراحة وهو ما ال يمكن تحققه غالبا‬
‫إذ الفرد ال يفصح كثيرا عن ما يعيشه ذاتيا‪.‬‬

‫‪ - 3‬مدرسة التحليل النفسي‪:‬‬


‫إذا كانت المدرسة السلوكية ترى أن الحالة النفسية لإلنسان تأخذ‬
‫مظاهر سلوكية خارجية يمكن فهمها وتحليلها للوقوف عليها‪ ،‬والمدرسة‬
‫الشعورية تدرس الظاهرة النفسية في بطانتها الداخلية مركزة عل التأمل‬
‫الذاتي للفرد فإن مدرسة التحليل النفسي نشأت في أحضان الطب العقلي حيث‬
‫الحظ بعض المستغلين لهذا الطب أن بعض المنحرفين ال يشكون من‬
‫إصابات عضوية ومع ذلك فهم يعانون من االضطرابات مما جعل األطباء‬
‫يطلبون علل االنحراف في حياة الفرد العقلية وفي عاداته الخاطئة في التفكير‬
‫وفي ضعف إرادته وفي قابليته لإليحاء وفي حاجته إل التوازن االنفعالي‪،‬‬
‫والواقع أن (افرويد ‪3353-3836‬م) هو الذي اكتشف الجانب الالشعوري من‬
‫النفس واستخدمه في معالجة مرضاه وفي تفسيره لألحالم ثم تحول إل‬
‫نظرية ونظام سيكولوجي كان له أبلغ األثر ليس فقط في علم النفس بل في‬
‫سائر العلوم‪ ،‬ويعتمد العالج في التحليل النفسي عل إخراج الرغبات المكبوتة‬
‫من الالشعور في تفسير السلوك لدى األسوياء أو الشواذ‪ ،‬كما اهتمت هذه‬
‫المدرسة بتكوين الشخصية وانحرافها مما جعلها تركز عل مرحلة الطفولة‪،‬‬
‫ولكي يقدم (فرويد) مقاربة شاملة لفهم الحالة النفسية لإلنسان يقرر بأن‬
‫انتاجات العقل تبريرات خلقها اإلنسان لمعارضة رغباته الغريزية‪ ،‬وبين أن‬
‫معظم حياتنا النفسية الشعورية‪ ،‬وأن الشعور ال يحتل إال مكانة ضئيلة من‬
‫النفس‪ ،‬وبين عالقة الرغبات والغرائز بالسلوك ليخلص إل نظرية الجهاز‬
‫النفسي‪.‬‬
‫ولتوضسح أهمية نشاط الغرائز جنب (افرويد) في مؤلفاته األخيرة‬
‫المقابلة بين الشعور والالشعور وانته إل تنظيم البنية الشخصية التي تتألف‬
‫من ثالث مكونات‪:‬‬
‫‪137‬‬
‫‪ – 1‬الهو‪ :‬وهو مستودع الطاقة والغرائز ويعمل وفق مبدإ اللذة‪ ،‬أي‬
‫طلب اللذة العاجلة بأي وسيلة دون اعتبار للواقع أو التفكير في العواقب‪.‬‬
‫‪ – 2‬األنا‪ :‬وهو يعمل وفقا لمبدإ الواقع‪ ،‬أي االمتثال للظروف والقيود‬
‫التي يفرضها عليه العالم الخارجي‪ ،‬وتكون مهمته األساسية هي المحافظة‬
‫عل الشخصية وحمايتها مما يتعرض لها من اخطار‪ ،‬وإشباع متطلباتها‬
‫بشكل ال يتعارض مع الواقع وظروفه‪.‬‬
‫‪ – 3‬األنا األعل ‪ :‬وهو جانب من األنا أصابه التعديل نتيجة تعلقه‬
‫باألوامر والنواهي والمثل العليا والمعايير التي تأتيه من أبويه ومن يقوم‬
‫مقامهما كالمجتمع‪ .‬واألنا األعل يطالب الشخصية بالتزام المثل العليا‬
‫واألخالقيات في أفعالها وتصرفاتها وسلوكها‪.‬‬
‫وهكذا استطاع (فرويد) أن يكشف كثيرا من مظاهر الحياة‬
‫الالشعورية ومن المفاهيم ذات العالقة بها مثل‪" :‬الالشعور‪ ،‬والكبت‬
‫والمقاومة" والصراع النفسي وغرائز الحب والحياة والموت والدفاع وعقدة‬
‫أوديب أو عقدة النقص وغيرها كما استطاع عن طريق تطبيق الوسائل‬
‫والمناهج المذكورة سابقا أن يعالج الكثير من االضطرابات واألمراض‬
‫النفسية ومع ذلك فإن مدرسة التحليل النفسي لم تستطع الدخول إل مصاف‬
‫النظريات العلمية التي تنظم المعرفة وتقود إل اكتشافات جديدة‪ ،‬فهذه‬
‫المدرسة تهمل القياس والتعبير الكمي عن القوانين فتبتعد بذلك عن الدقة‬
‫العلمية‪.‬‬

‫منهج التحليل النفسي‪:‬‬


‫عبارة عن أسلوب عالجي طوره فرويد وأتباعه لدراسة النفس البشرية‬
‫بطريقة تقسيميه افتراضية وحسب منهاج التحليل النفسي يمكن أن أرجع‬
‫السلوك إل الالوعي وإل الرغبات الدفينة والتي تخضع عل تعددها الرغبة‬
‫األساسية أو الرغبة الجنسية اللوبيدو‪ ،‬والنظرية الموقعية األول للجهاز‬
‫النفسي تقسم النفس طبوغرافيا إل مناطق هي الوعي وما قبل الوعي‬
‫والالوعي‪ .‬أما النظرية الثانية ففيها أن النفس جهاز مركب من لحظات ثالث‬
‫هي الهو أو الرغبات واألنا أو الوعي واألنا األعل أو القوانين الدينية‬
‫والخلقية‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫وغاية منهج التحليل النفسي هي استعادة الرغبات الدفينة من منطقة‬
‫الالوعي إل منطقة الوعي وكان التحليل النفسي لدى فرويد بديال عن منهج‬
‫التنويم المغناطيسي لعيوب في هذا المنهج‪ ،‬منها أن بعض المرض يستعص‬
‫عل التنويم وبعضهم ال يجدي تنويمه ألنه ال يميل إل المحادثة المرجوة‬
‫وهي الغاية من التنويم أصال وبالنسبة للصم البكم لزم االعتماد عل التحليل‬
‫النفسي بدل التنويم المغناطيسي‪.‬‬
‫وللتحليل النفسي آليات كالمحادثة وتاريخ الحالة وتأويل األحالم وتقويم‬
‫االستعدادات والخبرات فإن لم تجد وسيلة تلجأ إل األخرى للعثور عل‬
‫الخيط المؤدي إل العقدة الدفينة‪.‬‬

‫‪ - 4‬المدرسة الجشطالية‪:‬‬
‫تعني الكلمة األلمانية جشطالت نمطا أو صيغة أو شكال كليا إذ اعتقد‬
‫علماء نفس الجشطالت أن البشر والحيوانات األخرى يرون العالم الخارجي‬
‫وكأنه نمط أو شكل منظم متكامل ال مجموعة من إحساسات فردية‪.‬‬

‫تأسست مدرسة الجشطالت عام ‪ 3332‬عل يد عالم النفس األلماني‬


‫ماكس ويرت يمر وقد ركزت المدرسة عل دراسة الخبرة الذاتية الكلية وتحديد‬
‫قوانين مجال اإلدراك والتعلم واالستبصار وهكذا يفرق (ورتيمر) عل سبيل‬
‫المثال بين التفكير اإلنتاجي المعتمد عل المدركات والعادات واالشتراط‬
‫والتفكير اإلبداعي القائم عل النشاط العقلي الخالص‪ ،‬وقد أفادت تجارب هذه‬
‫المدرسة في التعلم باالستبصار في كثير من التطبيقات التربوية كما مهدت‬
‫لنظريات أخرى في مجال التعلم وعلم النفس التربوي‪.‬‬
‫وخالصة األ مر أن علم النفس عل اختالف مدارسه وفروعه قد نجح‬
‫في تقديم مقاربات معرفية ومنهجية ساعدت في فهم السلوك اإلنساني ورصد‬
‫التحوالت التي تطرأ عل البيئية النفسية والعوامل المؤثرة فيها وإن كان ال‬
‫يزال يصطدم بمن يشكك في علمية استنتاجاته‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬هل نجح علم النفس في دراسة الحالة النفسية لإلنسان؟‬
‫‪ - 2‬أي مدارس هذا العلم أقرب إل فهم الحالة النفسية؟‬
‫‪ -3‬هل يمكن أن يكون اإلنسان موضوعا للعلم؟‬

‫‪140‬‬
‫علم االجتماع‬
‫تهتم العلوم اإلنسانية بدراسة مواقف اإلنسان في مختلف أبعاده‬
‫الفردية واالجتماعية والتاريخية ونتيجة للحالة الملحة لمعرفة اإلنسان نشأت‬
‫العلوم اإلنسانية ومن بين هذه العلوم علم االجتماع‪ ،‬فكيف نشأ علم االجتماع؟‬
‫وما موضوعه؟ وما أهم المناهج المتبعة فيه؟‬
‫أوال ‪ :‬النشأة والموضوع‬
‫لقد اختلف الباحثون في نشأة علم االجتماع حيث أرجعه البعض إل‬
‫ابن خلدون‪ ،‬فلقد صرح في عبارات واضحة «أنه اكتشف علما مستقال‪،‬لم‬
‫يُتكلم فيه من قبل‪ ،‬هذا العلم مستقل بنفسه‪،‬فإنه ذو موضوع وهو العمران‬
‫البشري واالجتماع اإلنساني‪ ...‬مستحدث الصنعة غريب النزعة‪»..‬‬
‫ويستندون في ذلك عل العالقة الوطيدة بين علم العمران البشري‬
‫وعلم االجتماع حي ث اهتم ابن خلدون بالمجتمع وبين العالقة بين البيئة‬
‫والعوامل االقتصادية في تفسير الظواهر االجتماعية‪ ،‬وقسم المجتمعات‬
‫البشرية من حيث الت طور إل مراحل النشأة والنضج واالكتمال والشيخوخة‪،‬‬
‫ثم إل مجتمعات حضرية تتميز بالرقة والتخصص والمصلحة‪ ،‬وأخرى‬
‫بدوية تتميز بالخشونة والتوحش والبساطة والكرم والشجاعة‪.‬‬
‫ويقول عالم االجتماع (جمبلو فتش)‪ « :‬لقد أردنا أن ندلل عل أنه كان‬
‫قبل أوكست كونت جاء مسلم تقي فدرس الظواهر االجتماعية بعقل متزن‪،‬‬
‫وأت في هذا الموضوع بآراء عميقة‪،‬وأن ما كتبه نسميه اليوم بعلم‬
‫االجتماع»‪.‬‬
‫بينما أرجعه البعض اآلخر لعالم االجتماع الفرنسي (أوجست كونت)‪،‬‬
‫باعتباره المنشئ األول لهذا العلم‪،‬ومع ذلك ال يمكن أن ينكر الفضل الكبير‬
‫البن خلدون في ذلك‪،‬عل الرغم من أنه لم يخلفه من يبني عل ما أسس‪.‬‬
‫ظهر علم االجتماع كما هو حاليا كصياغة علمية في أوائل القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬بفعل عوامل عديدة نذكر منها‪:‬‬
‫‪141‬‬
‫المناخ السائد في تلك الفترة المتمثلة في الليبرالية التي تؤيد االقتصاد‬
‫الحر والديمقراطية السياسية ومعاداة االشتراكية والشيوعية وكل النظم‬
‫الديكتاتورية‪،‬والقضاء عل الفوض بسيادة القانون‪.‬‬
‫الربط بين التجربة والعقل في حل مشاكل اإلنسان‬
‫إخضاع جميع مظاهر الحياة االجتماعية واألخالقية للنقد‬
‫إخضاع المجتمع لقوانين تشبه قوانين الطبيعة‬
‫إعادة النظر في دور الكنيسة والمكانة االجتماعية ونظام اإلقطاع‬
‫الدعوة لبناء المجتمع عل مبادئ عقلية مجردة‬
‫فصل الدين عن الدولة وإعالء شأن الفرد‪.‬‬
‫ونستنتج أن علم االجتماع في نسخته األوربية جاء وليدا للظروف‬
‫العامة التي مرت بها أوربا‪ ،‬والتي فرضت ظهور االهتمام باإلنسان في جميع‬
‫أبعاده النفسية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية‪.‬‬
‫يعتبر موضوع علم االجتماع هو المجتمع‪ ،‬ويرى( كونت) أنه ينبغي‬
‫أن توحد كل الدراسات البشرية من تاريخ وعلم نفس واقتصاد‪ ،‬باعتبار أن‬
‫كل أنماط حياة الشعوب مرت بنفس المراحل التاريخية‪.‬‬
‫وتعرف "ويكيبيديا" ‪ ،‬الموسوعة الحرة علم االجتماع بأنه‪« :‬دراسة‬
‫الحياة االجتماعية للبشر‪،‬سواء بشكل مجموعات أو مجتمعات‪،‬وقد عرف‬
‫أحيانا كدراسة للتفاعالت االجتماعية»‪.‬‬
‫ويعرف (أوكست كونت) علم االجتماع بأنه «دراسة المجتمع أو‬
‫الناس أو السكان دراسة علمية بدرجة عالية من التجرد والموضوعية»‪،‬‬
‫ويرى أنه يتبع نفس أسلوب العلوم الطبيعية في دراستها‪،‬وسماه (الفيزيقا‬
‫االجتماعية)‪.‬‬
‫وقد قسم علم االجتماع إل قسمين‪:‬‬
‫األستاتيكا االجتماعية‪ :‬وتهتم بدراسة النظم والبناء االجتماعي‪،‬من‬
‫ناحية التكوين والدور في المجتمع وقد حدد ثالثة عوامل تربط المجتمع‬
‫كوحدة استاتيكية هي ‪(:‬اللغة – الدين ‪ -‬تقسيم العمل)‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫الديناميكا االجتماعية‪ :‬والتي تهتم بدراسة تطور المجتمع‪.‬‬
‫أما (دوركايم) فعرف علم االجتماع بأنه «العلم الذي يهتم بدراسة‬
‫المؤسسات االجتماعية من حيث تكوينها ووظائفها»‪ ،‬ومن أبرز اهتماماته‬
‫(مبدأ تقسيم العمل) حيث يمثل الدرجة العالية من التضامن االجتماعي‪.‬‬
‫ويعرفه ماكس فيبر بأنه «العلم الشامل للسلوك البشري»‪ ،‬واعتبر أن‬
‫هذا العلم ال بد له من منهج مالئم الختالف الظاهرة اإلنسانية عن الظاهرة‬
‫الطبيعية‪.‬‬
‫ونظرا لطبيعة الظاهرة االجتماعية وتعقدها‪ ،‬فإن علم االجتماع قد‬
‫عرف عدة مناهج لكل منها دور في تفسير جانب من هذه الظاهرة المتميزة‬
‫والفريدة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مناهج علم االجتماع‬
‫هناك مناهج للبحث يستخدمها الباحثون في علم االجتماع وتتوقف‬
‫عل البحث وطريقة البحث واإلمكانات المتوفرة ودرجة الدقة المطلوبة ولعل‬
‫من أشهرها شيوعا في الدراسات االجتماعية‪:‬‬
‫‪ -1‬المنهج اإلحصائي‪:‬‬
‫هو عبارة عن استخدام الطرق الرقمية والرياضية في معالجة وتحليل‬
‫البيانات وإعطاء التفسيرات المنطقية المناسبة لها‪ .‬ويتم ذلك عبر المراحل‬
‫التالية‪:‬‬
‫* جمع البيانات اإلحصائية عن الموضوع‬
‫* عرض هذه البيانات بشكل منظم وتمثيلها‬
‫* تحليل البيانات‬
‫* تفسير البيانات من خالل تحليل ما تعنيه األرقام المجمعة من نتائج‪.‬‬
‫وينقسم المنهج اإلحصائي إل منهج وصفي يصف ويلخص األرقام‬
‫المجمعة حول موضوع معين ومن ثم تفسيرها في صورة نتائج‪ ،‬وآخر‬
‫استداللي يعتمد عل اختيار عينة أكبر من المجتمع وتحليل بياناتها‪ ،‬باستخدام‬
‫المقاييس اإلحصائية مثل (المتوسط والوسيط والمنوال والنسب المئوية)‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫ويمكن تلخيص أهمية المنهج اإلحصائي في ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬الحكم عل الموضوعات بما أمكن من الموضوعية‬
‫‪ -‬تقرير الحقائق وعدم ترك مجال للتأويل‬
‫‪ -‬يكشف العالقات الضرورية بين الظواهر‬
‫‪ -‬يسمح بوضع تعميمات وقوانين بصورة كمية دقيقة‬
‫ومن الوسائل المعتمدة في هذا المجال‪ :‬اختيار العينة الممثلة‬
‫لخصائص المجتمع موضوع الدراسة ثم المالحظة والمقابلة أو استخدام‬
‫االستمارة‪ ،‬ومن رواده عالم االجتماع (كيتليه)‪.‬‬
‫وفي حين يصف البعض هذا المنهج بالعلمية يرى آخرون عكس ذلك‬
‫‪ ,‬وإن أقروا بوجود طرق إحصائية يمكن اتباعها في التعامل مع البيانات‬
‫البحثية‪ ،‬وتمثل البيانات اإلحصائية دورا كبيرا في معرفة نقاط التوازن أو‬
‫الوسط في موضوع البحث باالعتماد عل الوسائل الرياضية والحسابية‬
‫واستخدام الحاسوب في تحليل المعطيات من أجل تأمين الدقة والسرعة‬
‫المطلوبة‪.‬‬
‫‪ -2‬المنهج التاريخي‪:‬‬
‫يستخدم علماء االجتماع المنهج التاريخي عند دراستهم للتغير الذي‬
‫يطرأ عل شبكة النظم االجتماعية وعند دراستهم ألصول الثقافات والتحول‬
‫في منظومة القيم والمفاهيم االجتماعية‪.‬‬
‫ويعتمد في ذلك عل المصادر مثل الكتب والوثائق والمخطوطات‬
‫والسجالت ويقوم عل القواعد التالية‪:‬‬
‫‪ -‬تحليل الظاهرة منذ نشأتها في الزمان والمكان‬
‫‪ -‬تتبع نموها وتطورها ودراسة العالقة بينها وبين الظواهر األخرى‬
‫والتأثيرات المتبادلة‪.‬‬
‫‪ -‬اعتماد المقارنة بين المجتمعات المختلفة (المجتمع الواحد‪-‬‬
‫المجتمعات المتجانسة‪ -‬المجتمعات المتمايزة)‬
‫ويحاول الباحث هنا أن يتبع الخطوات التالية‪:‬‬
‫‪144‬‬
‫* جمع مصادر البحث من وثائق وغيرها‬
‫* نقل موضوعي لمصادر البحث والمعلومات المجموعة‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل مراجعة حصة المعلومات الموثقة وربطها بمعطياتها الزمنية‬
‫والمكانية‪،‬وإخضاع تلك المعلومات للنقد الداخلي‪ ،‬والتأكد من‬
‫مصداقيتها‪.‬‬
‫* صياغة الفرضيات وكتابتها‪ :‬وذلك بافتراض أسباب حدوث الظاهرة‬
‫وتفسيرها بناء عل براهين موجودة فعال واستخالص نتائج تساعد‬
‫عل التنبؤ المستقبلي‪ ،‬وأخذ العبر من الماضي والحاضر‪.‬‬
‫* جمع كافة البراهين بعناية كبيرة وتحليل النتائج بروح موضوعية‬
‫محضة‪.‬‬
‫أدلة وبراهين‬ ‫* كتابة التقرير النهائي بأسلوب علمي معتمدا عل‬
‫واقعية بعيدا عن الخيال واالنحياز‪.‬‬

‫عوائق المنهج‪:‬‬
‫يرى البعض أن صعوبة التجريب والتكرار والتلف والتزوير الذي قد‬
‫تتعرض له األحداث التاريخية وكذلك صعوبة وضع فرضيات واضحة مبنية‬
‫عل أسس نظرية قوية واإللمام بكل جوانب المادة التاريخية كل ذلك يجعل‬
‫من العسير الوصول إل نتائج واستخالصات موضوعية ودقيقة‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬المنهج التجريبي‬


‫التجريب أساس من أسس العلم‪« ،‬والتجريب هو القدرة عل توفير‬
‫كافة الظرو ف التي من شأنها أن تجعل ظاهرة معينة ممكنة الحدوث في‬
‫اإلطار الذي رسمه الباحث »‪.)1(.‬‬

‫‪ -‬بحث عن مناهج علم االجتماع‪/‬منتدى األغواط‬


‫‪1‬‬

‫‪145‬‬
‫ويمكن تعريف المنهج التجريبي بأنه يتضمن كافة اإلجراءات والتدابير‬
‫الممكنة التي يتدخل فيها الباحث االجتماعي‪،‬عن قصد مسبق في كافة‬
‫الظروف المحيطة بظاهرة محددة»(‪.)1‬‬
‫ويؤدي هذا المنهج إل اتباع أسلوب معين لجمع البراهين واألدلة‬
‫والتحكم في مختلف العوامل التي يمكن أن تؤثر في الظاهرة موضوع البحث‪.‬‬
‫كما يعتمد أسلوب التجارب العلمية الموضوعية والمخبرية التي تعتمد عل‬
‫العالقات السببية بين العوامل المختلفة‪،‬ويرتكز عل الخطوات التالية‪:‬‬
‫مالحظة الظاهرة موضوع البحث‬
‫وضع فرضيات لتفسير الظاهرة‬
‫تجربة هذه الفرضيات بعد تحديد نوع التجربة ومكان إجرائها‬
‫صياغة النظرية عل ضوء النتائج المستخلصة من تجريب الفرضيات‬
‫وتحديد أسباب وظروف تشكل الظاهرة‪ ،‬وذلك بأسلوب يتوخ الدقة‬
‫والموضوعية في إطار تحليل منطقي لمحددات الظاهرة االجتماعية‬
‫المدروسة‪.‬‬
‫أي أن الباحث في هذا المنهج يقوم بتحديد المشكلة‪ ،‬وبعد ذلك يصوغ‬
‫الفروض التي تمس المشكلة‪ ،‬ثم يحدد المتغير المستقل والتابع‪ ،‬ثم يقيس‬
‫المتغير التابع وتحد يد شروط التحكم فيه وضبطه ووسائل التجربة‪ ،‬وأخيرا‬
‫يقوم بتحديد العوامل المتحكمة في الموضوع محل البحث‪.‬‬
‫ويتخذ هذا المنهج ثالثة أنواع من التجارب وهي ‪:‬‬
‫تجربة المجموعة الواحدة‪ :‬ويركز عل تجريب عامل واحد لمعرفة‬
‫مدى تأثر الظاهرة به‪ ،‬كأن نقيس ظاهرة تدني مستوى أداء الطالب‪،‬وافتراض‬
‫غياب الرغبة في التعلم‪،‬ثم نقوم بتدريبات خاصة لعينة من التالميذ تهدف‬
‫لتنشيطهم وتقوية إرادة التعلم لديهم‪،‬وبعد ذلك نقارن بين المستوى السابق‬
‫والمستوى الحالي لنعرف الفارق الحاصل بين المستويين‪ ،‬وبذلك نتعرف عل‬
‫العامل المسؤول عن التغير‪.‬‬
‫التجربة عل عدة مجموعات‪ :‬ويهدف إل استخدام أكثر من مجموعة‬
‫بالتناوب مع وجود مجموعات متشابهة أو متكافئة‪ ،‬بحيث تصبح كل واحدة‬

‫‪ -‬نفس المرجع السابق‬


‫‪1‬‬

‫‪146‬‬
‫مرة مجموعة تجريبية وفي المرة الثانية مجموعة ضابطة (يقاس عليها)‪،‬‬
‫لنتعرف عل العوامل المؤثرة بشكل أوضح‪.‬‬
‫ج‪ -‬التجربة عل مجموعتين‪ :‬يتم التعامل مع مجموعتين متشابهتين‪،‬‬
‫ويعرض الباحث التجربة عل مجموعة (المجموعة المفحوصة)‪ ،‬ثم يقارن‬
‫بين المجموعتين ليتعرف عل التغير الحاصل بينهما‪.‬‬
‫عوائق المنهج‪:‬‬
‫‪ -‬صعوبة تحقيق الضبط التجريبي لعدم حصول التشابه التام في‬
‫المواقف االجتماعية‪ ،‬فهناك إرادة التصنع التي تصعب من دقة التجربة‪.‬‬
‫‪ -‬عدم التمكن من إدراك كل المتغيرات المتحكمة في الظاهرة‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬تعتمد التجربة عل عينة أو مجموعة من المجتمع قد ال تمثل الوجهة‬
‫العامة للمجتمع‪ ،‬وبالتالي ال يمكن تعميمها عل مجموع األفراد‪.‬‬
‫لقد طالب البعض بضرورة عدم تعميم الدراسات االجتماعية الرتباطها‬
‫بالظروف الخاصة لمجتمع الدراسة‪ ،‬باعتبار أن كل مجتمع له خصوصياته‬
‫وظروفه التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات‪.‬‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫حدد الظروف التي نشأ فيها علم االجتماع‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫ما مصداقية القول بأسبقية الغرب في تأسيس علم االجتماع؟‬ ‫‪-2‬‬
‫اذكر أهم مميزات المناهج المستخدمة في علم االجتماع‬ ‫‪-5‬‬
‫هل عدم التمكن من تحديد كل عوامل الظاهرة االجتماعية‬ ‫‪-0‬‬
‫مدعاة لرفض علمية البحوث االجتماعية؟‬
‫العوائق االبستمولوجية في العلوم اإلنسانية‬

‫لقد تحدث االبستيمولوجي الفرنسي (باشالر) عن العوائق‬


‫االبستيمولوجية في العلوم التجريبية وعما يمكن أن تحدثه من تأثير سلبي‬
‫عل الدراسة العلمية للموضوعات التي يفترض أن تكون مستقلة عن الذات‪،‬‬
‫وإذا كانت هذه العلوم ال تسلم من العوائق فما بالنا بالعلوم اإلنسانية األكثر‬
‫تعقيدا واأللصق باإلنسان؟‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫هل باإلمكان دراسة الظاهرة اإلنسانية بعيدا عن الذات ولواحقها‪ ،‬وما‬
‫مصدر تعقيد هذه الظاهرة؟ هل هو اإلنسان ذاته أم أن التعقيد مصدره‬
‫الظاهرة اإلنسانية نفسها؟‬
‫وقبل الحديث ع ن هذه العوائق نرى ضرورة تحديد مفهوم "العائق" فما‬
‫المقصود بالعائق؟‬
‫العائق‪ :‬كل ما عاقك وشغلك‪.‬‬
‫ويقصد بالعائق االبستيمولوجي الحاجز أو المانع الذي يحول دون‬
‫معرفة الموضوع معرفة موضوعية‪.‬‬
‫ونظرا لما حققته العلوم التجريبية من تقدم فقد أصبحت مطمح كل‬
‫العلوم حت العلوم اإلنسانية التي يحاول أصحابها استعارة الطرائق التي‬
‫انتهجتها هذه العلوم لكن اعترضتهم مشاكل كثيرة كانت حاجزا دون تطبيق‬
‫مناهج العلوم الدقيقة نذكر منها‪:‬‬
‫‪ ‬التعقيد‪ :‬إن الظاهرة اإلنسانية تختلف كليا عن الظاهرة الطبيعية‪ ،‬إذ‬
‫أنها ظاهرة معقدة ومتعددة األبعاد وفريدة من نوعها‪ ،‬يتأثر فيها الباحث‬
‫بالموضوع الذي يدرس ألنه يمثل جزءا منه‪ ،‬ومن الصعوبة بمكان أن يدرسه‬
‫بحياد ونزاهة‪ ،‬والباحث في العلوم اإلنسانية حين يفهم الظاهرة التي يدرسها‬
‫فهما خاصا يؤثر ذلك عل النتائج‪ ،‬فتكون النتيجة لهذا الفهم الذي يختلف من‬
‫باحث إل آخر اختالف النتائج مما يجعل إمكانية التعميم متعذرة‪.‬‬
‫إن الظاهرة اإلنسانية في منته التعقيد إذ تتداخل فيها مجموعة من‬
‫العوامل فمثال حين ندرس ظاهرة اجتماعية ما كالسرقة مثال‪ :‬فكيف نحدد‬
‫العامل األساسي الذي يمكن اعتباره السبب المباشر لها؟ هل هو ضغط‬
‫الحاجة المادية؟ أم انعدام الوازع الديني أم غياب التربية االجتماعية؟ أو ‪...‬؟‬
‫وهل هو هذه العوامل كلها؟‬
‫إننا حين ندرس ظاهرة "الغضب" كيف تحدث هذه الظاهرة؟ ما‬
‫األسباب المباشرة في حدوثها؟ تعترضنا مسائل يصعب التخلص منها بل‬
‫يستحيل مثل "الطباع" فهذه الحالة النفسية تختلف من فرد إل آخر‪ ،‬لذلك فإننا‬

‫‪148‬‬
‫نالحظ أن ما يثير هذا ويستفزه قدال يترك أي أثر في اآلخر‪ ،‬ومن هنا فإن أية‬
‫نتيجة يستخلصها الباحث من دراسة بعض األفراد ال يمكن أن تكون قابلة‬
‫للتعميم عل مختلف أفراد النوع‪ ،‬وهذا عائق من أكبر العوائق التي تجعل‬
‫طريق العلوم اإلنسانية نحو الدقة طريقا غير سالك‪.‬‬
‫والظاهرة النفسية حين حاول الباحثون في علم النفس تحديد موضوعها‬
‫لم يتفقوا عليه وال عل الطريق األنسب لدراستها‪ ،‬هل يكون التركيز عل‬
‫السلوك الظاهر أم عل الشعور أم عل "الالشعور"‪ ،‬وهذا يبين صعوبة‬
‫مالحظتها بشكل يمكن من استيعابها‪ ،‬إذ المالحظة تحتاج –سلفا – إل‬
‫مجموعة من االحتياطات تصحح عل األقل الرؤية األول خاصة‪ .‬وهذا ال‬
‫يخص علم النفس عن علم التاريخ وعلم االجتماع‪ ،‬فليس من السهل حين‬
‫ندرس حادثة تاريخية أن نالحظها واقعا حيا نعيشه‪ ،‬فهي ماضية وال سبيل‬
‫إل إعادتها مهما كانت الظروف مهيأة لذلك‪ ،‬وهنا يبرز الفارق الكبير بين‬
‫العلوم الدقيقة والعلوم اإلنسانية فاألول حين نوفر الشروط الالزمة إلحداث‬
‫الظاهرة يكون باإلمكان إعادتها‪ ،‬أما في الثانية فاألمر اليزال متعذرا حت‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫االيدولوجيا‪ :‬ولما كانت العلوم اإلنسانية وثيقة الصلة بالفلسفة وباإلنسان‬
‫فنقول‪ :‬إن العامل المذهبي الذي يوجه أحيانا كثيرة األنساق الفلسفية يحول‬
‫دون فهم الظاهرة كما هي و إقحام هذه األنساق بطريقة أو بأخرى في العلوم‬
‫اإلنسانية أكبر عائق يلزم رفعه وإبعاده‪ ،‬فاألنساق الفلسفية تتميز بغائيتها من‬
‫حيث ‪ :‬إن لكل نسق فلسفي غايات محددة هي التي يهدف إل إبرازها ضمن‬
‫الغايات المختلفة للفلسفة‪ ،‬وحضور االعتبارات الغائية أو االيديولوجية في‬
‫الدراسة يضفي عل الموضوع طابع المذهبية أو الشخصنة الفردية‪.‬‬
‫إن اإليديولوجيا تؤدي إل صراع عل مستوى األفكار وهذا الصراع‬
‫ينجر عنه حتما اختالف في التصورات والممارسات مما يؤدي إل دراسات‬
‫وأبحاث إ ما استرضائية ترفض كل ما من شأنه أن يشوش عل هذا النسق أو‬
‫يسبب التشكك في قيمته العلمية وإما متحاملة ال تعترف بالعناصر اإليجابية‬

‫‪149‬‬
‫في الدراسة مه ما كانت قوة تأسيسها ومنطقية بنائها وانسجام نتائجها مع‬
‫المنطلقات التي بنيت عليها‪ ،‬فتكون النتيجة في النهاية غياب الموضوعية التي‬
‫تقتضي تنحية الذات وإبعاد جميع االعتبارات االيديولوجية ويرى (ألتوسير)‬
‫أن األ يديولوجيا في واقع األمر ما هي إال خطاب خارج حدود الخطاب‬
‫العلمي‪ ،‬وذلك أن هذا الخطاب تتحكم فيه أحكام القيمة في حين ال يهتم العلم‬
‫إال بأحكام الواقع‪.‬‬

‫‪ ‬المنفعية‪ :‬وكثيرا ما يتسرب الجانب النفعي إل الدراسة فيكون‬


‫الهدف هو الحصول عل منافع مادية أو معنوية بعيدا عما تمليه الشروط‬
‫الموضوعية للدراسة‪ ،‬وأول من أشار إل أن "المنفعة" عائق ابستيمولوجي‬
‫في مجال العلوم الدقيقة (باشالر) ‪ ،‬وما يؤثر عل الدراسة في أي ميدان من‬
‫ميادين المعرفة يؤثر عليها في مختلف الميادين وواضح أن المنفعة ما دامت‬
‫تتسرب إل الفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية التي يفترض فيها االبتعاد‬
‫عن جميع االعتبارات غير العلمية‪ ،‬فإن حضورها في العلوم اإلنسانية أكثر‬
‫تأكيدا وتقبال‪.‬‬
‫وليس ثمة ش ك في أن المصالح الذاتية والمنافع من أي لون مهما كانت‬
‫هي أمور ال يمكن بحال أن تكون في خدمة الدراسات العلمية التي يراد لها‬
‫أن تكون مستقلة عن الذاتية ومالبساتها‪.‬‬
‫صحيح أن من الصعب أن يتخلص اإلنسان من رواسب الفردية لكن‬
‫المطلوب في الدراسات العلمية خاصة تلك المتعلقة منها بموضوعات لم‬
‫تصبح بعد في المستوى المطلوب في العلوم اإلنسانية العمل عل إبعاد‬
‫الفردية ولواحقها إل أدن مستوى حت يكون باإلمكان – عل األقل – فهم‬
‫هذه العلوم التي لم تستطع أن تحقق عل مستوى النتائج ما حققته العلوم‬
‫الدقيقة‪.‬‬
‫‪ ‬النزعة التاريخية‪ :‬يذهب البنيويون في رداستهم للظواهر اإلنسانية‬
‫إل التمييز بين مستويين في التحليل‪ :‬التحليل األفقي (سانكرونيك) والتحليل‬

‫‪150‬‬
‫العمودي (دياكرونيك)‪ ،‬فالمستوى األول يهتم فيه بالظاهرة اإلنسانية (تاريخية‬
‫أو اجتماعية أو لغوية) في الحاضر‪ ،‬كما هي في الواقع بغض النظر عن‬
‫التحوالت التي مرت بها تاريخيا وعما يمكن أن يطرأ عليها مستقبال‪ ،‬أما‬
‫المستوى الثاني فيهتم فيه بالعامل الزمني كأن ينظر إل الظاهرة المدروسة‬
‫عبر سلسلة من التحوالت مرت بها أو ينظر إل ما يمكن أن يطرأ عليها في‬
‫المستقبل‪.‬‬
‫إن المستوى األول (األفقي) هو الذي يسمح بدراسة الظاهرة اإلنسانية‬
‫دراسة موضوعية‪ ،‬أما الثاني (العمودي) فيشكل عائقا ابستيمولوجيا‪ ،‬ذلك أن‬
‫الظاهرة كما هي مقدمة في الواقع تختلف عما كانت عليه في الماضي وعما‬
‫يمكن أن يطرأ عليها في المستقبل‪ ،‬ولذلك فإن الدراسة التي يكون فيها‬
‫الماضي والمستقبل حاضرين ال تحقق الدراسة الموضوعية في نظر‬
‫البنيويين‪.‬‬
‫ويذهب البنيويون كذلك إل أن النزعة التجريبية تشكل عائقا‬
‫ابستيمولوجيا ذلك أن االعتماد عل التجربة في نظرهم يشكل عائقا يحول‬
‫دون الوصول إل البنية الحقيقية لألشياء‪ ،‬فالظاهر والمباشر ال يمثالن الواقع‬
‫الحقيقي للظواهر المدروسة ومن ثم فالبد من تجاوز المعط إذا كنا نريد حقا‬
‫معرفة الحقائق‪.‬‬
‫ويربط البنيوي تقدم العلوم اإلنسانية بإخضاعها المنهج التحليلي البنيوي‬
‫الذي يهــدف – حسب رأيهم ‪ -‬إل التحــرر من مختلــف العـوائق‬
‫االبستيمولوجية‪.‬‬
‫ومهما حاول الدارسون للظواهر اإلنسانية التزام الحياد والموضوعية‬
‫فلن يستطيعوا بسهولة التخلص من رواسب االيديولوجيا والذاتية‪ ،‬ذلك أن هذه‬
‫العلوم ال تنفصل عن اإلنسان فهي مفعمة بالعناصر االنتروبومورفية التي‬
‫تسقط ظاللها عل أية دراسة موضوعها اإلنسان أو ما يتصل به‪.‬‬
‫هذا باإلضافة إل تعقيد الموضوع الذي لم يستطع بعد استلهام‬
‫الرياضيات كأسلوب في التعامل وأداة للصياغة‪ ،‬غير أن هذه النظرة‬

‫‪151‬‬
‫المتشائمة ال يمكن اعتبارها حتمية نهائية تفرض عل الباحثين في العلوم‬
‫اإلنسانية االستسالم لواقع غير علمي ال أمل في تجاوزه‪ ،‬بل نقول‪ :‬صحيح أن‬
‫العلوم اإلنسانية لم تحقق ما حققته العلوم الدقيقة من موضوعية ويقين لكن‬
‫غياب هذه النتيجة في العلوم اإلنسانية ال يعني في الواقع انتفاءها مطلقا‪ ،‬وما‬
‫ينبغي فهمه هو أن فكرة التعقيد مؤقتة وزوالها مشروط فقط بتطور العقل‬
‫البشري وتطور األدوات التي يستخدمها في الدراسة‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬إالم ترجع صعوبة تحقيق الموضوعة في العلوم اإلنسانية؟‬


‫‪ - 2‬ما مدى إمكانية الحد من العوائق االبستيمولوجية في العلوم‬
‫اإلنسانية؟‬
‫‪ -3‬بأي معن يمكننا القول بأن تعقيد الظواهر اإلنسانية فكرة مؤقتة ؟‬

‫النصوص‬ ‫‪152‬‬
153
‫النص )‪:(1‬‬
‫إنسان العلوم اإلنسانية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫يتميز اإلنسان عن باقي الكائنات الحية األخرى بثراء نشاطاته‬
‫وتنوعها‪ ،‬ويختلف كلية عن هذه الكائنات‪ ،‬وإذا كان المهتمون بدراسة أبعاده‬
‫دراسة علمية لم ينجحوا بعد في تجاوز العوائق االبستيمولوجية التي تحول‬
‫دون دراسته تجريبيا‪ ،‬فمرد ذلك أن العلوم المتصلة باإلنسان ال تشكل وسطا‬
‫متجانسا يسهل التعامل معه والتحكم فيه‪.‬‬

‫ــــــــــــ‬

‫إن أول ما ينبغي علينا أن نالحظه‪ .‬أن العلوم اإلنسانية لم ترث حقال قد‬
‫رسمت معالمه‪ ،‬وربما قدر تقديرا إجماليا إال أنه ترك بؤرا‪ ،‬فتكون مهمتها‬
‫عندئذ أن تتول تهيئته باستخدام مفاهيم غدت علمية ومناهج وضعية‪ .‬إن‬
‫القرن الثامن عشر لم يترك للعلوم اإلنسانية مساحة موضوعها اإلنسان أو‬
‫الطبيعة اإلنسانية ف قد رسمت حدودها من الخارج‪ ،‬ولكنها ما زالت خالية‪،‬‬
‫فيكون دور العلوم اإلنسانية حينئذ أن تتول بعد ذلك اإللمام بها وتحليلها‪ .‬إن‬
‫المجال االبست مولوجي الذي تتحرك فيه العلوم اإلنسانية لم يقع تحديده سلفا‬
‫(‪.)...‬‬

‫فالعلوم اإلنسانية تتجه إل اإلنسان من حيث هو يحيا ويتكلم وينتج‪،‬‬


‫ولما كان اإلنسان كائنا حيا فإنه ينمو‪ ،‬ولديه وظائف وحاجات‪ .‬ويرى أمامه‬
‫مجاال ينفتح فيعقد له في نفسه إحداثيات متحركة‪.‬‬

‫وبصفة عامة فإن الوجود الجدي لإلنسان يجعله يتقاطع تقاطعا تاما‬
‫مع كل ما هو حي‪ ،‬ولما كان اإلنسان ينتج أشياء وأدوات ‪ ،‬ويتبادل ما يحتاج‬
‫إليه‪ ،‬وينظم شبكة كاملة من المسالك يمر عبرها ما يمكن له أن يستهلكه‪،‬‬
‫‪154‬‬
‫ويكون هو نفسه بمث ابة المحطة فيها‪ ،‬فإنه يبدو‪ ،‬في وجوده‪ ،‬مندمجا اندماجا‬
‫مباشرا مع الغير‪ ،‬وأخيرا فل ما كان اإلنسان لغة فإنه بإمكانه أن ينشئ لنفسه‬
‫عالما رمزيا يعقد فيه عالقات مع ماضيه‪ .‬ومع األشياء‪ ،‬ومع الغير‪ ،‬ويستطيع‬
‫أيضا أن يبني انطالقا منه شيئا من قبيل المعرفة (وعل وجه الخصوص‬
‫المعرفة التي له عن نفسه والتي ترسم لها العلوم اإلنسانية إحدى الصور‬
‫الممكنة) ‪ .‬بإمكاننا إذن أن نحدد موقع علوم اإلنسان في حوار هذه العلوم التي‬
‫تتعلق بالحياة والعمل واللغة‪ ،‬وعل تخومها المباشرة وعل مداها كله (‪)...‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فال يحق لنا أن نعتبر علم الحياة أو علم االقتصاد أو فقه اللغة أول‬
‫العلوم اإلنسانية وال أجدرها بأن تعد أساسا لها‪.‬‬

‫ميشال فوكو‬
‫الكلمات واألشياء‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما هو إنسان العلوم اإلنسانية؟ وهل هو اإلنسان نفسه الذي‬
‫تتكلـم‬
‫عنه الفلسفة؟‬
‫‪ –2‬حدد مفهوم "المجال االبستمولوجي"‪.‬‬
‫‪ –3‬ما معن قول الكاتب‪" :‬العلوم اإلنسانية لم ترث حقـــال قد‬
‫رسمت معالمه"؟‬
‫‪ – 4‬هل يمكن أن يكون اإلنسان موضوعا للعلم؟‬

‫النص )‪:(2‬‬
‫‪155‬‬
‫أسباب األخطاء في دراسة التاريخ‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫قد يختلط التاريخ بمجرد نقل األخبار‪ ،‬دون تمحيص أو بحث عن‬
‫الصدق‪ ،‬مما جعل بعض الباحثين‪ ،‬يحاول التمييز بين الصادق من األخبار‬
‫والكاذب منها‪ ،‬وكان ذلك بداية ظهور قواعد المنهج التاريخي‪ ،‬وهذا ابن‬
‫خلدون – من أوائل الرواد الذين فطنوا إل ما يدخل األخبار من التزييف‪-‬‬
‫يحدد األسباب ويضع القواعد لدراسة التاريخ دراسة موضوعية يقترب فيها‬
‫المؤرخ من الحوادث الواقعية للتاريخ‪.‬‬

‫ــــــــــــ‬

‫اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو‬
‫عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش‬
‫والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم عل بعض‪ ،‬وما ينشأ‬
‫عن ذلك من الملك والدول ومراتبها‪ ،‬وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم‬
‫من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران‬
‫بطبيعته من األحوال‪ .‬لما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته وله أسباب‬
‫تقتضيه‪.‬‬

‫فمنها التشيعات لآلراء والمذاهب‪ ،‬فإن النفس إذا كانت عل حال من‬
‫االعتدال في قول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حت تتبين صدقه‬
‫من كذبه وإذا خامر ها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من األخبار ألول‬

‫‪156‬‬
‫عين بصيرتها عن االنتقاد‬ ‫وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاء عل‬
‫والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله‪.‬‬
‫ومن األسباب المقتضية للكذب في األخبار أيضا الثقة بالناقلين‬
‫وتمحيص ذلك يرجع إل التعديل والتجريح‪.‬‬

‫ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين ال يعرف القصد بما‬


‫عاين أو سمع وينقل الخبر عل ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب‪.‬‬
‫ومنها توهم الصدق‪ ،‬وهو كثير‪ ،‬وإنما يجيء في األكثر من جهة الثقة‬
‫بالناقلين‪ .‬ومنها الجهل بتطبيق األحوال عل الواقع ألجل ما يداخلها من‬
‫التلبيس والتصنع فينقلها الم خبر كما رآها وهي بالتصنع عل غير الحق في‬
‫نفسه‪.‬‬

‫ومنها تقرب الناس في األكثر ألصحاب التجلة والمراتب بالثناء‬


‫والمدح وتحسين األحوال وإشعاع الذكر بذلك‪ ،‬فتستفيض األخبار بها عل‬
‫غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إل الدنيا وأسبابها‬
‫من جاه أو ثروة وليسوا في األكثر براغبين في الفضائل وال متنافسين في‬
‫أهلها‪.‬‬

‫ومن األسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة عل جميع ما تقدم‬


‫الجهل بطبائع األحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث‪ ،‬ذاتا كان أو‬
‫فعال‪ ،‬البد له من طبيعة تخص ه في ذاته وفي ما يعرض له من أحواله‪ ،‬فإذا‬
‫كان السامع عارفا بطبائع الحوادث واألحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه‬
‫ذلك في تمحيص الخبر عل تمييز الصدق من الكذب‪ ،‬وهذا أبلغ في‬
‫التمحيص من كل وجه يعرض‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول األخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر‬
‫عنهم ‪ ...‬وتمحيص (هذه األخبار) إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن‬
‫الوجوه وأوثقها في تمحيص األخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق عل‬
‫التمحيص بت عديل الرواة‪ ،‬وال يرجع إل تعديل الرواة حت يعلم أن ذلك الخبر‬
‫في نفسه ممكن أو ممتنع وأما إذا كان مستحيال فال فائدة للنظر في التعديل‬
‫والتجريح ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ‬
‫وتأويله بما ال يقبله العقل‪.‬‬

‫ابن خلدون‬
‫(المقدمة) ص ‪28/26‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬ما التاريخ؟ وما االجتماع اإلنساني؟ وهل هناك صلة بينهما؟‬
‫‪ –2‬ما األسباب التي تجعل الكذب يتطرق للخبر؟‬
‫‪ –3‬هل ترى أن تحليل ابن خلدون ال يزال يحتفظ بقيمتــه إل‬
‫اليوم؟‬
‫‪ – 4‬هل التاريخ علم من العلوم؟‬

‫‪158‬‬
‫النص )‪:(3‬‬
‫إعادة بناء الحوادث التاريخية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫لم يكن التاريخ سوى سجل من األحداث يحفظ لإلنسان سلسلة‬
‫المراحل التي تتحدث عن الحضارات والحروب واالنتصارات واألبطال‪،‬‬
‫ولكن فالسفة التاريخ يتجاوزون هذه الحوادث الجزئية إل ما وراءها‪ .‬أي‬
‫أنهم في دراستهم للتاريخ يحاولون إدراك الحتميات التي تكمن خلف كل حدث‬
‫تاريخي‪.‬‬
‫ــــــــــــ‬
‫لقد كان التاريخ دوما‪ ،‬يؤسس الحوادث (التاريخية) ثم يستخدمها‪،‬‬
‫وهذا ما كان عل العموم صحيحا وأمرا واضحا‪ ،‬خصوصا حينما يكون‬
‫التاريخ عبارة عن نسيج خالص من األحداث أو يكاد‪ :‬مت وأين ازداد الملك‬
‫الفالني؟ وهل كان انتصاره في المكان الفالني عل جيرانه حاسما؟‬
‫إن البحث عن جميع النصوص التي تحدث عن هذا االزدياد أو عن‬
‫هذا االنتصار‪ ،‬وانتقاء أكثرها جدارة وأهال بالثقة‪ ،‬كما اعتماد أحسنها في‬
‫تكوين رواية دقيقة مقبولة‪ ...‬كل ذلك ال يخلو من صعوبات‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬الم تعرف‪ ،‬عبر هذا التسلسل الزمني‪ ،‬األجور انخفاضا‬
‫واألسعار ارتفاعا؟ إن مثل هذه الحوادث التاريخية‪ ،‬في نظرنا‪ ،‬ألهم من وفاة‬
‫قائد معين أو من إبرام اتفاقية عابرة‪ ،‬هل نحصل عل هذه الحوادث مباشرة؟‬
‫بالطبع ال‪ ،‬فهناك العديد من األشخاص الذين يبحثون بصبر وأناة‪ ،‬بتتابع‬
‫وبدون انقطاع‪ ،‬ويعملون طويال عل صنعها‪ ،‬بواسطة آالف المالحظات‬
‫المستقاة بدقة وإتقان وبكمية هائلة من المعطيات المستخلصة بعناء من وثائق‬
‫متعددة هذه المعطيات يقدمونها كما هي في ذاتها ال كحقائق‪ .‬ال تعترضوا‬
‫عل قائلين‪« :‬هذا العمل هو مجرد جمع لحوادث‪ ،‬وليس مطابقا بالضرورة‬

‫‪159‬‬
‫للحوادث التاريخية ذاتها» "وذلك ألن الحادثة التاريخية في ذاتها هي مجرد‬
‫ذرة صغيرة تنتمي إل مجال التاريخ العريض فأين يمكن أن نعثر عليها؟ ‪...‬‬
‫وحت إذا ما (عثرنا عليها) وأردنا تحليلها وتفكيكها إل عناصرها المادية أو‬
‫الروحية فإننا نجد أنها مجرد نتيجة ترتبط بقوانين عامة وبظروف زمانية‬
‫ومكانية جزئية‪ ،‬إضافة إل ظروف خاصة بكل فرد من األفراد الذين قد‬
‫نعرفهم أو نجهلهم‪ ،‬والذين لعبوا دورا هاما فيها‪ ...‬إننا سنجد أنفسنا أمام‬
‫تركيب متشابك يتجزأ وبتفكك وينقسم بذاته‪ .‬فهل يتعلق األمر‪ ،‬والحالة هذه‬
‫بشيء معط ‪ ،‬أم بشيء مؤسس مرات عديدة من طرف المؤرخ؟ إن األمر‬
‫يتعلق فعال بأمور مخترعة ومؤسسة انطالقا من فرضيات وتخمينات‪،‬‬
‫بواسطة بحث دقيق وشيق‪.‬‬

‫وهذا ما قد يدفع بدون شك‪ ،‬إل زعزعة تصور آخر كثيرا ما تردد‬
‫تعليمه في الماضي‪ ،‬وهو أن "المؤرخ ال يمكنه أن يختار الحوادث"‪ ،‬ولكن‬
‫هل هناك فعال تاريخ ال يقوم في ذاته عل مبدأ االختيار؟‬
‫‪ ...‬فبمجرد ما تكثر الوثائق‪ ،‬يشرع المؤرخ في اختزالها وتبسيطها‪،‬‬
‫يركز عل بعضها ويغفل بعضها اآلخر‪.‬‬

‫إنه اختيار بصورة خاصة ألن المؤرخ هو الذي ينشئ كل المواد التي‬
‫يعمل عليها‪ ،‬أو إذا شئنا إنه يعيد إنشاءها‪ .‬إن المؤرخ ال يتحول في الماضي‬
‫بدوت أي قصد أو هدف كما يفعل جامع الخرق البالية باحثا عن المهمالت‪،‬‬
‫وإنما ينطلق‪ ،‬عل العكس‪ ،‬في بحثه وفي ذهنه خطة مرسومة مسبقا أو مشكل‬
‫يتطلب الحل‪ ،‬أو فرضية عمل يريد التحقق منها‪ .‬إن كل من ينفي عن هذا‬
‫العمل طابعه العلمي فإنما يؤكد‪ ،‬بذلك عدم معرفته بالعلم وشروطه‪،‬‬
‫ومناهجه"‪.‬‬
‫لوسيان فيفر‪ ،‬دفاع عن التاريخ‬
‫باريس‪ 3363 ،‬ص ‪7/6‬‬

‫‪160‬‬
‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬أال يتعارض عمل المؤرخ القائم عل االختيار واالفتــراض‬
‫والتخمين والتركيب مع سعيه إل بناء الحقيقة التاريخية؟ أي‬
‫مع المعرفة الموضوعية المطابقة للواقع التاريخي؟‬
‫‪ –2‬أال يقف عدم تكرار الحوادث التاريخية عائقا أمام بناء قوانين‬
‫عامة؟ ومن ثم أال ينزع هذا العائق عن عمــل المــؤرخ‬
‫ونتائجه صفة العلم؟‬
‫‪ –3‬اشرح العبارة‪" :‬المؤرخ ال يمكنه أن يختار الحوادث"‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫النص )‪:(4‬‬

‫نشأة علم االجتماع‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫تحاول العلوم اإلنسانية ومن بينها علم االجتماع أن تحوك عل منوال‬


‫العلوم الدقيقة‪ ،‬أي أن تستعير منها المنهج التجريبي الذي كان عامال أساسيا‬
‫ضرورة منهج لدراسة‬ ‫في تقدمها‪ .‬ويعتبر ابن خلدون أول من انتبه إل‬
‫الظاهرة االجتماعية‪.‬‬
‫ــــــــــــ‬

‫فالقانون في تمييز الحق من الباطل في األخبار باإلمكان واالستحالة‬


‫أن تنظر في االجتماع البشري الذي هو العمران‪ ،‬ونميز ما يلحقه من‬
‫األحوال لذاته وبمقتض طبعه وما يكون عارضا ال يعتد به وما ال يمكن أن‬
‫يعرف له‪.‬‬
‫وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل‪ ،‬في‬
‫األخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني ال مدخل للشك فيه‪ ،‬وحينئذ فإذا‬
‫سمعنا عن شيء من األحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما‬
‫نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق‬
‫الصدق والصواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض الكتاب األول من تأليفنا‪.‬‬
‫وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري‬
‫واالجتماعي واإلنساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض‬

‫‪162‬‬
‫واألحوال لذاته واحدة بعد أخرى‪ ،‬هذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو‬
‫عقليا‪.‬‬
‫واعلم أن الكالم في هذا الغرض مستحدث الصنعة‪ .‬غريب النزعة‬
‫غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص وليس من علم الخطابة‬
‫الذي هو أحد العلوم المنطقية‪ ،‬فإن موضوع الخطابة إنما هو األقوال المقنعة‬
‫النافعة في استمالة الجمهور إل رأي أو صدهم عنه‪ ،‬وال هو أيضا من علم‬
‫السياسة المدنية إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب‬
‫بمقتض األخالق والحكمة ليحمل الجمهور عل منهاج يكون فيه حفظ النوع‬
‫وبقاؤه‪ .‬فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه وكأنه‬
‫علم مستنبط النشأة‪ .‬ولعمري لم أقف عل الكالم في منحاه ألحد من الخليقة‪،‬‬
‫ما أدري لغفلتهم عن ذلك وليس الظن بهم‪ ،‬أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض‬
‫واستوفوه ولم يصل إلينا‪ .‬وإذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعية يصلح أن يبحث‬
‫عما يعرض لها من العوارض لذاتها‪ ،‬وجب أن يكون‪ ،‬باعتبار كل مفهوم‬
‫وحقيقة‪ ،‬علم من العلوم يخصه‪ ،‬ولكن الحكماء لعلهم إنما ال حظوا في ذلك‬
‫العناية بالثمرات‪ ،‬وهذا إنما ثمرته في األخبار هذا كما رأيت‪ ،‬وإن كانت‬
‫مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح األخبار وهي‬
‫ضعيفة‪ ،‬فلهذا هجروه وهللا أعلم‪{ ،‬وما أتيتم من العلم إال قليال} وهذا الفن الذي‬
‫الح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض ألهل العلوم في براهين‬
‫علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب مثل ما يذكره الحكماء‬
‫والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه‬
‫إل الحاكم والوازع و مثل ما يذكر من أصول الفقه في باب إثبات اللغات من‬
‫أن الناس محتاجون إل العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون واالجتماع‬
‫وتباين العبارات أخف‪ ،‬ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل األحكام الشرعية‬
‫بالمقاصد من أن الزنا مخلط لألنساب مفسد للنوع وأن القتل أيضا مفسد‬
‫للنوع‪ ،‬وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع وغير ذلك من‬
‫سائر المقاصد الشرعية في األحكام فإنها كلها مبنية عل المحافظة عل‬

‫‪163‬‬
‫العمران‪ .‬فكان لها النظر فيما يعرض له وهو ظاهر من كالمنا هذا في هذه‬
‫المسائل الممثلة‪ .‬وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة‬
‫لحكماء الخلقية لكنهم لم يستوفوه‪ ..‬أطلعنا هللا عليه من غير تعليم أرسطو وال‬
‫إفادة موبذان‪ ...‬ونحن ألهمنا هللا إل ذلك إلهاما‪ ،‬وأعثرنا عل علم جعلنا سن‬
‫بكره وجهينة خبره‪ .‬فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عل سائر الصنائع‬
‫أنظاره وأنحاءه فتوفيق من هللا وهداية وإن فاتن شيء في إحصائه واشتبهت‬
‫بغيره مسائله فللناظر المحقق إصالحه‪ .‬ولي الفضل ألنني نهجت له السبيل‬
‫وأوضحت له الطريق‪ .‬وهللا يهدي بنوره من يشاء‪.‬‬
‫ونحن اآلن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من‬
‫أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح‬
‫بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتندفع بها األوهام وترفع الشكوك‪.‬‬

‫ابن خلدون (المقدمة) الكتاب األول‬


‫في طبيعة العمران في الخليقة‪ ،‬ص ‪ 61‬ج ‪1‬‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما العوامل التي ساعدت ابن خلدون عل العثور عل علم االجتماع؟‬
‫‪ –2‬بين خصائص علم االجتماع كما بينها ابن خلدون في هذا الفصل‪.‬‬
‫‪ –3‬ابرز بعض جوانب اشتراك علم االجتماع مع بعض العلوم األخرى‬
‫في دراسة العمران البشري‪.‬‬
‫‪ –4‬ما العوائق التي تحول دون تطبيق المنهج التجريبي في علم‬
‫االجتماع؟‬

‫النص )‪:(5‬‬
‫‪164‬‬
‫موضوع علم النفس‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن كل نشاط يصدر عن اإلنسان وهو يتعامل مع بيئته ليس نشاطا‬
‫جسميا خالصا أو نشاطا نفسيا خالصا وليس نشاطا يصدر عن جزء من‬
‫الجسم بل نشاط كلي يصدر عن اإلنسان بكليته باعتباره (وحدة نفسية جسمية)‬
‫تعيش في بيئة‪ ،‬وبعبارة أخرى فاإلنسان وحدة جسمية نفسية متضامنة متكاملة‬
‫ال تتجزأ إن تأثر منها جانب أو اضطرب تأثرت له الوحدة كلها واضطربت‪.‬‬
‫ــــــــــــ‬
‫إن علم النفس‪ ،‬سواء بالنسبة إل علم النفس اإلكلينيكي)‪ (1‬أو بالنسبة‬

‫هو علم السلوك‪ .‬ليس ثمة ما يدعو إل إضافة‬ ‫التجريبي)‪(2‬‬ ‫إل علم النفس‬
‫"التجربة الحسية" إل السلوك وذلك ألن التجربة ترتد إما إل مسالك‪ ،‬وإما‬
‫إل أشكال ونتاجات مستقرة ومنتظمة من السلوك‪ .‬وفيما يتصل بعلم النفس‬
‫التجريبي فإن وشائج)‪ (3‬صلته بالسلوك لوثيقة إل الحد الذي يعفينا من اإللحاح‬
‫عليها‪.‬‬
‫ومن الواضح أن علم النفس اإلكلينيكي يقوم عل مالحظة ونتاجات‬
‫السلوك وحت الشعور نفسه يستحيل فهمه من الناحية البيولوجية إال أنه سلوك‬
‫أو خاصية من خصائص السلوك‪ .‬فنحن ال نبلغ "الشعور" إال من خالل‬
‫فقد بينا أن موضوعه هو‬ ‫النفسي)‪(4‬‬ ‫السلوك أو عن طريقه‪ .‬أما عن التحليل‬
‫مشكالت السلوك وأن بحث التحليل النفسي كله يقوم عل مالحظة السلوك‬
‫وتأويله‪ .‬وهكذا نجد في ما يتصل بتصور الموضوع العام لعلم النفس‪ ،‬اتفاقا‬
‫تاما بين التجريبيين واإلكلينيكيين‪ .‬وغني عن البيان أن هذا التصور‬
‫الواطسوني)‪(5‬‬ ‫"السلوك" والذي يسمح بتحقيق هذا االتفاق‪ ،‬اشمل من التصور‬
‫للسلوك‪ ،‬هذا الذي يخفضه إل مجرد وقائع مادية بحتة‪ .‬ومثل هذا الخفض‬
‫"الفيزيائي للسلوك يتتبع خفض علم النفس إل علم الفيزياء‪ .‬غير أن‬
‫‪165‬‬
‫"السلوك" "هو انبثاق" ال يمكن خفضه إل صيغ فيزيائية‪ .‬ولقد انته التطور‬
‫بعلم النفس السلوكي ذاته إل تصور جديد للسلوكية‪ ،‬تصور ال ينطوي عل‬
‫الخفض إل الفيز ياء أو إل الفسيولوجيا‪ ،‬تصور "كلي" أي ينظر إل السلوك‬
‫كوحدة كلية فريدة‪ ،‬وذلك في معارضة للتصور الجزئي‪ ،‬والذي يركب‬
‫السلوك ابتداء من عناصر سابقة ومنعزلة‪ .‬وأخيرا اعترف كل من (كانتور)‬
‫و(تولمان) بما للسلوك من دالالت محايدة أي ينطوي عليها وال تضاف إليه‬
‫من الخارج‪ ،‬فأتاحا بذلك أداة تصورية مالئمة لوصف السلوك البشري‬
‫وتأويله‪ ،‬وضرورية فيما اعتقد لمالحظة سلوك الحيوان وتأويله‪.‬‬
‫‪ -‬دنيال ال جاش ‪-‬‬
‫وحدة علم النفس ‪ ،‬ص ‪33 - 34‬‬
‫ترجمة ‪ :‬صالح محيمر‪ -‬وعبده مخائيل رزق‬

‫التعريف بصاحب النص ‪:‬‬


‫)‪ (1972-1903‬طبيب ومحلل نفساني فرنسي اشتهر بأعماله‬
‫اإلكلينيكية أهم كتبه‪" :‬وحدة علم النفس" "التحليل النفسي" "بنية الشخصية"‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ – 1‬فرع من فروع علم النفس يعني تشخيص االضطرابات النفسية‪.‬‬
‫‪ – 2‬فرع من علم النفس يبحث المشكالت السيكولوجية بصورة تجريبية‪.‬‬
‫‪ – 3‬فروع‪ :‬تشبه العروق‪.‬‬
‫‪ – 4‬نظرية في علم النفس وطريقة في معالجة االضطرابات العقلية والعصبية أوجدها‬
‫"فرويد"‬
‫الذي ينسب السلوك إلى عوامل مكبوتة وموجودة في الالشعور‪.‬‬
‫‪ - 5‬واطسون‪ :‬عالم فيزيولوجي أمريكي يرجع علم النفس إلى األفعال المنعكســـة‪،‬‬
‫والمنعكسات الشرطية – نتيجة تغيرات فيزيولوجية‪ ،‬فتفسير السلوك ميكانيكي‪.‬‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما هو علم السلوك بالنسبة لصاحب النص؟‬
‫‪166‬‬
‫‪ –2‬ماذا يعني صاحب النص بقوله‪" :‬إن بحث التحليل النفسي يقوم‬
‫عل مالحظة السلوك وتأويله"؟‬
‫‪ –3‬ماذا يعني بتصور "كلي"؟ وأن ننظر إل السلوك كوحدة كلية‬
‫فريدة؟‬

‫‪167‬‬
‫النص )‪:(6‬‬
‫نقد االستبطان‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن االختالف حول تحديد الموضوع في "علم النفس" ينعكس‬
‫بالضرورة عل المنهج المالئم لدراسة هذا العلم‪ ،‬ويعتبر االستبطان الطريقة‬
‫المثل لدراسة النفس إال أن إخفاقها الذريع في مدرسة "فيرز بورق" أدى إل‬
‫التخلي عنها وااللتفات نحو مناهج العلوم التجريبية‪ .‬وينقد (أوجست كونت)‬
‫في هذا النص االستبطان مبينا عيوبه ومستخلصا طريقة جديدة‪.‬‬
‫ــــــــــــ‬
‫يالحظ أنه ال مكان بأي وجه من الوجوه لعلم النفس الوهمي الذي هو‬
‫اآلخر تحول لاله وت‪ ،‬والذي يراد عبثا بعثه اليوم من جديد‪ ،‬والذي يدعي‬
‫التوصل إل الكشف عن قوانين الفكر البشري األساسية بتأمله هو في ذاته‪،‬‬
‫أي بإهمال كل من األسباب والنتائج إهماال كليا‪ ،‬دون أن يكترث بالدراسات‬
‫الفيزيولوجية ألعضائنا الذهنية وال بمالحظة الطرق المنطقية التي توجه‬
‫بالفعل مختلف أبحاثنا العلمية‪.‬‬
‫إن رجحان الفلسفة الوضعية قد أصبح عل التوالي هكذا‪ ،‬ابتداء من‬
‫"بيكون" فأصبح لها اليوم بطريقة غير مباشرة نفوذ كبير جدا حت عل‬
‫أولئك الذين بقوا ابعد الناس عن نموها الضخم بحيث إن الميتافيزيقيين‬
‫المنكبين عل دراسة ذهننا لم يستطيعوا أن يأملوا التخفيف من انحطاط علمهم‬
‫المزعوم إال عندما رجعوا عن رأيهم ليعرضوا مذاهبهم عل أنها هي أيضا‬
‫قائمة عل مالحظة الحوادث‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك فقد فكروا في المدة األخيرة في التمييز بضرب من المحاكمة‬
‫الغريبة‪ ،‬بين نوعين من المالحظة متساويين في األهمية أحدهما خارجي‬
‫واآلخر داخلي‪ ،‬واألخير منهما مخصص لدراسة الظاهرة الذهنية فقط‪ .‬وليس‬
‫هنا مجال للدخول في مناقشة خاصة بهذه السفسطة األساسية وعل أن أقتصر‬
‫عل اإلشارة إل أن االعتبار الرئيسي الذي يثبت بوضوح هذا التأمل المباشر‬
‫المزعوم الذي يقوم به الذهن عل ذاته هو مجرد وهم‪...‬‬

‫‪168‬‬
‫ومن البين في الحقيقة أن الذهن البشري‪ ،‬بمقتض ضرورة ال مرد لها‪،‬‬
‫يستطيع أن يالحظ مباشرة جميع الظواهر باستثناء ظواهره هو‪ ،‬إذ من ذا‬
‫الذي يقوم بالمالحظة؟ إننا نتصور بالنسبة إل الظواهر األخالقية أن اإلنسان‬
‫يستطيع أن يالحظ نفسه بنفسه من جهة األهواء التي تحركه‪ ،‬لهذا السبب‬
‫التشريحي وهو أن األعضاء التي هي مقر لها متميزة عن األعضاء‬
‫المخصصة لوظائف المالحظة‪ .‬وعالوة عل ذلك‪ ،‬فحت لو تمكن أحد من‬
‫القيام بمثل هذه المالحظات عل نفسه‪ ،‬فلن تكون لها من دون شك أهمية‬
‫علمية كبيرة أبدا‪ ،‬وتكون أفضل وسيلة لمعرفة األهواء هي دائما مالحظتها‬
‫من الخارج‪ ،‬إذ أن كل حالة من أحوال الهوى الشديدة الظهور أي عل وجه‬
‫الدقة‪ ،‬الحالة التي يتعين فحصها أكثر من غيرها‪ ،‬هي بالضرورة متنافية مع‬
‫حالة المالحظة‪.‬‬
‫أما مالحظة الظواهر الذهنية بنفس الطريقة أثناء حدوثها فذلك أمر‬
‫ظاهر االستحالة فالفرد المفكر ال يمكنه أن ينشطر شطرين أحدهما يفكر‬
‫واآلخر يشاهد التفكير وبما أن العضو المالحظ والعضو المالحظ متماثالن‬
‫في هذه الحالة فكيف يمكن أن تكون هناك مالحظة؟ إذن فهذه الطريقة‬
‫النفسانية المزعومة باطلة من أساسها أصال‪.‬‬

‫أوجست كونت‬
‫(دروس في الفلسفة الوضعية)‬
‫ترجمة ‪ :‬محمود يعقوبي‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما عيوب االستبطان كمنهج حسب أوجست كونت؟‬
‫‪ –2‬ما الطريقة الصالحة التي يمكن استخالصها من خــالل هذا‬
‫النص؟‬
‫‪ –3‬هل توصل أوجست كونت إل استنباط طريقة علمية لدراسـة‬
‫النفس؟‬

‫‪169‬‬
‫النص )‪:(7‬‬
‫الجهاز النفسي‬

‫إن دراسة األفراد هي التي مكنتنا من معرفة الجهاز النفسي‪ .‬وقد‬


‫أطلقنا عل أقدم هذه المناطق أو المنظمات اسم (الهو) ومضمونه هو كل ما‬
‫يحمله الكائن عند والدته‪ ،‬وكل ما حدده تكوينه‪ ،‬فهو إذن الدوافع الصادرة عن‬
‫التنظيم الجسمي أوال‪ ،‬وهي دوافع تجد في (الهو) – وعبر أشكال تظل لدينا‬
‫غير معروفة‪ -‬نمطا أول من التعبير النفسي‪.‬‬

‫ويتطور جزء من (الهو) وفق نهج مخصص تحت تأثير العالم‬


‫الخارجي الموضوعي الذي يحيط بنا‪ .‬وينشأ انطالقا من قشرة الدماغ األصلية‬
‫المزودة بأعضاء قادرة عل التقاط المنبهات وعل االحتماء منها‪ ،‬تنظيم‬
‫خاص يكون من ذلك الحين‪ ،‬وسيطا بين الهو والعالم الخارجي‪ .‬وهذا الجزء‬
‫من جهازنا النفسي هو الذي نطلق عليه اسم (األنا)‪.‬‬
‫ويشهد الفرد بما يشبه ضربا من الترسب وهو في طور النمو‪،‬‬
‫وطوال فترة الطفولة التي يجتازها وهو في حالة تبعية لوالديه‪ ،‬نشأة منظمة‬
‫مخصوصة في األنا يتواصل من خاللها تأثير الوالدين‪ .‬وهذه المنظمة هي‬
‫األنا األعل ‪ .‬ولما كان األنا األعل منفصال عن األنا أو متعارضا معه فإنه‬
‫يقوم قوة ثالثة عل األنا أن يأخذها بعين االعتبار‪.‬‬
‫فرويد‬
‫(مختصر علم النفس التحليلي)‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما محتوى (الهوا)؟ وكيف ينشأ؟‬
‫‪ –2‬ما دور األنا؟ وماذا يمثل؟‬
‫‪ –3‬كيف نشأ األنا األعل وما عالقته بالهو؟‬
‫‪ – 4‬كيف تظهر لك بنية الجهاز النفسي؟‬

‫‪170‬‬
‫النص )‪:(8‬‬
‫العوائق األبستيمولوجية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫يعتبر باشالر أن التحليل النفسي لعملية المعرفة هو بمثابة تطهير‬
‫للروح العلمية وإذا كان هذا النص قد اقتصر عل تحليل واحد من العوائق‬
‫هو الرأي فإن بقية الكتاب‪ ،‬الذي أخذ منه هذا النص‪ ،‬قد تناول بالبحث جملة‬
‫من العوائق األخرى مثل‪ :‬التجربة المباشرة والمعرفة الحسية‪ ،‬وكذلك ما‬
‫يتعلق بالمعرفة التي تـأتي نتيجة التعميم السريع كما هو الحال في تفسير‬
‫الظواهر بالرجوع إل الطبيعة‪.‬‬
‫وفي هذا النص يعرض باشالر رأيه بمزيد من التحليل‪..‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫عندما نبحث عن الظروف النفسية لتقدم العلم‪ ،‬ندرك بسرعة ضرورة‬
‫طرح مشكلة المعرفة العلمية في إطار العوائق االبستيمولوجية‪ ،‬ولكن ال‬
‫ينبغي أن نعتبر العوائق الخارجية –مثل تعقد الظواهر وعدم ثباتها‪ -‬كما أنه‬
‫ال ينبغي أن نفسر هذه الظاهرة بالرجوع إل ضعف الحواس أو قصور الفكر‬
‫البشري‪ ،‬ذلك أنه في عملية المعرفة نفسها يمكن البطء واالضطراب‪ ،‬وهو‬
‫أمر تقتضيه الضرورة الوظيفية‪ ،‬وهنا تبرز أسباب ركود المعرفة‪ ،‬بل‬
‫وتقهقرها وهنا أيضا‪ ،‬وبالضبط‪ ،‬تظهر أسباب العطالة ‪ Inertie‬التي نسميها‬
‫عوائق ابستيمولوجية‪.‬‬
‫إن معرفة الواقع هي بمثابة النور الذي يسقط دائما ظالال حواليه‪ ،‬ثم‬
‫إن هذه المعرفة ال تكون أبدا مباشرة ودسمة‪ ،‬فكشوف الواقع تكون دائما‬
‫استردا دية ‪ ،‬ألن الواقع ليس هو دائما ما نعتقده بل هو ما كان ينبغي علينا‬
‫إدراكه‪.‬‬
‫إن التفكير التجريبي ال يكون واضحا منذ اللحظة األول ‪ ،‬ولكن بعد‬
‫إعداد المقومات العقلية له‪ ،‬ثم إنه عند إعادة النظر في ماضي األخطاء نعثر‬
‫عل الحقيقة‪ ،‬والفكر في حالة ندم حقيقي‪ .‬فنحن في الحقيقة ال نبني معرفة إال‬
‫عل أنقاض معرفة سابقة‪ ،‬أي بعد أن نحطم معارف غير سليمة في تكوينها‪،‬‬
‫‪171‬‬
‫وذلك بتجاوز ما في الفكر نفسه لكل ما من شأنه أن يعوقنا عن السمو إل‬
‫المعرفة التجريدية‪.‬‬
‫‪ ...‬إن العلم في توقه إل الكمال وحسب مبدئه يتعارض مطلقا مع‬
‫الرأي السائد‪.‬‬
‫فإذا حدث له أن اتفق مع الرأي في مسألة جزئية ما فإن ذلك ال يكون‬
‫إال باالستناد إل أسباب غير األسباب التي يرتكز عليها هذا الرأي‪ ،‬حت أن‬
‫الرأي‪ ،‬حسب العلم‪ ،‬يخطئ دائما‪ ،‬ذلك أن الرأي يسيء التفكير‪ ،‬بل ال يفكر‬
‫ألنه يعبر عن حاجات ظانا أنها معارف‪ .‬فهو عندما يعين األشياء يربط هذا‬
‫التعيين بالمنفعة‪ ،‬وهو بذلك يعوق نفسه من معرفتها‪ ،‬ولذلك فنحن ال نستطيع‬
‫تأسيس أي شيء عل الرأي‪ ،‬ومن هنا لزم تحطيمه منذ البدء‪ ،‬ألنه العائق‬
‫األول الذي يجب تجاوزه فال يكفي مثال أن نعدله في بعض جوانبه وأن‬
‫نحافظ عل معرفة مبتذلة مؤقتة مثلما نحافظ عل أخالق مؤقتة‪.‬‬
‫إن الروح العلمية تمنعنا من تكوين فكرة عن مسائل ال نفهمها وعن‬
‫مسائل ال نستطيع صياغتها بوضوح‪ .‬فقبل كل شيء يجب أن نعرف كيف‬
‫نطرح المشاكل‪ ،‬ومهما قيل فإن المشاكل العلمية ال تطرح نفسها بنفسها‪ .‬ذلك‬
‫أن حاسة وضع المشاكل هي الطابع الحقيقي للروح العلمية‪.‬‬
‫باشالر (تكوين الروح العلمية)الفصل األول‬
‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما العوائق االبستيمولوجية؟‬
‫‪ –2‬ما دورها في اكتساب المعرفة العلمية؟‬
‫‪ –3‬ما الذي يؤاخذ به باشالر الرأي؟‬
‫‪ – 4‬ما وجه التقابل بين االحتفاظ بأخالق مؤقتة‪ ،‬وبين االحتفاظ‬
‫بمعرفة مؤقتة؟‬
‫‪ - 5‬كيف يتقدم العلم حسب رأي باشالر؟‬

‫‪172‬‬
‫أسئلة الباب‬
‫‪ – 1‬هل يمكن للمؤرخ أن يستغني عن فلسفة التاريخ؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3332‬‬
‫‪ – 2‬إن البشر يصنعون التاريخ ولكنهم ال يدرون التاريخ الذي يصنعون‪.‬‬
‫ما رأيك؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪2443‬‬
‫‪ – 3‬هل يمكن أن يكون اإلنسان موضوعا للعلم؟‬

‫‪ -4‬بأي معن يمكن اعتبار الظواهر النفسية قابلة للمالحظة والتجربة؟‬

‫‪ – 5‬هل بإمكان (األنا) أن يقيم توازنا بين مطالب (الهو) ومثالية (األنا‬
‫األعل )؟‬
‫‪ – 6‬يعتبر (دوركايم) الظواهر االجتماعية بمثابة «أشياء» كيف ذلك؟‬

‫‪ – 1‬ماذا تعني مسألة التعقيد في العلوم اإلنسانية؟‬

‫‪173‬‬
‫المحور الثالث‪:‬‬
‫الشخصية‬

‫‪174‬‬
‫تصدير‬
‫« إن الشخصية واحدة وفردية‪ ،‬إنها خاصة بفرد ما‪ ،‬بالرغم من أنها‬ ‫‪‬‬
‫ترتبط بسمات مشتركة مع اآلخرين‪.‬‬
‫إنها ليست مجموعة وال كال من الوظائف‪ ،‬بل إنها تنظيم إدماجي‬ ‫‪‬‬
‫لهذه الوظائف‪.‬‬
‫إنها زمانية تتعلق بفرد يعيش تاريخا»‬ ‫‪‬‬
‫جون اكلود فيلو‬
‫مطابع الجامعة الفرنسية‬
‫« إذا كانت فرديتنا جملة من العالقات فإن إبداع الشخصية يدل عل‬ ‫‪‬‬
‫اكتساب الشعور بتلك العالقات»‬
‫«الشخصية وحدة ويجب دراستها كتنظيم كلي عام» محمد خليفه‬ ‫‪‬‬
‫بركات‬

‫‪175‬‬
‫الشخصية‬
‫مقاربة مفاهيمية‬
‫اإلنسان كائن اجتماعي يتميز عن غيره من األفراد بشخصيته التي‬
‫تمكنه من تحقيق التكيف وإثبات وجوده لذلك تقوم دراسات علم النفس بتحليل‬
‫مفهوم الشخصية وطبيعتها وأصل الفروق بين األفراد وتوازن الشخصية‪ .‬فما‬
‫هو مفهوم الشخصية؟ وما الطبع والمزاج والذات واألنا؟‬

‫الشخص والشخصية مفهومان مشتقان من الكلمة الالتينية ‪Persona‬‬


‫ويدل هذا المصطلح عل القناع الذي يحمله الممثل عل خشبة المسرح‪،‬‬
‫وعند الرومان يدل عل فكرة الدور ‪ Le Rôle‬والفرد هو ممثل هذا الدور‪.‬‬

‫مفهوم الشخصية‪:‬‬
‫يعرف (مورتس برنس) الشخصية بقوله‪« :‬إن الشخصية هي حاصل‬
‫جمع كل االستعدادات والميول والغرائز والدوافع والقوى البيولوجية الفطرية‬
‫الموروثة وكذلك الصفات واالستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة»‪.‬‬
‫وهي كذلك الصورة المنظمة المتكاملة لسلوك فرد ما يشعر بتمييزه‬
‫عن الغير‪ .‬ومن تحليل هذه التعريفات نستنتج خصائص الشخصية وهي‪:‬‬

‫‪ -‬أنها إنسانية تخص اإلنسان دون الحيوان‪،‬‬

‫‪ -‬أنها صورة منتظمة متكاملة‪ :‬تتصف بالوحدة ألن وظائفها‬


‫المختلفة النفسية والجسمية واألخالقية ليست منفصلة عن‬
‫بعضها بل تتفاعل فيما بينها ويخضع بعضها ألوامر ومطالب‬
‫اآلخر مثل‪ :‬خضوع االنفعال لتوجيه اإلرادة‪ .‬ولها ماهية‬

‫‪176‬‬
‫(هوية) تجعل الفرد يشعر بأنه هو نفسه في الماضي والحاضر‬
‫والمستقبل باعتبار أن اإلنسان هو كائن ذو أبعاد مختلفة‪.‬‬

‫‪ -‬أنها تمتاز بالنمو واالكتساب‪ :‬الثبات ال يلغي التغير وبوصف‬


‫الفرد عضوا في المجتمع فهو يكتسب من محيطه االجتماعي‬
‫بالتربية والتنشئة االجتماعية المعارف والعادات والتقاليد‬
‫والقيم‪ ...‬إلخ‪ ،‬فسلوك الفرد يتغير بتغير المؤثرات المختلفة‬
‫وكذلك الشعور بالذات يتم تدريجيا وعبر مراحل‪.‬‬

‫مفهوم الشخص‪:‬‬
‫الشخص في عرف العلماء هو الفرد المشخص المعين‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫والشخصية هي القضية المخصوصة‪.‬‬

‫مفهوم الطبع‪:‬‬
‫‪ ‬الطبع‪ :‬يدل عل مجموع ما يتصف به اإلنسان من استعدادات‬
‫نفسية وخلقية ويرادفه الخلق والطبيعة فالطبع فطري وليس‬
‫مكتسبا وهو ما يظهر في تعريف "لوسين" هو مجموعة‬
‫االستعدادات الفطرية التي تشكل الهيكل الذهني لفرد ما وتميزه‬
‫عن اآلخرين "من هذا التعريف نستنتج أن للطبع خصائص‬
‫تختلف عن خصائص الشخصية فالطبع وراثي ويتميز بالثبات‬
‫واالستمرار‪ ،‬أما الشخصية فهي مكتسبة من البيئة االجتماعية‬
‫وهي تتميز بالتغير والتطور‪ .‬وهذا يعني أن الطبع هو األساس‬
‫الذي يتحكم في نمو الشخصية وتطورها فهو مصدر بنائها‬
‫وتطورها حسب ما يراه علماء الطباع‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫التفسير القديم للطباع‪ :‬الشخصية ترجع إل جانب فطري ثابت هو‬
‫ذلك الطبع وتأسيسا عل تأثر علماء الفراسة بالدراسات اليونانية "أبقراط"‬
‫و"جالينوس" التي حاولت تفسير الطباع برده إل عوامل جسمية هي التي‬
‫تؤثر في السلوك وتحدد نوع الشخصية وأن هذه العوامل البيولوجية تتأثر‬
‫بالشروط الطبيعية حسب فصول السنة‪.‬‬
‫يركز هذا التصنيف الرباعي الجانب عل الفطري ويهمل تأثير‬
‫الجانب المكتسب‪ ،‬يركز عل الجانب البيولوجي ويهمل الجانب النفسي‬
‫االجتماعي‪ ،‬هذا التصنيف تجاوزه العلم بالنسبة لشروط الطبيعة وبالنسبة‬
‫لعناصر الطبيعة و التفسير القديم للطباع مبني عل أسس فلسفية ليس لها ما‬
‫يثبتها من الناحية العلمية‪ ،‬هذا ال يلغي تأثير الجانب البيولوجي الذي يبق‬
‫واضحا في بناء الشخصية‪.‬‬
‫‪ ‬مفهوم المزاج‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر ابن سينا في (القانون)‪« :‬إن المزاج هو‪ :‬كيفية حاصلة من‬
‫تفاعل الكيفيات المتضادات إذا وقفت عل حد ما‪ .‬ووجودها في‬
‫عناصر مصغرة األجزاء ليمس أكثر كل واحد منها اآلخر‪ ،‬إذا‬
‫تفاعلت بقواها بعضها في البعض حدث عن جملتها كيفية‬
‫متشابهة في جميعها هي المزاج والقوى األولية في األركان‬
‫المذكورة أربع هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة»‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر مثل هذا التعريف في كتابه (الشفاء) وفي قسم الطبيعيات‪،‬‬
‫ج‪ ،5‬ص ‪.332‬‬

‫وكثيرا ما يرد عل األلسن أن هذا الشخص صاحب مزاج أو أنه‬


‫مزاجي‪ ،‬ويقصد الناس من ذلك أنه متقلب بحسب الظروف واألحوال التي‬
‫تحدث له فال قاعدة عنده يجري عليها‪ .‬وقد صدق الناس في هذا القول وإن‬
‫تقلب اإلنسان راجع إل اختالف المزاج الذي يحصل له‪ .‬والمزاج ‪ -‬كما‬
‫ذهب إليه الفالسفة – هو مجموعة كيفيات تحصل من خالل تفاعالت‪ ،‬وذلك‬
‫‪178‬‬
‫من خالل اندماج الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ فتشكل من هذه‬
‫المجموعة حقيقة مندمجة مع بعضها تسبب مزاجا خاصا باإلنسان أو بالفرد‪،‬‬
‫ومن خالل هذا المزاج يختلف التعامل والتفاعل معه بحسب مزاجه‪ .‬بعضهم‬
‫حار المزاج أو بارد المزاج وهو الذي يحمله كل إنسان في داخله‪ .‬ومت‬
‫تحكمنا في المزاج فإننا نستطيع أن نحافظ عل الطفل وعل الشباب وعل‬
‫الرجل وعل المرأة من التصرفات التي يتصرفها من غير وعي وإدراك‪.‬‬

‫‪ ‬مفهوم الذات‪:‬‬
‫إن الذات معناها نشاط موحد مركب لإلحساس والتذكر والتصور‬
‫والشعور والتفكير‪ ،‬وتعتبر نواة الشخصية ‪ .‬ويقسم (ريموند كاتل ‪)Cattle‬‬
‫الذات إل ذات واقعية وذات مثالية‪ .‬فالذات الواقعية هي ذات حقيقة أو فعلية‬
‫تمثل مستوى االقتدار‪ ،‬في حين أن الذات المثالية هي ذات تطلعية يؤمل منها‬
‫أن تكون – أي تمثل – ما يطمح الفرد أن يكون أو يصبح‪.‬‬
‫إن الذات بناء معرفي يتكون من أفكار اإلنسان عن مختلف نواحي‬
‫شخصيته فمفهومه عن جسده يمثل الذات البدنية ومفهومه عن بنائه العقلي‬
‫يمثل مفهوم الذات المعرفية أو العقلية ومفهومه عن سلوكه االجتماعي مثال‬
‫للذات االجتماعية‪ .‬ويركز علماء النفس اإلنساني عل بناء الذات عن طريق‬
‫الخبرات التي تنمو من خالل تفاعل اإلنسان مع المحيط االجتماعي‪،‬‬
‫ويطلقون عل العملية اإلدراكية في شخصية اإلنسان (الذات المدركة) والتي‬
‫من خاللها تتراكم تلك الخبرات‪ ،‬فيتم بناء الذات ويكون الفرد مفهوما عن‬
‫ذاته‪ .‬ولما كانت الذات هي شعور الفرد بكيانه المستمر وهي كما يدركها‬
‫وهي الهوية الخاصة به وشخصيته فإن فهم الذات يكون عبارة عن تقويم‬
‫الفرد لنفسه‪ ،‬أو بتعبير آخر هو مجموعة مدركات ومشاعر لدى كل فرد عن‬
‫نفسه‪.‬‬
‫‪ ‬مفهوم األنا‪:‬‬

‫‪179‬‬
‫تدل كلمة األنا عل الذات وهي بالمعن المباشر تدل عل الشخص‬
‫بجميع لواحقه وأعراضه‪ .‬أما بالمعن الفلسفي فتدل عل جوهر الذات أي ما‬
‫يبق عندما نستثني اللواحق واألعراض وبالتالي يتحدد األنا تبعا لتصور‬
‫ماهية الذات اإلنسانية‪ .‬فنجد أن فلسفة الوعي تحدد األنا بالوعي مثلما يقول‬
‫ديكارت‪" :‬النفس التي أنا بها ما أنا" أي أن إنيته تكمن في النفس أو في األنا‬
‫المفكر‪.‬‬
‫وتحيل األنا أيضا إل حامل التمثالت واإلدراكات واألفكار التي تنتمي‬
‫إل "األنا المفكر" مثلما ذهب إل ذلك (كانط)‪ ،‬هذا األنا الذي يمثل شرط‬
‫الوحدة والتأليف بين الحدوس واإلدراكات في الوعي‪ .‬يقول (كانط)‪" :‬إن األنا‬
‫المفكر يرافق بالضرورة كل تمثالتي"‪.‬‬
‫وفي علم النفس التحل يلي األنا هو منطقة من الجهاز النفسي بين الهو‬
‫وأنت واألنا األعل ‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫األسس البيوثقافية للشخصية‬
‫« مبحث الشخصية من المباحث الحديثة الذي يطرق من خالل العلوم‬
‫اإلنسانية وتمتاز بالتعقيد‪ ،‬ولعل تناولها كمفهوم إشكالي يقوم عل مفارقات‬
‫يتحدد أبرزها في تلك التقابالت التي تجعل منها مجاال يتجاذبه الفطري‬
‫والمكتسب‪ ،‬الطبيعي والثقافي‪ ،‬الفردي واالجتماعي‪ ،‬الذاتي والموضوعي‪،‬‬
‫الثابت البنيوي‪ ،‬والمتغير التاريخي‪ ،‬الظاهري والباطني‪ ،‬األصيل الحقيقي وما‬
‫هو مجرد دور وقناع‪ ،‬الفعل واالنفعال‪ ،‬الخضوع واالستقاللية‪ ،‬الحتمية‬
‫والحرية»(‪.)1‬‬
‫وهذا ما يسمح بالتساؤل عن محددات الشخصية؟ بل قد يكشف عن‬
‫أن سمات الشخصية تتحد بناء عل تفاعل المقومات البيولوجية والمقومات‬
‫الثقافية باإلضافة إل البعدين الذاتي والموضوعي اللذين يحددانها عند علماء‬
‫النفس‪.‬‬
‫أوال‪ :‬المقومات البيولوجية‪:‬‬
‫أكد المفكرون منذ القدم عل دور الجسم والصفات المزاجية في‬
‫سلوك اإلنسان وتصرفاته؛ وهو ما أكدته الدراسات الحديثة والمعاصرة في‬
‫علم البيولوجيا من خالل النتائج الهامة التي توصلت إليها في دراسة الدماغ‪،‬‬
‫ومعرفة نشاطه وتكوينه‪ ،‬وكذلك ما أكدته هذه الدراسات من أهمية الغدد‬
‫الصماء في تحديد السلوك والنشاط لدى اإلنسان‪.‬‬
‫وتنقسم المقومات البيولوجية إل ‪:‬‬
‫‪ – 1‬الوراثة‪ :‬وهي انتقال صفات الجنس والنوع بل والفرد من‬
‫األصل إل الفرع‪ ،‬وهي قريبة إذا انتقلت من األب إل االبن مباشرة‪ ،‬وبعيدة‬
‫إذا انتقلت من جد أ علي إل ابن‪ ،‬والصفات الوراثية قد تكون عضوية أو‬
‫فسيولوجية أو سيكولوجية‪ .‬ويتم تناول دور الوراثة وظروف الوالدة في بناء‬
‫وتحديد الشخصية من خالل التساؤل عن هذه الخصائص الموروثة؟ وعن‬
‫مدى تأثيرها عل شخصية الفرد؟‬
‫يقول فاندل‪« :‬اإلنسان تم تحديده فيزيائيا منذ أمد طويل قبل والدته»‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة طبعة حديثة‪ .‬المغرب‬
‫‪181‬‬
‫كما يرى ريني‪ « :‬أن مجموع االستعدادات الوراثية هي التي تشكل‬
‫الهيكل الذهني لإلنسان»‪.‬‬
‫ويعني هذا أن اإلنسان يولد معه مجموعة من الخصائص الصادرة‬
‫عن الوراثة‪ ،‬ولها دور كبير في تحديد خياراته‪ ،‬فالطبع مثال والذي يكون‬
‫حصيلته العوامل الوراثية هو فطري وثابت‪.‬‬
‫كما يكشف هذا أيضا عن الدور الكبير الذي يلعبه اإلرث البيولوجي‬
‫الذي يرثه الطفل عن والديه في توجيهه ضمن حدود معينة فهو المسؤول عن‬
‫جملة من الصفات كلون العينين وشكل األنف وحت لون الشعر‪ .‬غير أن هذه‬
‫الصفات ال تورث كملكات ناضجة‪ ،‬بل كاستعدادات أو قدرات كامنة ال غير‪.‬‬
‫كما أن األمراض الوراثية‪ ،‬وحالة األم‪ ،‬ومشاكل الوالدة تحدد هي‬
‫األخرى مصير المولود بصورة كبيرة‪ .‬وهو ما أكدته الدراسات البيولوجية‬
‫بخصوص العاهة التي يحدثها وجود كرموزوم إضافي وهي مرض‬
‫«المنغلولية»‪ ،‬البالهة الخلقية التي تصيب الطفل عند والدته بانحراف عينيه‬
‫وسطح الجمجمة‪.‬‬
‫كما أن الطفل الذي يولد نتيجة عملية قيصرية يبدو أقل انفعاال ممن‬
‫يولد بصورة طبيعية ذلك انه يكون أقل ميال إل البكاء والصراخ‪.‬‬
‫ويخلص إل أن أهمية الوراثة تتمثل في كون الجماعة ليست حرة في‬
‫أن تصنع من الفرد ما ت شاء‪ ،‬ألن الشخصية محددة بمعطيات وراثية‪ ،‬وأن‬
‫استجابة الفرد للمحيط تختلف باختالف الخصائص الوراثية التي جاء مجهزا‬
‫بها‪ .‬وإذا كان هذا غير صحيح فكيف يمكننا تعليل عدم تشابه األفراد من إخوة‬
‫وأخوات؟‪.‬‬
‫وما يلزمنا إبرازه في هذا المجال هو أن الوراثة ال تولد تماثال؛ حت‬
‫بين أفراد العائلة الواحدة‪ ،‬فال يستغرب إذن وجود فوارق جسمية بين اإلخوة‪،‬‬
‫ألن التماثل ال يحدث إال عند التوائم الحقيقية المتأتية من بيضة واحدة‪ .‬ومما‬
‫ثبت علميا في هذا المجال هو أن كل فرد ليس إال نصف مجموع أبويه وهو‬
‫ما يفند كل عنصرية جنسية‪.‬‬
‫‪ – 2‬التركيب الفيزيولوجي‪ :‬حين يقول أحد الفيزيولوجيين (إننا تحت‬
‫رحمة غددنا الصماء)(‪ .)1‬يتبين عندئذ ما إلفرازات هذه الغدد من تأثير كبير‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفلسفة للسنة السابعة تونس‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫في الطباع‪ ،‬وما لألجهزة الفزيولوجية من دور فعال في تحديد شخصية الفرد‬
‫والتأثير عليها ويتجل ذلك من خالل إبراز دور كل من القشرة الدماغية‬
‫والقاعدة الدم اغية باإلضافة إل الغدد الكلوية والتناسلية وغيرها من الغدد‬
‫الصماء‪.‬‬
‫ا – دور قشرة الدماغ‪ :‬لقد أكدت نتائج الدراسات البيولوجية أن قشرة‬
‫الدماغ هي التي تتحكم في الوظائف الذهنية العليا‪ :‬كاالنتباه واألفعال الال‬
‫إرادية‪ ،‬واللغة‪ ،‬وينتج عن عدم قيام القشرة الدماغية بوظائفها انحطاط في‬
‫المستوى الذهني العام‪.‬‬
‫ب‪ -‬دور القاعدة الدماغية‪ :‬تتمثل أهمية القاعدة الدماغية في أنها‬
‫المسير لألحاسيس والعواطف‪ ،‬فكل إحساس له منح عاطفي‪ ،‬أو انفعالي‪،‬‬
‫ويخضع هذا المنح «للمهاد»‪.‬‬
‫أما المزاج الذي يتحول بين الحزن والفرح فمرتبط بما يسم تحت‬
‫المه اد‪ ،‬وكذلك الحاالت الشعورية التي تتميز باليقظة واالنتباه بما يدور في‬
‫المحيط الخارجي‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬دور الغدد الصماء‪ :‬لقد توصل العلماء إل الكشف عن تأثير‬
‫الغدد الصماء‪ ،‬واإلفرازات الهرمونية فاإلفرازات فوق الكلوية والغدة الدرقية‬
‫والغدة النخامية والغدد التناسلية لها تأثير في تحديد شخصية الفرد ونمط‬
‫سلوكه ‪ ،‬ونشاطه وعمله‪.‬‬
‫فمثال الغدة الدرقية لها تأثير عل النمو والتغيرات الغذائية؛ فإذا‬
‫وصل إفرازها إل الدم بنسبة تزيد عل المقدار المناسب نشأ عن ذلك نشاط‬
‫محسوس في الجهاز العصبي وغيره من األجهزة فينتج عنه القلق‬
‫واالضطراب‪ ،‬وإذا نقص إفرازها عن المقدار المطلوب نتج عن ذلك أيضا‬
‫ضعف عقلي‪.‬‬
‫كذلك الغدة النخامية الموجودة في مؤخرة المخ والتي تتكون من‬
‫فصين‪ :‬فص أمامي وفص خلفي والهرمون الذي يفرزه الفص األمامي يؤدي‬
‫إل القزامة وإل ضعف الجسم‪ ،‬كما أن زيادة إفرازاته تؤدي إل العملقة‪.‬‬
‫ويساهم الفص الخلفي في إفراز حليب األم بعد الوالدة‪ .‬ويفرز غدتا‬
‫(األدرينالين) هرمون األدرينالين الذي يعمل عل تكييف اإلنسان وتوازنه بعد‬
‫الحاالت التي يكون فيها منفعال بمؤثرات خارجية ليكون مستعدا لمواجهة‬
‫المواقف‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫وترجمة لدور وأثر العوامل الجسمية يرى نتشه أن «التفكير الواعي‬
‫في معظمه يجب أن يكون عملية غريزية»(‪.)1‬‬
‫يقول أيضا في كتابه هكذا حدث زرادشت‪« :‬وراء أفكارك وشعورك‬
‫يخت في سيد قوي مجهول‪ ،‬يريك السبيل اسمه الهو‪ ،‬في جسمك يسكن هو‬
‫جسمك‪ ،‬ففي جسمك صواب أصوب من صواب حكمتك»(‪.)2‬‬
‫ثانيا‪ :‬المقومات الثقافية‪:‬‬
‫تشمل المقومات الثقافية ذات التأثير الكبير في تحديد الشخصية‪:‬‬
‫الثقافة والبيئة االجتماعية بما تحويه من أسرة ومدرسة ومجتمع وانطالقا من‬
‫القول‪« :‬اإلنسان اجتماعي بطبيعته»(‪ .)3‬فإن أي دراسة لشخصيته ومعرفتها‬
‫تفقد قيمتها ومعناها‪ ،‬إذا جردت من بعدها االجتماعي‪ ،‬فوعي اإلنسان وتفكيره‬
‫ومشاعره وإرادته الموجهة لسلوكه‪ ،‬تتحدد انطالقا من وسطه االجتماعي‬
‫خاصة إذا أخذنا بعين االعتبار أن المجتمع هو المدرسة التربوية التي تستطيع‬
‫أن تصهر كل العوام ل المؤثرة في الشخصية في بوتقة واحدة لتصنع من‬
‫الفرد الشخصية التي يريدها هذا المجتمع أو ذلك‪ ،‬وهذا ما يالحظ عند علماء‬
‫االجتماع مثل‪ :‬ابن خلدون‪ (،‬سان سيمون)‪( ،‬دوركهايم)‪( ،‬أوغست كونت)‬
‫وغالبية علماء التربية يقول واطسون‪« :‬أعطني عددا من األطفال األصحاء‬
‫األقوياء ومكني من أن أهيئ لهم البيئات التي أريدها‪ ،‬وسأضمن لك من أي‬
‫واحد منهم نوع الشخصية التي أريدها وأختارها‪ ،‬فاستطيع أن أخلق من أي‬
‫واحد منهم‪ ،‬طبيبا أو فنانا أو مهندسا أو تاجرا وإن شئت سأخلق منه مجرما‪..‬‬
‫بصرف النظر عن مواهبهم الموروثة‪ ،‬وميولهم الفطرية‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫القدرات التي انتقلت إليهم من أجدادهم‪ ،‬فليس هناك شيء يدع وراثة‬
‫المواهب أو المزاج أو التكوين العقلي»‪.‬‬
‫ويتجل دور العوامل الثقافية وتأثيرها في الشخصية بوضوح من‬
‫خالل ما يعرف بالشخصية األساسية أو القاعدية )‪(la personnalité de base‬‬
‫التي أدخلها (كار دينار ‪ (Kardiner‬في الدراسات االجتماعية‪ ،‬وكذلك (رالف‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬نتشه في كتابه هكذا حدث زرادشت‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة مرجع سابق‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪.‬‬
‫‪184‬‬
‫لينتون) وتعرف الشخصية القاعدية بأنها‪« :‬هي مجموع الصفات‬
‫البسيكولوجية المشتركة بين أفراد مجتمع معين»(‪.)1‬‬
‫ويذهب (رالف لينتون) إل أن‪ « :‬حاجات الفرد هي التي تكون حوافز‬
‫سلوكه‪ ،‬ويمكن من خالل هذا السلوك الثقافة والمجتمع من التأثير»‪.‬‬
‫وهذا التأثير الذي يشهده الفرد بثقافته وداخل مجتمعه يبرز جليا‬
‫عندما نقارن الظروف بين التغيير في البنية الفزيولوجية‪ ،‬والتغيير في البيئة‬
‫الثقافية حيث يذهب (هيكسلي) إل أن‪ « :‬بيئة الكائن الحي واإلنسان لم تتغير‬
‫تشريحيا خال ل العشرين ألف سنة أو أكثر الماضية‪ ،‬بينما تغيرت البيئة‬
‫الثقافية واالجتماعية كثيرا‪ .‬وهذا عائد إل طبيعة البيئة الثقافية التي تتجدد‬
‫بشكل مستمر‪ .‬والبيئة االجتماعية تملك مؤسسات متعددة تنقل األنماط الثقافية‬
‫عبرها من هذه المؤسسات‪ :‬األسرة – المدرسة – المصنع‪.)2(»..‬‬
‫فالفرد الذي نشأ في أسرة بذاتها تؤثر فيه‪ ،‬واألسر مختلفة باختالف‬
‫اآلباء‪ ،‬فاألسر المتعلمة لها سلوك مختلف عن غيرها‪ ،‬كما أن شخصية األب‬
‫ومدى نفوذه عل أبنائه وطريقته في العقاب كلها تساهم في تحديد شخصية‬
‫أبنائه‪.‬‬
‫وهذا ما أكدته الدراسات االكلنيكية التي قام بها فرويد ‪ Freud‬حيث أن‬
‫ما يعاني منه المصابون ذو عالقة وثيقة بطريقة المعاملة في البيت وخاصة‬
‫الكبت وإخفاء اشتهاءات اللذة عند الطفل‪.‬‬
‫وأكدت كذلك دراسة قام بها (استوت) حول العالقة بين توافق‬
‫الشخصية والموقف األسري‪ :‬أن األطفال الذين ينشأون قي بيوت يرحب فيها‬
‫اآلباء بزوار هم ويشاركونهم أفراحهم ومتاعبهم كانوا أكثر قابلية لتكوين‬
‫عالقات اجتماعية‪ ،‬وأكثر قابلية لكسب الزمالء واألصدقاء‪ .‬وتتأثر من جهة‬
‫أخرى الشخصية بالمدرس والمدرسة‪ ،‬فقد كشف ت دراسات عديدة أن المدرس‬
‫يحدث تأثيرا مشابها لتأثير األب عل الطفل‪ .‬فالطفل يقلد مدرسه ويتعلم منه‬
‫النشاط والمثابرة أو العكس‪ .‬كما أكدت هذه الدراسات أن المدرسة تحتل‬
‫الدرجة الثانية في التأثير عل شخصية الطفل بعد األسرة ففيها يكسب الفرد‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة كتاب مغربي‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة قسم الباكلوريا‪/‬المغرب‬
‫‪185‬‬
‫ممارسات كثيرة لغوية تعينه عل التواصل ويتعلم بها التعامل مع اآلخرين‬
‫ومعايشتهم ومناقشتهم والفوز عليهم‪.‬‬
‫وباإلضافة إل ا ألسرة والمدرسة تؤثر وسائل اإلعالم ويتصاعد‬
‫ويتنوع أثرها في عصرنا الحاضر بما تمثله من صناعة متصاعدة متحكمة‬
‫في نوعية المعلومات التي نتلقاها‪ ،‬والتي تشكل أساس أحكامنا ومواقفنا مثل‬
‫(الصحف والتلفاز والسينما واالنترنت‪.)...‬‬
‫ونخلص إل القول بأنه إذا كان الحقل الداللي الفلسفي يتأسس فيه‬
‫مفهوم الشخصية عل التصور الفلسفي لإلنسان باعتباره ذاتا تعي وجودها‬
‫وحريتها‪ ،‬وإرادتها ومسؤوليتها‪ ،‬وتدرك ما هو ثابت في وجودها‪.‬‬
‫فإن تناول العلوم اإلنسانية لها أو مقاربة هذه العلوم للشخصية تنطلق‬
‫من اعتبارها بناء تجريديا‪ ،‬ونموذجا تطبيقيا لفهم سلوك أو سيرة الشخص من‬
‫خالل هذه األنظمة البيولوجية واالجتماعية اآلنفة الذكر باإلضافة إل األنظمة‬
‫السيكولوجية‪.‬‬
‫هذا التباين في المقاربات الفلسفية ولدى العلوم اإلنسانية هو ما يمكن‬
‫من تحديد الشخصية وهو ما يجعل منها بنية معقدة ومفهوما مركبا متعدد‬
‫األبعاد‪ ،‬وغني الدالالت‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬أي المقومات يشكل األساس المؤثر في شخصية الفرد؟‬
‫‪ - 2‬اإلنسان يشبه كل الناس ويشبه بعض الناس وال يشبه أحدا‪.‬‬
‫ما رأيك‪.‬‬
‫‪ - 3‬أيهما أقرب إل تحديد الشخصية ‪ :‬المقاربة اإلنسانية أم‬
‫الفلسفية؟‬
‫‪ - 4‬هل لألفعال الالإرادية قيمة في معرفة السلوك اإلنساني؟‬

‫‪186‬‬
‫الشخصية من وجهة نظر التحليل النفسي‬
‫كان علماء النفس قبل (فرويد) يركزون عل دراسة الشعور باعتبار‬
‫السلوك اإلنساني صادرا عن وعي اإلنسان أو عن شعوره وإدراكه‬
‫لالستجابات المرتبطة بالمثيرات البيئية‪ ،‬ثم جاء (فرويد) ليبين أن معظم‬
‫حياتنا النفسية ال شعوري‪ ،‬وأن الشعور ال يحتل فيه إال مكانة ضئيلة‪ ،‬فغير‬
‫بذلك نظرة علم النفس إل السلوك والشخصية تغييرا جذريا من خالل نظريت ه‬
‫في التحليل النفسي‪.‬‬

‫التحليل النفسي مصطلح أطلقه فرويد عل طريقته في البحث والعالج‬


‫في علم النفس اإلكلينيكي‪ ،‬ثم أطلق فيما بعد عل كل الطرق المستخدمة من‬
‫طرق السيكولوجيين في دراسة األفعال النفسية بغض النظر عن اتجاهاتهم‬
‫ومدارسهم‪ .‬وقد استخدم فرويد التحليل النفسي أول األمر كمنهج خاص في‬
‫العالج الطبي للمرض النفسانيين‪ ،‬لتتوجه اهتماماته فيما بعد إل تحديد‬
‫ميكانزمات النفس وحل عقدها عن طريق سبر أغوار الحياة الالشعورية‪،‬‬
‫وتفس ير األحالم والكبت والنسيان ودارسة تأثير الدين والقيم األخالقية‬
‫واإلرث الساللي والحضاري‪ ،‬ودراسة تاريخ اإلنسان كفرد في مجتمع‪،‬‬
‫وتأثير كل ذلك بشكل ال واع عل السلوك وتكوين الشخصية‪ .‬فالتحليل النفسي‬
‫مرادف لالشعور وهما مرادفان لعلم النفس برمته في رأي افريد‪ ،‬حيث‬
‫يعرف علم النفس بأنه علم الالشعور(‪ ، )1‬ومنهجه هو التقنيات المستخدمة في‬
‫دراسة األفعال النفسية الالشعورية عن طريق التحليل النفسي للكشف عن‬
‫العقد المؤلفة من الرغبات المكبوتة والذكريات المناسبة واألفكار والمشاعر‬
‫المتناقضة التي تحدث اضطرابات نفسية وجسمية مختلفة‪.‬‬
‫وخير وسيلة في رأي أفريد لعالج المشكالت النفسية واضطرابات‬
‫الشخصية هو إخراج تلك العقد من الظلمة إل النور بواسطة أسئلة مباشرة‬
‫وعن طريق تأويل األقوال التلقائية والحركات الالإرادية وتفسير األحالم(‪.)2‬‬

‫‪1‬‬
‫المغرب‬ ‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‪ ،‬ص ‪.084‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬المعجم الفلسفي جميل صليبا‪،‬‬
‫‪187‬‬
‫وقد كانت الخطوة األول في تأسيس نظرية التحليل النفسي في‬
‫فرضية الالشعور حيث بدأ فرويد بتحليل عالقة الحياة الالشعورية بالحياة‬
‫الجنسية لألطفال والراشدين وتأثيرها عل الشخصية‪ .‬فقد اهتم فرويد بدراسة‬
‫مراحل الطفولة األول والحظ فعالية خبراتها المتراكمة في تفسير سلوك‬
‫الراشدين‪ ،‬وتأثيرها البالغ وعالقتها بظاهرتين أساسيتين في نظريته هما ما‬
‫أطلق عليه ظاهرة (الكبت) وظاهرة "(المقاومة)‪ ،‬حيث الحظ مقاومة‬
‫وصعوبة في اإلفصاح عن بعض تلك الخبرات المكبوتة لدى المصابين‬
‫بأمراض واضطرابات الشخصية‪ ،‬فاستخلص أن هناك قوة تقوم بكبت بعض‬
‫الرغبات والدوافع فتصبح خبرات منسية أو ال يمكن اإلفصاح عنها بينما‬
‫تسمح تلك القوة بتحقي ق رغبات أخرى والتعبير عنها ثم إن وجود ظاهرة‬
‫الكبت في حد ذاته دليل عل وجود قوة نفسية أخرى تحاول التعبير عن نفسها‬
‫وتصطدم بقوة نفسية مضادة‪.‬‬

‫وهكذا كان الكبت المفتاح األساسي للغوص في أعماق الالشعور‬


‫وكشف عوامله ‪ .‬يقول فرويد‪« :‬يمكننا أن نعتبر الكبت مركزا تجتمع حوله‬
‫جميع عناصر نظرية التحليل النفسي‪ ،‬التي ترجع باألساس إل نظريات‬
‫المقاومة والالشعور وقيمة الحياة الجنسية في تحليل المرض وأهمية خبرات‬
‫الطفولة»(‪ .)1‬لقد بحث فرويد في القوى النفسية التي تتفاعل وتتصارع داخل‬
‫الالشعور وتتسبب في الكبت والمقاومة مما يؤدي إل ظهور المرض النفسي‪.‬‬
‫وقد عرفت نظرية فرويد تغييرا وتطويرا تبعا لتطور أبحاثه واكتشافاته‪ ،‬وهي‬
‫االكتشافات التي تأثر فيها بكثير من الفالسفة والمفكرين منذ (سقراط)‬
‫و(افالطون) و(شوبنهور) و(نيتشه) و(شاركو) و(برنها يم) و(بروير) كما‬
‫يقول هو نفسه‪.‬‬

‫فنظرية التحليل النفسي لم تأت دفعة واحدة‪ ،‬بل كانت حصيلة أبحاث‬
‫ومعاناة فكرية شاقة من طرف (فرويد) وتالمذته‪ .‬ففي البداية قسم الحياة‬
‫النفسية إل ثالثة مستويات هي‪ :‬الشعور‪ ،‬ما قبل الشعور‪ ،‬والالشعور‪.‬‬
‫فالشعور المكون من االنتباه واإلدراك واإلحساس هو ما يربط الفرد بالعالم‬
‫الخارجي‪ ،‬أما الالشعور فهو عمق الحياة النفسية المكون من الرغبات‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة ص ‪.082‬‬
‫‪188‬‬
‫والدوافع المكبوتة التي ال تظهر عل ساحة الشعور إال بمساعدة المحلل‬
‫النفسي‪ ،‬أم ا ما قبل الشعور فيعتبر مجاال نفسيا ال شعوريا‪ ،‬وإن كانت أفكاره‬
‫وخبراته مهيأة دائما ألن تصبح شعورية‪ ،‬إال أنها تحتاج إل مجهود كبير(‪.)1‬‬
‫وقد قام (فرويد) باستحداث تصنيف آخر لقوى النفس يقسمها إل‬
‫ثالثة أجزاء هي‪« :‬الهو» «األنا» و«األنا األعل » وهو مفهوم مكونات‬
‫النفس الذي يشكل إل جانب مفهوم الكبت ومفهوم الالشعور ومفهوم العقدة‬
‫النفسية ثم مفهوم آلية الدفاع والتحويل‪ ،‬أهم مفاهيم نظرية التحليل النفسي‪ ،‬فما‬
‫المقصود بتلك القوى النفسية وما نوع العالقة التي تربط بينها وما انعكاسات‬
‫ذلك عل سلوك اإلنسان وشخصيته؟‬

‫أ) الهو‪ :‬وهو الجزء الالشعوري من النفس أو العقل الذي يختزن‬


‫غريزتي الحياة والموت ويسيطر عل هذه المنطقة مبدأ اللذة‬
‫وتجنب األلم ويحوي كل ما هو موروث وكل ما هو مكبوت وال‬
‫شعوري‪ ،‬وتتميز دوافع الهو بالغموض وعدم الخضوع للمنطق‬
‫والقواعد األخالقية أو األعراف والقيم االجتماعية‪ ،‬فهو ال يعير‬
‫اهتماما للواقع‪ ،‬وإنما يتطلع إل إشباع الرغبات فحسب‪ ،‬ولذلك‬
‫يصطدم دائما بكل من األنا واألنا األعل ‪.‬‬
‫ب) األنا‪ :‬هو الجزء الشعوري من العقل الذي يخضع الهو إلرادته‬
‫عن طريق كبت الرغبات الغريزية التي ال تتمش مع الواقع‬
‫نظرا ألن األنا يخضع لمبدإ الواقع‪ ،‬ويعمل في ضوء معطياته‬
‫ووفق المعايير االجتماعية‪ ،‬فهو الذي يشرف عل إقامة العالقات‬
‫بين اإلنسان والعالم الخارجي‪ ،‬وليقوم بتلك المهمة يشرف عل‬
‫تنظيم جميع العمليات العقلية في اليقظة‪ ،‬كما يقوم بالر قابة عل‬
‫األحالم فتبدو كأ لغاز غامضة حت ال يكون التعبير عن الرغبات‬
‫المكبوتة مباشرا وصريحا ألن ذلك يثير غضب األنا األعل ‪،‬‬
‫فيحاول األنا أن ي حل مبدإ الواقع محل مبدإ اللذة إن لم ينجح في‬
‫المالئمة بينهما‪ .‬فهو كالرقيب عل مطالب الهو من ناحية‬
‫ومطالب األنا األعل من ناحية أخرى‪ .‬ويشبه (فرويد) العالقة‬

‫‪1‬‬
‫المغرب‬ ‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‪ ،‬ص‪.085‬‬
‫‪189‬‬
‫بين األنا والهو بالفارس والجواد‪ ،‬فالهو مثل جواد جموح البد له‬
‫من فارس و الذي هو األنا لترويضه وقيادته ‪ ،‬أما إذا كان األنا‬
‫ضعيفا بحيث يكون منقادا من طرف الهو‪ ،‬فبذلك ما يؤدي إل‬
‫الصراع النفسي واضطرابات الشخصية‪ ،‬فاألنا يقع بين ضغط‬
‫الهو واألنا األعل الذي يريد كل منهما السيطرة عل سلوك‬
‫الفرد ‪ ،‬ومما يزيد من صعوبة مهمة األنا عدم إمكانية خضوعه‬
‫لالثنين في نفس الوقت‪ ،‬فالبد أن يخضع ألحدهما دون اآلخر في‬
‫كل موقف يواجه الفرد‪.‬‬
‫وتتمثل براءة األنا في قدرته عل تحقيق رغبات الهوا دون إثارة‬
‫احتجاج وقمع األنا األعل ‪ ،‬والصحة النفسية رهينة بقدرة األنا‬
‫عل تحقيق التوازن الصعب بين متطلبات الهو وأوامر األنا‬
‫األعل «فاألنا هو الموطن الحقيقي للقلق» كما يقول (فرويد)‪.‬‬
‫جـ) األنا األعل ‪ :‬هو الجزء الثالث من النفس المكون لبنية الالشعور‬
‫والمحدد لسلوك الفرد من خالل عالقته باألنا والهو‪ ،‬وهو الوصي‬
‫والممثل للقيم األخالقية واألوامر والنواهي والمعايير االجتماعية‬
‫في ال شعور األفراد‪ ،‬ويتكون األنا األعل من خالل تقمص‬
‫الطفل شخصية األب م ن خالل الضغط عل األنا إلقصاء وكبت‬
‫ما ال يقبل أخالقيا واجتماعيا من رغبات الهو ويحذره من خطر‬
‫نتائج تحقيقها يقول (فرويد)‪« :‬إن األنا يقوم في العادة بتنفيذ‬
‫عمليات الكبت في خدمة األنا األعل وبأمره»‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا التنظيم الثالثي للجهاز النفسي يقوم فرويد بتفسير‬
‫وتحليل سلوك الفرد فيرى أن درجة سالمة تصرف وسلوك الفرد تتوقف‬
‫عل مصدر الميول والدوافع‪ ،‬فالفرد الذي يصدر في سلوكه انطالقا من‬
‫تعاليم وسلطة األنا األعل الممثل الوحيد للقيم وضوابط السلوك والمثل العليا‬
‫التي يتلقاها الفرد منذ طفولته من طرف المربين فاألسرة والمدرسة ومن‬
‫الكبار وتأثير القيم الروحية والثقافة السائدة في المجتمع‪ ،‬يعتبر سلوكه قويما‬
‫وشخصيته سوية‪ ،‬أما الفرد الذي يصدر في سلوكه انطالقا من الهو المتجه‬
‫دائما إل إشباع الحاجات وتحقيق اللذة وتجنب األلم دون مراعاة للقيم‬
‫الروحية واألخالقية السائدة في المجتمع فيعتبر سلوكه شاذا وشخصيته غير‬
‫سوية‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫والشخصية في اعتبار فرويد حاصل تفاعل هذه المكونات الثالثة ‪:‬‬
‫الهو‪ ،‬األنا‪ ،‬األنا األعل ‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما مدى منطقية التقسيم الجغرافي الذي يتحدث عنه (فرويد) في‬
‫الحياة النفسية؟‬
‫‪ - 2‬أي المناطق أكثر تأثيرا في الحياة النفسية؟‬
‫‪ - 3‬إل أي حد يستطيع األنا أن يقيم التوازن بين متطلبات األنا‬
‫األعل والهو؟‬
‫‪ - 4‬هل لألفعال الالإرادية قيمة في معرفة السلوك اإلنساني؟‬

‫‪191‬‬
‫الشخصية السوية والمواطنة‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫سعت مختلف الدراسات االجتماعية والنفسية إل فهم سلوك اإلنسان‬
‫وتحليل مواقفه وعواطفه‪ ،‬وكان الهدف من وراء ذلك هو محاولة التأثير عل‬
‫طبيعة المسارات النهائية التي ستصب ح هذا اإلنسان وستشكل صورته النهائية‬
‫نفسيا وعقليا وعاطفيا بحيث يكون منسجما مع متطلبات مجتمعه ومع‬
‫ضرورات عواطفه ومشاعره‪ ،‬وفي هذا السياق اهتم الباحثون بدراسة‬
‫شخصية اإلنسان وبإمكانية تحويل هذا اإلنسان إل مواطن صالح‪ ،‬ولعلنا هنا‬
‫نكون أمام إشكالية العالقة بين الشخصية السوية والمواطنة‪ ،‬فأيهما يؤسس‬
‫اآلخر هل إنتاج شخصية سوية يحتم بالضرورة إنتاج مواطن صالح أم أن‬
‫توفير الظروف الموضوعية لبناء مواطن صالح يستتبع بالضرورة بناء‬
‫شخصية سوية‪ ،‬إ ننا بهذا المعن أمام مصطلحين العالقة بينهما جدلية بامتياز‬
‫فالشخصية السوية تساهم في إنتاج مواطن صالح وبناء المواطنة يعزز وجود‬
‫شخصية سوية‪ .‬بيد أن الغوص في التأثيرات المتبادلة لهذين المفهومين‬
‫االنفجاريين يفترض منهجيا‪ ،‬تعريف كل منهما سبيال إل رصد المساحة‬
‫المشتركة بينهما الحقا‪.‬‬

‫‪ – 1‬تعريف الشخصية‪:‬‬
‫لقد مرت بنا في دروس سابقة تعريفات كثيرة للشخصية ولذلك فلن‬
‫نغوص في تلك التعريفات وإنما نشير لماما إل بعضها من باب االستئناس‬
‫فالشخصية هي البناء الخاص بصفات الفرد وأنماط سلوكه الذي من شأنه أن‬
‫يحدد طريقه المتفردة في تكيفه مع بيئته كما أن الشخصية هي مجموع‬
‫العوامل النفسي ة والوراثية واالجتماعية التي تتكامل لتشكل شخصية الفرد وما‬
‫به يتميز‪ .‬ولقد ركزت كل مدرسة من مدارس علم النفس عل بعض األبعاد‬
‫دون بعضها األخرى في فهم وتشكيل الحالة النفسية وهو ما سبق أن تم‬
‫التعرض إليه بتفصيل أكبر في دروس ماضية بيد أن المقام يستدعي ذكر‬
‫بعض النماذج عل سبيل المثال ال الحصر فالسلوكيون عامة يعتبرون‬
‫الشخصية هي " محصلة أنواع النشاط المالحظ عند الفرد بأسلوب موضوعي‬
‫‪192‬‬
‫لمدة كافية من الزمن في مواقف مختلفة تمكن من تشجيع التعرف عليه عن‬
‫كثب كما أنها تمثل م جموع عاداته التي تميزه عن غيره من األفراد"‬
‫واطسون بينما ركز الشعور يون عل الدوافع وعل الشعور في بناء‬
‫شخصية الفرد فالشخصية كما يقول وايرن "هي التنظيم العقلي الكامل‬
‫لإلنسان خالل مرحلة معينة من مراحل نموه‪ ،‬كما تتضمن جميع الجوانب‬
‫النفسية من معرفية ومزاجيه وأخالقية باإلضافة إل مهاراته واتجاهاته التي‬
‫كونتها خالل حياته"‪ .‬في حين ركزت مدرسة التحليل النفسي عل تأثير‬
‫الالشعور في تكوين شخصية الفرد وخاصة مرحلة الطفولة حيث ترسم‬
‫المالمح األساسية لشخصية اإلنسان‪.‬‬

‫‪ – 2‬تعريف المواطنة‪:‬‬
‫المواطنة لغة هي نسبة إل الوطن وهو مولد اإلنسان وقد اتسع معن‬
‫المواطنة ليشتمل التعلق بالبلد واالنتماء إل تراثه التاريخي ولغته وعاداته‬
‫ويت شكل مفهوم المواطنة في سياق حركة المجتمع وتحوالته‪ ،‬وفي صلب هذه‬
‫الحركة تنسج العالقات وتتبادل المنافع وتخلق الحاجات وتبرز الحقوق‬
‫وتتجل الوجبات والمسؤوليات ولكن مفهوم المواطنة قد يتحدد أكثر في ظل‬
‫الدولة الحديثة باعتبار أن المواطن هو ذلك الشخص الذي ينتمي قانونيا إل‬
‫دولة يعيش فيها ويرتب عليه ذلك االنتماء لمجموعة من الواجبات عليه القيام‬
‫بها ويعطيه بالمقابل مجموعة من الحقوق‪ ،‬لتكون بذلك المواطنة هي إحدى‬
‫مقومات الدولة العصرية وفي هذا اإلطار يعرف قاموس علم االجتماع‬
‫المواطنة " بأنها مكانة أو عالقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع‬
‫سياسي (دولة) ومن خالل هذه العالقة يقدم الطرف األول (المواطن) الوالء‬
‫ويتول الطرف الثاني الحماية‪.‬‬

‫‪ – 3‬الشخصية السوية والمواطنة‪:‬‬


‫إن الحديث عن شخصية سوية يفترض بالضرورة وجود أنماط أخرى‬
‫من الشخصية كالشخصية االنفعالية‪ ،‬أو العدوانية‪ ...‬والشخصية السوية هي‬
‫تلك الشخصية المتوازنة التي يطمح كل فرد إل أن تتجسد فيه‪ ،‬ولئن كان من‬
‫الصعوبة ب مكان تحديد معايير نهائية للشخصية السوية فإن القدرة عل التكيف‬

‫‪193‬‬
‫مع النفس والبيئة تظل هي أهم معايير الشخصية السوية وقد وضع هلجارد‬
‫ستة مرتكزات أساسية للسواء هي‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلدراك الفعال للواقع‬
‫‪ - 2‬معرفة الذات من حيث الحاجات والدوافع والمشاعر‬
‫‪ - 3‬احترام وتقبل الذات‬
‫‪ - 4‬السيطرة عل السلوك والمشاعر‪.‬‬
‫‪ - 5‬القدرة عل خلق واستمرارية عالقات أسرية واجتماعية وعاطفية‬
‫سليمة‪.‬‬
‫‪ - 6‬القدرة عل اإلنتاجية‪.‬‬
‫إذا كانت تلك بعض مرتكزات الشخصية السوية فإن العامل الحاسم في‬
‫بناء مواطنة سليمة يبدأ من لحظة تشكل شخصية الفرد التي تدخل بينها‬
‫عوامل الدراسة والبيئة والتربية وغيرها‪ ،‬وضمن هذا الفهم فإن البداية ينبغي‬
‫أن تكون بإعداد شخصية سوية قادرة عل فهم المحيط والتفاعل اإليجابي مع‬
‫اآلخر واالستجابة لضرورات الوطن ومشاغله‪ ،‬وهو ما يعني العالقة‬
‫العضوية بين الشخصية السوية والمواطنة فمت ما نجحت المنظومة التربوية‬
‫والمراقبة األسرية في تكوين شخصية سوية نكون بذلك أمام مقومات مواطنة‬
‫صالحة يقدم صاحبها الوالء للوطن ويكون قادرا عل الوفاء بواجباته‬
‫المختلفة ومتحفزا للحصول عل حقوقه وهذا يعني بالمقابل أن اإلخفاق في‬
‫ذلك سيترتب عليه اإلخفاق في بناء مواطنة حقيقية لكن معظم الدراسات‬
‫أعادت اإلخفاق في بناء مواطنة سليمة في أكثر أسبابه إل إخفاق المنظومة‬
‫التربوية في رسم أهداف راسخة أثناء مراحل إعداد الشخص وبالذات األول‬
‫منها حيث يكون معرضا لجملة من العوامل والمتغيرات ولذلك فإن التركيز‬
‫ينبغي أن يكون في إطار البحث عن مقومات مواطنة سليمة‪ .‬لكي تتم التنشئة‬
‫االجتماعية والمنظومة التربوية بحيث يتم غرس قيم أساسية كاالستعداد‬
‫للتضحية من أجل الوطن وحماية ممتلكاته وغيرها‪.‬‬
‫وعل العموم فإن مختلف الدراسات أكدت عل الطابع التكاملي بين‬
‫الش خصية السوية والمواطنة وهو ما يعني ضرورة توفير األسباب‬
‫‪194‬‬
‫الموضوعية لبناء شخصية سوية وذلك بالتركيز عل البعد الثقافي والفكري‬
‫الذي أصبح اليوم يشكل عامال حاسما في رسم مالمح الفرد وتحديد خياراته‬
‫المختلفة في ظل عالم تحول إل قرية كونية واحدة وأصبحت فيه القيم‬
‫والمعايير االجتماعية تتحرك بين المجتمعات دون استئذان وهو ما حول‬
‫بعض األشخاص إل مدمنين أو مجرمين أو متطرفين وهو ما يتناقض مع‬
‫ضرورات المواطنة التي تحتم عل المواطن االستعداد لدفع فاتورة العيش‬
‫المشترك وتقبل اآلخر وتقديم ضريبة االنتماء للوطن‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما الشخصية السوية؟‬
‫‪ - 2‬ما مقومات المواطنة؟‬
‫‪ - 3‬تحدث عن العالقة الجدلية بين الشخصية السوية والمواطنة‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫الشخصية وآثار العولمة‬

‫رغم الصعوبة التي تعترض فهم الشخصية وتفسيرها يمكن القول بأنها‬
‫ذلك البناء الخاص بصفات الفرد وأنماط سلوكه الذي من شأنه أن يحدد لنا‬
‫طريقته المتفردة في تكيفه مع بيئته‪،‬كما نرى التأثير األكبر للعوامل المكتسبة‬
‫أو العوامل الثقافية‪ ،‬ومن هنا يكمن التأثير الذي قد تحدثه العولمة على‬
‫الشخصية‪.‬‬
‫والعولمة ظاهرة قديمة وحديثة شديدة الغموض وصعبة التحديد‪ ،‬الزمت‬
‫الحضارة اإلنسانية منذ نشأتها‪،‬بل إنها البعد األساسي لها ‪ ،‬حيث إن الحضارة‬
‫تأخذ ميزتها من خالل التوسع واالنتشار‪ ،‬وقد دعا اإلسالم لها عندما ألغى‬
‫الحدود الجغرافية والسياسية والجنسية والطبقية والفروق الفردية‪ ،‬وان اعتبر‬
‫البعض أنه يجب التفريق بين" العولمة" و"العالمية"‪،‬حيث أن المعنى الذي‬
‫يدعو له اإلسالم هو "العالمية" وهو مفهوم إيجابي يتالءم مع الطبيعة‬
‫اإلنسانية المبنية على االتفاق في المبادئ والقيم كالخير ونبذ الظلم ونصرة‬
‫الضعيف‪ ،‬واإليمان بحق االختالف في قضايا أخرى كالدين والعرق‬
‫والخصوصيات الثقافية بصورة عامة‪،‬أما العولمة فهي مفهوم سلبي يعمل على‬
‫إشاعة نمط ثقافي خاص وفرضه بأساليب معينة على شعوب العالم‪.‬‬
‫وتتمثل خطورة العولمة في إزالة خصوصية الشعوب بزعزعة قيمها‬
‫ومبادئها ومقدساتها وأنماط حياتها وسنوضح النقاط التي أثرت بها العولمة‬
‫أوقد تؤثر بها على الشخصية أيا كانت تلك الشخصية‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫‪ -3‬لقد هدم التلفزيون حياة الناس وخصوصا األطفال فانصرفوا له‬
‫كليا‪،‬على حساب وسائل التعليم األخرى ‪ ،‬ونجم عن ذلك آثار تربوية وجسدية‬
‫ونفسية في شخصية الطفل منها إهماله واجباته المدرسية والحد من لعبه‬
‫وحركاته ونشاطه وعالقاته االجتماعية وما يشاهده من مناظر عنيفة تؤثر‬
‫على سلوكه القويم‪،‬وتنمي ل ديه ثقافة جديدة مغايرة لثقافته األصلية مما قد ينتج‬
‫عنه "صدام حضاري" يصعب عليه مواجهته ويؤثر على بنية شخصيته‬
‫الضعيفة‪،‬أما الكبار فقد أصبح بالنسبة لهم أداة تحد من التواصل بين أفراد‬
‫األسرة وضعف الحوار بينهم‪ ،‬وتغيير بعض السلوكيات لديهم‪ ،‬هذا مع العلم‬
‫أن اإلعالم كله يكون تابعا للجهة التي تستخدمه ألغراضها‪،‬ومن ثم فالجانب‬
‫السلبي ليس متأصال فيه وانما يتعلق األمر بتوظيفه‪.‬‬
‫‪ -2‬وبسبب التلفزيون واإلنترنت ووسائل االتصال األخرى أو ما يطلق‬
‫عليه "القرية العالمية"‪ ،‬حدثت تغييرات كبيرة أثرت سلبا على شخصية األفراد‬
‫ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬تمزق ال كثير من األنسجة االجتماعية واختالل الروابط األسرية‪،‬‬
‫ومروق الشباب وتمردهم على ضوابط األسرة وقيم المجتمع‪.‬‬
‫‪ -‬تردي عالقة اآلباء باألبناء وانصرافهم عن دورهم التربوي – وفي‬
‫بعض األحيان الرعاية االجتماعية‪ -‬واستغناء األبناء عن الحاجة إلى أولياء‬
‫األمور تحت عنوان االستقاللية وبناء الذات‪.‬‬
‫‪ -‬تهديد النظام األخالقي بحيث يروج للشذوذ الجنسي في العالم‪ ،‬أو‬
‫استحداث جنس جديد ليس الذكر أو األنثى وهو ما يطلق عليه مفهوم‬

‫‪197‬‬
‫"الجندر" والذي تعرفه الموسوعة البريطانية ‪ <<:‬أنه تقبل الفرد لذاته وتعريف‬
‫نفسه كشيء متميز عن جنسه البيولوجي نفسه»‪.‬‬

‫‪ -‬تقوية النزعة األنانية لدى الفرد وتعميق مفهوم الحرية الشخصية في‬
‫العالقات االجتماعية وعالقة الرجل بالمرأة‪ ،‬وهذا ما يؤدي إلى التساهل مع‬
‫الميول والرغبات الجنسية والتحلل من كل قيم الحياء والكرامة واإليثار والفطرة‬
‫اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ -‬تسعى العولمة إلى تعميم السياسات المتعلقة بالمرأة والطفل واألسرة‬


‫بدون مراعاة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات البشرية‪.‬‬
‫‪ -‬الفرد هو األساس ومعالجة رغباته هي المعيار ال الدين وال األمة‬
‫والعائلة وال التقاليد وال العرف‪ ،‬ومن حق الفرد التخلص من القيود التي تفرض‬
‫عليه من جانب تلك الجهات‪.‬‬

‫‪ -5‬وتؤدي العوامل السابقة إلى طمس هويات الشعوب في هوية‬


‫واحدة‪،‬أو ما يطلق عليها "الشخصية العالمية" الذي يرى فيها البعض حال لما‬
‫يعانيه العالم اليوم من عنصرية وحروب وتفاوت طبقي حيث يقصد هنا‬
‫«التفاعل العالمي والتوحد وليس العزلة ونشر التقنية والمعارف العلمية‪،‬‬
‫والقضاء على الفقر واألوبئة والنزاعات‪،‬كل ذلك بخلق شخصية قادرة على‬
‫استيعاب هذا التفاعل مقابل التنازل عن ما هو متميز بين أفراد المجموعة‬
‫العالمية»‪.‬‬
‫‪198‬‬
‫ويمكن تلخيص آثار العولمة في األمور التالية‪:‬‬
‫‪ -‬أخذ األشياء المادية والصناعية والحربية أخذا استهالكيا‬
‫‪ -‬أخذ العادات المادية كأشكال اللباس واألثاث والطعام‬
‫‪ -‬أخذ القيم والمقاييس االجتماعية والخلقية‬
‫‪ -‬أخذ العقائد والتصورات فتكون قد ذابت وانمحت شخصيتها‬
‫األساسية‪.‬‬

‫إن آثار العولمة على الشخصية قد ال تكون سلبية في عمومها ‪،‬لكن‬


‫األخطر فيها هو تجاهلها عن قصد أو غير قصد للعوامل الثقافية المكونة‬
‫للشخصية‪ ،‬والتي تبلورت في أساسها من قيم مجتمعها وتعاليمه الدينية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬الشيء الذي قد ال تقبله تلك الشخصية التي تربت على ثقافة‬
‫معينة وليس من السهل تنازلها عنها‪.‬‬

‫واضح أن العولمة تركز على الشخصية سواء في بعدها الفردي أو‬


‫االجتماعي‪ ،‬وهي ال محا لة تتأثر في أدنى مراحلها بمركز البث واالشعاع‬
‫(مركز القوة) واألضرار بالتالي ستتأثر منها األطراف (مركز الضعف)‪ ،‬منها‬
‫تأتي الخطورة خصوصا عندما يكون "القوي" متجاهال لمكونات الشخصية‬
‫اإلنسانية ومميزاتها‪.‬‬

‫إن أخطار العولمة ليست خاصة بثقافة معينة وان اختلفت تأثي ارتها‬
‫لدى من يمتلك ثقافة غنية وقادرة على بناء ذاتها كالثقافة اإلسالمية‪ ،‬بل‬
‫‪199‬‬
‫تتعدى ذلك إلى الوجود اإلنساني نفسه‪ ،‬فالفطرة اإلنسانية مبنية على البحث‬
‫عن الفضيلة وقيم الخير وعلى فكرة الجنسين الذكر واألنثى‪ ،‬والشخصية‬
‫البشرية تتكون من العوامل االجتماعية وحتى تلك الوراثية تتحدد من خالل‬
‫(التكونة) االجتماعية‪ ،‬فال يمكن تصور حياة اجتماعية دون قيم متعارف‬
‫عليها‪ ،‬ومن هنا يكون أثر العولمة مهددا لمستقبل البشرية كلها‪،‬فكيف نتصور‬
‫مجتمعا بشريا بدون ذكر أو أنثى؟ وكيف نتجاهل الخصوصيات الثقافية‬
‫للشخصية؟ وكيف يتم التعامل على أساس إقصاء اآلخر؟ وكيف يقبل العقل‬
‫اإلنساني التعايش على أساس المصالح الخاصة بمجتمع معين؟ بل كيف يفهم‬
‫أن تكون المقاومة إرهابا؟ أو يأتي شعب ليحتل شعبا آخر تحت راية الحرية‬
‫وعولمة القيم اإلنسانية؟!‪.‬‬

‫إن الداعين إلى العولمة االيجابية ال بد أن يدرسوا الشخصيات الثقافية‬


‫دراسة موضوعية آخذين بعين االعتبار الفروق الثقافية والمصلحة اإلنسانية‬
‫التي يحتاجها الجميع‪ ،‬بدل إذكاء النزاعات الحضارية والحروب‪ ،‬فالحضارات‬
‫لم تبن إال عندما فهمت أن اإلنسان كائن أخالقي واجتماعي بالدرجة األولى‪،‬‬
‫وأن المعاني اإلنسانية هي التي تميزه عن غيره من الكائنات‪.‬‬

‫الشخصية والهوية‪:‬‬
‫تحدثنا سابقا عن مفهوم الشخصية‪ ،‬وسنتعرض في هذا الموضوع‬
‫لعالقة الشخصية بالهوية‪ ،‬والهوية مفهوم ال يقل تعقدا عن مفهوم الشخصية‪،‬‬
‫فما المقصود بمفهوم الهوية؟ وما عالقته بالشخصية؟‪.‬‬
‫ينظر إلى الهوية من زاويتين‪ :‬الهوية الفردية والهوية االجتماعية‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫«فإذا طرحت السؤال‪:‬من أنا؟ فالمقصود هو الهوية الشخصية‪ ،‬أما‬
‫السؤال‪ :‬ماذا أنا؟ فالمقصود هوية األمة أو المجتمع»‪.1‬‬

‫وهما سؤاالن قديمان قدم الوجود اإلنساني‪ ،‬مربكان ومعقدان تعقد الحياة‬
‫اإلنسانية المتعلقة بهما‪ ،‬وقد مر بنا ذلك في تعرضنا لعالقة الشخصية‬
‫بالعولمة‪.‬‬

‫واإلجابة عن هذين السؤالين قد تبدو مبتذلة عادية على حد تعبير‬


‫(برناند ويلميز)‪ ،‬وقد تكون شديدة التشابك فيما يتعلق بالهوية الشخصية‪.‬‬

‫ويرى الدكتور (أحمد بصرة) أن الهوية الشخصية ترتكز على محورين‪:‬‬


‫محور رأسي هو التطابق‪ ،‬ومحور أفقي هو االختالف‪.‬‬
‫والتطابق يعني أن الشخص في زمن ما يظل هو الشخص نفسه في‬
‫زمن تال‪ ،‬والمنطقيون يعرفون الهوية على أنها عالقة تعادلية ذات أبعاد‬
‫ثالثة‪:‬متعدية (فلو أن أ تشبه ب وب تشبه ج فإن أ تشبه ج)‪ ،‬ومتماثلة مثل‬
‫(أن أ تشبه ب ‪ ،‬فإن ب تشبه أ)‪ ،‬ومنعكسة على نفسها (كل شيء يشبه‬
‫نفسه)‪.‬‬

‫لكن هذا المفهوم الذي يعني التطابق ربما يفيد أن الهوية والتغير‬
‫متعارضان‪ ،‬وهو ما يلمس من آراء الفالسفة القدماء و المحدثين ‪،‬فقد رأى‬
‫(أرسطو) أن الشجرة تبقى هي برغم أنها تستبدل أوراقها‪ ،‬أما (جون لوك) فيرى‬
‫أن هوية الشخص المستقرة عبر الزمن ترتبط بالذاكرة والقدرة على التذكر‪.‬‬

‫إن البحث عن مفهوم الهوية تعترضه عدة مسائل‪ ،‬هل نذهب في‬
‫تحديد الهوية فيما يبدو أو يظهر من اإلنسان؟ وهو ما يعتبر متبدال ومتغي ار‬
‫باستمرار‪ ،‬أم أنه يلزم تجاوز هذا الظهور والتجلي إلى الثابت والمشترك؟ وهو‬

‫‪ -‬حديث في الهوية الشخصية ‪/‬د‪.‬أحمد بصرة‬


‫‪1‬‬

‫‪201‬‬
‫ما يجعلنا أمام هوية مشتركة ال نستطيع من خاللها تمييز هذا الشخص من‬
‫ذاك‪ ،‬مما يصعب من تحديد تلك الهوية‪.‬‬

‫نحن إذن أمام إشكالية حقيقية لتحديد هوية الشخص‪ ،‬فهل هي وعي‬
‫بالوعي أو (الفكر) تقوم به ذات مفكرة حسب (ديكارت)‪ ،‬أم هو واقع كلي‬
‫وشمولي نحياه من الداخل حسب (مونيى)‪.‬‬

‫وتتعقد اإلشكالية حين نربط الهوية بالشخص‪ ،‬إننا نقصد الشخص في‬
‫وحدته الذاتية الخاصة به كفرد(وحدة أناه)‪ ،‬أم في عالقته باآلخرين من أفراد‬
‫مجتمعه؟‪.‬‬

‫ال بد أن األمر سيتشابك نظ ار لعالقة الفرد بمحيط ه االجتماعي‪ ،‬وهنا‬


‫يذهب (لوك) إلى التمييز بين هوية ضيقة وأخرى واسعة‪ :‬فالتطابق بين‬
‫اإلحساس والوعي عندما يرتبط بالحاضر يشير إلى هوية شخصية ضيقة‪،‬‬
‫لك نه عندما يرتبط بإحساسات الماضي وبالوعي بها يشير إلى مفهوم الهوية‬
‫الشخصية الواسعة‪ ،‬وهي الهوية الشخصية الحقيقية التي تجعل من كل‬
‫شخص هو هو بالرغم من اختالف الزمان والمكان‪.‬‬

‫أما (إيمانويل مونييه) فقد ذهب إلى اعتبار الشخص مناقضا‬


‫للموضوع‪ ،‬أي أنه ليس شيئا عاديا وبسيطا‪ ،‬كحال األشياء الخارجية‪ ،‬بل‬
‫يمتلك داخال يصعب اإلحاطة بكل جوانبه‪ ،‬تلك الجوانب التي تشكل وحدة‬
‫متماسكة تتداخل فيها عوامل عديدة تمثل الهوية الشخصية‪.‬‬

‫ويرى (بارفيت) أن وحدة الحياة العقلية للفرد تجعل األفكار والخبرات‬


‫التي تحدث في أوقات مختلفة هي خبرات الفرد نفسه وأفكاره‪.‬‬

‫وقد ترتبط الهوية الشخصية بالطريقة التي تدرك بها‪ ،‬يقول في هذا‬
‫الصدد (برناند ويليامز)‪« :‬هناك هوية تختلف عن الهوية التي أعرفها عن‬

‫‪202‬‬
‫نفسي وعن الهوية التي يعرفها عني اآلخرون‪ ،‬وهذا الخالف هو جوهر‬
‫الخالف في العالم كله» ‪.‬‬

‫هذا يعني أن مفهوم الهوية عائم سواء في مستويات اإلدراك‪ ،‬أو في‬
‫عالقاته بالتغير‪ ،‬ومع األخذ في االعتبار ارتباط الهوية بالذاكرة الواضحة أو‬
‫وحدة الوعي وغيرها مما فسر به الفالسفة مفهوم الهوية وعالقتها بالشخصية‪.‬‬

‫وعلى الرغم من االختالف حول محددات الهوية ومكوناتها ‪،‬فإن الهوية‬


‫لها نفس مكونات الشخصية‪،‬فمنها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير‪ :‬فما هو‬
‫ثابت يتمثل في لون البشرة ومكان الوالدة واالنتماء إلى جماعة عرقية معينة‬
‫ووحدة الوعي وماضي الشخص بوصفه أحد العوامل المؤثرة على الهوية‪ ،‬وأما‬
‫اسم الشخص ونمط األزياء التي يرتديها وحتى معتقداته وأفكاره حول الناس‬
‫والعالم فهي أمور قابلة للتغير دوما‪« ،‬وفي الوقت نفسه يمكن أن نقول إن‬
‫اإلنسان يتميز عن كل هذا‪ ،‬بل يتميز عن جسده كله وسائر الحوادث العقلية‬
‫التي تحدث له‪ ،‬لكن ال يمكن تصور اإلنسان ككيان منفصل ومستقل»(‪.)1‬‬

‫ومهما بحثنا في كينونة اإلنسان فإننا لن نصل إال إلى جزء منها‪،‬ومن‬
‫هنا ينبغي النظر إلى الهوية الشخصية نظرة متكاملة تأخذ جميع األبعاد مادية‬
‫أو حاضرة‪ ،‬واال كيف تحس األجيال التي ولد آباؤها في منطقة معينة غير‬
‫منطقتهم باالرتباط بمنطقة األجداد؟‪ .‬سؤال يطرح اليوم بطريقة تبدو بسيطة‪:‬‬
‫هل تؤيد في مباراة كرة القدم بلدك (الحاضر) أم بلد األجداد (الماضي)؟‬

‫جواب يحلل كثي ار في دول الغرب لما يحمل من دالالت عميقة حول‬
‫إشكالية الهوية الشخصية‪ ،‬وكيف يتم التعامل مع هذا الموضوع الذي قد يفجر‬
‫صراعات خطيرة‪ ،‬إذا لم تحترم الهوية الشخصية ويسمح لها بالتشكل بعيدا عن‬
‫اإلقصاء والتهميش‪ ،‬وهي أمور نشاهدها في بعض الدول تحت عنوان احترام‬
‫الهوية الجديدة‪ ،‬وتجاهل الهوية األصلية‪ ،‬وهي قضية بينا من دراستنا لمفهوم‬

‫‪ -‬حديث في الهوية الشخصية ‪/‬د‪.‬أحمد بصرة‬


‫‪1‬‬

‫‪203‬‬
‫الشخصي ة والهوية أنها صعبة ومعقدة وذات انعكاسات خطيرة على السلم‬
‫االجتماعي في المجتمعات البشرية‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 3‬ما هي األبعاد المكونة للهوية؟‬
‫‪ -2‬كيف يتم التمييز بين الشخصية والهوية؟‬
‫‪ -5‬ما مدى الخطورة في التعامل مع مفهوم الهوية الشخصية؟‬

‫‪204‬‬
‫النصوص‬

‫‪205‬‬
206
‫النص )‪:(1‬‬
‫ما اإلنسان‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن السؤال‪ :‬ما هو اإلنسان؟ "يطرح إشكالية جوهرية" عل‬
‫الصعيدين‪ :‬الفلسفي والعلمي‪ ،‬ذلك أن اإلنسان كموضوع يختلف جذريا عن‬
‫باقي الموضوعات المادية األخرى‪ .‬لذا فاإلشكال الذي يطرحه السؤال هو‪:‬‬
‫هل يخضع اإلنسان للتحديد العلمي؟ هل يمكن التعامل معه بنفس الوسائل‬
‫المستخدمة في المجال الطبيعي؟‬
‫ــــــــــــــ‬
‫إن السؤال عن اإلنسان‪ :‬ما هو؟ هو السؤال األول واألساسي في‬
‫الفلسفة‪ .‬فكيف يمكننا الجواب عل هذا السؤال؟ نستطيع أن نجد (تعريف)‬
‫اإلنسان في اإلنسان نفسه‪ ،‬أي في كل فرد‪ ،‬فهل هذا الحد حد صحيح؟ إننا‬
‫نستطيع أن نجد في كل (فرد جزئي) ما هو في كل "فرد" (بصفة عامة)‪.‬‬
‫ولكن ما يهمنا ليس اإلنسان الجزئي وإن كان المقصود بذلك ما هو كل إنسان‬
‫جزئي في كل آن؟ ‪ ...‬إذا أمعنا النظر في ذلك رأينا أننا عندما نسال‪ :‬ما هو‬
‫اإلنسان؟ فنحن إنما نريد أن نقول‪ :‬ماذا يمكن أن يصير اإلنسان؟ أي هل‬
‫يستطيع اإلنسان أن يسيطر عل مصيره الخاص؟ هل يستطيع أن يصنع وأن‬
‫يخلق حياته؟ لنقل إذن إن اإلنسان هو حركة أفعاله بالضبط‪ .‬وإذا فكرنا في‬
‫األمر رأينا أن سؤالنا عن اإلنسان‪ :‬ما هو؟ ليس سؤاال "مجردا" وموضوعيا‬
‫"وإنما سؤال متولد من تفكيرنا في ذاتنا وفي اآلخرين‪ ،‬ومما نريد أن نعرف‪،‬‬
‫تبعا لتغيرات تفكيرنا‪ .‬ومما شاهدناه‪ ،‬وما نحن وكيف نصير‪ ،‬وذلك لنعرف‬
‫في الحقيقة‪ ،‬وضمن أية حدود‪ .‬نحن صانعو "ذواتنا" وصانعو حياتنا‬
‫ومصيرنا‪ .‬وهذا (كله) نريد أن نعرفه "اليوم" في شروط متوافرة لنا في‬
‫الحياة الحاضرة (‪.)...‬‬
‫يجب أن نتصور اإلنسان من جهة ما هو سلسلة من عالقات فاعلة‬
‫( وهي عملية وإن كان فيها للفردية أهمية كبيرة فإنها ليست مع ذلك العنصر‬
‫الوحيد الذي يجب األخذ به)‪ .‬ألن اإلنسانية المرتسمة في كل فردية مؤلفة من‬
‫عناصر مختلفة وهي‪:‬‬
‫‪207‬‬
‫‪ – 1‬الفرد‬
‫‪ – 2‬األناس اآلخرون‬
‫‪ – 3‬الطبيعة‪.‬‬
‫ولكن كال من العنصر الثاني والعنصر الثالث ليس عل ما يبدو من‬
‫البساطة‪ .‬فعالقة الفرد باآلخرين ليست عالقة تجاوز وإنما هي عالقة‬
‫عضوية‪ ،‬بمعن أن الفرد يتكامل بانضمامه إل كائنات عضوية‪ ،‬تذهب من‬
‫أبسط األشكال إل أكثرها تعقيدا‪.‬‬
‫وهكذا ال تقوم عالقة اإلنسان بالطبيعة عل مجرد كونه هو أيضا طبيعة‪ ،‬بل‬
‫تقوم عل كونه فاعال وصانعا‪ .‬أضف إل ذلك‪ :‬أن تلك العالقات ليست آلية‪،‬‬
‫وإنما هي فاعلة وواعية أي متناسبة مع درجة فهم كل إنسان لها‪ .‬ولذا فيمكن‬
‫القول‪ :‬إن كل واحد يغير ذاته ويبدلها بقد رما يغير أو يبدل العالقات المركبة‬
‫التي شغل منها مركز االرتباط (‪.)...‬‬
‫وإذا كانت فرديتنا جملة تلك العالقات‪ ،‬فإن إبداع الشخصية يدل عل اكتساب‬
‫الشعور بتلك العالقات‪ .‬ومعن تغييرنا لشخصياتنا الخاصة هو تغيير مجموع‬
‫تلك العالقات‪.‬‬

‫غرا مش ‪ ،‬من كتاب غرا مش‬


‫دراسة ومختارات‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‬
‫دمشق ‪ ،3372‬ص ‪386-380‬‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬استخرج من النص داللة السؤال عن ماهية اإلنسان‪.‬‬
‫‪ –2‬عل ما يدل إبداع الشخصية اإلنسانية؟‬
‫‪ –3‬إل أي حد نستطيع القول‪ :‬إن اإلنسان هو صانع حياته؟‬

‫‪208‬‬
‫النص )‪:(2‬‬
‫العوامل المكونة للشخصية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫كلوكون وميراي عالمان اجتماعيان أمريكيان‪ ،‬أهتما بدراسة‬
‫الشخصية التي تتداخل عوامل مختلفة في تكوينها‪ .‬ومن بين هذه العوامل‬
‫الثقافية والبيئية واالجتماعية ما يساعد اإلنسان عل تكوين شخصيته‬
‫واالندماج وسط مجتمع له تأثير حتمي وعميق عل السلوك وكذلك فإن‬
‫للعامل الوراثي تأثيرا كبيرا في تكوين الشخصية‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫إن المعرفة الواضحة والمنظمة لتكون الشخصية تصبح في رأينا‬
‫أيسر إذا ميزنا بين أربعة أصناف من العوامل (متفاعلة فيما بينها) وهي‪:‬‬
‫العوامل العضوية‪ ،‬االنتماء إل جماعة‪ ،‬الدور والوضع‪ .‬هذه العوامل تساعدنا‬
‫عل أن نفهم كيف أن كل إنسان يشبه كل اآلخرين‪ .‬ويشبه البعض منهم وال‬
‫يشبه أي أحد آخر‪.‬‬
‫ا – العوامل العضوية‪ :‬إن المشكل الفلسفي القديم حول "الوراثة‬
‫والبيئة" و"الفطري والمكتسب" هو بدون شك ال معن له بالنسبة لعالم‬
‫االجتماع‪ .‬فقلما يمكن الفصل بين هذين النوعين من العوامل حالما تبدأ البيئة‬
‫تلعب دورها‪ .‬إن كل علماء الوراثة مجمعون اليوم عل القول بأن سمات‬
‫الشخصية ليست موروثة بالمعن الحقيقي للكلمة إذ أن الخصائص التي‬
‫تالحظ في عضوية ما في كل فترة هي نتاج سلسلة طويلة من التفاعالت‬
‫المعقدة بين االستعدادات الموروثة بيولوجيا وبين قوى المحيط‪ .‬وكل تفاعل‬
‫ينجر عنه تغير في الشخصية‪.‬‬
‫إذن فال سؤال مقبول له قيمة إال‪:‬‬
‫‪ – 1‬ما هي االستعدادات الفطرية التي تتحقق بواسطة حلقة خاصة‬
‫من األحداث في حياة ما‪ ،‬وفي وسط طبيعي وثقافي واجتماعي معين؟‬
‫‪ – 2‬ما هي الحدود التي يفرضها اإلرث البيولوجي عل نمو هذه‬
‫االستعدادات؟‬

‫‪209‬‬
‫ومن جهتنا فإننا نعترف باألهمية البالغة للحوادث البيولوجية وبقيمتها‬
‫في تكوين األشكال المختلفة للشخصية‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬يمكن أن نعرف‬
‫الشخصية بأنها "السلسلة الكاملة من المسارات المنظمة التي تقوم بدور‬
‫المراقبة في الدماغ من الوالدة إل الوفاة ونلح أيضا عل أن اإلرث‬
‫البيولوجي يقدم المادة التي تكون انطالقا لتشكل الشخصية‪ .‬وأنه يحدد –عل‬
‫النحو الذي هو عليه في فترة معينة‪ -‬االتجاه والحدود التي يتم فيها التطور‬
‫بالضرورة‪ .‬وهناك أسباب هامة تحملنا عل القول بأن بنيات وراثية مختلفة‬
‫تحمل في ذاتها استعدادات مختلفة فيما يخص التعلم والتالؤم مع الظروف‬
‫وبذل الجهد وتحمل اإلحباط‪.‬‬

‫يجب أن يعد الجنس والعمر‪ ،‬بالنسبة للشخصية من جملة العوامل‬


‫العضوية األشد بداهة‪.‬‬

‫وت تشكل الشخصية أيضا بسمات جسمية كالقامة واللون والقوة‬


‫والتوافق مع نمط ثقافي رائج ‪ ...‬إلخ‪ ،‬هذه الخصائص تؤثر في حاجات‬
‫اإلنسان وتطلعاته‪...‬‬

‫ب – االنتماء إل الجماعة‪ :‬إن التماثل من حيث الطابع داخل جماعة‬


‫ينتج عن العوامل العضوية أقل مما ينتج عن التأثير التربوي للبيئة التي‬
‫يخضع لها كل أعضاء المجموعة‪ .‬إن من بين العوامل المرتبطة باالنتماء إل‬
‫الجماعة الحضارة‪ ،‬وهي بدون شك األكثر داللة إذ أن كل سلوك ثقافي يتبع‬
‫نمطا ما‪ .‬وهذا ال يعني سوى أن عددا كبيرا من األفعال واألفكار والعواطف‬
‫عند شخص ما ال يقتصر في اعتبارها عل جهة أشكال السلوك الخاصة به‬
‫من حيث هو عضوية بيولوجية‪ ،‬ولكن يجب أن ينظر إليها أيضا عل أنها‬
‫نمط عام من التصرف يرتبط بالمجتمع أكثر مما يرتبط بالفرد ‪ ...‬إن‬
‫الحضارة ال تؤثر في أنماط السلوك فحسب بل وكذلك في أنظمة الحواجز‬
‫لدى األفراد‪ .‬إن بعض الحاجات ذات أصل بيولوجي إال أنها نادرة‪ .‬فكل‬
‫الكائنات اإلنسانية تحس بالجوع‪ ،‬ولكن ليس لها ما يؤهلها تلقائيا إل العمل‬
‫للحصول عل جهاز راديو أو سيارة جديدة أو عقد من الصدف أو "للنجاح"‪.‬‬
‫وفي بعض األحيان تخضع بعض الغرائز البيولوجية –كالجنس مثال‪-‬‬

‫‪210‬‬
‫لحاجات مكتسبة مثل البحث عن المال أو الزهد الديني وذلك لفترات متفاوتة‬
‫األمد‪ .‬وعالوة عل ذلك‪ .‬فإن وسائل إرضاء الحاجات تحددها بصفة عامة‬
‫العادات الثقافية والعرف‪ :‬فأغلب األمريكيين يفضلون البقاء جائعين وال‬
‫يأكلون الحية لكن لحم الحية يكون غذاء شهيا بالنسبة لبعض القبائل‪.‬‬

‫جـ – الدور‪ :‬إن الحضارة تحدد كيف يجب أن يتم القيام بالوظائف‬
‫المختلفة أو األدوار الضرورية لحياة الجماعة‪ :‬مثال ذلك األدوار التي تسند‬
‫حسب الجنس والسن واالنتماء إل طائفة أو طبقة أو إل جماعة مهنية‪.‬‬
‫وبمعن ما تكون عوامل الشخصية التابعة للدور صنفا خاصا من العوامل‬
‫المرتبطة باالنتماء إل الجماعة فالدور الذي يقع االضطالع به مدة طويلة له‬
‫من قوة التأثير ما يمكن من التمييز بين الشخصيات داخل جماعة واحدة‬
‫بحيث يكون من المفيد دراسته عل حدة‪ .‬إن الشخصية لغويا وتاريخيا يمكن‬
‫أن تعرف عل أنها الطابع حسبما يبدو في الظاهر‪ .‬وهذا التعريف يوافق ‪،‬‬
‫بقدر كاف من الدقة‪ .‬سلوك شخص عند القيام بدوره أمام الجمهور‪ ،‬كما جاء‬
‫ذلك في علم النفس وعلم االجتماع الحديثين‪ .‬وبمعن آخر فاألمر يتعلق‬
‫بالتنكر‪ :‬فالشخصية العامة تحمي الشخصية الخاصة من عالم الناس‬
‫الفضوليين والمر اقبين‪ ،‬كما تصلح ايضا إلخفاء الحوافز العميقة عن شعور‬
‫الفرد ذاته‪ .‬إن الشخص الذي استطاع بمجهود كبير أن يندمج ضمن جماعة‪.‬‬
‫والذي يعرف ماذا يترقب منه في وضع معين‪ ،‬سيستجيب وفقا لهذا الترقب‪،‬‬
‫محددا قدر اإلمكان ردود فعله الشخصية‪ .‬وهذا ما يفسر جزئيا كيف أن‬
‫المواقف وأنواع السلوك التي تقننها الجماعة والدور‪ .‬تكون حاجزا ال يمكن‬
‫تجاوزه عند األشخاص األسوياء إال بواسطة الطرائق المكثفة والصعبة وغير‬
‫المباشرة التي يستعملها علم نفس األعماق‪...‬‬

‫د – العوامل الحديثة‪ :‬إل جانب العوامل العضوية للشخصية وإل‬


‫جانب التأثيرات "المحتومة" للوسط الطبيعي وللمجتمع وللحضارة والدور‪،‬‬
‫فإنه يضاف ما يحدث للناس عادة‪ .‬إذ أن بعض االتصاالت التي تـأتي عن‬
‫طريق الصدفة وتحدث بسرعة (والتي تكون عرضية بمعن أنها ليست‬
‫مندرجة مسبقا ضمن األنماط الثقافية للعالقات االجتماعية) قد يكون لها غالبا‬
‫تأثير حاسم عل اتجاه حياة شخص ما لنفرض أن طالبا يتردد في تحديد‬

‫‪211‬‬
‫ميوله أو تستهويه عل حد سواء ميول مختلفة‪ .‬قام في رحلة في قطار بجانب‬
‫صحفي يدافع عن مهنته بصفة مقنعة بالطبع‪ ،‬هذا الحديث ال يغير شخصية‬
‫الشاب في الحين وبصورة مباشرة‪ .‬ولكن قد يكون الحلقة األول لسلسلة من‬
‫الحوادث ستجعله في وضعيات حاسمة بالنسبة لتكون شخصيته‪...‬‬

‫كلوكون وميراي‬
‫(الشخصية في الطبيعة والمجتمع والثقافة)‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬هل يطرح المؤلفان مشكلة الوراثة والبيئة بصورة جديدة؟‬
‫اعتمد عل النص في إجابتك‪.‬‬
‫‪ –2‬ما دور الحضارة في سلوك اإلنسان؟ هل هو عـامل أقوى‬
‫تأثيرا من عامل الوراثة؟‬
‫‪ –3‬كيف تخضع الحوافز للمقتضيات الثقافية؟‬
‫‪ –4‬ما الذي يضيفه عامل الدور في معرفة الشخصية خصوصا‬
‫من حيث إمكانية التعرف عل حقيقة الفرد؟‬

‫‪212‬‬
‫النص )‪:(3‬‬
‫دينامية الشخصية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫أكد التحليل النفسي عل دور األعوام األول من الحياة في تحديد‬
‫الشخصية التي تتميز بأنها "ديناميكية"‪ .‬باعتبار تفاعل العوامل المكونة لها‬
‫وإن كانت النظرية (الفرويدية) قد ألحت في البداية عل دور العامل‬
‫البيولوجي‪ ،‬فإن تطور دراسات فرويد تجاوز هذا التبسيط‪ .‬وهكذا ينفتح علم‬
‫النفس التحليلي عل الدراسات األنتروبولوجية التي ألحت عل التأثير الكبير‬
‫للثقافة‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫‪ ..‬أمكن بالدراسة المقارنة لتاريخ الحاالت الشخصية أن يستخلص‬
‫وصف للمرحلة التكميلية التي تؤدي في النهاية إل تركيب الشخصية‬
‫وديناميكيتها‪ .‬وي علق علم الشخصية التحليلي أهمية حاسمة عل السنين الخمس‬
‫األول من الحياة وحت عل السنتين األوليين أو األعوام الثالثة األول ‪.‬‬
‫كانت عملية التكوين هذه تعتبر دائما نتاجا لتفاعل العوامل البيولوجية‬
‫والعوامل النفسية االجتماعية وال سيما البيئة العائلية وهي الوسيط الخاص‬
‫المجسم لنقل الثقافة‪ .‬وفي الصياغة النظرية األول كان االهتمام بالناحية‬
‫البيولوجية هو الغالب فمراحل نضج الغرائز توافقها مراحل عالقة مع‬
‫الموضوع وتربط داللة األحداث الخارجية وأبعادها بالمرحلة الغريزية التي‬
‫وقعت فيها‪ ،‬وتخضع االتجاهات التي تأخذها انفعاالت الطفل وتخيالته إل حد‬
‫كبير لنضج الدوافع‪ .‬ويرى فرويد أن بعض ما يفسر أصل (عقدة أو ديب) هو‬
‫افتراض ال شعور جمعي‪ .‬وقد بالغ )يونغ( في تقدير أهمية هذا الفرض‪.‬‬
‫وتبدو هذه التفسيرات اآلن مغالية في التبسيط فالتطور الغريزي ال يتم عل‬
‫هذا النحو المبسط‪ .‬ومن المحتمل أال تكون المراحل الغريزية إال نتائج‬
‫مصطنعة ذات أصل ثقافي‪ .‬فلم تعد مرحلة الكمون تعتبر مرحلة يشترك فيها‬
‫أفراد النوع اإلنساني جميعا‪ .‬ويبدو أن الالشعور عرض مبالغ فيه‪ .‬أما األمر‬
‫الذي يثير االنتباه أكثر ويشترك فيه كافة أفراد النوع البشري‪ ،‬فهو نقص‬
‫‪213‬‬
‫النضج ال بيولوجي للطفل‪ ،‬نقصا بجعله تابعا لبيئته أمدا طويال‪ .‬وزاد اإلحساس‬
‫بتعقد التفاعالت بين النضج البيولوجي والبيئة‪ ،‬وتفتح التحليل النفسي في نفس‬
‫الوقت عل مناهج البحث في علوم أخرى وعل ما أسهمت به في ميدان‬
‫المعرفة ( المالحظة المباشرة لألطفال أو المجموعة من األطفال‬
‫واالنتروبولوجيا الثقافية) وفي العشرينيات األخيرة اتجه البحث بصورة‬
‫خاصة إل السنين الثالث األول من العمر‪ ،‬والعالقة بين األم والطفل‬
‫وصورة النضج المبكر لألنا واألنا األعل ‪ ...‬وبوجه عام‪ ،‬يبدو تكوين‬
‫الشخصية عملية تأهل (تطبيع اجتماعي) مطردة‪ .‬وقد أبرز التحليل النفسي‬
‫دور عمليات التقمص المتتالية والمتعددة في نمو هذا التطبيع االجتماعي‪،‬‬
‫ومن أثار التقمص إصالح ما في خبرة الطفل عن بيئته وجسمه من تجزئ‪،‬‬
‫ولكنه في الوقت نفسه يغترب عن ذاته بانجذابه لشخصية أخرى ال تتوافق‬
‫معها شخصيته تماما‪.‬‬

‫دانييل القاش (التحليل النفسي)‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬لماذا أعط التحليل لألعوام األول أهمية خاصة لفهم‬
‫اإلنسان؟‬
‫‪ –2‬هل تعتبر المراحل التي يمر بها الليبيدو مرتبطة أصال‬
‫بالمحيط الثقافي؟‬
‫‪ –3‬ما الذي ساهم حسب رأيك في التحرر من النظرة البيولوجية‬
‫التي اعتمدتها الصياغة األول للنظرية الفرويدية؟‬

‫النص )‪:(4‬‬
‫‪214‬‬
‫العوامل األساسية في بناء الشخصية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إذا كانت معظم مدارس علم النفس ركزت عل بعد معين في تكوين‬
‫شخصية الفرد فإن محمد خليف بركات أراد من خالل هذا النص إبراز تداخل‬
‫مجموعة من العناصر في تكوين الشخصية سواء منها العامل البيولوجي أو‬
‫الثقافي أو البيئي إذ تفاعل وتكامل هذه العوامل هو الذي ينتج في المحصلة‬
‫النهائية شخصية الفرد‪.‬‬
‫«‪ ...‬يمكن أن نستخلص أهم العبارات التي يتضمنها التعريف الجديد‬
‫للشخصية‪ ...‬والتي تفيدنا أيضا عندما نحاول الدراسة التحليلية للشخصية أو‬
‫الحكم عليها وهي‪:‬‬
‫‪ – 1‬التكامل‪ :‬ويضمن كون الشخصية ليست مجرد مجموع الصفات‬
‫التي تكونها وإنما الوحدة الناتجة منها‪ .‬فهي أكثر من مجرد مجموعة حاصل‬
‫جمع ما يدخل فيها من مكونات‪.‬‬
‫والواقع أن قوة الشخصية تقاس بمقدار ما كون بين مكوناتها من‬
‫تماسكن وانسجام وتكامل‪.‬‬
‫‪ – 2‬الديناميكية‪ :‬وتشير إل أهمية التفاعل المستمر بين عناصر‬
‫الشخصية المختلفة‪ ،‬فليست الشخصية مجموعة متراصة من القوى الجامدة‬
‫وإنما طبيعتها البيولوجية تقتضي دوام التفاعل والنمو والتغيير الذي يضيف‬
‫إل الشخصية صف الحيوية‪.‬‬
‫‪ – 3‬صفات الشخصية‪(:‬الثابتة نسبيا) وهي التي ال تتغير عل طول‬
‫الزمن بالرغم من دوام التفاعل والصفة الديناميكية السابقة – هي التي تجعل‬
‫للشخصية طاب عها الخاص ويمكن اإلنشاء عليها في تمييز شخص عن غيره‬
‫مثل هيئة الجسم والذكاء العام واإلستعدادات الموروثة أو المكتسبة التي يكون‬
‫لها صفة الدوام والثبات بالنسبة لغيرها من الصفات العارضة الدائمة التغيير‪.‬‬
‫‪ – 4‬الشخصية ليست مجرد النواحي الجسمية فقط‪ ،‬كالمخ والعظام‬
‫والجلد واألحشاء واألوعية الدموية وطريقة االبتسام وشكل األنف وبروز‬
‫الذقن ‪ ...‬بل تتضمن أيضا النواحي العقلية كآمال الشخص وأفكاره ومشاعره‬
‫وما يحب ويكره وصداقاته وميوله‪ .‬وهي ليست كل هذه وتلك مجتمعة فقط‪،‬‬

‫‪215‬‬
‫بل تتضمن أيضا طريقة إندماج هذه المكونات وتفاعلها‪ ،‬والطريقة التي يلجأ‬
‫إليها الجسم للتعبير عن العقل في الحركة واإلحساس واإلدراك وكذلك‬
‫األسلوب الذي يلجأ إليه العقل في التعبير عن الجسم وما ينتابه من آالم‬
‫وموروثات والواقع إنما نسميه «جسما وعقال» هو شيء واحد‪ ،‬ألن هاذين‬
‫االثنين مرتبطات بعضهما ببعض لدرجة أنه ال يمكن فصلها‪ ،‬أو حت التفكير‬
‫فيهما منفصلين‪.‬‬

‫‪ – 5‬التكيف مع البنية أمر أساسي في دراسة الشخصية‪ ،‬إذ ال تمكن‬


‫دراسة الفرد منعزال عن المجتمع الذي يحيط به‪ ،‬وال يمكن إهمال القوى‬
‫المادية واالجتماعية في البيئة من حيث أثرها في تكوين الشخصية وطبعها‬
‫بطابع معين‪.‬‬

‫‪ - 6‬التميز أو الطابع الفريد لكل شخص هو الذي يجعل كل فرد‬


‫مختلفا عن غيره‪ ،‬بحيث ال يوجد إثنان متشابهان تشابها تاما‪ .‬وهذا التميز هو‬
‫األساس الذي يقوم عليه معن الشخصية‪.‬‬
‫وبناء عل هذه االعتبارات يمكن أن نستخلص التعريف التالي‬
‫للشخصية‪:‬‬
‫« الشخصية هي ذلك الطابع الثابت نسبيا‪ ،‬للتنظيم التكاملي لصفات‬
‫الفرد الناتجة عن التفاعل الديناميكي المستمر‪ ،‬بين استعداداته ومكوناته‬
‫الجسمية والعقلية‪ ،‬الموروثة والمكتسبة‪ ،‬وبين المؤثرات المادية واإلجتماعية‬
‫للبيئة التي يعيش فيها‪ ،‬والذي يتحدد به أسلوبه الخاص المميز له عن غيره‬
‫في التكيف مع هذه البيئة» ومن هذا التعريف يمكن أن ندرك ما يأتي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬إن الشخصية وحدة ويجب دراستها كتنظيم كلي عام‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬إنه إذا جاز لنا تحليل عواملها فإن ما يكون ذلك بقصد التصنيف‬
‫والدراسة فقط‪ ،‬عل أن نضع في أذهاننا دائما فكرة إندماج العناصر وتفاعلها‬
‫المستمر بعضها مع البعض»‪.‬‬
‫محمد خليف بركات (تحليل الشخصية)‬

‫‪216‬‬
‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬أيهما أقرب إل حقيقة الشخصية الثبات أم الديناميكية؟‬
‫‪ –2‬هل يمكننا اكتساب شخصياتنا؟‬
‫‪ –3‬حلل هذه المقولة وناقشها‪« :‬إن الطبع ال يرسم إال دائرة الشروط‬
‫التي تحدد موقع األنا» (لوسين)؟‬

‫النص )‪:(5‬‬

‫الشخصية األساسية والشخصية الوظيفية‬

‫‪217‬‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫بعد واحد أو‬ ‫تمثل الشخصية كال موحدا من الصعب اختزاله إل‬
‫مفهوم واحد‪ ،‬ذلك أنها ال تتكون انطالقا من محددات أولية فحسب يترب‬
‫عليها اإلنسان لفترة ما‪ ،‬وإنما تتكون بحكم التفاعل بين المحددات األول وما‬
‫يطرأ عل الشخص من معارف وما يتقلده من مناصب‪ .‬لذا فالبد أن تكون‬
‫هناك شخصيات متعددة مختلفة حت في المجتمع الواحد‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫تتغير من مجتمع آلخر‪،‬‬ ‫الشخصية)‪(1‬‬ ‫"ال يمكن الشك في أن أنماط‬

‫ويكفي إلثبات ذلك أن تكون للمرء‪ ،‬خبرة بمجتمعات أخرى غير مجتمعه‬
‫الخاص‪ ،‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فإن الفرد يميل عادة إل المبالغة في تصور هذه‬
‫االختالفات أكثر من التخفيف من قيمتها‪ ،‬والسؤال الوحيد الذي يطرح حول‬
‫هذا الموضوع هو‪ :‬هل من المناسب االعتقاد بأن مجتمعا معينا يقبل نمطا‬
‫واحدا من الشخصية أم –عل عكس ذلك‪ -‬يقبل سلسلة من األنماط المختلفة‬

‫خاصة في المجتمع؟ ستزول‬ ‫وظيفة)‪(2‬‬ ‫يكون واحد منها مرتبطا بمجموعة لها‬

‫كل الصعوبات التي تعترضها في التوفيق بين وجهتي النظر هاتين‪ .‬إذا تمعنا‬
‫كل واحدة منهما من منظورها الخاص‪ ،‬فسنالحظ دوما أن أعضاء ما‬
‫يشتركون في عدد كبير من عناصر الشخصية وقد تكون درجة خصوصية‬
‫هذه العناصر مختلفة جدا تتراوح من االستجابات الصريحة البسيطة‪ ،‬مثل‬
‫‪218‬‬
‫األكثر عمومية‪ .‬وقد تصلح‬ ‫المواقف)‪(3‬‬ ‫الجلوس إل الطاولة أثناء األكل إل‬

‫االستجابات من هذا الصنف األخير كأساس لدى الفرد من االستجابات‬


‫المتمايزة أكثر‪ .‬وبنفس الصورة فإن أنظمة القيمة –المواقف المشتركة بين‬
‫في أشكال متعددة من السلوك‬ ‫أعضاء المجتمع المعني‪ -‬يمكن أن تتجل‬
‫الصريح المرتبط بوظيفة ما‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فرجال مجتمع ما ونساؤه قد يكون لهم نفس الموقف من حياء‬


‫األنث أو شجاعة الذكر‪ .‬بينما يكون السلوك المرتبط بهذه المواقف متميزا‬
‫بالتأكيد بالنسبة لكل جنس‪ .‬فالمواقف المشتركة من الحياء ستجدلها تعبيرا عند‬
‫نماذج‬ ‫النساء في طريقة من طرق اللباس أو التصرف والتي ترجع إل‬
‫استحسان أو استهجان‬ ‫خاصة‪ ،‬وعند الرجال في استجابات عامة تدل عل‬
‫لمالبس النساء أو تصرفاتهن‪ .‬وتكون مجمل هذه العناصر من الشخصية‬

‫بالنسبة إل‬ ‫األساسية)‪(4‬‬ ‫المشتركة شكال مندمجا جدا يمكن تسميته بالشخصية‬

‫المجتمع بأكمله‪ .‬إن وجود هذا الشكل يمنح أفراد المجتمع (‪ )...‬قيما مشتركة‬
‫ويمكنهم من االستجابة الوجدانية الموحدة لألوضاع التي تهم قيمهم المشتركة‪.‬‬

‫ويمكن أن نالحظ أيضا أنه توجد في كل مجتمع أشكال من‬


‫االستجابات اإلضافية مرتبطة ببعض المجموعات المحددة اجتماعيا داخل‬
‫المجتمع‪ .‬وه كذا فإن أشكاال مختلفة تكاد تميز دائما الرجال والنساء لمراهقين‬

‫‪219‬‬
‫والراشدين ‪ ...‬إلخ‪ .‬وفي مجتمع تراتبي يمكن مالحظة فروق مماثلة في‬
‫مستويات اجتماعية مختلفة‪:‬‬ ‫االستجابات المميزة لألفراد المنتسبين إل‬
‫النبالء‪ ،‬البورجوازيون‪ ،‬العبيد (‪ )...‬وبوسعنا تسمية هذه األشكال من‬
‫االستجابات المرتبطة بالوظيفة بالشخصيات الوظيفية وهي تلعب دورا بالغ‬
‫األهمية في حسن سير المجتمع‪ .‬وذلك بتمكين أعضائه من التعامل بنجاح‬
‫دون االعتماد عل أي شيء آخر سوى الدور الذي تشير إليه الوظيفة‪.‬‬
‫إن تعلق األمر بالعالقات بين شخصين غريبين تماما عن‬ ‫وهكذا وحت‬
‫بعضهما البعض‪ .‬فإنه يكفي لكل واحد منهما معرفة الموقع االجتماعي لآلخر‬
‫ليستطيع أن يتوقع كيف سيسلك في أغلب األوضاع‪.‬‬

‫رالف لنتون‪ ،‬األساس الثقافي للشخصية‬


‫طبعة دونو ‪ ، 3333‬ص ‪336 - 330‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ .1‬المقصود بها النماذج المختلفة للشخصية والتي تميزها عناصر كثيرة‪،‬‬
‫كاالنتماء إل الجماعة والثقافة والبيئة الجغرافية ‪ ...‬إلخ‪ .‬فكل مجتمع له‬
‫شخصيته المتميزة والمرتبطة بتاريخها الخاص‪.‬‬
‫‪ .2‬نموذج السلوك الذي ينتظره اآلخر من فرد أو أفراد داخل وسط إنساني‬
‫محدد‪ .‬إن كل فرد يقوم بمجموعة من الوظائف أو األدوار االجتماعية‪ .‬وهذه‬
‫األدوار تتحدد كذلك من خالل ثقافة المجتمع كوظيفة األب‪ ،‬والمدرس‪،‬‬
‫والعامل ‪...‬إلخ‪.‬‬
‫‪ .3‬قدرة اإلنسان عل االستجابة تجاه حادث معين أو فكرة معينة بطريقة محددة‬
‫سلفا‪ ،‬والمواقف قد تكون إيجابية أو سلبية‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫‪ .4‬مجموع األفعال واألفكار والعواطف واالتجاهات عند شخص والتي يجب‬
‫النظر إليها عل أنها نمط عام من السلوك يرتبط بالمجتمع أكثر مما يرتبط‬
‫بالفرد‪ .‬إنها الشخصية المشتركة‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬كيف يمكن تفسير مسألة تعدد أنماط الشخصية داخل المجتمع‬
‫الواحد؟‬
‫‪ –2‬أيهما أقوى أثرا في السلوك اإلنساني‪ :‬الشخصية األساسية أم‬
‫الشخصية الوظيفية؟‬
‫‪ –3‬هل يمكن القضاء كلية عل الشخصية األساسية؟‬

‫‪221‬‬
‫النص )‪:(6‬‬

‫الجهاز النفسي‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن المصطلح الذي استخدمه (فرويد) ‪ ،‬للداللة عل الطاقات أو القوى‬
‫التي تث ير النشاط اإلنساني هو مفهوم الغريزة‪ ،‬وهو يستخدم هذا المفهوم‬
‫بمعن خاص‪ ،‬فهو ال يدل فقط عل ميل بيولوجي مصدره الجسم‪ ،‬بل إن‬
‫(فرويد) يتصور هذا الميل من حيث إنه خبرة نفسية‪ .‬إنه يفترض أن لكل‬
‫غريزة مصدرا يمدها بالطاقة الضرورية‪ .‬وأن لها موضوعا تتجه إليه‪ ،‬وهكذا‬
‫يمكن اعتبار الغرائز عند (فرويد )هي الغرائز الجنسية أي غرائز المحافظة‬
‫عل النوع والمحافظة عل الذات‪ .‬وتجدر اإلشارة إل أن معن الجنس عند‬
‫(فرويد) أوسع بكثير من مفهومه الدارج في حياتنا اليومية فهو يتضمن‬
‫باإلضافة إل معناه المتصل بالحوافز الجنسية كل ما يؤدي إل الشعور باللذة‬
‫من خالل استثارة المناطق الحساسة في الجسم كالشفاه والتجويف الفموي‬
‫والمنطقة الشرجية وأعضاء التناسل‪ .‬والغريزة الثانية هي غريزة الموت وهي‬
‫تخدم أغراض الهدم والتدمير‪ ،‬ولكي يوضح "فرويد" عمل الغرائز وكيف‬
‫تنمو بالتوازي مع نمو الشخصية ‪ ،‬نوقف عند الجهاز النفسي الذي يتكون‬
‫"بدوره" انطالقا من السنة األول من حياة الطفل‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫هل من حاجة ألن تشرح أن (األنا) هو جزء من (الهو) طرأ عليه‬


‫تعديل وتحوير بحكم مجاورته للعالم الخارجي وتأثره به‪ ،‬عل نحو يمكنه‬
‫معه أن يستقبل التنبيهات‪ ،‬وأن يتقي شرها عند االقتضاء‪ ،‬مثله في ذلك مثل‬
‫الطبقة اللح ائية التي تحيط بها جزئية المادة الحية نفسها؟ لقد أصبحت الصلة‬
‫بالعالم الخارجي ذات أهمية قصوى بالنسبة إل األنا‪ ،‬فوظيفته هي أن يمثل‬
‫هذا العالم لدى الهو لما في ذلك من منفعة كبيرة لهذا األخير‪ .‬وبالفعل لوال‬
‫‪222‬‬
‫األنا لتحطم الهو المندفع اندفاعا أعم نحو اإلشباع الغريزي‪ ،‬عل صخرة‬
‫هذه القوة الخارجية األعظم منه‪ .‬ويقع عل عاتق األنا –بحكم وظيفته‪ -‬أن‬
‫يرافق العالم الخارجي‪ ،‬وأن يكون عنه صورة صحيحة‪ ،‬وأن يحفظ هذه‬
‫الصورة مع مجموع ذكرياته اإلدراكية ويتعين عليه أيضا بحكم احتكاكه‬
‫بالواقع أن يستبعد كل ما من شأنه أن يضخم المصادر الداخلية للتنبيه‪ .‬وبأمر‬
‫من الهو يضع األنا تحت إشراف منافذ االستطاعة الحركية‪ .‬لكنه يجعل بين‬
‫الرغبة والفعل فاصال زمنيا ضروريا لبلورة التفكير‪ .‬فيستغل في هذه األثناء‬
‫الذكريات المترسبة والمتبقية من الخبرة‪ .‬وعل هذا الن حو يخلع األنا مبدأ اللذة‬
‫الذي يهيمن هيمنة مطلقة عل السيرورات في الهو – عل العرش الذي كان‬
‫يترب ع عليه‪ ،‬ويستبدله بمبدأ الواقع الذي هو أقدر من مبدأ اللذة عل ضمان‬
‫األمن والنجاح‪.‬‬

‫أضف إل ذلك أنه بفضل النسق اإلدراكي ‪ ،‬تقوم بين األنا والزمن‬
‫تلك العالقة التي يصعب وصفها‪ .‬فمما الشك فيه أن طريقة عمل هذا النسق‬
‫هي المصدر الذي تنشأ عنه فكرة الزمن غير أن ما يميز األنا عن الهو هو‬
‫نزوع األول إل التأليف بين مضامينه وإل اختزال سيروراته النفسية‬
‫وتوحيد نمطها‪ ،‬وهذا ما يعجز عنه الهو عجزا مطلقا (‪.)...‬‬

‫إن األنا ينمو ويتطور بدءا من إدراك الغريزة وانتهاء بالسيطرة‬


‫عليها‪ .‬لكنه ال يصل إل هذه السيطرة إال إذا استطاع إدراج ممثل الغريزة في‬
‫سياق أكثر ودمجه في تنظيم أشمل‪ .‬إن شئنا استخدام وتعابير اللغة الشائعة‬
‫لقلنا إن األنا يمثل في الحياة النفسية العقل والفطنة‪ .‬بينما يمثل الهو األهواء‬
‫المنفلتة من عقالها (‪)...‬‬
‫ومن الممكن تشبيه عالقة األنا بالهو بعالقة الفارس بمطيته‪.‬‬
‫فالحصان يقدم الطاقة الالزمة للتحرك‪ .‬ومهمة الفارس أن يحدد الهدف‬
‫المطلوب بلوغه‪ .‬وأن يوجه حركة الحيوان القوي نحو هذا الهدف عل أن‬
‫العالقة بين األنا والهو ليست دائما بالمثل ‪ ،‬إذ غالبا ما يضطر الفارس إل أن‬
‫يتجه حيثما يطيب لمطيته أن تقوده (‪)...‬‬

‫‪223‬‬
‫إن األنا مضطر إل أن يخدم ثالثة من السادة األشداء وهو يبذل‬
‫قصارى جهده للتوفيق بين مطالبهم‪ ،‬وهذه المطالب متناقضة دوما‪ ،‬وكثيرا ما‬
‫يبدو التوفيق بينها عمال مستحيال‪ .‬فال غرو إن أخفق األنا مرارا وتكرارا في‬
‫مهمته‪ .‬هؤالء المستبدون الثالثة هم‪ :‬العالم الخارجي واألنا األعل والهو ‪.‬‬
‫وحين نعاين ما يبذله األنا من جهود ليعدل بين الثالثة – أو عل األصح‬
‫ليطيعهم – ال نأسف أننا حسمنا وأقررنا له بوجود مستقل بذاته‪ .‬إنه يشعر‬
‫بضغط يأتيه من ثالث جهات‪ .‬وأنه عرضة لثالثة أخطار متباينة يرد عليها‬
‫في حالة تضايقه بتوليد الكبح (الكف)‪ .‬وبما أنه ينشأ أصال من تجارب النسق‬
‫اإلدراكي‪ .‬فهو مدعو إل تمثيل مقتضيات العالم الخارجي غير أنه يحرص‬
‫مع ذلك عل أن يبق خادما وفيا للهو‪ .‬وأن يظال معا عل قدر كبير من‬
‫الوفاق‪ ،‬وأن ينزل في نظره منزلة الموضوع ويجتذب إليه طاقته الليبيدية ‪.‬‬
‫وكثيرا ما يرى نفسه مضطرا – وهو الذي يتول تأمين االتصال بين الهو‬
‫والواقع‪ -‬إل التستر عل األوامر الالشعورية الصادرة عن الهو بتسويغات‬
‫قبل شعورية وإل التخفيف من حدة المجابهة بين الهو والواقع‪ .‬وإل أن يسلك‬
‫طريق الدهاء الدبلوماسي والتظاهر العتبار الواقع‪ ،‬حت وإن أبدى الهو تعنتا‬
‫وجموحا وكذلك األنا األعل القاسي ما يفتأ يراقبه ويرصد حركاته ويفرض‬
‫عليه قواعد معينة لسلوكه من دون أن يلقي باألنا إل الصعاب التي يقيمها في‬
‫وجهه الهو والعالم الخارجي وإن اتفق لألنا أن عص أوامر األنا األعل ‪.‬‬
‫عاقبه هذا األخير بما يفرض عليه من مشاعر أليمة بالدونية والذنب‪ .‬عل هذا‬
‫النحو يكافح األنا الواقع تحت ضغط الهو والرازح تحت نير اضطهاد األنا‬
‫األعل والمصدود من قبل الواقع‪ .‬يكافح إلنجاز مهمته االقتصادية‪ .‬وإلعادة‬
‫التساوق بين مختلف القواعد والمؤثرات الفاعلة فيه والواقعة عليه‪ .‬من هنا‬
‫نفهم لماذا يجد الواحد منا نفسه مكرها في كثير من األحيان عل أن يهتف‬
‫بينه وبين نفسه؛ آه "ليست الحياة سهلة" واألنا مت أكره عل االعتراف‬
‫بضعفه استول عليه الذعر‪ .‬إنه خوف فعلي حيال العالم الخارجي إنها‬
‫مخاوف الضمير حيال األنا األعل ‪ ،‬وقلق عصابي حيال قوة األهواء في‬
‫الهو‪.‬‬
‫سيجموند فرويد‬
‫"محاضرات جديدة في التحليل النفسي"‬
‫غاليمار ‪ ، 1936‬صفحات ‪115 – 111‬‬

‫‪224‬‬
‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬استخرج من النص وظائف األنا في الجهاز التنفسي‪.‬‬
‫‪ –2‬كيف ينظر فوريد إل مجموع مناطق الجهاز التنفسي؟‬
‫‪ –3‬ما هي في رأيك نتائج ضعف األنا عل الحياة النفسية للفرد؟‬
‫‪ – 4‬الشخصية تتحدد من خالل بناء نفسي سابق‪ ،‬ما رأيك؟‬

‫‪225‬‬
‫النص )‪:(7‬‬

‫الشخصية والحرية‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫تطرح مسألة الحرية في عالقتها بالشخصية عدة مستويات‪ .‬فقد‬


‫تطرح عل مستوى مفهوم استقالل الشخصية ومدى تباعدها عن واقعها‬
‫وتاريخها‪ .‬كما يمكن أن تطرح عل مستوى أدوات التحكم في المصير‬
‫والمستقبل‪ .‬فهل تستطيع الشخصية أن تخلق حياتها الخاصة؟ ما معن‬
‫االستقالل الذاتي للشخصية؟ كيف يكون بإمكانها أن تتجاوز حاضرها وتحيا‬
‫مستقبلها؟‬

‫ــــــــــــــ‬

‫" الشخص قوة مبادرة واختيار‪ ،‬يلتزم ويندمج‪ ،‬وينسجم‪ ،‬يشعر فيقبل‬
‫أو يرفض‪ ،‬تلك هي الخصائص الالزمة لالعتراف بأن للشخص استقالال‬
‫ذاتيا‪.‬‬

‫في مستهل القرن األول للهجرة‪ ،‬عرفت طائفة المرجئة اإليمان بأنه‬
‫اعتقاد باطني‪ ،‬فال يزول إ يمان المرء في نظرهم‪ ،‬ولو أظهر قوال وفعال‪ ،‬بل‬
‫حت ولو تبع الملة اليهودية أو النصرانية‪ .‬في دار اإلسالم ما دام متيقنا‪،‬‬
‫باطنيا‪ ،‬أن ال إله إال هللا‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫(‪ )...‬معن هذا أن اإليمان هو قبل كل شيء‪ ،‬االعتراف بوحدانية هللا‬
‫واستقالله المطلق‪ ،‬إذ أن المؤمن (أي الفرد الذي يعترف هلل بهاتين الصفتين)‬
‫يعترف كذلك لنفسه بأنه هو اآلخر‪ ،‬واحد ومستقل‪ .‬إال أن وحدانية الكائن‬
‫البشري واستقالله ليسا مطلقين‪ ،‬فاهلل وحده ال تعتريه النسبية‪.‬‬

‫مفهوم االستقالل الذاتي‪ ،‬هنا‪ ،‬هو ذلك الشيء الخاص بكل شخص‪،‬‬
‫نعني واقع فرديته المتخصصة له‪ .‬فعندما تقول إن لألشخاص استقالال ذاتيا‪،‬‬
‫نؤ كد أن ال وجود لنموذج إنساني أو لقالب يفرغ فيه جميع األشخاص ليكونوا‬
‫عل نمط واحد‪ ،‬إذ لكل شخص وجهته وتطلعاته الخاصة‪ ،‬وهي منبع ال‬
‫ينضب من العفوية والمبادهة‪{ :‬ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات}‬
‫البقرة اآلية ‪ ،307‬وفي آية أخرى‪{ :‬قل كل يعمل عل شاكلته فربكم أعلم بمن‬
‫هو أهدى سبيال} اإلسراء اآلية ‪ ، 80‬تبتدئ الشخصانية عندما يتوقف الشخص‬
‫عن الطاعة (طاعة األشخاص وطاعة األشياء) ويعترف بالقيمة العليا للعقل‬
‫والفكر‪ ،‬واالعتراف بتلك القيمة للشخص ليس معناه قبول المخاذالت أو‬
‫السماح لبعض العقول أن تستبد باألخرى وليس هو الخضوع األعم الذي‬
‫يفرضه مذهب من المذاهب‪ ،‬ولو كان دينيا {ال إكراه في الدين} البقرة اآلية‬
‫‪.236‬‬

‫إن الشخص برغم استقالله الذاتي وحريته وقدراته عل المبادرات‬


‫ومواهبه‪ ،‬يبق تحت تصرف مشيئة هللا‪ ،‬وهي مشيئة ال متناهية ومطلقة‪ ،‬في‬
‫حين أن اإلرادة اآلدمية "منتهية ونسبية فطرفا المواجهة إذن غير متعادلين‪.‬‬

‫محمد عزيز الحبابي‬


‫"الشخصانية اإلسالمية"‬
‫دار المعارف– مصر ‪ ، 3363‬ص ‪73 - 32 – 33‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪227‬‬
‫‪ ‬كل نظرية فلسفية تطرح مسألة الشخص اإلنساني كقيمة أساسية وعليا‪،‬‬
‫ويعرف (موتي) الشخصانية قائال‪" :‬تدعو شخصانية كل اتجاه أو حضارة تؤكد‬
‫عل أهمية الشخص مقابل الضرورات المادية واألجهزة الجماعية التي تتحكم‬
‫في تطوره"‪.‬‬
‫‪ ‬والشخصية عند (رينوفيه) مرادفة للذاتية‪ ،‬وهي القول‪ :‬إن فكرة الشخصية‬
‫مقولة ضرورية إلدراك العالم‪.‬‬

‫المعجم الفلسفي‪ ،‬د جميل صليبا‬

‫األسئلة ‪:‬‬
‫‪ –1‬ما داللة مفهوم االستقالل الذاتي للفرد في النص؟ وكيف‬
‫يبرهن عل ذلك؟‬
‫‪ –2‬بين قيمة وجود حرية الفرد من خالل النص‪.‬‬
‫‪ –3‬علق عل الفقرة األخيرة من النص‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫النص )‪:(8‬‬

‫دور الوراثة والبيئة‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫لقد بين علماء البيولوجيا الدور الكبير للعامل الوراثي ولكن هذا‬
‫التأثير متفاوت األهمية إذا اعتبرنا الصفات الجسمية أو الصفات الوجدانية أو‬
‫الذهنية‪ .‬ومع الوراثة هناك دور البيئة ولكل منهما أهمية في تحديد سلوك‬
‫اإلنسان‪ .‬ولكن هذه الحتمية البيولوجية وتأثير المجتمع ال يستعبدان حرية‬
‫الفرد الذي يمكن له أن يتحرر من قيودهما‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫ليس أدل عل قوة الوراثة وتأثيرها الفعال من حال التوأمين الحقيقيين‬
‫أو المتماثلين‪ .‬وينتج التوأمان من االنقسام المبكر لبويضة واحدة‪ ،‬فهما يملكان‬
‫إذن بالضبط نفس اإلرث البيولوجي‪ .‬وهما برعمان من نفس األصل أو‬
‫نمطان مسبوكان في نفس القالب‪ .‬ومن هنا ينتج تشابههما الخارق من حيث‬
‫البنية الجسمية ومن حيث التكوين الفيزيولوجي والقابلية لألمراض‬
‫والمؤهالت الذهنية ‪ ...‬الخ‪ .‬وكان التشابه التوأمي الذي يبلغ أحيانا حد التماثل‬
‫موضع اندهاش لدى اإلنسان في كل زمان ‪ ،‬بل إنه ليبدو فظاعة حقيقية ألنه‬
‫يصدم تصورنا المعتاد لإلنسان بإبرازه –في بداهة قلما تدرك‪ -‬للطابع اآللي‬
‫للحياة ومحوه إلحدى الميزات التي تبدو لنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطبيعة‬
‫‪229‬‬
‫البشرية‪ :‬أال وهي الشخصية‪ ،‬ومع ذلك وفي هذه الحالة القصوى‪ ،‬فإن‬
‫الصفات الحيوية واإلنس انية بالذات لم تمح كليا وإنما ضعفت ال غير‪ .‬وحت‬
‫نقدر بصورة سليمة قيمة التشابهات التوأمية‪ ،‬يجدر بنا فعال‪ ،‬أن نميز بين ما‬
‫يتعلق بالوراثة وبين ما يرتبط بالتربية والبيئة‪ .‬وفي أغلب األحيان نجد فعال‪،‬‬
‫أن التوأمين يعيشان في نفس البيئة العائلية التي من شأنها أن تدعم التشابهات‬
‫الوراثية‪ .‬فال يمكن التعرف عل التأثيرات الخاصة بالوراثة وبالبيئة إال عندما‬
‫يفصل التوأمين منذ سن مبكرة‪ ،‬ويربيان في بيئات اجتماعية متباينة ويتلقيان‬
‫تربية مختلفة وقد قام العالم البيولوجي (عالم الحياة) األمريكي (هـ‪/‬هـ نيومن)‬
‫ببحث واسع شمل تسعة عشر زوجا من التوائم الحقيقيين الذين عاشوا‬
‫منفصلين عن بعضهم‪ ،‬وقد أكدت هذه الدراسة ما سبق أن عرفناه عن التشابه‬
‫الجسمي الشديد عند التوائم لكنها كشفت عن وجود ظروف أكثر تعقدا عندما‬
‫دراسة األمزجة والخاصيات البدنية‪ .‬إن نتيجة دراسة‬ ‫وقع التعرض إل‬
‫التوائم الذين فصلوا م نذ الطفولة هي أنه إذا كانت األمزجة والخاصيات في‬
‫بعض األزواج متقاربة جدا فإنها عل العكس في البعض اآلخر مختلفة كثيرا‬
‫فالمزاج إذن ليس صفة وراثية عل نحو ما تكون الخاصية الجسمية‪.‬‬

‫وأخيرا إذا اعتبرنا الصفات الذهنية البحتة كالذكاء واإلرادة والطبع‪.‬‬


‫فإن تأثير الوراثة يبدو أيضا أقل شأنا فالبيئة االجتماعية والتربية والثقافة‬
‫العقلية تلعب دورا كبيرا في تنميتها وإعطائها صبغة خاصة‪ .‬إن توأمين غير‬
‫حقيقيين (متأتيين من بيضتين مختلفتين) ربيا معا متشابهان من الناحية الذهنية‬

‫‪230‬‬
‫أكثر مما يتشابه توأمان حقيقيان ربيا بعيدين الواحد عن اآلخر في بيئات‬
‫اجتماعية مختلفة‪ ،‬ونتيجة لذلك‪ ،‬نقر بأنه إذا كانت الصفات الجسمية‬
‫والفيزيولوجية تخضع للتأثير القوي للعوامل الوراثية‪ .‬فإن الصفات الذهنية‬
‫تؤثر فيها التربية والبيئية االجتماعية تأثيرا عميقا‪ .‬أما الصفات الوجدانية‬
‫فيبدو أنها تحتل مكانة وسط بين هذين الطرفين‪.‬‬
‫يظهر سبب هذه االختالفات بسهولة إذ أنها مرتبطة بتنوع الحقب‬
‫التي تحدد فيها السمات المعتبرة‪ .‬فاإلنسان يتحدد جسميا قبل الوالدة بكثير‪،‬‬
‫ولهذا نفهم فعال أن التدخالت التي تقع خالل الطفولة عاجزة عن أن تغير‬
‫بصورة عميقة مؤهالته وصفاته البدنية‪ .‬وخالفا لذلك فإن كل التطور الذهني‬
‫واالنفعالي لإلنسان يحدث خالل الطفولة والمراهقة‪ .‬ولذلك فال يستغرب أن‬
‫يتأثر تكوينه النفسي تأثيرا عميقا بطابع البيئة التي ينمو فيها والتربية الموجهة‬
‫والمتواصلة التي يتلقاها‪.‬‬
‫في هذه الحالة القصوى ليست الوراثة أبدا بالغة‬ ‫وهكذا فإنه حت‬
‫القوة‪ .‬إن أولويات الوراثة يمكن أن تستعبد اإلنسان بأكمله‪ .‬ورغما عن ثقل‬
‫المادة التي يتكون منها والوراثة التي تحدد تكوينه البيولوجي منذ بداية‬
‫الحمل‪ ،‬فإن لإلنسان القدرة عل توجيه مصيره باالعتماد عل ذكائه وإرادته‬
‫في آن واحد‪.‬‬
‫أ‪ .‬فاندال‬
‫(اإلنسان والتطور)‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪231‬‬
‫‪ –1‬ما البحوث التي اعتمدها المؤلف للداللة عل تأثير الوراثة؟‬
‫‪ –2‬يقول (فاندال )بأن الصفات الجسمية تخضع للوراثة بصــورة‬
‫كبيرة‪ ،‬أما الصفات الذهنية فللمجتمع دور كبير في إعطائهـا‬
‫صبغة معينة‪ ،‬وتحتل الصفات الوجدانية مكانة وسطــ بين‬
‫هذين الطرفين‪ .‬فسر هذا الرأي مبرزا سبب هذا االختالف‪.‬‬
‫‪ –3‬اشرح قول صاحب النص‪« :‬إن أولويات الوراثة يمكــن أن‬
‫تستعبد اإلنسان بأكمله»‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫أسئلة الباب‬
‫‪ –1‬هل نحن أحرار في اختيار شخصيتنا؟‬
‫‪ – 2‬أيهما أقوى تأثيرا في الشخص‪ :‬الفطري أم المكتسب؟‬
‫‪ – 3‬إل أي حد يمكن القول‪ :‬إن الشخصية توجد في شكل خطوط كامنة في‬
‫الفرد؟‬
‫‪ – 4‬يقول محمد خليفة بركات«الشخصية ليست مجرد مجموع الصفات التي‬
‫حلل هذا القول وناقشه‪.‬‬ ‫تكونها وإنما الوحدة الناتجة عنها»‬
‫‪ – 5‬إل أي حد يمكن القول‪ :‬إن الثقافة تكوننا تكوينا ثانيا؟‬
‫ما رأيك؟‬ ‫‪ – 6‬يرى (دانييل القاش) أن تكوين الشخصية عملية تأهل‪.‬‬
‫‪ – 1‬هل لالشعور أي أثر في توجيه الشخصية وبنائها؟‬

‫‪233‬‬
‫المحور الرابع‪:‬‬
‫السياســـة‬

‫‪234‬‬
‫تصدير‬
‫‪ « ‬ال يمكن زوال بؤس الدولة وزوال شقاء نوع اإلنسان ما لم يتملك‬
‫الفالسفة أو يتفلسف الملوك والحكام فلسفة صحيحة تامة‪ ،‬أي ما لم‬
‫تجتمع القوتان السياسية والفلسفية في شخص واحد» افالطون ‪-‬‬
‫الجمهورية‬
‫‪ « ‬الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة وهو الشكل الحافظ‬
‫بنوعيه لوجودها لما في طابع البشر من العدوان الداعي إل الوازع‬
‫‪ » ....‬ابن خلدون ‪ -‬المقدمة‬
‫‪ « ‬الدولة هي الفكرة األخالقية الموضوعية إذ تتحقق في الروح‬
‫األخالقية بصفتها إرادة جوهرية تتجل واضحة لذاتها‪ ،‬تعرف ذاتها‬
‫وتفكر بذاتها وتنجز ما تعرفه ألنها تعرفه» هيجل‬
‫فكرة الدولة‪ ،‬وأي تساءل عنها يعني‬ ‫‪ « ‬إن الدولة سابقة عل‬
‫بالضرورة تساؤالت عن األصل والهدف» لينين‬

‫‪235‬‬
‫الدولة‪ :‬مقوماتها‪ -‬نشأتها – وظائفها‬
‫ينبغي التمييز بين مفهوم الدولة ومفاهيم القوة والسلطة والنفوذ التي‬
‫تكون مجتمعة ما يعرف بالنظام السياسي «يستخدم علماء االجتماع مفهوم‬
‫النظام السياسي للداللة عل توزيع القوة والسلطة والنفوذ في المجتمع وعل‬
‫الطرق التي يتم بها هذا التوزيع سواء كان المجتمع بدائيا بسيطا أو حديثا‬
‫معقدا»(‪.)1‬‬

‫فالنظام السياسي مركب من المعايير واألدوار والحاجات التي تعمل‬


‫عل تدعيم وممارسة القوة من أجل ضمان االمتثال لنسق السلطة القائم‪،‬‬
‫والفرق بين القوة والسلطة هو أن القوة هي التأثير عل اآلخرين حت ولو لم‬
‫يوافقوا عل ذلك‪ ،‬في حين أن السلطة هي القوة المشروعة في المجتمع‬
‫والمأذون أو المصرح لها بالوجود‪.‬‬

‫أما مصير شرعية السلطة فقد يكون التقاليد وقد يكون القانون أو‬
‫الشرع وقد يكون جاذبية صاحب السلطة أو كفاءته القيادية‪ ،‬أما النفوذ فهو‬
‫الممارسة غير المباشرة للقوة من خالل الهيبة أو الثروة أو الوضع االجتماعي‬
‫أو المنصب‪ ،‬وقد تجتمع القوة والسلطة والنفوذ في شخص ما‪ ،‬فتكون القوة‬
‫السياسية كاملة عندئذ‪.‬‬

‫أما مفهوم الدولة فيشير إل «الهيئة االجتماعية التي تحتكر أعل‬


‫درجا ت السلطة داخل إقليم معين وتمتلك حق توقيع العقوبة البدنية من أجل‬
‫تحقيق وظائفها االجتماعية»(‪.)2‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬النظم االجتماعية‪ ،‬د‪ .‬محمد البعادي ود‪ .‬طلعت إبراهيم لطفي ص ‪.70‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫والدولة بهذا المعن مرادفة للحكومة‪ ،‬وإن كانت الحكومة مجرد أداة‬
‫للدولة في رأي الكثير من علماء االجتماع والقانون‪.‬‬
‫فما هي مقومات الدولة؟ وكيف نشأت؟ وما وظائفها؟‬

‫أوال‪ :‬الدولة ومقوماتها‪:‬‬


‫«الدولة في اللغة االستيالء والغلبة‪ ،‬والشيء المتداول فيكون مرة لهذا‬
‫ومرة لذلك ‪ ..‬وفي االصطالح جمع من الناس مستقرون في أرض معينة‪،‬‬
‫مستقلون وفق نظام خاص‪ ،‬أو هي مجتمع منظم له حكومة مستقلة وشخصية‬
‫معنوية تميزه عن غيره من المجموعات المماثلة له»(‪ )1‬ومعن هذا أن الدولة‬
‫جس م سياسي وقانوني ينظم حياة أمة معينة‪ ،‬لذا تختلف الدولة عن األمة‬
‫فالدولة هي األمة المنظمة‪ ،‬أما األمة فجماعة من الناس تجمعهم صفات واحدة‬
‫ومصالح وآمال مشتركة‪ ،‬فالدولة إذن جماعة بشرية منظمة تعيش في إقليم‬
‫معين‪ ،‬وتخضع لسلطة هيئة حاكمة ذات قيادة‪ ،‬وتتمتع بشخصية معنوية‬
‫متميزة‪ ،‬وتربط بين أفرادها رابطة سياسية قانونية تفرض عليها الوالء لها‬
‫(أي للدولة) والخضوع لقوانينها‪ ،‬كما تفرض عليها حماية أرواحهم وأموالهم‬
‫وكافة حقوقهم التي يقرها لهم القانون(‪.)2‬‬
‫ويتضح من هذه التعاريف أن للدولة مقومات أساسية عبارة عن‬
‫أركان ال تقوم إال بها وهي‪ :‬الجماعة البشرية (الشعب) واإلقليم المحدد‬
‫(األرض) والسلطة السياسية (الحكومة)‪.‬‬
‫فالشعب هو المقوم األول لوجود الدولة‪ ،‬فال يتصور قيام دولة بدون‬
‫عدد معقول من السكان‪ ،‬وإذا تواجد هؤالء فالبد لهم من رقعة من األرض‬
‫تنسب إليهم ويعرف ون بها‪ ،‬وإذا توافر الشعب واألرض فالبد من الحكومة‪ ،‬إذ‬
‫هي األداة التنظيمية التي تستخدمها الدولة لتحقيق أهدافها التي من ضمنها‬
‫حماية األرض والشعب من أي عدو خارجي‪ ،‬وفض النزاعات بين‬
‫المواطنين‪ ،‬وحل جميع النزاعات والمشكالت التي تنشأ عن وجود الناس في‬
‫مكان واحد‪ .‬ولذ لك ال تستطع الدولة تحقيق أهدافها إال إذا كان لها سيادة أي‬
‫سلطة‪ .‬والسلطة السياسية أو سلطة الدولة تعني وجود تنظيم من األفراد‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬المعجم الفلسفي جميل صليبا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫بدوي‪ ،‬ص ‪.048‬‬ ‫‪ -‬معجم مصطلحات العلوم االجتماعية‬
‫‪237‬‬
‫كالحكومة تملك الحق في تطبيق القانون عل شعب معين يسكن بالدا معينة‬
‫الحدود‪ ،‬إذن ال يمكن وجود الدولة إال إذا توافرت المقومات المذكورة ولذلك‬
‫قد يوجد مجتمع ليس له دولة‪ ،‬مع أن لكل مجتمع نظاما سياسيا‪ ،‬فالنظام‬
‫السياسي شيء والدولة شيء آخر‪ ،‬فالنظام السياسي مركب متداخل من‬
‫األدوار والمعايير االجتماعية المتعلقة بتوزيع القوة والسلطة والنفوذ‪ .‬أما‬
‫الدولة فكيان سياسي متميز الحدود ومستقل الهوية‪ .‬وهناك بع ض المجتمعات‬
‫التي ليست لها دولة لوجودها في إطار مجتمعات أكبر منها أو أقوى أو أقدم‬
‫تواجدا عل أرض البلد‪ .‬ألن الدولة دائما تكون باسم المجتمعات المسيطرة‪،‬‬
‫والواقع أن قيام أية دولة رهن بتوفر الشروط المذكورة‪ ،‬والتي تربط بدورها‬
‫بظروف نشأة الدولة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬نشأة الدولة‪:‬‬
‫يستلزم الحديث عن نشأة الدولة الحديث عن أسباب هذه النشأة‬
‫وأصلها وتناول اإلشكاليات التي يثيرها الموضوع والنظريات التي تتناول‬
‫أصل الدولة ونشأتها‪ .‬ورغم أننا إذا نظرنا إل ما يثيره مفهوم الدولة من‬
‫أفكار تتعلق بالسلطة والقانون وأنواع األنظمة السياسية وطبيعة الحاكم‬
‫والمحكوم‪ ،‬فإننا نجد جذور كل ذلك تعود إل العصر اليوناني خاصة مع‬
‫أفالطون وأرسطو‪ ،‬ثم في الممارسات العملية في العصر الروماني‪ ،‬إال أن‬
‫مفهوم الدولة ب معناه الحديث في اللغة السياسية لم يستخدم إال منذ القرن ‪16‬‬
‫(‪.)1‬‬
‫‪ – 1‬نظرية الحق اإللهي‪:‬‬
‫تعتبر نظرية الحق اإللهي أو التيوقراطية من أقدم النظريات التي‬
‫تفسر أصل الدولة والسلطة وذلك عل أساس فكرة دينية دعا إليها رجال‬
‫الدين المسيحي في القرون الوسط ‪ ،‬ومفادها أن الدولة والحكومة تنظيم إلهي‬
‫مقدس لمنع الشر والخطيئة‪ ،‬فالملوك والحكام إنما يستمدون سلطتهم من هللا‪،‬‬
‫وهم عمالؤه وممثلوه عل األرض‪ ،‬كما ذهبوا إل أن الثورة عل الملوك‬
‫تعتبر فوض سياسية غير شرعية‪ ،‬بل هي خطيئة(‪ )2‬مما أدى إل تأليه‬
‫الملوك وتقديسهم باعتبارهم ظل هللا وخلفاءه عل األرض‪ ،‬لذلك يحق للملك‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي‪ ،‬حسن شحاته‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪238‬‬
‫أن يحكم رعاياه حكما استبداديا مطلقا‪ ،‬وعل الشعب أن يطيعه في كل أوامره‬
‫وأحكامه‪ ،‬فال يحق للشعب معارضة الملك وال القوانين والتشريعات المعمول‬
‫بها ألنها ترجع في أصلها إل إرادة إلهية والملك هو الذي يجسد هذه اإلرادة‪.‬‬
‫‪ – 2‬التفسير السوسيولوجي‪:‬‬
‫هناك رأي آخر يعتبر أكثر عاته من علماء االجتماع يرى أن الدولة‬
‫عبارة عن تنظيم قوي يخدم مصالح الصفوة أو النخبة من أفراد المجتمع‪ ،‬أي‬
‫الجماعة المتميزة بثروتها وجاهها ومكانتها االجتماعية‪ ،‬ومن هنا يذهب‬
‫أصحاب هذا الرأي إل أن السبب الرئيسي لقيام الدولة هو خدمة مصالح‬
‫النخبة‪ ،‬ومع أنه قد يكون للدولة وظائف أخرى إال أن هذه الوظائف في‬
‫مجملها تخدم مصالح النخبة‪ ،‬فالمجتمع في رأيهم ميدان تتنافس فيه الجماعات‬
‫المختلفة عل الثروة والقوة والمكانة وغير ذلك من متاع الحياة‪ ،‬ويرون أن‬
‫الجماعة أو الجماعات التي تسي طر عل الدولة هي القادرة عل فرض‬
‫إرادتها والتحكم في توزيع موارد الثروة والقوة والمكانة وغيرها(‪ )1‬فالدولة لم‬
‫تظهر إال بعد ظهور الملكية الفردية أو الخاصة ومن ثمة ظهرت طبقة مالك‬
‫أصبحت مهمة الدولة حمايتها‪.‬‬
‫‪ – 3‬نظرية العقد االجتماعي‪:‬‬
‫يربط فالسفة العقد االجتماعي بين نشأة الدولة والسلطة وفكرة العقد‬
‫االجتماعي التي انتشرت منذ القرن ‪ 11‬خاصة مع جون لوك وهوبز وروسو‬
‫ويذهب هؤالء إل أن الدولة تنشأ نتيجة لعقد ضمني يبرمه أفراد المجتمع فيما‬
‫بينهم ويتنازلون فيه عن سلطتهم لفرد ما أو جماعة ما‪ ،‬أي يفوضون أمورهم‬
‫العامة كالقضاء واإلدارة وقيادة الحرب واألمن إل شخص ما أو جماعة ما‪،‬‬
‫فتصبح السلطة لهذا الشخص أو هذه الجماعة(‪ )2‬ويذهب فالسفة العقد‬
‫االجتماعي إل أن األفراد كانوا يعيشون في مرحلة طبيعية قبل مرحلة‬
‫االجتماع البشري‪ ،‬وكانوا يعيشون عل الفطرة ولم تكن هناك قيود تحد من‬
‫حريتهم‪ ،‬ول كن هذه الحرية المطلقة كانت تؤدي إل اضطراب وفوض‬
‫عارمة‪ ،‬مما جعل األفراد يبحثون عن وسيلة للخروج من هذه الوضعية أي‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬النظم االجتماعية ‪ ،‬محمد البعادي‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬النظم االجتماعية ‪ ،‬محمد البعادي وطلعت لطفي‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪239‬‬
‫حرب الكل ضد الكل‪ ،‬فبدؤوا في التفكير في تأسيس حياة يسودها النظام‬
‫واألمن «وكانت هذه الوسيلة هي التعاقد فيما بينهم عل تنظيم حياة اجتماعية‪.‬‬
‫وهذا هو مضمون نظرية العقد االجتماعي التي مؤداها أن أولئك‬
‫الناس اتفقوا عل أن يتنازل كل واحد منهم عن بعض أو كل حقوقه‪ ،‬وأن‬
‫يقبل العيش مع غيره في ظل سلطة توفق بين مصالح األفراد»(‪.)1‬‬
‫فالمجتمع قد نشأ بناء عل اتفاق سابق بين األفراد الذين يتكون منهم‬
‫بقصد التخلص من الشرور التي سادت الحياة في المرحلة الطبيعية السابقة‬
‫عل تكوين المجتمع‪ ،‬إال أن فالسفة العقد االجتماعي اختلفوا في تفاصيل حالة‬
‫الطبيعة وهل كان اإلنسان خيرا أم شريرا فيها؟ وهل تنازل األفراد عن جميع‬
‫حقوقهم للحاكم أم أنهم تنازلوا عن بعضها واحتفظوا بالبعض اآلخر؟ يذهب‬
‫هوب ز إل أن حياة اإلنسان في المرحلة الطبيعية كانت تطبعها األنانية ألن‬
‫اإلنسان شرير بطبعه فلم يكن اإلنسان يبحث إال عن مصالحه الخاصة ولو‬
‫عل حساب اآلخرين فاإلنسان ذئب ألخيه اإلنسان‪ ،‬وكان القانون السائد في‬
‫المرحلة الطبيعية هو قانون القوة لذا كان األقوياء يعتدون عل الضعفاء‪،‬‬
‫فكانت حياة اإلنسان تعمها الفوض والعنف‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فكانت «تعسة قذرة‪ ،‬وحسية ثم قصيرة» ويذهب هوبز إل أن‬
‫العنف والصراع وحرب الكل ضد الكل في المرحلة الطبيعية كان عائقا أمام‬
‫الحياة االجتماعية المستقرة وإنشاء الدولة‪ ،‬وأمام هذا الوضع المضطرب أيقن‬
‫اإلنسان بضرورة تجاوز األوضاع السيئة‪ ،‬وإنشاء مجتمع ودولة لوضع حد‬
‫لصراع األفراد واستبداله بالتعاون بينهم‪ ،‬ويذهب هوبز إل أن األفراد قد‬
‫تنازلوا عن جميع حقوقهم ألن التنازل عن بعضها دون البعض اآلخر يؤدي‬
‫من جديد إل حالة الفوض واالضطراب فالشخص الذي يتنازل له األفراد‬
‫عن حقوقهم وحرياتهم يصبح حاكما يتمتع بسلطة مطلقة ألنه ليس طرفا في‬
‫العقد‪ ،‬ألن األفراد قد التزموا فيما بينهم فقط دون الحاكم بالتنازل له عن كل‬
‫حقوقهم وبتقديم الطاعة واإلذعان ألوامره وسلطته المطلقة‪ ،‬ألن ذلك أفضل‬
‫من االستمرار في حياة الفوض والحروب فاألفراد تنازلوا عن حقوقهم‬
‫لصالح إنشاء الدولة مقابل تأمين سالمتهم وملكيتهم الشخصية وجميع حقوقهم‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة‪ ،‬ص ‪.335‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي مرجع سابق ص ‪.327‬‬
‫‪240‬‬
‫داخل الحياة االجتماعية في ظل الدولة(‪ )1‬ولكنهم إذ وافقوا عل ذلك إنما‬
‫عمدوا إل نقل ال رجعة فيه لحقوقهم الفردية وعهدوا بها إل حاكم‪ :‬رئيس أو‬
‫ملك ولذلك يتمتع الحاكم في رأي (هوبز) بسلطة ديكتاتورية يجب عل‬
‫األفراد الخضوع لها وهذا ما يؤخذ عل (هوبز) ويميزه عن غيره من فالسفة‬
‫العقد االجتماعي وخاصة (لوك) (وروسو) اللذين يتفقان في تصورهم لحالة‬
‫الطبيعة حيث لم تكن في نظرهم حالة حرب واضطراب كما يقول هوبز‪ ،‬كما‬
‫أنها لم تكن مرحلة سابقة عل المرحلة االجتماعية‪ ،‬بل كانت حالة سابقة عل‬
‫الحالة السياسية التي يتمتع فيها كل فرد باستخدام القوانين الطبيعية‪ ،‬ولكن‬
‫أكبر عيب كان يصيب هذه المرحلة في رأي (لوك) هو حاجة الناس إل‬
‫قاض أو حاكم محايد يستطيع حسم النزاع بشكل عادل‪.‬‬

‫ويأخذ عل عاتقه تنفيذ القوانين‪ ،‬أما السبب الرئيسي والمباشر لظهور‬


‫الدولة في رأي (لوك) وانتقال الناس من الحالة الطبيعية‪ ،‬فهو ظهور الملكية‬
‫الفردية وضرورة وجود نظام لحمايتها‪ ،‬فاألفراد يريدون االحتفاظ بملكياتهم‬
‫الخاصة ف ي أمان واطمئنان‪ ،‬فالغرض الرئيسي للدولة والحكومة والقانون إنما‬
‫هو حماية الملكية الخاصة‪ ،‬ويفرق لوك بين المجتمع كحالة ناتجة عن العقد‬
‫االجتماعي‪ ،‬والحكومة التي يفوض المجتمع لها وظائف المراقبة السياسية‪،‬‬
‫وبهذا استطاع أن يبين كيف أن في اإلمكان فسخ الحكومة بدون القضاء عل‬
‫المجتمع المدني نفسه‪ ،‬وفسخ الحكومة أي الثورة عليها مشروع عند لوك‬
‫عكس هوبز‪ ،‬وذلك عندما يخالف الحاكم القانون ونصوص العقد وأهدافه‪،‬‬
‫والحكم في هذا األمر متروك ألكثرية المواطنين الذين يتكون منهم المجتمع‪،‬‬
‫وبهذا يرى البعض أن لوك قد وضع األساس النظري للثورتين األمريكية‬
‫والفرنسية(‪.)2‬‬

‫فهو يرى أن الحقوق الطبيعية لألفراد لم يتنازلوا إال عن جزء منها‪،‬‬


‫ولذلك فإن بقية الحقوق ال يجوز للحاك م المساس بها‪ ،‬بل يجب عليه احترامها‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.330‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي ص ‪/323‬حسن شحات‬
‫‪241‬‬
‫وإال وجبت ثورة األفراد عليه‪ ،‬فالحاكم في رأي لوك طرف في العقد عل‬
‫عكس ما يرى هوبز فب مجرد إخالله بالعقد يصبح الشعب غير ملزم بطاعته‬
‫مباشرة ولذلك اعتبر لوك أحد الرواد المساهمين في إرساء المبادئ األساسية‬
‫للدولة الديمقراطية الحديثة(‪.)1‬‬
‫أما روسو فإنه عل خالف هوبز كذلك يرى أن حالة الطبيعة لم تكن‬
‫حالة حرب‪ ،‬إال أن عدم االطمئنان الذي كان يسود هذه المرحلة وعدم ارتياح‬
‫األفراد قد أديا إل ضرورة إنشاء المجتمع المدني‪ ،‬ولم يكن من المستطاع‬
‫إنشاء حياة اجتماعية مشتركة وسلطة تنظيم موحدة إال عن طريق إبرام عقد‬
‫اجتماعي‪.‬‬
‫وهذا العقد هو الذي أدى إل وجود الدولة أو المجتمع المدني‪ ،‬إال أن‬
‫هذا العقد ال ينشئ الحكومة‪ ،‬وهكذا يفرق روسو بين الدولة والحكومة‪ ،‬ومنح‬
‫الدولة السلطان األسم الذي تفوضه للحكومة لممارسته‪ ،‬وليست السلطة إال‬
‫قوة الدولة المطلقة التي ليست إال تعبيرا عن اإلرادة العامة للمجتمع أو الشعب‬
‫الذي هو مصدر كل قوة وسلطة‪ ،‬وقد أصبحت فكرة روسو عن سلطة الشعب‬
‫أو اإلرادة العامة األساس الذي قامت عليه نظرية الديمقراطية الحديثة في‬
‫رأي الكثير من المفكرين‪ .‬وقد أكد روسو عل أن كل تغيير في الحكومة‬
‫يجب أن يخضع القتراح شعبي‪ ،‬كما قال بضرورة خضوع جميع المواطنين‬
‫للقرارات التي يوافق عليها أغلبية المقترعين وبضرورة تسجيل المقترعين‬
‫ألصواتهم واختيار هم لنوابهم في مناطق تحدد وفق عدد السكان والحدود‬
‫الجغرافية(‪.)2‬‬
‫ومهمة الدولة هي المحافظة عل حقوق األفراد ومصالحهم‪ ،‬ألنهم‬
‫تنازلوا عن حقوقهم وحرياتهم للدولة وليس لشخص أو حاكم معين كما يقول‬
‫هوبز ولوك‪ ،‬أما الحاكم فينصب أو ينتخب من طرف أفراد المجتمع المدني‬
‫داخل الدولة‪ ،‬فالدولة والمجتمع المدني سابقان عل وجود الحكومة فالحاكم ال‬
‫يتمتع بسلطة مطلقة ألن السيادة أو السلطة المطلقة هي للشعب‪ ،‬لذا فإن‬
‫مصلحة الدولة أو الحكومة يجب أن ال تتناقض مع مصالح األفراد ألنها‬
‫وسيلة ضرورية لتحقيق طموحات األفراد وحمايتهم من أي خطر داخلي أو‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة مرجع سابق‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر االجتماعي مرجع سابق ص ‪.354‬‬
‫‪242‬‬
‫خارجي‪ ،‬إذن سيادة الدولة هي سيادة طبيعية لإلنسان‪ ،‬والقانون الذي تطبقه‬
‫الدولة إنما يهدف إل ال محافظة عل هذه الحقوق‪ ،‬وخضوع الشعب للقانون‬
‫خضوع لإلرادة العامة أو إرادة الشعب(‪.)1‬‬

‫‪ – 4‬الدولة من وجهة نظر ابن خلدون‪:‬‬


‫يرى ابن خلدون أن الدولة تنشأ نتيجة الصراع عل السلطة والمنافع‬
‫« فالملك منصب شريف ملذوذ يشتمل عل جميع الخيرات الدنيوية والشهوات‬
‫البدنية والملذات النفسية‪ ،‬فيقع فيه التنافس غالبا وقل أن يسلمه أحد لصاحبه‬
‫إال إذا غلب علبه فتقع المنازعة وتفضي إل الحرب والقتال والمغالبة»(‪.)2‬‬
‫ويذهب ابن خلدون إل أن للدول أعمارا طبيعية كأعمار البشر وان‬
‫عمر الدولة ال يتجاوز في الغالب ثالثة أجيال‪ ،‬ففي الجيل األول الذي يمثل‬
‫مرحلة شباب الدولة‪ ،‬يكون المجتمع في مرحلة البداوة وفيها يتسم الشعب‬
‫بالخشونة وقوة العصبية وهذه مرحلة نشأة الدولة‪.‬‬

‫والجيل الثاني يمثل فترة كهولة الدولة‪ ،‬ويسميه حالة الملك بتحول‬
‫المجتمع من البداوة إل الحضارة ومن الشظف إل الترف ومن االشتراك في‬
‫المجد إل انفراد الواحدية وكسل الباقين عن السعي له وتمثل هذه المرحلة‬
‫استقرار الدولة ونشاط مؤسساتها وتنظيماتها‪.‬‬

‫والجيل الثالث يمثل مرحلة شيخوخة الدولة وفيه تضعف ألن الوهن‬
‫يدب في الشعب بسبب انغماسهم في الترف والنعيم وانشغالهم به عن الغزو‪،‬‬
‫مما يفقدهم عزهم ويؤدي بالدولة إل االنهيار(‪.)3‬‬

‫‪ – 5‬مفهوم الدولة من وجهة النظر الماركسية‪:‬‬


‫إن الدولة في رأي ماركس تعتبر نتيجة لتطور المجتمع التاريخي‬
‫وتعبيرا عن النمط االقتصادي السائد في المجتمع فظهور الدولة كان مقترنا‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة ص ‪.336‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬النظم االجتماعية مرجع سابق‪ ،‬ص ‪77‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬نفس المرجع السابق والصفحة‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫بتاريخ ظهور الملكية الفردية التي أدت إل تقسيم المجتمع إل طبقة مالك‬
‫وسائل اإلنتاج وطبقة المحرومين من الملكية أي البروليتاريا‪.‬‬
‫ففي المجتمع البدائي قبل ظهور الدولة كانت إنتاجية العمل منخفضة‬
‫وكان الناس ينتجون من أجل الحاجات الضرورية لالكتفاء الذاتي فقط‪ ،‬ولم‬
‫تكن هناك ملكية خاصة‪ ،‬وإنما ملكية عامة مشاعة بين جميع األفراد لذا‬
‫سميت مرحلة المشاعية البدائية‪ ،‬ولذلك لم يكن هناك أي داع لقيام الدولة‪،‬‬
‫فكان الناس متساوي ن ولم يكن هناك من يتمتع بأي امتيازات‪ ،‬ولم تكن توجد‬
‫في المجتمع طبقات‪ ،‬ولكن بعد التطور التاريخي للمجتمع البدائي ظهر هناك‬
‫فائض في اإلنتاج وظهرت طبقة استأثرت بهذا الفائض فبدأت الملكية الفردية‬
‫لألرض ووسائل اإلنتاج‪ ،‬ثم ظهرت الحاجة إل وجود الدولة‪ ،‬التي ما هي إال‬
‫التنظيم السياسي المعبر عن نفوذ الطبقة السائدة اقتصاديا فهي أداة تستخدمها‬
‫تلك الطبقة من أجل الحفاظ عل امتيازاتها ومصالحها وملكيتها الخاصة‪،‬‬
‫فالدولة الديمقراطية في رأي ماركس ما هي إال مؤسسة بورجوازية تهدف‬
‫في المقام األول إل توطيد سيطرة الطبقة الرأسمالية البروجوازية عل‬
‫مختلف الطبقات الفقيرة في المجتمع مما يؤدي إل الصراع الطبقي الذي‬
‫سيؤدي في النهاية إل تصفية الدولة ونهايتها وزوال الطبقات ومن ثمة‬
‫ظهور النظام الشيوعي ودولة المجتمع أو الشعب كله في نظر‬
‫االشتراكيين(‪.)1‬‬
‫ثالثا‪ :‬وظائف الدولة‪:‬‬
‫لقد ظهرت في العصر الحديث أنظمة سياسية جديدة كنظام الملكية‬
‫الدستورية أو نظام الجمهورية‪ ،‬كما ظهرت الدولة الرأسمالية والدولة‬
‫االشتراكية‪ ،‬وفي ظل هذه األنظمة الحديثة تحددت وظائف الدولة أكثر‪،‬‬
‫وأصبحت مقسمة ومنظمة بقوانين أساسية عل خالف ما كان عليه األمر في‬
‫عهد الدولة الثيوقراطية في العصور القديمة‪ .‬وتعتبر الوظائف األساسية في‬
‫الدولة الحديثة هي‪ ،‬فرض القيم والمعايير‪ ،‬والحكم بين األفراد إذا تنازعوا‬
‫والقيام بعمليات التخطيط والتوجيه وتوفير الحماية للمواطنين‪ ،‬فالدولة‬
‫مسؤولة عن حماية قيم المجتمع ومعاييره التي تشمل قوانينه وشرائعه‪ .‬ثم إن‬
‫الدولة مسؤولة عن حماية حقوق مواطنيها وأرواحهم وأمالكهم‪ ،‬كما أن‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة مرجع سابق ص ‪.338-337‬‬
‫‪244‬‬
‫الدولة الحديثة مسؤولة أيضا عن إدارة موارد البالد المالية والبشرية‬
‫وتوجيهها لما يخدم أهدافها المعلنة‪ ،‬ثم إنها مسؤولة عن حماية السكان من‬
‫(‪)1‬‬
‫االعتداءات الخارجية التي قد يتعرضون لها من المجتمعات األخرى‬
‫وبتطور المجتمعات الحديثة تعددت وظائف الدولة وتشعبت‪ ،‬وتهدف هذه‬
‫الوظائف في مجمله ا إل تحقيق الرفاه لجميع السكان‪ ،‬وهي الوظائف التي‬
‫تشمل القطاعات االجتماعية كالصحة والتعليم والثقافة والخدمات المرفقية‬
‫المختلفة والتي أصبحت كلها منوطة بوزارة خاصة بها ومؤسسات تشرف‬
‫عل تنفيذها والواقع أن توسع خدمات الدولة الحديثة وشمولها معظم جوانب‬
‫حياة األفراد أمر يضيق به البعض‪ ،‬ألنهم يرون أنه تدخل غير مقبول في‬
‫خصوصياتهم وتقييد لحرياتهم‪ ،‬ولذلك توجد جماعات مختلفة من المواطنين‬
‫واألحزاب والمفكرين تدعو إل تقليص دور الدولة وقصره عل الوظائف‬
‫األساسية التي البد منها لحياة المجتمع‪.‬‬

‫وقد اهتم المفكرون والفالسفة كثيرا بتحديد وظائف الدولة الحديثة فقد‬
‫ميز (مونتيسكيو) في كتابه (روح القوانين) بين ثالث وظائف أساسية للدولة‬
‫هي وظيفة السلطة التشريعية‪ ،‬والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية‪:‬‬

‫ا ‪ -‬السلطة التشريعية (البرلمان) تشرع وتسن القوانين‬


‫ب – السلطة التنفيذية ‪ :‬وهذه السلطة تمثلها (الحكومة) تقوم بتنفيذ‬
‫القوانين والمحافظة عل األمن بواسطة أجهزة اإلدارة والشرطة والجيش‬
‫وهي المسؤولة عن حماية وسيادة الدولة‪.‬‬

‫جـ ‪ -‬السلطة القضائية‪ :‬وهي التي تفصل في النزاعات بين‬


‫المواطنين وبينهم وبين الدولة‪ ،‬فتعتبر الحرية والمساواة واألمن وغيرها من‬
‫الحقوق التي تضمنها الدولة لمواطنيها رهينة بالفصل بين السلطات الثالث‬
‫مثل ما أكد (مونتسسكيو) وغيره من المفكرين فتدخل الحكومة في نشاط‬
‫وصالحيات السلطة التشريعية أو القضائية هو أكبر خلل وخطر عل دولة‬
‫القانون‪ ،‬حيث يؤدي إل إهدار حقوق المواطنين وسلب حرياتهم‪ ،‬فال يجوز‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬النظم االجتماعية ص ‪.78‬‬
‫‪245‬‬
‫أن تصدر السلطة التنفيذية األحكام‪ ،‬كما ال يجوز أن تعرقل تنفيذ األحكام‬
‫الصادرة عن السلطة القضائية أو التشريعية(‪.)1‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬ما الدولة وما مقوماتها األساسية؟‬
‫‪ – 2‬ما أهم النظريات في تفسير نشأة الدولة؟‬
‫‪ – 3‬ما وظائف الدولة الحديثة؟‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفكر اإلسالمي والفلسفة ص ‪/323‬المغرب‬
‫‪246‬‬
‫أشكال النظام السياسي‬

‫إذا كان "اإلنسان كائنا اجتماعيا بالطبع" فهذا يستلزم أنه "سياسي‬
‫بالطبع" أيضا إذ ال يستطيع كيان اجتماعي أن ينشأ ويستمر في الوجود من‬
‫غير سياسة تنظ م شؤون األفراد داخل المجتمع لكن هذا األمر المسلم به ال‬
‫يحدد طبيعة التنظيم‪ ،‬وال نوع الحكم‪ ،‬أو نوع العالقة بين الحاكمين‬
‫والمحكومين‪.‬‬
‫والواقع أن المجتمعات اإلنسانية عرفت دائما تنوعا في أساليب الحكم‬
‫غير أن هذا التنوع ال يخرج عن اتجاهين عامين‪ :‬اتجاه دكتاتوري قائم عل‬
‫انفراد الهيئة الحاكمة بتسيير دفة الحكم من غير اشراك مؤسسات وقنوات‬
‫متفق عليها مسبقا واتجاه ديمقراطي‪.‬‬
‫وعل الرغم مما تتمتع به الديمقراطية من مزايا إنسانية فإن تطبيقها‬
‫يقع وفق نماذج مختلفة فما هي النظم الدكتاتورية؟ وما الديمقراطية؟ وما‬
‫نماذجها؟‬

‫الدكتاتورية‪:‬‬
‫الدكتاتورية مفهوم يراد به كل نظام ال يعترف بالديمقراطية وال يتبن‬
‫مبدأ الفصل بين السلطات ‪ ،‬ويدخل فيه بالطبع جميع األنظمة االستبدادية‬
‫الفردية‪ ،‬ويتحمل هذا النظام مسؤولية كل فساد وشر يحدث في الدولة‪ ،‬كما‬
‫يتحمل مسؤولية كل أنواع التخلف في جميع قطاعات المجتمع‪.‬‬

‫في البداية يظهر أن النظم االستبدادية تتأسس عل العنف وتعتمد عل‬


‫القوة المادية الرادعة كما يبين (ماكيافللي) في "األمير" و(هوبس) في‬
‫"الليفياتوم"‪ .‬والعالقة هنا بين الحاكم والمحكوم عالقة خوف وترهيب كما هو‬
‫معروف ولو بدا ظاهريا نوع من االنضباط في المجتمع‪ ،‬فهو من قبيل‬
‫التصنع والخوف من قمع السلطة التي تفرض قوانينها‪ ،‬فالقوة هي ضمانة‬
‫االنضباط وبشكل إجمالي فإن األنظمة التي ال تلتزم الخيار الديمقراطي تتهم‬
‫بأنها أنظمة شمولية وتوصف بشت األوصاف السلبية‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫ويغالي بعضهم بالقول إن أي نظام حكم ال يطبق الديمقراطية هو‬
‫نظام حكم شمولي‪ ،‬وعليه فيكون نظام الحكم إما أن يكون ديمقراطيا وإما أن‬
‫يكون شموليا‪.‬‬

‫وبهذا التوصيف التعسفي ألنظمة الحكم يتم إسقاط هذا الوصف ليس‬
‫عل أنظمة الحكم الوضعية الحالية وحسب‪ ،‬بل ويعمم عل جميع أنظمة‬
‫الحكم التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ‪ ،‬فكأن الحضارات والثقافات عل‬
‫مر العصور لم تعرف سوى هذين النظامين‪.‬‬

‫الديمقراطية‪:‬‬

‫تتركب كلمة ديمقراطية من لفظين هما‪( :‬ديموس) )‪ (Démos‬بمعن‬


‫جمهور أو الشعب و(كراتوس) )‪ (Kratos‬بمعن حكم‪ .‬فهي نظام سياسي‬
‫يدعو إل تمكين الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه‪ .‬وعل هذا األساس‬
‫فالديمقراطية هي الحالة القانونية التي تكون فيها السيادة المطلقة لإلرادة‬
‫العامة للمواطنين‪.‬‬
‫وتمثل ديمقراطية طموح الشعب في أن يقلع حكامه عن الظلم‬
‫واالستبداد وأن يسعوا إل احترام حقوق المحكومين وأن يراعوا المصلحة‬
‫العامة‪.‬‬

‫ويرى (كورفيتش) في الديمقراطية محاولة للتأليف بين تيارين‬


‫متضادين هما الفردية والعالمية‪ .‬ويظهر ذلك عل مختلف المستويات‪:‬‬
‫فالمواطن يريد المحافظة عل حريته ويتعاون مع غيره من األفراد‬
‫والمؤسسة تعمل عل إبقاء ذاتيتها مصانة وتتعامل في نفس الوقت مع‬
‫مثيالتها والحكومة تدافع عن استقاللها في إطار التعاون مع غيرها من الدول ‪.‬‬
‫ويعد هذا االتجاه المزدوج من أهم عوامل انتشار الديمقراطية في العصور‬
‫الحديثة‪.‬‬

‫أما الديمقراطية التي تعني حكم الشعب أو الحكم وفق إرادة‬


‫المحكومين من غير قهر أو خوف‪ .‬ونظام الحكم فيها يستهدف انسجاما‬
‫‪248‬‬
‫وانضباطا مبنيا عل التعاقد والتعاون الذي يحقق تكامال بين مطامح الفرد في‬
‫الحرية والكسب وبين مطامح الجماعة والعدالة والمساواة‪.‬‬
‫واإلشكال يكم ن في كيفية التوفيق بين نوازع اإلنسانية وحب التسلط‬
‫والتفوق لدى بعض األفراد والجماعات التي هي دائما أقلية‪ ،‬وبين مبدأ‬
‫المساواة في الحقوق والواجبات كأساس لرض األغلبية‪.‬‬

‫ومحاولة حل اإلشكال يصطدم بصعوبات نفسية أخالقية بالدرجة‬


‫األول ‪ ،‬فمن الناحية النفسية كيف يمكن حصول تراض يوحد التصورات‬
‫والقيم في جماعة من األفراد يتمايزون بفوارق فردية في شت مناحي الفكر‬
‫والسلوك‪ ..‬؟ ومن يضمن التزام أفراد وجماعات في سلوكهم اليومي بما أقرته‬
‫األغلبية‪ ،‬خصوصا وأن الديمقراطية تضمن حق االختالف والتمايز في‬
‫التفكير والتعبير‪.‬‬

‫أما من الناحية األخالقية فإن أصعب ما يواجه تحقيق الديمقراطية هو‬


‫غياب الفضيلة التي تعني جملة الخصال الضرورية لقيام مجتمع يسود فيه‬
‫النظام والحرية في نفس الوقت‪ .‬واهم هذه الخصال االحترام المتبادل بين‬
‫األفراد والجماعات‪ ،‬واالعتراف المتبادل بأن للجميع نفس الحقوق والواجبات‬
‫ضم ن قانون عام يطبقه الشعب احتراما واقتناعا بقيمته األخالقية وليس خوفا‬
‫أو تحايال‪ ،‬ونماذج الحكم الديمقراطي توضح ذلك‪.‬‬

‫إن أقدم نموذج للحكم الديمقراطي هو الذي حاول اليونان القدماء‬


‫تحقيقه في بعض مدنهم‪ ،‬حيث كان المواطنون يشاركون في سن القانون‬
‫واختيار الحكام مباشرة في ساحة المدينة‪ ،‬وفق منطق األغلبية‪ ،‬لكن األغلبية‬
‫ليست أغلبية المح كومين‪ ،‬بل أغلبية داخل أقلية تتمتع بحق المواطنة من‬
‫الرجال المنحدرين من عائالت عريقة في المدينة‪ ،‬وبهذا االمتياز الطبقي‬
‫أخفق المشروع الديمقراطي كما تصوره الفكر اليوناني‪ .‬ومرد اإلخفاق كما‬
‫هو واضح يعود إل سيطرة األقلية عل األغلبية واستغاللها‪.‬‬

‫أما في العصر الحديث فإن مفهوم الديمقراطية تفرع إل تيارين‪:‬‬

‫‪249‬‬
‫أوال‪ :‬تيار الديمقراطية السياسية – الليبرالية التي تستهدف تحقيق‬
‫الحرية عل أكمل صورة تمكن اإلنسان من تحقيق مطامحه عل أقص حد‬
‫ممكن وفق مبادئ دستورية انبثقت من اجتهاد نواب الشعب في مختلف‬
‫المستويات‪.‬‬

‫والصعوبة التي واجهت هذا التيار هي كيفية التوفيق بين األهداف‬


‫المنصوص عليها في الدستور الذي يستمد منه الحكام شرعيتهم وبين وضعية‬
‫األغلبية التي تعاني من سيطرة األقلية التي تمتلك زمام األمور االقتصادية‬
‫والسياسية واإلعالمية‪ ،‬وبذلك تكون الديمقراطية شكلية تخفي إجحافا في حق‬
‫األغلبية‪ ،‬بشكل أو بآخر كما حصل في أوربا الغربية وأمريكا وغيرها‪...‬‬

‫ثانيا‪ :‬تيار الديمقراطية االجتماعية التي تتبن النظام االشتراكي الذي‬


‫يستهدف تحقيق العدالة االجتماعية إلسعاد األغلبية ماديا ومعنويا وذلك‬
‫بالقضاء عل نوازع األنانية والطبقية وغيرها مما يقف عمليا في وجه‬
‫المساواة في الحقوق والواجبات في إنتاج وتوزيع الخيرات‪.‬‬

‫لكن هذا النظام واجه بدوره صعوبات نفسية وأخالقية سرعان ما‬
‫تحولت إل أزمات اقتصادية اجتماعية فتتكاثر القرارات البيروقراطية ويقل‬
‫المردود الفعلي لإلنتاج‪ ،‬ويسوء التوزيع‪ ،‬وتظهر الطبقية ابتداء من الذين‬
‫نصبوا أنفسهم عل إدارتها وهكذا تؤول الديمقراطية بالمفهوم االشتراكي إل‬
‫شبه ما آلت إليه الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي‪.‬‬

‫إن تحقيق الديمقراطية يستلزم بعث القيم األخالقية ابتداء من تكوين‬


‫الفرد تكوينا ديمقراطيا في تفكيره وتقويمه لألشياء وتعامله معها‪.‬‬

‫الحكم في اإلسالم‪:‬‬

‫‪250‬‬
‫الحكم في اإلسالم والملك والسلطان بمعن واحد هو السلطة التي تنفذ‬
‫األحكام الشرعية عل الناس في دار اإلسالم‪ ،‬أو كما يقول بعض الفقهاء هو‬
‫عمل اإلمارة التي أوجبها الشرع عل المسلمين لدفع التظالم وفصل التخاصم‪،‬‬
‫وهي عينها والية األمر‪ ،‬يقول تعال ‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا‬
‫الرسول وأول األمر منكم﴾ والطاعة هنا متعلقة برعاية شؤون الرعية بالفعل‬
‫من قبل أولي األمر‪ ،‬أي من قبل األئمة أو الخلفاء‪ ،‬وهذا المعن تؤكده‬
‫عشرات النصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة وذلك كقوله تعال ‪:‬‬
‫﴿فاحكم بينهم بما انزل هللا وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق﴾ وقوله‪:‬‬
‫﴿وان احكم بينهم بما انزل هللا وال ت تبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن‬
‫بعض ما أنزل هللا إليك﴾‪.‬‬

‫فثمة فرق كبير بين الحكم بالهوى وبين الحكم بالشرع في نظام الحكم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وأصل الحكم في اإل سالم كما هو معلوم يقوم عل أساس العدل‬
‫مصداقا لقوله تعال ‪﴿ :‬وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾‪ .‬يقول‬
‫الماوردي في مقدمة كتابه األحكام السلطانية‪" :‬إن هللا جلت قدرته ندب لألمة‬
‫زعيما خلف به النبوة‪ ،‬وناط به الملة‪ ،‬وفوض إليه السياسة‪ ،‬ليصدر التدبير‬
‫عن دين مشروع‪ ،‬وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع ‪ ،‬فكانت اإلمامة أصال عليه‬
‫استقرت قواعد الملة‪ ،‬وانتظمت به مصالح األمة‪ ،‬حت استثبتت بها األمور‬
‫العامة‪ ،‬وصدرت عنها الواليات الخاصة‪ ،‬فلزم تقديم حكمها عن كل حكم‬
‫سلطاني‪ ،‬ووجب ذكر ما اختص بنظرها عل كل نظر ديني لترتيب أحكام‬
‫الواليات عل نسق متناسب األقسام متشاكل األحكام"‪.‬‬
‫ويحدد الماوردي لإلمام عشر مهام هي‪:‬‬
‫‪ -‬حفظ الدين‬
‫‪ -‬تنفيذ األحكام‬
‫‪ -‬حماية البيضة‬
‫‪ -‬إقامة الحدود‬
‫‪ -‬تحصين الثغور‬
‫‪ -‬جهاد المعاندين لإلسالم‬
‫‪ -‬جباية الفيء والصدقات‬

‫‪251‬‬
‫‪ -‬تقدير العطايا‬
‫‪ -‬استكفاء األمانة وتقليد النصحاء‬
‫‪ -‬مباشرة األمور وتصفح األحوال‪.‬‬

‫وفي كل األحوال فإن دولة اإل سالم هي دولة الناس الذين يجتهدون‬
‫فيصيبون ويخطئون عبر الشورى المتخصصة والشورى العامة التي تجعل‬
‫الحاكم في خدمة الشعب ووكيال عنه في إنفاذ حكم هللا ‪ ،‬فهي حكومة يحكمها‬
‫قانون يتساوى أمامه كل مواطني الدولة بصرف النظر عن جنسهم‬
‫واعتقادهم‪ .‬ال تختلف آليات سيرها عن الديمقراطيات المعاصرة إال‬
‫بمرجعيتها الخلقية العلوية مرجعية الشريعة‪ .‬وما من دولة ديمقراطية أو غير‬
‫ديمقراطية إال وتتوفر في أساسها عل فلسفات وقيم تمثل الموجهات الكبرى‬
‫لسياساتها بصرف النظر عن مأتاها ارضيا كان أم سماويا صريحا كان أم‬
‫متضمنا من مثل مبادئ حقوق اإلنسان أو مبادئ القانون الطبيعي‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬عل أي أساس تتوزع أنظمة الحكم؟‬
‫‪ – 2‬أيهما أفضل النظام الديكتاتوري؟ أم الديمقراطي؟‬
‫‪ – 3‬ما طبيعة الحكم في اإلسالم؟‬

‫‪252‬‬
‫الحقوق الطبيعية والمدنية في اإلعالن العالمي‬
‫لحقوق اإلنسان‬

‫عل إثر الحرب العالمية الثانية وما خلفته من مآسي ومعاناة تأثرت‬
‫بها مجموعات كبيرة من الناس بدأ يتبلور خطاب جديد يسع إل وضع حد‬
‫لتلك المعاناة أو قل التخفيف منها‪ ،‬وهكذا اعتمدت الجمعية العامة لألمم‬
‫المتحدة ضمن هذا السياق ما بات يعرف باإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان في‬
‫‪ 32‬كانون األول دجمبر ‪ ، 3308‬وبعد هذا البحث التاريخي طلبت الجمعية‬
‫العامة من البلدان األعضاء أن تدعو لنص اإلعالن وأن تعمل عل نشره‬
‫وقراءته وشرحه وال سيما في المدارس والمعاهد التعليمية وقد ورد في مقدمة‬
‫هذا اإلعالن ما نصه‪ " :‬لما كان االعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع األسر‬
‫البشرية وبالح قوق المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسالم في‬
‫العالم‪ ،‬ولما كان تناس حقوق اإلنسان وازدراؤها قد أفضيا إل أعمال همجية‬
‫آذت الضمير اإلنساني‪ ،‬وكان غاية ما يرنو إليه البشر انبثاق عالم يتمتع فيه‬
‫الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة‪ ،‬ولما كان من‬
‫الضروري أن يتول القانون حماية حقوق اإلنسان لكي ال يضطر المرء آخر‬
‫األمر إل التمرد عل االستبداد والظلم‪ ،‬ولما كانت شعوب األمم المتحدة قد‬
‫أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق اإلنسان األساسية وبكرامة الفرد‪،‬‬
‫فإن الجمعية العامة تنادي بهذا اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان عل أنه‬
‫المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب واألمم حت يسع‬
‫كل فرد وهيئة في المجتمع إل تطبيق هذا اإلعالن‪ .‬وإذا كانت تلك بعض‬
‫مالمح ديباجة هذا اإلعالن فإن اإلشكالية التي نسع إل استجالئها هي‬
‫طبيعة الحقوق الطبيعية والمدنية التي منحها هذا اإلعالن لإلنسان في ظل‬
‫حوار أصيل في الفكر اإلنساني حول الطبيعة اإلنسانية وما منحت اإلنسان‬

‫‪253‬‬
‫من حقوق ال مجال إل التخلي عنها ولعل الفكر السياسي الحديث جاء‬
‫ليوضح األبعاد اإلشكالية لهذا الموضوع كيف ذلك؟‬

‫كان من نتائج تقدم العلم الحديث "الرياضيات والفيزياء" خاصة في‬


‫القرنين ‪ 36‬و ‪ 37‬أن تبلورت مع (نيوتن) النظرة اآللية للطبيعة التي زعزعت‬
‫كامل النظام المعرفي السابق وخلخلت سائر التصورات المعرفية والفلسفية‬
‫السابقة مما كانت نتيجته ظهور ما عرف بعصر التنوير والعقل‪.‬‬

‫لقد صاغ (نيوتن) نظرية الجاذبية العامة في صورة قانون رياضي‬


‫عقلي جعل نظام الطبيعة ونظام العقل مظهرين لحقيقة واحدة فأصبح مفهوم‬
‫الطبيعة ال يعني األشياء الجامدة المعروضة أمام اإلنسان‪ ،‬بل أصبح يعني‬
‫النظام العقلي لألشياء بوصفه نظاما كليا يشمل كل ما في الطبيعة بما في ذلك‬
‫اإلنسان نفسه‪ ،‬ولذلك صار الناس يطاب قون بين ما هو طبيعي وما هو عقلي‬
‫بمعن أن كل ما في الطبيعة يخضع لنظام دقيق‪ ،‬من هنا بدأت فكرة القانون‬
‫الطبيعي تكتسي دالالت جديدة واضحة‪.‬‬

‫لقد ألف الفيلسوف اإلنجليزي (اكرستيان ولف) كتابا يحمل عنوانا ذا‬
‫داللة خاصة "القانون الطبيعي مدروسا حسب المنهج العلمي" ويعتبر (ولف)‬
‫أن القانون الطبيعي جزء من الطبيعة اإلنسانية المغروزة في كل فرد بشري‪،‬‬
‫وعل أساسه يتم التمييز بين الحق والواجب‪ ،‬ذلك ألن فكرة ما هو شرعي‬
‫قانوني وما هو الزم يجب القيام به أي فكرة الحق والواجب" وهي فكرة من‬
‫صميم الجوهر اإلنساني نفسه‪ ،‬من هنا كانت هذه الفكرة كلية عالمية يقول ‪:‬‬
‫"إن الحق الطبيعي أعني الفطري في اإلنسان هو حق مشتق من إلزام طبيعي‬
‫بحيث إنه مت فرضنا هذا اإللزام وجب وجود هذا الحق"‪ ،‬وبما أن الطبيعة‬
‫أو جوهر اإلنسان تفرض بعض الواجبات واإللزامات فهي بالنتيجة تقرر‬
‫بعض الحقوق‪ ،‬وبما أن الطبيعة أو جوهر اإلنسان شيء مشترك بين جميع‬

‫‪254‬‬
‫الناس فإن كل قانون طبيعي هو قانون كلي عالمي لم يكتسبه اإلنسان بل‬
‫يحمله مع مجيئه إل هذا العالم‪.‬‬

‫في هذا اإلطار يقول (مونتسكيو)‪" :‬إن الكائنات الخاصة المزودة‬


‫بالعقل والذكاء يمكن أن تتوفر لها قوانين سنتها لنفسها ولكن يمكن أيضا أن‬
‫تكون لديها قوانين لم تسن ها هي وقبل أن توجد كائنات عاقلة‪ ،‬وإذن وقبل أن‬
‫تكون هناك قوانين وضعية كانت هناك عالقات عادلة ممكنة"‪ ،‬وإذا كان‬
‫القانون العلمي الذي يجمع شتات الظواهر في عالقة كلية ثابتة مضطردة هو‬
‫القانون المعبر عن حقيقة الطبيعة فإن هناك في الحياة اإلنسانية ما هو بمثابة‬
‫طبيعتها وقانونها الكلي‪ :‬إنه الطبيعة اإلنسانية وأيضا المثل العالمية والتي‬
‫يجدها اإلنسان في كل مكان وزمان‪.‬‬

‫وهكذا افترض فالسفة الفكر السياسي الحديث في أوروبا في القرنين‬


‫‪ 38 -37‬وجود "حالة طبيعية" لإلنسان بعضهم جعلها واقعا بشريا سابقا‬
‫للتنظيم االجتماعي والسلطة السياسية بينما أراد من خاللها آخرون التعبير‬
‫فقط عما يمكن أن يكون عليه اإلنسان إذا هو لم يخضع لسلطة قانون أو‬
‫حكومة‪ ،‬يقول (جون لوك)‪" :‬لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا‬
‫ونستنتجها من أصلها يجب علينا ان نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عليها‬
‫جميع األفراد وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم أفعاله والتصرف‬
‫بأشخاصهم وممتلكاتهم بما يظنون أنه مالئم لهم ضمن قيود قانون الطبيعة‬
‫دون أن يستأذنوا إنسانا أو يعتمدوا عل إرادته وهي أيضا حالة المساواة‬
‫حيث السلطة والت شريع متقابالن ال يأخذ الواحد أكثر من اآلخر إذ ليس هناك‬
‫حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إل النوع والرتبة نفسها المتمتعة‬
‫كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع‬
‫بعضهم اآلخر"‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫حالة الطبيعة أيضا هي حالة الحرية والمساواة التي يكون عليها الناس‬
‫قبل أن تقوم فيهم سلطة تحد من حقهم في ممارستها‪ ،‬وخالصة فكرة الحقوق‬
‫الطبيعية أن اإلنسان استق هذه الحقوق من الطبيعة ذاتها فهي إذن تتأسس‬
‫عل مرجعية سابقة عل كل مرجعية ثقافية كانت أو حضارية‪ ،‬لكن (جان‬
‫جاك روسو) بين السياق الذي يتم فيه االنتقال من الحقوق الطبيعية إل‬
‫الحقوق المدنية‪ ،‬وملخص فكرة روسو أن اإلنسان ال يستطيع أن يعيش‬
‫بمفرده‪ ،‬فهو كائن اجتماعي لذلك تحتم اجتماعه مع غيره من بني جنسه‪ ،‬ولما‬
‫كانت إرادتهم تختلف وتتضارب فإن اجتماعهم ال يستقيم إال إذا كان مبنيا‬
‫عل تعاقد فيما بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه لصالح‬
‫الجماعة وبذلك تتحول تلك الحقوق الطبيعية إل حقوق مدنية وتبق الحرية‬
‫والمساواة هما جوهر هذه الحقوق‪ .‬وهكذا يرى روسو أن تنازل الناس عن‬
‫حقوقهم لإلرادة الجماعية التي تجسدها الدولة بموجب هذا العقد االجتماعي‬
‫هو تنازل شكلي‪ ،‬الغاية منه إقرار الحق بالحرية والمساواة‪ ،‬لكن (توماس‬
‫هوبس) ذهب مذهبا مغايرا لمفهوم العقد االجتماعي عند روسو وذلك ألنه‬
‫يصدر من فهم مغاير للطبيعة اإلنسانية ذاتها يقول‪" :‬اإلنسان ذئب ألخيه‬
‫اإلنسان وأناني وشرير بطبعه" ولذلك يتحتم وجود سلطة غاشمة تسلبه جميع‬
‫حقوقه مقابل حق البقاء ولذلك أكد هوبس عل أهمية هذا العقد ومنع الثورة أو‬
‫التمرد عليه‪.‬‬

‫وصفوة القول في كل ما سبق أن اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان‬


‫استق الحقوق الطبيعية والمدنية من الفكر السياسي األوروبي الذي أكد وجود‬
‫حقوق طبيعية هي من صميم الطبيعة اإلنسانية تجب حمايتها وضمانها‬
‫بتحويلها إل حقوق مدنية مضمونة بالقانون أو مفروضة بإرادة السلطة‬
‫ليشكل بذلك اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان وعيا عالميا متقدما بما يجب أن‬
‫يتوفر من ضمانات لهذه الحقوق‪ ،‬بيد أن الغرب وهو يرفع هذه الشعارات‬
‫الجميلة بل ويخوض من اجلها الحروب تارة فإنه يمارس أحيانا أبشع أنواع‬

‫‪256‬‬
‫الظلم والقهر ضد األمم والشعوب ضاربا عرض الحائط بمضامين هذا‬
‫اإلعالن التي ال وزن لها في االعتبار إال حينما تخدم مصالح الدول الكبرى‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن اإلسالم قد دافع عن حقوق اإلنسان وأكد‬
‫عل الحرية والمساواة بين البشر {كلكم آلدم وآدم من تراب} وذلك منذ أكثر‬
‫من ‪ 14‬قرنا من الزمن ليقدم بذلك النموذج الحضاري الحقيقي للقيم اإلنسانية‬
‫الرفيعة بعيدا عن الغايات النفعية والنظرة الضيقة‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬ما ال سياق التاريخي الذي ظهر فيه اإلعالن العالمي لحقوق‬
‫اإلنسان؟‬
‫‪ – 2‬ما المرجعية الفكرية التي استند عليها هذا اإلعالن؟‬
‫‪ – 3‬كيف تحقق االنتقال من الحقوق الطبيعية إل الحقوق المدنية؟‬
‫‪ – 4‬هل ترى في هذا اإلعالن نوعا من االقتباس من التشريع‬
‫اإلسالمي؟‬

‫‪257‬‬
‫النصوص‬

‫‪258‬‬
259
‫النص )‪:(1‬‬
‫الدولة‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫اعتبرت الفلسفات السياسية دوما الدولة شرط تحقيق الفضيلة والقيم‬
‫األخالقية العادلة (افالطون – أرسطو)‪ .‬أو هي تجسيد الحرية (هيغل)‪ .‬وهي‬
‫لذلك ضرورة ال غن عنها للتجمع البشري‪ .‬في حين اتجهت المقاييس‬
‫الماركسية إل تبيان كيف أن الدولة ليست سوى تجسيد هيمنة الطبقة المستغلة‬
‫وبزاول الصراع الطبقي تضمحل‪ .‬ذلك ما بينه نص (انجلس)‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫تأخذ (البرولتاريا)‪ (1‬سلطة الدولة وتحول وسائل اإلنتاج في بادئ‬


‫األمر إل ملك للدولة‪ ،‬ولكنها تقضي بذلك عل نفسها بوصفها (بروليتاريا)‪.‬‬
‫تقضي بذلك عل كل الفوارق الطبقية وجميع التناقضات الطبقية‪ ،‬وعل‬
‫الدولة في الوقت نفسه بوصفها دولة‪ .‬إن المجتمع الذي وجد وال يزال‪ ،‬والذي‬
‫يتحرك ضمن التناقضات الطبقية كان بحاجة إل الدولة‪ ..‬أي إل منظمة‬
‫للطبقة المستثمرة لإلبقا ء عل ظروف إنتاجها الخارجية‪ ،‬وإن بوجه خاص‪،‬‬
‫لتبق الطبقة المستثمرة قسرا في ظروف الظلم الناجمة عن طريقة اإلنتاج‬
‫القائمة (عبودية‪ ،‬قنانة‪ ،‬عمل مأجور) ‪ ..‬لقد كانت الممثل الرسمي للمجتمع‬
‫بأكمله ‪ ،‬ولكنها لم تكن كذلك إال بمقدار ما كانت دولة تلك الطبقة التي تمثل في‬
‫عصرها منفردة المجتمع بأكمله‪ .‬في العصور القديمة كانت دولة مالك العبيد‪،‬‬
‫مواطني الدولة‪ ،‬وفي القرون الوسط كانت دولة األعيان (اإلقطاعيين)‪،‬‬
‫وهي في زمننا دولة البرجوازية))‪.(2‬‬
‫وفي نهاية األمر عندما تصبح الدولة حقا ممثل المجتمع بأكمله‪ .‬عندئذ‬
‫تجعل نفسها أمرا ال لزوم له‪ .‬وحين ال تبق أية طبقة اجتماعية ينبغي إبقاؤها‬
‫في الظلم‪ ،‬وحين تزول مع السيطرة الطبقية والصراع في سبيل البقاء‬
‫الفردي‪ .‬هذا الصراع الناجم عن الفوض الراهنة في اإلنتاج‪ .‬تلك‬
‫‪260‬‬
‫االصطدامات وأعمال الشطط (التطرف) الناتجة عن هذا الصراع‪ ،‬ال يعود‬
‫هناك ما ينبغي قمعه‪ .‬ال تبق ضرورة لقوة خاضعة للقمع للدولة‪ .‬وأول عمل‬
‫تبرز فيه الدولة حقا بوصفها ممثل المجتمع بأكمله – تلك وسائل اإلنتاج باسم‬
‫المجتمع هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة ‪ ..‬وعندئذ يصبح‬
‫تدخل الدولة في العالقات االجتماعية أمرا ال لزوم له في ميدان بعد آخر‬
‫ويخبو من تلقاء نفسه‪ .‬وبدال من حك م الناس ينشأ توجيه األمور وإدارة سير‬
‫اإلنتاج‪ ،‬الدولة ال (تلغ )‪ ،‬إنها تضمحل‪.‬‬

‫انجلس‪ :‬ضد ديهرنغ‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ (1‬البروليتريا‪ :‬طبقة العمال المأجورين المحرومة من ملكية وسائل اإلنتاج‪.‬‬
‫‪ (2‬البرجوازية‪ :‬الطبقة التي تملك وسائل اإلنتاج وتعيش عل حساب الشغيلة‪.‬‬

‫"‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬هل يمكن تصور مجتمع بدون سلطة؟‬
‫‪ –2‬هل ترى في المحافظة عل الدولة تجذيرا لروح االستبداد؟‬
‫‪ –3‬في النص إشارة إل إمكانية قيام مجتمع ال وجود فيه للدولة‪،‬‬
‫ما خصائص هذا المجتمع في نظر (انجلس)؟‬

‫‪261‬‬
‫النص )‪:(2‬‬
‫نشأة الدولة‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫كيف نشأت فكرة السلطة السياسية بين البشر؟ سؤال تناوله الفالسفة‬
‫منذ عصور متقدمة‪ ،‬وتحدث بعضهم عن األصل الديني للسلطة السياسية‪،‬‬
‫وذهب رأي آخر إل القول‪ :‬بأن القوة والسيطرة هي أصل السلطة السياسية‪.‬‬
‫أما (روسو) فيتبن وجهه نظر مفادها أن السلطة السياسية لم تكن إال‬
‫تطورا حاسما للسلطة والمكانة االجتماعية داخل األسرة حيث يتحول األب‬
‫إل حاكم وتتحول األسرة إل كيان سياسي‪ ،‬ويتنازل األبناء بمحض إرادتهم‬
‫ورضاهم عن استقاللهم بأنفسهم‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫مجتمع األسرة أقدم المجتمعات كلها‪ ،‬وهو وحده المجتمع الطبيعي‪:‬‬


‫ومع ذلك فإن األوالد ال يدوم ارتباطهم بابيهم إ ال طول الزمان الذي فيه‬
‫يحتاجون إليه بضمان بقائهم‪ ،‬وحالما تنقضي هذه الحاجة‪ ،‬تنحل تلك الرابطة‬
‫الطبيعية‪ .‬فاألوالد‪ ،‬وقد أصبحوا معفيين من الطاعة التي كانت مفروضة‬
‫عليهم ألبيهم‪ ،‬واألب‪ ،‬وقد أعفي من ضروب العناية التي كان ملتزما ببذلها‬
‫لهم‪ ،‬ينالون كلهم عل السواء استقاللهم بأنفسهم‪ ،‬وإذا حدث أن ظلوا مؤتلفين‬
‫مجتمعين‪ ،‬فال يكون هذا طبيعيا كما كان من قبل ‪ ،‬بل بمحض إرادتهم‬
‫ورضاهم‪ ،‬كما أن األسرة نفسها ال يدوم بقاؤها إال بالتراضي واالتفاق‪.‬‬
‫هذه الحرية الجماعية وليدة طبيعة اإلنسان والزم من لوازمها‪ ،‬وأول‬
‫نواميسها أن يسهر المرء عل بقاء ذاته‪ .‬وأول ما يتخذه من ضروب العناية‬
‫ما كان منها واجبا عليه لنفسه‪ ،‬وال يكاد يبلغ سن الرشد‪ ،‬إذ يصبح حكما عل‬
‫الوسائل الخاصة التي من شأنها ضمان بقائه‪ ،‬حت يصير بهذا سيد نفسه‪.‬‬
‫«فاألسرة إ ذن‪ ،‬هي النموذج األول للجماعات السياسية إذا ما أريد‬
‫وصفها بهذا الوصف‪ :‬فالرئيس هو صورة األب‪ .‬والشعب صورة األوالد؛‬
‫وكلهم – وقد ولدوا متساوين وأحرارا – ال يسألون عن حريتهم إال لمنفعتهم‪.‬‬
‫‪262‬‬
‫والفرق كل الفرق‪ ،‬بين هذا وذلك‪ ،‬هو أن حب األب ألوالده‪ ،‬في األسرة‪،‬‬
‫ينقده ثمن ما يبذله لهم من ضروب العناية‪ ،‬وأن لذة التمتع بالسلطة في الدولة‬
‫تقوم مقام ذلك الحب الذي يكنه الرئيس لشعبه»‪.‬‬

‫روسو‬

‫"‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬هل يمكن اعتبار الرابطة الطبيعية بين األفراد أقـــوى من‬
‫الروابط االجتماعية المكتسبة؟‬
‫‪ –2‬هل توافق (روسو) في قوله‪ :‬إن ارتباط األبناء بابيهم نتيجـة‬
‫الحاجة إليه؟‬
‫‪ –3‬حدد موقف (روسو) من الحرية انطالقا من النص‪.‬‬
‫‪ –4‬كيف ترجع التنظيمات السياسية إل العالقة القائمـة بين أفراد‬
‫األسرة؟‬

‫النص )‪:(3‬‬
‫مقومات األمة‬
‫‪263‬‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫يختلف المفكرون في تحديد العوامل المكونة لألمة‪ ،‬و(ساطع‬
‫الحصري))‪ (1‬يحصرها في عاملين اثنين هما اللغة والتاريخ معتمدا عل‬
‫براهين يقدمها في النص‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫إن أول ما يخطر عل البال في هذا الصدد‪ :‬هو وحدة األصل والمنشأ‪،‬‬

‫يزعمون أن‬ ‫واحد)‪(2‬‬ ‫يظن الناس عادة أن كل أمة من األمم تنحدر من أصل‬

‫جميع أفراد األمة يكونون بمثابة األشقاء الذين ينحدرون من صلب أب واحد‪.‬‬
‫غير أن هذا الظن ال يستند إل أساس صحيح‪ ،‬ألن جميع األبحاث العلمية‬
‫المستمدة من حقائق التاريخ ومن مكتشفات علم اإلنسان‪ ،‬ال تترك مجاال للشك‬
‫في أنه ال توجد عل وجه البسيطة أمة تنحدر من أصل واحد حقيقة‪.‬‬

‫ونستطيع أن نقول –بكل جزم وتأكيد – إن وحدة األصل والدم في أية‬


‫أمة من األمم‪ ،‬إنما هي من األوهام التي استولت عل العقول واألذهان‪ ،‬من‬
‫غير أن تستند إل برهان‪ .‬ومع هذا يجدر بنا أن نالحظ أن االعتقاد بوحدة‬
‫األصل‪ ،‬يعمل عمال هاما في النفوس ولو كان مخالفا للحقيقة والواقع‪.‬‬
‫والشعور بالقرابة يؤثر في النفوس‪ ،‬تأثيرا شديدا‪ ،‬ولو كانت هذه القرابة غير‬
‫حقيقية‪ .‬وأما أهم العوامل التي تدفع إل االعتقاد بوحدة األصل‪ ،‬وإل الشعور‬
‫بالقرابة في الشعوب فهي وحدة اللغة واالشتراك في التاريخ‪.‬‬
‫‪264‬‬
‫فإن اللغة‪ ،‬أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من‬
‫الناس‪ ،‬ألن اللغة هي أول واسطة التفاهم)‪ (3‬بين الناس‪ ،‬وثانيا آلة التفكير عند‬
‫الفرد‪ ،‬وثالثا واسطة نقل األفكار والمكتسبات من اآلباء إل األبناء‪ ،‬ومن‬
‫األسالف إل الخالف ‪ ،‬ولهذا نجد أن وحدة اللغة توجد نوعا من الوحدة في‬
‫الشعور والتفكير‪ ،‬وتربط األفراد بسلسلة طويلة ومعقدة من الروابط الفكرية‬
‫والعاطفية‪ .‬وتكون أقوى الروابط التي تربط األفراد بالمجتمعات‪.‬‬
‫وبما أن اللغات تختلف من قوم إل قوم فمن الطبيعي أن مجموعة‬
‫األفراد الذين يشتركون في اللغة‪ ،‬يتقاربون ويتماثلون ويتعاطفون أكثر من‬
‫غيرهم‪ ،‬فيؤلفون بذلك أمة متميزة عن األمم األخرى‪.‬‬
‫وأما التاريخ فهو بمثابة شعور األمة وذاكرتها)‪ (4‬فإن أمة من األمم إنما‬
‫تشعر بذاتها وتتعرف إل شخصيتها‪ ،‬بواسطة تاريخها الخاص ونستطيع أن‬
‫نقول‪ :‬إن الذكريات التاريخية تقرب النفوس‪ .‬وتوجد بينها نوعا من القرابة‬
‫المعنوية واألمة المحكومة التي تنس تاريخها الخاص تكون قد فقدت‬
‫شعورها ووعيها‪ ،‬وهذا الشعور وهذا الوعي ال يعود إليها إال عندما نتذكر‬
‫ذلك التاريخ وتعود إليه‪.‬‬
‫ولهذا السبب نجد األمم المستولية والحاكمة‪ ،‬تعمد قبل كل شيء إل‬
‫مكافحة تاريخ األمة المحكومة‪ ،‬وتبذل ما استطاعت من الجهود إلقصاء ذلك‬
‫التاريخ من األذهان‪ .‬وأما اليقظات القومية‪ ،‬بعد عهود الحكم األجنبي‪ ،‬فتبدأ‬
‫عادة بعكس ذلك بتذكر التاريخ القومي‪ ،‬وباالهتمام به اهتماما خاصا‪.‬‬
‫ويتبين من كل ما تقدم‪ ،‬أن اللغة والتاريخ هما العامالن األصليان اللذان‬
‫يؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات‪ .‬ونستطيع أن نقول‪ :‬إن اللغة بمثابة‬
‫وعي األمة وشعورها‪.‬‬
‫واألمة التي تنس تاريخها تكون قد فقدت شعورها وأصبحت في حالة‬
‫السبات‪ .‬وإن لم تفقد الحياة‪ .‬وتستطيع هذه األمة أن تستعيد وعيها وشعورها‬
‫بالعودة إل تاريخها القومي‪ ،‬وباالهتمام به اهتماما فعليا‪.‬‬
‫ولكن األمة إذا فقدت لغتها‪ ،‬تكون عندئذ قد فقدت الحياة ودخلت في‬
‫أعداد األموات‪.‬‬
‫ساطع الحصري‬
‫‪265‬‬
‫محاضرات في نشوء الفكرة القومية ص ‪35‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ (1‬ساطع الحصري مفكر مصري معاصر‪.‬‬
‫‪ (2‬كان البدائيون يعتدون أنهم ينحدرون من أصل واحد هو – الطوطم – (الجد‬
‫الروحي)‪.‬‬
‫‪ (3‬وسيلة واداة للتفاهم بين الناس‪ ،‬أي أداة تواصل‪.‬‬
‫‪ (4‬ألنه يحمل في طياته ثقافة وحضارة األمة أي تراثها‪.‬‬

‫"‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬كيف أبطل (ساطع الحصري) النظرية القائلة بأن األمة "وحدة‬
‫األصل والدم"؟‬
‫‪ –2‬هل اللغة والتاريخ يكفيان لتكوين أمة؟‬
‫‪ –3‬ما هي –في نظرك‪ -‬العوامل األساسية التي تجعل األمـــم‬
‫تستيقظ بعد سباتها؟‬
‫‪ –4‬اشرح قول صاحب النص‪" :‬عن اللغة بمثابة روح األمـــة‬
‫وحياتها‪ ،‬والتاريخ بمثابة وعي األمة وشعورها"؟‬

‫النص )‪:(4‬‬
‫ضرورة السلطة‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫‪266‬‬
‫ينطلق (ابن خلدون) في نصه من تصور ضمني للطبيعة البشرية‪،‬‬
‫مفاده ما تقتضيه فطرة اإلنسان من عدوانية وميل للظلم‪ ،‬ولذلك كانت السلطة‬
‫ضرورة اجتماعية البد من قيامها‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫إن هذا االجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه‪ ،‬وتم عمران العالم بهم‪،‬‬
‫فالبد من وازع يدفع بعضهم عن بعض‪ ،‬لما في طباعهم الحيوانية من‬
‫العدوان والظلم‪ ،‬وليست آلة السالح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم‬
‫عنهم كافية في دفع العدوان عنهم ألنها موجودة لجميعهم‪.‬‬
‫فالبد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض‪ ،‬وال يكون من‬
‫غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم‪ .‬فيكون ذلك الوازع‬
‫واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة‪ ،‬حت ال يصل أحد‬
‫إل غيره بعدوان‪ ،‬وهذا هو معن الملك‪.‬‬
‫وقد تبين لك بهذا أنه خاصية لإلنسان طبيعية البد لهم منها‪ .‬وقد يوجد‬
‫في بعض الحيوانات العجم عل ما ذكره الحكماء كما في النحل والجراد‪ .‬لما‬
‫استقرئ فيها من الحكم واالنقياد واإلتباع لرئيس من أشخاصها‪ ،‬متميز عنهم‬
‫في خلقه وجثمانه‪ ،‬إال أن ذلك موجود لغير اإلنسان بمقتض الفطرة والهداية‬
‫ال يقتضي الفكرة والسياسة‪.‬‬
‫ويزيد الفالسفة عل هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل‬
‫العقلي‪ ،‬وأنها خاصة طبيعية لإلنسان‪ .‬فيقررون هذا البرهان عل غايته‪ ،‬وأنه‬
‫البد للبشر من الحكم الوازع‪ ،‬ثم يقولون بعد ذلك‪ .‬وذلك الحكم بشرع‬
‫مفروض من عند هللا يأتي به واحد من البشر‪ ،‬وأنه البد أن يكون متميزا‬
‫عنهم بما يودع هللا فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه‪ ،‬حت‬
‫يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار وال تزييف‪ .‬وهذه القضية للحكماء غير‬
‫برهانية كما تراه‪ ،‬إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه‬
‫الحكم لنفسه‪ ،‬أو بالعصبية التي يقتدر بها عل قهرهم وحملهم عل جادته‪.‬‬
‫فأهل الكتاب والمتبعون لألنبياء قليلون بالنسبة إل المجوس الذين ليس لهم‬
‫كتاب فإنهم أكثر أهل العالم‪ .‬ومع ذلك فقد كانت لهم الدولة واآلثار فضال عن‬

‫‪267‬‬
‫الحياة‪ ،‬وكذلك هي لهم لهذا العهد‪ ...‬وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب‬
‫النوبات‪.‬‬

‫ابن خلدون (المقدمة)‬

‫"‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬كيف يفسر (ابن خلدون) ضرورة السلطة؟‬
‫‪ –2‬لماذا يعترض المؤلف عل نظرية الفالسفة في أصل الحكـم‬
‫السياسي؟‬
‫‪ –3‬قارن بين نظرية (ابن خلدون) ونظريات أخرى في أســاس‬
‫السلطة السياسية‪.‬‬

‫النص )‪:(5‬‬
‫القانون الطبيعي‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫‪268‬‬
‫يهمنا تفكير (توماس هويز))‪ (1‬بالنسبة للقانون الطبيعي لسببين‪:‬‬
‫األول – وهذا ينطبق عل جميع المفكرين المتعاقدين – هو التمييز‬
‫بين القانون (الطبيعي) في الحالة الطبيعية والقانون الطبيعي في الحالة‬
‫السياسية‪ ،‬والثاني هو نقد القيم لتطبيق القانون الطبيعي في المجتمع اإلنساني‬
‫كما نعرفه‪ .‬إن القانون الطبيعي في رأي (هوبز) يكاد يكون عديم الجدوى‬
‫كقاعدة تتحكم بتصرفات الناس‪ ،‬وذلك ألنه يتضارب مع الغرائز والعواطف‬
‫الطبيعية ولكي يصبح ذا فعالية علينا أن نجعله أسنان قاضمة‪ .‬ونجعله هكذا‬
‫عندما نعاقب عن طريق القوة االجتماعية أو القوة الفردية من يتجاهله‪ ،‬عندما‬
‫يصبح الخوف من نتائج تجاوزه غير المسرة هو الذي يعيد إليه بعض‬
‫اعتباره‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬

‫إن السبب الغائي أو الهدف‪ ،‬أو المخطط الذي يتبناه الرجال محبو‬
‫الحرية‪ ،‬والتسلط عل اآلخرين‪ ،‬من قبولهم لذلك الحد من حريتهم‪ ،‬ذلك الحد‬
‫الذي نراهم يعيشون ضمن نطاقه في الكومونولت)‪ (2‬إن هو إال بعد نظر ثاقب‬
‫في كيفية محافظتهم عل حياتهم وفي طريقة للعيش تنال رضاهم أكثر من‬
‫سابقتها‪ .‬وبكلمات ثانية إنها لطريقة تخرج بهم من ظروف الحرب البائسة‬
‫التي هي نتيجة ضرورية لتضارب العواطف الطبيعية لإلنسان حين ال توجد‬
‫قوة مرئية وملموسة تجعلهم عن طريق خوفهم من القصاص يرهبونها‬
‫ويقومون بوعودهم وتعهداتهم ويحافظون عل القوانين الطبيعية)‪.(3‬‬

‫ذلك ألن القوانين الطبيعية (كالعادة والحكم والتواضع‪ ،‬والرحمة‪ ،‬أو‬


‫باختصار أن تفعل بالغير ما تريد أن يفعله الغير بك) لوحدها‪ ،‬وبمعزل عن‬
‫الخوف من قوة معينة تكره الناس عل طاعتها‪ ،‬تلك القوانين تتضارب مع‬
‫الغرائز والعواطف الطبيعية لإلنسان‪ ،‬الغرائز والعواطف التي تحملنا عل‬
‫التحيز‪ ،‬الثأر وما شابهه‪ ،‬والعقود بدون السيف ليست سوى كلمات ال تحمل‬
‫القوة لحماية إنسان ومع احترامنا للقوانين الطبيعية التي يحفظها اإلنسان عند‬
‫ما يريد وعند ما ال تتضارب مع سالمته‪ ،‬وإذا لم تقم قوة كبيرة تضمن‬
‫سالمتنا‪ ،‬يحق لكل منا أن يعتمد عل فنه تحفظا ضد جميع ما يمكن أن يقوم‬
‫‪269‬‬
‫به اآلخرون ضده‪ .‬وفي جميع األمكنة‪ ،‬حيث عاش الناس قبائل‪ ،‬كانت دائما‬
‫مجاورتهم غزوا وسرقة بعضهم بعضا‪.‬‬

‫والبد أن يشهر بهذه التجارة أنها ضد القانون الطبيعي‪ ،‬بالعكس كانوا‬


‫كلما زادت غنائمهم زاد فخرهم‪ ،‬أو تفاخرهم‪ ،‬ولم يرع الناس أية قوانين في‬
‫هذه الحالة)‪ (4‬سوى قوانين الفخر والشرف‪ ،‬أي أنهم يمنعون نفوسهم من‬
‫معاملة اآلخرين بالقسوة إال فيما يتعلق بحياتهم وبأسباب تناسلهم‪ .‬وكما‬
‫تصرفت القبائل آنذاك بتصرف المدن والممالك اليوم‪ .‬وهي ليست سوى قبائل‬
‫مكبرة متسترة بدعوى المحافظة عل سالمتها ونراها تضخم ممتلكاتها‪،‬‬
‫متذرعة بخوفها من هجوم جيرانها عليها أو من مساعدتهم للغزاة‪ .‬تعمل‬
‫جاهدة عل إضعاف أو إخضاع أولئك الجيران‪ ،‬وال فرق عندنا تحقيقا لذلك‬
‫إن هي استعملت القوة السافرة أو الفن المستور)‪ (5‬وهذا من حقها‪ .‬وإنها‬
‫لتذكرها األجيال الطالعة لذلك بفخر وعزة‪.‬‬

‫توماس هوبس‬
‫نص مقتبس من قضايا الفكر السياسي‬
‫للدكتور‪ :‬ملحم قربان‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ (1‬هوبس (تماس) )‪ (1699-1588‬فيلسوف إنجليزي‪ ،‬صاحب نظرية سياسية متأثر‬
‫في ذلك بالعلوم الطبيعية‪ ،‬وهو من أصحاب نظرية العقد االجتماعي‪.‬‬
‫‪ (2‬هي البلدان التي كانت تحت نفوذ الدولة اإلنجليزية‪.‬‬
‫‪ (3‬أي يتعاقد الضعفاء بالتخلي عن حريتهم للحفاظ عل حياتهم‪.‬‬
‫‪ (4‬الحالة البدائية‪.‬‬
‫‪ (5‬الفن المستور‪ :‬أي الخداع والتجنس وغيرهما‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫"‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬ما السبب الغائي أو الهدف الذي حمل الناس عل الحــد من‬
‫حريتهم؟‬
‫‪ –2‬ماذا يعني صاحب النص بقوله‪" :‬ويقومون بوعودهم وتعهداتهم‬
‫ويحافظون عل القوانين الطبيعية؟‬
‫‪ –3‬عل ماذا تقوم السلطة بالنسبة لهوبس؟ وما رأيك في هــذا‬
‫الموقف؟‬

‫النص )‪:(6‬‬
‫شروط العقد االجتماعي‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫يطرح هذا النص بوضوح نظرية التعاقد االجتماعي التي يؤسس‬
‫عليها (روسو) قاعدة النظام السياسي‪ ،‬ويحدد (روسو) العقد االجتماعي بأنه‬

‫‪271‬‬
‫إرادة‬ ‫تنازل الفرد عن حقوقه من أجل الجماعة أي تحويل اإلرادة إل‬
‫جماعية‪ ،‬بحيث يشعر كل فرد أنه سيد نفسه‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬

‫(‪ )...‬إني أفترض جدال‪ ،‬أن الناس قد وصلوا إل حد تغلبت فيه‬


‫العقبات‪ ،‬التي تحول دون االستمرار في حالة الطبيعة‪ ،‬عل القوى التي‬
‫يستطيع كل فرد أن يستعملها بقصد االستمرار في هذه الحالة‪ ،‬ومن ثم لم يعد‬
‫استمرار حالة الطبيعة األصلية ممكنا‪ ،‬وكاد الجنس البشري يهلك لو لم يغير‬
‫طريقة حياته‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬لما كان الناس ال يستطيعون بأي حال خلق قوى جديدة‪ ،‬بل كل‬
‫ما يستطيعونه هو أن يتحدوا ويسيطروا عل تلك القوى التي لديهم فعال‪ .‬فإنه‬
‫ال توجد وسيلة يستطيعون بها اإلبقاء عل أنسفهم سوى االنضمام بعضهم إل‬
‫بعض وتوحيد قواهم بطريقة تمكنهم من الوقوف في وجه أية مقاومة وحشدها‬
‫للحركة بمحرك واحد وجعلها تعمل متناسقة‪.‬‬

‫ومجموع هذه القوى ال يمكن أن ينشأ إال بعد تعاون الكثيرين‪.‬‬


‫يبدو أن المالحظة عل الذات بالنسبة لكل فرد إنما تستمد أساسا من‬
‫قوته الشخصية وحريته فكيف إذن يقيدها دون أن يؤذي نفسه ويهمل تلك‬
‫العناية الواجبة عليه نحو شؤونه الخاصة في الوقت ذاته؟ إن هذه المشكلة في‬
‫حدود اتصالها بالموضوع الذي أتناوله‪ ،‬يمكن أن توضع عل الوجه التالي‪:‬‬
‫" البد من إ يجاد نوع ما من االتحاد من شأنه استخدام قوة المجتمع كلها‬
‫في حماية شخص كل عضو من أعضائه وممتلكاته‪ ،‬وذلك بطريقة تجعل كل‬
‫فرد‪ ،‬إذ يتحد مع قرنائه‪ ،‬إنما بطبع إرادة نفسه ويظل حرا كما كان من قبل"‬
‫هذه هي المشكلة األساسية التي يكفل العقد االجتماعي "حلها‪ ،‬وتتحد شروط‬
‫هذا العقد" بوثيقة االتحاد" بحيث إن أي تعديل مهما صغر شأنه يجعلها ملغاة‬

‫‪272‬‬
‫وال تترتب عليها آثار‪ .‬فرغم أنها قد ال تكون أعلنت رسميا فهي البد أن تكون‬
‫واحدة في كل مكان وأن يتم قبولها ضمنا واالعتراف بها في كل مكان بحيث‬
‫إنه إذا خرق االتفاق االجتماعي تعود لكل واحد فورا جميع الحقوق التي‬
‫كانت له من قبل‪ ،‬ويستعيد حريته الطبيعية بفقد الحرية االتفاقية التي من أجلها‬
‫نبذ حريته األول ‪.‬‬

‫ومن المفهوم تماما أن هذه الشروط يمكن تلخيصها في نهاية المطاف‬


‫في شرط واحد‪ ،‬هو التنازل الكامل من جانب كل واحد عن جميع حقوقه‬
‫للمجموع‪ .‬إذ أنه‪ ،‬أوال‪ ،‬لما كان كل شخص قد سلم نفسه بدون أي تحفظ فإن‬
‫الحالة متساوية بالنسبة للجميع‪ ،‬ولما كانت الحالة متساوية بالنسبة للجميع‬
‫فليس من مصلحة أحد أن يجعلها شاقة للباقين‪.‬‬

‫أضف إل ذلك أنه لما كان هذا التنازل قد تم بال تحفظ فإن االتحاد‬
‫يكون أكمل ما يمكن أن يكون‪ ،‬وليس ألي واحد حق قبل المجتمع‪ ،‬ألنه إذا‬
‫ظل لألفراد أي حقوق‪ ،‬ولم يكن هناك مرجع أعل يفاضل بينهم وبين‬
‫المجتمع‪ ،‬فإن كل واحد – لما كان هو الحكم لنفسه في بعض المسائل –‬
‫سرعان ما يدعي أن له الحق في أن يكون كذلك في جميع المسائل‪ .‬ولو أن‬
‫األمر كذلك لكا نت حالة الطبيعة ما برحت قائمة‪ ،‬وألصبح االتحاد بالضرورة‬
‫استبداديا أو بال اثر‪.‬‬

‫وأخيرا إن من يهب نفسه للجميع ال يهب نفسه ألحد‪ ،‬ولما كان أفراد‬
‫الجماعة االجتماعية ال تكتسب من الحقوق عل أي منهم إال بقدر ما له من‬
‫حقوق لها تماما‪ ،‬فإن ما نكسبه يساوي كل ما نفقده بالضبط باإلضافة إل ما‬
‫نحصل عليه من قوة في المحافظة عل ما لدينا‪.‬‬

‫جان جاك روسو (العقد االجتماعي)‬


‫الكتاب األول – الفصل السادس‬
‫‪273‬‬
‫ترجمة عبد الكريم أحمد‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬ما ذا عس أن تكون "العقبات التي تحول دون االستمرار في‬
‫حالة الطبيعة؟‬
‫‪ –2‬ما المشكلة التي يطرحها الكاتب؟ صغها بأسلوبك الخاص‪.‬‬
‫‪ –3‬ماذا يشترط "العقد االجتماعي عل كل فرد؟‬
‫‪ –4‬حدد مفهوم كل من "الحرية الطبيعية" والحرية االتفاقية"‪.‬‬
‫‪ –5‬ما هو في نظرك مدى قابلية هذا العقد للتطبيق؟‬
‫وهل يمكن أن يكون أساسا متينا للحياة السياسية؟‬

‫النص )‪:(7‬‬
‫الديمقراطية اإلسالمية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن أبرز اإلشكاالت المطروحة عل الفكر اإلسالمي المعاصر تكمن‬
‫في مسألة التنظيم السياسي‪ .‬فما هو شكل نظام الحكم في اإلسالم؟‪.‬‬
‫وكيف يتالءم مع مقتضيات الممارسة الحديثة‪ ،‬وهل هناك في اإلسالم‬
‫اثر واضح عل تقرير حرية الفرد‪ ،‬واحترام الرأي اآلخر؟ وكيف يمكن‬
‫الحديث عن االختيار الديمقراطي في اإلسالم؟‬

‫‪274‬‬
‫يجيب العقاد عل هذه األسئلة مبينا أن الديمقراطية هي في قلب‬
‫التصور اإلسالمي مبرزا أسس الديمقراطية اإلسالمية في مقابل التصور‬
‫الغربي‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫إن شريعة اإلسالم كانت أسبق الشرائع إل تقرير الديمقراطية‬
‫اإلنسانية‪ .‬وهي الديمقراطية التي يكسبها اإلنسان ألنه حق له يخوله أن يختار‬
‫حكومته‪ ،‬وليست حيلة من حيل الحكم التقاء شر أو حسم فتنة‪ ،‬وال هي‬
‫إجراء من إجراءات التدبير تعمد إليها الحكومات لتيسير الطاعة واالنتفاع‬
‫بخدمات العاملين وأصحاب األجور‪.‬‬
‫وتقوم الديمقراطية اإلسالمية‪ ،‬بهذه الصفة‪ ،‬عل أربع أسس ال تقوم‬
‫ديمقراطية كائنة ما كانت عل غيرها‪ ،‬وهي)‪ (1‬المسؤولية الفردية)‪ (2‬عموم‬
‫األمور)‪(4‬‬ ‫والة‬ ‫الحقوق وتساويها بين الناس)‪ (3‬ووجوب الشورى عل‬
‫والتضامن بين الرعية عل اختالف الطوائف والطبقات‪.‬‬
‫هذه األسس كلها أظهر ما تكون في القرآن الكريم وفي األحاديث‬
‫النبوية وفي التقاليد المأثورة عن عظماء الخلفاء‪.‬‬
‫فالمسؤولية الفردية مقررة في اإلسالم عل نحو صريح وبآيات‬
‫متكررة تحيط بأنواع المسؤولية من جميع الوجوه‪.‬‬
‫فال يحاسب إنسان بذنب إنسان‪﴿ ،‬وال تزر وازرة وزر أخرى﴾ الزمر‬
‫اآلية ‪.8‬‬
‫فال يحاسب إنسان بذنب آبائه وأجداده أو بذنب وقع قبل ميالده‪﴿ :‬تلك‬
‫أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم وال تسألون عما كانوا يعملون﴾‬
‫(البقرة ‪ ،)355‬وال يحاسب إنسان بغير عمله‪﴿ :‬وأن ليس لإلنسان إال ما سع ﴾‬
‫(النجم اآلية ‪ .)53‬أما عموم الحقوق فالقرآن صريح في مساواة النسب‬
‫ومساواة العمل‪﴿ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنث وجعلناكم شعوبا‬
‫وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم﴾ (الحجرات اآلية ‪.)35‬‬
‫وكلمة التقوى تشمل المسؤوليات جميعا‪ ،‬ألنها تشمل كل ما يطالب‬
‫اإلنسان بأن يتقيه ويسأل عنه إذا وقع فيه‪.‬‬
‫وسواء في الدنيا أو األخرى ال تغني األنساب شيئا عن اإلنسان‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫أما الحكم بالشورى فالقرآن الكريم صريح في وجوبه‪ ،‬وليس بعد‬
‫إيجابه عل النبي إعفاء منه لوال من الوالة‪﴿ :‬وأمرهم شورى بينهم﴾‬
‫(الشورى اآلية ‪)53‬‬
‫﴿وشاورهم في األمر فإذا عزمت فتوكل عل هللا﴾ (آل عمران من اآلية‬
‫‪ ) ...333‬وقد رويت مسائل شت من مسائل السلم والحرب استعان فيها النبي‬
‫صل هللا عليه وسلم بآراء أصحابه وعمل بها عل خالف ما ارتآه‪.‬‬
‫ومن تمام المسؤولية الفردية تكافل األمة في المسؤولية العامة‪ .‬فإن‬
‫األمة قد تصاب جميعا بضرر جناه عليها بعض أبنائها‪ ،‬فمن حق كل فرد أن‬
‫يدفع الشر عن نفسه وعن غيره‪﴿ :‬واتقوا فتنة ال تصيبن الذين ظلموا منكم‬
‫خاصة﴾ (األنفال من اآلية ‪ )23‬وعل كل فرد أن يبذل في دفع الشر جهد ما‬
‫يستطيع‪﴿ :‬ال يكلف هللا نفسا إال وسعها﴾ (البقرة من اآلية ‪ )283‬ولكنه قد‬
‫يصاب بضالل غيره عمال وال يحاسب عليه شرعا‪﴿ :‬ال يضركم من ضل إذا‬
‫اهتديتم﴾ (المائدة من اآلية ‪.)347‬‬
‫هذه األسس التي ال تقوم الديمقراطية عل غيرها في بيئة من البيئات‪،‬‬
‫وإذا علمنا من شأن أمة أنها تؤمن بالمسؤولية الفردية والمساواة وترفض‬
‫االستبداد بالرأي في الحكومة‪ ،‬و تتواص بدفع الشر متكافلة في دفعه – فال‬
‫يعنينا ما تسم به في مصطلحات السياسة الحاضرة أو الغابرة‪ ،‬ألنها أفضل‬
‫الحكومات سواء عرفت باسم الديمقراطية أو بغيرها من األسماء‪.‬‬
‫عل أن التعاون باآلراء خاصة من خواص الديمقراطية اإلسالمية‪،‬‬
‫ألنها أصل من األصول االجتماعية التي ال تأتي عرضا وال تنحصر في‬
‫شؤون السياسة دون غيرها‪ .‬ومت كانت المسؤولية الفردية حقا لإلنسان ال‬
‫يأخذه من حاكم وال يقصد به تيسير الحكم كف ‪ ،‬فالتعاون بالنصيحة عل‬
‫الخدمة العامة هو حق اإلنسان عل اإلنسان وواجبه إلخوانه في كل مجتمع‬
‫يعطيه حريته ومسؤوليته‪ .‬وال ينفرد فيه بالمنافع وفضل الديمقراطية‬
‫اإلسالمية عل الديمقراطية عامة‪ ،‬أنها لم تشرع إجابة لطلب أو خوفا من‬
‫غضب‪ ،‬بل شرعت وهي تغضب األقوياء ولم يطلبها الضعفاء‪ ،‬وقد كان‬
‫ضعفاء األمم يثورون عل الظلم كما يثور الحيوان الحبيس أو الحيوان الجائع‬
‫أو الحيوان المضروب‪ ،‬ول كن الضعيف في اإلسالم ال يثور ألنه يطلب حقا‬
‫توجبه له كرامته اإلنسانية‪ .‬ولعله لو تمكن في مكان األقوياء لم يحسب أنه‬
‫يغصب حقا أو يغض من كرامة‪ ،‬حين يقسو عل الضعيف المخذول‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫عباس محمود العقاد‬
‫الديمقراطية في اإلسالم‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬هل يمكن الحديث عن ديمقراطية كاملة في اإلسالم؟‬
‫‪ –2‬كيف تتأسس الحريات الفردية في اإلسالم؟‬
‫‪ –3‬ما هي النصوص الشرعية المؤسسة لمبدأ الشورى في اإلسالم؟‬

‫النص )‪: (8‬‬

‫المذهب الجماعي والمذهب الفردي‬


‫في الحكم‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫يعتمد عالم االجتماع الفرنسي (م‪ .‬دوفيرجيي) في هذا النص إل‬
‫تبيان الجذور النظرية للمذهبين الفردي والجماعي ‪ ،‬ويميل بصفة واضحة إل‬
‫المذهب الفردي باعتبار أن الفرد هو الهدف األسم للنشاط االجتماعي‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬

‫‪277‬‬
‫إن المذهب الجماعي ينطلق من مسلمة أساسية غير مصوغة في‬
‫الغالب وال شعورية أحيانا‪" :‬ليس األفراد سوى العناصر التي تكون الفئات‬
‫االجتماعية التي تؤلف وحدها كائنات حقيقية وكيانات متميزة‪ ،‬فالعضوية‬
‫االجتماعية بالنسبة إليها تشبه جسم اإلنسان‪ .‬فالخاليا التي تكون هذا الجسم‬
‫يمكنها عل التدقيق أن تعيش منفصلة عنه كما أثبتت ذلك التجارب المخبرية‪،‬‬
‫لكن هذه الحياة استثنائية وغير عادية‪ ،‬فشرط الخاليا ان تكون مجتمعة‬
‫ومتركبة لتكوين اإلنسان‪ ،‬وكذلك شرط الناس أن يكونوا مجتمعين ومنظمين‬
‫لتكوين المجموعات‪ .‬وكما أن الحياة الخاصة لكل خلية‪ ،‬خاضعة خضوعا كليا‬
‫لمتطلبات جسم اإلنسان‪ .‬فإن حياة كل فرد يجب أن تذعن دائما لضرورات‬
‫الهيئة االجتماعية " فالفرد ليس شيئا والمجموعة في كل شيء أو بعبارة أدق‪:‬‬

‫ليس هناك أفراد – وإنما هناك أعضاء في المجموعة دورهم الوحيد‬


‫هو القيام بوظائف اجتماعية (‪ )...‬ومن الواضح أن مثل هذا المذهب يعارض‬
‫معارضة مطلقة كل تحديد لسلطة الحاكمين‪ ،‬إذهم يجسدون شعور وإرادة‬
‫الفئة جمعاء‪ ،‬وليس لسلطتهم إال هدف واحد هو حمل المقومات الفردية عل‬
‫اإلذعان أمام المقتضيات الجماعية‪.‬‬
‫أما المذهب الفردي فإنه ينتهي إل نتائج عكسية بالضبط‪ ،‬وهذا أمر‬
‫طبيعي ما دام ينطلق من مقدمات عكسية‪ .‬فالمجتمع بالنسبة إليه ليس له إال‬
‫وجود ثانوي ووجود تابع – فكل إنسان وكل فرد يكون عل العكس من ذلك‬
‫كيانا أساسيا‪ ،‬وحقيقة أولية‪ .‬ومما الشك فيه أن اإلنسان حيوان اجتماعي‬
‫وكائن قادر عل كفاية نفسه بنفسه عل انفراد‪.‬‬

‫فالحياة الجماعية إذن ضرورة بل هي في األغلب ضرورة ميمونة‪.‬‬


‫فالمجتمعات تحفظ القيم التهذ يبية وتوزع فوائدها عل أعضائها‪،‬لكن الفرد‬
‫يبق هو الهدف األسم الذي يجب أن يناط به كل شيء‪ :‬إذ أن دور الفئات‬
‫االجتماعية يقتصر عل أن تضمن لكل إنسان إمكانيات العيش والنمو‬

‫‪278‬‬
‫والمواقف الطبيعية‪" ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬بدل أن يكون تجمع الناس ضمن‬
‫المجتمع شبيها بتراكم الخال يا في تكوين جسم اإلنسان حيث أن كل عضو‬
‫مكون تابع لتوازن المجموع الذي هو القيمة العليا‪ ،‬فإنه يمكن تشبيهه باجتماع‬
‫اللوحات في معرض حيث إن المهم هو إبراز قيمة كل اثر بمفرده‪ .‬ال‬
‫التناسب العام‪.‬‬

‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن المذهب الفردي يعتبر دائما أن دور الحاكمين‬
‫ينحص ر في صيانة الروابط االجتماعية الضرورية لنمو كل إنسان‪ ،‬وعليه‬
‫فإن مقتضيات هذا النمو ذاتها تعين حدود السلطة الحكومية‪ .‬فكل فرد له‬
‫بالضرورة منطقة خاصة‪ .‬وميدان خاص ال يمكن للسلطات العمومية أن‬
‫تدخله‪ .‬وفي صورة ما إذا وقع نزاع بين اإلنسان والفئة التي هو تابع إليها‪،‬‬
‫فمن الممكن أن تذعن هذه الفئة لذلك اإلنسان‪.‬‬

‫م‪ .‬دو فيرج‬


‫(من كتاب‪ :‬األنظمة السياسية)‬

‫األسئلة‪:‬‬

‫‪ –1‬هل يشكل االعتراف بسلطة الفرد خطرا عل سلطة المجتمع؟‬


‫‪ –2‬ما الدور الذي يلعبه الفرد في توجيه مسار المجتمع؟‬
‫‪ –3‬هل يشكل المجتمع عائقا في وجه الخيارات الفردية؟‬

‫‪279‬‬
‫أسئلة الباب‬
‫‪ – 1‬أيهما يؤسس اآلخر‪ :‬الحق أم القوة؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3338‬‬
‫‪ – 2‬يعتبر الدفاع عن الحق دفاعا عن المصلحة‪ .‬ما رأيك؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪2442‬‬
‫‪ – 3‬بأي معن يمكن اعتبار السلطة ضرورة ؟‬
‫‪ – 4‬كيف تفسر منشأ الدولة ؟‬
‫‪ – 5‬السلطات الثالثة التشريعية والتنفيذية والقضائية هل هي كل أنواع‬
‫السلطات الضرورية في الحكم أم هناك سلطات أخرى ينبغي أن تضاف‬
‫لها؟‬
‫‪ – 6‬هل مصلحة األفراد في السلطة أم إن اإلفراد يمكنهم أن يحكموا أنفسهم‬
‫بأنفسهم؟‬
‫‪ – 1‬الديمقراطية تعتبر أهم أداة للتداول السلمي للسلطة بين األفراد‪.‬‬
‫ما رأيك؟‬
‫‪ – 3‬قارن بين ما ورد في اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان وما يدعو إليه‬
‫اإلسالم من قيم ومثل‪.‬‬

‫‪280‬‬
281
‫المحور الخامس‪:‬‬
‫الحرية واإلنسان‬

‫‪282‬‬
283
‫الحرية‬
‫تصدير‪:‬‬
‫كلمة الحرية ليس لها معنى واحد‪ ،‬وانما لها عدة معان من أهمها ‪:‬‬
‫‪ ‬الحرية إحساس ذاتي عميق يدركه كل منا باالستبطان‪.‬‬
‫‪ ‬هي وعي مباشر بأن لدينا قدرة على االختيار‬
‫‪ ‬الفعل الحر ال علة له‬
‫‪ ‬الفعل الحر فعل يصعب التنبؤ به قبل حدوثه‬
‫‪ ‬هي غياب القسر أو انتفاء اإلكراه‬
‫‪ ‬هي تحرر من الشهوات أو القدرة على ضبط النفس‬
‫‪ ‬يقول عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‪( :‬متى استعبدتم الناس وقد‬
‫ولدتهم أمهاتهم أح ار ار)‬
‫‪ ‬يقول جان جاك روسو ((ولد اإلنسان ح ار))‬
‫‪ ‬يقول هيجل‪ :‬الحرية هي وعي الضرورة‬

‫‪284‬‬
‫مقاربة مفاهيمية لبعض المفاهيم‪ :‬الحرية والضرورة‬
‫واالختيار والجبر والكسب‬

‫يحتاج كل علم إلى ضبط مفاهيمه ومصطلحاته‪ ،‬والفلسفة من أكثر‬


‫أنماط التفكير البشري تعلقا بالضبط ووضع الحدود بين المفاهيم‪ ،‬ولذلك‬
‫فتوضيح المفاهيم أمر حاضر في االعتبار الفلسفي‪.‬‬
‫‪ ‬فالحرية‪ ،‬تعتبر من المفاهيم المرتبطة باإلنسان دون غيره من‬
‫الكائنات‪ ،‬والحديث عنها هو حديث عن اإلنسان عن إرادته عن‬
‫وعيه عن مواقفه‪ ،‬عن مسؤوليته وكرامته‪.‬‬
‫وبعيدا عن االعتبارات الميتافيزيقية للحرية فإننا سنحاول الحديث عنها‬
‫من خالل مجموعة من المفاهيم المرتبطة بها كاالختيار والكسب‪ ،‬ومن خالل‬
‫تلك التي تقابلها كالجبر والضرورة‪ ،‬فنقول‪ :‬ما الحرية؟‬
‫يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه‪" :‬المقابسات" الحرية هي «إرادة‬
‫(‪)1‬‬
‫وفي القانون «القدرة على تحقيق فعل أو امتناع‬ ‫تقدمتها روية مع تمييز»‬
‫عن تحقيق فعل دون خضوع ألي ضغط خارجي»(‪.)2‬‬
‫يقول (برغسون)‪ « :‬الحرية هي نسبة النفس المشخصة إلى الفعل‬
‫الصادر عنها»(‪.)1‬‬

‫مراد وهبه ويوسف كرم‬ ‫‪ -‬معجم الفلسفة‬


‫‪1‬‬

‫‪ -‬نفس المصدر السابق‪.‬‬


‫‪2‬‬

‫‪285‬‬
‫" إن الحرية هي الحد األقصى الستقالل اإلرادة العالمة بذاتها المدركة‬
‫لغايتها‪.)2(»...‬‬
‫وتطلق الحرية كذلك على القوة التي تبين ما في صميم الذات البشرية‬
‫من صفات تدل على الطاقة التي تمكن اإلنسان من تحقيق ذاته‪.‬‬
‫والحرية مذهب سياسي يؤكد على ضرورة استقالل السلطة التشريعية‬
‫والقضائية عن السلطة التنفيذية‪.‬‬

‫‪ ‬االختيار‪ :‬أما االختيار فهو النزوع عن روية ونطق‪ ،‬وهو في‬


‫اإلنسان خاصة‪ ،‬الفارابي(‪.)3‬‬

‫وتذهب المعتزلة إلى أن اإلنسان هو الذي يخلق أفعاله خيرها وشرها‬


‫ذلك أن اهلل سبحانه وتعالى منحه عقال وارادة وجعله قاد ار على القيام بالفعل‪،‬‬
‫ولوال هذا االختيار الذي يترجم عن إرادة وحرية لما كانت هناك مسؤولية ‪،‬‬
‫فاإلنسان ما دام ح ار فمعنى ذاك أنه يستحق الثواب أو العقاب‪ ،‬وهذا اإلنسان‬
‫له استطاعة تمكنه من القيام بالفعل‪ ،‬وهذه االستطاعة قبل الفعل وهي قدرة‬
‫زائدة على بنية وصحة الجوارح(‪.)4‬‬

‫‪ -‬نفس المصدر السابق‪.‬‬


‫‪1‬‬

‫د‪ .‬جميل صليبا‪.‬‬ ‫‪ -‬المعجم الفلسفي‬


‫‪2‬‬

‫د‪ .‬جميل صليبا‬ ‫‪ -‬تاريخ الفلسفة العربية‬


‫‪3‬‬

‫‪ -‬تاريخ الفلسفة العربية المصدر السابق‬


‫‪4‬‬

‫‪286‬‬
‫‪ ‬الكسب‪ :‬وبين الضرورة والحرية يأتي مفهوم آخر هو مفهوم‬
‫"الكسب" الذي جاء به ابو الحسن األشعري‪ ،‬ويعني هذا المفهوم‬
‫(الكسب) مجرد تعلق قدرة العبد وارادته بالفعل‪ ،‬وهذا الفعل من‬
‫صنع اهلل تعالى‪.‬‬
‫يذهب أبو الحسن األشعري إلى أن األفعال التي يقوم بها اإلنسان‬
‫مخلوقة هلل سواء كانت خي ار وسواء كانت شرا‪ ،‬ويرى أن هناك أفعاال يقوم بها‬
‫اإلنسان على عكس إرادته‪ ،‬ومع ذلك يسلم األشعري بأن لإلنسان استطاعة‬
‫ولكنها شيء آخر غير اإلنسان ألنها لو كانت منه لالزمته دائما‪ ،‬ولكن هذه‬
‫االستطاعة غير سابقة على الفعل‪ ،‬فهي مصاحبة له ال تتقدمه وال تتأخر‬
‫عنه‪.‬‬
‫وان قيل ‪ :‬عالم يحاسب العبد؟ يجيب األشعري بأن العبد يحاسب على‬
‫كسبه‪ ،‬والكسب يختلف عن الحرية كما يختلف عن الجبرية‪ ،‬إنه قدرة تمكن‬
‫العبد من القيام بالفعل‪ ،‬وهي كما هو واضح ال تفسح المجال لإل اردة والحرية‬
‫بالشكل الذي تريده المعتزلة‪.‬‬
‫« ويسلم الباقالني مع أستاذه بقدرة العبد واستطاعته‪ ،‬وذلك لكونه يأتي‬
‫أفعاال تؤيد ذلك مثل القيام والقعود‪ ،‬ولكن هذه القدرة من عند اهلل وهي‬
‫مصاحبة للفعل ال تسبقه وال تتأخر عنه‪ ،‬وينكر أن تنصب القدرة على الشيء‬
‫وضده‪ ،‬وعناية اهلل كفيلة ألن تمنح العبد قدرة للفعل وأخرى للترك»(‪.)1‬‬

‫‪ -‬كتاب الفلسفة س‪ 6‬آداب عصرية‪ ،‬المعهد التربوي الوطني‬


‫‪1‬‬

‫‪287‬‬
‫ومهما قيل عن الحرية والجبرية فال يعدو أن يكون نوعا من التقويم لما‬
‫يصدر عن الذات البشرية‪ ،‬وطبيعي أن يختلف الفالسفة حولها‪ ،‬إال أن األهم‬
‫في الموضوع أن ينظر إليه من زاوية محايدة ال تتعلق بالعالقة الطبيعية بين‬
‫الباحث والمفهوم المتعلق به‪ ،‬والدروس الالحقة كفيلة بأن تعطى للحرية ما‬
‫تستحقه من اهتمام‪.‬‬
‫‪ ‬الجبرية‪ :‬وعلى النقيض من الحرية الجبرية والضرورة‪ ،‬فالجبرية‬
‫« مذهب من يرى أن إرادة اإلنسان العاقلة عاجزة عن توجيه مجرى‬
‫الحوادث‪ ،‬وأن كل ما يحدث لإلنسان قد قدر عليه أزال‪ ،‬فهو مسير‬
‫ال مخير‪ ،‬والجبرية فرقة من الفرق اإلسالمية كالجهمية‪ ،‬وهم‬
‫أصحاب جهم بن صفوان‪ ،‬قالوا‪ :‬ال قدرة للعبد أصال ال مؤثرة وال‬
‫كاسبة‪ .‬وكثي ار ما يكون القول بالجبر نتيجة للقول بقدرة اهلل على كل‬
‫شيء‪ ،‬وبإحاطة علمه باألشياء كلها‪ ،‬ومعنى ذلك أن كل ما يحدث‬
‫إنما يحدث وفقا لما أراده اهلل‪.‬‬
‫«والجبرية مختلفة عن الحتمية ألن الجبرية تعلق ضرورة حدوث‬
‫األشياء على مبدأ أعلى منها‪ ،‬يسيرها كما يشاء‪ ،‬فهي إذن ضرورة‬
‫متعالية»(‪.)1‬‬
‫‪ ‬الضرورة‪ :‬أما الضرورة فتعني في اللغة «الحاجة والمشقة والشدة‬
‫التي ال تدفع‪ ،‬وعند الفالسفة اسم لما به الشيء من وجوب أو‬
‫(‪)1‬‬
‫ولها أربعة معان عند أرسطو‪:‬‬ ‫امتناع»‬

‫د‪ .‬جميل صليبا‬ ‫‪ -‬المعجم الفلسفي‬


‫‪1‬‬

‫‪288‬‬
‫ا ‪« -‬الشرط الذي بدونه ال يكون تغير وال حدوث شيء»‪،‬‬
‫ب ‪« -‬تطلق على العنف والقسر‪ ،‬فيما يحول بين إنسان وبين أداء أي‬
‫عمل يعتبر ضرورة قاهرة‪،‬‬
‫ج ‪« -‬تطلق في مقابلة االختيار‪،‬‬
‫د ‪« -‬الضرورة قد تكون مفارقة ‪ ،‬وقد تكون حادثة في الكون‪ ،‬وهي‬
‫محددة بضرورة منطقية أو سببية»‪.2‬‬
‫ومن المدارس الفلسفية القائلة بالضرورة الطبيعية (الرواقية) التي تذهب‬
‫إلى أن هذا العالم محكوم بقوانين ضرورية‪ ،‬واإلنسان ما هو إال جزء بسيط‬
‫من أجزاء هذا الكون تتحكم فيه هذه الضرورة‪ ،‬ولذلك كان شعارهم «عش على‬
‫وفاق مع الطبيعة» التي يشبهونها باسطوانة تخضع لحركات دائرية ال‬
‫يستطيع اإلنسان أن يؤثر في نظامها‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ -3‬هل باإلمكان البرهنة على حرية اإلنسان؟‬
‫‪ -2‬هل تسيء الجبرية إلى كرامة اإلنسان؟‬
‫‪ - 5‬بأي معنى يمكن اعتبار "الكسب" حال إلشكالية الحرية؟‬

‫‪ -‬نفس المصدر السابق‪.‬‬


‫‪1‬‬

‫مراد وهبه ويوسف كرم‬ ‫‪ -‬معجم الفلسفة‬


‫‪2‬‬

‫‪289‬‬
‫الحرية والتحرر‬

‫تعد الحرية جوهر المشكالت الفلسفية فهي تطرح في مجال العلم‬


‫واألخالق والسياسة والشغل والقانون‪ .‬ويتجلى مشكل الحرية منذ الوهلة األولى‬
‫حينما نرى الناس في حياتهم العادية يميزون بين األفعال االختيارية واألفعال‬
‫االضط اررية إذ هنالك من ضروب النشاط ما ال دخل لإلرادة فيه وهي‬
‫الموسومة باألفعال االضط اررية‪ ،‬على خالف األفعال المختارة الصادرة عن‬
‫روية وتعقل‪ .‬فهل يقتضي القول بوجود أفعال إرادية أن اإلنسان حر؟ أال يمكن‬
‫اعتبار سلوك اإلنسان كأية ظاهرة أخرى تحتمه شروطه البيولوجية والنفسية‬
‫واالجتماعية والفيزيائية؟ وهل يمكن التحرر من هذه الضرورات؟‬
‫عادة ما تحد الحرية كتخلص من كل االلتزامات الخارجية واتباع‬
‫الرغبات دون قيد‪ ،‬وبالنسبة للفلسفات المثالية الكالسيكية ينظر إلى اإلنسان‬
‫بوصفه ذاتا بمعنى كائن ذى إرادة وأفعال حرة‪ ،‬وبالتالي يجب تصوره خارج‬
‫نطاق الضرورات الطبيعية‪ ،‬وعلى أثر ذلك تظهر ثنائية أساسية هي الحرية‬
‫والضرورة‪.‬‬
‫ويرى ديكارت أن اإلنسان من حيث هو جسد جزء من الطبيعة خاضع‬
‫لقوانينها ومن حيث هو نفس يفلت منها ألنه ذات وبالتالي حر‪ ،‬وهذه الحرية‬
‫تكون واعية بذاتها من خالل الشك الذي يخلصها من الضرورات التي تنفي‬
‫االختيار‪ .‬فالنفس إن خضعت لقوانين الجسد فذلك ألنها تختار الخضوع فهي‬
‫تملك القدرة على الرفض وعدم الخضوع‪ .‬ويستدل ديكارت على الحرية بأن‬

‫‪290‬‬
‫اإلنسان هو الحيوان الوحيد الذي يشعر بأنه حر أي يشعر بالقدرة على اإلقدام‬
‫على ما شاء فعله والقدرة على اإلحجام عما يكرهه‪.‬‬
‫ولهذه الح رية المعروفة باسم حرية استواء الطرفين أو حرية اإلرادة‬
‫خصوم يعتقدون أن الشعور بالحرية غير كاف إلثبات وجودها فما أكثر ما‬
‫يقع اإلنسان في الخطأ والوهم إزاء تمثل الحرية وممارستها فيحس في وضعية‬
‫بما يراه حرية ثم يتبين بعد ذلك أن األمر لم يكن سوى وهم أو سراب‪.‬‬
‫ويرى (كانط) أن الحرية وان كان ال برهان على وجودها وال على عدم‬
‫وجودها يجب اعتمادها كمسلمة من مسلمات العقل الخالص المؤسسة‬
‫لألخالق‪.‬‬
‫والحرية في نظر الوجوديين ال تعريف لها فهي ال تكتسب معناها إال‬
‫في خضم ما يخوضه اإلنسان من تجارب يواجه خاللها ذاته والناس والعالم‪.‬‬
‫ويتضح من خالل ذلك أن كل تعريف للحرية يجمدها في قالب عقلي مجرد‬
‫سيما وأن الحرية ليست واقعة وال صفة ثابتة وانما كل حرية هي في الواقع‬
‫تحرر ي ستهدف اإلنسان الذي يضع نفسه ويشكلها عن طريق اختيار الق اررات‬
‫التي اتخذها لنفسه بنفسه ومن ثم استحال التنبؤ باختياره سلفا‪" ،‬فوجود اإلنسان‬
‫سابق على ماهيته" وهذا ال يتيح القول فقط بأنه حر بل «محكوم عليه‬
‫بالحرية» على حد تعبير سارتر‪.‬‬
‫وقد يؤخذ على حرية سارتر أنها مطلقة‪ ،‬ومرتبطة بالقلق والحيرة‬
‫وبالتالي تشاؤمية تجعل من وجود اإلنسان مأساة حقيقية فهي تعاني من‬
‫التعسف والمبالغة ألنها تؤدي إلى التسليم بأن كل األفعال التي نقوم بها أفعال‬
‫حرة‪.‬‬
‫‪291‬‬
‫وبما أنه لم يكن باإلمكان إنقاذ الحرية من اإلثبات المطلق فلم يكن‬
‫باإلمكان إنقاذها من النفي الصارم يقول (اسبينو از) "ليست اإلرادة علة حرية‬
‫وانما هي علة ضرورية" ويوضح ذلك بقوله‪" :‬إن الناس ال يتوهمون أنهم أحرار‬
‫إال ألنهم واعون بأفعالهم لكنهم ال يعون باألسباب التي تحددها‪ :‬وهو يؤكد‬
‫بذلك على أن اإلنسان مثل الكائنات األخرى مقيد تقييدا مطلقا‪.‬‬
‫وتكشف العلوم الطبيعية واإلنسانية عن مختلف الحتميات التي تتحكم‬
‫في سلوك اإلنسان محيلة حريته إلى وهم‪ .‬فيرى البيولوجيون أن العوامل‬
‫البيولوجية كالغ ـرائز واإلف ارزات الغدديــة والعوامل الوراثية والنشاط العصبي‪..‬‬
‫إلخ‪ .‬هي التي تتحكم في تصرفاتنا‪.‬‬
‫ورغم أنه ال أحد يستطيع أن ينكر دور العوامل البيولوجية في حياة‬
‫الفرد وسلوكه فهو ال يعت بر كائنا بيولوجيا بحتا بل هو كائن بيولوجي‪،‬‬
‫اجتماعي‪ ،‬في آن واحد ومن التعسف إرجاع كل ما يصدر عنه إلى دور‬
‫العوامل البيولوجية‪.‬‬
‫وبما أن اإلنسان يعي ويفهم فهو يستطيع أن يتحكم في ضروراته‬
‫البيولوجية‪ .‬ويتحرر من سلطانها‪.‬‬
‫ويؤكد (دوركهايم) على وجود حتمية اجتماعية مردها أن المجتمع‬
‫بوصفه سلطة عليا قاهرة يتحكم في سلوك المنتسبين إليه فتكون شخصية الفرد‬
‫هي ما يريد لها المجتمع أن تكون‪ .‬يقول دوركهايم‪" :‬حينما يتحدث الضمير‬
‫فينا فإن المجتمع هو الذي يتحدث"‪.‬‬
‫غير أن خضوع الفرد للمجتمع ال يدل بالضرورة على اإلكراه فإمكانية‬
‫التمرد على المجتمع ورفض قوانينه حينما ال يقبل ضمير الفرد ذلك ليس أم ار‬
‫‪292‬‬
‫مستحيال ولذلك يترك المجتمع مجاال واسعا تتحرك فيه إرادة الفرد بعيدا عن‬
‫كل إكراه حقيقي‪.‬‬

‫ويعتبر واطسون علم النفس علما تجريبيا وهو يفسر كل سلوك بأنه‬
‫استجابة لمنبه وال شيء يمكن أن يصدر عن اإلنسان في غياب المنبهات‪.‬‬
‫ويعتقد في التحليل النفسي أن تصرفات اإلنسان ناتجة عن دوافع وميوالت ال‬
‫شعورية عميقة مكبوتة في أعماق النفس وما شعورنا بالحرية إال مجرد وهم‪.‬‬

‫تأثير ال يمكن إنكاره وهذا ال يعني أن‬


‫ا‬ ‫صحيح أن للعوامل النفسية‬
‫اإلنسان يخضع لها خضوعا تاما وسلبيا بل هو يستطيع أن يتحكم فيها‬
‫وفضال عن ذلك فما خضوع اإلنسان للشعور إال خضوعه لذاته وبالتالي ال‬
‫يتنافى مع الحرية‪.‬‬

‫ويتداخل مفهوم الضرورة مع كلمة الحتمية سواء بمفهومها الميتافيزيقي‬


‫وهو الجبرية القائلة بالقضاء والقدر أو بمفهومها العلمي الذي يقتضي اإليمان‬
‫"بأن نفس األسباب تؤدي إلى نفس النتائج" (الحتمية) وهذا ما أكده (كونت)‬
‫بالقول "العلم من أجل التنبؤ والتنبؤ من أجل التحكم" أما (كلود برنار) فيقول‪:‬‬
‫"يجب أن يقب ل كبديهية تجريبية أن شروط وجود الكائنات الحية وشروط وجود‬
‫الكائنات الجامدة هي شروط محددة تحديدا مطلقا‪ .‬وانكار هذه القضية ال‬
‫يكون سوى إنكار العلم ذاته"‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫والواقع أن اإلنسان لم يتحرر من ضغوطات الطبيعة إال عندما عرف‬
‫الحتمية التي تحكمها ولذلك فإن الحرية حسب أنجلز "ال تتمثل في حلم‬
‫االستقالل عن قوانين الطبيعة بل تكون بمعرفة من هذه القوانين"‪.‬‬

‫ويبدو أن الفلسفة السياسية الكالسيكية في إطار وضعها كلتقابل بين‬


‫الحالة الطبيعية والحالة المدنية تقوم بإثارة مشكل الحرية والقانون‪ ،‬ويشير‬
‫مفهوم القانون إلى القاعدة العامة المحددة للسلوك وال يظهر القانون إال في‬
‫الحالة المدنية على اثر ظهور الدولة التي هي نتاج التعاقد بين األفراد‪.‬‬
‫وتنحصر وظيفة الدولة في صيانة حرية األفراد‪ ،‬هذه الحرية التي تولد معهم‬
‫لكن سرعان ما يفتقدونها في فوضى الحياة الطبيعية التي يطالب فيها الفرد‬
‫بحرية مطلقة ال تحدها القوانين مما يؤدي إلى التنافس والصراع والى "حرب‬
‫الكل ضد الكل" حسب قول هوبس‪.‬‬

‫ويرى (روسو) أن الحرية خاصة إنسانية ال يمكن نفيها ولذلك يقول‪:‬‬


‫" يولد اإلنسان ح ار لكنه يجد نفسه حيثما كان مكبال باألغالل"‪ .‬وينتج عن ذلك‬
‫أن القانون هو الذي يجسد الحرية ألنه يصدر عن كل األفراد ويعبر عن‬
‫اإلرادة العامة‪.‬‬

‫وتبقى الحرية شعا ار أجوف وذلك عند ماركس ما لم ترتبط بالواقع‬


‫االقتصادي والسياسي حيث ينبغي التأكيد على قوة الحق بدل حق األقوى‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫ويستخلص مما تقدم أن الحرية الحقيقية قد ال تكون الحرية المطلقة‬
‫التي تتعارض مع الضرورة سواء كانت فيزيائية أو بيولوجية أو نفسية أو‬
‫اجتماعية أو سياسية وانما هي الحرية النسبية القابلة في اآلن نفسه ألن تتسع‬
‫شيئا فشيئا كلما عرف اإلنسان قوانين الطبيعة وعمل على استغاللها لفائدته‬
‫وكلما تحرر من أهوائه وحد في المجال االقتصادي من استغالل اإلنسان‬
‫لإلنسان وفي هذا السياق أال يمكن التساؤل حول ما إذا كانت الضرورة شرطا‬
‫من شروط التحرر؟‬

‫الجبر واالختيار‪:‬‬
‫احترزت الفرق الكالمية من وصمة اللقب بالقدرية إذ كان الذم به متفقا‬
‫عليه لقول النبي عليه وسلم ‪( :‬القدرية مجوس هذه األمة) وكانت الصفاتية‬
‫تعارضهم باالتفاق‪ ،‬على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل تضاد فما الجبر؟‬
‫وما القدر؟ وأي معنى لحرية اإلنسان إن كان من واجبه التسليم والتوكل واحالة‬
‫األحوال كلها إلى القدر المحتوم والحكم المحكوم؟‬

‫الجبرية بزعامة الجهم بن صفوان وضرار بن عمرو رفضت القول‬


‫بالقدر وآمنت بالجبر الذي هو (نفي الفعل عن العبد واضافته إلى الرب‬
‫تعالى) وي رى الشهرستاني في كتابه الملل والنحل أن الجبرية جبريتان خالصة‬
‫وجبرية متوسطة فالجبرية الخالصة هي التي ترى أن اإلنسان ال فعل له ألنه‬
‫ال قدرة له أصال على الفعل أما الجبرية المتوسطة فهي األشعرية‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫وعلى خالف ذلك رأت القدرية بزعامة معبد الجهني وغيالن الدمشقي‬
‫أن ا إلنسان حر مخير وكالم أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل‬
‫التكليف بالكلية‪.‬‬

‫واألشعرية بزعامة أبي الحسن األشعري تتوسط الطريق بين الجبرية‬


‫والقدرية المعتزلة إذ يرى األشعري أن اإلنسان يكتسب أفعاله لذلك سميت‬
‫نظريته "نظرية الكسب" وقد استوحى األشعري الكسب من قوله تعالى‪﴿ :‬كل‬
‫نفس بما كسبت رهينة﴾ وتعريف الكسب هو (تعلق قدرة المقدور بقدرة القادر)‬
‫فلئن كان اإلنسان يولد بال قدرة فإن اهلل يهبه القدرة فقبل اكتساب القدرة يكون‬
‫مسي ار وبعد اكتسابها يكون مخي ار‪.‬‬

‫وهكذا ألف األشعري بين الموقفين المتعارضين وجعل من الكسب منزلة‬


‫بين المنزلتين إن الموقف الجبري والموقف القدري ال يتعارضان تعارض فكرة‬
‫مع فكرة بل يخفيان تعارضا أعمق وهو التعارض بين المواقف السياسية‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الدولة األموية قد أيدت القول بالجبر فذلك ألنها تريد أن تكون الخالفة‬
‫قد ار مقدو ار ال يد لإلنسان فيه فهل دفعت معارضة األمويين العباسيين إلى‬
‫القول بالقدر؟‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 3‬هل يمكن لإلنسان التحرر من كافة الضرورات؟‬
‫‪ – 2‬ما معنى قول (دوركهايم)‪« :‬حينما يتحدث ضميرنا فإن المجتمع‬
‫هو الذي يتحدث»؟‬
‫‪296‬‬
‫‪ – 5‬بأي معنى يمكننا القول‪ :‬إن فهم القوانين هو الذي يمكن من‬
‫التحرر من الحتمية؟‬
‫‪ – 0‬هل القول بالجبر يبطل التكليف بالكلية؟‬

‫‪297‬‬
‫الحرية والمسؤولية‬
‫لقد شكلت الحرية انشغاال متواصال لدى اإلنسان منذ فجر التاريخ‬
‫فمن أجلها قامت حروب وسالت دماء وباسمها تغن الشعراء ولفهمها‬
‫وتفسيرها اختلف المفكرون والفالسفة‪ ،‬وإذا كان التفكير في الحرية عند‬
‫الفالسفة القدام محصورا ضمن تفكيرهم حول بعض المشاكل األخالقية‬
‫والدينية فقد برزت عند الفالسفة المعاصرين كمشكلة رئيسية يدور حولها‬
‫تفكير معظم المفكرين وذلك بسبب دخول اعتبارات اديولوجية من الناحية‬
‫االقتصادية والسياسية وقد طرحت إشكالية الحرية جملة من األسئلة‬
‫واإلثارات سعت المدارس الفلسفية المختلفة إل تقديم مقاربات بخصوصها‬
‫اختلفت من مدرسة إل أخرى ومن بين تلك األسئلة هل من برهان عل‬
‫وجود الحرية؟‬

‫إذا أردنا البرهان عل وجود الحرية بواسطة الدليل المنطقي البد أن‬
‫ننتهي إل إنكارها‪ .‬وذلك ألن العقل ينظر إل الحرية كموضوع خارجي عن‬
‫الذات‪ ،‬إذ أن الفعل الحر في نظر المنطق غير معقول‪ ،‬ألن الحرية تنطوي‬
‫عل تناقض واضح مع مبدأ السبب الكافي‪ ،‬إذ إما أن يكون للفعل الحر سبب‬
‫كاف أو ال يكون له مثل هذا السبب‪ ،‬فإن كان له سبب كاف كان محددا بهذا‬
‫السبب وبالتالي لم يكن حرا وإن لم يكن له سبب كاف لم يكن فعال إراديا‬
‫وبالتالي لم يكن فعال حرا ما دامت الحرية من خاصية اإلرادة‪ ،‬واإلرادة هي‬
‫العمل وفقا ألسباب أو مسوغات ولهذا فالحرية عند الوجوديين ومن معهم في‬
‫هذا المجال ليست موضوعا محددا يمكن إثبات وجوده بالبرهان المنطقي مثل‬
‫النظريات الرياضية بل الحرية عندهم هي إثبات للشخصية وتقرير لوجود‬
‫اإلنسان‪ ،‬فهي ليست موضوعا يعاين من الخارج بل هي حياة تعاين وتعاش‬
‫أثناء العمل بالذات‪ ،‬فالشعور بالحرية أثناء العمل هو الدليل عل وجود‬
‫الحرية‪ ،‬إذ ال يمكن أن توجد الحرية إال أثناء الفعل الحر أو الحركة التلقائية‬
‫‪298‬‬
‫الحرة يقول اليبنز‪" :‬إن السؤال عن الحرية ليس مبعثه سوى إرادة الحرية‬
‫أعني تلك اإلرادة التي تريد أن تكون حرة أما الشك في وجود الحرية فإن‬
‫مبعثه ضعف يقين الموجود الحر شكل في ذاته مما يجعله يلتمس يقينا خارجيا‬
‫أو ضمانا موضوعيا لحريته وهذا األصل في سائر األدلة العقلية عل وجود‬
‫الحرية إذ ال توجد الحرية إ ال حيث أوجد أنا نفسي ووجودي األصلي ال يمكن‬
‫أن يرتقي إليه أي دليل‪.‬‬

‫فالحرية إذن واقعة شعورية ال يمكن أن تخضع ألي برهان ما دام‬


‫اإلنسان ليس إال مجموعة من األفعال الحرة والمتجددة باستمرار ألن ماهيته‬
‫هي الحرية نفسها‪ ،‬ولهذا نجد الفلسفة الوجودية تدافع عن الحرية الفردية‬
‫وتحدد ماهية اإلنسان بالحرية إذ كل الموجودات خاضعة لقوانين الطبيعة‬
‫وحركتها مسيرة بهذه القوانين لكن حركة اإلنسان صادرة من ذاته أو تلقائيته‬
‫وليست في بواعث خارجية عن ذاته ولذلك فهو الكائن الوحيد الحر‪ ،‬لكن‬
‫حريته لم تمنحها له الطبيعة بل يكتسبها بواسطة وعيه المستمر لذاته‪ ،‬ألن‬
‫وجوده سابق لماهيته وهذه الماهية يصنعها اإلنسان بواسطة وعيه واختياراته‬
‫لكن هذا الرأي تقابله آراء أخرى تنفي الحرية عن اإلنسان وتؤكد بالمقابل‬
‫خضوعه لضرورات وحتمية الطبيعة‪.‬‬

‫الحتمية الطبيعية والحرية‪:‬‬


‫عندما تقدمت العلوم تم اكتشاف األسباب المادية لكثير من ظواهر‬
‫الطبيعة‪ ،‬إذ أصبحت الظاهرة الطبيعية غير مرتبطة بأسباب غيبية‪ ،‬بل‬
‫أصبحت مفهومة بالكشف عن القانون الطبيعي الذي تخضع له كل ظاهرة‬
‫طبيعية‪ ،‬واإلنسان نفسه ليس إال ظاهرة بين مجموع ظواهر الطبيعة‪ ،‬فهو‬
‫يخضع مثلها لقوانين الطبيعة ف ي كثير من أنواع سلوكه سواء من حيث طبيعة‬
‫تركيبه البيولوجي أو من حيث عالقته بالطبيعة الخارجية‪ ،‬وليست حرية‬
‫اإلنسان عند أصحاب هذا الرأي إال جهله بالبواعث واألسباب التي تدفعه إل‬

‫‪299‬‬
‫العمل أو إل االختيار‪ ،‬إذ لو علم اإلنسان باألسباب المحددة لسلوكه القتنع‬
‫بعدم حريته في كل ما يتوهم أنه يختاره‪ ،‬وليس الشعور بالحرية إال وهما‬
‫ناشئا عن شعورنا بحركتنا النفسية يصحبه جهلنا باألسباب الدافعة إل الفعل‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى يكون الشعور بأن إرادتنا مطلقة ناتج عن جهلنا بالضرورة‬
‫وفي هذا المعن يقول اسبينوزا‪" :‬أليس الحالم والمستهوي والسكران يتوهمون‬
‫أنهم يفعلون بحرية؟ ويقول ليبنز "اإلرادة عندما تختار تميل مع اقوي‬
‫الدواعي أو البواعث أثرا في النفس كما تميل إبرة الميزان إل جهة الثقل‪،‬‬
‫وما حرية عدم االكتراث أو تساوي الطرفين عند ديكارت وأمثاله إال وليدة‬
‫الجهل‪ ،‬فكلما كان المرء حكيما كان فعله أكمل تحديدا وأكثر جبرية"‪.‬‬

‫الحتمية البسيكولوجية واالجتماعية‪:‬‬

‫بتقدم اكتشافات علم النفس ازداد أنصار الحتمية تدعيما آلرائهم‪ ،‬حيث‬
‫إ ن اإلنسان في نظر كثير من علماء النفس يتحدد سلوكه بمجموعة من‬
‫الدوافع والبواعث أو الميول وباكتشاف الجانب الشعوري في شخصية‬
‫اإلنسان أصبح كثير من األفعال التلقائية مفسرا بدوافع ال شعورية أما األعمال‬
‫الشعورية فقد أصبح تفسيرها أكثر وضوحا بفضل الكشف عن دوافعها‪ ،‬وأما‬
‫من الناحية االجتماعية فإن علماء االجتماع واألنتربولوجيا يفسرون سلوك‬
‫اإلنسان بواسطة أنماط السلوك السائدة في ثقافة المجتمع‪ ،‬ويلح دوركهايم عل‬
‫هذه الناحية إذ أن الضمير الجمعي عنده هو الذي يحدد سلوك األفراد داخل‬
‫المجتمع كما نجد من بين علماء االجتماع من يستشهدون باإلحصاءات‬
‫االجتماعية ويرتبون عليها نوعا من الحتمية ال ناتجة عن تأثير البيئة الطبيعية‪،‬‬
‫وتأثير الوراثة البيولوجية والتربية والعوامل االقتصادية‪.‬‬

‫مفهوم التحرر‪:‬‬

‫‪300‬‬
‫ذهب هيجل مذهبا آخر في فهمه للحرية حيث يقول‪" :‬إن الحرية قد‬
‫توجد أيضا عل صورة حرية مجردة ال اثر للضرورة فيها‪ ،‬ولكن هذه‬
‫الحرية الكاذبة إنما هي التعسف بعينه ومن ثم فإنها وعل وجه التحديد‬
‫مناقضة لذاتها تماما ألنها بمثابة تسلسل ال ش عوري أو مجرد صورة وهمية‬
‫من صور الحرية‪ ،‬أو هي باألحرى مجرد حرية صورية محضة"‪ ،‬والحرية‬
‫عند هيجل ليست إال وعيا بالضرورة‪ ،‬وبهذا المعن الهيجلي ال يمكن لنا أن‬
‫نتصور مفهوم الحرية بدون أن نتصور مفهوم الضرورة أو الحتمية‪ ،‬ألن‬
‫المعن الحقيقي للحرية يستلزم بالضرورة معن الحتمية ولهذا فالحرية‬
‫والحتمية يؤلفان جدليا ما يسميه هيجل بمفهوم التحرر ألن فكرة التحرر تقوم‬
‫عل أساس الوعي أي المعرفة بالقوانين التي تقف حائال دون الحرية‪ ،‬سواء‬
‫كانت قوانين الظواهر الطبيعية أو االجتماعية أو االقتصادية أو النفسية أو‬
‫البيولوجية‪ ،‬ومعن ه ذا أن تحرر اإلنسان ال يستلزم وجود معجزات تقضي‬
‫عل قوانين الطبيعية او تلغي نظام األشياء بل هو يستلزم معرفة هذه‬
‫القوانين‪ ،‬واستخدام هذه المعرفة بمهارة تقنية من أجل العمل عل تحقيق‬
‫أهداف اإلنسان وكلما ازدادت تلك المعرفة ازدادت حريته فمثال السفينة‬
‫الشراعية التي تريد أن تتفادى التيار تتحايل عل اتجاه الرياح المضادة فتتقدم‬
‫في اتجاه لولبي مستخدمة قوة الرياح من أجل السير في اتجاه مضاد لها‪ ،‬ومن‬
‫هنا فإن البحار الذي يريد أن يتقدم بسفينته ليس في حاجة إل معجزة حت‬
‫يغير من اتجاه الرياح وإن ما حسبه أن يستخدم قوانين الطبيعة بمعرفة واضحة‬
‫ومتميزة حت يشق طريقه في االتجاه الذي يريده‪.‬‬

‫وإذا كان روسو قد قال ‪" :‬ولد اإلنسان حرا" فإن الماركسيين ينطلقون‬
‫من نقيض هذا الرأي تماما إذ هم يقولون إن اإلنسان ولد مستعبدا ومقيدا بشت‬
‫الظروف الخارجة عن إرادته ويرون أن فلسفتهم فلسفة واقعية بعيدة عن‬
‫التجريد وال يقبلون بهذا المعن التفرقة التي يقيمها الفالسفة الميتافزيقيون بين‬
‫مشكلة حرية اإلرادة من جهة ومشكلة حرية األفراد السياسية واالقتصادية من‬

‫‪301‬‬
‫جهة أخرى بل هي ثمار تطور تاريخي وعملية مستمرة يحقق من خاللها‬
‫اإلنسان انتصاره عل الطبيعة الخارجية من جهة وعل العبودية االجتماعية‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬فليست الحرية هي ذلك الحلم الذي طالما راود البشر بأن‬
‫تجيء أفعالهم مستقلة عن قوانين الطبيعة بل هي عبارة عن معرفة لتلك‬
‫القوانين مع نشاط فعال من أجل االستفادة من تلك القوانين عن طريق‬
‫استخدامها لتحقيق تلك األهداف المطلوبة ومن هنا ال يعترف الماركسيون‬
‫بالحرية الميتافيزيقية التي تقوم عل الشعور أو الوجدان الفردي أو التفكير‬
‫التجريدي ولهذا ف مسؤولية الحرية ليست فردية بل هي مسؤولية يتحملها‬
‫المجتمع في عملية تحرر متواصل لتمكين األفراد من فرض الوعي والعمل‬
‫وتنمية طاقاتهم وقدراتهم الذاتية‪.‬‬

‫المسؤولية‪:‬‬
‫إذا كان الحديث عن الحرية قد قادنا إل مذاهب شت بين من ينفي‬
‫وجود الحرية ومن يعتبرها جزءا أصيال من كينونة اإلنسان ذاته فإن عالقتها‬
‫بالمسؤولية أثارت هي األخرى اهتمام الفالسفة وشكلت أرضية رحبة‬
‫لمجموعة من المقاربات التي أكدت في معظمها عل الطابع التشاركي في‬
‫العالقة بين الحرية والمسؤولية فاإلنسان يعيش ضمن المجتمع وجميع‬
‫مصالحه المادية والمعنوية ال تتحقق إال مع أفراد مجتمعه فهو إذن مسؤول‬
‫عن جميع أعماله و كل مجتمع يعيش ضمن ظروف مادية معينة ويقوم ببعض‬
‫النشاطات لتأمين وسائل العيش ألفراده‪ ،‬وال يتمكن ا لمجتمع من المحافظة‬
‫عل وجوده وتحقيق توازنه إال إذا تحققت العالقات القائمة بين أفراده وفي‬
‫هذا اإلطار يرى دوركايم وليفي ابريل أن اإلنسان ليس مسؤوال عن سلوكه‬
‫األخالقي إال أمام المجتمع‪ ،‬ألن الضمير الجمعي بما يمثله من قيم ومبادئ‬
‫وعادات وتقاليد هو الذي يحدد سلوك األفراد ويفرض عليهم نماذج معينة من‬
‫أنواع السلوك‪ ،‬إذ أن شخصية الفرد ليست إال انعكاسا لشخصية المجتمع‪،‬‬
‫ولهذا يجب عل الفرد أن يتخل عن أنانيته كي يتالءم مع القيم والمبادئ‬

‫‪302‬‬
‫األخالقية عند المجتمع‪ ،‬وذلك بالتضحية بالكثير من شهواته ومصالحه التي‬
‫يصطدم إشباعها أو تحقيقها بقيم الضمير الجمعي‪ .‬ولهذا فمسؤولية اإلنسان‬
‫هي مسؤولية اجتماعية مثل كل شيء وبذلك فإن حرية اإلنسان يقابلها دائما‬
‫شعوره بالمسؤولية وباالكراهات االجتماعية واألخالقية وغيرها مما يدفعه‬
‫إل إقامة توازن بين حريته وما يترتب عليه من مسؤولية‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ – 1‬ما الحرية وهل هي موجودة أصال؟‬
‫‪ – 2‬ما العالقة بين الحرية والحتمية؟‬
‫‪ – 3‬كيف يتحقق تحرر اإلنسان؟‬
‫‪ – 4‬ما عالقة الحرية بالمسؤولية؟‬

‫‪303‬‬
‫الحرية في اإلسالم‬

‫لقد حددت المواقف الفلسفية موضوع الحرية من زاوية عالقة اإلرادة‬


‫بالشروط والحتميات وانقسمت إلى ثالثة مواقف‪ :‬األول يعتبر أن اإلنسان‬
‫خاضع دائما للجبر أو الحتمية‪،‬وهو موقف يتجلى واضحا لدى الرواقيين الذين‬
‫اعتبروا أن اإلنسان جزء من الكون وخاضع لقانون العلة والمعلول‪،‬أما الثاني‬
‫فيعتبر أن اإلنسان قادر دائما على االختيار الحر‪ ،‬وأن اإلرادة أقوى من كل‬
‫القيود الواقعية أو المتصورة‪ ،‬وأن االختيار هو الذي يفسر الدوافع وليس‬
‫العكس‪،‬بينما يرى الموقف الثالث أن الحرية هي اختيار في الضرورة‪ ،‬فالحرية‬
‫ليست مجرد شعور فارغ باالستقالل الوهمي‪ ،‬وليست انقيادا كليا للضرورة‪ ،‬بل‬
‫هي إرادة تعمل ضمن شروط وحتميات طبيعية‪،‬وممارسة الحرية تقتضي فهم‬
‫هذه الشروط وتحليلها‪،‬أي على حد تعبير (هيجل) «الحرية هي وعي‬
‫بالضرورة»‪ ،‬فكيف نظر اإلسالم إلى الحرية؟وما هو الموقع الذي تحتله‬
‫الحرية في اإلسالم؟ وما العالقة بين تصور اإلسالم للحرية والفطرة‬
‫اإلنسانية؟‪.‬‬
‫الحرية مفهوم إنساني تتطلع إليه النفوس وهو شيء ضروري لحياة‬
‫البشر‪ ،‬م ن هنا تكمن أهمية معالجة اإلسالم له‪ ،‬وقد تم تناول هذا المفهوم في‬
‫الفكر اإلسالمي من وجهات نظر مختلفة منها‪:‬‬
‫‪ -3‬منظور اجتماعي يتحدث عن الحرية مقابل الرق‪ ،‬الذي وجد قبل‬
‫اإلسالم وعمل اإلسالم على محاصرته والقضاء عليه وفق مبدأ التدرج‪ ،‬ونردد‬

‫‪304‬‬
‫في هذا المجال المقولة الشهيرة لعمر رضي اهلل عنه ‪« :‬متى استعبدتم الناس‬
‫وقد ولدتهم أمهاتهم أح ار ار»‪.‬‬
‫‪ -2‬منظور ميتافيزيقي‪ :‬وهو الذي يبحث الحرية في إطار عالقة‬
‫اإلنسان بربه ومدى حريته في الفعل‪ ،‬وهي اإلشكالية التي تمت معالجتها في‬
‫مباحث المتكلمين الذين انقسموا في مواقفهم بين مؤكد للحرية في إطالقها وهو‬
‫ما تقول به المعتزلة « فاإلنسان حر في أفعاله وقد فوض اهلل تعالى أعمال‬
‫العباد إليهم يفعلون ما يشاؤون على وجه االستقالل دون أن يكون هناك‬
‫سلطان على أفعالهم‪ « ،‬أو مفند ألي فارق بين فعل اإلنسان وحركة الظواهر‬
‫الطبيعية‪،‬وهو ما تقول به الجبرية « فالجبر يعني إجبار اهلل تعالى عباده على‬
‫ما يفعلون سواء كان خي ار أو شرا‪ ،‬دون أن يكون للعبد أي خيار للرفض أو‬
‫المنع»‪.‬‬
‫وحاولت األشعرية التوسط بين الطرفين فقالت بكسب اإلنسان «ويقصد‬
‫به أن اهلل تعالى كلف عباده بواسطة األنبياء والرسل ببعض األفعال ونهاهم‬
‫عن بعض آخر بعد أن منحهم القوة واإلرادة على الفعل»‪.‬‬
‫‪ -5‬منظور يدعو إلى صرف النظر عن جدال المتكلمين وتدقيق النظر‬
‫في طبيعة اإلسالم ومقاصده العليا كسبيل لتوضيح مفهوم الحرية وذلك من‬
‫خالل ما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬حرية اإلرادة شرط للتكليف‪ :‬ال شك أن اهلل تعالى جعل اإلنسان‬
‫مستخلفا في األرض‪ ،‬وهذا االستخالف يستدعي شرطين أساسيين وهما‪ :‬العقل‬
‫والحرية‪ ،‬وكما يقول األصوليون فإن الحرية والعقل مناط المسؤولية والتكليف‪،‬‬
‫شاء َفْلَي ْك ُف ْر﴾‪ ،‬وهذه اآلية دليل‬ ‫شاء َفْل ُي ْؤ ِم ْن َ‬
‫وم ْن َ‬ ‫ولذلك قال تعالى ‪َ ﴿ :‬ف َم ْن َ‬
‫‪305‬‬
‫واضح على تأكيد الحرية بالنسبة لإلنسان‪ ،‬ويتجلى األمر في كيفية تمكن‬
‫اإلسالم من رفع أمم عديدة في وقت قياسي إلى استيعاب حضارات عظيمة‬
‫وتجاوزها وبناء أسس لحضارات جديدة كالحضارة األوربية وهو ما يدل على‬
‫وجود مجتمع حر‪ ،‬كما ال ننسى أن من أوائل من دخل في اإلسالم‬
‫المستضعفون الذين أروا فيه خالصهم من الظلم واالضطهاد‪.‬‬
‫ب‪ -‬الحرية وعقيدة القضاء والقدر‪ :‬فقد أخرج اإلسالم مفهوم الحرية‬
‫من القولين‪ :‬القائل بخضوع اإلنسان التام لنظام الطبيعة أو القول بحريته‬
‫المطلقة‪ ،‬فجعلها خضوعا واعيا لقوانين الكون والشرع‪ ،‬فهي ليست استباحة‬
‫بمعنى أن يترك اإلنسان وفق أهوائه ورغباته فتلك حرية الحيوان‪ ،‬يقول محمد‬
‫إقبال‪ « :‬المسلم الضعيف يعترف بالقضاء والقدر والمسلم القوي هو قضاء اهلل‬
‫و قدره»‪.‬‬
‫ونورد في الموضوع قصة عمر رضي اهلل عنه عندما علم أن الطاعون‬
‫بدأ يستشري في بعض المسلمين في الشام‪ ،‬فأشار عليهم بعضهم‪ :‬هل نفر‬
‫من قدر اهلل؟ فاعترض قائال‪ :‬نفر من قدر اهلل إلى قدر اهلل‪ .‬أي نفر من‬
‫أسباب المرض إلى أسباب الصحة ومن أسباب الفقر إلى أسباب الغنى ومن‬
‫أسباب الذل والمهانة إلى أسباب العزة والكرامة‪.‬‬
‫بل يمكن القول إن الحرية ال تتحقق إال بقدر تعاظم عبودية اإلنسان هلل‬
‫تعالى‪ ،‬ففي الحديث الشريف‪« :‬وال يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‬
‫ويده التي‬ ‫بصر به َ‬ ‫وبصره الذي ُي ُ‬
‫َ‬ ‫سمع به‬
‫سمعه الذي َي ُ‬
‫َ‬ ‫فإذا أحببته كنت‬
‫أعطيتُه ولئن استعاذني أل ِ‬
‫ُعي َذَّن ْه»‬ ‫يبطش بها ورجَله التي َيمشي بها وان سألني ْ‬
‫أخرجه البخاري‪.‬‬
‫‪306‬‬
‫وبذلك يتم التحرر داخل الذات ليغدو ممكنا خارجها‪،‬حتى يصل‬
‫اإلنسان بهذه الدرجة من العبودية من القرب «أن لو أقسم على ربه ألبره»‪،‬‬
‫وهنا تتحقق الحرية حين يمتثل العبد ألوامر ربه‪ ،‬فال يمكن تصور حرية أعظم‬
‫من أن يستطيع اإلنسان فعل أشياء غير عادية بسبب خضوعه لهذا القدر وال‬
‫غرو أن اهلل تعالى هو الذي خلق اإلنسان وهو أعلم بما يصلح له وما يتوافق‬
‫معه‪ .‬ومن هنا يكون القدر هو الحرية ذاتها‪.‬‬
‫ج‪ -‬الحرية في اإلسالم مفهوم شمولي‪ :‬لقد نظر اإلسالم إلى الحرية‬
‫من جميع جوانبها الفردية واالجتماعية واالقتصادية والسياسية والدينية‪.‬‬
‫لقد جاء اإل سالم لتحرير اإلنسان من الظلم واالضطهاد فحارب الرق‬
‫وجعل المسلمين سواسية إال بدرجة ترقيهم في سلم الحرية (التقوى)‪ ،‬كما حرم‬
‫الربا الذي يعتبر جرما اقتصاديا باإلضافة إلى فرض الزكاة والحث على‬
‫اإلنفاق لقهر الفقر‪،‬ورفض دخول الدين إكراها «ال إكراه في الدين»‪ ،‬وهو ما‬
‫يعني إق ارره مبدأ « حرية االعتقاد في دخول اإلسالم‪،‬لكن ليس الخروج منه»‪،‬‬
‫وأمر بالعدل ومنح حقوق المواطنة واعتمد مبدأ الشورى في تسيير الشأن العام‬
‫وهو المرتكز ألهمية النقد والمشاورة وعدم االستبداد كما كان ذلك حيا لدى‬
‫الخلفاء الراشدين‪ .‬إن غياب الحرية يسقط جميع التكاليف المنوطة باإلنسان‬
‫فال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬تجاوز اهلل عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا‬
‫عليه»‪.‬المستدرك على الصحيحين للحاكم‪.‬‬
‫فاإلسالم جاء لكسر األغالل التي تكبل النفوس والعقول واألجساد‬
‫وترفض استعباد اإلنسان ألخيه اإلنسان تحت أي مسوغ‪ ،‬ولذلك نرى كيف‬
‫حارب اإلسالم الرق ومنابعه وجميع أصناف العبودية وهو أمر ال يعرف‬
‫‪307‬‬
‫القنوط واإلحباط قال تعالى ‪« :‬وال تهنوا وال تحزنوا وأنتم األعلون إن كنتم‬
‫مؤمنين» (آل عمران)‪.‬‬

‫د‪ -‬العبادات منهج تربوي للتحرر‪ :‬رأى اإلسالم في إبراز عنصر‬


‫اإلرادة والمسؤولية أم ار يساعد في تحرير فعاليات اإلنسان المعطلة ‪،‬فكانت‬
‫شرائع اإلسالم وعباداته متصلة بالحياة بعد أن أفرغتها ظروف االنحطاط من‬
‫كل بعد حياتي لتغدو مجرد شعارات جوفاء‪،‬فالمسلم يكون ح ار حين يصوم عن‬
‫الظلم (الصوم) وحين يصدق ويعطي من ماله (الزكاة) وحين يمتنع عن‬
‫اإلسهام في مجتمع مقطع األوصال (صلة الرحم) وحين يذهب عن األهل‬
‫واألصدقاء لتلبية نداء ربه (الحج) أو عندما يمنح نفسه دفاعا عن الضعفاء‬
‫والمظلومين من أبناء وطنه (الجهاد)‪ ،‬وفق اإلحساس بواجب حقيقي صادر‬
‫عن إرادة حرة صاحبها ال يخاف من قوانين وضعية يمكن التحايل عليها ‪،‬بل‬
‫يحس برقابة من ال تخفى عليه خافية في األرض وال في السماء‪.‬‬
‫إن اإلنسان يكون ح ار في اإلسالم حينما يقوم بواجباته اتجاه األهل‬
‫والجيران والوطن واألمة وحين يرتفع عن الحيوانية ليغوص بعيدا في عالم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬عالم نحتاجه جميعا تسود فيه القيم الربانية لمفهوم الحرية تجعل‬
‫من اإلنسان إنسانا قاد ار على بناء نفسه ومجتمعه ومبتعدا عن الدالالت‬
‫المبتذلة التي تعتبر الحرية مكبلة بحيث يتحول اإلنسان إلى مجرد ظاهرة‬
‫طبيعية ال حول له وال قوة تارة باسم (الجبرية) وتارة أخرى باسم الحرية‬
‫المطلقة‪،‬وهذا ما بينته النظرة اإلسالمية لمفهوم الحرية‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ -3‬ما المكانة التي تحتلها الحرية في اإلسالم؟‬
‫‪ -2‬ما وجه االختالف بين مفهوم الحرية في اإلسالم ومفهوم الحرية‬
‫عند الغرب؟‬
‫‪ -5‬كيف يتم التوفيق بين الحرية ومبدإ الضرورة والحتمية في‬
‫اإلسالم؟‬

‫‪309‬‬
‫النصوص‬

‫‪310‬‬
311
‫النص )‪:(1‬‬

‫اإلنسان بين الحرية والضرورة‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫يتخذ (ابن رشد) موقفا فلسفيا طريفا من مشكلة القضاء والقدر‪ ،‬إذ‬
‫يعتبر أن داللة التسيير والتخيير داللة جمع ال داللة تفرقة‪ ،‬وأن األعمال‬
‫اإلنسانية تتم بالتخيير والتسيير معا‪ ،‬ألن مردها إل إرادة حرة من جهة وإل‬
‫أسباب طبيعية من جهة أخرى‪ .‬وهذه األسباب ال تقف عند العلل الخارجية‪،‬‬
‫بل تتمثل أيضا في النوازع الداخلية‪ ،‬وبتعبير آخر‪ ،‬ال يرى ابن رشد تعارضا‬
‫بين الحرية والضرورة بل توافقا جوهريا‪ ،‬متجاوزا بذلك القضية التي أدت‬
‫في العصر الوسيط إل خصومات وتناقضات مذهبية وفلسفية حول مسألة‬
‫الجبر واالختيار‪ ،‬ولعل النتائج التي وصل إليها (ابن رشد) في نفي التعارض‬
‫بين الحرية والضرورة تقترب كثيرا من الحلول التي وصل إليها بعض‬
‫الفالسفة المحدثين‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬

‫يظهر أن هللا تبارك وتعال قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء‬
‫هي أضد اد‪ ،‬لكن لما كان االكتساب لتلك األشياء ليس يتم لنا إال بمواتاة‬
‫األسباب التي سخرها هللا لنا من خارج‪ ،‬وزوال العوائق عنها‪ ،‬كانت األفعال‬
‫المنسوبة إلينا تتم باألمرين جميعا‪ .‬وإذا كان كذلك فاألفعال المنسوبة إلينا‬
‫أيضا يتم فعلها بإرادتنا وموافقة األفعال التي من خارج لها‪ ،‬وهي المعبر عنها‬
‫بقدرة هللا‪ .‬وهذه األسباب التي سخرها هللا من خارج ليست هي متمة لألفعال‬
‫التي نروم فعلها أو عائقة عنها فقط بل هي السبب في أن نريد أحد التقابلين‪.‬‬
‫فإن اإلرادة إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما‪ ،‬أو تصديق بشيء‪ ،‬وهذا‬
‫‪312‬‬
‫التصديق ليس هو إال اختيارنا‪ ،‬بل هو شيء يعرض لنا عن األمور التي من‬
‫خارج‪ .‬مثال ذلك أنه إذا ورد علينا أمر مشته من خارج اشتهيناه بالضرورة‬
‫من غير اختيار‪ ،‬وكذلك إذ طرأ علينا أمر مهروب عنه من خارج كرهناه‬
‫باضطرار فهربنا منه وإذا كان هكذا فإرادتنا محفوظة باألمور التي من خارج‬
‫ومربوطة بها‪.‬‬

‫وكل مسبب يكون عن أسباب محدودة مقدرة‪ ،‬فهو ضرورة محدود‬


‫مقدر‪ ،‬وليس يلغي هذا االرتباط بين أفعالنا واألسباب التي من خارج فقط‪،‬‬
‫وبينها وبين األسباب الت ي خلقها هللا تعال في داخل أبداننا‪ ،‬والنظام المحدود‬
‫الذي في األسباب الداخلة والخارجة‪ ،‬أعني التي ال تخل‪ ،‬وهو القضاء والقدر‬
‫الذي كتبه هللا تعال عل عباده ‪.‬‬

‫وإذا كان هذا كله‪ ،‬كما وصفنا‪ ،‬فقد تبين لك كيف لنا اكتساب وكيف‬
‫جميع مكتسباتنا بقضاء وبقدر سابق‪ .‬وهذا الجمع هو الذي قصده المشرع‬
‫بتلك اآليات العامة واألحاديث التي يظن بها التعارض وهي إذا خصصت‬
‫عمومتها بهذا المعن انتف عنها التعارض وبهذا أيضا تنحل جميع الشكوك‬
‫التي قيلت في ذلك‪ ،‬أعني الحجج المتعارضة العقلية‪ ،‬أعني أن كون األشياء‬
‫الموجودة عن إرادتنا يتم وجودها باألمرين جميعا‪ ،‬أعني بإرادتنا وباألسباب‬
‫التي من خارج‪ ،‬فإذا نسبت األفعال إل واحد من هذين عل اإلطالق‪ ،‬لحقت‬
‫الشكوك المتقدمة‪.‬‬

‫ابن رشد (مناهج األدلة)‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪313‬‬
‫‪ –1‬بم ترتبط األفعال البشرية في نظر ابن رشد؟‬
‫‪ –2‬ماذا يعني ابن رشد بالقدر؟‬
‫‪ –3‬ما اإلرادة في نظر ابن رشد؟ وكيف أنه ال يوجد تناقض بين‬
‫إرادة اإلنسان والضرورة؟‬
‫‪ – 4‬هل للمعرفة دور في "إزالة العوائق" الطبيعية أمــام اإلرادة‬
‫اإلنسانية؟‬
‫‪ - 5‬هل ثمة تقارب بين نظرة ابن رشد إل الحرية والضرورة‬
‫وبين المذاهب الفلسفية الحديثة؟‬

‫‪314‬‬
‫النص )‪:(2‬‬

‫الحرية أساس كل أخالق‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫يذهب "نيشه" في هذا النص إل أن الواجب والقيم األخالقية البد أن‬


‫يكون مصدرها الفرد الجزئي ‪ ،‬ألن الحفاظ عل الوجود العيني يفترض‬
‫التمركز حول الذات بعيدا عن التحليق في العالم الكلي المجرد الذي يمتص‬
‫كل وجود فردي حاضر‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬

‫لنضف كلمة أخرى ضد كانط األخالقي‪ :‬ينبغي لفضيلة ما أن تكون من‬


‫إبداعنا‪ ،‬وأن تطابق مقاومتنا الشخصية والمشروعة عند الحاجة‪, .‬إذا ما‬
‫أخذت الفضيلة بمعن آخر فإنها تصبح خطرا علينا‪ .‬وإن ما ال يكون شرطا‬
‫حيويا لوجودنا يضر بهذا الوجود فإن فضيلة ما تكون ضارة حينما ترتبط‬
‫بإجالل الفكرة العامة عن "الفضيلة" كما أورد "كانط" إن فكرة الفضيلة‬
‫وفكرة الواجب وفكرة الخير في ذاته‪ ،‬أي الخير المطبوع بطابع الالشخصية‬
‫والشمولية‪ ،‬إن كل تلك األفكار المجردة تشكل في ذاتها أو هاما يتجل فيها‬
‫انهيار الحياة وتصدعها وضعفها النهائي‪...‬‬
‫إن قوانين الحفاظ عل الذات والتكاثر العميقة تستلزم العكس‪ ،‬أي‬
‫تستوجب أن يبدع كل فرد لذاته فضيلته الخاصة وواجبه المحتم‪ .‬وحينما يخلط‬
‫شعب ما واجبه الخاص بالفكرة العامة المجردة عن الواجب‪ ،‬فإنه يسير نحو‬
‫ضياعه الحقيقي‪ ،‬ال شيء يسبب اإلفالس العميق مثل فكرة الواجب‬
‫"الالشخصي"‪.‬‬

‫فردريك نيتسه‪ :‬الدجال‪ ،‬ص ‪88‬‬


‫طبعة بوفرى‪ ،‬باريس‬
‫‪315‬‬
‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬كيف تصبح القيم األخالقية خطرا يهدد إرادة اإلنسان في‬
‫الوجود؟‬
‫‪ –2‬ال يعتبر النص اإلنسان كائنا أخالقيا إال بقدر ما يكون مبدعا‬
‫لقيمه الخاصة‪ .‬ما رأيك؟‬
‫بقاء‬ ‫‪ –3‬ما هي االنعكاسات السلبية لفوضوية القيم عل‬
‫المجتمعات؟‬
‫‪ – 4‬هل يمكن ألي فكر ال يقوم عل أسس عامة أن يكتب له البقاء؟‬

‫‪316‬‬
‫النص )‪:(3‬‬

‫الحرية والعمل‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫من المعروف أن الماركسية تؤكد عل الشروط االقتصادية‬


‫واالجتماعية للحرية‪ ،‬وتعتبر أنها تتمثل في تحرر المجتمع من أشكال‬
‫االستغالل الطبقي‪ ،‬إال أن ماركس )‪ (1883-1818‬كاتب رأس المال – لم يهمل‬
‫ناحية أساسية للحرية بالنسبة للفرد‪ ،‬وهي تنمية طاقاته وقدراته الذاتية الخالقة‬
‫خارج العمل االقتصادي‪ ،‬وهذه الحرية الحقيقة في نظره ال تتحقق وال تنمو‬
‫إال بالتغيير الثوري للمجتمع ككل‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫إن مملكة الحرية ال تبدأ في الواقع إال حيثما ينتهي العمل الذي‬
‫تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية‪ .‬لذا توجد بالطبع خارج دائرة اإلنتاج‬
‫المادي ذاته‪ .‬وينبغي عل اإلنسان المتحضر‪ ،‬كما هو الشأن تماما بالنسبة‬
‫للمتوحش‪ ،‬أن يدخل في صراع مع الطبيعة إلرضاء حاجاته وللمحافظة عل‬
‫حياته وتحديد قواه الحيوية‪ .‬وهذا اإللزام يوجد في كل األشكال االجتماعية‬
‫وكل نماذج اإلنتاج أيا كانت‪ .‬وكلما تطور اإلنسان المتحضر اتسعت مملكة‬
‫الضرورة الطبيعية طردا مع نمو الحاجات‪ ،‬ولكن في آن واحد تزداد قوى‬
‫اإلنتاج التي توفر تلك الحاجات‪ ،‬ومن هذه الوجهة ال تنحصر الحرية إال فيما‬
‫يلي‪ :‬أن ينظم اإلنسان االجتماعي والمنتجون المتجمعون بصفة عقلية عملية‬
‫التكييف هذه التي تربطهم بالطبيعة‪ ،‬وأن يخضعوها لرقابتهم المشتركة –‬
‫عوض أن يستسلموا لها وكأنها قوة عمياء – وأن ينجزوا هذه العملية في نفس‬
‫الوقت بأقل الجهود الممكنة وفي الظروف التي تكون أكثر تالؤما مع كرامتهم‬
‫وطبيعتهم اإلنسانيتين‪ .‬ولكن هذا الميدان يبق دائما ميدان الضرورة‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫وفيما بعد‪ .‬يبدأ ازدهار القوة اإلنسانية التي تشكل غاية لذاتها‪ ،‬أي تبدأ‬
‫المملكة الحقيقية للحرية‪ .‬ولكن هذه المملكة ال تزدهر إال استنادا إل مملكة‬
‫الضرورة‪ .‬إن التخفيض في أوقات العمل اليومي هو الشرط األساسي لذلك‪.‬‬

‫كارل ماركس (رأس المال)‬


‫الكتاب الثالث – الجزء الثالث‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬ما مدلول الحرية عل المستوى االقتصادي واالجتماعي حسب‬
‫الكاتب؟‬
‫‪ –2‬فيم تتمثل الحرية خارج العمل االقتصادي؟ ولمـــاذا يرى‬
‫ماركس أن "المملكة الحقيقية للحرية "تبدأ خــــارج دائرة‬
‫اإلنتاج"؟‬
‫‪ –3‬ما المقصود في النص "بمملكة الضرورة؟ بين كيف أن الحرية‬
‫تستند إل الضرورة‪.‬‬
‫‪ - 4‬هل حققت المجتمعات الحاليـة درجة من الحريــة كما‬
‫يتصورها الكاتب؟‬

‫‪318‬‬
‫النص )‪:(4‬‬

‫الحرية أساس كل القيم‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫يتميز اإلنسان من بين باقي الكائنات األخرى التي تعيش معه بأنه‬
‫الوحيد الذي يشعر ذاتيا بأنه مصدر أفعاله‪ ،‬وأن سلوكه ليس ممل عليه من‬
‫خارج‪ ،‬ومن ثم فهو حر حرية يعيشها من خالل الظروف التي يمارس في‬
‫ظلها أفعاال ملموسة تبرهن عمليا عل هذه الحرية التي تفرض أن يكون‬
‫اإلنسان حاضرا في الحياة‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫عندما أعلن أن الحرية – عبر كل ظرف ملموس – ال يمكن أن‬


‫يكون لها من هدف سوى أن تريد ذاتها‪ ،‬وما دام اإلنسان قد أقر بأنه يضع‬
‫قيما بال سند فإنه ال يستطيع أن يريد شيئا آخر سوى حريته باعتبارها أساس‬
‫كل القيم‪ ،‬وهذا ال يعني أنه ي طلبها بصفة مجردة‪ ،‬وإنما يعني أن أفعال ذوي‬
‫النية الحسنة إ نما تكتسب داللتها القصوى من البحث عن الحرية في ذاتها‪ .‬إن‬
‫اإلنسان الذي ينخرط في النقابة الشيوعية أو الثورية الفالنية إنما ينشد أهدافا‬
‫ملموسة‪ ،‬وهذه األهداف تستتبع إرادة مجردة للحرية‪ ،‬ولكن هذه الحرية تنشد‬
‫ذاتها في مجال ملموس‪ .‬إننا ننشد من خالل كل طرف خاص‪ ،‬الحرية من‬
‫أجل الحرية‪ .‬وفي طلب الحرية نكتشف أنها أنها متوقفة تماما عل حرية‬
‫اآلخرين‪ ،‬وأن حرية اآلخرين متوقفة عل حريتنا‪ ،‬ومن األكيد أن الحرية من‬
‫حيث هي تعريف لإلنسان ال تتوقف عل الغير‪ ،‬ولكن ما إن يكون ثمة التزام‬
‫حت أكون ملزما بأن أنشد حرية اآلخرين في ذات الوقت الذي أنشد فيه‬
‫حريتي‪ ،‬فال استطيع أن أجعل حريتي هدفي إال إذا جعلت حرية اآلخرين‬
‫هدفي أيضا‪ .‬والنتيجة أنني إذا ما قررت عل مستوى األصالة الكاملة بأن‬
‫اإلنسان كائن يسبق فيه الوجود الماهية‪ ،‬وبأنه كائن حر ال يستطيع في‬
‫ظروف مختلفة سوى أن ينشد حريته‪ ،‬فإنني أقر في الوقت ذاته بأنني ال‬
‫‪319‬‬
‫أستطيع سوى أن أنشد حرية اآلخرين‪ .‬وهكذا‪ ،‬فرغم اختالف مضمون‬
‫األخالق‪ ،‬فإن شكال معينا منها يكون كليا‪ ،‬وقد أعلن (كانط) أن الحرية تنشد‬
‫ذاتها وتنشد حرية اآلخرين‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬لكنه اعتبر أن ما هو صوري وما‬
‫هو كلي كافيان لتكوين نسق أخالقي‪ .‬ونعتبر – خالفا لكانط – أن المبادئ‬
‫المسرفة في التجريد تخفق في تحديد الفعل‪ ،‬خذ مجددا‪ ،‬مثال هذا التلميذ )‪(1‬‬

‫فبأي حق‪ ،‬وباسم أي مبدإ أخالقي سام معتقد أنه كان بإمكانه أن يقرر وهو‬
‫مرتاح البال تماما أن يهجر والدته أو يبق معها؟ ليس ثمة آية طريقة للحكم‪.‬‬
‫إن المضمون ملموس دا ئما‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فال أحد يستطيع أن يتوقعه سلفا‪ ،‬فهناك‬
‫دائما ابتكار‪ .‬والعبرة بشيء واحد وهو أن نعرف ما إذا كان االبتكار الذي تم‬
‫قد تم باسم الحرية‪.‬‬
‫سارتر (‪)2‬‬
‫(الوجودية مذهب إنساني)‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ (1‬يتعلق األمر بتلميذ طلب النصيحة من سارتر زمن الحرب إن كان عليه‬
‫أن يلبي واجب الوطن ويلتحق بالجبهة‪ ،‬أو أن يبق إل جانب أمه‬
‫المريضة التي ال سند لها سواه‪.‬‬
‫‪ (2‬سارتر )‪ (1980-1905‬فيلسوف وأديب فرنسي‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬أي تحديد يعطيه سارتر للحرية؟‬
‫‪ –2‬فيم تكون الحرية مجردة وملموسة في اآلن نفسه؟‬
‫‪ –3‬بأي معن تكون الحرية أساس كل القيم؟‬
‫‪ –4‬ما معن قول الكاتب‪ " :‬فرغم اختالف مضمون األخالق فإن شكال‬
‫معينا منها يكون كليا"؟‬
‫‪ – 5‬عالم يقوم النقد الذي يوجهه سارتر لألخالق الكانطية؟‬

‫‪320‬‬
‫النص )‪:(5‬‬

‫المسؤولية‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫يرى الكاتب أن المسؤولية هي أن يحس الكائن إحساسا قويا بنفسه‬


‫بوصفه فردية قابلة ألن تفعل وتلتزم بأفعاله‪ ،‬وقد عالج الكاتب هذا الموضوع‬
‫من وجهة نظر فلسفية‪ ،‬شخصا نية إسالمية‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫عل كل مؤمن أن يتحمل شخصيا مسؤولية عواطفه‪ ،‬وأفكاره‬


‫وتقديراته‪ ،‬وحت نيته ‪ ،‬ومسؤولية األحكام التي يصدرها ونتائج األفعال التي‬
‫تتحقق بها تلك األفكار والعواطف واألحكام عل ضوء هذا‪ ،‬نستخلص (أن‬
‫كل شخص هو مسؤوليته) ‪ ،‬أليست المسؤولية هي أن يحس الكائن إحساسا‬
‫قويا بنفسه‪ ،‬بوصفه فردية قابلة ألن تفعل‪ ،‬وتلتزم بأفعالها؟ يؤيد هذا المعن ما‬
‫جاء في حديث قدسي‪ :‬يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم‪ ،‬ثم أوفيكم‬
‫إياها‪ ،‬فمن وجد خيرا فليحمد هللا‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه")‪.(1‬‬

‫ويؤكد النبي صل هللا عليه وسلم من جهته‪" :‬من أبطأ به عمله‪ ،‬لم‬
‫يسرع به نسبه")‪ ، (2‬المسلم إذن حينما يعمل يقصد من أعماله تحقيق هدف ما‪،‬‬
‫فأفعاله دائما قصدية تلعب فيها النية دورا أوليا‪ ،‬والعمل القصدي والمسؤولية‬
‫يكونان العنصرين األساسيين للشعور بالذات‪.‬‬

‫الشخص حسب هذا السياق‪ ،‬وحدة مفردة مستقلة الذات‪ ،‬واعية‬


‫ألفعالها وما يترتب عن هاته األفعال من نتائج‪ ،‬تلك هي المسؤولية‪ ،‬وليس‬
‫معن هذا أنه يجب عل كل واحد أن يعتني بذاته ويلتزم بأفعاله فحسب‪ ،‬بل‬
‫يجب عليه أيضا أن يتحمل مسؤولية العالم المحيط به‪ .‬ويحميه كما يفعل‬
‫‪321‬‬
‫الراعي مع غنمه‪ ،‬طبقا للحديث النبوي‪" :‬الحالل بين والحرام بين‪ ،‬وبينهما‬
‫أمور مشت بهات ال يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتق الشبهات‪ ،‬فقد استبرأ‬
‫لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‪ .‬كالراعي يرع حول‬
‫الحم يوشك أن يقع فيه‪ ،‬أال وإن لكل ملك حم أال وإن حم هللا محارمه‪،‬‬
‫أال وإن في الجسد مضغة‪ .‬إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد‬
‫كله؛ أال وهي "القلب" )‪.(3‬‬

‫لن يقوم أي منا بدوره كراع مسؤول عن أخالق المجتمع‪ ،‬إذا لم يعمل‬
‫–دائما‪-‬بقلب طاهر ووعي واضح كما يقول رسول هللا صل هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"دع ما يريبك إل ما ال يريبك" )‪. (4‬‬

‫من هذا المنظار‪ ،‬بوسعنا أن نؤكد أن‪ :‬االستقالل الذاتي والمسؤولية‬


‫الشخصية يستلزم كل منهما وجود اآلخر‪ ،‬إذا ال يجوز لمؤمن أن يقوم مقام‬
‫آخر في تأدية فريضة دينية ( ما عدا الحج حيث المشاكل المادية تسوغ ذلك)‪.‬‬
‫و{ال تكسب كل نف س إال عليها‪ ،‬وال تزر وازرة وزر أخرى} األنعام اآلية‬
‫‪ .360‬فال يجزى عن عمل بر إال من قام به هو شخصيا‪ ،‬ال شفاعة وال إنابة‪،‬‬
‫فخلوة الرهبان في األديرة‪ ،‬و"صكوك الغفران" وغيرها من األوضاع‬
‫المشابهة‪ ،‬كل هذا يتناف مع الشخصانية اإلسالمية حيث يتجل الشخص‬
‫حرية خالقة مطمئنة‪ ،‬إنها تتطابق والنداء المستمر لعمليات التأليف والتقويم‪.‬‬
‫فالشخص بطبيعته‪ ،‬يتجل كقوة تتجاوز ذاتها بذاتها‪ ،‬من الغرائز إل تكييف‬
‫الغرائز‪ ،‬ومن الميول إل إخضاعها للعزيمة‪ ،‬ومن األهواء الهوجاء الجامحة‬
‫إل السكينة واالطمئنان الداخلي‪ ،‬وأخيرا‪ :‬إن الشخص توتر نحو التوازن‬
‫الذاتي المتكامل حسب أفق شخصي وتداخل اآلفاق‪.‬‬

‫محمد عزيز الحبابي‬


‫(الشخصية اإلسالمية)‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪322‬‬
‫‪ (1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ (2‬مسلم‪.‬‬
‫‪ (3‬البخاري ومسلم‬
‫‪ (4‬الترمذي والنسائي‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬ما مفهوم المسؤولية عند الكاتب؟‬
‫‪ –2‬هل اإلنسان مسؤول فقط عن أفعاله أم إنه يتحمل أيضا‬
‫مسؤولية العالم المحيط به؟‬
‫‪ –3‬هل يمكن اعتبار المسؤولية ضريبة الحرية؟‬

‫‪323‬‬
‫النص )‪:(6‬‬

‫دستـور الـدولة باعتبـاره تعبيـرا‬


‫عن روحها الخاصة‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫يبين (هيجل) في هذا النص أن دستور الدولة ليس مجرد قانون‬


‫شكلي‪ ،‬بل هو تعبير عن الروح التاريخية لشعبها‪ ،‬ويتأسس هذا القول عل‬
‫التصور الجدلي التاريخي الذي يجعل من الدولة التجسيد الموضوعي للروح‬
‫في حركتها نحو المطلق‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫إذا كان لكل دولة لغتها‪ ،‬ودينها‪ ،‬وأفكارها‪ ،‬وعاداتها‪ ،‬وحضارتها‪.‬‬
‫فإن لكل دولة أيضا نظامها السياسي الخاص‪ ،‬أو دستورها الخاص‪ .‬وليس‬
‫دستور أي شعب أو أي بلد مسلمة وضعية تتوقف عل اختياره الحر – بل‬
‫البد لهذا الدستور من أن ينبع من طبيعته التاريخية دون أن يتخذ صورة نظام‬
‫خارجي يفرض عليه فرضا‪ .‬والواقع أن دستور أي شعب من الشعوب إنما‬
‫يمثل باإلضافة إ ل دينه‪ ،‬وفنه وفلسفته‪ ،‬وتصوراته وأفكاره‪ ،‬وحضارته بصفة‬
‫عامة‪ ،‬ذلك "الجوهر الواحد" أو تلك "الروح الواحدة" التي تشيع في أوصال‬
‫هذا الشعب – وما دامت "الدولة" كال موحدا ال سبيل إل انقطاع أي جزء‬
‫من أجزائ ه‪ ،‬فلن يكون في وسعنا أن ندرس النظام السياسي ألية دولة باعتباره‬
‫جانبا هاما يكون أفراده عل حدة‪ .‬ومعن هذا أن دستور أي شعب من‬
‫الشعوب إنما هو عل وجه التحديد ذلك النظام السياسي المعين الذي يالئم‬
‫روح ذلك الشعب‪ ،‬والذي يتوافق مع باقي القوى الروحية العامة في صميم‬
‫حياة ذلك الشعب‪.‬‬
‫وقد حاول (نابليون) أن يفرض عل إسبانيا دستورا معينا‪ ،‬ولكن هذه‬
‫المحاولة قد باءت باإلخفاق ‪ ،‬عل الرغم من معقولية ذلك الدستور‪ .‬ألن من‬
‫‪324‬‬
‫أية دولة من الخارج نظام سياسي منقطع الصلة‬ ‫العبث أن يفرض عل‬
‫بتاريخها‪.‬‬
‫وكذلك ليس أمعن في الخطأ من أن تحاول دولة حديثة في أيامنا هذه‬
‫استعارة نظامها السياسي من دساتير بعض الشعوب األخرى القديمة كاليونان‬
‫أو الرومان أو الشرقيين‪ .‬حقا إن فلسفة األقدمين هي الدعامة الحقيقية التي‬
‫قامت عليها فلسفة المحدثين‪ ،‬كما أن الفن اليوناني ال يزال أسم نموذج فني‬
‫يمكن أن يحتذيه أي فن من الفنون في العصور الحديثة‪ ،‬ولكن من المؤكد أن‬
‫األنظمة السياسية القديمة ال تصلح بحال من األحوال أمثلة حية نحتذيها نحن‬
‫اليوم في أنظمتنا السياسية‪ ،‬وصفوة القول إن دستور كل دولة نابع من‬
‫طبيعتها التاريخية‪ ،‬وأن تنظيمها السياسي البد من أن يجيء معبرا عن‬
‫روحها الخاصة‪.‬‬

‫هيجل‬
‫(نصوص مختارة)‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬هل يستجيب النص لطبيعة المبدأ الذي يؤسس عليه (هيجل)‬
‫مذهبه؟‬
‫‪ –2‬في النص إشارة واضحة إل حكم الضرورة الطبيعيــة في‬
‫خيارات الشعب‪ .‬وضح مدلول هذه الضرورة‪ ،‬وهل في ذلك‬
‫نفي لحرية الشعوب في اختيار هذا القانون أو ذاك؟‬
‫‪ –3‬ما الدور الذي يؤديه الفن في فلسفة هيجل؟‬

‫‪325‬‬
‫النص )‪:(7‬‬

‫الدولة شرط تحقيق الحرية‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫في هذا النص يقدم (هيجل) الدولة بصفتها تجسيدا لإلرادة الحرة في‬
‫مقابل الطبيعة التي يسود فيها العنف والظلم‪ .‬فليست إذن الدولة نكوصا عن‬
‫حالة الحرية السائدة في الطبيعة‪ ،‬بل هي التحقيق الموضوعي للحرية‪.‬‬
‫ــــــــــــــ‬
‫أول خطأ يصادفنا يتناقض تناقضا مباشرا مع فكرتنا عن الدولة من‬
‫حيث هي التحقيق الفعلي للحرية‪ .‬وأعني به الرأي القائل‪ :‬إن اإلنسان حر‬
‫بالطبيعة لكنه في المجتمع‪ ،‬وفي الدولة التي تجتذب اإلنسان مع ذلك بطريقة‬
‫ال تقاوم البد له من أن يحد من هذه الحرية الطبيعية‪ .‬والقول بأن اإلنسان حر‬
‫بالطبيعة قول صحيح تماما بمعن من المعاني‪ ،‬وهو أن اإلنسان حر وفقا‬
‫لفكرة اإلنسانية لكننا بذلك نعني أنه حر بفضل مصيره‪ ،‬وأنه يملك قدرة كامنة‬
‫عل أن يصبح كذلك‪ ،‬ألن طبيعة شيء ما ترادف بالضبط "فكرته‪ ..‬غير أن‬
‫الرأي الذي نناقشه اآلن يعني أكثر من ذلك‪ ،‬فحين يقال عن اإلنسان إنه حر"‬
‫بالطبيعة" يكون المقصود هو الحديث عن نمط وجوده فضال عن مصيره‪،‬‬
‫ويكون ما تعنيه العبارة هو حالته الطبيعية واألولية المحض‪ ،‬وبهذا المعن‬
‫يفترض أن هناك حالة طبيعية‪ ،‬كان فيها الجنس البشري بصفة عامة‪ ،‬يمتلك‬
‫حقوقه الطبيعية ويمارس حريته ويستمتع بها بغير عائق‪ .‬والواقع أن هذا‬
‫الزعم يرفع إل مستوى الحقيقة التاريخية‪ .‬ذلك ألنه لو بذلت محاولة جادة‬
‫إلثبات ذلك‪ ،‬لكا ن من العسير إظهار أن حالة كهذه كانت موجودة فعال أو أنها‬
‫حدثت بالفعل في أي وقت مض ‪ .‬يمكن بالطبع اإلشارة إل أمثلة من حالة‬
‫الحياة المنهجية‪ ،‬لكن هذه األمثلة تسودها األهواء واالنفعاالت الوحشية‬
‫وأعمال العنف‪ ،‬ومع ذلك فإنها مهما كانت بساطة ظروفها وسذاجتها‪ ،‬تتضمن‬
‫تنظيمات اجتماعية تعمل عل قمع الحرية (إن شئنا استخدام التعبير المألوف)‬
‫‪326‬‬
‫فهذا الزعم هو إحدى تلك التصويرات الهالمية التي ينتجها التفكير النظري‬
‫المفرط‪ ،‬وهي فكرة ال يمكن أن يتجنب هذا التفكير ظهورها ولكنه يفرضها‬
‫مثال أعل لما هو أصل وطبيعي‪ ،‬ال توجد شيئا أصليا وطبيعيا‪ ،‬بل ينبغي‬
‫باألحرى السعي للحصول عليها ونيلها‪ ،‬ذلك بعد توسط عملية تهذيب‬
‫وترويض هائلة للقوى األخالقية والعقلية‪ .‬ولذلك فإن حالة الطبيعة يغلب‬
‫عليها الظلم والجور والعنف‪ ،‬وتسودها الدوافع الطبيعية التي لم تروض‪،‬‬
‫واألعمال والمشاعر الالإنسانية‪ .‬والشك إن المجتمع والدولة يمارسان نوعا‬
‫من الحد‪ ،‬لكنه حد للغرائز الفجة ولالنفعاالت الوحشية وحدها‪ ،‬كما أنه‪ ،‬في‬
‫مرحلة حضارية أرق ‪ ،‬حد لألنانية المعتمدة التي تتجل في النزوات‬
‫واألهواء‪ ،‬وهذا اللون من التقييد هو جزء من الوسيلة التي يمكن عن طريقها‬
‫وحدها أن يتحقق الوعي بالحرية والرغبة في بلوغها في صورتها الحقيقية‪،‬‬
‫أعني في صورتها العقلية والمثالية فالقانون واألخالق مستلزمات ضرورية‬
‫للمثل األعل للحرية‪ ،‬وهما في ذاتهما ولذاتهما موجودات كلية‪ ،‬وأهداف‬
‫وغايات‪ ،‬ال يكتشفها إال نشاط الفكر حين ينفصل عن المحسوس البحت‪،‬‬
‫وي طور نفسه بصورة مضادة له‪ ،‬لكنه البد من ناحية أخرى أن يدمج في‬
‫اإلرادة الحسية األصلية ويتجسد فيها‪ ،‬وذلك عل العكس من نزوعه الطبيعي‪.‬‬
‫والواقع أن الفهم الخاطئ المتكرر والدائم للحرية إنما يكمن في النظر إل هذا‬
‫اللفظ في جانبه الصوري‪ ،‬وفي معناه الذاتي فحسب وفي طريقة تجرده من‬
‫أهدافه وغاياته الجوهرية‪ ،‬وهكذا فإن الضغط الذي يقع عل الدوافع الطبيعية‬
‫أو الرغبة والهوى التي تتعلق بالفرد الجزئي بما هو كذلك‪ ،‬وكذلك الحد من‬
‫النزوات والمشاعر األنانية‪ ،‬يعد قيدا للحرية‪ ،‬لكنه ينبغي أن ننظر إل هذه‬
‫الحدود – عل العكس من ذلك – عل أنها شرط الزم للتحرر‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫المجتمع والدولة هما الشرطان األساسيان لتحقيق الحرية‪.‬‬

‫هيجل (محاضرات في فلسفة التاريخ)‬


‫الجزء األول‪( :‬العقل في التاريخ)‬
‫ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير ‪3385‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬كيف ينقد الكاتب القول بأن "اإلنسان حر بالطبيعة"؟ هل يرى‬
‫‪327‬‬
‫له مسوغا تاريخيا؟‬
‫‪ –2‬كيف يتحقق في نظر هيغل الوعـي بالحرية والتطلــع إل‬
‫بلوغها "في صورتها الحقيقية"؟‬
‫‪ –3‬يقول هيجل في آخر النص‪" :‬إن المجتمـع والدولة همـــا‬
‫الشرطان األساسيان لتحقيق" الحرية‪ ،‬حلل مدلول هذه المقولـة‬
‫وناقشها‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫النص )‪:(8‬‬

‫أيهما أحق بالسلطة‪ :‬الحق أم القوة‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫الحق يستمد سلطته من الشرعية في حين تستمد القوة سلطتها من‬


‫القهر والضغط واإلكراه‪ ،‬والفرق كبير بين االثنين‪ :‬األول ينقاد له الكل‬
‫ويذعن له انطالقا من مبدإ الحق‪ ،‬والثاني يخضع له الجميع من جهة السلطة‪،‬‬
‫غير أن السلطة كلها سواء كان مصدرها الحق أم القوة هي دائما كما يرى‬
‫(روسو) من هللا ويلزم الخضوع لها‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬
‫األقوى ال يكون أبدا قويا بما فيه الكفاية ألن يكون دائما سيدا‪ ،‬إال أن‬
‫يحول قوته إل حق‪ ،‬والطاعة التي يفرضها إل واجب‪ .‬من هذا نتج حق‬
‫األقوى‪ ،‬هذا الحق الذي يتلق بسخرية تلقيا ظاهريا والذي تتقرر حقيقته‬
‫تقررا مبدئيا‪ ،‬ولكن أليس من سبيل فيفسر لنا مفسر هذه الكلمة؟ إن القوة‬
‫سلطة طبيعية (فيزيوية) وال أرى أية حكمة أدبية يمكن أن تنجم عن نتائجها‪،‬‬
‫واإلذعان للقوة عمل ضرورة‪ ،‬ال عمل إرادة‪ ،‬إنه ال يعدو أن يكون عمل‬
‫فطنة ففي أي معن يمن أن يكون واجبا؟‬
‫لنفترض هذا الحق المزعوم ولنتول البحث فيه‪ .‬إنه ال ينتج من ذلك‬
‫غير قول هواء ال سبيل إل تفسيره‪ ،‬و ذلك ألنه إذا تقرر أن القوة هي التي‬
‫تصنع الحق‪ ،‬فإن المعلول يتغير تغير العلة‪ :‬فكل قوة تتقلب عل قوة أول ‪،‬‬
‫فالبد أن تخلقها وتحل محلها‪ ،‬وحالما يكون العصيان دون عقاب‪ ،‬يمكن القيام‬
‫به في صورة شرعية‪ ،‬أما واألقوى هو دائما عل حق فما عل المرء إال أن‬
‫يعمل ما في است طاعته حت يصير هو األقوى‪ ،‬فأية قيمة إذن للحق الذي ال‬

‫‪329‬‬
‫يزول عند انقطاع القوة‪ ،‬وإذا كان من الالزم الطاعة بالقوة‪ ،‬فما من حاجة إل‬
‫الطاعة بالواجب وإذا أصبح المرء غير مكره عل الطاعة بالقوة‪ ،‬أصبح غير‬
‫ملزم بهذه الطاعة لذلك ترى أن كلمة (حق) هذه ال تضيف شيئا إل القوة بل‬
‫هي لغو ال يعني شيئا‪.‬‬
‫وأطيعوا ذوي السلطان‪ ،‬إذا كان معن هذا‪" :‬أذعنوا للقوة"‪ ،‬فالقاعدة‬
‫صالحة ولو أنها هذر‪ ،‬وأني أجيب بقولي‪ :‬لن تنتهك أبدا حرمة هذه القاعدة‬
‫فهل معن هذا أنه محرم عل أن استدعي الطبيب؟ وإذا فاجأني قاطع طريق‬
‫في ركن من غابة يجب عل أال أكتفي بإ عطائه قسرا كيس نقودي بل أسائل‬
‫نفسي أال يلزمني عامل الوجدان أن أدفع إليه بالكيس‪ ،‬ألن المسدس الذي‬
‫يمسك به هو أيضا سلطة من السلطات؟ فلنقر إذن بأن القوة ال تصنع الحق‬
‫وأننا ال يفرض علينا الخضوع إال للسلطات الشرعية وهكذا فإن سؤالي‬
‫األساسي ال يفتأ يعود‪.‬‬
‫إن كل سلطة مستمدة من هللا وذلك ما أقر به ولكن كل مرض يجيء‬
‫أيضا منه‪.‬‬

‫جان جاك روسو‬


‫العقد االجتماعي ص ‪36 - 33‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫‪ –1‬كيف يكون األقوى قويا؟‬
‫‪ –2‬أيهما أصح للملك‪ :‬الحق أم القوة؟‬
‫‪ –3‬يرى (روسو) "إن اإلذعان للقوة عمل ضرورة ال عمل إرادة"‬
‫ما رأيك ؟‬
‫‪ –4‬يقول (روسو)‪" :‬إن كل سلطة مستمدة من هللا" حلل هذا القول‬
‫وناقشه؟‬

‫‪330‬‬
‫أسئلة الباب‬
‫‪ – 1‬هل يمكن أن نعتقد أن اإلنسان حر ونبحث في ذات الوقت عن تفسير‬
‫للسلوك؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3332‬‬

‫‪ – 2‬هل تتعارض فكرة ((ألالشعور)) مع فكرة الحرية؟‬


‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3336‬‬

‫‪ – 3‬هل يستلزم شعورنا بالحرية أن نكون أحرارا؟‬


‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪3337‬‬

‫‪ – 4‬هل يمكن اعتبار الحرية لدى اإلنسان عائقا حقيقيا أمام معرفة اإلنسان‬
‫معرفة موضوعية؟‬
‫باكلوريا موريتانيا – شعبة اآلداب العصرية ‪2432‬‬

‫‪ -5‬الحرية مفهوم ميتافيزيقي ال يمكن فهمه إال من الداخل‪ .‬ما رأيك؟‬

‫‪ – 6‬هل ترتبط الحرية بطبيعة األنظمة السياسية؟‬

‫‪ – 1‬هل للحرية عالقة باألخالق؟‬

‫‪ – 3‬بأي معن يمكن القول‪ :‬إن الحرية ال وجود لها في عالم تسوسه األنظمة‬
‫الديكتاتورية؟‬

‫‪331‬‬
‫المراجع‬
‫الدكتور سليم دلوة‬ ‫‪ – 1‬ما الفلسفة؟‬
‫‪ – 2‬ماهي الفلسفة؟ الدكتور حسن علي‬
‫‪ – 3‬الفكر اإلسالمي والفلسفة قسم الباكلوريا المغرب‬
‫المغرب‪.‬‬ ‫‪ – 4‬الفكر اإلسالمي والفلسفة طبعة جديدة‬
‫‪ –5‬نصوص الفلسفة في الباكلوريا (ج‪ 1‬وج‪ )2‬المعهد التربوي الوطني‬
‫‪ – 6‬تاريخ الفلسفة العربية الدكتور جميل صليبا‬
‫الدكتور كمال اليازجي‬ ‫‪ –1‬معالم الفكر العربي‬
‫‪ – 3‬الفلسفة الفرنسية من ديكارت إل سارتر (جان فال) ترجمة األب‬
‫مارون خوري‪.‬‬
‫‪ – 9‬عظمة الفلسفة كارل ياسبرس ترجمة عادل العوا‬
‫‪ – 11‬قصة الفلسفة ول ديورانت‬
‫د‪ .‬محمد وقيدي‬ ‫‪ – 11‬فلسفة المعرفة عند غاستون باشالر‬
‫د‪ .‬محمد وقيدي‬ ‫‪ – 12‬ما هي االبستيمولوجيا؟‬
‫تونس‬ ‫‪ – 13‬كتاب الفلسفة (ج‪)2‬‬
‫هيغل ترجمة د‪ .‬مصطف غالب‬ ‫‪ – 14‬في سبيل موسوعة فلسفية‬
‫تونس‬ ‫‪ – 15‬الفلسفة للسنة السابعة‬
‫د‪ .‬جميل صليبا‬ ‫‪ – 16‬المعجم الفلسفي‬
‫مراد وهبة ويوسف كرم‪.‬‬ ‫‪ – 11‬معجم الفلسفة‬
‫هنري أيكن‬ ‫‪ – 13‬عصر االيديولوجيا‬
‫‪ – 19‬كتاب الفلسفة س‪ 6‬آداب عصرية المعهد التربوي الوطني‬
‫‪ – 21‬الفلسفة اليونانية ‪ /‬د‪ .‬كريم مت‬
‫‪ – 21‬المنقذ من الضالل‪ /‬الغزالي‬

‫‪332‬‬
‫الفهرست‬
‫رقم الصفحة‬ ‫العنوان‬
‫‪3‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪5‬‬ ‫المحور األول‪ :‬الماهية‬
‫‪1‬‬ ‫‪ -‬ما الفلسفة؟‬
‫‪13‬‬ ‫‪ -‬مناهج وقيمة الفلسفة‬
‫‪24‬‬ ‫‪ -‬الفلسفة والعلم‬
‫‪31‬‬ ‫‪ -‬الفلسفة واإلسالم‬
‫‪34‬‬ ‫‪ -‬التيارات الفلسفية الكبرى (المثالية – المادية)‬
‫‪55‬‬ ‫‪ -‬الوضعية‬
‫‪64‬‬ ‫‪ -‬الوجودية‬
‫‪69‬‬ ‫‪ -‬البنيوية‬
‫النصوص‪:‬‬
‫‪19‬‬ ‫‪ -‬ظهور الفلسفة‬
‫‪33‬‬ ‫‪ -‬طريقة التوليد‬
‫‪35‬‬ ‫‪ -‬أسطورة الكهف‬
‫‪92‬‬ ‫‪ -‬التفلسف يقظة‬
‫‪94‬‬ ‫‪ -‬ضرورة الشك‬
‫‪93‬‬ ‫‪ -‬الفلسفة والعلم‬
‫‪111‬‬ ‫‪ -‬موقف الشريعة من الحكمة اليونانية‬
‫‪112‬‬ ‫‪ -‬مهمة الفلسفة‬
‫‪114‬‬ ‫‪ -‬الفلسفة وليدة عصرها‬
‫‪116‬‬ ‫‪ -‬الفلسفة الوضعية‬
‫المحور الثاني‪ :‬العلم اإلنسانية‬
‫‪111‬‬ ‫‪ -‬العلوم اإلنسانية‬
‫‪121‬‬ ‫‪ -‬علم التاريخ‬
‫‪133‬‬ ‫‪ -‬علم النفس‬
‫‪141‬‬ ‫‪ -‬علم االجتماع‬
‫‪143‬‬ ‫‪ -‬العوائق االبستيمولوجية في العلوم اإلنسانية‬
‫‪333‬‬
‫‪153‬‬ ‫النصوص‪:‬‬
‫‪155‬‬ ‫‪ -‬إنسان العلوم اإلنسانية‬
‫‪151‬‬ ‫‪ -‬أسباب األخطاء في دراسة التاريخ‬
‫‪161‬‬ ‫‪ -‬إعادة بناء الحوادث التاريخية‬
‫‪163‬‬ ‫‪ -‬نشأة علم االجتماع‬
‫‪166‬‬ ‫‪ -‬موضوع علم النفس‬
‫‪169‬‬ ‫‪ -‬نقد االستبطان‬
‫‪111‬‬ ‫‪ -‬الجهاز النفسي‬
‫‪112‬‬ ‫‪ -‬العوائق االبستيمولوجية‬
‫‪115‬‬ ‫المحور الثالث‪:‬‬
‫‪111‬‬ ‫‪ -‬الشخصية‬
‫‪132‬‬ ‫‪ -‬األسس البيوثقافية للشخصية‬
‫‪133‬‬ ‫‪ -‬الشخصية من وجهة نظر التحليل النفسي‬
‫‪ -‬الشخصية السوية والمواطنة‬
‫‪193‬‬
‫‪ -‬الشخصية وآثار العولمة‬
‫‪191‬‬
‫النصوص‪:‬‬
‫‪213‬‬ ‫‪ -‬ما هو اإلنسان‬
‫‪211‬‬ ‫‪ -‬العوامل المكونة للشخصية‬
‫‪214‬‬ ‫‪ -‬دينامية الشخصية‬
‫‪216‬‬ ‫‪ -‬العوامل األساسية في بناء الشخصية‬
‫‪219‬‬ ‫‪ -‬الشخصية األساسية والشخصية الوظيفية‬
‫‪223‬‬ ‫‪ -‬الجهاز النفسي‬
‫‪221‬‬ ‫‪ -‬الشخصية والحرية‬
‫‪231‬‬ ‫‪ -‬دور الوراثة والبيئة‬
‫المحور الرابع‪ :‬السياسة‬
‫‪231‬‬ ‫‪ -‬الدولة‪ :‬مقوماتها ‪-‬نشأتها –وظائفها‬
‫‪243‬‬ ‫‪ -‬أشكال النظام السياسي‬
‫‪ -‬الحقوق الطبيعية والمدنية في اإلعالن العالمي‬
‫‪254‬‬ ‫لحقوق اإلنسان‬

‫‪334‬‬
‫النصوص‪:‬‬
‫‪261‬‬ ‫‪ -‬الدولة‬
‫‪263‬‬ ‫‪ -‬نشأة الدولة‬
‫‪265‬‬ ‫‪ -‬مقومات األمة‬
‫‪263‬‬ ‫‪ -‬ضرورة السلطة‬
‫‪211‬‬ ‫‪ -‬القانون الطبيعي‬
‫‪213‬‬ ‫‪ -‬شروط العقد االجتماعي‬
‫‪216‬‬ ‫‪ -‬الديمقراطية اإلسالمية‬
‫‪119‬‬ ‫‪ -‬المذهب الجماعي والمذهب الفردي في الحكم‬
‫المحور الحامس‪ :‬الحرية واإلنسان‬
‫‪ -‬مقاربة مفاهيمية‬
‫‪236‬‬
‫‪ -‬الحرية والتحرر‬
‫‪291‬‬ ‫‪ -‬الحرية والمسؤولية‬
‫‪299‬‬ ‫‪ -‬الحرية في اإلسالم‬
‫‪351‬‬
‫النصوص‪:‬‬
‫‪313‬‬ ‫‪ -‬اإلنسان بين الحرية والضرورة‬
‫‪316‬‬ ‫‪ -‬الحرية أساس كل أخالق‬
‫‪313‬‬ ‫‪ -‬الحرية والعمل‬
‫‪321‬‬ ‫‪ -‬الحرية أساس كل القيم‬
‫‪322‬‬ ‫‪ -‬المسؤولية‬
‫‪ -‬دستور الدولة باعتباره تعبيرا عن روحها‬
‫‪325‬‬ ‫الخاص‬
‫‪321‬‬ ‫‪ -‬الدولة شرط تحقيق الحرية‬
‫‪331‬‬ ‫‪ -‬أيهما أحق بالسلطة‪ :‬الحق أم القوة؟‬
‫‪333‬‬ ‫المراجع‬
‫‪334‬‬ ‫الفهرست‬
‫‪-‬‬

‫‪335‬‬
336

You might also like