Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 238

‫الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ‪ ،‬لي�س �أكثر من محاولة‬

‫متوا�ضعة للتفكير في نموذج تنموي خا�ص بالمغرب‪ ،‬وذلك‬


‫من خالل محا�ضرات �ألقيتها في منا�سبات عديدة‪ ،‬و�أ�ضفت‬
‫�إليها مقاالت ن�شرت لي في بع�ض ال�صحف الوطنية والمجالت العلمية‪،‬‬
‫مع �إدخال بع�ض التعديالت الطفيفة عليها؛ وقد اخترت لهذا الكتاب‬
‫عنوانا‪ ،‬ي�شكل في نظري‪ ،‬قا�سما م�شتركا لجميع هذه المحا�ضرات‬
‫وهذه المقاالت؛ وهو‪ :‬نموذجنا التنموي‪ :‬من �أجل تعاقد جديد‪ ،‬وذلك‬
‫م�ساهمة منا في �إغناء النقا�ش الدائر حاليا‪ ،‬حول مدى قدرة المغرب‬
‫على رفع العوائق والتحديات الكبرى التي تواجه بالدنا‪ ،‬في مجاالت‬
‫االقت�صاد وال�سيا�سة والمجتمع؛ وهي كلها �إكراهات م�ستعجلة‪ ،‬وال‬
‫تقبل االنتظارية‪ ،‬بل تتطلب ا�ستنها�ض الهمم‪ ،‬ونكران الذات‪ ،‬والغيرة‬
‫ال�صادقة على م�صالح الوطن والمواطنين‪.‬‬
‫�شهدت الآونة الأخيرة بالمغرب‪ ،‬تداوال وا�سعا ونقا�شا م�ستفي�ضا‪،‬‬
‫حول خطاب التنمية‪ ،‬والنموذج التنموي الذي نطمح �إليه‪ ،‬والمجاالت‬
‫الحية التي ينبغي �أن يطالها؛ و�أ�ضحت الدعوة �إلى الإ�صالح والتغيير‪،‬‬
‫مطلبا طموحا و�ضرورة ملحة‪ ،‬في ظل الظرفية العالمية والوطنية‬
‫الراهنة‪ ،‬والتي تتميز بالعديد من التغيرات‪ ،‬ال�سيما في ظل تنامي‬
‫ال�سيا�سات الحمائية‪ ،‬وتفاقم حدة التوترات التجارية بين القوى‬
‫الكبرى‪ ،‬خا�صة الواليات المتحدة الأمريكية وال�صين‪ ،‬وكذا تزايد‬
‫ال�صراعات الجيو�سيا�سية‪ ،‬وما ترتب عنها من انعكا�سات على تراجع‬
‫�آفاق النمو العالمي‪ ،‬والتقلبات الكبيرة لأ�سعار الغاز والبترول‪ ،‬وخروج‬
‫بريطانيا من االتحاد الأوروبي‪ ،‬وانعكا�س كل ذلك حتما على بالدنا؛‬
‫مما يفر�ض علينا‪� ،‬ضرورة التفكير في �أ�س�س ولبنات م�شروع تنموي‬
‫متكامل؛ قوامه التحديث والديمقراطية‪ ،‬والتطور والنماء‪ ،‬واال�ستفادة‬
‫في الوقت نف�سه‪ ،‬من �إخفاقات الما�ضي‪ ،‬ودعم القطاعات االجتماعية‪،‬‬
‫وتقلي�ص الفوارق المجالية‪ ،‬والق�ضاء على الفقر‪� ،‬أو على الأقل تقلي�صه‪،‬‬
‫والحد من البطالة‪ ،‬وتفعيل �آليات الحكامة الجيدة‪ ،‬وتنزيل الجهوية‬
‫المتقدمة‪ ،‬و�إعطاء دينامية جديدة لال�ستثمار وت�أهيل المقاولة‪.‬‬
‫يحق لنا �إذن �أن نت�ساءل‪ :‬هل "نموذجنا التنموي" في �صيغته‬
‫الحالية‪ ،‬يخدم بالفعل االقت�صاد والمجتمع‪ ،‬ويحقق الديمقراطية‪،‬‬
‫وي�صون الحقوق؟ وما هي مالمح النموذج التنموي الذي نريد؟‬
‫هذه الإ�شكالية‪� ،‬سنحاول الإجابة عنها‪ ،‬من خالل �أربع محاور‬
‫رئي�سية‪:‬‬
‫• المحور الأول‪ ،‬ي�ستعر�ض تطور مفهوم التنمية؛‬
‫• المحور الثاني‪ ،‬يتناول االقت�صاد العالمي المعا�صر‪ ،‬و�آفاق‬
‫التنمية؛‬
‫• المحور الثالث‪ ،‬يقدم ت�شخي�صا لـ "النموذج التنموي‬
‫المغربي" الذي بلغ مداه‪ ،‬وا�ستنفذ كل طاقته؛‬
‫• والمحور الرابع‪ ،‬يبرز مالمح‪ ‬النموذج التنموي الذي نن�شده‪،‬‬
‫ونطمح �إليه‪.‬‬
‫واهلل ن�س�أل �أن يوفقنا لما فيه الخير‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫مفهــوم التنمية‬
‫مو�ضوع التنمية باهتمام المفكرين وال�سا�سة ورجال‬
‫االقت�صاد‪ ،‬حيث �أخذ حيزا كبيرا من التناول في العقود‬ ‫حظي‬
‫الأخيرة‪� ،‬سواء على م�ستوى التنظير االقت�صادي والبحوث‬
‫العلمية‪� ،‬أو على م�ستوى الم�ؤ�س�سات الدولية ومراكز البحث‪� ،‬أو على‬
‫م�ستوى ال�سيا�سات االقت�صادية للدول‪ ،‬وذلك نظرا لما له من ت�أثير‬
‫عميق على الأفكار والبنيات واالختيارات والقناعات‪ .‬والتنمية في‬
‫مدلولها العام‪ ،‬هي التغيير واعتماد خيارات بديلة‪ ،‬رجاء الو�صول �إلى‬
‫و�ضع �أف�ضل‪ ،‬ي�شمل الإن�سان والمجتمع والدولة؛ بمعنى ي�شمل في �آن‬
‫واحد‪ ،‬النواحي ال�سيا�سية واالقت�صادية والثقافية واالجتماعية‪ .‬وتختلف‬
‫التنمية عن التغيير‪ ،‬في كون الثاني حدثا مو�ضوعيا‪ ،‬ال ي�صف تطورا‬
‫�إيجابيا �أو �سلبيا؛ بينما التنمية‪ ،‬عملية تغيير‪ ،‬ذات طبيعة معيارية‬
‫من الناحية القيمية؛ وهي ال تحيد عن كونها م�سار تجديدي ودينامي‪،‬‬
‫طويل وغير ي�سير؛ يرمي الو�صول �إلى و�ضع مثالي‪ ،‬مخالف لما كان‬
‫عليه الحال في الما�ضي‪ ،‬لكن دون �أن ينفلت ذلك بطبيعة الحال‪ ،‬عن‬
‫�إطار الم�ؤ�س�سات والقواعد العامة التي تحكم الدولة والمجتمع‪ ،‬و�إال‬
‫غدا ثورة �ضد الأمن واال�ستقرار وثوابت الأمة‪.‬‬
‫�إن التنمية هي المح�صلة النهائية؛ وهي غاية كل الغايات؛ تختلف‬
‫من حيث الم�ضمون‪ ،‬عن النمو االقت�صادي‪ .‬ولقد تمت في البداية‬
‫م�ساواة التنمية االقت�صادية بالنمو االقت�صادي (الذي هو الإنتاج العام‬
‫لأي بلد من ال�سلع والخدمات‪ ،‬خالل �سنة معينة)‪ .‬ولكي يتحقق النمو‬
‫االقت�صادي‪ ،‬البد من توافر ثالثة مكونات �أ�سا�سية؛ وهي‪:‬‬
‫‪ -‬تراكم ر�أ�س المال؛ وي�شتمل هذا العن�صر على اال�ستثمارات‬
‫الجديدة في الأر�ض والمعدات المادية والموارد الب�شرية‪ ،‬ويعتبر‬
‫االدخار ال�سبيل الأمثل لتوفير ر�ؤو�س الأموال الممولة لمختلف �أنواع‬
‫اال�ستثمارات‪.‬‬
‫‪ -‬النمو ال�سكاني (العمل)؛ ويرتبط الأثر الإيجابي للنمو ال�سكاني‬
‫بالنمو االقت�صادي‪ ،‬من خالل زيادة قوة العمل التي ت�ؤدي �إلى زيادة‬
‫الإنتاج‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬و�إلى زيادة حجم الأ�سواق و�سهولة تحفيز الطلي‬
‫اال�ستهالكي من جهة �أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬التقدم التكنولوجي؛ ويعرف على �أنه ال�سرعة في تطوير‬
‫وتطبيق المعرفة الفنية‪ ،‬من �أجل زيادة م�ستوى المعي�شة لل�سكان‪.‬‬
‫هذه المعادلة الب�سيطة‪( :‬التنمية االقت�صادية = النمو االقت�صادي)‬
‫تتجاهل ق�ضية توزيع الدخل القومي‪� ،‬أو الناتج الوطني بين المواطنين؛‬
‫فالزيادة في متو�سط ن�صيب الفرد من الناتج لي�ست بال�ضرورة هي‬
‫التح�سن الفعلي فـ ـ ـ ـ ــي معي�شته‪ ،‬وتلبية مختلف حاجاته‪ ،‬االقت�صادية‬
‫واالجتماعية وال�سيا�سية والحقوقية؛ فالتنمية االقت�صادية‪ ،‬تتمثل في‬
‫تحقيق زيادة م�ستمرة في الدخل الوطني الحقيقي‪ ،‬وزيادة ن�صيب‬
‫الفرد منه؛ هذا ف�ضال عن �إجراء العديد من التغيرات في كل من‬
‫بنية الإنتاج‪ ،‬ونوعية ال�سلع والخدمات المنتجة‪� ،‬إ�ضاف ـ ـ ــة �إلى تحقيق‬
‫عدالة �أكب ــر في توزيع الدخل الوطني؛ �أي تغيير فـ ــي بنية توزيع‬
‫الدخل الوطني ل�صالح الفقراء من جه ــة‪ ،‬والم�ؤدي �إلى تحفيز الطلب‬
‫اال�ستثماري من جهة �أخ ـ ــرى؛ غير �أن لهذا العامـ ــل �أثر �سلبي على‬
‫النمو االقت�صادي في حالة وجـ ــود فائ�ض في عر�ض العمل‪ ،‬ومن‬
‫خ ـ ــالل محدودية الدخل‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫لكن‪ ،‬ومنذ �ستينات القرن الما�ضي‪ ،‬تم التخلي تدريجيا عن هذا‬
‫التعريف؛ فبينما ين�صرف مفهوم النمو �إلى التركيز على زيادة حجم‬
‫الإنتاج‪ ،‬وبالتالي ن�صيب الفرد من هذا الإنتاج‪ ،‬دون النظر �إلى الكيفية‬
‫التي زاد بها؛ على العك�س من ذلك‪ ،‬ف�إن مفهوم التنمية‪ ،‬بالرغم من‬
‫ت�أكيده على �أهمية النمو االقت�صادي (�أي زيادة حجم الناتج) يهتم‬
‫�أكثر بما كان قد ينتج عن هذا النمو من تغيرات �أ�سا�سية في البنيات‬
‫االقت�صادية؛ بمعنى تغيير الم�ساهمة الن�سبية للقطاعات االقت�صادية‬
‫في خلق الناتج؛ فلي�ست كل زيادة في الناتج والدخل تعني تلقائيا تحقق‬
‫التنمية؛ لأن هذه الأخيرة تكون نتيجة تدخل �إرادي من الدولة لإجراء‬
‫تغييرات جذرية في هيكل االقت�صاد‪ ،‬ودفع المتغيرات االقت�صادية‬
‫المختلفة نحو النمو بن�سب �أ�سرع و�أن�سب؛ وهي ت�ؤدي بذلك �إلى تح�سين‬
‫كفاءة االقت�صاد وزيادة الناتج‪.‬‬
‫وفي ال�سبعينات‪� ،‬أ�صبح الم�سار العام لدى االقت�صاديين‪ ،‬هو‬
‫تعريف التنمية على �ضوء التقدم نحو تحقيق تنا�سق �أهداف الرفاهية‪،‬‬
‫وخلق ظروف مالئمة لتحقيق التنمية الب�شرية‪ ،‬من خالل تحقيق‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وتكري�س دولة القانون‪ ،‬والتقليل من الفقر والبطالة‬
‫وعدم الم�ساواة‪ ،‬والتمتع بالحرية و�ضمان الحقوق‪ ،‬في ظل مناخ �سليم‬
‫ديمقراطيا وبيئيا‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وح�سب م�ؤتمر الأمم المتحدة للعلوم والتكنولوجيا من‬
‫�أجل التنمية‪ ،‬ف�إن التنمية لي�ست مرادفة لمجرد النمو‪ ،‬ولكنها تت�ضمن‬
‫اعتبارات �أخرى عديدة‪ ،‬نوعية وغير كمية‪ ،‬تتعلق �أ�سا�سا برفاهية‬
‫الإن�سان‪ .‬ومن هذه االعتبارات‪ ،‬ما هو ثقافي‪ ،‬وما هو روحي‪ ،‬وما هو‬
‫�سيا�سي‪ ،‬وما هو ديمقراطي‪� .‬أما النمو االقت�صادي‪ ،‬فهو نمو تلقائي‬
‫لالقت�صاد‪ ،‬ي�ؤدي �إلى زيادة الناتج القومي‪ ،‬دون تغيير �إرادي في‬
‫عمل و�أداء االقت�صاد‪ .‬وبذلك‪ ،‬يتلخ�ص مفهوم التنمية في العمل على‬
‫‪15‬‬
‫ا�ستخدام الطاقات الكامنة في المجتمع ا�ستخداما �أمثل‪ ،‬عن طريق‬
‫�إحداث تغييرات جذرية في البنيات االقت�صادية واالجتماعية والثقافية‬
‫وال�سيا�سية‪ ،‬وفي تنظيمات تكنولوجيا الإنتاج‪ ،‬وفي توزيع عنا�صر الإنتاج‬
‫بين القطاعات المختلفة‪.‬‬
‫�إن التنمية ظاهرة مركبة؛ تت�ضمن النمو االقت�صادي‪ ،‬كعن�صر‬
‫هام و�أ�سا�سي‪ ،‬مقرونا بحدوث تغير عميق في البنيات االقت�صادية‬
‫واالجتماعية وال�سيا�سية والثقافية في المجتمع‪ ،‬وفي العالقات التي‬
‫تربطه بالنظام االقت�صادي وال�سيا�سي العالمي؛ وينتج عن ذلك‪،‬‬
‫توليد زيادات تراكمية في م�ستوى دخل الفرد الحقيقي‪ ،‬على �أن تكون‬
‫قابلة لال�ستمرار‪ ،‬واقتران ذلك ب�آثار �إيجابية؛ �إنها عملية ح�ضارية‬
‫�شاملة لمختلف �أوجه الن�شاط في المجتمع‪ ،‬بما يحقق رفاه الإن�سان‬
‫وكرامته؛ وهي بناء للإن�سان وتحرير له‪ ،‬وتطوير لكفاءاته و�إطالق‬
‫لقدراته‪ ،‬للعمل البناء؛ كذلك هي اكت�شاف لموارد المجتمع‪ ،‬وتنميتها‪،‬‬
‫واال�ستخدام الأمثل لها‪ ،‬من �أجل بناء الطاقة الإنتاجية القادرة على‬
‫العطاء الم�ستمر‪.‬‬
‫يتفق معظم منظري المدر�سة التقليدية على كافة التفا�صيل‬
‫الخا�صة بعملية النمو االقت�صادي‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم �آدم �سميث وديفيد‬
‫ريكاردو‪ ،‬وروبرت مالتو�س وجون �ستيوارت مل‪ ،‬والذين ي�شتركون في‬
‫فكرة التحليل الجزئي المرتبط بالقطاعات الإنتاجية‪ ،‬وخا�صة الزراعة‪،‬‬
‫والربط بالزيادة ال�سكانية؛ والزالت نظرياتهم تجد قبوال كبيرا في‬
‫كثير من المدار�س الحديثة التي تبحث في طبيعة و�أ�سباب التنمية‪ .‬وقد‬
‫تبنى ه�ؤالء االقت�صاديون التقليديون مبد�أ الحرية االقت�صادية ونظام‬
‫المناف�سة المبني على المبادالت الفردية وعدم تدخل الدولة‪� ،‬إال بغر�ض‬
‫فر�ض بع�ض ال�ضرائب لتمويل نفقاتها في الدفاع والق�ضاء والأمن‪ .‬هذا‪،‬‬
‫بالإ�ضافة �إلى نظرية النمو الكال�سيكية المحدثة)النيوكال�سيكية (التي‬
‫‪16‬‬
‫تربط النمو االقت�صادي �أ�سا�سا باالدخار والتقدم التكنولوجي وعملية‬
‫تكوين ر�أ�س المال‪ .‬ومن �أهم النظريات التي نالت �شهرة وا�ستخداما‬
‫وا�سع النطاق‪ ،‬في الدول النامية والمتقدمة على ال�سواء‪ ،‬نظرية كينز‬
‫التي عا�صرت فترة الك�ساد الكبير في الدول ال�صناعية‪.‬‬
‫�أول من حول‬ ‫يعد جون مانيار كينز ‪J.M. Keynes‬‬
‫منهج التحليل االقت�صادي من نظريات جزئية وفردية وتقليدية (�أو ما‬
‫يعرف باالقت�صاد الجزئي) �إلى نظريات كلية عامة (االقت�صاد الكلي)؛‬
‫فقبله‪ ،‬كان االقت�صاديون الكال�سيكيون ينطلقون من التوازن‪ ،‬ويهتمون‬
‫بالحياة االقت�صادية‪ ،‬من خالل ت�صرفات الأفراد‪ ،‬ويرون �أنها هي‬
‫التي تتحكم في التوازن االقت�صادي‪ ،‬وفي االختيارات المتعلقة بالإنتاج‬
‫واال�ستهالك؛ بينما نرى النظرية الكينزية تنطلق من اختالل التوازن‪،‬‬
‫وترى �أن المنهج ال�صحيح في �أن ينظر نظرة �شمولية وكلية لمجموع‬
‫الن�شاط االقت�صادي‪ ،‬على م�ستوى الدولة والمجتمع‪.‬‬
‫وبعد ط ـ ـ ـ ـ ـ ــرح منهجه‪� ،‬أخذ االقت�صاديون في �أوروبا و�أمريكا‬
‫يركزون(تحت تغطية المحا�سبة الوطنية القائمة على منهجه) ويعبرون‬
‫باالقت�صاد الوطني‪ ،‬والإنتاج الوطن‪ ،‬واال�ستهالك الوطني‪ ،‬والدخل‬
‫القومي‪ ،‬والمالية العامة للدولة‪ ،‬والنظريات العامة للنقود والأثمان‪،‬‬
‫ويحولون االهتمام بالتاجر وال�صانع والفالح �إلى االهتمام بالقطاعات‬
‫االقت�صادية الكبرى التي تمثل العمود الفقري في اقت�صاد الدولة‪،‬‬
‫والمتمثلة في التجارة الداخلية والخارجية‪ ،‬وال�صناعة التقليدية‬
‫والع�صرية‪ ،‬والفالحة الغذائية والتجارية… الأمر الذي �ساعد على‬
‫التطور االقت�صادي‪.‬‬
‫وفي نظرية ما يعرف «بتناق�ضات الم�ضاعف»‪ ،‬فقد طرحه كينز‬
‫على م�ستوى النظرية العامة‪ ،‬و�أعطاه موقعا �إ�ستراتيجيا في عملية‬
‫‪17‬‬
‫تحديد م�ستوى الن�شاط االقت�صادي‪ .‬وعلى عك�س ما فعله الآخرون‪ ،‬ركز‬
‫على الطلب بدل العر�ض‪.‬‬
‫لقد قدم كينز نظرياته في كتاب �أ�صدره �سنة ‪ 1936‬تحت عنوان‬
‫"النظرية العامة للنقود والفائدة واال�ستخدام" ‪Théorie générale de‬‬
‫‪ la monnaie, de l'intérêt et de l'emploi‬؛ وكان �صدوره بعد �أزمة‬
‫‪ ،1929‬والتي نخرت كيان النظام الر�أ�سمالي‪ ،‬وخلقت من الم�شاكل ما‬
‫ا�ستع�صى حله‪.‬‬
‫كينز ارتبط �إ�سمه بالأزمة االقت�صادية العالمية ل�سنة ‪،1929‬‬
‫ويمكن اعتبار فكر كينز بمثابة "ثورة فكرية" فيما يتعلق بتحليل‬
‫النظام الر�أ�سمالي في مرحلة الأزمة؛ و�أهم ما جاء به كينز‪ ،‬في‬
‫كتابه الم�شهور‪ ،‬هو كيف يمكن تجاوز الأزمة الر�أ�سمالية؛ فكينز‬
‫انتقد النظرية الكال�سيكية والنيوكال�سيكية‪ ،‬واقترح مقابل ذلك‪،‬‬
‫منهجا مخالفا للخطاب االقت�صادي الذي �ساد من قبله‪ ،‬ال من حيث‬
‫الم�ضامين‪ ،‬وال من حيث التوجهات االقت�صادية وال�سيا�سية‪.‬‬
‫ما هي الظروف التاريخية التي ظهر في �إطارها الفكر‬
‫الكينزي؟‬
‫�إن �أهم حدث عا�شه كينز هو �أزمة ‪ 1929‬التي جاءت بعد الحرب‬
‫العالمية الأولى‪ ،‬بحيث عرف العالم تحوالت وعا�ش م�صاعب‪ ،‬كانت‬
‫بمثابة انهيار النظام الر�أ�سمالي‪ .‬لكن على الم�ستوى ال�سيا�سي‪،‬‬
‫ظهرت الفا�شية في �إيطاليا والنازية في �ألمانيا‪ ،‬وعا�شت المجتمعات‬
‫�أزمة الديمقراطية‪ ،‬بحيث هيمنت البورجوازية بطريقة جديدة؛ فقد‬
‫انهارت البور�صة‪ ،‬وانخف�ض الإنتاج‪ ،‬وعمت البطالة… وكينز عندما‬
‫تطرق �إلى الأزمة‪ ،‬حاول فهم العوامل والأ�سباب التي �أدت �إلى تدهور‬
‫الأو�ضاع؛ فبالن�سبة للأ�سباب المبا�شرة لهذه الأزمة‪ ،‬نجد الم�ضاربات‬
‫المالية‪ ،‬وتقلبات �سعر الأ�سهم‪ ،‬وانخفا�ض قيمة �سندات الخزينة…‬
‫‪18‬‬
‫لكن‪ ،‬هناك �أ�سباب جوهرية‪ ،‬مرتبطة بطبيعة النظام الر�أ�سمالي‬
‫ذاته‪:‬‬
‫‪ -‬تتعلق باختالل التوازن في الإنتاج واال�ستهالك‪ ،‬بحيث لوحظ‬
‫تدهور القدرة ال�شرائية من جهة‪ ،‬وارتفاع البطالة من جهة �أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬اختالل المبادالت الخارجية‪ ،‬بحيث انخف�ضت ال�صادرات‪،‬‬
‫وارتفعت الواردات؛ مما زاد في ت�أزيم الأو�ضاع الداخلية‪.‬‬
‫من هذه المحاور‪ ،‬الحظ كينز �أن الفكر الكال�سيكي‪ ،‬وكذلك‬
‫الأفكار النيوكال�سيكية‪ ،‬غير كافية القتراح الحلول المنا�سبة‪ ،‬لتجاوز‬
‫الأزمة‪ ،‬وخلق دينامية جديدة لفائدة النظام الر�أ�سمالي‪.‬‬
‫ومن بين الم�شاكل التي ركز عليها كينز‪ ،‬نجد م�شكل البطالة‬
‫التي اعتبرها �إحدى نقائ�ص و�آفات العالم �أو النظام الر�أ�سمالي؛‬
‫ولمحاربتها‪ ،‬يرى كينز �أنه من واجب الدولة �أن تتدخل لفتح �أورا�ش‬
‫للأ�شغال العمومية‪ ،‬و�إعانة المقاوالت‪ ،‬من �أجل تجاوز م�شاكلها للرفع‬
‫من وتيرة الت�شغيل‪.‬‬
‫لقد نجم عن الأزمة التقل�ص في الطلب وانت�شار البطالة داخل‬
‫بريطانيا‪ ،‬وغيرها من الدول الر�أ�سمالية؛ فكان على كينز �أن يف�سر‬
‫(من خالل النظرية العامة للنقود والفائدة واال�ستخدام) �أ�سباب‬
‫الأزمة وعواملها‪ ،‬ويطرح و�سائل العالج بالطرق التي يراها ناجعة؛‬
‫فطرح نظريات عامة جديدة‪ ،‬قلبت المفاهيم‪ ،‬وا�ستخفت بالنظريات‬
‫الكال�سيكية التقليدية؛ وعلى انتقادها‪ ،‬قامت �أ�س�س منهجه الذي يعتبر‬
‫قاعدة �أ�سا�سية‪ ،‬منها انطلقت التيارات الفكرية االقت�صادية‪ ،‬بعد‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬و�أو�ضح دليل على ف�شل النظريات التقليدية‬
‫الليبرالية‪ ،‬و�ضعف الأ�س�س المعتمدة في تحليلها؛ �إذ �ضعفت �أمام‬
‫مقاومة الم�شاكل النا�شئة عن �أزمة ‪ 1929‬الكبرى؛ فكان من كينز �أن‬
‫‪19‬‬
‫ركز في كتابه على �أهم العنا�صر‪ ،‬خا�صة �أ�سباب البطالة‪ ،‬ودور النقود‪،‬‬
‫وتدخل الدولة‪.‬‬
‫‪ -‬فى �أ�سباب البطالة‪ ،‬بد�أ كينز بانتقاد الكال�سيكية‪ ،‬في ادعاء‬
‫عدم وجود بطالة اليد العاملة‪ ،‬العتقادهم (تحت غطاء النظرية‬
‫الفردية) �أن كل راغب في ال�شغل �سيجد عمال منا�سبا لإمكانيته الفكرية‬
‫والج�سمية‪ ،‬نظرا للمزاحمة الموجودة في �سوق المواد‪ ،‬و�سوق عوامل‬
‫الإنتاج… على حد ر�أيهم‪ ،‬في حين �أظهرت الوقائع والأحداث عك�س‬
‫ما يرونه‪ ،‬بدليل �أن بريطانيا وغيرها من الدول الر�أ�سمالية‪ ،‬عرفت‬
‫م�شكل البطالة منذ �أوائل هذا القــرن‪� ،‬إلى �أن تفاح�شت �أثناء �أزمة‬
‫‪1929‬؛ فكان من كينز �أن طرح الحل على م�ستوى الن�شاط االقت�صادي‬
‫ككل‪ ،‬و�ألقى بالم�س�ؤولية على الفرد والدولة والمجتمع‪.‬‬
‫‪ -‬وفي النقـ ـ ـ ـ ـ ــود‪ ،‬انتقد النظرية الكال�سيكية و�أ�صحابها‪ ،‬وقد‬
‫نظروا �إليها نظرة �سطحية قا�صرة‪ ،‬غائبين عن قيمتها‪ ،‬ودورها في‬
‫ترويج ال�سلع‪ ،‬وتحريك دواليب الحياة االقت�صادية واالجتماعية…‬
‫مدعين �أن دورها محايد‪ ،‬و�أن لي�ست �إال حجابا يغطي الحقيقة‪ ،‬وركزوا‬
‫على ا�ستبدال الب�ضائع بالب�ضائع؛ فجاءت النظرية الكينزية‪ ،‬لتبين‬
‫خط�أ ت�صورهم‪ ،‬م�ضافا �إلى خط�إهم في البطالة‪ ،‬وت�ضع مركز النقود‬
‫في االقت�صاد مركز القلب في الج�سم‪.‬‬
‫‪ -‬وفي تدخل الدولة‪ ،‬ناه�ض كينز الر�أي الليبرالي الكال�سيكي‬
‫الراف�ض لتدخل الدولة‪� ،‬إال في �إطار �ضيق‪ ،‬ور�أى �أن للدولة دورا �أ�سا�سيا‬
‫في الحياة االقت�صادية؛ ويتجلى في �ضمان اال�ستخدام الكامل ‪Plein‬‬
‫‪ emploi‬والرفع من الطلب‪.‬‬
‫‪ ،‬فتوجهت معظم مناق�شاته �ضد‬ ‫�أما كارل مارك�س‬
‫الفكر الكال�سيكي؛ فهاجم طريقة التحليل االقت�صادي التي كان يتبعها‬
‫الكتاب الكال�سيك‪ ،‬كما هاجم النتائج التي تو�صلوا �إليها‪ .‬ولكن على‬
‫‪20‬‬
‫الرغم من هذا العداء تجاه الفكر الكال�سيكي‪ ،‬ف�إن المتتبع لتطور‬
‫النظرية االقت�صادية‪ ،‬يجد �أكثر من دليل على �أن مارك�س قد ا�ستعان‬
‫به كثيرا‪ .‬وقد هيمنت �آراء مارك�س على تطور اال�شتراكية العالمية‪،‬‬
‫اعتبارا من �أواخر القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬
‫تقوم النظرية المارك�سية على �أن التطور يرتكز على �أ�سا�س‬
‫مادي؛ هو طرق الإنتاج‪� ،‬أو الو�سائل التقنية الم�ستخدمة في عمليات‬
‫الإنتاج؛ ومن هنا‪ ،‬ي�ستنتج مارك�س ب�أن جميع التيارات الفكرية‬
‫والأخالقية والدينية لي�ست في الحقيقة �سوى انعكا�سات لهذه التقنية‬
‫ونتيجة لها؛ فالتطور االقت�صادي المادي �إذن هو الذي يكيف التطورات‬
‫الفكرية والفل�سفية واالجتماعية؛ وهذا ما يعرف بمادية التاريخ؛ على‬
‫�أن هذه النظرة �إلى العوامل التي تحكم التطور التاريخي هي ال�شك‬
‫نظرة مب�سطة؛ فهناك عوامل �أخرى كثيرة دينية وفل�سفية واجتماعية‬
‫و�أخالقية ت�ؤثر على ذلك التطور‪ .‬كيـف ذلـك؟‬
‫ي�ؤدي تنظيم الإنتاج في كل ع�صر �إلى و�ضع طبقات معينة في‬
‫و�ضع ممتاز من الناحية االقت�صادية‪ ،‬وطبقات �أخرى في و�ضع ال تح�سد‬
‫عليه؛ �أي وجود طبقة �سائدة وطبقة م�سودة‪� ،‬أو طبقة م�ستغلة وطبقة‬
‫م�ستغلة‪ ،‬بحيث �أن التطور التاريخي يمكن �أن يو�صف �أي�ضا ب�أنه �سل�سلة‬
‫من التنازع بين الطبقات؛ وهذا التنازع في النظام الر�أ�سمالي يقوم‬
‫بين طبقتين‪ :‬العمال (البروليتاريا) و�أرباب العمل (البورجوازية)‪،‬‬
‫وذلك ب�سبب ا�ستغالل الطبقة الأخيرة للطبقة الأولى‪.‬‬
‫هذا التطور حتمي في نظر مارك�س؛ ي�ؤيده التطور التاريخي في‬
‫جميع مراحله‪ ،‬بالن�سبة �إلى الطبقات المختلفة التي �سادت وحكمت‬
‫حينا من الدهر ثم حط �ش�أنها‪.‬‬
‫وقد مرت جميع الطبقات بهذه المراحل؛ وهكذا‪ ،‬كان الو�ضع‬
‫بالن�سبة �إلى الأ�سياد والعبيد في عهود الرق والإقطاعيين‪ ،‬والفالحين‬
‫‪21‬‬
‫في عهود الإقطاع‪ ،‬و�أرباب العمل من الر�أ�سماليين والعمال في عهود‬
‫الر�أ�سمالية‪ ،‬على اختالف �صورها و�ألوانها‪ .‬وقد ذكر مارك�س في‬
‫"بيانه ال�شيوعي" في هذا ال�صدد‪�" :‬إن تاريخ كل جماعة من الجماعات‬
‫الإن�سانية لي�س في الحقيقة �سوى تاريخ لتنازع الطبقات"‪.‬‬
‫وي�ستنتج مما تقدم‪� ،‬أن تطور النظام الر�أ�سمالي‪ ،‬وزيادة عدد‬
‫العمال زيادة مطردة‪� ،‬سوف ي�ؤديان حتما‪ ،‬في نظر مارك�س‪� ،‬إلى انهيار‬
‫النظام الر�أ�سمالي انهيارا تاما؛ �إذ �أن هذا النظام يحمل في ثناياه‬
‫عوامل انهياره واندثاره‪ .‬وفي هذه المرحلة الأخيرة المرتقبة‪ ،‬وعندما‬
‫ي�صبح النا�س جميعا في عداد الطبقة العاملة‪ ،‬يتوقف نزاع الطبقات‬
‫وي�سيطر العمال على مقاليد الأمور‪.‬‬
‫و�أخيرا‪ ،‬ظهرت نظرية النمو الجديدة (النمو الداخلي) التي‬
‫اهتمت بالعوامل غير التقليدية‪ ،‬المحركة للنمو االقت�صادي‪ ،‬مثل ر�أ�س‬
‫المال الب�شري‪ ،‬والإنفاق الحكومي‪ ،‬والنظم ال�سيا�سية‪.‬‬
‫�إن الق�صور في تف�سير التباعد واالختالف الكبير في الأداء‬
‫االقت�صادي فيما بين البلدان‪ ،‬جعل نماذج النمو التقليدية تلقى معار�ضة‬
‫كبيرة في نهاية الثمانينات وبداية الت�سعينات‪ ،‬كونها ترجع النمو‬
‫االقت�صادي �إلى عوامل خارجية م�ستقلة عن التقدم التكنولوجي‪ ،‬هذا‬
‫الق�صور يوفر �إطارا نظريا لبروز نظرية النمو الداخلية؛ كما �أن الدافع‬
‫الأ�سا�سي في نظرية النمو الجديدة هو تف�سير االختالفات الحا�صلة في‬
‫معدالت النمو بين البلدان المختلفة‪ ،‬وكذلك تف�سير الجزء الأكبر من‬
‫النمو المحقق؛ ويفتر�ض نموذج نظرية النمو الجديدة‪ ،‬وجود وفرات‬
‫خارجية مترافقة مع تكوين ر�أ�س المال الب�شري التي تمنع الناتج‬
‫الحدي لر�أ�س المال من االنخفا�ض‪ .‬ويتعزز موقف النظرية الجديدة‬
‫�إذا وجدنا ب�أن التعليم وكذلك البحث والتطوير‪ ،‬يمنعان �إنتاجية ر�أ�س‬
‫‪22‬‬
‫المال الحدية من االنخفا�ض؛ مما ينتج عنه اختالف حقيقي فيما بين‬
‫�أداء اقت�صاديات البلدان المختلفة‪.‬‬
‫وي�أخذ فردمان ‪� Milton Friedman‬أحد �أهم رواد المدر�سة‬
‫النقدية‪ ،‬على كينز‪ ،‬كونه و�إن اهتم بدرا�سة الطلب على النقود‬
‫(تف�ضيل ال�سيولة)‪ ،‬فقد اعتبر �أن عر�ض النقود متغير م�ستقل‪ ،‬يتوقف‬
‫على ال�سلطات النقدية‪ ،‬و�أنه (كينز) بالتالي لم يوجه اهتماما كافيا‬
‫لم�س�ألة عر�ض النقود‪ ،‬تاركا ال�سلطات النقدية‪ ،‬دون توجهات محددة؛‬
‫كذلك وربما �أكثر خطورة‪ ،‬ف�إن تحليل كينز للطلب على النقود انتهى‬
‫�إلى �أن هذا الطلب غير م�ستقر‪ ،‬ويمكن �أن يتغير ب�شكل كبير‪� .‬أما‬
‫فردمان معتمدا على درا�سته الإح�صائية‪ ،‬فقد الحظ �أن الطلب على‬
‫النقود �أكثر ا�ستقرارا مما يدعي كينز‪ ،‬و�أنه يتوقف ب�صفة عامة على‬
‫الدخل؛ وقد �ساعد فردمان في الو�صول �إلى هذه النتيجة‪ ،‬درا�سته‬
‫لال�ستهالك (‪ )1955‬وما ا�ستخل�صه منها‪ ،‬ب�أن اال�ستهالك يتوقف علي‬
‫الدخل الدائم للفرد؛ وانتهى فردمان من كل ذلك‪� ،‬إلى �أن الإنفاق على‬
‫اال�ستهالك يتمتع با�ستقرار كبير‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ا�ستخل�ص فردمان من درا�سته لال�ستهالك من ناحية‪،‬‬
‫والتطور النقدي في الواليات المتحدة الأمريكية خالل قرن‪ ،‬من‬
‫منت�صف القرن التا�سع ع�شر حتى منت�صف القرن الع�شرين من ناحية‬
‫�أخرى‪( ،‬ا�ستخل�ص) �أن الطلب على النقود �أكثر ا�ستقرارا‪ ،‬مما �أ�شار‬
‫�إليه كينز‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬ف�إن زيادة عر�ض النقود �أو نق�صانه ي�ؤذي مبا�شرة‬
‫�إلى زيادة الإنفاق �أو نق�صانه؛ ومن ثم‪ ،‬ف�إن لعر�ض النقود ت�أثيرا‬
‫مبا�شرا على م�ستوى الأ�سعار‪.‬‬
‫ويمكن التعبير عن الخالف بين كينز وفردمان في هذا ال�صدد‪،‬‬
‫با�ستخدام فكرة �سرعة تداول النقود؛ فهي عند كينز غير م�ستقرة‪،‬‬
‫‪23‬‬
‫بعك�س فردمان الذي يرى �أن �سرعة التداول تتمتع بقدر كبير من‬
‫اال�ستقرار‪.‬‬
‫وكان من ر�أي فردمان‪� ،‬أن اال�ستقرار االقت�صادي يتطلب زيادة‬
‫عر�ض النقود بن�سبة ثابتة �أو م�ستقرة‪ ،‬تتفق مع معدل النمو االقت�صادي؛‬
‫ومن هنا‪ ،‬ف�إن دور ال�سلطات النقدية يتحدد بمهمة واحدة؛ وهي رقابة‬
‫كمية النقود‪ ،‬والعمل على نموها بمعدل م�ستقر ومتفق مع معدل نمو‬
‫االقت�صاد القومي‪ .‬وقد �أدت �أفكار فردمان وتالميذه‪� ،‬إلى زيادة‬
‫االهتمام بق�ضية عر�ض النقود‪ ،‬وبد�أت الحكومات تعلن �إح�صاءات عن‬
‫كمية النقود المتداولة؛ الأمر الذي خلق م�شاكل �إح�صائية غير ب�سيطة؛‬
‫فتعريف النقود لي�س �أمرا �سهال ووا�ضحا‪ ،‬في �ضوء تعدد الأدوات النقدية‬
‫والمالية المتاحة ‪.‬ومن هنا‪ ،‬ظهرت تعريفات متعددة للنقود ‪M1 M2‬‬
‫‪ ، M3‬بح�سب مدى التو�سع في التعريف‪ ،‬و�إدخال عنا�صر �أخرى �ضمن‬
‫م�صطلح النقود‪ .‬وقد كانت هذه ال�صعوبة هي �إحدى �أهم االنتقادات‬
‫التي وجهت �إلى النقديين؛ فها هو ذا كالدور ‪ Kaldor‬ي�شكك في جدوى‬
‫ن�صائح النقديين‪ ،‬مع عدم القدرة على التعريف الوا�ضح لمعنى كمية‬
‫النقود‪.‬‬
‫ويمكن القول‪ ،‬في حين ركز التيار الرئي�سي في االقت�صاد‪،‬‬
‫على ال�سوق والأ�سعار‪ ،‬باعتبارهما �أ�سا�س العالقات االقت�صادية‪ ،‬ف�إن‬
‫المدر�سة الم�ؤ�س�سية ‪ - Ecole Institutionaliste‬التي تجد بذورها‬
‫في �ألمانيا‪ ،‬مع المدر�سة التاريخية الألمانية‪ ،‬ثم مع الفكر االجتماعي‬
‫لماك�س فيبر ‪ ، Max Weber‬وازدهرت بوجه خا�ص في الواليات المتحدة‬
‫الأمريكية‪ ،‬منذ نهاية القرن الما�ضي وبداية القرن الحالي‪ ،‬حيث ظلت‬
‫في �أمور النظرية االقت�صادية تابعة الإنجليزي والأوروبي ب�شكل عام‪،‬‬
‫حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ‪ -‬ف�إن الم�ساهمة الأمريكية الأ�صلية‬
‫قبل ذلك‪ ،‬والتي اقت�صرت على هذا االقت�صاد الم�ؤ�س�سي‪ ،‬وخا�صة‬
‫‪24‬‬
‫‪ ،‬ترى �أن العبرة تكون بالم�ؤ�س�سات‬ ‫مع ڤبلن ‪Veblen‬‬
‫االجتماعية ال�سائدة‪ ،‬و�أن ال�سوق نف�سها ال تعدو �أن تكون �إحدى هذه‬
‫الم�ؤ�س�سات؛ وهي تت�أثر بالأو�ضاع الم�ؤ�س�سية الأخرى في المجتمع‪ ،‬من‬
‫الدولة والنظام القانوني والقيم ال�سائدة؛ فالتيار الرئي�سي لالقت�صاد‬
‫يرى �أن الم�شكلة الرئي�سية هي كيفية تكوين الأثمان‪ ،‬وتنظيم الأ�سواق‪،‬‬
‫وتوزيع الموارد؛ �أما االقت�صاد الم�ؤ�س�سي‪ ،‬ف�إنه يوجه عنايته للتنظيمات‬
‫القائمة‪ ،‬و�شكل ال�سيطرة على االقت�صاد‪� ،‬سواء �أكانت هذه ال�سيطرة‬
‫راجعة �إلى اعتبارات فنية �أو قانونية؛ ومن هنا‪ ،‬االهتمام الكبير‬
‫بالتطور التكنولوجي‪ ،‬ونظم الملكية‪ ،‬والحقوق ب�صفة عامة‪ ،‬والتنظيم‬
‫القانوني واالجتماعي‪.‬‬
‫وقد حظيت فكرة الق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوة �أو ال�سيطرة االقت�صادية باهتمام‬
‫كبير لدى مفكري المدر�سة الم�ؤ�س�سية؛ وبالتالي‪ ،‬ف�إن دور الحكومة‬
‫االقت�صادي كان دائما محوريا في درا�سات هذه المدر�سة؛ وقد احتل‬
‫هذا المو�ضوع في الأدبيات الحديثة‪ ،‬مكانا بارزا تحت م�سمى "�أ�ساليب‬
‫الحكم" ‪.Gouvernance‬‬
‫ويمكن القول ب�أن المدر�سة الم�ؤ�س�سية قد مرت بمرحلتين‬
‫متميزتين؛ في المرحلة الأولى‪ ،‬كانت المدر�سة الم�ؤ�س�سية تمثل نقدا‬
‫ومعار�ضة للفكر االقت�صادي ال�سائد؛ فمحور االهتمام لي�س ال�سوق‬
‫والأ�سعار‪ ،‬و�إنما هو الم�ؤ�س�سات و�أ�شكال تطورها؛�أما المرحلة الثانية‪،‬‬
‫فقد تميزت ب�أن المدر�سة الم�ؤ�س�سية بد�أت ت�ستخدم �أدوات التحليل‬
‫االقت�صادي لدرا�سة مختلف الم�ؤ�س�سات االجتماعية؛ فالمدر�سة‬
‫الم�ؤ�س�سية الحديثة ال ت�ستبعد الأدوات الأ�سا�سية للتحليل االقت�صادي‪،‬‬
‫وفي مقدمتها المقارنة بين العائد والتكلفة‪ ،‬واختيار ال�سلوك الر�شيد‪،‬‬
‫وتعظيم العائد �أو تخفي�ض التكلفة والأعباء‪ .‬والجديد الذي تقدمه‬
‫المدر�سة الم�ؤ�س�سية الحديثة‪ ،‬هو �أنها ال تق�صر ا�ستخدام هذه الأدوات‬
‫‪25‬‬
‫االقت�صادية على ال�سوق والأ�سعار‪ ،‬بل �إنها تعممها لتف�سير العديد من‬
‫الظواهر االجتماعية الأخرى‪ ،‬مثل مدى حقوق الملكية‪ ،‬واحترام حقوق‬
‫الجوار‪ ،‬و�أحكام الق�ضاء في الم�س�ؤولية‪ ،‬وتف�سير الجريمة‪ ،‬والتمييز‬
‫العن�صري‪ ،‬بل وتف�سير ن�شاط ال�سلطة؛ فهذه الظواهر االجتماعية‬
‫والقانونية تجد تف�سيرا لها في التحليل االقت�صادي الذي يعتمد على‬
‫فكرة "العائد‪/‬التكلفة" ‪.Coût/bénéfice‬‬
‫�أهم الأ�سماء‬ ‫يعتبر فردريك فون هايك ‪F. Hayek‬‬
‫في الدعوة �إلى الليبرالية‪ ،‬من خالل «المدر�سة الليبرالية الجديدة»‬
‫‪ ،Ecole Néolibérale‬في وقت بدا فيه �أن الفردية والفكر الليبرالي قد‬
‫انزويا �إلى غير رجعة؛ و�إليه ترجع معظم الروافد المختلفة التي ت�صب‬
‫في المجرى العام للفكر الليبرالي؛ فالنقديون الجدد‪ ،‬وكذا المدر�سة‬
‫الم�ؤ�س�سية الجديدة وغيرهم‪ ،‬يرون في هايك الأب الروحي‪.‬‬
‫لقد ظلت الأفكار الليبرالية الجديدة �أمينة على تراثها‪ ،‬في‬
‫احترام التقاليد الفردية‪ ،‬وفي �ضرورة احترام الحقوق الأ�سا�سية‬
‫للأفراد‪ ،‬وو�ضع القواعد وال�ضوابط على مختلف �أ�شكال ال�سلطة؛‬
‫ومع ذلك ت�ؤمن ب�أن للدولة دورا �أ�سا�سيا‪ ،‬ال يجوز التغا�ضي عنه؛‬
‫فهي لي�ست داعية كما ي�شاع لعدم تدخل الدولة �أو ل�شعار "دع الأمور‬
‫تجري في �أعنتها" ‪Laisser passer, laisser faire‬؛ فالخالف بين‬
‫الفكر الليبرالي والنظم غير الليبرالية بالإ�ضافة �إلى �ضرورة احترام‬
‫حقوق الإن�سان وو�ضع ال�ضوابط الد�ستورية على ال�سلطات ين�صرف‬
‫�إلى �شكل تدخل الدولة ولي�س م�ضمونه؛ فعلى الدولة م�س�ؤولية تحقيق‬
‫اال�ستقرار االقت�صادي‪ ،‬وتوفير �شروط و�ضمانات التقدم‪ ،‬وتوفير العدالة‬
‫االجتماعية‪ .‬ولكن الدولة تتدخل في كل ذلك‪ ،‬عن طريق ال�سيا�سات‬
‫ولي�س عن طريق الأوامر‪ .‬وبوجه خا�ص‪ ،‬ف�إن الدولة ال تقوم بالإنتاج‬
‫بنف�سها �إال في ظروف ا�ستثنائية‪ ،‬ولكنها ت�ؤثر في ظروف الإنتاج‪ ،‬عن‬
‫‪26‬‬
‫طريق ال�سيا�سات المالية والنقدية؛ فالدولة الليبرالية هنا‪ ،‬هي دولة‬
‫القانون ولي�ست دولة الأوامر‪.‬‬
‫و�إذا نظرنا �إلى التيار الفكري االقت�صادي الذي �ساعد على عودة‬
‫هذه الليبرالية الجديدة‪ ،‬نجد �أنه مت�شعب؛ يجد بذوره في مدار�س‬
‫متعددة؛ فالمدر�سة النقدية الجديدة �ساعدت ب�شكل ما على تدعيم‬
‫الفكر الليبرالي الجديد‪ ،‬ب�إلقاء بذور ال�شك في مدى قدرة الحكومات‬
‫على تحقيق اال�ستقرار االقت�صادي‪ ،‬عن طريق ال�سيا�سات المالية‬
‫وعجز الموازنة‪ .‬ويرى �أن�صارها على العك�س �أن اال�ستثمار الخا�ص‬
‫�أقدر و�أكف�أ من اال�ستثمار العام؛ ومن هنا‪� ،‬أهمية الت�أثير في الن�شاط‬
‫االقت�صادي عن طريق ال�سيا�سة النقدية‪ ،‬بدال من ال�سيا�سة المالية‪،‬‬
‫وبخا�صة عجز الموازنة‪ .‬كذلك‪ ،‬ف�إن المدر�سة الم�ؤ�س�سية الجديدة‪،‬‬
‫وقد �أولت اهتمامها لتوفير المناخ والظروف الم�ؤ�س�سية المنا�سبة‬
‫للن�شاط الخا�ص‪ ،‬تعتبر رافدا من روافد الليبرالية الجديدة‪.‬‬
‫ورغم االتفاق العـ ـ ـ ـ ــام‪ ،‬بين معظم منظري اقت�صاد التنمية‪،‬‬
‫على المفهوم الوا�سع لهذه الأخيرة‪� ،‬إال �أن هناك خالفات جوهرية‬
‫بين المدار�س والنظريات‪ ،‬في ما يتعلق بالمحتوى والم�ضمون‪ ،‬وكذا‬
‫معايير ومكونات التنمية؛ �إذ نجد مدار�س ونظريات متعددة؛ مثل‬
‫المدر�س ـ ـ ــة التقليدية‪ ،‬والتقليديـ ـ ـ ـ ـ ــة الجديدة‪ ،‬والمدر�سة الكينزية‪،‬‬
‫والمارك�سية‪ ،‬والهيكلية‪ ،‬والم�ؤ�س�سية‪ ،‬ونظرية الحلقة المفرغة للفقر‪،‬‬
‫ونظرية المراحل لرو�ستوف‪ ،‬ومدر�سة التبعية االقت�صادية‪ ،‬والمدر�سة‬
‫الليبرالية والليبرالية الجديدة‪ .‬واختالف هذه النظريات‪ ،‬من حيث‬
‫تو�صيف طبيعة التخلف و�أ�سبابه‪ ،‬ي�ؤدي بال�ضرورة �إلى االختالف في‬
‫اقتراح �سبل الخروج من م�شكلة التخلف وتحقيق التنمية‪� ،‬أو ما ي�سمى‬
‫بالإ�ستراتيجية التنموية المالئمة‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ - 1‬نظرية الدفعة القوية‬

‫يرى رودان روزن�شتاين ‪� Rodan Rosenstein‬أن التنمية يجب‬


‫�أن تك ـ ــون في �شكل قفزات قوية‪ ،‬ت�سمح بزيادة النمو‪ ،‬و�أن التدرج‬
‫في التنمية لن ي�ؤدي �إلى التغلب على الركود االقت�صادي‪ ،‬ويقـ ـ ــول‬
‫رودان‪ ،‬ب�أنه �إذا �سرنا خطوة في طريق النمو‪ ،‬فال يمكـ ـ ــن �أن ن�صل‬
‫�إلى نتيجة‪ ،‬لأن التنمية تحتاج �إلى دفعة قوية‪ ،‬تفوق في �أثرها الخطوات‬
‫التدريجية‪.‬‬
‫ويبد�أ رودان تحليله بافترا�ض �أ�سا�سي؛ وهو �أن الت�صنيع هو‬
‫ال�سبيل الوحيد لرفع م�ستويات الدخول؛ ومن ثم التقليل من فجوة‬
‫التخلف القائمة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة‪ ،‬حيث ي�سمح‬
‫با�ستيعاب فائ�ض العمالة المتعطلة جزئيا �أو كليا في القطاع الزراعي‪،‬‬
‫لكن �شريطة �أن تبد�أ عملية الت�صنيع في �شكل دفعة قوية‪ ،‬عن طريق‬
‫توظيف حجم �ضخم من اال�ستثمارات في بناء مرافق ر�أ�س المال‬
‫االجتماعي‪ ،‬من طرق وموا�صالت وو�سائل نقل وتدريب القوى العاملة؛‬
‫وهي م�شروعات �ضخمة غير قابلة للتجزئة‪ ،‬وت�سمح بخلق وفورات‬
‫اقت�صادية خارجية؛ تتمثل في توفير خدمات �إنتاجية بتكلفة منخف�ضة‬
‫‪� Indivisible‬ضرورية لقيام م�شروعات �صناعية‪ .‬و�إلى جانب ذلك‪،‬‬
‫البد من توجيه حجم كبير من اال�ستثمارات في �إن�شاء جبهة عري�ضة‬
‫من �صناعات تتكامل م�شروعاتها لتحقيق الت�شابك الأفقي والر�أ�سي؛‬
‫مما ي�ؤدي �إلى تخفي�ض تكاليف الإنتاج‪ ،‬ويقترح (رودان) �أن تتركز‬
‫اال�ستثمارات على نطاق وا�سع‪ ،‬في ال�صناعات اال�ستهالكية الخفيفة‪،‬‬
‫بحيث تدعم بع�ضها البع�ض‪ ،‬وتك�سبها الجدوى االقت�صادية‪ ،‬لإقامتها‬
‫في �آن واحد‪ ،‬مع مراعاة التوازن بين م�شروعات البنية التحتية وبين‬
‫ال�صناعات اال�ستهالكية‪.‬‬
‫ولتطبيق نموذج التنمية الذي يقدمه رودان‪ ،‬والقائم على نظرية‬
‫‪28‬‬
‫الدفعة القوية‪ ،‬والمالئم للنمو في البلدان النامية‪ ،‬البد من الأخذ‬
‫باالعتبارات التالية‪:‬‬
‫‪� -‬أن تتوفر كميات كبيرة من ر�ؤو�س الأموال‪ ،‬والتي يقتر�ض‬
‫معظمها من الخارج‪ ،‬لعدم قدرة الدول النامية على التمويل ذاتيا‪.‬‬
‫‪� -‬أن يتم �إن�شاء ال�صناعات الخفيفة واال�ستهالكية التي توظف‬
‫عددا كبيرا من العمال‪.‬‬
‫‪ -‬واالبتعاد ما �أمكن عن ال�صناعات الثقيلة ذات النفقات‬
‫الباه�ضة‪ ،‬وتموين البالد النامية بما تحتاجه من ال�صناعة الثقيلة‪،‬‬
‫من الدول الر�أ�سمالية ال�صناعية‪.‬‬

‫‪ - 2‬نظرية النمو المتوازن‬

‫قدم ‪ Nurkse‬فكرة الدفعة القوية ب�صيغة حديثة‪� ،‬أخذت ت�سمية‬


‫نظرية �أو �إ�ستراتيجية النمو المتوازن‪ .‬ويركز نورك�س على م�شكلة‬
‫الحلقة المفرغة للفقر‪ ،‬والناتجة عن تدني م�ستوى الدخل‪ ،‬وبالتالي‬
‫قلة الطلب‪ ،‬ومن ثم �ضيق الأ�سواق‪ ،‬والذي ي�ؤدي �إلى �ضعف الت�شغيل‪،‬‬
‫وبالتالي �ضعف اال�ستثمار‪ ،‬والذي ي�ؤدي بدوره �إلى �ضعف الإنتاجية؛‬
‫وي�ؤكد نورك�س �أن تك�سير الحلقة المفرغة للفقر‪ ،‬يتطلب التفتح على‬
‫العالم المتقدم‪ ،‬لنقل التكنولوجيا �إلى الدول المتخلفة؛ فيقول‪�" :‬إن‬
‫حوافز التوظيف مقيدة بحجم ال�سوق‪ ...‬وحجم ال�سوق يتحدد بالم�ستوى‬
‫العام للإنتاجية‪ ...‬والقدرة على ال�شراء تعني القدرة على الإنتاج‪.‬‬
‫ويتوقف م�ستوى الإنتاجية بدوره ‪ -‬ال نق�صد كليا‪ ،‬بل بن�سبة كبيرة ‪ -‬على‬
‫ا�ستخدام ر�أ�س المال في الإنتاج‪ ،‬غير �أن ا�ستخدام ر�أ�س المال ي�صطدم‬
‫بادئ ذي بدء‪ ،‬ب�صغر حجم ال�سوق"‪.‬‬
‫�إذن‪ ،‬يرى نورك�س �أن ك�سر الحلقة المفرغة للفقر يتحقق بتو�سيع‬
‫‪29‬‬
‫حجم ال�سوق‪ ،‬والذي يتحقق بدوره‪ ،‬من خالل �إقامة ا�ستثمارات عديدة‬
‫في ال�صناعات اال�ستهالكية‪ ،‬وتطوير جميع القطاعات في �آن واحد‪ ،‬مع‬
‫الت�أكيد على تحقيق التوازن بين القطاع ال�صناعي والقطاع الزراعي‪،‬‬
‫حتى ال ي�ؤدي تخلف الزراعة �إلى �إعاقة تقدم ال�صناعة؛ وبالتالي‬
‫فنظرية النمو المتوازن تعتمد برنامجا �ضخما من اال�ستثمارات التي‬
‫توجه نحو �إنتاج ال�سلع اال�ستهالكية لإ�شباع حاجات ال�سوق المحلية‬
‫ولي�س الهدف الت�صدير‪ ،‬وذلك في المراحل الأولية‪ ،‬نظرا ل�ضعف‬
‫المناف�سة في ال�سوق المحلية‪.‬‬
‫وتتطلب نظرية النمو المتوازن تحقيق التوازن بين مختلف‬
‫ال�صناعات اال�ستهالكية‪ ،‬وبينها وبين ال�صناعات الر�أ�سمالية‪ ،‬و�أي�ضا‬
‫التوازن بين القطاع المحلي والقطاع الخارجي؛ وفي النهاية تحقيق‬
‫التوازن بين جهة العر�ض وجهة الطلب‪ ،‬حيث تعمل جهة العر�ض على‬
‫زيادة عر�ض ال�سلع‪ ،‬وتدفع جهة الطلب �إلى توفير فر�ص العمل‪ .‬وت�ؤكد‬
‫النظرية على الحجم الكبير لال�ستثمارات التي ت�سمح بتحقيق تكامل‬
‫�أفقي وعمودي لل�صناعات‪ ،‬وتق�سيم �أف�ضل للعمل‪ ،‬وا�ستغالل �أف�ضل للبنى‬
‫التحتية االقت�صادية واالجتماعية‪ .‬وتكمن �أهمية التوازن بين القطاع‬
‫المحلي والقطاع الخارجي; في �أن عوائد ال�صادرات هي م�صدر مهم‬
‫لتمويل التنمية‪ ،‬حيث تتطلب زيادة الإنتاج زيادة اال�ستيراد؛ ولمواجهة‬
‫متطلبات اال�ستيراد‪ ،‬البد من االهتمام بالتجارة الخارجية والداخلية‬
‫على حد �سواء‪.‬‬

‫‪ - 3‬نظرية النمو غير المتوازن‬

‫‪Albert‬‬ ‫ارتبطت هذه النظرية باالقت�صادي �ألبرت هير�شمان‬


‫‪ ،Hirshman‬و�إن كان قد �سبقه في تقديم هذه الفكرة‪ ،‬االقت�صادي‬
‫‪30‬‬
‫فرن�سوا بيرو ‪ ،F. Perroux‬وذلك تحت ت�سمية نظرية مراكز �أو �أقطاب‬
‫النمو‪.‬‬
‫وقد انطلق هير�شمان من انتقاد االقت�صادي �سنجر ‪Singer‬‬
‫لنظرية النمو المتوازن‪ ،‬في كونها غير واقعية‪ ،‬لأن البلدان النامية ال‬
‫تملك الموارد الالزمة من ر�أ�س المال والتنظيم ومتخذي القرارات‪.‬‬
‫لذلك‪� ،‬أكد هير�شمان على �أن الطريق لتحقيق النمو االقت�صادي في‬
‫الدول النامية‪ ،‬يكون بتطبيق نظرية النمو غير المتوازن؛ فح�سب‬
‫هذه النظرية‪ ،‬ف�إن اال�ستثمار في القطاعات الإ�ستراتيجية يقود �إلى‬
‫ا�ستثمارات جديدة‪ ،‬حيث ينتقل النمو من القطاعات القائدة �إلى‬
‫القطاعات التابعة‪.‬‬
‫وتقوم نظرية هير�شمان على الروابط‪ ،‬حيث ترتبط ال�صناعات‬
‫ب�صناعات �أخرى‪ ،‬بطرق يمكن �أخذها في االعتبار عند التخطيط‬
‫لإ�ستراتيجية التنمية‪ ،‬حيث هناك روابط خلفية وروابط �أمامية؛‬
‫فال�صناعات ذات الروابط الخلفية ت�ستخدم مدخالت من �صناعات‬
‫�أخرى؛ مثال �صناعة ال�سيارات ت�ؤدي �إلى زيادة الطلب على منتجات‬
‫م�صانع الآالت والمعادن‪ ،‬والتي بدورها ت�ستخدم ال�صلب؛ �أما الروابط‬
‫الأمامية‪ ،‬ف�إنها تحدث في ال�صناعات التي تنتج مدخالت �صناعات‬
‫�أخ ـ ــرى؛ ففي هذه الحالة‪ ،‬يتم البدء ب�إقامة م�صنع لل�صلب‪ ،‬وعند‬
‫ارتفاع العر�ض منه‪ ،‬يتـ ـ ــم �إقامة م�صانع ت�ستخدم هذا ال�صلب؛‬
‫فكل من الروابط الأماميـ ــة والخلفية‪ ،‬تخلق �ضغوطا لبناء �صناعات‬
‫جديدة‪.‬‬
‫وي�ؤكـ ــد هير�شمان‪� ،‬أن التنمية يمكن �أن تحدث من خالل‬
‫اال�ستثمار‪� ،‬إما في ر�أ�س المـ ـ ـ ـ ــال االجتماعي �أو في ن�شاطات �إنتاجية‬
‫مبا�شرة؛ ويرى �أن االختالل في التوازن يمث ـ ـ ــل الق ـ ـ ــوة الدافعة‬
‫للنمو‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫‪ - 4‬نظرية الحلقة المفرغة للفقر (�أو للنمو)‬

‫ركز الكثير من االقت�صاديين الذين ت�صدوا في البداية لدرا�سة‬


‫التنمية‪ ،‬على ما �أ�سموه بـ "الحلقة المفرغة للفقر"‪ ،‬وبالتالي "الحلقة‬
‫المفرغة للنمو"؛ �إذ يرى ه�ؤالء االقت�صاديون ب�أن البلدان المتخلفة هي‬
‫بلدان فقيرة جدا؛ وبالتالي فمعدالت االدخار فيها منخف�ضة للغاية؛‬
‫وهو ما يترتب عنه انخفا�ض معدل اال�ستثمار؛ الأمر الذي يعني �أن تظل‬
‫هذه البلدان فقيرة‪.‬‬
‫�إ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬ف�إن انت�شار الفقر بين مواطني هذه البلدان‪،‬‬
‫ي�ؤدي �إلى محدودية حجم �أ�سواقها‪ ،‬بحيث ال يوجد حافز على اال�ستثمار‬
‫فيها؛ ولهذا‪ ،‬فال يوجد نمو‪ .‬وهكذا‪ ،‬ف�إن الحلقة ال�سابقة تنطلق من‬
‫الفقر لتعود �إليه من جديد؛ هذا‪ ،‬عالوة على الكثير من الحلقات‬
‫المفرغة الأخرى في كافة المجاالت‪ ،‬مثل ال�صحة والتعليم‪...‬‬
‫و�أ�ضاف بع�ض االقت�صاديين الحقا‪ ،‬لهذه الأ�سباب المذكورة‪،‬‬
‫�أ�سبابا �أخرى تعزز من نظرية الحلقة المفرغة؛ مثل القول ب�أن التنمية‪،‬‬
‫تحتاج �إلى وجود بنية تحتية حديثة؛ وهذه البنية التحتية تحتاج �إلى‬
‫موارد �ضخمة لإن�شائها؛ وهو ما ال يتوفر للبلدان المتخلفة‪ .‬ولذلك‪،‬‬
‫ف�إنها تظل متخلفة‪ .‬لهذا‪ ،‬ولكي تبد�أ عملية النمو والتنمية‪ ،‬فالبد من‬
‫�أن تتوفر لها في البداية دفعة مبدئية �ضخمة من اال�ستثمار؛ وهو ما‬
‫ي�سمى بـ "الدفعة الكبرى" �أو "الدفعة القوية" التي من المفتر�ض �أن‬
‫تمول من الخارج‪.‬‬

‫‪ - 5‬نظرية المراحل لرو�ستوف ‪Rostow‬‬

‫و�ضع رو�ستوف نظريته في التنمية في كتابه "النمو االقت�صادي"؛‬


‫ويرى �أن التخلف راجع �إلى عوامل كثيرة ومت�شابكة‪ ،‬و�أن النمو‬
‫‪32‬‬
‫االقت�صادي ي�سير في مراحل متعاقبة؛ وقد ق�سم رو�ستوف مراحل النمو‬
‫االقت�صادي‪� ،‬إلى خم�س مراحل؛ وهي‪:‬‬
‫‪ -‬مرحلة المجتمع التقليدي‪ :‬الذي يعتمد في بنيانه على وظائف‬
‫�إنتاجية محدودة‪ ،‬مبنية على و�سائل قديمة‪ ،‬وذلك ب�سبب انعدام‬
‫الإمكانيات التي يت�ضمنها العلم الحديث‪� ،‬أو عدم تطبيقها ب�شكل منتظم؛‬
‫وهذا ما ي�ؤدي �إلى انخفا�ض كبير في م�ستوى �إنتاجية الفرد؛ وانخفا�ض‬
‫الإنتاجية يجعل هذه المجتمعات تعتمد ب�شكل كبير على الزراعة والري‬
‫والحرف اليدوية؛ كما يتميز المجتمع التقليدي بعدم تطور و�سائل‬
‫الإنتاج‪ ،‬وتمركز ال�سلطة في �أيدي مالك الأرا�ضي‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة التهي�ؤ لالنطالق‪ :‬وتت�ضمن هذه المرحلة المجتمعات‬
‫التي تعي�ش في عملية االنتقال من المرحلة البدائية �إلى مرحلة تحقيق‬
‫النمو؛ وتتميز هذه المرحلة بتو�سع نطاق التعليم بالن�سبة لبع�ض �أفراد‬
‫المجتمع؛ ويبد�أ ارتفاع م�ستوى االدخار واال�ستثمار‪ ،‬وظهور دافع‬
‫الربح كعامل لت�شجيع اال�ستثمار‪ ،‬وبداية ا�ستخدام الو�سائل التكنولوجية‬
‫الحديثة؛ كما تتميز هذه المرحلة باالعتماد على القطاع الزراعي في‬
‫تمويل عملية التنمية‪� ،‬إلى جانب تطور النقل وظهور البنوك وبع�ض‬
‫م�ؤ�س�سات االدخار‪ ،‬وبداية ظهور بع�ض ال�صناعات‪ ،‬وارتفاع اال�ستيراد‪،‬‬
‫باالعتماد على �صادرات المواد الأولية‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة االنطالق‪ :‬تعتبر �أهم المراحل في نظرية رو�ستوف؛‬
‫تتوزع في هذه المرحلة القوى العاملة على قطاعات مختلفة من‬
‫االقت�صاد الوطني‪ ،‬بدال من تركزها في قطاع واحد؛ ويرى رو�ستوف‬
‫�أن الحافز الرئي�سي الذي يدفع المجتمع لالنطالق لي�س فقط العامل‬
‫التكنولوجي‪ ،‬و�إنما ظهور مجموعة �سيا�سية قوية‪ ،‬هدفها الأ�سا�سي‬
‫تطوير االقت�صاد الوطني‪ .‬وترتفع ح�سب رو�ستوف في هذه المرحلة‪،‬‬
‫ن�سبة اال�ستثمار الفعال واالدخار من ‪� %5‬إلى ‪ %10‬من الدخل الوطني؛‬
‫‪33‬‬
‫وهذا ما ي�ؤدي �إلى التغلب على ال�ضغوط ال�سكانية؛ لأنه مع فر�ض‬
‫انخفا�ض معامل ر�أ�س المال في هذه المرحلة‪ ،‬ف�إن الناتج الفردي‬
‫الحقيقي �سيرتفع؛ وتتميز هذه المرحلة كذلك‪ ،‬بحدوث تو�سع في‬
‫الم�شاريع ال�صناعية؛ وهذا ما ي�ؤدي �إلى زيادة االدخار واال�ستثمار؛‬
‫كما تنت�شر في هذه المرحلة‪ ،‬الأ�ساليب الإنتاجية الحديثة في القطاع‬
‫الزراعي الذي يعد تطويره �شرطا �أ�سا�سيا لالنطالق الناجح‪ .‬وتدوم‬
‫هذه المرحلة ما بين ع�شرين وثالثين عاما‪ ،‬يتم بعدها انتقال المجتمع‬
‫�إلى المرحلة التالية‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة االندفاع نحو الن�ضج‪ :‬ت�أتي هذه المرحلة بعد مرحلة‬
‫االنطالق‪ ،‬وتدوم حوالي �أربعين �سنة؛ و�أهم ما يميزها‪ :‬ا�ستثمار من‬
‫‪� 10‬إلى ‪ %20‬من الدخل الوطني‪ ،‬ويرتفع الدخل بمعدل يفوق النمو‬
‫ال�سكاني؛ زيادة تطبيق التكنولوجية الحديثة‪ ،‬ما ي�ؤدي �إلى القدرة‬
‫على �إنتاج مختلف ال�سلع والخدمات التي يحتاجها المجتمع؛ تطور‬
‫ال�صادرات‪ ،‬خا�صة من ال�سلع ال�صناعية‪ ،‬وتقليل الواردات؛ نمو‬
‫قطاعات متنوعة داخل االقت�صاد الوطني‪� ،‬إلى جانب القطاع الرائد‬
‫الذي �ساد مرحلة االنطالق؛ ثم انخفا�ض ن�سبة العمال في القطاع‬
‫الزراعي �إلى حوالي ‪. %20‬‬
‫‪ -‬مرحلة اال�ستهالك الكبير‪ :‬ويتم الو�صول �إلى هذه المرحلة في‬
‫المجتمعات التي اكتمل فيها التطور التقني وا�ستخدام التكنولوجيا؛‬
‫وما يميز هذه المرحلة‪ ،‬هو ارتفاع الدخل الحقيقي للفرد‪ ،‬بحيث ي�صبح‬
‫�أغلبية �أفراد المجتمع قادرين على الح�صول على الحاجات ال�ضرورية‪،‬‬
‫من م�أكل وملب�س و�سكن‪� ،‬إ�ضافة �إلى ا�ستهالك بع�ض الكماليات؛ كما‬
‫تتميز هذه المرحلة بزيادة �سكان المدن مقارنة ب�سكان الأرياف‪،‬‬
‫وزيادة ن�سبة العاملين في الوظائف الإدارية‪ ،‬والعاملين في الوظائف‬
‫التي تتطلب مهارة فنية‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫‪ - 6‬النظرية الهيكلية (�أو نماذج التغيير الهيكلي)‬

‫تقول النظرية الهيكلية ب�أن النمو ال يحدث �أو يكون بطيئا في‬
‫البالد المتخلفة‪ ،‬نظرا لطبيعة اقت�صاديات هذه البلدان؛ وت�ؤكد �أن‬
‫المنتجين لي�سوا مهتمين بالتقدم واكت�شاف طرق �أكثر تطورا في‬
‫الإنتاج‪� ،‬أو حتى بالإنتاج على الإطالق؛ ف�أ�صحاب الملكيات الكبيرة‪ ،‬ال‬
‫ي�سعون لزيادة الدخل �أو �إنتاج �أق�صى ما يمكن من �أرا�ضيهم‪ ،‬بل �إنهم‬
‫يعتبرون �أن مجرد حيازتهم لهذه الأرا�ضي التي يح�صلون منها على‬
‫مداخيل كبيرة‪ ،‬يمنحهم القوة والمكانة االعتبارية داخل المجتمع؛‬
‫فهم بالتالي را�ضون على و�ضعهم وال يهتمون بالتفا�صيل المتعلقة‬
‫بكيفية �إدارة ملكياتهم ‪.‬‬
‫وقد ن�ش�أت المدر�سة الهيكلية في �أمريكا الالتينية التي تت�سم‬
‫حتى الآن‪ ،‬ب�سيادة الملكيات الزراعية الكبيرة فيها‪ ،‬ولم ت�شهد �أغلب‬
‫�أقطارها �أي �إ�صالح زراعي حقيقي لتوزيع الأرا�ضي‪.‬‬
‫ت�شير المدر�سة الهيكلية �إلى �أن نق�ص ر�أ�س المال هو �أ�سا�س‬
‫عدم قدرة الدول المتخلفة على التقدم؛ فالأفراد ذوو الدخل المرتفع‪،‬‬
‫ال يقومون باالدخار‪ ،‬وبالتالي با�ستثمار مدخراتهم في التنمية‬
‫االقت�صادية‪ ،‬وذلك لأنهم مهتمون �أكثر ب�إظهار تميزهم‪ ،‬عن طريق ما‬
‫ي�سمى بالتقليد �أو "المحاكاة"؛ �إذ �أن ه�ؤالء الأفراد يحاولون محاكاة‬
‫�أو تقليد الذوق الغربي في الم�أكل والم�شرب والملب�س‪� ..‬إلخ؛ وهو ما‬
‫يجعلهم ينفقون �أغلب دخلهم على اال�ستهالك التفاخري؛ مما ي�ؤدي �إلى‬
‫نق�ص حجم االدخار‪ ،‬وعدم توفر ر�ؤو�س �أموال كافية لتمويل التنمية‪.‬‬
‫تركز نظرية التغيير الهيكلي بنماذجها المختلفة‪ ،‬على الآلية التي‬
‫تحول البنيات االقت�صادية المتخلفة‪ ،‬من التركيز الكبير على القطاع‬
‫الزراعي �إلى المزيد من التو�سع في القطاعين ال�صناعي والخدمي؛‬
‫وهي توظف الأدوات ال�سعرية وتخ�صي�ص الموارد واالقت�صاد القيا�سي‬
‫‪35‬‬
‫الحديث‪ ،‬لت�صف كيف تحدث هذه العملية التحويلية؛ وهناك مثالين‬
‫�شهيرين لنماذج التغيير الهيكلي؛ وهما‪ :‬النموذج النظري لفائ�ض‬
‫العمالة في القطاعين‪ ،‬لآرثر لوي�س‪ ،‬و�أنماط التنمية‪ ،‬والتي تمثل تحليال‬
‫عمليا‪ ،‬لهولي�س ت�شينري‪.‬‬

‫‪ - 7‬نظرية التبعية‬
‫بينما تركز نظريتا "الحلقة المفرغة للنمو" و"المدر�سة‬
‫الهيكلية" على عوامل داخلية (هيكلية) ل�صيقة بالبلدان المتخلفة‪،‬‬
‫وتعتبرها هي الأ�سا�س في تخلف هذه البلدان‪ ،‬نجد على العك�س من‬
‫ذلك‪� ،‬أن نظرية التبعية ترى ب�أن �سبب التخلف هو �أن البلدان المتقدمة‬
‫و�شركاتها العمالقة (ال�شركات متعددة الجن�سية) قد فر�ضت عالقة‬
‫تبعية على البلدان المتخلفة؛ وهي تمنع نموها �أو تجعله على الأقل‬
‫بطيئا‪.‬‬
‫وت�ؤكد نظرية التبعية على �أن ال�شركات متعددة الجن�سية تقوم‬
‫بنهب ر�أ�س المال المتوفر في البلدان المتخلفة‪ ،‬وخا�صة النقد الأجنبي‪،‬‬
‫حيث تعمل على االقترا�ض من البنوك المحلية �أو تبيع �سندات في ال�سوق‬
‫الر�أ�سمالي لهذا البلد الذي تعمل فيه‪ ،‬من �أجل تو�سيع عملياتها‪ .‬وبهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬فهي تقوم ب�أكبر عملية ا�ستنزاف لر�ؤو�س الأموال وللنقد‬
‫الأجنبي (والذين تحتاجهما ب�شدة البلدان المتخلفة للقيام بعملية‬
‫التنمية) وللموارد‪ ،‬وذلك عن طريق التبادل الدولي و�شروطه‪ ..‬ونعني‬
‫ب�شروط التبادل الدولي‪ ،‬تطور الأ�سعار الن�سبية للواردات بالمقارنة‬
‫مع ال�صادرات؛ وتعرف هذه الحالة بما ي�سمى بتدهور �شروط التبادل‬
‫الدولي في غير �صالح المنتجات الأولية؛ وهذا "التبادل غير المتكافئ"‬
‫ي�شمل كافة �أنواع ال�سلع ولي�س فقط ال�سلع الأولية؛ �إذ �أن ال�سلعة قد‬
‫يبذل نف�س الجهد لإنتاجها في كل من الدول المتقدمة والمتخلفة على‬
‫‪36‬‬
‫ال�سواء‪ ،‬لكن تباع ب�أ�سعار �أعلى في ال�سوق الدولية بالن�سبة ل�سلع الدول‬
‫المتقدمة‪� ،‬أما �سلع البلدان المتخلفة‪ ،‬فتباع ب�أ�سعار �أقل؛ وهو ما ي�ؤدي‬
‫�إلى عدم قدرة البلدان المتخلفة على اال�ستمرار في عملية التنمية‪،‬‬
‫واالنتقال �إلى هيكل اقت�صادي �أكثر تنوعا‪ ،‬لعدم توافر ر�ؤو�س الأموال‬
‫الالزمة لذلك‪.‬‬
‫ظهرت نظريات التبعية في �أمريكا الالتينية وفرن�سا‪ ،‬وحظيت‬
‫باهتمام متزايد من مفكري الدول النامية في فترة ال�سبعينيات‪ ،‬ور�أى‬
‫دو�س �سانتو�س ‪� Dos Santos‬أن التبعية مرت بثالث مراحل‪:‬‬
‫‪ -‬مرحلة التبعية �إبان الفترة اال�ستعمارية‪ :‬حيث �سيطر ر�أ�س‬
‫المال التجاري ور�أ�س المال المالي على العالقات االقت�صادية في‬
‫الم�ستعمرات‪ ،‬من خالل احتكار الم�ستعمر للموارد المعدنية‪ ،‬و�سيطرته‬
‫على القوى الب�شرية العاملة؛‬
‫‪ -‬مرحلة التبعية المالية‪ :‬ظهرت في نهاية القرن التا�سع ع�شر‪،‬‬
‫حيث �سيطر ر�أ�س المال الكبير في دول المركز؛ وتزامن ذلك مع ظهور‬
‫الت�صنيع في دول الأطراف؛ مما نتج عنه تلك التبعية المالية؛‬
‫‪ -‬مرحلة التبعية التكنولوجية ال�صناعية‪ :‬تميزت تلك المرحلة‬
‫بتزايد دور ال�شركات متعددة الجن�سيات وتركز ا�ستثماراتها ‪ -‬بعد‬
‫الحرب العالمية الثانية ‪ -‬في دول الأطراف‪ ،‬في �صناعات موجهة‬
‫لل�سوق الداخلي للدول المتخلفة‪.‬‬
‫وح�سب نظرية التبعية‪ ،‬فان الدول النامية تعاني من جمود‬
‫م�ؤ�س�سي واقت�صادي و�سيا�سي‪ ،‬محليا ودوليا‪� ،‬أوقعها في عالقة تبعية‬
‫للدول المتقدمة؛ وتوجد �ضمن هذا المدخل العام‪ ،‬تيارات فكرية‬
‫عديدة‪ ،‬نذكر �أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬نموذج التبعية اال�ستعمارية الجديدة‪ :‬وهو امتداد للتفكير‬
‫المارك�سي‪ ،‬حيث يعزى ا�ستمرار التخلف �إلى العالقات غير المتكافئة‬
‫‪37‬‬
‫بين المركز (الدول المتقدمة) والأطراف (الدول النامية)‪ ،‬والتي‬
‫ت�صعب محاوالت نجاح الدول الفقيرة لتكون معتمدة على ذاتها‪.‬‬
‫وما �أدى �إلى ا�ستمرار هيمنة الدول المتقدمة هو الدعم الذي تقدمه‬
‫بع�ض المجموعات في الدول النامية (مثل مالك الأرا�ضي‪ ،‬الحكام‬
‫الع�سكريين‪ ،‬موظفين حكوميين‪ ،‬قادة النقابات)‪ ...‬والتي من م�صلحتها‬
‫ا�ستمرار هيمنة النظام الر�أ�سمالي الدولي غير المتكافئ‪ .‬وفي نف�س‬
‫ال�سياق‪ ،‬نذكر المفكر العربي الكبير �سمير �أمين الذي بنى نظريته‬
‫على �ضرورة فك االرتباط مع النظام الر�أ�سمالي العالمي‪ ،‬من خالل‬
‫تنفيذ �إ�ستراتيجية تنموية وطنية �شعبية م�ستقلة‪ ،‬قوامها "قانون �شعبي‬
‫ووطني للقيمة"‪ ،‬يكون م�ستقال عن معايير النظام العالمي الر�أ�سمالي‪،‬‬
‫ومعبر عن م�ساهمة المنتجين في الثروات الوطنية‪ ،‬وتكون مهامه هي‬
‫ال�سيطرة على �إعادة تكوين قوة العمل‪ ،‬وال�سيطرة على ال�سوق الداخلي‪،‬‬
‫والأ�سواق المالية والنقدية‪ ،‬ومركزة ر�أ�س المال‪ ،‬وال�سيطرة على‬
‫الموارد التكنولوجية والطبيعية؛ ويتم ذلك من خالل تحالف يرتكز على‬
‫هيمنة القوى اال�شتراكية‪ ،‬دون �إلغاء للقوى الر�أ�سمالية‪ ،‬عبر الخطوات‬
‫التالية‪� :‬سيطرة نمط الإنتاج اال�شتراكي ب�صوره المتنوعة‪ ،‬مع وجود‬
‫الإنتاج الر�أ�سمالي المتو�سط وال�صغير؛ اتباع �سيا�سة ال�سوق المخطط‪،‬‬
‫و�إقرار ن�سب تبادل متكافئة لفئات التحالف ال�شعبي؛ كذلك اتباع �آليات‬
‫ديمقراطية تتيح التعبير الحر والمت�ساوي لفئات التحالف‪ ،‬وت�أ�سي�س‬
‫�آليات للتفاو�ض االقت�صادي؛ ثم �ضرورة دور الدولة في �سيا�سات‬
‫التخطيط‪ ،‬و�إعادة توزيع الدخل‪ ،‬ونقل وتنمية التكنولوجيا‪.‬‬
‫‪ -‬نموذج النظرية ال�شاملة ‪ -‬الخاطئة‪ :‬هذه النظرية ترى �أن‬
‫التخلف ناتج عن ما يقدمه الخبراء من الدول المتقدمة من هياكل‬
‫نظرية ممتازة ونماذج اقت�صادية قيا�سية للتنمية‪ ،‬تقود الدول النامية‬
‫�إلى �إتباع �سيا�سات غير مالئمة وغير �صحيحة‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫‪ - 8‬نظرية االزدواج االقت�صادي‬

‫نعني بظاهرة "االزدواج االقت�صادي"‪ ،‬انق�سام االقت�صاد الوطني‬


‫�إلى قطاعين؛ قطاع وا�سع للغاية و�شديد التخلف‪ ،‬من حيت طرق الإنتاج‬
‫المتبعة‪ ،‬و�إنتاجية عنا�صر الإنتاج الم�ستخدمة‪ ،‬وم�ستوى معي�شة الأفراد‬
‫الذين يعي�شون على الدخل الناجم عن هذا القطاع؛ وعادة ما يكون هذا‬
‫القطاع‪ ،‬قطاعا فالحيا وذاتيا‪ ،‬وينتج من �أجل الكفاف؛ �أما القطاع‬
‫الثاني‪ ،‬فهو قطاع �صغير للغاية‪ ،‬لكنه ع�صري ومتقدم ن�سبيا‪ ،‬من حيت‬
‫هذه الأوجه الثالثة ال�سالفة الذكر؛ وغالبا ما يكون هذا القطاع �صناعيا‬
‫ونا�شئا‪� ،‬أو قطاعا تعدينيا �أو تمويليا �أو فالحيا حديثا‪ ،‬ومرتبطا في‬
‫الغالب بدولة "�أم" م�ستعمرة؛ فهو قطاع هام�شي‪ ،‬لكنه متقدم ن�سبيا‪،‬‬
‫وبمثابة "جيب �أجنبي" ‪ Enclave étrangère‬في نف�س الوقت‪ .‬وللثقل‬
‫الن�سبي الكبير للقطاع المتخلف‪ ،‬من حيث الإنتاج والعمالة والإعالة‪،‬‬
‫نجده ي�شد االقت�صاد الوطني �إلى حالة التخلف التي يعي�شها‪.‬‬
‫وتلعب ظاهرة االزدواج االقت�صادي دورا ديناميا في ا�ستمرار‬
‫ظاهرة التخلف‪ ،‬وفي زيادة حدتها عبر الزمن‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫"التجارة الخارجية" بين القطاعين‪ ،‬حيت نجد �أن �شروط التبادل‬
‫بينهما دائما تكون في �صالح القطاع ال�صغير‪ ،‬فيزداد تقدما؛ وفي غير‬
‫�صالح القطاع الكبير‪ ،‬فيزداد تخلفا؛ ولوزنه الكبير ن�سبيا في الن�سيج‬
‫االقت�صادي الوطني‪ ،‬تكون النتيجة‪ ،‬في النهاية‪ ،‬زيادة حدة التخلف‬
‫وا�ستدامته‪.‬‬
‫وال ي�سري منهج �أو �إ�ستراتيجية "الإ�شعاع الإنمائي"‪� ،‬أو "�أقطاب"‬
‫�أو "مراكز" النمو في هذه الحالة‪ ،‬عن طريق �إعادة توظيف فائ�ض‬
‫القطاع ال�صغير المتقدم في تنمية القطاع الكبير المتخلف‪ ،‬ل�سبب‬
‫ب�سيط ووا�ضح؛ وهو �أن الفائ�ض ي�ستنزف �إلى الخارج؛ �أي �إلى الدولة‬
‫‪39‬‬
‫"الأم" الم�ستعمرة �أو الم�ستغلة‪ ،‬والتي يرتبط بها هذا الجيب الأجنبي‪،‬‬
‫ارتباطا ع�ضويا وم�صلحيا‪.‬‬
‫ت�شير التنمية المزدوجة �إلى ا�ستمرار تزايد الفرق بين الدول‬
‫الغنية والدول الفقيرة‪ ،‬وت�شمل �أربعة عنا�صر �أ�سا�سية‪:‬‬
‫‪ -‬وجود ظروف جيدة و�أخرى رديئة في ف�ضاء معين؛ مثل تواجد‬
‫طرق الإنتاج الحديثة وطرق الإنتاج التقليدية في القطاع الح�ضري‬
‫والقطاع الريفي‪� ،‬أو تواجد الأثرياء المتعلمين مع الفقراء الأميين؛‬
‫‪ -‬ات�سام هذا التعاي�ش (بين الرديء والجيد من العنا�صر)‬
‫باال�ستمرارية‪ ،‬وذلك لأن م�سبباته لي�ست ظروفا عار�ضة‪ ،‬و�إنما هي‬
‫�أ�سباب هيكلية؛‬
‫‪� -‬إن الفارق بين �شقي ظاهرة االزدواجية االقت�صادية (القطاع‬
‫المتقدم في مواجهة القطاع المت�أخر) يميل �إلى الزيادة؛ فمثال فجوة‬
‫الإنتاجية بين العمال في الدول المتقدمة والعمال في معظم الدول‬
‫النامية‪ ،‬تزيد من �سنة لأخرى؛‬
‫‪� -‬أهم خ�صائ�ص االزدواجية‪� ،‬أن القطاع المتقدم ال يدفع �إلى‬
‫انتعا�ش القطاع المتخلف‪ ،‬بل على العك�س‪ ،‬قد ي�ؤدي �إلى تخلفه �أكثر‬
‫من ال�سابق‪.‬‬
‫و�إذا كانت النظريات الأولى للتنمية تركز على التفاعل بين‬
‫التو�سع التكنولوجي وتراكم المعرفة وتغير ال�سلوك‪ ،‬لكل من المنتجين‬
‫والم�ستهلكين‪ ،‬في �ضوء الظروف البيئية واالجتماعية وال�سيا�سية‬
‫والثقافية؛ فقد كانت تلك النظريات تنظر �إلى الما�ضي وتحاول التنب�ؤ‬
‫بالم�ستقبل‪ ،‬بينما تركز النظريات الحديثة على التنمية االقت�صادية‬
‫لحل م�شكالت المجتمع المعا�صر‪ ،‬وخا�صة و�ضع الحلول للم�شكالت‬
‫التي تعاني منها المجتمعات النامية‪ ،‬والأ�س�س التي يجب �أن ت�ستند‬
‫�إليها ال�سيا�سات االقت�صادية في تلك المجتمعات‪ .‬وما هو جدير بالذكر‬
‫‪40‬‬
‫�أن تلك الحلول تتفق �أي�ضا مع م�شكالت المجتمعات الحديثة‪ ،‬لالعتماد‬
‫عليها في التنمية الزراعية‪ .‬و�إلى جانب ذلك‪ ،‬يركز بع�ض خبراء‬
‫التنمية‪ ،‬االهتمام على اال�ستثمار الب�شري‪ ،‬خا�صة ما يتعلق بالتعليم‬
‫وال�صحة ومحو الأمية وتمكين المر�أة والق�ضاء على اله�شا�شة والفقر‪.‬‬

‫‪ - 9‬النظرية التنظيمية‬

‫اهتمت الدرا�سات الحديثة بالنظرية التنظيمية التي تناولت‬


‫الأبعاد المحلية و�أنماط التنظيم المكاني والإنتاجي‪ ،‬وركزت كذلك‬
‫درا�ساتها خارج الإقليم؛ فان�صبت على الإنتاج العالمي وتطور الخدمات‬
‫ال�سريعة‪ ،‬واهتمت بعالم المال والتمويل‪ .‬هذه النظريات تعتبر ر�أ�س‬
‫المال والتقدم الفني ي�سيران معا في طريق التنمية؛ ومن الممكن �أن‬
‫يتم تكوين ر�أ�س المال في مجتمع ما‪ ،‬ولكن لي�س من الممكن �أن يكون‬
‫هناك تقدم فني بدون تكوين ر�أ�س المال؛ بالإ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬ف�إن هذه‬
‫النظريات �أو�ضحت �أن اال�ستثمار‪ ،‬ومن ثم التقدم الفني‪ ،‬يعتمدان على‬
‫معدل الأرباح؛ وذلك يعطينا فكرة وا�ضحة عن �أهمية الأرباح في عملية‬
‫التنمية‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ظهرت الحاجة لنموذج �أمثل‪ ،‬قادر على تحقيق التنمية‪،‬‬
‫عقب الحرب العالمية الثانية‪ ،‬نتيجة للحاجة ال�سيا�سية‬ ‫لـق ــد‬
‫لخلق نوع من التمايز النظري في عالم الثنائية القطبية‪ ،‬وتم ا�ستخدام‬
‫هذا التمايز‪ ،‬ك�أ�سا�س لتق�سيم دول العالم بين القطبين الكبيرين‬
‫حينذاك؛ و�أنتج ذلك كما هائال من النظريات التي ت�ضع منهجا وقالبا‬
‫لطريق التنمية‪ ،‬وافترقت هذه النظريات بالأ�سا�س‪ ،‬وفقا للمعيارين‬
‫االقت�صادي وال�سيا�سي‪ ،‬حيث نجد النظريات الليبرالية الر�أ�سمالية‬
‫التي تعتقد في قيادة القطاع الخا�ص للتنمية‪ ،‬في مقابل دور محدود‬
‫للدولة في �أغلب الأحيان؛ وعالجت هذه النظريات م�س�ألة التنمية من‬
‫منظور الفكر الليبرالي‪ ،‬وركزت ب�شكل رئي�سي على البعد ال�سيا�سي‬
‫لعملية التنمية‪ .‬ظهر الجيل الأول من هذه الكتابات في �إطار نظريات‬
‫الحداثة‪ ،‬وانق�سمت �إلى ثالثة اتجاهات رئي�سية‪ :‬االتجاه الأول‪ ،‬هو‬
‫اتجاه التنمية ال�سيا�سية؛ �أما االتجاه الثاني‪ ،‬فهو اتجاه "الحداثة" �أو‬
‫"التحديث" الذي يرى �أن التنمية �ستحدث في "العالم الثالث" عن‬
‫طريق نقل الأفكار والقيم الغربية‪ ،‬والتو�سع في عملية الت�صنيع؛ �أما‬
‫االتجاه الثالث‪ ،‬فقد ربط بين الديمقراطية والتنمية‪ .‬وهناك �أي�ضا‪،‬‬
‫النظريات التي تنطلق من م�س�ألة التوازن بين الدولة والمجتمع‪ ،‬وتبنى‬
‫التق�سيم على ترتيب طبيعة العالقة بينهما‪ ،‬على النحو التالي‪ :‬دولة‬
‫قوية ومجتمع قوي ‪ -‬دولة �ضعيفة ومجتمع قوي ‪ -‬دولة قوية ومجتمع‬
‫�ضعيف‪ -‬دولة �ضعيفة ومجتمع �ضعيف؛ ما يعني �ضرورة العمل على‬
‫تمكين المجتمع المدني وتطويره؛ بينما طرحت نظريات �أخرى مفهوم‬
‫"الحكامة"‪ ،‬وو�ضعت بع�ض المعايير القيمية للأداء الحكومي؛ مثل‬
‫ال�شفافية والم�سائلة والمحا�سبة والتقييم والمراقبة والكفاءة‪.‬‬
‫ومنذ بداية ثمانينيات القرن الما�ضي‪ ،‬بد�أ العالم ي�صحو على‬
‫�ضجيج العديد من الم�شكالت البيئية الخطيرة‪ ،‬والتي باتت تهدد‬
‫‪43‬‬
‫�أ�شكال الحياة فوق كوكب الأر�ض؛ وكان هذا طبيعيا في ظل �إهمال‬
‫التنمية للجوانب البيئية طوال العقود الما�ضية؛ فكان البد من �إيجاد‬
‫فل�سفة تنموية جديدة ت�ساعد في التغلب على هذه الم�شكالت‪ ،‬ونتج عن‬
‫الجهود الدولية في هذا المجال‪ ،‬مفهوم جديد للتنمية‪ ،‬عرف با�سم‬
‫التنمية الم�ستدامة؛‪  ‬وقد تبلور هذا المفهوم لأول مرة‪ ،‬في تقرير اللجنة‬
‫العالمية للبيئة والتنمية‪ ،‬والذي حمل عنوان "م�ستقبلنا الم�شترك"‪،‬‬
‫ون�شر لأول مرة عام ‪. 1987‬‬
‫نعني بالتنمية الم�ستدامة‪ ،‬تلبية حاجات الحا�ضر‪ ،‬دون الحد من‬
‫قدرة الأجيال الم�ستقبلية على تلبية حاجاتها‪ ،‬من خالل اال�ستخدام‬
‫الم�ستدام للموارد الطبيعية‪ ،‬جنبا �إلى جنب مع النمو االقت�صادي‬
‫واالن�سجام االجتماعي؛ كما ي�شترط في التنمية الم�ستدامة‪ ،‬الحر�ص‬
‫على عدم تناق�ص الر�صيد الأ�سا�سي من الموارد البيئية للمجتمع �أو‬
‫الدولة مع مرور الوقت؛ �إذ ينبغي �أن يبقى ر�صيد الموارد الطبيعية‪ ،‬من‬
‫�أجل تحقيق �أدنى درجة من العدالة والإن�صاف للأجيال القادمة‪.‬‬
‫بعدها بوقت وجيز‪ ،‬بد�أ الحديث عن التنمية الب�شرية‪ ،‬والتي‬
‫عرفها برنامج الأمم المتحدة للتنمية الب�شرية في تقريره العالمي‬
‫ال�صادر �سنة ‪ ،1990‬على �أنها عملية تو�سيع لخيارات الأفراد؛ ومن‬
‫حيث المبد�أ‪ ،‬هذه الخيارات يمكن �أن تكون مطلقة‪ ،‬ويمكن �أن تتغير‬
‫بمرور الوقت‪ ،‬لكن الخيارات الأ�سا�سية على جميع م�ستويات التنمية‬
‫الب�شرية تبقى هي‪� :‬أن يعي�ش الأفراد حياة �أطول وب�صحة جيدة‪ ،‬و�أن‬
‫يكت�سبوا المعرفة‪ ،‬و�أن يح�صلوا على الموارد الالزمة لم�ستوى معي�شة‬
‫الئقة‪ .‬ولكن التنمية الب�شرية ال تنتهي عند ذلك؛ فالخيارات الإ�ضافية‬
‫تتراوح من الحرية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية‪� ،‬إلى التمتع‬
‫بفر�ص الإبداع والإنتاج‪ ،‬والتمتع باالحترام ال�شخ�صي وبحقوق الإن�سان‬
‫‪44‬‬
‫المكفولة؛ وبالتالي‪ ،‬فهدف التنمية يرتكز على تكوين بيئة مالئمة‬
‫لحياة طويلة و�صحية‪ ،‬وقائمة على الإبداع‪.‬‬
‫وقد اتفقت الدول الأع�ضاء في منظمة الأمم المتحدة في �سنة ‪،2000‬‬
‫على تحقيق ما ي�سمى بـ "الأهداف الإنمائية للألفية" بحلول �سنة‬
‫‪ ،2015‬وتتمثل في ثماني �أهداف؛ وهي‪: ‬الق�ضاء على الفقر المدقع‬
‫والجوع‪ ،‬ويت�ضمن هذا الهدف‪ ،‬تخفي�ض ن�سبة ال�سكان الذين يقل دخلهم‬
‫اليومي عن دوالر واحد �إلى الن�صف‪ ،‬وكذلك توفير العمالة الكاملة‬
‫والمنتجة‪ ،‬والعمل الالئق للجميع‪ ،‬وتخفي�ض ن�سبة ال�سكان الذين‬
‫يعانون من الجوع �إلى الن�صف في الفترة ‪ 1990‬ـ‪2015‬؛ تحقيق تعميم‬
‫التعليم االبتدائي‪ ،‬ويت�ضمن هذا الهدف‪ ،‬كفالة تمكن الأطفال في كل‬
‫مكان‪� ،‬سواء كانوا ذكورا �أو �إناثا‪ ،‬من �إتمام مرحلة التعليم االبتدائي‬
‫بحلول عام ‪2015‬؛ تقليل وفيات الأطفال‪ ،‬ويت�ضمن هذا الهدف‪ ،‬تعميم‬
‫�إتاحة خدمات ال�صحة الإنجابية بحلول �سنة ‪2015‬؛ تعزيز الم�ساواة‬
‫بين الجن�سين وتمكين المر�أة؛ تح�سين �صحة الأمهات؛ مكافحة الإيدز‬
‫والمالريا والأمرا�ض الأخرى؛ �ضمان اال�ستدامة البيئية؛ ثم �إقامة‬
‫�شراكة عالمية من �أجل التنمية‪ ،‬وي�شمل هذا الهدف‪� ،‬إقامة نظام‬
‫تجاري ومالي يت�صف باالنفتاح‪ ،‬والتقيد بالقواعد والقابلية للتنب�ؤ‬
‫به وعدم التمييز‪ ،‬وم�ساعدة الدول الأقل نموا‪ ،‬ب�إعفاء �صادراتها من‬
‫التعريفات الجمركية‪ ،‬وو�ضع برنامج لتخفيف عبء الديون على تلك‬
‫الدول‪ ،‬وزيادة الم�ساعدة الإنمائية للدول التي �أعلنت التزامها الحد‬
‫من الفقر‪ .‬‬
‫الدول الأع�ضاء في منظمة الأمم المتحدة اتفقت من جديد‪ ،‬في‬
‫قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ‪� 25‬شتنبر ‪ ،2015‬وبعد ذلك‬
‫في فاتح يناير ‪ ،2016‬على "�أهداف التنمية الم�ستدامة"‪ ،‬والمعروفة‬
‫ر�سميا با�سم "تحويل عالمنا"؛ و�أدرجت في خطة التنمية الم�ستدامة‬
‫‪45‬‬
‫لعام ‪2030‬؛ وهي ‪ 17‬هدفا‪ :‬الق�ضاء على الفقر؛ الق�ضاء التام على‬
‫الجوع؛ ال�صحة الجيدة والرفاه؛ التعليم الجيد؛ الم�ساواة بين الجن�سين؛‬
‫المياه النظيفة والنظافة ال�صحية؛ طاقة نظيفة وب�أ�سعار معقولة؛ العمل‬
‫الالئق ونمو االقت�صاد؛ ال�صناعة واالبتكار والبنية التحتية؛ الحد من‬
‫�أوجه عدم الم�ساواة؛ مدن ومجتمعات محلية م�ستدامة؛ اال�ستهالك‬
‫والإنتاج الم�س�ؤوالن؛ العمل المناخي؛ الحياة تحت الماء؛ الحياة في‬
‫الب ّر؛ ال�سالم والعدالة والم�ؤ�س�سات القوية؛ ثم عقد ال�شراكة لتحقيق‬
‫هذه الأهداف‪ .‬وهناك ‪ 169‬غاية للأهداف ال�سبعة ع�شر؛ كل هدف‬
‫يقابله ‪� 1‬إلى ‪ 3‬من الم�ؤ�شرات الم�ستخدمة لقيا�س التقدم المحرز‪.‬‬
‫و�إجماال‪ ،‬هناك ‪ 304‬م�ؤ�شر تقي�س م�ستوى االمتثال‪.‬‬
‫وتنح�صر م�صادر التنمية عموما‪ ،‬في عدد قليل من العنا�صر‬
‫الهامة والأ�سا�سية؛ وهي الموارد الب�شرية‪ ،‬ور�أ�س المال‪ ،‬والتكنولوجيا‬
‫المتطورة‪ ،‬والزيادة في �إنتاجية �إجمالي عوامل الإنتاج‪ ،‬والتي تنجم‬
‫عن اقت�صاديات الحجم‪ ،‬وعن �آثار التكتالت االقت�صادية‪ ،‬وباقي‬
‫الم�ؤثرات الخارجية الأخرى‪ ،‬وكذا عن الم�ؤ�س�سات التي تقلل من تكلفة‬
‫المعامالت �إلى الحدود الدنيا‪ ،‬وتحقق التناف�سية؛ بمعنى �أن التنمية‬
‫هي عملية �إحداث تغيرات جذرية في البنيات االقت�صادية واالجتماعية‬
‫والثقافية وال�سيا�سية‪ ...‬وتتوقف على قدرة االقت�صاد على الرفع من‬
‫دخل الفرد‪ ،‬وعلى ال�سيا�سات والبرامج التي تعالج هذه المتغيرات‪ ،‬في‬
‫ظل الخ�صائ�ص التي تميز االقت�صاد العالمي المعا�صر‪ ،‬و�آفاق التنمية‬
‫في �إطاره‪ ،‬علما ب�أن �أكبر اقت�صاديات العالم‪ ،‬رغم تفوقها االقت�صادي‬
‫والتكنولوجي‪ ،‬لي�ست بمنئ عن ما يحدث في العالم اليوم من تحوالت‬
‫�سريعة‪ .‬ولذلك‪ ،‬ف�إن التدبير اليومي لالقت�صادات الوطنية رهين‬
‫بال�سيا�سات التي توجهها‪ ،‬والتي يجب �أال تتال�شى مع الواقع الجديد‪،‬‬
‫‪46‬‬
‫والحكومات قادرة على �أن تقوم بهذا الدور‪ ،‬م�ستفيدة في ذلك من‬
‫مواطن القوة ومت�صدية في الوقت نف�سه لمواطن ال�ضعف‪.‬‬
‫و�إذا كان المغرب الذي انخرط بقوة في ما ي�سمى بـ "الأهداف‬
‫الإنمائية للألفية"‪ ،‬وفي "�أهداف التنمية الم�ستدامة"‪ ،‬قد قطع �أ�شواطا‬
‫هامة من �أجل و�ضع �أ�س�س مغرب قوي‪� ،‬إال �أن هناك تحديات كبرى ال‬
‫زالت تنتظره؛ ورفع هذه التحديات يتطلب عن�صرين �أ�سا�سيين؛ الوعي‬
‫بطبيعة االقت�صاد العالمي من جهة‪ ،‬وبحالة المناخ الوطني الذي‬
‫يترعرع داخله االقت�صاد والمجتمع من جهة �أخرى‪ ،‬وذلك في �أفق‬
‫بلورة مقاربة جديدة للم�س�ألة التنموية في بالدنا‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫االقت�صاد العالمي المعا�صر‪ ،‬و�آفاق التنمية‬
‫االهتمام في العق ـ ـ ـ ـ ــود الأخيرة‪ ،‬بواقع االقت�صاد العالمي‬
‫وم�شكالته‪ ،‬وخا�صة بعد الأزمة العارمة التي عرفتها العالقات‬ ‫تزايــد‬
‫االقت�صادية الدولية في �أوائل ال�سبعينيات من القرن الما�ضي؛‬
‫هـذه الأزمة ذات الطابع البنيوي‪ ،‬ظهــرت تداعياتها داخل كل دولة على‬
‫حدة‪ ،‬و�أي�ضا على �صعيد العالقات البينيـة بين الدول‪ ،‬في المجاالت‬
‫المختلفة للتبادل الدولي؛ ث ــم كذلك لتفاقم الم�شاكل المترتبة ع ــن مختلف‬
‫مظاهر التبادل الدولي‪ ،‬واالعتمـاد المتبادل فيما بين الدول‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫تغير المالمح والخ�صائ�ص المميزة لالقت�صاد العالمي المعا�صر‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬يتميز االقت�صاد العالمي بال�شمولية التي تتمثل �أبرز‬
‫مظاهرها في‪ :‬تحرير التجارة الدولية‪ ،‬وخا�صة بعد التوقيع النهائي‬
‫على االتفاقية العامة للتعريفات والتجارة‪ ،‬بمدينة مراك�ش في �شهر‬
‫�أبريل من �سنة ‪ ،1995‬والتي تم بموجبها �إن�شاء منظمة التجارة العالمية؛‬
‫كذلك تعاظم دور ال�شركات متعددة الجن�سية‪ ،‬وارتفاع وتيرة التكتالت‬
‫االقت�صادية؛ والتدويل المتزايد للعالقات االقت�صادية الدولية؛ وثورة‬
‫المعلومات وتكنولوجيا االت�صال؛ ثم التطور ال�سريع الذي تعرفه‬
‫مجاالت اقت�صاد المعرفة والذكاء اال�صطناعي والربوتيك؛ بالإ�ضافة‬
‫�إلى تزايد نفوذ الم�ؤ�س�سات النقدية والمالية الدولية‪ ،‬خا�صة بعد‬
‫�أزمة المديونية التي عرفها العالم منذ بداية الثمانينات‪ ،‬في العديد‬
‫من الدول‪ ،‬وخا�صة في بلدان العالم الثالث‪ .‬ولم يقت�صر التغير في‬
‫العالقات االقت�صادية على التغير العيني في ظروف و�أ�ساليب الإنتاج‬
‫فقط‪ ،‬بل �إن التغير �شمل �أي�ضا العالقات النقدية والمالية‪ ،‬و�أدواتها‬
‫وم�ؤ�س�ساتها (النظام النقدي العالمي) حيث عرفت الأ�سواق النقدية‬
‫والمالية تطورا هائال‪ ،‬جعلها عالمية التوجه؛ وهو ما �سهل‪ ،‬و�أ�سرع من‬
‫�أي وقت م�ضى‪ ،‬انتقال الأزمات المالية عبر العالم‪.‬‬
‫وتبقى ال�شركات متعددة الجن�سية‪� ،‬إحدى ال�سمات الأ�سا�سية‬
‫لالقت�صاد العالمي؛ فهي الم�ؤثر بقوة على هذا االقت�صاد‪ ،‬من خالل‬
‫ما ي�صاحب ن�شاطها‪ ،‬من ا�ستثمارات مبا�شرة‪ ،‬ومن نقل للتكنولوجيا‪،‬‬
‫والخبرات الت�سويقية والإدارية؛ وهي بذلك ت�أكيد لظاهرة العالمية‬
‫في كافة الم�ستويات؛ الإنتاجية والتمويلية والإنتاجية (التكنولوجية‬
‫والت�سويقية والإدارية)‪ .‬وتكفي الإ�شارة في هذا المجال‪� ،‬إلى �أن هذه‬
‫ال�شركات العمالقة‪ ،‬ذات الإمكانيات التمويلية الهائلة‪ ،‬تلعب دور‬
‫القائد في الثورة التكنولوجية الحديثة‪ ،‬والتي تملك الفن الإنتاجي‪� ،‬إلى‬
‫�أن ي�صبح فنا �إنتاجيا كثيف المعرفة؛ وبالتالي‪ ،‬فهي من هذا المنظور‪،‬‬
‫تعمق االتجاه نحو العالمية (�أو العولمة)‪.‬‬
‫لقد �أحدثت العولمة تغييرات في البنيات االقت�صادية والأنظمة‬
‫المالية؛ ففي حين كان خلق االئتمان وا�ستخدامه‪ ،‬يتم داخل الدولة‪،‬‬
‫ف�إنه في الوقت الحا�ضر‪� ،‬أخذ يتعدى الحدود الإقليمية للدولة‪ ،‬في‬
‫�إطار �أ�سواق عالمية‪ ،‬وال يعني هذا �إلغاء دور البنوك والأ�سواق المالية‬
‫المحلية‪ ،‬لكن لم تعد هذه البنوك م�ستقلة تماما‪ ،‬بل �أ�صبحت ت�شكل‬
‫جزء من نظام �أكبر‪ ،‬تت�أثر �صعودا �أو هبوطا‪� ،‬أكثر من ت�أثرها بالأو�ضاع‬
‫المحلية‪.‬‬
‫وعلى الم�ستوى الثقافي‪ ،‬تمار�س العولمة دورها‪ ،‬فيما يتعلق‬
‫بالمدركات والأفكار‪ ،‬وغيرها‪ ...‬فعلى الرغم من وجود تنوع ثقافي‬
‫بين ال�شعوب‪� ،‬إال �أن �أفكار واتجاهات و�سلوكيات الأفراد‪� ،‬أخذت في‬
‫‪52‬‬
‫الت�أقلم مع تقنيات عملية العولمة‪ ،‬خا�صة مع الثورة المعلوماتية وزيادة‬
‫االت�صاالت الدولية‪.‬‬
‫وعلى م�ستوى المنظمات‪ ،‬فبعد �أن كانت ال�سلع والخدمات تنتج‬
‫من �أجل مجتمع معين‪ ،‬في دولة معينة‪� ،‬أ�صبحت هذه ال�سلع والخدمات‬
‫تنتج من قبل �شعوب مختلفة‪ ،‬ومن دول مختلفة‪ ،‬للوفاء باحتياجات‬
‫ال�سوق العالمية‪ ،‬بدال من ال�سوق المحلية؛ بمعنى �أن ال�شركة العالمية‬
‫تنظر �إلى العالم كله كوحدة واحدة‪ ،‬وتقوم بعمل ا�ستثماراتها‪ ،‬و�شراء‬
‫�إمداداتها‪ ،‬و�إجراء بحوثها‪ ،‬وت�صميم منتجاتها‪� ،‬أينما �أمكنها �أداء‬
‫ذلك‪ ،‬ب�أعلى جودة وب�أقل تكلفة‪.‬‬
‫�إن �أغنى الدول في العالم‪ ،‬تعاني اليوم من تداعيات �أزمة‬
‫اقت�صادية ومالية �صعبة جدا‪ ،‬وت�سعى �إلى الحفاظ على مكانتها في‬
‫ال�سوق العالمية‪ ،‬ولو على ح�ساب حرية التجارة‪ ،‬وقوانين التبادل‬
‫الدولي‪ ،‬ومختلف المبادئ التي قام عليها حتى الآن‪ ،‬النظام االقت�صادي‬
‫العالمي؛ وفي مقدمتها‪ ،‬مبادئ المنظمة العالمية للتجارة‪ ،‬ومبادئ‬
‫�صندوق النقد الدولي؛ بمعنى �أن هناك اليوم عودة قوية للحمائية‪،‬‬
‫وتح�صين االقت�صاديات الوطنية من الخطر ال�صيني‪.‬‬
‫ال�صي ـ ـ ــن التي بنت مجدها على الإغــراق االجتماع ـ ــي‪ ،‬وعلى‬
‫التناف�سية على �أ�سا�س التكاليف االجتماعية المنخف�ضة للإنتاج؛ والتي‬
‫تعرف اليوم انخفا�ضا م�ستمرا في �سعر �صرف عملتها الوطنية‪ ،‬وتح�سنا‬
‫ملحوظا قي ميزانها التجاري‪ ،‬في مقابل تراجع �صادرات �أمريكا‬
‫و�أوروبا‪ ،‬وعجز موازينها التجارية؛ مما يعر�ضها لخطر المديونية ل�صالح‬
‫ال�صين‪.‬‬
‫�أما االتحاد الأوربي‪ ،‬فيبقى �أكبر تكتل اقت�صادي عالمي على‬
‫م�ستوى الحجم الإنتاجي‪ ،‬وعلى م�ستوى االتفاقيات ال�شرعية والقانونية‬
‫ذات التجدر التاريخي‪ ...‬وهو يعني اليوم‪ ،‬فتح الحدود والجمارك‪،‬‬
‫‪53‬‬
‫وتحرير التجارة كليا‪ ،‬وتوحيد النقد‪ ،‬وتوحيد ال�سيا�سات الخارجية‪.‬‬
‫�إن هذا التكتل ي�شارك اليوم بح�صة ‪ %45‬من حركة التجارة العالمية‪،‬‬
‫و�إنتاجه القومي يزيد عن ‪ 60000‬مليون دوالر؛ وبهذا‪ ،‬فهو ي�شكل ‪%32‬‬
‫من الناتج العالمي؛ هذا التكتل يعرف بدوره اليوم م�شاكل عديدة؛‬
‫�أهمها البطالة‪ ،‬والت�ضخم المزمن‪ ،‬والتباين في م�ستوى التقدم بين‬
‫مكوناته‪ ،‬و�صعوبة ت�آلف القوميات المتجدرة تاريخيا‪.‬‬
‫اليابان‪ ،‬حققت تقدما اقت�صاديا هائال‪ ،‬منذ ال�ستينات‪ ،‬وتجربتها‬
‫الإنتاجية �شبيهة بالتجربة الألمانية‪ ،‬حيث بد�أت بالتقدم من حيث انتهى‬
‫غيرها؛ �أي �أن اليابان بد�أت بالتطور العلمي للتكنولوجيا التابعة للإنتاج‪،‬‬
‫بناء على خبرات التقاليد ال�صناعية التي تو�صلت �إليها الدول المتقدمة‬
‫الأخرى‪.‬‬
‫لقد اعتمدت اليابان على �شمولية الإنتاج‪ ،‬و�شعبوية االكت�شافات‪،‬‬
‫والتقدم العلمي‪ ،‬واالنخراط ال�شعبي الكامل في الدورة االقت�صادية؛‬
‫مما ي�ؤدي �إلى الزيادة في الإنتاج؛ هذه العوامل �أ�ضفت على اليابان‬
‫�صفة المثال االقت�صادي الناجح في النمو والتنمية‪ ،‬واال�ستقرار والتقدم‬
‫والمناف�سة‪ ،‬واالرتقاء �إلى م�ستوى القوة االقت�صادية الماهرة في جميع‬
‫مجاالت "البحث واالختراع والإنتاج الكثيف والرخي�ص والت�سويق‬
‫الدول"؛ وبالتالي �أ�ضحت اليابان ذات ‪ 125‬مليون ن�سمة‪ ،‬تح�صل على‬
‫�أكثر من ‪ 3500‬مليار دوالر في ناتجها القومي‪ ،‬وت�شارك ب�أكثر من‬
‫‪ %15‬من الناتج العالمي‪ ،‬وبحوالي ‪ %10‬من التجارة الدولية؛ وم�ستوى‬
‫الدخل الفردي من الناتج فيها ي�صل �إلى ‪ 23000‬دوالر �سنويا؛ وهو من‬
‫بين الأعلى في العالم‪ ،‬تدور في فلكها بع�ض دول جنوب �شرق �أ�سيا‪ ،‬من‬
‫ناحية االن�سجام �أو المناف�سة؛ وهي دول يطلق عليها "الدول الم�صنعة‬
‫حديثا"؛ �سنغافورة وهونغ كونغ والطايوان وتايالندا وكوريا الجنوبية‬
‫والفلبين وماليزيا و�أندوني�سيا؛ �إنها الدول التي دخلت حلقة الإنتاج‬
‫‪54‬‬
‫العالمي من بابه الوا�سع؛ فقد �أ�صبحت في م�صاف الدول ال�سائرة في‬
‫فلك الت�صنيع ال�سريع والتقليدي‪ ،‬والمكمل لحلقة الإنتاج الر�أ�سمالية‬
‫في المراكز الأ�سا�سية "�أوربا‪� ،‬أمريكا‪ ،‬اليابان و�أ�ستراليا"؛ مما جعلها‬
‫ت�ستحوذ على �أعلى م�ستوى من االحتياطيات الأجنبية‪ ،‬حيث و�صلت‬
‫الطايوان في �سنة ‪� ،1994‬إلى حدود ‪ 85‬مليون دوالر‪ ،‬و�سنغافورة ‪60‬‬
‫مليار دوالر‪ ،‬وهونغ كونغ ‪ 60‬مليار دوالر‪ ،‬وكوريا الجنوبية ‪ 23‬مليار‬
‫دوالر؛ كما �أن معدل نمو هذه االقت�صادات و�صل �أحيانا �إلى ‪� %10‬سنويا؛‬
‫�إال �أن �شعوب هذه الدول ال تنعم بمغانم الت�صنيع الحديث؛ فهي الزالت‬
‫تعي�ش في حالة الب�ؤ�س والعوز؛ كما �أن هذه البلدان لم تنجح في �إحداث‬
‫مجموعة �إقليمية‪ ،‬م�ؤ�س�سية ومتما�سكة‪ ،‬تعتمد تف�ضيالت تجارية‪،‬‬
‫نظرا لأنها لم تتمكن من �أن ت�صبح �إطارا للتبادل الحر‪ ،‬ذلك �أن بع�ض‬
‫الدول المنتمية �إلى هذه المجموعة‪ ،‬كانت خالل ال�ستينات متحالفة مع‬
‫الواليات المتحدة الأمريكية‪ ،‬لأ�سباب �إ�ستراتيجية و�إيديولوجية‪ ،‬متمثلة‬
‫في الوقوف �ضد المد ال�شيوعي؛ ومع ذلك‪ ،‬لم يمنع التناق�ض الحا�صل‬
‫بينها وبين باقي البلدان الأخرى‪ ،‬من �أن تلعب جميعها دورا اقت�صاديا‬
‫مهما؛ �إال �أن هذا التكتل‪ ،‬يعاني اليوم من مجموعة من الم�شاكل؛ نجد‬
‫على ر�أ�سها‪ ،‬عدم ارتقائه على ال�ساحة العالمية من الناحية ال�سيا�سية‪،‬‬
‫مثل الواليات المتحدة الأمريكية؛ كما �أنه يفتقد �إلى قوة ع�سكرية‪،‬‬
‫قادرة على رفعه �إلى مركز متقدم ومتكامل‪ ،‬يحافظ له على مكت�سباته‬
‫االقت�صادية‪.‬‬
‫�أما ال�صين‪ ،‬فلها ميزتها ال�سيا�سية والع�سكرية‪ ،‬و�إلى حد ما‬
‫االقت�صادية‪ ،‬وتحتوي على �أكثر كتلة ب�شرية في دولة واحدة‪� ،‬أكثر من‬
‫‪ 1200‬مليون ن�سمة؛ بمعنى �أنها ت�شكل ربع �سكان الكرة الأر�ضية؛ ولكن‬
‫م�ستوى الدخل الفردي فيما‪ ،‬ال يتعدى ‪ 350‬دوالر �سنويا‪ ،‬ولها ن�صيب‬
‫ال يتعدى ‪ %2,5‬من التجارة الدولية‪ .‬لكن‪ ،‬بالرغم من ذلك‪ ،‬فهي‬
‫‪55‬‬
‫ت�شكل محور ا�ستقطاب وا�سع ومفتوح‪ ،‬على �شتى المجاالت‪ ،‬مع عنا�صر‬
‫االقت�صاد العالمي الأخرى؛ مما يمكنها م ـ ـ ـ ــن لعب دور ريادي؛ فهي‬
‫ت�ستفيد من نتاج العلم والتكنولوجيا‪ ،‬وبذلك تحافظ على وثيرة نمو‬
‫اقت�صادي عالي �إلى حدود ‪� %8‬سنويا؛ ولكنها ما زالت في حاجة ما�سة‬
‫لالنفتاح �أكثر‪ ،‬للعب دور متعاظم على ال�ساحة االقت�صادية الدولية‪.‬‬
‫والجدير بالذكر هنا‪� ،‬أن الواليات المتحدة الأمريكية ال تعي�ش‬
‫ال�سنوات الذهبية لما بعد الحرب‪ ،‬حيث كانت تزود العالم بن�صف‬
‫الإنتاج العالمي؛ وهي ن�سبة لم يتم تحقيقيها �أبدا من طرف �أي دولة حتى‬
‫الآن؛ ف�سيطرة الواليات المتحدة الأمريكية على الم�صادر االقت�صادية‬
‫وال�سيا�سية والثقافية والع�سكرية والتكنولوجية للعالم‪ ،‬لي�ست و�ضعية‬
‫حتمية؛ فالو�ضع العالمي اليوم و�ضع متحرك ومتطور‪ ،‬يتغير بوثيرة‬
‫�سريعة جدا‪ ،‬ويتميز باالتجاه نحو والدة �أقطاب اقت�صادية عالمية‬
‫جديدة‪ ،‬مهيمنة ومناف�سة‪� ،‬ستقول كلمتها من دون �شك‪ ،‬في الم�ستقبل‬
‫القريب؛ ت�سيطر على الإنتاج التكنولوجي‪ ،‬وتناف�س الواليات المتحدة‬
‫الأمريكية‪ ،‬مناف�سة �شديدة في كل هذه المجاالت؛ هذه الأقطاب هي‬
‫�أ�سا�سا‪ :‬اليابان‪ ،‬و�أوروبا الغربية‪ ،‬وخا�صة بعد انفتاحها على �أوروبا‬
‫ال�شرقية‪ ،‬وبروز ف�ضاء اقت�صادي �أوروبي وا�سع‪ ،‬يتكون لحد الآن من‬
‫‪ 27‬ع�ضوا‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى تجمع دول �آ�سيا الجنوبية ال�شرقية‪ ،‬والذي‬
‫يتكون من بروناي‪ ،‬واندوني�سيا‪ ،‬وماليزيا‪ ،‬و�سنغافورة‪ ،‬والتايالند‪،‬‬
‫والفيتنام‪ ،‬ومجموعة من الدول الآ�سيوية الأخرى الأكثر ت�صنيعا؛ وهي‬
‫�أ�سا�سا ‪:‬هونغ كونغ‪ ،‬وتايوان‪ ،‬وكوريا الجنوبية‪ ،‬والتي �شكلت في ال�سابق‬
‫�أول موجة للت�صنيع في جنوب �شرق �آ�سيا؛ هذه الدول بالتحديد‪ ،‬قامت‬
‫في ثالثين �سنة الأخيرة‪ ،‬بقفزة كبرى في مجال الم�شاركة في الإنتاج‬
‫العالمي‪ ،‬وفي تطور التكنولوجيا والبحث العلمي‪ ،‬و�سوف تقوم �أي�ضا‬
‫بدور كبير ومناف�س للتكتالت االقت�صادية الراهنة ‪�.‬أ�ضف �إلى كل ذلك‪،‬‬
‫‪56‬‬
‫وجود بلدين �آ�سيويين‪ ،‬يعتبر ف�ضا�ؤها االقت�صادي واعدا‪ ،‬ويمكنه‬
‫�أن يمنحهما نوعا من اال�ستقاللية على الم�ستوى العالمي‪ ،‬ويجعلهما‬
‫يحتالن مركز ال�صدارة في العالقات االقت�صادية الدولية ل�سنوات‬
‫عديدة قادمة‪ ،‬وهما الهند وال�صين؛ فال�صين مثال‪ ،‬بلد نامي ومتخلف‬
‫ن�سبيا‪ ،‬بالمقارنة مع الواليات المتحدة الأمريكية‪ ،‬لكنه ا�ستفاد من‬
‫الإمكانيات الجديدة المتوفرة داخل ربوعه‪ :‬وجود �سوق داخلية وا�سعة‪،‬‬
‫�إمكانية للتراكم الر�أ�سمالي وللتطور التكنولوجي‪ ،‬بروز جيل جديد من‬
‫رجال �أعمال �شباب؛ كما ا�ستفاد من العولمة‪ ،‬و�أ�صبح ي�ساهم ب�شكل‬
‫مهم في تزويد هذه ال�سوق‪ ،‬خا�صة بالمواد ذات الكثافة التقنية العالية؛‬
‫والمتوقع �أن يرتفع ن�صيب ال�صين من الإنتاج العالمي‪ ،‬من ‪ 224‬مليار‬
‫دوالر �سنة ‪� 1995‬إلى ‪ 789‬مليار دوالر �سنة ‪ ، 2050‬بينما لن ينمو ن�صيب‬
‫الواليات المتحدة الأمريكية في الفترة نف�سها‪� ،‬إال بما يقارب ‪� 30‬أو ‪40‬‬
‫مليار دوالر‪ ،‬زيادة على ما هو عليه الآن‪.‬‬
‫لقد �أ�صبح تباط�ؤ االقت�صاد الأمريكي �شبه م�ؤكد؛ وتعزى هذه‬
‫الو�ضعية �إلى تراجع نمو ا�ستهالك الأ�سر‪ ،‬نتيجة انخفا�ض �أربـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح‬
‫العقار والبور�صة‪ ،‬وكذا تراجع ن�شاط �سوق ال�شغل؛ فقطاع العقار الذي‬
‫�ساهم ب�شكل كبير في النمو االقت�صادي للواليات المتحدة الأمريكية‪،‬‬
‫خالل العقدين الما�ضيين‪ ،‬لم يعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد قادرا في الوقت الراهن‪،‬‬
‫على تعزيز هذا النمو‪ ،‬وذلك بفعل تراجع مبيعات ال�سكن الجديد‪،‬‬
‫وتقهقر اال�ستثمار في الميدان‪ .‬ال�صين تحقق معدل نمـو �سنوي يناهـز‬
‫‪ %10‬و�أحيانا ‪ ،%15‬حيث ا�ستطاعت بف�ضل هذه الوثيرة المرتفعة‪،‬‬
‫�أن ت�ساهم بح�صة كبيرة في النمو االقت�صادي العالمي‪ ،‬متقدمة على‬
‫الواليات المتحدة الأمريكية‪ ،‬و�سي�ؤدي االرتفاع ال�سريع لل�صادرات‪،‬‬
‫وتح�سن اال�ستثمارات‪� ،‬إلى تدعيم نمو االقت�صاد ال�صيني‪ ،‬بالرغم‬
‫من �سيا�سات اال�ستقرار المعتمدة لمواجهة الت�ضخم؛ و�إذا ما ا�ستمر‬
‫‪57‬‬
‫هذا التطور‪ ،‬ف�إن الباحثين في العالم يتوقعون �أن ت�صبح ال�صين القوة‬
‫االقت�صادية الأولى في العالم؛ فهيمنة االقت�صاد الأمريكي‪ ،‬ومنعته‬
‫وقوته ومكانته المتميزة في ال�ساحة االقت�صادية العالمية‪ ،‬ولت من دون‬
‫رجعة؛ ف�أمريكا اليوم لي�ست �أمريكا الأم�س‪ ،‬ودوالر اليوم لي�س هو دوالر‬
‫الأم�س؛ الأمر الذي �سيفتح الباب م�شرعا �أمام �صعود قوى اقت�صادية‬
‫جديدة‪� ،‬ستقول كلمتها من دون �شك‪ ،‬في الم�ستقبل القريب‪ ،‬والتي لن‬
‫تكون �سوى الهند وال�صين‪ .‬وبذلك‪� ،‬ستعمل هذه الأزمة االقت�صادية التي‬
‫يعي�شها العالم اليوم‪ ،‬على التعجيل بانتقال مركز القرار االقت�صادي‬
‫العالمي من الغرب �إلى ال�شرق‪.‬‬
‫�أمام هذا الو�ضع االقت�صادي العالم ـ ـ ــي المت ـ ـ ـ ـ ـ ـ�أزم‪� ،‬أ�صبحت‬
‫الحاجة ملحة اليوم‪� ،‬أكثر من �أي وقت م�ضى‪� ،‬إلى اقت�صاد �سيا�سي‬
‫عالمي جديد‪ ،‬ينبني على حكامة اقت�صادية عالمية را�شدة‪ ،‬تكون من‬
‫بين مبادئها الأ�سا�سية‪� :‬ضرورة �إ�شراك كل الدول‪ ،‬المتقدمة منها‬
‫وال�سائرة في طريق النمو‪ ،‬في اتخاذ القرار االقت�صادي العالمي؛‬
‫لأن الأزمة �صحيح �أنها بد�أت في الواليات المتحدة الأمريكية‪ ،‬لكن‬
‫تداعياتها قد ت�صيب جميع دول العالم‪ ،‬ولو بم�ستويات مختلفة‪ ،‬وذلك‬
‫بفعل العولمة‪ ،‬واالعتماد المتبادل بين الدول‪ ،‬وتطور و�سائل االت�صال‬
‫وتكنولوجيا المعلوميات؛ هذه العولمة التي �أ�صبحت الآن واقعا تابثا‪،‬‬
‫وجب قبولها والتعامل معها كحقيقة ال مفر منها‪ ،‬وذلك بالبحث عن‬
‫الطرق المثلى لال�ستفادة من فوائدها‪ ،‬ومن الإمكانات التي توفرها‪،‬‬
‫واال�ستعداد للت�صدي النعكا�ساتها المحتملة‪ ،‬والتفكير اليوم كذلك‬
‫في �أ�س�س جديدة لنظام اقت�صادي عالمي جديد‪ ،‬قوي ومتين‪ ،‬يفك‬
‫االرتباط الوثيق مع االقت�صاد الأمريكي‪.‬‬
‫لقد �أ�صبح االقت�صاد اليوم �أقرب �إلى االقت�صاد الرمزي‪ ،‬يت�أثر‬
‫بعدد من الم�ؤ�شرات والرموز؛ مثل �أ�سعار الفائدة‪ ،‬وم�ؤ�شرات �أ�سعار‬
‫‪58‬‬
‫الأ�سهم‪ ،‬وال�شائعات ال�سيا�سية‪ ،‬و�إح�صاءات وزارات العمل‪ ،‬وكثيرا ما‬
‫تت�أثر الأو�ضاع االقت�صادية بهذه الرموز‪ ،‬على رغم �أن عنا�صر االقت�صاد‬
‫العيني تظل م�ستقرة‪ .‬كذلك‪ ،‬ف�إن هذه الثورة المالية لم تقت�صر على‬
‫انتقاالت ر�ؤو�س الأموال‪ ،‬بل �إنها بد�أت ت�ؤثر في انتقال ال�سلع‪ ،‬عن‬
‫طريق ما يعرف بالتجارة الإلكترونية‪ .‬ومن المنتظر �أن تفتح هذه‬
‫التجارة المجال لتو�سيع الأ�سواق �أمام عدد من ال�صناعات ال�صغيرة‬
‫والمتو�سطة‪ ،‬والتي ال تملك �إمكانات ال�شركات الكبيرة‪ ،‬بحيث تتمكن‬
‫من عر�ض منتجاتها على �صفحات الإنترنيت‪ ،‬وتو�سيع دائرة الأ�سواق‬
‫�أمامها‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬ف�إن هذه التجارة تثير العديد من الق�ضايا المتعلقة‬
‫بكيفية ت�سوية المدفوعات‪ ،‬وحماية حقوق المتعاملين‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫االعتبارات التي يمكن �أن تغير من �شكل العالقات التجارية فيما بين‬
‫الدول‪.‬‬
‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬فمن التحليالت العديدة‪ ،‬التي قدمت خالل‬
‫ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬يمكن ا�ستخال�ص نتيجة واحـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدة؛ هي الخالف‬
‫الكبير بين الخبراء‪� ،‬أمـ ـ ـ ــام نظام �أ�سعار ال�صرف العائمة‪ ،‬وارتفاع‬
‫الدوالر وانخفا�ضه‪ ،‬وتقلبات �أ�سعار الفائدة‪ ،‬وعجوز الموازين التجارية‬
‫وموازين المدفوعات‪ ،‬والميزانيات في الواليات المتحدة‪ ،‬والترابط‬
‫بين هذه العجوز‪ ،‬ودور الدوالرات الأوربية والنقود الأوربية ومديونية‬
‫العالم الثالث‪...‬‬
‫�إن ما يدعو للده�شة حقيقة؛ هو غياب �أي ت�شخي�ص‪ ،‬وكذلك‬
‫غياب �أي تنب�ؤ للم�ستقبل القريب؛ وما هو �أكثر مغزى‪ ،‬هو غياب �أي اتهام‬
‫لأ�سا�س نظام االئتمان كما يعمل حاليا؛ وهذا الأ�سا�س هو خلق نقود من‬
‫ال�شيء‪ ،‬بوا�سطة النظام الم�صرفي‪ ،‬و�شيوع التمويالت الطويلة الأجل‬
‫ب�أموال مقتر�ضة لأجل ق�صير؛ وهذه العوامل كلها ذات �أثر بالغ في‬
‫زعزعة اال�ستقرار‪ ،‬وظهور العديد من اال�ضطرابات؛ هذه اال�ضطرابات‬
‫‪59‬‬
‫النقدية والمالية ال تزال الآن في بدايتها‪ ،‬حتى نالحظ مع ما قد ينتج‬
‫عن كل ذلك من عواقب وخيمة‪ ،‬لأن النا�س لم يت�أملوا ت�أمال كافيا في‬
‫دور النقود في حياة المجتمع‪ ،‬وفي الأ�ساليب التي يتم بها خلق النقود‪،‬‬
‫وفق مزاج الظروف االقت�صادية والت�صرفات الفردية‪ ،‬في حين �أن خلق‬
‫النقود ي�شكل بال ريب‪� ،‬أحد العوامل الكبرى التي تحدد �شروط الحياة‬
‫في المجتمع‪.‬‬
‫حيال هذا الو�ضع‪ ،‬هناك نتيجة تفر�ض نف�سها‪ :‬فعلى الم�ستوى‬
‫الوطني كما على الم�ستوى الدولي‪ ،‬يجب �إعادة النظر كلية في المبادئ‬
‫الأ�سا�سية التي يعتمد عليها النظام النقدي والمالي الحالي‪.‬‬
‫�إننا بحاجة اليوم‪� ،‬إلى �إ�صالحات اقت�صادية عالمية عميقة‪،‬‬
‫و�أ�س�س قوية لنظام اقت�صادي عالمي جديد ومتوازن ومتعدد الأطراف؛‬
‫تحقق معه القابلية لتحويل العمالت‪ ،‬كل العمالت‪ ،‬و�إلغاء االعتماد‬
‫الكلي على الدوالر وعلى الأورو ك�أ�سا�س للتبادل الدولي؛ بمعنى �أننا‬
‫بحاجة اليوم �إلى حكامة مالية وتجارية عالمية جديدة؛ ف�إذا كانت‬
‫�أمريكا اليوم �ضد ال�صين‪ ،‬في مختلف المنتديات االقت�صادية الدولية‪،‬‬
‫ومنها مجموعة الع�شرين‪ ،‬ف�إنها بذلك تعطي نموذجا �سيئا‪ ،‬قد تكون له‬
‫انعكا�سات خطيرة في الم�ستقبل‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫�إذن‪ ،‬الظرفية العالمية اليوم‪ ،‬بالعديد من التغيرات ال�سيا�سية‬
‫والتطـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورات االقت�صادية؛ �ستترتب عنها من دون �شك‪،‬‬ ‫تتميز‬
‫انعكا�سات على النمو العالمي‪ ،‬وعلى �آفاق التنمية في العالم؛ كما �أن‬
‫العولمة وارتفاع وتيرة االعتماد المتبادل بين الدول‪� ،‬سيجعل من رهان‬
‫تح�سين التناف�سية الخارجية للدول‪� ،‬ضرورة من �ضرورات العالقات‬
‫االقت�صادية الدولية‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬ف�إن مفهوم التناف�سية ال ي�ضـ ـ ـ ـ ـ ــم فقط عوامل‬
‫الإنتاج المتاحة‪ ،‬داخل االقت�صاد الوطني �أو النظام الوطني للإنتاج‪،‬‬
‫من مواد �أولية وقوة ب�شرية ور�ؤو�س �أموال (وهي كلها مزايا مقارنة)‪،‬‬
‫بـ ـ ـ ـ ـ ــل كذلك طبيعة �أدوات العمل؛ �أي الإطار التنظيمي والم�ؤ�س�سي‪،‬‬
‫كم�ستويات االن�سجام بين تنظيم الإنتاج وتدبير الموارد الب�شرية‪،‬‬
‫و�أهمية عن�صر التعليم والتكوين وعالقته بالعمل‪ ،‬و�أهمية عن�صر‬
‫االبتكار‪ ،‬ومدى االهتمام بعملية البحث والتطوير؛ �إ�ضافة �إلى طرق‬
‫الت�سيير والتدبير المتبعة‪ ،‬و�أهمية التكنولوجيا المتوفرة‪ ،‬و�إنتاجية‬
‫الموارد الب�شرية‪ ،‬ولي�س فقط وفرتها ورخ�صها‪ ،‬وكذلك طبيعة البنيات‬
‫التحتية المتوفرة‪ ،‬من طرق وموانئ ومطارات و�سكك حديدية (وهي‬
‫كلها مزايا تناف�سية)‪ .‬وهكذا‪ ،‬يتبين �أن هناك مزايا تتعلق بالمقاولة‬
‫(وهي مزايا ميكرو اقت�صادية) ومزايا �أخرى ترجع للدولة م�س�ؤولية‬
‫توفيرها وتح�سينها‪ ،‬لما لها من منفعة بالن�سبة للمقاولة (وهي كلها‬
‫مزايا ماكرو اقت�صادية)‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬لم ت�صبح التناف�سية‪ ،‬المعتمدة على رخ�ص الأ�سعار‬
‫والقرب من ال�سوق (التناف�سية عن طريق التكلفة �أو ال�سعر) كافية‬
‫ل�ضمان نجاحات م�ستمرة في الأ�سواق‪ ،‬بل �أ�صبحت ثمرة مجهود منهجي‪،‬‬
‫من خالل التمكن من مراكمة عدة عوامل �أ�سا�سية؛ مثل التحكم في‬
‫التوزيع‪ ،‬وخلق �شبكات تجارية في الخارج‪ ،‬و�إن�شاء تحالفات مع مختلف‬
‫‪61‬‬
‫ال�شركاء‪ ،‬وتدبير البحث والتكوين والدرا�سات المختلفة‪ ،‬و�إدخال‬
‫التقنيات المتطورة وطرق الت�سيير الناجعة‪ ،‬وذلك للتمكن من الإنتاج‬
‫بجودة عالية (وهذه هي �شروط التناف�سية البنيوية �أو التكنولوجية)‪.‬‬
‫وتقا�س درجة تناف�سية المقاولة ب�صفة عامة‪ ،‬من خالل قدرتها‬
‫على ا�ستقطاع ح�صة من ال�سوق‪ ،‬مع �ضمان تطورها االقت�صادي‬
‫ومردوديتها ب�صفة م�ستمرة‪ .‬ومن �أجل التحكم في هذا الم�سار‪ ،‬يبقى‬
‫من الواجب على المقاولة التوفر على القدرة الدائمة على التكيف‬
‫وال�سيطرة على الموارد الب�شرية‪ ،‬من �أر�صدة خا�صة‪ ،‬واكتتابات مختلفة‬
‫في الأ�سواق المالية‪ ،‬وكذا على الموارد التقنية‪ ،‬من قبيل تحديث‬
‫بينة الإنتاج‪ ،‬والتحكم في التكنولوجيا المتطورة‪ .‬هذا‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى‬
‫التحكم في المنتوج‪ ،‬وذلك بدعم �أعمال البحث والتطوير‪� .‬إن الرهان‬
‫ال�صعب‪ ،‬هنا لي�س هو اختيار من الأهم في هذه العوامل؛ الت�سويق �أو‬
‫التكنولوجيا‪ ،‬الموارد الب�شرية �أو الجودة؛ فكل هذه العوامل مجتمعة‬
‫هي التي ت�ؤدي �إلى ازدهار المقاولة‪ ،‬وكذا تناف�سيتها‪.‬‬
‫�إن الجودة‪ ،‬كرهان اقت�صادي �أ�سا�سي وا�ستراتيجي‪ ،‬لولوج الأ�سواق‬
‫الخارجية‪� ،‬أ�صبح يهيكل مجمل ن�شاطات المقاولة‪ ،‬من الإنتاج �إلى‬
‫الت�سويق‪ .‬ولربح هذا الرهان‪ ،‬وجب االن�ضباط بنظام �صارم‪ ،‬يحتم عدم‬
‫وجود اختالالت �أو نقط �سوداء في ن�شاط المقاولة؛ وهو ما ي�شار �إليه‬
‫ب�سيا�سة الأ�صفار الخم�سة؛ �صفر خط�أ في �إنتاج ال�سلعة؛ و�صفر عطب‬
‫في �إنتاج �آالت الإنتاج؛ و�صفر في المهلة والت�أخير؛ و�صفر في المخزون‬
‫(�أي انعدام الفائ�ض) و�صفر ورق (�أي انعدام البيروقراطية)‪.‬‬
‫كل هذا يفر�ض مفهوما جديدا للدولة؛ ف�إذا كانت العولمة قد‬
‫�أفرزت التناف�سية‪ ،‬ك�ضرورة ملحة‪ ،‬ف�إنها �أفرزت كذلك دورا جديدا‬
‫للدولة �إزاءها؛ دور اقت�صادي‪ ،‬يتمثل في الحكام ـ ـ ـ ـ ــة الجيدة والتدبير‬
‫العقالني لالقت�صاد‪ ،‬وذلك بتوفير ال�شروط االقت�صادية والمالية والإدارية‬
‫‪62‬‬
‫والم�ؤ�س�ساتية المالئمة‪ ،‬والتي ت�ساهم في الرفع من القدرة التناف�سية‬
‫للمقاوالت‪ ،‬وخا�صة ال�صغرى منها والمتو�سطة‪ ،‬وعدم اختزال هذا‬
‫الدور في اال�ستمرار في م�ساندة هذه المقاوالت ودعمها القوي‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل التحفيزات والإعفاءات والتخفي�ضات ال�ضريبية المختلفة‪،‬‬
‫والتي تبقى امتيازات بدون �أي ت�أثير اقت�صادي �أو اجتماعي‪ ،‬حقيقي‬
‫وملمو�س‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫"نموذج تنموي" ا�ستنفذ كل طاقته‬
‫الملك محمد ال�ساد�س‪ ،‬بمنا�سبة افتتاح الدورة الأولى من‬
‫ال�سنة الت�شريعية الثانية‪ ،‬من الوالية الت�شريعية العا�شرة‪،‬‬‫يق ــول‬
‫بتاريخ ‪� 13‬أكتوبر‪�" :2017‬إذا كان المغرب قد حقق تقدما‬
‫ملمو�سا‪ ،‬ي�شهد به العالم‪� ،‬إال �أن النموذج التنموي الوطني �أ�صبح‬
‫اليوم‪ ،‬غير قادر على اال�ستجابة للمطالب الملحة‪ ،‬والحاجيات‬
‫المتزايدة للمواطنين‪ ،‬وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات‬
‫ومن التفاوتات المجالية‪ ،‬وعلى تحقيق العدالة االجتماعية‪ .‬وفي هذا‬
‫ال�صدد‪ ،‬ندعو الحكومة والبرلمان‪ ،‬ومختلف الم�ؤ�س�سات والهيئات‬
‫المعنية‪ ،‬كل في مجال اخت�صا�صه‪ ،‬لإعادة النظر في نموذجنا التنموي‬
‫لمواكبة التطورات التي تعرفها البالد‪� .‬إننا نتطلع لبلورة ر�ؤية مندمجة‬
‫لهذا النموذج‪ ،‬كفيلة ب�إعطائه نف�سا جديدا‪ ،‬وتجاوز العراقيل التي‬
‫تعيق تطوره‪ ،‬ومعالجة نقط ال�ضعف واالختالالت التي �أبانت عنها‬
‫التجربة"‪.‬‬
‫يبدو �أن "نموذجنا التنموي" الحالي قد ا�ستنفذ كل طاقته‪ ،‬وبلغ‬
‫مداه‪ ،‬ويجب �إعطا�ؤه نف�سا جديدا‪ ،‬وبالتالي تجاوز العراقيل التي تحول‬
‫دون تطوره‪ ،‬من خالل �إعادة النظر في ترتيب �أولوياته‪ ،‬االقت�صادية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬بما يمكن من الحد من الفوارق‪ ،‬وتحقيق العدالة‬
‫االجتماعية‪ ،‬ومواكبة التطورات الوطنية والعالمية‪ .‬لكن في المقابل‪،‬‬
‫هذا ال ينفي �أن بالدنا حققت من خالل هذا النموذج‪ ،‬مكت�سبات عديدة‪،‬‬
‫على م�ستوى التوازنات المالية‪ ،‬والبنيات الأ�سا�سية‪ ،‬والإ�ستراتيجيات‬
‫القطاعية‪.‬‬
‫�إن بلورة نموذج تنموي جديد‪ ،‬يمكن �أن يجيب على التحديات‬
‫المطروحة على بالدنا‪ ،‬على م�ستـوى تقلي�ص الفوارق‪ ،‬وتح�سين الخدمات‬
‫االجتماعية‪ ،‬وتوفير ال�شغل الكريم‪ ،‬يقت�ضي ت�شخي�صا مو�ضوعيا لـ‬
‫"نموذجنا" الحالي؛ بمعنى الوقوف على مكامن قوته‪ ،‬ومكامن �ضعفه‪.‬‬
‫لقد اختار المغرب منذ اال�ستقالل‪ ،‬التوجه الليبرالي‪ ،‬حيث‬
‫جعل منه خالل ال�ستينات وال�سبعينات‪� ،‬أداة متميزة في عالقاته مع‬
‫دول العالم؛ ولقد عبر المرحوم الملك الح�سن الثاني عن دوافع هذا‬
‫االختيار‪ ،‬في كتابه "ذاكرة ملك"‪ ،‬حيث قال رحمه اهلل‪" :‬كان ذلك‬
‫بعد ال�سنة الثالثة �أو الرابعة من اعتالئي العر�ش‪ ،‬وقد خل�صت �إلى‬
‫ا�ستنتاج ال جدال فيه؛ وهو �أن الدولة ال تح�سن المعامالت التجارية‪،‬‬
‫�أو لأنها ال تعرف كيف تبيع وت�شتري؛ وثانيا‪ ،‬لأن لها مهام �أخرى‪ ،‬ومنذ‬
‫ذلك الحين‪� ،‬أ�صبحت من �أن�صار المبادرة الخا�صة‪� ،‬ش�أني في ذلك‬
‫�ش�أن ذلك البحار الذي يم�سك ب�صاري ال�سفينة‪ ،‬وهو يخو�ض الأخطار‬
‫ويجابه العا�صفة‪� .‬إال �أن الأمر لم يكن يتعلق بموقف متطرف‪ ،‬ذلك‬
‫�أنني �أعتبر �أن الليبرالية العمياء ‪ -‬مثلها مثل �سيا�سة االقت�صاد الموجه‬
‫ب�صرامة ‪ -‬تعد قاتلة‪ ،‬وقد �أكدت الأحداث التي �شهدتها لون�س �أنجل�س‬
‫م�ؤخرا‪� ،‬أنه يتعين على الم�س�ؤولين الأمريكيين اعتماد تدخل الدولة‬
‫بع�ض ال�شيء في �سيا�ساتهم االقت�صادية؛ فمنذ ‪� 1964‬إذن‪ ،‬و�أنا �أعرف‬
‫�أن الدولة برهنت على �أنها تاجر فا�شل؛ �إال �أن كل م�شكلتي كانت‬
‫تكمن في كيفية النجاح في اعتماد الليبرالية؛ �إذ لم يكن هناك ادخار‬
‫وطني‪ ،‬وكنا نجد في مختلف جهات المملكة‪ ،‬بع�ض العائالت الغنية؛‬
‫�إال �أن ثرواتها لم تكن تمثل حتى ع�شر الثروات التي كانت تملكها بع�ض‬
‫العائالت الأوربية؛ ولت�أ�سي�س نظام ليبرالي‪ ،‬يتعين امتالك ثروة وطنية‪،‬‬
‫‪68‬‬
‫مرتكزة على االدخار‪ ،‬ولم يكن �أحد �آنذاك بقادر على ذلك؛ وبالتالي‪،‬‬
‫فكان ال بد من االرتجال والعي�ش دون تخطيط؛ وفي مثل هذه الحالة‪،‬‬
‫تكون "البراغماتية" �أحيانا �سبيال للخال�ص"‪.‬‬
‫لقد ظل الم�ستعمر يتحك ـ ـ ـ ــم في البنيات االقت�صادية الأ�سا�سية‬
‫للمغرب‪ ،‬موجها بذلك اقت�صاد البالد في مجاالت الزراعة وال�صناعة‬
‫والمواد الخام والنظام النقدي والمالي والموا�صالت‪ ...‬لخدمة‬
‫م�صالحه الخا�صة‪ .‬وقد �شكل ا�ستقالل المغرب بداية التحول الحقيقي‬
‫في التعاطي مع العديد من المع�ضالت االجتماعية واالقت�صادية؛ وتطلع‬
‫المغاربة جميعا �إلى م�شروع مجتمعي جديد‪ ،‬يحقق النمو والتنمية؛ ف�إلى‬
‫�أي حد‪ ،‬ا�ستطاع المغرب‪ ،‬ومنذ اال�ستقالل �إلى اليوم‪ ،‬ر�سم مالمح‬
‫نموذجه التنموي؟ وما هي �أبرز خطوطه العري�ضة؟‬
‫�إن بلورة �أي نموذج تنموي جديد‪ ،‬تتطلب حتما‪� ،‬إدراكا للواقع‬
‫االقت�صادي المغربي‪ ،‬والمالمح الأ�سا�سية التي تطبعه؛ فما هي �إذن‬
‫طبيعة االقت�صاد المغربي؟ وما هي و�ضعية التنمية االقت�صادية‬
‫في بالدنا‪ ،‬خالل ال�سنوات الأخيرة؟ لكن قبل طرح عنا�صر الإجابة‬
‫على هذين الت�سا�ؤلين‪ ،‬ي�ستح�سن التذكير ب�أبرز المحطات التاريخية‬
‫لالقت�صاد المغربي‪.‬‬

‫‪� - 1‬سيا�سة التخطيط‬

‫كانت البنية االقت�صادية زمن الحماية‪ ،‬تقوم وفق متطلبات‬


‫الم�ستوطنين الأجانب‪ ،‬على �أ�سا�س االقت�صاد التكميلي للدولة الم�ستعمرة‪،‬‬
‫و�إبقاء المغاربة في بنيتهم االقت�صادية واالجتماعية العتيقة‪ .‬ومع مطلع‬
‫ال�ستينات‪ ،‬ظهرت مالمح �إيجابية لبناء مغرب قوي‪ ،‬ولإحداث القطيعة‬
‫مع المرحلة اال�ستعمارية‪ ،‬حيث تم و�ضع �أول مخطط خما�سي للبالد‬
‫‪ 1960‬ـ‪1964‬؛ رمت �إ�ستراتيجيته �إلى تحقيق اال�ستقالل االقت�صادي‪،‬‬
‫‪69‬‬
‫ومبا�شرة الإ�صالح الزراعي‪ ،‬والعمل على ت�صنيع المغرب؛ وتم خالل‬
‫هذه الفترة‪� ،‬إقرار نظام جمركي جديد‪ ،‬فك االرتباط بين الفرنك‬
‫الفرن�سي والفرنك المغربي‪ ،‬وتم ت�أ�سي�س مكتب لل�صرف‪ ،‬للتحكم في‬
‫تحويالت الفرن�سيين الذين �أ�صبحوا يهربون �أموالهم �إلى الخارج بكثرة؛‬
‫كما تم خالل هذا المخطط تبني �سيا�سة �صناعية‪ ،‬جعلت من ال�صناعة‬
‫الثقيلة النواة والمحرك الأ�سا�سي لباقي القطاعات‪ ،‬عن طريق �إن�شاء‬
‫�صناعات �أولية تحويلية‪ ،‬و�إقرار الإ�صالحات الأولية‪ ،‬للقيام ب�إ�صالح‬
‫زراعي �شامل‪ ،‬و�إ�صالح هياكل الدولة‪ ،‬وتكوين الأطر الوطنية‪ ،‬ل�سد‬
‫العجز في ميدان الأطر‪ ،‬عن طريق �سيا�سة تعليمية وا�سعة‪.‬‬
‫وما �أن كانت �سنة ‪ ،1965‬حتى عرف المغرب مخططا ثالثيا‬
‫‪ 1965‬ـ‪ ،1967‬اختار االتجاه الليبرالي‪ ،‬وحاول و�ضع برنامج لمحاربة‬
‫الت�ضخم وانعدام التوازن‪ ،‬و�أعطى الأ�سبقية �إلى تطوير الفالحة‪،‬‬
‫وت�شجيع ال�سياحة‪ ،‬باعتبارها قطاعا حيويا‪ ،‬يوفر العمالت ال�صعبة؛ �إال‬
‫�أن هذه التجربة لم تنجح في اال�ستمرار‪ ،‬نظرا لأنها تطلبت موارد مالية‬
‫كبيرة من جهة‪ ،‬وكذلك لأن الظروف ال�سيا�سية‪ ،‬التي عا�شها المغرب‬
‫ابتداء من منت�صف ال�ستينات‪ ،‬وخا�صة بعد �إعالن "حالة اال�ستثناء"‬
‫لم تكن مالئمة‪.‬‬
‫ويعتبر المخطط الخما�سي الثاني ‪ 1968‬ـ‪� ،1972‬أول مخطط‬
‫عملي عرفه المغرب‪ ،‬لعبت ميزانية الدولة دورا مهما في تمويل‬
‫م�شاريعه؛ كما تجاوزت �إنجازاته كل التقديرات‪ ،‬حيث حقق زيادة في‬
‫الإنتاج الداخلي الإجمالي‪ ،‬بلغت ‪ ،%28‬في فترة �سنوات المخطط‬
‫الخم�س‪.‬‬
‫عرفت بداية ال�سبعينات‪ ،‬انطالقة جديدة لالقت�صاد الوطني‪،‬‬
‫بمخطط ‪ 1973‬ـ‪ ،1977‬خا�صة �سنة ‪ ،1973‬بم�شروع المغربة‪ ،‬وتثمين‬
‫المعادن المغربية؛ كما تم تبني م�شاريع اقت�صادية واجتماعية طموحة‪،‬‬
‫‪70‬‬
‫تم تمويلها �أ�سا�سا بمداخيل الفو�سفاط‪ .‬وقد احتفظ هذا المخطط‬
‫بالأولويات الثالثة التي و�ضعت للخطة الخما�سية الثانية؛ وهي الفالحة‬
‫وال�سياحة وتكوين الأطر‪� ،‬أ�ضيف �إليها �أولوية رابعة؛ هي تنمية القطاع‬
‫ال�صناعي‪ ،‬وال�سيما ال�صناعات الت�صديرية التي ا�ستفادت من ت�شجيع‬
‫الدولة لها؛ �إ�ضافة �إلى تعبئة كل الطاقات الإنتاجية في المغرب‪ ،‬بغية‬
‫تحقيق �أعلى معدل نمو؛ كما �أ�صبح للتنمية الجهوية معنى وا�سعا و�شامال‬
‫وغنيا‪ ،‬حيت ق�سم المغرب �إلى �سبع جهات اقت�صادية‪ ،‬عن طريق �إدماج‬
‫عدد من الأقاليم في كل جهة اقت�صادية‪.‬‬
‫وما �أن و�ضع هذا المخطط مو�ضع التنفيذ‪ ،‬حتى ات�سمت الو�ضعية‬
‫االقت�صادية والمالية الدولية باختالل بالغ؛ فالنمو المتزايد للبالد‬
‫الم�صنعة‪� ،‬صاحبته موجات حادة من الت�ضخم الذي اقترن با�ضطرابات‬
‫خطيرة‪ ،‬طر�أت على العالقات النقدية الدولية‪ ،‬ثم �أعقبه غالء �أثمان‬
‫المواد الأولية؛ وفي طليعتها‪ ،‬البترول والمواد الغذائية‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫المواد الم�صنعة التي ت�ستوردها البالد النامية‪ .‬لكن انخفا�ض الأ�سعار‬
‫�سنة ‪� ،1975‬أدخل المغرب في دوامة المديونية التي و�صلت �سنة ‪،1983‬‬
‫�إلى ‪ %124‬من الناتج الداخلي الخام‪ .‬وهكذا‪ ،‬ظل االقت�صاد المغربي‬
‫ي�سجل نتائج غير طبية؛ ف�إذا كان معدل النمو ال�سنوي‪ ،‬والذي تحقق‬
‫في الفترة الممتدة بين ‪ 1980‬ـ‪ ،1990‬هو ‪ %1,4‬في الميدان ال�صناعي‪،‬‬
‫ف�إنه لم يحقق �سوى ‪ %6,2‬بين ‪ 1990‬ـ‪ ،1998‬حيث تعر�ض االقت�صاد‬
‫الوطني ذا البنية اله�شة‪ ،‬ل�صدمات عديدة‪ ،‬نذكر بع�ضها‪ :‬الت�ضخم‪،‬‬
‫وارتفاع الأ�سعار‪ ،‬و�إلغاء الدعم المقدم للمواد الأ�سا�سية‪ ،‬وارتفاع �أثمان‬
‫المنتجات الم�ستوردة‪ ،‬و�إ�ضعاف دور الدولة‪ ،‬وتعميق عدم التكاف�ؤ في‬
‫توزيع المداخل‪ ،‬وارتفاع معدالت البطالة‪ ،‬و�ضعف النمو المت�صا�ص‬
‫ال�سكان الن�شيطين المتزايدين؛ كذلك االعتماد الكبير على الفالحة‬
‫التي يرتبط بها عي�ش ال�سكان‪ ،‬و�ضعف النمو الزراعي‪ ،‬وغياب التنويع‬
‫‪71‬‬
‫وجمود ال�صادرات ال�صناعية‪ ،‬وغياب �أو بطء الت�صنيع‪ ،‬وغياب تام‬
‫لإ�ستراتيجية تنموية وا�ضحة في برامج الحكومات المتعاقبة‪ ،‬وعدم‬
‫فعالية القطاع العام‪ ،‬وعدم مالءمته لل�سياق االقت�صادي الجديد‪ ،‬وت�أثر‬
‫االقت�صاد الوطني بالظروف الطبيعية‪ ،‬وب�أحوال الطق�س‪ ،‬وبالتحوالت‬
‫في �سوق المجموعة الأوربية‪ ،‬ثم ب�ضعف مداخيل ال�سياحة‪.‬‬
‫هذا الو�ضع االقت�صادي نتج عنه اجتماعيا‪ ،‬الآتي‪ :‬فقر لدى �أو�ساط‬
‫عديدة في المجتمع‪ ،‬ارتفاع البطالة‪ ،‬وتزايد الفوارق بين الو�سطين‬
‫القروي والح�ضري‪ ،‬وانخفا�ض الم�ؤ�شرات االجتماعية (ال�صحة‪ ،‬التعليم‪،‬‬
‫ال�سكن الالئق‪)...‬؛ و�ضعية جعلت الملك الراحل الح�سن الثاني يعلن‬
‫في �سنة ‪ ،1995‬من من�صة البرلمان المغربي‪ ،‬بعد �أن تلقى تقريرا من‬
‫جيم�س وولفن�سون مدير البنك العالمي‪� ،‬أن االقت�صاد المغربي قد ي�صاب‬
‫ب�سكتة قلبية‪ ،‬ما لم ن�سارع �إلى �إ�صالحات حقيقية‪ ،‬تهم الإدارة والق�ضاء‬
‫واالقت�صاد‪ ،‬وب�أن البنك الدولي �أ�صدر تقريرا مف�صال بطلب منه‪ ،‬ي�ضم‬
‫�أهم التوجيهات لإ�صالح هذه االختالالت‪.‬‬
‫ومبا�شرة بعد الخطاب الملكي‪ ،‬عمت ال�صحافة تحاليل حول هذا‬
‫التقرير‪ ،‬وعقدت ندوات كثيرة‪ ،‬ونقا�شات برلمانية وفكرية واقت�صادية‪،‬‬
‫ليخبو بعد ذلك نجم هذا التقرير‪ ،‬خ�صو�صا بعد �إقناع �أحزاب الكتلة‬
‫بالم�شاركة في تدبير الأزمة‪ ،‬و�إيجاد الحلول المنا�سبة لها‪ ،‬من خالل‬
‫حكومة التناوب‪ ،‬برئا�سة اال�شتراكي عبد الرحمان اليو�سفي‪ ،‬ولنطوي‬
‫�صفحته نهائيا‪.‬‬
‫وكرد فعل على االنتقادات‪ ،‬وفي �سنة ‪ ،1999‬وعلى بعد �أيام قليلة‬
‫من رحيل الملك الح�سن‪� ،‬ألقى رحمه اهلل خطابا �شهيرا‪ ،‬في ذكرى‬
‫عيد ال�شباب‪� ،‬أ�شار فيه �إلى قرار هام جدا؛ وهو تحويل المليار دوالر‪،‬‬
‫المح�صلة من مداخيل خو�ص�صة جزء من ات�صاالت المغرب‪� ،‬إلى التنمية‬
‫االجتماعية واالقت�صادية والبنيوية‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫وبناء على هـذا التقرير‪ ،‬اقترح �صندوق النقد الدولي على‬
‫الحكومة المغربية‪�" ،‬إجـ ـ ـ ــراءات" جديدة‪ ،‬ت�ستهدف �إ�صالحا �شامال؛‬
‫يرتكز �أ�سا�سا على �إ�صالح ال�ضريبة على القيمة الم�ضافة‪ .‬وهكذا‪ ،‬وبدل‬
‫�أن يتمحور الإ�صالح حول الإعفاءات واالمتيازات ال�ضريبة الممنوحة‬
‫لل�شركات و�أ�صحاب الثروات والم�ضاربات المالية والعقارية‪� ،‬سيتمحور‬
‫الإ�صالح حول ال�ضريبة‪ ،‬على اال�ستهالك من المواد والخدمات‬
‫الأ�سا�سية؛ وهو ما يعني تحميل الطبقات ال�شعبية ثمن الإعفاءات‬
‫واالمتيازات الممنوحة للطبقات الر�أ�سمالية‪ ،‬وتقل النفقات ال�ضريبية‪،‬‬
‫على الميزانية العامة‪ ،‬وتعميق التفاوتات بين مختلف القطاعات؛ وهو‬
‫ما دفع بكل قطاع �إلى المطالبة بالمزيد من االمتيازات ال�ضريبية‪،‬‬
‫لمناف�سة باقي القطاعات‪ ،‬لتكون النتيجة هي تقلي�ص وتفكيك الوعاء‬
‫ال�ضريبي‪ ،‬وبالتالي تجفيف تدريجي لمنابع ال�ضريبة على ال�شركات‪.‬‬

‫‪ - 2‬خطــر المديونيــة‬

‫عرفت الفترة ‪ 1973‬ـ‪ ،1982‬كما هو معلوم‪ ،‬ت�صاعد التدفقات‬


‫المالية من الم�صارف الدولية الكبرى �إلى البلدان النامية؛ وكان هذا‬
‫الو�ضع المت�سارع قد �أدى �إلى ارتفاع متوال في �أ�سعار الفوائد التي‬
‫�أ�صبحت �آلية ترهق كاهل االقت�صادات المتخلفة‪ ،‬والتي تحولت بدورها‪،‬‬
‫اعتبارا من �سنة ‪ - 1982‬وهي �سنـ ـ ـ ـ ــة انفجار �أزمة المديونية ‪� -‬إلى‬
‫م�صدرة �صافية لر�أ�س المال المالي؛ �إذ �أ�صبحت خدمة الديون ال�سنوية‬
‫تزيد عن حجم القرو�ض الجديدة‪.‬‬
‫و�أمام هذه الو�ضعية‪ ،‬عجز �صندوق النقد الدولي على ت�أمين‬
‫ال�سيولة الكافية للبلدان ال�شديدة المديونية ب�شروط مي�سرة؛ فعهد‬
‫بمعالجة م�شاكل ديون العالم الثالث �إلى البنك الدولي و�صندوق النقد‬
‫‪73‬‬
‫الدولي‪ ،‬في وقت لم يعد بمقدور هاتين الم�ؤ�س�ستين �أن يعيدا القوة‬
‫واال�ستقرار �إلى النظام المالي للعالمي‪.‬‬
‫�إن التحوالت الجديدة في العالم‪ ،‬والمتمثلة في تدويل‬
‫االقت�صادات المحلية‪ ،‬وعولمة �أ�سواق ر�أ�س المال‪� ،‬أدت �إلى تنامي‬
‫االقت�صاد الرمزي الم�ضاربي على ح�ساب نمو االقت�صاد الحقيقي‪،‬‬
‫وت�ضاءلت كفاءة �صندوق النقد الدولي في توجيه �أ�سواق النقد والمال‪،‬‬
‫توجيها يقلل من ا�ضطراباتها ومخاطرها وانعكا�ساتها ال�سلبية على‬
‫اتجاهات الأداء االقت�صادي في الدول المتقدمة والنامية؛ وعجز‬
‫ال�صندوق عن التنب�ؤ بالأزمة الآ�سيوية‪ ،‬وعن تقدير �آثارها المختلفة‪،‬‬
‫كما �أقر بذلك في وقت �سابق‪ ،‬النائب الأول للقائم ب�أعمال مدير �صندوق‬
‫النقد الدولي‪ ،‬ال�سيد �ستانلي في�شر‪ ،‬قائال‪" :‬ولكن ال�صندوق ف�شل في‬
‫التنب�ؤ بخطورة �آثار العدوى التي نجمت عن ات�ساع الأزمة"‪ .‬و�إذا كان‬
‫التحدي ال�سابق لل�صندوق هو‪" :‬تحرير القوى االقت�صادية الأ�سا�سية‪...‬‬
‫فالتحدي الماثل الآن‪ ،‬هو توجيه قوى ال�سوق �صوب الأداء االقت�صادي‬
‫العالمي ال�سليم‪ ...‬وقد ر�سخت تماما �أهمية اال�ستقرار النقدي بالن�سبة‬
‫لكفاءة قوى ال�سوق على ال�صعيد الوطني‪ ،‬وثمة ر�أي مماثل بانطباق‬
‫ذلك على ال�صعيد الدولي"‪.‬‬
‫‪ ،‬ظهرت م�شكلة تدوير‬ ‫مع �أزمة النفط الأولى في‬
‫الفوائ�ض المالية‪ ،‬ثم �سرعان ما ظهرت مديونية دول العالم الثالث‬
‫ب�شكل كبير في بداية الثمانينات‪ ،‬حيث حدد البنك الدولي ‪ 17‬بلدا‬
‫من دول العالم الثالث‪ ،‬من �أثقل البالد مديونية‪ ،‬ويقع �أغلبها في‬
‫�أمريكا الالتينية؛ وقد تفجرت �أزمة الديون الدولية ب�شكل ظاهر‪ ،‬في‬
‫غ�شت ‪ ،1982‬حين �أعلنت المك�سيك توقفها عن الدفع؛ وقد �أحدث هذا‬
‫الإعالن ذعرا �شديدا في الدوائر المالية العالمية‪ ،‬لأن معظم ديون‬
‫المك�سيك و�سائر دول �أمريكا الالتينية‪ ،‬كانت راجعة لمئات البنوك‬
‫‪74‬‬
‫التجارية المنت�شرة في العالم‪ ،‬وخا�صة في الواليات المتحدة الأمريكية‪.‬‬
‫والحتواء الأزمة‪� ،‬أعلن جيم�س بيكر‪ ،‬وزير الخزانة الأمريكية‪ ،‬م�شروعا‬
‫لعالج م�شكلة الديون الدولية؛ وكان الهدف الأ�سا�سي‪ ،‬هو م�ساعدة‬
‫المك�سيك على العودة �إلى ا�ستئناف �أداء خدمة ديونها‪ ،‬والحيلولة دون‬
‫انت�شار عدوى التوقف عن الدفع �إلى الدول المدينة الأخرى‪ ،‬وتفادي‬
‫حدوث انهيار للنظام الم�صرفي الدولي؛ وهنا دعي �صندوق النقد‬
‫الدولي �إلى القيام بدور قيادي في الجمع بين الأطراف المعنية‪ ،‬و�إقناع‬
‫كل طرف بالم�ساهمة في عالج الأزمة‪ ،‬وقام ال�صندوق بترتيب العالقة‬
‫بين المك�سيك والبنوك الدائنة‪ ،‬فيما عرف بتوفير حزمة الإنقاذ؛‬
‫وتت�ضمن توفير قدر من التمويل من ال�صندوق مع قرو�ض جديدة من‬
‫البنوك‪ ،‬لتمكين المك�سيك من اال�ستقرار في خدمة الدين‪ ،‬مع �إتباع‬
‫�سيا�سات اقت�صادية جديدة‪ ،‬تمكنها من تح�سين �أو�ضاعها الداخلية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬انجر ال�صندوق �إلى ق�ضايا دول العالم الثالث‪ ،‬وخا�صة فيما‬
‫يتعلق ب�إعادة جدولة الديون‪ ،‬وتقديم قرو�ض للدول المدينة‪ ،‬مع‬
‫�إلزامها بعدد من ال�سيا�سات‪ ،‬عرفت بالم�شروطية‪ ،‬حيث تلتزم الدول‬
‫المدينة ب�إتباع �سيا�سات محددة‪ ،‬مقابل �إعادة الجدولة‪ ،‬وتوفير بع�ض‬
‫الت�سهيالت الالزمة للدولة المدينة‪ .‬وقد ارتبطت هذه "ال�شروط"‬
‫بما عرف ب�سيا�سات التثبيت المالي �أو النقدي‪ ،‬حيث يلزم ال�صندوق‬
‫الدولة المدينة ب�إتباع �سيا�سات اقت�صادية‪ ،‬من �ش�أنها تح�سين �أو�ضاع‬
‫المتغيرات الكلية‪ ،‬ال�سيما فيما يتعلق ب�ضبط عجز الميزانية‪ ،‬واختيار‬
‫�أ�سعار �صرف واقعية‪ ،‬و�أ�سعار فائدة منا�سبة‪.‬‬
‫لم ي�ستمر ال�صندوق طويال في الأخذ بهذه ال�سيا�سات الميكانيكية‪،‬‬
‫بل بد�أ‪ ،‬من خالل تعاونه مع البنك الدولي‪ ،‬في مراعاة الكثير‬
‫من االعتبارات االقت�صادية الأخرى‪ ،‬فيما عرف �آنذاك بالإ�صالح‬
‫الهيكلي‪ .‬ومع انهيار النظم اال�شتراكية‪ ،‬في نهاية الثمانينات وبداية‬
‫‪75‬‬
‫الت�سعينات‪ ،‬واجه �صندوق النقد الدولي م�شكلة انتقال هذه الدول‬
‫وتحولها �إلى اقت�صاد ال�سوق‪ .‬وهكذا‪ ،‬بد�أت هذه الدول تدخل مرحلة‬
‫ما عرف باالقت�صادات االنتقالية؛ وقد تطلب الأمر توفير ت�سهيالت‬
‫مالية وائتمانية كبيرة لهذه الدول‪ ،‬حتى تتمكن من �إجراء التحول‬
‫من االقت�صاد المركزي �إلى اقت�صاد ال�سوق‪ .‬وقام �صندوق النقد‬
‫باال�شتراك مع البنك الدولي‪ ،‬بتوفير الخبرة الفنية مع بع�ض �أ�شكال‬
‫التمويل‪ ،‬لتي�سير تحول هذه االقت�صادات �إلى اقت�صاد ال�سوق‪.‬‬
‫�إذا كان البنك الدولي هو �إحدى م�ؤ�س�سات النظام االقت�صادي‬
‫الدولي‪ ،‬ف�إن �صندوق النقد الدولي لعب دورا‪ ،‬ربما فاق دور البنك‬
‫الدولي؛ وربما يرجع ال�سبب في ذلك �إلى �أن �صندوق النقد الدولي‬
‫قد عهد �إليه ب�أخطر مهمة في فترة ما بعد الحرب؛ وهي العمل على‬
‫ا�ستقرار �أ�سعار ال�صرف وحرية تحويل العمالت‪ ،‬ف�ضال عن �أنه ظل‬
‫لفترة غير ق�صيرة معنيا ب�أمور الدول المتقدمة‪ ،‬في حين كان البنك‬
‫الدولي منهمكا في �أمور الدول النامية؛ وهي �أقل �أهمية على الم�ستوى‬
‫الإ�ستراتيجي‪ .‬وقد ظل �صندوق النقد م�ؤ�س�سة �صغيرة ن�سبيا �إذا قورنت‬
‫بالبنك‪ ،‬حيث ظل يتعامل مع عدد محدود ن�سبيا من الدول (الدول‬
‫ال�صناعية)‪ ،‬وذلك قبل �أن ينجرف مثل البنك الدولي‪� ،‬إلى ق�ضايا‬
‫الدول النامية‪ ،‬حيث �أ�صبح مع هذا الأخير‪ ،‬يمثالن ثنائيا ل�ضمان‬
‫الإ�صالح االقت�صادي في دول العالم الثالث‪ ،‬منذ الثمانينات‪ ،‬ول�ضمان‬
‫تحول االقت�صادات اال�شتراكية �إلى اقت�صاد ال�سوق في الت�سعينات‪.‬‬
‫وترتبط مرحلة و�ضع ت�صورات م�ستقبلية لعملية االقترا�ض‬
‫الخارجي‪ ،‬بمدى اال�ستفادة م ـ ـ ـ ــن الما�ضي‪ ،‬وا�ستيعاب التجارب‬
‫المعا�صرة؛ وبالتالي‪ ،‬ف�إن �أنجح �سيا�سات االقترا�ض الخارجي‪ ،‬هي تلك‬
‫التي يكون الهدف الأول منها‪ ،‬ا�ستخدام القرو�ض اال�ستخدام الأمثل‪،‬‬
‫والمتنا�سب مع الم�صلحة العامة‪ ،‬وذلك من خالل و�ضع �أولويات تنموية‬
‫‪76‬‬
‫محددة‪ ،‬تعك�س الأهداف المن�شودة من عملية االقترا�ض الخارجي‪،‬‬
‫وتحدد الكيفية التي يمكن بوا�سطتها تر�شيد الموارد المتاحة؛ كما‬
‫يتعين �أخذ متغير الزمن في الح�سبان‪ ،‬على اعتبار �أن تحقيق الأهداف‬
‫المن�شودة‪ ،‬مثل هدف تحقيق التنمية ال�شاملة‪ ،‬ال يمكن �أن يتحقق �إال‬
‫في المدى الطويل‪ ،‬حيث �إن �إقرار �أي �سيا�سة لالقترا�ض الخارجي‪،‬‬
‫يجب �أن ترتبط بالأ�سا�س‪ ،‬بو�ضع مخططات عمل وا�ضحة‪ ،‬تبين بدقة‬
‫الخطوات التي يجب �إتباعها في مرحلة ما بعد الح�صول على القرو�ض‬
‫الخارجية‪ ،‬وتوفر لجهات االخت�صا�ص‪ ،‬بيانات تتعلق بالإمكانيات‬
‫المتاحة‪� ،‬إلى جانب وجود ت�صورات م�ستقبلية‪ ،‬و�أهداف محددة لعملية‬
‫االقترا�ض الخارجي‪.‬‬
‫لقد كانت لعملية االقترا�ض في بالدنا‪ ،‬وعلى مدى �سنوات طويلة‪،‬‬
‫مخرجات كثيرة‪� ،‬سلبية ومعيق ـ ـ ـ ــة للتنمية والتطور؛ فح�سب مديرية‬
‫الخزينة والمالية الخارجية بوزارة المالية‪ ،‬بلغ مجموع ديون المغرب‬
‫في متم ‪ 3,692 ،2017‬مليار درهم؛ وبالن�سبة المئوية للناتج الداخلي‬
‫الخام‪ ،‬فقد بلغ ‪ ،%1,65‬تمثل منها الديون الداخلية الح�صة الأكبر‪،‬‬
‫بـ ‪ 198 ,5‬مليار درهم‪ ،‬فيما تجاوزت الديون الخارجية ‪ 283,1‬مليار‬
‫درهم‪ .‬وبالن�سبة لهذه الأخيرة‪ ،‬ف�إن الم�ؤ�س�سات الدولية‪ ،‬تمثل المقر�ض‬
‫الأول للمملكة التي تدين لها‪ ،‬بن�سبة ‪ %47,1‬من مجموع ديونها‪ ،‬يليها‬
‫ال�سوق المالي الدولي‪ ،‬والأبناك التجارية‪ ،‬بن�سبة ‪ ،%24,4‬ثم دول‬
‫االتحاد الأوروبي بن�سبة ‪ .%19,7‬وبح�سب الأرقام التف�صيلية المرفقة‬
‫بم�شروع قانون مالية ‪ ،2018‬ف�إن م�ؤ�شر الدين الخارجي العمومي ن�سبة‬
‫�إلى الناتج الداخلي الخام بلغ ‪ ،%30,8‬مقابل ‪� %30,5‬سنة ‪،2015‬‬
‫بزيادة قدرها ‪ 0,3‬نقطة مئوية‪ .‬ويرجع ارتفاع حجم الدين الخارجي‬
‫العمومي للمغرب بالأ�سا�س‪� ،‬إلى ارتفاع ديون الم�ؤ�س�سات والمقاوالت‬
‫العمومية والجماعات الترابية‪ ،‬بحوالي ‪ ،%6‬لي�صل �إلى ‪ 168,8‬مليار‬
‫‪77‬‬
‫درهم في متم ‪ ،2016‬مقابل ‪ 159,2‬مليار درهم �سنة ‪2015‬؛ �أي بزيادة‬
‫قدرها ‪ 9,6‬مليار درهم‪.‬‬
‫ومن العوامل الرئي�سية التي �أدت �إلى تفاقم �أزمة الديون الخارجية‬
‫للمغرب‪ ،‬العجز الم�ستمر في الموازنة العامة؛ فقد تبنى المغرب‬
‫مخططات تنموية طموحة‪ ،‬تحتاج �إلى ر�ؤو�س �أموال وخدمات‪ ،‬تفوق‬
‫في كثير من الأحيان الموارد المتاحة داخليا؛ فالمخطط الخما�سي‬
‫الأول ‪ 1960‬ـ‪ ،1964‬كان من المخططات الطموحة التي كانت تهدف‬
‫�إلى الت�صنيع والرفع من م�ستوى اال�ستثمار في القطاع ال�صناعي؛ �إال‬
‫�أن االدخار الداخلي لم يمكن من تحقيق هذا الهدف الذي كان يعتبر‬
‫من ال�ضروريات للرفع من م�ستوى االقت�صاد المغربي‪ .‬وبالتخلي عن‬
‫هذا المخطط‪ ،‬ومتابعة اندماج اقت�صاد المغرب في التق�سيم الدولي‬
‫للعمل‪ ،‬ا�ستمر المغرب في التخ�ص�ص في �إنتاج المواد الأولية الموجهة‬
‫للت�صدير‪ ،‬مقابل ا�ستيراد ال�سلع اال�ستهالكية والم�صنعة من الدول‬
‫الر�أ�سمالية؛ هذا النوع من العالقات على �أ�سا�س التبادل الالمتكافئ‬
‫(معدالت التبادل‪ ،‬عجز الميزان المالي) �سينتج عنه اللجوء �إلى‬
‫التمويل الخارجي‪ ،‬وعدم االعتماد الذاتي لتمويل االقت�صاد‪.‬‬
‫ظل العجز الم�ستمر في ميزان المدفوعات من العوامل الأخرى‬
‫التي �أدت �إلى تفاقم �أزمة الديون الخارجية؛ فقد عانى المغرب من‬
‫عجز في الح�ساب الجاري خالل الفترة الممتدة ما بين ‪ 1975‬ـ‪1986‬؛‬
‫وهو العجز الذي تزامن وارتفاع معدل المديونية الخارجية؛ ويرجع‬
‫ذلك بالأ�سا�س‪� ،‬إلى تدهور �شروط التبادل التجاري‪ ،‬و�إلى حالة الك�ساد‬
‫الذي عرفتها بع�ض الدول ال�صناعية‪ ،‬بعد تبنيها ل�سيا�سات انكما�شية‬
‫في نهاية ال�سبعينات وبداية الثمانينات؛ كما �أدت ال�سيا�سة الحمائية‬
‫للمجموعة االقت�صادية الأوربية‪� ،‬إلى ت�ضرر ال�صادرات الفالحية‬
‫المغربية ب�شكل كبير؛ فالأزمة التي عا�شتها هذه الدول (الأوروبية) بعد‬
‫‪78‬‬
‫�سنة ‪ ،1978‬دفعت �إلى ا�ستعمال طرق حمائية‪ ،‬نتج عنها تدهور �شروط‬
‫التجارة الدولية للمغرب‪ ،‬بما يزيد عن ‪ %5,7‬من الناتج الداخلي الخام‬
‫خالل الفترة ‪ 1981‬ـ‪1987‬؛ �إ�ضافة �إلى انخفا�ض معدل ال�صادرات‪ ،‬وما‬
‫ترتب عنه من انخفا�ض في احتياطاته الخارجية الالزمة لدفع خدمات‬
‫الدين؛ ي�ضاف �إلى ذلك ات�ساع القرو�ض من البنوك التجارية‪ ،‬وذلك‬
‫ا�ستجابة لمجموعة من الأ�سباب؛ فقد دفعت فوائ�ض الدول الم�صدرة‬
‫للنفط �إلى �أ�سواق النقد الدولية على �شكل ودائع جارية وا�ستثمارات‬
‫ق�صيرة الأجل‪ ،‬وخا�صة في عامي ‪ 1972‬ـ‪� ،1979‬إلى �إعادة �إقرا�ض‬
‫هذه الأر�صدة �إلى الدول النامية‪ ،‬ومن �ضمنها المغرب الذي يعاني‬
‫من عجز في ميزان مدفوعاته؛ مما كان له دور كبير في تفاقم م�شكلة‬
‫ديونه الخارجية‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه الم�ستوى العام للأ�سعار‬
‫يزداد ارتفاعا في نهاية ال�سبعينات‪ ،‬وكانت معدالت الفائدة التي‬
‫تطلبها البنوك التجارية على قرو�ضها منخف�ضة‪� ،‬إلى منعدمة �أحيانا؛‬
‫مما دفع المغرب �إلى زيادة اقترا�ضه‪ ،‬لتمويل نفقاته العامة‪ ،‬وموازين‬
‫مدفوعاته‪.‬‬

‫‪ - 3‬برنامج التقويم الهيكلي‬

‫و�أمام هذه الو�ضعية‪ ،‬لم يكن في و�سع المغرب �سوى الخ�ضوع‬


‫لتعاليم �صندوق النقد الدولي والبنك العالمي؛ مما كر�س �سيا�سة‬
‫االنفتاح الخارجي للمغرب‪ ،‬عن طريق تبنيه لبرامج التقويم الهيكلي‪،‬‬
‫والتي هي عبارة عن �سيا�سات اقت�صادية ومالية‪ ،‬تهدف �إلى الق�ضاء‬
‫على الأ�سباب العميقة لالختالل االقت�صادي‪ ،‬وذلك على المديين‬
‫المتو�سط والطويل‪ .‬والتقويم الهيكلي ال يوظف فقط الو�سائل ذات‬
‫الطابع االقت�صادي‪ ،‬بل يلج�أ �إلى مقت�ضيات وتدابير ذات طبيعة‬
‫�سيا�سية �أو اجتماعية �أو ثقافية‪...‬‬
‫‪79‬‬
‫�إن �إجراءات التقويم الهيكلي كثيرا ما تحل محل ال�سيا�سة‬
‫االقت�صادية الوطنية‪ ،‬بل تحد من ا�ستقاللية البلد المعني‪ ،‬على‬
‫م�ستوى اتخاذ القرارات‪ ،‬من خالل مراقبة دورية للأداء االقت�صادي‬
‫للبلد المعني‪ ،‬من طرف �صندوق النقد الدولي‪ .‬والمغرب‪ ،‬كغيره من‬
‫الدول النامية‪ ،‬عانى من عدة م�شاكل اجتماعية واقت�صادية‪ ،‬كالعجز‬
‫في ميزان الأداءات‪ ،‬وتراكم الم�ستحقات المت�أخرة للدين العام‬
‫الخارجي‪ ،‬وتناق�ص احتياطات النقد الأجنبي‪ ،‬وعدم كفايتها لتمويل‬
‫فاتورة الواردات‪ .‬وللخروج من و�ضعية االختناق االقت�صادي هذه‪،‬‬
‫فر�ض �صندوق النقد الدولي على المغرب مجموعة من التدابير‪ ،‬تنبني‬
‫على �ضرورة القيام ب�إ�صالحات ومراجعات‪ ،‬بهدف �إدخال تغييرات‬
‫على البنيات واالختيارات التي تقف وراء مظاهر االختالل االقت�صادي‬
‫والمالي‪.‬‬
‫هذه التدابير‪ ،‬كان الهدف منها �أ�سا�سا‪ ،‬الرفع من الموارد‬
‫المالية للدولة‪ ،‬حتى تتمكن من �أداء ما عليها من ديون‪ ،‬وذلك عن‬
‫طريق التخفيف التدريجي من عجز الأداءات‪ ،‬بالتحكم في النمو‬
‫ال�سريع للطلب الإجمالي (تخفي�ض اال�ستيراد) وبت�شجيع وتطوير العر�ض‬
‫(الرفع م ـ ـ ـ ـ ــن الإنتاج المحلي وكذا من الت�صدير) وتح�سين الطاقة‬
‫الإنتاجية‪ ،‬والرفع من فعالية عوامل الإنتاج‪ ،‬و�إعطاء فعالية �أكبر لقطاع‬
‫ال�صادرات‪ ،‬كذلك تر�شيد القطاع العام‪ ،‬وتحديث القطاع المالي‬
‫والبنكي والنظام ال�ضريبي‪.‬‬
‫بالإ�ضافة �إلى هذه الإجراءات‪ ،‬نذكر تحرير التجارة الخارجية‪،‬‬
‫و�إلغاء الئحة المواد الممنوعة من اال�ستيراد وتخفي�ض معدالت الر�سوم‬
‫الجمركية من ‪� %400‬سنة ‪� 1984‬إلى ‪� %35‬سنة ‪� 1993‬إلى ‪� %25‬سنة‬
‫‪ ،1998‬وتخفي�ض قيمة الدرهم مقابل العمالت الأخرى‪ ،‬والمرونة فيما‬
‫يخ�ص تحويل الدرهم‪ ،‬وذلك ب�إلغاء رخ�صة مكتب ال�صرف و�إلغاء‬
‫‪80‬‬
‫رخ�صة الت�صدير‪ ،‬و�إلغاء احتكار الدولة فيما يخ�ص ت�صدير المواد‬
‫الفالحية‪ ،‬عن طريق مكتب الت�سويق والت�صدير وتطوير البنيات‬
‫الأ�سا�سية (ط ـ ـ ـ ــرق ‪ -‬مطارات ‪ -‬موانئ‪ )...‬و�إ�صالح �سيا�سة الأثمان‬
‫والت�سويق‪ ،‬وذلك بوا�سطة �ضمان حقيقة الأثمان‪ ،‬وتخفي�ض الإعانات‬
‫العمومية للمقاوالت‪ ،‬والتقلي�ص من عدد العمال والموظفين؛ مما‬
‫قد ي�ؤدي في النهاية‪� ،‬إلى التقلي�ص من المداخيل الموزعة‪ ،‬و�إ�صالح‬
‫المالية العامة‪ ،‬وذلك من �أجل تح�سين توازن الميزانية‪ ،‬عن طريق‬
‫الرفع من المداخيل وتقلي�ص النفقات (وخا�صة نفقات اال�ستثمار)؛‬
‫و�أهم �إجراء تم في هذا ال�صدد‪ ،‬يبقى �سيا�سة الخو�ص�صة؛ �أي تخلي‬
‫الدولة عن بع�ض القطاعات االقت�صادية ل�صالح القطاع الخا�ص‪ ،‬حيث‬
‫�أعلن الملك الح�سن الثاني �أمام البرلمان �سنة ‪ ،1988‬اعتماد برنامج‬
‫الخو�ص�صة‪ ،‬كاختيار ا�ستراتيجي للتنمية االقت�صادية بالمغرب‪ ،‬وحدد‬
‫الأهداف االقت�صادية واالجتماعية؛ فالتزم المغرب بهذا البرنامج منذ‬
‫‪ ،1993‬وتم تقديمه في البداية‪ ،‬على �أنه الحل لما �آلت �إليه الأو�ضاع‬
‫االجتماعية من تراجع خطير للقدرة ال�شرائية لدى الطبقة المتو�سطة‬
‫وع�شرات الآالف من العاطلين؛ وهو ما جعل البالد ت�سرع لبيع م�ؤ�س�ساتها‬
‫�إلى القطاع الخا�ص‪ ،‬ع�ساها تنع�ش خزينة الدولة‪ ،‬وتحل �أزمة الت�شغيل‬
‫بالمغرب؛ وهو ما لم يت�أت‪ ،‬رغم تنازل الدولة على قطاعات وم�ؤ�س�سات‬
‫عمومية حيوية كثيرة‪.‬‬
‫لقد ظل القطاع العمومي ي�شغل حتى عهد حديث‪ ،‬مكانة كبيرة‬
‫في االقت�صاد الوطني‪ ،‬حيث �ضم حوالي ‪ 700‬م�ؤ�س�سة‪� ،‬أن�ش�أت على‬
‫مراحل متوا�صلة‪ ،‬منذ عهد الحماية‪ .‬وكان ما يميز هذه الوحدات‪ ،‬هو‬
‫التنوع الكبير في حجم �أن�شطتها‪ ،‬و�إطارها القانوني‪ ،‬وفروع �إنتاجها‪،‬‬
‫وطرق ت�سييرها‪ .‬وامتد ن�شاط هذه المقاوالت‪ ،‬من �إنتاج الكهرباء �إلى‬
‫الإمداد بالماء ال�صالح لل�شرب‪ ،‬ومن االت�صاالت ال�سلكية والال�سلكية‬
‫‪81‬‬
‫وو�سائل النقل �إلى ال�صناعات التحويلية و�صناعة ا�ستخراج المعادن‪،‬‬
‫و�إلى ت�سويق المنتجات الزراعية‪ ،‬ف�ضال عن القطاع المالي‪ ...‬ومن‬
‫خالل الم�ؤ�س�سات العمومية الكبرى ذات الو�سائل المتعددة‪ ،‬كالمكتب‬
‫ال�شريف للفو�سف ـ ــاط‪ ،‬وال�شركة المغربية المجهولة الإ�سـ ـ ـ ــم للتكرير‪،‬‬
‫والمكتب الوطني للكهرباء‪ ،‬و�صندوق الإيداع والتدبير‪� ...‬إلخ‪ ،‬وم�ؤ�س�سات‬
‫�أخرى متوا�ضعة ذات �إمكانيات محدودة‪ ،‬يتم ت�سييرها بطرق �شبه‬
‫�إدارية‪ ،‬كان القطاع العمومي ي�ضطلع بجانب كبير من �أن�شطة الإنتاج‪.‬‬
‫وقد �شكلت هذه الم�ؤ�س�سات في بع�ض الأحيان‪ ،‬احتكارات‪ ،‬كما كانت‬
‫تعمل في �أحيان �أخرى‪ ،‬في �إطار بيئة تناف�سية‪ ،‬على الم�ستويين الوطني‬
‫والدولي‪ ،‬لإنتاج �أنواع متعددة من ال�سلع والخدمات‪ ،‬والتي يقدم القطاع‬
‫الخا�ص بع�ضا منها �أي�ضا‪.‬‬
‫و�إذا كان تو�سع القطاع العام منذ بداية اال�ستقالل‪ ،‬قد جاء لملأ‬
‫الفراغ الذي كان يحتله الم�ستعمر الفرن�سي‪ ،‬ورغبة في �إيجاد البنيات‬
‫التحتية الالزمة االقت�صادية واالجتماعية‪ .‬لكن ذلك التو�سع لم يكن‬
‫يخ�ضع لرقابة وتدبير‪ ،‬من �ش�أنه �ضبط المداخيل والم�صاريف‪ ،‬وتطوير‬
‫الإنتاج؛ ال�شيء الذي جعل وحدات القطاع العام ت�شكل م�صدرا الغتناء‬
‫العديد من اللوبيات المرتبطة بال�سلطة المخزنية‪ ،‬وتتعر�ض بالتالي‬
‫للإفال�س وتفاقم المديونية‪ .‬وقد كر�ست المديونية و�سوء تدبير القطاع‬
‫العمومي‪ ،‬الأزمة العامة االقت�صادية والمالية التي عرفها المغرب �أواخر‬
‫عقد ال�سبعينات وبداية عقد الثمانينات‪.‬‬
‫و تعتبر �سنوات ما بعد الثمانينات وبداية الت�سعينات‪� ،‬صيرورة لما‬
‫�سبقها من الأحداث خالل عقد الثمانينات‪ ،‬حيث وا�صل المغرب تنفيذ‬
‫�إمالءات الم�ؤ�س�سات الدولية‪ ،‬وتبني عدة �إ�صالحات‪ ،‬على الم�ستويين‬
‫المالي والنقدي‪� ،‬إال �أنه تكاد الآثار الإيجابية والملمو�سة لذلك على‬
‫الو�ضع االقت�صادي للمغرب منعدمة؛ ويتحدث تقرير الخم�سينية عن‬
‫‪82‬‬
‫فترة ‪ 1988‬ـ‪ 1995‬كما يلي‪�" :‬شهدت هذه المرحلة �أ�ضعف نمو في‬
‫الخم�سين �سنة الأخيرة‪ ،‬وذلك بمعدل ‪%2,7‬؛ وقد تميزت هذه الفترة‬
‫بجفاف متواثر‪ ،‬وببطء اال�ستثمار العمومي والخ�صو�صي‪ ،‬وتدهور‬
‫تناف�سية ال�صادرات المغربية‪ ،‬بالنظر �إلى �صادرات البلدان النامية"‪.‬‬
‫ولتكري�س م�سار التنمية الم�ستدامة التي د�شنها المغرب خالل‬
‫العقد الأخير من القرن المن�صرم‪ ،‬جاء مخطط التنمية ‪ 2000‬ـ‪،2004‬‬
‫والذي كان يهدف �إلى تعديل م�سار التطور و�آليات التنمية االقت�صادية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬وو�ضع المغرب على ال�سكة ال�صحيحة للتنمية‪ ،‬والتي‬
‫ي�ستطيع من خاللها‪ ،‬ا�ستغالل كل مكوناته‪ ،‬وطاقته المادية والب�شرية‪،‬‬
‫ا�ستغالال عقالنيا‪ .‬وتتلخ�ص �أهم البرامج المقترحة في هذا الإطار‪،‬‬
‫في تح�سين �أجواء اال�ستثمار‪ ،‬وتكييف الإطار الت�شريعي والتنظيمي‬
‫والإداري مع مقت�ضيات التطور‪ ،‬وتعزيز الالمركزية‪ ،‬وتثمين الموارد‬
‫الب�شرية‪ ،‬وت�أهيل الإن�سان المغربي‪ ،‬وت�سريع �أن�ساق النمو االقت�صادي‪،‬‬
‫بهدف �إنعا�ش الت�شغيل‪ ،‬وتجويد وتح�سين م�ستوى المعي�شة‪ ،‬وت�أهيل ن�سيج‬
‫الإنتاج‪ ،‬ورفع م�ستوى التناف�سية‪ ،‬لتي�سير �إدماج البالد في المبادالت‬
‫والمعامالت الخارجية‪ ،‬وتنمية العالم القروي و�إخراجه من العزلة‬
‫والتهمي�ش‪ ،‬و�أخيرا دعم التنمية الجهوية‪ ،‬وتقلي�ص الفوارق االجتماعية‬
‫والفئوية والجغرافية والمجالية‪ ،‬وعلى نطاق التربية والتكوين‪ ،‬وفيما‬
‫بين الجهات والأقاليم‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬وبعـد �سنوات على تطبيق تو�صيات �صندوق النقد الدولي‪،‬‬
‫يقف الخبراء على االختالالت‪ ،‬ويو�صون باقتراحات‪ ،‬والتي �إن تم‬
‫تطبيقها‪ ،‬ي�ستطيع االقت�صاد الوطني ربح نقط �إ�ضافية ل�صالح‬
‫ناتجه الداخلي الخام‪ ،‬نذكر منها‪ :‬و�ضع حد للإعفاءات االمتيازات‬
‫ال�ضريبية‪ ،‬وخلق مناخ ماكرو اقت�صادي نظيف‪ ،‬مبني على المناف�سة‬
‫الحرة‪ ،‬والتقلي�ص من عجز الميزانية‪ ،‬وو�ضع حد للقيمة المرتفعة‬
‫‪83‬‬
‫للدرهم‪ ،‬وتر�شيد النفقات العامة‪ ،‬عن طريق تطوير ال�شراكة مع القطاع‬
‫الخا�ص‪ ،‬في مجاالت الفالحة والتربية والتكوين‪ ،‬والبنيات التحتية‪،‬‬
‫ومراجعة نظام ال�صرف‪ ،‬و�إنعا�ش خلق المقاوالت الخا�صة‪ ،‬وكذا الحث‬
‫على المناف�سة‪ ،‬من خالل التفعيل الجيد لـ قانون المناف�سة والأ�سعار‬
‫ومجل�س المناف�سة‪ ،‬و�إ�صالح النظام الق�ضائي‪ ،‬و�إلغاء نظام االحتكار‪،‬‬
‫والتخفيف من العبء الإداري على المقاوالت؛ كذلك عقلنة عملية‬
‫احت�ساب ال�ضرائب‪ ،‬وتو�سيع الوعاء ال�ضريبي‪ ،‬والحد من الع�شوائية‬
‫في قرارات الإدارة الجبائية‪ ،‬وتب�سيط الم�ساطر‪ ،‬و�إتباع نظام �صارم‬
‫للمراقبة‪.‬‬
‫من خالل هذا الت�شخي�ص‪ ،‬يتبين �أن الظروف االقت�صادية‬
‫للمغرب لم تكن مالئمة ل�سيا�سة االنفتاح التي �سينهجها المغرب‪،‬‬
‫باحت�ضانه وتوقيعه على االتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة‬
‫(الجات) في مراك�ش �سنة ‪ ،1995‬ثم االنطالق بعد ذلك‪ ،‬في م�سل�سل‬
‫توقيع اتفاقيات للتبادل الحر؛ �أهمها مع االتحاد الأوروبي‪ ،‬ومع الواليات‬
‫المتحدة الأمريكية‪ ،‬ومع تركيا؛ ومع ما �سمي بمجموعة �أكادير (م�صر‬
‫والأردن وتون�س)‪ .‬وي�أتي �إبرام هذه االتفاقيات‪� ،‬ضمن خيار االنفتاح‬
‫الذي �سلكه المغرب منذ بداية الثمانينات؛ انفتاح مرتبط بخ�ضوع‬
‫الدولة لتو�صيات الم�ؤ�س�سات الدولية التي تتحكم فعليا‪ ،‬و�إلى حد بعيد‪،‬‬
‫في تحديد الإ�ستراتيجيات العامة‪ ،‬خا�صة في مجال التجارة الخارجية‪،‬‬
‫بغية فتح �أ�سواق جديدة �أمام ال�صادرات المغربية‪ ،‬وجذب اال�ستثمارات‬
‫الأجنبية المبا�شرة‪.،‬‬
‫لقد حظي القطاع الفالحي في �إطار جل اتفاقيات التبادل الحر‬
‫الموقعة من طرف المغرب‪ ،‬بمعاملة خا�صة‪ ،‬حيث تم الحر�ص على‬
‫م�ستوى الت�صدير‪ ،‬على �ضمان الظروف المواتية لولوج المنتجات‬
‫الفالحية الوطنية لمختلف الأ�سواق التجارية الخارجية؛ وعلى م�ستوى‬
‫‪84‬‬
‫اال�ستيراد‪ ،‬اعتماد طريقة متحكم فيها لتحرير المنتوجات الفالحية‬
‫على مدى فترة انتقالية‪ ،‬لتفادي �إلحاق �أي �ضرر ب�سال�سل الإنتاج‬
‫الوطنية‪ ،‬وذلك من �أجل �إتاحة الوقت الكافي للمقاوالت ال�صغرى‬
‫والمتو�سطة لتح�سين تناف�سيتها‪ ،‬من �أجل اندماجها في ال�سوق العالمية؛‬
‫كما تم و�ضع �آليات م�ؤ�س�ساتية في �إطار هذه االتفاقيات‪ ،‬تتكلف بتقييم‬
‫�آثار االتفاقيات المبرمة على القطاع الفالحي؛ وتتمثل هذه الآليات في‬
‫ت�شكيل لجن م�شتركة مخت�صة بال�شق الفالحي‪ ،‬مكلفة بتتبع وتنفيذ‬
‫االتفاقيات‪ ،‬وكذا درا�سة جل الموا�ضيع ذات العالقة بال�شق الفالحي‪،‬‬
‫لإيجاد الحلول المنا�سبة‪ .‬ومن �أجل تفادي �إلحاق �ضرر بالإنتاج الداخلي‬
‫نتيجة انفتاح ال�سوق الوطنية‪ ،‬ومن �أجل تح�سين تناف�سية المقاوالت‬
‫ال�صغرى والمتو�سطة‪ ،‬تم و�ضع وتفعيل مجموعة من الآليات المواكبة‬
‫ل�سيا�سة التحرير‪ ،‬من �أهمها‪ :‬اعتماد موا�صفات الجودة والموا�صفات‬
‫ال�صحية وال�صحة النباتية‪  ،‬وتثمين المنتوجات الفالحية‪ ،‬من خالل‬
‫العمل بنظام العالمات المميزة "الم�ؤ�شرات الجغرافية والمنتجات‬
‫البيولوجية"‪ ،‬والذي ي�ضمن جودة منتجاتنا في ال�سوق المحلية‬
‫و�أ�سواق الت�صدير؛ مما �سي�ساهم من دون �شك‪ ،‬في‪ ‬تح�سين ولوج‬
‫منتجات المقاوالت الفالحية الت�ضامنية الحا�صلة على هذه العالمات‬
‫المميزة‪� ،‬إلى ال�سوق العالمية‪.‬‬
‫وبعد ع�شر �سنوات من دخول اتفاقية التبادل الحر مع تركيا حيز‬
‫التنفيذ‪ ،‬بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين ‪ 26,1‬مليار درهم �سنة‬
‫‪ ،2017‬مقابل ‪ 6,9‬مليار درهم فقط �سنة ‪ .2007‬كما بلغ معدل تغطية‬
‫ال�صادرات للواردات ‪� %35,7‬سن ـ ـ ـ ـ ــة ‪ ،2017‬م�سجال تح�سنا ملحوظا‬
‫مقارنة مع معدل ‪� %16,5‬سنة ‪ .2007‬ويعزى هذا التطور �إلى ارتفاع‬
‫ال�صادرات المغربية �إلى تركيا بن�سبة ‪ %19,7‬في المتو�سط ال�سنوي‬
‫خالل هذه الفترة مقابل ‪ %10,8‬بالن�سبة للواردات‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫‪686‬‬ ‫�أما مع مجموعة �أكادير‪ ،‬فقد بلغ حجم التبادل التجاري‬
‫مليون درهم �سنة ‪ ،2017‬مقابل ‪ 286‬مليون درهم �سنة ‪ ،2007‬وبلغ معدل‬
‫تغطية ال�صادرات للواردات ‪� %56,8‬سنة ‪ ،2017‬م�سجال تح�سنا مقارنة‬
‫مع معدل ‪� %48‬سنة ‪ .2007‬ويعزى هذا التطور �إلى ارتفاع ال�صادرات‬
‫المغربية �إلى دول مجموعة �أكادير بن�سبة ‪ %7,1‬في المتو�سط ال�سنوي‬
‫خالل هذه الفترة‪ ،‬مقابل ‪ %5,3‬بالن�سبة للواردات‪.‬‬
‫وعموما‪ ،‬ورغم التح�سن الطفيف في الح�صيلة الإجمالية للتجارة‬
‫الخارجية‪ ،‬حيث مكن تنويع ال�شركاء االقت�صاديين لبالدنا من الرفع‬
‫من وتيرة ال�صادرات‪ ،‬والتي حققت خالل الع�شر �سنوات الأخيرة‪،‬‬
‫معدالت نمو و�صلت ‪ %30‬في �إطار اتفاقية التبادل الحر مع تركيا؛ ‪%16‬‬
‫في �إطار االتفاقية الرباعية لأكادير؛ ‪ %10,6‬في �إطار اتفاقية التبادل‬
‫الحر مع االتحاد الأوروبي؛ و‪ %16,4‬فيما يخ�ص اتفاقية التبادل الحر‬
‫مع الواليات المتحدة الأمريكية‪� ،‬إال �أن العجز التجاري المزمن ال يزال‬
‫يطبع العالقات التجارية المغربية مع مختلف ال�شركاء‪.‬‬

‫‪� - 4‬أوروبا‪ ،‬المغرب والو�ضع المتقدم‬

‫ن�ش�أ التكتل الأوروبي بمقت�ضى معاهدة روما �سنة ‪1957‬؛ وجاء‬


‫العقد الموحد �سنة ‪ ،1987‬متمما لها في مجاالت هامة‪� ،‬أبرزها �إعالن‬
‫�سنة ‪1992‬؛ وهو تاريخ االنتهاء من ال�سوق الداخلية الموحدة‪ .‬وتعتبر‬
‫�سنة ‪ ،1993‬فترة نوعية في م�سار الوحدة الأوروبية‪ ،‬حيث اختفاء‬
‫المجموعة االقت�صادية الأوروبية وميالد االتحاد الأوروبي‪ ،‬بمقت�ضى‬
‫معاهدة ما�ستريخت‪ .‬ويرمي هذا االتحاد �إلى بناء ف�ضاء اقت�صادي‬
‫موحد‪ ،‬تتم المبادالت في �إطاره‪ ،‬بوا�سطة عملة موحدة‪ ،‬بعيدا عن‬
‫ت�أثير الدوالر الأمريكي‪ .‬وهكذا‪ ،‬ن�صت معاهدة ما�ستريخت على‬
‫�إن�شاء اتحاد اقت�صادي ونقدي على مراحل ثالث‪ ،‬بحيث تتم في‬
‫‪86‬‬
‫�إطاره‪ ،‬حركة كاملة للر�ساميل‪ ،‬وتحقيق اندماج بنكي‪ ،‬وتحويل كلي‬
‫للعمالت‪ ،‬و�أخيرا �إن�شاء العملة الموحدة التي ت�سبقها فترة انتقالية‪،‬‬
‫يتم خاللها الو�صول من طرف كل بلد ع�ضو �إلى �أهداف محددة في‬
‫مجال ال�سيطرة على العجز في الميزانية‪ ،‬والت�ضخم المالي‪ ،‬وعجز‬
‫الميزان التجاري‪� .‬إ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬تم �إن�شاء معهد النقد الأوروبي‬
‫الذي �شكل النواة الأ�سا�سية للبنك المركزي الأوروبي الذي يعمل على‬
‫تعميق التنا�سق بين ال�سيا�سات النقدية لدول االتحاد‪ ،‬ومراقبة ن�شاط‬
‫نظام النقد الأوروبي‪ ،‬وكذا التعاون مع البنوك المركزية الوطنية‪،‬‬
‫وذلك في محاولة تح�ضيرية لالنتقال نحو االتحاد االقت�صادي والنقدي‬
‫الذي انطلق بالفعل في فاتح يناير من �سنة ‪ ،1999‬مع دخول العملة‬
‫الأوروبية الموحدة حيز التنفيذ من طرف ‪ 16‬دولة �أع�ضاء‪ ،‬من بينها‬
‫اليونان‪ ،‬في �إطار ما ي�سمى بمنطقة الأورو؛ هذه الدول ملزمة ب�ضمان‬
‫ا�ستقرار النقد‪ ،‬من خالل �سيا�سات الميزانية‪ ،‬والحر�ص على تفادي‬
‫ظهور العجوزات المفرطة؛ لكن هذا الهدف يبقى �صعب التحقيق‪ ،‬لأن‬
‫الر�أ�سمال المالي ال �صديق وال وطن له‪ ،‬حيث يبحث عن الربح �أينما‬
‫كان وكيفما كان‪ ،‬حتى و�إن �أدى ذلك �إلى اختالال ت �أو ا�ضطرابات؛‬
‫�إنها مفارقة كبيرة‪ ،‬وتهديد خطير لنظام الأورو‪ ،‬ولتما�سك االتحاد‪،‬‬
‫ولت�ضامن �أع�ضائه‪� .‬إن خلق ف�ضاء نقدي موحد بين دول كبيرة و�أخرى‬
‫�صغيرة‪ ،‬بين دول متباينة اقت�صاديا وماليا واجتماعيا وتنمويا‪� ،‬أ�صبح‬
‫يطرح اليوم العديد من الإ�شكاالت‪ ،‬وقد يعر�ض االتحاد في الم�ستقبل‪،‬‬
‫�إلى العديد من الهزات والأزمات‪� .‬إن الم�ستفيد الأكبر اليوم من منطقة‬
‫الأورو ومن وحدة النقد‪ ،‬هي الدول الم�ؤثرة‪ ،‬مثل �ألمانيا‪ ،‬ب�صادرات‬
‫كثيرة وميزان تجاري �إيجابي جدا‪ ،‬وعلى ح�ساب الدول ال�صغرى‪ ،‬مثل‬
‫اليونان‪.‬‬
‫�إن �أي ارتب ـ ـ ـ ـ ـ ــاك في نظام الأورو يعني الت�شكيك في �صالبة‬
‫‪87‬‬
‫نظام نقدي‪ ،‬ظل ل�سنوات ينظم العالقات النقدية داخل االتحاد‪ ،‬بل‬
‫والت�شكيك في قوة تكتل يعتبر اليوم �أحد الأقطاب االقت�صادية الكبرى‬
‫في العالم‪.‬‬
‫و�إذا كان لالتحاد ميثاق يحكمه؛ وهو عبارة عن قواعد ومبادئ‬
‫والتزامات‪ ،‬على الجميع التقيد بها‪ ،‬ف�إن له كذلك مزايا عديدة‪ ،‬تتجلى‬
‫في تحقيق النمو والتنمية‪ ،‬وتكري�س الم�ساواة واال�ستقاللية والحرية‪،‬‬
‫و�إقامة بنية م�ؤ�س�ساتية موحدة‪ ،‬وتحقيق الت�ضامن بين مختلف مكونات‬
‫االتحاد؛ هذا الت�ضامن يعني �أمرين �أ�سا�سيين �إثنين‪� :‬أن ت�ستفيد جميع‬
‫مناطق المجال الموحد من النمو االقت�صادي‪ ،‬و�أن يتم بذل مجهود‬
‫�إ�ضافي لفائدة المناطق الأكثر تخلفا؛ فكرة الت�ضامن هذه تبدو‬
‫بو�ضوح في الوثيقة التي ت�ؤ�س�س المجموعة الأوروبية (وخا�صة في‬
‫ت�صدير الوثيقة) كما تظهر �أي�ضا بو�ضوح تام في جميع وثائق االندماج‬
‫االقت�صادي في �أمريكا الالتينية و�آ�سيا و�إفريقيا الغربية‪ ،‬وذلك لأن في‬
‫هذه الأجزاء من العالم‪ ،‬الفوارق والتناق�ضات بين مختلف المناطق‪،‬‬
‫كبيرة جدا‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬كيف يتم هذا الت�ضامن؟ �أي‪ :‬كيف لهذا ال�شغل ال�شاغل‬
‫من �أجل توزيع متوازن ومن�سجم لثمرات ونتائج االندماج‪� ،‬سيترجم‬
‫فعليا؟ يتم ذلك عن طريق نوعين من الإجراءات �أو الآليات‪ :‬عن طريق‬
‫�سيا�سة جهوية ترمي �إلى العناية بالمناطق الأكثر تخلفا ‪ -‬فمثال في‬
‫المجموعة الأوروبية‪ ،‬منذ ب�ضعة �سنوات‪ ،‬تمت �إقامة �سيا�سة جهوية‪،‬‬
‫رغم �أن الوثيقة لم ت�شر �إلى ذلك‪ -‬وكذلك عن طريق �إقامة م�ؤ�س�سات‬
‫مالية عمومية تكلف بتعوي�ض القطاع الخا�ص في بع�ض المناطق‪.‬‬
‫وكان طبيعيا‪ ،‬من �أجل مواجهة االختالالت والتناق�ضات الجهوية �أن‬
‫يتم التفكير في م�ؤ�س�سات عمومية تكون مهمتها تحقيق ا�ستثمارات في‬
‫المناطق الأقل تقدما‪ ،‬والتي ربما ال تجذب القطاع الخا�ص الذي يبحث‬
‫‪88‬‬
‫عن اال�ستثمارات المربحة‪ .‬لقد �أ�صبحت الحاجة اليوم ملحة �أكثر من‬
‫�أي وقت م�ضى‪� ،‬إلى التفكير في و�ضع �أ�س�س جديدة ل�سيا�سة نقدية‬
‫جهوية‪ ،‬على غرار ال�سيا�سات القطاعية الجهوية الأخرى‪.‬‬
‫يعتبر االتحاد الأوروبي �أول �شريك اقت�صادي للمغرب؛ فهو �أول‬
‫زبون بن�سبة ‪ %66,5‬من ال�صادرات المغربية‪ ،‬و�أول مورد بن�سبة ‪%56,9‬‬
‫من ال�سلع �سنة ‪ .2017‬وقد ارتفعت المبادالت التجارية بين المغرب‬
‫واالتحاد الأوروبي‪ ،‬لتبلغ ‪ 414‬مليار درهم �سنة ‪ ،2017‬مقابل ‪ 229‬مليار‬
‫درهم �سنة ‪2007‬؛ كما بلغ معدل تغطية ال�صادرات للواردات ‪%66,4‬‬
‫�سنة ‪ ،2017‬م�سجال ارتفاعا طفيفا مقارنة مع �سنة ‪ .2007‬ويعزى هذا‬
‫التطور �إلى ارتفاع ال�صادرات المغربية �إلى دول االتحاد الأوربي بن�سبة‬
‫‪ %6,2‬في المتو�سط ال�سنوي خالل هذه الفترة‪ ،‬مقابل ‪ %6,0‬بالن�سبة‬
‫للواردات‪.‬‬
‫لقد ا�ستطاع المغرب �أن ينتقل في عالقته مع االتحاد الأوروبي‪،‬‬
‫من الم�ساعدة �إلى ال�شراكة العادية �إلى ال�شراكة التف�ضيلية؛ والتي‬
‫هي و�ضعية بين ال�شراكة العادية واالن�ضمام التام الذي ال يجوز لغير‬
‫الأوروبيين ح�سب الميثاق الأوروبي؛ وهي نف�س الو�ضعية التي ي�سعى‬
‫االتحاد الأوروبي �إلى منحها �إلى عدد من الدول الأخرى‪� ،‬أغلبها ذات‬
‫بنيات اقت�صادية م�شابهة للمغرب؛ و�ضعية تتميز ب�سلة من االمتيازات‬
‫يمنحها االتحاد الأوروبي للمغرب‪ ،‬ك�شريك �إ�ستراتيجي؛ وهي في‬
‫الكثير من الأحيان لي�ست امتيازات مجانية‪ ،‬بل م�شروطة ومرتبطة بما‬
‫يحققه المغرب من تقدم في المجال ال�سيا�سي والحقوقي‪ ،‬وما يعتمده‬
‫من �إ�صالحــات �سيا�سية واقت�صادية واجتماعية‪ ...‬تفر�ضها الو�ضعية‬
‫المتقدمة‪ ،‬من مالئمة الت�شريعات حتى تطابـ ـ ـ ــق المعايير الأوروبية‪،‬‬
‫وذلك بهدف تحقيق نوع من التقارب بين الطرفين؛ �إنها �سيا�سة تابثة‬
‫‪89‬‬
‫وخيار �إ�ستراتيجي‪ ،‬يدخل �ضمن عالقات يراد لها �أن تكون متميزة‬
‫وتف�ضيلية و�إ�ستراتيجية‪.‬‬
‫يحاول االتحاد الأوروبي اال�ستفادة من االنفتاح الكبير والمزايا‬
‫العديدة التي �أ�صبح يتوفر عليها المغرب اليوم‪� .‬صحيح �أن االتحاد‬
‫الأوروبي اليوم في �أزمة‪ ،‬ويحاول تجاوزها بجميع الو�سائل؛ �أزمة اقت�صادية‬
‫واجتماعية‪ ،‬مناخ اقت�صادي غير م�ستقر‪ ،‬تراجع في معدل النمو‪،‬‬
‫انخفا�ض في حجم المبادالت التجارية‪ ،‬وكذا في تدفقات اال�ستثمارات؛‬
‫�إ�ضافة �إلى معدالت ت�ضخم مرتفعة جدا؛ �صحيح كذلك �أن هناك اليوم‬
‫دوال �أوروبية في �أم�س الحاجة �إلى الدعم والم�ساندة �أكثر من غيرها‪،‬‬
‫مثل اليونان مثال‪ ،‬وذلك في �إطار ال�سيا�سة الت�ضامنية لالتحاد؛ لكن‬
‫هذا ال يمنع من الحفاظ على العالقات الأوروبية المغربية في م�ستوى‬
‫جيد ومكانة متميزة‪.‬‬
‫ولقد كان المغرب �سباقا للح�صول على هذه الو�ضعية المتميزة‬
‫التي تبين المكانة التي يحظى بها المغرب داخل هذا التكتل؛ فهو‬
‫�أول بلد من جنوب المتو�سط ي�ستفيد من هذا الو�ضع المتقدم؛ الأمر‬
‫الذي يعتبر بمثابة �شهادة اعتراف من الجانب الأوروبي لما يقوم به‬
‫من �إ�صالحات �أ�سا�سية‪ ،‬ومن مبادرات جريئة‪ ،‬وخا�صة في ال�سنوات‬
‫الأخيرة‪ ،‬والتي همت العدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد من القطاعات ال�سيا�سية والحقوقية‬
‫واالقت�صادية واالجتماعية‪.‬‬
‫هناك اليوم من دون �شك‪ ،‬تحديات عديدة تواجه المغرب‪ ،‬لكن‬
‫هناك في المقابل‪ ،‬تحديات �أخرى �أعمق‪ ،‬تواجه االتحاد الأوروبي‪،‬‬
‫وهناك ق�ضايا عديدة ذات االهتمام الم�شترك بين الطرفين؛ واليوم‪،‬‬
‫�أ�صبح من ال�ضروري مناق�شة هذه الق�ضايا لتقييم و�ضعية ال�شراكة‬
‫االقت�صادية والمالية بين االتحاد الأوروبي والمغرب و�آفاق تطورها‪،‬‬
‫وبناء العالقة بين االتحاد الأوروبي والمغرب على �أ�س�س جديدة وقوية‬
‫‪90‬‬
‫ووا�ضحة كذلك‪ ،‬ته ــم قطاعات عديدة‪ ،‬تتعلق بالمقاولة وبالفالحة‬
‫والن�سيج والمالب�س وبولوج ال�سوق الأوروبية والمغربية على ال�سواء؛‬
‫هناك كذلك ق�ضية ال�صحراء المغربية وم�شروع الحكم الذاتي الذي‬
‫يطرحه المغرب اليوم‪ ،‬من �أجل �إيجاد حل �سيا�سي وواقعي ومتوافق‬
‫عليه؛ هناك ق�ضية الإرهاب الدولي وفي �إفريقيا جنوب ال�صحراء‬
‫ب�شكل خا�ص‪ ،‬والمجهودات التي يمكن �أن تبدل من �أجل الت�صدي له؛‬
‫هناك جالية مغربية وا�سعة مقيمة ب�أوروبا وما تطرحه من �إ�شكاالت‬
‫ذات االهتمام الم�شترك؛ وهناك كذلك الهجرة ال�سرية وحماية الحدود‬
‫بين الطرفين‪.‬‬
‫لقد غيرت الأزمة االقت�صادية الأخيرة العديد من المفاهيم‪،‬‬
‫وع�صفت بالكثير من الم�سلمات‪ ،‬ظلت قائمة ل�سنوات عديدة‪ .‬اليوم‪،‬‬
‫وجب على بلد �صاعد كالمغرب �أن يعتمد على ذاته؛ �صحيح عليه �أن‬
‫يحافظ على عالقات متميزة مع تكتل كبير ورائد عالميا‪ ،‬مثل االتحاد‬
‫الأوروبي‪ ،‬ولكن عليه كذلك في الوقت نف�سه‪� ،‬أن يبني ذاته؛ وهذا هو‬
‫ما يقوم به المغرب اليوم‪ ،‬حيث هناك �إرادة كبيرة‪ ،‬وعقلية جديدة‪،‬‬
‫ووعي جماعي‪ ،‬وانخراط �شامل من طرف الجميع‪ ،‬و�إجماع وطني‬
‫منقطع النظير؛ كما �أن هناك �إيمان عميق ب�ضرورة النهو�ض بالأو�ضاع‬
‫ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية والثقافية والبيئية‪ ...‬ببالدنا‪.‬‬

‫‪ - 5‬الـتـبادل الـحـر بـيـن المـغـرب و�أمريكا‬

‫لي�س من قبيل ال�صدف �أن تمتاز العالقات المغربية الأمريكية‬


‫بكل هذه الحميمية واال�ستمرارية؛ فالمغرب كان �أول بلد بادر �إلى‬
‫االعتراف ب�أمريكا بعد ا�ستقاللها �سنة ‪ ،1776‬عقب حرب ال�ست �سنوات‬
‫�ضد بريطانيا‪ ،‬في وقت لم يجرئ �أي بلد �آخر قبله على الإطالق‪ ،‬حتى‬
‫من جيرانها القريبين منها‪ ،‬على اتخاذ موقف مماثل‪ .‬وبذلك‪ ،‬تعتبر‬
‫‪91‬‬
‫هذه المبادرة من قبل المغرب‪ ،‬بداية ر�سمية للعالقات ال�سيا�سية بين‬
‫البلدين‪.‬‬
‫لقد وقف المغرب �إلى جانب �أمريكا في حروبها الأهلية‪ ،‬عندما‬
‫�أراد بع�ض الأمريكيين االنف�صال عنها‪ ،‬حيث ظل المغرب مت�شبتا‬
‫بموقفه الراف�ض لمحاوالت ت�شطير �أمريكا‪ ،‬وم�ؤكدا على وحدة ترابها‪،‬‬
‫وتما�سك جميع �أطرافها‪ ،‬عندما ا�ستجابت ال�سلطة المغربية �آنذاك‬
‫لطلب الأمريكيين ب�ش�أن متابعة االنف�صاليين الذين حطوا بمدينة‬
‫طنجة؛ كما لم ت�سمح لهم بر�سو �سفنهم بمرا�سي البالد حين و�صولهم؛‬
‫موقف المغرب هذا تجاه بلد بعيد عنه ك�أمريكا‪ ،‬يمكن اعتباره �إرثا‬
‫دبلوما�سيا وتراثا �سيا�سيا‪ ،‬ونموذجا للتعاون التنائي الم�شترك عز‬
‫نظيره‪ ،‬يجب تثمينه و�إحيائه والتعريف به في العالم‪ ،‬بل وا�ستثماره‬
‫ل�صالح ق�ضايانا العادلة‪ ،‬كما يمكن اعتباره كذلك بمثابة دين ثقيل‬
‫لدى الأمريكان تجاه المغرب؛ دين دائم ومتوا�صل عبر الأجيال‪ ،‬من‬
‫المفرو�ض �أن يمنعهم من اتخاذ �أي موقف �أو مباركة �أي قرار‪ ،‬من‬
‫�ش�أنه �أن ي�ضر بم�صالح المغرب ويم�س ب�سيادته ووحدة �أرا�ضيه‪.‬‬
‫وبعد تحرير وثيقة المطالبة با�ستقالل المغرب �سنة ‪،1944‬‬
‫�أر�سلت ن�سخة �إلى الواليات المتحدة الأمريكية للإطالع عليها‪ .‬وفي‬
‫�سنة ‪ ،1956‬كان الرئي�س الأمريكي �إيزنهاور �أول زعيم يعين �سفيرا له‬
‫بالمغرب‪ .‬وبذلك‪ ،‬تكون �أمريكا بدورها �أول دولة تعترف عمليا بالمغرب‬
‫الم�ستقل‪ .‬ومنذ ذلك الحين‪ ،‬واالت�صال قائم ببين الطرفين‪ ،‬في �إطار‬
‫من الود والتقدير واالحترام المتبادل‪.‬‬
‫لقد تعددت مجاالت التعاون بين المغرب و�أمريكا‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل عدة اتفاقيات تم التوقيع عليها بين الجانبين؛ لعل �أبرزها‬
‫اتفاقية التعاون الثقافي والتربوي‪ ،‬والتي تهدف �إلى ت�سهيل التعاون‬
‫الجامعي والتبادل الثقافي لفائدة رعايا البلدين‪ ،‬والتي انعقد بموجبها‬
‫‪92‬‬
‫في �سنة ‪� ،1982‬أول اجتماع لما �سمي م�ؤ�س�سة مغربية �أمريكية للتعاون‬
‫الثقافي‪ .‬وفيما بعد‪ ،‬ولأهمية هذه الم�ؤ�س�سة‪ ،‬قبل رئي�س الواليات‬
‫المتحدة الأمريكية �أن يكون رئي�سا فخريا لها‪ ،‬كما قبل الملك محمد‬
‫ال�ساد�س �أن يكون رئي�سها ال�شرفي‪.‬‬
‫وق�صد تحقيق التوازن في العالقات بين الواليات المتحدة‬
‫الأمريكية والمغرب‪ ،‬تم منذ منت�صف ال�سبعينات‪ ،‬ال�شروع في تو�سيع‬
‫عالقاتهما االقت�صادية‪ ،‬والتي ظلت لفترة طويلة‪ ،‬مت�أخرة جدا وتعي�ش‬
‫تهمي�شا ملحوظا‪ ،‬ومحرومة من الهياكل والو�سائل الكفيلة ب�إعطائها‬
‫بعدا نوعيا وطموحا‪ ،‬وفي م�ستوى التعاون ال�سيا�سي القائم بين البلدين؛‬
‫فجاء التوقيع �سنة ‪ 1975‬على اتفاقية لتفادي االزدواج ال�ضريبي؛‬
‫وفي �سنة ‪ ،1985‬على اتفاقية لت�شجيع اال�ستثمارات؛ كما بد�أ المغرب‬
‫يطبق معايير للتخفيف من العراقيل‪ ،‬من �أجل الرفع من اال�ستثمارات‬
‫والتجارة؛ مما قد يفتح معه المجال وا�سعا �أمام اال�ستثمارات الأمريكية‪،‬‬
‫وخا�صة عقب الزيارة التي قامت بها "بعثة هيئة اال�ستثمارات في‬
‫القطاع الخا�ص لما وراء البحار" للمغرب �سنة ‪ .1989‬وفي �سنة ‪،1995‬‬
‫تم �إبرام اتفاقية �إطار‪ ،‬تن�ص على خلق مجل�س مغربي �أمريكي للتجارة‬
‫واال�ستثمار‪ ،‬بهدف فتح �آفاق جديدة في مجاالت تطوير المبادالت‬
‫التجارية وجلب اال�ستثمارات‪ .‬وفي �سنة ‪ ،1998‬تم التوقيع على مبادرة‬
‫"�إيزن�شتاين" متعددة الأطراف‪ ،‬والتي ركزت على المجال المغاربي‬
‫كمنطقة مندمجة‪ ،‬وعلى القطاع الخا�ص كقاطرة للتنمية‪.‬‬
‫وفور اعتالء الملك محمد ال�ساد�س عر�ش المملكة‪ ،‬قام في �سنة‬
‫‪ ،2000‬ب�أول زيارة ر�سمية له لأمريكا‪� ،‬سعى من خاللها �إلى تحقيق‬
‫�شراكة �إ�ستراتيجية‪ ،‬انطالقا من رغبته الأكيدة في الرفع من م�ستوى‬
‫العالقات االقت�صادية �إلى م�ستوى العالقات ال�سيا�سية‪ ،‬حيث تكلم‬
‫جاللته مخاطبا الأمريكيين‪ ..." :‬و�إني �أثمن في هذا ال�سياق‪� ،‬إرادتنا‬
‫‪93‬‬
‫الم�شتركة في �إعطاء عالقات بلدينا الثنائية الممتازة‪ ،‬مزيدا من‬
‫الو�ضوح واالت�ساع واالزدهار‪ ،‬من خالل تحقيق اتفاقية التبادل الحر‬
‫التي �ستمكن عالقاتنا ال�سيا�سية من عمق اقت�صادي"‪.‬‬
‫وفي هذا الإطار‪ ،‬واعتبارا لما ت�سميه الواليات المتحدة الأمريكية‬
‫"بدائرة التنمية المت�سعة"‪ ،‬تم التوقيع بوا�شنطن في ‪ 15‬يونيو ‪،2004‬‬
‫على اتفاق للتبادل الحر‪ ،‬وذلك تكري�سا وتعميقا للعالقات المتميزة بين‬
‫البلدين عبر التاريخ من جهة‪ ،‬واختبارا حقيقيا من جهة �أخرى‪ ،‬لقيا�س‬
‫الرغبة في دعم ال�شراكة االقت�صادية‪� ،‬إلى جانب ال�شراكة ال�سيا�سية‪،‬‬
‫والتي تتمثل �أ�سا�سا في تطابق المواقف وتناغم وجهات النظر‪ ،‬تجاه‬
‫العديد من الق�ضايا في العالم‪.‬‬
‫و�إذا كان هذا االتفاق يت�سم ب�شموله لمختلف المجاالت االقت�صادية‬
‫وال�سيا�سية واالجتماعية والحقوقية والعلمية والثقافية‪ ،‬ويمنح �إمكانات‬
‫هائلة للن�شاط االقت�صادي والتجاري والمالي والإنتاجي‪ ،‬في كال‬
‫البلدين‪ ،‬من دون قيود حمائية‪ ،‬جمركية �أو �إدارية �أو تف�ضيلية‪� ،‬إال‬
‫في حاالت ا�ستثنائية جدا‪ ،‬تهم �أ�سا�سا قطاعات الفالحة والن�سيج‬
‫والمالب�س و�صناعة الأدوية والقطاع المالي وخدمات الت�أمين في‬
‫النقل البحري والجوي والطرقي‪ ...‬ف�إنه لم تواكبه‪ ،‬في الوقت ذاته‪،‬‬
‫وبالموازاة معه‪� ،‬أي تعبئة من طرف الدولة والمقاوالت والم�ؤ�س�سات‬
‫العمومية والجمعيات‪ ...‬وذلك من �أجل فهم فحواه والوقوف على‬
‫�أهميته‪ ،‬وعلى الفر�ص التي يتيحها والرهانات التي يفرزها والتحديات‬
‫التي يطرحها؛ لأن الجميع هنا معني‪� ،‬سواء المنتجين �أو الم�ستهلكين‬
‫�أو ال�سيا�سيين �أو الحزبيين �أو النقابيين �أو المفكرين �أو الأكاديميين �أو‬
‫العمال �أو الم�أجورين‪ ...‬كما لم تواكبه منذ البداية �أي �إجرءات عملية‬
‫موازية‪ ،‬كفيلة بتدبير المرحلة االنتقالية‪ ،‬قبل الو�صول �إلى المراحل‬
‫النهائية؛ كما جاء هذا االتفاق في ظل تفاوت اقت�صادي وتكنولوجي‬
‫‪94‬‬
‫وتجاري و�صناعي وثقافي كبير جدا‪ ،‬بين البلدين‪ ،‬وفي غياب تام لأي‬
‫�إ�صالحات اقت�صادية و�سيا�سية و�إدارية وقانونية وم�ؤ�س�ساتية وهيكلية‪،‬‬
‫تمكن من �ضمان ال�شفافية في تفويت ال�صفقات العمومية‪ ،‬والق�ضاء‬
‫على الر�شوة‪ ،‬و�إ�صالح منظومة العدالة‪ ،‬كما كان يطالب بذلك دائما‬
‫ال�شركاء الأمريكيون‪ ،‬وفي غياب كذلك لأي دعم مالي مقدر من طرفهم‬
‫‪ -‬با�ستثناء بع�ض الدعم التقني المحدود جدا ‪ -‬قد ي�ساهم في ت�أهيل‬
‫الن�سيج االقت�صادي‪ ،‬وتنويعه وتقويته‪ ،‬والرفع من طاقاته الإنتاجية؛‬
‫مما قد ينتج عنه امتالك المغرب لمقومات ومزايا ن�سبية وتناف�سية‬
‫معتبرة‪ ،‬تمكنه �أوال من اال�ستجابة لطلبيات ال�سوق الأمريكية الوا�سعة‪،‬‬
‫ثم بعد ذلك‪ ،‬غزو الأ�سواق الخارجية‪ ،‬وبالتالي تحقيق ربح اقت�صادي‬
‫�أكيد‪ ،‬يتيح له تعزيز موقعه في عالقاته ال�سيا�سية والدبلوما�سية‪ ،‬الإقليمية‬
‫والدولية‪.‬‬
‫منذ دخول اتفاقية التبادل الحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر بين المغرب والواليات‬
‫المتحدة الأمريكية حيز التنفيذ‪ ،‬ارتفعت المبادالت التجارية للمغرب‬
‫مع الواليات المتحدة الأمريكية ب�شكل كبير‪ ،‬لتنتقل من ‪ 18,4‬مليار‬
‫درهم �سنة ‪� 2007‬إلى ‪ 39,7‬مليار درهم �سنة ‪ ،2017‬و�شكلت ما يناهز‬
‫‪ %5,8‬من �إجمالي المبادالت التجارية الخارجية لبالدنا؛ كما بلغ‬
‫معدل تغطية ال�صادرات للواردات ‪� %32,7‬سنة ‪ ،2017‬م�سجال تح�سنا‬
‫ملحوظا‪ ،‬مقارنة مع معدل ‪� %19,4‬سنة ‪ .2007‬ويعزى هذا التطور �إلى‬
‫ارتفاع ال�صادرات المغربية �إلى الواليات المتحدة الأمريكية بن�سبة‬
‫‪ %12,6‬في المتو�سط ال�سنوي خالل هذه الفترة‪ ،‬مقابل ‪ %6,8‬بالن�سبة‬
‫للواردات‪.‬‬
‫�إن �ضعف القطاع الإنتاجي‪ ،‬مع تعر�ضه لعنف المناف�سة الخارجية‪،‬‬
‫يكمن من جهة‪ ،‬في القطاع الإنتاجي نف�سه‪ ،‬ومن جهة �أخرى‪ ،‬في المناخ‬
‫االقت�صادي والم�ؤ�س�سي المحيط به‪ .‬وكما �أن االنفتاح يمكن �أن يخلق‬
‫‪95‬‬
‫دينامية جديدة ويحرر المبادرات‪ ،‬ويخلق الفر�ص الجديدة للإنتاج‬
‫والأعمال‪ ،‬ف�إنه ي�ؤدي كذلك‪ ،‬في الوقت نف�سه‪� ،‬إلى اال�صطدام بجمود‬
‫البنيات‪ ،‬وخلق �صعوبات لقطاعات �إنتاجية مهمة‪ ،‬ويكون �سببا في تفاقم‬
‫البطالة؛ كما ت�ؤدي �إعادة هيكلة القطاع الإنتاجي‪� ،‬إلى انهيار مجموعة‬
‫من المقاوالت الغير قادرة على المناف�سة‪ .‬ومن جهة �أخرى‪� ،‬سي�ؤدي‬
‫التخلي التدريجي عن موارد جبائية‪ ،‬خ�صو�صا الجمركية منها‪ ،‬لخلق‬
‫االن�سجام الجبائي بين المغرب و�شركائه‪� ،‬إلى حرمان خزينة الدولة‬
‫من موارد مالية‪ ،‬هي في �أم�س الحاجة �إليها‪ ،‬لتعزيز القدرة التناف�سية‬
‫لن�سيجها الإنتاجي‪ ،‬وخلق التجهيزات الالزمة‪ ،‬ال�ستقبال اال�ستثمار‬
‫المحلي والدولي‪ .‬ومن دون القيام بالإجراءات ال�ضرورية‪ ،‬الخا�صة‬
‫بهيكلة قطاع الإنتاج‪ ،‬قام المغرب بالتوقيع على اتفاقيات للتبادل الحر‪،‬‬
‫م�سرعا بذلك وثيرة اندماج اقت�صاده في المحيط الإقليمي والعالمي؛‬
‫ويمكن لهذا االختيار �أن يكون �صائبا‪ ،‬باعتبار �أن توقيعه تم مع �شركاء‬
‫اقت�صاديين‪ ،‬لهم وزنهم على ال�صعيد االقت�صادي العالمي‪.‬‬
‫بعد هـ ـ ـ ــذه القراءة المقت�ضبة‪ ،‬نخل�ص مما �سبق‪� ،‬إلى ا�ستنتاج‬
‫واحد ووحيد‪ ،‬هو �أن هذه الإ�ستراتيجية التنموية التي نهجها المغرب‬
‫خالل الن�صف قرن الما�ضي (ب�إخفاقاتها ونجاحاتها) بقيت عاجزة‪� ،‬أو‬
‫لنقل متباينة مع طموحات ومتطلبات ومطالب الجماهير ال�شعبية؛ مما‬
‫حتم �ضرورة الإ�سراع ب�إعادة النظر في هذه الإ�ستراتيجية‪ ،‬ومحاولة‬
‫البحث على �سبل ل�سيا�سة تنموية جديدة ومتطورة‪ ،‬تمليها �إرها�صات‬
‫ومتطلبات المرحلة‪� ،‬سواء على الم�ستوى الداخلي �أو على الم�ستوى‬
‫الخارجي؛ فبتوجيهات ملكية بالأ�سا�س‪ ،‬اتخذ المغرب عدة مبادرات‪،‬‬
‫تهم العديد من القطاعات‪ ،‬بهدف النهو�ض بالأو�ضاع االجتماعية‬
‫للمغاربة؛ لعل �أهمها مبادرة التنمية الب�شرية‪ ،‬كت�صور بديل وحديث‬
‫لم�س�ألة التنمية الب�شرية في المغرب‪� ،‬إلى جانب المخططات المتو�سطة‬
‫‪96‬‬
‫المدى؛ كالمخطط الأخ�ضر للفالحة‪ ،‬والمخطط الأزرق لل�سياحة‪،‬‬
‫ومخطط المغرب الرقمي‪ ،‬والميثاق الوطني للإقالع االقت�صادي‪،‬‬
‫ومخطط ت�سريع التنمية ال�صناعية‪ ،‬و�سيا�سة الطاقات المتجددة‪.‬‬

‫‪ - 6‬المبادرة الوطنية للتنمية الب�شرية‬

‫جاء الخطاب الملكي حول المبادرة الوطنية للتنمية الب�شرية في‬


‫�إطار مناخ وطني مليء بالتطورات والتغيرات‪ ،‬كان منطلقها �أحداث ‪16‬‬
‫ماي ‪ ،2003‬والتي خلفت �صدمة في �أو�ساط المجتمع المغربي‪ ،‬ونقا�شا‬
‫حادا حول �أ�سبابها الحقيقية‪ ،‬وما تمخ�ض عنها من تحليالت‪� ،‬أو�صلت‬
‫�إلى حقيقة العجز الكبير الحا�صل على الم�ستوى االجتماعي‪ ،‬خ�صو�صا‬
‫�أن كل المنفذين ينحدرون من منطقة معروفة به�شا�شتها وفقرها؛‪ ‬وقد‬
‫�أ�س�س الخطاب المرجعي للمبادرة الوطنية للتنمية الب�شرية لـ ‪ 18‬ماي‬
‫‪ ، 2005‬لأهم الدوافع والمبررات التي التي قد تكون �ساهمت في �إنتاج‬
‫هذه الأحداث؛ ومما جاء فيه‪�" :‬إن الأمر يتعلق بالمع�ضلة االجتماعية‬
‫التي نعتبرها بمثابة التحدي الأكبر لتحقيق م�شروعنا المجتمعي‬
‫التنموي‪ ،‬والتي قررنا بعون اهلل وتوفيقه‪� ،‬أن نت�صدى لها ب�إطالق‬
‫مبادرة طموحة وخالقة با�سم المبادرة الوطنية للتنمية الب�شرية"‪.‬‬
‫يت�ضح �أن الم�شكلة تكمن في النق�ص الحا�صل على م�ستوى‬
‫الم�ؤ�شرات االجتماعية التي طالت ميادين متعددة‪ ،‬والتي تتطلب‬
‫�ضرورة و�ضع برنامج متكامل ومتنا�سق و�شمولي‪ ،‬وم�ؤ�س�س على مقاربات‬
‫حديثة‪ ،‬وقادر على اال�ستجابة لطموحات مجتمع �أ�صبحت فيه ظواهر‬
‫البطالة والفقر والإق�صاء والتهمي�ش والأمية‪ ،‬متف�شية ب�شكل كبير‪.‬‬
‫و�ضعت المبادرة الوطنية للتنمية الب�شرية ك�أفق �إ�ستراتيجي‬
‫لها‪ ،‬العمل في ثالث واجهات �أ�سا�سية‪ ،‬وهي‪ :‬محاربة الفقر والأمية‪،‬‬
‫‪97‬‬
‫خا�صة في الو�سط القروي‪ ،‬ومحاربة الإق�صاء االجتماعي واالقت�صادي‬
‫في المجال الح�ضري‪ ،‬ثم محاربة اله�شا�شة والتهمي�ش؛ هذه البرامج‬
‫الثالثة يمكن �إدراجها فيما يمكن اال�صطالح على ت�سميته بالبرنامج‬
‫العمودي للمبادرة؛ وهو برنامج كما يدل على ذلك محتواه يتكامل في‬
‫عنا�صر تدخالته‪� ،‬سواء بالن�سبة للو�سط القروي �أو المجال الح�ضري‪،‬‬
‫و�أي�ضا في تبنيه لمقاربة التدخل الذي يروم في نف�س الوقت‪� ،‬إعطاء‬
‫العناية الخا�صة للفئات التي تعاني من اله�شا�شة الق�صوى والتهمي�ش؛‬
‫�إلى جانب هذا البرنامج العمودي‪� ،‬أوجدت المبادرة برنامجا �أفقيا‪،‬‬
‫يروم بالأ�سا�س �إيجاد �صيغة للتدخل المتعدد الأوجه‪ ،‬لي�س فقط بالن�سبة‬
‫للبرامج الثالثة ال�سابقة‪ ،‬بل باعتماد المقاربة الوطنية ال�شاملة؛ �إذ �أنه‬
‫�سيهم مجموع التراب الوطني‪ ،‬و�سي�شكل قناة الربط والتوجه والت�أطير‬
‫والمواكبة للبرنامج العمودي‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬يقول الملك محمد ال�ساد�س في خطاب العر�ش‪ ،‬بتاريخ‬
‫‪ 31‬يوليوز ‪" :2017‬ف�إذا كنا قد نجحنا في العديد من المخططات‬
‫القطاعية‪ ،‬كالفالحة وال�صناعة والطاقات المتجددة‪ ،‬ف�إن برامج‬
‫التنمية الب�شرية والترابية‪ ،‬التي لها ت�أثير مبا�شر على تح�سين ظروف‬
‫عي�ش المواطنين‪ ،‬ال ت�شرفنا‪ ،‬وتبقى دون طموحنا"‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬تنطلق الي ـ ـ ــوم الن�سخة الثالثة للمبادرة الوطنية للتنمية‬
‫الب�شرية‪ ،‬والتي تهدف �إلى �صيانة الكرامة‪ ،‬وتح�سين ظروف العي�ش‪،‬‬
‫وذلك عبر تدارك الخ�صا�ص على م�ستوى البنيات التحتية‪ ،‬والخدمات‬
‫الأ�سا�سية االجتماعية‪ ،‬ومواكبة الأ�شخا�ص في و�ضعية ه�شا�شة؛ ف�ضال‬
‫عن تح�سين الدخل والإدماج االقت�صادي لل�شباب‪ .‬وترتكز المبادرة‬
‫الجديدة على �أربعة مبادئ رئي�سية‪ ،‬وهي‪ :‬تكري�س ثقافة م�شتركة‪،‬‬
‫من خالل اعتماد منهجية تهدف �إلى تعبئة الجمعيات وال�ساكنة‬
‫والمنتخبين والإدارات؛ وحكامة ترابية على كافة الم�ستويات‪ ،‬مع‬
‫‪98‬‬
‫تحديد �أمثل للأدوار والم�س�ؤوليات‪ ،‬في ان�سجام مع متطلبات الجهوية‬
‫المتقدمة والالتمركز الإداري؛ ثم تحقيق االلتقائية بين مختلف تدخالت‬
‫القطاعات العمومية‪ ،‬لت�شجيع متابعة �أف�ضل للم�شاريع‪ ،‬والتخ�صي�ص‬
‫الأمثل للموارد بين الجهات والبرامج؛ ف�ضال عن متابعة الأثر‪ ،‬بف�ضل‬
‫�أداة تدبير مندمجة على كافة الم�ستويات‪.‬‬

‫‪ - 7‬المخطط الأخ�ضر للفالحة‬

‫تعتبر الفالحة قطاعا �إ�ستراتيجيا‪ ،‬بالنظر �إلى �أهميته‪� ،‬سواء‬


‫على الم�ستوى االقت�صادي �أو االجتماعي؛ فعلى الم�ستوى االقت�صادي‪،‬‬
‫ي�ساهم هذا القطاع ب�شكل مهم في الناتج الوطني الداخلي الخام‬
‫(ارتفاع الناتج الداخلي الإجمالي الفالحي المتو�سط ما بين ‪2008‬‬
‫و‪� 2015‬إلى ‪ 102‬مليار درهم‪ ،‬وذلك بزيادة ‪ ،%37‬مقارنة مع الفترة بين‬
‫‪ 2000‬و‪� ،)2008‬أما على الم�ستوى االجتماعي‪ ،‬فيعتبر القطاع الفالحي‪ ‬‬
‫الم�ساهم الأ�سا�سي في توفير فر�ص ال�شغل بالو�سط القروي‪ ،‬حيث‬
‫�إن ثالث �أرباع ال�ساكنة مداخيلها من الفالحة التي ت�ساهم لوحدها‪،‬‬
‫بن�سبة ال تقل عن ‪ %39‬من مجموع عرو�ض العمل‪ ،‬و‪ %74‬من الت�شغيل‬
‫القروي‪ ،‬دون �إغفال دورها في توفير الأمن الغذائي لبالدنا‪.‬‬
‫ولأهمية الفالحة في االقت�صاد الوطني‪ ،‬جاء مخطط المغرب‬
‫الأخ�ضر‪ ،‬والذي الذي �أعطى انطالقته الملك محمد ال�ساد�س‪ ،‬بتاريخ‪22 ‬‬
‫�أبريل ‪ ،2008‬بمدينة مكنا�س‪ ،‬ك�إ�ستراتيجية طموحة تهدف �إلى جعل‬
‫الفالحة المحرك الأ�سا�سي للتنمية االقت�صادية‪ ،‬و�أداة فعالة لمحاربة‬
‫الفقر‪ ،‬عبر الرفع من م�ستوى عي�ش ال�ساكنة القروية؛ ويهدف هذا‬
‫المخطط �إلى مواجهة العراقيل والمعيقات التي كانت تواجه القطاع‬
‫الفالحي‪ ،‬والتي يمكن تلخي�صها في‪� :‬ضعف اال�ستثمار في القطاع‬
‫الفالحي‪ ،‬و�ضعف التنظيم المهني‪ ،‬و�شبه غياب للتنظيمات البيمهنية‪،‬‬
‫‪99‬‬
‫وتق�سيم ال�ضيعات الفالحية‪ ،‬وتعقد الأو�ضاع القانونية للأرا�ضي‪،‬‬
‫وم�شاكل في ت�سير ال�ضيعات وت�أطير الفالحين‪ ،‬و�ضعف �أوعدم انتظام‬
‫الت�ساقطات‪ ،‬و�ضعف تثمين المياه؛ �إ�ضافة �إلى هيمنة زراعة الحبوب‪.‬‬
‫في هذا الإطار‪ ،‬ومن �أجل مواجهة هذه المعيقات‪ ،‬تم �إطالق‬
‫�إ�ستراتيجية مخطط المغرب الأخ�ضر‪ ،‬بهدف ع�صرنة وتطوير القطاع‬
‫الفالحي‪ ،‬وكذا مواجهة تحديات الأمن الغذائي والمناف�سة العالمية؛‬
‫و�سيتم تنزيلها‪ ،‬عبر مخططات فالحية جهوية‪ ،‬تعتبر بمثابة خارطة‬
‫طريق للتنمية الفالحية على م�ستوى الجهات‪.‬‬
‫يعتمد مخطط المغرب الأخ�ضر على اال�ستثمار والتنظيم؛‬
‫ويتمحور حول �سبع �أ�س�س رئي�سية‪ :‬جعل الفالحة �أهم قاطرة للتنمية‬
‫بالمغرب خالل ‪ 10‬ـ‪� 15‬سنة المقبلة‪ ،‬وتبني التجميع كنموذج لتنظيم‬
‫القطاع الفالحي‪ ،‬و�ضمان تنمية الفالحة في مجملها من دون �أي‬
‫�إق�صاء‪ ،‬و�ضمان ا�ستدامتها‪ ،‬وت�شجيع اال�ستثمار الخا�ص‪ ،‬واعتماد‬
‫مقاربة تعاقدية لتنفيذ �إ�ستراتيجيته؛ بالإ�ضافة �إلى �إ�صالح الإطار‬
‫القطاعي؛ كما يرتكز المخطط على دعامتين �أ�سا�سيتين‪ :‬الأولى موجهة‬
‫�إلى الفالحة الع�صرية ذات �إنتاجية �أو قيمة م�ضافة عالية‪ ،‬في المناطق‬
‫ذات م�ؤهالت فالحية مهمة؛ وتهم تطوير فالحة رائدة‪ ،‬ت�ستجيب‬
‫لقواعد ال�سوق‪ ،‬اعتمادا على موجة من اال�ستثمارات الخا�صة‪ ،‬ويتم‬
‫في �إطارها تمويل �إنجاز ما بين ‪� 700‬إلى ‪ 900‬م�شروع بكلفة تتراوح ما‬
‫بين ‪ 10‬و‪ 15‬مليار �سنويا؛ والدعامة الثانية تهم الفالحة الت�ضامنية في‬
‫مناطق الجبال والواحات والمناطق البورية؛ وترمي �إلى تطوير مقاربة‬
‫لمحاربة الفقر‪ ،‬بالزيادة من دخل الفالح الأكثر ه�شا�شة‪ ،‬وخا�صة‬
‫بالمناطق النائية؛ ويتم في هذا الإطار‪ ،‬تمويل �إنجاز ‪� 300‬إلى ‪400‬‬
‫م�شروع اجتماعي �ضمن مخطط جهوي‪ ،‬يروم تحويل الفالحين الأكثر‬
‫ه�شا�شة من زراعة الحبوب �إلى زراعات ذات قيمة عالية و�أقل ت�أثرا من‬
‫‪100‬‬
‫ندرة الت�ساقطات‪ ،‬وت�شجيع م�شاريع التكثيف‪� ،‬سواء في مجال �سال�سل‬
‫الإنتاج الحيواني �أو النباتي‪ ،‬من خالل ت�أطير الفالحين وتمكينهم‬
‫من دخل �إ�ضافي؛ كذلك �إحداث �ستة �أقطاب فالحية موجهة لقطاع‬
‫ال�صناعات الغذائية‪ ،‬وذلك لتعزيز العر�ض في هذا القطاع‪ ،‬بهدف‬
‫تح�سين عر�ض المواد الأولية الفالحية الموجهة �إلى الت�صنيع على‬
‫م�ستوى النوع والكم‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬تعتمد م�شاريع الدعامة الأولى على اال�ستثمار الخا�ص‬
‫في �إطار م�شاريع التجميع (مجمع ومجمعين)‪ ،‬وتتوزع بح�سب �سال�سل‬
‫الإنتاج‪ ،‬وت�أخذ بعين االعتبار �سافلة وعالية ال�سل�سلة (حول وحدة‬
‫للتثمين)؛ كما �أن هذه الم�شاريع ت�ستفيد من دعم الدولة في �إطار‬
‫�صندوق التنمية الفالحية؛ �أما م�شاريع الدعامة الثانية‪ ،‬فتهدف �إلى‬
‫تح�سين دخل الفالحين‪ ،‬من �أجل محاربة الفقر‪ ،‬عن طريق تدخل‬
‫مبا�شر للدولة؛ وتهم ثالث �أنواع من الم�شاريع‪ :‬م�شاريع التحويل (تحويل‬
‫زراعة الحبوب �إلى �سال�سل ذات قيمة م�ضافة عالية‪ ،‬كالزيتون‪ ،‬اللوز‪،‬‬
‫التين‪� ،‬إلخ‪ ،)...‬وم�شاريع التكثيف (وتهدف �إلى تطوير المكت�سبات‬
‫الحالية للفالحين في �سال�سل الإنتاج‪ ،‬عن طريق الت�أطير‪ ،‬من �أجل‬
‫تزويدهم بالتقنيات الالزمة‪ ،‬بهدف الرفع من الإنتاج وتثمين المنتوج‪،‬‬
‫وم�شاريع التنويع (وتهدف �إلى خلق دخل �إ�ضافي للفالحين‪ ،‬عن طريق‬
‫تنمية المنتجات المجالية‪ ،‬كالزعفران‪ ،‬الع�سل‪ ،‬النباتات العطرية‬
‫والطبية‪� ،‬إلخ)‪ .‬وتجدر الإ�شارة �إلى �أن م�شاريع الدعامة الثانية موجهة‬
‫للتنظيمات المهنية الفالحية‪.‬‬
‫و�إذا كان المخطط الأخ�ضر قد حقق بع�ض التقدم على الم�ستوى‬
‫الم�ؤ�س�ساتي‪ ،‬من خالل �إعادة هيكلة الم�صالح المركزية لوزارة الفالحة‪،‬‬
‫و�إحداث وكالة التنمية الفالحية‪ ،‬و�إن�شاء المكتب الوطني لل�سالمة‬
‫ال�صحية للمنتجات الغذائية‪ ،‬و�إعادة هيكلة الغرف الفالحية‪ ،‬وتعزيز‬
‫‪101‬‬
‫الهيئات الغير مهنية‪ ،‬وتقوية الإمكانات المالية للقطاع؛ �إ�ضافة �إلى‬
‫ت�صريف المخطط الأخ�ضر على م�ستوى المناطق‪ ،‬من خالل و�ضع‬
‫‪ 16‬مخططا جهويا‪ ،‬ت�أخذ بعين االعتبار الخ�صو�صيات الإنتاجية لكل‬
‫منطقة‪ ،‬فالزالت هناك العديد من الإ�شكاالت تعتري الفالحة المغربية‪،‬‬
‫والمتمثلة �أ�سا�سا‪ ،‬في ا�ستنزاف الفر�شة المائية‪ ،‬و�ضعف ا�ستعمال‬
‫الأ�سمدة‪ ،‬و�ضعف المكننة‪ ،‬و�ضعف الإعانات‪ ،‬مقارنة مع العديد من‬
‫الدول؛ وت�ؤثر هذه الإ�شكاالت على تناف�سية المغرب في القطاع‪ ،‬وتدني‬
‫م�ستويات �صادراته‪ ،‬و�ضعف م�ساهمته في الناتج الداخلي الخام‪.‬‬

‫‪ - 8‬المخطط الأزرق لل�سياحة‬

‫ال�سيا�س ـ ـ ــة ال�سياحية بالمغـ ـ ـ ــرب‪ ،‬ح�صيلة مقت�ضيات مختلف‬


‫المخططات الثالثية والخما�سية المطبقة منذ �سنة ‪1965‬؛ ويمثل هذا‬
‫التاريخ كذلك‪ ،‬ميالد ال�سياحة في بالدنا‪ ،‬ك�أولوية للتنمية الوطنية‪،‬‬
‫و�إن�شاء وزارة ال�سياحة كقطاع م�ستقل بذاته‪ .‬واليوم‪ ،‬وفي �إطار تثمين‬
‫الم�ؤهالت التي يزخر بها المغرب في مجال ال�سياحة‪ ،‬تم اطالق‬
‫مجموعة من المبادرات الرائدة‪ ،‬والتي تهدف �إلى جعل ال�سياحة‬
‫ركيزة �أ�سا�سية لالقت�صاد الوطني؛ �أبرزها المخطط الأزرق الذي تقدر‬
‫مجموع ا�ستثماراته‪ 8 ،‬ماليير �أورو‪ ،‬والذي حددت له خم�س �أولويات‬
‫�أ�سا�سية‪ ،‬تتمثل في‪� :‬إنهاء الأورا�ش المتقدمة من ر�ؤية ‪( 2010‬المنتوج‪،‬‬
‫الإنعا�ش‪/‬الت�سويق‪ ،‬والنقل الجوي)‪ ،‬والمهن ال�سياحية‪ ،‬والتكوين‪ ،‬والجودة‬
‫والمحيط ال�سياحي؛ �إ�ضافة �إلى ر�ؤية ‪ ،2020‬التي تهدف �إلى جذب ما‬
‫يزيد عن ‪ 10‬مليون زائر �سنويا �إلى المغرب‪ .‬و�إلى جانب هذه الأولويات‪،‬‬
‫هناك �إن�شاء الهيئة المغربية لال�ستتمار ال�سياحي‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫يرتكز "المخطط الأزرق ‪ "2020‬على مفهوم المحطات ال�ساحلية‬
‫المندمجة و"الذكية" التي تهدف �إلى �إعادة التوازن لل�سياحة ال�شاطئية‪،‬‬
‫من خالل خلق عر�ض مغربي تناف�سي على ال�صعيد الدولي؛ وهو يرمي في‬
‫مرحلته الأولى‪� ،‬إلى �إعادة تموقع وا�ستكمال مختلف م�شاريع المحطات‬
‫ال�شاطئية التي تم �إطالقها‪ ،‬كميديتيرانيا‪-‬ال�سعيدية (المنتجع‬
‫الوحيد الذي يقع على �ساحل البحر الأبي�ض المتو�سط بم�ساحة ُتقدر‬
‫بـ ‪ 7.000.000‬متر مربع‪ ،‬وقد تم �إطالق هذا الم�شروع �سنة ‪ 2005‬من‬
‫قبل ال�شركة الإ�سبانية فادي�سا‪ ،‬وكان من المقرر االنتهاء منه �سنة‬
‫‪� ،2009‬إال �أن ذلك لم يح�صل ب�سبب �صعوبات في الت�سويق والتمويل‬
‫وعدم االتفاق)‪ ،‬ولك�سو�س (هذا المنتجع يقع بالقرب من العرائ�ش في‬
‫�شمال �ساحل المحيط الأطل�سي‪ ،‬وي�شمل الم�شروع‪� ،‬إن�شاء ملعبي غولف‬
‫كبيرين‪ ،‬ي�ضمان ‪ 18‬حفرة؛ بالإ�ضافة �إلى مرافق ريا�ضية وترفيهية‬
‫�أخرى؛ كما ي�شمل العديد من الفنادق وال�شقق الفاخرة والفيالت)‪،‬‬
‫وتاغازوت (الذي يقع �شمال �أكادير‪ ،‬حيث ي�ضم عدة فنادق ‪ 4‬و‪ 5‬نجوم‪،‬‬
‫ثم ملعبي غولف‪ ،‬والعديد من المباني ال�سكنية والترفيهية ومرافق‬
‫التجزئة‪ .‬وي�شار �إلى �أن المرحلة الأولى من بناء المنتجع انتُهي منها‬
‫عام ‪� ،2008‬شركة �ساليك�سي�س كون�سوريتوم البلجيكية‪-‬الهولندية هي‬
‫المطور لهذا المنتجع؛ وقد تقا�ضت مبلغ ‪ 1‬مليار دوالر مقابل ت�شييده‪،‬‬
‫حيث بلغت م�ساحته ‪ 4.620.000‬متر مربع؛ وتم االنتهاء منه نهائيا‪،‬‬
‫بحلول �سنة ‪ ،2015‬حيث ت�أخر خم�س �سنوات)؛ كذلك �إكمال العر�ض‬
‫ال�سياحي بمحطات جديدة‪ ،‬كمازاغـ ـ ــان (هذا المنتجع يقع جنوب‬
‫الدار البي�ضاء‪ ،‬وبالتحديد ُقرب مدينة الجديدة على �ساحل المحيط‬
‫الأطل�سي؛ بد�أت �أعمال ت�شييد هذا المنتجع‪ ،‬في �أواخر �سنة ‪،2007‬‬
‫حيث �شمل بناء اثنين من الكازينوهات‪ ،‬ثم مالعب الغولف‪ ،‬على‬
‫بعد ‪ 15‬كلم من ال�شاطئ؛ بالإ�ضافة �إلى العديد من الفنادق الفاخرة‬
‫والخا�صة)‪ ،‬وموكادور ال�صويرة (رابع ُمنتجع فخم في �إطار المخطط‬
‫‪103‬‬
‫الأزرق‪ ،‬حيث يقع على م�ساحة ‪ 5.700.000‬متر مربع‪ ،‬وي�شمل ملعبي‬
‫غولف‪ ،‬مع المزيد من المنازل والفنادق)‪ ،‬وباليا بالنكا (�آخر منتجع‬
‫�ضمن م�شروع المخطط الأزرق‪ ،‬حيث �شمل الم�شروع تطوير العديد من‬
‫المباني والهيئات من طرف �شركة فادي�سا التي طورت و�شيدت منتجع‬
‫ميديتيرانيا‪-‬ال�سعيدية من قبل)‪.‬‬
‫المخطط الأزرق يهدف كذلك �إلى �إعطاء موقع تف�ضيلي‪ ،‬مميز‬
‫وم�ستدام للمحطات‪ ،‬مع االعتماد على منطق ال�سوق؛ كما يهدف كذلك‬
‫�إلى بناء ‪ 10‬مالعب لريا�ضة الغولف‪ ،‬وتتم مواكبة كل هذا‪ ،‬بتدابير‬
‫في مجاالت متعددة‪ ،‬كالنقل الجوي والتكوين والت�سويق‪ ...‬وذلك حتى‬
‫ي�صبح قطاع ال�سياحة �أكتر جاذبية وتناف�سيه‪� ،‬إال �أن هذا المخطط‬
‫عانى من عدة نك�سات‪ ،‬وت�أخر كثيرا‪ ،‬ب�سبب ال�صعوبات وال�ضوائق‬
‫المالية‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى انعدام الت�سويق‪.‬‬

‫‪ - 9‬مخطط المغرب الرقمي‬


‫كانت �إ�ستراتيجية "المغرب الرقمي" تهدف �إلى جعل تكنولوجيا‬
‫المعلومات حافزا للتنمية الب�شرية‪ ،‬و�إحدى دعائم االقت�صاد؛ وكان‬
‫من �أوليات هذا البرنامج الذي امتد خالل الفترة ‪ 2009‬ـ‪،2013‬‬
‫تمكين المواطنين من ولوج الإنترنيت ذي ال�صبيب العالي‪ ،‬من خالل‬
‫تعميم ا�ستعمال الفاعلين في التعليم لتجهيزات تعتمد على تكنولوجية‬
‫المعلوميات‪ ،‬وكذا تعبئة الفاعلين العموميين والخوا�ص‪ ،‬حول عرو�ض‪،‬‬
‫لولوج تكنولوجيا للمعلوميات جذابة لكل الفئات ال�سو�سيو‪-‬مهنية‪.‬‬
‫هذه الإ�ستراتيجية و�ضعت كذلك ك�أولوية لها ت�سهيل التبادل‬
‫وتقريب الإدارة من حاجيات المتعاملين معها‪ ،‬بهدف تحقيق الفاعلية‬
‫والجودة وال�شفافية‪ ،‬من خالل اعتماد برنامج طموح‪ ،‬يتمثل في الإدارة‬
‫‪104‬‬
‫الإلكترونية‪ ،‬يتم من خالله "�أجر�أة ‪ 89‬م�شروعا وخدمة محددة في‬
‫برنامج الحكومة الإلكترونية"‪.‬‬
‫هذا المخطط كان يه ـ ـ ـ ـ ــدف �إلى تحقيق تقدم في م�ؤ�شرات‬
‫الحكومة الإلكترونية لبرنامج الأمم المتحدة‪ ،‬وبالتالي تح�سين الترتيب‬
‫الدولي للمغرب‪ ،‬و�إلى دعم ا�ستعمال المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة‬
‫للإعالميات‪ ،‬في �أفق ربح رهان الرفع من الناتج الداخلي الخام‪،‬‬
‫وتعبئة المقاوالت الرائدة والفاعلين الم�ؤثرين في القرار االقت�صادي‪،‬‬
‫العموميين والخوا�ص؛ ف�ضال عن تح�سي�س وت�شجيع المقاوالت على‬
‫ا�ستعمال تكنولوجيات الإعالم؛ ويروم �أي�ضا هذا المخطط‪ ،‬ت�شجيع‬
‫المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة على اعتماد تكنولوجيا المعرفة‪ ،‬للرفع‬
‫من مردوديتها‪ ،‬وكذا تطوير الم�شاريع المحلية لتكنولوجيا المعرفة‪،‬‬
‫وذلك من خالل دعم الفاعلين المحليين‪ ،‬لت�سهيل انطالق �أقطاب‬
‫امتياز ذات قدرات قوية للت�صدير‪.‬‬

‫‪ - 10‬الميثاق الوطني للإقالع االقت�صادي‬

‫يهدف هذا الميثاق �إلى مبا�شرة عدد من المخططات الإ�ستراتيجية‬


‫في القطاعات التي من �ش�أنها تطوير جاذبية المغرب لال�ستثمار‪،‬‬
‫وتح�سين القدرات التناف�سية للن�سيج االقت�صادي‪ ،‬من خالل اعتماد‬
‫�إ�ستراتيجية جديدة في المجال ال�صناعي والخدماتي‪ ،‬وتنمية‬
‫تكنولوجيات الع�صر‪ ،‬وكذا تقوية المقاولة المغربية‪ ،‬وت�شجيع اال�ستثمار‬
‫ال�صناعي الحامل للقيمة الم�ضافة‪ ،‬و�إتاحة الفر�ص �أمام االقت�صاد‬
‫الوطني القتحام �أن�شطة �صناعية جديدة ذات تقنيات مبتكرة‪ ،‬و�أ�سواق‬
‫واعدة لت�صدير المنتجات والخدمات‪.‬‬
‫هذا الميثاق الذي ر�صد له غالف مالي بقيمة ‪ 12‬مليارا و ‪400‬‬
‫مليون درهم‪ %34 ،‬منه‪ ،‬موجهة للتكوين وت�أهيل الموارد الب�شرية‪،‬‬
‫‪105‬‬
‫و‪ %24‬موجهة لتحفيز الم�ستثمرين؛ وجاء ليكر�س ت�ضافر الجهود بين‬
‫القطاعين العام والخا�ص‪ ،‬ويترجم ر�ؤية مندمجة وبرنامج عمل وا�ضح‬
‫المعالم‪ ،‬يروم �إحداث �أقطاب تناف�سية جهوية للتنمية االقت�صادية‬
‫واالجتماعية؛ كما �أن الميثاق يكر�س �أهم المبادئ الديمقراطية للحوار‬
‫وال�شفافية‪ ،‬وتثمين الموارد الب�شرية‪ ،‬و�أهمية الم�س�ؤولية االجتماعية‬
‫للمقاولة‪ ،‬حيث �إن تعاقد الدولة والقطاع الخا�ص في �إطار هذا البرنامج‬
‫التعاقدي‪ ،‬ي�شكل �ضمانة �أ�سا�سية لتوطيد االلتزامات المتبادلة بين‬
‫الطرفين‪ ،‬في وثيقة واحدة‪ ،‬ق�صد تقديم ر�ؤية م�ستقبلية لما �ستكون‬
‫عليه ال�صناعة المغربية غدا‪ .‬الميثاق �سي�شكل من دون �شك‪� ،‬ضمانة‬
‫�أ�سا�سية لتفعيل التدابير المتخذة لتعبئة كل المتدخلين حول �إجراءات‬
‫مدققة ومرقمة ومتوافق ب�ش�أنها ووا�ضحة؛ وهو ي�سعى كذلك‪� ،‬إلى تحديد‬
‫�إطار للتنمية‪ ،‬ي�ضم كل الأن�شطة ال�صناعية‪ ،‬بما فيها الأن�شطة المتعلقة‬
‫بترحيل الخدمات‪� ،‬إلى جانب الأن�شطة الأفقية المرتبطة بتناف�سية‬
‫المقاوالت‪ ،‬والتي تهم مجمل الن�سيج المقاوالتي المغربي‪.‬‬
‫وينبني البرنامج التعاقدي بين القطاعين العام والخا�ص‪،‬‬
‫من �أجل تفعيل الميثاق الوطني للإقالع االقت�صادي‪ ،‬على ثالثة �أفكار‬
‫رئي�سية‪ :‬تتعلق الأولى ب�ضرورة تركيز جهود االنطالقة ال�صناعية حول‬
‫التخ�ص�صات التي يتوفر بالن�سبة �إليها المغرب على امتيازات تناف�سية‬
‫وا�ضحة‪ ،‬وقابلة لال�ستغالل‪ ،‬من خالل برامج تنموية هادفة؛ والثانية‪،‬‬
‫تهم �ضرورة معالجة مجمل ن�سيج المقاوالت من دون ا�ستثناء‪ ،‬من‬
‫خالل �أربعة �أورا�ش �أفقية �أ�سا�سية‪ ،‬هي‪ :‬تعزيز تناف�سية المقاوالت‬
‫المتو�سطة وال�صغرى‪ ،‬وتح�سين مناخ الأعمال‪ ،‬والتكوين‪ ،‬ومخطط‬
‫لتنمية الف�ضاءات ال�صناعية من الجيل الجديد‪ ،‬ت�سمى محطات‬
‫�صناعية مندمجة‪� .‬أما الفكرة الثالثة‪ ،‬فتتعلق ب�ضرورة و�ضع تنظيم‬
‫م�ؤ�س�ساتي‪ ،‬ي�سمح بتنفيذ البرامج بفعالية وكفاءة‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫يهدف هذا البرنامج التعاقدي‪ ،‬بالخ�صو�ص‪� ،‬إلى تمكين القطاع‬
‫ال�صناعي من الم�ساهمة في خلق منا�صب �شغل �صناعية‪ ،‬دائمة‬
‫وم�ستقرة‪ ،‬في �أفق التقلي�ص من البطالة في الو�سط الح�ضري‪ ،‬والرفع‬
‫من الناتج الداخلي الخام ال�صناعي‪ ،‬والتقلي�ص من حجم العجز‬
‫التجاري‪ ،‬ودعم اال�ستثمار ال�صناعي الوطني والأجنبي‪ ،‬والم�ساهمة في‬
‫�سيا�سة �إعداد التراب الوطني؛ فالميثاق الوطني للإقالع االقت�صادي‬
‫يهدف �إلى �إنعا�ش �سوق الت�شغيل‪ ،‬من خالل �إحداث حوالي ‪� 220‬ألف‬
‫فر�صة عمل‪ ،‬وت�سريع وتيرة النمو‪ ،‬عبر الرفع من القيمة الم�ضافة‬
‫ال�صناعية‪ ،‬بزيادة ‪ 50‬مليار درهم في �أفق �سنة ‪2015‬؛ كما يحر�ص على‬
‫ك�سب رهانين �أ�سا�سيين‪ ،‬يتمثالن في �إعادة توجيه الجهود نحو الإقالع‬
‫ال�صناعي في مجاالت المهن العالمية للمغرب‪ ،‬والتي يتوفر المغرب‬
‫فيها على قدرات تناف�سية وا�ضحة‪ ،‬والتعامل مع مختلف مكونات الن�سيج‬
‫المقاوالتي‪ ،‬وذلك عبر ثالثة م�شاريع هيكلية �أفقية‪ ،‬تهم تقوية تناف�سية‬
‫المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة‪ ،‬وتح�سين المناخ العام لال�ستثمار‪،‬‬
‫ومالءمة التكوين مع الحاجات المطردة للتطور االقت�صادي؛ الأمر‬
‫الذي يتطلب و�ضع تنظيم م�ؤ�س�ساتي محكم‪ ،‬وتزويده بما يحتاج �إليه‬
‫من موارد مالية وب�شرية‪ ،‬كفيلة بتن�سيق �أدوار مختلف المتدخلين‪،‬‬
‫وتتبع �إنجاز البرامج الإقالعية الم�سطرة في �آجالها المحددة‪ ،‬وذلك‬
‫بغية بلوغ النتائج المرجوة من هذا المخطط الطموح‪.‬‬
‫ويهدف مخطط العمل المتعلق بتنمية المهن العالمية الجديدة‬
‫للمغرب‪� ،‬إلى ا�ستقطاب اال�ستثمار المبا�شر‪ ،‬لجعل المغرب قاعدة جذابة‬
‫وتناف�سية في قطاعات ترحيل الخدمات وال�سيارات والإلكترونيك‪،‬‬
‫والطيران ‪�.‬أما مخطط العمل المتعلق بقطاع الن�سيج والجلد‪ ،‬فيهدف‬
‫�إلى موا�صلة تعزيز ال�صادرات وتنمية ال�سوق الوطني‪ ،‬من خالل تطوير‬
‫الفاعلين الوطنيين؛ وتهدف التدابير الموجهة لقطاع ال�صناعات‬
‫‪107‬‬
‫الغذائية �إلى ت�شجيع �شبكات الإنتاج ذات الم�ؤهالت الت�صديرية العالية‬
‫المرتبطة بالفالحة‪ ،‬وتطوير �شبكات �إنتاج المواد الأ�سا�سية؛ فيما‬
‫يهدف مخطط العمل المتعلق بتح�سين مناخ الأعمال‪� ،‬إلى رفع العراقيل‬
‫التي تواجه مبادرة اال�ستثمار‪ ،‬وو�ضع �إطار منا�سب و�شامل ال�ستقبال‬
‫وتوجيه الم�ستثمرين؛ �أما مخطط العمل الموجه لمجال تح�سين تناف�سية‬
‫المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة‪ ،‬فيهم بالخ�صو�ص‪ ،‬مواكبة المقاوالت‬
‫المتوفرة على م�ؤهالت عالية‪ ،‬والرفع من الإنتاجية لمجموع الفاعلين؛‬
‫بينما يهدف مخطط العمل المتعلق بتكوين الر�أ�سمال الب�شري وت�أهيله‪،‬‬
‫�إلى تعزيز الآليات الحالية للتكوين‪ ،‬وو�ضع نظام يمكن من مالئمة‬
‫العر�ض للطلب ‪.‬‬

‫‪ - 11‬مخطط ت�سريع التنمية ال�صناعية ‪ 2014‬ـ ‪2020‬‬


‫بالنظر �إلى حجم التحديات التي تواجه ال�صناعة المغربية‪،‬‬
‫يدخل مخطط ت�سريع التنمية ال�صناعية في �إطار مخطط "�إقالع"‪،‬‬
‫ليجعل من ال�صناعة رافعة تنموية �أ�سا�سية‪ ،‬ويحقق في �أفق ‪،2020‬‬
‫الأهداف التالية‪� :‬إحداث ن�صف مليون من�صب �شغل‪ ،‬ن�صفها من‬
‫اال�ستثمارات المبا�شرة الخارجية‪ ،‬ون�صفها الآخر من تجديد الن�سيج‬
‫ال�صناعي الوطني؛ ورفع ح�صة ال�صناعة في الناتج الداخلي الخام‬
‫بت�سع نقاط‪ ،‬لتنتقل من ‪� 14‬إلى ‪ ،%23‬في �أفق �سنة ‪ ،2020‬وذلك‬
‫من خالل �إن�شاء منظومات �صناعية؛ وتح�سين الفوائد االجتماعية‬
‫واالقت�صادية للطلبيات العمومية‪ ،‬من خالل الموازنة ال�صناعية؛ دفع‬
‫االقت�صاد غير المهيكل باتجاه المهيكل؛ وتعميم خبرة برنامج "‪"Skills‬‬
‫للمجمع ال�شريف للفو�سفاط "‪"Inter-contrats‬؛ وخلق �صندوق عمومي‬
‫لتمويل اال�ستثمار ال�صناعي (�صندوق التنمية ال�صناعية)؛ كذلك دعم‬
‫القطاع البنكي‪ ،‬ب�إطالق �إ�ستراتيجية جديدة‪ ،‬ت�شمل تمويال مندمجا‬
‫‪108‬‬
‫وتناف�سيا‪ ،‬في �إطار اتفاقية �شراكة بين الدولة والقطاع البنكي الذي‬
‫يلتزم بدعم المقاوالت ال�صناعية؛ ثم تخ�صي�ص ‪ 1000‬هكتار لإن�شاء‬
‫مناطق �صناعية للكراء‪ ،‬مع محالت جاهزة‪ ،‬و ُت�ضاف هذه المركبات‬
‫ال�صناعية �إلى المناطق ال�صناعية والمحطات ال�صناعية المندمجة؛‬
‫كذلك التكوين؛ بالإ�ضافة �إلى تركيز مجهودات الدعم على القطاعات‬
‫ذات �إمكانات الت�صدير العالية‪ ،‬من �أجل تح�سين تناف�سية ال�صادرات؛‬
‫كما �سيتم تتبع اتفاقيات التبادل الحر؛ وت�شجيع اال�ستثمارات الخارجية؛‬
‫ثم تج�سيد التوجه الإفريقي للمغرب؛ من خالل مبادرات تقوي العالقات‬
‫المتميزة مع �إفريقيا‪ ،‬في اتجاه خلق �شراكات ذات منفعة متبادلة‪.‬‬

‫‪� - 12‬سيا�سة الطاقات المتجددة‬

‫يندرج تطوير الطاقات المتجددة في �صلب ال�سيا�سة الطاقية‬


‫الوطنية التي ترمي �إلى تنويع م�صادر التزود بالطاقة‪ ،‬حيث تطمح �إلى‬
‫رفع ن�سبة م�ساهمة الطاقات الخ�ضراء في �أفق ‪� ،2020‬إلى ‪ 42‬بالمائة‬
‫من �إجمالي الطاقة الكهربائية‪.‬‬
‫وت�شكل النجاعة الطاقية‪ ،‬بالموازاة مع تطوير الطاقات المتجددة‪،‬‬
‫�إحدى �أولويات الإ�ستراتيجية الطاقية الوطنية‪ ،‬بهدف توفير ‪ %12‬من‬
‫اال�ستهالك الطاقي �سنة ‪ 2020‬و‪� %15‬سنة ‪ .2030‬وفي هذا الإطار‪ ،‬تم‬
‫�إعداد مخططات عمل للنجاعة الطاقية في كل المجاالت الرئي�سية‪،‬‬
‫وخا�صة النقل وال�صناعة والبناء‪.‬‬
‫ونظرا للقدرات الهائلة في مجال الطاقات المتجددة (ال�شم�سية‬
‫والريحية) التي تتوفر عليها المملكة‪ ،‬فقد تقرر ت�شييد باقة طاقية‬
‫متنوعة‪ ،‬تعطي الأولوية للطاقات المتجددة‪ ،‬وذلك لتلبية الطلب‬
‫المتزايد على الكهرباء‪ ،‬والحفاظ على البيئة‪ ،‬وتقلي�ص االعتماد على‬
‫الخارج في مجال الطاقة‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫ولرفع هذه التحديات‪� ،‬أطلق المغرب برنامجا متكامال‪ ،‬وا�سع‬
‫النطاق للإنتاج الكهربائي‪ ،‬باالعتماد على الطاقات المتجددة؛ ويتعلق‬
‫الأمر ب�أحد �أكبر الم�شاريع على الم�ستوى العالمي‪ ،‬حيث يتطلع �إلى بلوغ‬
‫‪ 4000‬ميغاواط كقدرة �إجمالية مع حلول ‪ ،2020‬عن طريق �إن�شاء حظائر‬
‫ريحية جديدة‪ ،‬وت�شييد خم�س محطات كهربائية �شم�سية‪ .‬وي�شكل هذا‬
‫الم�شروع المتكامل والمهيكل‪ ،‬رافعة تنموية‪ ،‬اقت�صادية وب�شرية (عبر‬
‫التناف�سية والتكوين والبحث التنموي‪ ،‬والمناولة‪ ،‬واالندماج ال�صناعي)‪،‬‬
‫و�سيكون تحقيق هذه الم�شاريع فر�صة النبثاق وتطوير �صناعة مرتبطة‬
‫بمجاالت الطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية‪ ،‬من �أجل دعم هذه‬
‫البرامج وتر�شيد انعكا�ساتها االجتماعية واالقت�صادية‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫المغرب‪ ،‬على غرار جل دول العالم الثالث غير المنتجة‬
‫للنفط‪ ،‬على الفالحة‪ ،‬وي�صنف �ضمن الدول الفالحية‪ .‬لكن‬
‫يعتمد‬
‫رغم هذا الت�صنيف‪ ،‬فالقطاع الفالحي في المغرب‪ ،‬لم يتجاوز ‪%20‬‬
‫من الناتج الداخلي الخام‪� ،‬إال في بع�ض ال�سنوات‪ .‬هذه الم�ساهمة‬
‫تف�سر العجز الحا�صل في تلبية الطلب الداخلي‪ ،‬والذي يتم �سده غالبا‬
‫باال�ستيراد من الخارج‪ .‬ورغم المجهودات المبذولة للرفع من الإنتاجية‬
‫الفالحية‪ ،‬عن طريق ال�سقي‪ ،‬ف�إن الفالحة الزالت مرتبطة ب�شكل كبير‬
‫بالت�ساقطات المطرية‪ .‬و�إذا كانت الفالحة قد �أهملت مقارنة مع‬
‫ال�صناعة‪ ،‬في �سنوات ال�ستينات‪ ،‬ف�إنها ا�ستفادت من عدة مزايا خالل‬
‫ال�سنوات التي تلت؛ منها �إن�شاء �صندوق الإ�صالح الفالحي‪ ،‬والإعفاء‬
‫من ال�ضريبة �إلى �سنة ‪ ،2000‬تم �إلى �سنة ‪ .2020‬وقد تم تحرير القطاع‬
‫الفالحي في �أوا�سط الثمانينات‪ ،‬وتمحور برنامج التحرير واالنفتاح‬
‫هذا‪ ،‬على توجهات �سبعة‪ :‬عقلنة تدبير �ش�ؤون ال�سيا�سة المالية‪ ،‬بوا�سطة‬
‫تح�سين نظام المراقبة المالية والإدارية‪ ،‬والمطبق من طرف الحكومة‬
‫على المكاتب الجهوية لال�ستثمار الفالحي‪ ،‬و�إعادة هيكلة م�صالح‬
‫البحث الزراعي والإر�شاد وتربية الموا�شي‪ ،‬وذلك �أوال‪ ،‬في اتجاه الرفع‬
‫من ا�ستقالليتهم‪ ،‬وكذا تحديد �أولويات تتما�شى والأهداف التي كان‬
‫يرمي �إليها برنامج التقويم الهيكلي‪ ،‬وثانيا‪ ،‬في اتجاه �إ�شراك القطاع‬
‫الخا�ص‪ ،‬في الت�سيير والتكفل بجزء من هذه الم�صالح‪ ،‬وتح�سين تدبير‬
‫الموارد الطبيعية وال�سيا�سة العقارية‪ ،‬بوا�سطة �سيا�سة الت�شجير‪،‬‬
‫واتخاذ �إجراءات قانونية وت�شريعية بخ�صو�ص عمليات �ضم الأرا�ضي‪،‬‬
‫و�إ�صالح قانون الإيجار القروي وم�س�ألة تحويل الأرا�ضي؛ كذلك تحرير‬
‫الأ�سعار‪ ،‬بالن�سبة لتجارة عوامل الإنتاج في القطاع الزراعي وفي تربية‬
‫الموا�شي‪ .‬وهكذا‪ ،‬لم تعد عدة مواد م�ستفيدة من الإعانات‪ ،‬كالأ�سمدة‬
‫والحبوب وغذاء الما�شية والآالت الفالحية‪ ،‬وتم تحرير الأ�سعار‪،‬‬
‫بالن�سبة لتجارة المنتوجات الفالحية‪ .‬وقد ترتب عن هذا الإجراء‪ ،‬توقف‬
‫‪111‬‬
‫�سيا�سة الإعانات لبع�ض المواد الأ�سا�سية كالحليب‪ ،‬ونق�ص في المبلغ‬
‫المخ�ص�ص لهذه الإعانات؛ كذلك تغيير بنية اال�ستثمارات العمومية‪.‬‬
‫وكان يهدف هذا الإجراء‪� ،‬إلى ح�صر االهتمام فقط بالمنتخبين الذين‬
‫يتما�شون و�أهداف برنامج التقويم الهيكلي؛ ال�شيء الذي يف�سر من‬
‫جهة‪ ،‬التراجع الملحوظ في �إن�شاء التجهيزات االجتماعية في البنيات‬
‫التحتية الأ�سا�سية‪ ،‬خ�صو�صا في مناطق ذات م�شاريع التنمية القروية‬
‫المندمجة؛ ومن جهة �أخرى‪ ،‬تركيز كل الو�سائل المالية والتقنية‬
‫والب�شرية لوزارة الفالحة على المناطق والمنتجين الذين من �ش�أنهم‬
‫الرفع من الإنتاج الفالحي‪ ،‬والذي �أ�صبح من �أهم الأولويات؛ �إ�ضافة‬
‫�إلى تحرير التجارة الخارجية للمنتوجات الفالحية‪ ،‬وذلك ب�إزالة نظام‬
‫الح�ص�ص‪ .‬وعلى هذا النحو‪ ،‬فقد تم الحد من احتكار مكتب الت�سويق‬
‫واال�ستيراد‪ ،‬ابتداء من ‪ 19‬نوفمبر من �سنة ‪ ،1985‬والتعوي�ض التدريجي‬
‫لنظام الح�ص�ص‪ ،‬بنظام تعرفة جمركية تدريجي‪ ،‬وفقا لخ�صائ�ص‬
‫المنتوجات الفالحية الم�ستوردة‪.‬‬
‫االهتمام بقطاع الفو�سفاط عائد بالأ�سا�س �إلى التق�سيم الدولي‬
‫للعمل‪ ،‬والذي جعل من الدول الحديثة العهد باال�ستقالل‪ ،‬متخ�ص�صة‬
‫في ا�ستخراج المعادن التي تجود بها �أرا�ضيها‪� ،‬أو �صنع مواد محددة‪.‬‬
‫وبالن�سبة للمغرب‪� ،‬شكل الفو�سفاط المعدن الرئي�سي الذي �ساهمت‬
‫مداخيله في الرفع من عوائد الخزينة؛ فخالل عقدي ال�سبعينات‬
‫والثمانينات‪� ،‬شكل ت�صدير المواد الفالحية والفو�سفاطية حوالي ‪%70‬‬
‫من مجموع ال�صادرات المغربية؛ وهو ما يبين االرتباط الكبير لالقت�صاد‬
‫الوطني بالمواد الطبيعية‪ .‬ولكون �أ�سعار الفو�سفاط متقلبة ب�شكل كبير‬
‫في ال�سوق العالمية‪ ،‬ف�إن االقت�صاد المغربي يت�أثر بهذه التقلبات؛ كما‬
‫�أن �سيا�سة تثمين هذا المعدن‪ ،‬جعلت جزء كبيرا من اال�ستثمارات‬
‫يتجه �إلى ال�صناعة الكيميائية‪ .‬ونظرا لأهمية الفو�سفاط في االقت�صاد‬
‫‪112‬‬
‫المغربي‪ ،‬ف�إنه ي�ؤثر ب�شكل مبا�شر‪ ،‬على مختلف الم�ستويات (الإنتاج‪،‬‬
‫الت�شغيل والت�صدير)‪.‬‬
‫�أما القط ـ ـ ـ ــاع ال�صناعي‪ ،‬فيبقى بعيدا عن تحقيق الأهداف‬
‫المتوخاة منه‪ ،‬لتحقيق الإقالع االقت�صادي؛ فهيمنة المقاوالت ال�صغيرة‬
‫والمتو�سطة‪ ،‬وارتباطها الكبير بال�سوق الخارجية‪ ،‬جعل هذا القطاع‬
‫مرهونا بتقلبات ال�سوق العالمية‪ .‬وتن�شط غالبية المقاوالت ال�صغرى‬
‫والمتو�سطة ‪ -‬والتي هي في عمومها‪ ،‬مقاوالت عائلية؛ لذا فر�أ�سمالها‬
‫يبقى محدودا‪ ،‬كما �أن ن�سبة ا�ستمراريتها وتطورها تبقى قليلة جدا ‪-‬‬
‫في مجاالت �صناعة المالب�س الجاهزة‪ ،‬وت�صبير المواد الغذائية‪.‬‬
‫فبالن�سبة لقطاع الن�سيج والمالب�س الجاهزة‪ ،‬ورغم الدينامية‬
‫التي تطبع تطوره بالمغرب‪ ،‬ف�إنه الزال عر�ضة لتقلبات الأ�سواق‬
‫الخارجية‪ ،‬وخا�صة الفرن�سية‪ .‬كما �أن ال�سيا�سية الت�سويقية لهذا القطاع‪،‬‬
‫تميزت بمنتوجات وزبناء قليلون‪ ،‬حيث �إن ‪ %80‬من ال�صادرات المغربية‪،‬‬
‫هي باتجاه فرن�سا؛ وهذا ال يعني �أن المغرب ممون �أ�سا�سي لفرن�سا في‬
‫ميدان المالب�س الجاهزة‪ ،‬حيث لم تمثل م�ساهمة القطاع المغربي �إال‬
‫بـ ‪ %9,5‬من الوردات الفرن�سية من هذه المنتوجات؛ مما ال يعطيها‬
‫القدرة على فر�ض �شروطها واختياراتها‪ ،‬والت�أثير على الأثمنة‪.‬‬
‫لقد ا�ستفاد قطاع الن�سيج من عدة امتيازات لفر�ض منتوجاته‪،‬‬
‫خا�صة في ال�سوق الأوروبية‪ ،‬في مواجهة المناف�سة ال�شر�سة لدول �شرق‬
‫�آ�سيا؛ وارتكزت هذه االمتيازات خ�صو�صا‪ ،‬على العوامل الموروثة‪،‬‬
‫ومنها يد عاملة وفيرة ورخي�صة‪ ،‬والقرب من �أوروبا‪ ،‬وخا�صة االرتباط‬
‫الثقافي بفرن�سا؛ لكن يعاني القطاع اليوم‪ ،‬من عدة عراقيل؛ تتمثل في‬
‫ارتفاع تكاليف النقل والطاقة والأرا�ضي المعدة للت�صنيع والقرو�ض‬
‫البنكية؛ مما يدفع ال�صناعي �إلى التوجه �إلى ا�ستثمارات مربحة على‬
‫المدى القريب؛ كما �أن ارتفاع تكاليف النقل الجوي يمنع ال�شركات من‬
‫‪113‬‬
‫ت�سليم منتوجاتها في الأوقات المحددة‪ ،‬واال�ستفادة �أكثر من القرب‬
‫من �أوروبا؛ كما تواجه هذه ال�شركات على الم�ستوى الداخلي‪� ،‬ضعف‬
‫الطلب الداخلي‪.‬‬
‫الزال القطاع الثالث يتطور با�ستمرار في المغرب‪ ،‬وي�ساهم‬
‫بقيمة م�ضافة جد مهمة؛ كما يعرف ظهور �أن�شطة عديدة‪ ،‬مرتبطة‬
‫�أ�سا�سا بالتجارة الخارجية؛ ف�إذا �أخذنا مثال ال�سياحة فقط‪ ،‬فهي‬
‫بقيمة م�ضافة تبلغ ‪ %2‬من الناتج الداخلي الخام‪ ،‬لم ت�صل بعد �إلى‬
‫الم�ستوى والنتائج المن�شودة‪ ،‬لما يتوفر عليه المغرب من م�آثر تاريخية‬
‫وقربه من �أوروبا (�سوق كبيرة م�صدرة لل�سياح)‪ .‬لكن‪ ،‬تبقى البنيات‬
‫التحتية‪ ،‬وال�سيا�سة المتبعة ال�ستقطاب ال�سياح‪ ،‬غير كافية؛ فبا�ستثناء‬
‫بع�ض القرى ال�سياحية في مناطق محددة من المغرب‪ ،‬والتي ت�سير‬
‫من طرف مجموعات عالمية‪ ،‬وبع�ض الفنادق الكبرى في كبريات‬
‫المدن المغربية‪ ،‬يبقى القطاع ال�سياحي المغربي �أو بع�ض الم�ستثمرين‬
‫ال�سياحيين‪ ،‬يعانون طيلة ال�سنة من الخ�صا�ص من الناحية المالية‪.‬‬
‫يع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرف العالم اليوم‪ ،‬كما �أ�شرنا �إلى ذلك �سالفا‪ ،‬مناخا‬
‫اقت�صاديا دوليا خا�صا‪ ،‬يطبعه عدم اال�ستقرار؛ ويتمثل في تراجع‬
‫معدل النمو االقت�صادي العالمي‪ ،‬وانخفا�ض حجم المبادالت التجارية‪،‬‬
‫وكذا تقل�ص تدفقات اال�ستثمارات الأجنبية؛ �إ�ضافة �إلى انفالت قب�ضة‬
‫التحكم من �أيدي البلدان ال�صناعية‪ ،‬فيما يخ�ص معدالت الت�ضخم‪،‬‬
‫والتي �أ�صبحت تميل �إلى االرتفاع‪ ،‬وما لذلك من تداعيات على القدرة‬
‫ال�شرائية للمواطنين‪ ،‬وخا�صة ذوي المداخيل الثابتة؛ مما ينذر ب�أزمات‬
‫اقت�صادية واجتماعية خطيرة‪ ،‬وما قد ينتج عنه من انعكا�سات �سلبية‪،‬‬
‫تهدد �أمن وا�ستقرار المجتمع؛ مما يحتم على بالدنا اليوم‪ ،‬التوفر على‬
‫نظرة �إ�ستراتيجية وا�ضحة لآثار وانعكا�سات ما يحدث الآن من تحوالت‬
‫مت�سارعة‪ ،‬وقراءتها‪ ،‬والتعامل معها بكل مو�ضوعية وجدية وم�س�ؤولية‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫و�إذا كان الإن�سان هو الر�أ�س المال الحقيقي‪ ،‬متى تم التركيز عليه‬
‫كثروة وطنية‪ ،‬من �إ�شباع لحاجاته‪ ،‬وحماية لجميع حقوقه‪ ،‬ال�شخ�صية‬
‫والمدنية وال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية؛ فالدعوة �أ�صبحت‬
‫اليوم �أكثر �إلحاحا �إلى �إعادة النظر في الفل�سفة العامة التي تحكم‬
‫"نموذجنا التنموي" الذي يجب �أن ال يبقى �إ�صالحه رهين التوافقات‬
‫بين ال�سلطة التنفيذية من جهة‪ ،‬وجماعات ال�ضغط المختلفة من جهة‬
‫�أخرى‪ ،‬بل يجب �أن يكون نتاج تفكير عميق ور�صين؛ قائم �أ�سا�سا‪ ،‬على‬
‫الخبرة والواقعية‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫نموذج تنموي نطمح �إليه‬
‫"النموذج التنموي المغربي" الحالي‪ ،‬كما �أ�صبح معلوما‪،‬‬
‫من تحديات كثيرة‪ ،‬وعوائق ومتنوعة؛ ناتجة عن الجوانب‬ ‫يعـانـي‬
‫ال�سلبية لمدخالته‪ ،‬بمختلف �أنواعها؛ مثل �ضعف حجم‬
‫اال�ستثمارات المخ�ص�صة للتنمية‪ ،‬و�س ـ ــوء ا�ستغالل الموارد‪ ،‬وغياب‬
‫الحكامة الجيدة في �إدارة الم�شاريع التنموية‪ ،‬وانخفا�ض م�ستويات‬
‫الإنتاجية‪ ،‬و�ضعف الكفاءة االقت�صادية لكافة القطاعات‪ ،‬وغياب الأمن‬
‫الغذائي‪ ،‬و�ضعف الأمن االجتماعي‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى ارتفاع ن�سب البطالة‪،‬‬
‫وانت�شار الفقر‪ ،‬والبطء في ا�ستيعاب العلم والتكنولوجيا الحديثة‬
‫وا�ستخدامها لأغرا�ض التنمية‪ .‬ويرجع الق�صور التنموي في المغرب‬
‫بالأ�سا�س‪� ،‬إلى ف�شل التحكم في عالقاته االقت�صادية بال�سوق العالمية‪،‬‬
‫وخ�ضوعه الم�ستمر لتبعية تجارية ومالية وثقافية وتكنولوجية‪ ،‬وتغييب‬
‫الإن�سان ل�سنوات طويلة‪ ،‬عن عملية التنمية؛ الأمر الذي يتجلى في �ضعف‬
‫�أداء المنظومة التعليمية والتكوينية‪ ،‬وعدم مالئمتها مع م�ستلزمات‬
‫التنمية؛ �إ�ضافة �إلى تهمي�ش الطاقات االبتكارية‪ ،‬وق�صور الأداء‬
‫ال�سيا�سي‪ ،‬و�ضعف ت�أهيل الدولة لالنخراط في م�شروع الديمقراطية‪،‬‬
‫وتهمي�ش المجتمع المدني‪ ،‬على م�ستوى اتخاذ القرار في المجاالت‬
‫ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية‪.‬‬
‫لقد تميزت ال�سنوات الأخيرة في المغرب‪ ،‬ب�إكراهات عديدة‪ ،‬على‬
‫ال�صعيدين الداخلي والخارجي؛ وهو ما يحتم على الجميع‪ ،‬التحرك‬
‫لتجاوزها‪ ،‬وخلق الظروف المالئمة لت�أهيل االقت�صاد وتحقيق التنمية‪،‬‬
‫وذلك بخلق مناخ ماكرو اقت�صادي نظيف‪ ،‬مبني على المناف�سة الحرة‪،‬‬
‫و�إلغاء نظام االحتكارات‪ ،‬وتر�شيد النفقات العامة‪ ،‬عن طريق تطوير‬
‫ال�شراكة مع القطاع الخا�ص‪ ،‬و�إنعا�ش المقاوالت الخا�صة‪ ،‬ال�صغرى‬
‫منها والمتو�سطة والمتناهية ال�صغر‪ ،‬و�إ�صالح النظام الق�ضائي‪ ،‬والتخفيف‬
‫من العبء الإداري‪ ،‬وعقلنه عملية احت�ساب ال�ضرائب‪ ،‬وتو�سيع الوعاء‬
‫ال�ضريبي‪ ،‬والحد من الع�شوائية في قرارات الإدارة الجبائية‪ ،‬وتب�سيط‬
‫الم�ساطر‪ ،‬و�إتباع نظام �صارم للمراقبة؛ �إ�ضافة �إلى تو�سيع وت�شجيع‬
‫المبادرات اال�ستثمارية المنتجة‪ ،‬العمومية منها والخا�صة‪ ،‬واتخاذ‬
‫�إجراءات ملمو�سة لتح�سين الأو�ضاع االجتماعية‪ ،‬من خالل التفكير‬
‫في و�سائل و�آليات للعمل على ت�صحيح االختالالت والفوارق‪ ،‬وتح�سين‬
‫ظروف عي�ش المواطن‪ ،‬ومحاربة الفقر ومختلف �أ�شكال الحرمان‪ ،‬عبر‬
‫تعميق البعد االجتماعي‪ ،‬والحر�ص على بلورة روح الت�ضامن بين �أفراد‬
‫الأمة؛ الأمر الذي يتطلب موا�صلة الإ�صالحات البنيوية والقطاعية‪،‬‬
‫وذلك من خالل التدبير الجيد للإدارة العمومية‪ ،‬وتمكين المر�أة‪،‬‬
‫وخلق مجتمع المعرفة‪ ،‬و�إ�صالح التعليم‪ ،‬وخا�صة النهو�ض بالتعليم‬
‫العالي والبحث العلمي‪ ،‬حتى يكون رافعة للتنمية؛ كذلك تر�سيخ ثقافة‬
‫حقوق الإن�سان‪ ،‬وتوطيد دعائم الديمقراطية‪ ،‬و�سيادة القانون‪ ،‬وتقوية‬
‫المجتمع المدني؛ �أي بمعنى �آخر‪ ،‬خلق �شروط نمو اقت�صادي قوى‬
‫ودائم‪ ،‬يف�ضي �إلى تنمية حقيقية‪� ،‬شاملة وم�ستدامة‪.‬‬
‫�إن النموذج التنموي الذي نطمح �إليه‪ ،‬هو الذي يحقق ثالث‬
‫�أهداف جوهرية؛ يمكن تلخي�صها في ما يلي‪ :‬توفير الحاجات الأ�سا�سية‪،‬‬
‫حيث يحتاجها الإن�سان ال�ستمرار حياته‪ ،‬وتتمثل في الغذاء والم�سكن‬
‫وال�صحة والحماية من مختلف الأخطار؛ ويحتاج �إلى رفع م�ستوى‬
‫معي�شته‪ ،‬ويتحقق ذلك بزيادة دخله‪ ،‬وتوفير فر�ص العمل �أمامه‪ ،‬ورفع‬
‫م�ستوى التعليم وال�صح ـ ـ ـ ــة‪ ،‬واالرتقاء بالقيم الإن�سانية والثقافية في‬
‫‪120‬‬
‫المجتمع؛ ويحتاج كذلك احترام الحريات والحقوق الأ�سا�سية‪ ،‬و�سيادة‬
‫القانون‪ .‬ويرتبط تطور �أهداف التنمية في ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬بتطور‬
‫مفهوم التنمية نف�سه‪ .‬لذلك‪ ،‬يمكن �إ�ضافة هدف �آخر بالغ الأهمية؛‬
‫وهو الحفاظ على البيئة‪ ،‬حيث �إن تحقيق رفاهية الأجيال الحالية‪،‬‬
‫يجب �أن ال تكون على ح�ساب ا�ستنزاف الخيرات والموارد الطبيعية‪،‬‬
‫لأن في ذلك �إجحاف بحقوق الأجيال الم�ستقبلية‪.‬‬

‫‪� - 1‬سيادة القانون‬

‫يق�صد ب�سيادة القانون‪ ،‬اعتبار هذا الأخير‪ ،‬مرجعية للجميع‪،‬‬


‫و�ضمان �سيادته على الجميع‪ ،‬من دون ا�ستثناء؛ الأمر الذي يتطلب بناء‬
‫�صيغة حكم م�ستقرة‪ ،‬وتطويرها‪ ،‬وذلك من خالل اال�ستقرار ال�سيا�سي‪،‬‬
‫وال�سلم االجتماعي‪ ،‬وبناء الم�ؤ�س�سات الديمقراطية التي ت�سمح بتداول‬
‫ال�سلطة بالطرق ال�سلمية‪ ،‬دون اللجوء �إلى العنف؛ وهو ما يفر�ض نوعا‬
‫من التوافق بين القوى ال�سيا�سية على قواعد التناف�س؛ وفي مقدمتها‪،‬‬
‫تنظيم الحياة ال�سيا�سية على �أ�س�س نزيهة و�سليمة‪ ،‬تحكمها انتخابات‬
‫دورية‪ ،‬و�إطار د�ستوري وم�ؤ�س�ساتي‪.‬‬
‫�إن دولة القانون هي �شكل من �أ�شكال التنظيم ال�سيا�سي‪ ،‬تخ�ضع‬
‫في �إطاره‪ ،‬جميع �سلطات الدولة وبال ا�ستثناء‪ ،‬للقانون‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل توفير الآليات والو�سائل القانونية والم�ؤ�س�ساتية التي تمكن‬
‫الأفراد من الدفاع عن حقوقهم الأ�سا�سية‪ ،‬وال�ضغط على ال�سلطة لأجل‬
‫احترام هذه الحقوق؛ �آليات وو�سائل �صارمة للمراقبة‪ ،‬تتمثل �أ�سا�سا‬
‫في الرقابة الق�ضائية على �أعمال الإدارة‪� ،‬إما بوا�سطة محاكم �إدارية‬
‫مخت�صة �أو بوا�سطة الق�ضاء العادي‪ .‬لكن‪ ،‬ال�سلطة الإدارية هنا‪،‬‬
‫لي�ست وحدها الملزمة باالمتثال للقانون‪ ،‬بل �إن جميع ال�سلطات‪ ،‬كيفما‬
‫كانت‪ ،‬يتحتم عليها ذلك‪ ،‬بما فيها ال�سلطة الت�شريعية التي تعد وا�ضعة‬
‫‪121‬‬
‫القانون ومن�شئته؛ �إذ يلزم الم�شرع ممار�سة اخت�صا�صاته في الحدود‬
‫التي ر�سمها له الن�ص الد�ستوري وال يتجاوزها؛ وهنا �أي�ضا‪ ،‬يكون تدخل‬
‫القا�ضي �ضروريا‪ ،‬لكن‪ ،‬هذه المرة‪ ،‬قا�ض د�ستوري‪ ،‬ي�ضمن احترام‬
‫الد�ستور‪ .‬لكن‪ ،‬مبد�أ "دولة القانون" ال ينح�صر فقط في خ�ضوع‬
‫جميع ال�سلطات داخل الدولة للقانون‪ ،‬بل ثمة مجموعة من ال�شروط‬
‫الأ�سا�سية لتحقق هذا المبد�أ‪ ،‬وتتمثل �أ�سا�سا في �ضرورة وجود د�ستور‬
‫ديمقراطي‪ ،‬يقوم على مبد�أ الف�صل بين ال�سلط‪ ،‬بهدف حماية الحقوق‬
‫والحريات‪ ،‬وتجنب �أي �شكل من �أ�شكال التع�سف واال�ستبداد؛ وتلعب‬
‫الرقابة الق�ضائية دورا هاما في هذا الإطار‪.‬‬
‫هذا المفهوم "ال�شكلي" لدولة القانون‪ ،‬تم �إغنائه بمعنى �آخر‬
‫مادي ‪� -‬أعطى للمبد�أ معناه الحقيقي‪ ،‬وجعله ينطبق على عدد محدود‬
‫جدا من دول العالم‪ -‬يتم بمقت�ضاه تكري�س الحقوق الأ�سا�سية‪ ،‬كما هي‬
‫متعارف عليها دوليا‪ ،‬حيث �إنه ومنذ منت�صف الثمانينات‪� ،‬سيعرف هذا‬
‫المبد�أ‪ ،‬انت�شارا وا�سعا‪ ،‬لي�س فقط في القوانين الداخلية للدول‪ ،‬بل‬
‫ومن خالل القانون الدولي كذلك‪ ،‬والذي يحفل بالعديد من المواثيق‬
‫والمعاهدات والخطابات ال�سيا�سية الدولية‪.‬‬
‫لكن الدول التي تبنت مبد�أ "دولة القانون" في �أنظمتها القانونية‬
‫الداخلية‪� ،‬ستواجه تحديات جديدة؛ تتمثل �أ�سا�سا‪ ،‬في �ضرورة �إ�صالح‬
‫�أنظمتها القانونية والم�ؤ�س�ساتية‪ ،‬و�إعادة �صياغة ت�شريعاتها الداخلية‪،‬‬
‫و�إن�شاء محاكم جديدة‪ ،‬وخلق م�ؤ�س�سات ت�ضمن تحقيق ا�ستقالل الجهاز‬
‫الق�ضائي؛ وكلها �إ�صالحات ت�صب في �إطار ما ي�سمى‪ :‬بناء "دولة‬
‫القانون"؛ هذا البناء �سي�صطدم بواقع البنيات االقت�صادية وال�سيا�سية‬
‫واالجتماعية اله�شة لهذه البلدان‪ ،‬والتي �ستتحول فيها الدولة �ضد‬
‫مواطنيها‪ ،‬وقد ت�صبح نقمة عليهم‪ ،‬بعد �أن كان من المفرو�ض �أن تكون‬
‫حامية لحقوقهم وحرياتهم‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫�أما بالدول النامية‪ ،‬الراغبة في �إ�صالح م�ؤ�س�ساتها وت�شريعاتها‬
‫الداخلية‪ ،‬ف�إن بناء و�إقرار "دولة القانون"‪ ،‬وممار�ستها لمتطلباتها‪ ،‬من‬
‫ديمقراطية وحقوق الإن�سان‪ ،‬قد باءت بالف�شل الذريع‪ ،‬بل �إنها �أعطت‬
‫ردودا عك�سية في الكثير من هذه البلدان‪ ،‬كال�سودان وال�صومال‪،‬‬
‫ورواندا‪ ،‬والكونغو‪ ،‬وهاييتي‪ ،‬وكمبوديا‪� ...‬إلخ؛ وكلها بلدان تعاني من‬
‫الفقر‪ ،‬و�ضعف البنيات االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬وتطاحن‬
‫الف�صائل العرقية �أو الدينية بها؛ مما جعلها تعاني من حروب �أهلية‪،‬‬
‫حولت بلدانها �إلى ب�ؤر دموية‪ ،‬تنتهك بها حقوق الإن�سان والحريات‬
‫العامة‪ ،‬على مر�أى وم�سمع من الدولة‪ ،‬التي وقفت عاجزة على ال�سيطرة‬
‫على الأو�ضاع الداخلية لبالدها‪ ،‬وحماية مواطنيها‪.‬‬
‫�إن ما يالحظ بخ�صو�ص الإعالن ـ ـ ـ ـ ـ ــات والخطابات ال�سيا�سية‬
‫الدولية والإقليمية‪ ،‬والأدبيات ال�سيا�سية للم�ؤ�س�سات المالية الدولية‪،‬‬
‫وللجمعية العامة للأمم المتحدة‪ ،‬ولبع�ض الأجهزة التابعة لها‪ ،‬هو‬
‫كونها من جهة‪ ،‬ا�ستعملت مفهوم "دولة القانون"‪ ،‬بمعناه ال�ضيق؛ �أي‬
‫�ضرورة خ�ضوع الدولة وجميع �سلطاتها للقانون ‪ -‬وهنا القانون لي�س‬
‫فقط القانون الداخلي‪ ،‬بل �أي�ضا القانون الدولي ‪ -‬وذلك باعتبار �أن‬
‫نظام "دولة القانون" هو الكفيل بحماية حقوق الإن�سان والحريات‬
‫الأ�سا�سية للمواطنين وحقوق الأقليات‪ ،‬المتعارف عليها دوليا‪ .‬ومن جهة‬
‫�أخرى‪ ،‬وظفت مفاهيم ثمينة وغالية لدى المدافعين عن حقوق الإن�سان‬
‫والديمقراطية‪ ،‬مثل قد�سية الإن�سان ومحاربة الفقر وال�شرعية؛ مما‬
‫جعل من مفهوم "دولة القانون"‪ ،‬بالقانون الدولي‪ ،‬بمثابة لواء مرفوع‪،‬‬
‫وعلى جميع �أع�ضاء المجتمع الدولي االلتفاف من حوله‪ .‬وبذلك‪� ،‬أ�صبح‬
‫لمبد�أ "دولة القانون" بعدا جديدا‪ ،‬حين ربطت بينه وبين الديمقراطية‬
‫وحقوق الإن�سان والتنمية ومفاهيم �أخرى‪ ،‬مثل الحكامة الجيدة‪ ،‬و�إقرار‬
‫‪123‬‬
‫ال�سلم والأمن‪ ،‬ومحاربة الفقر‪ .‬لكن‪ ،‬ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه هنا‬
‫هو‪ :‬ما العالقة بين "دولة القانون" وكل هذه المفاهيم؟‬
‫ي ــرى مانحو الم�ساعدات لدعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم الإ�صالحات القانونية‬
‫والم�ؤ�س�ساتية‪ ،‬الهادفة لتر�سيخ دول ـ ــة القانون ون�شرها بالأنظمة الداخلية‬
‫للدول‪ ،‬ب�أن "دولة القانون"‪ ،‬تعد و�سيلة �أ�سا�سية لتحقيق الديمقراطية‪،‬‬
‫وتر�سيخ حقوق الإن�سان‪ ،‬وتعتبر عن�صرا مهما لتحقيق الحكامة الجيدة‪،‬‬
‫وتعزيز الأمن وال�سلم‪ ،‬بل �إنها غدت في الآونة الأخيرة‪ ،‬و�سيلة فعالة‬
‫لتحقيق االزدهار االقت�صادي ومحاربة الفقر وتحقيق الم�ساواة بين‬
‫الجن�سين‪ .‬هناك تطورين �أ�سا�سيين عرفهما مبد�أ "دولة القانون"؛‬
‫الأول‪ ،‬يتمثل في مدى توفر الآليات القانونية والم�ؤ�س�ساتية التي تجعل‬
‫من الدولة و�سيلة فعالة لحماية الحقوق والحريات الأ�سا�سية للأفراد‪،‬‬
‫وتمكنهم من الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم الأ�سا�سية‪ ،‬وال�ضغط على‬
‫ال�سلطة لأجل احترامها؛ وهذه الو�سائل والم�ؤ�س�سات تختلف من دولة‬
‫لأخرى‪� ،‬سواء في ت�سميتها �أو في م�ضمونها؛ �أما التطور الثاني‪ ،‬فيتمثل‬
‫في انتقاله �إلى القانون الدولي‪ ،‬وتكري�سه بمواثيق و�أدبيات الم�ؤ�س�سات‬
‫الدولية‪ ،‬والتي ا�ستعملت مفهوم "دولة القانون" بمعناه الوا�سع؛ �أي‬
‫�ضرورة خ�ضوع الدولة وجميع �سلطاتها للقانونين الداخلي‪ ‬والدولي‪،‬‬
‫لأجل حماية حقوق الأفراد والحريات الأ�سا�سية‪ ،‬و�ضرورة توفر‬
‫الم�ؤ�س�سات الإدارية والق�ضائية لتحقيق ذلك؛ كما �أنها ا�ستطاعت �أن‬
‫تعطيه بعدا جديدا‪ ،‬حين ربطت بين هذا المبد�أ ومبادئ �أخرى‪ ،‬ال‬
‫تقل �أهمية‪ ،‬كالديمقراطية وحقوق الإن�سان والتنمية والحكامة الجيدة‬
‫و�إقرار ال�سلم والأمن ومحاربة الفقر‪.‬‬
‫وفي المغرب‪� ،‬شكل مبد�أ "دولة القانون" والحد من تع�سفها‪،‬‬
‫�أحد �أهم الإ�صالحات التي جاء بها الد�ستور الجديد‪ ،‬حيث نجد‪ ،‬ومنذ‬
‫الت�صدير‪ ،‬التالي "�إن المملكة المغربية‪ ،‬وفاء الختيارها الذي ال رجعة‬
‫‪124‬‬
‫فيه‪ ،‬في بناء دولة ديمقراطية‪ ،‬ي�سودها الحق والقانون‪ ،‬توا�صل �إقامة‬
‫م�ؤ�س�سات دولة حديثة‪ ،‬مرتكزاتها الم�شاركة والتعددية والحكامة‬
‫الجيدة‪ ،‬و�إر�ساء دعائم مجتمع مت�ضامن‪ ،‬يتمتع فيه الجميع بالأمن‬
‫والحرية والكرامة والم�ساواة‪ ،‬وتكاف�ؤ الفر�ص‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪،‬‬
‫ومقومات العي�ش الكريم‪ ،‬في نطاق التالزم بين حقوق وواجبات‬
‫المواطنة‪�..." ."...‬إن المملكة المغربية‪ ،‬الدولة الموحدة‪ ،‬ذات ال�سيادة‬
‫الكاملة‪ ،‬المنتمية �إلى المغرب الكبير‪ ،‬ت�ؤكد وتلتزم بما يلي‪ :‬حماية‬
‫منظومتي حقوق الإن�سان والقانون الدولي الإن�ساني والنهو�ض بهما‪،‬‬
‫والإ�سهام في تطويرهما‪ ،‬مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق‪،‬‬
‫وعدم قابليتها للتجزيء؛ حظر ومكافحة كل �أ�شكال التمييز‪ ،‬ب�سبب‬
‫الجن�س �أو اللون �أو المعتقد �أو الثقافة �أو االنتماء االجتماعي �أو الجهوي‬
‫�أو اللغة �أو الإعاقة �أو �أي و�ضع �شخ�صي‪ ،‬مهما كان؛ جعل االتفاقيات‬
‫الدولية‪ ،‬كما �صادق عليها المغرب‪ ،‬وفي نطاق �أحكام الد�ستور‪،‬‬
‫وقوانين المملكة‪ ،‬وهويتها الوطنية الرا�سخة‪ ،‬ت�سمو‪ ،‬فور ن�شرها‪،‬‬
‫على الت�شريعات الوطنية‪ ،‬والعمل على مالئمة هذه الت�شريعات‪ ،‬مع ما‬
‫تتطلبه تلك الم�صادقة"‪.‬‬
‫وفي الباب الثاني ع�شر‪ ،‬المتعلق بهيئات حماية حقوق الإن�سان‬
‫والنهو�ض بها‪ ،‬ن�ص الد�ستور كذلك على مجموعة من الم�ؤ�س�سات‪،‬‬
‫باعتبارها م�ؤ�س�سات د�ستورية تعنى بحماية والنهو�ض بحقوق الإن�سان‬
‫والحريات‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫• المجل�س الوطني لحقوق الإن�سان‪ :‬وهو "م�ؤ�س�سة وطنية تعددية‬
‫وم�ستقلة‪ ،‬تتولى النظر في الق�ضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق‬
‫الإن�سان والحريات وحمايتها‪ ،‬وب�ضمان ممار�ستها الكاملة‪ ،‬والنهو�ض‬
‫بها وب�صيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين‪� ،‬أفرادا‬
‫‪125‬‬
‫وجماعات‪ ،‬وذلك في نطاق الحر�ص التام على احترام المرجعيات‬
‫الوطنية والكونية في هذا المجال" (الف�صل ‪.)161‬‬
‫وقد حدد الظهير ال�شريف رقم ‪ 1.11.19‬ال�صادر في ‪ 18‬من‬
‫ربيع الأول ‪ ،1431‬الموافق لفاتح مار�س ‪ ،2011‬نظامه الداخلي‪ ،‬وقواعد‬
‫تنظيمه وكيفيات ت�سييره وممار�سته الخت�صا�صاته‪ ،‬وعقد اجتماعاته‬
‫ومداوالته‪ ،‬وت�شكيل وتنظيم مجموعات عمله ولجانه وهياكله الإدارية‬
‫والمالية‪ ،‬و�إجراءات تلقي ال�شكايات‪ ،‬و�شروط قبولها وم�سطرة اال�ستماع‬
‫�إلى الأ�شخا�ص والأطراف المعنية‪ ،‬و�شروط وكيفيات ت�سليم الجائزة‬
‫الوطنية لحقوق الإن�سان‪ ،‬وكيفيات ت�أليف اللجان الجهوية وعدد �أع�ضائها‬
‫وتنظيمها وكيفيات �سيرها‪ ،‬وكذا كيفيات الت�صويت على القرارات التي‬
‫يتخذها المجل�س‪.‬‬
‫وبتاريخ فاتح مار�س ‪ ،2018‬ن�شر بالجريدة الر�سمية عدد ‪،6652‬‬
‫الظهير ال�شريف رقم ‪ 1.18.17‬ال�صادر‪ ‬في ‪ 5‬جمادى الآخرة ‪1439‬‬
‫الموافق لـ ‪ 22‬فبراير ‪ ،2018‬بتنفيذ القانون رقم ‪ 76.15‬المتعلق ب�إعادة‬
‫تنظيم المجل�س‪ ،‬والذي تم �إعداده في �إطار المالءمة مع مقت�ضيات‬
‫د�ستور ‪ .2011‬وبموجب هذا القانون‪ ،‬تحدث لدى المجل�س الوطني‬
‫لحقوق الإن�سان‪ ،‬والذي يمار�س �صالحيته بكل ا�ستقاللية في جميع‬
‫الق�ضايا المتعلقة بحماية واحترام حقوق الإن�سان والحريات (المادة‬
‫‪ ،)4‬ثالث �آليات وطنية لتعزيز حماية حقوق الإن�سان‪ :‬الآلية الوطنية‬
‫للوقاية من التعذيب‪ ،‬والآلية الوطنية للتظلم الخا�صة بالأطفال �ضحايا‬
‫انتهاكات حقوق الإن�سان‪ ،‬والآلية الوطنية الخا�صة بحماية حقوق الأ�شخا�ص‬
‫ذوي الإعاقة‪ .‬‬
‫وقد تم �إحداث الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب بعد م�صادقة‬
‫المغرب على البرتوكول االختياري الملحق باتفاقية مناه�ضة التعذيب‬
‫الذي �صادق عليه المغرب �سنة ‪ ،2012‬والداعي �إلى �إن�شاء �آلية وطنية‬
‫‪126‬‬
‫للوقاية من التعذيب‪ .‬وا�ستنادا �إلى المادة ‪ 13‬من القانون المنظم‬
‫للمجل�س‪ ،‬ف�إن الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب تقوم بدرا�سة‬
‫و�ضعية وواقع معاملة الأ�شخا�ص المحرومين من حريتهم‪ ،‬وذلك عبر‬
‫القيام بالزيارات المنتظمة لمختلف الأماكـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن التي يوجد فيها‬
‫�أ�شخا�ص محرومون من حريتهم‪ ،‬بناء على طلب المجل�س؛ �إ�ضافة �إلى‬
‫تقديم التو�صيات والمقترحات بغية تح�سين معاملة و�أو�ضاع الأ�شخا�ص‬
‫المحرومين من حريتهم والوقاية من التعذيب‪.‬‬
‫وي�أتي �إن�شاء الآلية الوطنية للتظلم الخا�صة بالأطفال �ضحايا‬
‫االنتهاكات‪ ،‬تفاعال مع اتفاقية حقوق الطفل ومقت�ضيات البروتوكول‬
‫االختياري الثالث الملحق باتفاقية حقوق الطفل‪ ،‬وتو�صية اللجنة‬
‫المعنية بحقوق الطفل المتعلقة بـ "دور الم�ؤ�س�سات الوطنية الم�ستقلة‬
‫لحقوق الإن�سان في ت�شجيع وحماية حقوق الطفل"‪ ،‬لت�شجيع الدول‬
‫الأطراف على �إن�شاء م�ؤ�س�سة م�ستقلة لتعزيز ور�صد تنفيذ االتفاقية‪.‬‬
‫وبموجب القانون الجديد للمجل�س‪ ،‬كما هو محدد في المادة ‪،18‬‬
‫تخت�ص هذه الآلية بتلقي ال�شكايات المقدمة من طرف الأطفال �ضحايا‬
‫االنتهاكات �أو من ينوب عنهم �شرعيا �أو يدافع عنهم‪ ،‬ومبا�شرة جميع‬
‫التحريات المتعلقة بال�شكايات المتو�صل بها ودرا�ستها ومعالجتها والبت‬
‫فيها؛ وتقوم كذلك بتنظيم جل�سات ا�ستماع ودعوة الأطراف المعنية‬
‫باالنتهاك �أو ال�شكاية‪ ،‬وكذا ال�شهود والخبراء‪ ،‬وكل �شخ�ص ترى فائدة‬
‫في اال�ستماع �إليه؛ وتت�صدى تلقائيا لكل حاالت خرق �أو انتهاك حقوق‬
‫الطفل التي تبلغ �إلى علمها‪ ،‬وتبليغ ال�سلطات الق�ضائية المخت�صة‪،‬‬
‫وموافاتها بجميع المعلومات والمعطيات والوثائق المتوافرة لديها في‬
‫حالة وقوع خرق �أو انتهاك فعلي‪.‬‬
‫�أما بالن�سبة للآلية الوطنية الخا�صة بحماية حقوق الأ�شخا�ص‬
‫في و�ضعية �إعاقة‪ ،‬والتي تن�ص عليها المادة ‪ 33‬من اتفاقية حقوق‬
‫‪127‬‬
‫الأ�شخا�ص ذوي الإعاقة‪ ،‬ف�إنها تخت�ص‪ ،‬طبقا للمادة ‪ 19‬من هذا‬
‫القانون‪ ،‬بالقيام بتلقي ال�شكايات المقدمة مبا�شرة من قبل الأ�شخا�ص‬
‫في و�ضعية �إعاقة‪� ،‬ضحايا االنتهاكات‪ ،‬ومن ينوب عنهم �أو يدافع عنهم؛‬
‫كما �أنها تقوم بالتحريات المتعلقة بال�شكايات‪ ،‬ودرا�ستها ومعالجتها‬
‫والبت فيها‪ ،‬وتنظيـ ـ ـ ـ ــم جل�سات اال�ستماع‪ ،‬ودعوة الأطراف المعنية‬
‫بمو�ضوع االنتهاك �أو ال�شكاية‪ ،‬وكذا ال�شهود والخبراء‪ ،‬وكل �شخ�ص‬
‫ترى فائدة في اال�ستماع �إليه؛ ف�ضال على �أنها تت�صدى تلقائيا لحاالت‬
‫خرق �أو انتهاك حق من حقوق الأ�شخا�ص في و�ضعية �إعاقة‪ ،‬والتي تبلغ‬
‫�إلى علمها‪� ،‬شرط �إخبار ال�شخ�ص المعني‪ ،‬وعدم اعترا�ضه على تدخل‬
‫الآلية الوطنية المذكورة‪ .‬‬
‫وبالموازاة مع ذلك‪ ،‬ين�ص القانون المنظم للمجل�س في المادة‬
‫‪ ،35‬على �أن المجل�س يرفع تقريرا �سنويا عن حالة حقوق الإن�سان‬
‫بالمملكة‪ ،‬وتقارير مو�ضوعاتية �إلى جاللة الملك‪ ،‬توجه ن�سخة منها �إلى‬
‫رئي�س الحكومة ورئي�سي مجل�سي النواب والم�ست�شارين‪ ،‬من �أجل ن�شرها‬
‫و�إطالع العموم عليها‪ .‬وتن�شر هذه التقارير في الجريدة الر�سمية‪.‬‬
‫كما كلف المجل�س اال�ست�شاري لحقوق الإن�سان‪ ،‬في وقت �سابق‪،‬‬
‫بمتابعة تفعيل تو�صيات هيئة الإن�صاف والم�صالحة‪ ،‬والواردة في‬
‫تقريرها الختامي‪ ،‬بمقت�ضى الخطاب الملكي الموجه للأمة في ‪06‬‬
‫يناير ‪ ،2006‬بمنا�سبة انتهاء والية هيئة الإن�صاف والم�صالحة‪ ،‬وتقديم‬
‫الدرا�سة الخم�سينية حول التنمية الب�شرية‪ ،‬والذي ورد فيه‪" :‬و�إذ ن�شيد‬
‫بالجهود المخل�صة لهيئة الإن�صاف والم�صالحة‪ ،‬رئا�سة و�أع�ضاء‪،‬‬
‫ف�إننا نكلف المجل�س اال�ست�شاري لحقوق الإن�سان بتفعيل تو�صياتها‪،‬‬
‫كما ندعو كافة ال�سلطات العمومية �إلى موا�صلة التعاون المثمر مع‬
‫المجل�س‪ ،‬لتج�سيد حر�صنا الرا�سخ على تعزيز الحقيقة والإن�صاف‬
‫والم�صالحة"‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫و�أكد الخطاب الملكي لعيد العر�ش في ‪ 30‬يوليوز ‪ ،2006‬على هذا‬
‫التكليف‪ ،‬حيث جاء فيه‪" :‬و�ضمن هذا التوجه‪ ،‬وافقنا على ن�شر التقرير‬
‫الختامي لهيئة الإن�صاف والم�صالحة؛ غايتنا من ذلك توطيد الثقة في‬
‫الذات؛ وقد �أنطنا بالمجل�س اال�ست�شاري لحقوق الإن�سان‪ ،‬متابعة تفعيل‬
‫تو�صيات هذا التقرير‪ ،‬و�أمرنا ال�سلطات العمومية بتي�سير �إنجاز هذه‬
‫المهمة‪ ،‬كل في مجال اخت�صا�صه‪ ،‬بما يمكننا من تر�سيخ دولة القانون‬
‫وتحقيق الإن�صاف"‪.‬‬
‫وتج�سيدا لهذا التكليف‪ ،‬عمل المجل�س على متابعة تفعيل‬
‫التو�صيات ال�صادرة عن هيئة الإن�صاف والم�صالحة‪ ،‬باعتماد ت�صور‬
‫ومنهجية عمل تقوم على تحديد مجاالت المتابعة والأطراف المعنية‬
‫بها و�أدوات العمل‪ .‬وقد مكن ذلك‪ ،‬المجل�س‪ ،‬من �إحداث لجن متعددة‬
‫التكوين‪� ،‬سواء من �أع�ضاء المجل�س �أومن الجهات والقطاعات والم�صالح‬
‫الحكومية المعنية ومن فعاليات المجتمع المدني‪.‬‬
‫• م�ؤ�س�سة الو�سيط‪ :‬الذي يهتم بالنظر في تظلمات الأفراد �ضد‬
‫الإدارة‪ ،‬من خالل خطوات جادة وعملية‪ ،‬في مجال تقييد ت�صرفات‬
‫الإدارة و�إخ�ضاعها للقانون‪ ،‬وفي نف�س الوقت‪ ،‬حماية الحقوق والحريات‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬من تع�سف ال�سلطة‪.‬‬
‫و"الو�سيط؛ م�ؤ�س�سة وطنية م�ستقلة ومتخ�ص�صة‪ ،‬مهمتها الدفاع‬
‫عن الحقوق في نطاق العالقات بين الإدارة والمرتفقين‪ ،‬والإ�سهام في‬
‫تر�سيخ �سيادة القانون‪ ،‬و�إ�شاعة مبادئ العدل والإن�صاف‪ ،‬وقيم التخليق‬
‫وال�شفافية في تدبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر الإدارات والم�ؤ�س�سات العمومية والجماعات‬
‫الترابية والهيئات التي تمار�س �صالحيات ال�سلطة العمومية" (الف�صل‬
‫‪.)162‬‬
‫فعلى �إثر الح�صيلة المتوا�ضعة لم�ؤ�س�سة ديوان المظالم‪ ،‬في‬
‫تح�سين العالقة بين الإدارة والمواطن‪ ،‬ونظرا للدور الذي �أ�ضحى‬
‫‪129‬‬
‫ي�ضطلع به المغرب‪ ،‬على م�ستوى م�ؤ�س�سات الو�ساطة الدولية‪ ،‬في ن�شر‬
‫ثقافة الحكامة الإدارية‪ ،‬و�إلى جانب التطورات المتالحقة التي �شهدها‬
‫العالم العربي م�ؤخرا‪ ،‬والمغرب ب�صفة خا�صة‪ ،‬وفي �سياق محاولة‬
‫اال�ستجابة للأ�صوات الداخلية والخارجية‪ ،‬المطالبة ب�إ�صالح وت�أهيل‬
‫المنظومة الم�ؤ�س�ساتية‪ ،‬وجعل الإدارة في خدمة المواطن‪ ،‬اقتنعت‬
‫الدولة المغربية ب�ضرورة تطوير ديوان المظالم‪ ،‬عبر تقوية دوره‬
‫في حفظ و�صيانة الحقوق والحريات‪ ،‬وتدعيم تطبيق مبادئ العدالة‬
‫والإن�صاف‪.‬‬
‫وتمار�س م�ؤ�س�سة الو�سيط اخت�صا�صاتها‪ ،‬في نطاق تح�سين العالقة‬
‫بين الإدارة والمواطنين‪� ،‬سواء الذاتيين �أو االعتباريين‪ ،‬مغاربة كانوا‬
‫�أو �أجانب‪ ،‬فرادى �أو جماعات‪ ،‬وكذا بين الإدارات العمومية والجماعات‬
‫المحلية والم�ؤ�س�سات العمومية والهيئات التي تمار�س �صالحيات‬
‫ال�سلطات العمومية‪ ،‬وباقي الم�ؤ�س�سات الخا�ضعة للمراقبة المالية‬
‫للدولة‪ ،‬والتي ي�شار �إليها في الظهير ال�شريف با�سم "الإدارة"‪.‬‬
‫• مجل�س الجالية المغربية بالخارج‪ :‬و"يتولى على الخ�صو�ص‪،‬‬
‫�إبداء �آرائه حول توجهات ال�سيا�سات العمومية التي تمكن المغاربة‬
‫المقيمين بالخارج‪ ،‬من ت�أمين الحفاظ على عالقات متينة مع هويتهم‬
‫المغربية‪ ،‬و�ضمان حقوقهم و�صيانة م�صالحهم‪ ،‬وكذا الم�ساهمة في‬
‫التنمية الب�شرية والم�ستدامة‪ ،‬في وطنهم المغرب وتقدمه" (الف�صل‬
‫‪.)163‬‬
‫ويعمل مجل�س الجالية المغربية بالخارج على بلورة �إ�ستراتيجية‬
‫وطنية‪ ،‬ت�أخذ بعين االعتبار حاجيات �أفراد الجالية المغربية‪ ،‬والنظر‬
‫�إلى مختلف الق�ضايا التي يواجهونها في بلدان المهجر وفي المغرب‪،‬‬
‫عبر تعبئة كافة القطاعات الحكومية والم�ؤ�س�سات الوطنية‪ ،‬من �أجل‬
‫�ضمان حقوقهم وحمايتها‪� ،‬أينما تواجدوا‪ ،‬وذلك من خالل التن�سيق مع‬
‫‪130‬‬
‫مختلف الدول الم�ستقبلة للهجرة المغربية ومختلف الفاعلين الدوليين‬
‫في ميدان الهجرة‪ ،‬عن طريق نهج �سيا�سة ت�شاركية وتعاونية‪ ،‬وحوار‬
‫جاد وبناء‪ ،‬من �أجل تقريب وجهات النظر‪ ،‬والدفاع عن مواقف المغرب‬
‫وان�شغاالته‪ ،‬فيما يتعلق بحقوق المغاربة المقيمين في الخارج‪.‬‬
‫• الهي ـ ـ ـ�أة المكلفـ ــة بالمنا�صفة ومحاربة جميع �أ�شكال التمييز‪:‬‬
‫المحدثة بموجب الف�صل ‪ 19‬من الد�ستور؛ و"ت�سهر ب�صفة خا�صة‪ ،‬على‬
‫احترام الحقوق والحريات المن�صو�ص عليها في نف�س الف�صل المذكور‪،‬‬
‫مع مراعاة االخت�صا�صات الم�سندة للمجل�س الوطني لحقوق الإن�سان"‬
‫(الف�صل ‪ ،)164‬حيث "يتمتع الرجل والمر�أة‪ ،‬على قدم الم�ساواة‪،‬‬
‫بالحقوق والحريات المدنية وال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية‬
‫والثقافية والبيئية‪ ،‬الواردة في هذا الباب من الد�ستور‪ ،‬وفي مقت�ضياته‬
‫الأخرى‪ ،‬وكذا في االتفاقيات والمواثيق الدولية‪ ،‬كما �صادق عليها‬
‫المغرب‪ ،‬وكل ذلك في نطاق �أحكام الد�ستور وثوابت المملكة وقوانينها‪.‬‬
‫ت�سعى الدولة �إلى تحقيق مبــد�أ المنا�صفة بين الرجال والن�ساء‪ .‬و ُتحدث‬
‫لهذه الغاية‪ ،‬هي�أة للمنا�صفة ومكافحة كل �أ�شكال التمييز"(الف�صل‬
‫‪ .)19‬‬
‫ورغم �أن الد�ستور ن�ص على ال�سعي نحو المنا�صفة‪ ،‬من خالل‬
‫مقت�ضيات من �ش�أنها ت�شجيع تكاف�ؤ الفر�ص بين الن�ساء والرجال في‬
‫ولوج الوظائف االنتخابية‪ ،‬حيث "لكل مواطن �أو مواطنة‪ ،‬الحق في‬
‫الت�صويت‪ ،‬وفي التر�شح لالنتخابات‪� ،‬شرط بلوغ �سن الر�شد القانونية‪،‬‬
‫والتمتع بالحقوق المدنية وال�سيا�سية‪ .‬وين�ص القانون على مقت�ضيات‬
‫من �ش�أنها ت�شجيع تكاف�ؤ الفر�ص بين الن�ساء والرجال في ولوج الوظائف‬
‫االنتخابية" (الف�صل ‪� ، )30‬إال �أنه ‪ -‬الد�ستور ‪ -‬لم يذهب بعيدا في‬
‫هذا االتجاه‪ ،‬فيما يخ�ص الولوج �إلى الوظائف العمومية �أو الوظائف‬
‫ال�سامية‪ ،‬حيث ن�ص‪" :‬تعمل الدولة والم�ؤ�س�سات العمومية والجماعات‬
‫‪131‬‬
‫الترابية‪ ،‬على تعبئة كل الو�سائل المتاحة‪ ،‬لتي�سير �أ�سباب ا�ستفادة‬
‫المواطنين والمواطنات‪ ،‬على قدم الم�ساواة‪ ،‬من الحق في العالج‬
‫والعناية ال�صحية الحماية االجتماعية والتغطية ال�صحية‪ ،‬والت�ضامن‬
‫التعا�ضدي �أو المنظم من لدن الدولة؛ الح�صول على تعليم ع�صري‬
‫مي�سر الولوج وذي جودة؛ التن�شئة على الت�شبث بالهوية المغربية‬
‫والثوابت الوطنية الرا�سخة؛ التكوين المهني واال�ستفادة من التربية‬
‫البدنية والفنية؛ ال�سكن الالئق؛ ال�شغل والدعم من طرف ال�سلطات‬
‫العمومية في البحث عن من�صب �شغل‪� ،‬أو في الت�شغيل الذاتي؛ ولوج‬
‫الوظائف العمومية‪ ،‬ح�سب اال�ستحقاق؛ الح�صول على الماء والعي�ش‬
‫في بيئة �سليمة" (الف�صل ‪.)31‬‬
‫كما �أن الن�ص الد�ستوري تناول بالذكر‪ ،‬القانون التنظيمي الذي‬
‫�سيحدد على وجه الخ�صو�ص‪ ،‬مبادئ ومعايير التعيين في المنا�صب‬
‫ال�سامية‪ ،‬وذكر "ال�سيما منها مبادئ تكاف�ؤ الفر�ص واال�ستحقاق‬
‫والكفاءة وال�شفافية" ولم ين�ص في هذا الجزء من الد�ستور على‬
‫مبد�أ المنا�صفة‪ ،‬في ما يتعلق بـ "تعيين الكتاب العامين‪ ،‬ومديري‬
‫الإدارات المركزية بالإدارات العمومية‪ ،‬ور�ؤ�ساء الجامعات والعمداء‪،‬‬
‫ومديري المدار�س والم�ؤ�س�سات العليا‪ .‬وللقانون التنظيمي الم�شار �إليه‬
‫في الف�صل ‪ 49‬من هذا الد�ستور‪� ،‬أن يتمم الئحة الوظائف التي يتم‬
‫التعيين فيها في مجل�س الحكومة‪ .‬ويحدد هذا القانون التنظيمي‪ ،‬على‬
‫وجه الخ�صو�ص‪ ،‬مبادئ ومعايير التعيين في هذه الوظائف‪ ،‬ال�سيما‬
‫منها مبادئ تكاف�ؤ الفر�ص واال�ستحقاق والكفاءة وال�شفافية"(الف�صل‬
‫‪.)92‬‬
‫غير �أن الن�صو�ص التنظيمية لولوج المنا�صب ال�سامية‪ ،‬جعلت‬
‫من المنا�صفة معيارا �إ�ضافيا‪ ،‬حيث �إنها في �إطار ال�شروع في �إعمال‬
‫وتطبيق مقت�ضيات الد�ستور‪ ،‬فيما يخ�ص تطبيق مبد�أ ال�سعي نحو‬
‫‪132‬‬
‫المنا�صفة‪ ،‬ت�ضمنت ب�شكل وا�ضح م�ضامين الظهير ال�شريف رقم‬
‫‪ 1.12.20‬ال�صادر في ‪ 17‬يوليو ‪ 2012‬بتنفيذ القانون التنظيمي رقم‬
‫‪ 02.12‬المتعلق بالتعيين في المنا�صب العليا تطبيقا لأحكام الف�صلين‬
‫‪ 49‬و‪ 92‬من الد�ستور‪ ،‬والمر�سوم رقم ‪� 2.12.412‬صادر في ‪� 11‬أكتوبر‬
‫‪ 2012‬المتعلق بتطبيق �أحكام المادتين ‪ 4‬و‪ 5‬من القانون التنظيمي‬
‫رقم ‪ ،02.12‬فيما يتعلق بم�سطرة التعيين في المنا�صب العليا التي يتم‬
‫التداول في �ش�أن التعيين فيها في مجل�س الحكومة‪ ،‬تن�صي�صا وا�ضحا‬
‫و�صريحا على مبد�أ المنا�صفة‪ ،‬حيث يعتبر من المهم جدا ان�سجام‬
‫منطلقات الت�أ�سي�س الد�ستوري مـ ـ ـ ــع الإطارين الت�شريعي والتنظيمي‬
‫القائم‪ .‬‬
‫لكن‪ ،‬جميع هذه الإ�صالحات التي قام بها المغرب‪ ،‬وهي متقدمة‬
‫جدا‪ ،‬قد تبقى �إ�صالحات �شكلية‪ ،‬وال يكتب لها التحقق بكيفية عملية‬
‫ومادية‪� ،‬إذا لم يتم خلق الآليات الالزمة ل�ضمان خ�ضوع الدولة للقانون‬
‫الأ�سا�سي للبالد‪ ،‬في مجال عالقتها بمواطنيها؛ ف�آليات المراقبة هذه‬
‫غالبا ما تم الن�ص عليها في �صلب الد�ستور‪ ،‬لكن‪ ،‬م�س�ألة تنظيمها‬
‫وتبيان ت�شكيلها‪ ،‬يبقى رهينا بالقوانين التنظيمية‪ ،‬وبمدى جودتها‪.‬‬
‫وفي نف�س ال�سياق‪ ،‬تعد العدالة االنتقالية ‪ -‬ك�أهم نتاج حقوقي في‬
‫م�سيرة الن�ضال من �أجل الديمقراطية و�سيادة القانون‪ ،‬وثمرة للمجهود‬
‫العالمي لتر�سيخ مبادئ حقوق الإن�سان‪ -‬محاولة لإعادة بناء الدولة‬
‫الحديثة‪ ،‬على �أ�س�س الحرية والعدالة والم�ساواة‪ .‬ولعل �أهم المحطات‬
‫البارزة‪ ،‬في تاريخ المغرب الحديث‪ ،‬والتي �ستبقى خالدة في وجدان‬
‫كل المغاربة‪ ،‬ما اعتمدته هيئة الإن�صاف والم�صالحة‪ ،‬كنموذج حي‬
‫للعدالة االنتقالية‪ ،‬من قرارات هامة؛ بدء بالإقرار بح�صول انتهاكات‬
‫ج�سيمة لحقوق الإن�سان‪ ،‬خالل فترة ما �سمي ب�سنوات الر�صا�ص‪،‬‬
‫و�صوال �إلى تنظيم جل�سات عمومية لال�ستماع للمت�ضررين‪ ،‬بهدف‬
‫‪133‬‬
‫ك�شف الحقيقة‪ ،‬والوقوف على وقائع و�أحداث حية من الما�ضي الحقوقي‬
‫لبالدنا‪ ،‬وذلك من �أجل فهمه وتخطيه وعدم تكري�سه والم�صالحة معه‪،‬‬
‫ليتم طي �صفحة م�ؤلمة من تاريخنا طيا نهائيا‪ ،‬والم�ضي بعد ذلك‪،‬‬
‫بكل ثقة‪ ،‬نحو بناء م�ستقبل �أف�ضل‪ ،‬ي�سوده ال�سلم والوئام‪ ،‬وتتحقق في‬
‫�إطاره‪ ،‬التنمية والرخاء‪.‬‬
‫و�إذا كان المغرب يم�ضي اليوم في تجربة رائدة وبخطوات ثابتة‪،‬‬
‫في طريق التحديث والدمقرطة وتكري�س "دولة القانون"‪ ،‬ومحاربة‬
‫الف�ساد ونبذ الظلم واال�ستبداد‪ ،‬ونهج �أ�سلوب الحكم ال�صالح‪� ...‬إال‬
‫�أننا في الوقت نف�سه‪ ،‬ن�سجل �ضرورة اتخاذ �إجراءات عملية تعزز ثقة‬
‫المواطن في الدولة‪ ،‬وخا�صة ما يتعلق ب‪:‬‬
‫‪� -‬إ�صالح منظومة العدالة؛ حيث �إن هذا القطاع على �صلة‬
‫وثيقة‪ ،‬لي�س فقط بحقوق المتقا�ضين وبدولة القانون ومحاربة الر�شوة‬
‫والف�ساد‪ ،‬بل الأمر يطال �أي�ضا المجال االقت�صادي‪ ،‬وقدرة الم�شرع‬
‫على كفالة حقوق الم�ستثمرين‪ ،‬والبث بال�سرعة والنجاعة والإن�صاف‬
‫المطلوب‪ ،‬ذلك �أن الجهاز الق�ضائي ال زال يحتاج �إلى تكييفه ومالءمته‬
‫مع �شروط التنمية االقت�صادية؛ فالبيئة الت�شريعية والقانونية تعتبر من‬
‫العنا�صر الهامة جدا للمناخ اال�ستثماري؛ فثمة مقولة �شائعة تفيد ب�أن‬
‫ر�أ�س المال جبان‪ ،‬لذلك فهو ين�شد الأمان‪ ،‬وال �شيء يبعث على الأمان‬
‫لر�أ�س المال مثل وجود بيئة ت�شريعية �سليمة ومحفزة وم�ستقرة كذلك‪،‬‬
‫وجهاز ق�ضائي حديث‪ ،‬نزيه وم�ستقل‪ ،‬ي�سهر على احترام القانون‬
‫وتطبيقه‪ ،‬والتعجيل بتنفيذ الأحكام الق�ضائية ال�صادرة عنه‪ ،‬لأن تنفيذها‬
‫هو الأمر الأهم في الم�سطرة الق�ضائية برمتها‪ ،‬وعدم التنفيذ يفقد‬
‫الق�ضاء هيبته و�سلطته؛ فما جدوى المقرر الق�ضائي‪� ،‬إن لم ينفذ على‬
‫�أر�ض الواقع‪ ،‬وخ�صو�صا المقررات ال�صادرة �ضد الدولة‪ ،‬والتي ال تنفذ‬
‫في الغالب؛ مما يطرح �إ�شكاال حقيقيا حول ا�ستقالل ونزاهة الق�ضاء‬
‫‪134‬‬
‫في بالدنا‪ .‬يقول الملك الراحل الح�سن الثاني‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬في هدا‬
‫ال�صدد‪ ،‬وفي خطاب �صريح‪ ،‬بتاريخ ‪ 31‬مار�س ‪" :1982‬الحرام معلق‬
‫بكل قا�ض قا�ض‪ .‬للمغاربة تفكير خا�ص؛ �إذا جاء الجفاف‪ ،‬قالوا هي‬
‫�إرادة اهلل‪ ،‬واهلل غالب‪ ،‬كانت حمى التفويد ت�أتي‪ ،‬كما وقع �أيام الحماية‪،‬‬
‫فيقولون اهلل غالب‪ ،‬ت�أتي كارثة ما‪ ،‬كالقحط الذي وقع بفا�س‪ ،‬يقولون‬
‫اهلل غالب‪ ،‬جاء زلزال �أكادير‪ ،‬فقالوا اهلل غالب‪ ،‬ولكن‪� ،‬أن يظلمهم‬
‫�شخ�ص؛ فهنا ال يقولون اهلل غالب‪ ،‬المغاربة لهم ح�سا�سية خا�صة تجاه‬
‫هذا المو�ضوع"‪.‬‬
‫كانت �إذن دعوة �صريحة من طرف الراحل الح�سن الثاني‪� ،‬إلى‬
‫الق�ضاة‪ ،‬من �أجل خدمة المواطنين بتفان و�إخال�ص‪ ،‬واالبتعاد قدر‬
‫الإمكان عن كل المواقف والإجراءات البعيدة كل البعد عن القيم‬
‫والأخالق النبيلة‪ ،‬والتي ت�سيء �إلى م�ؤ�س�سة الق�ضاء‪ ،‬ك�أهم مرفق عمومي‬
‫في الدولة‪ ،‬وتعيق بالتالي انتقال بالدنا �إلى دولة القانون‪ .‬وعلى هذا‬
‫الأ�سا�س‪ ،‬ف�إن واجب التحلي بالنزاهة واال�ستقامة �صفة �أ�سا�سية‪،‬‬
‫يجب �أن يت�سم بها كل قا�ض في �إطار عمله ون�شاطه‪ ،‬وذلك من �أجل‬
‫تحقيق العدالة‪ ،‬والحفاظ على �سمعة الق�ضاء‪ ،‬وال�سلطة الق�ضائية في‬
‫الدولة ب�صفة عامة‪ ،‬ذلك �أن الأخالق "هي �أ�سا�س من �أ�س�س الدولة‪،‬‬
‫تقوم بقيامها‪ ،‬وتنهار بانهيارها‪ .‬ومن هذا المنظور‪ ،‬ف�إن �أول واجبات‬
‫المرفق العام �أن يلتزم بالأخالق الحميدة‪ ،‬و�أن يخدم المواطنين‬
‫بالإخال�ص الجدير بال�ش�أن العام والم�صلحة العليا‪ ،‬على النحو الذي‬
‫يقت�ضيه االختيار الديمقراطي في دولة الحق والقانون" (الملك محمد‬
‫ال�ساد�س �أكتوبر ‪.)1999‬‬
‫‪� -‬إ�صالح النظام الإداري‪ ،‬والذي بدوره ال يقل �أهمية‪ ،‬من‬
‫حيث ت�أثيره على المناخ اال�ستثماري‪ ،‬عن النظام الق�ضائي ال�سائد في‬
‫البلد‪ ،‬بل قد يفوقه �أهمية في بع�ض الحاالت؛ فخالل حركته ورواجه‪،‬‬
‫‪135‬‬
‫يدخل ر�أ�س المال في عالقات ذات طابع �إداري وتنظيمي مع العديد‬
‫من الأطراف والهيئات والمنظمات؛ فهو يدخل في عالقات �إدارية مع‬
‫الجهات المخت�صة‪ ،‬لإنجاز الدرا�سات االقت�صادية المختلفة المتعلقة‬
‫ب�إن�ضاج فكرة الم�شروع والتمهيد التخاذ القرار بالتنفيذ‪ ،‬ويدخل في‬
‫عالقات �إدارية مع الجهات الر�سمية المعنية خالل مرحلة الترخي�ص‬
‫والت�أ�سي�س للم�شروع‪ ،‬ويدخل مع الم�ؤ�س�سات المالية بعالقات مت�شعبة‬
‫من �أجل الح�صول على القرو�ض المالية الالزمة لتمويل الم�شروع‪،‬‬
‫وفتح الح�سابات الدائنة والمدينة‪ ،‬وتقديم الخدمات البنكية المختلفة‪،‬‬
‫ويدخل في عالقات �إدارية �أي�ضا مع الجهات الم�ستوردة والمزودة‬
‫للم�شروع بم�ستلزمات الإنت ـ ـ ــاج والتجهيزات المختلفة‪ ،‬ومع الجهات‬
‫الجمركية وال�ضريبية المختلفة‪ ،‬ومع الجهات المعنية بالت�سويق‪ ...‬وفي‬
‫جميع هذه الم�سارات ذات الطابع الإداري‪ ،‬يحتاج ر�أ�س المال �إلى كفاءة‬
‫وفعالية الجهاز الإداري‪ ،‬ويحتاج �إلى غياب الف�ساد والبيروقراطية‪،‬‬
‫و�إلى و�ضوح الإجراءات الإدارية‪ ،‬و�إلى ال�سرعة في �إنجاز معامالته؛‬
‫فالزمن بالن�سبة لر�أ�س المال‪ ،‬له قيمة كبيرة‪ ،‬حيث �أ�صبح اليوم من‬
‫�أهم العوامل الم�ؤثرة في قرار اال�ستثمار والإنتاج؛ وبالتالي‪ ،‬في تحقيق‬
‫التنمية المن�شودة‪.‬‬
‫‪ -‬كذلك حماية الم�ستهلك؛ فحرية تنقل ال�سلع والخدمات على‬
‫ال�صعيد العالمي‪ ،‬تطرح اليوم على االقت�صاديات الوطنية �إ�شكاالت‬
‫عديدة‪ ،‬ترتبط �أ�سا�سا‪ ،‬بالمناف�سة والأ�سعار والجودة و�صحة و�سالمة‬
‫الم�ستهلكين؛ من هنا تبدو �أهمية اال�ستهالك‪ ،‬ك�أخطر مراحل الدورة‬
‫االقت�صادية‪ ،‬بعد الإنتاج والتوزيع والإنفاق؛ مما يجعل �إدماج البعد‬
‫اال�ستهالكي داخل �أي �سيا�سة تنموية‪� ،‬ضرورة ملحة‪ ،‬لتوفير المواد‬
‫وال�سلع والخدمات التي يحتاجها الم�ستهلكون �أوال‪ ،‬ولحماية حقوقهم‬
‫وم�صالحهم ثانيا؛ فاالقت�صاد ال�سيا�سي �أ�صبح اليوم هو ذلك العلم‬
‫‪136‬‬
‫الذي يدر�س عالقة الأفراد بع�ضهم ببع�ض‪ ،‬وعالقتهم بالأ�شياء‪ ،‬من‬
‫�أجل الو�صول �إلى تحقيق الرفاهية االقت�صادية واالجتماعية‪.‬‬
‫لقد مرت حركة حماية الم�ستهلك في العالم‪ ،‬عبر عدة مراحل‪،‬‬
‫اعتبارا لل�سيا�سات االقت�صادية المتبعة في مختلف الدول‪ ،‬واعتبارا‬
‫كذلك لدرجة التطورات االقت�صادية واالجتماعية‪ .‬لكن البدايات‬
‫الأولى‪ ،‬ظهرت في الواليات المتحدة الأمريكية‪ ،‬حينما �أعلن الرئي�س‬
‫جون كينيدي �إعالنا تاريخيا يوم ‪ 15‬مار�س ‪( 1962‬وهو التاريخ الذي‬
‫اعتمد فيما بعد لتخليد اليوم العالمي للم�ستهلك) تحدث فيه عن �أربعة‬
‫حقوق �أ�سا�سية للم�ستهلك‪ :‬وهي الحق في تلبية الحاجيات الأ�سا�سية‪،‬‬
‫والحق في ال�سالمة والحماية من الأخطار التي تهدد ال�صحة‪ ،‬والحق‬
‫في المعلومة الكافية‪ ،‬والحق في االختيار‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬عرفت هذه‬
‫الحركة تطورا �سريعا‪ ،‬في عقد ال�ستينات‪ ،‬خا�صة بعد �إن�شاء االتحاد‬
‫الدولي لجمعيات الم�ستهلكين‪� ،‬سنة ‪ ،1960‬والذي �سي�صبح في ما بعد‬
‫المنظمة العالمية للم�ستهلك‪.‬‬
‫بعد ذلك ب�سنوات‪ ،‬وتحديدا في يوم ‪� 9‬أبريل ‪� ،1985‬أ�صدرت‬
‫الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يحمل رقم ‪ ،248/39‬بمثابة وثيقة‬
‫تحمل عنوان "المبادئ التوجيهية الرامية لحماية الم�ستهلك"‪ ،‬ت�شمل‬
‫الحقوق الأ�سا�سية الأربعة‪ ،‬زائد �أربعة حقوق �أخرى دقيقة و�أ�سا�سية‪،‬‬
‫من الواجب تلبيتها كذلك‪ ،‬وهـ ـ ـ ـ ــي‪ :‬الحق في اال�ستماع‪ ،‬والحق في‬
‫المتابعة‪ ،‬وكذا في التعوي�ض وتوفير الو�سائل الكافية لذلك‪ ،‬والحق في‬
‫التربية على اال�ستهالك‪ ،‬والحق في بيئة �سليمة وم�ستدامة‪ .‬وتعتبر هذه‬
‫المبادئ التوجيهية العامة‪ ،‬ب�أن جميع المواطنين‪ ،‬كيفما كان دخلهم‬
‫وو�ضعيتهم االجتماعية‪ ،‬لهم نف�س الحقوق ب�صفتهم م�ستهلكين‪ .‬هذه‬
‫الحقوق الأ�سا�سية تم االتفاق حولها واالعتراف بها من طرف جل‬
‫الحكومات‪ ،‬حيث �شكلت الأ�سا�س لكل الت�شريعات والقوانين الوطنية‬
‫‪137‬‬
‫الرامية لحماية الم�ستهلك‪ ،‬و�أي�ضا �أر�ضية عمـ ـ ـ ـ ــل لجمعيات حماية‬
‫الم�ستهلك عبر العالم؛ كما دعت هذه المبادئ التوجيهية �إلى م�ساعدة‬
‫الدول على تحقيق حماية كافية للمواطنين ب�صفتهم م�ستهلكين‪،‬‬
‫وعلى �إتباع �أنماط �إنتاج وتوزيع �سهلة‪ ،‬من �ش�أنها تلبية حاجيات جميع‬
‫المواطنين‪ ،‬وكذا ت�سهيل قيام جمعيات للم�ستهلكين �أو تنظيمات ذات‬
‫ال�صلة‪ ،‬تكون م�ستقلة‪ ،‬للتعبير عن ر�أيها بكل حرية‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى‬
‫تعزيز التعاون الدولي في ميدان حماية الم�ستهلك؛ كما �أن �إعالن‬
‫االتحاد الأوروبي �أفرد مادة خا�صة (المادة ‪ 153‬من ميثاق ام�ستردام)‪،‬‬
‫�أ�شارت �إلى �ضرورة حماية الم�ستهلكين و�إعالمهم‪ ،‬و�ضرورة تو�ضيح‬
‫�أهداف االتحاد في الميدان اال�ستهالكي‪ ،‬و�إدخال هذه الأهداف في كل‬
‫ال�سيا�سات التنموية لدول االتحاد‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي نجد الم�ستهلك داخل الدول المتقدمة‪ ،‬يبحث‬
‫ب�صورة م�ستمرة ودائمة‪ ،‬عن �أ�سلوب حياة جديد‪ ،‬ونمط عي�ش راق‪،‬‬
‫ونظام قيم متميز‪ ،‬ي�ضمن له الرفاهية وال�سعادة‪ ،‬اقت�صاديا واجتماعيا‬
‫وثقافيا (بيئة جيدة و�سليمة وم�ستدامة‪ ،‬وم�ستوى تعليمي جيد و�أدوار‬
‫اجتماعية و�إن�سانية للم�ؤ�س�سة التعليمية‪ ،‬خا�صـ ـ ـ ــة كانت �أو عامة‪،)...‬‬
‫مازال الم�ستهلك في بالدنا‪ ،‬على غرار كل الدول النامية‪ ،‬في بحث‬
‫دائم عن الو�سائل التي تمكنه من تلبية الحاجيات الأ�سا�سية‪ ،‬وحتى‬
‫هذه الأخيرة ال تت�أتى له �إال ب�صعوبة؛ فكيف له �أن يفكر في حماية نف�سه‬
‫و�صحته عند اال�ستهالك؛ فالذي يهمه بالدرجة الأولى لي�س الجودة‬
‫و�إنما ال�سعر الذي يبقى يحدد ويتحكم في كل اختياراته ال�شرائية‪.‬‬
‫لم يعرف المغرب ظه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــور �أولى الجمعيات المهتمة بحماية‬
‫الم�ستهلك‪� ،‬إال في بداية الت�سعينات‪ ،‬والتي �سعت جاهدة ليكون لها دور‬
‫لحماية الم�صالح االقت�صادية للم�ستهلكين‪ ،‬على غرار ما يوجد مثال‬
‫في الواليات المتحدة الأمريكية �أو في �أوروبا؛ لكن دون جدوى؛ هذه‬
‫‪138‬‬
‫الجمعيات مدعوة اليوم لم�ضاعفة الجهود‪ ،‬والتوفر على الو�سائل التقنية‬
‫والمادية والب�شرية‪ ،‬وخا�صة جلب الكفاءات والخبرات المخت�صة‪،‬‬
‫بالإ�ضافة �إلى ت�أ�سي�س �شبكة وطنية قوية ومتما�سكة لحماية الم�ستهلك‪،‬‬
‫تكون مهمتها الأ�سا�سية ن�شر المعلومة‪ ،‬ونهج الطرق ال�شرعية لالحتجاج‪،‬‬
‫كلما دعت ال�ضرورة لذلك؛ فت�أ�سي�س هذه ال�شبكة �أ�صبح اليوم �ضروريا‪،‬‬
‫�أكثر من �أي وقت م�ضى‪ ،‬حتى ال تتحول �أ�سواقنا �إلى مزامل للمنتجات‪،‬‬
‫ت�شكل خطرا على �صحة الم�ستهلكين وعلى البيئة‪ .‬كما �أن الم�ستهلك‬
‫مطالب منه كذلك حماية نف�سه بنف�سه‪ ،‬وذلك بالتعود على الت�شكي‬
‫ورفع دعوى المتابعة‪ ،‬والمطالبة بالتعوي�ض وجبر ال�ضرر‪ ،‬وذلك مهما‬
‫كانت قيمة وطبيعة المنتوج‪ ،‬مو�ضوع ال�ضرر؛ فمن الواجب �إذن على‬
‫كل واحد منا الت�شكي لدى المنتج ولدى جمعيات حماية الم�ستهلك‪،‬‬
‫وكذا لدى ال�سلطات المعنية؛ �أي لدى المحكمة التي توجد تحت نفوذها‬
‫الم�ؤ�س�سة المنتجة �أو البائع �أو وكالة الإ�شهار المخادعة‪...‬‬
‫�إن �أي تر�سانة قانونية ترمي �إلى حماية حقوق الم�ستهلكين‪،‬‬
‫يجب �أن تنطلق من وثيقة الأمم المتحدة‪ .‬وتت�ضمن حقوق الم�ستهلك‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬ك�ضرورة �إعالمه حول خ�صائ�ص ومميزات ال�سلع والب�ضائع‬
‫والخدمات‪ ،‬وحماية م�صالحه االقت�صادية‪ ،‬وذلك بتقنين �أو منع‬
‫�إنتاج �أو ا�ستيراد �أو بيع كل منتوج �أو خدمة‪ ،‬قد تلحق ال�ضرر ب�صحته‬
‫و�سالمته؛ زد على ذلك‪� ،‬إلزامية التعوي�ض‪ ،‬وجبر ال�ضرر الذي يلحق به‪،‬‬
‫وكذلك الحق في تمثيله‪ ،‬والدفاع عن م�صالحه وحقوقه؛ بالإ�ضافة �إلى‬
‫تقنين بع�ض الممار�سات التجارية‪ ،‬كالإ�شهار والبيع عن بعد‪ ،‬ومختلف‬
‫الممار�سات التجاريـ ـ ـ ـ ـ ــة غير القانونية‪ .‬وبالن�سبة للإ�شهار الخادع‬
‫على �سبيل المثال‪ ،‬يجب �أن يعاقب عليه‪ ،‬مهما كانت و�سيلة ا�ستعماله؛‬
‫�إعالنات حائطية �أو �صحافية �أو ر�ساالت �إذاعية �أو عبر الهاتف �أو‬
‫�أفالم تلفزيونية و�سينمائية‪ ...‬كما �أن �أمر توقيف �إ�شهار معين‪ ،‬مو�ضوع‬
‫‪139‬‬
‫دعوى‪ ،‬يمكن �أن يكون فوريا‪ ،‬رغما عن جميع طرق الطعن بوا�سطة‬
‫المحكمة‪ ،‬التي تم �إبالغها بالمتابعة‪ .‬كما �أن الت�شطيب (رفع اليد)‬
‫على منع الإ�شهار‪ ،‬يمكن طلبه لل�سلطة الق�ضائية التي �أ�صدرته‪ ،‬ورف�ضه‬
‫قابل للطعن بوا�سطة الطرق العادية؛ و�أخيرا‪ ،‬العمل على خلق مجل�س‬
‫وطني لال�ستهالك‪ ،‬يكون من مهامه الرئي�سية حماية الم�ستهلك‪،‬‬
‫وتقنين االئتمان اال�ستهالكي والعقاري‪ ،‬وو�ضع �آليات الوقاية من حاالت‬
‫المديونية المفرطة التي قد يتعر�ض لها‪ ،‬وخا�صة عندما يتعلق الأمر‬
‫بحاالت االحتكار‪ ،‬وذلك بتقنين الأ�سعار واتخاذ الإجراءات الالزمة‬
‫للق�ضاء على جميع الحاالت غير العادية داخل ال�سوق الوطنية‪.‬‬
‫لقد ارتفعت في ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬وثيرة الطلب على القرو�ض‬
‫اال�ستهالكية؛ قائمة طويل ـ ـ ـ ـ ـ ــة من المنا�سبات الدينية واالجتماعية‬
‫�أ�صبحت ترهق ميزانية �أزيد من ‪ %90‬من الأ�سر المغربية؛ ف�أكثر من‬
‫‪ %70‬من الرواتب ال�شهرية تتبخر �شهريا ب�سبب قر�ض �سابق و�آخر‬
‫جديد؛ ومما �ساعد على هذا الو�ضع‪ ،‬حالة الركود االقت�صادي التي‬
‫تعرفها بالدنا‪ ،‬وات�ساع دائرة الفقر‪ ،‬وتدهور الظروف االجتماعية التي‬
‫تعي�شها �شرائح وا�سعة من المجتمع‪ ،‬وحتى الموظفين منهم والأجراء‪،‬‬
‫�أ�ضف �إلى ذلك ازدياد "الفتنة" اال�ستهالكية والمتطلبات اليومية‪،‬‬
‫وذلك بفعل تطور و�سائل الدعاية‪ ،‬وتقارب �أنماط العي�ش‪ ،‬واالرتفاع‬
‫العام للأ�سعار‪ ،‬نتيجة العولمة والليبرالية واقت�صاد ال�سوق؛ �إ�ضافة �إلى‬
‫غياب �سيا�سة �شاملة وناجعة للت�ضامن االجتماعي ومد يد الم�ساعدة‪،‬‬
‫لت�صل �إلى جميع �شرائح المجتمع‪ ،‬وكذلك غياب �أو بالأحرى عدم فعالية‬
‫ال�سيا�سة المتبعة لحد الآن لإعادة التوزيع الأولي �أو الوظيفي‪ ،‬والتي‬
‫يبقى �صندوق ال�ضمان االجتماعي و�صناديق التقاعد و�آليات التغطية‬
‫ال�صحية �أبرز �أركانها‪ .‬كل ذلك‪� ،‬ساهم �إلى حد كبير‪ ،‬في نمو ن�شاط‬
‫القرو�ض اال�ستهالكية التي فاقت بكثير ن�سبة نمو القرو�ض الإنتاجية‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫وبزيادة الإقبال على هذا النوع من االئتمان الق�صير الأمد‪ ،‬والذي‬
‫يرجع �أ�سا�سا �إلى الت�سهيالت الممنوحة من طرف م�ؤ�س�سات االئتمان‬
‫المختلفة‪ ،‬والتي تتناف�س فيما بينها من �أجل الظفر ب�أكبر عدد من‬
‫المقتر�ضين‪ ،‬يرتفع خطر المديونية المفرطة؛ الأمر الذي ي�ستوجب‬
‫التحرك ال�سريع‪ ،‬من �أجل تنظيم القطاع وحماية الم�صالح الم�شتركة‬
‫بين المقر�ض والمقتر�ض‪.‬‬
‫�إن م�ؤ�س�سات االئتمان اال�ستهالكي ت�ستغل حاجة المقتر�ضين‪،‬‬
‫مع غياب �آلية وا�ضحة للمراقبة والحماية‪ ،‬وت�ستغل كذلك هام�ش‬
‫الحرية الممنوح من طرف ال�سلطة النقدية‪ ،‬لتحدد معدالت فائدة‬
‫مرتفعة جدا‪ ،‬تفوق في الكثير من الأحيان‪ ،‬المعدالت العالمية‪ ،‬وحتى‬
‫المعمول بها داخل البلدان المتقدمة‪ .‬وما دامت الأجور متدنية والقدرة‬
‫ال�شرائية محدودة‪ ،‬ف�إن ت�أثير القرو�ض اال�ستهالكية يبدو وا�ضحا على‬
‫الأ�سرة‪ ،‬وعلى الم�ستهلك ب�شكل عام‪ .‬وتتمثل الم�شاكل التي يتعر�ض‬
‫لها الم�ستهلك مع مثل هذا النوع من القرو�ض‪ ،‬في �أنها تبرم دون‬
‫معرفته بم�ضمون االتفاق؛ وكما نعلم جميعا‪ ،‬ف�إن من �شروط �إبرام‬
‫العقود‪ ،‬الترا�ضي؛ وهو �شرط مغيب لدى �إبرام عقود ب�ش�أن القرو�ض‬
‫اال�ستهالكية‪ ،‬حيث تمنح قرو�ض ب�شروط‪ ،‬يظهر من خالل القراءة‬
‫الأولية للعقد المبرم مع الزبون‪ ،‬نية االبتزاز واال�ستغالل‪ ،‬حيث يت�ضمن‬
‫العقد فقط الواجبات التي على الزبون‪ ،‬دون الواجبات التي على‬
‫الم�ؤ�س�سة المانحة‪ ،‬في الوقت الذي نحن في حاجة �إلى بث روح التعاون‬
‫والت�ضامن والتكافل ومد يد الم�ساعدة �إلى الآخرين‪ ،‬ولي�س ا�ستغالل‬
‫ظروفهم وحاجاتهم �إلى مرفق من المرافق الني �أ�صبحت اليوم �أ�سا�سية‬
‫في حياتهم‪ ،‬حيث يبقى المقتر�ض من الناحية القانونية‪ ،‬مجبرا على‬
‫االلتزام ببنود العقد‪ ،‬دون ح�صوله على �أي امتياز بالمقابل‪ ،‬كما هو‬
‫الحال بالن�سبة لم�شكل االخت�صا�ص الترابي مثال‪ ،‬والذي ال يجبر‬
‫‪141‬‬
‫الم�ؤ�س�سة البنكية على مقا�ضاة زبنائها بنف�س المنطقة التي ينتمون‬
‫�إليها‪ ،‬و�إنما تختار في العادة‪ ،‬تقديم ملفاتهم بالمدينة التي يوجد بها‬
‫المقر المركزي‪ .‬لذلك‪ ،‬وك�إجراءات وقائية‪� ،‬أ�صيحت الحاجة ملحة‬
‫اليوم لو�ضع "عقد نموذجي" يفرق بو�ضوح بين الواجبات والحقوق‬
‫للطرفين؛ م�ؤ�س�سات االئتمان اال�ستهالكي من جهة‪ ،‬وزبنائها من جهة‬
‫�أخرى‪ ،‬كي ال تبقى اال�ستفادة من هذه القرو�ض محتكرة من طرف‬
‫القلة‪ ،‬وال تخ�ضع �إلى المناف�سة وقانون ال�سوق؛ كما �أنه يجب �إلزام‬
‫م�ؤ�س�سات االئتمان اال�ستهالكي هذه‪ ،‬على ف�سخ االتفاقية التي تجمعهم‬
‫مع البائعين الو�سطاء في حالة عدم احترامهم لواجباتهم والتزاماتهم‬
‫كاملة‪ ،‬و�إلزامهم على �إخبار زبنائها بكل ما يت�ضمنه العقد المبرم من‬
‫بنود‪ ،‬من قبيل تحديد المبلغ المقتر�ض‪ ،‬ومعدل الفائدة المتفق عليه‪،‬‬
‫وبيان الجدولة المتوقعة‪ ،‬وتحديد حد �أدنى للأجر‪ ،‬والذي من دونه ال‬
‫يمكن للموظف �أو الأجير الح�صول على القر�ض‪.‬‬
‫ويبقى الإطار القانوني المنظم لهذا النوع من االئتمان هو‬
‫القانون البنكي الذي يعتبر م�ؤ�س�سات االئتمان اال�ستهالكي بمثابة‬
‫بنوك؛ �أي �أنها تخ�ضع �إلى م�سطرة الترخي�ص من ال�سلطات النقدية‪،‬‬
‫وتخ�ضع للمراقبة من طرف عدد من �سلطات المراقبة الغير المبا�شرة‬
‫والمبا�شرة‪ ،‬وعلى ر�أ�سها جميعا بنك المغرب‪.‬‬
‫�إن النظام البنكي بالمغرب اليوم‪ ،‬نظام قوي ومتين‪ ،‬ولي�س‬
‫خا�ضعا لمراقبة حقيقية و�صارمة؛ فمعدالت الفائدة مرتفعة جدا‪،‬‬
‫والعقود التي تبرم بين الم�ؤ�س�سات والزبناء تت�ضمن واجبات المقتر�ض‬
‫وتغفل حقوقه؛ وهناك �شبه فراغ ت�شريعي فيما يتعلق بخ�صو�صية‬
‫االئتمان اال�ستهالكي؛ فهو م�ؤطر بقانون ي�ساوي بين م�ؤ�س�سات‬
‫االقترا�ض والم�ؤ�س�سات البنكية الأخرى؛ وهنا‪ ،‬نالحظ تعدد الأطراف‪،‬‬
‫وتداخل �أطوارها واخت�صا�صاتها؛ وهذا طبعا غير �صحي‪ ،‬لأن هذا‬
‫‪142‬‬
‫القطاع يحتاج �إلى قانون وا�ضح‪ ،‬يبين االخت�صا�صات‪ ،‬وينظم العالقة‬
‫بين الزبناء وم�ؤ�س�سات االئتمان‪.‬‬
‫ال يمكن للقطاع البنكي �أن يحل ب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ،‬محل‬
‫الدولة في حل الم�شاكل المادية للمواطنين‪ ،‬لأنه ي�شتغل في المقام‬
‫الأول لح�سابه الخا�ص‪ ،‬وال تهمه المنفعة العامة �أو م�صلحة االقت�صاد‬
‫الوطني؛ قطاع مهتم بتحقيق �أكبر قدر من الأرباح المادية؛ قطاع مبني‬
‫على التقليد‪ ،‬ويعرف مناف�سة لينة وهادئة وغير �شر�سة‪ ،‬وال تهدف �إلى‬
‫الغزو �أو �إلى االقتحام وال�سيطرة؛ المناف�سة داخله غير �شريفة‪ ،‬كما هو‬
‫ال�ش�أن بالن�سبة لقطاع المحروقات‪ ،‬لأنها تقوم على احتكار قلة‪ ،‬تعمل‬
‫جاهدة على اقت�سام ال�سوق‪ ،‬واال�ستفادة ما �أمكن من اقت�صاد الريع‪،‬‬
‫م�ستغلة في ذلك ظروف النا�س وحاجاتهم المتزايدة با�ستمرار؛ فهناك‬
‫اليوم توافق تام حول كل �شيء‪ ،‬يتم بين الكبار‪ ،‬في ال�صالونات الكبرى‬
‫وداخل فنادق الخم�س نجوم‪ ،‬على ح�ساب الم�ستهلك الب�سيط و�صاحب‬
‫الحاجة‪ ،‬والذي هو دائما في حالة �ضعف؛ توافق حول المنتوجات‬
‫المالية‪ ،‬وحول معدالت الفائدة‪ ،‬وحـ ـ ـ ــول ال�ضمانات؛ وهذا الأمر ال‬
‫ي�ؤدي ب�أي �شكل من الأ�شكال �إلى الم�صلحة العامة‪ .‬لذلك‪ ،‬يجب تقنين‬
‫االئتمان اال�ستهالكي‪ ،‬وو�ضع �آليات واتخاذ �إجراءات للوقاية من حاالت‬
‫المديونية المفرطة التي يتعر�ض لها المواطنون‪ ،‬وخا�صة �أنه لي�ست‬
‫هناك ا�ستقاللية �أومراقبة حقيقية؛ الأمر الذي يحتم اليوم �ضرورة‬
‫�إ�سناد هذه المراقبة‪� ،‬إلى جانب بنك المغرب‪� ،‬إلى المجتمع المدني؛‬
‫فالبنك دوره هو البقاء على قيد الحياة؛ وهو ح�صوله على �أكبر قدر من‬
‫المال‪ ،‬الباقي ال يهم؛ �إنها حالة ريع طال �أمدها طويال‪ ،‬و�أعتقد �أنه مع‬
‫تنزيل الإ�صالح الد�ستوري والإ�صالح ال�سيا�سي‪ ،‬يجب الإلحاح كذلك‬
‫وبنف�س الأهمية عن الإ�صالح االقت�صادي والإ�صالح البنكي‪ ،‬والذي‬
‫‪143‬‬
‫يجب �أن يكون عنوانه البارز‪ ،‬تحرير القطاع‪ ،‬وفتحه �أمام ال�شرفاء من‬
‫�أ�صحاب المال والثروة‪ ،‬لتكون المناف�سة بحق‪ ،‬حرة وكاملة‪.‬‬

‫‪ - 2‬الحكامة الجيدة‪ ،‬ومكافحة الف�ساد‬

‫عرف م�صطلح الحكامة الجيدة‪ ،‬ومكافحة الف�ساد‪ ،‬في ال�سنوات‬


‫الأخيرة‪ ،‬تداوال وا�سعا من طرف المنظمات الدولية‪ ،‬ك�إحدى الو�سائل‬
‫الحديثة لبلوغ الديمقراطية واال�ستقرار االجتماعي‪ ،‬وذلك في �أفق‬
‫تحقيق التنمية التي نجد من �أهم م�ستوياتها‪ ،‬في الدول المتقدمة‪،‬‬
‫الحكامة الجيدة والق�ضاء على الف�ساد؛ �إ�ضافة �إلى االهتمام الكبير‬
‫اليوم‪ ،‬على الم�ستويين الر�سمي وال�شعبي‪ ،‬وكذا على م�ستوى الر�أي‬
‫العام الدولي‪ ،‬بموا�ضيع الحكامة والف�ساد‪ ،‬حيث ت�شير الأمم المتحدة‬
‫في العديد من تقاريرها ال�سنوية حول التنمية‪� ،‬إلى �إ�شكالية �إر�ساء‬
‫الحكامة الجيدة‪ ،‬و�ضرورة الق�ضاء على الف�ساد‪ ،‬في مختلف دول‬
‫العالم‪ ،‬وخا�صة النامية منها‪ ،‬لأن الف�ساد يقو�ض جهود التنمية؛ كما �أن‬
‫العديد من الدرا�سات الحديثة‪ ،‬ت�شير �إلى العالقة المبا�شرة والأكيدة‪،‬‬
‫بين م�ستويات الحكامة الجيدة والنمو االقت�صادي‪.‬‬
‫بداية‪ ،‬البد من االعتراف بعدم وجود تعريف موحد ومعتمد‬
‫للحكامة الجيدة‪ ،‬ولكن هناك مبادئ عامة‪ ،‬تعبر عن ت�صور �شامل‪،‬‬
‫ينطلق من معايير‪ ،‬ت�شكل منهجية جديدة لإعادة تنظيم وت�أطير‬
‫العالقات‪ ،‬و�إعادة توزيع الأدوار داخل المجتمع‪ ،‬على جميع الم�ستويات‪،‬‬
‫وفي كل القطاعات؛ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي‪ ،‬اعتبرها عملية‬
‫�صنع القرارات وتنفيذها؛ وتعرف �أي�ضا‪ ،‬ب�أنها مجموعة من القيم‬
‫وال�سيا�سات والعمليات والم�ؤ�س�سات‪ ،‬والتي من خاللها‪ ،‬تدير جماعة‬
‫مجتمعية �ش�ؤونها االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬بما في ذلك‬
‫ال�صفقات التي تتم بين الدولة من جهة‪ ،‬والمجتمع المدني والقطاع‬
‫‪144‬‬
‫الخا�ص من جهة �أخرى؛ ومن ثم‪ ،‬تت�صف الحكامة الجيدة بالموا�صفات‬
‫المهمة الآتيـ ـ ـ ـ ــة‪ :‬الم�شاركة وال�شفافية والكفاءة والفعالية واال�ستجابة‬
‫والم�ساءلة والديمقراطية والت�شاركية والعدالة وال�شمولية و�سيادة‬
‫القانون‪.‬‬
‫�إن الحكامة‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى كونها مطلبا دوليا‪ ،‬حقوقيا و�سيا�سيا؛‬
‫هي كذلك وبالأ�سا�س‪ ،‬مطلب تدبيري وتنموي؛ اقت�صادي واجتماعي‬
‫وبيئي‪� ...‬إنها مجموعـ ـ ــة من القيم والعادات والقواعد التي ت�ساعد‬
‫الأ�شخا�ص والم�ؤ�س�سات‪ ،‬على اتخاذ قرارات ناجعة‪ ،‬وبلوغ �أهداف‬
‫م�شتركة‪ ،‬وذلك اعتمادا على �سلطة ال�شرعية والم�شروعية؛ �إنها �أ�سلوب‬
‫جديد في الحكم‪ ،‬تعتمده الدولة من خالل م�ؤ�س�ساتها المختلفة‪،‬‬
‫لتح�سين نوعية حياة المواطنين‪ ،‬وتحقيق رفاهيتهم‪ ،‬وذلك في تناغم‬
‫تام مع القطاع الخا�ص والمجتمع المدني؛ �إنها بعبارة �أخرى‪ ،‬قدرة‬
‫الدولة على التدبير الجيد للموارد‪ ،‬والتزامها ب�ضمان حقوق النا�س‪.‬‬
‫ومنذ �سنوات‪ ،‬والم�ؤ�س�سات الدولية ت�ضع المعايير لخارطة طريق‬
‫نموذجية حول حكامة جيدة‪ ،‬على �أ�سا�س من الم�شاركة والمراقبة‬
‫والمحا�سبة وال�شفافية‪ ...‬ولكن‪ ،‬هذه المعايير تبقى في مجملها‪ ،‬ال‬
‫ت�أخذ بعين االعتبار تنوع الحاالت واختالفها‪ ،‬وكذا الإطار التاريخي‬
‫والثقافي لكل مجتمع على حدة‪ .‬ولذلك‪� ،‬أ�صبح من ال�ضروري اليوم‪،‬‬
‫على المغرب �أن ي�ساهم بقوة في النقا�ش الدائر حول الحكامة‪ ،‬مبادئها‬
‫ورهاناتها وتطبيقاتها والأهداف المتوخاة منها‪ ،‬ب�إعطاء وجهة نظره‪،‬‬
‫انطالقا من مرجعياته وخ�صو�صياته‪ ،‬وحر�صه على التوفيق بين‬
‫الأ�صالة والحداثة‪ ،‬في نظرته للم�ستقبل‪.‬‬
‫و�إلى جانب الحكامة الجيدة‪ ،‬يعد الق�ضاء على الف�ساد �سببا‬
‫رئي�سيا من �أ�سباب التنمية؛ و�إن كان الف�ساد ظاهرة قديمة‪ ،‬فالجديد‬
‫هو �أن حجم الظاهرة �أخذ في التفاقم‪� ،‬إلى درجة �أ�صبحت تهدد‬
‫‪145‬‬
‫مجتمعات كثي ـ ـ ـ ـ ــرة باالنحالل االجتماعي والركود االقت�صادي؛ وقد‬
‫ارتبط وجود الف�ساد بوجود الأنظمة ال�سيا�سية‪ .‬لذلك؛ فهو ال يخت�ص‬
‫ب�شعب معين‪ ،‬وال بدولة معينة‪� ،‬أو ثقافة دون غيرها من الثقافات‪،‬‬
‫و�إنما �أ�صبح ق�ضية عالمية‪ ،‬ولكن االختالف يكمن في حجمه و�أ�شكاله‪،‬‬
‫ودرجة انت�شاره في الزمان وفي المكان‪ ،‬غير �أن المالحظ‪ ،‬هو وجود‬
‫الف�ساد في الدول النامية ب�صورة �أ�شد �ضررا؛ وهو ما ي�ؤكده الخبراء‬
‫الدوليون‪ ،‬لأ�سباب متعددة؛ منها �ضعف �أجهزة الإدارة العامة‪ ،‬و�ضعف‬
‫الأخالقيات الوظيفية‪ ،‬وغياب الرقابة الفعالة في هذه الدول‪.‬‬
‫�إن الف�ساد هو ا�ستخدام الوظيفة العامة‪ ،‬بجميع ما يترتب عليها‬
‫من نفوذ و�سلطة‪ ،‬لتحقيق منافع �شخ�صية‪ ،‬مالية وغير مالية‪ ،‬وب�شكل‬
‫مناف للقوانين والتعليمات الر�سمية؛ �إنه ا�ستغالل ال�سلطة للح�صول‬
‫على ربح �أو فائدة ل�صالح فرد �أو جماعة �أو طبقة‪ ،‬بطريقة ت�شكل‬
‫انتهاكا للقانون �أو لمعايير ال�سلوك الأخالقي الراقي‪ .‬و تعرف المنظمة‬
‫الدولية لل�شفافية‪ ،‬الف�ساد ب�أنه �سوء ا�ستخدام ال�سلطة العامة لربح‬
‫�أو منفعة خا�صة‪ ،‬و�أنه عمل �ضد الوظيفة العامة التي هي ثقة عامة؛‬
‫ويعرف تقرير التنمية الب�شرية ال�صادر عن الأمم المتحدة لعام‪،1997‬‬
‫الف�ساد‪ ،‬ب�أنه �سوء ا�ستخدام ال�سلطة العامة لتحقيق مكا�سب خا�صة‪.‬‬
‫وب�شكل عام‪ ،‬نجد ب�أن �أغلبية التعاريف تدور حول كون الف�ساد‬
‫عبارة عن �سوء ا�ستخدام ال�سلطة �أو المن�صب العام‪ ،‬لغايات �شخ�صية؛‬
‫ومن �صوره‪ ،‬نجد مثال‪ :‬الر�شوة واالبتزاز‪ ،‬وا�ستغالل النفوذ‪ ،‬والو�ساطة‪،‬‬
‫والمح�سوبية‪ ،‬واالحتيالية‪ ،‬واالختال�س‪ ،‬والتزوير‪� ...‬إلخ‪.‬‬
‫وي�أخذ الف�ساد �أ�شكاال مختلفة؛ فهناك الف�ساد ال�سيا�سي المرتبط‬
‫بال�سلطة‪ ،‬والف�ساد االقت�صادي المرتبط بالإدارات العامة وبالم�شاريع‪،‬‬
‫والف�ساد الم�ؤ�س�سي المرتبط ب�أجهزة الدولـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪ ،‬والف�ساد االجتماعي‬
‫بمختلف �أنواعه؛ �إنه توافق لإرادتين‪ ،‬و�صفقة تتم بين مف�سدين؛ مف�سد‬
‫‪146‬‬
‫يملك و�سائل مادية فعلية‪ ،‬ومف�سد يملك‪ ،‬بحكم وظيفته والبيروقراطية‬
‫المعقدة و�سلطته على ال�ضبط والمراقبة‪ ،‬القدرة على الت�أثير في �آلية‬
‫�صنع القرار‪ .‬والف�ساد يرتبط عموما‪ ،‬بن�شاطات خفية‪ ،‬مجردة من كل‬
‫منطق‪ ،‬ومخالفة لكل القواعد والقوانين والم�ساطر؛ ن�شاطات تنمو‬
‫وتتطور‪ ،‬ب�سبب الت�سيب العام‪ ،‬واال�ستهتار بهيبة الدولة‪ ،‬واالنتهازية‬
‫ال�سيا�سية‪ ،‬وغياب الحكامة الجيدة‪ ،‬واختالل المنظومات االقت�صادية‬
‫والأجهزة الإدارية‪ .‬وهناك الف�ساد الكبير الذي ي�صيب الحكومات‬
‫ويدين ال�شركات‪ ،‬والف�ساد ال�صغير الذي ي�صيب فئة محدودة من‬
‫الموظفين ال�صغار‪ ،‬عندما يمكنهم من تح�سين �أو�ضاعهم‪ ،‬من خالل‬
‫تعديالت طفيفة تقع على مداخيلهم‪ ،‬للحفاظ على قدراتهم ال�شرائية‬
‫وم�ستواهم االجتماعي ومكانتهم االعتبارية‪.‬‬
‫ف�أما الحكومات‪ ،‬فهي متهمة‪ ،‬عندما تفقد الإرادة‪ ،‬وتتماطل في‬
‫تحديث �أنظمة الحكم والإدارة‪ ،‬ويتعطل لديها حكم القانون و�سلطان‬
‫القيم‪ ،‬وتغيب عندها مبادئ النزاهة وال�شفافية‪ ،‬في التوظيفات‬
‫والتعيينات والترقيات وال�صفقات والميزانيات والرخ�ص واالمتيازات‪.‬‬
‫وعندما تقبل بالدعم بمقابل‪ ،‬وعن الثوابت تتنازل‪ ،‬وبالمنح والعطايا‬
‫والهبات والم�ساعدات تتالعب؛ فتحول دون و�صولها لم�ستحقيها �أو‬
‫تحقيق �أهدافها‪.‬‬
‫و�أما ال�شركات‪ ،‬فهي متهمة كذلك‪ ،‬عندما ت�سخر‪ ،‬م�ساراتها‬
‫التطورية و�سيا�ساتها الإ�ستراتيجية وبنياتها التنظيمية و�أنظمتها‬
‫الإنتاجية و�أ�صولها و�أر�صدتها المالية‪ ،‬لخدمة دولة �أجنبية �أو "�شركة �أم"‬
‫�أ�صلية‪ ،‬وعندما تقع في �صفقات م�شبوهة و�أن�شطة محظورة ومعامالت‬
‫ممنوعة؛ لتتحول لإقطاعيات حقيقية‪ ،‬تتمادى في التمل�صات ال�ضريبية‬
‫والم�ضاربات االحتكارية والممار�سات غير الوطنية‪ ،‬والتي ت�ضر الإن�سان‬
‫والأنظمة البيئية‪ ،‬وعندما تح�ص ـ ـ ــل على العقود اال�ستثمارية‪ ،‬وت�ضفر‬
‫‪147‬‬
‫بالمناق�صات العمومية‪ ،‬دون الخ�ضوع لقواعد اللعب التناف�سية‪ ،‬مقابل‬
‫عموالت �سخية‪ ،‬ت�ستعمل غالبا لتغذية �صناديق �سوداء‪ ،‬لتمويل الأحزاب‬
‫والم�ؤ�س�سات والأنظمة والحكومات‪.‬‬
‫�إن الف�ساد �آفة وثقافة‪� ،‬شذوذ وانحراف‪ ،‬جريمة اقت�صادية‬
‫و�إ�شكالية تنموية؛ فهو يعيق النمو‪ ،‬ويهدد الأمن‪ ،‬ويزعزع اال�ستقرار؛‬
‫يهـ ـ ــدر الموارد‪ ،‬وي�ضر االقت�صاد‪ ،‬وي�ضيع الحقوق؛ ينزع الثقة‪ ،‬ويفقد‬
‫الم�صداقية‪ ،‬ويم�س في العمق‪ ،‬عالقة الدولة بالمواطنين‪ ،‬ويحول دون‬
‫تدفق الر�ساميل و�إعادة التوطين‪ ،‬ويحد من طموحات الماليين‪ ،‬من‬
‫الفقراء والمحتاجين‪ ،‬كما يمكن‪ ،‬في ي�سر و�سهولة‪ ،‬ومن دون مجهود‬
‫�أو عمل‪ ،‬من الإثراء المفاجئ وغير المبرر‪ ،‬للعديد من الموظفين‬
‫والم�س�ؤولين الفا�سدين‪ ،‬من ذوي ال�سلط النافذة والمهام ال�سامية‬
‫والمرتبات العالية؛ ر�شوة واختال�س‪ ،‬غدر وتدلي�س‪ ،‬حياد عن الحق‪،‬‬
‫ونهب للمال العام‪� ،‬أ�شياء و�أ�صوال وحقوقا وقيما‪ ،‬دون ا�ستحياء �أو‬
‫�أدنى احترام‪ ،‬وفي غياب تام لآليات حقيقية وفاعلة للرقابة والم�سائلة‬
‫والمحا�سبة والعقاب‪.‬‬
‫�إن مكافحة الف�ساد والق�ضاء عليه‪� ،‬أ�ضحى اليوم‪ ،‬تحديا كبيرا‬
‫ورهانا �صعبا‪ ،‬نظرا لت�شابك خيوطه‪ ،‬وت�شعب مجاالته‪ ،‬وتعدد �أدواته‪،‬‬
‫وتنوع �أخطاره وم�ضاعفاته؛ فهو ور�ش كبير‪ ،‬يتطلب فتح نقا�ش عام‪،‬‬
‫ي�شترك فيه الجميع‪ ،‬حكومة وبرلمانا و�أحزابا وجمعيات و�شركات‪ ،‬من‬
‫�أجل بناء فهم متبادل‪ ،‬ي�ؤ�س�س لأر�ضية م�شركة‪ ،‬تحدد المعنى والم�ضمون‬
‫والو�سائل والأهداف‪ ،‬وفق منهجية علمية ومقاربة بيداغوجية‪ ،‬تف�ضي‬
‫�إلى �إ�ستراتيجية وا�ضحة المعالم‪ ،‬تجعل من �أولى �أولوياتها‪:‬‬
‫‪ -‬التوعية العامة والرقابة الإعالمية‪.‬‬
‫‪� -‬إحداث مدونة للأخالقيات وح�سن ال�سلوك؛ �سلوك الحكومة‬
‫والإدارات وال�شركات والجمعيات وممثلي ال�شعب‪ ،‬مع �إلزامية الت�صريح‬
‫‪148‬‬
‫بالممتلكات‪ ،‬والتدقيق في الذمم المالية للموظفين والم�س�ؤولين الكبار‪،‬‬
‫وذلك فور ح�صولهم على مهامهم‪ ،‬وال�شروع في مبا�شرة �أعمالهم‪.‬‬
‫‪ -‬دعم وتنمية م�ؤ�س�سات الحكامة ذات ال�صلة بمكافحة الف�ساد‪،‬‬
‫وتمكينها من �أدوات العمل الالزمة‪.‬‬
‫‪ -‬محاربة الالعقاب والتمل�ص من دفع الح�ساب‪ ،‬كيفما كانت‬
‫طبيعة المتورطين ومكانتهم وم�س�ؤولياتهم؛ فال عفو عن المهربين‬
‫والمهربات‪ ،‬ومنحهم �ضمانات لإبراء ذمتهم‪ ،‬وذلك مهما بلغت ثرواتهم‪،‬‬
‫ومهما كانت ممتلكاتهم في الخارج؛ وهم الذين خانوا الوطن‪ ،‬وهربوا‬
‫�أمواله‪ ،‬وعبثوا بمقدراته‪ ،‬وا�ستنزفوا خيراته‪ ،‬و�أفقروا �شعبه‪ ،‬و�أنهكوا‬
‫اقت�صاده‪ ،‬ورهنوا قراره و�سيادته‪ ،‬بل وم�ستقبله وم�ستقبل �أجياله‬
‫القادمة‪ ،‬ل�صالح الدوال ال�شقيقة وال�صديقة‪ ،‬والم�ؤ�س�سات المالية‬
‫الدولية‪ ،‬في الوقت الذي نجد فيه‪ ،‬فئة �أخرى من المواطنين الب�سطاء‪،‬‬
‫ولكن �شرفاء‪ ،‬من المقيمين‪ ،‬يدخرون وي�ستثمرون‪ ،‬ومن المهاجرين‬
‫والمغتربين الفقراء‪ ،‬القاطنين هناك في �أر�ض المهجر‪ ،‬بحبهم‬
‫لوطنهم وبروحهم الوطنية ال�صادقة‪ ،‬يحر�صون �أ�شد ما يكون الحر�ص‪،‬‬
‫على تحويل كل ما يملكون‪ ،‬و�إن كان قليال‪ ،‬نحو بلدهم و�أهليهم؛ فماذا‬
‫يا ترى قدمنا لهم‪ ،‬مقابل ذلك؟‬
‫�إن �أي حكومة‪ ،‬ال �شك‪ ،‬ب�أنها �ستكون متهمة‪ ،‬بل ومدانة‪� ،‬إذا‬
‫بقيت مكتوفة الأيدي‪ ،‬ولم تتخذ �أي �إجراء‪� ،‬أو تعطل لديها حكم القانون‬
‫و�سلطان القيم‪ ،‬وغابت عنها روح الوطنية ومبادئ النزاهة وال�شفافية؛‬
‫وهي ترى خيرات البلد‪ ،‬المعلوم منها وغير المعلوم‪ ،‬وقد هربت �إلى‬
‫الخارج‪ ،‬دون ح�سيب �أو رقيب‪ ،‬خا�صة �إذا كانت هذه الحكومة‪ ،‬تجعل‬
‫من ال�شفافية ومن الحكامة الجيدة ومكافحة الف�ساد‪� ،‬شعارات لها؛‬
‫علما ب�أن مكافحة الف�ساد تعتبر تحديا كبيرا ورهانا �صعبا؛ فهو ور�ش‬
‫كبير‪ ،‬يجب �أال تنفرد به الحكومة وحدها؛ ولأنها ق�ضية مجتمعية‬
‫‪149‬‬
‫ومتعددة الأبعاد‪ ،‬فالأمر يتطلب فتح نقا�ش عام‪ ،‬ي�شترك فيه الجميع؛‬
‫حكومة وبرلمانا و�أحزابا وجمعيات و�شركات‪...‬‬
‫�إن �أي �إجراء حكومي من �ش�أنه �أن يبرئ مواطنين مغاربة هربوا‬
‫�أمواال �إلى الخارج دون المرور عبر قوانين ال�صرف‪ ،‬و�إن ح�صلوا عليها‬
‫بو�سائل م�شروعة‪ ،‬ثم نقلوها �إلى الخارج بطرق ملتوية‪ ،‬بعد �أدائهم‬
‫لم�ساهمة �إبرائية‪ ،‬عبارة عن غرامات مالية‪ ،‬ت�سوى و�ضعيتهم القانونية‬
‫نهائيا‪ ،‬وال يمكن �أن تجري مالحقتهم‪ ،‬ال �إداريا وال ق�ضائيا؛ )ذلك‬
‫الإجراء (لن يبق بعد الآن‪� ،‬أي م�سوغ �أخالقي �أو مبرر قانوني التهام �أي‬
‫�شخ�ص �أو تعييره �أو الت�شهير به �أو مالحقته‪ ،‬مهما هرب من الأموال‬
‫�أو ملك من عقارات‪ ،‬مادام �صرح بها وم�ستعد لإرجاعها و�أداء الغرامة‬
‫المالية الب�سيطة و�إبراء ذمته‪ ،‬نهائيا وح�ضوريا‪ ،‬وطبقا للقانون؛ ف�إذا‬
‫كانت الحكومات تت�صالح مع التهريب‪ ،‬فلم �إذن التهديد والترهيب؟‬
‫�إن مثل هذه الإجراءات‪ ،‬يمكن �أن يكون لها �أثر عك�سي تماما؛‬
‫فقد ت�شجع على مزيد من تهريب الأموال‪ ،‬بل وتبيي�ضها‪ ،‬وبالتالي قد‬
‫ي�ضر ذلك باقت�صادنا الوطني‪� ،‬أكتر مما ينفعه؛ ذلك �أنه يمكن �أن يعاد‬
‫جزء من الأموال‪ ،‬ولكن لي�س كل الأموال المهربة؛ وقد يوفر ذلك بع�ض‬
‫ال�سيولة المالية‪ ،‬في فترة معينة‪� ،‬إذا واكبته بطبيعة الحال‪ ،‬ن�صو�ص‬
‫ت�شريعية قوية و�إجراءات احترازية �صارمة‪ ،‬تحد من ا�ستمرار تهريب‬
‫الأموال؛ كما يمكن في الوقت ذاته �أن يكون له �أثر عك�سي‪ ،‬وي�شجع على‬
‫مزيد من التهريب ومن تبيي�ض الأموال‪� ،‬إذا لم يح�سن تنزيله‪ ،‬وقطع‬
‫الطريق على البع�ض لتهريب �أموالهم �إلى الخارج‪ ،‬ثم �إعادتها �إلى‬
‫المغرب من جديد‪ ،‬لت�صبح بي�ضاء نقية‪ ،‬بعد ا�ستفادتهم من الإعفاءات‬
‫المترتبة عن مثل هذه الإجراءات‪.‬‬
‫�إن التهريب جريمة اقت�صادية في حق ال�شعب والوطن‪ ،‬وعقبة‬
‫كبرى �أمام تعبئة المدخرات‪ ،‬وتنمية اال�ستهالك‪ ،‬وتحقيق اال�ستثمار؛‬
‫‪150‬‬
‫وله ت�أثير مبا�شر على االحتياطي النقدي وعلى الميزان التجاري‬
‫وميزان الأداءات‪ ،‬خا�صة �إذا كان هذا التهريب نتيجة ن�شاطات خفية‬
‫وغير م�شروعة ومخالفة لكل القواعد والقوانين والم�ساطر‪� ،‬أو كان‬
‫نتيجة �صفقات م�شبوهة �أو �أن�شطة محظورة �أو معامالت ممنوعة‪ ،‬من‬
‫ر�شوة واختال�س وغدر وتدلي�س واتجار في المخدرات وفي الأ�سلحة‬
‫والذخيرة‪ ،‬وتزوير نقود و�سندات القرو�ض العمومية وو�سائل الأداء‬
‫الأخرى؛ �أو كان نتيجة التمل�صات ال�ضريبية والم�ضاربات االحتكارية‬
‫ونهب للمال العام والعقود اال�ستثمارية والمناق�صات العمومية التي‬
‫لم تخ�ضع لقواعد اللعبة التناف�سية‪ ،‬وفي غياب تام لآليات الرقابة‬
‫والم�سائلة والمحا�سبة والعقاب‪.‬‬
‫من ال�صعب الق�ضاء نهائيا على تهريب الأموال‪ ،‬وعلى جميع‬
‫�أ�شكال الف�ساد المالي الأخرى‪ ،‬مهما كانت القوانين والإجراءات الجاري‬
‫بها العمل في هذا ال�ش�أن‪� ،‬صارمة‪ ،‬نظرا لت�شابك خيوط الظاهرة‪،‬‬
‫وت�شعب مجاالتها وتعدد �أدواتها؛ ذلك �أن العولمة والتطور التكنولوجي‬
‫الذي واكبها‪ ،‬قد �ساهمت في تغيير طبيعة التعامالت االقت�صادية‬
‫والمالية‪ ،‬خا�صة في القطاعين المالي والبنكي؛ ال�شيء الذي فتح‬
‫�آفاقا وا�سعة لبروز �أ�شكال جديدة من الإجرام االقت�صادي المنظم‪،‬‬
‫من قبيل تبيي�ض الأموال المهربة‪ ،‬والناتجة عن تجارة المخدرات‬
‫والدعارة وتجارة الب�شر؛ كذلك الر�شاوى المدفوعة من طرف‬
‫ال�شركات الأجنبية للح�صول على �صفقات عمومية‪� ،‬أو الأموال الناتجة‬
‫عن الغ�ش في الفواتير في ميدان المبادالت الخارجية‪ ،‬وكذا تحويل‬
‫�أرباح المقاوالت الأجنبية‪ ،‬واال�ستعمال غير القانوني لبطاقات االئتمان‬
‫الإلكترونية وغيرها؛ مما يحتم على الدول وعلى الم�ؤ�س�سات العالمية‬
‫اليوم‪ ،‬تكثيف التعاون فيما بينها‪ ،‬من �أجل و�ضع الت�شريعات الرادعة‪،‬‬
‫وتقوية �آليات المراقبة‪ ،‬والحر�ص على تطبيق القانون؛ الأمر الذي‬
‫‪151‬‬
‫يتطلب من دون �شك و�سائل ومعارف دقيقة ومتطورة‪ ،‬وموارد ب�شرية‬
‫متخ�ص�صة وم�ؤهلة‪.‬‬
‫�إن �أي اقت�صاد‪ ،‬كيفما كان‪ ،‬ال يمكن �أن ينمو ويتطور �إذا كان‬
‫المجتمع يقبل‪ ،‬بل ويتعاي�ش مع �أفعال غير قانونية وممار�سات غير‬
‫�أخالقية؛ كما �أنه ال جدوى من �إدانة الف�ساد �أخالقيا وتجريمه �سيا�سيا‪،‬‬
‫بل الجدوى كل الجدوى في تحليله‪ ،‬والوقوف على �أ�سبابه وحوافزه؛ وهو‬
‫الأمر الذي يحتاج قبل كل �شيء‪� ،‬إلى �إرادة حقيقية ونية �صادقة‪ ،‬من‬
‫�أجل الت�صدي له‪ ،‬والإطاحة به‪ ،‬والق�ضاء عليه‪.‬‬

‫‪ - 3‬الجهوية‪ ،‬الالمركزية والحكامة الترابية‬

‫ي�شكل ور�ش الجهوية المتقدمة اليوم في بالدنا‪ ،‬في �أفق تنزيل‬


‫مبادرة الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية‪ ،‬مدخال �أ�سا�سيا لإ�صالحات‬
‫عميقة وهيكلية لتنظيم و�إدارة الدولة‪ ،‬وذلك عبر �إعادة النظر في‬
‫نظامي الالتمركز والالتركيز‪ ،‬وتعزيز الديمقراطية المحلية‪ ،‬وت�سريع‬
‫وتيرة التنمية‪ ،‬عبر تحديث المجتمع‪� ،‬سيا�سيا و�إداريا واجتماعيا؛ كما‬
‫ي�ؤ�س�س هذا الور�ش الكبير كذلك لمرحلة جديدة‪ ،‬ترمي �إلى تحقيق‬
‫اندماج وطني تفاعلي‪ ،‬ير�سخ وحدة االنتماء للوطن‪ ،‬ويقوي �شرعية‬
‫الدولة والنظام ال�سيا�سي‪ .‬وهكذا �أ�صبح مو�ضوع الحكامة الترابية‬
‫ي�شكل اليوم‪� ،‬أحد المرتكزات الأ�سا�سية لل�سيا�سات العمومية‪ ،‬اعتبارا‬
‫للدور الذي تلعبه الجماعات الترابية‪ ،‬كفاعل �أ�سا�سي و�شريك حقيقي‬
‫في تدبير المجاالت الترابية‪ ،‬وتحقيق التنمية بمختلف �أبعادها‪،‬‬
‫وبالنظر �أي�ضا �إلى �أهمية تدبير المرافق الترابية‪ ،‬وارتباطها الوثيق‬
‫بالمعي�ش اليومي للمواطن‪.‬‬
‫يقوم "النظام الد�ستوري للمملكة على �أ�سا�س ف�صل ال�سلط‪،‬‬
‫وتوازنها وتعاونها‪ ،‬والديمقراطية المواطنة والت�شاركية‪ ،‬وعلى مبادئ‬
‫‪152‬‬
‫الحكامة الجيدة‪ ،‬وربط الم�س�ؤولية بالمحا�سبة" (الف�صل الأول من‬
‫الد�ستور)‪ .‬و�إذا كانت الحكامة الجيدة‪ ،‬في معناها العام‪ ،‬هي اتخاذ‬
‫القرار ب�شكل جماعي‪ ،‬بغية الو�صول �إلى قرارات مقبولة من لدن‬
‫الأغلبية‪ ،‬من خالل الإدارة الأمثل للبنيات والهياكل والموارد؛ و�إذا‬
‫كانت هي التعبير الحقيقي عن �أف�ضل ما يمكن القيام به‪ ،‬و�أح�سن‬
‫ما يمكن بلوغه في مجال التدبير‪ ،‬على �أ�سا�س "‪ ...‬معايير الجودة‬
‫وال�شفافية والمحا�سبة والم�س�ؤولية‪( "...‬الف�صل ‪ ،)154‬وذلك تر�شيدا‬
‫للموارد الب�شرية والمالية‪ ،‬وم�أ�س�سة للفعل والق ـ ـ ــرار الإداريين‪ ،‬ف�إن‬
‫الحكامة الترابية هي نظام �إدارة الفعل العمومي الترابي‪ ،‬من خالل‬
‫الو�صول ترابيا‪� ،‬إلى �أح�سن تدبير محلي ممكن‪ ،‬في �أ�سرع وقت‪ ،‬وب�أدنى‬
‫مجهود‪ ،‬و�أقل تكلفة‪ ،‬وفي �أف�ضل الظروف الممكنة‪ ،‬وبالدقة والنجاعة‬
‫المطلوبتين؛ وهي كذلك تمكين ال�ساكنة المحلية من اختيار الإطار‬
‫العام لحياتها اليومية بكل حرية وت�شاركية‪ ،‬وتو�سيع قدراتها وتنويع‬
‫خياراتها‪ ،‬وتحفيزها على الم�شاركة في القرار التنموي؛ م�شاركة‬
‫فعلية وحقيقية‪ ،‬حيث "ت�ضع مجال�س الجهات‪ ،‬والجماعات الترابية‬
‫الأخرى‪� ،‬آليات ت�شاركية للحوار والت�شاور‪ ،‬لتي�سير م�ساهمة المواطنات‬
‫والمواطنين والجمعيات في �إعداد برامج التنمية وتتبعها" (الف�صل‬
‫‪ ،)139‬حتى تكون القرارات التنموية من ال�ساكنة و�إليها‪ ،‬من دون �أن‬
‫يلغي ذلك حق الإدارة المركزية في اتخاذ القرار؛ الأمر الذي يقت�ضي‬
‫اقتران تحويل االخت�صا�صات للم�صالح الالممركزة بتحويل االعتمادات‬
‫والو�سائل الالزمة لتنفيذها‪ ،‬و�إخراجها �إلى حيز الوجود‪ .‬وبذلك‪ ،‬تكون‬
‫الحكامة الترابية هي الهدف الأ�سمى الذي يمكن الو�صول �إليه‪ ،‬على‬
‫الم�ستوى الترابي‪ ،‬والو�صفة الأكثر نجاعة لحل مختلف �إ�شكاليات بناء‬
‫دولة القانون‪.‬‬
‫لم تعد الدولة المركزية‪ ،‬مهما بلغت �إمكاناتها المادية‬
‫‪153‬‬
‫والب�شرية‪ ،‬قادرة اليوم على �إر�ساء قواعد الديمقراطية‪ ،‬والتي تقت�ضي‬
‫القرب من المواطن‪ ،‬و�إ�شراكه في ت�سيير �ش�ؤونه‪ ،‬وتلبية كافة رغباته‪،‬‬
‫على الم�ستوى الترابي‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ظهر مفهوم الحكامة الترابية‪ ،‬ك�أحد‬
‫الخيارات لتعوي�ض نق�ص الدولة لبلوغ الديمقراطية المحلية‪ .‬من هذا‬
‫المنطلق‪� ،‬أهاب الملك محمد ال�ساد�س‪ ،‬بالحكومة‪ ،‬بمنا�سبة الذكرى‬
‫‪ 33‬للم�سيرة الخ�ضراء‪ ،‬في ‪ 6‬نونبر‪� 2008‬إلى "�إعداد ميثاق وطني‬
‫لعدم التمركز‪ ،‬يتوخى �إقامة نظام فعال لإدارة ال ممركـ ـ ــزة‪ ،‬ي�شكل‬
‫قطيعة حقيقية مع المركزية المتحجرة؛ نظام يعتمد مقاربة ترابية‪،‬‬
‫ويقوم على نقل �صالحيات مركزية‪ ،‬للم�صالح الخارجية‪ ،‬وانتظامها‬
‫في �أقطاب تقنية جهوية"‪ .‬وبالفعل‪� ،‬صدر بالجريدة الر�سمية‪ ،‬في ‪18‬‬
‫من ربيع الآخر‪ ،1440‬الموافق ل ‪ 26‬دي�سمبر ‪ ،2018‬المر�سوم رقم‬
‫‪ ،2.17.618‬بمثابة ميثاق وطني لالتمركز الإداري‪.‬‬
‫تعتبر "الجماعات الترابية؛ وهي الجهات والعماالت والأقاليم‬
‫والجماعات" (الف�صل ‪ )135‬المجال المنا�سب لممار�سة الديمقراطية‬
‫المحلية‪ ،‬كونها تتوفر "على موارد مالية ذاتية‪ ،‬وموارد مالية مر�صودة‬
‫من قبل الدولة‪ .‬كل اخت�صا�ص تنقله الدولة �إلى الجهات والجماعات‬
‫الترابية الأخرى يكون مقترنا بتحويل الموارد المطابقة له" (الف�صل‬
‫‪ ،)141‬وكونها كذلك م�س�ؤولة عن"التنمية االقت�صادية واالجتماعية‬
‫والثقافية داخل الجماعة "‪ ،‬كما ين�ص على ذلك الميثاق الجماعي‪.‬‬
‫وبالرغم من �أن المغرب قد ا�ستطاع‪ ،‬على مدى �سنوات‪ ،‬بناء‬
‫�شبكة وا�سعة من الإدارات الترابية‪ ،‬ف�إن ت�شعب مهام الدولة وتزايد‬
‫م�س�ؤولياتها‪� ،‬أدى بها �إلى ترك جزء‪ ‎‎‬هام من الوظائف الإدارية‬
‫‏واالجتماعية واالقت�صادية‪� ،‬إلى وحدات ترابية‪ ،‬تعتمد ‪‎‎‬التمثيلية‪ ،‬عبر‬
‫�آلية االنتخاب؛ �إال �أن الإدارات المركزية ال تزال توا�صل احتكارها‬
‫لأكبر قدر من ال�سلطات واالخت�صا�صات‪ ،‬وذلك راجع �أ�سا�سا �إلى‬
‫‪154‬‬
‫�ضعف الكفاءات الب�شرية‪ ،‬وقلة الموارد المالية على الم�ستوى الترابي‪.‬‬
‫من هذا المنطلق‪ ،‬تبحث الدولة اليوم جاهدة عن بديل لها على‬
‫ال�صعيد الترابي‪ ،‬في حين تحتفظ لنف�سها بتدعيم ال�سلطات‪ ،‬وتوفير‬
‫الو�سائل‪ ،‬وممار�سة المهام اال�ستثنائية التي ال يمكن �إ�سنادها لإدارة‬
‫عدم التركيز‪ ،‬من الناحية القانونية‪ ،‬وذلك بهدف تنفيذ ال�سيا�سات‬
‫الوطنية‪ ،‬وتعزيز التوجهات الإ�ستراتيجية‪ ،‬المرتبطة بمهام الت�أطير‬
‫والإدارة والإ�شراف العام‪.‬‬
‫وتبقى الجهوية �إطارا مالئما لتحقيق التنمية‪ ،‬وبلوغ الديمقراطية‬
‫المواطنة والت�شاركية‪ ،‬وتنزيل مبادئ الحكامة الجيدة‪ ،‬بالنظر لما‬
‫تتيحه من �إمكانيات للتن�سيق بين مختلف البرامج المحلية والمخططات‬
‫الوطنية؛ �إذ ال التنمية من دون مجال ترابي وا�سع ومتكامل‪ ،‬كفيل‬
‫ب�إدماج كل العوامل التنموية في م�سل�سل الإقالع االقت�صادي الجهوي؛‬
‫الأمر الذي من �ش�أنه �أن يحد من االختالالت االقت�صادية والتباينات‬
‫االجتماعية‪ .‬وفي هذا ال�سياق‪� ،‬شكلت الجهوية مرجعية �شبه دائمة في‬
‫الخطب الملكية؛ ففي خطاب العر�ش ل�سنة ‪ ،2011‬يقول الملك محمد‬
‫ال�ساد�س‪ ..." :‬مولين عناية ق�صوى في هذا المجال‪ ،‬للجهة والجهوية‬
‫التي نعتبرها خيارا �إ�ستراتيجيا‪ ،‬ولي�س مجرد بناء �إداري‪ ،‬وننظر‬
‫�إليها على �أنها �صرح ديمقراطي �أ�سا�سي‪ ،‬لتحقيق التنمية االقت�صادية‬
‫واالجتماعية‪."...‬‬
‫يعود تقنين التنظيم الجهوي بالمغرب �إلى مقت�ضيات ظهير ‪16‬‬
‫يونيو ‪ ،1971‬الذي ع ّرف الجهة في ف�صله الثاني‪ ،‬على �أنها "مجموعة‬
‫من الأقاليم التي تربط �أو يحتمل �أن تربط بينها على ال�صعيد الجغرافي‬
‫واالقت�صادي‪ ،‬عالقات كفيلة لتقوية نموها‪ ،‬والتي تقت�ضي من جراء‬
‫ذلك‪ ،‬القيام بتهيئة عامة فيها‪ ،‬وت�ؤلف الجهة �إطار عمل اقت�صادي‪،‬‬
‫‪155‬‬
‫يبا�شر داخله �إجراء درا�سات‪ ،‬و�إنجاز برامج‪ ،‬ق�صد تحقيق تنمية‬
‫من�سجمة ومتوازنة لمختلف �أجزاء المملكة"‪.‬‬
‫ومع القفزة النوعية التي عرفتها الديمقراطية المحلية‪ ،‬من‬
‫خالل الميثاق الجماعي لـ ‪� 30‬شتنبر ‪ ،1976‬ونظرا للغمو�ض القانوني‪،‬‬
‫والطبيعة اال�ست�شارية الخت�صا�صات الجهات‪ ،‬وكذلك التق�سيم الجهوي‬
‫الذي لم ي�ستطيع تجاوز الفوارق بينها وبين المناطق االقت�صادية‪،‬‬
‫ف�إن كل ذلك �أدى �إلى عدم فعالية الأجهزة والم�ؤ�س�سات المنظمة‬
‫بموجب هذا الميثاق؛ مما �ساهم بارتقائها �ضمن مقت�ضيات د�ستور‬
‫‪� ،1992‬إلى جماعة محلية‪ ،‬تتمتع بال�شخ�صية المعنوية‪ ،‬وباال�ستقالل‬
‫المالي والإداري‪ ،‬كباقي الجماعات؛ كما تم تدعيم مركز الجهة‬
‫كذلك في التعديل الد�ستوري ل�سنة ‪ ،1996‬في اتجاه تقويتها‪ ،‬حيث‬
‫�أ�صبح لها �إطار قانوني‪ ،‬يحدد اخت�صا�صاتها وم�صادر تمويلها؛ كونها‬
‫جماعة محلية تتوفر على مجل�س يتمتع ب�سلطة تداولية وب�إمكانية‬
‫مراقبة ال�سلطة التنفيذية (عامل مركز الجهة)‪ ،‬من خالل �آلية‬
‫تت�سم باالبتكار والتجديد‪ ،‬وتغليب جانب الت�شاور والإخبار والتعاون؛‬
‫بالإ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬تمار�س الو�صاية تحت مراقبة المحكمة الإدارية‪،‬‬
‫في حين ي�ضمن المجل�س الجهوي للح�سابات �سالمة تدبير الميزانية‬
‫والمالية؛ كما حظيت كذلك بالت�أطير القانوني والم�ؤ�س�ساتي مع القانون‬
‫‪ 96-47‬المنظم للجهات‪ ،‬وال�صادر بمقت�ضى ظهير �شريف في ‪� 2‬أبريل‬
‫‪1997‬؛ فقد �أ�ضحى للجهة كيان وتنظيم م�ستقل‪ ،‬يتمتع بال�شخ�صية‬
‫المعنوية وباال�ستقالل المالي والإداري‪ ،‬واخت�صا�صات قانونية تقريرية‬
‫وا�ست�شارية‪ ،‬وتحولت بالتالي هذه الوحدة الترابية من الطابع الإداري‬
‫الروتيني �إلى الطابع االقت�صادي التنموي‪ ،‬ومن مجرد �إطار لعدم‬
‫التركيز الإداري �إلى جماعة ترابية حقيقية‪ ،‬تتمتع بمجموعة من‬
‫الوظائف وال�سلط الفعلية؛ و�إن كانت لم ت�ؤت �أكلها كما كان منتظرا‪،‬‬
‫‪156‬‬
‫ب�سبب محدودية التجربة‪ ،‬ف�إنها ا�ستطاعت على الأقل‪� ،‬أن تفر�ض على‬
‫الدولة �إعادة النظر في مقاربتها لالمركزية‪ ،‬وفي �أ�سلوب الالتمركز‬
‫الإداري‪ ،‬كدعامة لقيامها‪.‬‬
‫وجاء د�ستور‪ ،2011‬لي�ؤ�س�س لتنظيم ترابي المركزي‪ ،‬يقوم على‬
‫الجهوية المتقدمة‪ ،‬حيث خ�ص�ص بابه التا�سع للجهات والجماعات‬
‫الترابية الأخرى؛ وجعل التنظيم الجهوي والترابي للمملكة يرتكز‬
‫على " مبادئ التدبير الحر‪ ،‬وعلى التعاون والت�ضامن‪ ،‬وي�ؤمن م�شاركة‬
‫ال�سكان المعنيين في تدبير �ش�ؤونهم‪ ،‬والرفع من م�ساهمتهم في التنمية‬
‫الب�شرية المندمجة والم�ستدامة" (الف�صل ‪)136‬؛ واعتبر �أن الجهات‬
‫والجماعات الترابية الأخرى‪ ،‬ت�ساهم على حد ال�سواء في "تفعيل‬
‫ال�سيا�سة العامة للدولة‪ ،‬وفي �إعداد ال�سيا�سات الترابية‪ ،‬من خـ ــالل‬
‫ممثليها في مجل�س الم�ست�شارين" (الف�صل ‪ )137‬الذي ينتخب �أع�ضائه‬
‫باالقتراع العام غير المبا�شر لمدة �ست �سنوات؛ فالتعاقد الت�شاركي‬
‫المندمج‪ ،‬كمبد�أ �إ�ستراتيجي في د�ستور ‪ ،2011‬يجعل من كل الأطراف‬
‫التي �شملتها الديمقراطية الت�شاركية في الن�ص الد�ستوري‪� ،‬شركاء‬
‫فعليين للدولة‪ ،‬ي�ضطلع كل منهم ب�أدوار و�صالحيات هامة و�أ�صيلة‪،‬‬
‫تتميز بالتنوع والتكامل‪ ،‬بذل الت�شابه والتماثل‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ومن دون �أي و�صاية لكل منهما على الأخرى‪" ،‬تتبو�أ الجهة‪،‬‬
‫تحت �إ�شراف رئي�س مجل�سها‪ ،‬مكانة ال�صدارة بالن�سبة للجماعات‬
‫الترابية الأخرى‪ ،‬في عمليات �إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية‬
‫والت�صاميم الجهوية لإعداد التراب‪ ،‬في نطاق احترام االخت�صا�صات‬
‫الذاتية لهذه الجماعات" (الف�صل ‪)143‬؛ مما ي�ؤ�شر على ا�ستمرار‬
‫و�صاية المركز (الدولة) على الجهة‪ ،‬بالرغم من انتخاب مجال�سها‬
‫باالقتراع العام المبا�شر‪ ،‬وتوفرها على موارد مالية ذاتية‪ ،‬و�أخرى‬
‫مر�صودة لها من طرف الدولة‪ ،‬وذلك من خالل �سهر الوالة والعمال‪،‬‬
‫‪157‬‬
‫با�سم الحكومة‪ ،‬على تن�سيق وح�سن �سير �أن�شطة الم�صالح الالممركزة‬
‫للإدارة المركزية تحت �سلطة الوزراء المعنيين‪ ،‬وم�ساعدة ر�ؤ�ساء‬
‫الجماعات الترابية‪ ،‬وبخا�صة منهم ر�ؤ�ساء المجال�س الجهوية‪ ،‬على‬
‫تنفيذ المخططات والبرامج التنموية الجهوية‪ ،‬في �إطار ال ينف�صل عن‬
‫ممار�ستهم للمراقبة الإدارية‪ ،‬بدعوى ت�أمين تطبيق القانون‪ ،‬وتنفيذ‬
‫الن�صو�ص التنظيمية للحكومة ومقرراتها‪.‬‬
‫و�إذا كانت الجهوية‪ ،‬كما قال الملك محمد ال�ساد�س الذي جعل‬
‫من الالتمركز الإداري محطة �أ�سا�سية‪ ،‬وفكرة متكررة في معظم‬
‫خطاباته‪ ،‬تعد "تحوال نوعيا في �أنماط الحكامة الترابية"‪ ،‬ف�إن �إطالق‬
‫ور�ش الجهوية المتقدمة‪� ،‬سيمكن من" توطيد الحكامة الترابية الجيدة‬
‫والتنمية المندمجة"‪ .‬والمراد بكلمة الجهوية "المتقدمة"‪ ،‬هو تو�سيعها‬
‫وتكري�سها وتر�سيخها‪ ،‬ولي�ست تلك المعهودة في �إدارتنا حتى اليوم؛‬
‫بمعنى �إعادة التوزيع الوا�ضح والدقيق لل�سلط واالخت�صا�صات بين‬
‫المركز والجهات من جهة‪ ،‬والتقطيع الترابي الناجع‪ ،‬وتعزيز م�سار‬
‫الالتمركز‪ ،‬واللذان يعدان �أبرز الأ�س�س والركائز والدعامات الحقيقة‬
‫لقيام جهوية مو�سعة ومندمجة‪ ،‬قادرة على ك�سب تحديات التنمية‪،‬‬
‫وتكري�س مبادئ الديمقراطية والحكامة من جهة �أخرى‪ ،‬حيث �إن‬
‫خطاب الملك في ‪ 6‬نونبر ‪ ،2008‬رهن نجاح الجهوية "‪ ...‬باعتماد‬
‫تق�سيم ناجع‪ ،‬يتوخى قيام مناطق متكاملة اقت�صاديا وجغرافيا‪،‬‬
‫ومن�سجمة اجتماعيا وثقافيا"‪.‬‬
‫�شملت الإ�صالحات الأخيرة‪ ،‬الإطار القانوني المنظم لت�سيير‬
‫الجماعات الترابية بمختلف م�ستوياتها‪ ،‬من خالل �إقرار تر�سانة‬
‫متكاملة من القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية‬
‫ون�صو�صها التطبيقية‪ ،‬والتي تهدف في عمقها‪� ،‬إلى �إخ�ضاع تدبير‬
‫ال�ش�أن المحلي لقواعد الحكامة القائمة على مبادئ �أ�سا�سية‪ ،‬تتمثل في‬
‫‪158‬‬
‫الم�ساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية التابعة للجماعات‬
‫الترابية‪ ،‬واال�ستمرارية في �أداء الخدمات من قبل الجماعات و�ضمان‬
‫جودتها‪ ،‬وتكري�س قيم الديمقراطية وال�شفافية والمحا�سبة والم�س�ؤولية‪،‬‬
‫وتر�سيخ �سيادة القانون‪ ،‬والت�شارك والفعالية والنزاهة‪.‬‬
‫ينطلق تح�سين الحكامة الترابية من �ضرورة تحقيق التنا�سق‬
‫واالن�سجام بين ال�سيا�سات القطاعية‪ ،‬و�ضمان االلتقائية مع مخططات‬
‫وبرامج التنمية على الم�ستوى الترابي‪ ،‬والتي ي�ستوجب �إعدادها‬
‫وتنفيذها نهج مقاربة ت�شاركية بين مختلف الفاعلين والمتدخلين‪،‬‬
‫وتعزيز الالتمركز الإداري‪ ،‬من خالل التنزيل الفعلي والح�سن لميثاق‬
‫الالتمركز الإداري‪ ،‬حتى ي�شكل رافعة �أ�سا�سية لدعم الحكامة الترابية‪،‬‬
‫من خالل �ضمان نجاعة �أكبر في تدبير ال�ش�أن المحلي‪ ،‬وتحقيق‬
‫االلتقائية في ال�سيا�سات العمومية‪ ،‬وفي برمجة مختلف الم�شاريع‬
‫القطاعية‪ ،‬وذلك في ان�سجام تام مع البرامج التنموية للجماعات‬
‫الترابية‪ ،‬حيث �إن من �أهداف ميثاق الالتمركز الإداري‪ ،‬تن�سيق تدخل‬
‫الدولة على الم�ستوى الجهوي والترابي‪ ،‬من خالل تمكين الم�صالح‬
‫الالممركزة الجهوية‪ ،‬من جملة من االخت�صا�صات المهمة‪ ،‬تتمثل‬
‫�أ�سا�سا في الم�ساهمة في �إعداد "برنامج عمل" الدولة على الم�ستوى‬
‫الجهوي‪ ،‬وتن�شيط �أن�شطة الم�صالح الالممركزة على م�ستوى العماالت‬
‫والأقاليم‪ ،‬ومواكبة الجماعات الترابية في �إعداد برنامج التنمية‬
‫الجهوية والت�صميم الجهوي لإعداد التراب‪ ،‬في تكامل وان�سجام مع‬
‫برنامج عمل الدولة على الم�ستوى الجهوي؛ بالإ�ضافة �إلى تدعيم‬
‫عالقات ال�شراكة بين الدولة والجماعات الترابية‪.‬‬
‫و�ضمن الآليات �أي�ضا لتعزيز الحكامة الترابية‪ ،‬نجد برامج‬
‫التنمية الجهوية‪ ،‬باعتبارها منطلقا لتحقيق االندماج وااللتقائية بين‬
‫التوجهات الإ�ستراتيجية ل�سيا�سة الدولة والحاجيات التنموية على‬
‫‪159‬‬
‫الم�ستوى الجهوي‪ ،‬من خالل تن�سيق الأعمال التنموية المقرر برمجتها‬
‫�أو �إنجازها بتراب الجهة‪ ،‬لتحقيق تنمية م�ستدامة‪ ،‬ووفق منهج ت�شاركي؛‬
‫كذلك الت�صميم الجهوي لإعداد التراب‪ ،‬باعتباره الوثيقة المرجعية‬
‫للتهيئة المجالية لمجموع التـ ـ ــراب الجهوي‪ ،‬والذي يهدف على وجه‬
‫الخ�صو�ص‪� ،‬إلى تحقيق التوافق بين الدولة والجهة حول تدابير تهيئة‬
‫المجال‪ ،‬وت�أهيله وفق ر�ؤية ا�ستراتيجية وا�ست�شرافية‪ ،‬بما ي�سمح بتحديد‬
‫توجهات واختيارات التنمية الجهوية‪ ،‬وذلك من خالل و�ضع الإطار‬
‫العام للتنمية الجهوية الم�ستدامة بالمجاالت الح�ضرية والقروية؛ �أي�ضا‬
‫تحديد االختيارات المتعلقة بالتجهيزات والمرافق العمومية الكبرى‬
‫المهيكلة على م�ستوى الجهة‪ ،‬وتحديد مجاالت الم�شاريع الجهوية‪،‬‬
‫وبرمجة �إجراءات تثمينها‪ ،‬وكذا م�شاريعها المهيكلة؛ بالإ�ضافة �إلى‬
‫تحديث �أ�ساليب وم�ساطر تدبير وتعزيز الأمالك العقارية للجماعات‬
‫الترابية‪ ،‬والمحافظة عليها‪ ،‬وتنميتها وتح�سين مداخيلها‪ ،‬ب�شكـ ـ ـ ــل‬
‫يتالءم ومقت�ضيات الد�ستور الجديد والقوانين التنظيمية للجماعات‬
‫الترابية‪ ،‬وي�ستجيب لمتطلبات التنمية المحلية؛ كذلك �إحداث ح�سابين‬
‫خ�صو�صيين للخزينة‪ :‬هما "�صندوق الت�أهيل االجتماعي" الذي يهدف‬
‫�إلى �سد العجز في مجال التنمية الب�شرية والبنية التحتية‪ ،‬و"�صندوق‬
‫الت�ضامن بين الجهات" الذي يتوخى �ضمان التوزيع العادل للموارد‪،‬‬
‫بغية تقلي�ص الفوارق بين الجهات‪ ،‬واللذين �سينظمان‪ ،‬على وجه‬
‫الخ�صو�ص‪ ،‬معايير ا�ستفادة الجهات من �صندوق الت�أهيل االجتماعي‪،‬‬
‫ومعايير توزيع الموارد المالية ل�صندوق الت�ضامن بين الجهات‪ .‬‬
‫يتجلى الهدف الأ�سا�سي من الجهوية المتقدمة‪ ،‬في تمكين‬
‫جميع الجهات من ثمار التنمية المن�شودة؛ غير �أن �إنجاح هذا الم�شروع‬
‫الكبير‪ ،‬يتوقف على جودة �إطاره القانوني والتنظيمي‪ ،‬وعلى طريقة‬
‫تنزيله على �أر�ض الواقع؛ ف�إذا كان الوثيقة الد�ستورية قد �أحاطت هذا‬
‫‪160‬‬
‫الم�شروع بما يلزم من ال�شروط والمبادئ الديمقراطية لإنجاحه‪ ،‬من‬
‫حيث دعم قدرات الم�ؤ�س�سات المحلية‪ ،‬وتعزيز دور ر�ؤ�ساء الجهات‪،‬‬
‫ب�إعطائهم �صالحيات تقريرية وا�سعة‪ ،‬ف�إن ذلك يفر�ض على جميع‬
‫الفاعلين‪ ،‬وخا�صة الأحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬م�س�ؤوليات ثقيلة‪ ،‬من خالل‬
‫التحلي بالمبادئ الد�ستورية والقيم الديمقراطية‪ ،‬وح�سن اختيار‬
‫النخب المحلية والجهوية؛ فالإ�صالحات الكبرى والإ�ستراتيجية تحتاج‬
‫دائما لمواقف ومبادرات حزبية حيوية وجريئة‪ ،‬ت�ؤهلها للعب الأدوار‬
‫الد�ستورية المنوطة بها‪ ،‬و�إبراز قدرتها على تعديل موازين القوى‪،‬‬
‫تتويجا ال�ستكمال م�سيرة العملية الديمقراطية‪ ،‬ف�ضال عن �أهميتها في‬
‫�إثبات وجودها كفاعل ذو ت�أثير‪ ،‬ي�ضمن ربط القرار ب�صناديق االقتراع؛‬
‫�إذ ال ديمقراطية وال �إ�صالح بدون �أحزاب �سيا�سية قوية وم�س�ؤولة‬
‫ومواطنة‪.‬‬
‫والواقع‪ ،‬يقول الملك محمد ال�ساد�س‪ ،‬بمنا�سبة عيد العر�ش‪،‬‬
‫بتاريخ ‪ 29‬يوليوز ‪�" :2018‬أن الأحزاب تقوم بمجهودات من �أجل‬
‫النهو�ض بدورها؛ �إال �أنه يتعين عليها ا�ستقطاب نخب جديدة‪ ،‬وتعبئة‬
‫ال�شباب لالنخراط في العمل ال�سيا�سي‪ ،‬لأن �أبناء اليوم‪ ،‬هم الذين‬
‫يعرفون م�شاكل ومتطلبات اليوم؛ كما يجب عليها العمل على تجديد‬
‫�أ�ساليب و�آليات ا�شتغالها؛ فالمنتظر من مختلف الهيئات ال�سيا�سية‬
‫والحزبية‪ ،‬التجاوب الم�ستمر مع مطالب المواطنين‪ ،‬والتفاعل مع‬
‫الأحداث والتطورات التي يعرفها المجتمع فور وقوعها‪ ،‬بل وا�ستباقها‪،‬‬
‫بدل تركها تتفاقم‪ ،‬وك�أنها غير معنية بما يحدث"‪ .‬وللقيام بهذه الأدوار‬
‫المنوطة بها‪ ،‬ي�ؤكد محمد ال�ساد�س‪ ،‬بمنا�سبة افتتاح الدورة الأولى‬
‫من ال�سنة الت�شريعية الثالثة من الوالية الت�شريعية العا�شرة‪ ،‬بتاريخ‬
‫‪� 12‬أكتوبر ‪" :2018‬و�إننا حري�صون على مواكبة الهيئات ال�سيا�سية‪،‬‬
‫وتحفيزها على تجديد �أ�ساليب عملها‪ ،‬بما ي�ساهم في الرفع من م�ستوى‬
‫‪161‬‬
‫الأداء الحزبي ومن جودة الت�شريعات وال�سيا�سات العمومية‪ .‬لذا‪ ،‬ندعو‬
‫للرفع من الدعم العمومي للأحزاب‪ ،‬مع تخ�صي�ص جزء منه لفائدة‬
‫الكفاءات التي توظفها‪ ،‬في مجاالت التفكير والتحليل واالبتكار"‪.‬‬
‫تعي�ش �أحزابنا ال�سيا�سية �إذن �أزم ـ ـ ـ ـ ــة تنظيم‪ ،‬و�أزمة‪ ‬برامج‪،‬‬
‫و�أزمة‪ ‬في طرح البدائل‪ ،‬و�أزمة في "القادة �أو الزعماء"‪ ،‬حيث ن�سجل‬
‫ندرة وا�ضحة‪ ،‬بل خ�صا�صا مهوال في الكاريزما لدى جل القيادات‬
‫الحزبية من دون ا�ستثناء؛ �إنه تج�سيد حقيقي لأزمة الخلف‪ ،‬بالنظر‬
‫�إلى م�ستوى الزعماء ال�سيا�سيين الذين �شغلوا الحياة ال�سيا�سية �إلى‬
‫زمن قريب جدا؛ فالعديد من الأحزاب اليوم �شاخت‪ ،‬وتحتاج �إلى‬
‫تجديد‪ ،‬و�إلى �إعادة البناء‪ ،‬على �أ�س�س �صحيحة ومرجعيات حديثة‪،‬‬
‫ب�سبب م�أزق الالم�شروعية الذي تعانيه‪ .‬وبالإ�ضافة �إلى �أزمة التنظيم‬
‫والبنية و�سوء التدبير‪ ،‬نالحظ �أن معظم هذه الأحزاب تفتقد للقوة‬
‫االقتراحية‪ ،‬وال تقدم حلول واقعية‪ ،‬وتعاني ارتدادا في القول والفعل؛‬
‫�أحزاب عاجزة عن الت�شبيب وعن ت�أهيل الكفاءات و�إفراز نخب جديدة‬
‫ومجددة؛ �أحزاب تتبنى خطابات تزرع الي�أ�س‪ ،‬بينما �أخرى همها‬
‫الوحيد الكرا�سي والمقاعد‪ ،‬تكر�س كل جهدها للظفر باالنتخابات‪،‬‬
‫باعتبارها غاية؛ الأمر الذي ينفر المواطن من ال�ش�أن ال�سيا�سي؛‬
‫�أحزاب تمثل ال�شعب دون �أن ترجع �إليه‪ ،‬وتعبر عن �إرادته دون ر�ضاه‪،‬‬
‫تروج لل�شعارات والخطابات دون �أن تعبر عن فكر �أو تملك ر�ؤية �أو تقدم‬
‫م�شروعا مجتمعيا وا�ضحا وطموحا؛ �أحزاب ال ت�ساير التحوالت التي‬
‫يعرفها المجتمع‪ ،‬وال ت�ستمد �سلطتها وبرامجها من الحراك االجتماعي؛‬
‫�أحزاب مرتبطة باقتراب كل موعد انتخابي‪ ،‬وفاقدة لآليات التوا�صل‬
‫مع المواطن؛ �أحزاب‪ ‬بع�ضها خرج من رحم الإدارة‪ ،‬ال يملك �إرادة‪،‬‬
‫و�أخرى همها الوحيد الغنائم والمواالة‪� ،‬أما البع�ض الآخر‪ ،‬فقد ارتبط‬
‫ت�أ�سي�سه بنزوة �سيا�سية �أو رغبة مزاجية مرتبطة بحب ال�سلطة‪ ،‬في‬
‫‪162‬‬
‫ظل غياب ديمقراطية حقيقية ت�ؤمن بالتناوب؛ وهذا‪ ‬ما يف�سر انتفاء‬
‫�شرط الأهلية بالن�سبة للأحزاب التي تعتمد على الأعيان‪ ،‬وعلى نخب‬
‫تقليدية عقيمة‪.‬‬
‫�إن ال�ساحة ال�سيا�سية اليوم‪ ،‬في حاجة �إلى �أحزاب جادة وم�س�ؤولة‪،‬‬
‫وذات برامج نوعية وغير تقليدية؛ ففي عدد من الدول الديمقراطية‬
‫قد توجد �أحزاب كثيرة ومتنوعة؛ وهو ما يعتبر تكري�سا للتعددية‪ ،‬من‬
‫دون �أن يطرح ذلك �أدنى م�شكل بالن�سبة للدولة �أو المواطن؛ فالكل‬
‫يعمل وفق الد�ستور والقانون‪ ،‬من خالل الت�أطير والتكوين‪ ،‬والم�ساهمة‬
‫في تدبير ال�ش�أن العام بالطرق الديمقراطية‪ ،‬بعيدا عن لغة ال�شتم‬
‫وال�سب والقذف والكذب والبهتان والتهريج والتبخي�س‪ ،‬و�أ�ساليب المكر‬
‫والخديعة والمناورة؛ فال�شعب المغربي ي�ستحق �أف�ضل مما هو موجود‬
‫اليوم من �أحزاب تمثله‪ ،‬ومن "قادة وزعماء" يتكلمون با�سمه‪.‬‬
‫�إطاللة �سريعة على �أحزابنا اليوم‪ ،‬على قراراتها ومختلف‬
‫مواقفها ومبادراتها‪ ،‬على �صراعاتها الداخلية و�صراعاتها فيما بينها‪،‬‬
‫تجعلك ت�صاب بالغثيان‪ ،‬وتفقد �أي �أمل فيها وفي �إ�صالحها‪ ،‬وفي قدرتها‬
‫على الت�أثير‪� ،‬أوفي الأدوار التي يمكن �أن تقوم بها لم�صلحة الوطن؛‬
‫مما قد يكر�س مزيدا من العزوف ال�سيا�سي لدى المواطن‪� ،‬إلى درجة‬
‫يمكن �أن نت�سائل‪" :‬لم ت�صلح الأحزاب ال�سيا�سية اليوم في المغرب"؟‬
‫حيث ال تكاد تفرق بين حزب و�آخر‪ :‬المرجعيات والمنطلقات مت�شابهة‪،‬‬
‫ال�سيا�سات والبرامج متقاربة‪ ،‬والمواقف والقرارات كذلك؛ ويبقي الهم‬
‫الأول والأخير للأحزاب‪ ،‬هو االنتخابات‪ ،‬والفوز باالنتخابات‪ ،‬والتهافت‬
‫نحو ال�سلطة والحكم‪ ،‬بكل الطرق والو�سائل الممكنة‪ ،‬الم�شروعة وغير‬
‫الم�شروعة‪ ،‬م�ستخفة في ذلك بالمواطن‪ ،‬وبوعيه وبقدرته على التمييز‪،‬‬
‫في خ�ضم هرج ومرج وفو�ضى عارمة؛ وعند كل موعد انتخابي‪ ،‬تتوقف‬
‫عقارب ال�ساعة‪ ،‬وتحب�س الأنفا�س‪ ،‬ويدخل المغرب من جديد‪ ،‬في‬
‫‪163‬‬
‫انتظارية قاتلة‪ ،‬ت�ضيع عليه الكثير من الفر�ص والعديد من الرهانات‪.‬‬
‫لقد ظل تعامل الأحزاب ال�سيا�سية مع الم�س�ألة الجهوية‪ ،‬وخالل‬
‫�سنوات طويلة‪ ،‬يت�سم‪� ،‬إلى حد كبير‪ ،‬بالتردد واالرتباك‪� ،‬إلى درجة �أن‬
‫غالبيتها لم تتحرك لمناق�شة الم�شروع الجهوي �إال بعد �أن طلبت منها‬
‫اللجنة الملكية اال�ست�شارية ذلك‪ ،‬مبا�شرة عقب خطاب ت�أ�سي�سها‪،‬‬
‫مقابل اكتفاء بع�ضها الآخر بطرح ت�صورات �أولية وغير ذي �أهمية‪،‬‬
‫ف�ضال عن عمومية مقترحاتها‪ ،‬دون �أن ترقى �إلى الم�ستوى المطلوب‪.‬‬
‫فهل �أحزابنا اليوم م�ستعدة وقادرة على تحمل الم�س�ؤولية‪،‬‬
‫والتخلي عن ال�صراعات ال�سيا�سوية والم�شاحنات االنتخابوية‪ ،‬التي‬
‫تركز في كثير من الأحيان على الأ�شخا�ص بدل البرامج‪ ،‬وت�ساهم‬
‫بالتالي في ت�شكيل ر�ؤية موحدة �أو على الأقل‪ ،‬متقاربة‪ ،‬واقعية ومتوافق‬
‫عليها‪ ،‬ت�سمح بال�سير قدما تجاه تحقيق التنمية ال�شاملة والم�ستدامة‪،‬‬
‫في �إطار ت�شاركي وت�شاوري‪ ،‬يعزز �أحكام ومقت�ضيات الد�ستور‪ ،‬ويخدم‬
‫الدولة والمجتمع؟‬
‫لقد راكم المغرب تجربة كبيرة على م�ستوى ال ّالمركزية‪ ،‬وخا�صة‬
‫الإدارية منها‪ ،‬لكن ذلك لم ي�صاحبه في الوقت ذاته‪ ،‬تطور وفعالية‬
‫على الم�ستوى االقت�صادي والمالي؛ ولتحقيق هذا الهدف‪ ،‬وجب على‬
‫الجماعات الترابية‪ ،‬التوفر على الإمكانات الب�شرية والتقنية والمالية‪،‬‬
‫والتي تمكنها من القيام ب�أدوارها كاملة‪ ،‬في ظروف جيدة‪.‬‬
‫�إن �إقرار الالمركزية كاختيار �إ�ستراتيجي‪ ،‬وكنظام ديمقراطي‪،‬‬
‫وكقاعدة �إدارية لتدبير ال�ش�أن المحلي‪ ،‬وكذلك الإجماع الوطني على‬
‫�ضرورة تطوير الم�ؤ�س�سات المحلية‪ ،‬وتو�سيع اخت�صا�صاتها‪ ،‬والزيادة‬
‫من مواردها و�إمكاناتها؛ كل ذلك يفر�ض مهام و�أدوار وم�س�ؤوليات‬
‫جديدة على النخب المحلية‪ ،‬حتى ت�شكل بالفعل احتياطا اجتماعيا‬
‫و�سيا�سيا هاما وفاعال‪ ،‬ي�ستحق االعتبار‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫�إن البطء الذي ظل يميز االنتقال نحو الديمقراطية بالمغرب‪،‬‬
‫بالرغم من النتائج الإيجابية المحققة على �أكتر من �صعيد‪ ،‬يرجع‬
‫في جانب كبير منه‪� ،‬إلى مع�ضلة تدبير ال�ش�أن المحلي‪ ،‬والذي ال يتم‬
‫وفق طرق ومناهج حديثة وعقالنية‪ ،‬حيث الزالت العديد من القرارات‬
‫وال�سيا�سات المحلية تعاني من �ضعف �إنتاج وتداول النخب‪ ،‬وتراجع‬
‫م�صداقية الم�ؤ�س�سات المنتخبة‪ ،‬وعدم وجود �آليات علمية للمراقبة‬
‫والتقييم والمحا�سبة‪...‬‬
‫�إن الإ�صالحات الكفيلة بتحقيق الحكامة الترابية‪ ،‬ال يمكن‬
‫اختزالها في مجرد �إ�صدار ن�صو�ص قانونية جديدة‪ ،‬مهما بلغت من‬
‫التطور والن�ضج‪ ،‬وال في تفريخ هياكل �إدارية واخت�صا�صات �إ�ضافية‪،‬‬
‫بل البد من ر�ؤية �شمولية ذات �أهداف تنموية و�أبعاد �إ�ستراتيجية‪.‬‬

‫‪ - 4‬الدولة االجتماعية‬
‫جاءت الدولة االجتماعية كنتيجة لتطور ال�سياق ال�سو�سيو‬
‫اقت�صادي للعولمة‪ ،‬وما حملته هذه الأخيرة معها‪ ،‬من تراجع في دور‬
‫النقابات المهنية والأحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬حيث لم تعد الأجوبة الوطنية‬
‫وحدها كافية لت�صحيح االختالالت‪ ،‬وتحقيق المطالب االجتماعية‬
‫المختلفة؛ فالمجتمع العادل لم يعد يخ�ضع فقط لعمل الدولة‪ ،‬و�إنما‬
‫�أ�ضحى يقوم‪� ،‬إلى جانب ذلك‪ ،‬على عالقات م�ؤ�س�ساتية‪ ،‬اقت�صادية‬
‫واجتماعية‪ ،‬ترتكز على معايير عادلة‪ ،‬وتقوم على مبادئ ومرجعيات‬
‫م�شتركة‪ ،‬ترمي �إلى بناء مجتمع عادل ومت�ضامن وم�س�ؤول‪ ،‬حيث لم‬
‫تعد الدولة المرجع الوحيد للمجتمع العادل‪ ،‬بل ظهرت �إلى جانبها‬
‫حركة مجتمعية وا�سعة‪� ،‬أكثر تنظيما و�أقوى ت�أثيرا‪ ،‬تهدف �إلى جعل‬
‫الت�صرفات االقت�صادية �أكثر عدال‪ ،‬و�أكثر �إن�سانية‪.‬‬
‫�إن الدولة االجتماعية‪ ،‬كم�ؤ�س�سة عادلة‪ ،‬ترتكز على التزامات‬
‫‪165‬‬
‫متعارف عليها‪ ،‬تحتاج في عملها �إلى "عقد اجتماعي"‪ ،‬يكون بمثابة‬
‫ميثاق وطني‪ ،‬يحدد الم�س�ؤوليات‪ ،‬حتى ي�ستطيع كل المتدخلين تكييف‬
‫مبادئهم وكفاءاتهم مع طبيعة م�س�ؤولياتهم‪ ،‬وذلك بهدف بناء مجتمع‬
‫فاعلين وم�س�ؤولين‪.‬‬
‫هذه الثنائية في الأدوار وفي الم�س�ؤوليات بين الدولة والمجتمع‬
‫المدني‪ ،‬يمكن اعتبارها �أ�سا�س الدولة االجتماعية‪ .‬لكن‪ ،‬هل الدولة‬
‫م�ستعدة اليوم‪ ،‬بما فيه الكفاية‪ ،‬للقيام بكل هذه الأدوار والوظائف‬
‫االجتماعية الجديدة؟ وهل الدولة قادرة كذلك على احتواء وا�ستيعاب‬
‫جميع �شرائح المجتمع‪ ،‬اقت�صاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا‪ ...‬وهل‬
‫الدولة م�ستعدة للتخلي عن جزء من �سلطتها‪ ،‬وجعل م�ستقبل التنمية‬
‫داخلها‪ ،‬بيد الأفراد والم�ؤ�س�سات؟ كما �أن الم�س�ؤولية االجتماعية ال‬
‫تقت�صر على الدولة والمجتمع المدني فح�سب‪ ،‬و�إنما تتعداهما‪ ،‬لت�شمل‬
‫المدخرين والم�ستثمرين‪ ،‬كفاعلين في التنمية االجتماعية‪ ،‬عندما‬
‫يتحول االدخار �إلى ا�ستثمار في القطاعات الأقل مردودية (في الثقافة‬
‫وفي الخدمات االجتماعية) �أو �إلى قرو�ض ل�صالح الفئات الفقيرة (من‬
‫خالل م�شاريع مدرة للدخل)‪.‬‬
‫�إن التنمية االجتماعية م�سار طويل ومت�شعب ومتعدد الأبعاد‪،‬‬
‫يقود �إلى تنمية القدرات الفردية والفر�ص والإمكانات المتاحة‪ ،‬ويقود‬
‫كذلك �إلى تو�سيع دائرة الخيارات وتقوية الطاقات‪ ،‬على �أ�سا�س من‬
‫الم�شاركة والحرية والفاعلية‪ ،‬من �أجل الو�صول �إلى تحقيق الرفاهية‬
‫لأفراد المجتمع‪ ،‬اليوم وغدا‪ ،‬دون �أن ترهن في ذلك قدرة الأجيال‬
‫القادمة على اال�ستجابة لرغباتها‪ .‬وال يت�أتى ذلك كله �إال بالزيادة‬
‫من مخزون ر�أ�س المال المتاح‪ ،‬بجميع �أ�صنافه؛ المادية (�أرا�ضي‬
‫وتجهيزات) والمالية (ادخار وقرو�ض) والطبيعية (مواد طبيعية)‬
‫والب�شرية (تعليم و�صحة) واالجتماعية (عالقات اجتماعية)‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫من هذا المنطلق‪ ،‬تمثل التنمية الب�شرية برنامج عمل بنيوي‬
‫وطويل الأمد ومتعدد الجوانب؛ ي�شمل الجانب المادي (توفير المواد‬
‫وال�سلع والخدمات) والجانب الثقافي (حماية الهويات) والجاني‬
‫ال�سيا�سي (تقوية ال�سلطة) والجانب الأخالقي (المعايير والقيم)؛ وكل‬
‫ذلك بهدف مواكبة العملية االقت�صادية‪ ،‬حتى ال ت�ؤدي �إلى اختالالت‬
‫اجتماعية‪ ،‬تعيق اال�ستمرار في النمو‪ ،‬وفي تح�سين ظروف العي�ش‪.‬‬
‫�إن التنمية لي�ست مجرد عملية �إنتاجية لتوفير المواد وال�سلع‬
‫والخدمات‪ ،‬و�إنما هي �أكبر من ذلك‪ ،‬تبتدئ ب�سد الخ�صا�ص في ال�شغل‬
‫وال�سكن وال�صحة والتعليم‪ ،‬وتنتهي عند تحقيق الأمن ال�سيا�سي‪،‬‬
‫والم�شاركة في الحفاظ على التوازن البيئي‪ ،‬واحترام القانون‬
‫والم�ؤ�س�سات‪ ،‬وتمكين المر�أة‪ ،‬ومكافحة الفقر �أو على الأقل تقلي�صه‪.‬‬
‫في ما يتعلق بتمكين المر�أة‪ ،‬نذكر ب�أن تاريخ المغرب حافل‬
‫ب�سير ن�ساء رائدات‪ ،‬كانت كلماتهن م�سموعة و�أوامرهن مطاعة‪ ،‬تركن‬
‫ب�صمات نا�صعة‪ ،‬و�سطرن بحروف من ذهب مواقف جليلة‪ ،‬وملأن �سمع‬
‫الزمان وب�صره‪ ،‬وكن بحق مفخرة للع�صور وغرة في جبين الدهور‪،‬‬
‫قرونا بعد قرون‪ ،‬رغم العقلية الذكورية التي حاولت طم�س معالمهن‬
‫وتغييب �آثارهن؛ عقلية ت�أبى اليوم كذلك �إال �أن تفر�ض ما يتوافق‬
‫وم�صلحتها‪ ،‬وت�أكيد تفوقها وهيمنتها‪ ،‬حيث تعمد �إلى خلق المزيد من‬
‫العوائق �أمام المر�أة‪ ،‬دون اعتبار ل�شخ�صها وواقعها و�أحوالها‪ ،‬وما‬
‫قدمته من ت�ضحيات وحققته من مكت�سبات‪.‬‬
‫لقد �أ�صبحت الثقافة اليوم‪� ،‬آلية من �آليات ال�سيطرة والهيمنة‬
‫والإ�شراف االجتماعي؛ �أ�صبحت تحكم قرارات المجتمع‪ ،‬وتبني عالقاته‬
‫وت�صرفاته‪ ،‬وتحدد �سلوكه و�أ�سلوب حياته‪ .‬ولأن الثقافة وليدة المجتمع‬
‫وملك لكل �أفراده‪ ،‬فالذين يعي�شون في مجتمع ما‪ ،‬ن�ساء كن �أو رجاال‪،‬‬
‫ي�شتركون جميعا وعلى حد �سواء‪ ،‬في تجارب هذا المجتمع و�أعرافه‬
‫‪167‬‬
‫وقيمه؛ وهذه الم�ساحة الم�شتركة تخلق نوعا من الوحدة والتجان�س‬
‫في العادات والتقاليد‪ ،‬حتى ي�صعب تغييرها �أو الت�أثير فيها �أو حتى‬
‫التعر�ض �إليها �أو االقتراب منها‪ ،‬لأنها تتميز بالثبات والقبول‪ ،‬وت�ستند‬
‫على ثقافة مجتمعية مكت�سبة‪ ،‬تغر�س في النفو�س‪ ،‬منذ �سن مبكرة‪،‬‬
‫في�صبح بذلك م�صيرها منوط بم�صير المجتمع بكامله‪� ،‬أو على الأقل‬
‫بم�صير الجماعة التي �أنتجتها‪ ،‬وتحاول ب�شتى الو�سائل الم�شروعة وغير‬
‫الم�شروعة‪ ،‬الر�سمية وغير الر�سمية‪ ،‬الحفاظ عليها‪.‬‬
‫�إن �أي تحول في الثقافة هو في الواقع منبع �أفعال ملمو�سة‪،‬‬
‫ومنطلق م�سيرة طويلة و�شاقة‪ ،‬لأن الأمر يتعلق ب�إحداث ثـورة في الفكر‬
‫وال�سيا�سة والإيديولوجيا‪ ،‬ثـورة من �ش�أنها �أن تخلق رجة قوية في‬
‫المجتمع وت�سفر عن تغيرات كبرى في القوانين والت�صورات والأعراف‬
‫والتقاليد والقيم والمعتقدات والقناعات‪.‬‬
‫�إننا بحاجة اليوم‪� ،‬أكتر من �أي وقت م�ضى‪� ،‬إلى �إ�صالح عميق‪،‬‬
‫يعيد تنظيم المجتمع‪ ،‬كما يعيد �إنتاج قيمه وثقافته من جديد‪ ،‬على‬
‫�أ�سا�س من الم�ساواة وتكافئ الفر�ص‪ ،‬بعيدا عن ثقافة التمييز في‬
‫الحقوق والواجبات وفي تولي الم�س�ؤوليات؛ الأمر الذي ال يتحقق �إال‬
‫ب�إ�صدار القوانين والت�شريعات و�إعمال الخطط واالتفاقيات‪ ،‬والعمل‬
‫بحزم و�صرامة على تنزيلها وح�سن تنفيذها‪.‬‬
‫�أما في ما يتعلق بالفقر‪ ،‬فال بد من التذكير بداية‪ ،‬ب�أنه ال‬
‫يوجد له تعريف متفق عليه من طرف الجميع‪ ،‬لكن المن�شور ال�صادر‬
‫عن الأمم المتحدة في مار�س ‪ ،1999‬تعر�ض لل�صور والأ�شكال التي‬
‫يتخذها الفقر؛ �إذ جاء فيه �أن الفقر يتخذ �أ�شكاال متنوعة‪ ،‬تت�ضمن‬
‫انعدام الدخل‪ ،‬والموارد المنتجة الكافية ل�ضمان م�ستوى معي�شي الئق؛‬
‫ومن مظاهره‪ ،‬نذكر الجوع‪ ،‬و�سوء التغذية‪ ،‬و�سوء ال�صحة‪ ،‬والو�صول‬
‫المحدود �أو المعدوم �إلى التعليم وغيره من الخدمات الأ�سا�سية‪،‬‬
‫‪168‬‬
‫وانت�شار الأمرا�ض والوفيات‪ ،‬وانعدام الم�ؤن وال�سكن غير المنا�سب‪،‬‬
‫والعي�ش في بيئة غير �آمنة‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى انعدام الم�شاركة في �صنع‬
‫القرارات في الحياة المدنية واالجتماعية‪.‬‬
‫ولمكافحة الفقر �أو على الأقل تقلي�صه‪ ،‬نحتاج �إلى �إ�ستراتيجيات‬
‫وطنية مندمجة‪ ،‬تعمل على زيادة امتالك الفقراء للأرا�ضي‪ ،‬خا�صة‬
‫في القرى والبوادي؛ وتكوين اليد العاملة؛ والزيادة في عوامل الإنتاج‬
‫المتاحة للفقراء؛ وا�ستمرار هدف مكافحة الفقر في المخططات‬
‫الوطنية للتنمية‪ ،‬وذلك في �أفق �إعادة اعتبار خط الفقر‪ ،‬لي�أخذ في‬
‫ح�ساباته احتياجات الحياة ال�ضرورية للمواطنين‪ ،‬من غذاء وغيره‪ ،‬حتى‬
‫يعك�س ذلك حقيقة الأبعاد المتعددة لطبيعة الفقر ونوعية االحتياجات‬
‫الأ�سا�سية (الغذاء والم�سكن والخدمات الأ�سا�سية‪ ،‬وخدمات ال�صحه‬
‫والتعليم والموا�صالت‪)...‬؛ والرفع من فر�ص الم�ساهمة الإيجابية‬
‫المتاحة �أمام الفقراء ومحدودي الدخل في عملية التنمية االقت�صاديه؛‬
‫كذلك تبني �إ�ستراتيجية لتوزيع المداخيل في كل ال�سيا�سات والبرامج‬
‫التنموية‪ ،‬و�أن يكون هدفها الأول مكافحة الفقر المدقع‪ ،‬و�إعادة هيكلة‬
‫العمالة‪ ،‬وزيادة تنميه الأعمال التجارية وال�صناعية للأغلبية الفقيرة‬
‫من ال�سكان؛ مما قد يف�ضي في النهاية‪� ،‬إلى انخفا�ض معدالت الفقر‪،‬‬
‫وتقلي�ص الفوارق في المداخيل بين المجموعات المختلفة‪.‬‬
‫وبالإ�ضافة �إلى كل ما ذكر‪ ،‬نقترح الآتي‪:‬‬
‫‪� -‬أن يت�ضمن النظام ال�ضريبي بعدا اجتماعيا وا�ضحا‪ ،‬ي�ستفيد‬
‫منه الفقراء‪ ،‬وذلك بت�أكيد مبد�أ الت�صاعدية في ال�ضريبة على الدخل‪،‬‬
‫بالرفع من الحد الأدنى من الدخل الخا�ضع لل�ضريبة‪ ،‬وت�ؤخذ ال�ضريبة‬
‫بعد خ�صم �أق�ساط الت�أمين ال�صحي‪ ،‬ون�سبة عدد الأطفال‪ ،‬وخا�صة‬
‫الممدر�سين منهم‪ ،‬وذوي الإعاقة‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية الأ�سر الأ�شد فقرا‪ :‬من خالل الأن�شطة المدرة للدخل‪،‬‬
‫‪169‬‬
‫وبرامج تمويلية تقدم قرو�ضا بدون فوائد للفقراء‪ ،‬وبفترات �سماح‬
‫طويلة‪ ،‬وزيادة الخدمات الموجهة للمناطق الفقيرة‪ ،‬بهدف تح�سين‬
‫نوعية الحياة‪ ،‬و�إن�شاء الم�ساك ـ ـ ـ ــن للفقراء وترميم بع�ضها‪ ،‬وتوفير‬
‫خدمات الماء ال�صالح لل�شرب والكهرباء وال�صرف ال�صحي والتعليم‪،‬‬
‫وتح�سين الربط بال�شبكة الطرقية؛ هنا برامج المبادرة الوطنية للتنمية‬
‫الب�شرية‪ ،‬في ن�سختها الثالثة‪ ،‬يمكن �أن تقدم ال�شيء الكثير من �أجل‬
‫تدارك الخ�صا�ص الم�سجل على م�ستوى البنيات التحتية والخدمات‬
‫الأ�سا�سية بالمجاالت الترابية الأقل تجهيزا‪ ،‬ومواكبة الأ�شخا�ص في‬
‫و�ضعية ه�شة‪ ،‬وتح�سين الدخل والإدماج االقت�صادي لل�شباب‪ ،‬للحد‬
‫من الفوارق المجالية واالجتماعية بالعالم القروي‪ ،‬وتح�سين عر�ض‬
‫الخدمات العمومية‪ ،‬وفق مقاربة مندمجة ومتكاملة العالجية‪.‬‬
‫‪ -‬برامج غيـ ـ ـ ـ ــر حكومية‪ ،‬تنفذها منظمات المجتمع المدني‪،‬‬
‫بهدف تقلي�ص الفقر‪ ،‬عن طريق زيادة مداخيل الأ�سر الأ�شد فقرا‪،‬‬
‫من خالل تقديم قرو�ض بدون فوائد للفقراء؛ كما تقدم الحكومة من‬
‫جانبها‪ ،‬قرو�ضا لهذه البرامج ودائما بدون فوائد‪ ،‬من �أجل تمويل‬
‫م�شروعاتها للفقراء‪ ،‬في مجال الزراعة وم�شروعات الأعمال ال�صغيرة‪،‬‬
‫والمتناهية ال�صغر‪.‬‬
‫‪� -‬سيا�سة الدعم المبا�شر‪ ،‬ت�ستهدف الفقراء‪ ،‬وخا�صة الذين‬
‫هم في و�ضعية ه�شة‪� ،‬أ�سرا و�أفرادا كذلك‪ ،‬مثل تقديم �إعانة �شهريه‪،‬‬
‫لمن يعيل �أ�سرة‪� ،‬أو يعيل نف�سه بنف�سه‪� ،‬أو يعيل معاق‪ ،‬وهو غير قادر‬
‫على العمل ل�سبب �أو لآخر‪.‬‬
‫‪ -‬تقديم قرو�ض بدون فوائد ل�شراء م�ساكن اجتماعية قليلة‬
‫التكلفة‪ ،‬من خالل �صندوق خا�ص ين�ش�أ لهذا الغر�ض‪ ،‬تحدد اعتماداته‬
‫ال�سنوية من الميزانية العامة للدولة‪� ،‬إلى جانب اعتمادات مالية �أخرى‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫تدعم م�شروعات اجتماعية موجهه لتطوير القرى والأن�شطة الفالحية‬
‫الخا�صة بالفقراء؛ الأمر الذي من �ش�أنه �أن يخلق طبقة و�سطى ن�شيطة‬
‫وفاعلة‪ ،‬في القرية والبادية‪.‬‬
‫‪ -‬توفير مراف ـ ـ ـ ــق البنية الأ�سا�سية‪ ،‬االجتماعية واالقت�صادية‪،‬‬
‫في المناط ـ ـ ـ ــق القروية والجبلية‪ ،‬المعزولة والفقيرة‪ ،‬بما في ذالك‬
‫مرافق النقل والموا�صالت‪ ،‬والمدار�س‪ ،‬والخدمات ال�صحية‪ ،‬والماء‬
‫والكهرباء‪ ...‬‬
‫‪ -‬دعـ ـ ـ ـ ــم الأدوية التي ي�ستعملها الفقراء وخا�صة تلك المنقذة‬
‫للحياة‪ ،‬كذلك دعم القطاع الخا�ص من �أجل فتح مراكز وعيادات‬
‫�صحية‪ ،‬خا�صة في القرى والمناطق النائية والمعزولة‪ ،‬وتقديم خدمات‬
‫بالمجان لرعاية �صحة الحوامل والأطفال‪.‬‬
‫‪ -‬و�ضع برنامج "قرى ومدن نموذجية من دون الفقر"‪ ،‬على غرار‬
‫برنامج مدن من دون �صفيح‪ ،‬تعمل فيها الدولة على مكافحة الفقر‪،‬‬
‫وذلك لبلوغ �أهداف التنمية‪.‬‬
‫لقد تعددت البرامج والمخططات التي تهدف الق�ضاء على‬
‫الفقر والنهو�ض بالأو�ضاع االجتماعية؛ لكن يبقى تنزيلها على �أر�ض‬
‫الواقع ي�شوبه الكثير من التعثر واالرتباك؛ وهذا �أمر طبيعي‪ ،‬لأن الفقر‬
‫�أكبر من كونه م�شكال اجتماعيا؛ فهو قبل ذلك ثقافة و�سلوك‪ ،‬و�شيوعه‬
‫داخل المجتمع‪ ،‬يعني �إحباط �أجيال بكاملها؛ فال ت�ستطيع االندماج‬
‫في القطاعات الأكثر مردودية �أو حتى اال�ستفادة من الخدمات‬
‫االجتماعية‪ ،‬من �صحة وتعليم و�سكن الئق؛ لأنها تبقى من�شغلة �أ�سا�سا‬
‫بتلبية حاجياتها ال�ضرورية؛ هذا ال�ضعف في االندماج في الحياة‬
‫المهنية والمدر�سية من قبل الفقراء و�أبنائهم‪ ،‬يزيد من حدة الفقر‪،‬‬
‫ويعيق �أي مجهود للتنمية االقت�صادية ولل�سلم االجتماعي؛ وبذلك نكون‬
‫ب�صدد حلقة مفرغة‪ ،‬لي�ست لها ال بداية وال نهاية‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫�إن �أي مقاربة للق�ضاء على الفقر ال يمكن �أن تكون ناجعة‪،‬‬
‫�إال بالعمل في اتجاه الحد من النمو الديمغرافي الكبير الذي تعرفه‬
‫بالدنا؛ هذا النمو للأ�سف اليوم في المغرب ناتج بالدرجة الأولى عن‬
‫الأ�سر الفقيرة والمحرومة؛ وهذه هي المفارقة الغريبة؛ و�إذا ا�ستمر‬
‫هذا الو�ضع‪ ،‬فهذا يعني �إخفاق �أي مجهود‪ ،‬تقوم به الدولة والم�ؤ�س�سات‬
‫التابعة لها‪ ،‬وكذلك منظمات المجتمع المدني‪ ،‬للتخفيف من الفقر‪،‬‬
‫وتح�سين م�ستوى عي�ش المواطنين؛ فزيادة التنا�سل بين الفئات‬
‫الفقيرة‪ ،‬وعدم تحكمها في معدل الخ�صوبة‪ ،‬يبقى �أكبر عائق �أمام‬
‫نجاعة �أي �سيا�سة‪ ،‬كيفما كانت �أهميتها؛ لأن ا�ستمرار هذا الو�ضع‪،‬‬
‫يعني المزيد من ا�ستنزاف الخيرات‪ ،‬ومن تقلي�ص الم�صادر المتوافرة‬
‫في بالدنا‪ ،‬الب�شرية منها والمالية واالقت�صادية والبيئية‪...‬‬
‫هذه حقيقة يتم �إخفائها‪� ،‬أو على الأق ــل تغافلها‪ ،‬ولي�س لدينا‬
‫اليوم �سيا�سيات عمومية �إ�صالحية‪ ،‬ترمي �إلى �إعادة الهيكلة‪ ،‬وخلق‬
‫دينامية قوية للتنمية االقت�صادية اعتمادا على طبقة و�سطى‪ ،‬تقوم‬
‫بكامل �أدوارها؛ وهو ما �أكده الملك محمد ال�ساد�س في خطاب العر�ش‪،‬‬
‫بتاريخ ‪ 30‬يوليوز ‪ ،2008‬حين اعتبر �أن "الهدف الإ�ستراتيجي لكافة‬
‫ال�سيا�سيات العمومية‪ ،‬هو تو�سيع الطبقة الو�سطى‪ ،‬لت�شكل القاعدة‬
‫العري�ضة وعماد اال�ستقرار والقوة المحركة للإنتاج والإبداع‪"...‬‬
‫وجعل الفئات الو�سطى مرتكز المجتمع المتوازن‪ ،‬الذي نعمل على‬
‫بلوغه؛ مجتمع منفتح‪ ،‬ال انغالق فيه وال �إق�صاء؛ مجتمع تت�ضامن فئاته‬
‫المي�سورة‪ ،‬با�ستثماراتها المنتجة ومبادراتها المواطنة وما تدره من‬
‫�شغل نافع مع غيرها‪ ،‬في المجهود الوطني الجماعي‪ ،‬للنهو�ض ب�أو�ضاع‬
‫الفئات المعوزة‪ ،‬وتمكينها من �أ�سباب المواطنة الكريمة"؛ ليعود‬
‫جاللته‪ ،‬بمنا�سبة افتتاح الدورة الأولى من ال�سنة الت�شريعية الثالثة‬
‫من الوالية الت�شريعية العا�شرة‪ ،‬بتاريخ ‪� 12‬أكتوبر ‪ ،2018‬وي�ؤكد مرة‬
‫‪172‬‬
‫�أخرى‪ ،‬على "تعزيز المكا�سب المحققة في الميدان الفالحي‪ ،‬وخلق‬
‫المزيد من فر�ص ال�شغل والدخل‪ ،‬وخا�صة لفائدة ال�شباب القروي‪ ،‬في‬
‫�أفق ت�شجيع انبثاق وتقوية طبقة و�سطى فالحية‪ ،‬كفيلة بتحقيق توازن‬
‫و�أن تكون رافعة للتنمية االقت�صادية واالجتماعية"‪.‬‬
‫�إنها لدعوة �صريحة من �أعلى �سلطة في البالد‪ ،‬للم�س�ؤولين‬
‫و�أ�صحاب القرار‪ ،‬للتدخل عبر �إجراءات �آنية‪ ،‬ملمو�سة ومحددة‪ ،‬بغية‬
‫تو�سيع قاعدة الطبقة الو�سطى‪ ،‬في المدن وفي القرى؛ و�إنه لنداء‬
‫قوي كذلك للفئات المي�سورة من ذوي المال والأعمال‪ ،‬للت�ضامن‬
‫والم�شاركة‪ ،‬عبر مبادرات مواطنة وم�س�ؤولة‪ ،‬فـ ــي المجهود الوطني‬
‫الجماعي لمحاربة الفقر‪ ،‬والوقوف بجانب الفقراء‪ ،‬وتمكينهم من‬
‫�أ�سباب الحياة الكريمة‪.‬‬
‫لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الطبقة الو�سطى‪ ،‬وعن‬
‫دورها‪ ،‬كقوة محركة للإنتاج والإبداع‪ ،‬وكعماد لال�ستقرار‪ ،‬وكمرتكز‬
‫للتوازن االجتماعي‪ ،‬وك�أ�سا�س قوي يقوم عليه المجتمع‪ ،‬للنهو�ض ب�ش�ؤون‬
‫الوطن وتدبير �ش�ؤونه وقيادة التغير ال�سيا�سي واالقت�صادي واالجتماعي‬
‫داخله‪ ،‬وذلك عبر ا�ستثمارات منتجة ومواقف �سيا�سية جريئة ومبادرات‬
‫اجتماعية م�س�ؤولة ومواطنة‪.‬‬
‫وتبقى "الطبقة الو�سطى" م�صطلحا مبهما‪ ،‬وال يختلف كثيرا عن‬
‫م�صطلح "التنمية الب�شرية" الذي �أبدعته عبقرية الم�ؤ�س�سات الدولية‪،‬‬
‫حيث تمت �صياغته بحكمة بالغة‪ ،‬في دهاليز الأمم المتحدة‪ ،‬وتم‬
‫�إنزاله �إلى �أر�ض الواقع بالتدرج‪ ،‬ليتم تكري�سه و�إ�شاعته عبر العالم‪،‬‬
‫والذي يعتبر الفقر المتعلق بالدخل �أو الفقر المالي‪ ،‬مجرد عن�صر‬
‫من عنا�صر الحرمان الذي يطال الأفراد؛ وبذلك‪ ،‬فهو ال يعتبر الدخل‬
‫لوحده م�س�ؤوال عن الرفاهية‪ ،‬و�إنما هناك مقومات ومرتكزات �أخرى‬
‫غير الدخل‪ ،‬من �ش�أنها تحقيق الرفاهية للأفراد والمجتمعات‪ ،‬من قبيل‬
‫‪173‬‬
‫تنمية القدرات‪ ،‬وتو�سيع الخيارات‪ ،‬وزيادة الفر�ص والإمكانات‪ .‬وبذلك‪،‬‬
‫تكون هذه الم�ؤ�س�سات والدول الغربية الراعية لها‪ ،‬قد تمل�صت من كل‬
‫م�س�ؤولية عما لحق باقت�صاديات الدول النامية‪ ،‬من تخلف وا�ستغالل‬
‫وهيمنة‪ ،‬نتيجة العالقة اال�ستعمارية ‪-‬حيث المبادالت الدولية �إلى اليوم‬
‫غير متكافئة وتت�سم بالإجحاف‪ ،-‬وما واكبها من تدهور للأو�ضاع‪ ،‬ومن‬
‫تخريب لبنيات القطاع الإنتاجي‪ ،‬ومن نهب اقت�صادي غير محدود‪،‬‬
‫وخ�ضوع لتبعية مطلقة‪ ،‬تجارية ومالية وثقافية وتكنولوجية‪...‬‬
‫ت�أتي الطبقة الو�سطى بين فئتين �أ�سا�سيتين داخل المجتمع ‪-‬‬
‫اعتبارا لم�ستوى دخلها ودرجة ت�أهيلها وتكوينها وو�ضعيتها االعتبارية‬
‫داخل ال�سلم االجتماعي ونمط ا�ستهالكها وعي�شها عموما‪ ،‬و�إح�سا�سها‬
‫القوي باالنتماء �إلى الوطن وم�ساهمتها الفاعلة في تنميته وازدهاره ‪-‬‬
‫فئة عري�ضة من المعدمين‪ ،‬تبحث ب�صعوبة كبيرة عن �أ�سباب البقاء‪،‬‬
‫وفئة محدودة جدا من الأغنياء‪ ،‬ت�ستفيد من اقت�صاد الريع‪ ،‬تكونت‬
‫وتقوت وا�شتد عودها‪ ،‬ويتطلع الجميع اليوم �إلى م�ساهمتها الفاعلة‬
‫في الإنتاج‪ ،‬وت�ضامنها مع غيرها‪ ،‬من �أجل النهو�ض ب�أو�ضاع الفقراء‬
‫والمعوزين‪.‬‬
‫لقد ا�ستفادت فئة محدودة جدا في مغرب ما بعد اال�ستقالل‪ ،‬من‬
‫ثمار �سيا�سة المغربة بداية ال�سبعينات؛ كما ا�ستفادت كذلك من حالة‬
‫االنفتاح التي عرفتها بالدنا في مطلع الثمانينات‪ ،‬وما واكبها من تحرير‬
‫ت�شريعي‪ ،‬ومن خو�ص�صة‪ ،‬ومن تحرير للنظامين المالي والبنكي‪ ،‬وذلك‬
‫دون رقابة �أو تدبير من �ش�أنه �ضبط المداخيل والم�صاريف وتطوير‬
‫الإنتاج؛ ال�شيء الذي جعل وحدات من القطاع العام‪ ،‬ت�شكل م�صدرا‬
‫الغتناء العديد من اللوبيات المرتبطة بال�سلطة المخزنية‪ ،‬وتتعر�ض‬
‫هي بالتالي‪ ،‬للإفال�س وتفاقم المديونية‪ .‬واليوم‪ ،‬هناك تمركز للثروات‬
‫في يد فئة قليلة جدا من الأغنياء الجدد الذين يكد�سون ثرواتهم‬
‫‪174‬‬
‫ويبنون مجدهم عن طريق الم�ضاربات بجميع �أنواعها‪ ،‬عقارية ومالية‬
‫وتجارية‪ ،‬وعن طريق ا�ستغالل النفوذ‪ ،‬وا�ستغالل ب�ؤ�س وفقر �شرائح‬
‫وا�سعة من المجتمع؛ م�ستفيدين في كل ذلك‪ ،‬من نظام حمائي قوي‪،‬‬
‫ومن �إجراءات �إدارية وجمركية م�ساندة؛ الأمر الذي جعلهم غير قادرين‬
‫تماما على االعتماد على ذواتهم‪ ،‬وفك االرتباط الوثيق بينهم وبين‬
‫الدولة؛ لأنهم بكل ب�ساطة نموا وترعرعوا‪ ،‬على االمتيازات المختلفة‪،‬‬
‫من دون �أن يقدموا في الوقت نف�سه‪ ،‬ما يقابل ذلك‪ ،‬اجتماعيا وب�شريا‬
‫وبيئيا‪ ...‬يتم ذلك كله في غياب تام عن �أي تنظيم �أو ت�أطير �أو مناف�سة‬
‫�أو مراقبة‪.‬‬
‫�إن تمركز القوة والنفوذ في يد فئة قليلة جدا من الأغنياء‪ ،‬ي�ضر‬
‫باالقت�صاد الوطني؛ فهم ي�ستفيدون من اقت�صاد الريع الذي ال يقبل‬
‫المبادرة‪ ،‬ويق�ضي على روح المقاولة‪ ،‬ويتعار�ض مع اقت�صاد المناف�سة‬
‫واال�ستحقاق‪ ،‬والذي يحقق الإق ــالع ويجلب اال�ستثمار؛ فكيف لنا �أن‬
‫تت�صور �أن فاعال ما يعي�ش على االمتيازات‪� ،‬سيبدع �أو �سينتج بالجودة‬
‫والتناف�سية المطلوبة‪ ،‬وبالأ�سعار المنا�سبة‪� .‬إن من �ألف الح�صول على‬
‫الثروة وتكدي�س الأرباح ب�سهولة وبدون عمل �أو جهد‪ ،‬عن طريق ال�سلطة‬
‫والنفوذ‪ ،‬وعن طريق االمتيازات واالحتكارات وال�صفقات‪ ،‬ي�صعب عليه‬
‫التخلي عن كل ذلك ب�سهولة‪.‬‬
‫�إن الأمل معقود اليوم على نظام الجهوية في بالدنا‪ ،‬بما �سيخلقه‬
‫من دون �شك من ديمقراطية اقت�صادية‪ ،‬ومن تراجع في اقت�صاديات‬
‫الريع التقليدية‪ ،‬ومختلف التجاوزات الأخرى؛ لكن الأمر يحتاج �إلى‬
‫�إرادة قوية من طرف الدولة‪ ،‬بكل مكوناتها؛ �إرادة للإ�صالح والتحديث‪،‬‬
‫ومواكبة التنمية؛ ويحتاج كذلك �إلى �إجراءات عملية ومبادرات ترمي �إلى‬
‫تخليق الحياة العامة‪ ،‬وتنقيتها من كافة �أ�شكال الف�ساد المالي والإداري‬
‫وال�سيا�سي‪ ،‬وتدعيم الحقوق الأ�سا�سية‪ ،‬وبث روح الديمقراطية‪ ،‬و�إقرار‬
‫‪175‬‬
‫الم�ساواة بين المواطنين‪ ،‬و�سيادة القانون على الجميع‪ ،‬وخلق مناخ‬
‫ماك ـ ـ ــرو اقت�صادي نظيف‪ ،‬مبني على المناف�سة و�إلغاء االحتكارات‪،‬‬
‫يرجع جو الثقة بين الإدارة والفاعلين االقت�صاديين‪ ،‬على �أ�سا�س‬
‫من القانون‪ ،‬من خالل ت�شجيع اال�ستثمارات‪ ،‬و�إ�شاعة قيم المبادرة‬
‫والمناف�سة‪ ،‬والت�صـ ـ ـ ــدي لجميع المقاومات‪ ،‬االقت�صادية واالجتماعية‬
‫والثقافية وال�سلوكية‪...‬‬
‫�إن القوى الإنتاجية اليوم‪ ،‬ت�أثيرها بالغ على ال�سلطة ال�سيا�سية؛‬
‫واللوبيات االقت�صادية‪ ،‬نفوذها قوي على الم�س�ؤولين و�أ�صحاب القرار‪،‬‬
‫بل حتى على التوجهات العامة واالختيارات الإ�ستراتيجية للبالد؛ فهي‬
‫ت�ستفيد من اقت�صاد الريع‪ ،‬نتيجة تفويت �أرا�ضي الدولة‪ ،‬ونظام الرخ�ص‬
‫واالمتيازات؛ �إ�ضافة �إلى التالعب بال�صفقات العمومية‪ ،‬والتجر�ؤ على‬
‫المال العام‪ .‬واليوم‪ ،‬على هذه الفئة القليلة جدا من الأغنياء الجدد‪،‬‬
‫�أن تدرك ب�أن زمن الربح ال�سريع‪ ،‬واالعتماد المفرط على الدولة‪ ،‬بل‬
‫وفي بع�ض الأحيان حتى مقاي�ضتها‪� ،‬إن اقت�ضى الحال ذلك‪ ،‬قد انتهى‬
‫تماما‪ ،‬وحل محله زمن الم�س�ؤولية والفعالية والتحديث‪.‬‬
‫�إن االنتقال من اقت�صاد ريع‪ ،‬مبني على التبعية وعلى ال�سلطة‪،‬‬
‫�إلى اقت�صاد حديث‪ ،‬يرتكز على المناف�سة و�إلغاء االحتكارات وتطبيق‬
‫القانون وتكري�س الإ�صالحات‪ ،‬وعلى الحكامة الجيدة المبنية على‬
‫ال�شفافية والمراقبة والم�ساءلة والمحا�سبة‪ ،‬يحتاج من دون �شك‪� ،‬إلى‬
‫موارد ب�شرية وكفاءات وطنية‪ ،‬تت�صف بالنزاهة والأمانة‪ ،‬ت�شارك في‬
‫تحمل الم�س�ؤولية‪.‬‬

‫‪ - 5‬الأمن الغذائي‬

‫يمكن تحديد مفهوم الأمن الغذائي‪ ،‬ب�أنه قدرة الدولة على توفير‬
‫ال�سلع الغذائية الأ�سا�سية في ال�سوق المحلية‪ ،‬و�ضمان حد �أدنى منها‬
‫‪176‬‬
‫بانتظام‪ ،‬وعلى مدار العام‪ ،‬وتوزيعها ب�أ�سعار منا�سبة وبكميات كافية‪،‬‬
‫عن طريق االكتفاء الذاتي �أ�سا�سا‪ ،‬ف�إذا لم تتمكن من ذلك‪ ،‬فلن يبقى‬
‫�أمامها �سوى اللجوء �إلى الخارج‪� ،‬شريطة �أن ال تكون قيمة الواردات من‬
‫ال�سلع الغذائية �أكبر من �صادراتها‪ ،‬و�شريطة توفير الأموال الالزمة‬
‫لذلك‪ .‬لكن الخطورة هنا تكمن في طبيعة التجارة الدولية اليوم‪ ،‬التي‬
‫تت�سم بعدم التكاف�ؤ؛ الأمر الذي يجعل من االعتماد على اال�ستيراد‬
‫نافذة ال�ستنزاف خيرات الدولة وتعر�ضها للتبعية الغذائية‪.‬‬
‫في ظل هذه الظروف‪ ،‬ال يمكن النظر �إلى ق�ضية الأمن الغذائي‬
‫بمعزل عن المتغيرات الدولية؛ �أي االتجاه نحو االعتماد المتبادل‪،‬‬
‫خا�صة بعد �إن�شاء المنظمة العالمية للتجارة‪ ،‬وتال�شي نظم الحماية‬
‫و�إجراءاتها وازدياد المناف�سة الدولية؛ مما يحتم على الدولة �أن تنتج‬
‫ما تحتاجه من غذاء‪ ،‬بالكمية المتوازنة وبالطريقة االقت�صادية التي‬
‫تراعي المزايا الن�سبية التي تتوفر عليها‪ ،‬و�أن تكون منتجاتها قادرة‬
‫على التناف�س مع المنتجات الأجنبية‪� ،‬إذا لزم الأمر ذلك‪.‬‬
‫�إن نق�ص الغذاء في �أي مجتمع من المجتمعات‪ ،‬يعتبر من دون‬
‫�شك م�شكلة خطيرة؛ وهي تعظم كلما كان العجز كبيرا؛ وهذا العجز‬
‫على �أنواع ثالثة‪� :‬إما عجز في الإنتاج �أو عجز في القدرة ال�شرائية‬
‫�أو عجز فيهما معا؛ وهكذا‪ ،‬يمكن �أن نجد بلدانا ال تنتج غذائها �أو‬
‫جميعه‪ ،‬ولكنها تملك القدرة المالية الكافية ل�شرائه؛ وبلدانا �أخرى‬
‫تنتج غذائها كليا �أو جزئيا ولكن تبقى �شرائح من المجتمع ال ت�ستطيع‬
‫الح�صول عليه‪ ،‬ب�سبب �ضعف قدرتها ال�شرائية؛ و�صنف ثالث من‬
‫البلدان‪ ،‬وهي العاجزة تماما عن �إنتاج غذائها وعاجزة كذلك عن‬
‫�شرائه من الخارج‪.‬‬
‫وب�صرف النظر عن الكثير من الم�شاكل والأزمات والتحديات‬
‫االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬والتي يعانـ ـ ـ ـ ــي منها المغرب‬
‫‪177‬‬
‫اليوم‪ ،‬ف�إن نق�ص الغذاء يعتبر �أخطر م�شكلة يتعر�ض لها‪ ،‬في حا�ضره‬
‫وم�ستقبله؛ فهو يعتبر بحق منطقة عجز غذائي‪ ،‬وم�شكلته الغذائية‬
‫تبقى من �أبرز مظاهر الأزمة االقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬وعالمة من‬
‫عالمات ف�شل الإ�ستراتجيات التنموية المتعاقبة لحد الآن‪ ،‬حيث �إن‬
‫حاجة ال�سكان للغذاء الزالت تنمو �سنويا بمعدالت تفوق معدالت زيادة‬
‫الإنتاج المحلي؛ مما ي�ؤدي �إلى زيادة الواردات �سنويا وب�شكل مذهل؛‬
‫كما �أن ا�ستمرار الهجرة من الريف �إلى المدن حولت الذين كانوا ذات‬
‫يوم منتجين زراعيين‪� ،‬أو على الأقل مكتفين ب�أنف�سهم‪� ،‬إلى م�ستهلكين‬
‫طوال الوقت؛ كما �أن ارتفاع مداخيل الطبقات الو�سطى في المناطق‬
‫الح�ضرية‪ ،‬عالوة على ه�ؤالء المهاجرين الجدد الذين ال يزال مطلبهم‬
‫الأ�سا�سي هو الطعام‪ ،‬قد �أوجد طلبا �شديدا على ال�سلع الغذائية؛‬
‫مما �أ�سهم في زيادة حدة الم�شكلة الغذائية‪ .‬لذلك‪ ،‬فالمغرب كبلد‬
‫فقير‪ ،‬يوجد في و�ضع ال ُيح�سد عليه؛ فهو مطالب �إما بالقبول بالتبعية‬
‫االقت�صادية‪ ،‬و�إما االعتماد على الذات و�شد الأحزمة وتطوير الزراعة‪،‬‬
‫�إلى م�ستوى يمكنه على الأقل من تحقيق اكتفائه الذاتي‪.‬‬
‫وتتمثل الم�شكلة الغذائية في المغرب في ا�ستحالة ت�أمين ما‬
‫يحتاجه من مواد غذائية من موارده المحلية‪ ،‬في ظل الظروف‬
‫والمعطيات الحالية؛ مما يترتب عنه ا�ستمرار اعتماده المتزايد في‬
‫تلبية هذا المطلب الحياتي‪ ،‬على م�صادر �أجنبية؛ �إ�ضافة �إلى تواجد‬
‫ما يحتاجه من الغذاء تحت �سيطرة دول قليلة في العالم‪ ،‬وخا�صة‬
‫الواليات المتحدة الأمريكية؛ فهذه الدول ال تتردد في ا�ستخدام ورقة‬
‫الغذاء لفر�ض التبعية االقت�صادية والهيمنة ال�سيا�سية على كل الدول‬
‫التي تفتقد مقومات الأمن الغذائي؛ فق�ضية الغذاء لم تعد اليوم ق�ضية‬
‫اقت�صادية بحتة‪ ،‬على خطورتها‪ ،‬بل �أ�صبحت ق�ضية �سيا�سية واجتماعية‬
‫و�إ�ستراتيجية‪ ،‬تهدد �أمن وا�ستقرار الدول المحتاجة‪ .‬ولقد �سعت بالفعل‬
‫‪178‬‬
‫الإدارة الأمريكية جاهدة‪ ،‬منذ �سبعينات القرن الما�ضي‪� ،‬إلى ب�سط‬
‫�سيطرتها وتو�سيع نفوذها‪ ،‬من خالل التحكم في �إنتاج وتوزيع الحبوب‪،‬‬
‫ال�سيما و�أن �أزيد من ‪ %80‬من ال�صادرات العالمية للقمح بيدها‪.‬‬
‫�إن الأمن الغذائي �إ�شكالية متعددة الأبعاد والجوانب‪ .‬ولذلك‪،‬‬
‫ف�إنه من ال�صعوبة‪ ،‬الإحاطة بمالمح الإ�شكالية وطبيعتها و�إلقاء ال�ضوء‬
‫على جميع �أبعادها الم�ستقبلية؛ فما هي �إذن حقيقة الم�شكلة الغذائية‬
‫في بالدنا؟ وما هي �أ�سبابها؟ وعلى عاتق من تقع م�س�ؤوليتها؟ وكيف‬
‫يمكن معالجتها؟ وهل الم�شكلة الغذائية في المغرب‪ ،‬ذات البعد‬
‫االقت�صادي وال�سيا�سي والإ�ستراتيجي‪ ،‬ناتجة عن عجز البيئة المغربية‬
‫عن الوفاء باحتياجات الإن�سان المغربي‪� ،‬أم هي نتاج خط�أ وتق�صير هذا‬
‫الإن�سان نف�سه‪ ،‬وال�سيا�سة والنظم االقت�صادية المتبعة حتى الآن؟ وهل‬
‫الفالحة بالمغرب‪ ،‬وهي القطاع الرئي�سي‪ ،‬يمكن �أن تفي باحتياجاته‪،‬‬
‫في الحا�ضر وفي الم�ستقبل؟‬
‫لقد بد�أت الم�شكلة الغذائية في بالدنا في اال�ستفحال غ ـ ـ ـ ـ ــداة‬
‫اال�ستقالل‪ ،‬حيث نهج المغرب �سيا�سة تنموية‪ ،‬زراعية و�صناعية مختلة‪،‬‬
‫وطبقت �سيا�سات �إ�صالح زراعي فا�شلة‪� ،‬أدت بالتدرج �إلى �إ�ضعاف‬
‫الإنتاجية وتق�سيم الملكيات الزراعية �إلى وحدات �صغيرة؛ كما �أن‬
‫تحرير القطاع الفالحي لم يف�ض �إلى �إعادة هيكلته والحد من االحتكار‬
‫فيه و�إ�شراك القطاع الخا�ص في تنميته؛ كما �أننا نالحظ وجود قطاعين‬
‫متباعدين‪ :‬قطاع ع�صري‪ ،‬يعتمد الري و�أ�ساليب متطورة في الزراعة‪،‬‬
‫وقطاع تقليدي‪ ،‬يعتمد على الت�ساقطات المطرية والأ�ساليب التقليدية؛‬
‫كما �أن ال�سيا�سة االقت�صادية العامة لم ت�ساهم لحد الآن‪ ،‬ب�شكل فعال‬
‫في تحديث الفالحة على نطاق وا�سع‪ ،‬بل �أ�سهمت في ات�ساع الهوة‬
‫بين القطاعين التقليدي والع�صري‪ ،‬لتبقى الفالحة المغربية ت�ستمد‬
‫تجان�سها الم�ستقبلي من قدرتها على التوفيق بين الأمن الغذائي ونتائج‬
‫‪179‬‬
‫ال�صادرات‪ .‬ولهذا التوجه ثالث �أ�سباب رئي�سية‪� :‬سبب اقت�صادي؛‬
‫يتمثل في �ضرورة تثمين المكت�سبات المحققة‪ ،‬في مجال الأمن الغذائي‬
‫وال�صادرات؛ و�سبب �سيا�سي‪ ،‬حيث �إنه من غير المجدي �إ�ستراتيجيا‪،‬‬
‫�إخ�ضاع تغذية المواطنين لمخاطر التقلبات في ال�سوق العالمية‪ ،‬حيث‬
‫هيمنة التجمعات الجهوية الكبرى وال�شبكات العالمية الغذائية؛ هذا‬
‫في الوقت الذي نعرف فيه �أن المغرب يتوفر على قدرات �إنتاجية‬
‫مهمة غير م�ستغلة بطريقة مثلى؛ �إ�ضافة �إلى �سبب اجتماعي‪ ،‬حيث‬
‫�إن م�ستقبل المدن المغربية يكمن في الفالحة‪ ،‬وفي �إعادة االهتمام‬
‫بالعمل الفالحي؛ وهذا بالنظر �إلى �أهمية العالم القروي‪ ،‬والدور الذي‬
‫يمكن �أن تلعبه الفالحة في تحقيق التوازنات االقت�صادية والمالية‬
‫واالجتماعية الكبرى داخل االقت�صاد الوطني‪.‬‬
‫ورغم �أن المغرب لم يفرط منذ البداية في االختيار الفالحي‪،‬‬
‫ف�إنه مع ذلك لم يوفق في تحقيق تنمية فالحية اكتفائية ومتوازنة‪،‬‬
‫ولم يفلح في �إر�ساء بنية زراعية منتجة وقارة؛ وحتى عندما �أهملت‬
‫الفالحة مقارنة مع ال�صناعة في �سنوات ال�ستينات‪ ،‬ف�إنها ظلت ت�ستفيد‬
‫بالمقابل من العديد من االمتيازات‪ ،‬خالل ال�سنوات المتعاقبة‪ ،‬خا�صة‬
‫بعد �إحداث �صندوق الإ�صالح الفالحي وت�شريع العديد من الإعفاءات‬
‫ال�ضريبية‪ .‬وتبقى الأر�ض المغربية عر�ضة لمجموعة من االختراقات‪،‬‬
‫تتمثل في التبذير و�سوء التدبير؛ الأمر الذي يفر�ض �إعادة النظر في‬
‫طبيعتها‪ ،‬خا�صة و�أن الأر�ض ال يمكن �أن تكون معطاء‪ ،‬و�أن التدبير ال‬
‫يمكن �أن يكون محكما‪� ،‬إال �إذا كانت الروابط وثيقة بين الأر�ض ومن‬
‫ي�سهر على ا�ستغاللها‪.‬‬
‫�أما بالن�سبة لقطاع ال�صيد البحري‪ ،‬فرغم كل المجهودات‬
‫المهمة‪ ،‬التي ما فتئ يبذلها المغرب‪ ،‬منذ مطلع الثمانيات‪ ،‬ف�إنه لم‬
‫ي�ستطع لحد الآن تح�سين طرق التمويل والتكوين ونقل التكنولوجيا‪،‬‬
‫‪180‬‬
‫بهدف الحد من الطابع التقليدي لل�صيد ال�ساحلي والتو�سع في تحديث‬
‫�أ�ساطيل ال�صيد في �أعالي البحار‪ ،‬للحيلولة دون نهب الخيرات ال�سمكية‬
‫من لدن الأ�ساطيل الأجنبية‪ ،‬والرفع من م�ستويات �إنتاج وا�ستهالك‬
‫الأ�سماك في ال�سوق الداخلية‪.‬‬
‫�إن الإح�صائيات والدرا�سات المتوفرة تدل على �أن ن�سبة الإنتاج‬
‫الوطني للغذاء �إلى تعداد ال�سكان‪ ،‬بد�أ في التدهور منذ ال�ستينات من‬
‫القرن الما�ضي‪ ،‬ووا�صل تفاقمه منذ ال�سبعينات �إلى اليوم؛ كما �أن‬
‫الفارق بين متو�سط النمو الديمغرافي (‪� %3‬سنويا على الأقل) ومتو�سط‬
‫نمو الإنتاج بالقيمة القارة (حوال ـ ــي ‪� %2‬سنويا) يزيد تدريجيا من‬
‫التبعية في مجال الغذاء؛ �إ�ضافة �إلى �أن قيمة الواردات من المنتوجات‬
‫الفالحية بالن�سبة للفرد‪ ،‬والتي كانت تقدر بحوالي ‪ 15‬دوالر في ‪،1970‬‬
‫ت�ضاعفت خالل ‪� 30‬سنة الأخيرة ب�أزيد من ‪ 10‬مرات‪ ،‬حيث انتقل معدل‬
‫تغطية الواردات بال�صادرات الفالحية‪ ،‬خالل نف�س الفترة‪ ،‬من ‪%95‬‬
‫�إلى حوالي ‪ .%20‬وبالإمكان زيادة الم�ساحة المزروعة‪ ،‬با�ستغالل جميع‬
‫الأرا�ضي القابلة للزراعة‪ ،‬وتحويل م�ساحات من المراعي �إلى �أرا�ضي‬
‫زراعية؛ فالأر�ض المزروعة‪ ،‬وكيفية ا�ستغاللها‪ ،‬وم�ستوى �إنتاجيتها‪،‬‬
‫تبقى �إحدى الم�ؤ�شرات التي تدل على الم�ستوى الزراعي في �أي قطر‬
‫من الأقطار‪ .‬وبالرغم من المجهودات المبذولة حتى الآن‪ ،‬ف�إن الأمن‬
‫الغذائي ال زال هاج�سا مركزيا ومطلبا ملحا‪ ،‬بعيدا عن الإنجاز‪.‬‬
‫ت�شكل الفالحة في المغرب اليوم‪� ،‬أهم قطاع اقت�صادي‪،‬‬
‫ورافعة �أ�سا�سية لالقت�صاد الوطني‪ ،‬اعتبارا من جهة‪ ،‬لم�ساهمتها في‬
‫تكوين الناتج الوطني الخام بحوالي ‪ ،%20‬واعتبارا من جهة �أخرى‪،‬‬
‫لن�سبة العاملين بالقطاع بحوالي ‪ .%45‬ولقد مكنت من تحقيق بع�ض‬
‫المكت�سبات‪ ،‬بف�ضل التعبئة الم�ستمرة حول مخطط المغرب الأخ�ضر‪،‬‬
‫والذي ا�ستطاع بف�ضل المجهودات التي راكمها‪ ،‬خالل ال�سنوات الما�ضية‪،‬‬
‫‪181‬‬
‫�أن يجعل الفالحة من �أولويات القطاعات الإ�ستراتيجية الوطنية‪ ،‬التي‬
‫عملت على تحديث وع�صرنة الفالحة‪ ،‬وتعزيز اال�ستثمارات‪ ،‬والتكامل‬
‫الجيد بين ال�سال�سل الإنتاجية‪ ،‬لكن دون الو�صول �إلى �ضمان الأمن‬
‫الغذائي‪ ،‬من خالل تغطية طلب التغذية بالن�سبة للمواد الأ�سا�سية‪،‬‬
‫والحد من ت�أثير التغيرات المناخية‪ ،‬والحفاظ على الموارد الطبيعية‪،‬‬
‫و�إنعا�ش �صادرات المنتجات الفالحية‪ ،‬وتثمين المنتجات المحلية‪،‬‬
‫وخلق فر�ص العمل‪ ،‬والرفع من م�ساهمتها في الناتج الإجمالي الخام‪،‬‬
‫لتتجاوز ‪ %20‬الحالية؛ فالمخطط من الناحية النظرية طموح‪ ،‬ويحاول‬
‫�أن يحدث دينامية بين الفالحين الكبار وال�صغار؛ هذه الفئة الأخيرة‬
‫التي تتخوف من تحدي ت�سويق منتوجها‪ ،‬في الوقت الذي تبقى �صعوبة‬
‫تمويل المخطط‪ ،‬بمثابة التحدي الرئي�سي له؛ كما ال زال القطاع‬
‫الفالحي يعاني من الكثير من العيوب؛ منها �ض�آلة اال�ستثمارات‪،‬‬
‫وغياب التخطيط وعدم تنفيذ ما خطط له رغم توا�ضعه‪ ،‬وعدم وجود‬
‫�سيا�سة تخزين زراعي وعدم توفر �إمكاناتها‪ ،‬وفقدان �آالف الهكتارات‬
‫ب�سبب الت�صحر‪ ،‬و�ضعف النفقات المخ�ص�صة للجهود العلمية في‬
‫تطوير الفالحة‪ ،‬وت�أثر الموارد المائية المتوفرة من التبخر وتلوثها‬
‫بمياه ال�صرف ال�صحي؛ كما �أن معظم كميات الأمطار تذهب هدرا؛‬
‫الأمر الذي يملي �ضرورة �إقامة ال�سدود ال�سطحية‪ ،‬لحفظ مياه الأمطار‬
‫في الموا�سم المائية‪ ،‬ال�ستخدامها في �سنوات الجفاف؛ �إ�ضافة �إلى‬
‫قلة الموارد المالية و�ضعف كفاءة ا�ستعمالها؛ فالتمويل يظل من �أهم‬
‫العوامل الم�ؤثرة في النهو�ض بالقطاع الفالحي‪ ،‬حيث تبين ب�أن معظم‬
‫الم�شاريع الفالحية ال ينق�صها �سوى المال الالزم؛ فبدون الأموال‬
‫الكافية وبدون م�صارف فالحية متخ�ص�صة تتولى مهام تمويل الن�شاط‬
‫الفالحي وتقديم القرو�ض المي�سرة‪ ،‬من �أجل توفير التجهيزات‬
‫والمدخالت ال�ضرورية‪ ،‬من بذور و�أ�سمدة ومواد مكافحة‪ ،‬ال يمكن‬
‫ا�ستغالل الطاقات الكامنة؛ فزيادة الطاقة الإنتاجية تتوقف على توافر‬
‫‪182‬‬
‫اال�ستثمارات الالزمة لتمويل عملية التنمية الزراعية‪ ،‬عالوة على تهيئة‬
‫الظروف االجتماعية واالقت�صادية المنا�سبة‪ ،‬لخلق الكثير من الأجواء‬
‫التنموية ال�سليمة‪.‬‬
‫هذا عن الو�ضعية الحالية؛ �أما �صورة الغد القريب‪ ،‬حتى ال نقول‬
‫الم�ستقبل‪ ،‬فقاتمة وخطيرة جدا؛ فالمغرب �سيكون م�ضطرا لت�سديد‬
‫مبالغ كبيرة جدا من �أجل �شراء المواد الغذائية من الخارج‪ ،‬و�ستعاني‬
‫الماليين من نق�ص الغذاء‪ ،‬و�ستزداد حاجتنا للم�ساعدات والح�سنات‬
‫التي تمن بها علينا الدول الغنية؛ هذا �إذا توفرت في الأ�سواق العالمية‬
‫الكميات والنوعيات التي نحتاجها من المواد الغذائية‪ ،‬و�إذا ر�ضيت‬
‫الدول المنتجة على طموحاتنا ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية‬
‫الم�شروعة؛ وما تجربة العقوبات االقت�صادية والغذائية المفرو�ضة على‬
‫بع�ض الدول في ال�سنوات الأخيرة‪� ،‬إال مثاال واحدا من الأمثلة الكثيرة‪،‬‬
‫لما يمكن �أن تتعر�ض له بلدان و�شعوب �أخرى من العالم‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬نحتاج اليوم �إلى دعم الفالحة الع�صرية‬
‫ذات القيمة الم�ضافة والإنتاجية العالية‪ ،‬والتي ت�ستجيب لمتطلبات‬
‫ال�سوق‪ ،‬من خالل ت�شجيع اال�ستثمارات الخا�صة‪ ،‬واعتماد و�سائل جديدة‬
‫من التجميع العادل‪ ،‬وتطوير ال�صادرات الفالحية المغربية‪ ،‬وتطوير‬
‫الأن�شطة ال�صناعية المرتبطة بالفالحة وتثمين منتوجاتها‪ ،‬وت�أهيـ ـ ــل‬
‫ت�سويق المنتجات و�شروط التجميع والتخزين؛ كذلك دعم الفالح‬
‫ال�صغير‪ ،‬ومحاربة الفقر في الو�سط القروي‪ ،‬عبر الرفع من الدخل‬
‫الفالحي في المناطق الأكثر ه�شا�شة؛ �إ�ضافة �إلى النهو�ض بفالحة‬
‫ت�ضامنية ذات مردودية لفائدة المر�أة القروية‪ ،‬من خالل م�شاريع‬
‫مخ�ص�صة للتعاونيات الفالحية الن�سائية‪ ،‬وتطوير ال�سال�سل الفالحية‪،‬‬
‫والتعاون بين الدولة والمهنيين‪ ،‬عبر عقود البرامج‪ ،‬وتح�سين تربية‬
‫الموا�شي‪ ،‬وتكثيف ا�ستعمال المكننة‪ ،‬والتركيز على اقت�صاد الماء‪ .‬‬
‫‪183‬‬
‫�إن �إ�شكالية الأمن الغذائي في المغرب ي�ستحيل معالجتها دون‬
‫�إ�ستراتيجية وا�ضحة المعالم‪ ،‬ت�أخذ بعين االعتبار هدفين اثنين‪� :‬إطعام‬
‫الإن�سان المغربي من الجوع يجب �أن يت�صدر �أولوياتنا الوطنية‪ ،‬وتوفير‬
‫الغذاء يجب �أن يكون قبل كل �شيء مهمة �إن�سانية و�أخالقية وم�صيرية‪.‬‬
‫وفي المغرب‪ ،‬طاقات و�إمكانات مهمة‪ ،‬لو ا�ستغلت على الوجه الأكمل‬
‫لتحقق الأمن الغذائي‪ ،‬ولتحول المغرب من بلد م�ستورد للغذاء �إلى‬
‫م�صدر له‪.‬‬

‫‪ - 6‬التنمية ال�صناعية‬

‫ال يمكن للف�ضاء الإنتاجي �أن ي�أخذ �صبغة �أخرى غير التي يتميز‬
‫بها قطاعه الإنتاجي؛ فهو يظهر �أحيانا ك�أحد المعوقات الرئي�سية‬
‫الحائلة دون تطور هذا القطاع؛ فعدم وجود ف�ضاءات مهي�أة للإنتاج؛‬
‫والحالة المزرية التي توجد عليها مجموع الف�ضاءات الإنتاجية‪ ،‬ت�ساهم‬
‫في ر�سم �صورة �سلبية عن �سيا�سة �إعداد المجال ال�صناعي بالدنا؛ فهل‬
‫ا�ستطاع المغرب الحفاظ على التوازن بين مختلف الجهات؟ الجواب‬
‫عن هذا ال�س�ؤال‪ ،‬يقودنا لدرا�سة ف�ضاء القطاع ال�صناعي ببالدنا‬
‫وانت�شاره بين المدن والجهات‪.‬‬
‫يجدر بنا في هذا المجال‪� ،‬أن نتطرق �إلى الحالة الراهنة‬
‫للف�ضاء الإنتاجي‪ ،‬من خـ ـ ـ ـ ـ ــالل فكرتين محوريتين؛ الأولى تتعلق‬
‫بمختلف المتدخلين في مجال �إعداد التراب ال�صناعي‪ ،‬والثانية تهم‬
‫الخا�صيات الرئي�سية لف�ضاءات الإنتاج‪ .‬ومن �أجل تقييم �شمولي لما‬
‫تحقق‪� ،‬سيكون من الأجدر القيام بدرا�سة تحليلية لو�ضعية القطاع‬
‫الحالية؛ ذلك �أن الخ�صائ�ص الرئي�سية للمناطق ال�صناعية الوطنية‬
‫في مجملها �سلبية‪ ،‬وتتلخ�ص في �أربعة خ�صائ�ص رئي�سية‪ ،‬وهي‪ :‬كثرة‬
‫المتدخلين في قطاع تهيئة المناطق ال�صناعية‪ ،‬وندرة الموارد المالية‪،‬‬
‫‪184‬‬
‫واال�ستنزاف التدريجي للوعاء العقاري‪ ،‬و�أخيرا ع ـ ـ ــدم مالئمة البنيات‬
‫التجهيزية‪.‬‬
‫فيما يتعلق بتعدد المتدخلين في قطاع تهيئة المناطق ال�صناعية‪،‬‬
‫نذكر ب�أنه في وقت �سابق‪ ،‬وحينما تم و�ضع اللم�سات الأخيرة على‬
‫البرنامج الوطني لتهيئة المناطق ال�صناعية‪ ،‬تم اختيار منع�ش عقاري‬
‫وحيد؛ هو �صندوق الإيداع والتدبير‪ ،‬لخبرته الطويلة في مجال العقار‬
‫وال�سياحة؛ وبخ�صو�ص ال�شطر الأول من البرنامج‪ ،‬كلف ال�صندوق‬
‫بتهيئة �أربعة ع�شر منطقة �صناعية‪ ،‬على م�ساحة ‪ 360‬هكتار‪ ،‬وبغالف‬
‫مالي يقدر ب ‪ 26‬مليون درهم‪ ،‬خلق �سداد م�ستحقات الدولة لل�صندوق‬
‫وقتها عجزا ماليا كبيرا‪ ،‬حال دون �إتمام ال�شطر الأول؛ وعليه‪ ،‬تقل�ص‬
‫عدد المناطق ال�صناعية المجهزة من قبل ال�صندوق �إلى �سبعة‪ .‬وفي‬
‫�سنة ‪ ،1986‬ر�سمت ال�سلطات العمومية توجهات جديدة‪ ،‬حيث عادت‬
‫مهمة تهيئة المناطق ال�صناعية �إلى الجماعات المحلية‪ ،‬واقت�صر دور‬
‫�صندوق الإيداع والتدبير على ت�صريف وبيع هذه المناطق‪ ،‬واال�ستمرار‬
‫في تهيئة �ستة ع�شر منها؛ ولقد �أدى عدم خبرتها �إلى تميز تهيئة‬
‫مناطقها ب�ضعف الجودة و�ضعف البنيات التحتية وعدم ا�ستكمال‬
‫التجهيزات الالزمة؛ كذلك الأمر بالن�سبة للم�ؤ�س�سات الجهوية للتهيئة‬
‫والبناء‪ ،‬والتي تقع و�صايتها على م�س�ؤولية وزارة ال�سكنى؛ هناك �أي�ضا‬
‫هيئات �أخرى‪ ،‬لها عالقات �شبه منعدمة مع التهيئة ال�صناعية‪ ،‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬قامت بتهيئة ف�ضاءات �صناعية‪ ،‬كالمكتب الوطني للمطارات‪،‬‬
‫والوكالة الوطنية لمحاربة ال�سكن الغير الالئق‪.‬‬
‫�إن الهدف من ا�ستعرا�ضنا لمختلف المتدخلين في ميدان التهيئة‬
‫ال�صناعية‪ ،‬هو التدليل على �أن التنوع ال�شديد للوظائف الأ�صلية له�ؤالء‬
‫المتدخلين‪ ،‬والتي قد تكون بعيدة عن مجال التهيئة ال�صناعية‪ ،‬ي�ؤدي‬
‫�إلى الت�ضحية بقواعد التهيئة ال�صناعية‪ ،‬ل�صالح التجربة الخا�صة‬
‫‪185‬‬
‫بقطاع كل متدخل‪ ،‬حيث ي�أتي المتدخلون من قطاعات مختلفة‪ ،‬كال�سياحة‬
‫والعقار والأ�شغال العمومية �أو ال�سكنى‪ ،‬م�سلحين بتجربة كبيرة في‬
‫ميدانهم الأ�صلي‪ ،‬ويجدون �أنف�سهم �أمام قطاع جديد‪ ،‬عليهم االمتثال‬
‫لقواعده الخا�صة‪.‬‬
‫بالإ�ضافة �إلى هذا‪ ،‬يعد نق�ص الخبرة الكافية وانعدام الموارد‬
‫المالية‪ ،‬بالن�سبة للجماعات المحلية‪ ،‬عائقا بنيويا �أمام تطور �أي تهيئة‬
‫�صناعية حقيقية‪ .‬ويظهر ذلك من خالل ن�سبة درجة ا�ستغالل المناطق‬
‫ال�صناعية‪ ،‬حيث البحث الأعمى عن �إقامة مناطق �صناعية خا�صة‬
‫بالو�سط الح�ضري‪ ،‬تتحكم فيها اختيارات المنع�شين المحليين‪� ،‬أكثر‬
‫من الجدوى االقت�صادية‪.‬‬
‫�إن اختيار المدن التي يجب �أن تقوم عليها مناطق �صناعية‪ ،‬يجب‬
‫�أن يخ�ضع لل�شروط التي تتحكم في تدفق اال�ستثمار في هذه المناطق‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬ف�إن المدن في المغرب تختلف عن بع�ضها البع�ض في القدرة‬
‫على جذب اال�ستثمار؛ من هذا المنطلق‪ ،‬يعتبر تعدد المتدخلين في‬
‫المجال عائقا مهما �أمام تطويره‪ ،‬حيث احترام القواعد المتعلقة بدفتر‬
‫التحمالت يبقى �ضعيفا‪ .‬و�أمام �ضعف الدولة في خلق هيئة متخ�ص�صة‬
‫في المجال‪ ،‬ف�إن المخرج بقي بالن�سبة لها‪ ،‬هو م�سطرة عقود االمتياز‪،‬‬
‫لإنجاز وت�سيير المناطق ال�صناعية‪.‬‬
‫�أما فيما يتعلق بندرة الموارد المالية‪ ،‬ن�شير هنا �إلى �أن تتبع‬
‫البرنامج الوطني للتهيئة ال�صناعية يتطلب موارد مالية مهمة؛ وبما‬
‫�أن المغرب و�ضع في �إطار �سيا�سته الليبرالية‪ ،‬العديد من الم�ؤ�س�سات‬
‫التي كانت تعمل في القطاع‪ ،‬من �أجل الخو�ص�صة‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى ندرة‬
‫الموارد المالية للخزينة العامة‪ ،‬والناتجة عن دخول المغرب في م�سل�سل‬
‫لت�صفية تعريفته الجمركية‪ ،‬من �أجل خلق مناطق للتبادل الحر‪ ،‬زد‬
‫على هذا‪ ،‬خدمة الدين الداخلي والخارجي‪ ،‬والمجهود المالي الذي‬
‫‪186‬‬
‫ي�صرف على ت�سيير الإدارات؛ ف�إن ما يتبقى للتجهيز واال�ستثمار �ضعيف‬
‫جدا وهام�شي‪ .‬ومن �أجل �إيجاد الموارد الالزمة ال�ستمرار البرنامج‪،‬‬
‫لج�أت ال�سلطات العمومية �إلى موردين اثنين‪ :‬التمويل الدولي وت�شجيع‬
‫المبادرات الخا�صة‪.‬‬
‫�أما بالن�سبة لال�ستنزاف التدريجي للر�صيد العقاري‪ ،‬ف�إن‬
‫اللجوء الم�ستمر للر�صيد العقاري للدولة وللجماعات المحلية‪ ،‬جعل‬
‫�أمر ا�ستنزافه و�شيكا؛ هذا اال�ستنزاف المنهجي‪ ،‬والذي ي�ضاف �إلى‬
‫تقاع�س الدولة والجماعات المحلية عن خلق احتياطيات عقارية جديدة‪،‬‬
‫وعنف الم�ضاربة العقارية‪ ،‬وكذا تعدد وتعقد الأنظمة العقارية (كي�ش‪،‬‬
‫حبو�س‪ ،‬جماعي‪� ،‬ساللي‪ ،‬ع�سكري‪� ،)...‬أدى �إلى ندرة الأرا�ضي الممكن‬
‫تخ�صي�صها للتهيئة ال�صناعية؛ هذه الو�ضعية ت�شجع بع�ض ال�صناعيين‬
‫على اختيار �أماكن ن�شاطهم ال�صناعي بمح�ض رغبتهم‪ ،‬دون اللجوء‬
‫�إلى اال�ستقرار داخل منطقة �صناعية مهي�أة؛ مما يخلق الفو�ضى‪،‬‬
‫ويعقد عملية تنظيم المجال الإنتاجي بالأماكن الح�ضرية‪ .‬و�إذا كان‬
‫العقار هو المعوق الرئي�سي بالن�سبة لل�سلطات العمومية‪ ،‬ف�إن تال�شي‬
‫البنيات والتجهيزات الخا�صة بالمناطق ال�صناعية‪ ،‬يعد معوقا كبيرا‬
‫�أمام ا�ستقرار الن�شاط الإنتاجي‪ ،‬داخل المناطق المجهزة؛ وباعتبار‬
‫�أن معظم هذه المناطق قامت ب�شكل ع�شوائي‪ ،‬ف�إنها تعاني من نق�ص‬
‫وا�ضح في التجهيزات الالزمة لل�سير العادي للأن�شطة ال�صناعية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وبدون احترام لتهيئة عامة و�شاملة للمجال‪ ،‬ودون اللجوء �إلى‬
‫منع�ش عقاري متخ�ص�ص‪ ،‬تبقى هذه المناطق دون الحد الأدنى من‬
‫التجهيزات الالزمة‪.‬‬
‫�إن فكرة �إعداد المجال ال�صناعي غير قريبة العهد؛ فال�سلطات‬
‫العمومية قامت بمحاوالت �أولى في بداية ال�سبعينات‪ ،‬لتهيئ مناطق‬
‫�صناعية في طنجة (مغوغا) و�أكاديـ ـ ـ ـ ــر (تا�سيال و�أيت ملول)؛ لكن‬
‫‪187‬‬
‫ورغم المجهودات التي بذلت‪ ،‬لم يعرف البرنامج الوطني للمناطق‬
‫ال�صناعية النجاح المتوخى‪ ،‬حيث ظل يتخبط في م�شاكل متعددة؛ مما‬
‫جعل �أمر مراجعته �ضروريا؛ فقامت م�صالح وزارة ال�صناعة حينها‪،‬‬
‫بم�شاركة الأطراف المعنية‪ ،‬ب�إعادة تحيينه؛ وهكذا‪ ،‬ظهر برنامج‬
‫جديد للتهيئة‪ ،‬اقت�صر فقط على المناطق ذات جاذبي ـ ـ ــة اقت�صادية‪،‬‬
‫كمدن الدار البي�ضاء‪� ،‬أكادير‪ ،‬طنجة‪ ،‬جهة النوا�صر‪ ،‬المحمدية‪،‬‬
‫وجدة والناطور‪ .‬وموازاة مع هذا المجهود‪ ،‬ارتقى مفهوم "المنطقة‬
‫ال�صناعية" �إلى مفهوم "المي ــدان ال�صناعي"‪ ،‬ليتم ا�ستبداله بمفهوم‬
‫"المنطقة ال�صناعية المندمجة"‪ ،‬حيث تم القيام بدرا�سات عديدة‬
‫حـ ــول �إمكانية خلق مناطق �صناعية مندمجة‪ ،‬بم�شاركة عدد من‬
‫الخبراء الدوليين؛ كما عرف االنفتاح على القطاع الخا�ص تطورا‬
‫ملحوظا‪ ،‬عن طريق اتخاذ مجموعة من التدابير الإجرائية‪ ،‬من �أجل‬
‫ت�شجيع م�سطرة عقود االمتياز بين القطاع الخا�ص وال�سلطات الو�صية‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬تعتبر المنظومات ال�صناعية حجر الزاوية في مخطط ت�سريع‬
‫التنمية ال�صناعية ‪ ،2020-2014‬والتي ترمـ ـ ـ ــي �إلى تقلي�ص التجز�ؤ‬
‫القطاعي‪ ،‬وت�شجيع التنمية المندمجة للقطاعات ال�صناعية؛ كما‬
‫تهدف �إلى االندماج المحلي للن�سيج ال�صناعي حول مقاوالت رائدة‪ ،‬من‬
‫خالل ت�شجيع �شراكات ذات المنفعة المتبادلة مع المقاوالت ال�صغرى‬
‫والمتو�سطة‪ ،‬حيث ت�ضطلع الأولى بدور القاطرة‪ ،‬من خالل تو�ضيح الر�ؤية‬
‫للثانية التي توفر بدورها الإبداع وح�س االبتكار والدينامية؛ وت�ستفيد‬
‫مقاوالت المنظومات ال�صناعية من مواكبة مالئمة وم�ساعدات محددة‬
‫بعناية في مجال التمويل والعقار ال�صناعي والتكوين‪.‬‬
‫�إن ال�سلطات العمومية لم تقم بدورها كما يجب‪ ،‬رغم توفرها‬
‫على �إمكانات وو�سائل عديدة للتدخل‪ :‬ر�صيد عقاري ونظام �ضريبي‬
‫وتمويل محفز وتكوين م�ستمر‪ ...‬فالمناطق ال�صناعية الع�شوائية تعاني‬
‫‪188‬‬
‫اليوم‪ ،‬من كثرة المتدخلين العقاريين‪ ،‬ومن تال�شي و�ضعف بنياتها‬
‫التجهيزية‪ ،‬في حين تتمتع المناطق ال�صناعية المهي�أة ح�سب الإجراءات‬
‫القانونية‪ ،‬بحد �أدنى من التجان�س واحتياطي مهم من التجهيزات‬
‫الأ�سا�سية التي يمكن تطويرها مع بداية ا�ستغالل المنطقة‪ ،‬عن طريق‬
‫جمعيات المقاولين ال�صناعيين؛ ف�أمام غياب المبادرة الخا�صة في‬
‫مجال �إعداد التراب ال�صناعي‪� ،‬أ�صبح قطاع التهيئة المجالية في يد‬
‫الدولة‪ ،‬و�أحيانا في �أيدي الجماعات الترابية؛ فالدولة والجماعات‬
‫الترابية هما اليوم �أ�صحاب المبادرة في هذا المجال‪.‬‬
‫�إن م�س�ؤولية الجماعات الترابية هنا ثابتة‪ ،‬ف�إذا لم يكن دورها‬
‫هو النهو�ض بمختلف المناطق التابعة لها‪ ،‬فما ع�سى يكون دورها �إذن؟‬
‫ولتحقيق هذا الهدف‪ ،‬وجب عليها التوفر على الإمكانات الب�شرية‬
‫والتقنية والمالية‪ ،‬والتي تمكنها من القيام بدورها كامال‪ ،‬وفي ظروف‬
‫جيدة‪ .‬في الكثير من الأحيان؛ هذه الجماعات تتذرع بكون الن�سيج‬
‫ال�صناعي فوق ترابها الزال �ضعيفا‪ ،‬وال�ضرائب المحلية التي يتم‬
‫تح�صيلها من المقاوالت المتواجدة فوق ترابها‪ ،‬تبقى هزيلة جدا‪ ،‬وال‬
‫تمكنها من �إعداد برامج للتنمية في الم�ستوى المطلوب؛ فال�ضريبة‬
‫على القيمة الم�ضافة الموزعة من طرف وزارة الداخلية على مختلف‬
‫الجماعات المحلية‪ ،‬تتم على �أ�سا�س معايير ت�ساهم في �إغناء الجماعات‬
‫الغنية و�إفقار الجماعات الفقيرة‪.‬‬
‫وعموم ـ ـ ــا‪ ،‬ال يمكن للتنمية ال�صناعية ال�شاملة والمندمجة‪� ،‬أن‬
‫تتحقق‪ ،‬من دون المرور عبر الإ�ستراتيجيات التنموية التالية‪:‬‬
‫‪� -‬إ�ستراتيجية �إحالل الواردات‪ :‬وتعني �إحالل الإنتاج المحلي‬
‫مح ـ ـ ـ ـ ــل الواردات‪ ،‬اعتمادا على ال�سوق المحلية‪ ،‬ولتلبية الحاجيات‬
‫الأ�سا�سية للم�ستهلكين؛ ولقد بد�أ العمل بهذه الإ�ستراتيجية في المغرب‬
‫في مطلع ال�سبعينات؛ وعلى �أ�سا�سها‪ ،‬قامت �صناعات �صغيرة الحجم‪،‬‬
‫‪189‬‬
‫و�أخرى لإنتاج ال�سلع التي تحل محل ال�سلع الم�ستوردة‪ ،‬كال�صناعات‬
‫الغذائية ومواد البناء والتبغ والبال�ستك والكيميائيات‪.‬‬
‫‪� -‬إ�ستراتيجية ال�صناعات الت�صديرية‪ :‬وتعني ت�صنيع المواد‬
‫الأولية المتوفرة بكثرة ق�صد ت�صديرها �إلى الخارج ن�صف م�صنعة �أو‬
‫كاملة ال�صنع؛ ولقد بد�أ العمل بهذه الإ�ستراتيجية في المغرب في مطلع‬
‫الثمانينات؛ �إذ �شجعت الدولة على جلب اال�ستثمارات‪ ،‬خا�صة في مجال‬
‫�صناعات الن�سيج والمالب�س‪ ،‬اعتمادا على توفر العمالة الرخي�صة‬
‫وحوافز �ضريبية مغريه‪ ،‬و�إن�شاء مناطق تجاره حرة؛ كما عملت كذلك‬
‫على ا�ست�ضافة �شركات متعددة الجن�سية لت�شغيل خطوط الإنتاج‪.‬‬
‫‪� -‬إ�ستراتيجية ال�صناعات الأ�سا�سية‪ :‬وتعني �إن�شاء ال�صناعات‬
‫الثقيلة‪ ،‬اعتمادا على م�شاركة ر�أ�س المال الأجنبي‪ ،‬وخلق روابط‬
‫خلفية و�أمامية مع باقي القطاعات االقت�صادية الأخرى؛ واليوم‪ ،‬نحن‬
‫بحاجة �إلى ت�شجيع مثل هذه ال�صناعات‪ ،‬من خالل مثال ت�صنيع �سيارة‬
‫وطنية مائة بالمائة‪ ،‬وذلك اعتمادا على الخبرة التي �أ�ضحت تملكها‬
‫اليد العاملة المغربية‪ ،‬وخا�ص ـ ـ ــة تلك التي ت�شتغل اليوم في كبريات‬
‫ال�شركات العالمية التي اختارت �إعادة توطين جزء من �إنتاجها نحو‬
‫المغرب؛ كذلك التو�سع في �صناعات الإ�سمنت والحديد وال�صلب‪،‬‬
‫والتركيز على �صناعة الإلكترونيات‪.‬‬
‫‪� -‬إ�ستراتيجية ت�شجيع ال�صناعات عالية التقنية وذات القيمة‬
‫الم�ضافة‪ ،‬والتي تتطلب ر�أ�س مال كبير ومهارة عاليه؛ مما ي�ؤدي �إلى‬
‫الرفع من القدرة التناف�سية للمنتجات‪ ،‬وبالتالي تو�سيع دائرة �أ�سواقها‬
‫المحلية؛ الأمر الذي يحتاج �إلى التو�سع في ا�ستثمارات القطاع‬
‫ال�صناعي‪ ،‬من خالل م�شاريع �صناعية �أجنبية ومحليه‪ ،‬توفر فر�ص‬
‫ال�شغل‪� ،‬إلى جانب نقل التكنولوجيا الحديثة‪ ،‬وتطوير مهارات العمالة‪،‬‬
‫و�إيجاد قنوات ت�سويقية جديدة‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫�إن التجارب ال�صناعية الناجحة في العالم اليوم‪ ،‬هي تلك التي‬
‫�أعطت للقطاع الخا�ص دورا مركزيا في الحياة االقت�صادية العامة؛ وهي‬
‫التي قامت على دعم الدولة لل�صناعات الإ�ستراتيجية‪ ،‬عند انطالقها‪،‬‬
‫خا�ص ـ ــة في مجاالت البحث والتطوير وا�ستيعاب التكنولوجيا؛ وعلى‬
‫تحفيز ال�صناعات الفرعية المت�صلة بهذه ال�صناعات الإ�ستراتيجية‪،‬‬
‫في �أفق بناء �شبكة �صناعية متكاملة ومندمجة‪ ،‬ت�ستطيع تحقيق التقدم‬
‫ال�صناعي المطلوب؛ وهي التي قامت على �أ�سا�س االنتقال من �إنتاج‬
‫المواد الأ�سا�سية "زهيدة الثمن" �إلى �إنتاج "مواد ثانوية ذات قيمة‬
‫م�ضافة عالية"؛ وعملت على جذب اال�ستثمار الأجنبي المبا�شر‪ ،‬من‬
‫خالل تكييف القوانين المحفزة لهذا اال�ستثمار‪ ،‬وتوفير مناخ العمل‬
‫المنا�سب‪ ،‬والبنيات التحتية الأ�سا�سية‪ ،‬وقوانين عمل ال�شركات داخل‬
‫الوطن؛ الأمر الذي من �ش�أنه �أن ي�ؤدي �إلى تح�سين الأداء االقت�صادي‬
‫العام‪ ،‬وخا�صة ال�صناعي منه‪ ،‬و�أن يدفع في النهاية �إلى ا�ستثمارات‬
‫�أخرى كثيرة؛ وهو ما يعرف بم�ضاعف اال�ستثمار؛ الأمر الذي يتطلب‬
‫�إعادة هيكلة االقت�صاد الوطني‪ ،‬ب�إعطاء دور �أكبر للقطاع ال�صناعي‪.‬‬
‫ومن �أجل ذلك‪ ،‬انطلق المغرب في ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬في و�ضع‬
‫�إ�ستراتيجيات قطاعية هادفة‪ ،‬من �ش�أنها ت�سريع دعم هذا التوجه‪ .‬ولقد‬
‫التزم المغرب في توجهه هذا‪ ،‬ب�إتباع دينامية نمو‪ ،‬تعززت بقوة منذ‬
‫انطالق مخطط "�إقالع" وتوقيع الميثاق الوطني للإقالع ال�صناعي في‬
‫�سنة ‪2009‬؛ كما جاء مخطط الوطني للت�سريع ال�صناعي‪ ،‬بهدف تعزيز‬
‫دور ال�صناعة ومكانتها في الناتج الداخلي الخام‪ ،‬لالنتقال من ‪%14‬‬
‫حاليا �إلى ‪� %23‬سنة ‪2021‬؛ والذي تمت مرافقته بمخططات جهوية‪،‬‬
‫لتحقيق حد معقول من م�شاركة جميع الجهات في التنمية الوطنية‪،‬‬
‫واال�ستفادة من ثمار التنمية الوطنية‪ ،‬لأن العدالة بين الجهات وبين‬
‫المناطق‪ ،‬يجب �أن تكون هدفا لأي �إ�ستراتيجية‪ ،‬تتوخى تحقيق تنمية‬
‫‪191‬‬
‫�شاملة‪ ،‬مندمجة وم�ستدامة‪ ،‬ت�ستفيد منها جميع ال�ساكنة؛ كذلك �إن�شاء‬
‫منظومات �صناعية‪ ،‬ت�ستفيد المقاوالت داخلها‪ ،‬من مواكب ـ ـ ـ ــة مالئمة‬
‫وم�ساعدات محددة‪ ،‬في مجال التمويل والعقار ال�صناعي والتكوين‪.‬‬
‫وفي هذا ال�صدد‪ ،‬يمكن ل�صندوق التنمية ال�صناعية ‪ -‬الذي انطلق في‬
‫فاتح يناير ‪ ،2015‬ويخ�ص�ص ثالثة مليارات درهم للفترة ‪ 2014‬ـ‪2020‬‬
‫ل�صالح مقاوالت المنظومات ال�صناعية ‪�-‬أن يقوم بدور كبير لتمكين‬
‫هذه المقاوالت من تحقيق مطامحها على م�ستوى الت�أهيل والتنمية‬
‫والتمويل؛ كما يمكن‪ ،‬و�إ�ضافة �إلى مواكبة الدولة‪ ،‬عر�ض تمويل بنكي‬
‫مندمـ ـ ـ ــج وتناف�سي‪ .‬وب�إمكان مقاوالت المنظومات ال�صناعية �أي�ضا‬
‫اال�ستفادة من عقار �صناعي ذي جودة‪ ،‬وخا�صة بف�ضل فكرة الحظائر‬
‫ال�صناعية الت�أجيرية‪.‬‬
‫وفي هذا ال�سياق‪ ،‬يقترح �صندوق دعم اال�ستثمار‪ ،‬بموجب ميثاق‬
‫اال�ستثمار‪� ،‬أن تتكفل الحكومة جزئيا ببع�ض النفقات المتعلقة ب�شراء‬
‫العقار (في حدود ‪ %20‬من �سعر الأر�ض)‪ ،‬وبالبنية التحتية الخارجية‬
‫(في حـ ـ ـ ــدود ‪ %5‬من التكلفة الإجمالية لبرنامج اال�ستثمار بالتكوين‬
‫المهني (في حدود ‪ %20‬من كلفة هذا التكوين)‪ .‬ويمكن اال�ستفادة‬
‫من �أكثر من نوع واحد من الدعم‪ ،‬لكن دون �أن تتجاوز م�ساهمة الدولة‬
‫‪ %5‬من التكلفة الإجمالية لبرنامج اال�ستثمار‪� ،‬أو ‪� %10‬إذا تعلق الأمر‬
‫با�ستثمار في �ضواحي المدن �أو في منطقة قروية‪ .‬وفي ما يخ�ص‬
‫المنطقة الحرة �أو منطقة الت�صدير الحرة‪ ،‬والتي هي ف�ضاء محدد‬
‫ترابيا خا�ص ب�أن�شطة الت�صدير ال�صناعية والخدمات التابعة لها‪،‬‬
‫ويتم �إحداثها بموجب مر�سوم يحدد طبيعة و�أن�شطة ال�شركات التي‬
‫يمكن �أن ت�ستقر فيها‪ ،‬فقد بد�أت �أن�شطتها في كل من طنجة (منطقة‬
‫طنجة الحرة وطنجة �أوطوموتيف �سيتي) والقنيطرة (المنطقة‬
‫الحرة الأطل�سية للقنيطرة) والدار البي�ضاء (ميد بارك) والرباط‬
‫‪192‬‬
‫(تكنوبولي�س) ووجدة (تكنوبول وجدة)‪ .‬ويم ّكن و�ضعها هذا كمنطقة‬
‫ت�صدير حرة‪ ،‬من الإعفاء من مراقبة التجارة الخارجية وال�صرف‪،‬‬
‫مع �إمكانية اال�ستفادة من تحفيزات �ضريبية وامتيازات جمركية‬
‫وت�سهيالت �إدارية‪.‬‬
‫وبالرغم من كل ذلك‪ ،‬فالزال االقت�صاد الوطني يتميز بخ�صائ�ص‬
‫وبنيات تعرقل ب�شكل كبير �صيرورة التنمية‪ ،‬والتي يمكن تلخي�صها في‬
‫ظاهرتين اثنين‪ :‬ازدواجية البنيات االقت�صادية وانح ـ ـ ــراف البنيات‬
‫القطاعية؛ فعلى غرار باقي دول العالم الثالث‪ ،‬يعاني المغرب من‬
‫تعاي�ش قطاعات وجهات متقدمة و�أخرى تقليدية؛ وهذا ما ي�ؤثر على‬
‫�إنتاجية هذه القطاعات‪ ،‬وا�ستفادة هذه الجهات من البنيات التحتية‪،‬‬
‫التي توفر عادة للجهات المتقدمة‪ ،‬حيث يرتكز الن�شاط ال�صناعي؛‬
‫كما �أن االزدواجية تظهر كذلك على م�ستوى الجهات والمناطق؛ ف�إذا‬
‫ا�ستثنينا الحزام الممتد من القنيطرة �إلى الجرف الأ�صفر‪ ،‬ف�إن باقي‬
‫المناطق المغربية تعاني خ�صا�صا في البنيات التحتية وال�صناعية‪،‬‬
‫التي تمكن من تنميتها وتفعيل دورها في التنمية ال�شاملة للمغرب؛‬
‫فالن�سيج الإنتاجي ال يزال في بالدنا‪ ،‬يتمركز حول محور رئي�سي‪ ،‬يمتد‬
‫من فا�س ومكنا�س‪� ،‬إلى القنيطرة والرباط‪ ،‬فالمحمدية‪ ،‬و�صوال �إلى‬
‫الدار البي�ضاء‪ .‬ولقد حاولت �سلطات الحماية‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬تق�سيم‬
‫المغرب �إلى جزء نافع‪ ،‬يظم المناطق المطلة على المحيط الأطل�سي‪،‬‬
‫الغنية بالفالحة‪ ،‬وجزء �آخر غير نافع‪ ،‬ي�ضم المناطق الغير الم�سقية‬
‫والجافة؛ ويبدو �أن التاريخ يعيد نف�سه‪ ،‬حيث الزلنا نالحظ �إلى اليوم‪،‬‬
‫تعاي�ش مغربين؛ مغرب �صناعي نافع وديناميكي ومنتج ومبدع‪ ،‬ومغرب‬
‫�آخر غير نافع وبال مالمح‪ ،‬وفي �أحيان كثيرة متراجع؛ �صحيح �أن هناك‬
‫جهات يمكن �أن ت�صبح متقدمة جدا‪ ،‬اعتبارا لم�ؤهالتها و�إمكاناتها‬
‫والثروات التي تتوفر عليها‪ ،‬لكن هناك جهات �أخرى ال تقوم ب�أي دور‬
‫‪193‬‬
‫في التنمية االقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬وتعرف خ�صا�صا وا�ضحا‪ ،‬فيما‬
‫يتعلق بتدخل ال�سلطات العمومية‪ ،‬لإنعا�ش التنمية ال�صناعية داخل‬
‫ربوعها؛ هذا التعاي�ش بين مناطق غنية و�أخرى فقيرة في بالدنا‪،‬‬
‫ي�ضرب �أ�سباب التما�سك االجتماعي والت�ضامن الوطني‪ ،‬وقد يهدد‬
‫في العمق‪� ،‬أ�س�س التوازن واال�ستقرار‪ ،‬كما يحمل معه العديد من‬
‫ال�صعوبات والم�شاكل‪ .‬لذلك‪ ،‬فالواجب اليوم ت�شجيع المناطق التي‬
‫تعرف تخلفا ملحوظا والوقوف بجانبها‪ ،‬في �إطار �سيا�سة جهوية‬
‫متوازنة‪ ،‬تقوم على مبد�أ الت�ضامن بين الجهات‪ ،‬عبر �سيا�سة �ضريبية‬
‫ذات بعد جهوي‪ ،‬من خالل تخفي�ضات �ضريبية مهمة ولو لفترة محددة‪،‬‬
‫ونظام جمركي محفز‪ ،‬و�شروط للتمويل مرنة وب�أقل تكلفة‪ ،‬والعمل على‬
‫تدفق ر�ؤو�س الأموال الوطنية والخارجية �إلى المناطق التي تعاني من‬
‫بين ما تعانيه‪ ،‬من نق�ص مزمن في التجهيزات الأ�سا�سية وفي البنيات‬
‫التحتية‪ ،‬كالطرق والموانئ والمطارات وال�سكك الحديدية‪� .‬أما فيما‬
‫يتعلق بانحراف البنيات القطاعية‪ ،‬فيظهر على م�ستوى ال�صناعات‬
‫التحويلية‪ ،‬وعلى م�ستوى تبعيتها للخارج؛ فاالنحراف الحا�صل على‬
‫م�ستوى ال�صناعات التحويلية‪ ،‬يتمثل في النقائ�ص وال�سلبيات التي‬
‫تطبع القطاع ال�صناعي‪ ،‬حيث يتمثل على م�ستوى الطلب‪ ،‬في توجه‬
‫ال�صناعات التحويلية‪� ،‬إلى ا�ستبدال ال�صناعات الم�ستوردة‪ ،‬المرتبطة‬
‫�أ�سا�سا باال�ستهالك المبا�شر‪ ،‬دون البحث ع ـ ـ ــن ميزة تمكنها من‬
‫الإنتاج لال�ستهالك الم�ستقبلي‪� .‬أما على م�ستوى تبعيتها للخارج‪ ،‬ف�إن‬
‫االنحراف يتمثل �أ�سا�سا‪ ،‬في اعتماد هذه ال�صناعات على مواد �أولية‬
‫و�شبه م�صنعة‪ ،‬م�ستوردة من الخارج؛ مما يزكي ارتباط هذه ال�صناعات‬
‫بتقلبات ال�سوق الدولية‪ .‬وب�صفة عامة‪ ،‬ف�إن القطاع ال�صناعي يتقدم‪،‬‬
‫لكن ببطء �شديد‪ ،‬حيث ظل تطور هذا القطاع مرتبطا بالظرفية‬
‫االقت�صادية الداخلية والخارجية‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫لذلك‪ ،‬وجب موا�صلة تنزيل مخطط الت�سريع ال�صناعي‪ ،‬وتثمين‬
‫المنجزات التي حققها على م�ستوى �إحداث فر�ص ال�شغل‪ ،‬وا�ستقطاب‬
‫اال�ستثمارات الأجنبية‪ ،‬وتعزيز تموقع مقاوالتنا الوطنية على م�ستوى‬
‫�سال�سل الإنتاج العالمية‪ ،‬وتو�سيع مجـ ـ ـ ـ ــال المنظومات ال�صناعية‪،‬‬
‫والرفع من وتيرة االندماج‪ ،‬عبر خلق �شبكة من المقاوالت الوطنية‬
‫المناولة؛ كذلك اتخاذ التدابير ال�ضرورية لتحفيز اال�ستثمار الخا�ص‪،‬‬
‫عبر موا�صلة تفعيل الإ�صالحات الت�شريعية والتنظيمية والم�ؤ�س�ساتية‬
‫الرامية �إلى لتح�سين مناخ الأعمال‪ ،‬والإ�سراع ب�إخراج الميثاق الجديد‬
‫لال�ستثمار‪ ،‬والذي من �ش�أنه �أن يف�ضي �إلى �إقرار نظام تعاقدي جديد‪،‬‬
‫�شامل ومتجان�س و�أكثر تحفيزا‪ ،‬يعزز جاذبية المغرب في مواجهة‬
‫المناف�سة الدولية‪.‬‬
‫�إن التنمية ال�صناعية التي تتم في ظل هذا التفاوت العميق بين‬
‫المناطق والجهات‪ ،‬لها من دون �شك‪ ،‬انعكا�سات خطيرة؛ ول�ضمان غد‬
‫�أف�ضل لبالدنا‪ ،‬وتجنب مثل هذه الأخطار‪ ،‬يجب �أن يملك �صانعوا القرار‬
‫الإرادة ال�سيا�سية للقطع مع هذا التوجه الذي دام ل�سنوات عديدة‪،‬‬
‫وذلك في اتجاه و�ضع القوانين والآليات الالزمة‪ ،‬من �أجل تقلي�ص‬
‫االختالالت بين مختلف جهات المملكة‪.‬‬

‫‪ - 7‬ت�أهيل المقاولة‬

‫�أكد الملك محمد ال�ساد�س في خطاب العر�ش‪ ،‬بتاريخ ‪ 29‬يوليوز‬


‫‪ ، 2018‬ب�أن "�أ�سمى �أ�شكال الحماية االجتماعية هي التي ت�أتي عن طريق‬
‫خلق فر�ص ال�شغل المنتج‪ ،‬وال�ضامن للكرامة‪ ،‬و�أنه ال يمكن توفير فر�ص‬
‫ال�شغل �إال ب�إحداث نقلة نوعية في مجاالت اال�ستثمار‪ ،‬ودعم القطاع‬
‫الإنتاجي الوطني"؛ و�أ�ضاف جاللته‪" :‬كما ن�ؤكد على �ضرورة تحيين‬
‫برامج المواكبة الموجهة للمقاوالت‪ ،‬بما في ذلك ت�سهيل ولوجها‬
‫‪195‬‬
‫للتمويل‪ ،‬والرفع من �إنتاجيتها‪ ،‬وتكوين وت�أهيل مواردها الب�شرية‪ .‬ويبقى‬
‫الهدف المن�شود هو االرتقاء بتناف�سية المقاولة المغربية‪ ،‬وبقدرتها‬
‫على الت�صدير‪ ،‬وخلق فر�ص ال�شغل‪ ،‬وال�سيما منها المقاوالت ال�صغرى‬
‫والمتو�سطة التي ت�ستدعي اهتماما خا�صا‪ ،‬لكونها ت�شكل ‪ %95‬م ـ ـ ـ ــن‬
‫الن�سيج االقت�صادي الوطني؛ ذلك �أن المقاولة المنتجة تحتاج اليوم‪،‬‬
‫�إلى مزيد من ثقة الدولة والمجتمع‪ ،‬لكي ي�ستعيد اال�ستثمار م�ستواه‬
‫المطلوب‪ ،‬ويتم االنتقال من حالة االنتظارية ال�سلبية‪� ،‬إلى المبادرة‬
‫الجادة والم�شبعة بروح االبتكار؛ فا�ستعادة الحيوية االقت�صادية تظل‬
‫مرتبطة بمدى انخراط المقاولة‪ ،‬وتجديد ثقافة الأعمال‪ ،‬وا�ستثمار‬
‫الم�ؤهالت المتعددة‪ ،‬التي يتيحها المغرب‪ ،‬مع ا�ستح�ضار رهانات‬
‫التناف�سية الدولية‪ ،‬بل والحروب االقت�صادية �أحيانا"‪ .‬‬
‫يعرف الن�سيج االقت�صادي الوطني �إذن‪ ،‬هيمنة المقاوالت‬
‫ال�صغرى والمتو�سطة‪ ،‬التي تمثل ما يناهز ‪ %59‬من مجموع المقاوالت‪،‬‬
‫�أزيد من ‪ %90‬منها عائلية و‪ %20‬موجهة نحو الت�صدير‪ ،‬وتتميز‬
‫بخ�صائ�ص ال تتوفر في غيرها من المقاوالت‪ ،‬وخا�صة الكبرى‪ ،‬وذلك‬
‫على الم�ستوى المالي‪ ،‬حيث ال يتطلب ن�شاطها الكثير من ر�أ�سمال‬
‫المال‪ ،‬وكذلك على الم�ستوى التقني‪ ،‬حيث �أن و�سائل �إنتاجها وبنياتها‬
‫التنظيمية تمكنها من �إدخال الإ�صالحات ال�ضرورية‪ ،‬والتكيف مع‬
‫المتغيرات الطارئة ب�سرعة �شديدة وبمرونة �أكبر؛ ومع ذلك‪ ،‬ف�إن‬
‫تطورها الزال ي�صطدم بقلة الإمكانات المالية والتقنية والب�شرية‪ ،‬كعدم‬
‫اال�ستقرار في التمويل‪ ،‬والتردد في �إدخال طرق �إنتاج وتدبير حديثة‬
‫ومتطورة‪ ،‬والتي من دونها ال يمكن �أن نتكلم عن نمو قوي وم�ستدام‪.‬‬
‫ورغم �أهميتها الرقمية‪ ،‬ف�إن المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة ال ت�ساهم‬
‫�إال بن�سبة متوا�ضعة جدا في �إنتاج القيمة الم�ضافة بحوالي ‪ ،%50‬وفي‬
‫خلق فر�ص ال�شغل بما يقارب ‪ %50‬فقط؛ وهي ن�سبة �أقل من الممكن‪،‬‬
‫‪196‬‬
‫بالنظر �إلى المزايا التي تتوفر عليها‪ ،‬والتي ال يتم ا�ستغاللها ب�شكل‬
‫جيد وعقالني؛ كما �أنها تنت�شر في التراب الوطني ب�شكل غير متوازن‪،‬‬
‫حيث ترتكز ب�صفة خا�صة في الو�سط على طول المحيط الأطل�سي؛‬
‫فالدار البي�ضاء الكبرى وحدها ت�ضم ‪ ،%41‬وجهة طنجة‪ -‬تطوان ‪،%9‬‬
‫والرباط‪� -‬سال ‪ ،%8‬وفا�س‪ -‬مكنا�س ‪ ،%9‬والباقي؛ �أي ‪ ،%33‬منت�شرة‬
‫عبر ‪ 14‬جهة �أخرى؛ هذا التوزيع يجعلنا بالفعل �أمام مقولة المغرب‬
‫النافع والغير النافع؛ مما يحتم على الدولة التدخل ال�سريع عن طريق‬
‫�سيا�سة جهوية �صارمة لت�صحيح هذا االختالل‪.‬‬
‫ظهرت المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة في بالدنا �أول ما‬
‫ظهرت‪ ،‬على يد �أنا�س ال يتوفر �أغلبهم على الحد الأدنى من التكوين‬
‫المطلوب‪ ،‬ينتمون �إلى نف�س العائلة‪ ،‬ويحتلون جميع المواقع الأ�سا�سية‪،‬‬
‫ويتدخلون في جميع المهام التدبيرية‪ ،‬يفهمون في كل �شيء؛ يحكمون‬
‫ويخططون وي�سيرون؛ منغلقين ال يفتحون �أبواب م�ؤ�س�ساتهم �أمام‬
‫من يعتبرونهم غرباء عنهم‪ ،‬من م�ساهمين جدد �أو حتى من الجيل‬
‫الجديد من ال�شباب‪ ،‬خريجي الجامعات والمعاهد العليا؛ تطورت هذه‬
‫المقاوالت وتقوت وتنوعت ن�شاطاتها‪ ،‬م�ستفيدة في ذلك من نظام‬
‫حمائي قوي‪ ،‬عبر �إجراءات �إدارية وجمركية م�ساندة؛ الأمر الذي‬
‫جعلها ال تقوى على المناف�سة‪ ،‬وغير قادرة تماما على االعتماد على‬
‫ذاتها‪ ،‬وفك االرتباط الوثيق بينها وبين الدولة‪ ،‬وغزو �أ�سواق خارجية‬
‫غير تقليدية‪ ،‬وك�سر حواجز الدخول المختلفة‪ ،‬لأنها بكل ب�ساطة‪ ،‬نمت‬
‫وترعرعت على طلب الم�ساعدة وعلى االمتيازات المختلفة‪ ،‬من دون‬
‫�أن تقدم في الوقت نف�سه ما يقابل ذلك‪ ،‬اجتماعيا وب�شريا وبيئيا‪...‬‬
‫واليوم‪ ،‬يجب �أن يدرك الجميع �أن زمن الربح ال�سريع واقت�صاد الريع‬
‫يجب �أن ينتهي تماما‪ ،‬ليحل محله زمن الم�س�ؤولية والفعالية والتكيف‬
‫‪197‬‬
‫مع كل الم�ستجدات؛ وهي كلها في نظري كلمات �سر �أ�سا�سية للبقاء‬
‫�أوال‪ ،‬ثم التطور والنجاح ثانيا‪.‬‬
‫�إن انفتاح االقت�صاد الوطني على العالم قد يمنحه مجموعة من‬
‫الفر�ص‪� ،‬إال �أن نف�س هذه الفر�ص تفر�ض على مقاولينا درجات عليا من‬
‫التناف�سية؛ الأمر الذي يتطلب القيام بمجهودات كبيرة ومهمة‪ ،‬من �أجل‬
‫التحكم والتكيف والتحديث و�إعادة الهيكلة لقطاع الإنتاج‪ ،‬حتى يتمكن‬
‫من م�سايرة المعايير العالمية في الجودة والإنتاجية وال�سعر‪ .‬ومن‬
‫جهة �أخرى‪ ،‬فقد �أدى التخلي التدريجي عن موارد جبائية‪ ،‬خ�صو�صا‬
‫الجمركية منها‪ ،‬لخلق االن�سجام الجبائي بين المغرب و�شركائه‪� ،‬إلى‬
‫حرمان خزينة الدولة من موارد مالية‪ ،‬هي في �أم�س الحاجة �إليها‪،‬‬
‫لتعزيز القدرة التناف�سية لن�سيجها الإنتاجي‪ ،‬وخلق التجهيزات‬
‫الالزمة‪ ،‬ال�ستقبال اال�ستثمار المحلي والدولي‪.‬‬
‫كل هذا يفر�ض اليوم‪ ،‬مفهوما جديدا للدولة؛ ف�إذا كانت العولمة‬
‫قد �أفرزت التناف�سية‪ ،‬ك�ضرورة ملحة‪ ،‬ف�إنها �أفرزت كذلك دورا جديدا‬
‫للدولة �إزاءها؛ دور اقت�صادي‪ ،‬يتمثل في الحكامة الجيدة والتدبير‬
‫العقالني لالقت�صاد‪ ،‬وذلك بتوفير ال�شروط االقت�صادية والمالية‬
‫والإدارية والم�ؤ�س�ساتية المالئمة‪ ،‬والتي يمكن �أن ت�ساهم في الرفع‬
‫من القدرة التناف�سية للمقاوالت‪ ،‬وخا�صة ال�صغرى منها والمتو�سطة‪،‬‬
‫بدل اال�ستمرار في م�ساندة هذه المقاوالت ودعمها القوي‪ ،‬من خالل‬
‫التحفيزات والإعفاءات والتخفي�ضات ال�ضريبية المختلفة‪ ،‬والتي‬
‫تبقى امتيازات في الكثير من الأحيان‪ ،‬بدون �أي ت�أثير اقت�صادي �أو‬
‫اجتماعي حقيقي وملمو�س‪ ،‬في حين تم�س بمبادئ الحياد والم�ساواة‬
‫والعدالة ال�ضريبية؛ وال تخدم‪ ،‬في واقع الأمر‪� ،‬سوى فئة قليلة جدا من‬
‫كبار المقاولين والمنع�شين العقارين‪ .‬لذلك‪ ،‬وجب �إعادة النظر في‬
‫الفل�سفة العامة التي تحكم نظامنا ال�ضريبي‪ ،‬حتى يكون �أكثر عدال‪،‬‬
‫‪198‬‬
‫من خالل �ضمان تنا�سق مقت�ضياته‪ ،‬والرفع من مردوديته‪ ،‬وجعله �أداة‬
‫لبناء عالقات الثقة مع المواطن‪ ،‬ومع القطاع الخا�ص‪ ،‬لتحفيزه على‬
‫االنخراط في المجهود اال�ستثماري العام للدولة‪.‬‬
‫�إن �ضعف القطاع الإنتاجي‪ ،‬م ـ ـ ــع تعر�ض ـ ـ ــه لعنف المناف�سة‬
‫الخارجية‪ ،‬يكمن من جهة‪ ،‬في القطاع الإنتاجي نف�سه‪ ،‬ومن جهة‬
‫�أخرى‪ ،‬في المناخ االقت�صادي والم�ؤ�س�ساتي المحيط به‪ .‬ودون القيام‬
‫بالإجراءات ال�ضرورية‪ ،‬الخا�صة ب�إع ـ ـ ــادة هيكلة قطاع الإنتاج‪ ،‬قام‬
‫المغرب بالتوقيع على اتفاقيات للتبادل الحر‪ ،‬م�سرعا بذلك وثيرة‬
‫اندماج اقت�صاده في المحيط الإقليمي والعالمي؛ ويمكن لهذا االختيار‬
‫�أن يكون �صائبا‪ ،‬باعتبار �أن توقيعه تم مع �شركاء اقت�صاديين‪ ،‬لهم‬
‫وزنهم على ال�صعيد االقت�صادي العالمي؛ لكن كما �أن االنفتاح يمكن‬
‫�أن يخلق دينامية جديدة ويحرر المبادرات ويخلق الفر�ص الجديدة‬
‫للإنتاج والأعمال‪ ،‬ف�إنه ي�ؤدي كذلك‪ ،‬في الوقت نف�سه‪� ،‬إلى اال�صطدام‬
‫بجمود البنيات‪ ،‬وخلق �صعوبات لقطاعات �إنتاجية مهمة‪ ،‬ويكون �سببا‬
‫في تفاقم البطالة؛ كما قد ت�ؤدي �إعادة هيكلة القطاع الإنتاجي �إلى‬
‫انهيار مجموعة من المقاوالت الغير قادرة على المناف�سة‪.‬‬
‫في زمن العولمة وبروز الأقطاب االقت�صادية الكبرى وتكون‬
‫التحالفات الإ�ستراتيجية بين ال�شركات العالمية‪ ،‬واالتجاه ال�سريع نحو‬
‫�إن�شاء مناطق للتبادل الحر‪ ،‬ومع ظهور الف�صول الأولى لأزمة اقت�صادية‬
‫عالمية‪ ،‬ال يعلم �أحد بحجم تداعياتها المحتملة‪ .‬يتوقع �أن ينق�سم الن�سيج‬
‫الإنتاجي �إلى ثالثة مجموعات؛ مجموعة م�ؤهلة وقادرة على المناف�سة‪،‬‬
‫�ستتحمل المناف�سة القوية من دون م�شاكل؛ ومجموعة ثانية يمكنها عبر‬
‫�إعادة هيكلتها وت�أهيلها‪ ،‬مجابهة المناف�سة الخارجية‪ ،‬لكنها تحتاج‬
‫�إلى �إجراءات موازية‪ ،‬خالل فترة انتقالية (�أي �ستحتاج �إلى قليل من‬
‫الأك�سجين لتعي�ش)؛ ومجموعة ثالثة �ضعيفة ومحكوم عليها بالإفال�س‪،‬‬
‫‪199‬‬
‫�إذا لم تتخذ وب�شكل �سريع‪� ،‬إجراءات جذريـ ـ ــة‪ .‬وعليه‪ ،‬ف�إن الإجراء‬
‫المالئم بالن�سبة لجميع هذه المجموعات‪ ،‬يقت�ضي خلق �شروط عمل‬
‫�أكثر مالئمة لتطوير قدرة المقاولة على المناف�سة‪ ،‬بتحديث بنياتها‬
‫التنظيمية‪ ،‬و�إدخالها �إ�صالحات مهمة‪ ،‬خا�صة تلك المتعلقة بتقنيات‬
‫الإنتاج وطرق التدبير‪ ،‬وقبل كل �شيء‪ ،‬بتغيير العقلية التي ت�شتغل‬
‫بها لحد الآن؛ �أي �أنها مطالبة بت�أهيل نف�سها؛ من هنا‪ ،‬يبقى الت�أهيل‬
‫مطلبا �أ�سا�سيا ورهانا ا�ستراتيجيا‪ ،‬بل وم�صيريا بالن�سبة للكثير من‬
‫المقاوالت‪ ،‬حتى ت�ستطيع الت�صدي للمناف�سة ومجابهة اال�ستحقاقات‬
‫القادمة؛ وهو يحتم على المقاولة �أكثر من �أي وقت م�ضى‪� ،‬ضرورة‬
‫اندماجها في تحالفات �إ�ستراتيجية‪ ،‬وكذا الوعي بالجدوى من التكوين‬
‫الم�ستمر‪ ،‬ومن �شيوع ثقافة المقاولة‪ ،‬و�إدخال طرق الإنتاج المتطورة‬
‫والتدبير الحديث؛ �إ�ضافة �إلى توفير مناخ عمل �سليم‪ ،‬ت�سوده عالقات‬
‫�شغل يطبعها التعاي�ش والتعاون؛ مما �سينعك�س �إيجابا على المردودية‪.‬‬
‫�أما الدولة‪ ،‬فعليها كذلك �أن تعمل على خلق مناخ اقت�صادي وقانوني‬
‫وم�ؤ�س�ساتي وجبائي واجتماعي مالئم‪ ،‬من خالل تفعيل نظام �شباك‬
‫الواحد مثال‪ ،‬كمخاطب �إداري وحيد؛ الأمر الذي �سي�ؤدي �إلى تخفيف‬
‫الإكراهات الإدارية‪ ،‬وتب�سيط الم�ساطر‪ ،‬واالقت�صاد في الجهد وفي‬
‫الآجال‪ ،‬وال�سرعة في الإنجاز‪ ،‬والتقلي�ص من التكلفة‪ ،‬وتح�سين القدرة‬
‫التناف�سية‪.‬‬
‫�إن ربح رهان الت�أهيل في الحقيقة‪ ،‬لي�س مرتبطا بالمقاولة‬
‫لوحدها‪ ،‬كما �أنه غير مرتبط با�ستحقاق معين‪� ،‬أو بوزارة معينة �أو‬
‫بحكومـ ـ ــة معينة‪ ،‬و�إنما هو ور�ش دائم؛ وهو ثقافة؛ ثقافة الإ�صالح؛‬
‫ذلك الإ�صالح الذي يجب �أن يهم ثالثة �أقطاب �أ�سا�سية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الإدارة‪ ،‬المقاولة والإطار الماكرواقت�صادي؛ فتحديث الإدارة‪ ،‬بتب�سيط‬
‫م�ساطرها المختلفة‪ ،‬و�إ�صالح جهاز الق�ضاء‪ ،‬لما له من عالقة مبا�شرة‬
‫‪200‬‬
‫مع عالم المال والأعمال‪ ،‬وخا�صة ما يتعلق بظاهرة الف�ساد‪ ،‬من ر�شوة‬
‫ومح�سوبية وزبونية؛ وبقلة الخبرة المهنية؛ وبطول مدة تنفيذ الأحكام‪.‬‬
‫�أما المقاولة‪ ،‬فالأمر يتعلق بتحديث طرق تدبيرها وتقنيات �إنتاجها‪،‬‬
‫وب�سيا�سة ناجعة للتكوين الم�ستمر‪ ،‬من �ش�أنها توفير يد عاملة م�ؤهلة‬
‫ومالئمة لحاجيات ال�سوق؛ �إ�ضافة �إلى هذا المجهود‪ ،‬هناك مجهود‬
‫تنظيمي �آخر‪ ،‬ال يقل �أهمية‪ ،‬يجب �أن يبذل في اتجاه جمع الن�سيج‬
‫الإنتاجي المغربي حول قطاعات �صناعية �إ�ستراتيجية‪ ،‬توفر ال�شغل‬
‫وتحقق النمو‪ ،‬في �إطار �إ�صالح �شامل يرمي �إلى تعبئة الفاعلين داخل‬
‫مجموعات قطاعية مختارة �سلفا‪ ،‬وذلك بغر�ض تح�سي�سهم والتوا�صل‬
‫معهم ب�ضرورة الت�أهيل وتدبير تناف�سية قطاعاتهم؛ هذا التح�سي�س وهذا‬
‫التوا�صل يجب �أن ت�شارك فيه كل من ال�سلطات العمومية والمقاوالت‬
‫والجمعيات المهنية والنقابات وم�ؤ�س�سات المجتمع المدني‪ ،‬لتنبيهها‬
‫بمخاطر العولمة و�إكراهات وطبيعة اال�ستحقاقات القادمة‪ ،‬وكذلك‬
‫الفر�ص العديدة التي تتيحها؛ كذلك و�ضع برنامج وطني للت�شخي�ص‬
‫المو�ضوعي لجميع المقاوالت وفي كل القطاعات‪ ،‬بهدف ا�ستخراج‬
‫الأكثر عر�ضة منها للإفال�س‪ ،‬وكذا الوقوف على مكامن �ضعفها‬
‫لت�صحيحها وتفادي الوقوع فيها في الم�ستقبل‪ ،‬ونقاط القوة من �أجل‬
‫دعمها وتقويتها؛ هذا الت�شخي�ص يجب �أن يهم �أ�سا�سا مجالين �أ�سا�سيين‬
‫اثنين‪ :‬هو مجال التنظيم‪ ،‬حيث الحجم ال�صغير والبنية العائلية لأغلب‬
‫المقاوالت‪ ،‬ال يتالءم وطرق التدبير الحديث‪ ،‬وكذلك مجال التمويل‪،‬‬
‫حيث �إن محدودية الو�سائل ال تمكن من و�ضع بنيات �إنتاجية قادرة على‬
‫تحقيق الإقالع وغزو الأ�سواق الخارجية‪� .‬أما الإطار الماكرواقت�صادي‪،‬‬
‫فيهم �أ�سا�سا الإطار الم�ؤ�س�ساتي والتنظيمي‪ ،‬وتوفير البنيات التحتية‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬من طرق ومطارات وموانئ وو�سائل ات�صال حديثة‪ ،‬ومناطق‬
‫�صناعية مندمجة ومنخف�ضة الثمن‪ ،‬والعمل على خلق وكالة وطنية‪،‬‬
‫يكون من مهامها الأ�سا�سية‪ ،‬خدمة المقاولة‪ ،‬عبر مواكبتها والوقوف‬
‫‪201‬‬
‫بجانبها وتقديم الن�صح لها في العديد من ن�شاطاتها‪ ،‬ابتداء من‬
‫درا�سة ال�سوق �إلى طلب التمويل‪ ،‬حتى �أداء ال�ضرائب؛ �إ�ضافة �إلى‬
‫ت�سهيل ولوجها �إلى ال�صفقات العمومية‪.‬‬
‫�إن عملية الت�أهيل م�سل�سل دائم؛ وهي تحتاج �إلى موارد مالية؛‬
‫وبما �أن المغرب ذو �إمكانات مالية محدودة‪ ،‬ف�إن مهمة التمويل الذاتي‬
‫لعمليات الت�أهيل تعد عملية �صعبة؛ لهذا‪ ،‬كان اللجوء في وقت �سابق‪،‬‬
‫�إلى االتحاد الأوروبي ال�شريك التجاري الأول للمغرب الذي ما فتئ يقدم‬
‫الم�ساعدات‪ ،‬وي�ساهم بالمال وبالتكوين‪ .‬وذلك عبر برامج تمويلية‪،‬‬
‫بقيت �آثارها لحد الآن محدودة جدا؛ لذلك‪ ،‬وجب التفكير في قنوات‬
‫وطنية للتمويل؛ فالقطاع البنكي مثال‪ ،‬رغم توفره على �سيولة مهمة‪،‬‬
‫ال يزال يتجاهل عددا من المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة والمتناهية‬
‫ال�صغر‪ ،‬وخا�صة تلك المتمركزة في مناطق بعيدة عن المنطقة‬
‫الو�سطى‪ ،‬على طول المحيط الأطل�سي؛ كما ال يزال يتعامل بمعدالت‬
‫فائدة كبيرة جدا‪ ،‬اعتبارا للمعدالت العالمية‪ ،‬ويبالغ في ال�ضمانات‬
‫المطلوبة‪� .‬أما بور�صة القيم كو�سيلة تمويلية تكميلية للقطاع البنكي‪،‬‬
‫ذات �أهمية بالغة‪ ،‬بالنظر �إلى �آفاق تطويرها‪ ،‬فتبقى واعدة جدا‪ ،‬على‬
‫�ضوء الإ�صالحات القانونية المرتبطة بها؛ لكن ومع ذلك‪ ،‬ف�إن م�س�ألة‬
‫الت�أهيل لي�ست م�س�ألة موارد مالية فقط‪ ،‬ذلك �أن المقاولة يجب �أن ال‬
‫تقت�صر من الت�أهيل على الدعم المالي فقط‪ ،‬وتغفل جوانب �أ�سا�سية‬
‫�أخرى‪.‬‬
‫لقد �أدى انفتاح الف�ضاء االقت�صادي الوطني على االقت�صاد‬
‫العالمي‪ ،‬عبر حرية المبادالت‪� ،‬إلى منح الن�سيج الإنتاجي فر�صا‬
‫عديدة لإقامة الأعمال والم�شاريع على ال�صعيدين المحلي والدولي‪� ،‬إال‬
‫�أن نف�س هذه الفر�ص تفر�ض درجات عليا من التناف�سية والقدرة على‬
‫الإنجاز؛ وال يتم ذلك �إال من خالل ت�أهيل االقت�صاد‪ ،‬وجعله قادرا على‬
‫‪202‬‬
‫خو�ض المناف�سة‪ ،‬عبر �إ�صدار قوانين ترتبط بمحيط المقاولة‪ ،‬وو�ضع‬
‫�آليات التدخل لإنعا�ش اال�ستثمار‪ ،‬و�إقامة عالقات الثقة وال�شفافية مع‬
‫المقاوالت‪ ،‬واال�ستفادة من مواكبة خا�صة لإنعا�ش المقاوالت المغربية‪،‬‬
‫وال�سيما ال�صغرى والمتو�سطة والمتناهية ال�صغر (من خالل مثال‪:‬‬
‫"برنامج امتياز"‪ ،‬و"برنامج ا�ستثمار"‪ ،‬و"المقاول الذاتي")‪ ،‬وخا�صة‬
‫تلك التي تن�شط في مجال الت�صدير‪ ،‬وذلك من �أجل تعزيز ح�ضورها‬
‫على م�ستوى الأ�سواق الخارجية (من خالل مثال‪" ،‬برنامج دعم‬
‫الم�صدرين المبتدئين")‪ ،‬لتمكينها من �إعداد �إ�ستراتيجيات مالئمة‬
‫في مجال الت�صدير‪ ،‬واال�ستفادة من الت�أطير والتكوين‪ ،‬والت�سويق‬
‫وجميع المعامالت المرتبطة بالتجارة الدولية‪ ،‬مع �إمكانية تمويل بع�ض‬
‫التدابير المتعلقة بالترويج بالأ�سواق الخارجية؛ (كذلك �إ�شراك وتفعيل‬
‫دور غرف التجارة وال�صناعة والخدمات في م�سل�سل الت�أهيل والتحديث‪.‬‬
‫وفي �إطار حماية المنتوج الوطني‪ ،‬تجدر الإ�شارة ب�أن القانون ‪15.09‬‬
‫المتعلق بالحماية التجارية) ظهير �شريف رقم ‪� 1.11.44‬صادر في‬
‫‪ 29‬من جمادى الآخرة ‪ ،1432‬الموافق ‪ 2‬يونيو ‪( 2011‬بتنفيذ القانون‬
‫رقم ‪ 15.09‬المتعلق بتدابير الحماية التجارية‪ ،‬ومر�سومه التطبيقي‬
‫رقم ‪ 2.12.645‬بتاريخ ‪ 13‬من �صفر ‪ ،)1434‬يوفر التدابير الالزمة‬
‫لت�صحيح �أو �إزالة االختالالت الناجمة عن بع�ض ممار�سات المناف�سة‬
‫غير الم�شروعة عند اال�ستيراد �أو عن التزايد المكثف لحجم الواردات‬
‫لمنتوج معين‪ .‬وفي هذا الإطار‪ ،‬على الإدارة �أن تحر�ص على اتخاذ‬
‫تدابير الحماية التجارية الالزمة‪ ،‬في حالة ا�ستيراد منتجات مو�ضوع‬
‫�إغراق‪ ،‬والتدابير التعوي�ضية في حالة ا�ستيراد منتجات مدعمة‪ ،‬وكذا‬
‫التدابير الوقائية في حالة اال�ستيراد المكثف للمنتجات‪.‬‬
‫ويبقى من بين الأخطار الكبرى التي تهدد الن�سيج الإنتاجي‬
‫الوطني‪ ،‬وتهدد المقاولة واالقت�صاد والمجتمع‪ ،‬القطاع غير المهيكل؛‬
‫‪203‬‬
‫وهو ما جعل الملك محمد ال�ساد�س ي�ؤكد بمنا�سبة ذكرى ثورة الملك‬
‫وال�شعب‪ ،‬في ‪ 20‬غ�شت ‪ ،2018‬على "و�ضع �آليات جديدة تمكن من �إدماج‬
‫جزء من القطاع غير المهيكل في القطاع المنظم‪ ،‬عبر تمكين ما يتوفر‬
‫عليه من طاقات‪ ،‬من تكوين مالئم ومحفز‪ ،‬وتغطية اجتماعية‪ ،‬ودعمها‬
‫في الت�شغيل الذاتي‪� ،‬أو خلق المقاولة"‪.‬‬
‫يعتبر القطاع غير المهيكل �أكثر تعقيدا مما قد نت�صور‪ ،‬حيث‬
‫تتداخل فيه مجموعة من العوامل؛ منها ما هو مرتبط بالإ�صالح‬
‫ال�ضريبي‪ ،‬وبالولوج �إلى التمويل‪ ،‬وبال�سيا�سة التجارية؛‪ ‬وامت�صا�صه ال‬
‫يمكن �أن يتم بمجرد اتخاذ تدابير �ضريبية قد ال يكون لها وقع كبير‪ ،‬بل‬
‫يجب �أن يتم ا�ستيعابها في �سياق التحول الهيكلي لالقت�صاد الوطني‪،‬‬
‫بما يمكن من زيادة �إنتاجيته الإجمالية‪ ،‬وذلك من خالل تح�سين مناخ‬
‫الأعمال‪ ،‬وال�سيما فيما يخ�ص ت�سجيل �إن�شاء الم�ؤ�س�سات‪ ،‬و�إ�صالح قانون‬
‫ال�شغل‪ ،‬وتعزيز التحفيزات ال�ضريبية لت�شجيع االنتقال من القطاع غير‬
‫المهيكل �إلى القطاع المهيكل‪ ،‬وتي�سير الح�صول على التمويل‪ ،‬بما في‬
‫ذلك تح�سين نظام المعلومات الخا�ص بالقرو�ض‪ ،‬وتحفيز ال�شباب على‬
‫�إحداث المقاوالت الذاتية؛ كذلك ت�شجيع االنخراط في "نظام المقاول‬
‫الذاتي" الذي يت�ضمن ت�سهيالت وتحفيزات من �أجل م�ساعدة ال�شباب‬
‫على ت�أ�سي�س مقاوالت وتي�سير ولوجهم �إلى �سوق ال�شغل‪ ،‬والذي مكن‬
‫منذ انطالقه الفعلي في يناير ‪ ،2016‬من �إحداث حوالي ‪� 30‬ألف مقاولة‬
‫ذاتية؛ بالإ�ضافة �إلى ت�شجيع القطاع غير المهيكل على االندماج في‬
‫الن�سيج االقت�صادي المنظم‪ ،‬حتى يتمكن من اال�ستفادة من المزايا‬
‫االجتماعية والجبائية والولوج �إلى التمويالت المتاحة‪ .‬‬
‫�إن ارتفاع �أ�سعار النفط‪ ،‬وارتفاع تكلفة الإنتاج والت�سويق‪ ،‬وتقل�ص‬
‫الإنتاجية‪ ،‬ي�ؤثر �سلبا على القدرة التناف�سية للمغرب على الم�ستوى‬
‫الخارجي؛ مما ي�ؤدي �إلى انكما�ش االقت�صاد الوطني‪ ،‬وما يخلفه ذلك‬
‫‪204‬‬
‫من ت�ضخم ومن ت�سريح للعمال‪ ،‬وتف�ش لظواهر اقت�صادية واجتماعية‬
‫عديدة‪ ،‬ومنها القطاع غير المهيكل‪ ،‬وما قد ينتج عنه من انعكا�سات‬
‫�سلبية خطيرة‪ ،‬تهدد �أمن وا�ستقرار المجتمع‪ .‬‬
‫ما فتئ القطاع غير المهيكل يح�ضى باالهتمام‪ ،‬على ال�صعيدين‬
‫الوطني والعالمي‪ ،‬حيث �إنه ي�شغل �أكثر بكثير من القطاع المنظم؛ ففي‬
‫�إفريقيا مثال‪ ،‬ي�شغل القطاع غير المهيكل من ‪� %60‬إلى ‪ ،%90‬وفي‬
‫�أمريكا الالتينية من ‪� %50‬إلى ‪ ،%60‬وفي �آ�سيا من ‪� %45‬إلى ‪%85‬؛‬
‫وفي �أمريكا و�أوربا‪ ،‬الن�سب تتراوح ما بين ‪ %5‬و‪%25‬؛ والزال هذا‬
‫القطاع في تطور م�ستمر وبوتيرة �سريعة جدا؛ وهو يهم جميع المجاالت‬
‫من دون ا�ستثناء‪ ،‬ال�صناعية والفالحية والتجارية والخدماتية‪ ،‬ويجتاح‬
‫المدن والمراكز الح�ضرية‪ ،‬بل وحتى البوادي‪ ،‬عبر �إقامة م�شاريع غير‬
‫منظمة وفي بع�ض الأحيان‪ ،‬غير مرخ�ص لها‪� ،‬أو عبر التجارة �أمام‬
‫المحالت وعلى قارعة الطريق؛ ال�شيء الذي يفر�ض اتخاذ تدابير مالئمة‬
‫للحد من انت�شار هذه الظاهرة‪.‬‬
‫يعتبر القطاع غير المهيكل ظاهرة بنيوية ي�ستع�صي حلها‪ ،‬وتتطلب‬
‫محا�ضرتها وقتا طويال؛ فهو‪ ‬عبارة عن بطالة مقنعة‪ ،‬والم�شتغلون في‬
‫�إطاره‪ ،‬هم �أ�شباه عمال‪ ،‬ولنقل �أقنان‪ ،‬والتغا�ضي عنه هو هروب �إلى‬
‫الأمام‪ ،‬وال�سكوت عنه حتى ي�ستفحل‪ ،‬هو جريمة اقت�صادية في حق البلد‬
‫وا�ستقراره وتنميته‪ ،‬وارتفاع وتيرة نموه هو تهديد للمقاولة المنظمة‪،‬‬
‫والدفع بها �إلى الإفال�س‪ ،‬وعدم �إدماجه في القطاع المنظم هو هدر‬
‫للمال العام وتخريب لميزانية الدولة وت�ضييع لموارد مالية مهمة‪،‬‬
‫وعدم مراقبة مبادالته هو خطر على �صحة و�سالمة الم�ستهلكين‪.‬‬
‫ومن �أبرز مظاهره‪� ،‬أن تجد الم�شغلين في �إطاره من الأطفال‬
‫والن�ساء �أ�سا�سا‪ ،‬يعملون بدون معايير للوقاية وال�سالمة‪ ،‬وال ي�ستفيدون‬
‫من الخدمات ال�صحية ومن التغطية االجتماعية‪ ،‬ويعي�شون ب�أقل �أو من‬
‫‪205‬‬
‫دون ادخار‪ ،‬ويجدون �صعوبة كبيرة في الح�صول على القرو�ض؛ مما ال‬
‫ي�شجع على الإنفاق‪ ،‬ا�ستهالكا وا�ستثمارا‪ ،‬ويح�صلون على �أجور هزيلة‬
‫جدا‪ ،‬ويعملون ل�ساعات طويلة‪ ،‬وبدون مكاف�آت عن ال�ساعات الإ�ضافية‪،‬‬
‫ومحرومين من الإجازة ال�سنوية‪ ،‬ولي�س لديهم �أي تمثيل نقابي‪� ...‬إنه‬
‫اقت�صاد اال�ستغالل؛ اقت�صاد الرق والعبودية‪ ،‬يتميز بالكثافة العالية‬
‫لليد العاملة‪ ،‬وبالإنتاجية ال�ضعيفة‪ ،‬وبالمداخيل الهزيلة؛ �إنه ن�شاط‬
‫من �أجل الكفاف‪ ،‬من �أجل الحياة‪ ،‬وي�ستجيب ل�ضرورة اجتماعية ملحة‪،‬‬
‫ومن دونه‪ ،‬ال ت�ستطيع �شرائح وا�سعة تلبية حاجاتها الأ�سا�سية‪.‬‬
‫وللقطاع غير المهيكل �أ�سباب متعددة‪ ،‬نذكر من بينها‪:‬‬
‫‪ -‬غياب نمو اقت�صادي متوازن‪.‬‬
‫‪ -‬التطبيق ل�سنوات عديدة خالل الثمانينات والت�سعينات‪،‬‬
‫لبرامج التقويم الهيكلي‪ ،‬وما ترتب عنها من ت�سريح للعمال‪ ،‬وخا�صة‬
‫نتيجة �سيا�سة الخو�ص�صة المت�سرعة التي عرفها القطاع العام‪.‬‬
‫‪ -‬االنتقال ال�سريع من اقت�صاد الدولة �إلى اقت�صاد ال�سوق‪،‬‬
‫وما ترتب عنه من بطالة وفقر وتهمي�ش‪ ،‬جعل الكثيرين يلج�ؤون �إلى‬
‫االقت�صاد غير المهيكل كمالذ وحيد لال�ستمرار في الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬النمو الديمغرافي ال�سريع‪ ،‬وما ترتب عنه من وفرة في اليد‬
‫العاملة‪ ،‬وهجرة من البوادي نحو المدن ب�سبب الفقر في البادية‬
‫نتيجة التهمي�ش الدي تعرفه؛ كذلك �سنوات الجفاف المتتالية‪،‬‬
‫وانخفا�ض �أ�سعار المواد الفالحية‪ ،‬و�صعوبة الت�صدير نحو الخارج‬
‫نتيجة المعونات التي تمنحها الدول المتقدمة لمزارعيها‪ ...‬والمدينة‬
‫ال ت�ستطيع �أن ت�ستوعب جميع ه�ؤالء المهاجرين‪ ،‬فيلج�ؤون �إلى القطاع‬
‫غير المهيكل؛ كما �أن خروج المر�أة �إلى العمل باختيارها �أو ل�ضرورة‬
‫ملحة‪� ،‬ساهم بدوره في ارتفاع الطلب الإجمالي على ال�شغــل وتفاقم‬
‫ظاهرة البطالة‪.‬‬
‫‪206‬‬
‫يجب �أن نعترف بداية‪ ،‬ب�أن للقطاع غير المهيكل انعكا�سات �سلبية‬
‫وخطيرة‪ ،‬وفي الوقت نف�سه‪ ،‬يجب �أن ن�سلم بالواقع؛ فالظاهرة يتم‬
‫احت�ضانها من طرف المواطنين‪ ،‬حيث تنال في ثقافتهم مكانة و�شعبية‬
‫وا�سعة‪ ،‬مما يجعل الق�ضاء عليها لي�س بالأمر الي�سير؛ �إنها ظاهرة‬
‫بنيوية را�سخة‪ ،‬لها جذور ولها تاريخ‪ ،‬وكذلك ظاهرة دينامية ومتحركة‪.‬‬
‫ومن بين المبادىء الأ�سا�سية في علم االقت�صاد‪� ،‬أن الظواهر البنيوية‬
‫والدينامية عك�س الظواهر الظرفية وال�ساكنة‪ ،‬يتطلب الت�صدي لها وقتا‬
‫طويال جدا؛ وهذا لن يتم دون تحديد الدور االقت�صادي المتوقع‪ ،‬ودون‬
‫معرفة الآثار االجتماعية المرتبطة بالفاعلين وبدورهم في المجتمع؛‬
‫هذا ال يعني �أننا �سنبقى مكتوفي الأيدي �أو �سن�ست�سلم للظاهرة‪ ،‬بل‬
‫يجب �أن ننهج مقاربة بيداغوجية موجهة وم�ؤطرة‪ ،‬ونتجنب المقاربة‬
‫الأمنية والزجرية ال�سائدة حتى الآن؛ وبذلك وحده ن�ضمن نوعا من‬
‫التوازن واال�ستقرار االجتماعيين؛ فمثال بخ�صو�ص الباعة المتجولين‪،‬‬
‫كنموذج �صارخ وظاهر للقطاع غير المهيكل‪ ،‬يجب العمل على تنظيمهم‬
‫وتثبيتهم‪ ،‬كخطوة �أولى لإدماجهم في الن�سيج االقت�صادي المنظم‪،‬‬
‫وذلك بخلق مراكز تجارية قارة وثابتة وخا�ضعة للمراقبة؛ هنا‪ ،‬يمكن‬
‫للوزارة الو�صية ولل�سلطات العمومية وللجماعات الترابية وللغرف‬
‫المهنية ولم�ؤ�س�سات المجتمع المدني‪� ،‬أن تقوم بدور هام‪ ،‬عبر �صيغ‬
‫ت�شاركية مالئمة؛ �إ�ضافة �إلى كل هذا‪ ،‬يجب العمل على‪:‬‬
‫‪ -‬تطبيق القانون لإدماج الأن�شطة االقت�صادية غير المنظمة‪،‬‬
‫ب�شكل يجعلها تلتزم بالقواعد والأنظمة الجارية؛ فالأن�شطة التجارية �إما‬
‫�أنها مقننة تخ�ضع لم�سطرة الترخي�ص‪� ،‬أو غير مقننة تخ�ضع لم�سطرة‬
‫الت�صريح الم�سبق‪.‬‬
‫‪� -‬ضرورة و�ضع �إطار ت�شريعي وتنظيمي للقطاع التجاري‪ ،‬ب�شكل‬
‫ي�ضمن ا�ستقرار الأن�شطة التجارية وحماية الملكية‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫‪� -‬سن �سيا�سة تمويلية م�صاحبة‪ ،‬وذلك بتب�سيط م�ساطر التمويل‪،‬‬
‫وتوفير �آليات تتالءم مع طبيعة ن�شاط التجار؛ نذكر في هذا ال�صدد‪،‬‬
‫تجربة الم�شاريع ال�صغرى �أو القرو�ض ال�صغرى‪ ،‬و�ضرورة تعميمها‬
‫لفائدة �ساكنة البوادي من �أجل الحد من الهجرة نحو المدن‪.‬‬
‫‪� -‬إلغاء نظام الترخي�ص من �أجل فتح محالت تجارية‪ ،‬وذلك‬
‫حفاظا على مبد�أ حرية التجارة وت�شجيع اال�ستثمار‪ ،‬ولكن مع �إخ�ضاعها‬
‫لت�صريح م�سبق‪ ،‬طبقا لدفاتر تحمالت دقيقة‪ ،‬مع مراعاة �شروط‬
‫ال�صحة وال�سالمة‪� ،‬أما المراقبة‪ ،‬فيمكن �أن تكون بعدية‪.‬‬
‫‪� -‬إحداث نظام �ضريبي وجبائي تحفيزي خا�ص‪.‬‬
‫‪ -‬مراقبة �صارمة للحدود �أمام عمليات التهريب المختلفة‪.‬‬
‫و�إذا كانت حرية تنقل ال�سلع والخدمات تطرح اليوم �إ�شكاالت‬
‫عديدة‪ ،‬ترتبط بالمناف�سة وبالجودة‪ ،‬ف�إنها ت�شكل رهانا �آخر‪ ،‬يرتبط‬
‫ب�صحة و�سالمة الم�ستهلك؛ وهذا ما يجعل �إدماج البعد اال�ستهالكي‬
‫في �أي �سيا�سة اقت�صادية �ضرورة ملحة‪ .‬لقد تحولت �أ�سواقنا �إلى‬
‫مزابل للمنتجات‪ ،‬وخا�صة منها القادمة من الخارج‪ ،‬حيث ال يعرف‬
‫في الكثير من الأحيان‪ ،‬م�صدر �إنتاجها‪ ،‬وال الدولة التي �أتت منها‪،‬‬
‫وال الم�سار الذي قطعته حتى و�صلت �إلينا‪ ،‬وال المواد المكونة لها وال‬
‫مدة �صالحيتها‪ ...‬كل هذا يحتم على الم�ستهلك �أن يكون يقظا‪ ،‬و�أن‬
‫يعمل على حماية نف�سه بنف�سه‪ ،‬و�أن يتجنب تلبية حاجياته عبر تجارة‬
‫ال�شوارع وفي قارعة الطريق‪.‬‬
‫و�إذا كانت بالدنا ت�سعى اليوم‪� ،‬إلى توطيد النهج الديمقراطي‬
‫كخيار �إ�ستراتيجي‪ ،‬و�إلى تثبيت مقومات دولة القانون؛ فذلك ال يمكن‬
‫�أن يتم �إال ب�ضرورة م�شاركة الجماعات الترابية‪ ،‬من خالل ما ت�ضطلع‬
‫به هذه الأخيرة من مهام اقت�صادية واجتماعية للنهو�ض بال�ش�أن‬
‫المحلي والم�ساهمة في توفير البنيات التحتية‪ ،‬حتى ن�ستوعب الآثار‬
‫‪208‬‬
‫ال�سلبية المترتبة عن التقلبات على الم�ستوى العالمي‪ ،‬وذلك لتكون‬
‫التنمية حقيقة ملمو�سة‪ ،‬ولي�ست �شعارا فارغا من �أي محتوى‪ ،‬وحتى‬
‫نحمي مغربنا من جميع الأخطار التي تهدده‪ ،‬وحتى ال ي�ستغل واقعنا‬
‫االجتماعي‪ ،‬المتمثل في اله�شا�شة والفقر وا�ستفحال القطاع غير‬
‫المهيكل من جهة‪ ،‬و�سذاجة بع�ض الفاعلين في �إطاره من جهة �أخرى‪،‬‬
‫لتمرير �أفكار �إيديولوجية �أو دينية متطرفة هدامة؛ قد ت�ؤدي �إلى ارتكاب‬
‫�أعمال عنف �أو جرائم �إرهاب‪.‬‬

‫‪ - 8‬تنمية التعليم العالي والبحث العلمي‬

‫�إذا كانت بالدنا تطمح �إلى النهو�ض بالتعليم عموما‪ ،‬وتحقيق‬


‫الأهداف المتوخاة منه‪ ،‬وهي ‪ :‬تربية الأجيال الجديدة‪ ،‬من الأطفال‬
‫وال�شباب‪ ،‬تربية جيدة؛ وتعميم التعليم الأولي واالبتدائي؛ والتو�سع الكمي‬
‫في مختلف المراحل التعليمية‪ ،‬واالهتمام بالتكوين المهني والتقني؛‬
‫والتكوين الجيد للأ�ساتذة والمعلمين في مختلف التخ�ص�صات‪ ،‬كعن�صر‬
‫�أ�سا�سي لتح�سين جودة التعليم‪ ،‬من خالل التنزيل الفعلي وال�صحيح‬
‫للر�ؤية الإ�ستراتيجية لإ�صالح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي‬
‫‪ 2015‬ـ‪" ،2030‬من �أجل �إر�ساء مدر�سة الإن�صاف والجودة واالرتقاء"‪،‬‬
‫والتي جاءت بالأولويات التالية‪ :‬تحقيق الإن�صاف وتكاف�ؤ الفر�ص في‬
‫ولوج التربية والتكوين؛ كذلك تطوير النموذج البيداغوجي وتح�سين‬
‫جودة التربية والتكوين؛ �إ�ضافة �إلى تح�سين حكامة منظومة التربية‬
‫والتكوين وتحقيق التعبئة المجتمعية حول الإ�صالح"؛ ف�إن االهتمام‬
‫بالجامعة‪ ،‬ومن خاللها بالتعليم العالي والبحث العلمي‪ ،‬ورفع م�ستواه‬
‫وتنميته والنهو�ض به‪ ،‬يجب �أن يح�ضى بالأولوية في �أي �إ�ستراتيجية‬
‫للتقدم والتنمية‪.‬‬
‫تعتبر الجامعة المغربية مكونا �أ�سا�سيا من مكونات المنظومة‬
‫‪209‬‬
‫التعليمية‪ ،‬نظرا لعراقتها والدور الريادي الذي لعبته‪ ،‬عبر تاريخها‪،‬‬
‫في تكوين الأطر والكفاءات؛ هذا الدور �أ�صبحت تنتابه اليوم نقائ�ص‬
‫كثيرة؛ �أبرزها �ضعف التال�ؤم بين التخ�ص�صات القائمة و�سوق ال�شغل‪،‬‬
‫وهدر الطاقات‪� ،‬سواء على الم�ستوى الطالبي �أو البيداغوجي �أو المادي‬
‫�أو اللوج�ستيكي‪ ...‬كما ركنت الجامعة المغربية لفترة طويلة �إلى الفتور‬
‫واالجتراء‪ ،‬وتكونت فيها لدى العديد من الفاعلين التربويين عقلية‬
‫تكر�س االكتفاء بالموجود وعدم التوق �إلى بديل‪ ،‬قد يتطلب بذل جهود‬
‫�إ�ضافية‪� ،‬أو �إنجاز �أعمال قد تعتبر عبء جديدا ال داعي لاللتزام به‪.‬‬
‫ولعل هذه العقلية الرا�سخة �ستكون �أولى العقبات التي تعتر�ض طريق‬
‫الإ�صالح‪ ،‬والتي تتطلب الكثير من الجهود لتبديدها وتغييرها بعقلية‬
‫ت�ستجيب لمتطلبات التغيير‪ ،‬وتندمج في العملية الإ�صالحية عن �إيمان‬
‫واقتناع‪ ،‬حتى يتم تعزيز مكت�سبات الجامعة المغربية والنهو�ض بدورها‬
‫وتح�سين مردوديتها و�أدائها‪ ،‬لخلق �أجيال جديدة من ال�شباب‪ ،‬تت�سم‬
‫بالوعي ال�شامل وبالمعرفة الوا�سعة والقدرة على االندماج في المجتمع‬
‫بي�سر وان�سجام؛‪ ‬ولن يتم ذلك من دون‪:‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ جامعي حيوي ون�شيط‪� ،‬سلك في تكوينه الجامعي‪،‬‬
‫م�سارا نظاميا متوا�صال‪ ،‬معترفا به من �أوله �إلى �آخره ومتميزا في‬
‫جميع مراحله‪ ،‬من دون غ�ش �أو تزوير �أو زبونية �أو مح�سوبية‪ ،‬حتى نال‬
‫في نهاية هذا الم�سار‪� ،‬شهادة الدكتوراه‪ ،‬عقب مناق�شة مقنعة لأطروحة‬
‫قيمة وذات �إ�ضافة علمية ومعرفية‪ ،‬نظرية وتطبيقية �أكيدة‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ يملك مع ال�شهادة‪ ،‬الموهبة والملكة والدافع والإيمان‬
‫بثقل الم�س�ؤولية ونبل الر�سالة؛ ر�سالة ن�شر العلم والمعرفة‪ ،‬والحفاظ‬
‫على الهوية والثوابت الوطنية‪ ،‬وم�س�ؤولية بناء العقول‪ ،‬و�إعداد الخبرات‬
‫وتنمية الكفاءات‪ ،‬بل وقيادة الإ�صالح والتغيير‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ يملك �سمات �شخ�صية وكفايات مهنية؛ بيداغوجية‬
‫‪210‬‬
‫و�أكاديمية‪ ،‬وله اهتمامات اجتماعيـ ـ ـ ـ ـ ــة وم�ساهمات فكرية وثقافية‪،‬‬
‫ي�ستطيع من خاللها تمكين طلبته من االرتقاء �إلى درجة الكفاءة في‬
‫تخ�ص�صاتهم و�إمدادهم بم�ضامين ثرية وذات جودة عالية‪ ،‬تر�سخ‬
‫روح المبادرة لديهم وتكر�س عندهم ثقافة الحوار والت�شاركية والنقد‬
‫البناء‪ ،‬وتحتهم على الإبداع والبحث و�إعادة �إنتاج المعرفة‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ يتـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم اختياره‪ ،‬من بين مر�شحين متناف�سين‪ ،‬وفق‬
‫م�سطرة ديمقراطية‪ ،‬نزيهة و�شفافة‪ ،‬وتبعا لمعايير دقيقة ومتعارف‬
‫عليها‪ ،‬وتجري في ما بعد‪ ،‬ترقيته في مختلف الرتب والدرجات‪ ،‬على‬
‫�أ�سا�س من الجدارة واال�ستحقاق والتفوق البيداغوجي والعطاء العلمي‬
‫المتوا�صل‪ ،‬من خالل بحوث جادة ودرا�سات متميزة وم�شاريع بحثية‬
‫م�ستمرة‪ ،‬ال تكون ظرفية �أو تحت الطلب‪ ،‬وتمثل جزء من خطة بحثية‪،‬‬
‫تتما�شى وتتناغم مع البرامج وال�سيا�سات والإ�ستراتيجيات الإنمائية‬
‫الوطنية؛ وهنا‪ ،‬البد من الإ�شارة �إلى �أن �شبكة الترقي المعمول بها‬
‫اليوم في جامعاتنا‪ ،‬تعتبر غير متوازنة تماما‪ ،‬حيث ال تعطي لأن�شطة‬
‫البحث والتكوين �أي �أهمية �أو قيمة‪ ،‬مقارنة مع الأن�شطة الموازية‪،‬‬
‫الثقافية والريا�ضية والنقابية‪ ،‬في حين ت�ؤدي‪ ،‬وبالنظر �إلى نظام‬
‫الكوطا المتبع‪� ،‬إلى مزيد من توتر العالقات بين الزمالء الأ�ساتذة‪،‬‬
‫في الم�ؤ�س�سة الواحدة‪ ،‬وداخل الجامعة الواحدة‪ ،‬وذلك نتيجة التناف�س‬
‫ال�شديد بينهم على الترقيات‪ ،‬والذي قد ي�صل في بع�ض الأحيان‬
‫�إلى حد الت�صارع والت�صادم والتخا�صم‪ ،‬خا�صة بالن�سبة للترقية في‬
‫الن�سقين اال�ستثنائي وال�سريع‪ ،‬والتي تتم‪ ،‬في الكثير من الأحيان‪ ،‬من‬
‫خالل الكول�سة والم�صالح المتبادلة وموازين القوى داخل الم�ؤ�س�سة‪،‬‬
‫بعيدا عن كل تقييم مو�ضوعي للإنتاجات العلمية والكفايات التربوية‬
‫والبيداغوجية للأ�ساتذة‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ يجري �إعداده وتكوينه وتدريبه‪ ،‬حتى ي�صير ذو خبرة‬
‫‪211‬‬
‫وكفاءة؛ فال ينقطع بعد ذلك عن القيام باجتهاد �شخ�صي �أو تعلم‬
‫ذاتي �أو تكوين م�ستمر‪ ،‬يمكنه من التعامل مع الم�ستجدات وم�سايرة‬
‫المتغيرات‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ متقن للغات الأجنبية وللتكنولوجيات الحديثة؛ المواكب‬
‫للتطورات العلمية الجديدة‪ ،‬وتخ�ضع برامجه وم�ضامين محا�ضراته‬
‫وطرق تدري�سه‪ ،‬للتقويم والت�صحيح والتعديل با�ستمرار‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ معتز بمهنته ومتحم�س لها ومتمكن منها‪ ،‬مخل�ص �أمين‪،‬‬
‫متعاون متفاعل‪ ،‬القدوة الح�سنة والنموذج المثالي؛ ال يتغيب من دون‬
‫�سبب‪ ،‬ويعو�ض محا�ضراته التي يغيب عنها؛ يحترم زمن المحا�ضرة‬
‫كامال‪ ،‬من دون نق�صان �أو مماطلة �أو ثرثرة �أو كالم غير مفيد؛ الذي‬
‫ي�شجع طلبته على الإبداع والتفكير الناقد؛ ويتجاوب مع �أ�سئلة الطلبة‬
‫ومداخالتهم‪ ،‬ويحترم ويتقبل �أرائهم وانتقاداتهم‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ متوا�ضع دائما في معامالته‪ ،‬مع طلبته وزمالئه‪ ،‬راقي‬
‫في كالمه وجميع تدخالته‪ ،‬محترم في مظهره ولبا�سه‪ ،‬متوازن وغير‬
‫مت�سرع �أو �شديد االنفعال‪ ،‬عند اتخاذ �أي موقف �أو قرار‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستاذ يقدم الم�صلحة العامة على م�صلحته ال�شخ�صية‪،‬‬
‫يحترم القوانين والأنظمة ومواعيد االمتحانات‪ ،‬ويتعامل مع �أوراق هذه‬
‫االمتحانات بكثير من الجدية‪ ،‬بل والقد�سية‪ ،‬ال يظلم عند التقييم؛ كما‬
‫�أبدا ال ي�ستفيد من مح�سوبية �أو من عالقات �شخ�صية‪ ،‬دائم الح�ضور‬
‫في الم�ؤ�س�سة‪ ،‬وعند الحاجة �إليه‪ ،‬ولو خارج �أوقات المحا�ضرات‪،‬‬
‫وذلك ال�ستقبال الطلبة واال�ستماع �إليهم وتفهم �أو�ضاعهم وم�ساعدتهم‪،‬‬
‫وال�سعي في حل م�شاكلهم‪.‬‬
‫�إن �أي �إ�صالح من�شود‪ ،‬يجب �أن يحدد ب�صفة واقعية‪ ،‬البرامج‬
‫والمجاالت الكفيلة بتح�سين فعالية ونجاعة منظومة التعليم العالي‬
‫‪212‬‬
‫والبحث العلمي‪ ،‬وتنميتها والدفع بها نحو �إعادة النظر في دورها‪،‬‬
‫والعمل على تكييف هذا الدور مع متطلبات الع�صر المتجددة‪ ،‬و�إقرار‬
‫نظام تعليمي جديد‪ ،‬يقوم على �ضوابط وبنود غير ما تعودت عليه‬
‫الجامعة المغربية‪ ،‬منذ �سنين طويلة؛ الأمر الذي لن يتحقق �إال من‬
‫خالل‪:‬‬
‫‪ -‬تح�سين عر�ض التعليم العالي‪ ،‬ق�صد مالءمته مع البرامج‬
‫الوطنية للتنمية‪ .‬وفي هذا ال�سياق‪ ،‬يجب ت�سريع وتيرة تح�ضير تكوينات‬
‫مهنية منا�سبة‪ ،‬تمكن من المالءمة الم�ستمرة والرفع من قابلية اندماج‬
‫الخريجين في �سوق ال�شغل؛‬
‫‪� -‬إعادة ت�أهيل الم�ؤ�س�سات الجامعية‪ ،‬عن طريق تر�شيد المرافق‬
‫المتوفرة‪ ،‬بهدف �ضمان ا�ستقبال �أمثل وتو�سيع الطاقة اال�ستيعابية‪ ،‬في‬
‫�أفق مواكبة النمو المتوقع لأعداد الطلبة؛ كذلك ت�أهيل و�صيانة البنيات‬
‫التحتية‪ ،‬وتجديد معداتها المتقادمة‪ ،‬بهدف �ضمان ا�ستمرار جودة‬
‫التكوينات بها؛‬
‫‪ -‬تح�سين المردودية وتقلي�ص الهدر واالنقطاع عن الدرا�سة‪،‬‬
‫بالرفع من ن�سبة الح�صول على ال�شواهد‪ ،‬وذلك عبر �إدراج درو�س‬
‫في اللغات وتقنيات الإعالم والتوا�صل ومنهجية العمل الجامعي‪،‬‬
‫لتمكين الطلبة من التحكم في �آليات ومناهج العمل الخا�صة بالمحيط‬
‫الجامعي؛‬
‫‪ -‬تطوير الحكامة وتح�سين القدرات الت�سييرية‪ ،‬واتخاذ تدابير كفيلة‬
‫بتر�شيد وعقلنة الموارد الب�شرية والمادية والإدارية‪ ،‬من خالل‪ ‬تنويع‬
‫واال�ستغالل الأمثل للموارد‪ ،‬وتطبيق طرق الجودة وفق الأولويات؛‬
‫كذلك التدبير الت�شاركي الذي يرتكز على قاعدة الت�سيير الم�شترك‪،‬‬
‫والتي تتوخى تعبئة و�إ�شراك كل الفاعلين؛‬
‫‪ -‬تعزيز قدرات الموظفين‪ ،‬وتطوير كفاءات الأ�ساتذة الباحثين‬
‫‪213‬‬
‫و�آليات ت�أطير الأن�شطة البيداغوجية و�أن�شطة البحث‪ ،‬من �أجل التوفر‬
‫على موارد ب�شرية م�ؤهلة‪ ،‬وفقا للنظم والمعايير الدولية‪ ،‬وذلك با�ستفادة‬
‫الأ�ساتذة الباحثين‪ ،‬من تكوينات و‪�/‬أو تداريب بالخارج‪ ،‬مع �إعطاء‬
‫�أولوية خا�صة للتكوين البيداغوجي للأ�ساتذة الباحثين الجدد؛ نف�س‬
‫ال�شيء يجب �أن يتم بالن�سبة الموظفين الإداريين والتقنيين؛‬
‫‪ -‬النهو�ض بالبحث العلمـ ـ ـ ــي والتقني وتثمينه‪ ،‬بت�سخيره �أكثر‬
‫لال�ستجابة لحاجيات المحيط االقت�صادي واالجتماعي‪ ،‬وتوجيهه نحو‬
‫الم�شاريع التي لها انعكا�س مبا�شر على ق�ضايا التنمية االجتماعية‬
‫واالقت�صادية والثقافية؛ كذلك االنخراط القوي في م�شاريع البحث‬
‫والتنمية‪ ،‬ب�إنجاز م�شاريع بحث ت�شاركية مع المقاوالت والرفع من‬
‫عدد الم�شاريع المحت�ضنة والمقاوالت الناتجة عن االحت�ضان‪ ،‬وتقوية‬
‫ال�شراكات مع المهنيين؛ كما يمكن للكفاءات المغربية المقيمة بالخارج‬
‫�أن ت�ساهم ب�شكل مكثف في تطوير �أن�شطة البحث‪ ،‬وذلك بالعمل على‬
‫ا�ستقطاب باحثين وخبراء مغاربة مقيمين بالخارج؛ كذلك تح�سين‬
‫حكامة البحث العلمي‪ ،‬عبر و�ضع هياكل لتدبير وتتبع الم�شاريع‪،‬‬
‫وتقييم �أن�شطة البحث والتعاون الدولي‪ ،‬والت�شجيع على �إن�شاء مراكز‬
‫ومجموعات البحث في مجاالت متعددة‪ ،‬مع مد المزيد من الج�سور‬
‫بينها‪ ،‬وجعلها مت�سمة بالعمل الجماعي‪ ،‬تما�شيا مع روح الإ�صالح؛ والت�شجيع‬
‫على االنخراط في برامج البحث وطلبات العرو�ض‪ ،‬لدى الم�ؤ�س�سات‬
‫والهيئات الدولية‪.‬‬
‫�إن �أي خطة �أو �إ�ستراتيجية للنهو�ض بقطاع التربية والتكوين‪،‬‬
‫كيفما كانت‪ ،‬ال يمكن �أن تنجح وتحقق الأهداف المتوخاة منها‪ ،‬من‬
‫دون �أوال‪ ،‬تنمية التعليم العالي‪ ،‬وتوظيفه لخدمة االقت�صاد‪ ،‬والربط‬
‫بينه وبين �أن�شطة البحث العلمي؛ لكن كذلك و�أ�سا�سا‪� ،‬ضرورة االلتزام‬
‫‪214‬‬
‫بمجانية التعليم الأ�سا�سي‪ ،‬واالهتمام بتعليم المر�أة‪ ،‬واالنفتاح على‬
‫النظم التعليمية المتطورة‪ ،‬واالهتمام بالتعليم الأولي‪ ،‬وتركيز التعليم‬
‫االبتدائي على المعارف الأ�سا�سية والمعاني الوطنية‪ ،‬وتوجيه التعليم‪،‬‬
‫خا�صة الثانوي منه‪ ،‬لخدمة الأهداف الوطنية‪ ،‬والعناية بمعاهد‬
‫تدريب المكونين والتدريب ال�صناعي‪ ،‬والتوافق مع التطورات التقنية‬
‫والمعلوماتية؛ كذلك �ضرورة �إقامة ما يعرف بالمدار�س الذكية التي‬
‫تتوفر فيها مواد درا�سية ت�ساعد المتعلمين على تطوير مهاراتهم‬
‫وا�ستيعاب التقنية الجديدة‪ ،‬وذلك توافقا مع الثورة التي ت�شهدها‬
‫تكنولوجيا االت�صاالت والمعلوميات‪ .‬و�أهم عنا�صر المدر�سة الذكية‬
‫هي‪ :‬التدري�س من �أجل التعلم‪ ،‬ونظم و�سيا�سات �إدارة مدر�سية جديدة‪،‬‬
‫و�إدخال مهارات وتقنيات تعليمية وتوجيهية متطورة‪ .‬وقد بد�أت تطبيقات‬
‫المدار�س الذكية في عدد من الدول با�ستخدام وا�ستثمار الحا�سوب في‬
‫مجال التعليم؛ �إذ و�ضعت تلك الدول الخطط والإ�ستراتيجيات الوطنية‬
‫بهدف �إدخال التقنية للمدار�س واال�ستفادة منها؛ ومن �أ�شهر تلك الدول‬
‫الواليات المتحدة الأمريكية و�أ�ستراليا؛ وتعتبر هذه المدار�س تطبيقا‬
‫لم�شروع التعليم الإلكتروني‪ ،‬والتي تقوم على تطوير �أربعة محاور‬
‫رئي�سية في العملية التعليمية‪ ،‬وهي‪ :‬تدريب وتطوير مهارات العن�صر‬
‫الب�شري؛ مناهج وطرق التدري�س؛ م�شاريع البنية التحتية للمدار�س؛ ثم‬
‫�إن�شاء المحتوى وم�صادر التعلم الرقمي‪.‬‬
‫مداخل الإ�صالح هذه‪ ،‬يجب �أن تحكمها الثالثية التالية‪� :‬ضمان‬
‫الجودة‪ ،‬والنهو�ض بالبحث العلمي التنموي‪ ،‬وت�أهيل الموارد الب�شرية‪،‬‬
‫وذلك اعتمادا على فل�سفة ومبادئ الحوار والتوا�صل والت�شارك‪ ،‬خدمة‬
‫للطلبة والمجتمع والوطن‪.‬‬
‫‪215‬‬
‫‪ - 9‬الت�شغيل و�إدماج ال�شباب‬

‫يقول الملك محمد ال�ساد�س بمنا�سبة ذكرى ثورة الملك وال�شعب‪،‬‬


‫بتاريخ ‪ 20‬غ�شت ‪" ،2018‬غير �أن ما يحز في نف�سي �أن ن�سبة البطالة في‬
‫�أو�ساط ال�شباب‪ ،‬تبقى مرتفعة؛ فمن غير المعقول �أن تم�س البطالة �شابا‬
‫من بين �أربعة‪ ،‬رغم م�ستوى النمو االقت�صادي الذي يحققه المغرب على‬
‫العموم‪ .‬والأرقام �أكثر ق�ساوة في المجال الح�ضري‪ .‬ورغم المجهودات‬
‫المبذولة‪ ،‬والأورا�ش االقت�صادية‪ ،‬والبرامج االجتماعية المفتوحة‪ ،‬ف�إن‬
‫النتائج المحققة‪ ،‬تبقى دون طموحنا في هذا المجال؛ وهو ما يدفعنا‪،‬‬
‫في �سياق نف�س الروح والتوجه‪ ،‬الذي حددناه في خطاب العر�ش‪� ،‬إلى‬
‫�إثارة االنتباه مجددا‪ ،‬وبكل ا�ستعجال‪� ،‬إلى �إ�شكالية ت�شغيل ال�شباب‪،‬‬
‫ال�سيما في عالقتها بمنظومة التربية والتكوين"؛ وعاد جاللته لي�ؤكد‬
‫مرة �أخرى‪ ،‬عند افتتاح الدورة الأولى من ال�سنة الت�شريعية الثالثة‬
‫من الوالية الت�شريعية العا�شرة‪ ،‬بتاري ـ ــخ ‪� 12‬أكتوبر ‪�" :2018‬إننا ن�ضع‬
‫النهو�ض بت�شغيل ال�شباب في قلب اهتماماتنا‪ ،‬ونعتبر �أن هناك العديد‬
‫من المجاالت التي يمكن �أن ت�ساهم في خلق المزيد من فر�ص ال�شغل‪.‬‬
‫ويعد التكوين المهني رافعة قوية للت�شغيل �إذا ما حظي بالعناية التي‬
‫ي�ستحقها‪ ،‬و�إعطاء م�ضمون ومكانة جديدين لهذا القطاع الواعد؛ وهو‬
‫ما يقت�ضي العمل على مد المزيد من الممرات والج�سور بينه وبين‬
‫التعليم العام‪ ،‬في �إطار منظومة موحدة ومتكاملة‪ ،‬مع خلق نوع من‬
‫التوازن بين التكوين النظري والتداريب التطبيقية داخل المقاوالت‪.‬‬
‫وعالوة على دور التكوين في الت�أهيل ل�سوق ال�شغل‪ ،‬ف�إن القطاع الفالحي‬
‫يمكن �أن ي�شكل خزانا �أكثر دينامية للت�شغيل‪ ،‬ولتح�سين ظروف العي�ش‬
‫واال�ستقرار بالعالم القروي‪ .‬لذا‪ ،‬ندعو لتعزيز المكا�سب المحققة في‬
‫الميدان الفالحي‪ ،‬وخلق المزيد من فر�ص ال�شغل والدخل‪ ،‬وخا�صة‬
‫لفائدة ال�شباب القروي"‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫يمثل ال�شباب في بالدنا اليوم‪� ،‬أكثر من ثلث المجتمع؛ فالفئة‬
‫العمرية من ‪� 12‬إلى ‪� 44‬سنة‪ ،‬تمثل نحو ‪ %44‬من مجموع �سكان المغرب‬
‫�سنة ‪ ، 2212‬كما تمثل ‪ %46‬من ال�ساكنة الن�شيطة‪ ،‬و‪ %44‬من ال�ساكنة‬
‫الن�شيطة الم�شتغلة‪ .‬وتعك�س هذه الإح�صائيات حجم االنتظارات‬
‫والتحديات‪ ،‬لال�ستجابة لمختلف حاجيات ه�ؤالء ال�شباب‪ ،‬وخا�صة‬
‫على م�ستوى الحقوق الأ�سا�سية‪ ،‬في ميدان التعليم والتكوين وال�صحة‬
‫والت�شغيل‪.‬‬
‫يـتوفر المغرب على �إمكانات هائلة للتطور والإقالع‪ ،‬في قطاعات‬
‫عديدة ومجاالت مختلفة‪ ،‬في الفالح ـ ـ ـ ـ ــة وال�صناعة‪ ،‬وفي التجارة‬
‫والخدمات‪ :‬مقاوالت كبرى منظمة ومهيكلة‪ ،‬و�أخرى �صغرى ومتو�سطة‬
‫ن�شيطة ومبتكرة‪� ،‬إدارة حديثة وذات خبرة عالية‪ ،‬بنيات تحتية �أ�سا�سية‬
‫و�إ�ستراتيجية‪� ،‬أورا�ش كبرى مفتوحة عبر ربوع المملكة‪ ،‬موارد ب�شرية‬
‫م�ؤهلة ومبدعة‪ ،‬ثقافة وح�ضارة‪ ،‬جغرافيا متنوعة‪ ،‬تاريخ مجيد وثرات‬
‫عريق‪� ،‬أمن و�سالم‪ ،‬و�صورة نا�صعة للوطن في الخارج‪ ،‬م�ؤ�س�سات ن�شيطة‬
‫وقيادة حكيمة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ورغم كل هذه الإمكانات‪ ،‬فالبالد تعاني‪ ،‬ت�شكو وت�ستجدي‪:‬‬
‫معدل نمو �ضعيف جدا‪ ،‬بطالة متزايدة وفقر م�ستفحل‪ ،‬ميزان تجاري‬
‫مختل‪ ،‬عجز مزمن في الميزانية وفي الح�سابات العمومية‪ ،‬غياب الثقة‬
‫وفقدان الأمل‪� ،‬شبابنا ي�ضيع و�شيوخنا ال يلتفت �إليهم ونخبتنا تهاجر‬
‫ومقاوالتنا نهمة ج�شعة‪ ،‬ت�ستغل الم�ستهلك وتق�سو عليه‪ ،‬وتبتز الدولة‬
‫وتقاي�ضها با�ستمرار‪ ،‬ال ت�ستثمر �إال وهي م�ستفيدة‪ ،‬وال تنتج �إال وهي‬
‫رابحة ربحا م�ضمونا‪ ،‬وال ت�شغل �إال وهي محفزة ومدعومة‪.‬‬
‫وتتعاقب الحكومات‪ ،‬وتتوالـ ـ ـ ــى البرامج والمخططات‪ ،‬وتتفاقم‬
‫الم�شاكل والمع�ضالت‪ ،‬والتي نجد في مقدمتها البطالة‪ ،‬والتي لي�ست‬
‫مجرد مع�ضلة‪ ،‬و�إنما هي نكبة وم�صيبة وم�أ�ساة �إن�سانية‪ ،‬ذات تكلفة‬
‫‪217‬‬
‫اجتماعية واقت�صادية باهظة‪ ،‬لأنها تعطل النمو وت�ضعف التناف�سية‬
‫وتهدد اال�ستقرار وتحد من التنمية‪ .‬لذلك‪ ،‬يعتبر التعاطي معها والبحت‬
‫عن الحلول الناجعة لها‪ ،‬من �أولى الأولويات اليوم‪ ،‬بالن�سبة للدول‬
‫والحكومات‪.‬‬
‫وت�أتي قوانين المالية خالل ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬بميزانيات �ضعيفة‪،‬‬
‫وب�إجراءات تق�شفية‪ ،‬ومفتقدة لأي م�شروع وطني نه�ضوي كبير‪ ،‬قد‬
‫ي�سمح باالرتقاء باالقت�صاد الوطني‪ ،‬ويمكن من خلق فر�ص �شغل مهمة‬
‫وم�ستدامة؛ كما ت�أتي هذه القوانين كذلك ب�أهداف عامة وف�ضفا�ضة‬
‫وغير واقعية – لن يتذكرها �أحد فيما بعد �أو ي�س�أل عنها �أو عن‬
‫م�آلها ون�سبة �إنجازها ‪ -‬من قبيل موا�صلة البناء الم�ؤ�س�ساتي وت�سريع‬
‫الإ�صالحات الهيكلية وتحفيز النمو وتعزيز �آليات الت�ضامن والتما�سك‬
‫االجتماعي وتطوير الر�أ�سمال الب�شري و�إنعا�ش ال�شغل وتقلي�ص معدل‬
‫البطالة‪ ،‬وذلك من خالل مالئمة التكوين للت�شغيل ودعم �إحداث‬
‫المقاوالت‪.‬‬
‫فهل من الممكن تحقيق هذا الهدف في المدى المنظور؟‬
‫الجواب نعم‪ ،‬لكن من خالل �إ�ستراتيجية وطنية مندمجة للت�شغيل‪،‬‬
‫محددة وممكنة وم�ستدامة‪ ،‬ت�أخذ بعين االعتبار العنا�صر الإ�ستراتيجية‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ -‬االعتراف ابتداء‪ ،‬ب�صعوبة احت�ساب الم�ؤ�شرات المرتبطة‬
‫بالبطالة‪ ،‬بالدقة الالزمة‪ ،‬علما ب�أنه ال يمكن �صياغة �أو تنفيذ �أي‬
‫ت�صور �أو خطة �أو �إ�ستراتيجيه من دون المعرفة الدقيقة لحجم وطبيعة‬
‫الم�شكلة التي ن�سعى للت�صدي لها‪.‬‬
‫‪ -‬االعتراف كذلك ب�أن جل المقاربات المتبعة لحد الآن لتقلي�ص‬
‫حدة البطالة‪ ،‬تبقى عاجزة عن معالجة هذه الإ�شكالية‪ ،‬بما يمكن‬
‫‪218‬‬
‫من �إدماج �أو�سع في �سوق ال�شغل‪ ،‬ويحافظ على تناف�سية المقاوالت‬
‫واالقت�صاد عموما‪.‬‬
‫‪ -‬من التحديات الكبرى التي يواجهها المغرب في هذا ال�سياق‪،‬‬
‫نذكر‪ :‬ال�ضغط الديمغرافي‪ ،‬والأثر المحدود للنمو االقت�صادي على‬
‫�إحداث فر�ص ال�شغل‪ ،‬و�ضعف مالئمة التكوين مع حاجيات ال�سوق‪،‬‬
‫وتوا�ضع فعالية �سيا�سات التحفيز على الت�شغيل‪.‬‬
‫‪� -‬إن �أي �إ�ستراتيجية للت�شغيل يجب �أن تت�ضمن �آليات عمل محددة‬
‫وفاعلة وملزمة لجميع ال�شركاء المعنيين‪ ،‬من الم�س�ؤولين الحكوميين‪،‬‬
‫وال�سيا�سيين واالقت�صاديين والخبراء والمخت�صين‪.‬‬
‫‪ -‬عدم التعويل كثيرا على الدولة‪ ،‬وعلى القطاع العام‪ ،‬عند �سن‬
‫�أي �إ�ستراتيجية للت�شغيل‪ ،‬في وقت تت�ضاءل فيه المنا�صب المالية �سنة‬
‫بعد �أخرى‪ ،‬بفعل االتجاه نحو الحكومة الإلكترونية‪ ،‬من جهة؛ وتزايد‬
‫عدد العاطلين‪ ،‬بفعل ارتفاع معدل النمو الديمغرافي وتطوير التعليم‬
‫وارتفاع عدد الخريجين‪ ،‬من جهة �أخرى؛ علما ب�أن الت�شغيل الحكومي‬
‫ال يعمل �إال على تكدي�س الآالف من الموظفين في م�ؤ�س�سات الدولة التي‬
‫هي مثخنة �أ�صال بالبطالة المقنعة‪ ،‬ومن دون �أي �إنتاجية اقت�صادية �أو‬
‫جدوى تنموية‪.‬‬
‫‪ -‬ال يمكن طرح �أي �إ�ستراتيجية للت�شغيل من دون االنخراط‬
‫التام للقطاع الخا�ص؛ فهو القادر لوحده دون غيره على تو�سيع نطاق‬
‫الت�شغيل في �أنظمة قابلة للنمو واال�ستدامة‪ ،‬وذلك بالرغم من ه�شا�شته‬
‫وتوا�ضع �إمكاناته وا�شتغاله في مناخ ال ي�شكل على العموم‪ ،‬عن�صرا‬
‫جاذبا لال�ستثمار وللنمو‪.‬‬
‫�إن الت�شغيل ال يتم �إال بخلق فر�ص ال�شغل؛ ومن يخلق فر�ص‬
‫ال�شغل؟ �إنها المقاوالت التي تكون لديها القدرة على اال�ستثمار‪ ،‬ولديها‬
‫الثقة في الحكومة وفي الم�ستقبل‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫وكيف تخلق فر�ص ال�شغل؟ تخلق بالنمو‪ ،‬ومن خالل االبتكار‬
‫والتجديد والتدبير الجيد والزبناء الأوفياء والأجـ ـ ـ ــراء الم�ستقرين‬
‫والمحفزين؛ ف�إذا كانت الدول تبنى باالقت�صاد وبالتناف�سية‪ ،‬ف�إنها‬
‫تبنى كذلك وقبل كل �شيء‪ ،‬بالثقة وبالم�صداقية‪.‬‬
‫�إن �أي �إ�ستراتيجية للت�شغيل لن تكون فاعلة وناجعة وم�ستدامة‬
‫�إال �إذا ات�سمت منذ البداية‪ ،‬بالت�شاركية في تحديد �أ�ساليب و�آليات‬
‫متفق عليها بين جميع الفاعلين الأ�سا�سيين‪ ،‬بدل الإجراءات والخطط‬
‫وال�سيا�سات الع�شوائية التي تبدد الجهد والموارد‪.‬‬
‫�إن ربح رهان الت�شغيل ال يتحقق �إال بـ�إرادة �سيا�سية وا�ضحة‬
‫ومعلنة وملزمة للجميع‪ ،‬وذلك من خالل ميثاق وطني يجمع الدولة‬
‫بالمقاوالت‪ ،‬وي�شمل التزامات وم�س�ؤوليات متبادلة‪ ،‬ويحدد �إجراءات‬
‫عملية لبناء الثقة بين جميع الأطراف ذات ال�صلة؛ فالمقاوالت تلتزم‬
‫بالإنتاج والت�شغيل وتلبية حاجيات النا�س‪ ،‬والدولة من جانبها تلتزم‬
‫بتغيير مناخ الأعمال؛ علما ب�أن المناخ ال يكون دائما اقت�صاديا‪ ،‬و�إنما‬
‫وفي الكثير من الأحيان‪ ،‬م�ؤ�س�ساتيا وقيميا و�سلوكيا وثقافيا‪...‬‬
‫�إن الدولة عندما ال ت�أخذ بعين االعتبار عند �سنها لأي �إ�ستراتيجية‬
‫للت�شغيل‪ ،‬احتياجات وا�شتراطات القطاع الخا�ص‪ ،‬ف�إن هذا الأخير لن‬
‫يبدي �أي تجاوب معها‪ ،‬لأن �أولى الأولويات بالن�سبة �إليه‪ ،‬هو �إعادة‬
‫بنائه ودعمه وتحفيزه وتحقيق كفاءته و�ضمان تناف�سيته‪.‬‬
‫�إن �أول ما يمكن ت�ضمينه �أي �إ�ستراتيجية للت�شغيل‪ ،‬هو �إ�صالح‬
‫منظومة الت�شغيل ذاتها؛ فهذه المنظومة معيبة‪ ،‬و�إال فكيف يعقل �أن‬
‫من يعملون في القطاع العام يح�صلون على الدخل القار‪ ،‬ويتمتعون‬
‫بالتغطية وباال�ستقرار‪ ،‬وبالم�ستوى المعي�شي المر�ضي‪ ،‬ويتمتعون بكافة‬
‫حقوقهم االجتماعية والنقابية وغيرها‪ ،‬بينما نالحظ عدم ا�ستدامة‬
‫‪220‬‬
‫الدخل وغياب اال�ستقرار‪ ،‬والكثير من الحقوق‪ ،‬مع طول فترة العمل‪ ،‬بل‬
‫وق�ساوته �أحيانا‪ ،‬بالن�سبة للذين يعملون في القطاع الخا�ص‪.‬‬
‫�إن �أهم م�شاكل المغرب اليوم‪ ،‬هو غياب �إرادة �سيا�سية‪ ،‬قادرة‬
‫على دعم وتعزيز جهود المخت�صين من الخبراء والأكاديميين‪،‬‬
‫لتمكينهم من توجيه م�سار التنمية ككل‪ ،‬وعملية اال�ستثمار على وجه‬
‫الخ�صو�ص‪ ،‬بما ي�سمح له�ؤالء المخت�صين بتوقع تغيرات العمل والتنب�ؤ‬
‫بها‪ ،‬بهدف ت�شكيل خارطة طريق بن�سب عالية من الدقة والإنجاز‪.‬‬
‫وفي هذا ال�سياق‪ ،‬لن نجد �إ�ستراتيجية للت�شغيل �أف�ضل مما جاء‬
‫في خطاب ملكي‪ ،‬بمنا�سبة ذكرى ثورة الملك وال�شعب‪ ،‬بتاريخ ‪20‬‬
‫غ�شت ‪ ،2018‬والذي جاء فيه‪" :‬و�أمام هذا الو�ضع‪ ،‬ندعو لالنكباب بكل‬
‫جدية وم�س�ؤولية‪ ،‬على هذه الم�س�ألة‪ ،‬من �أجل توفير الجاذبية والظروف‬
‫المنا�سبة لتحفيز هذه الكفاءات على اال�ستقرار والعمل بالمغرب‪ .‬ومن‬
‫�أجل الت�صدي للإ�شكالية المزمنة‪ ،‬للمالءمة بين التكوين والت�شغيل‪،‬‬
‫والتخفيف من البطالة‪ ،‬ندعو الحكومة والفاعلين التخاذ مجموعة من‬
‫التدابير‪ ،‬في �أقرب الآجال‪ ،‬تهدف على الخ�صو�ص �إلى‪:‬‬
‫�أوال‪ :‬القيام بمراجعة �شاملة لآليات وبرامج الدعم العمومي‬
‫لت�شغيل ال�شباب‪ ،‬للرف ـ ـ ـ ـ ــع من نجاعتها‪ ،‬وجعلها ت�ستجيب لتطلعات‬
‫ال�شباب‪ ،‬على غرار ما دعوت �إليه في خطاب العر�ش بخ�صو�ص برامج‬
‫الحماية االجتماعية‪ .‬وفي �أفق ذلك‪ ،‬قررنا تنظيم لقاء وطني للت�شغيل‬
‫والتكوين‪ ،‬وذلك قبل نهاية ال�سنة‪ ،‬لبلورة قرارات عملية‪ ،‬وحلول جديدة‪،‬‬
‫و�إطالق مبادرات‪ ،‬وو�ضع خارطة طريق م�ضبوطة‪ ،‬للنهو�ض بالت�شغيل‪.‬‬
‫ثانيا‪� :‬إعطاء الأ�سبقية للتخ�ص�صات التي توفر ال�شغل‪ ،‬واعتماد‬
‫نظام ناجع للتوجيه المبكر‪� ،‬سنتين �أو ثالث �سنوات قبل الباكالوريا‪،‬‬
‫لم�ساعدة التالميذ على االختيار‪ ،‬ح�سب م�ؤهالتهم وميوالتهم‪ ،‬بين‬
‫التوجه لل�شعب الجامعية �أو للتكوين المهني‪ .‬وبموازاة ذلك‪ ،‬ندعو‬
‫‪221‬‬
‫العتماد اتفاقية �إطار بين الحكومة والقطاع الخا�ص‪ ،‬لإعطاء دفعة قوية‬
‫في مجال �إعادة ت�أهيل الطلبة الذين يغادرون الدرا�سة دون �شواهد‪،‬‬
‫بما يتيح لهم الفر�ص من جديد‪ ،‬لت�سهيل اندماجهم في الحياة المهنية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬
‫ثالثا‪� :‬إع ـ ـ ـ ــادة النظر ب�شكل �شامل في تخ�ص�صات التكوين‬
‫المهني‪ ،‬لجعلها ت�ستجيب لحاجيات المقاوالت والقطاع العام‪ ،‬وتواكب‬
‫التحوالت التي تعرفها ال�صناعات والمهن‪ ،‬بما يتيح للخريجين فر�صا‬
‫�أكبر لالندماج المهني‪ .‬لذا‪ ،‬يتعين �إعطاء المزيد من العناية للتكوين‬
‫المهني بكل م�ستوياته‪ ،‬و�إطالق جيل جديد من المراكز لتكوين وت�أهيل‬
‫ال�شباب‪ ،‬ح�سب متطلبات المرحلة‪ ،‬مع مراعاة خ�صو�صيات وحاجيات‬
‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ــل جهة‪ .‬و�سي�ساهم �صندوق الح�سن الثاني للتنمية االقت�صادية‬
‫واالجتماعية في بناء وتجهيز مراكز جديدة للتكوين المهني‪ ،‬ح�سب‬
‫المتطلبات الم�ستجدة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬و�ضـ ـ ـ ـ ــع �آليات عملية كفيلة ب�إحداث نقلة نوعية في‬
‫تحفيز ال�شباب على خلق المقاوالت ال�صغرى والمتو�سطة في مجاالت‬
‫تخ�ص�صاتهم‪ ،‬وكذا دعم مبادرات الت�شغيل الذاتي‪ ،‬و�إن�شاء المقاوالت‬
‫االجتماعية‪ .‬وبالإ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬يتعين على الإدارات العمومية‪،‬‬
‫وخا�صة الجماعات الترابية‪� ،‬أن تقوم ب�أداء ما بذمتها من م�ستحقات‬
‫تجاه المقاوالت‪ ،‬ذلك �أن �أي ت�أخير قد ي�ؤدي �إلى �إفال�سها‪ ،‬مع ما يتبع‬
‫ذلك من فقدان العديد من منا�صب ال�شغل؛ فكيف نريد �أن نعطي‬
‫المثال‪� ،‬إذا كانت �إدارات وم�ؤ�س�سات الدولة ال تحترم التزاماتها في‬
‫هذا ال�ش�أن‪.‬‬
‫خام�سا‪ :‬و�ضع �آليات جديدة تمكن من �إدماج جزء من القطاع غير‬
‫المهيكل في القطاع المنظم‪ ،‬عبر تمكين ما يتوفر عليه من طاقات‪ ،‬من‬
‫‪222‬‬
‫تكوين مالئم ومحفز‪ ،‬وتغطية اجتماعية‪ ،‬ودعمها في الت�شغيل الذاتي‪،‬‬
‫�أو خلق المقاولة‪.‬‬
‫�ساد�سا‪ :‬و�ضع برنامج �إجباري على م�ستوى كل م�ؤ�س�سة‪ ،‬لت�أهيل‬
‫الطلبة والمتدربين في اللغات الأجنبية لمدة من ثالثة �إلى �ستة �أ�شهر‪،‬‬
‫وتعزيز �إدماج تعليم هذه اللغات في كل م�ستويات التعليم‪ ،‬وخا�صة في‬
‫تدري�س المواد التقنية والعلمية‪� .‬إن ق�ضايا ال�شباب ال تقت�صر فقط‬
‫على التكوين والت�شغيل‪ ،‬و�إنما ت�شمل �أي�ضا االنفتاح الفكري واالرتقاء‬
‫الذهني وال�صحي"‪.‬‬
‫وفي �إطار تنزيل الد�ستور‪ ،‬وعمال بالتوجيهات الملكية‪ ،‬هناك‬
‫اليوم �ضرورة ملحة لجعل ق�ضية الت�شغيل في �صلب ال�سيا�سات العمومية‪،‬‬
‫من خالل مراجعة �سيا�سة التحفيزات القطاعية‪ ،‬من �أجل توجيهها �إلى‬
‫القطاعات الواعدة على م�ستوى عدد ونوعية فر�ص ال�شغل المحدثة؛‬
‫كذلك و�ضع منظومة جهوية لإنعا�ش ال�شغل والكفاءات‪ ،‬ت�ضمن االلتقائية‬
‫والتكامل بين مختلف الفاعلين على ال�صعيد الترابي؛ �إ�ضافة �إلى دعم‬
‫ومواكبة المبادرات ال�شبابية للت�شغيل الذاتي و�إن�شاء المقاوالت لفائدة‬
‫حاملي ال�شهادات‪ ،‬بعد تكوين ت�أهيلي لفائدتهم؛ ثم تح�سين ظروف‬
‫العمل وتنظيم �سوق ال�شغل والت�شغيل؛ وقبل كل هذا‪ ،‬نحتاج وكما‬
‫�أ�شرنا �إلى ذلك �سابقا‪� ،‬إلى �إ�صالح عميق لمنظومة التربية والتكوين‪،‬‬
‫ومالئمتها مع متطلبات �سوق ال�شغل‪ ،‬وذلك بتعديل منهجية و�أهداف‬
‫البرامج التعليمية والتكوينية‪ ،‬وتعميم التمدر�س وخا�صة في البادية‪،‬‬
‫وتح�سين وتطوير نوعية التعليم العالي ورفع فعاليته و�إنتاجيته‪.‬‬

‫‪� - 10‬سيا�سات م�ستدامة‬

‫�إن اال�ستثمار المنتج الذي يحقق النمو القوي والم�ستدام‪ ،‬ويخلق‬


‫منا�صب �شغل‪ ،‬وي�ضع االقت�صاد الوطني في م�صاف الدول ال�صاعدة‪ ،‬ال‬
‫‪223‬‬
‫يتم �إال في �إطار �سيا�سات عمومية ناجعة‪ ،‬ترمي �إلى �ضمان بيئة �سليمة‬
‫وبلوغ تنمية م�ستدامة‪ ،‬تحافظ على الخدمات وعلى نوعية الموارد عبر‬
‫الزمن‪ ،‬تفعيال لما جاء في الد�ستور الذي ن�ص على �أن "تعمل الدولة‬
‫والم�ؤ�س�سات العمومية والجماعات الترابية‪ ،‬على تعبئة كل الو�سائل‬
‫المتاحة‪ ،‬لتي�سير �أ�سباب ا�ستفادة المواطنين والمواطنات‪ ،‬على قدم‬
‫الم�ساواة‪ ،‬من الحق في (‪ )...‬الح�صول على الماء والعي�ش في بيئة‬
‫�سليمة؛ التنمية الم�ستدامة" (الف�صل ‪)31‬؛ وان�سجاما كذلك مع‬
‫مبادئ القانون الإطار رقم ‪ 12–99‬بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية‬
‫الم�ستدامة‪ ،‬والمتمثلة في االندماج والمجالية والت�ضامن والوقاية‬
‫والم�س�ؤولية والم�شاركة‪ ،‬وذلك بهدف االنتقال التدريجي لبالدنا نحو‬
‫االقت�صاد الأخ�ضر‪ ،‬من خالل ت�سريع و�ضع �سيا�سات النجاعة الطاقية‪،‬‬
‫وتكري�س ثقافة بيئية‪ ،‬وتوفير الموارد المالية والب�شرية‪ ،‬والبحث عن‬
‫الطرق الناجعة لحل الإ�شكاالت البيئية‪ ،‬مع االعتماد �أ�سا�سا‪ ،‬على‬
‫التكوين والبحث العلمي واالبتكار‪.‬‬
‫�إن ال�سيا�سات العمومية التي نريد اليوم لبالدنا‪ ،‬يجب �أن تتم‬
‫�ضمن م�شروع مجتمعي متكامل ومتوافق عليه؛ م�شروع جميع القوى‬
‫الحية في البالد؛ الأحـ ـ ـ ـ ــزاب ال�سيا�سية والنقابات المهنية والنخب‬
‫المثقفة والم�ؤ�س�سات المدنية؛ م�شروع المغرب الحديث؛ م�شروع‬
‫الأجيال القادمة‪ .‬ولعل من الملفات ال�شائكة‪ ،‬والتي تحتاج اليوم �إلى‬
‫توافق جماعي‪ ،‬و�إلى تعاقد اجتماعي؛ ملف التقاعد‪ ،‬حيث تعاني‬
‫منظومة التقاعد في بالدنا‪ ،‬كما هو معلوم‪ ،‬من اختالالت عديدة‪ ،‬تهدد‬
‫توازنها المالي وفعاليتها االجتماعية‪ ،‬بل وم�ستقبلها برمته؛ فمن جهة‪،‬‬
‫هناك االختالالت الظرفية ال�شكلية‪ ،‬كتعدد الأنظمة و�سخائها المبالغ‬
‫فيه ‪ -‬مقارنة مع باقي دول العالم‪ ،‬وحتى المتقدمة منها ‪ -‬وتنوع معايير‬
‫ا�شتغالها و�ضعف �أو بالأحرى �سوء تدبير �أ�صولها وتقل�ص احتياطاتها‪،‬‬
‫‪224‬‬
‫وذلك ب�سبب االنخفا�ضات المتتالية لمعدالت الفائدة‪ ،‬وكذا ت�ضريب‬
‫فوائد التوظيفات المالية؛ ومن جهة �أخرى‪ ،‬نجد االختالالت البنيوية‬
‫العميقة‪ ،‬من قبيل تراجع النمو وتفاقم البطالة وتقل�ص فر�ص ال�شغل‬
‫و�شيخوخة المجتمع‪ ،‬وبالتالي تزايد عدد الم�ستفيدين من تعوي�ضات‬
‫المعا�ش‪ ،‬حيث ت�شير الإح�صائيات �أن الهرم ال�سكاني للمغرب ما بين‬
‫‪ 2004‬و‪ ،2014‬عرف من حيث البنية العمرية‪ ،‬تراجع ن�سبة الأطفال‬
‫دون ‪� 15‬سنة وتزايد ن�سبة ال�شيخوخة‪ ،‬وذلك عائد �إلى تراجع معدل‬
‫الخ�صوبة‪ ،‬ذلك �أن ن�سبة ال�شباب البالغين �أقل من ‪� 15‬سنة‪ ،‬م�ستمرة‬
‫في االنخفا�ض‪ ،‬حيث انتقلت من ‪� %31‬سنة ‪� 2004‬إلى ما يقارب‬
‫‪� %28‬سنة ‪ .2014‬في المقابل‪ ،‬ف�إن الأ�شخا�ص البالغين من العمر ‪60‬‬
‫�أو �أكثر يمثلون حاليا ‪ %9,6‬من مجموع ال�سكان‪ ،‬مقابل ‪� %8,1‬سنة‬
‫‪� .2004‬أما من حيث الحجم‪ ،‬فقد انتقل عددهم من ‪ 2,376‬مليون‬
‫ن�سمة �سنة ‪� 2004‬إلى حوالي ‪ 3,209‬مليون ن�سمة �سنة ‪2014‬؛ وهو ما‬
‫يمثل زيادة ن�سبية قدرها ‪ %35‬خالل هذه الفترة ‪ 2004‬ـ‪2014‬؛ كما‬
‫�أن ن�سبة الأ�شخا�ص الم�سنين في ارتفاع مت�سارع ‪ ،‬و�أن المغرب يتوفر‬
‫حاليا على ‪ 3‬ماليين و‪� 200‬ألف م�سن؛ وهذه الفئة تتجاوز �أعمارهم‬
‫‪ 60‬عاما‪ ،‬في الوقت الذي لم يكن عدد الم�سنين يتجاوز مليون �شخ�ص‬
‫عام ‪ ،1960‬ح�سب �إح�صائيات المندوبية ال�سامية للتخطيط‪ .‬ويتوقع‬
‫�أن يرتفع عدد الم�سنين في المغرب ليبلغ ال�ضعف تقريبا بحلول عام‬
‫‪ ،2030‬و�سيوا�صل االرتفاع ليبلغ �أزيد من ‪ 10‬ماليين بحلول عام ‪،2050‬‬
‫ليتجاوز عدد الأ�شخا�ص الم�سنين عدد الأ�شخا�ص الذين يبلغون ‪15‬‬
‫�سنة وما تحت؛ وهو ما �سيطرح على بالدنا تحديات كبيرة‪� ،‬سواء على‬
‫الم�ستوى الت�شريعي �أو االقت�صادي �أو االجتماعي‪.‬‬
‫لقد �أ�صبح اليوم‪ ،‬تبني �إ�ستراتيجية وطنية خا�صة بالم�سنين‪،‬‬
‫مطلبا ملحا وحاجة ما�سة‪ ،‬من �أجل مجتمع ينعم فيه الم�سنون بحياة‬
‫‪225‬‬
‫�آمنة و�صحية‪ ،‬اعترافا لهذه الفئة بما قدمته لنماء وتطور وخدمة‬
‫المجتمع من جهة؛ ومن جهة ثانية‪ ،‬لما �أ�صبح يفر�ضه التحول ال�سكاني‬
‫نحو ال�شيخوخة‪ ،‬وما يت�صل بهذه المرحلة العمرية من تغيرات نف�سية‬
‫وف�سيولوجية واجتماعية؛ وهو ما يقت�ضي رعاية وخدمات خا�صة‪ ،‬طبية‬
‫ونف�سية واجتماعية وترفيهية وخدمات العناية ال�شخ�صية‪ ،‬وغيرها من‬
‫�صور الرعاية المختلفة‪.‬‬
‫والمغرب‪ ،‬انطالقا من خياره الإ�ستراتيجي في بناء دولة الحق‬
‫والقانون والعدل والم�ساواة والإن�صاف‪ ،‬والتزامه باالنخراط في‬
‫م�سل�سل حقوق الإن�سان ب�شكل عام‪ ،‬وحقوق الفئات في و�ضعية ه�شا�شة‬
‫والم�سنون منهم ب�شكل خا�ص‪ ،‬وان�سجاما مع مقت�ضيات د�ستور‪،2011‬‬
‫والتزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإن�سان‪ ،‬ومع مبادئ‬
‫الأمم المتحدة المتعلقة بكبار ال�سن‪ ،‬والخا�صة بالحقوق االقت�صادية‬
‫واالجتماعية والثقافية‪ ،‬بموجب القرار ‪ 46/91‬ال�صادر في ‪ 16‬دجنبر‬
‫‪ ،1991‬وتما�شيا مع ما جاء في خطة العمل الدولية لل�شيخوخة ‪،2002‬‬
‫والمنبثقة عن الجمعية العالمية الثانية لل�شيخوخة بمدريد‪ ،‬والتي‬
‫التزمت من خاللها حكومات الدول الم�شاركة‪ ،‬باتخاذ �إجراءات عملية‬
‫في ثالثة اتجاهات ذات الأولوية‪ ،‬وهي‪ :‬كبار ال�سن والتنمية‪ ،‬وتعزيز‬
‫ال�صحة والرفاه في ال�سن المتقدمة؛ و�ضمان بيئة تمكينية وداعمة؛‬
‫(انطالقا من كل هذا) �أ�صبح لزاما عليه (المغرب)‪ ،‬و�ضع �سيا�سة‬
‫عمومية مندمجة للأ�شخا�ص الم�سنين‪ ،‬من �أجل حمايتهم حماية‬
‫كاملة‪.‬‬
‫وفي هذا ال�سياق‪ ،‬تعتبر �أزمة التقاعد في العمق �أزمة تعاقد؛‬
‫تعاقد اجتماعي تحديدا‪ ،‬عندما عجزت الدولة الراعية عن الوفاء‬
‫بالتزاماتها في تجديد هذا التعاقد بين الأجيال‪ ،‬حيث ف�شلت في و�ضع‬
‫و�سائل و�آليات جديدة‪ ،‬مبتكرة وغير تقليدية‪ ،‬لإنعا�ش النمو وتقنين‬
‫‪226‬‬
‫الحماية االجتماعية‪ ،‬وان�شغلت في تدبير ال�صراعات الآنية‪ ،‬و�أهملت‬
‫الإ�صالحات الهيكلية والم�ستدامة‪ ،‬والتي تعد وحدها الكفيلة بالإجابة‬
‫عن الإ�شكاالت الإ�ستراتيجية الكبرى‪ ،‬من قبيل ال�سيا�سة �أو االقت�صاد‪،‬‬
‫االقت�صاد �أو الديمقراطية‪ ،‬الدولتية �أو الليبرالية‪ ،‬الليبرالية �أو الحماية‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫�إن �سبل �إ�صالح منظومة التقاعد‪ ،‬عديدة ومتنوعة؛ �إذ لي�س‬
‫هناك نموذج واحد ووحيد للإ�صالح؛ كما �أن لكل �إ�صالح تكلفته‪ ،‬المالية‬
‫وال�سيا�سية واالجتماعية‪ ...‬والتكلفة تكبر كلما تعلق الأمر ب�إ�شكاالت‬
‫معقدة ومتعددة الأبعاد‪ ،‬مثل �إ�شكالية التقاعد‪ ،‬والتي ترتبط في �آن‬
‫واحد‪ ،‬باالقت�صاد والديمغرافيا‪ ،‬وبالنمو والعمالة‪ ،‬وبالميزانية والحماية‬
‫االجتماعية‪ ،‬وبالم�ؤ�س�سات والتوافقات‪ ،‬وبالتوازنات والتعاقدات‪.‬‬
‫وللحكومات في جميع دول العالم �أن تختار بين الإ�صالح‬
‫المعياري والإ�صالح الم�ؤ�س�ساتي‪� .‬أما الإ�صالح المعياري‪ ،‬فيعتبر‬
‫�إ�صالحا هام�شيا؛ وهو في الحقيقة الحل ال�سهل واالختيار الب�سيط وغير‬
‫المكلف؛ �إذ في ظل هذا الإ�صالح‪ ،‬يتم االحتفاظ بالنظام الحالي الذي‬
‫يقوم �أ�سا�سا على مبد�أ التوزيع‪ ،‬مع �إدخال بع�ض التغييرات الطفيفة‬
‫عليه وعلى معايير ا�شتغاله‪ ،‬كالرفع من �سن التقاعد مثال �أو الزيادة في‬
‫ن�سبة الم�ساهمة �أو في ال�سنوات المرجعية الحت�ساب التعوي�ضات‪ ،‬وذلك‬
‫بهدف تعزيزه وتقوية ديمومته‪ ،‬على المديين الق�صير والمتو�سط‪ ،‬وفي‬
‫�أفق الإ�صالح ال�شامل‪ .‬و�أما الإ�صالح الم�ؤ�س�ساتي‪ ،‬فيعتبر مبد�أ التوزيع‬
‫الذي يقوم عليه النظام الحالي هو �سبب الأزمة‪ ،‬بل هو الأزمة ذاتها؛‬
‫ولذلك‪ ،‬يتبنى هذا الإ�صالح �إلغاء النظام الـقائم جملة وتف�صيال‪،‬‬
‫وو�ضع نظام �آخر بديال مكانه‪ ،‬يقوم على مبد�أ الر�سملة‪.‬‬
‫هذا الإ�صالح الأخير يعد مغامرة‪ ،‬بل ويمكن �أن ي�شكل تمرينا‬
‫�سيا�سيا محفوفا بالمخاطر؛ الأمر الذي دفع بوزير �أول فرن�سي �سابق‪،‬‬
‫‪227‬‬
‫وهـو مي�شيل روكار �إلى القول �سنة ‪ ،1991‬ب�أن "التقاعد ملف ملغوم‪،‬‬
‫بما فيه الكفاية‪ ،‬حتى يع�صف بخم�سة �أو �ست حكومات‪ ،‬حاولت اتخاذ‬
‫قرارات �ضرورية لإ�صالحه"‪.‬‬
‫�إن الإ�صالحات الأ�سا�سية والهيكلية تحتاج �إلى زمن كاف‪ ،‬و�إلى‬
‫�إرادة �سيا�سية‪ ،‬و�إلى توافق وطني‪ ،‬بل و�إلى تعاقد اجتماعي‪ ،‬لأن الر�أي‬
‫العام ال يقبل ب�سهولة بالإ�صالحات الجذرية والعميقة‪ ،‬والتي تقطع‬
‫نهائيا مع الموجود �أو ال�سائد؛ كما �أن هذه الإ�صالحات غالبا ما ال‬
‫تظهر ثمارها على المديين الق�صير والمتو�سط‪ ،‬و�إنما بعد انق�ضاء‬
‫الوالية ال�سيا�سية للمبادرين بها؛ ولذلك‪ ،‬نجد الحكومات تف�ضل دائما‬
‫الإ�صالحات ال�شكلية على الإ�صالحات البنيوية‪.‬‬
‫لقد جعلت الحكومات المغربية‪ ،‬من �إ�صالح �أنظمة التقاعد‬
‫�إحدى �أولوياتها الأ�سا�سية‪� ،‬إلى جانب �إ�صالحات �أخرى‪ ،‬مـثل �إ�صالح‬
‫�صندوق المقا�صة‪ ،‬و�إ�صالح المالية العمومية‪ ،‬و�إ�صالح منظومة التربية‬
‫والتكوين‪ ،‬و�إ�صالح العدالة‪ ،‬و�إ�صالح القطاع ال�سمعي الب�صري‪� ،‬إلى‬
‫جانب محاربة الف�ساد وتفعيل �آليات الحكامة الجيدة‪ ،‬وغيرها من‬
‫الطموحات الكبيرة والنبيلة‪ ،‬والم�شروعة على �أي حال‪ .‬ولكن‪� ،‬أي‬
‫�إ�صالح يحتاج من بين ما يحتاج �إليه‪� ،‬إلى الت�شاركية �أوال وقبل كل‬
‫�شيء‪ ،‬و�إلى منهجية عمل وا�ضحة‪ ،‬و�إلى �آليات تنفيذ واقعية؛ كما يحتاج‬
‫في الوقت نف�سه‪� ،‬إلى خبرات وكفاءات وطنية؛ وهو لعمري الم�سار‬
‫الطبيعي للإ�صالح‪ ،‬في ظل �أي نظام ديمقراطي‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫التنمية في بالدنا في ظل نظام حكم م�ستقر‪ ،‬ي�سوده القانون‪،‬‬
‫وتحكمه مبادئ الدولة االجتماعية والت�ضامنية‪ ،‬التي يجب‬
‫تتحقق‬
‫�أن ت�سعى جاهدة‪ ،‬وفق �آليات الحكامة الجيدة ومكافحة الف�ساد‪ ،‬وفي‬
‫ظل جهوية متقدمة‪ ،‬قائمة على الالمركزية‪ ،‬وعلى الحكامة الترابية‪،‬‬
‫�إلى تحقيق الأمن الغذائي‪ ،‬وت�سريع التنمية ال�صناعية‪ ،‬وت�أهيل المقاولة‬
‫وتنظيم القطاع غير المهيكل و�إدماجه في الن�سيج االقت�صادي المنظم‪،‬‬
‫وذلك بهدف الرفع من وتيرة الت�شغيل و�إدماج ال�شباب؛ وهو ما ال يتم‬
‫�إال من خالل النهو�ض بالتعليم العالي والبحث العلمي‪ ،‬وعبر �سيا�سات‬
‫عمومية م�ستدامة‪.‬‬
‫�إن �أي نموذج تنموي‪ ،‬مهما بلغ من الن�ضج ومن الطموح‪ ،‬لن‬
‫يكون ناجعا ويحقق �أهدافه‪� ،‬إال من خالل تخطيط دقيق ومحكم‪،‬‬
‫ومن خالل نظرة �إ�ستراتيجية وبعيدة المدى‪ ،‬وعبر توافر عوامل‬
‫متعددة وذات �أهمية بالغة‪ ،‬اقت�صادية و�سيا�سية وقانونية وم�ؤ�س�ساتية‬
‫واجتماعية‪ ،‬وثقافية‪ ...‬كالمناخ ال�سيا�سي المالئم‪ ،‬والديمقراطية‬
‫الحقيقية‪ ،‬والم�س�ؤولين الوطنيين الذين ي�ؤمنون �إيمانا قويا‪ ،‬بجدوى‬
‫الإ�صالح و�ضرورة التغيير‪ ،‬وذلك باالعتماد على الذات‪ ،‬ل�ضمان نمو‬
‫م�ستقر وم�ستدام‪ ،‬وعلى الموارد المحلية‪ ،‬وعلى اال�ستثمار الأجنبي‬
‫المبا�شر‪ ،‬واال�ستثمار في م�شروعات البنية التحتية الأ�سا�سية‪ ،‬والتنوع‬
‫في البنية ال�صناعية‪ ،‬وتغطيتها لمعظم فروع الن�شاط ال�صناعي‪،‬‬
‫واالهتمام بالبيئة والثقافة وبر�أ�س المال الب�شري‪ ،‬لتح�سين الم�ؤ�شرات‬
‫االجتماعية‪ ،‬وتح�سين الأحوال المعي�شية والتعليمية وال�صحية لعموم‬
‫المواطنين‪ ،‬والق�ضاء على الفقر �أو على الأقل تقلي�صه‪ ،‬وتمكين‬
‫المر�أة‪ ،‬وحماية الم�ستهلك؛ �إذ التفاوت الكبير في المداخيل وفي توزيع‬
‫الثروة‪ ،‬يعتبر في الكثير من الأحيان‪ ،‬من الأ�سباب المبا�شرة لفقدان‬
‫اال�ستقرار االجتماعي‪ ،‬وربما حتى ال�سيا�سي‪ ،‬وفي وقوع العديد من‬
‫الم�شاكل واال�ضطرابات‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫وعليه‪ ،‬ف�إن مكا�سب التطور االقت�صادي‪ ،‬يجب �أن تنعك�س �إيجابا‬
‫على جميع المواطنين‪ ،‬في تح�سين حياتهم المعي�شية‪ ،‬وتعميم‪ ،‬بل‬
‫تجويد الخدمات ال�صحية والتعليمية؛ وهو ما يفر�ض من جهة‪ ،‬مفهوما‬
‫جديدا للدولة‪ ،‬ودورا �أكبر للفئات المي�سورة من دوي المال والأعمال‪،‬‬
‫لت�ساهم بدورها من خالل اال�ستثمار المنتج‪ ،‬في خلق فر�ص �شغل‬
‫حقيقية؛ ومن جهة �أخرى‪ ،‬ت�أهيال �سيا�سيا‪ ،‬وتعبئة للموارد وتطويرا‬
‫للإنتاج؛ و�آليات جديدة لخلق الثروة‪ ،‬وتنظيما ل�سوق ال�شغل‪ ،‬ودعما‬
‫عموميا حقيقيا و�شفافا‪ ،‬وقرو�ضا ت�ضامنية‪ ،‬بدون فوائد �أو على الأقل‪،‬‬
‫بمعدالت فائدة رمزية‪ ،‬بهدف خلق ن�شاطات مدرة للدخل‪ ،‬ت�ستفيد منها‬
‫الفئات الأكثر فقرا؛ بالإ�ضافة �إلى العمل على خلق المزيد من فر�ص‬
‫ال�شغل والدخل‪ ،‬وخا�صة لفائدة ال�شباب القروي‪ ،‬وذلك بت�سهيل ولوج‬
‫الم�ستثمرين للعقار الفالحي‪ ،‬عبر تعبئة الأرا�ضي الفالحية المملوكة‬
‫للجماعات ال�ساللية‪ ،‬وفق مقاربة تجمع بين الإنجاز الفعلي للم�شاريع‬
‫اال�ستثمارية‪ ،‬والحد من التجزئة المفرطة لال�ستغالليات الفالحية‪،‬‬
‫وتوفير المواكبة التقنية والمالية المطلوبة؛ كذلك تثمين المنتوجات‬
‫الفالحية وتطوير �آليات ت�سويقها‪ ،‬داخليا وخارجيا‪ ،‬خا�صة بالن�سبة‬
‫ل�صغار الفالحين‪.‬‬
‫لكن نحتاج قبل كل ذلك‪� ،‬إلى �إرادة �سيا�سية قوية‪ ،‬تجعل من ثقافة‬
‫الت�ضامن وتكاف�ؤ الفر�ص والمناف�سة الحرة والكاملة‪� ،‬أولى �أولوياتها‪،‬‬
‫وتعمل على تح�سين الم�ستوى المادي والمعنوي للفئات المحرومة‪،‬‬
‫وتوفير الخدمات االجتماعية بالمجان وبالجودة المطلوبة‪ ،‬وتو�سيع‬
‫قاعدة الطبقة الو�سطى‪ ،‬وذلك بالإجراءات الملمو�سة التي تف�ضي �إلى‬
‫خلق حيوية اقت�صادية واجتماعية‪ ،‬وتحقيق ال�سلم االجتماعي‪ ،‬وذلك‬
‫اعتبارا للموقع الإ�ستراتيجي الذي تحتله هذه الطبقة داخل البنية‬
‫االقت�صادية واالجتماعية للدولة‪.‬‬
‫‪230‬‬
‫�إن الحديث اليوم عن نموذج تنموي جديد بالن�سبة لبالدنا‪،‬‬
‫يعني فيما يعنيه‪� ،‬أن نرى المغرب‪ ،‬بكل قيمه التقليدية وتاريخه العريق‬
‫وخ�صو�صيته اال�ستثنائية وتجاربه ال�سيا�سية‪ ،‬يجعل من الإن�سان محورا‬
‫�أ�سا�سيا لكل برامجه و�سيا�ساته؛ الأمر الذي لن يتحقق �إال بتجاوز‬
‫جميع العوائق المرتبطة بالم�صالح ال�ضيقة �أو باالن�شغاالت االنتخابية‪،‬‬
‫وقيادة المجتمع بكل فئاته وثقافاته‪ ،‬نحو م�ستقبل �أف�ضل؛ تكون من‬
‫�أبرز معالمه‪ :‬تثبيت مقومات الديمقراطية والعدالة االجتماعية‪،‬‬
‫وتوزيع عادل للثروة‪ ،‬ومحاربة الف�ساد بكل �أ�شكاله‪ ،‬وال�سهر على احترام‬
‫القانون‪ ،‬وتحقيق الإمكان الب�شري‪ ،‬والق�ضاء التدريجي على الفقر‬
‫والأمية‪ ،‬وت�أهيل العن�صر الب�شري‪ ،‬وولوج عالم المعرفة‪ ،‬وتقوية‬
‫المجتمع المدني‪ ،‬و�إتباع �أ�ساليب الحكم ال�صالح كمطلب تدبيري‬
‫وتنموي‪ ،‬ي�ساعد الأ�شخا�ص والم�ؤ�س�سات على اتخاذ قرارات ناجعة‬
‫وبلوغ �أهداف م�شتركة‪ ،‬على �أ�سا�س من الم�شاركة والمراقبة والمحا�سبة‬
‫وال�شفافية‪.‬‬
‫�إننا ال زلنا نتردد في اتخاذ قرارات جدية لمواجهة الم�ستقبل؛‬
‫وهذا هو مو�ضوع الأزمة حيث نالحظ �إلى يومنا هذا‪ ،‬ق�صورا في التنمية‪،‬‬
‫وترددا في مقاربتها ككل �شامل‪ ،‬ال يقبل التجزئة؛ كما نالحظ كذلك‬
‫ق�صورا في الأداء ال�سيا�سي‪ ،‬و�ضعفا في ت�أهيل الإدارة‪ ،‬لالنخراط في‬
‫م�شروع مجتمعي حقيقي ومتكامل؛ ي�ضاف �إلى ذلك‪ ،‬ال�ضعف الكبير‬
‫في البحث العلمي‪ ،‬وفي �أداء المنظومة التعليمية‪ ،‬وعدم مالءمتها مع‬
‫م�ستلزمات التنمية‪ ،‬و�أي�ضا التهمي�ش الذي يطال العديد من الطاقات‬
‫االبتكارية‪ ،‬العلمية والثقافية والفنية والريا�ضية…‬
‫لقد خطا المغـ ـ ـ ـ ــرب بالفعل‪ ،‬خطوات مهمة نحو توطيد النهج‬
‫الديمقراطي كخيار ا�ستراتيجي‪ ،‬في اتجاه تحقيق التنمية‪ ،‬وتكري�س‬
‫دولـ ـ ـ ـ ــة القانون‪ ،‬وتثبيت قيم الحرية والديمقراطية؛ وهي مكت�سبات‬
‫‪231‬‬
‫مهمة‪ ،‬تحققت في �إطار النموذج التنموي المغربي الحالي‪ ،‬والتي يجب‬
‫تثمينها؛ لكن رغم ذلك‪ ،‬مجهودات كبرى يجب �أن تبذل‪ ،‬في اتجاه تثبيت‬
‫ا�ستقرار الإطار الماكرواقت�صادي‪ ،‬ك�شرط �أ�سا�سي لت�أهيل االقت�صاد‪،‬‬
‫وجعله قادرا على خو�ض المناف�سة العالمية‪ ،‬وت�أمين نمو اقت�صادي‬
‫متين ودائم؛ كذلك تحقيق التوازنات االجتماعية الكبرى ل�ضمان �سلم‬
‫اجتماعي حقيقي‪ ،‬والعمل على تجديد الثقة في العمل ال�سيا�سي‪ ،‬وذلك‬
‫بتخليق الحياة العامة وتنقيتها من كافة �أ�شكال الف�ساد المالي والإداري‬
‫وال�سيا�سي‪ ،‬وتح�سين الإطار الم�ؤ�س�ساتي‪ ،‬وتح�سين ظروف العمل‬
‫بالن�سبة للمقاوالت‪ :‬وذلك بـتب�سيط الإجراءات ال�ضريبية والإدارية‪،‬‬
‫وتحمل الدولة لبع�ض النفقات التي تتعلق بالبنيات التحتية‪ ،‬وتحديد‬
‫معايير انتقاء المناطق التي يمكن �أن ت�ستفيد من الدعم الذي تقدمه‬
‫الدولة‪ ،‬والعمل على تخفيف تكلفة العوامل الإنتاجية‪ ،‬من خالل تخفي�ض‬
‫تكلفة الأرا�ضي‪ ،‬وذلك بخلق مناطق �صناعية مندمجة‪ ،‬وتخفي�ض تكلفة‬
‫المال (معدالت الفائدة) وتخفي�ض الفاتورة الطاقية؛ كذلك �إقرار‬
‫حوافز مهمة‪ ،‬تتعلق بجلب الر�ساميل الأجنبية‪ ،‬بالنظر �إلى �ضعف‬
‫الموارد المحلية التي يمكن �أن توجه �إلى اال�ستثمار؛ فاالدخار الداخلي‬
‫الخام يمثل اليوم فقط ‪ %13‬من الناتج الداخلي الإجمالي؛ �إ�ضافة‬
‫�إلى تطوير التكنولوجيا والبحث العلمي الذي يف�ضي �إلى حماية البيئة‬
‫واقت�صاد الطاقة‪ ،‬وت�شجيع المنع�شين والمقاولين الجدد والمقاوالت‬
‫ال�صغيرة والمتو�سطة والمتناهية ال�صغر‪ ،‬وكذا الحرف المهنية‪.‬‬
‫�إن ال�سيا�سات التي تحمل في طياتها �أ�ساليب دعم التنمية‪ ،‬تبنى‬
‫�أ�سا�سا على الق�ضاء على الف�ساد بمختلف �أنواعه؛ وت�صحيح الخلل‬
‫الكبير في توزيع الثروة الوطنية؛ واالنتقال من مجتمع م�ستهلك �إلى‬
‫�آخر منتج‪ ،‬من خالل العمل بالم�شروعات ال�صغيرة والمتناهية ال�صغر‪،‬‬
‫والتي ال تحتاج �إلى �أموال �ضخمة لال�ستثمار؛ كذلك �إعطاء �أهمية‬
‫‪232‬‬
‫ق�صوى للتنمية الب�شرية‪ ،‬ومنح قرو�ض بدون فوائد لبناء الم�شروعات‬
‫ال�صناعية والزراعية‪ ،‬واالهتمام بالتنمية القروية؛ كذلك االهتمام‬
‫�أكثر باال�ستثمار الم�س�ؤول اجتماعيا‪ ،‬والعمل على تعميق مفهوم التوازن‬
‫بين الم�صلحة العامة والم�صلحة الخا�صة لرجال الأعمال‪ ،‬وتوظيف‬
‫التعليم العالي لخدمة االقت�صاد‪ ،‬وربطه ب�أن�شطة البحث العلمي‪ ،‬وتوفير‬
‫الخدمات الأ�سا�سية‪ ،‬مثل ال�صحة والتعليم وال�سكن‪ ،‬وباقي الخدمات‬
‫التي يحتاجها المواطن‪ ،‬واال�ستمرار بالموازاة مع كل ذلك‪ ،‬في �سيا�سة‬
‫الأورا�ش الكبرى‪ ،‬و�إن�شاء البنيات التحتية الأ�سا�سية‪.‬‬
‫�إن بنـاء نموذج تنموي جديـد‪ ،‬وما يواكبه من ت�صحيح لالختالالت‬
‫االقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬ال يمكن �أن يتم �إال في ظل نظام اقت�صادي‬
‫عالمي جديد في بنياته وم�ؤ�س�ساته‪ ،‬حتى ت�صبح العولمة بحق رافعة‬
‫�أ�سا�سية للتنمية‪ ،‬خا�صة بالن�سبة للدول النامية؛ هذه العولمة التي‬
‫�أ�صبحت اليوم‪ ،‬واقعا حقيقيا‪ ،‬يفر�ض نف�سه على الجميع‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫االقت�صاد العالمي وال�سوق العالمية‪ ،‬تتقوى يوما بعد يوم‪ ،‬لتخلق‬
‫ف�ضاء عالميا‪ ،‬يتجاوز الدول و�إمكاناتها الوطنية‪ ،‬وال ن�ستطيع اليوم‬
‫ال�سيطرة عليه �أو التحكم فيه‪� ،‬إال بقدر ما ن�ستطيع �أن ن�شارك في‬
‫الإبداع في �إطاره‪ .‬وانطالقا من كل هذا‪ ،‬يبقى تحكم المغرب في �سيا�ساته‬
‫االقت�صادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬وتوجيه اقت�صاده‪ ،‬واعتماده على‬
‫نف�سه‪ ،‬وتطوير الو�سائل الذاتية لنموه‪� ،‬ضمانة هامة و�أ�سا�سية من‬
‫ال�ضمانات الأخرى التي �ستمكننا من تجنب الآثار ال�سلبية للعولمة‪،‬‬
‫وتحقيق التوازن االقت�صادي واال�ستقرار االجتماعي‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫فـهـــــــر�س‬
‫ت�صديـــر ‪9..................................................................................................‬‬

‫مفهوم التنمية ‪11.......................................................................................‬‬

‫االقت�صاد العاملي املعا�رص‪ ،‬و�آفاق التنمية ‪49.................................................‬‬

‫"منوذج تنموي" ا�ستنفذ كل طاقاته ‪65.........................................................‬‬

‫منوذج تنموي نطمح �إليه ‪117.......................................................................‬‬

‫فهـــــــر�س ‪235............................................................................................‬‬

You might also like