Professional Documents
Culture Documents
نموذجنا التنموي رضوان زهرو
نموذجنا التنموي رضوان زهرو
10
مفهــوم التنمية
مو�ضوع التنمية باهتمام المفكرين وال�سا�سة ورجال
االقت�صاد ،حيث �أخذ حيزا كبيرا من التناول في العقود حظي
الأخيرة� ،سواء على م�ستوى التنظير االقت�صادي والبحوث
العلمية� ،أو على م�ستوى الم�ؤ�س�سات الدولية ومراكز البحث� ،أو على
م�ستوى ال�سيا�سات االقت�صادية للدول ،وذلك نظرا لما له من ت�أثير
عميق على الأفكار والبنيات واالختيارات والقناعات .والتنمية في
مدلولها العام ،هي التغيير واعتماد خيارات بديلة ،رجاء الو�صول �إلى
و�ضع �أف�ضل ،ي�شمل الإن�سان والمجتمع والدولة؛ بمعنى ي�شمل في �آن
واحد ،النواحي ال�سيا�سية واالقت�صادية والثقافية واالجتماعية .وتختلف
التنمية عن التغيير ،في كون الثاني حدثا مو�ضوعيا ،ال ي�صف تطورا
�إيجابيا �أو �سلبيا؛ بينما التنمية ،عملية تغيير ،ذات طبيعة معيارية
من الناحية القيمية؛ وهي ال تحيد عن كونها م�سار تجديدي ودينامي،
طويل وغير ي�سير؛ يرمي الو�صول �إلى و�ضع مثالي ،مخالف لما كان
عليه الحال في الما�ضي ،لكن دون �أن ينفلت ذلك بطبيعة الحال ،عن
�إطار الم�ؤ�س�سات والقواعد العامة التي تحكم الدولة والمجتمع ،و�إال
غدا ثورة �ضد الأمن واال�ستقرار وثوابت الأمة.
�إن التنمية هي المح�صلة النهائية؛ وهي غاية كل الغايات؛ تختلف
من حيث الم�ضمون ،عن النمو االقت�صادي .ولقد تمت في البداية
م�ساواة التنمية االقت�صادية بالنمو االقت�صادي (الذي هو الإنتاج العام
لأي بلد من ال�سلع والخدمات ،خالل �سنة معينة) .ولكي يتحقق النمو
االقت�صادي ،البد من توافر ثالثة مكونات �أ�سا�سية؛ وهي:
-تراكم ر�أ�س المال؛ وي�شتمل هذا العن�صر على اال�ستثمارات
الجديدة في الأر�ض والمعدات المادية والموارد الب�شرية ،ويعتبر
االدخار ال�سبيل الأمثل لتوفير ر�ؤو�س الأموال الممولة لمختلف �أنواع
اال�ستثمارات.
-النمو ال�سكاني (العمل)؛ ويرتبط الأثر الإيجابي للنمو ال�سكاني
بالنمو االقت�صادي ،من خالل زيادة قوة العمل التي ت�ؤدي �إلى زيادة
الإنتاج ،هذا من جهة ،و�إلى زيادة حجم الأ�سواق و�سهولة تحفيز الطلي
اال�ستهالكي من جهة �أخرى.
-التقدم التكنولوجي؛ ويعرف على �أنه ال�سرعة في تطوير
وتطبيق المعرفة الفنية ،من �أجل زيادة م�ستوى المعي�شة لل�سكان.
هذه المعادلة الب�سيطة( :التنمية االقت�صادية = النمو االقت�صادي)
تتجاهل ق�ضية توزيع الدخل القومي� ،أو الناتج الوطني بين المواطنين؛
فالزيادة في متو�سط ن�صيب الفرد من الناتج لي�ست بال�ضرورة هي
التح�سن الفعلي فـ ـ ـ ـ ــي معي�شته ،وتلبية مختلف حاجاته ،االقت�صادية
واالجتماعية وال�سيا�سية والحقوقية؛ فالتنمية االقت�صادية ،تتمثل في
تحقيق زيادة م�ستمرة في الدخل الوطني الحقيقي ،وزيادة ن�صيب
الفرد منه؛ هذا ف�ضال عن �إجراء العديد من التغيرات في كل من
بنية الإنتاج ،ونوعية ال�سلع والخدمات المنتجة� ،إ�ضاف ـ ـ ــة �إلى تحقيق
عدالة �أكب ــر في توزيع الدخل الوطني؛ �أي تغيير فـ ــي بنية توزيع
الدخل الوطني ل�صالح الفقراء من جه ــة ،والم�ؤدي �إلى تحفيز الطلب
اال�ستثماري من جهة �أخ ـ ــرى؛ غير �أن لهذا العامـ ــل �أثر �سلبي على
النمو االقت�صادي في حالة وجـ ــود فائ�ض في عر�ض العمل ،ومن
خ ـ ــالل محدودية الدخل.
14
لكن ،ومنذ �ستينات القرن الما�ضي ،تم التخلي تدريجيا عن هذا
التعريف؛ فبينما ين�صرف مفهوم النمو �إلى التركيز على زيادة حجم
الإنتاج ،وبالتالي ن�صيب الفرد من هذا الإنتاج ،دون النظر �إلى الكيفية
التي زاد بها؛ على العك�س من ذلك ،ف�إن مفهوم التنمية ،بالرغم من
ت�أكيده على �أهمية النمو االقت�صادي (�أي زيادة حجم الناتج) يهتم
�أكثر بما كان قد ينتج عن هذا النمو من تغيرات �أ�سا�سية في البنيات
االقت�صادية؛ بمعنى تغيير الم�ساهمة الن�سبية للقطاعات االقت�صادية
في خلق الناتج؛ فلي�ست كل زيادة في الناتج والدخل تعني تلقائيا تحقق
التنمية؛ لأن هذه الأخيرة تكون نتيجة تدخل �إرادي من الدولة لإجراء
تغييرات جذرية في هيكل االقت�صاد ،ودفع المتغيرات االقت�صادية
المختلفة نحو النمو بن�سب �أ�سرع و�أن�سب؛ وهي ت�ؤدي بذلك �إلى تح�سين
كفاءة االقت�صاد وزيادة الناتج.
وفي ال�سبعينات� ،أ�صبح الم�سار العام لدى االقت�صاديين ،هو
تعريف التنمية على �ضوء التقدم نحو تحقيق تنا�سق �أهداف الرفاهية،
وخلق ظروف مالئمة لتحقيق التنمية الب�شرية ،من خالل تحقيق
الديمقراطية ،وتكري�س دولة القانون ،والتقليل من الفقر والبطالة
وعدم الم�ساواة ،والتمتع بالحرية و�ضمان الحقوق ،في ظل مناخ �سليم
ديمقراطيا وبيئيا.
وهكذا ،وح�سب م�ؤتمر الأمم المتحدة للعلوم والتكنولوجيا من
�أجل التنمية ،ف�إن التنمية لي�ست مرادفة لمجرد النمو ،ولكنها تت�ضمن
اعتبارات �أخرى عديدة ،نوعية وغير كمية ،تتعلق �أ�سا�سا برفاهية
الإن�سان .ومن هذه االعتبارات ،ما هو ثقافي ،وما هو روحي ،وما هو
�سيا�سي ،وما هو ديمقراطي� .أما النمو االقت�صادي ،فهو نمو تلقائي
لالقت�صاد ،ي�ؤدي �إلى زيادة الناتج القومي ،دون تغيير �إرادي في
عمل و�أداء االقت�صاد .وبذلك ،يتلخ�ص مفهوم التنمية في العمل على
15
ا�ستخدام الطاقات الكامنة في المجتمع ا�ستخداما �أمثل ،عن طريق
�إحداث تغييرات جذرية في البنيات االقت�صادية واالجتماعية والثقافية
وال�سيا�سية ،وفي تنظيمات تكنولوجيا الإنتاج ،وفي توزيع عنا�صر الإنتاج
بين القطاعات المختلفة.
�إن التنمية ظاهرة مركبة؛ تت�ضمن النمو االقت�صادي ،كعن�صر
هام و�أ�سا�سي ،مقرونا بحدوث تغير عميق في البنيات االقت�صادية
واالجتماعية وال�سيا�سية والثقافية في المجتمع ،وفي العالقات التي
تربطه بالنظام االقت�صادي وال�سيا�سي العالمي؛ وينتج عن ذلك،
توليد زيادات تراكمية في م�ستوى دخل الفرد الحقيقي ،على �أن تكون
قابلة لال�ستمرار ،واقتران ذلك ب�آثار �إيجابية؛ �إنها عملية ح�ضارية
�شاملة لمختلف �أوجه الن�شاط في المجتمع ،بما يحقق رفاه الإن�سان
وكرامته؛ وهي بناء للإن�سان وتحرير له ،وتطوير لكفاءاته و�إطالق
لقدراته ،للعمل البناء؛ كذلك هي اكت�شاف لموارد المجتمع ،وتنميتها،
واال�ستخدام الأمثل لها ،من �أجل بناء الطاقة الإنتاجية القادرة على
العطاء الم�ستمر.
يتفق معظم منظري المدر�سة التقليدية على كافة التفا�صيل
الخا�صة بعملية النمو االقت�صادي ،وعلى ر�أ�سهم �آدم �سميث وديفيد
ريكاردو ،وروبرت مالتو�س وجون �ستيوارت مل ،والذين ي�شتركون في
فكرة التحليل الجزئي المرتبط بالقطاعات الإنتاجية ،وخا�صة الزراعة،
والربط بالزيادة ال�سكانية؛ والزالت نظرياتهم تجد قبوال كبيرا في
كثير من المدار�س الحديثة التي تبحث في طبيعة و�أ�سباب التنمية .وقد
تبنى ه�ؤالء االقت�صاديون التقليديون مبد�أ الحرية االقت�صادية ونظام
المناف�سة المبني على المبادالت الفردية وعدم تدخل الدولة� ،إال بغر�ض
فر�ض بع�ض ال�ضرائب لتمويل نفقاتها في الدفاع والق�ضاء والأمن .هذا،
بالإ�ضافة �إلى نظرية النمو الكال�سيكية المحدثة)النيوكال�سيكية (التي
16
تربط النمو االقت�صادي �أ�سا�سا باالدخار والتقدم التكنولوجي وعملية
تكوين ر�أ�س المال .ومن �أهم النظريات التي نالت �شهرة وا�ستخداما
وا�سع النطاق ،في الدول النامية والمتقدمة على ال�سواء ،نظرية كينز
التي عا�صرت فترة الك�ساد الكبير في الدول ال�صناعية.
�أول من حول يعد جون مانيار كينز J.M. Keynes
منهج التحليل االقت�صادي من نظريات جزئية وفردية وتقليدية (�أو ما
يعرف باالقت�صاد الجزئي) �إلى نظريات كلية عامة (االقت�صاد الكلي)؛
فقبله ،كان االقت�صاديون الكال�سيكيون ينطلقون من التوازن ،ويهتمون
بالحياة االقت�صادية ،من خالل ت�صرفات الأفراد ،ويرون �أنها هي
التي تتحكم في التوازن االقت�صادي ،وفي االختيارات المتعلقة بالإنتاج
واال�ستهالك؛ بينما نرى النظرية الكينزية تنطلق من اختالل التوازن،
وترى �أن المنهج ال�صحيح في �أن ينظر نظرة �شمولية وكلية لمجموع
الن�شاط االقت�صادي ،على م�ستوى الدولة والمجتمع.
وبعد ط ـ ـ ـ ـ ـ ــرح منهجه� ،أخذ االقت�صاديون في �أوروبا و�أمريكا
يركزون(تحت تغطية المحا�سبة الوطنية القائمة على منهجه) ويعبرون
باالقت�صاد الوطني ،والإنتاج الوطن ،واال�ستهالك الوطني ،والدخل
القومي ،والمالية العامة للدولة ،والنظريات العامة للنقود والأثمان،
ويحولون االهتمام بالتاجر وال�صانع والفالح �إلى االهتمام بالقطاعات
االقت�صادية الكبرى التي تمثل العمود الفقري في اقت�صاد الدولة،
والمتمثلة في التجارة الداخلية والخارجية ،وال�صناعة التقليدية
والع�صرية ،والفالحة الغذائية والتجارية… الأمر الذي �ساعد على
التطور االقت�صادي.
وفي نظرية ما يعرف «بتناق�ضات الم�ضاعف» ،فقد طرحه كينز
على م�ستوى النظرية العامة ،و�أعطاه موقعا �إ�ستراتيجيا في عملية
17
تحديد م�ستوى الن�شاط االقت�صادي .وعلى عك�س ما فعله الآخرون ،ركز
على الطلب بدل العر�ض.
لقد قدم كينز نظرياته في كتاب �أ�صدره �سنة 1936تحت عنوان
"النظرية العامة للنقود والفائدة واال�ستخدام" Théorie générale de
la monnaie, de l'intérêt et de l'emploi؛ وكان �صدوره بعد �أزمة
،1929والتي نخرت كيان النظام الر�أ�سمالي ،وخلقت من الم�شاكل ما
ا�ستع�صى حله.
كينز ارتبط �إ�سمه بالأزمة االقت�صادية العالمية ل�سنة ،1929
ويمكن اعتبار فكر كينز بمثابة "ثورة فكرية" فيما يتعلق بتحليل
النظام الر�أ�سمالي في مرحلة الأزمة؛ و�أهم ما جاء به كينز ،في
كتابه الم�شهور ،هو كيف يمكن تجاوز الأزمة الر�أ�سمالية؛ فكينز
انتقد النظرية الكال�سيكية والنيوكال�سيكية ،واقترح مقابل ذلك،
منهجا مخالفا للخطاب االقت�صادي الذي �ساد من قبله ،ال من حيث
الم�ضامين ،وال من حيث التوجهات االقت�صادية وال�سيا�سية.
ما هي الظروف التاريخية التي ظهر في �إطارها الفكر
الكينزي؟
�إن �أهم حدث عا�شه كينز هو �أزمة 1929التي جاءت بعد الحرب
العالمية الأولى ،بحيث عرف العالم تحوالت وعا�ش م�صاعب ،كانت
بمثابة انهيار النظام الر�أ�سمالي .لكن على الم�ستوى ال�سيا�سي،
ظهرت الفا�شية في �إيطاليا والنازية في �ألمانيا ،وعا�شت المجتمعات
�أزمة الديمقراطية ،بحيث هيمنت البورجوازية بطريقة جديدة؛ فقد
انهارت البور�صة ،وانخف�ض الإنتاج ،وعمت البطالة… وكينز عندما
تطرق �إلى الأزمة ،حاول فهم العوامل والأ�سباب التي �أدت �إلى تدهور
الأو�ضاع؛ فبالن�سبة للأ�سباب المبا�شرة لهذه الأزمة ،نجد الم�ضاربات
المالية ،وتقلبات �سعر الأ�سهم ،وانخفا�ض قيمة �سندات الخزينة…
18
لكن ،هناك �أ�سباب جوهرية ،مرتبطة بطبيعة النظام الر�أ�سمالي
ذاته:
-تتعلق باختالل التوازن في الإنتاج واال�ستهالك ،بحيث لوحظ
تدهور القدرة ال�شرائية من جهة ،وارتفاع البطالة من جهة �أخرى.
-اختالل المبادالت الخارجية ،بحيث انخف�ضت ال�صادرات،
وارتفعت الواردات؛ مما زاد في ت�أزيم الأو�ضاع الداخلية.
من هذه المحاور ،الحظ كينز �أن الفكر الكال�سيكي ،وكذلك
الأفكار النيوكال�سيكية ،غير كافية القتراح الحلول المنا�سبة ،لتجاوز
الأزمة ،وخلق دينامية جديدة لفائدة النظام الر�أ�سمالي.
ومن بين الم�شاكل التي ركز عليها كينز ،نجد م�شكل البطالة
التي اعتبرها �إحدى نقائ�ص و�آفات العالم �أو النظام الر�أ�سمالي؛
ولمحاربتها ،يرى كينز �أنه من واجب الدولة �أن تتدخل لفتح �أورا�ش
للأ�شغال العمومية ،و�إعانة المقاوالت ،من �أجل تجاوز م�شاكلها للرفع
من وتيرة الت�شغيل.
لقد نجم عن الأزمة التقل�ص في الطلب وانت�شار البطالة داخل
بريطانيا ،وغيرها من الدول الر�أ�سمالية؛ فكان على كينز �أن يف�سر
(من خالل النظرية العامة للنقود والفائدة واال�ستخدام) �أ�سباب
الأزمة وعواملها ،ويطرح و�سائل العالج بالطرق التي يراها ناجعة؛
فطرح نظريات عامة جديدة ،قلبت المفاهيم ،وا�ستخفت بالنظريات
الكال�سيكية التقليدية؛ وعلى انتقادها ،قامت �أ�س�س منهجه الذي يعتبر
قاعدة �أ�سا�سية ،منها انطلقت التيارات الفكرية االقت�صادية ،بعد
الحرب العالمية الثانية ،و�أو�ضح دليل على ف�شل النظريات التقليدية
الليبرالية ،و�ضعف الأ�س�س المعتمدة في تحليلها؛ �إذ �ضعفت �أمام
مقاومة الم�شاكل النا�شئة عن �أزمة 1929الكبرى؛ فكان من كينز �أن
19
ركز في كتابه على �أهم العنا�صر ،خا�صة �أ�سباب البطالة ،ودور النقود،
وتدخل الدولة.
-فى �أ�سباب البطالة ،بد�أ كينز بانتقاد الكال�سيكية ،في ادعاء
عدم وجود بطالة اليد العاملة ،العتقادهم (تحت غطاء النظرية
الفردية) �أن كل راغب في ال�شغل �سيجد عمال منا�سبا لإمكانيته الفكرية
والج�سمية ،نظرا للمزاحمة الموجودة في �سوق المواد ،و�سوق عوامل
الإنتاج… على حد ر�أيهم ،في حين �أظهرت الوقائع والأحداث عك�س
ما يرونه ،بدليل �أن بريطانيا وغيرها من الدول الر�أ�سمالية ،عرفت
م�شكل البطالة منذ �أوائل هذا القــرن� ،إلى �أن تفاح�شت �أثناء �أزمة
1929؛ فكان من كينز �أن طرح الحل على م�ستوى الن�شاط االقت�صادي
ككل ،و�ألقى بالم�س�ؤولية على الفرد والدولة والمجتمع.
-وفي النقـ ـ ـ ـ ـ ــود ،انتقد النظرية الكال�سيكية و�أ�صحابها ،وقد
نظروا �إليها نظرة �سطحية قا�صرة ،غائبين عن قيمتها ،ودورها في
ترويج ال�سلع ،وتحريك دواليب الحياة االقت�صادية واالجتماعية…
مدعين �أن دورها محايد ،و�أن لي�ست �إال حجابا يغطي الحقيقة ،وركزوا
على ا�ستبدال الب�ضائع بالب�ضائع؛ فجاءت النظرية الكينزية ،لتبين
خط�أ ت�صورهم ،م�ضافا �إلى خط�إهم في البطالة ،وت�ضع مركز النقود
في االقت�صاد مركز القلب في الج�سم.
-وفي تدخل الدولة ،ناه�ض كينز الر�أي الليبرالي الكال�سيكي
الراف�ض لتدخل الدولة� ،إال في �إطار �ضيق ،ور�أى �أن للدولة دورا �أ�سا�سيا
في الحياة االقت�صادية؛ ويتجلى في �ضمان اال�ستخدام الكامل Plein
emploiوالرفع من الطلب.
،فتوجهت معظم مناق�شاته �ضد �أما كارل مارك�س
الفكر الكال�سيكي؛ فهاجم طريقة التحليل االقت�صادي التي كان يتبعها
الكتاب الكال�سيك ،كما هاجم النتائج التي تو�صلوا �إليها .ولكن على
20
الرغم من هذا العداء تجاه الفكر الكال�سيكي ،ف�إن المتتبع لتطور
النظرية االقت�صادية ،يجد �أكثر من دليل على �أن مارك�س قد ا�ستعان
به كثيرا .وقد هيمنت �آراء مارك�س على تطور اال�شتراكية العالمية،
اعتبارا من �أواخر القرن التا�سع ع�شر.
تقوم النظرية المارك�سية على �أن التطور يرتكز على �أ�سا�س
مادي؛ هو طرق الإنتاج� ،أو الو�سائل التقنية الم�ستخدمة في عمليات
الإنتاج؛ ومن هنا ،ي�ستنتج مارك�س ب�أن جميع التيارات الفكرية
والأخالقية والدينية لي�ست في الحقيقة �سوى انعكا�سات لهذه التقنية
ونتيجة لها؛ فالتطور االقت�صادي المادي �إذن هو الذي يكيف التطورات
الفكرية والفل�سفية واالجتماعية؛ وهذا ما يعرف بمادية التاريخ؛ على
�أن هذه النظرة �إلى العوامل التي تحكم التطور التاريخي هي ال�شك
نظرة مب�سطة؛ فهناك عوامل �أخرى كثيرة دينية وفل�سفية واجتماعية
و�أخالقية ت�ؤثر على ذلك التطور .كيـف ذلـك؟
ي�ؤدي تنظيم الإنتاج في كل ع�صر �إلى و�ضع طبقات معينة في
و�ضع ممتاز من الناحية االقت�صادية ،وطبقات �أخرى في و�ضع ال تح�سد
عليه؛ �أي وجود طبقة �سائدة وطبقة م�سودة� ،أو طبقة م�ستغلة وطبقة
م�ستغلة ،بحيث �أن التطور التاريخي يمكن �أن يو�صف �أي�ضا ب�أنه �سل�سلة
من التنازع بين الطبقات؛ وهذا التنازع في النظام الر�أ�سمالي يقوم
بين طبقتين :العمال (البروليتاريا) و�أرباب العمل (البورجوازية)،
وذلك ب�سبب ا�ستغالل الطبقة الأخيرة للطبقة الأولى.
هذا التطور حتمي في نظر مارك�س؛ ي�ؤيده التطور التاريخي في
جميع مراحله ،بالن�سبة �إلى الطبقات المختلفة التي �سادت وحكمت
حينا من الدهر ثم حط �ش�أنها.
وقد مرت جميع الطبقات بهذه المراحل؛ وهكذا ،كان الو�ضع
بالن�سبة �إلى الأ�سياد والعبيد في عهود الرق والإقطاعيين ،والفالحين
21
في عهود الإقطاع ،و�أرباب العمل من الر�أ�سماليين والعمال في عهود
الر�أ�سمالية ،على اختالف �صورها و�ألوانها .وقد ذكر مارك�س في
"بيانه ال�شيوعي" في هذا ال�صدد�" :إن تاريخ كل جماعة من الجماعات
الإن�سانية لي�س في الحقيقة �سوى تاريخ لتنازع الطبقات".
وي�ستنتج مما تقدم� ،أن تطور النظام الر�أ�سمالي ،وزيادة عدد
العمال زيادة مطردة� ،سوف ي�ؤديان حتما ،في نظر مارك�س� ،إلى انهيار
النظام الر�أ�سمالي انهيارا تاما؛ �إذ �أن هذا النظام يحمل في ثناياه
عوامل انهياره واندثاره .وفي هذه المرحلة الأخيرة المرتقبة ،وعندما
ي�صبح النا�س جميعا في عداد الطبقة العاملة ،يتوقف نزاع الطبقات
وي�سيطر العمال على مقاليد الأمور.
و�أخيرا ،ظهرت نظرية النمو الجديدة (النمو الداخلي) التي
اهتمت بالعوامل غير التقليدية ،المحركة للنمو االقت�صادي ،مثل ر�أ�س
المال الب�شري ،والإنفاق الحكومي ،والنظم ال�سيا�سية.
�إن الق�صور في تف�سير التباعد واالختالف الكبير في الأداء
االقت�صادي فيما بين البلدان ،جعل نماذج النمو التقليدية تلقى معار�ضة
كبيرة في نهاية الثمانينات وبداية الت�سعينات ،كونها ترجع النمو
االقت�صادي �إلى عوامل خارجية م�ستقلة عن التقدم التكنولوجي ،هذا
الق�صور يوفر �إطارا نظريا لبروز نظرية النمو الداخلية؛ كما �أن الدافع
الأ�سا�سي في نظرية النمو الجديدة هو تف�سير االختالفات الحا�صلة في
معدالت النمو بين البلدان المختلفة ،وكذلك تف�سير الجزء الأكبر من
النمو المحقق؛ ويفتر�ض نموذج نظرية النمو الجديدة ،وجود وفرات
خارجية مترافقة مع تكوين ر�أ�س المال الب�شري التي تمنع الناتج
الحدي لر�أ�س المال من االنخفا�ض .ويتعزز موقف النظرية الجديدة
�إذا وجدنا ب�أن التعليم وكذلك البحث والتطوير ،يمنعان �إنتاجية ر�أ�س
22
المال الحدية من االنخفا�ض؛ مما ينتج عنه اختالف حقيقي فيما بين
�أداء اقت�صاديات البلدان المختلفة.
وي�أخذ فردمان � Milton Friedmanأحد �أهم رواد المدر�سة
النقدية ،على كينز ،كونه و�إن اهتم بدرا�سة الطلب على النقود
(تف�ضيل ال�سيولة) ،فقد اعتبر �أن عر�ض النقود متغير م�ستقل ،يتوقف
على ال�سلطات النقدية ،و�أنه (كينز) بالتالي لم يوجه اهتماما كافيا
لم�س�ألة عر�ض النقود ،تاركا ال�سلطات النقدية ،دون توجهات محددة؛
كذلك وربما �أكثر خطورة ،ف�إن تحليل كينز للطلب على النقود انتهى
�إلى �أن هذا الطلب غير م�ستقر ،ويمكن �أن يتغير ب�شكل كبير� .أما
فردمان معتمدا على درا�سته الإح�صائية ،فقد الحظ �أن الطلب على
النقود �أكثر ا�ستقرارا مما يدعي كينز ،و�أنه يتوقف ب�صفة عامة على
الدخل؛ وقد �ساعد فردمان في الو�صول �إلى هذه النتيجة ،درا�سته
لال�ستهالك ( )1955وما ا�ستخل�صه منها ،ب�أن اال�ستهالك يتوقف علي
الدخل الدائم للفرد؛ وانتهى فردمان من كل ذلك� ،إلى �أن الإنفاق على
اال�ستهالك يتمتع با�ستقرار كبير.
وهكذا ،ا�ستخل�ص فردمان من درا�سته لال�ستهالك من ناحية،
والتطور النقدي في الواليات المتحدة الأمريكية خالل قرن ،من
منت�صف القرن التا�سع ع�شر حتى منت�صف القرن الع�شرين من ناحية
�أخرى( ،ا�ستخل�ص) �أن الطلب على النقود �أكثر ا�ستقرارا ،مما �أ�شار
�إليه كينز ،وبالتالي ،ف�إن زيادة عر�ض النقود �أو نق�صانه ي�ؤذي مبا�شرة
�إلى زيادة الإنفاق �أو نق�صانه؛ ومن ثم ،ف�إن لعر�ض النقود ت�أثيرا
مبا�شرا على م�ستوى الأ�سعار.
ويمكن التعبير عن الخالف بين كينز وفردمان في هذا ال�صدد،
با�ستخدام فكرة �سرعة تداول النقود؛ فهي عند كينز غير م�ستقرة،
23
بعك�س فردمان الذي يرى �أن �سرعة التداول تتمتع بقدر كبير من
اال�ستقرار.
وكان من ر�أي فردمان� ،أن اال�ستقرار االقت�صادي يتطلب زيادة
عر�ض النقود بن�سبة ثابتة �أو م�ستقرة ،تتفق مع معدل النمو االقت�صادي؛
ومن هنا ،ف�إن دور ال�سلطات النقدية يتحدد بمهمة واحدة؛ وهي رقابة
كمية النقود ،والعمل على نموها بمعدل م�ستقر ومتفق مع معدل نمو
االقت�صاد القومي .وقد �أدت �أفكار فردمان وتالميذه� ،إلى زيادة
االهتمام بق�ضية عر�ض النقود ،وبد�أت الحكومات تعلن �إح�صاءات عن
كمية النقود المتداولة؛ الأمر الذي خلق م�شاكل �إح�صائية غير ب�سيطة؛
فتعريف النقود لي�س �أمرا �سهال ووا�ضحا ،في �ضوء تعدد الأدوات النقدية
والمالية المتاحة .ومن هنا ،ظهرت تعريفات متعددة للنقود M1 M2
، M3بح�سب مدى التو�سع في التعريف ،و�إدخال عنا�صر �أخرى �ضمن
م�صطلح النقود .وقد كانت هذه ال�صعوبة هي �إحدى �أهم االنتقادات
التي وجهت �إلى النقديين؛ فها هو ذا كالدور Kaldorي�شكك في جدوى
ن�صائح النقديين ،مع عدم القدرة على التعريف الوا�ضح لمعنى كمية
النقود.
ويمكن القول ،في حين ركز التيار الرئي�سي في االقت�صاد،
على ال�سوق والأ�سعار ،باعتبارهما �أ�سا�س العالقات االقت�صادية ،ف�إن
المدر�سة الم�ؤ�س�سية - Ecole Institutionalisteالتي تجد بذورها
في �ألمانيا ،مع المدر�سة التاريخية الألمانية ،ثم مع الفكر االجتماعي
لماك�س فيبر ، Max Weberوازدهرت بوجه خا�ص في الواليات المتحدة
الأمريكية ،منذ نهاية القرن الما�ضي وبداية القرن الحالي ،حيث ظلت
في �أمور النظرية االقت�صادية تابعة الإنجليزي والأوروبي ب�شكل عام،
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية -ف�إن الم�ساهمة الأمريكية الأ�صلية
قبل ذلك ،والتي اقت�صرت على هذا االقت�صاد الم�ؤ�س�سي ،وخا�صة
24
،ترى �أن العبرة تكون بالم�ؤ�س�سات مع ڤبلن Veblen
االجتماعية ال�سائدة ،و�أن ال�سوق نف�سها ال تعدو �أن تكون �إحدى هذه
الم�ؤ�س�سات؛ وهي تت�أثر بالأو�ضاع الم�ؤ�س�سية الأخرى في المجتمع ،من
الدولة والنظام القانوني والقيم ال�سائدة؛ فالتيار الرئي�سي لالقت�صاد
يرى �أن الم�شكلة الرئي�سية هي كيفية تكوين الأثمان ،وتنظيم الأ�سواق،
وتوزيع الموارد؛ �أما االقت�صاد الم�ؤ�س�سي ،ف�إنه يوجه عنايته للتنظيمات
القائمة ،و�شكل ال�سيطرة على االقت�صاد� ،سواء �أكانت هذه ال�سيطرة
راجعة �إلى اعتبارات فنية �أو قانونية؛ ومن هنا ،االهتمام الكبير
بالتطور التكنولوجي ،ونظم الملكية ،والحقوق ب�صفة عامة ،والتنظيم
القانوني واالجتماعي.
وقد حظيت فكرة الق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوة �أو ال�سيطرة االقت�صادية باهتمام
كبير لدى مفكري المدر�سة الم�ؤ�س�سية؛ وبالتالي ،ف�إن دور الحكومة
االقت�صادي كان دائما محوريا في درا�سات هذه المدر�سة؛ وقد احتل
هذا المو�ضوع في الأدبيات الحديثة ،مكانا بارزا تحت م�سمى "�أ�ساليب
الحكم" .Gouvernance
ويمكن القول ب�أن المدر�سة الم�ؤ�س�سية قد مرت بمرحلتين
متميزتين؛ في المرحلة الأولى ،كانت المدر�سة الم�ؤ�س�سية تمثل نقدا
ومعار�ضة للفكر االقت�صادي ال�سائد؛ فمحور االهتمام لي�س ال�سوق
والأ�سعار ،و�إنما هو الم�ؤ�س�سات و�أ�شكال تطورها؛�أما المرحلة الثانية،
فقد تميزت ب�أن المدر�سة الم�ؤ�س�سية بد�أت ت�ستخدم �أدوات التحليل
االقت�صادي لدرا�سة مختلف الم�ؤ�س�سات االجتماعية؛ فالمدر�سة
الم�ؤ�س�سية الحديثة ال ت�ستبعد الأدوات الأ�سا�سية للتحليل االقت�صادي،
وفي مقدمتها المقارنة بين العائد والتكلفة ،واختيار ال�سلوك الر�شيد،
وتعظيم العائد �أو تخفي�ض التكلفة والأعباء .والجديد الذي تقدمه
المدر�سة الم�ؤ�س�سية الحديثة ،هو �أنها ال تق�صر ا�ستخدام هذه الأدوات
25
االقت�صادية على ال�سوق والأ�سعار ،بل �إنها تعممها لتف�سير العديد من
الظواهر االجتماعية الأخرى ،مثل مدى حقوق الملكية ،واحترام حقوق
الجوار ،و�أحكام الق�ضاء في الم�س�ؤولية ،وتف�سير الجريمة ،والتمييز
العن�صري ،بل وتف�سير ن�شاط ال�سلطة؛ فهذه الظواهر االجتماعية
والقانونية تجد تف�سيرا لها في التحليل االقت�صادي الذي يعتمد على
فكرة "العائد/التكلفة" .Coût/bénéfice
�أهم الأ�سماء يعتبر فردريك فون هايك F. Hayek
في الدعوة �إلى الليبرالية ،من خالل «المدر�سة الليبرالية الجديدة»
،Ecole Néolibéraleفي وقت بدا فيه �أن الفردية والفكر الليبرالي قد
انزويا �إلى غير رجعة؛ و�إليه ترجع معظم الروافد المختلفة التي ت�صب
في المجرى العام للفكر الليبرالي؛ فالنقديون الجدد ،وكذا المدر�سة
الم�ؤ�س�سية الجديدة وغيرهم ،يرون في هايك الأب الروحي.
لقد ظلت الأفكار الليبرالية الجديدة �أمينة على تراثها ،في
احترام التقاليد الفردية ،وفي �ضرورة احترام الحقوق الأ�سا�سية
للأفراد ،وو�ضع القواعد وال�ضوابط على مختلف �أ�شكال ال�سلطة؛
ومع ذلك ت�ؤمن ب�أن للدولة دورا �أ�سا�سيا ،ال يجوز التغا�ضي عنه؛
فهي لي�ست داعية كما ي�شاع لعدم تدخل الدولة �أو ل�شعار "دع الأمور
تجري في �أعنتها" Laisser passer, laisser faire؛ فالخالف بين
الفكر الليبرالي والنظم غير الليبرالية بالإ�ضافة �إلى �ضرورة احترام
حقوق الإن�سان وو�ضع ال�ضوابط الد�ستورية على ال�سلطات ين�صرف
�إلى �شكل تدخل الدولة ولي�س م�ضمونه؛ فعلى الدولة م�س�ؤولية تحقيق
اال�ستقرار االقت�صادي ،وتوفير �شروط و�ضمانات التقدم ،وتوفير العدالة
االجتماعية .ولكن الدولة تتدخل في كل ذلك ،عن طريق ال�سيا�سات
ولي�س عن طريق الأوامر .وبوجه خا�ص ،ف�إن الدولة ال تقوم بالإنتاج
بنف�سها �إال في ظروف ا�ستثنائية ،ولكنها ت�ؤثر في ظروف الإنتاج ،عن
26
طريق ال�سيا�سات المالية والنقدية؛ فالدولة الليبرالية هنا ،هي دولة
القانون ولي�ست دولة الأوامر.
و�إذا نظرنا �إلى التيار الفكري االقت�صادي الذي �ساعد على عودة
هذه الليبرالية الجديدة ،نجد �أنه مت�شعب؛ يجد بذوره في مدار�س
متعددة؛ فالمدر�سة النقدية الجديدة �ساعدت ب�شكل ما على تدعيم
الفكر الليبرالي الجديد ،ب�إلقاء بذور ال�شك في مدى قدرة الحكومات
على تحقيق اال�ستقرار االقت�صادي ،عن طريق ال�سيا�سات المالية
وعجز الموازنة .ويرى �أن�صارها على العك�س �أن اال�ستثمار الخا�ص
�أقدر و�أكف�أ من اال�ستثمار العام؛ ومن هنا� ،أهمية الت�أثير في الن�شاط
االقت�صادي عن طريق ال�سيا�سة النقدية ،بدال من ال�سيا�سة المالية،
وبخا�صة عجز الموازنة .كذلك ،ف�إن المدر�سة الم�ؤ�س�سية الجديدة،
وقد �أولت اهتمامها لتوفير المناخ والظروف الم�ؤ�س�سية المنا�سبة
للن�شاط الخا�ص ،تعتبر رافدا من روافد الليبرالية الجديدة.
ورغم االتفاق العـ ـ ـ ـ ــام ،بين معظم منظري اقت�صاد التنمية،
على المفهوم الوا�سع لهذه الأخيرة� ،إال �أن هناك خالفات جوهرية
بين المدار�س والنظريات ،في ما يتعلق بالمحتوى والم�ضمون ،وكذا
معايير ومكونات التنمية؛ �إذ نجد مدار�س ونظريات متعددة؛ مثل
المدر�س ـ ـ ــة التقليدية ،والتقليديـ ـ ـ ـ ـ ــة الجديدة ،والمدر�سة الكينزية،
والمارك�سية ،والهيكلية ،والم�ؤ�س�سية ،ونظرية الحلقة المفرغة للفقر،
ونظرية المراحل لرو�ستوف ،ومدر�سة التبعية االقت�صادية ،والمدر�سة
الليبرالية والليبرالية الجديدة .واختالف هذه النظريات ،من حيث
تو�صيف طبيعة التخلف و�أ�سبابه ،ي�ؤدي بال�ضرورة �إلى االختالف في
اقتراح �سبل الخروج من م�شكلة التخلف وتحقيق التنمية� ،أو ما ي�سمى
بالإ�ستراتيجية التنموية المالئمة.
27
- 1نظرية الدفعة القوية
تقول النظرية الهيكلية ب�أن النمو ال يحدث �أو يكون بطيئا في
البالد المتخلفة ،نظرا لطبيعة اقت�صاديات هذه البلدان؛ وت�ؤكد �أن
المنتجين لي�سوا مهتمين بالتقدم واكت�شاف طرق �أكثر تطورا في
الإنتاج� ،أو حتى بالإنتاج على الإطالق؛ ف�أ�صحاب الملكيات الكبيرة ،ال
ي�سعون لزيادة الدخل �أو �إنتاج �أق�صى ما يمكن من �أرا�ضيهم ،بل �إنهم
يعتبرون �أن مجرد حيازتهم لهذه الأرا�ضي التي يح�صلون منها على
مداخيل كبيرة ،يمنحهم القوة والمكانة االعتبارية داخل المجتمع؛
فهم بالتالي را�ضون على و�ضعهم وال يهتمون بالتفا�صيل المتعلقة
بكيفية �إدارة ملكياتهم .
وقد ن�ش�أت المدر�سة الهيكلية في �أمريكا الالتينية التي تت�سم
حتى الآن ،ب�سيادة الملكيات الزراعية الكبيرة فيها ،ولم ت�شهد �أغلب
�أقطارها �أي �إ�صالح زراعي حقيقي لتوزيع الأرا�ضي.
ت�شير المدر�سة الهيكلية �إلى �أن نق�ص ر�أ�س المال هو �أ�سا�س
عدم قدرة الدول المتخلفة على التقدم؛ فالأفراد ذوو الدخل المرتفع،
ال يقومون باالدخار ،وبالتالي با�ستثمار مدخراتهم في التنمية
االقت�صادية ،وذلك لأنهم مهتمون �أكثر ب�إظهار تميزهم ،عن طريق ما
ي�سمى بالتقليد �أو "المحاكاة"؛ �إذ �أن ه�ؤالء الأفراد يحاولون محاكاة
�أو تقليد الذوق الغربي في الم�أكل والم�شرب والملب�س� ..إلخ؛ وهو ما
يجعلهم ينفقون �أغلب دخلهم على اال�ستهالك التفاخري؛ مما ي�ؤدي �إلى
نق�ص حجم االدخار ،وعدم توفر ر�ؤو�س �أموال كافية لتمويل التنمية.
تركز نظرية التغيير الهيكلي بنماذجها المختلفة ،على الآلية التي
تحول البنيات االقت�صادية المتخلفة ،من التركيز الكبير على القطاع
الزراعي �إلى المزيد من التو�سع في القطاعين ال�صناعي والخدمي؛
وهي توظف الأدوات ال�سعرية وتخ�صي�ص الموارد واالقت�صاد القيا�سي
35
الحديث ،لت�صف كيف تحدث هذه العملية التحويلية؛ وهناك مثالين
�شهيرين لنماذج التغيير الهيكلي؛ وهما :النموذج النظري لفائ�ض
العمالة في القطاعين ،لآرثر لوي�س ،و�أنماط التنمية ،والتي تمثل تحليال
عمليا ،لهولي�س ت�شينري.
- 7نظرية التبعية
بينما تركز نظريتا "الحلقة المفرغة للنمو" و"المدر�سة
الهيكلية" على عوامل داخلية (هيكلية) ل�صيقة بالبلدان المتخلفة،
وتعتبرها هي الأ�سا�س في تخلف هذه البلدان ،نجد على العك�س من
ذلك� ،أن نظرية التبعية ترى ب�أن �سبب التخلف هو �أن البلدان المتقدمة
و�شركاتها العمالقة (ال�شركات متعددة الجن�سية) قد فر�ضت عالقة
تبعية على البلدان المتخلفة؛ وهي تمنع نموها �أو تجعله على الأقل
بطيئا.
وت�ؤكد نظرية التبعية على �أن ال�شركات متعددة الجن�سية تقوم
بنهب ر�أ�س المال المتوفر في البلدان المتخلفة ،وخا�صة النقد الأجنبي،
حيث تعمل على االقترا�ض من البنوك المحلية �أو تبيع �سندات في ال�سوق
الر�أ�سمالي لهذا البلد الذي تعمل فيه ،من �أجل تو�سيع عملياتها .وبهذه
الطريقة ،فهي تقوم ب�أكبر عملية ا�ستنزاف لر�ؤو�س الأموال وللنقد
الأجنبي (والذين تحتاجهما ب�شدة البلدان المتخلفة للقيام بعملية
التنمية) وللموارد ،وذلك عن طريق التبادل الدولي و�شروطه ..ونعني
ب�شروط التبادل الدولي ،تطور الأ�سعار الن�سبية للواردات بالمقارنة
مع ال�صادرات؛ وتعرف هذه الحالة بما ي�سمى بتدهور �شروط التبادل
الدولي في غير �صالح المنتجات الأولية؛ وهذا "التبادل غير المتكافئ"
ي�شمل كافة �أنواع ال�سلع ولي�س فقط ال�سلع الأولية؛ �إذ �أن ال�سلعة قد
يبذل نف�س الجهد لإنتاجها في كل من الدول المتقدمة والمتخلفة على
36
ال�سواء ،لكن تباع ب�أ�سعار �أعلى في ال�سوق الدولية بالن�سبة ل�سلع الدول
المتقدمة� ،أما �سلع البلدان المتخلفة ،فتباع ب�أ�سعار �أقل؛ وهو ما ي�ؤدي
�إلى عدم قدرة البلدان المتخلفة على اال�ستمرار في عملية التنمية،
واالنتقال �إلى هيكل اقت�صادي �أكثر تنوعا ،لعدم توافر ر�ؤو�س الأموال
الالزمة لذلك.
ظهرت نظريات التبعية في �أمريكا الالتينية وفرن�سا ،وحظيت
باهتمام متزايد من مفكري الدول النامية في فترة ال�سبعينيات ،ور�أى
دو�س �سانتو�س � Dos Santosأن التبعية مرت بثالث مراحل:
-مرحلة التبعية �إبان الفترة اال�ستعمارية :حيث �سيطر ر�أ�س
المال التجاري ور�أ�س المال المالي على العالقات االقت�صادية في
الم�ستعمرات ،من خالل احتكار الم�ستعمر للموارد المعدنية ،و�سيطرته
على القوى الب�شرية العاملة؛
-مرحلة التبعية المالية :ظهرت في نهاية القرن التا�سع ع�شر،
حيث �سيطر ر�أ�س المال الكبير في دول المركز؛ وتزامن ذلك مع ظهور
الت�صنيع في دول الأطراف؛ مما نتج عنه تلك التبعية المالية؛
-مرحلة التبعية التكنولوجية ال�صناعية :تميزت تلك المرحلة
بتزايد دور ال�شركات متعددة الجن�سيات وتركز ا�ستثماراتها -بعد
الحرب العالمية الثانية -في دول الأطراف ،في �صناعات موجهة
لل�سوق الداخلي للدول المتخلفة.
وح�سب نظرية التبعية ،فان الدول النامية تعاني من جمود
م�ؤ�س�سي واقت�صادي و�سيا�سي ،محليا ودوليا� ،أوقعها في عالقة تبعية
للدول المتقدمة؛ وتوجد �ضمن هذا المدخل العام ،تيارات فكرية
عديدة ،نذكر �أهمها:
-نموذج التبعية اال�ستعمارية الجديدة :وهو امتداد للتفكير
المارك�سي ،حيث يعزى ا�ستمرار التخلف �إلى العالقات غير المتكافئة
37
بين المركز (الدول المتقدمة) والأطراف (الدول النامية) ،والتي
ت�صعب محاوالت نجاح الدول الفقيرة لتكون معتمدة على ذاتها.
وما �أدى �إلى ا�ستمرار هيمنة الدول المتقدمة هو الدعم الذي تقدمه
بع�ض المجموعات في الدول النامية (مثل مالك الأرا�ضي ،الحكام
الع�سكريين ،موظفين حكوميين ،قادة النقابات) ...والتي من م�صلحتها
ا�ستمرار هيمنة النظام الر�أ�سمالي الدولي غير المتكافئ .وفي نف�س
ال�سياق ،نذكر المفكر العربي الكبير �سمير �أمين الذي بنى نظريته
على �ضرورة فك االرتباط مع النظام الر�أ�سمالي العالمي ،من خالل
تنفيذ �إ�ستراتيجية تنموية وطنية �شعبية م�ستقلة ،قوامها "قانون �شعبي
ووطني للقيمة" ،يكون م�ستقال عن معايير النظام العالمي الر�أ�سمالي،
ومعبر عن م�ساهمة المنتجين في الثروات الوطنية ،وتكون مهامه هي
ال�سيطرة على �إعادة تكوين قوة العمل ،وال�سيطرة على ال�سوق الداخلي،
والأ�سواق المالية والنقدية ،ومركزة ر�أ�س المال ،وال�سيطرة على
الموارد التكنولوجية والطبيعية؛ ويتم ذلك من خالل تحالف يرتكز على
هيمنة القوى اال�شتراكية ،دون �إلغاء للقوى الر�أ�سمالية ،عبر الخطوات
التالية� :سيطرة نمط الإنتاج اال�شتراكي ب�صوره المتنوعة ،مع وجود
الإنتاج الر�أ�سمالي المتو�سط وال�صغير؛ اتباع �سيا�سة ال�سوق المخطط،
و�إقرار ن�سب تبادل متكافئة لفئات التحالف ال�شعبي؛ كذلك اتباع �آليات
ديمقراطية تتيح التعبير الحر والمت�ساوي لفئات التحالف ،وت�أ�سي�س
�آليات للتفاو�ض االقت�صادي؛ ثم �ضرورة دور الدولة في �سيا�سات
التخطيط ،و�إعادة توزيع الدخل ،ونقل وتنمية التكنولوجيا.
-نموذج النظرية ال�شاملة -الخاطئة :هذه النظرية ترى �أن
التخلف ناتج عن ما يقدمه الخبراء من الدول المتقدمة من هياكل
نظرية ممتازة ونماذج اقت�صادية قيا�سية للتنمية ،تقود الدول النامية
�إلى �إتباع �سيا�سات غير مالئمة وغير �صحيحة.
38
- 8نظرية االزدواج االقت�صادي
- 9النظرية التنظيمية
41
ظهرت الحاجة لنموذج �أمثل ،قادر على تحقيق التنمية،
عقب الحرب العالمية الثانية ،نتيجة للحاجة ال�سيا�سية لـق ــد
لخلق نوع من التمايز النظري في عالم الثنائية القطبية ،وتم ا�ستخدام
هذا التمايز ،ك�أ�سا�س لتق�سيم دول العالم بين القطبين الكبيرين
حينذاك؛ و�أنتج ذلك كما هائال من النظريات التي ت�ضع منهجا وقالبا
لطريق التنمية ،وافترقت هذه النظريات بالأ�سا�س ،وفقا للمعيارين
االقت�صادي وال�سيا�سي ،حيث نجد النظريات الليبرالية الر�أ�سمالية
التي تعتقد في قيادة القطاع الخا�ص للتنمية ،في مقابل دور محدود
للدولة في �أغلب الأحيان؛ وعالجت هذه النظريات م�س�ألة التنمية من
منظور الفكر الليبرالي ،وركزت ب�شكل رئي�سي على البعد ال�سيا�سي
لعملية التنمية .ظهر الجيل الأول من هذه الكتابات في �إطار نظريات
الحداثة ،وانق�سمت �إلى ثالثة اتجاهات رئي�سية :االتجاه الأول ،هو
اتجاه التنمية ال�سيا�سية؛ �أما االتجاه الثاني ،فهو اتجاه "الحداثة" �أو
"التحديث" الذي يرى �أن التنمية �ستحدث في "العالم الثالث" عن
طريق نقل الأفكار والقيم الغربية ،والتو�سع في عملية الت�صنيع؛ �أما
االتجاه الثالث ،فقد ربط بين الديمقراطية والتنمية .وهناك �أي�ضا،
النظريات التي تنطلق من م�س�ألة التوازن بين الدولة والمجتمع ،وتبنى
التق�سيم على ترتيب طبيعة العالقة بينهما ،على النحو التالي :دولة
قوية ومجتمع قوي -دولة �ضعيفة ومجتمع قوي -دولة قوية ومجتمع
�ضعيف -دولة �ضعيفة ومجتمع �ضعيف؛ ما يعني �ضرورة العمل على
تمكين المجتمع المدني وتطويره؛ بينما طرحت نظريات �أخرى مفهوم
"الحكامة" ،وو�ضعت بع�ض المعايير القيمية للأداء الحكومي؛ مثل
ال�شفافية والم�سائلة والمحا�سبة والتقييم والمراقبة والكفاءة.
ومنذ بداية ثمانينيات القرن الما�ضي ،بد�أ العالم ي�صحو على
�ضجيج العديد من الم�شكالت البيئية الخطيرة ،والتي باتت تهدد
43
�أ�شكال الحياة فوق كوكب الأر�ض؛ وكان هذا طبيعيا في ظل �إهمال
التنمية للجوانب البيئية طوال العقود الما�ضية؛ فكان البد من �إيجاد
فل�سفة تنموية جديدة ت�ساعد في التغلب على هذه الم�شكالت ،ونتج عن
الجهود الدولية في هذا المجال ،مفهوم جديد للتنمية ،عرف با�سم
التنمية الم�ستدامة؛ وقد تبلور هذا المفهوم لأول مرة ،في تقرير اللجنة
العالمية للبيئة والتنمية ،والذي حمل عنوان "م�ستقبلنا الم�شترك"،
ون�شر لأول مرة عام . 1987
نعني بالتنمية الم�ستدامة ،تلبية حاجات الحا�ضر ،دون الحد من
قدرة الأجيال الم�ستقبلية على تلبية حاجاتها ،من خالل اال�ستخدام
الم�ستدام للموارد الطبيعية ،جنبا �إلى جنب مع النمو االقت�صادي
واالن�سجام االجتماعي؛ كما ي�شترط في التنمية الم�ستدامة ،الحر�ص
على عدم تناق�ص الر�صيد الأ�سا�سي من الموارد البيئية للمجتمع �أو
الدولة مع مرور الوقت؛ �إذ ينبغي �أن يبقى ر�صيد الموارد الطبيعية ،من
�أجل تحقيق �أدنى درجة من العدالة والإن�صاف للأجيال القادمة.
بعدها بوقت وجيز ،بد�أ الحديث عن التنمية الب�شرية ،والتي
عرفها برنامج الأمم المتحدة للتنمية الب�شرية في تقريره العالمي
ال�صادر �سنة ،1990على �أنها عملية تو�سيع لخيارات الأفراد؛ ومن
حيث المبد�أ ،هذه الخيارات يمكن �أن تكون مطلقة ،ويمكن �أن تتغير
بمرور الوقت ،لكن الخيارات الأ�سا�سية على جميع م�ستويات التنمية
الب�شرية تبقى هي� :أن يعي�ش الأفراد حياة �أطول وب�صحة جيدة ،و�أن
يكت�سبوا المعرفة ،و�أن يح�صلوا على الموارد الالزمة لم�ستوى معي�شة
الئقة .ولكن التنمية الب�شرية ال تنتهي عند ذلك؛ فالخيارات الإ�ضافية
تتراوح من الحرية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية� ،إلى التمتع
بفر�ص الإبداع والإنتاج ،والتمتع باالحترام ال�شخ�صي وبحقوق الإن�سان
44
المكفولة؛ وبالتالي ،فهدف التنمية يرتكز على تكوين بيئة مالئمة
لحياة طويلة و�صحية ،وقائمة على الإبداع.
وقد اتفقت الدول الأع�ضاء في منظمة الأمم المتحدة في �سنة ،2000
على تحقيق ما ي�سمى بـ "الأهداف الإنمائية للألفية" بحلول �سنة
،2015وتتمثل في ثماني �أهداف؛ وهي: الق�ضاء على الفقر المدقع
والجوع ،ويت�ضمن هذا الهدف ،تخفي�ض ن�سبة ال�سكان الذين يقل دخلهم
اليومي عن دوالر واحد �إلى الن�صف ،وكذلك توفير العمالة الكاملة
والمنتجة ،والعمل الالئق للجميع ،وتخفي�ض ن�سبة ال�سكان الذين
يعانون من الجوع �إلى الن�صف في الفترة 1990ـ2015؛ تحقيق تعميم
التعليم االبتدائي ،ويت�ضمن هذا الهدف ،كفالة تمكن الأطفال في كل
مكان� ،سواء كانوا ذكورا �أو �إناثا ،من �إتمام مرحلة التعليم االبتدائي
بحلول عام 2015؛ تقليل وفيات الأطفال ،ويت�ضمن هذا الهدف ،تعميم
�إتاحة خدمات ال�صحة الإنجابية بحلول �سنة 2015؛ تعزيز الم�ساواة
بين الجن�سين وتمكين المر�أة؛ تح�سين �صحة الأمهات؛ مكافحة الإيدز
والمالريا والأمرا�ض الأخرى؛ �ضمان اال�ستدامة البيئية؛ ثم �إقامة
�شراكة عالمية من �أجل التنمية ،وي�شمل هذا الهدف� ،إقامة نظام
تجاري ومالي يت�صف باالنفتاح ،والتقيد بالقواعد والقابلية للتنب�ؤ
به وعدم التمييز ،وم�ساعدة الدول الأقل نموا ،ب�إعفاء �صادراتها من
التعريفات الجمركية ،وو�ضع برنامج لتخفيف عبء الديون على تلك
الدول ،وزيادة الم�ساعدة الإنمائية للدول التي �أعلنت التزامها الحد
من الفقر .
الدول الأع�ضاء في منظمة الأمم المتحدة اتفقت من جديد ،في
قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في � 25شتنبر ،2015وبعد ذلك
في فاتح يناير ،2016على "�أهداف التنمية الم�ستدامة" ،والمعروفة
ر�سميا با�سم "تحويل عالمنا"؛ و�أدرجت في خطة التنمية الم�ستدامة
45
لعام 2030؛ وهي 17هدفا :الق�ضاء على الفقر؛ الق�ضاء التام على
الجوع؛ ال�صحة الجيدة والرفاه؛ التعليم الجيد؛ الم�ساواة بين الجن�سين؛
المياه النظيفة والنظافة ال�صحية؛ طاقة نظيفة وب�أ�سعار معقولة؛ العمل
الالئق ونمو االقت�صاد؛ ال�صناعة واالبتكار والبنية التحتية؛ الحد من
�أوجه عدم الم�ساواة؛ مدن ومجتمعات محلية م�ستدامة؛ اال�ستهالك
والإنتاج الم�س�ؤوالن؛ العمل المناخي؛ الحياة تحت الماء؛ الحياة في
الب ّر؛ ال�سالم والعدالة والم�ؤ�س�سات القوية؛ ثم عقد ال�شراكة لتحقيق
هذه الأهداف .وهناك 169غاية للأهداف ال�سبعة ع�شر؛ كل هدف
يقابله � 1إلى 3من الم�ؤ�شرات الم�ستخدمة لقيا�س التقدم المحرز.
و�إجماال ،هناك 304م�ؤ�شر تقي�س م�ستوى االمتثال.
وتنح�صر م�صادر التنمية عموما ،في عدد قليل من العنا�صر
الهامة والأ�سا�سية؛ وهي الموارد الب�شرية ،ور�أ�س المال ،والتكنولوجيا
المتطورة ،والزيادة في �إنتاجية �إجمالي عوامل الإنتاج ،والتي تنجم
عن اقت�صاديات الحجم ،وعن �آثار التكتالت االقت�صادية ،وباقي
الم�ؤثرات الخارجية الأخرى ،وكذا عن الم�ؤ�س�سات التي تقلل من تكلفة
المعامالت �إلى الحدود الدنيا ،وتحقق التناف�سية؛ بمعنى �أن التنمية
هي عملية �إحداث تغيرات جذرية في البنيات االقت�صادية واالجتماعية
والثقافية وال�سيا�سية ...وتتوقف على قدرة االقت�صاد على الرفع من
دخل الفرد ،وعلى ال�سيا�سات والبرامج التي تعالج هذه المتغيرات ،في
ظل الخ�صائ�ص التي تميز االقت�صاد العالمي المعا�صر ،و�آفاق التنمية
في �إطاره ،علما ب�أن �أكبر اقت�صاديات العالم ،رغم تفوقها االقت�صادي
والتكنولوجي ،لي�ست بمنئ عن ما يحدث في العالم اليوم من تحوالت
�سريعة .ولذلك ،ف�إن التدبير اليومي لالقت�صادات الوطنية رهين
بال�سيا�سات التي توجهها ،والتي يجب �أال تتال�شى مع الواقع الجديد،
46
والحكومات قادرة على �أن تقوم بهذا الدور ،م�ستفيدة في ذلك من
مواطن القوة ومت�صدية في الوقت نف�سه لمواطن ال�ضعف.
و�إذا كان المغرب الذي انخرط بقوة في ما ي�سمى بـ "الأهداف
الإنمائية للألفية" ،وفي "�أهداف التنمية الم�ستدامة" ،قد قطع �أ�شواطا
هامة من �أجل و�ضع �أ�س�س مغرب قوي� ،إال �أن هناك تحديات كبرى ال
زالت تنتظره؛ ورفع هذه التحديات يتطلب عن�صرين �أ�سا�سيين؛ الوعي
بطبيعة االقت�صاد العالمي من جهة ،وبحالة المناخ الوطني الذي
يترعرع داخله االقت�صاد والمجتمع من جهة �أخرى ،وذلك في �أفق
بلورة مقاربة جديدة للم�س�ألة التنموية في بالدنا.
47
االقت�صاد العالمي المعا�صر ،و�آفاق التنمية
االهتمام في العق ـ ـ ـ ـ ــود الأخيرة ،بواقع االقت�صاد العالمي
وم�شكالته ،وخا�صة بعد الأزمة العارمة التي عرفتها العالقات تزايــد
االقت�صادية الدولية في �أوائل ال�سبعينيات من القرن الما�ضي؛
هـذه الأزمة ذات الطابع البنيوي ،ظهــرت تداعياتها داخل كل دولة على
حدة ،و�أي�ضا على �صعيد العالقات البينيـة بين الدول ،في المجاالت
المختلفة للتبادل الدولي؛ ث ــم كذلك لتفاقم الم�شاكل المترتبة ع ــن مختلف
مظاهر التبادل الدولي ،واالعتمـاد المتبادل فيما بين الدول� ،إ�ضافة �إلى
تغير المالمح والخ�صائ�ص المميزة لالقت�صاد العالمي المعا�صر.
واليوم ،يتميز االقت�صاد العالمي بال�شمولية التي تتمثل �أبرز
مظاهرها في :تحرير التجارة الدولية ،وخا�صة بعد التوقيع النهائي
على االتفاقية العامة للتعريفات والتجارة ،بمدينة مراك�ش في �شهر
�أبريل من �سنة ،1995والتي تم بموجبها �إن�شاء منظمة التجارة العالمية؛
كذلك تعاظم دور ال�شركات متعددة الجن�سية ،وارتفاع وتيرة التكتالت
االقت�صادية؛ والتدويل المتزايد للعالقات االقت�صادية الدولية؛ وثورة
المعلومات وتكنولوجيا االت�صال؛ ثم التطور ال�سريع الذي تعرفه
مجاالت اقت�صاد المعرفة والذكاء اال�صطناعي والربوتيك؛ بالإ�ضافة
�إلى تزايد نفوذ الم�ؤ�س�سات النقدية والمالية الدولية ،خا�صة بعد
�أزمة المديونية التي عرفها العالم منذ بداية الثمانينات ،في العديد
من الدول ،وخا�صة في بلدان العالم الثالث .ولم يقت�صر التغير في
العالقات االقت�صادية على التغير العيني في ظروف و�أ�ساليب الإنتاج
فقط ،بل �إن التغير �شمل �أي�ضا العالقات النقدية والمالية ،و�أدواتها
وم�ؤ�س�ساتها (النظام النقدي العالمي) حيث عرفت الأ�سواق النقدية
والمالية تطورا هائال ،جعلها عالمية التوجه؛ وهو ما �سهل ،و�أ�سرع من
�أي وقت م�ضى ،انتقال الأزمات المالية عبر العالم.
وتبقى ال�شركات متعددة الجن�سية� ،إحدى ال�سمات الأ�سا�سية
لالقت�صاد العالمي؛ فهي الم�ؤثر بقوة على هذا االقت�صاد ،من خالل
ما ي�صاحب ن�شاطها ،من ا�ستثمارات مبا�شرة ،ومن نقل للتكنولوجيا،
والخبرات الت�سويقية والإدارية؛ وهي بذلك ت�أكيد لظاهرة العالمية
في كافة الم�ستويات؛ الإنتاجية والتمويلية والإنتاجية (التكنولوجية
والت�سويقية والإدارية) .وتكفي الإ�شارة في هذا المجال� ،إلى �أن هذه
ال�شركات العمالقة ،ذات الإمكانيات التمويلية الهائلة ،تلعب دور
القائد في الثورة التكنولوجية الحديثة ،والتي تملك الفن الإنتاجي� ،إلى
�أن ي�صبح فنا �إنتاجيا كثيف المعرفة؛ وبالتالي ،فهي من هذا المنظور،
تعمق االتجاه نحو العالمية (�أو العولمة).
لقد �أحدثت العولمة تغييرات في البنيات االقت�صادية والأنظمة
المالية؛ ففي حين كان خلق االئتمان وا�ستخدامه ،يتم داخل الدولة،
ف�إنه في الوقت الحا�ضر� ،أخذ يتعدى الحدود الإقليمية للدولة ،في
�إطار �أ�سواق عالمية ،وال يعني هذا �إلغاء دور البنوك والأ�سواق المالية
المحلية ،لكن لم تعد هذه البنوك م�ستقلة تماما ،بل �أ�صبحت ت�شكل
جزء من نظام �أكبر ،تت�أثر �صعودا �أو هبوطا� ،أكثر من ت�أثرها بالأو�ضاع
المحلية.
وعلى الم�ستوى الثقافي ،تمار�س العولمة دورها ،فيما يتعلق
بالمدركات والأفكار ،وغيرها ...فعلى الرغم من وجود تنوع ثقافي
بين ال�شعوب� ،إال �أن �أفكار واتجاهات و�سلوكيات الأفراد� ،أخذت في
52
الت�أقلم مع تقنيات عملية العولمة ،خا�صة مع الثورة المعلوماتية وزيادة
االت�صاالت الدولية.
وعلى م�ستوى المنظمات ،فبعد �أن كانت ال�سلع والخدمات تنتج
من �أجل مجتمع معين ،في دولة معينة� ،أ�صبحت هذه ال�سلع والخدمات
تنتج من قبل �شعوب مختلفة ،ومن دول مختلفة ،للوفاء باحتياجات
ال�سوق العالمية ،بدال من ال�سوق المحلية؛ بمعنى �أن ال�شركة العالمية
تنظر �إلى العالم كله كوحدة واحدة ،وتقوم بعمل ا�ستثماراتها ،و�شراء
�إمداداتها ،و�إجراء بحوثها ،وت�صميم منتجاتها� ،أينما �أمكنها �أداء
ذلك ،ب�أعلى جودة وب�أقل تكلفة.
�إن �أغنى الدول في العالم ،تعاني اليوم من تداعيات �أزمة
اقت�صادية ومالية �صعبة جدا ،وت�سعى �إلى الحفاظ على مكانتها في
ال�سوق العالمية ،ولو على ح�ساب حرية التجارة ،وقوانين التبادل
الدولي ،ومختلف المبادئ التي قام عليها حتى الآن ،النظام االقت�صادي
العالمي؛ وفي مقدمتها ،مبادئ المنظمة العالمية للتجارة ،ومبادئ
�صندوق النقد الدولي؛ بمعنى �أن هناك اليوم عودة قوية للحمائية،
وتح�صين االقت�صاديات الوطنية من الخطر ال�صيني.
ال�صي ـ ـ ــن التي بنت مجدها على الإغــراق االجتماع ـ ــي ،وعلى
التناف�سية على �أ�سا�س التكاليف االجتماعية المنخف�ضة للإنتاج؛ والتي
تعرف اليوم انخفا�ضا م�ستمرا في �سعر �صرف عملتها الوطنية ،وتح�سنا
ملحوظا قي ميزانها التجاري ،في مقابل تراجع �صادرات �أمريكا
و�أوروبا ،وعجز موازينها التجارية؛ مما يعر�ضها لخطر المديونية ل�صالح
ال�صين.
�أما االتحاد الأوربي ،فيبقى �أكبر تكتل اقت�صادي عالمي على
م�ستوى الحجم الإنتاجي ،وعلى م�ستوى االتفاقيات ال�شرعية والقانونية
ذات التجدر التاريخي ...وهو يعني اليوم ،فتح الحدود والجمارك،
53
وتحرير التجارة كليا ،وتوحيد النقد ،وتوحيد ال�سيا�سات الخارجية.
�إن هذا التكتل ي�شارك اليوم بح�صة %45من حركة التجارة العالمية،
و�إنتاجه القومي يزيد عن 60000مليون دوالر؛ وبهذا ،فهو ي�شكل %32
من الناتج العالمي؛ هذا التكتل يعرف بدوره اليوم م�شاكل عديدة؛
�أهمها البطالة ،والت�ضخم المزمن ،والتباين في م�ستوى التقدم بين
مكوناته ،و�صعوبة ت�آلف القوميات المتجدرة تاريخيا.
اليابان ،حققت تقدما اقت�صاديا هائال ،منذ ال�ستينات ،وتجربتها
الإنتاجية �شبيهة بالتجربة الألمانية ،حيث بد�أت بالتقدم من حيث انتهى
غيرها؛ �أي �أن اليابان بد�أت بالتطور العلمي للتكنولوجيا التابعة للإنتاج،
بناء على خبرات التقاليد ال�صناعية التي تو�صلت �إليها الدول المتقدمة
الأخرى.
لقد اعتمدت اليابان على �شمولية الإنتاج ،و�شعبوية االكت�شافات،
والتقدم العلمي ،واالنخراط ال�شعبي الكامل في الدورة االقت�صادية؛
مما ي�ؤدي �إلى الزيادة في الإنتاج؛ هذه العوامل �أ�ضفت على اليابان
�صفة المثال االقت�صادي الناجح في النمو والتنمية ،واال�ستقرار والتقدم
والمناف�سة ،واالرتقاء �إلى م�ستوى القوة االقت�صادية الماهرة في جميع
مجاالت "البحث واالختراع والإنتاج الكثيف والرخي�ص والت�سويق
الدول"؛ وبالتالي �أ�ضحت اليابان ذات 125مليون ن�سمة ،تح�صل على
�أكثر من 3500مليار دوالر في ناتجها القومي ،وت�شارك ب�أكثر من
%15من الناتج العالمي ،وبحوالي %10من التجارة الدولية؛ وم�ستوى
الدخل الفردي من الناتج فيها ي�صل �إلى 23000دوالر �سنويا؛ وهو من
بين الأعلى في العالم ،تدور في فلكها بع�ض دول جنوب �شرق �أ�سيا ،من
ناحية االن�سجام �أو المناف�سة؛ وهي دول يطلق عليها "الدول الم�صنعة
حديثا"؛ �سنغافورة وهونغ كونغ والطايوان وتايالندا وكوريا الجنوبية
والفلبين وماليزيا و�أندوني�سيا؛ �إنها الدول التي دخلت حلقة الإنتاج
54
العالمي من بابه الوا�سع؛ فقد �أ�صبحت في م�صاف الدول ال�سائرة في
فلك الت�صنيع ال�سريع والتقليدي ،والمكمل لحلقة الإنتاج الر�أ�سمالية
في المراكز الأ�سا�سية "�أوربا� ،أمريكا ،اليابان و�أ�ستراليا"؛ مما جعلها
ت�ستحوذ على �أعلى م�ستوى من االحتياطيات الأجنبية ،حيث و�صلت
الطايوان في �سنة � ،1994إلى حدود 85مليون دوالر ،و�سنغافورة 60
مليار دوالر ،وهونغ كونغ 60مليار دوالر ،وكوريا الجنوبية 23مليار
دوالر؛ كما �أن معدل نمو هذه االقت�صادات و�صل �أحيانا �إلى � %10سنويا؛
�إال �أن �شعوب هذه الدول ال تنعم بمغانم الت�صنيع الحديث؛ فهي الزالت
تعي�ش في حالة الب�ؤ�س والعوز؛ كما �أن هذه البلدان لم تنجح في �إحداث
مجموعة �إقليمية ،م�ؤ�س�سية ومتما�سكة ،تعتمد تف�ضيالت تجارية،
نظرا لأنها لم تتمكن من �أن ت�صبح �إطارا للتبادل الحر ،ذلك �أن بع�ض
الدول المنتمية �إلى هذه المجموعة ،كانت خالل ال�ستينات متحالفة مع
الواليات المتحدة الأمريكية ،لأ�سباب �إ�ستراتيجية و�إيديولوجية ،متمثلة
في الوقوف �ضد المد ال�شيوعي؛ ومع ذلك ،لم يمنع التناق�ض الحا�صل
بينها وبين باقي البلدان الأخرى ،من �أن تلعب جميعها دورا اقت�صاديا
مهما؛ �إال �أن هذا التكتل ،يعاني اليوم من مجموعة من الم�شاكل؛ نجد
على ر�أ�سها ،عدم ارتقائه على ال�ساحة العالمية من الناحية ال�سيا�سية،
مثل الواليات المتحدة الأمريكية؛ كما �أنه يفتقد �إلى قوة ع�سكرية،
قادرة على رفعه �إلى مركز متقدم ومتكامل ،يحافظ له على مكت�سباته
االقت�صادية.
�أما ال�صين ،فلها ميزتها ال�سيا�سية والع�سكرية ،و�إلى حد ما
االقت�صادية ،وتحتوي على �أكثر كتلة ب�شرية في دولة واحدة� ،أكثر من
1200مليون ن�سمة؛ بمعنى �أنها ت�شكل ربع �سكان الكرة الأر�ضية؛ ولكن
م�ستوى الدخل الفردي فيما ،ال يتعدى 350دوالر �سنويا ،ولها ن�صيب
ال يتعدى %2,5من التجارة الدولية .لكن ،بالرغم من ذلك ،فهي
55
ت�شكل محور ا�ستقطاب وا�سع ومفتوح ،على �شتى المجاالت ،مع عنا�صر
االقت�صاد العالمي الأخرى؛ مما يمكنها م ـ ـ ـ ــن لعب دور ريادي؛ فهي
ت�ستفيد من نتاج العلم والتكنولوجيا ،وبذلك تحافظ على وثيرة نمو
اقت�صادي عالي �إلى حدود � %8سنويا؛ ولكنها ما زالت في حاجة ما�سة
لالنفتاح �أكثر ،للعب دور متعاظم على ال�ساحة االقت�صادية الدولية.
والجدير بالذكر هنا� ،أن الواليات المتحدة الأمريكية ال تعي�ش
ال�سنوات الذهبية لما بعد الحرب ،حيث كانت تزود العالم بن�صف
الإنتاج العالمي؛ وهي ن�سبة لم يتم تحقيقيها �أبدا من طرف �أي دولة حتى
الآن؛ ف�سيطرة الواليات المتحدة الأمريكية على الم�صادر االقت�صادية
وال�سيا�سية والثقافية والع�سكرية والتكنولوجية للعالم ،لي�ست و�ضعية
حتمية؛ فالو�ضع العالمي اليوم و�ضع متحرك ومتطور ،يتغير بوثيرة
�سريعة جدا ،ويتميز باالتجاه نحو والدة �أقطاب اقت�صادية عالمية
جديدة ،مهيمنة ومناف�سة� ،ستقول كلمتها من دون �شك ،في الم�ستقبل
القريب؛ ت�سيطر على الإنتاج التكنولوجي ،وتناف�س الواليات المتحدة
الأمريكية ،مناف�سة �شديدة في كل هذه المجاالت؛ هذه الأقطاب هي
�أ�سا�سا :اليابان ،و�أوروبا الغربية ،وخا�صة بعد انفتاحها على �أوروبا
ال�شرقية ،وبروز ف�ضاء اقت�صادي �أوروبي وا�سع ،يتكون لحد الآن من
27ع�ضوا ،بالإ�ضافة �إلى تجمع دول �آ�سيا الجنوبية ال�شرقية ،والذي
يتكون من بروناي ،واندوني�سيا ،وماليزيا ،و�سنغافورة ،والتايالند،
والفيتنام ،ومجموعة من الدول الآ�سيوية الأخرى الأكثر ت�صنيعا؛ وهي
�أ�سا�سا :هونغ كونغ ،وتايوان ،وكوريا الجنوبية ،والتي �شكلت في ال�سابق
�أول موجة للت�صنيع في جنوب �شرق �آ�سيا؛ هذه الدول بالتحديد ،قامت
في ثالثين �سنة الأخيرة ،بقفزة كبرى في مجال الم�شاركة في الإنتاج
العالمي ،وفي تطور التكنولوجيا والبحث العلمي ،و�سوف تقوم �أي�ضا
بدور كبير ومناف�س للتكتالت االقت�صادية الراهنة �.أ�ضف �إلى كل ذلك،
56
وجود بلدين �آ�سيويين ،يعتبر ف�ضا�ؤها االقت�صادي واعدا ،ويمكنه
�أن يمنحهما نوعا من اال�ستقاللية على الم�ستوى العالمي ،ويجعلهما
يحتالن مركز ال�صدارة في العالقات االقت�صادية الدولية ل�سنوات
عديدة قادمة ،وهما الهند وال�صين؛ فال�صين مثال ،بلد نامي ومتخلف
ن�سبيا ،بالمقارنة مع الواليات المتحدة الأمريكية ،لكنه ا�ستفاد من
الإمكانيات الجديدة المتوفرة داخل ربوعه :وجود �سوق داخلية وا�سعة،
�إمكانية للتراكم الر�أ�سمالي وللتطور التكنولوجي ،بروز جيل جديد من
رجال �أعمال �شباب؛ كما ا�ستفاد من العولمة ،و�أ�صبح ي�ساهم ب�شكل
مهم في تزويد هذه ال�سوق ،خا�صة بالمواد ذات الكثافة التقنية العالية؛
والمتوقع �أن يرتفع ن�صيب ال�صين من الإنتاج العالمي ،من 224مليار
دوالر �سنة � 1995إلى 789مليار دوالر �سنة ، 2050بينما لن ينمو ن�صيب
الواليات المتحدة الأمريكية في الفترة نف�سها� ،إال بما يقارب � 30أو 40
مليار دوالر ،زيادة على ما هو عليه الآن.
لقد �أ�صبح تباط�ؤ االقت�صاد الأمريكي �شبه م�ؤكد؛ وتعزى هذه
الو�ضعية �إلى تراجع نمو ا�ستهالك الأ�سر ،نتيجة انخفا�ض �أربـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح
العقار والبور�صة ،وكذا تراجع ن�شاط �سوق ال�شغل؛ فقطاع العقار الذي
�ساهم ب�شكل كبير في النمو االقت�صادي للواليات المتحدة الأمريكية،
خالل العقدين الما�ضيين ،لم يعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد قادرا في الوقت الراهن،
على تعزيز هذا النمو ،وذلك بفعل تراجع مبيعات ال�سكن الجديد،
وتقهقر اال�ستثمار في الميدان .ال�صين تحقق معدل نمـو �سنوي يناهـز
%10و�أحيانا ،%15حيث ا�ستطاعت بف�ضل هذه الوثيرة المرتفعة،
�أن ت�ساهم بح�صة كبيرة في النمو االقت�صادي العالمي ،متقدمة على
الواليات المتحدة الأمريكية ،و�سي�ؤدي االرتفاع ال�سريع لل�صادرات،
وتح�سن اال�ستثمارات� ،إلى تدعيم نمو االقت�صاد ال�صيني ،بالرغم
من �سيا�سات اال�ستقرار المعتمدة لمواجهة الت�ضخم؛ و�إذا ما ا�ستمر
57
هذا التطور ،ف�إن الباحثين في العالم يتوقعون �أن ت�صبح ال�صين القوة
االقت�صادية الأولى في العالم؛ فهيمنة االقت�صاد الأمريكي ،ومنعته
وقوته ومكانته المتميزة في ال�ساحة االقت�صادية العالمية ،ولت من دون
رجعة؛ ف�أمريكا اليوم لي�ست �أمريكا الأم�س ،ودوالر اليوم لي�س هو دوالر
الأم�س؛ الأمر الذي �سيفتح الباب م�شرعا �أمام �صعود قوى اقت�صادية
جديدة� ،ستقول كلمتها من دون �شك ،في الم�ستقبل القريب ،والتي لن
تكون �سوى الهند وال�صين .وبذلك� ،ستعمل هذه الأزمة االقت�صادية التي
يعي�شها العالم اليوم ،على التعجيل بانتقال مركز القرار االقت�صادي
العالمي من الغرب �إلى ال�شرق.
�أمام هذا الو�ضع االقت�صادي العالم ـ ـ ــي المت ـ ـ ـ ـ ـ ـ�أزم� ،أ�صبحت
الحاجة ملحة اليوم� ،أكثر من �أي وقت م�ضى� ،إلى اقت�صاد �سيا�سي
عالمي جديد ،ينبني على حكامة اقت�صادية عالمية را�شدة ،تكون من
بين مبادئها الأ�سا�سية� :ضرورة �إ�شراك كل الدول ،المتقدمة منها
وال�سائرة في طريق النمو ،في اتخاذ القرار االقت�صادي العالمي؛
لأن الأزمة �صحيح �أنها بد�أت في الواليات المتحدة الأمريكية ،لكن
تداعياتها قد ت�صيب جميع دول العالم ،ولو بم�ستويات مختلفة ،وذلك
بفعل العولمة ،واالعتماد المتبادل بين الدول ،وتطور و�سائل االت�صال
وتكنولوجيا المعلوميات؛ هذه العولمة التي �أ�صبحت الآن واقعا تابثا،
وجب قبولها والتعامل معها كحقيقة ال مفر منها ،وذلك بالبحث عن
الطرق المثلى لال�ستفادة من فوائدها ،ومن الإمكانات التي توفرها،
واال�ستعداد للت�صدي النعكا�ساتها المحتملة ،والتفكير اليوم كذلك
في �أ�س�س جديدة لنظام اقت�صادي عالمي جديد ،قوي ومتين ،يفك
االرتباط الوثيق مع االقت�صاد الأمريكي.
لقد �أ�صبح االقت�صاد اليوم �أقرب �إلى االقت�صاد الرمزي ،يت�أثر
بعدد من الم�ؤ�شرات والرموز؛ مثل �أ�سعار الفائدة ،وم�ؤ�شرات �أ�سعار
58
الأ�سهم ،وال�شائعات ال�سيا�سية ،و�إح�صاءات وزارات العمل ،وكثيرا ما
تت�أثر الأو�ضاع االقت�صادية بهذه الرموز ،على رغم �أن عنا�صر االقت�صاد
العيني تظل م�ستقرة .كذلك ،ف�إن هذه الثورة المالية لم تقت�صر على
انتقاالت ر�ؤو�س الأموال ،بل �إنها بد�أت ت�ؤثر في انتقال ال�سلع ،عن
طريق ما يعرف بالتجارة الإلكترونية .ومن المنتظر �أن تفتح هذه
التجارة المجال لتو�سيع الأ�سواق �أمام عدد من ال�صناعات ال�صغيرة
والمتو�سطة ،والتي ال تملك �إمكانات ال�شركات الكبيرة ،بحيث تتمكن
من عر�ض منتجاتها على �صفحات الإنترنيت ،وتو�سيع دائرة الأ�سواق
�أمامها .وبالمقابل ،ف�إن هذه التجارة تثير العديد من الق�ضايا المتعلقة
بكيفية ت�سوية المدفوعات ،وحماية حقوق المتعاملين ،وغير ذلك من
االعتبارات التي يمكن �أن تغير من �شكل العالقات التجارية فيما بين
الدول.
ومن جهة �أخرى ،فمن التحليالت العديدة ،التي قدمت خالل
ال�سنوات الأخيرة ،يمكن ا�ستخال�ص نتيجة واحـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدة؛ هي الخالف
الكبير بين الخبراء� ،أمـ ـ ـ ــام نظام �أ�سعار ال�صرف العائمة ،وارتفاع
الدوالر وانخفا�ضه ،وتقلبات �أ�سعار الفائدة ،وعجوز الموازين التجارية
وموازين المدفوعات ،والميزانيات في الواليات المتحدة ،والترابط
بين هذه العجوز ،ودور الدوالرات الأوربية والنقود الأوربية ومديونية
العالم الثالث...
�إن ما يدعو للده�شة حقيقة؛ هو غياب �أي ت�شخي�ص ،وكذلك
غياب �أي تنب�ؤ للم�ستقبل القريب؛ وما هو �أكثر مغزى ،هو غياب �أي اتهام
لأ�سا�س نظام االئتمان كما يعمل حاليا؛ وهذا الأ�سا�س هو خلق نقود من
ال�شيء ،بوا�سطة النظام الم�صرفي ،و�شيوع التمويالت الطويلة الأجل
ب�أموال مقتر�ضة لأجل ق�صير؛ وهذه العوامل كلها ذات �أثر بالغ في
زعزعة اال�ستقرار ،وظهور العديد من اال�ضطرابات؛ هذه اال�ضطرابات
59
النقدية والمالية ال تزال الآن في بدايتها ،حتى نالحظ مع ما قد ينتج
عن كل ذلك من عواقب وخيمة ،لأن النا�س لم يت�أملوا ت�أمال كافيا في
دور النقود في حياة المجتمع ،وفي الأ�ساليب التي يتم بها خلق النقود،
وفق مزاج الظروف االقت�صادية والت�صرفات الفردية ،في حين �أن خلق
النقود ي�شكل بال ريب� ،أحد العوامل الكبرى التي تحدد �شروط الحياة
في المجتمع.
حيال هذا الو�ضع ،هناك نتيجة تفر�ض نف�سها :فعلى الم�ستوى
الوطني كما على الم�ستوى الدولي ،يجب �إعادة النظر كلية في المبادئ
الأ�سا�سية التي يعتمد عليها النظام النقدي والمالي الحالي.
�إننا بحاجة اليوم� ،إلى �إ�صالحات اقت�صادية عالمية عميقة،
و�أ�س�س قوية لنظام اقت�صادي عالمي جديد ومتوازن ومتعدد الأطراف؛
تحقق معه القابلية لتحويل العمالت ،كل العمالت ،و�إلغاء االعتماد
الكلي على الدوالر وعلى الأورو ك�أ�سا�س للتبادل الدولي؛ بمعنى �أننا
بحاجة اليوم �إلى حكامة مالية وتجارية عالمية جديدة؛ ف�إذا كانت
�أمريكا اليوم �ضد ال�صين ،في مختلف المنتديات االقت�صادية الدولية،
ومنها مجموعة الع�شرين ،ف�إنها بذلك تعطي نموذجا �سيئا ،قد تكون له
انعكا�سات خطيرة في الم�ستقبل.
60
�إذن ،الظرفية العالمية اليوم ،بالعديد من التغيرات ال�سيا�سية
والتطـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورات االقت�صادية؛ �ستترتب عنها من دون �شك، تتميز
انعكا�سات على النمو العالمي ،وعلى �آفاق التنمية في العالم؛ كما �أن
العولمة وارتفاع وتيرة االعتماد المتبادل بين الدول� ،سيجعل من رهان
تح�سين التناف�سية الخارجية للدول� ،ضرورة من �ضرورات العالقات
االقت�صادية الدولية.
وعلى العموم ،ف�إن مفهوم التناف�سية ال ي�ضـ ـ ـ ـ ـ ــم فقط عوامل
الإنتاج المتاحة ،داخل االقت�صاد الوطني �أو النظام الوطني للإنتاج،
من مواد �أولية وقوة ب�شرية ور�ؤو�س �أموال (وهي كلها مزايا مقارنة)،
بـ ـ ـ ـ ـ ــل كذلك طبيعة �أدوات العمل؛ �أي الإطار التنظيمي والم�ؤ�س�سي،
كم�ستويات االن�سجام بين تنظيم الإنتاج وتدبير الموارد الب�شرية،
و�أهمية عن�صر التعليم والتكوين وعالقته بالعمل ،و�أهمية عن�صر
االبتكار ،ومدى االهتمام بعملية البحث والتطوير؛ �إ�ضافة �إلى طرق
الت�سيير والتدبير المتبعة ،و�أهمية التكنولوجيا المتوفرة ،و�إنتاجية
الموارد الب�شرية ،ولي�س فقط وفرتها ورخ�صها ،وكذلك طبيعة البنيات
التحتية المتوفرة ،من طرق وموانئ ومطارات و�سكك حديدية (وهي
كلها مزايا تناف�سية) .وهكذا ،يتبين �أن هناك مزايا تتعلق بالمقاولة
(وهي مزايا ميكرو اقت�صادية) ومزايا �أخرى ترجع للدولة م�س�ؤولية
توفيرها وتح�سينها ،لما لها من منفعة بالن�سبة للمقاولة (وهي كلها
مزايا ماكرو اقت�صادية).
وهكذا ،لم ت�صبح التناف�سية ،المعتمدة على رخ�ص الأ�سعار
والقرب من ال�سوق (التناف�سية عن طريق التكلفة �أو ال�سعر) كافية
ل�ضمان نجاحات م�ستمرة في الأ�سواق ،بل �أ�صبحت ثمرة مجهود منهجي،
من خالل التمكن من مراكمة عدة عوامل �أ�سا�سية؛ مثل التحكم في
التوزيع ،وخلق �شبكات تجارية في الخارج ،و�إن�شاء تحالفات مع مختلف
61
ال�شركاء ،وتدبير البحث والتكوين والدرا�سات المختلفة ،و�إدخال
التقنيات المتطورة وطرق الت�سيير الناجعة ،وذلك للتمكن من الإنتاج
بجودة عالية (وهذه هي �شروط التناف�سية البنيوية �أو التكنولوجية).
وتقا�س درجة تناف�سية المقاولة ب�صفة عامة ،من خالل قدرتها
على ا�ستقطاع ح�صة من ال�سوق ،مع �ضمان تطورها االقت�صادي
ومردوديتها ب�صفة م�ستمرة .ومن �أجل التحكم في هذا الم�سار ،يبقى
من الواجب على المقاولة التوفر على القدرة الدائمة على التكيف
وال�سيطرة على الموارد الب�شرية ،من �أر�صدة خا�صة ،واكتتابات مختلفة
في الأ�سواق المالية ،وكذا على الموارد التقنية ،من قبيل تحديث
بينة الإنتاج ،والتحكم في التكنولوجيا المتطورة .هذا ،بالإ�ضافة �إلى
التحكم في المنتوج ،وذلك بدعم �أعمال البحث والتطوير� .إن الرهان
ال�صعب ،هنا لي�س هو اختيار من الأهم في هذه العوامل؛ الت�سويق �أو
التكنولوجيا ،الموارد الب�شرية �أو الجودة؛ فكل هذه العوامل مجتمعة
هي التي ت�ؤدي �إلى ازدهار المقاولة ،وكذا تناف�سيتها.
�إن الجودة ،كرهان اقت�صادي �أ�سا�سي وا�ستراتيجي ،لولوج الأ�سواق
الخارجية� ،أ�صبح يهيكل مجمل ن�شاطات المقاولة ،من الإنتاج �إلى
الت�سويق .ولربح هذا الرهان ،وجب االن�ضباط بنظام �صارم ،يحتم عدم
وجود اختالالت �أو نقط �سوداء في ن�شاط المقاولة؛ وهو ما ي�شار �إليه
ب�سيا�سة الأ�صفار الخم�سة؛ �صفر خط�أ في �إنتاج ال�سلعة؛ و�صفر عطب
في �إنتاج �آالت الإنتاج؛ و�صفر في المهلة والت�أخير؛ و�صفر في المخزون
(�أي انعدام الفائ�ض) و�صفر ورق (�أي انعدام البيروقراطية).
كل هذا يفر�ض مفهوما جديدا للدولة؛ ف�إذا كانت العولمة قد
�أفرزت التناف�سية ،ك�ضرورة ملحة ،ف�إنها �أفرزت كذلك دورا جديدا
للدولة �إزاءها؛ دور اقت�صادي ،يتمثل في الحكام ـ ـ ـ ـ ــة الجيدة والتدبير
العقالني لالقت�صاد ،وذلك بتوفير ال�شروط االقت�صادية والمالية والإدارية
62
والم�ؤ�س�ساتية المالئمة ،والتي ت�ساهم في الرفع من القدرة التناف�سية
للمقاوالت ،وخا�صة ال�صغرى منها والمتو�سطة ،وعدم اختزال هذا
الدور في اال�ستمرار في م�ساندة هذه المقاوالت ودعمها القوي ،وذلك
من خالل التحفيزات والإعفاءات والتخفي�ضات ال�ضريبية المختلفة،
والتي تبقى امتيازات بدون �أي ت�أثير اقت�صادي �أو اجتماعي ،حقيقي
وملمو�س.
63
"نموذج تنموي" ا�ستنفذ كل طاقته
الملك محمد ال�ساد�س ،بمنا�سبة افتتاح الدورة الأولى من
ال�سنة الت�شريعية الثانية ،من الوالية الت�شريعية العا�شرة،يق ــول
بتاريخ � 13أكتوبر�" :2017إذا كان المغرب قد حقق تقدما
ملمو�سا ،ي�شهد به العالم� ،إال �أن النموذج التنموي الوطني �أ�صبح
اليوم ،غير قادر على اال�ستجابة للمطالب الملحة ،والحاجيات
المتزايدة للمواطنين ،وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات
ومن التفاوتات المجالية ،وعلى تحقيق العدالة االجتماعية .وفي هذا
ال�صدد ،ندعو الحكومة والبرلمان ،ومختلف الم�ؤ�س�سات والهيئات
المعنية ،كل في مجال اخت�صا�صه ،لإعادة النظر في نموذجنا التنموي
لمواكبة التطورات التي تعرفها البالد� .إننا نتطلع لبلورة ر�ؤية مندمجة
لهذا النموذج ،كفيلة ب�إعطائه نف�سا جديدا ،وتجاوز العراقيل التي
تعيق تطوره ،ومعالجة نقط ال�ضعف واالختالالت التي �أبانت عنها
التجربة".
يبدو �أن "نموذجنا التنموي" الحالي قد ا�ستنفذ كل طاقته ،وبلغ
مداه ،ويجب �إعطا�ؤه نف�سا جديدا ،وبالتالي تجاوز العراقيل التي تحول
دون تطوره ،من خالل �إعادة النظر في ترتيب �أولوياته ،االقت�صادية
واالجتماعية ،بما يمكن من الحد من الفوارق ،وتحقيق العدالة
االجتماعية ،ومواكبة التطورات الوطنية والعالمية .لكن في المقابل،
هذا ال ينفي �أن بالدنا حققت من خالل هذا النموذج ،مكت�سبات عديدة،
على م�ستوى التوازنات المالية ،والبنيات الأ�سا�سية ،والإ�ستراتيجيات
القطاعية.
�إن بلورة نموذج تنموي جديد ،يمكن �أن يجيب على التحديات
المطروحة على بالدنا ،على م�ستـوى تقلي�ص الفوارق ،وتح�سين الخدمات
االجتماعية ،وتوفير ال�شغل الكريم ،يقت�ضي ت�شخي�صا مو�ضوعيا لـ
"نموذجنا" الحالي؛ بمعنى الوقوف على مكامن قوته ،ومكامن �ضعفه.
لقد اختار المغرب منذ اال�ستقالل ،التوجه الليبرالي ،حيث
جعل منه خالل ال�ستينات وال�سبعينات� ،أداة متميزة في عالقاته مع
دول العالم؛ ولقد عبر المرحوم الملك الح�سن الثاني عن دوافع هذا
االختيار ،في كتابه "ذاكرة ملك" ،حيث قال رحمه اهلل" :كان ذلك
بعد ال�سنة الثالثة �أو الرابعة من اعتالئي العر�ش ،وقد خل�صت �إلى
ا�ستنتاج ال جدال فيه؛ وهو �أن الدولة ال تح�سن المعامالت التجارية،
�أو لأنها ال تعرف كيف تبيع وت�شتري؛ وثانيا ،لأن لها مهام �أخرى ،ومنذ
ذلك الحين� ،أ�صبحت من �أن�صار المبادرة الخا�صة� ،ش�أني في ذلك
�ش�أن ذلك البحار الذي يم�سك ب�صاري ال�سفينة ،وهو يخو�ض الأخطار
ويجابه العا�صفة� .إال �أن الأمر لم يكن يتعلق بموقف متطرف ،ذلك
�أنني �أعتبر �أن الليبرالية العمياء -مثلها مثل �سيا�سة االقت�صاد الموجه
ب�صرامة -تعد قاتلة ،وقد �أكدت الأحداث التي �شهدتها لون�س �أنجل�س
م�ؤخرا� ،أنه يتعين على الم�س�ؤولين الأمريكيين اعتماد تدخل الدولة
بع�ض ال�شيء في �سيا�ساتهم االقت�صادية؛ فمنذ � 1964إذن ،و�أنا �أعرف
�أن الدولة برهنت على �أنها تاجر فا�شل؛ �إال �أن كل م�شكلتي كانت
تكمن في كيفية النجاح في اعتماد الليبرالية؛ �إذ لم يكن هناك ادخار
وطني ،وكنا نجد في مختلف جهات المملكة ،بع�ض العائالت الغنية؛
�إال �أن ثرواتها لم تكن تمثل حتى ع�شر الثروات التي كانت تملكها بع�ض
العائالت الأوربية؛ ولت�أ�سي�س نظام ليبرالي ،يتعين امتالك ثروة وطنية،
68
مرتكزة على االدخار ،ولم يكن �أحد �آنذاك بقادر على ذلك؛ وبالتالي،
فكان ال بد من االرتجال والعي�ش دون تخطيط؛ وفي مثل هذه الحالة،
تكون "البراغماتية" �أحيانا �سبيال للخال�ص".
لقد ظل الم�ستعمر يتحك ـ ـ ـ ــم في البنيات االقت�صادية الأ�سا�سية
للمغرب ،موجها بذلك اقت�صاد البالد في مجاالت الزراعة وال�صناعة
والمواد الخام والنظام النقدي والمالي والموا�صالت ...لخدمة
م�صالحه الخا�صة .وقد �شكل ا�ستقالل المغرب بداية التحول الحقيقي
في التعاطي مع العديد من المع�ضالت االجتماعية واالقت�صادية؛ وتطلع
المغاربة جميعا �إلى م�شروع مجتمعي جديد ،يحقق النمو والتنمية؛ ف�إلى
�أي حد ،ا�ستطاع المغرب ،ومنذ اال�ستقالل �إلى اليوم ،ر�سم مالمح
نموذجه التنموي؟ وما هي �أبرز خطوطه العري�ضة؟
�إن بلورة �أي نموذج تنموي جديد ،تتطلب حتما� ،إدراكا للواقع
االقت�صادي المغربي ،والمالمح الأ�سا�سية التي تطبعه؛ فما هي �إذن
طبيعة االقت�صاد المغربي؟ وما هي و�ضعية التنمية االقت�صادية
في بالدنا ،خالل ال�سنوات الأخيرة؟ لكن قبل طرح عنا�صر الإجابة
على هذين الت�سا�ؤلين ،ي�ستح�سن التذكير ب�أبرز المحطات التاريخية
لالقت�صاد المغربي.
- 2خطــر المديونيــة
110
المغرب ،على غرار جل دول العالم الثالث غير المنتجة
للنفط ،على الفالحة ،وي�صنف �ضمن الدول الفالحية .لكن
يعتمد
رغم هذا الت�صنيف ،فالقطاع الفالحي في المغرب ،لم يتجاوز %20
من الناتج الداخلي الخام� ،إال في بع�ض ال�سنوات .هذه الم�ساهمة
تف�سر العجز الحا�صل في تلبية الطلب الداخلي ،والذي يتم �سده غالبا
باال�ستيراد من الخارج .ورغم المجهودات المبذولة للرفع من الإنتاجية
الفالحية ،عن طريق ال�سقي ،ف�إن الفالحة الزالت مرتبطة ب�شكل كبير
بالت�ساقطات المطرية .و�إذا كانت الفالحة قد �أهملت مقارنة مع
ال�صناعة ،في �سنوات ال�ستينات ،ف�إنها ا�ستفادت من عدة مزايا خالل
ال�سنوات التي تلت؛ منها �إن�شاء �صندوق الإ�صالح الفالحي ،والإعفاء
من ال�ضريبة �إلى �سنة ،2000تم �إلى �سنة .2020وقد تم تحرير القطاع
الفالحي في �أوا�سط الثمانينات ،وتمحور برنامج التحرير واالنفتاح
هذا ،على توجهات �سبعة :عقلنة تدبير �ش�ؤون ال�سيا�سة المالية ،بوا�سطة
تح�سين نظام المراقبة المالية والإدارية ،والمطبق من طرف الحكومة
على المكاتب الجهوية لال�ستثمار الفالحي ،و�إعادة هيكلة م�صالح
البحث الزراعي والإر�شاد وتربية الموا�شي ،وذلك �أوال ،في اتجاه الرفع
من ا�ستقالليتهم ،وكذا تحديد �أولويات تتما�شى والأهداف التي كان
يرمي �إليها برنامج التقويم الهيكلي ،وثانيا ،في اتجاه �إ�شراك القطاع
الخا�ص ،في الت�سيير والتكفل بجزء من هذه الم�صالح ،وتح�سين تدبير
الموارد الطبيعية وال�سيا�سة العقارية ،بوا�سطة �سيا�سة الت�شجير،
واتخاذ �إجراءات قانونية وت�شريعية بخ�صو�ص عمليات �ضم الأرا�ضي،
و�إ�صالح قانون الإيجار القروي وم�س�ألة تحويل الأرا�ضي؛ كذلك تحرير
الأ�سعار ،بالن�سبة لتجارة عوامل الإنتاج في القطاع الزراعي وفي تربية
الموا�شي .وهكذا ،لم تعد عدة مواد م�ستفيدة من الإعانات ،كالأ�سمدة
والحبوب وغذاء الما�شية والآالت الفالحية ،وتم تحرير الأ�سعار،
بالن�سبة لتجارة المنتوجات الفالحية .وقد ترتب عن هذا الإجراء ،توقف
111
�سيا�سة الإعانات لبع�ض المواد الأ�سا�سية كالحليب ،ونق�ص في المبلغ
المخ�ص�ص لهذه الإعانات؛ كذلك تغيير بنية اال�ستثمارات العمومية.
وكان يهدف هذا الإجراء� ،إلى ح�صر االهتمام فقط بالمنتخبين الذين
يتما�شون و�أهداف برنامج التقويم الهيكلي؛ ال�شيء الذي يف�سر من
جهة ،التراجع الملحوظ في �إن�شاء التجهيزات االجتماعية في البنيات
التحتية الأ�سا�سية ،خ�صو�صا في مناطق ذات م�شاريع التنمية القروية
المندمجة؛ ومن جهة �أخرى ،تركيز كل الو�سائل المالية والتقنية
والب�شرية لوزارة الفالحة على المناطق والمنتجين الذين من �ش�أنهم
الرفع من الإنتاج الفالحي ،والذي �أ�صبح من �أهم الأولويات؛ �إ�ضافة
�إلى تحرير التجارة الخارجية للمنتوجات الفالحية ،وذلك ب�إزالة نظام
الح�ص�ص .وعلى هذا النحو ،فقد تم الحد من احتكار مكتب الت�سويق
واال�ستيراد ،ابتداء من 19نوفمبر من �سنة ،1985والتعوي�ض التدريجي
لنظام الح�ص�ص ،بنظام تعرفة جمركية تدريجي ،وفقا لخ�صائ�ص
المنتوجات الفالحية الم�ستوردة.
االهتمام بقطاع الفو�سفاط عائد بالأ�سا�س �إلى التق�سيم الدولي
للعمل ،والذي جعل من الدول الحديثة العهد باال�ستقالل ،متخ�ص�صة
في ا�ستخراج المعادن التي تجود بها �أرا�ضيها� ،أو �صنع مواد محددة.
وبالن�سبة للمغرب� ،شكل الفو�سفاط المعدن الرئي�سي الذي �ساهمت
مداخيله في الرفع من عوائد الخزينة؛ فخالل عقدي ال�سبعينات
والثمانينات� ،شكل ت�صدير المواد الفالحية والفو�سفاطية حوالي %70
من مجموع ال�صادرات المغربية؛ وهو ما يبين االرتباط الكبير لالقت�صاد
الوطني بالمواد الطبيعية .ولكون �أ�سعار الفو�سفاط متقلبة ب�شكل كبير
في ال�سوق العالمية ،ف�إن االقت�صاد المغربي يت�أثر بهذه التقلبات؛ كما
�أن �سيا�سة تثمين هذا المعدن ،جعلت جزء كبيرا من اال�ستثمارات
يتجه �إلى ال�صناعة الكيميائية .ونظرا لأهمية الفو�سفاط في االقت�صاد
112
المغربي ،ف�إنه ي�ؤثر ب�شكل مبا�شر ،على مختلف الم�ستويات (الإنتاج،
الت�شغيل والت�صدير).
�أما القط ـ ـ ـ ــاع ال�صناعي ،فيبقى بعيدا عن تحقيق الأهداف
المتوخاة منه ،لتحقيق الإقالع االقت�صادي؛ فهيمنة المقاوالت ال�صغيرة
والمتو�سطة ،وارتباطها الكبير بال�سوق الخارجية ،جعل هذا القطاع
مرهونا بتقلبات ال�سوق العالمية .وتن�شط غالبية المقاوالت ال�صغرى
والمتو�سطة -والتي هي في عمومها ،مقاوالت عائلية؛ لذا فر�أ�سمالها
يبقى محدودا ،كما �أن ن�سبة ا�ستمراريتها وتطورها تبقى قليلة جدا -
في مجاالت �صناعة المالب�س الجاهزة ،وت�صبير المواد الغذائية.
فبالن�سبة لقطاع الن�سيج والمالب�س الجاهزة ،ورغم الدينامية
التي تطبع تطوره بالمغرب ،ف�إنه الزال عر�ضة لتقلبات الأ�سواق
الخارجية ،وخا�صة الفرن�سية .كما �أن ال�سيا�سية الت�سويقية لهذا القطاع،
تميزت بمنتوجات وزبناء قليلون ،حيث �إن %80من ال�صادرات المغربية،
هي باتجاه فرن�سا؛ وهذا ال يعني �أن المغرب ممون �أ�سا�سي لفرن�سا في
ميدان المالب�س الجاهزة ،حيث لم تمثل م�ساهمة القطاع المغربي �إال
بـ %9,5من الوردات الفرن�سية من هذه المنتوجات؛ مما ال يعطيها
القدرة على فر�ض �شروطها واختياراتها ،والت�أثير على الأثمنة.
لقد ا�ستفاد قطاع الن�سيج من عدة امتيازات لفر�ض منتوجاته،
خا�صة في ال�سوق الأوروبية ،في مواجهة المناف�سة ال�شر�سة لدول �شرق
�آ�سيا؛ وارتكزت هذه االمتيازات خ�صو�صا ،على العوامل الموروثة،
ومنها يد عاملة وفيرة ورخي�صة ،والقرب من �أوروبا ،وخا�صة االرتباط
الثقافي بفرن�سا؛ لكن يعاني القطاع اليوم ،من عدة عراقيل؛ تتمثل في
ارتفاع تكاليف النقل والطاقة والأرا�ضي المعدة للت�صنيع والقرو�ض
البنكية؛ مما يدفع ال�صناعي �إلى التوجه �إلى ا�ستثمارات مربحة على
المدى القريب؛ كما �أن ارتفاع تكاليف النقل الجوي يمنع ال�شركات من
113
ت�سليم منتوجاتها في الأوقات المحددة ،واال�ستفادة �أكثر من القرب
من �أوروبا؛ كما تواجه هذه ال�شركات على الم�ستوى الداخلي� ،ضعف
الطلب الداخلي.
الزال القطاع الثالث يتطور با�ستمرار في المغرب ،وي�ساهم
بقيمة م�ضافة جد مهمة؛ كما يعرف ظهور �أن�شطة عديدة ،مرتبطة
�أ�سا�سا بالتجارة الخارجية؛ ف�إذا �أخذنا مثال ال�سياحة فقط ،فهي
بقيمة م�ضافة تبلغ %2من الناتج الداخلي الخام ،لم ت�صل بعد �إلى
الم�ستوى والنتائج المن�شودة ،لما يتوفر عليه المغرب من م�آثر تاريخية
وقربه من �أوروبا (�سوق كبيرة م�صدرة لل�سياح) .لكن ،تبقى البنيات
التحتية ،وال�سيا�سة المتبعة ال�ستقطاب ال�سياح ،غير كافية؛ فبا�ستثناء
بع�ض القرى ال�سياحية في مناطق محددة من المغرب ،والتي ت�سير
من طرف مجموعات عالمية ،وبع�ض الفنادق الكبرى في كبريات
المدن المغربية ،يبقى القطاع ال�سياحي المغربي �أو بع�ض الم�ستثمرين
ال�سياحيين ،يعانون طيلة ال�سنة من الخ�صا�ص من الناحية المالية.
يع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرف العالم اليوم ،كما �أ�شرنا �إلى ذلك �سالفا ،مناخا
اقت�صاديا دوليا خا�صا ،يطبعه عدم اال�ستقرار؛ ويتمثل في تراجع
معدل النمو االقت�صادي العالمي ،وانخفا�ض حجم المبادالت التجارية،
وكذا تقل�ص تدفقات اال�ستثمارات الأجنبية؛ �إ�ضافة �إلى انفالت قب�ضة
التحكم من �أيدي البلدان ال�صناعية ،فيما يخ�ص معدالت الت�ضخم،
والتي �أ�صبحت تميل �إلى االرتفاع ،وما لذلك من تداعيات على القدرة
ال�شرائية للمواطنين ،وخا�صة ذوي المداخيل الثابتة؛ مما ينذر ب�أزمات
اقت�صادية واجتماعية خطيرة ،وما قد ينتج عنه من انعكا�سات �سلبية،
تهدد �أمن وا�ستقرار المجتمع؛ مما يحتم على بالدنا اليوم ،التوفر على
نظرة �إ�ستراتيجية وا�ضحة لآثار وانعكا�سات ما يحدث الآن من تحوالت
مت�سارعة ،وقراءتها ،والتعامل معها بكل مو�ضوعية وجدية وم�س�ؤولية.
114
و�إذا كان الإن�سان هو الر�أ�س المال الحقيقي ،متى تم التركيز عليه
كثروة وطنية ،من �إ�شباع لحاجاته ،وحماية لجميع حقوقه ،ال�شخ�صية
والمدنية وال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية؛ فالدعوة �أ�صبحت
اليوم �أكثر �إلحاحا �إلى �إعادة النظر في الفل�سفة العامة التي تحكم
"نموذجنا التنموي" الذي يجب �أن ال يبقى �إ�صالحه رهين التوافقات
بين ال�سلطة التنفيذية من جهة ،وجماعات ال�ضغط المختلفة من جهة
�أخرى ،بل يجب �أن يكون نتاج تفكير عميق ور�صين؛ قائم �أ�سا�سا ،على
الخبرة والواقعية.
115
نموذج تنموي نطمح �إليه
"النموذج التنموي المغربي" الحالي ،كما �أ�صبح معلوما،
من تحديات كثيرة ،وعوائق ومتنوعة؛ ناتجة عن الجوانب يعـانـي
ال�سلبية لمدخالته ،بمختلف �أنواعها؛ مثل �ضعف حجم
اال�ستثمارات المخ�ص�صة للتنمية ،و�س ـ ــوء ا�ستغالل الموارد ،وغياب
الحكامة الجيدة في �إدارة الم�شاريع التنموية ،وانخفا�ض م�ستويات
الإنتاجية ،و�ضعف الكفاءة االقت�صادية لكافة القطاعات ،وغياب الأمن
الغذائي ،و�ضعف الأمن االجتماعي ،بالإ�ضافة �إلى ارتفاع ن�سب البطالة،
وانت�شار الفقر ،والبطء في ا�ستيعاب العلم والتكنولوجيا الحديثة
وا�ستخدامها لأغرا�ض التنمية .ويرجع الق�صور التنموي في المغرب
بالأ�سا�س� ،إلى ف�شل التحكم في عالقاته االقت�صادية بال�سوق العالمية،
وخ�ضوعه الم�ستمر لتبعية تجارية ومالية وثقافية وتكنولوجية ،وتغييب
الإن�سان ل�سنوات طويلة ،عن عملية التنمية؛ الأمر الذي يتجلى في �ضعف
�أداء المنظومة التعليمية والتكوينية ،وعدم مالئمتها مع م�ستلزمات
التنمية؛ �إ�ضافة �إلى تهمي�ش الطاقات االبتكارية ،وق�صور الأداء
ال�سيا�سي ،و�ضعف ت�أهيل الدولة لالنخراط في م�شروع الديمقراطية،
وتهمي�ش المجتمع المدني ،على م�ستوى اتخاذ القرار في المجاالت
ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية.
لقد تميزت ال�سنوات الأخيرة في المغرب ،ب�إكراهات عديدة ،على
ال�صعيدين الداخلي والخارجي؛ وهو ما يحتم على الجميع ،التحرك
لتجاوزها ،وخلق الظروف المالئمة لت�أهيل االقت�صاد وتحقيق التنمية،
وذلك بخلق مناخ ماكرو اقت�صادي نظيف ،مبني على المناف�سة الحرة،
و�إلغاء نظام االحتكارات ،وتر�شيد النفقات العامة ،عن طريق تطوير
ال�شراكة مع القطاع الخا�ص ،و�إنعا�ش المقاوالت الخا�صة ،ال�صغرى
منها والمتو�سطة والمتناهية ال�صغر ،و�إ�صالح النظام الق�ضائي ،والتخفيف
من العبء الإداري ،وعقلنه عملية احت�ساب ال�ضرائب ،وتو�سيع الوعاء
ال�ضريبي ،والحد من الع�شوائية في قرارات الإدارة الجبائية ،وتب�سيط
الم�ساطر ،و�إتباع نظام �صارم للمراقبة؛ �إ�ضافة �إلى تو�سيع وت�شجيع
المبادرات اال�ستثمارية المنتجة ،العمومية منها والخا�صة ،واتخاذ
�إجراءات ملمو�سة لتح�سين الأو�ضاع االجتماعية ،من خالل التفكير
في و�سائل و�آليات للعمل على ت�صحيح االختالالت والفوارق ،وتح�سين
ظروف عي�ش المواطن ،ومحاربة الفقر ومختلف �أ�شكال الحرمان ،عبر
تعميق البعد االجتماعي ،والحر�ص على بلورة روح الت�ضامن بين �أفراد
الأمة؛ الأمر الذي يتطلب موا�صلة الإ�صالحات البنيوية والقطاعية،
وذلك من خالل التدبير الجيد للإدارة العمومية ،وتمكين المر�أة،
وخلق مجتمع المعرفة ،و�إ�صالح التعليم ،وخا�صة النهو�ض بالتعليم
العالي والبحث العلمي ،حتى يكون رافعة للتنمية؛ كذلك تر�سيخ ثقافة
حقوق الإن�سان ،وتوطيد دعائم الديمقراطية ،و�سيادة القانون ،وتقوية
المجتمع المدني؛ �أي بمعنى �آخر ،خلق �شروط نمو اقت�صادي قوى
ودائم ،يف�ضي �إلى تنمية حقيقية� ،شاملة وم�ستدامة.
�إن النموذج التنموي الذي نطمح �إليه ،هو الذي يحقق ثالث
�أهداف جوهرية؛ يمكن تلخي�صها في ما يلي :توفير الحاجات الأ�سا�سية،
حيث يحتاجها الإن�سان ال�ستمرار حياته ،وتتمثل في الغذاء والم�سكن
وال�صحة والحماية من مختلف الأخطار؛ ويحتاج �إلى رفع م�ستوى
معي�شته ،ويتحقق ذلك بزيادة دخله ،وتوفير فر�ص العمل �أمامه ،ورفع
م�ستوى التعليم وال�صح ـ ـ ـ ــة ،واالرتقاء بالقيم الإن�سانية والثقافية في
120
المجتمع؛ ويحتاج كذلك احترام الحريات والحقوق الأ�سا�سية ،و�سيادة
القانون .ويرتبط تطور �أهداف التنمية في ال�سنوات الأخيرة ،بتطور
مفهوم التنمية نف�سه .لذلك ،يمكن �إ�ضافة هدف �آخر بالغ الأهمية؛
وهو الحفاظ على البيئة ،حيث �إن تحقيق رفاهية الأجيال الحالية،
يجب �أن ال تكون على ح�ساب ا�ستنزاف الخيرات والموارد الطبيعية،
لأن في ذلك �إجحاف بحقوق الأجيال الم�ستقبلية.
- 4الدولة االجتماعية
جاءت الدولة االجتماعية كنتيجة لتطور ال�سياق ال�سو�سيو
اقت�صادي للعولمة ،وما حملته هذه الأخيرة معها ،من تراجع في دور
النقابات المهنية والأحزاب ال�سيا�سية ،حيث لم تعد الأجوبة الوطنية
وحدها كافية لت�صحيح االختالالت ،وتحقيق المطالب االجتماعية
المختلفة؛ فالمجتمع العادل لم يعد يخ�ضع فقط لعمل الدولة ،و�إنما
�أ�ضحى يقوم� ،إلى جانب ذلك ،على عالقات م�ؤ�س�ساتية ،اقت�صادية
واجتماعية ،ترتكز على معايير عادلة ،وتقوم على مبادئ ومرجعيات
م�شتركة ،ترمي �إلى بناء مجتمع عادل ومت�ضامن وم�س�ؤول ،حيث لم
تعد الدولة المرجع الوحيد للمجتمع العادل ،بل ظهرت �إلى جانبها
حركة مجتمعية وا�سعة� ،أكثر تنظيما و�أقوى ت�أثيرا ،تهدف �إلى جعل
الت�صرفات االقت�صادية �أكثر عدال ،و�أكثر �إن�سانية.
�إن الدولة االجتماعية ،كم�ؤ�س�سة عادلة ،ترتكز على التزامات
165
متعارف عليها ،تحتاج في عملها �إلى "عقد اجتماعي" ،يكون بمثابة
ميثاق وطني ،يحدد الم�س�ؤوليات ،حتى ي�ستطيع كل المتدخلين تكييف
مبادئهم وكفاءاتهم مع طبيعة م�س�ؤولياتهم ،وذلك بهدف بناء مجتمع
فاعلين وم�س�ؤولين.
هذه الثنائية في الأدوار وفي الم�س�ؤوليات بين الدولة والمجتمع
المدني ،يمكن اعتبارها �أ�سا�س الدولة االجتماعية .لكن ،هل الدولة
م�ستعدة اليوم ،بما فيه الكفاية ،للقيام بكل هذه الأدوار والوظائف
االجتماعية الجديدة؟ وهل الدولة قادرة كذلك على احتواء وا�ستيعاب
جميع �شرائح المجتمع ،اقت�صاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا ...وهل
الدولة م�ستعدة للتخلي عن جزء من �سلطتها ،وجعل م�ستقبل التنمية
داخلها ،بيد الأفراد والم�ؤ�س�سات؟ كما �أن الم�س�ؤولية االجتماعية ال
تقت�صر على الدولة والمجتمع المدني فح�سب ،و�إنما تتعداهما ،لت�شمل
المدخرين والم�ستثمرين ،كفاعلين في التنمية االجتماعية ،عندما
يتحول االدخار �إلى ا�ستثمار في القطاعات الأقل مردودية (في الثقافة
وفي الخدمات االجتماعية) �أو �إلى قرو�ض ل�صالح الفئات الفقيرة (من
خالل م�شاريع مدرة للدخل).
�إن التنمية االجتماعية م�سار طويل ومت�شعب ومتعدد الأبعاد،
يقود �إلى تنمية القدرات الفردية والفر�ص والإمكانات المتاحة ،ويقود
كذلك �إلى تو�سيع دائرة الخيارات وتقوية الطاقات ،على �أ�سا�س من
الم�شاركة والحرية والفاعلية ،من �أجل الو�صول �إلى تحقيق الرفاهية
لأفراد المجتمع ،اليوم وغدا ،دون �أن ترهن في ذلك قدرة الأجيال
القادمة على اال�ستجابة لرغباتها .وال يت�أتى ذلك كله �إال بالزيادة
من مخزون ر�أ�س المال المتاح ،بجميع �أ�صنافه؛ المادية (�أرا�ضي
وتجهيزات) والمالية (ادخار وقرو�ض) والطبيعية (مواد طبيعية)
والب�شرية (تعليم و�صحة) واالجتماعية (عالقات اجتماعية).
166
من هذا المنطلق ،تمثل التنمية الب�شرية برنامج عمل بنيوي
وطويل الأمد ومتعدد الجوانب؛ ي�شمل الجانب المادي (توفير المواد
وال�سلع والخدمات) والجانب الثقافي (حماية الهويات) والجاني
ال�سيا�سي (تقوية ال�سلطة) والجانب الأخالقي (المعايير والقيم)؛ وكل
ذلك بهدف مواكبة العملية االقت�صادية ،حتى ال ت�ؤدي �إلى اختالالت
اجتماعية ،تعيق اال�ستمرار في النمو ،وفي تح�سين ظروف العي�ش.
�إن التنمية لي�ست مجرد عملية �إنتاجية لتوفير المواد وال�سلع
والخدمات ،و�إنما هي �أكبر من ذلك ،تبتدئ ب�سد الخ�صا�ص في ال�شغل
وال�سكن وال�صحة والتعليم ،وتنتهي عند تحقيق الأمن ال�سيا�سي،
والم�شاركة في الحفاظ على التوازن البيئي ،واحترام القانون
والم�ؤ�س�سات ،وتمكين المر�أة ،ومكافحة الفقر �أو على الأقل تقلي�صه.
في ما يتعلق بتمكين المر�أة ،نذكر ب�أن تاريخ المغرب حافل
ب�سير ن�ساء رائدات ،كانت كلماتهن م�سموعة و�أوامرهن مطاعة ،تركن
ب�صمات نا�صعة ،و�سطرن بحروف من ذهب مواقف جليلة ،وملأن �سمع
الزمان وب�صره ،وكن بحق مفخرة للع�صور وغرة في جبين الدهور،
قرونا بعد قرون ،رغم العقلية الذكورية التي حاولت طم�س معالمهن
وتغييب �آثارهن؛ عقلية ت�أبى اليوم كذلك �إال �أن تفر�ض ما يتوافق
وم�صلحتها ،وت�أكيد تفوقها وهيمنتها ،حيث تعمد �إلى خلق المزيد من
العوائق �أمام المر�أة ،دون اعتبار ل�شخ�صها وواقعها و�أحوالها ،وما
قدمته من ت�ضحيات وحققته من مكت�سبات.
لقد �أ�صبحت الثقافة اليوم� ،آلية من �آليات ال�سيطرة والهيمنة
والإ�شراف االجتماعي؛ �أ�صبحت تحكم قرارات المجتمع ،وتبني عالقاته
وت�صرفاته ،وتحدد �سلوكه و�أ�سلوب حياته .ولأن الثقافة وليدة المجتمع
وملك لكل �أفراده ،فالذين يعي�شون في مجتمع ما ،ن�ساء كن �أو رجاال،
ي�شتركون جميعا وعلى حد �سواء ،في تجارب هذا المجتمع و�أعرافه
167
وقيمه؛ وهذه الم�ساحة الم�شتركة تخلق نوعا من الوحدة والتجان�س
في العادات والتقاليد ،حتى ي�صعب تغييرها �أو الت�أثير فيها �أو حتى
التعر�ض �إليها �أو االقتراب منها ،لأنها تتميز بالثبات والقبول ،وت�ستند
على ثقافة مجتمعية مكت�سبة ،تغر�س في النفو�س ،منذ �سن مبكرة،
في�صبح بذلك م�صيرها منوط بم�صير المجتمع بكامله� ،أو على الأقل
بم�صير الجماعة التي �أنتجتها ،وتحاول ب�شتى الو�سائل الم�شروعة وغير
الم�شروعة ،الر�سمية وغير الر�سمية ،الحفاظ عليها.
�إن �أي تحول في الثقافة هو في الواقع منبع �أفعال ملمو�سة،
ومنطلق م�سيرة طويلة و�شاقة ،لأن الأمر يتعلق ب�إحداث ثـورة في الفكر
وال�سيا�سة والإيديولوجيا ،ثـورة من �ش�أنها �أن تخلق رجة قوية في
المجتمع وت�سفر عن تغيرات كبرى في القوانين والت�صورات والأعراف
والتقاليد والقيم والمعتقدات والقناعات.
�إننا بحاجة اليوم� ،أكتر من �أي وقت م�ضى� ،إلى �إ�صالح عميق،
يعيد تنظيم المجتمع ،كما يعيد �إنتاج قيمه وثقافته من جديد ،على
�أ�سا�س من الم�ساواة وتكافئ الفر�ص ،بعيدا عن ثقافة التمييز في
الحقوق والواجبات وفي تولي الم�س�ؤوليات؛ الأمر الذي ال يتحقق �إال
ب�إ�صدار القوانين والت�شريعات و�إعمال الخطط واالتفاقيات ،والعمل
بحزم و�صرامة على تنزيلها وح�سن تنفيذها.
�أما في ما يتعلق بالفقر ،فال بد من التذكير بداية ،ب�أنه ال
يوجد له تعريف متفق عليه من طرف الجميع ،لكن المن�شور ال�صادر
عن الأمم المتحدة في مار�س ،1999تعر�ض لل�صور والأ�شكال التي
يتخذها الفقر؛ �إذ جاء فيه �أن الفقر يتخذ �أ�شكاال متنوعة ،تت�ضمن
انعدام الدخل ،والموارد المنتجة الكافية ل�ضمان م�ستوى معي�شي الئق؛
ومن مظاهره ،نذكر الجوع ،و�سوء التغذية ،و�سوء ال�صحة ،والو�صول
المحدود �أو المعدوم �إلى التعليم وغيره من الخدمات الأ�سا�سية،
168
وانت�شار الأمرا�ض والوفيات ،وانعدام الم�ؤن وال�سكن غير المنا�سب،
والعي�ش في بيئة غير �آمنة ،بالإ�ضافة �إلى انعدام الم�شاركة في �صنع
القرارات في الحياة المدنية واالجتماعية.
ولمكافحة الفقر �أو على الأقل تقلي�صه ،نحتاج �إلى �إ�ستراتيجيات
وطنية مندمجة ،تعمل على زيادة امتالك الفقراء للأرا�ضي ،خا�صة
في القرى والبوادي؛ وتكوين اليد العاملة؛ والزيادة في عوامل الإنتاج
المتاحة للفقراء؛ وا�ستمرار هدف مكافحة الفقر في المخططات
الوطنية للتنمية ،وذلك في �أفق �إعادة اعتبار خط الفقر ،لي�أخذ في
ح�ساباته احتياجات الحياة ال�ضرورية للمواطنين ،من غذاء وغيره ،حتى
يعك�س ذلك حقيقة الأبعاد المتعددة لطبيعة الفقر ونوعية االحتياجات
الأ�سا�سية (الغذاء والم�سكن والخدمات الأ�سا�سية ،وخدمات ال�صحه
والتعليم والموا�صالت)...؛ والرفع من فر�ص الم�ساهمة الإيجابية
المتاحة �أمام الفقراء ومحدودي الدخل في عملية التنمية االقت�صاديه؛
كذلك تبني �إ�ستراتيجية لتوزيع المداخيل في كل ال�سيا�سات والبرامج
التنموية ،و�أن يكون هدفها الأول مكافحة الفقر المدقع ،و�إعادة هيكلة
العمالة ،وزيادة تنميه الأعمال التجارية وال�صناعية للأغلبية الفقيرة
من ال�سكان؛ مما قد يف�ضي في النهاية� ،إلى انخفا�ض معدالت الفقر،
وتقلي�ص الفوارق في المداخيل بين المجموعات المختلفة.
وبالإ�ضافة �إلى كل ما ذكر ،نقترح الآتي:
� -أن يت�ضمن النظام ال�ضريبي بعدا اجتماعيا وا�ضحا ،ي�ستفيد
منه الفقراء ،وذلك بت�أكيد مبد�أ الت�صاعدية في ال�ضريبة على الدخل،
بالرفع من الحد الأدنى من الدخل الخا�ضع لل�ضريبة ،وت�ؤخذ ال�ضريبة
بعد خ�صم �أق�ساط الت�أمين ال�صحي ،ون�سبة عدد الأطفال ،وخا�صة
الممدر�سين منهم ،وذوي الإعاقة.
-تنمية الأ�سر الأ�شد فقرا :من خالل الأن�شطة المدرة للدخل،
169
وبرامج تمويلية تقدم قرو�ضا بدون فوائد للفقراء ،وبفترات �سماح
طويلة ،وزيادة الخدمات الموجهة للمناطق الفقيرة ،بهدف تح�سين
نوعية الحياة ،و�إن�شاء الم�ساك ـ ـ ـ ــن للفقراء وترميم بع�ضها ،وتوفير
خدمات الماء ال�صالح لل�شرب والكهرباء وال�صرف ال�صحي والتعليم،
وتح�سين الربط بال�شبكة الطرقية؛ هنا برامج المبادرة الوطنية للتنمية
الب�شرية ،في ن�سختها الثالثة ،يمكن �أن تقدم ال�شيء الكثير من �أجل
تدارك الخ�صا�ص الم�سجل على م�ستوى البنيات التحتية والخدمات
الأ�سا�سية بالمجاالت الترابية الأقل تجهيزا ،ومواكبة الأ�شخا�ص في
و�ضعية ه�شة ،وتح�سين الدخل والإدماج االقت�صادي لل�شباب ،للحد
من الفوارق المجالية واالجتماعية بالعالم القروي ،وتح�سين عر�ض
الخدمات العمومية ،وفق مقاربة مندمجة ومتكاملة العالجية.
-برامج غيـ ـ ـ ـ ــر حكومية ،تنفذها منظمات المجتمع المدني،
بهدف تقلي�ص الفقر ،عن طريق زيادة مداخيل الأ�سر الأ�شد فقرا،
من خالل تقديم قرو�ض بدون فوائد للفقراء؛ كما تقدم الحكومة من
جانبها ،قرو�ضا لهذه البرامج ودائما بدون فوائد ،من �أجل تمويل
م�شروعاتها للفقراء ،في مجال الزراعة وم�شروعات الأعمال ال�صغيرة،
والمتناهية ال�صغر.
� -سيا�سة الدعم المبا�شر ،ت�ستهدف الفقراء ،وخا�صة الذين
هم في و�ضعية ه�شة� ،أ�سرا و�أفرادا كذلك ،مثل تقديم �إعانة �شهريه،
لمن يعيل �أ�سرة� ،أو يعيل نف�سه بنف�سه� ،أو يعيل معاق ،وهو غير قادر
على العمل ل�سبب �أو لآخر.
-تقديم قرو�ض بدون فوائد ل�شراء م�ساكن اجتماعية قليلة
التكلفة ،من خالل �صندوق خا�ص ين�ش�أ لهذا الغر�ض ،تحدد اعتماداته
ال�سنوية من الميزانية العامة للدولة� ،إلى جانب اعتمادات مالية �أخرى،
170
تدعم م�شروعات اجتماعية موجهه لتطوير القرى والأن�شطة الفالحية
الخا�صة بالفقراء؛ الأمر الذي من �ش�أنه �أن يخلق طبقة و�سطى ن�شيطة
وفاعلة ،في القرية والبادية.
-توفير مراف ـ ـ ـ ــق البنية الأ�سا�سية ،االجتماعية واالقت�صادية،
في المناط ـ ـ ـ ــق القروية والجبلية ،المعزولة والفقيرة ،بما في ذالك
مرافق النقل والموا�صالت ،والمدار�س ،والخدمات ال�صحية ،والماء
والكهرباء ...
-دعـ ـ ـ ـ ــم الأدوية التي ي�ستعملها الفقراء وخا�صة تلك المنقذة
للحياة ،كذلك دعم القطاع الخا�ص من �أجل فتح مراكز وعيادات
�صحية ،خا�صة في القرى والمناطق النائية والمعزولة ،وتقديم خدمات
بالمجان لرعاية �صحة الحوامل والأطفال.
-و�ضع برنامج "قرى ومدن نموذجية من دون الفقر" ،على غرار
برنامج مدن من دون �صفيح ،تعمل فيها الدولة على مكافحة الفقر،
وذلك لبلوغ �أهداف التنمية.
لقد تعددت البرامج والمخططات التي تهدف الق�ضاء على
الفقر والنهو�ض بالأو�ضاع االجتماعية؛ لكن يبقى تنزيلها على �أر�ض
الواقع ي�شوبه الكثير من التعثر واالرتباك؛ وهذا �أمر طبيعي ،لأن الفقر
�أكبر من كونه م�شكال اجتماعيا؛ فهو قبل ذلك ثقافة و�سلوك ،و�شيوعه
داخل المجتمع ،يعني �إحباط �أجيال بكاملها؛ فال ت�ستطيع االندماج
في القطاعات الأكثر مردودية �أو حتى اال�ستفادة من الخدمات
االجتماعية ،من �صحة وتعليم و�سكن الئق؛ لأنها تبقى من�شغلة �أ�سا�سا
بتلبية حاجياتها ال�ضرورية؛ هذا ال�ضعف في االندماج في الحياة
المهنية والمدر�سية من قبل الفقراء و�أبنائهم ،يزيد من حدة الفقر،
ويعيق �أي مجهود للتنمية االقت�صادية ولل�سلم االجتماعي؛ وبذلك نكون
ب�صدد حلقة مفرغة ،لي�ست لها ال بداية وال نهاية.
171
�إن �أي مقاربة للق�ضاء على الفقر ال يمكن �أن تكون ناجعة،
�إال بالعمل في اتجاه الحد من النمو الديمغرافي الكبير الذي تعرفه
بالدنا؛ هذا النمو للأ�سف اليوم في المغرب ناتج بالدرجة الأولى عن
الأ�سر الفقيرة والمحرومة؛ وهذه هي المفارقة الغريبة؛ و�إذا ا�ستمر
هذا الو�ضع ،فهذا يعني �إخفاق �أي مجهود ،تقوم به الدولة والم�ؤ�س�سات
التابعة لها ،وكذلك منظمات المجتمع المدني ،للتخفيف من الفقر،
وتح�سين م�ستوى عي�ش المواطنين؛ فزيادة التنا�سل بين الفئات
الفقيرة ،وعدم تحكمها في معدل الخ�صوبة ،يبقى �أكبر عائق �أمام
نجاعة �أي �سيا�سة ،كيفما كانت �أهميتها؛ لأن ا�ستمرار هذا الو�ضع،
يعني المزيد من ا�ستنزاف الخيرات ،ومن تقلي�ص الم�صادر المتوافرة
في بالدنا ،الب�شرية منها والمالية واالقت�صادية والبيئية...
هذه حقيقة يتم �إخفائها� ،أو على الأق ــل تغافلها ،ولي�س لدينا
اليوم �سيا�سيات عمومية �إ�صالحية ،ترمي �إلى �إعادة الهيكلة ،وخلق
دينامية قوية للتنمية االقت�صادية اعتمادا على طبقة و�سطى ،تقوم
بكامل �أدوارها؛ وهو ما �أكده الملك محمد ال�ساد�س في خطاب العر�ش،
بتاريخ 30يوليوز ،2008حين اعتبر �أن "الهدف الإ�ستراتيجي لكافة
ال�سيا�سيات العمومية ،هو تو�سيع الطبقة الو�سطى ،لت�شكل القاعدة
العري�ضة وعماد اال�ستقرار والقوة المحركة للإنتاج والإبداع"...
وجعل الفئات الو�سطى مرتكز المجتمع المتوازن ،الذي نعمل على
بلوغه؛ مجتمع منفتح ،ال انغالق فيه وال �إق�صاء؛ مجتمع تت�ضامن فئاته
المي�سورة ،با�ستثماراتها المنتجة ومبادراتها المواطنة وما تدره من
�شغل نافع مع غيرها ،في المجهود الوطني الجماعي ،للنهو�ض ب�أو�ضاع
الفئات المعوزة ،وتمكينها من �أ�سباب المواطنة الكريمة"؛ ليعود
جاللته ،بمنا�سبة افتتاح الدورة الأولى من ال�سنة الت�شريعية الثالثة
من الوالية الت�شريعية العا�شرة ،بتاريخ � 12أكتوبر ،2018وي�ؤكد مرة
172
�أخرى ،على "تعزيز المكا�سب المحققة في الميدان الفالحي ،وخلق
المزيد من فر�ص ال�شغل والدخل ،وخا�صة لفائدة ال�شباب القروي ،في
�أفق ت�شجيع انبثاق وتقوية طبقة و�سطى فالحية ،كفيلة بتحقيق توازن
و�أن تكون رافعة للتنمية االقت�صادية واالجتماعية".
�إنها لدعوة �صريحة من �أعلى �سلطة في البالد ،للم�س�ؤولين
و�أ�صحاب القرار ،للتدخل عبر �إجراءات �آنية ،ملمو�سة ومحددة ،بغية
تو�سيع قاعدة الطبقة الو�سطى ،في المدن وفي القرى؛ و�إنه لنداء
قوي كذلك للفئات المي�سورة من ذوي المال والأعمال ،للت�ضامن
والم�شاركة ،عبر مبادرات مواطنة وم�س�ؤولة ،فـ ــي المجهود الوطني
الجماعي لمحاربة الفقر ،والوقوف بجانب الفقراء ،وتمكينهم من
�أ�سباب الحياة الكريمة.
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الطبقة الو�سطى ،وعن
دورها ،كقوة محركة للإنتاج والإبداع ،وكعماد لال�ستقرار ،وكمرتكز
للتوازن االجتماعي ،وك�أ�سا�س قوي يقوم عليه المجتمع ،للنهو�ض ب�ش�ؤون
الوطن وتدبير �ش�ؤونه وقيادة التغير ال�سيا�سي واالقت�صادي واالجتماعي
داخله ،وذلك عبر ا�ستثمارات منتجة ومواقف �سيا�سية جريئة ومبادرات
اجتماعية م�س�ؤولة ومواطنة.
وتبقى "الطبقة الو�سطى" م�صطلحا مبهما ،وال يختلف كثيرا عن
م�صطلح "التنمية الب�شرية" الذي �أبدعته عبقرية الم�ؤ�س�سات الدولية،
حيث تمت �صياغته بحكمة بالغة ،في دهاليز الأمم المتحدة ،وتم
�إنزاله �إلى �أر�ض الواقع بالتدرج ،ليتم تكري�سه و�إ�شاعته عبر العالم،
والذي يعتبر الفقر المتعلق بالدخل �أو الفقر المالي ،مجرد عن�صر
من عنا�صر الحرمان الذي يطال الأفراد؛ وبذلك ،فهو ال يعتبر الدخل
لوحده م�س�ؤوال عن الرفاهية ،و�إنما هناك مقومات ومرتكزات �أخرى
غير الدخل ،من �ش�أنها تحقيق الرفاهية للأفراد والمجتمعات ،من قبيل
173
تنمية القدرات ،وتو�سيع الخيارات ،وزيادة الفر�ص والإمكانات .وبذلك،
تكون هذه الم�ؤ�س�سات والدول الغربية الراعية لها ،قد تمل�صت من كل
م�س�ؤولية عما لحق باقت�صاديات الدول النامية ،من تخلف وا�ستغالل
وهيمنة ،نتيجة العالقة اال�ستعمارية -حيث المبادالت الدولية �إلى اليوم
غير متكافئة وتت�سم بالإجحاف ،-وما واكبها من تدهور للأو�ضاع ،ومن
تخريب لبنيات القطاع الإنتاجي ،ومن نهب اقت�صادي غير محدود،
وخ�ضوع لتبعية مطلقة ،تجارية ومالية وثقافية وتكنولوجية...
ت�أتي الطبقة الو�سطى بين فئتين �أ�سا�سيتين داخل المجتمع -
اعتبارا لم�ستوى دخلها ودرجة ت�أهيلها وتكوينها وو�ضعيتها االعتبارية
داخل ال�سلم االجتماعي ونمط ا�ستهالكها وعي�شها عموما ،و�إح�سا�سها
القوي باالنتماء �إلى الوطن وم�ساهمتها الفاعلة في تنميته وازدهاره -
فئة عري�ضة من المعدمين ،تبحث ب�صعوبة كبيرة عن �أ�سباب البقاء،
وفئة محدودة جدا من الأغنياء ،ت�ستفيد من اقت�صاد الريع ،تكونت
وتقوت وا�شتد عودها ،ويتطلع الجميع اليوم �إلى م�ساهمتها الفاعلة
في الإنتاج ،وت�ضامنها مع غيرها ،من �أجل النهو�ض ب�أو�ضاع الفقراء
والمعوزين.
لقد ا�ستفادت فئة محدودة جدا في مغرب ما بعد اال�ستقالل ،من
ثمار �سيا�سة المغربة بداية ال�سبعينات؛ كما ا�ستفادت كذلك من حالة
االنفتاح التي عرفتها بالدنا في مطلع الثمانينات ،وما واكبها من تحرير
ت�شريعي ،ومن خو�ص�صة ،ومن تحرير للنظامين المالي والبنكي ،وذلك
دون رقابة �أو تدبير من �ش�أنه �ضبط المداخيل والم�صاريف وتطوير
الإنتاج؛ ال�شيء الذي جعل وحدات من القطاع العام ،ت�شكل م�صدرا
الغتناء العديد من اللوبيات المرتبطة بال�سلطة المخزنية ،وتتعر�ض
هي بالتالي ،للإفال�س وتفاقم المديونية .واليوم ،هناك تمركز للثروات
في يد فئة قليلة جدا من الأغنياء الجدد الذين يكد�سون ثرواتهم
174
ويبنون مجدهم عن طريق الم�ضاربات بجميع �أنواعها ،عقارية ومالية
وتجارية ،وعن طريق ا�ستغالل النفوذ ،وا�ستغالل ب�ؤ�س وفقر �شرائح
وا�سعة من المجتمع؛ م�ستفيدين في كل ذلك ،من نظام حمائي قوي،
ومن �إجراءات �إدارية وجمركية م�ساندة؛ الأمر الذي جعلهم غير قادرين
تماما على االعتماد على ذواتهم ،وفك االرتباط الوثيق بينهم وبين
الدولة؛ لأنهم بكل ب�ساطة نموا وترعرعوا ،على االمتيازات المختلفة،
من دون �أن يقدموا في الوقت نف�سه ،ما يقابل ذلك ،اجتماعيا وب�شريا
وبيئيا ...يتم ذلك كله في غياب تام عن �أي تنظيم �أو ت�أطير �أو مناف�سة
�أو مراقبة.
�إن تمركز القوة والنفوذ في يد فئة قليلة جدا من الأغنياء ،ي�ضر
باالقت�صاد الوطني؛ فهم ي�ستفيدون من اقت�صاد الريع الذي ال يقبل
المبادرة ،ويق�ضي على روح المقاولة ،ويتعار�ض مع اقت�صاد المناف�سة
واال�ستحقاق ،والذي يحقق الإق ــالع ويجلب اال�ستثمار؛ فكيف لنا �أن
تت�صور �أن فاعال ما يعي�ش على االمتيازات� ،سيبدع �أو �سينتج بالجودة
والتناف�سية المطلوبة ،وبالأ�سعار المنا�سبة� .إن من �ألف الح�صول على
الثروة وتكدي�س الأرباح ب�سهولة وبدون عمل �أو جهد ،عن طريق ال�سلطة
والنفوذ ،وعن طريق االمتيازات واالحتكارات وال�صفقات ،ي�صعب عليه
التخلي عن كل ذلك ب�سهولة.
�إن الأمل معقود اليوم على نظام الجهوية في بالدنا ،بما �سيخلقه
من دون �شك من ديمقراطية اقت�صادية ،ومن تراجع في اقت�صاديات
الريع التقليدية ،ومختلف التجاوزات الأخرى؛ لكن الأمر يحتاج �إلى
�إرادة قوية من طرف الدولة ،بكل مكوناتها؛ �إرادة للإ�صالح والتحديث،
ومواكبة التنمية؛ ويحتاج كذلك �إلى �إجراءات عملية ومبادرات ترمي �إلى
تخليق الحياة العامة ،وتنقيتها من كافة �أ�شكال الف�ساد المالي والإداري
وال�سيا�سي ،وتدعيم الحقوق الأ�سا�سية ،وبث روح الديمقراطية ،و�إقرار
175
الم�ساواة بين المواطنين ،و�سيادة القانون على الجميع ،وخلق مناخ
ماك ـ ـ ــرو اقت�صادي نظيف ،مبني على المناف�سة و�إلغاء االحتكارات،
يرجع جو الثقة بين الإدارة والفاعلين االقت�صاديين ،على �أ�سا�س
من القانون ،من خالل ت�شجيع اال�ستثمارات ،و�إ�شاعة قيم المبادرة
والمناف�سة ،والت�صـ ـ ـ ــدي لجميع المقاومات ،االقت�صادية واالجتماعية
والثقافية وال�سلوكية...
�إن القوى الإنتاجية اليوم ،ت�أثيرها بالغ على ال�سلطة ال�سيا�سية؛
واللوبيات االقت�صادية ،نفوذها قوي على الم�س�ؤولين و�أ�صحاب القرار،
بل حتى على التوجهات العامة واالختيارات الإ�ستراتيجية للبالد؛ فهي
ت�ستفيد من اقت�صاد الريع ،نتيجة تفويت �أرا�ضي الدولة ،ونظام الرخ�ص
واالمتيازات؛ �إ�ضافة �إلى التالعب بال�صفقات العمومية ،والتجر�ؤ على
المال العام .واليوم ،على هذه الفئة القليلة جدا من الأغنياء الجدد،
�أن تدرك ب�أن زمن الربح ال�سريع ،واالعتماد المفرط على الدولة ،بل
وفي بع�ض الأحيان حتى مقاي�ضتها� ،إن اقت�ضى الحال ذلك ،قد انتهى
تماما ،وحل محله زمن الم�س�ؤولية والفعالية والتحديث.
�إن االنتقال من اقت�صاد ريع ،مبني على التبعية وعلى ال�سلطة،
�إلى اقت�صاد حديث ،يرتكز على المناف�سة و�إلغاء االحتكارات وتطبيق
القانون وتكري�س الإ�صالحات ،وعلى الحكامة الجيدة المبنية على
ال�شفافية والمراقبة والم�ساءلة والمحا�سبة ،يحتاج من دون �شك� ،إلى
موارد ب�شرية وكفاءات وطنية ،تت�صف بالنزاهة والأمانة ،ت�شارك في
تحمل الم�س�ؤولية.
- 5الأمن الغذائي
يمكن تحديد مفهوم الأمن الغذائي ،ب�أنه قدرة الدولة على توفير
ال�سلع الغذائية الأ�سا�سية في ال�سوق المحلية ،و�ضمان حد �أدنى منها
176
بانتظام ،وعلى مدار العام ،وتوزيعها ب�أ�سعار منا�سبة وبكميات كافية،
عن طريق االكتفاء الذاتي �أ�سا�سا ،ف�إذا لم تتمكن من ذلك ،فلن يبقى
�أمامها �سوى اللجوء �إلى الخارج� ،شريطة �أن ال تكون قيمة الواردات من
ال�سلع الغذائية �أكبر من �صادراتها ،و�شريطة توفير الأموال الالزمة
لذلك .لكن الخطورة هنا تكمن في طبيعة التجارة الدولية اليوم ،التي
تت�سم بعدم التكاف�ؤ؛ الأمر الذي يجعل من االعتماد على اال�ستيراد
نافذة ال�ستنزاف خيرات الدولة وتعر�ضها للتبعية الغذائية.
في ظل هذه الظروف ،ال يمكن النظر �إلى ق�ضية الأمن الغذائي
بمعزل عن المتغيرات الدولية؛ �أي االتجاه نحو االعتماد المتبادل،
خا�صة بعد �إن�شاء المنظمة العالمية للتجارة ،وتال�شي نظم الحماية
و�إجراءاتها وازدياد المناف�سة الدولية؛ مما يحتم على الدولة �أن تنتج
ما تحتاجه من غذاء ،بالكمية المتوازنة وبالطريقة االقت�صادية التي
تراعي المزايا الن�سبية التي تتوفر عليها ،و�أن تكون منتجاتها قادرة
على التناف�س مع المنتجات الأجنبية� ،إذا لزم الأمر ذلك.
�إن نق�ص الغذاء في �أي مجتمع من المجتمعات ،يعتبر من دون
�شك م�شكلة خطيرة؛ وهي تعظم كلما كان العجز كبيرا؛ وهذا العجز
على �أنواع ثالثة� :إما عجز في الإنتاج �أو عجز في القدرة ال�شرائية
�أو عجز فيهما معا؛ وهكذا ،يمكن �أن نجد بلدانا ال تنتج غذائها �أو
جميعه ،ولكنها تملك القدرة المالية الكافية ل�شرائه؛ وبلدانا �أخرى
تنتج غذائها كليا �أو جزئيا ولكن تبقى �شرائح من المجتمع ال ت�ستطيع
الح�صول عليه ،ب�سبب �ضعف قدرتها ال�شرائية؛ و�صنف ثالث من
البلدان ،وهي العاجزة تماما عن �إنتاج غذائها وعاجزة كذلك عن
�شرائه من الخارج.
وب�صرف النظر عن الكثير من الم�شاكل والأزمات والتحديات
االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية ،والتي يعانـ ـ ـ ـ ــي منها المغرب
177
اليوم ،ف�إن نق�ص الغذاء يعتبر �أخطر م�شكلة يتعر�ض لها ،في حا�ضره
وم�ستقبله؛ فهو يعتبر بحق منطقة عجز غذائي ،وم�شكلته الغذائية
تبقى من �أبرز مظاهر الأزمة االقت�صادية واالجتماعية ،وعالمة من
عالمات ف�شل الإ�ستراتجيات التنموية المتعاقبة لحد الآن ،حيث �إن
حاجة ال�سكان للغذاء الزالت تنمو �سنويا بمعدالت تفوق معدالت زيادة
الإنتاج المحلي؛ مما ي�ؤدي �إلى زيادة الواردات �سنويا وب�شكل مذهل؛
كما �أن ا�ستمرار الهجرة من الريف �إلى المدن حولت الذين كانوا ذات
يوم منتجين زراعيين� ،أو على الأقل مكتفين ب�أنف�سهم� ،إلى م�ستهلكين
طوال الوقت؛ كما �أن ارتفاع مداخيل الطبقات الو�سطى في المناطق
الح�ضرية ،عالوة على ه�ؤالء المهاجرين الجدد الذين ال يزال مطلبهم
الأ�سا�سي هو الطعام ،قد �أوجد طلبا �شديدا على ال�سلع الغذائية؛
مما �أ�سهم في زيادة حدة الم�شكلة الغذائية .لذلك ،فالمغرب كبلد
فقير ،يوجد في و�ضع ال ُيح�سد عليه؛ فهو مطالب �إما بالقبول بالتبعية
االقت�صادية ،و�إما االعتماد على الذات و�شد الأحزمة وتطوير الزراعة،
�إلى م�ستوى يمكنه على الأقل من تحقيق اكتفائه الذاتي.
وتتمثل الم�شكلة الغذائية في المغرب في ا�ستحالة ت�أمين ما
يحتاجه من مواد غذائية من موارده المحلية ،في ظل الظروف
والمعطيات الحالية؛ مما يترتب عنه ا�ستمرار اعتماده المتزايد في
تلبية هذا المطلب الحياتي ،على م�صادر �أجنبية؛ �إ�ضافة �إلى تواجد
ما يحتاجه من الغذاء تحت �سيطرة دول قليلة في العالم ،وخا�صة
الواليات المتحدة الأمريكية؛ فهذه الدول ال تتردد في ا�ستخدام ورقة
الغذاء لفر�ض التبعية االقت�صادية والهيمنة ال�سيا�سية على كل الدول
التي تفتقد مقومات الأمن الغذائي؛ فق�ضية الغذاء لم تعد اليوم ق�ضية
اقت�صادية بحتة ،على خطورتها ،بل �أ�صبحت ق�ضية �سيا�سية واجتماعية
و�إ�ستراتيجية ،تهدد �أمن وا�ستقرار الدول المحتاجة .ولقد �سعت بالفعل
178
الإدارة الأمريكية جاهدة ،منذ �سبعينات القرن الما�ضي� ،إلى ب�سط
�سيطرتها وتو�سيع نفوذها ،من خالل التحكم في �إنتاج وتوزيع الحبوب،
ال�سيما و�أن �أزيد من %80من ال�صادرات العالمية للقمح بيدها.
�إن الأمن الغذائي �إ�شكالية متعددة الأبعاد والجوانب .ولذلك،
ف�إنه من ال�صعوبة ،الإحاطة بمالمح الإ�شكالية وطبيعتها و�إلقاء ال�ضوء
على جميع �أبعادها الم�ستقبلية؛ فما هي �إذن حقيقة الم�شكلة الغذائية
في بالدنا؟ وما هي �أ�سبابها؟ وعلى عاتق من تقع م�س�ؤوليتها؟ وكيف
يمكن معالجتها؟ وهل الم�شكلة الغذائية في المغرب ،ذات البعد
االقت�صادي وال�سيا�سي والإ�ستراتيجي ،ناتجة عن عجز البيئة المغربية
عن الوفاء باحتياجات الإن�سان المغربي� ،أم هي نتاج خط�أ وتق�صير هذا
الإن�سان نف�سه ،وال�سيا�سة والنظم االقت�صادية المتبعة حتى الآن؟ وهل
الفالحة بالمغرب ،وهي القطاع الرئي�سي ،يمكن �أن تفي باحتياجاته،
في الحا�ضر وفي الم�ستقبل؟
لقد بد�أت الم�شكلة الغذائية في بالدنا في اال�ستفحال غ ـ ـ ـ ـ ــداة
اال�ستقالل ،حيث نهج المغرب �سيا�سة تنموية ،زراعية و�صناعية مختلة،
وطبقت �سيا�سات �إ�صالح زراعي فا�شلة� ،أدت بالتدرج �إلى �إ�ضعاف
الإنتاجية وتق�سيم الملكيات الزراعية �إلى وحدات �صغيرة؛ كما �أن
تحرير القطاع الفالحي لم يف�ض �إلى �إعادة هيكلته والحد من االحتكار
فيه و�إ�شراك القطاع الخا�ص في تنميته؛ كما �أننا نالحظ وجود قطاعين
متباعدين :قطاع ع�صري ،يعتمد الري و�أ�ساليب متطورة في الزراعة،
وقطاع تقليدي ،يعتمد على الت�ساقطات المطرية والأ�ساليب التقليدية؛
كما �أن ال�سيا�سة االقت�صادية العامة لم ت�ساهم لحد الآن ،ب�شكل فعال
في تحديث الفالحة على نطاق وا�سع ،بل �أ�سهمت في ات�ساع الهوة
بين القطاعين التقليدي والع�صري ،لتبقى الفالحة المغربية ت�ستمد
تجان�سها الم�ستقبلي من قدرتها على التوفيق بين الأمن الغذائي ونتائج
179
ال�صادرات .ولهذا التوجه ثالث �أ�سباب رئي�سية� :سبب اقت�صادي؛
يتمثل في �ضرورة تثمين المكت�سبات المحققة ،في مجال الأمن الغذائي
وال�صادرات؛ و�سبب �سيا�سي ،حيث �إنه من غير المجدي �إ�ستراتيجيا،
�إخ�ضاع تغذية المواطنين لمخاطر التقلبات في ال�سوق العالمية ،حيث
هيمنة التجمعات الجهوية الكبرى وال�شبكات العالمية الغذائية؛ هذا
في الوقت الذي نعرف فيه �أن المغرب يتوفر على قدرات �إنتاجية
مهمة غير م�ستغلة بطريقة مثلى؛ �إ�ضافة �إلى �سبب اجتماعي ،حيث
�إن م�ستقبل المدن المغربية يكمن في الفالحة ،وفي �إعادة االهتمام
بالعمل الفالحي؛ وهذا بالنظر �إلى �أهمية العالم القروي ،والدور الذي
يمكن �أن تلعبه الفالحة في تحقيق التوازنات االقت�صادية والمالية
واالجتماعية الكبرى داخل االقت�صاد الوطني.
ورغم �أن المغرب لم يفرط منذ البداية في االختيار الفالحي،
ف�إنه مع ذلك لم يوفق في تحقيق تنمية فالحية اكتفائية ومتوازنة،
ولم يفلح في �إر�ساء بنية زراعية منتجة وقارة؛ وحتى عندما �أهملت
الفالحة مقارنة مع ال�صناعة في �سنوات ال�ستينات ،ف�إنها ظلت ت�ستفيد
بالمقابل من العديد من االمتيازات ،خالل ال�سنوات المتعاقبة ،خا�صة
بعد �إحداث �صندوق الإ�صالح الفالحي وت�شريع العديد من الإعفاءات
ال�ضريبية .وتبقى الأر�ض المغربية عر�ضة لمجموعة من االختراقات،
تتمثل في التبذير و�سوء التدبير؛ الأمر الذي يفر�ض �إعادة النظر في
طبيعتها ،خا�صة و�أن الأر�ض ال يمكن �أن تكون معطاء ،و�أن التدبير ال
يمكن �أن يكون محكما� ،إال �إذا كانت الروابط وثيقة بين الأر�ض ومن
ي�سهر على ا�ستغاللها.
�أما بالن�سبة لقطاع ال�صيد البحري ،فرغم كل المجهودات
المهمة ،التي ما فتئ يبذلها المغرب ،منذ مطلع الثمانيات ،ف�إنه لم
ي�ستطع لحد الآن تح�سين طرق التمويل والتكوين ونقل التكنولوجيا،
180
بهدف الحد من الطابع التقليدي لل�صيد ال�ساحلي والتو�سع في تحديث
�أ�ساطيل ال�صيد في �أعالي البحار ،للحيلولة دون نهب الخيرات ال�سمكية
من لدن الأ�ساطيل الأجنبية ،والرفع من م�ستويات �إنتاج وا�ستهالك
الأ�سماك في ال�سوق الداخلية.
�إن الإح�صائيات والدرا�سات المتوفرة تدل على �أن ن�سبة الإنتاج
الوطني للغذاء �إلى تعداد ال�سكان ،بد�أ في التدهور منذ ال�ستينات من
القرن الما�ضي ،ووا�صل تفاقمه منذ ال�سبعينات �إلى اليوم؛ كما �أن
الفارق بين متو�سط النمو الديمغرافي (� %3سنويا على الأقل) ومتو�سط
نمو الإنتاج بالقيمة القارة (حوال ـ ــي � %2سنويا) يزيد تدريجيا من
التبعية في مجال الغذاء؛ �إ�ضافة �إلى �أن قيمة الواردات من المنتوجات
الفالحية بالن�سبة للفرد ،والتي كانت تقدر بحوالي 15دوالر في ،1970
ت�ضاعفت خالل � 30سنة الأخيرة ب�أزيد من 10مرات ،حيث انتقل معدل
تغطية الواردات بال�صادرات الفالحية ،خالل نف�س الفترة ،من %95
�إلى حوالي .%20وبالإمكان زيادة الم�ساحة المزروعة ،با�ستغالل جميع
الأرا�ضي القابلة للزراعة ،وتحويل م�ساحات من المراعي �إلى �أرا�ضي
زراعية؛ فالأر�ض المزروعة ،وكيفية ا�ستغاللها ،وم�ستوى �إنتاجيتها،
تبقى �إحدى الم�ؤ�شرات التي تدل على الم�ستوى الزراعي في �أي قطر
من الأقطار .وبالرغم من المجهودات المبذولة حتى الآن ،ف�إن الأمن
الغذائي ال زال هاج�سا مركزيا ومطلبا ملحا ،بعيدا عن الإنجاز.
ت�شكل الفالحة في المغرب اليوم� ،أهم قطاع اقت�صادي،
ورافعة �أ�سا�سية لالقت�صاد الوطني ،اعتبارا من جهة ،لم�ساهمتها في
تكوين الناتج الوطني الخام بحوالي ،%20واعتبارا من جهة �أخرى،
لن�سبة العاملين بالقطاع بحوالي .%45ولقد مكنت من تحقيق بع�ض
المكت�سبات ،بف�ضل التعبئة الم�ستمرة حول مخطط المغرب الأخ�ضر،
والذي ا�ستطاع بف�ضل المجهودات التي راكمها ،خالل ال�سنوات الما�ضية،
181
�أن يجعل الفالحة من �أولويات القطاعات الإ�ستراتيجية الوطنية ،التي
عملت على تحديث وع�صرنة الفالحة ،وتعزيز اال�ستثمارات ،والتكامل
الجيد بين ال�سال�سل الإنتاجية ،لكن دون الو�صول �إلى �ضمان الأمن
الغذائي ،من خالل تغطية طلب التغذية بالن�سبة للمواد الأ�سا�سية،
والحد من ت�أثير التغيرات المناخية ،والحفاظ على الموارد الطبيعية،
و�إنعا�ش �صادرات المنتجات الفالحية ،وتثمين المنتجات المحلية،
وخلق فر�ص العمل ،والرفع من م�ساهمتها في الناتج الإجمالي الخام،
لتتجاوز %20الحالية؛ فالمخطط من الناحية النظرية طموح ،ويحاول
�أن يحدث دينامية بين الفالحين الكبار وال�صغار؛ هذه الفئة الأخيرة
التي تتخوف من تحدي ت�سويق منتوجها ،في الوقت الذي تبقى �صعوبة
تمويل المخطط ،بمثابة التحدي الرئي�سي له؛ كما ال زال القطاع
الفالحي يعاني من الكثير من العيوب؛ منها �ض�آلة اال�ستثمارات،
وغياب التخطيط وعدم تنفيذ ما خطط له رغم توا�ضعه ،وعدم وجود
�سيا�سة تخزين زراعي وعدم توفر �إمكاناتها ،وفقدان �آالف الهكتارات
ب�سبب الت�صحر ،و�ضعف النفقات المخ�ص�صة للجهود العلمية في
تطوير الفالحة ،وت�أثر الموارد المائية المتوفرة من التبخر وتلوثها
بمياه ال�صرف ال�صحي؛ كما �أن معظم كميات الأمطار تذهب هدرا؛
الأمر الذي يملي �ضرورة �إقامة ال�سدود ال�سطحية ،لحفظ مياه الأمطار
في الموا�سم المائية ،ال�ستخدامها في �سنوات الجفاف؛ �إ�ضافة �إلى
قلة الموارد المالية و�ضعف كفاءة ا�ستعمالها؛ فالتمويل يظل من �أهم
العوامل الم�ؤثرة في النهو�ض بالقطاع الفالحي ،حيث تبين ب�أن معظم
الم�شاريع الفالحية ال ينق�صها �سوى المال الالزم؛ فبدون الأموال
الكافية وبدون م�صارف فالحية متخ�ص�صة تتولى مهام تمويل الن�شاط
الفالحي وتقديم القرو�ض المي�سرة ،من �أجل توفير التجهيزات
والمدخالت ال�ضرورية ،من بذور و�أ�سمدة ومواد مكافحة ،ال يمكن
ا�ستغالل الطاقات الكامنة؛ فزيادة الطاقة الإنتاجية تتوقف على توافر
182
اال�ستثمارات الالزمة لتمويل عملية التنمية الزراعية ،عالوة على تهيئة
الظروف االجتماعية واالقت�صادية المنا�سبة ،لخلق الكثير من الأجواء
التنموية ال�سليمة.
هذا عن الو�ضعية الحالية؛ �أما �صورة الغد القريب ،حتى ال نقول
الم�ستقبل ،فقاتمة وخطيرة جدا؛ فالمغرب �سيكون م�ضطرا لت�سديد
مبالغ كبيرة جدا من �أجل �شراء المواد الغذائية من الخارج ،و�ستعاني
الماليين من نق�ص الغذاء ،و�ستزداد حاجتنا للم�ساعدات والح�سنات
التي تمن بها علينا الدول الغنية؛ هذا �إذا توفرت في الأ�سواق العالمية
الكميات والنوعيات التي نحتاجها من المواد الغذائية ،و�إذا ر�ضيت
الدول المنتجة على طموحاتنا ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية
الم�شروعة؛ وما تجربة العقوبات االقت�صادية والغذائية المفرو�ضة على
بع�ض الدول في ال�سنوات الأخيرة� ،إال مثاال واحدا من الأمثلة الكثيرة،
لما يمكن �أن تتعر�ض له بلدان و�شعوب �أخرى من العالم.
ومن هذا المنطلق ،نحتاج اليوم �إلى دعم الفالحة الع�صرية
ذات القيمة الم�ضافة والإنتاجية العالية ،والتي ت�ستجيب لمتطلبات
ال�سوق ،من خالل ت�شجيع اال�ستثمارات الخا�صة ،واعتماد و�سائل جديدة
من التجميع العادل ،وتطوير ال�صادرات الفالحية المغربية ،وتطوير
الأن�شطة ال�صناعية المرتبطة بالفالحة وتثمين منتوجاتها ،وت�أهيـ ـ ــل
ت�سويق المنتجات و�شروط التجميع والتخزين؛ كذلك دعم الفالح
ال�صغير ،ومحاربة الفقر في الو�سط القروي ،عبر الرفع من الدخل
الفالحي في المناطق الأكثر ه�شا�شة؛ �إ�ضافة �إلى النهو�ض بفالحة
ت�ضامنية ذات مردودية لفائدة المر�أة القروية ،من خالل م�شاريع
مخ�ص�صة للتعاونيات الفالحية الن�سائية ،وتطوير ال�سال�سل الفالحية،
والتعاون بين الدولة والمهنيين ،عبر عقود البرامج ،وتح�سين تربية
الموا�شي ،وتكثيف ا�ستعمال المكننة ،والتركيز على اقت�صاد الماء .
183
�إن �إ�شكالية الأمن الغذائي في المغرب ي�ستحيل معالجتها دون
�إ�ستراتيجية وا�ضحة المعالم ،ت�أخذ بعين االعتبار هدفين اثنين� :إطعام
الإن�سان المغربي من الجوع يجب �أن يت�صدر �أولوياتنا الوطنية ،وتوفير
الغذاء يجب �أن يكون قبل كل �شيء مهمة �إن�سانية و�أخالقية وم�صيرية.
وفي المغرب ،طاقات و�إمكانات مهمة ،لو ا�ستغلت على الوجه الأكمل
لتحقق الأمن الغذائي ،ولتحول المغرب من بلد م�ستورد للغذاء �إلى
م�صدر له.
- 6التنمية ال�صناعية
ال يمكن للف�ضاء الإنتاجي �أن ي�أخذ �صبغة �أخرى غير التي يتميز
بها قطاعه الإنتاجي؛ فهو يظهر �أحيانا ك�أحد المعوقات الرئي�سية
الحائلة دون تطور هذا القطاع؛ فعدم وجود ف�ضاءات مهي�أة للإنتاج؛
والحالة المزرية التي توجد عليها مجموع الف�ضاءات الإنتاجية ،ت�ساهم
في ر�سم �صورة �سلبية عن �سيا�سة �إعداد المجال ال�صناعي بالدنا؛ فهل
ا�ستطاع المغرب الحفاظ على التوازن بين مختلف الجهات؟ الجواب
عن هذا ال�س�ؤال ،يقودنا لدرا�سة ف�ضاء القطاع ال�صناعي ببالدنا
وانت�شاره بين المدن والجهات.
يجدر بنا في هذا المجال� ،أن نتطرق �إلى الحالة الراهنة
للف�ضاء الإنتاجي ،من خـ ـ ـ ـ ـ ــالل فكرتين محوريتين؛ الأولى تتعلق
بمختلف المتدخلين في مجال �إعداد التراب ال�صناعي ،والثانية تهم
الخا�صيات الرئي�سية لف�ضاءات الإنتاج .ومن �أجل تقييم �شمولي لما
تحقق� ،سيكون من الأجدر القيام بدرا�سة تحليلية لو�ضعية القطاع
الحالية؛ ذلك �أن الخ�صائ�ص الرئي�سية للمناطق ال�صناعية الوطنية
في مجملها �سلبية ،وتتلخ�ص في �أربعة خ�صائ�ص رئي�سية ،وهي :كثرة
المتدخلين في قطاع تهيئة المناطق ال�صناعية ،وندرة الموارد المالية،
184
واال�ستنزاف التدريجي للوعاء العقاري ،و�أخيرا ع ـ ـ ــدم مالئمة البنيات
التجهيزية.
فيما يتعلق بتعدد المتدخلين في قطاع تهيئة المناطق ال�صناعية،
نذكر ب�أنه في وقت �سابق ،وحينما تم و�ضع اللم�سات الأخيرة على
البرنامج الوطني لتهيئة المناطق ال�صناعية ،تم اختيار منع�ش عقاري
وحيد؛ هو �صندوق الإيداع والتدبير ،لخبرته الطويلة في مجال العقار
وال�سياحة؛ وبخ�صو�ص ال�شطر الأول من البرنامج ،كلف ال�صندوق
بتهيئة �أربعة ع�شر منطقة �صناعية ،على م�ساحة 360هكتار ،وبغالف
مالي يقدر ب 26مليون درهم ،خلق �سداد م�ستحقات الدولة لل�صندوق
وقتها عجزا ماليا كبيرا ،حال دون �إتمام ال�شطر الأول؛ وعليه ،تقل�ص
عدد المناطق ال�صناعية المجهزة من قبل ال�صندوق �إلى �سبعة .وفي
�سنة ،1986ر�سمت ال�سلطات العمومية توجهات جديدة ،حيث عادت
مهمة تهيئة المناطق ال�صناعية �إلى الجماعات المحلية ،واقت�صر دور
�صندوق الإيداع والتدبير على ت�صريف وبيع هذه المناطق ،واال�ستمرار
في تهيئة �ستة ع�شر منها؛ ولقد �أدى عدم خبرتها �إلى تميز تهيئة
مناطقها ب�ضعف الجودة و�ضعف البنيات التحتية وعدم ا�ستكمال
التجهيزات الالزمة؛ كذلك الأمر بالن�سبة للم�ؤ�س�سات الجهوية للتهيئة
والبناء ،والتي تقع و�صايتها على م�س�ؤولية وزارة ال�سكنى؛ هناك �أي�ضا
هيئات �أخرى ،لها عالقات �شبه منعدمة مع التهيئة ال�صناعية ،ومع
ذلك ،قامت بتهيئة ف�ضاءات �صناعية ،كالمكتب الوطني للمطارات،
والوكالة الوطنية لمحاربة ال�سكن الغير الالئق.
�إن الهدف من ا�ستعرا�ضنا لمختلف المتدخلين في ميدان التهيئة
ال�صناعية ،هو التدليل على �أن التنوع ال�شديد للوظائف الأ�صلية له�ؤالء
المتدخلين ،والتي قد تكون بعيدة عن مجال التهيئة ال�صناعية ،ي�ؤدي
�إلى الت�ضحية بقواعد التهيئة ال�صناعية ،ل�صالح التجربة الخا�صة
185
بقطاع كل متدخل ،حيث ي�أتي المتدخلون من قطاعات مختلفة ،كال�سياحة
والعقار والأ�شغال العمومية �أو ال�سكنى ،م�سلحين بتجربة كبيرة في
ميدانهم الأ�صلي ،ويجدون �أنف�سهم �أمام قطاع جديد ،عليهم االمتثال
لقواعده الخا�صة.
بالإ�ضافة �إلى هذا ،يعد نق�ص الخبرة الكافية وانعدام الموارد
المالية ،بالن�سبة للجماعات المحلية ،عائقا بنيويا �أمام تطور �أي تهيئة
�صناعية حقيقية .ويظهر ذلك من خالل ن�سبة درجة ا�ستغالل المناطق
ال�صناعية ،حيث البحث الأعمى عن �إقامة مناطق �صناعية خا�صة
بالو�سط الح�ضري ،تتحكم فيها اختيارات المنع�شين المحليين� ،أكثر
من الجدوى االقت�صادية.
�إن اختيار المدن التي يجب �أن تقوم عليها مناطق �صناعية ،يجب
�أن يخ�ضع لل�شروط التي تتحكم في تدفق اال�ستثمار في هذه المناطق.
وعليه ،ف�إن المدن في المغرب تختلف عن بع�ضها البع�ض في القدرة
على جذب اال�ستثمار؛ من هذا المنطلق ،يعتبر تعدد المتدخلين في
المجال عائقا مهما �أمام تطويره ،حيث احترام القواعد المتعلقة بدفتر
التحمالت يبقى �ضعيفا .و�أمام �ضعف الدولة في خلق هيئة متخ�ص�صة
في المجال ،ف�إن المخرج بقي بالن�سبة لها ،هو م�سطرة عقود االمتياز،
لإنجاز وت�سيير المناطق ال�صناعية.
�أما فيما يتعلق بندرة الموارد المالية ،ن�شير هنا �إلى �أن تتبع
البرنامج الوطني للتهيئة ال�صناعية يتطلب موارد مالية مهمة؛ وبما
�أن المغرب و�ضع في �إطار �سيا�سته الليبرالية ،العديد من الم�ؤ�س�سات
التي كانت تعمل في القطاع ،من �أجل الخو�ص�صة ،بالإ�ضافة �إلى ندرة
الموارد المالية للخزينة العامة ،والناتجة عن دخول المغرب في م�سل�سل
لت�صفية تعريفته الجمركية ،من �أجل خلق مناطق للتبادل الحر ،زد
على هذا ،خدمة الدين الداخلي والخارجي ،والمجهود المالي الذي
186
ي�صرف على ت�سيير الإدارات؛ ف�إن ما يتبقى للتجهيز واال�ستثمار �ضعيف
جدا وهام�شي .ومن �أجل �إيجاد الموارد الالزمة ال�ستمرار البرنامج،
لج�أت ال�سلطات العمومية �إلى موردين اثنين :التمويل الدولي وت�شجيع
المبادرات الخا�صة.
�أما بالن�سبة لال�ستنزاف التدريجي للر�صيد العقاري ،ف�إن
اللجوء الم�ستمر للر�صيد العقاري للدولة وللجماعات المحلية ،جعل
�أمر ا�ستنزافه و�شيكا؛ هذا اال�ستنزاف المنهجي ،والذي ي�ضاف �إلى
تقاع�س الدولة والجماعات المحلية عن خلق احتياطيات عقارية جديدة،
وعنف الم�ضاربة العقارية ،وكذا تعدد وتعقد الأنظمة العقارية (كي�ش،
حبو�س ،جماعي� ،ساللي ،ع�سكري� ،)...أدى �إلى ندرة الأرا�ضي الممكن
تخ�صي�صها للتهيئة ال�صناعية؛ هذه الو�ضعية ت�شجع بع�ض ال�صناعيين
على اختيار �أماكن ن�شاطهم ال�صناعي بمح�ض رغبتهم ،دون اللجوء
�إلى اال�ستقرار داخل منطقة �صناعية مهي�أة؛ مما يخلق الفو�ضى،
ويعقد عملية تنظيم المجال الإنتاجي بالأماكن الح�ضرية .و�إذا كان
العقار هو المعوق الرئي�سي بالن�سبة لل�سلطات العمومية ،ف�إن تال�شي
البنيات والتجهيزات الخا�صة بالمناطق ال�صناعية ،يعد معوقا كبيرا
�أمام ا�ستقرار الن�شاط الإنتاجي ،داخل المناطق المجهزة؛ وباعتبار
�أن معظم هذه المناطق قامت ب�شكل ع�شوائي ،ف�إنها تعاني من نق�ص
وا�ضح في التجهيزات الالزمة لل�سير العادي للأن�شطة ال�صناعية.
وهكذا ،وبدون احترام لتهيئة عامة و�شاملة للمجال ،ودون اللجوء �إلى
منع�ش عقاري متخ�ص�ص ،تبقى هذه المناطق دون الحد الأدنى من
التجهيزات الالزمة.
�إن فكرة �إعداد المجال ال�صناعي غير قريبة العهد؛ فال�سلطات
العمومية قامت بمحاوالت �أولى في بداية ال�سبعينات ،لتهيئ مناطق
�صناعية في طنجة (مغوغا) و�أكاديـ ـ ـ ـ ــر (تا�سيال و�أيت ملول)؛ لكن
187
ورغم المجهودات التي بذلت ،لم يعرف البرنامج الوطني للمناطق
ال�صناعية النجاح المتوخى ،حيث ظل يتخبط في م�شاكل متعددة؛ مما
جعل �أمر مراجعته �ضروريا؛ فقامت م�صالح وزارة ال�صناعة حينها،
بم�شاركة الأطراف المعنية ،ب�إعادة تحيينه؛ وهكذا ،ظهر برنامج
جديد للتهيئة ،اقت�صر فقط على المناطق ذات جاذبي ـ ـ ــة اقت�صادية،
كمدن الدار البي�ضاء� ،أكادير ،طنجة ،جهة النوا�صر ،المحمدية،
وجدة والناطور .وموازاة مع هذا المجهود ،ارتقى مفهوم "المنطقة
ال�صناعية" �إلى مفهوم "المي ــدان ال�صناعي" ،ليتم ا�ستبداله بمفهوم
"المنطقة ال�صناعية المندمجة" ،حيث تم القيام بدرا�سات عديدة
حـ ــول �إمكانية خلق مناطق �صناعية مندمجة ،بم�شاركة عدد من
الخبراء الدوليين؛ كما عرف االنفتاح على القطاع الخا�ص تطورا
ملحوظا ،عن طريق اتخاذ مجموعة من التدابير الإجرائية ،من �أجل
ت�شجيع م�سطرة عقود االمتياز بين القطاع الخا�ص وال�سلطات الو�صية.
واليوم ،تعتبر المنظومات ال�صناعية حجر الزاوية في مخطط ت�سريع
التنمية ال�صناعية ،2020-2014والتي ترمـ ـ ـ ــي �إلى تقلي�ص التجز�ؤ
القطاعي ،وت�شجيع التنمية المندمجة للقطاعات ال�صناعية؛ كما
تهدف �إلى االندماج المحلي للن�سيج ال�صناعي حول مقاوالت رائدة ،من
خالل ت�شجيع �شراكات ذات المنفعة المتبادلة مع المقاوالت ال�صغرى
والمتو�سطة ،حيث ت�ضطلع الأولى بدور القاطرة ،من خالل تو�ضيح الر�ؤية
للثانية التي توفر بدورها الإبداع وح�س االبتكار والدينامية؛ وت�ستفيد
مقاوالت المنظومات ال�صناعية من مواكبة مالئمة وم�ساعدات محددة
بعناية في مجال التمويل والعقار ال�صناعي والتكوين.
�إن ال�سلطات العمومية لم تقم بدورها كما يجب ،رغم توفرها
على �إمكانات وو�سائل عديدة للتدخل :ر�صيد عقاري ونظام �ضريبي
وتمويل محفز وتكوين م�ستمر ...فالمناطق ال�صناعية الع�شوائية تعاني
188
اليوم ،من كثرة المتدخلين العقاريين ،ومن تال�شي و�ضعف بنياتها
التجهيزية ،في حين تتمتع المناطق ال�صناعية المهي�أة ح�سب الإجراءات
القانونية ،بحد �أدنى من التجان�س واحتياطي مهم من التجهيزات
الأ�سا�سية التي يمكن تطويرها مع بداية ا�ستغالل المنطقة ،عن طريق
جمعيات المقاولين ال�صناعيين؛ ف�أمام غياب المبادرة الخا�صة في
مجال �إعداد التراب ال�صناعي� ،أ�صبح قطاع التهيئة المجالية في يد
الدولة ،و�أحيانا في �أيدي الجماعات الترابية؛ فالدولة والجماعات
الترابية هما اليوم �أ�صحاب المبادرة في هذا المجال.
�إن م�س�ؤولية الجماعات الترابية هنا ثابتة ،ف�إذا لم يكن دورها
هو النهو�ض بمختلف المناطق التابعة لها ،فما ع�سى يكون دورها �إذن؟
ولتحقيق هذا الهدف ،وجب عليها التوفر على الإمكانات الب�شرية
والتقنية والمالية ،والتي تمكنها من القيام بدورها كامال ،وفي ظروف
جيدة .في الكثير من الأحيان؛ هذه الجماعات تتذرع بكون الن�سيج
ال�صناعي فوق ترابها الزال �ضعيفا ،وال�ضرائب المحلية التي يتم
تح�صيلها من المقاوالت المتواجدة فوق ترابها ،تبقى هزيلة جدا ،وال
تمكنها من �إعداد برامج للتنمية في الم�ستوى المطلوب؛ فال�ضريبة
على القيمة الم�ضافة الموزعة من طرف وزارة الداخلية على مختلف
الجماعات المحلية ،تتم على �أ�سا�س معايير ت�ساهم في �إغناء الجماعات
الغنية و�إفقار الجماعات الفقيرة.
وعموم ـ ـ ــا ،ال يمكن للتنمية ال�صناعية ال�شاملة والمندمجة� ،أن
تتحقق ،من دون المرور عبر الإ�ستراتيجيات التنموية التالية:
� -إ�ستراتيجية �إحالل الواردات :وتعني �إحالل الإنتاج المحلي
مح ـ ـ ـ ـ ــل الواردات ،اعتمادا على ال�سوق المحلية ،ولتلبية الحاجيات
الأ�سا�سية للم�ستهلكين؛ ولقد بد�أ العمل بهذه الإ�ستراتيجية في المغرب
في مطلع ال�سبعينات؛ وعلى �أ�سا�سها ،قامت �صناعات �صغيرة الحجم،
189
و�أخرى لإنتاج ال�سلع التي تحل محل ال�سلع الم�ستوردة ،كال�صناعات
الغذائية ومواد البناء والتبغ والبال�ستك والكيميائيات.
� -إ�ستراتيجية ال�صناعات الت�صديرية :وتعني ت�صنيع المواد
الأولية المتوفرة بكثرة ق�صد ت�صديرها �إلى الخارج ن�صف م�صنعة �أو
كاملة ال�صنع؛ ولقد بد�أ العمل بهذه الإ�ستراتيجية في المغرب في مطلع
الثمانينات؛ �إذ �شجعت الدولة على جلب اال�ستثمارات ،خا�صة في مجال
�صناعات الن�سيج والمالب�س ،اعتمادا على توفر العمالة الرخي�صة
وحوافز �ضريبية مغريه ،و�إن�شاء مناطق تجاره حرة؛ كما عملت كذلك
على ا�ست�ضافة �شركات متعددة الجن�سية لت�شغيل خطوط الإنتاج.
� -إ�ستراتيجية ال�صناعات الأ�سا�سية :وتعني �إن�شاء ال�صناعات
الثقيلة ،اعتمادا على م�شاركة ر�أ�س المال الأجنبي ،وخلق روابط
خلفية و�أمامية مع باقي القطاعات االقت�صادية الأخرى؛ واليوم ،نحن
بحاجة �إلى ت�شجيع مثل هذه ال�صناعات ،من خالل مثال ت�صنيع �سيارة
وطنية مائة بالمائة ،وذلك اعتمادا على الخبرة التي �أ�ضحت تملكها
اليد العاملة المغربية ،وخا�ص ـ ـ ــة تلك التي ت�شتغل اليوم في كبريات
ال�شركات العالمية التي اختارت �إعادة توطين جزء من �إنتاجها نحو
المغرب؛ كذلك التو�سع في �صناعات الإ�سمنت والحديد وال�صلب،
والتركيز على �صناعة الإلكترونيات.
� -إ�ستراتيجية ت�شجيع ال�صناعات عالية التقنية وذات القيمة
الم�ضافة ،والتي تتطلب ر�أ�س مال كبير ومهارة عاليه؛ مما ي�ؤدي �إلى
الرفع من القدرة التناف�سية للمنتجات ،وبالتالي تو�سيع دائرة �أ�سواقها
المحلية؛ الأمر الذي يحتاج �إلى التو�سع في ا�ستثمارات القطاع
ال�صناعي ،من خالل م�شاريع �صناعية �أجنبية ومحليه ،توفر فر�ص
ال�شغل� ،إلى جانب نقل التكنولوجيا الحديثة ،وتطوير مهارات العمالة،
و�إيجاد قنوات ت�سويقية جديدة.
190
�إن التجارب ال�صناعية الناجحة في العالم اليوم ،هي تلك التي
�أعطت للقطاع الخا�ص دورا مركزيا في الحياة االقت�صادية العامة؛ وهي
التي قامت على دعم الدولة لل�صناعات الإ�ستراتيجية ،عند انطالقها،
خا�ص ـ ــة في مجاالت البحث والتطوير وا�ستيعاب التكنولوجيا؛ وعلى
تحفيز ال�صناعات الفرعية المت�صلة بهذه ال�صناعات الإ�ستراتيجية،
في �أفق بناء �شبكة �صناعية متكاملة ومندمجة ،ت�ستطيع تحقيق التقدم
ال�صناعي المطلوب؛ وهي التي قامت على �أ�سا�س االنتقال من �إنتاج
المواد الأ�سا�سية "زهيدة الثمن" �إلى �إنتاج "مواد ثانوية ذات قيمة
م�ضافة عالية"؛ وعملت على جذب اال�ستثمار الأجنبي المبا�شر ،من
خالل تكييف القوانين المحفزة لهذا اال�ستثمار ،وتوفير مناخ العمل
المنا�سب ،والبنيات التحتية الأ�سا�سية ،وقوانين عمل ال�شركات داخل
الوطن؛ الأمر الذي من �ش�أنه �أن ي�ؤدي �إلى تح�سين الأداء االقت�صادي
العام ،وخا�صة ال�صناعي منه ،و�أن يدفع في النهاية �إلى ا�ستثمارات
�أخرى كثيرة؛ وهو ما يعرف بم�ضاعف اال�ستثمار؛ الأمر الذي يتطلب
�إعادة هيكلة االقت�صاد الوطني ،ب�إعطاء دور �أكبر للقطاع ال�صناعي.
ومن �أجل ذلك ،انطلق المغرب في ال�سنوات الأخيرة ،في و�ضع
�إ�ستراتيجيات قطاعية هادفة ،من �ش�أنها ت�سريع دعم هذا التوجه .ولقد
التزم المغرب في توجهه هذا ،ب�إتباع دينامية نمو ،تعززت بقوة منذ
انطالق مخطط "�إقالع" وتوقيع الميثاق الوطني للإقالع ال�صناعي في
�سنة 2009؛ كما جاء مخطط الوطني للت�سريع ال�صناعي ،بهدف تعزيز
دور ال�صناعة ومكانتها في الناتج الداخلي الخام ،لالنتقال من %14
حاليا �إلى � %23سنة 2021؛ والذي تمت مرافقته بمخططات جهوية،
لتحقيق حد معقول من م�شاركة جميع الجهات في التنمية الوطنية،
واال�ستفادة من ثمار التنمية الوطنية ،لأن العدالة بين الجهات وبين
المناطق ،يجب �أن تكون هدفا لأي �إ�ستراتيجية ،تتوخى تحقيق تنمية
191
�شاملة ،مندمجة وم�ستدامة ،ت�ستفيد منها جميع ال�ساكنة؛ كذلك �إن�شاء
منظومات �صناعية ،ت�ستفيد المقاوالت داخلها ،من مواكب ـ ـ ـ ــة مالئمة
وم�ساعدات محددة ،في مجال التمويل والعقار ال�صناعي والتكوين.
وفي هذا ال�صدد ،يمكن ل�صندوق التنمية ال�صناعية -الذي انطلق في
فاتح يناير ،2015ويخ�ص�ص ثالثة مليارات درهم للفترة 2014ـ2020
ل�صالح مقاوالت المنظومات ال�صناعية �-أن يقوم بدور كبير لتمكين
هذه المقاوالت من تحقيق مطامحها على م�ستوى الت�أهيل والتنمية
والتمويل؛ كما يمكن ،و�إ�ضافة �إلى مواكبة الدولة ،عر�ض تمويل بنكي
مندمـ ـ ـ ــج وتناف�سي .وب�إمكان مقاوالت المنظومات ال�صناعية �أي�ضا
اال�ستفادة من عقار �صناعي ذي جودة ،وخا�صة بف�ضل فكرة الحظائر
ال�صناعية الت�أجيرية.
وفي هذا ال�سياق ،يقترح �صندوق دعم اال�ستثمار ،بموجب ميثاق
اال�ستثمار� ،أن تتكفل الحكومة جزئيا ببع�ض النفقات المتعلقة ب�شراء
العقار (في حدود %20من �سعر الأر�ض) ،وبالبنية التحتية الخارجية
(في حـ ـ ـ ــدود %5من التكلفة الإجمالية لبرنامج اال�ستثمار بالتكوين
المهني (في حدود %20من كلفة هذا التكوين) .ويمكن اال�ستفادة
من �أكثر من نوع واحد من الدعم ،لكن دون �أن تتجاوز م�ساهمة الدولة
%5من التكلفة الإجمالية لبرنامج اال�ستثمار� ،أو � %10إذا تعلق الأمر
با�ستثمار في �ضواحي المدن �أو في منطقة قروية .وفي ما يخ�ص
المنطقة الحرة �أو منطقة الت�صدير الحرة ،والتي هي ف�ضاء محدد
ترابيا خا�ص ب�أن�شطة الت�صدير ال�صناعية والخدمات التابعة لها،
ويتم �إحداثها بموجب مر�سوم يحدد طبيعة و�أن�شطة ال�شركات التي
يمكن �أن ت�ستقر فيها ،فقد بد�أت �أن�شطتها في كل من طنجة (منطقة
طنجة الحرة وطنجة �أوطوموتيف �سيتي) والقنيطرة (المنطقة
الحرة الأطل�سية للقنيطرة) والدار البي�ضاء (ميد بارك) والرباط
192
(تكنوبولي�س) ووجدة (تكنوبول وجدة) .ويم ّكن و�ضعها هذا كمنطقة
ت�صدير حرة ،من الإعفاء من مراقبة التجارة الخارجية وال�صرف،
مع �إمكانية اال�ستفادة من تحفيزات �ضريبية وامتيازات جمركية
وت�سهيالت �إدارية.
وبالرغم من كل ذلك ،فالزال االقت�صاد الوطني يتميز بخ�صائ�ص
وبنيات تعرقل ب�شكل كبير �صيرورة التنمية ،والتي يمكن تلخي�صها في
ظاهرتين اثنين :ازدواجية البنيات االقت�صادية وانح ـ ـ ــراف البنيات
القطاعية؛ فعلى غرار باقي دول العالم الثالث ،يعاني المغرب من
تعاي�ش قطاعات وجهات متقدمة و�أخرى تقليدية؛ وهذا ما ي�ؤثر على
�إنتاجية هذه القطاعات ،وا�ستفادة هذه الجهات من البنيات التحتية،
التي توفر عادة للجهات المتقدمة ،حيث يرتكز الن�شاط ال�صناعي؛
كما �أن االزدواجية تظهر كذلك على م�ستوى الجهات والمناطق؛ ف�إذا
ا�ستثنينا الحزام الممتد من القنيطرة �إلى الجرف الأ�صفر ،ف�إن باقي
المناطق المغربية تعاني خ�صا�صا في البنيات التحتية وال�صناعية،
التي تمكن من تنميتها وتفعيل دورها في التنمية ال�شاملة للمغرب؛
فالن�سيج الإنتاجي ال يزال في بالدنا ،يتمركز حول محور رئي�سي ،يمتد
من فا�س ومكنا�س� ،إلى القنيطرة والرباط ،فالمحمدية ،و�صوال �إلى
الدار البي�ضاء .ولقد حاولت �سلطات الحماية ،منذ البداية ،تق�سيم
المغرب �إلى جزء نافع ،يظم المناطق المطلة على المحيط الأطل�سي،
الغنية بالفالحة ،وجزء �آخر غير نافع ،ي�ضم المناطق الغير الم�سقية
والجافة؛ ويبدو �أن التاريخ يعيد نف�سه ،حيث الزلنا نالحظ �إلى اليوم،
تعاي�ش مغربين؛ مغرب �صناعي نافع وديناميكي ومنتج ومبدع ،ومغرب
�آخر غير نافع وبال مالمح ،وفي �أحيان كثيرة متراجع؛ �صحيح �أن هناك
جهات يمكن �أن ت�صبح متقدمة جدا ،اعتبارا لم�ؤهالتها و�إمكاناتها
والثروات التي تتوفر عليها ،لكن هناك جهات �أخرى ال تقوم ب�أي دور
193
في التنمية االقت�صادية واالجتماعية ،وتعرف خ�صا�صا وا�ضحا ،فيما
يتعلق بتدخل ال�سلطات العمومية ،لإنعا�ش التنمية ال�صناعية داخل
ربوعها؛ هذا التعاي�ش بين مناطق غنية و�أخرى فقيرة في بالدنا،
ي�ضرب �أ�سباب التما�سك االجتماعي والت�ضامن الوطني ،وقد يهدد
في العمق� ،أ�س�س التوازن واال�ستقرار ،كما يحمل معه العديد من
ال�صعوبات والم�شاكل .لذلك ،فالواجب اليوم ت�شجيع المناطق التي
تعرف تخلفا ملحوظا والوقوف بجانبها ،في �إطار �سيا�سة جهوية
متوازنة ،تقوم على مبد�أ الت�ضامن بين الجهات ،عبر �سيا�سة �ضريبية
ذات بعد جهوي ،من خالل تخفي�ضات �ضريبية مهمة ولو لفترة محددة،
ونظام جمركي محفز ،و�شروط للتمويل مرنة وب�أقل تكلفة ،والعمل على
تدفق ر�ؤو�س الأموال الوطنية والخارجية �إلى المناطق التي تعاني من
بين ما تعانيه ،من نق�ص مزمن في التجهيزات الأ�سا�سية وفي البنيات
التحتية ،كالطرق والموانئ والمطارات وال�سكك الحديدية� .أما فيما
يتعلق بانحراف البنيات القطاعية ،فيظهر على م�ستوى ال�صناعات
التحويلية ،وعلى م�ستوى تبعيتها للخارج؛ فاالنحراف الحا�صل على
م�ستوى ال�صناعات التحويلية ،يتمثل في النقائ�ص وال�سلبيات التي
تطبع القطاع ال�صناعي ،حيث يتمثل على م�ستوى الطلب ،في توجه
ال�صناعات التحويلية� ،إلى ا�ستبدال ال�صناعات الم�ستوردة ،المرتبطة
�أ�سا�سا باال�ستهالك المبا�شر ،دون البحث ع ـ ـ ــن ميزة تمكنها من
الإنتاج لال�ستهالك الم�ستقبلي� .أما على م�ستوى تبعيتها للخارج ،ف�إن
االنحراف يتمثل �أ�سا�سا ،في اعتماد هذه ال�صناعات على مواد �أولية
و�شبه م�صنعة ،م�ستوردة من الخارج؛ مما يزكي ارتباط هذه ال�صناعات
بتقلبات ال�سوق الدولية .وب�صفة عامة ،ف�إن القطاع ال�صناعي يتقدم،
لكن ببطء �شديد ،حيث ظل تطور هذا القطاع مرتبطا بالظرفية
االقت�صادية الداخلية والخارجية.
194
لذلك ،وجب موا�صلة تنزيل مخطط الت�سريع ال�صناعي ،وتثمين
المنجزات التي حققها على م�ستوى �إحداث فر�ص ال�شغل ،وا�ستقطاب
اال�ستثمارات الأجنبية ،وتعزيز تموقع مقاوالتنا الوطنية على م�ستوى
�سال�سل الإنتاج العالمية ،وتو�سيع مجـ ـ ـ ـ ــال المنظومات ال�صناعية،
والرفع من وتيرة االندماج ،عبر خلق �شبكة من المقاوالت الوطنية
المناولة؛ كذلك اتخاذ التدابير ال�ضرورية لتحفيز اال�ستثمار الخا�ص،
عبر موا�صلة تفعيل الإ�صالحات الت�شريعية والتنظيمية والم�ؤ�س�ساتية
الرامية �إلى لتح�سين مناخ الأعمال ،والإ�سراع ب�إخراج الميثاق الجديد
لال�ستثمار ،والذي من �ش�أنه �أن يف�ضي �إلى �إقرار نظام تعاقدي جديد،
�شامل ومتجان�س و�أكثر تحفيزا ،يعزز جاذبية المغرب في مواجهة
المناف�سة الدولية.
�إن التنمية ال�صناعية التي تتم في ظل هذا التفاوت العميق بين
المناطق والجهات ،لها من دون �شك ،انعكا�سات خطيرة؛ ول�ضمان غد
�أف�ضل لبالدنا ،وتجنب مثل هذه الأخطار ،يجب �أن يملك �صانعوا القرار
الإرادة ال�سيا�سية للقطع مع هذا التوجه الذي دام ل�سنوات عديدة،
وذلك في اتجاه و�ضع القوانين والآليات الالزمة ،من �أجل تقلي�ص
االختالالت بين مختلف جهات المملكة.
- 7ت�أهيل المقاولة
228
التنمية في بالدنا في ظل نظام حكم م�ستقر ،ي�سوده القانون،
وتحكمه مبادئ الدولة االجتماعية والت�ضامنية ،التي يجب
تتحقق
�أن ت�سعى جاهدة ،وفق �آليات الحكامة الجيدة ومكافحة الف�ساد ،وفي
ظل جهوية متقدمة ،قائمة على الالمركزية ،وعلى الحكامة الترابية،
�إلى تحقيق الأمن الغذائي ،وت�سريع التنمية ال�صناعية ،وت�أهيل المقاولة
وتنظيم القطاع غير المهيكل و�إدماجه في الن�سيج االقت�صادي المنظم،
وذلك بهدف الرفع من وتيرة الت�شغيل و�إدماج ال�شباب؛ وهو ما ال يتم
�إال من خالل النهو�ض بالتعليم العالي والبحث العلمي ،وعبر �سيا�سات
عمومية م�ستدامة.
�إن �أي نموذج تنموي ،مهما بلغ من الن�ضج ومن الطموح ،لن
يكون ناجعا ويحقق �أهدافه� ،إال من خالل تخطيط دقيق ومحكم،
ومن خالل نظرة �إ�ستراتيجية وبعيدة المدى ،وعبر توافر عوامل
متعددة وذات �أهمية بالغة ،اقت�صادية و�سيا�سية وقانونية وم�ؤ�س�ساتية
واجتماعية ،وثقافية ...كالمناخ ال�سيا�سي المالئم ،والديمقراطية
الحقيقية ،والم�س�ؤولين الوطنيين الذين ي�ؤمنون �إيمانا قويا ،بجدوى
الإ�صالح و�ضرورة التغيير ،وذلك باالعتماد على الذات ،ل�ضمان نمو
م�ستقر وم�ستدام ،وعلى الموارد المحلية ،وعلى اال�ستثمار الأجنبي
المبا�شر ،واال�ستثمار في م�شروعات البنية التحتية الأ�سا�سية ،والتنوع
في البنية ال�صناعية ،وتغطيتها لمعظم فروع الن�شاط ال�صناعي،
واالهتمام بالبيئة والثقافة وبر�أ�س المال الب�شري ،لتح�سين الم�ؤ�شرات
االجتماعية ،وتح�سين الأحوال المعي�شية والتعليمية وال�صحية لعموم
المواطنين ،والق�ضاء على الفقر �أو على الأقل تقلي�صه ،وتمكين
المر�أة ،وحماية الم�ستهلك؛ �إذ التفاوت الكبير في المداخيل وفي توزيع
الثروة ،يعتبر في الكثير من الأحيان ،من الأ�سباب المبا�شرة لفقدان
اال�ستقرار االجتماعي ،وربما حتى ال�سيا�سي ،وفي وقوع العديد من
الم�شاكل واال�ضطرابات.
229
وعليه ،ف�إن مكا�سب التطور االقت�صادي ،يجب �أن تنعك�س �إيجابا
على جميع المواطنين ،في تح�سين حياتهم المعي�شية ،وتعميم ،بل
تجويد الخدمات ال�صحية والتعليمية؛ وهو ما يفر�ض من جهة ،مفهوما
جديدا للدولة ،ودورا �أكبر للفئات المي�سورة من دوي المال والأعمال،
لت�ساهم بدورها من خالل اال�ستثمار المنتج ،في خلق فر�ص �شغل
حقيقية؛ ومن جهة �أخرى ،ت�أهيال �سيا�سيا ،وتعبئة للموارد وتطويرا
للإنتاج؛ و�آليات جديدة لخلق الثروة ،وتنظيما ل�سوق ال�شغل ،ودعما
عموميا حقيقيا و�شفافا ،وقرو�ضا ت�ضامنية ،بدون فوائد �أو على الأقل،
بمعدالت فائدة رمزية ،بهدف خلق ن�شاطات مدرة للدخل ،ت�ستفيد منها
الفئات الأكثر فقرا؛ بالإ�ضافة �إلى العمل على خلق المزيد من فر�ص
ال�شغل والدخل ،وخا�صة لفائدة ال�شباب القروي ،وذلك بت�سهيل ولوج
الم�ستثمرين للعقار الفالحي ،عبر تعبئة الأرا�ضي الفالحية المملوكة
للجماعات ال�ساللية ،وفق مقاربة تجمع بين الإنجاز الفعلي للم�شاريع
اال�ستثمارية ،والحد من التجزئة المفرطة لال�ستغالليات الفالحية،
وتوفير المواكبة التقنية والمالية المطلوبة؛ كذلك تثمين المنتوجات
الفالحية وتطوير �آليات ت�سويقها ،داخليا وخارجيا ،خا�صة بالن�سبة
ل�صغار الفالحين.
لكن نحتاج قبل كل ذلك� ،إلى �إرادة �سيا�سية قوية ،تجعل من ثقافة
الت�ضامن وتكاف�ؤ الفر�ص والمناف�سة الحرة والكاملة� ،أولى �أولوياتها،
وتعمل على تح�سين الم�ستوى المادي والمعنوي للفئات المحرومة،
وتوفير الخدمات االجتماعية بالمجان وبالجودة المطلوبة ،وتو�سيع
قاعدة الطبقة الو�سطى ،وذلك بالإجراءات الملمو�سة التي تف�ضي �إلى
خلق حيوية اقت�صادية واجتماعية ،وتحقيق ال�سلم االجتماعي ،وذلك
اعتبارا للموقع الإ�ستراتيجي الذي تحتله هذه الطبقة داخل البنية
االقت�صادية واالجتماعية للدولة.
230
�إن الحديث اليوم عن نموذج تنموي جديد بالن�سبة لبالدنا،
يعني فيما يعنيه� ،أن نرى المغرب ،بكل قيمه التقليدية وتاريخه العريق
وخ�صو�صيته اال�ستثنائية وتجاربه ال�سيا�سية ،يجعل من الإن�سان محورا
�أ�سا�سيا لكل برامجه و�سيا�ساته؛ الأمر الذي لن يتحقق �إال بتجاوز
جميع العوائق المرتبطة بالم�صالح ال�ضيقة �أو باالن�شغاالت االنتخابية،
وقيادة المجتمع بكل فئاته وثقافاته ،نحو م�ستقبل �أف�ضل؛ تكون من
�أبرز معالمه :تثبيت مقومات الديمقراطية والعدالة االجتماعية،
وتوزيع عادل للثروة ،ومحاربة الف�ساد بكل �أ�شكاله ،وال�سهر على احترام
القانون ،وتحقيق الإمكان الب�شري ،والق�ضاء التدريجي على الفقر
والأمية ،وت�أهيل العن�صر الب�شري ،وولوج عالم المعرفة ،وتقوية
المجتمع المدني ،و�إتباع �أ�ساليب الحكم ال�صالح كمطلب تدبيري
وتنموي ،ي�ساعد الأ�شخا�ص والم�ؤ�س�سات على اتخاذ قرارات ناجعة
وبلوغ �أهداف م�شتركة ،على �أ�سا�س من الم�شاركة والمراقبة والمحا�سبة
وال�شفافية.
�إننا ال زلنا نتردد في اتخاذ قرارات جدية لمواجهة الم�ستقبل؛
وهذا هو مو�ضوع الأزمة حيث نالحظ �إلى يومنا هذا ،ق�صورا في التنمية،
وترددا في مقاربتها ككل �شامل ،ال يقبل التجزئة؛ كما نالحظ كذلك
ق�صورا في الأداء ال�سيا�سي ،و�ضعفا في ت�أهيل الإدارة ،لالنخراط في
م�شروع مجتمعي حقيقي ومتكامل؛ ي�ضاف �إلى ذلك ،ال�ضعف الكبير
في البحث العلمي ،وفي �أداء المنظومة التعليمية ،وعدم مالءمتها مع
م�ستلزمات التنمية ،و�أي�ضا التهمي�ش الذي يطال العديد من الطاقات
االبتكارية ،العلمية والثقافية والفنية والريا�ضية…
لقد خطا المغـ ـ ـ ـ ــرب بالفعل ،خطوات مهمة نحو توطيد النهج
الديمقراطي كخيار ا�ستراتيجي ،في اتجاه تحقيق التنمية ،وتكري�س
دولـ ـ ـ ـ ــة القانون ،وتثبيت قيم الحرية والديمقراطية؛ وهي مكت�سبات
231
مهمة ،تحققت في �إطار النموذج التنموي المغربي الحالي ،والتي يجب
تثمينها؛ لكن رغم ذلك ،مجهودات كبرى يجب �أن تبذل ،في اتجاه تثبيت
ا�ستقرار الإطار الماكرواقت�صادي ،ك�شرط �أ�سا�سي لت�أهيل االقت�صاد،
وجعله قادرا على خو�ض المناف�سة العالمية ،وت�أمين نمو اقت�صادي
متين ودائم؛ كذلك تحقيق التوازنات االجتماعية الكبرى ل�ضمان �سلم
اجتماعي حقيقي ،والعمل على تجديد الثقة في العمل ال�سيا�سي ،وذلك
بتخليق الحياة العامة وتنقيتها من كافة �أ�شكال الف�ساد المالي والإداري
وال�سيا�سي ،وتح�سين الإطار الم�ؤ�س�ساتي ،وتح�سين ظروف العمل
بالن�سبة للمقاوالت :وذلك بـتب�سيط الإجراءات ال�ضريبية والإدارية،
وتحمل الدولة لبع�ض النفقات التي تتعلق بالبنيات التحتية ،وتحديد
معايير انتقاء المناطق التي يمكن �أن ت�ستفيد من الدعم الذي تقدمه
الدولة ،والعمل على تخفيف تكلفة العوامل الإنتاجية ،من خالل تخفي�ض
تكلفة الأرا�ضي ،وذلك بخلق مناطق �صناعية مندمجة ،وتخفي�ض تكلفة
المال (معدالت الفائدة) وتخفي�ض الفاتورة الطاقية؛ كذلك �إقرار
حوافز مهمة ،تتعلق بجلب الر�ساميل الأجنبية ،بالنظر �إلى �ضعف
الموارد المحلية التي يمكن �أن توجه �إلى اال�ستثمار؛ فاالدخار الداخلي
الخام يمثل اليوم فقط %13من الناتج الداخلي الإجمالي؛ �إ�ضافة
�إلى تطوير التكنولوجيا والبحث العلمي الذي يف�ضي �إلى حماية البيئة
واقت�صاد الطاقة ،وت�شجيع المنع�شين والمقاولين الجدد والمقاوالت
ال�صغيرة والمتو�سطة والمتناهية ال�صغر ،وكذا الحرف المهنية.
�إن ال�سيا�سات التي تحمل في طياتها �أ�ساليب دعم التنمية ،تبنى
�أ�سا�سا على الق�ضاء على الف�ساد بمختلف �أنواعه؛ وت�صحيح الخلل
الكبير في توزيع الثروة الوطنية؛ واالنتقال من مجتمع م�ستهلك �إلى
�آخر منتج ،من خالل العمل بالم�شروعات ال�صغيرة والمتناهية ال�صغر،
والتي ال تحتاج �إلى �أموال �ضخمة لال�ستثمار؛ كذلك �إعطاء �أهمية
232
ق�صوى للتنمية الب�شرية ،ومنح قرو�ض بدون فوائد لبناء الم�شروعات
ال�صناعية والزراعية ،واالهتمام بالتنمية القروية؛ كذلك االهتمام
�أكثر باال�ستثمار الم�س�ؤول اجتماعيا ،والعمل على تعميق مفهوم التوازن
بين الم�صلحة العامة والم�صلحة الخا�صة لرجال الأعمال ،وتوظيف
التعليم العالي لخدمة االقت�صاد ،وربطه ب�أن�شطة البحث العلمي ،وتوفير
الخدمات الأ�سا�سية ،مثل ال�صحة والتعليم وال�سكن ،وباقي الخدمات
التي يحتاجها المواطن ،واال�ستمرار بالموازاة مع كل ذلك ،في �سيا�سة
الأورا�ش الكبرى ،و�إن�شاء البنيات التحتية الأ�سا�سية.
�إن بنـاء نموذج تنموي جديـد ،وما يواكبه من ت�صحيح لالختالالت
االقت�صادية واالجتماعية ،ال يمكن �أن يتم �إال في ظل نظام اقت�صادي
عالمي جديد في بنياته وم�ؤ�س�ساته ،حتى ت�صبح العولمة بحق رافعة
�أ�سا�سية للتنمية ،خا�صة بالن�سبة للدول النامية؛ هذه العولمة التي
�أ�صبحت اليوم ،واقعا حقيقيا ،يفر�ض نف�سه على الجميع ،و�أ�صبح
االقت�صاد العالمي وال�سوق العالمية ،تتقوى يوما بعد يوم ،لتخلق
ف�ضاء عالميا ،يتجاوز الدول و�إمكاناتها الوطنية ،وال ن�ستطيع اليوم
ال�سيطرة عليه �أو التحكم فيه� ،إال بقدر ما ن�ستطيع �أن ن�شارك في
الإبداع في �إطاره .وانطالقا من كل هذا ،يبقى تحكم المغرب في �سيا�ساته
االقت�صادية واالجتماعية والثقافية ،وتوجيه اقت�صاده ،واعتماده على
نف�سه ،وتطوير الو�سائل الذاتية لنموه� ،ضمانة هامة و�أ�سا�سية من
ال�ضمانات الأخرى التي �ستمكننا من تجنب الآثار ال�سلبية للعولمة،
وتحقيق التوازن االقت�صادي واال�ستقرار االجتماعي.
233
فـهـــــــر�س
ت�صديـــر 9..................................................................................................
فهـــــــر�س 235............................................................................................