الصحـابة عند الزيدية الطبعة الثالثة الاكترونية

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 286














‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫الطبعة الثالثة ‪2015‬م ‪1436 -‬هـ‬

‫منقّحة ومَزِيدة‬
‫مح‬
‫توى الكتاب‬
‫تقـديم ‪5 .........................................................................................................‬‬
‫هـذه الطبعة ‪11 ..............................................................................................‬‬
‫مقدمة الكتاب ‪13 ...........................................................................................‬‬
‫الصحابة؛ األسباب والدوافع ‪22 ....................................‬‬ ‫الفصـل األول الكالم عن َّ‬
‫املبحث األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ النشأة والتطور‪23 .......................................‬‬
‫َ‬
‫ما ش َجر بين الصحابة من االختالف والخصومة ‪24 ....................................................‬‬
‫َ‬
‫االختالف في تقييم ما ش َجر بين الصحابة ‪42 ...............................................................‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬نشوء ظاهرة سب الصحابة‪44 ....................................................‬‬
‫حملة األمويين على اإلمام علي وخروجهم عليه ‪44 .......................................................‬‬
‫اإلمام علي يتصدى للمتطاولين على الخلفاء ‪47 ...........................................................‬‬
‫مجاهرة األمويين بسب اإلمام والنيل منه ‪48 ................................................................‬‬
‫َ َ ُّ‬
‫تشكل ظاهرتي «النواصب» و«الروافض»‪54 ...............................................................‬‬
‫ردود األفعال بين التطفيف واإلنصاف‪59 ....................................................................‬‬
‫الصحابة ‪64 ......................................‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬االختالف النظري في تقييم َّ‬
‫السبب األول‪ :‬االختالف في تعريف (الصحابي)‪64 ........................................................‬‬
‫السبب الثاني‪ :‬فرضية تالزم الصحبة والفضل والعدالة ‪67 ........................................‬‬
‫السبب الثالث‪ :‬الخلل في مناهج البحث‪82 ...................................................................‬‬
‫مناظرة العلوي والجويني في شأن الصحابة ‪86 .............................................................‬‬
‫الفصـل الثاني مكانة الصحابة عند الزيدية‪91 ....................................................‬‬
‫املبحث األول‪ :‬عموم الصحابة أخيارأبرار ‪91 ......................................................‬‬
‫الصحابة في كتب ا َّلزيدية ‪94 .............................................................‬‬ ‫الثناء على عموم َّ‬
‫املبحث الثاني‪ :‬الخلفاء الراشدون عند الزيدية ‪102 .............................................‬‬
‫فضائل الخلفاء ومكانتهم ‪103 .......................................................................................‬‬
‫الراشدون في نظر أهل البيت ‪107 .................................................................................‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬الصحابة الخارجون على الخلفاء ‪140 .........................................‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬الخارجون على أبي بكر وعمر ‪140 .........................................................................‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬الخارجون على الخليفة عثمان بن عفان ‪142 .....................................................‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬الخارجون على اإلمام علي والقاعدون عن نصرته ‪144 .......................................‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫رابعا‪ :‬أصحاب دنسوا شرف الصحبة ‪156 ....................................................................‬‬
‫الفصـل الثالث أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة ‪165 .................................‬‬
‫القـرن الثـاني ‪167 ...............................................................................‬‬
‫القـرن الثـالث ‪173 ..............................................................................‬‬
‫القـرن الرابع ‪193 ...............................................................................‬‬
‫القـرن الخامس ‪197 ...........................................................................‬‬
‫القـرن السادس ‪201 ...........................................................................‬‬
‫القـرن السابع ‪203 ..............................................................................‬‬
‫القـرن الثـامن ‪212 ..............................................................................‬‬
‫القـرن التـاسع ‪219 .............................................................................‬‬
‫القـرن العـاشر ‪226 .............................................................................‬‬
‫القرن الحادي عشر ‪230 .....................................................................‬‬
‫القـرن الثاني عشر ‪233 .......................................................................‬‬
‫لصحابة ‪235 ...................................................‬‬ ‫الفصـل الرابع دفاع الزيدية عن ا َّ‬
‫املبحث األول‪ :‬مؤلفات ومواقف وأحكام ‪235 ......................................................‬‬
‫روايات إجماع الزيدية على النهي عن سب الخلفاء ‪238 ..............................................‬‬
‫حكم علماء الزيدية فيمن يسب الخلفاء الراشدين ‪244 .............................................‬‬
‫ترجيح الترضية على التوقف ‪246 ..................................................................................‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬الجارودية انتماء زيدي بأفكارإمامية ‪251 ......................................‬‬
‫موقف الجارودية من َّ‬
‫الصحابة ‪257 .............................................................................‬‬
‫الصحابة ‪263 .......................................................‬‬ ‫مخالفة الجارودية للزيدية في شأن َّ‬
‫املبحث الثالث‪ :‬شبهات حول الخلفاء ‪266 ..........................................................‬‬
‫الشبهة األولى‪ :‬الحيلولة دون كتابة الوصية ‪266 ...........................................................‬‬
‫ّ‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬التخلف عن جيش أسامة ‪273 .............................................................‬‬
‫التقدم على اإلمام علي ‪276 ..................................................................‬‬ ‫الشبهة الثالثة‪ّ :‬‬
‫الشبهة الرابعة‪ :‬االستيالء على فدك ‪283 ......................................................................‬‬
‫تقديم‬

‫بقلم‪ :‬األستاذ‪ /‬زيد بن علي الوزير‬


‫رئيس مركزالتراث والبحوث اليمني‬

‫من خصائص عالِمنا األستاذ‪« :‬حممد حيىي عزان» أنه ميلك ما ميكن تسميته‬
‫بـ«الدراسة املتوازنة» أي اجلمع بني الرأي والواقعية‪ ،‬وبني الدراية والرواية‪ ،‬وقلة هم‬
‫الذين ملكوا ناصية اجلمع بينهما وساقومها بقلم واحد‪ .‬من هنا تأيت آراؤه متوازنة‬
‫مع الواقع التارخيي فال ترى فيها هضماً ألي من اجلانبني‪ ،‬أو تسمع نشازاً يف أي‬
‫منحى منهما‪ ،‬وإمنا هو اطراد موزون فيما يتناوله من أحباث‪ ،‬وهبذه الروح العلمية‬
‫املطمئنة تناول عاملنا اجلليل مواضيعه‪ ،‬فحلق هبا جبناحني قويني‪.‬‬
‫الزيدية» هو من ذاك الطراز الذي حلق فيه عالياً‬‫الصحابة عند َّ‬
‫وهذا الكتاب « َّ‬
‫فوق أودية متشابكة ودروب متشعبة‪ ،‬مث آب من رحلته العلمية وملء يديه حبث‬
‫ثري‪َّ ،‬قوم فيه املعوج‪ ،‬وأزال عن احلقيقة ما علق هبا من أتربة وغبار‪.‬‬
‫الزيدية من‬
‫وقد يتساءل بعضهم‪ :‬ملاذا اضطر عاملنا اجلليل إىل توضيح موقف َّ‬
‫الزيدية عليه السالم واضحاً كل الوضوح؟ بل كان موقفه‬
‫مسألة كان فيها مؤسس َّ‬
‫منها أحد األسباب اليت تسببت يف خسارته املواجهة املسلحة!‬
‫واحلق أنه مل يكن األمر حباجة إىل هذا البحث‪ ،‬لوال أن أفكار مؤسس مذهب‬
‫الزيدية وتقمصتها وظهرت‬‫آخر هو «أبو اجلارود» قد تسللت ومتاهت يف أفكار َّ‬
‫مبظهرها‪ ،‬وتكلمت بلغتها إىل درجة أن فصلها عنها وإفرازها منها حيتاج إىل جهد‬
‫كبري‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪6‬‬

‫وضاعف من تعقيد هذه القضية أن كثرياً من املؤرخني قد وقعوا يف واحدة من‬


‫الزيدية‪ ،‬مث زادوها شططاً‬ ‫األغالط الكبرية عندما اعتربوا اجلارودية من مذاهب َّ‬
‫عندما وقعوا يف تناقض ال ختطئه العني‪ ،‬ففي الوقت الذي أثبتوا فيه زيدية اجلارودية‬
‫أثبتوا اختالفها جوهرياً عنها‪ ،‬ومع ذلك أصروا على إحلاقها بالزيدية وقسرها عليها‪،‬‬
‫على الرغم من الفوارق اجلوهرية‪ ،‬فـ«النوخبيت» اجلعفري حتدث عن اجلارودية بفروعها‬
‫وقال‪« :‬س وا كلهم يف اجلملة زيدية إال أهنم خمتلفون فيما بينهم يف القرآن والسنن‬
‫والشرائع والفرائض واألحكام»‪.‬‬
‫الزيدية‪ ،‬مث يقول عن أيب اجلارود‪ :‬إنه‬
‫ويثبت «الشهرستاين» أن اجلارودية من َّ‬
‫يف موضوع خالفة الراشدين ‪ -‬وهو موضوع مركزي ‪« -‬خالف أبو اجلارود يف هذه‬
‫املقالة إمامه زيد بن علي‪ ،‬فإنه مل يعتقد هذا االعتقاد»‪.‬‬
‫وينسب د‪ .‬العمرجي إىل «فخر الدين الرازي» و«قاضي القضاة» و«ابن شاكر‬
‫الكتيب» و«البغدادي» أن اجلاروديني «يطعنون يف أيب بـكر وعمر رضي هللا عنهما‬
‫الصحابة» فأين هذا من رأي‬
‫ويفسقوهنما‪ ،‬وقال بعضهم بتكفريمها ويكفرون أكثر َّ‬
‫زيد فيهم؟! ومل يفلت الدكتور املعاصر العمرجي من إسار هذا اإلطار‪ ،‬فهو ينسب‬
‫الزيدية مث يقول‪« :‬وقد خالف أبو اجلارود إمامه زيد بن علي يف كثري‬
‫اجلارودية إىل َّ‬
‫الزيدية»‪.‬‬
‫خمالفة جتعله بعيداً عن مذهب َّ‬
‫الزيدية حىت خيالفها‪ ،‬ولكن تـقبُّل رواية‬
‫واحلق أن أبا اجلارود مل يكن أصالً من َّ‬
‫زيديته بدون فحص قد أبقى على هذا التناقض احلاد‪.‬‬
‫الزيدية "على‬
‫وهكذا ظهرت آراء «أيب اجلارود» وكأهنا شرحية من أفكار اهلادوية َّ‬
‫الزيدية نفسها‪ ،‬مع أهنا‬ ‫وجه التحديد" وانعكاس ‪ -‬يف بعض األوجه ‪ -‬آلراء َّ‬
‫بالتأكيد ليست منها‪ ،‬لكنها لسبب سياسي قد التصقت هبا‪ ،‬واندست فيها‪،‬‬
‫وأظهر بعضهم من متأخري اهلادوية تبين رأيها السياسي‪ ،‬وتباهوا باالنتماء إليها‪،‬‬
‫‪7‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬

‫فعمق هذا االدعاء ذلك التماهي‪.‬‬


‫الزيدية؟ يف موضوعنا هذا يبدو أن‬ ‫فما هي األفكار اليت تسربت إىل اهلادوية َّ‬
‫القول بالنص عن طريق الوصف‪ ،‬وحق اخلالفة يف البطنني‪ ،‬قد تسللتا إىل اهلادوية‬
‫الزيدية‪ ،‬ووجدتا لديها ترحيباً‪ ،‬وبناء على ذلك اختذ املتعصبون منهم موقف‬ ‫َّ‬
‫اجلارودية موضوع السب والشتم‪ .‬وهذا يعين أن هناك تلبس واضح مبالمح ليست‬
‫الزيدي السياسي‪ ،‬ويعين أيضاً أن أوراقاً ليست منه قد دخلت عليه‪،‬‬ ‫أصالً يف الفكر َّ‬
‫وأن صفحات غريبة قد أضيفت إىل كتابه‪ ،‬وأن املوضوع حباجة إىل تنقيح وتصحيح‪.‬‬
‫هلذا السبب اضطر عاملنا اجلليل أن يكتب حول هذه النقطة املتشابكة‪ ،‬وأن‬
‫يفرز الصواب من اخلطأ‪ ،‬وأن جيلو الصدأ املرتاكم عن حقيقة األمر يف أسلوب يعبق‬
‫بروح اإلنصاف‪ ،‬وليس اإلنصاف منه بغريب‪ ،‬فقد سبق له يف منظومته عدة حبوث‪:‬‬
‫(حديث االفرتاق حتت اجملهر) و(قرشية اخلالفة) و(عرض احلديث على القرآن)‬
‫الزيدية) أن صدع باحلق‪ ،‬وأن قام بعملية ترميم اجلسر‬
‫و(قراءة يف نظرية اإلمامة عند َّ‬
‫املصدوع‪.‬‬
‫وبتلك العدة والعتاد وبالروح املنصفة واألسلوب املتوازن‪ ،‬متكن عاملنا اجلليل من‬
‫فرز املتماهي‪ ،‬وإبراز النظرة األصيلة واملستقلة واملتميزة‪ ،‬فكان كتابه جتسيداً لذلك‬
‫كله‪ ،‬وقد أوضح يف مقدمته هذه املعاين‪.‬‬
‫الزيدية الفذة‬
‫إن الوسطية واالتزان الذي عرب عنهما عاملنا اجلليل هي مؤهالت َّ‬
‫لتكون جسر اللقاء بني املذاهب اإلسالمية كلها واليت أعلنتها ثورة اإلمام زيد‬
‫بوضوح‪ ،‬فالتف حول رايته أهل املذاهب‪ ،‬وأهل احلديث‪ ،‬وأصحاب اإلرجاء قبل‬
‫أن يتحولوا إىل مرجئة‪ ،‬وحىت اخلوارج النافرين من كل مذهب‪ ،‬فكان ذلك االلتفاف‬
‫هو التعبري العملي عن جتسيد «اجلسرية» اليت التقت عندها اآلراء املتنوعة‪ ،‬يف‬
‫واحدة من اللقاءات اليت مل يعرف التاريخ اإلسالمي لقاءً وال التفافاً مثله‪ ،‬لكن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪8‬‬
‫ظهور مالمح اجلارودية وما حتمله من فكر متشدد صدع اجلسر العظيم مبا ُِ‬
‫حل من‬
‫أثقال‪ ،‬وما أضيف إليه من ألوان حىت مل يعد يظهر منه إال الشيء اليسري من خلف‬
‫ستار كثيف‪.‬‬
‫من هنا أدرك عاملنا اجلليل أن إعادة بناء اجلسر املصدوع ‪-‬كما كان يف األصل‪-‬‬
‫الزيدية األوىل ضمن "احتاد فدرايل"‬
‫ضرورة ال غىن عنها‪ ،‬من أجل إعادة روح التجربة َّ‬
‫‪ -‬إن صح هذا التعبري ‪ -‬جيمع األفكار املستقلة يف إطار واحد‪ ،‬ومن أجل هذه‬
‫الغاية النبيلة ال بد من رفع تلك األثقال عنه‪ ،‬وإزالة امللصقات الغريبة منه لتُعرف‬
‫على حقيقتها‪.‬‬
‫خربت طريقته ومنهجه ‪ -‬مل تكن‬
‫ويبدو يل أن دوافع عاملنا اجلليل تلك ‪ -‬وقد ُ‬
‫وحدها وراء عمله‪ ،‬بل إن هناك عامالً آخر ال يقل أمهية‪ ،‬وهو أنه أراد أن يصقل‬
‫حقاً تـعتم‪ ،‬بغض النظر عن انتماء هذا احلق إىل هذا املذهب أو ذاك؛ وإمنا كان‬
‫مهه هو إعادة تركيب الوقائع الفكرية على حنو ما كانت عليه‪ ،‬فكان ‪-‬إىل جانب‬
‫كونه فقيهاً‪ -‬مؤرخاً حصيفاً‪ ،‬وهباتني العدتني حبث هذا املوضوع ودرسه وتوصل‬
‫إىل ما توصل إليه‪ ،‬ال ألنه زيدي يدافع عن مذهبه‪ ،‬بل ألنه عامل جمتهد يفتش عن‬
‫الزيدي؛ فهو يصفي آثار حقيقة‬ ‫الصواب‪ ،‬مث ألنه مؤرخ متخصص يف الفكر والفقه َّ‬
‫مشوهة‪ ،‬ومن مث فطلب احلقيقة عنده ‪ -‬كشأن املنصفني ‪ -‬يسبق االنتماء‪ ،‬وهو‬
‫هلذا السبب سعى بكل جهد يف هذا االجتاه‪ ،‬فنزح ما علق بالنبع الصايف من غثاء‬
‫السيل‪ .‬وأنا أعتقد أن من أوليات إزالة الغثاء هو النظر يف حقيقة انتماء اجلارودية‬
‫الزيدية‪ ،‬حيث شكل هذا االنتماء املزعوم يف ‪ -‬نظري ‪ -‬معضلة تارخيية حباجة‬ ‫إىل َّ‬
‫الزيدية قد أوقع هبا أضراراً وال شك‪ ،‬ويكفيها‬‫إىل تنظيف‪ ،‬فتسلل اجلارودية إىل َّ‬
‫الزيدية يف شيء‪ ،‬ومع ذلك فهي حمسوبة عليها ظلماً‪.‬‬ ‫ضرراً أهنا ليست من َّ‬
‫الزيدية‪ ،‬وليس إىل اإلمامية؛ ألهنا‬
‫وقد أمكن للجارودية أن تعمق نسبتها إىل َّ‬
‫‪9‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬

‫خرجت من اإلمامية‪ ،‬وادعت التحاقها بالزيدية‪ ،‬مث تسللت أفكارها السياسية‬


‫الزيدية فازداد االعتقاد باالنتماء عند من اكتفى بالنظرة‬
‫بالفعل إىل اهلادوية َّ‬
‫السطحية‪ ،‬ومل يكلف نفسه عناء البحث‪ .‬ومؤرخو الفرق كثرياً ما يلتقطون بعض‬
‫املالمح فيسلكوهنا يف هذا املذهب أو ذلك‪ ،‬كما بينا يف غري هذا احلديث‪.‬‬
‫الزيدية خارج ملصقات اجلارودية‪ ،‬والطريق إىل‬ ‫من هنا ينبغي النظر إىل فكر َّ‬
‫ذلك يتم من خالل دراسة سرية وأفكار أيب اجلارود «زياد بن املنذر الكويف» تويف‬
‫(‪160/150‬هـ ـ ‪776/767‬م)‪ .‬ويف حالة التعرف عليه تظهر سريته التارخيية أنه كان‬
‫كثري التنقل بني املذاهب يف عصره فكان من أتباع اإلمام الباقر‪ ،‬مث ابنه جعفر‪ ،‬مث‬
‫تركهما و"حلق" بالزيدية‪.‬‬
‫وللمؤرخني فيه آراء متفاوتة بني التهجم القوي واخلفيف‪ ،‬وما قيل عنه قد ينطبق‬
‫عليه أو يدخل ضمن التقوميات املذهبية املشكوك فيها‪ ،‬وليس هذا مقام التفصيل‪،‬‬
‫ويل إليه رجعة مفصلة‪ .‬لكنا من النص السابق منسك أول خيط يف معرفة تسلل‬
‫الزيدية‪ ،‬فهذا النص يدل على أنه أحلق نفسه هبا‪ ،‬ومل ينضم ‪ -‬أو‬ ‫اجلارودية إىل َّ‬
‫يُضم ‪ -‬إليها‪ ،‬وألنه هو قد أعلن أنه التحق بالزيدية فقد أخذ املؤرخون ما أعلنه‬
‫حقيقة‪ ،‬وجاء اقتباس اهلادوية لبعض أفكاره السياسية تعميقاً لذلك التبين‪ ،‬ومل‬
‫يكلف بعض الباحثني أنفسهم دراسة التناقض بني آرائه وآراء اإلمام زيد وآراء‬
‫اهلادي نفسه فوقعوا يف فخه‪ ،‬كما مل يتنبهوا إىل أن اقتباس آراء من هنا وآراء من‬
‫الزيدية على وجه اخلصوص‪ ،‬وال يعطيه وضع‬ ‫هناك ال متنحه حق االنتماء إىل َّ‬
‫املتطرفني له من اهلادوية بني صفوفهم حق االنتماء أيضاً‪ ،‬فالرتحيب به جاء نتيجة‬
‫موقف سياسي‪ ،‬وليس وليد موقف فكري‪ ،‬وما دون الثالثة األفكار اليت ذكرنا‬
‫فليس هناك بني اجلارودية والزيدية لقاء آخر‪.‬‬
‫وخالصـة األمر أن هذا االلتباس يتجلى من خالل ثالث حقائق‪:‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪10‬‬

‫األولى‪ :‬أن أبا اجلارود مل يكن زيدياً وال إمامياً‪ ،‬بل له مذهب خاص به‪.‬‬
‫الزيدية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن موضوع تكفري وتفسيق املشايخ مرفوض عند َّ‬
‫الثالثة‪ :‬أن أبا اجلارود هو الذي أحلق نفسه بالزيدية أوالً‪ ،‬مث أحلقه بعض اهلادوية‬
‫عندما اقتبست منه موضوع النص على أمري املؤمنني‪ ،‬وإثبات اإلمامة يف البطنني‬
‫بالدعوة مع العلم والفضل كما يقول اإلمام املهدي‪.‬‬
‫لكن هذا اإلحلاق القسري‪ ،‬وهذا االقتباس ال يؤهالن اجلارودية لتكون زيدية أو‬
‫هادوية‪ ،‬وإمنا هو لقاء يف بعض األفكار بني مذهبني خمتلفني‪ ،‬وكثرياً ما حيصل بني‬
‫الزيدية‪ ،‬وليس إىل اإلمامية؛‬‫املذاهب‪ ،‬وقد أمكن للجارودية أن تعمق نسبتها إىل َّ‬
‫ألهنا خرجت منها وادعت التحاقها بالزيدية‪ ،‬مث تسللت بالفعل إلـيها‪.‬‬
‫وهكذا يظهر أن إعادة ترتيب األوراق املختلطة‪ ،‬وإرجاع صفحات كل كتاب‬
‫إىل أصله‪ ،‬أمر حيتمه البحث العلمي‪ ،‬وبدونه ال ميكن قراءة أي فكر قراءة نقية‬
‫صافية‪.‬‬
‫وما قام به عاملنا اجلليل يدور يف هذا األفق العلمي‪ ،‬ويرتكز على حقائق العلم‬
‫واملوضوعية‪ ،‬ومل يكن فيه أسري عاطفة وال سجني هوى‪ ،‬وإمنا كان عاملاً باحثاً مدققاً‪.‬‬
‫وهبذه املواصفات الرفيعة يسعد (مركز الرتاث والبحوث اليمين) أن يقدم كتاب‬
‫املسار الرابع عن (الصحابة عند الزيدية) ليقرأه الناس مبختلف مذاهبهم وتوجهاهتم‬
‫الفكرية يف ضوء جديد‪ ،‬من أجل أن يتمكنوا من إقامة جسور اللقاء على بنيان رشيد‪.‬‬

‫يزد بن علي الوزير‬


‫البوتوماك ‪ -‬ماريالند‪:‬‬
‫‪ 28‬ربيع الثاين‪1425‬هـ‪ 17/‬يونيو ‪2004‬م‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬

‫هـذه الطبعة‬
‫منذ أن نُشر أصل هذا البحث يف هيئة مقال يف «العدد ‪ 12-11‬من جملة املسار الصادر‬
‫منتصف ‪2003‬م‪( ،‬وهي جملة فصلية‪ ،‬تصدر عن مركز الرتاث والبحوث اليمين‪ ،‬وتعىن باجلوانب‬
‫الفكرية والثقافية والرتاثية‪ ،‬وتتضمن مقاالت وحبوثاً باللغتني‪ :‬العربية‪ ،‬واإلجنليزية)؛ كنت أتتبع ردود‬
‫الفعل جتاهه‪ ،‬وأرصد املالحظات مهما كانت‪ ،‬كوهنا تُ ِعرب عن خلفيات ثقافية وفكرية خمتلفـة يتعني‬
‫النظر فيها ومراعاهتا‪.‬‬
‫ويف ضوء ذلك راجعت صياغة البحث وضمنته كثرياً من اإلضافات املهمة‪ ،‬ودققت يف التوثيق‬
‫وتوسعت يف النقل واالستشهاد و َّقومت بعض األلفا واستدركت بعض النواقص‪ ،‬حىت اكتمل‬
‫بناؤه‪.‬‬
‫مث وقع االختيار عليه ليكون «كتاب املسار الرابع»‪ ،‬وتفضل األستاذ املفكر‪« :‬زيد بن علي‬
‫الوزير» رئيس «مركز الرتاث والبحوث اليمين» بتقدميه للقراء‪ ،‬مبا يُرشد إىل قواعد اإلحبار يف جلة‬
‫هذه املسألة املعقدة رواية ودراية‪ ،‬ويفتح نوافذ النظر يف آفاق التأمل والتحليل‪.‬‬
‫ونُشر الكتاب يف النصف الثاين من العام ‪2004‬م وكان له أثر ملموس يف تقومي موقف بعض‬
‫طالب العلم من الزيدية جتاه الصحابة‪ ،‬إىل جانب تصحيح نظرة أتباع املذاهب األخرى جتاه الزيدية‪،‬‬
‫وخالل سنوات تناولته ألسنة القراء وأقالم النُّقاد‪ ،‬دراسة وحتليالً واقتباساً واستشهاداً واعرتاضاً وتصويباً‪،‬‬
‫وخلصه دارسون يف بعض اجلامعات‪ ،‬وأنشأ باحثون يف ضوئه حبوثاً ومقاالت‪ ،‬واستفاد منه املتحاورون‬
‫وُكتَّاب الصحف‪ ،‬واستشهد به املتحدثون يف القنوات التلفزيونية‪ ،‬واقتبس منه املشاركون يف املواقع‬
‫اإللكرتونية‪ ،‬وبذلك صار مبنزلة مرجع ُمهم يف بابه‪ ،‬والسيما أنين مجعت فيه خالصة ما ورد يف حنو‬
‫مائة عشرين كتاباً من كتب الزيدية‪.‬‬
‫وبعد أن نفدت الطبعة األوىل وكثر التساؤل عن الكتاب رأيت أن أعيد تبويبه ليسهل الوصول‬
‫إىل أقسامه‪ ،‬وجرتين املراجعة إىل إضافات وزيادات كثرية هلا صلة وثيقة باملوضوع‪ ،‬إىل جانب‬
‫التوسع يف توثيق النصوص املنقولة وتدقيقها‪ ،‬والرجوع إىل املزيد من املراجع‪ ،‬خصوصاً ما ال يزال‬
‫خمطوطاً منها رغبة مين يف أن يصبح مرجعاً متكامالً يف بابه يعتمد عليه الكتَّاب والباحثون‪.‬‬
‫وحرصت جهدي على جتنب األلفا اليت تعكس ردود فِعل طائفية وعاطفية فقط؛ إذ اهلدف‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪12‬‬
‫حماولة كشف حقائق قد تساعد على التقريب بني املختلفني‪ ،‬وهتدي إىل حل املاضي على السالمة مبا‬
‫فيه‪ ،‬وتقريب وجهات نظر احلاضر يف مسألة شائكة ْأوجدت ردود فعل متباينة وتشكلت يف ضوئها‬
‫تكتالت ومجاعات متخاصمة‪ .‬ومتت طباعة الكتاب مرة أخرى أواخر عام (‪2007‬م)‪ ،‬ولكن الكمية‬
‫كانت حمدودة ونفدت بسرعة‪ ،‬ومل يطلع عليها كثري من املهتمني‪.‬‬
‫واليوم أقدم هذا الكتاب للطباعة للمرة الثالثة مع مراجعة وإضافات وتعديالت مهمة إىل‬
‫جانب مراجعة التوثيق‪ ،‬ومطابقته مع أحدث الطبعات وأكثرها توفراً‪ ،‬وكذلك اعتماد ما طُبع حديثاً‬
‫من املخطوطات اليت نـقلت عنها قبل طباعتها‪ .‬وكان منهجي يف التوثيق كاآليت‪:‬‬
‫‪ .1‬فضلت ‪ -‬عند التوثيق ‪ -‬أن أذكر املرجع املنقول عنه أوالً‪ ،‬مث املؤلف ثانياً؛ ألن نسبة‬
‫االقتباس إىل املرجع الذي بني يدي أمر حمقَّق‪ ،‬بينما نِسبته إىل املؤلف حيتاج إىل توثيق‬
‫آخر‪ .‬إضافة إىل أن املؤلفني أنفسهم كثرياً ما يرتاجعون عن بعض اختياراهتم وجيددون‬
‫آراءهم يف ُكتب أخر‪.‬‬
‫‪ .2‬ذكرت املعلومات الطباعية عن املراجع يف قائمة آخر الكتاب مبيناً ما توفر يل من تاريخ‬
‫وفاة املؤلف واسم احملقق والناشر وتاريخ الطبعة‪ ،‬وفضلت اعتماد الطبعات املوجودة يف‬
‫مكتبيت أو املعتمدة يف املكتبة الشاملة لسعة انتشارها‪.‬‬
‫‪ .3‬عند النقل من املخطوطات اعتمدت على ما له صورة يف مكتبيت‪ ،‬وما ليس كذلك‬
‫أشرت إىل مكانه يف املكتبة اليت عثرت عليه فيها‪ ،‬وأشرت إىل اجلزء الذي نقلت عنه‬
‫ورقم اللوح إن تيسر يل ذلك؛ كون بعض املخطوطات تأيت غري مرقمة‪.‬‬
‫‪ .4‬أفردت قائمة للمصادر واملراجع اليت اعتمدت عليها من ُكتب الزيدية خاصة‪ ،‬املخطوط‬
‫منها واملطبوع؛ ملا لذلك من خصوصية يف هذا البحث‪.‬‬
‫وأخرياً آمل من اإلخوة الباحثني ‪ -‬من أي توجه كانوا ‪ -‬أن يتحفوين مبالحظاهتم ونقدهم‬
‫وتصويبهم واستدراكاهتم كي يتم مراعاهتا يف الطبعات القادمة إن شاء هللا‪.‬‬
‫م‬
‫حمد يحيي سالم عران‬
‫صنعاء‪ 2014/8/10 ،‬م‬
‫مقدةم الكتاب‬
‫تؤكد الدراسات التارخيية أن النيب األكرم حممد بن عبد هللا ‪ -‬عليه أفضل‬
‫الصالة وأزكى السالم ‪ -‬بذل ما بوسعه لبناء جمتمع تسوده األخـالق النَّبيلة‬
‫الرفيعـة‪ ،‬واتفقت على أنه استطاع أن يصنع من أعراب البوادي‬ ‫وحتكمه ِ‬
‫القيم َّ‬ ‫ُ‬
‫املمزقة َّأمة واحدة ذات حضارة إنسانية رائدة قائمة على أسس فكرية متينة‪،‬‬‫َّ‬
‫وروحيَّة رصينة‪ ،‬على الرغم مما أصاهبا بعد ذلك من ُخ ُدوش‪.‬‬
‫ومناهج أخالقية ُ‬
‫وعلى امتداد عصر الرسالة املباركة ق َّـوم صلى هللا عليه وآله وسلم اعوجاج‬
‫اجلِيل الذي بُعث فيه أحسن تقومي‪ ،‬وأعد أصحابه حلمل ألوية اهلداية‪ ،‬وغرس يف‬
‫عودهم‬ ‫الصـادق‪ ،‬وعلَّمهم مكارم األخالق‪ ،‬و َّ‬ ‫قلوهبم العقيـدة الراسخـة‪ ،‬واإلميان َّ‬
‫فعل اخلريات‪ ،‬حىت ارتقـوا منازل الشرف الرفيع‪ ،‬ونالوا وسـام االنتظام يف معيَّـته‬
‫َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ‬ ‫ح َ َّ ح ح‬
‫َعٌ‬
‫اٌُ ٌ‬ ‫شد ٌ‬‫ِينٌمع ٌهٌأ ٌِ‬ ‫املباركة‪ ،‬حىت قال عنهم الباري عز وجل‪ُ﴿ :‬ممدٌٌ َرس ٌ‬
‫ولٌاهللٌواَّل ٌ‬
‫َ ح‬ ‫ْ ً‬ ‫ْ ح َّ ح َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً‬
‫ِن ٌاهلل ٌ َو ِرض َوانا ٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ‬
‫فٌ‬ ‫ل ٌم ٌَ‬
‫ون ٌفض ٌ‬
‫اُ ٌبينه ٌم ٌتراه ٌم ٌركعا ٌسجدا ٌيبتغ ٌ‬ ‫ار ٌرَح ٌ‬
‫الكف ٌِ‬
‫ْ ْ َ ُّ‬ ‫َ‬
‫الس حجو ٌِد﴾ [الفتح‪.]29 :‬‬ ‫ح‬
‫حوجوه ِِه ٌمٌم ٌ‬
‫ِنٌأث ٌِرٌ‬

‫فوصفهم يف هذا املقام مبا وصف به نبيَّه عليه الصالة والسالم من ِ‬


‫الشدة‬
‫على الكفار‪ ،‬والرحة فيما بينهم‪ ،‬وأخرب ‪ -‬وهو العامل بالظاهر والباطن واحلاضر‬
‫واملستقبل ‪ -‬باستقامة سلوكهم‪ ،‬وكشف عن سالمة مقاصدهم‪ ،‬ووفرة عبادهتم‪،‬‬
‫حىت تألأل سيماء الرضا والتُّقى يف وجوههم‪.‬‬
‫ذلك املشهد نفسه نقله اإلمام علي بن أيب طالب جلماهري أرض الرافدين‪،‬‬
‫أيت أصحاب ُحم َّمـد صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫حني قال يف خطبة له‪« :‬لقد ر ُ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪14‬‬

‫فما أرى أحداً يُشبِ ُه ُهم ِمنكم‪ ،‬لقد كانوا يُصبحون ُشعثاً غُ ْرباً‪ ،‬وقد باتُوا ُس َّجداً‬
‫اجلم ِر من ِذك ِر‬ ‫دودهم‪ ،‬وي ِق ُفون على ِ‬
‫مثل ْ‬ ‫وقِياماً‪ ،‬يرا ِوحون بني ِجباه ِهم وخ ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أن بني أعيُنهم ُركب الْم ْعزى من طُول ُسجودهم‪ ،‬إِذا ذُكر هللا مهلت‬ ‫مع ِ‬
‫ادهم‪ ،‬ك َّ‬
‫ف‪ ،‬خ ْوفاً‬ ‫يد الشَّجر يوم الريح ِ‬
‫العاص ِ‬
‫ُ‬ ‫ادوا كما ميِ ُ‬
‫أعيُـنُهم‪ ،‬حىت تـبُ َّل ُجيُوبـ ُهم‪ ،‬وم ُ‬
‫اب»‪.‬‬‫ِمن العقاب ورجاء لِلثَّـو ِ‬
‫ً‬
‫الصحابة رضوان هللا عليهم‬
‫وبعـد وفاة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أصبح َّ‬
‫املصدر الوحيد لنقل تعاليم دين اإلسالم‪ ،‬وصاروا هم األمناء على حْل الرسالة‬
‫إىل خمتلف أصقاع األرض‪ ،‬وتلك مهمة مجعت بني جسامة املسؤولية وشرف‬
‫املقام‪.‬‬
‫وباقتدار ومسؤولية أدى تالميذ املصطفى ما تعني عليهم من نشر الدين‬
‫احلنيف يف مشارق األرض ومغارهبا‪ ،‬وأضحت أجيال املستقبل مدينةً هلم مبا‬
‫ينعمون به من نور اهلداية وبركات اإلسالم‪ ،‬وهذا مما جعل سائر املسلمني ينظرون‬
‫إليهم بإجالل واحرتام‪ ،‬بل يعتقد بعضهم أن التطاول عليهم ال خيلو من غ ْمز‬
‫ملعلمهم النيب الكرمي‪ ،‬ونكراناً جلميلهم يف حل راية اإلسالم والتضحية من أجله‪.‬‬
‫أن ما وقع بينهم عقب وفاة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من‬ ‫بيـد َّ‬
‫اختالف سياسي فيما يتعلق باختيار خلفاء؛ فتح أبواب اجلدل واخلالف بني‬
‫األجيال‪ ،‬فقد جاء يف الروايات أن بعض الصحابة بادروا إىل بيعة أيب بـكر‬
‫ضرورة حسم مسألة اخلالفـة دون تأخري‬ ‫الصديق يف اجتماع مفاجئ رأوا فيه ُ‬
‫تالفياً ألي اضطراب ميكن أن حيدث يف جمتمع ال تزال االنتماءات القبلية‬
‫والعصبيات األسرية حاضرةً فيه بقوة‪ ،‬يف حني رأى آخرون من الصحابة أن ذلك‬
‫مل يكن ُمسوغاً كافياً إلبرام البيعة دون تشاور مع اآلخرين املنشغلني بتجهيز‬
‫‪15‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬

‫اجلثمان الطاهر لتشييعه إىل مثواه األخري‪.‬‬


‫ويف هذه املسألة تفاصيل كثرية ومتشعِبة خلصتها يف كتايب (قرشية اخلالفة؛‬
‫الرغم‬
‫تشريع ديين أم رؤية سياسية؟)‪ ،‬خلصت فيه إىل أن كبار الصحابة – على ُّ‬
‫مما روي من اختالف ‪ -‬عاجلوا خالفاهتم تلك حبكمة يف ُحدود بشريتهم‪ ،‬وإن‬
‫تبِـع ذلك هر ٌج ومر ٌج‪ ،‬وتأويالت وحتليالت غرستها األهواء السياسية‪َّ ،‬‬
‫وغذهتا‬
‫النزعات املذهبية بانتظـام‪ ،‬مما ح َّـوهلا إىل بؤرة لل ُفـرقة والتَّـنازع‪ ،‬و ُحشر فيها ما ليس‬
‫وحل كثري منها على غري وجهه‪ ،‬فصارت من أخطر عوامل التفرق‬ ‫منها‪ُ ،‬‬
‫واخلصومة بني املسلمني‪.‬‬
‫وازداد األمر سوءاً واتسعت دائرة النزاع بعد خروج مجاعة من الصحابة‬
‫يتزعمهم «طلحة بن عبيد هللا والزبري بن العوام وعائشة بنت أيب بكر» على علي‬
‫بن أيب طالب‪ ،‬وهو أحد اخللفاء الراشدين‪ ،‬مث ُخروج مجاعة أخرى بزعامة‬
‫وتذرع كال الفريقني بذرائع؛ رأى‬
‫«معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬وعمرو بن العاص»‪َّ ،‬‬
‫بعض الالحقني أهنم كانوا هبا متأولني‪ ،‬مما جيعلهم خمطئني غري هالكني‪ ،‬يف حني‬
‫رأى آخرون أن ذلك التأول ال ينفعهم ما مل يتوبوا؛ ألن الواجب عليهم العمل‬
‫وحدة األمة‪ ،‬وتنهى عن التمرد على اخلليفة‬‫بظاهر الشريعة اليت متنع اخلروج على ْ‬
‫دون ُموجب شرعي‪ ،‬وبذلك يكون خطؤهم ُحمقَّق ومعصيتهم باقية مامل خيرجوا‬
‫منها بتوبة م ْعلومة‪.‬‬
‫ويف ضوء تلك األحداث وما ترتب عليها ‪ -‬تك َّون يف الوسط اإلسالمي‬
‫تياران؛ أحدمها‪ :‬ينتقد تصرفات بعض الصحابة؛ فيما يـرى أنه التفاف على دور‬
‫أهل البيت‪ ،‬وتضييع حلقوقهم‪ ،‬وخروج عن قيم الدين تعاليم اإلسالم‪ .‬واآلخر‪:‬‬
‫يتبىن ِ‬
‫الدفاع عن أولئك الصحابة‪ ،‬ويرى أن سلوكهم كان استجابة ملا رأوه صواباً‪،‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪16‬‬
‫ُ‬
‫وهم أعلم بما جيب عليهم‪ ،‬السيما أنهم يف نظره أهل دين وخلق وورع‪ ،‬ومحلهم ىلع‬
‫السالمة أوىل‪.‬‬

‫وخاض الفريقان كثرياً من املعارك الكالمية‪ ،‬وُكتبت مئات الكتب والبحوث‬


‫املتوافقة واملتضاربة؛ فانطلق أحد الفريقني جلمع فضائل الصحابة وتعظيمهم‪،‬‬
‫وتوجيه ما يُنتقد عليهم‪ ،‬وتأويل ما حيتمل من أخطائهم إىل درجة الغلو أحياناً‪.‬‬
‫وجترمي من خيوض يف شأن الصحابة‬ ‫ويف السياق نفسه بالغ بعضهم يف ختطئة ْ‬
‫ويُقدم على انتقاد بعضهم‪ ،‬ولو كان نقداً مبنياً على حقائق تارخيية متداولة‪ ،‬وكان‬
‫مما يتعلق بتصرفاهتم كبشر‪ ،‬ومل يتضمن طعناً يف إمياهنم‪.‬‬
‫وعلى الضفة األخرى أرهق الناقمون على الصحابة أنفسهم بتتبع أخطاء‬
‫بعضهم‪ ،‬وإحصاء عثراهتم‪ ،‬ليسجل إدانة هلذا وخمالفة لذاك‪ ،‬كي يُسوغوا اخلصومة‬
‫ويستجروا خالفات املاضي‪ ،‬وكأن هللا قد برأ أولئك الناقمني من كل عيب‪ ،‬ومل‬
‫يبق أمامهم إال التفرغ حملاسبة «السابقني باإلميان»‪ ،‬وحماكمة «خري أمة أخرجت‬
‫ومقومات‬
‫للناس»‪ ،‬مع أن بعضهم قد يكون جاهالً بكثري من أدوات العلم ُ‬
‫الفهم‪.‬‬
‫وذلك ما عَّرب عنه العالمة حيىي بن احلسني بقوله‪« :‬وهذه املسألة يف الصحابة‬
‫قد ابتلي هبا كثري من الناس‪ ،‬فمن رأى بالبديهة حكاية ما شجر بني الصحابة وما‬
‫جاء يف الفضائل‪ ،‬وكان ُمقلِداً مبتدياً للنظر وغري عارف باحلقائق‪ ،‬وأخذ بظواهر‬
‫اإلطالقات والعموميات‪ ،‬ومل يبلغ فهمه إىل التخصيصات والتقييدات‪ ،‬لعدم كمال‬
‫املعرفة والتحقيقات‪ ،‬وقع يف اخلطر؛ ولذلك ال ترى من يـتحامل على الصحابة إال‬
‫من مل تكمل معرفته‪ ،‬وال ترى عاملاً متبحراً مطلقاً منصفاً إال وهو على خالف ذلك‪،‬‬
‫على أن الواجب ‪ -‬على من مل تكمل معرفته ‪ -‬التوقف‪ ،‬حىت يتضح له احلق‪ ،‬وال‬
‫‪17‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬
‫َ َ‬ ‫ّ‬
‫ٌنلاٌوإلخوا ٌن ِناٌاَّلينٌسقووناٌ‬‫يوقع نفسه يف اهلالك‪ ،‬ولريجع إىل قوله تعاىل‪﴿ :‬ربناٌاغ ِف ْر‬
‫ّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ح‬ ‫َْ ْ‬
‫ٌآمنواٌربناٌإِن َكٌرؤوف ٌَرحيم﴾[الحشر‪ ،]10/‬وهللا‬ ‫َ‬
‫ٌلذلين‬ ‫باإليمانٌوالٌَتعلٌفٌقلوبناٌغِل‬
‫يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم»‪.‬‬
‫وعلى الرغم من دعوات التعقل واإلنصاف من عقالء الطرفني على مر‬
‫العصور‪ ،‬جند أن املتعصبني من الفريقني مصرون على أن رؤية كل منهما ُمتثل‬
‫عالمة من عالمات اهلداية وأساساً للوالء ومبدأ احلق الذي يتعني أن يُصدع به‪،‬‬
‫وأن ما عدا ذلك بدعٌ وضالالت ال يُلتفت إليها‪.‬‬
‫واالعتدال يف هذا األمر أن نُدرك أن صحابة النيب قد نالوا من شرف الصحبة‬
‫ما مل ينله غريهم‪ ،‬وأهنم على جانب كبري من الفضل؛ لتصديقهم وتضحياهتم‬
‫واستقامتهم‪ ،‬ومع ذلك ليسوا معصومني من تأثري األهواء ووساوس النفس‬
‫والشيطان اليت طالت حىت األنبياء‪ ،‬ولو مل يكن من شأن املؤمنني أن خيطئوا‬
‫ويُذنبوا؛ ملا دعاهم هللا إىل املداومة على االستغفار‪ ،‬وجتديد التوبة يف كل حني‪.‬‬
‫وإذا كان الناقد لبعضهم جمتهداً متأوالً متأدباً‪ ،‬واسع البحث واالطالع‪ ،‬فهو‬
‫معذور فيما خلُص إليه‪ ،‬بصرف النظر عن صوابيته‪ ،‬وهذا هو احلد األدىن املعمول‬
‫به لدى الفريقني‪ ،‬وإليه أشار الشيخ ابن تيمية‪ ،‬حني قال‪« :‬إن من مسائِل‬
‫اخلالف ما يتض َّمن أن اعتقاد أحدمها (يعين‪ :‬املختلفني) يُوجب علْي ِه بُغض‬ ‫ْ‬
‫اآلخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفريه أو قِتاله‪ ،‬فِإذا فعل ذلِك ُْجمتهداً خمطئاً كان‬
‫طؤهُ مغفوراً له‪ ،‬وكان ذلِك يف حق اآلخر حمنة وفتنة وبالء ابتـاله بِِه»‪.‬‬
‫خ ُ‬
‫ويف ظل التجاذبات توسع املتعصبون يف إطالق األلقاب على خمالفيهم‪،‬‬
‫ف ُـوصف كثري ممن مييل إىل اإلمام علي ويفضله على سائر الصحابة‪ ،‬بأنه (رافضي)‬
‫جيب منابذته‪ ،‬ولو مل يتربأ من بعض الصحابة أو يسلك مسالك أهل الشتيمة‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪18‬‬

‫والسباب‪.‬‬
‫ويف اجلانب اآلخر يصف متعصبو الشيعة من مييل إىل جانب اخللفاء‪ ،‬ويرى‬
‫صحة خالفتهم‪ ،‬ويفضلهم على علي بأنه (ناصيب) جيب الرباءة منه ومقاطعته‪،‬‬
‫وإن كان ِ‬
‫حيرم سبه والرباءة منه‪ ،‬األمر الذي ح َّـري ذوي العقول؛ حىت نُسب إىل‬
‫اإلمام الشافعي أنه قال‪:‬‬
‫روافض بالتَّفضيل عند ذوي اجلهـل‬ ‫إذا حنن فضَّلنـا عليـاً فإننـا‬
‫ِ‬
‫صب عند ذكري للفض ـ ـ ــل‬ ‫ُرميت بِن ْ‬ ‫وفضل أيب ب ـ ـ ـ ـ ـ ــكر إذا ما ذكرتُ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫أوس ـ ـ ـ ــد يف الرمل‬
‫أدان ب ـ ـ ـ ــه حتَّ ـ ـ ـ ــى َّ‬ ‫صب كليهما‬ ‫لت ذا رفـض ون ْ‬ ‫فما ز ُ‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫إذا م ــا ذكرن ــا من علي فضـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيلـ ـةً ُرمينـ ـ ــا ببهتـ ـ ــان وبُغض أيب بكر‬
‫ضجيع رسول هللا يف الغار والقرب‬ ‫الصديق من كان مؤمناً‬ ‫وهل ي ْشتِم ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عم بالء ال ُفرقة واتسعت بني املسلمني الش َّ‬
‫ُّـقـة‪،‬‬ ‫ونتيجة لتعصب املختلفني َّ‬
‫وانعكس جدل املختلفني على سلوك أتباع املذاهب‪ ،‬وأدى إىل الرغبة يف التمايز‬
‫يف كل شيء‪ ،‬حىت وجدنا كل فريق يسعى إىل متييز أئمته‪ ،‬وعلمائه‪ِ ،‬‬
‫ومنظريه‪،‬‬
‫ويزعم أن له تراثاً خاصاً ومرجعيات مميزة‪ ،‬وأهنا دون سواها مصدر اهلداية‪ ،‬وما‬
‫عداها ضالل مبني‪.‬‬
‫واكنت َّ‬
‫الزيـديـة وال تزال‪ ،‬واحدةً من الفرق اليت خاضت ِغـمار الصراع‬
‫السياسي واجلدل الفكري‪ ،‬على الرغم من أهنا متيزت يف بعض املسائل احلساسة‬
‫بآراء تقريبيَّـة ومواقف وسطيَّـة نابعة من نظرة موضوعية شاملة وحتليل عميق‬
‫للنصوص‪ ،‬جعلها ب منزلة جسر للتواصل بني املختلفني‪.‬‬
‫فالزيديـة ‪ -‬وإن ُعدت يف فرق الشيعة ‪ -‬هلم رأيهم اخلاص يف مسألة الصحابة‬
‫‪19‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬

‫خالف يف كثري من املسائل كما هو‬


‫ٌ‬ ‫وغريها من املسائل احلساسة‪ ،‬ويوجد بينهم‬
‫حال سائر اجلماعات و ِ‬
‫الفرق‪ ،‬ولكنهم يف هذه املسألة أوسع وأشد تعقيداً‪ ،‬مما‬
‫جعل كثرياً من الدارسني مضطرباً يف فهم رأي الزيدية يف مسألة الصحابة بوضوح‪.‬‬
‫وساعد على ذلك أن كثرياً من الباحثني ‪ -‬حىت من أتباع املذهب الزيدي ‪ -‬مل‬
‫الزيدية يف‬
‫صل على خلفيات آراء كبار أئمة َّ‬ ‫ومف َّ‬
‫يـتس َّن هلم االطالع بشكل كامل ُ‬
‫هذه املسائل وحنوها؛ ألن كثرياً من ُكتب الزيدية ال يزال خمطوطاً أو حمصوراً يف اليمن‪،‬‬
‫ومل تتح الفرصة لنشره على نطاق واسع‪ ،‬وهذا مما دفعين لكتابة هذا البحث‪ ،‬إىل‬
‫جانب أمور أخرى‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ .1‬تقدمي دراسة شاملة يف املوضوع على أمل أن تسهم يف تقريب وجهات‬
‫النظر‪ ،‬وختفف غلواء اجلدل بني املسلمني يف مسألة أصبحت عامالً من‬
‫عوامل تـفُّرق األمة وشتاهتا‪ ،‬وظلت وال تزال مثاراً للعداوة وسوء الظن بني‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫الصحابة‪ ،‬وبيان‬
‫الزيدي وأئمة أهل البيت عن سب فضالء َّ‬ ‫‪ .2‬تنزيه املذهب َّ‬
‫حقيقة ما ينسب إليهم‪ ،‬وتفصيل ما أمكن من املالبسات اليت جعلت الرواية‬
‫عنهم خمتلفة وشبه متناقضة‪ ،‬خصوصاً مع ظهور بعض التيارات يف متأخري‬
‫الزيدية متيل إىل التشدد واملبالغة يف اخلصومة‪ ،‬والتساهل يف شأن السباب‬
‫َّ‬
‫واملبالغة يف القطيعة‪.‬‬
‫‪ .3‬الكشف عن أهم مواضع االشتباك وعوامل االختالف يف املسألة‪،‬‬
‫كالتعميمات املغرضة واالستنتاجات اجلائرة‪ ،‬وخلط األمور لتلبيس احلق‬
‫بالباطل والعبث باملصطلحات واملفاهيم‪ ،‬فضالً عن التدقيق يف الروايات‬
‫املوضوعة اليت أثارت كثرياً من اجلدل‪ ،‬لعلنا بذلك نتمكن من فرض وسط‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪20‬‬

‫بني اإلفراط والتفريط‪.‬‬


‫الصحابة الكرام‪ ،‬وإبراز فضلهم ومكانتهم‪ ،‬دون‬ ‫‪ .4‬التقرب إىل هللا بالدفاع عن َّ‬
‫إفراط يف املدح والثناء‪ ،‬أو مبالغة يف التزكية والتأويل‪ ،‬الذي ُخييل معه للبسطاء‬
‫أمنا أتيح هلم من فرصة صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬جعلهم فوق‬
‫مستوى البشر يف تكوينهم وقدراهتم ومدى استقامتهم‪.‬‬
‫وأرجو أن أكون هبذا اجلهد قد أسهمت يف حماولة ردم الفجوة اليت تتسع كل‬
‫يوم بني أنصار الصحابة وأولياء القرابة‪ ،‬إىل جانب تعزيز تقديري وحيب للصحابة‬
‫والقرابة معاً‪ ،‬فأكون كما قيل‪:‬‬
‫وأذب عنهم باللسـ ـ ـ ـ ــان وباليد‬ ‫قلبِ ـ ـ ـ ــي حم ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫ـب للنَّـ ـ ـ ــيب وآل ـ ـ ـ ــه‬
‫ال يُبغض األصحاب إال معتد‬ ‫وصهوره‬ ‫أذب عن أصحابه ُ‬ ‫و ُّ‬
‫وأنا أدرك متاماً أن هذا البحث – مع حرصي الشديد فيه على اإلنصاف‬
‫والتوسط والتوفيق ‪ -‬لن يرضي كثرياً من املتعصبني؛ فال الشيعي املتعصب سريضى‬
‫بتحسني القول يف بعض الصحابة‪ ،‬وحلهم على سالمة املقصد وحسن النية‬
‫مهما ح ُسن الكالم ووضحت احلجة‪ ،‬ولن يقبل مبا دون الرباءة ممن يصفهم‬
‫بأعداء آل حممد املغتصبني حقهم املضيعني فضلهم؛ ألن مفهوم (النصب) قد‬
‫اقرتن يف ذهنه مبن حيسن القول يف أيب بكر وعمر وعثمان ويذكر فضائلهم!!‬
‫السين املتعصب سيتقبل فرضية وقوع خطأ أو تقصري من هذا الصحايب‬
‫وال ُّ‬
‫جائز بصرف النظر عن حجم اخلطأ‬
‫ارد ونقده ٌ‬ ‫أو ذاك‪ ،‬وال يستوعب أن خطأه و ٌ‬
‫وآثاره واحتمال الرجوع عنه وعدمه؛ فقد اقرتن مفهوم (الرفض) يف ذهنه مبن‬
‫يتعرض ملواقف بعض الصحابة مبراجعة أو نقد‪ ،‬ولو يف حدود املوضوعية واألدب‬
‫املشروع‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬

‫وأود أن أنبه هنا إىل أنين حرصت على ذكر أكرب قدر ممكن من نصوص‬
‫الزيدية يف خمتلف جوانب املسألة‪ ،‬نقالً عن كتبهم املعروفة املتداولة‬
‫علماء وأئمة َّ‬
‫املشهورة؛ ليكون ذلك أبلغ يف احلجة على من يـتـقول عليهم أو ينقل عن مصادر‬
‫جمهولة وأشخاص غري معروفني‪ ،‬ويردد أقواالً غري ثابتة‪ ،‬ولكي ال يقول من ال‬
‫يروق له الكالم منهم‪ :‬إمنا تتبعت هفوات العلماء وسقطات األئمة‪.‬‬
‫وإىل جانب ذلك أوردت مجلة من النصوص اليت رواها بعض احلفا‬
‫كالدارقطين وابن عساكر واآلجري واحلاكم النيسابوري عن قدماء األئمة‪،‬‬
‫كشواهد الستيفاء بعض املباحث‪ ،‬السيما أهنا مروية بأسانيد معظم رواهتا من‬
‫الزيدية ال مينعون من قبول رواية كل راو من‬
‫املعدودين يف الشيعة‪ ،‬فضـالً عن أن َّ‬
‫أي فرق اإلسالم كان إذا توفرت فيه شروط النقل والرواية‪.‬‬
‫ين هبذا األمر أن يدقق فيه وال ينطلق‬
‫مع ٌ‬
‫وأخرياً أدعو لكل باحث يشعر بأنه ْ‬
‫يف أحكامه على جمرد املسلمات املوروثة‪ ،‬والعبارات املسموعة املتداولة‪ ،‬ولكن‬
‫يراجع املسألة بطريقة علمية‪ ،‬ويقيم الروايات بنفسه وفق معايري القبول والرد‬
‫(املتعارف عليها) إن كان من أهل املعرفة والنظر والرتجيح‪ ،‬السيما أنين قد ذكرت‬
‫املراجع اليت اعتمدت عليها‪ ،‬واملصادر اليت نقلت عنها‪ ،‬وحرصت على أن تكون‬
‫مراجعي فيما أنسبه إىل الزيدية؛ من كتبهم املعتمدة املخطوط منها واملطبوع‪،‬‬
‫ووضعتها يف قائمة خاصة يف آخر البحث‪.‬‬
‫ومن هللا أستمد التوفيق والسداد‪.‬‬
‫لفـص‬
‫ل األول‬ ‫ا‬
‫الكالم عن َّ‬
‫الصحابة؛ األسباب والدوافع‬
‫الصحابة بأحداث تارخيية متشعبة‪ ،‬ثار حوهلا‬
‫يرتبط البحث يف مسألة تقييم َّ‬
‫جدل بني التيارات السياسية واملذاهب الدينية واملكونات االجتماعية‪ ،‬حىت‬
‫ٌ‬
‫انعكس يف تراث األمة؛ فصارت كتب احلديث والتاريخ تعُج بآالف الروايات يف‬
‫مدح رجال وذم آخرين‪ ،‬أو متجيد مجاعة وتقبيح أخرى‪ ،‬وكأن اإلسالم ما جاء‬
‫إال لتقدمي اجملامالت وإضفاء الشرعية على العصبيات والنزوات‪.‬‬
‫ويف شأن الصحابة ُدونت عشرات الكتب اليت تض َّمنت ثناء وتعظيماً ألناس‬
‫وغمزاً وذماً آلخرين‪ ،‬على أن ُج َّل ما صح من مدح هلذا وقدح يف ذاك‪ ،‬جاء‬
‫مبوجب مواقف ُمعينة صدرت عنهم‪ ،‬وبالتايل يبقى الثَّناء ويزول ببقاء وزوال‬
‫ُموجبه‪.‬‬
‫وال شك أن صحابة النيب صلوات هللا عليه ممن نالوا شرف اتباعه ومرافقته‪،‬‬
‫فصارت هلم ميزة ال ُقرب من مصدر اهلداية‪ ،‬وبني أيديهم تـنـزل القرآن؛ لذلك‬
‫كان نطاق اختالفهم يف تقدير األمور واختاذ املواقف الفردية ‪ -‬أثناء وجود ‪-‬‬
‫َ‬ ‫ح ْ َ ح َ َّ َ ح ح ح‬ ‫ْ َ ح َ َّ‬
‫ٌرسولٌاَّللٌِل ْوٌي ِطيعك ْم ٌِفٌك ٌثِ رٌ‬
‫يٌم َِنٌ‬ ‫حمدوداً‪ ،‬وقد قال هللا هلم ﴿ َواعلمواٌأنٌفِيكم‬
‫َْ َ‬
‫اْل ْم ِرٌل َع ٌنِ ُّت ٌْم﴾ [الحجرات‪ ]7 :‬ألنه املبلغ والرسول‪ ،‬وعليهم أن يطيعوه ليهتدوا‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن جتدُّد األحداث وتقلُّبات احلياة مل تتوقف بعد موت رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله‪ ،‬وجتاهها كان للصحابة مواقف قد ختتلف باختالف‬
‫فهمهم لنصوص الشريعة‪ ،‬وتباينهم يف تقدير املواقف وترتيب األولويات‪ ،‬أو حىت‬
‫‪23‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫تفاوهتم يف مستوى الصفاء الروحي‪ ،‬والتحرر من نوازع الشر وردود الفعل السلبية‪،‬‬
‫فاحلالة البشرية هي املتحكمة فيهم واملسيطرة عليهم‪ ،‬وال يزالون ‪ -‬هم وغريهم‬
‫‪ -‬خمتلفني إىل يوم القيامة‪ ،‬غري أن ُحسن الظن بسائر الناس مستحسن عقالً‬
‫ومستحب شرعاً؛ فكيف برفاق النيب الكرمي وصحابته السابقني؟!‬
‫َ ْ َ َ َ‬
‫ٌص ِ ً‬
‫اِلاٌ‬ ‫﴿من ٌع ِمل‬ ‫وال شك أن رب العزة قد حسم احلكم يف عباده بأنه‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ح َّ َ َ ِّ ح ْ ح َ ح َ‬ ‫َ َْ‬
‫ون﴾ [الجاثية‪ .]15 :‬على أن باب التوبة‬ ‫ٌربكمٌت ْرجع ٌ‬ ‫فلِنف ِس ِهٌومنٌأساٌُفعليهاٌثمٌإَِل‬
‫َ َ ْ ََْْ ح ً َ َْ ْ َْ َ ح ح‬
‫وُاٌأ ْو ٌيظلِم ٌنفسه ٌث َّمٌ‬ ‫للخروج من السيئة مفتوح على مصراعيه ﴿ومن ٌيعمل ٌس‬
‫َّ َ َ ح ً َ ً‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َْ َْ‬
‫ِيما﴾ [النساء‪ .]110 :‬فاملشكلة إذاً ليست يف أن الناس‬ ‫ٌَيدٌِاَّللٌغفوراٌرح‬‫يستغ ِف ِرٌاَّلل ِ‬
‫‪ -‬مبن فيهم الصحابة ‪ -‬خيتلفون‪ ،‬وال ألهنم خيطؤون‪ ،‬بل ألن ما شجر بينهم‬
‫حتول لدى األجيال ِمن بعدهم إىل ُخصومة دينية وسياسية‪ ،‬وصار وقوداً لنار‬
‫الطائفية اليت ال تـرى مع السيئة حسنةً‪ ،‬وال جتد للخطيئة توبةً‪ ،‬وحترص على أال‬
‫يكون لكلمة املخالف يف اخلري واحلق ْحممالً‪.‬‬
‫ولكي نتعرف على جذور املشكلة وأسباب اجلدل يف مسألة الصحابة‪ ،‬نُصدر‬
‫كتابنا باملباحث التالية‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ النشأة والتطور‬


‫الصحابة ‪ -‬مع ما نالوه من فضيلة السبق إىل دين هللا واجلهاد مع رسول‬
‫كان َّ‬
‫هللا ‪ -‬ينظرون إىل أنفسهم نظرة طبيعية بعيدة عن التمجيد والتقديس الذي جلبته‬
‫ُردود األفعال وتعصب األتباع‪ ،‬فكانوا ميتدحون من بادر إىل فضيلة أو ج َّود‬
‫صر يف أداء واجب أو اعوج يف سلوك‪ ،‬مبا يصل ‪ -‬أحياناً‬ ‫عمالً‪ ،‬وينتقدون من ق َّ‬
‫الذم والتقريع‪ ،‬وشواهد ذلك كثرية‪ ،‬وهو أمر طبيعي ال يطعن يف‬ ‫‪ -‬إىل درجة َّ‬
‫الدين‪ ،‬وال يؤثر على عقيدة املسلمني‪ ،‬وليس كل جتاوز خطأً مقصوداً‪ ،‬وليس‬ ‫ِ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪24‬‬

‫كل خطأ ‪ -‬وإن كان مقصوداً ‪ -‬يُسقط اإلميان ويوجب العداوة وحيول دون‬
‫التوبة ومينع الغفران ويبيح اهلتك والتجريح‪.‬‬
‫غري أن النظر إىل تلك اخلالفات تغري عند األتباع؛ فبينما كان انتقاد السابقني‬
‫جيري على أساس االختالف يف وجهات النَّظر وتقييم الواقع‪ ،‬حوله بعضهم إىل‬
‫اهتام هلم‪ ،‬وحماكمة نواياهم وانتقاص من تديُّنهم وطعن يف تارخيهم‪ ،‬حىت قالت‬
‫عائشة‪« :‬أمروا باالستغفار ألصحاب حممد فسبوهم»‪.‬‬
‫ما َش َجر بين الصحابة من االختالف والخصومة‬
‫سبق أن أكدنا أن الرتبية الروحية اليت تلقاها الصحابة على يد الرسول صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم قد صانتهم من الوقوع يف كثري من كبائر اآلثام‪ ،‬غري أهنا مل‬
‫حتل دون وقوعهم فيما يقع فيه سائر البشر من اختاذ املواقف حسبما تقضي به‬
‫قراءاهتم للفكرة‪ ،‬وتقييمهم للواقع‪ ،‬ومن هنا تباينت مواقفهم‪ ،‬ودخلوا يف شيء‬
‫من اجلدل واخلصومة والتَّنازع‪.‬‬
‫وذلك ما تلقفه املتنافسون على اهليمنة والنُّفوذ‪ ،‬وزادوا عليه ووجهوا كثرياً منه‪،‬‬
‫وجعلوا منه ُمسوغاً للسباب والشتيمة‪ ،‬ومبالغة يف إطالق التهم وتفسري النوايا‬
‫وعرضوا اخلالفات يف مشاهد مصطنعة أثارت أحقاداً وكراهية؛ ال تزال األمة‬
‫تتجرع كأس مرارهتا إىل اليوم‪.‬‬
‫بيد أننا إذا عدنا لفحص روايات الثقات الواردة يف شأن اختالف الصحابة‬
‫يف شؤون السياسة والزعامة؛ فإننا سنجدها حتكي حالة طبيعية وردود فعل مبنية‬
‫وش ِوهت حتت تأثري وساوس‬ ‫وإمنا ُح ِرفت ُ‬‫على مقدمات أكثرها معقول مستساغ‪َّ ،‬‬
‫التنافر السياسي والتعصب املذهيب‪ ،‬ف ُقدمت على غري وجهها‪.‬‬
‫وفيما يلي نلمح إىل جانب من النزاع السياسي واالجتماعي الذي طرأ بني‬
‫الصحابة بسبب اختالفهم يف تقدير األمور‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫(‪ )1‬ال ِّـنزاع في شأن خالفة أبي بكر‬


‫بعد وفاة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬رأى أصحابه من (األنصار) أن هلم‬
‫حقاً يف اخلالفة بعده لكوهنم أهل النُّصرة واإليواء وأصحاب األرض والشوكة‪،‬‬
‫فبادروا إىل اجتماع يف سقيفة بين ساعدة لبحث أمر اخلالفة‪ ،‬ولكن أبا بـكر‬
‫ومعه عمر بن اخلطاب وأبا عبيدة بن اجلراح فاجؤوهم باحلضور‪.‬‬
‫قال عمر بن اخلطاب‪ :‬فلما جلسنا‪ ،‬قام خطيبهم فأثىن على هللا مبا هو أهله‪،‬‬
‫وقال‪ :‬أما بعد‪ ،‬فنحن أنصار هللا وكتيبة اإلسالم‪ ،‬وأنتم يا معشر املهاجرين رهط‬
‫ت دافة منكم‪ ،‬تريدون أن ختتزلونا من أصلنا وحتضنونا من األمر‬ ‫منا‪ ،‬وقد دفَّ ْ‬
‫«يعين‪ :‬اخلالفة»!‬
‫فتكلم أبو بكر وقال‪ :‬أما بعد فما ذكرمت فيكم من خري فأنتم أهله‪ ،‬ولن‬
‫يعرف العرب هذا األمر إال هلذا احلي من قريش‪ ،‬هم أوسط العرب نسباً وداراً‪،‬‬
‫وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلني‪ ،‬فبايعوا أيهما شئتم‪ ،‬فأخذ بيدي وبيد أيب‬
‫عبيدة بن اجلراح‪ .‬فقال قائل من األنصار‪ :‬منا أمري ومنكم أمري يا معشر قريش‬
‫‪ -‬يف رواية البزار ‪ -‬وإال أعدنا احلرب بيننا وبينكم جذعة‪.‬‬
‫عند ذلك تدخل عمر بن اخلطاب ‪ -‬كما يف رواية البزار وابن األثري ‪ -‬فقال‪:‬‬
‫«هيهات ال جيتمع سيفان يف غمد‪ ،‬وهللا ال ترضى العرب أن تؤمركم‪ ،‬ونبيها من‬
‫غريكم‪ ،‬وال متتنع العرب أن تويل أمرها من كانت النبوة منهم‪ ،‬وأضاف‪ :‬من‬
‫ينازعنا سلطان حممد وحنن أولياؤه وعشريته»!!‬
‫وأراد أبو بكر أن يهدئ فورة األنصار فقال هلم‪ :‬حنن األمراء وأنتم الوزراء‪.‬‬
‫ولكنه كثُر اللَّغط‪ ،‬وارتفعت األصوات‪ .‬قال عمر‪ :‬فخشيت االختالف‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده‪ ،‬فبايعته وبايعه أبو عبيدة‪ ،‬مث بايعه األنصار‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪26‬‬

‫أما سعد بن عبادة – املرشح املنافس ‪ -‬ومن معه من األنصار فلم يبايعوا‪.‬‬
‫قال عمر‪ :‬ونزونا على سعد بن عبادة‪ ،‬فقال قائل منهم‪ :‬قتلتم سعد بن عبادة‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬قتل هللاُ سعد بن عبادة‪.‬‬
‫وبذلك فرض ُعمر بيعة أيب بكر كأمر واقع‪ ،‬ووضع الناس بني خيارين؛ إما‬
‫املتابعة والتَّصديق‪ ،‬وإما اخلالف وال ُفْرقة‪ .‬وسوغ ذلك بقوله‪ :‬أما وهللا ما وجدنا‬
‫فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أيب بكر‪ ،‬ولقد خشينا إن فارقنا القوم ومل‬
‫تكن بيعة أن حيدثوا بعدنا بيعة‪ ،‬فإما أن نبايعهم على ما ال نرضى‪ ،‬وإما أن‬
‫خنالفهم فيكون فيه فساد‪.‬‬
‫تلك كانت اجلولة األوىل من االختالف‪ ،‬واجلولة الثانية كانت مع بين عبد‬
‫مناف بشقيهم؛ اهلامشي واألموي‪ .‬أما اهلامشيون فكانوا ‪ -‬وفيهم العباس بن عبد‬
‫املطلب وعلي بن أيب طالب ‪ -‬منشغلني بتجهيز جنازة رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ففوجئوا بإعالن بيعة أيب بكر‪ ،‬فكان هلم اعرتاض على‬
‫الطريقة اليت مت هبا اختيار اخلليفة‪ ،‬وحتفَّظوا على بيعة أيب بكر‪.‬‬
‫فقد روى عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر قال‪ :‬قال رجل للزهري‪ :‬مل يبايعه علي ستة‬
‫أشهر؟ قال‪ :‬ال؛ وال أحد من بين هاشم‪ ،‬حىت بايعه علي‪.‬‬
‫وقال الزهري قالت عائشة‪ :‬كان لعلي من الناس حياة فاطمة حظوة‪ ،‬فلما‬
‫توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه‪ ،‬فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم مث توفيت‪ .‬فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه‬
‫أسرع إىل مصاحلة أيب بكر فأرسل إىل أيب بكر أن ائتنا وال تأتنا معك بأحد ‪-‬‬
‫وكره أن يأتيه عمر ملا يعلم من شدته ‪ -‬فقال عمر‪ :‬ال تأهتم وحدك‪ ،‬فقال أبو‬
‫بكر‪ :‬وهللا آلتينهم وحدي‪ ،‬وما عسى أن يصنعوا يب؟! قال‪ :‬فانطلق أبو بكر‬
‫‪27‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫فدخل على علي وقد مجع بين هاشم عنده‪.‬‬


‫فقام علي فحمد هللا وأثىن عليه مبا هو أهله مث قال‪ :‬أما بعد‪ ،‬يا أبا بكر فإنه‬
‫مل مينعنا أن نبايعك إنكار لفضيلتك‪ ،‬وال نفاسة عليك خبري ساقه هللا إليك‪،‬‬
‫ولكنا نرى أن لنا يف هذا األمر حقاً فاستبددمت به علينا‪.‬‬
‫مث قال علي‪ :‬موعدك العشية للبيعة‪ ،‬فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على‬
‫الناس مث عذر علياً ببعض ما اعتذر به‪ ،‬مث قام علي فعظم من حق أيب بكر رضي‬
‫هللا عنه وفضيلته‪ ،‬وسابقيته‪ ،‬مث مضى إىل أيب بكر فبايعه‪ ،‬فأقبل الناس إىل علي‬
‫فقالوا‪ :‬أصبت وأحسنت‪ .‬قالت عائشة‪ :‬فكانوا قريباً إىل علي حني قارب األمر‬
‫واملعروف‪.‬‬
‫أما بنو أمية فروى ابن جرير الطربي‪ ،‬عن الكليب‪ ،‬عن عوانة بن احلكم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ملا اجتمع الناس على بيعة أيب بكر‪ ،‬أقبل أبو سفيان‪ ،‬وهو يقول‪ :‬وهللا إين ألرى‬
‫عجاجة ال يطفئها إال دم! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟! أين‬
‫املستضعفان؟! أين األذالن علي والعباس؟! وقال‪ :‬أبا حسن؛ ابسط يدك حىت‬
‫أبايعك‪ .‬فزجره علي‪ ،‬وقال‪ :‬إنك وهللا ما أردت هبذا إال الفتنة‪ ،‬وإنك وهللا طاملا‬
‫بغيت اإلسالم شراً! ال حاجة لنا يف نصيحتك‪ .‬ويف رواية احلاكم النيسابوري‪:‬‬
‫«إنا وجدنا أبا بكر هلا أهال»‪.‬‬
‫ويف رواية البالذري من طريق الواقدي أن علياً قال أليب سفيان‪« :‬لست أشاء‬
‫ذلك‪ ،‬وحيك يا أبا سفيان؛ إن املسلمني نصحةٌ بعضهم لبعض‪ ،‬وإن نأت دارهم‬
‫وأرحامهم‪ ،‬وإن املنافقني غششة بعضهم لبعض‪ ،‬وإن قربت ديارهم وأرحامهم‪،‬‬
‫ولوال أنا رأينا أبا بكر هلا أهالً‪ ،‬ما خليناه وإياها»‪.‬‬
‫غري أن حتفظ بين أمية على بيعة أيب بكر مل يطل‪ ،‬فقد بايعوا بعد ذلك أبا‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪28‬‬

‫بكر إال أفراداً منهم بايعوا مع من تأخر من بين هاشم‪.‬‬


‫وعلى الرغم من سيطرة املختلفني من اجليل األول على ردود أفعاهلم‪ ،‬حىت ال‬
‫يقعوا يف الفتنة‪ ،‬وجدنا اجلدل حول مسألة اخلالفة ظل حمتدماً بني األجيال‬
‫الالحقة‪ ،‬حيث يرى فريق من الناس أن ما جرى يف السقيفة كان تشريعاً مقدساً‪،‬‬
‫وأنه جاء وفق أسس دينية أرشد إليها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ .‬بينما قدمه‬
‫آخرون على أنه كان مؤامرة حمبوكة من «قريش» هتدف إىل إقصاء «األنصار»‬
‫و«بين هاشم» عن الزعامة واحلكـم‪ ،‬السيما أن األنصار مل يتمكنوا ‪ -‬خالل‬
‫خالفة أيب بـكر ‪ -‬من املشاركة القيادية؛ ألن رؤية اخلليفة لدورهم مل تكن‬
‫واضحة‪ ،‬وهو ما عرب عنه بقوله‪« :‬وددت أين كنت سألت رسول هللا هل لألنصار‬
‫يف هذا األمر نصيب؟»‬
‫وقد أفردت هلذه املسألة حبثاً بعنوان (قرشية اخلالفة؛ تشريع ديين أم رأي‬
‫سياسي؟) خلصت فيه إىل أن ما حدث يف السقيفة مل يكن تشريعاً مقدساً‪ ،‬وال‬
‫مؤامرة حمبوكة‪ ،‬ولكن أبا بـكر صار خليفة ملؤهالت وظروف معينة‪ ،‬ومل أجد‬
‫حضوراً للنصوص امللزمة يف ذلك‪ ،‬وال حسماً للفضيلة الدينية‪ ،‬وال نزاعاً حاداً‬
‫بالشكل الذي يتناوله املتأخرون‪ ،‬ولكن القراءة االنتقائية والعرض املبتور‬
‫لألحداث والتوظيف السياسي للتاريخ تؤدي إىل تشكيل تصور من ه ـذا القبيل‬
‫أو ذاك‪.‬‬
‫(‪ )2‬االختالف في شأن استخالف عمربن الخطاب‬
‫روى ابن أيب شيبة أن أبا بكر أرسل إىل عمر بن اخلطاب يستخلفه‪ ،‬فقال‬
‫الناس‪ :‬تستخلف علينا فظاً غليظاً! ولو قد ولِينا كان أفظ وأغلظ‪ ،‬فما تقول‬
‫لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟! قال أبو بكر‪ :‬أبريب ختوفونين؟! أقول‪:‬‬
‫‪29‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫اللهم استخلفت عليهم خري خلقك‪.‬ثـ ُقل على أيب بكر موقف من استشارهم‬
‫من الصحابة‪ ،‬حىت روي عن عبد الرحن بن عوف‪ ،‬أنه قال‪ :‬دخلت على أيب‬
‫بكر أعوده يف مرضه الذي تويف فيه‪ ،‬فسلمت عليه‪ ،‬وسألته‪ :‬كيف أصبحت؟‬
‫فاستوى جالساً‪ ،‬فقال‪« :‬أما إين على ما ترى وِجع‪ ،‬وجعلتم يل شغالً مع وجعي‪،‬‬
‫جعلت لكم عهداً من بعدي‪ ،‬واخرتت لكم خريكم يف نفسي‪ ،‬فكلكم وِرم لذلك‬
‫أنفه‪ ،‬رجاء أن يكون األمر له»‪.‬‬
‫مث قال – بعد كالم طويل ‪« :-‬ووددت أين يوم سقيفة بين ساعدة كنت‬
‫قذفت األمر يف عنق أحد الرجلني؛ أيب عبيدة أو عمر بن اخلطاب‪ ،‬فكان أمري‬
‫املؤمنني وكنت وزيراً‪ ،‬ووددت أين سألت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬فيمن‬
‫هذا األمر؟ فال ينازعه أهله‪ .‬ووددت أين كنت سألته‪ :‬هل لألنصار يف هذا األمر‬
‫نصيب»‪.‬‬
‫أما األنصار فقد ذكر املؤرخون أن بعضهم أعربوا عن استيائهم من استئثار‬
‫قريش‪ ،‬وأبدوا سخطاً وشكوى من اإلجحاف حبقهم‪ ،‬فروي عن قيس بن سعد‬
‫أنه قال‪:‬‬
‫خالف رسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول هللا يوم التشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاج ِر‬ ‫وخ ـ ـ َّـربمت ـ ــون ـ ـ ــا أمن ـ ـ ــا األم ـ ــر ف ـ ـي ـ ـك ـ ــم‬
‫كما جـاء ُكم ذو العرش دون العشائ ِر‬ ‫وأن وزارات اخل ـ ـ ــالف ـ ـ ــة دون ـ ـ ـ ـك ـ ـ ــم‬
‫بِِغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــري وداد منكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم وأواص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِر‬ ‫فهال وزيراً واح ـ ـ ــداً جتتبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون ـ ـ ــه‬
‫عراجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة هابت ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدور املن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ِر‬ ‫سـقى هللا سعـداً يـوم ذاك وال سـقى‬
‫وبعد عقد من الزمان يف اخلالفة تعرض عمر هلجوم وهو يف مسجده يصلي‪.‬‬
‫انتقل إثر ذلك إىل جوار ربه‪ ،‬وله سابقة يف العمل الصاحل‪ ،‬وفيه تقضي رحة ربه‬
‫وعدله‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪30‬‬

‫(‪ )3‬الثورة في عهد الخليفة عثمان بن عفان‬


‫أراد عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه أن ينقل اجملتمع يف عصره إىل السياسة‬
‫اجلماعية‪ ،‬ويعودهم على اختيار اخلليفة عن طريق الشورى‪ ،‬السيما أنه صاحب‬
‫إعالن‪« :‬أن من بايع رجالً عن غري مشورة من املسلمني فال يبايع هو وال الذي‬
‫بايعه»؛ فاختار جمموعة قوامها‪« :‬علي بن أيب طالب وعثمان بن عفان وطلحة‬
‫بن عبيد هللا والزبري بن العوام وسعد بن أيب وقاص وعبد الرحن بن عوف»‬
‫لينتخبوا أحدهم خليفة للمسلمني‪ ،‬وهؤالء كانوا وجهاء األسر القرشية املتطلعة‬
‫إىل أن تكون يف الصدارة‪.‬‬
‫ولكن األمور مل جتر كما أراد‪ ،‬وعاد الفكر اجلماعي إىل الفكر الفردي‪،‬‬
‫واختُ ِزل الستة يف واحد‪ ،‬حينما ختلى طلحة لعثمان‪ ،‬وختلى الزبري لعلي‪ ،‬وختلى‬
‫سعد بن أيب وقاص لعبد الرحن بن عوف‪ ،‬فذهب ثالثة وبقي ثالثة‪ ،‬وأدرك عبد‬
‫الرحن أنه ليس يف مقام علي أو عثمان‪ ،‬فاقرتح أن يتخلى واحد من الثالثة‬
‫الباقني عن حقه يف الرتشح‪ ،‬على أن يكون هو الذي يسعى لرتتيبات اختيار‬
‫اخلليفة‪ ،‬فأىب كل من عثمان وعلي التنحي‪ ،‬فتنحى هو‪ ،‬وبذلك تالشت‬
‫الشورى‪ ،‬وصار األمر يف يد عبد الرحن‪ ،‬وبعد قيامه ببعض اإلجراءات اختار‬
‫عثمان وبايعه ودعا الناس لبيعته‪ ،‬وكان علي ممن تقدم ملبايعة عثمان على الرغم‬
‫من حتفظه الذي عرب عنه بقوله‪« :‬خدعة وأميا خدعة»! ويف رواية أنه وصف‬
‫ض ْغنِ ِـه‪ ،‬ومال اآلخـر لِ ِ‬
‫ص ْهـ ِرِه مـع هن وهن»‪.‬‬ ‫املشهد بقوله‪« :‬فصغـا رجل ِمْنـهم لِ ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌُ ُْ‬
‫ومتت البيعة لعثمان بن عفان رضي هللا عنه‪ ،‬وبذل ما بوسعه لفعل ما يراه‬
‫مناسباً‪ ،‬غري أن فتنة ثارت يف زمنه‪ ،‬أدت إىل مقتـله بعد أحد عشر عاماً يف‬
‫اخلالفة‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫ويُذكر أن من أهم أسباب تلك الفتنة أن أسرته من األمويني تدخلوا يف شأن‬


‫اخلالفة‪ ،‬وكان هلم أثر سليب يف احلياة السياسية واالجتماعيـة؛ مما أدى إىل تذمر‬
‫واسـع‪ ،‬حتول إىل ردود أفعـال متعـددة‪ ،‬وموجة من االنتقادات والتحريض على‬
‫اخلليفة والدعوة إىل إسقاطه‪ ،‬على أن كثرياً من الروايات تؤكد أنه مل يكن يرتضي‬
‫شيئاً من السلوك الذي مارسه بعض احملسوبني عليه‪.‬‬

‫وخلص حممد بن شهاب الزهري (‪125‬هـ)‪ ،‬سرية عثمان يف اخلالفة‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫«ويل عثمان‪ ،‬فعمل ست سنني ال ينقم عليه الناس شيئاً‪ ،‬وإنه ألحب إليهم من‬
‫عمر؛ ألن عمر كان شديداً عليهم‪ ،‬فلما وليهم عثمان الن هلم ووصلهم‪ ،‬مث إنه‬
‫تواىن يف أمرهم‪ ،‬واستعمل أقرباءه وأهل بيته يف الست األواخر‪ ،‬وكتب ملروان‬
‫خبمس مصر أو خبمس إفريقية‪ ،‬وآثر أقرباءه باملال‪ ،‬وتأول يف ذلك الصلة اليت‬
‫أمر هللا هبا‪ ،‬واختذ األموال‪ ،‬واستسلف من بيت املال‪ ،‬وقال‪ :‬إن أبا بكر وعمر‬
‫تركا من ذلك ما هو هلما‪ ،‬وإين أخذته فقسمته يف أقربائي‪ ،‬فأنكر الناس عليه‬
‫ذلك» ‪.‬‬

‫وروى الشريف الرضي أن أناساً اجتمعوا إىل علي وشكوا ما نقموه على‬
‫عثمان‪ ،‬وسألوه خماطبته واستعتابه هلم‪ ،‬فدخل على عثمان فقال‪ :‬إن الناس‬
‫ورائي‪ ،‬وقد استسفروين بينك وبينهم‪ ،‬ووهللا ما أدري ما أقول لك! ما أعرف‬
‫شيئاً جتهله‪ ،‬وال أدلك على أمر ال تعرفه‪ ،‬إنك لتعلم ما نعلم‪ ،‬ما سبقناك إىل‬
‫شيء فنخربك عنه‪ ،‬وال خلونا بشيء فنبلغكه‪ ،‬وقد رأيت كما رأينا‪ ،‬وسعت كما‬
‫سعنا‪ ،‬وصحبت رسول هللا كما صحبنا‪ .‬وما ابن أيب قحافة وال ابن اخلطاب‬
‫وشيجة رحم منهما‪ ،‬وقد‬ ‫بأوىل بعمل احلق منك‪ ،‬وأنت أقرب إىل رسول هللا ِ‬
‫تبصر من‬
‫نلت من صهره ما مل يناال‪ .‬فاهلل هللا يف نفسك! فإنك ‪ -‬وهللا ‪ -‬ما َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪32‬‬

‫عمى‪ ،‬وال تعلَّم من جهل‪ ،‬وإن الطرق لواضحة‪ ،‬وإن أعالم الدين لقائمة»‪.‬‬
‫وجممل ما ذكر يف قصة مقتل عثمان حسب ما أورد الذهيب أن مجاعة من‬
‫أهل مصر والكوفة والبصرة تواعدوا للقدوم على عثمان ومعاتبته‪ ،‬وحينما بلغ‬
‫عثمان أهنم صاروا على مشارف املدينة‪ ،‬خطب فقال‪ :‬جزاكم هللا يا أصحاب‬
‫حممد عين شراً؛ أذعتم السيئة وكتمتم احلسنة‪ ،‬وأغريتم يب سفهاء الناس‪ ،‬أيكم‬
‫يذهب إىل هؤالء القوم فيسأهلم ما نقموا وما يريدون؟ فقام علي وقال‪ :‬أنا‪ ،‬فقال‬
‫عثمان‪ :‬أنت أقرهبم رحاً‪ ،‬فأتاهم فرحبوا به‪ ،‬فقال‪ :‬ما الذي نقمتم على عثمان؟‬
‫قالوا‪ :‬نقمنا أنه حما كتاب هللا‪ ،‬وحى احلمى‪ ،‬واستعمل أقرباءه‪ ،‬وأعطى مروان‬
‫مائة ألف‪ ،‬وتناول أصحاب رسول هللا‪.‬‬
‫مث إن عثمان رد عليهم‪ :‬أما القرآن فمن عند هللا‪ ،‬إمنا هنيتكم عن االختالف‬
‫فاقرؤوا على أي حرف شئتم‪ ،‬وأما احلمى فوهللا ما حيته إلبلي وال لغنمي‪ ،‬وإمنا‬
‫حيته إلبل الصدقة‪ ،‬وأما قولكم‪ :‬إين أعطيت مروان مائة ألف‪ ،‬فهذا بيت ماهلم‬
‫فليستعملوا عليه من أحبوا‪ ،‬وأما قولكم‪ :‬تناول أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فإمنا أنا بشر أغضب وأرضى‪ ،‬فمن ادعى قِبلي حقاً أو مظلمة فها أنا‬
‫ذا‪ ،‬فإن شاء قـوداً (= قصاصاً) وإن شاء عفواً‪.‬‬
‫فرجع إليهم علي وقال هلم‪ :‬تُعطون كتاب هللا‪ ،‬وتُعتبون من كل ما س ِخطتم‪،‬‬
‫فأقبل معه ناس من وجوههم‪ ،‬فاصطلحوا على خس‪ :‬على أن املنفي يُقلب‪،‬‬
‫واحملروم يُعطى‪ ،‬ويوفر الفيء‪ ،‬ويعدل يف الق ْسم‪ ،‬ويُستعمل ذو األمانة والقوة‪.‬‬
‫كتبوا ذلك يف كتاب‪ ،‬وأن يردوا ابن عامر إىل البصرة‪ ،‬وأبا موسى إىل الكوفة‪.‬‬
‫ويروى أهنم ملا رجعوا راضني‪ ،‬بلغوا (البويب) رأوا مجالً عليه ْميسم الصدقة‪،‬‬
‫فأخذوه‪ ،‬فإذا غالم لعثمان‪ ،‬ففتشوا متاعه‪ ،‬فوجدوا قصبة من رصاص‪ ،‬فيها‬
‫‪33‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫كتاب يف جوف اإلداوة يف املاء‪ :‬إىل عبد هللا بن أيب سرح ‪ -‬وايل عثمان على‬
‫صلِبهم‪ .‬فرجع املصريون إىل املدينة‪ ،‬وأبلغوا من وافاهم من‬ ‫مصر ‪ -‬أن يقتلهم وي ْ‬
‫البصرة والكوفة مبا وجدوا‪ ،‬فقالوا‪ :‬حنن مننع إخواننا وننصرهم‪ .‬فعادوا مجيعاً وأتوا‬
‫علياً‪ ،‬فقالوا‪ :‬أمل تر إىل عدو هللا؟! فقم معنا‪ ،‬قال‪ :‬وهللا ال أقوم معكم‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫فلم كتبت إلينا؟ قال‪ :‬وهللا ما كتبت إليكم‪ ،‬فنظر بعضهم إىل بعض‪ ،‬وخرج علي‬
‫من املدينة‪.‬‬

‫فانطلقوا إىل عثمان‪ ،‬فقالوا‪ :‬أكتبت فينا بكذا؟ فأنكر وقال‪ :‬إمنا مها اثنان‪،‬‬
‫تقيمون رجلني من املسلمني ‪ -‬يعين شاهدين ‪ -‬أو مييين باهلل الذي ال إله إال‬
‫هو ما كتبت وال علمت‪ ،‬وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش اخلامت‬
‫على اخلامت‪ .‬فلم يصدقوه‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد أحل هللا دمك‪.‬‬

‫وكان بعض أهل املدينة قد هنضوا لنصرة عثمان والدفاع عنه واست ْقتل أناس‬
‫منهم‪ :‬زيد بن ثابت‪ ،‬وأبو هريرة‪ ،‬وسعد بن مالك‪ ،‬واحلسن بن علي‪ ،‬فبعث‬
‫إليهم يعزم عليهم ملا انصرفوا‪ ،‬فانصرفوا‪.‬‬

‫وكان علي رضي هللا عنه قد بذل ما بوسعه من الدفاع عن عثمان بن عفان‪،‬‬
‫حىت قال‪« :‬ما يريد عثمان إال أن جيعلين مجالً ناضحاً بالغرب‪ ،‬أقبل وأدبر! بعث‬
‫إيل أن أخرج‪ ،‬مث بعث إيل أن أقدم‪ ،‬مث هو اآلن يبعث إيل أن أخرج! وهللا لقد‬
‫دفعت عنه حىت خشيت أن أكون آمثاً»‪.‬‬
‫وروي أن عثمان كان قد بعث إىل أهل األمصار يستمدهم‪ ،‬فساروا إليه على‬
‫الصعب والذلول‪ ،‬وبعث معاوية إليه حبيب بن مسلمة‪ ،‬وبعث ابن أيب سرح‬
‫معاوية بن حديج وسار إليه من الكوفة القعقاع بن عمرو‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪34‬‬

‫وأظهر الناقمون على عثمان أهنم راجعون إىل بالدهم‪ ،‬فذهب أهل املدينة‬
‫إىل منازهلم‪ ،‬فلما ذهب القوم إىل عساكرهم كروا هبم‪ ،‬وبغتوا أهل املدينة ودخلوها‬
‫وضجوا بالتكبري‪ ،‬ونزلوا يف مواضع عساكرهم‪ ،‬وأحاطوا بعثمان وقتلوه‪.‬‬
‫وتشري جممل األخبار إىل أن الصحابة انقسموا يف شأن األحداث اليت مرت هبا‬
‫السنوات األخرية من خالفة عثمان؛ فبعضهم كان مؤيداً لعثمان متفهماً ملواقفه‪،‬‬
‫وبعضهم كان معرتضاً دون نقمة وحتريض‪ ،‬وبعضهم كان ناقماً حمرضاً‪ ،‬ولكن على‬
‫ما دون القتل وسفك الدماء‪ ،‬وبعضهم كان مشاركاً يف اهلجوم عليه دون تأكيد‬
‫على املشاركة يف مباشرة القتل‪.‬‬
‫وروى الذهيب أن املصريني الناقمني على عثمان كانوا ال يطمعون يف أحد من‬
‫أهل املدينة أن ينصرهم إال ثالثة‪ ،‬فإهنم كانوا يراسلوهنم‪ ،‬وهم‪ :‬حممد بن أيب بكر‬
‫الصديق وحممد بن جعفر وعمار بن ياسر‪.‬‬
‫(‪ )4‬الفتنة في عهد اإلمام علي بن أبي طالب‬
‫بعد مقتل عثمان توجه املهاجرون واألنصار حنو اإلمام علي بن أيب طالب‪،‬‬
‫وطلبوا منه اخلروج لبيعة علنية مفتوحة‪ ،‬فاعتذر قائالً‪« :‬دعوين والتمسوا غريي؛‬
‫فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان‪ ،‬ال تقوم له القلوب‪ ،‬وال تثبت عليه العقول‪،‬‬
‫وإن اآلفاق قد أغامت‪ ،‬واحملجة قد تنكرت‪ .‬واعلموا أين إن أجبتكم ركبت بكم‬
‫ما أعلم‪ ،‬ومل أصغ إىل قول القائل وعتب العاتب‪ ،‬وإن تركتموين فأنا كأحدكم‪،‬‬
‫ولعلي أسعكم وأطوعكم ملن وليتموه أمركم‪ ،‬وأنا لكم وزيراً خريٌ لكم مين أمرياً!»‪.‬‬
‫فأصر الناس عليه حىت مل جيد بداً من االستجابة هلم نظراً للظروف احلرجة‬
‫اليت كانت األمة متر هبا‪ ،‬وهو ما عرب عنه الحقاً بقوله‪« :‬أما والذي فـلق احلبة‪،‬‬
‫احل ِ‬
‫اض ِر‪ ،‬وقيام احلجة بوجود النَّاصر‪ ،‬وما أخذ هللا على‬ ‫وبـرأ النَّسمة‪ ،‬لوال حضور ْ‬
‫‪35‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫ت حبلها على غارهبا‪،‬‬ ‫العلماء أال يـُق ُّاروا على كِظَِّة ظامل‪ ،‬وال سغ ِ‬
‫ب مظلوم‪ ،‬أللقْي ُ‬
‫آخرها بكأس َّأوهلا‪ ،‬وأللفيتُم دنياكم هذه أ ْزهد عندي من ع ْفط ِة عْنز»‪.‬‬ ‫ولسقيت ِ‬
‫وذكر إبراهيم بن حممد الثقفي أن اإلمام علياً خطب بعد مقتل حممد بن أيب‬
‫بكر خطبة خلص فيها موقفه من اجلدل حول اخلالفة‪ ،‬جاء فيها‪« :‬فلما مضى‬
‫رسول هللا لسبيله‪ ،‬تنازع املسلمون األمر بعده‪ ،‬فوهللا ما كان يلقى يف روعي‪ ،‬وال‬
‫خيطر على بايل أن العرب تعدل هذا األمر بعد حممد عن أهل بيته‪ ،‬وال أهنم‬
‫ُمن ُّحوه عين من بعده‪ ،‬فما راعين إال انثيال الناس على أىب بكر‪ ،‬وإجفاهلم إليه‬
‫ليبايعوه‪ ،‬فأمسكت يدى‪ ،‬ورأيت أين أحق مبقام حممد صلى هللا عليه يف الناس‬
‫ممن توىل األمر من بعده‪.‬‬
‫فلبثت بذاك ما شاء هللا حىت رأيت راجعة من الناس رجعت عن اإلسالم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يدعون إىل حمق دين هللا وملة حممد صلى هللا عليه‪ ،‬فخشيت إن مل أنصر اإلسالم‬
‫وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ‪ ...‬فمشيت عند ذلك إىل أىب بكر فبايعته‪،‬‬
‫وهنضت يف تلك األحداث‪ ،‬حىت زاغ الباطل وزهق‪ ،‬وكانت كلمة هللا هي العليا‪،‬‬
‫وسدد‪ ،‬وقارب واقتصد‪،‬‬ ‫ولو كره الكافرون‪ .‬فتوىل أبو بكر تلك األمور‪ ،‬في َّسر َّ‬
‫وصحبته مناصحاً‪ ،‬وأطعته فيما أطاع هللا فيه جاهداً‪ ،‬وما طمعت ‪ -‬أن لو حدث‬
‫به حادث وأنا حي أن يرد إىل األمر الذي نازعته فيه ‪ -‬طمع مستيقن‪ ،‬وال‬
‫يئست منه يأس من ال يرجوه‪ ،‬ولوال خاصة ما كان بينه وبني عمر‪ ،‬لظننت أنه‬
‫ال يدفعها عين‪.‬‬
‫فلما احتضر بعث إىل عمر فواله؛ فسمعنا وأطعنا وناصحنا‪ ،‬وتوىل عمر‬
‫األمر‪ ،‬فكان مرضي السرية‪ ،‬ميمون النَّقيبة‪ ،‬حىت إذا احتضر‪ ،‬فقلت يف نفسي‪:‬‬
‫لن يعدهلا عين‪ ،‬فجعلين سادس ستة‪ ،‬فما كانوا لوالية أحد منهم أشد كراهة‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪36‬‬

‫لوالييت عليهم»‪.‬‬
‫وفور توليه منصب اخلالفة اعترب مما جرى لسلفه عثمان‪ ،‬فنفذ بعض‬
‫اإلجراءات الضرورية‪ ،‬حيث ألغى احملاباة األسرية‪ ،‬ونسف كل إجراء قام على‬
‫أساس اجملامالت‪ ،‬وقال‪« :‬وهللا لو وجدته (= املال املأخوذ بغري حق) قد تزوجت‬
‫به النساء‪ ،‬وملكت به اإلماء؛ لرددته‪ ،‬فإن يف العدل سعة‪ ،‬ومن ضاق عليه‬
‫العدل‪ ،‬فاجلور عليه أضيق»‪.‬‬
‫فكان ذلك أحد أسباب الصراع الشهري الذي ظهر أيام خالفته رضي هللا‬
‫عنه‪ ،‬ولكنه استمر ‪ -‬على الرغم من املعانة ‪ -‬فيما رآه مناسباً‪ ،‬حىت لقي هللا‬
‫شهيداً بعد خس سنوات قضاها يف اخلالفة‪.‬‬
‫ويف أيامه حدثت أخطر اضطرابات يف عصر الراشدين ُجلها من تداعيات‬
‫مقتل عثمان‪ ،‬ولكنه واجهها حبكمة‪ ،‬حىت إن الالحقني من خمتلف املدارس عدوا‬
‫ما صدر عن اإلمام علي تأصيل لفقه التعامل مع الفنت الداخلية‪ ،‬ومن أبرز تلك‬
‫احملطات‪:‬‬

‫مواجهةٌانلاكثنيٌ‬
‫كان كثري من الصحابة البارزين كعلي بن أيب طالب وطلحة بن عبيد هللا‬
‫والزبري بن العوام وأيب ذر الغفاري وعبد هللا بن مسعود وعمار بن ياسر وحممد‬
‫بن أيب بكر وعمر بن احلمق اخلزاعي وبعض نساء النيب ممن عاتب عثمان على‬
‫تسليم األمر لبين أمية وما نتج عن ذلك من جتاوزات أغضبت اجملتمع‪.‬‬
‫وقد روي عنهم مواقف خمتلفة يف نصح عثمان وحتذيره؛ غري أن علي بن أيب‬
‫طالب كان أحرصهم على عثمان‪ ،‬وأكثرهم تردداً عليه‪ ،‬وتوفيقاً بينه وبني الناقمني‬
‫‪37‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫عليه‪ ،‬مث ابتلي بعد مقتله بأمرين‪:‬‬


‫األمر أألول‪ :‬أنه وقع اختيار الناس عليه دون سواه‪ ،‬وأظهر الناقمون على‬
‫عثمان من الصحابة وغريهم تأييدهم لبيعته‪ ،‬وكان منهم جمموعة من املوالني له‬
‫مثل عمار بن ياسر وحممد بن أيب بكر ومالك األشرت‪ ،‬وهذا مما ساعد على‬
‫تكوين تيار مضاد عرف بعد ذلك بـ"الناكثني" ونتج عنه حرب اجلمل‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬أن بين أمية ‪ -‬الذين هم أولياء دم عثمان ‪ -‬عدوه املسؤول عن‬
‫إلقاء القبض على من يعتربوهنم قتلة عثمان‪ ،‬وتسليمهم إليهم ليحكموا فيهم‬
‫برأيهم‪.‬‬
‫وذلك ما مل يكن مبقدوره لعدة أسباب؛ أبرزها‪ :‬أن الثوار كانوا يف منعة وشوكة‬
‫وهم على مشارف املدينة‪ ،‬وهم من خمتلف األمصار‪ ،‬وما داموا قد أبدو‬
‫استعدادهم للدخول يف الطاعة وتسليم األمر للخليفة اجلديد‪ ،‬فعليه أن يتحقق‬
‫من مالبسات اجلناية‪ ،‬ويدقق يف مستويات املشاركة فيها‪ ،‬ومن مث التصرف مع‬
‫اجلناة يف ضوء أحكام الشريعة‪ ،‬وليس مبجرد العاطفة واالنفعال والرغبة يف‬
‫االنتقام‪.‬‬
‫وهو ما عرب اإلمام عنه بقوله‪« :‬إين لست أجهل ما تعلمون‪ ،‬ولكن كيف يل‬
‫بقوة والقوم ال ُـمجلبون على حد شوكتهم‪ ،‬ميلكوننا وال منلكهم! وهاهم هؤالء قد‬
‫ثارت معهم عبدانكم‪ ،‬والتفت إليهم أعرابكم‪ ،‬وهم خاللكم يسومونكم ما‬
‫شاؤوا‪ ،‬وهل ترون موضعاً لقدرة على شيء‪ ،‬تريدونه؟! إن هذا األمر أمر جاهلية‪،‬‬
‫وإن هلؤالء القوم مادة‪ .‬إن الناس من هذا األمر على أمور؛ فرقة ترى ما ترون‪،‬‬
‫وفرقة ترى ما ال ترون‪ ،‬وفرقة ال ترى ال هذا وال هذا‪ ،‬فاصربوا حىت يهدأ الناس‪،‬‬
‫وتقع القلوب مواقعها‪ ،‬وتؤخذ احلقوق مسمحة‪ ،‬فاهدأوا عين‪ ،‬وانظروا ماذا‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪38‬‬

‫يأتيكم به أمري‪ ،‬وال تفعلوا فعلة تضعضع قوة‪ ،‬وتسقط منَّة‪ ،‬وتورث وهناً وذلة‪،‬‬
‫وسأمسك األمر ما استمسك‪ ،‬وإذا مل أجد بداً فآخر الدواء الكي»‪.‬‬
‫ولكن األمويني مل يلتفتوا إىل ما كان يطرحه اإلمام علي‪ ،‬وأصروا على املطالبة‬
‫بتسليم املتهمني؛ ليجروا عليهم حكمهم‪ ،‬وأخذوا يتهمون اإلمام بالتسرت على‬
‫القتلة‪ ،‬بل ذهب بعضهم إىل أنه زعيمهم‪.‬‬
‫أمرت به لكنت قاتالً‪ ،‬أو هنيت عنه‬
‫ومما جاء عنه رداً على اهتامه قوله‪« :‬لو ُ‬
‫لكنت ناصراً‪ ،‬غري أن من نصره ال يستطيع أن يقول‪ :‬خذله من أنا خري منه‪،‬‬
‫ومن خذله ال يستطيع أن يقول‪ :‬نصره من هو خري مين‪ .‬وأنا جامع لكم أمره‪:‬‬
‫استأثر فأساء األثرة‪ ،‬وجزعتم فأسأمت اجلزع‪ ،‬وهلل حكم واقع يف املستأثر واجلازع»‪.‬‬
‫وبعد إعالن مجاعة على رأسهم طلحة والزبري نكث بيعة اإلمام‪ ،‬حتركوا بني‬
‫الناس لدفعهم للتخلي عن بيعته؛ مما أحدث اضطرابات ومواجهات انتهت‬
‫باملضي حنو معركة فاصلة بني الفريقني‪ .‬وكانت حجة املناوئني لإلمام علي‪:‬‬
‫«املطالبة بدم عثمان»‪ ،‬وهو ما حرص على توضيح موقفه من ذلك األمر يف‬
‫مقامات خمتلفة‪ ،‬من ذلك‪:‬‬
‫ما روي عنه أنه قال‪« :‬قد كنت وما أه َّدد باحلرب‪ ،‬وال أرَّهب بالضرب‪ ،‬وأنا‬
‫على ما قد وعدين ريب من النَّصر‪ ،‬وهللا ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان‬
‫إال خوفاً من أن يُطالب بدمه‪ ،‬ألنه مظنته‪ ،‬ومل يكن يف القوم أحرص عليه منه‪،‬‬
‫فأراد أن يغالط مبا أجلب فيه ليلتبس األمر ويقع الشك‪ .‬ووهللا ما صنع يف أمر‬
‫عثمان واحدة من ثالث؛ لئن كان ابن عفان ظاملاً ‪ -‬كما كان يزعم ‪ -‬لقد كان‬
‫ينبغي له أن يؤازر قاتليه وأن ينابذ ناصريه‪ ،‬ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له‬
‫املعذرين فيه‪ ،‬ولئن كان يف شك من اخلصلتني‪ ،‬لقد‬‫أن يكون من املنهنهني عنه و ِ‬
‫‪39‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه‪ .‬فما فعل واحدة من‬
‫الثالث‪ ،‬وجاء بأمر مل يعرف بابه‪ ،‬ومل تسلم معاذيره»‪.‬‬
‫وقال‪« :‬إهنم ليطلبون حقاً هم تركوه‪ ،‬ودماً هم سفكوه‪ ،‬فلئن كنت شريكهم‬
‫فيه‪ ،‬فإن هلم لنصيبهم منه‪ ،‬ولئن كانوا ولوه دوين‪ ،‬فما التبعة إال عندهم‪ ،‬وإن‬
‫أعظم حجتهم لعلى أنفسهم‪ ،‬يرتضعون أَُّماً قد فطمت‪ ،‬وحييون بدعة قد أميتت‪.‬‬
‫يا خيبة الداعي! من دعا؟! وإالم أجيب؟! وإين لراض حبجة هللا عليهم وعلمه‬
‫فيهم»‪.‬‬
‫ويف رسالة له إىل أهل الكوفة عند مسريه من املدينة إىل البصرة ملواجهة‬
‫الناكثني‪ ،‬قال‪« :‬أما بعد‪ ،‬فإين أخربكم عن أمر عثمان حىت يكون سعه كعيانه‪:‬‬
‫إن الناس طعنوا عليه‪ ،‬فكنت رجالً من املهاجرين أكثر استعتابه‪ ،‬وأقل عتابه‪،‬‬
‫وكان طلحة والزبري أهون سريمها فيه الوِجيف‪ ،‬وأرفق حدائهما العنِْيف‪ ،‬وكان من‬
‫عائشة فيه فلتة غضب‪ ،‬فأتيح له قوم فقتلوه‪ ،‬وبايعين الناس غري مستكرهني وال‬
‫جمربين‪ ،‬بل طائعني خمريين»‪.‬‬
‫وروى أبو القاسم القزويين من طريق أيب إسرائيل‪ ،‬عن احلكم بن عتيبة‪ ،‬قال‬
‫شهد مع علي رضي هللا عنه مثانون بدرياً ومائتان وخسون ممن بايع حتت الشجرة‪.‬‬
‫وقعت املواجهة‪ ،‬وقتل فيها العشرات‪ ،‬على رأسهم طلحة بن عبيد هللا‪ .‬ذُكر‬
‫أن مروان بن احلكم غدر به فرماه بسهم مع أنه كان يقاتل معه‪.‬‬
‫وأما الزبري بن العوام فروى ابن أيب شيبة بإسناده‪ ،‬عن عبد السالم رجل من‬
‫بين حية‪ ،‬أن علياً دعا بالزبري وخال به وقال له‪ :‬أنشدك باهلل أنت سعت رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ‪ -‬وأنت الو يدي يف سقيفة بين فالن ‪ :-‬لتقاتلنه‬
‫وأنت ظامل له‪ ،‬مث لينصرن عليك‪ ،‬قال‪ :‬قد سعت‪ ،‬ال جرم‪ ،‬ال أقاتلك‪ .‬وزاد أبو‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪40‬‬

‫القاسم القزويين يف رواية عن حبة العرين أن الزبري أدبر وهو يقول‪:‬‬


‫هلل أمثـ ـ ــل يف الـ ـ ــدنيـ ـ ــا ويف الـ ـ ــدي ِن‬ ‫ترك األمور اليت خنشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى عواقبه ــا‬
‫قــد كــان عمر أبيــك اخلري مــذ ح ِ‬
‫ني‬ ‫أتــى ع ـلـ ٌـي ب ـ ـ ــأمــر ك ـنـ ـ ــت أعــرف ـ ـ ــه‬
‫بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيين‬ ‫فقلت حسبك من عذل أبا حسن‬
‫أتى بقوم هل ـ ـ ــا خلقـ ـ ـ ـاً من الط ِ‬
‫ني‬ ‫ف ــاخرتت ع ــاراً على ن ــار مؤجج ــة‬
‫يف النَّـ ـ ـ ـايب ـ ـ ــات ويرمي من يراميين‬ ‫قد كنت أنصـ ـ ـ ـ ـ ــره حيناً وينصـ ـ ـ ـ ـ ــرين‬
‫ف ـ ــأصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبح اليوم م ـ ــا يعني ـ ــه يعنيين‬ ‫حىت ابتلينا بأمر ض ـ ـ ـ ـ ــاق مص ـ ـ ـ ـ ــدره‬
‫وذكر سيف بن عمر التميمي أن الزبري اجته حنو املدينة املنورة‪ ،‬فتبعه عمرو بن‬
‫جرموز‪ ،‬وغدر به وأخذ فرسه وخامته وسالحه‪ ،‬وجاء إىل علي ليخربه بصنيعه‪ ،‬فقال‬
‫دثين ر ُسول هللا‪ :‬أن قاتل الزبري ِيف النَّار‪ .‬مث أخذ سيف الزبري‬
‫علي‪ :‬بشروه بالنَّار‪ ،‬ح ِ‬
‫سيف طاملا جلَّى الكرب عن وجه رسول هللا‪ .‬وبعث به إىل عائشة‪ ،‬وانصرف‬ ‫وقال‪ٌ :‬‬
‫ابن جرموز وهو يقول‪:‬‬
‫وكنــت أ ْر ُجو بِـ ِه ُّ‬
‫الزلفـة‬ ‫أتيت علياً بِرأْس الزبري‬
‫فبئس الْبشارة والتُّحفة‬ ‫فبش ـ ــر بالنَّار إِذا ِجْئته‬
‫وكانت أشرس املعارك حول اجلمل الذي كانت عائشة يف احململ راكبة عليه‪،‬‬
‫ولذلك سيت املعركة بـ"معركة اجلمل"‪.‬‬
‫لقد ذهب علي إىل تلك املعركة مكرهاً‪ ،‬واضطر إىل خوض غمارها وهو‬
‫يشعر بأسف بالغ؛ حىت جاء عن ولده احلسن بن علي أنه قال‪ :‬لقد رأيته (=‬
‫علي) يوم اجلمل حني أخذت السيوف مأخذها يقول‪« :‬لوددت أين ِم ُّ‬
‫ت قبل‬
‫هذا اليوم بعشرين سنة»‪.‬‬
‫وروى ابن أيب شيبة أن علياً مر على قتلى من أهل البصرة‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم اغفر‬
‫‪41‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫هلم‪ .‬وكان معه حممد بن أيب بكر‪ ،‬وعمار بن ياسر‪ ،‬فقال أحدمها لآلخر‪ :‬ما‬
‫تستمع ما يقول؟ فقال له اآلخر‪ :‬اسكت‪ ،‬ال يزيد بك‪.‬‬

‫مواجهةٌالفئةٌابلاغيةٌ‬
‫بعد وقعة اجلمل اخنفض مستوى التحريض على اإلمام علي‪ ،‬غري أن معاوية‬
‫كان والياً على الشام واشرتط لبيعته تسليم قتلة عثمان إليه‪ ،‬فبعث إليه اإلمام‬
‫علي رسالة جاء فيها‪« :‬أما بعد فإن بيعيت باملدينة لزمتك وأنت بالشام؛ ألنه‬
‫بايعين القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه‪ ،‬فلم يكن‬
‫للشاهد أن خيتار‪ ،‬وال للغائب أن يرد‪ ،‬وإمنا الشورى للمهاجرين واألنصار‪ ،‬فإذا‬
‫اجتمعوا على رجل فسموه إماماً كان ذلك هلل رضاً‪ ،‬فادخل فيما دخل فيه‬
‫إيل فيك العافية‪ ،‬إال أن تتعرض للبالء‪ ،‬فإن تعرضت‬
‫املسلمون‪ ،‬فإن أحب األمور َّ‬
‫له قاتلتك‪ ،‬واستعنت هللا عليك‪.‬‬
‫وقد أكثرت يف قـتلة عثمان؛ فادخل فيما دخل فيه املسلمون‪ ،‬مث حاكم القوم‬
‫إيل‪ ،‬أحلك وإياهم على كتاب هللا‪ ،‬فأما تلك اليت تريدها‪ ،‬فخدعة الصىب عن‬
‫اللنب‪ .‬ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك‪ ،‬لتجدين أبرأ قرشي من دم عثمان»‪.‬‬
‫وعلم معاوية أنه ال مكان له كوال يف ظل خالفة علي بن أيب طالب‪ ،‬وأنه‬
‫سيعزله عن الشام اليت ظل والياً عليها من أيام اخلليفة عمر بن اخلطاب‪ ،‬ويف‬
‫تلك املدة كان قد استطاع أن يؤثر يف منط تفكري الناس‪ ،‬ونوعية ثقافتهم‬
‫ووالءاهتم‪ ،‬فقد كان بارعاً يف استمالة الناس وكسب والئهم‪ ،‬فقام خطيباً فيهم‪،‬‬
‫وقال‪« :‬أيها الناس‪ ،‬قد علمتم أين خليفة أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب‪ ،‬وأين‬
‫خليفة عثمان بن عفان عليكم‪ ،‬وأين مل أقم رجالً منكم على خزاية قط‪ ،‬وأين‬
‫ويل عثمان‪ ،‬وقد قُتل مظلوماً‪ ،‬وهللا يقول‪( :‬ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪42‬‬

‫سلطاناً فال يسرف يف القتل إنه كان منصوراً)‪ .‬وأنا أحب أن تعلموين ذات‬
‫أنفسكم يف قتل عثمان»‪ .‬فقام احلاضرون من أهل الشام وأجابوه إىل الطلب‬
‫بدم عثمان‪ ،‬وبايعوه على أن يبذلوا أنفسهم وأمواهلم‪ ،‬أو يدركوا بثأره‪ ،‬أو يفين‬
‫هللا أرواحهم‪.‬‬
‫وقرر معاوية مواجهة اإلمام علي مبن معه من أهل الشام‪ ،‬وكان يدرك أنه‬
‫يواجه علياً ومعه كثري من أصحاب رسول هللا‪ ،‬فأخذ يراسل أناسا من الصحابة‬
‫ليقفوا إىل جانبه؛ فاستجاب له نفر قليل‪ ،‬منهم‪ :‬عمرو بن العاص واملغرية بن‬
‫شعبة‪.‬‬
‫وفضل آخرون من الصحابة الوقوف على احلياد‪ ،‬ليس شكاً يف مكانة علي‬
‫وموقفه املشروع‪ ،‬ولكنهم آثروا أن ال يقعوا يف دماء املسلمني الذين يتدافعون‬
‫على أمور ال يرون أنه يتعني عليهم اخلوض فيها‪.‬‬
‫وبدأت التحضريات ملعارك ومواجهات كان أبرزها وقعة صفني؛ اليت راح‬
‫ضحيتها العشرات‪ ،‬منهم مجاعة من الصحابة وكبار التابعني‪ ،‬أبرزهم‪ :‬عمار بن‬
‫ياسر الذي أربك مقتله مشهد الوالء والتحالفات‪ ،‬ملا كان الناس يعرفون أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال عنه‪« :‬يا عمار تقتلك الفئة الباغية»‪.‬‬
‫وعقب معركة صفني ظهرت فتنة اخلوارج‪ ،‬وأخذت وقتاً وجهداً‪ ،‬وأثارت كثرياً‬
‫وعمقت ال ُفرقة يف صفوف املسلمني‪ ،‬واشتهر يف فتنة اخلوارج معركة‬
‫من الشبه‪َّ ،‬‬
‫النهروان اليت سقط فيها عشرات القتلى‪.‬‬
‫االختالف في تقييم ما َش َجر بين الصحابة‬
‫أثار ما شجر بني الصحابة من تدافع وجتاذب كثرياً من التساؤالت‪ ،‬وأسس‬
‫تكون لديه‬
‫كل حسب ما سبق إىل ذهنه‪ ،‬وما َّ‬ ‫لتباين والءات من جاء بعدهم‪ٌ ،‬‬
‫‪43‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫من تصورات نتيجة مؤثرات البيئة املذهبية واحمليط الثقايف‪ ،‬وتوسع اخلالف‬
‫وتباينت التصورات أكثر فأكثر بالنسبة ملن جاء بعد ذلك‪ ،‬وِزيْد على روايات‬
‫ووِجهت حسب األمزجة‪ ،‬واستغلت يف الصراعات السياسية‬ ‫األحداث التارخيية‪ُ ،‬‬
‫واجلدل املذهيب‪ ،‬حىت صار األمر إىل ما هو عليه اليوم‪.‬‬
‫وبالتفتيش عن مواقف الفرق والتيارات واملذاهب اإلسالمية جتاه ما شجر بني‬
‫الصحابة‪ ،‬جند أن منهم من يقول‪ :‬حنن نعلم ما وقع بني الصحابة‪ ،‬لكننا حنسن‬
‫الظن هبم‪ ،‬ون ِكل أمرهم إىل هللا‪ ،‬وليس لنا حكم فيما شجر بينهم‪ ،‬فهم أعلم‬
‫بتكليفهم‪ ،‬ون ُكف عن ذكر ما شجر بينهم حىت ال نفقد الناس الثقة هبم‪ .‬ويف‬
‫ضوء ذلك يرى بعضهم أن أنسب طرق الدفاع عن الصحابة يكون بإنكار ما‬
‫جرى بينهم؛ ألهنم ال يستوعبون إمكانية صدور اخلطأ عمن حيبون ويعظمون‪،‬‬
‫مع أننا جندهم يرددون روايات يُفهم منها انتقاد وإدانة معارضي أيب بكر أو عمر‬
‫أو عثمان أو عائشة‪ ،‬وال يرتدد بعضهم يف ختطئتهم وغمزهم‪ ،‬وإن كانوا من‬
‫الصحابة‪ ،‬أمثال أيب ذر الغفاري‪ ،‬وعمار بن ياسر‪ ،‬وحممد بن أيب بكر‪ ،‬وكثري‬
‫ممن خالف عثمان أو حارب ضد عائشة يوم اجلمل‪.‬‬
‫بشر كغريهم‪ ،‬تعرتيهم مشاعر احلب والكره‪،‬‬‫ومنهم‪ ،‬من يرى أن الصحابة ٌ‬
‫وتؤثر فيهم األنانيات واألطماع‪ ،‬ولذلك جيوز نقدهم وإدانة ما ثبت من سوء‬
‫صدر عنهم‪ ،‬وال ميكن استساغة القول بأن سيدنا رضي هللا عنه قـتل سيدنا رضي‬
‫هللا عنه!! بيد أن نظريتهم هذه ال تعمل إذا تعلق األمر باإلمام علي والزهراء‬
‫واحلسنني وأكابر أنصارهم‪ ،‬فهؤالء ممنوع نقدهم‪ ،‬أو حىت احتمال وقوعهم يف‬
‫اخلطأ حىت وإن تُرك حكمه إىل هللا! وهذه كلها من مظاهر التعصب‪.‬‬
‫وتلك املواقف ال ختلوا من تأثري العواطف ومشاعر الوالء أو الرباء اليت بدورها‬
‫تؤثر يف سالمة التفكري وصوابية التقييم‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪44‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬نشوء ظاهرة سب الصحابة‬


‫أقدر أنه ليس ألحد أن جيادل يف شأن بشرية الصحابة‪ ،‬وما جرى يف حياهتم‬
‫من خصومات وردود فعل‪ ،‬نتج عنها ِو ْحشة وتـنافر‪ ،‬وصحبها كلمات جارحة‬
‫وتقريع‪ ،‬بلغت اللعن والطعن والقتال‪ ،‬ولو أردنا التدليل على هذا ألكثرنا وأغرقنا‬
‫فيما ال طائل منه سوى تأكيد املؤكد وتوضيح املوضَّح‪ ،‬ولكننا ننبه هنا على أن‬
‫االضطرابات اليت شهدها اجليل األول من املسلمني ‪ -‬ووصلت إىل حد حتشيد‬
‫اجليوش‪ ،‬ودارت فيها رحى القتل والقتال ‪ -‬قد صنعت حالة من التنافر‪ ،‬وأثارت‬
‫عواصف من االنتقادات‪ ،‬وصنعت املواقف املتباينة والعداوات املمتدة عرب‬
‫األجيال‪ ،‬واليت صار بعضهم يعرب عنها بذكر مساوئ خصومه‪ ،‬ورمبا تعدى ذلك‬
‫للسباب والشتيمة‪.‬‬
‫وهذا مما جيعلنا نتفهم حقيقة ما ينقل إلينا عن القرون األوىل‪ ،‬وإن كنا ال نقره‬
‫وال نستصوبه برمته‪ ،‬بل ندرسه كظاهرة هلا أسباهبا‪ ،‬ولسنا مطالبني باستحضارها‬
‫الختاذ املواقف جتاه خمالفينا اليوم يف ضوئها‪ ،‬وليست مصدراً للتشريع عند أكثر‬
‫املسلمني‪ ،‬حىت تُبىن األحكام وفقاً هلا‪.‬‬
‫حملة األمويين على اإلمام علي وخروجهم عليه‬
‫منذ أن بويع اإلمام علي بن أيب طالب باخلالفة أبدى األمويون امتعاضهم‬
‫من ذلك‪ ،‬وأخذوا يطعنون يف بيعته وحيرضون عليه وينتقصون منه‪ ،‬واستغلوا لذلك‬
‫أشياء كثرية من أبرزها مالبسات مقتل عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪ ،‬الذي‬
‫اختذوه ذريعة لقيادة التمرد واخلروج عليه‪ ،‬مما أدى إىل متزيق وحدة األمة وجر‬
‫املسلمني إىل أول ُحروب الفنت يف اإلسالم‪ ،‬ولبَّسوا ذلك مبا أظهروا من دعوى‬
‫التمسك بالشرعية الدينية والتارخيية؛ حينما قدموا أنفسهم على أهنم امتداد خلط‬
‫‪45‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫اخللفاء أيب بـكر وعمر وعثمان‪ ،‬وأومهوا الناس أن علياً كان يف خصومة معهم‪،‬‬
‫مستغلني بعض اخلالفات املعتادة اليت جرت بينهم خصوصاً عند انتقال اخلالفة‬
‫من خليفة آلخر‪.‬‬
‫وذلك ما كشفته إحدى رسائل معاوية اليت بعثها إىل اإلمام علي‪ ،‬وفيها قال‪:‬‬
‫«أما بعد‪ ،‬فإن هللا اصطفى حممداً بعلمه‪ ،‬وجعله األمني على وحيه‪ ،‬والرسول إىل‬
‫خلقه‪ ،‬واجتىب له من املسلمني أعواناً أيده هللا هبم‪ ،‬فكانوا يف منازهلم عنده على‬
‫قدر فضائلهم يف اإلسالم‪ .‬فكان أفضلهم يف إسالمه‪ ،‬وأنصحهم هلل ولرسوله‬
‫اخلليفة من بعده‪ ،‬وخليفة خليفته‪ ،‬والثالث اخلليفة املظلوم عثمان‪ ،‬فكلهم‬
‫الشزر‪ ،‬وىف قولك اهلُجر‪ ،‬ويف‬
‫حسدت‪ ،‬وعلى كلهم بغيت‪ .‬عرفنا ذلك يف نظرك َّ‬
‫الصعداء‪ ،‬ويف إبطائك عن اخللفاء‪ ،‬تقاد إىل كل منهم كما يقاد الفحل‬ ‫تنفسك ُّ‬‫ِ‬
‫املخشوش (=البعري املخزوم بأنفه) حىت تبايع وأنت كاره‪.‬‬
‫مث مل تكن ألحد منهم بأعظم حسداً منك البن عمك عثمان‪ ،‬وكان أحقهم‬
‫أال تفعل به ذلك يف قرابته وصهره‪ ،‬فقطعت رحه‪ ،‬وقبحت حماسنه‪ ،‬وألَّْبت الناس‬
‫ضربت إليه آباط اإلبل‪ ،‬وقِيدت إليه اخليل العِراب‪،‬‬
‫عليه‪ ،‬وبطنت وظهرت‪ ،‬حىت ُ‬
‫وحل عليه السالح يف حرم رسول هللا‪ ،‬ف ُقتل معك يف احمللة‪ ،‬وأنت تسمع يف‬ ‫ُ‬
‫داره اهلائعة (=الصوت الشديد)‪ ،‬ال تردع الظَّن والتهمة عن نفسك فيه بقول وال‬
‫فعل»‪.‬‬
‫فكانت هذه التصرحيات من أول بذور التفرقة بني اخللفاء‪ ،‬وتأليب فريق من‬
‫الناس على اإلمام علي واهتامه بعداوة إخوانه من اخللفاء الراشدين‪.‬‬
‫وقد رد اإلمام علي على معاوية برسالة طويلة دفع هبا التهمة عن نفسه‪،‬‬
‫وبني أن اخلالف معهم يف شأن اخلالفة غري منكر‪،‬‬
‫ووضع اخللفاء يف مقامهم‪َّ ،‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪46‬‬

‫وليس فيه عداوة وال بغي‪ ،‬فقال‪« :‬ذكرت أن هللا اجتىب لرسوله من املسلمني‬
‫أعواناً أيده هللا هبم‪ ،‬فكانوا يف منازهلم عنده على قدر فضائلهم يف اإلسالم‪،‬‬
‫فكان أفضلهم ‪ -‬زعمت ‪ -‬يف اإلسالم‪ ،‬وأنصحهم هلل ورسوله اخلليفة‪ ،‬وخليفة‬
‫اخلليفة‪ .‬ولعمري إن مكاهنما من اإلسالم لعظيم‪ ،‬وإن املصاب هبما جلرح يف‬
‫اإلسالم شديد‪ .‬رحهما هللا وجزامها بأحسن اجلزاء‪ .‬وذكرت أن عثمان كان يف‬
‫الفضل ثالثاً‪ ،‬فإن يكن عثمان حمسناً فسيجزيه هللا بإحسانه‪ ،‬وإن يك مسيئاً‬
‫فسيلقى رباً غفوراً ال يتعاظمه ذنب أن يغفره‪.‬‬
‫ولعمر هللا أىن ألرجو ‪ -‬إذا أعطى هللا الناس على قدر فضائلهم يف اإلسالم‬
‫ونصيحتهم هلل ورسوله ‪ -‬أن يكون نصيبنا يف ذلك األوفر‪.‬‬
‫وأضاف رضي هللا عنه‪ :‬وذكرت حسدي اخللفاء‪ ،‬وإبطائي عنهم‪ ،‬وبغيي‬
‫عليهم‪ .‬فأما البغي؛ فمعاذ هللا أن يكون‪ ،‬وأما اإلبطاء عنهم والكراهة ألمرهم؛‬
‫فلست أعتذر منه إىل الناس؛ ألن هللا جل ذكره ملا قبض نبيه قالت قريش‪ :‬منا‬
‫أمري‪ ،‬وقالت األنصار‪ :‬منا أمري‪ .‬فقالت قريش‪ :‬منا حممد رسول هللا‪ ،‬فنحن أحق‬
‫األنصار‪ ،‬فسلمت هلم الوالية والسلطان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بذلك األمر‪ .‬فـعرفت ذلك‬
‫فإذا استحقوها مبحمد صلى هللا عليه وآله دون األنصار‪ ،‬فإن أوىل الناس‬
‫مبحمد أحق هبا منهم‪ ،‬وإال فإن األنصار أعظم العرب فيها نصيباً‪ ،‬فال أدري‪:‬‬
‫أصحايب سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا‪ ،‬أو األنصار ظلموا؟! [فـ] عرفت أن‬
‫حقي هو املأخوذ‪ ،‬وقد تركته هلم جتاوز هللا عنهم‪ .‬وأما ما ذكرت من أمر عثمان‬
‫وقطيعيت رحه وتألييب عليه‪ ،‬فإن عثمان عمل ما بلغك‪ ،‬فصنع الناس‪ ،‬ما قد‬
‫رأيت وقد علمت‪ ،‬وإين كنت يف عزلة عنه‪ ،‬إال أن تـتج َّىن‪ ،‬فتجن ما بدا لك»‪.‬‬
‫مث َّ‬
‫ذكر معاوية بن أيب سفيان بشيء من أحداث املاضي‪ ،‬فقال‪« :‬وقد كان‬
‫‪47‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫أبوك أتاين حني وىل الناس أبا بكر‪ ،‬فقال‪ :‬أنت أحق بعد حممد صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم هبذا األمر‪ ،‬وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك‪ .‬أبسط يدك‬
‫أبايعك!! فلم أفعل‪ ،‬وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده‪ ،‬حىت كنت‬
‫أنا الذى أبيت‪ ،‬لقرب عهد الناس بالكفر‪ ،‬خمافة ال ُفرقة بني أهل اإلسالم‪ .‬فأبوك‬
‫كان أعرف حبقي منك‪ ،‬فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك‪،‬‬
‫وإن مل تفعل فسيغىن هللا عنك»‪.‬‬
‫وهذا يؤكد أن الوقيعة بني علي واخللفاء كانت فكرة معاوية‪ ،‬حىت ال يتفرد‬
‫بالوقوف يف مواجهة علي‪ ،‬وقد ظهرت مثرة ذلك عند الرافضة‪ ،‬الذين تبنوا نظرية‬
‫معاوية حبذافريها‪ ،‬وجعلوا مشكلة علي مع اخللفاء‪ ،‬مؤكدين أن معاوية إمنا هو‬
‫واحدة من خطاياهم‪ ،‬فهم يف ذلك شيعة معاوية ال شيعة علي‪.‬‬
‫اإلمام علي يتصدى للمتطاولين على الخلفاء‬
‫وأدت حلة األمويني على اإلمام علي‪ ،‬وما استخدموا من ذكر املفارقات بينه‬
‫وبني اخللفاء السابقني‪ ،‬إىل ردة فعل لدى بعض أنصار اإلمام علي ودخلوا يف‬
‫جدل حول األولوية والتفضيل‪ ،‬ومجع كل طرف ما يراه من مؤاخذات ضد اآلخر‬
‫وحيتج هبا‪.‬‬
‫وحينما بلغ األمر مستوى التجريح‪ ،‬وقف اإلمام علي ملواجهة ذلك وتصدى له‬
‫حبزم‪ ،‬فقد جاء عن سويد بن غفلة‪ ،‬قال دخلت على علي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أمري املؤمنني‬
‫إين مررت بنفر من أصحابك ينتقصون أبا بـكر وعمر‪ ،‬فلوال أهنم يرون أنك تضمر‬
‫على مثل ما تكلموا به ما اجرتأوا على ذلك‪ ،‬فغضب علي‪ ،‬وقال‪« :‬أعوذ باهلل أن‬
‫أضمر هلما إال احلسن اجلميل‪ ،‬أخوا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وصاحباه‬
‫ووزيراه رحة هللا عليهما»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪48‬‬

‫مث نادى جلمع الناس وهنض دامع العني وهو قابض على حليته‪ ،‬فتشهد خبطبة‬
‫موجزة بليغة‪ ،‬مث قال‪« :‬أال ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش وأبوي املسلمني‬
‫مبا أنا عنه متنزه‪ ،‬ومما يقولون بريء‪ ،‬وعلى ما قالوا معاقب‪ ،‬ال والذي فلق احلبة‬
‫وبرأ النسمة‪ ،‬ال حيبهما إال مؤمن تقي‪ ،‬وال يبغضهما إال فاجر ردي‪ ،‬صحبا‬
‫رسول هللا على الصدق والوفاء‪ ،‬يأمران وينهيان‪ ،‬فما يغادران فيما يصنعان رأي‬
‫رسول هللا‪ ،‬ال يرى كرأيهما رأياً‪ ،‬وال حيب كحبهما حباً‪ ،‬فقبض الرسول وهو‬
‫عنهما راض‪ ،‬واملسلمون راضون»‪ .‬مث أطال يف مدحهما وهدد من يعود إىل‬
‫الوقوع فيهما‪.‬‬
‫وهذه الرواية ‪ -‬مع ما يأيت ‪ -‬تدل على أن البلبلة واجلدل حول مواقف بعض‬
‫الصحابة ظهرا يف وقت مبكر‪ ،‬وكان اإلمام علي بن أيب طالب من أول من‬
‫تصدى له‪ ،‬فحري بكل مقتد باإلمام علي وحمب له أن يقتفي أثره‪.‬‬
‫مجاهرة األمويين بسب اإلمام والنيل منه‬
‫بعد مقتل اإلمام علي بن أيب طالب رضوان هللا عليه‪ ،‬وما جرى من مفاوضات‬
‫بني احلسن بن علي ومعاوية‪ ،‬انتهت مبا يعرف بـ«صلح احلسن» استوىل األمويني‬
‫على زعامة اجملتمع املسلم‪ ،‬وعندئذ أسقط األمويون اإلمام علي بن أيب طالب‬
‫من قائمة اخللفاء الراشدين‪ ،‬وبدالً من الرتضية عنه تناولوه بالتجريح و ِ‬
‫السباب‪،‬‬
‫وعكفوا على احلط من قدره واإلساءة إليه‪ ،‬فكانت تلك من التصرفات اليت‬
‫الصحابة وشَّرعت التطاول عليهم‪.‬‬‫أسست للنيل من كبار َّ‬ ‫َّ‬
‫فقد روى مسلم‪ ،‬عن عامر بن سعد بن أيب وقاص‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬أمر معاوية‬
‫بن أيب سفيان سعداً فقال‪ :‬ما منعك أن تسب أبا تراب؟!فقال‪ :‬أما ما ذكرت‬
‫ثالثاً قاهلن له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فلن أسبه‪ ،‬ألن تكون يل واحدة‬
‫‪49‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫منهن أحب إيل من حر النعم»‪ ،‬مث ذكر خرب‪ :‬املنزلة‪ ،‬والراية‪ ،‬واملباهلة‪.‬‬
‫ويف رواية البن ماجة‪ :‬أن معاوية ق ِدم يف بعض حججه فدخل عليه سعـد بن‬
‫سعت‬
‫أيب وقاص‪ ،‬فـذكروا علياً فنال منه‪ ،‬فغضب سعـد‪ ،‬وقال‪ :‬تقول هذا لرجل ُ‬
‫رسـول هللا يقول فيه‪« :‬من كنت مواله فعلي مواله»؟! وسعته يقول‪« :‬أنت مين‬
‫مبنزلة هارون من موسى‪ ،‬إالَّ أنه ال نيب بعدي»! وسعته يقول‪« :‬ألعطني الراية‬
‫اليوم رجالً حيب هللا ورسوله»‬
‫ب رسول‬ ‫وروى الطرباين عن أيب عبد هللا اجلديل أن أم سلمة قالت له‪ :‬أيُس ُّ‬
‫ب‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم فيكم على املنابر؟! قلت‪ :‬سبحان هللا! وأىن يُس ُّ‬
‫رسول هللا؟! قالت‪ :‬أليس يسب علي بن أيب طالب ومن حيبُّه؟! أشهد أن رسول‬
‫هللا كان حيبه‪.‬‬
‫ومما يدل على‪ :‬أن معاوية كان يسب علياً‪ ،‬أو ال ميانع منه‪ ،‬ما روى ابن‬
‫عساكر وذكر الذهيب‪ :‬أن اإلمام احلسن بن علي رضي هللا عنه اشرتط على‬
‫معاوية يف الصلح الذي عقد بينهما‪ :‬أن ال ي ُسب علياً وهو ي ْسمع‪.‬‬
‫وذكر ابن الوردي أن معاوية بن أيب سفيان كان جالساً وعنده وجوه الناس وفيهم‬
‫األحنف بن قيس؛ إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيباً‪ ،‬فكان آخر كالمه أن‬
‫سب علياً رضي هللا عنه‪ ،‬فأطرق الناس‪ ،‬وتكلم األحنف‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني‪،‬‬
‫إن هذا القائل آنفاً لو يعلم أن رضاك يف لعن املرسلني لفعل؛ فاتق هللا ودع عنك‬
‫علياً‪ ،‬فقد لقي ربه وأفرد يف قربه وخال بعمله‪ ،‬وكان وهللا املربز سيفه‪ ،‬الطاهر ثوبه‪،‬‬
‫امليمون نقيبته‪ ،‬العظيم مصيبته‪.‬‬
‫قال معاوية‪ :‬يا أحنف‪ ،‬لقد أغضيت العني عن القذى‪ ،‬وقلت فيما ترى‪ ،‬وأمي‬
‫هللا لتصعدن املنرب ولتلعننه طوعاً أو كرهاً‪ .‬فقال له األحنف‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬إن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪50‬‬

‫تعفين فهو خري لك‪ ،‬وإن جتربين فوهللا ال جتري به شفتاي أبداً‪ .‬قال معاوية‪ :‬قم‬
‫فاصعد‪ ،‬قال األحنف‪ :‬أما وهللا مع ذلك ألنصفنك يف القول والفعل‪ .‬قال‪ :‬وما‬
‫أنت قائل يا أحنف إن أنصفتين‪ .‬قال‪ :‬أصعد املنرب فأحد هللا تعاىل مبا هو أهله‪،‬‬
‫وأصلي على نبيه‪ ،‬مث أقول‪ :‬أيها الناس‪ ،‬أن أمري املؤمنني معاوية أمرين أن ألعن‬
‫علياً‪ ،‬أال وإن علياً ومعاوية اقتتال واختلفا‪ ،‬فادعى كل منهما أنه مبغي عليه وعلى‬
‫فئته‪ ،‬فإذا دعوت فأمنوا رحكم هللا‪ ،‬مث أقول‪ :‬اللهم العن أنت ومالئكتك وأنبياؤك‬
‫ومجيع خلقك الباغي منهما على صاحبه‪ ،‬والعن الفئة الباغية لعناً كثرياً‪ ،‬أمنوا‬
‫رحكم هللا‪ .‬مث قال‪ :‬يا معاوية ال أزيد على هذا حرفاً‪ ،‬وال أنقص منه حرفاً‪ ،‬ولو‬
‫كان فيه ذهاب نفسي‪ .‬فقال معاوية‪ :‬إذن نعفيك أبا حبر‪.‬‬

‫ومثل هذا ُروي أن معاوية قال لعقيل بن أيب طالب‪ :‬إن علياً قد قطعك‬
‫ووصلتُك‪ ،‬وال يرضيين منك إال أن تلعنه على املنرب!! قال‪ :‬أفعل‪ ،‬قال‪ :‬فاصعد‬
‫علي‬
‫املنرب‪ ،‬فصعد‪ ،‬مث قال بعد أن حد هللا وأثىن عليه‪ :‬أيها الناس أمرين أن ألعن َّ‬
‫بن أيب طالب أمري املؤمنني معاويةُ بن أيب سفيان فالعنوه‪ ،‬فعليه لعنة هللا واملالئكة‬
‫والناس أمجعني‪ ،‬مث نزل عن املنرب‪ .‬فقال له معاوية‪ :‬إنك مل تُـبـِني‪ ،‬قال‪ :‬وهللا ال‬
‫زدت حرفاً وال نقصت آخر‪ ،‬والكالم على نية املتكلم‪.‬‬

‫وانتشر وباء السباب والشتائم يف أوساط والة بين أمية وأتباعهم‪ ،‬حىت كانوا‬
‫يأمرون بسب علي عليه السالم ويعاقبون من مل يفعل‪ ،‬فقد روى مسلم أن رجالً‬
‫من آل مروان ويل املدينة‪ ،‬فدعا سهل بن سعد رضي هللا عنه‪ ،‬فأمره أن يشتم‬
‫علياً قال‪ :‬فأىب سهل فقال له‪ :‬أما إذا أبيت فقل‪ :‬لعن هللا أبا الرتاب‪ .‬فقال‬
‫سهل‪ :‬ما كان لعلي اسم أحب إليه من أيب الرتاب‪ ،‬وإن كان ليفرح إذا دعي‬
‫هبا‪ .‬أي بتلك الكنية‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫ويف رواية البن حبان‪ :‬أن رجالً جاء سهل بن سعد فقال‪ :‬هذا أمري املدينة‪،‬‬
‫يدعوك لتسب علياً على املنرب!!‬
‫وروى ابن سعد أن احلجاج كتب إىل حممد بن القاسم الثقفي ‪ :‬أن ادع عطية‬
‫فإن لعن علي بن أيب طالب وإال فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه وحليته‪.‬‬
‫فدعاه فأقرأه كتاب احلجاج فأىب عطية أن يفعل‪ .‬فضربه أربعمائة سوط وحلق‬
‫رأسه وحليته‪.‬‬
‫وقال السيوطي‪ :‬أخرج ابن سعد عن عمري بن إسحاق قال‪ :‬كان مروان أمرياً‬
‫علينا‪ ،‬فكان يسب علياً كل مجعة على املنرب‪ .‬ويف رواية الذهيب‪ :‬كان مروان أمرياً‬
‫علينا باملدينة ست سنني‪ ،‬فكان يسب علياً يف اجلُمع‪.‬‬
‫علي بن أيب طالب‪،‬‬
‫وروى احلاكم يف املستدرك‪ :‬أن املغرية بن شعبة سب َّ‬
‫فنهاه زيد بن أرقم عن ذلك!‪.‬‬
‫وروى أبو داوود وأحد وابن ماجة أن سعيد بن زيد بن عمرو دخل على‬
‫املغرية يف املسجد وعنده رجل يسب‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬من يسب هذا الرجل؟ قال‬
‫املغرية‪ :‬يسب علياً‪ .‬قال سعيد‪ :‬أرى أصحاب رسول هللا يُسبُّون عندك‪ ،‬مث ال‬
‫تغري؟! ويف رواية أن املغرية خطب فنال من علي‪ ،‬فقال سعيد بن زيد‪:‬‬ ‫تنكر وال ِ‬
‫أال تعجب من هذا يسب علياً‪.‬‬
‫وبلغ من تعسف األمويني أن عبد امللك بن مروان أمر عامله باملدينة‪ :‬أن أقِم‬
‫آل علي يشتمون علي بن أيب طالب‪ ،‬وأقِم آل عبد هللا بن الزبري يشتمون عبد‬
‫هللا بن الزبري‪ .‬وعندما بلغهم أمر اخلليفة رفضوه‪ ،‬وكتبوا وصاياهم استعداداً‬
‫للمـوت‪ ،‬فأشري على الوايل بأن يأمر آل علي يشتمون آل الزبري‪ ،‬ويأمر آل الزبري‬
‫يشتمون آل علي‪ ،‬فاستحسن ذلك وعدل إليه‪ .‬فكان أول من أقيم لذلك احلسن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪52‬‬

‫بن احلسن بن علي وكان رجالً رقيق البشـرة‪ ،‬فقال له وايل املدينة‪ :‬تكلم بسب‬
‫آل الزبري‪ .‬فقال‪ :‬إن آلل الزبري رحاً أبـُلها ببالهلا و ُأرُّهبا برباهبا‪ .‬فأمر الوايل بضربه‪،‬‬
‫حىت شرخ جلده‪ ،‬وسال دمه حتت قدمه!!‪.‬‬
‫فأي طغيان هذا الذي جيرب املسلم على سب آبائه وأرحامه‪ ،‬فإن أىب ُجلد‬
‫بالسياط حىت يسيل دمه؟!‬
‫وذكر الذهيب أن عبد الرحن بن أيب ليلى ‪ -‬املكىن‪ :‬أبا عيسى األنصاري‬
‫الكويف‪ ،‬الفقيه املقرئ‪ ،‬وأحد كبار احملدثني‪ ،‬وممن شهد مع علي معركة النهروان‬
‫‪ -‬تعرض للضرب حينما امتنع عن سب اإلمام علي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وقال ابن حجر العسقالين ‪ -‬يف ترمجة مصدع أيب حيىي األعرج املعرقب ‪:-‬‬
‫«إمنا قيل له املعرقب ألن احلجاج (أو بشر بن مروان) عرض عليه سب علي بن‬
‫أيب طالب فأىب فقطع عرقوبه»‪.‬‬
‫وذكر ابن اجلوزي أهنا وردت على األمراء أوامر بلعن علي رضي هللا عنه‪،‬‬
‫فرقى كثريُ اخلزاعي ‪ -‬الشاعر – املنرب‪ ،‬وأخذ بأستار الكعبة وقال‪:‬‬
‫لعن هللا من يسب علياً وبنيـ ــه من سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقـ ــة وإمـ ــام‬
‫أيُسب املطهرون أصوالً والكرام األخوال واألعم ـ ــام‬
‫يأمن الطري واحلمام وال يأمن آل الرسول عند املقام‬
‫فأنزلوه عن املنرب وأثخنوه ضرباً بالنعال وغريها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إن امرأ كانت مس ـ ـ ـ ـ ــاوئه ح ـ ــب النيب بغري ذي عتـ ـ ـ ِ‬
‫ـب‬
‫وبين أيب حسن ووالدهم من طاب يف األرحام و ِ‬
‫الصلب‬
‫أترون ذنبـ ـ ـ ـاً أن أحبهم ب ـِـِــل حبهم كف ـ ـ ــارة ال ـ ـ ــذن ـ ـ ـ ِ‬
‫ـب‬
‫وما زالوا يدفعون الفضالء من علماء املسلمني لتبين مواقفهم يف الرباءة من‬
‫‪53‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫علي‪ ،‬حىت روى الذهيب عن عيسى بن يونس أن اإلمام األوزاعي قال‪« :‬ما أخذنا‬
‫العطاء حىت شهدنا على علي بالنفاق وتربأنا منه‪ ،‬وأُخذ علينا بذلك الطالق‬
‫والعتاق وأميان البيعة‪ .‬فلما عقلت أمري مل تقر عيين‪ ،‬حىت فارقت نسائي‪،‬‬
‫وأعتقت رقيقي‪ ،‬وخرجت من مايل‪ ،‬و َّ‬
‫كفرت أمياين»‪.‬‬
‫جو من العداوة والرتاشق بالتهم‪ ،‬أسقط ما كان‬‫يف ظل ذلك السلوك هتيأ ٌ‬
‫الصحابة من هيبة ومكانة‪ ،‬وأصبح عامة الناس يتحدثون عنهم بوقاحة‪،‬‬‫لكبار َّ‬
‫فقد روى الطرباين‪ :‬أن سعد بن أيب وقاص مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة‬
‫والزبري‪ ،‬فقال له سعد‪ :‬إنك تشتم قوماً قد سبق هلم من هللا ما سبق‪ ،‬فو هللا‬
‫لتكفن عن شتمهم أو ألدعو َّن هللا عز وجل عليك‪ .‬فقال‪ :‬ختوفين كأنك نيب‪.‬‬
‫َّ‬
‫فدعا عليه‪.‬‬
‫واعرتف الشيخ ابن تيمية‪ :‬أن «سب علي كان شائعاً يف أتباع معاوية»‪.‬‬
‫يسب علياً‪ ،‬وجيهر بذلك على املنابر وغريها؛‬
‫وذكر‪ :‬أن «من شيعة عثمان من ُ‬
‫ألجل القتال الذي كان بينهم وبينه‪ .‬قال‪ :‬وكان أهل السنة من مجيع الطوائف‬
‫تنكر ذلك عليهم»‪ .‬وزعم أن «الذين قاتلوا علياً ولعنوه وذموه من الصحابة‬
‫والتابعني وغريهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان»‪.‬‬
‫السنَّة األموية املشؤومة إىل أن توىل عمر بن عبد العزيز اخلالفة‬ ‫واستمرت تلك ُّ‬
‫سنة (‪99‬هـ)‪ ،‬فأمر بالكف عن السب‪ ،‬على الرغم من معارضة النواصب الذين‬
‫استنكروا ذلك‪ .‬ويف ذلك روى ابن سعد وابن عساكر والذهيب من طُرق أن والة‬
‫بين أمية كانوا يشتمون علياً رضي هللا عنه‪ ،‬فلما ويل عمر بن عبد العزيز أمسك‬
‫عن ذلك‪ ،‬فقال كثري عزة اخلزاعي‪:‬‬
‫ف برياً ومل تـْتب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع سجيَّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ُجم ِرم‬ ‫ِ‬
‫ولْيت فلم تشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتُم علياً ومل ُِخت ْ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪54‬‬

‫فـعلت فأضحى راضياً كل مسل ِم‬ ‫وقلت صدقت الذي قلت بالذي‬
‫َّ َّ َ َ ْ ح ْ َ ْ‬
‫اَّلل ٌيأ ٌم حٌر ٌبِالعد ٌِلٌ‬
‫نٌ ٌ‬ ‫قال العالمة الزخمشري ‪ -‬عند تفسري قول هللا تعاىل‪﴿ :‬إ ِ ٌ‬
‫ْ ح ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ح ْ َ َ ْ َ ْ َ ح ح ْ َ َ َّ ْح‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ َ‬
‫ك ٌمٌ‬‫ك ٌمٌلعل ٌ‬ ‫غٌي ِعظ ٌ‬ ‫نٌالفحشاٌٌُِوالـمنك ٌِرٌوابل ٌِ‬
‫هٌع ٌِ‬ ‫انٌ َوإِيتا ٌٌُِذِيٌالور ٌ‬
‫ب ٌ و ين ٌ‬ ‫اإلحس ٌِ‬ ‫و ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫ون﴾ (النحل‪« :- )90:‬وحني أسقطت من اخلطب لعنة املالعني على أمري‬ ‫تذك حر ٌ‬
‫املؤمنني علي رضي هللا عنه‪ ،‬أقيمت هذه اآلية مقامها‪ ،‬ولعمري إهنا كانت فاحشة‬
‫ومنكراً وبغياً‪ ،‬ضاعف هللا ملن سنها غضباً ونكاالً وخزياً»‪.‬‬
‫وروى املرشد باهلل الشجري أن عمر بن عبد العزيز خطب ومل يلعن علياً‪،‬‬
‫السنة‪ ،‬حيرضه على لعن علي‪ ،‬فقال‬‫السنة ُّ‬
‫فقام إليه عمرو بن شعيب وقال‪ُّ :‬‬
‫عمر‪ :‬اسكت قبحك هللا‪ ،‬إهنا البدعة البدعة‪.‬‬
‫تَ‬
‫َشكُّل ظاهرتي «النواصب» و«الروافض»‬
‫تشري الروايات السابقة إىل أن الصـراع السياسي كان وراء ظهور التجين على‬
‫الصحابة‪ ،‬وتؤكد أن التيار األموي كان من أصحاب تلك املبادرة‪ ،‬وأهنم‬ ‫كبار َّ‬
‫حلة ألوية (النَّصب) املتفق على قبحه‪ ،‬فقد ذكر الشيخ ابن تيمية وغريه أن‬
‫النواصب هم‪« :‬الذين يتربؤون من علي وال يتولونه وال حيبونه»‪.‬‬
‫وكان من تداعيات تبين احلكـم األموي لذلك املنهج أهنا نشأت يف ظله‬
‫مدارس فكرية تأثرت بذلك السلوك‪ ،‬فظهر ِجْيل من النواصب يعتربون النيل من‬
‫اإلمام علي بن أيب طالب وأهل بيته قُربة دينية‪ ،‬حىت وجدنا بعض نقلة العلم‬
‫ورواة احلديث غارقني يف النصب‪ ،‬فقد جاء يف كتب تراجم الرواة أن بعضهم‬
‫كانوا يسبون علياً بال حرج وال حياء‪ ،‬فضالً عن الغمز والتجريح املبطَّن‪ ،‬وطبعوا‬
‫ذلك بطابع الدين‪ .‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫(‪ٌ)1‬حريزٌبنٌعثمان (املتوىف سنة ‪163‬هـ)‪ ،‬فقد أكد احملدثون أنه كان يسب‬
‫‪55‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫اإلمام علياً ويشتمه‪ ،‬وال خيرج من املسجد بعد الصالة حىت يلعنه سبعني مرة!!‬
‫ذكر ذلك كل من‪ :‬البغدادي‪ ،‬واملزي وابن حجر‪.‬‬
‫ومع ذلك اعتمد أصحاب الصحاح روايته‪ ،‬عدا مسلم‪ ،‬أما البخاري فروى‬
‫له حديثني‪ .‬ووثقه القطان وابن معني‪ ،‬وقال ابن عدي‪ :‬حريز من األثبات‪ .‬وقال‬
‫الذهيب‪ :‬كان متقناً ثبتاً‪ .‬وحكي عن معاذ بن معاذ‪ :‬أنه ال يعلم أنه رأى شامياً‬
‫أفضل منه! وعن أيب داود‪ :‬سألت أحد بن حنبل عنه‪ ،‬فقال‪ :‬ثقة ثقة ثقة‪ ،‬وعن‬
‫أيب حامت قال‪ :‬ال أعلم بالشام أثبت منه!‬
‫ٌ(‪ٌ)2‬عقدٌاهللٌبنٌشويقٌالعوييل (املتوىف سنة ‪ 108‬هـ)‪ ،‬قال أحد‪ :‬كان حيمل‬
‫على علي‪ .‬وقال ابن خراش‪ :‬كان يبغض علياً‪ .‬وقال الذهيب وابن حجر‪ :‬ناصيب‪.‬‬
‫ومع ذلك قال فيه حيىي بن معني‪ :‬من ِخيار املسلمني‪ .‬وقال أبو حامت وأبو‬
‫زرعة‪ :‬بصري ثقة‪ ،‬وله يف صحيح مسلم اثنان وعشرون حديثاً!!‬
‫(‪ٌ)3‬نعيمٌبنٌأيبٌهندٌاْلشجيع (املتوىف سنة ‪ 110‬هـ)‪ ،‬ذكر الذهيب أنه قيل‬
‫للثوري‪ِ :‬مل ملْ تسمع من نعيم بن أيب هند؟ قال‪ :‬كان يتناول علياً رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ومع ذلك قال أبو حامت‪ :‬صدوق! وقال النسائي‪ :‬ثقة! واعتمد روايته‪ :‬مسلم‬
‫والنسائي والرتمذي وابن ماجة‪ ،‬وله يف صحيح مسلم أربعة أحاديث واستشهد‬
‫بروايته البخاري‪ .‬فهال تركوه واقتدوا بسفيان الثوري رحه هللا‪.‬‬
‫(‪ٌ)4‬أزهرٌبنٌعقدٌاهللٌاِلرازي‪ ،‬من صغار التابعني‪ ،‬قال ابن حجر‪ :‬قال ابن‬
‫اجلارود‪ :‬كان يسب علياً‪ .‬وقال الذهيب‪ :‬ناصيب ينال من علي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ولكن ذلك مل مينعه من أن يصفه بأنه صدوق حسن احلديث‪ .‬واعتمد روايته‪:‬‬
‫كل من أيب داوود والرتمذي والنسائي يف سننهم!!‬
‫(‪ٌ)5‬ملازةٌبنٌزبارٌأبوٌبليدٌاجلهضيم‪ ،‬من التابعني‪ ،‬قال الذهيب‪ :‬كان يشتم‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪56‬‬

‫علياً‪ .‬وأكد أنه ممن حضر وقعة اجلمل‪ ،‬ووصفه بأنه كان ناصبياً‪ ،‬ينال من علي‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬وميدح يزيد‪ .‬ومع ذلك وثقه بعض احملدثني‪ .‬واعتمد روايته أبو‬
‫داوود والرتمذي وابن ماجة‪ ،‬ووثقه ابن حبان‪.‬‬
‫(‪ٌ)6‬عمرانٌبنٌحطانٌالسدويس البصري‪ ،‬من رؤوس اخلوارج (تويف سنة‬
‫‪84‬هـ)‪ ،‬قال ابن حجر‪« :‬كان من املعروفني يف مذهب اخلوارج‪ ،‬ذكر عن ابن‬
‫سريين قال‪ :‬تزوج عمران امرأة من اخلوارج لريدها عن مذهبها فذهبت به»‪ .‬وجاء‬
‫عنه أنه ابتهج ملقتل اإلمام علي بن أيب طالب رضي هللا عنه‪ ،‬ومدح قاتله عبد‬
‫الرحن بن ملجم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إال ليبلغ من ذي العرش رضوانا‬ ‫يا ضربة من تقي ما أراد هبا‬
‫أوىف ال ِـربي ـ ـ ــة عـن ـ ـ ــد هللا مـيـزان ـ ـ ــا‬ ‫إين ألذكره حيناً فأحسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبه‬
‫ومع ذلك أثىن عليه كثري من احملدثني‪ ،‬وروى له البخاري والنسائي وأبو داوود‬
‫وأحد‪ ،‬وله يف صحيح البخاري حديثان‪.‬‬
‫وبعد اعرتاف احلافظ ابن حجر العسقالين بسوء حال عمران بن حطان‬
‫اعتذر للبخاري بأنه روى له يف املتابعات فقط‪ ،‬ورأى أنه ال يضر التخريج يف‬
‫املتابعات عمن تلك سبيله‪ .‬ووصفه بأنه‪ :‬صدوق ناصيب‪.‬‬
‫أما الدارقطىن فقد أنصف احلقيقة حينما انتقد البخاري على رواية حديث‬
‫ابن حطان يف الصحيح‪ ،‬وقال عنه‪ :‬مرتوك لسوء اعتقاده وخبث رأيه‪.‬‬
‫(‪ٌ)7‬إبراهيمٌبنٌيعووبٌاجلوزجاين‪ ،‬من أتباع حريز بن عثمان وصفه احملدثون‬
‫بالنصب‪ ،‬وقال ابن حبان‪ :‬كان حريزي املذهب‪ .‬ورووا أنه اجتمع على بابه‬
‫أصحاب احلديث‪ ،‬فأخرجت جارية له ُّفروجة لتذحبها‪ ،‬فلم جتد من يذحبها‪،‬‬
‫فقال‪ :‬سبحان هللا!! فروجة ال يوجد من يذحبها‪ ،‬و(علي) يذبح يف ضحوة نيفاً‬
‫‪57‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫وعشرين ألف مسلم!! وجاهر بعداوته لعلي بن أيب طالب‪ ،‬وبالغ يف النيل من‬
‫كل من عرف بوالئه وحمبته لعلي وإن كان من كبار علماء التابعني‪.‬‬
‫مع ذلك أثىن عليه بعض احملدثني وقالوا كان من الثقات‪ ،‬وأحد أئمة اجلرح‬
‫والتعديل‪ ،‬الذين يعتمد على نقدهم وتقييمهم‪.‬‬
‫(‪ )8‬عمر بن سعد بن أيب وقاص الزهري‪ ،‬قائد حلة قتال احلسني بن علي‬
‫رضي هللا عنهما‪ ،‬قال الذهيب‪ :‬هو يف نفسه غري متهم‪ ،‬لكنه باشر قتال احلسني‬
‫وفعل األفاعيل‪ .‬وقال العجلي‪ :‬روى عنه الناس‪ ،‬تابعي ثقة‪ .‬روى له النسائي‪.‬‬
‫وقال ابن حجر‪ :‬صدوق‪.‬‬

‫وفي مقابل (النواصب) ظهرت أجيال من (الروافض) يتدينون بالنيل من‬


‫الصحابة‪ ،‬وزادوا على ذلك فنسبوا إىل‬
‫أيب بـكر وعمر وعثمان‪ ،‬ومن واالهم من َّ‬
‫فضالء أهل البيت ما مل يقولوا‪ ،‬واشتهر من الروافض‪:‬‬
‫(‪ )1‬املغية ٌبن ٌسعيد ٌابلجيل أبو عبد هللا الكويف‪ ،‬قال األعمش‪ :‬أول من‬
‫سعت يسب أبا بـكر وعمر املغريةُ بن سعيد‪ .‬واتفقت الروايات أنه كان‬
‫يكذب على أهل البيت‪ ،‬وينسب إليهم ما مل يقولوا‪ ،‬ويدس ذلك يف‬
‫الكتب والروايات‪.‬‬
‫(‪ٌ)2‬أبو ٌاخلطاب ٌاْلسدي‪ ،‬كان من السبابني للصحابة‪ ،‬قال ابن قتيبة‪ :‬وال‬
‫أدري ممن هو‪ ،‬غري أنه كان يأمر أصحابه أن يشهدوا على من خالفهم بالزور‬
‫يف األموال والدماء والفروج‪ ،‬وقال‪ :‬إن دماءهم ونساءهم لكم حالل‪.‬‬
‫وذكر اخلوئي أن الشيخ الطوسي ذكره يف رجاله يف أصحاب الصادق وقال‪:‬‬
‫حممد بن مقالص األسدي الكويف أبو اخلطاب‪ ،‬ملعون غال‪ ،‬ويكىن‪ :‬مقالص‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪58‬‬

‫أبا زينب البزاز الرباد‪ .‬وقال ابن الغضائري‪ :‬حممد بن أيب زينب أبو اخلطاب‬
‫األجذع الزراد‪ ،‬موىل بين أسد‪ :‬لعنه هللا تعاىل‪ ،‬أمره شهري‪.‬‬
‫َ ْ ح َ ِّ ح ح ْ َ َ َ ْ‬
‫نٌ‬
‫َعٌم ٌ‬
‫لٌأنبئك ٌمٌ ٌ‬ ‫قول هللا عز وجل‪﴿ :‬ه ٌ‬
‫الصـادق سئل عن‬
‫مث روى أن اإلمام َّ‬
‫َ َ َّ ح َّ‬
‫الش َياطِني﴾ٌ[الشعراء‪ ،]221/‬قال‪« :‬هم سبعة ‪ :‬املغرية بن سعيد‪ ،‬وبنان بن‬ ‫تَن ٌل ٌ‬
‫سعان‪ ،‬وصائد النهدي‪ ،‬واحلارث الشامي‪ ،‬وعبد هللا بن احلارث‪ ،‬وحزة بن عمار‬
‫الزبريي‪ ،‬وأبو اخلطاب»‪.‬‬
‫(‪ٌُ)3‬ممدٌبنٌيلعٌبنٌانلعمانٌاْلحول‪ ،‬املعروف بشيطان الطاق‪ ،‬كان من‬
‫الغالة السبابني‪ ،‬زعم أن اإلمام زين العابدين أمره بالرباءة من أيب بـكر وعمر‪،‬‬
‫فقال له اإلمام زيد بن علي‪« :‬ال تكذب على أيب‪ .‬إن أيب كان جينبين عن كل‬
‫شر‪ ،‬حىت اللقمة احلارة‪ ،‬أفرتاه خيربك بأن دينك وإسالمك ال يتم إال بالتربي‬
‫منهما ‪ -‬يعين أبا بـكر وعمر‪ -‬ويهملين عن التعريف بذلك؟!»‪ .‬أثىن عليه‬
‫اإلمامية واعتربوه من أصحاب األئمة‪ ،‬وتفاخروا حبوارات جرت بينه وبني بعض‬
‫معاصريه‪ ،‬ويلقبونه‪ :‬مؤمن الطاق‪.‬‬
‫(‪ٌ)4‬عمروٌبنٌثابتٌأيبٌاملودام بن هرمز الكويف‪ ،‬قال ابن املبارك‪ :‬ال حتدثوا‬
‫عنه فإنه يسب السلف‪ .‬وقال ابن معني‪ :‬رجل سوء‪ ،‬وكان يشتم عثمان‪ .‬وقال‬
‫أبو داوود‪ :‬رافضي خبيث رجل سوء‪ ،‬وروى عنه أنه قال‪ :‬ملا مات النيب كفر‬
‫الناس إال خسة‪ .‬وذكره علماء اإلمامية وأثنوا عليه عدا ابن الغضائري‪ ،‬فقال‬
‫عنه‪ :‬ضعيف جداً‪.‬‬
‫(‪ٌ)5‬عقدٌالرَحنٌبنٌيوسفٌبنٌخراش أحد احلفا ‪ ،‬قال أبو زرعة‪ :‬كان‬
‫خرج مثالب الشيخني يف جزأين‪ ،‬وأهدامها إىل بندار‪ ،‬فأجازه بألفي‬ ‫رافضياً‪َّ ،‬‬
‫درهم‪ ،‬بىن له هبا حجرة‪ ،‬فمات إذ فرغ منها!!‬
‫‪59‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫ونظراً لكثرة األخذ والرد يف املثالب واملساوئ أقدم بعض احملدثني على مجع‬
‫الصحابة‪ ،‬حىت جاء عن اإلمام أحد بن حنبل‪ :‬كان (أبو‬ ‫ما روي يف مساوئ َّ‬
‫عوانة) وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وفيه‬
‫باليا‪ ،‬فجاءه سالم بن أيب مطيع‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا عوانة‪ ،‬أعطين ذاك الكتاب‬
‫فأعطاه‪ ،‬فأخذه سالم فأحرقه‪ .‬وروي عن عبد الرحن بن مهدي قال‪ :‬نظرت يف‬
‫كتاب أيب عوانة وأنا أستغفر هللا‪.‬‬
‫وأبو عوانة املذكور هو وضاح بن عبد هللا اليشكري أحد كبار أئمة احلديث‬
‫املعتربين‪ ،‬روى له اجلماعة‪ ،‬وتويف ‪170‬هـ تقريباً‪ .‬وليس متهماً يف الصحابة‪ ،‬ولكنه‬
‫كمحدث مجع ما تيسر له يف باب معايب الصحابة‪ .‬ولو مجعنا ما نـقل احملدثون‬
‫يردده الشيعة‪ ،‬بصرف النظر عن‬ ‫السنة يف هذا الباب‪ ،‬لفاق بكثري ما ِ‬
‫من أهل ُّ‬
‫صحته وعدمها‪.‬‬
‫ردود األفعال بين التطفيف واإلنصاف‬
‫ومن الالفت للنظر يف هذه املسألة ما جند من تطفيف بعض املنتمني إىل هذا‬
‫االجتاه أو ذاك؛ فبعض املنتمني إىل أهل السنة يتغاضون عمن كان ينال من علي‪،‬‬
‫ويعتربونه متأوالً‪ ،‬ويعتمدون رواياهتم يف الصحاح كما تقدم‪ .‬أما إذا تعلق األمر‬
‫مبن ينال من أيب بـكر أو عمر أو عثمان‪ ،‬فإهنم ال يرتكون الرواية عنه فحسب‪،‬‬
‫بل حيكمون عليه بالكفر أو الردة‪ ،‬وجيعلون حدَّه القتل والتَّنكيل‪.‬‬
‫فقد رووا عن سفيان الثوري أن من يشتم أبا بكر فهو كافر باهلل العظيم‪.‬‬
‫وعن عبد الرحن بن عمرو األوزاعي أنه قال‪ :‬من شتم أبا بـكر الصديق‪ ،‬فقد‬
‫ارتد عن دينه وأباح دمه!‪.‬‬
‫وسئل أحد بن حنبل عن حسني األشقر‪ ،‬فقال‪ :‬مل يكن عندي ممن يكذب‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪60‬‬

‫يف احلديث‪ .‬فقالوا له‪ :‬إنه صنَّف باباً فيه معايب أىب بـكر وعمر‪ .‬فقال‪ :‬ما هذا‬
‫بأهل أن حيدث عنه‪.‬‬
‫وذكر ابن حجر العسقالين‪ :‬أن أحد القضاة حكم بضرب عنق شخص‬
‫اعرتف بسب أيب بـكر وعمر‪ ،‬فقتل وأحرق العوام جسده‪ ،‬وطافوا برأسه‪ .‬وكان‬
‫ذلك يف مجادى األوىل (سنة ‪755‬هـ)‪.‬‬
‫وبالغ بعضهم‪ ،‬فجعل املوقف من معاوية مقياساً للموقف من مجيع الصحابة‪،‬‬
‫فروى ابن عساكر أن عبد هللا بن املبارك كان يقول‪ :‬معاوية عندنا ِ ْحمنة؛ فمن‬
‫رأيناه ينظر إىل معاوية شزراً اهتمناه على القوم!! وقال أبو حامت‪ :‬إبراهيم بن‬
‫احلكم الكويف‪ ،‬روى يف مثالب معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬فمزقنا ما كتبنا عنه‪.‬‬
‫ويف املقابل جند بعض الشيعة ال يرتددون يف تكفري وتفسيق من ينال من علي‬
‫أو يتطاول على أحد من أئمتهم‪ ،‬ويبيحون دمه وماله وعرضه‪ .‬أما النيل من أيب‬
‫بـكر وعمر وعثمان وعائشة وأمثاهلم فالكالم فيهم عفو‪ ،‬بل قُربة عند بعضهم‪،‬‬
‫والعياذ باهلل‪.‬‬
‫فأي اختالل يف املوازين أسوأ من هذا؟! وملاذا يعترب الراوي ‪ -‬عند فريق ‪-‬‬
‫مرتداً مباح الدم مهدر الكرامة‪ ،‬إن نال من صحايب ُمع َّني‪ .‬أما إذا نال من‬
‫صحايب آخر فهو ثقة ثقة‪ ،‬وإمام حجة؟!‬
‫وملاذا يكون الشخص «رافضياً» إن أعاد النظر يف حديث روي يف شأن أيب‬
‫بـكر أو عمر رضي هللا عنهما؟! أو ذكر شيئاً من مساوئ معاوية؟! أما إذا وقف‬
‫لفضائل علي باملرصاد وتكلف رد ما هو مشهور منها عند السلف واخللف؛ فهو‬
‫شيخ اإلسالم‪ ،‬وعلم األعالم ودرة الدهر‪ ،‬وحافظ العصر!!‬
‫وهكذا أخذت ردود األفعال تعمل عملها‪ ،‬ووجد غالة «الروافض» وعتاة‬
‫‪61‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫الصحابة بكالم سيئ‬


‫«النواصب» آذاناً صاغية إلشاعاهتم‪ ،‬وتناول بعضهم كبار َّ‬
‫ووصفوهم بأوصاف جتاوزت احلد املسموح به يف النَّقد والتقييم‪.‬‬
‫وبعد زمن من تناول هذه املسألة على أهنا ذات بُعد اجتماعي وسياسي‬
‫ُشْر ِعنت‪ ،‬وأخذت طابعاً دينياً وفكرياً‪ ،‬فصار حتديد املوقف فيها جزءاً من العقيدة‬
‫وموجباً للوالء أو الرباء‪ ،‬وتعمق اخلالف فيها ألسباب خمتلفة‪ ،‬حىت إننا جند بعض‬
‫املختلفني يف هذه املسألة ال يقبلون حىت جمرد الدعوة إىل التقارب فيما بينهم‪،‬‬
‫يف الوقت الذي ال ميانعون فيه من احلوار والتقارب مع أصحاب الديانات‬
‫األخرى‪.‬‬

‫اتلفهم واإلنصافٌينطق يف كل زمان ومكان على‬ ‫ومع لك ذلك لم يزل صوت َّ‬

‫الرغم من ضغوط املتمذهبني‪ ،‬فاملنصفون من أهل السنة برؤوا ساحتهم من هتمة‬


‫«النصب»‪ ،‬حينما انتقدوا م ْن أساء إىل اإلمام علي أو نال منه‪ ،‬حىت إن ابن‬
‫حجر العسقالين وصف حماريب اإلمام علي بأهنم «نواصب»‪ ،‬وقال عند شرح‬
‫حديث مقتل عمار‪« :‬ويف هذا احلديث علم من أعالم النبوة‪ ،‬وفضيلة ظاهرة‬
‫لعلي ولعمار‪ ،‬ورد على النواصب الزاعمني أن علياً مل يكن مصيباً يف حروبه»‪.‬‬

‫وانتقدوا ِحدَّة ابن تيمية يف تناوله فضائل اإلمام علي‪ ،‬حىت إن ابن حجر‬
‫العسقالين أكد أنه رد كثرياً من األحاديث اجلياد‪ ،‬وقال‪« :‬وكم من مبالغة لتوهني‬
‫كالم الرافضـي تؤدي أحياناً إىل تنقيص علي رضي هللا عنه»‪ ،‬وذكر أن هنالك‬
‫من نسب ابن تيمية إِىل النفاق‪ ،‬لق ْوله إن علياً أخطأ ِيف سْبـعة عشر شْيئا مثَّ‬
‫ث ما توجه‪ ،‬وأنه حاول ا ْخلالفة‬ ‫ِ‬
‫خالف فيها نص الْكتاب‪ ،‬وأنه كان خمذوال حْي ُ‬
‫مر ًارا فلم ينلها‪ ،‬وإَِّمنا قاتل للرئاسة ال للديانة‪ ،‬وأنه كان حيب ا ِلرئاسة وأن ُعثْمان‬
‫كان حيب الْمال‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪62‬‬

‫مع أن ابن تيمية جزم بتفضيل علي بن أيب طالب على مجيع الصحابة‪ ،‬عدا‬
‫من سبقه من اخللفاء الراشدين‪ ،‬وحكى ذلك عن أهل السنة‪ ،‬فقال‪« :‬إنه ليس‬
‫من أهل السنة من جيعل بغض علي طاعة وال حسنة وال يأمر بذلك‪ ،‬مؤكداً أهنم‬
‫ينكرون على من سبَّه‪ ،‬وكارهون لذلك‪ ،‬وما جرى من التَّساب والتالعن بني‬
‫العسكرين‪ ،‬من جنس ما جرى من القتال‪ ،‬وأهل السنة من أشد الناس بغضاً‬
‫وكراهة ألن يتعرض له بقتال أو سب»‪ .‬وأضاف‪« :‬عل ٌي أفضل مجهور الذين‬
‫السنة‬
‫بايعوا حتت الشجرة‪ ،‬بل هو أفضل منهم كلهم إال الثالثة‪ ،‬فليس يف أهل ُّ‬
‫من ِ‬
‫يقدم عليه أحداً غري الثالثة‪ ،‬بل يفضلونه على مجهور أهل بدر وأهل بيعة‬
‫الرضوان‪ ،‬وعلى السابقني األولني من املهاجرين واألنصار»‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬علي آخر اخللفاء الراشدين الذين واليتهم خالفة نبوة ورحة‪،‬‬
‫وكل من اخللفاء األربعة رضي هللا عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء هللا املتقني‪،‬‬
‫بل هؤالء األربعة أفضل خلق هللا بعد النبيني»‬
‫وجزم يف كتاب (االستقامة) بأن علياً أويت يف القضاء ما مل يؤت أحد من‬
‫الصحابة‪ ،‬فقال‪« :‬نعلم أن علياً رضي هللا عنهُ كان أقضى من غريه ِمبا أفهم من‬
‫ُّصوص ُم ْشرتك بينه وبني غريه»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ذلك مع أن ساع الن ُ‬
‫وانتقد من أقدم على سب اإلمام علي وبرأ أهل السنة من ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬قد‬
‫كان من شيعة عثمان من يسب علياً‪ ،‬وجيهر بذلك على املنابر وغريها؛ ألجل‬
‫القتال الذي كان بينهم وبينه‪ ،‬وكان أهل السنة من مجيع الطوائف تنكر ذلك‬
‫عليهم»‪ .‬لذلك اخنفضت ظاهرة «النصب» إىل أدىن مستوياهتا‪ ،‬بسبب تصدي‬
‫كثري من علماء أهل السنة للنواصب‪ ،‬وردهم عليهم وبراءهتم منهم‪.‬‬
‫ويف املقابل اخنفضت نسبة الرفض بني أتباع املذهب الزيدي نتيجة مواقف‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫الزيدية الذين نزهوا أنفسهم من هتمة «الرفض»‪ ،‬وردوا على‬


‫احملققني من علماء َّ‬
‫الروافض وتربأوا من غلوهم وصلفهم‪ ،‬وهم الذين أوردوا األحاديث عن اإلمام‬
‫زيد بن علي يف ذم الرافضة‪ ،‬حىت إن اإلمام اهلادي (‪298‬هـ) وهو كبري أئمة‬
‫الزيدية يف اليمن؛ اعترب سباب اخللفاء جناية تستوجب العقوبة‪ ،‬كما سيأيت عنه‪.‬‬
‫ومل يفرق اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى بني من سب علي بن أيب‬
‫طالب أو سب أبا بـكر وعمر رضي هللا عنهم‪ ،‬فحكم بـ«فسق اخلوارج الذين‬
‫قطعا»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يسبون علياً‪ ،‬والروافض الذين يسبون الشيخني جلُرأهتم على ما ُعلم حترميه ً‬
‫وذكر اإلمام حيىي بن حزة روايات عن اإلمام زيد بن علي وأخيه حممد الباقر‬
‫وولده جعفر الصادق يف الثناء على أيب بـكر وعمر‪ ،‬مث قال‪« :‬وهذا هو املعتمد‬
‫عليه عند أكابر أهل البيت؛ فأين هذا عن هذيان الروافض واجلارودية؟! فاهلل‬
‫حسبهم فيما قالوه‪ ،‬ومكافئهم على ما نقلوه وكذبوه!»‪ .‬إىل غري ذلك مما سنأيت‬
‫على ذكره‪.‬‬
‫والزيدية يفرقون بشكل واضح بني حكاية ما ورد يف كتب التاريخ ومناقشته‬
‫وجمرد السباب والتجريح‪ ،‬ويف هذا كتب شيخنا العالمة بدر الدين احلوثي رسالة‬
‫بعنوان (الفرق بني السب والقول باحلق)‪.‬‬
‫أما اإلمامية فقد ظلت نربة الرفض عندهم مبستويات عالية‪ ،‬نتيجة سكوت‬
‫كثري من علمائهم عن الغالة‪ ،‬وتداول روايات القدح والذم يف كتبهم‪ ،‬وإن عف‬
‫بعضهم عن الكالم القبيح‪ ،‬وآثر عدم التصريح بالقدح والتجريح احرتاماً ملشاعر‬
‫أهل السنة ورغبة يف احلفا على وحدة املسلمني‪.‬‬
‫ويكفي الباحث إلقاء نظر سريعة يف أمهات كتبهم املعتمدة‪ ،‬مثل كتب الشيخ‬
‫املفيد‪ ،‬خاصة (االختصاص) و(اإلرشاد)‪ ،‬وما تضمنه كتاب (حبار األنوار)‪ ،‬دع‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪64‬‬

‫عنك ما خصص ملوضوع التنقص من اخللفاء مثل كتاب (االستغاثة من بدع‬


‫الثالثة) لـعلي بن أحد بن موسى الكويف اإلمامي (املتوىف سنة ‪ 352‬هـ)‪.‬‬
‫ومما ال نبغي إغفاله أن لبعض اإلمامية ‪ -‬قدمياً وحديثاً ‪ -‬مواقف معتدلة‪ ،‬ال‬
‫ميكن إنكارها‪ ،‬وحيسن اإلشادة هبا والتشجيع عليها‪ ،‬وإن مل تكن يف عمق‬
‫عقيدهتم أو اقتصرت على اجملامالت؛ ألن ذلك القدر يكفينا للحد من التنافر‬
‫والصراعات والفنت‪ ،‬وما حتمله السرائر والقلوب فإن مرده إىل هللا‪.‬‬
‫وال ينبغي أن يُوصم كل موقف إجيايب معتدل بأنه جمرد ممارسة للتقية؛ ألن يف‬
‫ذلك ما فيه من ظلم للحقيقة وهضم جلهد املنصفني‪.‬‬

‫الصحابة‬
‫المبحث الثالث‪ :‬االختالف النظري في تقييم َّ‬
‫أدت القراءة املختلفة حلياة الصحابة ‪ -‬وتقييم ما شجر بينهم‪ ،‬وما جرى‬
‫عقب ذلك من اصطفافات سياسية وجمتمعية ‪ -‬إىل خالفات حادة وجتاذبات‬
‫مستمرة‪ ،‬حىت صارت مسألة دينية فكرية ذات حساسية عالية‪ ،‬اختلفت فيها‬
‫املواقف‪ ،‬والتأويالت إىل حد كبري‪ ،‬وأخذ الناس بسببها يتبادلون االهتامات‪ ،‬حىت‬
‫إن بعضهم جيعلها مؤشراً للهداية والضالل‪ ،‬وعالمة لالستقامة واالحنراف‪ ،‬مث‬
‫يبىن عليها مواقف الوالء والرباء‪ ،‬والسخط والرضى‪ ،‬مث يعملون على ترقيتها إىل‬
‫ُمسوغ للقتال واحلروب‪ ،‬ولعل جذور االختالف والتوتر تعود إىل عدة أسباب‪:‬‬

‫السبب األول‪ :‬االختالف في تعريف (الصحابي)‬


‫التعريف‪ :‬عبارة عن استحضار مجلة من األوصاف لتحديد معامل حقيقة ما‪،‬‬
‫ليتعَّرف السامع على تلك احلقيقة مبجرد ذكر تعريفها‪ .‬وللتعريف طريقتان؛ إما‬
‫أن يوضع توصيف يشمل مجلة من احلقائق اليت تندرج حتته‪ ،‬وإما أن ينظر إىل‬
‫‪65‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫مجلة من املفردات مث ُجتمع أوصافها ويستخلص منها توصيف جامع؛ فاألول‪:‬‬


‫يبدأ من الفكرة وينتهي باخلارج‪ ،‬ويالحظ قلة االختالف فيه‪ ،‬كون الفكرة ثابتة‬
‫واخلارج متغري‪ ،‬والثاين‪ :‬يبدأ من اخلارج وينتهي بالفكرة‪ ،‬ويالحظ كثرة االختالف‬
‫فيه‪ ،‬كونه ينطلق من خارج متغري خمتلف باختالف العيِنات‪.‬‬
‫ونتيجة لالختالف يف طريقة تعريف الصحايب‪ ،‬وحتديد أوصافه؛ أُختلف يف‬
‫تعريفه على أقوال‪ ،‬أشهرها قولني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن الصحايب هو‪ :‬كل من لقي النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مؤمناً‬
‫به‪ ،‬ومات على اإلسالم‪ .‬وهذا هو املشهور عن مجهور احملدثني‪ ،‬كأحد بن‬
‫حنبل‪ ،‬وابن املديين‪ ،‬والبخاري‪ ،‬وغريهم‪ ،‬واعتربه ابن حجر العسقالين أصح ما‬
‫وقف عليه‪ ،‬وذكر أنه‪« :‬يدخل فيمن لقيه‪ :‬من طالت جمالسته له أو قصرت‪،‬‬
‫ومن روى عنه أو مل يرو‪ ،‬ومن غزا معه أو مل يغز‪ ،‬ومن رآه رؤية ولو مل جيالسه‪،‬‬
‫ومن مل يره لعارض كالعمى»‪.‬‬
‫وانتهى األمر ببعضهم إىل توسيع مفهوم الصحبة ومتطيطه‪ ،‬إىل حد إدراج‬
‫األطفال ومن ولد يوم وفاة النيب‪ ،‬ومن جاء من الوافدين ليُسلم فوجده قد مات‪،‬‬
‫ومن نظر إليه وهو مسجى على فراش املوت‪ .‬وذهب بعضهم إىل‪ :‬أن كل من‬
‫عاصر النيب صحابياً‪ ،‬سواء رآه أم مل يره‪.‬‬
‫اثلاين‪ :‬أن الصحايب هو‪ :‬من لقي النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وآمن به‪،‬‬
‫وصحبه فرتة يتمكن فيها من معرفة شرعه‪ ،‬والتَّخلُّق بأخالقه‪ ،‬مث مضى على‬
‫الزيدية‪.‬‬
‫هنجه‪ ،‬ومات على ذلك‪ ،‬وهذا ما رجحه أكثر علماء َّ‬
‫والفرق بني التعريفني‪ :‬أن الثاين يُراعي ‪ -‬على خالف األول ‪ -‬اجلانب الواقعي‬
‫أكثر من اجلانب اللغوي‪ ،‬وجيعل للمعىن االصطالحي لكلمة (صحايب)‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪66‬‬

‫خصوصية زائدة عن املعىن اللغوي‪.‬‬


‫وذلك ما أشار إليه اإلمام عبد هللا بن حزة حني رأى‪ :‬أن «الصحايب من‬
‫اختص مبالزمة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واألخذ عنه‪ ،‬وقال‪ :‬وهو الذي‬
‫خنتـاره‪ ،‬ال من لقيه مرة أو مـرتني‪ ،‬كما ذهب إليه كثري من أصحاب احلـديث»‪.‬‬
‫وذكر العـالَّمة صـارم الدين الوزير أن الصحـايب عند َّ‬
‫الزيدية‪« :‬من طالت‬
‫جمالسته للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم متَّبعاً له»‪.‬‬
‫الزيدية‪،‬‬
‫ومل خيتلف قول بعض األصوليني من أهل السنة عما ذهب إليه علماء َّ‬
‫ت‬‫فقد حكى اإلمام ابن مهام الدين عن مجهور األصوليني أن الصحايب «من طال ْ‬
‫صحبته متتبعاً ُمدَّة يثبت معها إِطْالق صاحب علْي ِه عرفاً بِال ْحت ِديد ملقدارها»‪.‬‬
‫قال شارح كالم ابن اهلمام (حممد أمري احلسيين)‪ِ« :‬ألن لصحبة النَِّيب صلى‬
‫هللا علْي ِه وسلم شرفاً ع ِظيماً‪ ،‬فال تنال إَِّال باجتماع ط ِويل يظْهر فِ ِيه ْ‬
‫اخللق املطبوع‬
‫َّخص»‪ ،‬وأطال االحتجاج لذلك‪ ،‬ورد على القائلني يكفي الرؤية لثبوت‬ ‫ِ‬
‫علْيه الش ْ‬
‫الصحبة‪.‬‬
‫الصحابة الذين أثىن عليهم‬
‫وأجاب اإلمام الغـزايل عن تساؤل بشأن تعريف َّ‬
‫القرآن الكرمي‪ ،‬أهم من عاصر رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬أم من لقيه مرة‪،‬‬
‫أم من صحبه ساعة‪ ،‬أم من طالت صحبته‪ ،‬وما حد طوهلا؟ بأن‪« :‬االسم ال‬
‫يطلق إال على من صحبه‪ ،‬مث يكفي لالسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة‪،‬‬
‫صحبته»‪.‬‬ ‫العْرف خيصص االسم مبن كثُـرت ُ‬
‫ولكن ُ‬
‫وقال ابن حزم‪« :‬كان يف املدينة يف عصره عليه السالم منافقون بنص القرآن‪،‬‬
‫وكان هبا أيضاً من ال ترضى حاله‪ ،‬ك ِهيت املخنث الذي أمر عليه السالم بنفيه‬
‫الصحابة»‪.‬‬
‫واحلكـم الطريد وغريمها‪ ،‬مث قال‪ :‬فليس هؤالء ممن يقع عليهم اسم َّ‬
‫‪67‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫ومل يستسغ العالمة حممد بن إساعيل األمري ‪ -‬مع أنه حمسوب على مدرسة‬
‫أهل احلديث ‪ -‬إطالق الصحبة الشرعية على كل من متكن من جمرد رؤية النيب‪،‬‬
‫فقال‪« :‬إن تفسري الصحايب مبن لقيه صلى هللا عليه وسلم أو مبن رآه وتنزيل تلك‬
‫املمادح عليه؛ فيه بُعد‪ ،‬يأباه اإلنصاف»‪.‬‬
‫وكذلك يرى الشيعة اإلمامية ‪ -‬على خالف يف التفاصيل ‪« :-‬أن مدرسة‬
‫أهل البيت ترى أن تعريف الصحايب‪ :‬هو ما ورد يف قواميس اللغة‪ ،‬كاآليت‪:‬‬
‫الصاحب ومجعه "صحب وأصحاب وصحاب وصحابة" والصاحب‪ :‬املعاشر‬
‫وال ُـمالزم‪ ،‬وال يقال إال ملن كثرت مالزمته‪ ،‬وإن املصاحبة تقتضي طول لبثه»‪.‬‬
‫وهبذا يتضح أن اخلالف وقع عند اجلميع فيمن يصدق عليه وصف الصحايب‪،‬‬
‫فبعضهم يصفون شخصاً معيناً كـ(معاوية) بأنه صحايب‪ ،‬كونه جالس النيب وروى‬
‫عنه‪ ،‬وينظرون إليه يف هذا املشهد‪ ،‬بينما ال يرى آخرون أنه صحايب‪ ،‬كونه ارتكب‬
‫خمالفات أفقدته شرف الصحبة‪ ،‬وسلبته التوفيق‪.‬‬

‫السبب الثاني‪ :‬فرضية تالزم الصحبة والفضل والعدالة‬


‫بعد اختالف األقوال يف حتديد مفهوم «الصحايب»‪ ،‬ظهر اختالف آخر‪،‬‬
‫يتعلق مبا توجبه الصحبة من متيُّز ومكانة‪ ،‬وخلُص إىل‪ :‬طرفني ووسط‪:‬‬

‫الطرف األول‪ :‬يرى أن جمرد الصحبة فضيلة موجبة للعدالة املطلقة‪ ،‬ورافعة ملقام‬
‫الصاحب‪ ،‬فتجعل القليل منه كثرياً‪ ،‬ومتنحه حصانة حتُول دون انتقاد فعله وقوله‪،‬‬
‫بل توجب التغاضي عن أي جتاوز يصدر عنه؛ ألن هللا يعفو عنه بفضل صحبته‪.‬‬

‫الصحابة بأي حال؛ ألن هللا قد اختارهم لصحبة‬


‫وبالتايل ال جيوز لوم أحد من َّ‬
‫نبيه‪ ،‬وحرسهم من الفسق والرذيلة‪ ،‬وإذا صدر عن أحد منهم قبيح‪ ،‬فهو معفو عنه‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪68‬‬

‫بفضل الصحبة أو لوجود مكفرة ال نعرفها‪ ،‬ولذلك ال جتري عليهم قواعد اجلرح‬
‫والتعديل‪ ،‬وال يسأل أح ٌد عن عدالتهم وصدقهم‪ ،‬كبريهم وصغريهم‪ ،‬جمهوهلم‬
‫ومعلومهم‪ ،‬خمطئوهم ومصيبهم‪.‬‬
‫ويف هذا الصدد جزم ابن حزم بأن «كلهم عدل إمام فاضل رضا‪ ،‬فرض علينا‬
‫توقريهم وتعظيمهم‪ ،‬وأن نستغفر هلم وحنبهم‪ ،‬ومترة يتصدق هبا أحدهم أفضل‬
‫من صدقة أحدنا مبا ميلك‪ ،‬وجلسة من الواحد منهم مع النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله ‪ ...‬إىل أن قال‪ :‬وكلهم عدول أفاضل‬
‫من أهل اجلنَّـة»‪.‬‬
‫وهذا إن مل يكن مناقضاً ملا تقدم عن ابن حزم نفسه ‪ -‬من املنع من إطالق‬
‫اسم الصحايب على من ُعلم فساده ممن أدرك النيب ‪ -‬فهو مقيد به‪.‬‬
‫وادعى القاضي عياض‪ :‬أن «معظم العلماء ذهبوا إىل أن من صحب النيب‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ورآه مرة من عمره‪ ،‬وحصلت له مزية الصحبة‪ ،‬أفضل من‬
‫كل من يأيت بعده‪ ،‬فإن فضيلة الصحبة ال يعدهلا عمل»‪ .‬وجزم النووي بأن‬
‫«الصحابة كلهم عدول من البس الفنت وغريهم‪ ،‬بإمجاع من يعتد به»‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬كما‬
‫ولعلهم أرادوا بـ«معظم العلماء» و«من يعتد به»‪ :‬علماء أهل ُّ‬
‫فصله احلافظ ابن حجر بقوله‪« :‬اتفق أهل السنة على أن اجلميع عدول‪ ،‬ومل‬‫َّ‬
‫خيالف يف ذلك إالَّ شذوذ من املبتدعة»‪.‬‬
‫أما ابن الصالح فاختزل األمة يف أهل مذهبه‪ ،‬وقال‪« :‬إن األمة جممعة على‬
‫تعديل مجيع الصحابة‪ ،‬ومن البس الفنت منهم فكذلك‪ ،‬بإمجاع العلماء الذين‬
‫يعتد هبم يف اإلمجاع»‪ .‬األمر الذي دفع احلافظ العراقي إىل التعقيب عليه بقوله‪:‬‬
‫«ما حكاه املصنف من إمجاع األمة على تعديل من مل البس الفنت منهم؛ كأنه‬
‫‪69‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫أخذه من كالم ابن عبد الرب‪ ،‬فإنه حكى يف االستيعاب إمجاع أهل احلق من‬
‫املسلمني‪ ،‬وهم أهل السنة واجلماعة على أن الصحابة كلهم عدول‪.‬‬
‫وأضاف‪ :‬ويف حكاية اإلمجاع نظر‪ ،‬ولكنه قول اجلمهور كما حكاه ابن‬
‫احلاجب واآلمدي‪ ،‬وقال إنه املختار‪ ،‬وحكيا معاً قوالً آخر‪ :‬إهنم كغريهم يف لزوم‬
‫البحث عن عدالتهم مطلقاً‪ ،‬وقوالً آخر‪ :‬إهنم عدول إىل وقوع الفنت‪ ،‬وأما بعد‬
‫ذلك فال بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة»‪.‬‬
‫وأحسن القوم حاالً جنده يتجاهل رأي خمالفيه‪ ،‬أو يصفهم بـالشذوذ‬
‫واالبتداع‪ ،‬كما جاء يف قول القرطيب‪« :‬ذهبت ِشرذمةٌ ال مباالة هبم إىل َّ‬
‫أن حال‬
‫الصحابة كحال غريهم‪ ،‬فيلزم البحث عن عدالتهم»!!‬
‫واحتج أصحاب هذا االختيار مبا ورد يف القرآن الكرمي من عموميات الثناء‬
‫َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ ْ ح َّ‬ ‫ح َ َّ ح ح‬
‫ارٌ‬
‫َع ٌالكف ٌِ‬
‫اُ ٌ ٌ‬
‫ِين ٌمع ٌه ٌأ ِشد ٌ‬ ‫الصحابة‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪ُ﴿ :‬ممدٌ ٌ َرس ٌ‬
‫ول ٌاهلل ٌواَّل ٌ‬ ‫على َّ‬
‫ْ‬ ‫ح‬ ‫َ ح‬ ‫ْ ً‬ ‫ح َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً‬
‫ف ٌ حوجوه ِِه ٌْم ٌ ٌِم ٌ‬
‫نٌ‬ ‫ِنٌاهللٌ َو ِرض َواناٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ‬
‫ل ٌم ٌَ‬
‫ون ٌفض ٌ‬
‫اٌُبينه ٌم ٌتراه ٌمٌركعا ٌسجداٌيبتغ ٌ‬ ‫رَح ٌ‬
‫ح‬ ‫ُّ‬ ‫ََ‬
‫أث ٌِرٌالسجو ٌِد﴾ [الفتح‪ .]29 :‬قالوا فوصفهم تعاىل يف هذه اآلية بأوصاف ِم ْن الزمها‬
‫العدالة‪.‬‬
‫ويالحظ أن القائلني بعدالة الصحابة مطلقاً‪ ،‬يؤكدون أهنم إمنا يقصدون عدالة‬
‫الرواية‪ ،‬وال يعنون أهنم معصومون من األخطاء‪ ،‬أو أنه مل يصدر عن بعضهم‬ ‫ِ‬
‫القبيح‪ ،‬ولكنهم يستدلون يف الوقت نفسه بفضلهم على عدالتهم‪ ،‬وهذا ال خيلو‬
‫من الدور أو التناقض!!‬

‫الصحبة ال ترفع من قدر الصاحب‪ ،‬وليست سبباً‬ ‫الطرف الثاني‪ :‬يرى أن جمرد ُّ‬
‫الصحابة كحال غريهم‪ ،‬وأن الفسق‬ ‫لتميزه ال بالفضيلة وال بالعدالة‪ ،‬وأن حال َّ‬
‫واالحنراف واقع من بعضهم‪ ،‬وأنه ال يُغفر ملن وقع منهم يف كبرية إال بالتوبة‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪70‬‬

‫الظاهرة كسائر الناس‪ .‬وهذا قول الشيعة واملعتزلة‪ ،‬ومبقتضاه يعمل فريق من أهل‬
‫السنة‪.‬‬
‫أما الشيعة اإلمامية؛ فقوهلم يف ذلك معلوم ال خيفى على القراء والباحثني‪.‬‬
‫وأما الزيدية‪ ،‬فاألصل عندهم يف الصحابة العدالة حىت يثبت غري ذلك‪،‬‬
‫ويلخصون ذلك بقوهلم‪ :‬الصحابة عدول إال من ظهر فسقه‪.‬‬
‫وأما املعتزلة‪ ،‬فقال ابن أيب احلديد‪« :‬وقد برئ كثري من أصحابنا من قوم من‬
‫الصحابة أحبطوا ثواهبم كاملغرية بن شعبة»‪ .‬حكى ابن احلاجـب عنهم‪ :‬أن‬ ‫َّ‬
‫الصحابة عدول إال من حارب علياً‪.‬‬
‫وحكى اإلمام الرازي عن إبراهيم النظام أنه قال‪ :‬رأينا بعض الصحابة يقدح‬
‫يف بعضهم‪ ،‬وذلك يقتضي توجه القدح إما يف القادح إن كان كاذباً‪ ،‬وإما يف‬
‫املقدوح فيه إن كان القادح صادقاً‪.‬‬
‫الصحابة من عموم قوله‬ ‫واحتـج أصحاب هذا الرأي بأنه مل ي ِرد ما ُخيرج َّ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ َ َ ح ح َّ َ َ ح‬ ‫َ َ ح َ ِّ َ‬ ‫َّ ِّ َ‬ ‫َ َّ َ َ َ ح‬
‫ِنٌ‬
‫ِنٌاهللٌم ٌ‬‫اٌُسيئ رٌةٌب ِ ِمثلِهاٌ َوت ْرهوه ٌْمٌذِلةٌٌماٌله ٌْمٌم ٌَ‬ ‫اتٌجز ٌ‬‫ِينٌكسقواٌالسيئ ٌِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬واَّل ٌ‬
‫َ‬
‫ص رٌم﴾ [يونس‪ .]27/‬وحنوها‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن ما ورد يف عموم الثناء عليهم خصص بنحو‬ ‫َع ٌِ‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُّ َ َ َّ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ً َ َْ‬
‫ك ٌبِظلمرٌ ٌل ِل ٌعقِيد﴾‬‫اُ ٌفعليها ٌوما ٌرب ٌ‬ ‫ن ٌأس ٌ‬ ‫اِلا ٌفلِنف ِس ٌِه ٌوم ٌ‬
‫ل ٌص ِ‬ ‫ن ٌع ِم ٌ‬‫قوله تعاىل‪﴿ :‬م ٌ‬
‫[فصلت‪.]46 /‬‬
‫فإذا مل يكونوا معصومني من األخطاء‪ ،‬وجاز عليهم الوقوع يف املعاصي‪،‬‬
‫فاستثناء الكذب يف النَّقل ورواية األخبار جمرد ُّ‬
‫حتكم‪.‬‬
‫بل خلُص اإلمام املهدي أحد بن حيىي ‪ -‬وهو من أئمة الزيدية املدافعني عن‬
‫الصحابة ‪ -‬إىل أن من نال شرف الصحبة وارتفع بذلك مقامه‪ ،‬مث صدر عنه‬ ‫َّ‬
‫أمر سيء؛ فإنه يسقط سقوطاً مدوياً ويعاقب أكثر من غريه‪« ،‬ألن صحبة رسول‬
‫‪71‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم شرف ورفعة‪ ،‬ولكن مل يثبت أهنا تبيح احملرمات‪،‬‬
‫وال تكفر الذنوب واملوبقات‪ ،‬بل العقل والنقل يقضيان بعكس ذلك‪.‬‬
‫أما العقل فال شك أن املناسب عنده ويف حكمه أن جرأة الصحايب الذي‬
‫صحب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم دهراً طويالً‪ ،‬وشاهد أنوار النبوة‬
‫وانفجار أهنار احلكمة‪ ،‬وأخذ دينه عنه من غري واسطة؛ أعظم موقعاً من جرأة‬
‫غريه‪ ،‬وأدل على الشقاوة وشدة التمرد وعظيم العتو؛ إن مل يشهد ذلك بالنفاق‬
‫ومجع مساوي األخالق‪.‬‬
‫ْ ح َّ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫َ َ‬
‫نٌ‬
‫تٌمِنك ٌ‬‫نٌ ٌيأ ٌِ‬ ‫اٌُانلَّ ِ ٌِّ‬
‫ب ٌم ٌ‬ ‫وأما النقل فقول هللا عز وجل يف نساء النيب‪﴿ :‬ياٌن ِس ٌَ‬
‫َ َ ح َ ِّ َ ح َ َ ْ َ َ ْ َ َ ح ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫َعٌاهللٌي َ ِس ًيا﴾ [األحزاب‪.]30/‬‬ ‫ِك ٌ ٌ‬‫ن ٌذل ٌ‬
‫ني ٌوَك ٌ‬
‫اب ٌ ِضعف ٌِ‬
‫ف ٌلها ٌالعذ ٌ‬
‫بِفاحِش رٌة ٌمقين رٌة ٌيضاع ٌ‬
‫فأكد ما ذكرناه‪ ،‬ودل على أن صحبتهن ‪ -‬وهي أبلغ صحبة وأخصها وأعظمها‬
‫‪ -‬مل تكن سبباً يف التجاوز عنهن‪ ،‬بل يف التغليظ عليهن»‪.‬‬
‫والوسط الذى نخـتاره‪ٌ:‬هو سنة الصحابة ِ‬
‫أنفسهم يف ِ‬
‫أنفسهم‪ ،‬وخالصتها أن‬ ‫ُ‬
‫صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فضيلة يف ذاهتا‪ ،‬والسبق إليها شرف كبري‬ ‫ُ‬
‫ومنَّة إهلية‪ ،‬وجمالسته عبادة ال ختلو من ألطاف خفيَّة‪ ،‬ترشد م ْن صحبه إىل سبل‬
‫اهلداية‪ .‬ومن جاء يف القرآن الكرمي أن هللا راض عنه وأنه من الفائزين‪ ،‬فهو‬
‫كذلك‪ ،‬ال يبدل القول لديه‪ ،‬وال قيمة لقول من يقول العربة بانكشاف احلال‬
‫يف املستقبل؛ ألن األمور عند هللا مكشوفة مسبقاً‪ ،‬فال ميكن أن يشهد لشخص‬
‫بالصالح ويرضى عنه‪ ،‬ويعده باجلنة‪ ،‬مث ينكشف أنه فاجر كافر فاسق‪ .‬فمن‬
‫شهد له النيب باجلنة أو النار فهو كذلك؛ ألنه ال يُنبئ مبستقبل أحد ختميناً‬
‫وتكهناً‪ ،‬وال ينطق عن اهلوى‪ ،‬وال حيكم بعواطفه‪ ،‬وال حيايب أو جيامل أحداً‪.‬‬
‫ومع ذلك جنزم بأن جمرد الصحبة ال تعين العصمة عن اخلطأ‪ ،‬وال خترج‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪72‬‬

‫الصاحب عن صفته البشرية‪ ،‬وال حتول بينه وبني الوقوع يف اخلطأ سهواً وعمداً‬
‫سواء يف الرواية والرأي‪ ،‬على تفاوت بينهم يف املقامات والفضل‪ ،‬وجودة احلفظ‬
‫ودقة النقل‪ ،‬ومستوى التدين والورع‪ ،‬والتحرر من نوازع اهلوى‪.‬‬
‫وبالتايل ال يُستبعد وقوع اخلطأ منهم‪ ،‬مبا يف ذلك خطأ الرواية والرأي‪ ،‬وال‬
‫ننكر أهنم قد يرتكبون الذنوب اليت ال ترتفع إال مب ِ‬
‫كفر‪ ،‬وال ميتنع لوم أحد منهم‬ ‫ُ‬
‫على خطأ ارتكبه‪ ،‬شريطة أن يكون ذلك قائماً على املوضوعية‪ ،‬مستنداً حلقائق‬
‫هدف شريف‪ ،‬وليس جمرد التشهري والتجريح‪ ،‬ونبش اخلالفات‬ ‫ثابتة‪ ،‬ويُقصد به ٌ‬
‫وتغذية األحقاد‪ ،‬بل ال حرج من ترك الرواية عمن ارتكب ما يوجب سقوط‬
‫عدالته‪ ،‬واحلكـم عليه مبا حكـم الشرع الشريف‪ ،‬وترك تقرير مصريه يف اآلخرة إىل‬
‫هللا‪.‬‬
‫أما من مل يثبت عندنا ما خيدش عدالته؛ فتكليفنا أن حنسن الظن به‪ ،‬ونقول‪:‬‬
‫ح ح َ ا َّ َ َ ح‬ ‫َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫ِينٌآ ٌمنواٌ‬
‫ٌوالٌَتعل ٌِفٌقلوبِناٌغِلٌل ِذل‬ ‫ان‬ ‫﴿ربناٌاغ ِفرٌنلاٌو ِ ِإلخوان ِناٌاَّلِينٌسقووناٌب ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬
‫َّ‬
‫َر َّب َناٌإِن َك ٌَر حُوف ٌَرحِيمٌ﴾ [الحشر‪ ،]10 /‬وهـذا ما ذهب إليه كثري من علماء املسلمني‬
‫خصوصاً أولئك املتخففني من ِحدَّة اخلصومة؛ على خمتلف مذاهبهم‪ ،‬وهو ما‬
‫وجيمع به بني أقوال املختلفني‪.‬‬
‫ميكـن أن يُقيَّد به إطالقات «الطرفني» ُْ‬
‫ويف هذا الصدد ذكر احلافظ حممد بن إبراهيم الوزير‪« :‬أن بعض احملدثني قد‬
‫يُطلِق القول بعدالة َّ‬
‫الصحابة عموماً‪ ،‬لعموم الثناء عليهم يف القرآن والسنة‪ ،‬مث‬
‫الصحابة‪ ،‬مثل الوليد بن‬
‫خيصون هذا العموم عند ذكر اجملاريح املصرحني من َّ‬
‫عقبة وبسر بن أرطاة»‪ ،‬واستطرد يف االستدالل وذكر األمثلة على ذلك‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫«وهذا يفيد أن القوم يعتقدون زوال عدالة الصحايب عند ورود ما يدل على‬
‫اجلرح»‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫وقال يف كتاب آخر‪« :‬وقد ذكر شراح احلديث من أهل السنة أن مجاعة ممن‬
‫تطلق عليهم الصحبة ارتدوا عن اإلسالم‪ ،‬والردة أكرب املعاصي‪ ،‬ومن جازت عليه‬
‫الردة جازت عليه سائر الكبائر‪ ،‬وإمنا ذكرت هذا ألن بعض املتعصبني على أهل‬
‫احلديث زعموا أهنم يقولون بعصمة الصحابة كلهم‪ ،‬ويعدون كبائرهم صغائر‪،‬‬
‫الصحابة وإن صح‬ ‫وليس كذلك‪ ،‬ولكن القوم ال يولعون بالسب ألحد من َّ‬
‫فسقه‪ ،‬وال يلهجون بذكر ذلك»‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬ومن مهمات هذا الباب القول بعدالة الصحابة كلهم يف الظاهر‬
‫إال من قام الدليل على أنه فاسق تصرحياً‪ ،‬وال بد من هذا االستثناء على مجيع‬
‫املذاهب وأهل احلديث وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم‪ ،‬فإهنم يستثنون‬
‫من هذه صفته‪ ،‬وإمنا مل يذكروه لندوره؛ فإهنم قد بينوا ذلك يف كتب معرفة‬
‫الصحابة»‪.‬‬
‫وأيده العـالَّمة حممد بن إساعيل األمري‪ ،‬واستطرد يف االحتجاج لذلك‪.‬‬
‫الصحابة كلهم‬
‫وأكد يف موضع آخر‪ :‬أن «أئمة احلديث وإن أطلقوا بأن َّ‬
‫عدول قد بينوا أنه من العام املخصوص‪ ،‬وجرحوا مجاعة منهم‪ ،‬مثل‪ :‬الوليد بن‬
‫عقبة»‪،‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬فهو وإن صح اإلطالق لفظ "الصحايب" على من القاه صلى‬
‫هللا عليه وسلم ولو حلظة من ليل أو هنار‪ ،‬إال أن املمادح القرآنية واألحاديث‬
‫النبوية والصفات الشريفة العلية‪ ،‬اليت كانت هي الدليل على عدالتهم وعلو‬
‫منزلتهم ورفعة مكاهنم‪ ،‬ختص الذين صحبوه صحبة حمققة‪ ،‬والزموه مالزمة ظاهرة‪،‬‬
‫ح َ َّ َ ح ح َّ َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ‬
‫ٌَعٌالْ حك َّفار ح‬
‫ٌر ََحَ ح‬
‫اٌُ‬ ‫ِ‬ ‫الذين قال هللا تعاىل فيهم‪ٌ ﴿ :‬‬
‫ُممدٌرسولٌاَّللٌِواَّلِينٌمعهٌأ ِشداُ‬
‫ْ ََ‬ ‫َ حْ ح ح‬ ‫َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً َ َّ َ ْ ً‬
‫ٌوجوه ِِه ْمٌمِنٌأث ِرٌ‬ ‫ٌِورِض َواناٌ ِسيماهم ٌِف‬ ‫بينهمٌتراهمٌركعاٌسجداٌيبتغونٌفضلٌمِنٌاَّلل‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪74‬‬
‫ُّ‬
‫الس حجو ٌِد﴾ [الحجرات‪]29/‬؛ فهذه الصفات إما كاشفة أو مقيدة‪ ،‬وعلى كل تقدير‬
‫فليس كل من رآه له هذه الصفات ضرورة‪ ،‬وكذلك الصفات اليت بعدها يف قوله‬
‫ْ ْ‬ ‫َّ ْ َ َ َ َ ح ح ْ‬ ‫َ َ ََححْ‬
‫يل﴾ [الحجرات‪ .]29/‬نعم ملن رآه مؤمنا‬
‫ْن ٌِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬ذل ِكٌمثلهم ٌِفٌاتلوراةٌِومثلهم ٌِف ِ‬
‫ٌاإل ِ‬
‫به‪ ،‬والقاه واكتحل بأنوار حمياه شرف ال جيهل‪ ،‬وقد قال صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫«طوىب ملن رآين وملن رأى من رآين طوىب هلم وحسن مآب»؛ إال أنه ال يبلغ إىل‬
‫حمل من القاه يف صباحه ومساه‪ ،‬والزمه يف حله وارحتاله‪ ،‬وتابعه يف مجيع أفعاله‬
‫وأقواله‪ ،‬واستمر على طريقته اليت كان عليها بعد وفاته‪ ،‬فهؤالء هم أعيان‬
‫الصحابة»‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬احملدثون وإن أطلقوا أن كل الصحابة عدول فقد ذكروا قبائح‬
‫جلماعة هلم رؤية خترجهم عن عموم دعوى العدالة»‪.‬‬
‫ونقل عن الذهيب يف مروان بن احلكم ‪ -‬بعد سياق طرف من أحواله ‪ -‬ما‬
‫لفظه‪« :‬وحضر الوقعة يوم اجلمل وقتل طلحة وجنا‪ ،‬وليته ما جنا‪ .‬انتهى‪ .‬وقال‬
‫الذهيب‪ :‬مروان بن احلكم له أعمال موبقة نسأل هللا السالمة رمى طلحة بسهم‬
‫وفعل وفعل؛ فهذا تصريح بفسقه‪ .‬وذكر الذهيب أيضاً‪ :‬أن مروان بن احلكم قاتل‬
‫طلحة‪ ،‬مث قال‪ :‬قاتل طلحة يف الوزر كقاتل علي رضي هللا عنه»‪.‬‬
‫وذكر الشوكاين‪ :‬أن للعلماء يف عدالة الصحابة قولني؛ األول‪ :‬التعديل املطلق‪،‬‬
‫والثاين‪ :‬أن حكمهم يف العدالة حكم غريهم‪ ،‬فيبحث عنها‪ ،‬قال أبو احلسني بن‬
‫القطان‪ :‬فوحشي قتل حزة وله صحبة‪ ،‬والوليد شرب اخلمر‪ ،‬فمن ظهر عليه‬
‫خالف العدالة‪ ،‬مل يقع عليه اسم الصحبة‪ ،‬والوليد ليس بصحايب؛ ألن الصحابة‬
‫إمنا هم الذين كانوا على الطريقة‪.‬‬
‫وذكر العالمة حيىي بن أيب بكر العامري الشافعي أنه «خيرج من هذا العموم‬
‫‪75‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫(عدالة الصحابة) من شذ منهم وتغري حاله وتفاحش أمره والبس الفنت بغري‬
‫تأويل كالوليد بن عقبة وبسر بن أرطأة»‪.‬‬
‫الصحابة كغريهم‪ .‬وعقَّب‬
‫وحكى السيد صارم الدين الوزير عن الباقالين‪ :‬أن َّ‬
‫اجلالل عليه بقوله‪ :‬وهو احلق‪ ،‬وما ورد فيهم من أحاديث الفضائل فخاصة‬
‫للنوع‪ ،‬وقد علمت أنه ال جيب انعكاسها‪.‬‬
‫أما العالمة املقبلي فاستنكر إطالق احلكم بعدالة كل الصحابة‪ ،‬وقال‪« :‬لكن‬
‫املتسمني بأهل السنة اصطلحوا على مسمى الصحبة‪ ،‬مث حلوا الثناء يف الكتاب‬
‫والسنة على اصطالحهم‪ ،‬مث جعلوا معىن الصحبة أن ال يضر معها ذنب‪،‬‬
‫تلفيقات مل يدل عليها دليل إال اهلوى يف األول واهلوى والتقليد يف اآلخر‪،‬‬
‫ومقابلة غالة الشيعة بغلو مثله»‪.‬‬
‫وهو ما تقضي به نصوص بعض العلماء احملققني من أهل السنة؛ فقد حكى‬
‫الصحابة‬
‫ابن حجر عن حممد بن علي املازري أنه قال‪« :‬لسنا نعين بقولنا‪َّ :‬‬
‫عدول؛ كل من رأى النيب صىل اهلل عليه وسلم يوماً‪ ،‬أو زاره ملاماً ‪ -‬أي نادراً ‪-‬‬
‫أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب‪ ،‬وإمنا نعين به الذين الزموه وعزروه‬
‫ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه‪ ،‬أولئك هم املفلحون»‪.‬‬
‫الصحابة عدول يف الظاهر ما مل يأت له‬
‫ونص اإلمام الرازي على‪ :‬أن َّ‬
‫معارض‪ ،‬وحكى ذلك عن أهل السنة‪.‬‬
‫ومل ينكر الشيخ ابن تيمية هذا التوجه‪ ،‬وحكى عن أهل السنة‪ :‬أهنم «ال‬
‫الصحابة معصوم عن كبائر اإلمث وصغائره‪ ،‬بل جتوز‬ ‫يعتقدون أن كل واحد من َّ‬
‫عليهم الذنوب يف اجلملة»؛ فجمع بني احلكـم بالعدالة والوقوع يف اخلطأ مفرتضاً‬
‫أن ذنوهبم مغفورة جبانب فضلهم‪ ،‬وأضاف أن «القدر الذي ينكر من فعل‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪76‬‬

‫بعضهم قليل نـْزٌر مغمور يف جنب فضائل القوم وحماسنهم‪ ،‬من اإلميان باهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬واجلهاد يف سبيله‪ ،‬واهلجرة والنصرة‪ ،‬والعلم النافع‪ ،‬والعمل الصاحل»‪.‬‬
‫ذنب‪ ،‬فإنه يكون قد تاب‬‫الصحابة ٌ‬ ‫وأضاف‪« :‬وإذا كان قد صدر من أحد َّ‬
‫منه‪ ،‬أو أتى حبسنات متحوه‪ ،‬أو غفر له بفضل سابقته‪ ،‬أو بشفاعة حممد صىل‬
‫اهلل عليه الذي هم أحق الناس بشفاعته‪ ،‬أو ابتلي ببالء يف الدنيا َّ‬
‫كفر به عنه»‪.‬‬
‫الصحابة رضي هللا‬
‫وهذا كالم حسن؛ غري أننا وإن كنا ال ننكر استحقاق َّ‬
‫عنهم التوفيق واللطف اإلهلي‪ ،‬فإنه ال ميكننا القطع بالتالزم بني الصحبة والتوفيق‪،‬‬
‫ليكون ذلك ضربا من احلصانة‪ ،‬وضمانا من العقوبة‪ ،‬والسيما أنه قد صح عن‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪« :‬إن أناساً من أصحايب يؤخذ هبم ذات‬
‫الشمال‪ ،‬فأقول‪ :‬أصحايب أصحايب‪ ،‬فيقول‪ :‬إهنم مل يزالوا مرتدين على أعقاهبم‬
‫منذ فارقتهم‪ .‬فأقول ‪ -‬كما قال العبد الصاحل يعين عيسى عليه السالم ‪:-‬‬
‫ْ َ َ َّ َ َ َّ ْ َ ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ ح ْ ح َ َْ َ ً َ ح ْ‬
‫َعٌ‬
‫تٌ ٌ‬ ‫ِيبٌعلي ِه ٌمٌوٌأن ٌ‬
‫تٌالرق ٌ‬
‫تٌأن ٌ‬
‫نٌكن ٌ‬
‫ِيه ٌمٌفلماٌتوفيت ِ ٌ‬ ‫تٌعلي ِه ٌْمٌش ِهيداٌماٌدم ح ٌ‬
‫تٌف ِ‬ ‫﴿وكن ٌ‬
‫كٌ َ ْ‬
‫َش رٌٌُ َش ِهيد﴾ٌ[املائدة‪.]117/‬‬ ‫ٌ‬
‫ح ِّ‬

‫وهذا يدل على أن املذكورين يف احلديث واملوصوفني بأهنم من صحابة النيب‬


‫صلى هللا عليه وآله وسلم مل يوفقوا على الرغم من صحبتهم‪ ،‬ومعرفة النيب هلم‪،‬‬
‫بل دعا عليهم كما يف بعض الروايات فقال‪ُ « :‬س ْح ًقا ُس ْح ًقا لِم ْن غيَّـر بـ ْع ِدي»‪.‬‬
‫وروى مسلم عن قيس بن عبَّاد‪ :‬أن عمار بن ياسر قال له‪ :‬إن حذيفة أخربين‬
‫عن النيب صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪« :‬يف أصحايب اثنا عشر منافقاً‪ ،‬فيهم‬
‫مثانية ال يدخلون اجلنة حىت يلج اجلمل يف س ِم اخلِياط»‪.‬‬
‫وهذا يعين أن إطالق قاعدة حسن الظن مبن ظاهره الصالح‪ ،‬ال تعين أنه ال‬
‫بد أن يكون يف الواقع كذلك‪ ،‬أو يلزم القطع على الغيب بنجاته‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫وروى البخاري عن سهل بن سعد‪ :‬كان يف املسلمني رجل ال يدع من‬


‫املشركني شاذة وال فاذة إال اتبعها فضرهبا بسيفه‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما أجزأ‬
‫أحد ما أجزأ فالن‪ ،‬فقال‪« :‬إنه من أهل النار»‪ ،‬فقالوا‪ :‬أينا من أهل اجلنة إن‬
‫كان هذا من أهل النار؟ فتبعوه فوجدوه أصيب جبراح‪ ،‬فلم حيتمل فـقتل نفسه‪.‬‬
‫مث قال رسول هللا‪« :‬إن الرجل ليعمل عمل أهل اجلنة‪ ،‬فيما يبدو للناس‪ ،‬وهو‬
‫من أهل النار‪ ،‬وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار‪ ،‬فيما يبدو للناس وهو من أهل‬
‫اجلنة»‪.‬‬

‫وعنون البيهقي‪« :‬باب ما روي يف إخباره نفراً من أصحابه بأن آخرهم موتاً‬
‫يف النار»‪ .‬مث روى عن أيب هريرة أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال لعشرة‬
‫من أصحابه‪« :‬آخركم موتاً يف النار»‪ ،‬فكان سرة بن جندب آخرهم موتاً‪.‬‬
‫وجاء عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬أن «قاتل عمار وسالبه يف النار»‪.‬‬
‫قال مسلم يف الكىن‪ :‬أبو الغادية يسار بن سبيع قاتل عمار‪ ،‬له صحبة‪ .‬وقد‬
‫أخرب النيب أنه من أهل النار‪ ،‬والواجب تصديق خربه‪ ،‬وإال كان كالمه جمرد لغو‪،‬‬
‫إن قال‪ :‬هو يف النار‪ ،‬وقلنا‪ :‬بل هو عدل من أهل اجلنة‪ ،‬وهللا تعاىل يقول‪:‬‬
‫َ َ ْ َ َ َ ح َ َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ح ْ ح ْ ً ح َ َ ِّ ً َ َ َ ح ح َ َ َّ ح َ ً َ َ‬
‫الاٌفِيهاٌ َوغ ِض َ ٌ‬
‫بٌاهللٌعلي ٌِهٌ َولعن ٌهٌ َوأع ٌدٌ‬ ‫لٌمؤمِناٌمتعمدا ٌفجزاؤٌهٌجهن ٌمٌخ ِ ٌ‬ ‫ن ٌيوت ٌ‬ ‫﴿و م ٌ‬
‫َ َ‬
‫ٌلحٌ َعذابًاٌ َع ِظ ًيما﴾ [النساء‪.]93/‬‬
‫وروى مسلم عن جابر بن عبد هللا‪ ،‬قال‪ :‬أتى رجل رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ضة‪ ،‬ورسول هللا صلى هللا‬‫وسلم باجلعرانة منصرفه من حنني‪ ،‬ويف ثوب بالل فِ َّ‬
‫عليه وسلم يقبض منها‪ ،‬يعطي الناس‪ ،‬فقال‪ :‬يا حممد‪ ،‬اعدل‪ ،‬قال‪« :‬ويلك‬
‫ومن يعدل إذا مل أكن أعدل؟! فقال عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه‪ :‬دعين‪ ،‬يا‬
‫رسول هللا فأقتل هذا املنافق‪ ،‬فقال‪« :‬معاذ هللا‪ ،‬أن يتحدث الناس أين أقتل‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪78‬‬

‫أصحايب‪ .‬إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن‪ ،‬ال جياوز حناجرهم‪ ،‬ميرقون منه كما‬
‫ميرق السهم من الرمية»‪.‬‬
‫ويف رواية ألحد بن حنبل عن أيب برزة‪ ،‬يف وصف الرجل‪ ،‬أنه كان عليه ثوبان‬
‫أبيضان بني عينيه أثر السجود‪.‬‬
‫وجاء أيضاً أن احلكـم بن أيب العاص األموي‪ ،‬كان يؤذي النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم ويستهزئ به‪ ،‬ويتجسس عليه مع نسائه‪ ،‬فلعنه النيب ونفاه خارج‬
‫ُّ ْ َ َ ْ‬ ‫َّ َّ َ ح ْ ح َ َّ َ َ ح َ َ َ َ ح َّ ح‬
‫اٌواْلخ ٌَِرةٌِ‬ ‫ٌو َرسولحٌلعنه حمٌاَّلل ٌِفٌالني‬‫املدينة‪ .‬وهللا تعاىل يقول‪﴿ :‬إِنٌاَّلِينٌيؤذونٌاَّلل‬
‫َ َ َ َّ َ ح ْ َ َ ً ح‬
‫اٌم ِه ًينا﴾ [األحزاب‪.]57/‬‬ ‫وأعدٌلهمٌعذاب‬

‫وروى ابن عبد الرب عن عائشة أهنا قالت ملروان بن احلكـم‪« :‬أما أنت يا‬
‫مروان فأشهد أن رسول هللا لعن أباك وأنت يف صلبه»‪ .‬واللعن يعين‪ :‬الطرد من‬
‫رحة هللا‪ ،‬ورسول هللا ال يلعن مؤمناً‪.‬‬
‫الصحابة بفضل‬ ‫وهذا يتناىف مع القول بفرضية الغُفران لكل واحد من َّ‬
‫الصحبة‪ ،‬خاصة مع القول بأن كل مسلم أدرك النيب فهو صحايب باملعىن الشرعي‬
‫الذي يوجب له ميزة خاصة‪ ،‬وهذا ما أدركه الشيخ ابن تيمية نفسه فقال‪« :‬إن‬
‫الرجل العظيم يف العلم والدين من الصحابة والتابعني ومن بعدهم إىل يوم القيامة‪،‬‬
‫أهل البيت وغريهم‪ ،‬قد حيصل منه نوع من االجتهاد مقروناً بالظن ونوع من‬
‫اهلوى اخلفي‪ ،‬فيحصل بسبب ذلك ما ال ينبغي اتباعه فيه‪ ،‬وإن كان من أولياء‬
‫هللا املتقني‪ .‬ومثل هذا إذا وقع يصري فتنة لطائفتني؛ طائفة تعظمه‪ ،‬فرتيد تصويب‬
‫ذلك الفعل واتباعه عليه‪ ،‬وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً يف واليته وتقواه‪ ،‬بل‬
‫يف بره وكونه من أهل اجلنة‪ ،‬بل يف إميانه حىت خترجه عن اإلميان‪ .‬وكال هذين‬
‫الطرفني فاسد‪ .‬واخلوارج والروافض وغريهم من ذوي األهواء دخل عليهم الداخل‬
‫‪79‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫من هذا‪ .‬ومن سلك طريق االعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووااله‬
‫وأعطى احلق حقه‪ ،‬فيعظم احلق ويرحم اخللق‪ ،‬ويعلم أن الرجل الواحد تكون له‬
‫حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب‪ ،‬وحيب من وجه ويبغض من‬
‫وجه‪ .‬هذا هو مذهب أهل السنة واجلماعة خالفاً للخوارج واملعتزلة ومن‬
‫وافقهم»‪.‬‬
‫ويؤيد كالم الشيخ ابن تيمية ما روى البخاري ومسلم عن عائشة يف قصة‬
‫اإلفك قالت‪« :‬فقام سعد بن معاذ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أنا وهللا أعذرك منه إن‬
‫كان من األوس ضربنا عنقه‪ ،‬وإن كان من إخواننا من اخلزرج أمرتنا‪ ،‬ففعلنا فيه‬
‫أمرك‪ ،‬فقام سعد بن عبادة ‪ -‬وهو سيد اخلزرج‪ ،‬وكان قبل ذلك رجالً صاحلاً‬
‫ولكن احتملته احلمية ‪ -‬فقال‪ :‬كذبت لعمر هللا ال تقتله‪ ،‬وال تقدر على ذلك‪،‬‬
‫فقام أسيد بن حضري فقال‪ :‬كذبت لعمر هللا‪ ،‬وهللا لنقتلنه‪ ،‬فإنك منافق جتادل‬
‫عن املنافقني‪ ،‬فثار احليان األوس واخلزرج حىت مهوا‪ ،‬ورسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم على املنرب‪ ،‬فنزل فخفضهم حىت سكتوا»‪.‬‬
‫كان هذا حال خيارهم مع رسول هللا فكيف بغريهم بعده؟ على أن ذلك‬
‫من األخطاء اليت تغتفر بالتوبة والعمل الصاحل‪.‬‬
‫أما من يصر على أن قاعدة تعديل الصحابة تشمل من وقع يف املعاصي فال‬
‫تساعده األدلة‪ ،‬ومل تُ ْستسغ دعواه حىت ألتباع مدرسته‪ ،‬ففي معرض كالم األلباين‬
‫على حديث قاتل عمار قال‪« :‬قال احلافظ ابن حجر يف آخر ترمجته من‬
‫(اإلصابة) بعد أن ساق احلديث‪ ،‬وجزم ابن معني بأنه قاتل عمار‪" :‬والظن‬
‫بالصحابة يف تلك احلروب أهنم كانوا فيها متأولني‪ ،‬وللمجتهد املخطئ أجر‪،‬‬
‫وإذا ثبت هذا يف حق آحاد الناس‪ ،‬فثبوته للصحابة بالطريق األوىل"‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪80‬‬

‫وأقول (= األلباين)‪ :‬هذا حق‪ ،‬لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل؛‬
‫ألنه يلزم تناقض القاعدة املذكورة مبثل حديث الرتمجة؛ إذ ال ميكن القول بأن أبا‬
‫غادية القاتل لعمار مأجور ألنه قتله جمتهداً‪ ،‬ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫يقول‪" :‬قاتل عمار يف النار"! فالصواب أن يُقال‪ :‬إن القاعـدة صحيحـة‪ ،‬إال ما‬
‫دل الدليل القاطـع على خالفها‪ ،‬فيُستثىن ذلك منها كما هو الشأن هنا‪ ،‬وهذا‬
‫خري من ضرب احلديث الصحيح هبا»‪.‬‬
‫ومل يستسغ العالمة ابن األمري الصنعاين قول ابن حجر عن مروان بن احلكم‪:‬‬
‫«يقال‪ :‬له رؤية‪ ،‬فإن ثبتت‪ ،‬فال يعرج على من تكلم فيه»‪ ،‬فقال‪« :‬هو حمل‬
‫التعجب‪ .‬كادت الرؤية جتاوز حد العصمة‪ ،‬وان ال ُجيرح بقتل نفس معصومة وال‬
‫غريها من املوبقات»‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬ولو اقتصر يف العذر لرواية البخاري وغريه عنه مبا نقله عن عروة‬
‫أن مروان باغ كان ال يتهم يف احلديث؛ لكان أقرب وأن العمدة حتري الصدق‪،‬‬
‫وأما اعتذاره بأنه قتل طلحة متأوالً‪ ،‬فعذر ال يبقى معه لعاص معصية‪ ،‬بل يدعي‬
‫له التأويل‪ ،‬وهو كتأويل من تأول ملعاوية يف فواقره أنه جمتهد أخطأ يف اجتهاده‪،‬‬
‫مع أنه قد نقل العالمة العامري اإلمجاع على أنه باغ‪ ،‬والباغي غري جمتهد يف بغيه‪،‬‬
‫وإال ملا سي باغياً»‪.‬‬
‫وقال العالمة املقبلي‪« :‬قالوا الثناء على الصحابة يفيد التعديل‪ ،‬مث اصطلحوا‬
‫فجعلوا الصحايب من رأى‪ ،‬مث غل ْو فجعلوا الصحبة كالعصمة‪ ،‬فلذا روى البخاري‬
‫عن مروان‪ ،‬وقال العسقالين ‪ -‬يف االعتذار له ‪ :-‬إن ثبتت الصحبة فال كالم»‪.‬‬
‫الصحابة‪ ،‬ويرفع من شأهنم على‬ ‫وإذاٌاكنٌقد ورد يف القرآن ما يشيد مبكانة َّ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫حَ‬ ‫َ َّ ح َ ْ َ َّ ح َ‬
‫ارٌ‬ ‫ج ِر ٌَ‬
‫ين ٌ َواْلنص ٌِ‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫الـم‬‫ٌ‬ ‫ٌ‬‫ون ٌم َ‬
‫ِن‬ ‫ٌ‬ ‫جهة العموم‪ ،‬كقول هللا تعاىل‪﴿ :‬والسابِو ٌ‬
‫ون ٌاْلول‬
‫‪81‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬
‫ََْ َ‬ ‫َْ‬ ‫ح َ ْ ح َ َ َّ َ ح ْ َ َّ‬ ‫َْحْ‬ ‫َ َّ َ َّ َ ح ح ْ ْ َ‬
‫ض ٌاهلل ٌعنه ٌم ٌ َو َرضوا ٌعن ٌه ٌ َوأع ٌد ٌله ٌم ٌجن ر ٌ‬
‫ات ٌَت ِري ٌَتتهاٌ‬ ‫ان ٌ َر ِ ٌَ‬
‫ِين ٌاتقعوه ٌم ٌبِإِحس رٌ‬
‫واَّل ٌ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ َْ ح َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ ًَ‬ ‫ْ َْ َ ح َ‬
‫يم﴾ [التوبة‪.]100/‬‬ ‫ِكٌالفو ٌزٌالع ِظ حٌ‬ ‫ِينٌفِيهاٌأبداٌذل ٌ‬ ‫ال ٌ‬‫ارٌخ ِ‬
‫اْلنه ٌ‬

‫فـإنـه قد ورد ما يدل على لوم بعضهم على خطأ أو تقصري‪ ،‬كقوله تعاىل‪:‬‬
‫َْْ‬ ‫َ ْ َ ح ْ َ ح ُّ َ ح ْ ْ َ َّ َ َ ْ ح ْ َ َ َ ْ ح ْ‬ ‫ََ ْ َ َ َ ح‬
‫ف ٌاْلم ٌِرٌ‬ ‫﴿ َولو ٌد ٌصدقك حٌم ٌاهلل ٌوعد ٌه ٌإ ِ ٌذ ٌَتسونه ٌم ٌبِإِذن ِ ٌِه ٌح ٌ‬
‫ّت ٌإِذا ٌف ِشلت ٌم ٌ َوتنازعت ٌم ٌ ِ ٌ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ْ ح ْ ْ َ ْ َ َ َ ح ْ َ ح ُّ َ ْ ح ْ َ ْ ح ح ُّ ْ َ َ ْ ح ْ َ ْ ح ح ْ‬
‫يدٌاْلخ َِر ٌةٌ‬
‫نٌي ِر ٌ‬ ‫يدٌالنياٌومِنك ٌمٌم ٌ‬ ‫نٌي ِر ٌ‬
‫ونٌمِنك ٌمٌم ٌ‬ ‫ِنٌبع ٌِدٌماٌأراك ٌمٌماٌَتِق ٌ‬ ‫وعصيت ٌمٌم ٌ‬
‫حْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ح َّ َ َ َ ح ْ َ ْ ح ْ ْ َ َ ح ْ َ ْ َ َ َ ْ ح ْ‬
‫َ‬
‫َع ٌالـمؤ ِمنِني﴾[آل‬ ‫لٌ ٌ‬ ‫َصفك ٌم ٌعنه ٌم ٌ ِِلَبتلِيك ٌم ٌ َول ٌو ٌد ٌعفا ٌعنك ٌم ٌ َواهلل ٌذو ٌفض رٌ‬ ‫ث ٌم ٌ‬
‫عمران‪.]152/‬‬

‫وهذا يبني أن يف الصحابة الفاضل واألفضل‪ ،‬وفيهم املقصر واملسيء‪ ،‬كل‬


‫على حسب ما ثبت عنه من مواقف وتصـرفات؛ إ ْذ مل يرد يف الشـرع ما يدل‬
‫على عصمتهم‪ ،‬أو استثنائهم من التكليف العام لسائر الناس‪ ،‬وسيجثو اجلميع‬
‫ْ َ َّ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬
‫ِينٌٌأ َس ح‬
‫اُواٌ‬ ‫فٌاْل ْر ِ ٌ‬
‫ضٌ ِِلَج ِز ٌ‬
‫يٌاَّل ٌ‬
‫َ‬
‫اتٌ َوماٌ ِ ٌ‬ ‫الس َم َ‬
‫او ٌِ‬ ‫فٌ‬
‫َ َّ َ‬
‫بني يدي هللا للحساب ﴿و ِ ٌ‬
‫َّللٌِماٌ ِ ٌ‬
‫ْ‬ ‫َ َ ح َ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫اِل ْسىن﴾ [النجم‪]31/‬؛ غري أنه ال جيوز تقصدهم‬ ‫ِين ٌأ ْح َس حنوا ٌب ح‬
‫ِ‬ ‫ي ٌاَّل ٌ‬
‫بِما ٌع ِملوا ٌو َي ِز ٌ‬
‫بالنقد والتجريح وتتبع العورات‪ ،‬فإذا كنا نرجو الرحة واملغفرة لسائر املذنبني‪،‬‬
‫فكيف بالسابقني األولني‪.‬‬

‫وقد أحسن الشيخ العالمة حيىي بن أيب بكر العامري (املتوىف‪893 :‬هـ) رحه‬
‫صني متديِن مساحمة الصحابة فيما صدر بينهم من‬ ‫لكل ِ‬‫هللا يف قوله‪« :‬ينبغي ِ‬
‫التشاجر واالعتذار عن خمطئهم وطلب املخارج احلسنة هلم وتسلِيم صحة إمجاع‬
‫احلاضر يرى ما ال يرى‬ ‫ما أمجعوا عليه على ما علموه‪ ،‬فهم أعلم باحلال‪ ،‬و ُ‬
‫االعتذار عن املعايب‪ ،‬وطريقةُ املنافقني تتبُّ ُع املثالب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الغائب‪ ،‬وطريقةُ العارفني‬
‫وإذا كان الالَّ ُزم من طريقة الدين سرتُ عورات املسلمني فكيف ُّ‬
‫الظن بصحابة‬
‫خامت النبيني‪ .‬هذه طريقةُ صلحاء السلف وما سواها مهاو وتـلف»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪82‬‬

‫وليس للشيعة االعرتاض على أن صحبة النيب فضيلة يرجى هبا حسن اخلامتة؛‬
‫ألهنم يزعمون أن أصحاب أهل البيت ناجون بفضيلة صحبتهم‪ ،‬ويروون أن‬
‫رسول هللا قال‪ :‬حب علي يأكل السيئات كما تأكل النار احلطب‪ .‬وقال‪ :‬ما‬
‫من عبد وال أمة ميوت ويف قلبه مثقال حبة من خردل من حب علي إال أدخله‬
‫هللا اجلنة‪.‬‬
‫وبعض أصحابنا الزيدية يرون أن يف حمبة أهل البيت سراً للتوفيق اإلهلي‪،‬‬
‫ويستدلون بروايات منها‪« :‬ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إال ثبتته أخرى‬
‫حىت جيوز الصراط»‪ ،‬ومنها‪« :‬من مات على حب آل حممد مات شهيداً‪ ،‬أال‬
‫ومن مات على حب آل حممد مات مغفوراً له‪ ،‬أال ومن مات على حب آل‬
‫حممد مات مؤمناً مستكمل اإلميان»‪ .‬فلم ال جيرى أمر التوفيق والتسديد اإلهلي‬
‫ملن تشرف بصحبة النيب وأحبه؟!‬

‫السبب الثالث‪ :‬الخلل في مناهج البحث‬


‫حيتاج الباحث يف أي مسألة حساسة ومتشعبة إىل منهج حبثي مميز‪ ،‬يقوم‬
‫ت يف النقل‪ ،‬وجودةٌ يف الفهم‪ ،‬ودقةٌ يف احلكـم؛‬
‫على ثالثة مبادئ مهمـة؛ هي‪ :‬تـثبُّ ٌ‬
‫فإذا اختل شيء من ذلك ظهرت آثار اخللل يف نتائج البحث‪ ،‬بقدر بعده عن‬
‫املنهج السليم‪.‬‬
‫ٌَّ‬ ‫أماٌاتلَّـ‬
‫ثقتٌفٌانلـول‪ٌ،‬فيتم بالتأكد من صحة الروايات اليت حتكي أحداثاً‬ ‫ٌ‬
‫تقوم يف ضوئها أحكام عملية كالوالء والرباء‪ ،‬بالرجوع إىل القواعد العلمية‬
‫املتعارف عليها عند ذوي االختصاص من احملدثني واألصوليني‪ ،‬كوجود األسانيد‬
‫وصحتها وتعدد طرقها وكثرة شواهدها ورواهتا‪.‬‬
‫مث تقدمي ما هو صحيح ثابت مشهور‪ ،‬على ما يرويه اآلحــاد أو يتداوله‬
‫‪83‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫الضعفاء وأصحاب األهواء واملتعصبني‪ ،‬فليس كل خرب يرويه راو‪ ،‬أو قصة حيكيها‬
‫مؤرخ يتعني قبوهلا‪ ،‬واختاذ املواقف يف ضوئها‪ ،‬وإن كانت مكررة يف الكتب؛ ألن‬
‫كثرياً من املؤلفني اعتادوا النقل من كتب غريهم عند املوافقة دون تدقيق يف صحة‬
‫النقل؛ إذ املهم ‪ -‬عند بعضهم ‪ -‬أن احلكاية قد ذُكرت‪ ،‬وهذا ما مكن كثرياً‬
‫من الروايات الضعيفة واملوضوعة من تأسيس مواقف الغلو والقطيعة والتطرف‪.‬‬

‫ومن التثبت يف النقل معرفة سياقات النصوص وظروفها‪ ،‬وأوجه ما ثبت من‬
‫األفعال عن أي شخص ‪ -‬صحابياً كان أو غريه ‪ -‬فال حيمل كل خالف أو‬
‫عتاب أو لوم أو خصومة على العداوة أو الرباءة‪ ،‬وال يستنتج من ذلك حكماً‬
‫بالكفر أو الفسق؛ ألن النزاع والوفاق يف مثل ذلك واقع بني الفضالء حىت بني‬
‫َ‬ ‫ََ َ َ َْ َ‬
‫سٌأخِي ٌِهٌَيح ُّرٌهحٌ‬ ‫األنبياء صلوات هللا عليهم‪ ،‬فقـد وبَّخ مـوسى أخـاه هارون ﴿وأخ ٌذٌبِرأ ِ ٌ‬
‫َ ح‬ ‫َ َ ْ َ ح َّ َّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ح‬ ‫َ‬
‫ونٌ َوَكدواٌ‬ ‫نٌالو ْو ٌمٌاستضعف ِ ٌ‬ ‫نٌأ ٌمٌإ ِ ٌ‬ ‫إ ِ ِْل ٌِه﴾‪ ،‬فكشف له هارون عن وجه تصرفه ﴿ق ٌ‬
‫الٌاب ٌ‬
‫َّ‬ ‫َْ ح ح َ ََ حْ ْ َ ْ َ ْ َ َ ََ َْ َ ْ َ َ َْ‬
‫ني﴾[األعراف‪ .]150/‬فلما‬ ‫ن ٌم ٌع ٌالو ْو ٌِم ٌالظال ِ ِم ٌَ‬ ‫ال ٌَتعل ِ ٌ‬
‫اُ ٌو ٌ‬
‫يب ٌاْلعد ٌ‬
‫تٌ ِ ٌ‬
‫ل ٌتش ِم ٌ‬‫ن ٌف ٌ‬ ‫يوتلون ِ ٌ‬
‫َْ َ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِّ‬ ‫َ‬
‫كٌ‬ ‫فٌ ٌَرَحتِ ٌ‬ ‫لٌ َو ِْل ِ ٌ‬
‫خٌ َوأ ٌدخِلناٌ ِ ٌ‬ ‫بٌاغ ِف ٌْرٌ ِ ٌ‬‫الٌ َر ٌ‬
‫عرف موسى ذلك رجع عن غضبـه‪ ،‬ف ـ﴿ق ٌ‬
‫ِني﴾ٌ[األعراف‪]151/‬؛ فاالختالف واخلصومة ال يقتضي العداوة وال‬ ‫اَح ٌَ‬‫ت ٌ َأ ْر َح حٌم ٌ َّ‬
‫الر ِ‬ ‫َْ َ‬
‫َوأن ٌ‬
‫يعين االستمرار إىل ما ال هناية‪.‬‬

‫منه أيضاً انتقاء املواقف واألقوال حسب اهلوى وجمافاة املوضوعية‪ ،‬حيث يقوم‬
‫الباحث بعرض ودراسة ما يوافق هواه وحيقق مراده من النصوص واملواقف‬
‫ويتجاهل ما سوى ذلك‪ ،‬فيمسك بكالم ورد عن شخص يف هذه املسألة أو‬
‫تلك‪ ،‬ويتجاهل عشرات النصوص الواردة عنه يف املسألة نفسها‪ ،‬أو يردد رواية‬
‫واحدة عن شخص قد تكون مغمورة‪ ،‬ويتجاهل مجيع النصوص الثابتة عنه يف‬
‫املسألة نفسها‪ ،‬أو يعتمد على كتاب أو راو أو عامل ويثين عليه عندما يوافق هواه‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪84‬‬

‫يف حني يتجاهله عند أي خمالفة‪.‬‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫وأماٌج ْـودةٌالفـهم‪ٌ،‬فاملراد هبا استيعاب الفكرة مبختلف أسباهبا‪ ،‬وتقدميها بعد‬
‫ذلك بتجرد دون أن يصبغها مبشاعره أو يدفعها حنو هواه‪ ،‬ويساعد على ذلك‬
‫أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫* التفريق بني املصطلحات واستعمال كل مصطلح فيما وضع له‪ ،‬حىت ال‬
‫ينتقد شيئاً أو يُصدر ‪ -‬يف ضوئه ‪ -‬حكماً‪ ،‬وهو ‪ -‬يف الواقع ‪ -‬يريد شيئاً آخر‪،‬‬
‫كالتفريق بني العدالة املقصود هبا االستقامة يف الدين‪ ،‬والعدالة املقصود هبا جودة‬
‫احلفظ ودقة الرواية‪.‬‬
‫* حتييـد عواطـف ومشاعر االنتماء اليت تنشأ يف ظـل املـوروث املذهيب‬
‫واالجتماعي؛ ألهنا غالباً ما تشوش رؤية احلقيقة‪ِ ،‬‬
‫وترجح ما يسبق إىل العاطفة‬
‫على ما يقضي به العقل والدليل‪ ،‬وتصنع ردود فعل وجدل بني املختلفني‪.‬‬
‫* جتنب تفسري النوايا ودعوى معرفة املقاصد؛ ألن ذلك غيب ال يعلمه إال‬
‫هللا‪ ،‬والقرائن واملؤشرات ‪ -‬اليت يدعي الباحث املتحيز ظهورها‪ -‬غالباً ما تأيت‬
‫نتيجة تعصبات غري نزيهة‪ ،‬ومع ذلك ال تكشف القرينة ‪ -‬مع سالمتها ‪ -‬عن‬
‫حقيقة االعتقاد‪ ،‬وإن ساعدت على فهم ظاهر املراد‪.‬‬
‫َّ‬
‫وأماٌدقـةٌاِلـكـم‪ٌ،‬فتأيت بعد تصحيح نقل املعلومة وجتويد فهمها‪ ،‬ومعرفة‬
‫ظروفها ويلزم لنجاح التدقيق يف احلكـم أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫* التفريق بني ذنب وذنب‪ ،‬وخطأ وخطيئة‪ ،‬فليس كل ذنب يوجب هالك‬
‫َ َْ ح َ ْ حْ َ َ‬ ‫َّ‬
‫كٌب ِ ٌِهٌ‬
‫ْش ٌ‬ ‫ن ٌي‬
‫الٌ ٌيغ ِف ٌرٌأ ٌ‬ ‫صاحبه‪ ،‬وتلزم بسببه الرباءة؛ ألن هللا تعاىل يقول‪﴿ :‬إ ِ ٌ‬
‫نٌاهللٌ ٌ‬
‫ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫ََْ ح َ ح َ َ َ َ ْ ََ ح َ َ ْ حْ‬
‫ْش ٌْك ٌبِاهلل ٌفو ٌِد ٌاف َ ََتى ٌإِث ًٌما ٌ َع ِظ ًيما﴾ [النساء‪،]48/‬‬
‫ن ٌي ِ‬
‫اُ ٌوم ٌ‬
‫ن ٌي ش ٌ‬
‫ِك ٌل ِم ٌ‬
‫ون ٌذل ٌ‬
‫ويغ ِف ٌر ٌما ٌد ٌ‬
‫‪85‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬
‫َ َْ َ َ َْ ح ْ ح َ‬
‫سٌعليك ٌمٌجناحٌٌ‬ ‫وليس الوقوع يف الذنب خطأ كارتكابه تعمداً‪ ،‬فاهلل يقول‪﴿ :‬ولي ٌ‬
‫َ ح ً َ ً‬ ‫َ َ ْ َ ْ ح ْ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ ح ح ح ح ْ َ َ‬
‫ِيما﴾ [األحزاب‪.]5/‬‬ ‫تٌقلوبك ٌمٌ َوَك ٌ‬
‫نٌاهللٌغفوراٌرح‬ ‫نٌماٌتعمد ٌ‬‫كٌ‬
‫فِيماٌأخطأت ٌمٌب ِ ٌِهٌول ِ‬

‫* استصحاب ما للمحكوم عليه من الصحابة من سابقة خري ومواقف‬


‫عظيمة‪ ،‬كاستصحاب ما لبعض الصحابة ‪ -‬الذين وقعوا يف األخطاء ‪ -‬من‬
‫سابقة إىل اإلسالم‪ ،‬وصرب على األذى‪ ،‬وجهاد يف سبيل إعالء كلمة هللا‪،‬‬
‫واستحضار فضل صحبة الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬والصالة معه‬
‫واجللوس بني يديه والتأمني على دعائه‪ ،‬فإن لذلك بركة خاصة‪ ،‬وفيه لطف من‬
‫َ‬ ‫ح َ َ َ ح ْ َّ‬ ‫َ َ َ‬
‫انلَّ ِ ٌ‬
‫اسٌل َر حُوفٌٌ‬ ‫نٌاهللٌب ِ ٌ‬
‫يعٌإِيمانك ٌمٌإ ِ ٌ‬
‫نٌاهللٌ ِِل ِض ٌ‬‫هللا كبري‪ ،‬وهللا تعاىل يقول‪َ ﴿ :‬وماٌاك ٌ‬
‫َرحِيمٌ﴾ [البقرة‪ .]143/‬فال جيوز إهدار أعمال وفضائل أحد مبجرد الوقوع يف هفوة‬
‫ح ْ ََ ْ َ َْ ح َ ْ ََ ْ‬ ‫ُّ ح َ ْ َ‬
‫أو ذنب فحكمه إىل هللا عز وجل ﴿ َربك ْمٌأعل حمٌبِك ْمٌٌإ ِنٌيشأٌي ْرَحك ْمٌأ ْوٌإِنٌيشأٌ‬
‫ح َ ِّ ْ ح ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ً‬
‫ِيل﴾ [اإلسراء‪.]54 :‬‬
‫ٌوك ٌ‬ ‫يعذبكمٌوماٌأرسلناكٌعلي ِهم‬

‫* التأكد من حال العاصي؛ هل فارق الدنيا وهو مصر على معصيته‪ ،‬أم إنه‬
‫َ ْ َ ح َّ ْ َ َ َ ْ َ‬ ‫ح َّ‬
‫ن ٌعِقا ِد ٌه ٌِ‬
‫عٌ‬‫ل ٌاتلوب ٌة ٌ ٌ‬‫تاب منها؟ ألن هللا أخربنا أنه رحيم باخللق ﴿ َوه ٌَو ٌاَّلِي ٌيوق ٌ‬
‫ََْ َ َْ َح َ‬ ‫َّ ِّ َ‬ ‫َْح َ‬
‫ون﴾ [الشورى‪ .]25/‬فمن ارتكب معصية يف مرحلة‬ ‫اتٌ َويعل حٌمٌماٌتفعل ٌ‬
‫نٌالسيئ ٌِ‬ ‫َويعفوٌع ٌِ‬
‫من مراحل حياته مث تاب عنها قبل املوت؛ فإن هللا قد وعده بقبول التوبة‪ ،‬فال‬
‫جيوز ذمه مبا قد عفا هللا عنه‪ ،‬فضالً عن الرباءة منه أو جترحيه‪ ،‬ولذلك قال هللا‬
‫ْ‬
‫ت ولك ْم ما كسبتُ ْم وال‬
‫ُ‬ ‫ت لها ما كسب ْ‬ ‫تعاىل عن السابقني‪﴿ :‬تلْك أُ َّمة ق ْد خل ْ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ت ْسألون ع َّما َكنُوا ي ْعملون﴾ [البقرة‪ ،]١٣٤/‬ولكن التعصب وحده من يبقي على‬
‫ذنب قد غفره هللا‪.‬‬
‫فإذا تـثبَّت الباحث يف نقله مبراجعة املصادر‪ ،‬وفـرض االحتماالت حىت خيلُص‬
‫إىل ما تطمئن إليه النفس‪ ،‬مث ع ِمل ما جيب عليه من التأمل واملقارنة واستحضار‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪86‬‬

‫السياقات‪ ،‬حىت يبلغ بذلك جودة يف الفهم‪ ،‬مث حترر من نوازع اهلوى‪ ،‬وجتاوز‬
‫الدقة قبل إصدار‬ ‫ردود الفعل وتغلب على التعصب‪ ،‬وبذل ما بوسعه من حتري ِ‬
‫ََْْ َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ‬
‫لحٌ‬
‫لٌ ٌ‬
‫ق ٌاهلل ٌَي ٌع ٌ‬
‫ن ٌيت ٌِ‬‫احلكـم‪ ،‬فإنه سيصل ‪ -‬ال حمالة ‪ -‬إىل نتائج حسنة ﴿وم ٌ‬
‫َْ‬
‫َم َر ًجا﴾ [الطالق‪.]2/‬‬
‫ومن خالل ما تقدم يظهر أن أسباب اخلالف تكمن يف جتاهل ضوابط‬
‫البحث‪ ،‬وعدم استحضارها عند مراجعة املسائل احلساسة ذات األبعاد املختلفة‪.‬‬
‫فقد يكون من احلقائق أن فالناً فعل كذا أو ترك كذا‪ ،‬يف ظل مالبسات معينة‬
‫عاشها هو ومل نعشها حنن حىت نتمكن من احلكم فيها بشكل قاطع‪ ،‬فكثري من‬
‫األمور ختتلف باختالف املوقع الذي يُنظر إليها منه‪ ،‬ويتغري احلكم فيها بعد ساع‬
‫أسباب فعلها أو تركها‪ ،‬ممن فعلها أو تركها‪ ،‬وهذا مما حيتم علينا أن ننظر إىل‬
‫تقييمنا وما خلصنا إليه على أنه حمتمل الصحة واخلطأ‪ ،‬وال ميكن أن نقطع على‬
‫الغيب بشيء منه‪ ،‬فاحلكم هلل وحده‪.‬‬

‫مناظرة العلوي والجويني في شأن الصحابة‬


‫ومن صور اجلدل يف مسألة الصحابة ‪ -‬دون استحضار الضوابط املنهجية‬
‫لتقومي الفكرة وتصحيح النظرة ‪ -‬ما ذكره ابن أيب احلديد من أنه كان يف سنة‬
‫«إحدى عشرة وستمائة» ببغداد يف جملس «النقيب أيب جعفر حيىي بن حممد‬
‫العلوي البصري» وأهنم أتوا على ذكر «املغرية بن شعبة» فاختلف كالم اجلالسني‬
‫عنه‪ ،‬ما أثار جدالً حول جتريح بعض الصحابة وجواز اخلوض يف شأن خالفاهتم‪،‬‬
‫واعرتض «أبو املعايل اجلويين»‪ ،‬على أي كالم يوحي بتجريح أحد من الصحابة‪،‬‬
‫حمتجاً ذلك مبا خالصته‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أثىن عليهم‬
‫عموماً‪ ،‬وحري بنا أن ننزه ألسنتنا عن ما جرى بينهم؛ ألن تلك األحوال قد‬
‫‪87‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫غابت عنا‪ ،‬والواجب أن حيفظ رسول هللا يف أصحابه وأزواجه‪ ،‬مضيفاً أنه ال‬
‫جيب علينا أن نلعن أحداً من املسلمني أو نربأ منه‪ ،‬فاهلل تعاىل ال يقول يوم القيامة‬
‫للمكلف‪ِ :‬مل ملْ تلعن؟ بل قد يقول له‪ :‬مل لعنت؟ وخريٌ لإلنسان عوضاً عن‬
‫اللعن أن يستغفر للمذنبني ويدعو هلم بالرحة أياً كانوا‪.‬‬
‫واستقبح اخلوض فيما جرى بني النيب وبني أهله وبين عمه ونسائه‪ ،‬معترباً‬
‫ذلك مما خيصهم وال شأن ألحد به‪.‬‬
‫وأضاف‪ :‬كان رسول هللا صهراً ملعاوية‪ ،‬وأخته أم حبيبة زوجه‪ ،‬فاألدب أن‬
‫ُحتفظ أم حبيبة وهي أم املؤمنني يف أخيها‪ ،‬وكيف جيوز أن يُلعن من جعل هللا‬
‫َّ ح‬ ‫َ َ‬
‫تعاىل بينه وبني رسوله مودة؟! أليس املفسرون قالوا‪ :‬أنزل قوله تعاىل‪﴿ :‬عَس ٌ‬
‫ٌاَّللٌ‬
‫َ َّ ح َ‬
‫ٌغ حفور َ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ ح ْ ْ ح ْ َ َ َّ ً َ َّ ح َ‬
‫ٌرحِيم﴾ٌ‬ ‫اَّلل ٌقدِير ٌواَّلل‬‫أن ٌَيعل ٌبينكم ٌوبني ٌاَّلِين ٌَعديتم ٌمِنهم ٌمودة ٌو‬
‫[املمتحنة‪ ]7/‬يف أيب سفيان وآله؟!‬
‫وأكد أن مجيع ما تنقله الشيعة من االختالف واملشاجرة بينهم مل يثبت‪ ،‬وما‬
‫كان القوم إال كبين أم واحدة‪ ،‬ومل يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط وال‬
‫وقع بينهم اختالف وال نزاع‪.‬‬
‫مث ذكر ابن أيب احلديد أن «النقيب أبا جعفر» رد عليه بكالم زعم أنه علَّقه‬
‫من كالم وجده لبعض علماء الزيدية‪ ،‬وخالصته‪ :‬أن هللا أوجب معاداة أعدائه‬
‫كما أوجب مواالة أوليائه‪ ،‬وهللا لن يعذرنا إذا قلنا‪ :‬يا رب غاب أمر السابقني‬
‫علينا وقد أتتنا به األخبار‪ .‬أما اللعن فقد أمر هللا تعاىل به وأوجبه ولعن العاصني‪،‬‬
‫واعترب اللعن طاعة يستحق عليها الثواب إذا فُعلت على وجهها‪ .‬أما لو استغفر‬
‫من غري أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن ملا نفعه استغفاره وال قُبل منه؛ ألنه‬
‫يكون عاصياً هلل تعاىل خمالفاً أمره يف إمساكه عمن أوجب هللا تعاىل عليه الرباءة‬
‫منهم‪ ،‬واإلمساك عن لعن هؤالء وأضراهبم يُثري ُشبهة عند كثري من املسلمني يف‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪88‬‬

‫أمرهم‪.‬‬
‫وعن استنكار املعرتضني إدخال أنفسهم يف أمر عثمان والرباءة من قـتـلتِه‬
‫ولعنهم‪ ،‬واخلوض يف تلك األحداث وقد غابت عنهم؛ تساءل‪ :‬كيف مل حتفظوا‬
‫أبا بـكر الصديق يف ابنه حممد بن أيب بكر؟! فإنكم لعنتموه وفسقتموه‪ ،‬وال‬
‫السنة‬
‫حفظتم عائشة أم املؤمنني يف أخيها؟! وكيف صار لعن ظامل عثمان من ُّ‬
‫عندكم؟! ولعن ظامل علي واحلسن واحلسني تكلفاً؟! وكيف مل حيفظوا رسول هللا‬
‫يف ابنته ومجعوا احلطب حلرق دارها؟!‬
‫مث استطرد يف ذكر صور مما جرى من صراع بني الصحابة معترباً ما بدر من‬
‫معاوية وحزبه؛ كعمرو بن العاص واملغرية بن شعبة وأشباههم من خروج على‬
‫اإلمام علي وعصيان له‪ ،‬وتفريق مجاعة املسلمني‪ ،‬مما يوجب العداوة والرباءة‪.‬‬
‫واسرتسل يف استعراض ما روي عن بعض الصحابة من خمالفات وجتاوزات‬
‫سلوكية وفكرية وفقهية؛ معترباً بعضها أخطاء فادحةً وإمثاً مبيناً‪.‬‬
‫مث أطال يف ذكر مناذج من نقد بعض الصحابة بعضهم وكالمهم الشديد يف‬
‫ذلك‪ ،‬مستدالً بذلك على وقوع القبيح منهم وجواز الطعن فيهم‪.‬‬
‫ومبجرد قراءة املتعصبني هلذه املناظرة‪ ،‬جيد كل فريق لنفسه يف طرف منها‬
‫مقنعاً‪ ،‬دون أن يضعها يف ميزان النَّقد العلمي‪ ،‬ويضغط على هواه وجيرب نفسه‬
‫على مراجعة مفرداهتا‪ ،‬ولو عرضها على قواعد تصحيح مناهج البحث لوجد‬
‫تلك الروايات بني أمور‪:‬‬
‫وحلت على وجهها؛ فيجب األخذ هبا‬ ‫إما صحيحة رويت من طرق معتربة‪ُ ،‬‬
‫واإلذعان ملا ورد فيها؛ سواء وافقت هوى النفس أم خالفته‪ ،‬وهذا النوع يف‬
‫املناظرة املذكورة قليل‪.‬‬
‫وإما غري صحيحة تكثَّر هبا املتخاصمون لتأييد مواقفهم؛ فال فائدة للخوض‬
‫‪89‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع‬

‫فيها بتأويل أو تفسري أو رد؛ ألن البناء على ما هو غري صحيح جمرد عبث‬
‫ومضيعة للوقت‪.‬‬
‫وإما صحيحة ال حتتمل ما ُِ‬
‫حلت من تفسري وتأويل مغرض‪ ،‬فال جيوز التلبيس‬
‫هبا على العامة‪ ،‬وإيهام القاصرين بأن ذلك هو الوجه الوحيد الذي حتمل عليه‪.‬‬
‫ومتصرف يف ألفاظها بزيادة أو نقص أو حتريف‪ ،‬لتلبية‬
‫وإما مبتورة عن سياقها ُ‬
‫غرض الناقل يف إفادة املعىن الذي يريد‪.‬‬
‫وقد توىل ابن أيب احلديد ‪ -‬يف تعقيبه على املناظرة ‪ -‬تطبيق جانب من مناهج‬
‫البحث‪ ،‬حيث عقَّب على بعض ما تضمنته‪ ،‬فقال‪« :‬أما ما ذكره (= النقيب‬
‫العلوي) من اهلجوم على دار فاطمة‪ ،‬ومجع احلطب لتحريقها‪ ،‬فهو خرب واحد‬
‫غري موثوق به‪ ،‬وال معول عليه يف حق الصحابة‪ ،‬بل ال يف حق أحد من املسلمني‬
‫ممن ظهرت عدالته‪.‬‬
‫وأما عائشة والزبري وطلحة فمذهبنا أهنم أخطؤوا‪ ،‬مث تابوا‪ ،‬وأهنم من أهل اجلنة‬
‫وأن علياً عليه السالم شهد هلم باجلنة بعد حرب اجلمل‪.‬‬
‫وأما طعن الصحابة بعضهم يف بعض؛ فإن اخلالف الذي كان بينهم يف‬
‫مسائل االجتهاد ال يوجب إمثاً؛ ألن كل جمتهد مصيب‪ ،‬وهذا أمر مذكور يف‬
‫كتب أصول الفقه‪ ،‬وما كان من اخلالف خارجاً عن ذلك فالكثري من األخبار‬
‫ورجح جانب‬ ‫الواردة فيه غري موثوق هبا‪ ،‬وما جاء من جهة صحيحة نُظر فيه ُ‬
‫أحد الصحابيني على قدر منزلته يف اإلسالم‪ ،‬كما يروى عن عمر وأيب هريرة‪.‬‬
‫فأما علي عليه السالم فإنه عندنا مبنزلة الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يف‪:‬‬
‫تصويب قوله‪ ،‬واالحتجاج بفعله‪ ،‬ووجوب طاعته‪ ،‬ومىت صح عنه أنه قد برئ‬
‫من أحد من الناس برئنا منه‪ ،‬كائناً من كان‪ ،‬ولكن الشأن يف تصحيح ما يُروى‬
‫عنه؛ فقد كثر الكذب عليه‪ ،‬وولَّدت العصبية أحاديث ال أصل هلا‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪90‬‬

‫فأما براءته عليه السالم من املغرية وعمرو بن العاص ومعاوية‪ ،‬فهو عندنا‬
‫معلوم‪ ،‬جار جمرى األخبار املتواترة‪ ،‬فلذلك ال يتوالهم أصحابنا‪ ،‬وال يثنون عليهم‬
‫وهم عند املعتزلة يف مقام غري حممود‪.‬‬
‫وحاشا هلل أن يكون عليه السالم ذكر من سلف من شيوخ املهاجرين إال‬
‫باجلميل‪ ،‬والذكر احلسن مبوجب ما تقتضي رئاسته يف الدين‪ ،‬وإخالصه يف طاعة‬
‫رب العاملني‪.‬‬
‫وهذا تلخيص رائع من ابن أيب احلديد ‪ -‬وإن مل يكن كافياً ‪ -‬ففيه تنبيه على‬
‫لزوم مراجعة الروايات وحسن النظر فيها؛ ففي كالم اجلويين املذكور حتكم ومبالغة‬
‫يف النهي عن اخلوض يف شأن الصحابة مطلقاً‪.‬‬
‫ويف كالم العلوي حشو كثري من روايات الغالة والقصاص اليت ال يعتمد‬
‫عليها‪ ،‬وإن وجد لبعضها شواهد يف كتب بعض احملدثني واملؤرخني؛ إذ ال عربة‬
‫مبجرد وجود الرواية يف كتاب فالن أو فالن‪ ،‬حبجة أهنا يف كتاب اخلصم‪ ،‬بل ال‬
‫بد من قرينة تدل على قبول الرواية؛ إما بتصحيحها نصاً وذكر وجه التصحيح‪،‬‬
‫وإما ِ‬
‫بذ ْك ِرها لالحتجاج‪ ،‬مع مراعاة الفرق بني ما ي ِرد حجة وما يرد شاهدا‪ ،‬فال‬
‫يكفي القول إهنا وردت يف كتب اخلصوم‪.‬‬
‫فكثرياً ما يقع بعض الكتاب يف هذا اخلطأ‪ ،‬فيذكر أن تلك الرواية أو هذه‬
‫مذكورة يف الكتاب الفالين على أهنا حجة‪ ،‬فيُلبس على القراء وخيدعهم؛ إذ‬
‫املقصود عند كثري من املتعصبني االنتصار ملا قرره أسالفهم ومالت إليه أهواؤهم‪،‬‬
‫وذلك ديدن املتمذهبني يف تناول ملختلف املسائل احلساسة‪.‬‬
‫وقدمياً فرق أهل التحقيق من األصوليني بني ما يُستدل عليه برواية اآلحاد‬
‫وما ال بد فيه من استفاضة أو تواتر‪ ،‬ومن ذلك الشهادة باملعاصي‪ ،‬واحلكم‬
‫بالفسق على مؤمن ثبت إميانه‪.‬‬
‫ن‬ ‫ـص‬ ‫لف‬
‫ل الثا ي‬ ‫ا‬

‫مكانة الصحابة عند الزيدية‬


‫حيتل صحابة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مكانة مميزة عند أتباع املذهب‬
‫الزيدي‪ ،‬باعتبارهم السابقني األولني‪ ،‬والطريق إىل معرفة ما جاء عن سيد‬ ‫َّ‬
‫املرسلني‪ ،‬واملضحني بني يديه يف سبيل الدعوة إىل هللا؛ بيد أهنم ال يبالغون يف‬
‫تقديسهم‪ ،‬ومييزون بني أفرادهم‪ ،‬ويعدوهنم مقامات ومراتب‪ ،‬بناء على ما تقدم‬
‫يف بيان مفهوم الصحايب‪ ،‬وبالرجوع إىل ما كتبوا نلخصه يف ثالثة مباحث‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬عموم الصحابة أخيار أبرار‬


‫وهم الذين نالوا شرف صحبة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فجالسوه‬
‫وسعوا تعاليمه‪ ،‬وختلَّقوا بأخالقه‪ ،‬ومضوا على هنجه‪ ،‬وفارقوا الدنيا على ذلك‪،‬‬
‫الصحابة من املهاجرين واألنصار رضي هللا عنهم‪ ،‬وأولئك هم‬
‫وهذا حال أكثر َّ‬
‫الزيدية وإجالهلم‪ ،‬حىت اجملهولني منهم‪ ،‬انطالقاً من حسن الظن هبم‪،‬‬
‫حمل احرتام َّ‬
‫وحلهم على السالمة؛ ملكاهنم من صحبة املصطفى وسبقهم إىل اإلسالم‪ ،‬ومن‬
‫الزيدية يف ذلك‪:‬‬
‫نصوص سلف َّ‬
‫أصحاب ُحممد‬ ‫للهم و ْ‬‫*ٌماٌجاٌُفٌدَعٌُاإلمـامٌيلعٌبنٌاِلسنيٌالسجـاد‪« :‬ا ُ‬
‫الصحابة‪ ،‬والَّذين أبلوا البالء احلسن ِيف نصره‪ ،‬وكان ُفوهُ‬ ‫خاصةً‪ ،‬الَّذين أحسنُوا َّ‬
‫يث أسع ُه ْم حجة‬‫(عاونوه) وأسرعوا إىل ِوفاد ِته وسابقوا إىل دعوته واستجابُوا لهُ ح ُ‬
‫ِرساال ِته‪ ،‬وفارقوا األزواج واألوالد ِيف إظهار كلم ِته‪ ،‬وقاتلُوا اآلباء واألبناء يف تثبِ ِ‬
‫يت‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪92‬‬

‫نبوته‪ ،‬وانتصُروا ِبه ومن كانوا ُمنط ِوين على حمبته‪ ،‬يـْر ُجون جتارة ل ْن تـبُور ِيف مودته‪،‬‬
‫بات إ ْذ سكنوا ِيف‬ ‫والذين هجرهتم العشائر إ ْذ تعلقوا بعروته‪ ،‬وانتفت منهم الْقرا ُ‬
‫ظل قرابته‪ ،‬فال تـْنس هلُ ُم اللهم ما تركوا لك وفِيك‪ ،‬وأرضهم ِم ْن رضوانك وِمبا‬ ‫ِ‬
‫اشوا (مجعوا) اخللق علْيك‪ ،‬وكانوا مع رسولك ُدعا ًة لك إلْيك‪ ،‬واشكرهم على‬ ‫ح ُ‬
‫اش إىل ِضْي ِق ِه‪ ،‬وم ْن كثـَّْرت‬ ‫هج ِرِهم فِيك ِديار قومهم‪ ،‬وخر ِ‬
‫وج ِه ْم ِم ْن سع ِة الْمع ِ‬‫ُُ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫إعزا ِز ِدينِك ِمن مظْلُ ِ‬
‫وم ِه ْم»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ِيف ْ ْ‬
‫الصحابة واقتفاء آثارهم‬ ‫مث أخذ يف الثناء على التابعني؛ ملضيهم على هنج َّ‬
‫وإحسان الظن هبم‪ ،‬فقال‪« :‬اللَّ ُه َّم وأوصل إِىل التابعني هلُ ْم بإحسان‪ ،‬الذين‬
‫يـ ُقولُون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبـ ُقونا باإلميان‪ ،‬خْيـر جزائِك‪ .‬الذين قص ُدوا‬
‫ِ ِِ‬
‫ستهم‪ ،‬وحتروا ِو ْجهتـ ُه ْم‪ ،‬ومض ْوا على شاكلتهم‪ ،‬ملْ يثنهم ريب ِيف بصريهت ْم‪ ،‬وملْ‬
‫خيتلجهم شك ِيف قُـ ُفو آثا ِرِه ْم‪ ،‬واإلمتام هبداية منا ِرِه ْم‪ُ .‬مكانِفني وموازرين هلم‪،‬‬
‫يدينون بِدين ِه ْم‪ ،‬ويهتدون ِهب ْدي ِه ْم‪ ،‬ويتفقون علْي ِه ْم‪ ،‬وال يتهموهنم فيما أ َّد ْوا‬
‫إليهم»‪.‬‬

‫*ٌويفٌجوابٌلإلمامٌاهلاديٌحيىيٌبنٌاِلسنيٌعلى أهل صنعاء قال‪« :‬وال‬


‫الصحابة الصادقني‪ ،‬والتابعني بإحسان املؤمنات منهم‬ ‫أنْـتقص أحداً من َّ‬
‫سب مؤمناً عندي‬
‫واملؤمنني‪ ،‬أتوىل مجيع من هاجر‪ ،‬ومن آوى منهم ونصر‪ ،‬فمن َّ‬
‫استحالالً فقد كفر‪ ،‬ومن سبه استحراماً فقد ضل عندي وفسق‪ ،‬وال أسب إالَّ‬
‫تفردوا‪ ،‬وعلى‬
‫من نقض العهد والعزمية‪ ،‬ويف كل وقت له هزمية‪ ،‬من الذين بالنفاق َّ‬
‫الرسول صلى هللا عليه مرة بعد مرة متردوا‪ ،‬وعلى أهل بيته اجرتأوا وطعنوا‪ ،‬وإين‬
‫أستغفر هللا ألمهات املؤمنني‪ ،‬اللوايت خرجن من الدنيا وهن من الدين على يقني‪،‬‬
‫وأجعل لعنة هللا على من تناوهلن مبا ال يستحققن من سائر الناس أمجعني»‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫وهذا واضح يف الثناء على عموم الصحابة وأمهات املؤمنني‪ ،‬واالستثناء فقط‬
‫للمنافقني‪ ،‬ومن جترأ على أهل البيت وطعن فيهم‪.‬‬
‫*ٌوتكلمٌاإلمامٌاملرتىضٌحممد بن حيىي اهلادي عن مجلة من مهمات مسائل‬
‫الدين احلنيف يف العقيدة وأصول التشريع‪ ،‬مث قال‪« :‬مث تعلمون من بعد ذلك أن‬
‫أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم الذين قاموا بالدين‪ ،‬وكانوا يف‬
‫حقيقة اإلميان‪ ،‬واتبعوا بالطاعة واإلحسان‪ ،‬واجب فضلهم مشهور‪ ،‬والطاعن‬
‫عليهم مأزور‪ ،‬واملنتقص هلم مذموم‪ ،‬هالك عند هللا مثبور‪ ،‬معذب مدحور‪ ،‬ملدح‬
‫حْ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫الـمؤ ِم ٌنِـ ٌَ‬
‫نيٌ‬ ‫نٌ ٌ‬ ‫يٌاهللٌع ٌِ‬ ‫هللا سبحانه هلم‪ ،‬وما قال فيهم‪ ،‬حيث يقول‪﴿ :‬ل ٌوـ ٌدٌ َر ٌِ‬
‫ضـ ٌَ‬
‫ح ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ح ْ َ ْ ً‬ ‫ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬
‫ت ٌالشج َر ٌةٌِفعل ٌَِم ٌما ٌ ِ ٌ‬
‫ف ٌقلوب ِ ِه ٌم ٌفأن َز ٌل ٌالسكِين ٌة ٌعلي ِه ٌم ٌ َوأثاب ٌه ٌم ٌفتحاٌ‬ ‫ك ٌَت ٌ‬
‫إ ِ ٌذ ٌيقاي ِ ٌعـون ٌ‬
‫قَ ِر ًيقا﴾ [الفتح‪.]18 /‬‬
‫َّ َ َّ َ ح‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ َ َّ ِّ َ ح َ‬ ‫ََ ْ َ َ‬
‫فٌ‬‫وهح ٌ ِ ٌ‬
‫ِين ٌاتق ٌع ٌ‬ ‫ار ٌاَّل ٌ‬ ‫ين ٌ َواْلنص ٌِ‬‫ج ِر ٌ‬ ‫ب ٌوالـمها ِ‬ ‫َع ٌانل ِ ٌ‬
‫اب ٌاهلل ٌ ٌ‬‫وقال تعاىل‪﴿ :‬لو ٌد ٌت ٌ‬
‫َّ ح‬ ‫ْ ح ْ ح َّ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ َ ْح ْ َ ْ َْ َ َ َ َ ح حح ح َ‬
‫اب ٌعلي ِه ٌْم ٌإِن ٌه ٌب ِ ِه ٌْم ٌ َر حُوفٌٌ‬ ‫يق ٌمِنه ٌم ٌث ٌم ٌت ٌ‬‫وب ٌف ِر رٌ‬
‫يغ ٌقل ٌ‬‫ِن ٌبع ٌِد ٌما ٌاك ٌد ٌي ِز ٌ‬
‫ساع ٌِة ٌالعْس ٌةٌِم ٌ‬
‫َ َ َ َ ح َّ ح َ َ‬‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ح ح‬ ‫ح َ َّ‬
‫َعٌ‬
‫اُ ٌ ٌ‬ ‫ِين ٌمع ٌه ٌأ ِشد ٌ‬ ‫ول ٌاهلل ٌواَّل ٌ‬ ‫َرحِيمٌ﴾ [التوبة‪ ،]117/‬وقال تبارك وتعاىل‪ُ﴿ :‬ممدٌ ٌ َرس ٌ‬
‫َ ح‬ ‫ْ ً‬ ‫ْ ح َّ ح َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً‬
‫فٌ‬‫ِن ٌاهلل ٌ َو ِرض َوانا ٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ‬ ‫ل ٌم ٌَ‬‫ون ٌفض ٌ‬ ‫اُ ٌبينه ٌم ٌتراه ٌم ٌركعا ٌسجدا ٌيبتغ ٌ‬ ‫ار ٌرَح ٌ‬
‫الكف ٌِ‬
‫ْ ْ َ ُّ‬ ‫َ‬
‫الس حجو ٌِد﴾ [الفتح‪.]29 /‬‬ ‫ح‬
‫حوجوه ِِه ٌمٌم ٌ‬
‫ِنٌأث ٌِرٌ‬

‫وفيهم من التفضيل يف كتاب هللا‪ ،‬وعلى لسان نبيه؛ ما لو ذكرناه لطال به‬
‫الشرح‪ ،‬وكثر فيه القول‪ ،‬فحقهم واجب على مجيع املسلمني‪ ،‬وفضلهم الزم‬
‫طعن على أحد ممن ذكرنا‪ ،‬إال الرتحم‬
‫جلميع املؤمنني‪ ،‬فال يسع أحداً من الناس ٌ‬
‫لسابقة‬
‫عليهم‪ .‬واالستغفار هلم واجب‪ ،‬واالقتداء حبسن أفعاهلم الزم؛ إذ هلم ا َّ‬
‫القدمية واألفعال احملمودة والنية والبصرية‪ ،‬رحة هللا ورضوانه عليهم أمجعني‪ ،‬إنه‬
‫لذو فضل على العاملني‪ ،‬وحسبنا هللا ونعم الوكيل‪ ،‬فذلك الواجب ملن ثبت على‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪94‬‬

‫عهد رسول هللا منهم‪ ،‬ومل يتغري عما عاهد هللا فيه‪ ،‬حىت لقي هللا عليه»‪.‬‬
‫ومل يؤثر عنه انتقاص ألحد من اخللفاء وكبار الصحابة فيما بني أيدينا من‬
‫رسائله‪.‬‬
‫الزيدية‬
‫*ٌوردٌاإلمامٌعقدٌاهللٌبنٌَحزةٌيف (املسائل التهامية) على من اهتم َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬فقال‪« :‬فأما ما ذكره املتكلم حاكياً عنا من تضعيف آراء‬ ‫بالنيل من َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬فعندنا أهنم أشرف قدراً‪ ،‬وأعلى أمراً‪ ،‬وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم‬
‫َّ‬
‫ضعيفة‪ ،‬أو موازينهم يف الشـرف والدين خفيفة‪ .‬فلو كان ذلك ملا اتبعوا رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ومالوا عن إلف دين اآلباء واألتراب والقرناء‪ ،‬إىل‬
‫أمر مل يسبق هلم به أُنس‪ ،‬ومل يسمع له ذكر‪ ،‬شاق على القلوب‪ ،‬ثقيل على‬
‫النفوس‪ ،‬فهم خري الناس على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وبعده‪،‬‬
‫فرضي هللا عنهم‪ ،‬وجزاهم عن اإلسالم خرياً»‪.‬‬
‫الصحابة‬
‫وهذا ما تقضي به نصوص األئمة والعلماء‪ ،‬وهو يدل على أن مجلة َّ‬
‫عندهم أخيار أبرار بربكة صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وفضل تأديبه‬
‫وتعليمه‪.‬‬
‫الزيدية‬
‫الصحابة في كتب َّ‬
‫الثناء على عموم َّ‬
‫الصحابة فإنه جيدهم قد اتصفوا‬
‫الزيدية أن م ْن حبث يف أحوال َّ‬
‫يذكر علماء َّ‬
‫بصفات فريدة‪ ،‬ال تكون إال ألهل الفضل واإلحسان‪.‬‬
‫منها‪ :‬صحبتهم للرسول وحمبتهم له‪ ،‬ال شك يف ذلك‪ ،‬وإال مل يكونوا ليبذلوا‬
‫مهجهم بني يديه‪ ،‬ويهون عليهم قتل اآلباء واألوالد واإلخوة يف نصرته‪ ،‬وهذه‬
‫غاية احملبة والطاعة‪ ،‬فهم بذلك أولياء الرسول عليـه أفضل الصــالة وأمت التسليم‪،‬‬
‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ َّ ح َ َ ح َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ ْ ح‬
‫نيٌ َوالصدي ِو ٌَ‬
‫نيٌ‬ ‫ِينٌأنع ٌَمٌاهللٌعلي ِه ٌْمٌم ٌَ‬
‫ِنٌانلَّبِي ٌَ‬ ‫ِكٌم ٌعٌاَّل ٌ‬
‫ول ٌفأوَل ٌ‬
‫ن ٌي ِطعٌٌِاهللٌوالرس ٌ‬
‫﴿و م ٌ‬
‫‪95‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬
‫َ َ ح‬ ‫َّ‬ ‫ُّ َ َ‬
‫ِكٌ ٌَرفِيوا﴾ [النساء‪.]٦٩/‬‬ ‫ِنيٌ َوحس ٌَ‬
‫نٌأوَل ٌ‬ ‫َوالشهدا ٌٌُِ َوالص ِ‬
‫اِل ٌ‬

‫ومنها‪ :‬سعيهم يف إظهار دين هللا وإقامة عمود الدين‪ ،‬حيث جاهدوا يف‬
‫سبيل هللا وخاضوا غمرات املوت يف ذلك‪ ،‬حىت كان أحدهم يعود باكياً إن مل‬
‫جيد ما ميكنه من مرافقة املسلمني للخروج يف سبيل هللا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬املواساة باألموال واألنفس واإلنفاق يف سبيل هللا‪ ،‬واإليثار على النفس‪،‬‬
‫والتنافس يف ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما خيتصون به يف أنفسهم من العلم والزهد والصرب والسخاء والنجدة‬
‫والورع والتواضع كما هو مشهور يف سريهم‪.‬‬
‫ويف ضوء تلك املميزات جاء الثناء على الصحابة يف الكتاب والسنة على‬
‫وجه العموم‪ ،‬على أنه ال يستوي السابق منهم والالحق‪ ،‬والفاضل واألفضل‪ ،‬وال‬
‫يدخل يف عموم الثناء من ارتكب قبيحاً ما مل يتب ويصلح حاله‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫في القرآن الكريم‪:‬‬
‫تضمنت بعض آيات القرآن الكرمي إشادة مبكانة وجهود أصحاب النيب صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم على سبيل العموم‪ ،‬ومن دخل يف عموم الثناء اإلهلي فقد‬
‫فاز‪ ،‬ولن ُخيرجه من الفضل إال من أدخله فيه‪ ،‬وقد ذكر علماء الزيدية يف ذلك‬
‫عدة آيات‪ ،‬يستنتج منها مكانة وأفضلية لصحابة النيب ال تُنكر‪ ،‬منها‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ َّ ح َ ْ َ َّ ح َ َ ح َ‬
‫ارٌ ٌَواَّل ٌَ‬
‫ِينٌ‬ ‫ينٌ َواْلنص ٌِ‬
‫ج ِر ٌ‬ ‫ِنٌالـم ِ‬
‫ا‬ ‫ه‬ ‫ونٌم ٌ‬‫ونٌاْلول ٌ‬ ‫اْليةٌاْلوىل قوله تعاىل‪﴿ :‬والسابِو ٌ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ح َ ح َ َّ ح َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َْح‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ َ ح ح‬
‫ات ٌَت ِري ٌَتتها ٌاْلنه حٌ‬
‫ارٌ‬ ‫ض ٌاهلل ٌعنه ٌْم ٌ َو َرضوا ٌعن ٌه ٌ َوأع ٌد ٌله ٌْم ٌجن ر ٌ‬ ‫اتقعوه ٌْم ٌ ٌب ِإِحس رٌ‬
‫ان ٌ َر ِ ٌَ‬
‫َ َ ًََ َ َ َْ ح َْ‬ ‫َ‬
‫يم﴾ [التوبة‪.]100/‬‬ ‫ِكٌالف ْو ٌزٌالع ِظ حٌ‬‫ِينٌفِيهاٌأبداٌذل ٌ‬ ‫ال ٌ‬‫خ ِ‬

‫* يذكر اإلمام عز الدين بن احلسن‪ :‬أن «وجه االستدالل هبا أنه ملا ذكر‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪96‬‬

‫حكم من يف وقته صلى هللا عليه وآله وسلم من كبار أهل الكتاب‪ ،‬ذكر حكم‬
‫الصحابة؛ ألنه ال يوجد حينئذ من مؤمن إال هم‪،‬‬
‫من يف وقته من املؤمنني وهم َّ‬
‫فذكرهم يف معرض املدح لذكر نقيضهم يف معرض الذم‪ ،‬مث عقبه وختمه بأعجب‬
‫اخلواتيم‪ ،‬وهي رضاه عنهم ورضاهم عنه»‪ .‬وقال أيضاً‪« :‬اآلية دالة على رضاه‬
‫عنهم‪ ،‬ورضاهم عنه‪ ،‬وال غاية فوق هذه الدرجة وال فضل يساوي هذه املنقبة»‪.‬‬
‫* وانتقد اإلمام عبد هللا بن حزة من خصص هذه اآلية باخللفاء مؤكداً تناوهلا‬
‫هلم ولغريهم‪ ،‬فقال‪« :‬إنا ال ننكر كوهنم من السابقني األولني‪ ،‬وال جحدنا أهنم‬
‫من أفضلهم‪ ،‬وإن كان غريهم من أهل البيت أفضل منهم»‪.‬‬
‫وأضاف يف الرد على من جعل اآلية خاصة باخللفاء‪« :‬إنه عني املشايخ‬
‫الصحابة املرادين باآلية‪ ،‬فإن استقام على هذا االستبداد‬
‫الثالثة‪ ،‬وترك سائر َّ‬
‫فضحته اآلثار والسري واألخبار‪ ،‬وإن اعترب أن املشايخ الثالثة من مجلة من دخل‬
‫حتت آية الرضوان‪ ،‬فلِم حت َّجر واسعاً‪ ،‬وخصص عاماً‪ ،‬واستبد بأمر هو مشرتك‬
‫الصحابة احلاضرين يف ذلك املقام»‪.‬‬
‫بني املشايخ الثالثة وسواهم من َّ‬
‫السبق هنا هو السبق إىل اإلميان»‪.‬‬
‫* وذكر شيخنا بدر الدين احلوثي‪ :‬أن « َّ‬
‫وقال إن قوله (رضي هللا عنه) «تعبري عن قبول إمياهنم وإحساهنم‪ ،‬وأنه غري‬
‫ساخط على من كان كافراً منهم؛ ألن إميانه وتوبته حمى ما سلف منه»‪.‬‬
‫ح ْ َ ْ حَ ح َ َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫تٌ‬
‫َت ٌ‬
‫كٌ ٌ‬‫ني ٌإ ِ ٌذ ٌيقايِعون ٌ‬
‫ن ٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬ ‫ض ٌاهلل ٌع ٌِ‬ ‫اْلية ٌاثلانية قوله تعاىل‪﴿ :‬لو ٌد ٌ َر ِ ٌَ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬
‫السك ٌَِينــ ٌةٌ َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌ ٌف ْت ًٌحـاٌق ِر ًيقا﴾[الفتح‪.]18 /‬‬ ‫الشج َر ٌةٌِفعل ٌَِمٌماٌ ِ ٌ‬
‫فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأنز ٌلٌ‬

‫وكان أبو بـكر وعمر ممن بايعوا‪ .‬أما عثمان فبايع عنه رسول هللا بإحدى يديه‪،‬‬
‫ويف اآلية ترضية صرحية ومدح هلم حبسن سرائرهم‪ ،‬ووعد بالفتح والنصر‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫* ذكر القاضي يوسف بن أحد الثالئي‪ :‬أن «من مثرات اآلية الكرمية احلكـم‬
‫بعدالة من بايع هذه البيعة؛ ألن هللا تعاىل ساهم مؤمنني وأخرب بالرضا عنهم‪،‬‬
‫السكينة عليهم‪ ،‬وهي طمأنينة قلوهبم‬ ‫وأخرب حبسن سرائرهم‪ ،‬ومدحهم بإنزال َّ‬
‫واللطف املقـوي لقلوهبم‪ ،‬وهـذا يلزم منه وجوب مواالهتم واحملبة هلم‪ ،‬فتكون‬
‫الرتضية أرجح من التوقف‪ ،‬ويلزم حسن الظن هبم»‪.‬‬
‫* وقال اإلمام أبو الفتح الديلمي عند تفسري اآلية‪« :‬سيت بيعة الرضوان‬
‫لنزول الرضا فيهم (= الصحابة املبايعني) واآلية خصت من كان ظاهره وباطنه‬
‫يف اإلميان واحداً؛ ألن الرضا وقع عليهم»‪.‬‬
‫* وقال شيخنا بدر الدين احلوثي‪« :‬هذه تسمى (بيعة الرضوان) ملا بايعوا‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حتت الشجرة‪ ،‬ولكن الرضا من هللا إمنا هو من‬
‫املؤمنني‪ ،‬وليس عن كل املبايعني على ما يظهر؛ ألنه قال‪( :‬فعلم ما يف قلوهبم)‬
‫من النية على الثبات والصرب يف اجلهاد‪ ،‬ومن كانت نيته كذلك فهو مؤمن مرضي‬
‫عنه»‪.‬‬
‫ومعلوم أن الصحابة الذين بايعوا حتت الشجرة ومنهم‪ :‬أبو بكر وعمر كانوا‬
‫مؤمنني‪ ،‬ومن ثبت أنه بايع وليس مؤمناً أو أنه ارتد عن اإلسالم فإن الرضا ال‬
‫يتناوله‪.‬‬
‫وكثرياً ما حترج هذه اآلية املتوقفني عن الرتضية‪ ،‬فيوردون حوهلا اعرتاضات‪:‬‬
‫* منها‪ :‬أن الثناء متعلق باحلال فقط‪ ،‬مبعىن أن هللا تعاىل إمنا أخرب برضاه‬
‫عنهم يف حال البيعة‪ ،‬وليس فيها داللة على أن حالتهم تتغري أم ال‪ .‬وذلك ال‬
‫يعين استمرار الرضا؛ ألن العربة باخلواتيم‪.‬‬
‫وهذا مردود بأنه ال معىن لرضا هللا هنا؛ إال البشرى حبسن العاقبة‪ ،‬ودخول‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪98‬‬

‫اجلنة‪ ،‬وهللا تعاىل يعلم حاهلم يف املستقبل كما يف املاضي‪ ،‬والسيما أنه قرن رضاه‬
‫ح َ ح‬ ‫َ ْ َح َ َْ َ َْ ْ َ َ َْ ح ْ َ‬
‫َلٌاهلل ٌت ْرج ٌعٌ‬
‫ِيه ٌمٌ َوماٌخلفه ٌمٌ َوإ ِ ٌ‬ ‫عنهم بعلمه مبا يف قلوهبم‪ ،‬فهو ﴿يعل ٌمٌما ٌب ٌ‬
‫نيٌأيد ِ‬
‫ْحح‬
‫اْلم حٌ‬
‫ور﴾ [الحج‪.]76 :‬‬
‫ويف ذلك قال العـالَّمة حيىي بن احلسني‪« :‬إن ثناء هللا قد وقع‪ ،‬وهو ال يكون‬
‫إال بالعاقبة‪ ،‬لعلم هللا السابق هبا‪ ،‬فال يثين هللا تعاىل على من يعلم سوء خامتته‬
‫أصالً؛ إذ هو إخبار لنا بعلمه السابق‪ ،‬وإال لزم انقالب علمه جهالً‪ ،‬وهو حمال‪،‬‬
‫وإخبار النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إمنا يكون بوحي‪ ،‬وما ينطق عن اهلوى‪،‬‬
‫الصحابة أهل الشجرة رضي هللا عنهم صحيحة‪ .‬كما خيرب تعاىل‬ ‫فكانت تزكية َّ‬
‫بسوء خامتة شخص؛ فإنه يكون كما خيرب به‪ ،‬وال ميكن أن يكون مؤمناً أصالً‪،‬‬
‫بعد أن أخرب هللا تعاىل خبامتته‪ ،‬كأيب هلب والوليد بن عقبة وغريمها‪.‬‬
‫* ومنها‪ :‬أن الرضا مقيد باملؤمنني السابق يف علم هللا مفارقتهم الدنيا على‬
‫اإلميان‪ ،‬ال من غ َّري وبدَّل‪ .‬وهذا صحيح عدا أن افرتاض املعرتض أن من رضي‬
‫هللا عنهم من أهل بيعة الشجرة غريوا وبدلوا‪ ،‬استدالل باملتنازع فيه‪ .‬وهللا تعاىل‬
‫ْ‬
‫قد وصف باإلميان مجيع من بايع حتت الشجرة‪ ،‬فعلق الرضا يف قوله‪﴿ :‬إ ِ ٌذٌ‬
‫ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ‬
‫الش َج َر ٌةِ﴾ بذات املبايعني‪ ،‬وهو أعلم حباهلم يف احلاضر واملستقبل‪،‬‬‫تٌ‬
‫كٌَت ٌ‬
‫يقايِعون ٌ‬
‫وال خيفى عليه شيء يف األرض وال يف السماء‪ ،‬ال يف الظاهر وال الباطن‪.‬‬
‫ٌاَّل َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫َ َ َّ ِّ َ ح َ‬ ‫ََ ْ َ َ‬
‫ِينٌ‬ ‫ار‬
‫ج ِرينٌواْلن ِ‬
‫ص‬ ‫بٌوالـمها ِ‬ ‫اْليةٌاثلاثلةٌقوله تعاىل‪﴿ :‬لودٌتابٌاهللٌَعٌانل ِ‬
‫ْ ح ْ ح َّ َ َ َ َ ْ َّ ح‬ ‫َّ َ ح ح َ َ ْ ح ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ح ح ح ح َ‬
‫ابٌعلي ِه ْمٌإ ٌِنهٌب ِ ِه ْمٌ‬‫يقٌمِنهمٌثمٌت ٌ‬
‫اتقعوه ٌِفٌساعةٌِالعْسةٌِمِنٌبعدِ ٌماٌاكدٌي ِزيغٌقلوبٌف ِ ر‬
‫ر‬
‫َر حُوف ٌَرحِيمٌ﴾ [التوبة‪ .]117/‬ذكر املفسرون أن هذه اآلية نزلت يف غزوة تبوك‪ ،‬وكان‬
‫أبو بـكر وعمر وعثمان‪ ،‬فيمن خرج مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من‬
‫املهاجرين واألنصار‪ ،‬وأنفق عثمان فيها نفقة عظيمة‪ .‬وتأكيد هللا تعاىل على أنه‬
‫‪99‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫تاب عليهم‪ ،‬إعالن عن الرحة والرضا وإمنا يكون ذلك بالعاقبة‪.‬‬


‫* قال العـالَّمة يوسف بن أحد الثالئي‪« :‬ومثرة هذه اآلية الكرمية‪ :‬بيان فضل‬
‫املهاجرين واألنصار‪ ،‬قال احلاكم ‪ -‬يعين اجلشمي ‪ :-‬وعلى فضل عثمان‬
‫خصوصاً؛ ألنه جهز جيش العسرة مبال مل يبلغ غريه مبلغه‪ ،‬وقد مجع هللا بني‬
‫ذكر النيب وبني ذكرهم‪ ،‬ووصفهم باتِبـاع النيب‪ ،‬وخربه تعاىل صدق‪ ،‬فوجب القطع‬
‫على صفاء سريرهتم ووجوب مواالهتم‪ .‬أهـ‪ .‬قال القاضي يوسف‪ :‬فتكون الرتضية‬
‫على من كان من هؤالء أحوط من التوقف‪ ،‬لئال خنل باملواالة رضي هللا عنهم»‪.‬‬
‫* وذكر شيخنا بدر الدين احلوثي أن «هذه توبة عظمى‪ ،‬ولذلك قـرن هللا‬
‫بني النيب والذين اتبعوه‪ ،‬فهي توبة الرحة والرضوان‪ ،‬وإعداد اجلنات بعد االبتالء‬
‫الشديد بغزوة العسرة (غزوة تبوك)»‪.‬‬
‫ح َّ‬ ‫َ ْ ح ح َ ْ َ ْ َ ح َ َ َّ َ ْ َ َ‬
‫ك ٌاهلل ٌه ٌَو ٌاَّلِيٌ‬‫ن ٌ ح سق ٌ‬ ‫وك ٌفإِ ٌ‬
‫ن ٌَيدع ٌ‬ ‫ن ٌي ِريدوا ٌأ ٌ‬ ‫اْليةٌالرابعة قوله تعاىل‪﴿ :‬وإ ِ ٌ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫َ َّ َ َ َ ْ َ ح ْ َ َ َ َّ َ َ ْ‬
‫تٌ‬
‫ضٌَجِيعاٌ ٌماٌألف ٌ‬ ‫فٌاْل ْر ِ ٌ‬ ‫نيٌقلوب ِ ِه ٌْمٌل ٌْوٌأنفو ٌ‬
‫تٌماٌ ِ ٌ‬ ‫فٌب ٌَ‬ ‫نيٌ*ٌوأل ٌ‬ ‫ْصٌه ٌِوبِالـمؤ ِمنِ ٌ‬
‫كٌبِن ِ‬ ‫أيد ٌ‬
‫َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ََْ حح ْ َ‬
‫فٌبَيْ َن حه ٌْمٌإِن حٌهٌ َع ِزيزٌٌ َحكِيمٌٌ﴾ [األنفال‪.]63-62/‬‬ ‫نٌاهللٌأل ٌ‬ ‫ك ٌَّ‬
‫نيٌقلوب ِ ِه ٌمٌ َول ِ‬
‫ب ٌ‬

‫* قال اإلمام عز الدين‪« :‬وجه داللتها أنه أيَّد رسوله هبم يف إظهار الدين‪،‬‬
‫امنت عليهم بكونه ألَّف بني قلوهبم‪ ،‬وهاتان خصلتان عظيمتان‪ ،‬ومن هذه حاله‬‫و َّ‬
‫كيف ال يكون ظاهره السرت والعدالة‪ ،‬وإحراز التزكية لنفسه»‪.‬‬
‫َْ ح ح َ َْ ْ‬ ‫ح ْ ح ْ َ ْ َ ح َّ ح ْ َ ْ َّ‬
‫ونٌبِال ٌم ٌع حر ِ ٌ‬
‫وفٌ‬ ‫اسٌتأمر ٌ‬
‫تٌل ِلن ِ ٌ‬
‫يٌأم رٌةٌأخ ِرج ٌ‬
‫﴿كنت ٌمٌخ ٌ‬ ‫اْليةٌاخلامسة قوله تعاىل‪:‬‬
‫حْ ح َ‬ ‫حْ‬ ‫َََْْ َ َ‬ ‫َ‬
‫نٌالـمنك ٌِرٌ َوتؤمِن ٌ‬
‫ونٌبِاهلل﴾ [آل عمران‪ .]110/‬وهذا خطاب موجه للصحابة‪،‬‬ ‫نٌع ٌِ‬
‫وتنهو ٌ‬
‫ومن خالهلم لسائر األمة‪ ،‬وهذه شهادة واضحة هلم باخلريية‪ .‬وقال األعقم‪:‬‬
‫«اآلية نزلت يف املهاجرين‪ ،‬وقيل‪ :‬يف أصحاب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم»‪.‬‬
‫وعن هذه اآلية قال اإلمام عز الدين بن احلسن‪« :‬وجه داللتها أهنم لو كانوا‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪100‬‬

‫فساقاً خارجني عن ست العدالة مل يكن فيهم خري‪ ،‬فضالً عن أن يكونوا خري‬


‫أمة»‪.‬‬
‫َ َْ‬ ‫َ حْ َ َ َ َ ح َ َ َح‬
‫نيٌ ِرجالٌٌصدقواٌماٌَعهدواٌاهللٌع ٌلي ٌِهٌ‬ ‫اْليةٌالسادسة قوله تعاىل‪ٌ﴿ :‬م ٌ‬
‫ِنٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬
‫َ ْ ح ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ح َ ْ ح ْ َ ْ َ ْ َ ح َ َ َ َّ ح َ ْ ً‬
‫ِيل﴾ [األحزاب‪.]23/‬‬
‫نٌينت ِظ ٌرٌوماٌبدلواٌتقد ٌ‬
‫نق ٌهٌومِنه ٌمٌم ٌ‬
‫ىضٌ ٌ‬
‫نٌق ٌ‬
‫ف ِمنه ٌمٌم ٌ‬

‫أوردها العـالَّمة حيىي بن احلسن القرشي ضمن اآليات الواردة يف فضل‬


‫الصحابة‪ ،‬وعقَّب عليه اإلمام عز الدين بن احلسن بأهنا وردت يف بعضهم‪ ،‬وليس‬
‫َّ‬
‫يف مجلتهم‪ .‬وهو تعقيب صحيح‪ ،‬غري أن اآلية تتضمن إشارة واضحة إىل أفضلية‬
‫اجليل الذي ترىب على يد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬تربية جعلته‬
‫يضحي مبا يعز عليه يف سبيل دينه وعقيدته‪ .‬والتبعيض يف قوله تعاىل‪« :‬من‬
‫املؤمنني» ملن قضى حنبه‪ ،‬وملن ينتظر‪ .‬أما الوصف باإلميان فهو وصف شامل‬
‫للجميـع‪.‬‬
‫َّ ح ح َ َّ َ َ ح َ َ ح َ َ ح َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِينٌآمنواٌمعهٌجاهدواٌبِأم َوال ِِه ْمٌ‬ ‫ك ِنٌالرسولٌواَّل‬ ‫اْليةٌالسابعة قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ل ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ ْ ح ْ َ ح َ َ َ ح ح ْ َ ْ َ ح َ ح َ َ ح ح ح ْ ح َ َ َ َّ َّ ح َ ح ْ َ َّ َ ْ‬
‫اتٌَت ِريٌمِنٌ‬ ‫وأنف ِس ِهمٌوأوَل ِكٌلهمٌاخلياتٌوأوَل ِكٌهمٌالـمفلِحونٌ*ٌأعدٌاَّللٌلهمٌجن ر‬
‫َ َ َ َ َْ ح َْ‬ ‫َْ َ ْ َْ َ ح َ‬
‫ِينٌفِيهاٌذل ِكٌالف ْوزٌالع ِظ حٌ‬
‫يم﴾ [التوبة‪.]89-88/‬‬ ‫ال‬‫ارٌخ ِ‬ ‫َتتِهاٌاْلنه‬

‫فبعد الكالم عن املتخلفني من ذوي االستطاعة‪ ،‬حتدث عن الذين جاهدوا‬


‫بالنفس واملال‪ ،‬ووعدهم باخلريات‪ ،‬وقضى هلم باجلنة والفوز والفالح‪ .‬ومعلوم أن‬
‫«أبا بكر وعمر وعثمان وعلي» كانوا يف مقدمة الذين كانوا معه يف خمتلف‬
‫ساعات العسرة‪.‬‬
‫ْ َ ْ‬ ‫َ َّ َ ح ْ ح‬ ‫حَ‬ ‫اْلية ٌاثلامنة قوله تعاىل‪﴿ :‬ل ِلْ حف َو َ‬
‫ارهِمٌ‬
‫ِ‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫ٌ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ٌ‬ ‫وا‬ ‫ج‬‫ر‬
‫ِ‬ ‫خ‬ ‫ٌأ‬ ‫ِين‬
‫ٌاَّل‬ ‫ين‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ٌالـم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬‫ا‬‫ر‬
‫َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ح َ َ ْ ً َ َّ َ ْ َ ً َ َ ْ ح ح َ َّ َ َ َ ح َ ح ح َ َ ح ح َّ ح َ‬
‫ون﴾ٌ‬
‫وأموال ِِهمٌيبتغونٌفضلٌمِنٌاَّللٌِو ِرضواناٌوينْصونٌاَّللٌورسولٌأوَل ِكٌهمٌالصادِق ٌ‬
‫[الحشر‪.]8 /‬‬
‫‪101‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫* ذكر احلاكم احملسن بن كرامة اجلشمي يف تفسري هذه اآلية أهنا «تدل على‬
‫فضل الصحابة وعظيم شأهنم‪ ،‬وحملهم يف اإلسالم وأن الواجب مواالهتم واالقتداء‬
‫هبم وبطرائقهم‪ ،‬وأن الرباءة منهم من الكبائر»‪.‬‬
‫وخنتم القول هنا بأن اجلدل التارخيي حول مسألة الصحابة‪ ،‬صريها من املسائل‬
‫فح ِملت أكثر من ِحلها‪ ،‬وطلبت هلا الشواهد واألدلة‬ ‫ذات احلساسية املفرطة‪ُ ،‬‬
‫والرباهني‪ ،‬من نصوص اآليات وظواهرها‪ ،‬وسواء يف ذلك من يريد إثبات التنزيه‪ ،‬أو‬
‫يبحث عن مؤاخذة أو غمز‪ ،‬وحنن هنا إمنا نستعرض ما يدلل على ما حنن بصدده‪.‬‬
‫في الحديث الشريف‪:‬‬
‫الصحابة عموماً وخصوصاً‪ ،‬على‬‫الزيدية مجلة أحاديث يف فضل َّ‬ ‫أورد علماء َّ‬
‫أهنم يقيدون مجيع ذلك مبا ذهبوا إليه من تعريف الصحايب‪ ،‬ويفرقون بني الفضيلة‬
‫واألفضلية‪ ،‬وبني السب ورواية األحداث‪ ،‬وتوصيف الوقائع‪ ،‬ومما ذكر يف فضائل‬
‫الصحابة يف كتب الزيدية‪ ،‬نورد اآليت‪:‬‬
‫(‪ٌ)1‬عنٌيلعٌبنٌأيبٌطالب‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫«من سب نبياً قُتل‪ ،‬ومن سب صاحب نيب ُجلد»‪ .‬رواه يف صحيفة اإلمام الرضا‬
‫عن آبائه‪.‬‬
‫(‪ٌ)2‬عنٌابنٌمسعود أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪« :‬خري‬
‫الناس قرين مث الذين يلوهنم مث الذين يلوهنم»‪ .‬احتج به كل من‪ :‬اإلمام حيىي يف‬
‫(التحقيق)‪ ،‬واإلمام املهدي يف (شرح القالئد)‪ ،‬والقرشي يف (املنهاج)‪.‬‬
‫(‪ٌ)3‬وعنٌعقدٌاهللٌبنٌمغفل أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪:‬‬
‫«هللا هللا يف أصحايب‪ ،‬ال تتخذوهم غرضاً بعدي‪ ،‬فمن أحبهم‪ ،‬فبحيب أحبهم‪،‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪102‬‬

‫ومن أبغضهم‪ ،‬فببغضي أبغضهم‪ ،‬ومن آذاهم فقد آذاين‪ ،‬ومن آذاين فقد آذى‬
‫هللا‪ ،‬ومن آذى هللا أوشك أن يأخذه»‪ .‬أخرجه أحد‪.‬‬
‫(‪ٌ)4‬وعنٌأيبٌهريرة مرفوعاً‪« :‬ال تسبوا أصحايب‪ ،‬فوالذي نفسي بيده لو أن‬
‫أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك ُم َّد أحدهم‪ ،‬وال نصيفه»‪.‬‬
‫احتج به كل من اإلمام حيىي يف (التحقيق)‪ ،‬واإلمام املهدي يف (شرح‬
‫القالئد)‪ ،‬والقرشي يف (املنهاج)‪ ،‬وحيىي بن احلسني يف (اإليضاح)‪.‬‬
‫(‪ٌ)5‬عن ٌعمر ٌبنٌاخلطاب قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫«احفظوين يف أصحايب فإهنم خيار أميت»‪.‬‬
‫استشهد به العـالَّمة علي بن حيد‪ ،‬يف كتابه (مشس األخبار) الباب اخلامس‬
‫لصحابة‪.‬‬ ‫عشر يف فضل ا َّ‬
‫الزيدية خصوصاً املتأخرين منهم‪،‬‬
‫وهنالك روايات أخرى أوردها بعض علماء َّ‬
‫وضعفها احملدثون لعلل خمتلفة‪ ،‬جتنبت إيرادها؛ ألن أسانيدها حتتاج إىل حبث‬
‫ودراسة‪ ،‬وال ميكننا إلقاءها دون تدقيق‪ .‬ومنها‪ :‬ما روي عن ابن عباس قال‪ ،‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬أصحايب كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»‪.‬‬
‫ويف ال ُـمصحـح املتداول من األحاديث النبوية الشريفة كفاية‪ ،‬وحسبهم ثناء‬
‫القرآن عليهم‪ ،‬كما تقدم يف اآليات السابق ذكرها‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الخلفاء الراشدون عند الزيدية‬


‫«اخللفاء الراشدون» مصطلح أطلق على األربعة اخللفاء بعد رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وهم «أبو بـكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي» رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫بناء على أهنم من اخللفاء الراشدين املشار إليهم يف حديث العرباض بن سارية‬
‫‪103‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫اخلُلف ِاء الْم ْه ِديِني َّ‬


‫الر ِاش ِدين‪ ،‬مت َّس ُكوا‬ ‫أن رسول هللا قال‪« :‬علْي ُك ْم بِ ُسن َِّيت‪ ،‬و ُسن َِّة ْ‬
‫ضوا علْيـها بِالنـَّو ِاج ِذ»‪ ،‬وليس ألن النيب أطلق هذا الوصف على األربعة‬ ‫ِهبا‪ ،‬و ُع ُّ‬
‫اخللفاء حتديداً‪.‬‬
‫واحلديث يُشري إىل أن ملنهج الراشدين من اخللفاء خصوصيةً‪ ،‬كونه يستمد‬
‫حركته من منهج النبوة مبستوى عال‪ ،‬نتيجة الصحبة الطويلة وشهودهم تنزل‬
‫لسنَّة النيب صلوات هللا عليه‪.‬‬
‫التشريعات‪ ،‬وال يفهم منه أن هلم ُسنَّة مغايرة ُ‬
‫وإمنا أفردهتم بالذكر يف هذا الفصل وأطلت يف الكالم عنهم؛ ألن معرفة‬
‫مطلب أساسي يف هذا البحث‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الزيدية منهم خاصة‪،‬‬
‫موقف َّ‬
‫وعموم الزيدية يدرون أن اخللفاء الراشدين ميتازون بسبقهم إىل اإلسالم‪،‬‬
‫وتوليهم شأن املسلمني بعد رسول هللا‪ ،‬وملا هلم من دور بارز يف نشره وترسيخ‬
‫الصحابة وعاملوهم على‬ ‫دعائمه‪ ،‬وهي مكانة اعرتف هبا معاصروهم من َّ‬
‫أساسها‪ ،‬ومل يكن مؤلفو الزيدية مبعزل عن ذلك‪ ،‬فقد رووا يف كتبهم أحاديث‬
‫عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف شأن اخللفاء‪ ،‬وأولوهم اهتماماً خاصاً‪،‬‬
‫وأفردوهم ِ‬
‫بالذكر‪ .‬وتعاملوا مع فتاواهم باهتمام‪ ،‬وأبرزوا ما أثر عنهم عن سواهم‪،‬‬
‫وكان ألئمتهم كلمات معربة عن مواقفهم‪.‬‬
‫وسوف أخصص هذا املبحث ملا وقفت عليه‪ ،‬من ذلك يف كتب الزيدية أو‬
‫من طريقهم أو استشهد به بعضهم‪ ،‬على أن أخصص الحقاً مبحثاً آخر عن‬
‫الشُّبهات اليت يـُْنتقد اخللفاء الراشدون بسببها‪.‬‬

‫فضائل الخلفاء ومكانتهم‬


‫الزيدية مجلة من الروايات الواردة يف فضائل اخللفاء‬
‫تضمنت بعض كتب َّ‬
‫الراشدين‪ ،‬حىت ذكر اإلمام عز الدين بن احلسن‪ :‬أن «األحاديث الواردة يف‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪104‬‬

‫الصحابة رضي هللا عنهم واسعة دثرة وال تنحصر كثرة»‪.‬‬


‫أعيان من َّ‬
‫وأورد كل من اإلمام حيىي بن حزة والقاضي القرشي واإلمام املهدي والقاضي‬
‫يوسف الثالئي واإلمام عز الدين والعالمة الديلمي واحلافظ حيىي بن احلسني بن‬
‫القاسم بن حممد وغريهم مجلة من األحاديث الواردة يف مكانة اخللفاء على وجه‬
‫اخلصوص‪ ،‬سأوردها هنا حسب إيرادهم‪ ،‬وأذكر يف اهلامش مصدرها يف كتب‬
‫احملدثني‪ ،‬مشرياً إىل حكمهم عليها‪:‬‬
‫(‪ )1‬عن ابن مسعود قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬ل ْو‬
‫ت أبا بـكر خلِيالً»‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ت ُمتَّخـ ًذا خليـالً ال َّختـ ْذ ُ‬
‫ُكْن ُ‬
‫(‪ )2‬وعن علي قال‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬رحم هللا أبا‬
‫بـكر زوجين ابنته وحلين إىل دار اهلجرة‪ ،‬وأعتق بالالً من ماله‪ ،‬رحم هللا عمر‬
‫يقول احلق وإن كان ُمراً‪ ،‬تركه احلق وماله صديق‪ ،‬رحم هللا عثمان تستحييه‬
‫املالئكة‪ ،‬رحم هللا علياً اللهم أدر احلق معه حيث دار»‪.‬‬
‫(‪ )3‬وعن علي عليه السالم قال كنت مع رسول هللا؛ إذ طلع أبو بكر وعمر‪،‬‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬أبو بـكر وعُمر سيِدا ُكه ِ‬
‫ول أ ْه ِل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجلنَّـة»‪.‬‬
‫(‪ )4‬قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي‪ :‬روي أن عمر أمسك على يد أمري‬
‫املؤمنني فقال‪ :‬أرسلين يا قفل الفتنة‪ ،‬فقال عمر‪ :‬وما ذاك يا أبا احلسن؟ فقال‪:‬‬
‫سعت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬ال تصيبنكم فتنة وهذا‬
‫فيكم»‪.‬‬
‫(‪ )5‬وقال أيضاً‪ :‬روي أن احلسن واحلسني عليهما السالم أتيا مرة إىل أبيهما‬
‫فرحني بعطاء أعطامها إياه عمر‪ ،‬ففرح لفرحهما وقال‪ :‬أما إين سعت رسول هللا‬
‫‪105‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬عمر سراج أهل اجلنَّـة»‪ ،‬فرجعا إىل عمر يبشراه‬
‫مبا رواه أمري املؤمنني‪ ،‬ففرح ودعا بقرطاس ودواة وكتب‪ :‬حدثين سيدا شباب أهل‬
‫اجلنَّـة عن أبيهما عن رسول هللا أنه قال‪« :‬عمر سراج أهل اجلنَّـة»‪ ،‬مث أوصى أن‬
‫يدفن معه ذلك القرطاس إذا مات‪.‬‬
‫وخصص العـالَّمة علي بن حيد القرشي‪ :‬الباب اخلامس عشر من كتاب‬
‫الصحابة‪ ،‬وأورد أحاديث يف فضل اخللفاء خاصة‪.‬‬
‫(مشس األخبار) لفضل َّ‬
‫وانتقد اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى الذين يرتددون يف الثناء على‬
‫اخللفاء الراشدين‪ ،‬فقال‪« :‬فاملخالف ال خيلو إما أن ينكر ما رويناه من الثناء‬
‫عليهم‪ ،‬فذلك وإن أمكنه يف األحاديث األحادية؛ ال ميكنه يف املتواترات‪ ،‬وإال‬
‫لزم كفره‪ ،‬فال سبيل له إىل إنكار ورود الثناء عليهم‪ ،‬ودخوهلم يف العموميات‬
‫املذكورة‪ .‬وإما أن يعرتف بوروده‪ ،‬ولكن يـدعي أنه مشروط باستمرارهم على تلك‬
‫احلال‪ ،‬فحينئذ نقول للمتوقفني‪ :‬أأنتم أعلم أم هللا ورسوله؟! فإنه قد وقع الثناء‬
‫املشروط‪ ،‬والشرط مضمر غري مظهر يف كالم هللا ورسوله‪ ،‬فهال استحسنتم ما‬
‫الصحابة والدعاء‬
‫استحسن هللا ورسوله صلى هللا عليه‪ ،‬وتأسيتم به يف الثناء على َّ‬
‫هلم»‪.‬‬
‫وأما روايات اخللفاء الراشدين وآراؤهم فإن علماء َّ‬
‫الزيدية يتداولوهنا يف‬
‫كتبهم احلديثية والفقهية كـ(األماليات) و(شرح التجريد) و(اجلامع الكايف) وغريها‬
‫الصحابة‪ ،‬ومل يستثنوا إال نفراً قليالً ممن أحدثوا كما قـال اإلمام حيىي شرف‬
‫كسائر َّ‬
‫الدين‪:‬‬
‫وكلهم عندنا عدل رضا ثقة حتـم حمبتـه حتـم توليـه‬
‫فجملة الروايات اليت يتداوهلا حفا احلديث عن اخللفاء الراشدين يف كتبهم‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪106‬‬

‫الزيدية يف كتبهم‪.‬‬
‫هي نفسها اليت يتداوهلا علماء َّ‬
‫بل ذكروا أن اإلمام علي قبل رواية أيب بـكر منفرداً‪ ،‬يف حني كان حيلف غريه‪،‬‬
‫واستشهدوا بذلك على صحة قبول خرب الواحد‪ .‬ويف ذلك روى اإلمام أبو طالب‬
‫حيىي بن احلسني اهلاروين عن علي أنه قال‪ :‬كنت إذا سعت من رسول هللا شيئاً‬
‫نفعين هللا مبا شاء‪ ،‬فإذا سعته من غريه حلَّفته فإن حلف صدقته‪ ،‬وحدثين أبو‬
‫بـكر وصدق أبو بـكر‪.‬‬
‫وترجم إبراهيم بن القاسم يف (طبقات الزيدية) أليب بكر وعمر وعثمان رضي‬
‫هللا عنهم‪ ،‬لكون روايتهم معتمدة يف سائر كتب احلديث عند الزيدية‪.‬‬
‫الزيدية اعتادوا تقدمي أقوال اخللفاء‬
‫ويف الفتاوى واآلراء الفقهية جند أن علماء َّ‬
‫الصحابة رضوان هللا عليهم‪ ،‬عند ذكر تعدد اآلراء يف املسائل الدينية‪،‬‬ ‫وسائر َّ‬
‫فقهية كانت أو غري فقهية‪ ،‬وخيصون اخللفاء الثالثة بالذكر‪ ،‬ويرمزون أليب بـكر‬
‫بـ(‪ )1‬ولعمر بـ(‪ )2‬ولعثمان بـ(‪ )3‬كما يف كتاب (االنتصار) لإلمام حيىي بن حزة‬
‫وكتاب (البحر الزخار) لإلمام املهدي وكتاب (اجلامع لقواعد دين اإلسالم)‬
‫الزيدية‬
‫لعطية النجراين‪ ،‬وغريها من كتب الفقه‪ ،‬وذلك يشري إىل سالمة موقف َّ‬
‫من الرباءة والسباب‪ ،‬ويدفع كل شبهة تُـثار للطعن عليهم‪.‬‬
‫ومع احرتام الزيدية ملقام اخللفاء الثالثة ‪ -‬ال يغفلون رأيهم يف تقدمي اإلمام‬
‫علي‪ ،‬وأنه كان األوىل باخلالفة من غريه‪ ،‬دون غلو فيه‪ ،‬وال سباب لغريه‪ ،‬وهلذا‬
‫يُعتربون جزءاً من شيعة اإلمام علي بن أيب طالب‪.‬‬
‫وهذا النوع من التشيع كان منتشراً بني مجهور العلماء والفضالء من الصحابة‬
‫والتابعني وتابعيهم‪ ،‬يف حده املشروع املتمثل يف احملبة دون غلو أو شطط‪ ،‬فقد‬
‫ذكر الذهيب أن كثرياً يف التابعني وتابعيهم كانوا على ذلك‪ ،‬مؤكداً أنه لو ُرَّد‬
‫‪107‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫حديث هؤالء لذهب مجلة من اآلثار النبوية‪ ،‬وأملح إىل أن ليس من الغلو تقدمي‬
‫اإلمام علي على اخللفاء الثالثة‪ ،‬ودافع هبذا عن إبان بن تغلب مع اعرتافه أنه‬
‫يعتقد أن علياً أفضل منهما(‪.‬‬
‫وقبله قال سفيان بن سعيد الثوري‪ :‬سبحان هللا! هل أدركت خيار الناس إال‬
‫الشيعة‪ ،‬مث ذكر‪ :‬زبيداً وسلمة بن كهيل وحبيب بن أيب ثابت وأبا إسحاق‬
‫السبيعي ومنصور بن املعتمر واألعمش‪ .‬مث قال‪ :‬إال أن قوماً من هذه الرافضة‬
‫وهذه املعتزلة قد بغضوا هذا األمر إىل الناس‪ .‬فالتشيع املقبول ال يتجاوز كونه‬
‫تعرب عن الوالء ألهل ابليت وحمبتهم‪ ،‬وليس مذموما ً ما لم يصحبه ُغ ّ‬
‫لو وشطط‬
‫خيرجه عن احلق‪.‬‬

‫الراشدون في نظر أهل البيت‬


‫حبثت فيما وردت به الروايات عن أهل البيت يف شأن اخللفاء‪ ،‬فوجدت أهنا‬
‫مل تتجاوز ما روي عن اإلمام علي‪ ،‬ومل يتجاوز ‪ -‬أشدها ِحدَّة ‪ -‬املعتاد من‬
‫العتاب والنقد وإبداء الرأي‪ .‬ولفت انتباهي كثرة شكوى األئمة من تطاول الغالة‬
‫الذين يسعون لتسويق مواقفهم من خالل بعض األئمة‪ ،‬حيث ينسبون إليهم ما‬
‫مل يقولوا‪ ،‬ليتسىن هلم بعد ذلك القول‪ :‬هذا هو رأي أئمة أهل البيت وهم‬
‫قدوتنا!! لذلك ما فتئوا ينكرون ما بلغهم من افرتاءات عليهم‪ ،‬ويشتكون من‬
‫أكاذيب الغالة وتقويلهم ما مل يقولوا‪ .‬ومن جهة أخرى وجدت يف بعض الروايات‬
‫مبالغة يف شأن اخللفاء رضي هللا عنهم على لسان بعض األئمة‪ ،‬وحنن وإن مل‬
‫نعلق على كل رواية مبفردها نعتقد أن يف بعضها مبالغة‪ ،‬ولنا مقنع يف أن كبار‬
‫األئمة ال يظنون بالقوم سوءاً‪ ،‬وال يضيفون املخالفات املتعمدة إليهم‪ ،‬وال‬
‫يتجاوزون النقد إىل السباب أو الشتائم‪ ،‬أو رمي بكفر وفسق كما يفعل بعض‬
‫الغالة واملنهتكني‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪108‬‬

‫اإلمام أميراملؤمنين علي بن أبي طالب‬


‫ال شك أن موقف اإلمام علي جتاه متقدميه حجة على أتباعه وشيعته‪ ،‬كونه‬
‫املعين األول مبا جرى عليه‪ ،‬إىل جانب ما كان يتمتع به من تدين وفهم وشجاعة‪،‬‬
‫متكنه من التعبري عما جيب عليه‪ ،‬وهذا جيعلنا نثق بأن ما يصدر عنه ميثل املوقف‬
‫األمثل جتاه نظرائه من اخللفاء الراشدين؛ لذلك رجعت إىل ما روي عنه يف ذلك‪،‬‬
‫فوجدته يكثر الثناء على اخللفاء قبله وإن كانت له وهلم مالحظات على بعضهم‬
‫لكوهنم بشرا‪.‬‬
‫ونظراً لكثرة الروايات عن اإلمام علي يف شأن اخللفاء‪ ،‬أوليت ما ورد يف كتب‬
‫الزيدية اهتماماً خاصاً‪ ،‬وأوردته كما ذكروه وبينت مواضعه فيها يف اهلامش‪،‬‬ ‫َّ‬
‫والعهدة يف ذكر الرواية على من ذكرها‪:‬‬
‫(‪ )1‬جاء من طُرق عن كل من‪« :‬أيب جحفة وعبد خري وحممد بن احلنفية‬
‫وأيب الطفيل وشريح القاضي» أهنم سعوا اإلمام علي بن أيب طالب يقول‪« :‬خري‬
‫هذه األمة بعد نبيها أبو بـكر وعمر»‪.‬‬
‫(‪ )2‬وعن الصادق جعفر بن حممد بن علي‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬قال رجل لعلي‬
‫عليه السالم‪ :‬نسمعك تقول يف اخلطبة‪ :‬اللهم أصلحنا مبا أصلحت به اخللفاء‬
‫الراشدين املهديني؛ فمن هم؟ فاغرورقت عيناه وقال‪ :‬مها حبيبا نيب هللا أبو بـكر‬
‫وعمر‪ ،‬إماما اهلدى وشيخا اإلسالم ور ُجال قريش‪ ،‬املقتدى هبما بعد رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه‪.‬‬
‫(‪ )3‬وعن سويد بن غفلة قال‪ :‬قال علي‪« :‬والذي فلق احلبة وبرأ النسمة‪ ،‬ال‬
‫حيبهما (=أبا بكر وعمر) إال مؤمن تقي‪ ،‬وال يبغضهما إال فاجر ردي‪ ،‬صحبا‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على الصدق والوفاء‪ ،‬يأمران وينهيان‪ ،‬فما‬
‫‪109‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫يغادران فيما يصنعان رأي رسول هللا‪ ،‬ال يرى كرأيهما رأياً‪ ،‬وال حيب كحبهما‬
‫حباً‪ ،‬فقبض رسول هللا وهو عنهما راض‪ ،‬واملسلمون عنهم راضون»‪.‬‬
‫(‪ )4‬وروى احلافظ أبو العباس أحد بن حممد بن سعيد بن عقدة بإسناده عن‬
‫قيس بن أيب حازم قال‪ :‬قال علي بن أيب طالب‪ :‬إن أبا بـكر كان َّأواهاً منيباً‪،‬‬
‫وإن عمر نصح هللا فنصحه‪.‬‬
‫(‪ )5‬وعن حممد بن سريين عن أيب صاحل عن علي رضي هللا عنه قال‪ :‬إين‬
‫َ َْ‬
‫ألرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبري ممن قال هللا عز وجل فيهم‪َ ﴿ :‬ون َزعناٌ‬
‫ْ َ ً ََ ح ح حََ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ح ح‬ ‫َ‬
‫ُس رٌرٌمتوابِل ٌَ‬
‫ِنيٌ﴾ [الحجر‪.]47/‬‬ ‫َعٌ‬
‫ِنٌغِلٌٌإِخواناٌ ٌ‬
‫وره ٌِمٌم ٌ‬
‫فٌصد ِ‬ ‫ماٌ ِ ٌ‬

‫(‪ )6‬وعن جعفر بن حممد عن أبيه عن جابر‪ ،‬قال ملا مات عمر وقف عليه‬
‫علي‪ ،‬فقال‪ :‬ما أحد من هذه األمة أحب إيل أن ألقى هللا مبثل صحيفته من هذا‬
‫املسجى‪ .‬ويف هذا ما فيه من جليل الثناء‪.‬‬
‫وذكر اإلمام عبد هللا بن حزة أن يف رواية اآلجري إضافة من طريق سلمة بن‬
‫األسود‪ ،‬عن أيب عبد الرحن فيها‪« :‬رحك هللا يا ابن اخلطاب‪ ،‬إن كنت بذات‬
‫هللا عز وجل لقيماً‪ ،‬وإن كان هللا عز وجل يف صدرك لعظيماً‪ ،‬وإن كنت لتخشى‬
‫هللا يف الناس وال ختشى الناس يف هللا‪ ،‬وكنت جواداً باحلق خبيالً بالباطل‪ ،‬كنت‬
‫خيصاً من الدنيا بطيناً من اآلخرة‪ ،‬مل تكن عياباً وال مداحاً»‪.‬‬
‫وعقب عليه اإلمام عبد هللا بن حزة بقوله‪« :‬ال شك يف صحة أعماله وكثرهتا‪،‬‬
‫وكوهنا أعمال اإلميان‪ ،‬ما خال دعوى اخلالفة‪ ،‬ومثل بعضها يدخل به اجلنة إن‬
‫سلم من الكبائر‪ ،‬وكذلك سائر ما أبنه به مستقيم‪ ،‬ومل ننفه فيحتج الفقيه على‬
‫ثباته‪ ،‬وال نقدنا أعمال الرب‪ ،‬إمنا نقدنا التقدم على املنصوص عليه‪ ،‬واملعصوم‪،‬‬
‫واملادح ال ميدح إال باحملاسن‪ ،‬وإن كان يعلم املساوئ فال يعد ذلك مناقضة»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪110‬‬

‫(‪ )7‬وروى ابن عساكر وعن حممد بن حاطب‪ ،‬قال‪ :‬ذُكر عثمان بن عفان‬
‫عند احلسن واحلسني فقاال‪ :‬هذا أمري املؤمنني يأتيكم اآلن وخيربكم عنه‪ ،‬فجاء‬
‫َّ َ ح َّ َ ْ َ ح ح‬ ‫َ ح‬ ‫َّ َ ْ َ ح‬
‫ات ٌث ٌَّم ٌاتووا ٌ َوآمنوا ٌث ٌَّمٌ‬ ‫علي فقال‪ :‬عثمان ِم ْن الذين ﴿اتووا ٌ َوآمنوا ٌ َوع ِملوا ٌالص ِ‬
‫اِل ٌِ‬
‫ح ْ‬ ‫ح ُّ‬ ‫َّ َ ْ َ ْ َ ح‬
‫ني﴾ٌ[املائدة‪.]93/‬‬ ‫بٌالـمح ِسنِ ٌَ‬
‫اتوواٌ َوأحسنواٌ َواهللٌحيِ ٌ‬

‫(‪ )8‬وروى نصر بن مزاحم املنقري أن اإلمام علياً قال‪« :‬إن هللا بعث النيب‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم فأنقذ به من الضاللة‪ ،‬ونعش به من اهللكة‪ ،‬ومجع به‬
‫بعد الفرقة‪ ،‬مث قبضه هللا إليه وقد أدى ما عليه‪ ،‬مث استخلف الناس أبا بـكر‪ ،‬مث‬
‫استخلف أبو بـكر عمر‪ ،‬وأحسنا السرية‪ ،‬وعدال يف األمة‪ ،‬وقد وجدنا عليهما‬
‫أن توليا األمر دوننا‪ ،‬وحنن آل الرسول وأحق باألمر‪ ،‬فغفرنا ذلك هلما‪ ،‬مث ويل‬
‫أمر الناس عثمان‪ ،‬فعمل بأشياء عاهبا الناس عليه‪ ،‬فسار إليه ناس فقتلوه»‪.‬‬
‫(‪ )9‬وروى أحد بن حنبل عن أيب سرحية‪ ،‬قال‪ :‬سعت علياً وهو على املنرب‬
‫يقول‪ :‬كان أواهاً منيب القلب‪ ،‬يعين أبا بكر‪ ،‬وإن عمر ناصح هللا فنصحه هللا‪.‬‬
‫وعقب عليه اإلمام عبد هللا بن حزة بـقوله‪« :‬إن إنابة قلب أيب بكر وتأوهه‬
‫ال إشكال فيه‪ ،‬وكذلك نصيحة عمر بن اخلطاب هلل تعاىل؛ ألنا ال نعتقد فيهما‬
‫ما يعتقد الغالة من النفاق والكفر‪ ،‬بل ال نعيب عليهما من قول وال عمل‪ ،‬إال‬
‫التقدم على الوصي خليفة النيب وموىل املؤمنني»‪.‬‬
‫(‪ )10‬وروى إبراهيم الثقفي يف كتاب (الغارات) عن اإلمام علي أنه قال‪:‬‬
‫«مشيت إىل أيب بـكر فبايعته‪ ،‬وهنضت يف تلك األحداث حىت زاغ الباطل وزهق‪،‬‬
‫وكانت كلمة هللا هي العليا‪ ،‬ولو كره الكافرون‪ ،‬فتوىل أبو بـكر تلك األمور‪ ،‬فيسر‬
‫وسدد وقارب واقتصد‪ ،‬فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع هللا فيه جاهداً‪ ،‬وما‬
‫طمعت أن لو حدث به حدث وأنا حي أن يرد إيل األمر الذي نازعته فيه طمع‬
‫‪111‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫مستيقن‪ ،‬وال يئست منه يأس من ال يرجوه‪ ،‬ولو ال خاصة ما كان بينه وبني عمر‬
‫لظننت أن ال يدفعها عين‪ ،‬فلما احتضر بعث إىل عمر فواله‪ ،‬فسمعنا وأطعنا‬
‫وناصحنا‪ ،‬وتوىل عمر األمر وكان مرضي السرية ميمون النقيبة»‪.‬‬
‫(‪ )11‬وروى الثقفي أن اإلمام علي قال‪« :‬مث إن املسلمني من بعده استخلفوا‬
‫امرأين منهم صاحلني‪ ،‬عمال بالكتاب وأحسنا السرية‪ ،‬ومل يتعديا السنة‪ ،‬مث توفامها‬
‫هللا فرحهما هللا‪ ،‬مث ويل من بعدمها وال أحدث أحداثاً فوجدت األمة عليه مقاالً‬
‫فقالوا‪ ،‬مث نقموا عليه فغريوا‪ ،‬مث جاؤوين فبايعوين‪ ،‬فأستهدي هللا اهلدى وأستعينه‬
‫على التقوى»‪.‬‬
‫(‪ )12‬وجاء يف (هنج البالغة) أن اإلمام علي قال‪َِّّ« :‬لِل بِالءُ فُالن‪ ،‬فـلقد قـ َّوم‬
‫يب‪،‬‬‫الفتنة‪ ،‬ذهب نقي الثوب‪ ،‬قليل الع ِ‬ ‫السنَّة‪ ،‬وخلَّف ِ‬
‫األود‪ ،‬وداوى العمد‪ ،‬وأقام ُّ‬
‫حبقه‪ ،‬رحل وتركهم ِيف‬ ‫اّلِل طاعته‪ ،‬واتَّقاه ِ‬‫شرها‪ .‬أ َّدى إىل َّ‬
‫أصاب خريها‪ ،‬وسبق َّ‬
‫ُ‬
‫هتدي ِهبا الضَّال‪ ،‬وال ي ِ‬
‫ستيق ُن ال ُـمهتدي»‪.‬‬ ‫طُرق متشعِبة ال ي ِ‬
‫ُ‬
‫قال ابن أيب احلديد‪« :‬فالن املكىن عنه "عمر بن اخلطاب"‪ ،‬وقد وجدت‬
‫النسخة اليت خبط الرضي أيب احلسن جامع (هنج البالغة) وحتت فالن "عمر"‪،‬‬
‫وحدثين بذلك فخار بن معد املوسوي األودي الشاعر‪ ،‬وسألت عنه النقيب أبا‬
‫جعفر حيىي بن أيب زيد العلوي فقال يل‪ :‬هو عمر‪ .‬فقلت له أيثين عليه أمري‬
‫املؤمنني هذا الثناء؟ فقال‪ :‬نعم»‪.‬‬
‫(‪ )13‬ويف (هنج البالغة) أيضاً أن اإلمام علي عليه السالم قال لعثمان‪« :‬ما‬
‫أعرف شيئاً جتهله‪ ،‬وال ُأدلك على أمر ال تعرفه‪ ،‬إنك لتعلم ما نعلم‪ ،‬ما سبقناك‬
‫إىل شيء فنخربك عنه‪ ،‬وال خلونا بشيء فنبلغكه‪ ،‬وقد رأيت كما رأينا‪ ،‬وسعت‬
‫كما سعنا‪ ،‬وصحبت رسول هللا كما صحبنا‪ ،‬وما ابن أيب قحافة وال ابن اخلطاب‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪112‬‬

‫بأوىل بعمل احلق منك‪ ،‬وأنـت أقرب إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫وشيجة رحم منهما‪ ،‬وقد نلت من صهره ما مل يناال»‪.‬‬
‫قال اإلمام حيىي بن حزة يف شرح هذا الكالم‪« :‬ويف كالم أمري املؤمنني هذا‬
‫داللة على إتياهنما باحلق وعملهما به»‪.‬‬
‫(‪ )14‬ويف (وقعة صفني) قال اإلمام علي يف رد على رسالة ملعاوية‪« :‬وذكرت‬
‫اّلِل هبم‪ ،‬فكانوا يف منازهلم عنده على‬‫اّلِل اجتىب له من املسلمني أعواناً أيده َّ‬
‫أن َّ‬
‫قدر فضائلهم يف اإلسالم‪ ،‬فكان أفضلهم ‪ -‬زعمت ‪ -‬يف اإلسالم وأنصحهم‬
‫ّلِل ورسوله خليفته وخليفة خليفته‪ ،‬ولعمري إن مكاهنما من اإلسالم لعظيم‪ ،‬وإن‬
‫اّلِل وجزامها بأحسن اجلزاء‪ ،‬وذكرت‬ ‫املصاب هبما جلرح يف اإلسالم شديد‪ ،‬رحهما َّ‬
‫أن عثمان كان يف الفضل ثالثاً‪ ،‬فإن يكن عثمان حمسناً فسيجزيه ا َّّلِل بإحسانه‪،‬‬
‫وإن يكن مسيئاً فسيلقى رباً غفوراً ال يتعاظمه ذنب أن يغفره»‪.‬‬
‫(‪ )15‬جاء يف (هنج البالغة) ذكر مشورته على عمر؛ تارة عند قتال الفرس‪،‬‬
‫وأخرى عند قتال الروم‪ ،‬وكذلك أورد نصيحته لعثمان قبيل الفتنة‪ .‬وذلك يدل‬
‫على أنه مل يأل جهداً يف التعاون مع أيب بـكر وعمر وعثمان ومناصرهتم وتقدمي‬
‫النصح واملشورة هلم‪ ،‬والتحرك ‪ -‬حتت راياهتم ‪ -‬لصد أعداء اإلسالم‪.‬‬
‫حىت قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى‪« :‬ظهر من حال اإلمام علي‬
‫وتواتر املناصرة واملعاضدة واملشاورة واملدح والصالة خلفهم‪ ،‬واخلروج حتت لواء‬
‫أيب بـكر يف قتال أهل الردة وأخذ نصيبه من الفيء»‪.‬‬
‫(‪ )16‬جاء يف عدة روايات أن اإلمام علي كان يأىب أن ينقض شيئاً مما أمضاه‬
‫عمر بن اخلطاب‪ ،‬وكان يقول‪ :‬مل أكن ألحل عقدة عقدها عمر‪.‬‬
‫الزيدية‪ ،‬وغريهم أن اإلمام‬
‫(‪ )17‬تؤكد كتب التاريخ واألنساب‪ ،‬عند علماء َّ‬
‫‪113‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫علياً زوج ابنته َّأم كلثوم عمر بن اخلطاب‪ ،‬وذلك يدل على أنه كان يرضى ُخلُقه‬
‫ودينه‪ ،‬ولو كان عنده غري رضاً ملا زوجه‪.‬‬
‫ويف تأكيد زواج عمر من ابنة اإلمام علي‪ ،‬قال احلافظ أبو عبد هللا العلوي‬
‫قال حممد بن منصور املرادي‪ :‬ثبت عندنا أن عمر خطب إىل علي صلى هللا‬
‫عليه ابنته من فاطمة فزوجه إياها‪.‬‬
‫وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي‪ :‬أن زيداً ورقية من أبناء عمر بن اخلطاب‪،‬‬
‫عمر بنت علي‪.‬‬
‫وأمهما أم كلثوم بنت علي‪ .‬وقال يف موضع آخر‪ :‬وتزوج ُ‬
‫وقال الشيخ الفقيه حممد بن حيىي هبران‪« :‬مجيع ذلك (يعين زواج عمر من‬
‫ابنة علي) مشهور‪ ،‬والذي يقال‪ :‬من أنه مل يدخل هبا وأنه أكره علياً أن يعقد له‬
‫هبا‪ ،‬وحنو ذلك مما ال أصل له‪ ،‬وإمنا هو من حشو الرافضة»‪.‬‬
‫وذكر شيخنا السيد جمد الدين املؤيدي أن ْتزويج أم كلثوم من عمر وقع بال‬
‫ريب‪ ،‬وأن علي رضي به قطعاً مؤكداً «أن القول بعدم رضاه فيه من الفضاضة‬
‫وانتهاك احلرمة‪ ،‬ونقص الدين واملروءة‪ ،‬أعظم وأطم من عدم الكفاءة املدعاة‪.‬‬
‫وتوفيت هي وولدها زيد بن عمر يف وقت واحد»‪.‬‬
‫وذكر اإلمام أحد بن عيسى‪ ،‬واإلمام املؤيد باهلل عن اإلمام احلسن بن علي‬
‫أن علياً‪ ،‬نقل ابنته أم كلثوم ملا قتل عمر‪ ،‬وأمرها فحجت يف عدهتا‪.‬‬
‫وذكر اإلمام املرشد باهلل حيىي بن احلسني الشجري أن أم كلثوم الكربى بنت‬
‫علي ولدت لعمر بن اخلطاب‪.‬‬
‫ذلك ٌهو ٌاملوقف ٌالعام ٌلإلمام ٌيلع ٌممن ٌتودمه‪ ،‬قد روي من طرق خمتلفة‪،‬‬
‫الزيدية‬
‫واحتفت به خمتلف املصادر اإلسالمية‪ ،‬وذلك ما ُعرف عن أئمة َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪114‬‬

‫وعلمائهم‪ ،‬وجاء عنهم ما يؤكد معىن تلك الروايات‪ ،‬ومنها‪:‬‬


‫الزيدية احلافظ أحد بن احلسن الكين‪ ،‬عن اإلمام زيد بن‬ ‫* ما روى شيخ َّ‬
‫علي أنه قال‪« :‬كانت مْنزلة علي بن أيب طالب من رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ َّ ْ‬ ‫ْ حْ‬
‫الٌتتقِ ٌعٌ‬
‫ِحٌ ٌو ٌ‬
‫مٌوأصل ٌ‬
‫فٌقو ِ ٌ‬ ‫وآله وسلم منزلة هارون من موسى؛ إذ قال له‪﴿ :‬اخلف ِ ٌ‬
‫نٌ ِ ٌ‬
‫َ َ حْ‬
‫ِين﴾ [األعراف‪ .]142/‬فألصق ك ْلكله ما رأى صالحاً‪ ،‬فلما رأى الفساد‬ ‫يلٌالـمف ِسد ٌَ‬
‫سب ِ ٌ‬
‫بسط يده‪ ،‬وشهر سيفه‪ ،‬ودعا إىل ربه‪ ،‬وبني أنه كان خليفة حممد صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ ،‬كما كان هارون خليفة موسى‪ ،‬وإمنا توقف ألن ما كان من القوم‬
‫ث‬ ‫من اخلالفة واالستبداد باألمر‪ ،‬كان شرعاً وصالحاً‪ ،‬وأنه ملا رأى الفساد مل يلب ْ‬
‫يف إظهار دين هللا بالسيف‪ ،‬كما فعل بأهل اجلمل‪ ،‬وأهل النَّهروان وص ِفني‬
‫وغريها»‪.‬‬
‫قال اإلمام حيىي بن حزة‪ :‬هذا كالم اإلمام زيد بألفاظه على ما رواه الشيخ‬
‫أحد بن احلسن الكين‪.‬‬
‫* وجزم اإلمام املوفق باهلل احلسن بن إساعيل اجلرجاين بأن «أمري املؤمنني‬
‫علي بن أيب طالب كان يوليهم الذكر اجلميل‪ ،‬ويثين عليهم الثناء احلسن»‪.‬‬
‫* وقال ذكر الشهيد ُحيد احمللي‪« :‬وأما املتقدمني على علي عليه السالم‬
‫فتظلم منهم يف تقدمهم عليه‪ ،‬ومل ينقل عنه ناقل أنه سبهم ‪ -‬حاشاه ‪ -‬وال‬
‫هلكهم»‪.‬‬
‫* ورجح القاضي حيىي بن احلسن القرشي أن «الظاهر من حاله رضي هللا عنه‬
‫املناصرة هلم واملعاضدة هلم‪ ،‬واملشاورة واملدح‪ ،‬والصالة خلفهم‪ ،‬والدعاء هلم باسم‬
‫اخلالفة‪ ،‬وخرج مع أيب بـكر يف قتال أهل الردة‪ ،‬وأخذ نصيبه من الفيء‪ ،‬حىت‬
‫‪115‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫كانت احلنفيَّة أم ولده حممد من سبايا أهل الردة‪ .‬واملشهور من حال عمر رضي‬
‫هللا عنه مشاورته‪ ،‬والتعويل عليه يف املهمات‪ ،‬والرجوع إليه يف املعضالت»‪.‬‬
‫* وأكد اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى «أنه قد تواتر لنا عن علي عليه‬
‫السالم والصاحلني من ذريته معاملتهم إياهم معاملة املؤمنني اخللص يف تروك‬
‫وأفعال وأقوال وهم أهل احلق‪ ،‬فكيف يكون من مل يكن له حق عندهم أشد‬
‫غضباً عليهم؟!»‪.‬‬
‫* وقال اإلمام عز الدين بن احلسن‪« :‬ليعلم الناظر أن أمري املؤمنني واألفاضل‬
‫من أئمة أوالده عليهم السالم ال يكفرون أحداً من الصحابة وال يفسقوهنم‪ ،‬مع‬
‫خمالفتهم للنصوص الواردة يف إمامة أمري املؤمنني‪ ،‬فثبت أن خمالفتهم هلا عندهم‬
‫ال تقطع مواالهتم وال تبطلها»‪.‬‬
‫* وقال القاضي عبدهللا النجري‪« :‬وقد كان علي يعظمهم‪ ،‬ويغزو معهم‪،‬‬
‫ويصلي خلفهم‪ ،‬ويأخذ نصيبه من اخلمس‪ ،‬ويقول فيهم خرياً»‪.‬‬
‫* ونظم السيد صارم الدين الوزير موقف اإلمام علي‪ ،‬فقال يف (البسامة)‪:‬‬
‫س ـ ـ ـ ـ ـوابقاً وهو بالصـ ـ ـ ـ ــرب اجلميل حري‬ ‫وما رأى صـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرمهم رأياً ألن هلم‬
‫وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامح القوم يف أمر أتوه فري‬ ‫أغ ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى وجامل فاخرتنا جماملة‬
‫ومـ ــا تعـ ــدى إىل س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب وال هـ ــذر‬ ‫وقـ ــد جترم منهم يف الـ ــذي فعلوا‬
‫جتــرمـ ـ ـ ـاً ورضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً م ـن ـ ـ ــا ع ـلــى األثــر‬ ‫وحني رضـَّى رضــينا ما ارتضــاه لنا‬
‫أو قف عن السب إما كنت ذا حذر‬ ‫فرض عنهم كما رضَّى أبو حسن‬ ‫ِ‬
‫ومجيع ما تقدم ال يتعارض مع الروايات اليت تشري إىل أن اإلمام علياً مل يكن‬
‫راضياً عما جرى يف اجتماع السقيفة‪ ،‬وال بالطريقة اليت متت هبا بيعة كل واحد‬
‫صحح من ذلك‬ ‫من اخللفاء قـْبـله‪ ،‬وأنه كان يرى لنفسه حقاً يف اخلالفة؛ ألن ما ُ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪116‬‬

‫مل خيرج عن حد العتب املعتاد‪ ،‬ومل يتجاوز االعرتاض والتعبري عن املوقف بالطرق‬
‫املشروعة‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫* ما روى البخاري ومسلم وابن حبان وغريهم عن عائشة أن علياً مل يبايع‬
‫أبا بـكر إال بعد ستة أشهر‪ .‬وهذا احتجاج عملي؛ إذ لو كان يشعر بالرضا التام؛‬
‫لما تأخر عما سبقه إليه غريه من املسلمني‪ ،‬مهما كانت الظروف‪.‬‬
‫وجاء يف الرواية نفسها أن علياً قال أليب بـكر‪« :‬إننا مل ننفس عليك خرياً‬
‫ساقه هللا إليك‪ ،‬ولكنا نرى لنا يف هذا األمر نصيباً‪ ،‬فاستبددت به علينا‪ ،‬فوجدنا‬
‫يف أنفسنا»‪.‬‬
‫* وروى ابن شبَّة والطربي وابن األثري أن عبد الرحن بن عوف طلب من‬
‫علي البيعة على الكتاب والسنة وسرية الشيخني!! فقال علي‪ :‬بل على كتاب‬
‫هللا وسنة رسول هللا وأجتهد رأيي‪ .‬فعدل عنه إىل عثمان‪ ،‬وقال له مثلما قال‬
‫لعلي‪ ،‬فقبل عثمان فبايعه عبد الرحن‪ ،‬وملا رفع عبد الرحن يد عثمان مبايعاً قال‬
‫علي‪ :‬ليس هذا أول يوم تظاهرمت فيه علينا‪ ،‬فصرب مجيل وهللا املستعان على ما‬
‫تصفون‪.‬‬
‫وتذكر بعض الروايات أن اإلمام علي بايع عثمان بن عفان وهو يقول‪:‬‬
‫«خدعة وأميا خدعة!»‪.‬‬
‫* ويف االجتاه نفسه جاء يف (هنج البالغة) أن اإلمام علي قال يف خطبـة له‪:‬‬
‫«أما وهللا لقد تقمصها فالن‪ ،‬وإنه ليعلم أن حملي منها حمل القطب من الرحى‪،‬‬
‫ينحدر عين السيل‪ ،‬وال يرقى إيل الطري‪ ،‬فسدلت دوهنا ثوباً‪ ،‬وطويت عنها‬
‫ك ْشحاً‪ ،‬وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد ج َّذاء‪ ،‬أو أصرب على ط ْخية ع ْمياء‪،‬‬
‫الصغري‪ ،‬ويكدح فيها مؤمن حىت يلقى ربه‪ .‬فرأيت‬‫يـ ْهرم فيها الكبري‪ ،‬وي ِشيب فيها َّ‬
‫‪117‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫أن الصرب على هاتا أحجى‪ ،‬فصربت ويف العني قذى‪ ،‬ويف احللق شجا‪ ،‬أرى‬
‫تراثي هنباً‪.‬‬
‫حىت مضى األول لسبيله‪ ،‬فأدىل هبا إىل فالن بعده‪ ،‬فيا عجباً! بينا هو‬
‫يستقيلها يف حياته‪ ،‬إذ عقدها آلخر بعد وفاته! لشد ما تشطرا ضرعيها! فصربت‬
‫على طول املدة‪ ،‬وشدة احملنة‪ ،‬حىت إذا مضى لسبيله جعلها يف مجاعة زعم أين‬
‫يف مع األول منهم‪ ،‬حىت صرت‬ ‫أحدهم‪ .‬فياهلل وللشورى! مىت اعرتض الريب َّ‬
‫ِ‬
‫أُقْـرن إىل هذه النَّظائر! لكين أسف ْفت إذ أسفوا‪ ،‬وطرت إذ طاروا‪ ،‬فصغى ٌ‬
‫رجل‬
‫منهم ِ‬
‫لض ْغنه‪ ،‬ومال اآلخر لصهره‪ ،‬مع هن وهن‪.‬‬

‫وم ْعتلفه‪ ،‬وقام معه بنو أبيه‬ ‫ِِ‬


‫إىل أن قام ثالث القوم‪ ،‬نافجاً حضنيه‪ ،‬بني نثيله ُ‬
‫خيضمون مال هللا خضم اإلبل نبتة الربيع‪ ،‬إىل أن انتكث عليه فتله (= صنيعه)‪،‬‬
‫وأجهز عليه عمله‪ ،‬وكبت به بِطنته»‪.‬‬
‫ويف التعليق على هذه اخلطبة قال اإلمام عبد هللا بن حزة‪« :‬ما روت اإلمامية‬
‫والزيدية من قوله‪« :‬وهللا لقد تقمصها ابن أيب قحافة‪ ،‬وهو يعلم أن حملي منها‬
‫إيل الطري وال غثاء السيل»‪ .‬فإنَّا نقول‪ :‬وكذلك‬
‫حمل القطب من الرحى ال ترقى َّ‬
‫األمر؛ ألن أبا بـكر مل يكن ينكر شرف بيته وال علو صيته‪ ،‬وأنه ‪ -‬كما قال ‪-‬‬
‫من الرئاسة مبحل القطب من الرحى‪ ،‬وأنه يف علو شرفه بقرابة رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم فال يرقى إليه الطري وال غثاء السيل؛ ولكن ما يف هذا ما يدل‬
‫على أنه علم إمامته ضرورة؛ ألنه مل يصرح بلفظ علمه باإلمامة‪ ،‬وإمنا ذكر أنه‬
‫علم أنه حملها ومستحقها‪ ،‬ومن يعتذر له يقول‪ :‬إنه ال يشك يف ذلك‪ ،‬وإمنا‬
‫تقدم‪ ،‬وقبل البيعة خمافة الفتنة‪ ،‬وأن يرتاخى فتثب عليها األنصار فتخرج عن‬
‫قريش‪ ،‬وهلذا استقال ملا استقر األمر‪ ،‬وقال‪« :‬من يأخذها مبا فيها»‪ .‬وكذلك‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪118‬‬

‫قوله‪« :‬وليتكم ولست خبريكم»‪.‬‬


‫* ويف هنج البالغة ‪ -‬أيضاً ‪ -‬أن اإلمام علي سئل‪ :‬كيف دفعكم قومكم عن‬
‫اعل ْم‪ :‬أما االستبداد علينا هبذا‬ ‫ِ‬
‫استـ ْعل ْمت ف ْ‬
‫هذا املقام وأنتم أحق به؟ فقال‪« :‬قد ْ‬
‫املقام وحنن األعلون نسباً‪ ،‬واألشد بالرسول نوطاً‪ ،‬فإهنا كانت أثرة شحـت عليها‬
‫نفوس قوم‪ ،‬وسخت عنها نفوس آخرين‪ ،‬واحلكـم هللا‪ ،‬واملعود إليه القيامة»‪.‬‬
‫* وفيه أنه قال‪« :‬فوهللا ما زلت مدفوعاً عن حقي‪ ،‬مستأثراً علي‪ ،‬منذ قبض‬
‫هللا تعاىل نبيه (صلى هللا عليه وآله) حىت يوم الناس هذا»‪.‬‬
‫* وفيه أنه قال‪« :‬اللهم إين أستعديك على قريش ومن أعاهنم! فإهنم قطعوا‬
‫رحي‪ ،‬وصغروا عظيم منزليت‪ ،‬وأمجعوا على منازعيت أمراً هو يل‪ .‬مث قالوا‪ :‬أال إن‬
‫يف احلق أن تأخذه‪ ،‬ويف احلق أن ترتكه»‪.‬‬
‫فهذه الروايات الواردة يف كتاب (هنج البالغة) مل خترج عن املعتاد من انتقاد‬
‫بعض تصرفات اخللفاء فيما يتعلق باخلالفة‪ ،‬وال يدل شيء منها على عداوة أو‬
‫قطيعة‪ ،‬فضالً عن الرباءة والتفسيق‪ .‬ولو كان فيها شيء من ذلك لوجب رده‪،‬‬
‫ملعارضته ما قدمنا؛ ألنه أصح وأصرح وأشهر‪ ،‬والسيما أن روايات (هنج البالغة)‬
‫أحادية مرسلة ال تفيد الظن إال مع شواهد من طرق أخرى‪ ،‬فكيف بالقطع الذي‬
‫يتطلبه الوالء والرباء!!‬
‫قال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬إن يف كالم أمري املؤمنني م ْوِجدة على القوم فيما‬
‫كان منهم من االستئثار‪ ،‬من غري أن يصدر منه قول أو فعل يثلم الدين‪ ،‬ويكون‬
‫قاطعاً للمواالة‪ ،‬وهذا هو الذي عليه أفاضل أهل البيت وعلماؤهم»‪.‬‬
‫فهذه مجلة نصوص جتمع املتفرق‪ ،‬وتوضح امللتبس‪ ،‬بصرف النظر عن مدى‬
‫‪119‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫صحة الروايات املذكورة يف (هنج البالغة) أو غريه‪ ،‬فهي إىل جانب ما تقدم من‬
‫روايات خمتلفة املصادر والدالالت ترشد إىل جممل موقف اإلمام علي جتاه‬
‫اخللفاء‪.‬‬

‫الزيدية أنه مل يصح عنه شيء منه وأنه‬


‫أماٌالرباُةٌمنٌاخللفاُ‪ٌ،‬فريى علماء َّ‬
‫مل يتعد يف نقده احلد املسموح به شرعاً‪ ،‬بل ذكر بعض املؤرخني أن األمويني‬
‫كانوا أول من َّروج للقول بأن اإلمام علي كان على عداوة مع اخللفاء‪ ،‬وأن‬
‫موقفه منهم كان حاداً إىل مستوى القطيعة‪.‬‬

‫فقد روى اإلمام عبد هللا بن حزة أن معاوية كتب رسالة إىل اإلمام علي أثىن‬
‫فيها على اخللفاء الثالثة واهتمه فيها حبسدهم والتمرد عليهم‪ .‬فرد عليه اإلمام‪:‬‬
‫«لعمري إن مكاهنم يف اإلسالم عظيم‪ ،‬وذكرت أن عثمان كان يف الفضل ثالثاً‪،‬‬
‫فإن كان حمسناً فسيلقى رباً شكوراً‪ ،‬يضاعف له احلسنات‪ ،‬وجيزيه الثواب العظيم‪،‬‬
‫وإن يك مسيئاً فسيلقى رباً غفوراً ال يتعاظم ذنب يعفوه»‪ .‬وعقب بقوله‪« :‬فهذا‬
‫رأي علي يف أيب بـكر وعمر وعثمان‪ ،‬فهل علمت أيها السامع أنا زدنا على قوله‬
‫حرفاً أو نقصناه ومعاذ هللا»‪.‬‬

‫ونتيجة لسوء التفكري وحية العصبية وقع أكثر اإلمامية واجلارودية فيما أراد‬
‫خصوم اإلمام علي من التشكيك يف موقف اإلمام علي جتاه اخللفاء‪ ،‬فمارسوا‬
‫تشيعهم‪ ،‬ولكن وفق منهج معاوية‪.‬‬
‫َّ‬
‫أماٌالزيديةٌفكانوا أكثر حذراً؛ إذ مل ِ‬
‫يقصروا يف بيان سالمة موقف اإلمام‬
‫علي من اخللفاء‪ ،‬وكيف أنه اقتصر على النَّقد واملؤاخذة دون سب وجتريح‪ .‬على‬
‫قاعدة أهنم بشر يصيبون وخيطئون‪ ،‬وأن ليس كل خطأ كبرية‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪120‬‬

‫* فأكد اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين‪« :‬إن أمري املؤمنني مل‬
‫يصدر من جهته رمي ملن تقدمه بكفر وال فسق‪ ،‬مع خمالفتهم له يف اإلمامة»‪.‬‬
‫وتوسع اإلمام حيىي بن حزة يف شرح سالمة موقف اإلمام علي من اخللفاء‪،‬‬
‫وضمن كتبه نقال كثرياً عنه‪.‬‬
‫َّ‬
‫* وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى‪« :‬فاعلم أنه مل يُسمع عن أحد‬
‫من أمة حممد نقل عن علي عليه السالم وال عن احلسنني وإخوهتما واألئمة من‬
‫أوالدمها سباً صرحياً‪ ،‬أو ذماً صرحياً فاضحاً ألحد من اخللفاء الثالثة»‪.‬‬
‫الزيدية أبو القاسم البسيت بأنه «مل يتواتر عن علي عليه السالم‬
‫* وجزم شيخ َّ‬
‫وأوالده الرباءة منهم»‪.‬‬
‫* وأجاب اإلمام عبد هللا بن حزة من سأله عن حكم املشايخ؟ فقال‪« :‬لنا‬
‫أقدموا‪ ،‬وحنجم حيث أحجموا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أئمة نرجع إليهم يف أمور ديننا‪ ،‬ونـُ ْقدم حيث ُ‬
‫وهم‪ :‬علي وولداه عليهم أفضل السالم واحلادث عليهم وغضبنا فيهم‪ ،‬ومل نعلم‬
‫الصحابة وال لعنه وال شتمه‪ ،‬ال يف مدة حياهتم‪ ،‬وال‬
‫سب أحداً من َّ‬
‫أحداً منهم َّ‬
‫بعد وفاهتم»‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬إنا نعلم أن علياً عليه السالم مل يكن يعاملهم معاملة الفاسق‬
‫واملنافق‪ ،‬بل يعاتبهم‪ ،‬وينعي عليهم أفعاهلم‪ ،‬وال يسبهم‪ ،‬وال نعلم منه الرباءة‬
‫منهم‪ ،‬كما كان يظهر الرباءة من الفساق واملنافقني»‪.‬‬
‫وخلُص إىل «أ َّن أمري املؤمنني هو القدوة‪ ،‬ومل يُعلم من حاله ُ‬
‫لعن القوم وال التربؤ‬
‫ص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫منهم‪ ،‬وال تفسي ُقهم‪ ،‬وهو قدوتنا‪ ،‬فال نزيد على حده الذي وصل إليه‪ ،‬وال ننق ُ‬
‫شيئًا‪ ،‬ألنَّه إمامنا وإمام املتقني‪ ،‬وعلى املأموم اتباع آثار إمامه ومقاله‪ ،‬فِإ ْن تعدى‬
‫خالف وظلم»‪.‬‬
‫‪121‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫وهبذا يتضح أن موقف اإلمام علي بن أيب طالب كان موقفاً طبيعياً‪ ،‬يتسم‬
‫مبراعاة حق ذوي الفضل والسبق‪ ،‬مهما كانت املالحظات عليهم‪.‬‬
‫اإلمامين السبطين الحسن والحسين‬
‫مل خيتلف موقف أبناء علي وأهل بيته عن موقفه جتاه اخللفاء الراشدين‪ ،‬ومما‬
‫روي عن اإلمامني احلسن واحلسني‪:‬‬
‫(‪ )1‬ما ذكر القاضي حييي بن احلسن القرشي أنه ُروي عن احلسن واحلسني‬
‫املواالة للخلفاء واملناصرة هلم واملدح‪ ،‬وإظهار القول اجلميل‪ ،‬ومل يرو أحد من‬
‫أهل النقل أهنما أساءا القول يف اخللفاء‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكر الشهيد حيد احمللي رسالة للحسن بن علي‪ ،‬إىل معاوية بن أيب‬
‫سفيان جاء فيها‪« :‬وقد تعجبنا لتوثب املتوثبني علينا يف حقنا وسلطان نبينا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة يف اإلسالم؛ فأمسكنا‬
‫عن منازعتهم خمافة على الدين أن جيد املنافقون واألحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه‬
‫به‪ ،‬أو يكون هلم بذلك سبب ملا أرادوا به من فساده»‪.‬‬
‫(‪ )3‬ذكر احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني بن القاسم أن علياً واحلسن واحلسني‬
‫كانوا يرضون على الشيخني أيب بـكر وعمر‪.‬‬
‫(‪ )4‬استدل اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى؛ على سالمة موقف‬
‫احلسنني من اخللفاء‪ ،‬بِعِدَّة روايات‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬ما رواه اإلمام حيىي بن حزة يف كتاب (التحقيق) عن احلسن بن علي‬
‫أنه قال‪ :‬لقد أمر رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أبا بـكر أن يصلي بالناس‬
‫وإين ملشاهد‪ ،‬فرضينا لدنيانا من رضيه رسول هللا لديننا‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪122‬‬

‫الثانية‪ :‬ما رواه الشيخ أبو القاسم البسيت أن احلسن بن علي رضي هللا عنهما‬
‫كتب إىل أهل البصرة كتاب الدعوة وترحم على أيب بـكر وعمر‪ ،‬مث قال‪ :‬إن هللا‬
‫بعث حممداً‪ ،‬وكان الناس على ضاللة‪ ،‬فهدى به اخللق مث قبضه‪ ،‬وحنن أحق‬
‫الناس مبكانه‪ ،‬غري أن قوماً تقدمونا واجتهدوا يف طلب احلق‪ ،‬فكففنا عنهم حترماً‬
‫عنهم إلطفاء نار الفتنة‪ ،‬حىت حدث قوم غريوا وبدَّلوا‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ما رواه اإلمام حيىي بن حزة أن عمر ملا وضع الديوان وفرض العطاء‬
‫للمهاجرين واألنصار‪ ،‬فرض للحسن واحلسني نصيباً جزالً‪ ،‬وفرض لولده عبد هللا‬
‫أقل من أحدمها‪ ،‬فقال عبد هللا ألبيه‪ِ :‬مل فرضت حقي دون حقهما؟ فقال له‪:‬‬
‫«ائتين بأب مثل أبيهما وجد مثل جدمها وأم مثل أمهما»‪ .‬قال اإلمام حيىي‪:‬‬
‫وهذه مقالة من ليس بينه وبينهم عداوة وال بغضاء‪.‬‬
‫وأماٌماٌروىٌالسيدٌَحيدان عن اإلمام احلسن أنه ذكر يف خطبته بعد مهادنته‬
‫معاوية‪ :‬أن الذي أجلأه إىل املهادنة هو الذي أجلأ النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫إىل دخول الغار‪ ،‬وأجلأ أمري املؤمنني إىل مبايعة أيب بـكر‪ .‬فليس فيه سباب وال‬
‫يدل على براءة‪ ،‬وإمنا أراد أن يبني للناقمني عليه بسبب الصلح أن مثَّ مواقف‬
‫يفرضها الواقع‪ ،‬كما هو حال من سبقه من أهل بيته‪ ،‬والعمل مبا تقتضيه مصلحة‬
‫الدين هو منهج املؤمنني‪.‬‬
‫اإلمام زين العابدين علي بن الحسين (‪94‬هـ)‬
‫الزيدية أبو القاسم البسيت أن اإلمام علي بن احلسـني زين‬ ‫(‪ )1‬روى شيخ َّ‬
‫العابـدين سع رج ـالً يسب أبا بـكر وعمر رضي هللا عنهما‪ ،‬فقال له‪« :‬هل أنــت‬
‫َ ْ َ ً ََْ ح ح َ‬ ‫ْ َ ْ ََ ْ َ ْ َ ْ َ ح َ َ ْ ً‬ ‫َّ َ ح ْ ح‬
‫ون ٌاهللٌ‬
‫ْص ٌ‬ ‫ل ٌم ٌَ‬
‫ِن ٌاهلل ٌو ِرضوانا ٌوين‬ ‫ون ٌفض ٌ‬
‫اره ٌِم ٌوأموال ِِه ٌم ٌيبت ٌغ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ِن‬‫م‬ ‫ٌ‬ ‫وا‬ ‫ج‬ ‫من ﴿اَّل ٌ‬
‫ِين ٌأخ ِر‬
‫َّ ح َ‬ ‫َ َ ح َح ح َ َ ح‬
‫ون﴾ [الحشر‪]8/‬؟ يعين‪ :‬املهاجرين‪ .‬فقال الرجل‪ :‬ال‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ِك ٌه حٌم ٌالصادِق ٌ‬ ‫ول ٌأوَل ٌ‬
‫ورس ٌ‬
‫‪123‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬
‫َّ َ َ َ َّ ح َّ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ ح ُّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ح َ‬
‫ونٌ‬
‫َيد ٌ‬ ‫الٌ ِ‬‫نٌهاج ٌرٌإِِل ِه ٌمٌ ٌو ٌ‬ ‫ونٌم ٌ‬ ‫ِنٌققل ِِه ٌمٌحيِق ٌ‬
‫انٌم ٌ‬ ‫اإليم ٌ‬
‫ارٌو ِ‬
‫ِينٌتقوُواٌال ٌ‬ ‫فهل أنت من ﴿اَّل ٌ‬
‫ْ َ َ ً َّ ح ح َ ح ْ ح َ َ َ َ ْ ح ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ح َ ح َّ َ ْ‬ ‫ح ح‬
‫س ٌِهٌ‬‫حٌن ٌف ِ‬ ‫وقٌش ٌ‬‫نٌي ٌ‬ ‫نٌب ِ ِه ٌمٌخصاصةٌٌوم ٌ‬ ‫َعٌأنف ِس ِه ٌمٌول ٌوٌاك ٌ‬
‫ونٌ ٌ‬
‫فٌصدورِه ٌِمٌحاج ٌةٌمِماٌأوتواٌويؤث ِر ٌ‬ ‫ٌِ‬
‫َح َ َ ح ح ح ْ ح َ‬
‫ون﴾ [الحشر‪]9/‬؟ يعين‪ :‬األنصار‪ .‬قال الرجل‪ :‬ال‪ .‬قال اإلمام‪ :‬إذا‬ ‫الـمفلِح ٌ‬ ‫ِكٌه ٌمٌ ٌ‬
‫فأوَل ٌ‬
‫ْ َْ‬ ‫ِينٌ َج ح‬ ‫َّ‬
‫ِنٌبع ِده ٌِْمٌ‬ ‫اُواٌم ٌ‬ ‫مل تكن من هؤالء وال هؤالء؛ فأنا أشهد أنك لست من ﴿ َواَّل ٌَ‬
‫ح ح َ ا َّ َ َ ح‬ ‫َ ح ح َ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫ِينٌآمنواٌ‬ ‫ِل ٌٌل ِذل ٌ‬
‫ف ٌقلوبِنا ٌغ ٌ‬ ‫لٌ ِ ٌ‬
‫ال ٌَتع ٌ‬‫انٌو ٌ‬
‫اإليم ٌِ‬ ‫ون ٌربنا ٌاغ ِف ٌر ٌنلا ٌو ِ ِإلخوان ِناٌاَّل ٌ‬
‫ِين ٌسقوونا ٌب ِ ِ‬ ‫يوول ٌ‬
‫َّ َ َّ َ‬
‫كٌ َر حُوفٌٌ َرحِيمٌ﴾ [الحشر‪.»]10/‬‬ ‫َربناٌإِن ٌ‬

‫الزيدية الشيخ أحد بن احلسن الكين أن اإلمام زيد بن علي‬


‫(‪ )2‬وروى مسند َّ‬
‫سع رجالً يروي عن أبيه أنه تربأ من أيب بـكر وعمر‪ ،‬فقال‪« :‬ال تكذب على‬
‫أيب‪ ،‬إن أيب كان جينبين عن كل شر‪ ،‬حىت اللقمة احلارة‪ .‬أفرتاه خيربك بأن دينك‬
‫وإسالمك ال يتم إال بالتربؤ منهما‪ ،‬ويهملين عن التعريف بذلك؟!»‪.‬‬
‫ويذكر أن الرجل املشار إليه هو حممد بن علي بن النعمان األحول‪ ،‬امللقب‬
‫لدى الزيدية بـ«شيطان الطاق»‪ ،‬وامللقب عند اإلمامية بـ«مؤمن الطاق»‪.‬‬
‫(‪ )3‬وروي الدار قطين من طريق أيب حازم‪ ،‬قال‪ :‬سئل علي بن احلسني رضي‬
‫هللا عنه‪ ،‬عن منزلة أيب بـكر وعمر من رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم؟ فقال‪:‬‬
‫كمنزلتهما اليوم‪ ،‬مها ضجيعاه‪.‬‬
‫الصـادق‪ ،‬عن أبيه حممد الباقر؛ أن رجالً جاء إىل أبيه زين‬‫(‪ )4‬وعن جعفر َّ‬
‫العابدين علي بن احلسني‪ ،‬فقال له‪ :‬أخربين عن أيب بـكر‪ ،‬فقال‪ :‬عن الصديق؟‬
‫فقال الرجل‪ :‬وتسميه الصديق؟! فقال له‪ :‬ثـكلتك أمك! قد ساه صديقاً من‬
‫هو خري مين ومنك؛ رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم واملهاجرون واألنصار؛‬
‫ومن مل يسمه صديقاً‪ ،‬فال صدق هللا قولهُ يف الدنيا وال يف اآلخرة‪.‬‬
‫(‪ )5‬وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى أنه روي عن علي بن احلسني‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪124‬‬

‫الثناء احلسن فيهما والوصف اجلميل‪.‬‬


‫(‪ )6‬وروى أحد بن حنبل من طريق الباقر أنه قيل له‪ :‬إن فالناً حدثين أن علي‬
‫َ‬ ‫ْ ً ََ‬ ‫َ َْ َ‬
‫ُس رٌرٌ حم َتوابِلِني﴾ [الحجر‪،]47/‬‬
‫َعٌ ح ح‬ ‫ْ ْ‬
‫ِنٌغِلٌٌإِخ َواناٌ ٌ‬
‫وره ٌِمٌم ٌ‬
‫ح ح‬
‫فٌصد ِ‬ ‫بن احلسني قال‪َ ﴿ :‬ون َزعناٌماٌ ِ ٌ‬
‫نزلت يف أيب بـكر وعمر وعلي‪ ،‬قال‪ :‬وهللا فيهم نزلت؛ ففي من نزلت إال فيهم؟!‬
‫قيل‪ :‬فأي ِغل هو؟ قال‪ِ :‬غل اجلاهلية؛ إن بين تيم وبين عدي وبين هاشم‪ ،‬كان‬
‫خذت أبا بـكر‬ ‫ِ‬
‫القوم حتابوا‪ .‬قال الباقر‪ :‬أ ْ‬ ‫بينهم شيء يف اجلاهلية‪ ،‬فلما أسلم هؤالء ُ‬
‫علي يسخن يده‪ ،‬ويكمد هبا خاصرة‬ ‫اخلاصرةُ (أمل يف اخلاصرة بسبب الربد)‪ ،‬فجعل ٌ‬
‫أيب بـكر‪ ،‬فنزلت هذه اآلية فيهم‪.‬‬
‫(‪ )7‬وقال املؤرخ حممد بن علي الزحيف‪ُ « :‬رِوينا عن زين العابدين أنه ترحم‬
‫عليهما»‪ .‬يعين الشيخني أبا بـكر وعمر‪.‬‬
‫اإلمام الباقرمحمد بن علي بن الحسين (‪114‬هـ)‬
‫كان اإلمام الباقر من أكثر األئمة ابتالء بالكذابني واملتقولني عليه‪ ،‬والسيما‬
‫الصحابة‪ ،‬لذلك كان حريصاً على استغالل أي‬ ‫فيما يتعلق مبوقفه من كبار َّ‬
‫مناسبة لبيان موقفه وموقف أهل بيته‪ ،‬حىت قال اإلمام حيىي بن حزة‪ :‬واملأثور عن‬
‫الباقر شدة احملبة وعظم الثناء على الشيخني واملواالة هلما كما أثر عن أسالفه‪.‬‬
‫واملروي عن اإلمام الباقر يف ذلك الشأن روايات كثرية‪ ،‬يصعب استقصاؤها‪،‬‬
‫فنكتفي جبزء منها‪ ،‬خصوصاً تلك اليت تروى من طريق الرواة املوثقني عند الزيدية‪:‬‬
‫(‪ )1‬عن أيب حنيفة النعمان‪ ،‬أنه ملا قدم املدينة سأل أبا جعفر حممد الباقر‬
‫عن أيب بـكر وعمر‪ ،‬فرتحم عليهما‪ ،‬فقال له أبو حنيفة‪ :‬إهنم يقولون عندنا‬
‫بالعراق‪ :‬إنك تتربأ منهما‪ ،‬فقال‪ :‬معاذ هللا؛ كذبوا ورب الكعبة‪ .‬مث ذكر أليب‬
‫‪125‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫حنيفة تزويج علي ابنته أم كلثوم بنت فاطمة من عمر‪ ،‬مشرياً إىل أنه لو مل يكن‬
‫هلا أهالً ملا زوجه إياها‪ ،‬فقال له أبو حنيفة‪ :‬لو كتبت إليهم؛ فقال‪ :‬ال يطيعونين‬
‫بالكتب‪.‬‬
‫(‪ )2‬عن جابر اجلعفي قال‪ ،‬قال يل حممد بن علي الباقر يا جابر بلغين أن‬
‫قوماً بالعراق يزعمون أهنم حيبوننا ويتناولون أبا بـكر وعمر‪ ،‬ويزعمون أين أمرهتم‬
‫بذلك فأبلغهم أين إىل هللا منهم برئ؛ والذي نفس حممد بيده لو وليت لتقربت‬
‫إىل هللا بدمائهم ال نالتين شفاعة حممد إن مل أكن أستغفر هلما وأترحم عليهما‪.‬‬
‫(‪ )3‬عن كثري النواء‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر حممد بن علي الباقر‪ ،‬عن أيب‬
‫بـكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬فتوالمها أبو جعفر‪ ،‬قلت‪ :‬إهنم يزعمون أن هذا‪ ،‬منكم تقية‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إمنا خياف األحياء وال خياف األموات‪ ،‬فعل هللا هبشام بن عبد امللك كذا وكذا‪.‬‬
‫(‪ )4‬وعن جابر‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر الباقر‪ :‬هل كان أحد من أهل البيت‬
‫يسب أبا بـكر وعمر؟ قال‪ :‬معاذ هللا‪ ،‬بل يتولوهنما‪ ،‬ويستغفرون هلما‪ ،‬ويرتحون‬
‫عليهما‪.‬‬
‫سألت أبا جعفر حممد بن علي عن‬ ‫(‪ )5‬وعن عيسى بن دينار املؤذن‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫أىب بـكر وعمر؟ فقال‪ :‬مسلمني رحهما هللا؟ فقلت له‪ :‬أتوالمها وأستغفر هلما؟‬
‫فقال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬أتأمرين بذلك؟ قال‪ :‬نعم ثالثاً‪ ،‬فما أصابك فيهما فعلى‬
‫عاتقي‪ ،‬وقال بيده على عاتقيه‪ ،‬وقال‪ :‬كان علي بالكوفة خس سنني‪ ،‬فما قال‬
‫هلما إال خرياً‪ ،‬وال قال هلما أيب إال خرياً‪ ،‬وال أقول إال خرياً‪.‬‬
‫(‪ )6‬وعن كثري بن إساعيل النَّواء‪ ،‬قال‪ :‬قلت أليب جعفر حممد بن علي‪:‬‬
‫جعلين هللا فداك‪ ،‬أرأيت أبا بـكر وعمر‪ ،‬هل ظلماكـم من حقكم شيئاً؟ أو قال‪:‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪126‬‬

‫ذهبا من حقكم بشيء‪ ،‬فقال‪ :‬ال‪ ،‬والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعاملني‬
‫نذيراً‪ ،‬ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل‪ ،‬قلت‪ :‬جعلت فداك أفأتوالمها؟‬
‫قال‪ :‬نعم؛ وحيك‪ ،‬توهلما يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وما أصابك ففي عنقي‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫فعل هللا باملغرية وبنان‪ ،‬فإهنما كذبا علينا أهل البيت‪.‬‬
‫(‪ )7‬عن حممد بن إسحاق‪ ،‬عن أيب جعفر حممد بن علي قال‪ :‬من مل يعرف‬
‫فضل أيب بـكر وعمر فقد جهل السنة‪ ،‬بغض أيب بـكر وعمر نفاق‪ ،‬وبغض‬
‫األنصار نفاق‪.‬‬
‫(‪ )8‬وعن بسام بن عبد هللا الصرييف‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر قلت‪ :‬ما تقول‬
‫يف أيب بـكر وعمر؟ فقال‪ :‬وهللا إين ألتوالمها وأستغفر هلما‪ ،‬وما أدركت أحداً من‬
‫أهل بييت إال وهو يتوالمها‪.‬‬
‫(‪ )9‬وعن حكيم بن جبري‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر عمن ينتقص أبا بـكر‬
‫وعمر؟ فقال‪ :‬أولئك املراق‪.‬‬
‫(‪ )10‬وعن جابر اجلعفي‪ ،‬عن حممد بن علي‪ ،‬قال‪ :‬أمجع بنو فاطمة عليهم‬
‫السالم على أن يقولوا يف أيب بـكر وعمر أحسن ما يكون من القول‪.‬‬
‫(‪ )11‬عن عروة بن عبد هللا اجلعفي‪ ،‬قال‪ :‬سألت أبا جعفر حممد بن علي‪،‬‬
‫ما قولك يف حلية السيف؟ قال‪ :‬ال بأس به‪ ،‬قد حلى أبو بـكر الصديق رضي‬
‫هللا عنه سيفه‪ ،‬قلت‪ :‬وتقول‪ :‬الصديق؟ قال‪ :‬فوثب وثبة استقبل القبلة‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬الصديق‪ ،‬فمن مل يقل له الصديق فال صـدق هللا قوله يف الـدنيا وال يف‬
‫اآلخرة‪.‬‬
‫(‪ )12‬وعن سامل بن أيب اجلعد‪ ،‬قلت‪ :‬يا أبا عبد هللا أكان أبو بـكر أول القوم‬
‫‪127‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫إسالماً؟ قال‪ :‬ال‪ .‬فقلت‪ :‬فبأي شيء عال وسبق حىت ال يذكر أحد غريه؟ قال‪:‬‬
‫ألنه كان خريهم إسالما‪ ،‬يوم أسلم‪ ،‬مث مل يزل كذلك حىت قبضه هللا على ذلك‪.‬‬

‫(‪ )13‬وعن سامل بن أيب حفصة قال سألت أبا جعفر وجعفراً‪ ،‬عن أيب بـكر‬
‫وعمر فقاال توالمها وابرأ من عدومها فإهنما كانا إمامي هدى‪.‬‬

‫(‪ )14‬عن سفيان الثوري عن جعفر بن حممد قال‪ ،‬قال يل أيب يا بين إن سب‬
‫أيب بـكر وعمر من الكبائر فال تصل خلف من يقع فيهما‪.‬‬
‫(‪ )15‬وروى القاضي جعفر بن أحد أن الكميت بن زيد وكان من رجال‬
‫الشيعة أنشد بني يدي الباقر قصيدته اليت منها‪:‬‬
‫أبــان لــه الواليـة لو أطيعــا‬ ‫ويوم الدوح دوح غدير ُخم‬
‫فلم أر مثلها خطراً مبيعا‬ ‫ولكن الرج ـ ـ ــال تب ـ ـ ــايعوهـ ـ ــا‬
‫أســاء بذاك أوهلم صــنيعا‬ ‫ومل أبلغ هبم لعنـ ـ ـ ـاً ولكن‬
‫فلم ينكر عليه الباقر‪ ،‬ومل يؤاخذه يف ذلك‪ .‬وهو القائل أيضاً‪:‬‬
‫ألوم يوماً أبا بـكر وال عمرا‬ ‫أهوى علياً أمري املؤمنني وال‬
‫بن ــت النيب وال مرياث ــه كفرا‬
‫وال أقول وإن مل يعطيا فدكاً‬
‫مورد خمتلف آخر روى السيد حيدان عنه‪ ،‬أنه ذكر يف مناظرته للحروري‬ ‫ويف و‬
‫أن الشيخني مغتصبان ملوضع قربيهما من دار رسول هللا صلى هللا عليه وآله‪.‬‬
‫ولكـن تلك الرواية ليس هلا أصل يف كتب الزيدية‪ ،‬وفيها من اجلهالة ما ننزه‬
‫اإلمام حممد الباقر عن مثله‪ ،‬إذ ال يصح القول بأن امليت يغتصب شيئاً بعد موته‬
‫وينسب إليه ذنبه‪ ،‬ومل يرو أن علياً اعرتض على دفنهما جوار أبيها‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪128‬‬

‫اإلمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين (‪122‬هـ)‬


‫كان األمويون قد وضعوا دعوات التغيري وحركات اإلصالح ‪ -‬اليت كانت‬
‫تستهدف حكمهم ‪ -‬يف إطار الثورة على منهج اخللفاء‪ ،‬خصوصاً إذا كان قادهتا‬
‫من أبناء علي وأنصارهم‪ ،‬وساعدهم على ذلك وجود تيار من غالة الشيعة؛‬
‫الذين كانوا يضعون اخللفاء الراشدين وبين أمية يف سياق واحد‪ ،‬فكانوا أكرب عون‬
‫لألمويني يف تفكيك اجلبهات املعارضة هلم‪.‬‬
‫حينما قام اإلمام زيد ثائراً من أجل قضية إنسانية دينية‪ ،‬ال ختص مذهباً دون‬
‫مذهب؛ انضوى حتت لوائه كوكبة من الشخصيات املرموقة من خمتلف التيارات‬
‫الدينية واالجتماعية‪ ،‬فصار حمل إمجاع الفضالء‪ ،‬الذين عرفوا أنه كان صاحب‬
‫مبدأ وقضية‪ ،‬ال ينطلق فيها من ردود فعل عاطفية‪ ،‬فلم يساوم‪ ،‬ومل يرتدد يف شرح‬
‫ما يراه صواباً‪ ،‬فبني أنه ِ‬
‫يفرق بني منهج السلطة املستبدة اليت يريد اخلروج عليها‪،‬‬
‫ومنهج اخللفاء الراشدين‪ ،‬موضحاً أن ثورته ضد حكم بين أمية جاء نتيجة ملا‬
‫يرتكبونه من ظلم وجور يطال اجملتمع‪ ،‬وليس له عالقة مبوضوع الراشدين وما‬
‫جرى يف زماهنم‪.‬‬
‫وبذلك استطاع أن جيمع حتت رايته كوكبة من كبار العلماء من خمتلف‬
‫التيارات واملذاهب‪ ،‬فعندما نستعرض بعض أساء أنصاره ومبايعيه جند فيهم قائمة‬
‫طويلة من كبار العلماء الذين كان عليهم مدار رواية احلديث يف صحاح ومسانيد‬
‫أهل السنة‪ ،‬مثل‪ :‬منصور بن املعتمر وزبيد اليامي وسلمة بن كهيل وهشيم بن‬
‫بشري وسعيد بن خثيم اهلاليل وسليمان األعمش وعباد بن كثري وعبد هللا بن‬
‫عيسى بن عبد الرحن بن أيب ليلى وعبد الرحن بن احلارث بن عياش بن أيب‬
‫ربيعة املخزومي وعبد الرحن بن أيب الزناد وفضيل بن مرزوق واملطلب بن زياد‬
‫‪129‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫وغريهم‪ ،‬فضالً عن فضالء الشيعة واملعتزلة وحىت اخلوارج‪.‬‬


‫ويف بيان موقفه من أيب بكر وعمر وردت عنه روايات كثرية‪ ،‬رواها أئمة الزيدية‬
‫وعلماء احلديث ومدونو كتب التاريخ على حد سواء‪ ،‬وهنا سنقتطف طرفاً منها‪:‬‬
‫(‪ )1‬عن هاشم بن الربيد‪ ،‬قال‪ :‬قال يل زيد بن علي‪ :‬يا هاشم‪ ،‬اعلم أن‬
‫الرباءة من أيب بـكر وعمر الرباءة من علي‪ ،‬فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر‪.‬‬
‫ربئت‬
‫(‪ )2‬وعن عيسى بن زيد‪ :‬قال زيد بن علي للروافض‪ :‬انطلق اخلوارج ف ْ‬
‫ممن دون أيب بـكر وعمر‪ ،‬ومل يستطيعوا أن يقولوا فيهما شيئاً‪ ،‬وانطلقتم أنتم‬
‫فطفرمت فوق ذلك فربئتم منهما‪ ،‬فمن بقي؟ فوهللا ما بقي أحد إال برئتم منه‪.‬‬
‫(‪ )3‬وعن آدم بن عبد هللا اخلثعمي وكان من أصحاب زيد بن علي قال‪:‬‬
‫سألت زيد بن علي عن قول هللا عز وجل "والسابقون السابقون أولئك املقربون"‬
‫من هؤالء قال‪ :‬أبو بـكر وعمر‪ ،‬مث قال ال أنالين هللا شفاعة جدي إن مل أواهلما‪.‬‬
‫(‪ )4‬وروي أن أبا اخلطاب ومجاعة من الغالة دخلوا على اإلمام زيد‪ ،‬فسألوه‬
‫عن مذهبه فقال‪« :‬إين أبرأ إىل هللا من املشبهة الذين شبهوا هللا خبلقه‪ ،‬ومن اجملربة‬
‫الذين حلوا ذنوهبم على هللا‪ ،‬ومن املرجئة الذين طمعوا الفساق يف عفو هللا‪ ،‬ومن‬
‫املارقة الذين كفروا أمري املؤمنني‪ ،‬ومن الرافضة الذين كفروا أبا بـكر وعمر»‪.‬‬
‫(‪ )5‬وروى احلافظ ابن عقدة‪ ،‬عن كثري النواء‪ ،‬قال‪ :‬سألت زيد بن علي عن‬
‫أيب بـكر وعمر؟ فقال‪ :‬توهلما‪ .‬قلت‪ :‬كيف تقول فيمن يربأ منهما؟ قال‪ :‬ابرأ منه‬
‫حىت متوت‪.‬‬
‫(‪ )6‬ويف كتاب (القلة والكثرة)‪ ،‬من رواية خالد بن صفوان‪ ،‬قال‪ :‬فلما قبض‬
‫اّلِل نبيه إليه انطلق املسلمون إىل رجل صاحل؛ فبايعوه‪ ،‬مث بايعوا بعده رجال‪ ،‬مث‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪130‬‬

‫انطلقوا بعده إىل رجل ظنوا به اخلري‪ ،‬وظنوا أنه سيجري جمرى صاحبيه‪ ،‬فمكثوا‬
‫زماناً مث نقموا عليه‪.‬‬
‫(‪ )7‬وعن فضيل بن مرزوق قال‪ :‬قال زيد بن علي‪« :‬أما أنا فلو كنت مكان‬
‫أيب بـكر رضي هللا عنه؛ حلكمت مبثل ما حكم به يف فدك»‪ .‬ويف رواية قيل لزيد‬
‫بن علي‪ :‬إن أبا بـكر انتزع من فاطمة فدك‪ ،‬فقال‪ :‬إنه كان رحيماً‪ ،‬وكان يكره‬
‫أن يغري شيئاً تركه رسول هللا‪ ،‬فأتته فاطمة فقالت له‪ :‬إن رسول هللا أعطاين فدك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬هل لك بينة؟ فشهد هلا علي وأم أمين‪ ،‬فقال هلا‪ :‬فربجل وامرأة‬
‫لقضيت بقضاء أيب بـكر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫األمر فيها إيل‬
‫تستحقينها؟! مث قال زيد‪ :‬وهللا‪ ،‬لو رجع ُ‬
‫(‪ )8‬وعن حممد بن سامل‪ ،‬قال‪ :‬كان عندنا زيد بن علي‪ ،‬فذكر أبا بـكر‪،‬‬
‫فجاء بعض االعرتاض‪ ،‬فقال زيد‪ :‬مه يا حممد بن سامل لو كنت حاضراً ما كنت‬
‫تصنع؟ قلت‪ :‬كنت أصنع كما صنع علي‪ .‬قال‪ :‬فارض مبا صنع علي‪.‬‬
‫(‪ )9‬وعن السدي قال أتيت زيد بن علي وهو يف بارق ‪ -‬حي من أحياء‬
‫الكوفة – فقلت‪ :‬أنتم سادتنا وأنتم والة أمرنا‪ ،‬ما تقول‪ :‬يف أيب بـكر وعمر؟ قال‬
‫توهلما‪.‬‬
‫(‪ )10‬وعن هاشم بن الربيد‪ ،‬عن زيد بن علي‪ ،‬قال‪ :‬أبو بـكر الصديق إمام‬
‫الشاكرين مث قرأ وسيجزي هللا الشاكرين‪.‬‬
‫(‪ )11‬ويف زمنه كان بعض املتحمسني يثري عواطف الشيعة حبكاية روايات‬
‫تشري إىل أن فاطمة الزهراء تعرضت للضرب من عمر بن اخلطاب‪ ،‬فقال له سلمة‬
‫بن كهيل‪ :‬يا أبا احلسني‪ ،‬إن الناس يزعمون أن فاطمة لُ ِطمت‪ .‬قال اإلمام زيد‪:‬‬
‫كانت أكرم على أهلها من ذلك يا أبا حيىي‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬
‫وذلــك ٌما ٌعرفه ٌعلماُ ٌوأئمة ٌ َّ‬
‫الزيدية عن إمامهم ودونوه يف كتبهم‪ ،‬حىت‬
‫صار جزءا من ثقافة أبنائهم‪.‬‬
‫وعن ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬روي أن اإلمام زيد بن علي عليه‬
‫السالم كان كثري الثناء على الشيخني أيب بـكر وعمر والرتحم عليهما‪ ،‬وينهى‬
‫عن سبهما‪ ،‬ويعاقب على ذلك»‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬واملشهور أن بعض الناس (الرافضة) قالوا‪ :‬ال نبايعك حىت تربأ من‬
‫الشيخني فقال‪ :‬كيف أتربأ منهما ومها صهرا جدي وصاحباه ووزيراه؟ وجعل يثين‬
‫عليهما‪ ،‬فرفضوه»‪.‬‬
‫الزيدية‬
‫* وقال احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني بن القاسم‪« :‬اجلمهور من َّ‬
‫يذهبون إىل القول مبقالة زيد بن علي من الرتضية والوالء هلم»‪ .‬يعين اخللفاء‪.‬‬
‫الزيدية زيد بن علي ثبتت‬‫* وذكر يف ترمجة حممد بن حيىي القاسي «أن إمام َّ‬
‫عنه الرتضية عليهم بل ثبت عن علي عليه السالم أيضاً الرتضية عليهم‪ ،‬وأئمة‬
‫الزيدية أكثرهم قائل بذلك»‪.‬‬
‫َّ‬

‫نشأةٌالرافضةٌوموقفٌاإلمامٌزيدٌمنهمٌ‬
‫يذكر املؤرخون أن اإلمام زيد ملا مجع أنصاره ورتب صفوفه‪ ،‬جاءه نفر ممن‬
‫يدعون الشيُّع ألهل البيت‪ ،‬فقالوا له‪« :‬ما قولك يف أيب بـكر وعمر؟ قال‪ :‬رحهما‬
‫هللا وغفر هلما‪ ،‬ما سعت أحداً من أهل بييت يتربأ منهما‪ ،‬وال يقول فيهما إال‬
‫خرياً‪ .‬قالوا‪ :‬فلم تطلب إذاً بدم أهل هذا البيت‪ ،‬إال أن وثبا على سلطانكم‪،‬‬
‫فـنزعاه من أيديكم! فقال هلم زيد‪ :‬إن أشد ما أقول فيما ذكرمت‪ :‬إنا كنا أحق‬
‫بسلطان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من الناس أمجعني‪ ،‬وإن القوم‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪132‬‬

‫استأثروا علينا‪ ،‬ودفعونا عنه‪ ،‬ومل يبلغ ذلك عندنا هبم كفراً‪ ،‬قد ولوا فعدلوا‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فإذا كان أولئك مل يظلموكم فلم تدعونا إىل قتال هؤالء؟ فقال‪ :‬إن هؤالء ظاملون‬
‫لكم وألنفسهم‪ ،‬وإمنا ندعوكم إىل‪ :‬كتاب هللا عز وجل وإىل السنن أن ُحتىي‪ ،‬وإىل‬
‫البدع أن تطفأ‪ .‬فلم يلتفتوا إىل كالمه وفارقوه‪ ،‬ونكثوا بيعته‪ ،‬وقالوا‪ :‬سبق اإلمام‪،‬‬
‫وجعفر بن حممد إمامنا بعد أبيه‪ ،‬وهو أحق باألمر‪ ،‬وال نتبع زيداً‪ ،‬وليس بإمام‪.‬‬
‫فسماهم اإلمام زيد بن علي‪« :‬رافضة»‪.‬‬
‫وروى أبو العباس احلسين أن اإلمام زيد قال هلم‪« :‬اختاروا؛ إما أن تقاتلوا‬
‫معي وتبايعوين على ما بويع عليه علي واحلسن واحلسني‪ ،‬أو تعينوين بسالحكم‬
‫وتكفوا عين ألسنتكم»‪.‬‬
‫وهذا هو املشهور يف سبب تسمية "الرافضة" منذ القرون األوىل‪ ،‬فقد ُسئل‬
‫عيسى بن يونس بن أيب إسحاق ‪187( -‬هـ) وهو أحد الرواة املعتمدين عند‬
‫الزيدية ‪ -‬عن الرافضة والزيدية‪ ،‬فقال‪ :‬أما الرافضة فأول ما ترفضت‪ ،‬جاؤوا إىل‬
‫زيد بن علي حني خرج‪ ،‬فقالوا‪ :‬تربأ من أيب بـكر وعمر حىت نكون معك‪ .‬فقال‪:‬‬
‫بل أتوالمها وأبرأ ممن تربأ منهما‪ .‬قالوا‪ :‬فإذن نرفضك‪ .‬فسميت الرافضة‪ .‬قال‪:‬‬
‫الزيدية فقالوا‪ :‬نتوالمها ونربأ ممن يتربأ منهما‪ .‬فخرجوا مع زيد‪ ،‬فسميت‪:‬‬
‫وأما َّ‬
‫الزيدية»‪.‬‬
‫« َّ‬
‫وبذلك جزم عالمة اليمن نشوان بن سعيد احلمريي وهو من علماء الزيدية‬
‫يف القرن السادس‪ ،‬فقال‪« :‬إن الرافضة سيت بذلك لرفضهم زيد بن علي بن‬
‫احلسني‪ ،‬وتركهم اخلروج معه‪ ،‬حني سألوه الرباءة من أيب بكر وعمر‪ ،‬فلم جيبهم‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫وأكده اإلمام عبد هللا بن حزة حينما ذكر «أن من طلب من زيد بن علي‬
‫‪133‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫سبَّهما والتربؤ منهما هم أتباع اإلمامية‪ .‬وأضاف‪ :‬وال شك أن اإلمامية‬


‫يستجيزون سبَّهما‪ ،‬بل منهم من يعتقد ردهتما‪ ،‬ومنهم من يقول مل يسلما!! وال‬
‫ميتنع أن يكون فيهم ننت ريح هذا االعتقاد وأمثاله‪ ،‬لغري دليل واضح وال علم‬
‫الصحابة مبا ليس عندهم وهو هبتان عظيم»‪.‬‬
‫الئح‪ ،‬بل جرأة على َّ‬
‫وروى نشوان بن سعيد أن عوانة بن احلكم الكويف (‪158‬هـ)‪ .‬روى أن اإلمام‬
‫زيد قال ملن رفض بيعنه‪« :‬إمنا أدعوكم إىل كتاب هللا ليعمل به‪ ،‬وإىل السنة أن‬
‫يعمل هبا‪ ،‬وإىل البدع أن تطفأ‪ ،‬وإىل الظلمة من بين أمية أن ختلع وتنفى‪ ،‬فإن‬
‫أجبتم سعدمت‪ ،‬وإن أبيتم خسرمت‪ ،‬ولست عليكم بوكيل‪ .‬قالوا‪ :‬إن برئت منهما‬
‫وإال رفضناك!! فقال زيد‪ :‬هللا أكرب‪ ،‬حدثين أيب أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫نبز يعرفون به‪ ،‬فإذا لقيتموهم‬‫قال لعلي‪« :‬إنه سيكون قوم يدعون حبنا هلم ٌ‬
‫فاقتلوهم فإهنم مشركون‪ .‬اذهبوا فإنكم الرافضة‪ .‬ففارقوا زيداً يومئذ فسماهم‬
‫الرافضة‪ ،‬فجرى عليهم هذا االسم»‪.‬‬
‫ومل يرتدد اإلمام حيىي بن حزة يف «أن حديث زيد يدل على أن تلقيبهم‬
‫بالرفض ألجل سبهم الشيخني»‪ ،‬وقال‪« :‬هؤالء فرقة من أصحاب زيد بن علي‬
‫راودوه على التربي من الشيخني رضي اّلِل عنهما وعداوهتما‪ ،‬فأىب عن ذلك‬
‫فرفضوه ملا مل يوافقهم على ذلك‪ ،‬فلهذا سوا‪ :‬روافض‪ ،‬وهم قوم بدعية ال يلتفت‬
‫إىل أقواهلم‪ ،‬وال أعلم هلم وجهاً فيما ذهبوا إليه من كتاب وال سنة»‪.‬‬
‫أما اجلارودية من الزيدية ‪ -‬وهم حلفاء الرافضة يف املوقف من اخللفاء ‪-‬‬
‫فذكروا أهنم إمنا رفضوا اإلمام زيداً؛ ألهنم كانوا يرون أن اإلمام ابن أخيه جعفر‪،‬‬
‫وليس ألنه مل يوافقهم على الرباءة من الشيخني‪ ،‬واحتجوا مبا روى أبو العباس‬
‫احلسين (‪352‬هـ) عن اإلمام اهلادي (‪298‬هـ) قال‪ :‬حدثين أيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪134‬‬

‫ملا ظهر زيد بن علي عليه السالم دعا الناس إىل نصرة احلق‪ ،‬فأجابته الشيعة‪،‬‬
‫وكثري من غريها‪ ،‬وقعد قوم عنه وقالوا له‪ :‬لست أنت اإلمام!! قال‪ :‬فمن هو؟‬
‫قالوا‪ :‬ابن أخيك جعفر‪ .‬قال هلم‪ :‬إن قال جعفر أنه اإلمام فقد صدق‪ ،‬فاكتبوا‬
‫إليه وسلوه‪ .‬قالوا‪ :‬الطريق مقطوع وال جند رسوالً إال بأربعني ديناراً‪ .‬قال‪ :‬هذه‬
‫أربعون ديناراً فاكتبوا وأرسلوا إليه‪.‬‬
‫فلما كان من الغد أتوه فقالوا‪ :‬إنه يُداريك‪ .‬قال‪ :‬ويلكم إمام يداري من غري‬
‫بأس‪ ،‬أو يكتم حقاً‪ ،‬أو خيشى يف هللا أحداً؟! فاختاروا مين أن تقاتلوا معي‬
‫وتبايعوين على ما بويع عليه علي واحلسن واحلسني عليهم السالم‪ ،‬أو تعينوين‬
‫بسالحكم وتكفوا عين ألسنتكم‪ .‬قالوا‪ :‬ال نفعل‪ .‬قال‪ :‬هللا أكرب‪ ،‬أنتم وهللا‬
‫«الروافض» الذي ذكر جدي رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬سيكون من بعدي قوم يرفضون‬
‫اجلهاد مع األخيار من أهل بييت‪ ،‬ويقولون‪ :‬ليس عليهم أمر مبعروف وال هني عن‬
‫منكر‪ ،‬يقلدون دينهم ويتبعون أهواءهم‪.‬‬
‫وهذه رواية جيدة النَّقل وليس فيها ما يتعارض مع الرواية السابقة؛ ألن غاية‬
‫أمرها أن بعض الرواة اقتصر على ذكر بعض التفاصيل وأمهل بعضها‪.‬‬
‫وأنا أعتقد أن رفض القوم نصرة اإلمام زيد ليس بسبب املوقف من الشيخني‬
‫فقط‪ ،‬بل ألسباب أخرى‪ ،‬ويف ذلك قال احلافظ أبو عبد هللا احلسين العلوي‪:‬‬
‫قرأت يف كتاب أحد بن بشار الثوري خبطه وكان ثقة فاضالً‪ :‬قال أبو جعفر‬
‫حممد بن منصور‪ :‬قرأت على القاسم بن إبراهيم هذا الكالم‪ :‬سألت أيب ‪ -‬رحة‬
‫هللا عليه ‪ -‬يوماً ِمل سيت الرافضة بالرفض‪ ،‬وِمل نسبت إىل ما نسبت إليه من‬
‫الشنآن آلل رسول هللا والبغض؟ قال‪ :‬سيت الرافضة لرفضها آل رسول هللا كلهم‪،‬‬
‫والختيارها برأيها وأهوائها إماماً منهم‪ ،‬وليس بأعلمهم وال أفضلهم»‪ .‬مث استطرد‬
‫يف الرد على مذهبهم يف اإلمامة‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫ورد الشيخ ابن تيمية على من زعم أن هذا اللقب أطلق على الرافضة لرفضهم‬
‫إمامة أيب بـكر فقال‪« :‬الصحيح أهنم سوا رافضة ملا رفضوا زيد بن علي؛ ملا خرج‬
‫بالكوفة أيام هشام بن عبد امللك»‪.‬‬
‫وأياً كان سبب تسمية الرافضة‪ ،‬فقد ختلوا عن نصرة اإلمام زيد‪ ،‬يف حني‬
‫ناصره العلماء من خمتلف طوائف املسلمني‪ ،‬حىت قال اإلمام أبو طالب حيىي بن‬
‫احلسني اهلاروين (‪424‬هـ)‪« :‬اجتمع طوائف الناس‪ ،‬على اختالف آرائهم‪ ،‬على‬
‫مبايعته‪ ،‬فلم يكن الزيدي أحرص عليها من املعتزيل‪ ،‬وال املعتزيل أسرع إليها من‬
‫املرجي‪ ،‬وال املرجي من اخلارجي‪ ،‬فكانت بيعته عليه السالم مشتملة على فرق‬
‫األمة‪ ،‬مع اختالفها‪ ،‬ومل يشذ عن بيعته إال هذه الطائفة القليلة التوفيق‪ ،‬اليت‬
‫قطعت من حبل أهل البيت ما أمر هللا تعاىل به أن يوصل‪ ،‬وفرقت بني عرتة نبيه‬
‫صلى هللا عليه وآله يف املوضع الذي أمر هللا تعاىل باجلمع فيه‪ ،‬وانتسبت إىل‬
‫مواالة أهل البيت عليهم السالم قوالً‪ ،‬وهي بعيدة عنها عقداً وفعالً»‪ .‬مث ذكر‬
‫أن «قوهلم يف أهل البيت أسوأ من قول النواصب واحلشوية‪ ،‬وأهنم يدعون ورود‬
‫النص من غري حجة وال برهان»‪ .‬مث أطال يف الرد عليهم يف اإلمامة‪.‬‬
‫وقال شيخنا السيد جمد الدين املؤيدي عند ذكر اإلمام زيد‪« :‬مل يفارقه إال هذه‬
‫الفرقة الرافضة اليت ورد اخلرب الشريف بضالهلا‪ .‬وسبب مفارقتهم له مذكور يف كتاب‬
‫معرفة هللا لإلمام اهلادي إىل احلق‪ ،‬وغريه من مؤلفات األئمة واألمة‪ ،‬فإن األمة‬
‫أمجعت على أن الرافضة هم الفرقة الناكثة على اإلمام زيد بن علي‪ ،‬ولكنها اختلفت‬
‫الروايات يف سبب نكثهم عليه‪ ،‬وأهل البيت أعلم هبذا الشأن‪ ،‬واقتدت هذه الفرقة‬
‫بسلفها املارقة احلرورية‪ ،‬كما قال اإلمام زيد بن علي‪ :‬اللهم اجعل لعنتك ولعنة آبائي‬
‫وأجدادي ولعنيت على هؤالء القوم الذين رفضوين‪ ،‬وخرجوا من بيعيت‪ ،‬كما رفض‬
‫أهل حرْوراء علي بن أيب طالب عليه السالم‪ ،‬حىت حاربوه»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪136‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬
‫َتلفٌالرافضةٌوتسويغٌاجلاروديةٌ‬
‫سيأيت مبحث خاص بالكالم عن اجلارودية‪ ،‬ولكنين سوف أشري هنا إىل ما‬
‫يورد اجلاروديون من تسويغ ومترير ملوقف الرافضة‪ ،‬وتأويل لكالم اإلمام زيد جتاه‬
‫الشيخني ليبدو موقفه منسجماً مع رأيهم‪.‬‬
‫ومن ذلك أهنم يقولون‪ :‬إن اإلمام زيد «نسب ما أصابه من ظلم هشام إىل‬
‫الشيخني؛ ألجل كوهنما أول من سن ظلم العرتة‪ ،‬والتقدم على األئمة‪ .‬وقالوا‪:‬‬
‫إنه ُسئل عن أيب بـكر وعمر‪ ،‬قبل الدخول يف املعارك مع جند األمويني‪ ،‬فسكت‬
‫ومل جيب‪ ،‬وبعد أن أصيب‪ ،‬طلب م ْن سأله عن الشيخني‪ ،‬مث قال له‪" :‬مها قتالين‬
‫مها صلباين"»‪.‬‬
‫وهذه الرواية مما كنت أسعه من بعض مشاخينا الذين يتبنون رأي اجلارودية يف‬
‫هذه املسألة‪ ،‬وكنت أتلقاها بالقبول كغريي من الطالب الذين نادراً ما يرتددون‬
‫يف تـقبُّل ما ميلي عليهم مشاخيهم‪ ،‬وحينما حبثت عن صحتها ألعزز بذلك ما‬
‫صار جزءاً من معرفيت؛ تفاجأت بأهنا ال تُروى يف كتب الزيدية من طريق معتربة‬
‫ميكن الوثوق هبا‪.‬‬
‫وبعد مراجعات عدة خلصت إىل أن املتخلفني عن نصـرة اإلمام زيد أرادوا‬
‫التخلص من العار الذي حلقهم بسبب خذالنه؛ فاخرتعوا تلك احلكاية‪ ،‬ليحملوه‬
‫أقر بصحة ما ذهبوا إليه‪ ،‬وأنه هو‬
‫مسؤولية تقصريهم‪ ،‬حبجة أنه اإلمام زيد قد َّ‬
‫من أخطأ يف عدم اإلفصاح عن موقفه جتاه الشيخني‪ ،‬الذي عدوه سبب تأخرهم‬
‫عن نصرته‪.‬‬
‫حل به إىل‬
‫ويؤكد عدم صحة تلك احلكاية‪ ،‬وما يُروى فيها من أنه نسب ما َّ‬
‫أيب بكر وعمر؛ عدة أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪137‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫‪ .1‬أن أئمة الزيدية املتقدمني كاإلمام القاسم الرسي (‪246‬هـ)‪ ،‬واإلمام اهلادي‬
‫حيىي بن احلسني (‪289‬هـ) وغريمها‪ ،‬ذكروا قصة الروافض‪ ،‬وليس يف شيء‬
‫منها أي إشارة لتلك الرواية‪ ،‬ومل يتعرضوا فيها للشيخني أصالً‪.‬‬
‫الزيدية؛ الذين اعتنوا بأخبار اإلمام زيد‪ ،‬كاإلمام أيب‬
‫‪ .2‬أن قدماء مؤرخي َّ‬
‫طالب‪ ،‬واإلمام املرشد باهلل‪ ،‬وأيب خمنف‪ ،‬وأيب الفرج األصفهاين‪ ،‬والشهيد‬
‫حيد احمللي‪ ،‬مل يذكروها‪ .‬حىت أبو العباس احلسين ‪ -‬املعروف مبوقفه املتحامل‬
‫على اخللفاء ‪ -‬مل يذكرها أو يشر إليها يف (املصابيح)‪.‬‬
‫الزيدية وعلماؤهم‪ ،‬كاحلافظ أحد الكين واإلمام حيىي بن حزة‬
‫‪ .3‬ذكر كبار أئمة َّ‬
‫والقاضي القرشي واإلمام املهدي أحد بن حيىي والقاضي يوسف بن أحد‬
‫واإلمام عز الدين بن احلسن وغريهم‪ ،‬ذكروا لإلمام زيد موقفاً واحداً‪ ،‬ومل‬
‫يشريوا إىل تلك الرواية‪ ،‬ولو جملرد التعقيب عليها‪ ،‬كما هي عادهتم يف مثل‬
‫ذلك‬
‫‪ .4‬أن بعض علماء الزيدية مل يكتفوا باإلعراض عن تلك احلكاية‪ ،‬بل‬
‫استنكروها‪ ،‬حىت قال العـالَّمة حيىي بن حيد‪« :‬لعلها من دسائس الرافضة»‪.‬‬
‫‪ .5‬مل يتغري موقف أتباع اإلمام زيد وأنصاره وأهله الذين حضـروا مقتله واستمروا‬
‫على منهجه‪ ،‬جتاه الشيخني‪ ،‬فلو كانوا عرفوا ذلك عنه ألذاعوه وبـيَّنوه‪ ،‬وملا‬
‫ظل أنصاره على موقفهم من أيب بـكر وعمر والرتحم عليهما‪.‬‬
‫‪ .6‬تلك العبارة مطبوعة بطابع التقية واملراوغة‪ ،‬وكتمان احلق عند السؤال عنه‬
‫واحلاجة إليه‪ ،‬ومل يكن اإلمام زيد ممن يظهر التقية يف مثل هذه األمور‪ ،‬وال‬
‫يكتم احلق يف مثل هذه املواقف‪ ،‬كيف وهو القائل‪« :‬وهللا لو علمت أن‬
‫رضا اّلِل عز وجل يف أن أقدح ناراً بيدي حىت إذا اضطرمت رميت بنفسي‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪138‬‬

‫فيها لفعلت»‪.‬‬
‫ذُكر فيها القتل والصلب‪ ،‬وهذا يعين أن هذه الرواية لفقت بعد مقتله وصلبه؛‬
‫ألن اإلمام زيداً مل يكن يعلم بأنه سيصلب؛ إذ إن ذلك غيب ال يعلمه إال هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬ودعوى معرفته ذلك من خرب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬جمرد‬
‫أقاصيص ال تروى من مصادر مسندة موثقة‪.‬‬
‫وخالصة ما أثر عن اإلمام زيد بن علي أنه مل يكن له موقف حاد من اخللفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬ومل يثبت عنه ما يتجاوز موقف أهل بيته األئمة املصلحني املمتثلني‬
‫حح َ‬ ‫َ ح ح َ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫فٌقلوبِناٌ‬
‫لٌ ِ ٌ‬
‫الٌَتع ٌ‬ ‫انٌو ٌ‬
‫اإليم ٌِ‬
‫ِينٌسقووناٌب ِ ِ‬ ‫قول هللا تعاىل‪﴿ :‬يوول ٌ‬
‫ونٌربناٌاغ ِف ٌرٌنلاٌو ِ ِإلخوان ٌِناٌاَّل ٌ‬
‫ا َّ َ َ ح َّ َ َّ َ‬
‫كٌ َر حُوفٌٌ َرحِيمٌ﴾ [الحشر‪.]١٠/‬‬ ‫ِينٌآمنواٌ َربناٌإِن ٌ‬
‫ِلٌل ِذل ٌ‬
‫غ ٌ‬

‫رأي الزيدية في عثمان بن عفان خاصة‬


‫خيتلف كالم بعض الزيدية يف شأن عثمان بن عفان‪ ،‬عن كالمهم يف شأن‬
‫الشيخني أيب بكر وعمر‪ ،‬حىت قال ابن تيمية‪« :‬وأما شيعة علي فكثري منهم ‪-‬‬
‫أو أكثرهم ‪ -‬يذم عثمان‪ ،‬حىت الزيدية الذين يرتحون على أيب بكر وعمر‪ ،‬فيهم‬
‫ويذمه‪ ،‬وخيارهم الذي يسكت عنه‪ ،‬فال يرتحم عليه وال‬ ‫من يسب عثمان ُّ‬
‫يلعنه»‪.‬‬
‫والذي أعرفه أن عموم الزيدية عدا اجلارودية‪ ،‬ال يتجاوزون يف عثمان ما صح‬
‫هلم من موقف اإلمام علي‪ ،‬باعتباره شاهداً على ما جرى‪ ،‬وهو قدوة ال يتجاوزونه‬
‫يف مثل هذه األمور‪ ،‬وقد تقدم ‪ -‬عند الكالم عن ما شجر بني الصحابة – ذكر‬
‫ما انتقده الناس على عثمان بن عفان‪ ،‬وما ورد عن اإلمام علي جتاه تلك الفتنة‪،‬‬
‫وما تالها من اضطرابات‪.‬‬
‫وعثمان رضي هللا عنه‪ ،‬بشر خيطئ كغريه‪ ،‬كما وصف نفسه؛ حينما قال يف‬
‫‪139‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫الرد على منتقديه‪« :‬إمنا أنا بشر أغضب وأرضى‪ ،‬فمن ادعى قِبلي حقاً أو مظلمة‬
‫فها أنا ذا‪ ،‬فإن شاء قـوداً وإن شاء عفواً»‪ .‬وما صح عنه من جتاوزات وأخطاء‪،‬‬
‫ال تُسقط حقَّه وسابقته‪ ،‬وال ُخترجه من دائرة اإلميان‪ ،‬أو جتعله منبوذاً‪ ،‬أو ُِجتيز‬
‫الرباءة منه‪.‬‬
‫ومما أود أن أنبه عليه هنا أنين كنت قد حققت رسالة ضمن (جمموع كتب‬
‫ورسائل اإلمام زيد بن علي)‪ ،‬وعنونتها بـ(مقتل عثمان) تضمنت نقداً لعثمان‪،‬‬
‫مل يبلغ درجة السباب والطعن يف دينه‪ ،‬ومع ذلك لست على ثقة من نسبتها‬
‫إىل اإلمام زيد بن علي‪ ،‬وإمنا وجدهتا ضمن جمموعة رسائل وكتب تنسب إليه‪،‬‬
‫ومل أبذل ما ينبغي أن يبذل يف التَّحقق من صحة تلك الرسائل‪ .‬فأرجو أن أمتكن‬
‫من مراجعتها والتَّحقق من نسبتها‪.‬‬
‫وأفرد القاضي حيىي بن احلسن القرشي فصالً يف كتاب (منهاج املتقني) حتدث‬
‫فيه عن الشُّبه اليت أثريت حول عثمان وناقشها‪ ،‬وأثرى ذلك اإلمام عز الدين بن‬
‫احلسن يف (املعراج)‪ .‬وقبلهما تطرق لتلك الشُّبه من الزيدية كل من‪ :‬أيب القاسم‬
‫البُسيت‪ ،‬واإلمام حيىي بن حزة يف كتابيهما عن التكفري والتفسيق‪.‬‬
‫ومما حيسن التنبيه عليه أن عموم الشيعة مل يتفردوا بذكر ما نـقم املسلمون‬
‫على عثمان ‪ -‬سواء صحت تلك الروايات أو بعضها ‪ -‬بل سبقهم إىل ذلك‬
‫السنة؛ كابن سعد والطربي وابن األثري وابن كثري والذهيب‬
‫كثري من مؤرخي أهل ُّ‬
‫وابن حجر وابن اجلوزي وغريهم‪.‬‬
‫حىت أن ابن جرير الطربي ذكر أن عائشة ملا «انصرفت إىل مكة وهي تقول‪:‬‬
‫قتل وهللا عثمان مظلوما‪ ،‬وهللا ألطلنب بدمه‪ ،‬فقال هلا ابن أم كالب‪ :‬ومل؟ فو هللا‬
‫إن أول من أمال حرفه ألنت! ولقد كنت تقولني‪ :‬اقتلوا نعثال فقد كفر‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪140‬‬

‫إهنم استتابوه مث قتلوه‪ ،‬وقد قلت وقالوا‪ ،‬وقويل األخري خري من قويل األول»‪.‬‬
‫وأعتقد أنه ال ضري يف ِذكر الوقائع واألحداث اليت تقع من هذا أو تصدر‬
‫عن ذاك؛ فجميع البشر خيطئون‪ ،‬وال ختلوا حياهتم مما ينبغي أن يتوبون منه‬
‫ويعتذرون‪ ،‬لذلك جاء يف احلديث‪« :‬كل ابن آدم خطاؤون وخري اخلطائني‬
‫التوابون»‪ .‬ولكن املشكلة أوالً يف اختالق الروايات التارخيية اليت يرتاشق هبا‬
‫املتخاصمون‪ ،‬وثانياً يف وضع احلدث يف غري سياقه الطبيعي‪ ،‬وقطعه عن‬
‫مالبساته‪ ،‬أو تفسريه وفق ما يفرضه املخالف من تـْبييت سوء النية‪ ،‬وجتاهل‬
‫املسوغات املوضوعية اليت نشأ احلدث يف ظلها‪.‬‬
‫ولعل من أجود العبارات اليت خلصت مالبسات املشهد السياسي أواخر أيام‬
‫عثمان‪ ،‬هي قول اإلمام علي‪« :‬وأنا جامع لكم أمره؛ استأثر فأساء األثرة‪،‬‬
‫وجزعتم فأسأمت اجلزع‪ ،‬وهلل حكم واقع يف املستأثر واجلازع»‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬الصحابة الخارجون على الخلفاء‬


‫عدد قليل من الذين نالوا شرف مرافقة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫تورطوا يف أخطاء جتاوزت اللمم املعفو عنه؛ فصاروا عرضة للنقد‪ ،‬حسب القاعدة‬
‫َ َ َ َ ْ‬ ‫ح ُّ َ ْ‬
‫تٌ َره َِينةٌ﴾ [املدثر‪ ،]38 :‬وعمالً بظاهر احلال‪ ،‬الذي جيب‬
‫سٌبِماٌكسق ٌ‬
‫كٌنف ر ٌ‬‫القرآنية‪ٌ ﴿ :‬‬
‫التعامل يف ضوئه‪ .‬أما ما آل إليه أمر هذا وذاك‪ ،‬فغيب ال يعلم حقيقته إال هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وهو أعلم بعباده‪ ،‬فيغفر ملن يشاء ويُعذب من يشاء‪.‬‬

‫أوالا‪ :‬الخارجون على أبي بكر وعمر‬


‫أشرنا فيما تقدم إىل أن خالفاً وقع بني الصحابة عقب وفاة النيب عند بيعة‬
‫أيب بكر‪ ،‬مث عقب بيعة عمر‪ ،‬وكيف بينا أنه كان يف ُجممله خالفاً طبيعياً جاء‬
‫‪141‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫نتيجة اختالف وجهات النظر يف تقدير األصلح للمسلمني‪.‬‬


‫ويف سياق االختالف واملعارضة ذكر املؤرخون أن بعض من لقي رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم والتحق باملسلمني ارتد عن اإلسالم‪ ،‬أو ادعى النبوة‪.‬‬
‫يف حني رفضت بعض القبائل التعامل مع أيب بكر على أنه خليفة لرسول هللا‪،‬‬
‫ومنعوا تسليم الزكاة إىل بعض ُع َّماله‪ ،‬واستنكروا أن حيل حمل رسول هللا سواه‪،‬‬
‫واعتربوا مطالبة أيب بكر بالزكاة فرضاً هليمنة قريش‪ .‬حىت ذكر ابن كثري أن بعض‬
‫القبائل كانوا من أهل الصالة‪ ،‬وإمنا امتنعوا من أداء الزكاة إىل أيب بكر‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫لسنا ندفع زكاتنا إال إىل من صالته سكن لنا‪ .‬ويف ذلك نُسب إىل احلارث بن‬
‫سراقة أبيات منها‪:‬‬
‫فيــا لعبــاد هللا مــا أليب بكر؟!‬ ‫أطعنا رسول هللا ِعشرين ِح َّجةً‬
‫فتلك و ْأميُ هللا قاصمةُ الظهر!‬ ‫أيورثه ــا ب ْكراً إذا م ـ ـات بع ــده‬
‫ويف بعض الروايات‪:‬‬
‫لتِْلك الَِّيت خيْزى ِهبا الْمْرءُ ِيف الْق ِرب‬ ‫أنـُع ِطي قُـري ِش ـ ـا مالنا إِ َّن ه ِذهِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫علْيـن ـا وال تِْل ـك الْقب ـائِـ ُل ِم ْن فِ ْه ِر‬ ‫ِ‬
‫وم ـ ـ ـا لب ِين تـْي ِم بْ ِن ُمَّرة إِ ْمرةٌ‬
‫وأ ْوىل ِمبا ا ْس ـتـ ْوىل علْي ِه ْم ِمن األ ْم ِر‬ ‫اّلِل أ ْوجب طاعةً‬ ‫أل َّن رسول َِّ‬
‫ُ‬
‫وتشري ُجممل الروايات ‪ -‬قبل توجيهها ‪ -‬إىل أن القوم امتنعوا من تسليم الزكاة‬
‫لعمال أيب بكر كنوع من االحتجاج على ما عدوه سوء تصرف من بعضهم‪ ،‬ال‬
‫ِ‬
‫َّأهنم ارتدوا عن الدين‪ ،‬أو أنكروا شرعية الزكاة‪ ،‬وهذا حدث ْ‬
‫وحيدث كثرياً حىت‬
‫يف زماننا‪ ،‬حيث ميتنع بعضهم عن تسليم الزكاة بالقدر والكيفية اليت يطلبها‬
‫اجلُباة‪ ،‬أو لكوهنم ال يعتقدون شرعية الوالة‪ ،‬وعلى الفور يُتهمون مبنع حق هللا‬
‫والتخلي عن ركن من أركان اإلسالم‪ ،‬وبالتايل يتعني قتاهلم‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪142‬‬

‫ويدل على أن بعض من قاتلهم الصديق مل يكونوا مرتدين عن الدين‪ ،‬ما‬


‫روى البخاري أن عمر بن اخلطاب قال أليب بكر‪ :‬كيف تقاتل الناس؟ وقد قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا‪ :‬ال إله إال‬
‫هللا‪ ،‬فمن قاهلا فقد عصم مين ماله ونفسه إال حبقه‪ ،‬وحسابه على هللا»‪ .‬فقال‪:‬‬
‫وهللا ألقاتلن من َّفرق بني الصالة والزكاة‪ ،‬فإن الزكاة حق املال‪ ،‬وهللا لو منعوين‬
‫عناقا كانوا يؤدوهنا إىل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‪.‬‬
‫ويف هذا الكالم تأكيد من عمر أن الذين أعلن أبو بكر احلرب عليهم كانوا‬
‫من أهل اإلميان‪ ،‬وفيه إقرار من أيب بكر أنه قاتلهم من أجل أهنم منعوا تسليم‬
‫الزكاة إليه‪.‬‬
‫ومل خيتلف أكثر املسلمني على أن التمرد على خالفة أيب بكر هو مبنزلة اخلروج‬
‫عن إمجاع املسلمني‪ ،‬وال بد للخليفة من القيام برد حازم جتاهه‪ ،‬كي ال تكون‬
‫فتنة ويضعف اإلسالم ويعود إىل بداياته األوىل‪ ،‬حىت إننا جند أن كثرياً من املؤرخني‬
‫يُدرج اخلارجني على أيب بكر ضمن املرتدين‪ ،‬لتسويغ قتاهلم‪.‬‬
‫وما يعنينا هنا أنا أبا بكر اختذ موقفاً صارماً من اخلارجني عليه الرافضني ألداء‬
‫الواجب والدخول فيما دخل فيه سائر املسلمني‪ ،‬وأقره على ذلك ُجل الصحابة‪.‬‬
‫وكذلك كانت احلال مع كل من مترد على خالفة عمر بن اخلطاب‪ ،‬وشذ‬
‫خبروجه عن مجاعة املسلمني‪ ،‬وسعى لشق صفهم‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬الخارجون على الخليفة عثمان بن عفان‬


‫تقدم الكالم عن طبيعة االضطرابات اليت ظهرت يف أواخر أيام اخلليفة‬
‫عثمان‪ ،‬وكيف أن جمموعة من الصحابة عتبوا عليه وانتقدوه‪ ،‬إىل درجة التحريض‬
‫‪143‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫على خلعه وإبعاده عن اخلالفة‪ ،‬وبعضهم سكت ونأى بنفسه‪ ،‬بينما اهتم بعضهم‬
‫باملشاركة يف حصاره وقتله‪.‬‬
‫وعند الزيدية أن اإلمام عليا بريء من أي حتريض على قتل عثمان‪ ،‬وإن كان‬
‫من مجلة منتقديه‪ ،‬وقد فعل ما بوسعه من تقدمي النصح واملشورة‪ ،‬ويستدلون على‬
‫سالمة موقفه بقوله ملا بلغه اهتام بين أمية له باملشاركة يف دم عثمان‪« :‬أومل ينه‬
‫بين أمية علمها يب عن قريف (= عييب)؟ أو ما وزع اجلهال سابقيت عن هتميت؟!‬
‫وملا وعظهم هللا به أبلغ من لساين»‪.‬‬
‫ويرون أن األمر خرج من يد اإلمام علي بعد سعيه يف عدة جوالت لوساطة‬
‫مل يلتزم أي من الطرفني ببنودها‪ ،‬فقرر االعتزال ونأى بنفسه‪ ،‬وعرب عن ذلك‬
‫بقوله ملن اهتمه بالتواطؤ‪« :‬لو أمرت به لكنت قاتالً‪ ،‬أو هنيت عنه لكنت ناصراً‪،‬‬
‫غري أن من نصره ال يستطيع أن يقول‪ :‬خذله من أنا خري منه‪ ،‬ومن خذله ال‬
‫يستطيع أن يقول‪ :‬نصره من هو خري مين‪ .‬وأنا جامع لكم أمره؛ استأثر فأساء‬
‫األثرة‪ ،‬وجزعتم فأسأمت اجلزع‪ ،‬وهلل حكم واقع يف املستأثر واجلازع»‪.‬‬
‫وهذا يشري إىل أنه ‪ -‬وإن انتقد عثمان على بعض تصرفاته ‪ -‬ما كان يرتضي‬
‫قتل عثمان‪ ،‬بل يذم الذين جتاوزت نقمتهم عليه إىل التحريض واحلصار والقتل‪.‬‬
‫وقد روى شعبة‪ ،‬عن حبيب بن الزبري‪ ،‬عن عبد الرحن بن الشرود‪ ،‬أن علياً قال‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ح ح‬ ‫َََ ْ َ َ‬
‫وره ِْمٌمِنٌ‬ ‫إين ألرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ونزعناٌم ِ‬
‫اٌفٌصد ِ‬
‫ْ َ ً ََ ح ح حََ‬
‫ٌمتوابِل ٌَ‬
‫ِني﴾ [الحجر‪ .]47 :‬ورواه عبد هللا بن احلارث عن علي‪.‬‬ ‫غِلٌإِخواناٌَعٌُس رر‬

‫ويف اخلارجني على عثمان يرى الزيدية أن هلم ‪ -‬يف احلكم عليهم ‪ -‬أسوة مبا‬
‫صح من موقف اإلمام علي منهم‪ ،‬باعتباره شاهد على األحداث‪ ،‬ولديه من‬
‫الورع وفيه من الدين ما جيعل موقفه أقرب إىل الصواب‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪144‬‬

‫وقد تقدم أن موقفه قائم على التفريق بني من باشر القتل أو أعان عليه‪ ،‬ومن‬
‫انتقد وسخط لسوء رآه يف تصرف بين أمية يف شأن اخلالفة‪ ،‬وسكوت عثمان‬
‫عليه‪.‬‬
‫ثالثاا‪ :‬الخارجون على اإلمام علي والقاعدون عن نصرته‬
‫كان اإلمام علي بن أيب طالب أحد اخللفاء الراشدين‪ ،‬ومثَّل ‪ -‬بعد بيعته ‪-‬‬
‫الصحابة إىل جانبه‪ ،‬وبالتايل أصبح اخلارجون‬
‫اخلالفة الشرعية‪ ،‬واصطف مجهور َّ‬
‫عليه خارجني على الشرعية‪ ،‬واملصرون على حربه بغاة معتدين؛ ولكن اختالف‬
‫بواعثهم وطبيعة معارضتهم وما ترتب عليها أثار خالفاً حول حكم مواقفهم‪،‬‬
‫وما ينبغي أن يكون عليه املوقف منهم‪ ،‬وهذا مما جعلين أصنفهم يف ثالث‬
‫جمموعات‪:‬‬
‫‪ .1‬املتوقفون عن نصرة اإلمام علي‪:‬‬
‫الذين بايعوه على أنه خليفة املسلمني‪ ،‬ولكنهم ختلوا عنه يف مواجهة اخلارجني‬
‫عليه‪ ،‬ومل ينصروه‪ ،‬مثل‪ :‬عبد هللا بن عمر بن اخلطاب وحممد بن مسلمة وسعد‬
‫بن أيب وقاص وأسامة بن زيد ومن وافقهم‪.‬‬
‫فالزيدية يرون أن هؤالء قد أخلوا بواجبهم يف نصرة إمامهم الذي ارتضوه‬
‫وبايعوه؛ ألن نصرة املأموم إلمامه الذي ارتضاه وبايعه واجبة‪ ،‬وبسبب ذلك‬
‫عدهم احلسن بن حيىي بن احلسني بن زيد بن علي من املرجئة الذين يكتفون‬
‫بالقول دون العمل؛ ولكن اعتذارهم بأهنم ال يقاتلون أهل القبلة‪ ،‬والتباس األمر‬
‫عليهم‪ ،‬مع اعرتافهم بشرعية خالفـة اإلمام علي؛ جعله يرتكهم وشأهنم‪ ،‬ومل‬
‫يتجاوز موقفه جتاههم اللوم والعتاب‪ ،‬فليسعنا ما وسعه وكفى به قدوة؛ وال سيما‬
‫أنه صاحب احلق واملوقف جتاهه‪.‬‬
‫‪145‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫ويف ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬واعلم أنه ال خالف أن ابن عمر وسعداً‬
‫وحممد بن مسلمة مل ميتنعوا عن أمر البيعة والرضا بإمامته‪ ،‬وإمنا امتنعوا عن املقاتلة‬
‫ألهل القبلة‪ .‬ومل يشدد عليهم أمري املؤمنني يف املقاتلة‪ ،‬بل تركهم على حاهلم من‬
‫الشبهة‪ ،‬وإن كان قد نسبهم إىل ضعف يف الدين والبصرية»‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬وقد رويت عنهم املعاذير‪ ،‬فإن كان عليه السالم قد قبلها منهم‪،‬‬
‫فال عيب عليهم يف االعتزال والتخلف عنه؛ لرضاه بإسقاط ذلك عنهم‪ ،‬وإن‬
‫ثبت أنه ضيق عليهم يف أمر اخلروج معه ومل يعذرهم يف التخلف‪ ،‬ودعاهم إىل‬
‫نصرته‪ ،‬فنكصوا‪ ،‬فما هذا حاله فال يبعد أن يكون كبرياً؛ ألن كل من أمره اإلمام‬
‫بأمر مث خالفه بعد أن ضيَّق عليه فيما تلزمه فيه الطاعة واالنقياد فال يبعد فِ ْس ُقه‪،‬‬
‫وأنه مبنزلة البغي عليه‪.‬‬
‫والظاهر من حاهلم والذي نرتضيه يف حقهم أنه مل يضيق عليهم أمر اخلروج‬
‫معه‪ ،‬وال طالبهم‪ ،‬بل عذرهم لِما عرض هلم من الشبهة يف ذلك‪ ،‬فال يفسقون‬
‫بالقعود والتخلف عنه»‪ .‬وأقره وأيده اإلمام عز الدين بن احلسن‪.‬‬
‫وعلى ما ذكر اإلمام حيىي ُحيمل قول اإلمام القاسم بن إبراهيم‪« :‬من قعد‬
‫عنه ‪ -‬يعين علياً ‪ -‬بغري إذنه‪ ،‬فضال هالك يف دينه»‪.‬‬
‫تفهم موقفهم وعذرهم‪ ،‬ومل يلح‬ ‫وجل الروايات تشري إىل أن اإلمام علي َّ‬ ‫ُ‬
‫عليهم؛ لعلمه بأن مواقف الوالء والرباء ال تكون مبجرد اتباع اآلخرين‪ ،‬ولو كان‬
‫ذلك الغري علي نفسه‪.‬‬
‫وقد ذكر اإلمام حممد بن القاسم الرسي أن ابن عمر تأسف على أنه مل يقاتل‬
‫الفئة الباغية مع اإلمام علي‪ .‬مث قال‪ :‬وهذا بابن عمر أشبه‪.‬‬
‫وبعد حبث وتتبع رأى اإلمام عز الدين بن احلسن أن الروايات «قد تظاهرت‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪146‬‬

‫على توبة ابن عمر وندمه على ترك اجلهاد مع أمري املؤمنني‪ ،‬واشتد أسفه على‬
‫ذلك‪ ،‬حىت قال‪ :‬ما أتأسف على شيء تأسفي على أين مل أشهد معه املشاهد»‪.‬‬
‫وذكر ابن عبد الرب أنه «صح عن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما من وجوه‬
‫أنه قال ما آسى على شيء كما آسى أين مل أقاتل الفئة الباغية مع علي رضي‬
‫هللا عنه»‪ .‬ويف ذلك دليل على أنه مل يتخلف عناداً‪ ،‬ولكن األمر اشتبه عليه‪،‬‬
‫واملؤمن وقاف عند الشبهات‪.‬‬
‫وحكى احلاكم اجلشمي‪ :‬أن أمري املؤمنني أذن له يف التخلف‪ .‬ورجح شيخنا‬
‫جمد الدين املؤيدي توبتهم وصالح حاهلم‪.‬‬
‫فإذا كانوا تركوا القتال مع اإلمام علي متأولني ال متمردين وال مقاتلني إىل‬
‫جانب الفئة الباغية‪ ،‬مث روي لنا أهنم ندموا على ختلفهم وأسفوا له‪ ،‬مع معرفتنا‬
‫بصالحهم واستقامتهم يف سائر أمور دينهم‪ ،‬كان لزاماً علينا حسن الظن هبم‬
‫وحلهم على السالمة‪ ،‬فمن تاب فليس لنا إال ِ‬
‫ظاه ِره‪.‬‬
‫‪ .2‬ناكثوا بيعة اإلمام علي‪:‬‬
‫وهم الذين بايعوه مث نكثوا بيعته‪ ،‬واصطفوا لقتاله‪ ،‬كطلحة بن عبيد هللا‪ ،‬والزبري‬
‫بن العوام‪ ،‬ومن حنا حنوهم‪ ،‬فهؤالء أوقعوا أنفسهم يف خطأ بنكثهم بيعة إمامهم‬
‫وجب‪.‬‬ ‫الشرعي‪ ،‬وخروجهم عليه بغري م ِ‬
‫ُ‬
‫أما نكثهم فمما توافق على نقله املؤرخون‪ ،‬وقد يبني ذلك ما روى ابن عبد‬
‫الرب من أن اإلمام علياً قال يف خطبة حني هنوضه إىل اجلمل‪« :‬إين منيت بأربعة‪:‬‬
‫أدهى الناس وأسخاهم (طلحة)‪ ،‬وأشجع الناس (الزبري)‪ ،‬وأطوع الناس يف الناس‬
‫لي منكراً‪ ،‬وال‬
‫(عائشة)‪ ،‬وأسرع الناس فتنة (يعلى بن أمية)‪ ،‬وهللا ما أنكروا ع َّ‬
‫استأثرت مبال‪ ،‬وال ملت هبوى‪ ،‬وإهنم ليطلبون حقاً تركوه‪ ،‬ودماً سفكوه‪ ،‬ولقد‬
‫‪147‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫ولوه دوين‪ ،‬ولو أين كنت شريكهم فيما كان؛ ملا أنكروه‪ ،‬وما تبِعة دم عثمان إال‬
‫عليهم‪ ،‬وإهنم هلم الفئة الباغية‪ ،‬بايعوين ونكثوا بيعيت‪ ،‬وما استأنوا يب حىت يعرفوا‬
‫جوري من عديل‪ ،‬وإين لراض حبجة هللا عليهم وعلمه فيهم‪ ،‬وإين مع هذا لداعيهم‬
‫وم ْع ِذر إليهم‪ ،‬فإن قبلوا فالتوبة مقبولة‪ ،‬واحلق أوىل مما أفضوا إليه‪ ،‬وإن أبوا‬
‫ُ‬
‫أعطيتهم حد السيف‪ ،‬وكفى به شافياً وناصراً‪ ،‬وهللا إن طلحة والزبري وعائشة‬
‫ليعلمون أين على احلق وأهنم مبطلون»‪.‬‬
‫الزيدية مل يتفردوا بنقد هؤالء ولومهم‪ ،‬فقد اتفق أكثر‬
‫ومن اجلدير بالتنبيه أن َّ‬
‫املسلمني على ختطئة الناكثني‪ ،‬واعتربوهم من البغاة‪ ،‬حىت إن الشيخ ابن تيمية‬
‫ذكر‪ :‬أن الفقهاء استدلوا على أحكام البغاة بسرية اإلمام علي يف من نكث‬
‫بيعته‪ ،‬وروي أن حيىي بن معِني أنكر على اإلمام الشافعي ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬أجيعل‬
‫طلحة والزبري بغاة؟! فرد عليه اإلمام أحد بن حنبل‪ :‬وحيك‪ ،‬وأي شيء يسعه‬
‫أن يصنع يف هذا املقام؟! قال ابن تيمية‪« :‬يعين إن مل يقتد بسرية علي يف ذلك‪،‬‬
‫مل يكن معه سنة من اخللفاء الراشدين يف قتال البغاة»‪.‬‬
‫بيد أن لطف هللا أدركهم بربكة صحبة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫ومواقفهم العظيمة بني يديه‪ ،‬فندموا على نكثهم‪ ،‬وتابوا من خروجهم على اإلمام‬
‫دون وجه حق‪ ،‬كما جاء يف روايات وتفاصيل ذكرت يف ترامجهم‪.‬‬
‫ويف ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬واملختار عندنا وهو الذي عليه أئمة‬
‫العرتة ومجاهري املعتزلة واألشعرية وضوح توبتهما»‪.‬‬
‫وذكر اإلمام املهدي‪ :‬أن األكثر ممن قطع خبطئهم‪ ،‬ذهبوا إىل أهنا قد صحت‬
‫توبتهم‪.‬‬
‫وقال السيد صارم الدين الوزير‪« :‬وقد تاب الناكثون على األصح»‪ .‬ومثله‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪148‬‬

‫ذكر اإلمام عبد هللا بن حزة‪ .‬وسيأيت ذكر اإلمام شرف الدين هلم يف األطايب‬
‫وثنائه عليهم‪.‬‬
‫وروى كل من اإلمام عبد هللا بن حزة‪ ،‬والشهيد حيد احمللي ندم طلحة والزبري‬
‫وتوبتهما عن القتال‪.‬‬
‫أما الزبري بن العوام‪ ،‬فقد تقدم أنه تراجع عن القتال بعد ما كلمه اإلمام‬
‫علي‪ ،‬وترك القوم وتوجه حنو املدينة‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫هلل أمثـ ـ ــل يف الـ ـ ــدنيـ ـ ــا ويف الـ ـ ــدي ِن‬ ‫ترك األمور اليت خنشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى عواقبه ــا‬
‫قــد كــان عمر أبيــك اخلري مــذ ح ِ‬
‫ني‬ ‫أتــى ع ـلــي ب ـ ـ ــأمــر ك ـنـ ـ ــت أعــرف ـ ـ ــه‬
‫بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيين‬ ‫فقلت حسبك من عذل أبا حسن‬
‫أتى بقوم هل ـ ـ ــا خلقـ ـ ـ ـاً من الطني‬ ‫ف ــاخرتت ع ــارا على ن ــار مؤجج ــة‬
‫وأما طلحة بن عبيد هللا فروى احلاكم والبيهقي عن ثور بن جمزأة‪ ،‬قال‪ :‬مررت‬
‫بطلحة بن عبيد هللا يوم اجلمل وهو صريع يف آخر رمق‪ ،‬فوقفت عليه فرفع رأسه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إين ألرى وجه رجل كأنه القمر‪ ،‬ممن أنت؟ فقلت‪ :‬من أصحاب أمري‬
‫املؤمنني علي‪ ،‬فقال‪ :‬ابسط يدك أبايعك‪ ،‬فبسطت يدي وبايعين‪ ،‬ففاضت نفسه‪،‬‬
‫فأتيت علياً فأخربته بقول طلحة‪ ،‬فقال‪« :‬هللا أكرب هللا أكرب صدق رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم أىب هللا أن يدخل طلحة اجلنة إال وبيعيت يف عنقه»‪.‬‬
‫وحدث أبو مالك األشجعي‪ ،‬عن أيب حبيبة‪ ،‬موىل طلحة‪ ،‬قال‪ :‬دخلت على‬
‫علي مع عمر بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب اجلمل‪ ،‬قال‪ :‬فرحب به وأدناه‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ون ٌَز ٌ‬
‫عناٌماٌ‬ ‫قال‪" :‬إين ألرجو أن جيعلين هللا وأباك من الذين‪ ،‬قال هللا عز وجل‪ٌ ﴿ :‬‬
‫ً َ‬ ‫ْ ّ‬
‫ٌُس رٌرٌ حٌم حٌت حٌوابلني﴾ [الحجر‪ "]47 :‬فقال‪« :‬يا ابن أخي‪،‬‬
‫َع ح حٌ‬
‫إخواناٌ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫لٌ‬
‫غٌ‬‫نٌ ٌِ‬
‫ح ح‬
‫فٌص ٌدورهمٌ ٌِم ٌ‬
‫ٌ‬
‫كيف فالنة كيف فالنة؟» قال‪ :‬وسأله عن أمهات أوالد أبيه‪ ،‬قال‪ :‬مث قال‪« :‬مل‬
‫‪149‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫نقبض أراضيكم هذه السنة إال خمافة أن ينتهبها الناس‪ ،‬يا فالن انطلق معه إىل‬
‫بين قريظة‪ ،‬فمره فليعطه غلته هذه السنة‪ ،‬ويدفع إليه أرضه»‪ .‬فقال رجالن‬
‫جالسان إىل ناحية‪ ،‬أحدمها احلارث األعور‪ :‬هللا أعدل من ذلك أن نقتلهم‬
‫ويكونوا إخواننا يف اجلنة‪ ،‬قال‪« :‬قوما أبعد أرض هللا وأسحقها فمن هو إذا‪ ،‬مل‬
‫أكن أنا وطلحة يا ابن أخي إذا كانت لك حاجة فأتنا»‪.‬‬
‫ويف هذه الرواية إشارة إىل أن اإلمام علي كان يعرف من أمر تلك اخلصومة‪،‬‬
‫وما جرى على القوم فيها‪ ،‬ما ال يعرفه كثري من أصحابه‪ ،‬لذلك كان موقفه‬
‫وحكمه خمتلف‪.‬‬
‫وأما عائشة‪ ،‬فندمها ‪ -‬على خروجها ضد اإلمام علي ‪ -‬مشهور‪ ،‬ذكره من‬
‫الزيدية اإلمام عبد هللا بن حزة‪ ،‬وجزم بالرتضية عنها‪ .‬فقال‪« :‬وأما عائشة ‪-‬‬
‫َّ‬
‫ر ِضي هللا عْنها ‪ -‬فكانت تبكي حىت تبل خارها‪ ،‬وتقول‪ :‬وددت أن يل من‬
‫رسول هللا عشرة كلهم مثل احلارث بن هشام أثكلهم وأين مل أخرج على علي‬
‫بن أيب طالب»‪.‬‬
‫وهذه الرواية أخرجها ابن أيب شيبة عن يعلى بن عبيد‪ ،‬قال‪ :‬أخربنا إساعيل‬
‫بن أيب خالد‪ ،‬عن علي بن عمرو الثقفي‪ ،‬قال‪ :‬قالت عائشة‪ :‬ألن أكون جلست‬
‫عن مسريي كان أحب إيل من أن يكون يل عشرة من رسول هللا مثل ولد احلارث‬
‫بن هشام‪.‬‬
‫وقال الذهيب‪« :‬وال ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسريها إىل‬
‫البصرة وحضورها يوم اجلمل‪ ،‬وما ظنت أن األمر يبلغ ما بلغ‪ .‬فعن عمارة بن‬
‫َ َ ْ َ ح ح ح َّ َ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َّ‬
‫اجلا ِهلِي ٌِةٌ‬
‫جٌ ٌ‬‫نٌترب ٌ‬
‫الٌتربج ٌ‬ ‫نٌو ٌ‬
‫فٌبيوت ِك ٌ‬ ‫عمري‪ ،‬عمن سع عائشة إذا قرأت‪﴿ :‬وقر ٌ‬
‫نٌ ِ ٌ‬
‫حْ َ َْ ح‬ ‫َ َ ح َ َّ َ ح ح‬ ‫ْ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ‬
‫ك حٌمٌ‬
‫ِبٌعن ٌ‬ ‫ولحٌإِنماٌي ِر ٌ‬
‫يدٌاهللٌ ِِلذه ٌ‬ ‫الزاك ٌةٌ َوأطِع ٌَ‬
‫نٌاهللٌورس ٌ‬ ‫ِنيٌ‬
‫نٌالصل ٌةٌوآت ٌ‬ ‫وىلٌوأق ِم ٌ‬
‫اْل ٌ‬
‫َ‬ ‫ح‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫تٌ َويح َطه َرك ٌْمٌت ْط ِه ًيا﴾ٌ[األحزاب‪ .]33/‬بكت حىت تبل خارها»‪.‬‬ ‫لٌابلَي ٌِ‬
‫سٌأه ٌ‬
‫ِّ ْ َ‬
‫الرج ٌ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪150‬‬

‫وذكر أبو القاسم البسيت أن أصحابنا املتكلمني يقطعون بتوبتها‪ ،‬قال‪ :‬واخلرب‬
‫بذلك قد تظاهر وتواتر‪ .‬وأضاف أن من طعن فيها مبا أنزل هللا يف براءهتا فيقرب‬
‫أن يكفر‪ ،‬ولست أعرف يف املسلمني من يعتقد ذلك من أرباب املذاهب ملا يف‬
‫ذلك من تكذيب للقرآن ومن الطعن يف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ومن املعتزلة قال ابن أيب احلديد‪ :‬وأما عائشة والزبري وطلحة؛ فمذهبنا أهنم‬
‫أخطأوا مث تابوا‪ ،‬وأن علياً شهد هلم باجلنـة بعد حرب اجلمل‪.‬‬
‫وهبذا تتفق رواية الزيدية وأهل السنة واملعتزلة‪ ،‬على وقوع اخلطأ والتوبة‪ ،‬فلم‬
‫َ َّ َ َ ح‬
‫ين ٌع ِملواٌ‬‫يبق إال الرتحم عليهم‪ ،‬والكف عن ذكرهم بسوء‪ ،‬لقوله تعاىل‪﴿ :‬و ٌِ‬
‫اَّل ٌ‬
‫َ‬ ‫ح َ ح‬
‫ك ٌم ٌِْن ٌ َب ْعد َِها ٌل َغ حفورٌ ٌ َرحِيمٌ﴾ [األعراف‪]153/‬؛‬‫ْ َ ْ َ َ َ ح َّ َّ َ‬
‫ن ٌ َرب ٌ‬ ‫ات ٌث ٌَّم ٌتابوا ٌم ٌ‬
‫ِن ٌبعدِها ٌوآمنوا ٌإ ِ ٌ‬
‫َّ ِّ َ‬
‫السيئ ٌِ‬
‫خصوصاً مع ماهلم من سابقة يف نصرة املصطفى صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫وألن التوبة إذا رويت ولو عن طريق اآلحاد‪ ،‬لزم قبوهلا والكف عن الرباءة‪،‬‬
‫عمالً باألصل وهو املواالة يف اإلسالم؛ ألنا ال نأمن من الوقوع يف اخلطأ بالرباءة‬
‫من املؤمنني‪.‬‬

‫‪ .3‬الفئة الباغية‪:‬‬
‫أشرنا فيما مضى إىل أن املؤرخني ذكروا أن معاوية بن أيب سفيان وعمرو بن‬
‫العاص واملغرية بن شعبة وآخرين رفضوا بيعة اإلمام علي‪ ،‬وناصبوه العداء وأعلنوا‬
‫وسفكت الدماء‪ ،‬وتلبسوا‬ ‫عليه احلرب وأصروا على ذلك‪ ،‬حىت انقسم اجملتمع ُ‬
‫بأخطاء وجتاوزات أنكرها عليهم فضالء الصحابة‪.‬‬
‫الصحابة‬
‫الزيدية وال يعتربوهنم من َّ‬
‫فهذا الفريق ومن دار يف فلكهم ال يواليهم َّ‬
‫باملعىن االصطالحي الذي يوجب هلم فضيلة ومتيز؛ ألن ما يُروى عنهم من‬
‫جتاوزات وأخطاء أفقدهم شرف صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فصار‬
‫‪151‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫الزيدية كحال احلكـم بن أيب العاص وبسر بن أرطأة عند أهل السنة‪،‬‬
‫حاهلم عند َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬وسيجد املتتبع يف كالم أئمة‬
‫أي ليسوا ممن يتناوهلم عموم الثناء على َّ‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫الزيدية ما يدل على استثناء هؤالء عند أي كالم فيه ثناء على عموم َّ‬‫َّ‬
‫ويف ذلك جاء عن القاسم بن إبراهيم الرسي‪« :‬من حاربه ‪ -‬يعين علياً ‪-‬‬
‫فهو حرب هلل ولرسوله»‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن حزة‪« :‬أول من بدل أحكام رب العاملني وسعى يف سفك‬
‫دماء عرتة خامت املرسلني معاوية بن أىب سفيان ومن قفا منهاجه‪ ،‬ونسج على‬
‫منواله‪ ،‬وحذا على مثاله»‪.‬‬
‫وموقف الزيدية جتاه معاوية بن أيب سفيان ومن سار على هنجه مبين على أنه‬
‫مات مصراً على بـ ْغيِه الذي َّقرره اجلميع‪ ،‬ملا ظهر منه قبل موته من استخالف‬
‫يزيد‪ ،‬ووصيته بقتل ابن الزبري وعمرو بن العاص‪ .‬ذكر ذلك أبو القاسم البسيت‪،‬‬
‫وقال‪ :‬وال خالف بني أهل البيت يف وجوب الرباءة منه‪.‬‬
‫أما إذا ثبتت توبته فحاله كحال غريه‪ ،‬إذ ليس لنا إال الظاهر وهللا يتوىل‬
‫السرائر‪.‬‬
‫َّ‬
‫وحيتجٌالزيدية ملوقفهم جتاه معاوية وأنصاره حبجج عدة‪ ،‬خالصتها‪:‬‬
‫(‪ )1‬أهنم بغاة على إمام احلق ودعاة إىل النار‪ ،‬كما جاء على لسان رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬يف احلديث املشهور الذي قال فيه‪« :‬ويْح ع َّمار‬
‫وه ْم إِىل اجلنَّـة‪ ،‬وي ْد ُعونهُ إِىل النَّا ِر»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تـ ْقتُـلُهُ الْفئةُ الْباغيةُ‪ ،‬ي ْد ُع ُ‬
‫وعدالة البغاة ساقطة‪ ،‬وحرمتهم ذاهبة‪ ،‬ما مل يفيئوا إىل أمر هللا‪ ،‬كما جاء يف‬
‫َ َّ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ َ ْ ْ َ ح َ َ َ ْ ح ْ َ َ َ ح َّ َ ْ‬
‫َل ٌأم ٌِرٌ‬
‫ف ٌُ ٌإ ِ ٌ‬
‫ّت ٌت ِ ٌ‬
‫غ ٌح ٌ‬
‫ت ٌتق ِ ٌ‬
‫َع ٌاْلخرى ٌفوات ِلوا ٌال ِ ٌ‬
‫ت ٌإِحداهما ٌ ٌ‬ ‫قوله تعاىل‪﴿ :‬فإِ ٌ‬
‫ن ٌبغ ٌ‬
‫اهلل﴾ [الحجرات‪ .]9 :‬وهؤالء ‪ -‬يقول الزيدية ‪ :-‬مل يفيئوا فيما نعلم حىت ماتوا‪ ،‬ومل‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪152‬‬

‫تكن حماربتهم لعلي بن أيب طالب جمرد خالف سياسي‪ ،‬ولكنه احنراف ديين‬
‫يستوجب الذم؛ إذ حاهلم كحال أي خـارج على أيب بـكر أو عمر أو عثمان‪،‬‬
‫فاخلطيئة هنا ليست يف جمرد التمرد على شخص اإلمام علي رضي هللا عنه؛‬
‫ولكنها يف اخلروج على خلِيفة شرعي مل ُحيدث ما يُسوغ اخلروج عليه‪ ،‬مما تسبب‬
‫يف ثلمة يف الدين وسفك لدماء املسلمني وإضعاف شوكتهم‪ ،‬وهذا ال جييزه‬
‫اإلسالم وال ُمترره القناعات الشخصية واألهواء وردود األفعال‪.‬‬
‫(‪ )2‬البغض والعداوة الظاهرة لإلمام علي وأهل بيته وأنصاره‪ ،‬واليت بلغت حد‬
‫الشتائم والسباب‪ ،‬بل جتاوزت إىل القتل والقتال‪ ،‬واملعلوم أن علياً من أكابر‬
‫الصحابة وخيارهم‪ ،‬وقد وردت روايات كثرية يف ذم مبغض الصحابة عموماً‪،‬‬
‫حىت جاء عن اإلمام مالك أنه قال‪« :‬من أصبح من الناس يف قلبه غيظ على‬
‫أحد من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد أصابته هذه اآلية»‪ .‬يعين‬
‫ْ ح َّ‬ ‫َ‬ ‫ح ْ ح ُّ َ‬
‫يظٌب ِ ِه حٌمٌالكفار﴾ [الفتح‪.]29/‬‬ ‫الز َّر ٌ‬
‫اعٌ ِِلَ ِغ ٌ‬ ‫بٌ‬ ‫قول هللا تعاىل‪﴿ :‬يع ِ‬
‫ج ٌ‬

‫وقد وردت أحاديث يف ذم من أبغض علياً خاصة‪ ،‬منها ما جاء عْنه‪ ،‬أنه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضك‬ ‫َّيب صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أنَّهُ ال ُحيبُّك إِالَّ ُم ْؤم ٌن‪ ،‬وال يـُْبغ ُ‬ ‫قال‪« :‬ع ِهد إِ َّ‬
‫يل النِ ُّ‬
‫إِالَّ ُمنافِ ٌق»‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نظر إىل علي واحلسن‬
‫ب لِم ْن حارب ُك ْم‪ ،‬و ِس ْل ٌم لِم ْن سالم ُك ْم»‪.‬‬
‫واحلسني وفاطمة فقال‪« :‬أنا حْر ٌ‬
‫(‪ )3‬األخطاء الكبرية اليت أدخلها معاوية وأنصاره يف نظام احلكـم يف اإلسالم‪،‬‬
‫حينما حولوا اخلالفة إىل ملك‪ ،‬حىت فرض معاوية ولده يزيد خليفة للمسلمني‪،‬‬
‫وهو ‪ -‬كما وصفه الذهيب ‪« :-‬كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً‪ ،‬يتناول املسكر‪،‬‬
‫ويفعل املنكر‪ ،‬افتتح دولته بقتل الشهيد احلسني رضي هللا عنه‪ ،‬واختتمها بوقعه‬
‫‪153‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫احلرة‪ ،‬فمقته الناس‪ ،‬ومل يبارك يف عمره»‪ .‬وما كان ليزيد أن يصبح خليفة لوال أن‬
‫معاوية فرضه على الناس‪.‬‬
‫(‪ )4‬تورطهم يف دماء الصحابة والتابعني‪ ،‬والتعدي على قيم الدين احلنيف‬
‫كاستلحاق زياد بن أبيه بأيب سفيان‪ ،‬وأشياء كثرية ال يتسع املقام تفصيلها‬
‫وتوثيقها‪ ،‬واملقصود اإلشارة‪ ،‬وفيه كفاية لتـف ُّهم موقف الزيدية بشأن معاوية‬
‫ومعاونيه‪.‬‬
‫وجيدر التنبيه إىل أن كثرياً من حمققي أهل السنة يشاركون الزيدية استنكارهم‬
‫ما بدر من معاوية من جتاوزات‪ ،‬ويستقبحوهنا‪ ،‬لذلك ال يضعونه يف مصاف‬
‫الصحابة األجالء‪ ،‬حىت إن ابن تيمية عده ملِكاً‪ ،‬ومل يعتربه خليفة‪ ،‬فقال‪« :‬مل‬
‫َّ‬
‫يتول أحد من امللوك خرياً من معاوية؛ فهو خري ملوك اإلسالم‪ ،‬وسريته خري من‬
‫سرية سائر امللوك بعده‪ ،‬وعلي آخر اخللفاء الراشدين الذين واليتهم خالفة نبوة‬
‫ورحة‪ ،‬وكل من اخللفاء األربعة رضي هللا عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء‬
‫هللا املتقني‪ ،‬بل هؤالء األربعة أفضل خلق هللا بعد النبيني»‪ ،‬وحكى عن أهل‬
‫السنة أهنم «ال ينزهون معاوية وال من هو أفضل منه من الذنوب‪ ،‬فضالً عن‬
‫تنزيههم عن اخلطأ يف االجتهاد»‪.‬‬
‫وذكر أن حديث مقتل عمار «يدل على صحة إمامة علي‪ ،‬ووجوب طاعته‪،‬‬
‫وأن الداعي إىل طاعته داع إىل اجلنَّـة‪ ،‬والداعي إىل مقاتلته داع إىل النار‪ ،‬وإن‬
‫كان متأوالً»‪ ،‬وأضاف‪« :‬مقاتل علي خمطئ وإن كان متأوالً‪ ،‬أو باغ بال تأويل‪،‬‬
‫وهو أصح القولني ألصحابنا»‪ .‬وذكر‪ :‬أن ذلك هو مذهب األئمة الفقهاء الذين‬
‫فرعوا على ذلك قتال البغاة املتأولني‪.‬‬
‫وعلى هذا فاجلميع متفقون على وقوع القبيح من معاوية وأعوانه‪ ،‬غري أن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪154‬‬

‫بعض أهل السنة يفرتضون‪ :‬أن من أدرك النيب فهو صحايب وأن الصحايب ال‬
‫خيرج من الدنيا إال مغفوراً له‪ ،‬بأي سبب من أسباب املغفرة كالتوبة واالستغفار‬
‫واحلسنات املاحية واملصائب ِ‬
‫املكفرة وغريها من مكفرات الذنوب‪ ،‬علمناها أم‬
‫مل نعلمها‪.‬‬
‫الزيدية ال ينكرون فاعلية تلك األسباب يف حمو الذنوب‪ ،‬ولكنهم يشرتطون‬ ‫و َّ‬
‫أن تكون التوبة ظاهرة‪ ،‬ويصحبها استيفاء حقوق اخللق؛ ليتسىن ملن بـىن موقف‬
‫الرباءة على ِعلم؛ أن يرفعه بعِْلم مثلِه‪ ،‬وليس مبجرد االفرتاضات؛ ألن هللا عز‬
‫ح‬ ‫َّ َّ َ َ ح َ َ ْ َ ح َ َ َّ ح َ ح َ َ َ ح ح َ َ ْ ْ َ َ‬
‫وب ٌعلي ِه ٌم ٌ َوأنا ٌاتلَّ َّو ٌ‬
‫ابٌ‬ ‫ِك ٌأت ٌ‬
‫ِين ٌتابوا ٌوأصلحوا ٌوبينوا ٌفأوَل ٌ‬ ‫وجل يقـول‪﴿ :‬إ ِ ٌ‬
‫ال ٌاَّل ٌ‬
‫ِيم﴾ [البقرة‪ .]١٦٠/‬فمن مل يبني توبته بعد ما بان سوء فعله‪ ،‬فال لوم على من‬ ‫الرح حٌ‬
‫َّ‬

‫يُسيء به الظن ويستصحب ما عرف من سوء حاله‪.‬‬


‫وقد عذر ابن تيمية من جيد نفسه ملزماً ببغض من يرى أنه يستحق البغض‪،‬‬
‫اخلالف ما يتض َّمن أن ْاعتِقاد أحدمها يُوجب علْي ِه بغض‬‫فقال‪« :‬إن من مسائِل ْ‬
‫اآلخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفريه أو قِتاله‪ ،‬فِإذا فعل ذلِك ُجمتهداً خمطئاً كان‬
‫طؤه مغفوراً لهُ وكان ذلِك ِيف حق اآلخر حمنة وفتنة وبالء ابتاله بِِه‪ ،‬وه ِذه حال‬ ‫خ ُ‬
‫الْبُـغاة املتأولني مع أهل الْع ْدل سواء كان ذلِك بني أهل الْيد والقتال من ْاألُمراء‬
‫و ْحنوهم‪ ،‬أو بني أهل اللِسان والْعمل من الْعلماء والعباد و ْحنوهم‪ ،‬وبني من جيمع‬
‫ْاألمريْ ِن»‪.‬‬
‫وليكٌتكتملٌالصورة ال بد من اإلشارة إىل أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم حتدث عن تلك الفنت‪ ،‬فلم خيرج البغاة فيها من دائرة اإلسالم‪ ،‬فقال ‪-‬‬
‫فيما رواه اإلمام املرشد باهلل الشجري‪ ،‬يف كالم عن احلسن بن علي ‪« :-‬إِ َّن ابِْين‬
‫ني ِم ْن ال ُـم ْسلِ ِمني»‪ .‬فلم‬ ‫صلِح بِِه بـ ْني فِئتـ ْ ِ‬
‫ني ع ِظيمتـ ْ ِ‬ ‫هذا سيِ ٌد ولع َّل َّ‬
‫اّلِل أ ْن يُ ْ‬
‫‪155‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫خيرجهم عن وصف املسلمني‪ ،‬وإن جاز قتاهلم بنص القرآن‪.‬‬


‫وذكر الفقيه حيد احمللي‪ :‬أن اإلمام علي ملا ُسئل عن كفر من بغوا عليه‪،‬‬
‫قال‪ :‬من الكفر ُّفروا‪ .‬وملا ُسئل عن إمياهنم‪ ،‬قال‪« :‬لو كانوا مؤمنني ما حاربناهم»‪.‬‬
‫قيل‪ :‬فما هم؟ قال‪« :‬إخواننا باألمس‪ ،‬بغوا علينا‪ ،‬فحاربناهم حىت يفيئوا إىل أمر‬
‫هللا»‪.‬‬
‫وعقَّب العالمة حيد على ذلك فقال‪ :‬وهذا تصريح باملنع من تكفريهم‪ ،‬وأقرته‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫وروى أبو العباس احلمريي عن جعفر الصادق‪ ،‬عن أبيه أن علياً عليه السالم‬
‫مل يكن ينسب أحداً من أهل حربه إىل الشرك وال إىل النِفاق‪ ،‬ولكنه كان يقول‪:‬‬
‫"هم إخواننا بغوا علينا"‪.‬‬
‫وروى عن اإلمام جعفر الصادق أيضاً‪ ،‬عن أبيه أن علياً كان يقول ألهل‬
‫حربه‪« :‬إنا مل نقاتلهم على التكفري هلم‪ ،‬ومل نقاتلهم على التكفري لنا‪ ،‬ولكنا رأينا‬
‫أنا على حق‪ ،‬ورأوا أهنم على حق»‪.‬‬
‫وهبذا يتبني أن خالف من ذكرنا مع اإلمام علي وخصومتهم كانت سياسية‬
‫غلبت عليها ‪ -‬لدى االتباع ‪ -‬العاطفة الدينية‪.‬‬
‫وحنن ْحنمل املختلفني يف مثل هذه اخلصومات على السالمة من الكبائر‬
‫املوجبة للخروج من دائرة اإلسالم‪ ،‬ما وجدنا إىل ذلك سبيالً‪.‬‬
‫ويف مثل هذا املورد سئل شيخ مشاخينا حممد بن القاسم احلوثي‪ ،‬عما جرى‬
‫بني األئمة من قتال‪ ،‬فقال‪« :‬الواجب حل الكل على السالمة‪ ،‬حىت نص بعض‬
‫العلماء أهنما لو حتاربا وجب القول بأن قتلى اجلميع يف اجلنَّـة‪ ،‬حالً هلما على‬
‫أن كالً منهما معتقد األرجحية واألهنضية‪ ،‬والكمال لنفسه وضدمها يف صاحبه‪،‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪156‬‬

‫وإن كان أحدمها خمطئاً يف األمر نفسه‪ ،‬فهو معذور‪ ،‬لع ـدم التعمد‪ ،‬وأتباعهم قد‬
‫فعلوا ما جيب عليهم من اتِبــاع العلماء»‪.‬‬
‫فإذا صح ذلك يف شأن األئمة وأتباعهم يف القرون الالحقة‪ ،‬فهو صحيح يف‬
‫شأن الصحابة ومؤيديهم يف القرون السابقة‪ ،‬وحل الناس على السالمة أفضل‬
‫بكثري من إساءة الظن هبم‪ ،‬والسيما مع اختالف الروايات وكثرة التعصبات‪ ،‬وقد‬
‫إيل من أن‬
‫جاء عن اإلمام علي بن أيب طالب‪« :‬ألن أخطئ يف العفو أحب َّ‬
‫أخطئ يف العقوبة»‪.‬‬
‫ضه هلل‪ ،‬وكيف ال وقد‬ ‫فأما من علمنا منه بُغض علي رضي هللا عنه‪ ،‬فإنَّا نـُْبغِ ُ‬
‫َّ‬
‫صح عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله سلم‪« :‬ال يبغضك إالَّ منافق»‪ .‬مع التَّنبه‬
‫على الفرق بني حال من يبغض اإلمام علي أو غريه من املؤمنني‪ ،‬أو اختلف معه‬
‫أو نازعه وخاصمه يف أمر‪ ،‬أو مل ُحيبه أو ُجيله بالقدر واملستوى الذي يكون عليه‬
‫أولياؤه‪.‬‬

‫رابعاا‪ :‬أصحاب د ّنسوا شرف الصحبة‬


‫ذكر املختصون يف الكالم على الرجال من احملدثني أن هنالك جمموعة من‬
‫املعدودين يف الصحابة صدر عنهم أفعال قبيحة يستحقون الذم عليها‪ ،‬إال أن‬
‫تتبني توبتهم وصالح حاهلم؛ مثل‪:‬‬
‫الصحابة‪ ،‬وقال‪« :‬وقصة‬
‫الوِلدٌبنٌعوقةٌبنٌأيبٌمعيط‪ ،‬عده ابن حجر يف َّ‬
‫صالته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورةٌ خمرجة‪ ،‬وقصة عزله بعد أن ثبت‬
‫عليه شرب اخلمر مشهورة أيضاً خمرجة يف الصحيحني‪ ،‬وعزله عثمان ‪ -‬بعد‬
‫جلده ‪ -‬عن الكوفة‪َّ ،‬‬
‫ووالها سعيد بن العاص»‪.‬‬
‫‪157‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫وروى أحـد بن حنبل‪ ،‬عن حضني بن املنذر أن عثمان أمر جبلده يف حد‬
‫اخلمر‪ .‬وحنوه روى مسلم يف الصحيح‪ .‬وقال الذهيب كان يشرب اخلمر‪ ،‬وروى‬
‫عن قال علقمة أنه قال‪ :‬كنا بالروم وعلينا الوليد‪ ،‬فشرب‪ ،‬فأردنا أن حنده‪ ،‬فقال‬
‫حذيفة بن اليمان‪ :‬أحتدون أمريكم‪ ،‬وقد دنومت من عدوكم‪ ،‬فيطمعون فيكم؟ وقال‬
‫هو‪:‬‬
‫وأشربن على رغم من رغم‬ ‫ألشربن وإن كانت حمرمة‬
‫َ َ ُّ َ َّ‬
‫وذكر كثري من املفسرين على أنه الذي نزل فيه قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ياٌأيهاٌاَّل ٌَ‬
‫ِينٌ‬
‫َ َ َ َ َ َّ ح َ ْ ح ح َ ْ ً َ َ َ َ ح ْ ح َ َ َ َ َ ْ ح ْ‬ ‫َح ْ َ َ ح ْ َ‬
‫َع ٌ ٌما ٌفعلت ٌمٌ‬ ‫ن ٌت ِصيقوا ٌقوما ٌ ِِبهال رٌة ٌفتصقِحوا ٌ ٌ‬
‫اُك ٌم ٌفا ِسقٌ ٌبِنق رٌإ ٌفتبينوا ٌأ ٌ‬ ‫ن ٌج‬
‫آمنوا ٌإ ِ ٌ‬
‫َ‬
‫نا ِدمِني﴾ [الحجرات‪ .]6 :‬قال ابن عبد الرب‪ :‬ال خالف بني أهل العلم بتأويل القرآن‬
‫أهنا نزلت فيه‪ .‬وأضاف‪ :‬أن له أخبـاراً فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله‬
‫وقبح فعـاله‪.‬‬
‫وقال ابن كثري‪« :‬ذكر كثري من املفسرين أن هذه اآلية نزلت يف الوليد بن‬
‫عقبة بن أيب معيط‪ ،‬حني بعثه رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم على صدقات بين‬
‫املصطلق وقد روي ذلك من طرق»‪.‬‬
‫فتأمل كيف يرتكب شخص تلك املنكرات ويصفه القرآن بأنه فاسق‪ ،‬مث يأيت‬
‫الصحابة الثقات العدول‪ ،‬الذين يتعني علينا مودهتم!!‬
‫من ينظمه يف سلك َّ‬
‫(‪ٌ)2‬يسارٌبنٌسقعٌأبوٌالغاديةٌاجلهن‪ ،‬اتفق احملدثون على أنه الذي باشر قتل‬
‫الصحايب عمار بن ياسر رضي هللا عنه‪ ،‬قال ابن حجــر‪« :‬كان إذا استأذن على‬
‫معاوية وغريه يقول‪ :‬قاتل عمار بالباب‪ .‬يتبجح بذلك»‪ .‬مع أنه قد صح عن‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪« :‬قاتل عمار وسالبه يف النار»‪ .‬فحكم‬
‫عليه بالنار‪ ،‬وذلك يعين أنه خرج من الدنيا غري تائب‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪158‬‬

‫الصحابة‪،‬‬
‫ومع ذلك عده اإلمام أحد بن حنبل من أصحاب املسانيد من َّ‬
‫وروى عنه عدة روايات‪ ،‬وأدخله ابن حبان يف الثقات‪ ،‬وجبَّله الذهيب‪.‬‬
‫ومن غريب جرأته أنه هو الذي روى عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫حديث‪« :‬ال ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»!! وحديث «إن‬
‫دماءكم وأموالكم عليكم حرام»‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪« :‬انظر إىل العجب؛ يروي عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫النهي عن القتل مث يقتل مثل عمار»؟! ولكن مفهوم الصحايب عند احملدثني‬
‫اضطر ابن حجر للرتاجع عن تعجبه هذا فقال بعد ذكر قصة قتل أيب الغادية‬
‫بالصحابة يف تلك احلروب أهنم كانوا فيها متأولني وللمجتهد‬
‫لعمار‪« :‬والظن َّ‬
‫املخطئ أجر»! وقد تقدم التعقيب على كالمه‪.‬‬
‫فأي صحايب عدل هذا الذي يُطلب منا أن نأخذ ديننا عنه‪ ،‬وحنسن الظن‬
‫به وقد قتل مؤمناً متعمداً‪ ،‬وصحابياً من السابقني األولني‪ ،‬وظل يفتخر بذلك‪،‬‬
‫َ َ ْ َ ْ ح ْ ح ْ ً َ َ ِّ ً‬
‫لٌ ٌمؤمِناٌ حمتعمداٌ‬
‫نٌيوت ٌ‬ ‫ومات مصراً على جرميته؛ فدخل يف عموم قوله تعاىل‪﴿ :‬وم ٌ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ح ح َ َ َّ ح َ ً َ َ‬
‫بٌاهللٌ َعل ْي ٌِهٌ َول َع َن حٌهٌ َوأ َع ٌَّدٌ ٌلحٌ َعذابًاٌ َع ِظ ًيما﴾ [النساء‪.]93/‬‬
‫الاٌفِيهاٌ َوغ ِض َ ٌ‬
‫فجزاؤٌهٌجهن ٌمٌخ ِ‬

‫إىل جانب أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قد أخرب أنه من أهل النار‪،‬‬
‫وأخرب بأن الفئة اليت ينتمي إليها‪ ،‬فئة باغية‪ ،‬وقِتال الفئة الباغية ليس كالقتال‬
‫معها‪.‬‬
‫الصحابة حبجة أنه متأول!! فلماذا‬
‫فإذا كان بعض احملدثني يعذرون من يقتل َّ‬
‫ال يعذرون من يسب أولئك القتـلة حبجة أنه متأول أيضاً؟!‬

‫(‪ٌ )3‬بْس ٌبن ٌأرطأة‪ ،‬أو ابن أيب أرطاة‪ ،‬قاتِل املسلمني ومذل الصحابة‪،‬‬
‫‪159‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫ومستبيح مكة واملدينة‪ ،‬وقاتل األطفال‪ ،‬وسايب املسلمات‪ .‬قال عنه الذهيب وابن‬
‫حجر‪ :‬صحايب!! والصحايب عندهم ثقة ال يسأل عن عدالته‪.‬‬
‫وهو الذي اتفاق الروايات على أن معاوية أرسله يف جيش من الشام إىل‬
‫املدينة‪ ،‬فطرد واليها أبا أيوب األنصاري‪ ،‬وطلب جابر بن عبد هللا األنصاري‬
‫وقال لبين سلمة‪ :‬ما لكم عندي من أمان‪ ،‬حىت تأتوين جبابر بن عبد هللا‪ .‬وهدم‬
‫دوراً كثرية باملدينة‪ .‬مث مضى إىل اليمن‪ ،‬وعليها يومئذ عبيد هللا بن العباس بن‬
‫عبد املطلب عامالً لعلي بن أيب طالب‪ ،‬فلحق بعلي‪ ،‬وكان له صبيان من أحسن‬
‫الصبيان يقرآن القرآن يف املسجد فأخذمها وذحبهما ذحباً بالسكني‪.‬‬
‫الصحابة‪ ،‬وبالتايل اعتمدوا روايته يف‬ ‫ومع ذلك عده كثري من احملدثني من َّ‬
‫ُحرِج بعضهم من القبائح اليت ارتكبها‬ ‫كتبهم ومل يرتددوا يف توثيقه والرتضية عنه‪ .‬وأ ْ‬
‫فأنكروا صحبته‬
‫قال ابن يونس‪ :‬يكىن أبا عبد الرحن‪ ،‬من أصحاب رسول َِّ‬
‫اّلِل صلى هللا علْي ِه‬ ‫ُ‬
‫وسلَّم‪ ،‬شهد فتح مصر‪ ،‬وكان من شيعة معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬شهد معه صفني‪،‬‬
‫ووجهه إِىل اليمن واحلجاز‪ِ ،‬يف أول سنة أربعني‪ ،‬وأمره أن يتتبع من كان ِيف طاعة‬
‫علِي فيوقع هبم‪ ،‬ففعل مبكة واملدينة واليمن أفعاالً قبيحة‪.‬‬
‫ومل حيتمل الدارقطين التسرت عليه فقال‪ :‬له صحبة‪ ،‬ومل تكن له استقامة‪ .‬أما‬
‫حيىي بن معني فضاق به وقال‪ :‬كان بسر بن أىب أرطأة رجل سوء‪ .‬وحكى الذهيب‬
‫عن أحد بن حنبل وابن معني‪ :‬أن بسراً سىب مسلمات باليمن وأقمن للبيع‪.‬‬
‫وظل يف خدمة بين أمية سنوات طويلة إىل أن ذهب عقله‪ ،‬وكان القتل‬
‫والبطش قد انطبع يف شخصيته‪ ،‬حىت ذُكر أنه كان يتجول ومعه سيف من‬
‫خشب يضرب به املارة‪ ،‬تويف سنة سبعني للهجرة‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪160‬‬

‫(‪ٌ)4‬اِلكـمٌبنٌأيبٌالعاصٌاْلموي‪ٌ،‬أسلم يوم الفتح‪ ،‬وكان يتجسس على‬


‫رسول هللا ويستهزئ به‪ ،‬فطرده وسبه‪ ،‬وأرسله إىل بطن وج‪ ،‬فلم يزل طريداً إىل‬
‫أن ويل عثمان‪ ،‬فأدخله املدينة ووصل رحه وأعطاه مائة ألف درهم؛ ألنه كان‬
‫عمه‪ ،‬فكان ذلك من أسباب نقمة الناس عليه‪.‬‬
‫وروى ابن عبد الرب عن عائشة أهنا قالت ملروان بن احلكـم‪« :‬أما أنت يا‬
‫مروان فأشهد أن رسول هللا لعن أباك وأنت يف صلبه»‪.‬‬
‫وسا عند النيب‬
‫وروى أحد بن حنبل عن ابْن عبد هللا بن عمرو قال‪ :‬كنا ُجلُ ً‬
‫َّوف حىت‬
‫رجل لعني»‪ .‬فما زلت أتش ُ‬ ‫صلَّى َّ ِ‬
‫اّلِلُ علْيه‪ ،‬فـقال‪« :‬لي ْد ُخل َّن عليكم ٌ‬
‫دخل فال ٌن‪ ،‬يعين‪ :‬احلكم بن أيب العاص‪.‬‬
‫وروى البزار عن الشعيب‪ ،‬قال‪ :‬سعت عبد هللا بن الزبري‪ ،‬يقول وهو مستند‬
‫إىل الكعبة‪« :‬ورب هذا البيت لقد لعن هللا احلكم وما ولد على لسان نبيه»‪.‬‬
‫أما الذهيب فقال‪« :‬قد ُرِويت أحاديث ُمْنكرة يف ل ْعنه ال جيوز االحتجاج هبا‪،‬‬
‫الصحبة بل عمومها»‪.‬‬
‫وليس له يف اجلملة خصوص ُّ‬
‫هذا مع أن الذهيب نفسه ممن صحح حديث ابن الزبري السابق‪ ،‬كما يف كتابه‬
‫(تاريخ اإلسالم)‪ ،‬فقد قال بعد ذكره‪ :‬إسناد صحيح‪ .‬وهو مما رواه أحد والبزار‬
‫كما تقدم‪ ،‬وقال اهليثمي يف (جممع الزائد)‪ :‬رجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫(‪ٌ)5‬هيت‪ ،‬شخص عرف بأنه سيء األخالق‪ ،‬نفاه رسول هللا خارج املدينة؛‬
‫ألنه كان يدخل على النساء ويصفهن للرجال‪ ،‬حىت أطلق عليه وصف‪ :‬هيت‬
‫املخنث‪.‬‬
‫(‪ٌ)6‬ربيعةٌبنٌيزيدٌالسليم‪ ،‬قال البخاري له صحبة وقال ابن حبان‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫إن له صحبة‪ ،‬وقال العسكري‪ ،‬قال بعضهم‪ :‬إن له صحبة‪ .‬وقال ابن عبد الرب‪:‬‬
‫‪161‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫أما ربيعة بن يزيد السلمي فكان من النواصب يشتم علياً‪ .‬قال أبو حامت‪ :‬ال‬
‫يروى عنه وال كرامة‪ ،‬ومن ذكره يف الصحابة مل يصنع شيئاً‪ .‬فلم ال يعد هذا‬
‫الشخص وأمثاله من أعداء أصحاب رسول هللا‪ ،‬واملذمومني بسبب التطاول‬
‫عليهم؟!ٌ‬

‫(‪ٌ)7‬ذوٌاخلويْصةٌاتلمييم‪ ،‬قيل اسه‪ :‬حرقوص بن زهري‪ ،‬وهو رأس اخلوارج‪،‬‬


‫ذكره ابن حجر وقال‪ :‬كانت له صحبة‪.‬‬
‫ومن سوء أفعاله ما روى البخاري عن أيب سعيد قال‪ :‬بينا رسول هللا صىل‬
‫اهلل عليه وسلم يقسم ذات يوم قسماً‪ ،‬فقال ذو اخلويصرة من بين متيم‪ :‬يا رسول‬
‫هللا اعدل‪ ،‬فقال‪« :‬وحيك ومن يعدل إذا مل أعدل»‪ .‬فقام عمر فقال‪ :‬يا رسول‬
‫هللا ائذن يل فأضرب عنقه‪ ،‬قال‪« :‬ال‪ ،‬إن له أصحاباً حيقر أحدكم صالته مع‬
‫صالهتم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم‪ ،‬ميرقون من الدين مروق السهم من الرمية»‪.‬‬
‫وذكره ابن األثري يف الصحابة‪ ،‬وذكر من سريته املزرية ما ذكر غريُه‪ ،‬وكيف أنه‬
‫قتل يف النهروان بني اخلوارج على يد جيش اإلمام علي بن أيب طالب‪.‬‬

‫(‪ )8‬مروان بن احلكم بن أيب العاص‪ ،‬ذكره ابن حجر وبني اخلالف يف صحبته‪.‬‬
‫وروى له البخاري حديثاً عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وعلق عليه ابن‬
‫حجر يف الفتح بقوله‪« :‬مروان بن احلكم بن أيب العاص بن أمية ابن عم عثمان‬
‫بن عفان‪ ،‬يقال له رؤية‪ ،‬فإن ثبتت فال يعرج على من تكلم فيه‪ ،‬وقال عروة بن‬
‫الزبري‪ :‬كان مروان ال يتهم يف احلديث‪ ،‬وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي‬
‫الصحايب اعتماداً على صدقه‪ ،‬وإمنا نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم اجلمل بسهم‬
‫فقتله مث شهر السيف يف طلب اخلالفة حىت جرى ما جرى‪ ،‬فأما قتل طلحة‬
‫فكان متأوالً»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪162‬‬

‫أما الذهيب فقال‪« :‬مولده‪ :‬مبكة‪ ،‬وهو أصغر من ابن الزبري بأربعة أشهر‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬له رؤية‪ ،‬وذلك حمتمل‪ .‬وأضاف‪ :‬حضر الوقعة يوم اجلمل وقتل طلحة‪،‬‬
‫وجنا ‪ -‬ال جنا ‪ -‬وأضاف‪ :‬وكان يوم احلرة مع مسرف بن عقبة‪ ،‬حيرضه على قتال‬
‫أهل املدينة»‪.‬‬
‫وروى يف ترمجة طلحة عن وكيع‪ :‬حدثنا إساعيل بن أيب خالد‪ ،‬عن قيس‪،‬‬
‫قال‪ :‬رأيت مروان بن احلكم حني رمى طلحة يومئذ بسهم‪ ،‬فوقع يف ركبته‪ ،‬فما‬
‫زال ينسح حىت مات‪ .‬مث قال‪ :‬قلت‪ :‬قاتل طلحة يف الوزر‪ ،‬مبنزلة قاتل علي»‪.‬‬
‫وهنالك آخرون ممن يعدون يف الصحابة وهي تروى عنهم قبائح ال تليق‬
‫بسلوك املسلم؛ فضالً عمن هو حمسوب على سلف األمة وموضع القدوة‪.‬‬
‫على أنه ال بد من التحقق من صحة ما يروى‪ ،‬وأن ال يتجاهل الباحث‬
‫إمكانية توبة العاصي واستغفار املذنب‪ ،‬وأن ليس كل ذنب خيرج اإلنسان من‬
‫دائرة الدين‪ُ ،‬ويوجب له العداوة‪ ،‬أو حيتم على الناس الرباءة منه‪ ،‬ولكننا استطردنا‬
‫يف الكالم لندلل على أن الصحابة كانوا كغريهم من الناس‪ ،‬فيهم حمسن وفيهم‬
‫ظامل لنفسه مبني‪ ،‬مع أن الغالب عليهم اإلصالح واالستقامة‪ ،‬وأمرهم وأمرنا إىل‬
‫هللا‪.‬‬
‫َّ‬
‫ٌالصحابة؛ الذين يلزم احرتامهم‬ ‫فالزيدية ٌال ٌيعتربون ٌهؤالُ ٌوأمثاهلم ٌمن‬
‫والثناء عليهم؛ ألن ذلك أمر غري مستساغ‪ ،‬وخمالف لقواعد اجلزاء اليت أرساها‬
‫ْ َ َ َ ح ح َّ َ‬ ‫َ َ ح َ ِّ َ‬ ‫َّ ِّ َ‬ ‫َ َّ َ َ َ ح‬
‫اٌُسيئ رٌةٌب ِ ِمثلِهاٌ َوت ْرهوه ٌْمٌ ٌِذلةٌٌماٌ‬ ‫اتٌجز ٌ‬ ‫القرآن‪ ،‬حيث يقول‪﴿ :‬واَّل ٌ‬
‫ِينٌكسقوا ٌالسيئ ٌِ‬
‫َ‬
‫ل حه ٌْمٌم ٌَِنٌاهللٌم ٌِْنٌ ََع ِص رٌم﴾[يونس‪ .]27/‬ومل يستثن أحداً من هذه القاعدة‪ .‬بل من ثبت‬
‫عنه مثلما ثبت عن هؤالء فهو مذموم كائناً من كان‪ ،‬ما مل يتب‪.‬‬
‫وهبذا يتضح أن جمرد االنتماء إىل الصحابة أو القرابة‪ ،‬ال مينح أحداً حصانة‪،‬‬
‫‪163‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مكانة الصحابة عند الزيدية‬

‫وال ُجييز له أن يفعل ما يشـاء‪ ،‬ويقول ما يريد‪ ،‬حقاً أو باطالً‪ ،‬مع احتفاظه‬
‫بشرف الصحبة أو القرابة‪ ،‬ولن من يعمل سوءا ُجيز به يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫الصحابة فمضوا يف هنج االستقامة حىت فارقوا الدنيا‪ ،‬وكان كل‬ ‫وهذا ما عرفه َّ‬
‫منهم خيشى على نفسه اخلطيئة‪ ،‬فيكثر من التحري والتوبة واالستغفار‪ ،‬ومل يدع‬
‫أحد منهم لنفسه شيئاً مما يدعيه هلم بعض األتباع‪.‬‬
‫وروى اإلمام مالك أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال عن شهداء‬
‫أُحد‪« :‬هؤالء أشهد عليهم»‪ .‬فقال له أبو بـكر‪ :‬ألسنا ‪ -‬يا رسول هللا ‪-‬‬
‫بإخواهنم‪ ،‬أسلمنا كما أسلموا‪ ،‬وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال‪« :‬بلى‪ ،‬ولكن ال‬
‫أدري ما ُحتدثون بعدي»‪.‬‬
‫وهذا يعين أن املرء مهما كان صاحلاً مستقيماً فإنه يظل معَّرضاً للسقوط يف‬
‫األخطاء والذنوب يف أيَّة حلظة‪ .‬وفرضية أن املسيء له حسنات أخرى‪ ،‬أو أنه‬
‫رمبا يكون قد تاب من سيئاته‪ ،‬ال متنع من التعامل معه بالظاهر كما تقدم‬
‫تفصيله‪ ،‬وعلى املؤمن أن يتحرى جهده خصوصاً يف مثل هذه املسائل‪.‬‬
‫وحنن نعد إخراج كل متعد يف قيم الدين احلنيف من صحابة النيب صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم صورةً من صور تْنزيه الصحابة‪ ،‬واحلفا على صورهتم املشرقة‪،‬‬
‫َ َ َ ح ح َّ ح َ ْ َ ْ َ ْ َ‬
‫ِكٌ‬
‫ِنٌأهل ٌ‬
‫سٌم ٌ‬
‫وحٌإِن ٌهٌلي ٌ‬ ‫كما أخرج هللا ابن نوح من أهله ملا عصى ومترد و﴿ ٌق ٌ‬
‫الٌياٌن ٌ‬
‫ْ ِّ َ ح َ َ ْ َ ح َ‬ ‫ََ َْ َْ َ َْ َ َ َ‬ ‫َّ ح َ َ َ ْ ح َ‬
‫ون ٌم ٌَ‬
‫ِنٌ‬ ‫ن ٌتك ٌ‬‫ك ٌأ ٌ‬
‫ين ٌأعِظ ٌ‬
‫ك ٌب ِ ٌِه ٌعِلمٌ ٌإ ِ ٌ‬
‫س ٌل ٌ‬
‫ن ٌم ا ٌ ل ي ٌ‬
‫ل ٌتسأل ٌِ‬
‫ي ٌصال ر ٌِح ٌف ٌ‬
‫إِن ٌه ٌعملٌ ٌغ ٌ‬
‫ِني﴾ٌ[هود‪ .]46/‬وأهلك هللا امرأة نوح وامرأة لوط مع من هلك من قومهما‬ ‫َْ‬
‫اجلا ِهل ٌَ‬
‫بسبب سوء صنيعهما‪ ،‬على الرغم من القرابة القريبة‪ ،‬والعشرة الطويلة‪ ،‬فاملسألة‬
‫ليست مسألة حماباة للقرابة والصحبة‪ .‬وهذه قاعدة عادلة‪ ،‬قائمة على أصل‬
‫شرعي معترب عند سائر احملققني‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪164‬‬

‫أما اللعن والسب فاألصل أن «املؤمن ليس بالطعان وال اللعان وال البذيء‬
‫وال الفاحش» كما ورد عن رسول هللا صلوات هللا عليه وآله‪ ،‬ولكنه يف الوقت‬
‫نفسه يغضب النتهاك حمارم هللا‪ ،‬وي ُذم من ارتكب قبيحاً‪ ،‬ويعرب عن سخطه‬
‫ورفضه بأي وسيلة مبا فيها لعن من ارتكب ما يوجبه‪ ،‬على أن يكون ملعني باسه‪،‬‬
‫وأن يتعلق اللعن بالفعل املوجب للعن‪ ،‬كما جاء عن النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم أنه رأى حاراً قد ُو ِسم يف وجهه‪ ،‬فقال‪« :‬لعن هللا الذي وسه»‪.‬‬

‫قال اإلمام ابن الوزير يف تعليق على هذا‪« :‬وإذا كان رسول هللا ‪ -‬صلى هللا‬
‫ضب على من وسم حاراً يف وجهه‪ ،‬فلعن‬ ‫عليه وسلم أحلم اخللق وأشفقهم ‪ -‬غ ِ‬
‫من وسهُ‪ ،‬فكيف ال يغضب املسلم على من قتل احلسني الشهيد رحيانة رسول‬
‫هللا وقرة عينه‪.‬‬

‫أما يكون العصيان بقتل رحيانة رسول هللا أقبح من العصيان بوسم احلمار‬
‫الذي غضب له رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ويكون قطع رأسه الكرمي‬
‫وتـ ْقويره (= خرقه وجعل فيه فتحات) وحله على عود أوجع للقلب وأقوى يف‬
‫إثارة الغضب والكرب من وسم وجه ذلك احلمار‪ ،‬على أن الذي وسم وجه‬
‫احلمار مل يفعل ذلك عداوةً للحمار وال استهانةً به‪ ،‬وإمنا فعله ملنفعة ظنها يف‬
‫ذلك»‪.‬‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫لفـص‬
‫ل ا ثا ث‬ ‫ا‬
‫أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬
‫الزيدية من متقدمي اإلمام علي‪،‬‬ ‫يف الفصلني السابقني ذكرنا موقف سلف َّ‬
‫ابتداء من اإلمام علي نفسه‪ ،‬ومروراً باحلسنني وزين العابدين والباقر وانتهاء بزيد‬
‫بن علي‪ ،‬وهم أبرز شخصيات أهل البيت يف القرن األول وبداية الثاين‪.‬‬
‫واملشهور يف الكتب املتخصصة يف ذكر الفرق واملذاهب أن الزيدية يف‬
‫الصحابة ‪ -‬صاحلية‪ ،‬يعظمون أبابكر وعمر ويتوقفون يف عثمان‪ ،‬وسليمانية‬
‫كالصاحلية إال أهنم يطعنون يف عثمان‪ ،‬وجارودية‪ ،‬يطعنون يف أيب بكر وعمر‬
‫وعثمان‪.‬‬
‫أما ما روي عن أئمة وعلماء الزيدية بعد ذلك فيالحظ القارئ أنه ترتدد بني‬
‫موقفني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬التمسك مبوقف اجليل األول من أهل البيت‪ ،‬وهو‪ :‬املواالة وحسن‬
‫الظن‪ ،‬مع ترجيح الرتضية والوالء‪ ،‬وانتقاد ما جرى من تـقدُّم على اإلمام علي‪،‬‬
‫وتفاوهتم يف مقدار الثناء واحلمل على السالمة‪ ،‬وبعضهم يرفع من وترية النَّقد‬
‫َّجرم مع اإلعذار يف اجلملة‪ ،‬والتحذير من الرباءة والسباب‪.‬‬
‫والت ُّ‬
‫ثانيهما‪ :‬جتنب السباب والنهي عنه‪ ،‬مع ختطئة من تقدم اإلمام علي أو قدَّم‬
‫عليه‪ ،‬وتفاوت يف تقدير ذلك اخلطأ وما يرتتب عليه‪ ،‬وخيتلفون يف استخدام‬
‫العبارات يف التعبري عنه‪ ،‬فمنهم من يكتفي بالتوقف عن الرتضية‪ ،‬ومنهم من جند‬
‫يف كالمه ِحدة وهتويالً‪ ،‬ومنهم من يكتفي بشرح ما جرى مستنداً إىل وقائع‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪166‬‬

‫وأحداث ُرويت يف كتب اجلميع وتناقلها املؤرخون من خمتلف االجتاهات‪.‬‬


‫وذلك ما خلصه اإلمام حيىي بن حزة من موقف الزيدية حني عدهم فريقني‪،‬‬
‫فقال‪« :‬تنبيه‪ :‬فإن اعرتفت مبا نقلناه من أن أحداً من أهل البيت مل ينقل عنه‬
‫تكفري وال تفسيق‪ ،‬فاعلم أهنم بعد ذلك فريقان‪:‬‬
‫الفريق األول‪ :‬مصرحون بالرتحم عليهم والرتضية‪ ،‬وهذا هو املشهور عن أمري‬
‫املؤمنني وعن زيد بن علي وجعفر الصادق والناصر للحق واملؤيد باهلل فهؤالء‬
‫مصرحون بالرتضية والرتحم واملواالة‪ ،‬وه ـذا هو املختار عنـدنا‪ ،‬وما نرتضيـه لنا‬
‫مذهباً‪ ،‬وحنـب أن نلقى هللا تعـاىل وحنن عليه‪.‬‬
‫والفريق الثاين‪ :‬متوقفون عن الرتضية والرتحم‪ ،‬وعن القول بالتكفري والتفسيق‬
‫واالهتام بسوء السريرة‪ ،‬وهذا دل عليه كالم القاسم‪ ،‬واهلادي‪ ،‬وأوالدمها‪ ،‬وإليه‬
‫يشري كالم املنصور باهلل‪ ،‬فهؤالء حيكمون باخلطأ‪ ،‬ويقطعون به‪ ،‬ويتوقفون يف‬
‫حكمه»‪.‬‬
‫وحياول اجلاروديون أن جيعلوا قوهلم ‪ -‬بالرباءة والسباب ‪ -‬قوالً ثالثاً للزيدية‪،‬‬
‫وهو ما أنكره األئمة ورفضوه يف خمتلف العصور‪.‬‬
‫ففي القرن اخلامس قال املؤيد باهلل‪« :‬ما أعلم أن أحداً من العرتة يسب‬
‫الصحابة‪ ،‬ومن قال ذلك فقد كذب»‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ويف القرن السابع قال اإلمام عبد هللا بن حزة‪« :‬ال جند أحداً حيكي عن‬
‫األئمة حكاية صحيحة لسب وال برآءة‪ ،‬بل وكلوا أمرهم إىل رب العاملني»‪.‬‬
‫ويف القرن الثامن قال اإلمام حيىي بن حزة «أما القول بالتكفري والتفسيق يف‬
‫حق الصحابة‪ ،‬فلم يؤثر عن أحد من أكابر أهل البيت وأفاضلهم»‪.‬‬
‫‪167‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫وسيأيت نقل إمجاع الزيدية على منع السب والرباءة‪ ،‬من طرق خمتلفة وعرب‬
‫القرون‪ ،‬كما ورد يف كتبهم‪.‬‬
‫الزيدية ومشاهري علمائهم‪،‬‬
‫وهنا سأذكر ما وقفت عليه من كالم لكبار أئمة َّ‬
‫مرتباً ذلك حسب الوفيات‪ ،‬مع ما ال خيفى من تداخل القرون واالختالف يف‬
‫بعض الوفيات‪.‬‬
‫وقبل البدء أنبه على أن الباحث قد جيد روايات غري ما ذكرت عن أحد ممن‬
‫ذكرت تؤيد أو تعارض ما نقلت عنه‪ ،‬وهذا أمر طبيعي‪ ،‬فهؤالء بشر هلم عواطفهم‬
‫ُ‬
‫اخلاصة وميرون مبراحل معرفية متعددة‪ ،‬وكذلك من يروي عنهم؛ غري أين مل أغفل‬
‫عنهم شيئاً وقفت عليه‪.‬‬

‫القـرن الثـاني‬
‫عبد هللا بن الحسن بن الحسن (‪145‬هـ)‬
‫جاء عن عبد هللا بن احلسن بن احلسن بن علي بن أيب طالب أنه كان يقول‪:‬‬
‫«عالمة ما بيننا وبني الشيعة زيد بن علي‪ ،‬فمن تبعه فهو شيعي‪ ،‬ومن مل يتبعه‬
‫فليس بشيعي»‪.‬‬
‫ويف هذا إشارة إىل ما كان عليه من مباينة ملوقف الروافض‪ ،‬ويدل على أن‬
‫موقفه مل خيتلف عن موقف أسالفه من االستياء من غلو بعض املنتسبني إىل‬
‫التشيع‪ ،‬وعلى ذلك مضى هو وإخوته وأبناؤه املتوفون مجيعاً سنة (‪145‬هـ) يف‬
‫حبس الدوانيقي‪.‬‬
‫الزيدية ومؤرخوهم أن عبد هللا بن احلسن وإخوته وأبناءه كانوا‬
‫وذكر أئمة َّ‬
‫حيسنون الظن بالشيخني‪ ،‬ويف ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬كانوا مجيعاً على‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪168‬‬

‫التويل للشيخني وإظهار احملبة‪ ،‬والتظاهر بسرية آبائهم فيهما‪ ،‬ومل يظهر من‬
‫جهتهم إكفار أو تفسيق‪ ،‬وال أثر عنهم لعن وال براءة»‪.‬‬
‫وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي‪« :‬أهنم كانوا على مواالة الشيخني‪،‬‬
‫ويظهرون احملبة هلما»‪ .‬وعدَّهم احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني بن القاسم يف‬
‫القائلني بالرتضية على أيب بـكر وعمر‪ .‬ويؤيد كالم األئمة ما جاء عنهم من‬
‫روايات بأسانيد متعددة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫(‪ )1‬وروى الدار قطين عن حفص بن قيس‪ ،‬قال‪ :‬سألت عبد هللا بن احلسن‪،‬‬
‫عن املسح على اخلفني؟ فقال‪ :‬امسح فقد مسح عمر بن اخلطاب‪ ،‬قلت‪ :‬إمنا‬
‫أسألك أنت أمتسح؟ قال‪ :‬ذلك أعجز لك‪ ،‬حني أخربك عن عمر‪ ،‬وتسألين عن‬
‫رأيي‪ ،‬فعمر كان خرياً مين وملء األرض مثلي‪ ،‬قلت‪ :‬يا أبا حممد إن ناساً‬
‫يقولون‪ :‬إن هذا منكم تقية‪ .‬فقال يل ‪ -‬وحنن بني القرب واملنرب ‪ :-‬اللهم إن هذا‬
‫قويل يف السر والعالنية؛ فال تسمعن قول أحد بعدي‪.‬‬

‫(‪ )2‬وعن عمار بن زريق الضيب‪ ،‬عن عبد هللا بن احلسن‪ ،‬قال‪ :‬ما أرى رجالً‬
‫يسب أبا بـكر وعمر ثبتت له توبة أبداً‪.‬‬
‫(‪ )3‬وعن عمرو بن القاسم‪ ،‬قال‪ :‬سعت عبد هللا بن احلسن‪ ،‬يقول‪ :‬وهللا ال‬
‫يقبل هللا توبة عبد تربأ من أيب بـكر وعمر‪ ،‬وأهنما ليعرضان على قليب‪ ،‬فأدعو هللا‬
‫هلما‪ ،‬أتقرب به إىل هللا عز وجل‪.‬‬
‫(‪ )4‬وعن أيب خالد األحر‪ ،‬قال‪ :‬سألت عبد هللا بن حسن‪ ،‬عن أيب بـكر‬
‫وعمر‪ ،‬فقال‪ :‬صلى هللا عليهما‪ ،‬وال صلى على من ال يصلي عليهما‪.‬‬
‫(‪ )5‬وعن احلسن بن صاحل بن حي‪ ،‬قال‪ :‬سعت عبد هللا بن احلسن‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪169‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫إن أبا بـكر أعطى عليا أم حممد بن احلنفية‪.‬‬


‫هذه الروايات أوردها الدارقطين‪ ،‬وابن عساكر‪ ،‬من طرق رواة جلهم من‬
‫املعدودين يف رجال الزيدية‬
‫الحسن بن الحسن بن الحسن (‪145‬هـ)‬
‫عن فضيل بن مرزوق قال سعت احلسن بن احلسن يقول لرجل من الرافضة‪ :‬إن‬
‫قتلك لقربة إىل هللا عز وجل‪ ،‬فقال له الرجل‪ :‬إنك متزح!! فقال‪ :‬وهللا ما هذا مبزاح‪،‬‬
‫ولكنه مين اجلد‪.‬‬
‫ويف رواية أخرى قال فضيل بن مرزوق‪ :‬سعت حسن بن حسن بن احلسن‬
‫يقول لرجل من الرافضة‪ :‬وهللا لئن أمكن هللا منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم من‬
‫خالف‪ ،‬وال نقبل لكم توبة‪.‬‬
‫إبراهيم بن الحسن بن الحسن (‪145‬هـ)‬
‫وروى فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن احلسن قال‪ :‬دخل عل َّي املغرية بن‬
‫يف‪ ،‬مث‬
‫سعيد وأنا شاب وكنت أشبَّه برسول هللا‪ ،‬فذكر من قرابيت وشبهي وأمله َّ‬
‫ذكر أبا بكر وعمر فلعنهما؛ فقلت‪ :‬يا عدو هللا؛ عندي؟! قال‪ :‬فخنقته خنقاً‬
‫حىت أدلع لسانه‪.‬‬
‫اإلمام محمد بن عبد هللا النفس الزكية (‪145‬هـ)‬
‫روى حبيب األسدي‪ ،‬عن حممد بن عبد هللا بن احلسن‪ ،‬قال‪ :‬أتاه قوم من‬
‫أهل الكوفة واجلزيـرة‪ ،‬فسألوه عن أيب بـكر وعمر‪ ،‬فالتفت إيل‪ ،‬فقال‪ :‬انظر إىل‬
‫أهل بالدك يسألوين عن أيب بـكر وعمر!! هلما عندي أفضل من علي بن أيب‬
‫طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪170‬‬

‫هكذا روي‪ ،‬وقد تقدم حنوه عن اإلمام علي‪ ،‬ولكن اجلزم بأن اإلمام النفس‬
‫الزكية كان يعتقد تفضيل أيب بـكر وعمر على علي حيتاج إىل تثبت؛ ألن ما يروى‬
‫عنه من خطب ومقاالت تدل على خالف ذلك‪.‬‬
‫وخبالف ما اشتهر عنه روى السيد حيدان عنه أنه انتقد الطريقة اليت متت هبا‬
‫بيعة كل واحد من اخللفاء‪ ،‬فقال‪« :‬فنظر علي للدين قبل نظره لنفسه؛ فوجد‬
‫حقه ال ينال إال بالسيف املشهور‪ ،‬وتذكر ما هو به من حديث عهد جباهلية‪،‬‬
‫فكره أن يضرب بعضهم ببعض فيكون يف ذلك ترك األلفة‪ .‬فأوصى هبا أبو بـكر‬
‫إىل عمر عن غري شورى‪ ،‬فقام هبا عمر وعمل يف الوالية بغري عمل صاحبه‪،‬‬
‫وليس بيده فيها عهد من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وال تأويل من‬
‫كتاب هللا‪ ،‬إال رأي توخاه هو فيه مفارق لرأي صاحبه؛ فجعلها بني ستة‪ ،‬ووضع‬
‫عليهم أمراء أمرهم إن هم اختلفوا أن يقتلوا األقل من الفئتني‪ ،‬وصغروا من أمرهم‬
‫ما عظم هللا‪ ،‬وصاروا سبباً لوالة السوء‪ ،‬وسدت عليهم أبواب التوبة‪ ،‬واشتملت‬
‫عليهم النار مبا فيها‪ ،‬وهللا جل ثناؤه باملرصاد»‪.‬‬
‫وهذا إن صح عنه‪ ،‬وكان معناه‪ :‬أنه حكم على اخللفاء بالنار‪ ،‬فهو رأي ال‬
‫نراه صواباً‪ ،‬وال يتحمل الزيدية تبعته‪ ،‬واالعتذار له أوىل من االحتجاج به‪.‬‬
‫الصـادق جعفربن محمد بن علي (‪148‬هـ)‬ ‫اإلمام َّ‬

‫الصـادق من رموز أهل البيت وسلفهم الصاحل وقد‬‫اإلمام جعفر بن حممد َّ‬
‫ابتلي ‪ -‬كأبيه وجده ‪ -‬بالتـَّق ُّول عليه يف حياته وبعد وفاته‪ ،‬خصوصاً يف مسأليت‬
‫الصحابة‪ ،‬لذلك كان حريصاً على بيان موقفه بعبارات قوية وواضحة‪،‬‬ ‫اإلمامة و َّ‬
‫حىت قال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬كان شديد احملبة أليب بـكر وعمر‪ ،‬وقد روى‬
‫عنه خلق عظيم أنه كان يرتحم عليهما»‪ .‬وذكره كل من القرشي‪ ،‬واإلمام‬
‫‪171‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫املهدي‪ ،‬وحيىي بن احلسني‪ ،‬من القائلني بالرتضية عن املشايخ‪.‬‬


‫الزيدية يف كتبهم‬
‫وجاء عنه روايات كثرية مسندة ومرسلة‪ ،‬نقل بعضها علماء َّ‬
‫واستشهدوا هبا على براءته مما نسب إليه بعض الغالة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫(‪ )1‬عن حفص بن غياث‪ ،‬قال‪ :‬سعت جعفر بن حممد‪ ،‬يقول‪ :‬ما أرجو من‬
‫شفاعة علي شيئاً‪ ،‬إال وأنا أرجو من شفاعة أيب بـكر مثله‪ ،‬ولقد ولدين مرتني‪.‬‬
‫أراد‪ :‬أن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن حممد بن أيب بـكر‪ ،‬وأم أمه‪ :‬أساء‬
‫بنت عبد الرحن بن أيب بـكر‪.‬‬
‫(‪ )2‬وعن عبد اجلبار بن العباس اهلمداين أن جعفر بن حممد أتاهم وهم‬
‫يريدون أن يرحتلوا من املدينة‪ ،‬فقال‪ :‬إنكم إن شاء هللا من صاحلي أهل مصركم؛‬
‫فأبلغوهم عين أن من زعم أين إمام مفرتض الطاعة‪ ،‬فأنا منه بريء‪ ،‬ومن زعم‬
‫أين أبرأ من أيب بـكر وعمر‪ ،‬فأنا منه بريء‪.‬‬
‫(‪ )3‬وعن احلسن بن صاحل بن حي‪ ،‬قال‪ :‬سألت جعفراً عن أيب بـكر وعمر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أبرأ ممن ذكرمها إال خبري‪ .‬قلت‪ :‬لعلك تقول هذا تقية‪ .‬قال‪ :‬أنا إذاً من‬
‫املشركني‪ ،‬وال نالتين شفاعة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫(‪ )4‬وعن سامل بن أيب حفصة‪ ،‬قال‪ :‬دخلت على جعفر بن حممد أعوده وهو‬
‫مريض‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إين أحب أبا بـكر وعمر وأتوالمها‪ ،‬اللهم إن كان يف نفسـي‬
‫غري هذا فال تنالين شفاعة حممد يوم القيامة‪ .‬وتقدم حنوه عن اإلمام حممد الباقر‪.‬‬
‫(‪ )5‬وعن حنان بن سدير‪ ،‬قال‪ :‬سعت جعفر بن حممد‪ ،‬وقد ُسئل عن أيب‬
‫بـكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬فقال‪ :‬إنك تسألين عن رجلني‪ ،‬قد أكال من مثار اجلنَّـة‪ .‬قال اإلمام‬
‫حيىي بن حزة معقباً على هذه الروايات‪ :‬فأين هذا من هذيان الروافض‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪172‬‬

‫واجلارودية؟! فاهلل حسبهم على ما قالوه‪ ،‬ومكافئهم على ما كذبوه ونقلوه‪.‬‬


‫(‪ )6‬وعن سامل بن أيب حفصة‪ ،‬قال‪ :‬قال يل جعفر بن حممد بن علي‪ :‬يا‬
‫سامل‪ ،‬أيسب الرجل جده؟! أبو بـكر جدي‪ ،‬ال نالتين شفاعة حممد يوم القيامة‬
‫إن مل أكن أتوالمها وأبرأ من عدومها‪.‬‬
‫(‪ )7‬وعن زهري بن معاوية‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬كان يل جار يزعم أن جعفر بن‬
‫حممد يتربأ من أيب بـكر وعمر قال‪ :‬فغدوت على جعفر بن حممد فقلت له‪ :‬إن‬
‫يل جاراً يزعم أنك تتربأ من أيب بـكر الصديق وعمر‪ ،‬فما تقول؟ فقال‪ :‬برئ هللا‬
‫من جارك‪ ،‬إين أرجو أن ينفعين هللا بقرابيت من أىب بـكر الصديق ولقد اشتكيت‬
‫شكاة‪ ،‬فأوصيت فيها إىل خايل عبد الرحن بن القاسم بن حممد بن أيب بـكر‪.‬‬
‫(‪ )8‬وعن حيىي بن سليم الطائفي‪ ،‬عن جعفر بن حممد‪ ،‬قال‪ :‬إن اخلبثاء من‬
‫أهل العراق يزعمون أنا نقع يف أيب بـكر وعمر ومها والداي‪.‬‬
‫(‪ )9‬وعن عمرو بن قيس املالئي‪ ،‬قال‪ :‬سعت جعفر بن حممد‪ ،‬يقول‪ :‬برئ‬
‫هللا ممن تربأ من أيب بـكر وعمر‪.‬‬
‫(‪ )10‬ونقل احلافظ حيىي بن احلسني عن كتاب (توضيح الدالئل) لشهاب‬
‫الدين اإلجيي‪ :‬أن جعفر بن حممد قال‪ :‬أمجع آل حممد صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫على أن يقولوا يف أيب بـكر وعمر أحسن القول‪ .‬وقد تقدم مثله عن الباقر‪ ،‬ولعله‬
‫التبس على الراوي‪.‬‬
‫اإلمام محمد بن إبراهيم طباطبا (‪199‬هـ)‬
‫الزيدية الذين كانوا حمل احرتام املسلمني على اختالف توجهاهتم‪،‬‬
‫من أئمة َّ‬
‫وكان ممن بايعه من أعالم أهل احلديث الذين يأمتون بأيب بـكر وعمر وعثمان‪:‬‬
‫‪173‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫أبو بـكر وعثمان ابنا أيب شيبة‪ ،‬وأبو نعيم الفضل بن دكني‪ ،‬وعبد هللا بن علقمة‪،‬‬
‫وغريهم‪.‬‬
‫وعن موقفه جتاه اخللفاء؛ ذكر أبو عبد هللا العلوي أن حيىي بن آدم ‪ -‬وهو‬
‫من مشاهري احملدثني ‪ -‬جاء ليبايع اإلمام حممد بن إبراهيم طباطبا بن إساعيل‬
‫الديباج‪ ،‬فاشرتط عليه حممد شروطاً‪ .‬قال حيىي بن آدم‪ :‬أبايعك على ما بايع‬
‫أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عثمان بن عفان‪ .‬قال له‬
‫ُ‬ ‫عليه‬
‫حممد‪ :‬إن شئت فبايع على ما أقول لك‪ ،‬وإن شئت على ما تقول‪ ،‬وإن شئت‬
‫فال تبايع‪ .‬فبايعه حيىي واشرتط عليه حممد‪ ،‬فقال له حيىي‪ :‬ما استطعت‪ ،‬فقال له‬
‫حممد‪ :‬هذا قد استثناه لك القرآن‪.‬‬
‫ويف هذا داللة على مقدار التفاهم واملودة اليت كانت بني أئمة أهل البيت‪،‬‬
‫وأئمة أهل السنة‪ ،‬ولو كان اإلمام ابن طباطبا يذهب إىل رأي الروافض ملا قبلوه‬
‫وارتضوه إماماً هلم‪ ،‬وهم شديدو احلساسية يف هذا الباب‪.‬‬

‫القـرن الثـالث‬
‫اإلمام القاسم بن إبراهيم الرس ي (‪246‬هـ)‬
‫هو جد اإلمام اهلادي حيىي بن احلسني‪ ،‬ومن أبرز أئمة الزيدية‪ ،‬وأحد مراجع‬
‫اإلمام اهلادي يف الرواية والفتوى‪.‬‬
‫ويف موقفه من اخللفاء روى اإلمام اهلادي علي بن جعفر احلُقْي ِين (املتوىف‬
‫الصحابة الذين تصدروا للخالفة‪،‬‬ ‫‪499‬هـ) أن اإلمام القاسم بن إبراهيم‪ ،‬أوكل أمر َّ‬
‫ْ َ‬
‫(يعين أبا بـكر وعمر وعثمان)‪ ،‬إىل هللا واكتفى يف ذلك بقول هللا تعاىل‪﴿ :‬ت ِل ٌ‬
‫كٌ‬
‫ح َّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ح ْ َ َ َ ْ ح ْ َ َ ح ْ َ ح َ َ َّ َ ح َ ْ َ ح َ‬
‫ون﴾[البقرة‪:‬‬
‫ونٌعماٌاكنواٌيعمل ٌ‬
‫الٌتسأل ٌ‬
‫تٌولك ٌمٌماٌكسبت ٌمٌو ٌ‬
‫ت ٌ له ا ٌ م ا ٌ ك سق ٌ‬
‫أمةٌٌق ٌدٌخل ٌ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪174‬‬

‫‪.]134‬‬
‫ومن هذه الرواية استنتج كل من اإلمام حيىي بن حزة واإلمام املهدي أحد بن‬
‫حيىي املرتضى والقاضي حيىي بن احلسن القرشي أنه مل يكن يسب وال يرتضي‬
‫السب‪ ،‬وقال اإلمام حيىي بن حزة‪ :‬وهذه هي السالمة ملن أرادها‪.‬‬
‫ََ ْ‬
‫ض ٌاهللٌ‬ ‫وحينما سأله ولده حممد بن القاسم عن قول هللا عز وجل‪﴿ٌ :‬لو ٌد ٌ َر ِ ٌَ‬
‫ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ‬ ‫ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫علي ِه ٌمٌ‬ ‫تٌالشج ٌَر ٌةٌِفعل ٌَِمٌماٌ ِ ٌ‬
‫فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأنز ٌلٌالسكِين ٌةٌ ٌ‬ ‫كٌَت ٌ‬
‫نيٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌ‬‫نٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬
‫ع ٌِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫َوأث َاب حه ٌْم ٌف ْت ًحا ٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح‪ .]18 :‬أجاب‪« :‬كل مؤمن زكي‪ ،‬بايعه حتت الشجرة‪،‬‬
‫فقد رضي هللا عنه‪ ،‬كما قال سبحانه ال شريك له»‪.‬‬
‫ويف هذا إشارة إىل أنه ال ميانع من الرتضية على أصحاب بيعة الرضوان‪،‬‬
‫ومعلوم أن اخللفاء الراشدين كانوا يف مقدمتهم‪.‬‬
‫وعنه روى اإلمام حيىي بن حزة أنه قال‪« :‬ننكر أفعاهلم ‪ -‬يف التقدم على‬
‫الرافضة فنُفرط»‪ ،‬وذكر أن هذه الرواية ُرويت‬
‫علي ‪ -‬ونسخط‪ ،‬وال نقول قول َّ‬
‫حبضرة املؤيد باهلل‪ .‬واعتربها تصرحياً من اإلمام القاسم بتحرمي األذية والسب‪،‬‬
‫ودالة على سالمة األمر من جهته يف حق اخللفاء‪ ،‬وهلذا صرح بأن قول الرافضة‬
‫إفراط وغلو‪ ،‬وليس يرتضيه مذهباً لنفسه‪ ،‬ولو كان صواباً وحقاً لقال به‪ ،‬وحاشا‬
‫بصريته النَّافذة وورعه الذي فاق به نظراءه؛ أن يصدر من جهته ما ال يليق‬
‫بذلك»‪.‬‬
‫وأشد ما يروي اجلارودية عن اإلمام القاسم الرسي؛ ما ذكر اإلمام أحد بن‬
‫سليمان‪ :‬أنه أقام بغريب مصر‪ ،‬وأن أناساً سألوه عن أيب بـكر وعمر فقال‪:‬‬
‫صديقة‪ ،‬ماتت وهي غضبانة عليهما‪ ،‬وحنن غاضبون‬ ‫صديقةٌ ابنة ِ‬
‫«كانت لنا أمٌّ ِ‬
‫لغضبها»‪.‬‬
‫‪175‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫وهذا ال يتجاوز ‪ -‬عند صحته ‪ -‬كونه تعبري عن استنكار ملوقف أيب بكر‬
‫من مرياث فاطمة‪ ،‬وال يدل على سب أو براءة‪.‬‬
‫وقد ُسئل القاسم عن مرياث النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فقال‪« :‬إن‬
‫رسول هللا تويف وقد فرق كل ما ميلك من الدنيا على أمته‪ ،‬ومل يرتك إال سـالحه‪،‬‬
‫فأخذه علي بن أيب طالب»‪ .‬ومل يكن مهتماً مبا يروى من خصومة الزهراء‬
‫والشيخني‪ ،‬حىت إنه سـئل عن (فدك)‪ ،‬فقـال‪« :‬ذُكر أن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم أعطى فاطمة فدك»‪ .‬هكذا بصيغة الت َّْمريض‪.‬‬

‫اإلمام محمد بن القاسم الرس ي (‪ 279‬هـ)‬


‫وجدت يف جمموع كتبه اليت وصلت إلينا أنه كان يستشهد بكالم ومواقف‬
‫أيب بـكر وعمر‪ ،‬يف موضع االحتجاج هبا‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫قوله يف سياق استدالله على عدم صحة الصالة خلف الفاسق الذي خرج‬
‫على إمام حق‪« :‬إن اإلمجاع قد ثبت ‪ -‬من وجه احلجة ملن أنصف من نفسه‬
‫‪ -‬أنه ال جيوز الصالة خلف أئمة اجلور يف حكم هللا وحكم رسوله‪ ،‬وذلك أهنم‬
‫قد أمجعوا مجيعاً أن مجاعة لو خرجوا على أيب بـكر من أهل القبلة باغني عليه‪،‬‬
‫مث غلبوا على مدينة‪ ،‬أنه ال حيل ألهل تلك املدينة الصالة معهم واإلمام قائم‪،‬‬
‫وكذلك لو تغلبوا على عدة مدن مل حيل هلم ذلك‪ ،‬وأهنم مل يضيعوا فرضاً برتكهم‬
‫الصالة معهم»‪.‬‬
‫وهذا يشري إىل أن اإلمام حممد بن القاسم الرسي كان يرى أليب بكر وعمر‬
‫بن اخلطاب مكانة خاصة يف الرتاث اإلسالمي‪ ،‬ولو كانا عنده على غري ذلك‬
‫ملا عرج على ذكرمها‪ ،‬وملا استشهد مبا أثر عنها‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪176‬‬

‫اإلمام الهادي يحيى بن الحسين (‪298‬هـ)‬


‫تشري جممل الروايات عن اإلمام اهلادي إىل سالمة موقفه من اخللفاء‪ ،‬وإمنا‬
‫اختلف علماء الزيدية فيما يرجح عنه من «التوقف والرتضية»‪ .‬وسأبسط الكالم‬
‫فيما روي عنه كونه كبري أئمة الزيدية يف اليمن‪ ،‬وحيظى مبكانة عند أتباع املذهب‬
‫الزيدي‪ ،‬وكثري من زيدية اليمن ال يتجرأ على خمالفته‪.‬‬

‫رأيٌاإلمامٌاهلاديٌبنيٌالَتضيةٌواتلوقفٌ‬
‫استند من خلُص إىل أن اإلمام اهلادي كان ُحيسن الظن باخللفاء الراشدين‬
‫وال يسيئ القول فيهم إىل عدة أمور‪:‬‬

‫الصحابة عن املرتدين املنافقني‬


‫اْلمرٌاْلول‪ :‬أن اإلمام اهلادي ميز فضالء َّ‬
‫املتمردين على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم الطاعنني على أهل بيته‪ ،‬فقال‬
‫لصحابة الصادقني‪،‬‬ ‫يف (رسالة له إىل أهل صنعاء)‪« :‬وال انتقص أحداً من ا َّ‬
‫والتابعني بإحسان‪ ،‬املؤمنات منهم واملؤمنني‪ ،‬أتوىل مجيع من هاجر‪ ،‬ومن آوى‬
‫سب مؤمناً عندي استحالالً فقد كفر‪ ،‬ومن سبه استحراماً‬ ‫منهم ونصر‪ ،‬فمن َّ‬
‫فقد ضل عندي وفسق‪ ،‬وال أسب إالَّ من نقض العهد والعزمية‪ ،‬ويف كل وقت له‬
‫هزمية‪ ،‬من الذين بالنفاق تفَّردوا‪ ،‬وعلى الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم مرة‬
‫بعد مرة متردوا‪ ،‬وعلى أهل بيته اجرتأوا وطعنوا‪ ،‬وإين أستغفر هللا ألمهات املؤمنني‪،‬‬
‫اللوايت خرجن من الدنيا وهن من الدين على يقني‪ ،‬وأجعل لعنة هللا على من‬
‫تناوهلن مبا ال يستحققن من سائر الناس أمجعني»‪.‬‬
‫فصرح بأنه يتوىل «مجيع من هاجر‪ ،‬ومن آوى منهم ونصر» والشك أن‬
‫اخللفاء الراشدين يف مقدمتهم‪ ،‬وتعليقاً على هذا الكالم قال اإلمام املهدي أحد‬
‫‪177‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫بن حيىي‪« :‬هذا رأس أئمة العرتة وقِْبلةُ أهل مذهبنا ُمص ِرح بتويل َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬فكيف‬
‫يتوقف من يدين هللا حبب أهل البيت واالهتداء هبديهم عن الرتضية عمن هم‬
‫عنه راضون»؟!‬
‫وأضاف أنه إمنا يعين بقوله‪« :‬وال أسب إالَّ من نقض العهد والعزمية ‪ ...‬اخل»‬
‫طعن إال منه وأصحابه‪ ،‬وهو سب علي عليه السالم‬ ‫معاوية وأتباعه؛ إذ مل يكن ٌ‬
‫على رؤوس املنابر‪ ،‬وأما اخللفاء فلم يكن منهم إال التعظيم‪ ،‬وال كان منهم مترد‬
‫على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم»‪.‬‬
‫وخلص بعد حتليل لكالم اإلمام اهلادي إىل أنه كان يوايل اخللفاء ويرضي‬
‫عنهم‪ ،‬فقال‪« :‬فوجب القطع بعد معرفة هذه اجلملة من كالمه بأنه عليه السالم‬
‫يوجب مواالهتم والرتضية عنهم»‪.‬‬
‫وعقَّب اإلمام عز الدين بن احلسن على ما ذكر اإلمام حيىي بن حزة من‬
‫توقف اهلادي وعبد هللا بن حزة‪ ،‬بقوله‪« :‬قد وقفنا هلذين اإلمامني على كالم من‬
‫جنس ما ورد عن أمري املؤمنني واحلسنني ومن ذكر معهم»‪ .‬يعين من الثناء والتويل‪.‬‬
‫ومثله رجح احلافظ حيىي بن احلسـني‪ ،‬فذكر‪ :‬أن يف رواية للهادي الرتضية‬
‫عنهم‪.‬‬
‫وقبلهم جزم القاضي الكبري حيىي بن احلسن القرشي أن «املعلوم من حال‬
‫الصحابة‪ ،‬وال يفسقهم»‪.‬‬
‫اإلمام اهلادي أنه ما كان يكفر َّ‬
‫اْلمـرٌاثلــاين‪ :‬أنه عاقب من جترأ على سب أيب بـكر وعمر‪ ،‬فقد روى أحد‬
‫بن سعيد الربعاين أن قوماً من أهل صنعاء سبوا أبا بـكر وعمر يف مدة والية‬
‫اإلمام اهلادي‪ ،‬فأمر جبلدهم‪ ،‬واستدل على ذلك بأن رسول هللا لعن من سب‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪178‬‬

‫ويبدو أن اإلمام اهلادي عمل مبوجب احلديث الذي رواه اإلمام علي بن‬
‫موسى الرضا عن علي قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬من سب‬
‫نبياً قُتل‪ ،‬ومن سب صاحب نيب ُجلد»‪ .‬أما استدالله بأن رسول هللا لعن من‬
‫الصحابة‪ ،‬فجاء يف حديث من رواية ابن عباس‪ ،‬تقدم ِذكره‪.‬‬
‫سب َّ‬
‫اْلمـرٌاثلـالث‪ :‬أنه اعتمد يف أحكام شرعية على روايات عن النيب صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم وردت من طريق اخللفاء الراشدين‪ ،‬فلو كان أحد منهم ساقط‬
‫العدالة يف نظره مل يأخذ مبا جاء من طريقه ومل جيعله واسطة بينه وبني املشرع‪.‬‬
‫وهذا ما أشار إليه اإلمام حيىي بن حزة حني تساءل‪« :‬وكيف يؤثر عنه الطعن‬
‫الصحابة‪ ،‬وكتابه (األحكام) مشحون باالحتجاج بالرواية عن القوم‪،‬‬ ‫يف َّ‬
‫فسقهم‪ ،‬ملا كان هنالك معىن‬
‫وأقضيتهم وأحكامهم؟! فلو كان قد كفَّرهم أو َّ‬
‫لالحتجاج بأقواهلم»‪.‬‬
‫اْلمـرٌالرابـع‪ :‬أن موقفه من «الرافضة» كان شديد الصرامة‪ ،‬فقد وصفهم‬
‫يف كتاب (األحكام) بأهنم‪« :‬حزب ضال‪ ،‬ال يُلتفت إىل ما هم عليه من املقال‪،‬‬
‫ملا هم عليه من ال ُكفر واإليغال‪ ،‬والقول بالكذب والفسوق واحملال‪ ،‬فهم على‬
‫هللا ورسوله يف كل أمر كاذبون‪ ،‬وهلما يف كل أفعاهلم خمالفون»‪.‬‬
‫وبعد أن أطال يف ذكر مساوئهم قال‪« :‬وفيهم ما حدثين أيب وعماي حممد‬
‫واحلسن عن أبيهم القاسم بن إبراهيم عن أبيه عن جده إبراهيم بن احلسن عن‬
‫أبيه عن جده احلسن بن علي بن أيب طالب عن أبيهم علي بن أيب طالب عليه‬
‫وعليهم السالم عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪« :‬يا علي يكون يف‬
‫آخر الزمان قوم هلم نبز يعرفون به‪ ،‬يقال‪ :‬هلم الرافضة فإن أدركتهم فاقتلهم قتلهم‬
‫هللا فإهنم مشركون"»‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫ويف موضع آخر وصفهم بأهنم « ِشْرذمة خمالفة للحق يف كل املعاين من‬
‫الكتاب والسنة وهي هذه اإلمامية الرافضة»‪.‬‬
‫واشتهر عند الزيدية قوله يف كتبه األصولية‪« :‬وإىل هللا أبرأ من كل رافضي‬
‫غوي‪ ،‬ومن كل حروري ناصيب»‪ .‬ومعلوم أن الرباءة من «الرافضة» تعين الرباءة‬
‫الصحابة رضوان‬‫من أبرز أفكارهم‪ ،‬كالغلو يف أهل البيت‪ ،‬وتطاوهلم على كبار َّ‬
‫هللا عليهم‪.‬‬
‫فمجموع هذه النصوص والشواهد تدل على أن اإلمام اهلادي كان يتوىل‬
‫الصحابة‪ ،‬مبن فيهم اخللفاء الراشدين‪ ،‬وال جيزم فيهم بكفر أو فسق أو‬
‫جممل َّ‬
‫سباب‪ ،‬وغاية ما يذكر عنه أنه كان خيطئ املتقدمني على اإلمام علي باعتباره‬
‫كان األوىل باخلالفة من غريه‪ ،‬كما أوضح ذلك يف رسالة له يف (تثبيت إمامة‬
‫اإلمام علي)‪.‬‬
‫ورجحٌبعضٌالزيدية أن اإلمام اهلادي كان مييل إىل التوقف عن الوالء والرباء‪،‬‬
‫فذكر السيد اهلادي بن إبراهيم الوزير «أن اإلمام عبد هللا بن حزة أكثر من‬
‫االحتجاج على وجوب التوقف يف أمر القوم‪ .‬مث قال (= إبراهيم الوزير) وهو‬
‫الذي قدمنا من كالم اهلادي عليه السالم»‪.‬‬
‫وذكر اإلمام حيىي بن حزة‪ :‬أن كالم اهلادي يدل على أنه متوقف عن الرتضية‬
‫والرتحم واإلكفار والتفسيق‪.‬‬
‫وهو ما أشار إليه العـالَّمة حممد بن احلسن الديلمي بقوله‪« :‬إن مذهب‬
‫الزيدية من العرتة الزكية‪ ،‬بل مذهب مجيع الطهرة من الذرية وأتباعهم‬
‫سادات َّ‬
‫وأشياعهم ‪ -‬دون من تسمى باسهم وليس منهم ‪ :-‬التوقف يف أمر الشيخني‪،‬‬
‫بل بعضهم يرون مواالهتما وخيطئون من تربأ منهما‪ ،‬ويظهرون حمبتهما‬
‫وفضلهما»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪180‬‬

‫موقفٌاإلمامٌاهلاديٌفٌرأيٌاجلاروديةٌورواياتهمٌ‬
‫كعادهتم زعم اجلاروديون أن موقف اإلمام اهلادي ال خيتلف عن موقفهم جتاه‬
‫اخللفاء‪ ،‬وحشدوا إلثبات ذلك ما أمكنهم من االستدالل‪ ،‬وأوردوا أقواله يف‬
‫الصحابة‪ ،‬وما احتج به على ذلك‪ ،‬إىل جانب‬ ‫تقدمي اإلمام علي على سائر َّ‬
‫انتقاده من أخروه‪ ،‬واعتربوا ذلك دليالً على السخط والرباءة‪.‬‬
‫بيد أن ذلك ‪ -‬وإن كان معروفاً عنه ‪ -‬ال يدل على شيء مما ذهبوا إليه من‬
‫الرباءة‪ ،‬أو احلكـم بكفر أو فسق‪ ،‬فقد تقدم حنو ذلك االنتقاد عن اإلمام علي‬
‫واإلمام زيد‪ ،‬وبيَّنا الفرق بني السباب واالعرتاض على املواقف والتصرفات واآلراء‬
‫واالجتهادات‪.‬‬
‫ويستدل اجلاروديون على سخط اإلمام اهلادي وشدة موقفه من اخللفاء‬
‫بأمرين‪:‬‬

‫أ ‪ -‬ما جاء في مقدمة كتاب األحكام‪:‬‬


‫ولفظه‪« :‬فمن أنكر أن يكون علي أوىل الناس مبقام الرسول‪ ،‬فقد رد كتاب‬
‫هللا ذي اجلالل واإلكرام والطول‪ ،‬وأبطل قول رب العاملني‪ ،‬وخالف يف ذلك ما‬
‫نطق به الكتاب املبني‪ ،‬وأخرج هارون من أمر موسى كله‪ ،‬وأكذب رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم يف قوله‪ ،‬وأبطل ما حكم به يف أمري املؤمنني‪ ،‬فال بد‬
‫أن يكون من كذب هبذين املعنيني يف دين هللا فاجراً‪ ،‬وعند مجيع املسلمني‬
‫كافراً»‪.‬‬
‫ولنا على هذا الكالم عدة مالحظات‪ ،‬منها ما يرجع إىل نسبته‪ ،‬ومنها ما‬
‫يرجع إىل تفسريه‪ ،‬وما قيل يف ذلك‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫أما نسبة الكالم فمصدره الوحيد هو ابن أيب حريصة‪ ،‬يف أول نسخته اليت‬
‫مجعها ورتبها من كتاب (األحكام)‪ ،‬وكرر يف أول كل باب منها‪« :‬قال حيىي بن‬
‫جتوز يف صياغة‬
‫احلسني صلوات هللا عليه»‪ .‬والذي يبدو يل أن ابن أيب حريصة َّ‬
‫تلك املقدمة على أساس أهنا من أفكار اإلمام اهلادي‪ ،‬وليست رواية عنه نصاً‪،‬‬
‫يدل على ذلك أمور‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن صناعة مقدمة يف أصول الدين لكتاب من كتب الفقه‪ ،‬مل يكن‬
‫نفسه عن اهلادي يف‬
‫مألوفاً عند زيدية القرن الثالث‪ ،‬وقد نقل ابن أيب حريصة ُ‬
‫تلك املقدمة أنه قال‪« :‬فرأينا أن نضع كتاباً مستقصى‪ ،‬فيه أصول ما حيتاج إليه‬
‫من احلالل واحلرام‪ ،‬مما جاء به الرسول صلى هللا عليه وآله‪ ،‬ليعمل به ويتكل عليه‬
‫من ذكرنا»‪ .‬وأسلوب كتابة تلك املقدمة يتناىف مع قوله‪« :‬وإين وجدت يف هذا‬
‫الكتاب أبواباً متفرقة‪ ،‬وعن مواضعها نادرة يف خالل األبواب غري املشاكلة هلا‬
‫غري مرتبة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬أن ُشَّراح كتاب (األحكام) كأيب العباس احلسين‪ ،‬وتلميذه علي بن بالل‬
‫الكالري اعتمدا نسخة (األحكام) قبل ترتيب ابن أيب حريصة‪ ،‬فلم يذكراً شيئاً‬
‫عن تلك املقدمة‪ ،‬ومل يتناوالها بشرح أو تفسري‪.‬‬
‫(‪ )3‬أن ابن أيب حريصة (واسه‪ :‬علي بن أحد)‪ ،‬شخص مغمور ومل يكن من‬
‫أصحاب اهلادي وال معاصراً له كما يتوهم بعضهم؛ فبالعودة إىل مقدمة األحكام‬
‫جند أن ابن أيب حريصة روى كتاب (األحكام) عن‪ :‬احلسن بن أحد بن يوسف‬
‫بن حممد الضهري‪ ،‬والضهري سعه على حممد بن الفتح بن يوسف‪ ،‬وحممد بن‬
‫الفتح سعه على املرتضى حممد بن حيىي اهلادي‪ .‬وهذا يعين أنه إمنا يروي عن‬
‫اهلادي بثالث وسائط‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪182‬‬

‫وأشف ما جاء يف التعريف به أن ابن أيب الرجال ذكر يف (مطلع البدور) أن‬
‫شخصاً يلقب بأيب الغمر قرأ يف بعض الكتب أن ابن أيب حريصة من أصحاب‬
‫اهلادي وولديه‪ .‬مث نسب إليه أشعاراً مل يذكر مصدرها‪.‬‬
‫وحينما رجعت لسرية اهلادي اليت ألفها علي بن العباس مل أجد البن أيب‬
‫حريصة فيها ِذ ْكر‪ ،‬ومل يتمكن أحد ممن ذكر ابن أيب حريصة أن ِ‬
‫يعرف به‪ ،‬واكتفى‬
‫أصحابنا يف ترمجته على ما ذكره هو عن نفسه يف مقدمة كتاب (األحكام)‪.‬‬
‫وعلى هذا فهو شخص غري معروف احلال‪ ،‬فال قيمة ملا نسب إىل اإلمام اهلادي‬
‫مما مل يوافقه عليه غريه‪ ،‬على أن روايته وجهالته تلك ال تطعن يف نسبة كتاب‬
‫(األحكام) مجلة إىل اهلادي‪ ،‬ألنه قد روي من غري طريقه‪ ،‬ودون مقدمته‪.‬‬
‫(‪ )4‬أن تلك املقدمة ‪ -‬على فرض أهنا ليست من كالم ابن أيب حريصة ‪-‬‬
‫غريبة يف مضموهنا‪ ،‬كما سيأيت‪ ،‬ولعلها مما أشار إليه اإلمام املرتضـى حممد بن‬
‫اهلادي حني قال‪« :‬لقد وجدت يف كتب (األحكام) اليت وضع اهلادي إىل احلق‬
‫صلوات هللا عليه باباً مزيداً عليه‪ ،‬منسوباً إليه‪ ،‬ما وضعه قط‪ ،‬ووجد هو أيضاً‬
‫رحة هللا عليه باباً آخر موضوعاً منسوباً إليه مل يضعه‪ ،‬يعمل فيه بعض من ال‬
‫يتقي هللا‪ ،‬فهذا ومثله كثري‪ ،‬فما وجدمت من ذلك فليس منا؛ ألنا مجيعاً متبعون‬
‫لكتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وليس يف ذلك تناقض وال‬
‫تفاوت وال نقصان‪ ،‬بل ذلك مؤتلف بأحق احلقائق وأبني البيان»‪.‬‬
‫وأما معىن كالم ابن أيب حريصة املنسوب يف مقدمة األحكام إىل اإلمام‬
‫اهلادي‪ ،‬فإننا عند النظر يف العبارات املذكورة فيه‪ ،‬جند أن حلها على ما يريد‬
‫اجلاروديون ‪ -‬من أن من مل يؤمن بإمامة علي بعد رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬فهو منكر للقرآن والسنة‪ ،‬حيكم بكفره مجيع املسلمني ‪ -‬فيه من اجلهل‬
‫‪183‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫والتعصب ما ننزه اإلمام اهلادي عنه‪ ،‬حىت وإن كان يرى أن إمامة اإلمام علي‬
‫من أصول الدين؛ ألن املعلوم حىت لدى صغار الطلبة أن أكثر املسلمني ال‬
‫يؤمنون بأولوية اإلمام علي‪ ،‬فضالً عن حكمهم بتخطئة من تقدمه‪ ،‬فضالً عن‬
‫أن حيكموا بكفره أو فسقه‪ ،‬وهذا مما ال جيهله اإلمام اهلادي‪ ،‬فكيف يقطع بأن‬
‫املسلمني أمجعوا عليه؟!‬
‫وقد ذكر ‪ -‬يف كثري من كتبه ‪ -‬األصول اليت ال يتم اإلميان بدوهنا‪ ،‬ومل يذكر‬
‫فيها وجوب اإلميان بتقدمي اإلمام علي يف اخلالفة على سواه‪ ،‬ومل يُشر إىل ُكفر‬
‫من تقدمه فيها‪ ،‬بل وجدناه يغلظ يف الرد على اخلوارج لتكفريهم أهل القبلة‪،‬‬
‫ومن ذلك قوله بعد ذكر مجلة من اآليات‪« :‬فبهذه اآليات وحنوها علمنا أن‬
‫فسقة قومنا من أهل الصالة ليسوا بكفار‪ ،‬وهذا تكذيب للخوارج املارقة؛ الذين‬
‫يشهدون على أهل التوحيد واإلقرار من أهل القبلة إذا أصابوا كبرية من الكبائر‬
‫أهنم كفار باهلل العظيم‪ ،‬خارجون من قبلة اإلسالم‪ ،‬فنعوذ باهلل من جهلهم‬
‫وضالهلم»‪ .‬هذا مع أن اخلوارج مل يرفضوا إمامة علي فحسب‪ ،‬بل قاتلوه وكفروه‪.‬‬
‫ومل يستسغ اإلمام حيىي بن حزة ظاهر ما جاء يف تلك املقدمة‪ ،‬فرأى‪ :‬أنه‬
‫«حممول على من أنكر أن يكون رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪« :‬من‬
‫كنت مواله فعلي مواله» وقوله‪« :‬أنت مين مبنزلة هارون من موسى»‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬وإمنا وجب حل كالم حيىي على ما ذكرناه ألمرين؛ أما األول‪:‬‬
‫فألن ظاهر كالمه يوجب إكفارهم وردهتم‪ ،‬ومل يؤثر عن حيىي شيء من هذا وال‬
‫عن غريه من أكابر أهل البيت أصالً‪ ،‬وأما الثاين‪ :‬فألن كتاب (األحكام)‬
‫مشحون باالحتجاج برواية القوم وأقضيتهم وأحكامهم والرجوع إليهم يف أمور‬
‫احلوادث؛ ولو كانوا كفاراً أو فساقاً لكان ال معىن لالحتجاج بأقواهلم‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪184‬‬

‫وأقضيتهم»‪.‬‬
‫وقال القاضي حيىي بن احلسن القرشي يف (املنهاج)‪« :‬وأما ما روي عن اهلادي‬
‫عليه السالم يف (األحكام) من أن من أنكر النص على أمري املؤمنني فقد كذب‬
‫هللا ورسوله‪ ،‬ومن كذب هللا ورسوله فقد كفر؛ فمعناه‪ :‬من أنكر ورود هذه‬
‫النصوص وهي قوله‪﴿ :‬إنماٌوِلكمٌاهللٌورسول﴾ اآلية‪ ،‬وقوله صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪« :‬من كنت مواله» اخلرب‪ ،‬وكذلك خرب املنزلة‪ ،‬فمن زعم أن هذا مل يرد‪،‬‬
‫فهو مكذب‪ .‬وليس املراد‪ :‬من أنكر داللتها على اإلمامة؛ ألن املعلوم من حاله‬
‫عليه السالم أنه ما كان يكفر الصحابة وال يفسقهم‪ ،‬وكيف يقطع عليهم‬
‫باإلكفار جملرد اخلطأ يف مسألة قطعية»‪.‬‬
‫ومل يعقب عليه اإلمام عز الدين بن احلسن يف (املعراج شرح املنهاج)‪ ،‬وكأنه‬
‫ارتضاه‪.‬‬
‫ومثل كالم القرشي قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي‪ ،‬واستنتج من كالم‬
‫للهادي يف كتاب (اجلملة)‪« :‬أن املؤمنني إذا أذنبوا ذنباً وهم يظنونه غري ذنب‬
‫لشبهة؛ فإنه ال جيوز ترك حمبتهم وإجراء حكم املؤمنني عليهم‪ ،‬مث قال‪ :‬فوجب‬
‫القطع بعد معرفة هذه اجلملة من كالمه بأنه عليه السالم يوجب مواالهتم والرتضية‬
‫عنهم»‪.‬‬
‫وميكن أن نضيف إىل ما ذكر األئمة أن ذلك الكالم ‪ -‬على فرض صحته‬
‫عنه ‪ -‬جاء عن أولوية اإلمام علي املستفادة من جممل األدلة‪ ،‬ال عن ثبوت احلق‬
‫يف اخلالفة‪ .‬وأبو بـكر وعمر مل ينكرا أن علياً كان يتمتع مبؤهالت جتعله أهالً‬
‫للخالفة‪ ،‬ولكن األمر ذهب إىل غريه ألسباب سياسية واجتماعية‪.‬‬
‫وهذا ما دفع اإلمام عبد هللا بن حزة إىل القول‪« :‬إن أبا بـكر مل يكن ينكر‬
‫‪185‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫شرف بيته وال علو صيته‪ ،‬وأنه من الرئاسة مبحل القطب من الرحى‪ ،‬وأنه يف علو‬
‫شرفه بقرابته صلى هللا عليه وآله وسلم حبيث ال يرقى إليه الطري وال غثاء السيل‪.‬‬
‫ولكن ما يف ذلك مما يدل على أنه علِم إمامته ضرورة»‪.‬‬
‫ويؤيد ذلك أن نصر بن مزاحم املنقري وهو من مؤرخي الزيدية روى أن اإلمام‬
‫علي بن أيب طالب رضي هللا عنه قال من خطبة له‪« :‬إن هللا بعث حممداً صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم فأنقذ به من الضاللة‪ ،‬ونعش به من اهللكة‪ ،‬ومجع به بعد‬
‫الفرقة‪ ،‬مث قبضه هللا إليه وقد أدى ما عليه‪ ،‬مث استخلف الناس أبا بـكر‪ ،‬مث‬
‫استخلف أبو بـكر عمر‪ ،‬وأحسنا السرية‪ ،‬وعدال يف األمة‪ ،‬وقد وجدنا عليهما‬
‫أن توليا األمر دوننا‪ ،‬وحنن آل الرسول وأحق باألمر‪ ،‬فغفرنا ذلك هلما‪ ،‬مث ويل‬
‫أمر الناس عثمان فعمل بأشياء عاهبا الناس عليه‪ ،‬فسار إليه ناس فقتلوه»‪.‬‬
‫وهذا يدل على أن اإلمام علي سلَّم لألمر الذي أبرمه الصحابة‪ ،‬وإن كان‬
‫يرى أنه أوىل باخلالفة‪.‬‬
‫ب ‪ -‬كتاب‪ :‬تثبيت اإلمامة‪:‬‬
‫«تثبيت اإلمامة» عنوان كتيب نسب إىل اإلمام اهلادي يتضمن هجوماً‬
‫شديداً على أيب بـكر وعمر‪ ،‬بلغ حد التجريح والسباب‪ ،‬واللعن‪ ،‬واحلكـم‬
‫بالضاللة والكفر والطغيان‪ .‬وهو ما استغله بعض اجلارودية لتسويْغ موقفهم‪،‬‬
‫واستبشر به بعض اإلمامية لتأييد مذهبهم يف اخللفاء‪ .‬بل اضطرب يف شأنه بعض‬
‫الزيدية‪ ،‬وبىن كثري من الناس ‪ -‬يف ضوئه ‪ -‬مواقف سلبية من اإلمام اهلادي‬‫َّ‬
‫خصوصاً‪ ،‬ومن زيدية اليمن عموماً‪.‬‬
‫وقد أدركت ‪ -‬بعد البحث والدراسة ‪ -‬أن ال عالقة لإلمام اهلادي بتلك‬
‫الرسالة‪ ،‬لذلك أجد أنين مضطر لتقدمي ما يستأنس به الباحثون‪ ،‬حىت ال يُنسب‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪186‬‬

‫إىل اإلمام ما مل يقل‪ ،‬وتشوه الزيدية مبا ليس عندها‪ ،‬معتمداً يف ذلك على‬
‫مسلكني‪:‬‬
‫املسلك األول‪ :‬تفنيد نسبة الرسالة إىل اإلمام اهلادي‪ ،‬وذلك من عدة أوجه‪:‬‬
‫اْلول‪ :‬املشهور عند علماء الزيدية‪ ،‬املذكور يف إجازاهتم‪ ،‬املروي بأسانيدهم‪،‬‬
‫الثابت يف جمموع كتب اإلمام اهلادي‪ ،‬رسالة بعنوان‪« :‬تثبيت إمامة اإلمام علي»‪،‬‬
‫أوهلا‪« :‬إن سأل سائل أو تعنت متعنت جاهل عن تثبيت إمامة أمري املؤمنني‬
‫علي بن أيب طالب رضوان هللا عليه‪ »...‬وهي مطبوعة ضمن (جمموع كتب اإلمام‬
‫اهلادي)‪ ،‬وموجودة يف النسخ املخطوطة‪ .‬وهي عبارة عن احتجاج على أولوية‬
‫اإلمام علي باخلالفة بعد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وليس فيها لعن‬
‫وال طعن وال تكفري وال تفسيق ال للخلفاء وال لغريهم‪.‬‬
‫أما الرسالة املزعومة اليت ننفي ثبوهتا عن اإلمام اهلادي‪ ،‬فأوهلا‪« :‬احلمد هلل‬
‫ات واألرض وجعل الظلمات والنور ُمثَّ الذين كفُروا برهبم‬ ‫الَّ ِذي خلق َّ‬
‫السمو ِ‬
‫حنمده على ما خصنا به‬ ‫ِ‬
‫يـ ْعدلُون‪ ،‬ال نُشرك باهلل وال نتخذ من دونه إهلاً وال ولياً‪ُ ،‬‬
‫من نعمه‪ ،‬ودلَّنا عليه من طاعته‪ ،‬واستنقذنا به من اهللكة برحته‪ ،‬و َّ‬
‫بصرنا من‬
‫سبيل النجاة»‪.‬‬
‫وموضوعها ال يتناول ما يشري إليه عنواهنا‪ ،‬فليس فيها شيء عن (تثبيت‬
‫اإلمامة) أصالً‪ ،‬ولكنها جمرد مقاطع متفرقة‪ ،‬خمصصة لتجريح أيب بـكر وعمر‪،‬‬
‫وقد رأيت كثرياً من مضامينها يف كتاب يسمى (االستغاثة من بدع الثالثة) ألفه‬
‫"علي بن أحد بن موسى الكويف اإلمامي (املتوىف سنة ‪352‬هـ)"‪ .‬أجرى فيه سيالً‬
‫وتقوالت حتتاج إىل مراجعة وتثبت‪.‬‬
‫من الشتائم والتجريح‪ ،‬وضمنه دعاوى ُّ‬
‫وأنا أرجح أن من كتب تلك الرسالة اعتمد على ذلك الكتاب بشكل‬
‫‪187‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫أساسي؛ ألن بعض النصوص متطابقة‪ ،‬وبعضها مل أجد له مصدراً سواه‪.‬‬


‫اثلاين‪ :‬تدل الكيفية اليت تسللت هبا الرسالة إىل تراث اإلمام اهلادي أهنا ُجلبت‬
‫من خارجه‪ ،‬فالذي يظهر أن أحد نُّساخ الكتب عثر على ذلك النص فنقله يف‬
‫حامية خمطوطة‪ ،‬ومل يذكر مصدره كغريه مما ينقل يف حوامي املخطوطات‪ ،‬مما‬
‫جعل بعض القراء يظن أهنا رسالة يف (تثبيت اإلمامة)‪ ،‬وهو اسم مشهور ملا كان‬
‫يكتبه املتقدمون يف مسألة اإلمامة‪.‬‬
‫يدل على ذلك ما وجدناه على بعض نُّسخ الرسالة املشبوهة خبط خيتلف عن‬
‫خط األصل‪ ،‬مثل عبارة‪« :‬لعله كتاب تثبيت اإلمامة»‪ .‬إضافة إىل االختالف‬
‫يف نسبتها‪ ،‬فبعضهم نسبها إىل اإلمام زيد‪ ،‬كما يف خمطوطة سهيل بصعدة‪،‬‬
‫وأخرى يف املتحف الربيطاين‪ ،‬حسب إفادة الدكتور العمري‪ ،‬وبعضهم نسبها إىل‬
‫اإلمام اهلادي كما يف نسخة األخفش‪ ،‬وبعضهم نسبها إىل احلسني بن القاسم‪،‬‬
‫كما يف نسخة يف مكتبة اجلامع الكبري بصنعاء رقم (‪ ،)2100‬كما ذكر احلسيين‪.‬‬
‫ويزيد األمر ريبة عدم وجودها ضمن جماميع كتب اإلمام اهلادي املتداولة منذ‬
‫مئات السنني‪ ،‬فلدينا صورة لنسخة قدمية يعود تارخيها إىل (‪648‬هـ)‪ ،‬أصلها‬
‫مبكتبة اجلامع الكبري بصنعاء‪ ،‬تضمنت مجيع رسائله املعروفة‪ ،‬وال وجود للرسالة‬
‫املذكورة فيها‪ ،‬وكذلك سائر نسخ جمموع كتب اإلمام اهلادي يف املكتبات‬
‫اخلاصة‪ ،‬بينما جند تلك الرسالة ملحقة يف خمطوطات (املنتخب)‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مل جند تلك الرسالة يف كتب اإلجازات مسندة إىل اإلمام اهلادي‪،‬‬
‫كما هي احلال يف سائر كتبه ورسائله‪ ،‬فأكثر كتب اإلجازات ِدقَّة ومشوالً مل‬
‫تذكرها ضمن كتب اإلمام اهلادي ورسائله‪ .‬وأشهد أين سعت شيخنا العالمة‬
‫جمد الدين املؤيدي ‪ -‬وهو من املهتمني بأسانيد الكتب وتوثيقها ‪ -‬ينفي صحتها‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪188‬‬

‫عن اإلمام اهلادي‪ ،‬ولذلك مل يذكرها يف شيء من إجازاته لكتب اإلمام اهلادي‪،‬‬
‫ومل ينقل عنها شيئاً يف كتبه‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬بعد حبث وتتبع وجدت أن أول ظهور لتلك الرسالة كان يف القرن‬
‫السابع اهلجري‪ ،‬وهو القرن الذي تدفقت فيه كتب اإلمامية إىل اليمن‪ ،‬وعلت‬
‫فيه نربة اجلارودية‪ ،‬فأدرج احلسن بن بدر الدين (املتوىف ‪670‬هـ) تلك الرسالة‬
‫ضمن كتابه (أنوار اليقني)‪ ،‬وهو معروف بتساهله يف النقل والتوثيق‪ ،‬وواضح من‬
‫كتابه أنه حشر فيه ما وقعت عليه يده من رواية اإلمامية وحشو اجلارودية‪ ،‬حىت‬
‫إن احلافظ إبراهيم بن القاسم بن املؤيد باهلل اعترب‪ :‬أن ما يف (أنوار اليقني) خارج‬
‫الزيدية إىل منهج اإلمامية‪ ،‬فقال‪« :‬ذكر فيه أشياء عجيبة‪ ،‬ومناقب‬ ‫عن منهج َّ‬
‫مجة‪ ،‬مييل فيه إىل ما يرجحه املرتضى والرضي املوسويان‪ ،‬وغريمها من األشراف‬
‫احلسينيني من أن اخلطأ من املتقدمني على اإلمام علي عليه السالم كبرية‪ ،‬وأن‬
‫النص يف إمامته صريح»‪.‬‬

‫الزيدية شكك يف وجود حمتوى تلك الرسالة حىت ضمن‬ ‫بل إن بعض علماء َّ‬
‫كتاب (أنوار اليقني)‪ ،‬حيث قال السيد اهلادي بن إبراهيم (‪822‬هـ)‪« :‬اإلمام‬
‫الصحابة»‪.‬‬
‫احلسن بن بدر الدين له كتاب (أنوار اليقني) وال تصريح فيه بسب َّ‬
‫وهذا ما جعل السيد حيىي بن احلسني يستنتج «أن هذا يدل على أن ما يف‬
‫النسخ من ذكر الكفر مدسوس عليه؛ ألن السيد اهلادي ذكر أنه ال تصريح فيه‬
‫بشيء من السب يف النسخ الصحيحة‪ ،‬وهو كما قال‪ .‬وأضاف‪ :‬وما ذكر يف‬
‫(أنوار اليقني) يف بعض القصائد من ذكر الكفر فهو موضوع مدسوس»‪.‬‬

‫اخلامس‪ :‬ذكر عبد الرحن األخفش أنه نسخها «من نسخة مكتوبة سنة‬
‫‪189‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫(‪782‬هـ)‪ ،‬وأن السيد صالح اجلالل املتوىف (‪805‬هـ) كتب عليها خبطه ما لفظه‪:‬‬
‫«هذا كتاب تثبيت اإلمامة للهادي عليه السالم‪ ،‬صح يل ساعه على الوالد مجال‬
‫الدين بن اهلادي بن حيىي‪ ،‬وأيضاً على والدي صالح الدين املهدي قدس هللا‬
‫روحهما يف اجلنَّـة‪ .‬كتبه صالح بن اجلالل عفا هللا عنه»‪.‬‬
‫وهذا يدل ‪ -‬بوضوح ‪ -‬على أن تلك الرسالة كانت جمهولة‪ ،‬حيث مل تكن‬
‫معنونة وال منسوبة ألحد‪ ،‬وأن السيد صالح اجلالل هو من كتب عليها خبطه‬
‫أهنا كتاب (تثبيت اإلمامة)‪ ،‬وأهنا لإلمام اهلادي ختميناً منه واجتهاداً‪ ،‬ال يبعد أنه‬
‫اعتمد فيه على (أنوار اليقني)‪ ،‬إذ لو كانت تلك الرسالة معروفة‪ ،‬لكانت معنونة‬
‫ومنسوبة‪ ،‬وملا احتاج السيد صالح اجلالل إىل التربع بكتابة عنواهنا‪ ،‬وختمني‬
‫نسبتها‪ ،‬وكونه سعها على والده ال يدل على نسبتها إىل اإلمام اهلادي‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أننا مل جند هلا ذكرا عند علماء وأئمة الزيدية خالل ثالث مائة سنة‪،‬‬
‫أي قبل زمن احلسن بن بدر الدين وصالح اجلالل‪( ،‬القرن السابع)‪ ،‬ومل ينقل‬
‫عنها أحد ممن تناولوا موضوع اإلمامة واخللفاء من علماء وأئمة الزيدية‪ ،‬ومل يشريوا‬
‫إىل اسها أو مضموهنا‪ ،‬خبالف رسائله األخرى اليت ظلوا ينشروهنا ويشرحوهنا‬
‫وينقلون عنها طوال القرون‪ :‬الرابع واخلامس والسادس اهلجرية‪.‬‬
‫بل إن معاصري احلسن بن بدر الدين من اجلارودية‪ ،‬كالسيد حيدان القاسي‪،‬‬
‫مل يذكروا تلك الرسالة ومل ينقلوا عنها‪ ،‬مع شدة حرصهم على تتبع أي كالم‬
‫الصحابة واإلمامة ما هو أبعد‬
‫يُندد بالشيخني‪ ،‬بينما نقل عن رسائله األخرى يف َّ‬
‫داللة وأقل وضوحاً‪ ،‬وإن وجد من نقل عن تلك الرسالة‪ ،‬فبعد (سنة ‪670‬هـ)‬
‫أي بواسطة (أنوار اليقني)‪.‬‬
‫لقد ظلت تلك الرسالة غائبة عن تداول الزيدية‪ ،‬مستبعدة عن الرجوع إليها‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪190‬‬

‫يف االستشهاد والنقل‪ ،‬مقطوعة من ذكر أي إسناد وإجازة‪ ،‬حىت ظهرت على‬
‫مشارف القرن اخلامس عشر اهلجري‪ ،‬وطبعت سنة (‪1413‬هـ =‪1993‬م) مع‬
‫كتاب «املنتخب وكتاب الفنون»‪ ،‬واعتمد ناشر الكتاب ترمجةً كتبتُها حملمد بن‬
‫سليمان الكويف ‪ -‬جامع (املنتخب والفنون) ‪ -‬مما تسبب يف توهم بعضهم أنين‬
‫كنت على معرفة بطباعة تلك الرسالة أو أين أقررهتا‪ ،‬وذلك خطأ أحببت التنبيه‬
‫فلست حمقق كتاب (املنتخب)‪ ،‬ومل أكن على علم بنشر تلك الرسالة يف‬ ‫ُ‬ ‫عليه‪،‬‬
‫آخره‪ ،‬وأنا ال أؤمن بصحتها عن اإلمام اهلادي‪.‬‬
‫وبعد نشرها راقت تلك الرسالة لبعض اإلخوة من أتباع مذهب اإلمامية‪،‬‬
‫فأعادوا طباعتها منفردة‪ ،‬بدون أدىن حتقيق يف نسبتها إىل اإلمام اهلادي‪ ،‬أو إشارة‬
‫إىل ما أثري حوهلا من شكوك‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن تلك الرسالة املشبوهة تضمنت إحاالت على كتب‪ ،‬مما تدل‬
‫على أن صاحبها ليس هو اإلمام اهلادي‪ ،‬مثل قوله‪« :‬وفرقة أخرى تقول‪ :‬أومأ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله إىل أمري املؤمنني علي عليه السالم إمياء ودل عليه‬
‫وأشار إليه‪ ،‬وقال فيه أقاويل تشهد له بالعدالة ويستوجب بأقلها اإلمامة‪،‬‬
‫واحتجت حبجج كثرية فيه‪ ،‬وقد ذكرناها لك يف كتاب غري هذا»‪ .‬وليس لإلمام‬
‫اهلادي كتاب احتج فيه على ما ذكر هنا وأحال عليه‪.‬‬

‫املسلك الثاني‪ :‬حتليل حمتوى الرسالة‪ ،‬والنظر يف مضموهنا وما اشتملت عليه‬
‫من نصوص ودالالت‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬صياغة الرسالة خمتلف متاماً عن ما هو مألوف من أسلوب اإلمام اهلادي‬ ‫ٌ‬
‫يف مجيع كتبه‪ ،‬فمن يقرأ كتاباً أو كتابني لإلمام اهلادي‪ ،‬مث يقرأ تلك الرسالة جيد‬
‫‪191‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫الفرق واضحاً جلياً يف منهج الكتابة‪ ،‬وأسلوب التعبري‪ ،‬واستخدام املصطلحات‪،‬‬


‫وحىت تركيب اجلُمل‪ ،‬فالغالب عليها ِ‬
‫الركة يف التعبري إىل درجة ال يتصور معها‬
‫متذوق للكالم العريب أن لكاتبها معرفة باللغة العربية وأساليبها‪ ،‬فضالً عن أن‬
‫ٌ‬
‫يكون عاملاً مربزاً فيها‪ ،‬فقد اشتملت على أخطاء يف صياغة اجلُمل‪ ،‬واستُعملت‬
‫فيها املفردات العامية‪ ،‬وخلت من ذلك السبك واجلزالة املألوفة يف كتب اإلمام‬
‫اهلادي‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬تضمنت كثرياً من اإلسفاف والكالم القبيح‪ ،‬كالقول إن أبا بـكر أوقف‬
‫تركة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على نفسه وولده وولد ولده‪ ،‬وعلى‬
‫أصحابه وأوالدهم وأوالد أوالدهم‪ ،‬مؤبداً إىل أن تقوم الساعة يعيش فيه‬
‫الفاجرون‪ ،‬ويتخذونه مغنماً للفاسقني‪ ،‬تُشرب به اخلمور! ويُركب به الذكور!‬
‫ويستعان به على الشرور!!‬
‫ً‬
‫ثاثلا‪ :‬أهنا اشتملت على أفكار مألوفة يف كتب اإلمامية ومستنكرة وغريبة‬
‫الزيدية‪ ،‬تتناقض مع ما هو ثابت يف كتب اإلمام اهلادي نفسه‪.‬‬
‫على ثقافة َّ‬
‫ضربت بالسياط‪ ،‬وأن علياً اقتيد‬‫من تلك األفكار القول بأن فاطمة الزهراء ُ‬
‫ملبوباً ليبايع أبا بـكر‪ ،‬وأن أبا قحافة ناظر ولده أبا بـكر ليتخلى عن اخلالفة‬
‫لعلي‪ ،‬وأن عمر أراد نبش قرب فاطمة ليصلي عليها‪ ،‬ولكنه مل يعرف مكانه‪ .‬وغري‬
‫ذلك مما ال مكان له إال يف روايات قصاص حشوية الغالة‪ ،‬وقد وجدت معظمها‬
‫يف كتاب (االستغاثة من بدع الثالثة) أليب القاسم الكويف الرافضي‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬تضمنت الرسالة أحكاماً شرعية غري صحيحة‪ ،‬ال يغفل عن مثلها‬
‫جيب إال على أحد ثالثة؛ َّإما كافر بعد‬
‫اإلمام اهلادي‪ ،‬مثل القول بأن القتل ال ُ‬
‫إميان‪ ،‬أو زان بعد إحصان‪ ،‬أو قاتل النفس بغري حق‪ .‬على أنه أورد ذلك‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪192‬‬

‫لالستدالل على كفر عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه‪ ،‬وقد تقدم كالم اإلمام‬
‫اهلادي الصريح بأنه ال يُك ِفر أهل القبلة بذنب‪ ،‬وإن خطأ هذا أو ذاك‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬تضمنت أحاديثاً شديدة الغرابة‪ ،‬مل جند هلا ذكراً وال حىت يف كتب‬
‫املوضوعات‪ ،‬مثل قوله‪ :‬واحتجوا يف ما ادعوه بأحاديث عن النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله‪ ،‬منها‪ :‬زعموا أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪« :‬ألن ختتاروا ألنفسكم‬
‫أحب إيل من أن أويل عليكم والياً‪ ،‬إن أحسن كان لنفسه وإن أساء كان مين‪،‬‬
‫وكانت احلجة لكم غداً»‪ .‬واحتجوا بأحاديث مثل هذا‪ ،‬يغين ذكر هذا عن‬
‫ذكرها‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وهذا ليس حديثاً ومل حيتج به أحد‪ ،‬بل إن ذكره على هذا النحو يدل على‬
‫أن من أورده عامي صرف‪ ،‬وجاهل ال يعرف عما يتحدث‪ .‬خصوصاً أن املشهور‬
‫من منهج اإلمام اهلادي أنه يرتدد يف قبول روايات اآلحاد الصحيحة حىت يف‬
‫مسائل الفروع‪ ،‬كما صرح بذاك يف غري موضع من كتبه‪ ،‬فكيف يعتمد روايات‬
‫ال ذكر هلا وال أصل يف مسائل الوالء والرباء؟!‬
‫ً‬
‫سادسا‪ :‬أهنا تضمنت سباً ولعناً وطعناً وتكفرياً صرحياً أليب بـكر وعمر‪،‬‬
‫ٌ‬
‫واملعروف عن اهلادي خالف ذلك كما قدمنا‪ ،‬استناداً إىل كتبه املشهورة‪ ،‬وما‬
‫نقله أئمة معتربون عنه‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن أئمة الزيدية املتقدمني ‪ -‬خاصة املهتمني بفكر اإلمام‬
‫اهلادي ومنهجه كاإلمام املؤيد باهلل ‪ -‬رووا إمجاع األئمة على جتنب السب‬
‫وأحكام التكفري والتفسيق‪ ،‬حىت جزم اإلمام حيىي بن حزة (‪749‬هـ) ‪ -‬على سعة‬
‫اطالعه ‪ -‬أنه «مل يؤثر عن حيىي بن احلسني وال غريه من أكابر أهل البيت تكفرياً‬
‫للصحابة»‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫وأيد ذلك اإلمام عبد هللا بن حزة (‪614‬هـ)‪ ،‬فأكد ‪ -‬يف معرض رده على‬
‫من زعم أن من الزيدية من يسب الصحابة ‪ -‬أنه «ال ميكن أحداً أن يصحح‬
‫دعواه على أحد من سلفنا الصاحل أهنم نالوا من املشايخ أو سبوهم»‪.‬‬
‫وقبلهم ذكر اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين (‪411‬هـ) ‪ -‬وهو من‬
‫أكثر األئمة تتبعاً لكالم اإلمام اهلادي ‪« -‬أنه ما يعلم أن أحداً من العرتة يسب‬
‫الصحابة»‪ .‬قاطعاً بأن «من قال ذلك فقد كذب»‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وهؤالء مجيعاً ال جيرؤون على حكاية إمجاع خيالفه اإلمام اهلادي‪ ،‬كيف‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬لو أمجع األسود واألحر‪ ،‬وخالف اإلمام اهلادي مل يكن إمجاعاً!!‬
‫فمن غري الوارد أن جيهل مجيع أولئك األئمة والعلماء ما ورد يف الرسالة املذكورة‪،‬‬
‫وهم األكثر عناية بنصوص اإلمام اهلادي‪ ،‬أو أن يتواطؤوا على إغفاهلا وجتاوزها‬
‫وتأولوها على األقل‪ ،‬كما تأول ما‬
‫مع علمهم هبا؟! فلو كانت موجودة لذكروها َّ‬
‫جاء يف مقدمة كتاب (األحكام)‪ ،‬وتقدم الكالم عنه‪.‬‬
‫هذا كله جيعلنا نرجح بأن الرسالة املذكورة ال متت إىل اإلمام اهلادي بصلة‪،‬‬
‫دوهنا مؤرخ ُمتحامل‪ ،‬مث ُحشرت يف كتب اإلمام اهلادي دون‬ ‫وأهنا جمرد ثرثرة َّ‬
‫دراسة وحتقيق يف شأهنا‪ ،‬فوافقت أهواء قوم استغلوها لالستشهاد هبا‪ ،‬أو انتقاد‬
‫اهلادي بسببها‪.‬‬

‫القـرن الرابع‬
‫اإلمام الناصرالحسن بن علي األطروش (‪304‬هـ)‬
‫* قال الشيخ أبو القاسم البسيت‪« :‬وكان الناصر للحق يرتحم عليهما ويثين‬
‫عليهما يف كتبه»‪ .‬يعين أبا بكر وعمر‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪194‬‬

‫باخلريين‪ ،‬فقال‪« :‬ويكفي‬ ‫* وصف اإلمام الناصر األطروش أبا بـكر وعمر ِ‬
‫يف بيان ذلك (يعين القول باإلحباط) من عقل وتدبر القرآن‪ ،‬ما أنزل عليه يف‬
‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ح َ َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ ْ َ‬
‫الٌت ْرفعواٌٌأص َواتك ٌمٌفو ٌ‬
‫قٌ‬ ‫اخلريين أيب بـكر وعمر بقوله تعاىل‪﴿ :‬ياٌأيهاٌاَّل ٌ‬
‫ِينٌآمنواٌ ٌ‬
‫ح ْ َْ َ ْ ََْ َ َ ْ َ ح ح ْ َْح ْ َ‬ ‫َّ ِّ َ َ َ ْ َ ح َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫طٌأعمالك ٌمٌ َوأن ٌت ٌمٌ ٌ‬
‫الٌ‬ ‫نٌَتق ٌ‬ ‫لحٌبِالوو ٌِلٌكجه ٌِرٌبع ِضك ٌمٌ ِبلع ر ٌ‬
‫ضٌأ ٌ‬ ‫الٌَتهرواٌ ٌ‬
‫بٌو ٌ‬‫تٌانل ِ ٌ‬
‫صو ِ ٌ‬
‫َْ ح َ‬
‫ون﴾ [الحجرات‪.]2/‬‬‫تشع حر ٌ‬

‫قال‪ :‬فإذا كان مثل عمل أىب بـكر وعمر وإقرارمها الذي هو إمياهنما حيبط‬
‫ويبطل إذا رفعا أصواهتما فوق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬مع مكاهنما يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬فما يكون حال سوامها»‪.‬‬

‫* وذكر الشيخ أحد الكين أن الناصر قال يف آخر كتاب اإلمامة‪« :‬ومل أصف‬
‫ما وصفت من اعرتاضهم هذا إرادة مين لدفع فضل أيب بكر رضي هللا عنه حقه‬
‫وصحبته من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وإين حملب له واحلمد هلل‬
‫تعاىل»‪.‬‬

‫* وروى القرشي أن بعض الفقهاء من أصحاب املؤيد باهلل سع عمر الصويف‬


‫يقول‪ :‬سعت نيفاً وسبعني شخصاً ممن حضر جملس الناصر للحق يقولون‪ :‬أمأل‬
‫كف املستملي أن يكتب‬‫الناصر شيئاً عن الشيخني‪ ،‬مث قال‪ :‬رضي هللا عنهما‪ ،‬ف َّ‬
‫الرتضية‪ ،‬وكان الناصر ينظر إليه‪ ،‬فزجره وقال‪« :‬مل ال تكتب الرتضية؟! فإن مثل‬
‫هذا العلم ال يؤثر إال عنهما‪ ،‬وعن أمثاهلما»‪.‬‬

‫* روى اإلمام حيىي بن حزة واإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى والعالمة‬
‫الصاحب بن عباد كان يقول‪ :‬عنـدي خبط الناصر‬ ‫حيىي بن احلسن القرشي‪ ،‬أن َّ‬
‫الرتحم عليهمـا‪ .‬يعين أبا بـكر وعمر‪.‬‬
‫‪195‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫اإلمام املرتض ى محمد بن الهادي (‪ 310‬هـ)‬


‫* حتدث اإلمام املرتضى حممد بن اهلادي عن الصحابة فقال‪« :‬مث تعلمون‬
‫من بعد ذلك أن أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم الذين قاموا‬
‫بالدين‪ ،‬وكانوا يف حقيقة اإلميان‪ ،‬واتبعوا بالطاعة واإلحسان‪ ،‬واجب فضلهم‬
‫مشهور‪ ،‬والطاعن عليهم مأزور‪ ،‬واملنتقص هلم مذموم‪ ،‬هالك عند هللا مثبور‪،‬‬
‫ََ ْ‬
‫معذب مدحور‪ ،‬ملدح هللا سبحانه هلم‪ ،‬وما قال فيهم‪ ،‬حيث يقول‪﴿ :‬ل ٌو ٌدٌ َر ِ ٌَ‬
‫ضٌ‬
‫ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ َ َ‬ ‫ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫كين ٌةٌ‬ ‫ف ٌقلوب ِ ِه ٌم ٌفأنز ٌل ٌالس ٌِ‬ ‫ت ٌالشج َر ٌةِ ٌفعل ٌَِم ٌما ٌ ِ ٌ‬ ‫ك ٌَت ٌ‬‫ني ٌإ ِ ٌذ ٌيقايِعون ٌ‬
‫ن ٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬ ‫اهلل ٌع ٌِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌف ْت ًحاٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح‪.]18 /‬‬
‫َّ َ َّ َ ح‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ َ َّ ِّ َ ح َ‬ ‫ََ ْ َ َ‬
‫فٌ‬‫وهحٌ ِ ٌ‬
‫ِينٌاتق ٌع ٌ‬
‫ارٌاَّل ٌ‬ ‫ينٌ َواْلنص ٌِ‬‫ج ِر ٌ‬ ‫الـمها ِ‬ ‫بٌو ٌ‬ ‫َعٌانل ِ ٌ‬
‫ابٌاهللٌ ٌ‬‫وقال عز وجل‪﴿ :‬لو ٌدٌت ٌ‬
‫َّ ح‬ ‫ْ ح ْ ح َّ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ َ ْح ْ َ ْ َْ َ َ َ َ ح حح ح َ‬
‫اب ٌعلي ِه ٌْم ٌإِن ٌه ٌب ِ ِه ٌْم ٌ َر حُوفٌٌ‬ ‫يق ٌمِنه ٌم ٌث ٌم ٌت ٌ‬
‫وب ٌف ِر رٌ‬ ‫يغ ٌقل ٌ‬‫ِن ٌبع ٌِد ٌما ٌاك ٌد ٌي ِز ٌ‬
‫ساع ٌِة ٌالعْس ٌةٌِم ٌ‬
‫َرحِيمٌ﴾ [التوبة‪.]177/‬‬
‫َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ ْ ح َّ ح َ َ ح َ ْ َ ح‬ ‫ح َ َّ ح ح‬
‫اٌُبينه ٌْمٌ‬ ‫َح ٌ‬
‫َعٌالكفارٌٌِر ٌ‬ ‫اٌُ ٌ‬ ‫ِينٌم ٌع ٌهٌأ ِشد ٌ‬
‫ولٌاهللٌواَّل ٌ‬‫وقال تبارك وتعاىل‪ُ﴿ :‬ممدٌٌ َرس ٌ‬
‫ْ ْ ََ‬ ‫ح‬ ‫َ ح‬ ‫ْ ً‬ ‫َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً‬
‫ِن ٌأث ٌِرٌ‬ ‫ِن ٌاهلل ٌ َو ِرض َوانا ٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ‬
‫ف ٌ حوجوه ِِه ٌم ٌم ٌ‬ ‫ل ٌم ٌَ‬
‫ون ٌفض ٌ‬
‫تراه ٌم ٌركعا ٌسجدا ٌيبتغ ٌ‬
‫ُّ‬
‫الس حجو ٌِد﴾ٌ[الفتح‪.]29 :‬‬
‫قال‪ :‬وفيهم من التفضيل يف كتاب هللا‪ ،‬وعلى لسان نبيه‪ ،‬ما لو ذكرناه لطال‬
‫به الشرح‪ ،‬وكثر فيه القول‪ ،‬فحقهم واجب على مجيع املسلمني‪ ،‬وفضلهم الزم‬
‫جلميع املؤمنني‪ ،‬فال يسع أحداً من الناس طعن على أحد ممن ذكرنا‪ ،‬إال الرتحم‬
‫عليهم‪ ،‬واالستغفار هلم واجب‪ ،‬واالقتداء حبسن أفعاهلم الزم؛ إذ هلم السابقة‬
‫القدمية‪ ،‬واألفعال احملمودة‪ ،‬والنية والبصرية‪ ،‬رحة هللا ورضوانه عليهم أمجعني‪ ،‬إنه‬
‫لذو فضل على العاملني‪ ،‬وحسبنا هللا ونعم الوكيل‪ ،‬فذلك الواجب ملن ثبت على‬
‫عهد رسول هللا منهم‪ ،‬ومل يتغري عما عاهد هللا فيه‪ ،‬حىت لقي هللا عليه»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪196‬‬

‫فجعل الوالء واحملبة واجب ملن ثبت على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله‪،‬‬
‫دون املنافقني واملرتدين خاصة‪.‬‬

‫* وقال يف كتاب (الشرح والبيان)‪« :‬ولسنا نطلق يف أهل الفضل والدين‪،‬‬


‫والتصديق لذي القوة املتني‪ ،‬من أصحاب حممد خامت النبيني‪ ،‬الذين آمنوا به‬
‫واتبعوه‪ ،‬وجاهدوا معه وصدقوه‪ ،‬وال نقول فيهم إهنم اختلفوا وال تضادوا‪ ،‬ولكن‬
‫كان معه صلى هللا عليه وآله وسلم منافقون‪ ،‬قد ذكرهم هللا يف كتابه يف غري‬
‫موضع»‪.‬‬

‫أبو عبد هللا محمد بن الحسن الداعي (‪360‬هـ)‬

‫* حدَّث أبو علي التنوخي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو احلسن بن األزرق‪ ،‬قال‪ :‬كنت‬
‫حبضرة اإلمام أيب عبد هللا بن الداعي‪ ،‬فسأله أبو احلسن املعتزيل عما يقوله يف‬
‫طلحة والزبري‪ ،‬فقال‪ :‬أعتقد أهنما من أهل اجلنَّـة‪ ،‬قال‪ :‬ما احلجة؟ قال‪ :‬قد رويت‬
‫توبتهما‪ ،‬والذي هو عمديت أن هللا بشرمها باجلنة‪ .‬قال‪ :‬فما تنكر على من زعم‬
‫أنه صلى هللا عليه وآله قال‪ :‬إهنما من أهل اجلنَّـة‪ ،‬ومقالته‪ :‬فلو ماتا لكانا يف‬
‫اجلنَّـة‪ ،‬فلما أحدثا زال ذلك؟ قال‪ :‬هذا ال يلزم‪ ،‬وذلك أن نقل املسلمني أن‬
‫بشارة النيب صلى هللا عليه وآله سبقت هلما‪ ،‬فوجب أن تكون موافاهتما القيامة‬
‫على عمل يوجب هلما اجلنَّـة‪ ،‬وإال مل يكن ذلك بشارة‪.‬‬
‫فدعا له املعتزيل واستحسن ذلك‪ ،‬مث قال‪ :‬وحمال أن يعتقد هذا فيهما‪ ،‬وال‬
‫يعتقد مثله يف أيب بـكر وعمر‪ ،‬إذ البشارة للعشرة‪.‬‬
‫* وقال الذهيب يف ترمجته من (سري أعالم النبالء)‪ :‬كان ميتنع من الرتحم على‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫معاوية‪ ،‬وال يشتم َّ‬
‫‪197‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫القـرن الخامس‬
‫اإلمام املؤيد باهلل أحمد بن الحسين الهاروني (‪ 411‬هـ)‬
‫* وروى الشيخ أبو سعيد قال‪ :‬سعت القاضي يوسف خطيب املؤيد باهلل‪،‬‬
‫قال‪ :‬سعت املؤيد باهلل يقول‪« :‬احلمد هلل إنين ازداد كل وقت هلما حباً ‪ -‬يعين‬
‫أبا بـكر وعمر ‪ -‬وكان يف آخر عمره جيتهد يف الدعاء إىل فضلهما‪ ،‬ويظهر ذلك‬
‫من نفسه»‪.‬‬
‫* ويف معرض بيان مواقف أئمة الزيدية قال‪« :‬لو قيل لواحد ممن يدعي بزعمه‬
‫كفراً أو فسقاً يف حقهم‪ :‬أرين نصاً من جهة األئمة صرحياً أنه يتربأ فيه من الشيخني‬
‫مل ميكنه ذلك»‪.‬‬
‫الصحابـة‪ ،‬ومن‬
‫* وقال أيضاً‪« :‬ما أعلم أح ـداً من العرتة عليهم السالم يسب َّ‬
‫قـال ذلـك فقد كذب»‪.‬‬
‫* ويف جواب له على سؤال عمن يتربأ من أيب بـكر وعمر وعثمان‪ ،‬قال‪« :‬إن‬
‫اخلطأ الذي كان منهم ال يبلغ حد التكفري والتفسيق والرباءة»‪.‬‬
‫* وقال اإلمام حيىي‪« :‬وكان املؤيد باهلل يف أول عمره وعنفوان شبابه متوقفاً‬
‫عن الرتضية‪ ،‬مث ترحم عليهما يف آخر عمره»‪.‬‬
‫* وذكر القاضي أحد بن حيىي حابس‪ ،‬نقالً عن شيخ األئمة عبد هللا الدواري‪:‬‬
‫أن املؤيد باهلل ممن كان يرى الرتضية على املشايخ املتقدمني على علي عليه‬
‫السالم‪.‬‬
‫* ولإلمام املؤيد باهلل رسالة يف اجلواب على رسالة لرجل اسه (قابوس)‪ ،‬طعن‬
‫الصحابة‪ .‬ذكرها احلاكم اجلشمي يف (جالء األبصار)‪.‬‬ ‫فيها على َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪198‬‬

‫* واعتمد املؤيد باهلل يف كتبه احلديثية خصوصاً (شرح التجريد) الرواية عن‬
‫الصحابة ومل يرتدد يف االحتجاج مبا روي عنهم‪.‬‬
‫اخللفاء وكبار َّ‬
‫الشيخ أبو القاسم البستي (‪ 420‬هـ)‬
‫الزيدية يف عصره أبو القاسم إساعيل بن علي البسيت باباً‬
‫* خصص شيخ َّ‬
‫الصحابة الذين تقدموا‬
‫من كتابه (التحقيق يف التكفري والتفسيق) للكالم عن َّ‬
‫اإلمام علياً‪ ،‬فذكر ما يؤخذ على أيب بكر‪ ،‬وما حيتج به من الروايات إلدانته‪،‬‬
‫وفنَّدها واحدة واحدة‪ ،‬مث قال‪« :‬إن يف مجلة ما ذكرنا ما ليس بذنب ومعلوم‬
‫وقوعه‪ ،‬وفيه ما ليس بذنب ومل يُعلم وقوعه‪ ،‬وهو حق عند غرينا‪ ،‬فال يعلم أنه‬
‫فسق‪ .‬وفيه ما هو ذنب كبري لكنه غري ثابت»‪.‬‬
‫مث استطرد يف ذكر ما يروى عن عمر‪ ،‬وفنَّده مث قال‪« :‬وسائر ما يقدح به يف‬
‫عمر فالقول فيه كالقول فيما سلف»‪.‬‬
‫مث ذكر ما يروى يف شأن عثمان وفنَّده‪ ،‬وأكد أن حصاره وقتله كان ظلماً‪،‬‬
‫و َّ‬
‫أن أفاضل الصحابة مل يرضوا به؛ ألهنم كانوا ال يرضون بالظلم والعدوان‪ .‬مث‬
‫قال‪« :‬فقد بان هبذه اجلملة أنه ال شيء من هذه األمور ميكن القطع به على‬
‫فسقه ألجله»‪.‬‬
‫األولون قد علموا‬
‫* واستبعد أن الصحابة وهم أهل بيعة الرضوان واملهاجرون َّ‬
‫إمامة علي مث عدلوا عنه وخالفوه وعقدوا لغريه‪ .‬وأكد أهنم حىت لو علموا وفعلوا‬
‫ذلك فإنه ال داللة تدل على أن العدول عن طاعة اإلمام مع العلم هبا ابتغاءً‬
‫للرئاسة فسق مبجرده‪ ،‬إذ القياس ال يوصل إليه‪ ،‬والنص فيه مفقود‪ ،‬واإلمجاع غري‬
‫ثابت‪ ،‬فالتوقُّف فيه الزم كما يلزم التوقُّف يف حال من عدل عن أمري املؤمنني‬
‫مع الشك يف حاله واعتقاد أنه غري إمام‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫مث أطال الكالم يف شرح شأن القاعدين عن اإلمام علي والناكثني بيعته‬
‫واحملاربني له‪ .‬وقد أوردنا كثرياً منه فيما تقدم‪.‬‬
‫اإلمام املوفق باهلل الجرجاني (‪ 420‬هـ)‬
‫* حكى حيىي بن احلسني عن اإلمام املوفق باهلل القول بالرتضية على اخللفاء‪.‬‬
‫* وروى عنه اإلمام املهدي أنه قال‪« :‬فإن قيل‪ :‬فما حكم من خالف هذه‬
‫النصوص الدالة على إمامة أمري املؤمنني‪ ،‬هل يفسق؟ قيل له‪ :‬إنه يكون خمطئاً‬
‫غري كافر وال فاسق‪ .‬ومن أجل ذلك أن أمري املؤمنني كان يوليهما الذكر اجلميل‬
‫ويثين عليهما الثناء احلسن؛ فلو كانوا فساقاً ملا أوالهم أمري املؤمنني الذكر‬
‫اجلميل»‪.‬‬
‫* قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي‪ ،‬قلت‪« :‬وكالم اجلرجاين رضي هللا عنه‬
‫هو عني ما اخرتناه يف كتابنا هذا»‪ .‬يعين الرتضية‪.‬‬
‫اإلمام أبو طالب الهاروني (‪ 424‬هـ)‬
‫* عده احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم يف القائلني بالرتضية‪ .‬ومل أقف يف‬
‫كتبه على ما يؤيد هذه الرواية؛ غري أين وجدته يف كتاب (التحرير) يف الفقه‬
‫وكتاب (اجملزي) يف أصول الفقه حيتج بأقوال الصحابة وأفعاهلم ويرضي عليهم‪.‬‬
‫إىل جانب أنه ذكر يف كتاب (الدعامة يف مسألة اإلمامة) أن النص على إمامة‬
‫اإلمام علي استداليل‪ ،‬وذلك يرشدنا إىل أنه مل يكن حيكم بأكثر من التخطئة‪.‬‬
‫وشن يف كتابه املسمى بـ«الدعامة يف مسألة اإلمامة» هجوماً على الرافضة‬
‫وأسهب يف الرد والتشنيع عليهم‪.‬‬
‫* وذكر اإلمام حيىي بن حزة أن ما يروى عن السيد أيب طالب من أن اخلروج‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪200‬‬

‫على إمام احلق يكون بغياً وفسقاً؛ صحيح باإلمجاع‪ ،‬ولكنه مل يكن من جهة أيب‬
‫بكر وعمر خروج على أمري املؤمنني أصالً حىت يلزم فسقهما وبغيهما‪.‬‬
‫وأضاف‪ :‬ويؤيد ما ذكرناه هو أن (شرح التحرير) مشحون بذكر االستدالل‬
‫والرواية عن الشيخني يف األخبار واألقضية والفتاوى‪ ،‬ولو كانا فاسقني عنده مل‬
‫يكن لالحتجاج بشيء من أقواهلما وأقضيتهما معىن‪.‬‬
‫* وروى عن الشيخ أحد بن أيب احلسن الكين الزيدي أن كالم اإلمام أيب‬
‫طالب يف املتقدمني على علي‪ ،‬كان يف أيام متقدمة من أول عمره وعنفوان شبابه‪،‬‬
‫حني كان إمامياً يرى رأي اإلمامية‪ .‬أما بعد أن صار زيدياً حمققاً يف األصول‪،‬‬
‫فال نظن به أنه قائل ذلك ومعتقد له‪.‬‬
‫ُ َ‬
‫الحق ْيني (‪ 490‬هـ)‬ ‫اإلمام الهادي‬
‫اإلمام اهلادي علي بن جعفر احلُقيين من أئمة الزيدية‪ ،‬اخلارجني يف بالد‬
‫الديلم من املشرق اإلسالمي‪.‬‬
‫ويف مسألة اخللفاء قال يف دعوته اليت كشف فيها عما ميكن أن نطلق عليه‬
‫الصحابة الذين تصدروا‬
‫«برناجمه الفكري» الذي يعتقد ويدعو إليه‪« :‬أما كبار َّ‬
‫لإلمامة‪ ،‬وهنضوا باخلالفة فال أغض نفوسهم وأغراضهم‪ ،‬وال أقابل بالشتم‬
‫أعراضهم‪ ،‬بل أجد موجدة الزاري عليهم واملسرتيد منهم؛ لتمسكهم باحملتمالت‬
‫وتعلقهم بالتأوالت‪ ،‬وأكل أمرهم إىل هللا تعاىل»‪.‬‬
‫الحاكم املحسن بن كرامة الجشمي (‪ 494‬هـ)‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫اٌُالـم َها ِج ِر ْي َن﴾ [الحشر‪ ]8/‬أن ذلك‬
‫ح‬
‫ذكر احلاكم يف تفسري قوله تعاىل‪﴿ :‬للفو َر‬
‫«يدل على فضل الصحابة وعظيم شأهنم وحملهم يف اإلسالم‪ ،‬وأن الواجب‬
‫‪201‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫مواالهتم واالقتداء هبم وبطرائقهم‪ ،‬وأن الرباءة منهم من الكبائر»‪.‬‬


‫وروى عنه احلافظ حممد بن إبراهيم الوزير القول بقبول خرب جمهول الصحابة؛‬
‫بناء على أن األصل فيهم العدالة‪.‬‬
‫ويف سائر كتبه كالم كثري يف الثناء على اخللفاء الراشدين خاصة‪ ،‬وسائر‬
‫الصحابة عامة‪ ،‬خصوصاً يف كتاب التفسري املسمى (التهذيب)‪.‬‬

‫القـرن السادس‬
‫الحافظ أحمد بن أبي الحسن الكني (‪ 560‬هـ)‬
‫* وحكى القاضي أحد بن حيىي حابس‪ ،‬عن شيخ األئمة عبد هللا الدواري‬
‫الزيدية أحد بن أيب احلسن الكين كان ممن يرى الرتضية على املشايخ‬
‫أن شيخ َّ‬
‫املتقدمني على علي عليه السالم‪.‬‬
‫* تضمنت كتبه اليت منها (كشف الغلطات) و(املناظرة) دفاعاً عن املشايخ‪،‬‬
‫ونقالً لنصوص األئمة يف الثناء عليهم‪ .‬ونقل عنه الفقيه حيىي بن حيد أنه ذكر‬
‫يف كتاب (كشف الغلطات) أنه مل يؤثر عن أحد منهم السب وال التصريح‬
‫بالفسق‪ .‬وروي عن كثري منهم الرتضية والرتحم واملدح‪ ،‬مثل اإلمام زيد بن علي‬
‫الصـادق والناصر الكبري واملؤيد باهلل يف كالم طويل‪.‬‬
‫وجعفر َّ‬
‫َّ‬
‫عالمة اليمن نشوان بن سعيد الحميري (‪ 573‬هـ)‬
‫* ذكر احلافظ حيىي بن احلسني‪ :‬أن عالمة اليمن نشوان بن سعيد احلمريي‬
‫الصحابة‬
‫كان يرضي عن املشايخ‪ ،‬وأنه قال يف (مشس العلوم)‪ :‬الذين يتكلمون يف َّ‬
‫إمنا هم من حية اجلاهلية‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪202‬‬

‫* وذكر يف (شرح احلور العني) أن أبا بكر إمنا سي الصديق لكثرة تصديقه‬
‫بالنيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫* وموقفه معلوم يف خمالفة آراء اجلارودية‪ ،‬ومناظراته هلم مشهورة؛ خاصة يف‬
‫مسائل اإلمامة وما يلحق هبا‪.‬‬
‫القاض ي جعفر بن أحمد بن عبد السالم (‪ 576‬هـ)‬
‫متيز بسعة اطالعه على كتب من سبقه من الزيدية‪ ،‬حىت لقب بـ«شيخ‬
‫الزيدية» ومع ذلك مل ينقل عن الزيدية سب وال براءة‪ ،‬ووجدت له عدة نصوص‬
‫من كالمه‪ ،‬منها‪:‬‬
‫الزيدية هو اإلمام بعد رسول هللا‬
‫* قوله‪« :‬إن أمري املؤمنني وإن كان عند َّ‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم؛ للنصوص الواردة الدالة على إمامته‪ ،‬وأن من تقدمه‬
‫من اخللفاء خمطئون يف تقدمهم عليه؛ فإنه ال داللة تدل على كون هذا اخلطأ‬
‫من مجلة الكبائر اليت توجب الرباءة ممن أقدم عليها‪ ،‬بل من اجلائز أن تكون هذه‬
‫اخلطيئة ُمكفَّرة يف جنب مساعيهم احلميدة‪ ،‬وسوابقهم العظيمة»‪.‬‬
‫* وقال أيضاً‪ :‬فمن تقدم على اإلمام علي من الصحابة ‪ -‬قد أخطأ وأخذ‬
‫غري حقه‪ ،‬واستوىل على ماال ميلكه‪ ،‬وكان تقدمه عليه خطأً منه إال أن ذلك‬
‫اخلطأ ال ميكن القطع عليه أنه كفر أو فسق‪.‬‬
‫مث ساق فصالً طويالً يف تأكيد هذه الفكرة والدفاع عنها‪ ،‬وبيان أوجه‬
‫صوابيتها يف نظره‪ ،‬دون أن يتناول القوم بسباب وشتيمة‪ ،‬أو حكم بفسق أو‬
‫دعوة إىل براءة‪ ،‬وهذا هو مسلك كثري من مؤلفي الزيدية‪.‬‬
‫* وذكر القاضي أحد بن حيىي حابس نقالً عن الشيخ عبد هللا الدواري أن‬
‫‪203‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫القاضي جعفر بن أحد كان ممن يرى الرتضية على املشايخ املتقدمني على علي‬
‫عليه السالم‪.‬‬
‫* كما وجدناه حيتج يف كتاب (الدرر البهية وشرحه) مبا أثر عن اخللفاء‪،‬‬
‫ويرضي عنهم‪ ،‬كما يف خمطوطات الكتاب‪.‬‬

‫القـرن السابع‬
‫اإلمام عبد هللا بن حمزة (‪614‬هـ)‬
‫نُقل عن اإلمام عبد هللا بن حزة كالم كثري حول مسألة الصحابة‪ ،‬تردد يف‬
‫معظمه بني الرتضية على اخللفاء الراشدين أو التوقف‪ ،‬مع التأكيد على ختطئة‬
‫املتقدمني على اإلمام علي وال ُـمق ِدمني هلم‪ ،‬ومن كالمه يف املسألة‪:‬‬
‫الصحابة عندنا أفضل‬‫الصحابة الذين تقدموا علياً فقال‪« :‬إن َّ‬
‫* أنه سئل عن َّ‬
‫األمة بعد األئمة عليهم السالم قبل إحداثهم‪ ،‬وبعد اإلحداث لنا أئمة نرجع‬
‫وحن ِجم حيث أحجموا‪ ،‬وهم علي‬ ‫ِ‬
‫إليهم يف أمور ديننا‪ ،‬ونـُ ْقدم حيث أقْدموا‪ُْ ،‬‬
‫وولداه عليهم أفضل السالم‪ ،‬واحلادث عليهم وغضبنا فيهم‪ ،‬ومل نعلم أحداً منهم‬
‫الصحابة‪ ،‬وال لعنه وال شتمه‪ ،‬ال يف مدة حياهتم‪ ،‬وال بعد‬ ‫سب أحداً من َّ‬ ‫َّ‬
‫وفاهتم»‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬إمنا نشكو إحداثهم وتقدمهم على إمامهم‪ ،‬وهلم أعظم حرمة يف‬
‫وعز‬
‫اإلسالم؛ ألهنم أول من أجاب دعوة جدنا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ونابذ َّ‬
‫به اإلسالم‪ ،‬وقاتل اآلباء واألبناء واألقارب يف هللا‪ ،‬حىت قام عمود اإلسالم‪ ،‬وأتى‬
‫فيهم عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ما مل يأت يف غريهم‪ ،‬وكان فيهم‬
‫حديث بدر‪ ،‬وآية بيعة الرضوان‪ ،‬فصار اإلقدام يف أمرهم شديداً‪ ،‬وإمنا نقول‪ :‬إن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪204‬‬

‫كانت معاصيهم كبرية‪ ،‬فاهلل تعاىل ال يُتهم يف جزائه‪ ،‬والكبائر تبطل الطاعات‬
‫وإن عظمت‪ ،‬وإن كانت صغرية؛ فلبعض ما تقدم من عنايتهم يف اإلسالم‪،‬‬
‫وسبقهم إىل الدين‪ ،‬وال ميكن أحداً من أهل العصر وال من قبله من األعصار أن‬
‫يسعى مثل سعيهم‪ ،‬ومثل عنايتهم يف الدين‪ ،‬وعلي عليه السالم وولداه هم‬
‫القدوة‪ ،‬فال نتجاوز ما بلغوه يف أمر القوم‪ ،‬وهو نعي أفعاهلم عليهم‪ ،‬وإعالمهم‬
‫هلم أهنم أوىل باألمر منهم‪ ،‬ومل يباينوهم مباينة الفاسقني يف عصرهم»‪.‬‬
‫وأضاف قائال‪« :‬إن القوم مل يقع منهم البغضة‪ ،‬بل يدَّعون احملبة واملودة‪،‬‬
‫ويظهرون الوالية والشفقة‪ ،‬وبواطن األمور ال يعلمها إال هللا عز وجل»‪ ،‬وأضاف‬
‫أيضا «وقد وقعت أمور هنالك رددنا أمرها إىل هللا عز وجل‪ ،‬ورضَّينا على‬
‫الصحابة عموماً‪ ،‬فإن دخل املتقدمون على علي عليه السالم يف صميمهم يف‬ ‫َّ‬
‫علم هللا سبحانه مل حنسدهم رحة رهبم‪ ،‬وإن أخرجهم سبحانه بعلمه‬
‫الستحقاقهم فهو ال يتهم يف بريته‪ ،‬وكنا قد سلمنا خطر االقتحام‪ ،‬وأدينا ما‬
‫يلزمنا من تعظيم أهل ذلك املقام‪ ،‬الذين حـوا حوزة اإلسـالم‪ ،‬ونابذوا يف أمره‬
‫اخلاص والعام»‪.‬‬
‫الصحابة ضلوا يف‬
‫الزيدية يقولون إن َّ‬
‫* وقال يف سياق رده على من زعم أن َّ‬
‫الزيدية غري صحيحة‪ ،‬فكيف يعتقدون ذلك‬ ‫أمر اإلمامة‪« :‬إن هذه الدعوى على َّ‬
‫فيهم وهم خيار األمة‪ ،‬وهبم أعز هللا دينه ونصر نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫وهم حاة اإلسالم‪ ،‬وبدور الظالم؟ فجزاهم هللا عنا وعن اإلسالم خرياً»‪.‬‬
‫وأضاف «هم عندنا أغلى من أن يُك َّفُروا‪ ،‬ويـُف َّسقوا‪ ،‬مع جتويزنا عليهم اخلطأ‬
‫فيما اختلفوا‪ ،‬وعندنا أن علياً أوىل باألمر‪ ،‬وأهنم أخطأوا بالتقدم عليه‪ ،‬ومل ند ِر‬
‫ما مقدار ذلك اخلطأ عند هللا سبحانه‪ ،‬وقد أخطأ أنبياء هللا سبحانه وهم أعلى‬
‫‪205‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫الصحابة وأعرف جبالل هللا سبحانه‪ ،‬ولسنا نعتقد فيهم أهنم قصدوا‬‫قدراً من َّ‬
‫شقاق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف وصيه عليه السالم‪ ،‬وإمنا جهلوا وجه‬
‫االستدالل فاعتقدوا أهنم أوىل باألمر‪ ،‬فلو صح أهنم قصدوا خالف رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم لقطعنا على ضاللتهم‪ ،‬ولكنا ال نقول ذلك‪ ،‬وعلى‬
‫الصحابة ثابتة‪ ،‬وجاللتهم باقية‪ ،‬وخطؤهم يف مسألة واحدة‬
‫هذا الوجه‪ ،‬أخبار َّ‬
‫ال يذهب حرمة إسالمهم‪ ،‬وإصابتهم فيما ال حيصى من املسائل‪ ،‬فتأمل ذلك‬
‫موفقاً»‪.‬‬
‫* وقال يف (الرسالة اإلمامية يف اجلواب على املسائل التهامية)‪« :‬عندنا أهنم‬
‫أشرف قدراً‪ ،‬وأعلى أمراً‪ ،‬وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم ضعيفة أو موازينهم يف‬
‫الشرف والدين خفيفة‪ .‬فلو كان ذلك‪ ،‬ملا اتبعوا رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬ومالوا عن إلف دين اآلباء واألتراب إىل أمر مل يسبق هلم به أُنس‪ ،‬ومل‬
‫يسمع له ذكر‪ ،‬شاق على القلوب‪ ،‬ثقيل على النفوس‪ .‬فهم خري الناس على‬
‫عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وبعده‪ ،‬فرضي هللا عنهم‪ ،‬وجزاهم عن‬
‫اإلسالم خرياً»‪.‬‬
‫مث أكد سالمة موقفه وموقف عموم الزيدية بكل ُوضوح‪ ،‬فقال‪« :‬هذا مذهبنا‬
‫مل خنرجه غلطة‪ ،‬ومل نكتم سواه تقية‪ .‬وكيف وموجبها زائل! ومن هو دوننا مكانة‬
‫وقدرة يسب ويلعن‪ ،‬ويذم ويطعن‪ ،‬وحنن إىل هللا سبحانه من فعله براء‪ ،‬وهذا ما‬
‫يقضي به علم آبائنا‪ ،‬منا إىل علي عليه السالم»‪.‬‬
‫وانتقد من يتطاول بالسب والرباءة فقال‪« :‬ويف هذه اجلهة من يرى حمض‬
‫الوالء بسب الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬والرباءة منهم‪ ،‬فتربأ من رسول هللا من‬
‫حيث ال يعلم»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪206‬‬

‫* ويف (العقد الثمني) تصدى للرد على اإلمامية فيما حكموا به من كفر أو‬
‫فسق أو نفاق املتقدمني على علي عليه السالم‪ .‬ومما قال‪« :‬إنا نعلم أن علياً‬
‫عليه السالم مل يكن يعاملهم معاملة الفاسق واملنافق‪ ،‬بل يعاتبهم وينعي عليهم‬
‫أفعاهلم‪ ،‬وال يسبهم‪ ،‬وال نعلم منه الرباءة منهم‪ ،‬كما كان يظهر الرباءة من الفساق‬
‫واملنافقني‪ ،‬وذلك الظاهر املعلوم من ذريته األئمة الطاهرين‪ ،‬واألئمة العلماء إىل‬
‫يومنا هذا‪ ،‬ال جند أحداً حيكي عنهم حكاية صحيحة لسب وال برآءة‪ ،‬بل وكلوا‬
‫أمرهم إىل رب العاملني»‪.‬‬
‫* وذكر يف (الشايف) أن صاحب كتاب (اخلارقة) عبد الرحن بن أيب القبائل‬
‫فهم من كالمه أنه يبغض املشايخ‪ ،‬فرد عليه بقوله‪« :‬قال ألنه فهم من فحوى‬
‫كالمنا أنا نبغض املشايخ‪ ،‬ومعاذ هللا أن نبغض أحداً منهم‪ ،‬ولكنا قلنا‪ :‬علي‬
‫اإلمام دوهنم‪ ،‬فلو كان ذلك بغضاً ألبغضنا عمنا العباس وابن عباس وأبا ذر‬
‫وعمار‪ ،‬فليس من مل نثبت له اإلمامة أبغضناه‪ ،‬فتثبت أيها الرجل»‪.‬‬
‫َ َّ ح َ ْ َ ح َ‬
‫ون ٌم ٌَ‬
‫ِنٌ‬ ‫ون ٌاْل َّول ٌ‬
‫* وانتقد ختصيص صاحب اخلارقة قوله تعاىل‪﴿ٌ :‬والسابِو ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ح َ ْ ح َ َّ ح‬ ‫َْح‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َّ َ ح ح‬ ‫حَ‬
‫ضٌاهللٌعنه ٌْمٌ َو ٌَرضواٌعن ٌهٌ َوأع ٌدٌل ٌه ٌْمٌ‬ ‫ِينٌاتقعوه ٌْمٌبِإِحس رٌ‬
‫انٌ َر ِ ٌَ‬ ‫ارٌواَّل ٌ‬
‫ينٌواْلنص ٌِ‬
‫ج ِر ٌ‬ ‫الـمها ِ‬
‫َ َ ًََ َ َ َْ ح َْ‬ ‫ََْ َ ْ َْ َ ح َ‬ ‫َ َّ َ ْ‬
‫يم﴾ [التوبة‪ .]100/‬باخللفاء‬ ‫ِكٌالف ْو ٌزٌالع ِظ حٌ‬‫ِينٌفِيهاٌأبداٌذل ٌ‬
‫ال ٌ‬ ‫ارٌخ ِ‬
‫اتٌَت ِريٌَتتهاٌاْلنه ٌ‬ ‫جن ر ٌ‬
‫مؤكداً تناول اآلية هلم ولغريهم‪ ،‬فقال‪« :‬إنا ال ننكر كوهنم من السابقني األولني‪،‬‬
‫وال جحدنا أهنم من أفضلهم‪ ،‬وإن كان غريهم من أهل البيت أفضل منهم»‪.‬‬
‫* وقال‪« :‬إنه ‪ -‬يعين صاحب اخلارقة ‪ -‬عني املشايخ الثالثة‪ ،‬وترك سائر‬
‫الصحابة املرادين باآلية‪ ،‬فإن استقام على هذا االستبداد‪ ،‬فضحته اآلثار والسري‬‫َّ‬
‫واألخبار‪ ،‬وإن اعترب أن املشايخ الثالثة من مجلة من مشلتهم آية الرضوان‪ ،‬فلم حتجر‬
‫واسعاً‪ ،‬وخصص عاماً واستبد بأمر هو مشرتك بني املشايخ الثالثة وسواهم من‬
‫‪207‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫الصحابة احلاضرين يف ذلك املقام؟! فاقر بأن املشايخ الثالثة ممن مشلتهم اآلية‪.‬‬
‫َّ‬
‫الرتحم هو رأي اإلمام عبد هللا بن‬
‫ورجح اإلمام عز الدين أن الرتضية و ُّ‬
‫* َّ‬
‫حزة‪ ،‬مستنداً إىل رواية حممد بن يوسف بن هبة الفضلي القدمي يف كتاب له‬
‫ساه (االنتصاف)‪ ،‬وملا تقدم من كالمه يف (جواب املسائل التهامية)‪.‬‬
‫* وذكر احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم‪َّ « :‬‬
‫أن للمنصور باهلل عبد هللا بن‬
‫حزة قوالن‪ :‬التوقف يف (الشايف)‪ ،‬والرتضية كما يف (اجلوابات التهامية)»‪.‬‬
‫والذي يبدو أهنما ليسا قولني‪ ،‬ولكنهما عموم وخصوص‪ ،‬فهو يرى جواز‬
‫الصحابة عموماً‪ ،‬فإن‬
‫الصحابة‪ ،‬ويف ذلك قال‪« :‬ورضَّينا على َّ‬
‫الرتضية على مجلة َّ‬
‫دخل املتقدمون على علي عليه السالم يف صميمهم يف علم هللا سبحانه مل‬
‫حنسدهم رحة رهبم‪ ،‬وإن أخرجهم سبحانه بعلمه الستحقاقهم فهو ال يتهم يف‬
‫بريته»‪ .‬والذي يف (الرسالة التهامية) هو يف عمومهم أيضاً‪.‬‬
‫أما الشيخان فقال كما يف (اجملموع)‪« :‬إن أبا بـكر وعمر ال نرضي عنهما‬
‫وال نسبهما؛ ألن حدثهما كبري‪ ،‬وحقهما كبري‪ ،‬فالتبس األمر فأمسكنا»‪.‬‬
‫وأكده يف (الشايف) بقوله‪« :‬وقد بينا أن حال الصحابة ينقسم إىل ثالثة‬
‫أقسام‪ :‬فقسم‪ :‬ماتوا على ما فارقوا عليه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫فهؤالء هم الذين يستحقون ما ظهر هلم من الثناء من هللا سبحانه‪ ،‬ومن رسوله‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪ .‬وقسم‪ :‬ظهر فسقهم باخلروج على اإلمام علي عليه‬
‫السالم‪ ،‬وحماربتهم له‪ ،‬وقتلهم وقتاهلم‪ .‬وقسم ثالث‪ :‬جرت منهم أمور وختاليط‪،‬‬
‫واستيالء على أمر األمة‪ ،‬والدفع إلمام اهلدى؛ فهؤالء حكمهم إىل العلي األعلى؛‬
‫فإن ظهر لنا دليل على حلوقهم بأحد الفريقني‪ ،‬وجب إحلاقهم بذلك الدليل؛‬
‫وإن مل يظهر دليل‪ ،‬وقفنا»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪208‬‬

‫وقال أيضاً‪« :‬لسنا نشتمهما‪ ،‬ولوال ما تعقبا به من اخلالف يف اخلالفة‬


‫واإلمامة؛ لرتحنا عليهما‪ ،‬ورأينا ذلك من لوازم الدين‪ ،‬مع أننا ال ننهى من يرتحم‬
‫عليهما؛ ألن القطع بغري دليل ال جيوز»‪.‬‬
‫أما السباب فأمر مرفوض لديه مجلة وتفصيالً‪ ،‬فقد جاء عنه يف الشايف‪:‬‬
‫«وأما سب أصحاب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فمعاذ هللا أن يكون ذلك‬
‫منا سراً وال جهراً‪ ،‬وهلل تعاىل الطليعة على ضمائر القلوب‪ ،‬ولو كان ذلك اعتقادنا‬
‫ألظهرناه؛ ألننا القدوة لغري الفقيه وأجناسه‪ ،‬فكان جيب علينا البيان»‪.‬‬
‫وذكر القاضي علي بن عبد هللا النجراين أنه « ُروي عـن اإلمام املنصور باهلل‬
‫‪ -‬يعين عبد هللا بن حزة ‪ -‬أنه قال‪ :‬إن قوماً من الشيعة يتربأون من أصحاب‬
‫رسول هللا‪ ،‬فيتربأون من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وهم ال يشعرون‪ ،‬مث‬
‫متثل بقول الشاعر‪:‬‬
‫جاحنات النَّْبل كشحي ومنكيب‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫نت ال أُرمى وتُرمى كنانيت تُص ْ‬
‫فإ ْن ُك ُ‬
‫هذا مع أن السيد حيدان بن حيىي القاسي (‪7‬ق) عمل جاهداً على تقدمي‬
‫اإلمام عبد هللا بن حزة يف موقف متشدد ضد اخللفاء‪ ،‬فجمع من كالمه ما‬
‫يرضي عن اخللفاء‪ ،‬وحيسن الظن هبم وهو من‬ ‫يتضمن نقدا وإنكارا على من ِ‬
‫الزيدية‪.‬‬
‫َّ‬
‫القاض ي عبد هللا بن محمد بن أبي النجم (‪647‬هـ)‬
‫وقال الشيخ عبد هللا بن حممد بن أيب النجم يف كتاب (درر األحاديث)‪:‬‬
‫فقلت أعددت حب املصطفى وعلي‬ ‫وقائل قال ما أعددت من عمل‬ ‫ٌ‬
‫أرجو ودادمهــا يف احلشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر يــذخر يل‬ ‫مها شـ ـ ـ ـ ـ ـ ــفيعان من يأيت حببهما‬
‫عسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى التوقف أن ينجي من الزلـ ِل‬ ‫وال أذم أب ـ ـ ــا ب ـ ـك ــر وال عـ ـم ــراً‬
‫‪209‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫الشهيد ُحميد بن أحمد املحلي (‪ 652‬هـ)‬


‫* من كالمه يف كتاب (حماسن األزهار)‪« :‬ومل تصح لنا منه ‪ -‬يعين علياً ‪-‬‬
‫هلم عداوة فاقتدينا هبديه‪ ،‬وهللا احلكـم بينه وبينهم‪ ،‬فإن يعف عنهم؛ فلسوابقهم‬
‫احلميدة‪ ،‬وآثارهم الرشيدة‪ ،‬وإن يؤاخذهم فما ربك بظالم للعبيد‪ ،‬وهو العدل يف‬
‫الوعد والوعيد»‪.‬‬
‫* وأكد‪« :‬أن ليس يف اآلثار املنقولة بالتواتر ما يفيد اإلمامة تصرحياً‪ ،‬على‬
‫نكفر من مل يقل بإمامة علي عليه اإلسالم‪،‬‬‫وجه ال احتمال فيه لغريها‪ ،‬وهلذا مل ِ‬
‫فلو كان النص معلوم املراد من دون غموض عارض فيه‪ ،‬لكفر من خالفه‪ ،‬كما‬
‫يكفر من جحد وجوب الصالة والزكاة‪ ،‬وغريمها مما ُعلم وجوبه بالضرورة من‬
‫الدين»‪.‬‬
‫* وقال يف (الوسيط)‪« :‬أما من تقدم عليه فإنه جيب القطع بأنه قد خالف‬
‫األدلة املقطوع بصحتها‪ ،‬وكل من خالف دليالً مقطوع بصحته فإنه عاص‪ ،‬وأما‬
‫ما زاد على املعصية يف اجلملة‪ ،‬من التفسيق فإنه غري مقطوع به‪ ،‬لعدم الدليل‬
‫الدال على ذلك‪ ،‬وهذا هو الذي جيري يف كالم أئمتنا عليهم السالم»‪.‬‬
‫* وقال احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم‪« :‬له كتاب يف عقيدة أهل البيت‬
‫وهو مؤلف حسن‪ ،‬ذكر فيه اتفاق أئمة أهل البيت على حترمي التعريض يف جانب‬
‫بالسب»‪.‬‬
‫املشايخ َّ‬
‫* وقال أيضاً‪ :‬ذكر القاضي حيد بن أحد احمللي املعروف بالشهيد يف كتابه‬
‫(عقيدة أهل البيت) ما لفظه‪« :‬ويعتقدون املواالة للصحابة والرتضية عليهم‪ ،‬إال‬
‫الذي مل يواليهم علي عليه السالم‪ ،‬كمعاوية وأحزابه‪ .‬فأما الزبري وطلحة وعائشة‬
‫يف حرهبم لعلي يوم اجلمل فقد تابوا‪ ،‬ونقل عن علي عليه السالم الرتضية عليهم‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪210‬‬

‫وأما املتقدمني على علي عليه السالم‪ ،‬فتظلم منهم يف تقدمهم عليه‪ ،‬ومل‬
‫ينقل عنه ناقل أنه سبهم ‪ -‬حاشاه ‪ -‬وال هلكهم‪ .‬ومن العرتة من رأى التوقف‬
‫يف حاهلم‪ ،‬ووكلهم إىل خالقهم‪ ،‬مع اعتقاد أن علياً عليه السالم هو أهل اخلالفة‬
‫واألحق هبا بعد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وهذه عقيدة أهل البيت أئمة‬
‫الزيدية اليت قضوا هبا ومضوا عليها‪ ،‬وكانوا يعدلون إليها‬
‫العرتة النبوية ومشايخ َّ‬
‫ومييلون عن غريها»‪.‬‬
‫اإلمام املهدي أحمد بن الحسين (‪ 656‬هـ)‬
‫وهو املعروف بـ«أبو طري» مل يرو عنه سب أو براءة من اخللفاء الثالثة‪ ،‬بل‬
‫وجدت له ما يدل على أنه ُجيلهم ويقدرهم‪.‬‬
‫ح‬ ‫َ ً َ َ ً َ ح َْ‬ ‫ْ‬
‫اال ٌ َوجا ٌِهدوا ٌبِأم َوال ِك ٌْمٌ‬
‫ففي تعليق له على قول هللا تعاىل‪﴿ :‬ان ِف حروا ٌخِفافا ٌوث ِو ٌ‬
‫َ ح ْ َ ْ َ ح ْ ْ حْح َْ َح َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫َْح‬
‫ون﴾ [التوبة‪.]41/‬‬‫نٌكنت ٌْمٌتعلم ٌ‬ ‫يٌلك ٌمٌإ ِ ٌ‬
‫يلٌاهللٌذل ِك ٌمٌخ ٌ‬ ‫َوأنف ِسك ٌْمٌ ِ ٌ‬
‫فٌسبِ ٌِ‬

‫قال‪« :‬وصف هللا أمر املؤمنني بأهنم جياهدون يف سبيل هللا بأمواهلم وأنفسهم‪،‬‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم عملت هبذه الوظيفة من املعونة‪ ،‬قاست األنصار‬ ‫و َّ‬
‫وخريوهم بني القسمني‪ ،‬وأعطوهم األصلح من‬ ‫املهاجرين يف أمواهلم ودورهم َّ‬
‫النصيبني‪ ،‬وكان مع أيب بـكر مثانون ألفاً أنفقها يف اجلهاد‪ ،‬وما بقي معه إال عباءة‬
‫كان إذا ركب حلها وإذا نزل أبعد حالهلا‪ ،‬وعثمان جهز جيش العسرة بتسعمائة‬
‫بعري وخسني بعرياً‪ ،‬ومتم األلف خبمسني فرساً‪ ،‬كل ذلك من صميم ماله‪ ،‬وملا‬
‫مستهم احلاجة وعظمت هبم الفاقة‪ ،‬لقاهم مائة ناقة حمملة‬ ‫أقبل العسكر وقد َّ‬
‫خمطومة جيروهنا‪ ،‬وأكلـوا أحاهلا‪ ،‬والقـوم ما بذلوا هذه األموال إال لطاعة الرحن‪،‬‬
‫ومعرفتهم مبا يف القرآن»‪.‬‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫وذكره احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني‪ :‬فيمن يرى الرتضية على سائر َّ‬
‫‪211‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫األميرالحسين بن بدرالدين (‪663‬هـ)‬


‫خبالف صنوه احلسن بن بدر الدين‪ ،‬ظهر موقف األمري احلسني منسجما مع‬
‫موقف عموم الزيدية‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫* قوله عند الكالم عن إمامة اإلمام علي بن أيب طالب‪« :‬وطريق إمامته‬
‫النص عندهم (= الشيعة) مجيعاً‪ ،‬مث اختلفوا يف كيفيته‪ ،‬والذي خنتاره أن النص‬
‫وقع على وجه حيتاج يف معرفة املراد به إىل تأمل‪ ،‬وال نُك ِفر من دافعه وال ِ‬
‫نفسقه‪،‬‬
‫ونقطع على ختطئة من تقدمه‪ ،‬وأنه قد ارتكب قبيحاً‪ ،‬وفعل معصية‪ ،‬وحيتمل أن‬
‫تكون كبرية؛ ألهنا خامتة األعمار‪ ،‬وال صغرية مع اإلصرار‪ ،‬وحيتمل أن تكون‬
‫صغرية؛ ألن ملن تقدم عليه من املشايخ الثالثة أعماالً حسنة‪ ،‬وأفعاالً زكية صاحلة‪،‬‬
‫وجيوز أن تكون هذه املعصية صغرية يف جنبها واإلضافة إليها»‪.‬‬
‫* وعقب اعرتاضه على بعض ما استُدل به على إمامة الشيخني أيب بـكر‬
‫وعمر‪ ،‬قال‪« :‬ومل نورد هذا طلباً لتنقص الشيخني أيب بـكر وعمر‪ ،‬وال للوضع‬
‫من حقهما‪ ،‬وال لتتبع عثراهتما‪ ،‬معاذ هللا أن نقصد شيئاً من ذلك‪ ،‬فهما صاحبا‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وقد جاهدا معه‪ ،‬وقاما بنصرته‪ ،‬وأبليا يف‬
‫اإلسالم بالء حسناً‪ ،‬إال أننا نعرف أن علياً أفضل منهما»‪.‬‬
‫القاض ي عبد هللا بن زيد العنس ي (‪ 667‬هـ)‬
‫وهو أحد مشاهري علماء الزيدية يف عصره‪ ،‬خصص يف كتابه (اإلرشاد إىل‬
‫سبيل الرشاد) فصالً لذكر فضل أهل البيت وذكر فضائلهم‪ ،‬مث أعقبه بالتحذير‬
‫الصحابة‪ ،‬وروى يف النهي عن‬
‫مما وقع فيه بعض الشيعة الغالة من التطاول على َّ‬
‫ذلك رواية عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ورواية عن أهل البيت‪.‬‬
‫مث قال‪« :‬واآلثار يف هذا الباب كثرية‪ ،‬وبتمام هذا الركن بانت الرافضة‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪212‬‬

‫الغالة»‪ .‬وهذا يدل على أنه ال يوافق الروافض الغالة يف أمر اخللفاء‪ ،‬وأن موقفه‬
‫الصـادق‪.‬‬
‫هو موقف اإلمام زيد واإلمام َّ‬

‫القـرن الثـامن‬
‫الفقيه محمد بن الحسن الديلمي (‪711‬هـ)‪.‬‬
‫بسط العـالَّمة حممد بن احلسن الديلمي يف كتابه (قواعد عقائد آل حممد)‬
‫ََ ْ‬
‫القول يف الثناء على اخللفاء الراشدين‪ ،‬واستشهد لفضلهم بقول هللا تعاىل‪﴿ٌ:‬لو ٌدٌ‬
‫ح ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ‬ ‫ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫تٌالشج َر ٌةٌِفعل ٌَِمٌماٌ ِ ٌ‬
‫فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأن َز ٌلٌالسكِين ٌةٌ‬ ‫كٌَت ٌ‬
‫نيٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌ‬
‫نٌالـم ٌؤ ِمنِ ٌ‬ ‫ضٌاهللٌع ٌِ‬ ‫َر ِ ٌَ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌف ْت ًحاٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح‪.]18 /‬‬
‫مث قال‪« :‬املعلوم الظاهر كون اخللفاء من أهل البيعة‪ ،‬إال ما روي عن عثمان‬
‫أنه مل حيضرها‪ ،‬فبايع عنه النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ويقال‪ :‬إن ذلك من‬
‫مفاخر عثمان‪ ،‬فليت شعري بعد أن رضي هللا عنهم؛ ما الدليل القاطع الذي‬
‫اقتضى الرباءة منهم‪ ،‬وأوجب سخط هللا عليهم‪ ،‬بعد هذا النص الظاهر القاطع؛‬
‫إذ ال يزيل القاطع إال قاطع مثله‪ ،‬وال دليل على ذلك إال جهل املقلد على ذلك‪،‬‬
‫نعوذ باهلل من آفات العصبية وموارد احلمية»‪.‬‬
‫السيد إدريس بن علي بن حمزة (‪714‬هـ)‬
‫الزيدية‪ ،‬له كتاب بعنوان (كنز األخبار)‪ ،‬تعرض فيه‬
‫من مشاهري مؤرخي َّ‬
‫الزيدية جتاه ذلك‪،‬‬
‫الصحابة وما شجر بينهم‪ ،‬وتطرق إىل ذكر موقف َّ‬
‫للكالم عن َّ‬
‫الزيدية مل يُرو عن أحد من أئمتهم وقوع يف‬
‫ونقل بعض كالمهم‪ ،‬مث ذكر أن َّ‬
‫الصحابة‪ .‬وهذه حكاية إلمجاعهم‪ ،‬لو مل يكن إال يف عصر السيد‬ ‫أحد من َّ‬
‫إدريس‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫القاض ي محمد بن يحيى حنش (‪ 719‬هـ)‬


‫ذكر العـالَّمة حممد بن حيىي حنش يف (شرحه على اخلالصة) اخلالف يف‬
‫حكم من تقدم علياً‪ ،‬مث قال‪« :‬الذي عند مجهور أهل البيت عليهم السالم‬
‫والذي صححوه للمذهب أنه يتوقف يف أمرهم‪ ،‬فال يرضى عنهم وال يُسبون؛‬
‫ألنا ال نعلم خطيئتهم كبرية أم صغرية»‪.‬‬
‫وروى عن اإلمام عبد هللا بن حزة أنه عظمهم‪ ،‬واحتج بأن هلم أسوة‬
‫باألنبياء‪ ،‬فقد عصى آدم ربه‪ .‬ومل يطرده من رحته حينما تاب واعرتف خبطيئته‪،‬‬
‫فهو بشر والبشر خيطئون بطبيعتهم‪ .‬ذكر ذلك يف معرض االحتجاج على ما‬
‫ذهب إليه من حتسني الظن باخللفاء‪.‬‬
‫اإلمام املهدي محمد بن املطهر(‪ 728‬هـ)‬
‫وقال السيد صارم الدين اهلادي بن إبراهيم الوزير يف (تلقيح األلباب)‪« :‬وذكر‬
‫اإلمام املهدي حممد بن املطهر يف كتابه (الكواكب الدرية) مجلة وافية‪ ،‬ونبذة‬
‫شافية يف أحوال املشايخ‪ ،‬وأشار إىل مثل كالم املنصور باهلل يف لزوم التوقُّف»‪.‬‬
‫اإلمام يحيى بن حمزة (‪749‬هـ)‬
‫الصحابة‪ ،‬فقد‬
‫الزيدية املدافعني عن َّ‬
‫يعد اإلمام حيىي بن حزة من أبرز أئمة َّ‬
‫الصحابة على‬
‫أفرد هلذا املوضوع عدة كتب‪ ،‬منها‪( :‬أطواق احلمامة يف حل َّ‬
‫السالمة) و(الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد املرسلني)‪ ،‬إىل‬
‫جانب ما تضمنته كتبه األخرى مثل (التحقيق يف أدلة اإلكفار والتفسيق)‬
‫و(الشامل) و(االنتصار) و(الديباج الوضي) ومما جاء يف تلك الكتب‪:‬‬
‫* قوله يف (الديباج) عند شرح كالم اإلمام علي يف شأن عثمان‪( :‬وما ابْ ُن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪214‬‬

‫احل ِق ِمْنك)‪ ،‬حينما قال‪« :‬ويف كالم أمري‬ ‫اخلطَّ ِ‬


‫اب بِأ ْوىل بِعم ِل ْ‬ ‫أِيب قُحافة وال ابْ ُن ْ‬
‫املؤمنني هذا داللة على إتياهنما للحق وعملهما به‪ ،‬وأنا أقول‪ :‬اللهم إين أحبهما‬
‫وأتوالمها‪ ،‬وأبرأ إليك ممن يبغضهما‪ ،‬وأدينك حببهما وتوليهما‪ ،‬وإن كنت تعلم‬
‫مين خالف ذلك فال تغفر يل ذنويب»‪ .‬وها يدل على غاية الثقة بصحة ما‬
‫يذهب إليه‪.‬‬
‫* وجزم يف كتاب (الشامل) بـأن «الرتحم والرتضي عليهم ‪ -‬من تقدم علياً‬
‫‪ -‬هو املشهور عن أمري املؤمنني‪ - ،‬قال ‪ :-‬وحكيناه عن زيد بن علي‪ ،‬وجعفر‬
‫الصـادق‪ ،‬والناصر للحق‪ ،‬واملؤيد باهلل‪ ،‬وهو املختار عندنا‪ ،‬وما نرتضيه لنا مذهباً‪،‬‬
‫َّ‬
‫وحنب أن نلقى هللا تعاىل وحنن عليه»‪.‬‬
‫* وروى عنه اإلمام عز الدين أنه قال‪« :‬والذي خنتاره ما نقلناه عن األفاضل‬
‫من آبائنا‪ ،‬فإن املأثور عنهم ما أوضحناه من احملبة والتويل هلما وإعظام منزلتهما‬
‫الصـادق عليه السالم‪ :‬اللهم‬
‫وترك املقالة القبيحة يف حقهما‪ ،‬بل أقول كما قال َّ‬
‫إين أحبهما‪ ،‬وأودمها‪ ،‬وأتوالمها‪ ،‬وأحب من حيبهما‪ ،‬اللهم إن كنت تعلم خالف‬
‫ذلك من قليب فال تنلين شفاعة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم»‪.‬‬
‫* ورجح الرتضية على التوقف‪ ،‬فقال‪« :‬التوقف وإن كان أسلم حاالً من‬
‫السب‪ ،‬لكنه ال معىن للتوقف؛ ألنه إذا كان إسالمهم قبل اخلالف مقطوعاً به‪،‬‬
‫وكذلك الرتضية والتزكية من جهة هللا تعاىل ورسوله‪ ،‬ومل حيصل دليل قاطع ينقل‬
‫عن ذلك‪ ،‬فال وجه للتوقف وترك املعلوم للمظنون‪.‬‬
‫وأضاف‪ :‬ولو حسن التوقف جملرد اخلطأ‪ ،‬حلسن التوقف يف مجيع املؤمنني‬
‫الصاحلني؛ ألنه ما من أحد إال ويالبس يف اليوم والليلة كثرياً من املعاصي‪ ،‬ال‬
‫يُقطع بكوهنا كفراً أو فسقاً‪ ،‬وهذا القول الفصل ‪ ...‬إىل أن قال‪ :‬وعلى كل حال‬
‫‪215‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫فالواجب حسن الظن باملؤمنني وتعظيمهم ومواالهتم وإن علمنا خطأهم يف بعض‬
‫املسائل القطعية‪ ،‬ما مل يقطع بكون ذلك اخلطأ كفراً أو فسقاً والسيما أصحاب‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أهل السابقة والفضل واجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬فال‬
‫أقل مما يعاملهم مبثل ما يعامل به بعضنا بعضاً من حسن الظن والقول اجلميل»‪.‬‬
‫الصحابة وتفسيقهم‬
‫* وحذر يف (االنتصار) من أن «اإلقدام على إكفار َّ‬
‫دخول يف اجلهالة‪ ،‬وحق ونقصان يف الدين وجرأة على هللا»‪.‬‬
‫* وقال احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم‪« :‬إن اإلمام حيىي رحه هللا مصرح‬
‫يف مجيع كتبه ومصنفاته بالرتضية على املشايخ يف (الشامل) و(التمهيد)‬
‫و(االنتصار) وغريها‪ ،‬وله مع ذلك كتاب مفرد اختص به هلا»‪.‬‬
‫الصحابة فسق تأويل‪.‬‬
‫* وروى اإلمام املهدي عن اإلمام حيىي أن سب َّ‬
‫* ويف (البيان الشايف) البن املظفر «مسألة‪ :‬قال اإلمام حيىي‪ :‬وال يصح‬
‫بفاسق التأويل‪ ،‬وال مبن يـُف ِس ُق َّ‬
‫الصحابة الذين تقدموا علياً عليه‬ ‫ِ‬ ‫االئتمام‬
‫السالم»‪.‬‬
‫* وقال الشوكاين يف ترمجة اإلمام حيىي يف (البدر الطالع)‪« :‬هو من أكابر‬
‫الزيدية بالديار اليمنية‪ ،‬وله ميل إىل اإلنصاف‪ ،‬مع طهارة لسان وسالمة‬
‫أئمة َّ‬
‫صدر‪ ،‬وعدم إقدام على التكفري والتفسيق بالتأويل‪ ،‬ومبالغة يف احلمل على‬
‫الصحابة املصونة رضي‬
‫السالمة على وجه حسن‪ ،‬وهو كثري الذب عن أعراض َّ‬
‫هللا عنهم وعن أكابر علماء الطوائف»‪.‬‬
‫ومع كثرة النصوص الواردة عن اإلمام حيىي بن حزة‪ ،‬وتعدد مصادرها‪،‬‬
‫ووضوح داللتها‪ ،‬جند بعض متأخري علمائنا انربوا للتشويش عليها؛ تارة بإنكار‬
‫بعضها‪ ،‬وتارة بتأويلها‪ ،‬وتارة بتخطئتها‪ ،‬بل جتاوز بعضهم إىل اإلساءة إىل اإلمام‬
‫حيىي بن حزة والتشكيك يف علمه‪ ،‬فاهلل حسبهم‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪216‬‬

‫وأطالٌشيخناٌالسيد جمد الدين املؤيدي يف كتاب (لوامع األنوار) يف التشكيك‬


‫يف مواقف اإلمام حيىي بن حزة‪ ،‬ورأى أنه رجع عن القول بالرتضية على املشايخ‪،‬‬
‫ولكنه مل يذكر لذلك مستنداً يعتمد عليه‪ ،‬واكتفى مبجرد االستبعاد‪ ،‬فقال يف‬
‫كتاب (جممع الفوائد)‪« :‬والذي يظهر أن فيها دساً على اإلمام»‪.‬‬
‫علما بأن شيخنا املؤيدي أثبت يف كتابه (لوامع األنوار) و(اجلامعة املهمة)‬
‫صحة كتاب (االنتصار) و(الشامل) و(التحقيق) و(الديباج) وغريها من كتب‬
‫اإلمام حيىي بن حزة‪ ،‬ورواها بأسانيده‪ ،‬وتلك الكتب تتضمن نفس ما جاء يف‬
‫(الرسالة الوازعة) بالكلمة بل باحلرف‪ ،‬فإذا كانت هذه الرسالة مدسوسة ملا‬
‫تضمنته من تنزيه للخلفاء؛ فكذلك الكتب املذكورة‪ ،‬إذ الفرق حت ُّكم‪.‬‬
‫وذكر السيد حيىي بن احلسني أن من عجائب السيد حممد بن حيىي القاسي‬
‫«أنه ذكر يف كتابه ‪ -‬شرح األبيات الفخرية ‪ -‬أنه اعرتض اإلمام حيىي يف قوله‬
‫َ‬ ‫حْ َ‬
‫ٌاملؤمننيٌ‬ ‫بالرتضية على املشايخ‪ ،‬واحتج عليه بقوله تعاىل‪﴿ :‬واَّلين ٌيؤ ٌ‬
‫ذون‬
‫واملؤمنات﴾ [األحزاب‪ ،]58/‬وأن الصحـابة آذوا علياً‪.‬‬
‫قال املذكور‪ :‬فأجاب اإلمام حيىي بن حزة‪ :‬األوىل التوقف يف شأهنم‪ .‬انتهى‬
‫كالمه‪ .‬وهذا باطل عن اإلمام حيىي؛ ألنه رحه هللا مصرح يف مجيع كتبه ومصنفاته‬
‫بالرتضية ‪ -‬يف األصول والفروع ‪ -‬على املشايخ يف (الشامل) و(التمهيد)‬
‫و(االنتصار) وغريها‪ ،‬وله مع ذلك كتاب مفرد اختص به هلا‪.‬‬
‫وأما قول السيد‪ :‬إن اإلمام حيىي خالف يف الرتضية إمجاع العرتة‪ ،‬فهو باطل‪.‬‬
‫فإن إمام الزيدية زيد بن علي ثبتت عنه الرتضية عليهم‪ ،‬بل ثبت عن علي أيضاً‬
‫الرتضية عليهم‪ ،‬وأئمة الزيدية أكثرهم قائل بذلك‪ ،‬فانظر جمازفات هذا السيد‬
‫وعدم معرفته‪ ،‬وليس مثله ممن يعرتض اإلمام حيىي رحه هللا وال حيوم حوله»‪.‬‬
‫‪217‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫اإلمام املهدي علي بن محمد (‪774‬هـ)‬


‫* ذكر السيد اهلادي بن إبراهيم الوزير يف (تلقيح األلباب) عن اإلمام الناصر‬
‫حممد بن علي‪ :‬أن والده اإلمام املهدي علي بن حممد بن علي ُسئل عن حكم‬
‫من تقدم على أمري املؤمنني أو خالفه؟‬
‫أن النص وقع على وجه حيتاج يف معرفة‬ ‫الزيدية َّ‬
‫أن مذهب مجهور َّ‬ ‫فأجاب‪َّ « :‬‬
‫يفسقونه‪ ،‬ويقطعون بتخطئة‬ ‫املراد به إىل نظر وتأويل‪ ،‬وال يكفرون من دافعه وال ِ‬
‫رأيه وأنه قد ارتكب قبيحاً‪ ،‬وفعل معصية‪ ،‬ولكنهم ال يعلمون كوهنا صغرية وال‬
‫كبرية‪ ،‬قال عليه السالم وهذا قول أكثر أهلنا وأتباعهم»‪ .‬وهذا يؤكد الفرق بني‬
‫رأي الزيدية ورأي اإلمامية واجلارودية‪.‬‬
‫* وذكر القاضي حيىي بن احلسن القرشي يف (املنهاج) أن القول بتنزيه اخللفاء‬
‫رضي هللا عنهم والثناء عليهم والرتضية هو املشهور عن اإلمام املهدي لدين هللا‬
‫علي بن حممد‪ ،‬قدس هللا روحه‪.‬‬
‫* وقال اإلمام املهدي‪« :‬وهو (= املواالة والرتضية) ما عرفناه يقيناً من متأخري‬
‫أئمتنا كاملؤيد باهلل حيىي بن حزة‪ ،‬ووالدنا اإلمام املهدي لدين هللا علي بن حممد‪،‬‬
‫وولده الناصر حممد بن علي»‪.‬‬
‫وهذه رواية اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى للرتضية عمن عرف من أئمة‬
‫عصرة وكفى بروايته‪.‬‬
‫القاض ي يحيى بن الحسن القرش ي (‪780‬هـ)‬
‫خصص القاضي العـالَّمة حيىي بن احلسن القرشي فصالً كبرياً من كتابه‬
‫الصحابة والدفاع عنهم‪ ،‬خصوصاً أبا بـكر وعمر‬
‫(املنهاج) للكالم على أحوال َّ‬
‫وعثمان‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪218‬‬

‫وقال يف أول ذلك الفصل‪« :‬اعلم أن يف من يدعي حب أهل البيت عليهم‬


‫الصحابة رضي هللا عنهم خطراً عظيماً‪ ،‬وضالالً‬ ‫السالم قوماً يكنون يف حق َّ‬
‫لعل املزري عليهم لو نظر يف حال نفسه‬
‫بعيداً‪ ،‬فتارة يكفرون‪ ،‬وتارة يفسقون‪ ،‬و َّ‬
‫بعني اإلنصاف لوجدها ال تساوي أثر نعاهلم‪ ،‬ولرأى فيها قصوراً عن مراتبهم يف‬
‫العلم والعمل‪ ،‬وكيف وقد أثىن هللا عليهم ورسوله‪ ،‬وبشرهم باجلنة مع ما هلم من‬
‫السابقة يف اإلسالم‪ ،‬واجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬والصرب على الشدائد‪ ،‬وإحياء معامل‬
‫الدين»‪ .‬واستطرد يف ذكر األدلة على مكانة اخللفاء‪ ،‬وأجاد يف دفاع الشبهات‬
‫عنهم‪ ،‬مجلة وتفصيالً‪.‬‬

‫اإلمام الناصرمحمد بن علي بن محمد (‪793‬هـ)‬


‫* ذكر القاضي حيىي بن احلسن القرشي أن إحسان الظن باملشايخ هو املعروف‬
‫عن اإلمام الناصر حممد بن علي بن حممد‪ ،‬وقال‪« :‬هو ما سعناه من لسان إمام‬
‫وحجة دهرنا اإلمام الناصر لدين هللا أمري املؤمنني حممد بن أمري املؤمنني‬
‫زماننا َّ‬
‫عمر هللا أركان اإلسالم بطول عمره»‪.‬‬
‫* وتقدم عن اإلمام املهدي أحد بن حيىي‪ :‬أن املواالة والرتضية «هو ما عرفناه‬
‫يقيناً من متأخري أئمتنا كاملؤيد باهلل حيىي بن حزة‪ ،‬ووالدنا اإلمام املهدي لدين‬
‫هللا علي بن حممد وولده الناصر حممد بن علي»‪.‬‬
‫* وحكى اهلادي بن إبراهيم الوزير عن اإلمام الناصر أنه سئل عن املتقدمني‬
‫الزيدية القول بالتخطئة‬
‫ألمري املؤمنني وسائر من خالفه؟ فأجاب‪« :‬مذهب أئمة َّ‬
‫ملن تقدم أمري املؤمنني‪ ،‬وهؤالء فرقتان‪ :‬فرقة تقول باحتمال اخلطأ‪ ،‬ويتوقفون يف‬
‫بأن خطأهم مغتفر يف جنب مناقبهم وأعماهلم‬ ‫أمرهم‪ ،‬وفرقة يتولوهنم ويقولون َّ‬
‫وجهادهم وصالحهم‪.‬‬
‫‪219‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫مث جزم قائالً‪ :‬وهذا القول الثاين هو الذي نراه؛ إ ْذ هم وجوه اإلسالم وبدور‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬وإن أخطأوا بالتقدم‬‫الظالم»‪ .‬وأضاف‪ :‬أن بعض « َّ‬
‫على أمري املؤمنني عليه السالم فخطؤهم ُمكفَّر؛ لسوابقهم اجلميلة‪ ،‬وقد تظاهرت‬
‫األخبار بأهنم من أهل اجلنَّـة فال جرم أن نقطع بصالحهم وجناهتم»‪.‬‬
‫وذكر اإلمام حممد بن إبراهيم الوزير أن اإلمام الناصر «ممن بالغوا يف الثناء‬
‫الرتحم عليهم‪،‬‬
‫على م ْن تقدَّم اإلمام علي‪ ،‬وأظهروا مواالهتم‪ ،‬والرتضية عنهم‪ ،‬و ُّ‬
‫ورؤيته خبطه املعروف ‪-‬‬ ‫أقرب من ص َّح لنا ذلك عنه ‪ِ ِ -‬‬ ‫وِمن ِ‬
‫بالنقل املتواتر‪ُ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫بن املهدي لدين هللا علي بن حممد بن‬ ‫الناصر لدين هللا ُحم َّم ُد ُ‬
‫ُ‬ ‫موالنا أمريُ املؤمنني‬
‫علي عليهم السالم»‪.‬‬

‫القـرن التـاسع‬
‫سلطان العلماء عبد هللا َّ‬
‫الد َّواري (‪800‬هـ)‬
‫* قال شيخ األئمة عبد هللا بن احلسن الدواري املعروف بسلطان العلماء يف‬
‫الزيدية على التخطئة من غري ذم وال فسق‪،‬‬ ‫كتاب (الديباج)‪« :‬واجلمهور من َّ‬
‫وهذا هو رأي فضالئهم وأهل التورع منهم‪ ،‬وسلكوا فيمن تقدم أمري املؤمنني ما‬
‫سلكه‪ ،‬وهنجوا هنج فضالء أوالده»‪.‬‬
‫* وعندما ملح القاضي حييي بن احلسن القرشي أن الشيخ الدواري ينال ممن‬
‫تقدم علياً تصدر اإلمام عز الدين مدافعاً عنه‪ ،‬فقال‪« :‬وقفنا على ما يقضي من‬
‫حال القاضي املذكور خبالف ذلك‪ ،‬وهو الرتضية عنهم‪ ،‬وشاهدنا ذلك يف بعض‬
‫مصنفاته خبط يده»‪ .‬وكفى برواية اإلمام عز الدين فهو من أعرف الناس به‪.‬‬
‫* ويف (تعليقه على الشرح) ذكر أن القول بتفسيق املتقدمني هو رأي بعض‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪220‬‬

‫املنتسبني إىل مدرسة أهل البيت مث قال‪« :‬وينبغي تأويل هذه الرواية ملن قال‬
‫بذلك من سادات أهل البيت‪ ،‬وصاحلي املسلمني؛ ألن هذه مـزلة قـدم نعوذ باهلل‬
‫منها»‪.‬‬
‫علي بن محمد النجراني الصعدي (حوالي‪810 :‬هـ)‬
‫ومل يتوقف أح ٌد من أفاضل أهل البيت يف واليتهم والرضا عنهم قبل القاسم‬
‫بن إبراهيم الرسي‪ ،‬فإنه ُسئل عنهم‪ ،‬فقال‪« :‬لنا أماً صديقة ماتت وهي غاضبة‬
‫عليهم‪ ،‬وحنن غاضبون لغضبها»‪ .‬فاهلل أعلم أتصح هذه الرواية عنه أم ال‪.‬‬
‫وقد جتاسر قوم من الشيعة على سبهم والتربؤ منهم ظلماً وعدواناً‪ ،‬كأهنم مل‬
‫ات بِغ ِْري ما ا ْكتسبُوا فـق ِد‬
‫يسمعوا قوله تعاىل‪﴿ :‬والَّ ِذين يـ ْؤذُون الـم ْؤِمنِني والـم ْؤِمن ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫احتملُوا بـُ ْهتاناً وإِْمثاً ُّمبِيناً﴾‪ .‬واسرتسل يف االستدالل على النهي من سبهم‪.‬‬ ‫ْ‬
‫قال بعد ذكر ما شجر بن الصحابة يف شأن اخلالفة‪« :‬ولعمري إن حبهم‬
‫آية اإلميان وبغضهم آية النفاق‪ ،‬إال من خرج على علي عليه السالم بعد البيعة‬
‫ومل يتب‪ ،‬فإنه جيوز سبه والرباءة منــه ملعاندته إمام احلق؛ مثل‪ :‬معاوية وعمرو بن‬
‫العاص‪.‬‬
‫صارم الدين الهادي بن إبراهيم الوزير(‪822‬هـ)‬
‫الصحابة بكالم شديد وبعد رسوخ‬
‫كان يف أول حياته قد أجاب يف مسألة َّ‬
‫قدمه يف العلم وجتاوزه مرحلة التقليد ‪ ،‬وبني ما ترجح له يف أكثر من موضع شعرا‬
‫ونثراً‪.‬‬
‫فذكر يف كتابه (السالسل الذهبية) أنه سئل عن رجل يقول بصحة إمامة أيب‬
‫بـكر وعمر وعثمان رضي هللا عنهم‪ ،‬ويف من يقول بإمامة علي رضي هللا عنه‬
‫‪221‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫وخيطئ املذكورين‪ ،‬فأجاب‪« :‬كنت قد أجبت عليه جواباً طويالً‪ ،‬وفيه قعقعة‬
‫الصحابة‪ ،‬وأنا ممن ال يرى القعقعة عليهم‪ ،‬بل أنا ممن يتوالهم ويذهب إىل‬
‫على َّ‬
‫الرتضية عليهم‪ ،‬والقول فيهم مبجرد اخلطأ‪ ،‬واملعتربون من أهل البيت حيومون‬
‫حول احلمى ومل يقعوا فيه‪ ،‬فاألمجل حتسني الظن وإتباع أمري املؤمنني يف أفعاله‬
‫وأقواله‪ ،‬وهو صاحب احلق‪ ،‬فلو أهلكهم اتبعناه»‪.‬‬
‫وذكر حيىي بن احلسني‪ ،‬يف ترمجته من (املستطاب) أن «من مصنفاته يف أصول‬
‫الدين (كفاية القانع يف معرفة الصانع) صرح فيها بالرتضية على املشايخ‪ ،‬ورجع‬
‫فيه ويف غريه عما يف (إزهاق التمويه)‪ ،‬وقال يف ذلك أبياتاً أوهلا قوله‪:‬‬
‫مذهب احلق وسته‬ ‫م ـ ـ ـ ـ ـ ــذهيب أن علياً‬
‫ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر والدر وسته‬ ‫ونظامي فيه باجلو‬
‫كان يل فيهم أم ـتُّه‬ ‫ـاد غريُ هــذا‬
‫واعتقـ ٌ‬
‫* وقال يف منظومة (اخلالصة) بعد ذكر ما وقع من نزاع على اخلالفة بعد موت الرسول‪:‬‬
‫وموعدهم للحكم يف موقف احلش ِر‬ ‫إىل احلاكم الديان ميضـ ـ ـ ــون عن يد‬
‫من السـ ـ ـ ـ ــب رأياً إن ذاك من ا ْهلُ ْج ِر‬ ‫ولست أرى التصويب رأياً وال أرى‬
‫أفــاض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل قــد زلوا وربــك ذو ُغ ْف ِر‬ ‫ولـ ـك ــن أدي ــن هللا فـ ـيـ ـه ــم ب ـ ـ ــأهن ــم‬
‫على فــدك قبض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً بنوع من القه ِر‬ ‫وانقم تأخري الوصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي وقبض ـ ـ ـ ـ ـ ــهم‬
‫* وقال يف شرح هذه األبيات يف كتاب (تلقيح األلباب)‪« :‬أراد بأنه ال يرى‬
‫تقدمهم على أمري املؤمنني صواباً‪ ،‬بل حيكم عليهم فيه باخلطأ‪ ،‬وال يرى رأي أهل‬
‫السب هلم واألذية‪ ،‬بل يرى ذلك من ا ْهلُ ْجر‪ ،‬وهو الكالم القبيح الذي ال يليق‬
‫بذوي اإلميان‪ .‬قال موالنا‪ :‬وأنا أبرأ إىل هللا من ذلك‪ ،‬وأكثر ما أعتقد فيهم أهنم‬
‫أخطأوا يف تقدمهم على أمري املؤمنني‪ .‬وقد أفصح هبذا املعىن قوله يف البيت‪:‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪222‬‬

‫ولكن أدين هللا فيهم بأهنم أفاضل قد زلوا وربك ذو ُغف ِر‬
‫وهذه هي العقيدة املرضية‪ ،‬وأنا أذهب إىل أهنا – يعين التقدم على اإلمام‬
‫علي ‪ -‬معصية أرجو أهنا ُمكفَّرة‪ ،‬يف جنب ما كان هلم من السوابق العظيمة‪،‬‬
‫واآلثار اجلسيمة‪ ،‬اليت نطق القرآن بفضلها‪ ،‬وتواترت األخبار النبوية بعلو حملها‪،‬‬
‫الصحابة وجتويز أن تكون‬ ‫الزيدية التوقف يف َّ‬
‫وإن كان مذهب اجلماهري من َّ‬
‫معصيتهم كبرية أو صغرية‪ ،‬والتوقف أحوط ملراد السالمة‪ ،‬وال بأس بالرتضية‬
‫استناداً إىل ما ورد هلم يف القرآن وصح من األخبار املروية فيهم بأوضح بيان‪،‬‬
‫وأن معصيتهم صغرية بالنظر إىل ما كان لديهم من األعمال الصاحلة‪ ،‬يف تأييد‬
‫اإلسالم وصحبة الرسول»‪ .‬وأضاف‪« :‬أهنم أخطأوا بالتقدم على أمري املؤمنني‬
‫عليه السالم ولكن لسوابقهم اجلميلة ومآثرهم الصاحلة وما كان هلم من مودة‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم والقدم الراسخة يف اإلسالم مل نقطع على هذه‬
‫املعصية بأهنا كبرية وربك الغفور ذو الرحة»‪.‬‬
‫* ويف (كفاية القانع يف معرفة الصانع) انتقد املتطاولني بالسب فقال‪« :‬أما‬
‫من عدم البصرية‪ ،‬وأقدم على سب القوم‪ ،‬فقد طاح وضل وأقدم من احلظر على‬
‫أمر جلل‪ ،‬واقتحم بنفسه يف مهواة اخلطل‪ ،‬وكان له بنفسه ُشغل شاغل»‪.‬‬
‫* ومن مؤلفاته كتاب (منهاج اخلريات إىل اقتطاف نفائس الثمرات) ذكر‬
‫السيد حيىي بن احلسني بن القاسم أنه عبارة عن منظومة‪ ،‬جعلها فصوالًوخصص‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم»‪.‬‬
‫منها فصالً يف النهي عن سب َّ‬
‫* ويف (هناية التنويه) وهو من أشد كتبه حال على الصحابة قال‪« :‬وإمنا‬
‫يتوقف يف الصحابة لسوابقهم اجلميلة يف اإلسالم‪ ،‬وجهادهم أعداء العزيز العالم‪،‬‬
‫وحمبتهم الرسول عليه أفضل الصالة والسالم‪ ،‬ووقوع تلك اهلفوة اليت ُجهل‬
‫لفضلهم قدرها‪ ،‬ومل يـُ ْعلم على التحقيق أمرها»‪.‬‬
‫‪223‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫القاض ي يوسف بن أحمد الثالئي (‪832‬هـ)‬


‫الزيدية يف وقته القاضي يوسف بن أحد بن عثمان الثالئي يف‬ ‫* قال شيخ َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ح ْ َ حَ ح َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كٌ‬
‫نيٌٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌ‬
‫نٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬ ‫تفسري قول هللا تعاىل يف (الثمرات)‪﴿ :‬لو ٌدٌ َر ِ ٌَ‬
‫ضٌاهللٌع ٌِ‬
‫َ ً‬ ‫َ َ َ َْ ْ ََ َ َ ح ْ َ ْ ً‬ ‫َّ‬ ‫ْ ََْ َ َ‬ ‫حح‬ ‫َّ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َْ َ‬
‫حـاٌق ٌِريقا﴾ [الفتح‪/‬‬
‫ِينـ ٌةٌعلي ِه ٌمٌوأثابه ٌمٌفت ٌ‬
‫فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأ ٌنـز ٌلٌالسك ٌ‬
‫جـر ٌةٌِفعل ٌِمٌماٌ ِ ٌ‬
‫تٌالش ٌ‬
‫َت ٌ‬
‫‪« :]18‬ومن مثرات اآلية احلكـم بعـدالة من بايع هذه البيعة؛ ألنه تعاىل ساهم‬
‫مؤمنني وأخرب بالرضا عنهم‪ ،‬وأخرب حبسن سرائرهم‪ ،‬ومدحهم بإنزال السكينة‬
‫عليهم وهي طمأنينة قلوهبم واللطف املقوي لقلوهبم‪ ،‬وهــذا يلزم منه وجوب‬
‫مواالهتم واحملبة هلم‪ ،‬فتكون الرتضيـة أرجح من التوقف‪ ،‬ويلـزم حسن الظن هبم»‪.‬‬
‫ح ْ‬ ‫ح ْ َْح‬ ‫َ ً َ َ ً َ ح َْ‬ ‫ْ‬
‫االٌ َوجاهِدواٌبِأم َوال ِك ٌمٌ ٌَوأنف ِسك ٌمٌ‬
‫* وعند تفسري قوله تعاىل‪﴿ :‬ان ِف حرواٌخِفافاٌوث ٌِو ٌ‬
‫َ ح ْ َ ْ َ ح ْ ْ حْح َْ َح َ‬ ‫َ‬
‫ون﴾[التوبة‪ ]117/‬قال‪« :‬ومثرة هذه اآلية‬ ‫نٌكنت ٌْمٌتعلم ٌ‬ ‫يٌلك ٌمٌإ ِ ٌ‬
‫يلٌاهللٌذل ِك ٌمٌخ ٌ‬
‫فٌسبِ ٌِ‬
‫ٌِ‬
‫الكرمية بيان فضل املهاجرين واألنصار‪ ،‬قال احلاكـم‪ :‬وعلى فضل عثمان‬
‫خصوصاً؛ ألنه جهز جيش العسرة مبال مل يبلغ غريه مبلغه‪ ،‬وقد مجع هللا بني‬
‫ذكر النيب وبني ذكرهم‪ ،‬ووصفهم بأتباع النيب‪ ،‬وخربه تعاىل صدق‪ ،‬فوجب القطع‬
‫على صفاء سريرهتم ووجوب مواالهتم‪ .‬مت كالم احلاكم‪ ،‬فتكون الرتضية على من‬
‫كان من هؤالء أحوط من التوقف لئال خنل باملواالة»‪.‬‬
‫الصحابة؛ دخول يف‬
‫* وأكد يف (االستبصار)‪« :‬إن اإلقدام على تفسيق َّ‬
‫اجلهالة‪ ،‬وحق‪ ،‬ونقصان يف الدين وجرأة على هللا»‪.‬‬
‫اإلمام املهدي أحمد بن يحيى املرتض ى (‪840‬هـ)‬
‫كان اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى من أبرز املدافعني عن اخللفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬والداعني إىل حتسني الظن هبم والرتضية عنهم؛ بناء على رؤية ودراسة‬
‫لألدلة‪ .‬بسط الكالم عنها يف سائر كتبه‪ ،‬ومما جاء عنه‪:‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪224‬‬

‫الزيدية‪ :‬وخطأ املتقدمني على علي يف‬ ‫* ويف (القالئد)‪« :‬مسألة‪ :‬احملققون من َّ‬
‫اخلالفة قطعي؛ ملخالفتهم القطعي‪ ،‬وال يقطع بفسقهم؛ إذ مل يفعلوه مترداً بل لشبهة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فال متتنع الرتضية عليهم لتقدم القطع بإمياهنم فال يبطل بالشك فيه»‪.‬‬
‫* ويف (الدرر الفرائد شرح القالئد) بسط اإلمام املهدي يف االحتجاج على‬
‫ترجيح الرتضية على التوقف‪ ،‬مث قال‪« :‬فهو عقيدتنا وعليه اعتمادنا ملا اقتضته‬
‫الرباهني القاطعة اليت قدمنا ال ألجل تقليد آبائنا‪ ،‬وإن كان الواجب االهتداء‬
‫هبديهم؛ إذ هم سفينة النجاة من العذاب»‪.‬‬
‫* وقال يف (البحر الزخار)‪ ،‬يف كتاب الشهادات عند قوله‪ :‬فصل واخلالف‬
‫ضروب‪ ،‬ما لفظه‪« :‬وضرب يقتضي الفسق ال غري‪ ،‬كخالف اخلوارج الذين‬ ‫ٌ‬
‫قطعا»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يسبون علياً‪ ،‬والروافض الذين يسبون الشيخني جلُرأهتم على ما ُعلم حترميه ً‬
‫* واحتج يف (الغايات) بأن «املخالف ال خيلو إما أن ينكر ما رويناه من‬
‫الثناء عليهم‪ ،‬فذلك وإن أمكنه يف األحاديث األحادية ال ميكنه يف املتواترات‪،‬‬
‫وإال لزم كفره‪ ،‬فال سبيل له إىل إنكار ورود الثناء عليهم‪ ،‬ودخوهلم يف العموميات‬
‫املذكورة‪ .‬وإما أن يعرتف بوروده‪ ،‬ولكن يدعى أنه مشروط باستمرارهم على تلك‬
‫احلال‪ .‬فحينئذ نقول للمتوقفني‪ :‬أأنتم أعلم أم هللا ورسوله؟ فإن قد وقع الثناء‬
‫املشروط‪ ،‬والشرط مضمر غري مظهر يف كالم هللا ورسوله‪ ،‬فهال استحسنتم ما‬
‫الصحابة والدعاء هلم‬ ‫استحسن هللا ورسوله‪ ،‬وتأسيتم برسول هللا يف الثناء على َّ‬
‫ْ َ َ َ َ‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫ََ ْ َ َ َ ح‬
‫س ٌنـةٌٌ‬
‫ولٌاهللٌأسوةٌٌح ٌ‬ ‫نٌلك ٌْمٌ ِ ٌ‬
‫فٌ َرس ٌِ‬ ‫وإضمار الشرط‪ ،‬وقد قال هللا تعاىل‪﴿ :‬لو ٌدٌاك ٌ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل َِم ٌْنٌاك ٌَنٌيَ ْر حٌجـوٌاهللٌ َواِلَ ْو ٌَمٌاْلخ ٌَِرٌ َوذك ٌَرٌاهللٌكثِ ًيا﴾ [األحزاب‪.»]21/‬‬
‫الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير(‪ 840‬هـ)‬
‫كالمه يف كتبه مشهور معلوم‪ ،‬وترضيته والدفاع عنهم يف كتبه ال خيفى‪ ،‬وقد‬
‫أفرد يف كتابه الشهري (العواصم والقواصم) ما يقرب من جملد يف الدفاع عن‬
‫‪225‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬منها‪:‬‬


‫الصحابة مجلة وتفصيالً‪ ،‬وله أشعار يف مدح َّ‬
‫َّ‬
‫حــب الرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول وإين منــه ذو رحم‬ ‫هذا ويل مؤنس زاد الرجاء به‬
‫أهل الكساء وحب الصحب كلهم‬ ‫وحب آل رســول هللا الســيما‬
‫ومن قوله يف ذلك‪« :‬دلت النصوص املتواترة على‪ :‬وجوب حب أصحاب‬
‫رسول هللا وآله ورضي هللا عنهم وأرضاهم‪ ،‬وتعظيمهم وتكرميهم واحرتامهم‬
‫وتوقريهم‪ ،‬ورفع منزلتهم‪ ،‬واالحتجاج بإمجاعهم‪ ،‬واألستنان بآثارهم‪ ،‬واعتقاد ما‬
‫نطق به القرآن الكرمي والذكر احلكيم من أهنم خري أمة أخرجت للناس‪ ،‬وفيهم‬
‫حََ‬ ‫َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ ْ ح َّ‬ ‫ح َ َّ َ ح ح‬
‫َحـا حٌٌُ‬
‫ار ٌر ٌ‬
‫َع ٌالك ٌفـ ٌِ‬
‫اُ ٌ ٌ‬
‫شـ د ٌ‬
‫ِين ٌمع ٌه ٌأ ٌِ‬
‫ول ٌاهلل ٌواَّل ٌ‬ ‫يقول هللا عز وجل‪ُ﴿ :‬م ٌمـدٌ ٌر ٌ‬
‫سـ ٌ‬
‫ْ ْ ََ‬ ‫ح‬ ‫َ حْ‬ ‫ْ ً‬ ‫َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً‬
‫ِنٌٌأ ٌث ٌِرٌ‬ ‫لٌم ٌَ‬
‫ِنٌاهللٌ َو ِرض َواناٌ ِسيماه ٌمٌ ِ ٌ‬
‫فٌ حوجوه ِِه ٌمٌم ٌ‬ ‫ونٌفض ٌ‬‫بينه ٌمٌتراه ٌمٌركعاٌسجداٌيبتغ ٌ‬
‫ُّ‬
‫الس حجو ٌِد﴾ [الفتح‪.»]29 :‬‬
‫وذكره احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني ضمن علماء الزيدية القائلني بالرتضية‪.‬‬
‫َّ‬
‫القاض ي العـالمة عبد هللا النجري (‪877‬هـ)‬
‫استدل العـالَّمة عبد هللا بن حممد النجري على حتسني الظن باخللفاء بأن‬
‫«اإلميان املقطـوع به ال يرتفع إال بالفسق املقطوع به‪ ،‬وخطؤهم مشكوك يف كونه‬
‫فسقاً‪ ،‬فال يبطل ذلك اإلميان املقطـوع به بالشـك فيه‪ ،‬وإال الرتفـع اليقني بالشك‪،‬‬
‫وهو معلوم البطالن‪ ،‬ولكان يلزم أن متتنع الرتضية عن كل من مل تُـ ْعلم عصمتـه‬
‫من العلماء والزهاد‪ ،‬وغريهم؛ إذ جيوز يف كل منهم أن يكون قد فعل كبرية مبطلـة‬
‫إلميانه»‪.‬‬
‫الزيدية‪ :‬منع الرتضية عن املتقدمني على علي عليه السالم‪،‬‬
‫ونسب إىل «قدماء َّ‬
‫وبعضهم توقف‪ ،‬ومل يقطع جبواز الرتضية عنهم إال املتأخرون‪ ،‬وهو املوافق‬
‫للدليل»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪226‬‬

‫ويف روايته ملنع الرتضية عن القدماء نظر؛ ملا قدمنا من روايات صرحية عنهم‪،‬‬
‫وقد تقدم عن األئمة قبله رواية الرتضية عن القدماء‪.‬‬
‫وقد سبقه العالمة النجراين فقال‪« :‬ومل يتوقف أح ٌد من أفاضل أهل البيت يف‬
‫واليتهم والرضا عنهم قبل القاسم بن إبراهيم الرسي‪ ،‬فإنه ُسئل عنهم‪ ،‬فقال‪" :‬لنا‬
‫أماً صديقة ماتت وهي غاضبة عليهم‪ ،‬وحنن غاضبون لغضبها‪ ،‬فاهلل أعلم أتصح‬
‫هذه الرواية عنه أم ال‪ .‬ولعل القاضي النجري أراد بالقدماء اإلمامني القاسم‬
‫الرسي وحفيده واهلادي‪.‬‬
‫القـرن العـاشر‬
‫اإلمام عزالدين بن الحسن (‪900‬هـ)‬
‫موقف اإلمام عز الدين معروف مشهور من الثناء على املشايخ‪ ،‬وترضيته‬
‫عنهم ثابتة مشهورة عنه‪ ،‬ومنها ما هو خبط يده‪ ،‬وأيد يف (املعراج) ما ذكر‬
‫القاضي القرشي يف (املنهاج) وقال‪ :‬قد أفاد وأجاد ووىف حبق الصحابة األجماد‪.‬‬
‫* وهو القائل‪« :‬أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق ‪-‬‬
‫يعين ملن نفى إمامة اإلمام ‪ -‬وهلذا نُِقل عنهم حسن الثناء على املشايخ املتقدمني‬
‫على أمري املؤمنني علي عليه السالم‪ ،‬والرتضية عنهم والتعظيم العظيم هلم»‪.‬‬
‫وقال يف تعليق له على كالم للعالمة حيىي بن احلسن القرشي يف (املنهاج)‪:‬‬
‫«مل يعتد املصنف مبا يذكر يف تكفريهم رضي هللا عنهم لتناهيه يف الضعف‬
‫وإفراطه يف ال ُفحش‪ ،‬وكيف يرمي بالكفر أرسخ الناس إمياناً وأشدهم فيه أركاناً»‪.‬‬
‫السيد صارم الدين الوزير(‪914‬هـ)‬
‫* قال يف (الفصول اللؤلؤية)‪« :‬أئمتنا واملعتزلة وهم عدول إال من ظهر فسقه‬
‫كمن قاتل الوصي عليه السالم ومل يتب‪ ،‬مث قال‪ :‬وقد تاب الناكثون على األصح‬
‫‪227‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫ال القاسطون‪ ،‬وبعض املارقني؛ فأما املتوقفون فال يفسقون على األصح‪ ،‬وإن‬
‫قُطع خبطئهم»‪.‬‬
‫* وهو صاحب القصيدة الشهرية املعروفة بـ(البسامة) اليت ضمنها أهم احملطات‬
‫يف تاريخ أئمة الزيدية‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أو قف عن السب إما كنت ذا حذ ِر‬ ‫ض ـ ـ ـى أبو حسـ ـ ــن‬
‫فرض عنهم كما ر َّ‬ ‫ِ‬
‫وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابق ـ ــات وإن ج ـ ــاروا فال جت ِر‬ ‫فـلـلـمش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايـخ حـق لـيـس جنـهـل ـ ـ ــه‬
‫وآثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروه على اآلبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء واألس ِر‬ ‫قاموا مع املصطفى املختار واجتهدوا‬
‫ثقــل املتــاعــب والبــأسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء يف اهلج ِر‬ ‫وه ـ ـ ــاجــروا اهلـجــرة الـغـراء واحـتـمـلـوا‬
‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــؤتة وتبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوكاً مث ذا أم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــري‬ ‫وس ــل حنيناً وس ــل بدراً وس ــل أحداً‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫* وروى املقرائي أنه الذي سعى يف مجع الزيدية و َّأرخ إمجاعهم على منع سب َّ‬
‫الز َح ْيف (‪916‬هـ)‬ ‫املؤرخ محمد بن علي ُّ‬

‫خصص العالمة حممد بن علي الزحيف يف كتابه (مآثر األبرار) فصالً طويالً‬
‫الزيدية‪ ،‬ونقل فيه نصوصاً عن األئمة‪.‬‬
‫الصحابة عند َّ‬
‫ملكانة َّ‬
‫مث ذكر ما خلص إليه يف املسألة‪ ،‬فقال‪« :‬اعلم أن فضل املشايخ الثالثة ال‬
‫جيهله إال من أعمى اهلوى بصـره‪ ،‬وأضاع ‪ -‬يف عدم حل أعالم الدين على‬
‫التأويالت املناسبة لسوابقهم ‪ -‬عمره‪ ،‬وقد تقـدم طرف مما ذكـره ُسبَّاق أئمتنا يف‬
‫حقهم من التصريح بالرتضية‪ ،‬ولنا هبم أسوة حسنة إىل اخلري مقربة ومدنية؛‬
‫وكفاهم شرفاً ما ذكره السيد صارم الدين يف هـذه األبيات املفصحات بسوابقهم‬
‫اليت يستحقون هبا املثل األعلى‪ ،‬والفوز يف الدارين بالقـدح ال ُـمعلَّى»‪.‬‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم ما يوجب‬
‫وأضاف‪« :‬وال أنسب إىل أحد من كبار َّ‬
‫التفسيق واإلكفار‪ ،‬بل أسلك يف توليهم مسلك جل أهل البيت األطهار»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪228‬‬

‫القاض ي محمد بن أحمد مظفر(‪ 926‬هـ)‬


‫* قال القاضي حممد بن أحد بن حيىي مظفر يف (الرتمجان)‪« :‬اعلم أن فضل‬
‫املشايخ الثالثة ال جيهله إال من أعمى اهلوى بصريته‪ ،‬ولنا ممن سلف من أئمتنا‬
‫صلوات هللا عليهم‪ ،‬منذ علي عليه السالم إىل اآلن أسوة‪ ،‬وأشرف قدوة‪ ،‬فلم‬
‫نسمع عن أحد منهم السب ألي الثالثة‪ ،‬بل هم بني ُمرض ومتوقـف‪ .‬وقد أجاد‬
‫موالنا السيد اإلمام رضي هللا عنه ‪ -‬يعين صارم الـدين الوزير ‪ -‬يف قوله‪:‬‬
‫أو قف عن السب إما كنت ذا حذر‬ ‫فرض عنهم كما رضى أبو حسن‬
‫وقد أشار موالنا مبا تضمن أبلغ الثناء عليهم بعداد مواطن اجلهاد»‪.‬‬
‫* وقال يف كتاب (البستان) ‪ -‬عند شرح قول اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬وال‬
‫الصحابة» ‪ -‬ما لفظه‪« :‬ألنه اعتقد ذلك لشبهة طرأت‬ ‫يصلى خلف من يفسق َّ‬
‫عليه‪ ،‬وهو تقدمهم على أمري املؤمنني فال تصح الصالة خلف من سبهم؛ ألنه‬
‫جرأة على هللا واعتداء عليهم‪ ،‬مع القطع بتقدم إمياهنم واختصاصهم بالصحبة‬
‫لرسـول هللا‪ ،‬والفضائل اجلمة وكثرة الثناء عليهم من هللا سبحانـه ومن رسوله‪،‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬ال يؤمنكم ذو جرأة يف دينه» وأي جرأة أعظم‬
‫من اعتقاد هالك من له الفضل والسبق إىل اإلسالم واهلجرة وإحراز الفضل‬
‫واملراتب العلية واإلنفاق يف اجلهاد وبذل النفوس واألموال هلل ولرسوله‪ .‬وقد قال‬
‫ُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم‬‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬لو أنفق أحدكم مثل أ ُ‬
‫وال نصيفه» فنعوذ باهلل من اجلهل واخلذالن»‪.‬‬
‫اإلمام يحيى شرف الدين (‪965‬هـ)‬
‫* ذكر اإلمام حيىي شرف الدين يف منظومته (القصص احلق يف سرية خري اخللق)‬
‫مجلة من أصحاب رسول هللا‪ ،‬وبعد أن حتدث عن اإلمام علي استطرد قائالً‪:‬‬
‫‪229‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫وللص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ــاب ــة من نب ــل ي ــداني ــه‬ ‫وكم للقرابة من فضل ومن شرف‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــطهر طنب كما طابت ذراريه‬ ‫كفاطم وس ـ ــليليها كذاك بنات الـ‬
‫فيهن آيات تش ـ ـ ـ ـري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــف وتنزيه‬ ‫والطيبات نساء الطهر من وردت‬
‫واب ـن ـي ـه ـم ـ ـ ــا وأيب ب ـكــر وث ـ ـ ــان ـي ـ ـ ــه‬ ‫وحـ ــزة مث ع ـ ـب ـ ـ ــاس وج ـ ـع ـ ـفـ ــرهـ ــم‬
‫وطـ ـلـ ـح ـ ـ ــة واب ــن عـ ـوام حـ ـواري ـ ـ ــه‬ ‫ومثل عثمان مع س ــعد س ــعيدهم‬
‫ونس ــل عوف عديد العش ــر يوفيه‬ ‫وكابن جراحهم مجت فض ـ ـ ـ ــائلهم‬
‫واستطرد يف ذكر آخرين من الصحابة إىل أن قال‪:‬‬
‫يف الذكر يف غري فصل من مثانيه‬ ‫وكم ثنـ ــائي ملن جـ ــاء الثنـ ــاء هلم‬
‫ح ـ ـتـ ــم حم ـ ـب ـ ـت ـ ـ ــه ح ـ ـتـ ــم ت ـ ـول ـ ـي ـ ـ ــه‬ ‫ـدل رض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ثق ـةٌ‬
‫وكلهم عنــدنــا عـ ٌ‬
‫ـداث سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوء ومــاتوا يف أثــانيــه‬ ‫أحـ ُ‬ ‫هلم‬
‫إال أنـ ـ ــاس جرى من بعـ ـ ــده ُ‬
‫أمر اإلهلي والقس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــط املنافيه‬ ‫من ردة ومروق واخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروج عن الـ‬
‫* وعدَّه حيىي بن احلسني بن القاسم يف (اإليضاح)‪ ،‬واجلنـداري يف (سط‬
‫اجلمان) من القائلني بالرتضية على اخللفاء املتقدمني على اإلمام علي‪.‬‬
‫* ولإلمام حيىي شرف الدين كالم يف شرح مقدمة (األمثار) يفيد أنه ممن حيسن الظن‬
‫باخللفاء وال يتحامل عليهم‪ ،‬وقد تقدم نقل كالمه يف حكاية إمجاع أهل البيت‪.‬‬
‫َّ‬
‫العـالمة يحيى بن محمد املقرائي (‪990‬هـ)‬
‫* قال العـالَّمة حيىي بن حممد حيد املقرائي يف كتاب (نزهة األخبار)‪« :‬ينبغي‬
‫أن ال خيطأ أبو بـكر وعمر وعثمان ومن قدمهم على علي؛ إذ أقل األحوال‬
‫استواء األنظار واالجتهاد‪ ،‬وأن كالً طلب احلق»‪.‬‬
‫الصحابة‪ ،‬جاء يف أوهلا‪« :‬سألين سائل هل أحد من‬
‫وله رسالة يف الدفاع عن َّ‬
‫أهل البيت يقول بالسب يف املشايخ رضي هللا عنهم‪ ،‬أو ما يقوم مقامه؟ وذلك‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪230‬‬

‫ملا وِهم عليه من أعيان أصحابنا من وِهم‪ ،‬فأجبت بأنه مل يوجد ذلك بل حَّرجوا‬
‫َّ‬
‫يف حترمي ذلك‪ ،‬والكف عما هنالك»‪.‬‬
‫مث أخذ يف نقل كالم أئمة وعلماء الزيدية وبيان مواقفهم‪ ،‬وتوسـع يف ذلك‪،‬‬
‫وناقش بعض الروايات اليت يوردها اجلارودية عن بعض األئمة‪.‬‬

‫القرن الحادي عشر‬


‫اإلمام القاسم بن محمد (‪1029‬هـ)‬
‫يعترب من أبرز أئمة الزيدية بعد األلف‪ ،‬وهو حمسوب على التيار املتشدد‬
‫داخل املدرسة الزيدية يف مسألة اإلمامة والصحابة‪ ،‬ومع ذلك فقد كان موقفه‬
‫من اخللفاء معتدالً‪ ،‬فيما اطلعت عليه ومن ذلك‪:‬‬
‫* قال يف كتاب (األساس)‪« :‬واحلق أهنم إن مل يعلموا استحقاقه دوهنم بعد‬
‫التحري فال إمث عليهم‪ ،‬وإن علموا فخطيئتهم كبرية‪ ،‬مث قال‪ :‬ولعل توقف كثري‬
‫من أئمتنا لعدم العلم بأهنم علموا أو جهلوا»‪ .‬فبىن على أن األمر حمتمل‪ ،‬وال‬
‫يعلم تعمدهم فيما أقدموا عليه‪ .‬مع أنه جاء يف بعض النقل عن (األساس) أن‬
‫اللفظ هكذا‪« :‬واحلق أهنم مل يعلموا ‪ »...‬من دون‪« :‬إن»‪.‬‬
‫* وقال حفيده احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم‪« :‬ولذلك قال اإلمام القاسم‬
‫الصحابة؛ اليت هي جواب ملن سأله فيها ما لفظه‪« :‬ومع قوة‬
‫يف رسالته املشهورة يف َّ‬
‫حتصل ظن فقط أن ذلك حصل منهم عمداً‪،‬‬ ‫هذا األصل ورجحانه على معارضه َّ‬
‫والظن ال يعمل به يف هذه املسألة وأشباهها؛ ألهنا من املسائل العلمية‪ ،‬فوجب‬
‫التوقف»‪ .‬انتهى حبروفه»‪.‬‬
‫* وروى حيىي بن احلسني أنه قال‪« :‬أخربين القاضي حممد بن أحد الشظيب‪،‬‬
‫قال‪ :‬سئل اإلمام القاسم بن حممد ‪ -‬وكنت حبضـرته ‪ :-‬يا موالنا إنكم تسبون‬
‫الصحابة‪ .‬فتغري وجه اإلمام القاسم‪ ،‬وقال‪ :‬كذبوا ال نسبهم أصالً»‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪231‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬
‫َّ‬
‫العـالمة إبراهيم بن يحيى السحولي (‪ 1060‬هـ)‬
‫قال العـالَّمة إبراهيم بن حيىي السحويل‪« :‬وال إشكال عند َّ‬
‫الزيدية أهنم قد‬
‫أخطأوا بالتقدم عليه‪ ،‬وإن كنا ال نعلم قدر اخلطأ‪ ،‬إال أنَّا من إمياهنم على يقني‪،‬‬
‫فال ننتقل منه إال بيقني»‪ .‬فإذا كان الزيدية على يقني من إمياهنم كما ذكر العالمة‬
‫السحويل‪ ،‬فوالؤهم واجب عليهم؛ ألن املؤمنني أولياء بعضهم بعضاً‪.‬‬
‫حسين بن يحيى بن حنش (‪1093‬هـ)‬
‫ذكر احلافظ حيىي بن احلسني أنه «كان حسن العقيدة منصفاً عارفاً مطلعاً‬
‫حسن االعتقاد يف الصحابة‪ ،‬مرضياً عليهم من غري تعرض إىل ما صار يقع من‬
‫اجلهال فيهم»‪.‬‬
‫السيد محمد بن عزالدين املفتي (‪ 1094‬هـ)‬
‫قال احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم‪ ،‬يف ترمجته يف (املستطاب)‪« :‬وله‬
‫الصحابة والرتضية على املشايخ الثالثة وحترمي‬
‫كتاب (اإلنصاف) يف الذب عن َّ‬
‫سبهم»‪ .‬ذكره زبارة يف (خالصة املتون)‪ .‬ووجدت كالمه يف (البدر الساري) مييل‬
‫إىل الوالء‪ ،‬ولعلنا نقف على كتابه املذكور ونُفيد منه أكثر‪.‬‬
‫اإلمام املتوكل على هللا إسماعيل بن القاسم (‪1087‬هـ)‬
‫الصحابة رضي هللا‬
‫ذكر املتوكل على هللا إساعيل بن القاسم «أنه جيب تويل َّ‬
‫الفساق‪ ،‬ويف احلديث‪ :‬أهنم ليسوا بأصحاب‬
‫عنهم‪ ،‬وأنه ليس منهم املنافقون وال َّ‬
‫ملا أحدثوه»‪.‬‬
‫وله موقف ميدح عليه‪ ،‬حني عزل واليه على صنعاء حيىي بن احلسني بن املؤيد‪،‬‬
‫بعد تطاوله على اخللفاء‪ .‬قال العـالَّمة األمري‪ :‬كان حيىي بن احلسني متبوعاً غرس‬
‫شجرة الرفض يف قلوب مجاعة من الصاحلني ممن أدركناهم‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪232‬‬

‫القاض ي أحمد بن صالح بن أبي الرجال (‪1092‬هـ)‬


‫* نقل كالم األئمة فيمن تقدم علياً يف اخلالفة‪ ،‬ورأى أهنم «متفقون على‬
‫التخطئة‪ ،‬سواء رضوا أو توقفوا أو سبوا‪ ،‬فإهنم قد صرحوا مجيعاً بالتخطئة‪ ،‬وهي‬
‫ال متنع الرتضية»‪.‬‬
‫مث قال‪« :‬والذي أراه لنفسي وملن يعنيـين شأنه‪ :‬أن نرتك السـب والتـربي؛ ألن‬
‫أمـري املؤمنني تركه‪ ،‬وسواء كان الوجه معروف أو ال‪ ،‬فإن الوجه مبعـىن احلكمة ال‬
‫يضر اجلهل به يف التأسي‪ ،‬مث إن الرتك للتربي ال خطر فيه إمجاعاً‪.‬‬
‫وأضاف‪ :‬ولعله يطول احلساب بني الشامت واملشتوم وإن كان حبق‪ ،‬فال يبعد‬
‫أن يسأل هللا عن ذلك‪ ،‬كما جاء يف السؤال عن احلالل يف املكاسب‪ ،‬فما‬
‫أحسن التخفيف يف ذلك احملل‪ ،‬فإن كالم املرء كله عليه‪ ،‬وعندي أن املولع‬
‫بالسب والشتم الذي قد أحكم النظر وساغ له اإلقدام؛ مشتغل مبا ال يعنيه‪،‬‬
‫فإنه ال خري يف كثري من جنواهم إال من أمر بصدقة أو معروف أو إصالح بني‬
‫الناس‪ ،‬وهذا ليس شيئاً من ذلك‪.‬‬
‫وختم كالمه بقوله‪ :‬وباهلل لو صح لنا عن أمري املؤمنني شيء من ذلك (=‬
‫الرباءة) ألوصينا به‪ ،‬وجلعلناه من أذكار الصباح واملساء؛ ألنه مع احلق واحلق‬
‫معه»‪.‬‬
‫* وذكر احلافظ حيىي بن احلسني أنه قال يف كتابه (أعالم املوايل)‪ :‬قوله صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم ألهل بدر «اعملوا ما شئتم فإين قد غفرت لكم»‪ ،‬أنه تكون كبائر‬
‫املعاصي يف حقهم صغائر‪ ،‬وال يعلم مقادير الثواب والعقاب إال هللا عز وجل‪.‬‬
‫وقد تضمنت كثري من كتبه ورسائله مسائل لطيفة حول موضوع الصحابة‪،‬‬
‫على الرغم من أنه عاش يف فرتة كان للجارودية فيه صولة‪.‬‬
‫‪233‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة‬

‫القـرن الثاني عشر‬


‫الحافظ املؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم (‪1100‬هـ)‪.‬‬
‫للعالمة حيىي بن احلسني بن القاسم بن حممد كتاب (اإليضاح ملا خفا من‬
‫االتفاق على تعظيم صحابة املصطفى)‪ ،‬ضمنه كثرياً من األحاديث يف فضل‬
‫الصحابة والنهي عن سبهم‪ ،‬وأورد فيه كثرياً من أقوال أئمة الزيدية يف تعظيم‬
‫ف‬‫الصحابة عموماً والشيخني خصوصاً‪ ،‬وأكثر من االحتجاج لذلك‪ ،‬ومل خي ِ‬ ‫َّ‬
‫امتعاضه ممن يتطاول على أحد منهم بالسب والرباءة‪ ،‬ورجح الرتضيــة عنهم‪،‬‬
‫واستدل لذلك‪.‬‬
‫املحقق صالح بن مهدي املقبلي (‪1108‬هـ)‪.‬‬
‫املشهور عن العـالَّمة املقبلي الثناء احلسن على اخللفاء الراشدين والرتضية‬
‫عنهم وإجالهلم‪ ،‬بل تصدى لكل من تطاول عليهم‪ ،‬ونتيجة لذلك أطال متأخرو‬
‫اجلارودية يف نقده وجترحيه بسبب آرائه‪ ،‬واهتموه بالنصب وحاشاه‪ ،‬ولكن‬
‫املتعصبني ال يستسيغون ساع أي رأي وسطي معتدل ال يقدس سوى احلقيقة‬
‫وال يتمسك بسواها‪.‬‬
‫الصحابة والقرابة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫وللعالمة املقبلي أبيات مقت فيها املفرق بني َّ‬
‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـحابة والقرابة‬
‫قب ـ ـ ــح اإلله مف ـ ـ ــرقاً بني ال َّ‬
‫من كان هــذا دينـه فهو الشقي بال اسرتابة‬
‫اجلمـع بني والئـهم يا طالباً عني اإلص ـ ـ ـ ـ ـ ــابة‬
‫وهذا ما عرضه هلجوم من قبل اجلارودية‪ ،‬حىت أقذعوا يف ذمه واعتربوه من‬
‫النواصب وضيقوا عليه‪ ،‬فاضطر للخروج من اليمن وهاجر إىل مكة‪.‬‬
‫وكتبه رحه هللا مشحونة بالدفاع عن الصحابة والرتضية عنهم والنقمة على‬
‫الروافض وال أحد يشك يف سالمة موقفه‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪234‬‬

‫املحقق إسحاق بن محمد العبدي (‪1115‬هـ)‪.‬‬


‫قال العـالَّمة إسحاق بن حممد العبدي بعد أن حكى ما ورد يف حق علي‪،‬‬
‫وجرى من أحداث بعد وفاة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬فليتجنب املطلع‬
‫الصحابة‪ ،‬واإلخراج هلم عن مضان اإلصابة‪،‬‬
‫رمينا مبا حنن عنه مربؤون من القدح يف َّ‬
‫نزل على هذا املنزل‪ .‬والكل من‬ ‫فإين حبمد هللا عن ذلك كله مبعزل‪ ،‬وليس يل ٌ‬
‫الصحابة عندنا إن شاء هللا ناجون‪ ،‬وحنن لسالمتهم ‪ -‬بربكة إمياهنم‪ ،‬ومناصرهتم‪،‬‬
‫َّ‬
‫وصحبتهم املرعية – راجون‪ ،‬وِملْ ال تكون صحبتهم لسيد األولني واآلخرين‪،‬‬
‫قاضية بالفوز والسالمة‪ ،‬والنجاة التامة من شر يوم القيامة‪ ،‬ونعوذ باهلل أن يكون‬
‫يف أعناقنا ألحد منهم ظالمة»‪.‬‬
‫العالمة محمد بن إسماعيل األمير(‪1182‬هـ)‬
‫قال العالمة األمري‪« :‬وأما الصحابة رضي هللا عنهم فلهم شأن جليل وشأو‬
‫نبيل ومقام رفيع وحجاب منيع فارقوا يف دين هللا أهلهم وأوطاهنم وعشائرهم‬
‫وإخواهنم وأنصارهم وأعواهنم وهم الذين أثىن هللا جل جالله عليهم يف كتابه‬
‫وأودع ثناءهم شريف كالمه وخطابه وفيهم املمادح النبوية واألخبار الرسولية بأنه‬
‫ال يبلغ أحد مد أحدهم وال نصيفه ولو أنفق مثل أحد ذهبا»‪.‬‬
‫وبعد هؤالء يف القرون الثالثة األخرية كثريون‪ ،‬تركت ذكرهم جتنباً للتطويل بال‬
‫طائل‪ ،‬إذ إن أكثر مواقف املتأخرين انعكاس ملواقف املتقدمني‪.‬‬
‫ب‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫لفـص‬
‫لا ر ع‬ ‫ا‬

‫دفاع الزيدية عن َّ‬


‫الصحابة‬
‫الزيدية ما بوسعهم من أجل توضيح موقفهم‬ ‫يف الوقت الذي عمل فيه علماء َّ‬
‫الصحابة مبختلف مراتبهم‪ ،‬عملوا على توضيح ما أشكل من روايات عن‬ ‫جتاه َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬وبيان وجوه حلها على السالمة‪ ،‬يف حدود املقبول‪ ،‬إذ هم بشر‬ ‫بعض َّ‬
‫يصيبون وخيطئون‪ ،‬وتصدوا لرد شبهات الغالة بأساليب علمية‪ ،‬تدل على علم‬
‫وإنصاف؛ إذ مل يذهب هبم الوالء إىل درجة التقديس‪ ،‬وإنكار التاريخ‪ ،‬ومل‬
‫يدفعهم النقد إىل درجة التجين والتجريح‪ ،‬ولكن على أساس أن هناك فرقاً بني‬
‫خطأ وخطأ‪ ،‬وبني عمد وسهو‪ ،‬وبني جحود وجهل‪ ،‬وبني عناد وحتري‪ ،‬وليس‬
‫لنا من مجيع ذلك إال الظاهر وهللا يتوىل السرائر‪.‬‬
‫على أننا نالحظ فيما خاضوا فيه من هذا الباب أمرين‪ ،‬أحدمها‪ :‬أن كالمهم‬
‫يدور حول اخللفاء الراشدين‪ ،‬وأولئك الذين شجرت بينهم اخلصومات‪ ،‬خصوصاً‬
‫املعارضون لعلي بن أيب طالب واخلارجون عليه‪ .‬وثانيهما‪ :‬أهنم يناقشون أي شبهة‬
‫على فرض صحة روايتها؛ ألن املهم يف األمر أن من يوردها لالحتجاج يرى‬
‫صحتها‪ ،‬وال بد من الكالم معه يف ضوء ذلك‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مؤلفات ومواقف وأحكام‬
‫الزيدية يف موضوع اإلمامة فصالً خاصاً للكالم عن‬
‫ُختصص معظم كتب َّ‬
‫الصحابة املتقدمني على اإلمام علي واملناوئني له‪ ،‬مع تفاوت يف اإلجياز‬
‫َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪236‬‬

‫واإلسهاب‪ ،‬وبعضهم أفرد لذلك كتاباً‪ ،‬يهدف إىل بيان رؤيتهم‪ ،‬وشرح خلفيتها‬
‫السب‪ ،‬وبني التَّ ِ‬
‫شكي والعداوة‪ ،‬والرد فيها على ال ُـم ْف ِرط‬ ‫وتوضيح الفرق بني النَّقد و َّ‬
‫وال ُـمف ِرط‪ ،‬وممن أفرد هذه املسألة بالتأليف مجاعة منهم‪:‬‬
‫الصحابة)‪،‬‬
‫*ٌالعلمةٌُممدٌبنٌأَحدٌأيبٌاثللجٌ(‪325‬ه)‪ ،‬لـه كتاب يف (فضائل َّ‬
‫الزيدية»‪ ،‬ونقل عن (أعيان الشيعة) أن أبا الثلج‬
‫ذكره الوجيه يف «أعالم املؤلفني َّ‬
‫الزيدية‪.‬‬
‫كان من حمدثي َّ‬
‫*ٌاإلمامٌاملؤيدٌباهللٌاهلارونٌ(‪ٌ411‬ه)‪ ،‬له كتاب يف الرد على رجل يسمى‬
‫الصحابة‪ .‬ذكرها احلاكم اجلشمي يف (جالء‬
‫(قابوس) كتب رسالة يف الطعن على َّ‬
‫األبصار ‪ -‬خمطوط)‪.‬‬
‫*ٌأبوٌالواسمٌإسماعيلٌالبستٌ(‪ٌ420‬ه)‪ ،‬ألف كتاب (التحقيق يف اإلكفار‬
‫الصحابة الذين تقدموا على اإلمام‬
‫والتفسيق) خصص فيه حبثاً للكالم يف مسألة َّ‬
‫علي‪ ،‬ودافع عنهم‪.‬‬
‫*ٌاإلمامٌحيىيٌبنٌَحزةٌ(‪749‬ه) له عدة رسائل‪ ،‬منها‪( -1 :‬أطواق احلمامة‬
‫الصحابة على السالمة)‪ .‬ويظهر أنه حبث منتزع من كتاب (االنتصار )‪.‬‬‫يف حل َّ‬
‫‪( - 2‬التحقيق يف تقرير أدلة اإلكفار والتفسيق) تضمن حبثاً مطوالً يف مسألة‬
‫الصحابة‪( - 3 .‬الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد املرسلني)‪ .‬طبع‬
‫(سنة ‪1348‬هـ) مبصر‪ ،‬مث طبع مرة أخرى بدار الرتاث اليمين (سنة ‪1410‬هـ)‪.‬‬
‫ومضمونه نفس مضمون أطواق احلمامة‪ ،‬وما يف كتاب التحقيق‪.‬‬
‫*ٌالواضٌحيىيٌبنٌاِلسنٌالورَش (‪780‬هـ)‪ ،‬خصص فصالً كبرياً من كتابه‬
‫الصحابة وفضائلهم‪ ،‬وأجاد يف دفع الشبهات‬
‫(منهاج املتقني) للكالم عن مكانة َّ‬
‫عنهم بأسلوب علمي رصني‪.‬‬
‫‪237‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬
‫ْ‬
‫ي ٌاِلسنٌاجلييلٌ(القرن اثلامن)‪ ،‬له كتاب (صفوة‬ ‫*ٌالعلمةٌأَحدٌبنٌمٌِ ٌ‬
‫الصحابة‪ .‬ذكره حيىي بن احلسني يف (املستطاب) أثناء ترمجته‪،‬‬‫الصفوة) يف فضائل َّ‬
‫الزيدية) ترمجة (رقم ‪.)109‬‬
‫وإبراهيم بن القاسم يف القسم الثالث من (طبقات َّ‬
‫*ٌالعلمةٌُممدٌبنٌيوسفٌبنٌهقةٌالفضيلٌالودم (القرن الثامن)‪ ،‬له كتاب‬
‫الزيدية خالفوا‬
‫(االنتصاف من ذوي االعتساف) ضمنه رداً على من زعم أن أئمة َّ‬
‫الصحابة‪ .‬ذكره اإلمام عز الدين يف (املعراج)‪.‬‬
‫اإلمام زيد يف موقفه من َّ‬
‫الصحابة‬
‫*ٌاإلمامٌعزٌالينٌبنٌاِلسن (‪900‬هـ) اسرتسل يف شرح أحوال َّ‬
‫ومكانتهم يف كتابه (املعراج)‪ ،‬وأضاف أشياء لطيفة على ما ذكر العـالَّمة القرشي‪.‬‬
‫*ٌالواضٌعقدٌالعزيزٌبهران (‪1010‬هـ)‪ ،‬له كتاب (حل الشبهات الواردات‬
‫الصحابة الثقات)‪ ،‬تذكر فهارس املخطوطات أنه يوجد ضمن جمموع يف‬ ‫يف َّ‬
‫مكتبة اجلامع الكبري بصنعاء‪.‬‬
‫*ٌالسيدٌُممدٌبنٌعزٌالينٌاملفت (‪ 1049‬هـ)‪ ،‬له كتاب (منهج اإلنصاف‪،‬‬
‫الصحابة والرتضية على املشايخ الثالثة‬
‫العاصم من االختالف) يف الذب عن َّ‬
‫وحترمي سبهم‪ .‬ذكره يف (املستطاب)‪ .‬ذكر احلبشي أنه مبكتبة هولندا‪ ،‬رقم (‪.)478‬‬
‫* ٌاِلافظ ٌحيىي ٌبن ٌاِلسني ٌبن ٌالواسم (‪1100‬هـ)‪ ،‬له كتابان‪ ،‬أحدمها‪:‬‬
‫(اإليضاح ملا خفا من االتفاق على تعظيم صحابة املصطفى)‪ ،‬توجد منه نسخة‬
‫خبطه يف مكتبة اجلامع الكبري بصنعاء‪ .‬وقد طبعته مكتبة الصحابة بالشارقة يف‬
‫جملد بتحقيق عبد الرحن املعلمي‪ .‬وثانيهما‪( :‬منتهى اإلصابة فيما جيب من رعاية‬
‫الصحابة)‪ ،‬منها نسخة خبط املؤلف يف مكتبة األوقاف باجلامع الكبري‬ ‫حق َّ‬
‫بصنعاء‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪238‬‬

‫*ٌالعلمةٌالسيد ٌصلح ٌبن ٌحسني ٌبن ٌحيىي ٌاْلخفش الصنعاين (‪1142‬هـ)‬


‫الصحابة سلك فيها مسلك التنزيه‬
‫قال الشوكاين يف (البدر الطالع)‪ :‬له رسالة يف َّ‬
‫هلم‪ ،‬على ما فيها من تطفيف ملا يستحقونه‪ ،‬ومع ذلك اعرتض عليها السيد‬
‫عبد هللا بن علي الوزير (‪1144‬هـ) باعرتاض ساه (إرسال الذؤابة بني جنيب مسألة‬
‫الصحابة) وحاصل ما يف هذا االعرتاض هدم ما بناه السيد صالح من التنزيه‬ ‫َّ‬
‫للصحابة عن السب والثلب‪ ،‬وإظهار مذهب الزيدية يف شأن الصحابة‪.‬‬

‫*ٌالواضٌُممدٌبنٌحيىيٌبنٌيلعٌالسماويٌ(‪1272‬هـ)‪ ،‬له رسالة ساها‪( :‬سهام‬


‫الصحابة)‪ ،‬ذكرها األكوع يف كتابه (هجر العلم ومعاقله)‪.‬‬
‫اإلصابة يف الذب عن َّ‬
‫*ٌالواضٌأَحدٌبنٌُممدٌبنٌحيىيٌالسيايغ (‪1323‬هـ) له (صيانة العقيدة‬
‫والنظر‪ ،‬عن سب صحابة سيد البشر)‪ .‬ذكره شيخنا العالمة أحد زبارة‪ ،‬يف‬
‫(نزهة النظر)‪ ،‬واألكوع يف (هجر العلم)‪.‬‬
‫وهنالك حبوث وكتب أخرى غري هذه‪ ،‬أشرت إليها أثناء هذا البحث‪ ،‬ولعل‬
‫فيها املزيد من كالم األئمة وتفاصيل آرائهم‪ ،‬وفيما ذكرت هنا كفاية ملن أراد‬
‫الزيدية يف هذه املسألة‪.‬‬
‫معرفة رأي َّ‬

‫روايات إجماع الزيدية على النهي عن سب الخلفاء‬


‫الزيدية وعلمائهم نصوص كثرية تؤكد اتفاقهم على جتنب مجيع‬ ‫جاء عن أئمة َّ‬
‫أنواع السباب‪ ،‬وخمتلف أحكام التكفري والتفسيق للصحابة الذين تقدموا اإلمام‬
‫الصحابة‬
‫علي‪ ،‬وبذلك متيَّزت الزيدية عن الغالة‪ ،‬الذين يرون أن النيل من أولئك َّ‬
‫واجب ديين وأمر مشروع بدعوى وجوب إظهار الوالء والرباء‪ .‬ومن تلك‬
‫النصوص ما هو رواية إلمجاعهم‪ ،‬وشذوذ من تأثر منهم بالغالة‪ ،‬وهي كثرية منها‪:‬‬
‫‪239‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫(‪ )1‬عن اإلمام زيد بن علي(‪122‬هـ) أنه قال‪« :‬ما سعت أحداً من أهل بييت‬
‫يتربأ منهما ‪ -‬يعين أبا بـكر وعمر‪ -‬وال يقول فيهما إال خرياً»‪.‬‬
‫الصـادق (‪148‬هـ) قال‪ :‬أمجع آل حممد صلى هللا‬
‫(‪ )2‬وعن جعفر بن حممد َّ‬
‫عليه وآله وسلم أن يقولوا يف أيب بـكر وعمر أحسن القول‪.‬‬
‫(‪ )3‬وتساءل اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين (‪411‬هـ)‪« :‬لو قيل‬
‫لواحد ممن يدعي بزعمه كفراً أو فسقاً يف حقهم‪ :‬أرين نصاً من جهة األئمة‬
‫صرحياً أنه يتربأ فيه من الشيخني؟ مل ميكنه ذلك»‪ .‬وقال‪« :‬ما أعلم أن أحداً من‬
‫الصحابة‪ ،‬ومن قال ذلك فقد كذب»‪.‬‬ ‫العرتة يسب َّ‬
‫(‪ )4‬وذكر احلافظ أحد بن احلسن الكين (‪560‬هـ)‪« :‬أنه مل يؤثر عن أحد‬
‫من أهل البيت السب وال التصريح بالفسق‪ ،‬وروي عن أكثرهم الرتضية والرتحم‬
‫الصـادق والناصر واملؤيد باهلل»‪.‬‬
‫واملدح مثل زيد بن علي وجعفر َّ‬
‫(‪ )5‬وجزم اإلمام عبد هللا بن حزة (‪614‬هـ) بأن «الظاهر املعلوم من ذرية‬
‫األئمة الطاهرين‪ ،‬واألئمة العلمـاء إىل يومنا هذا‪ ،‬عدم السـب والرباءة‪ ،‬ال جند‬
‫أحداً حيكي عنهم حكاية صحيحة لسب وال براءة‪ ،‬بل وكـلوا أمرهم إىل رب‬
‫العاملني»‪ .‬هذا وهو من مؤيدي اجلارودية يف نظرية اإلمامة‪.‬‬
‫وقال‪« :‬وال ميكن أحداً أن يصحح دعواه على أحد من سلفنا الصاحل أهنم‬
‫نالوا من املشايخ أو سبوهم»‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬ال ميكن أحداً أن يدعي على أحد من أئمة اهلدى دعوى‬
‫صحيحة بأنه سب أو آذى‪ ،‬وهذا منهاج علي عليه السالم‪ ،‬فإنه كان يف خطبه‬
‫وأثناء حماوراته يشكو من القوم تقدمهم‪ ،‬وأنه أوىل باألمر منهم»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪240‬‬

‫الزيدية حيكمون بضالل من تقدموا على اإلمام علي‪،‬‬ ‫ورداً على من زعم أن َّ‬
‫الزيدية غري‬
‫وأهنم كانوا سبب القتال بني املسلمني قال‪« :‬إن هذه الدعوى على َّ‬
‫صحيحة‪ ،‬وال مستمرة؛ ألهنا تزعم يف أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم أهنم ضلوا وأضلوا؛ فكيف يعتقدون ذلك فيهم وهم خيار األمة؟! وهبم‬
‫أعز هللا دينه‪ ،‬ونصر نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وهم حاة شرع اإلسالم‪،‬‬
‫وبدور الظالم‪ ،‬فجزاهم هللا عنا وعن اإلسالم خرياً‪ ،‬وما سبب القتل والقتال بني‬
‫األمة إال الشيطان‪ ،‬واتباع اهلوى‪ ،‬وغلبة حب الدنيا‪ ،‬وهللا ورسوله والصاحلون من‬
‫أمته وهم صحابته رضي هللا عنهم من ذلك أبرياء»‪.‬‬
‫(‪ )6‬وذكر العالمة حيد احمللي (‪652‬هـ) أن أهل البيت «يعتقدون املواالة‬
‫للصحابة والرتضية عليهم‪ ،‬إال الذي مل يواهلم علي عليه السالم كمعاوية وأحزابه‪،‬‬
‫فأما الزبري وطلحة وعائشة يف حرهبم لعلي يوم اجلمل‪ ،‬فقد تابوا‪ ،‬ونقل عن علي‬
‫عليه السالم الرتضية عليهم‪ ،‬وأما املتقدمني على علي فتظلم منهم يف تقدمهم‬
‫عليه‪ ،‬ومل ينقل عنه ناقل أنه سبهم ‪ -‬حاشاه ‪ -‬وال هلكهم‪ ،‬ومن العرتة من رأى‬
‫التوقف يف حاهلم‪ ،‬ووكلهم إىل خالقهم‪ ،‬مع اعتقاد أن علياً عليه السالم هو أهل‬
‫اخلالفة واألحق هبا بعد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وهذه عقيدة أهل البيت‬
‫الزيدية اليت قضوا هبا ومضوا عليها‪ ،‬وكانوا يعدلون‬
‫أئمة العرتة النبوية ومشايخ َّ‬
‫إليها ومييلون عن غريها»‪.‬‬
‫(‪ )7‬وأكد العـالَّمة عبد هللا بن زيد العنسي (‪667‬هـ) «أن السب مل يصح‬
‫عن األئمة وإن وجد يف شيء من كتبهم ما يدل عليه فهو متأول»‪.‬‬

‫(‪ )8‬وذكر العـالَّمة حممد بن احلسن الديلمي (‪711‬هـ) مذاهب اإلمامة و َّ‬
‫الصحابة‬
‫الزيدية من العرتة الزكية‪ ،‬بل مذهب مجيع الطهرة‬
‫مث قال‪« :‬اعلم أن مذهب سادات َّ‬
‫‪241‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫من الذرية وأتباعهم وأشياعهم ‪ -‬دون من تسمى باسهم وليس منهم ‪ :-‬التوقف‬
‫يف أمر الشيخني‪ ،‬بل بعضهم يرون مواالهتما وخيطئون من تربأ منهما‪ ،‬ويظهرون‬
‫حمبتهما وفضلهما»‪.‬‬
‫الزيدية مل يرو‬
‫(‪ )9‬قال السيد إدريس احلمزي (‪714‬هـ) يف (كنز األخبار)‪َّ :‬‬
‫لصحابة‪.‬‬
‫عن أحد من أئمتهم وقوع يف أحد من ا َّ‬
‫(‪ )10‬وقال اإلمام حيىي بن حزة (‪749‬هـ) جازما‪« :‬إن أحداً من األئمة وأكابر‬
‫العرتة مل ينقل عنه إكفار وال تفسيق‪ ،‬كما شرحناه أوالً ونقلناه»‪.‬‬
‫وذكر روايات عن اإلمام زيد والباقر والصادق يف الثناء على أيب بـكر وعمر‬
‫مث قال‪« :‬وهذا هو املعتمد عليه عند أكابر أهل البيت؛ فأين هذا عن هذيان‬
‫الروافض واجلارودية؟! فاهلل حسبهم فيما قالوه ومكافئهم على ما نقلوه وكذبوه»!‬
‫(‪ )11‬وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى (‪840‬هـ)‪« :‬إنه قد تواتر لنا‬
‫عن علي عليه السالم والصاحلني من ذريته معاملتهم إياهم معاملة املؤمنني اخللص‬
‫يف تروك وأفعال وأقوال وهم أهل احلق‪ .‬فكيف يكون من مل يكن له حق عندهم‬
‫أشد غضباً عليهم؟ وأضاف‪ :‬بل الواجب علينا أن ال نتعدى الغاية اليت انتهى‬
‫إليها أهل البيت عليه السالم يف شأهنم لوجهني؛ أحدمها‪ :‬أن إمجاع أهل البيت‬
‫حجة كما سيأيت‪ ،‬والواجب اتباعهم‪ ،‬والثاين‪ :‬أهنم أعرف حبال مظلمتهم يف‬
‫الصغر والكرب؛ ألن أهل احلق أخص‪ ،‬وإذا كانوا أعرف حبكم حقهم لزمنا أن ال‬
‫نتعدى يف التظلم هلم احلد الذي بلغوه»‪.‬‬
‫(‪ )12‬وقال اإلمام عز الدين‪« :‬أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول‬
‫بعدم التفسيق ‪ -‬يعين ملن نفى إمامة اإلمام ‪ -‬وهلذا نُِقل عنهم حسن الثناء على‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪242‬‬

‫املشايخ املتقدمني على أمري املؤمنني علي عليه السالم‪ ،‬والرتضية عنهم والتعظيم‬
‫العظيم هلم»‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬ليعلم الناظر أن أمري املؤمنني واألفاضل من أئمة أوالده عليهم‬
‫السالم ال يكفرون أحداً من الصحابة وال يفسقوهنم‪ ،‬مع خمالفتهم للنصوص‬
‫الواردة يف إمامة أمري املؤمنني‪ ،‬فثبت أن خمالفتهم هلا عندهم ال تقطع مواالهتم‬
‫وال تبطلها»‪.‬‬
‫(‪ )13‬وذكر السيد صارم الدين الوزير (‪914‬هـ) يف املسائل اليت أمجع عليها‬
‫الزيدية أهنم أمجعوا على أنه ال جيوز سب أيب بـكر وعمر‪.‬‬
‫َّ‬
‫(‪ )14‬وقال العـالَّمة حممد بن أحد بن حيىي مظفر(‪926‬هـ)‪« :‬اعلم أن فضل‬
‫املشايخ الثالثة ال جيهله إال من أعمى اهلوى بصريته‪ ،‬ولنا ممن سلف من أئمتنا‬
‫صلوات هللا عليهم‪ ،‬منذ علي عليه السالم إىل اآلن أسوة‪ ،‬وأشرف قدوة‪ ،‬فلم‬
‫نسمع عن أحد منهم السب ألي الثالثة‪ ،‬بل هم بني ُمرض ومتوقـف»‪.‬‬
‫الزيدية‬
‫(‪ )15‬وقال اإلمام شرف الدين (‪965‬هـ)‪« :‬الذي عليه احملققون من َّ‬
‫تفضيل علي وختطئة متقدميه‪ ،‬لكـن ختطئة غري مفسقة‪ ،‬وهو الذي وقع عليه‬
‫إمجاع أهل الكساء ومن بعدهم من األئمة السابقني»‪.‬‬
‫(‪ )16‬وقال يف شرح (البسامة الصغري)‪« :‬وفضل املشايخ الثالثة ال جيهله إال‬
‫من أعمى هللا بصريته‪ ،‬ولنا من سلف أئمتنا منذ علي رضي هللا عنه إىل اآلن‬
‫أحسن أسوة وأشرف قدوة‪ ،‬ومل يسمع عن أحد منهم السب ألي الثالثة‪ ،‬بل‬
‫هم بني مرض ومتوقف»‪ .‬وشرح البسامة هو لبعض سادات بين الوزير‪.‬‬
‫(‪ )17‬وقال العـالَّمة أحد بن حيىي حابس يف (اإليضاح)‪« :‬هناية األمر أن‬
‫‪243‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫املروي عن السلف الصاحل أهنم ال يسبون»‪.‬‬

‫(‪ )18‬وأكد العـالَّمة حيىي بن احلسني بن القاسم‪« :‬إ َّن أئمة أهل البيت كافة‬
‫السب للصحابة أصالً»‪ ،‬وأضاف‪« :‬وإذا‬ ‫بني متوقف ومرض‪ ،‬ال يرى أح ٌد منهم َّ‬
‫وع ِرفت أقوال أئمة العلم اهلداة ُعلِم من ذلك بالضرورة اليت ال‬ ‫تقرر ما ذكرنا ُ‬
‫الصحابة؛ لتواتر ذلك‬
‫سب َّ‬ ‫الزيدية على حترمي ِ‬
‫تنتفي بشك وال شبهة إمجاع أئمة َّ‬
‫عنهم والعلم به‪ ،‬فما خالف ما علم ضرورة ال يُعمل به»‪.‬‬

‫ويفٌرسالةٌسماهاٌ«إرشاد الغيب إىل مذهب اآلل يف صحب النيب»‪ ،‬خلص‬


‫العالمة الشوكاين كتاب (اإليضاح) ليحىي بن احلسني‪ ،‬واستخرج منه حكاية‬
‫الزيدية على النهي عن السب من ثالث عشرة طريقاً‪ ،‬هي ضمن ما تقدم‪.‬‬
‫إمجاع َّ‬

‫ورد عليه بعض اجلارودية برسالة بعنوان (السيف الباتر املضـيء لكشف اإلهبام‬
‫والتمويه يف إرشاد الغيب)‪ .‬وقد اطلعت على الرسالتني فجدت األوىل ملخصة ‪-‬‬
‫كما أسلفت ‪ -‬من كتاب اإليضاح‪ ،‬وهي تركز على التأكيد على منع أئمة‬
‫الزيدية من السباب‪ ،‬ووجدت يف الثانية مبالغات وهتويل وإيراد يف غري حمل النزاع‪.‬‬

‫وحنن وإن كنا ال نؤمن حبكاية اإلمجاع ال عن األمة وال عن طائفة بأسرها وال‬
‫نرى أنه حجية شرعية ملزمة‪ ،‬فإننا نورد األشياء كما تروى؛ ألن يف كثري منها‬
‫مقنع لبعض األتباع‪ ،‬بل إن كثريا من الباحثني يعتمدوهنا‪ ،‬ويرون فيها مستنداً قوياً‬
‫ملا يذهبون إليه‪ ،‬وهي – بال شك ‪ -‬ال ختلو من إشارات واضحة تعكس حقيقة‬
‫ما مضى عليه غالبية القوم‪ ،‬وال ميكن القول بأن مجيع أفراد علماء وأئمة الزيدية‬
‫متفقون على رأي واحد يف هذه املسألة أو غريها من املسائل احلساسة‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪244‬‬

‫حكم علماء الزيدية فيمن يسب الخلفاء الراشدين‬


‫ينظر أئمة الزيدية واحملققني من علمائهم إىل أن تناول اخللفاء الراشدين‬
‫بالسباب أو الشتيمة جرأةٌ يف الدين تتطلب اختاذ موقف‪ ،‬وخطيئة تقتضي حكماً‬
‫رادعاً لكل ُمسف ُمتطاول على سلف األمة وتالميذ نبيها‪.‬‬
‫* فقد روي أن اإلمام حممد بن علي الباقر ُسئل عمن ينتقص أبا بـكر وعمر؟‬
‫فقال‪ :‬أولئك ال ُـم َّـراق‪ .‬وعنه‪ :‬بُغض أيب بـكر وعمر نفاق‪ ،‬وبغض األنصار نفاق‪.‬‬
‫* وعن اإلمام الشهيد زيد بن علي روى احلافظ ابن عقدة بإسناده إىل كثري‬
‫النواء‪ ،‬قال سألت زيد بن علي عن أيب بـكر وعمر‪ .‬فقال‪ :‬توهلما‪ .‬قلت‪ :‬كيف‬
‫تقول فيمن يربأ منهما؟ قال‪ :‬أبرأ منه حىت متوت‪.‬‬
‫* وعن اإلمام احلسن بن احلسن بن احلسن أنه قال لرجل من الرافضة‪ :‬وهللا‬
‫لئن أمكن هللا منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خالف‪ ،‬وال نقبل لكم توبة‪.‬‬
‫* وذكر عبد اجلبار بن العباس اهلمداين أن جعفر بن حممد‪ ،‬أتاهم وهم‬
‫يريدون أن يرحتلوا من املدينة‪ ،‬فقال‪ :‬إنكم إن شاء هللا من صاحلي أهل مصركم؛‬
‫فأبلغوهم عين‪ :‬أن من زعم أين أبرأ من أيب بـكر وعمر‪ ،‬فأنا منه بريء‪.‬‬
‫* وعن سفيان الثوري‪ ،‬عن جعفر بن حممد قال‪ ،‬قال يل أيب‪ :‬يا بين إن سب‬
‫أيب بـكر وعمر من الكبائر فال تصل خلف من يقع فيهما‪.‬‬
‫* وأما اإلمام اهلادي فقد أمر جبلد من سب أبا بـكر وعمر‪ ،‬واستدل على‬
‫الصحابة‪ .‬واشتهر‬
‫ذلك بأن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم لعن من سب َّ‬
‫عنه أنه كان يقول‪« :‬وإىل هللا أبرأ من كل رافضي غوي‪ ،‬ومن كل حروري‬
‫ناصيب»‪.‬‬
‫‪245‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫الصحابة وتفسيقهم‬‫* وأكد اإلمام حيىي بن حزة أن «اإلقدام على إكفار َّ‬
‫دخول يف اجلهالة‪ ،‬وحق ونقصان يف الدين وجرأة على هللا»‪ .‬وأفىت بأن الصالة‬
‫ال تصح خلف من سب من تقدم علياً؛ ألنه جرأة على هللا واعتداء عليهم مع‬
‫القطع بتقدم إمياهنم واختصاصهم بالصحبة لرسـول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫الصحابة فسق تأويل‪.‬‬‫وروى عنه اإلمام املهدي‪ :‬أن سب َّ‬
‫* وجزم اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى بفسق اخلوارج الذين يسبون‬
‫علياً‪ ،‬وكذلك الروافض الذين يسبون الشيخني‪ ،‬فقال يف (الشهادات) ‪ -‬عند‬
‫ضروب» ‪« :-‬وضرب يقتضي الفسق ال غري‪ ،‬كخالف‬ ‫ٌ‬ ‫قوله‪« :‬فصل واخلالف‬
‫اخلوارج الذين يسبون علياً‪ ،‬والروافض الذين يسبون الشيخني جلُرأهتم على ما‬
‫قطعا»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُعلم حترميه ً‬
‫* وقال العالمة املؤرخ حممد بن علي الزحيف‪« :‬إن فضل املشايخ الثالثة ال‬
‫جيهله إال من أعمى اهلوى بصره‪ ،‬وأضاع ‪ -‬يف عدم حل أعالم الدين على‬
‫التأويـالت املناسبة لسوابقهم ‪ -‬عمره»‪.‬‬
‫على أن املتأثرين باجلارودية من الزيدية يتساهلون يف هذه املسألة‪ ،‬كما قدمنا‪.‬‬
‫وهبذا ميكن إمجال موقف علماء الزيدية بعد بأهنم ال يسبون أحداً من اخللفاء‪،‬‬
‫بل ينهون عن ذلك‪ ،‬ويستقبحون اإلقدام على اللعن والشتيمة‪ ،‬وال يرتضون‬
‫ألنفسهم وأتباعهم أن يكونوا كذلك‪.‬‬
‫أما التكفري فقد ذكر اإلمام عز الدين بن احلسن‪ :‬أن الذي عليه أئمة الزيدية‬
‫أنه ال حجة على إكفار املتقدمني على اإلمام علي‪ ،‬من نص كتاب أو سنة‬
‫ظاهرة متواترة‪ ،‬وال فيه إمجاع قاطع‪ ،‬وال قياس يرشد إىل العلم‪.‬‬
‫وذكر‪ :‬أن حمل اخلالف هل تكفر الرافضة مبذهبهم الشهري الذي جيمعهم‪،‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪246‬‬

‫وهو تكفري الصحابة وسبهم أو ال‪ .‬وقد أورد املكفرون هلم بذلك حججاً‪ ،‬رأى‬
‫أهنا غري كافية لتكفري طائفة من أهل القبلة‪ ،‬وإن كان خطؤهم كبرياً‪ ،‬وكذلك‬
‫القول يف اخلوارج فيما خيص موقفهم من اإلمام علي‪.‬‬
‫على أن عموم الزيدية ال يرون أن من السباب والشتيمة ذكر األخطاء‬
‫والتجاوزات املروية‪ ،‬وال ميانعون من نقد ما يُروى عن بعضهم وتقييمه مبوضوعية‪،‬‬
‫حسب ما توفر لكل باحث من املعطيات والرباهني‪ ،‬وهذا هو ما فعله الصحابة‬
‫أنفسهم وكان الشائع يف زمن التابعني وتابعيهم‪.‬‬
‫ترجيح الترضية على التوقف‬
‫بعد اتفاق علماء َّالزيدية على املنع من سباب اخللفاء املتقدمني على اإلمام علي‪،‬‬
‫ومن أيدهم يف ذلك‪ ،‬صاروا بني مرض ومتوقف‪ ،‬بسبب اختالفهم يف تقدير مستوى‬
‫خطئهم يف التقدم على اإلمام علي‪ ،‬فمن رأى أهنم بذلك أقدموا على معصية كبرية‪ ،‬فإنه‬
‫توقف عن الرتضية‪ ،‬ومن رأى أن األمر ليس كذلك‪ ،‬على األقل يف تقدير املتقدمني‬
‫أنفسهم‪ ،‬فهو ال ميانع من الرتضية والرتحم والثناء احلسن‪ ،‬وهذا ما ميكن التعرف على‬
‫تفاصيله من خالل ما قدمنا من نقل عن كثري منهم‪.‬‬
‫وحنن ‪ -‬بناء على معطيات توفرت لنا ‪ -‬ممن يرجح الرتضية والرتحم والثناء‬
‫احلسن على عموم الصحابة خصوصاً اخللفاء الراشدين‪ ،‬دون مبالغة أو تقديس‪،‬‬
‫ويف حدود أهنم بشر خيطئون ويصيبون‪ ،‬وهذا االختيار مبين على أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫(‪ )1‬أننا وجدنا هللا قد رضي عن عموم الصحابة يف القرآن يف أكثر من موضع‬
‫ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫تٌالشج َر ٌةٌِفع ٌلِ ٌَمٌماٌ ِ ٌ‬
‫فٌ‬ ‫كٌَت ٌ‬
‫نيٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌ‬
‫نٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬
‫ضٌاهللٌع ٌِ‬‫كما يف قوله‪﴿ :‬لو ٌدٌ َر ِ ٌَ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ‬
‫السك َِين ٌةٌ َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌف ْت ًحاٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح‪ .]18/‬وقد تقدم الكالم عن‬ ‫قلوب ِ ِه ٌمٌفأنز ٌلٌ‬
‫اآلية‪.‬‬
‫‪247‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫(‪ )2‬أن الرتضية ليست حكماً بتصويب مطلق أو تأل على هللا مبقام أو رتبة‪،‬‬
‫ولكنها عبـارة عن دعـاء بالرحـة واملغفـرة للسابقني من املسلمني‪ ،‬وقـد أثىن هللا‬
‫َ ح ح َ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫فٌ‬
‫لٌ ِ ٌ‬
‫َتع ٌ‬ ‫ال ٌ ٌ‬
‫ان ٌو ٌ‬
‫اإليم ٌِ‬ ‫ون ٌربنا ٌاغ ِف ٌر ٌنلا ٌو ِ ِإلخوان ِنا ٌاَّل ٌ‬
‫ِين ٌسقوونا ٌب ِ ِ‬ ‫على الـذين ﴿يوول ٌ‬
‫ح ح َ ا َّ َ َ ح َّ َ َّ َ‬
‫كٌ َر حُوفٌٌ َرحِيمٌ﴾ [الحشر‪.]١٠/‬‬ ‫ِينٌآمنواٌ َربناٌإِن ٌ‬
‫ِلٌل ِذل ٌ‬
‫قلوبِناٌغ ٌ‬

‫(‪ )3‬أن السنة النبوية قد دلت ‪ -‬كما جاء يف روايات كثرية من طرق خمتلفة‬
‫‪ -‬على عظم فضلهم وعلو منزلتهم‪ .‬فإذا كانوا قد نالوا شرف ثناء هللا ورسوله‬
‫عليهم‪ ،‬فالرتضية عنهم قُربة للمتأسي بكتاب هللا‪ ،‬وهنج رسوله صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ ،‬وليست جمرد منة من أحد‪ ،‬فمن فعلها كسب لنفسه‪ ،‬ومن تركها‬
‫قصر عليها‪.‬‬
‫(‪ )4‬أن الرتضية خيار مشهور عن كبار سلف وأئمة أهل البيت‪ ،‬وإليه ذهب‬
‫الزيدية‪ ،‬فقد ذكر ذلك عن اإلمام علي غري واحد منهم‪:‬‬
‫مجع من مشاهري علماء َّ‬
‫* اإلمام املوفق باهلل احلسن بن إساعيل اجلرجاين الذي قال‪« :‬إن أمري املؤمنني‬
‫كان يوليهم الذكر اجلميل‪ ،‬ويثين عليهم الثناء احلسن»‪.‬‬
‫* وقال اإلمام حيىي بن حزة‪« :‬إن الرتحم والرتضي عليهم هو املشهور عن‬
‫الصـادق والناصر للحق واملؤيد‬
‫أمري املؤمنني‪ ،‬وحكينا عن زيد بن علي وجعفر َّ‬
‫باهلل‪ ،‬وهو املختار عندن‪ ،‬وما نرتضيه لنا مذهباً‪ ،‬وحنب أن نلقى هللا تعاىل وحنن‬
‫عليه»‪.‬‬
‫* وذكر العـالَّمة حيىي بن احلسني بن القاسم أن علياً واحلسن واحلسني كانوا‬
‫يرضُّون على الشيخني أيب بـكر وعمر‪.‬‬
‫* وقال العـالَّمة حممد بن علي الزحيف‪ُ « :‬رِوينا عن زين العابدين أنه ترحم‬
‫عليهما»‪ .‬يعين الشيخني أبا بـكر وعمر‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪248‬‬

‫* وسأل عيسى بن دينار أبا جعفر الباقر عن أىب بـكر وعمر‪ .‬فقال‪ :‬مسلمني‬
‫رحهما هللا؟ فقلت له‪ :‬أتوالمها وأستغفر هلما؟ فقال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬أتأمرين بذلك؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فما أصابك فيهما فعلى عاتقي‪ ،‬وقال بيده على عاتقيه‪ ،‬وقال‪ :‬كان علي‬
‫بن أيب طالب بالكوفة خس سنني‪ ،‬فما قال فيهما إال خرياً‪ ،‬وال قال فيهما أيب إال‬
‫خرياً‪ ،‬وال أقول إال خرياً‪.‬‬
‫* وروى حممد بن إسحاق‪ ،‬عن أيب جعفر حممد بن علي قال‪ :‬من مل يعرف‬
‫فضل أيب بـكر وعمر رضي هللا عنهما فقد جهل السنة‪.‬‬
‫* وروى اإلمام حيىي بن حزة «أن اإلمام زيد بن علي كان كثري الثناء على‬
‫الشيخني أيب بكر وعمر والرتحم عليهما»‪.‬‬
‫الصـادق فذكره كل من اإلمام حيىي‪ ،‬واإلمام املهدي‪ ،‬وحيىي بن‬
‫* أما اإلمام َّ‬
‫احلسني‪ ،‬من القائلني بالرتضية عن املشايخ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫نٌ‬‫ضٌاهللٌع ٌِ‬ ‫* وسئل اإلمام القاسم بن إبراهيم عن قول هللا عز وجل‪﴿ :‬لو ٌدٌ َر ِ ٌَ‬
‫َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ‬ ‫حح‬ ‫ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬
‫ف ٌقلوب ِ ِه ٌْم ٌفأن َز ٌل ٌالسكِين ٌة ٌع ٌلي ِه ٌْمٌ‬
‫ت ٌالشج َر ٌةِ ٌفعل ٌَِم ٌما ٌ ِ ٌ‬
‫ك ٌَت ٌ‬
‫ني ٌإ ِ ٌذ ٌيقاي ِ ٌعون ٌ‬
‫الـمؤ ِمنِ ٌ‬
‫ََ َ َ ح ْ َ ْ ً َ ً‬
‫وأثابه ٌمٌفتحاٌق ِريقا﴾ [الفتح‪ .]18 /‬فقال‪« :‬كل مؤمن زكي‪ ،‬بايعه صلى هللا عليه حتت‬
‫الشجرة‪ ،‬فقد رضي هللا عنه‪ ،‬كما قال ال شريك له»‪.‬‬
‫* وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى كالماً لإلمام اهلادي حيىي بن‬
‫احلسني مث قال‪« :‬فوجب القطع بعد معرفة هذه اجلملة من كالمه بأنه يوجب‬
‫مواالهتم والرتضية عنهم ‪ -‬قال ‪ -‬وهو الذي عرفناه وتيقناه من متأخري أئمتنا‬
‫كاإلمام املؤيد باهلل حيىي بن حزة ووالدنا اإلمام املهدي لدين هللا علي بن حممد‪،‬‬
‫وولده الناصر حممد بن علي؛ فهو عقيدتنا وعليه اعتمادنا ملا اقتضته الرباهني‬
‫القاطعة»‪ .‬وهو ما فهمه اإلمام عز الدين بن احلسن من كالم اإلمام اهلادي‪،‬‬
‫فرجح أن رأيه الرتضية على الشيخني‪ ،‬وقال احلافظ حيىي بن احلسـني بن القاسم‬
‫‪249‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫أن يف رواية للهادي الرتضية عنهم‬


‫* وعن اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين قال اإلمام حيىي بن حزة‪:‬‬
‫«وكان املؤيد باهلل اهلاروين يف أول عمره وعنفوان شبابه متوقفاً عن الرتضية‪ ،‬مث‬
‫ترحم عليهما يف آخر عمره»‪ .‬ونقل العـالَّمة ابن حابسعن العـالَّمة الدواري أن‬
‫املؤيد باهلل ممن كان يرى الرتضية على املشايخ املتقدمني على علي عليه السالم‪.‬‬
‫* وجاء عن اإلمام عبد هللا بن حزة أنه قال عن اخللفاء‪« :‬هم خري الناس‬
‫على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وبعده‪ ،‬فرضي هللا عنهم وجزاهم‬
‫عن اإلسالم خرياً»‪ .‬مؤكداً أن «هذا مذهبنا مل خنرجه غلطة‪ ،‬ومل نكتم سواه‬
‫تقية‪ ،‬ومن هو دوننا مكاناً وقدوة يسب ويلعن‪ ،‬ويذم ويطعن‪ ،‬وحنن إىل هللا تعاىل‬
‫من فعله براء‪ ،‬وهذا ما يقضي به علم آبائنا‪ ،‬منَّا إىل علي عليه السالم‪ ،‬ويف هذه‬
‫الصحابة والرباء منهم‪ ،‬فيتربأ من حممد صلى‬ ‫اجلهة من يرى حمض الوالء سب َّ‬
‫هللا عليه من حيث ال يعلم»‪.‬‬
‫* وعن حيد احمللى أن اآلل يعتقدون املواالة للصحابة والرتضية عليهم‪ ،‬ونقل‬
‫عن علي عليه السالم الرتضية عليهم وعن طلحة والزبري وعائشة‪.‬‬
‫* ورجح اإلمام حيىي بن حزة الرتضية‪ ،‬وذكر أن التوقف ال معىن له؛ ألنه إذا‬
‫كان إسالمهم قبل اخلالف مقطوعاً به‪ ،‬وكذلك الرتضية والتزكية من جهة هللا‬
‫تعاىل ورسوله‪ ،‬ومل حيصل دليل قاطع ينقل عن ذلك‪ ،‬فال وجه للتوقف وترك‬
‫املعلوم للمظنون‪.‬‬
‫* وأفرد القاضي العالمة حيىي بن احلسن القرشي باباً يف (املنهاج) بعنوان‬
‫«إقامة الداللة على تزكيتهم والرتضية عنهم»‪.‬‬
‫* وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى‪« :‬وهو (= املواالة والرتضية) ما‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪250‬‬

‫عرفناه يقيناً من متأخري أئمتنا كاملؤيد باهلل حيىي بن حزة‪ ،‬ووالدنا اإلمام املهدي‬
‫لدين هللا علي بن حممد‪ ،‬وولده الناصر حممد بن علي»‪.‬‬
‫* وذكر العالَّمة حيىي بن احلسني يف ترمجة اهلادي بن إبراهيم الوزير من‬
‫(املستطاب) أن «ومن مصنفاته يف أصول الدين (كفاية القانع) صرح فيها‬
‫بالرتضية على املشايخ‪ ،‬ورجع فيه ويف غريه عما يف (إزهاق التمويه)‪.‬‬
‫* وقال القاضي العـالَّمة يوسف بن أحد بن عثمان الثالئي يف تفسري قول‬
‫ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫ت ٌالشج َر ٌةِ ٌفعل ٌَِم ٌ ٌما ٌ ِ ٌ‬
‫فٌ‬ ‫ك ٌَت ٌ‬
‫ني ٌإ ِ ٌذ ٌيق ٌاي ِعون ٌ‬
‫ن ٌالـمؤ ِمنِ ٌ‬ ‫هللا تعاىل‪﴿ٌ :‬لو ٌد ٌ َر ِ ٌَ‬
‫ض ٌاهلل ٌع ٌِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ‬
‫السك َِين ٌة ٌ َعل ْي ِه ٌْم ٌ َوأث َاب حه ٌْم ٌف ْت ًحا ٌق ِر ًيقا﴾[الفتح‪« :]18/‬ومن مثرات اآلية‬ ‫قلوب ِ ِه ٌم ٌفأنز ٌل ٌ‬
‫احلكـم بعدالة من بايع هذه البيعة (= بيعة الرضوان)؛ ألنه تعاىل ساهم مؤمنني‬
‫وأخرب بالرضا عنهم‪ ،‬وأخرب حبسن سرائرهم‪ ،‬ومدحهم بإنزال السكينة عليهم‪،‬‬
‫وهي طمأنينة قلوهبم واللطف املقوي لقلوهبم‪ ،‬وهذا يلزم منه وجوب مواالهتم‬
‫واحملبة هلم‪ ،‬فتكون الرتضية أرجح من التوقف‪ ،‬ويلزم حسن الظن هبم»‪ .‬وهو‬
‫كالم وجيه‪.‬‬
‫* وبسط اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى القول يف االحتجاج على‬
‫ترجيح القول بالرتضية عن الشيخني أيب بكر وعمر‪ ،‬مث قال‪« :‬فهو عقيدتنا وعليه‬
‫اعتمادنا ملا اقتضته الرباهني القاطعة اليت قدمنا ال ألجل تقليد آبائنا‪ ،‬وإن كان‬
‫الواجب االهتداء هبديهم؛ إذ هم سفينة النجاة من العذاب»‪ .‬ونقل حيىي بن‬
‫احلسني عنه قال‪ :‬قد تواتر الثناء على الشيخني من علي والصاحلني من ذريته‪،‬‬
‫مث انتقد املتوقفني عن الرتضية وقال نقول هلم‪« :‬أأنتم أعلم أم هللا ورسوله؟! فهال‬
‫استحسنتم ما استحسن هللا ورسوله‪ ،‬وتأسيتم برسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫الصحابة والدعاء هلم‪.‬‬
‫وسلم يف الثناء على َّ‬
‫* وقال اإلمام عز الدين بن احلسن‪« :‬أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم‬
‫‪251‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫القول بعدم التفسيق ‪ -‬يعين ملن نفى إمامة اإلمام ‪ -‬وهلذا نُِقل عنهم حسن‬
‫الثناء على املشايخ املتقدمني على أمري املؤمنني علي بن أيب طالب عليه السالم‪،‬‬
‫والرتضية عنهم والتعظيم العظيم هلم»‪.‬‬
‫* ومن القائلني بالرتضية اإلمام حيىي شرف الدين حسب رواية العـالَّمة‪ ،‬حيىي‬
‫بن احلسني بن القاسم‪ ،‬والعالمة أحد بن عبد هللا اجلنـداري‪.‬‬
‫* ونقل القاضي أحد بن حيىي حابس عن القاضي العالمة عبد هللا الدواري‬
‫أن ممن اختار الرتضية‪ :‬السيد املؤيد باهلل أحد بن احلسني هلاروين والقاضي أحد‬
‫الكين والقاضي جعفر بن أحد وغريهم‪ .‬مث قال‪ :‬وهو قول أكثر متأخري الزيدية‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬لسابقتهم وثناء الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم عليهم‪ ،‬وما جاء يف‬
‫القرآن من األخبار برضا هللا عنهم‪ ،‬كقوله تعاىل‪( :‬لقد رضي هللا عن املؤمنني إذ‬
‫يبايعونك حتت الشجرة)‪ ،‬وعلى اجلملة فنحن من إمياهنم على يقني وال ننتقل‬
‫عنه إالَّ بيقني‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الجارودية انتماء زيدي بأفكار إمامية‬


‫يُ ْش ِكل على كثري من القراء ما جيدون لدى بعض املعروفني بانتمائهم إىل‬
‫الزيدية‪ ،‬من نزعات الغلو والتطرف يف املسائل املتعلقة مبكانة أهل البيت ودورهم‪،‬‬
‫َّ‬
‫وما يتعلق بذلك من مسألة اإلمامة والصحابة؛ فيتصورون أن ذلك رأياً غالباً عند‬
‫الزيدية‪ ،‬فيصنفوهنم يف فِرق الغالة‪ ،‬خصوصاً مع وجود نصوص ومواقف توحي‬ ‫َّ‬
‫بذلك‪.‬‬
‫والزيديـة ال ينكرون وجود نصوص ومواقف يف تراثهم توحي بشيء من الغلو‪،‬‬
‫غري أهنم مييزوهنا عن مسارهم العام‪ ،‬حينما يعتربوهنا مدخالت جلبها أشخاص‬
‫من خارج املدرسة‪ ،‬وبذروها يف مواسم اخلصومة‪ ،‬وتعهدوها بالرعاية يف أجواء‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪252‬‬

‫التعصب والتنافر الذي أوجدته املذهبية يف ثقافة املسلمني‪ ،‬وساعدهم على ذلك‬
‫ردود الفعل السلبية يف معاجلة األخطاء‪ ،‬وغياب اإلنصاف لدى املتخاصمني‪.‬‬
‫فمنذ زمن قدمي سجل علماء الزيدية أن بداية تسرب مدخالت الغلو جاءت‬
‫عن طريق شخص يعرف بـ(أيب اجلارود) اسه‪ :‬زياد بن املنذر األعمى‪ ،‬عاش يف‬
‫بداية القرن الثاين‪ ،‬وتوىف بعد سنة (‪ 150‬هـ)‪ ،‬وهو من أهل الكوفة‪ ،‬كان معروفاً‬
‫بالغلو يف أهل البيت‪ ،‬وكان على مذهب اإلمامية أكثر عمره‪ ،‬مث انضم إىل أتباع‬
‫اإلمام زيد بن علي‪ ،‬فذمه علماء اإلمامية‪ ،‬وزعموا أن اإلمام الصادق لعنه‪ ،‬وأن‬
‫اإلمام الباقر ساه‪( :‬سرحوباً)‪ ،‬باسم شيطان أعمى يسكن البحر‪ ،‬حسب‬
‫وصفهم‪.‬‬
‫الزيدية‪،‬‬
‫وبذلك التحول كان أبو اجلارود جسراً لنقل األفكار اإلمامية إىل َّ‬
‫الفرق واجلماعات على من اتفق معه‬ ‫وأصبح لقب (اجلارودية) يطلق يف كتب ِ‬
‫من الزيدية يف مسألتني‪:‬‬

‫ص على أن اإلمام علي بن أيب طالب رضي هللا‬ ‫إحداهما‪ :‬أن رسول هللا ن َّ‬
‫عنه خليفة من بعده؛ أما باسه أو باإلشارة إليه بصفات مميزة ال تكاد توجد إال‬
‫فيه‪.‬‬
‫وبعضهم يتفق مع ما يذهب إليه اإلمامية يف أن النص على اإلمام علي رضي‬
‫هللا عنه كان جلياً ال حيتمل التأويل‪ ،‬وأن أبا بـكر وعمر رضي هللا عنهما كانا‬
‫على علم بذلك النص‪ ،‬وكانا يدركان داللته على حق علي يف اخلالفة‪ ،‬ولكنهما‬
‫أقدما على خمالفته عناداً هلل ورسوله وطمعاً يف حطام الدنيا!!‬

‫وثانيهما‪ :‬أن اإلمامة بعد النيب يف مقام النبوة‪ ،‬باعتبارها خالفة هلا‪ ،‬فال بد‬
‫‪253‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫من أن تكون باختيار إهلي‪ ،‬فال دخل للبشر يف تعيني اخلليفة‪ ،‬وال اعرتاض هلم‬
‫على فكره‪ ،‬وعليهم النزول على حكمه‪ .‬وهذا هو جوهر رأي (اإلمامية)‪ ،‬ولكن‬
‫اجلارودية مل يصرحوا بالنص على تعيني أناس بأسائهم‪ ،‬ومل يدعوا هلم العصمة‪،‬‬
‫واكتفوا بالقول بأن هللا اختص أبناء احلسنني باخلالفة‪ ،‬فال يصح أن يكون إمام‬
‫األمة إال من أحد البطنني‪.‬‬
‫وهذا ما ُعرف عنهم لدى املهتمني بشأن الفرق اإلسالمية‪ ،‬فقد نقل ال ُـمزي‬
‫عن النوخبيت (املتوىف حوايل ‪306‬هـ) ‪ -‬وهو من أقدم من حتدث عن الفرق ‪:-‬‬
‫أن اجلارودية ترى «أن علي بن أيب طالب عليه السالم أفضل اخللق بعد رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم وأوالهم باألمر من مجيع الناس‪ ،‬وتربأوا من أيب بـكر‬
‫وعمر رضي هللا عنهما وزعموا أن اإلمامة مقصورة يف ولد فاطمة عليها السالم‪،‬‬
‫وأهنا ملن خرج منهم يدعو إىل كتاب هللا وسنة نبيه»‪.‬‬
‫وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى (‪ 840‬هـ)‪ :‬أن «اجلارودية منسوبة‬
‫إىل أيب اجلارود زياد بن منذر العبدي أثبتوا النص على علي عليه السالم بالوصف‬
‫دون التسمية‪ ،‬وكفَّروا م ْن خالف ذلك النص‪ ،‬وأثبتُوا اإلمامة لِلبطْن ِ‬
‫ني بالدعوة مع‬ ‫ُ‬
‫العلم والفضل‪ .‬وينسب إىل بعضهم القول بالغْيبة وليس بصحيح»‪ .‬وحنو هذا‬
‫ذكر اإلمام عز الدين بن احلسن يف (املعراج)‪ ،‬إال أنه قال‪« :‬وينسب إليهم تكفري‬
‫من خالف النص» ومل جيزم بذلك‪.‬‬
‫وذكر العالمة املؤرخ حيىي بن احلسني يف (املستطاب) «أن أبا اجلارود هو‬
‫الذي أثبت النص على (علي) بالوصف الذي ال يوجد إال فيه دون التسمية‪،‬‬
‫على معىن أنه مل يكن النص على إمامته صرحياً باسه‪ ،‬بل بأوصاف واضحة مل‬
‫ت به جعلوها كالنص عليه باسه‪ ،‬وأثبت هو ومن‬ ‫توجد إال فيه‪ ،‬ولما اختص ْ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪254‬‬

‫اتبعه اإلمامة يف البطنني (= ذرية احلسن واحلسني) بالدعوة مع العلم والفضل»‪.‬‬


‫أماٌالسيدٌَحيدانٌالواسيم وهو من رموز اجلارودية يف القرن السابع‪ ،‬فذكر‬
‫يرضي عن اخللفاء‪ ،‬وحيسن‬ ‫أنه وجد جواباً لإلمام عبد هللا بن حزة عن حكم من ِ‬
‫الزيدية‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا ِ‬
‫أقدم علياً عليه السالم وأرضي عن املشايخ‪،‬‬ ‫الظن هبم وهو من َّ‬
‫وهل جتوز الصالة خلفه؟ فأجاب قائالً قائال‪« :‬إن هذه مسألة غري صحيحة‪،‬‬
‫الزيدية على احلقيقة هم اجلارودية‪ ،‬وال يعلم يف األئمة‬
‫فيتوجه اجلواب عنها؛ ألن َّ‬
‫عليهم السالم من بعد زيد بن علي عليهما السالم من ليس جبارودي‪ ،‬وأتباعهم‬
‫كذلك‪ ،‬وأكثر ما نقل وصح عن السلف فهو ما قلنا ‪ -‬من التوقف ‪ -‬على‬
‫تلفيق واجتهاد‪ ،‬وإن كان الطعن والسب من بعض اجلارودية ظاهراً»‪.‬‬
‫ويف هذه الرواية عن اإلمام عبد هللا بن حزة‪ ،‬نظر من عدة أوجه‪ ،‬نلخصها‬
‫يف اآليت‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يف صحة نسبته إىل اإلمام عبد هللا بن حزة نظر؛ ملعارضته ملا يف‬
‫كتبه املشهورة‪ ،‬مما أوردنا‪ ،‬ومن ذلك قوله‪« :‬وقد وقعت أمور هنالك رددنا أمرها‬
‫الصحابة عموماً‪ ،‬فإن دخل املتقدمون على علي‬ ‫إىل هللا عز وجل‪ ،‬ورضَّينا على َّ‬
‫عليه السالم يف صميمهم يف علم هللا سبحانه مل حنسدهم رحة رهبم‪ ،‬وإن‬
‫أخرجهم سبحانه بعلمه الستحقاقهم فهو ال يـُتَّهم يف بريته‪ ،‬وكنا قد سلمنا خطر‬
‫االقتحام‪ ،‬وأدينا ما يلزمنا من تعظيم أهل ذلك املقام‪ ،‬الذين حوا حوزة اإلسالم‪،‬‬
‫ونابذوا يف أمره اخلاص والعام»‪ .‬فصرح بأن رأيه الرتضية على عموم الصحابة‪،‬‬
‫وهللا هو الذي سيتوىل أمرهم‪.‬‬
‫وقد تقدم كالم كثري لإلمام عبد هللا بن حزة يتربأ فيه من أي تطاول على‬
‫اخللفاء‪ ،‬وهذا ما ال يرتضيه اجلارودية‪.‬‬
‫‪255‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫ثانيها‪ :‬أن آخر هذا الكالم ينقض أوله‪ ،‬فبينما يزعم السيد حيدان أن أئمة‬
‫الزيدية جارودية‪ ،‬يؤكد أمنا نُقل وصح عن السلف من األئمة هو التوقف عن‬
‫السب‪ ،‬وهو خالف ما عليه اجلارودية حسب كالمه هو‪.‬‬
‫ثاثلها‪ :‬أن اإلمام حيىي بن حزة قد بني معىن كالم عبد هللا بن حزة إن صح‪،‬‬
‫فذكر أمنا غرض املنصور باهلل أن األئمة من بعد زيد بن علي قائلون بأن إمامة‬
‫اإلمام علي ثابتة بالنص‪ ،‬كمقالة أيب اجلارود‪ ،‬ال ألهنم متابعون له بالقول يف‬
‫إكفار الصحابة وتفسيقهم‪ .‬مؤكدا «أنه مل يرو عن املنصور باهلل تكفري وال‬
‫تفسيق‪ ،‬وحاشا لفكرته الصافية وعزميته السامية أن يكون متضمخاً برذائل التقليد‬
‫للجارود وغريه‪ ،‬وإذا كان ال بد من املتابعة فزيد بن علي أحق بالتقليد من غريه»‪.‬‬
‫فاتضح أن اجلارودية تتفق مع مجهور الزيدية على القول بوجود نص على‬
‫اإلمام علي‪ ،‬وخمتلفون وصفه والطعن على خمالفه من الصحابة‪ ،‬فهم يف األوىل‬
‫مجيعاً زيدية‪ ،‬وليسوا كذلك يف الثانية‪.‬‬
‫وهنا ال بد من اإلشارة إىل أن اجلارودية ليست فرقة مكتملة املعامل‪ ،‬كما‬
‫الفرق؛ إذ ليس هلا آراء يف خمتلف املسائل الفكرية‪ ،‬كما‬ ‫توحي به بعض كتب ِ‬
‫هو حال ِ‬
‫الفرق املشهورة‪ ،‬ولكن (اجلارودية) جمرد لقب ُمييز به من وافق أبا اجلارود‬
‫يف مسألة اإلمامة‪ ،‬وهي من املسائل يغلب عليها اجلانب السياسي‪ ،‬فرأي أيب‬
‫اجلارود هذا رأي سياسي‪ ،‬وليس مذهبا فكرياً خالصاً‪ ،‬فاملوصوفون من الزيدية‬
‫بأهنم جارودية هم أصحاب نظرية إالهية اإلمامة‪.‬‬
‫وعرب ٌالورون كان للجارودية حضور متفاوت يف احلياة الفكرية والثقافية‬
‫للزيدية‪ ،‬فأما القرون األوىل فكان مثَّ جتاهل من قبل كبار العلماء ألفكار‬
‫اجلارودية‪ ،‬بل كانت مشمولة مبا يوجهونه من نقد ألفكار اإلمامية املشرتكة يف‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪256‬‬

‫جذورها مع ما جاءت به اجلارودية‪ ،‬غري أن انتشار التشيع يف القرن الرابع‬


‫مكن بطريقة أو بأخرى من بداية تأصيل وتنظري لنظريات اجلارودية‬ ‫وازدهاره‪َّ ،‬‬
‫داخل املدرسة الزيدية‪ ،‬واستمر ذلك حىت بلغ أوجه يف القرن اخلامس اهلجري‬
‫أيام دولة بين بويه وبين حدان‪.‬‬
‫ويف القرن السادس اهلجري ظهرت اجلارودية يف بعض مناطق اليمن بقوة‬
‫نتيجة الفراغ الذي تركته الصراعات بني أبناء أئمة الزيدية‪ ،‬حىت قال نشوان بن‬
‫سعيد احلمريي (‪573‬هـ)‪« :‬ليس يف اليمن من فرق َّالزيدية غري اجلارودية‪ ،‬وهم‬
‫بصنعاء وصعدة وما يليهما»‪ .‬وهو هبذا حيكي واقع الزيدية يف عصره‪.‬‬
‫مث تراجع املد اجلارودي بعد توقف احلروب وعودة املدرسة الزيدية للنشاط‬
‫الفكري‪ ،‬الذي ظهر بربكاته أئمة كبار‪ ،‬كاإلمام حيىي بن حزة‪ ،‬والعالمة حيىي بن‬
‫احلسن القرشي‪ ،‬ومعاصروه‪ ،‬ومن بعدهم جاء اإلمام املهدي أحد بن حيىي‬
‫املرتضى‪ ،‬واإلمام حممد بن إبراهيم الوزير‪ ،‬والقاضي يوسف بن أحد الثالئي‬
‫ومعاصروهم‪ ،‬ومن بعدهم جاء اإلمام عز الدين بن احلسن والسيد صارم الدين‬
‫الوزير والعالمة علي بن حممد البـكري ومعاصروهم‪ ،‬وقد متكنت هذه الطبقات‬
‫من كبار علماء الزيدية من ملء الفراغ وقطع الطريق على تسلل اجلارودية داخل‬
‫املدرسة الزيدية‪.‬‬
‫وما إن عادت النزاعات يف اليمن‪ ،‬وظهرت تيارات متطرفة حمسوبة على التوجه‬
‫السين حىت عادت اجلارودية للظهور‪ ،‬وراجت يف القرن احلادي عشر اهلجري وما‬
‫بعده‪ ،‬وظلت يف مد وجزر إىل أيامنا هذه اليت يغلب فيها على كثري من الدارسني‬
‫الزيدية امليل إىل مذهب اجلارودية لعدة أسباب‪:‬‬
‫من شباب َّ‬
‫أوهلا‪ :‬تراجع النشاط الفكري للمدرسة الزيدية األصيلة‪ ،‬نتيجة ارتباطها بنظام‬
‫‪257‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫سياسي معني‪ ،‬جعل من فرقاء السياسة خصوماً للمذهب‪ ،‬فعملوا جبد على‬
‫تغييب املذهب الزيدي‪ ،‬وشجعوا البدائل الفكرية وساعدوها على التمكن من‬
‫السيطرة على املؤسسات الرتبوية والتعليمية واإلرشادية‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬اقتصر زعماء املدرسة الزيدية يف عصرنا على استهالك ُمنتج فكري‬
‫معني‪ ،‬مما جعله غري فاعل يف التجديد على مستوى الفكر واحلياة‬ ‫والفقهي َّ‬
‫اليومية‪ ،‬إىل جانب غياب الشخصيات العلمية القادرة على التجديد‪ ،‬وترتيب‬
‫أولويات املدرسة‪ ،‬على أن املدرسة الزيدية مل ختل من جمتهدين ولكنهم مل يكونوا‬
‫قادرين على التجديد‪.‬‬
‫ثاثلها‪ :‬ردة الفعل الناجتة عن اهلجوم الذي تعرض له املذهب الزيدي من قبل‬
‫ما يطلقون عليه «الوهابية» الذين مل يفرقوا يف هجومهم بني زيدي وجارودي‪،‬‬
‫وعمموا موقف اجلارودية على سائر الزيدية‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬طغيان مد املذهب اإلمامي من خالل املطبوعات والفضائيات‬
‫واإلنرتنت يف وقت خلت الساحة الزيدية ‪ -‬أو كادت ‪ -‬مما ميأل الفراغ‪ ،‬وتسلل‬
‫داء التطاول على الصحابة من خالل النَّفس اجلارودي الذي يتفق مع مذهب‬
‫اإلمامية يف بعض مسائل اإلمامة والصحابة والتفضيل‪.‬‬
‫خامسها‪ :‬حتالف بعض احلركات السياسية الزيدية مع دولة إيران‪ ،‬مما أدى‬
‫إىل رغبة يف إظهار مواطن االتفاق بني الزيدية واإلمامية‪ ،‬والتغاضي عن خمتلف‬
‫صور االختالف‪ ،‬حىت على مستوى نشر وطباعة كتب الزيدية‪ ،‬حيث صارت‬
‫األولوية لنشر الكتب األقرب للنفس اجلارودي‪.‬‬
‫الصحابة‬
‫موقف الجارودية من َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬وتوافق إىل‬
‫الزيدية جتاه َّ‬
‫اختلف موقف اجلارودية عن موقف سائر َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪258‬‬

‫حد كبري مع موقف اإلمامية االثين عشرية‪ ،‬وصاروا يـْرُمون من قوس واحد‬
‫ويشرتكون يف احلجج نفسها‪ ،‬على الرغم من أن السيد حيدان بن حيىي القاسي‬
‫‪ -‬وهو من جارودية القرن السابع ‪ -‬حكى عن سلفه من اجلارودية يف مسألة‬
‫الصحابة قولني؛ األول‪ :‬قول من يذهب إىل تفسيق من تقدم علياً يف اخلالفة‪،‬‬
‫والثاين‪ :‬قول من يتوقف فيهم‪ .‬وأكد أن الثاين هو أكثر ما نُقل وصح عن‬
‫السلف‪ ،‬وقرر أن املتوقفني هم أهل التحصيل منهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫وعن كالم السيد حيدان قال حيىي بن احلسني جاء بلفظ‪« :‬وهذا رأي غري‬
‫احملصلني منهم»‪ .‬مث رأيت من صحفها من جارودية الزمان‪ ،‬فحذف من نسخته‬
‫اليت كتبها لفظ‪( :‬غري)‪ .‬فقاتله هللا ما أجرأه على الكذب والتحريف‪.‬‬
‫وذكر احلسن بن بدر الدين صاحب (أنوار اليقني) وهو جارودي آخر أن‬
‫ومفسق‪.‬‬‫اجلارودية بني متوقف ُ‬
‫وأكد شيخ األئمة عبد هللا الدواري يف (تعليقه على شرح القاضي زيد) أن‬
‫القول بتكفري املتقدمني على اإلمام علي هو مذهب بعض اإلمامية‪ ،‬وأن القول‬
‫بالتفسيق أشهر الروايات عن اجلارودية‪ ،‬وإليه ذهب بعض اإلمامية(‪.‬‬
‫وجزم اإلمام أحد بن سليمان (املتوىف‪566 :‬هـ)‪ :‬أن اجلارودية يتربأون ممن‬
‫تقدم اإلمام علياً‪ ،‬مث رجح قوهلم لنفسه‪ ،‬فقال‪« :‬وعندنا أن من تقدم على أمري‬
‫املؤمنني علي عليه السالم أو َّ‬
‫قدم عليه بعد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فقد‬
‫ظلمه وجحد حقه‪ ،‬وهو كافر نعمة فاسق ظامل‪ ،‬وقد هتدد هللا الظاملني بالنار‬
‫واخلزي والبوار‪ ،‬وقد صح أهنم ظلموه حقه وأنكروه سبقه غري جاهلني وال‬
‫شاكني»‪.‬‬
‫قال العـالَّمة حيىي بن احلسني‪ :‬مل يتابع اجلارودية يف مقالتهم إال اإلمام أحد‬
‫بن سليمان‪ .‬وذكر يف كتاب آخر أنه عاد عن جاروديته‪ ،‬مؤكداً أن ما يروى عنه‬
‫‪259‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫إما مدسوس عليه‪ ،‬أو أنه قد رجع عنه‪.‬‬


‫وذكر السيد حيدان عن اإلمام القاسم العياين (‪393‬هـ) أنه قال يف كتاب‬
‫(ذم األهواء والوهوم)‪« :‬قد أتى اخلرب أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مل يفارق‬
‫الدنيا حىت خولف أمره يف جيش أسامة وغريه‪ ،‬ومن قبل ما فعل القوم أخرب هللا‬
‫ُّ ح ح َ َ ْ‬ ‫َْ َ َ ْ ْ َْ‬ ‫َ َ ح َ َّ َّ ح‬
‫نٌ‬
‫ل ٌأف ٌإِ ٌ‬
‫ِن ٌققلِ ٌِه ٌالرس ٌ‬ ‫ال ٌ َرسولٌ ٌق ٌد ٌخل ٌ‬
‫ت ٌم ٌ‬ ‫بفعلهم فقال عز من قائل‪﴿ :‬وما ٌُممدٌ ٌإ ِ ٌ‬
‫َ ًْ‬ ‫َ َ َْ ح َ ْ َ َْح ْ ََ َ ْ َ ح ْ َ َ ْ ََْ ْ ََ َ َْ َ َ ْ َ ح‬
‫ن ٌي ٌَّ‬
‫ض ٌاهلل ٌش ٌيئاٌ‬ ‫َع ٌع ِوقي ٌِه ٌفل ٌ‬
‫ِب ٌ ٌ‬
‫ن ٌينول ٌ‬
‫َع ٌأعوابِك ٌم ٌوم ٌ‬
‫ل ٌانولقت ٌم ٌ ٌ‬
‫ات ٌأ ٌو ٌقتِ ٌ‬
‫م ٌ‬
‫َّ‬ ‫ََ ْ‬
‫َوسيج ِزيٌاهللٌالشاك ِِر ٌَ‬
‫ين﴾ [آل عمران‪.]144/‬‬
‫فلم يكن الشاكرون ‪ -‬فيما بلغنا ‪ -‬إال علي وذرية رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم وذرية أمري املؤمنني‪ ،‬ومن تبعهم من املؤمنني؛ فكانت هذه أول فرقة‬
‫أمة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم فكان الناس كلهم فرقة‪ ،‬وكان علي وأصحابه‬
‫أمة ثانية؛ فلم يزل أمري املؤمنني مع الكتاب كما ذكر رسول هللا والقوم يف دنياهم‬
‫خيبطون خبط العشواء ال يهتدون إال ما هداهم له عليه السالم عند فزعهم يف‬
‫بعض األمور إليه‪ ،‬تثبيتاً للحجة عليهم‪ ،‬وهم يُد ِولون واليتهم أدوال من كان من‬
‫أمم األنبياء قبلهم»‪.‬‬
‫ويف (كتاب التنبيه) له‪« :‬وسألت عن السواد األعظم‪ ،‬يشهدون باألمر‬
‫واخلالفة لصاحب الغار‪ ،‬وينكرون قول رسول هللا‪( :‬من كنت مواله فعلي مواله)‪.‬‬
‫فاجلواب‪ :‬اعلم أيها األخ ‪ -‬أكرمك هللا ‪ -‬أن هؤالء سامرية أمة حممد صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم ال فرق بينهم وبني سامرية أمة موسى صلى هللا عليه‪ ،‬وقد ُرفض‬
‫علي كما ُرفض هارون‪ ،‬فال فرق بني علي وهارون‪ ،‬وال فرق بني من رفض رسل‬
‫هللا واتبع هواه‪ ،‬وهللا جمازي كل نفس مبا كسبت من خري وشر‪ ،‬فجعلنا هللا من‬
‫الكاسبني خرياً برحته»‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪260‬‬

‫فهذه من األقوال الصادرة عن أئمة اجلارودية‪ ،‬وحيسن التنبيه هنا على أن‬
‫الزيدية‪ ،‬ويعملون على تعميم‬
‫اجلارودية يقدمون أفكارهم للناس على أهنا هي َّ‬
‫الزيدية‪ ،‬حىت إن بعضهم قام جبمع بعض نصوص‬ ‫الصحابة على مجيع َّ‬
‫موقفهم من َّ‬
‫األئمة يف شأن اخلالفة وزعم أهنا تؤيد موقف اجلارودية‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫(‪ )1‬ما تضمن كتاب (املصابيح) أليب العباس احلسين (‪353‬هـ)‪ ،‬والذي قال‬
‫عنه اإلمام عز الدين بن احلسن‪« :‬وممن يظهر عنه التجرم على املشايخ والنفحات‬
‫اليت تقضي بالتفسيق‪ :‬السيد أبو العباس احلسين رحه هللا‪ ،‬فمن طالع كتابه‬
‫(املصابيح) رأى ما يقضي بأنه كان إمامي املذهب‪ ،‬وقد روى فيه أخباراً عن‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬تدل على الفسق وتشعر به»‪.‬‬
‫وقال العالمة حيىي بن احلسني‪« :‬وله أيضاً كتاب (املصابيح) يف التاريخ‪ ،‬ذكر‬
‫فيه األئمة الدعاة‪ ،‬وسلك فيه مسلك اجلارودية من الزيدية‪ ،‬ولعله كان جاردوياً»‪.‬‬
‫(‪ )2‬ما تضمنت كتايب (احلكمة الدرية) و(حقائق املعرفة) لإلمام أحد بن‬
‫سليمان (‪566‬هـ)‪ .‬وقد تقدم كالم حيىي بن احلسني بأنه مل يوافق اجلارودية يف‬
‫مسألة الصحابة سوى اإلمام أحد بن سليمان‪.‬‬
‫على أن بعض علماء الزيدية السابقني وبعض مشاخينا كالسيد العالمة جمد‬
‫الدين املؤيدي يشككون يف صحة نسبة بعض النصوص إليه‪ ،‬ويذكرون إىل فيمها‬
‫ما هو مدسوس على اإلمام‪.‬‬
‫(‪ )3‬ما تضمن كتاب (أنوار اليقني) للحسن بن بدر الدين (‪670‬هـ)‪ ،‬من‬
‫أخبار وحكايات حادة‪ ،‬غري أن تلك األشياء منقولة عن كتب بعض الغالة ال‬
‫الزيدية‪ .‬حىت إن احلافظ إبراهيم بن القاسم بن املؤيد باهلل عد أن ما‬
‫عن كتب َّ‬
‫‪261‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫الزيدية إىل منهج اإلمامية‪ ،‬فقال‪« :‬ذكر فيه أشياء عجيبة‪،‬‬


‫فيه خارج عن منهج َّ‬
‫ومناقب مجة‪ ،‬مييل فيه إىل ما يرجحه املرتضى والرضي املوسويان‪ ،‬وغريمها من‬
‫األشراف احلسينيني من أن اخلطأ من املتقدمني على اإلمام علي عليه السالم‬
‫كبرية‪ ،‬وأن النص يف إمامته صريح»‪.‬‬
‫(‪ )4‬ما تضمن كتاب (جمموع السيد حيدان) (ق ‪7‬هـ)‪ ،‬وقد جزم بأنه يلزم‬
‫الشيعي «أن يدين هللا تعاىل بأن املشايخ أئمة ضالل‪ ،‬وأن كل متبع هلم ضال؛‬
‫ألن احلق إذا تعني مع علي؛ لزم أن يكون الضالل مع خمالفه»‪.‬‬
‫(‪ )5‬مباحث تضمنها كتاب (الآليل الدرية شرح األبيات الفخرية) للسيد‬
‫حممد بن حيىي بن احلسن القاسي‪ .‬وهو تلميذ احلسن بن بدر الدين‪ ،‬وذكر يف‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫كتابه أهنا جرت بينه وبني اإلمام حيىي بن حزة مناظرة يف شأن َّ‬
‫وعن كتابه قال العالمة حيىي بن احلسني‪« :‬خرج يف الشرح إىل مذهب‬
‫اجلارودية فكدره بذلك‪ ،‬وتعدى فيه إىل سب الصحابة‪ ،‬فال قوة إال باهلل‪ .‬وروى‬
‫أشياء يف شرحه هذا غري صحيحة‪ ،‬فال يغرت هبا‪ ،‬فإهنا ختالف عقائد السلف من‬
‫علماء أهل البيت وغريهم‪ .‬مع أن املذكور شرح يف خطبة كتابه هذا أنه ال حيسن‬
‫لشيء من علم العربية‪ ،‬وال يعرفه املعرفة احلقيقية‪ ،‬فقد اعرتف بقصوره عن مرتبة‬
‫العلماء‪ ،‬فكيف التأليف وهو ال يعرف نفائس العلوم وأساسها‪ ،‬ومدار معرفة‬
‫املعاين واملقاصد وغراسها»‪.‬‬
‫(‪ )6‬كتاب بعنوان (الياقوتة املضيئة يف معرفة اإلمامة) للقاسم بن جنم الدين‬
‫القاسي (‪1064‬هـ) أورد فيه بعض ما جاء يف (أنوار اليقني) و(جمموع السيد‬
‫حيدان)‪ ،‬مع ذكر بعض النصوص من (هنج البالغة)‪ .‬وقد سأل نفسه يف آخر‬
‫الكتاب إن كان يتبىن السب والرباءة فلم جيزم بذلك‪ .‬فلو كان فيما نقله من‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪262‬‬

‫األقوال م ْقنعاً ألخذ به‪.‬‬


‫(‪ )7‬كتاب بعنوان (مناظرة الشيعي والناصيب) إلبراهيم بن حيىي األخفش‪،‬‬
‫وهو شخص جمهول بالنسبة يل مل أقف له على ترمجة‪ ،‬وقد اطلعت على كتابه‬
‫املذكور فوجدته مجع فيه روايات عن األئمة‪ ،‬وزعم بأهنا تؤيد قول اجلارودية‪،‬‬
‫وليست كذلك‪.‬‬

‫(‪ )8‬كتاب بعنوان (السيف الباتر املضـيء لكشف اإلهبام والتمويه يف إرشاد‬
‫الغيب) إلساعيل بن عز الدين النعمي (‪1220‬هـ)‪ ،‬وقد رد فيه على كتاب‬
‫الشوكاين (إرشاد الغيب)‪ ،‬وقد اطلعت عليه فوجدت مؤلفه انتقد الشوكاين على‬
‫تلميحه إىل موقف اجلارودية منكراً أن يكون هنالك من يُقدم على سب أو براءة‬
‫أو يتطاول بتكفري أو تفسيق‪ ،‬وصرح بتوقفه يف املسألة‪ ،‬مث عاد ليحكم بالفسق‬
‫ويتطاول يف التجريح‪.‬‬

‫(‪ )9‬كتاب بعنوان (العسجد املذاب يف منهج اآلل يف األصحاب) إلساعيل‬


‫بن حسني جغمان (‪1256‬هـ)‪ ،‬يقال إنه رد على كتاب (إرسال الذؤابة) للوزير‪،‬‬
‫بذل ما بوسعه من إيراد أقوال األئمة‪ ،‬وقد اطلعت عليه فوجدت أن معظم ما‬
‫روى عنهم ال يتجاوز ذكر أولوية اإلمام علي‪ ،‬وذلك أمر خمتلف عن السب‬
‫والرباءة‪.‬‬

‫(‪ )10‬كتاب بعنوان (الرسالة املوضحة للحق‪ ،‬الرافعة للتلبيس على اخللق)‬
‫ويسميه بعضهم (طراز األسانيد) وهو لصالح بن علي بن حممد القاسي املغديف‬
‫(‪1085‬هـ) وقد خصصه لتحرمي الرتضية على اخللفاء الراشدين ومل يرتك جهداً يف‬
‫الطعن عليهم‪ ،‬واعتمد بشكل ملحو على ما يرويه اإلمامية يف كتبهم‪.‬‬
‫‪263‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫وقد نظرت يف أكثر تلك الكتب واملباحث؛ فوجدت أن معظم ما تضمنته‪:‬‬


‫يرتكز حول اإلشادة مبكانة أهل البيت وفضائلهم‪ ،‬ويتحدث عن أولوية اإلمام‬
‫علي باخلالفة‪ ،‬وذكر أدلتهم على ذلك وتضعيف حجج خمالفيهم‪ .‬وبعضه‬
‫يتعرض لذكر حوادث تارخيية معينة‪ ،‬كقصة فدك‪ ،‬وبيعة اخللفاء الراشدين‪ ،‬وجيش‬
‫أسامة‪ ،‬ويستنتج من ذلك خمالفات تدين املشايخ الثالثة‪ ،‬وبعضه يتضمن جترحياً‬
‫ملناوئي اإلمام علي رضي هللا عنه كمعاوية وعمرو بن العاص واملغرية بن شعبـة‬
‫وأشبـاههم‪ ،‬دون اخللفاء الراشدين‪ ،‬وبعضه يتضمن طعناً يف اخللفاء الراشدين‬
‫تصرحياً أو مبا يقتضيه ظاهر الكالم‪.‬‬
‫وما يعنينا هنا هو النوعان األخريان‪ ،‬ومها ‪ -‬بصرف النظر عن صحة النقل‬
‫‪-‬؛ إما جمرد اعرتاض على حدث‪ ،‬يرون أن غريه كان أوىل منه وأصلح‪ ،‬من دون‬
‫براءة أو سباب‪ ،‬وإما طعن ظاهر وبراءة صرحية وسباب ِبني‪ ،‬وهو قليل بل نادر‬
‫خصوصاً يف حق اخللفاء‪ .‬وقد أوردت ‪ -‬فيما مضى ‪ -‬ما وقفت عليه من أقوال‬
‫منسوبة إىل األئمة‪ ،‬وعقَّبت عليها مبا رأيته مناسبا‪ ،‬كالً يف موضعه‪.‬‬

‫الصحابة‬
‫مخالفة الجارودية للزيدية في شأن َّ‬
‫الزيدية‪ ،‬وبيَّنوا‬
‫الزيدية على متييز موقف اجلارودية عن موقف سائر َّ‬
‫عمل علماء َّ‬
‫أن اجلارودية يعتمدون يف الدرجة األوىل على ما جاء يف كتب اإلمامية مباشرة‬
‫أو بواسطة‪ ،‬مث يتأولون بعض النصوص يف ضوئها‪.‬‬
‫الزيدي يف (احمليط باإلمامة) نسب إىل اجلارودية ما نزه‬
‫* فعلي بن احلسني َّ‬
‫الزيدية‪ ،‬فقال‪« :‬ذهبت (اجلارودية) إىل التربؤ من القوم»‪.‬‬
‫عنه سائر َّ‬
‫* واعترب اإلمام عبد هللا بن حزة الطعن والسب مما اختصت به اجلارودية دون‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪264‬‬

‫السلف من أهل البيت‪ ،‬حيث حكى عنه السيد حيدان أن «أكثر ما نقل وصح‬
‫عن السلف فهو ما قلنا ‪ -‬من التوقف ‪ -‬على تلفيق واجتهاد‪ ،‬وإن كان الطعن‬
‫والسب من بعض اجلارودية ظاهراً»‪.‬‬

‫* أما اإلمام حيىي بن حزة فأورد أقوال األئمة يف الثناء على أيب بـكر وعمر‪،‬‬
‫مث قال‪« :‬وهذا هو املعتمد عليه عند أكابر أهل البيت؛ فأين هذا عن هذيان‬
‫الروافض واجلارودية؟! فاهلل حسبهم فيما قالوه ومكافئهم على ما نقلوه وكذبوه»!‬
‫الزيدية بالتخطئة للصحابة‬
‫وأكد «أن اجلارودية خمتصون من بني سائر الفرق َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬وهللا حسبهم فيما‬‫وتفسيقهم‪ ،‬وقد نقل عن بعضهم إكفار بعض َّ‬
‫زعموه واعتقدوه وهو هلم باملرصاد‪ ،‬وهذه املقالة ال تُنسب إىل أحد من أكابر‬
‫أهل البيت وعلمائهم وأئمتهم ‪ ...‬وعلى اجلملة فهذه فرية ليس فيها مرية‪ ،‬وحنن‬
‫نربأ إىل هللا من هذه املقالة‪ ،‬وليس علينا إال إظهار احلجة‪ ،‬فمن اهتدى فلنفسه‪،‬‬
‫وذلك هو املتوجه عينا»‪.‬‬

‫* وقال العـالَّمة القرشي يف (املنهاج)‪« :‬اعلم أن فيمن يدعي حب أهل البيت‬


‫الصحابة رضي هللا عنهم خطراً عظيماً وضالالً‬
‫عليهم السالم قوماً يركبون يف حق َّ‬
‫لعل املزري عليهم لو نظر يف حال نفسه‬‫بعيداً‪ ،‬فتارة يُكفرون وتارة يفسقون‪ ،‬و َّ‬
‫بعني اإلنصاف‪ ،‬لوجدها ال تساوي أثر نعاهلم‪ ،‬ولرأى فيها قصوراً عن مراتبهم‬
‫يف العلم والعمل‪ ،‬وكيف وقد أثىن هللا عليهم ورسوله‪ ،‬وبشرهم باجلنة‪ ،‬مع ما هلم‬
‫من السابقة يف اإلسالم‪ ،‬واجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬والصرب على الشدائد‪ ،‬وإحياء‬
‫معامل الدين؟!»‪.‬‬

‫* وذكر الدامغاين رأي أيب اجلارود‪ ،‬مث قال‪« :‬وهذه املقالة خمالفة ملقالة إمامه‬
‫‪265‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫زيد بن علي عليه السالم‪ ،‬وقليل من يوجد عليها اآلن منهم‪ ،‬وإمنا الظاهر من‬
‫أقواهلم التوقف يف امر الشيخني‪ ،‬مع االعتقاد أن اإلمام بعد النيب صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم هو علي عليه الصالة والسالم» مث استطرد يف ذكر األوجه اليت‬
‫من أجلها توقفوا‪.‬‬
‫* وميز اإلمام عز الدين بن احلسن موقف الزيدية عن موقف اجلارودية جتاه‬
‫من تقدم على اإلمام علي‪ ،‬فحكى عن اإلمامية واجلارودية أهنم يفسقوهنم‪ ،‬مث‬
‫قال‪« :‬املذهب الثاين‪ :‬أن ما ذكر ال يعد كفراً وال فسقاً‪ .‬قال اإلمام حيىي‪ :‬وهو‬
‫رأي أهل التحقيق من أئمة الزيدية واملعتزلة‪ .‬قال‪ :‬وهو املختار»‬

‫الصحابة عن‬‫* وذكر العـالَّمة الديلمي أن اجلارودية رمبا أخذوا موقفهم من َّ‬
‫الصحابة ممن يسبهم ويتسمى بالزيدية‪،‬‬‫اإلمامية‪ ،‬فقال‪« :‬فأما من طعن على َّ‬
‫فقد أخطأ اخلطأ العظيم‪ ،‬وجاوز يف أمره الصراط املستقيم‪ ،‬ولعل ذلك كان منه‬
‫ملا سع به من خرافات الرافضة‪ ،‬من اإلمامية وغريهم من الباطنية اإلساعيلية‪،‬‬
‫وال يغرت مسلم عاقل بشيء من ذلك»‪.‬‬
‫* ويف (تعليقه على الشرح) نزه العالمة الدواري الزيدية عن القول بالتكفري‬
‫والتفسيق وذكر أن القول بالتفسيق أشهر الروايات عن اجلارودية‪ ،‬وظاهر إطالق‬
‫القاسم بن علي العياين وولده احلسني واإلمام أيب الفتح الديلمي‪ ،‬وذكر ذلك‬
‫اإلمام أحد بن سليمان يف كتاب (احلقائق)‪ ،‬ورواه عن السيد أبو طالب‪ ،‬وأبو‬
‫العباس‪ .‬مث قال‪ :‬وينبغي تأويل هذه الرواية ملن كان بذلك من سادات أهل‬
‫البيت‪ ،‬وصاحلي املسلمني؛ ألن هذه مزلة قدم نعوذ باهلل منها»‪.‬‬

‫* وقال القاضي العـالَّمة أحد بن حيىي حابس يف (شرح الثالثني)‪« :‬تتفق‬


‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪266‬‬

‫رواية أصحابنا عنهم ‪ -‬اجلارودية ‪ -‬أهنم يفسقون املشايخ»‪.‬‬


‫* وأوضح العـالَّمة حيىي بن احلسني بعد أن نسب الرباءة من الشيخني إىل‬
‫اجلارودية‪« :‬أن أتباع أيب اجلارود اختلفوا‪ ،‬فمنهم من قال مبقالته من الَّزيدية وقد‬
‫انقرضوا‪ ،‬ومنهم من يتوقف فال يقول برتضية وال سب»‪.‬‬
‫* وذكر يف موضع آخر أن «اجلارودية يوافقون الرافضة يف القول بالنص اجللي‬
‫يف علي‪ ،‬ويتحاملون على الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬ويذم الواقفية من الزيدية‬
‫الذين يتوقفون يف املشايخ»‪.‬‬

‫* وذكر العـالَّمة إسحاق بن حممد العبدي يف أن مذهب َّ‬


‫الزيدية واحد يف‬
‫حق الشيخني؛ ومل خيالف يف ذلك إال أبا اجلارود‪ ،‬حني ذهب إىل أن الناس يف‬
‫إنكار تلك النصوص بني مقصر فاسق ومكابر كافر‪.‬‬
‫الزيـدية عن موقف اجلارودية‪.‬‬
‫ففي هذه النصوص كفاية لتمييز موقف َّ‬

‫المبحث الثالث‪ :‬شبهات حول الخلفاء‬


‫الزيدية ببيان الفرق بني موقفهم وموقف اإلمامية واجلارودية‬
‫مل يكتف علماء َّ‬
‫الصحابة؛ بل خطؤهم تصدوا للرد عليهم إمجاالً وتفصيالً‪ ،‬وقدموا‬ ‫يف شأن َّ‬
‫دراسات تفصيلية ملا يتذرعون به الستحالل الطعن والتجريح يف اخللفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬وأبرزها وأشهرها وأكثرها تداوالً أربع شبهات‪:‬‬

‫الشبهة األولى‪ :‬الحيلولة دون كتابة الوصية‬


‫روي أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ‪ -‬حينما كان على فراش املرض‪-‬‬
‫أراد أن يكتب كتاباً‪ ،‬وصفه بأن األمة لن تضل بعده‪ .‬وذكروا أن عمر بن اخلطاب‬
‫‪267‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫رآه متعباً فقال‪ :‬إن الوجع قد غلب عليه‪ ،‬وعندنا كتاب هللا وهو حسبنا؛ فاختلفوا‬
‫وكثر اللغط‪ .‬فقال النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬قوموا عين وال ينبغي عندي‬
‫التنازع‪.‬‬
‫رويت القصة عن ابن عباس‪ ،‬وذكر أنه انتقد عمر على تصرفه‪ ،‬وقال‪« :‬إن‬
‫كل الرزية ما حال بني رسول هللا وبني أن يكتب هلم ذلك الكتاب‬ ‫الرزية َّ‬
‫َّ‬
‫الختالفهم ولغطهم»‪.‬‬
‫الزيدية‪ ،‬ومل خيض يف تفاصيلها‬ ‫وهذه القصة مل أجدها من رواية احملدثني من َّ‬
‫حل‬‫متقدمو أئمتهم‪ .‬أما ألهنا مل تصح عندهم‪ ،‬وإما ألهنم يروهنا حدثاً عابراً ُِ‬
‫من التأويل ما ال حيتمل‪ ،‬وشأنه شأن غريه مما ال يقوم عليه حكم‪ ،‬وال ينبين عليه‬
‫موقف؛ وإمنا خاض فيها بعض متأخريهم عندما طُرحت كواحدة من املآخذ على‬
‫عمر بن اخلطاب؛ فشكك بعضهم يف صحتها‪ ،‬وتأوهلا آخرون‪.‬‬
‫ويف هذا شكك الشيخ أبو القاسم البُسيت بـ«أن يكون اخلرب صدقاً؛ ألنه‬
‫يوجب تكذيب الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يف احلال‪ ،‬واإلعراض عن‬
‫االستماع منه وقبول الشريعة‪ ،‬وبيان الوصية ومل يكن عمر ممن أظهر الكفر بعد‬
‫اإلميان بعد وفاة رسول هللا»‪ .‬ويف حال صحة اخلرب يرجح «أن عمر إمنا أخرب عن‬
‫ظنه‪ ،‬بعد أن التبس عليه حال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فظنه مغشياً‬
‫عليه‪ ،‬وليس ألنه يرى أن ليس للرسول أن يفعل فعالً إال وهو يف كتاب هللا‪،‬‬
‫فيكون اخلطأ دون اخلطأ يف التعمد‪ .‬مضيفاً أنه ال ميتنع أن يكون من عمر كلمة‪،‬‬
‫فنقلها الراوي من جهة املعىن‪ ،‬ولفظ الراوي خالف لفظه‪.‬‬
‫وأيد اإلمام حيىي بن حزة كالم البسيت وتبناه مبعناه وأكثر لفظه‪ .‬ومل خيتلف‬
‫كالم اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى عن كالم اإلمام حيىي والشيخ البسيت‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪268‬‬

‫وذهب العـالَّمة حيىي بن احلسن القرشي إىل أن هذه األخبار ال يُظن ِص ْدقُها‪،‬‬
‫فضالً عن أن يـُفسق هبا‪.‬‬
‫ويف هذا املعىن قال ابن تيمية‪« :‬وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قوله صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم من شدة املرض‪ ،‬أو كان من أقواله املعروفة‪ ،‬واملرض جائز‬
‫على األنبياء‪ ،‬وهلذا قال‪ :‬ماله؟! أهجر؟! فشك يف ذلك ومل جيزم بأنه هجر‪،‬‬
‫والشك جائز على عمر فإنه غري معصوم»‪.‬‬
‫أما اإلمامية واجلارودية فاحتجوا بالقصة على ما يذهبون إليه من التشنيع على‬
‫عمر بن اخلطاب‪ ،‬واعتربوا ذلك اعرتاضاً منه على رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم ورداً عليه وعصياناً له واستخفافاً به‪.‬‬
‫واحتدم الصراع حول تفسري هذه احلادثة‪ ،‬حيث استغلها الناقمون على عمر‬
‫بن اخلطاب ووضعوها يف سياق مشهد يوحي بأنه أقدم على كبرية ال تُـ ْغتفر‪.‬‬
‫بينما بالغ املدافعون عن عمر إىل درجة القول «بأن العلماء املتكلمني يف شرح‬
‫احلديث اتفقوا على أنه من دالئل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ ألنه خشى أن‬
‫يكتب صلى هللا عليه وآله وسلم أموراً رمبا عجزوا عنها‪ ،‬ألهنا منصوصة ال جمال‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫ابٌ‬
‫فٌالكِت ٌِ‬ ‫لالجتهاد فيها‪ ،‬فقال عمر‪ :‬حسبنا كتاب هللا‪ ،‬لقوله تعاىل‪﴿ :‬ماٌ ٌف َّرطناٌ ِ ٌ‬
‫َْ ْ َ َ ْ َ ْ ح َ ح ْ َ ح ْ ََ ْ َ ْ ح َ َ ْ ح ْ َ‬ ‫ِنٌ َ ْ‬
‫ْ‬
‫تٌعليك ٌْمٌن ِعم ِ ٌ‬
‫تٌ‬ ‫تٌلك ٌمٌدِينك ٌمٌوأتمم ٌ‬ ‫َش رٌُ﴾ [األنعام‪ .]38/‬وقوله‪﴿ :‬اِلو ٌمٌأكمل ٌ‬ ‫مٌ‬
‫ح َ ح ح ْ َ‬
‫اإل ْسل ٌَم ٌد ًِينا﴾ ٌ[املائدة‪ .]3/‬فعلم أن هللا تعاىل أكمل دينه‪ ،‬فأمن‬ ‫يت ٌلك ٌم ٌ ِ‬ ‫َو َر ِض ٌ‬
‫الضالل على األمة وأراد الرتفيه على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فكان‬
‫عمر أفقه من ابن عباس»‪.‬‬
‫وعند التأمل فيما استنتجه الطرفان املتضادان‪ ،‬جند أهنا جمرد افرتاضات‬
‫وخترصات‪ ،‬ال يصح أن ينبين عليها موقف‪ ،‬أو يقوم عليها حكم؛ ألنه مل يأت‬
‫‪269‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫يف النص ما يدل عليها‪ ،‬ومل تقم قرينة مقبولة تؤكد هذه الفرضية أو تلك‪.‬‬
‫فكالم الناقمني فيه غلو يف القدح‪ ،‬يوحي ‪ -‬بال مستند ‪ -‬بأن رسول هللا أراد‬
‫أن يكتب شيئاً عن اخلالفة‪ ،‬وأن عمر رضي هللا عنه اعرتض ذلك كيداً لإلسالم‬
‫واملسلمني‪ .‬وكالم املوالني فيه مبالغة يف التزكية يوحي بأنه أدرك من مصلحة‬
‫املسلمني ما مل يدركه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وعلم من القرآن ما‬
‫مل يعلمه!!‬
‫واألوىل أن جيري النظر يف املسألة من عدة وجوه‪ ،‬أحدها‪ :‬النظر يف مدى‬
‫ثبوت الرواية‪ ،‬إذ ال مينع كوهنا يف الصحيحني من إعادة النظر يف صحة صيغتها‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬النظر يف القرائن املقبولة اليت ترشد إىل املدلول الصحيح للرواية‪ ،‬على‬
‫فرض ثبوهتا‪ .‬ثالثها‪ :‬الكف عن تفسري النوايا وبناء املواقف على جمرد الظنون‪،‬‬
‫باعتبار ذلك غيب ال يعلمه إال هللا‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬ونقلها الشيعة اإلمامية عنهم‪،‬‬
‫أماٌالروايـةٌفقد وردت يف كتب أهل ُّ‬
‫وهي مروية عن ابن عباس من طريقني‪:‬‬
‫اْلوىل‪ :‬من طريق الزهري عن عبيد هللا بن عبد هللا عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬ملا‬
‫ب ل ُك ْم كِتاباً‬ ‫ِ ِِ‬
‫اشتد بالنيب صلى هللا عليه وسلم وجعه قال‪« :‬ائْـتُوىن بكتاب أ ْكتُ ُ‬
‫ضلُّوا بـ ْعدهُ»‪ .‬قال عمر‪ :‬إن النيب صلى هللا عليه وسلم غلبه الوجع‪ ،‬وعندنا‬ ‫ال ت ِ‬
‫كتاب هللا حسبنا‪ .‬فاختلفوا‪ ،‬وكثر اللغط‪ ،‬قال‪ :‬قوموا عين‪ ،‬وال ينبغي عندي‬
‫الرزية كل الرزية ما حال بني رسول هللا وبني‬ ‫التنازع‪ .‬فخرج ابن عباس يقول‪ :‬إن َّ‬
‫كتابه‪.‬‬
‫واثلانية‪ :‬من طريق سفيان بن عيينة عن سليمان األحول أنه سع سعيد بن‬
‫جبري سع ابن عباس رضي هللا عنهما يقول‪« :‬يوم اخلميس وما يوم اخلميس مث‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪270‬‬

‫بكى حىت ب َّل دمعه احلصى‪ .‬قلت‪ :‬يا أبا عباس ما يوم اخلميس؟ قال‪ :‬اشتد‬
‫برسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وجعه‪ ،‬فقال ائتوين بكتف أكتب لكم كتاباً‬
‫ال تضلوا بعده أبداً‪ .‬فتنازعوا‪ ،‬وال ينبغي عند نيب تنازع‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما له؟! أهجر؟!‬
‫استفهموه‪ ،‬فقال ذروين‪ ،‬فالذي أنا فيه خري مما تدعونين إليه‪ ،‬فأمرهم بثالث‪:‬‬
‫قال أخرجوا املشركني من جزيرة العرب‪ ،‬وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم‪.‬‬
‫واختلفوا يف الثالثة‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬سكت عنها‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬نسيها أحد‬
‫الرواة‪.‬‬
‫ويف رواية للطرباين من طريق األعمش عن سعيد‪ ،‬فقالوا‪ :‬يهجر رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ .‬مث سكتوا وسكت‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا أال نأتيك بعد؟‬
‫قال‪ :‬بعد ما؟‪.‬‬
‫وهنالك رواية أخرى‪ ،‬منها‪ :‬عن جابر بن عبد هللا‪ ،‬أوردها أبو يعلى يف‬
‫مسنده‪ ،‬من طريق قرة بن خالد عن أيب الزبري عن جابر أن رسول هللا صىل اهلل‬
‫عليه وسلم دعا قبل موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً ال يضلون بعده وال يُضلون‪،‬‬
‫وكان يف البيت لغط‪ ،‬وتكلم عمر بن اخلطاب‪ ،‬فـرفضها رسول هللا صلى هللا عله‬
‫وآله وسلم‬
‫ويف رواية ألحد‪ ،‬من طريق ابن هليعة عن أيب الزبري عن جابر‪ ،‬وفيه‪ :‬فخالف‬
‫عليها عمر بن اخلطاب حىت رفضها‪.‬‬
‫وعن عمر بن اخلطاب‪ ،‬روى الطرباين من طريق هشام بن سعد‪ ،‬عن زيد بن‬
‫أسلم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عمر بن اخلطاب قال‪ :‬ملا مرض النيب صىل اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪« :‬ادعوا يل بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً ال تضلوا بعده أبداً»‪ .‬فكرهنا‬
‫ذلك أشد الكراهة‪ ،‬مث قال‪« :‬ادعوا يل بصحيفة أكتب لكم كتاباً ال تضلوا بعده‬
‫‪271‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫أبداً»‪ .‬فقال النسوة من وراء السرت‪ :‬أال تسمعون ما يقول رسول هللا؟ فقلت‪:‬‬
‫إنكن صوحيبات يوسف‪ ،‬إذا مرض رسول هللا عصرتن أعينكن‪ ،‬وإذا صح ركبنت‬
‫عنقه‪ .‬فقال‪ :‬رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬دعوهن‪ ،‬فإهنن خري منكم»‪.‬‬
‫ويف الباب رواية ألحد‪ ،‬من طريق نعيم بن يزيد أن علي بن أيب طالب قال‪:‬‬
‫أمرين النيب أن آتيه بطبق يكتب فيه ما ال تضل أمته من بعده‪ ،‬قال فخشيت أن‬
‫تفوتين نفسه‪ ،‬قال قلت‪ :‬إين أحفظ وأعي‪ ،‬قال‪ :‬أوصى بالصالة والزكاة وما‬
‫ملكت أميانكم‪.‬‬
‫هذه جممل الروايات مبا فيها من اختالف يف األلفا وتفاوت يف الصحة‬
‫والضعف‪.‬‬
‫وأمـاٌدالتلها‪ ،‬فالقدر املشرتك الذي تدل عليه هو‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم‪ ،‬طلب أثناء مرضه ما يكتب فيه توصية ونصيحة‪ .‬واختلفت‬
‫فيما عدا ذلك‪ ،‬حيث جاء يف بعضها‪ :‬أنه أوصى مبا كان يريد أن يوصي‪ ،‬ويف‬
‫بعضها‪ :‬أن عمر حال بينه وبني ذلك‪ ،‬ويف بعضها‪ :‬أن عمر هو القائل‪ :‬غلبه‬
‫الوجع‪ ،‬ويف بعضها أهنم قالوا ذلك ومل ُحيدَّد القائل‪ ،‬ويف بعضها أن املشادة وقعت‬
‫الصحابة‪ ،‬ويف بعضها أنه طلب من علي كتابة ما يريد‪،‬‬ ‫بني نساء النيب وبني َّ‬
‫فحفظ عنه ما أراد‪.‬‬
‫وهذا جيعلنا نقف عند ما توافقت عليه الروايات‪ ،‬ونشك يف التفاصيل‬
‫والزيادات اليت تفرد هبا بعض الرواة‪ ،‬وال جنزم ببناء أي حكم عليها‪ ،‬خصوصاً‬
‫مع تضادها وتعارضها‪.‬‬
‫فإذا صح ‪ -‬حسب احملدثني ‪ -‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أمر‬
‫بأن يأتوه مبا يكتب هلم عليه ما ال يضلوا بعده‪ ،‬وأن عمر أىب ذلك‪ ،‬فالظاهر أن‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪272‬‬

‫عمر أخطأ التصرف؛ ألن قوله‪« :‬ائتوين» أمر‪ ،‬وكان حق املأمور أن يبادر‬
‫لالمتثال‪ ،‬ولكن ال جيوز أن نفرض لعمر نوايا أو نفسر موقفه تفسرياً سلبياً جملرد‬
‫الرغبة يف إدانته‪ ،‬بل حنمله على السالمة‪ ،‬فنقول‪ :‬إنه إمنا أراد أن يوفر على رسول‬
‫هللا اجلهد بسبب شدة مرضه‪ ،‬وذلك ما توحي به عبارة «غلبه الوجـع»‪ .‬كما ال‬
‫جيـوز أن نبالغ فنقول‪ :‬إنه أدرك من مصلحة الناس ما مل يدركه رسول هللا‪.‬‬
‫وليس لنا أن نفرض أن ما أراد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم كتابته‬
‫كان أصالً من أصول الدين اليت ال يتم إال هبا‪ ،‬ملا يف ذلك من تلويح بأن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قصر‪ ،‬ومل يبلغ كل ما من شأنه أن حيفظ األمة من‬
‫َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ح‬
‫تٌرِساتلَ ٌه﴾‬ ‫لٌ ٌفماٌبلغ ٌ‬ ‫الضاللة‪ ،‬فينطبق عليه ما جاء يف قول هللا تعاىل‪﴿ :‬وإ ِ ٌ‬
‫نٌل ٌمٌتفع ٌ‬
‫[املائدة‪ .]67/‬والواقع أنه صلوات هللا وسالمه عليه قد بلغ مجيع ما كلف به‪ ،‬وأخربنا‬
‫َْ ْ َ َ ْ َ ْ ح َ ح ْ َ ح ْ ََ ْ َ ْ ح َ َْ ح ْ َ‬
‫ض حٌ‬
‫يتٌ‬ ‫تٌعليك ٌْمٌن ِعم ِ ٌ‬
‫تٌ َو َر ٌِ‬ ‫تٌلك ٌمٌدِينك ٌمٌوأتمم ٌ‬ ‫هللا بذلك يف قوله‪﴿ٌ:‬اِلو ٌمٌأكمل ٌ‬
‫َ ح ح ْ َ‬
‫اإل ْسل ٌَمٌد ًِينا﴾ [املائدة‪.]3/‬‬
‫لك ٌمٌ ِ‬
‫تنص على خالفة اإلمام‬‫أما القول بأن رسول هللا كان يريد أن يكتب وصية ُّ‬
‫علي بن أيب طالب‪ ،‬وأن عمر بن اخلطاب أدرك ذلك فحال بينه وبني ما أراد؛‬
‫فما هي إال جمرد جمرد دعوى وتكهن ال توم عليها بينة واضحة‪.‬‬
‫وقد قابلها اآلخرون مبثلها‪ ،‬حيث قال ابن تيمية‪« :‬وأما قصة الكتاب الذي كان‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يريد أن يكتبه‪ ،‬فقد جاء مبيناً كما يف الصحيحني‬
‫عن عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم يف مرضه‪ :‬ادعي يل أباك‬
‫وأخاك حىت أكتب كتاباً فإين أخاف أن يتمىن متمن‪ ،‬ويقول قائل‪ :‬أنا أوىل‪ ،‬ويأىب‬
‫هللا واملؤمنون إال أبا بـكر»‪.‬‬
‫وهذه الرواية يف كتاب فضائل الصحابة ألحد بن حنبل‪ ،‬عن أم املؤمنني عائشة‬
‫أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال يف مرضه‪« :‬مروا أبا بكر فليصل بالناس»‪ ،‬قالت‬
‫‪273‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫عائشة‪ :‬فكرهت أن يتشاءم الناس بأيب‪ ،‬فقلت حلفصة‪ :‬قويل‪ :‬إن أبا بكر رجل‬
‫رقيق‪ ،‬ومىت ما يقم مقامك يبك‪ ،‬فلو أمرت عمر‪ ،‬فقال‪« :‬مروا أبا بكر فليصل‬
‫بالناس»‪ ،‬فأعادت عليه‪ ،‬فقال‪« :‬إنكن صواحبات يوسف‪ ،‬مروا أبا بكر فليصل‬
‫بالناس‪ ،‬يأىب هللا واملؤمنون إال أبا بكر»‪.‬‬
‫ويف رواية أيب داود الطيالسي (‪204‬هـ) أن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال يل‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف مرضه الذي مات فيه‪« :‬ادعي يل عبد الرحن بن‬
‫أيب بكر‪ ،‬أكتب أليب بكر كتاباً ال خيتلف عليه بعدي»‪ .‬مث قال‪« :‬دعيه؛ معاذ هللا‬
‫أن خيتلف املؤمنون يف أيب بكر»‪.‬‬
‫وهذا االفرتاض الذي ذهب إليه الشيخ ابن تيمية‪ ،‬واالفرتاض الذي ذهب‬
‫إليه غريه جمرد ختمينات منهم‪ ،‬ال يقوم على حجة واضحة‪ ،‬وال ميكن أن ينبين‬
‫عليه موقف حاسم يف مثل هذه املسألة‪.‬‬
‫واألسلم فيها اعتقاد أن رسول هللا صلى هللا عليه ما ترك شيئاً أُمر بتبليغه إال‬
‫بلغه‪ ،‬ومل يرتكه ألي سبب من األسباب‪ ،‬ونُرجح حْل املختلفني ‪ -‬إن صحت‬
‫الرواية ‪ -‬على أحسن احملامل‪ ،‬وهي متاحة دون أدىن تعسف‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬التخلّف عن جيش أسامة‬
‫ومما حيتج به الناقمون على أيب بـكر وعمر أهنما ختلَّفا عن جيش أسامة بن‬
‫زيد بعد أن جهزه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وشدد على خروجه وكانا‬
‫من مجلة أفراده‪ ،‬وقد رويت يف القصة روايات خالصتها‪:‬‬
‫جهز جيشاً لقتال الروم و َّأمر عليه أسامة‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله َّ‬
‫الصحابة من املهاجرين‬ ‫وحث على خروجه‪ ،‬وكان يف ذلك اجليش كبار َّ‬ ‫بن زيد‪َّ ،‬‬
‫واألنصار‪ .‬وبينما أسامة خميم بعسكره يف (اجلرف) بالقرب من املدينة‪ ،‬أتاه نبأ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪274‬‬

‫وفاة رسول هللا فرتيث حىت ُدفن ونُصب أبو بـكر خليفة بعده‪ ،‬مث أنفذ أبو بـكر‬
‫جيش أسامة‪ ،‬مع أن بعض الصحابة أشار عليه خبالف ذلك فقال‪ :‬وهللا ال‬
‫أحل راية عقدها رسول هللا‪.‬‬
‫وكان أبو بـكر قد استطلق عمر بن اخلطاب من أسامة لإلقامة عنده فأطلقه‬
‫له‪ ،‬وسار اجليش حىت بلغ ختوم البلقاء من أرض الشام‪ ،‬فغزا وعاد مظفراً‪.‬‬
‫هذه جممل أحداث القصة وما توافقت عليه الروايات‪ ،‬وليس فيه ما يوجب‬
‫الطعن على أيب بـكر وال عمر وال أسامة؛ ألن اجليش كان قد أخذ يف االستعداد‬
‫للرحيل حسب أمر رسول هللا‪ ،‬فلما تويف ج َّد جديد وحدث ما ال ميكن جتاهله‪،‬‬
‫تغري الوضع برمته‪ ،‬فكان من اجلفاء أن يتحرك اجليش قبل أن يشارك يف‬ ‫بل َّ‬
‫تشييع جنازة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ويشارك الناس أحزاهنم‪ ،‬ومن‬
‫التقصري أن يذهب دون أن يشارك يف تنصيب خليفة‪ ،‬ويعلم من هو ويل أمره‬
‫بعد رسول هللا كي يتعامل معه‪ ،‬فانتظر حىت اتضحت الرؤية‪ ،‬مث ذهب وجهته‬
‫وجهه رسول هللا إليها ومت األمر كما ينبغي‪.‬‬
‫اليت َّ‬
‫على أن هنالك من جيزم بأنه مل ينقل أحد من أهل العلم أن النيب ‪ -‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ -‬أرسل أبا بكر أو عثمان يف جيش أسامة‪ ،‬وإمنا روي ذلك يف‬
‫عمر‪ .‬متسائالً‪ :‬كيف يرسل أبا بكر يف جيش أسامة‪ ،‬وقد استخلفه يصلي‬
‫باملسلمني مدة مرضه‪.‬‬
‫الزيدية يف أن تنصيب اخلليفة من الواجبات اليت ال جيوز التباطؤ‬
‫والعارف برأي َّ‬
‫فيها‪ ،‬يدرك أن موقف جيش أسامة كان موقفاً صحيحاً؛ إذ ليس اخلروج للغزو‬
‫أهم من تنصيب خليفة يتوىل إدارة شؤون اجملتمع‪ ،‬وتؤخذ عنه التوجيهات‬
‫واألوامر‪.‬‬
‫‪275‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫ولكن الناقمني على أيب بـكر وعمر بنوا ‪ -‬كعادهتم ‪ -‬على التخمني وتفسري‬
‫النوايا فقدموا القصة على حنو آخر‪ ،‬حيث افرتضوا أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫صب خليفة‪ ،‬وأن أبا بـكر‬ ‫وسلم تعمد إبعاد أيب بـكر وعمر ليخلوا اجلو لعلي حىت يـُن َّ‬
‫وعمر أدركا ذلك فتثاقال يف اخلروج‪ ،‬مما جعل رسول هللا يشدد على خروج اجليش‪،‬‬
‫حىت رووا أنه قال‪« :‬لعن هللا من ختلَّف عن جيش أسامة»‪ .‬ولكن أبا بـكر وعمر ‪-‬‬
‫حسب زعمهم ‪ -‬مل يلتفتا لذلك وأصرا على خمالفة أمر رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم!! وذلك حتليل ال يصح ‪ -‬يف نظرنا ‪ -‬من عدة وجوه‪:‬‬

‫اْلول‪ :‬أنه جمرد ختمني وختُّرص‪ ،‬ورد يف تأويالت بعض الغالة وهم متهمون‬
‫يف روايتهم يف هذا الباب‪ ،‬فضالً عن تأويالهتم‪ ،‬ومل تدل عليه قرينة ظاهرة‪ ،‬فال‬
‫يـُع َّول عليه‪ ،‬خصوصاً يف مثل هذا املقام‪.‬‬

‫اثلاين‪ :‬أن ذلك يتناقض ودعواهم النص على علي؛ ألنه لو كان هنالك نص‬
‫صريح الكتفى انليب به‪ ،‬وملا احتاج إىل ترتيب هذه العملية‪.‬‬

‫اثلالث‪ :‬أن هذا التَّخُّرص يؤدي إىل الشعور بأن رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم فشل يف تربية أصحابه‪ ،‬ويظهره مبظهر املتحايل الضعيف الذي ال حول‬
‫له وال قوة جتاه بعض أصحابه‪ ،‬فحاشاه حاشاه صلوات هللا وسالمه عليه‪.‬‬

‫الزيدية مل يتحمسوا لتحليل هذه القصة‪،‬‬‫ومن املالحظ أن قدماء مؤرخي َّ‬


‫واعتربوها جمرد حدث طبيعي‪ ،‬وإمنا خاض فيها بعض املتأخرين جماراة لآلخرين‪،‬‬
‫حىت إن نقل متأخريهم ال يكاد يتجاوز ما أورده ابن أيب احلديد يف (شرح هنج‬
‫البالغة)‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪276‬‬

‫التقدم على اإلمام علي‬


‫ّ‬ ‫الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫تعددت اآلراء يف حكم املتقدمني على اإلمام علي نتيجة لالختالف يف النظر‬
‫إىل ما يُذكر من أدلة على أولويته‪ ،‬كما هو احلال يف خالفة أيب بكر وعمر‬
‫وعثمان‪.‬‬
‫فجمهورٌأهلٌالسنة يرون أنه مل يثبت نص يدل على حق اإلمام علي باخلالفة‬
‫بعد رسول هللا‪ ،‬وما يُدعى يف ذلك‪ ،‬ال ينهض حجة‪ ،‬فهو ال خيلو‪:‬‬
‫إما أن يكون متواتراً يف نقله جلياً ظاهراً يف داللته‪ ،‬ووقع يف حمضر الصحابة‪،‬‬
‫وهذا مما ال يُعلم وجوده‪ ،‬ألنه لو كان لعرفه الناس كما عرفوا بعث علي ومعاذ‬
‫إىل اليمن‪ ،‬وعقده األلوية لزيد وأسامة وغريهم‪ ،‬وملا خفي كما مل خيف تولية أيب‬
‫بكر لعمر‪ ،‬وترك عمر األمر شورى يف ستة‪ ،‬وما انتهت إليه األمور يف بيعة علي‪.‬‬
‫وإما أن يكون خفياً‪ ،‬مبعىن أخفاه النيب ومل خيرب به إال نفراً ُمعيَّناً؛ فهذا ال‬
‫يصح وال جيوز يف حق النيب املسؤول عن تبليع الرسالة‪ ،‬أو مبعىن مل تتضح داللته‬
‫إال لبعض الناس‪ ،‬فذلك أمر خيصهم‪ ،‬ولن يكلف هللا مجيع الناس مبا استنتجه‬
‫بعضهم‪ ،‬بل إن عدم ذكر الصحابة للنص على علي أو غريه بعد وفاة رسول‬
‫هللا‪ ،‬يدل بوضوح أن النيب ترك األمر للناس ليختاروا من يـُولُّونه إدارة شأن حياهتم؛‬
‫وعلى هذا فال شيء على من تقدم اإلمام علي‪ ،‬أو قدَّم عليه غريه‪.‬‬
‫ويرون أن ما ورد يف حق اإلمام علي من أحاديث صحيحة‪ ،‬مثل حديث‬
‫(املْنزلة)‪ ،‬وحديث (الغدير)‪ ،‬وحديث (الراية) وغريها‪ ،‬هي مفاخر جتعله من‬
‫املقدَّمني يف الفضل ومكانة‪ ،‬غري أنه ال داللة يف شيء منها على اخلالفة‪ ،‬إذ لو‬
‫الصحابة رضي هللا هنم ولو بالقرائن اليت‬
‫كان فيها ما يدل على اخلالفة لعلمه َّ‬
‫‪277‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫حتيط باملوقف‪ ،‬ولو علموه ملا خالفوه‪ ،‬وهم خري أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫وفرضية أن الصحابة تواطؤا على كتمان حق اإلمام علي يف الوالية‪ ،‬على‬
‫الرغم من وضوحها ‪ -‬فيها نظر؛ ألننا لو قبلنا مثل هذه الفرضيات لكان ذلك‬
‫وارداً يف كل شيء حىت يف القرآن الكرمي‪ ،‬ومجيع ما ميكن اعتباره من الثوابت‬
‫الدينية‪.‬‬
‫وَجهورٌاإلمامية يرون أن تلك النصوص تدل داللة صرحية قاطعة على تعيني‬
‫اإلمام علي بن أيب طالب خليفة بعد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ويرى‬
‫بعضهم أن املتقدمني عليه كانوا يعلمون تلك النصوص ويعرفون دالالهتا‪ ،‬ولكنهم‬
‫جتاهلوها‪ ،‬وأعرضوا عنها عناداً ومترداً‪.‬‬
‫ولذلك حيكمون عليهم بالزيغ واالحنراف‪ ،‬وال يتحرجون من التشنيع عليهم‬
‫والرباءة منهم‪ ،‬والسب والقدح‪ ،‬وكالمهم مبسوط يف من كتبهم القدمية واحلديثة‪.‬‬
‫ويتفق مع اإلمامية كثري من اجلارودية‪ ،‬على النحو الذي قدمنا من مذهبهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫أماٌَجهورٌالزيدية فقد اختلف موقفهم عن هذا وذاك‪ ،‬فهم يرون أن اإلمام‬
‫علياً كان أوىل باخلالفة العتبارات ومؤهالت شىت‪ ،‬كسبقه إىل اإلسالم‪ ،‬وبالئه‬
‫يف اجلهاد بالءً حسناً‪ ،‬وقرابته من رسول هللا صلوات هللا عليه‪ ،‬ومتيزه بصفات‬
‫قيادية رفيعة‪ ،‬كالشجاعة واإلقدام‪ ،‬وسعة العلم‪ ،‬وحسن التدبري‪ ،‬إىل جانب ما‬
‫تصف مكانته وفضله‪ ،‬ال ختلوا من أوجه يستنتج منها‬ ‫ورد يف حقه من نصوص ِ‬
‫بعضهم أن اإلمام علي كان األوىل باخلالفة من غريه‪ ،‬وهذا ما مضى عليه قدماء‬
‫الزيدية يف االستدالل على إمامة علي عليه السالم‪.‬‬
‫ويف مسألة النص يدرك علماء الزيدية أهنا مركبة من عدة مقدمات‪ :‬وجود‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪278‬‬

‫النص‪ ،‬مث فهمه‪ ،‬مث تعمد خمالفته‪ ،‬ويف كل منها تفصيل‪:‬‬


‫فأماٌوجودٌانلصوص‪ ،‬فريى مجهور الزيدية أن نصوصاً وردت يف شأن اإلمام‬
‫علي؛ أصحها ثبوتاً‪ ،‬وأكثرها تداوالً‪ :‬حديث (الغدير) الذي جاء فيه أن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪« :‬من كنت مواله فعلي مواله»‪ .‬وحديث‬
‫(املنزلة) الذي جاء فيه أنه قال لعلي ‪ -‬ملا خلفه على املدينة عند مسريه إىل تبوك‬
‫‪« :-‬أنت مين مبنزلة هارون من موسى»‪.‬‬
‫وهذان احلديثان مما يستدل هبما مجهور الزيدية على أولوية اإلمام علي‬
‫باخلالفة‪ ،‬ويرى بعضهم أهنما نص يف ذلك‪ ،‬على الرغم من أن أحداً من الصحابة‬
‫اإلمام علي (نفسه)‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مل يستحضرمها عند النزاع يف السقيفة وبعدها‪ ،‬ومل يذكر هبا ُ‬
‫ومل يدَّعي أنه منصوص عليه؛ ال باحلديثني املذكورين وال بغريمها‪ ،‬واكتفى‬
‫باالحتجاج بأمور اعتبارية‪ ،‬مثلما رووا عنه أنه قال لبعض أصحابه وقد سأله‪:‬‬
‫كيف دفعكم قومكم عن هذا املقام وأنتم أحق به؟! فقال‪« :‬أما االستبداد علينا‬
‫هبذا املقام وحنن األعلون نسباً‪ ،‬واألشدون بالرسول نوطاً‪ ،‬فإهنا كانت أثرة‪،‬‬
‫شحت عليها نفوس قوم‪ ،‬وسخت عنها نفوس آخرين‪ ،‬واحلكم هللا‪ ،‬واملعود إليه‬
‫القيامة»‪.‬‬
‫ويف احتجاجه على صحة خالفته بعد عثمان رد على معاوية قائالً‪« :‬أما‬
‫بعد فإن بيعيت باملدينة لزمتك وأنت بالشام؛ ألنه بايعين القوم الذين بايعوا أبا‬
‫بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه‪ ،‬فلم يكن للشاهد أن خيتار‪ ،‬وال للغائب‬
‫أن يرد‪ .‬وإمنا الشورى للمهاجرين واألنصار‪ ،‬فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماماً‬
‫كان ذلك هلل رضاً فادخل فيما دخل فيه املسلمون»‪.‬‬
‫وأماٌداللةٌتلكٌاْلحاديث‪ ،‬فاملشهور لدى عموم الزيدية ‪-‬باستثناء بعض‬
‫‪279‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫العامة‪ -‬أن احتماهلا ألكثر من معىن‪ ،‬جعل داللتها ‪ -‬على أولوية اإلمام علي‬
‫‪ -‬بالظَّن والوصف دون التسمية؛ إذ ليست قاطعة يف التنصيص على تعيينه‬
‫خليفة بعد رسول هللا‪ ،‬فيتبادر معىن اخلالفة بتلقائية إىل خايل الذهن من‬
‫املقدمات‪ ،‬كما هو احلال يف التكاليف الشرعية القطعية‪ ،‬مثل‪ :‬الصالة والزكاة‬
‫وحنوها‪ ،‬ولكنها مما حيتاج إىل نظر واستدالل‪.‬‬
‫الزيدية يف‬
‫الزيدي ‪ -‬أحد علماء َّ‬ ‫وعلى ذلك نص الشيخ علي بن احلسني َّ‬
‫الزيدية تذهب إىل أن‬
‫القرن اخلامس اهلجري ‪ -‬يف (احمليط باإلمامة)؛ إذ ذكر أن َّ‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم نص على علي نصاً مل يعلم السامعون منه مراده‬
‫ضرورة وال م ْن بعدهم‪ ،‬وإمنا يُعرف مراده باالستدالل‪ ،‬وذلك كخرب (الغدير)‪،‬‬
‫وخرب (املْنزلة)‪.‬‬
‫الزيدية املتقدمني منهم واملتأخرين نصوص كثرية تؤكد هذا املعىن‪،‬‬ ‫ولعلماء َّ‬
‫الزيدية)‪ .‬وسأكتفي هنا بذكر رد اإلمام‬
‫ذكرت طرفاً منها يف كتايب (اإلمامة عند َّ‬
‫عبد هللا بن حزة على القائلني بأن النص على اإلمام علي جلي‪ ،‬سواء كانوا‬
‫إمامية أو جارودية‪ ،‬ولفظه‪« :‬زعمت اإلمامية أن النص جلي حبيث يعلم أن‬
‫اجلميع اضطروا إىل العلم باملراد به‪ ،‬وأن الكل علِم أن قصد النيب أن علياً إمام‬
‫األمة بعده بال فصل‪ ،‬دون أيب بـكر وعمر وعثمان‪ ،‬وأن من تقدم علياً عليه‬
‫السالم مكابر عامل خبالف ما علم ضرورة من دين النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫الصحابة كابروا وباهتوا يف أمره عليه السالم‪.‬‬
‫وسلم‪ ،‬وأن َّ‬
‫واجلواب عليهم‪ ،‬أنَّا نقول‪ :‬إنكم أتيتم ما ال دليل عليه‪ ،‬وكل مذهب ال دليل‬
‫عليه فهو باطل‪ .‬أما أنه ال دليل عليه؛ فألن األدلة حمصورة على‪ :‬داللة العقل‪،‬‬
‫وال برهان يف العقل يدل على ذلك‪ .‬وعلى الكتاب الكرمي‪ ،‬والسنة املعلومة‪،‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪280‬‬

‫واإلمجاع الظاهر‪َّ .‬أما الكتاب فال ميكن ادعاء ذلك لوقوع االختالف يف معىن‬
‫َ َ ح ح ح َ َّ َ َ ح َّ َ ح ح َ َّ َ َ َ ح ْ ح َ َّ َ َ‬ ‫ح‬ ‫َّ َ‬
‫لزاك ٌةٌ‬ ‫ونٌا‬
‫ونٌالصل ٌةٌويؤت ٌ‬
‫ِينٌي ِويم ٌ‬
‫ِينٌآمنواٌاَّل ٌ‬ ‫اآلية ‪﴿ -‬إ ِ ٌنماٌ َو ِِلُّك حٌمٌاهللٌورس ٌ‬
‫ولٌواَّل ٌ‬
‫ح َ‬ ‫حْ‬
‫ون﴾ [املائدة‪ - ]55/‬وافتقار ما تذهب إليه إىل الرتجيح‪ ،‬وكذلك حديث‬ ‫َوه ٌم ٌ َراكِع ٌ‬
‫(الغدير) و(املْنزلة)‪ .‬وما انفردت بروايته اإلمامية فال تصححه األمة فضالً عن أن‬
‫يقضى ببلوغه حد التواتر‪ ،‬وحصول العلم الضروري‪.‬‬
‫وأضاف‪ :‬إننا نعلم أن رجال اإلمامية وعلماءهم‪ ،‬وحنارير مقالتهم‪ ،‬يسلكون‬
‫مسلكنا يف االستدالل خبرب (الغدير) و(املنزلة)‪ ،‬و(آية الزكاة يف الركوع)‪ ،‬وهو‬
‫معلوم يف تصانيفهم وكتبهم‪ ،‬ويرجحون ويبالغون يف الكشف والتبيني‪،‬‬
‫واالستدالل إىل هناية اإلمكان يف اآلثار واألخبار‪ ،‬فلو كان املراد هبا معلوماً‬
‫عندهم ضرورة كما زعموا الستغنوا بذلك عن الكشف والبيان‪ ،‬كما فعلنا يف‬
‫أصول الشرائع املعلومة ضرورة؛ ألننا ال ننصب ألهل اإلسالم الدليل على أن‬
‫الصلوات خس‪ ،‬وأن الزكاة مفروضة يف األموال‪ ،‬وأن احلج إىل بيت هللا تعاىل‪،‬‬
‫وأن نيب هذه األمة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ملا كانت هذه األمور معلومةً‬
‫ضرورة مل تفتقر إىل بيان وال كشف ملن قد أظهر اعتقاد دين اإلسالم‪ ،‬بل وكلناه‬
‫إىل علمه‪.‬‬
‫فلما رأينا علماءهم املربزين كالشريف املرتضى املوسوي ومن تقدمه‪ ،‬وتأخر‬
‫عنه من أهل الكالم‪ ،‬بالغوا يف تبيني معىن اآلية واخلرب بل األخبار‪ ،‬علمنا أهنم‬
‫من اعتقاد الضرورة على شفا جرف هار؛ ألن من حتمل املشقة يف إظهار الظاهر‬
‫كان عابثاً‪ ،‬وكيف يكشف املكشوف؟ أو جيتهد يف صفة املشاهد املعروف»؟‬
‫وأضاف‪« :‬وحنن وإياهم قد اتفقنا على أن اإلمام بعد رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم بال فصل علي بن أيب طالب أمري املؤمنني‪ ،‬وأن من تقدم عليه‬
‫‪281‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫فقد أخطأ وعصى‪ ،‬فلو كان ما ذكروا من النص يوصل إىل الضرورة لوصلنا؛‬
‫التفاقنا حنن وإياهم على العلم بالدليل‪ ،‬وكيفية ترتيب االستدالل‪ ،‬فلو حصل‬
‫العلم هلم حلصل لنا ضرورة‪ .‬وكما ال يصح أن ي َّدعي بعض املشاهدين العلم‬
‫باملشاهدة دون صاحبه‪ ،‬كذلك هذا‪ ،‬وكما ال حيصل العلم لبعض السامعني‬
‫مبخرب األخبار املتواترة دون بعض‪ ،‬فكذلك هنا‪ .‬واألدلة جيب أن تكون عامة‬
‫لعموم التكليف‪ ،‬وال يصح أن يدعيها بعضهم دون بعضهم‪ ،‬وإمنا ينازع يف‬
‫معانيها املخالف‪ ،‬ويصححها املؤالف»‪.‬‬
‫الزيدية أن «الصحيح عندنا‬ ‫وحكى حممد بن حسن الديلمي عن علماء وأئمة َّ‬
‫أن تلك النصوص خ ِفية ال يعلم املراد هبا إال بضرب من االستدالل‪ ،‬فال يكون‬
‫الصارف هلا عن اإلمامة إىل غريها ‪ -‬مما حيتمل لفظ ذلك النص ‪ -‬راداً ملا ِع ْل ُمه‬
‫ضروري من النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فال يستحق بذلك الكفر وال الفسق؛‬
‫إذ ال داللة تدل على استحقاقه ذلك»‪.‬‬
‫ويف هذا ما يكفي لبيان أمنا يُ ْستدل به من النصوص على إمامة اإلمام هو؛‬
‫إما صحيح غري صريح‪ ،‬وإما صريح غري صحيح‪ ،‬ومثل ذلك ال يكون حجة‬
‫قاطعة تنبين عليها مواقف الوالء والرباء من املخالف يف التعاطي معها‪.‬‬
‫أماٌدعوىٌتعمدٌاملخالفة‪ ،‬فال ميكن اجلزم بأن من عدل عن اختيار اإلمام‬
‫علي رضي هللا عنه؛ كان عاملاً بالنص وأنه جتاوزه عناداً؛ ألن ذلك غيب ومل ترد‬
‫رواية صحيحة تكشف عن ذلك‪ ،‬وإذا كان النص ‪ -‬على رأي الزيدية ‪ -‬خفياً‬
‫إىل درجة أن اإلمام علي مل يستحضره عقب وفاة رسول هللا‪ ،‬فكيف يطلب من‬
‫اآلخرين استحضاره واالحتجاج به والعمل مبقتضاه‪.‬‬
‫الزيدية من تـقَّدم اإلمام علي أو قدَّم عليه على السالمة‪ ،‬ومل‬
‫هلذا حل علماء َّ‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪282‬‬

‫حد األدب‪ ،‬بل رووا فضائلهم واحتجوا مبا روي عنهم من‬ ‫يتجاوزوا يف نقدهم َّ‬
‫حديث وتفسري وفقه وأثنوا عليهم مبا يليق مبقامهم كما قدمنا‪.‬‬
‫ويف هذا أكد الشيخ البسيت‪ :‬أن الذي عليه أهل التحصيل من الزيدية يف‬
‫وقته أن اخلروج على إمام احلق فسق‪ .‬أما اجلهل بإمامته واجللوس جملسه فال داللة‬
‫على كونه فسقاً‪ .‬قال‪ :‬وهلذا مل نفسق الصدر األول وإن جلسوا جملسه وتصرفوا‬
‫يف حقه‪.‬‬
‫وأكد اإلمام عبد هللا بن حزة أن‪« :‬لسنا نعتقد فيهم أهنم قصدوا شقاق النيب‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم يف وصيه عليه السالم‪ ،‬وإمنا جهلوا وجه االستدالل‬
‫فاعتقدوا أهنم أوىل باألمر‪ ،‬فلو صح أهنم قصدوا خالف رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم لقطعنا على ضاللتهم‪ ،‬ولكنا ال نقول ذلك‪ ،‬وعلى هذا الوجه‪،‬‬
‫الصحابة ثابتة‪ ،‬وجاللتهم باقية‪ ،‬وخطؤهم يف مسألة واحدة ال يذهب‬ ‫أخبار َّ‬
‫حرمة إسالمهم‪ ،‬وإصابتهم فيما ال حيصى من املسائل‪ ،‬فتأمل ذلك موفقاً»‪.‬‬
‫ويرى اإلمام القاسم بن حممد بن علي ‪ -‬وهو من املتشددين يف مسألة اإلمامة‬
‫‪ -‬أن «احلق أهنم إن مل يعلموا استحقاقه دوهنم بعد التحري فال إمث عليهم‪ ،‬وإن‬
‫علموا فخطيئتهم كبرية‪ .‬مث قال‪ :‬ولعل توقف كثري من أئمتنا لعدم العلم بأهنم‬
‫علموا أو جهلوا»‪ .‬وهذا من الفروق بني اإلمامية واملتشددين من الزيدية‪.‬‬
‫وما يفرتضه بعض املتحمسني من أهنم علموا وخالفوا ما عرفوا‪ ،‬فما هو إال‬
‫جمرد استصحاب ملا ارتسم يف ذهنه من فـرضيَّة املؤامرة‪ ،‬وانعكاس لصورهتا‪.‬‬
‫وقبل هذا وبعده‪ ،‬ما صدر عن اإلمام علي جتاه خمالفيه يف الرأي والرؤية‪،‬‬
‫وعلم وشجاعة‪ ،‬ولن يرضى مبا فيه منكر‬ ‫ليتَّخذ يف ذلك قدوة‪ ،‬فهو صاحب ِدين ِ‬
‫ومعصية‪ .‬وقد تقدم ذكر ما روي عنه يف هذا الباب‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫ونظراً حلساسية هذه املسألة‪ ،‬وكثرة تفاصيلها ومالبساهتا أفردهتا ببحث مفرد‬
‫تطرقت فيه لكثري من التفاصيل املتعلقة بالنص وما‬
‫الزيدية) َّ‬
‫بعنوان (اإلمامة عند َّ‬
‫ورد فيه من اختالف‪ ،‬وما يرتتب على القول به‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫الشبهة الرابعة‪ :‬االستيالء على فدك‬
‫الزيدية كثرياً بتفاصيل قصة فدك‪ ،‬ومن ذكرها منهم ذكرها بال‬ ‫مل يهتم قدماء َّ‬
‫تشنج ومبالغة‪ ،‬حىت إنه جاء يف مسند اإلمام زيد‪ :‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬عن علي‬
‫عليه السالم‪ ،‬قال‪« :‬إن األنبياء مل خيلفوا ديناراً وال درمها‪ ،‬إمنا تركوا العلم مرياثاً‬
‫بني العلماء»‪.‬‬
‫وسئل اإلمام القاسم بن إبراهيم عن مرياث النيب فقال‪« :‬إن رسول هللا صلى‬ ‫ُ‬
‫هللا عليه وآله وسلم تويف وقد فـَّرق كل ما ميلك من الدنيا على أمته‪ ،‬ومل يرتك إال‬
‫سـالحه‪ ،‬فأخذه علي بن أيب طالب»‪ .‬وسـئل عن (فدك)‪ ،‬فقـال‪« :‬ذُكر أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أعطى فاطمة صلوات هللا عليها فدك»‪.‬‬
‫هكذا بصيغة التمريض‪.‬‬
‫أما املتأخرون من الزيدية فيبدو أن تقلب املناخات الفكرية والسياسية يف كل‬
‫عصر أثَّر على مواقفهم‪ ،‬فصار من غري املنطقي أن ينسب إليهم موقف واحد‪،‬‬
‫غري أهنم متفقون يف اجلملة على أن مطالبةً وقعت من فاطمة الزهراء أليب بـكر‬
‫يف شأن فدك‪ ،‬وإن اختلفوا يف تفسري األحداث وتفاصيلها‪ ،‬ويف درجة النَّقد‬
‫والعتب‪ ،‬واملشهور عنهم قوالن‪:‬‬
‫الوولٌاْلول‪ :‬أن فاطمة طلبت فدك على أهنا هبة هلا من رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وأهنا صادقة فيما ذكرت‪ ،‬وهو قول أكثرهم‪ ،‬حىت ادعى‬
‫اإلمام القاسم بن حممد‪« :‬أن آل حممد ال خيتلفون أن النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪284‬‬

‫وسلم أحنلها فاطمة»‪.‬‬


‫وروى اإلمام عز الدين عن اإلمام حيىي بن حزة أنه قال‪« :‬إن الذي أدعته‬
‫فاطمة يف فدك كان حقاً‪ ،‬وهو الذي عليه األكثر من أكابر أهل البيت‪ ،‬واتفق‬
‫عليه أهل التاريخ وأهنا جرت بينها وبني أيب بـكر املناظرة يف فدك‪ ،‬وادعت أن‬
‫أباها حنلها إياها»‪.‬‬
‫أما طلب فدك على أهنا مرياث فال يرون صحة ذلك؛ ألنه يلزم منه أن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم مل يهبها‪ ،‬وأن الزهراء أخطأت يف الدعوى‪ ،‬وقد‬
‫ثبت عندهم أهنا ادعت اهلبة وهي صادقة‪.‬‬
‫الوـولٌاثلاين‪ :‬أن فاطمة رضي هللا عنها سألت فدك على أهنا مرياث‪ ،‬استناداً‬
‫َ ْ َ ح ْ َّ َ ْ ح َ ِّ ْ ح ْ َ َ ْ‬ ‫ح‬ ‫ح‬
‫ني﴾‬
‫ظ ٌاْلنثي ٌ‬ ‫ل ٌح ٌ‬ ‫وصيك حٌم ٌاهلل ٌ ِ ٌ‬
‫ف ٌأوالدِك ٌم ٌل ِذلك ٌِر ٌمِث ٌ‬ ‫إىل عموم قوله تعاىل‪﴿ :‬ي ِ‬
‫[النساء‪ .]11/‬وأن أبا بـكر روى هلا ما سع من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫يف شأن مرياثه‪.‬‬
‫تتخل عن طلب اإلرث‪ ،‬وناظرت أبا بـكر‪،‬‬ ‫مث اختلفوا‪ ،‬فرأى بعضهم أهنا مل َّ‬
‫وانصرفت وهي غضىب ومل تكلمه حىت ماتت‪ .‬غري أن ذلك كان نتيجة الختالف‬
‫الفهم‪ ،‬وليس بدافع العداوة والنوايا السيئة‪ ،‬ويف ذلك قال اإلمام عبد هللا بن‬
‫حزة‪« :‬وأما أمر فدك فقد كان فيها النِزاع‪ ،‬وتأولوا خرب النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫نورث ما خلَّفناه صدقة» على غري ما تأولناه»‪.‬‬ ‫وسلم‪« :‬حنن معاشر األنبياء ال ِ‬
‫بينما روى آخرون أهنا كفت عن النزاع بعد ساع ما روى أبو بـكر عن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم؛ ألنه مصدق عندها‪ ،‬وهي من الوقافني عند شرع‬
‫هللا وما روي عن أبيها رسول هللا‪« ،‬وإمنا راجعته يف ذلك على جهة االستخبار‪،‬‬
‫فلما عرفت جوابه سكتت وأعرضت عن ذلك وكفت»‪.‬‬
‫‪285‬‬ ‫الفصل الرابـع‪ :‬دفاع الزيدية عن الصحابة‬

‫وهذا ما رجحه العـالَّمة عبد هللا بن حممد النجري‪ ،‬فقال‪« :‬إن فاطمة ملا‬
‫الصحابة‪ ،‬سكتت فاطمة رضي‬‫سعت اخلرب من أيب بـكر وشهد بسماعه بعض َّ‬
‫هللا عنها انقياداً للحق وطوعاً للشرع»‪.‬‬
‫وليس يف هذا ما ُخيل بقدر الزهراء‪ ،‬وال يطعن يف تدينها‪ ،‬وال يعين أهنا كانت‬
‫مصرة على طلب الباطل‪ ،‬ولكنها طلبت ما رأته حقاً هلا؛ فلما سعت ما روي‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أذعنت له‪ ،‬وهذا شأن كل تقي‪ .‬فأصابت‬
‫يف الطلب أوالً‪ ،‬وأصابت يف الكف ثانياً‪.‬‬
‫مث اختلفوا يف حكم تصرف أيب بـكر جتاه ما يروى من دعوى الزهراء‪ ،‬على‬
‫أقوال‪:‬‬
‫اِلكـمٌاْلول‪ :‬أن أبا بـكر أخطأ يف تصرفه‪ ،‬وكان عليه أن يصدق دعوى‬
‫فاطمة ويقبل بينتها؛ ملا يعرف من فضلها وتقواها‪ ،‬وأهنا لن تطلب ما ليس هلا‬
‫حبق؛ لعصمتها‪ ،‬وأنه كان ينبغي مراعاة شعورها ولو من باب حق اخلليفة يف‬
‫التصرف يف األموال‪ ،‬حىت قال بعضهم‪:‬‬
‫وماذا عليهم لو أطابوا جناهنا‬ ‫وما ضرهم لو صدقوها مبا ادعت‬
‫فلِ ْم طلبوا فيمــا ادعتــه بيــاهن ـا‬
‫وقــد علموهــا بض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعــة من نبيهم‬
‫اِلكـمٌاثلاين‪ :‬اعتربوا بـيِنتها ناقصة‪ ،‬وعليه فال يلزم أبا بـكر االستجابة هلا‪،‬‬
‫وإن كانت صادقة يف نفسها؛ ألن قبول الدعوى متوقف على متام البينة‪ ،‬ال على‬
‫فضيلة املدعي‪ ،‬فكم من فاضل صادق يف دعواه يكون احلكـم لغري صاحله؛ لعدم‬
‫كفاية البيِنة الشرعية‪ ،‬وال عربة بدعوى العصمة هنا؛ ألن الناس متساوون يف‬
‫أحكام الشرع‪ ،‬إال ما خصه الدليل‪ ،‬وال دليل هنا‪ .‬وبناء على هذا اعتربوا تصرف‬
‫أيب بـكر تصرفاً صحيحاً‪.‬‬
‫الصحابة عند الزيدية‬ ‫‪286‬‬

‫واستغرب اإلمام حيىي بن حزة غضب الزهراء ‪ -‬إن صح ‪ -‬ألن أبا بـكر إمنا‬
‫طلب منها إقامة البينة‪ ،‬وقد جاءت بعلي وأم أمين‪ ،‬فقال‪ :‬امرأة مع االمرأة‪ ،‬أو‬
‫رجل مع الرجل‪ .‬قال‪ :‬فغضبت فاطمة لذلك‪ ،‬وإمنا طلب أبو بـكر احلق‪ ،‬فإذا‬
‫غضبت لذلك‪ ،‬فاحلق أغضبها‪ .‬وهي ‪ -‬فيما نعتقد ‪ -‬مل تغضب لذلك‪ ،‬إن‬
‫صح أهنا غضبت‪ ،‬وحاشاها من أن يكون احلق أغضبها‪.‬‬
‫ونظراً حلساسية هذه املسألة ‪ -‬كسابقتها ‪ -‬وكثرة اللغط حوهلا فقد أفردهتا‬
‫ببحث مفرد حتت عنوان (فدك وحقيقة النزاع بني الزهراء والصديق) شرحت فيه‬
‫كثرياً من التفاصيل اليت ال بد من معرفتها للخروج برؤية واضحة‪.‬‬
‫وهنالك ُشبه أخرى يوردها املصنِفون‪ ،‬أجاب على معظمها من الزيدية كل‬
‫من الشيخ أيب القاسم البسيت يف (التحقيق)‪ ،‬واإلمام حيىي بن حزة يف (التحقيق)‬
‫والعالمة القرشي يف (املنهاج) واإلمام املهدي يف (شرح القالئد)‪ ،‬والعالمة حيىي‬
‫بن احلسني بن القاسم يف (اإليضاح)‪.‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

You might also like