Professional Documents
Culture Documents
الصحـابة عند الزيدية الطبعة الثالثة الاكترونية
الصحـابة عند الزيدية الطبعة الثالثة الاكترونية
الصحـابة عند الزيدية الطبعة الثالثة الاكترونية
منقّحة ومَزِيدة
مح
توى الكتاب
تقـديم 5 .........................................................................................................
هـذه الطبعة 11 ..............................................................................................
مقدمة الكتاب 13 ...........................................................................................
الصحابة؛ األسباب والدوافع 22 .................................... الفصـل األول الكالم عن َّ
املبحث األول :الكالم عن الصحابة؛ النشأة والتطور23 .......................................
َ
ما ش َجر بين الصحابة من االختالف والخصومة 24 ....................................................
َ
االختالف في تقييم ما ش َجر بين الصحابة 42 ...............................................................
املبحث الثاني :نشوء ظاهرة سب الصحابة44 ....................................................
حملة األمويين على اإلمام علي وخروجهم عليه 44 .......................................................
اإلمام علي يتصدى للمتطاولين على الخلفاء 47 ...........................................................
مجاهرة األمويين بسب اإلمام والنيل منه 48 ................................................................
َ َ ُّ
تشكل ظاهرتي «النواصب» و«الروافض»54 ...............................................................
ردود األفعال بين التطفيف واإلنصاف59 ....................................................................
الصحابة 64 ...................................... املبحث الثالث :االختالف النظري في تقييم َّ
السبب األول :االختالف في تعريف (الصحابي)64 ........................................................
السبب الثاني :فرضية تالزم الصحبة والفضل والعدالة 67 ........................................
السبب الثالث :الخلل في مناهج البحث82 ...................................................................
مناظرة العلوي والجويني في شأن الصحابة 86 .............................................................
الفصـل الثاني مكانة الصحابة عند الزيدية91 ....................................................
املبحث األول :عموم الصحابة أخيارأبرار 91 ......................................................
الصحابة في كتب ا َّلزيدية 94 ............................................................. الثناء على عموم َّ
املبحث الثاني :الخلفاء الراشدون عند الزيدية 102 .............................................
فضائل الخلفاء ومكانتهم 103 .......................................................................................
الراشدون في نظر أهل البيت 107 .................................................................................
املبحث الثالث :الصحابة الخارجون على الخلفاء 140 .........................................
ً
أوال :الخارجون على أبي بكر وعمر 140 .........................................................................
ً
ثانيا :الخارجون على الخليفة عثمان بن عفان 142 .....................................................
ً
ثالثا :الخارجون على اإلمام علي والقاعدون عن نصرته 144 .......................................
ّ ً
رابعا :أصحاب دنسوا شرف الصحبة 156 ....................................................................
الفصـل الثالث أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة 165 .................................
القـرن الثـاني 167 ...............................................................................
القـرن الثـالث 173 ..............................................................................
القـرن الرابع 193 ...............................................................................
القـرن الخامس 197 ...........................................................................
القـرن السادس 201 ...........................................................................
القـرن السابع 203 ..............................................................................
القـرن الثـامن 212 ..............................................................................
القـرن التـاسع 219 .............................................................................
القـرن العـاشر 226 .............................................................................
القرن الحادي عشر 230 .....................................................................
القـرن الثاني عشر 233 .......................................................................
لصحابة 235 ................................................... الفصـل الرابع دفاع الزيدية عن ا َّ
املبحث األول :مؤلفات ومواقف وأحكام 235 ......................................................
روايات إجماع الزيدية على النهي عن سب الخلفاء 238 ..............................................
حكم علماء الزيدية فيمن يسب الخلفاء الراشدين 244 .............................................
ترجيح الترضية على التوقف 246 ..................................................................................
املبحث الثاني :الجارودية انتماء زيدي بأفكارإمامية 251 ......................................
موقف الجارودية من َّ
الصحابة 257 .............................................................................
الصحابة 263 ....................................................... مخالفة الجارودية للزيدية في شأن َّ
املبحث الثالث :شبهات حول الخلفاء 266 ..........................................................
الشبهة األولى :الحيلولة دون كتابة الوصية 266 ...........................................................
ّ
الشبهة الثانية :التخلف عن جيش أسامة 273 .............................................................
التقدم على اإلمام علي 276 .................................................................. الشبهة الثالثةّ :
الشبهة الرابعة :االستيالء على فدك 283 ......................................................................
تقديم
من خصائص عالِمنا األستاذ« :حممد حيىي عزان» أنه ميلك ما ميكن تسميته
بـ«الدراسة املتوازنة» أي اجلمع بني الرأي والواقعية ،وبني الدراية والرواية ،وقلة هم
الذين ملكوا ناصية اجلمع بينهما وساقومها بقلم واحد .من هنا تأيت آراؤه متوازنة
مع الواقع التارخيي فال ترى فيها هضماً ألي من اجلانبني ،أو تسمع نشازاً يف أي
منحى منهما ،وإمنا هو اطراد موزون فيما يتناوله من أحباث ،وهبذه الروح العلمية
املطمئنة تناول عاملنا اجلليل مواضيعه ،فحلق هبا جبناحني قويني.
الزيدية» هو من ذاك الطراز الذي حلق فيه عالياًالصحابة عند َّ
وهذا الكتاب « َّ
فوق أودية متشابكة ودروب متشعبة ،مث آب من رحلته العلمية وملء يديه حبث
ثريَّ ،قوم فيه املعوج ،وأزال عن احلقيقة ما علق هبا من أتربة وغبار.
الزيدية من
وقد يتساءل بعضهم :ملاذا اضطر عاملنا اجلليل إىل توضيح موقف َّ
الزيدية عليه السالم واضحاً كل الوضوح؟ بل كان موقفه
مسألة كان فيها مؤسس َّ
منها أحد األسباب اليت تسببت يف خسارته املواجهة املسلحة!
واحلق أنه مل يكن األمر حباجة إىل هذا البحث ،لوال أن أفكار مؤسس مذهب
الزيدية وتقمصتها وظهرتآخر هو «أبو اجلارود» قد تسللت ومتاهت يف أفكار َّ
مبظهرها ،وتكلمت بلغتها إىل درجة أن فصلها عنها وإفرازها منها حيتاج إىل جهد
كبري.
الصحابة عند الزيدية 6
األولى :أن أبا اجلارود مل يكن زيدياً وال إمامياً ،بل له مذهب خاص به.
الزيدية.
الثانية :أن موضوع تكفري وتفسيق املشايخ مرفوض عند َّ
الثالثة :أن أبا اجلارود هو الذي أحلق نفسه بالزيدية أوالً ،مث أحلقه بعض اهلادوية
عندما اقتبست منه موضوع النص على أمري املؤمنني ،وإثبات اإلمامة يف البطنني
بالدعوة مع العلم والفضل كما يقول اإلمام املهدي.
لكن هذا اإلحلاق القسري ،وهذا االقتباس ال يؤهالن اجلارودية لتكون زيدية أو
هادوية ،وإمنا هو لقاء يف بعض األفكار بني مذهبني خمتلفني ،وكثرياً ما حيصل بني
الزيدية ،وليس إىل اإلمامية؛املذاهب ،وقد أمكن للجارودية أن تعمق نسبتها إىل َّ
ألهنا خرجت منها وادعت التحاقها بالزيدية ،مث تسللت بالفعل إلـيها.
وهكذا يظهر أن إعادة ترتيب األوراق املختلطة ،وإرجاع صفحات كل كتاب
إىل أصله ،أمر حيتمه البحث العلمي ،وبدونه ال ميكن قراءة أي فكر قراءة نقية
صافية.
وما قام به عاملنا اجلليل يدور يف هذا األفق العلمي ،ويرتكز على حقائق العلم
واملوضوعية ،ومل يكن فيه أسري عاطفة وال سجني هوى ،وإمنا كان عاملاً باحثاً مدققاً.
وهبذه املواصفات الرفيعة يسعد (مركز الرتاث والبحوث اليمين) أن يقدم كتاب
املسار الرابع عن (الصحابة عند الزيدية) ليقرأه الناس مبختلف مذاهبهم وتوجهاهتم
الفكرية يف ضوء جديد ،من أجل أن يتمكنوا من إقامة جسور اللقاء على بنيان رشيد.
هـذه الطبعة
منذ أن نُشر أصل هذا البحث يف هيئة مقال يف «العدد 12-11من جملة املسار الصادر
منتصف 2003م( ،وهي جملة فصلية ،تصدر عن مركز الرتاث والبحوث اليمين ،وتعىن باجلوانب
الفكرية والثقافية والرتاثية ،وتتضمن مقاالت وحبوثاً باللغتني :العربية ،واإلجنليزية)؛ كنت أتتبع ردود
الفعل جتاهه ،وأرصد املالحظات مهما كانت ،كوهنا تُ ِعرب عن خلفيات ثقافية وفكرية خمتلفـة يتعني
النظر فيها ومراعاهتا.
ويف ضوء ذلك راجعت صياغة البحث وضمنته كثرياً من اإلضافات املهمة ،ودققت يف التوثيق
وتوسعت يف النقل واالستشهاد و َّقومت بعض األلفا واستدركت بعض النواقص ،حىت اكتمل
بناؤه.
مث وقع االختيار عليه ليكون «كتاب املسار الرابع» ،وتفضل األستاذ املفكر« :زيد بن علي
الوزير» رئيس «مركز الرتاث والبحوث اليمين» بتقدميه للقراء ،مبا يُرشد إىل قواعد اإلحبار يف جلة
هذه املسألة املعقدة رواية ودراية ،ويفتح نوافذ النظر يف آفاق التأمل والتحليل.
ونُشر الكتاب يف النصف الثاين من العام 2004م وكان له أثر ملموس يف تقومي موقف بعض
طالب العلم من الزيدية جتاه الصحابة ،إىل جانب تصحيح نظرة أتباع املذاهب األخرى جتاه الزيدية،
وخالل سنوات تناولته ألسنة القراء وأقالم النُّقاد ،دراسة وحتليالً واقتباساً واستشهاداً واعرتاضاً وتصويباً،
وخلصه دارسون يف بعض اجلامعات ،وأنشأ باحثون يف ضوئه حبوثاً ومقاالت ،واستفاد منه املتحاورون
وُكتَّاب الصحف ،واستشهد به املتحدثون يف القنوات التلفزيونية ،واقتبس منه املشاركون يف املواقع
اإللكرتونية ،وبذلك صار مبنزلة مرجع ُمهم يف بابه ،والسيما أنين مجعت فيه خالصة ما ورد يف حنو
مائة عشرين كتاباً من كتب الزيدية.
وبعد أن نفدت الطبعة األوىل وكثر التساؤل عن الكتاب رأيت أن أعيد تبويبه ليسهل الوصول
إىل أقسامه ،وجرتين املراجعة إىل إضافات وزيادات كثرية هلا صلة وثيقة باملوضوع ،إىل جانب
التوسع يف توثيق النصوص املنقولة وتدقيقها ،والرجوع إىل املزيد من املراجع ،خصوصاً ما ال يزال
خمطوطاً منها رغبة مين يف أن يصبح مرجعاً متكامالً يف بابه يعتمد عليه الكتَّاب والباحثون.
وحرصت جهدي على جتنب األلفا اليت تعكس ردود فِعل طائفية وعاطفية فقط؛ إذ اهلدف
الصحابة عند الزيدية 12
حماولة كشف حقائق قد تساعد على التقريب بني املختلفني ،وهتدي إىل حل املاضي على السالمة مبا
فيه ،وتقريب وجهات نظر احلاضر يف مسألة شائكة ْأوجدت ردود فعل متباينة وتشكلت يف ضوئها
تكتالت ومجاعات متخاصمة .ومتت طباعة الكتاب مرة أخرى أواخر عام (2007م) ،ولكن الكمية
كانت حمدودة ونفدت بسرعة ،ومل يطلع عليها كثري من املهتمني.
واليوم أقدم هذا الكتاب للطباعة للمرة الثالثة مع مراجعة وإضافات وتعديالت مهمة إىل
جانب مراجعة التوثيق ،ومطابقته مع أحدث الطبعات وأكثرها توفراً ،وكذلك اعتماد ما طُبع حديثاً
من املخطوطات اليت نـقلت عنها قبل طباعتها .وكان منهجي يف التوثيق كاآليت:
.1فضلت -عند التوثيق -أن أذكر املرجع املنقول عنه أوالً ،مث املؤلف ثانياً؛ ألن نسبة
االقتباس إىل املرجع الذي بني يدي أمر حمقَّق ،بينما نِسبته إىل املؤلف حيتاج إىل توثيق
آخر .إضافة إىل أن املؤلفني أنفسهم كثرياً ما يرتاجعون عن بعض اختياراهتم وجيددون
آراءهم يف ُكتب أخر.
.2ذكرت املعلومات الطباعية عن املراجع يف قائمة آخر الكتاب مبيناً ما توفر يل من تاريخ
وفاة املؤلف واسم احملقق والناشر وتاريخ الطبعة ،وفضلت اعتماد الطبعات املوجودة يف
مكتبيت أو املعتمدة يف املكتبة الشاملة لسعة انتشارها.
.3عند النقل من املخطوطات اعتمدت على ما له صورة يف مكتبيت ،وما ليس كذلك
أشرت إىل مكانه يف املكتبة اليت عثرت عليه فيها ،وأشرت إىل اجلزء الذي نقلت عنه
ورقم اللوح إن تيسر يل ذلك؛ كون بعض املخطوطات تأيت غري مرقمة.
.4أفردت قائمة للمصادر واملراجع اليت اعتمدت عليها من ُكتب الزيدية خاصة ،املخطوط
منها واملطبوع؛ ملا لذلك من خصوصية يف هذا البحث.
وأخرياً آمل من اإلخوة الباحثني -من أي توجه كانوا -أن يتحفوين مبالحظاهتم ونقدهم
وتصويبهم واستدراكاهتم كي يتم مراعاهتا يف الطبعات القادمة إن شاء هللا.
م
حمد يحيي سالم عران
صنعاء 2014/8/10 ،م
مقدةم الكتاب
تؤكد الدراسات التارخيية أن النيب األكرم حممد بن عبد هللا -عليه أفضل
الصالة وأزكى السالم -بذل ما بوسعه لبناء جمتمع تسوده األخـالق النَّبيلة
الرفيعـة ،واتفقت على أنه استطاع أن يصنع من أعراب البوادي وحتكمه ِ
القيم َّ ُ
املمزقة َّأمة واحدة ذات حضارة إنسانية رائدة قائمة على أسس فكرية متينة،َّ
وروحيَّة رصينة ،على الرغم مما أصاهبا بعد ذلك من ُخ ُدوش.
ومناهج أخالقية ُ
وعلى امتداد عصر الرسالة املباركة ق َّـوم صلى هللا عليه وآله وسلم اعوجاج
اجلِيل الذي بُعث فيه أحسن تقومي ،وأعد أصحابه حلمل ألوية اهلداية ،وغرس يف
عودهم الصـادق ،وعلَّمهم مكارم األخالق ،و َّ قلوهبم العقيـدة الراسخـة ،واإلميان َّ
فعل اخلريات ،حىت ارتقـوا منازل الشرف الرفيع ،ونالوا وسـام االنتظام يف معيَّـته
َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ ح َ َّ ح ح
َعٌ
اٌُ ٌ شد ٌِينٌمع ٌهٌأ ٌِ املباركة ،حىت قال عنهم الباري عز وجلُ﴿ :ممدٌٌ َرس ٌ
ولٌاهللٌواَّل ٌ
َ ح ْ ً ْ ح َّ ح َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً
ِن ٌاهلل ٌ َو ِرض َوانا ٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ
فٌ ل ٌم ٌَ
ون ٌفض ٌ
اُ ٌبينه ٌم ٌتراه ٌم ٌركعا ٌسجدا ٌيبتغ ٌ ار ٌرَح ٌ
الكف ٌِ
ْ ْ َ ُّ َ
الس حجو ٌِد﴾ [الفتح.]29 : ح
حوجوه ِِه ٌمٌم ٌ
ِنٌأث ٌِرٌ
فما أرى أحداً يُشبِ ُه ُهم ِمنكم ،لقد كانوا يُصبحون ُشعثاً غُ ْرباً ،وقد باتُوا ُس َّجداً
اجلم ِر من ِذك ِر دودهم ،وي ِق ُفون على ِ
مثل ْ وقِياماً ،يرا ِوحون بني ِجباه ِهم وخ ِ
ْ ُ ُ ُ
ِ ِ ِ ِ
أن بني أعيُنهم ُركب الْم ْعزى من طُول ُسجودهم ،إِذا ذُكر هللا مهلت مع ِ
ادهم ،ك َّ
ف ،خ ْوفاً يد الشَّجر يوم الريح ِ
العاص ِ
ُ ادوا كما ميِ ُ
أعيُـنُهم ،حىت تـبُ َّل ُجيُوبـ ُهم ،وم ُ
اب».ِمن العقاب ورجاء لِلثَّـو ِ
ً
الصحابة رضوان هللا عليهم
وبعـد وفاة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أصبح َّ
املصدر الوحيد لنقل تعاليم دين اإلسالم ،وصاروا هم األمناء على حْل الرسالة
إىل خمتلف أصقاع األرض ،وتلك مهمة مجعت بني جسامة املسؤولية وشرف
املقام.
وباقتدار ومسؤولية أدى تالميذ املصطفى ما تعني عليهم من نشر الدين
احلنيف يف مشارق األرض ومغارهبا ،وأضحت أجيال املستقبل مدينةً هلم مبا
ينعمون به من نور اهلداية وبركات اإلسالم ،وهذا مما جعل سائر املسلمني ينظرون
إليهم بإجالل واحرتام ،بل يعتقد بعضهم أن التطاول عليهم ال خيلو من غ ْمز
ملعلمهم النيب الكرمي ،ونكراناً جلميلهم يف حل راية اإلسالم والتضحية من أجله.
أن ما وقع بينهم عقب وفاة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من بيـد َّ
اختالف سياسي فيما يتعلق باختيار خلفاء؛ فتح أبواب اجلدل واخلالف بني
األجيال ،فقد جاء يف الروايات أن بعض الصحابة بادروا إىل بيعة أيب بـكر
ضرورة حسم مسألة اخلالفـة دون تأخري الصديق يف اجتماع مفاجئ رأوا فيه ُ
تالفياً ألي اضطراب ميكن أن حيدث يف جمتمع ال تزال االنتماءات القبلية
والعصبيات األسرية حاضرةً فيه بقوة ،يف حني رأى آخرون من الصحابة أن ذلك
مل يكن ُمسوغاً كافياً إلبرام البيعة دون تشاور مع اآلخرين املنشغلني بتجهيز
15 مقدمة الكتاب
والسباب.
ويف اجلانب اآلخر يصف متعصبو الشيعة من مييل إىل جانب اخللفاء ،ويرى
صحة خالفتهم ،ويفضلهم على علي بأنه (ناصيب) جيب الرباءة منه ومقاطعته،
وإن كان ِ
حيرم سبه والرباءة منه ،األمر الذي ح َّـري ذوي العقول؛ حىت نُسب إىل
اإلمام الشافعي أنه قال:
روافض بالتَّفضيل عند ذوي اجلهـل إذا حنن فضَّلنـا عليـاً فإننـا
ِ
صب عند ذكري للفض ـ ـ ــل ُرميت بِن ْ وفضل أيب ب ـ ـ ـ ـ ـ ــكر إذا ما ذكرتُ ـ ـ ـ ـ ـ ــه
أوس ـ ـ ـ ــد يف الرمل
أدان ب ـ ـ ـ ــه حتَّ ـ ـ ـ ــى َّ صب كليهما لت ذا رفـض ون ْ فما ز ُ
وقال آخر:
إذا م ــا ذكرن ــا من علي فضـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيلـ ـةً ُرمينـ ـ ــا ببهتـ ـ ــان وبُغض أيب بكر
ضجيع رسول هللا يف الغار والقرب الصديق من كان مؤمناً وهل ي ْشتِم ِ
ُ ُ
عم بالء ال ُفرقة واتسعت بني املسلمني الش َّ
ُّـقـة، ونتيجة لتعصب املختلفني َّ
وانعكس جدل املختلفني على سلوك أتباع املذاهب ،وأدى إىل الرغبة يف التمايز
يف كل شيء ،حىت وجدنا كل فريق يسعى إىل متييز أئمته ،وعلمائهِ ،
ومنظريه،
ويزعم أن له تراثاً خاصاً ومرجعيات مميزة ،وأهنا دون سواها مصدر اهلداية ،وما
عداها ضالل مبني.
واكنت َّ
الزيـديـة وال تزال ،واحدةً من الفرق اليت خاضت ِغـمار الصراع
السياسي واجلدل الفكري ،على الرغم من أهنا متيزت يف بعض املسائل احلساسة
بآراء تقريبيَّـة ومواقف وسطيَّـة نابعة من نظرة موضوعية شاملة وحتليل عميق
للنصوص ،جعلها ب منزلة جسر للتواصل بني املختلفني.
فالزيديـة -وإن ُعدت يف فرق الشيعة -هلم رأيهم اخلاص يف مسألة الصحابة
19 مقدمة الكتاب
وأود أن أنبه هنا إىل أنين حرصت على ذكر أكرب قدر ممكن من نصوص
الزيدية يف خمتلف جوانب املسألة ،نقالً عن كتبهم املعروفة املتداولة
علماء وأئمة َّ
املشهورة؛ ليكون ذلك أبلغ يف احلجة على من يـتـقول عليهم أو ينقل عن مصادر
جمهولة وأشخاص غري معروفني ،ويردد أقواالً غري ثابتة ،ولكي ال يقول من ال
يروق له الكالم منهم :إمنا تتبعت هفوات العلماء وسقطات األئمة.
وإىل جانب ذلك أوردت مجلة من النصوص اليت رواها بعض احلفا
كالدارقطين وابن عساكر واآلجري واحلاكم النيسابوري عن قدماء األئمة،
كشواهد الستيفاء بعض املباحث ،السيما أهنا مروية بأسانيد معظم رواهتا من
الزيدية ال مينعون من قبول رواية كل راو من
املعدودين يف الشيعة ،فضـالً عن أن َّ
أي فرق اإلسالم كان إذا توفرت فيه شروط النقل والرواية.
ين هبذا األمر أن يدقق فيه وال ينطلق
مع ٌ
وأخرياً أدعو لكل باحث يشعر بأنه ْ
يف أحكامه على جمرد املسلمات املوروثة ،والعبارات املسموعة املتداولة ،ولكن
يراجع املسألة بطريقة علمية ،ويقيم الروايات بنفسه وفق معايري القبول والرد
(املتعارف عليها) إن كان من أهل املعرفة والنظر والرتجيح ،السيما أنين قد ذكرت
املراجع اليت اعتمدت عليها ،واملصادر اليت نقلت عنها ،وحرصت على أن تكون
مراجعي فيما أنسبه إىل الزيدية؛ من كتبهم املعتمدة املخطوط منها واملطبوع،
ووضعتها يف قائمة خاصة يف آخر البحث.
ومن هللا أستمد التوفيق والسداد.
لفـص
ل األول ا
الكالم عن َّ
الصحابة؛ األسباب والدوافع
الصحابة بأحداث تارخيية متشعبة ،ثار حوهلا
يرتبط البحث يف مسألة تقييم َّ
جدل بني التيارات السياسية واملذاهب الدينية واملكونات االجتماعية ،حىت
ٌ
انعكس يف تراث األمة؛ فصارت كتب احلديث والتاريخ تعُج بآالف الروايات يف
مدح رجال وذم آخرين ،أو متجيد مجاعة وتقبيح أخرى ،وكأن اإلسالم ما جاء
إال لتقدمي اجملامالت وإضفاء الشرعية على العصبيات والنزوات.
ويف شأن الصحابة ُدونت عشرات الكتب اليت تض َّمنت ثناء وتعظيماً ألناس
وغمزاً وذماً آلخرين ،على أن ُج َّل ما صح من مدح هلذا وقدح يف ذاك ،جاء
مبوجب مواقف ُمعينة صدرت عنهم ،وبالتايل يبقى الثَّناء ويزول ببقاء وزوال
ُموجبه.
وال شك أن صحابة النيب صلوات هللا عليه ممن نالوا شرف اتباعه ومرافقته،
فصارت هلم ميزة ال ُقرب من مصدر اهلداية ،وبني أيديهم تـنـزل القرآن؛ لذلك
كان نطاق اختالفهم يف تقدير األمور واختاذ املواقف الفردية -أثناء وجود -
َ ح ْ َ ح َ َّ َ ح ح ح ْ َ ح َ َّ
ٌرسولٌاَّللٌِل ْوٌي ِطيعك ْم ٌِفٌك ٌثِ رٌ
يٌم َِنٌ حمدوداً ،وقد قال هللا هلم ﴿ َواعلمواٌأنٌفِيكم
َْ َ
اْل ْم ِرٌل َع ٌنِ ُّت ٌْم﴾ [الحجرات ]7 :ألنه املبلغ والرسول ،وعليهم أن يطيعوه ليهتدوا.
ومن الطبيعي أن جتدُّد األحداث وتقلُّبات احلياة مل تتوقف بعد موت رسول
هللا صلى هللا عليه وآله ،وجتاهها كان للصحابة مواقف قد ختتلف باختالف
فهمهم لنصوص الشريعة ،وتباينهم يف تقدير املواقف وترتيب األولويات ،أو حىت
23 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
تفاوهتم يف مستوى الصفاء الروحي ،والتحرر من نوازع الشر وردود الفعل السلبية،
فاحلالة البشرية هي املتحكمة فيهم واملسيطرة عليهم ،وال يزالون -هم وغريهم
-خمتلفني إىل يوم القيامة ،غري أن ُحسن الظن بسائر الناس مستحسن عقالً
ومستحب شرعاً؛ فكيف برفاق النيب الكرمي وصحابته السابقني؟!
َ ْ َ َ َ
ٌص ِ ً
اِلاٌ ﴿من ٌع ِمل وال شك أن رب العزة قد حسم احلكم يف عباده بأنه
َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ح َّ َ َ ِّ ح ْ ح َ ح َ َ َْ
ون﴾ [الجاثية .]15 :على أن باب التوبة ٌربكمٌت ْرجع ٌ فلِنف ِس ِهٌومنٌأساٌُفعليهاٌثمٌإَِل
َ َ ْ ََْْ ح ً َ َْ ْ َْ َ ح ح
وُاٌأ ْو ٌيظلِم ٌنفسه ٌث َّمٌ للخروج من السيئة مفتوح على مصراعيه ﴿ومن ٌيعمل ٌس
َّ َ َ ح ً َ ً َّ َ َ َْ َْ
ِيما﴾ [النساء .]110 :فاملشكلة إذاً ليست يف أن الناس ٌَيدٌِاَّللٌغفوراٌرحيستغ ِف ِرٌاَّلل ِ
-مبن فيهم الصحابة -خيتلفون ،وال ألهنم خيطؤون ،بل ألن ما شجر بينهم
حتول لدى األجيال ِمن بعدهم إىل ُخصومة دينية وسياسية ،وصار وقوداً لنار
الطائفية اليت ال تـرى مع السيئة حسنةً ،وال جتد للخطيئة توبةً ،وحترص على أال
يكون لكلمة املخالف يف اخلري واحلق ْحممالً.
ولكي نتعرف على جذور املشكلة وأسباب اجلدل يف مسألة الصحابة ،نُصدر
كتابنا باملباحث التالية:
كل خطأ -وإن كان مقصوداً -يُسقط اإلميان ويوجب العداوة وحيول دون
التوبة ومينع الغفران ويبيح اهلتك والتجريح.
غري أن النظر إىل تلك اخلالفات تغري عند األتباع؛ فبينما كان انتقاد السابقني
جيري على أساس االختالف يف وجهات النَّظر وتقييم الواقع ،حوله بعضهم إىل
اهتام هلم ،وحماكمة نواياهم وانتقاص من تديُّنهم وطعن يف تارخيهم ،حىت قالت
عائشة« :أمروا باالستغفار ألصحاب حممد فسبوهم».
ما َش َجر بين الصحابة من االختالف والخصومة
سبق أن أكدنا أن الرتبية الروحية اليت تلقاها الصحابة على يد الرسول صلى
هللا عليه وآله وسلم قد صانتهم من الوقوع يف كثري من كبائر اآلثام ،غري أهنا مل
حتل دون وقوعهم فيما يقع فيه سائر البشر من اختاذ املواقف حسبما تقضي به
قراءاهتم للفكرة ،وتقييمهم للواقع ،ومن هنا تباينت مواقفهم ،ودخلوا يف شيء
من اجلدل واخلصومة والتَّنازع.
وذلك ما تلقفه املتنافسون على اهليمنة والنُّفوذ ،وزادوا عليه ووجهوا كثرياً منه،
وجعلوا منه ُمسوغاً للسباب والشتيمة ،ومبالغة يف إطالق التهم وتفسري النوايا
وعرضوا اخلالفات يف مشاهد مصطنعة أثارت أحقاداً وكراهية؛ ال تزال األمة
تتجرع كأس مرارهتا إىل اليوم.
بيد أننا إذا عدنا لفحص روايات الثقات الواردة يف شأن اختالف الصحابة
يف شؤون السياسة والزعامة؛ فإننا سنجدها حتكي حالة طبيعية وردود فعل مبنية
وش ِوهت حتت تأثري وساوس وإمنا ُح ِرفت ُعلى مقدمات أكثرها معقول مستساغَّ ،
التنافر السياسي والتعصب املذهيب ،ف ُقدمت على غري وجهها.
وفيما يلي نلمح إىل جانب من النزاع السياسي واالجتماعي الذي طرأ بني
الصحابة بسبب اختالفهم يف تقدير األمور.
25 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
أما سعد بن عبادة – املرشح املنافس -ومن معه من األنصار فلم يبايعوا.
قال عمر :ونزونا على سعد بن عبادة ،فقال قائل منهم :قتلتم سعد بن عبادة،
فقلت :قتل هللاُ سعد بن عبادة.
وبذلك فرض ُعمر بيعة أيب بكر كأمر واقع ،ووضع الناس بني خيارين؛ إما
املتابعة والتَّصديق ،وإما اخلالف وال ُفْرقة .وسوغ ذلك بقوله :أما وهللا ما وجدنا
فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أيب بكر ،ولقد خشينا إن فارقنا القوم ومل
تكن بيعة أن حيدثوا بعدنا بيعة ،فإما أن نبايعهم على ما ال نرضى ،وإما أن
خنالفهم فيكون فيه فساد.
تلك كانت اجلولة األوىل من االختالف ،واجلولة الثانية كانت مع بين عبد
مناف بشقيهم؛ اهلامشي واألموي .أما اهلامشيون فكانوا -وفيهم العباس بن عبد
املطلب وعلي بن أيب طالب -منشغلني بتجهيز جنازة رسول هللا صلى
هللا عليه وآله وسلم ،ففوجئوا بإعالن بيعة أيب بكر ،فكان هلم اعرتاض على
الطريقة اليت مت هبا اختيار اخلليفة ،وحتفَّظوا على بيعة أيب بكر.
فقد روى عبد الرزاق ،عن معمر قال :قال رجل للزهري :مل يبايعه علي ستة
أشهر؟ قال :ال؛ وال أحد من بين هاشم ،حىت بايعه علي.
وقال الزهري قالت عائشة :كان لعلي من الناس حياة فاطمة حظوة ،فلما
توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه ،فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم مث توفيت .فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه
أسرع إىل مصاحلة أيب بكر فأرسل إىل أيب بكر أن ائتنا وال تأتنا معك بأحد -
وكره أن يأتيه عمر ملا يعلم من شدته -فقال عمر :ال تأهتم وحدك ،فقال أبو
بكر :وهللا آلتينهم وحدي ،وما عسى أن يصنعوا يب؟! قال :فانطلق أبو بكر
27 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
اللهم استخلفت عليهم خري خلقك.ثـ ُقل على أيب بكر موقف من استشارهم
من الصحابة ،حىت روي عن عبد الرحن بن عوف ،أنه قال :دخلت على أيب
بكر أعوده يف مرضه الذي تويف فيه ،فسلمت عليه ،وسألته :كيف أصبحت؟
فاستوى جالساً ،فقال« :أما إين على ما ترى وِجع ،وجعلتم يل شغالً مع وجعي،
جعلت لكم عهداً من بعدي ،واخرتت لكم خريكم يف نفسي ،فكلكم وِرم لذلك
أنفه ،رجاء أن يكون األمر له».
مث قال – بعد كالم طويل « :-ووددت أين يوم سقيفة بين ساعدة كنت
قذفت األمر يف عنق أحد الرجلني؛ أيب عبيدة أو عمر بن اخلطاب ،فكان أمري
املؤمنني وكنت وزيراً ،ووددت أين سألت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :فيمن
هذا األمر؟ فال ينازعه أهله .ووددت أين كنت سألته :هل لألنصار يف هذا األمر
نصيب».
أما األنصار فقد ذكر املؤرخون أن بعضهم أعربوا عن استيائهم من استئثار
قريش ،وأبدوا سخطاً وشكوى من اإلجحاف حبقهم ،فروي عن قيس بن سعد
أنه قال:
خالف رسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول هللا يوم التشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاج ِر وخ ـ ـ َّـربمت ـ ــون ـ ـ ــا أمن ـ ـ ــا األم ـ ــر ف ـ ـي ـ ـك ـ ــم
كما جـاء ُكم ذو العرش دون العشائ ِر وأن وزارات اخل ـ ـ ــالف ـ ـ ــة دون ـ ـ ـ ـك ـ ـ ــم
بِِغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــري وداد منكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم وأواص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِر فهال وزيراً واح ـ ـ ــداً جتتبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون ـ ـ ــه
عراجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة هابت ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدور املن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ِر سـقى هللا سعـداً يـوم ذاك وال سـقى
وبعد عقد من الزمان يف اخلالفة تعرض عمر هلجوم وهو يف مسجده يصلي.
انتقل إثر ذلك إىل جوار ربه ،وله سابقة يف العمل الصاحل ،وفيه تقضي رحة ربه
وعدله.
الصحابة عند الزيدية 30
وروى الشريف الرضي أن أناساً اجتمعوا إىل علي وشكوا ما نقموه على
عثمان ،وسألوه خماطبته واستعتابه هلم ،فدخل على عثمان فقال :إن الناس
ورائي ،وقد استسفروين بينك وبينهم ،ووهللا ما أدري ما أقول لك! ما أعرف
شيئاً جتهله ،وال أدلك على أمر ال تعرفه ،إنك لتعلم ما نعلم ،ما سبقناك إىل
شيء فنخربك عنه ،وال خلونا بشيء فنبلغكه ،وقد رأيت كما رأينا ،وسعت كما
سعنا ،وصحبت رسول هللا كما صحبنا .وما ابن أيب قحافة وال ابن اخلطاب
وشيجة رحم منهما ،وقد بأوىل بعمل احلق منك ،وأنت أقرب إىل رسول هللا ِ
تبصر من
نلت من صهره ما مل يناال .فاهلل هللا يف نفسك! فإنك -وهللا -ما َّ
الصحابة عند الزيدية 32
عمى ،وال تعلَّم من جهل ،وإن الطرق لواضحة ،وإن أعالم الدين لقائمة».
وجممل ما ذكر يف قصة مقتل عثمان حسب ما أورد الذهيب أن مجاعة من
أهل مصر والكوفة والبصرة تواعدوا للقدوم على عثمان ومعاتبته ،وحينما بلغ
عثمان أهنم صاروا على مشارف املدينة ،خطب فقال :جزاكم هللا يا أصحاب
حممد عين شراً؛ أذعتم السيئة وكتمتم احلسنة ،وأغريتم يب سفهاء الناس ،أيكم
يذهب إىل هؤالء القوم فيسأهلم ما نقموا وما يريدون؟ فقام علي وقال :أنا ،فقال
عثمان :أنت أقرهبم رحاً ،فأتاهم فرحبوا به ،فقال :ما الذي نقمتم على عثمان؟
قالوا :نقمنا أنه حما كتاب هللا ،وحى احلمى ،واستعمل أقرباءه ،وأعطى مروان
مائة ألف ،وتناول أصحاب رسول هللا.
مث إن عثمان رد عليهم :أما القرآن فمن عند هللا ،إمنا هنيتكم عن االختالف
فاقرؤوا على أي حرف شئتم ،وأما احلمى فوهللا ما حيته إلبلي وال لغنمي ،وإمنا
حيته إلبل الصدقة ،وأما قولكم :إين أعطيت مروان مائة ألف ،فهذا بيت ماهلم
فليستعملوا عليه من أحبوا ،وأما قولكم :تناول أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،فإمنا أنا بشر أغضب وأرضى ،فمن ادعى قِبلي حقاً أو مظلمة فها أنا
ذا ،فإن شاء قـوداً (= قصاصاً) وإن شاء عفواً.
فرجع إليهم علي وقال هلم :تُعطون كتاب هللا ،وتُعتبون من كل ما س ِخطتم،
فأقبل معه ناس من وجوههم ،فاصطلحوا على خس :على أن املنفي يُقلب،
واحملروم يُعطى ،ويوفر الفيء ،ويعدل يف الق ْسم ،ويُستعمل ذو األمانة والقوة.
كتبوا ذلك يف كتاب ،وأن يردوا ابن عامر إىل البصرة ،وأبا موسى إىل الكوفة.
ويروى أهنم ملا رجعوا راضني ،بلغوا (البويب) رأوا مجالً عليه ْميسم الصدقة،
فأخذوه ،فإذا غالم لعثمان ،ففتشوا متاعه ،فوجدوا قصبة من رصاص ،فيها
33 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
كتاب يف جوف اإلداوة يف املاء :إىل عبد هللا بن أيب سرح -وايل عثمان على
صلِبهم .فرجع املصريون إىل املدينة ،وأبلغوا من وافاهم من مصر -أن يقتلهم وي ْ
البصرة والكوفة مبا وجدوا ،فقالوا :حنن مننع إخواننا وننصرهم .فعادوا مجيعاً وأتوا
علياً ،فقالوا :أمل تر إىل عدو هللا؟! فقم معنا ،قال :وهللا ال أقوم معكم ،قالوا:
فلم كتبت إلينا؟ قال :وهللا ما كتبت إليكم ،فنظر بعضهم إىل بعض ،وخرج علي
من املدينة.
فانطلقوا إىل عثمان ،فقالوا :أكتبت فينا بكذا؟ فأنكر وقال :إمنا مها اثنان،
تقيمون رجلني من املسلمني -يعين شاهدين -أو مييين باهلل الذي ال إله إال
هو ما كتبت وال علمت ،وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش اخلامت
على اخلامت .فلم يصدقوه ،وقالوا :قد أحل هللا دمك.
وكان بعض أهل املدينة قد هنضوا لنصرة عثمان والدفاع عنه واست ْقتل أناس
منهم :زيد بن ثابت ،وأبو هريرة ،وسعد بن مالك ،واحلسن بن علي ،فبعث
إليهم يعزم عليهم ملا انصرفوا ،فانصرفوا.
وكان علي رضي هللا عنه قد بذل ما بوسعه من الدفاع عن عثمان بن عفان،
حىت قال« :ما يريد عثمان إال أن جيعلين مجالً ناضحاً بالغرب ،أقبل وأدبر! بعث
إيل أن أخرج ،مث بعث إيل أن أقدم ،مث هو اآلن يبعث إيل أن أخرج! وهللا لقد
دفعت عنه حىت خشيت أن أكون آمثاً».
وروي أن عثمان كان قد بعث إىل أهل األمصار يستمدهم ،فساروا إليه على
الصعب والذلول ،وبعث معاوية إليه حبيب بن مسلمة ،وبعث ابن أيب سرح
معاوية بن حديج وسار إليه من الكوفة القعقاع بن عمرو.
الصحابة عند الزيدية 34
وأظهر الناقمون على عثمان أهنم راجعون إىل بالدهم ،فذهب أهل املدينة
إىل منازهلم ،فلما ذهب القوم إىل عساكرهم كروا هبم ،وبغتوا أهل املدينة ودخلوها
وضجوا بالتكبري ،ونزلوا يف مواضع عساكرهم ،وأحاطوا بعثمان وقتلوه.
وتشري جممل األخبار إىل أن الصحابة انقسموا يف شأن األحداث اليت مرت هبا
السنوات األخرية من خالفة عثمان؛ فبعضهم كان مؤيداً لعثمان متفهماً ملواقفه،
وبعضهم كان معرتضاً دون نقمة وحتريض ،وبعضهم كان ناقماً حمرضاً ،ولكن على
ما دون القتل وسفك الدماء ،وبعضهم كان مشاركاً يف اهلجوم عليه دون تأكيد
على املشاركة يف مباشرة القتل.
وروى الذهيب أن املصريني الناقمني على عثمان كانوا ال يطمعون يف أحد من
أهل املدينة أن ينصرهم إال ثالثة ،فإهنم كانوا يراسلوهنم ،وهم :حممد بن أيب بكر
الصديق وحممد بن جعفر وعمار بن ياسر.
( )4الفتنة في عهد اإلمام علي بن أبي طالب
بعد مقتل عثمان توجه املهاجرون واألنصار حنو اإلمام علي بن أيب طالب،
وطلبوا منه اخلروج لبيعة علنية مفتوحة ،فاعتذر قائالً« :دعوين والتمسوا غريي؛
فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ،ال تقوم له القلوب ،وال تثبت عليه العقول،
وإن اآلفاق قد أغامت ،واحملجة قد تنكرت .واعلموا أين إن أجبتكم ركبت بكم
ما أعلم ،ومل أصغ إىل قول القائل وعتب العاتب ،وإن تركتموين فأنا كأحدكم،
ولعلي أسعكم وأطوعكم ملن وليتموه أمركم ،وأنا لكم وزيراً خريٌ لكم مين أمرياً!».
فأصر الناس عليه حىت مل جيد بداً من االستجابة هلم نظراً للظروف احلرجة
اليت كانت األمة متر هبا ،وهو ما عرب عنه الحقاً بقوله« :أما والذي فـلق احلبة،
احل ِ
اض ِر ،وقيام احلجة بوجود النَّاصر ،وما أخذ هللا على وبـرأ النَّسمة ،لوال حضور ْ
35 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
ت حبلها على غارهبا، العلماء أال يـُق ُّاروا على كِظَِّة ظامل ،وال سغ ِ
ب مظلوم ،أللقْي ُ
آخرها بكأس َّأوهلا ،وأللفيتُم دنياكم هذه أ ْزهد عندي من ع ْفط ِة عْنز». ولسقيت ِ
وذكر إبراهيم بن حممد الثقفي أن اإلمام علياً خطب بعد مقتل حممد بن أيب
بكر خطبة خلص فيها موقفه من اجلدل حول اخلالفة ،جاء فيها« :فلما مضى
رسول هللا لسبيله ،تنازع املسلمون األمر بعده ،فوهللا ما كان يلقى يف روعي ،وال
خيطر على بايل أن العرب تعدل هذا األمر بعد حممد عن أهل بيته ،وال أهنم
ُمن ُّحوه عين من بعده ،فما راعين إال انثيال الناس على أىب بكر ،وإجفاهلم إليه
ليبايعوه ،فأمسكت يدى ،ورأيت أين أحق مبقام حممد صلى هللا عليه يف الناس
ممن توىل األمر من بعده.
فلبثت بذاك ما شاء هللا حىت رأيت راجعة من الناس رجعت عن اإلسالم، ُ
يدعون إىل حمق دين هللا وملة حممد صلى هللا عليه ،فخشيت إن مل أنصر اإلسالم
وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ...فمشيت عند ذلك إىل أىب بكر فبايعته،
وهنضت يف تلك األحداث ،حىت زاغ الباطل وزهق ،وكانت كلمة هللا هي العليا،
وسدد ،وقارب واقتصد، ولو كره الكافرون .فتوىل أبو بكر تلك األمور ،في َّسر َّ
وصحبته مناصحاً ،وأطعته فيما أطاع هللا فيه جاهداً ،وما طمعت -أن لو حدث
به حادث وأنا حي أن يرد إىل األمر الذي نازعته فيه -طمع مستيقن ،وال
يئست منه يأس من ال يرجوه ،ولوال خاصة ما كان بينه وبني عمر ،لظننت أنه
ال يدفعها عين.
فلما احتضر بعث إىل عمر فواله؛ فسمعنا وأطعنا وناصحنا ،وتوىل عمر
األمر ،فكان مرضي السرية ،ميمون النَّقيبة ،حىت إذا احتضر ،فقلت يف نفسي:
لن يعدهلا عين ،فجعلين سادس ستة ،فما كانوا لوالية أحد منهم أشد كراهة
الصحابة عند الزيدية 36
لوالييت عليهم».
وفور توليه منصب اخلالفة اعترب مما جرى لسلفه عثمان ،فنفذ بعض
اإلجراءات الضرورية ،حيث ألغى احملاباة األسرية ،ونسف كل إجراء قام على
أساس اجملامالت ،وقال« :وهللا لو وجدته (= املال املأخوذ بغري حق) قد تزوجت
به النساء ،وملكت به اإلماء؛ لرددته ،فإن يف العدل سعة ،ومن ضاق عليه
العدل ،فاجلور عليه أضيق».
فكان ذلك أحد أسباب الصراع الشهري الذي ظهر أيام خالفته رضي هللا
عنه ،ولكنه استمر -على الرغم من املعانة -فيما رآه مناسباً ،حىت لقي هللا
شهيداً بعد خس سنوات قضاها يف اخلالفة.
ويف أيامه حدثت أخطر اضطرابات يف عصر الراشدين ُجلها من تداعيات
مقتل عثمان ،ولكنه واجهها حبكمة ،حىت إن الالحقني من خمتلف املدارس عدوا
ما صدر عن اإلمام علي تأصيل لفقه التعامل مع الفنت الداخلية ،ومن أبرز تلك
احملطات:
مواجهةٌانلاكثنيٌ
كان كثري من الصحابة البارزين كعلي بن أيب طالب وطلحة بن عبيد هللا
والزبري بن العوام وأيب ذر الغفاري وعبد هللا بن مسعود وعمار بن ياسر وحممد
بن أيب بكر وعمر بن احلمق اخلزاعي وبعض نساء النيب ممن عاتب عثمان على
تسليم األمر لبين أمية وما نتج عن ذلك من جتاوزات أغضبت اجملتمع.
وقد روي عنهم مواقف خمتلفة يف نصح عثمان وحتذيره؛ غري أن علي بن أيب
طالب كان أحرصهم على عثمان ،وأكثرهم تردداً عليه ،وتوفيقاً بينه وبني الناقمني
37 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
يأتيكم به أمري ،وال تفعلوا فعلة تضعضع قوة ،وتسقط منَّة ،وتورث وهناً وذلة،
وسأمسك األمر ما استمسك ،وإذا مل أجد بداً فآخر الدواء الكي».
ولكن األمويني مل يلتفتوا إىل ما كان يطرحه اإلمام علي ،وأصروا على املطالبة
بتسليم املتهمني؛ ليجروا عليهم حكمهم ،وأخذوا يتهمون اإلمام بالتسرت على
القتلة ،بل ذهب بعضهم إىل أنه زعيمهم.
أمرت به لكنت قاتالً ،أو هنيت عنه
ومما جاء عنه رداً على اهتامه قوله« :لو ُ
لكنت ناصراً ،غري أن من نصره ال يستطيع أن يقول :خذله من أنا خري منه،
ومن خذله ال يستطيع أن يقول :نصره من هو خري مين .وأنا جامع لكم أمره:
استأثر فأساء األثرة ،وجزعتم فأسأمت اجلزع ،وهلل حكم واقع يف املستأثر واجلازع».
وبعد إعالن مجاعة على رأسهم طلحة والزبري نكث بيعة اإلمام ،حتركوا بني
الناس لدفعهم للتخلي عن بيعته؛ مما أحدث اضطرابات ومواجهات انتهت
باملضي حنو معركة فاصلة بني الفريقني .وكانت حجة املناوئني لإلمام علي:
«املطالبة بدم عثمان» ،وهو ما حرص على توضيح موقفه من ذلك األمر يف
مقامات خمتلفة ،من ذلك:
ما روي عنه أنه قال« :قد كنت وما أه َّدد باحلرب ،وال أرَّهب بالضرب ،وأنا
على ما قد وعدين ريب من النَّصر ،وهللا ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان
إال خوفاً من أن يُطالب بدمه ،ألنه مظنته ،ومل يكن يف القوم أحرص عليه منه،
فأراد أن يغالط مبا أجلب فيه ليلتبس األمر ويقع الشك .ووهللا ما صنع يف أمر
عثمان واحدة من ثالث؛ لئن كان ابن عفان ظاملاً -كما كان يزعم -لقد كان
ينبغي له أن يؤازر قاتليه وأن ينابذ ناصريه ،ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له
املعذرين فيه ،ولئن كان يف شك من اخلصلتني ،لقدأن يكون من املنهنهني عنه و ِ
39 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه .فما فعل واحدة من
الثالث ،وجاء بأمر مل يعرف بابه ،ومل تسلم معاذيره».
وقال« :إهنم ليطلبون حقاً هم تركوه ،ودماً هم سفكوه ،فلئن كنت شريكهم
فيه ،فإن هلم لنصيبهم منه ،ولئن كانوا ولوه دوين ،فما التبعة إال عندهم ،وإن
أعظم حجتهم لعلى أنفسهم ،يرتضعون أَُّماً قد فطمت ،وحييون بدعة قد أميتت.
يا خيبة الداعي! من دعا؟! وإالم أجيب؟! وإين لراض حبجة هللا عليهم وعلمه
فيهم».
ويف رسالة له إىل أهل الكوفة عند مسريه من املدينة إىل البصرة ملواجهة
الناكثني ،قال« :أما بعد ،فإين أخربكم عن أمر عثمان حىت يكون سعه كعيانه:
إن الناس طعنوا عليه ،فكنت رجالً من املهاجرين أكثر استعتابه ،وأقل عتابه،
وكان طلحة والزبري أهون سريمها فيه الوِجيف ،وأرفق حدائهما العنِْيف ،وكان من
عائشة فيه فلتة غضب ،فأتيح له قوم فقتلوه ،وبايعين الناس غري مستكرهني وال
جمربين ،بل طائعني خمريين».
وروى أبو القاسم القزويين من طريق أيب إسرائيل ،عن احلكم بن عتيبة ،قال
شهد مع علي رضي هللا عنه مثانون بدرياً ومائتان وخسون ممن بايع حتت الشجرة.
وقعت املواجهة ،وقتل فيها العشرات ،على رأسهم طلحة بن عبيد هللا .ذُكر
أن مروان بن احلكم غدر به فرماه بسهم مع أنه كان يقاتل معه.
وأما الزبري بن العوام فروى ابن أيب شيبة بإسناده ،عن عبد السالم رجل من
بين حية ،أن علياً دعا بالزبري وخال به وقال له :أنشدك باهلل أنت سعت رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم يقول -وأنت الو يدي يف سقيفة بين فالن :-لتقاتلنه
وأنت ظامل له ،مث لينصرن عليك ،قال :قد سعت ،ال جرم ،ال أقاتلك .وزاد أبو
الصحابة عند الزيدية 40
هلم .وكان معه حممد بن أيب بكر ،وعمار بن ياسر ،فقال أحدمها لآلخر :ما
تستمع ما يقول؟ فقال له اآلخر :اسكت ،ال يزيد بك.
مواجهةٌالفئةٌابلاغيةٌ
بعد وقعة اجلمل اخنفض مستوى التحريض على اإلمام علي ،غري أن معاوية
كان والياً على الشام واشرتط لبيعته تسليم قتلة عثمان إليه ،فبعث إليه اإلمام
علي رسالة جاء فيها« :أما بعد فإن بيعيت باملدينة لزمتك وأنت بالشام؛ ألنه
بايعين القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ،فلم يكن
للشاهد أن خيتار ،وال للغائب أن يرد ،وإمنا الشورى للمهاجرين واألنصار ،فإذا
اجتمعوا على رجل فسموه إماماً كان ذلك هلل رضاً ،فادخل فيما دخل فيه
إيل فيك العافية ،إال أن تتعرض للبالء ،فإن تعرضت
املسلمون ،فإن أحب األمور َّ
له قاتلتك ،واستعنت هللا عليك.
وقد أكثرت يف قـتلة عثمان؛ فادخل فيما دخل فيه املسلمون ،مث حاكم القوم
إيل ،أحلك وإياهم على كتاب هللا ،فأما تلك اليت تريدها ،فخدعة الصىب عن
اللنب .ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك ،لتجدين أبرأ قرشي من دم عثمان».
وعلم معاوية أنه ال مكان له كوال يف ظل خالفة علي بن أيب طالب ،وأنه
سيعزله عن الشام اليت ظل والياً عليها من أيام اخلليفة عمر بن اخلطاب ،ويف
تلك املدة كان قد استطاع أن يؤثر يف منط تفكري الناس ،ونوعية ثقافتهم
ووالءاهتم ،فقد كان بارعاً يف استمالة الناس وكسب والئهم ،فقام خطيباً فيهم،
وقال« :أيها الناس ،قد علمتم أين خليفة أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب ،وأين
خليفة عثمان بن عفان عليكم ،وأين مل أقم رجالً منكم على خزاية قط ،وأين
ويل عثمان ،وقد قُتل مظلوماً ،وهللا يقول( :ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه
الصحابة عند الزيدية 42
سلطاناً فال يسرف يف القتل إنه كان منصوراً) .وأنا أحب أن تعلموين ذات
أنفسكم يف قتل عثمان» .فقام احلاضرون من أهل الشام وأجابوه إىل الطلب
بدم عثمان ،وبايعوه على أن يبذلوا أنفسهم وأمواهلم ،أو يدركوا بثأره ،أو يفين
هللا أرواحهم.
وقرر معاوية مواجهة اإلمام علي مبن معه من أهل الشام ،وكان يدرك أنه
يواجه علياً ومعه كثري من أصحاب رسول هللا ،فأخذ يراسل أناسا من الصحابة
ليقفوا إىل جانبه؛ فاستجاب له نفر قليل ،منهم :عمرو بن العاص واملغرية بن
شعبة.
وفضل آخرون من الصحابة الوقوف على احلياد ،ليس شكاً يف مكانة علي
وموقفه املشروع ،ولكنهم آثروا أن ال يقعوا يف دماء املسلمني الذين يتدافعون
على أمور ال يرون أنه يتعني عليهم اخلوض فيها.
وبدأت التحضريات ملعارك ومواجهات كان أبرزها وقعة صفني؛ اليت راح
ضحيتها العشرات ،منهم مجاعة من الصحابة وكبار التابعني ،أبرزهم :عمار بن
ياسر الذي أربك مقتله مشهد الوالء والتحالفات ،ملا كان الناس يعرفون أن
رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال عنه« :يا عمار تقتلك الفئة الباغية».
وعقب معركة صفني ظهرت فتنة اخلوارج ،وأخذت وقتاً وجهداً ،وأثارت كثرياً
وعمقت ال ُفرقة يف صفوف املسلمني ،واشتهر يف فتنة اخلوارج معركة
من الشبهَّ ،
النهروان اليت سقط فيها عشرات القتلى.
االختالف في تقييم ما َش َجر بين الصحابة
أثار ما شجر بني الصحابة من تدافع وجتاذب كثرياً من التساؤالت ،وأسس
تكون لديه
كل حسب ما سبق إىل ذهنه ،وما َّ لتباين والءات من جاء بعدهمٌ ،
43 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
من تصورات نتيجة مؤثرات البيئة املذهبية واحمليط الثقايف ،وتوسع اخلالف
وتباينت التصورات أكثر فأكثر بالنسبة ملن جاء بعد ذلك ،وِزيْد على روايات
ووِجهت حسب األمزجة ،واستغلت يف الصراعات السياسية األحداث التارخييةُ ،
واجلدل املذهيب ،حىت صار األمر إىل ما هو عليه اليوم.
وبالتفتيش عن مواقف الفرق والتيارات واملذاهب اإلسالمية جتاه ما شجر بني
الصحابة ،جند أن منهم من يقول :حنن نعلم ما وقع بني الصحابة ،لكننا حنسن
الظن هبم ،ون ِكل أمرهم إىل هللا ،وليس لنا حكم فيما شجر بينهم ،فهم أعلم
بتكليفهم ،ون ُكف عن ذكر ما شجر بينهم حىت ال نفقد الناس الثقة هبم .ويف
ضوء ذلك يرى بعضهم أن أنسب طرق الدفاع عن الصحابة يكون بإنكار ما
جرى بينهم؛ ألهنم ال يستوعبون إمكانية صدور اخلطأ عمن حيبون ويعظمون،
مع أننا جندهم يرددون روايات يُفهم منها انتقاد وإدانة معارضي أيب بكر أو عمر
أو عثمان أو عائشة ،وال يرتدد بعضهم يف ختطئتهم وغمزهم ،وإن كانوا من
الصحابة ،أمثال أيب ذر الغفاري ،وعمار بن ياسر ،وحممد بن أيب بكر ،وكثري
ممن خالف عثمان أو حارب ضد عائشة يوم اجلمل.
بشر كغريهم ،تعرتيهم مشاعر احلب والكره،ومنهم ،من يرى أن الصحابة ٌ
وتؤثر فيهم األنانيات واألطماع ،ولذلك جيوز نقدهم وإدانة ما ثبت من سوء
صدر عنهم ،وال ميكن استساغة القول بأن سيدنا رضي هللا عنه قـتل سيدنا رضي
هللا عنه!! بيد أن نظريتهم هذه ال تعمل إذا تعلق األمر باإلمام علي والزهراء
واحلسنني وأكابر أنصارهم ،فهؤالء ممنوع نقدهم ،أو حىت احتمال وقوعهم يف
اخلطأ حىت وإن تُرك حكمه إىل هللا! وهذه كلها من مظاهر التعصب.
وتلك املواقف ال ختلوا من تأثري العواطف ومشاعر الوالء أو الرباء اليت بدورها
تؤثر يف سالمة التفكري وصوابية التقييم.
الصحابة عند الزيدية 44
اخللفاء أيب بـكر وعمر وعثمان ،وأومهوا الناس أن علياً كان يف خصومة معهم،
مستغلني بعض اخلالفات املعتادة اليت جرت بينهم خصوصاً عند انتقال اخلالفة
من خليفة آلخر.
وذلك ما كشفته إحدى رسائل معاوية اليت بعثها إىل اإلمام علي ،وفيها قال:
«أما بعد ،فإن هللا اصطفى حممداً بعلمه ،وجعله األمني على وحيه ،والرسول إىل
خلقه ،واجتىب له من املسلمني أعواناً أيده هللا هبم ،فكانوا يف منازهلم عنده على
قدر فضائلهم يف اإلسالم .فكان أفضلهم يف إسالمه ،وأنصحهم هلل ولرسوله
اخلليفة من بعده ،وخليفة خليفته ،والثالث اخلليفة املظلوم عثمان ،فكلهم
الشزر ،وىف قولك اهلُجر ،ويف
حسدت ،وعلى كلهم بغيت .عرفنا ذلك يف نظرك َّ
الصعداء ،ويف إبطائك عن اخللفاء ،تقاد إىل كل منهم كما يقاد الفحل تنفسك ُِّ
املخشوش (=البعري املخزوم بأنفه) حىت تبايع وأنت كاره.
مث مل تكن ألحد منهم بأعظم حسداً منك البن عمك عثمان ،وكان أحقهم
أال تفعل به ذلك يف قرابته وصهره ،فقطعت رحه ،وقبحت حماسنه ،وألَّْبت الناس
ضربت إليه آباط اإلبل ،وقِيدت إليه اخليل العِراب،
عليه ،وبطنت وظهرت ،حىت ُ
وحل عليه السالح يف حرم رسول هللا ،ف ُقتل معك يف احمللة ،وأنت تسمع يف ُ
داره اهلائعة (=الصوت الشديد) ،ال تردع الظَّن والتهمة عن نفسك فيه بقول وال
فعل».
فكانت هذه التصرحيات من أول بذور التفرقة بني اخللفاء ،وتأليب فريق من
الناس على اإلمام علي واهتامه بعداوة إخوانه من اخللفاء الراشدين.
وقد رد اإلمام علي على معاوية برسالة طويلة دفع هبا التهمة عن نفسه،
وبني أن اخلالف معهم يف شأن اخلالفة غري منكر،
ووضع اخللفاء يف مقامهمَّ ،
الصحابة عند الزيدية 46
وليس فيه عداوة وال بغي ،فقال« :ذكرت أن هللا اجتىب لرسوله من املسلمني
أعواناً أيده هللا هبم ،فكانوا يف منازهلم عنده على قدر فضائلهم يف اإلسالم،
فكان أفضلهم -زعمت -يف اإلسالم ،وأنصحهم هلل ورسوله اخلليفة ،وخليفة
اخلليفة .ولعمري إن مكاهنما من اإلسالم لعظيم ،وإن املصاب هبما جلرح يف
اإلسالم شديد .رحهما هللا وجزامها بأحسن اجلزاء .وذكرت أن عثمان كان يف
الفضل ثالثاً ،فإن يكن عثمان حمسناً فسيجزيه هللا بإحسانه ،وإن يك مسيئاً
فسيلقى رباً غفوراً ال يتعاظمه ذنب أن يغفره.
ولعمر هللا أىن ألرجو -إذا أعطى هللا الناس على قدر فضائلهم يف اإلسالم
ونصيحتهم هلل ورسوله -أن يكون نصيبنا يف ذلك األوفر.
وأضاف رضي هللا عنه :وذكرت حسدي اخللفاء ،وإبطائي عنهم ،وبغيي
عليهم .فأما البغي؛ فمعاذ هللا أن يكون ،وأما اإلبطاء عنهم والكراهة ألمرهم؛
فلست أعتذر منه إىل الناس؛ ألن هللا جل ذكره ملا قبض نبيه قالت قريش :منا
أمري ،وقالت األنصار :منا أمري .فقالت قريش :منا حممد رسول هللا ،فنحن أحق
األنصار ،فسلمت هلم الوالية والسلطان.
ُ بذلك األمر .فـعرفت ذلك
فإذا استحقوها مبحمد صلى هللا عليه وآله دون األنصار ،فإن أوىل الناس
مبحمد أحق هبا منهم ،وإال فإن األنصار أعظم العرب فيها نصيباً ،فال أدري:
أصحايب سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ،أو األنصار ظلموا؟! [فـ] عرفت أن
حقي هو املأخوذ ،وقد تركته هلم جتاوز هللا عنهم .وأما ما ذكرت من أمر عثمان
وقطيعيت رحه وتألييب عليه ،فإن عثمان عمل ما بلغك ،فصنع الناس ،ما قد
رأيت وقد علمت ،وإين كنت يف عزلة عنه ،إال أن تـتج َّىن ،فتجن ما بدا لك».
مث َّ
ذكر معاوية بن أيب سفيان بشيء من أحداث املاضي ،فقال« :وقد كان
47 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
أبوك أتاين حني وىل الناس أبا بكر ،فقال :أنت أحق بعد حممد صلى هللا عليه
وآله وسلم هبذا األمر ،وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك .أبسط يدك
أبايعك!! فلم أفعل ،وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده ،حىت كنت
أنا الذى أبيت ،لقرب عهد الناس بالكفر ،خمافة ال ُفرقة بني أهل اإلسالم .فأبوك
كان أعرف حبقي منك ،فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك،
وإن مل تفعل فسيغىن هللا عنك».
وهذا يؤكد أن الوقيعة بني علي واخللفاء كانت فكرة معاوية ،حىت ال يتفرد
بالوقوف يف مواجهة علي ،وقد ظهرت مثرة ذلك عند الرافضة ،الذين تبنوا نظرية
معاوية حبذافريها ،وجعلوا مشكلة علي مع اخللفاء ،مؤكدين أن معاوية إمنا هو
واحدة من خطاياهم ،فهم يف ذلك شيعة معاوية ال شيعة علي.
اإلمام علي يتصدى للمتطاولين على الخلفاء
وأدت حلة األمويني على اإلمام علي ،وما استخدموا من ذكر املفارقات بينه
وبني اخللفاء السابقني ،إىل ردة فعل لدى بعض أنصار اإلمام علي ودخلوا يف
جدل حول األولوية والتفضيل ،ومجع كل طرف ما يراه من مؤاخذات ضد اآلخر
وحيتج هبا.
وحينما بلغ األمر مستوى التجريح ،وقف اإلمام علي ملواجهة ذلك وتصدى له
حبزم ،فقد جاء عن سويد بن غفلة ،قال دخلت على علي ،فقلت :يا أمري املؤمنني
إين مررت بنفر من أصحابك ينتقصون أبا بـكر وعمر ،فلوال أهنم يرون أنك تضمر
على مثل ما تكلموا به ما اجرتأوا على ذلك ،فغضب علي ،وقال« :أعوذ باهلل أن
أضمر هلما إال احلسن اجلميل ،أخوا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وصاحباه
ووزيراه رحة هللا عليهما».
الصحابة عند الزيدية 48
مث نادى جلمع الناس وهنض دامع العني وهو قابض على حليته ،فتشهد خبطبة
موجزة بليغة ،مث قال« :أال ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش وأبوي املسلمني
مبا أنا عنه متنزه ،ومما يقولون بريء ،وعلى ما قالوا معاقب ،ال والذي فلق احلبة
وبرأ النسمة ،ال حيبهما إال مؤمن تقي ،وال يبغضهما إال فاجر ردي ،صحبا
رسول هللا على الصدق والوفاء ،يأمران وينهيان ،فما يغادران فيما يصنعان رأي
رسول هللا ،ال يرى كرأيهما رأياً ،وال حيب كحبهما حباً ،فقبض الرسول وهو
عنهما راض ،واملسلمون راضون» .مث أطال يف مدحهما وهدد من يعود إىل
الوقوع فيهما.
وهذه الرواية -مع ما يأيت -تدل على أن البلبلة واجلدل حول مواقف بعض
الصحابة ظهرا يف وقت مبكر ،وكان اإلمام علي بن أيب طالب من أول من
تصدى له ،فحري بكل مقتد باإلمام علي وحمب له أن يقتفي أثره.
مجاهرة األمويين بسب اإلمام والنيل منه
بعد مقتل اإلمام علي بن أيب طالب رضوان هللا عليه ،وما جرى من مفاوضات
بني احلسن بن علي ومعاوية ،انتهت مبا يعرف بـ«صلح احلسن» استوىل األمويني
على زعامة اجملتمع املسلم ،وعندئذ أسقط األمويون اإلمام علي بن أيب طالب
من قائمة اخللفاء الراشدين ،وبدالً من الرتضية عنه تناولوه بالتجريح و ِ
السباب،
وعكفوا على احلط من قدره واإلساءة إليه ،فكانت تلك من التصرفات اليت
الصحابة وشَّرعت التطاول عليهم.أسست للنيل من كبار َّ َّ
فقد روى مسلم ،عن عامر بن سعد بن أيب وقاص ،عن أبيه ،قال :أمر معاوية
بن أيب سفيان سعداً فقال :ما منعك أن تسب أبا تراب؟!فقال :أما ما ذكرت
ثالثاً قاهلن له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فلن أسبه ،ألن تكون يل واحدة
49 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
منهن أحب إيل من حر النعم» ،مث ذكر خرب :املنزلة ،والراية ،واملباهلة.
ويف رواية البن ماجة :أن معاوية ق ِدم يف بعض حججه فدخل عليه سعـد بن
سعت
أيب وقاص ،فـذكروا علياً فنال منه ،فغضب سعـد ،وقال :تقول هذا لرجل ُ
رسـول هللا يقول فيه« :من كنت مواله فعلي مواله»؟! وسعته يقول« :أنت مين
مبنزلة هارون من موسى ،إالَّ أنه ال نيب بعدي»! وسعته يقول« :ألعطني الراية
اليوم رجالً حيب هللا ورسوله»
ب رسول وروى الطرباين عن أيب عبد هللا اجلديل أن أم سلمة قالت له :أيُس ُّ
ب
هللا صلى هللا عليه وسلم فيكم على املنابر؟! قلت :سبحان هللا! وأىن يُس ُّ
رسول هللا؟! قالت :أليس يسب علي بن أيب طالب ومن حيبُّه؟! أشهد أن رسول
هللا كان حيبه.
ومما يدل على :أن معاوية كان يسب علياً ،أو ال ميانع منه ،ما روى ابن
عساكر وذكر الذهيب :أن اإلمام احلسن بن علي رضي هللا عنه اشرتط على
معاوية يف الصلح الذي عقد بينهما :أن ال ي ُسب علياً وهو ي ْسمع.
وذكر ابن الوردي أن معاوية بن أيب سفيان كان جالساً وعنده وجوه الناس وفيهم
األحنف بن قيس؛ إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيباً ،فكان آخر كالمه أن
سب علياً رضي هللا عنه ،فأطرق الناس ،وتكلم األحنف ،فقال :يا أمري املؤمنني،
إن هذا القائل آنفاً لو يعلم أن رضاك يف لعن املرسلني لفعل؛ فاتق هللا ودع عنك
علياً ،فقد لقي ربه وأفرد يف قربه وخال بعمله ،وكان وهللا املربز سيفه ،الطاهر ثوبه،
امليمون نقيبته ،العظيم مصيبته.
قال معاوية :يا أحنف ،لقد أغضيت العني عن القذى ،وقلت فيما ترى ،وأمي
هللا لتصعدن املنرب ولتلعننه طوعاً أو كرهاً .فقال له األحنف :يا أمري املؤمنني ،إن
الصحابة عند الزيدية 50
تعفين فهو خري لك ،وإن جتربين فوهللا ال جتري به شفتاي أبداً .قال معاوية :قم
فاصعد ،قال األحنف :أما وهللا مع ذلك ألنصفنك يف القول والفعل .قال :وما
أنت قائل يا أحنف إن أنصفتين .قال :أصعد املنرب فأحد هللا تعاىل مبا هو أهله،
وأصلي على نبيه ،مث أقول :أيها الناس ،أن أمري املؤمنني معاوية أمرين أن ألعن
علياً ،أال وإن علياً ومعاوية اقتتال واختلفا ،فادعى كل منهما أنه مبغي عليه وعلى
فئته ،فإذا دعوت فأمنوا رحكم هللا ،مث أقول :اللهم العن أنت ومالئكتك وأنبياؤك
ومجيع خلقك الباغي منهما على صاحبه ،والعن الفئة الباغية لعناً كثرياً ،أمنوا
رحكم هللا .مث قال :يا معاوية ال أزيد على هذا حرفاً ،وال أنقص منه حرفاً ،ولو
كان فيه ذهاب نفسي .فقال معاوية :إذن نعفيك أبا حبر.
ومثل هذا ُروي أن معاوية قال لعقيل بن أيب طالب :إن علياً قد قطعك
ووصلتُك ،وال يرضيين منك إال أن تلعنه على املنرب!! قال :أفعل ،قال :فاصعد
علي
املنرب ،فصعد ،مث قال بعد أن حد هللا وأثىن عليه :أيها الناس أمرين أن ألعن َّ
بن أيب طالب أمري املؤمنني معاويةُ بن أيب سفيان فالعنوه ،فعليه لعنة هللا واملالئكة
والناس أمجعني ،مث نزل عن املنرب .فقال له معاوية :إنك مل تُـبـِني ،قال :وهللا ال
زدت حرفاً وال نقصت آخر ،والكالم على نية املتكلم.
وانتشر وباء السباب والشتائم يف أوساط والة بين أمية وأتباعهم ،حىت كانوا
يأمرون بسب علي عليه السالم ويعاقبون من مل يفعل ،فقد روى مسلم أن رجالً
من آل مروان ويل املدينة ،فدعا سهل بن سعد رضي هللا عنه ،فأمره أن يشتم
علياً قال :فأىب سهل فقال له :أما إذا أبيت فقل :لعن هللا أبا الرتاب .فقال
سهل :ما كان لعلي اسم أحب إليه من أيب الرتاب ،وإن كان ليفرح إذا دعي
هبا .أي بتلك الكنية.
51 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
ويف رواية البن حبان :أن رجالً جاء سهل بن سعد فقال :هذا أمري املدينة،
يدعوك لتسب علياً على املنرب!!
وروى ابن سعد أن احلجاج كتب إىل حممد بن القاسم الثقفي :أن ادع عطية
فإن لعن علي بن أيب طالب وإال فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه وحليته.
فدعاه فأقرأه كتاب احلجاج فأىب عطية أن يفعل .فضربه أربعمائة سوط وحلق
رأسه وحليته.
وقال السيوطي :أخرج ابن سعد عن عمري بن إسحاق قال :كان مروان أمرياً
علينا ،فكان يسب علياً كل مجعة على املنرب .ويف رواية الذهيب :كان مروان أمرياً
علينا باملدينة ست سنني ،فكان يسب علياً يف اجلُمع.
علي بن أيب طالب،
وروى احلاكم يف املستدرك :أن املغرية بن شعبة سب َّ
فنهاه زيد بن أرقم عن ذلك!.
وروى أبو داوود وأحد وابن ماجة أن سعيد بن زيد بن عمرو دخل على
املغرية يف املسجد وعنده رجل يسب ،فقال سعيد :من يسب هذا الرجل؟ قال
املغرية :يسب علياً .قال سعيد :أرى أصحاب رسول هللا يُسبُّون عندك ،مث ال
تغري؟! ويف رواية أن املغرية خطب فنال من علي ،فقال سعيد بن زيد: تنكر وال ِ
أال تعجب من هذا يسب علياً.
وبلغ من تعسف األمويني أن عبد امللك بن مروان أمر عامله باملدينة :أن أقِم
آل علي يشتمون علي بن أيب طالب ،وأقِم آل عبد هللا بن الزبري يشتمون عبد
هللا بن الزبري .وعندما بلغهم أمر اخلليفة رفضوه ،وكتبوا وصاياهم استعداداً
للمـوت ،فأشري على الوايل بأن يأمر آل علي يشتمون آل الزبري ،ويأمر آل الزبري
يشتمون آل علي ،فاستحسن ذلك وعدل إليه .فكان أول من أقيم لذلك احلسن
الصحابة عند الزيدية 52
بن احلسن بن علي وكان رجالً رقيق البشـرة ،فقال له وايل املدينة :تكلم بسب
آل الزبري .فقال :إن آلل الزبري رحاً أبـُلها ببالهلا و ُأرُّهبا برباهبا .فأمر الوايل بضربه،
حىت شرخ جلده ،وسال دمه حتت قدمه!!.
فأي طغيان هذا الذي جيرب املسلم على سب آبائه وأرحامه ،فإن أىب ُجلد
بالسياط حىت يسيل دمه؟!
وذكر الذهيب أن عبد الرحن بن أيب ليلى -املكىن :أبا عيسى األنصاري
الكويف ،الفقيه املقرئ ،وأحد كبار احملدثني ،وممن شهد مع علي معركة النهروان
-تعرض للضرب حينما امتنع عن سب اإلمام علي رضي هللا عنه.
وقال ابن حجر العسقالين -يف ترمجة مصدع أيب حيىي األعرج املعرقب :-
«إمنا قيل له املعرقب ألن احلجاج (أو بشر بن مروان) عرض عليه سب علي بن
أيب طالب فأىب فقطع عرقوبه».
وذكر ابن اجلوزي أهنا وردت على األمراء أوامر بلعن علي رضي هللا عنه،
فرقى كثريُ اخلزاعي -الشاعر – املنرب ،وأخذ بأستار الكعبة وقال:
لعن هللا من يسب علياً وبنيـ ــه من سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقـ ــة وإمـ ــام
أيُسب املطهرون أصوالً والكرام األخوال واألعم ـ ــام
يأمن الطري واحلمام وال يأمن آل الرسول عند املقام
فأنزلوه عن املنرب وأثخنوه ضرباً بالنعال وغريها ،فقال:
إن امرأ كانت مس ـ ـ ـ ـ ــاوئه ح ـ ــب النيب بغري ذي عتـ ـ ـ ِ
ـب
وبين أيب حسن ووالدهم من طاب يف األرحام و ِ
الصلب
أترون ذنبـ ـ ـ ـاً أن أحبهم ب ـِـِــل حبهم كف ـ ـ ــارة ال ـ ـ ــذن ـ ـ ـ ِ
ـب
وما زالوا يدفعون الفضالء من علماء املسلمني لتبين مواقفهم يف الرباءة من
53 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
علي ،حىت روى الذهيب عن عيسى بن يونس أن اإلمام األوزاعي قال« :ما أخذنا
العطاء حىت شهدنا على علي بالنفاق وتربأنا منه ،وأُخذ علينا بذلك الطالق
والعتاق وأميان البيعة .فلما عقلت أمري مل تقر عيين ،حىت فارقت نسائي،
وأعتقت رقيقي ،وخرجت من مايل ،و َّ
كفرت أمياين».
جو من العداوة والرتاشق بالتهم ،أسقط ما كانيف ظل ذلك السلوك هتيأ ٌ
الصحابة من هيبة ومكانة ،وأصبح عامة الناس يتحدثون عنهم بوقاحة،لكبار َّ
فقد روى الطرباين :أن سعد بن أيب وقاص مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة
والزبري ،فقال له سعد :إنك تشتم قوماً قد سبق هلم من هللا ما سبق ،فو هللا
لتكفن عن شتمهم أو ألدعو َّن هللا عز وجل عليك .فقال :ختوفين كأنك نيب.
َّ
فدعا عليه.
واعرتف الشيخ ابن تيمية :أن «سب علي كان شائعاً يف أتباع معاوية».
يسب علياً ،وجيهر بذلك على املنابر وغريها؛
وذكر :أن «من شيعة عثمان من ُ
ألجل القتال الذي كان بينهم وبينه .قال :وكان أهل السنة من مجيع الطوائف
تنكر ذلك عليهم» .وزعم أن «الذين قاتلوا علياً ولعنوه وذموه من الصحابة
والتابعني وغريهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان».
السنَّة األموية املشؤومة إىل أن توىل عمر بن عبد العزيز اخلالفة واستمرت تلك ُّ
سنة (99هـ) ،فأمر بالكف عن السب ،على الرغم من معارضة النواصب الذين
استنكروا ذلك .ويف ذلك روى ابن سعد وابن عساكر والذهيب من طُرق أن والة
بين أمية كانوا يشتمون علياً رضي هللا عنه ،فلما ويل عمر بن عبد العزيز أمسك
عن ذلك ،فقال كثري عزة اخلزاعي:
ف برياً ومل تـْتب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع سجيَّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ُجم ِرم ِ
ولْيت فلم تشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتُم علياً ومل ُِخت ْ
الصحابة عند الزيدية 54
فـعلت فأضحى راضياً كل مسل ِم وقلت صدقت الذي قلت بالذي
َّ َّ َ َ ْ ح ْ َ ْ
اَّلل ٌيأ ٌم حٌر ٌبِالعد ٌِلٌ
نٌ ٌ قال العالمة الزخمشري -عند تفسري قول هللا تعاىل﴿ :إ ِ ٌ
ْ ح ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ح ْ َ َ ْ َ ْ َ ح ح ْ َ َ َّ ْح َ َ ْ ْ َ
ك ٌمٌك ٌمٌلعل ٌ غٌي ِعظ ٌ نٌالفحشاٌٌُِوالـمنك ٌِرٌوابل ٌِ
هٌع ٌِ انٌ َوإِيتا ٌٌُِذِيٌالور ٌ
ب ٌ و ين ٌ اإلحس ٌِ و ِ
َ َّ ََ
ون﴾ (النحل« :- )90:وحني أسقطت من اخلطب لعنة املالعني على أمري تذك حر ٌ
املؤمنني علي رضي هللا عنه ،أقيمت هذه اآلية مقامها ،ولعمري إهنا كانت فاحشة
ومنكراً وبغياً ،ضاعف هللا ملن سنها غضباً ونكاالً وخزياً».
وروى املرشد باهلل الشجري أن عمر بن عبد العزيز خطب ومل يلعن علياً،
السنة ،حيرضه على لعن علي ،فقالالسنة ُّ
فقام إليه عمرو بن شعيب وقالُّ :
عمر :اسكت قبحك هللا ،إهنا البدعة البدعة.
تَ
َشكُّل ظاهرتي «النواصب» و«الروافض»
تشري الروايات السابقة إىل أن الصـراع السياسي كان وراء ظهور التجين على
الصحابة ،وتؤكد أن التيار األموي كان من أصحاب تلك املبادرة ،وأهنم كبار َّ
حلة ألوية (النَّصب) املتفق على قبحه ،فقد ذكر الشيخ ابن تيمية وغريه أن
النواصب هم« :الذين يتربؤون من علي وال يتولونه وال حيبونه».
وكان من تداعيات تبين احلكـم األموي لذلك املنهج أهنا نشأت يف ظله
مدارس فكرية تأثرت بذلك السلوك ،فظهر ِجْيل من النواصب يعتربون النيل من
اإلمام علي بن أيب طالب وأهل بيته قُربة دينية ،حىت وجدنا بعض نقلة العلم
ورواة احلديث غارقني يف النصب ،فقد جاء يف كتب تراجم الرواة أن بعضهم
كانوا يسبون علياً بال حرج وال حياء ،فضالً عن الغمز والتجريح املبطَّن ،وطبعوا
ذلك بطابع الدين .ومن أمثلة ذلك:
(ٌ)1حريزٌبنٌعثمان (املتوىف سنة 163هـ) ،فقد أكد احملدثون أنه كان يسب
55 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
اإلمام علياً ويشتمه ،وال خيرج من املسجد بعد الصالة حىت يلعنه سبعني مرة!!
ذكر ذلك كل من :البغدادي ،واملزي وابن حجر.
ومع ذلك اعتمد أصحاب الصحاح روايته ،عدا مسلم ،أما البخاري فروى
له حديثني .ووثقه القطان وابن معني ،وقال ابن عدي :حريز من األثبات .وقال
الذهيب :كان متقناً ثبتاً .وحكي عن معاذ بن معاذ :أنه ال يعلم أنه رأى شامياً
أفضل منه! وعن أيب داود :سألت أحد بن حنبل عنه ،فقال :ثقة ثقة ثقة ،وعن
أيب حامت قال :ال أعلم بالشام أثبت منه!
ٌ(ٌ)2عقدٌاهللٌبنٌشويقٌالعوييل (املتوىف سنة 108هـ) ،قال أحد :كان حيمل
على علي .وقال ابن خراش :كان يبغض علياً .وقال الذهيب وابن حجر :ناصيب.
ومع ذلك قال فيه حيىي بن معني :من ِخيار املسلمني .وقال أبو حامت وأبو
زرعة :بصري ثقة ،وله يف صحيح مسلم اثنان وعشرون حديثاً!!
(ٌ)3نعيمٌبنٌأيبٌهندٌاْلشجيع (املتوىف سنة 110هـ) ،ذكر الذهيب أنه قيل
للثوريِ :مل ملْ تسمع من نعيم بن أيب هند؟ قال :كان يتناول علياً رضي هللا عنه.
ومع ذلك قال أبو حامت :صدوق! وقال النسائي :ثقة! واعتمد روايته :مسلم
والنسائي والرتمذي وابن ماجة ،وله يف صحيح مسلم أربعة أحاديث واستشهد
بروايته البخاري .فهال تركوه واقتدوا بسفيان الثوري رحه هللا.
(ٌ)4أزهرٌبنٌعقدٌاهللٌاِلرازي ،من صغار التابعني ،قال ابن حجر :قال ابن
اجلارود :كان يسب علياً .وقال الذهيب :ناصيب ينال من علي رضي هللا عنه.
ولكن ذلك مل مينعه من أن يصفه بأنه صدوق حسن احلديث .واعتمد روايته:
كل من أيب داوود والرتمذي والنسائي يف سننهم!!
(ٌ)5ملازةٌبنٌزبارٌأبوٌبليدٌاجلهضيم ،من التابعني ،قال الذهيب :كان يشتم
الصحابة عند الزيدية 56
علياً .وأكد أنه ممن حضر وقعة اجلمل ،ووصفه بأنه كان ناصبياً ،ينال من علي
رضي هللا عنه ،وميدح يزيد .ومع ذلك وثقه بعض احملدثني .واعتمد روايته أبو
داوود والرتمذي وابن ماجة ،ووثقه ابن حبان.
(ٌ)6عمرانٌبنٌحطانٌالسدويس البصري ،من رؤوس اخلوارج (تويف سنة
84هـ) ،قال ابن حجر« :كان من املعروفني يف مذهب اخلوارج ،ذكر عن ابن
سريين قال :تزوج عمران امرأة من اخلوارج لريدها عن مذهبها فذهبت به» .وجاء
عنه أنه ابتهج ملقتل اإلمام علي بن أيب طالب رضي هللا عنه ،ومدح قاتله عبد
الرحن بن ملجم ،فقال:
إال ليبلغ من ذي العرش رضوانا يا ضربة من تقي ما أراد هبا
أوىف ال ِـربي ـ ـ ــة عـن ـ ـ ــد هللا مـيـزان ـ ـ ــا إين ألذكره حيناً فأحسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبه
ومع ذلك أثىن عليه كثري من احملدثني ،وروى له البخاري والنسائي وأبو داوود
وأحد ،وله يف صحيح البخاري حديثان.
وبعد اعرتاف احلافظ ابن حجر العسقالين بسوء حال عمران بن حطان
اعتذر للبخاري بأنه روى له يف املتابعات فقط ،ورأى أنه ال يضر التخريج يف
املتابعات عمن تلك سبيله .ووصفه بأنه :صدوق ناصيب.
أما الدارقطىن فقد أنصف احلقيقة حينما انتقد البخاري على رواية حديث
ابن حطان يف الصحيح ،وقال عنه :مرتوك لسوء اعتقاده وخبث رأيه.
(ٌ)7إبراهيمٌبنٌيعووبٌاجلوزجاين ،من أتباع حريز بن عثمان وصفه احملدثون
بالنصب ،وقال ابن حبان :كان حريزي املذهب .ورووا أنه اجتمع على بابه
أصحاب احلديث ،فأخرجت جارية له ُّفروجة لتذحبها ،فلم جتد من يذحبها،
فقال :سبحان هللا!! فروجة ال يوجد من يذحبها ،و(علي) يذبح يف ضحوة نيفاً
57 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
وعشرين ألف مسلم!! وجاهر بعداوته لعلي بن أيب طالب ،وبالغ يف النيل من
كل من عرف بوالئه وحمبته لعلي وإن كان من كبار علماء التابعني.
مع ذلك أثىن عليه بعض احملدثني وقالوا كان من الثقات ،وأحد أئمة اجلرح
والتعديل ،الذين يعتمد على نقدهم وتقييمهم.
( )8عمر بن سعد بن أيب وقاص الزهري ،قائد حلة قتال احلسني بن علي
رضي هللا عنهما ،قال الذهيب :هو يف نفسه غري متهم ،لكنه باشر قتال احلسني
وفعل األفاعيل .وقال العجلي :روى عنه الناس ،تابعي ثقة .روى له النسائي.
وقال ابن حجر :صدوق.
أبا زينب البزاز الرباد .وقال ابن الغضائري :حممد بن أيب زينب أبو اخلطاب
األجذع الزراد ،موىل بين أسد :لعنه هللا تعاىل ،أمره شهري.
َ ْ ح َ ِّ ح ح ْ َ َ َ ْ
نٌ
َعٌم ٌ
لٌأنبئك ٌمٌ ٌ قول هللا عز وجل﴿ :ه ٌ
الصـادق سئل عن
مث روى أن اإلمام َّ
َ َ َّ ح َّ
الش َياطِني﴾ٌ[الشعراء ،]221/قال« :هم سبعة :املغرية بن سعيد ،وبنان بن تَن ٌل ٌ
سعان ،وصائد النهدي ،واحلارث الشامي ،وعبد هللا بن احلارث ،وحزة بن عمار
الزبريي ،وأبو اخلطاب».
(ٌُ)3ممدٌبنٌيلعٌبنٌانلعمانٌاْلحول ،املعروف بشيطان الطاق ،كان من
الغالة السبابني ،زعم أن اإلمام زين العابدين أمره بالرباءة من أيب بـكر وعمر،
فقال له اإلمام زيد بن علي« :ال تكذب على أيب .إن أيب كان جينبين عن كل
شر ،حىت اللقمة احلارة ،أفرتاه خيربك بأن دينك وإسالمك ال يتم إال بالتربي
منهما -يعين أبا بـكر وعمر -ويهملين عن التعريف بذلك؟!» .أثىن عليه
اإلمامية واعتربوه من أصحاب األئمة ،وتفاخروا حبوارات جرت بينه وبني بعض
معاصريه ،ويلقبونه :مؤمن الطاق.
(ٌ)4عمروٌبنٌثابتٌأيبٌاملودام بن هرمز الكويف ،قال ابن املبارك :ال حتدثوا
عنه فإنه يسب السلف .وقال ابن معني :رجل سوء ،وكان يشتم عثمان .وقال
أبو داوود :رافضي خبيث رجل سوء ،وروى عنه أنه قال :ملا مات النيب كفر
الناس إال خسة .وذكره علماء اإلمامية وأثنوا عليه عدا ابن الغضائري ،فقال
عنه :ضعيف جداً.
(ٌ)5عقدٌالرَحنٌبنٌيوسفٌبنٌخراش أحد احلفا ،قال أبو زرعة :كان
خرج مثالب الشيخني يف جزأين ،وأهدامها إىل بندار ،فأجازه بألفي رافضياًَّ ،
درهم ،بىن له هبا حجرة ،فمات إذ فرغ منها!!
59 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
ونظراً لكثرة األخذ والرد يف املثالب واملساوئ أقدم بعض احملدثني على مجع
الصحابة ،حىت جاء عن اإلمام أحد بن حنبل :كان (أبو ما روي يف مساوئ َّ
عوانة) وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم ،وفيه
باليا ،فجاءه سالم بن أيب مطيع ،فقال :يا أبا عوانة ،أعطين ذاك الكتاب
فأعطاه ،فأخذه سالم فأحرقه .وروي عن عبد الرحن بن مهدي قال :نظرت يف
كتاب أيب عوانة وأنا أستغفر هللا.
وأبو عوانة املذكور هو وضاح بن عبد هللا اليشكري أحد كبار أئمة احلديث
املعتربين ،روى له اجلماعة ،وتويف 170هـ تقريباً .وليس متهماً يف الصحابة ،ولكنه
كمحدث مجع ما تيسر له يف باب معايب الصحابة .ولو مجعنا ما نـقل احملدثون
يردده الشيعة ،بصرف النظر عن السنة يف هذا الباب ،لفاق بكثري ما ِ
من أهل ُّ
صحته وعدمها.
ردود األفعال بين التطفيف واإلنصاف
ومن الالفت للنظر يف هذه املسألة ما جند من تطفيف بعض املنتمني إىل هذا
االجتاه أو ذاك؛ فبعض املنتمني إىل أهل السنة يتغاضون عمن كان ينال من علي،
ويعتربونه متأوالً ،ويعتمدون رواياهتم يف الصحاح كما تقدم .أما إذا تعلق األمر
مبن ينال من أيب بـكر أو عمر أو عثمان ،فإهنم ال يرتكون الرواية عنه فحسب،
بل حيكمون عليه بالكفر أو الردة ،وجيعلون حدَّه القتل والتَّنكيل.
فقد رووا عن سفيان الثوري أن من يشتم أبا بكر فهو كافر باهلل العظيم.
وعن عبد الرحن بن عمرو األوزاعي أنه قال :من شتم أبا بـكر الصديق ،فقد
ارتد عن دينه وأباح دمه!.
وسئل أحد بن حنبل عن حسني األشقر ،فقال :مل يكن عندي ممن يكذب
الصحابة عند الزيدية 60
يف احلديث .فقالوا له :إنه صنَّف باباً فيه معايب أىب بـكر وعمر .فقال :ما هذا
بأهل أن حيدث عنه.
وذكر ابن حجر العسقالين :أن أحد القضاة حكم بضرب عنق شخص
اعرتف بسب أيب بـكر وعمر ،فقتل وأحرق العوام جسده ،وطافوا برأسه .وكان
ذلك يف مجادى األوىل (سنة 755هـ).
وبالغ بعضهم ،فجعل املوقف من معاوية مقياساً للموقف من مجيع الصحابة،
فروى ابن عساكر أن عبد هللا بن املبارك كان يقول :معاوية عندنا ِ ْحمنة؛ فمن
رأيناه ينظر إىل معاوية شزراً اهتمناه على القوم!! وقال أبو حامت :إبراهيم بن
احلكم الكويف ،روى يف مثالب معاوية بن أيب سفيان ،فمزقنا ما كتبنا عنه.
ويف املقابل جند بعض الشيعة ال يرتددون يف تكفري وتفسيق من ينال من علي
أو يتطاول على أحد من أئمتهم ،ويبيحون دمه وماله وعرضه .أما النيل من أيب
بـكر وعمر وعثمان وعائشة وأمثاهلم فالكالم فيهم عفو ،بل قُربة عند بعضهم،
والعياذ باهلل.
فأي اختالل يف املوازين أسوأ من هذا؟! وملاذا يعترب الراوي -عند فريق -
مرتداً مباح الدم مهدر الكرامة ،إن نال من صحايب ُمع َّني .أما إذا نال من
صحايب آخر فهو ثقة ثقة ،وإمام حجة؟!
وملاذا يكون الشخص «رافضياً» إن أعاد النظر يف حديث روي يف شأن أيب
بـكر أو عمر رضي هللا عنهما؟! أو ذكر شيئاً من مساوئ معاوية؟! أما إذا وقف
لفضائل علي باملرصاد وتكلف رد ما هو مشهور منها عند السلف واخللف؛ فهو
شيخ اإلسالم ،وعلم األعالم ودرة الدهر ،وحافظ العصر!!
وهكذا أخذت ردود األفعال تعمل عملها ،ووجد غالة «الروافض» وعتاة
61 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
اتلفهم واإلنصافٌينطق يف كل زمان ومكان على ومع لك ذلك لم يزل صوت َّ
وانتقدوا ِحدَّة ابن تيمية يف تناوله فضائل اإلمام علي ،حىت إن ابن حجر
العسقالين أكد أنه رد كثرياً من األحاديث اجلياد ،وقال« :وكم من مبالغة لتوهني
كالم الرافضـي تؤدي أحياناً إىل تنقيص علي رضي هللا عنه» ،وذكر أن هنالك
من نسب ابن تيمية إِىل النفاق ،لق ْوله إن علياً أخطأ ِيف سْبـعة عشر شْيئا مثَّ
ث ما توجه ،وأنه حاول ا ْخلالفة ِ
خالف فيها نص الْكتاب ،وأنه كان خمذوال حْي ُ
مر ًارا فلم ينلها ،وإَِّمنا قاتل للرئاسة ال للديانة ،وأنه كان حيب ا ِلرئاسة وأن ُعثْمان
كان حيب الْمال.
الصحابة عند الزيدية 62
مع أن ابن تيمية جزم بتفضيل علي بن أيب طالب على مجيع الصحابة ،عدا
من سبقه من اخللفاء الراشدين ،وحكى ذلك عن أهل السنة ،فقال« :إنه ليس
من أهل السنة من جيعل بغض علي طاعة وال حسنة وال يأمر بذلك ،مؤكداً أهنم
ينكرون على من سبَّه ،وكارهون لذلك ،وما جرى من التَّساب والتالعن بني
العسكرين ،من جنس ما جرى من القتال ،وأهل السنة من أشد الناس بغضاً
وكراهة ألن يتعرض له بقتال أو سب» .وأضاف« :عل ٌي أفضل مجهور الذين
السنة
بايعوا حتت الشجرة ،بل هو أفضل منهم كلهم إال الثالثة ،فليس يف أهل ُّ
من ِ
يقدم عليه أحداً غري الثالثة ،بل يفضلونه على مجهور أهل بدر وأهل بيعة
الرضوان ،وعلى السابقني األولني من املهاجرين واألنصار».
وقال أيضاً« :علي آخر اخللفاء الراشدين الذين واليتهم خالفة نبوة ورحة،
وكل من اخللفاء األربعة رضي هللا عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء هللا املتقني،
بل هؤالء األربعة أفضل خلق هللا بعد النبيني»
وجزم يف كتاب (االستقامة) بأن علياً أويت يف القضاء ما مل يؤت أحد من
الصحابة ،فقال« :نعلم أن علياً رضي هللا عنهُ كان أقضى من غريه ِمبا أفهم من
ُّصوص ُم ْشرتك بينه وبني غريه». ِ
ذلك مع أن ساع الن ُ
وانتقد من أقدم على سب اإلمام علي وبرأ أهل السنة من ذلك ،فقال« :قد
كان من شيعة عثمان من يسب علياً ،وجيهر بذلك على املنابر وغريها؛ ألجل
القتال الذي كان بينهم وبينه ،وكان أهل السنة من مجيع الطوائف تنكر ذلك
عليهم» .لذلك اخنفضت ظاهرة «النصب» إىل أدىن مستوياهتا ،بسبب تصدي
كثري من علماء أهل السنة للنواصب ،وردهم عليهم وبراءهتم منهم.
ويف املقابل اخنفضت نسبة الرفض بني أتباع املذهب الزيدي نتيجة مواقف
63 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
الصحابة
المبحث الثالث :االختالف النظري في تقييم َّ
أدت القراءة املختلفة حلياة الصحابة -وتقييم ما شجر بينهم ،وما جرى
عقب ذلك من اصطفافات سياسية وجمتمعية -إىل خالفات حادة وجتاذبات
مستمرة ،حىت صارت مسألة دينية فكرية ذات حساسية عالية ،اختلفت فيها
املواقف ،والتأويالت إىل حد كبري ،وأخذ الناس بسببها يتبادلون االهتامات ،حىت
إن بعضهم جيعلها مؤشراً للهداية والضالل ،وعالمة لالستقامة واالحنراف ،مث
يبىن عليها مواقف الوالء والرباء ،والسخط والرضى ،مث يعملون على ترقيتها إىل
ُمسوغ للقتال واحلروب ،ولعل جذور االختالف والتوتر تعود إىل عدة أسباب:
ومل يستسغ العالمة حممد بن إساعيل األمري -مع أنه حمسوب على مدرسة
أهل احلديث -إطالق الصحبة الشرعية على كل من متكن من جمرد رؤية النيب،
فقال« :إن تفسري الصحايب مبن لقيه صلى هللا عليه وسلم أو مبن رآه وتنزيل تلك
املمادح عليه؛ فيه بُعد ،يأباه اإلنصاف».
وكذلك يرى الشيعة اإلمامية -على خالف يف التفاصيل « :-أن مدرسة
أهل البيت ترى أن تعريف الصحايب :هو ما ورد يف قواميس اللغة ،كاآليت:
الصاحب ومجعه "صحب وأصحاب وصحاب وصحابة" والصاحب :املعاشر
وال ُـمالزم ،وال يقال إال ملن كثرت مالزمته ،وإن املصاحبة تقتضي طول لبثه».
وهبذا يتضح أن اخلالف وقع عند اجلميع فيمن يصدق عليه وصف الصحايب،
فبعضهم يصفون شخصاً معيناً كـ(معاوية) بأنه صحايب ،كونه جالس النيب وروى
عنه ،وينظرون إليه يف هذا املشهد ،بينما ال يرى آخرون أنه صحايب ،كونه ارتكب
خمالفات أفقدته شرف الصحبة ،وسلبته التوفيق.
الطرف األول :يرى أن جمرد الصحبة فضيلة موجبة للعدالة املطلقة ،ورافعة ملقام
الصاحب ،فتجعل القليل منه كثرياً ،ومتنحه حصانة حتُول دون انتقاد فعله وقوله،
بل توجب التغاضي عن أي جتاوز يصدر عنه؛ ألن هللا يعفو عنه بفضل صحبته.
بفضل الصحبة أو لوجود مكفرة ال نعرفها ،ولذلك ال جتري عليهم قواعد اجلرح
والتعديل ،وال يسأل أح ٌد عن عدالتهم وصدقهم ،كبريهم وصغريهم ،جمهوهلم
ومعلومهم ،خمطئوهم ومصيبهم.
ويف هذا الصدد جزم ابن حزم بأن «كلهم عدل إمام فاضل رضا ،فرض علينا
توقريهم وتعظيمهم ،وأن نستغفر هلم وحنبهم ،ومترة يتصدق هبا أحدهم أفضل
من صدقة أحدنا مبا ميلك ،وجلسة من الواحد منهم مع النيب صلى هللا عليه
وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله ...إىل أن قال :وكلهم عدول أفاضل
من أهل اجلنَّـة».
وهذا إن مل يكن مناقضاً ملا تقدم عن ابن حزم نفسه -من املنع من إطالق
اسم الصحايب على من ُعلم فساده ممن أدرك النيب -فهو مقيد به.
وادعى القاضي عياض :أن «معظم العلماء ذهبوا إىل أن من صحب النيب
صىل اهلل عليه وسلم ورآه مرة من عمره ،وحصلت له مزية الصحبة ،أفضل من
كل من يأيت بعده ،فإن فضيلة الصحبة ال يعدهلا عمل» .وجزم النووي بأن
«الصحابة كلهم عدول من البس الفنت وغريهم ،بإمجاع من يعتد به».
السنة ،كما
ولعلهم أرادوا بـ«معظم العلماء» و«من يعتد به» :علماء أهل ُّ
فصله احلافظ ابن حجر بقوله« :اتفق أهل السنة على أن اجلميع عدول ،وملَّ
خيالف يف ذلك إالَّ شذوذ من املبتدعة».
أما ابن الصالح فاختزل األمة يف أهل مذهبه ،وقال« :إن األمة جممعة على
تعديل مجيع الصحابة ،ومن البس الفنت منهم فكذلك ،بإمجاع العلماء الذين
يعتد هبم يف اإلمجاع» .األمر الذي دفع احلافظ العراقي إىل التعقيب عليه بقوله:
«ما حكاه املصنف من إمجاع األمة على تعديل من مل البس الفنت منهم؛ كأنه
69 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
أخذه من كالم ابن عبد الرب ،فإنه حكى يف االستيعاب إمجاع أهل احلق من
املسلمني ،وهم أهل السنة واجلماعة على أن الصحابة كلهم عدول.
وأضاف :ويف حكاية اإلمجاع نظر ،ولكنه قول اجلمهور كما حكاه ابن
احلاجب واآلمدي ،وقال إنه املختار ،وحكيا معاً قوالً آخر :إهنم كغريهم يف لزوم
البحث عن عدالتهم مطلقاً ،وقوالً آخر :إهنم عدول إىل وقوع الفنت ،وأما بعد
ذلك فال بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة».
وأحسن القوم حاالً جنده يتجاهل رأي خمالفيه ،أو يصفهم بـالشذوذ
واالبتداع ،كما جاء يف قول القرطيب« :ذهبت ِشرذمةٌ ال مباالة هبم إىل َّ
أن حال
الصحابة كحال غريهم ،فيلزم البحث عن عدالتهم»!!
واحتج أصحاب هذا االختيار مبا ورد يف القرآن الكرمي من عموميات الثناء
َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ ْ ح َّ ح َ َّ ح ح
ارٌ
َع ٌالكف ٌِ
اُ ٌ ٌ
ِين ٌمع ٌه ٌأ ِشد ٌ الصحابة ،مثل قوله تعاىلُ﴿ :ممدٌ ٌ َرس ٌ
ول ٌاهلل ٌواَّل ٌ على َّ
ْ ح َ ح ْ ً ح َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً
ف ٌ حوجوه ِِه ٌْم ٌ ٌِم ٌ
نٌ ِنٌاهللٌ َو ِرض َواناٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ
ل ٌم ٌَ
ون ٌفض ٌ
اٌُبينه ٌم ٌتراه ٌمٌركعا ٌسجداٌيبتغ ٌ رَح ٌ
ح ُّ ََ
أث ٌِرٌالسجو ٌِد﴾ [الفتح .]29 :قالوا فوصفهم تعاىل يف هذه اآلية بأوصاف ِم ْن الزمها
العدالة.
ويالحظ أن القائلني بعدالة الصحابة مطلقاً ،يؤكدون أهنم إمنا يقصدون عدالة
الرواية ،وال يعنون أهنم معصومون من األخطاء ،أو أنه مل يصدر عن بعضهم ِ
القبيح ،ولكنهم يستدلون يف الوقت نفسه بفضلهم على عدالتهم ،وهذا ال خيلو
من الدور أو التناقض!!
الصحبة ال ترفع من قدر الصاحب ،وليست سبباً الطرف الثاني :يرى أن جمرد ُّ
الصحابة كحال غريهم ،وأن الفسق لتميزه ال بالفضيلة وال بالعدالة ،وأن حال َّ
واالحنراف واقع من بعضهم ،وأنه ال يُغفر ملن وقع منهم يف كبرية إال بالتوبة
الصحابة عند الزيدية 70
الظاهرة كسائر الناس .وهذا قول الشيعة واملعتزلة ،ومبقتضاه يعمل فريق من أهل
السنة.
أما الشيعة اإلمامية؛ فقوهلم يف ذلك معلوم ال خيفى على القراء والباحثني.
وأما الزيدية ،فاألصل عندهم يف الصحابة العدالة حىت يثبت غري ذلك،
ويلخصون ذلك بقوهلم :الصحابة عدول إال من ظهر فسقه.
وأما املعتزلة ،فقال ابن أيب احلديد« :وقد برئ كثري من أصحابنا من قوم من
الصحابة أحبطوا ثواهبم كاملغرية بن شعبة» .حكى ابن احلاجـب عنهم :أن َّ
الصحابة عدول إال من حارب علياً.
وحكى اإلمام الرازي عن إبراهيم النظام أنه قال :رأينا بعض الصحابة يقدح
يف بعضهم ،وذلك يقتضي توجه القدح إما يف القادح إن كان كاذباً ،وإما يف
املقدوح فيه إن كان القادح صادقاً.
الصحابة من عموم قوله واحتـج أصحاب هذا الرأي بأنه مل ي ِرد ما ُخيرج َّ
ْ ْ َ َ َ ح ح َّ َ َ ح َ َ ح َ ِّ َ َّ ِّ َ َ َّ َ َ َ ح
ِنٌ
ِنٌاهللٌم ٌاٌُسيئ رٌةٌب ِ ِمثلِهاٌ َوت ْرهوه ٌْمٌذِلةٌٌماٌله ٌْمٌم ٌَ اتٌجز ٌِينٌكسقواٌالسيئ ٌِ تعاىل﴿ :واَّل ٌ
َ
ص رٌم﴾ [يونس .]27/وحنوها ،وقالوا :إن ما ورد يف عموم الثناء عليهم خصص بنحو َع ٌِ
َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ُّ َ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ َ ً َ َْ
ك ٌبِظلمرٌ ٌل ِل ٌعقِيد﴾اُ ٌفعليها ٌوما ٌرب ٌ ن ٌأس ٌ اِلا ٌفلِنف ِس ٌِه ٌوم ٌ
ل ٌص ِ ن ٌع ِم ٌقوله تعاىل﴿ :م ٌ
[فصلت.]46 /
فإذا مل يكونوا معصومني من األخطاء ،وجاز عليهم الوقوع يف املعاصي،
فاستثناء الكذب يف النَّقل ورواية األخبار جمرد ُّ
حتكم.
بل خلُص اإلمام املهدي أحد بن حيىي -وهو من أئمة الزيدية املدافعني عن
الصحابة -إىل أن من نال شرف الصحبة وارتفع بذلك مقامه ،مث صدر عنه َّ
أمر سيء؛ فإنه يسقط سقوطاً مدوياً ويعاقب أكثر من غريه« ،ألن صحبة رسول
71 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
هللا صلى هللا عليه وآله وسلم شرف ورفعة ،ولكن مل يثبت أهنا تبيح احملرمات،
وال تكفر الذنوب واملوبقات ،بل العقل والنقل يقضيان بعكس ذلك.
أما العقل فال شك أن املناسب عنده ويف حكمه أن جرأة الصحايب الذي
صحب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم دهراً طويالً ،وشاهد أنوار النبوة
وانفجار أهنار احلكمة ،وأخذ دينه عنه من غري واسطة؛ أعظم موقعاً من جرأة
غريه ،وأدل على الشقاوة وشدة التمرد وعظيم العتو؛ إن مل يشهد ذلك بالنفاق
ومجع مساوي األخالق.
ْ ح َّ َ ْ َْ َ َ
نٌ
تٌمِنك ٌنٌ ٌيأ ٌِ اٌُانلَّ ِ ٌِّ
ب ٌم ٌ وأما النقل فقول هللا عز وجل يف نساء النيب﴿ :ياٌن ِس ٌَ
َ َ ح َ ِّ َ ح َ َ ْ َ َ ْ َ َ ح ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ
َعٌاهللٌي َ ِس ًيا﴾ [األحزاب.]30/ ِك ٌ ٌن ٌذل ٌ
ني ٌوَك ٌ
اب ٌ ِضعف ٌِ
ف ٌلها ٌالعذ ٌ
بِفاحِش رٌة ٌمقين رٌة ٌيضاع ٌ
فأكد ما ذكرناه ،ودل على أن صحبتهن -وهي أبلغ صحبة وأخصها وأعظمها
-مل تكن سبباً يف التجاوز عنهن ،بل يف التغليظ عليهن».
والوسط الذى نخـتارهٌ:هو سنة الصحابة ِ
أنفسهم يف ِ
أنفسهم ،وخالصتها أن ُ
صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فضيلة يف ذاهتا ،والسبق إليها شرف كبري ُ
ومنَّة إهلية ،وجمالسته عبادة ال ختلو من ألطاف خفيَّة ،ترشد م ْن صحبه إىل سبل
اهلداية .ومن جاء يف القرآن الكرمي أن هللا راض عنه وأنه من الفائزين ،فهو
كذلك ،ال يبدل القول لديه ،وال قيمة لقول من يقول العربة بانكشاف احلال
يف املستقبل؛ ألن األمور عند هللا مكشوفة مسبقاً ،فال ميكن أن يشهد لشخص
بالصالح ويرضى عنه ،ويعده باجلنة ،مث ينكشف أنه فاجر كافر فاسق .فمن
شهد له النيب باجلنة أو النار فهو كذلك؛ ألنه ال يُنبئ مبستقبل أحد ختميناً
وتكهناً ،وال ينطق عن اهلوى ،وال حيكم بعواطفه ،وال حيايب أو جيامل أحداً.
ومع ذلك جنزم بأن جمرد الصحبة ال تعين العصمة عن اخلطأ ،وال خترج
الصحابة عند الزيدية 72
الصاحب عن صفته البشرية ،وال حتول بينه وبني الوقوع يف اخلطأ سهواً وعمداً
سواء يف الرواية والرأي ،على تفاوت بينهم يف املقامات والفضل ،وجودة احلفظ
ودقة النقل ،ومستوى التدين والورع ،والتحرر من نوازع اهلوى.
وبالتايل ال يُستبعد وقوع اخلطأ منهم ،مبا يف ذلك خطأ الرواية والرأي ،وال
ننكر أهنم قد يرتكبون الذنوب اليت ال ترتفع إال مب ِ
كفر ،وال ميتنع لوم أحد منهم ُ
على خطأ ارتكبه ،شريطة أن يكون ذلك قائماً على املوضوعية ،مستنداً حلقائق
هدف شريف ،وليس جمرد التشهري والتجريح ،ونبش اخلالفات ثابتة ،ويُقصد به ٌ
وتغذية األحقاد ،بل ال حرج من ترك الرواية عمن ارتكب ما يوجب سقوط
عدالته ،واحلكـم عليه مبا حكـم الشرع الشريف ،وترك تقرير مصريه يف اآلخرة إىل
هللا.
أما من مل يثبت عندنا ما خيدش عدالته؛ فتكليفنا أن حنسن الظن به ،ونقول:
ح ح َ ا َّ َ َ ح َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ
ِينٌآ ٌمنواٌ
ٌوالٌَتعل ٌِفٌقلوبِناٌغِلٌل ِذل ان ﴿ربناٌاغ ِفرٌنلاٌو ِ ِإلخوان ِناٌاَّلِينٌسقووناٌب ِ ِ
اإليم ِ
َّ
َر َّب َناٌإِن َك ٌَر حُوف ٌَرحِيمٌ﴾ [الحشر ،]10 /وهـذا ما ذهب إليه كثري من علماء املسلمني
خصوصاً أولئك املتخففني من ِحدَّة اخلصومة؛ على خمتلف مذاهبهم ،وهو ما
وجيمع به بني أقوال املختلفني.
ميكـن أن يُقيَّد به إطالقات «الطرفني» ُْ
ويف هذا الصدد ذكر احلافظ حممد بن إبراهيم الوزير« :أن بعض احملدثني قد
يُطلِق القول بعدالة َّ
الصحابة عموماً ،لعموم الثناء عليهم يف القرآن والسنة ،مث
الصحابة ،مثل الوليد بن
خيصون هذا العموم عند ذكر اجملاريح املصرحني من َّ
عقبة وبسر بن أرطاة» ،واستطرد يف االستدالل وذكر األمثلة على ذلك ،مث قال:
«وهذا يفيد أن القوم يعتقدون زوال عدالة الصحايب عند ورود ما يدل على
اجلرح».
73 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
وقال يف كتاب آخر« :وقد ذكر شراح احلديث من أهل السنة أن مجاعة ممن
تطلق عليهم الصحبة ارتدوا عن اإلسالم ،والردة أكرب املعاصي ،ومن جازت عليه
الردة جازت عليه سائر الكبائر ،وإمنا ذكرت هذا ألن بعض املتعصبني على أهل
احلديث زعموا أهنم يقولون بعصمة الصحابة كلهم ،ويعدون كبائرهم صغائر،
الصحابة وإن صح وليس كذلك ،ولكن القوم ال يولعون بالسب ألحد من َّ
فسقه ،وال يلهجون بذكر ذلك».
وقال أيضاً« :ومن مهمات هذا الباب القول بعدالة الصحابة كلهم يف الظاهر
إال من قام الدليل على أنه فاسق تصرحياً ،وال بد من هذا االستثناء على مجيع
املذاهب وأهل احلديث وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم ،فإهنم يستثنون
من هذه صفته ،وإمنا مل يذكروه لندوره؛ فإهنم قد بينوا ذلك يف كتب معرفة
الصحابة».
وأيده العـالَّمة حممد بن إساعيل األمري ،واستطرد يف االحتجاج لذلك.
الصحابة كلهم
وأكد يف موضع آخر :أن «أئمة احلديث وإن أطلقوا بأن َّ
عدول قد بينوا أنه من العام املخصوص ،وجرحوا مجاعة منهم ،مثل :الوليد بن
عقبة»،
وقال أيضاً« :فهو وإن صح اإلطالق لفظ "الصحايب" على من القاه صلى
هللا عليه وسلم ولو حلظة من ليل أو هنار ،إال أن املمادح القرآنية واألحاديث
النبوية والصفات الشريفة العلية ،اليت كانت هي الدليل على عدالتهم وعلو
منزلتهم ورفعة مكاهنم ،ختص الذين صحبوه صحبة حمققة ،والزموه مالزمة ظاهرة،
ح َ َّ َ ح ح َّ َ َّ َ َ َ ح َ َّ ح َ َ
ٌَعٌالْ حك َّفار ح
ٌر ََحَ ح
اٌُ ِ الذين قال هللا تعاىل فيهمٌ ﴿ :
ُممدٌرسولٌاَّللٌِواَّلِينٌمعهٌأ ِشداُ
ْ ََ َ حْ ح ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً َ َّ َ ْ ً
ٌوجوه ِِه ْمٌمِنٌأث ِرٌ ٌِورِض َواناٌ ِسيماهم ٌِف بينهمٌتراهمٌركعاٌسجداٌيبتغونٌفضلٌمِنٌاَّلل
الصحابة عند الزيدية 74
ُّ
الس حجو ٌِد﴾ [الحجرات]29/؛ فهذه الصفات إما كاشفة أو مقيدة ،وعلى كل تقدير
فليس كل من رآه له هذه الصفات ضرورة ،وكذلك الصفات اليت بعدها يف قوله
ْ ْ َّ ْ َ َ َ َ ح ح ْ َ َ ََححْ
يل﴾ [الحجرات .]29/نعم ملن رآه مؤمنا
ْن ٌِ تعاىل﴿ :ذل ِكٌمثلهم ٌِفٌاتلوراةٌِومثلهم ٌِف ِ
ٌاإل ِ
به ،والقاه واكتحل بأنوار حمياه شرف ال جيهل ،وقد قال صلى هللا عليه وسلم:
«طوىب ملن رآين وملن رأى من رآين طوىب هلم وحسن مآب»؛ إال أنه ال يبلغ إىل
حمل من القاه يف صباحه ومساه ،والزمه يف حله وارحتاله ،وتابعه يف مجيع أفعاله
وأقواله ،واستمر على طريقته اليت كان عليها بعد وفاته ،فهؤالء هم أعيان
الصحابة».
وأضاف« :احملدثون وإن أطلقوا أن كل الصحابة عدول فقد ذكروا قبائح
جلماعة هلم رؤية خترجهم عن عموم دعوى العدالة».
ونقل عن الذهيب يف مروان بن احلكم -بعد سياق طرف من أحواله -ما
لفظه« :وحضر الوقعة يوم اجلمل وقتل طلحة وجنا ،وليته ما جنا .انتهى .وقال
الذهيب :مروان بن احلكم له أعمال موبقة نسأل هللا السالمة رمى طلحة بسهم
وفعل وفعل؛ فهذا تصريح بفسقه .وذكر الذهيب أيضاً :أن مروان بن احلكم قاتل
طلحة ،مث قال :قاتل طلحة يف الوزر كقاتل علي رضي هللا عنه».
وذكر الشوكاين :أن للعلماء يف عدالة الصحابة قولني؛ األول :التعديل املطلق،
والثاين :أن حكمهم يف العدالة حكم غريهم ،فيبحث عنها ،قال أبو احلسني بن
القطان :فوحشي قتل حزة وله صحبة ،والوليد شرب اخلمر ،فمن ظهر عليه
خالف العدالة ،مل يقع عليه اسم الصحبة ،والوليد ليس بصحايب؛ ألن الصحابة
إمنا هم الذين كانوا على الطريقة.
وذكر العالمة حيىي بن أيب بكر العامري الشافعي أنه «خيرج من هذا العموم
75 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
(عدالة الصحابة) من شذ منهم وتغري حاله وتفاحش أمره والبس الفنت بغري
تأويل كالوليد بن عقبة وبسر بن أرطأة».
الصحابة كغريهم .وعقَّب
وحكى السيد صارم الدين الوزير عن الباقالين :أن َّ
اجلالل عليه بقوله :وهو احلق ،وما ورد فيهم من أحاديث الفضائل فخاصة
للنوع ،وقد علمت أنه ال جيب انعكاسها.
أما العالمة املقبلي فاستنكر إطالق احلكم بعدالة كل الصحابة ،وقال« :لكن
املتسمني بأهل السنة اصطلحوا على مسمى الصحبة ،مث حلوا الثناء يف الكتاب
والسنة على اصطالحهم ،مث جعلوا معىن الصحبة أن ال يضر معها ذنب،
تلفيقات مل يدل عليها دليل إال اهلوى يف األول واهلوى والتقليد يف اآلخر،
ومقابلة غالة الشيعة بغلو مثله».
وهو ما تقضي به نصوص بعض العلماء احملققني من أهل السنة؛ فقد حكى
الصحابة
ابن حجر عن حممد بن علي املازري أنه قال« :لسنا نعين بقولناَّ :
عدول؛ كل من رأى النيب صىل اهلل عليه وسلم يوماً ،أو زاره ملاماً -أي نادراً -
أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب ،وإمنا نعين به الذين الزموه وعزروه
ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ،أولئك هم املفلحون».
الصحابة عدول يف الظاهر ما مل يأت له
ونص اإلمام الرازي على :أن َّ
معارض ،وحكى ذلك عن أهل السنة.
ومل ينكر الشيخ ابن تيمية هذا التوجه ،وحكى عن أهل السنة :أهنم «ال
الصحابة معصوم عن كبائر اإلمث وصغائره ،بل جتوز يعتقدون أن كل واحد من َّ
عليهم الذنوب يف اجلملة»؛ فجمع بني احلكـم بالعدالة والوقوع يف اخلطأ مفرتضاً
أن ذنوهبم مغفورة جبانب فضلهم ،وأضاف أن «القدر الذي ينكر من فعل
الصحابة عند الزيدية 76
بعضهم قليل نـْزٌر مغمور يف جنب فضائل القوم وحماسنهم ،من اإلميان باهلل
ورسوله ،واجلهاد يف سبيله ،واهلجرة والنصرة ،والعلم النافع ،والعمل الصاحل».
ذنب ،فإنه يكون قد تابالصحابة ٌ وأضاف« :وإذا كان قد صدر من أحد َّ
منه ،أو أتى حبسنات متحوه ،أو غفر له بفضل سابقته ،أو بشفاعة حممد صىل
اهلل عليه الذي هم أحق الناس بشفاعته ،أو ابتلي ببالء يف الدنيا َّ
كفر به عنه».
الصحابة رضي هللا
وهذا كالم حسن؛ غري أننا وإن كنا ال ننكر استحقاق َّ
عنهم التوفيق واللطف اإلهلي ،فإنه ال ميكننا القطع بالتالزم بني الصحبة والتوفيق،
ليكون ذلك ضربا من احلصانة ،وضمانا من العقوبة ،والسيما أنه قد صح عن
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال« :إن أناساً من أصحايب يؤخذ هبم ذات
الشمال ،فأقول :أصحايب أصحايب ،فيقول :إهنم مل يزالوا مرتدين على أعقاهبم
منذ فارقتهم .فأقول -كما قال العبد الصاحل يعين عيسى عليه السالم :-
ْ َ َ َّ َ َ َّ ْ َ ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ح ْ ح َ َْ َ ً َ ح ْ
َعٌ
تٌ ٌ ِيبٌعلي ِه ٌمٌوٌأن ٌ
تٌالرق ٌ
تٌأن ٌ
نٌكن ٌ
ِيه ٌمٌفلماٌتوفيت ِ ٌ تٌعلي ِه ٌْمٌش ِهيداٌماٌدم ح ٌ
تٌف ِ ﴿وكن ٌ
كٌ َ ْ
َش رٌٌُ َش ِهيد﴾ٌ[املائدة.]117/ ٌ
ح ِّ
وعنون البيهقي« :باب ما روي يف إخباره نفراً من أصحابه بأن آخرهم موتاً
يف النار» .مث روى عن أيب هريرة أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال لعشرة
من أصحابه« :آخركم موتاً يف النار» ،فكان سرة بن جندب آخرهم موتاً.
وجاء عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم :أن «قاتل عمار وسالبه يف النار».
قال مسلم يف الكىن :أبو الغادية يسار بن سبيع قاتل عمار ،له صحبة .وقد
أخرب النيب أنه من أهل النار ،والواجب تصديق خربه ،وإال كان كالمه جمرد لغو،
إن قال :هو يف النار ،وقلنا :بل هو عدل من أهل اجلنة ،وهللا تعاىل يقول:
َ َ ْ َ َ َ ح َ َ َّ َ َ ْ َ ْ ح ْ ح ْ ً ح َ َ ِّ ً َ َ َ ح ح َ َ َّ ح َ ً َ َ
الاٌفِيهاٌ َوغ ِض َ ٌ
بٌاهللٌعلي ٌِهٌ َولعن ٌهٌ َوأع ٌدٌ لٌمؤمِناٌمتعمدا ٌفجزاؤٌهٌجهن ٌمٌخ ِ ٌ ن ٌيوت ٌ ﴿و م ٌ
َ َ
ٌلحٌ َعذابًاٌ َع ِظ ًيما﴾ [النساء.]93/
وروى مسلم عن جابر بن عبد هللا ،قال :أتى رجل رسول هللا صلى هللا عليه
ضة ،ورسول هللا صلى هللاوسلم باجلعرانة منصرفه من حنني ،ويف ثوب بالل فِ َّ
عليه وسلم يقبض منها ،يعطي الناس ،فقال :يا حممد ،اعدل ،قال« :ويلك
ومن يعدل إذا مل أكن أعدل؟! فقال عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه :دعين ،يا
رسول هللا فأقتل هذا املنافق ،فقال« :معاذ هللا ،أن يتحدث الناس أين أقتل
الصحابة عند الزيدية 78
أصحايب .إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن ،ال جياوز حناجرهم ،ميرقون منه كما
ميرق السهم من الرمية».
ويف رواية ألحد بن حنبل عن أيب برزة ،يف وصف الرجل ،أنه كان عليه ثوبان
أبيضان بني عينيه أثر السجود.
وجاء أيضاً أن احلكـم بن أيب العاص األموي ،كان يؤذي النيب صلى هللا عليه
وآله وسلم ويستهزئ به ،ويتجسس عليه مع نسائه ،فلعنه النيب ونفاه خارج
ُّ ْ َ َ ْ َّ َّ َ ح ْ ح َ َّ َ َ ح َ َ َ َ ح َّ ح
اٌواْلخ ٌَِرةٌِ ٌو َرسولحٌلعنه حمٌاَّلل ٌِفٌالنياملدينة .وهللا تعاىل يقول﴿ :إِنٌاَّلِينٌيؤذونٌاَّلل
َ َ َ َّ َ ح ْ َ َ ً ح
اٌم ِه ًينا﴾ [األحزاب.]57/ وأعدٌلهمٌعذاب
وروى ابن عبد الرب عن عائشة أهنا قالت ملروان بن احلكـم« :أما أنت يا
مروان فأشهد أن رسول هللا لعن أباك وأنت يف صلبه» .واللعن يعين :الطرد من
رحة هللا ،ورسول هللا ال يلعن مؤمناً.
الصحابة بفضل وهذا يتناىف مع القول بفرضية الغُفران لكل واحد من َّ
الصحبة ،خاصة مع القول بأن كل مسلم أدرك النيب فهو صحايب باملعىن الشرعي
الذي يوجب له ميزة خاصة ،وهذا ما أدركه الشيخ ابن تيمية نفسه فقال« :إن
الرجل العظيم يف العلم والدين من الصحابة والتابعني ومن بعدهم إىل يوم القيامة،
أهل البيت وغريهم ،قد حيصل منه نوع من االجتهاد مقروناً بالظن ونوع من
اهلوى اخلفي ،فيحصل بسبب ذلك ما ال ينبغي اتباعه فيه ،وإن كان من أولياء
هللا املتقني .ومثل هذا إذا وقع يصري فتنة لطائفتني؛ طائفة تعظمه ،فرتيد تصويب
ذلك الفعل واتباعه عليه ،وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً يف واليته وتقواه ،بل
يف بره وكونه من أهل اجلنة ،بل يف إميانه حىت خترجه عن اإلميان .وكال هذين
الطرفني فاسد .واخلوارج والروافض وغريهم من ذوي األهواء دخل عليهم الداخل
79 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
من هذا .ومن سلك طريق االعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووااله
وأعطى احلق حقه ،فيعظم احلق ويرحم اخللق ،ويعلم أن الرجل الواحد تكون له
حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ،وحيب من وجه ويبغض من
وجه .هذا هو مذهب أهل السنة واجلماعة خالفاً للخوارج واملعتزلة ومن
وافقهم».
ويؤيد كالم الشيخ ابن تيمية ما روى البخاري ومسلم عن عائشة يف قصة
اإلفك قالت« :فقام سعد بن معاذ ،فقال :يا رسول هللا ،أنا وهللا أعذرك منه إن
كان من األوس ضربنا عنقه ،وإن كان من إخواننا من اخلزرج أمرتنا ،ففعلنا فيه
أمرك ،فقام سعد بن عبادة -وهو سيد اخلزرج ،وكان قبل ذلك رجالً صاحلاً
ولكن احتملته احلمية -فقال :كذبت لعمر هللا ال تقتله ،وال تقدر على ذلك،
فقام أسيد بن حضري فقال :كذبت لعمر هللا ،وهللا لنقتلنه ،فإنك منافق جتادل
عن املنافقني ،فثار احليان األوس واخلزرج حىت مهوا ،ورسول هللا صلى هللا عليه
وسلم على املنرب ،فنزل فخفضهم حىت سكتوا».
كان هذا حال خيارهم مع رسول هللا فكيف بغريهم بعده؟ على أن ذلك
من األخطاء اليت تغتفر بالتوبة والعمل الصاحل.
أما من يصر على أن قاعدة تعديل الصحابة تشمل من وقع يف املعاصي فال
تساعده األدلة ،ومل تُ ْستسغ دعواه حىت ألتباع مدرسته ،ففي معرض كالم األلباين
على حديث قاتل عمار قال« :قال احلافظ ابن حجر يف آخر ترمجته من
(اإلصابة) بعد أن ساق احلديث ،وجزم ابن معني بأنه قاتل عمار" :والظن
بالصحابة يف تلك احلروب أهنم كانوا فيها متأولني ،وللمجتهد املخطئ أجر،
وإذا ثبت هذا يف حق آحاد الناس ،فثبوته للصحابة بالطريق األوىل".
الصحابة عند الزيدية 80
وأقول (= األلباين) :هذا حق ،لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل؛
ألنه يلزم تناقض القاعدة املذكورة مبثل حديث الرتمجة؛ إذ ال ميكن القول بأن أبا
غادية القاتل لعمار مأجور ألنه قتله جمتهداً ،ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم
يقول" :قاتل عمار يف النار"! فالصواب أن يُقال :إن القاعـدة صحيحـة ،إال ما
دل الدليل القاطـع على خالفها ،فيُستثىن ذلك منها كما هو الشأن هنا ،وهذا
خري من ضرب احلديث الصحيح هبا».
ومل يستسغ العالمة ابن األمري الصنعاين قول ابن حجر عن مروان بن احلكم:
«يقال :له رؤية ،فإن ثبتت ،فال يعرج على من تكلم فيه» ،فقال« :هو حمل
التعجب .كادت الرؤية جتاوز حد العصمة ،وان ال ُجيرح بقتل نفس معصومة وال
غريها من املوبقات».
وأضاف« :ولو اقتصر يف العذر لرواية البخاري وغريه عنه مبا نقله عن عروة
أن مروان باغ كان ال يتهم يف احلديث؛ لكان أقرب وأن العمدة حتري الصدق،
وأما اعتذاره بأنه قتل طلحة متأوالً ،فعذر ال يبقى معه لعاص معصية ،بل يدعي
له التأويل ،وهو كتأويل من تأول ملعاوية يف فواقره أنه جمتهد أخطأ يف اجتهاده،
مع أنه قد نقل العالمة العامري اإلمجاع على أنه باغ ،والباغي غري جمتهد يف بغيه،
وإال ملا سي باغياً».
وقال العالمة املقبلي« :قالوا الثناء على الصحابة يفيد التعديل ،مث اصطلحوا
فجعلوا الصحايب من رأى ،مث غل ْو فجعلوا الصحبة كالعصمة ،فلذا روى البخاري
عن مروان ،وقال العسقالين -يف االعتذار له :-إن ثبتت الصحبة فال كالم».
الصحابة ،ويرفع من شأهنم على وإذاٌاكنٌقد ورد يف القرآن ما يشيد مبكانة َّ
ْ َ َ ْ حَ َ َّ ح َ ْ َ َّ ح َ
ارٌ ج ِر ٌَ
ين ٌ َواْلنص ٌِ ِ ا ه الـمٌ ٌون ٌم َ
ِن ٌ جهة العموم ،كقول هللا تعاىل﴿ :والسابِو ٌ
ون ٌاْلول
81 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
ََْ َ َْ ح َ ْ ح َ َ َّ َ ح ْ َ َّ َْحْ َ َّ َ َّ َ ح ح ْ ْ َ
ض ٌاهلل ٌعنه ٌم ٌ َو َرضوا ٌعن ٌه ٌ َوأع ٌد ٌله ٌم ٌجن ر ٌ
ات ٌَت ِري ٌَتتهاٌ ان ٌ َر ِ ٌَ
ِين ٌاتقعوه ٌم ٌبِإِحس رٌ
واَّل ٌ
ْ ْ
َ َْ ح َ َ َ
َ َ ًَ ْ َْ َ ح َ
يم﴾ [التوبة.]100/ ِكٌالفو ٌزٌالع ِظ حٌ ِينٌفِيهاٌأبداٌذل ٌ ال ٌارٌخ ِ
اْلنه ٌ
فـإنـه قد ورد ما يدل على لوم بعضهم على خطأ أو تقصري ،كقوله تعاىل:
َْْ َ ْ َ ح ْ َ ح ُّ َ ح ْ ْ َ َّ َ َ ْ ح ْ َ َ َ ْ ح ْ ََ ْ َ َ َ ح
ف ٌاْلم ٌِرٌ ﴿ َولو ٌد ٌصدقك حٌم ٌاهلل ٌوعد ٌه ٌإ ِ ٌذ ٌَتسونه ٌم ٌبِإِذن ِ ٌِه ٌح ٌ
ّت ٌإِذا ٌف ِشلت ٌم ٌ َوتنازعت ٌم ٌ ِ ٌ
َ َ َ َ ْ ح ْ ْ َ ْ َ َ َ ح ْ َ ح ُّ َ ْ ح ْ َ ْ ح ح ُّ ْ َ َ ْ ح ْ َ ْ ح ح ْ
يدٌاْلخ َِر ٌةٌ
نٌي ِر ٌ يدٌالنياٌومِنك ٌمٌم ٌ نٌي ِر ٌ
ونٌمِنك ٌمٌم ٌ ِنٌبع ٌِدٌماٌأراك ٌمٌماٌَتِق ٌ وعصيت ٌمٌم ٌ
حْ َ ْ َ َ ح ح َّ َ َ َ ح ْ َ ْ ح ْ ْ َ َ ح ْ َ ْ َ َ َ ْ ح ْ
َ
َع ٌالـمؤ ِمنِني﴾[آل لٌ ٌ َصفك ٌم ٌعنه ٌم ٌ ِِلَبتلِيك ٌم ٌ َول ٌو ٌد ٌعفا ٌعنك ٌم ٌ َواهلل ٌذو ٌفض رٌ ث ٌم ٌ
عمران.]152/
وقد أحسن الشيخ العالمة حيىي بن أيب بكر العامري (املتوىف893 :هـ) رحه
صني متديِن مساحمة الصحابة فيما صدر بينهم من لكل ِهللا يف قوله« :ينبغي ِ
التشاجر واالعتذار عن خمطئهم وطلب املخارج احلسنة هلم وتسلِيم صحة إمجاع
احلاضر يرى ما ال يرى ما أمجعوا عليه على ما علموه ،فهم أعلم باحلال ،و ُ
االعتذار عن املعايب ،وطريقةُ املنافقني تتبُّ ُع املثالب،
ُ الغائب ،وطريقةُ العارفني
وإذا كان الالَّ ُزم من طريقة الدين سرتُ عورات املسلمني فكيف ُّ
الظن بصحابة
خامت النبيني .هذه طريقةُ صلحاء السلف وما سواها مهاو وتـلف».
الصحابة عند الزيدية 82
وليس للشيعة االعرتاض على أن صحبة النيب فضيلة يرجى هبا حسن اخلامتة؛
ألهنم يزعمون أن أصحاب أهل البيت ناجون بفضيلة صحبتهم ،ويروون أن
رسول هللا قال :حب علي يأكل السيئات كما تأكل النار احلطب .وقال :ما
من عبد وال أمة ميوت ويف قلبه مثقال حبة من خردل من حب علي إال أدخله
هللا اجلنة.
وبعض أصحابنا الزيدية يرون أن يف حمبة أهل البيت سراً للتوفيق اإلهلي،
ويستدلون بروايات منها« :ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إال ثبتته أخرى
حىت جيوز الصراط» ،ومنها« :من مات على حب آل حممد مات شهيداً ،أال
ومن مات على حب آل حممد مات مغفوراً له ،أال ومن مات على حب آل
حممد مات مؤمناً مستكمل اإلميان» .فلم ال جيرى أمر التوفيق والتسديد اإلهلي
ملن تشرف بصحبة النيب وأحبه؟!
الضعفاء وأصحاب األهواء واملتعصبني ،فليس كل خرب يرويه راو ،أو قصة حيكيها
مؤرخ يتعني قبوهلا ،واختاذ املواقف يف ضوئها ،وإن كانت مكررة يف الكتب؛ ألن
كثرياً من املؤلفني اعتادوا النقل من كتب غريهم عند املوافقة دون تدقيق يف صحة
النقل؛ إذ املهم -عند بعضهم -أن احلكاية قد ذُكرت ،وهذا ما مكن كثرياً
من الروايات الضعيفة واملوضوعة من تأسيس مواقف الغلو والقطيعة والتطرف.
ومن التثبت يف النقل معرفة سياقات النصوص وظروفها ،وأوجه ما ثبت من
األفعال عن أي شخص -صحابياً كان أو غريه -فال حيمل كل خالف أو
عتاب أو لوم أو خصومة على العداوة أو الرباءة ،وال يستنتج من ذلك حكماً
بالكفر أو الفسق؛ ألن النزاع والوفاق يف مثل ذلك واقع بني الفضالء حىت بني
َ ََ َ َ َْ َ
سٌأخِي ٌِهٌَيح ُّرٌهحٌ األنبياء صلوات هللا عليهم ،فقـد وبَّخ مـوسى أخـاه هارون ﴿وأخ ٌذٌبِرأ ِ ٌ
َ ح َ َ ْ َ ح َّ َّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ح َ
ونٌ َوَكدواٌ نٌالو ْو ٌمٌاستضعف ِ ٌ نٌأ ٌمٌإ ِ ٌ إ ِ ِْل ٌِه﴾ ،فكشف له هارون عن وجه تصرفه ﴿ق ٌ
الٌاب ٌ
َّ َْ ح ح َ ََ حْ ْ َ ْ َ ْ َ َ ََ َْ َ ْ َ َ َْ
ني﴾[األعراف .]150/فلما ن ٌم ٌع ٌالو ْو ٌِم ٌالظال ِ ِم ٌَ ال ٌَتعل ِ ٌ
اُ ٌو ٌ
يب ٌاْلعد ٌ
تٌ ِ ٌ
ل ٌتش ِم ٌن ٌف ٌ يوتلون ِ ٌ
َْ َ ْ
ْ َ َ َ ْ َ ِّ َ
كٌ فٌ ٌَرَحتِ ٌ لٌ َو ِْل ِ ٌ
خٌ َوأ ٌدخِلناٌ ِ ٌ بٌاغ ِف ٌْرٌ ِ ٌالٌ َر ٌ
عرف موسى ذلك رجع عن غضبـه ،ف ـ﴿ق ٌ
ِني﴾ٌ[األعراف]151/؛ فاالختالف واخلصومة ال يقتضي العداوة وال اَح ٌَت ٌ َأ ْر َح حٌم ٌ َّ
الر ِ َْ َ
َوأن ٌ
يعين االستمرار إىل ما ال هناية.
منه أيضاً انتقاء املواقف واألقوال حسب اهلوى وجمافاة املوضوعية ،حيث يقوم
الباحث بعرض ودراسة ما يوافق هواه وحيقق مراده من النصوص واملواقف
ويتجاهل ما سوى ذلك ،فيمسك بكالم ورد عن شخص يف هذه املسألة أو
تلك ،ويتجاهل عشرات النصوص الواردة عنه يف املسألة نفسها ،أو يردد رواية
واحدة عن شخص قد تكون مغمورة ،ويتجاهل مجيع النصوص الثابتة عنه يف
املسألة نفسها ،أو يعتمد على كتاب أو راو أو عامل ويثين عليه عندما يوافق هواه
الصحابة عند الزيدية 84
* التأكد من حال العاصي؛ هل فارق الدنيا وهو مصر على معصيته ،أم إنه
َ ْ َ ح َّ ْ َ َ َ ْ َ ح َّ
ن ٌعِقا ِد ٌه ٌِ
عٌل ٌاتلوب ٌة ٌ ٌتاب منها؟ ألن هللا أخربنا أنه رحيم باخللق ﴿ َوه ٌَو ٌاَّلِي ٌيوق ٌ
ََْ َ َْ َح َ َّ ِّ َ َْح َ
ون﴾ [الشورى .]25/فمن ارتكب معصية يف مرحلة اتٌ َويعل حٌمٌماٌتفعل ٌ
نٌالسيئ ٌِ َويعفوٌع ٌِ
من مراحل حياته مث تاب عنها قبل املوت؛ فإن هللا قد وعده بقبول التوبة ،فال
جيوز ذمه مبا قد عفا هللا عنه ،فضالً عن الرباءة منه أو جترحيه ،ولذلك قال هللا
ْ
ت ولك ْم ما كسبتُ ْم وال
ُ ت لها ما كسب ْ تعاىل عن السابقني﴿ :تلْك أُ َّمة ق ْد خل ْ
ِ
ُ ُ ُ
ت ْسألون ع َّما َكنُوا ي ْعملون﴾ [البقرة ،]١٣٤/ولكن التعصب وحده من يبقي على
ذنب قد غفره هللا.
فإذا تـثبَّت الباحث يف نقله مبراجعة املصادر ،وفـرض االحتماالت حىت خيلُص
إىل ما تطمئن إليه النفس ،مث ع ِمل ما جيب عليه من التأمل واملقارنة واستحضار
الصحابة عند الزيدية 86
السياقات ،حىت يبلغ بذلك جودة يف الفهم ،مث حترر من نوازع اهلوى ،وجتاوز
الدقة قبل إصدار ردود الفعل وتغلب على التعصب ،وبذل ما بوسعه من حتري ِ
ََْْ َ َ َ ْ َ َّ
لحٌ
لٌ ٌ
ق ٌاهلل ٌَي ٌع ٌ
ن ٌيت ٌِاحلكـم ،فإنه سيصل -ال حمالة -إىل نتائج حسنة ﴿وم ٌ
َْ
َم َر ًجا﴾ [الطالق.]2/
ومن خالل ما تقدم يظهر أن أسباب اخلالف تكمن يف جتاهل ضوابط
البحث ،وعدم استحضارها عند مراجعة املسائل احلساسة ذات األبعاد املختلفة.
فقد يكون من احلقائق أن فالناً فعل كذا أو ترك كذا ،يف ظل مالبسات معينة
عاشها هو ومل نعشها حنن حىت نتمكن من احلكم فيها بشكل قاطع ،فكثري من
األمور ختتلف باختالف املوقع الذي يُنظر إليها منه ،ويتغري احلكم فيها بعد ساع
أسباب فعلها أو تركها ،ممن فعلها أو تركها ،وهذا مما حيتم علينا أن ننظر إىل
تقييمنا وما خلصنا إليه على أنه حمتمل الصحة واخلطأ ،وال ميكن أن نقطع على
الغيب بشيء منه ،فاحلكم هلل وحده.
غابت عنا ،والواجب أن حيفظ رسول هللا يف أصحابه وأزواجه ،مضيفاً أنه ال
جيب علينا أن نلعن أحداً من املسلمني أو نربأ منه ،فاهلل تعاىل ال يقول يوم القيامة
للمكلفِ :مل ملْ تلعن؟ بل قد يقول له :مل لعنت؟ وخريٌ لإلنسان عوضاً عن
اللعن أن يستغفر للمذنبني ويدعو هلم بالرحة أياً كانوا.
واستقبح اخلوض فيما جرى بني النيب وبني أهله وبين عمه ونسائه ،معترباً
ذلك مما خيصهم وال شأن ألحد به.
وأضاف :كان رسول هللا صهراً ملعاوية ،وأخته أم حبيبة زوجه ،فاألدب أن
ُحتفظ أم حبيبة وهي أم املؤمنني يف أخيها ،وكيف جيوز أن يُلعن من جعل هللا
َّ ح َ َ
تعاىل بينه وبني رسوله مودة؟! أليس املفسرون قالوا :أنزل قوله تعاىل﴿ :عَس ٌ
ٌاَّللٌ
َ َّ ح َ
ٌغ حفور َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ ح ْ ْ ح ْ َ َ َّ ً َ َّ ح َ
ٌرحِيم﴾ٌ اَّلل ٌقدِير ٌواَّللأن ٌَيعل ٌبينكم ٌوبني ٌاَّلِين ٌَعديتم ٌمِنهم ٌمودة ٌو
[املمتحنة ]7/يف أيب سفيان وآله؟!
وأكد أن مجيع ما تنقله الشيعة من االختالف واملشاجرة بينهم مل يثبت ،وما
كان القوم إال كبين أم واحدة ،ومل يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط وال
وقع بينهم اختالف وال نزاع.
مث ذكر ابن أيب احلديد أن «النقيب أبا جعفر» رد عليه بكالم زعم أنه علَّقه
من كالم وجده لبعض علماء الزيدية ،وخالصته :أن هللا أوجب معاداة أعدائه
كما أوجب مواالة أوليائه ،وهللا لن يعذرنا إذا قلنا :يا رب غاب أمر السابقني
علينا وقد أتتنا به األخبار .أما اللعن فقد أمر هللا تعاىل به وأوجبه ولعن العاصني،
واعترب اللعن طاعة يستحق عليها الثواب إذا فُعلت على وجهها .أما لو استغفر
من غري أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن ملا نفعه استغفاره وال قُبل منه؛ ألنه
يكون عاصياً هلل تعاىل خمالفاً أمره يف إمساكه عمن أوجب هللا تعاىل عليه الرباءة
منهم ،واإلمساك عن لعن هؤالء وأضراهبم يُثري ُشبهة عند كثري من املسلمني يف
الصحابة عند الزيدية 88
أمرهم.
وعن استنكار املعرتضني إدخال أنفسهم يف أمر عثمان والرباءة من قـتـلتِه
ولعنهم ،واخلوض يف تلك األحداث وقد غابت عنهم؛ تساءل :كيف مل حتفظوا
أبا بـكر الصديق يف ابنه حممد بن أيب بكر؟! فإنكم لعنتموه وفسقتموه ،وال
السنة
حفظتم عائشة أم املؤمنني يف أخيها؟! وكيف صار لعن ظامل عثمان من ُّ
عندكم؟! ولعن ظامل علي واحلسن واحلسني تكلفاً؟! وكيف مل حيفظوا رسول هللا
يف ابنته ومجعوا احلطب حلرق دارها؟!
مث استطرد يف ذكر صور مما جرى من صراع بني الصحابة معترباً ما بدر من
معاوية وحزبه؛ كعمرو بن العاص واملغرية بن شعبة وأشباههم من خروج على
اإلمام علي وعصيان له ،وتفريق مجاعة املسلمني ،مما يوجب العداوة والرباءة.
واسرتسل يف استعراض ما روي عن بعض الصحابة من خمالفات وجتاوزات
سلوكية وفكرية وفقهية؛ معترباً بعضها أخطاء فادحةً وإمثاً مبيناً.
مث أطال يف ذكر مناذج من نقد بعض الصحابة بعضهم وكالمهم الشديد يف
ذلك ،مستدالً بذلك على وقوع القبيح منهم وجواز الطعن فيهم.
ومبجرد قراءة املتعصبني هلذه املناظرة ،جيد كل فريق لنفسه يف طرف منها
مقنعاً ،دون أن يضعها يف ميزان النَّقد العلمي ،ويضغط على هواه وجيرب نفسه
على مراجعة مفرداهتا ،ولو عرضها على قواعد تصحيح مناهج البحث لوجد
تلك الروايات بني أمور:
وحلت على وجهها؛ فيجب األخذ هبا إما صحيحة رويت من طرق معتربةُ ،
واإلذعان ملا ورد فيها؛ سواء وافقت هوى النفس أم خالفته ،وهذا النوع يف
املناظرة املذكورة قليل.
وإما غري صحيحة تكثَّر هبا املتخاصمون لتأييد مواقفهم؛ فال فائدة للخوض
89 الفصل األول :الكالم عن الصحابة؛ األسباب والدوافع
فيها بتأويل أو تفسري أو رد؛ ألن البناء على ما هو غري صحيح جمرد عبث
ومضيعة للوقت.
وإما صحيحة ال حتتمل ما ُِ
حلت من تفسري وتأويل مغرض ،فال جيوز التلبيس
هبا على العامة ،وإيهام القاصرين بأن ذلك هو الوجه الوحيد الذي حتمل عليه.
ومتصرف يف ألفاظها بزيادة أو نقص أو حتريف ،لتلبية
وإما مبتورة عن سياقها ُ
غرض الناقل يف إفادة املعىن الذي يريد.
وقد توىل ابن أيب احلديد -يف تعقيبه على املناظرة -تطبيق جانب من مناهج
البحث ،حيث عقَّب على بعض ما تضمنته ،فقال« :أما ما ذكره (= النقيب
العلوي) من اهلجوم على دار فاطمة ،ومجع احلطب لتحريقها ،فهو خرب واحد
غري موثوق به ،وال معول عليه يف حق الصحابة ،بل ال يف حق أحد من املسلمني
ممن ظهرت عدالته.
وأما عائشة والزبري وطلحة فمذهبنا أهنم أخطؤوا ،مث تابوا ،وأهنم من أهل اجلنة
وأن علياً عليه السالم شهد هلم باجلنة بعد حرب اجلمل.
وأما طعن الصحابة بعضهم يف بعض؛ فإن اخلالف الذي كان بينهم يف
مسائل االجتهاد ال يوجب إمثاً؛ ألن كل جمتهد مصيب ،وهذا أمر مذكور يف
كتب أصول الفقه ،وما كان من اخلالف خارجاً عن ذلك فالكثري من األخبار
ورجح جانب الواردة فيه غري موثوق هبا ،وما جاء من جهة صحيحة نُظر فيه ُ
أحد الصحابيني على قدر منزلته يف اإلسالم ،كما يروى عن عمر وأيب هريرة.
فأما علي عليه السالم فإنه عندنا مبنزلة الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يف:
تصويب قوله ،واالحتجاج بفعله ،ووجوب طاعته ،ومىت صح عنه أنه قد برئ
من أحد من الناس برئنا منه ،كائناً من كان ،ولكن الشأن يف تصحيح ما يُروى
عنه؛ فقد كثر الكذب عليه ،وولَّدت العصبية أحاديث ال أصل هلا.
الصحابة عند الزيدية 90
فأما براءته عليه السالم من املغرية وعمرو بن العاص ومعاوية ،فهو عندنا
معلوم ،جار جمرى األخبار املتواترة ،فلذلك ال يتوالهم أصحابنا ،وال يثنون عليهم
وهم عند املعتزلة يف مقام غري حممود.
وحاشا هلل أن يكون عليه السالم ذكر من سلف من شيوخ املهاجرين إال
باجلميل ،والذكر احلسن مبوجب ما تقتضي رئاسته يف الدين ،وإخالصه يف طاعة
رب العاملني.
وهذا تلخيص رائع من ابن أيب احلديد -وإن مل يكن كافياً -ففيه تنبيه على
لزوم مراجعة الروايات وحسن النظر فيها؛ ففي كالم اجلويين املذكور حتكم ومبالغة
يف النهي عن اخلوض يف شأن الصحابة مطلقاً.
ويف كالم العلوي حشو كثري من روايات الغالة والقصاص اليت ال يعتمد
عليها ،وإن وجد لبعضها شواهد يف كتب بعض احملدثني واملؤرخني؛ إذ ال عربة
مبجرد وجود الرواية يف كتاب فالن أو فالن ،حبجة أهنا يف كتاب اخلصم ،بل ال
بد من قرينة تدل على قبول الرواية؛ إما بتصحيحها نصاً وذكر وجه التصحيح،
وإما ِ
بذ ْك ِرها لالحتجاج ،مع مراعاة الفرق بني ما ي ِرد حجة وما يرد شاهدا ،فال
يكفي القول إهنا وردت يف كتب اخلصوم.
فكثرياً ما يقع بعض الكتاب يف هذا اخلطأ ،فيذكر أن تلك الرواية أو هذه
مذكورة يف الكتاب الفالين على أهنا حجة ،فيُلبس على القراء وخيدعهم؛ إذ
املقصود عند كثري من املتعصبني االنتصار ملا قرره أسالفهم ومالت إليه أهواؤهم،
وذلك ديدن املتمذهبني يف تناول ملختلف املسائل احلساسة.
وقدمياً فرق أهل التحقيق من األصوليني بني ما يُستدل عليه برواية اآلحاد
وما ال بد فيه من استفاضة أو تواتر ،ومن ذلك الشهادة باملعاصي ،واحلكم
بالفسق على مؤمن ثبت إميانه.
ن ـص لف
ل الثا ي ا
نبوته ،وانتصُروا ِبه ومن كانوا ُمنط ِوين على حمبته ،يـْر ُجون جتارة ل ْن تـبُور ِيف مودته،
بات إ ْذ سكنوا ِيف والذين هجرهتم العشائر إ ْذ تعلقوا بعروته ،وانتفت منهم الْقرا ُ
ظل قرابته ،فال تـْنس هلُ ُم اللهم ما تركوا لك وفِيك ،وأرضهم ِم ْن رضوانك وِمبا ِ
اشوا (مجعوا) اخللق علْيك ،وكانوا مع رسولك ُدعا ًة لك إلْيك ،واشكرهم على ح ُ
اش إىل ِضْي ِق ِه ،وم ْن كثـَّْرت هج ِرِهم فِيك ِديار قومهم ،وخر ِ
وج ِه ْم ِم ْن سع ِة الْمع ُُِ ْ ْ ْ
إعزا ِز ِدينِك ِمن مظْلُ ِ
وم ِه ْم». ْ ِيف ْ ْ
الصحابة واقتفاء آثارهم مث أخذ يف الثناء على التابعني؛ ملضيهم على هنج َّ
وإحسان الظن هبم ،فقال« :اللَّ ُه َّم وأوصل إِىل التابعني هلُ ْم بإحسان ،الذين
يـ ُقولُون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبـ ُقونا باإلميان ،خْيـر جزائِك .الذين قص ُدوا
ِ ِِ
ستهم ،وحتروا ِو ْجهتـ ُه ْم ،ومض ْوا على شاكلتهم ،ملْ يثنهم ريب ِيف بصريهت ْم ،وملْ
خيتلجهم شك ِيف قُـ ُفو آثا ِرِه ْم ،واإلمتام هبداية منا ِرِه ْمُ .مكانِفني وموازرين هلم،
يدينون بِدين ِه ْم ،ويهتدون ِهب ْدي ِه ْم ،ويتفقون علْي ِه ْم ،وال يتهموهنم فيما أ َّد ْوا
إليهم».
وهذا واضح يف الثناء على عموم الصحابة وأمهات املؤمنني ،واالستثناء فقط
للمنافقني ،ومن جترأ على أهل البيت وطعن فيهم.
*ٌوتكلمٌاإلمامٌاملرتىضٌحممد بن حيىي اهلادي عن مجلة من مهمات مسائل
الدين احلنيف يف العقيدة وأصول التشريع ،مث قال« :مث تعلمون من بعد ذلك أن
أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم الذين قاموا بالدين ،وكانوا يف
حقيقة اإلميان ،واتبعوا بالطاعة واإلحسان ،واجب فضلهم مشهور ،والطاعن
عليهم مأزور ،واملنتقص هلم مذموم ،هالك عند هللا مثبور ،معذب مدحور ،ملدح
حْ َ ََ ْ
الـمؤ ِم ٌنِـ ٌَ
نيٌ نٌ ٌ يٌاهللٌع ٌِ هللا سبحانه هلم ،وما قال فيهم ،حيث يقول﴿ :ل ٌوـ ٌدٌ َر ٌِ
ضـ ٌَ
ح ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ح ْ َ ْ ً ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ
ت ٌالشج َر ٌةٌِفعل ٌَِم ٌما ٌ ِ ٌ
ف ٌقلوب ِ ِه ٌم ٌفأن َز ٌل ٌالسكِين ٌة ٌعلي ِه ٌم ٌ َوأثاب ٌه ٌم ٌفتحاٌ ك ٌَت ٌ
إ ِ ٌذ ٌيقاي ِ ٌعـون ٌ
قَ ِر ًيقا﴾ [الفتح.]18 /
َّ َ َّ َ ح َ ْ َْ َ َ َ َّ ِّ َ ح َ ََ ْ َ َ
فٌوهح ٌ ِ ٌ
ِين ٌاتق ٌع ٌ ار ٌاَّل ٌ ين ٌ َواْلنص ٌِج ِر ٌ ب ٌوالـمها ِ َع ٌانل ِ ٌ
اب ٌاهلل ٌ ٌوقال تعاىل﴿ :لو ٌد ٌت ٌ
َّ ح ْ ح ْ ح َّ َ َ َ َ ْ َ َ ْح ْ َ ْ َْ َ َ َ َ ح حح ح َ
اب ٌعلي ِه ٌْم ٌإِن ٌه ٌب ِ ِه ٌْم ٌ َر حُوفٌٌ يق ٌمِنه ٌم ٌث ٌم ٌت ٌوب ٌف ِر رٌ
يغ ٌقل ٌِن ٌبع ٌِد ٌما ٌاك ٌد ٌي ِز ٌ
ساع ٌِة ٌالعْس ٌةٌِم ٌ
َ َ َ َ ح َّ ح َ ََ َّ ح ح ح َ َّ
َعٌ
اُ ٌ ٌ ِين ٌمع ٌه ٌأ ِشد ٌ ول ٌاهلل ٌواَّل ٌ َرحِيمٌ﴾ [التوبة ،]117/وقال تبارك وتعاىلُ﴿ :ممدٌ ٌ َرس ٌ
َ ح ْ ً ْ ح َّ ح َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ َ ح ْ ح َّ ً ح َّ ً َ ْ َ ح َ َ ْ ً
فٌِن ٌاهلل ٌ َو ِرض َوانا ٌ ِسيماه ٌْم ٌ ِ ٌ ل ٌم ٌَون ٌفض ٌ اُ ٌبينه ٌم ٌتراه ٌم ٌركعا ٌسجدا ٌيبتغ ٌ ار ٌرَح ٌ
الكف ٌِ
ْ ْ َ ُّ َ
الس حجو ٌِد﴾ [الفتح.]29 / ح
حوجوه ِِه ٌمٌم ٌ
ِنٌأث ٌِرٌ
وفيهم من التفضيل يف كتاب هللا ،وعلى لسان نبيه؛ ما لو ذكرناه لطال به
الشرح ،وكثر فيه القول ،فحقهم واجب على مجيع املسلمني ،وفضلهم الزم
طعن على أحد ممن ذكرنا ،إال الرتحم
جلميع املؤمنني ،فال يسع أحداً من الناس ٌ
لسابقة
عليهم .واالستغفار هلم واجب ،واالقتداء حبسن أفعاهلم الزم؛ إذ هلم ا َّ
القدمية واألفعال احملمودة والنية والبصرية ،رحة هللا ورضوانه عليهم أمجعني ،إنه
لذو فضل على العاملني ،وحسبنا هللا ونعم الوكيل ،فذلك الواجب ملن ثبت على
الصحابة عند الزيدية 94
عهد رسول هللا منهم ،ومل يتغري عما عاهد هللا فيه ،حىت لقي هللا عليه».
ومل يؤثر عنه انتقاص ألحد من اخللفاء وكبار الصحابة فيما بني أيدينا من
رسائله.
الزيدية
*ٌوردٌاإلمامٌعقدٌاهللٌبنٌَحزةٌيف (املسائل التهامية) على من اهتم َّ
الصحابة ،فقال« :فأما ما ذكره املتكلم حاكياً عنا من تضعيف آراء بالنيل من َّ
الصحابة ،فعندنا أهنم أشرف قدراً ،وأعلى أمراً ،وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم
َّ
ضعيفة ،أو موازينهم يف الشـرف والدين خفيفة .فلو كان ذلك ملا اتبعوا رسول
هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،ومالوا عن إلف دين اآلباء واألتراب والقرناء ،إىل
أمر مل يسبق هلم به أُنس ،ومل يسمع له ذكر ،شاق على القلوب ،ثقيل على
النفوس ،فهم خري الناس على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وبعده،
فرضي هللا عنهم ،وجزاهم عن اإلسالم خرياً».
الصحابة
وهذا ما تقضي به نصوص األئمة والعلماء ،وهو يدل على أن مجلة َّ
عندهم أخيار أبرار بربكة صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،وفضل تأديبه
وتعليمه.
الزيدية
الصحابة في كتب َّ
الثناء على عموم َّ
الصحابة فإنه جيدهم قد اتصفوا
الزيدية أن م ْن حبث يف أحوال َّ
يذكر علماء َّ
بصفات فريدة ،ال تكون إال ألهل الفضل واإلحسان.
منها :صحبتهم للرسول وحمبتهم له ،ال شك يف ذلك ،وإال مل يكونوا ليبذلوا
مهجهم بني يديه ،ويهون عليهم قتل اآلباء واألوالد واإلخوة يف نصرته ،وهذه
غاية احملبة والطاعة ،فهم بذلك أولياء الرسول عليـه أفضل الصــالة وأمت التسليم،
ِّ ِّ ِّ َ َْ َ َّ ح َ َ ح َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ح
نيٌ َوالصدي ِو ٌَ
نيٌ ِينٌأنع ٌَمٌاهللٌعلي ِه ٌْمٌم ٌَ
ِنٌانلَّبِي ٌَ ِكٌم ٌعٌاَّل ٌ
ول ٌفأوَل ٌ
ن ٌي ِطعٌٌِاهللٌوالرس ٌ
﴿و م ٌ
95 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
ً َ ح َ
َ َ ح َّ ُّ َ َ
ِكٌ ٌَرفِيوا﴾ [النساء.]٦٩/ ِنيٌ َوحس ٌَ
نٌأوَل ٌ َوالشهدا ٌٌُِ َوالص ِ
اِل ٌ
ومنها :سعيهم يف إظهار دين هللا وإقامة عمود الدين ،حيث جاهدوا يف
سبيل هللا وخاضوا غمرات املوت يف ذلك ،حىت كان أحدهم يعود باكياً إن مل
جيد ما ميكنه من مرافقة املسلمني للخروج يف سبيل هللا.
ومنها :املواساة باألموال واألنفس واإلنفاق يف سبيل هللا ،واإليثار على النفس،
والتنافس يف ذلك.
ومنها :ما خيتصون به يف أنفسهم من العلم والزهد والصرب والسخاء والنجدة
والورع والتواضع كما هو مشهور يف سريهم.
ويف ضوء تلك املميزات جاء الثناء على الصحابة يف الكتاب والسنة على
وجه العموم ،على أنه ال يستوي السابق منهم والالحق ،والفاضل واألفضل ،وال
يدخل يف عموم الثناء من ارتكب قبيحاً ما مل يتب ويصلح حاله ،ومن ذلك:
في القرآن الكريم:
تضمنت بعض آيات القرآن الكرمي إشادة مبكانة وجهود أصحاب النيب صلى
هللا عليه وآله وسلم على سبيل العموم ،ومن دخل يف عموم الثناء اإلهلي فقد
فاز ،ولن ُخيرجه من الفضل إال من أدخله فيه ،وقد ذكر علماء الزيدية يف ذلك
عدة آيات ،يستنتج منها مكانة وأفضلية لصحابة النيب ال تُنكر ،منها:
َّ َ ْ َْ َ َ َّ ح َ ْ َ َّ ح َ َ ح َ
ارٌ ٌَواَّل ٌَ
ِينٌ ينٌ َواْلنص ٌِ
ج ِر ٌ ِنٌالـم ِ
ا ه ونٌم ٌونٌاْلول ٌ اْليةٌاْلوىل قوله تعاىل﴿ :والسابِو ٌ
َ ْ َ ْ ََْ َ ْ َ َ َ
ح َ ح َ َّ ح َ َّ ْ َْح ْ َ َّ َ ح ح
ات ٌَت ِري ٌَتتها ٌاْلنه حٌ
ارٌ ض ٌاهلل ٌعنه ٌْم ٌ َو َرضوا ٌعن ٌه ٌ َوأع ٌد ٌله ٌْم ٌجن ر ٌ اتقعوه ٌْم ٌ ٌب ِإِحس رٌ
ان ٌ َر ِ ٌَ
َ َ ًََ َ َ َْ ح َْ َ
يم﴾ [التوبة.]100/ ِكٌالف ْو ٌزٌالع ِظ حٌِينٌفِيهاٌأبداٌذل ٌ ال ٌخ ِ
* يذكر اإلمام عز الدين بن احلسن :أن «وجه االستدالل هبا أنه ملا ذكر
الصحابة عند الزيدية 96
حكم من يف وقته صلى هللا عليه وآله وسلم من كبار أهل الكتاب ،ذكر حكم
الصحابة؛ ألنه ال يوجد حينئذ من مؤمن إال هم،
من يف وقته من املؤمنني وهم َّ
فذكرهم يف معرض املدح لذكر نقيضهم يف معرض الذم ،مث عقبه وختمه بأعجب
اخلواتيم ،وهي رضاه عنهم ورضاهم عنه» .وقال أيضاً« :اآلية دالة على رضاه
عنهم ،ورضاهم عنه ،وال غاية فوق هذه الدرجة وال فضل يساوي هذه املنقبة».
* وانتقد اإلمام عبد هللا بن حزة من خصص هذه اآلية باخللفاء مؤكداً تناوهلا
هلم ولغريهم ،فقال« :إنا ال ننكر كوهنم من السابقني األولني ،وال جحدنا أهنم
من أفضلهم ،وإن كان غريهم من أهل البيت أفضل منهم».
وأضاف يف الرد على من جعل اآلية خاصة باخللفاء« :إنه عني املشايخ
الصحابة املرادين باآلية ،فإن استقام على هذا االستبداد
الثالثة ،وترك سائر َّ
فضحته اآلثار والسري واألخبار ،وإن اعترب أن املشايخ الثالثة من مجلة من دخل
حتت آية الرضوان ،فلِم حت َّجر واسعاً ،وخصص عاماً ،واستبد بأمر هو مشرتك
الصحابة احلاضرين يف ذلك املقام».
بني املشايخ الثالثة وسواهم من َّ
السبق هنا هو السبق إىل اإلميان».
* وذكر شيخنا بدر الدين احلوثي :أن « َّ
وقال إن قوله (رضي هللا عنه) «تعبري عن قبول إمياهنم وإحساهنم ،وأنه غري
ساخط على من كان كافراً منهم؛ ألن إميانه وتوبته حمى ما سلف منه».
ح ْ َ ْ حَ ح َ َ َْ َ َ ََ ْ
تٌ
َت ٌ
كٌ ٌني ٌإ ِ ٌذ ٌيقايِعون ٌ
ن ٌالـمؤ ِمنِ ٌ ض ٌاهلل ٌع ٌِ اْلية ٌاثلانية قوله تعاىل﴿ :لو ٌد ٌ َر ِ ٌَ
َ َ ََ َ َ ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ َّ َ َ َ َ
السك ٌَِينــ ٌةٌ َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌ ٌف ْت ًٌحـاٌق ِر ًيقا﴾[الفتح.]18 / الشج َر ٌةٌِفعل ٌَِمٌماٌ ِ ٌ
فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأنز ٌلٌ
وكان أبو بـكر وعمر ممن بايعوا .أما عثمان فبايع عنه رسول هللا بإحدى يديه،
ويف اآلية ترضية صرحية ومدح هلم حبسن سرائرهم ،ووعد بالفتح والنصر.
97 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
* ذكر القاضي يوسف بن أحد الثالئي :أن «من مثرات اآلية الكرمية احلكـم
بعدالة من بايع هذه البيعة؛ ألن هللا تعاىل ساهم مؤمنني وأخرب بالرضا عنهم،
السكينة عليهم ،وهي طمأنينة قلوهبم وأخرب حبسن سرائرهم ،ومدحهم بإنزال َّ
واللطف املقـوي لقلوهبم ،وهـذا يلزم منه وجوب مواالهتم واحملبة هلم ،فتكون
الرتضية أرجح من التوقف ،ويلزم حسن الظن هبم».
* وقال اإلمام أبو الفتح الديلمي عند تفسري اآلية« :سيت بيعة الرضوان
لنزول الرضا فيهم (= الصحابة املبايعني) واآلية خصت من كان ظاهره وباطنه
يف اإلميان واحداً؛ ألن الرضا وقع عليهم».
* وقال شيخنا بدر الدين احلوثي« :هذه تسمى (بيعة الرضوان) ملا بايعوا
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حتت الشجرة ،ولكن الرضا من هللا إمنا هو من
املؤمنني ،وليس عن كل املبايعني على ما يظهر؛ ألنه قال( :فعلم ما يف قلوهبم)
من النية على الثبات والصرب يف اجلهاد ،ومن كانت نيته كذلك فهو مؤمن مرضي
عنه».
ومعلوم أن الصحابة الذين بايعوا حتت الشجرة ومنهم :أبو بكر وعمر كانوا
مؤمنني ،ومن ثبت أنه بايع وليس مؤمناً أو أنه ارتد عن اإلسالم فإن الرضا ال
يتناوله.
وكثرياً ما حترج هذه اآلية املتوقفني عن الرتضية ،فيوردون حوهلا اعرتاضات:
* منها :أن الثناء متعلق باحلال فقط ،مبعىن أن هللا تعاىل إمنا أخرب برضاه
عنهم يف حال البيعة ،وليس فيها داللة على أن حالتهم تتغري أم ال .وذلك ال
يعين استمرار الرضا؛ ألن العربة باخلواتيم.
وهذا مردود بأنه ال معىن لرضا هللا هنا؛ إال البشرى حبسن العاقبة ،ودخول
الصحابة عند الزيدية 98
اجلنة ،وهللا تعاىل يعلم حاهلم يف املستقبل كما يف املاضي ،والسيما أنه قرن رضاه
ح َ ح َ ْ َح َ َْ َ َْ ْ َ َ َْ ح ْ َ
َلٌاهلل ٌت ْرج ٌعٌ
ِيه ٌمٌ َوماٌخلفه ٌمٌ َوإ ِ ٌ عنهم بعلمه مبا يف قلوهبم ،فهو ﴿يعل ٌمٌما ٌب ٌ
نيٌأيد ِ
ْحح
اْلم حٌ
ور﴾ [الحج.]76 :
ويف ذلك قال العـالَّمة حيىي بن احلسني« :إن ثناء هللا قد وقع ،وهو ال يكون
إال بالعاقبة ،لعلم هللا السابق هبا ،فال يثين هللا تعاىل على من يعلم سوء خامتته
أصالً؛ إذ هو إخبار لنا بعلمه السابق ،وإال لزم انقالب علمه جهالً ،وهو حمال،
وإخبار النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إمنا يكون بوحي ،وما ينطق عن اهلوى،
الصحابة أهل الشجرة رضي هللا عنهم صحيحة .كما خيرب تعاىل فكانت تزكية َّ
بسوء خامتة شخص؛ فإنه يكون كما خيرب به ،وال ميكن أن يكون مؤمناً أصالً،
بعد أن أخرب هللا تعاىل خبامتته ،كأيب هلب والوليد بن عقبة وغريمها.
* ومنها :أن الرضا مقيد باملؤمنني السابق يف علم هللا مفارقتهم الدنيا على
اإلميان ،ال من غ َّري وبدَّل .وهذا صحيح عدا أن افرتاض املعرتض أن من رضي
هللا عنهم من أهل بيعة الشجرة غريوا وبدلوا ،استدالل باملتنازع فيه .وهللا تعاىل
ْ
قد وصف باإلميان مجيع من بايع حتت الشجرة ،فعلق الرضا يف قوله﴿ :إ ِ ٌذٌ
ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ
الش َج َر ٌةِ﴾ بذات املبايعني ،وهو أعلم حباهلم يف احلاضر واملستقبل،تٌ
كٌَت ٌ
يقايِعون ٌ
وال خيفى عليه شيء يف األرض وال يف السماء ،ال يف الظاهر وال الباطن.
ٌاَّل َ َّ َ َ ْ َْ َ َ َ َّ ِّ َ ح َ ََ ْ َ َ
ِينٌ ار
ج ِرينٌواْلن ِ
ص بٌوالـمها ِ اْليةٌاثلاثلةٌقوله تعاىل﴿ :لودٌتابٌاهللٌَعٌانل ِ
ْ ح ْ ح َّ َ َ َ َ ْ َّ ح َّ َ ح ح َ َ ْ ح ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ح ح ح ح َ
ابٌعلي ِه ْمٌإ ٌِنهٌب ِ ِه ْمٌيقٌمِنهمٌثمٌت ٌ
اتقعوه ٌِفٌساعةٌِالعْسةٌِمِنٌبعدِ ٌماٌاكدٌي ِزيغٌقلوبٌف ِ ر
ر
َر حُوف ٌَرحِيمٌ﴾ [التوبة .]117/ذكر املفسرون أن هذه اآلية نزلت يف غزوة تبوك ،وكان
أبو بـكر وعمر وعثمان ،فيمن خرج مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من
املهاجرين واألنصار ،وأنفق عثمان فيها نفقة عظيمة .وتأكيد هللا تعاىل على أنه
99 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
* قال اإلمام عز الدين« :وجه داللتها أنه أيَّد رسوله هبم يف إظهار الدين،
امنت عليهم بكونه ألَّف بني قلوهبم ،وهاتان خصلتان عظيمتان ،ومن هذه حالهو َّ
كيف ال يكون ظاهره السرت والعدالة ،وإحراز التزكية لنفسه».
َْ ح ح َ َْ ْ ح ْ ح ْ َ ْ َ ح َّ ح ْ َ ْ َّ
ونٌبِال ٌم ٌع حر ِ ٌ
وفٌ اسٌتأمر ٌ
تٌل ِلن ِ ٌ
يٌأم رٌةٌأخ ِرج ٌ
﴿كنت ٌمٌخ ٌ اْليةٌاخلامسة قوله تعاىل:
حْ ح َ حْ َََْْ َ َ َ
نٌالـمنك ٌِرٌ َوتؤمِن ٌ
ونٌبِاهلل﴾ [آل عمران .]110/وهذا خطاب موجه للصحابة، نٌع ٌِ
وتنهو ٌ
ومن خالهلم لسائر األمة ،وهذه شهادة واضحة هلم باخلريية .وقال األعقم:
«اآلية نزلت يف املهاجرين ،وقيل :يف أصحاب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم».
وعن هذه اآلية قال اإلمام عز الدين بن احلسن« :وجه داللتها أهنم لو كانوا
الصحابة عند الزيدية 100
* ذكر احلاكم احملسن بن كرامة اجلشمي يف تفسري هذه اآلية أهنا «تدل على
فضل الصحابة وعظيم شأهنم ،وحملهم يف اإلسالم وأن الواجب مواالهتم واالقتداء
هبم وبطرائقهم ،وأن الرباءة منهم من الكبائر».
وخنتم القول هنا بأن اجلدل التارخيي حول مسألة الصحابة ،صريها من املسائل
فح ِملت أكثر من ِحلها ،وطلبت هلا الشواهد واألدلة ذات احلساسية املفرطةُ ،
والرباهني ،من نصوص اآليات وظواهرها ،وسواء يف ذلك من يريد إثبات التنزيه ،أو
يبحث عن مؤاخذة أو غمز ،وحنن هنا إمنا نستعرض ما يدلل على ما حنن بصدده.
في الحديث الشريف:
الصحابة عموماً وخصوصاً ،علىالزيدية مجلة أحاديث يف فضل َّ أورد علماء َّ
أهنم يقيدون مجيع ذلك مبا ذهبوا إليه من تعريف الصحايب ،ويفرقون بني الفضيلة
واألفضلية ،وبني السب ورواية األحداث ،وتوصيف الوقائع ،ومما ذكر يف فضائل
الصحابة يف كتب الزيدية ،نورد اآليت:
(ٌ)1عنٌيلعٌبنٌأيبٌطالب ،قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم:
«من سب نبياً قُتل ،ومن سب صاحب نيب ُجلد» .رواه يف صحيفة اإلمام الرضا
عن آبائه.
(ٌ)2عنٌابنٌمسعود أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال« :خري
الناس قرين مث الذين يلوهنم مث الذين يلوهنم» .احتج به كل من :اإلمام حيىي يف
(التحقيق) ،واإلمام املهدي يف (شرح القالئد) ،والقرشي يف (املنهاج).
(ٌ)3وعنٌعقدٌاهللٌبنٌمغفل أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال:
«هللا هللا يف أصحايب ،ال تتخذوهم غرضاً بعدي ،فمن أحبهم ،فبحيب أحبهم،
الصحابة عند الزيدية 102
ومن أبغضهم ،فببغضي أبغضهم ،ومن آذاهم فقد آذاين ،ومن آذاين فقد آذى
هللا ،ومن آذى هللا أوشك أن يأخذه» .أخرجه أحد.
(ٌ)4وعنٌأيبٌهريرة مرفوعاً« :ال تسبوا أصحايب ،فوالذي نفسي بيده لو أن
أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك ُم َّد أحدهم ،وال نصيفه».
احتج به كل من اإلمام حيىي يف (التحقيق) ،واإلمام املهدي يف (شرح
القالئد) ،والقرشي يف (املنهاج) ،وحيىي بن احلسني يف (اإليضاح).
(ٌ)5عن ٌعمر ٌبنٌاخلطاب قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم:
«احفظوين يف أصحايب فإهنم خيار أميت».
استشهد به العـالَّمة علي بن حيد ،يف كتابه (مشس األخبار) الباب اخلامس
لصحابة. عشر يف فضل ا َّ
الزيدية خصوصاً املتأخرين منهم،
وهنالك روايات أخرى أوردها بعض علماء َّ
وضعفها احملدثون لعلل خمتلفة ،جتنبت إيرادها؛ ألن أسانيدها حتتاج إىل حبث
ودراسة ،وال ميكننا إلقاءها دون تدقيق .ومنها :ما روي عن ابن عباس قال ،قال
رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم« :أصحايب كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
ويف ال ُـمصحـح املتداول من األحاديث النبوية الشريفة كفاية ،وحسبهم ثناء
القرآن عليهم ،كما تقدم يف اآليات السابق ذكرها.
صلى هللا عليه وآله وسلم يقول« :عمر سراج أهل اجلنَّـة» ،فرجعا إىل عمر يبشراه
مبا رواه أمري املؤمنني ،ففرح ودعا بقرطاس ودواة وكتب :حدثين سيدا شباب أهل
اجلنَّـة عن أبيهما عن رسول هللا أنه قال« :عمر سراج أهل اجلنَّـة» ،مث أوصى أن
يدفن معه ذلك القرطاس إذا مات.
وخصص العـالَّمة علي بن حيد القرشي :الباب اخلامس عشر من كتاب
الصحابة ،وأورد أحاديث يف فضل اخللفاء خاصة.
(مشس األخبار) لفضل َّ
وانتقد اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى الذين يرتددون يف الثناء على
اخللفاء الراشدين ،فقال« :فاملخالف ال خيلو إما أن ينكر ما رويناه من الثناء
عليهم ،فذلك وإن أمكنه يف األحاديث األحادية؛ ال ميكنه يف املتواترات ،وإال
لزم كفره ،فال سبيل له إىل إنكار ورود الثناء عليهم ،ودخوهلم يف العموميات
املذكورة .وإما أن يعرتف بوروده ،ولكن يـدعي أنه مشروط باستمرارهم على تلك
احلال ،فحينئذ نقول للمتوقفني :أأنتم أعلم أم هللا ورسوله؟! فإنه قد وقع الثناء
املشروط ،والشرط مضمر غري مظهر يف كالم هللا ورسوله ،فهال استحسنتم ما
الصحابة والدعاء
استحسن هللا ورسوله صلى هللا عليه ،وتأسيتم به يف الثناء على َّ
هلم».
وأما روايات اخللفاء الراشدين وآراؤهم فإن علماء َّ
الزيدية يتداولوهنا يف
كتبهم احلديثية والفقهية كـ(األماليات) و(شرح التجريد) و(اجلامع الكايف) وغريها
الصحابة ،ومل يستثنوا إال نفراً قليالً ممن أحدثوا كما قـال اإلمام حيىي شرف
كسائر َّ
الدين:
وكلهم عندنا عدل رضا ثقة حتـم حمبتـه حتـم توليـه
فجملة الروايات اليت يتداوهلا حفا احلديث عن اخللفاء الراشدين يف كتبهم
الصحابة عند الزيدية 106
الزيدية يف كتبهم.
هي نفسها اليت يتداوهلا علماء َّ
بل ذكروا أن اإلمام علي قبل رواية أيب بـكر منفرداً ،يف حني كان حيلف غريه،
واستشهدوا بذلك على صحة قبول خرب الواحد .ويف ذلك روى اإلمام أبو طالب
حيىي بن احلسني اهلاروين عن علي أنه قال :كنت إذا سعت من رسول هللا شيئاً
نفعين هللا مبا شاء ،فإذا سعته من غريه حلَّفته فإن حلف صدقته ،وحدثين أبو
بـكر وصدق أبو بـكر.
وترجم إبراهيم بن القاسم يف (طبقات الزيدية) أليب بكر وعمر وعثمان رضي
هللا عنهم ،لكون روايتهم معتمدة يف سائر كتب احلديث عند الزيدية.
الزيدية اعتادوا تقدمي أقوال اخللفاء
ويف الفتاوى واآلراء الفقهية جند أن علماء َّ
الصحابة رضوان هللا عليهم ،عند ذكر تعدد اآلراء يف املسائل الدينية، وسائر َّ
فقهية كانت أو غري فقهية ،وخيصون اخللفاء الثالثة بالذكر ،ويرمزون أليب بـكر
بـ( )1ولعمر بـ( )2ولعثمان بـ( )3كما يف كتاب (االنتصار) لإلمام حيىي بن حزة
وكتاب (البحر الزخار) لإلمام املهدي وكتاب (اجلامع لقواعد دين اإلسالم)
الزيدية
لعطية النجراين ،وغريها من كتب الفقه ،وذلك يشري إىل سالمة موقف َّ
من الرباءة والسباب ،ويدفع كل شبهة تُـثار للطعن عليهم.
ومع احرتام الزيدية ملقام اخللفاء الثالثة -ال يغفلون رأيهم يف تقدمي اإلمام
علي ،وأنه كان األوىل باخلالفة من غريه ،دون غلو فيه ،وال سباب لغريه ،وهلذا
يُعتربون جزءاً من شيعة اإلمام علي بن أيب طالب.
وهذا النوع من التشيع كان منتشراً بني مجهور العلماء والفضالء من الصحابة
والتابعني وتابعيهم ،يف حده املشروع املتمثل يف احملبة دون غلو أو شطط ،فقد
ذكر الذهيب أن كثرياً يف التابعني وتابعيهم كانوا على ذلك ،مؤكداً أنه لو ُرَّد
107 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
حديث هؤالء لذهب مجلة من اآلثار النبوية ،وأملح إىل أن ليس من الغلو تقدمي
اإلمام علي على اخللفاء الثالثة ،ودافع هبذا عن إبان بن تغلب مع اعرتافه أنه
يعتقد أن علياً أفضل منهما(.
وقبله قال سفيان بن سعيد الثوري :سبحان هللا! هل أدركت خيار الناس إال
الشيعة ،مث ذكر :زبيداً وسلمة بن كهيل وحبيب بن أيب ثابت وأبا إسحاق
السبيعي ومنصور بن املعتمر واألعمش .مث قال :إال أن قوماً من هذه الرافضة
وهذه املعتزلة قد بغضوا هذا األمر إىل الناس .فالتشيع املقبول ال يتجاوز كونه
تعرب عن الوالء ألهل ابليت وحمبتهم ،وليس مذموما ً ما لم يصحبه ُغ ّ
لو وشطط
خيرجه عن احلق.
يغادران فيما يصنعان رأي رسول هللا ،ال يرى كرأيهما رأياً ،وال حيب كحبهما
حباً ،فقبض رسول هللا وهو عنهما راض ،واملسلمون عنهم راضون».
( )4وروى احلافظ أبو العباس أحد بن حممد بن سعيد بن عقدة بإسناده عن
قيس بن أيب حازم قال :قال علي بن أيب طالب :إن أبا بـكر كان َّأواهاً منيباً،
وإن عمر نصح هللا فنصحه.
( )5وعن حممد بن سريين عن أيب صاحل عن علي رضي هللا عنه قال :إين
َ َْ
ألرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبري ممن قال هللا عز وجل فيهمَ ﴿ :ون َزعناٌ
ْ َ ً ََ ح ح حََ ْ ْ ح ح َ
ُس رٌرٌمتوابِل ٌَ
ِنيٌ﴾ [الحجر.]47/ َعٌ
ِنٌغِلٌٌإِخواناٌ ٌ
وره ٌِمٌم ٌ
فٌصد ِ ماٌ ِ ٌ
( )6وعن جعفر بن حممد عن أبيه عن جابر ،قال ملا مات عمر وقف عليه
علي ،فقال :ما أحد من هذه األمة أحب إيل أن ألقى هللا مبثل صحيفته من هذا
املسجى .ويف هذا ما فيه من جليل الثناء.
وذكر اإلمام عبد هللا بن حزة أن يف رواية اآلجري إضافة من طريق سلمة بن
األسود ،عن أيب عبد الرحن فيها« :رحك هللا يا ابن اخلطاب ،إن كنت بذات
هللا عز وجل لقيماً ،وإن كان هللا عز وجل يف صدرك لعظيماً ،وإن كنت لتخشى
هللا يف الناس وال ختشى الناس يف هللا ،وكنت جواداً باحلق خبيالً بالباطل ،كنت
خيصاً من الدنيا بطيناً من اآلخرة ،مل تكن عياباً وال مداحاً».
وعقب عليه اإلمام عبد هللا بن حزة بقوله« :ال شك يف صحة أعماله وكثرهتا،
وكوهنا أعمال اإلميان ،ما خال دعوى اخلالفة ،ومثل بعضها يدخل به اجلنة إن
سلم من الكبائر ،وكذلك سائر ما أبنه به مستقيم ،ومل ننفه فيحتج الفقيه على
ثباته ،وال نقدنا أعمال الرب ،إمنا نقدنا التقدم على املنصوص عليه ،واملعصوم،
واملادح ال ميدح إال باحملاسن ،وإن كان يعلم املساوئ فال يعد ذلك مناقضة».
الصحابة عند الزيدية 110
( )7وروى ابن عساكر وعن حممد بن حاطب ،قال :ذُكر عثمان بن عفان
عند احلسن واحلسني فقاال :هذا أمري املؤمنني يأتيكم اآلن وخيربكم عنه ،فجاء
َّ َ ح َّ َ ْ َ ح ح َ ح َّ َ ْ َ ح
ات ٌث ٌَّم ٌاتووا ٌ َوآمنوا ٌث ٌَّمٌ علي فقال :عثمان ِم ْن الذين ﴿اتووا ٌ َوآمنوا ٌ َوع ِملوا ٌالص ِ
اِل ٌِ
ح ْ ح ُّ َّ َ ْ َ ْ َ ح
ني﴾ٌ[املائدة.]93/ بٌالـمح ِسنِ ٌَ
اتوواٌ َوأحسنواٌ َواهللٌحيِ ٌ
( )8وروى نصر بن مزاحم املنقري أن اإلمام علياً قال« :إن هللا بعث النيب
صلى هللا عليه وآله وسلم فأنقذ به من الضاللة ،ونعش به من اهللكة ،ومجع به
بعد الفرقة ،مث قبضه هللا إليه وقد أدى ما عليه ،مث استخلف الناس أبا بـكر ،مث
استخلف أبو بـكر عمر ،وأحسنا السرية ،وعدال يف األمة ،وقد وجدنا عليهما
أن توليا األمر دوننا ،وحنن آل الرسول وأحق باألمر ،فغفرنا ذلك هلما ،مث ويل
أمر الناس عثمان ،فعمل بأشياء عاهبا الناس عليه ،فسار إليه ناس فقتلوه».
( )9وروى أحد بن حنبل عن أيب سرحية ،قال :سعت علياً وهو على املنرب
يقول :كان أواهاً منيب القلب ،يعين أبا بكر ،وإن عمر ناصح هللا فنصحه هللا.
وعقب عليه اإلمام عبد هللا بن حزة بـقوله« :إن إنابة قلب أيب بكر وتأوهه
ال إشكال فيه ،وكذلك نصيحة عمر بن اخلطاب هلل تعاىل؛ ألنا ال نعتقد فيهما
ما يعتقد الغالة من النفاق والكفر ،بل ال نعيب عليهما من قول وال عمل ،إال
التقدم على الوصي خليفة النيب وموىل املؤمنني».
( )10وروى إبراهيم الثقفي يف كتاب (الغارات) عن اإلمام علي أنه قال:
«مشيت إىل أيب بـكر فبايعته ،وهنضت يف تلك األحداث حىت زاغ الباطل وزهق،
وكانت كلمة هللا هي العليا ،ولو كره الكافرون ،فتوىل أبو بـكر تلك األمور ،فيسر
وسدد وقارب واقتصد ،فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع هللا فيه جاهداً ،وما
طمعت أن لو حدث به حدث وأنا حي أن يرد إيل األمر الذي نازعته فيه طمع
111 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
مستيقن ،وال يئست منه يأس من ال يرجوه ،ولو ال خاصة ما كان بينه وبني عمر
لظننت أن ال يدفعها عين ،فلما احتضر بعث إىل عمر فواله ،فسمعنا وأطعنا
وناصحنا ،وتوىل عمر األمر وكان مرضي السرية ميمون النقيبة».
( )11وروى الثقفي أن اإلمام علي قال« :مث إن املسلمني من بعده استخلفوا
امرأين منهم صاحلني ،عمال بالكتاب وأحسنا السرية ،ومل يتعديا السنة ،مث توفامها
هللا فرحهما هللا ،مث ويل من بعدمها وال أحدث أحداثاً فوجدت األمة عليه مقاالً
فقالوا ،مث نقموا عليه فغريوا ،مث جاؤوين فبايعوين ،فأستهدي هللا اهلدى وأستعينه
على التقوى».
( )12وجاء يف (هنج البالغة) أن اإلمام علي قالَِّّ« :لِل بِالءُ فُالن ،فـلقد قـ َّوم
يب،الفتنة ،ذهب نقي الثوب ،قليل الع ِ السنَّة ،وخلَّف ِ
األود ،وداوى العمد ،وأقام ُّ
حبقه ،رحل وتركهم ِيف اّلِل طاعته ،واتَّقاه ِشرها .أ َّدى إىل َّ
أصاب خريها ،وسبق َّ
ُ
هتدي ِهبا الضَّال ،وال ي ِ
ستيق ُن ال ُـمهتدي». طُرق متشعِبة ال ي ِ
ُ
قال ابن أيب احلديد« :فالن املكىن عنه "عمر بن اخلطاب" ،وقد وجدت
النسخة اليت خبط الرضي أيب احلسن جامع (هنج البالغة) وحتت فالن "عمر"،
وحدثين بذلك فخار بن معد املوسوي األودي الشاعر ،وسألت عنه النقيب أبا
جعفر حيىي بن أيب زيد العلوي فقال يل :هو عمر .فقلت له أيثين عليه أمري
املؤمنني هذا الثناء؟ فقال :نعم».
( )13ويف (هنج البالغة) أيضاً أن اإلمام علي عليه السالم قال لعثمان« :ما
أعرف شيئاً جتهله ،وال ُأدلك على أمر ال تعرفه ،إنك لتعلم ما نعلم ،ما سبقناك
إىل شيء فنخربك عنه ،وال خلونا بشيء فنبلغكه ،وقد رأيت كما رأينا ،وسعت
كما سعنا ،وصحبت رسول هللا كما صحبنا ،وما ابن أيب قحافة وال ابن اخلطاب
الصحابة عند الزيدية 112
بأوىل بعمل احلق منك ،وأنـت أقرب إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم
وشيجة رحم منهما ،وقد نلت من صهره ما مل يناال».
قال اإلمام حيىي بن حزة يف شرح هذا الكالم« :ويف كالم أمري املؤمنني هذا
داللة على إتياهنما باحلق وعملهما به».
( )14ويف (وقعة صفني) قال اإلمام علي يف رد على رسالة ملعاوية« :وذكرت
اّلِل هبم ،فكانوا يف منازهلم عنده علىاّلِل اجتىب له من املسلمني أعواناً أيده َّ
أن َّ
قدر فضائلهم يف اإلسالم ،فكان أفضلهم -زعمت -يف اإلسالم وأنصحهم
ّلِل ورسوله خليفته وخليفة خليفته ،ولعمري إن مكاهنما من اإلسالم لعظيم ،وإن
اّلِل وجزامها بأحسن اجلزاء ،وذكرت املصاب هبما جلرح يف اإلسالم شديد ،رحهما َّ
أن عثمان كان يف الفضل ثالثاً ،فإن يكن عثمان حمسناً فسيجزيه ا َّّلِل بإحسانه،
وإن يكن مسيئاً فسيلقى رباً غفوراً ال يتعاظمه ذنب أن يغفره».
( )15جاء يف (هنج البالغة) ذكر مشورته على عمر؛ تارة عند قتال الفرس،
وأخرى عند قتال الروم ،وكذلك أورد نصيحته لعثمان قبيل الفتنة .وذلك يدل
على أنه مل يأل جهداً يف التعاون مع أيب بـكر وعمر وعثمان ومناصرهتم وتقدمي
النصح واملشورة هلم ،والتحرك -حتت راياهتم -لصد أعداء اإلسالم.
حىت قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى« :ظهر من حال اإلمام علي
وتواتر املناصرة واملعاضدة واملشاورة واملدح والصالة خلفهم ،واخلروج حتت لواء
أيب بـكر يف قتال أهل الردة وأخذ نصيبه من الفيء».
( )16جاء يف عدة روايات أن اإلمام علي كان يأىب أن ينقض شيئاً مما أمضاه
عمر بن اخلطاب ،وكان يقول :مل أكن ألحل عقدة عقدها عمر.
الزيدية ،وغريهم أن اإلمام
( )17تؤكد كتب التاريخ واألنساب ،عند علماء َّ
113 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
علياً زوج ابنته َّأم كلثوم عمر بن اخلطاب ،وذلك يدل على أنه كان يرضى ُخلُقه
ودينه ،ولو كان عنده غري رضاً ملا زوجه.
ويف تأكيد زواج عمر من ابنة اإلمام علي ،قال احلافظ أبو عبد هللا العلوي
قال حممد بن منصور املرادي :ثبت عندنا أن عمر خطب إىل علي صلى هللا
عليه ابنته من فاطمة فزوجه إياها.
وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي :أن زيداً ورقية من أبناء عمر بن اخلطاب،
عمر بنت علي.
وأمهما أم كلثوم بنت علي .وقال يف موضع آخر :وتزوج ُ
وقال الشيخ الفقيه حممد بن حيىي هبران« :مجيع ذلك (يعين زواج عمر من
ابنة علي) مشهور ،والذي يقال :من أنه مل يدخل هبا وأنه أكره علياً أن يعقد له
هبا ،وحنو ذلك مما ال أصل له ،وإمنا هو من حشو الرافضة».
وذكر شيخنا السيد جمد الدين املؤيدي أن ْتزويج أم كلثوم من عمر وقع بال
ريب ،وأن علي رضي به قطعاً مؤكداً «أن القول بعدم رضاه فيه من الفضاضة
وانتهاك احلرمة ،ونقص الدين واملروءة ،أعظم وأطم من عدم الكفاءة املدعاة.
وتوفيت هي وولدها زيد بن عمر يف وقت واحد».
وذكر اإلمام أحد بن عيسى ،واإلمام املؤيد باهلل عن اإلمام احلسن بن علي
أن علياً ،نقل ابنته أم كلثوم ملا قتل عمر ،وأمرها فحجت يف عدهتا.
وذكر اإلمام املرشد باهلل حيىي بن احلسني الشجري أن أم كلثوم الكربى بنت
علي ولدت لعمر بن اخلطاب.
ذلك ٌهو ٌاملوقف ٌالعام ٌلإلمام ٌيلع ٌممن ٌتودمه ،قد روي من طرق خمتلفة،
الزيدية
واحتفت به خمتلف املصادر اإلسالمية ،وذلك ما ُعرف عن أئمة َّ
الصحابة عند الزيدية 114
كانت احلنفيَّة أم ولده حممد من سبايا أهل الردة .واملشهور من حال عمر رضي
هللا عنه مشاورته ،والتعويل عليه يف املهمات ،والرجوع إليه يف املعضالت».
* وأكد اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى «أنه قد تواتر لنا عن علي عليه
السالم والصاحلني من ذريته معاملتهم إياهم معاملة املؤمنني اخللص يف تروك
وأفعال وأقوال وهم أهل احلق ،فكيف يكون من مل يكن له حق عندهم أشد
غضباً عليهم؟!».
* وقال اإلمام عز الدين بن احلسن« :ليعلم الناظر أن أمري املؤمنني واألفاضل
من أئمة أوالده عليهم السالم ال يكفرون أحداً من الصحابة وال يفسقوهنم ،مع
خمالفتهم للنصوص الواردة يف إمامة أمري املؤمنني ،فثبت أن خمالفتهم هلا عندهم
ال تقطع مواالهتم وال تبطلها».
* وقال القاضي عبدهللا النجري« :وقد كان علي يعظمهم ،ويغزو معهم،
ويصلي خلفهم ،ويأخذ نصيبه من اخلمس ،ويقول فيهم خرياً».
* ونظم السيد صارم الدين الوزير موقف اإلمام علي ،فقال يف (البسامة):
س ـ ـ ـ ـ ـوابقاً وهو بالصـ ـ ـ ـ ــرب اجلميل حري وما رأى صـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرمهم رأياً ألن هلم
وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامح القوم يف أمر أتوه فري أغ ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى وجامل فاخرتنا جماملة
ومـ ــا تعـ ــدى إىل س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب وال هـ ــذر وقـ ــد جترم منهم يف الـ ــذي فعلوا
جتــرمـ ـ ـ ـاً ورضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً م ـن ـ ـ ــا ع ـلــى األثــر وحني رضـَّى رضــينا ما ارتضــاه لنا
أو قف عن السب إما كنت ذا حذر فرض عنهم كما رضَّى أبو حسن ِ
ومجيع ما تقدم ال يتعارض مع الروايات اليت تشري إىل أن اإلمام علياً مل يكن
راضياً عما جرى يف اجتماع السقيفة ،وال بالطريقة اليت متت هبا بيعة كل واحد
صحح من ذلك من اخللفاء قـْبـله ،وأنه كان يرى لنفسه حقاً يف اخلالفة؛ ألن ما ُ
الصحابة عند الزيدية 116
مل خيرج عن حد العتب املعتاد ،ومل يتجاوز االعرتاض والتعبري عن املوقف بالطرق
املشروعة ،ومن ذلك:
* ما روى البخاري ومسلم وابن حبان وغريهم عن عائشة أن علياً مل يبايع
أبا بـكر إال بعد ستة أشهر .وهذا احتجاج عملي؛ إذ لو كان يشعر بالرضا التام؛
لما تأخر عما سبقه إليه غريه من املسلمني ،مهما كانت الظروف.
وجاء يف الرواية نفسها أن علياً قال أليب بـكر« :إننا مل ننفس عليك خرياً
ساقه هللا إليك ،ولكنا نرى لنا يف هذا األمر نصيباً ،فاستبددت به علينا ،فوجدنا
يف أنفسنا».
* وروى ابن شبَّة والطربي وابن األثري أن عبد الرحن بن عوف طلب من
علي البيعة على الكتاب والسنة وسرية الشيخني!! فقال علي :بل على كتاب
هللا وسنة رسول هللا وأجتهد رأيي .فعدل عنه إىل عثمان ،وقال له مثلما قال
لعلي ،فقبل عثمان فبايعه عبد الرحن ،وملا رفع عبد الرحن يد عثمان مبايعاً قال
علي :ليس هذا أول يوم تظاهرمت فيه علينا ،فصرب مجيل وهللا املستعان على ما
تصفون.
وتذكر بعض الروايات أن اإلمام علي بايع عثمان بن عفان وهو يقول:
«خدعة وأميا خدعة!».
* ويف االجتاه نفسه جاء يف (هنج البالغة) أن اإلمام علي قال يف خطبـة له:
«أما وهللا لقد تقمصها فالن ،وإنه ليعلم أن حملي منها حمل القطب من الرحى،
ينحدر عين السيل ،وال يرقى إيل الطري ،فسدلت دوهنا ثوباً ،وطويت عنها
ك ْشحاً ،وطفقت أرتئي بني أن أصول بيد ج َّذاء ،أو أصرب على ط ْخية ع ْمياء،
الصغري ،ويكدح فيها مؤمن حىت يلقى ربه .فرأيتيـ ْهرم فيها الكبري ،وي ِشيب فيها َّ
117 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
أن الصرب على هاتا أحجى ،فصربت ويف العني قذى ،ويف احللق شجا ،أرى
تراثي هنباً.
حىت مضى األول لسبيله ،فأدىل هبا إىل فالن بعده ،فيا عجباً! بينا هو
يستقيلها يف حياته ،إذ عقدها آلخر بعد وفاته! لشد ما تشطرا ضرعيها! فصربت
على طول املدة ،وشدة احملنة ،حىت إذا مضى لسبيله جعلها يف مجاعة زعم أين
يف مع األول منهم ،حىت صرت أحدهم .فياهلل وللشورى! مىت اعرتض الريب َّ
ِ
أُقْـرن إىل هذه النَّظائر! لكين أسف ْفت إذ أسفوا ،وطرت إذ طاروا ،فصغى ٌ
رجل
منهم ِ
لض ْغنه ،ومال اآلخر لصهره ،مع هن وهن.
صحة الروايات املذكورة يف (هنج البالغة) أو غريه ،فهي إىل جانب ما تقدم من
روايات خمتلفة املصادر والدالالت ترشد إىل جممل موقف اإلمام علي جتاه
اخللفاء.
فقد روى اإلمام عبد هللا بن حزة أن معاوية كتب رسالة إىل اإلمام علي أثىن
فيها على اخللفاء الثالثة واهتمه فيها حبسدهم والتمرد عليهم .فرد عليه اإلمام:
«لعمري إن مكاهنم يف اإلسالم عظيم ،وذكرت أن عثمان كان يف الفضل ثالثاً،
فإن كان حمسناً فسيلقى رباً شكوراً ،يضاعف له احلسنات ،وجيزيه الثواب العظيم،
وإن يك مسيئاً فسيلقى رباً غفوراً ال يتعاظم ذنب يعفوه» .وعقب بقوله« :فهذا
رأي علي يف أيب بـكر وعمر وعثمان ،فهل علمت أيها السامع أنا زدنا على قوله
حرفاً أو نقصناه ومعاذ هللا».
ونتيجة لسوء التفكري وحية العصبية وقع أكثر اإلمامية واجلارودية فيما أراد
خصوم اإلمام علي من التشكيك يف موقف اإلمام علي جتاه اخللفاء ،فمارسوا
تشيعهم ،ولكن وفق منهج معاوية.
َّ
أماٌالزيديةٌفكانوا أكثر حذراً؛ إذ مل ِ
يقصروا يف بيان سالمة موقف اإلمام
علي من اخللفاء ،وكيف أنه اقتصر على النَّقد واملؤاخذة دون سب وجتريح .على
قاعدة أهنم بشر يصيبون وخيطئون ،وأن ليس كل خطأ كبرية.
الصحابة عند الزيدية 120
* فأكد اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين« :إن أمري املؤمنني مل
يصدر من جهته رمي ملن تقدمه بكفر وال فسق ،مع خمالفتهم له يف اإلمامة».
وتوسع اإلمام حيىي بن حزة يف شرح سالمة موقف اإلمام علي من اخللفاء،
وضمن كتبه نقال كثرياً عنه.
َّ
* وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى« :فاعلم أنه مل يُسمع عن أحد
من أمة حممد نقل عن علي عليه السالم وال عن احلسنني وإخوهتما واألئمة من
أوالدمها سباً صرحياً ،أو ذماً صرحياً فاضحاً ألحد من اخللفاء الثالثة».
الزيدية أبو القاسم البسيت بأنه «مل يتواتر عن علي عليه السالم
* وجزم شيخ َّ
وأوالده الرباءة منهم».
* وأجاب اإلمام عبد هللا بن حزة من سأله عن حكم املشايخ؟ فقال« :لنا
أقدموا ،وحنجم حيث أحجموا، ِ
أئمة نرجع إليهم يف أمور ديننا ،ونـُ ْقدم حيث ُ
وهم :علي وولداه عليهم أفضل السالم واحلادث عليهم وغضبنا فيهم ،ومل نعلم
الصحابة وال لعنه وال شتمه ،ال يف مدة حياهتم ،وال
سب أحداً من َّ
أحداً منهم َّ
بعد وفاهتم».
وقال أيضاً« :إنا نعلم أن علياً عليه السالم مل يكن يعاملهم معاملة الفاسق
واملنافق ،بل يعاتبهم ،وينعي عليهم أفعاهلم ،وال يسبهم ،وال نعلم منه الرباءة
منهم ،كما كان يظهر الرباءة من الفساق واملنافقني».
وخلُص إىل «أ َّن أمري املؤمنني هو القدوة ،ومل يُعلم من حاله ُ
لعن القوم وال التربؤ
ص ِ ِ
منهم ،وال تفسي ُقهم ،وهو قدوتنا ،فال نزيد على حده الذي وصل إليه ،وال ننق ُ
شيئًا ،ألنَّه إمامنا وإمام املتقني ،وعلى املأموم اتباع آثار إمامه ومقاله ،فِإ ْن تعدى
خالف وظلم».
121 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
وهبذا يتضح أن موقف اإلمام علي بن أيب طالب كان موقفاً طبيعياً ،يتسم
مبراعاة حق ذوي الفضل والسبق ،مهما كانت املالحظات عليهم.
اإلمامين السبطين الحسن والحسين
مل خيتلف موقف أبناء علي وأهل بيته عن موقفه جتاه اخللفاء الراشدين ،ومما
روي عن اإلمامني احلسن واحلسني:
( )1ما ذكر القاضي حييي بن احلسن القرشي أنه ُروي عن احلسن واحلسني
املواالة للخلفاء واملناصرة هلم واملدح ،وإظهار القول اجلميل ،ومل يرو أحد من
أهل النقل أهنما أساءا القول يف اخللفاء.
( )2ذكر الشهيد حيد احمللي رسالة للحسن بن علي ،إىل معاوية بن أيب
سفيان جاء فيها« :وقد تعجبنا لتوثب املتوثبني علينا يف حقنا وسلطان نبينا
صلى هللا عليه وآله وسلم وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة يف اإلسالم؛ فأمسكنا
عن منازعتهم خمافة على الدين أن جيد املنافقون واألحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه
به ،أو يكون هلم بذلك سبب ملا أرادوا به من فساده».
( )3ذكر احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني بن القاسم أن علياً واحلسن واحلسني
كانوا يرضون على الشيخني أيب بـكر وعمر.
( )4استدل اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى؛ على سالمة موقف
احلسنني من اخللفاء ،بِعِدَّة روايات:
األوىل :ما رواه اإلمام حيىي بن حزة يف كتاب (التحقيق) عن احلسن بن علي
أنه قال :لقد أمر رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أبا بـكر أن يصلي بالناس
وإين ملشاهد ،فرضينا لدنيانا من رضيه رسول هللا لديننا.
الصحابة عند الزيدية 122
الثانية :ما رواه الشيخ أبو القاسم البسيت أن احلسن بن علي رضي هللا عنهما
كتب إىل أهل البصرة كتاب الدعوة وترحم على أيب بـكر وعمر ،مث قال :إن هللا
بعث حممداً ،وكان الناس على ضاللة ،فهدى به اخللق مث قبضه ،وحنن أحق
الناس مبكانه ،غري أن قوماً تقدمونا واجتهدوا يف طلب احلق ،فكففنا عنهم حترماً
عنهم إلطفاء نار الفتنة ،حىت حدث قوم غريوا وبدَّلوا.
الثالثة :ما رواه اإلمام حيىي بن حزة أن عمر ملا وضع الديوان وفرض العطاء
للمهاجرين واألنصار ،فرض للحسن واحلسني نصيباً جزالً ،وفرض لولده عبد هللا
أقل من أحدمها ،فقال عبد هللا ألبيهِ :مل فرضت حقي دون حقهما؟ فقال له:
«ائتين بأب مثل أبيهما وجد مثل جدمها وأم مثل أمهما» .قال اإلمام حيىي:
وهذه مقالة من ليس بينه وبينهم عداوة وال بغضاء.
وأماٌماٌروىٌالسيدٌَحيدان عن اإلمام احلسن أنه ذكر يف خطبته بعد مهادنته
معاوية :أن الذي أجلأه إىل املهادنة هو الذي أجلأ النيب صلى هللا عليه وآله وسلم
إىل دخول الغار ،وأجلأ أمري املؤمنني إىل مبايعة أيب بـكر .فليس فيه سباب وال
يدل على براءة ،وإمنا أراد أن يبني للناقمني عليه بسبب الصلح أن مثَّ مواقف
يفرضها الواقع ،كما هو حال من سبقه من أهل بيته ،والعمل مبا تقتضيه مصلحة
الدين هو منهج املؤمنني.
اإلمام زين العابدين علي بن الحسين (94هـ)
الزيدية أبو القاسم البسيت أن اإلمام علي بن احلسـني زين ( )1روى شيخ َّ
العابـدين سع رج ـالً يسب أبا بـكر وعمر رضي هللا عنهما ،فقال له« :هل أنــت
َ ْ َ ً ََْ ح ح َ ْ َ ْ ََ ْ َ ْ َ ْ َ ح َ َ ْ ً َّ َ ح ْ ح
ون ٌاهللٌ
ْص ٌ ل ٌم ٌَ
ِن ٌاهلل ٌو ِرضوانا ٌوين ون ٌفض ٌ
اره ٌِم ٌوأموال ِِه ٌم ٌيبت ٌغ ٌ
ِ ِي
د ٌ ٌ
ِنم ٌ وا ج من ﴿اَّل ٌ
ِين ٌأخ ِر
َّ ح َ َ َ ح َح ح َ َ ح
ون﴾ [الحشر]8/؟ يعين :املهاجرين .فقال الرجل :ال .قال: ِك ٌه حٌم ٌالصادِق ٌ ول ٌأوَل ٌ
ورس ٌ
123 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
َّ َ َ َ َّ ح َّ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ ح ُّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ح َ
ونٌ
َيد ٌ الٌ ِنٌهاج ٌرٌإِِل ِه ٌمٌ ٌو ٌ ونٌم ٌ ِنٌققل ِِه ٌمٌحيِق ٌ
انٌم ٌ اإليم ٌ
ارٌو ِ
ِينٌتقوُواٌال ٌ فهل أنت من ﴿اَّل ٌ
ْ َ َ ً َّ ح ح َ ح ْ ح َ َ َ َ ْ ح ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ح َ ح َّ َ ْ ح ح
س ٌِهٌحٌن ٌف ِ وقٌش ٌنٌي ٌ نٌب ِ ِه ٌمٌخصاصةٌٌوم ٌ َعٌأنف ِس ِه ٌمٌول ٌوٌاك ٌ
ونٌ ٌ
فٌصدورِه ٌِمٌحاج ٌةٌمِماٌأوتواٌويؤث ِر ٌ ٌِ
َح َ َ ح ح ح ْ ح َ
ون﴾ [الحشر]9/؟ يعين :األنصار .قال الرجل :ال .قال اإلمام :إذا الـمفلِح ٌ ِكٌه ٌمٌ ٌ
فأوَل ٌ
ْ َْ ِينٌ َج ح َّ
ِنٌبع ِده ٌِْمٌ اُواٌم ٌ مل تكن من هؤالء وال هؤالء؛ فأنا أشهد أنك لست من ﴿ َواَّل ٌَ
ح ح َ ا َّ َ َ ح َ ح ح َ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ
ِينٌآمنواٌ ِل ٌٌل ِذل ٌ
ف ٌقلوبِنا ٌغ ٌ لٌ ِ ٌ
ال ٌَتع ٌانٌو ٌ
اإليم ٌِ ون ٌربنا ٌاغ ِف ٌر ٌنلا ٌو ِ ِإلخوان ِناٌاَّل ٌ
ِين ٌسقوونا ٌب ِ ِ يوول ٌ
َّ َ َّ َ
كٌ َر حُوفٌٌ َرحِيمٌ﴾ [الحشر.»]10/ َربناٌإِن ٌ
حنيفة تزويج علي ابنته أم كلثوم بنت فاطمة من عمر ،مشرياً إىل أنه لو مل يكن
هلا أهالً ملا زوجه إياها ،فقال له أبو حنيفة :لو كتبت إليهم؛ فقال :ال يطيعونين
بالكتب.
( )2عن جابر اجلعفي قال ،قال يل حممد بن علي الباقر يا جابر بلغين أن
قوماً بالعراق يزعمون أهنم حيبوننا ويتناولون أبا بـكر وعمر ،ويزعمون أين أمرهتم
بذلك فأبلغهم أين إىل هللا منهم برئ؛ والذي نفس حممد بيده لو وليت لتقربت
إىل هللا بدمائهم ال نالتين شفاعة حممد إن مل أكن أستغفر هلما وأترحم عليهما.
( )3عن كثري النواء ،قال :سألت أبا جعفر حممد بن علي الباقر ،عن أيب
بـكر ،وعمر ،فتوالمها أبو جعفر ،قلت :إهنم يزعمون أن هذا ،منكم تقية ،فقال:
إمنا خياف األحياء وال خياف األموات ،فعل هللا هبشام بن عبد امللك كذا وكذا.
( )4وعن جابر ،قال :سألت أبا جعفر الباقر :هل كان أحد من أهل البيت
يسب أبا بـكر وعمر؟ قال :معاذ هللا ،بل يتولوهنما ،ويستغفرون هلما ،ويرتحون
عليهما.
سألت أبا جعفر حممد بن علي عن ( )5وعن عيسى بن دينار املؤذن ،قالُ :
أىب بـكر وعمر؟ فقال :مسلمني رحهما هللا؟ فقلت له :أتوالمها وأستغفر هلما؟
فقال :نعم .قلت :أتأمرين بذلك؟ قال :نعم ثالثاً ،فما أصابك فيهما فعلى
عاتقي ،وقال بيده على عاتقيه ،وقال :كان علي بالكوفة خس سنني ،فما قال
هلما إال خرياً ،وال قال هلما أيب إال خرياً ،وال أقول إال خرياً.
( )6وعن كثري بن إساعيل النَّواء ،قال :قلت أليب جعفر حممد بن علي:
جعلين هللا فداك ،أرأيت أبا بـكر وعمر ،هل ظلماكـم من حقكم شيئاً؟ أو قال:
الصحابة عند الزيدية 126
ذهبا من حقكم بشيء ،فقال :ال ،والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعاملني
نذيراً ،ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل ،قلت :جعلت فداك أفأتوالمها؟
قال :نعم؛ وحيك ،توهلما يف الدنيا واآلخرة ،وما أصابك ففي عنقي ،مث قال:
فعل هللا باملغرية وبنان ،فإهنما كذبا علينا أهل البيت.
( )7عن حممد بن إسحاق ،عن أيب جعفر حممد بن علي قال :من مل يعرف
فضل أيب بـكر وعمر فقد جهل السنة ،بغض أيب بـكر وعمر نفاق ،وبغض
األنصار نفاق.
( )8وعن بسام بن عبد هللا الصرييف ،قال :سألت أبا جعفر قلت :ما تقول
يف أيب بـكر وعمر؟ فقال :وهللا إين ألتوالمها وأستغفر هلما ،وما أدركت أحداً من
أهل بييت إال وهو يتوالمها.
( )9وعن حكيم بن جبري ،قال :سألت أبا جعفر عمن ينتقص أبا بـكر
وعمر؟ فقال :أولئك املراق.
( )10وعن جابر اجلعفي ،عن حممد بن علي ،قال :أمجع بنو فاطمة عليهم
السالم على أن يقولوا يف أيب بـكر وعمر أحسن ما يكون من القول.
( )11عن عروة بن عبد هللا اجلعفي ،قال :سألت أبا جعفر حممد بن علي،
ما قولك يف حلية السيف؟ قال :ال بأس به ،قد حلى أبو بـكر الصديق رضي
هللا عنه سيفه ،قلت :وتقول :الصديق؟ قال :فوثب وثبة استقبل القبلة ،مث قال:
نعم ،الصديق ،فمن مل يقل له الصديق فال صـدق هللا قوله يف الـدنيا وال يف
اآلخرة.
( )12وعن سامل بن أيب اجلعد ،قلت :يا أبا عبد هللا أكان أبو بـكر أول القوم
127 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
إسالماً؟ قال :ال .فقلت :فبأي شيء عال وسبق حىت ال يذكر أحد غريه؟ قال:
ألنه كان خريهم إسالما ،يوم أسلم ،مث مل يزل كذلك حىت قبضه هللا على ذلك.
( )13وعن سامل بن أيب حفصة قال سألت أبا جعفر وجعفراً ،عن أيب بـكر
وعمر فقاال توالمها وابرأ من عدومها فإهنما كانا إمامي هدى.
( )14عن سفيان الثوري عن جعفر بن حممد قال ،قال يل أيب يا بين إن سب
أيب بـكر وعمر من الكبائر فال تصل خلف من يقع فيهما.
( )15وروى القاضي جعفر بن أحد أن الكميت بن زيد وكان من رجال
الشيعة أنشد بني يدي الباقر قصيدته اليت منها:
أبــان لــه الواليـة لو أطيعــا ويوم الدوح دوح غدير ُخم
فلم أر مثلها خطراً مبيعا ولكن الرج ـ ـ ــال تب ـ ـ ــايعوهـ ـ ــا
أســاء بذاك أوهلم صــنيعا ومل أبلغ هبم لعنـ ـ ـ ـاً ولكن
فلم ينكر عليه الباقر ،ومل يؤاخذه يف ذلك .وهو القائل أيضاً:
ألوم يوماً أبا بـكر وال عمرا أهوى علياً أمري املؤمنني وال
بن ــت النيب وال مرياث ــه كفرا
وال أقول وإن مل يعطيا فدكاً
مورد خمتلف آخر روى السيد حيدان عنه ،أنه ذكر يف مناظرته للحروري ويف و
أن الشيخني مغتصبان ملوضع قربيهما من دار رسول هللا صلى هللا عليه وآله.
ولكـن تلك الرواية ليس هلا أصل يف كتب الزيدية ،وفيها من اجلهالة ما ننزه
اإلمام حممد الباقر عن مثله ،إذ ال يصح القول بأن امليت يغتصب شيئاً بعد موته
وينسب إليه ذنبه ،ومل يرو أن علياً اعرتض على دفنهما جوار أبيها.
الصحابة عند الزيدية 128
انطلقوا بعده إىل رجل ظنوا به اخلري ،وظنوا أنه سيجري جمرى صاحبيه ،فمكثوا
زماناً مث نقموا عليه.
( )7وعن فضيل بن مرزوق قال :قال زيد بن علي« :أما أنا فلو كنت مكان
أيب بـكر رضي هللا عنه؛ حلكمت مبثل ما حكم به يف فدك» .ويف رواية قيل لزيد
بن علي :إن أبا بـكر انتزع من فاطمة فدك ،فقال :إنه كان رحيماً ،وكان يكره
أن يغري شيئاً تركه رسول هللا ،فأتته فاطمة فقالت له :إن رسول هللا أعطاين فدك،
فقال :هل لك بينة؟ فشهد هلا علي وأم أمين ،فقال هلا :فربجل وامرأة
لقضيت بقضاء أيب بـكر.
ُ األمر فيها إيل
تستحقينها؟! مث قال زيد :وهللا ،لو رجع ُ
( )8وعن حممد بن سامل ،قال :كان عندنا زيد بن علي ،فذكر أبا بـكر،
فجاء بعض االعرتاض ،فقال زيد :مه يا حممد بن سامل لو كنت حاضراً ما كنت
تصنع؟ قلت :كنت أصنع كما صنع علي .قال :فارض مبا صنع علي.
( )9وعن السدي قال أتيت زيد بن علي وهو يف بارق -حي من أحياء
الكوفة – فقلت :أنتم سادتنا وأنتم والة أمرنا ،ما تقول :يف أيب بـكر وعمر؟ قال
توهلما.
( )10وعن هاشم بن الربيد ،عن زيد بن علي ،قال :أبو بـكر الصديق إمام
الشاكرين مث قرأ وسيجزي هللا الشاكرين.
( )11ويف زمنه كان بعض املتحمسني يثري عواطف الشيعة حبكاية روايات
تشري إىل أن فاطمة الزهراء تعرضت للضرب من عمر بن اخلطاب ،فقال له سلمة
بن كهيل :يا أبا احلسني ،إن الناس يزعمون أن فاطمة لُ ِطمت .قال اإلمام زيد:
كانت أكرم على أهلها من ذلك يا أبا حيىي.
131 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
وذلــك ٌما ٌعرفه ٌعلماُ ٌوأئمة ٌ َّ
الزيدية عن إمامهم ودونوه يف كتبهم ،حىت
صار جزءا من ثقافة أبنائهم.
وعن ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة« :روي أن اإلمام زيد بن علي عليه
السالم كان كثري الثناء على الشيخني أيب بـكر وعمر والرتحم عليهما ،وينهى
عن سبهما ،ويعاقب على ذلك».
وأضاف« :واملشهور أن بعض الناس (الرافضة) قالوا :ال نبايعك حىت تربأ من
الشيخني فقال :كيف أتربأ منهما ومها صهرا جدي وصاحباه ووزيراه؟ وجعل يثين
عليهما ،فرفضوه».
الزيدية
* وقال احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني بن القاسم« :اجلمهور من َّ
يذهبون إىل القول مبقالة زيد بن علي من الرتضية والوالء هلم» .يعين اخللفاء.
الزيدية زيد بن علي ثبتت* وذكر يف ترمجة حممد بن حيىي القاسي «أن إمام َّ
عنه الرتضية عليهم بل ثبت عن علي عليه السالم أيضاً الرتضية عليهم ،وأئمة
الزيدية أكثرهم قائل بذلك».
َّ
نشأةٌالرافضةٌوموقفٌاإلمامٌزيدٌمنهمٌ
يذكر املؤرخون أن اإلمام زيد ملا مجع أنصاره ورتب صفوفه ،جاءه نفر ممن
يدعون الشيُّع ألهل البيت ،فقالوا له« :ما قولك يف أيب بـكر وعمر؟ قال :رحهما
هللا وغفر هلما ،ما سعت أحداً من أهل بييت يتربأ منهما ،وال يقول فيهما إال
خرياً .قالوا :فلم تطلب إذاً بدم أهل هذا البيت ،إال أن وثبا على سلطانكم،
فـنزعاه من أيديكم! فقال هلم زيد :إن أشد ما أقول فيما ذكرمت :إنا كنا أحق
بسلطان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من الناس أمجعني ،وإن القوم
الصحابة عند الزيدية 132
استأثروا علينا ،ودفعونا عنه ،ومل يبلغ ذلك عندنا هبم كفراً ،قد ولوا فعدلوا .قالوا:
فإذا كان أولئك مل يظلموكم فلم تدعونا إىل قتال هؤالء؟ فقال :إن هؤالء ظاملون
لكم وألنفسهم ،وإمنا ندعوكم إىل :كتاب هللا عز وجل وإىل السنن أن ُحتىي ،وإىل
البدع أن تطفأ .فلم يلتفتوا إىل كالمه وفارقوه ،ونكثوا بيعته ،وقالوا :سبق اإلمام،
وجعفر بن حممد إمامنا بعد أبيه ،وهو أحق باألمر ،وال نتبع زيداً ،وليس بإمام.
فسماهم اإلمام زيد بن علي« :رافضة».
وروى أبو العباس احلسين أن اإلمام زيد قال هلم« :اختاروا؛ إما أن تقاتلوا
معي وتبايعوين على ما بويع عليه علي واحلسن واحلسني ،أو تعينوين بسالحكم
وتكفوا عين ألسنتكم».
وهذا هو املشهور يف سبب تسمية "الرافضة" منذ القرون األوىل ،فقد ُسئل
عيسى بن يونس بن أيب إسحاق 187( -هـ) وهو أحد الرواة املعتمدين عند
الزيدية -عن الرافضة والزيدية ،فقال :أما الرافضة فأول ما ترفضت ،جاؤوا إىل
زيد بن علي حني خرج ،فقالوا :تربأ من أيب بـكر وعمر حىت نكون معك .فقال:
بل أتوالمها وأبرأ ممن تربأ منهما .قالوا :فإذن نرفضك .فسميت الرافضة .قال:
الزيدية فقالوا :نتوالمها ونربأ ممن يتربأ منهما .فخرجوا مع زيد ،فسميت:
وأما َّ
الزيدية».
« َّ
وبذلك جزم عالمة اليمن نشوان بن سعيد احلمريي وهو من علماء الزيدية
يف القرن السادس ،فقال« :إن الرافضة سيت بذلك لرفضهم زيد بن علي بن
احلسني ،وتركهم اخلروج معه ،حني سألوه الرباءة من أيب بكر وعمر ،فلم جيبهم
على ذلك.
وأكده اإلمام عبد هللا بن حزة حينما ذكر «أن من طلب من زيد بن علي
133 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
ملا ظهر زيد بن علي عليه السالم دعا الناس إىل نصرة احلق ،فأجابته الشيعة،
وكثري من غريها ،وقعد قوم عنه وقالوا له :لست أنت اإلمام!! قال :فمن هو؟
قالوا :ابن أخيك جعفر .قال هلم :إن قال جعفر أنه اإلمام فقد صدق ،فاكتبوا
إليه وسلوه .قالوا :الطريق مقطوع وال جند رسوالً إال بأربعني ديناراً .قال :هذه
أربعون ديناراً فاكتبوا وأرسلوا إليه.
فلما كان من الغد أتوه فقالوا :إنه يُداريك .قال :ويلكم إمام يداري من غري
بأس ،أو يكتم حقاً ،أو خيشى يف هللا أحداً؟! فاختاروا مين أن تقاتلوا معي
وتبايعوين على ما بويع عليه علي واحلسن واحلسني عليهم السالم ،أو تعينوين
بسالحكم وتكفوا عين ألسنتكم .قالوا :ال نفعل .قال :هللا أكرب ،أنتم وهللا
«الروافض» الذي ذكر جدي رسول هللا ،قال :سيكون من بعدي قوم يرفضون
اجلهاد مع األخيار من أهل بييت ،ويقولون :ليس عليهم أمر مبعروف وال هني عن
منكر ،يقلدون دينهم ويتبعون أهواءهم.
وهذه رواية جيدة النَّقل وليس فيها ما يتعارض مع الرواية السابقة؛ ألن غاية
أمرها أن بعض الرواة اقتصر على ذكر بعض التفاصيل وأمهل بعضها.
وأنا أعتقد أن رفض القوم نصرة اإلمام زيد ليس بسبب املوقف من الشيخني
فقط ،بل ألسباب أخرى ،ويف ذلك قال احلافظ أبو عبد هللا احلسين العلوي:
قرأت يف كتاب أحد بن بشار الثوري خبطه وكان ثقة فاضالً :قال أبو جعفر
حممد بن منصور :قرأت على القاسم بن إبراهيم هذا الكالم :سألت أيب -رحة
هللا عليه -يوماً ِمل سيت الرافضة بالرفض ،وِمل نسبت إىل ما نسبت إليه من
الشنآن آلل رسول هللا والبغض؟ قال :سيت الرافضة لرفضها آل رسول هللا كلهم،
والختيارها برأيها وأهوائها إماماً منهم ،وليس بأعلمهم وال أفضلهم» .مث استطرد
يف الرد على مذهبهم يف اإلمامة.
135 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
ورد الشيخ ابن تيمية على من زعم أن هذا اللقب أطلق على الرافضة لرفضهم
إمامة أيب بـكر فقال« :الصحيح أهنم سوا رافضة ملا رفضوا زيد بن علي؛ ملا خرج
بالكوفة أيام هشام بن عبد امللك».
وأياً كان سبب تسمية الرافضة ،فقد ختلوا عن نصرة اإلمام زيد ،يف حني
ناصره العلماء من خمتلف طوائف املسلمني ،حىت قال اإلمام أبو طالب حيىي بن
احلسني اهلاروين (424هـ)« :اجتمع طوائف الناس ،على اختالف آرائهم ،على
مبايعته ،فلم يكن الزيدي أحرص عليها من املعتزيل ،وال املعتزيل أسرع إليها من
املرجي ،وال املرجي من اخلارجي ،فكانت بيعته عليه السالم مشتملة على فرق
األمة ،مع اختالفها ،ومل يشذ عن بيعته إال هذه الطائفة القليلة التوفيق ،اليت
قطعت من حبل أهل البيت ما أمر هللا تعاىل به أن يوصل ،وفرقت بني عرتة نبيه
صلى هللا عليه وآله يف املوضع الذي أمر هللا تعاىل باجلمع فيه ،وانتسبت إىل
مواالة أهل البيت عليهم السالم قوالً ،وهي بعيدة عنها عقداً وفعالً» .مث ذكر
أن «قوهلم يف أهل البيت أسوأ من قول النواصب واحلشوية ،وأهنم يدعون ورود
النص من غري حجة وال برهان» .مث أطال يف الرد عليهم يف اإلمامة.
وقال شيخنا السيد جمد الدين املؤيدي عند ذكر اإلمام زيد« :مل يفارقه إال هذه
الفرقة الرافضة اليت ورد اخلرب الشريف بضالهلا .وسبب مفارقتهم له مذكور يف كتاب
معرفة هللا لإلمام اهلادي إىل احلق ،وغريه من مؤلفات األئمة واألمة ،فإن األمة
أمجعت على أن الرافضة هم الفرقة الناكثة على اإلمام زيد بن علي ،ولكنها اختلفت
الروايات يف سبب نكثهم عليه ،وأهل البيت أعلم هبذا الشأن ،واقتدت هذه الفرقة
بسلفها املارقة احلرورية ،كما قال اإلمام زيد بن علي :اللهم اجعل لعنتك ولعنة آبائي
وأجدادي ولعنيت على هؤالء القوم الذين رفضوين ،وخرجوا من بيعيت ،كما رفض
أهل حرْوراء علي بن أيب طالب عليه السالم ،حىت حاربوه».
الصحابة عند الزيدية 136
ّ ْ َ َّ
َتلفٌالرافضةٌوتسويغٌاجلاروديةٌ
سيأيت مبحث خاص بالكالم عن اجلارودية ،ولكنين سوف أشري هنا إىل ما
يورد اجلاروديون من تسويغ ومترير ملوقف الرافضة ،وتأويل لكالم اإلمام زيد جتاه
الشيخني ليبدو موقفه منسجماً مع رأيهم.
ومن ذلك أهنم يقولون :إن اإلمام زيد «نسب ما أصابه من ظلم هشام إىل
الشيخني؛ ألجل كوهنما أول من سن ظلم العرتة ،والتقدم على األئمة .وقالوا:
إنه ُسئل عن أيب بـكر وعمر ،قبل الدخول يف املعارك مع جند األمويني ،فسكت
ومل جيب ،وبعد أن أصيب ،طلب م ْن سأله عن الشيخني ،مث قال له" :مها قتالين
مها صلباين"».
وهذه الرواية مما كنت أسعه من بعض مشاخينا الذين يتبنون رأي اجلارودية يف
هذه املسألة ،وكنت أتلقاها بالقبول كغريي من الطالب الذين نادراً ما يرتددون
يف تـقبُّل ما ميلي عليهم مشاخيهم ،وحينما حبثت عن صحتها ألعزز بذلك ما
صار جزءاً من معرفيت؛ تفاجأت بأهنا ال تُروى يف كتب الزيدية من طريق معتربة
ميكن الوثوق هبا.
وبعد مراجعات عدة خلصت إىل أن املتخلفني عن نصـرة اإلمام زيد أرادوا
التخلص من العار الذي حلقهم بسبب خذالنه؛ فاخرتعوا تلك احلكاية ،ليحملوه
أقر بصحة ما ذهبوا إليه ،وأنه هو
مسؤولية تقصريهم ،حبجة أنه اإلمام زيد قد َّ
من أخطأ يف عدم اإلفصاح عن موقفه جتاه الشيخني ،الذي عدوه سبب تأخرهم
عن نصرته.
حل به إىل
ويؤكد عدم صحة تلك احلكاية ،وما يُروى فيها من أنه نسب ما َّ
أيب بكر وعمر؛ عدة أمور ،منها:
137 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
.1أن أئمة الزيدية املتقدمني كاإلمام القاسم الرسي (246هـ) ،واإلمام اهلادي
حيىي بن احلسني (289هـ) وغريمها ،ذكروا قصة الروافض ،وليس يف شيء
منها أي إشارة لتلك الرواية ،ومل يتعرضوا فيها للشيخني أصالً.
الزيدية؛ الذين اعتنوا بأخبار اإلمام زيد ،كاإلمام أيب
.2أن قدماء مؤرخي َّ
طالب ،واإلمام املرشد باهلل ،وأيب خمنف ،وأيب الفرج األصفهاين ،والشهيد
حيد احمللي ،مل يذكروها .حىت أبو العباس احلسين -املعروف مبوقفه املتحامل
على اخللفاء -مل يذكرها أو يشر إليها يف (املصابيح).
الزيدية وعلماؤهم ،كاحلافظ أحد الكين واإلمام حيىي بن حزة
.3ذكر كبار أئمة َّ
والقاضي القرشي واإلمام املهدي أحد بن حيىي والقاضي يوسف بن أحد
واإلمام عز الدين بن احلسن وغريهم ،ذكروا لإلمام زيد موقفاً واحداً ،ومل
يشريوا إىل تلك الرواية ،ولو جملرد التعقيب عليها ،كما هي عادهتم يف مثل
ذلك
.4أن بعض علماء الزيدية مل يكتفوا باإلعراض عن تلك احلكاية ،بل
استنكروها ،حىت قال العـالَّمة حيىي بن حيد« :لعلها من دسائس الرافضة».
.5مل يتغري موقف أتباع اإلمام زيد وأنصاره وأهله الذين حضـروا مقتله واستمروا
على منهجه ،جتاه الشيخني ،فلو كانوا عرفوا ذلك عنه ألذاعوه وبـيَّنوه ،وملا
ظل أنصاره على موقفهم من أيب بـكر وعمر والرتحم عليهما.
.6تلك العبارة مطبوعة بطابع التقية واملراوغة ،وكتمان احلق عند السؤال عنه
واحلاجة إليه ،ومل يكن اإلمام زيد ممن يظهر التقية يف مثل هذه األمور ،وال
يكتم احلق يف مثل هذه املواقف ،كيف وهو القائل« :وهللا لو علمت أن
رضا اّلِل عز وجل يف أن أقدح ناراً بيدي حىت إذا اضطرمت رميت بنفسي
الصحابة عند الزيدية 138
فيها لفعلت».
ذُكر فيها القتل والصلب ،وهذا يعين أن هذه الرواية لفقت بعد مقتله وصلبه؛
ألن اإلمام زيداً مل يكن يعلم بأنه سيصلب؛ إذ إن ذلك غيب ال يعلمه إال هللا
تعاىل ،ودعوى معرفته ذلك من خرب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،جمرد
أقاصيص ال تروى من مصادر مسندة موثقة.
وخالصة ما أثر عن اإلمام زيد بن علي أنه مل يكن له موقف حاد من اخللفاء
الراشدين ،ومل يثبت عنه ما يتجاوز موقف أهل بيته األئمة املصلحني املمتثلني
حح َ َ ح ح َ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ
فٌقلوبِناٌ
لٌ ِ ٌ
الٌَتع ٌ انٌو ٌ
اإليم ٌِ
ِينٌسقووناٌب ِ ِ قول هللا تعاىل﴿ :يوول ٌ
ونٌربناٌاغ ِف ٌرٌنلاٌو ِ ِإلخوان ٌِناٌاَّل ٌ
ا َّ َ َ ح َّ َ َّ َ
كٌ َر حُوفٌٌ َرحِيمٌ﴾ [الحشر.]١٠/ ِينٌآمنواٌ َربناٌإِن ٌ
ِلٌل ِذل ٌ
غ ٌ
الرد على منتقديه« :إمنا أنا بشر أغضب وأرضى ،فمن ادعى قِبلي حقاً أو مظلمة
فها أنا ذا ،فإن شاء قـوداً وإن شاء عفواً» .وما صح عنه من جتاوزات وأخطاء،
ال تُسقط حقَّه وسابقته ،وال ُخترجه من دائرة اإلميان ،أو جتعله منبوذاً ،أو ُِجتيز
الرباءة منه.
ومما أود أن أنبه عليه هنا أنين كنت قد حققت رسالة ضمن (جمموع كتب
ورسائل اإلمام زيد بن علي) ،وعنونتها بـ(مقتل عثمان) تضمنت نقداً لعثمان،
مل يبلغ درجة السباب والطعن يف دينه ،ومع ذلك لست على ثقة من نسبتها
إىل اإلمام زيد بن علي ،وإمنا وجدهتا ضمن جمموعة رسائل وكتب تنسب إليه،
ومل أبذل ما ينبغي أن يبذل يف التَّحقق من صحة تلك الرسائل .فأرجو أن أمتكن
من مراجعتها والتَّحقق من نسبتها.
وأفرد القاضي حيىي بن احلسن القرشي فصالً يف كتاب (منهاج املتقني) حتدث
فيه عن الشُّبه اليت أثريت حول عثمان وناقشها ،وأثرى ذلك اإلمام عز الدين بن
احلسن يف (املعراج) .وقبلهما تطرق لتلك الشُّبه من الزيدية كل من :أيب القاسم
البُسيت ،واإلمام حيىي بن حزة يف كتابيهما عن التكفري والتفسيق.
ومما حيسن التنبيه عليه أن عموم الشيعة مل يتفردوا بذكر ما نـقم املسلمون
على عثمان -سواء صحت تلك الروايات أو بعضها -بل سبقهم إىل ذلك
السنة؛ كابن سعد والطربي وابن األثري وابن كثري والذهيب
كثري من مؤرخي أهل ُّ
وابن حجر وابن اجلوزي وغريهم.
حىت أن ابن جرير الطربي ذكر أن عائشة ملا «انصرفت إىل مكة وهي تقول:
قتل وهللا عثمان مظلوما ،وهللا ألطلنب بدمه ،فقال هلا ابن أم كالب :ومل؟ فو هللا
إن أول من أمال حرفه ألنت! ولقد كنت تقولني :اقتلوا نعثال فقد كفر ،قالت:
الصحابة عند الزيدية 140
إهنم استتابوه مث قتلوه ،وقد قلت وقالوا ،وقويل األخري خري من قويل األول».
وأعتقد أنه ال ضري يف ِذكر الوقائع واألحداث اليت تقع من هذا أو تصدر
عن ذاك؛ فجميع البشر خيطئون ،وال ختلوا حياهتم مما ينبغي أن يتوبون منه
ويعتذرون ،لذلك جاء يف احلديث« :كل ابن آدم خطاؤون وخري اخلطائني
التوابون» .ولكن املشكلة أوالً يف اختالق الروايات التارخيية اليت يرتاشق هبا
املتخاصمون ،وثانياً يف وضع احلدث يف غري سياقه الطبيعي ،وقطعه عن
مالبساته ،أو تفسريه وفق ما يفرضه املخالف من تـْبييت سوء النية ،وجتاهل
املسوغات املوضوعية اليت نشأ احلدث يف ظلها.
ولعل من أجود العبارات اليت خلصت مالبسات املشهد السياسي أواخر أيام
عثمان ،هي قول اإلمام علي« :وأنا جامع لكم أمره؛ استأثر فأساء األثرة،
وجزعتم فأسأمت اجلزع ،وهلل حكم واقع يف املستأثر واجلازع».
على خلعه وإبعاده عن اخلالفة ،وبعضهم سكت ونأى بنفسه ،بينما اهتم بعضهم
باملشاركة يف حصاره وقتله.
وعند الزيدية أن اإلمام عليا بريء من أي حتريض على قتل عثمان ،وإن كان
من مجلة منتقديه ،وقد فعل ما بوسعه من تقدمي النصح واملشورة ،ويستدلون على
سالمة موقفه بقوله ملا بلغه اهتام بين أمية له باملشاركة يف دم عثمان« :أومل ينه
بين أمية علمها يب عن قريف (= عييب)؟ أو ما وزع اجلهال سابقيت عن هتميت؟!
وملا وعظهم هللا به أبلغ من لساين».
ويرون أن األمر خرج من يد اإلمام علي بعد سعيه يف عدة جوالت لوساطة
مل يلتزم أي من الطرفني ببنودها ،فقرر االعتزال ونأى بنفسه ،وعرب عن ذلك
بقوله ملن اهتمه بالتواطؤ« :لو أمرت به لكنت قاتالً ،أو هنيت عنه لكنت ناصراً،
غري أن من نصره ال يستطيع أن يقول :خذله من أنا خري منه ،ومن خذله ال
يستطيع أن يقول :نصره من هو خري مين .وأنا جامع لكم أمره؛ استأثر فأساء
األثرة ،وجزعتم فأسأمت اجلزع ،وهلل حكم واقع يف املستأثر واجلازع».
وهذا يشري إىل أنه -وإن انتقد عثمان على بعض تصرفاته -ما كان يرتضي
قتل عثمان ،بل يذم الذين جتاوزت نقمتهم عليه إىل التحريض واحلصار والقتل.
وقد روى شعبة ،عن حبيب بن الزبري ،عن عبد الرحن بن الشرود ،أن علياً قال:
ْ ح ح َََ ْ َ َ
وره ِْمٌمِنٌ إين ألرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال هللا تعاىل﴿ :ونزعناٌم ِ
اٌفٌصد ِ
ْ َ ً ََ ح ح حََ
ٌمتوابِل ٌَ
ِني﴾ [الحجر .]47 :ورواه عبد هللا بن احلارث عن علي. غِلٌإِخواناٌَعٌُس رر
ويف اخلارجني على عثمان يرى الزيدية أن هلم -يف احلكم عليهم -أسوة مبا
صح من موقف اإلمام علي منهم ،باعتباره شاهد على األحداث ،ولديه من
الورع وفيه من الدين ما جيعل موقفه أقرب إىل الصواب.
الصحابة عند الزيدية 144
وقد تقدم أن موقفه قائم على التفريق بني من باشر القتل أو أعان عليه ،ومن
انتقد وسخط لسوء رآه يف تصرف بين أمية يف شأن اخلالفة ،وسكوت عثمان
عليه.
ثالثاا :الخارجون على اإلمام علي والقاعدون عن نصرته
كان اإلمام علي بن أيب طالب أحد اخللفاء الراشدين ،ومثَّل -بعد بيعته -
الصحابة إىل جانبه ،وبالتايل أصبح اخلارجون
اخلالفة الشرعية ،واصطف مجهور َّ
عليه خارجني على الشرعية ،واملصرون على حربه بغاة معتدين؛ ولكن اختالف
بواعثهم وطبيعة معارضتهم وما ترتب عليها أثار خالفاً حول حكم مواقفهم،
وما ينبغي أن يكون عليه املوقف منهم ،وهذا مما جعلين أصنفهم يف ثالث
جمموعات:
.1املتوقفون عن نصرة اإلمام علي:
الذين بايعوه على أنه خليفة املسلمني ،ولكنهم ختلوا عنه يف مواجهة اخلارجني
عليه ،ومل ينصروه ،مثل :عبد هللا بن عمر بن اخلطاب وحممد بن مسلمة وسعد
بن أيب وقاص وأسامة بن زيد ومن وافقهم.
فالزيدية يرون أن هؤالء قد أخلوا بواجبهم يف نصرة إمامهم الذي ارتضوه
وبايعوه؛ ألن نصرة املأموم إلمامه الذي ارتضاه وبايعه واجبة ،وبسبب ذلك
عدهم احلسن بن حيىي بن احلسني بن زيد بن علي من املرجئة الذين يكتفون
بالقول دون العمل؛ ولكن اعتذارهم بأهنم ال يقاتلون أهل القبلة ،والتباس األمر
عليهم ،مع اعرتافهم بشرعية خالفـة اإلمام علي؛ جعله يرتكهم وشأهنم ،ومل
يتجاوز موقفه جتاههم اللوم والعتاب ،فليسعنا ما وسعه وكفى به قدوة؛ وال سيما
أنه صاحب احلق واملوقف جتاهه.
145 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
ويف ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة« :واعلم أنه ال خالف أن ابن عمر وسعداً
وحممد بن مسلمة مل ميتنعوا عن أمر البيعة والرضا بإمامته ،وإمنا امتنعوا عن املقاتلة
ألهل القبلة .ومل يشدد عليهم أمري املؤمنني يف املقاتلة ،بل تركهم على حاهلم من
الشبهة ،وإن كان قد نسبهم إىل ضعف يف الدين والبصرية».
وأضاف« :وقد رويت عنهم املعاذير ،فإن كان عليه السالم قد قبلها منهم،
فال عيب عليهم يف االعتزال والتخلف عنه؛ لرضاه بإسقاط ذلك عنهم ،وإن
ثبت أنه ضيق عليهم يف أمر اخلروج معه ومل يعذرهم يف التخلف ،ودعاهم إىل
نصرته ،فنكصوا ،فما هذا حاله فال يبعد أن يكون كبرياً؛ ألن كل من أمره اإلمام
بأمر مث خالفه بعد أن ضيَّق عليه فيما تلزمه فيه الطاعة واالنقياد فال يبعد فِ ْس ُقه،
وأنه مبنزلة البغي عليه.
والظاهر من حاهلم والذي نرتضيه يف حقهم أنه مل يضيق عليهم أمر اخلروج
معه ،وال طالبهم ،بل عذرهم لِما عرض هلم من الشبهة يف ذلك ،فال يفسقون
بالقعود والتخلف عنه» .وأقره وأيده اإلمام عز الدين بن احلسن.
وعلى ما ذكر اإلمام حيىي ُحيمل قول اإلمام القاسم بن إبراهيم« :من قعد
عنه -يعين علياً -بغري إذنه ،فضال هالك يف دينه».
تفهم موقفهم وعذرهم ،ومل يلح وجل الروايات تشري إىل أن اإلمام علي َّ ُ
عليهم؛ لعلمه بأن مواقف الوالء والرباء ال تكون مبجرد اتباع اآلخرين ،ولو كان
ذلك الغري علي نفسه.
وقد ذكر اإلمام حممد بن القاسم الرسي أن ابن عمر تأسف على أنه مل يقاتل
الفئة الباغية مع اإلمام علي .مث قال :وهذا بابن عمر أشبه.
وبعد حبث وتتبع رأى اإلمام عز الدين بن احلسن أن الروايات «قد تظاهرت
الصحابة عند الزيدية 146
على توبة ابن عمر وندمه على ترك اجلهاد مع أمري املؤمنني ،واشتد أسفه على
ذلك ،حىت قال :ما أتأسف على شيء تأسفي على أين مل أشهد معه املشاهد».
وذكر ابن عبد الرب أنه «صح عن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما من وجوه
أنه قال ما آسى على شيء كما آسى أين مل أقاتل الفئة الباغية مع علي رضي
هللا عنه» .ويف ذلك دليل على أنه مل يتخلف عناداً ،ولكن األمر اشتبه عليه،
واملؤمن وقاف عند الشبهات.
وحكى احلاكم اجلشمي :أن أمري املؤمنني أذن له يف التخلف .ورجح شيخنا
جمد الدين املؤيدي توبتهم وصالح حاهلم.
فإذا كانوا تركوا القتال مع اإلمام علي متأولني ال متمردين وال مقاتلني إىل
جانب الفئة الباغية ،مث روي لنا أهنم ندموا على ختلفهم وأسفوا له ،مع معرفتنا
بصالحهم واستقامتهم يف سائر أمور دينهم ،كان لزاماً علينا حسن الظن هبم
وحلهم على السالمة ،فمن تاب فليس لنا إال ِ
ظاه ِره.
.2ناكثوا بيعة اإلمام علي:
وهم الذين بايعوه مث نكثوا بيعته ،واصطفوا لقتاله ،كطلحة بن عبيد هللا ،والزبري
بن العوام ،ومن حنا حنوهم ،فهؤالء أوقعوا أنفسهم يف خطأ بنكثهم بيعة إمامهم
وجب. الشرعي ،وخروجهم عليه بغري م ِ
ُ
أما نكثهم فمما توافق على نقله املؤرخون ،وقد يبني ذلك ما روى ابن عبد
الرب من أن اإلمام علياً قال يف خطبة حني هنوضه إىل اجلمل« :إين منيت بأربعة:
أدهى الناس وأسخاهم (طلحة) ،وأشجع الناس (الزبري) ،وأطوع الناس يف الناس
لي منكراً ،وال
(عائشة) ،وأسرع الناس فتنة (يعلى بن أمية) ،وهللا ما أنكروا ع َّ
استأثرت مبال ،وال ملت هبوى ،وإهنم ليطلبون حقاً تركوه ،ودماً سفكوه ،ولقد
147 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
ولوه دوين ،ولو أين كنت شريكهم فيما كان؛ ملا أنكروه ،وما تبِعة دم عثمان إال
عليهم ،وإهنم هلم الفئة الباغية ،بايعوين ونكثوا بيعيت ،وما استأنوا يب حىت يعرفوا
جوري من عديل ،وإين لراض حبجة هللا عليهم وعلمه فيهم ،وإين مع هذا لداعيهم
وم ْع ِذر إليهم ،فإن قبلوا فالتوبة مقبولة ،واحلق أوىل مما أفضوا إليه ،وإن أبوا
ُ
أعطيتهم حد السيف ،وكفى به شافياً وناصراً ،وهللا إن طلحة والزبري وعائشة
ليعلمون أين على احلق وأهنم مبطلون».
الزيدية مل يتفردوا بنقد هؤالء ولومهم ،فقد اتفق أكثر
ومن اجلدير بالتنبيه أن َّ
املسلمني على ختطئة الناكثني ،واعتربوهم من البغاة ،حىت إن الشيخ ابن تيمية
ذكر :أن الفقهاء استدلوا على أحكام البغاة بسرية اإلمام علي يف من نكث
بيعته ،وروي أن حيىي بن معِني أنكر على اإلمام الشافعي ذلك ،وقال :أجيعل
طلحة والزبري بغاة؟! فرد عليه اإلمام أحد بن حنبل :وحيك ،وأي شيء يسعه
أن يصنع يف هذا املقام؟! قال ابن تيمية« :يعين إن مل يقتد بسرية علي يف ذلك،
مل يكن معه سنة من اخللفاء الراشدين يف قتال البغاة».
بيد أن لطف هللا أدركهم بربكة صحبة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم
ومواقفهم العظيمة بني يديه ،فندموا على نكثهم ،وتابوا من خروجهم على اإلمام
دون وجه حق ،كما جاء يف روايات وتفاصيل ذكرت يف ترامجهم.
ويف ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة« :واملختار عندنا وهو الذي عليه أئمة
العرتة ومجاهري املعتزلة واألشعرية وضوح توبتهما».
وذكر اإلمام املهدي :أن األكثر ممن قطع خبطئهم ،ذهبوا إىل أهنا قد صحت
توبتهم.
وقال السيد صارم الدين الوزير« :وقد تاب الناكثون على األصح» .ومثله
الصحابة عند الزيدية 148
ذكر اإلمام عبد هللا بن حزة .وسيأيت ذكر اإلمام شرف الدين هلم يف األطايب
وثنائه عليهم.
وروى كل من اإلمام عبد هللا بن حزة ،والشهيد حيد احمللي ندم طلحة والزبري
وتوبتهما عن القتال.
أما الزبري بن العوام ،فقد تقدم أنه تراجع عن القتال بعد ما كلمه اإلمام
علي ،وترك القوم وتوجه حنو املدينة ،وهو يقول:
هلل أمثـ ـ ــل يف الـ ـ ــدنيـ ـ ــا ويف الـ ـ ــدي ِن ترك األمور اليت خنشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى عواقبه ــا
قــد كــان عمر أبيــك اخلري مــذ ح ِ
ني أتــى ع ـلــي ب ـ ـ ــأمــر ك ـنـ ـ ــت أعــرف ـ ـ ــه
بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيين فقلت حسبك من عذل أبا حسن
أتى بقوم هل ـ ـ ــا خلقـ ـ ـ ـاً من الطني ف ــاخرتت ع ــارا على ن ــار مؤجج ــة
وأما طلحة بن عبيد هللا فروى احلاكم والبيهقي عن ثور بن جمزأة ،قال :مررت
بطلحة بن عبيد هللا يوم اجلمل وهو صريع يف آخر رمق ،فوقفت عليه فرفع رأسه،
فقال :إين ألرى وجه رجل كأنه القمر ،ممن أنت؟ فقلت :من أصحاب أمري
املؤمنني علي ،فقال :ابسط يدك أبايعك ،فبسطت يدي وبايعين ،ففاضت نفسه،
فأتيت علياً فأخربته بقول طلحة ،فقال« :هللا أكرب هللا أكرب صدق رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم أىب هللا أن يدخل طلحة اجلنة إال وبيعيت يف عنقه».
وحدث أبو مالك األشجعي ،عن أيب حبيبة ،موىل طلحة ،قال :دخلت على
علي مع عمر بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب اجلمل ،قال :فرحب به وأدناه،
َ َ
ون ٌَز ٌ
عناٌماٌ قال" :إين ألرجو أن جيعلين هللا وأباك من الذين ،قال هللا عز وجلٌ ﴿ :
ً َ ْ ّ
ٌُس رٌرٌ حٌم حٌت حٌوابلني﴾ [الحجر "]47 :فقال« :يا ابن أخي،
َع ح حٌ
إخواناٌ ٌ
ٌ لٌ
غٌنٌ ٌِ
ح ح
فٌص ٌدورهمٌ ٌِم ٌ
ٌ
كيف فالنة كيف فالنة؟» قال :وسأله عن أمهات أوالد أبيه ،قال :مث قال« :مل
149 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
نقبض أراضيكم هذه السنة إال خمافة أن ينتهبها الناس ،يا فالن انطلق معه إىل
بين قريظة ،فمره فليعطه غلته هذه السنة ،ويدفع إليه أرضه» .فقال رجالن
جالسان إىل ناحية ،أحدمها احلارث األعور :هللا أعدل من ذلك أن نقتلهم
ويكونوا إخواننا يف اجلنة ،قال« :قوما أبعد أرض هللا وأسحقها فمن هو إذا ،مل
أكن أنا وطلحة يا ابن أخي إذا كانت لك حاجة فأتنا».
ويف هذه الرواية إشارة إىل أن اإلمام علي كان يعرف من أمر تلك اخلصومة،
وما جرى على القوم فيها ،ما ال يعرفه كثري من أصحابه ،لذلك كان موقفه
وحكمه خمتلف.
وأما عائشة ،فندمها -على خروجها ضد اإلمام علي -مشهور ،ذكره من
الزيدية اإلمام عبد هللا بن حزة ،وجزم بالرتضية عنها .فقال« :وأما عائشة -
َّ
ر ِضي هللا عْنها -فكانت تبكي حىت تبل خارها ،وتقول :وددت أن يل من
رسول هللا عشرة كلهم مثل احلارث بن هشام أثكلهم وأين مل أخرج على علي
بن أيب طالب».
وهذه الرواية أخرجها ابن أيب شيبة عن يعلى بن عبيد ،قال :أخربنا إساعيل
بن أيب خالد ،عن علي بن عمرو الثقفي ،قال :قالت عائشة :ألن أكون جلست
عن مسريي كان أحب إيل من أن يكون يل عشرة من رسول هللا مثل ولد احلارث
بن هشام.
وقال الذهيب« :وال ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسريها إىل
البصرة وحضورها يوم اجلمل ،وما ظنت أن األمر يبلغ ما بلغ .فعن عمارة بن
َ َ ْ َ ح ح ح َّ َ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َّ
اجلا ِهلِي ٌِةٌ
جٌ ٌنٌترب ٌ
الٌتربج ٌ نٌو ٌ
فٌبيوت ِك ٌ عمري ،عمن سع عائشة إذا قرأت﴿ :وقر ٌ
نٌ ِ ٌ
حْ َ َْ ح َ َ ح َ َّ َ ح ح ْ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ
ك حٌمٌ
ِبٌعن ٌ ولحٌإِنماٌي ِر ٌ
يدٌاهللٌ ِِلذه ٌ الزاك ٌةٌ َوأطِع ٌَ
نٌاهللٌورس ٌ ِنيٌ
نٌالصل ٌةٌوآت ٌ وىلٌوأق ِم ٌ
اْل ٌ
َ ح ِّ ْ ْ َ ْ َ
تٌ َويح َطه َرك ٌْمٌت ْط ِه ًيا﴾ٌ[األحزاب .]33/بكت حىت تبل خارها». لٌابلَي ٌِ
سٌأه ٌ
ِّ ْ َ
الرج ٌ
الصحابة عند الزيدية 150
وذكر أبو القاسم البسيت أن أصحابنا املتكلمني يقطعون بتوبتها ،قال :واخلرب
بذلك قد تظاهر وتواتر .وأضاف أن من طعن فيها مبا أنزل هللا يف براءهتا فيقرب
أن يكفر ،ولست أعرف يف املسلمني من يعتقد ذلك من أرباب املذاهب ملا يف
ذلك من تكذيب للقرآن ومن الطعن يف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم.
ومن املعتزلة قال ابن أيب احلديد :وأما عائشة والزبري وطلحة؛ فمذهبنا أهنم
أخطأوا مث تابوا ،وأن علياً شهد هلم باجلنـة بعد حرب اجلمل.
وهبذا تتفق رواية الزيدية وأهل السنة واملعتزلة ،على وقوع اخلطأ والتوبة ،فلم
َ َّ َ َ ح
ين ٌع ِملواٌيبق إال الرتحم عليهم ،والكف عن ذكرهم بسوء ،لقوله تعاىل﴿ :و ٌِ
اَّل ٌ
َ ح َ ح
ك ٌم ٌِْن ٌ َب ْعد َِها ٌل َغ حفورٌ ٌ َرحِيمٌ﴾ [األعراف]153/؛ْ َ ْ َ َ َ ح َّ َّ َ
ن ٌ َرب ٌ ات ٌث ٌَّم ٌتابوا ٌم ٌ
ِن ٌبعدِها ٌوآمنوا ٌإ ِ ٌ
َّ ِّ َ
السيئ ٌِ
خصوصاً مع ماهلم من سابقة يف نصرة املصطفى صلى هللا عليه وآله وسلم.
وألن التوبة إذا رويت ولو عن طريق اآلحاد ،لزم قبوهلا والكف عن الرباءة،
عمالً باألصل وهو املواالة يف اإلسالم؛ ألنا ال نأمن من الوقوع يف اخلطأ بالرباءة
من املؤمنني.
.3الفئة الباغية:
أشرنا فيما مضى إىل أن املؤرخني ذكروا أن معاوية بن أيب سفيان وعمرو بن
العاص واملغرية بن شعبة وآخرين رفضوا بيعة اإلمام علي ،وناصبوه العداء وأعلنوا
وسفكت الدماء ،وتلبسوا عليه احلرب وأصروا على ذلك ،حىت انقسم اجملتمع ُ
بأخطاء وجتاوزات أنكرها عليهم فضالء الصحابة.
الصحابة
الزيدية وال يعتربوهنم من َّ
فهذا الفريق ومن دار يف فلكهم ال يواليهم َّ
باملعىن االصطالحي الذي يوجب هلم فضيلة ومتيز؛ ألن ما يُروى عنهم من
جتاوزات وأخطاء أفقدهم شرف صحبة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،فصار
151 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
الزيدية كحال احلكـم بن أيب العاص وبسر بن أرطأة عند أهل السنة،
حاهلم عند َّ
الصحابة ،وسيجد املتتبع يف كالم أئمة
أي ليسوا ممن يتناوهلم عموم الثناء على َّ
الصحابة.
الزيدية ما يدل على استثناء هؤالء عند أي كالم فيه ثناء على عموم ََّّ
ويف ذلك جاء عن القاسم بن إبراهيم الرسي« :من حاربه -يعين علياً -
فهو حرب هلل ولرسوله».
وقال عبد هللا بن حزة« :أول من بدل أحكام رب العاملني وسعى يف سفك
دماء عرتة خامت املرسلني معاوية بن أىب سفيان ومن قفا منهاجه ،ونسج على
منواله ،وحذا على مثاله».
وموقف الزيدية جتاه معاوية بن أيب سفيان ومن سار على هنجه مبين على أنه
مات مصراً على بـ ْغيِه الذي َّقرره اجلميع ،ملا ظهر منه قبل موته من استخالف
يزيد ،ووصيته بقتل ابن الزبري وعمرو بن العاص .ذكر ذلك أبو القاسم البسيت،
وقال :وال خالف بني أهل البيت يف وجوب الرباءة منه.
أما إذا ثبتت توبته فحاله كحال غريه ،إذ ليس لنا إال الظاهر وهللا يتوىل
السرائر.
َّ
وحيتجٌالزيدية ملوقفهم جتاه معاوية وأنصاره حبجج عدة ،خالصتها:
( )1أهنم بغاة على إمام احلق ودعاة إىل النار ،كما جاء على لسان رسول
هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،يف احلديث املشهور الذي قال فيه« :ويْح ع َّمار
وه ْم إِىل اجلنَّـة ،وي ْد ُعونهُ إِىل النَّا ِر». ِ ِ
تـ ْقتُـلُهُ الْفئةُ الْباغيةُ ،ي ْد ُع ُ
وعدالة البغاة ساقطة ،وحرمتهم ذاهبة ،ما مل يفيئوا إىل أمر هللا ،كما جاء يف
َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ ح َ َ َ ْ ح ْ َ َ َ ح َّ َ ْ
َل ٌأم ٌِرٌ
ف ٌُ ٌإ ِ ٌ
ّت ٌت ِ ٌ
غ ٌح ٌ
ت ٌتق ِ ٌ
َع ٌاْلخرى ٌفوات ِلوا ٌال ِ ٌ
ت ٌإِحداهما ٌ ٌ قوله تعاىل﴿ :فإِ ٌ
ن ٌبغ ٌ
اهلل﴾ [الحجرات .]9 :وهؤالء -يقول الزيدية :-مل يفيئوا فيما نعلم حىت ماتوا ،ومل
الصحابة عند الزيدية 152
تكن حماربتهم لعلي بن أيب طالب جمرد خالف سياسي ،ولكنه احنراف ديين
يستوجب الذم؛ إذ حاهلم كحال أي خـارج على أيب بـكر أو عمر أو عثمان،
فاخلطيئة هنا ليست يف جمرد التمرد على شخص اإلمام علي رضي هللا عنه؛
ولكنها يف اخلروج على خلِيفة شرعي مل ُحيدث ما يُسوغ اخلروج عليه ،مما تسبب
يف ثلمة يف الدين وسفك لدماء املسلمني وإضعاف شوكتهم ،وهذا ال جييزه
اإلسالم وال ُمترره القناعات الشخصية واألهواء وردود األفعال.
( )2البغض والعداوة الظاهرة لإلمام علي وأهل بيته وأنصاره ،واليت بلغت حد
الشتائم والسباب ،بل جتاوزت إىل القتل والقتال ،واملعلوم أن علياً من أكابر
الصحابة وخيارهم ،وقد وردت روايات كثرية يف ذم مبغض الصحابة عموماً،
حىت جاء عن اإلمام مالك أنه قال« :من أصبح من الناس يف قلبه غيظ على
أحد من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد أصابته هذه اآلية» .يعين
ْ ح َّ َ ح ْ ح ُّ َ
يظٌب ِ ِه حٌمٌالكفار﴾ [الفتح.]29/ الز َّر ٌ
اعٌ ِِلَ ِغ ٌ بٌ قول هللا تعاىل﴿ :يع ِ
ج ٌ
وقد وردت أحاديث يف ذم من أبغض علياً خاصة ،منها ما جاء عْنه ،أنه
ِ ِ ِ
ضك َّيب صلى هللا عليه وسلم :أنَّهُ ال ُحيبُّك إِالَّ ُم ْؤم ٌن ،وال يـُْبغ ُ قال« :ع ِهد إِ َّ
يل النِ ُّ
إِالَّ ُمنافِ ٌق».
وعن أيب هريرة أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نظر إىل علي واحلسن
ب لِم ْن حارب ُك ْم ،و ِس ْل ٌم لِم ْن سالم ُك ْم».
واحلسني وفاطمة فقال« :أنا حْر ٌ
( )3األخطاء الكبرية اليت أدخلها معاوية وأنصاره يف نظام احلكـم يف اإلسالم،
حينما حولوا اخلالفة إىل ملك ،حىت فرض معاوية ولده يزيد خليفة للمسلمني،
وهو -كما وصفه الذهيب « :-كان ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً ،يتناول املسكر،
ويفعل املنكر ،افتتح دولته بقتل الشهيد احلسني رضي هللا عنه ،واختتمها بوقعه
153 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
احلرة ،فمقته الناس ،ومل يبارك يف عمره» .وما كان ليزيد أن يصبح خليفة لوال أن
معاوية فرضه على الناس.
( )4تورطهم يف دماء الصحابة والتابعني ،والتعدي على قيم الدين احلنيف
كاستلحاق زياد بن أبيه بأيب سفيان ،وأشياء كثرية ال يتسع املقام تفصيلها
وتوثيقها ،واملقصود اإلشارة ،وفيه كفاية لتـف ُّهم موقف الزيدية بشأن معاوية
ومعاونيه.
وجيدر التنبيه إىل أن كثرياً من حمققي أهل السنة يشاركون الزيدية استنكارهم
ما بدر من معاوية من جتاوزات ،ويستقبحوهنا ،لذلك ال يضعونه يف مصاف
الصحابة األجالء ،حىت إن ابن تيمية عده ملِكاً ،ومل يعتربه خليفة ،فقال« :مل
َّ
يتول أحد من امللوك خرياً من معاوية؛ فهو خري ملوك اإلسالم ،وسريته خري من
سرية سائر امللوك بعده ،وعلي آخر اخللفاء الراشدين الذين واليتهم خالفة نبوة
ورحة ،وكل من اخللفاء األربعة رضي هللا عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء
هللا املتقني ،بل هؤالء األربعة أفضل خلق هللا بعد النبيني» ،وحكى عن أهل
السنة أهنم «ال ينزهون معاوية وال من هو أفضل منه من الذنوب ،فضالً عن
تنزيههم عن اخلطأ يف االجتهاد».
وذكر أن حديث مقتل عمار «يدل على صحة إمامة علي ،ووجوب طاعته،
وأن الداعي إىل طاعته داع إىل اجلنَّـة ،والداعي إىل مقاتلته داع إىل النار ،وإن
كان متأوالً» ،وأضاف« :مقاتل علي خمطئ وإن كان متأوالً ،أو باغ بال تأويل،
وهو أصح القولني ألصحابنا» .وذكر :أن ذلك هو مذهب األئمة الفقهاء الذين
فرعوا على ذلك قتال البغاة املتأولني.
وعلى هذا فاجلميع متفقون على وقوع القبيح من معاوية وأعوانه ،غري أن
الصحابة عند الزيدية 154
بعض أهل السنة يفرتضون :أن من أدرك النيب فهو صحايب وأن الصحايب ال
خيرج من الدنيا إال مغفوراً له ،بأي سبب من أسباب املغفرة كالتوبة واالستغفار
واحلسنات املاحية واملصائب ِ
املكفرة وغريها من مكفرات الذنوب ،علمناها أم
مل نعلمها.
الزيدية ال ينكرون فاعلية تلك األسباب يف حمو الذنوب ،ولكنهم يشرتطون و َّ
أن تكون التوبة ظاهرة ،ويصحبها استيفاء حقوق اخللق؛ ليتسىن ملن بـىن موقف
الرباءة على ِعلم؛ أن يرفعه بعِْلم مثلِه ،وليس مبجرد االفرتاضات؛ ألن هللا عز
ح َّ َّ َ َ ح َ َ ْ َ ح َ َ َّ ح َ ح َ َ َ ح ح َ َ ْ ْ َ َ
وب ٌعلي ِه ٌم ٌ َوأنا ٌاتلَّ َّو ٌ
ابٌ ِك ٌأت ٌ
ِين ٌتابوا ٌوأصلحوا ٌوبينوا ٌفأوَل ٌ وجل يقـول﴿ :إ ِ ٌ
ال ٌاَّل ٌ
ِيم﴾ [البقرة .]١٦٠/فمن مل يبني توبته بعد ما بان سوء فعله ،فال لوم على من الرح حٌ
َّ
وإن كان أحدمها خمطئاً يف األمر نفسه ،فهو معذور ،لع ـدم التعمد ،وأتباعهم قد
فعلوا ما جيب عليهم من اتِبــاع العلماء».
فإذا صح ذلك يف شأن األئمة وأتباعهم يف القرون الالحقة ،فهو صحيح يف
شأن الصحابة ومؤيديهم يف القرون السابقة ،وحل الناس على السالمة أفضل
بكثري من إساءة الظن هبم ،والسيما مع اختالف الروايات وكثرة التعصبات ،وقد
إيل من أن
جاء عن اإلمام علي بن أيب طالب« :ألن أخطئ يف العفو أحب َّ
أخطئ يف العقوبة».
ضه هلل ،وكيف ال وقد فأما من علمنا منه بُغض علي رضي هللا عنه ،فإنَّا نـُْبغِ ُ
َّ
صح عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله سلم« :ال يبغضك إالَّ منافق» .مع التَّنبه
على الفرق بني حال من يبغض اإلمام علي أو غريه من املؤمنني ،أو اختلف معه
أو نازعه وخاصمه يف أمر ،أو مل ُحيبه أو ُجيله بالقدر واملستوى الذي يكون عليه
أولياؤه.
وروى أحـد بن حنبل ،عن حضني بن املنذر أن عثمان أمر جبلده يف حد
اخلمر .وحنوه روى مسلم يف الصحيح .وقال الذهيب كان يشرب اخلمر ،وروى
عن قال علقمة أنه قال :كنا بالروم وعلينا الوليد ،فشرب ،فأردنا أن حنده ،فقال
حذيفة بن اليمان :أحتدون أمريكم ،وقد دنومت من عدوكم ،فيطمعون فيكم؟ وقال
هو:
وأشربن على رغم من رغم ألشربن وإن كانت حمرمة
َ َ ُّ َ َّ
وذكر كثري من املفسرين على أنه الذي نزل فيه قول هللا تعاىل﴿ :ياٌأيهاٌاَّل ٌَ
ِينٌ
َ َ َ َ َ َّ ح َ ْ ح ح َ ْ ً َ َ َ َ ح ْ ح َ َ َ َ َ ْ ح ْ َح ْ َ َ ح ْ َ
َع ٌ ٌما ٌفعلت ٌمٌ ن ٌت ِصيقوا ٌقوما ٌ ِِبهال رٌة ٌفتصقِحوا ٌ ٌ
اُك ٌم ٌفا ِسقٌ ٌبِنق رٌإ ٌفتبينوا ٌأ ٌ ن ٌج
آمنوا ٌإ ِ ٌ
َ
نا ِدمِني﴾ [الحجرات .]6 :قال ابن عبد الرب :ال خالف بني أهل العلم بتأويل القرآن
أهنا نزلت فيه .وأضاف :أن له أخبـاراً فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله
وقبح فعـاله.
وقال ابن كثري« :ذكر كثري من املفسرين أن هذه اآلية نزلت يف الوليد بن
عقبة بن أيب معيط ،حني بعثه رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم على صدقات بين
املصطلق وقد روي ذلك من طرق».
فتأمل كيف يرتكب شخص تلك املنكرات ويصفه القرآن بأنه فاسق ،مث يأيت
الصحابة الثقات العدول ،الذين يتعني علينا مودهتم!!
من ينظمه يف سلك َّ
(ٌ)2يسارٌبنٌسقعٌأبوٌالغاديةٌاجلهن ،اتفق احملدثون على أنه الذي باشر قتل
الصحايب عمار بن ياسر رضي هللا عنه ،قال ابن حجــر« :كان إذا استأذن على
معاوية وغريه يقول :قاتل عمار بالباب .يتبجح بذلك» .مع أنه قد صح عن
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال« :قاتل عمار وسالبه يف النار» .فحكم
عليه بالنار ،وذلك يعين أنه خرج من الدنيا غري تائب.
الصحابة عند الزيدية 158
الصحابة،
ومع ذلك عده اإلمام أحد بن حنبل من أصحاب املسانيد من َّ
وروى عنه عدة روايات ،وأدخله ابن حبان يف الثقات ،وجبَّله الذهيب.
ومن غريب جرأته أنه هو الذي روى عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم
حديث« :ال ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»!! وحديث «إن
دماءكم وأموالكم عليكم حرام».
قال ابن حجر« :انظر إىل العجب؛ يروي عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم
النهي عن القتل مث يقتل مثل عمار»؟! ولكن مفهوم الصحايب عند احملدثني
اضطر ابن حجر للرتاجع عن تعجبه هذا فقال بعد ذكر قصة قتل أيب الغادية
بالصحابة يف تلك احلروب أهنم كانوا فيها متأولني وللمجتهد
لعمار« :والظن َّ
املخطئ أجر»! وقد تقدم التعقيب على كالمه.
فأي صحايب عدل هذا الذي يُطلب منا أن نأخذ ديننا عنه ،وحنسن الظن
به وقد قتل مؤمناً متعمداً ،وصحابياً من السابقني األولني ،وظل يفتخر بذلك،
َ َ ْ َ ْ ح ْ ح ْ ً َ َ ِّ ً
لٌ ٌمؤمِناٌ حمتعمداٌ
نٌيوت ٌ ومات مصراً على جرميته؛ فدخل يف عموم قوله تعاىل﴿ :وم ٌ
َ َ َ َ َ َ َ َ ح ح َ َ َّ ح َ ً َ َ
بٌاهللٌ َعل ْي ٌِهٌ َول َع َن حٌهٌ َوأ َع ٌَّدٌ ٌلحٌ َعذابًاٌ َع ِظ ًيما﴾ [النساء.]93/
الاٌفِيهاٌ َوغ ِض َ ٌ
فجزاؤٌهٌجهن ٌمٌخ ِ
إىل جانب أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قد أخرب أنه من أهل النار،
وأخرب بأن الفئة اليت ينتمي إليها ،فئة باغية ،وقِتال الفئة الباغية ليس كالقتال
معها.
الصحابة حبجة أنه متأول!! فلماذا
فإذا كان بعض احملدثني يعذرون من يقتل َّ
ال يعذرون من يسب أولئك القتـلة حبجة أنه متأول أيضاً؟!
(ٌ )3بْس ٌبن ٌأرطأة ،أو ابن أيب أرطاة ،قاتِل املسلمني ومذل الصحابة،
159 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
ومستبيح مكة واملدينة ،وقاتل األطفال ،وسايب املسلمات .قال عنه الذهيب وابن
حجر :صحايب!! والصحايب عندهم ثقة ال يسأل عن عدالته.
وهو الذي اتفاق الروايات على أن معاوية أرسله يف جيش من الشام إىل
املدينة ،فطرد واليها أبا أيوب األنصاري ،وطلب جابر بن عبد هللا األنصاري
وقال لبين سلمة :ما لكم عندي من أمان ،حىت تأتوين جبابر بن عبد هللا .وهدم
دوراً كثرية باملدينة .مث مضى إىل اليمن ،وعليها يومئذ عبيد هللا بن العباس بن
عبد املطلب عامالً لعلي بن أيب طالب ،فلحق بعلي ،وكان له صبيان من أحسن
الصبيان يقرآن القرآن يف املسجد فأخذمها وذحبهما ذحباً بالسكني.
الصحابة ،وبالتايل اعتمدوا روايته يف ومع ذلك عده كثري من احملدثني من َّ
ُحرِج بعضهم من القبائح اليت ارتكبها كتبهم ومل يرتددوا يف توثيقه والرتضية عنه .وأ ْ
فأنكروا صحبته
قال ابن يونس :يكىن أبا عبد الرحن ،من أصحاب رسول َِّ
اّلِل صلى هللا علْي ِه ُ
وسلَّم ،شهد فتح مصر ،وكان من شيعة معاوية بن أيب سفيان ،شهد معه صفني،
ووجهه إِىل اليمن واحلجازِ ،يف أول سنة أربعني ،وأمره أن يتتبع من كان ِيف طاعة
علِي فيوقع هبم ،ففعل مبكة واملدينة واليمن أفعاالً قبيحة.
ومل حيتمل الدارقطين التسرت عليه فقال :له صحبة ،ومل تكن له استقامة .أما
حيىي بن معني فضاق به وقال :كان بسر بن أىب أرطأة رجل سوء .وحكى الذهيب
عن أحد بن حنبل وابن معني :أن بسراً سىب مسلمات باليمن وأقمن للبيع.
وظل يف خدمة بين أمية سنوات طويلة إىل أن ذهب عقله ،وكان القتل
والبطش قد انطبع يف شخصيته ،حىت ذُكر أنه كان يتجول ومعه سيف من
خشب يضرب به املارة ،تويف سنة سبعني للهجرة.
الصحابة عند الزيدية 160
أما ربيعة بن يزيد السلمي فكان من النواصب يشتم علياً .قال أبو حامت :ال
يروى عنه وال كرامة ،ومن ذكره يف الصحابة مل يصنع شيئاً .فلم ال يعد هذا
الشخص وأمثاله من أعداء أصحاب رسول هللا ،واملذمومني بسبب التطاول
عليهم؟!ٌ
( )8مروان بن احلكم بن أيب العاص ،ذكره ابن حجر وبني اخلالف يف صحبته.
وروى له البخاري حديثاً عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،وعلق عليه ابن
حجر يف الفتح بقوله« :مروان بن احلكم بن أيب العاص بن أمية ابن عم عثمان
بن عفان ،يقال له رؤية ،فإن ثبتت فال يعرج على من تكلم فيه ،وقال عروة بن
الزبري :كان مروان ال يتهم يف احلديث ،وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي
الصحايب اعتماداً على صدقه ،وإمنا نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم اجلمل بسهم
فقتله مث شهر السيف يف طلب اخلالفة حىت جرى ما جرى ،فأما قتل طلحة
فكان متأوالً».
الصحابة عند الزيدية 162
أما الذهيب فقال« :مولده :مبكة ،وهو أصغر من ابن الزبري بأربعة أشهر.
وقيل :له رؤية ،وذلك حمتمل .وأضاف :حضر الوقعة يوم اجلمل وقتل طلحة،
وجنا -ال جنا -وأضاف :وكان يوم احلرة مع مسرف بن عقبة ،حيرضه على قتال
أهل املدينة».
وروى يف ترمجة طلحة عن وكيع :حدثنا إساعيل بن أيب خالد ،عن قيس،
قال :رأيت مروان بن احلكم حني رمى طلحة يومئذ بسهم ،فوقع يف ركبته ،فما
زال ينسح حىت مات .مث قال :قلت :قاتل طلحة يف الوزر ،مبنزلة قاتل علي».
وهنالك آخرون ممن يعدون يف الصحابة وهي تروى عنهم قبائح ال تليق
بسلوك املسلم؛ فضالً عمن هو حمسوب على سلف األمة وموضع القدوة.
على أنه ال بد من التحقق من صحة ما يروى ،وأن ال يتجاهل الباحث
إمكانية توبة العاصي واستغفار املذنب ،وأن ليس كل ذنب خيرج اإلنسان من
دائرة الدينُ ،ويوجب له العداوة ،أو حيتم على الناس الرباءة منه ،ولكننا استطردنا
يف الكالم لندلل على أن الصحابة كانوا كغريهم من الناس ،فيهم حمسن وفيهم
ظامل لنفسه مبني ،مع أن الغالب عليهم اإلصالح واالستقامة ،وأمرهم وأمرنا إىل
هللا.
َّ
ٌالصحابة؛ الذين يلزم احرتامهم فالزيدية ٌال ٌيعتربون ٌهؤالُ ٌوأمثاهلم ٌمن
والثناء عليهم؛ ألن ذلك أمر غري مستساغ ،وخمالف لقواعد اجلزاء اليت أرساها
ْ َ َ َ ح ح َّ َ َ َ ح َ ِّ َ َّ ِّ َ َ َّ َ َ َ ح
اٌُسيئ رٌةٌب ِ ِمثلِهاٌ َوت ْرهوه ٌْمٌ ٌِذلةٌٌماٌ اتٌجز ٌ القرآن ،حيث يقول﴿ :واَّل ٌ
ِينٌكسقوا ٌالسيئ ٌِ
َ
ل حه ٌْمٌم ٌَِنٌاهللٌم ٌِْنٌ ََع ِص رٌم﴾[يونس .]27/ومل يستثن أحداً من هذه القاعدة .بل من ثبت
عنه مثلما ثبت عن هؤالء فهو مذموم كائناً من كان ،ما مل يتب.
وهبذا يتضح أن جمرد االنتماء إىل الصحابة أو القرابة ،ال مينح أحداً حصانة،
163 الفصل الثاني :مكانة الصحابة عند الزيدية
وال ُجييز له أن يفعل ما يشـاء ،ويقول ما يريد ،حقاً أو باطالً ،مع احتفاظه
بشرف الصحبة أو القرابة ،ولن من يعمل سوءا ُجيز به يف الدنيا واآلخرة.
الصحابة فمضوا يف هنج االستقامة حىت فارقوا الدنيا ،وكان كل وهذا ما عرفه َّ
منهم خيشى على نفسه اخلطيئة ،فيكثر من التحري والتوبة واالستغفار ،ومل يدع
أحد منهم لنفسه شيئاً مما يدعيه هلم بعض األتباع.
وروى اإلمام مالك أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال عن شهداء
أُحد« :هؤالء أشهد عليهم» .فقال له أبو بـكر :ألسنا -يا رسول هللا -
بإخواهنم ،أسلمنا كما أسلموا ،وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال« :بلى ،ولكن ال
أدري ما ُحتدثون بعدي».
وهذا يعين أن املرء مهما كان صاحلاً مستقيماً فإنه يظل معَّرضاً للسقوط يف
األخطاء والذنوب يف أيَّة حلظة .وفرضية أن املسيء له حسنات أخرى ،أو أنه
رمبا يكون قد تاب من سيئاته ،ال متنع من التعامل معه بالظاهر كما تقدم
تفصيله ،وعلى املؤمن أن يتحرى جهده خصوصاً يف مثل هذه املسائل.
وحنن نعد إخراج كل متعد يف قيم الدين احلنيف من صحابة النيب صلى هللا
عليه وآله وسلم صورةً من صور تْنزيه الصحابة ،واحلفا على صورهتم املشرقة،
َ َ َ ح ح َّ ح َ ْ َ ْ َ ْ َ
ِكٌ
ِنٌأهل ٌ
سٌم ٌ
وحٌإِن ٌهٌلي ٌ كما أخرج هللا ابن نوح من أهله ملا عصى ومترد و﴿ ٌق ٌ
الٌياٌن ٌ
ْ ِّ َ ح َ َ ْ َ ح َ ََ َْ َْ َ َْ َ َ َ َّ ح َ َ َ ْ ح َ
ون ٌم ٌَ
ِنٌ ن ٌتك ٌك ٌأ ٌ
ين ٌأعِظ ٌ
ك ٌب ِ ٌِه ٌعِلمٌ ٌإ ِ ٌ
س ٌل ٌ
ن ٌم ا ٌ ل ي ٌ
ل ٌتسأل ٌِ
ي ٌصال ر ٌِح ٌف ٌ
إِن ٌه ٌعملٌ ٌغ ٌ
ِني﴾ٌ[هود .]46/وأهلك هللا امرأة نوح وامرأة لوط مع من هلك من قومهما َْ
اجلا ِهل ٌَ
بسبب سوء صنيعهما ،على الرغم من القرابة القريبة ،والعشرة الطويلة ،فاملسألة
ليست مسألة حماباة للقرابة والصحبة .وهذه قاعدة عادلة ،قائمة على أصل
شرعي معترب عند سائر احملققني.
الصحابة عند الزيدية 164
أما اللعن والسب فاألصل أن «املؤمن ليس بالطعان وال اللعان وال البذيء
وال الفاحش» كما ورد عن رسول هللا صلوات هللا عليه وآله ،ولكنه يف الوقت
نفسه يغضب النتهاك حمارم هللا ،وي ُذم من ارتكب قبيحاً ،ويعرب عن سخطه
ورفضه بأي وسيلة مبا فيها لعن من ارتكب ما يوجبه ،على أن يكون ملعني باسه،
وأن يتعلق اللعن بالفعل املوجب للعن ،كما جاء عن النيب صلى هللا عليه وآله
وسلم أنه رأى حاراً قد ُو ِسم يف وجهه ،فقال« :لعن هللا الذي وسه».
قال اإلمام ابن الوزير يف تعليق على هذا« :وإذا كان رسول هللا -صلى هللا
ضب على من وسم حاراً يف وجهه ،فلعن عليه وسلم أحلم اخللق وأشفقهم -غ ِ
من وسهُ ،فكيف ال يغضب املسلم على من قتل احلسني الشهيد رحيانة رسول
هللا وقرة عينه.
أما يكون العصيان بقتل رحيانة رسول هللا أقبح من العصيان بوسم احلمار
الذي غضب له رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،ويكون قطع رأسه الكرمي
وتـ ْقويره (= خرقه وجعل فيه فتحات) وحله على عود أوجع للقلب وأقوى يف
إثارة الغضب والكرب من وسم وجه ذلك احلمار ،على أن الذي وسم وجه
احلمار مل يفعل ذلك عداوةً للحمار وال استهانةً به ،وإمنا فعله ملنفعة ظنها يف
ذلك».
ل ل لفـص
ل ا ثا ث ا
أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
الزيدية من متقدمي اإلمام علي، يف الفصلني السابقني ذكرنا موقف سلف َّ
ابتداء من اإلمام علي نفسه ،ومروراً باحلسنني وزين العابدين والباقر وانتهاء بزيد
بن علي ،وهم أبرز شخصيات أهل البيت يف القرن األول وبداية الثاين.
واملشهور يف الكتب املتخصصة يف ذكر الفرق واملذاهب أن الزيدية يف
الصحابة -صاحلية ،يعظمون أبابكر وعمر ويتوقفون يف عثمان ،وسليمانية
كالصاحلية إال أهنم يطعنون يف عثمان ،وجارودية ،يطعنون يف أيب بكر وعمر
وعثمان.
أما ما روي عن أئمة وعلماء الزيدية بعد ذلك فيالحظ القارئ أنه ترتدد بني
موقفني:
أحدهما :التمسك مبوقف اجليل األول من أهل البيت ،وهو :املواالة وحسن
الظن ،مع ترجيح الرتضية والوالء ،وانتقاد ما جرى من تـقدُّم على اإلمام علي،
وتفاوهتم يف مقدار الثناء واحلمل على السالمة ،وبعضهم يرفع من وترية النَّقد
َّجرم مع اإلعذار يف اجلملة ،والتحذير من الرباءة والسباب.
والت ُّ
ثانيهما :جتنب السباب والنهي عنه ،مع ختطئة من تقدم اإلمام علي أو قدَّم
عليه ،وتفاوت يف تقدير ذلك اخلطأ وما يرتتب عليه ،وخيتلفون يف استخدام
العبارات يف التعبري عنه ،فمنهم من يكتفي بالتوقف عن الرتضية ،ومنهم من جند
يف كالمه ِحدة وهتويالً ،ومنهم من يكتفي بشرح ما جرى مستنداً إىل وقائع
الصحابة عند الزيدية 166
وسيأيت نقل إمجاع الزيدية على منع السب والرباءة ،من طرق خمتلفة وعرب
القرون ،كما ورد يف كتبهم.
الزيدية ومشاهري علمائهم،
وهنا سأذكر ما وقفت عليه من كالم لكبار أئمة َّ
مرتباً ذلك حسب الوفيات ،مع ما ال خيفى من تداخل القرون واالختالف يف
بعض الوفيات.
وقبل البدء أنبه على أن الباحث قد جيد روايات غري ما ذكرت عن أحد ممن
ذكرت تؤيد أو تعارض ما نقلت عنه ،وهذا أمر طبيعي ،فهؤالء بشر هلم عواطفهم
ُ
اخلاصة وميرون مبراحل معرفية متعددة ،وكذلك من يروي عنهم؛ غري أين مل أغفل
عنهم شيئاً وقفت عليه.
القـرن الثـاني
عبد هللا بن الحسن بن الحسن (145هـ)
جاء عن عبد هللا بن احلسن بن احلسن بن علي بن أيب طالب أنه كان يقول:
«عالمة ما بيننا وبني الشيعة زيد بن علي ،فمن تبعه فهو شيعي ،ومن مل يتبعه
فليس بشيعي».
ويف هذا إشارة إىل ما كان عليه من مباينة ملوقف الروافض ،ويدل على أن
موقفه مل خيتلف عن موقف أسالفه من االستياء من غلو بعض املنتسبني إىل
التشيع ،وعلى ذلك مضى هو وإخوته وأبناؤه املتوفون مجيعاً سنة (145هـ) يف
حبس الدوانيقي.
الزيدية ومؤرخوهم أن عبد هللا بن احلسن وإخوته وأبناءه كانوا
وذكر أئمة َّ
حيسنون الظن بالشيخني ،ويف ذلك قال اإلمام حيىي بن حزة« :كانوا مجيعاً على
الصحابة عند الزيدية 168
التويل للشيخني وإظهار احملبة ،والتظاهر بسرية آبائهم فيهما ،ومل يظهر من
جهتهم إكفار أو تفسيق ،وال أثر عنهم لعن وال براءة».
وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي« :أهنم كانوا على مواالة الشيخني،
ويظهرون احملبة هلما» .وعدَّهم احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني بن القاسم يف
القائلني بالرتضية على أيب بـكر وعمر .ويؤيد كالم األئمة ما جاء عنهم من
روايات بأسانيد متعددة ،منها:
( )1وروى الدار قطين عن حفص بن قيس ،قال :سألت عبد هللا بن احلسن،
عن املسح على اخلفني؟ فقال :امسح فقد مسح عمر بن اخلطاب ،قلت :إمنا
أسألك أنت أمتسح؟ قال :ذلك أعجز لك ،حني أخربك عن عمر ،وتسألين عن
رأيي ،فعمر كان خرياً مين وملء األرض مثلي ،قلت :يا أبا حممد إن ناساً
يقولون :إن هذا منكم تقية .فقال يل -وحنن بني القرب واملنرب :-اللهم إن هذا
قويل يف السر والعالنية؛ فال تسمعن قول أحد بعدي.
( )2وعن عمار بن زريق الضيب ،عن عبد هللا بن احلسن ،قال :ما أرى رجالً
يسب أبا بـكر وعمر ثبتت له توبة أبداً.
( )3وعن عمرو بن القاسم ،قال :سعت عبد هللا بن احلسن ،يقول :وهللا ال
يقبل هللا توبة عبد تربأ من أيب بـكر وعمر ،وأهنما ليعرضان على قليب ،فأدعو هللا
هلما ،أتقرب به إىل هللا عز وجل.
( )4وعن أيب خالد األحر ،قال :سألت عبد هللا بن حسن ،عن أيب بـكر
وعمر ،فقال :صلى هللا عليهما ،وال صلى على من ال يصلي عليهما.
( )5وعن احلسن بن صاحل بن حي ،قال :سعت عبد هللا بن احلسن ،قال:
169 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
هكذا روي ،وقد تقدم حنوه عن اإلمام علي ،ولكن اجلزم بأن اإلمام النفس
الزكية كان يعتقد تفضيل أيب بـكر وعمر على علي حيتاج إىل تثبت؛ ألن ما يروى
عنه من خطب ومقاالت تدل على خالف ذلك.
وخبالف ما اشتهر عنه روى السيد حيدان عنه أنه انتقد الطريقة اليت متت هبا
بيعة كل واحد من اخللفاء ،فقال« :فنظر علي للدين قبل نظره لنفسه؛ فوجد
حقه ال ينال إال بالسيف املشهور ،وتذكر ما هو به من حديث عهد جباهلية،
فكره أن يضرب بعضهم ببعض فيكون يف ذلك ترك األلفة .فأوصى هبا أبو بـكر
إىل عمر عن غري شورى ،فقام هبا عمر وعمل يف الوالية بغري عمل صاحبه،
وليس بيده فيها عهد من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وال تأويل من
كتاب هللا ،إال رأي توخاه هو فيه مفارق لرأي صاحبه؛ فجعلها بني ستة ،ووضع
عليهم أمراء أمرهم إن هم اختلفوا أن يقتلوا األقل من الفئتني ،وصغروا من أمرهم
ما عظم هللا ،وصاروا سبباً لوالة السوء ،وسدت عليهم أبواب التوبة ،واشتملت
عليهم النار مبا فيها ،وهللا جل ثناؤه باملرصاد».
وهذا إن صح عنه ،وكان معناه :أنه حكم على اخللفاء بالنار ،فهو رأي ال
نراه صواباً ،وال يتحمل الزيدية تبعته ،واالعتذار له أوىل من االحتجاج به.
الصـادق جعفربن محمد بن علي (148هـ) اإلمام َّ
الصـادق من رموز أهل البيت وسلفهم الصاحل وقداإلمام جعفر بن حممد َّ
ابتلي -كأبيه وجده -بالتـَّق ُّول عليه يف حياته وبعد وفاته ،خصوصاً يف مسأليت
الصحابة ،لذلك كان حريصاً على بيان موقفه بعبارات قوية وواضحة، اإلمامة و َّ
حىت قال اإلمام حيىي بن حزة« :كان شديد احملبة أليب بـكر وعمر ،وقد روى
عنه خلق عظيم أنه كان يرتحم عليهما» .وذكره كل من القرشي ،واإلمام
171 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
أبو بـكر وعثمان ابنا أيب شيبة ،وأبو نعيم الفضل بن دكني ،وعبد هللا بن علقمة،
وغريهم.
وعن موقفه جتاه اخللفاء؛ ذكر أبو عبد هللا العلوي أن حيىي بن آدم -وهو
من مشاهري احملدثني -جاء ليبايع اإلمام حممد بن إبراهيم طباطبا بن إساعيل
الديباج ،فاشرتط عليه حممد شروطاً .قال حيىي بن آدم :أبايعك على ما بايع
أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عثمان بن عفان .قال له
ُ عليه
حممد :إن شئت فبايع على ما أقول لك ،وإن شئت على ما تقول ،وإن شئت
فال تبايع .فبايعه حيىي واشرتط عليه حممد ،فقال له حيىي :ما استطعت ،فقال له
حممد :هذا قد استثناه لك القرآن.
ويف هذا داللة على مقدار التفاهم واملودة اليت كانت بني أئمة أهل البيت،
وأئمة أهل السنة ،ولو كان اإلمام ابن طباطبا يذهب إىل رأي الروافض ملا قبلوه
وارتضوه إماماً هلم ،وهم شديدو احلساسية يف هذا الباب.
القـرن الثـالث
اإلمام القاسم بن إبراهيم الرس ي (246هـ)
هو جد اإلمام اهلادي حيىي بن احلسني ،ومن أبرز أئمة الزيدية ،وأحد مراجع
اإلمام اهلادي يف الرواية والفتوى.
ويف موقفه من اخللفاء روى اإلمام اهلادي علي بن جعفر احلُقْي ِين (املتوىف
الصحابة الذين تصدروا للخالفة، 499هـ) أن اإلمام القاسم بن إبراهيم ،أوكل أمر َّ
ْ َ
(يعين أبا بـكر وعمر وعثمان) ،إىل هللا واكتفى يف ذلك بقول هللا تعاىل﴿ :ت ِل ٌ
كٌ
ح َّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ح ْ َ َ َ ْ ح ْ َ َ ح ْ َ ح َ َ َّ َ ح َ ْ َ ح َ
ون﴾[البقرة:
ونٌعماٌاكنواٌيعمل ٌ
الٌتسأل ٌ
تٌولك ٌمٌماٌكسبت ٌمٌو ٌ
ت ٌ له ا ٌ م ا ٌ ك سق ٌ
أمةٌٌق ٌدٌخل ٌ
الصحابة عند الزيدية 174
.]134
ومن هذه الرواية استنتج كل من اإلمام حيىي بن حزة واإلمام املهدي أحد بن
حيىي املرتضى والقاضي حيىي بن احلسن القرشي أنه مل يكن يسب وال يرتضي
السب ،وقال اإلمام حيىي بن حزة :وهذه هي السالمة ملن أرادها.
ََ ْ
ض ٌاهللٌ وحينما سأله ولده حممد بن القاسم عن قول هللا عز وجل﴿ٌ :لو ٌد ٌ َر ِ ٌَ
ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ
علي ِه ٌمٌ تٌالشج ٌَر ٌةٌِفعل ٌَِمٌماٌ ِ ٌ
فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأنز ٌلٌالسكِين ٌةٌ ٌ كٌَت ٌ
نيٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌنٌالـمؤ ِمنِ ٌ
ع ٌِ
َ َ ََ
َوأث َاب حه ٌْم ٌف ْت ًحا ٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح .]18 :أجاب« :كل مؤمن زكي ،بايعه حتت الشجرة،
فقد رضي هللا عنه ،كما قال سبحانه ال شريك له».
ويف هذا إشارة إىل أنه ال ميانع من الرتضية على أصحاب بيعة الرضوان،
ومعلوم أن اخللفاء الراشدين كانوا يف مقدمتهم.
وعنه روى اإلمام حيىي بن حزة أنه قال« :ننكر أفعاهلم -يف التقدم على
الرافضة فنُفرط» ،وذكر أن هذه الرواية ُرويت
علي -ونسخط ،وال نقول قول َّ
حبضرة املؤيد باهلل .واعتربها تصرحياً من اإلمام القاسم بتحرمي األذية والسب،
ودالة على سالمة األمر من جهته يف حق اخللفاء ،وهلذا صرح بأن قول الرافضة
إفراط وغلو ،وليس يرتضيه مذهباً لنفسه ،ولو كان صواباً وحقاً لقال به ،وحاشا
بصريته النَّافذة وورعه الذي فاق به نظراءه؛ أن يصدر من جهته ما ال يليق
بذلك».
وأشد ما يروي اجلارودية عن اإلمام القاسم الرسي؛ ما ذكر اإلمام أحد بن
سليمان :أنه أقام بغريب مصر ،وأن أناساً سألوه عن أيب بـكر وعمر فقال:
صديقة ،ماتت وهي غضبانة عليهما ،وحنن غاضبون صديقةٌ ابنة ِ
«كانت لنا أمٌّ ِ
لغضبها».
175 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
وهذا ال يتجاوز -عند صحته -كونه تعبري عن استنكار ملوقف أيب بكر
من مرياث فاطمة ،وال يدل على سب أو براءة.
وقد ُسئل القاسم عن مرياث النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،فقال« :إن
رسول هللا تويف وقد فرق كل ما ميلك من الدنيا على أمته ،ومل يرتك إال سـالحه،
فأخذه علي بن أيب طالب» .ومل يكن مهتماً مبا يروى من خصومة الزهراء
والشيخني ،حىت إنه سـئل عن (فدك) ،فقـال« :ذُكر أن رسول هللا صلى هللا عليه
وآله وسلم أعطى فاطمة فدك» .هكذا بصيغة الت َّْمريض.
رأيٌاإلمامٌاهلاديٌبنيٌالَتضيةٌواتلوقفٌ
استند من خلُص إىل أن اإلمام اهلادي كان ُحيسن الظن باخللفاء الراشدين
وال يسيئ القول فيهم إىل عدة أمور:
بن حيىي« :هذا رأس أئمة العرتة وقِْبلةُ أهل مذهبنا ُمص ِرح بتويل َّ
الصحابة ،فكيف
يتوقف من يدين هللا حبب أهل البيت واالهتداء هبديهم عن الرتضية عمن هم
عنه راضون»؟!
وأضاف أنه إمنا يعين بقوله« :وال أسب إالَّ من نقض العهد والعزمية ...اخل»
طعن إال منه وأصحابه ،وهو سب علي عليه السالم معاوية وأتباعه؛ إذ مل يكن ٌ
على رؤوس املنابر ،وأما اخللفاء فلم يكن منهم إال التعظيم ،وال كان منهم مترد
على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم».
وخلص بعد حتليل لكالم اإلمام اهلادي إىل أنه كان يوايل اخللفاء ويرضي
عنهم ،فقال« :فوجب القطع بعد معرفة هذه اجلملة من كالمه بأنه عليه السالم
يوجب مواالهتم والرتضية عنهم».
وعقَّب اإلمام عز الدين بن احلسن على ما ذكر اإلمام حيىي بن حزة من
توقف اهلادي وعبد هللا بن حزة ،بقوله« :قد وقفنا هلذين اإلمامني على كالم من
جنس ما ورد عن أمري املؤمنني واحلسنني ومن ذكر معهم» .يعين من الثناء والتويل.
ومثله رجح احلافظ حيىي بن احلسـني ،فذكر :أن يف رواية للهادي الرتضية
عنهم.
وقبلهم جزم القاضي الكبري حيىي بن احلسن القرشي أن «املعلوم من حال
الصحابة ،وال يفسقهم».
اإلمام اهلادي أنه ما كان يكفر َّ
اْلمـرٌاثلــاين :أنه عاقب من جترأ على سب أيب بـكر وعمر ،فقد روى أحد
بن سعيد الربعاين أن قوماً من أهل صنعاء سبوا أبا بـكر وعمر يف مدة والية
اإلمام اهلادي ،فأمر جبلدهم ،واستدل على ذلك بأن رسول هللا لعن من سب
الصحابة.
َّ
الصحابة عند الزيدية 178
ويبدو أن اإلمام اهلادي عمل مبوجب احلديث الذي رواه اإلمام علي بن
موسى الرضا عن علي قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم« :من سب
نبياً قُتل ،ومن سب صاحب نيب ُجلد» .أما استدالله بأن رسول هللا لعن من
الصحابة ،فجاء يف حديث من رواية ابن عباس ،تقدم ِذكره.
سب َّ
اْلمـرٌاثلـالث :أنه اعتمد يف أحكام شرعية على روايات عن النيب صلى هللا
عليه وآله وسلم وردت من طريق اخللفاء الراشدين ،فلو كان أحد منهم ساقط
العدالة يف نظره مل يأخذ مبا جاء من طريقه ومل جيعله واسطة بينه وبني املشرع.
وهذا ما أشار إليه اإلمام حيىي بن حزة حني تساءل« :وكيف يؤثر عنه الطعن
الصحابة ،وكتابه (األحكام) مشحون باالحتجاج بالرواية عن القوم، يف َّ
فسقهم ،ملا كان هنالك معىن
وأقضيتهم وأحكامهم؟! فلو كان قد كفَّرهم أو َّ
لالحتجاج بأقواهلم».
اْلمـرٌالرابـع :أن موقفه من «الرافضة» كان شديد الصرامة ،فقد وصفهم
يف كتاب (األحكام) بأهنم« :حزب ضال ،ال يُلتفت إىل ما هم عليه من املقال،
ملا هم عليه من ال ُكفر واإليغال ،والقول بالكذب والفسوق واحملال ،فهم على
هللا ورسوله يف كل أمر كاذبون ،وهلما يف كل أفعاهلم خمالفون».
وبعد أن أطال يف ذكر مساوئهم قال« :وفيهم ما حدثين أيب وعماي حممد
واحلسن عن أبيهم القاسم بن إبراهيم عن أبيه عن جده إبراهيم بن احلسن عن
أبيه عن جده احلسن بن علي بن أيب طالب عن أبيهم علي بن أيب طالب عليه
وعليهم السالم عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال« :يا علي يكون يف
آخر الزمان قوم هلم نبز يعرفون به ،يقال :هلم الرافضة فإن أدركتهم فاقتلهم قتلهم
هللا فإهنم مشركون"».
179 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
ويف موضع آخر وصفهم بأهنم « ِشْرذمة خمالفة للحق يف كل املعاين من
الكتاب والسنة وهي هذه اإلمامية الرافضة».
واشتهر عند الزيدية قوله يف كتبه األصولية« :وإىل هللا أبرأ من كل رافضي
غوي ،ومن كل حروري ناصيب» .ومعلوم أن الرباءة من «الرافضة» تعين الرباءة
الصحابة رضوانمن أبرز أفكارهم ،كالغلو يف أهل البيت ،وتطاوهلم على كبار َّ
هللا عليهم.
فمجموع هذه النصوص والشواهد تدل على أن اإلمام اهلادي كان يتوىل
الصحابة ،مبن فيهم اخللفاء الراشدين ،وال جيزم فيهم بكفر أو فسق أو
جممل َّ
سباب ،وغاية ما يذكر عنه أنه كان خيطئ املتقدمني على اإلمام علي باعتباره
كان األوىل باخلالفة من غريه ،كما أوضح ذلك يف رسالة له يف (تثبيت إمامة
اإلمام علي).
ورجحٌبعضٌالزيدية أن اإلمام اهلادي كان مييل إىل التوقف عن الوالء والرباء،
فذكر السيد اهلادي بن إبراهيم الوزير «أن اإلمام عبد هللا بن حزة أكثر من
االحتجاج على وجوب التوقف يف أمر القوم .مث قال (= إبراهيم الوزير) وهو
الذي قدمنا من كالم اهلادي عليه السالم».
وذكر اإلمام حيىي بن حزة :أن كالم اهلادي يدل على أنه متوقف عن الرتضية
والرتحم واإلكفار والتفسيق.
وهو ما أشار إليه العـالَّمة حممد بن احلسن الديلمي بقوله« :إن مذهب
الزيدية من العرتة الزكية ،بل مذهب مجيع الطهرة من الذرية وأتباعهم
سادات َّ
وأشياعهم -دون من تسمى باسهم وليس منهم :-التوقف يف أمر الشيخني،
بل بعضهم يرون مواالهتما وخيطئون من تربأ منهما ،ويظهرون حمبتهما
وفضلهما».
الصحابة عند الزيدية 180
موقفٌاإلمامٌاهلاديٌفٌرأيٌاجلاروديةٌورواياتهمٌ
كعادهتم زعم اجلاروديون أن موقف اإلمام اهلادي ال خيتلف عن موقفهم جتاه
اخللفاء ،وحشدوا إلثبات ذلك ما أمكنهم من االستدالل ،وأوردوا أقواله يف
الصحابة ،وما احتج به على ذلك ،إىل جانب تقدمي اإلمام علي على سائر َّ
انتقاده من أخروه ،واعتربوا ذلك دليالً على السخط والرباءة.
بيد أن ذلك -وإن كان معروفاً عنه -ال يدل على شيء مما ذهبوا إليه من
الرباءة ،أو احلكـم بكفر أو فسق ،فقد تقدم حنو ذلك االنتقاد عن اإلمام علي
واإلمام زيد ،وبيَّنا الفرق بني السباب واالعرتاض على املواقف والتصرفات واآلراء
واالجتهادات.
ويستدل اجلاروديون على سخط اإلمام اهلادي وشدة موقفه من اخللفاء
بأمرين:
أما نسبة الكالم فمصدره الوحيد هو ابن أيب حريصة ،يف أول نسخته اليت
مجعها ورتبها من كتاب (األحكام) ،وكرر يف أول كل باب منها« :قال حيىي بن
جتوز يف صياغة
احلسني صلوات هللا عليه» .والذي يبدو يل أن ابن أيب حريصة َّ
تلك املقدمة على أساس أهنا من أفكار اإلمام اهلادي ،وليست رواية عنه نصاً،
يدل على ذلك أمور:
- 1أن صناعة مقدمة يف أصول الدين لكتاب من كتب الفقه ،مل يكن
نفسه عن اهلادي يف
مألوفاً عند زيدية القرن الثالث ،وقد نقل ابن أيب حريصة ُ
تلك املقدمة أنه قال« :فرأينا أن نضع كتاباً مستقصى ،فيه أصول ما حيتاج إليه
من احلالل واحلرام ،مما جاء به الرسول صلى هللا عليه وآله ،ليعمل به ويتكل عليه
من ذكرنا» .وأسلوب كتابة تلك املقدمة يتناىف مع قوله« :وإين وجدت يف هذا
الكتاب أبواباً متفرقة ،وعن مواضعها نادرة يف خالل األبواب غري املشاكلة هلا
غري مرتبة».
( )2أن ُشَّراح كتاب (األحكام) كأيب العباس احلسين ،وتلميذه علي بن بالل
الكالري اعتمدا نسخة (األحكام) قبل ترتيب ابن أيب حريصة ،فلم يذكراً شيئاً
عن تلك املقدمة ،ومل يتناوالها بشرح أو تفسري.
( )3أن ابن أيب حريصة (واسه :علي بن أحد) ،شخص مغمور ومل يكن من
أصحاب اهلادي وال معاصراً له كما يتوهم بعضهم؛ فبالعودة إىل مقدمة األحكام
جند أن ابن أيب حريصة روى كتاب (األحكام) عن :احلسن بن أحد بن يوسف
بن حممد الضهري ،والضهري سعه على حممد بن الفتح بن يوسف ،وحممد بن
الفتح سعه على املرتضى حممد بن حيىي اهلادي .وهذا يعين أنه إمنا يروي عن
اهلادي بثالث وسائط.
الصحابة عند الزيدية 182
وأشف ما جاء يف التعريف به أن ابن أيب الرجال ذكر يف (مطلع البدور) أن
شخصاً يلقب بأيب الغمر قرأ يف بعض الكتب أن ابن أيب حريصة من أصحاب
اهلادي وولديه .مث نسب إليه أشعاراً مل يذكر مصدرها.
وحينما رجعت لسرية اهلادي اليت ألفها علي بن العباس مل أجد البن أيب
حريصة فيها ِذ ْكر ،ومل يتمكن أحد ممن ذكر ابن أيب حريصة أن ِ
يعرف به ،واكتفى
أصحابنا يف ترمجته على ما ذكره هو عن نفسه يف مقدمة كتاب (األحكام).
وعلى هذا فهو شخص غري معروف احلال ،فال قيمة ملا نسب إىل اإلمام اهلادي
مما مل يوافقه عليه غريه ،على أن روايته وجهالته تلك ال تطعن يف نسبة كتاب
(األحكام) مجلة إىل اهلادي ،ألنه قد روي من غري طريقه ،ودون مقدمته.
( )4أن تلك املقدمة -على فرض أهنا ليست من كالم ابن أيب حريصة -
غريبة يف مضموهنا ،كما سيأيت ،ولعلها مما أشار إليه اإلمام املرتضـى حممد بن
اهلادي حني قال« :لقد وجدت يف كتب (األحكام) اليت وضع اهلادي إىل احلق
صلوات هللا عليه باباً مزيداً عليه ،منسوباً إليه ،ما وضعه قط ،ووجد هو أيضاً
رحة هللا عليه باباً آخر موضوعاً منسوباً إليه مل يضعه ،يعمل فيه بعض من ال
يتقي هللا ،فهذا ومثله كثري ،فما وجدمت من ذلك فليس منا؛ ألنا مجيعاً متبعون
لكتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وآله وسلم ،وليس يف ذلك تناقض وال
تفاوت وال نقصان ،بل ذلك مؤتلف بأحق احلقائق وأبني البيان».
وأما معىن كالم ابن أيب حريصة املنسوب يف مقدمة األحكام إىل اإلمام
اهلادي ،فإننا عند النظر يف العبارات املذكورة فيه ،جند أن حلها على ما يريد
اجلاروديون -من أن من مل يؤمن بإمامة علي بعد رسول هللا صلى هللا عليه وآله
وسلم ،فهو منكر للقرآن والسنة ،حيكم بكفره مجيع املسلمني -فيه من اجلهل
183 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
والتعصب ما ننزه اإلمام اهلادي عنه ،حىت وإن كان يرى أن إمامة اإلمام علي
من أصول الدين؛ ألن املعلوم حىت لدى صغار الطلبة أن أكثر املسلمني ال
يؤمنون بأولوية اإلمام علي ،فضالً عن حكمهم بتخطئة من تقدمه ،فضالً عن
أن حيكموا بكفره أو فسقه ،وهذا مما ال جيهله اإلمام اهلادي ،فكيف يقطع بأن
املسلمني أمجعوا عليه؟!
وقد ذكر -يف كثري من كتبه -األصول اليت ال يتم اإلميان بدوهنا ،ومل يذكر
فيها وجوب اإلميان بتقدمي اإلمام علي يف اخلالفة على سواه ،ومل يُشر إىل ُكفر
من تقدمه فيها ،بل وجدناه يغلظ يف الرد على اخلوارج لتكفريهم أهل القبلة،
ومن ذلك قوله بعد ذكر مجلة من اآليات« :فبهذه اآليات وحنوها علمنا أن
فسقة قومنا من أهل الصالة ليسوا بكفار ،وهذا تكذيب للخوارج املارقة؛ الذين
يشهدون على أهل التوحيد واإلقرار من أهل القبلة إذا أصابوا كبرية من الكبائر
أهنم كفار باهلل العظيم ،خارجون من قبلة اإلسالم ،فنعوذ باهلل من جهلهم
وضالهلم» .هذا مع أن اخلوارج مل يرفضوا إمامة علي فحسب ،بل قاتلوه وكفروه.
ومل يستسغ اإلمام حيىي بن حزة ظاهر ما جاء يف تلك املقدمة ،فرأى :أنه
«حممول على من أنكر أن يكون رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال« :من
كنت مواله فعلي مواله» وقوله« :أنت مين مبنزلة هارون من موسى».
وأضاف« :وإمنا وجب حل كالم حيىي على ما ذكرناه ألمرين؛ أما األول:
فألن ظاهر كالمه يوجب إكفارهم وردهتم ،ومل يؤثر عن حيىي شيء من هذا وال
عن غريه من أكابر أهل البيت أصالً ،وأما الثاين :فألن كتاب (األحكام)
مشحون باالحتجاج برواية القوم وأقضيتهم وأحكامهم والرجوع إليهم يف أمور
احلوادث؛ ولو كانوا كفاراً أو فساقاً لكان ال معىن لالحتجاج بأقواهلم
الصحابة عند الزيدية 184
وأقضيتهم».
وقال القاضي حيىي بن احلسن القرشي يف (املنهاج)« :وأما ما روي عن اهلادي
عليه السالم يف (األحكام) من أن من أنكر النص على أمري املؤمنني فقد كذب
هللا ورسوله ،ومن كذب هللا ورسوله فقد كفر؛ فمعناه :من أنكر ورود هذه
النصوص وهي قوله﴿ :إنماٌوِلكمٌاهللٌورسول﴾ اآلية ،وقوله صلى هللا عليه وآله
وسلم« :من كنت مواله» اخلرب ،وكذلك خرب املنزلة ،فمن زعم أن هذا مل يرد،
فهو مكذب .وليس املراد :من أنكر داللتها على اإلمامة؛ ألن املعلوم من حاله
عليه السالم أنه ما كان يكفر الصحابة وال يفسقهم ،وكيف يقطع عليهم
باإلكفار جملرد اخلطأ يف مسألة قطعية».
ومل يعقب عليه اإلمام عز الدين بن احلسن يف (املعراج شرح املنهاج) ،وكأنه
ارتضاه.
ومثل كالم القرشي قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي ،واستنتج من كالم
للهادي يف كتاب (اجلملة)« :أن املؤمنني إذا أذنبوا ذنباً وهم يظنونه غري ذنب
لشبهة؛ فإنه ال جيوز ترك حمبتهم وإجراء حكم املؤمنني عليهم ،مث قال :فوجب
القطع بعد معرفة هذه اجلملة من كالمه بأنه عليه السالم يوجب مواالهتم والرتضية
عنهم».
وميكن أن نضيف إىل ما ذكر األئمة أن ذلك الكالم -على فرض صحته
عنه -جاء عن أولوية اإلمام علي املستفادة من جممل األدلة ،ال عن ثبوت احلق
يف اخلالفة .وأبو بـكر وعمر مل ينكرا أن علياً كان يتمتع مبؤهالت جتعله أهالً
للخالفة ،ولكن األمر ذهب إىل غريه ألسباب سياسية واجتماعية.
وهذا ما دفع اإلمام عبد هللا بن حزة إىل القول« :إن أبا بـكر مل يكن ينكر
185 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
شرف بيته وال علو صيته ،وأنه من الرئاسة مبحل القطب من الرحى ،وأنه يف علو
شرفه بقرابته صلى هللا عليه وآله وسلم حبيث ال يرقى إليه الطري وال غثاء السيل.
ولكن ما يف ذلك مما يدل على أنه علِم إمامته ضرورة».
ويؤيد ذلك أن نصر بن مزاحم املنقري وهو من مؤرخي الزيدية روى أن اإلمام
علي بن أيب طالب رضي هللا عنه قال من خطبة له« :إن هللا بعث حممداً صلى
هللا عليه وآله وسلم فأنقذ به من الضاللة ،ونعش به من اهللكة ،ومجع به بعد
الفرقة ،مث قبضه هللا إليه وقد أدى ما عليه ،مث استخلف الناس أبا بـكر ،مث
استخلف أبو بـكر عمر ،وأحسنا السرية ،وعدال يف األمة ،وقد وجدنا عليهما
أن توليا األمر دوننا ،وحنن آل الرسول وأحق باألمر ،فغفرنا ذلك هلما ،مث ويل
أمر الناس عثمان فعمل بأشياء عاهبا الناس عليه ،فسار إليه ناس فقتلوه».
وهذا يدل على أن اإلمام علي سلَّم لألمر الذي أبرمه الصحابة ،وإن كان
يرى أنه أوىل باخلالفة.
ب -كتاب :تثبيت اإلمامة:
«تثبيت اإلمامة» عنوان كتيب نسب إىل اإلمام اهلادي يتضمن هجوماً
شديداً على أيب بـكر وعمر ،بلغ حد التجريح والسباب ،واللعن ،واحلكـم
بالضاللة والكفر والطغيان .وهو ما استغله بعض اجلارودية لتسويْغ موقفهم،
واستبشر به بعض اإلمامية لتأييد مذهبهم يف اخللفاء .بل اضطرب يف شأنه بعض
الزيدية ،وبىن كثري من الناس -يف ضوئه -مواقف سلبية من اإلمام اهلاديَّ
خصوصاً ،ومن زيدية اليمن عموماً.
وقد أدركت -بعد البحث والدراسة -أن ال عالقة لإلمام اهلادي بتلك
الرسالة ،لذلك أجد أنين مضطر لتقدمي ما يستأنس به الباحثون ،حىت ال يُنسب
الصحابة عند الزيدية 186
إىل اإلمام ما مل يقل ،وتشوه الزيدية مبا ليس عندها ،معتمداً يف ذلك على
مسلكني:
املسلك األول :تفنيد نسبة الرسالة إىل اإلمام اهلادي ،وذلك من عدة أوجه:
اْلول :املشهور عند علماء الزيدية ،املذكور يف إجازاهتم ،املروي بأسانيدهم،
الثابت يف جمموع كتب اإلمام اهلادي ،رسالة بعنوان« :تثبيت إمامة اإلمام علي»،
أوهلا« :إن سأل سائل أو تعنت متعنت جاهل عن تثبيت إمامة أمري املؤمنني
علي بن أيب طالب رضوان هللا عليه »...وهي مطبوعة ضمن (جمموع كتب اإلمام
اهلادي) ،وموجودة يف النسخ املخطوطة .وهي عبارة عن احتجاج على أولوية
اإلمام علي باخلالفة بعد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وليس فيها لعن
وال طعن وال تكفري وال تفسيق ال للخلفاء وال لغريهم.
أما الرسالة املزعومة اليت ننفي ثبوهتا عن اإلمام اهلادي ،فأوهلا« :احلمد هلل
ات واألرض وجعل الظلمات والنور ُمثَّ الذين كفُروا برهبم الَّ ِذي خلق َّ
السمو ِ
حنمده على ما خصنا به ِ
يـ ْعدلُون ،ال نُشرك باهلل وال نتخذ من دونه إهلاً وال ولياًُ ،
من نعمه ،ودلَّنا عليه من طاعته ،واستنقذنا به من اهللكة برحته ،و َّ
بصرنا من
سبيل النجاة».
وموضوعها ال يتناول ما يشري إليه عنواهنا ،فليس فيها شيء عن (تثبيت
اإلمامة) أصالً ،ولكنها جمرد مقاطع متفرقة ،خمصصة لتجريح أيب بـكر وعمر،
وقد رأيت كثرياً من مضامينها يف كتاب يسمى (االستغاثة من بدع الثالثة) ألفه
"علي بن أحد بن موسى الكويف اإلمامي (املتوىف سنة 352هـ)" .أجرى فيه سيالً
وتقوالت حتتاج إىل مراجعة وتثبت.
من الشتائم والتجريح ،وضمنه دعاوى ُّ
وأنا أرجح أن من كتب تلك الرسالة اعتمد على ذلك الكتاب بشكل
187 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
عن اإلمام اهلادي ،ولذلك مل يذكرها يف شيء من إجازاته لكتب اإلمام اهلادي،
ومل ينقل عنها شيئاً يف كتبه.
الرابع :بعد حبث وتتبع وجدت أن أول ظهور لتلك الرسالة كان يف القرن
السابع اهلجري ،وهو القرن الذي تدفقت فيه كتب اإلمامية إىل اليمن ،وعلت
فيه نربة اجلارودية ،فأدرج احلسن بن بدر الدين (املتوىف 670هـ) تلك الرسالة
ضمن كتابه (أنوار اليقني) ،وهو معروف بتساهله يف النقل والتوثيق ،وواضح من
كتابه أنه حشر فيه ما وقعت عليه يده من رواية اإلمامية وحشو اجلارودية ،حىت
إن احلافظ إبراهيم بن القاسم بن املؤيد باهلل اعترب :أن ما يف (أنوار اليقني) خارج
الزيدية إىل منهج اإلمامية ،فقال« :ذكر فيه أشياء عجيبة ،ومناقب عن منهج َّ
مجة ،مييل فيه إىل ما يرجحه املرتضى والرضي املوسويان ،وغريمها من األشراف
احلسينيني من أن اخلطأ من املتقدمني على اإلمام علي عليه السالم كبرية ،وأن
النص يف إمامته صريح».
الزيدية شكك يف وجود حمتوى تلك الرسالة حىت ضمن بل إن بعض علماء َّ
كتاب (أنوار اليقني) ،حيث قال السيد اهلادي بن إبراهيم (822هـ)« :اإلمام
الصحابة».
احلسن بن بدر الدين له كتاب (أنوار اليقني) وال تصريح فيه بسب َّ
وهذا ما جعل السيد حيىي بن احلسني يستنتج «أن هذا يدل على أن ما يف
النسخ من ذكر الكفر مدسوس عليه؛ ألن السيد اهلادي ذكر أنه ال تصريح فيه
بشيء من السب يف النسخ الصحيحة ،وهو كما قال .وأضاف :وما ذكر يف
(أنوار اليقني) يف بعض القصائد من ذكر الكفر فهو موضوع مدسوس».
اخلامس :ذكر عبد الرحن األخفش أنه نسخها «من نسخة مكتوبة سنة
189 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
(782هـ) ،وأن السيد صالح اجلالل املتوىف (805هـ) كتب عليها خبطه ما لفظه:
«هذا كتاب تثبيت اإلمامة للهادي عليه السالم ،صح يل ساعه على الوالد مجال
الدين بن اهلادي بن حيىي ،وأيضاً على والدي صالح الدين املهدي قدس هللا
روحهما يف اجلنَّـة .كتبه صالح بن اجلالل عفا هللا عنه».
وهذا يدل -بوضوح -على أن تلك الرسالة كانت جمهولة ،حيث مل تكن
معنونة وال منسوبة ألحد ،وأن السيد صالح اجلالل هو من كتب عليها خبطه
أهنا كتاب (تثبيت اإلمامة) ،وأهنا لإلمام اهلادي ختميناً منه واجتهاداً ،ال يبعد أنه
اعتمد فيه على (أنوار اليقني) ،إذ لو كانت تلك الرسالة معروفة ،لكانت معنونة
ومنسوبة ،وملا احتاج السيد صالح اجلالل إىل التربع بكتابة عنواهنا ،وختمني
نسبتها ،وكونه سعها على والده ال يدل على نسبتها إىل اإلمام اهلادي.
السادس :أننا مل جند هلا ذكرا عند علماء وأئمة الزيدية خالل ثالث مائة سنة،
أي قبل زمن احلسن بن بدر الدين وصالح اجلالل( ،القرن السابع) ،ومل ينقل
عنها أحد ممن تناولوا موضوع اإلمامة واخللفاء من علماء وأئمة الزيدية ،ومل يشريوا
إىل اسها أو مضموهنا ،خبالف رسائله األخرى اليت ظلوا ينشروهنا ويشرحوهنا
وينقلون عنها طوال القرون :الرابع واخلامس والسادس اهلجرية.
بل إن معاصري احلسن بن بدر الدين من اجلارودية ،كالسيد حيدان القاسي،
مل يذكروا تلك الرسالة ومل ينقلوا عنها ،مع شدة حرصهم على تتبع أي كالم
الصحابة واإلمامة ما هو أبعد
يُندد بالشيخني ،بينما نقل عن رسائله األخرى يف َّ
داللة وأقل وضوحاً ،وإن وجد من نقل عن تلك الرسالة ،فبعد (سنة 670هـ)
أي بواسطة (أنوار اليقني).
لقد ظلت تلك الرسالة غائبة عن تداول الزيدية ،مستبعدة عن الرجوع إليها
الصحابة عند الزيدية 190
يف االستشهاد والنقل ،مقطوعة من ذكر أي إسناد وإجازة ،حىت ظهرت على
مشارف القرن اخلامس عشر اهلجري ،وطبعت سنة (1413هـ =1993م) مع
كتاب «املنتخب وكتاب الفنون» ،واعتمد ناشر الكتاب ترمجةً كتبتُها حملمد بن
سليمان الكويف -جامع (املنتخب والفنون) -مما تسبب يف توهم بعضهم أنين
كنت على معرفة بطباعة تلك الرسالة أو أين أقررهتا ،وذلك خطأ أحببت التنبيه
فلست حمقق كتاب (املنتخب) ،ومل أكن على علم بنشر تلك الرسالة يف ُ عليه،
آخره ،وأنا ال أؤمن بصحتها عن اإلمام اهلادي.
وبعد نشرها راقت تلك الرسالة لبعض اإلخوة من أتباع مذهب اإلمامية،
فأعادوا طباعتها منفردة ،بدون أدىن حتقيق يف نسبتها إىل اإلمام اهلادي ،أو إشارة
إىل ما أثري حوهلا من شكوك.
السابع :أن تلك الرسالة املشبوهة تضمنت إحاالت على كتب ،مما تدل
على أن صاحبها ليس هو اإلمام اهلادي ،مثل قوله« :وفرقة أخرى تقول :أومأ
رسول هللا صلى هللا عليه وآله إىل أمري املؤمنني علي عليه السالم إمياء ودل عليه
وأشار إليه ،وقال فيه أقاويل تشهد له بالعدالة ويستوجب بأقلها اإلمامة،
واحتجت حبجج كثرية فيه ،وقد ذكرناها لك يف كتاب غري هذا» .وليس لإلمام
اهلادي كتاب احتج فيه على ما ذكر هنا وأحال عليه.
املسلك الثاني :حتليل حمتوى الرسالة ،والنظر يف مضموهنا وما اشتملت عليه
من نصوص ودالالت:
ً
أوال :صياغة الرسالة خمتلف متاماً عن ما هو مألوف من أسلوب اإلمام اهلادي ٌ
يف مجيع كتبه ،فمن يقرأ كتاباً أو كتابني لإلمام اهلادي ،مث يقرأ تلك الرسالة جيد
191 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
لالستدالل على كفر عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه ،وقد تقدم كالم اإلمام
اهلادي الصريح بأنه ال يُك ِفر أهل القبلة بذنب ،وإن خطأ هذا أو ذاك.
خامساً :تضمنت أحاديثاً شديدة الغرابة ،مل جند هلا ذكراً وال حىت يف كتب
املوضوعات ،مثل قوله :واحتجوا يف ما ادعوه بأحاديث عن النيب صلى هللا عليه
وآله ،منها :زعموا أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال« :ألن ختتاروا ألنفسكم
أحب إيل من أن أويل عليكم والياً ،إن أحسن كان لنفسه وإن أساء كان مين،
وكانت احلجة لكم غداً» .واحتجوا بأحاديث مثل هذا ،يغين ذكر هذا عن
ذكرها .انتهى.
وهذا ليس حديثاً ومل حيتج به أحد ،بل إن ذكره على هذا النحو يدل على
أن من أورده عامي صرف ،وجاهل ال يعرف عما يتحدث .خصوصاً أن املشهور
من منهج اإلمام اهلادي أنه يرتدد يف قبول روايات اآلحاد الصحيحة حىت يف
مسائل الفروع ،كما صرح بذاك يف غري موضع من كتبه ،فكيف يعتمد روايات
ال ذكر هلا وال أصل يف مسائل الوالء والرباء؟!
ً
سادسا :أهنا تضمنت سباً ولعناً وطعناً وتكفرياً صرحياً أليب بـكر وعمر،
ٌ
واملعروف عن اهلادي خالف ذلك كما قدمنا ،استناداً إىل كتبه املشهورة ،وما
نقله أئمة معتربون عنه.
أضف إىل ذلك أن أئمة الزيدية املتقدمني -خاصة املهتمني بفكر اإلمام
اهلادي ومنهجه كاإلمام املؤيد باهلل -رووا إمجاع األئمة على جتنب السب
وأحكام التكفري والتفسيق ،حىت جزم اإلمام حيىي بن حزة (749هـ) -على سعة
اطالعه -أنه «مل يؤثر عن حيىي بن احلسني وال غريه من أكابر أهل البيت تكفرياً
للصحابة».
193 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
وأيد ذلك اإلمام عبد هللا بن حزة (614هـ) ،فأكد -يف معرض رده على
من زعم أن من الزيدية من يسب الصحابة -أنه «ال ميكن أحداً أن يصحح
دعواه على أحد من سلفنا الصاحل أهنم نالوا من املشايخ أو سبوهم».
وقبلهم ذكر اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين (411هـ) -وهو من
أكثر األئمة تتبعاً لكالم اإلمام اهلادي « -أنه ما يعلم أن أحداً من العرتة يسب
الصحابة» .قاطعاً بأن «من قال ذلك فقد كذب». َّ
وهؤالء مجيعاً ال جيرؤون على حكاية إمجاع خيالفه اإلمام اهلادي ،كيف
وبعضهم يقول :لو أمجع األسود واألحر ،وخالف اإلمام اهلادي مل يكن إمجاعاً!!
فمن غري الوارد أن جيهل مجيع أولئك األئمة والعلماء ما ورد يف الرسالة املذكورة،
وهم األكثر عناية بنصوص اإلمام اهلادي ،أو أن يتواطؤوا على إغفاهلا وجتاوزها
وتأولوها على األقل ،كما تأول ما
مع علمهم هبا؟! فلو كانت موجودة لذكروها َّ
جاء يف مقدمة كتاب (األحكام) ،وتقدم الكالم عنه.
هذا كله جيعلنا نرجح بأن الرسالة املذكورة ال متت إىل اإلمام اهلادي بصلة،
دوهنا مؤرخ ُمتحامل ،مث ُحشرت يف كتب اإلمام اهلادي دون وأهنا جمرد ثرثرة َّ
دراسة وحتقيق يف شأهنا ،فوافقت أهواء قوم استغلوها لالستشهاد هبا ،أو انتقاد
اهلادي بسببها.
القـرن الرابع
اإلمام الناصرالحسن بن علي األطروش (304هـ)
* قال الشيخ أبو القاسم البسيت« :وكان الناصر للحق يرتحم عليهما ويثين
عليهما يف كتبه» .يعين أبا بكر وعمر.
الصحابة عند الزيدية 194
باخلريين ،فقال« :ويكفي * وصف اإلمام الناصر األطروش أبا بـكر وعمر ِ
يف بيان ذلك (يعين القول باإلحباط) من عقل وتدبر القرآن ،ما أنزل عليه يف
َ َ ُّ َ َّ َ َ ح َ َ َ ح َ ْ َ ح ْ َ ْ َ
الٌت ْرفعواٌٌأص َواتك ٌمٌفو ٌ
قٌ اخلريين أيب بـكر وعمر بقوله تعاىل﴿ :ياٌأيهاٌاَّل ٌ
ِينٌآمنواٌ ٌ
ح ْ َْ َ ْ ََْ َ َ ْ َ ح ح ْ َْح ْ َ َّ ِّ َ َ َ ْ َ ح َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ
طٌأعمالك ٌمٌ َوأن ٌت ٌمٌ ٌ
الٌ نٌَتق ٌ لحٌبِالوو ٌِلٌكجه ٌِرٌبع ِضك ٌمٌ ِبلع ر ٌ
ضٌأ ٌ الٌَتهرواٌ ٌ
بٌو ٌتٌانل ِ ٌ
صو ِ ٌ
َْ ح َ
ون﴾ [الحجرات.]2/تشع حر ٌ
قال :فإذا كان مثل عمل أىب بـكر وعمر وإقرارمها الذي هو إمياهنما حيبط
ويبطل إذا رفعا أصواهتما فوق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،مع مكاهنما يف
اإلسالم ،فما يكون حال سوامها».
* وذكر الشيخ أحد الكين أن الناصر قال يف آخر كتاب اإلمامة« :ومل أصف
ما وصفت من اعرتاضهم هذا إرادة مين لدفع فضل أيب بكر رضي هللا عنه حقه
وصحبته من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وإين حملب له واحلمد هلل
تعاىل».
* روى اإلمام حيىي بن حزة واإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى والعالمة
الصاحب بن عباد كان يقول :عنـدي خبط الناصر حيىي بن احلسن القرشي ،أن َّ
الرتحم عليهمـا .يعين أبا بـكر وعمر.
195 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
فجعل الوالء واحملبة واجب ملن ثبت على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله،
دون املنافقني واملرتدين خاصة.
* حدَّث أبو علي التنوخي ،قال :حدثنا أبو احلسن بن األزرق ،قال :كنت
حبضرة اإلمام أيب عبد هللا بن الداعي ،فسأله أبو احلسن املعتزيل عما يقوله يف
طلحة والزبري ،فقال :أعتقد أهنما من أهل اجلنَّـة ،قال :ما احلجة؟ قال :قد رويت
توبتهما ،والذي هو عمديت أن هللا بشرمها باجلنة .قال :فما تنكر على من زعم
أنه صلى هللا عليه وآله قال :إهنما من أهل اجلنَّـة ،ومقالته :فلو ماتا لكانا يف
اجلنَّـة ،فلما أحدثا زال ذلك؟ قال :هذا ال يلزم ،وذلك أن نقل املسلمني أن
بشارة النيب صلى هللا عليه وآله سبقت هلما ،فوجب أن تكون موافاهتما القيامة
على عمل يوجب هلما اجلنَّـة ،وإال مل يكن ذلك بشارة.
فدعا له املعتزيل واستحسن ذلك ،مث قال :وحمال أن يعتقد هذا فيهما ،وال
يعتقد مثله يف أيب بـكر وعمر ،إذ البشارة للعشرة.
* وقال الذهيب يف ترمجته من (سري أعالم النبالء) :كان ميتنع من الرتحم على
الصحابة.
معاوية ،وال يشتم َّ
197 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
القـرن الخامس
اإلمام املؤيد باهلل أحمد بن الحسين الهاروني ( 411هـ)
* وروى الشيخ أبو سعيد قال :سعت القاضي يوسف خطيب املؤيد باهلل،
قال :سعت املؤيد باهلل يقول« :احلمد هلل إنين ازداد كل وقت هلما حباً -يعين
أبا بـكر وعمر -وكان يف آخر عمره جيتهد يف الدعاء إىل فضلهما ،ويظهر ذلك
من نفسه».
* ويف معرض بيان مواقف أئمة الزيدية قال« :لو قيل لواحد ممن يدعي بزعمه
كفراً أو فسقاً يف حقهم :أرين نصاً من جهة األئمة صرحياً أنه يتربأ فيه من الشيخني
مل ميكنه ذلك».
الصحابـة ،ومن
* وقال أيضاً« :ما أعلم أح ـداً من العرتة عليهم السالم يسب َّ
قـال ذلـك فقد كذب».
* ويف جواب له على سؤال عمن يتربأ من أيب بـكر وعمر وعثمان ،قال« :إن
اخلطأ الذي كان منهم ال يبلغ حد التكفري والتفسيق والرباءة».
* وقال اإلمام حيىي« :وكان املؤيد باهلل يف أول عمره وعنفوان شبابه متوقفاً
عن الرتضية ،مث ترحم عليهما يف آخر عمره».
* وذكر القاضي أحد بن حيىي حابس ،نقالً عن شيخ األئمة عبد هللا الدواري:
أن املؤيد باهلل ممن كان يرى الرتضية على املشايخ املتقدمني على علي عليه
السالم.
* ولإلمام املؤيد باهلل رسالة يف اجلواب على رسالة لرجل اسه (قابوس) ،طعن
الصحابة .ذكرها احلاكم اجلشمي يف (جالء األبصار). فيها على َّ
الصحابة عند الزيدية 198
* واعتمد املؤيد باهلل يف كتبه احلديثية خصوصاً (شرح التجريد) الرواية عن
الصحابة ومل يرتدد يف االحتجاج مبا روي عنهم.
اخللفاء وكبار َّ
الشيخ أبو القاسم البستي ( 420هـ)
الزيدية يف عصره أبو القاسم إساعيل بن علي البسيت باباً
* خصص شيخ َّ
الصحابة الذين تقدموا
من كتابه (التحقيق يف التكفري والتفسيق) للكالم عن َّ
اإلمام علياً ،فذكر ما يؤخذ على أيب بكر ،وما حيتج به من الروايات إلدانته،
وفنَّدها واحدة واحدة ،مث قال« :إن يف مجلة ما ذكرنا ما ليس بذنب ومعلوم
وقوعه ،وفيه ما ليس بذنب ومل يُعلم وقوعه ،وهو حق عند غرينا ،فال يعلم أنه
فسق .وفيه ما هو ذنب كبري لكنه غري ثابت».
مث استطرد يف ذكر ما يروى عن عمر ،وفنَّده مث قال« :وسائر ما يقدح به يف
عمر فالقول فيه كالقول فيما سلف».
مث ذكر ما يروى يف شأن عثمان وفنَّده ،وأكد أن حصاره وقتله كان ظلماً،
و َّ
أن أفاضل الصحابة مل يرضوا به؛ ألهنم كانوا ال يرضون بالظلم والعدوان .مث
قال« :فقد بان هبذه اجلملة أنه ال شيء من هذه األمور ميكن القطع به على
فسقه ألجله».
األولون قد علموا
* واستبعد أن الصحابة وهم أهل بيعة الرضوان واملهاجرون َّ
إمامة علي مث عدلوا عنه وخالفوه وعقدوا لغريه .وأكد أهنم حىت لو علموا وفعلوا
ذلك فإنه ال داللة تدل على أن العدول عن طاعة اإلمام مع العلم هبا ابتغاءً
للرئاسة فسق مبجرده ،إذ القياس ال يوصل إليه ،والنص فيه مفقود ،واإلمجاع غري
ثابت ،فالتوقُّف فيه الزم كما يلزم التوقُّف يف حال من عدل عن أمري املؤمنني
مع الشك يف حاله واعتقاد أنه غري إمام.
199 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
مث أطال الكالم يف شرح شأن القاعدين عن اإلمام علي والناكثني بيعته
واحملاربني له .وقد أوردنا كثرياً منه فيما تقدم.
اإلمام املوفق باهلل الجرجاني ( 420هـ)
* حكى حيىي بن احلسني عن اإلمام املوفق باهلل القول بالرتضية على اخللفاء.
* وروى عنه اإلمام املهدي أنه قال« :فإن قيل :فما حكم من خالف هذه
النصوص الدالة على إمامة أمري املؤمنني ،هل يفسق؟ قيل له :إنه يكون خمطئاً
غري كافر وال فاسق .ومن أجل ذلك أن أمري املؤمنني كان يوليهما الذكر اجلميل
ويثين عليهما الثناء احلسن؛ فلو كانوا فساقاً ملا أوالهم أمري املؤمنني الذكر
اجلميل».
* قال اإلمام املهدي أحد بن حيىي ،قلت« :وكالم اجلرجاين رضي هللا عنه
هو عني ما اخرتناه يف كتابنا هذا» .يعين الرتضية.
اإلمام أبو طالب الهاروني ( 424هـ)
* عده احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم يف القائلني بالرتضية .ومل أقف يف
كتبه على ما يؤيد هذه الرواية؛ غري أين وجدته يف كتاب (التحرير) يف الفقه
وكتاب (اجملزي) يف أصول الفقه حيتج بأقوال الصحابة وأفعاهلم ويرضي عليهم.
إىل جانب أنه ذكر يف كتاب (الدعامة يف مسألة اإلمامة) أن النص على إمامة
اإلمام علي استداليل ،وذلك يرشدنا إىل أنه مل يكن حيكم بأكثر من التخطئة.
وشن يف كتابه املسمى بـ«الدعامة يف مسألة اإلمامة» هجوماً على الرافضة
وأسهب يف الرد والتشنيع عليهم.
* وذكر اإلمام حيىي بن حزة أن ما يروى عن السيد أيب طالب من أن اخلروج
الصحابة عند الزيدية 200
على إمام احلق يكون بغياً وفسقاً؛ صحيح باإلمجاع ،ولكنه مل يكن من جهة أيب
بكر وعمر خروج على أمري املؤمنني أصالً حىت يلزم فسقهما وبغيهما.
وأضاف :ويؤيد ما ذكرناه هو أن (شرح التحرير) مشحون بذكر االستدالل
والرواية عن الشيخني يف األخبار واألقضية والفتاوى ،ولو كانا فاسقني عنده مل
يكن لالحتجاج بشيء من أقواهلما وأقضيتهما معىن.
* وروى عن الشيخ أحد بن أيب احلسن الكين الزيدي أن كالم اإلمام أيب
طالب يف املتقدمني على علي ،كان يف أيام متقدمة من أول عمره وعنفوان شبابه،
حني كان إمامياً يرى رأي اإلمامية .أما بعد أن صار زيدياً حمققاً يف األصول،
فال نظن به أنه قائل ذلك ومعتقد له.
ُ َ
الحق ْيني ( 490هـ) اإلمام الهادي
اإلمام اهلادي علي بن جعفر احلُقيين من أئمة الزيدية ،اخلارجني يف بالد
الديلم من املشرق اإلسالمي.
ويف مسألة اخللفاء قال يف دعوته اليت كشف فيها عما ميكن أن نطلق عليه
الصحابة الذين تصدروا
«برناجمه الفكري» الذي يعتقد ويدعو إليه« :أما كبار َّ
لإلمامة ،وهنضوا باخلالفة فال أغض نفوسهم وأغراضهم ،وال أقابل بالشتم
أعراضهم ،بل أجد موجدة الزاري عليهم واملسرتيد منهم؛ لتمسكهم باحملتمالت
وتعلقهم بالتأوالت ،وأكل أمرهم إىل هللا تعاىل».
الحاكم املحسن بن كرامة الجشمي ( 494هـ)
َ ح
اٌُالـم َها ِج ِر ْي َن﴾ [الحشر ]8/أن ذلك
ح
ذكر احلاكم يف تفسري قوله تعاىل﴿ :للفو َر
«يدل على فضل الصحابة وعظيم شأهنم وحملهم يف اإلسالم ،وأن الواجب
201 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
القـرن السادس
الحافظ أحمد بن أبي الحسن الكني ( 560هـ)
* وحكى القاضي أحد بن حيىي حابس ،عن شيخ األئمة عبد هللا الدواري
الزيدية أحد بن أيب احلسن الكين كان ممن يرى الرتضية على املشايخ
أن شيخ َّ
املتقدمني على علي عليه السالم.
* تضمنت كتبه اليت منها (كشف الغلطات) و(املناظرة) دفاعاً عن املشايخ،
ونقالً لنصوص األئمة يف الثناء عليهم .ونقل عنه الفقيه حيىي بن حيد أنه ذكر
يف كتاب (كشف الغلطات) أنه مل يؤثر عن أحد منهم السب وال التصريح
بالفسق .وروي عن كثري منهم الرتضية والرتحم واملدح ،مثل اإلمام زيد بن علي
الصـادق والناصر الكبري واملؤيد باهلل يف كالم طويل.
وجعفر َّ
َّ
عالمة اليمن نشوان بن سعيد الحميري ( 573هـ)
* ذكر احلافظ حيىي بن احلسني :أن عالمة اليمن نشوان بن سعيد احلمريي
الصحابة
كان يرضي عن املشايخ ،وأنه قال يف (مشس العلوم) :الذين يتكلمون يف َّ
إمنا هم من حية اجلاهلية.
الصحابة عند الزيدية 202
* وذكر يف (شرح احلور العني) أن أبا بكر إمنا سي الصديق لكثرة تصديقه
بالنيب صلى هللا عليه وآله وسلم.
* وموقفه معلوم يف خمالفة آراء اجلارودية ،ومناظراته هلم مشهورة؛ خاصة يف
مسائل اإلمامة وما يلحق هبا.
القاض ي جعفر بن أحمد بن عبد السالم ( 576هـ)
متيز بسعة اطالعه على كتب من سبقه من الزيدية ،حىت لقب بـ«شيخ
الزيدية» ومع ذلك مل ينقل عن الزيدية سب وال براءة ،ووجدت له عدة نصوص
من كالمه ،منها:
الزيدية هو اإلمام بعد رسول هللا
* قوله« :إن أمري املؤمنني وإن كان عند َّ
صلى هللا عليه وآله وسلم؛ للنصوص الواردة الدالة على إمامته ،وأن من تقدمه
من اخللفاء خمطئون يف تقدمهم عليه؛ فإنه ال داللة تدل على كون هذا اخلطأ
من مجلة الكبائر اليت توجب الرباءة ممن أقدم عليها ،بل من اجلائز أن تكون هذه
اخلطيئة ُمكفَّرة يف جنب مساعيهم احلميدة ،وسوابقهم العظيمة».
* وقال أيضاً :فمن تقدم على اإلمام علي من الصحابة -قد أخطأ وأخذ
غري حقه ،واستوىل على ماال ميلكه ،وكان تقدمه عليه خطأً منه إال أن ذلك
اخلطأ ال ميكن القطع عليه أنه كفر أو فسق.
مث ساق فصالً طويالً يف تأكيد هذه الفكرة والدفاع عنها ،وبيان أوجه
صوابيتها يف نظره ،دون أن يتناول القوم بسباب وشتيمة ،أو حكم بفسق أو
دعوة إىل براءة ،وهذا هو مسلك كثري من مؤلفي الزيدية.
* وذكر القاضي أحد بن حيىي حابس نقالً عن الشيخ عبد هللا الدواري أن
203 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
القاضي جعفر بن أحد كان ممن يرى الرتضية على املشايخ املتقدمني على علي
عليه السالم.
* كما وجدناه حيتج يف كتاب (الدرر البهية وشرحه) مبا أثر عن اخللفاء،
ويرضي عنهم ،كما يف خمطوطات الكتاب.
القـرن السابع
اإلمام عبد هللا بن حمزة (614هـ)
نُقل عن اإلمام عبد هللا بن حزة كالم كثري حول مسألة الصحابة ،تردد يف
معظمه بني الرتضية على اخللفاء الراشدين أو التوقف ،مع التأكيد على ختطئة
املتقدمني على اإلمام علي وال ُـمق ِدمني هلم ،ومن كالمه يف املسألة:
الصحابة عندنا أفضلالصحابة الذين تقدموا علياً فقال« :إن َّ
* أنه سئل عن َّ
األمة بعد األئمة عليهم السالم قبل إحداثهم ،وبعد اإلحداث لنا أئمة نرجع
وحن ِجم حيث أحجموا ،وهم علي ِ
إليهم يف أمور ديننا ،ونـُ ْقدم حيث أقْدمواُْ ،
وولداه عليهم أفضل السالم ،واحلادث عليهم وغضبنا فيهم ،ومل نعلم أحداً منهم
الصحابة ،وال لعنه وال شتمه ،ال يف مدة حياهتم ،وال بعد سب أحداً من َّ َّ
وفاهتم».
وأضاف« :إمنا نشكو إحداثهم وتقدمهم على إمامهم ،وهلم أعظم حرمة يف
وعز
اإلسالم؛ ألهنم أول من أجاب دعوة جدنا صلى هللا عليه وآله وسلم ،ونابذ َّ
به اإلسالم ،وقاتل اآلباء واألبناء واألقارب يف هللا ،حىت قام عمود اإلسالم ،وأتى
فيهم عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ما مل يأت يف غريهم ،وكان فيهم
حديث بدر ،وآية بيعة الرضوان ،فصار اإلقدام يف أمرهم شديداً ،وإمنا نقول :إن
الصحابة عند الزيدية 204
كانت معاصيهم كبرية ،فاهلل تعاىل ال يُتهم يف جزائه ،والكبائر تبطل الطاعات
وإن عظمت ،وإن كانت صغرية؛ فلبعض ما تقدم من عنايتهم يف اإلسالم،
وسبقهم إىل الدين ،وال ميكن أحداً من أهل العصر وال من قبله من األعصار أن
يسعى مثل سعيهم ،ومثل عنايتهم يف الدين ،وعلي عليه السالم وولداه هم
القدوة ،فال نتجاوز ما بلغوه يف أمر القوم ،وهو نعي أفعاهلم عليهم ،وإعالمهم
هلم أهنم أوىل باألمر منهم ،ومل يباينوهم مباينة الفاسقني يف عصرهم».
وأضاف قائال« :إن القوم مل يقع منهم البغضة ،بل يدَّعون احملبة واملودة،
ويظهرون الوالية والشفقة ،وبواطن األمور ال يعلمها إال هللا عز وجل» ،وأضاف
أيضا «وقد وقعت أمور هنالك رددنا أمرها إىل هللا عز وجل ،ورضَّينا على
الصحابة عموماً ،فإن دخل املتقدمون على علي عليه السالم يف صميمهم يف َّ
علم هللا سبحانه مل حنسدهم رحة رهبم ،وإن أخرجهم سبحانه بعلمه
الستحقاقهم فهو ال يتهم يف بريته ،وكنا قد سلمنا خطر االقتحام ،وأدينا ما
يلزمنا من تعظيم أهل ذلك املقام ،الذين حـوا حوزة اإلسـالم ،ونابذوا يف أمره
اخلاص والعام».
الصحابة ضلوا يف
الزيدية يقولون إن َّ
* وقال يف سياق رده على من زعم أن َّ
الزيدية غري صحيحة ،فكيف يعتقدون ذلك أمر اإلمامة« :إن هذه الدعوى على َّ
فيهم وهم خيار األمة ،وهبم أعز هللا دينه ونصر نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم،
وهم حاة اإلسالم ،وبدور الظالم؟ فجزاهم هللا عنا وعن اإلسالم خرياً».
وأضاف «هم عندنا أغلى من أن يُك َّفُروا ،ويـُف َّسقوا ،مع جتويزنا عليهم اخلطأ
فيما اختلفوا ،وعندنا أن علياً أوىل باألمر ،وأهنم أخطأوا بالتقدم عليه ،ومل ند ِر
ما مقدار ذلك اخلطأ عند هللا سبحانه ،وقد أخطأ أنبياء هللا سبحانه وهم أعلى
205 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
الصحابة وأعرف جبالل هللا سبحانه ،ولسنا نعتقد فيهم أهنم قصدواقدراً من َّ
شقاق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف وصيه عليه السالم ،وإمنا جهلوا وجه
االستدالل فاعتقدوا أهنم أوىل باألمر ،فلو صح أهنم قصدوا خالف رسول هللا
صلى هللا عليه وآله وسلم لقطعنا على ضاللتهم ،ولكنا ال نقول ذلك ،وعلى
الصحابة ثابتة ،وجاللتهم باقية ،وخطؤهم يف مسألة واحدة
هذا الوجه ،أخبار َّ
ال يذهب حرمة إسالمهم ،وإصابتهم فيما ال حيصى من املسائل ،فتأمل ذلك
موفقاً».
* وقال يف (الرسالة اإلمامية يف اجلواب على املسائل التهامية)« :عندنا أهنم
أشرف قدراً ،وأعلى أمراً ،وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم ضعيفة أو موازينهم يف
الشرف والدين خفيفة .فلو كان ذلك ،ملا اتبعوا رسول هللا صلى هللا عليه وآله
وسلم ،ومالوا عن إلف دين اآلباء واألتراب إىل أمر مل يسبق هلم به أُنس ،ومل
يسمع له ذكر ،شاق على القلوب ،ثقيل على النفوس .فهم خري الناس على
عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وبعده ،فرضي هللا عنهم ،وجزاهم عن
اإلسالم خرياً».
مث أكد سالمة موقفه وموقف عموم الزيدية بكل ُوضوح ،فقال« :هذا مذهبنا
مل خنرجه غلطة ،ومل نكتم سواه تقية .وكيف وموجبها زائل! ومن هو دوننا مكانة
وقدرة يسب ويلعن ،ويذم ويطعن ،وحنن إىل هللا سبحانه من فعله براء ،وهذا ما
يقضي به علم آبائنا ،منا إىل علي عليه السالم».
وانتقد من يتطاول بالسب والرباءة فقال« :ويف هذه اجلهة من يرى حمض
الوالء بسب الصحابة رضي هللا عنهم ،والرباءة منهم ،فتربأ من رسول هللا من
حيث ال يعلم».
الصحابة عند الزيدية 206
* ويف (العقد الثمني) تصدى للرد على اإلمامية فيما حكموا به من كفر أو
فسق أو نفاق املتقدمني على علي عليه السالم .ومما قال« :إنا نعلم أن علياً
عليه السالم مل يكن يعاملهم معاملة الفاسق واملنافق ،بل يعاتبهم وينعي عليهم
أفعاهلم ،وال يسبهم ،وال نعلم منه الرباءة منهم ،كما كان يظهر الرباءة من الفساق
واملنافقني ،وذلك الظاهر املعلوم من ذريته األئمة الطاهرين ،واألئمة العلماء إىل
يومنا هذا ،ال جند أحداً حيكي عنهم حكاية صحيحة لسب وال برآءة ،بل وكلوا
أمرهم إىل رب العاملني».
* وذكر يف (الشايف) أن صاحب كتاب (اخلارقة) عبد الرحن بن أيب القبائل
فهم من كالمه أنه يبغض املشايخ ،فرد عليه بقوله« :قال ألنه فهم من فحوى
كالمنا أنا نبغض املشايخ ،ومعاذ هللا أن نبغض أحداً منهم ،ولكنا قلنا :علي
اإلمام دوهنم ،فلو كان ذلك بغضاً ألبغضنا عمنا العباس وابن عباس وأبا ذر
وعمار ،فليس من مل نثبت له اإلمامة أبغضناه ،فتثبت أيها الرجل».
َ َّ ح َ ْ َ ح َ
ون ٌم ٌَ
ِنٌ ون ٌاْل َّول ٌ
* وانتقد ختصيص صاحب اخلارقة قوله تعاىل﴿ٌ :والسابِو ٌ
َ َ
ح َ ْ ح َ َّ ح َْح ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َّ َ ح ح حَ
ضٌاهللٌعنه ٌْمٌ َو ٌَرضواٌعن ٌهٌ َوأع ٌدٌل ٌه ٌْمٌ ِينٌاتقعوه ٌْمٌبِإِحس رٌ
انٌ َر ِ ٌَ ارٌواَّل ٌ
ينٌواْلنص ٌِ
ج ِر ٌ الـمها ِ
َ َ ًََ َ َ َْ ح َْ ََْ َ ْ َْ َ ح َ َ َّ َ ْ
يم﴾ [التوبة .]100/باخللفاء ِكٌالف ْو ٌزٌالع ِظ حٌِينٌفِيهاٌأبداٌذل ٌ
ال ٌ ارٌخ ِ
اتٌَت ِريٌَتتهاٌاْلنه ٌ جن ر ٌ
مؤكداً تناول اآلية هلم ولغريهم ،فقال« :إنا ال ننكر كوهنم من السابقني األولني،
وال جحدنا أهنم من أفضلهم ،وإن كان غريهم من أهل البيت أفضل منهم».
* وقال« :إنه -يعين صاحب اخلارقة -عني املشايخ الثالثة ،وترك سائر
الصحابة املرادين باآلية ،فإن استقام على هذا االستبداد ،فضحته اآلثار والسريَّ
واألخبار ،وإن اعترب أن املشايخ الثالثة من مجلة من مشلتهم آية الرضوان ،فلم حتجر
واسعاً ،وخصص عاماً واستبد بأمر هو مشرتك بني املشايخ الثالثة وسواهم من
207 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
الصحابة احلاضرين يف ذلك املقام؟! فاقر بأن املشايخ الثالثة ممن مشلتهم اآلية.
َّ
الرتحم هو رأي اإلمام عبد هللا بن
ورجح اإلمام عز الدين أن الرتضية و ُّ
* َّ
حزة ،مستنداً إىل رواية حممد بن يوسف بن هبة الفضلي القدمي يف كتاب له
ساه (االنتصاف) ،وملا تقدم من كالمه يف (جواب املسائل التهامية).
* وذكر احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسمَّ « :
أن للمنصور باهلل عبد هللا بن
حزة قوالن :التوقف يف (الشايف) ،والرتضية كما يف (اجلوابات التهامية)».
والذي يبدو أهنما ليسا قولني ،ولكنهما عموم وخصوص ،فهو يرى جواز
الصحابة عموماً ،فإن
الصحابة ،ويف ذلك قال« :ورضَّينا على َّ
الرتضية على مجلة َّ
دخل املتقدمون على علي عليه السالم يف صميمهم يف علم هللا سبحانه مل
حنسدهم رحة رهبم ،وإن أخرجهم سبحانه بعلمه الستحقاقهم فهو ال يتهم يف
بريته» .والذي يف (الرسالة التهامية) هو يف عمومهم أيضاً.
أما الشيخان فقال كما يف (اجملموع)« :إن أبا بـكر وعمر ال نرضي عنهما
وال نسبهما؛ ألن حدثهما كبري ،وحقهما كبري ،فالتبس األمر فأمسكنا».
وأكده يف (الشايف) بقوله« :وقد بينا أن حال الصحابة ينقسم إىل ثالثة
أقسام :فقسم :ماتوا على ما فارقوا عليه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم،
فهؤالء هم الذين يستحقون ما ظهر هلم من الثناء من هللا سبحانه ،ومن رسوله
صلى هللا عليه وآله وسلم .وقسم :ظهر فسقهم باخلروج على اإلمام علي عليه
السالم ،وحماربتهم له ،وقتلهم وقتاهلم .وقسم ثالث :جرت منهم أمور وختاليط،
واستيالء على أمر األمة ،والدفع إلمام اهلدى؛ فهؤالء حكمهم إىل العلي األعلى؛
فإن ظهر لنا دليل على حلوقهم بأحد الفريقني ،وجب إحلاقهم بذلك الدليل؛
وإن مل يظهر دليل ،وقفنا».
الصحابة عند الزيدية 208
وأما املتقدمني على علي عليه السالم ،فتظلم منهم يف تقدمهم عليه ،ومل
ينقل عنه ناقل أنه سبهم -حاشاه -وال هلكهم .ومن العرتة من رأى التوقف
يف حاهلم ،ووكلهم إىل خالقهم ،مع اعتقاد أن علياً عليه السالم هو أهل اخلالفة
واألحق هبا بعد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،وهذه عقيدة أهل البيت أئمة
الزيدية اليت قضوا هبا ومضوا عليها ،وكانوا يعدلون إليها
العرتة النبوية ومشايخ َّ
ومييلون عن غريها».
اإلمام املهدي أحمد بن الحسين ( 656هـ)
وهو املعروف بـ«أبو طري» مل يرو عنه سب أو براءة من اخللفاء الثالثة ،بل
وجدت له ما يدل على أنه ُجيلهم ويقدرهم.
ح َ ً َ َ ً َ ح َْ ْ
اال ٌ َوجا ٌِهدوا ٌبِأم َوال ِك ٌْمٌ
ففي تعليق له على قول هللا تعاىل﴿ :ان ِف حروا ٌخِفافا ٌوث ِو ٌ
َ ح ْ َ ْ َ ح ْ ْ حْح َْ َح َ َ ح َْح
ون﴾ [التوبة.]41/نٌكنت ٌْمٌتعلم ٌ يٌلك ٌمٌإ ِ ٌ
يلٌاهللٌذل ِك ٌمٌخ ٌ َوأنف ِسك ٌْمٌ ِ ٌ
فٌسبِ ٌِ
قال« :وصف هللا أمر املؤمنني بأهنم جياهدون يف سبيل هللا بأمواهلم وأنفسهم،
الصحابة رضي هللا عنهم عملت هبذه الوظيفة من املعونة ،قاست األنصار و َّ
وخريوهم بني القسمني ،وأعطوهم األصلح من املهاجرين يف أمواهلم ودورهم َّ
النصيبني ،وكان مع أيب بـكر مثانون ألفاً أنفقها يف اجلهاد ،وما بقي معه إال عباءة
كان إذا ركب حلها وإذا نزل أبعد حالهلا ،وعثمان جهز جيش العسرة بتسعمائة
بعري وخسني بعرياً ،ومتم األلف خبمسني فرساً ،كل ذلك من صميم ماله ،وملا
مستهم احلاجة وعظمت هبم الفاقة ،لقاهم مائة ناقة حمملة أقبل العسكر وقد َّ
خمطومة جيروهنا ،وأكلـوا أحاهلا ،والقـوم ما بذلوا هذه األموال إال لطاعة الرحن،
ومعرفتهم مبا يف القرآن».
الصحابة.
وذكره احلافظ املؤرخ حيىي بن احلسني :فيمن يرى الرتضية على سائر َّ
211 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
الغالة» .وهذا يدل على أنه ال يوافق الروافض الغالة يف أمر اخللفاء ،وأن موقفه
الصـادق.
هو موقف اإلمام زيد واإلمام َّ
القـرن الثـامن
الفقيه محمد بن الحسن الديلمي (711هـ).
بسط العـالَّمة حممد بن احلسن الديلمي يف كتابه (قواعد عقائد آل حممد)
ََ ْ
القول يف الثناء على اخللفاء الراشدين ،واستشهد لفضلهم بقول هللا تعاىل﴿ٌ:لو ٌدٌ
ح ح ْ َ َ ْ َ َّ َ َ ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ
تٌالشج َر ٌةٌِفعل ٌَِمٌماٌ ِ ٌ
فٌقلوب ِ ِه ٌمٌفأن َز ٌلٌالسكِين ٌةٌ كٌَت ٌ
نيٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌ
نٌالـم ٌؤ ِمنِ ٌ ضٌاهللٌع ٌِ َر ِ ٌَ
َ َ ََ َ
َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌف ْت ًحاٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح.]18 /
مث قال« :املعلوم الظاهر كون اخللفاء من أهل البيعة ،إال ما روي عن عثمان
أنه مل حيضرها ،فبايع عنه النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،ويقال :إن ذلك من
مفاخر عثمان ،فليت شعري بعد أن رضي هللا عنهم؛ ما الدليل القاطع الذي
اقتضى الرباءة منهم ،وأوجب سخط هللا عليهم ،بعد هذا النص الظاهر القاطع؛
إذ ال يزيل القاطع إال قاطع مثله ،وال دليل على ذلك إال جهل املقلد على ذلك،
نعوذ باهلل من آفات العصبية وموارد احلمية».
السيد إدريس بن علي بن حمزة (714هـ)
الزيدية ،له كتاب بعنوان (كنز األخبار) ،تعرض فيه
من مشاهري مؤرخي َّ
الزيدية جتاه ذلك،
الصحابة وما شجر بينهم ،وتطرق إىل ذكر موقف َّ
للكالم عن َّ
الزيدية مل يُرو عن أحد من أئمتهم وقوع يف
ونقل بعض كالمهم ،مث ذكر أن َّ
الصحابة .وهذه حكاية إلمجاعهم ،لو مل يكن إال يف عصر السيد أحد من َّ
إدريس.
213 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
فالواجب حسن الظن باملؤمنني وتعظيمهم ومواالهتم وإن علمنا خطأهم يف بعض
املسائل القطعية ،ما مل يقطع بكون ذلك اخلطأ كفراً أو فسقاً والسيما أصحاب
رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أهل السابقة والفضل واجلهاد يف سبيل هللا ،فال
أقل مما يعاملهم مبثل ما يعامل به بعضنا بعضاً من حسن الظن والقول اجلميل».
الصحابة وتفسيقهم
* وحذر يف (االنتصار) من أن «اإلقدام على إكفار َّ
دخول يف اجلهالة ،وحق ونقصان يف الدين وجرأة على هللا».
* وقال احلافظ حيىي بن احلسني بن القاسم« :إن اإلمام حيىي رحه هللا مصرح
يف مجيع كتبه ومصنفاته بالرتضية على املشايخ يف (الشامل) و(التمهيد)
و(االنتصار) وغريها ،وله مع ذلك كتاب مفرد اختص به هلا».
الصحابة فسق تأويل.
* وروى اإلمام املهدي عن اإلمام حيىي أن سب َّ
* ويف (البيان الشايف) البن املظفر «مسألة :قال اإلمام حيىي :وال يصح
بفاسق التأويل ،وال مبن يـُف ِس ُق َّ
الصحابة الذين تقدموا علياً عليه ِ االئتمام
السالم».
* وقال الشوكاين يف ترمجة اإلمام حيىي يف (البدر الطالع)« :هو من أكابر
الزيدية بالديار اليمنية ،وله ميل إىل اإلنصاف ،مع طهارة لسان وسالمة
أئمة َّ
صدر ،وعدم إقدام على التكفري والتفسيق بالتأويل ،ومبالغة يف احلمل على
الصحابة املصونة رضي
السالمة على وجه حسن ،وهو كثري الذب عن أعراض َّ
هللا عنهم وعن أكابر علماء الطوائف».
ومع كثرة النصوص الواردة عن اإلمام حيىي بن حزة ،وتعدد مصادرها،
ووضوح داللتها ،جند بعض متأخري علمائنا انربوا للتشويش عليها؛ تارة بإنكار
بعضها ،وتارة بتأويلها ،وتارة بتخطئتها ،بل جتاوز بعضهم إىل اإلساءة إىل اإلمام
حيىي بن حزة والتشكيك يف علمه ،فاهلل حسبهم.
الصحابة عند الزيدية 216
مث جزم قائالً :وهذا القول الثاين هو الذي نراه؛ إ ْذ هم وجوه اإلسالم وبدور
الصحابة رضي هللا عنهم ،وإن أخطأوا بالتقدمالظالم» .وأضاف :أن بعض « َّ
على أمري املؤمنني عليه السالم فخطؤهم ُمكفَّر؛ لسوابقهم اجلميلة ،وقد تظاهرت
األخبار بأهنم من أهل اجلنَّـة فال جرم أن نقطع بصالحهم وجناهتم».
وذكر اإلمام حممد بن إبراهيم الوزير أن اإلمام الناصر «ممن بالغوا يف الثناء
الرتحم عليهم،
على م ْن تقدَّم اإلمام علي ،وأظهروا مواالهتم ،والرتضية عنهم ،و ُّ
ورؤيته خبطه املعروف - أقرب من ص َّح لنا ذلك عنه ِ ِ - وِمن ِ
بالنقل املتواترُ ، ْ ْ
بن املهدي لدين هللا علي بن حممد بن الناصر لدين هللا ُحم َّم ُد ُ
ُ موالنا أمريُ املؤمنني
علي عليهم السالم».
القـرن التـاسع
سلطان العلماء عبد هللا َّ
الد َّواري (800هـ)
* قال شيخ األئمة عبد هللا بن احلسن الدواري املعروف بسلطان العلماء يف
الزيدية على التخطئة من غري ذم وال فسق، كتاب (الديباج)« :واجلمهور من َّ
وهذا هو رأي فضالئهم وأهل التورع منهم ،وسلكوا فيمن تقدم أمري املؤمنني ما
سلكه ،وهنجوا هنج فضالء أوالده».
* وعندما ملح القاضي حييي بن احلسن القرشي أن الشيخ الدواري ينال ممن
تقدم علياً تصدر اإلمام عز الدين مدافعاً عنه ،فقال« :وقفنا على ما يقضي من
حال القاضي املذكور خبالف ذلك ،وهو الرتضية عنهم ،وشاهدنا ذلك يف بعض
مصنفاته خبط يده» .وكفى برواية اإلمام عز الدين فهو من أعرف الناس به.
* ويف (تعليقه على الشرح) ذكر أن القول بتفسيق املتقدمني هو رأي بعض
الصحابة عند الزيدية 220
املنتسبني إىل مدرسة أهل البيت مث قال« :وينبغي تأويل هذه الرواية ملن قال
بذلك من سادات أهل البيت ،وصاحلي املسلمني؛ ألن هذه مـزلة قـدم نعوذ باهلل
منها».
علي بن محمد النجراني الصعدي (حوالي810 :هـ)
ومل يتوقف أح ٌد من أفاضل أهل البيت يف واليتهم والرضا عنهم قبل القاسم
بن إبراهيم الرسي ،فإنه ُسئل عنهم ،فقال« :لنا أماً صديقة ماتت وهي غاضبة
عليهم ،وحنن غاضبون لغضبها» .فاهلل أعلم أتصح هذه الرواية عنه أم ال.
وقد جتاسر قوم من الشيعة على سبهم والتربؤ منهم ظلماً وعدواناً ،كأهنم مل
ات بِغ ِْري ما ا ْكتسبُوا فـق ِد
يسمعوا قوله تعاىل﴿ :والَّ ِذين يـ ْؤذُون الـم ْؤِمنِني والـم ْؤِمن ِ
ُ ُ ُ
احتملُوا بـُ ْهتاناً وإِْمثاً ُّمبِيناً﴾ .واسرتسل يف االستدالل على النهي من سبهم. ْ
قال بعد ذكر ما شجر بن الصحابة يف شأن اخلالفة« :ولعمري إن حبهم
آية اإلميان وبغضهم آية النفاق ،إال من خرج على علي عليه السالم بعد البيعة
ومل يتب ،فإنه جيوز سبه والرباءة منــه ملعاندته إمام احلق؛ مثل :معاوية وعمرو بن
العاص.
صارم الدين الهادي بن إبراهيم الوزير(822هـ)
الصحابة بكالم شديد وبعد رسوخ
كان يف أول حياته قد أجاب يف مسألة َّ
قدمه يف العلم وجتاوزه مرحلة التقليد ،وبني ما ترجح له يف أكثر من موضع شعرا
ونثراً.
فذكر يف كتابه (السالسل الذهبية) أنه سئل عن رجل يقول بصحة إمامة أيب
بـكر وعمر وعثمان رضي هللا عنهم ،ويف من يقول بإمامة علي رضي هللا عنه
221 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
وخيطئ املذكورين ،فأجاب« :كنت قد أجبت عليه جواباً طويالً ،وفيه قعقعة
الصحابة ،وأنا ممن ال يرى القعقعة عليهم ،بل أنا ممن يتوالهم ويذهب إىل
على َّ
الرتضية عليهم ،والقول فيهم مبجرد اخلطأ ،واملعتربون من أهل البيت حيومون
حول احلمى ومل يقعوا فيه ،فاألمجل حتسني الظن وإتباع أمري املؤمنني يف أفعاله
وأقواله ،وهو صاحب احلق ،فلو أهلكهم اتبعناه».
وذكر حيىي بن احلسني ،يف ترمجته من (املستطاب) أن «من مصنفاته يف أصول
الدين (كفاية القانع يف معرفة الصانع) صرح فيها بالرتضية على املشايخ ،ورجع
فيه ويف غريه عما يف (إزهاق التمويه) ،وقال يف ذلك أبياتاً أوهلا قوله:
مذهب احلق وسته م ـ ـ ـ ـ ـ ــذهيب أن علياً
ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر والدر وسته ونظامي فيه باجلو
كان يل فيهم أم ـتُّه ـاد غريُ هــذا
واعتقـ ٌ
* وقال يف منظومة (اخلالصة) بعد ذكر ما وقع من نزاع على اخلالفة بعد موت الرسول:
وموعدهم للحكم يف موقف احلش ِر إىل احلاكم الديان ميضـ ـ ـ ــون عن يد
من السـ ـ ـ ـ ــب رأياً إن ذاك من ا ْهلُ ْج ِر ولست أرى التصويب رأياً وال أرى
أفــاض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل قــد زلوا وربــك ذو ُغ ْف ِر ولـ ـك ــن أدي ــن هللا فـ ـيـ ـه ــم ب ـ ـ ــأهن ــم
على فــدك قبض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً بنوع من القه ِر وانقم تأخري الوصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي وقبض ـ ـ ـ ـ ـ ــهم
* وقال يف شرح هذه األبيات يف كتاب (تلقيح األلباب)« :أراد بأنه ال يرى
تقدمهم على أمري املؤمنني صواباً ،بل حيكم عليهم فيه باخلطأ ،وال يرى رأي أهل
السب هلم واألذية ،بل يرى ذلك من ا ْهلُ ْجر ،وهو الكالم القبيح الذي ال يليق
بذوي اإلميان .قال موالنا :وأنا أبرأ إىل هللا من ذلك ،وأكثر ما أعتقد فيهم أهنم
أخطأوا يف تقدمهم على أمري املؤمنني .وقد أفصح هبذا املعىن قوله يف البيت:
الصحابة عند الزيدية 222
ولكن أدين هللا فيهم بأهنم أفاضل قد زلوا وربك ذو ُغف ِر
وهذه هي العقيدة املرضية ،وأنا أذهب إىل أهنا – يعين التقدم على اإلمام
علي -معصية أرجو أهنا ُمكفَّرة ،يف جنب ما كان هلم من السوابق العظيمة،
واآلثار اجلسيمة ،اليت نطق القرآن بفضلها ،وتواترت األخبار النبوية بعلو حملها،
الصحابة وجتويز أن تكون الزيدية التوقف يف َّ
وإن كان مذهب اجلماهري من َّ
معصيتهم كبرية أو صغرية ،والتوقف أحوط ملراد السالمة ،وال بأس بالرتضية
استناداً إىل ما ورد هلم يف القرآن وصح من األخبار املروية فيهم بأوضح بيان،
وأن معصيتهم صغرية بالنظر إىل ما كان لديهم من األعمال الصاحلة ،يف تأييد
اإلسالم وصحبة الرسول» .وأضاف« :أهنم أخطأوا بالتقدم على أمري املؤمنني
عليه السالم ولكن لسوابقهم اجلميلة ومآثرهم الصاحلة وما كان هلم من مودة
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم والقدم الراسخة يف اإلسالم مل نقطع على هذه
املعصية بأهنا كبرية وربك الغفور ذو الرحة».
* ويف (كفاية القانع يف معرفة الصانع) انتقد املتطاولني بالسب فقال« :أما
من عدم البصرية ،وأقدم على سب القوم ،فقد طاح وضل وأقدم من احلظر على
أمر جلل ،واقتحم بنفسه يف مهواة اخلطل ،وكان له بنفسه ُشغل شاغل».
* ومن مؤلفاته كتاب (منهاج اخلريات إىل اقتطاف نفائس الثمرات) ذكر
السيد حيىي بن احلسني بن القاسم أنه عبارة عن منظومة ،جعلها فصوالًوخصص
الصحابة رضي هللا عنهم».
منها فصالً يف النهي عن سب َّ
* ويف (هناية التنويه) وهو من أشد كتبه حال على الصحابة قال« :وإمنا
يتوقف يف الصحابة لسوابقهم اجلميلة يف اإلسالم ،وجهادهم أعداء العزيز العالم،
وحمبتهم الرسول عليه أفضل الصالة والسالم ،ووقوع تلك اهلفوة اليت ُجهل
لفضلهم قدرها ،ومل يـُ ْعلم على التحقيق أمرها».
223 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
الزيدية :وخطأ املتقدمني على علي يف * ويف (القالئد)« :مسألة :احملققون من َّ
اخلالفة قطعي؛ ملخالفتهم القطعي ،وال يقطع بفسقهم؛ إذ مل يفعلوه مترداً بل لشبهة.
قلت :فال متتنع الرتضية عليهم لتقدم القطع بإمياهنم فال يبطل بالشك فيه».
* ويف (الدرر الفرائد شرح القالئد) بسط اإلمام املهدي يف االحتجاج على
ترجيح الرتضية على التوقف ،مث قال« :فهو عقيدتنا وعليه اعتمادنا ملا اقتضته
الرباهني القاطعة اليت قدمنا ال ألجل تقليد آبائنا ،وإن كان الواجب االهتداء
هبديهم؛ إذ هم سفينة النجاة من العذاب».
* وقال يف (البحر الزخار) ،يف كتاب الشهادات عند قوله :فصل واخلالف
ضروب ،ما لفظه« :وضرب يقتضي الفسق ال غري ،كخالف اخلوارج الذين ٌ
قطعا». ِ
يسبون علياً ،والروافض الذين يسبون الشيخني جلُرأهتم على ما ُعلم حترميه ً
* واحتج يف (الغايات) بأن «املخالف ال خيلو إما أن ينكر ما رويناه من
الثناء عليهم ،فذلك وإن أمكنه يف األحاديث األحادية ال ميكنه يف املتواترات،
وإال لزم كفره ،فال سبيل له إىل إنكار ورود الثناء عليهم ،ودخوهلم يف العموميات
املذكورة .وإما أن يعرتف بوروده ،ولكن يدعى أنه مشروط باستمرارهم على تلك
احلال .فحينئذ نقول للمتوقفني :أأنتم أعلم أم هللا ورسوله؟ فإن قد وقع الثناء
املشروط ،والشرط مضمر غري مظهر يف كالم هللا ورسوله ،فهال استحسنتم ما
الصحابة والدعاء هلم استحسن هللا ورسوله ،وتأسيتم برسول هللا يف الثناء على َّ
ْ َ َ َ َ ح ح ََ ْ َ َ َ ح
س ٌنـةٌٌ
ولٌاهللٌأسوةٌٌح ٌ نٌلك ٌْمٌ ِ ٌ
فٌ َرس ٌِ وإضمار الشرط ،وقد قال هللا تعاىل﴿ :لو ٌدٌاك ٌ
َ َ َ ْ ْ َ
ل َِم ٌْنٌاك ٌَنٌيَ ْر حٌجـوٌاهللٌ َواِلَ ْو ٌَمٌاْلخ ٌَِرٌ َوذك ٌَرٌاهللٌكثِ ًيا﴾ [األحزاب.»]21/
الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير( 840هـ)
كالمه يف كتبه مشهور معلوم ،وترضيته والدفاع عنهم يف كتبه ال خيفى ،وقد
أفرد يف كتابه الشهري (العواصم والقواصم) ما يقرب من جملد يف الدفاع عن
225 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
ويف روايته ملنع الرتضية عن القدماء نظر؛ ملا قدمنا من روايات صرحية عنهم،
وقد تقدم عن األئمة قبله رواية الرتضية عن القدماء.
وقد سبقه العالمة النجراين فقال« :ومل يتوقف أح ٌد من أفاضل أهل البيت يف
واليتهم والرضا عنهم قبل القاسم بن إبراهيم الرسي ،فإنه ُسئل عنهم ،فقال" :لنا
أماً صديقة ماتت وهي غاضبة عليهم ،وحنن غاضبون لغضبها ،فاهلل أعلم أتصح
هذه الرواية عنه أم ال .ولعل القاضي النجري أراد بالقدماء اإلمامني القاسم
الرسي وحفيده واهلادي.
القـرن العـاشر
اإلمام عزالدين بن الحسن (900هـ)
موقف اإلمام عز الدين معروف مشهور من الثناء على املشايخ ،وترضيته
عنهم ثابتة مشهورة عنه ،ومنها ما هو خبط يده ،وأيد يف (املعراج) ما ذكر
القاضي القرشي يف (املنهاج) وقال :قد أفاد وأجاد ووىف حبق الصحابة األجماد.
* وهو القائل« :أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق -
يعين ملن نفى إمامة اإلمام -وهلذا نُِقل عنهم حسن الثناء على املشايخ املتقدمني
على أمري املؤمنني علي عليه السالم ،والرتضية عنهم والتعظيم العظيم هلم».
وقال يف تعليق له على كالم للعالمة حيىي بن احلسن القرشي يف (املنهاج):
«مل يعتد املصنف مبا يذكر يف تكفريهم رضي هللا عنهم لتناهيه يف الضعف
وإفراطه يف ال ُفحش ،وكيف يرمي بالكفر أرسخ الناس إمياناً وأشدهم فيه أركاناً».
السيد صارم الدين الوزير(914هـ)
* قال يف (الفصول اللؤلؤية)« :أئمتنا واملعتزلة وهم عدول إال من ظهر فسقه
كمن قاتل الوصي عليه السالم ومل يتب ،مث قال :وقد تاب الناكثون على األصح
227 الفصل الثالث :أقوال أئمة وعلماء الزيدية في الصحابة
ال القاسطون ،وبعض املارقني؛ فأما املتوقفون فال يفسقون على األصح ،وإن
قُطع خبطئهم».
* وهو صاحب القصيدة الشهرية املعروفة بـ(البسامة) اليت ضمنها أهم احملطات
يف تاريخ أئمة الزيدية ،ومنها:
أو قف عن السب إما كنت ذا حذ ِر ض ـ ـ ـى أبو حسـ ـ ــن
فرض عنهم كما ر َّ ِ
وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابق ـ ــات وإن ج ـ ــاروا فال جت ِر فـلـلـمش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايـخ حـق لـيـس جنـهـل ـ ـ ــه
وآثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروه على اآلبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء واألس ِر قاموا مع املصطفى املختار واجتهدوا
ثقــل املتــاعــب والبــأسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء يف اهلج ِر وه ـ ـ ــاجــروا اهلـجــرة الـغـراء واحـتـمـلـوا
وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــؤتة وتبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوكاً مث ذا أم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــري وس ــل حنيناً وس ــل بدراً وس ــل أحداً
الصحابة.
* وروى املقرائي أنه الذي سعى يف مجع الزيدية و َّأرخ إمجاعهم على منع سب َّ
الز َح ْيف (916هـ) املؤرخ محمد بن علي ُّ
خصص العالمة حممد بن علي الزحيف يف كتابه (مآثر األبرار) فصالً طويالً
الزيدية ،ونقل فيه نصوصاً عن األئمة.
الصحابة عند َّ
ملكانة َّ
مث ذكر ما خلص إليه يف املسألة ،فقال« :اعلم أن فضل املشايخ الثالثة ال
جيهله إال من أعمى اهلوى بصـره ،وأضاع -يف عدم حل أعالم الدين على
التأويالت املناسبة لسوابقهم -عمره ،وقد تقـدم طرف مما ذكـره ُسبَّاق أئمتنا يف
حقهم من التصريح بالرتضية ،ولنا هبم أسوة حسنة إىل اخلري مقربة ومدنية؛
وكفاهم شرفاً ما ذكره السيد صارم الدين يف هـذه األبيات املفصحات بسوابقهم
اليت يستحقون هبا املثل األعلى ،والفوز يف الدارين بالقـدح ال ُـمعلَّى».
الصحابة رضي هللا عنهم ما يوجب
وأضاف« :وال أنسب إىل أحد من كبار َّ
التفسيق واإلكفار ،بل أسلك يف توليهم مسلك جل أهل البيت األطهار».
الصحابة عند الزيدية 228
وللص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ــاب ــة من نب ــل ي ــداني ــه وكم للقرابة من فضل ومن شرف
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــطهر طنب كما طابت ذراريه كفاطم وس ـ ــليليها كذاك بنات الـ
فيهن آيات تش ـ ـ ـ ـري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــف وتنزيه والطيبات نساء الطهر من وردت
واب ـن ـي ـه ـم ـ ـ ــا وأيب ب ـكــر وث ـ ـ ــان ـي ـ ـ ــه وحـ ــزة مث ع ـ ـب ـ ـ ــاس وج ـ ـع ـ ـفـ ــرهـ ــم
وطـ ـلـ ـح ـ ـ ــة واب ــن عـ ـوام حـ ـواري ـ ـ ــه ومثل عثمان مع س ــعد س ــعيدهم
ونس ــل عوف عديد العش ــر يوفيه وكابن جراحهم مجت فض ـ ـ ـ ــائلهم
واستطرد يف ذكر آخرين من الصحابة إىل أن قال:
يف الذكر يف غري فصل من مثانيه وكم ثنـ ــائي ملن جـ ــاء الثنـ ــاء هلم
ح ـ ـتـ ــم حم ـ ـب ـ ـت ـ ـ ــه ح ـ ـتـ ــم ت ـ ـول ـ ـي ـ ـ ــه ـدل رض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ثق ـةٌ
وكلهم عنــدنــا عـ ٌ
ـداث سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوء ومــاتوا يف أثــانيــه أحـ ُ هلم
إال أنـ ـ ــاس جرى من بعـ ـ ــده ُ
أمر اإلهلي والقس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــط املنافيه من ردة ومروق واخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروج عن الـ
* وعدَّه حيىي بن احلسني بن القاسم يف (اإليضاح) ،واجلنـداري يف (سط
اجلمان) من القائلني بالرتضية على اخللفاء املتقدمني على اإلمام علي.
* ولإلمام حيىي شرف الدين كالم يف شرح مقدمة (األمثار) يفيد أنه ممن حيسن الظن
باخللفاء وال يتحامل عليهم ،وقد تقدم نقل كالمه يف حكاية إمجاع أهل البيت.
َّ
العـالمة يحيى بن محمد املقرائي (990هـ)
* قال العـالَّمة حيىي بن حممد حيد املقرائي يف كتاب (نزهة األخبار)« :ينبغي
أن ال خيطأ أبو بـكر وعمر وعثمان ومن قدمهم على علي؛ إذ أقل األحوال
استواء األنظار واالجتهاد ،وأن كالً طلب احلق».
الصحابة ،جاء يف أوهلا« :سألين سائل هل أحد من
وله رسالة يف الدفاع عن َّ
أهل البيت يقول بالسب يف املشايخ رضي هللا عنهم ،أو ما يقوم مقامه؟ وذلك
الصحابة عند الزيدية 230
ملا وِهم عليه من أعيان أصحابنا من وِهم ،فأجبت بأنه مل يوجد ذلك بل حَّرجوا
َّ
يف حترمي ذلك ،والكف عما هنالك».
مث أخذ يف نقل كالم أئمة وعلماء الزيدية وبيان مواقفهم ،وتوسـع يف ذلك،
وناقش بعض الروايات اليت يوردها اجلارودية عن بعض األئمة.
واإلسهاب ،وبعضهم أفرد لذلك كتاباً ،يهدف إىل بيان رؤيتهم ،وشرح خلفيتها
السب ،وبني التَّ ِ
شكي والعداوة ،والرد فيها على ال ُـم ْف ِرط وتوضيح الفرق بني النَّقد و َّ
وال ُـمف ِرط ،وممن أفرد هذه املسألة بالتأليف مجاعة منهم:
الصحابة)،
*ٌالعلمةٌُممدٌبنٌأَحدٌأيبٌاثللجٌ(325ه) ،لـه كتاب يف (فضائل َّ
الزيدية» ،ونقل عن (أعيان الشيعة) أن أبا الثلج
ذكره الوجيه يف «أعالم املؤلفني َّ
الزيدية.
كان من حمدثي َّ
*ٌاإلمامٌاملؤيدٌباهللٌاهلارونٌ(ٌ411ه) ،له كتاب يف الرد على رجل يسمى
الصحابة .ذكرها احلاكم اجلشمي يف (جالء
(قابوس) كتب رسالة يف الطعن على َّ
األبصار -خمطوط).
*ٌأبوٌالواسمٌإسماعيلٌالبستٌ(ٌ420ه) ،ألف كتاب (التحقيق يف اإلكفار
الصحابة الذين تقدموا على اإلمام
والتفسيق) خصص فيه حبثاً للكالم يف مسألة َّ
علي ،ودافع عنهم.
*ٌاإلمامٌحيىيٌبنٌَحزةٌ(749ه) له عدة رسائل ،منها( -1 :أطواق احلمامة
الصحابة على السالمة) .ويظهر أنه حبث منتزع من كتاب (االنتصار ).يف حل َّ
( - 2التحقيق يف تقرير أدلة اإلكفار والتفسيق) تضمن حبثاً مطوالً يف مسألة
الصحابة( - 3 .الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد املرسلني) .طبع
(سنة 1348هـ) مبصر ،مث طبع مرة أخرى بدار الرتاث اليمين (سنة 1410هـ).
ومضمونه نفس مضمون أطواق احلمامة ،وما يف كتاب التحقيق.
*ٌالواضٌحيىيٌبنٌاِلسنٌالورَش (780هـ) ،خصص فصالً كبرياً من كتابه
الصحابة وفضائلهم ،وأجاد يف دفع الشبهات
(منهاج املتقني) للكالم عن مكانة َّ
عنهم بأسلوب علمي رصني.
237 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
ْ
ي ٌاِلسنٌاجلييلٌ(القرن اثلامن) ،له كتاب (صفوة *ٌالعلمةٌأَحدٌبنٌمٌِ ٌ
الصحابة .ذكره حيىي بن احلسني يف (املستطاب) أثناء ترمجته،الصفوة) يف فضائل َّ
الزيدية) ترمجة (رقم .)109
وإبراهيم بن القاسم يف القسم الثالث من (طبقات َّ
*ٌالعلمةٌُممدٌبنٌيوسفٌبنٌهقةٌالفضيلٌالودم (القرن الثامن) ،له كتاب
الزيدية خالفوا
(االنتصاف من ذوي االعتساف) ضمنه رداً على من زعم أن أئمة َّ
الصحابة .ذكره اإلمام عز الدين يف (املعراج).
اإلمام زيد يف موقفه من َّ
الصحابة
*ٌاإلمامٌعزٌالينٌبنٌاِلسن (900هـ) اسرتسل يف شرح أحوال َّ
ومكانتهم يف كتابه (املعراج) ،وأضاف أشياء لطيفة على ما ذكر العـالَّمة القرشي.
*ٌالواضٌعقدٌالعزيزٌبهران (1010هـ) ،له كتاب (حل الشبهات الواردات
الصحابة الثقات) ،تذكر فهارس املخطوطات أنه يوجد ضمن جمموع يف يف َّ
مكتبة اجلامع الكبري بصنعاء.
*ٌالسيدٌُممدٌبنٌعزٌالينٌاملفت ( 1049هـ) ،له كتاب (منهج اإلنصاف،
الصحابة والرتضية على املشايخ الثالثة
العاصم من االختالف) يف الذب عن َّ
وحترمي سبهم .ذكره يف (املستطاب) .ذكر احلبشي أنه مبكتبة هولندا ،رقم (.)478
* ٌاِلافظ ٌحيىي ٌبن ٌاِلسني ٌبن ٌالواسم (1100هـ) ،له كتابان ،أحدمها:
(اإليضاح ملا خفا من االتفاق على تعظيم صحابة املصطفى) ،توجد منه نسخة
خبطه يف مكتبة اجلامع الكبري بصنعاء .وقد طبعته مكتبة الصحابة بالشارقة يف
جملد بتحقيق عبد الرحن املعلمي .وثانيهما( :منتهى اإلصابة فيما جيب من رعاية
الصحابة) ،منها نسخة خبط املؤلف يف مكتبة األوقاف باجلامع الكبري حق َّ
بصنعاء.
الصحابة عند الزيدية 238
( )1عن اإلمام زيد بن علي(122هـ) أنه قال« :ما سعت أحداً من أهل بييت
يتربأ منهما -يعين أبا بـكر وعمر -وال يقول فيهما إال خرياً».
الصـادق (148هـ) قال :أمجع آل حممد صلى هللا
( )2وعن جعفر بن حممد َّ
عليه وآله وسلم أن يقولوا يف أيب بـكر وعمر أحسن القول.
( )3وتساءل اإلمام املؤيد باهلل أحد بن احلسني اهلاروين (411هـ)« :لو قيل
لواحد ممن يدعي بزعمه كفراً أو فسقاً يف حقهم :أرين نصاً من جهة األئمة
صرحياً أنه يتربأ فيه من الشيخني؟ مل ميكنه ذلك» .وقال« :ما أعلم أن أحداً من
الصحابة ،ومن قال ذلك فقد كذب». العرتة يسب َّ
( )4وذكر احلافظ أحد بن احلسن الكين (560هـ)« :أنه مل يؤثر عن أحد
من أهل البيت السب وال التصريح بالفسق ،وروي عن أكثرهم الرتضية والرتحم
الصـادق والناصر واملؤيد باهلل».
واملدح مثل زيد بن علي وجعفر َّ
( )5وجزم اإلمام عبد هللا بن حزة (614هـ) بأن «الظاهر املعلوم من ذرية
األئمة الطاهرين ،واألئمة العلمـاء إىل يومنا هذا ،عدم السـب والرباءة ،ال جند
أحداً حيكي عنهم حكاية صحيحة لسب وال براءة ،بل وكـلوا أمرهم إىل رب
العاملني» .هذا وهو من مؤيدي اجلارودية يف نظرية اإلمامة.
وقال« :وال ميكن أحداً أن يصحح دعواه على أحد من سلفنا الصاحل أهنم
نالوا من املشايخ أو سبوهم».
وقال أيضاً« :ال ميكن أحداً أن يدعي على أحد من أئمة اهلدى دعوى
صحيحة بأنه سب أو آذى ،وهذا منهاج علي عليه السالم ،فإنه كان يف خطبه
وأثناء حماوراته يشكو من القوم تقدمهم ،وأنه أوىل باألمر منهم».
الصحابة عند الزيدية 240
الزيدية حيكمون بضالل من تقدموا على اإلمام علي، ورداً على من زعم أن َّ
الزيدية غري
وأهنم كانوا سبب القتال بني املسلمني قال« :إن هذه الدعوى على َّ
صحيحة ،وال مستمرة؛ ألهنا تزعم يف أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وآله
وسلم أهنم ضلوا وأضلوا؛ فكيف يعتقدون ذلك فيهم وهم خيار األمة؟! وهبم
أعز هللا دينه ،ونصر نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم ،وهم حاة شرع اإلسالم،
وبدور الظالم ،فجزاهم هللا عنا وعن اإلسالم خرياً ،وما سبب القتل والقتال بني
األمة إال الشيطان ،واتباع اهلوى ،وغلبة حب الدنيا ،وهللا ورسوله والصاحلون من
أمته وهم صحابته رضي هللا عنهم من ذلك أبرياء».
( )6وذكر العالمة حيد احمللي (652هـ) أن أهل البيت «يعتقدون املواالة
للصحابة والرتضية عليهم ،إال الذي مل يواهلم علي عليه السالم كمعاوية وأحزابه،
فأما الزبري وطلحة وعائشة يف حرهبم لعلي يوم اجلمل ،فقد تابوا ،ونقل عن علي
عليه السالم الرتضية عليهم ،وأما املتقدمني على علي فتظلم منهم يف تقدمهم
عليه ،ومل ينقل عنه ناقل أنه سبهم -حاشاه -وال هلكهم ،ومن العرتة من رأى
التوقف يف حاهلم ،ووكلهم إىل خالقهم ،مع اعتقاد أن علياً عليه السالم هو أهل
اخلالفة واألحق هبا بعد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،وهذه عقيدة أهل البيت
الزيدية اليت قضوا هبا ومضوا عليها ،وكانوا يعدلون
أئمة العرتة النبوية ومشايخ َّ
إليها ومييلون عن غريها».
( )7وأكد العـالَّمة عبد هللا بن زيد العنسي (667هـ) «أن السب مل يصح
عن األئمة وإن وجد يف شيء من كتبهم ما يدل عليه فهو متأول».
( )8وذكر العـالَّمة حممد بن احلسن الديلمي (711هـ) مذاهب اإلمامة و َّ
الصحابة
الزيدية من العرتة الزكية ،بل مذهب مجيع الطهرة
مث قال« :اعلم أن مذهب سادات َّ
241 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
من الذرية وأتباعهم وأشياعهم -دون من تسمى باسهم وليس منهم :-التوقف
يف أمر الشيخني ،بل بعضهم يرون مواالهتما وخيطئون من تربأ منهما ،ويظهرون
حمبتهما وفضلهما».
الزيدية مل يرو
( )9قال السيد إدريس احلمزي (714هـ) يف (كنز األخبار)َّ :
لصحابة.
عن أحد من أئمتهم وقوع يف أحد من ا َّ
( )10وقال اإلمام حيىي بن حزة (749هـ) جازما« :إن أحداً من األئمة وأكابر
العرتة مل ينقل عنه إكفار وال تفسيق ،كما شرحناه أوالً ونقلناه».
وذكر روايات عن اإلمام زيد والباقر والصادق يف الثناء على أيب بـكر وعمر
مث قال« :وهذا هو املعتمد عليه عند أكابر أهل البيت؛ فأين هذا عن هذيان
الروافض واجلارودية؟! فاهلل حسبهم فيما قالوه ومكافئهم على ما نقلوه وكذبوه»!
( )11وقال اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى (840هـ)« :إنه قد تواتر لنا
عن علي عليه السالم والصاحلني من ذريته معاملتهم إياهم معاملة املؤمنني اخللص
يف تروك وأفعال وأقوال وهم أهل احلق .فكيف يكون من مل يكن له حق عندهم
أشد غضباً عليهم؟ وأضاف :بل الواجب علينا أن ال نتعدى الغاية اليت انتهى
إليها أهل البيت عليه السالم يف شأهنم لوجهني؛ أحدمها :أن إمجاع أهل البيت
حجة كما سيأيت ،والواجب اتباعهم ،والثاين :أهنم أعرف حبال مظلمتهم يف
الصغر والكرب؛ ألن أهل احلق أخص ،وإذا كانوا أعرف حبكم حقهم لزمنا أن ال
نتعدى يف التظلم هلم احلد الذي بلغوه».
( )12وقال اإلمام عز الدين« :أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول
بعدم التفسيق -يعين ملن نفى إمامة اإلمام -وهلذا نُِقل عنهم حسن الثناء على
الصحابة عند الزيدية 242
املشايخ املتقدمني على أمري املؤمنني علي عليه السالم ،والرتضية عنهم والتعظيم
العظيم هلم».
وقال أيضاً« :ليعلم الناظر أن أمري املؤمنني واألفاضل من أئمة أوالده عليهم
السالم ال يكفرون أحداً من الصحابة وال يفسقوهنم ،مع خمالفتهم للنصوص
الواردة يف إمامة أمري املؤمنني ،فثبت أن خمالفتهم هلا عندهم ال تقطع مواالهتم
وال تبطلها».
( )13وذكر السيد صارم الدين الوزير (914هـ) يف املسائل اليت أمجع عليها
الزيدية أهنم أمجعوا على أنه ال جيوز سب أيب بـكر وعمر.
َّ
( )14وقال العـالَّمة حممد بن أحد بن حيىي مظفر(926هـ)« :اعلم أن فضل
املشايخ الثالثة ال جيهله إال من أعمى اهلوى بصريته ،ولنا ممن سلف من أئمتنا
صلوات هللا عليهم ،منذ علي عليه السالم إىل اآلن أسوة ،وأشرف قدوة ،فلم
نسمع عن أحد منهم السب ألي الثالثة ،بل هم بني ُمرض ومتوقـف».
الزيدية
( )15وقال اإلمام شرف الدين (965هـ)« :الذي عليه احملققون من َّ
تفضيل علي وختطئة متقدميه ،لكـن ختطئة غري مفسقة ،وهو الذي وقع عليه
إمجاع أهل الكساء ومن بعدهم من األئمة السابقني».
( )16وقال يف شرح (البسامة الصغري)« :وفضل املشايخ الثالثة ال جيهله إال
من أعمى هللا بصريته ،ولنا من سلف أئمتنا منذ علي رضي هللا عنه إىل اآلن
أحسن أسوة وأشرف قدوة ،ومل يسمع عن أحد منهم السب ألي الثالثة ،بل
هم بني مرض ومتوقف» .وشرح البسامة هو لبعض سادات بين الوزير.
( )17وقال العـالَّمة أحد بن حيىي حابس يف (اإليضاح)« :هناية األمر أن
243 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
( )18وأكد العـالَّمة حيىي بن احلسني بن القاسم« :إ َّن أئمة أهل البيت كافة
السب للصحابة أصالً» ،وأضاف« :وإذا بني متوقف ومرض ،ال يرى أح ٌد منهم َّ
وع ِرفت أقوال أئمة العلم اهلداة ُعلِم من ذلك بالضرورة اليت ال تقرر ما ذكرنا ُ
الصحابة؛ لتواتر ذلك
سب َّ الزيدية على حترمي ِ
تنتفي بشك وال شبهة إمجاع أئمة َّ
عنهم والعلم به ،فما خالف ما علم ضرورة ال يُعمل به».
ورد عليه بعض اجلارودية برسالة بعنوان (السيف الباتر املضـيء لكشف اإلهبام
والتمويه يف إرشاد الغيب) .وقد اطلعت على الرسالتني فجدت األوىل ملخصة -
كما أسلفت -من كتاب اإليضاح ،وهي تركز على التأكيد على منع أئمة
الزيدية من السباب ،ووجدت يف الثانية مبالغات وهتويل وإيراد يف غري حمل النزاع.
وحنن وإن كنا ال نؤمن حبكاية اإلمجاع ال عن األمة وال عن طائفة بأسرها وال
نرى أنه حجية شرعية ملزمة ،فإننا نورد األشياء كما تروى؛ ألن يف كثري منها
مقنع لبعض األتباع ،بل إن كثريا من الباحثني يعتمدوهنا ،ويرون فيها مستنداً قوياً
ملا يذهبون إليه ،وهي – بال شك -ال ختلو من إشارات واضحة تعكس حقيقة
ما مضى عليه غالبية القوم ،وال ميكن القول بأن مجيع أفراد علماء وأئمة الزيدية
متفقون على رأي واحد يف هذه املسألة أو غريها من املسائل احلساسة.
الصحابة عند الزيدية 244
الصحابة وتفسيقهم* وأكد اإلمام حيىي بن حزة أن «اإلقدام على إكفار َّ
دخول يف اجلهالة ،وحق ونقصان يف الدين وجرأة على هللا» .وأفىت بأن الصالة
ال تصح خلف من سب من تقدم علياً؛ ألنه جرأة على هللا واعتداء عليهم مع
القطع بتقدم إمياهنم واختصاصهم بالصحبة لرسـول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم.
الصحابة فسق تأويل.وروى عنه اإلمام املهدي :أن سب َّ
* وجزم اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى بفسق اخلوارج الذين يسبون
علياً ،وكذلك الروافض الذين يسبون الشيخني ،فقال يف (الشهادات) -عند
ضروب» « :-وضرب يقتضي الفسق ال غري ،كخالف ٌ قوله« :فصل واخلالف
اخلوارج الذين يسبون علياً ،والروافض الذين يسبون الشيخني جلُرأهتم على ما
قطعا». ِ
ُعلم حترميه ً
* وقال العالمة املؤرخ حممد بن علي الزحيف« :إن فضل املشايخ الثالثة ال
جيهله إال من أعمى اهلوى بصره ،وأضاع -يف عدم حل أعالم الدين على
التأويـالت املناسبة لسوابقهم -عمره».
على أن املتأثرين باجلارودية من الزيدية يتساهلون يف هذه املسألة ،كما قدمنا.
وهبذا ميكن إمجال موقف علماء الزيدية بعد بأهنم ال يسبون أحداً من اخللفاء،
بل ينهون عن ذلك ،ويستقبحون اإلقدام على اللعن والشتيمة ،وال يرتضون
ألنفسهم وأتباعهم أن يكونوا كذلك.
أما التكفري فقد ذكر اإلمام عز الدين بن احلسن :أن الذي عليه أئمة الزيدية
أنه ال حجة على إكفار املتقدمني على اإلمام علي ،من نص كتاب أو سنة
ظاهرة متواترة ،وال فيه إمجاع قاطع ،وال قياس يرشد إىل العلم.
وذكر :أن حمل اخلالف هل تكفر الرافضة مبذهبهم الشهري الذي جيمعهم،
الصحابة عند الزيدية 246
وهو تكفري الصحابة وسبهم أو ال .وقد أورد املكفرون هلم بذلك حججاً ،رأى
أهنا غري كافية لتكفري طائفة من أهل القبلة ،وإن كان خطؤهم كبرياً ،وكذلك
القول يف اخلوارج فيما خيص موقفهم من اإلمام علي.
على أن عموم الزيدية ال يرون أن من السباب والشتيمة ذكر األخطاء
والتجاوزات املروية ،وال ميانعون من نقد ما يُروى عن بعضهم وتقييمه مبوضوعية،
حسب ما توفر لكل باحث من املعطيات والرباهني ،وهذا هو ما فعله الصحابة
أنفسهم وكان الشائع يف زمن التابعني وتابعيهم.
ترجيح الترضية على التوقف
بعد اتفاق علماء َّالزيدية على املنع من سباب اخللفاء املتقدمني على اإلمام علي،
ومن أيدهم يف ذلك ،صاروا بني مرض ومتوقف ،بسبب اختالفهم يف تقدير مستوى
خطئهم يف التقدم على اإلمام علي ،فمن رأى أهنم بذلك أقدموا على معصية كبرية ،فإنه
توقف عن الرتضية ،ومن رأى أن األمر ليس كذلك ،على األقل يف تقدير املتقدمني
أنفسهم ،فهو ال ميانع من الرتضية والرتحم والثناء احلسن ،وهذا ما ميكن التعرف على
تفاصيله من خالل ما قدمنا من نقل عن كثري منهم.
وحنن -بناء على معطيات توفرت لنا -ممن يرجح الرتضية والرتحم والثناء
احلسن على عموم الصحابة خصوصاً اخللفاء الراشدين ،دون مبالغة أو تقديس،
ويف حدود أهنم بشر خيطئون ويصيبون ،وهذا االختيار مبين على أمور ،منها:
( )1أننا وجدنا هللا قد رضي عن عموم الصحابة يف القرآن يف أكثر من موضع
ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ ََ ْ
تٌالشج َر ٌةٌِفع ٌلِ ٌَمٌماٌ ِ ٌ
فٌ كٌَت ٌ
نيٌإ ِ ٌذٌيقايِعون ٌ
نٌالـمؤ ِمنِ ٌ
ضٌاهللٌع ٌِكما يف قوله﴿ :لو ٌدٌ َر ِ ٌَ
َ َ ََ َ َ ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ
السك َِين ٌةٌ َعل ْي ِه ٌْمٌ َوأث َاب حه ٌْمٌف ْت ًحاٌق ِر ًيقا﴾ [الفتح .]18/وقد تقدم الكالم عن قلوب ِ ِه ٌمٌفأنز ٌلٌ
اآلية.
247 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
( )2أن الرتضية ليست حكماً بتصويب مطلق أو تأل على هللا مبقام أو رتبة،
ولكنها عبـارة عن دعـاء بالرحـة واملغفـرة للسابقني من املسلمني ،وقـد أثىن هللا
َ ح ح َ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ح َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ
فٌ
لٌ ِ ٌ
َتع ٌ ال ٌ ٌ
ان ٌو ٌ
اإليم ٌِ ون ٌربنا ٌاغ ِف ٌر ٌنلا ٌو ِ ِإلخوان ِنا ٌاَّل ٌ
ِين ٌسقوونا ٌب ِ ِ على الـذين ﴿يوول ٌ
ح ح َ ا َّ َ َ ح َّ َ َّ َ
كٌ َر حُوفٌٌ َرحِيمٌ﴾ [الحشر.]١٠/ ِينٌآمنواٌ َربناٌإِن ٌ
ِلٌل ِذل ٌ
قلوبِناٌغ ٌ
( )3أن السنة النبوية قد دلت -كما جاء يف روايات كثرية من طرق خمتلفة
-على عظم فضلهم وعلو منزلتهم .فإذا كانوا قد نالوا شرف ثناء هللا ورسوله
عليهم ،فالرتضية عنهم قُربة للمتأسي بكتاب هللا ،وهنج رسوله صلى هللا عليه
وآله وسلم ،وليست جمرد منة من أحد ،فمن فعلها كسب لنفسه ،ومن تركها
قصر عليها.
( )4أن الرتضية خيار مشهور عن كبار سلف وأئمة أهل البيت ،وإليه ذهب
الزيدية ،فقد ذكر ذلك عن اإلمام علي غري واحد منهم:
مجع من مشاهري علماء َّ
* اإلمام املوفق باهلل احلسن بن إساعيل اجلرجاين الذي قال« :إن أمري املؤمنني
كان يوليهم الذكر اجلميل ،ويثين عليهم الثناء احلسن».
* وقال اإلمام حيىي بن حزة« :إن الرتحم والرتضي عليهم هو املشهور عن
الصـادق والناصر للحق واملؤيد
أمري املؤمنني ،وحكينا عن زيد بن علي وجعفر َّ
باهلل ،وهو املختار عندن ،وما نرتضيه لنا مذهباً ،وحنب أن نلقى هللا تعاىل وحنن
عليه».
* وذكر العـالَّمة حيىي بن احلسني بن القاسم أن علياً واحلسن واحلسني كانوا
يرضُّون على الشيخني أيب بـكر وعمر.
* وقال العـالَّمة حممد بن علي الزحيفُ « :رِوينا عن زين العابدين أنه ترحم
عليهما» .يعين الشيخني أبا بـكر وعمر.
الصحابة عند الزيدية 248
* وسأل عيسى بن دينار أبا جعفر الباقر عن أىب بـكر وعمر .فقال :مسلمني
رحهما هللا؟ فقلت له :أتوالمها وأستغفر هلما؟ فقال :نعم .قلت :أتأمرين بذلك؟
قال :نعم ،فما أصابك فيهما فعلى عاتقي ،وقال بيده على عاتقيه ،وقال :كان علي
بن أيب طالب بالكوفة خس سنني ،فما قال فيهما إال خرياً ،وال قال فيهما أيب إال
خرياً ،وال أقول إال خرياً.
* وروى حممد بن إسحاق ،عن أيب جعفر حممد بن علي قال :من مل يعرف
فضل أيب بـكر وعمر رضي هللا عنهما فقد جهل السنة.
* وروى اإلمام حيىي بن حزة «أن اإلمام زيد بن علي كان كثري الثناء على
الشيخني أيب بكر وعمر والرتحم عليهما».
الصـادق فذكره كل من اإلمام حيىي ،واإلمام املهدي ،وحيىي بن
* أما اإلمام َّ
احلسني ،من القائلني بالرتضية عن املشايخ.
َ ََ ْ
نٌضٌاهللٌع ٌِ * وسئل اإلمام القاسم بن إبراهيم عن قول هللا عز وجل﴿ :لو ٌدٌ َر ِ ٌَ
َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ حح ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ
ف ٌقلوب ِ ِه ٌْم ٌفأن َز ٌل ٌالسكِين ٌة ٌع ٌلي ِه ٌْمٌ
ت ٌالشج َر ٌةِ ٌفعل ٌَِم ٌما ٌ ِ ٌ
ك ٌَت ٌ
ني ٌإ ِ ٌذ ٌيقاي ِ ٌعون ٌ
الـمؤ ِمنِ ٌ
ََ َ َ ح ْ َ ْ ً َ ً
وأثابه ٌمٌفتحاٌق ِريقا﴾ [الفتح .]18 /فقال« :كل مؤمن زكي ،بايعه صلى هللا عليه حتت
الشجرة ،فقد رضي هللا عنه ،كما قال ال شريك له».
* وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى كالماً لإلمام اهلادي حيىي بن
احلسني مث قال« :فوجب القطع بعد معرفة هذه اجلملة من كالمه بأنه يوجب
مواالهتم والرتضية عنهم -قال -وهو الذي عرفناه وتيقناه من متأخري أئمتنا
كاإلمام املؤيد باهلل حيىي بن حزة ووالدنا اإلمام املهدي لدين هللا علي بن حممد،
وولده الناصر حممد بن علي؛ فهو عقيدتنا وعليه اعتمادنا ملا اقتضته الرباهني
القاطعة» .وهو ما فهمه اإلمام عز الدين بن احلسن من كالم اإلمام اهلادي،
فرجح أن رأيه الرتضية على الشيخني ،وقال احلافظ حيىي بن احلسـني بن القاسم
249 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
عرفناه يقيناً من متأخري أئمتنا كاملؤيد باهلل حيىي بن حزة ،ووالدنا اإلمام املهدي
لدين هللا علي بن حممد ،وولده الناصر حممد بن علي».
* وذكر العالَّمة حيىي بن احلسني يف ترمجة اهلادي بن إبراهيم الوزير من
(املستطاب) أن «ومن مصنفاته يف أصول الدين (كفاية القانع) صرح فيها
بالرتضية على املشايخ ،ورجع فيه ويف غريه عما يف (إزهاق التمويه).
* وقال القاضي العـالَّمة يوسف بن أحد بن عثمان الثالئي يف تفسري قول
ح ْ َ ْ ح َ ح َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ ََ ْ
ت ٌالشج َر ٌةِ ٌفعل ٌَِم ٌ ٌما ٌ ِ ٌ
فٌ ك ٌَت ٌ
ني ٌإ ِ ٌذ ٌيق ٌاي ِعون ٌ
ن ٌالـمؤ ِمنِ ٌ هللا تعاىل﴿ٌ :لو ٌد ٌ َر ِ ٌَ
ض ٌاهلل ٌع ٌِ
َ َ ََ َ َ ح ح ْ َ َ ْ َ َ َّ
السك َِين ٌة ٌ َعل ْي ِه ٌْم ٌ َوأث َاب حه ٌْم ٌف ْت ًحا ٌق ِر ًيقا﴾[الفتح« :]18/ومن مثرات اآلية قلوب ِ ِه ٌم ٌفأنز ٌل ٌ
احلكـم بعدالة من بايع هذه البيعة (= بيعة الرضوان)؛ ألنه تعاىل ساهم مؤمنني
وأخرب بالرضا عنهم ،وأخرب حبسن سرائرهم ،ومدحهم بإنزال السكينة عليهم،
وهي طمأنينة قلوهبم واللطف املقوي لقلوهبم ،وهذا يلزم منه وجوب مواالهتم
واحملبة هلم ،فتكون الرتضية أرجح من التوقف ،ويلزم حسن الظن هبم» .وهو
كالم وجيه.
* وبسط اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى القول يف االحتجاج على
ترجيح القول بالرتضية عن الشيخني أيب بكر وعمر ،مث قال« :فهو عقيدتنا وعليه
اعتمادنا ملا اقتضته الرباهني القاطعة اليت قدمنا ال ألجل تقليد آبائنا ،وإن كان
الواجب االهتداء هبديهم؛ إذ هم سفينة النجاة من العذاب» .ونقل حيىي بن
احلسني عنه قال :قد تواتر الثناء على الشيخني من علي والصاحلني من ذريته،
مث انتقد املتوقفني عن الرتضية وقال نقول هلم« :أأنتم أعلم أم هللا ورسوله؟! فهال
استحسنتم ما استحسن هللا ورسوله ،وتأسيتم برسول هللا صلى هللا عليه وآله
الصحابة والدعاء هلم.
وسلم يف الثناء على َّ
* وقال اإلمام عز الدين بن احلسن« :أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم
251 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
القول بعدم التفسيق -يعين ملن نفى إمامة اإلمام -وهلذا نُِقل عنهم حسن
الثناء على املشايخ املتقدمني على أمري املؤمنني علي بن أيب طالب عليه السالم،
والرتضية عنهم والتعظيم العظيم هلم».
* ومن القائلني بالرتضية اإلمام حيىي شرف الدين حسب رواية العـالَّمة ،حيىي
بن احلسني بن القاسم ،والعالمة أحد بن عبد هللا اجلنـداري.
* ونقل القاضي أحد بن حيىي حابس عن القاضي العالمة عبد هللا الدواري
أن ممن اختار الرتضية :السيد املؤيد باهلل أحد بن احلسني هلاروين والقاضي أحد
الكين والقاضي جعفر بن أحد وغريهم .مث قال :وهو قول أكثر متأخري الزيدية.
قالوا :لسابقتهم وثناء الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم عليهم ،وما جاء يف
القرآن من األخبار برضا هللا عنهم ،كقوله تعاىل( :لقد رضي هللا عن املؤمنني إذ
يبايعونك حتت الشجرة) ،وعلى اجلملة فنحن من إمياهنم على يقني وال ننتقل
عنه إالَّ بيقني.
التعصب والتنافر الذي أوجدته املذهبية يف ثقافة املسلمني ،وساعدهم على ذلك
ردود الفعل السلبية يف معاجلة األخطاء ،وغياب اإلنصاف لدى املتخاصمني.
فمنذ زمن قدمي سجل علماء الزيدية أن بداية تسرب مدخالت الغلو جاءت
عن طريق شخص يعرف بـ(أيب اجلارود) اسه :زياد بن املنذر األعمى ،عاش يف
بداية القرن الثاين ،وتوىف بعد سنة ( 150هـ) ،وهو من أهل الكوفة ،كان معروفاً
بالغلو يف أهل البيت ،وكان على مذهب اإلمامية أكثر عمره ،مث انضم إىل أتباع
اإلمام زيد بن علي ،فذمه علماء اإلمامية ،وزعموا أن اإلمام الصادق لعنه ،وأن
اإلمام الباقر ساه( :سرحوباً) ،باسم شيطان أعمى يسكن البحر ،حسب
وصفهم.
الزيدية،
وبذلك التحول كان أبو اجلارود جسراً لنقل األفكار اإلمامية إىل َّ
الفرق واجلماعات على من اتفق معه وأصبح لقب (اجلارودية) يطلق يف كتب ِ
من الزيدية يف مسألتني:
ص على أن اإلمام علي بن أيب طالب رضي هللا إحداهما :أن رسول هللا ن َّ
عنه خليفة من بعده؛ أما باسه أو باإلشارة إليه بصفات مميزة ال تكاد توجد إال
فيه.
وبعضهم يتفق مع ما يذهب إليه اإلمامية يف أن النص على اإلمام علي رضي
هللا عنه كان جلياً ال حيتمل التأويل ،وأن أبا بـكر وعمر رضي هللا عنهما كانا
على علم بذلك النص ،وكانا يدركان داللته على حق علي يف اخلالفة ،ولكنهما
أقدما على خمالفته عناداً هلل ورسوله وطمعاً يف حطام الدنيا!!
وثانيهما :أن اإلمامة بعد النيب يف مقام النبوة ،باعتبارها خالفة هلا ،فال بد
253 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
من أن تكون باختيار إهلي ،فال دخل للبشر يف تعيني اخلليفة ،وال اعرتاض هلم
على فكره ،وعليهم النزول على حكمه .وهذا هو جوهر رأي (اإلمامية) ،ولكن
اجلارودية مل يصرحوا بالنص على تعيني أناس بأسائهم ،ومل يدعوا هلم العصمة،
واكتفوا بالقول بأن هللا اختص أبناء احلسنني باخلالفة ،فال يصح أن يكون إمام
األمة إال من أحد البطنني.
وهذا ما ُعرف عنهم لدى املهتمني بشأن الفرق اإلسالمية ،فقد نقل ال ُـمزي
عن النوخبيت (املتوىف حوايل 306هـ) -وهو من أقدم من حتدث عن الفرق :-
أن اجلارودية ترى «أن علي بن أيب طالب عليه السالم أفضل اخللق بعد رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم وأوالهم باألمر من مجيع الناس ،وتربأوا من أيب بـكر
وعمر رضي هللا عنهما وزعموا أن اإلمامة مقصورة يف ولد فاطمة عليها السالم،
وأهنا ملن خرج منهم يدعو إىل كتاب هللا وسنة نبيه».
وذكر اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى ( 840هـ) :أن «اجلارودية منسوبة
إىل أيب اجلارود زياد بن منذر العبدي أثبتوا النص على علي عليه السالم بالوصف
دون التسمية ،وكفَّروا م ْن خالف ذلك النص ،وأثبتُوا اإلمامة لِلبطْن ِ
ني بالدعوة مع ُ
العلم والفضل .وينسب إىل بعضهم القول بالغْيبة وليس بصحيح» .وحنو هذا
ذكر اإلمام عز الدين بن احلسن يف (املعراج) ،إال أنه قال« :وينسب إليهم تكفري
من خالف النص» ومل جيزم بذلك.
وذكر العالمة املؤرخ حيىي بن احلسني يف (املستطاب) «أن أبا اجلارود هو
الذي أثبت النص على (علي) بالوصف الذي ال يوجد إال فيه دون التسمية،
على معىن أنه مل يكن النص على إمامته صرحياً باسه ،بل بأوصاف واضحة مل
ت به جعلوها كالنص عليه باسه ،وأثبت هو ومن توجد إال فيه ،ولما اختص ْ
الصحابة عند الزيدية 254
ثانيها :أن آخر هذا الكالم ينقض أوله ،فبينما يزعم السيد حيدان أن أئمة
الزيدية جارودية ،يؤكد أمنا نُقل وصح عن السلف من األئمة هو التوقف عن
السب ،وهو خالف ما عليه اجلارودية حسب كالمه هو.
ثاثلها :أن اإلمام حيىي بن حزة قد بني معىن كالم عبد هللا بن حزة إن صح،
فذكر أمنا غرض املنصور باهلل أن األئمة من بعد زيد بن علي قائلون بأن إمامة
اإلمام علي ثابتة بالنص ،كمقالة أيب اجلارود ،ال ألهنم متابعون له بالقول يف
إكفار الصحابة وتفسيقهم .مؤكدا «أنه مل يرو عن املنصور باهلل تكفري وال
تفسيق ،وحاشا لفكرته الصافية وعزميته السامية أن يكون متضمخاً برذائل التقليد
للجارود وغريه ،وإذا كان ال بد من املتابعة فزيد بن علي أحق بالتقليد من غريه».
فاتضح أن اجلارودية تتفق مع مجهور الزيدية على القول بوجود نص على
اإلمام علي ،وخمتلفون وصفه والطعن على خمالفه من الصحابة ،فهم يف األوىل
مجيعاً زيدية ،وليسوا كذلك يف الثانية.
وهنا ال بد من اإلشارة إىل أن اجلارودية ليست فرقة مكتملة املعامل ،كما
الفرق؛ إذ ليس هلا آراء يف خمتلف املسائل الفكرية ،كما توحي به بعض كتب ِ
هو حال ِ
الفرق املشهورة ،ولكن (اجلارودية) جمرد لقب ُمييز به من وافق أبا اجلارود
يف مسألة اإلمامة ،وهي من املسائل يغلب عليها اجلانب السياسي ،فرأي أيب
اجلارود هذا رأي سياسي ،وليس مذهبا فكرياً خالصاً ،فاملوصوفون من الزيدية
بأهنم جارودية هم أصحاب نظرية إالهية اإلمامة.
وعرب ٌالورون كان للجارودية حضور متفاوت يف احلياة الفكرية والثقافية
للزيدية ،فأما القرون األوىل فكان مثَّ جتاهل من قبل كبار العلماء ألفكار
اجلارودية ،بل كانت مشمولة مبا يوجهونه من نقد ألفكار اإلمامية املشرتكة يف
الصحابة عند الزيدية 256
سياسي معني ،جعل من فرقاء السياسة خصوماً للمذهب ،فعملوا جبد على
تغييب املذهب الزيدي ،وشجعوا البدائل الفكرية وساعدوها على التمكن من
السيطرة على املؤسسات الرتبوية والتعليمية واإلرشادية.
ثانيها :اقتصر زعماء املدرسة الزيدية يف عصرنا على استهالك ُمنتج فكري
معني ،مما جعله غري فاعل يف التجديد على مستوى الفكر واحلياة والفقهي َّ
اليومية ،إىل جانب غياب الشخصيات العلمية القادرة على التجديد ،وترتيب
أولويات املدرسة ،على أن املدرسة الزيدية مل ختل من جمتهدين ولكنهم مل يكونوا
قادرين على التجديد.
ثاثلها :ردة الفعل الناجتة عن اهلجوم الذي تعرض له املذهب الزيدي من قبل
ما يطلقون عليه «الوهابية» الذين مل يفرقوا يف هجومهم بني زيدي وجارودي،
وعمموا موقف اجلارودية على سائر الزيدية.
رابعها :طغيان مد املذهب اإلمامي من خالل املطبوعات والفضائيات
واإلنرتنت يف وقت خلت الساحة الزيدية -أو كادت -مما ميأل الفراغ ،وتسلل
داء التطاول على الصحابة من خالل النَّفس اجلارودي الذي يتفق مع مذهب
اإلمامية يف بعض مسائل اإلمامة والصحابة والتفضيل.
خامسها :حتالف بعض احلركات السياسية الزيدية مع دولة إيران ،مما أدى
إىل رغبة يف إظهار مواطن االتفاق بني الزيدية واإلمامية ،والتغاضي عن خمتلف
صور االختالف ،حىت على مستوى نشر وطباعة كتب الزيدية ،حيث صارت
األولوية لنشر الكتب األقرب للنفس اجلارودي.
الصحابة
موقف الجارودية من َّ
الصحابة ،وتوافق إىل
الزيدية جتاه َّ
اختلف موقف اجلارودية عن موقف سائر َّ
الصحابة عند الزيدية 258
حد كبري مع موقف اإلمامية االثين عشرية ،وصاروا يـْرُمون من قوس واحد
ويشرتكون يف احلجج نفسها ،على الرغم من أن السيد حيدان بن حيىي القاسي
-وهو من جارودية القرن السابع -حكى عن سلفه من اجلارودية يف مسألة
الصحابة قولني؛ األول :قول من يذهب إىل تفسيق من تقدم علياً يف اخلالفة،
والثاين :قول من يتوقف فيهم .وأكد أن الثاين هو أكثر ما نُقل وصح عن
السلف ،وقرر أن املتوقفني هم أهل التحصيل منهم.
َّ
وعن كالم السيد حيدان قال حيىي بن احلسني جاء بلفظ« :وهذا رأي غري
احملصلني منهم» .مث رأيت من صحفها من جارودية الزمان ،فحذف من نسخته
اليت كتبها لفظ( :غري) .فقاتله هللا ما أجرأه على الكذب والتحريف.
وذكر احلسن بن بدر الدين صاحب (أنوار اليقني) وهو جارودي آخر أن
ومفسق.اجلارودية بني متوقف ُ
وأكد شيخ األئمة عبد هللا الدواري يف (تعليقه على شرح القاضي زيد) أن
القول بتكفري املتقدمني على اإلمام علي هو مذهب بعض اإلمامية ،وأن القول
بالتفسيق أشهر الروايات عن اجلارودية ،وإليه ذهب بعض اإلمامية(.
وجزم اإلمام أحد بن سليمان (املتوىف566 :هـ) :أن اجلارودية يتربأون ممن
تقدم اإلمام علياً ،مث رجح قوهلم لنفسه ،فقال« :وعندنا أن من تقدم على أمري
املؤمنني علي عليه السالم أو َّ
قدم عليه بعد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،فقد
ظلمه وجحد حقه ،وهو كافر نعمة فاسق ظامل ،وقد هتدد هللا الظاملني بالنار
واخلزي والبوار ،وقد صح أهنم ظلموه حقه وأنكروه سبقه غري جاهلني وال
شاكني».
قال العـالَّمة حيىي بن احلسني :مل يتابع اجلارودية يف مقالتهم إال اإلمام أحد
بن سليمان .وذكر يف كتاب آخر أنه عاد عن جاروديته ،مؤكداً أن ما يروى عنه
259 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
فهذه من األقوال الصادرة عن أئمة اجلارودية ،وحيسن التنبيه هنا على أن
الزيدية ،ويعملون على تعميم
اجلارودية يقدمون أفكارهم للناس على أهنا هي َّ
الزيدية ،حىت إن بعضهم قام جبمع بعض نصوص الصحابة على مجيع َّ
موقفهم من َّ
األئمة يف شأن اخلالفة وزعم أهنا تؤيد موقف اجلارودية ،ومن ذلك:
( )1ما تضمن كتاب (املصابيح) أليب العباس احلسين (353هـ) ،والذي قال
عنه اإلمام عز الدين بن احلسن« :وممن يظهر عنه التجرم على املشايخ والنفحات
اليت تقضي بالتفسيق :السيد أبو العباس احلسين رحه هللا ،فمن طالع كتابه
(املصابيح) رأى ما يقضي بأنه كان إمامي املذهب ،وقد روى فيه أخباراً عن
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،تدل على الفسق وتشعر به».
وقال العالمة حيىي بن احلسني« :وله أيضاً كتاب (املصابيح) يف التاريخ ،ذكر
فيه األئمة الدعاة ،وسلك فيه مسلك اجلارودية من الزيدية ،ولعله كان جاردوياً».
( )2ما تضمنت كتايب (احلكمة الدرية) و(حقائق املعرفة) لإلمام أحد بن
سليمان (566هـ) .وقد تقدم كالم حيىي بن احلسني بأنه مل يوافق اجلارودية يف
مسألة الصحابة سوى اإلمام أحد بن سليمان.
على أن بعض علماء الزيدية السابقني وبعض مشاخينا كالسيد العالمة جمد
الدين املؤيدي يشككون يف صحة نسبة بعض النصوص إليه ،ويذكرون إىل فيمها
ما هو مدسوس على اإلمام.
( )3ما تضمن كتاب (أنوار اليقني) للحسن بن بدر الدين (670هـ) ،من
أخبار وحكايات حادة ،غري أن تلك األشياء منقولة عن كتب بعض الغالة ال
الزيدية .حىت إن احلافظ إبراهيم بن القاسم بن املؤيد باهلل عد أن ما
عن كتب َّ
261 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
( )8كتاب بعنوان (السيف الباتر املضـيء لكشف اإلهبام والتمويه يف إرشاد
الغيب) إلساعيل بن عز الدين النعمي (1220هـ) ،وقد رد فيه على كتاب
الشوكاين (إرشاد الغيب) ،وقد اطلعت عليه فوجدت مؤلفه انتقد الشوكاين على
تلميحه إىل موقف اجلارودية منكراً أن يكون هنالك من يُقدم على سب أو براءة
أو يتطاول بتكفري أو تفسيق ،وصرح بتوقفه يف املسألة ،مث عاد ليحكم بالفسق
ويتطاول يف التجريح.
( )10كتاب بعنوان (الرسالة املوضحة للحق ،الرافعة للتلبيس على اخللق)
ويسميه بعضهم (طراز األسانيد) وهو لصالح بن علي بن حممد القاسي املغديف
(1085هـ) وقد خصصه لتحرمي الرتضية على اخللفاء الراشدين ومل يرتك جهداً يف
الطعن عليهم ،واعتمد بشكل ملحو على ما يرويه اإلمامية يف كتبهم.
263 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
الصحابة
مخالفة الجارودية للزيدية في شأن َّ
الزيدية ،وبيَّنوا
الزيدية على متييز موقف اجلارودية عن موقف سائر َّ
عمل علماء َّ
أن اجلارودية يعتمدون يف الدرجة األوىل على ما جاء يف كتب اإلمامية مباشرة
أو بواسطة ،مث يتأولون بعض النصوص يف ضوئها.
الزيدي يف (احمليط باإلمامة) نسب إىل اجلارودية ما نزه
* فعلي بن احلسني َّ
الزيدية ،فقال« :ذهبت (اجلارودية) إىل التربؤ من القوم».
عنه سائر َّ
* واعترب اإلمام عبد هللا بن حزة الطعن والسب مما اختصت به اجلارودية دون
الصحابة عند الزيدية 264
السلف من أهل البيت ،حيث حكى عنه السيد حيدان أن «أكثر ما نقل وصح
عن السلف فهو ما قلنا -من التوقف -على تلفيق واجتهاد ،وإن كان الطعن
والسب من بعض اجلارودية ظاهراً».
* أما اإلمام حيىي بن حزة فأورد أقوال األئمة يف الثناء على أيب بـكر وعمر،
مث قال« :وهذا هو املعتمد عليه عند أكابر أهل البيت؛ فأين هذا عن هذيان
الروافض واجلارودية؟! فاهلل حسبهم فيما قالوه ومكافئهم على ما نقلوه وكذبوه»!
الزيدية بالتخطئة للصحابة
وأكد «أن اجلارودية خمتصون من بني سائر الفرق َّ
الصحابة ،وهللا حسبهم فيماوتفسيقهم ،وقد نقل عن بعضهم إكفار بعض َّ
زعموه واعتقدوه وهو هلم باملرصاد ،وهذه املقالة ال تُنسب إىل أحد من أكابر
أهل البيت وعلمائهم وأئمتهم ...وعلى اجلملة فهذه فرية ليس فيها مرية ،وحنن
نربأ إىل هللا من هذه املقالة ،وليس علينا إال إظهار احلجة ،فمن اهتدى فلنفسه،
وذلك هو املتوجه عينا».
* وذكر الدامغاين رأي أيب اجلارود ،مث قال« :وهذه املقالة خمالفة ملقالة إمامه
265 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
زيد بن علي عليه السالم ،وقليل من يوجد عليها اآلن منهم ،وإمنا الظاهر من
أقواهلم التوقف يف امر الشيخني ،مع االعتقاد أن اإلمام بعد النيب صلى هللا عليه
وعلى آله وسلم هو علي عليه الصالة والسالم» مث استطرد يف ذكر األوجه اليت
من أجلها توقفوا.
* وميز اإلمام عز الدين بن احلسن موقف الزيدية عن موقف اجلارودية جتاه
من تقدم على اإلمام علي ،فحكى عن اإلمامية واجلارودية أهنم يفسقوهنم ،مث
قال« :املذهب الثاين :أن ما ذكر ال يعد كفراً وال فسقاً .قال اإلمام حيىي :وهو
رأي أهل التحقيق من أئمة الزيدية واملعتزلة .قال :وهو املختار»
الصحابة عن* وذكر العـالَّمة الديلمي أن اجلارودية رمبا أخذوا موقفهم من َّ
الصحابة ممن يسبهم ويتسمى بالزيدية،اإلمامية ،فقال« :فأما من طعن على َّ
فقد أخطأ اخلطأ العظيم ،وجاوز يف أمره الصراط املستقيم ،ولعل ذلك كان منه
ملا سع به من خرافات الرافضة ،من اإلمامية وغريهم من الباطنية اإلساعيلية،
وال يغرت مسلم عاقل بشيء من ذلك».
* ويف (تعليقه على الشرح) نزه العالمة الدواري الزيدية عن القول بالتكفري
والتفسيق وذكر أن القول بالتفسيق أشهر الروايات عن اجلارودية ،وظاهر إطالق
القاسم بن علي العياين وولده احلسني واإلمام أيب الفتح الديلمي ،وذكر ذلك
اإلمام أحد بن سليمان يف كتاب (احلقائق) ،ورواه عن السيد أبو طالب ،وأبو
العباس .مث قال :وينبغي تأويل هذه الرواية ملن كان بذلك من سادات أهل
البيت ،وصاحلي املسلمني؛ ألن هذه مزلة قدم نعوذ باهلل منها».
رآه متعباً فقال :إن الوجع قد غلب عليه ،وعندنا كتاب هللا وهو حسبنا؛ فاختلفوا
وكثر اللغط .فقال النيب صلى هللا عليه وآله وسلم :قوموا عين وال ينبغي عندي
التنازع.
رويت القصة عن ابن عباس ،وذكر أنه انتقد عمر على تصرفه ،وقال« :إن
كل الرزية ما حال بني رسول هللا وبني أن يكتب هلم ذلك الكتاب الرزية َّ
َّ
الختالفهم ولغطهم».
الزيدية ،ومل خيض يف تفاصيلها وهذه القصة مل أجدها من رواية احملدثني من َّ
حلمتقدمو أئمتهم .أما ألهنا مل تصح عندهم ،وإما ألهنم يروهنا حدثاً عابراً ُِ
من التأويل ما ال حيتمل ،وشأنه شأن غريه مما ال يقوم عليه حكم ،وال ينبين عليه
موقف؛ وإمنا خاض فيها بعض متأخريهم عندما طُرحت كواحدة من املآخذ على
عمر بن اخلطاب؛ فشكك بعضهم يف صحتها ،وتأوهلا آخرون.
ويف هذا شكك الشيخ أبو القاسم البُسيت بـ«أن يكون اخلرب صدقاً؛ ألنه
يوجب تكذيب الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يف احلال ،واإلعراض عن
االستماع منه وقبول الشريعة ،وبيان الوصية ومل يكن عمر ممن أظهر الكفر بعد
اإلميان بعد وفاة رسول هللا» .ويف حال صحة اخلرب يرجح «أن عمر إمنا أخرب عن
ظنه ،بعد أن التبس عليه حال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فظنه مغشياً
عليه ،وليس ألنه يرى أن ليس للرسول أن يفعل فعالً إال وهو يف كتاب هللا،
فيكون اخلطأ دون اخلطأ يف التعمد .مضيفاً أنه ال ميتنع أن يكون من عمر كلمة،
فنقلها الراوي من جهة املعىن ،ولفظ الراوي خالف لفظه.
وأيد اإلمام حيىي بن حزة كالم البسيت وتبناه مبعناه وأكثر لفظه .ومل خيتلف
كالم اإلمام املهدي أحد بن حيىي املرتضى عن كالم اإلمام حيىي والشيخ البسيت.
الصحابة عند الزيدية 268
وذهب العـالَّمة حيىي بن احلسن القرشي إىل أن هذه األخبار ال يُظن ِص ْدقُها،
فضالً عن أن يـُفسق هبا.
ويف هذا املعىن قال ابن تيمية« :وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قوله صلى
هللا عليه وآله وسلم من شدة املرض ،أو كان من أقواله املعروفة ،واملرض جائز
على األنبياء ،وهلذا قال :ماله؟! أهجر؟! فشك يف ذلك ومل جيزم بأنه هجر،
والشك جائز على عمر فإنه غري معصوم».
أما اإلمامية واجلارودية فاحتجوا بالقصة على ما يذهبون إليه من التشنيع على
عمر بن اخلطاب ،واعتربوا ذلك اعرتاضاً منه على رسول هللا صلى هللا عليه وآله
وسلم ورداً عليه وعصياناً له واستخفافاً به.
واحتدم الصراع حول تفسري هذه احلادثة ،حيث استغلها الناقمون على عمر
بن اخلطاب ووضعوها يف سياق مشهد يوحي بأنه أقدم على كبرية ال تُـ ْغتفر.
بينما بالغ املدافعون عن عمر إىل درجة القول «بأن العلماء املتكلمني يف شرح
احلديث اتفقوا على أنه من دالئل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ ألنه خشى أن
يكتب صلى هللا عليه وآله وسلم أموراً رمبا عجزوا عنها ،ألهنا منصوصة ال جمال
ْ َ َ َ ْ َ
ابٌ
فٌالكِت ٌِ لالجتهاد فيها ،فقال عمر :حسبنا كتاب هللا ،لقوله تعاىل﴿ :ماٌ ٌف َّرطناٌ ِ ٌ
َْ ْ َ َ ْ َ ْ ح َ ح ْ َ ح ْ ََ ْ َ ْ ح َ َ ْ ح ْ َ ِنٌ َ ْ
ْ
تٌعليك ٌْمٌن ِعم ِ ٌ
تٌ تٌلك ٌمٌدِينك ٌمٌوأتمم ٌ َش رٌُ﴾ [األنعام .]38/وقوله﴿ :اِلو ٌمٌأكمل ٌ مٌ
ح َ ح ح ْ َ
اإل ْسل ٌَم ٌد ًِينا﴾ ٌ[املائدة .]3/فعلم أن هللا تعاىل أكمل دينه ،فأمن يت ٌلك ٌم ٌ ِ َو َر ِض ٌ
الضالل على األمة وأراد الرتفيه على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،فكان
عمر أفقه من ابن عباس».
وعند التأمل فيما استنتجه الطرفان املتضادان ،جند أهنا جمرد افرتاضات
وخترصات ،ال يصح أن ينبين عليها موقف ،أو يقوم عليها حكم؛ ألنه مل يأت
269 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
يف النص ما يدل عليها ،ومل تقم قرينة مقبولة تؤكد هذه الفرضية أو تلك.
فكالم الناقمني فيه غلو يف القدح ،يوحي -بال مستند -بأن رسول هللا أراد
أن يكتب شيئاً عن اخلالفة ،وأن عمر رضي هللا عنه اعرتض ذلك كيداً لإلسالم
واملسلمني .وكالم املوالني فيه مبالغة يف التزكية يوحي بأنه أدرك من مصلحة
املسلمني ما مل يدركه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وعلم من القرآن ما
مل يعلمه!!
واألوىل أن جيري النظر يف املسألة من عدة وجوه ،أحدها :النظر يف مدى
ثبوت الرواية ،إذ ال مينع كوهنا يف الصحيحني من إعادة النظر يف صحة صيغتها.
وثانيها :النظر يف القرائن املقبولة اليت ترشد إىل املدلول الصحيح للرواية ،على
فرض ثبوهتا .ثالثها :الكف عن تفسري النوايا وبناء املواقف على جمرد الظنون،
باعتبار ذلك غيب ال يعلمه إال هللا.
السنة ،ونقلها الشيعة اإلمامية عنهم،
أماٌالروايـةٌفقد وردت يف كتب أهل ُّ
وهي مروية عن ابن عباس من طريقني:
اْلوىل :من طريق الزهري عن عبيد هللا بن عبد هللا عن ابن عباس ،قال :ملا
ب ل ُك ْم كِتاباً ِ ِِ
اشتد بالنيب صلى هللا عليه وسلم وجعه قال« :ائْـتُوىن بكتاب أ ْكتُ ُ
ضلُّوا بـ ْعدهُ» .قال عمر :إن النيب صلى هللا عليه وسلم غلبه الوجع ،وعندنا ال ت ِ
كتاب هللا حسبنا .فاختلفوا ،وكثر اللغط ،قال :قوموا عين ،وال ينبغي عندي
الرزية كل الرزية ما حال بني رسول هللا وبني التنازع .فخرج ابن عباس يقول :إن َّ
كتابه.
واثلانية :من طريق سفيان بن عيينة عن سليمان األحول أنه سع سعيد بن
جبري سع ابن عباس رضي هللا عنهما يقول« :يوم اخلميس وما يوم اخلميس مث
الصحابة عند الزيدية 270
بكى حىت ب َّل دمعه احلصى .قلت :يا أبا عباس ما يوم اخلميس؟ قال :اشتد
برسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وجعه ،فقال ائتوين بكتف أكتب لكم كتاباً
ال تضلوا بعده أبداً .فتنازعوا ،وال ينبغي عند نيب تنازع ،فقالوا :ما له؟! أهجر؟!
استفهموه ،فقال ذروين ،فالذي أنا فيه خري مما تدعونين إليه ،فأمرهم بثالث:
قال أخرجوا املشركني من جزيرة العرب ،وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.
واختلفوا يف الثالثة ،فمنهم من قال :سكت عنها ،ومنهم من قال :نسيها أحد
الرواة.
ويف رواية للطرباين من طريق األعمش عن سعيد ،فقالوا :يهجر رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم .مث سكتوا وسكت ،قالوا :يا رسول هللا أال نأتيك بعد؟
قال :بعد ما؟.
وهنالك رواية أخرى ،منها :عن جابر بن عبد هللا ،أوردها أبو يعلى يف
مسنده ،من طريق قرة بن خالد عن أيب الزبري عن جابر أن رسول هللا صىل اهلل
عليه وسلم دعا قبل موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً ال يضلون بعده وال يُضلون،
وكان يف البيت لغط ،وتكلم عمر بن اخلطاب ،فـرفضها رسول هللا صلى هللا عله
وآله وسلم
ويف رواية ألحد ،من طريق ابن هليعة عن أيب الزبري عن جابر ،وفيه :فخالف
عليها عمر بن اخلطاب حىت رفضها.
وعن عمر بن اخلطاب ،روى الطرباين من طريق هشام بن سعد ،عن زيد بن
أسلم ،عن أبيه ،عن عمر بن اخلطاب قال :ملا مرض النيب صىل اهلل عليه وسلم
قال« :ادعوا يل بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً ال تضلوا بعده أبداً» .فكرهنا
ذلك أشد الكراهة ،مث قال« :ادعوا يل بصحيفة أكتب لكم كتاباً ال تضلوا بعده
271 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
أبداً» .فقال النسوة من وراء السرت :أال تسمعون ما يقول رسول هللا؟ فقلت:
إنكن صوحيبات يوسف ،إذا مرض رسول هللا عصرتن أعينكن ،وإذا صح ركبنت
عنقه .فقال :رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم« :دعوهن ،فإهنن خري منكم».
ويف الباب رواية ألحد ،من طريق نعيم بن يزيد أن علي بن أيب طالب قال:
أمرين النيب أن آتيه بطبق يكتب فيه ما ال تضل أمته من بعده ،قال فخشيت أن
تفوتين نفسه ،قال قلت :إين أحفظ وأعي ،قال :أوصى بالصالة والزكاة وما
ملكت أميانكم.
هذه جممل الروايات مبا فيها من اختالف يف األلفا وتفاوت يف الصحة
والضعف.
وأمـاٌدالتلها ،فالقدر املشرتك الذي تدل عليه هو :أن رسول هللا صلى هللا
عليه وآله وسلم ،طلب أثناء مرضه ما يكتب فيه توصية ونصيحة .واختلفت
فيما عدا ذلك ،حيث جاء يف بعضها :أنه أوصى مبا كان يريد أن يوصي ،ويف
بعضها :أن عمر حال بينه وبني ذلك ،ويف بعضها :أن عمر هو القائل :غلبه
الوجع ،ويف بعضها أهنم قالوا ذلك ومل ُحيدَّد القائل ،ويف بعضها أن املشادة وقعت
الصحابة ،ويف بعضها أنه طلب من علي كتابة ما يريد، بني نساء النيب وبني َّ
فحفظ عنه ما أراد.
وهذا جيعلنا نقف عند ما توافقت عليه الروايات ،ونشك يف التفاصيل
والزيادات اليت تفرد هبا بعض الرواة ،وال جنزم ببناء أي حكم عليها ،خصوصاً
مع تضادها وتعارضها.
فإذا صح -حسب احملدثني -أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أمر
بأن يأتوه مبا يكتب هلم عليه ما ال يضلوا بعده ،وأن عمر أىب ذلك ،فالظاهر أن
الصحابة عند الزيدية 272
عمر أخطأ التصرف؛ ألن قوله« :ائتوين» أمر ،وكان حق املأمور أن يبادر
لالمتثال ،ولكن ال جيوز أن نفرض لعمر نوايا أو نفسر موقفه تفسرياً سلبياً جملرد
الرغبة يف إدانته ،بل حنمله على السالمة ،فنقول :إنه إمنا أراد أن يوفر على رسول
هللا اجلهد بسبب شدة مرضه ،وذلك ما توحي به عبارة «غلبه الوجـع» .كما ال
جيـوز أن نبالغ فنقول :إنه أدرك من مصلحة الناس ما مل يدركه رسول هللا.
وليس لنا أن نفرض أن ما أراد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم كتابته
كان أصالً من أصول الدين اليت ال يتم إال هبا ،ملا يف ذلك من تلويح بأن رسول
هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قصر ،ومل يبلغ كل ما من شأنه أن حيفظ األمة من
َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ح
تٌرِساتلَ ٌه﴾ لٌ ٌفماٌبلغ ٌ الضاللة ،فينطبق عليه ما جاء يف قول هللا تعاىل﴿ :وإ ِ ٌ
نٌل ٌمٌتفع ٌ
[املائدة .]67/والواقع أنه صلوات هللا وسالمه عليه قد بلغ مجيع ما كلف به ،وأخربنا
َْ ْ َ َ ْ َ ْ ح َ ح ْ َ ح ْ ََ ْ َ ْ ح َ َْ ح ْ َ
ض حٌ
يتٌ تٌعليك ٌْمٌن ِعم ِ ٌ
تٌ َو َر ٌِ تٌلك ٌمٌدِينك ٌمٌوأتمم ٌ هللا بذلك يف قوله﴿ٌ:اِلو ٌمٌأكمل ٌ
َ ح ح ْ َ
اإل ْسل ٌَمٌد ًِينا﴾ [املائدة.]3/
لك ٌمٌ ِ
تنص على خالفة اإلمامأما القول بأن رسول هللا كان يريد أن يكتب وصية ُّ
علي بن أيب طالب ،وأن عمر بن اخلطاب أدرك ذلك فحال بينه وبني ما أراد؛
فما هي إال جمرد جمرد دعوى وتكهن ال توم عليها بينة واضحة.
وقد قابلها اآلخرون مبثلها ،حيث قال ابن تيمية« :وأما قصة الكتاب الذي كان
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يريد أن يكتبه ،فقد جاء مبيناً كما يف الصحيحني
عن عائشة ،قالت :قال رسول هللا صىل اهلل عليه وسلم يف مرضه :ادعي يل أباك
وأخاك حىت أكتب كتاباً فإين أخاف أن يتمىن متمن ،ويقول قائل :أنا أوىل ،ويأىب
هللا واملؤمنون إال أبا بـكر».
وهذه الرواية يف كتاب فضائل الصحابة ألحد بن حنبل ،عن أم املؤمنني عائشة
أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال يف مرضه« :مروا أبا بكر فليصل بالناس» ،قالت
273 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
عائشة :فكرهت أن يتشاءم الناس بأيب ،فقلت حلفصة :قويل :إن أبا بكر رجل
رقيق ،ومىت ما يقم مقامك يبك ،فلو أمرت عمر ،فقال« :مروا أبا بكر فليصل
بالناس» ،فأعادت عليه ،فقال« :إنكن صواحبات يوسف ،مروا أبا بكر فليصل
بالناس ،يأىب هللا واملؤمنون إال أبا بكر».
ويف رواية أيب داود الطيالسي (204هـ) أن عائشة رضي هللا عنها قالت :قال يل
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف مرضه الذي مات فيه« :ادعي يل عبد الرحن بن
أيب بكر ،أكتب أليب بكر كتاباً ال خيتلف عليه بعدي» .مث قال« :دعيه؛ معاذ هللا
أن خيتلف املؤمنون يف أيب بكر».
وهذا االفرتاض الذي ذهب إليه الشيخ ابن تيمية ،واالفرتاض الذي ذهب
إليه غريه جمرد ختمينات منهم ،ال يقوم على حجة واضحة ،وال ميكن أن ينبين
عليه موقف حاسم يف مثل هذه املسألة.
واألسلم فيها اعتقاد أن رسول هللا صلى هللا عليه ما ترك شيئاً أُمر بتبليغه إال
بلغه ،ومل يرتكه ألي سبب من األسباب ،ونُرجح حْل املختلفني -إن صحت
الرواية -على أحسن احملامل ،وهي متاحة دون أدىن تعسف .وهللا أعلم.
الشبهة الثانية :التخلّف عن جيش أسامة
ومما حيتج به الناقمون على أيب بـكر وعمر أهنما ختلَّفا عن جيش أسامة بن
زيد بعد أن جهزه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وشدد على خروجه وكانا
من مجلة أفراده ،وقد رويت يف القصة روايات خالصتها:
جهز جيشاً لقتال الروم و َّأمر عليه أسامة
أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله َّ
الصحابة من املهاجرين وحث على خروجه ،وكان يف ذلك اجليش كبار َّ بن زيدَّ ،
واألنصار .وبينما أسامة خميم بعسكره يف (اجلرف) بالقرب من املدينة ،أتاه نبأ
الصحابة عند الزيدية 274
وفاة رسول هللا فرتيث حىت ُدفن ونُصب أبو بـكر خليفة بعده ،مث أنفذ أبو بـكر
جيش أسامة ،مع أن بعض الصحابة أشار عليه خبالف ذلك فقال :وهللا ال
أحل راية عقدها رسول هللا.
وكان أبو بـكر قد استطلق عمر بن اخلطاب من أسامة لإلقامة عنده فأطلقه
له ،وسار اجليش حىت بلغ ختوم البلقاء من أرض الشام ،فغزا وعاد مظفراً.
هذه جممل أحداث القصة وما توافقت عليه الروايات ،وليس فيه ما يوجب
الطعن على أيب بـكر وال عمر وال أسامة؛ ألن اجليش كان قد أخذ يف االستعداد
للرحيل حسب أمر رسول هللا ،فلما تويف ج َّد جديد وحدث ما ال ميكن جتاهله،
تغري الوضع برمته ،فكان من اجلفاء أن يتحرك اجليش قبل أن يشارك يف بل َّ
تشييع جنازة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،ويشارك الناس أحزاهنم ،ومن
التقصري أن يذهب دون أن يشارك يف تنصيب خليفة ،ويعلم من هو ويل أمره
بعد رسول هللا كي يتعامل معه ،فانتظر حىت اتضحت الرؤية ،مث ذهب وجهته
وجهه رسول هللا إليها ومت األمر كما ينبغي.
اليت َّ
على أن هنالك من جيزم بأنه مل ينقل أحد من أهل العلم أن النيب -صلى
هللا عليه وسلم -أرسل أبا بكر أو عثمان يف جيش أسامة ،وإمنا روي ذلك يف
عمر .متسائالً :كيف يرسل أبا بكر يف جيش أسامة ،وقد استخلفه يصلي
باملسلمني مدة مرضه.
الزيدية يف أن تنصيب اخلليفة من الواجبات اليت ال جيوز التباطؤ
والعارف برأي َّ
فيها ،يدرك أن موقف جيش أسامة كان موقفاً صحيحاً؛ إذ ليس اخلروج للغزو
أهم من تنصيب خليفة يتوىل إدارة شؤون اجملتمع ،وتؤخذ عنه التوجيهات
واألوامر.
275 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
ولكن الناقمني على أيب بـكر وعمر بنوا -كعادهتم -على التخمني وتفسري
النوايا فقدموا القصة على حنو آخر ،حيث افرتضوا أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله
صب خليفة ،وأن أبا بـكر وسلم تعمد إبعاد أيب بـكر وعمر ليخلوا اجلو لعلي حىت يـُن َّ
وعمر أدركا ذلك فتثاقال يف اخلروج ،مما جعل رسول هللا يشدد على خروج اجليش،
حىت رووا أنه قال« :لعن هللا من ختلَّف عن جيش أسامة» .ولكن أبا بـكر وعمر -
حسب زعمهم -مل يلتفتا لذلك وأصرا على خمالفة أمر رسول هللا صلى هللا عليه
وآله وسلم!! وذلك حتليل ال يصح -يف نظرنا -من عدة وجوه:
اْلول :أنه جمرد ختمني وختُّرص ،ورد يف تأويالت بعض الغالة وهم متهمون
يف روايتهم يف هذا الباب ،فضالً عن تأويالهتم ،ومل تدل عليه قرينة ظاهرة ،فال
يـُع َّول عليه ،خصوصاً يف مثل هذا املقام.
اثلاين :أن ذلك يتناقض ودعواهم النص على علي؛ ألنه لو كان هنالك نص
صريح الكتفى انليب به ،وملا احتاج إىل ترتيب هذه العملية.
اثلالث :أن هذا التَّخُّرص يؤدي إىل الشعور بأن رسول هللا صلى هللا عليه وآله
وسلم فشل يف تربية أصحابه ،ويظهره مبظهر املتحايل الضعيف الذي ال حول
له وال قوة جتاه بعض أصحابه ،فحاشاه حاشاه صلوات هللا وسالمه عليه.
حتيط باملوقف ،ولو علموه ملا خالفوه ،وهم خري أمة أخرجت للناس.
وفرضية أن الصحابة تواطؤا على كتمان حق اإلمام علي يف الوالية ،على
الرغم من وضوحها -فيها نظر؛ ألننا لو قبلنا مثل هذه الفرضيات لكان ذلك
وارداً يف كل شيء حىت يف القرآن الكرمي ،ومجيع ما ميكن اعتباره من الثوابت
الدينية.
وَجهورٌاإلمامية يرون أن تلك النصوص تدل داللة صرحية قاطعة على تعيني
اإلمام علي بن أيب طالب خليفة بعد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،ويرى
بعضهم أن املتقدمني عليه كانوا يعلمون تلك النصوص ويعرفون دالالهتا ،ولكنهم
جتاهلوها ،وأعرضوا عنها عناداً ومترداً.
ولذلك حيكمون عليهم بالزيغ واالحنراف ،وال يتحرجون من التشنيع عليهم
والرباءة منهم ،والسب والقدح ،وكالمهم مبسوط يف من كتبهم القدمية واحلديثة.
ويتفق مع اإلمامية كثري من اجلارودية ،على النحو الذي قدمنا من مذهبهم.
َّ
أماٌَجهورٌالزيدية فقد اختلف موقفهم عن هذا وذاك ،فهم يرون أن اإلمام
علياً كان أوىل باخلالفة العتبارات ومؤهالت شىت ،كسبقه إىل اإلسالم ،وبالئه
يف اجلهاد بالءً حسناً ،وقرابته من رسول هللا صلوات هللا عليه ،ومتيزه بصفات
قيادية رفيعة ،كالشجاعة واإلقدام ،وسعة العلم ،وحسن التدبري ،إىل جانب ما
تصف مكانته وفضله ،ال ختلوا من أوجه يستنتج منها ورد يف حقه من نصوص ِ
بعضهم أن اإلمام علي كان األوىل باخلالفة من غريه ،وهذا ما مضى عليه قدماء
الزيدية يف االستدالل على إمامة علي عليه السالم.
ويف مسألة النص يدرك علماء الزيدية أهنا مركبة من عدة مقدمات :وجود
الصحابة عند الزيدية 278
العامة -أن احتماهلا ألكثر من معىن ،جعل داللتها -على أولوية اإلمام علي
-بالظَّن والوصف دون التسمية؛ إذ ليست قاطعة يف التنصيص على تعيينه
خليفة بعد رسول هللا ،فيتبادر معىن اخلالفة بتلقائية إىل خايل الذهن من
املقدمات ،كما هو احلال يف التكاليف الشرعية القطعية ،مثل :الصالة والزكاة
وحنوها ،ولكنها مما حيتاج إىل نظر واستدالل.
الزيدية يف
الزيدي -أحد علماء َّ وعلى ذلك نص الشيخ علي بن احلسني َّ
الزيدية تذهب إىل أن
القرن اخلامس اهلجري -يف (احمليط باإلمامة)؛ إذ ذكر أن َّ
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم نص على علي نصاً مل يعلم السامعون منه مراده
ضرورة وال م ْن بعدهم ،وإمنا يُعرف مراده باالستدالل ،وذلك كخرب (الغدير)،
وخرب (املْنزلة).
الزيدية املتقدمني منهم واملتأخرين نصوص كثرية تؤكد هذا املعىن، ولعلماء َّ
الزيدية) .وسأكتفي هنا بذكر رد اإلمام
ذكرت طرفاً منها يف كتايب (اإلمامة عند َّ
عبد هللا بن حزة على القائلني بأن النص على اإلمام علي جلي ،سواء كانوا
إمامية أو جارودية ،ولفظه« :زعمت اإلمامية أن النص جلي حبيث يعلم أن
اجلميع اضطروا إىل العلم باملراد به ،وأن الكل علِم أن قصد النيب أن علياً إمام
األمة بعده بال فصل ،دون أيب بـكر وعمر وعثمان ،وأن من تقدم علياً عليه
السالم مكابر عامل خبالف ما علم ضرورة من دين النيب صلى هللا عليه وآله
الصحابة كابروا وباهتوا يف أمره عليه السالم.
وسلم ،وأن َّ
واجلواب عليهم ،أنَّا نقول :إنكم أتيتم ما ال دليل عليه ،وكل مذهب ال دليل
عليه فهو باطل .أما أنه ال دليل عليه؛ فألن األدلة حمصورة على :داللة العقل،
وال برهان يف العقل يدل على ذلك .وعلى الكتاب الكرمي ،والسنة املعلومة،
الصحابة عند الزيدية 280
واإلمجاع الظاهرَّ .أما الكتاب فال ميكن ادعاء ذلك لوقوع االختالف يف معىن
َ َ ح ح ح َ َّ َ َ ح َّ َ ح ح َ َّ َ َ َ ح ْ ح َ َّ َ َ ح َّ َ
لزاك ٌةٌ ونٌا
ونٌالصل ٌةٌويؤت ٌ
ِينٌي ِويم ٌ
ِينٌآمنواٌاَّل ٌ اآلية ﴿ -إ ِ ٌنماٌ َو ِِلُّك حٌمٌاهللٌورس ٌ
ولٌواَّل ٌ
ح َ حْ
ون﴾ [املائدة - ]55/وافتقار ما تذهب إليه إىل الرتجيح ،وكذلك حديث َوه ٌم ٌ َراكِع ٌ
(الغدير) و(املْنزلة) .وما انفردت بروايته اإلمامية فال تصححه األمة فضالً عن أن
يقضى ببلوغه حد التواتر ،وحصول العلم الضروري.
وأضاف :إننا نعلم أن رجال اإلمامية وعلماءهم ،وحنارير مقالتهم ،يسلكون
مسلكنا يف االستدالل خبرب (الغدير) و(املنزلة) ،و(آية الزكاة يف الركوع) ،وهو
معلوم يف تصانيفهم وكتبهم ،ويرجحون ويبالغون يف الكشف والتبيني،
واالستدالل إىل هناية اإلمكان يف اآلثار واألخبار ،فلو كان املراد هبا معلوماً
عندهم ضرورة كما زعموا الستغنوا بذلك عن الكشف والبيان ،كما فعلنا يف
أصول الشرائع املعلومة ضرورة؛ ألننا ال ننصب ألهل اإلسالم الدليل على أن
الصلوات خس ،وأن الزكاة مفروضة يف األموال ،وأن احلج إىل بيت هللا تعاىل،
وأن نيب هذه األمة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم ،ملا كانت هذه األمور معلومةً
ضرورة مل تفتقر إىل بيان وال كشف ملن قد أظهر اعتقاد دين اإلسالم ،بل وكلناه
إىل علمه.
فلما رأينا علماءهم املربزين كالشريف املرتضى املوسوي ومن تقدمه ،وتأخر
عنه من أهل الكالم ،بالغوا يف تبيني معىن اآلية واخلرب بل األخبار ،علمنا أهنم
من اعتقاد الضرورة على شفا جرف هار؛ ألن من حتمل املشقة يف إظهار الظاهر
كان عابثاً ،وكيف يكشف املكشوف؟ أو جيتهد يف صفة املشاهد املعروف»؟
وأضاف« :وحنن وإياهم قد اتفقنا على أن اإلمام بعد رسول هللا صلى هللا
عليه وآله وسلم بال فصل علي بن أيب طالب أمري املؤمنني ،وأن من تقدم عليه
281 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
فقد أخطأ وعصى ،فلو كان ما ذكروا من النص يوصل إىل الضرورة لوصلنا؛
التفاقنا حنن وإياهم على العلم بالدليل ،وكيفية ترتيب االستدالل ،فلو حصل
العلم هلم حلصل لنا ضرورة .وكما ال يصح أن ي َّدعي بعض املشاهدين العلم
باملشاهدة دون صاحبه ،كذلك هذا ،وكما ال حيصل العلم لبعض السامعني
مبخرب األخبار املتواترة دون بعض ،فكذلك هنا .واألدلة جيب أن تكون عامة
لعموم التكليف ،وال يصح أن يدعيها بعضهم دون بعضهم ،وإمنا ينازع يف
معانيها املخالف ،ويصححها املؤالف».
الزيدية أن «الصحيح عندنا وحكى حممد بن حسن الديلمي عن علماء وأئمة َّ
أن تلك النصوص خ ِفية ال يعلم املراد هبا إال بضرب من االستدالل ،فال يكون
الصارف هلا عن اإلمامة إىل غريها -مما حيتمل لفظ ذلك النص -راداً ملا ِع ْل ُمه
ضروري من النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ،فال يستحق بذلك الكفر وال الفسق؛
إذ ال داللة تدل على استحقاقه ذلك».
ويف هذا ما يكفي لبيان أمنا يُ ْستدل به من النصوص على إمامة اإلمام هو؛
إما صحيح غري صريح ،وإما صريح غري صحيح ،ومثل ذلك ال يكون حجة
قاطعة تنبين عليها مواقف الوالء والرباء من املخالف يف التعاطي معها.
أماٌدعوىٌتعمدٌاملخالفة ،فال ميكن اجلزم بأن من عدل عن اختيار اإلمام
علي رضي هللا عنه؛ كان عاملاً بالنص وأنه جتاوزه عناداً؛ ألن ذلك غيب ومل ترد
رواية صحيحة تكشف عن ذلك ،وإذا كان النص -على رأي الزيدية -خفياً
إىل درجة أن اإلمام علي مل يستحضره عقب وفاة رسول هللا ،فكيف يطلب من
اآلخرين استحضاره واالحتجاج به والعمل مبقتضاه.
الزيدية من تـقَّدم اإلمام علي أو قدَّم عليه على السالمة ،ومل
هلذا حل علماء َّ
الصحابة عند الزيدية 282
حد األدب ،بل رووا فضائلهم واحتجوا مبا روي عنهم من يتجاوزوا يف نقدهم َّ
حديث وتفسري وفقه وأثنوا عليهم مبا يليق مبقامهم كما قدمنا.
ويف هذا أكد الشيخ البسيت :أن الذي عليه أهل التحصيل من الزيدية يف
وقته أن اخلروج على إمام احلق فسق .أما اجلهل بإمامته واجللوس جملسه فال داللة
على كونه فسقاً .قال :وهلذا مل نفسق الصدر األول وإن جلسوا جملسه وتصرفوا
يف حقه.
وأكد اإلمام عبد هللا بن حزة أن« :لسنا نعتقد فيهم أهنم قصدوا شقاق النيب
صلى هللا عليه وآله وسلم يف وصيه عليه السالم ،وإمنا جهلوا وجه االستدالل
فاعتقدوا أهنم أوىل باألمر ،فلو صح أهنم قصدوا خالف رسول هللا صلى هللا
عليه وآله وسلم لقطعنا على ضاللتهم ،ولكنا ال نقول ذلك ،وعلى هذا الوجه،
الصحابة ثابتة ،وجاللتهم باقية ،وخطؤهم يف مسألة واحدة ال يذهب أخبار َّ
حرمة إسالمهم ،وإصابتهم فيما ال حيصى من املسائل ،فتأمل ذلك موفقاً».
ويرى اإلمام القاسم بن حممد بن علي -وهو من املتشددين يف مسألة اإلمامة
-أن «احلق أهنم إن مل يعلموا استحقاقه دوهنم بعد التحري فال إمث عليهم ،وإن
علموا فخطيئتهم كبرية .مث قال :ولعل توقف كثري من أئمتنا لعدم العلم بأهنم
علموا أو جهلوا» .وهذا من الفروق بني اإلمامية واملتشددين من الزيدية.
وما يفرتضه بعض املتحمسني من أهنم علموا وخالفوا ما عرفوا ،فما هو إال
جمرد استصحاب ملا ارتسم يف ذهنه من فـرضيَّة املؤامرة ،وانعكاس لصورهتا.
وقبل هذا وبعده ،ما صدر عن اإلمام علي جتاه خمالفيه يف الرأي والرؤية،
وعلم وشجاعة ،ولن يرضى مبا فيه منكر ليتَّخذ يف ذلك قدوة ،فهو صاحب ِدين ِ
ومعصية .وقد تقدم ذكر ما روي عنه يف هذا الباب.
283 الفصل الرابـع :دفاع الزيدية عن الصحابة
ونظراً حلساسية هذه املسألة ،وكثرة تفاصيلها ومالبساهتا أفردهتا ببحث مفرد
تطرقت فيه لكثري من التفاصيل املتعلقة بالنص وما
الزيدية) َّ
بعنوان (اإلمامة عند َّ
ورد فيه من اختالف ،وما يرتتب على القول به ،وحنو ذلك.
الشبهة الرابعة :االستيالء على فدك
الزيدية كثرياً بتفاصيل قصة فدك ،ومن ذكرها منهم ذكرها بال مل يهتم قدماء َّ
تشنج ومبالغة ،حىت إنه جاء يف مسند اإلمام زيد :عن أبيه ،عن جده ،عن علي
عليه السالم ،قال« :إن األنبياء مل خيلفوا ديناراً وال درمها ،إمنا تركوا العلم مرياثاً
بني العلماء».
وسئل اإلمام القاسم بن إبراهيم عن مرياث النيب فقال« :إن رسول هللا صلى ُ
هللا عليه وآله وسلم تويف وقد فـَّرق كل ما ميلك من الدنيا على أمته ،ومل يرتك إال
سـالحه ،فأخذه علي بن أيب طالب» .وسـئل عن (فدك) ،فقـال« :ذُكر أن
رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أعطى فاطمة صلوات هللا عليها فدك».
هكذا بصيغة التمريض.
أما املتأخرون من الزيدية فيبدو أن تقلب املناخات الفكرية والسياسية يف كل
عصر أثَّر على مواقفهم ،فصار من غري املنطقي أن ينسب إليهم موقف واحد،
غري أهنم متفقون يف اجلملة على أن مطالبةً وقعت من فاطمة الزهراء أليب بـكر
يف شأن فدك ،وإن اختلفوا يف تفسري األحداث وتفاصيلها ،ويف درجة النَّقد
والعتب ،واملشهور عنهم قوالن:
الوولٌاْلول :أن فاطمة طلبت فدك على أهنا هبة هلا من رسول هللا صلى
هللا عليه وآله وسلم ،وأهنا صادقة فيما ذكرت ،وهو قول أكثرهم ،حىت ادعى
اإلمام القاسم بن حممد« :أن آل حممد ال خيتلفون أن النيب صلى هللا عليه وآله
الصحابة عند الزيدية 284
وهذا ما رجحه العـالَّمة عبد هللا بن حممد النجري ،فقال« :إن فاطمة ملا
الصحابة ،سكتت فاطمة رضيسعت اخلرب من أيب بـكر وشهد بسماعه بعض َّ
هللا عنها انقياداً للحق وطوعاً للشرع».
وليس يف هذا ما ُخيل بقدر الزهراء ،وال يطعن يف تدينها ،وال يعين أهنا كانت
مصرة على طلب الباطل ،ولكنها طلبت ما رأته حقاً هلا؛ فلما سعت ما روي
عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أذعنت له ،وهذا شأن كل تقي .فأصابت
يف الطلب أوالً ،وأصابت يف الكف ثانياً.
مث اختلفوا يف حكم تصرف أيب بـكر جتاه ما يروى من دعوى الزهراء ،على
أقوال:
اِلكـمٌاْلول :أن أبا بـكر أخطأ يف تصرفه ،وكان عليه أن يصدق دعوى
فاطمة ويقبل بينتها؛ ملا يعرف من فضلها وتقواها ،وأهنا لن تطلب ما ليس هلا
حبق؛ لعصمتها ،وأنه كان ينبغي مراعاة شعورها ولو من باب حق اخلليفة يف
التصرف يف األموال ،حىت قال بعضهم:
وماذا عليهم لو أطابوا جناهنا وما ضرهم لو صدقوها مبا ادعت
فلِ ْم طلبوا فيمــا ادعتــه بيــاهن ـا
وقــد علموهــا بض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعــة من نبيهم
اِلكـمٌاثلاين :اعتربوا بـيِنتها ناقصة ،وعليه فال يلزم أبا بـكر االستجابة هلا،
وإن كانت صادقة يف نفسها؛ ألن قبول الدعوى متوقف على متام البينة ،ال على
فضيلة املدعي ،فكم من فاضل صادق يف دعواه يكون احلكـم لغري صاحله؛ لعدم
كفاية البيِنة الشرعية ،وال عربة بدعوى العصمة هنا؛ ألن الناس متساوون يف
أحكام الشرع ،إال ما خصه الدليل ،وال دليل هنا .وبناء على هذا اعتربوا تصرف
أيب بـكر تصرفاً صحيحاً.
الصحابة عند الزيدية 286
واستغرب اإلمام حيىي بن حزة غضب الزهراء -إن صح -ألن أبا بـكر إمنا
طلب منها إقامة البينة ،وقد جاءت بعلي وأم أمين ،فقال :امرأة مع االمرأة ،أو
رجل مع الرجل .قال :فغضبت فاطمة لذلك ،وإمنا طلب أبو بـكر احلق ،فإذا
غضبت لذلك ،فاحلق أغضبها .وهي -فيما نعتقد -مل تغضب لذلك ،إن
صح أهنا غضبت ،وحاشاها من أن يكون احلق أغضبها.
ونظراً حلساسية هذه املسألة -كسابقتها -وكثرة اللغط حوهلا فقد أفردهتا
ببحث مفرد حتت عنوان (فدك وحقيقة النزاع بني الزهراء والصديق) شرحت فيه
كثرياً من التفاصيل اليت ال بد من معرفتها للخروج برؤية واضحة.
وهنالك ُشبه أخرى يوردها املصنِفون ،أجاب على معظمها من الزيدية كل
من الشيخ أيب القاسم البسيت يف (التحقيق) ،واإلمام حيىي بن حزة يف (التحقيق)
والعالمة القرشي يف (املنهاج) واإلمام املهدي يف (شرح القالئد) ،والعالمة حيىي
بن احلسني بن القاسم يف (اإليضاح).
واحلمد هلل رب العاملني.