Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 296

‫من شقوق الظالم‬

‫من شقوق الظالم‬


‫ناهض الهندي‬
‫الطبعة األولى‪2020 :‬‬
‫إصدار دار سطور للنشر والتوزيع‬
‫العراق ‪ -‬بغداد ‪ -‬شارع المتنبي ‪ -‬مدخل جديد حسن باشا‬
‫ص‪ .‬ب‪74090 :‬‬
‫الرمز البريدي‪12114 :‬‬
‫‪ - email: bal_alame@yahoo.com‬هاتف‪07700492576 - 07711002790 :‬‬
‫جميع حقوق الطبع والنسخ والترجمة محفوظة للدار والمؤلف ناهض الهندي‪ ،‬حسب قوانين‬
‫الملكية الفكرية للعام ‪ ،1988‬وال يجوز نسخ أو طبع أو اجتزاء أو إعادة نشر أية معلومات أو صور من‬
‫هذا الكتاب إال بإذن خطي من الطرفين‪.‬‬
‫‪First Published by Dar Sotour For Publishing and‬‬
‫‪Distribution Baghdad - lraq - Al Mutnabi street - Jadeed‬‬
‫‪Hasan Basha Entry‬‬
‫‪Revised copyright © Dar Sotour And nahid alhindi The‬‬
‫‪right of the Auhor of this work has‬‬
‫‪been asserted in accordanee with the Copyright Designs‬‬
‫‪and patents Act 1988‬‬
‫هام‪ :‬إن جميع اآلراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن رأي كاتبها أو محررها‪ ،‬وال تعبر بالضرورة عن رأي الناشر‬
‫‪ISBN: 978 - 9922 - 608 - 92 - 1‬‬
‫من شقوق الظالم‬
‫(قصة سجين أكثر ما ُيؤَ ِر ُ‬
‫ق فيها‬
‫أنها لم تنته بعد)‬

‫ناهض الهندي‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ال أن تقضي في السجن‪ ،‬عشر ًا من السنين‪،‬‬


‫ليس مستحي ً‬
‫تسود‬
‫خمس عشرة‪ ،‬وأكثر‪ ،‬ذلك ممكن شريطة أن ال ّ‬
‫الجوهرة النائمة تحت ثديك األيسر‪.‬‬
‫ناظم حكمت‬

‫‪5‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪6‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫إهداء‬

‫إلى من وقف في الظالم منتصب ًا وخرج إلى النور ممتد ًا‪.‬‬


‫إلى من استطال به الكثير ولم تستطل به الدنيا‪.‬‬
‫إلى جالدي الذي كشف لي معنى الحرية والحياة‪.‬‬
‫إلى أصحاب الزنزانة الذين خلدوا شهد المعاناة‪.‬‬
‫وأيض ًا للذين لم يخلدوها‪.‬‬
‫والداي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إلى زوجتي‪ ،‬أوالدي وأهلي‪ ،‬باألخص‬
‫الذين عانوا أكثر من غيرهم من جراء مغامراتي وتطلعاتي التي لم تصل‬
‫المرفأ األخير بل حتى لم يلح لها إلى اليوم‪.‬‬
‫لكل هؤالء ولكم ابسط مائدتي‪.‬‬
‫وبكل صدق‪.‬‬
‫أدعوكم لعشائي الذي أرجو أن ال يكون األخير‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪8‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نفثة‬
‫***‬

‫في عتمة داكنة مثل ظلمة ليل شتاء شمالي‪.‬‬


‫حيث تغور النجوم بعيد ًا وال نور‪.‬‬
‫في وحدة قاسية مثل غربة ذرة غبار في بحر متالطم‪.‬‬
‫من زمن يكاد المنادي يعلن فيه بخيالء المنتصر انكفاء كل الوعود‬
‫اإللهية مبشر ًا بهزيمة الطين أمام النار‪.‬‬
‫من وسط كل هذا ألمح في داخلي‪ ،‬بقعة مضيئة يكاد ينشق منها نور‬
‫سيضيئ كل هذا الليل ويرسم فجر ًا سرمدي ًا‪.‬‬
‫منها سيخرج طائر عشقي للشمس‪ ،‬ولن تخيفني كثرة لسعات حبها التي‬
‫تحيلني رماد ًا‪ ،‬ينفجر نافورة في تيه صحراء قومي ليعيد خلقي من جديد‪.‬‬
‫سأجري مثل خيول برية في بيداء ال أمد لها وال حد‪.‬‬
‫وسأنزف حبر ًا يروي حكاية بعيدة كل البعد عن األنا‪.‬‬
‫لكنها ستروي حكاية ذاتين‪ ،‬ال وحدة بينهما‪ ،‬اّإل ذاك األب الدارويني‪.‬‬
‫ما بعد هذه األسطر ليست حكاية شخصية‪ ،‬بل سيرة زمن كاد أن يهرس‬
‫شعب ًا‪ ،‬بين سندان صمت ضمير أشك في صحوته ولو بعد حين‪.‬‬
‫ومطرقة غريزة منفلتة من عنانها‪ ،‬فغدت بحال أقل ما قيل فيها‪ ،‬وحشية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫مقدمة البد منها‬


‫***‬

‫(على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا) كافكا‬
‫***‬
‫هذه األسطر ليست رواية من الخيال‪ ،‬بل إنها حقيقية بكل تفاصيلها‪،‬‬
‫قادر على جمعها كلها‪ ،‬لذلك‬‫مثلها مثل كل الحقائق‪ ،‬ليس هناك من أحد ٍ‬
‫ضاع الكثير جد ًا مما كان يجب ذكره وكان في نيتي أيض ًا سرده‪ .‬إنما‬
‫يلزمني القول مشدد ًا إن كل السرد اآلتي ليس ألجل السرد فقط‪ ،‬وال هو‬
‫مثل حكايات العجائز التي تخرج مقترنة مع دفء المواقد في ليالي الشتاء‬
‫الطويلة الباردة‪ .‬وال هو حديث عن بطوالت ألفراد قضوا‪ ،‬وال أبحث فيه‬
‫عن إدانة ألحد‪.‬‬
‫ما مضى قد مضى ال سبيل لعودته‪ ،‬وما انفرط عقده ال يمكن جمعه‪ ،‬وما‬
‫سكب امتصته األرض إلى عالمها السفلي‪ .‬إنه ببساطة ليس حديث ًا يروى‪،‬‬
‫بل ألم ًا يتلوى شديد ًا في داخلي ال أقوى على السيطرة عليه حتى بعد‬
‫مرور ما يزيد على أكثر من عقدين على مغادرتي زنزانتي آلخر مرة‪ ،‬رغم‬
‫محاوالتي الكثيرة للفرار منه‪ ،‬والتي باءت جميعها بالفشل لسوء الحظ‪.‬‬
‫لم أجهد نفسي في اختيار عنوان لتجربتي هذه التي قد يحلو للبعض‬
‫أن يسميها رواية وربما آخر ينعتها بالمذكرات‪ .‬وان كانت في حقيقتها‬

‫‪10‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ليست كذلك بالنسبة لي‪ ،‬وأنا أعرف من غيري بما كتبت وبما يعتمل في‬
‫نفسي‪ .‬هي بضعة مني ال أقدر على الفكاك عنها وال الخالص منها‪ .‬لم‬
‫أفكر باختراع عنوان لمجموعة السطور هذه‪ ،‬بل جاء العنوان هكذا تلقائي ًا‬
‫مثلما جاءت التجربة نفسها بال تحضير الزم‪ ،‬رغم أني كنت أتوقع حصول‬
‫االثنين‪ .‬انبثق العنوان مثل دافع غريزي ُجبلت عليه الفطرة االنسانية و َم ُث َل‬
‫أمامي مغلق ًا كل المنافذ على ّ‬
‫أي خيار آخر‪.‬‬
‫السجن‪ ،‬كان مكان ًا مظلم ًا شديد العتمة مغلق ًا بإحكام شديد‪ ،‬إلى درجة لم‬
‫تسنح لي وال حتى فرصة واحدة لمغادرة الزنزانة العفنة برطوبتها‪ ،‬المظلمة‬
‫بجدرانها الرمادية الغامقة‪ ،‬والمزدحمة دائم ًا بأجساد بشرية وكائنات أخرى‬
‫ٍ‬
‫ولسنوات طويلة حتى وال لساعة واحدة‬ ‫حشرات وهوام‪ .‬لم يحدث لي‬ ‫ٍ‬ ‫من‬
‫علي‪ ،‬طيلة سبع سنوات تقريب ًا‪،‬‬
‫شمس ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أن تنفست هوا ًء نقي ًا وال أن سطعت‬
‫مع أني في الواقع مكثت في السجن أكثر من ذلك‪ .‬لذا كان السجن بالفعل‬
‫أي كائن من الخارج على رؤية ما في داخله‪ .‬وإذا‬ ‫صندوق ًا مظلم ًا ال يقوى ّ‬
‫كان كذلك فكيف يتسنى لي أن اخذ القارئ اليه واطلعه عما يجري فيه‪ ،‬اّإل‬
‫عبر وسيلة بدائية وحيدة‪ ،‬هي استراق النظر من شقوق صغيرة في جدره‬
‫الصماء‪ .‬أدرك كما تدركون إن أشق النظر وأصعب الرؤية هو أن تشخص‬
‫بصرك في صندوق مظلم تبحث فيه عما يدلك لما يحدث داخله‪.‬‬
‫إنها محاولة أشبه بعبث مجنون‪ ،‬لكن كان لزام ًا ّ‬
‫علي فعلها ليس‬
‫ألجل أحد‪ ،‬إنما ألجل خاطري المبرح ألم ًا من جلد ذكريات تولد معي‬
‫كل صباح‪ .‬ألم يضطجع معي في الفراش ويسير إلى جنبي في الطرقات‪،‬‬
‫وعندما يختفي ظلي في الفيء يبقى هو متسمر ًا إلى جنبي‪ ،‬ويعلو على كتفي‬

‫‪11‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫سبيل للخالص من أنينه المستدام‬ ‫وهامتي‪ .‬لعلي بمحاولتي هذه انفذ إلى‬
‫ٍ‬
‫بلسان أخرس‪ .‬ذاكرتي‬ ‫ومن نشيجه الصامت في عويله وبكاءه الصاخب‬
‫المثقوبة هي الشقوق الوحيدة التي أملكها‪ ،‬وبوسع من هو خارج الصندوق‬
‫أن يطلع من خاللها على ما في داخله‪ .‬ومع ذلك أجزم أن لن يستشعر أحدٌ‬
‫أبد ًا برد الظالم وال وحشته كما شعرت بهما‪ .‬سوف تغيب عنه أشياء كثيرة‬
‫علي أن اقول‪ ،‬أن عددها ال يحصى وأعجز حتى أنا الخبير‬ ‫جد ًا من السهل َّ‬
‫بها (ألني عاصرتها) أن استرجعها جميع ًا‪ .‬أشياء تخفيها حلكة ظالم داكنة‬
‫ال تزال تخيم على وقائع تلك األيام في ذاك المكان المنسي‪.‬‬
‫كل ما سوف أرويه حقيقي تمام ًا ال زيادة فيه وال مبالغة‪ ،‬بل العكس هو‬
‫الصحيح تمام ًا‪ .‬من االنصاف أيض ًا أن اقدم اعتراف ًا مسبق ًا‪ ،‬بأني فشلت في‬
‫وصف الصورة الحقيقية بل عجزت عن ذلك تمام ًا‪ .‬هذه الصورة حاولت‬
‫إلي‪ ،‬ولسوء الحظ‬‫أن أقدمها مرار ًا لمستمعين أجبرتهم على االنصات ّ‬
‫رأيت فشلي على مالمح وجوههم في كل هذه المرات‪ .‬لم تسعفني براعتي‬
‫في األحاديث المسهبة أن أجعلهم يعيشون األلم والمرارة التي عشتها‪،‬‬
‫ليس فقط ما عانيته من ألم حين وقعت الوقائع‪ ،‬بل حتى آثارها التي تتفجر‬
‫اقو على ايصالها لهم‪ .‬فكيف لي بعد‬ ‫وأنا انكأ الجروح حين أحدثهم بها لم َ‬
‫هذا أن أتخيل أنهم سوف يتحسسوا ما عشته يومئذ أو إن القارئ سيفعل؟‪.‬‬
‫علي أن أثبت صحة قولي هذا‪ ،‬لكنه صحيح رغم‬ ‫من العسير جد ًا َّ‬
‫ذلك‪ .‬كل ما سوف ُيقرأ هنا‪ ،‬هو صورة بالغ ٌة في البهاتة لما جرى في عالم‬
‫الحقيقة‪ ،‬وعزائي الوحيد أن هذا الكون ال يخلو من بعض األذكياء ذي‬
‫النباهة العالية الذين سيدققون النظر جيد ًا في ثرثرتي هذه‪ ،‬وسوف يبذلوا‬

‫‪12‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫غاية جهدهم ليعيدوا رسم الصورة بأفضل مما فعلت‪ .‬وأني على يقين أيض ًا‬
‫أن بعضهم ممن ال أراه هذه األيام لنكد دنياي التي أعيشها سوف يجعلها‬
‫صورة ماثلة أمام عينيه أبد ًا حتى ال يعود أحدٌ غيري يرسم عذاباته من جديد‬
‫على الورق ويخدش به جمال الحياة‪ .‬لهؤالء أكتب‪ ،‬وارجو أن يصل اليهم‬
‫صوتي المبحوح من صراخ أستصرخ به غيرهم بال جدوى‪ ،‬ألنهم وحدهم‬
‫من سيحاول أن يمنع اعادة طبع قصتي هذه ثانية‪.‬‬
‫في أحد األيام وبمناسبة عامة‪ ،‬التقيت صديق ًا كان سجين ًا مثلي‪ ،‬وألننا‬
‫ٍ‬
‫شيء آخر فقد ُا ْدلقنا في بئر‬ ‫أي‬
‫نحسن الحديث عن أيام السجون أكثر من ّ‬
‫الذكريات‪ ،‬وقال لي عبارة بليغة المست شغاف قلبي‪ ،‬كانت تجول في‬
‫داخلي خاطرة ولم أجد لها منفذ ًا عبر الحروف والكلمات اّإل حين أ ْط َلقها‬
‫بعفوية وبراءة ال أتوفر عليها كما يحوزها هو‪.‬‬
‫قال صديقي ونحن نجلس على رصيف تظللنا الشمس‪:‬‬
‫‪ -‬لشدة المعاناة التي مررت بها‪ ،‬تمنيت من يومها أن ال يتذوق هذا‬
‫العذاب أحدٌ غيري بعدي‪ ،‬ولو كان جالدي نفسه‪ .‬ونحن بالطبع نعرف‬
‫جالدينا بأسمائهم وذواتهم‪ ،‬ومع ذلك لم يخطر ببالنا أن نُنزل بهم العذاب‬
‫الذي أنزلوه بنا‪.‬‬
‫هذه المقولة الرائعة لصديقي هي عصارة ما أريده أن يحدث للقارئ‪،‬‬
‫بل هي كل ما أريد من هذا الكالم‪ .‬أملي وغايتي أن ال يسمح القارئ بتكرار‬
‫أي انسان آخر‪ ،‬حتى لو كان جالدي نفسه الذي أذاقني‬ ‫ما حصل لي على ّ‬
‫كل هذا العذاب‪ ،‬ولم يزل يفعل بأقنعة جديدة‪ .‬أكرر هذا المعنى كثير ًا في‬

‫‪13‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫مدونتي ألنه ليس لي من شيء يستحق القول افضل منه‪.‬‬


‫لن أكتب أسماء األشخاص الذين التقيتهم أو سمعت بهم‪ ،‬ولن اتحدث‬
‫عن عناوين األماكن التي مررت بها على األغلب اّإل قليالً‪ .‬ألني أريد أن‬
‫ٍ‬
‫لفاعل معين لعله أصبح‬ ‫ٍ‬
‫لفعل (متواصل الوقوع بدرجة متفاوتة)‪ ،‬ال‬ ‫أؤرخ‬
‫غبار ًا أو رماد ًا‪ .‬وأجهد أن ال يبدو األمر صراعا سياسي ًا بين متنافسين على‬
‫سلطة‪ ،‬الن ذلك لم يكن هدفي وال غايتي أبد ًا‪ ،‬ال اليوم وال من قبل‪ ،‬بل هو‬
‫عرض لمعاناة انسان أراد أن يعيش كما ينبغي له أن يعيش‪ ،‬وهذا هو لب‬
‫المشكلة وجوهر المأزق‪.‬‬
‫الجالدون‪ ،‬ذكر أشخاصهم وأسمائهم بالتأكيد يسبب مزيد ًا من الحقد‬
‫والكراهية‪ ،‬وهذا ما أتجنبه في كل حين‪ .‬أما الضحايا‪ ،‬من المؤكد أن كلماتي‬
‫ليس بمقدورها أن تمنحهم الخلود‪ ،‬وال تقوى على إسعاد أرواحهم مهما‬
‫بالغت في كلمات االطراء‪ .‬ما ينفع حقا هو أن ال تعاد هذه المشاهد المرعبة‬
‫أحد بعدهم مرة أخرى‪.‬‬‫على أي ٍ‬
‫ّ‬
‫أمر أخير قد يلحظه القارئ اثناء مطالعته ولن يمر عليه مرور الكرام‪،‬‬
‫هو سرعة تبدل المشاعر بين األسطر والصفحات‪ .‬وألني قررت أن أكتب‬
‫بأي تناقض قد يؤثر على بنية النص وجماليته‪،‬‬‫مشاعري الحقيقية‪ ،‬لم أحفل ّ‬
‫ألني أص ً‬
‫ال لم أفكر بكتابة رواية أطمع في نيل الثناء عليها‪ .‬هذا التناقض في‬
‫المشاعر وتبدلها السريع يجدر باألطباء النفسيين والعلماء منهم أن يبحثوا‬
‫فيه‪ ،‬ألنه واحدٌ من آثار كثيرة خلفتها ظروف السجن واالعتقال الرهيبة‪ ،‬ال‬
‫يجد السجين حتى بعد أن ينال حريته سبب ًا للخالص منها أو السيطرة عليها‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ختاما أقتبس أبيات ًا لناظم حكمت أهديها لوطني من محل الغربة الذي‬
‫نفيت إليه بإرادتي مكره ًا‪.‬‬
‫يا وطني يا وطني‪.‬‬
‫اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك‪.‬‬
‫تقطع حذائي الذي حمل تراب شوارعك‪.‬‬
‫آخر قميص اشتريته في (بغداد)* صار مقطع األوصال منذ زمن يا‬
‫وطني‪ * ..‬في النص األصلي (تركيا)‪.‬‬
‫لم يبق لدي منك ســوى الشــيب في شعري‪.‬‬
‫مــا عندي منــك غير خطوط مــن الهموم تعلو جبهتي‪.‬‬
‫يا وطني يا وطني يا وطني‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الشق األول‬
‫(المعتقل)‬
‫‪1‬‬
‫***‬
‫ٍ‬
‫ظهيرة قائظة‪ ،‬عند عطلة نهاية أسبوع من صيف الهب‪ ،‬وتحديد ًا‬ ‫في‬
‫األسبوع األخير من شهر آب‪ ،‬ومن على مقعد خلفي لسيارة ايطالية سرقت‬
‫لون السماء‪ ،‬ولدت حكايتي‪.‬‬
‫كان شهر ًا ساخن ًا بكل ما فيه‪ ،‬طقس جهنمي وحرب مستعرة اشتد‬
‫أوارها‪ ،‬حيث تزداد ضراوة المعارك على الحدود الشرقية بين جيش‬
‫الدولتين الجارتين‪ .‬وقع الهزائم العسكرية في األسابيع األخيرة وفقدان‬
‫مساحات واسعة من اراضي الخصم كانت إلى وقت قريب تسيطر عليها‬
‫وحدات من الجيش العراقي‪ ،‬قد اخذ مأخذه الكبير من معنويات النظام وبدأ‬
‫أثر ذلك حملة واسعة لتصفية كل من له اي عالقة مع المعارضة السياسية‪،‬‬
‫ولو كانت هذه العالقة المفترضة مستندة إلى شبهات وشكوك بل حتى‬
‫أي شخص يجهر برأي معارض للحرب أو يبدي قلق ًا‬ ‫وإن كانت أوهام ًا‪ّ .‬‬
‫النتهاكات حقوق اإلنسان التي كانت قد اصبحت أمر ًا شائع ًا حينها‪ ،‬بل كل‬
‫فرد عراقي بات يخشى من الوقوع تحت عجلة القمع واالضطهاد الجبارة‬
‫أي أحد‪ ،‬لكان أشبه بسير حادلة فوق طريق عبد‬ ‫التي لو قدر لها السير فوق ّ‬
‫بالقير للتو‪ ،‬ال تخلف بعدها غير صفحة سوداء ال أثر فيها وال ندوب كما‬

‫‪16‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫لو أن شيئا لم يكن‪.‬‬


‫عصبت عيناي بحشر كومة قطن بينها وبين زجاج نظارتي الطبية‪،‬‬
‫وأنزل رأسي إلى األسفل وسارت بي العربة مسرع ًة إلى حيث ال أدري من‬
‫األمكنة‪ ،‬سوى عنوان طالما اخترعته مخيلتي‪ .‬إنه بيت قابيل قاتل جدي‬
‫بيت سلخت فيه ما يقارب العشر سنوات من عمري‬ ‫الشهيد بجرم براءته‪ٌ ،‬‬
‫وكابدت فيه من العناء الشديد والحرمان من كل شيء‪ ،‬واألهم من ذلك هو‬
‫أي عاطفة انسانية‪ ،‬وقاسيت فيه من األهوال والعذابات ما ال‬
‫الحرمان من ّ‬
‫يمكن لي أنا شخصي ًا أن أتصورها‪ ،‬فكيف بمن سيقرأ هذه األسطر‪.‬‬
‫مزدحم بالحوادث واالنفعاالت وكذلك بالناس‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مظلم‬
‫ٌ‬ ‫عالم‬
‫بيت بل ٌ‬‫انه ٌ‬
‫إلى حد أني لم أحظ وال حتى بفرصة واحدة ألكون بمفردي مختلي ًا بنفسي‪،‬‬
‫اّإل عندما كنت أكون في بيت الخالء‪ ،‬وحتى هذا الموضع الفريد كنت‬
‫أضطر لمشاركته في بعض األحيان‪ .‬إنه ألمر فيه من الصعوبة الكثيرة كي‬
‫يتصوره احد أو يصدق وقوعه‪ .‬إنه أشبه بأسطورة اخترعتها مخيلة كاتب‬
‫أفالم رعب من زخم فوضى كوابيس مرعبة تسكن رأسه ليل نهار‪.‬‬
‫آخر مشهد لمحته عيناي قبل أن أحشر بين جثتي رجلي أمن قويين في‬
‫تلك العربة‪ ،‬هو وجه شقيقي العائد للتو من نزهة قصيرة بسيارته البولندية‬
‫البيضاء‪ .‬رأيت عالمات فزع ودهشة ارتسمت على محياه وهو يشهد‬
‫السرعة الفائقة التي تم اختطافي بها‪ .‬كانت تعابير وجهه تحكي إحساسه‬
‫بأي معضلة وقعت فيها‪ ،‬ونظراته ترسل كلمات وداع ألجم الموقف لسانه‬ ‫ّ‬
‫لمغادر لن يعود‪ ،‬وإن عاد سوف يرجع بحمولةٍ‬
‫ٍ‬ ‫عن النطق بها‪ .‬كلمات وداع‬
‫ٍ‬
‫صعب‬ ‫ٍ‬
‫انتظار‬ ‫ٍ‬
‫ثقيلة من الحزن والهموم لكل من يعرفه‪ ،‬وسيكون ذلك بعد‬

‫‪17‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫وثقيل مشبع بالليالي الحزينة الطويلة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طويل‬ ‫ٍ‬
‫لزمن‬
‫قلدوني أساور ًا هي مهر عرس الحرية الذي سوف أزف له‪ ،‬وقبلها‬
‫أرجعوا المعصمين إلى ما وراء ظهري‪ ،‬ثم طلبوا مني أن أسير على هدى‬
‫كلماتهم حين أنزلت من العربة بعد فترة وجيزة‪.‬‬
‫‪ -‬سر يمين ًا‪ ..‬اذهب إلى اليسار‪ ..‬اخفض رأسك‪.‬‬
‫أي موضع لنية صادقة‬ ‫ال فيها ّ‬‫ال أعلم حتى اليوم هل‪ ‬كانت كلماتهم فع ً‬
‫ملتو ما زلت أجهل أبعاده وتضاريسه‬ ‫متعرج ٍ‬
‫ٌ‬ ‫طريق‬
‫ٌ‬ ‫ال رشادي إلى الطريق؟‬
‫ولم يتسن لي التعرف عليها أبد ًا‪ ،‬أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها كل‬
‫ال كذلك على األرجح‪ ،‬كما كان هناك‬ ‫السنوات المقبلة؟ نعم‪ ،‬كانت هي فع ً‬
‫من بعدها ما يقارب العقد الكامل من السخرية الالذعة‪ .‬انتهى المسار بي‬
‫إلى حجرة ما زلت أذكر بل أعرف كل تفاصيلها وأستطيع وصفها بمنتهى‬
‫الدقة‪ ،‬كما أني أيض ًا في المقابل ما زلت أجهلها بالمطلق‪ ،‬ألنها لم تكن‬
‫ٍ‬
‫دامس ومقعد خشبي لعله كان مصطب ًة طويل ًة تتسع آلخرين‪ ،‬لم‬ ‫سوى ظال ٍم‬
‫أجرؤ على التحقق منه فقد كنت مرعوب ًا ومرتبك ًا إلى ٍ‬
‫حد كبير‪ .‬لم ينقض‬
‫الكثير من زمن ثقيل كانت كل لحظة فيه تسحقني بحمولتها من الخوف‬
‫الشديد والقلق الكبير‪ ،‬حتى غطس وجهي في سيل صفعات‪ ،‬ثم توالت‬
‫مخاوف شتى وهواجس‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫علي شالالً غزير ًا‪ .‬غرقت في وحلها وعلقت بي‬‫ّ‬
‫كان يخترق سمعي صراخ من بدأت حكايته قبلي‪ ،‬صوت ألم مبرح وعذاب‬
‫شديد يخرج منه ليستقر في جسدي العشريني الغض‪ .‬شرطي أمن يجلس‬
‫بالقرب مني كان يضحك متشفي ًا وهو يستمع لتلك الصرخات‪ ،‬ويدس في‬
‫روحي رعب ًا جديد ًا وهو يقول ساخر ًا من ذاك المسكين الذي لم ِ‬
‫التق اّإل‬

‫‪18‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫صوته المعذب‪:‬‬
‫‪ -‬هل حان زمن الوالدة أم انها الزالت متعسرة؟‪.‬‬
‫كان صدى صراخه وسخرية الحارس ينبعثان خوف ًا وارتجاف ًا في ثيابي‬
‫التي ابتلت بعرق فزع المواجهة األولى‪ ،‬وما كان يعوزني لمزيد من التعرق‬
‫مع قيظ آب الالهب وطبيعة جسدي الخاصة الذي يتعرق حتى في أيام‬
‫الشتاء الباردة سوى هذا الرعب‪.‬‬
‫باردة بكل ما فيها‪ ،‬أجلست على كرسي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫غرفة‬ ‫ُسحبت بعد هنيئة إلى‬
‫حديدي ورفعت العصابة عن عيني ألرى قابيل منتصب ًا أمامي ألول مرةٍ‬
‫ُ‬
‫بزي عسكري وقد رسمت على كتفيه نجمة يتيمة‪ .‬هذه المرة هكذا رأيته‬
‫وصورة جديدة‪ ،‬وفي كل المرات ومهما تعددت‬ ‫ٍ‬ ‫وسوف أراه كل مرة ٍ‬
‫بهيئة‬
‫الصور فإن له حقيقة واحدة ال تتغير‪ ،‬حقيقة شيطان‪ .‬صور سوف تتكاثر‬
‫مثل قنبلة انشطارية تأبى أن تتوقف عن التزايد والتكاثر حتى هذا اليوم‪،‬‬
‫وقت معلو ٍم حين نرحل عن داره إلى‬ ‫ويبدو أن لن يصرع الشيطان اّإل في ٍ‬
‫أرض ليس فيها غريزة‪.‬‬
‫ضحك الضابط الصغير برتبته وسنه وكل شيء فيه‪ ،‬ساخر ًا وهو يشير‬
‫ولمح بكلمات مقتضبة إلى تهمة‬ ‫إلى هيئتي التي بعثرتها كفوف غليظة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫تنتظرني‪ .‬تهم ٌة ترحل بصاحبها سريع ًا إلى موت شاع انتشاره بين الهامسين‬
‫لحظات قليلة مرت بعد بدء هذه المقابلة‬
‫ٌ‬ ‫بحلم الحرية مثل طاعون أسود‪.‬‬
‫األولى ألجد نفسي تحت الكرسي الذي كنت اجلس عليه‪ ،‬تمسك به يدا‬
‫هذا الضابط الصغير وبدأ يوزعه على جسمي النحيل بضربات متنوعة بكل‬

‫‪19‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ما أوتي من ٍ‬
‫قوة ال يعبأ أين تقع‪.‬‬ ‫ّ‬
‫في تلك اللحظة بالذات بدأت اجمع أجزائي التي فرقتها مفاجأة الوهلة‬
‫األولى واستعيد وعيي الغائب‪ .‬نفيت كل تهمة ألقاها علي اّإل إنه لم يكن‬
‫معني ًا باألمر كثير ًا‪ ،‬إذ ما كان كل هذا سوى ممر قصير إلى أماكن أخرى‬
‫أشد رعب ًا واكثر ظالم ًا سوف أتنقل بينها قسر ًا‪ .‬سوف تتغير مثل تغيير‬
‫مهترئة ٍ‬
‫بالية ال تصلح لالنتعال‪ ،‬لكن ُارغم على استعمالها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قديمة‬ ‫أحذية‬
‫مع اهترائها المفضوح وعدم جدواها السافر على الخوض بها في مستنق ٍع‬
‫شديد الوحولة‪.‬‬
‫قبل أن يكمل عقرب الساعة دورة واحدة كاملة لينهي الساعة األولى‬
‫على ما قدرته حينها‪ ،‬اقتادتني زنود شديدة جديدة‪ ،‬وهذه المرة غلفت‬
‫عيناي عصابة جلدية سوداء في طرفيها قطعة بالستكية‪ ،‬لتكتم الرؤية عني‬
‫بالكامل‪ ،‬إلى أن وصلنا إلى بناية عالية متعددة الطوابق تسلقنا أدوارها‬
‫الكثيرة بمصعد كهربائي‪ .‬العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمرة‬
‫في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعي وقيدت به إلى‬
‫عمود أو شيء يشبهه‪ ،‬ال أدري ما هو‪ ،‬ولم يتسن لي أن اراه أو أن أتحسسه‬
‫أبد ًا وال حتى لوهلة واحدة‪ ،‬فقد حذرني أحدهم من الحركة أو أن انبس‬
‫ببنت شفة‪ ،‬وكنت فتى مطيع ًا‪ .‬على إن حجب بصري لم يمنعني من تحديد‬
‫الوقت بدقة‪ ،‬إنه ما بعد الساعة الرابعة عصر ًا‪ .‬دلني على ذلك صوت ٍ‬
‫مغن‬
‫مشهور ال يجهله أحد‪ ،‬كان يلقب بالعندليب األسمر وكنت معجب ًا بصوته‪.‬‬
‫كان يشدو مغني ًا في فلم األسبوع الذي يعرض من بعد ظهر كل جمعة‬
‫كالعادة الجارية حينها‪ .‬كان يشدو بأل ٍم رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي ويفوح‬

‫‪20‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عطر الوجع من تلفاز قريب مردد ًا‪.‬‬


‫أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير‪.‬‬
‫أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير‪.‬‬
‫أين أحالمي وكانت كيفما سرت تسير‪.‬‬
‫كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت‪.‬‬
‫لست أدري‪.‬‬
‫واحساس غريب بأن ما أسمعه هو نبوءة‬‫ٌ‬ ‫شعور عميق‬
‫ٌ‬ ‫انتابني وقتها‬
‫ٍ‬
‫طويلة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حزينة‬ ‫وليس اغني ًة أو شعر ًا‪ .‬إنها نبوءة لعاصفة مدارية من ٍ‬
‫ليال‬
‫سوف تلفني بعمودها الفارع في طوله كأنه يتحدى السماء‪ ،‬وتأخذني بعيد ًا‬
‫إلى قلبها المظلم تائه ًا حائر ًا ال أجد فيه سوى الفراغ ألتشبث به‪ .‬ال‪ ،‬إنها‬
‫ليست موج ًة من تشاؤم وال هي نوبة تط ّير تمر على مسكين بائس قد بلغ به‬
‫اليأس الزبى‪ ،‬وال إنها نبات طفيلي ال جذر له نبت للتو على بركة الحزن‪.‬‬
‫إنها نبوءة‪ .‬هذا الشعور الغامض مثل شبح يرتدي قناعا‪ ،‬آمن وصدق بالنبوءة‬
‫واستقر راسخ ًا في داخلي‪ ،‬وما زلت أتلمسه حتى اليوم في حناياي‪.‬‬
‫كان تصديق ًا مثل مكاشفة صوفي‪ ،‬بأن سنوات من ضياع طويل في‬
‫علي من سيارة يسحبني ثانية‬
‫غيبوبة جب عميق تنتظرني‪ ،‬بانتظار دلو ينزل َّ‬
‫إلى أرض األخوة التي استحت من أفعالها الذئاب‪ .‬لن تكون هذه النبوءة‬
‫وحيدة ولن تبقى مصادفة فريدة‪ ،‬بل ستظهر اكثر من واحدة تمد برأسها‬
‫في عالم سريالي‪ .‬عالم سريالي انما ليس وهم ًا وال خياالً‪ ،‬بل هو الحقيقة‬
‫الوحيدة التي سوف أعيشها وان كنت ال أفهم مجراها وال منطقها‪ ،‬وسيأتي‬

‫‪21‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الكالم عنها ٌ‬
‫كل في حينه‪ .‬قد ال أكون علمي ًا أو واقعي ًا بنظر كثير‪ ،‬وحتى على‬
‫خالف طبعي في تفسير االشياء وتعقلها‪ ،‬لكن ال يمكن لي أن أتجاوز هذه‬
‫الوقائع الغريبة والمشاعر العجيبة فقط‪ ،‬ألني ال أريد أن اؤمن بالغيبيات أو‬
‫بأحداث منتزعة من عالم الباراسايكولوجي‪ .‬وجودها هو أدل دليل على‬
‫حدوثها‪ ،‬وألكن اكثر دقة واقول‪ :‬إنها قد حصلت مع هذه التفسيرات غير‬
‫ٍ‬
‫صدفة‬ ‫كل شيء وقع في‬ ‫المنطقية مني وبهذه االحاسيس الغريبة‪ ،‬لربما ُ‬
‫ٍ‬
‫محيرة‪ ،‬ومع ذلك فإنه قد وقع بالفعل‪ ،‬وحينما وقع آمنت به كما كنت أراه‬
‫وليس كما يجب أن أراه‪ ،‬وألني عاهدت نفسي أن أكون صادق ًا فيما أروي‬
‫وأقول البد لي من االعتراف وبغاية الصراحة أني ال اقوى على تكذيب هذه‬
‫الوقائع والمشاعر‪ ،‬وأعجز عن رميها بالصدفة والخرافة حتى هذا اليوم‪،‬‬
‫رغم إن عقلي الرياضي يجحد التالزم بينها وبين ما جرى‪ .‬األمر بحاجة‬
‫إلى ما هو أكثر من نفسي المضطربة الحائرة حينها لتفسيرها وإلصابة علتها‬
‫الحقيقية‪ ،‬وأكثر من برودة المعادالت الرياضية التي ال تدرك سر العشوائية‬
‫التي أنتجت بديع النظام‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وهدوء تامين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بسكون‬ ‫ال هناك إلى جوار العمود المفترض‬ ‫جلست طوي ً‬
‫ثم بعد تحقيق شكلي من تسجيل اسم ومعلومات أولية عن السن والوضع‬
‫االجتماعي والدراسي‪ ،‬قام باستجوابي عنها شخص لم أتعرف عليه‪ ،‬يبدو‬
‫أنه لم يكن معني ًا بنوع التهمة المزمع توجيهها إلي‪ ،‬ألنه كان يعمل بشكل‬
‫شخص آخر اقتادني إلى أسفل البناية‬
‫ٌ‬ ‫اداري روتيني ليس اّإل‪ ،‬أتى بعد ذلك‬
‫ٍ‬
‫كبيرة‬ ‫ٍ‬
‫قاعة‬ ‫في المصعد الكهربائي نفسه‪ .‬دخلت إلى معتقل يتكون من‬
‫الحجر حين دخولي‬ ‫وغرفتين وفسحة بين كل ذلك‪ ،‬بالطبع لم َأر هذه ُ‬

‫‪22‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ألول مرة ألني كنت معصوب العينين‪ ،‬اّإل إني رأيتها الحق ًا‪ُ .‬اركنت إلى‬
‫حائط واتكأت عليه وصار موضع صغير مقابل باب احدى الزنزانات مح ً‬
‫ال‬
‫ليقظتي ومهجعي‪.‬‬
‫يداي سوف تستمر مقيدة للخلف ويحول بين النور وعيني تلك‬
‫العصابة ذاتها‪ ،‬التي التصقت بها من هذا اليوم وألحد عشر يوم ًا كاملة‬
‫قادمة بلياليها‪ .‬حتى عندما كان يقدم لي الطعام كنت أسحبه من الصحن في‬
‫حديد رخيص‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مشهد مدهش‪ .‬كفاي مقيدتان إلى الخلف ترفعان ملعق ًة من‬
‫وبالكاد تالمس شفتاي أو تغرف شيئ ًا من صحن الطعام‪ ،‬في عملية معقدة‬
‫جد ًا ال يمكن تصورها وفق قوانين مرونة عضالت الجسم‪ .‬اّإل إن الحظ لم‬
‫يكن سيئ ًا تمام ًا فقد كانت الوجبات مشبعة وجيدة الطبخ‪ ،‬طعمها ومذاقها‬
‫ال بأس بهما وال يمكن لي أن أشكو منها‪ ،‬لم أقرف منها أبد ًا كما سأفعل‬
‫بعد ذلك لدهر طويل مع الوجبات التي سوف ُاكره نفسي التي تعافها على‬
‫تناولها مع إني في قادم األيام سوف أتضور جوع ًا‪.‬‬
‫أي وجبة ستكون لذيذة المذاق تسكر الطاوي بريحها العطر‪ ،‬لكن رغم‬ ‫ّ‬
‫ذلك القحط والجوع لن استسيغها‪ ،‬بينما وجبات هذا المعتقل األول ومع‬
‫أني كنت في أوائل ايامي من رحلة الخوف‪ ،‬وال يخفى ما لأليام األولى‬
‫من خصائص أولها فقدان الشهية‪ ،‬بيد إني كنت أرى الطعام بحق لذيذ ًا‪.‬‬
‫المرة الوحيدة التي كنت أتحرر فيها من هذا المشهد الغريب وأعني به‬
‫ضم األذرع إلى الوراء والعينين المعصوبتين كانت فقط حين يسمح لي‬
‫بمراجعة الخالء‪ ،‬أما ما عدا ذلك فال‪ .‬القيد والعصابة أصبحتا مفردتين‬
‫ثابتتين في حياتي الجديدة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫االستحمام كان ممنوع ًا‪ ،‬أو لنقل الحقيقة بوضوح أكثر أني لم أجرؤ‬
‫ال عن طلبه‪ ،‬لم يكن معلوم ًا عندي ما الذي يغضب‬ ‫على التفكير فيه فض ً‬
‫الحراس الحانقين بال سبب طيلة الوقت عما يرضيهم‪ ،‬لذا صار السكوت‬
‫عندي وقتها معدن ًا غالي ًا للغاية‪ ،‬بل أنفس من كل المعادن والفلزات‪.‬‬
‫صراعاتهم وشجاراتهم المستمرة فيما بينهم منعتني من التفكير في طلب‬
‫أي شيء منهم‪ ،‬وحتى ُي ْفهم ترددي اكثر اذكر واحد ًا من أسباب شجاراتهم‬
‫ّ‬
‫السخيفة التي كانت تصل إلى تبادل أقذع السباب وأفحش الشتائم‪ .‬في‬
‫أحد األيام سحل أحدهم كيس ًا للخبز واعترض عليه آخر رافض ًا اسلوب‬
‫السحل‪ ،‬ألنه يريد أن يرفعه‪ .‬اندلع بينهما شجار لم ينته اّإل بوساطات من‬
‫زمالء لهم وجهود تهدئة من آخرين‪ ،‬بعد أن وصل األمر بينهم إلى حد‬
‫االشتباك باأليدي‪ ،‬وامتأل المعتقل صخب ًا بكل أنواع سب اآللهة واألديان‪.‬‬
‫بالطبع في تلك اللحظات من األفضل ألي معتقل أن يتحول إلى حجر‬
‫أي تأوه منه قد يجعله هدف ًا في مرمى النيران‪،‬‬
‫صامت بال حراك‪ ،‬الن ّ‬
‫ويتحول إلى كيس مالكمة ينفسوا به عن غضبهم ويفضوا به اشتباكهم‪.‬‬
‫علي أحدهم‬ ‫أي مقدمات‪ ،‬أغدق ّ‬ ‫في يو ٍم ما وبال سابق انذار وبدون ّ‬
‫علي من الخوف وحر الصيف وخنقة المكان‬ ‫إبريق ماء ألزيح عرق ًا تراكم ّ‬
‫المغلق الرطب ألكثر من أسبوع‪ .‬لربما أزعجته‪ ‬عفونة مالبسي برائحة‬
‫العرق المشبعة فيها في ذاك الصيف القائظ الذي ابتدأت به رحلتي‪ .‬ال‬
‫أدري ما الذي دفعه لهذا السخاء لربما تكون نفح ًة إنسانية منه‪ ،‬أو واجب ًا‬
‫روتيني ًا عليه أن يقوم به‪ .‬لم يستغرق االستحمام سوى دقائق معدودة‪ ،‬ال‬
‫تتجاوز حتى اصابع الكف الواحدة‪ ،‬كانت تكفي إلراقة االبريق الصغير‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بعناية واقتصاد على كل زوايا جسمي وفي جميع االتجاهات‪ ،‬بيد أني‬
‫ٍ‬
‫بسؤال عسير الجواب‪،‬‬ ‫استغرقت بعدها وقت ًا أطول حين وقفت عاري ًا‪ ،‬حائر ًا‬
‫كشفته اللحظة ولم يرد بخاطري قبلها‪ :‬كيف سوف أجفف قطرات الماء‬
‫الملتصقة بجسدي اآلن؟ طلبت منشف ًا من الحارس لفعل ذلك متشجع ًا‬
‫علي بالضحك مقهقه ًا باقتضاب‪،‬‬
‫بتسامحه وبكرمه المفترض‪ ،‬غير إنه رد ّ‬
‫ضحكة اختلطت فيها الشفقة مع السخرية‪.‬‬
‫‪ -‬هنا ال يوجد شيء اسمه منشفة‪.‬‬
‫كان يدرك جهلي المدقع لألبجدية الجديدة‪ ،‬التي ما علمتني إياها أعوام‬
‫ٍ‬
‫مسطور على‬ ‫ٍ‬
‫حرف‬ ‫أي‬
‫المواظبة على الدروس‪ ،‬وال االستغراق في مطالعة ّ‬
‫قرطاس يقع بين يدي أو امام ناظري‪ .‬بعد اآلن سوف تحتويني مدرس ٌة‬ ‫ٍ‬
‫أخرى تعلمني دروس ًا مقرر ًة في منهج الصراع من اجل البقاء‪ ،‬دروس ًا‬
‫سيفهمها ٌ‬
‫كل بما يشاء‪ ،‬ستنتج مر ًة عري ًا فاجر ًا وتار ًة أخرى دثار ًا لألنبياء‪.‬‬
‫دروس تسحق الكسالى البلداء وتسمو بغيرهم من اضدادهم فوق بعيد ًا‬
‫إلى حيث تتوحد األشياء باألحالم‪.‬‬
‫كنت أسمع اصوات ًا عديدة لمعتقلين ُاخر ال أرى أحد ًا منهم‪ ،‬واجهل‬
‫الذي يجري بينهم وعليهم؟ لم اكن أدري حتى أين أنا تحديد ًا (عرفت‬
‫بعدئذ إنها مديرية أمن بغداد) وال أعرف شيئ ًا عن تهمتي التي اعتقلت‬
‫بسببها؟ وفي ضحى يوم سمعت جلب ًة وصخب ًا‪ ،‬اقدا ٌم حافية كثيرة تمر‬
‫ابواب تفتح وأخرى توصد وفحيح سالسل‬ ‫ٌ‬ ‫مسرع ًة مهرول ًة بالقرب مني‪،‬‬
‫يقرقع صوتها وهي ترمى على األرض تارة وتارة أخرى تزمجر غاضبة‬
‫ٌ‬
‫وسكون قاتل‬ ‫صمت مطبق‬‫ٌ‬ ‫حين تصك أسنانها على المعاصم‪ .‬أعقب ذلك‬

‫‪25‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫طويل‪ ،‬بددهما زعيق حارس أمني بلهجة نهر وحنق وبطريقة فظة تنم عن‬
‫خشونة صاحبها وقسوته‪.‬‬
‫‪ -‬قم!‪.‬‬
‫ال وشعرت بصوت مفتاح من ورائي يدور في القيد لتطلق‬ ‫‪ ‬وقفت ممتث ً‬
‫يداي ألول مرة منذ اعتقالي‪ ،‬طلب مني أن أرفع العصابة عن عيني ألجد‬
‫أمامي باب ًا مفتوحة يؤدي إلى زنزانة صغيرة خالية تمام ًا‪ ،‬اّإل من مجموعة‬
‫بطانيات ركنت في زاوية وأخريات مفروشات على األرضية اإلسمنتية‪.‬‬
‫‪ -‬أدخل!‪.‬‬
‫أغلق الباب خلفي ورحل‪ ،‬شرعت أتلمس المكان مستمتع ًا بيدي‬
‫الطليقتين مثل طفل ينتشي برؤية لعبة جديدة ألول مرة‪ ،‬عيوني ساهية‬
‫فضاء صغير لكنه بعد أيام سيكون من أرحب ما سوف تراه عيناي‬ ‫ٍ‬ ‫تسرح في‬
‫علي أن انتظر‬‫ال جد ًا‪ ،‬اذ كان َّ‬
‫ال مم ً‬
‫ال ثقي ً‬
‫لسنوات عديدة‪ .‬كان الوقت طوي ً‬
‫فقط وماذا انتظر؟ ال شيء‪ .‬األمر يبدو مثل حبل سائب ال نهاية له أبد ًا‬
‫بأي شيء‬ ‫وأصبح رأسي خاوي ًا من األفكار تمام ًا‪ ،‬إنهم ال يتحدثون معي ّ‬
‫أبد ًا وال حتى يتهموني بشيء‪ ،‬صار األمر كأنه لعبة عبثية قاسية‪ .‬صرت‬
‫أي‬
‫أذرع الغرفة في كل االتجاهات‪ ،‬أجول بنظري على الجدران أتفحص ّ‬
‫ُ‬
‫ال في األرض والسقف‪ .‬قرأت كل أبيات الشعر‬‫شيء فيها‪ ،‬وأحدق طوي ً‬
‫واألسماء المحفورة على الجدران‪ ،‬ومنها عرفت أفكار بعضهم وتهمة‬
‫آخرين ممن سكن هذه الزنزانة قبلي‪.‬‬
‫كنت أشم رائحة الموت الذي ابتلعهم‪ ،‬كانت كلماتهم تنم عن ٍ‬
‫تحد‬

‫‪26‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫لمستقبل مجهول تشاءموا من مالقاته ولم يجدوا بد ًا من مواجهته بشجاعة‬


‫بدالً من الهزيمة واالنكسار‪ .‬لربما هناك آخرون ُأحبطوا وانكسروا أو‬
‫عجزوا أن يتركوا أثر ًا‪ ،‬وهذا هو حال الدنيا هي وكل ما فيها يفنى‪ .‬إنما يخلد‬
‫الشجعان والمهزومون لن يتبقى منهم شيء بل يصيروا عدم ًا ألنهم خواء‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪2‬‬
‫***‬
‫بعد أحد عشر يوما بالتمام والكمال وبدون أن أعرف منهم لماذا‬
‫اعتقلوني‪ ،‬ولماذا لم يتحدث معي أحد طيلة هذه المدة‪ ،‬بدأ فصل جديد‪.‬‬
‫هذا الفصل سبقته رؤيا غريبة رأيتها‪ ،‬فزعت من نومي هلع ًا في أحدى‬
‫الليالي بعد أن رأيت احدى شقيقاتي تبكي وهي تودعني‪ ،‬ألنه قد حكم‬
‫شعور مأل تمام‬ ‫ٌ‬ ‫علي بالسجن المؤبد لمدة عشرين عام ًا‪ .‬عندها انتابني‬
‫روحي بأن ما رأيته لم يكن أضغاث أحالم بل نبوءة مستقبلية قوضت كل‬
‫أحالمي باستعادة الحرية‪ .‬لست أدري هل هي نوع من المصادفات أو انها‬
‫أمر‬‫أي شيء‪ ،‬اّإل من ٍ‬ ‫تدخل في علم البارا سيكولوجي‪ ،‬لست متأكد ًا من ّ‬
‫ٍ‬
‫غريب لم أجد له تفسير ًا أبد ًا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شعور‬ ‫واحد‪ ،‬إحساسي بصدقها كان تام ًا في‬
‫نهار معصب ًا‬ ‫بعد انقضاء هذه المدة‪ ،‬أعني األحد عشر يوم ًا‪ ،‬اقتادوني في ٍ‬
‫حديثة ذات دف ٍع رباعي‪ ،‬طلبوا منّا أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مركبة‬ ‫مكب ً‬
‫ال إلى الخلف كالعادة إلى‬
‫نخفض رؤوسنا وأن نجلس راكعين‪ ،‬ومن أصوات الزجر الفاحش وبذئ‬
‫القول المستدام على ألسن من يقتادنا‪ ،‬علمت أن هناك من يقاسمني الرحلة‬
‫ٍ‬
‫صعب جديد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بمخاض‬ ‫هذه المرة‪ ،‬وإننا نتجه للمرور‬
‫المسير في هذه العربة كان بعيد ًا هذه المرة‪ ،‬وما أن تجاوزنا بوابة كبيرة‬
‫عالية بنيت حديث ًا شمال العاصمة العريقة التي طالما تغنى بها الشعراء‬
‫وامتدحوا سحرها‪ ،‬اّإل إنهم لم يذكروا يوم ًا في قصائدهم هذا العالم السفلي‬
‫لجي كنت أعمل بالضد منه‬ ‫بحر ٌّ‬‫الذي ابتدأت أخوض في بحر ظلماته‪ٌ .‬‬

‫‪28‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫خشية الطوفان القادم منذ وقت مبكر في مقتبل عمري‪ ،‬منذ أن كنت تلميذ ًا‬
‫حاولت جاهد ًا أن اكشف الغطاء عن خطره الداهم في كل فرصة تسنح لي‬
‫سواء مع زمالئي في الدراسة أو مع من كنت أتعرف اليهم‪ .‬كان التحذير من‬
‫كارثة أمواج خطره العالية القادمة ال محالة‪ ،‬يشكل هاجس ًا رئيسي ًا في كل‬
‫ٍ‬
‫معين رغم انتمائي له بقدر‬ ‫أحاديثي الشخصية‪ .‬لم أكن معني ًا كثير ًا بنشر ٍ‬
‫فكر‬
‫ما كان محور عملي واهتمامي األساسي هو رفض سياسة القمع وتكميم‬
‫األفواه وحساب األنفاس التي كان يتبعها النظام بأسلوب قم ٍع فاشي‪.‬‬
‫كنت أرى وما ازال في ذلك التيار السياسي فكر ًا يحمل صرخ ًة تعبر‬
‫عن ضمير اإلنسانية المعذب‪ ،‬ويسعى لحل مشاكل هذا العالم بما يحقق‬
‫أي تيار إصالحي يرفع‬ ‫من إنسانية اإلنسان‪ ،‬إنما لسوء الحظ لم ولن يخل ّ‬
‫راية اإلنسانية من جموع االنتهازيين وطالب السلطة ومن الضعفاء وقليلي‬
‫االدراك والوعي لقيمة ما يحملوه وينتسبوا إليه‪ .‬وجود هؤالء بالتأكيد يشوه‬
‫جمال األفكار في كل مرة عبر التاريخ‪ ،‬ويحبط نوايا الثوار ويصادر أحالمهم‬
‫حر تتساوى الفرص أمام جميع افراده‪ .‬أحال ٌم يناضل ألجلها الثوار‬ ‫بعال ٍم ٍ‬
‫ويقدموا في سبيلها التضحيات بال تردد‪ ،‬ويسترخصوا دمائهم لها ويجعلوا‬
‫من رقابهم جسور ًا تعبر اإلنسانية عليها إلى شاطئ اكثر أمن ًا ورفاها‪.‬‬
‫لم يكن انضمامي للعمل السياسي الحزبي تأثر ًا باآلراء السياسية أو‬
‫الفلسفية اّإل هامشي ًا‪ ،‬الدافع الحقيقي كان توفري على خاصية لعلها تميزني‬
‫بعض ليس بالقليل من أقراني‪ ،‬وهي الحساسية الشديدة من غياب‬ ‫ٍ‬ ‫عن‬
‫الحرية‪ .‬حساسية لم تزل تؤرقني وهي سبب رئيس لكل مواقفي تجاه‬
‫األحداث والجهات والذوات واألفكار‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫اريد أن أعيش كإنسان حر وأرفض بقوة كل ما و َمن يمنعني ِمن ذلك‪،‬‬


‫ولربما أصدق ما ينطبق على سلوكي وتصرفاتي هو ما قاله مكسيم غوركي‬
‫"جئت لهذا العالم كي أحتج"‪ ،‬وبالفعل هذا كان سبب ًا مزمن ًا النخراطي في‬
‫كل النشاطات السياسية وأيض ًا كان سبب ًا حاسم ًا في مروري بهذه التجربة‬
‫المريرة‪ .‬لم أزل غير آسف على مروري بها وال أشعر بالندم عليها بالمطلق‪،‬‬
‫در لي أن اعود بالزمن ثانية أو صادفني موقف مماثل‬ ‫ولن ُأبالغ لو قلت‪ ،‬لو ُق َ‬
‫ال لوقفت الموقف نفسه بال أي تردد‪ .‬الفارق الوحيد سوف يكون في‬ ‫مستقب ً‬
‫زيادة الخبرة التي منحتني إياها األيام الطويلة التي عشتها لحد اآلن ومع‬
‫ذلك لم تقو على قطع رأسي رغم فداحة آالم التجربة الكبيرة والمريرة‪.‬‬
‫خبرة بال شك يمكنها أن تجنبني كثير ًا من فخاخ رجال األمن السياسي‬
‫وأيض ًا سوف تعفيني من مصاحبة الخونة والضعفاء‪.‬‬
‫ما أن تجاوزنا بوابة بغداد الكبيرة حتى ُسمح لنا بأن نرفع رؤوسنا‬
‫وأزيحت كاتمات النور عن بواصرنا‪ ،‬تبادلنا نظرات في دهشة وحيرة مع ًا‪،‬‬
‫إذ لم يكن هذا اللقاء األول بين هؤالء المكبلين بالقيود المحشورين في‬
‫هذه العربة‪ ،‬وال هو القاسم المشترك األول بين بعض منّا‪ ،‬بل سبقه في‬
‫ذلك عدة لقاءات‪ .‬لقاءات إما كانت جلسات فكر واحد يجمع بعضنا‪ ،‬أو‬
‫لقاءات أخرى خاصة كان يسودها جو التمرد على األعراف والمألوف من‬
‫التقاليد والعادات‪ ،‬جو الثورة على االوضاع السائدة‪.‬‬
‫انطلقت أسئلة كثيرة في سرنا مثل حمم بركان هائج‪ .‬لماذا نحن هنا‪ ،‬وما‬
‫الذي يجري؟ كيف تمكنوا من جمعنا هكذا بدون أن يتنبه أحد لمخططهم؟‬
‫كنّا نتوقع االعتقال في يو ٍم ما‪ ،‬وأعددنا لذلك خطة سهلة تحسب ًا لذلك اليوم‬

‫‪30‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الموعود‪ ،‬إذا ما تعرض أحد رفاقنا لالعتقال‪ .‬ولتجنيب اآلخرين المصير‬


‫نفسه‪ ،‬يمنح المعتقل فرصة ثالثة أيام بلياليها للصمود امام المحققين‬
‫األمنيين‪ ،‬ريثما يجد رفاقه مالذ ًا آمن ًا لالختباء فيه أو الهروب‪ .‬لكن ما‬
‫أي تنبيه أو جرس إنذار‪.‬‬
‫يحصل اآلن هو أننا وقعنا في شرك جماعي بال ّ‬
‫السؤال ظل حائر ًا يتنقل بيننا في نظرات مشتتة نختلسها بعضنا من‬
‫البعض اآلخر لمئات الكيلومترات‪ ،‬على طوال تلك المسافة بين مدينتي‬
‫المدورة عاصمة وطني التي ترعرعت فيها أنا وابائي‪ ،‬مدينة تحتضن ألم ًا‬
‫ازليا منذ يوم نشوئها‪ ،‬وبين مدينة أخرى قضيت فيها بعض ًا من سنوات‬
‫طفولتي ودراستي الجامعية‪ ،‬مدينة حدباء لعلها احدودبت حزن ًا على‬
‫العاصمة المعجونة باأللم طوال الدهر‪.‬‬
‫لم يوقف تشتت األفكار ولحاقها العبثي بسراب اإلجابة‪ ،‬حتى تلك‬
‫ٍ‬
‫طريق عا ٍم في مدينة الملوية‬ ‫الوقفة القصيرة عند مطعم شعبي على قارعة‬
‫الشهيرة سامراء‪ .‬وقف ٌة كانت تكفي لتناول وجبة غداء أتى بها ٌ‬
‫نادل شاب‪ ،‬ما‬
‫زلت حتى هذا اليوم أحفظ الدهشة التي ارتسمت على وجهه وكيف جمدت‬
‫كل عروق وجهه في وجل وانبهار‪ ،‬وهو يرى مالعق ًا تمسكها معاصم مقيدة‬
‫من خلف الظهور ترفع الرز المخلوط بالفاصوليا العراقية (يابسة)‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬
‫مشهد من كوميديا سوداء‪.‬‬ ‫تنحني إلى هذه المالعق أفوا ٌه تسحب ما فيها في‬
‫عندما وصلنا إلى حيث كانوا يريدون لنا أن نصل من المعتقالت‪ ،‬وهو‬
‫مديرية أمن نينوى‪ ،‬كان طرف الليل قد امتد وغطى كل أحياء المدينة التي‬
‫تجولنا كثير ًا في شوارعها وأزقتها الصغيرة‪ ،‬وارتدنا مقاهيها ومالهيها‬
‫ومسارحها ومكتباتها يملؤنا صخب الشباب وحيوية الثوار‪ .‬عندما اقتربنا‬

‫‪31‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من مشارف المدينة كانت عتمة الليل قد نزلت بثقلها على الشوارع‪ ،‬ومع‬
‫عودة الخرق من جديد تضاعفت ظلمة الدنيا حلكة وزادتها اسودادا‪،‬‬
‫لتغطي العيون الهائمة والنظرات التائهة التي كانت تواصل إبحارها في يم‬
‫ٍ‬
‫تفسير لما يجري‪.‬‬ ‫المجهول والتيه بحث ًا عن‬
‫بحث كثير ٍ‬
‫ونهر ال يتوقف من رجال األمن إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ارتقينا ساللم ًا كثيرة‬
‫أن بلغنا فسح ًة في طابق علوي‪ ،‬رأيتها فيما بعد وكانت شاهد ًا للحظة كان‬
‫يمكن لها أن تكون نقطة تاريخية وعالمة فارقة سوف يأتي الكالم عنها‬
‫الحق ًا‪ .‬الردهة كانت تتوسط غرف ًا ضيقة كما رأيتها فيما بعد وتعرفت على‬
‫جغرافيتها‪ ،‬أما اآلن فلم اكن أدرك أبعادها وال أين نحن بالتحديد؟ باعدوا‬
‫ال على خالف مشينا السابق‪ ،‬حيث كان يمسك أحدنا‬ ‫المسافات بيننا قلي ً‬
‫أي حال‬‫باآلخر ونحن نسير صعود ًا على السلم‪ُ .‬امرنا بالبقاء وقوف ًا‪ ،‬وفي ّ‬
‫لم يكن لنا أن نختار هيئة سواء من وقوف أو جلوس وال حتى النوم‪ ،‬ليس‬
‫في هذه اللحظة فقط بل لسنوات طويلة متوالية‪ ،‬سيكون ذلك بمشيئة غيرنا‬
‫في أغلب االحيان وتبع ًا لتعليمات جائرة ال يحكمها قانون وال نظام تتغير‬
‫ال من عالقة عاطفية أو فش ً‬
‫ال بها أو‬ ‫بحسب تغير مزاج شرطي يعاني مل ً‬
‫مصاعب ًا في العمل ال يعرف حيلة لتيسيرها‪.‬‬
‫وقفنا بصمت في الردهة لدقيقة أو دقيقتين أو أكثر بقليل من ٍ‬
‫وقت ال أذكر‬
‫مقداره اآلن‪ ،‬لكنه كان قصير ًا جد ًا لم يستغرق سوى انتظامنا في الوقوف ال‬
‫أكثر من ذلك‪ .‬ثم فجأة تحولت أجسادنا إلى كيس مالكمة يتلقى مهارات‬
‫رجال األمن المدربين جيد ًا على فنون القتال‪ .‬لم يكن بإمكان أحد منّا توقع‬
‫الضربات القادمة إليه بقصد أو التائهة منها‪ ،‬وال رؤيتها ولم تكن أمامي من‬

‫‪32‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وسيلة للدفاع سوى تكوير جسمي‪ ،‬اّإل إن ذلك لم يساعدني كثير ًا وال أوقف‬
‫ترنحي بسبب زخم الضربات وقوتها‪ .‬األرض بدأت تدور بي وصارت هشة‬
‫ال يمكن الوقوف عليها وتحول الترنح إلى نوبات سقوط متكرر‪.‬‬
‫كنت أحاول في كل مرة أن اعاود النهوض لكن ببطء لعل ذلك يؤخر‬
‫من اندفاعهم نحوي‪ ،‬قبل أن أهوي تمام ًا في مرة أخيرة منزوع ًا من ّ‬
‫أي‬
‫قدرة أو قابلية على القيام مجدد ًا‪ .‬سقطت على بالط بارد لتبدأ بتقليبي عليه‬
‫أحذية صلبة رفس ًا برؤوسها المدببة‪ .‬ال أظن أن أ ّي ًا من أصحابي كان وضعه‬
‫أفضل مما كنت عليه‪ ،‬لكن لم يكن لي شغل بهم وال كنت حتى أشعر حينها‬
‫بوجودهم‪ ،‬اللهم اّإل حين تند منهم صرخات فز ٍع وألم‪ .‬كان األمر باختصار‬
‫وكل يصارع لوحده وحوش ًا ضارية كاسرة انفلتت‬ ‫شغل عن غيره ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫كل في‬‫ٌ‬
‫من عقالها فجأة‪ .‬أحسست أن الكون خال من كل شيء حتى من صانعه‪،‬‬
‫ولم يتبق فيه اّإل أنا وهؤالء القتلة‪ ،‬لم يكن هناك من شيء يمكن إلتقاطه‬
‫والتشبث به‪ ،‬رأسي أصبح خاوي ًا تمام ًا كأنه قطع ٌة فضاء خارجي ال يمكن له‬
‫حتى أن يرجع الصدى‪.‬‬
‫إلتصق جسدي تمام ًا بالبالط ولم أعد أملك شيئ ًا من قوة أو قابلية‪،‬‬
‫سوى التقلب عليه حين يضطرني األمر تفادي ًا للركالت المتالحقة‪.‬‬
‫يدي بالكامل‪،‬‬‫مضاف ًا إلى إنهيار قواي بالكامل‪ ،‬كان القيد الجامع قد شل َّ‬
‫فقد إنزلقت السلسلة إلى اآلخر أثناء العراك من طرف واحد‪ ،‬واستحكم‬
‫إلتصاقها بالمعصمين حتى صار ذراعاي كأنهما جزء من ظهري‪ .‬لم‬
‫ال جد ًا‬
‫تتوقف الحفلة السادية هنا‪ ،‬بل وثبت فوقي أجسا ٌد بعضها كان ثقي ً‬
‫وأخرى ليست كذلك مع إنها جميع ًا كانت تتميز برشاقة الحركة وخفتها‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي موطأ تجده أقدامهم على جسدي‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫بشكل متناوب فوق ّ‬ ‫كانوا يقفزون‬
‫ال يميزون بين وجه لي أو قفا‪ .‬أكاد أجزم رغم كل ما سوف يقرأ من هذه‬
‫األسطر و ُيستعظم حصوله علي‪ ،‬وقد ال يصدقه البعض أو يظنه مبالغة أو‬
‫أمر ال يمكن لبشر أن يتحمله‪ ،‬أجزم بأني كنت محظوظ ًا جد ًا فكثير ممن‬
‫عرفتهم في تلك الزنزانات ورأيتهم فيما بعد قد نالوا أضعاف ما نلت من‬
‫األذى والعذاب‪ ،‬إنما لألسف لم يرووا حكايتهم بعد‪.‬‬
‫تمر ساعات طويلة وال تكف األحذية عن اإلصطدام بجسدي رك ً‬
‫ال‬
‫أوشكت تمام ًا على اإلنهيار وبلوغ مرحلة‬
‫ُ‬ ‫وتقليب ًا بين الحين واآلخر‪،‬‬
‫اإلغماء لوال بعض إستراحات قصيرة بين فينة وأخرى‪ .‬بالتأكيد لم تكن هذه‬
‫االستراحات لخاطرنا‪ ،‬بل لخاطر أصحاب االحذية المدببة ليشربوا شاي ًا‬
‫ويأكلوا معه كعك ًا أو بسكويت ًا‪ .‬كنت أسمع صوت جرشه تصكه اسنانهم‬
‫وهو يختلط بسباب وشتائم لم تتوقف أبد ًا‪ ،‬كأنها جزء من زادهم اليومي‬
‫أو هي األوكسجين الذي يستنشقوه ليبقوا على قيد الحياة‪ .‬هوسهم السادي‬
‫لم يفتر حتى في هذه الفواصل القصيرة من االستراحة كما كنت أمل وقتها‬
‫ال لم يعجب أحدهم أن يستمر في شرب الشاي واكمال القدح‬ ‫بتوقفه‪ .‬مث ً‬
‫الذي يمسكه بيده فسألني‪.‬‬
‫‪ -‬هل تريد شاي ًا؟‪.‬‬
‫لم أرد عليه ألني كنت أعلم يقين ًا إنه ال يسألني‪ ،‬بل يدبر أمر ًا ما استهزا ًء‬
‫بي‪ .‬لم يخب حدسي وال كذب ظني فقد سكب بكل هدوء ما تبقى من‬
‫شاي ساخن في قدحه على فروة رأسي‪ ،‬ولسوء الحظ كنت قد زرت‬
‫الحالق قريبا جد ًا قبل حفلة العبث هذه‪ ،‬ومن عادتي كما هي حتى اليوم‬

‫‪34‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أن اخفف شعر رأسي كثير ًا‪ .‬الشاي يقدم عادة في بلدي في ٍ‬
‫قدح والسكر‬
‫يكاد يمأل نصفه‪ ،‬لم تكن هذه العادة تعجبني أبد ًا من قبل وال اآلن وهو ينزل‬
‫على رأسي‪ .‬الشاي سوف يبرد بعد ذلك مهما كان ساخنا لكن ماذا سوف‬
‫افعل بكمية السكر الكبيرة التي تغلغلت في فروة رأسي‪ .‬بقيت أشعر بالدبق‬
‫ٍ‬
‫لكثير من الهوام‬ ‫واللزوجة منها لوقت طويل جد ًا ثم صارت موئال مثالي ًا‬
‫والحشرات التي يزخر بها المعتقل‪ ،‬خصوص ًا إن االستحمام غدا واحد ًا‬
‫من األمنيات المستحيلة لزمن طويل بل لدهور‪.‬‬
‫بعد انتظار طويل‪ ،‬وكم كان من انتظار مقرف ألني كنت أنتظر أن يأتي‬
‫الال شيء أو االسوأ‪ .‬أنتظر مجهوالً إن أتى لن يحل مشكلة بل سوف‬
‫يفاقمها ويزيدها تعقيد ًا وسوء ًا‪ ،‬ومع ذلك كنت أوهم نفسي أنه من المحتم‬
‫علي ترقب المجهول وانتظاره‪ ،‬ألن قدومه سيضع نهاية لهذا االرزاء‬
‫واالزدراء الذي غمرت به وغطست فيه عميق ًا نحو قاع بال قرار‪ٌ .‬‬
‫وهم شبيه‬
‫بانتظار من ال يأتي أبد ًا رغم كل أوهام المنتظرين له‪ ،‬انتظار ابتدع صورته‬
‫العجز حين يتملك صاحبه‪ ،‬ويقرف منه فيتذاكى على نفسه ويشحن ذهنه‬
‫بخياالت وإبداعات من صنع أوهامه‪ ،‬ويبحر فيها بعيد ًا بال شراع وال دليل‬
‫يتبع خطاه مصدق ًا واثق ًا أنه بها يمسك حبل نجاة ينتهي طرفه اآلخر عند بر‬
‫النجاة واألمان‪ ،‬وال يدري أنه طرف حبل سائب يسحبه إلى عرض يم ال‬
‫متناهي األطراف من العجز والشلل واالنغماس في فضاء أحالم وهمية‪.‬‬
‫أي أحد‪ ،‬من يريد بلوغها عليه‬ ‫أبواب النجاة لن تفتح لوحدها ولن تسير إلى ّ‬
‫أن يسعى اليها ويطرقها ويفتحها عنوة إن أبت‪ ،‬وبالتأكيد لن يصل إلى باب‬
‫عاجز مشلول‪ ،‬بل يبلغها الساعون اليها ويطرق بابها السائرون‬ ‫ٌ‬ ‫الخالص‬

‫‪35‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نحوها وهم فقط من يفتحها‪.‬‬


‫وصل ضابط كبير (ع‪.‬ع‪ ).‬وبدأ يطلب الموجودين باألسماء واحد ًا‬
‫تلو اآلخر‪ .‬رأيته كتلة لحم ضخمة تشوبها حمرة مختلطة ببياض ترشح‬
‫عنف ًا وتقطر قوة وتفيض قسوة‪ .‬سألني بضع أسئلة تقليدية اسمك‪ ،‬عمرك‪،‬‬
‫أي محافظة أنت واسئلة أخرى ال قيمة لها نسيتها‬
‫تحصيلك الدراسي ومن ّ‬
‫اآلن‪ ،‬وبادرني بسؤال يستدعي الضحك والخوف مع ًا‪.‬‬
‫‪ -‬هل آذاك أحد؟‪.‬‬
‫لم اعرف بماذا أجيب عن هذا السؤال‪ ،‬هل يجهل جوابه فع ً‬
‫ال وهو‬
‫في‬
‫يرى حالي المبعثر بعد معركة خاسرة آثارها ترتسم على كل شيء ّ‬
‫وعلي؟ أم إنه يبالغ في السخرية‪ ،‬أم أنه يستفزني لخوض نزال جديد؟ أم‬ ‫ّ‬
‫هو سؤال عبثي هكذا درج على لسانه بال تفكير؟ وأ ّي ًا كان الجواب فقد كان‬
‫علي تجاهل مثل هذه االسئلة ألن‬ ‫من األجدى‪ ،‬بل من الالزم والواجب َّ‬
‫اإلجابة عليها قد تحول المسار إلى سكة جديدة ال تحمد خواتيمها وال‬
‫وأي عقبى تؤمل بعد هذا االستقبال الحار؟‪.‬‬
‫تحسن عقباها‪ّ ،‬‬
‫ويبدو أنه بالفعل لم يكن معني ًا باإلجابة لذا لم يعلق على وجومي‬
‫وإطراقي‪ ،‬بل أمرني هادر ًا باالنصراف بلهجة وعيد ببطش وتهديد بأزرى‬
‫لقيت حتى اآلن‪.‬‬
‫مما ُ‬
‫‪ -‬اذهب ارتاح اليوم وغد ًا سنبدأ معك الكالم‪.‬‬
‫أي شيء من كل ما حصل رغم نشوتي الداخلية بأمر االنصراف‬
‫لم افهم ّ‬
‫والتي ربما ارتسمت على محياي المبعزق‪ ،‬وفي طريق االنصراف ألححت‬

‫‪36‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫على نفسي بسؤال ساذج كنت أحسبه جوهري ًا‪ ،‬أين هو االتهام الموجه لي؟‬
‫ولماذا إذن كان تسونامي الرفس واللكم والهراوات؟ هل حقا ستكون‬
‫التهمة الموجهة لي كما كنا نقول ويقال لنا كثير ًا‪ :‬أن النزوة المجنونة في أن‬
‫تكون إنسان ًا هي من أكبر الجرائم وأخطر التهم في جمهوريات الخوف؟‪.‬‬
‫إنهم ال يبحثون عن شيء‪ ،‬بل يريدون وأد الفطرة اإلنسانية التي إن‬
‫طلت على صخب هذا العالم ونما برعمها قليالً‪ُ ،‬استفز تج ّبرهم وتيقظ‬
‫استكبارهم وارتجف الطغاة وعبيدهم جنون ًا‪ ،‬وطفقوا يغرفون من ظلمة‬
‫بئر الموت أنواع القسوة لمحوها‪ .‬لو أصاب العث الشجر وفسد الثمر فان‬
‫الزاد والقوت ال يؤخذ اّإل من السليم‪ ،‬وبهذا النزر القليل من الثمر تواصل‬
‫قافلة الوجود سيرها السرمدي وسيذهب العث مهما كثر إلى المزابل هو‬
‫وجميع الثمر الفاسد‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪3‬‬
‫***‬
‫على ساللم كثيرة أنزلت إلى سرداب تحت الطابق األرضي في زنزانة‬
‫انفرادية عرضها أقل من ثالثة أرباع المتر وطولها يكاد يضاهي طولي ذا‬
‫األقدام الستة‪ ،‬كنت وأنا افترشها متمدد ًا تصل أطراف أصابعي إلى الباب‪،‬‬
‫ورأسي يلتصق بآخر الجدار‪ ،‬ارتفاعها لم يكن يجدي المرور من تحته اّإل‬
‫بانحناءة قصيرة مني ألدخل مسكني الجديد‪ ،‬انخفاضها الشديد دون غيرها‬
‫سببه سوء طالعي إذ إنها واحدة من زنزانتين تقعان تحت سلم‪.‬‬
‫زنزانتي هذه كانت نزل الحرية الوحيد في هذا العالم المستعبد من‬
‫أباطرة القوة والجشع‪ ،‬إذ كنت أختلي فيها بعيد ًا عنهم وأعتكف معيد ًا‬
‫ترتيب أفكاري‪ .‬فضاءها كان مملو ًء حد التخمة المفرطة بالظلمة ومعه‬
‫صار الليل كسوتي وردائي‪ .‬ليل لم يعد ينجلي ويهبط كما كان‪ ،‬بل صار‬
‫مكتنف ًا هناك معي يأبى المغادرة‪ ،‬لكنه جاء ال قمر معه وال نجوم‪ .‬عيوني‬
‫تتنقل في الظلمة وتأخذ من خيوطها شعاع ًا أبصر به األشياء‪ .‬باب الزنزانة‬
‫الحديدي السميك يقيده أكثر من مزالج و ُت ْغلقه أقفال ثقيلة من الخارج‪.‬‬
‫في الجزء العلوي من الباب توجد كوة صغيرة موصدة هي األخرى دائما‬
‫اّإل حين يدلف منها صحن عميق أو باألصح إنه طشت بالستيكي صغير‬
‫مخصص لألكل رسميا‪ ،‬وسوف أكتشف له استعماالت أخرى لم تكن‬ ‫ٌ‬
‫لتخطر على بالي بالمرة‪ ،‬ولن يمكن ألحد توقعها أبد ًا ألنها مفاجأة عجيبة‬
‫في زمن الثورة الجميل‪ .‬الزمن الجميل! كما يسميه فاقدو الذاكرة‪ ،‬يتبعون‬
‫في ذلك مرضى القلوب ومروجو الجريمة‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫صرير صرصور ال يفتر كان يمزق سكون الظالم الذي يغطيني‪ ،‬وبسذاجة‬
‫بالغة فتشت كثير ًا عن هذا الصرصور المزعج بالغ الثرثرة‪ ،‬متحسس ًا في‬
‫الظالم كل زوايا الزنزانة لعلي أحظى بساعة نوم بعد هذه الرحلة الشاقة‬
‫الطويلة‪ ،‬ومن سخونة االستقبال العنيف الذي لقيته‪ .‬في النهاية لم أجد‬
‫الصرصار ولكن اكتشفت إني أبله كبير كما ظهر لي خبث الجالد‪ ،‬إذ لم‬
‫ال من صرصار‪ .‬لم يكن سوى صوت ال أعرف من أين كان‬ ‫يكن هناك أص ً‬
‫يطلق وال كيف‪ .‬كل ما خمنته‪ ،‬وصحيح كان حدسي هذه المرة‪ ،‬بأنه ُم ٌ‬
‫وكل‬
‫رسمي ًا بأن يقض مضجعي ويسلب راحتي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إيه‪ ،‬إني ألبله حق ًا إلى حد الضحك فعالً! كيف لي أن أتحدث عن شيء‬
‫اسمه الراحة في هذا الثقب األسود‪ .‬لو قلت كُلف بأن يجعلني في ٍ‬
‫توتر ال‬
‫يسكن ألنصفته‪ ،‬ألنه قد فعل‪.‬‬
‫التقيت فيما بعد ذلك أشخاص ًا آخرين صادفوا أساليب ُاخرى تجعلهم‬
‫مستيقظين دائم ًا مفتوحي األعين‪ ،‬ال تجرؤ أجفانهم أن تُسدل على‬
‫بواصرهم وإن لهنيهة واحدة‪ .‬روى لي أحدهم إنهم كانوا ُيدخلون معه في‬
‫الزنزانة عقرب ًا صغير ًا‪ ،‬ويهددوه بالويل والثبور وأنه سيرى نجوم الظهيرة‬
‫فسخر كل اهتمامه لتجنب االحتكاك به‪ ،‬وكان يدور‬ ‫ّ‬ ‫إن مسه بأذى أو قتله‪.‬‬
‫حوله مثل ثور في ساقية طوال الوقت في الزنزانة‪ ،‬إلى أن اكتشف فيما بعد‬
‫عقرب ال يلدغ وإن فعل فإن لدغته غير ضارة‬
‫ٌ‬ ‫حين لم تعد قيمة الكتشافه أنه‬
‫ويستعمل إلرهاق المعتقلين وتدمير أعصابهم‪ .‬هذا االكتشاف المتأخر من‬
‫قبلي كان مثل اكتشاف صاحبي غير ذي نفع بل كان مضر ًا‪ ،‬ألنه لم يقلل من‬
‫توتري بل أعطاه زخم ًا أشد ودفع ًا أقوى‪ ،‬ألني صرت أراهم بعين اليقين‬

‫‪39‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يتالعبون بي وإن كل األشياء مسخرة لهم مثل سليمان‪ ،‬حتى الشياطين‬


‫تجثوا عند قدميه وتتملقه للفتك بأعدائه وصرت أرى ملكهم عظيما كبير ًا‬
‫كأنه بحر ظلمات‪ ،‬لست فيه سوى ورقة ذابلة أصابها البلل‪.‬‬
‫افترشت األرض اإلسمنتية بعد أن أنهكني التعب تمام ًا والتحفت‬
‫الظالم متوسد ًا حذا ًء رياضي ًا كنت انتعله‪ .‬جفناي عجزا عن اإلغماض‬
‫قلق ًا‪ ،‬وحين كانا يسهوان عن هذا القلق لوهلة أنزلق بغفوة قصيرة‪ ،‬سرعان‬
‫ما يذبحها طنين الصرصور ويوقظها تدارك الغفلة عن القلق‪.‬‬
‫اقتحم النهار الزنزانة من فتحة الباب العلوية وهي تنفرج ليلج منها‬
‫صحن يضم حساء عدس‪ .‬دقائق قليلة بعيدها ُفتِ َح الباب وهذه المرة سبقت‬
‫فتحه اصوات قرع رهيب لسلسلة مفاتيح ضخمة‪ ،‬وانتصب أمامي رجل‬
‫وسمرة الفحة من صنع شمس صحراوية خلفت‬ ‫أمن (أبو أ‪ ).‬بزي عسكري ُ‬
‫على وجهه قسوة وغلظة وجفاء‪ .‬أمرني بزجر وبقليل من كلمات فاحشة‬
‫بالخروج لقضاء حاجتي وغسل طشت الطعام‪ ،‬حتى تلك اللحظة لم أكن‬
‫قد توصلت إلى إدراك المدى الذي بلغته القسوة‪ ،‬ولهذا واصلت بالهتي‬
‫وسرت الهوينى كعادتي المألوفة وعادة البشر بالمشي‪ .‬اّإل إن هراوة متصلبة‬
‫بهت حينها مثل تلميذ‬‫علي بقسوة‪ُّ .‬‬‫في كفوف وحشية ترعد مزمجرة هوت ّ‬
‫بليد حتى صرخة الوجع لم تكن منها كلها‪ ،‬بل منبعها الحقيقي كان الفزع‬
‫من المفاجأة‪ ،‬وهو أكثر بكثير من األلم من قساوتها‪ .‬مفاجأة لقنتني درس ًا‬
‫جديد ًا في كيفية السير الحثيث في معتقالت دولتنا الثورية‪.‬‬
‫عدت إلى زنزانتي‪ ،‬وطني الجديد‪ ،‬خائب ًا‪ ،‬فال أنا الذي غسلت الطشت‬
‫علي فعله من قضاء حاجتي‪ ،‬اّإل بتساؤل أحمق جديد‪،‬‬
‫وال أنا فعلت ما كان ّ‬
‫‪40‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫هل حقا إنهم يظنون هذا الوقت القصير يكفي ألداء كل هذه الوظائف؟‬
‫علي أن أعترف اآلن إني كنت حتى تلك اللحظة أحمق ًا شديد البالهة ومث ً‬
‫ال‬
‫قياسي ًا في الغباوة‪ ،‬كنت اسأل نفسي أسئلة تثير الضحك والشفقة لسخافتها‬
‫وسذاجتها‪ .‬كل شيء كان معد ًا ليذيقوا المعتقل السياسي به َّ‬
‫الذل ويحاولوا‬
‫تحطيم شخصيته‪ ،‬سحقها وإشعاره بأنه ال شيء‪ .‬لم يكن الحرس يفعلون‬
‫ذلك لفطنة عندهم أو ألنهم يتوفرون على قدرة في ممارسة الحرب‬
‫النفسية‪ .‬كانوا أغبياء جد ًا ال مواربة في ذلك وال شك‪ ،‬انما الطريقة التي‬
‫رسمت لهم ألداء أدوارهم كانت تحقق ذلك‪ ،‬حتى هم أنفسهم لم يكونوا‬
‫ال سلسلة المفاتيح كانت تصدر أصوات ًا مزعجة‬‫يدرون ماذا يفعلون‪ .‬مث ً‬
‫مهما جهد حاملها في التكتم عليها‪ ،‬لكن صوتها عندما يقترب كان يشبه‬
‫فحيح أفعى سامة تنتصب أمامك وتحملق فيك بعيون جامدة استعداد ًا‬
‫الفتراسك‪ ،‬وأنت تقف أمامها تنتظر أن تبتلعك في احشائها مشلوالً من‬
‫نظراتها حتى قبل ان تلدغك ويسري سمها في جسدك‪.‬‬
‫دقيقتان ليس غير‪ ،‬هو الحد األقصى لقضاء الحاجة حين يسمح بخروج‬
‫المعتقل لممارستها‪ ،‬ويقف على منحنيات الطريق المؤدي إلى المرحاض‬
‫أي سجين يمر‪ .‬زعيقهم متواصل‬ ‫رجال أمن بعصي غليظة يضربون بها ّ‬
‫عليه‪ ،‬إن ركض في الممر أو صعد السلم القصير الموصل إلى خالء ضيق‬
‫بال باب‪ .‬وحتى إن كان داخل المرحاض يقضي حاجته ال يتوقف الزعيق‬
‫ٍ‬
‫كامل‬ ‫ٍ‬
‫واحساس‬ ‫أي معتقل في ٍ‬
‫توتر دائ ٍم‬ ‫والسباب‪ ،‬مما جعلني ويجعل ّ‬
‫بالضياع‪ ،‬اضحيت مثل تائه يدور ويدور ليسقط دائخ ًا وينهض ثانية ليعاود‬
‫الدوران حول عمود التالشي وهكذا إلى حد النهاية له كأنه سيزيف يدفع‬

‫‪41‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫صخرة زيوس‪.‬‬
‫والداي كانا يفخران بي دوم ًا بأني ذكي سريع التعلم ولم أخيب ظنهم‬
‫هذه المرة أيض ًا‪ ،‬فقد هضمت الدرس حتى الثمالة‪ ،‬وانفجرت البراغماتية‬
‫واالنتهازية عندي بأبشع صورها داخلي الستثمار الفرصة الزمنية الخاطفة‬
‫الحق ًا‪ ،‬كان قراري سريع ًا وجريئ ًا أيض ًا‪ ،‬قرار طويت معه كل ترف العالم‬
‫الخارجي في كون ميتافيزيقي ال يشبه ذاك الذي كنت أسكنه قبل أسبوعين‬
‫بأي وجه‪ .‬عالم ولجت فيه بغتة كالموت الذي يرحل باألرواح إلى عالم‬ ‫ّ‬
‫آخر ال يمت لعالم الدنيا بشيء اّإل في مسألة واحدة‪ ،‬إن الروح سكنت‬
‫فيهما مع ًا‪ .‬أبحرت سريع ًا في هذا العالم السريالي الجديد وصارت خطتي‬
‫بعد األكل في الوجبات الالحقة أن أقضي حاجتي في الصحن ذاته إن كنت‬
‫مضطر ًا لذلك‪ ،‬ثم أغسله منها ومن بقايا الطعام حين يطلب مني الخروج‬
‫لقضاء الحاجة في تلك الدقيقتين‪ ،‬وبذلك أهزم جالدي واستغفله‪ .‬كانت‬
‫خطة ناجحة بالفعل وكافية الن أغسل الطشت حين فعلت ذلك فيما بعد‪،‬‬
‫بل حتى أني كنت اغسله وأنا اترنم بأغنية قديمة حفظتها من أيام المراهقة‪.‬‬
‫شعرت بالزهو لقراري وقلت لهم في ضميري‪ ،‬سأنتصر عليكم أيها‬
‫األوباش ولن أخيب صديقي ناظم حكمت‪.‬‬
‫إنهم ال يدعوننا نغني‪ ،‬يا روبسون‪.‬‬
‫يا كناري‪ ،‬الذي له أجنحة النسر‪.‬‬
‫يا أخي األسود ذو األسنان اللؤلؤية‪.‬‬
‫إنهم ال يدعوننا نجلجل أغانينا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫إنهم في خوف يا روبسون‪.‬‬


‫إنهم يخافون الفجر‪ ،‬يخافون أن يبصروا‪.‬‬
‫يخافون أن يسمعوا‪ ،‬يخافون أن يلمسوا‪.‬‬
‫إنهم يخافون أن يحبوا‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪4‬‬
‫***‬
‫تكف الشمس عن مالحقة الوقائع وأشخاصها‪ ،‬تدخل‬ ‫ّ‬ ‫في الليل عندما‬
‫ٍ‬
‫ألحداث رهيبة تجري في غرفة معزولة‬ ‫العتمة بكل ثقل ظلمتها لتفتح أبواب ًا‬
‫في الطبقة الثانية‪ ،‬لمبنى كان يدير قفاه لقاعة جميلة يجتمع فيها الكثير من‬
‫الحالمين‪ .‬قاعة (ابن االثير) عند الساحل األيمن من الموصل كنت أرتادها‬
‫مع صحبي كثير ًا‪ ،‬نحضر فيها عروض ًا مسرحية وحفالت موسيقية أو غنائية‪،‬‬
‫ولم يدر بخلدي يوم ًا أني سأقابلها في بناية جياشة بكل هذا العبث المجنون‪.‬‬
‫لم يتسن لي أن أتفحص مالمح هذه الحجرة الرهيبة أبد ًا‪ ،‬إذ حال‬
‫عني ذلك عوازل غلفت عيناي كالمعتاد‪ ،‬لكني لمست كل ركن وزاوية‬
‫فيها بآالمي وصرخاتي‪ ،‬وبدمائي التي صادفت جدرانها تروي لها شيئ ًا‬
‫من مشاعر متالطمة كانت تتوزع بين أل ٍم من عذابات تجرعتها‪ ،‬ومن‬
‫شفقة على جالد كان يرهق من إيقاع العقوبة بي لجرم ارتكبته بإدمان وما‬ ‫ٍ‬
‫زلت أفعل حتى اليوم بالزخم عينه‪ .‬جرم شبق الحرية واإلصرار على بلوغ‬
‫قيم اإلنسانية إن لم يكن في حدود العالم الذي أقطن فيه‪ ،‬فعلى األقل في‬
‫حدود نفسي‪ .‬لم ولن أتنازل عن ذلك أبد ًا وإن قدر لي التنازل يوم ًا ما عنه‪،‬‬
‫مت فعالً‪.‬‬
‫فالموت حينها خير لي من الحياة‪ ،‬ألني أكون قد ّ‬
‫في الليل اقتادوا أحد الرفاق إلى حيث ال أدري (وقتها لم أكن قد تعرفت‬
‫بعد عليها وال هي عرفتني)‪ ،‬وتبين فيما بعد أنها الغرفة العلوية المقصودة‬
‫التي سوف أكون ضيف ًا مدمن ًا عليها‪ .‬بعد ساعات عادوا به ثانية‪ ،‬كان صدى‬

‫‪44‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ألمه يشق كثبان الظالم ويحفر أخدود ًا في صخر الضمير اإلنساني المعطل‪.‬‬
‫انتابتني رعشة خوف غريزي من مواجهة األلم وتزايد خوفي وهلعي‪ ،‬وأنا‬
‫أنصت إليه وهو يطلب من السجان أن يرفع عن عينيه الخرقة التي تعصب‬
‫عينيه ألنه بات عاجز ًا عن رفعها‪ .‬يا للهول! ماذا فعلوا به فأضحى ال يقوى‬
‫عن إزاحة عصابة يمكن حتى للطفل الرضيع أن يرفعها؟ سؤال وجهته‬
‫في قشعريرة‬‫لنفسي‪ ،‬لخص كل الخوف الذي انتابني وقتئذ‪ ،‬حينها سرت ّ‬
‫أرجفتني وصرت مثل سعفة صغيرة وقعت في مجرى ريح مدارية‪.‬‬
‫ازدحمت مخيلتي بصور لم أشاهدها بعد‪ ،‬يكسوها ثوب واحد هو‬
‫القسوة المفرطة‪ .‬قسوة استحكم الفشل في إيجاد أي عذر لها أو تبريرها‪،‬‬
‫وإن وجد أصحاب السفسطة والجدل الفارغ ذريعة في كل مرة لهذا العنف‬
‫البهيمي الذي يتمثل على أيدي من يعدوه بشر ًا‪ ،‬أو ينسبوه ظلما زيف ًا وزور ًا‬
‫للبشر وهو فعل ال يليق اّإل بوحوش إسطورية من صنع ساحرة شمطاء‬
‫مأوى للخفافيش طيور الظالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫تسكن خربة مهجورة‬
‫جاء دوري أخير ًا‪ ،‬صعدت ساللم ًا متعددة وطلب مني مرافقي من‬
‫الحرس‪ ،‬أن احصي ثالث عشرة درجة في كل مرة حين ارتقيها‪ ،‬كنت‬
‫أظنه يسخر بي كالعادة‪ ،‬لكن عندما تعثرت في آخر درجة بعد أن اخطأت‬
‫الحساب وهوت قدمي في الفراغ تبحث عن الرقم المفقود في عدد‬
‫درجات السلم وبخني على ذلك بوكزة في خاصرتي‪.‬‬
‫أدخلت على الضابط (ع‪.‬ع‪ ).‬وهو رجل كما به بدانة واضحة فكذلك به‬
‫قسوة مثلها وأكثر‪ ،‬عرفت أوصافه من اللقاء األول‪ .‬هذه المرة تعرفت عليه‬
‫من صوته المميز‪ ،‬بت أنظر إلى العالم من إذني‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بادرني بسؤال قصير وبال مقدمات‪.‬‬


‫‪ -‬من مسؤولك في التنظيم؟‪.‬‬
‫‪ -‬مستقل‪ ..‬بال تردد وبحسم سريع رددت له الجواب‪.‬‬
‫وقبل أن تصل كلمات جوابي إلى إذنه الصماء عن سماع هذه األجوبة‪،‬‬
‫كانت قبضة كأنها من الفوالذ ترتطم بمعدتي بعنف شمشوني‪ ،‬سحبني‬
‫الوجع إلى األرض وهويت سريع ًا مثل حجر يصدم األرض نازالً من برج‬
‫ٍ‬
‫بسقوط حر‪ ،‬وتكومت عليها مثل كيس رمل بهيئة إنسان‪ ،‬لترفعني في‬ ‫عال‬
‫الحال ذراعان كانا يمسكان بي من الجانبين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بغضب‪.‬‬ ‫صاح بهم آمر ًا‬
‫‪ -‬خذوه!‪.‬‬
‫أصعدوني سلما صغير ًا‪ ،‬وارتكب الحديد معي خطيئة أخرى‪ ،‬إذ لم‬
‫يكفه قيد المعاصم كما فعل من قبل‪ ،‬بل علقني هذه المرة إلى سقف غرفة‬
‫متشبث ًا بجامعة القيد التي حبست ذراعاي من الخلف‪ ،‬واتكأت قدماي على‬
‫الفضاء وفوقها كان يقف جسدي تؤرجحه فنون التعذيب‪.‬‬
‫حلت لحظة مواجهة مع الذات عادت بي إلى بواكير قصة اإلنسانية‬
‫األولى‪ ،‬عندما جردوني من الثياب تمام ًا‪ .‬لم يعترني الخجل كما أرادوا لي‬
‫ذلك من فعلهم وقلت لنفسي مشجع ًا‪:‬‬
‫‪ -‬المالبس هي ورق جنة ادم المزيفة‪ ،‬وأولئك الملتحفون بالكثير منها‬
‫انما يفعلوا ذلك ليخفوا قبح سوأة الخطيئة التي تغمرهم ومن كان بريئا لم‬
‫تدنسه الخطايا ال تعوزه وليس بحاجة لها‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في براءة اإلنسان‬


‫أرادوا اقتحام عفتي وحيائي وما عرفوا أنهم فجروا ّ‬
‫قبل أن يفقد عذريته حينما نالت منه ثمار شجرة الخطيئة والرذيلة‪ .‬هذه‬
‫أسمال الفضيحة‪ ،‬لن يعيبني التجرد منها وهل يعيب المرآة أن ترتد إلى‬
‫فطرتها األولى وأن تزاح منها الشوائب واألكدار؟ خذوها كلها ال حاجة لي‬
‫بها‪ ،‬إنما يحتاج إلى الستر من به عيب ومن عيوبكم كلها أنا برئ‪.‬‬
‫ال سريع االشتعال غمرني باللهب مرات عديدة‪ ،‬وبين‬ ‫علي سائ ً‬
‫رشوا ّ‬
‫لهب حريق وآخر كانوا ال يجدوا منفضة لجمر سجائرهم اّإل في جسدي‬
‫األسمر السابح ألم ًا في الفضاء‪ ،‬مختنق ًا بدخان سجائرهم وفحش أقوالهم‪.‬‬
‫هراوات خشبية وأخرى حديدية كانت تترك بصماتها على أعضائي بتناوب‬
‫واق يصد موجات‬‫مجنون‪ ،‬استحال تدريج ًا ثوب األلم المزمن إلى در ٍع ٍ‬
‫عنفهم‪ .‬كثرة األلم افقدتني االحساس به‪.‬‬
‫دم حار حد اللسع كان يجرى على غير ما أعتاد عليه بين أنسجة ممزقة‬
‫عند الكتفين المخلوعين بفعل التعليق‪ .‬بدأت أستجمع كل قواي الكامنة‬
‫في مجهول عقلي حتى أالحق سمو الروح‪ .‬الندوب والجروح بعضها‬
‫سيلتئم يوم ًا ما‪ ،‬وأخرى ستبقى نياشين ًا لذكرى المواجهة محفورة أبد ًا في‬
‫جسدي‪ ،‬ليفوح منها في كل حين عطر الدم الذي يصرع السيف في كل‬
‫منازلة له معه ومتى ما التقيا‪.‬‬
‫سرى خدر في كل أنحاء جسدي‪ ،‬قتل األلم فيه وبدأ يعطل الحواس‬
‫شيئ ًا فشيئا‪ ،‬كلما تصاعد زمن المواجهة سائبة النهاية‪ ،‬لكنها في ذاك اليوم‬
‫انتهت وكانت جولة أولى سوف تتبعها جوالت عديدة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫قال لي أحدهم بعد حفلة السمر هذه التي تجرعت فيها كثير ًا من‬
‫وعلي أن أعترف وكفى صمود ًا ومقاومة ألنها بال‬
‫َّ‬ ‫ساديتهم‪ ،‬إنه قد أرهق‬
‫جدوى‪ ،‬صدمته ٍ‬
‫برد لم يتوقعه حين قلت له بكل بداهة وبال أدنى تردد‪:‬‬
‫‪ -‬إني لم ِ‬
‫أنو وال أريد أن أسبب لك تعبا‪.‬‬
‫أشفقت عليه كثير ًا لكنه قهقه ساخر ًا ولربما مستغرب ًا‪ ،‬ظل يردد مقولتي‬
‫لوهلة وهو يضحك‪ ،‬إنما بدا لي وهو يستعيدها أنه صدق نيتي بعمق‪ ،‬لكن‬
‫لألسف بدا أيض ًا أنه لم يفهمها جيد ًا كما كنت أريد‪ .‬كنت أتمنى له أن يفقه‬
‫ما أقول‪ ،‬لكن أنّى لمن خاض في وحل حظيرة خنازير أن يشم شذى طيب ًا‬
‫أو عبير ًا فواح ًا‪ .‬ليس باليد من حيلة اآلن‪ ،‬لكن ما علي اّإل فعل ذلك‪ ،‬ولن‬
‫أتوقف عن فعله ال اآلن وال من بعد‪ ،‬وسوف يفهم هو ونظرائه اغنيتي في‬
‫يوم ما‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪5‬‬
‫***‬
‫توالت ليالي التعذيب متواصلة ألربعة أسابيع‪ ،‬تقطعها استراحات‬
‫اضطرارية كانوا يحرصون على تمتعي بها‪ ،‬لمنح جسدي فرصة للتهيؤ‬
‫ال جد ًا ال يقوى‬
‫واالستعداد لتلقي مزيد ًا من التعذيب عندما يصبح هزي ً‬
‫ٍ‬
‫بخدر تام جراء التعليق‬ ‫ذراعي اللتين كانتا تصابان‬
‫ّ‬ ‫على تحمله‪ ،‬وباألخص‬
‫إلى السقف‪.‬‬
‫بعد أن تهدأ قليال بعض جراحاتي تتكرر الحكاية من جديد‪ ،‬ليس ٍ‬
‫لمرة‬
‫واحدة بل لمرات كثيرة‪ ،‬وفي كل مرة كانوا يسقوني غضب غرائزهم من‬
‫جوارح هائجة تنفلت تمام ًا من عقالها كما هو حال الضواري المسعورة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كنت أسقيهم بالمقابل خمرة الصمت التي تطيح برؤوسهم‪ ،‬وتجعلهم اكثر‬
‫جنون ًا يتقيئون الشر المتجمد في صدورهم‪ .‬أرجع إلى زنزانتي متوجع ًا ال‬
‫ٍ‬
‫بحمرة قانية إ ّما من‬ ‫تتحمل أعضائي أن يحتك أحدها باآلخر وجلدي صبغ‬
‫د ٍم أو من أثر السياط بعد كل حفلة تعذيب‪ ،‬وهم يعودون سكارى حيارى‬
‫ال لمعضلتي وال فك ًا ألُحجيتي‪.‬‬
‫ال يجدون ح ً‬
‫كنت أودعهم هادئ ًا في قرارتي رغم ألم الجراح‪ ،‬وهم في انكسار وخيبة‬
‫يزبدون ويعربدون‪ .‬صخب الصمت الذي أذيقه لهم كان يقتلع األصابع‬
‫الغبية التي يدسوها في آذانهم كي يصموها عن سماع رعد الحقيقة‪ ،‬وهو‬
‫يمزق األسمال البالية التي يدفن بها البلهاء رؤوسهم‪ .‬طرق شتى حاولوها‬
‫إلرغامي على البوح بأشياء لم ولن يعرفوها أبد ًا‪ ،‬حتى يومنا هذا بقيت سر ًا‬

‫‪49‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫مخبوء ًا ما زلت أحتفظ به للساعة في صدري‪ .‬صدري ٌ‬


‫قبر ألسرار كثيرة‬
‫الي من قبل أو حتى من‬
‫حتى لمن شاركني السجن ولمن كان أقرب الناس َّ‬
‫ال من مناهضة سلطة القمع‬ ‫بعد‪ ،‬ولليوم لم يزل يجهل ما كنت أقوم به فع ً‬
‫البوليسية وتكميم األفواه ومصادرة الحريات قبل دخولي للسجن‪ .‬القليل‬
‫جد ًا وربما هو شخص واحد فقط كان يعرف مهمتي الحقيقية والدور‬
‫األساس الذي كلفت به‪ .‬ومع إن كل هذا أضحى اآلن بال أهمية حقيقية‬
‫اّإل أني ال أجد مسوغ ًا للبوح به‪ ،‬إنها خصوصية أعتز بها‪ ،‬ألن كل مهارتي‬
‫وبراعتي كانت في هذا التكتم البالغ وحفظ سرية العمل‪ .‬ليس من السهل‬
‫أن تكشف سر التفوق بالمهنة خصوص ًا لمن ال يعرف قيمة ما تخبأ وتواري‪.‬‬
‫العمل الثوري درة غالية وجوهرة ثمينة ال ثمن لها وأربأ بنفسي أن أعرضه‬
‫في السوق فكيف به إذا كان سوق ًا لألشياء الرخيصة؟‬
‫في وسيلة جديدة إلرغامي على االعتراف هددوني‪ ،‬بأن يجلبوا عائلتي‬
‫للمعتقل‪ ،‬لم ِ‬
‫أبد أي اكتراث‪ ،‬حتى إن (م‪.‬ع‪ ).‬عندما الحظ رد فعلي وكمية‬
‫الال مباالة التي يحتويها قال‪:‬‬
‫‪ -‬يا قواد‪ ،‬يبدو إنك ال تصدق أننا سنفعل ذلك‪.‬‬
‫وبالفعل لم يكن ذلك مزاح ًا منهم وال تهديد ًا فارغ ًا‪ ،‬بل كانوا قوالً‬
‫ال في هذه األمور بال أدنى تردد يخامرهم أو شك يساورهم‪ .‬في أحد‬ ‫وفع ً‬
‫األيام جلبوا والد أحد المعتقلين السياسيين وهو صديق شخصي لي وأيض ًا‬
‫زميل جامعي‪ .‬والده كان فالح ًا بسيط ًا ثمانيني ًا في أواخر العمر‪ ،‬أذاقوه من‬
‫ال مزيف ًا‪ ،‬كان هذا سبب ًا‬
‫اإلهانة واألذى ما أجبر صاحبي على إعطائهم دلي ً‬
‫كافي ًا ألن يقوده هذا الدليل فيما بعد إلى حبل المشنقة ليفتدي والده المنهك‬

‫‪50‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من عذابات جديدة تضاف إلى آالم السنين‪ ،‬وعناء فالحة أرض ضمته إليها‬
‫سريع ًا بعد ابنه لتجفف دمعه وتمنحه أمن ًا وحنان ًا افتقدهما فوقها‪.‬‬
‫ال روتيني ًا شبه يومي فيه الكثير من الملل‬
‫أصبحت مواجهة قسوتهم عم ً‬
‫والرتابة‪ ،‬وأصعب ما فيه كان االنتظار الذي طالما كرهته في كل األحوال‪،‬‬
‫أنتظرهم في حفرتي المعتمة مضمخ ًا بالدم والجراح‪ ،‬محاوالً أن أتصلب‬
‫وأفرغ رأسي من الماضي القريب وأبعد كل صوره عني‪ ،‬لكن كنت أترقب‬
‫بقلق وخوف تضطرب له كل أعضائي موعد زيارتهم الليلية‪ ،‬وعندما‬
‫تضعف األقفال أمام المفاتيح وترخي صالبتها ويتحرك الباب المصفح‬
‫بي ويبلغ ذروته وتصير األولوية عندي‬ ‫بصريره المفزع‪ ،‬كان القلق يستبد َّ‬
‫أن أخرج من دائرة الخوف هذه‪ ،‬ولم يكن أمامي من بد اّإل استفزازهم‬
‫حتى يكسروا حلقة االنتظار ويبدأوا بممارسة القسوة التي البد منها‪ ،‬تجنب ًا‬
‫لهذا االنتظار المزعج ولما هو قادم بال محالة‪ ،‬فعالم الهروب منه ولماذا‬
‫التأخير؟‪.‬‬
‫سألني (ع‪.‬ع‪ ).‬يوما‪:‬‬
‫‪ -‬هل صفيت عقلك؟‪.‬‬
‫دفعت الجواب إليه سريع ًا ٍ‬
‫بتحد ممزوج بالسخرية‪.‬‬
‫‪ -‬ذهني صاف أساسا‪.‬‬
‫ر ٌد‪ ،‬لم يكن يتحسبه وال ينتظره‪ ،‬إنما أنا الذي كنت أنتظر رده المتوقع‬
‫وأتلهف اليه للخالص من دائرة السؤال والجواب التي كانت تستنزف قواي‬
‫في الصمود اكثر من التعذيب نفسه بكثير جد ًا‪ ،‬ولو قلت إني كنت أوشك‬

‫‪51‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أن أسقط في لحظات االنتظار كثير ًا‪ ،‬لكني لم أكن معرض ًا لهذا االحتمال‬
‫خالل حفالت التعذيب أبد ًا لما أوردت أحد ًا اّإل إلى عين الحقيقة‪.‬‬
‫رده كان غضب ًا بهيمي ًا‪ ،‬فجروه كالعادة بنصب أرجوحة لجسدي من‬
‫السقف وتركه يسبح في الفضاء يتكئ على الفراغ‪ .‬أشياء كثيرة كانت تزور‬
‫جسدي بعضها يحفر ثقوب ًا فيه لتعدم كثير ًا من خاليا شاء حظها النحس أن‬
‫تكون في جسدي على خط المواجهة األولى خط التماس‪ ،‬تماس حتى مع‬
‫أسالك الكهرباء‪.‬‬
‫طالما سمعت جدالً في أيام الدراسة الثانوية بين تقليديين ومتنورين‬
‫يسألون سؤاالً‪ ،‬هل ُيعقل أن توماس أديسون يذهب إلى الجحيم وهو الذي‬
‫خدم البشرية كلها ونَفعها باكتشاف الكهرباء؟ كنت دوم ًا إلى جانب الفريق‬
‫المدافع عن أديسون في كل مرة جرى فيها هذا النقاش‪ ،‬ألن خلود اإلنسان‬
‫بما يقدم من خدمة لإلنسانية وينفعها‪ ،‬ال بما يثرثره من كالم أو يرسمه من‬
‫بورتريهات مزيفة لإلله‪ .‬بيد إني في تلك الليالي صرت أرى أديسون رج ً‬
‫ال‬
‫أي إثم قد اجترح عندما‬ ‫شرير ًا ارتكب خطيئة ال تغتفر بفعلته الشنعاء هذه‪ّ .‬‬
‫اكتشف الكهرباء؟ هل يرى اآلن من جنته أو من جحيمه ما عاد يهمني‬
‫أين أستقر به المقام‪ ،‬هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب؟ أال يرى كيف‬
‫أرتجف مصعوق ًا؟ وهل هو نفسه الذي علمهم أيض ًا أن الكهرباء يزداد‬‫ُ‬
‫شرها عندما تعلق األسالك في أطراف األصابع وعند الحلمتين وأماكن‬
‫حساسة أخرى ال أخدش الحياء بها كما فعل أديسون باكتشافه المقرف؟‬
‫ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا أديسون؟ وماذا كان سيحصل لو أن لي‬
‫جلد سلحفاة فال أبه لغالظة العصي؟ أو لو اني كنت طويال مثل عوج بن‬

‫‪52‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عنق؟ أو نبت لي عنق زرافة؟ كيف كانوا سيجدون سقف ًا ليعلقوني منه؟‪.‬‬
‫أمنيات مستحيلة كثيرة أخرى‪ ،‬لم تكن هرا ًء‪ .‬كانت جدية للغاية آنذاك‬
‫واألمر لم يكن مضحك ًا وال عبثي ًا‪ ،‬بل كان بحث ًا عن مخرج خرافي من أزمة‬
‫ال مخرج منها‪ .‬كنت تمام ًا مثل غريق تتقاذفه أمواج متالطمة في بحر هائج‬
‫ينتظر معجزة تخرجه من البحر اللجي‪ ،‬وأين هي هذه المعجزات؟ لقد ولى‬
‫زمن المعجزات ألنها صنع الجهل واالوهام‪ ،‬أما في الواقع فال توجد اّإل‬
‫قوانين الفيزياء‪ .‬إنها أحالم وال عيب في األحالم وإن لم تحدث ألنها ليست‬
‫أوهام ًا‪ ،‬وإن بدت كذلك أحيانا‪ .‬الحلم هو النهاية السعيدة لحاجة واقعية‬
‫ولو لم تكن حقيقة موجودة لما اندفع إليها تفكيرنا وتاقت إليها نفوسنا‪.‬‬
‫ألسنا ما زلنا نحلم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق‬
‫شيء منها حتى االن؟ األحالم منفذ الخالص الوحيد حين توصد كل‬
‫األبواب‪ ،‬واذا لم تؤد إلى الخالص فإنها على األقل سوف تمنع اليأس‬
‫والقنوط من التمدد إذا لم تقتله بالفعل‪.‬‬
‫بكل صدق يمكن أن يحتويه قلب القديسين‪ ،‬تمنيت حينها أن ال يجلس‬
‫في محلي ذاك أحد من بعدي‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪6‬‬
‫***‬
‫في ليلة طال صبرهم كثير ًا شعرت بقرارهم المسبق أنها سوف تكون ليلة‬
‫للتأريخ‪ ،‬توسلت فيها بشدة للشمس أن تشرق لكنها أضاعت االتجاهات‬
‫فظلت تدور في صحراء الظلمة تائهة كتيه بني اسرائيل‪ .‬تركتني معلق ًا‬
‫بي‬ ‫في الهواء ألكثر من أربع ساعات كما خمنت ذلك في ما بعد‪ ،‬ينزلون َّ‬
‫صنوف العذاب بال كلل وال ملل‪ ،‬لم يهدأوا وال فتروا وال لهنيئة واحدة‪.‬‬
‫صرت واثق ًا من إرادتهم وتصميهم على وضع خاتمة لقضيتي هذه الليلة‬
‫علي وإزهاق روحي‪.‬‬ ‫بأي طريقة تصل إليها أيديهم‪ ،‬ولو كلفهم ذلك القضاء َّ‬
‫ّ‬
‫لن أرجع وأكرر شرح وسائل التعذيب التي استعملوها معي‪ ،‬لكن أقول‬
‫ليلتئذ أعلنت التحالف بينها واتفقت في تلك األمسية الطويلة أن تزورني‬
‫جميعها‪ .‬أصبحت عاجز ًا حتى عن الصراخ من األلم وفقدت الشعور‬
‫بالكثير من أجزاء جسدي بما أصابها من خدر‪ ،‬اّإل رأسي كان نشط ًا فعاالً‬
‫ألقصى ما يمكن له كما لو أنه كان يستمد طاقته من العذاب الذي عطل كل‬
‫شيء غيره‪ .‬واصلت االستمرار بالتركيز الشديد والتفكير بعمق‪ ،‬كيف لي أن‬
‫أتخلص من عصفهم القاتل في هذه الليلة التي ال فجر في آخرها؟‪.‬‬
‫وأنا على هذا الحال تذكرت كراس لينين "ما العمل؟"‪.‬‬
‫سألت نفسي‪ ،‬ما العمل اآلن؟ األمر ال يحتاج إلى الصمود فقط‪ ،‬وال‬
‫األحالم هي منقذي اإلسطوري‪ ،‬ألني اقتنعت حينها أن ال أحد معني بي‬
‫حتى السماء هربت من وظيفتها‪ ،‬البد من حل سحري للخروج من هذا‬

‫‪54‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وأي حفرة هي كأنها جراب محكم الشد مملوء‬


‫الحفرة التي وضعت فيها‪ّ ،‬‬
‫حد الطفح بضحكات سخريتهم المدوية وثورات غضبهم العارمة‪.‬‬
‫ال أعرف بالتحديد من الذي قال "أعطني مسرحا أعطيك شعب ًا مثقفا"‪.‬‬
‫إنما هذا هو أوانها بالضبط لماذا ال يكون المسرح هو المفر من هذا‬
‫الكابوس المتسلسل بال نهاية؟ هكذا كنت أحدث نفسي وأقول لجسدي‪:‬‬
‫تماسك وتحمل مزيد ًا من العذاب ولنجرب لعبة الفرار من الموت بادعاء‬
‫الموت‪ .‬سوف يكلف ذلك مزيد ًا من األلم‪ ،‬ال تخف منه ولم الخوف؟‬
‫أولسنا غارقين فيه؟ فما الضير من سحابة أخرى تمطر على البحر‪ ،‬هل‬
‫ستزيده بلالً؟ ما عدت أصدق أن هناك جسدا يقوى على ما قويت عليه‬
‫حتى الساعة من تحمل كل هذه اآلالم وإذا كان بمقدوري تجرع كل هذا‪،‬‬
‫فلماذا ال أحاول تجرع المزيد منه لعل في ثمالة الكأس الخالص؟ بدأت‬
‫بتركيز كل قواي العقلية استعداد ًا ألداء دور المحتضر عسى أن تنجح‬
‫المسرحية ويتوقف هذا العبث وانتهي من نزيف الوحشية‪ .‬استجمعت‬
‫تركيزي‪ُ ،‬رفعت الستارة وبدأ العرض‪.‬‬
‫المشهد األول‪ :‬لم أعد استجب لألذى الذي كانوا يلحقونه بي‪ .‬كل‬
‫همجيتهم وقسوتهم المنصبة التي كنت أواجهها بالصراخ استبدلت الرد‬
‫عليها بكتمان األلم‪ ،‬عندما أقول كتمان األلم فاني أعنيه حرفي ًا إذ ابتلعت‬
‫ال بال مضغ‪،‬‬ ‫األلم تمام ًا وحفرت في داخلي إخدود ًا عميق ًا البتالعه كام ً‬
‫كما يفتح الحوت فاهه ويبتلع اسراب ًا من السمك وهناك في أحشائه تدور‬
‫معركة الطحن ويسحق فريسته‪ ،‬يكتم هذا عن كل العالم‪ ،‬وهكذا فعلت‪ .‬لم‬
‫أي سيجارة تطفأ‬ ‫ألي ضربة هراوة تجلدني‪ ،‬ولم تعد تلسعني ّ‬‫أعد استجب ّ‬

‫‪55‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في أليتي وكأني فقدت االحساس‪.‬‬


‫وأتوجه بآهات بنسق واحد ال يتغير‪،‬‬
‫َ‬ ‫المشهد الثاني‪ :‬أطلق انين ًا خافت ًا‬
‫سواء شنوا غزو ًة على جسدي أو تركوه ينعم بسالم هدنة هم من يحدد‬
‫ٍ‬
‫تمثيل استنادا لخبرتهم الواسعة‬ ‫وقتها‪ .‬لم يصدقوا في البدء ما كنت اؤديه من‬
‫في التعذيب‪ ،‬حاولوا كثير ًا استفزازي للخروج من هذا العرض المسرحي‬
‫بوسائل شتى‪ ،‬حتى إنهم جاءوا بآلة كأنها خازوق كهربائي لكن لم استجب‬
‫لكل إغراءات الصراخ بصوت عال‪ .‬أشحت بأعصابي بل بكل عقلي عنها‬
‫خشية أن أعيش جوها وأسقط في الكمين‪ ،‬رحت أحاول التفكير في أشياء‬
‫أخرى بعيدة جد ًا عما كنت فيه‪ ،‬أشياء أخجل اآلن أن أكتبها حتى ال أتهم‬
‫بالسفاهة أو الجنون لكن هذا ما حصل‪ ،‬بل إني انغمست في تأملها لدرجة‬
‫أنا لحد اآلن ال أصدق نفسي كيف جرى كل ذلك‪.‬‬
‫بت فيه وارتعش آخرون‬ ‫تململ البعض منهم من الوضع الجديد الذي ّ‬
‫خوف ًا من أن أكون فع ً‬
‫ال على وشك الفراق األبدي لهذه الدنيا‪ ،‬وأن أكون‬
‫صرت ضحية لعصيهم بدون أمر من جهة مخولة بتصفيتي‪ .‬هنا فهمت إن‬
‫قرار الموت تحت التعذيب لم يكن مسموح ًا به بشكل جزافي واستنتجت‬
‫أنه ال يحصل اّإل بأمر من الضابط الكبير المسؤول عن ملف القضية‪ .‬دار‬
‫نقاش ٌبيهم كنت أصغي له بتركيز شديد حتى قال احدهم‪.‬‬
‫‪ -‬أنا غير مسؤول بعد اآلن عما يحصل لنبلغ السيد الضابط وهو يتخذ القرار‪.‬‬
‫زادني هذا الحوار تصميم ًا وعزم ًا وقلت في سري‪ ،‬هيا امض ُقدم ًا في‬
‫اللعبة أكثر وأكثر إنها تؤتي أ ُك ُلها‪ ،‬إذن ها هو المسرح ينتج فكرة تخرج‬

‫‪56‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫واقع ًا جديد ًا‪ .‬الهمس الدائر بينهم صار حوار ًا مرتفع ًا ثم غدا أشبه ما يكون‬
‫بالشجار‪ ،‬عاد علي ذلك بالراحة ليس النفسية فقط وارتفاع المعنويات‪،‬‬
‫بل براحة جسدية أيض ًا حيث توقف الركل والضرب بالكامل‪ .‬لم يستمر‬
‫ال إذ كان البد من مرج ٍع يفصل في ما تنازعوا به وجاء‬
‫الخصام بينهم طوي ً‬
‫ٍ‬
‫بكلمة فيصل منه بعد أن وصله الخبر عن طريق أحدهم‪.‬‬ ‫من يفض النزاع‬
‫ٍ‬
‫بعنف عدة مرات ثم كلمني برفق‪ ،‬كان يناديني باسمي طالب ًا مني‬ ‫هزني‬
‫بأي شيء‪ ،‬وأقسم لي مغلظ ًا أنه لن يؤذيني أحد بعد اآلن‪ ،‬فقط أن‬ ‫أن أكلمه ّ‬
‫رددت عليه‪ .‬اّإل إني كنت موقن ًا على الدوام أن للمسرح دورا كبيرا وخطير‬
‫وال ينبغي التنازل عن هذا العرض الكبير الذي أقوم به ألجل شخص تافه‬
‫من النظارة ال يفهم ما يدور حوله‪ .‬ذهبت كل محاوالت استدراجي عبث ًا‬
‫وانتهى األمر به إلى يأس تام من استجابتي‪ ،‬وإن ما يراه ليس تمثي ً‬
‫ال بل واقع‬
‫وحقيقة ليصدر فرمانه قاطع ًا النزاع‪.‬‬
‫‪ -‬نزلوه! هذا قد انتهى‪.‬‬
‫لم أع ْن جسدي على النزول من الحلقة المعقوفة المفتوحة المثبتة‬
‫بسقف الغرفة رغم محاوالتهم إقناعي بذلك‪ ،‬أحدهم كان يطلب ذلك مني‬
‫بما يشبه لهجة المتوسل‪ ،‬رفضي التعاون اضطرهم إلى التعاون الجماعي‬
‫على رفعي إلى األعلى وتخليص القيد الجامع من الحلقة المعقوفة في‬
‫علي أن استمر في أداء الدور‬
‫السقف‪ .‬كنت أواصل الحديث مع نفسي‪ّ ،‬‬
‫إلى النهاية‪.‬‬
‫شعور نرجسي بالتباهي‬
‫ٌ‬ ‫«أنت ممثل بامتياز»‪ .‬سرى في داخلي‬

‫‪57‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫واإلعجاب وكذلك بالفخر‪ .‬بدأت ألوم نفسي كثير ًا وأسلب منها شعور‬
‫االنتصار‪ ،‬وأقول لها لماذا لم تفعلي ذلك مبكر ًا‪.‬‬
‫حتى أنه وردت حينها في بالي خاطرة‪ ،‬عندما كنت أذهب إلى المسرح‪،‬‬
‫وكنت أذهب إلى هناك م��رار ًا لم أكن اختار الجلوس اّإل في مقاعد‬
‫الحضور‪ ،‬مع أنه ثبت اآلن إنه كان باإلمكان جد ًا أن اصعد على المنصة‬
‫إيه قد فاتتني هذه الفرصة‬‫وأحدق في النظارة ببرود واؤدي أفضل األدوار‪ٍ .‬‬
‫أيض ًا واكتشافي لمواهبي جاء متأخر ًا‪ .‬قلت لنفسي‪ ،‬ال تهتم كثير ًا لم يفتك‬
‫الشيء الكثير فالعالم كله مسرح كما يقول شكسبير‪.‬‬
‫أهبطت على األرض ثانية بعد التحليق الطويل‪ ،‬أمسك بي من كل ذراع‬
‫واحد من الجالدين‪ ،‬ويبدو إنهم قرروا إجراء اختبار سريع لكشف الكذب‬
‫لم يكن في حساباتي أبد ًا‪ ،‬لذا لم أكن مستعد ًا للتملص منه ّ‬
‫بأي حيلة أو‬
‫ذراعي وحرروني من قبضاتهم القوية التي كنت اتكأ‬
‫ّ‬ ‫وسيلة‪ .‬فجأة تركوا‬
‫غت بتصرفهم الذي لم يرد على خاطري ولكن ما صعقني أكثر من‬ ‫عليها‪ُ .‬ب ُّ‬
‫هذه المفاجأة‪ ،‬إني هويت إلى األرض مثل حجر يسقط من علو ولم استطع‬
‫النهوض وال حتى الجلوس‪.‬‬
‫«ما هذا؟ هل فع ً‬
‫ال قدماي عاجزتان أن تحمال جسدي النحيل؟»‪.‬‬
‫تكومت بال انتظام على البالط البارد عاري ًا امسحه بعرقي‪ ،‬وأالمسه‬
‫بالحروق وآثار أعقاب السكائر والكدمات والجروح الموزعة بعشوائية‬
‫في كل مكان من جسدي المتعب المنهك‪.‬‬
‫وأي هراء هذا الذي كنت‬
‫أية أكذوبة تلك التي كنت أحدث بها نفسي ّ‬

‫‪58‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫سأصدقه حينما ظننت إني نجم مسرحي‪ ،‬ذاك األداء التمثيلي الرائع لم يكن‬
‫اّإل وهم ًا جديد ًا وخياالً سخيف ًا‪ ،‬وسوف يتبين بعد قليل إن كذبتي على نفسي‬
‫أي أحد‪ ،‬علي أن أضع كل هذا الهراء‬ ‫كانت كبيرة جد ًا وأكبر مما يتصوره ّ‬
‫الفارغ في خانة مقفلة وانتزعه من تفكيري‪ .‬استبد بي الضحك سخرية بل‬
‫عصبية وعلت قهقهة في أرجائي وأنا أتأمل حالي وما صرت إليه‪ .‬انفضت‬
‫ال سحبها وأصبحت أجوف ًا فارغ ًا تمام ًا‬ ‫كل األفكار عني كأن مغناطيس ًا هائ ً‬
‫مثل قطعة من فضاء خارجي ال يسكنه اّإل أثير ال حقيقة له وال واقع‪.‬‬
‫رفعوني مثل كومة لحم من األرض وجرجروني في ممر قصير يقع إلى‬
‫جوار غرفة التعذيب (غرفة العمليات بحسب اصطالحهم)‪ .‬بدا لي حينها‬
‫إنه ممر طويل ال نهاية له‪ ،‬يسيرون بي فيه بسرعة لم تكن تناسب كومة اللحم‬
‫المتهالكة التي صرت إليها‪ .‬قفزت حينها في بالي خاطرة سخيفة فع ً‬
‫ال لكنها‬
‫ال تناقض ميلي الدائم للمزاح حتى في أعسر المواقف وأكثرها جدية‪.‬‬
‫كم هو مضحك منظري اآلن‪ ،‬وأنا أمشي عاري ًا ترى كيف سيكون رد‬
‫فعل زمالئي في الجامعة وباألخص الطالبات منهم لو رأينني هكذا؟ هل‬
‫هذا وقته لماذا ال تتوقف عن المزاح؟ ماذا بك هل جننت؟‪.‬‬
‫كنت أحدث نفسي بهكذا حوارات فوضوية ال رابط بينها وال نظام في‬
‫لحظات خاطفة أسرع من الضوء‪ ،‬لكن بصراحة كنت أضحك في داخلي لهذا‬
‫الحوار وبدا لي أنه شيء قريب لحد المالمسة من همس الجنون أو اكتشاف‬
‫متأخر لعبثية الحياة التي لم أعد أحفل بقيمتها في تلك اللحظة بالكامل‪ .‬حتى‬
‫إن االبتسامة غلبتني وأنا أحدث نفسي ولحسن الحظ لم ينتبهوا اليها‪ ،‬وحتى‬
‫لو انتبهوا لها لم يكن بإمكانهم تمييزها‪ ،‬ألن وجهي بل كياني كله بالتأكيد‬

‫‪59‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كان مريع ًا ال يساعد أحد على تصور وجود ابتسامة فوقه وكيف لها أن تعلو‬
‫علي‬
‫هذا الخراب العارم‪ .‬األمر األكيد إني أصبحت فوضى شاملة تتوارد َّ‬
‫في المشاعر وتمر فوقي الخواطر كأنها أمواج بحر هائج‪.‬‬
‫األفكار وتتضارب َّ‬
‫سارعت إليقاف خواطري أو لجمها قليالً‪ ،‬ألني كنت سأنفجر ضاحك ًا وكان‬
‫يمكن أن أضحك بهستيرية لو فلتت ضحكة واحدة مني‪ .‬أقولها مرة ثانية‬
‫اصبحت فوضى عارمة شاملة في المظهر والجوهر‪.‬‬
‫في هذه األثناء واصل اثنان من رجال األمن السير بي رواح ًا ومجيئ ًا‬
‫في الممر البارد‪ ،‬يرفعاني بين الحين واآلخر عن األرض حين أعجز‬
‫عن مجاراتهم في المشي‪ .‬كنت في تلك اللحظة قد قطعت عالقتي بكل‬
‫محتويات العالم وال أفكر اّإل بهذه النزهة اإلجبارية التي لم أفهم سرها وال‬
‫المغزى منها‪ .‬بدوت بينهم وهم يسيرون مسرعين مثل طفل صغير يلهو‬
‫مرح ًا برفع قدميه من على األرض حين يمسك والداه ذراعيه‪.‬‬
‫كنت أشعر أن الممر بارد جد ًا‪ ،‬كأنه مفروش بالصقيع مع أنه لم يكن‬
‫بارد ًا كما عرفته فيما بعد‪ .‬صارت برودته زمهرير ًا آلني كنت عاري ًا مجرد ًا‬
‫عرق تصبب مني بغزارة أثناء التعذيب‪،‬‬ ‫أي قطعة على االطالق غارق ًا في ٍ‬
‫من ّ‬
‫وأيض ًا آلني بلغت من الضعف منتهاه وخارت قواي لآلخر فصار كل شيء‬
‫بارد ًا عندي وإن لم يكن في واقعه ونفس أمره كذلك‪ ،‬وهكذا هو العالم‪،‬‬
‫ليس هناك من حقيقة واحدة فيه ثابتة‪ .‬كل األشياء فيه لها صور متعددة ال عد‬
‫لها وال حد‪ ،‬كل واحدة منها تناسب من يراها‪ ،‬صور بعدد أنفاس الخالئق‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪7‬‬
‫***‬
‫لم أعرف بالضبط لماذا كانوا يسيرون بي هكذا مسرعين في الممر‬
‫البارد ولفترة لم تكن قصيرة‪ ،‬هل كان جز ًء من عالج طبيعي إلعادة الوعي‬
‫خوف ًا من سقوطي في غيبوبة وتحفيز ًا للجسد المتهالك للعودة إلى وضعه‬
‫الطبيعي؟ ال أدري‪ ،‬ثم القوا بي إلى حائط أستند اليه وأنا معصوب العينين‬
‫مشلول اليدين تمام ًا ال أقدر حتى على تحريك اصبع واحد مع إنهما كانتا‬
‫أي خرقة‬ ‫طليقتين من القيود ألول مرة في تلك الليلة الدامية‪ .‬عاري ًا من ّ‬
‫مالبس تغطيني يحيط بي صمت بارد‪ ،‬بعد أن تالشت كل األصوات التي‬
‫كانت تتنافس على إصدار الصخب وإنزال العذاب‪ .‬ثم تناهى لسمعي بعد‬
‫برهة وقع أقدام تتقدم بخفة ولكن بسرعة ال تحدث صوت ًا اّإل بما يشبه‬
‫الهمس‪ ،‬جلس صاحبها أمامي مباشرة وأغلق فمي برقة وطلب مني أن ال‬
‫يدي المشلولتين‬‫أنبس ببنت شفة وهو يطبق سبابته على شفتي‪ .‬بدأ بتحريك ّ‬
‫يثنيهما بقوة أوجعتني جد ًا كدت أصرخ من شدة األلم‪ .‬وبدال من الصراخ‬
‫ٍ‬
‫بتأوه ضعيف احترام ًا لطلبه الرقيق مني‬ ‫أعلنت احتجاجي على هذا الوجع‬
‫بالصمت وأسكتني هذه المرة بحنان أكثر‪ .‬صدقه كان يشع علي وينفذ بال‬
‫حواجز إلى كياني وأنا ألمس رحمة تنساب منه مثل النسيم تنعش روحي‪،‬‬
‫وشفقة تفيض علي تسكن ألمي‪ ،‬قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم تتحمل هذا األلم اآلن فسوف تفقد قابلية تحريك ذراعيك لما‬
‫تبقى من عمرك‪ ،‬إني أفعل ذلك لصالحك‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫استسلمت له مصدق ًا ولم يكن باإلمكان أن ال أفعل ذلك‪ ،‬فقد جاء‬


‫متطوع ًا ليساعدني في تجاوز لحظة كانت ستغير وظيفة بعض أعضائي إلى‬
‫علي كيف إن‬‫األبد‪ .‬حينها الح لي حنا مينا في إحدى رواياته وهو يقص ّ‬
‫والده السكير الذي كان يظنه حنا مينا شر ًا محض ًا تحول إلى كتلة مشاعر‬
‫إنسانية صادقة تحمل حنا الطفل المريض‪ ،‬وهو يركض به حافي ًا في البيداء‬
‫هائم ًا على وجهه باكي ًا يبحث عن عالج يخلص ابنه الصغير من حمى‬
‫شديدة أصابته‪ .‬يقول حنا مينا معقب ًا على تلك الحادثة‪:‬‬
‫‪ -‬في كل إنسان بقعة مضيئة‪.‬‬
‫ِم ْث َل وحي ظهر لي حنا مينا في هذا الغار وقال لي‪ ،‬هذه هي البقعة‬
‫المضيئة التي حدثتك عنها‪ ،‬تشع عليك اآلن من هذا الرجل قبالك‪ .‬قم ّ‬
‫بشر‬
‫بها كل من آمن باإلنسان‪.‬‬
‫مع إني لم أر وجه هذا الرجل أبد ًا‪ ،‬ولم أستطع التعرف عليه بعدها رغم‬
‫بعض شكوك ساورتني في تشخيصه من صوته من بين أشخاص واجهتهم‬
‫الحق ًا من رجال األمن‪ ،‬اّإل إني لم استطع أن أحدده بدقة ويقين حتى اآلن‪.‬‬
‫لكن هذا الجميل لم أنسه يوم ًا ولن أنساه‪ .‬حادثة أكدت لي ما اؤمن به‬
‫دوم ًا‪ ،‬إنه حتى عدوك يمكن أن يكون صديقك‪ ،‬وفي كل إنسان هناك منفذ‬
‫للخير يمكن للنور أن ينفذ منه ويطرد الظالم كله ويمأل كل أرجاء النفس‬
‫بالخير ويمسح الشر كله‪.‬‬
‫يوم ًا ما سألتقى هذا الرجل‪ ،‬إما على هذه األرض‪ ،‬ربما بعد أن يقرأ‬
‫شهادتي هذه‪ .‬أو بعد أن نعبر حاجز الدنيا إلى عالم الحقيقة والتجرد من‬

‫‪62‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫األشياء‪ .‬وفي كل األحوال سوف أشكره كثير ًا وأكثر بكثير من كل الكلمات‬


‫التي سطرتها اآلن‪ .‬سوف أشهد له اآلن وبعدئذ إنه علمني‪ ،‬أن ما أحفظه من‬
‫قيم عليا كنت أقرأها في الكتب لم تكن كذبة أبد ًا‪ .‬علمني إن اإلنسان يمكن‬
‫له أن يكون إنسان ًا لو أراد ذلك‪ ،‬قد تكون هناك صعوبة في إنجاز األمر لكن‬
‫ال استحالة فيه أبد ًا‪ .‬علمني هذا الرجل أن أحب عدوي أو أن ال أبغضه على‬
‫األقل‪ ،‬وتيقنت إن الحب قيمة واقعية وليست مثالية كما يصورها الشعراء‪،‬‬
‫وال يحتاج أن يكون المرء نبي ًا أو قديس ًا ليفعل هذا‪ .‬كل ما عليه فعله أن يعود‬
‫لفطرته وسوف يرجع إنسان ًا ليس أكثر من هذا‪ .‬أصلي لصديقي المجهول‬
‫باستمرار وأرجو أن تكون هذه البقعة المضيئة التي سطعت أمامي يومئذ‪،‬‬
‫قد مألت روحه اآلن وطردت كل الظالم‪ .‬أتمنى له هذا له كما أتمناه لنفسي‬
‫وأمل أن أطرد كل ظالم في حشاشتي من كره وغل ألخي اإلنسان مهما‬
‫كان موقفه مني‪.‬‬
‫بعد استراحة الحائط هذه التي ال أذكر كم من الوقت قد أخذت‪ ،‬تشوش‬
‫أي شيء آخر‪،‬‬ ‫ذهني كثير ًا ولم أعد حينها بقادر على تخمين األوقات وال ّ‬
‫ال من قواي‪ ،‬عيناي‬ ‫أخذوني إلى الضابط المحقق‪ .‬كنت قد استعدت قلي ً‬
‫بدأت تتنفس بعض ًا من نور شاحب من خالل العصابة المتهدلة قلي ً‬
‫ال عنها‪،‬‬
‫ثم أزاحوها تمام ًا بأمر منه‪ ،‬ألتلقى مفاجأة جديدة أخرى‪ .‬ما الذي يحدث‬
‫بحق آلهة الغضب والجحيم؟ أين هو النور الذي ينعكس من األشياء كما‬
‫يقول علماء الفيزياء؟ ما له ال يصل إلى عيني‪ ،‬هل أصابه الكساح؟ أم هل‬
‫عيني تحتضران؟‪.‬‬‫مات الضوء وصار الكون رمادي ًا غائما؟ أم إن َّ‬
‫مشهد رمادي معتم بدأ يستحيل تدريجي ًا إلى أشباح بال معالم هنا‬

‫‪63‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وهناك‪ .‬وقفت وسط الغرفة كما خمنته‪ ،‬في الحقيقة لم أكن أعرف أين أقف‬
‫في هذا الكون كله‪ ،‬ضاعت كل االتجاهات مني وصرت بوصلة بال مؤشر‪.‬‬
‫بقيت واقف ًا لمدة ليست بالقصيرة ويقف إلى جنبي رجل أمن واحد على‬
‫األقل أستند إليه يمسكني من زندي لئال أقع‪ .‬لم أعرف وقتئذ كم كان عدد‬
‫الموجودين بالغرفة‪ ،‬كنت أسمع أصوات ًا ال أرى أصحابها وشوش عقلي‬
‫الخبر السيء الذي تلقيته للتو باني أضحيت ال أجيد النظر‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫لم أتمكن من حصر العدد وال حتى محاولة تخمينه آلني أصبحت في شغل‬
‫عن هذه األشياء‪.‬‬
‫قال الضابط موجها كالمه لي‪:‬‬
‫‪ -‬اجلس‪.‬‬
‫تلمست المكان ببصري المشوش ولمحت شيئ ًا ما يشبه مقعد ًا دائري ًا‪،‬‬
‫تقدمت ألجلس عليه وما أن وطأته إليتي حتى صرخت من سخونة المقعد‬
‫الذي لم يكن سوى مدفأة نفطية‪ .‬قفزت فزع ًا متوجع ًا وسباب من الضابط‬
‫المسؤول عن التحقيق ينهمر علي‪.‬‬
‫‪ -‬غبي‪ ،‬هل هناك أحد يجلس على مدفأة؟‪.‬‬
‫امتأل المكان برائحة ألم‪ ،‬غضب وسخرية وقليل من رائحة جلد بشري‬
‫لسعته نار‪ .‬واألهم من ذلك كله ولدت قناعة راسخة عند المحقق بأني‬
‫أي استجواب معي‪ ،‬وفع ً‬
‫ال انتهى‬ ‫اصبحت في وضع مثالي لعدم جدوى ّ‬
‫التحقيق رسمي ًا في تلك اللحظة‪ .‬وباشروا بإلقاء ما تبقى من مالبسي َّ‬
‫علي‪،‬‬
‫وقبل أن يدفعوني في حجرة المصعد وليس نزوالً على الساللم كما هي‬

‫‪64‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كل مرة في الطريق الطويل إلى الزنزانة االنفرادية‪ ،‬شعرت أكثر ببرودة‬
‫األرض وتذكرت حذائي‪ ،‬فطلبته‪ ،‬لم يعبأ أحد بسؤالي‪ ،‬طلبته ثانية وهذه‬
‫المرة بإلحاح استفز أحدهم فقال بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬عجيب أمرك! أنت تموت وما زلت تبحث عن حذائك؟‪.‬‬
‫الي بعد أن شعرت بنوع من األمان من‬ ‫عند تلك اللحظة رجع التحدي َّ‬
‫انتهاء حفلة الليلة‪ ،‬حاولت السخرية منهم كما سخروا مني بسؤالي هذا‪.‬‬
‫كنت مصر ًا على أن ال أعيش شعور الهزيمة وأظل متمسك ًا بيقيني بان الفجر‬
‫علي وعلى وطني‪.‬‬ ‫سيطلع يوم ًا ما‪ ،‬وسوف يطرد كل هذا الظالم المخيم َّ‬
‫ليال دامت على ما يزيد عن أربعة اسابيع بقليل يمكن لي أن الخصها‬ ‫ٍ‬
‫مصحوب بأل ٍم‬ ‫نفي قاطع لكل أنواع التهم التي وجهت لي‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫بعبارة واحدة‪ٌ ،‬‬
‫في‬‫رهيب‪ .‬وبدا لي إني في طريق االنتصار على تلك المعاناة‪ ،‬وسرى ّ‬
‫شعور من الزهو‪ .‬بدأت أنتظر ذاك اليوم الذي تفتح األبواب فيه مغاليقها‬ ‫ٌ‬
‫ألعانق الحرية من جديد‪ ،‬وأعود لما كنت عليه وأدلع بلساني اليهم ساخر ًا‪.‬‬
‫أول تباشير النصر جاءت حين أخلوني من الزنزانة االنفرادية في القبو إلى‬
‫زنزانة فوقية جماعية يدخلها نور من فتحة صغيرة‪.‬‬
‫التقيت في هذه الزنزانة ألول مرة بمعتقلين سياسيين من طلبة جامعيين‬
‫عرفت بعض ًا منهم‪ ،‬كنت أراهم في أروقة الجامعة وآخرين التقيتهم ألول‬
‫مرة‪ .‬التحقيق قد انتهى تقريبا اّإل من بعض الحاالت التي ال تقارن بما عشته‬
‫في الزنزانة االنفرادية وأصبحت أنام مسترخي ًا بعض الشيء لي ً‬
‫ال ال أنتظر فيه‬
‫زائر ًا يدعوني إلى حفلة تعذيب تنتهي عند بزوغ الفجر‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كنت حذر ًا كما يتطلب الموقف من شركاء الزنزانة ولم أرد على‬
‫أسئلتهم الفضولية عن تهمتي‪ ،‬بل نفيت أن تكون سياسية أصالً‪ .‬اخترعت‬
‫تهم ًة أخرى بعيدة كل البعد ألقطع االسئلة‪ ،‬وادعيت فيما بعد إني كنت‬
‫أعاكس فتيات لهن وضع خاص وجيء بي إلى المعتقل لتأديبي‪ .‬لكن جو‬
‫الزنزانة وشعوري باأللفة والثقة والتعاطف مع سكان الزنزانة وما ُخ ّيل‬
‫لي من انتهاء التحقيق حثني كل ذلك إلى أداء الدور الذي أهوى القيام به‬
‫دوم ًا بكل شغف‪ ،‬وهو الحديث في الممنوع من الكالم‪ .‬صرت أتحدث‬
‫معهم بكثير من األمور التي بالعادة من يخوض فيها ينتهي به المطاف إلى‬
‫السجن‪ ،‬لكن أليس نحن اآلن في سجن؟ فال ضير إذن من الكالم‪ .‬وصرت‬
‫في بعض األحيان أستعرض ثقافتي على بعض منهم ممن لم يخض في‬
‫هذا المضمار وتورط بالصدفة في هذا المأزق الذي نحن جميع ًا فيه‪ .‬بدأنا‬
‫نخوض النقاشات وكنت أسيرها أحيان ًا‪ ،‬أكمل معلومة ناقصة هنا وأصحح‬
‫أخرى هناك‪ ،‬تسرب اطمئنان إلى داخلي وصرت أستعد ألنسى هذا الشهر‬
‫االستثنائي وأرجع ثانية إلى دوري الذي اختطته لنفسي واشرع بالدعوة لما‬
‫اؤمن به ولو كان ذلك في زنزانة اآلن‪ ،‬وغد ًا سأفعل ذلك في كل أرجاء‬
‫ال بخبرة عظيمة في مواجهة الخصوم بعد هذه‬ ‫البلد وسوف أعود محم ً‬
‫التجربة المثيرة والمريرة‪.‬‬
‫كنّا نتكاثر رويد ًا رويد ًا في الزنزانة وأصبحنا نضايق الجدران بزحمة‬
‫أنفاسنا وأجسادنا‪ ،‬ومع ذلك لم يكن ذلك مدعاة لإلزعاج بالنسبة لنا‪ ،‬ولم‬
‫أسمع أحد ًا تأفف من ذلك‪ .‬تنوعنا المتعدد االتجاهات في االنحدارات‬
‫أي تنافر أو فرقة بيننا‬
‫الطبقية واالجتماعية والفكرية والعرقية لم يسبب ّ‬

‫‪66‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وحدتنا المحنة والهدف الواحد‪ ،‬كما هو حال كل الحالمين بالحرية‪،‬‬


‫الحلم المشترك يلغي كل الفروقات بينهم‪ .‬مرة أخرى أثبتت وقائع األمور‪،‬‬
‫إن اإلنسانية والحرية ليست حلم ًا أممي ًا وحسب‪ ،‬بل إنها الحقيقة الخالصة‬
‫التي تتجلى براقة حين تزال كل الشوائب‪ .‬كل دين أو فكر أو عرق يلغي‬
‫أممية اإلنسانية فهو كذبة وزيف مهما قيل عنه ومهما بلغ عدد المصدقين‬
‫به‪ ،‬وكثرة الكذابين ليس بمقدورها أن تجعل من الكذب حقيقة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪8‬‬
‫***‬
‫في ليلة من كل عام تضيع ساعة فيها بين توقيت صيفي وآخر شتوي‪،‬‬
‫جاء من يوقظني من أحالمي ويهد قوس النصر الذي كنت بنيته فوق‬
‫رأسي‪ .‬أزيحت ستارة كانت تغطي القضبان القصيرة في باب الزنزانة‪،‬‬
‫وإذا بأحدهم ينادي باسمي وصوت المفاتيح يصلصل في يد حارس آخر‬
‫يقف إلى جنبه‪ ،‬أصابتني الدهشة كما اآلخرين في الزنزانة إذ كان زائر ًا لم‬
‫يعهد أن جاء في مثل هذا الوقت المتأخر‪ .‬كل الموجودين في الزنزانة‬
‫حسم أمرهم وال يتوقع أحد منهم أن يستدعى للتحقيق من جديد‪ ،‬لذا لم‬
‫يفهم أحد سبب هذا االستدعاء في هذا الوقت المتأخر‪ ،‬الدهشة والوجوم‬
‫ارتسما على وجوه الكل‪ .‬صعدت ثانية إلى مسرح الجريمة ووقفت في‬
‫غرفة ما مقيد ًا من الخلف لكن مفتوح العينين وأطنان من سباب وشتائم‬
‫مر‬
‫علي من كل حدب وصوب‪ .‬ألف سؤال واستفهام َّ‬ ‫وتهديد ووعيد تلقى َّ‬
‫ثوان قليلة وظلت كلها تدور حائرة بال جواب‪ .‬ماذا حصل‬ ‫في رأسي في ٍ‬
‫ٌ‬
‫معتقل‬ ‫علي كل هذا الغضب من جديد؟ دخل‬ ‫وما الذي اكتشفوه لينهال ّ‬
‫معصوب العينين حافي القدمين يرتدي بيجاما صيفية‪ ،‬لم أتعرف عليه في‬
‫البدء الن منظره كان مبعثر ًا جد ًا‪ ،‬اّإل حين أزاحوا العصابة عن عينيه ليبدأ‬
‫المشهد المثير‪.‬‬
‫سأله شرطي أمن برتبة مفوض (م‪.‬س)‪.‬‬
‫‪ -‬من هذا؟‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪ -‬فالن بن فالن‪ ،‬ذكر اسمي كامالً‪.‬‬


‫‪ -‬وماذا تعرف عنه؟‪.‬‬
‫سرد كل ما يمكن له أن يلقيني في غيابة الجب العميق وأنا أنظر اليه‬
‫في ومن أمامي‪،‬‬ ‫في أصابه الجمود‪ ،‬تالشى كل شيء ّ‬ ‫فاغر ًا فمي وكل شيء ّ‬
‫واستحال أمري إلى خواء بل إلى عدم‪ .‬اختفى هذا المعتقل كما جاء بسرعة‬
‫خاطفة لكنه لم يغادر هذه الغرفة وحسب‪ ،‬بل خرج من كل حياتي وطويته‬
‫إلى األبد في خانة المهمالت‪.‬‬
‫بِ َم سأحدثك اآلن يا صاحبي؟ هل أقول لك إن جرح الخيانة ال يمكن‬
‫له أن يندمل ولو جئته بكل عقاقير األرض والسماء؟ لن تنفع يا صاحبي مع‬
‫الخيانة القرابين والنذور التي سوف تقدمها لآللهة‪ ،‬ومهما زين لك رضاها‬
‫انتهكت من‬
‫َ‬ ‫فلن أرضى واألمر يعنيني أنا وحدي وال يعنيها‪ ،‬اّإل بمقدار ما‬
‫وخرقت موثقا كانت السماء شاهدة عليه‪ .‬هل أقول لك‬ ‫َ‬ ‫وخنت عهد ًا‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫سر‬
‫إن الخيانة ذنب غير قابل للتكرار ألن صاحبه به يموت ولن يقوم بعدها أبد ًا‬
‫ولو لمسه يسوع الناصري بكل سلطانه‪ .‬ألم يقل لك أحدٌ من قبل إن عشبة‬
‫اتونابشتم الحكيم وسر الخلود فيها ال تمنح الحياة ألحد‪ ،‬اّإل لألفاعي؟ ألم‬
‫يقولوا لك إن بناء أوروك وحده هو الذي يمنح البشر الخلود؟ لماذا معولك‬
‫يهدم أوروك يا صديقي؟ هل تفعل كل ذلك حقا ألجل عشبة ستفقدها في‬
‫أول استراحة وتسرق منك مع أول إغماضه جفن وغفلة عين؟ كم أشفق‬
‫عليك! لن أحقد عليك أبد ًا وال أحاول أن أكرهك ولو للحظة واحدة‪ ،‬فتلك‬
‫مشاعر تليق باألنداد‪ ،‬أما أنت فقد حزمت حقائبك ورحلت عنهم اليوم إلى‬
‫أرض ال إياب منها أبد ًا‪ .‬الذي كان يجمعنا انفرط‪ ،‬وطرف الحبل الذي ما‬

‫‪69‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يزال معقود ًا في فؤادي يمده بالدم أنت فككته‪ ،‬كيف أوهمت نفسك أم‬
‫أوهمك آخرون أن الفؤاد يمكنه العيش بال دماء؟‪.‬‬
‫قد مات قلبك يا عزيزي ومن مات قلبه ما عاد إنسان ًا وإن ّ‬
‫عمر ألف‬
‫سنة أو يزيد‪ .‬وداع ًا يا من كنت صاحبي لن يصل إليك صوتي ولن تحمل‬
‫أي شيء‪ ،‬تهاوت كل‬ ‫الكلمات أ ّي ًا من مشاعري إليك‪ ،‬ال حب ًا وال بغض ًا وال ّ‬
‫القناطر والجسور بينا وصرنا على ضفتين متباعدتين ما بينهما هوة سحيقة‬
‫بحجم ال نهائية الكون المتباعد والمتوسع في كل حين‪.‬‬
‫بعد أن خرج صاحبي الذي أدلى باعتراف كشف فيه المستور وأزاح‬
‫الي مفوض األمن وقال بنبرة تهديد مرعبة‪.‬‬
‫الحجاب عن المخبوء‪ ،‬التفت ّ‬
‫‪ -‬اآلن ماذا تقول؟‪.‬‬
‫جمدت الدماء في عروقي من هول المفاجأة وحجم الخيانة التي لم‬
‫أجد لها مبرر ًا حتى اليوم‪ ،‬فكل شيء كان باإلمكان تجنبه‪ ،‬بل أص ً‬
‫ال لم يكن‬
‫هناك شيء موجود حتى يتجنبه‪ .‬تطوع مجان ًا إللحاق الهزيمة وهكذا تخسر‬
‫المعارك‪ ،‬عندما يمأل الرعب قلوب ًا خاوية تشم الوحوش رعب ضحاياها‬
‫وتنقض عليها تنهش لحمها وعظمها وتتركها جيفة في العراء‪.‬‬
‫حفالت التعذيب التي راقصت فيها بمهارة كل براعة الجالدين انتهت‬
‫اآلن بجلسة صغيرة‪ ،‬وأضحيت عاجز ًا حتى عن مراوغة سلحفاة ميتة‪.‬‬
‫خارت قواي دون أن يمسني أحد‪ ،‬مادت بي األرض ولم تعد قدماي‬
‫تحمالني وهن الالتي حملني وأنا معلق في الفضاء‪ .‬بلغ بي الوهن مداه‬
‫ال منكسر ًا‪ ،‬وألول مرة سألت جالدي‬
‫والضعف غايته فانحنيت خاضع ًا ذلي ً‬

‫‪70‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫جف حلقي وتيبست حنجرتي‪ .‬اختنق صوتي ولم يسمح لي‬


‫شربة ماء بعد أن ّ‬
‫حتى برشفة ماء واحدة‪ ،‬فقدت توازني بالكامل‪ ،‬ولم أعد أسيطر على عقلي‪.‬‬
‫طلبت منه هذه المرة أن يسمح لي بالجلوس فأبى مستنكر ًا ذلك علي‪ .‬عرف‬
‫إنها فرصته المثالية لتوجيه الضربة القاضية فاستغلها حتى الثمالة‪.‬‬
‫‪ -‬أعترف انك منهم وسوف أعطيك ما تريد اّ‬
‫وإل‪( ..‬كلمات نابية)‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬عملت معهم‪.‬‬
‫ال بذاتي بال حاجة لمن يذلني‪،‬‬ ‫بالغ في إذاللي وأنا أضحيت ذلي ً‬
‫أصبحت خاوي ًا تمام ًا من األفكار والمشاعر‪ ،‬وصار القبر أحلى أمنية لي‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬ليت األرض تفعل ذلك فتبتلعني أو السماء تستعجل‬
‫أمري‪ .‬ما الحياة اّإل الحرية والعزة وخال ذلك موت‪ ،‬واليوم تجردت‬
‫منهما‪ .‬تلك اللحظة التي ال يمكن لي نسيانها‪ ،‬ألنها كانت أشد اللحظات‬
‫علي وأكثرها إيالم ًا في كل سنوات السجن العشر‪ .‬كنت أرى نفسي‬ ‫وقع ًا َّ‬
‫قبل سويعات مثل أخيل ال تنال منه السيوف وال الرماح واآلن سهم واحد‬
‫يقتلني وهكتور الذي صرعته بصمودي يضحك ساخر ًا مني‪ ،‬فقد بان كعبي‬
‫ونال سهم باريس المبتغى‪ .‬ها قد نفذ السم فما عادت تحملني قدماي‪،‬‬
‫طلبت ما ًء أروي به عطش ًا ال يروى فأعطوني قلم ًا وورقة تقيأت عليها‬
‫امضا ًء مرتبك ًا يمحو نفي ًا وإصرار ًا عمره خمسة اسابيع‪.‬‬
‫كتب المفوض كلمات لم اقرأها وطلب مني التوقيع‪ ،‬ال أدري ماذا كتب‬
‫ولم أكن بحاجة لذلك ألنها كيفما كانت فهي لن تكون سوى صك إعدام‬
‫مؤكد‪ .‬فكيف لك أن تبقى على سطح األرض وأنت تعترف إنك في خلية‬

‫‪71‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حزب معارض في بلد ال يؤمن حكامه اّإل بحزب واحد وفكر واحد وقائد‬
‫واحد؟ وما خال ذلك فهو حثالة ال يؤمن بها اّإل متآمر أو خائن‪.‬‬
‫دخلت على أصحابي متالشي ًا‪ ،‬لكن أيض ًا على وجهي ضحكة تشبه‬
‫ضحك أبله مجنون‪ .‬وقف أمامي واحد من الذين كان يشاركونني الزنزانة‬
‫وبعد أن استفهم عما جرى وفهم الذي حصل سألني باستغراب وحيرة‪.‬‬
‫‪ -‬كيف تضحك وقد أعطيتهم صك اإلعدام؟‪.‬‬
‫لم يفهم ضحكتي الحنظل وشعرت باألسى مرتين‪ ،‬مرة عليه ألنه كان‬
‫ضحية ال ناقة له وال جمل فيما أنا وصحبي فيه‪ ،‬ومن العسير جد ًا علي‬
‫أن أعطيه درس ًا عن الشعور بالهزيمة التي تحل بثائر رومانسي حالم في‬
‫لحظة نشوة بخمرة االنتصار‪ ،‬ومرة أخرى على نفسي فكيف سوف أزدرد‬
‫كل هذا الحنظل وحدي؟ إن مرارته أقسى من كل ما قرأت وسمعت وحتى‬
‫أكثر مرارة من لحظة فراق الروح للجسد والعبور إلى ضفة المجهول على‬
‫كل ما يتحدثون عن مرارتها ويقولون‪ .‬لعل الموت كان شهد ًا لو قورن بما‬
‫حصل لي للتو‪.‬‬
‫كانت ساعة غريبة بكل ما فيها حصل كل هذا في ساعة تغيير الوقت‬
‫الصيفي إلى شتوي‪ ،‬كنت أسمع ذلك من صوت تلفاز قريب‪ .‬ما كان له أن‬
‫يحصل في زمن حقيقي‪ ،‬البد أن يقع في نقطة خارج الزمن حيث الالشيء‬
‫وكأن التاريخ يقول إنك ال تصلحين ان يكون لك مكان في خط الزمن‪،‬‬
‫أنت لحظة تائهة ال تنتمي لتاريخ اإلنسان وال يحق لها أن تتكرر من جديد‬
‫وال يجوز‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪9‬‬
‫***‬
‫اآلن بدأت مرحلة انتظار النهاية‪ ،‬وال يدرى متى تأتي الساعة بغتة‪،‬‬
‫تملكني رعب هائل من النهاية المتوقعة‪ .‬ابان األيام األولى العتقالي‬
‫استيقظت يوم ًا على رؤيا أشكو فيها ألحدى شقيقاتي وهي تودعني‬
‫علي بالسجن المؤبد عشرين عام ًا‪ .‬اآلن يبدو ان الرؤيا‬ ‫بحزن وقد حكم َّ‬
‫أصبحت حقيقة واقعة‪ ،‬بل إن األمور عادت توحي بأكثر من تلك الرؤيا‬
‫التي استرجعتها في تلك اللحظة‪ ،‬كانت هاجس ًا فأصبحت نقش ًا محفور ًا في‬
‫الذاكرة ال تنفك عنها وال أستطيع التخلص من ذكراها‪ .‬المؤشرات جميع ًا‬
‫تتجه نحو نهاية واحدة‪ ،‬اإلعدام شنق ًا‪ ،‬وعزز ذلك الشعور المتعاظم حادث‬
‫صغير حصل في أحد األيام عند بداية حلول فصل الشتاء‪ .‬ففي أحد األيام‬
‫مخزن في البناية نفسها ليعطونا قطعة شتوية (بلوز)‪ ،‬بعد أن‬ ‫ٍ‬ ‫اقتادونا إلى‬
‫تهرأت جميع مالبسنا تقريبا وهي ثياب صيفية باألصل كنّا نرتديها ساعة‬
‫اعتقالنا شديدة القيظ‪ ،‬ولم تعد اآلن قادر ًة على مقاومة برد الشتاء‪ ،‬حتى إن‬
‫البعض كان يرتدي مالبس نوم واقتيد من حجرة نومه بها‪ .‬لم يكن رجال‬
‫أي قطعة اضافية أو تغيير ما‬ ‫األمن يسمحون الحد أثناء االعتقال بارتداء ّ‬
‫أي‬ ‫زي كان عليه وال يراعون ّ‬‫وبأي ّ‬
‫يرتديه‪ ،‬يأخذون من يريدوه بما هو عليه ّ‬
‫وضع هو فيه‪.‬‬
‫أحد المعتقلين ممن كان معنا في الزنزانة كان نائم ًا مثل عادة العوائل‬
‫العراقية آنذاك في موسم الصيف على سطح الدار‪ ،‬وداهم رجال األمن الدار‬
‫ال وصعدوا إلى السطح يصوبون أسلحتهم اليه وهو في فراشه سحبوه منه‬ ‫لي ً‬
‫‪73‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بمالبس نوم خفيفة جد ًا أقرب ما تكون لمالبس داخلية‪ ،‬وهكذا كان حال‬
‫المعتقلين اآلخرين وهم يرتدون ثياب راحة وما شابه ذلك‪ .‬المهم أثناء‬
‫تسلمنا لتلك البلوزات قال ضابط أسمر قبيح متجهم الوجه عابس الهيئة‬
‫ذو خلق سيء فوق العادة (ح‪.‬ب‪:).‬‬
‫‪ -‬اعطهم بلوزات سود حتى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون‪.‬‬
‫األمر صار واضح ًا جد ًا وما علينا اذن اآلن‪ ،‬اّإل أن نتسلى بما تبقى لنا‬
‫من أيام في هذه الدنيا وبات حالنا مثل نبتة تذوي في نسيان تام‪ .‬هنا علي‬
‫أن أعترف بأن شعور ًا جارف ًا من اليأس تملكني في هذه المرحلة وأصبحت‬
‫عبثي ًا في تفكيري وأحاسيسي الداخلية‪ ،‬رحت اتساءل عن جدوى العقل‬
‫في مدفن كهذا الذي نحن فيه‪ .‬كنت ألوم نفسي بشدة متناهية‪ ،‬أحس بالعار‬
‫يلبسني ويشي بكل سوءاتي وال يفتأ سؤال يقرعني ليل نهار‪ ،‬لماذا لم‬
‫أقاوم وأرفض االعتراف حتى مع حصول الخيانة؟ ماذا كان سيحصل لو‬
‫قاومت هل كنت سأموت تحت التعذيب؟ كما مات زميلي الطالب في‬
‫كلية الهندسة الكهربائية الذي شاركنا المعتقل اّإل إني لم أره فيه‪ .‬وسمعت‬
‫عن موته تحت التعذيب من آخرين‪.‬‬
‫كان قد سبقني إلى الزنزانات الفردية وروى لي أحدهم آخر أيامه‪ ،‬أنه رآه‬
‫أثناء التحقيق وهو على األرض يرتدي دشداشة‪ ،‬عاجز ًا تمام ًا عن الحركة‬
‫والقي على األرض بإهمال لتتكشف عورته بعد تهرء ما كان‬ ‫َّ‬ ‫ُش َل ْت ذراعاه‬
‫عروه من‬ ‫يكتسي به وتمزقها جراء التعذيب المتواصل‪ .‬كان رجال األمن قد ّ‬
‫مالبسه الداخلية كما فعلوا بنا جميع ًا‪ .‬يقول الشاهد‪ ،‬انه رآه ضعيف ًا منهك ًا ال‬
‫واه خافت ضعيف كأنه همس مبحوح‪ ،‬وطلب‬ ‫يقوى على الكالم اّإل بصوت ٍ‬

‫‪74‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫منه أن يعدل له وضع دشداشته كي يستر نفسه ألنه عجز عن فعل ذلك‪.‬‬
‫في صباح يوم عندما كان الحرس يوزعون شوربة الصباح طلبوا منه‬
‫النهوض الستالمها لم يرد‪ ،‬صاحوا به عدة مرات وال يرجع لهم سوى‬
‫صدى صراخهم‪ .‬اضطروا لفتح باب الزنزانة االنفرادية‪ ،‬ليجدوه جثة‬
‫هامدة‪ ،‬سحبوه في بطانية وأخذوه إلى مكان مجهول‪ .‬لم يعثر أحد على‬
‫جثته وال رفاته إلى هذا اليوم‪ ،‬مثله مثل عشرات اآلالف من أمثاله‪ ،‬ولم‬
‫يكن تغييب جثث القتلى والمعدومين حالة استثنائية بل إجراء نمطي تقوم‬
‫به السلطة‪ ،‬أعرف كثير ًا ممن مات في السجن أو أعدم ولم تسلم جثته‪.‬‬
‫سألنا عنهم عوائلهم الحق ًا عقب خروجنا من السجن أو بعد سقوط النظام‬
‫الفاشي كانوا يجهلون كل شيء وال يعرفون مصير أبنائهم المغيبين‪.‬‬
‫وم َم خفت؟‬‫كنت أقرع نفسي لماذا لم تصمد وتقاوم؟ ما الذي دهاك‪ِ ،‬‬
‫وماذا ستكون النتيجة‪ ،‬أليس الموت في اسوأ احتماالتها؟ اآلن سوف‬
‫أي موت؟ الموت محبط ًا كمن يجلس في ساعة رمل‬ ‫تموت أيض ًا‪ ،‬ولكن ّ‬
‫محبوس ًا في زجاجة يعجزه الخروج من عنقها الضيق ويستمر تساقط ذرات‬
‫أي مقاومة‪ .‬كنت سأبلغ مرتعي المظلم نفسه‬ ‫الرمل عليه ليدفن تحته بال ّ‬
‫في المقبرة لكن في خلو من هذا الشعور المزري‪ ،‬وربما كنت سوف أرد‬
‫بإحساس من البطولة والتحدي وأترك المرارة في نفوس الجناة‬ ‫ٍ‬ ‫نهايتي‬
‫وليس كما الحال اآلن‪ ،‬فهم الذين انتصروا وأنا الذي أشعر بالخيبة ومرارة‬
‫مواقع كان لنا أن نتبادلها لو واصلت الصمود؟ الشجاع يموت مرة‬
‫ٌ‬ ‫الهزيمة‪.‬‬
‫والجبان في كل يوم مرة‪ ،‬ال بل ألف مرة‪.‬‬
‫وعلى عكس طبعي السابق المتفائل المحب للحياة واألشياء الجميلة‬

‫‪75‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫التي أتابعها من أدب وموسيقى ورياضة‪ ،‬واهتمامي بها يصل حد الهوس‬


‫أتخل عنه حتى اليوم‪ ،‬صرت في تلك األيام شخص ًا‬ ‫أحيان ًا‪ ،‬وهو طبع لم َ‬
‫محبط ًا يائس ًا من الحياة وصار العيش فيها بنظري عبث ًا ال طائل منه‪ ،‬وان هي‬
‫هواء أتنفسه وبعدها سوف أتوارى في الغور العميق‬ ‫ٍ‬ ‫اّإل جرعات قليلة من‬
‫حيث أرض ال إياب منها وال رجوع‪.‬‬
‫مع كل هذا الضعف والمقت الشديد لذاتي حينئذ‪ ،‬غير إني رمقت‬
‫السماء في ديجور أحدى الليالي من دجنة زنزانة انفرادية تحت األرض‬
‫بقلبي‪ ،‬إذ لم يكن هناك من سبيل حقيقي لرؤيتها‪ ،‬واطلقت أمنية مخلصة‪،‬‬
‫أمنية خرجت من قرارة نفسي من أعمق ما فيها‪.‬‬
‫بأي الحلول اّإل هجر هذه الدنيا‬
‫«ال أريد أن اغادر الحياة اآلن‪ ،‬سأقنع ّ‬
‫عبر المقصلة»‪.‬‬
‫أكملت حديثي مع من كانت تخاطبه روحي‪.‬‬
‫«إن حصل ذلك سوف أستبدل ذاتي المهزومة المأزومة بأخرى تستعيد‬
‫البصر حتى في كل هذا الظالم الدامس وأحيله نور ًا ساطع ًا»‪.‬‬
‫ال أدري لماذا حدثت نفسي هكذا‪ ،‬وال كيف اتخذت هذا القرار‪ .‬كان‬
‫طلب ًا مخلص ًا وقرار ًا صادقا أتى من منطقة لم أتعامل معها من قبل وأجهل‬
‫انتمائها‪ ،‬هل كانت من الوعي أو من الالوعي؟ ال أدري‪ ،‬مع ذلك يبدو‬
‫إن القدر صنع قراره وفق ًا لهذه اللحظة‪ ،‬ورأى من غير المناسب أن اشد‬
‫الرحيل إلى العالم اآلخر حينها‪ .‬لعله رأى أنه ما زالت تعوزني أشياء كثيرة‬
‫ولربما وجد القدر أيض ًا‪ ،‬إني ال أصلح اّإل أن أكون شاهد ًا على الجريمة‬

‫‪76‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫فقط‪ ،‬ألني ال أحسن فعل شيء اّإل قص الحكايا وحسب‪ .‬أما الرحيل مع‬
‫األنقياء الذين يكتبون التاريخ ويروون شجرة الحياة بدمائهم‪ ،‬فهذا ثوب‬
‫قد ال أستحقه مثلهم‪ .‬ومهما كان السبب سواء ما ذكرت أو غيره فالنتيجة‬
‫التي وقعت‪ ،‬إن أمنيتي الصوفية قد تحققت وبقيت إلى هذا اليوم ألروي‬
‫حكايتي التي لم ِ‬
‫تنته بعد كل فصولها‪.‬‬
‫اذن‪ ،‬صار علي اآلن أن أنتظر مع اآلخرين موعد المحاكمة التي تقرر‬
‫مصيرنا‪ ،‬في زنزانة لم تكن تزيد على اثني عشر متر مربع‪ .‬عددنا في أقل‬
‫األحوال ثالثة عشر شخص ًا ونزيد عن ذلك أحيان ًا‪ ،‬يأتي البعض ويروح‬
‫لكن نحن كنا سكان ًا دائمين قد إستوطنّا الزنزانة وألفناها جيد ًا وحفظنا‬
‫كل أركانها وزواياها‪ .‬باب حديدي ثلثه العلوي قضبان حديدية تغطيها‬
‫ٍ‬
‫بشكل دائم من الخارج ال يرفعها اّإل رجل أمن ساعة يريد‬ ‫ستارة من قماش‬
‫الحديث معنا‪.‬‬
‫في الغرفة شباكان أحدهما شباك طويل وضيق جد ًا لعل عرضه نصف‬
‫قدم تقريب ًا‪ ،‬وآخر على شكل مربع صغير جد ًا ال يتجاوز ثالث ارباع القدم‬
‫بمقدار ٍ‬
‫كاف بالنسبة‬ ‫ٍ‬ ‫المربع‪ ،‬لكنهما كانا جيدين لمرور الهواء والشمس‬
‫لمعتقل كالذي نحن فيه‪ .‬األرض إسمنتية خشنة والجدران صفراء ال تسر‬
‫الناظرين‪ ،‬والحقيقة إني لم أفهم أبد ًا كيف أن األصفر لون يسر الناظرين‬
‫سواء كان فاقع ًا أو باهت ًا‪ ،‬حتى قبل أن أرى هذه الجدران‪ .‬كنت ال أستسيغ‬
‫اللون االصفر بخالف األزرق أو الرمادي اللذان كانا يشكالن لونان رئيسيان‬
‫في أغلب ما ارتديه‪ .‬بعد أن رأيت هذه الجدر الصفراء القبيحة ازدادت ثقتي‬
‫بذائقتي في األلوان ونأى أكثر وأكثر عني هذا اللون البشع الذميم‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أثاث الغرفة كان بطانيتين خضراوتين رقيقتين لكنهما واسعتين‪ ،‬تكفي‬


‫كل واحدة منهما لنفرين ُف ِر َشتا على األرض وثالث مثلها كانت تستعمل‬
‫كغطاء‪ ،‬يدخل تحت كل واحدة منها أربع إلى خمسة أنفار اعتمادا على‬
‫العدد الموجود‪ .‬أما الوسائد كانت تتراوح ما بين نعل أو حذاء لم يصادر‪،‬‬
‫أو أشياء أخرى لها ارتفاع ال بأس به يصلح أن يكون متكئ ًا للرؤوس‪ .‬عند‬
‫الباب وضع جردل ماء يطفو دائم ًا على سطحه قدح لبن فارغ ليكون بمثابة‬
‫الكأس الذي به نغرف ونشرب‪ ،‬ولحسن الحظ كان اللبن يصلنا بصورة‬
‫دورية فكان خزيننا من هذه الكؤوس جيد ًا وتوفره مضمون ًا بصورة مريحة‪.‬‬
‫في حاالت طارئة جد ًا استعمل هذا الجردل كمبولة حين كانت تطول‬
‫أي حال لم‬‫الفترة كثير ًا بين فرصة وأخرى لمراجعة دورة المياه‪ ،‬وعلى ّ‬
‫يحدث األمر كثير ًا‪ ،‬ولم يعترض أحدٌ من المعتقلين في الزنزانة على هذا‬
‫االنتفاع المقزز من الجردل‪ ،‬إدراك ًا من الجميع إن الحلول البديلة األخرى‬
‫غير متوفرة وإن التذمر ال ينفع في كل األحوال‪ .‬التذمر والشكوى لم يكونا‬
‫أي ازمة على طوال التاريخ ولن يكونا كذلك اليوم‪ .‬لذا األمور‬ ‫مخرج ًا من ّ‬
‫كانت تعتبر جيدة وربما مثالية قياس ًا لغيرنا ممن كان يعيش في زنزانات‬
‫أخرى وفي معتقالت بالغة السوء‪ .‬قد تشمئز النفس من هذا الوصف‬
‫للزنزانة ولها كل الحق في ذلك كما أن لنا الحق كله في أن نعتبر هذا الوضع‬
‫الغريب ظرف ًا مثالي ًا‪ .‬األمور نسبية وليس هناك من مطلق وكل يرى األشياء‬
‫بهيئة تناسب موقعه‪ ،‬ال توجد حقيقة واحدة وال صورة ثابتة وال وصف‬
‫ألي شيء في الوجود إن كان ذات ًا أو معنى‪.‬‬
‫مطلق ّ‬
‫كنا نحظى بثالث فرص للخروج من الزنزانة‪ ،‬لقضاء حاجتنا بعد كل‬

‫‪78‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وجبة طعام لكن هذا كان سبب ًا لإلزعاج المستمر‪ ،‬ألن مع كل وجبة من‬
‫المحتمل جد ًا أن ننال حصتنا من الهراوة‪ ،‬وفي الحقيقة هو كيبل كهربائي‬
‫صلب وليس هراوة لكن نسميها هكذا مراعاة لما يظنه الناس عنها أو‬
‫ما يسمونه باللهجة العراقية "صوندة"‪ .‬وفي الحقيقة إني لم َأر صوندة‬
‫أي من المعتقالت التي زرتها‪ ،‬بل كانت دائم ًا إما‬
‫تستعمل للتعذيب في ّ‬
‫ال كهربائي ًا أو مواسير معدنية وفي حاالت خاصة كانوا يستخدمون‬ ‫كيب ً‬
‫"حديد زاوية" كما يسميه العراقيون وهو الحديد المستخدم عادة في‬
‫صنع األبواب والشبابيك‪.‬‬
‫ربما كان األمر حتى أكثر من ضربة واحدة هذا بخالف السباب والشتم‬
‫والزعيق والصراخ غير المبرر‪ ،‬ومنغصات أخرى بعضها يأتي بال أوامر من‬
‫ٍ‬
‫حارس أمني قد يكون منع من التمتع بإجازته‬ ‫مرؤوسيهم‪ ،‬بل هو مجرد مزاج‬
‫العادية فيصب تعكر مزاجه وتكدر نفسه علينا بأنواع اإلهانة واإلذالل‪.‬‬
‫ال جديد ًا نشكل فيه عالم ًا آخر ًا جديد ًا خاص ًا بنا‪ ،‬نصنعه بطريقة‬
‫بدأنا فص ً‬
‫بدائية لكنها كانت تحكي قصة إنسان يحاول أن يباعد جدران ًا متدانية‪ ،‬وإن‬
‫ال معه ٍ‬
‫ليال طويلة في‬ ‫استمرت بالوقوف في محلها‪ .‬امتد إلينا الشتاء حام ً‬
‫وقت كنا نعجز فيه عن العبور بين ضفتي النهار بال ملل‪.‬‬
‫كيف لنا أن نغتال كل هذا الزمن الثقيل؟ ال كتاب نقرأه وال مذياع‬
‫نسمعه وال تلفاز نشاهده‪ ،‬كلها اضحت محظورات بل من المستحيالت‪.‬‬
‫هذه األشياء تقع هناك بعيد ًا في ذاك العالم العجيب حيث الضوء والحرية‬
‫واأللوان‪ ،‬عالم صار حلم ًا‪ ،‬خياالً وأوهام ًا‪ .‬واظبنا لبرهة من الزمن على‬
‫ازدراد ما حصل لنا في التحقيق وظروفه في أحاديث طويلة عريضة بتكرار‬

‫‪79‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ضجر وسأ ٌم منها‪ ،‬وصرنا نمقت‬ ‫ٌ‬ ‫كنا ال نخفي تأففنا منه‪ ،‬لذلك بدأ يتسرب‬
‫هذه القصص ألنها أحاديث غير ذات بال وال أهمية لها‪ ،‬ال نجني منها شيئ ًا‬
‫سوى تكريس الهم الذي نحن نتوفر على ٍ‬
‫قدر ٍ‬
‫كبير جد ًا منه‪ .‬إلى أن ُقدحت‬
‫شرارة فكرة للتسلية‪ ،‬فكرة كانت جيدة وجديدة‪ ،‬ال أعرف برأس َم ْن لمعت‬
‫وال كيف ُقدحت في ذهنه او من أين اقتبسها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شيء ما من بقايا الخبز يكون لنا تصبير ًا وتلهي ًة‬ ‫لم ال نحاول صنع‬
‫ولربما أيض ًا يواسينا؟ على الفور ازداد اكتراثنا بلب الصمون وغدا محط‬
‫أي من وجباتنا الثالث‪،‬‬‫اهتمامنا وبتنا نولي له عناي ًة فائق ًة حينما نتناول ّ‬
‫حرص حتى ال يضيع منه شيء ثم نرجعه عجين ًا‪ ،‬ومن بعد‬ ‫ٍ‬ ‫كنّا نعزله في‬
‫ذلك نعيد تشكيل هيئته بصنع خرزات نحاول أن تكون كروية الشكل قدر‬
‫اإلمكان‪ ،‬ومن ثم نتركها في مكان آمن بعيد ًا عن قدم تطأها بالخطأ‪ ،‬وفي‬
‫العادة كانت حافة الشباك الرفيعة الموضع المفضل لحفظها بعيد ًا عن هذا‬
‫الدهس غير المتعمد‪ .‬نتركها تجف هناك ألنه المكان الوحيد الذي يمكن‬
‫لها أن تتعرض فيه ألشعة الشمس في الزنزانة‪ ،‬ثم ننظمها بعد ذلك في‬
‫خيط نستل ُه من البطانيات الخضراوات التي نفترشها‪ ،‬وبذلك ننتهي من‬ ‫ٍ‬
‫صنع مسبحة عجينية‪ .‬اّإل إنه وبصراحة لم يكن أحد يستخدم هذه المسبحة‬
‫ألغراض دينية أو ترفيهية اّإل القليل وفي أوقات نادرة‪ ،‬آلنها كانت صناعة‬
‫رديئة سريعة التلف وبالرغم من ذلك فإنها كانت مفيدة وتمثل انعطافا‬
‫وتحوالً مهم ًا في حياتنا‪ .‬ألن صنعها كان يبتلع الزمن بشراهة وهو أمر رائع‬
‫كنّا نبحث عنه ووجدنا ضالتنا فيه‪ .‬تقضية الوقت في الالشيء كان يشكل‬
‫عامل ضجر مزعج لنا‪ ،‬وظهور شيء يبدد هذا الملل البد أن يكون موضع‬

‫‪80‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ترحيب حقيقي من الجميع‪ .‬كما تطلب صنعها منّا أيض ًا للصبر‪ ،‬كان يولد‬
‫فينا صبر ًا عجيب ًا في وقت نحن بأمس الحاجة لمزيد من الصبر‪ٌ ،‬‬
‫صبر يقوينا‬
‫على ما نحن فيه‪.‬‬
‫انهماكنا في إنتاج شيء ما خلق فينا إحساس ًا رائع ًا بأننا ال زلنا على قيد‬
‫الحياة‪ ،‬ولم نزل نملك القدرة على اإلبداع واإلنتاج والخلق‪ .‬قد يكون‬
‫المنتج أمر ًا تافه ًا ليس بذي قيمة لكن مع مالحظة الظرف الذي نعيشه‪،‬‬
‫لمعتقل جهد جالدوه على‬ ‫ٍ‬ ‫كانت عملية إنتاجه وإبداعه أمر ًا حيوي ًا بالنسبة‬
‫رغبة عنده في الحياة‪ .‬قد ال يدرك أهمية ذلك اّإل‬ ‫ٍ‬ ‫تحطيمه نفسي ًا ونزع كل‬
‫من عاش االعتقال في هذه الظروف المزرية‪ .‬إن محاولة تجاوز المحنة‬
‫بالتأقلم معها يشكل منعطف ًا نفسي ًا استراتيجي ًا مهم ًا‪ ،‬بدالً من العيش في‬
‫الواقع المر واالستسالم له والخضوع لظله الثقيل‪ ،‬وهو حال يؤدي حتم ًا‬
‫إلى الكآبة التي تعد انتحار ًا مؤجال‪ .‬تجاوز ذلك والتعامل مع المحنة كأنها‬
‫أمر عادي سوف يقلل من آثار السجن كثير ًا‪ .‬وهذا ما حصل بوضوح بعدئذ‬
‫وقت‬‫عند كثير من السجناء غيروا حال السجن إلى واق ٍع آخر سوف يأتي ٌ‬
‫للحديث عنه‪ ،‬وسوف تنكشف وقتها القيمة المعنوية الكبيرة لعملية صنع‬
‫حدث غير مجرى التاريخ يعد تافه ًا بمقاييسنا‬ ‫ٍ‬ ‫المسبحة العجينية‪ .‬كم من‬
‫اآلن‪ ،‬لذلك ال يصح الحكم على األشياء واألحداث بقيمة مطلقة‪ ،‬قيمة‬
‫األشياء تأتي من قراءة السياق الذي ولدت فيه‪.‬‬
‫استهوتنا فكرة عمل المسابح وانتقلنا من العجين الذي كانت صناعته‬
‫رديئة في أغلب األحيان لهشاشته وتكسره السريع‪ ،‬وألنه أيض ًا لم يكن‬
‫ٍ‬
‫سحق إما باألقدام أو باألجساد في تقلباتها أو احتكاكها أثناء النوم‬ ‫ينجو من‬

‫‪81‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ضيق يزدحم بساكنيه‪ .‬فكان قرارنا التحول إلى صناعة أخرى أكثر‬ ‫ٍ‬
‫مكان ٍ‬ ‫في‬
‫تطور ًا وأجود نوعية‪ ،‬هذه المرة من نوى التمر الذي كان يصلنا بين الحين‬
‫واآلخر‪ .‬كان جمع النوى يحتاج وقت ًا طوي ً‬
‫ال ألن التمر لم يكن يصلنا بشكل‬
‫دوري كما هو الخبز قوتنا اليومي‪ .‬كنّا نستهل مرحل ًة جديد ًة من التطور‬
‫الصناعي مرحل ًة صعبة أحياها العجين ونفخ فيها الروح لمواصلة الحياة‪.‬‬
‫تشذيب النوى على األرض اإلسمنتية التي نفترشها كان يستغرق ذلك منّا‬
‫ال وربما أكثر من ذلك‪ ،‬هذا الوقت كله ألجل صنع مسبحة‬ ‫أحيان ًا شهر ًا كام ً‬
‫ال يسير ًا فقد كنت دوم ًا متلكئ ًا‬
‫واحدة ليس غير‪ .‬لم يكن األمر بالنسبة لي عم ً‬
‫في سائر الحرف اليدوية وما أزال لسوء الحظ مواظب ًا على هذه الخصلة السيئة‬
‫أي تحسن فيها ولم تنفعني سنوات السجن في تطوير‬ ‫حتى اليوم‪ ،‬إذ لم اشهد ّ‬
‫مهاراتي اليدوية بل يمكن اعتباري بال تردد مزمن الفشل فيها‪ .‬أما كيف نثقب‬
‫تلك النوى ونمرر منها الخيط الذي تنتظم بها فذاك وحده حكاية أخرى‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪10‬‬
‫***‬
‫ما علينا من مالبس بدأ يتهرأ أكثر مما هو عليه فعالً‪ ،‬وباتت أرديتنا ممزق ًة‬
‫يكاد نسيجها يتفتت لوحده وغدت أسماالً بالية بالمعنى الحرفي للكلمة‪.‬‬
‫خيط وابرة لعالج بعض التشققات‪ ،‬فما عادت ثيابنا تستر‬ ‫ٍ‬ ‫كان البد من‬
‫أماكن ًا ال يصح التغاضي عنها لحساسيتها الشديدة‪ .‬وكان السؤال الكبير‬
‫ما هو السبيل إلى اإلبرة والخيط في زمن الممنوعات الكثيرة‪ .‬كنت كلما‬
‫صادفني ممنوع تذكرت قصيدة أحمد فؤاد نجم وأرددها بلحن شيخ إمام‪.‬‬
‫ممنوع من السفر‪.‬‬
‫ممنوع من الغنا‪.‬‬
‫ممنوع من الكالم‪.‬‬
‫ممنوع من االشتياق‪.‬‬
‫ممنوع من االستياء‪.‬‬
‫ممنوع من االبتسام‪.‬‬
‫وكل يوم في ح ِّبك‪.‬‬
‫تزيد الممنوعات‪.‬‬
‫وكل يوم بحبك‪.‬‬
‫أكتر من اللي فات‪.‬‬
‫كنت أردد المقطع األخير كثير ًا "وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات‬

‫‪83‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وكل يوم بحبك أكثر من اللي فات"‪ .‬صوت الضمير والفطرة كان يقاوم‬
‫داخلي ويرفض االستسالم رغم كل ما كنت أعيشه من اضطراب وتراجع‬
‫نفسي هائل‪.‬‬
‫لم نكن نعدم حيل ًة للوصول إلى ضالتنا من اإلبر في ما كان يقدم إلينا‬
‫في فترات متباعدة من عظام الدجاج‪ .‬كنا نفتش بين العظام عن أدقه ونصنع‬
‫منه ابرة بعد معالجة دقيقة باألرض اإلسمنتية أحيان ًا‪ .‬أما الخيط فكان أمره‬
‫هين جد ًا‪ ،‬إذ لم يكن علينا اّإل سحبه من واحدة من البطانيات سواء التي‬
‫نفترشها أو نلتحف بها‪ .‬إنما كانت عملية انتزاع الخيوط المتواصلة بالتأكيد‬
‫لها عامل كبير وتأثير مباشر في تقليل عمر هذه البطانيات‪ ،‬بصراحة لم نكن‬
‫نبالي بهذا كثير ًا‪ ،‬ألنه مهما حصل وسوف يحصل وحتى لو تكرر انتهاكنا‬
‫لتماسك نسيجها مرات ومرات فإن عمرها في كل األحوال سوف يكون‬
‫أطول من أعمارنا‪ ،‬بهذا كنا نحدث أنفسنا ولربما أحيان ًا يهمس بعضنا‬
‫للبعض اآلخر به‪ ،‬إذ كنّا نتحاشى التصريح بالنهاية المروعة التي تنتظرنا‬
‫كما يتحاشى أهل بلدي في تسمية السرطان عندما يصيب أحدهم‪ ،‬فيقولون‬
‫أصيب بذاك المرض كأنهم يخافون من بطشه السريع أو إنهم يعترفون بأنه‬
‫جبار ال قبل لهم به‪ ،‬وإنه ملك عظيم وصاحب جاللة مقدسة‪ ،‬وال يصح‬
‫للعامة من الناس أن تذكر أسماء اآللهة والملوك اّإل باأللقاب الكبيرة‬
‫وبالصفات العليا والتبجيل العظيم‪.‬‬
‫نجحت تلك اإلبر الدقيقة في رتق ثيابنا لكن بطريقة هزلية‪ ،‬اّإل إنها‬
‫بالرغم من ذلك كانت نافعة جد ًا وتفي كثير ًا بالغرض المطلوب‪ ،‬بل ونفعتنا‬
‫أيض ًا في خرم النوى الذي صنعنا منه مسابح ًا ولو بصعوبة ومشقة أكثر‪ ،‬إذ‬

‫‪84‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كان علينا أن ننقع النوى في الماء لعدة أيام ليغدو لين ًا بينما نحاول في هذا‬
‫الوقت تجفيف عظام الدجاج المقترح ليكون ابرة ويصير أكثر صالبة‪.‬‬
‫ال ولذا كنا نحاول اختراع ممارسات شتى للخالص‬ ‫ال ثقي ً‬
‫الزمن كان طوي ً‬
‫من ظله السمج‪ ،‬بانتظار موعد ينهي هذه الحقبة والخروج من هذه الزنزانة‬
‫إلى مكان ما‪ .‬من جملة ما فعلناه خلقنا من العجين أحجار شطرنج وقطع‬
‫للعبة الداما وحتى صنعنا منه نرد طاولة‪ .‬وصارت أغطية علب اللبن بعد‬
‫تنظيفها بالطبع مما علق فيها من اللبن قطع دومينو‪ ،‬كنّا نتسلى بها أثناء‬
‫ذلك غير آبهين بالموت الذي ينتظرنا‪ .‬أما في األمسيات فكنّا نتحدث كثير ًا‬
‫في السياسة والثقافة‪ ،‬ألن تردد الحرس فيها يصبح نادر ًا ومع وجود بوابة‬
‫أي واحد‬ ‫حديدية كبيرة تفصل الزنزانة عن غرفة الحرس‪ ،‬كان اقتراب ّ‬
‫منهم سوف يتزامن مع صلصلة المفاتيح الثقيلة التي يحملها وكان ذلك‬
‫يشكل صفارة إنذار وجرس تنبيه لنا خصوص ًا مع هدوء الليل وسكونه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫غفلة إلينا أبد ًا مهما بالغ في تحفظه‬ ‫ألي حرس أن يتسلل في‬ ‫ال يمكن ّ‬
‫بشكل ٍ‬
‫كاف لنا‬ ‫ٍ‬ ‫وكتم خطواته‪ ،‬فالبد من إصدار جلبة وضوضاء مسموعة‬
‫مع حذرنا المستمر منهم‪ .‬لهذا السبب صار النهار وقت ًا لممارسة األلعاب‬
‫واللهو الذي لن يحاسبنا كثير ًا عليها لو رصدنا بالجرم المشهود‪ ،‬أما الليل‬
‫فهو وقت األحاديث الجادة‪ .‬غير إن هذا ليس بمسو ٍغ ألن يخامر أحد ما‬
‫إحساس خاطئ بأن األلعاب كانت مسموحة‪ ،‬أو إن صنع كل هذه األشياء‬
‫من مسابح وغيرها كان أمر ًا متغاضي ًا عنه‪ .‬أبد ًا لم يكن األمر كذلك‪ ،‬كلها‬
‫كانت تندرج في خانة المحظورات‪ .‬إنما هناك أمور تكون العقوبة عليها‬
‫يسيرة ال تتعدى صياح ًا وزعيق ًا وكومة من شتائم أو ضربات خفيفة مفردة‬

‫‪85‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من ٍ‬
‫كيبل أو هراوة وهذه أمور عادت روتين ًا يومي ًا ال نأبه له بالعادة‪ ،‬ألنها‬
‫صارت جز ًء من القوت اليومي‪.‬‬
‫شكلنا حلقة دورية نتناوب فيها ليلقي بعضنا محاضرات كأن تكون‬
‫ٍ‬
‫لكتاب كان قد قرأه المحاضر من قبل‪ ،‬أو مادة له إطالع‬ ‫المحاضرة استذكار ًا‬
‫بصورة جيدة أو خبر ًة في أمر يجيده أحسن من اآلخرين‪ ،‬وساعد‬ ‫ٍ‬ ‫عليها‬
‫في نجاح تلك األمسيات واثراؤها هو وجود أكثر من واحد بيننا ممن كان‬
‫يهوى المطالعة‪ ،‬وأغلب من تواجد في الزنزانة في أكثر االوقات كانوا من‬
‫المتعلمين الجامعيين‪ .‬البعض كان يتبارى الشعر ويجعلها بين فريقين ومن‬
‫المصادفات الحسنة كان بيننا أشخاص بارعون في هذا المجال من األدب‪،‬‬
‫بل حتى كان بيننا شاعر مثقف مهتم بمطالعة الفلسفة وحتى دراستها‪ .‬كان‬
‫يعمل مصرفي ًا قبل اعتقاله اّإل إن كل ثقافته ونجاحه الباهر في عمله الذي‬
‫تمكن فيه لبراعته أن يصير مدير ًا ألحد المصارف الكبيرة رغم صغر سنه‬
‫(لم يكن يتجاوز الثمانية وعشرين سنة)‪ ،‬لم يشفع له فيما بعد‪ .‬لم تقدر‬
‫مواهبه‪ ،‬بل العكس هو الذي جرى‪ .‬هذه المواهب الرائعة نفسها هي التي‬
‫أودت به إلى مقصلة اإلعدام مع زميلين آخرين من زمالء الزنزانة وآخرين‬
‫كانوا في زنازين مجاورة لم أتعرف عليهم‪ ،‬بل لم ألتقهم اصال سوى إني‬
‫كنت أسمع أصواتهم أحيان ًا حين يناديهم حرس أو يتحدث اليهم آخر عند‬
‫توزيع الطعام‪ ،‬أو عند السماح لهم بمراجعة دورة المياه‪.‬‬
‫حاولت حفظ بعض األبيات الشعرية بلغات محلية غير العربية التي‬
‫أتحدث بها‪ ،‬ألننا كنا مزيج ًا مختلف ًا من قوميات مختلفة وخليط ًا غير‬
‫متجانس من توجهات وافكار متباينة بشدة أحيان ًا‪ ،‬اّإل ان ما كان يوحدنا‬

‫‪86‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫خال من‬ ‫وطن ٍ‬
‫حر‬ ‫ٍ‬ ‫قضية واحدة‪ .‬همنا في مواجهة الظلم والسعي إلى‬
‫ٍ‬
‫بهناء وسعادة نتحدث فيه وال نخشى‬ ‫الفاشية والدكتاتورية‪ .‬وط ٌن نعيش به‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫ٍ‬
‫حائط يسترق السمع فيه الينا‪ ،‬وط ٌن نفكر على أرضه وفي سمائه‬ ‫من‬
‫عال ال نخشى أن تقطع رؤوسنا فيه ألنها فقط مارست التفكير بال قيود‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وط ٌن ال يخوض مغامرات دون كيشوتية تسفك فيها دماء أبناءه من أجل‬
‫إرضاء نزوة حاكم بقرار اتخذه ولم يراع فيه مصلحة لشعبه وال استمع لرأيه‬
‫فيه‪ .‬همنا كان الحرية‪ ،‬أن نعيش أحرار ًا نحن ووطننا كما جئنا لهذه الدنيا‬
‫قبل أن يمارس طغاة مستكبرون جهلة يمقتون العلم والحياة مهمة الحكم‬
‫فيه يحاولون استعباد الناس وتجهيلهم‪.‬‬
‫الشاعر المصرفي كانت له قصة خاصة‪ ،‬إذ اعتقل بوشاية خائن ولم‬
‫يكن اعتقاله علني ًا‪ ،‬بل جرى اختطافه بكمين بشكل سري للغاية ولم يكن‬
‫يعرف أحد بأمره‪ ،‬ال من أهله وال من رفاقه‪ .‬كانوا يجهلون أنه يقبع في‬
‫أحد الزنزانات المظلمة االنفرادية في القبو الذي سكنت فيه طوال فترة‬
‫التحقيق بظروفه الرهيبة‪ .‬كان رجال األمن يوهمون أهله ومتعلقيه بطرق‬
‫شتى أنه هارب من السلطة خارج البلد وهي تبحث عنه وتفتش أيض ًا عن‬
‫أخباره‪ .‬كانوا يشيعون عنه أخبار ًا عبر مندس خائن يعمل لصالح السلطة‬
‫القمعية‪ ،‬بانه استقر في دولة عربية مجاورة ويتسلل بين ٍ‬
‫حين وآخر عبر‬
‫الحدود ويرسل رسائل من هناك‪ .‬كان األمن يصنعون هذه الرسائل بطرق‬
‫احتيالية بالطلب منه كتابة مقاطع بحجة مطابقة الخطوط أو اعترافات عليه‬
‫أن يدونها بنفسه وطرق أخرى‪ ،‬إيهام ًا منهم لرفاقه بأنها فع ً‬
‫ال منه لإليقاع‬
‫بأفراد التنظيم‪ .‬وبعد ما يقارب السنة الكاملة أو يزيد من اإلخفاء في زنزانة‬

‫‪87‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫انفرادية في هذا القبو المرعب‪ ،‬تم إلقاء القبض على كامل المجموعة تقريب ًا‬
‫وأكتشف رفاقه حقيقة اختفائه عندما التقوه للمرة األولى أثناء التحقيق‬
‫معهم‪ .‬كان لون وجهه قد غدا أصفر ًا شاحب ًا بعد أن حجبت الشمس عنه‬
‫ال جد ًا يتقيأ دم ًا من جراء مرض التدرن‬
‫تمام ًا طوال هذه السنة‪ ،‬وصار نحي ً‬
‫الذي أصيب به جراء عتمة وعفونة الزنزانة التي كان يقطنها‪ ،‬كان سيموت‬
‫حتم ًا حتى لو تركوه لحاله لكنهم أبوا اّإل أن يضعوا بصمتهم المقرفة على‬
‫خاتمته فقتلوه شنق ًا هو وبعض رفاقه‪.‬‬
‫كان يحدثني هو ورفيق له في المجموعة التي اعتقلت الحق ًا له‪ ،‬عن‬
‫العيش المر ألشهر عديدة في تلك الزنازين المظلمة‪ ،‬وكيف إن أجسادهم‬
‫تتقرح من جروح تمألها بسبب التعذيب المتواصل‪ .‬هذه الجروح لم‬
‫تكن تجد من يداويها وال من سبيل ألن تبرء‪ ،‬للظروف بالغة السوء في‬
‫تلك الزنازين التي استعرضتها سابق ًا والتي سكنتها لفترة وجيزة‪ .‬ظروف‬
‫ال يتخيل أحدٌ إنها تحصل إلنسان وربما حتى الذي يعرف وحشية النظام‬
‫ٍ‬
‫بلوحة‬ ‫الدكتاتوري أيض ًا لم يكن ليصدق إنها تحصل‪ .‬كانت أحداثها أشبه‬
‫سريالية سوداء‪ ،‬وهذه قصة واحدة من تلك اللوحات السريالية‪.‬‬
‫أسراب من الديدان تستوطن الزنزانات االنفرادية تعيش على جروح‬
‫وقروح المعتقلين فيها تمتص دمائهم وال من حيلة لهم للخالص منها‬
‫لغزارتها أوالً ولحال الجسد المنهك ثاني ًا‪ .‬إذ ال يمكن االهتمام بنظافة‬
‫الجسد بالمطلق كما شرحت من قبل عن ظروف هذه الزنزانات‪ .‬كان في‬
‫ال لبيع المجوهرات والحلى الذهبية‬ ‫احدى الزنزانات رفيق له يملك مح ً‬
‫وال يشكو عوز ًا مادي ًا‪ ،‬وهو من أوضح األمثلة إن من كان يعارض النظام‬

‫‪88‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الدكتاتوري لم يكن يفعل ذلك بسبب عوز مادي أو حاجة تنقصه أو فقر‬
‫يدفعه للثورة‪ ،‬بل كانت معارضة طلب ًا للحرية ورفض ًا للدكتاتورية وتحدي ًا‬
‫للقمع والتسلط‪.‬‬
‫تلك الديدان كانت تعيش على قروح وجروح صاحب محل المجوهرات‪،‬‬
‫وكان معها كما هو مع كل الناس والدنيا رقيق ًا لدرجة أقرب من الخيال‬
‫وصبور ًا بطريقة عجائبية‪ ،‬كان يشفق على تلك الديدان عندما تسقط من‬
‫بعض جروحه ويعود ليلتقطها ثانية من األرض ويرجعها إلى جرحه‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‬
‫لها كلي من رزقك‪ .‬الحياة عنده انتهت‪ ،‬والخاتمة باتت معروفة فلماذا ال‬
‫يساعد هذه الديدان على الحياة‪ .‬لم يكن هذا يأس ًا منه وال احباط ًا كما قد يظنه‬
‫البعض‪ ،‬بل كان على خالف ذلك بالتمام‪ ،‬كان قوي ًا جد ًا ويتحمل صنوف‬
‫التعذيب بطريقة عجيبة وصبر ال يوصف‪ .‬صبره واستعداده للموت كان‬
‫حافز ًا له ألن يهب الحياة لمن بعده حتى لو كان من هوام األرض وديدانها‪.‬‬
‫ال أستطيع أبد ًا حتى هذه اللحظة أن أصف مقدار رقتهما وانسانيتهما هو‬
‫وصاحبه المصرفي‪ ،‬وصدق ًا لو رويت لي شخصي ًا هذه القصة من ألف ناقل‬
‫ثقة ما كنت أصدقها لوال أني رأيت بعيني جروح الرجل وندوبه‪ ،‬وإني نفسي‬
‫عشت في المكان نفسه ولو لفترة وجيزة ورأيت فيه ما يشبه الخيال مما أعجز‬
‫اآلن عن سرده أو وصفه‪ .‬كان أحدنا يقول لو روينا ما يحصل هنا لقال الناس‬
‫عنا كلمتين ليس غير‪ ،‬إنكم أما كذبة أو أنتم مجانين‪.‬‬
‫لكن هذا الذي ال يصدق قد حصل فعالً‪ ،‬وحصل مضاف ًا لهذا كله‪ ،‬إنهم‬
‫صاحبي المصرفي البارع والصائغ الرقيق مطعم الديدان‪.‬‬
‫َّ‬ ‫قطعوا رأس‬

‫‪89‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪11‬‬
‫***‬
‫في زنزانتنا كان الوضع أفضل من وضع الزنزانة االنفرادية‪ ،‬ألننا كنا‬
‫نقوم بزيارات سريعة لالستحمام وإن كان ال يعدو عن جردل ماء يسكب‬
‫على أجسادنا ويحصل ذلك بطريقة كوميدية‪ ،‬حيث كنا نخرج كل اثنين‬
‫سوية إلى دورة المياه‪ ،‬يجلس أحدنا لقضاء حاجته بعد أن يزوي كل ثيابه‬
‫عنه متجرد ًا منها‪ ،‬فيما يقوم اآلخر في هذه األثناء بملء جردل ماء ويسكبه‬
‫على صاحبه‪ ،‬خالل ذلك توضع المالبس التي ينوى غسلها في حوض‬
‫أي شيء في‬ ‫مغسلة األيدي ونمنع تسرب الماء منها إلى المجرى بحشر ّ‬
‫فتحتها‪ ،‬لكي تأخذ مالبسنا فرصة كافية لتُغمر تمام ًا في الماء‪ ،‬وبالطبع كنا‬
‫أي مسحوق غسيل‪ ،‬بيد انه في بعض المرات قد يصدف هناك‬ ‫ننقعها دون ّ‬
‫وجود بقايا لقطعة صابون نسارع الستخدامها بحكها بالثياب‪ .‬لكن هذا لم‬
‫أي مأزق نحن الذي فيه خصوص ًا‬ ‫يحسن الوضع كثير ًا إذ سرعان ما اكتشفنا ّ‬
‫حكة كانت تهرشنا في أماكن شتى من جسمنا‪ ،‬ولنكتشف بعد ذلك أن‬ ‫ٍ‬ ‫مع‬
‫خلف هذه الحكة أسراب بأعداد هائلة من قمل يزاحمنا العيش في هذه‬
‫الزنزانة الضيقة بل يعتاش علينا‪.‬‬
‫كنا نخوض مع جمهورية القمل معركة لم ننتصر فيها أبد ًا رغم حجم‬
‫الخسائر الكبيرة التي نوقعها فيه‪ .‬ولم تكن هذه المعارك خيار ًا تطوعي ًا‬
‫بل واجب ًا الزامي ًا البد من خوضه بشكل شبه يومي‪ .‬كانت تتجمع أسراب‬
‫سوداء في حواشي مالبسنا بصورة كثيفة تتغذى على ما تبقى لدينا من دماء‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كان للصراع مع القمل طقوس خاصة البد أن يتحصل منها بالنتيجة‬


‫خلع ما نكتسي به كلية‪ ،‬في البدء ننزع المالبس الخارجية ونبقي الداخلية‬
‫منها علينا‪ ،‬ثم نعود لنستبدل الخارجية بالداخلية بعد االنتهاء من المرحلة‬
‫األولى أو العكس بالعكس‪ ،‬كل بحسب مزاجه اّإل ان تقديم نزع الخارجية‬
‫على الداخلية هو التقليد السائد واألكثر عملية‪ ،‬ثم نمأل أكواب ًا من ماء‪ ،‬هذه‬
‫األكواب كنا نحظى بها من لبن خاثر يعطى إلينا في مناسبات متفرقة كثيرة‪.‬‬
‫تبدأ عملية االصطياد التي نسميها (قصع) في جلسات طويلة نسحق القمل‬
‫فيها بين أظافرنا بما سرقه من دمائنا وادخره في أحشائه‪ .‬أظافرنا تتسخ‬
‫بدمائنا ونحن نحسب أننا قتلنا عدونا‪ ،‬وهكذا هي المعارك الفاشلة‪.‬‬
‫عال وأنا أرى المشهد‪.‬‬ ‫كنت أردد في داخلي وأحيانا بصوت ٍ‬

‫مسفوح اليوم من رقاب القمل‪ ،‬وغد ًا يسفح من رقابنا»‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫«د ٌم‬
‫كان هذا المشهد يزيد من درجة االضطراب عندي ويفاقم الحزن واألسى‬
‫في داخلي على هزيمتي التي لم أستطع تجرعها لتسعة شهور كاملة‪ .‬لم تفلح‬
‫كثرة المواساة التي كنت أسمعها من بعض رفاقي‪ ،‬وال مقولة بات يكررها‬
‫بعضهم إن جسدي النحيف يزداد اضمحالالً ويتوغل فيه المرض‪ ،‬من‬
‫إيقاف سيل مشاعر التشاؤم وحزني الداخلي الذي ضجت به روحي وطفح‬
‫منها‪ .‬بات البعض منهم ال يخفي شعوره حتى بالتصريح العلني ومواجهتي‬
‫إلي أسرع حتى من أوان ورودي المقصلة‪.‬‬‫بأن خطر الموت قادم ّ‬
‫كنت أتأمل القمل صريع ًا سابح ًا في الدماء‪ ،‬وأسأل نفسي‪ ،‬من ذا الذي‬
‫أي عذر فوضت بذلك؟‬ ‫كائن آخر وتحت ّ‬ ‫يمنحني الحق في سلب حياة ٍ‬

‫‪91‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أم هي رغبة في اللهو ألني أمتلك قوة باطشة ال تملكها الضحية؟ هل هذا‬
‫يعطي لكل ذي قوة الحق والمشروعية إلرداء منافسيه وأن يسحق كل من‬
‫يتحرك بغريزته نحو ما يعتاش عليه ليبقى على قيد الحياة وال يطمع بغير‬
‫ذلك؟ هل يملك القمل من خيار آخر لقوته اليومي حتى أعده معتدي ًا؟‬
‫معركتي مع القمل تمام ًا هي المعركة نفسها التي يخوضها البشر فيما‬
‫بينهم فقط تتغير األسماء والعناوين‪ .‬كل يبحث عن سبب يبرر بها فعله‪،‬‬
‫طرف يملك القوة ويزعجه وجود كائن آخر بجواره أضعف منه يطالب‬
‫فقط بالعيش كما جاء لهذه الدنيا‪ ،‬فيقود القوي حمل ًة دعائي ًة ضده ويسميه‬
‫كائن ًا معتدي ًا ضار ًا ويقول بعدها وفق ًا لدعايته وتنظيراته الفكرية الخاصة‪ ،‬إن‬
‫مضر يجب سحقه وإنهاء حياته وينبغي ان يباد هو ونسله ويشتت‬ ‫هذا كائ ٌن ٌ‬
‫جمعه ليعيش العالم بسالم‪ ،‬وهل يبنى السالم بالقتل والدماء؟‪.‬‬
‫كنت أردد في حوار داخلي إن قوتي التي أسحق بها أسراب القمل‬
‫سوف تزول قريب ًا‪ ،‬ألن ما أحسبه وحش ًا ينتظر قطع رقبتي هو عين ما ينظره‬
‫القمل لي اآلن‪ ،‬وسوف يمارس ذاك الوحش معي فعلي ذاته الذي افعله مع‬
‫ٍ‬
‫سلوك غريب‪ ،‬ربما‬ ‫القمل‪ .‬حوار داخلي كان يذهب عميق ًا وينتهي بي إلى‬
‫بال معنى حقيقي لكنه كان يعكس حيرتي وتيهاني آنذاك‪ .‬كنت أثر ذلك‬
‫أتجنب وبحرص شديد قتل القمل بالقدر الذي أخشاه وأمقته‪ ،‬مصيري‬
‫الماثل أمام عيني ليل نهار جعلني أتعايش معه وأقبل حقه بالبقاء‪ .‬لذا كنت‬
‫بدالً من قتله سحق ًا صرت أنقله حي ًا إلى داخل كوب ماء مملوء ليموت‬
‫غرق ًا‪ .‬طريقة كانت أكثر سخف ًا ألنها أقسى تعذيب ًا له‪ ،‬إنما بها كنت في‬
‫الحقيقة أحاول التشبث بالحياة وليس انقاذ ًا له‪ ،‬كما كنت أحاول ان أخدع‬

‫‪92‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نفسي وأبرر عملي هذا‪.‬‬


‫تصرفات غريبة تعكس الفوضى والتشتت الداخلي الذي كنت أعيشه‪،‬‬
‫فمحاولة الخالص من تأنيب الضمير من جريرة قتل القمل بفلسفة‬
‫كانت تبدو أشبه بأحاديث جنون مبكر‪ .‬فلسفة قد تكون أقرب إلى العبث‬
‫والسفسطة وبسببها ما عدت قادر ًا حتى على اعتراض نملة صغيرة تسير‬
‫إلى جوار حائط هي وسرب من رفيقاتها‪ .‬أضحيت أنظر بأسى مبالغ فيه‬
‫إلى خنفساء سوداء تعبر الزنزانة وتتقلب على ظهرها فجأة وال تقوى على‬
‫االعتدال‪ ،‬فأهب لمساعدتها على النهوض ثانية بعناية وحنان‪ .‬كنت أتشبث‬
‫بالحياة بحياة غيري وأكثر ما كان يضايقني هو تلك الرغبة الغريزية في قتل‬
‫شعور تصحبه كآبة شديدة‬
‫ٌ‬ ‫الهوام عندما تسري على جسدي‪ ،‬كان يراودني‬
‫أحس معه إني جالد متنكر‪ ،‬شعور لم أتخلص منه‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪12‬‬
‫***‬
‫في أحد األيام حشر عدد كبير من المعتقلين في زنزانتنا بعد أن تم نقل‬
‫مجموعة كاملة من زنزانة مجاورة ولم نفهم سبب هذا اإلفراغ المفاجئ‬
‫وبصورة كاملة للزنزانة المجاورة‪ .‬توقعنا كالعادة وصول وجبة جديدة من‬
‫المعتقلين السياسيين ال يراد لهم أن يختلطوا مع من أكمل التحقيق من مثلنا‬
‫لدواع أمنية‪ ،‬إذ قد تنقل إليهم خبرتهم في التعامل مع المحققين‪ .‬لم يحدث‬
‫أي شيء وطال ترقبنا لتفسير هذا التصرف المفاجئ‪ ،‬إلى ان سمعنا فحيح‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مفاتيح الزنزانات الثقيل يصلصل بحقد من بعيد وبات قريب ًا جد ًا ليفتح‬
‫حرس المعتقل باب الزنزانة المجاورة التي ابتلعت ضحية جديدة‪ ،‬لم نكن‬
‫كبير لنكتشف جنسها‪ .‬صوتها األنثوي هو الهوية الواضحة‬ ‫بحاجة إلى ٍ‬
‫عناء ٍ‬ ‫ٍ‬
‫والعالمة الفارقة‪.‬‬
‫هذه هي المرة األولى واليتيمة التي عاصرت فيها شخصي ًا اعتقال سياسي‬
‫ألنثى في المعتقل نفسه‪ .‬ماجدات وحرائر‪ ،‬وحفظ شرفهن من األعداء‬
‫والغزاة ترنيمة روتينية تتردد صباح مساء في وسائل اإلعالم الحكومي‪ ،‬وال‬
‫يفتر الحزب ومناضليه على تذكيرنا بها‪ .‬ها قد جاء اليوم كي نختبرها في‬
‫معمل انتاج األمن الثوري‪ .‬في المساء جاء الرفاق حماة الحرائر وصائنوا‬
‫أعراضهن من المتآمرين والخونة ومن األعداء الغزاة‪ ،‬جاءوا بكل قيافتهم‬
‫وهمتهم وذهبوا بها هناك‪ ،‬إلى الطابق العلوي إلى حيث ذهبنا من قبل لتبدأ‬
‫فصول حكايتها‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫على الرغم من كل الذي حصل لنا‪ ،‬ومع كل مرارة تجربتنا اّإل إننا كنا‬
‫نأمل بأنها ستحظى بمعاملة أحسن من التي أذاقونا إياها‪ .‬إنها أنثى وامرأة‬
‫شابة ورجال األمن في األول واآلخر شرقيون مثلنا وسيمنعهم الحياء‬
‫وشيمتهم القبلية العربية من اجتراح أفعال مخزية وسوف يعاملونها بالتأكيد‬
‫بما إنها مرأة على أنها كائن ضعيف الجسد وإن كانت معتقلة سياسية‪ ،‬ولو‬
‫اضطروا لمعاقبتها فسوف يكون من جنس التعذيب العادي المتوقع إنزاله‬
‫بكل معتقل سياسي‪.‬‬
‫لم نكن نطمع بأكثر من هذا لها‪ ،‬لم يكن هذا توقع ًا بقدر ما كانت أمنية‬
‫أي مدى يمكن أن تصل إليه‬ ‫ساذجة من نفوس لم تتعرف بعد جيد ًا إلى ّ‬
‫البهيمية في المخلوق البشري عندما يواصل ركوب عربة االنحطاط‪ .‬تمنينا‬
‫لها ليلة ال تسبح فيها عاري ًة في الفضاء معلق ًة بأحد السقوف كما فعلوا بنا‪.‬‬
‫لم نكن نجرؤ حتى في أحالمنا الوردية ال في يقظة أو في منام أن نبعد‬
‫الهراوات عنها‪ ،‬ألننا كنا على يقين إن الركل والصفع والكيبالت زاد يومي‬
‫ألي أحد مهما كان عمره أو جنسه‪.‬‬ ‫لكل معتقل‪ ،‬ولن يدخرها رجال األمن ّ‬
‫لم نتخيل أبد ًا أيض ًا إنّا كنا نختزن حلم ًا سخيف ًا آخر ًا ستبعثر أشالءه حين‬
‫تند صرخات سيدة شابة بموته‪ .‬سيدة ما عرفنا لها اسما وال عنوانا اّإل‬
‫ٍ‬
‫بحرية ممنوعة في بلد تزدحم فيه‬ ‫كونها كائن اختار الحياة وقررت أن تفكر‬
‫الممنوعات أكثر من ازدحام القمل على ياقة سجين‪.‬‬
‫بقامة متوسطة ووجه يتراوح بين استدارة قليلة واستطالة تعلوه سمرة‬ ‫ٍ‬
‫بخوف ووجوم كثير‪ ،‬يلتف عليه شعر اسود فاحم ينسدل‬ ‫ٍ‬ ‫حنطية مشوب ٌة‬
‫بنعومة إلى حد الكتفين تقريب ًا أو يتجاوزه قليالً‪ ،‬هو كل ما بقي في الذاكرة‬

‫‪95‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫طويلة سرقتها من كوة الزنزانة وهم يقتادوها إلى غرفة‬ ‫ٍ‬
‫متلصصة‬ ‫ٍ‬
‫نظرة‬ ‫من‬
‫التعذيب‪ .‬عرفنا فيما بعد من كالم بعض الحراس األمنيين الذين عقدنا‬
‫معهم صداقات دردشة بسبب طول اإلقامة كيف إنها عذبت مثلنا تماما‪.‬‬
‫رواياتهم كانت تؤيدها الصرخات المرعبة وهي تشق سكون الليل من‬
‫على بعد عدة طوابق‪ ،‬تصدع أركان قلوبنا‪ ،‬وننصت لها خاشعين ال ننبس‬
‫ببنت شفة حين تنزل علينا كالصاعقة‪ .‬نغيب في الصمت كأنما الطير يقف‬
‫على رؤوسنا وتتجمد مآقينا حتى عن ذرف الدموع‪ ،‬كل شيء يصبح بارد ًا‬
‫كالموت ال نجسر على النظر اّإل إلى أسفل‪ ،‬إلى ما تحت أقدامنا حيث‬
‫يسكن الذل والهوان‪.‬‬
‫تتوسل صرخاتها رحمة ورأفة من قلوبهم األقسى في صالبتها‬
‫من كل الجدران التي حبست فيها‪ ،‬ومرة أخرى كانت تنادي السماء أن‬
‫تغيثها وتفك كربتها‪ ،‬الصمم أصاب الكون كله حتى نحن كنا نحاول أن‬
‫نحشو آذاننا بالصمت بإغماض عيوننا وإخراس ألسنتنا‪ .‬العجز والعار‬
‫كان يطوف فوق رؤوسنا يظللنا بكومة من سحابه الثقيل من الدهشة لما‬
‫يجري بإحساس هائل من ضياع وعدم وخواء كامل‪ ،‬خواء لو قرعت فيه‬
‫مشاعر غطسنا‬
‫ٌ‬ ‫كل طبول االحتجاج لن يسمع لها صوت فيه وال صدى‪.‬‬
‫فيها وانتحرت على عتبتها خرافة أخرى من الخرافات التي كنا نأمل أن‬
‫أي نصيب من الصحة أو حظ من الحقيقة‪ .‬لو‬ ‫يكون لبعضها وليس لكلها ّ‬
‫أي أمل في الثبات بين الكثبان‪،‬‬
‫كان لذرة رمل تطيح بها رياح خمسينية ّ‬
‫لكان لخرافة القبيلة التي تصون أعراض النساء حينئذ فرصة للنجاة بعد‬
‫هذه الحادثة المروعة‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حرائر وأعراض ماجدات وقبيلة تفخر بسكانها ولو كانوا يملؤون‬


‫المقابر وحضارة سبعة آالف عام‪ ،‬ودين سماحة وعفة وشيمة وغض‬
‫األبصار وعروبة وسخافات كثيرة أخرى كلها انتحرت‪ ،‬ألني لست جريئا‬
‫بما فيه الكفاية للقول إنها لم تكن حية في يوم من األيام لتموت اآلن‪ ،‬إنها‬
‫أساطير ال أصل لها سوى أوهام كبرياء أجوف‪ .‬وطن يعشق وأد الحرية‬
‫ويقتل كل من قرر أن يختار إنسانيته باسم أشياء كثيرة‪ ،‬دين‪ ،‬شرف ومبادئ‬
‫الحزب والثورة‪.‬‬
‫صديقتي التي لم أتعرف عليك ولم ألمح من صورتك وال قوامك‬
‫اّإل النزر اليسير‪ ،‬لكنه كان كافي ًا ألن ُينقش في ذاكرتي أبد ًا كما ينقش على‬
‫الحجر‪ .‬صديقتي التي لم أرك تسيرين على أرض بلدي اّإل وانت مكبلة‬
‫بالقيود تحيط بك ذئاب مفترسة جائعة شرهة لشرب دم الضحايا‪ ،‬أقول لك‬
‫ولكل صديقاتك اللواتي سمعنا بقصصهن كثير ًا‪ .‬إن شرفك وعفتك هي‬
‫عشقك للحرية الذي صارعت به الوحوش الكاسرة‪ ،‬وبه انتصرت عليهم‪،‬‬
‫أنت ما زلت خالدة في قلب وعقل كل من مررت به ويفخر بمعرفتك حين‬
‫يذكرك أو ساعة يروي قصتك‪ ،‬أما هم فيكفيهم من العار إنهم ال يجرؤون‬
‫على ذكر أفعالهم معك ويشعرون بالحرج من قصتك‪ ،‬أراهن على ذلك‪،‬‬
‫إنهم يخشون ذكرك ولو كانوا يضطجعون في مخادعهم مع زوجاتهم فهل‬
‫هناك عار يلصق بهم أكثر من هذا العار‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪13‬‬
‫***‬
‫دلف إلينا في نهار شتوي بجس ٍم ضئيل وذقن كث وسذاجة مفرطة‬
‫تغذيها براءته‪ ،‬وبلغة غريبة عن مسامعنا كما هو دينه مجهول التفاصيل‬
‫من قبل كثير من الناس ونحن منهم اّإل بعنوانه العام‪ .‬ما أن أخذ وقته حتى‬
‫راح يحدثنا بحماسة عن أجداده العظام وعن حدة سيوفهم ورهافة نصالها‬
‫التي حصدوا بها األعداء‪ ،‬كما يحصد هو سنابل القمح في أرض الجزيرة‪.‬‬
‫كان يحفظ أسماء سبعة أجداد بالترتيب ألحد أبطال حكاياته وعندما كنّا‬
‫نسأله عن أسماء أجداده‪ ،‬لم يكن بوسعه تجاوز ما هو أبعد من جده الثاني‬
‫ٍ‬
‫بمشقة وعناء‪ ،‬ويبقى متردد ًا كثير ًا في تأكيد صحة جوابه إن تعدى جده‬ ‫اّإل‬
‫الثالث بل يعتذر عن الوصول إليه ويقر بجهله‪.‬‬
‫ماض موهوم‪ ،‬يجهل حاضره ويتمسك بـأساطير‬ ‫ٍ‬ ‫كان الرجل يعيش في‬
‫وخياالت ينسبها للدين‪ .‬يظن بل يجزم إنها حقيقة ال ريب فيها ويحسب‬
‫أنها محض خير وومضة جمال لن يجود الزمان بمثلها‪ ،‬أما الذي سوف‬
‫يجري بالغد له وألطفاله وألجيال الحقة لهم‪ ،‬فكانت عنده قصة مفككة‬
‫تشظت أجزاءها‪ ،‬ال تماسك فيها وال تكامل البتة‪ .‬كان الرجل بما يختزنه‬
‫من بساطة ووضوح في مشاعره وأحاسيسه نموذج ًا لنوع ليس بغريب عن‬
‫بيئتنا من قبل وال من بعد‪ ،‬بل هو النوع األكثر شيوع ًا ويمثل في طريقة تفكيره‬
‫ومعيشته ومعتقداته نوع ًا يتجسد بمظاهر شتى ولكن بجوهر واحد‪ .‬جوهر‬
‫نموذج يخال‬
‫ٌ‬ ‫لمشكلة حقيقية وعقبة كأداء ال يقوى الكثير على ارتقائها‪.‬‬
‫األوهام التي يحملها بظلمتها والتي يعيش فيها سقف العالم والمعرفة وما‬
‫‪98‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من شيء بعده اّإل الهالك والخراب والضياع وغضب اآللهة والسماء التي‬
‫تحتويها والواقع إن البقاء فيها هو الهالك الحقيقي ال في مغادرتها‪ .‬أما متى‬
‫سوف يجرؤ على اقتحام ممنوعاته فال أحد يدري لكنه إن عاجال أو آجال‬
‫أي ذنب أرتكب بحق نفسه وسيكون على األغلب قد فات‬ ‫سوف يدرك ّ‬
‫األوان إلصالح ما أفسده الزمان‪.‬‬
‫اّإل إن حكايات الرجل القصيرة في سردها‪ ،‬الغريبة في أحداثها‬
‫والمعجزات الخيالية التي تجترحها شخصياتها األسطورية‪ ،‬كسرت بعض ًا‬
‫من جمود الحياة التي نعيشها وأحدثت خل ً‬
‫ال في الروتين المهيمن علينا‬
‫لطرافتها‪ .‬كان الرجل طيب ًا جد ًا إلى حد اإلفراط‪ ،‬لم يالمس جسده ماء ال‬
‫بارد وال دافئ منذ دهر بعيد ألمر من وحي دينه الغريب‪ .‬كان يحمل مع‬
‫طيبته المبالغ بها رائحة أيض ًا بالغ فيها جد ًا وأضحت بمنسوب يبعث على‬
‫الغثيان‪ .‬وهكذا يفعل إرث العقيدة الفاسدة باإلنسان ان أخذها بال تعقل‬
‫وسار بها وراء القطيع واتبع بها من اتبع بال ٍ‬
‫نظر وال تدبر أو أسلم نفسه‬
‫ألصنام ادعى زيف ًا أنها ظالل إلله يحتجب وراءها‪.‬‬
‫بطريقة مضحكة وتفوح من أجسادنا هي األخرى‬ ‫ٍ‬ ‫ومع إنّا كنّا نستحم‬
‫رائح ًة ثقيلة‪ ،‬اّإل إنّا لم نستطع رغم ذلك تحمل رائحته التي كانت عفونة‬
‫حقيقية‪ ،‬وكان علينا أن نفكر بطريقة للتخلص من هذا المأزق‪ .‬األغطية‬
‫القليلة نتقاسمها بحرج في المنام وإن كنّا حصلنا على بطانيات إضافية‬
‫قبل فترة قصيرة‪ ،‬اّإل إن ذلك لم يغير من حقيقة أن يكون شخصان تحت‬
‫بطانية واحدة هو ذروة في الرفاهية التي ننعم بها عندما يتقلص عديدنا في‬
‫الزنزانة‪ ،‬أما الوضع الطبيعي أن يكون العدد أكثر من ذلك مع ان حجم‬

‫‪99‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫لشخص واحد فقط‪ .‬سؤال ملح صار يتردد اآلن‪ ،‬من ذا‬ ‫بعضها مخصص‬
‫الذي يقدر على مشاركته بلحاف واحد؟ بسبب رائحته وعذر إضافي تعلل‬
‫آخرون به لمعتقد ديني خاص بهم‪ ،‬انتهى بنا النقاش إلى قرار عدم محاولة‬
‫تجربة مساكنة الرجل وال حتى لليلة واحدة‪.‬‬
‫كان قرار ًا صعب ًا أن يعطى لوحده مستق ً‬
‫ال بطانية مع قلة عددها وكثرتنا‪.‬‬
‫وكان علينا أن نتحمل جرعة إضافية من البرد وضيق ًا في المنام‪ ،‬وهذه هي‬
‫ضريبة قرار التعالي أو االشمئزاز‪ .‬هكذا يكون مجرى األمور كلما ُرفض‬
‫خيار تزداد الحياة مع هذا االستثناء مشق ًة وصعوبة‪ ،‬فاالنتقاء واالنتخاب له‬
‫محصلة تتبعه وليس من العدل للتذمر وإلقاء اللوم على غيره‪.‬‬
‫انتدبت وشخص آخر معنا في الزنزانة كان يتكلم لغة قريبة منه إلبالغه‬
‫القرار بطريقة سمحة ال تؤذيه متجنبين اإلشارة والتلميح إلى الدوافع‬
‫الحقيقية لهذا القرار‪ ،‬ألن الجميع بالفعل أحبه منذ اليوم األول بالمقدار‬
‫نفسه بل أكثر من مقتنا لرائحة جسده‪ .‬جلست إلى جواره مع زميلي نحدثه‬
‫عن أهمية الصبر في هذا الموقف الصعب الذي يمر به‪ ،‬وإن الفرج قريب‬
‫ولن يطول به الوقت كثير ًا حتى يعود ثاني ًة إلى مرعاه ومزرعته‪ ،‬وسوف‬
‫يعيش حياته الوادعة المسالمة من جديد بعيد ًا عن هذه الحال التعس‪.‬‬
‫سار بنا الحديث رويد ًا من الحديث عن الواقع الجديد الذي دخل فيه‪،‬‬
‫إلى تجربة التكيف معه وبأن ال طائل من التذمر والضجر وإنهما لن يحال‬
‫معضلة وال يفكا عقدة‪ .‬ثم قلنا له إننا مع ذلك ننظر بعين االعتبار والتقدير‬
‫النتقاله المفاجئ لهذا العالم الصعب وتهوين ًا منّا لهذا الوضع حتى يألفه‬
‫واحترام ًا لكبر سنه (كان أكبر من أسننا بما يقارب عشر سنوات وربما‬

‫‪100‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أكثر)‪ ،‬نقترح أن ينفرد هو لوحده بالمنام في بطانية واحدة‪.‬‬


‫شمس‬
‫ٌ‬ ‫ارتسم االمتنان على غضنات وجنته وعلى تجاعيد مبكرة صنعتها‬
‫الفحة في وجهه األسمر ولمع بريق شكر في عينيه لعثم خطى كلماته‬
‫وأربكها كثير ًا‪ .‬فقد اإلحساس بالغربة وانقشع الحزن واندثرت غيوم األسى‬
‫من عينيه وباألخص بعد أن قدمنا له ما ًء وبقايا طعام كنّا نحتفظ به للطوارئ‪،‬‬
‫كان تقديمنا له هذه الوجبة االستثنائية وبعناية خاصة فعل أبهجه جد ًا‪.‬‬
‫حرصنا في األيام التالية أن نقدم له الطعام بإناء‪ ‬خاص له ونجنبه أيض ًا‬
‫المشاركة في بعض األعمال اليومية التي كنّا نقوم بها من تغيير سطل‬
‫الماء أو غسل األواني‪ ،‬وعلى الرغم من سهولة هذه الواجبات اّإل أن عدم‬
‫كبير من االحترام الذي نكنّه له وحجم مشاعر‬ ‫ٍ‬
‫بمقدار ٍ‬ ‫مشاركته فيها أشعره‬
‫العطف والمواساة التي نوليها له‪.‬‬
‫التهمة الرئيسية التي وجهت له إنه يعرف بعض من كان يحرك جمر‬
‫الحرية في قريته الصغيرة‪ ،‬لم يكن يفهم معنى ذلك وال تهمه هذه األفعال ال‬
‫من بعيد وال قريب سوى إن بعض المطلوبين كانوا من أقاربه أو من سكان‬
‫قريته‪ .‬على الرغم من أن هؤالء الثوار ال يرتبطون بعالقة مباشرة معه‪ ،‬مع‬
‫إن القرية التي كان يسكنها تكاد تكون كلها عشيرة واحدة إذا لم تكن هي‬
‫كذلك بالفعل‪ ،‬ولذا تهمة كونه من العشيرة او العائلة نفسها تهم ٌة سخيف ٌة‬
‫جد ًا ومضحكة وال معنى لها‪ ،‬اّإل إنهم كما يبدو كانوا يريدون استئصال هذا‬
‫المكون من الخارطة ألنه اعلن التمرد عليهم‪ ،‬وما عجزوا عن فعله حينئذ‬
‫فعلوه الحق ًا يوم اجتاحوا الموصل بجيوش الهمجية وكادوا أن يبيدوا شعب ًا‬
‫بأكمله وارتكبوا فضائح وجرائم سوف تذكرها اإلنسانية كثير ًا ويدونها‬

‫‪101‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫التاريخ بحبره الذي ال يمحى‪.‬‬


‫كانت أفكار الرجل ما بين فوضى وسراب ال تتعدى محاولة للعيش‬
‫بسالم وأمان هو وأغنامه‪ ،‬دون أن يعكر صفوها عواء الذئاب‪ .‬حاول ضباط‬
‫األمن ومساعديهم أن يستدرجوه بوسائل شتى لينتزعوا منه معلومات ال‬
‫يملكها‪ ،‬وال حتى كان بمقدوره أن يفقه شيئ ًا من أسئلتهم األمنية والسياسية‪.‬‬
‫ال الحصول‬ ‫يمكن القول إن قرار اعتقاله غبي بامتياز لو كان الهدف منه فع ً‬
‫على معلومات أمنية‪ ،‬ولكن يبدو إن الهدف الحقيقي منه كان إثارة الرعب‬
‫في القرية أكثر من الحصول على إخبارات حقيقية عن المتمردين على‬
‫النظام من سكنة هذه القرية‪ ،‬وما هذا التحقيق اّإل محاولة عبثية قد ينالوا بها‬
‫شيئ ًا لم يكن في الحسبان‪ .‬حاول األمن مغازلة الرجل حين ًا وحين ًا آخر كانوا‬
‫ينقلبوا عليه ليبصقوا كل أنواع همجيتهم والغضب الوحشي المستوطن‬
‫فيهم‪ ،‬وفي كال الحالين لم يقدم لهم سوى صمت محشو بأنين وآهات‪،‬‬
‫وإجابات هي أسئلة أخرى تبحث عن جواب‪.‬‬
‫لم يكن يدرك الرجل أبجديات المعارضة بل لم يسمع بها أص ً‬
‫ال وال‬
‫عماذا يتحدثون‪ .‬انه راعي أغنام يزرع الحنطة أحيان ًا ال أكثر من هذا‬
‫يعرف ّ‬
‫وال أقل‪ ،‬مهما حاول المتحذلقون ان يغيروا من هويته‪.‬‬
‫بعد أن أيقنوا إن ما يبحثون عنه‪ ،‬ما هو اّإل مطاردة للسراب وإن الرجل‬
‫أخذ من العقوبة ما يكفيه وسوف يحدّ ث بها كل أبناء القرية‪ ،‬فال يجسر أحدٌ‬
‫بعدها على تقديم أي ٍ‬
‫عون لثائر ولو كان ذلك العون وجبة عشاء ليس أكثر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حسمت دائرة التحقيق أمرها ونبذته في الزنزانة ال أحد يسأل عنه وال يدري‬
‫ما المطلوب منه وال يعرف مصيره‪ .‬كنّا نالطفه كثير ًا ونستخرج منه ألوان‬

‫‪102‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫البراءة وكان يقهقه بملء شدقيه كثير ًا ويخرج ضحكاته من أبعد نقطة في‬
‫قلبه األبيض‪ ،‬وكنّا بالمقابل نبعث فيه األمل بكلمات الحماسة‪ ،‬عندما كان‬
‫يتألم من سياطهم ومن إهاناتهم التي يوجهونها لمعتقده وديانته العنصر‬
‫األهم عنده‪ .‬كان بعض الحرس يحاول إذالله بتصرف فردي على ما يبدو‬
‫النهم يريدون ان يتسلون بعذابات غيرهم أو النهم يريدون صب جام‬
‫أي أحد بعد يوم نكد عليهم لم ينالوا فيه ما يبتغون ويريدون‪.‬‬
‫غضبهم على ّ‬
‫«أنت لست وحدك إن أجدادك األبطال ينظرون إليك من جناتهم العالية‬
‫ويراقبونك فال تخيبهم»‪.‬‬
‫بهكذا كلمات كنّا نواسيه ونؤازره ونقدم له الدعم ألنه لم يكن هناك‬
‫شي ٌء أكثر من ذلك في حيلتنا لنقدمه له‪ .‬كنّا نبشره بأن الفرج بات قريب ًا جد ًا‬
‫منه فليبتسم لمقدمه وليزيح اإلنكشار من وجهه الذي خلفه هؤالء التافهون‬
‫السخفاء‪ .‬وبعد تطمينات كثيرة له عن فرجه القريب سألنا يوم ًا عن موعد‬
‫ٍ‬
‫صلوات خاصة‪.‬‬ ‫فرجنا متى يحل بعد أن صلى ألجلنا في‬
‫«إننا سنغادر هذا الباب ونترك األلم واألحزان وراءنا في هذه الدنيا‬
‫ونذهب هناك إلى حيث الراحة األبدية"‪.‬‬
‫رددنا على سؤاله ضاحكين مبتسمين‪.‬‬
‫اغتم كثير ًا لهذا النبأ غير المتوقع‪ ،‬لكنّه ازداد قرب ًا منّا وتعاظم و ّده لنا‪،‬‬
‫وصار الذي بيننا أكثر من محبة عالقة طارئة‪ ،‬إنها محبة إخوة ال تندرس مهما‬
‫تعاقب الزمان عليها‪ ،‬توثقها عرى صداقة ال تضمحل وآصرة إخوة ال تفنى‪.‬‬
‫وفي مساء قرروا أن يرجعوه إلى مرعاه الذي أخذوه منه‪ ،‬وكعادتهم‬

‫‪103‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عندما يصير في نيتهم إطالق سراح أحد ما‪ ،‬فإنهم يحاولون استرضائه‬
‫بإبداء مرونة في التعامل معه‪ ،‬ولم يشذوا عن ذلك معه فأعطوه علبة دخان‪.‬‬
‫‪ -‬إنها ال تكفي‪ ،‬قال لهم‪.‬‬
‫‪ -‬ال تكن طماع ًا ستغادر بعد يوم واحد فقط‪ ،‬هكذا قال له ضابط‬
‫التحقيق‪.‬‬
‫‪ -‬أنا ال أتحدث عن نفسي‪ ،‬إنها ال تكفي أصحابي الذين معي في‬
‫الزنزانة‪.‬‬
‫‪ -‬خذها واتركهم أنت ال عالقة لك بهم‪.‬‬
‫أي شيء منك‪.‬‬
‫‪ -‬ال أريدها‪ ،‬أما أن تعطهم مثل ما تعطني أو ال أريد ّ‬
‫كلمة لطم بها الجالد‪ ،‬لكنها حركت اإلنسان في قلب هذا الجالد‬
‫وانتفضت الفطرة فيه وأزاحت القسوة عنه بشكل مطلق في تلك اللحظة‪.‬‬
‫‪ ‬نزل الينا الضابط ووقف أمام الزنزانة مذهوالً يحدثنا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا فعلتم بالرجل؟‪.‬‬
‫جاءنا الجالد هذه المرة إنسان ًا قد هدّ ه التعب ونبتت في قلبه من جديد‬
‫زهرة اإلنسانية النائمة‪ ،‬كان يحمل إلينا بيديه المجردتين كثير ًا من علب‬
‫الدخان وأكثر منها قهقهة صادقة واعتراف الحب أبلج بالهزيمة‪ .‬أصر ضابط‬
‫التحقيق على أن يأتي بنفسه ليقدم لنا علب السجائر بيديه مثني ًا على تعاملنا‬
‫ال منكسر ًا أمام موعظة قروي ساذج‬ ‫اإلنساني مع الرجل ومبدي ًا إعجابه بنا‪ ،‬ذلي ً‬
‫لقنته درس ًا بليغ ًا في الشهامة والمروءة‪ .‬موعظة جعلته يعترف بأن أواصر‬
‫اإلنسانية أقوى من كل األسلحة التي يملكها هو ومن معه من الجالدين‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪14‬‬
‫***‬
‫في مساء شتوي بارد ُطلب منا االستعداد لمقابلة مهمة مع مدير المعتقل‬
‫(مديرية أمن نينوى) الذي كنّا نُحتجز فيه وهو شقيق جنرال عسكري كبير‬
‫معروف اسمه (ه‪.‬ص‪.‬ف)‪ .‬تمت إزالة الروائح الكريهة من أجسادنا‬
‫بالسماح لنا باالستحمام بشكل جيد وترتيب ما يمكن ترتيبه من هندامنا‬
‫المضحك الذي عاد في شأن ال يمكن أن يصلحه أشطر دراز في المدينة‪.‬‬
‫البعض منا كان يعول كثير ًا على هذه المقابلة واستعد لالنتفاض أمام مدير‬
‫المعتقل بإنكار كل التهم المنسوبة إلينا وشرح السبب الحقيقي وراء هذه‬
‫اإلفادات المزيفة بأنها منتزعة تحت التعذيب الجسدي والنفسي القاسي‪.‬‬
‫كنت أشعر بعدم اكتراث شديد من هذا الحدث المرتقب من غيري ولم‬
‫أي أهمية بالمرة‪ .‬كنت أتعامل مع‬ ‫أعول عليه تمام ًا‪ ،‬ولم يشكل عندي ّ‬
‫الحدث بحالة من ال أبالية منقطعة النظير‪ ،‬ألني وبكل صدق وصراحة كنت‬
‫شعور‬
‫ٌ‬ ‫أعيش حالة يأس تام من تغيير ما يجري‪ ،‬ويتملكني في الوقت عينه‬
‫يتبق اّإل النزر اليسير في مساحة هذه الدنيا‬
‫مرير بالهزيمة وإحساس بأنه لم َ‬ ‫ٌ‬
‫التي ضاقت جد ًا وأصبحت بحجم حبة رمل‪.‬‬
‫ترصد وسبق إصرار وال يخفى على‬‫ٍ‬ ‫كنت مؤمن ًا بأنهم يريدون قتلنا عن‬
‫واحد منهم حجم الظلم الذي تعرضنا له أو مقدار الهمجية والوحشية‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ّ‬
‫التي عوملنا بها‪ ،‬ألنهم كانوا مستمرين عليها بشكل نمطي وكلما سنحت‬
‫لهم فرصة أو الحت لهم قناة‪ ،‬يضعون فيها مركب حقدهم على اإلنسانية‪.‬‬
‫كيف لي أن آ َمل بعد ذلك من مجرم كبير بل من كبيرهم أن يكون منصف ًا‬
‫‪105‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وعادالً ويصير مح ً‬
‫ال لشكوى مظلوم؟ منطق خالف العقل كمن يستعين‬
‫بالشيطان لدفع شره‪.‬‬
‫أنها سذاجة مفرطة وحماقة كبيرة وغباوة منقطعة النظير أن تهرب من‬
‫الظلم إلى الظالم هكذا قدرتها وحسبتها‪ ،‬وفي الوقت عينه كنت أختلق‬
‫ألصحابي عذر ًا في داخلي‪ ،‬إنهم غرقى والغريق يبحث عن قشة‪ ،‬وهل‬
‫نسيت أحالمي يوم كنت أتلقى التعذيب؟ إنها كانت سخيفة هي األخرى‬
‫ومضحكة بالقدر نفسه أو أكثر‪.‬‬
‫شعور من نوع آخر ولو بدرجة أقل‪ ،‬وهو شعور الكبرياء‬ ‫ٌ‬ ‫كان يراودني‬
‫أي طلب‪.‬‬ ‫والتعالي‪ ،‬ألني كنت أستنكف أن اطلب من هؤالء المجرمين ّ‬
‫إحساسي بالفخر والعزة أخذته بالوراثة أو بالتربية‪ .‬كنت أرى والدي ال يذل‬
‫أي أحد شيئ ًا حتى إنه امتنع عن التدخين ألنه طلب يوم ًا‬‫نفسه وال يطلب من ّ‬
‫نزل نفسي موضع الذلة ومنزلة اإلهانة‬ ‫ٍ‬
‫صديق له‪ ،‬فكيف لي أن ُا َ‬ ‫سيجارة من‬
‫أمام هؤالء الذين ال يليق بي أن اتحدث اليهم فكيف بالتفكير بالطلب منهم‬
‫أو التوسل‪ .‬موضعي الصحيح اإلصطدام بهم وليس مهادنتهم‪ ،‬فكيف لي‬
‫أن اترجاهم بشيء حتى لو كان ذلك الشيء حريتي وكان به خالصي من‬
‫سجونهم ومعتقالتهم‪.‬‬
‫الحرية وكل الحقوق تنال بالنضال والصراع‪ ،‬وال تأخذ منحة من‬
‫أحد‪ ،‬أ ّي ًا كان محله وموضعه ومنصبه في كل هذا الكون‪ .‬الكسالى العجزة‬
‫واألغبياء ينتظرون السماء تمطر رزق ًا لهم‪ ،‬أما الحاملون لمسيح الطهر‬
‫حتى في يوم ضعف الوالدة يهزون جذع النخل ليستمطروا ُقوتَهم‪ ،‬وهل‬
‫يهز النخل اّإل االقوياء؟‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي‬
‫قابلنا الضابط الكبير على انفراد وسألنا أسئلة عادية ال تنم عن ّ‬
‫اهتمام بنا‪ ،‬بل كانت الزيارة تبدو وكأنها اإلمضاء األخير على مكافأة ينالها‬
‫فريق التحقيق ثمنا لجهوده في قطع رقابنا المنتظر‪ .‬اّإل إنه مع ذلك ورغم‬
‫هذه األجواء المزيفة المخادعة بالتعامل الدبلوماسي الهادئ الناعم الذي‬
‫يطرح به المدير أسئلته الباردة الخالية من كل روح‪ ،‬اّإل إن النوايا الخبيثة‬
‫كانت سافرة جد ًا في الوقت نفسه تفضحها نظراته الماكرة هو وفريقه‪ .‬وكما‬
‫كان مقرر ًا فقد شكا البعض منّا للمدير الظروف القاسية التي دفعته كمعتقل‬
‫لتقديم إفادات مزيفة‪ ،‬ومع كل الشفافية المدعاة اّإل انه حتى هذه الشكوى‬
‫لم تنل رضاه وال رضا ضابط التحقيق (ع‪.‬ع‪ ،).‬وتحولت المقابالت من‬
‫لقاءات منفردة مع المدير إلى لقاء جماعي بحضور ضابط التحقيق لكبح‬
‫أي شيء‬ ‫هذه الجرأة على اإلنكار من تكرارها ثانية‪ .‬وبالطبع لم يتغير ّ‬
‫بعدها كما كنت واثق ًا متيقن ًا‪ ،‬ومع كل ذلك لم يغير ما حصل من عرض‬
‫مسرحي سخيف قناعة معتقلين آخرين كانوا مصرين على إن هذه فرصة‬
‫يجب استثمارها‪ ،‬واختلفنا في ذلك بحوارات ونقاشات لم تخل من عتب‬
‫وربما في بعض النوبات كانت تحمل تلميح ًا لي بالجبن والضعف‪ ،‬مع‬
‫أي حد تحملت التعذيب‪ ،‬بل إني كنت واحد ًا من‬ ‫أنهم كانوا يعرفون إلى ّ‬
‫أكثر الموجودين ممن صمد بوجه التعذيب والتحقيق إلى آخر المطاف‪،‬‬
‫بأي أحد على‬ ‫اش ّ‬ ‫ال األكثر صبر ًا على التعذيب بينهم‪ .‬لم ِ‬ ‫إذا لم أكن فع ً‬
‫االطالق ولم أقدم للمحققين شيئ ًا ذا نفع في كل مراحل التحقيق وظلت‬
‫أسرار عملي الحقيقي حبيسة صدري‪ ،‬بالمقابل غيري ممن كان يعاتبني‬
‫ويتهكم على تصرفي مع مدير األمن قد فعل الكثير جد ًا مما يجب أن‬

‫‪107‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يخجل منه أمام نفسه أوالً قبل أن يستحي من اآلخرين‪.‬‬


‫أك بحاجة ألثبت ألحد ما أنا عليه ولربما غيري وجد في هذه‬ ‫لم ُ‬
‫المقابلة فرص ًة سانح ًة ليك ّفر فيها عن انهياره الشامل أثناء التحقيق‪ ،‬وصار‬
‫اآلن متحمس ًا يملك جرأة كبيرة ليقنع نفسه أوالً بأنه لم يكن ضعيف ًا‪ .‬كانت‬
‫ريادة االحتجاج أمام زعيم ضباط التعذيب فرصة وهمية منه لجبر ما كسر‬
‫أو محاولة ترضية داخلية وإصالح ذاتي نفسي هو في حاجة إليه وليس‬
‫أحد غيره‪ .‬لألسف كانت صحوة متأخرة جد ًا فات وقتها وجاء القطار ليس‬
‫متأخر ًا‪ ،‬بل حين كانت السكة قد رفعت وما عاد له أن يسير وال حتى نصف‬
‫خطوة‪ .‬هذا الموقف وهذه الحادثة قدمت لي درس ًا لما تبقى من عمري‬
‫تعلمت منه‪ ،‬إن الصراخ بصوت عال ال يكشف اّإل عن ضعف مثله أو لربما‬
‫أكبر في خبيئة صاحبه‪.‬‬
‫شعور مرير‪ ،‬ألني كنت أعيا في اإلقناع‪ ،‬فاش ً‬
‫ال في التبرير‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫انتابني حينئذ‬
‫عاجز ًا عن مواجهة هذا الهجوم برد قوي‪ .‬لم أكن أريد أن أعكر العالقات‬
‫علي االعتراف بأني كنت ضعيف ًا حتى في هذه ولم أتضامن مع‬ ‫بيننا‪ ،‬اّإل إنه ّ‬
‫موقفهم الجماعي كما تقتضي المصلحة العامة‪ ،‬لربما حالتي النفسية وعدم‬
‫أي حال لم أقدر على تغيير رأيي‬ ‫اكتراثي كانا وراء ضعفي هذا‪ ،‬بيد أني على ّ‬
‫وال بوارد انتقاده رغم كل الضغوط النفسية الكبيرة آنذاك‪ .‬كنت واثق ًا من‬
‫ألي من هؤالء الجالدين الوحوش‪ ،‬ألنها لم تكن‬ ‫عدم جدوى الشكوى ّ‬
‫لتغير شيئ ًا أبد ًا حتى بحسابات المصلحة النفعية‪.‬‬
‫كنت متيقن ًا إن قرار الحكم علينا بالموت قد صدر من لحظة انتهاء‬
‫التحقيق‪ ،‬والتوقيع أمام قاضي التحقيق صادق عليه بالختم الرسمي‬

‫‪108‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بشكل نهائي‪ ،‬وهذه المقابلة ما كانت اّإل بمثابة نظرة أخيرة على جثمان‬
‫مسجى ينتظر الدفن بعد برهة قصيرة‪ .‬وستثبت األيام ذلك قريب ًا‪ ،‬وقريب ًا‬
‫قلوب ُختم عليها بصنعها القبيح‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫استجد من‬ ‫جد ًا‪ .‬وحسن ًا فعلت حين لم‬
‫صمها‪ ،‬وأسدلت على أبصارها ستائر غشاوة ال‬
‫وفي أسماعها حشر حجر ّ‬
‫لجي‪ ،‬فأنى‬
‫يتسرب منها نور الحقيقة فأضحوا يعيشون في ظلمات قاع بحر ّ‬
‫يم‬
‫لهم مع كل هذا النظر إلى شمس الحقيقة ولو كانت تسطع مشرقة فوق ّ‬
‫الحياة واإلنسانية‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪15‬‬
‫***‬
‫على ذكر قاضي التحقيق‪ ،‬هناك قصة لو تمت الختلفت األمور كلها‬
‫ولسارت في مسار آخر‪ .‬قلت في بواكير هذه الحكاية "إننا بلغنا فسح ًة في‬
‫طابق علوي‪ ،‬رأيتها فيما بعد وكانت شاهد ًا للحظة كان يمكن ان تكون‬
‫تاريخية"‪ .‬جاء اآلن دور هذه الحكاية ألرويها‪ .‬كانت أجهزة األمن رغم‬
‫كل أعمالها التعسفية وممارساتها الخارجة عن القانون‪ ،‬الشبيهة بعمل‬
‫العصابات اإلجرامية بل هي كذلك فعالً‪ ،‬اّإل إنها كانت تحرص جد ًا على‬
‫ال قانوني ًا صوري ًا‪ ،‬حتى وإن لم يطبق بالمرة‪ .‬فمث ً‬
‫ال‬ ‫منح كل إجراءاتها شك ً‬
‫اإلعدامات تنفذ بحضور ممثلين عن التنفيذ من جهات معنية به‪ ،‬وإذا قتل‬
‫شخص أثناء التعذيب تُصدر له ورقة يدعى فيها إنه قد حكم عليه باإلعدام‬
‫قريب لي قتل في التعذيب وتسلمت‬ ‫ٌ‬ ‫من محكمة الثورة ونفذ به الحكم‪.‬‬
‫عائلته جثته ودفنته‪ ،‬وبعد سقوط النظام الفاشي وجدنا ورقة رسمية تتحدث‬
‫عن تنفيذ حكم اإلعدام به لكن بعد أربع سنوات من يوم مواراته التراب‪ .‬إذا‬
‫أرادوا إعدام صبي لم يبلغ سن البلوغ يأخذوه إلى مستشفى لمقابلة لجنة‬
‫طبية خاصة تقرر أن عمره الحقيقي غير عمره المثبت رسمي ًا‪ ،‬ثم يقدم إلى‬
‫محكمة الثورة على أنه رجل بالغ تجاوز السن القانونية ويصدر عليه حكم‬
‫اإلعدام أو المؤبد وفق ًا للقانون‪.‬‬
‫التقيت كثير ًا ممن قابلوا هذه اللجنة ممن ُرفعت سنّهم القانونية وحكم‬
‫عليهم كبالغين راشدين وأخذوا أحكام ًا بالمؤبد‪ ،‬ورأيت بعيني وسكنت مع‬
‫آخرين في الزنزانة ذاتها مع مجموعة سجناء أعمارهم تحت السن القانونية‬
‫‪110‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يك يتجاوز الثالثة عشر عام ًا‪ ،‬وقضوا مدد ًا طويلة في‬
‫حتى إن بعضهم لم ُ‬
‫السجن بالظروف نفسها التي كنّا نعيشها‪ ،‬كانوا مثل الصبية واألطفال بل‬
‫هم كذلك وكنّا نرعاهم رعاية خاصة‪.‬‬
‫تحقيق‬
‫ٌ‬ ‫ومن ضمن هذه اإلجراءات الشكلية بحسب القانون‪ ،‬تحقيقان‪،‬‬
‫أولي وآخر قضائي‪ ،‬األول كانت تنتزع االعترافات فيه تحت التعذيب‪ ،‬أما‬
‫التحقيق القضائي فيعرض المتهم مع إفادته أمام قاضي تحقيق‪ ،‬ويسأله‬
‫أقر المتهم‬‫القاضي بعد أن يقرأ إفادته عليه هل توافق على هذه اإلفادة؟ وإذا ّ‬
‫بها يوقع عليها وتصبح رسمية‪ ،‬وطبع ًا هذا إجراء صوري أما الحقيقة شي ٌء‬
‫آخر‪ .‬إذ كانوا يعرضون المتهم على القاضي فإن قال نعم‪ ،‬مرت األمور كما‬
‫هي‪ ،‬وأما إن أنكر االعترافات فإنهم يعرضوه لجولة جديدة من التعذيب‬
‫القاسي المرير ويعاد عرضه ثانية أمام قاضي التحقيق وال سبيل له إلنكار‬
‫اإلفادة مطلق ًا شاء أم أبى‪ .‬في بعض األحيان يتجاوزون حتى هذا الشكل‬
‫الصوري ويعتبرون التحقيق األولي تحقيق ًا قضائي ًا‪ ،‬وكانوا يلجؤون لهذا‬
‫اإلجراء مع المتهمين الذين ُحسم أمرهم بمجرد اعتقالهم ألنهم مطلوبون‬
‫بشدة من قبل األجهزة األمنية‪ .‬السلطة القمعية كانت قد قررت قتلهم مسبق ًا‬
‫حتى قبل إلقاء القبض عليهم لذا كل ما كان يحصل هو جولة قاسية من‬
‫التعذيب النتزاع المعلومات منهم فقط‪ ،‬ثم يقسر على التوقيع على إفادة‬
‫تعتبر تحقيق ًا قضائي ًا ويرسل إلى اإلعدام بأسرع ما يمكن‪ ،‬حتى لو لم‬
‫يعترف أو رفض التوقيع على اإلفادة المفبركة‪ ،‬تعد أوراق تحقيق مزيفة في‬
‫أي حال‪.‬‬
‫غرفة خاصة بهذا ويعدم على ّ‬
‫في نهار يوم شتائي استدعيت إلى قاضي التحقيق كالعادة‪ ،‬وصعدت مع‬

‫‪111‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حارس أمني واحد عبر المصعد وعندما وصلنا الردهة العلوية تُركت هناك‬
‫واقف ًا بانتظار وصول قاضي التحقيق تأملت الردهة وعرفت إنها المكان‬
‫األول الذي شهد بداية جوالت التعذيب‪ .‬كانت ردهة واسعة بين مجموعة‬
‫غرف‪ ،‬إلى اليمين هناك غرفة التقيت فيها ضابط التحقيق (ع‪.‬ع‪ ).‬ألول مرة‬
‫وإلى اليسار يوجد ممر فيه أكثر من غرفة‪ ،‬اّإل ان ما لفت انتباهي إن لهذه‬
‫الردهة الواسعة شباك كبير جد ًا تمام ًا بحجم الجدار‪ ،‬تنسدل عليه ستائر‬
‫من قماش سميك رصاصية اللون متراصة بكثافة‪ .‬لعل الشباك كان عرضه‬
‫ال أن تكون ردهة في طابق‬ ‫يوازي الخمسة أمتار تقريب ًا وكان منظر ًا غريب ًا فع ً‬
‫ثالث تحتوي على شباك واسع بهذا الحجم وبدا لي كما لو أنه كان جدار ًا‬
‫من زجاج‪.‬‬
‫كنت أقف في منتصف الردهة وحدي طليق اليدين مفتوح العينين‪،‬‬
‫ال يوجد بالقرب مني سوى شرطي أمن واحد ضخم الجثة‪ ،‬يقف تمام ًا‬
‫بمالصقة الحائط الزجاجي وهنا خطرت لي فكرة‪ .‬ماذا يحصل لو إني‬
‫ٍ‬
‫بسرعة كبيرة باتجاه هذا الشرطي وداهمته بكل قوتي‪ ،‬إنه‬ ‫ركضت بغت ًة‬
‫بالتأكيد لن يستطيع تدارك الموقف‪ .‬سأخذه على حين غرة وسوف نحطم‬
‫الزجاج باندفاعتي نحوه وبثقل جسدينا‪ ،‬وننزل مع ًا من الطابق الثالث‬
‫إلى األرض تُهشم عظامنا وتكسر جمجمتانا ونقتل سوية‪ ،‬وأكون بذلك‬
‫عاقبتهم على قتلي المقرر الحق ًا بقتل واحد منهم‪.‬‬
‫أنا ميت ال محال في كال الحالتين‪ ،‬في هذا اليوم أو بعد صدور الحكم‬
‫باإلعدام شنق ًا وهو ليس ببعيد‪ .‬لم يخطر على بالي بالمطلق إنه قد يكون‬
‫زجاج ًا مدرع ًا وال إنه من الممكن أن يكون سميك ًا جد ًا‪ ،‬إذ لم يكن في‬

‫‪112‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وقتها هذا النوع من الزجاج شائع ًا وال أنا اعرف بوجوده‪ ،‬لذا لم أفكر بهذا‬
‫االحتمال‪ .‬بدأت أستعد لتنفيذ الفكرة التي وصلت عندي لمرحلة القرار‬
‫النهائي وتجاوزت كل المراجعات النفسية الداخلية‪ ،‬كنت أنتظر فقط‬
‫لحظة ال ينتبه فيها الشرطي لحركتي‪ ،‬لمباغتته وتحقيق نجاح مثالي كامل‬
‫للخطة‪ .‬اّإل انه في هذه اللحظة بالذات اقترب الرجل كثير ًا من الحائط‬
‫الزجاجي وكنت قد سمرت نظري عليه استعدادا للوثبة االخيرة نحو‬
‫الخاتمة التاريخية‪ ،‬وإذا به وهو يزيح الستارة بتأن لينظر من خالل الشباك‬
‫ٍ‬
‫بشبكة‬ ‫محمي‬ ‫إلى أمر ما في الخارج‪ ،‬أرى إن هذا الشباك الزجاجي الكبير‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫حديدية قوية نطلق عليها في العراق تسمية "الكتيبة"‪ ،‬صعقت وتخيلت كم‬
‫كان للمشهد أن يكون دامي ًا لكن من جانبي فقط‪ .‬إذ لو نفذت خاطرتي‬
‫لكنت أوقعته أرض ًا وربما تكسر الزجاج ليس غير‪ ،‬أما أنا فسوف تكسر‬
‫عظامي بعدها تحت هراوات رجال األمن ومن الممكن أن أموت تحتها‬
‫حتى قبل صدور حكم اإلعدام‪ .‬وئدت الخطة قبل تنفيذها لكن قرار ًا كهذا‬
‫يأس كنت أحمله من تلك الحياة التي‬ ‫بأي درجة ٍ‬‫مني وإن لم ينفذ‪ ،‬يشي ّ‬
‫أي حد كنت أخاطر بمواجهة هذا اليأس‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫اعيش فيها حينئذ وإلى ّ‬
‫اليائسون حينما يرتكبون أفعاال انتحارية إنما يفعلون ذلك ألن كل سبل‬
‫النجاة أوصدت أمامهم‪ ،‬وحينها يرون أن ال قيمة الستمرارهم في مواصلة‬
‫كفاح محتوم الخسارة‪ ،‬والخطورة األشد واألعظم إنهم لن يجدوا من ثمن‬
‫أي من خصومهم‪ .‬المنتحرون ال يفعلون شيئ ًا‬‫مهم أو قيمة ذي بال لحياة ّ‬
‫سوى إنهم ينتقلون من موت إلى موت آخر‪.‬‬
‫بعد أن انتهى التحقيق تمام ًا وتمت كل اإلج��راءات الشكلية‪،‬‬

‫‪113‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫توجهت‪ ‬قضيتنا إلى صالة االنتظار‪ ‬األخير تمهيد ًا ليوم المرافعة النهائية‬


‫في محكمة الثورة‪ .‬إنما فوجئنا بحدث غريب جد ًا لم نك نتخيل وقوعه‬
‫أبد ًا نظر ًا لتلك الظروف المريعة التي مررنا بها وكنّا لم نزل نعيشها‪ .‬وقع‬
‫حادث خارج سياق األحداث وعكس منطقها بالكامل‪ ،‬فلم يكن بحساب‬
‫ال في‬ ‫أي منّا أنه سوف يظفر بفرصة للقاء‪ ‬اسرته‪ ‬بينما هو ما يزال معتق ً‬
‫ّ‬
‫سبب منطقي أو مقدمات ممهدة فوجئنا يوم ًا‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫هذا المحبس‪ ،‬لكن بال ّ‬
‫بخبر غريب من ضباط التحقيق بأننا سوف نحظى بفرصة للقاء عوائلنا في‬ ‫ٍ‬
‫القريب العاجل‪.‬‬
‫وجاء دوري في مواجهة أهلي ألول مرة منذ اعتقالي وصعدت إلى غرفة‬
‫ضابط التحقيق طليق اليدين مفتوح العينين‪ ،‬يرافقني في صعود الساللم‬
‫ال جد ًا معي ليس اآلن‬‫رجل‪ ‬أمن واحد أعرفه باالسم وكان الرجل متساه ً‬
‫فقط‪ ،‬بل في كل األحوال التي اكون فيها معه على انفراد‪ .‬ولإلنصاف إنه‬
‫كان من العناصر التي تبدي تعاطف ًا مع المعتقلين‪ ،‬ويبدو من تصرفاته أنه‬
‫كان يشعر في قرارة نفسه بظالمتنا لكن طبيعة عمله تجعله حذر ًا للغاية‪ ،‬لم‬
‫يكن هذا رأي ًا شخصي ًا مني فيه‪ ،‬بل سمعته من أكثر من واحد من المعتقلين‬
‫الذين كانوا يكنون له محبة واحترام ًا‪ .‬وهذه المشاعر الصادقة الودية تجاه‬
‫عنصر أمني يظهر معدن المعارضين السياسيين آنذاك‪ ،‬فإنهم كانوا يتخذون‬
‫مواقفهم ليس ضد أحد لشخصه وعنصره وفكره‪ ،‬بل بنا ًء على سلوكه‬
‫ومواقفه‪ ،‬لذا وعلى الرغم من إن الرجل يعمل في أحقر جهاز أمني اّإل إنه‬
‫كان موضع ترحيب ومحبة من المعتقلين لمواقفه وأفعاله مع إنها لم تغير‬
‫من نتيجة المعادلة بشيء‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫المعارضة السياسية تكون ضد المواقف المناهضة لإلنسانية والحرية‬


‫وليست ضد األفكار واالنحدارات العرقية كما رأينا فيما بعد من جهات‬
‫تفعل ذلك‪ ،‬وبأفعالها شوهت معنى المعارضة وأصبحت في نزاعاتها‬
‫ليست سوى جزء من قطيع ذئاب يتقاتل على فريسة‪.‬‬
‫في الحقيقة هناك أشخاص كنا نراهم في ورطة حقيقية في هذا العمل‬
‫التافه‪ ،‬لم يكونوا من قساة القلوب أو خبثاء السريرة وال هم بمندفعين إليقاع‬
‫األذى بالمعتقلين حتى وإن فعلوا ذلك‪ ،‬ويبدو إن اختيارهم لهذه المهنة‬
‫الحقيرة كان سببه الحقيقي هو التهرب من الخدمة العسكرية اإللزامية‬
‫والفرار من الذهاب إلى جبهات الحرب التي اشتعل أوارها حينئذ‪ ،‬وبدأت‬
‫بحصاد أرواح الشباب بشكل جماعي الفت مع وقوع عشرات اآلالف منهم‬
‫أسرى في أيدي القوات اإليرانية‪ .‬الخوف من هذين االحتمالين السيئين‬
‫كان أمر ًا شائع ًا جد ًا بعد موجة معارك خاسرة ابتدأ تواليها سريع ًا ربيع ذاك‬
‫العام‪ .‬لكن على كل حال‪ ،‬هذا النوع من رجال األمن لم يكن كثير ًا لألسف‬
‫الشديد بل كان نادر ًا جد ًا‪ ،‬والغلبة بشكل ساحق كانت للعناصر السيئة التي‬
‫أي شيء آخر‪.‬‬ ‫تحمل خصائص أقرب للبهيمية المتوحشة من ّ‬
‫ألول مرة كنت أرى المكان بتفاصيله الدقيقة‪ ،‬تطلعت إلى جدران‬
‫المبنى‪ ‬بنظرات فاحصة حتى إنه وأنا ارتقي درجات الساللم مسرع ًا‬
‫ٍ‬
‫حائط لوحة‬ ‫محاوالً اللحاق بمرافقي منتشي ًا باللقاء المرتقب‪ ،‬لمحت على‬
‫بمقت شديد‬‫ٍ‬ ‫معلقة فيها توقيع لصديق لي كان رسام ًا بارع ًا‪ .‬تملكني شعور‬
‫وغضب عار ٌم انفجر في حشاشتي‪ ،‬حين رأيت توقيعه على لوحته‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫له‬
‫بدأت أصرخ بغضب في داخلي كيف يسمح هذا المعتوه‪ ‬أن‪ ‬تعلق‬

‫‪115‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫لوحته في هذا المبنى القذر وهو الذي كنّا نعتبره من طليعة الثوريين ومن‬
‫المثقفين الداعين إلى النزعة اإلنسانية في الفكر والتعامل مع اآلخر؟ اّإل‬
‫اني سرعان ما استرجعت وعيي موبخ ًا نفسي‪ .‬ما الذي دهاك؟ هل جننت؟‬
‫وما يدري الرجل بما ُيفعل برسومه حين تباع؟ هل عليه أن يتابعها واحد ًة‬
‫تلو األخرى؟ ثم كيف له أن يعرف انها أخذت إلى مديرية أمن؟ إذا كانت‬
‫الناس عندما تدخل إليها تختفي آثارها مثل ملح يذوب في ماء فهل تبقى‬
‫من ٍ‬
‫آثار للوحة فنية حتى يمكن له ان يقتفيها؟‪.‬‬
‫وأنا أصعد تكاثرت‪ ‬أمام‪ ‬ناظري صور صعودي الوئيد حين كانوا‬
‫يقتادوني على هذه الساللم نفسها‪ ،‬وكيف كنت‪ ‬أحصي‪ ‬ثالث عشرة‬
‫علي لينزلوا بي قصاص ًا‬ ‫ْ‬
‫درجة‪ ،‬وإن‪ ‬أخطأت‪ ‬في حسابها تثور حفيظتهم ّ‬
‫علي حينها‪ ،‬انما بكل‬ ‫عاج ً‬
‫ال من صفع أو شتم‪ .‬ال أذكر كم من خاطرة مرت َّ‬
‫يقين لو حاولت عدها لعجزت عن إحصائها‪ ،‬ال حين مرقت بسرعة البرق‬
‫وقتئذ وال اآلن عندما أحاول استرجاع شريطها‪.‬‬
‫كانت أوصالي ساكنة ورأس��ي ترتعد فرائصه خشية اللحظة‬
‫المرتقبة‪ .‬أمواج‪ ‬هائجة من خواطر متضاربة‪ ‬وأفكار‪ ‬متناقضة وأسئلة حائرة‬
‫وردود عليها كانت تنهمر‪ ،‬فتصيب لبها وتطفأ ظمأها بشكل عجيب‪ .‬كل‬
‫هذا كان يحصل في تلك الدقيقتين أو حتى الثالث دقائق المدة الكافية‬
‫الستغراق طي كل الساللم وصوالً إلى غرفة اللقاء المنتظر‪ .‬انبثقت وسط‬
‫هذه الثورة العارمة خاطرة غريبة مرقت بسرعة البرق‪ ،‬كأنها صاعقة نزلت‬
‫لتميت كل شيء وأذهبت كل فورة خواطري في سكون عميق‪ .‬خاطرة‬
‫كانت خارج نسق‪ ‬األفكار وأثارت ذهولي وقتها وال أصدق حتى وأنا‬

‫‪116‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أكتبها اآلن كيف‪ ‬أخرجت‪ ‬عنقها من بين هذا الركام الهائل من تالطم بحر‬


‫المشاعر واضطرابها؟ ومضة كانت مثل سنا البرق قالت لي‪ ،‬كيف يمكن‬
‫لعقل‪ ‬اإلنسان‪ ‬أن‪ ‬يحتوي كل هذه‪ ‬األفكار‪ ‬ويجري هذا الكم العجيب من‬
‫الحوارات الداخلية في لحظات معدودة؟ تملكني انبهار غريب بقدرة‬
‫أي فيلسوف يفكر‬ ‫العقل وصرت أتأمل المسألة بروية وهدوء مثلما يفعل ّ‬
‫ال فيها‪ ،‬وهو يمشي على ساحل بحر هادئ وتطير من فوقه‬ ‫سارح ًا متأم ً‬
‫سحب بيضاء تحجب عنه حرقة‬ ‫ٌ‬ ‫نوارس بيضاء في نهار تظلل فيه األرصفة‬
‫الشمس ال نورها‪ ،‬سرحت بعيد ًا في عالم آخر بعيد يقع في الصفحة الثانية‬
‫فيض من ثقة بما حبوت‬ ‫علي فجأة ٌ‬
‫من الكون‪ .‬ومثل وحي الشعراء اندلق ّ‬
‫به‪ ‬كإنسان‪ ‬من قدرات عجيبة تدعو للفخر واإلعجاب كما تستدعي التقدير‬
‫فخر وتواض ٍع في ٍ‬
‫آن واحد‪.‬‬ ‫والتأمل‪ ،‬أصابتني‪ ‬حينها رعدة من ٍ‬
‫دخلت غرفة جوها ثقيل بدخان السجائر واألحاديث السابقة‪ ،‬مشبعة‬
‫بالدفء‪ ،‬وفي قعرها حيث النافذة الوحيدة منضدة صغيرة نسبي ًا يجلس‬
‫خلفها ضابط بزي مدنية في حين كان هناك رجال آخرون واقفين طوال‬
‫ٍ‬
‫حدث طارئ على ما يبدو‪ ،‬ألن عيونهم كانت تتابع كل‬ ‫الوقت تحسب ًا ّ‬
‫ألي‬
‫حركاتي وأنا أدخل عليهم بال قيود‪ .‬على اليمين كانت هناك أريكة صغيرة‬
‫يجلس عليها والداي في انتظاري‪.‬‬
‫مشاعر األسى والحزن تظلل وجهيهما وعيونهما الشاحبة أمطرت نهر‬
‫الي مشدوهين مبهوتين‬‫دموع ال يمكن وصف شدة جريانه وال حرارته‪ ،‬نظرا ّ‬
‫إلى أقصى الحدود‪ ،‬والدي يحدق ًّفي بنظرة تشي باضطراب شديد بينما‬
‫تقو على‬
‫أمي يغزو محياها الوجوم وظلت طائشة اللب طوال المقابلة‪ ،‬ولم َ‬

‫‪117‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫التفوه اّإل ٍ‬
‫بنزر ٍ‬
‫يسير جد ًا من كلمات يمكن احصاءها بسهولة‪ .‬استجمعت‬
‫كل قواي وأضمرت ضعفي وإحباطي أمامهم‪ .‬كان همي الشديد أن أفهم ما‬
‫شخص‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة مشفرة بعض الشيء عن‬ ‫الذي يجري في الخارج واستفهمت‬
‫يهمني أعتقل بسببي وتأكد لي عبرهما خروجه من المعتقل‪ ،‬وكان خبر ًا‬
‫مفاجئ ًا وسار ًا في الوقت نفسه‪ .‬كانت مواجهة قصيرة سريعة لم تغير شيئ ًا من‬
‫الواقع الذي نعيشه‪ ،‬ولم تكن أيض ًا محل تفاؤل كبير كما يتوقع لها أن تكون‪،‬‬
‫برغم إن حصولها كان أمر ًا غير مطروق في معسكرات االعتقال السياسي‪.‬‬
‫حصلت من هذه المواجهة على بطانية وفيرة منحتني ورفاقي دفئ ًا‬
‫ال من هيئتي‪ ،‬وإن علمت‬ ‫ٍ‬
‫بصورة مثالية وعلى ثياب جديدة حسنت قلي ً‬
‫بعدها إن رجال األمن سرقوا الجزء األفضل واألجمل منها‪ ،‬وحصلت‬
‫كذلك على سجائر ووجبة طعام منزلي صنعت خصيص ًا لي واألكثر من‬
‫ٍ‬
‫سكينة وطمأنينة هدأت من روعي‪.‬‬ ‫ذلك قليل من‬
‫اّإل ان هذه الزيارة لم تشع جو ًا للتفاؤل‪ ،‬بل على العكس من ذلك سادنا‬
‫تشاؤم كبير بعدها‪ .‬كانت زيارة غريبة في حصولها وأغرب في نتائجها فقد‬
‫علمنا إن مديرية األمن هذه تعطي ألهل المعتقلين السياسيين فيها فرص ًة‬
‫إللقاء نظرة أخيرة عليهم قبل ايقاع حكم الموت بهم‪ .‬عزز هذا التشاؤم‬
‫لطلبة زمالء من جامعتنا (جامعة الموصل)‬‫ٍ‬ ‫استذكار حادثة وقعت من قبل‬
‫سبقونا في زمن االعتقال‪ .‬ال أدري كم واحد مثلي من قاطني الزنزانة ازداد‬
‫يقينه بأننا ننزلق سريع ًا إلى الهاوية التي سوف تبتلع الكل‪ .‬أحد المعتقلين‬
‫كان متيقن ًا من هذه النتيجة المنتظرة من هذه الزيارة‪ ،‬وهو نفسه كان رائد ًا‬
‫في سبر غور تاريخ هذه الحادثة بهذه النظرة التشاؤمية‪ ،‬بل إنه هو من نقل‬

‫‪118‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أحداثها لنا بالتفصيل وكانت بالفعل مطابقة لحالتنا‪ .‬توقعه لهذه النهاية‬
‫طابق خاتمته المفجعة بالفعل فيما بعد مع آخرين التقوا أهاليهم وكانوا‬
‫معنا في الزنزانة ذاتها أو في المعتقل نفسه‪.‬‬
‫راودني إحساس بأن األرض ستنشق يوم ًا بغتة وتبتلعنا إلى حيث ال‬
‫رجعة‪ ،‬وشعور االطمئنان الذي بدا على محيانا بعيد الزيارة بدأ باالنحدار‬
‫سريع ًا وانتهى إلى وجوم‪ .‬نعم‪ ،‬كانت األمور تسير فع ً‬
‫ال نحو هذه النهاية‬
‫التراجيدية‪ ،‬اذ بعد زيارة األهل المفاجئة والغريبة تم نقل مجموعة من‬
‫سكنة الزنزانة إلى معتقل آخر يحتجز فيه بالعادة من حان وقت محاكمته‪.‬‬
‫بشعور آخر من عدم وتالش حين جاء‬ ‫ٍ‬ ‫واستبدل شعور االرتياح واالطمئنان‬
‫فجر يوم اربعاء بضعة حرس لم نرهم من قبل بمزاج قاتم وطبع غليظ‪،‬‬
‫ساقوا نفر ًا منّا إلى معتقل آخر تمهيد ًا لنطق الحكم عليهم في محكمة‬
‫صورية‪ ،‬تستلم قراراتها من ضباط التحقيق في دوائر األمن‪ .‬ها إذن قد‬
‫أزفت اآلزفة وقربت ساعة إسدال الستار على المشهد األخير من فصول‬
‫هذه الملهاة المأساوية‪.‬‬
‫خرجوا فجر ًا وغابوا ما يناهز اإلسبوعين أو أكثر ال أذكر ذلك تحديد ًا‬
‫اآلن فقد مضى زمن طويل‪ ،‬ولم يعد الوقت مهم ًا حينها ألنشغل بحسابه‪،‬‬
‫ولم أعبأ وقتها وال بعدها بعملية إحصاء األيام التي سوف أقضيها في‬ ‫َ‬
‫السجن فهي كلها متشابهة‪ .‬كنّا نترقب فجر أربعاء جديد وهو الموعد‬
‫الدوري لنقل المعتقلين من مديرية األمن إلى محكمة الثورة‪ ،‬غير إنّا دخلنا‬
‫في نفق من انتظار مقلق‪ ،‬وما كنّا نخاله أمر ًا دوري ًا تحول إلى ترقب عشوائي‬
‫ولد في كوامن نفوسنا مد ًا عالي ًا من القلق والحيرة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫غرقنا في تحليالت الموقف بفرضيات تخرج من بحر حيرة نخوض‬


‫فيها ونخرج منها بعدم‪ ،‬ثم نضع هذا العدم على شاطئ حواراتنا بعناية فائقة‬
‫كأنه صيد ثمين‪ ،‬كما لو كنّا غواصين ماهرين استخرجنا للتو لؤلؤ ًا نادر ًا من‬
‫بطن حوت‪ .‬وهذا حال من يعدم كل حيلة لكنه يأبى البالدة والكسل فيبني‬
‫ال ربما يعاجله الحظ بضربة لم تكن في الحسبان ويخلق‬ ‫ولو من أوهامه عم ً‬
‫غفلة من إحدى األماسي اندفع إلى الزنزانة عين‬ ‫ٍ‬ ‫من الخيال حقيقة‪ .‬وفي‬
‫من افترضنا أنهم قد حوكموا‪ .‬اعترتنا الدهشة! ومثل مطر غيمة استوائية‬
‫هطلت عليهم أسئلتنا ولم نجن منها اّإل حيرة وخيبة أمل ألنها كانت‬
‫ترجع بال أجوبة‪ .‬أسئلتنا كانت مثل غيث ينهمر على نهر فال نبت يستتبع‬
‫محل واحد وفي‬ ‫ٍ‬ ‫هطوله وال يزيد النهر اّإل بما هو كائن فيه‪ .‬كنّا وإياهم في‬
‫الموضع ذاته لكن بصفين متقابلين فكما نحن كانوا هم أيض ًا‪ ،‬ال يعرفون‬
‫أي معنى‪ .‬أخذوا إلى‬ ‫حقيقة ما جرى‪ ،‬سوى حكاية موجزة يكرروها بال ّ‬
‫معتقل خاص تمهيد ًا للمحاكمة كالعادة المتبعة وفي يومها ظلوا حبيسي‬
‫شاحنة مغلقة أمام مبنى المحكمة ثم عادت الشاحنة بهم بعد سويعات‬
‫إلى المعتقل الخاص نفسه وظلوا طوال الفترة المنصرمة هناك في ظروف‬
‫عجيبة سأرويها الحق ًا‪ .‬وها هم عادوا وانتهت الحكاية بال نهاية مفهومة أو‬
‫أي شيء مما جرى أو سوف يجري‪.‬‬ ‫حتى بال نهاية وال تفسر ّ‬
‫رحنا نتخبط بفوضى‪ ،‬حين ًا تثري فينا آماالً كبار ًا وتارة أخرى تخنقنا‬
‫بقسوتها‪ .‬نتأرجح بين صور مزدحمة مشوشة توارينا ساعة في طمر النسيان‬
‫ال شتوي ًا خيم علينا‬
‫وأخرى تطوف فوقنا مثل شبح تعيد إلينا الحياة‪ .‬كان لي ً‬
‫ببرده القارس يذكرنا بهشاشتنا ويزيد مصيرنا المجهول غموض ًا‪ ،‬كان علينا‬

‫‪120‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بعد عناء التفكير ومشقة األسئلة السائبة أن نجبه هذه الحلكة المضاعفة إما‬
‫بالقبول بأننا على وشك أن نفقد كل شيء أو نظل نتشبث بسراب الواحة‬
‫النائمة خلف التل‪ .‬لم يكن وارد ًا أبد ًا زجر كال الصورتين عن أعيننا الشاحبة‬
‫المنهكة فقد علقنا بينهما بال فكاك وفقدنا غريزة النسيان واستقرت شهوة‬
‫القلق في قعر ذاكرتنا اليقظة أبد ًا‪.‬‬
‫إلى أن ايقظنا من نومتنا وحيرتنا صوت ضابط في ساعة متأخرة‪ ،‬قال‬
‫كلمات تحمل نبر ًة جديدة تخمد‬
‫ٌ‬ ‫بضع كلمات باستعجال ورحل سريع ًا‪،‬‬
‫الحيرة وتحيي أمال في مواصلة الحياة ولو في زنزانة‪ .‬كلمات ما زلت‬
‫أحفظها حرفي ًا قذفها في داخلي عميق ًا صخب تنازع الصور وتجاذب‬
‫أطراف القلق‪.‬‬
‫‪ -‬خفيفة إن شاء الله‪ ،‬السيد الرئيس أمر بإيقاف اإلعدامات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫زاوية بعيدة منكفئ ًا‬ ‫تغير ُ‬
‫كل شيء وقرار الحكم علينا باإلعدام اندلف إلى‬
‫وصار يحدونا أمل حقيقي بمواصلة البقاء‪ ،‬على األقل أنا شخصي ًا صرت‬
‫متيقن ًا من هذا في قرارة نفسي‪ ،‬ووثبت أمامي تلك الرؤيا الغريبة التي رأيتها‬
‫أول اعتقالي بأني سوف أحكم لعشرين سنة‪ ،‬الحت لنواظري صور تجرجرني‬
‫وبت أتهيأ ألخمد رغبة اليأس والعبث التي استوطنتني ألشهر‪.‬‬
‫لألمام ُّ‬
‫تبرير واحد أفسر به هذا التحول في الحكم علينا وظل‬ ‫ٍ‬ ‫لم أقف على‬
‫عصي ًا على الفهم أبد ًا‪ ،‬ألن كل شيء في البلد كان يجري بقرارات مزاجية‬
‫لفرد واحد وليس من اليسير فهم دواعي صنعها‪ ،‬بل كانت كأنها أحجية ولغز‬‫ٍ‬
‫في أكثر األحيان‪ ،‬وال يوجد وصف مالئم لها اّإل انها نوبات انفعال وهلع‬

‫‪121‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫تصيب هذا الفرد المتسلط على كل شيء في البلد هو وجهازه الخاص‪.‬‬


‫هذا التحول في مصيرنا تزامن مع أمر أستطيع جازم ًا القطع بحصوله‪.‬‬
‫سأرويه بأمانة كما وقع ولن أعلق عليه حتى ال أوحي بشيء ال يمكنني نفيه‬
‫وال يمكنني أيض ًا أن أجعله حقيقة فوالذية ال تخرق‪ .‬ومع هذا ال يمكن ان‬
‫في ال أملك نفسي عن‬ ‫أغفل حقيقة أخرى وهي إنه قد حفر أخدود ًا عميق ًا َّ‬
‫االنجراف فيه مهما استجمعت كل غرائزي وأيقظت سائر شهواتي وكلما‬
‫ركنت إلى سبل الفرار منه كنت أعود اليه آيب ًا وأقع فيه ثانية‪.‬‬
‫أجواء من جز ٍع وإحباط كانت تسيطر علينا في ترقب المجهول تزامن ًا مع‬
‫هواجس كانت تهشم كل صور العالم الخارجي‬ ‫ٌ‬ ‫موعد المحاكمة الملغاة‪،‬‬
‫يم النسيان‪ .‬تورم رأسي حينها لفرط‬ ‫التي بدأت بدورها تتالشى وتغرق في ّ‬
‫ما كان يحمل من الوجع في مالحقة القادم وأصبح فارغ ًا خاوي ًا اّإل منها‪.‬‬
‫صارت الزنزانة لجة تبتلع جسدي الذي بدأ يذوي متسارع ًا يسابق الموت‬
‫القادم تطرقه فظاعات ذهنية في كل آن‪.‬‬
‫يقو بالمرة على أن يواري القلق وال الرعب‬ ‫اصطناع الرزانة والتجلد لم ِ‬
‫من المصير المتوقع قدومه عاجالً‪ ،‬لذا صرت كما اآلخرين على األرجح‬
‫في كوابيس يقظة موحشة‪ .‬وإذا تملك أحد يقين من إن سيف قادم‬ ‫تنهش َّ‬
‫إليه قريب ًا سينحر أوداجه فإن حرارة حزه ألهون بكثير من لهب انتظاره‪.‬‬
‫لشدة لوعتي في تلك األيام تمنيت من صميم قلبي أن ال ينزل بأحد وإن‬
‫ٍ‬
‫محنة قاسية‪ .‬إني ألعجز اآلن عن‬ ‫كان جالدي نفسه‪ ،‬ما كنت اعيشه من‬
‫علي‪،‬‬
‫بيان ما كابدت من األلم النفسي ومضاضة كل لحظة كانت تمر ّ‬
‫كنت أكتم هذه المضاضة حبيس ًة في احشائي فتبالغ في إيالمي أكثر مما‬

‫‪122‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫هي موجعة بنفسها ولوحدها‪ .‬وعلى األغلب هذا كان يحصل للجميع‪ ،‬ال‬
‫أدري قد يكون حتى أكثر مما كنت أقاسيه وأكابده‪ .‬لم نتشارك إبداء الوجع‬
‫بل حاولنا مواراته عن بعضنا حتى ال يؤذي أحدنا اآلخر أو كنا نخشى أن‬
‫ننكأ الجرح فيتضاعف األلم علينا‪.‬‬
‫بارد في صناديق خشبية يحيط بها حرس‬ ‫عنبر ٍ‬
‫صورة قاتمة لخروجنا من ٍ‬
‫قساة يحظرون البكاء ويمنعون العزاء‪ ،‬أمام نواظر أمهات ثكلى تغطيهن‬
‫جالبيب سود ما أذن لهن من البقاء في هذه الدنيا‪ .‬هيئة تدفع بقتامتها‬
‫إلى كل األشياء الالتي تحيط بهن وتحيل أيامهن لياليا‪ ،‬وآبا ُء لن يفارقهم‬
‫عبوس أزلي ويستعيضون بوجو ٍم مقيم بدالً عن دمو ٍع لن يذرفوها علن ًا‪،‬‬
‫وحين يفعلون فسوف تكون دموع كمد في الخلوات فقط‪ ،‬هرب ًا من مالحقة‬
‫شماتة اآلخرين ومن عيون رجال األمن‪ .‬شقيقات سوف يوصدن كل‬
‫النوافذ والشبابيك ألن دروب العشاق ستحول مسارها بعيد ًا عنهن خشية‬
‫من مصير مشابه لمصير أشقائهن‪ ،‬وفرسان أحالم سوف يستنكفون المرور‬
‫تحت نوافذهن‪ ،‬فقد صرن منتميات لطبقة الداليت الهندية المنبوذة وال‬
‫يجوز لألشراف مصاهرتها‪ .‬سيخرج أشقاؤنا كل يوم إلى أعمال جديدة‪،‬‬
‫على األرجح سوف تكون حقيرة بعد أن يطردوا من وظائفهم الحكومية‪،‬‬
‫يتحاشون نظرات االتهام والريبة من الجيران وتتضاعف قتامة وحلكة‬
‫األيام بنهاراتها الدامسة قبل لياليها أمامهم حين يتحاشاهم صديق أو قريب‬
‫كان يرتاد المقاهي والمالهي معهم‪ .‬ال يمكن أن اصف جميع الصور‬
‫الوخيمة‪ ،‬ألن حتى مجرد كتابتها اآلن يقطعني بشفرات نصلها الحاد واني‬
‫علي وليتها ال تعاود المرور‬ ‫ٍ‬
‫مرت ّ‬ ‫ألرأف بكل أحد أن يتخيلها‪ .‬المهم أنها ّ‬

‫‪123‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي إنسان‪.‬‬
‫على ّ‬
‫‪ -‬هل تعرفون إني سمعت قوالً ديني ًا مأثور ًا عن النبي محمد أنه قال‪:‬‬
‫ميت ونهض بعدها فلن أعجب لذلك؟‬ ‫أت الفاتحة سبعين مرة على ٍ‬
‫لو ُق ِر ْ‬
‫سألنا أحد الذين كان معنا في الزنزانة ممن كان يحفظ من أمور الدين‬
‫ويمارس طقوسه أكثر من اآلخرين‪ ،‬وحثنا على فعلها‪.‬‬
‫ال أخفي القول‪ ،‬عقلي لم يصدق أبد ًا ما كان يقوله صاحبنا‪ ،‬وال كنت‬
‫ال هناك نقل موثوق معتمد بمثل هذا القول‬ ‫أدري من قبل وال اآلن هل فع ً‬
‫عن النبي محمد أم ال‪ .‬رغم ذلك فإني لم أنبس ببنت شفة اعتراض ًا عليه‬
‫أي نوع من أنواع التلميح للرفض أو التعجب ولو‬ ‫وال حتى جربت إبداء ّ‬
‫بتقطيب وجه أو رفع حاجب أو نظرة شزراء‪ .‬بدا ما يقوله غريب ًا جد ًا وأقرب‬
‫إلى االسطورة المبالغ فيها من أي شيء آخر‪ ،‬لكني لم أنكر عليه قوله ولربما‬
‫لو قيل لي هذا القول في غير تلك الساعة لكنت تفحصته وقلبته ألف مرة‬
‫ومرة ومن كل الوجوه كعادتي المألوفة في النظر والتدقيق وما كنت ألصدقه‬
‫في النهاية‪ .‬غير إن قوله نزل كقارب نجاة ال مناص من التشبث به والعبور‬
‫علي مثل غيث يطمر ببرده‬ ‫به للنجاة من خطر الغرق المحدق‪ ،‬وحل قوله َّ‬
‫لسعة نيران تكتوي بها حشاشتي‪ .‬جلسنا مجتمعين هادئين بانكسار‪ ،‬كنت‬
‫أسمع نشيج خفي من بعض رفاق الزنزانة ونحن نقرأ سورة الفاتحة لسبعين‬
‫مرة بإخبات وفي صمت محكم خبت معه اآلهات‪ ،‬كل اآلهات‪ .‬حين انتهينا‬
‫ٍ‬
‫بفيض من‬ ‫رئتي بهواء نقي جاء من عالم آخر أشبعني‬‫تنفست عبق عطر مأل ّ‬
‫شيء أجهله‪ ،‬مثله مثل نسيم ربيعي يهب في ظهيرة يوم تموزي‪ .‬انزوينا‬
‫كل إلى محله في مخدعنا المشترك المزدحم وقد هدأت طباعنا كأننا‬ ‫بعدها ٌ‬

‫‪124‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫قفلنا للتو من حلقة ذكر صوفي أنهكنا فيها الرقص عشق ًا‪.‬‬
‫هذا الحادث الغريب حصل في عشية اليوم الذي اقتادوا فيه بعضا من‬
‫رفاقنا إلى المحاكمة الملغاة والتي تغير فيها الحكم باإلعدام إلى حكم‬
‫آخر‪ .‬عندما سمعت الضابط يقول‪:‬‬
‫‪ -‬خفيفة إن شاء الله‪ ،‬السيد الرئيس أمر بإيقاف اإلعدامات‪.‬‬
‫اندفعت تلك الليلة الصوفية بكل ما فيها إلى كياني ولم تخرج منه أبد ًا‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪16‬‬
‫***‬
‫عدنا إلى الحياة من جديد بعد هذه الحادثة الغريبة أو المصادفة العجيبة‬
‫وبدأت بعدها أحاول أن أرتب دواخلي لحياة طويلة في السجن‪ ،‬غير‬
‫إنه صادفتنا أمور كثيرة كانت تثير الغثيان واالشمئزاز والقرف منها ومن‬
‫سلوك رجال األمن والحرس الحافل بالتناقض‪ .‬فجوة شاسعة جد ًا بين‬
‫بريق الشعارات وبهرجة االدعاءات التي يتظاهر بها الحزب الفاشي هو‬
‫والمروجين له‪ ،‬وبين واقع حاله وهذا ليس حكر ًا عليه‪ ،‬بل إنه عين ما‬
‫جل أصحاب الجمعيات واألحزاب وحال مناصريهم الذين يقاتلون‬ ‫يفعله ّ‬
‫بشراسة ألجل السلطة‪ ،‬وال يناضلون للفكرة كما يزعمون‪ .‬لذا يستفرغون‬
‫كل ما في وسعهم ويبذلون أقصى جهدهم لبلوغ مآربهم الخبيثة‪ ،‬فيرى‬
‫ألجل هذا قادة تلك الجهات يزوون جانب ًا النظر في أخالق أتباعهم الرذيلة‬
‫وأصولهم المنحطة ما بلغوا بهم مآربهم في الجاه والسلطة والزعامة والثراء‪،‬‬
‫بل إنهم يستعملون تلك الزمر من األوباش واألراذل عن عل ٍم ودراية وال‬
‫يوفروا جهد ًا من حثهم وتشجيعهم على ارتكاب كل الموبقات ليرهبوا‬
‫بهم خصومهم ويختصروا المسالك ألمانيهم الخاطئة‪ .‬في بعض األحيان‬
‫تبلغ تناقضاتهم من السخف حد ًا يثير الشفقة على أصحابها ويبعث على‬
‫الضحك ويدعو للسخرية من عفن عقولهم‪ .‬وهذا كان حال العاملين في‬
‫هذه األجهزة القمعية فقد كانوا سيئو الطباع واألخالق‪ ،‬ال ينطقون اّإل سباب ًا‬
‫وشتائم ًا كأنهم لم يعرفوا لغة غيرها من ساعة والدتهم‪ ،‬لذا كنت أراهم‬
‫متعجب ًا يجيدون ألفاظها بطريقة فريدة ال تخطر على بال أحد ولم اسمع‬

‫‪126‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بها من قبل‪.‬‬
‫كنت أتساءل ونفسي عندما أصغي لهذا السباب المقذع المتبادل بينهم‪،‬‬
‫هل هؤالء بعد العمل يعودون لبيوت يسكن فيها أطفال وترعاها زوجات‬
‫فترق قلوبهم لها وتحنوا عليهم‪ ،‬أم إنهم يسكنون صحراء َقفر من كل شيء‪،‬‬
‫جردتهم من مشاعر وأخالق البشر؟ كانوا فاسدين لدرجة فظيعة وإني‬
‫لواثق من إنهم كانوا فاسدين باألصل‪ ،‬قضوا أعمارهم سعي ًا في البحث‬
‫مهنة يمارسون فيها رذائلهم فبلغوا مرامهم المطلق في هذه الحرفة‬ ‫عن ٍ‬
‫الفظيعة بقبحها‪ .‬كانت الدسائس والوشايات والنميمة زادهم اليومي‪،‬‬
‫يتشاتمون على كل شيء‪ ،‬بل وألجل ال شيء أيض ًا‪ .‬من اليسير جد ًا أن‬
‫تنشب المهاترات بينهم‪ ،‬ويكفي لحصولها مجرد ريح باردة تمر من فتحة‬
‫ٍ‬
‫باب موارب لينهمكوا في شجار ال يوفرون لفظ ًا قبيح ًا اّإل واستخرجوه من‬
‫جعبتهم التي ال تنفد‪.‬‬
‫وأنا اسمعهم وأراهم على هذه الحال أحسب إنهم خلقوا ألجل هذا‬
‫وحسب‪ .‬قساة غالظ لحد مرعب غير إني الحظت عليهم سلوك ًا غريب ًا‬
‫حين كان يسمح لنا بمراجعة دورة المياه بعد كل وجبة طعام‪ .‬كان يتناوب‬
‫علينا حرس مخصصون لهذا العمل‪ ،‬ومن يأتي اليوم ال يأتي بالغد ولم‬
‫تكن تتغير مجموعة الحرس وحسب بل تتغير األخالق معها أيض ًا‪ ،‬يأتي‬
‫ٍ‬
‫جاف غليظ يشبعونا سب ًا ومهانة ويثيرون حنقنا‬ ‫ٍ‬
‫بأسلوب‬ ‫الحرس اليوم‬
‫وغضبنا‪ ،‬ويحل محلهم في اليوم التالي آخرون على النقيض من أصحابهم‬
‫متساهلين ويسردون علينا أحاديث وقصص وقعت لهم كأنهم يسلونا‬
‫ويروحون عنّا يخال المرء بعدها إنهم ال ينتمون لهذا المكان‪ ،‬لوال زيهم‬
‫ّ‬

‫‪127‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫العسكري والهراوات التي ال تفارق أياديهم والسالح المركون دائم ًا إلى‬


‫جنوبهم‪ .‬ولوال إني كنت أعرف هذا الحارس الوديع نفسه عندما كنت‬
‫في الزنزانات االنفرادية وكيف كان يظهر أنواع الفنون في إلحاق األذى‬
‫بالمعتقلين لصدقت إنه جاء بالخطأ لهذه المهنة لو رأيته لمرة واحدة فقط‬
‫بهذه السماحة‪ .‬هذان الوجهان المتضادان كان ترتيب ًا معد ًا من رؤسائهم‬
‫لترهيب المعتقلين من جهة واحتواء غيظهم من جهة أخرى‪ ،‬وكانوا ال‬
‫يعيرون باالً لتخالف صورهم وال لتباين سلوكهم‪ ،‬فهذا الحمل الوديع‬
‫نفسه بعد حين يصبح ذئب ًا مفترس ًا والعكس بالعكس ويعرف كل من كان‬
‫بالمعتقل إنها حرب نفسية معدة بإحكام للتالعب بالسجناء السياسيين‪.‬‬
‫ال يوجد أي سبيل لتغيير النظرة المستقرة عليهم بالعموم إنهم وحوش‬
‫بمظاهر آدمية‪ ،‬اّإل إن الحق البد أن يقال‪ ،‬واحدٌ منهم كان يبدو فع ً‬
‫ال إنه‬
‫قد جاء لهذه الوظيفة لسوء حظه وعلى األرجح بفعل نصيحة حمقاء من‬
‫صديق أو قريب دفعته إلى هذه المهنة الساقطة هرب ًا من الحرب المشتعل‬
‫أوارها حينها والتي كانت تلتهم أجساد الشباب ما أن يبلغوا السنة الثامنة‬
‫َكدُ الحظ الذي جاء بالخطأ‬ ‫عشر من أعمارهم‪ .‬يقين ًا إن أمثال هذا الرجل ن ِ‬
‫ال تواجده‪ ،‬لكن في الغبراء من ذا الذي‬ ‫لهذه المهنة الساقطة ليس مستحي ً‬
‫يمكنه أن يرى األشياء الجميلة؟‪.‬‬
‫رغم ذلك االصطناع اّإل إن طبائع األشخاص وأمزجتهم الشتى‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم‪ ،‬بعضهم كان‬ ‫وأفكارهم الخاصة كانت تنضح من تصرف كل‬
‫يظهر خالعة ومجون ًا وال يكف عن الحديث عنها‪ ،‬وآخر كان يحمل مسبحة‬
‫طويلة ويبدي تدين ًا كأنه درويش يقيم في صومعة على قمة جبل‪ .‬هذا‬

‫‪128‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الحارس بالذات كان يختص ببالدة حيوانية وفظاظة مفرطة بشكل متفرد‪.‬‬
‫كانت البداوة والقساوة تشع من محياه لكل من يراه ولو لبرهة واحدة ومن‬
‫لهجته حتى لو سمعه شخص يتلفظ بضع كلمات ال معنى لها‪ .‬عيناه زائغتان‬
‫بالخلقة‪ ،‬قبيح المنظر بال حاجة لهذا القبح اإلضافي وبمرافقة هذه العيون‬
‫المتشاكسة فيما بينها ازداد قبح ًا وبشاعة‪ .‬قوي‪ ،‬قصير‪ ،‬ذو جثة مملوءة‪ ،‬ال‬
‫يتوقف لسانه عن التسبيح والتهليل بينما كنَّا نخرج لقضاء حاجتنا‪ .‬وفي‬
‫يوم ما ولسبب مفرط في السخافة إلى الحد الذي لم أوفق السترجاعه من‬
‫ذاكرتي رغم محاوالتي الكثيرة اليائسة للعثور عليه انفجر غاضب ًا مثل برميل‬
‫بارود‪ .‬لهذا السبب المفرط في التفاهة والمجتمع مع تلك البالدة‪ ،‬فهم هذا‬
‫الحارس الغبي شيئ ًا ال يمكن فهمه بهذه الطريقة المعوجة اّإل من معتوه‬
‫مثله فائق الغباوة وانفجر ألجل ذلك غضبه الهستيري على أحد المعتقلين‬
‫وأشبعه ضرب ًا وشتم ًا بطريقة تشبه فتك وحش ضاري منفلت من عقاله‪.‬‬
‫بالمقابل كان صاحبنا المعتقل على عكسه تمام ًا من النوع الفاشل جد ًا في‬
‫أي أمر حتى ولو كان يملك كامل حريته‪ ،‬فكيف به اآلن‬ ‫أي أحد في ّ‬
‫إقناع ّ‬
‫وتقلبه على البالط ركالت من أقدام وحش أصم‪.‬‬
‫لم نملك خيار ًا ساعتئذ لنصرته في هذه المواجهة غير المتكافئة ولو‬
‫ٍ‬
‫مجزرة حقيقية‪ .‬ومع ذلك‬ ‫جربنا ذلك تهور ًا‪ ،‬ألنقلب الحال بال ريب إلى‬
‫لم نقدر على التقوقع بالسكوت فانبرى أحدنا بطريقة رقيقة بعد أن لمس‬
‫ٍ‬
‫بكلمات مختصرة لكنها كانت‬ ‫فتور ًا في ثورة هذا الدرويش الوحش فأقنعه‬
‫متماسكة وبليغة بأن األمر ال يعدو سوء فهم‪ ،‬وان هذا المعتقل لم يكن‬
‫يقصد شيئ ًا سيئ ًا‪ .‬حينها بدت على الحارس البدوي عالمات تراج ٍع وندم‬

‫‪129‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫عقاب مجاني‬ ‫انعكست علينا فرح ًا وبشرى بإنقاذ المعتقل المسكين من‬
‫بأي معيار أو مقياس‪ .‬ولم تكتمل‬‫ألي أحد أن يبرره وال ّ‬
‫ظفر به ال يمكن ّ‬
‫فرحتنا لنواجه معضلة أشد بعد ذلك‪ ،‬إذ قال لنا هذا الحارس األمني الورع‪:‬‬
‫‪ -‬ادخلوا الزنزانة‪ ،‬ال أقدر على السماح لكم بدخول المرحاض اآلن‪.‬‬
‫بهتنا لذلك ولم نفهم‪ ،‬بعد ان ظنّنا إن كل شيء قد عاد لمجراه‪ ،‬اّإل إنه‬
‫ٍ‬
‫متدين غاية في الورع موضح ًا قراره الغريب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫أردف بثقة وبيقين‬
‫‪ -‬ألني بينما كنت غاضب ًا أضرب صاحبكم‪ ،‬أقسمت يمين ًا أن ال تخرجوا‬
‫لقضاء حاجتكم اليوم‪ ،‬ولذلك ال أستطيع كسر يميني اآلن ألن ذلك حرام‪.‬‬
‫تبادلنا نظرات دهشة وكتمنا قهقهة استغراب‪ ،‬ومن حينها ازدادت‬
‫ٍ‬
‫طويل حرموا أنفسهم‬ ‫سخريتي ممن ينصتون خاشعين لتالوة بورع بعد ٍ‬
‫نهار‬
‫فيه من لذائذ الشراب والطعام ليهبوا بعدها لفعل اشد الموبقات‪ .‬هذا األمر‬
‫تكرر حصوله من أولئك الحرس ورجال اآلمن حيث كنّا نراهم من كوة‬
‫الزنزانة يتحلقون على مائدة إفطار رمضاني ثم ينهضون بعدها مسرعين‬
‫تملؤهم الحماسة لجلد أمرئ ال يعرفوه وينزلوا به أشد العذاب ولو قيض‬
‫لهم افتراسه لفعلوا‪ .‬من يومها سخرت ولم أندم على ذلك أبد ًا من دين قوم‬
‫يجيز كل هذه الفواحش والقبائح وال يجيز كسر يمين على دخول مرحاض‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪17‬‬
‫***‬
‫ال للحديث عن أصحابنا الذين عادوا من‬ ‫علي اآلن أن أرجع قلي ً‬ ‫ّ‬
‫المحكمة الملغاة والتكلم عن الظروف الخارقة في غرابتها وندرة حصولها‬
‫التي عاشوها في المعتقل وهي أقرب للخيال من الواقع‪ ،‬وال أفهم كيف‬
‫يمكن ألحد أن يبررها أو يتغاضى عنها وعمن وقف وراءها أو يتهاون مع‬
‫مرتكبيها‪ .‬سوف أسرد بعض ًا من هذه الحكايات العجيبة التي لم أشهدها‬
‫بنفسي لكنها كانت متواترة‪ ،‬إلى حد إنه يكاد ال يوجد سجين سياسي اّإل‬
‫ومر بها اّإل القليل جد ًا‪ ،‬ونحن لحسن الحظ‪ ،‬أقصد المجموعة التي كانت‬
‫تعيش معي في الزنزانة‪ ،‬كنّا من هذه القلة القليلة‪.‬‬
‫مديرية األمن العامة أكبر ُم ْعتقل سياسي وتضم الشعبة الخامسة الرهيبة‬
‫المتكفلة بالشأن السياسي أو باألحرى الشعبة المختصة بتصفية المعارضة‬
‫السياسية‪ ،‬ولذا يحتجز فيها أكبر عدد من السياسيين تمهيد ًا لمحاكمتهم‬
‫الصورية في محكمة الثورة‪ .‬محكمة سأروي في حينه تجربتي معها‪ ،‬وهو‬
‫على كل حال مع انه كان مشهد ًا زمني ًا قصير ًا جد ًا لكنه كان ثقي ً‬
‫ال للغاية ينوء‬
‫بعبء حمل خالصته تمثل واقع حقبة مظلمة امتدت لثالث عقود متوالية‪.‬‬
‫سأترك هذا لوقته أما اآلن فألقفل عائد ًا إلى رواية مشهد آخر وإن كنت أنقله‬
‫ال عن عيان إنما عن سماع من مئات األشخاص ممن التقيتهم أو عشت‬
‫معهم‪ ،‬ولفرط ما يروى ويسمع من أغلب المعتقلين السياسيين صار كأنه‬
‫اغنية شعبية يحفظها جميع األطفال‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ما أن ولج رفاقنا في الزنزانة قادمين من رحلتهم إلى جلسة المحاكمة‬


‫الملغاة‪ ،‬وإذا بأبصارنا تشخص مباشرة إلى أقدامهم العارية وسيقانهم‬
‫المتورمة المنتفخة الغليظة جد ًا كأنها ساق شجرة معمرة بال أغصان‪ ،‬ال‬
‫ورق فيها وال ثمر‪ .‬هل رأيتم جذع سنديانة كم هو ضخم؟ كانت كذلك كما‬
‫لو أنها مخصصة لتحمل عمالق ًا وليس أجساد ًا نحيفة شاحبة‪ .‬كان منظر ًا‬
‫وبناء رفيع مثل خيط أوشك‬ ‫ٍ‬ ‫يحمل تنافر ًا مقزز ًا بين قاعدة عريضة متينة‬
‫على االنقطاع‪ .‬لهذا اختلطت المشاعر بعشوائية عندما صاروا في مرمى‬
‫أبصارنا وتوزعت بين فرحة برؤيتهم أحياء من جديد‪ ،‬بين تعجب لعودتهم‬
‫واستفهام عن سببها‪ ،‬الن من يغادر للمحكمة كان ال يعود‪ ،‬وبين مظهر‬
‫األرجل العمالقة والخوف من السبب الكامن وراءها‪ .‬ألن ما نراه اآلن‬
‫في الغالب هو أعراض عقوبة جديدة لم نألفها وستطالنا عن قريب كما‬
‫وصلت إليهم‪ .‬منظرهم الغريب أضاف هاجس ًا جديد ًا لسلة قلقنا التي تزداد‬
‫ازدحاما بالهموم والمخاوف‪ .‬اختلطت األمور علينا كثير ًا وصار الغموض‬
‫واإلبهام سمتها وباتت أرواحنا ال تعرف أين تقف وإلى من تلجأ وتسكن‬
‫في تلك اللحظات‪.‬‬
‫منحنا أنفسنا جميع ًا فرصة إليقاف ثورة الهلع هذه ولكبح األسئلة‬
‫التي أمطرنا بها النزالء الجدد القدامى وبعد أن انفرجت األسارير بمجيء‬
‫الضابط وهو يحمل بشرى إيقاف اإلعدامات‪ ،‬بدأ أصحابنا يقصون علينا‬
‫الرواية الغريبة بروية وهدوء عن رحلتهم إلى أرض العجائب‪.‬‬
‫‪ -‬كنا في مديرية األمن العامة‪ .‬هكذا استهلوا الحديث‪.‬‬
‫وبدأ الوصف المسهب وبيان التفسير لعلة هذه األقدام الضخمة في‬

‫‪132‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حديث طويل استمر أياما‪ ،‬اّإل اني سوف أوجز كل ذلك كما أفعل مع سائر‬
‫ما حصل اّ‬
‫وإل لو فصلت كل شيء فلن أنتهي أبد ًا‪.‬‬
‫رفاقنا األربعة احتجزوا هناك بعد إلغاء المحاكمة‪ ،‬في زنزانة طولها‬
‫ثالثة أمتار وعرضها متران وفيها دورة مياه بدون باب مساحتها متر مربع‬
‫متر واحد‬‫واحد‪ ،‬ولهذه المرحاض ثالث جدر يصل علوها ألكثر من ٍ‬
‫باب حديدي محصن ضخم وموصد بأقفال كبيرة من‬ ‫بقليل‪ .‬للزنزانة ٌ‬
‫مغلق على الدوام وفيه فتحة صغيرة في األعلى ُيمرر منها الطعام‬
‫الخارج‪ٌ ،‬‬
‫إلى القاطنين في الزنزانة‪ .‬ولهذه الزنزانة فتحة واحدة للتهوية بحجم خمسة‬
‫وعشرين سنتمتر ًا طوالً وعرض ًا تقريب ًا‪ ،‬توجد فيها مفرغة هواء صغيرة‬
‫تناسب حجمها الصغير وخلف تلك المفرغة وضعت صفيحة معدنية‬
‫سميكة بها ثقوب صغيرة كثيرة كي تسمح للهواء بالمرور منها وتحجب‬
‫أي شعاع للشمس من‬ ‫أي مشهد في الخارج وتمنع ّ‬ ‫أيض ًا الرؤية كاملة عن ّ‬
‫الدخول إلى الزنزانة‪ .‬يتدلى من السقف مصباح باهت فيما األرضية إسمنتية‬
‫خشنة كما هي كل أرضيات المعتقالت والسجون التي مررنا بها‪ .‬اّإل إن‬
‫كل هذا لم يكن هو األمر االستثنائي وال حتى المثير لالشمئزاز في القصة‬
‫بالنسبة لنا كما يبدو لغيرنا حتى اآلن‪ .‬هذا الوصف المقرف لهذه الزنازين‬
‫سوف يزعج وربما يسبب بعض اآلالم النفسية كما البد له أن يفعل بالعادة‬
‫لكل إنسان ألف العيش في الفضاءات المفتوحة ويمارس حرية التنقل فيها‪،‬‬
‫عندما يسمع قصصا كئيبة كهذه‪ .‬رأيت بنفسي بعض ًا من آثار هذه الحكايات‬
‫عندما كنت أرويها شفاه ًا لبعض من أراد أن يسمع بعض الذي كان يجري‪.‬‬
‫وعندما أقول إنها تسبب آالم ًا نفسية فإني اعني ما أقول ألني تعرفت على‬

‫‪133‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫طبيب نفسي فرنسي متطوع حاول مساعدتي بمعالجتي من آثار السجن‬


‫النفسية‪ ،‬اّإل إن المسكين أصيب بكآبة شديدة عندما سمع بهذه القصص‬
‫وقرر أن يترك عالجي ويأخذ بعدها إجازة طويلة من العمل لمعالجة وضعه‬
‫النفسي وحالة كآبة أصيب بها جراء هذه القصص‪ .‬في الحقيقة لم أحدثه اّإل‬
‫عن نزر يسير جد ًا وتأسفت كثير ًا لما حصل له‪ ،‬وهذا هو ما جعلني الحق ًا‬
‫أحترس بشدة عندما أحدث غرباء عما حصل لي‪.‬‬
‫األمر الخارق للعادة كان العدد الذي يسكن في هذه الزنزانة‪ ،‬ففي أحسن‬
‫ال وفي مناسبات كثيرة يكون أكثر‬ ‫األحوال يصل إلى سبعة وعشرين معتق ً‬
‫ال فكيف‬‫أمر ال يصدق فع ً‬‫من هذا وقد يصل إلى ثمانية وثالثين معتقال‪ٌ .‬‬
‫يمكن أن يعيش كل هؤالء في هذه الستة أمتار المربعة؟ ويجوز لي أن أقول‬
‫إنها خمسة فقط‪ ،‬إذا اقتطعنا منها متر دورة المياه‪ .‬لكن الحقيقة ال ينبغي‬
‫أن تخفى‪ ،‬فإن أفضل األماكن كانت دورة المياه‪ .‬طبع ًا ليس القصد عندما‬
‫يختلي السجين فيها‪ ،‬ألنه باألصل ال توجد هكذا خلوة اّإل في األحالم‪،‬‬
‫بل ألنها أرحب األماكن للجلوس والوصول إلى هذه البقعة األثيرة يسير‬
‫بالتناوب وفق نظام يشمل الجميع‪ ،‬وكم كان يسعد المرء حينما يصير من‬
‫نصيبه السكن في مربع دورة المياه‪.‬‬
‫بأي شيء متوفر يمكن أن يخفي‬ ‫تغطى فتحة المرحاض الشرقي ّ‬
‫الفتحة فقط‪ ،‬لتصبح أرض ًا مستوية‪ ،‬ليس استنكافا من محتوياتها فإن هذه‬
‫المحتويات تعاصر سكان الزنزانات ليل نهار في كل مكان زرناه الحق ًا‪،‬‬
‫أي سجين بحاجة إلى االستعالء عن روائح هذه األماكن‪ .‬كل‬ ‫ولم يعد ّ‬
‫المطلوب من هذا الغطاء ان يجعل الفتحة متر ًا مربع ًا حقيقي ًا بال تجاويف‬

‫‪134‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ويغدو بعدها نزالً يتسع ألربعة اشخاص محظوظين‪ .‬لعله اآلن قد بانت علة‬
‫تضخم أقدام رفاقنا الذين عادوا إلينا من تلك الزنازين في رحلة المحكمة‬
‫الملغاة‪ ،‬واذا لم ينكشف ذلك لحد اآلن‪ ،‬فلنذهب إلى حكاية اللقلق وهي‬
‫كفيلة بتفسير كل شيء‪.‬‬
‫طائر اللقلق الذي عشعش في رأسي منذ ما يزيد عن ثالثين عاما‪ ،‬ليست‬
‫حكاية عذبة بريئة‪ ،‬كقصة اللقلق الذي يعرفه األطفال األوربيون حين‬
‫يسألون أهليهم كيف يأتي األطفال إلى هذه الدنيا فيشبعوا فضول سؤالهم‬
‫بأن لقلق ًا قد جاء بهم‪ .‬قصة ظريفة رأيتها فيلما سينمائي ًا اسمه وداع ًا أيها‬
‫اللقلق‪ ،‬على كل حال هذه قصة عندما كانت الحشمة لها محل في العوائل‬
‫األوربية‪ ،‬أما وقد مات اللقلق األوربي مع مصرع الحشمة في أوربا وربما‬
‫في العالم كله‪ .‬فإن لقلقي لم يرحل بعيد ًا بل ما يزال يعشعش في رأسي‬
‫مثلما يستوطن برج كنيسة بغدادية‪ ،‬يبيض ويفرخ فيه وكلما رحل عنه يعود‪.‬‬
‫أراد العتاة بهذه الزنزانات الرهيبة أن يحطموا نفوس المعارضين ويسحقوا‬
‫عزيمتهم قبل أن ُينزلوا العقاب األخير بهم‪ .‬كانت هذه الزنزانات ممر ًا إلى‬
‫موت محتوم‪ ،‬في السنتين األوليتين من حرب الخليج األولى‪ ،‬وكانت هذه‬
‫الزنزانات وعددها اثني وثالثين زنزانة تودع يومي ًا عشرات الشباب إلى‬
‫محكمة الثورة حيث يتلقون أحكام اإلعدام‪ .‬وهو الحكم الوحيد الذي يناله‬
‫المعتقلون السياسيون أ ّي ًا كانت تهمتهم أو السن الذي بلغوه ولو كانوا دون‬
‫الثامنة عشر اّإل قليل جد ًا منهم ممن كان يأخذ الحكم بالسجن المؤبد إما‬
‫بضربة حظ أو مشيئة قدر ال يعرف أحد مغزاها والحكمة منها‪.‬‬
‫بمعدل ثالثين فرد ًا في ستة أمتار مربعة ال يرتدون اّإل مالبس داخلية كان‬

‫‪135‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يتشكل المشهد الثابت‪ .‬وألن الجو خانق يكتم األنفاس والحر شديد إلى‬
‫حد إن السقف كان يمطر على مدار الساعة ما كان لهم أن يرتدوا غير هذه‬
‫ال للخروج‬ ‫المالبس‪ .‬المطر ينزل بفعل أنفاس المعتقلين التي ال تجد سبي ً‬
‫من هذه الزنزانة ال هي وال العرق المتصبب من األجساد المنهكة التعبى‪،‬‬
‫وحتى أكثر األيام قساوة في برد الشتاء القارس لم تكن تعني شيئ ًا بالمرة‬
‫لدى سكان الزنزانة‪ ،‬ألنهم لم يكونوا يشعرون به أبد ًا جراء اكتظاظهم‬
‫المتواصل‪ .‬أكثر السجناء كانوا يفقدون ما عليهم من ثياب في التعذيب‬
‫أي شيء يستر عورتهم وعلى كل حال‬ ‫وعندما ينتهي التحقيق معهم ُيعطون ّ‬
‫لم يكونوا بحاجة ألكثر من هذا فالمكان لم يكن يالئمه ارتداء أردية كثيرة‪.‬‬
‫لن أقول كم هو خانق ذلك المكان‪ ،‬بل أروي حادثة واحدة فقط حصلت‬
‫في هذه الزنزانات تفسر كل شيء‪ .‬ففي أحد األيام انقطعت الكهرباء أو‬
‫ُقطعت وتوقفت مفرغة الهواء عن عملها‪ ،‬وألن القصة مفرطة في القسوة‬
‫تكاد نفسي تخرج من بدني حين أتذكرها ألني أعرف بعض أبطالها فسوف‬
‫بعض من سكان الزنزانة‬ ‫أختصرها بكلمات موجزة جد ًا‪ .‬نفد الهواء ومات ُ‬
‫اختناقا ألنه لم يعد هناك هواء ٍ‬
‫كاف يستنشقوه‪ .‬لقد نفد الهواء في الزنزانة‪،‬‬
‫نعم نفد الهواء‪ ،‬وأعدموا شنق ًا بال حاجة لحبل مشنقة يفعل ذلك بهم‪ ،‬ومن‬
‫ال من جراء‬ ‫كان محظوظ ًا منهم دخل في غيبوبة وبعضهم أصبح لسانه ثقي ً‬
‫ال استدعى الشفاء منها وقت ًا طويالً‪ .‬أحد‬
‫هذه الغيبوبة‪ ،‬وأصابت آخرون عل ً‬
‫علي بالخال‬
‫ال لي في المدرسة الثانوية وما يزال وجهه يطل ّ‬‫الضحايا كان زمي ً‬
‫الذي يزين خده كلما تذكرت هذه الزنزانات الفظيعة‪ .‬هناك أفل نجمه وغاب‬
‫لألبد وما زال أهله ومحبوه يتشوقون للمعة خاله ويترقبون ظهوره‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫توزيع المكان كان من أشد المعضالت التي واجهت بواكير طالئع‬


‫المعتقلين السياسيين‪ ،‬اّإل إنهم اكتسبوا خبرة كبيرة بمرور األيام أورثوها‬
‫لألجيال الالحقة منهم وكان التقسيم المثالي كالتالي‪ ،‬بما إن عرض الزنزانة‬
‫أي شخص فيصار إلى أن ينام أربعة عشر‬ ‫متران‪ ،‬إذن فهو يكفي ليمتد به ّ‬
‫شخصا بطريقة متعاكسة قدم أحدهم عند رأس اآلخر‪ ،‬ينامون على جنوبهم‬
‫بالطبع اقتصاد ًا للمسافة ألنه من المستحيل أن يستلقي أحدهم على ظهره‪،‬‬
‫ويذهب أربعة إلى خمسة أشخاص على األكثر إلى دورة المياه ليجلسوا‬
‫فيها‪ ،‬فيما يقف متكئين على الحائط عشرة آخرون‪ ،‬ويبقى لدينا خمسة‬
‫أشخاص أو عشرة حسب العدد الموجود اذ قد يصل بعض المرات إلى‬
‫ثمانية وثالثين شخصا كما قلت آنفا‪ ،‬وهؤالء البقية هم اللقالق اذ يستحيل‬
‫ان يجدوا مكانا يقفوا فيه فمن يقف على الحائط يجد فيه سند ًا وداعم ًا‬
‫له بينما يحاول أن يجد ألحدى قدميه موضع ًا يستبدلها مع األخرى بين‬
‫الحين واآلخر‪ ،‬أما من يقف في الوسط فعليه ان يظل واقف ًا هناك لمدة اربع‬
‫ساعات كاللقلق على ساق واحدة‪ ،‬يستبدلها بالساق األخرى عند التعب‬
‫أي عون يسنده أو يتكئ عليه‪.‬‬ ‫ويظل مواظب ًا على وقفته اللقلقية بال ّ‬
‫هذا الوضع كان يستمر ألربع ساعات كاملة وتحدث مناوبة بين الواقفين‬
‫مع النائمين وهكذا دواليك‪ .‬بعض المعتقلين كان يسقط مغشي ًا أحيان ًا‬
‫لشدة إرهاقه أو لحمى عارضة تصيبه أو مرض يعتل بجسده المنهك من‬
‫جراء التعذيب وبعض منهم فارق الحياة لهول ما تعرض له من تعذيب أو‬
‫لتردي حاله جراء سوء التغذية‪ ،‬ألن الطعام المقدم للسجناء لم يكن يكفي‬
‫لمقاومة هذه الظروف‪ .‬إذ كانت تقدم ثالث وجبات في اليوم الواحد في‬

‫‪137‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كل واحدة منها قطعة خبز واحدة من صمون هش مصنوع من طحين الذرة‬
‫يذوب سريع ًا في الفم ال يسد جوع أحد‪ ،‬ودجاجتين في العشاء يتقاسمها‬
‫الجميع وبضع أكواب من الرز في منتصف النهار وقطعة من جبن على‬
‫شكل مثلثات في أول النهار مع ثمانية أقداح شاي توزع على الكل لمن‬
‫أراد أن يشرب منها‪.‬‬
‫هذا المقدار الضئيل لم يساعد األبدان على المقاومة‪ ،‬في وقت كانت‬
‫تتورم األقدام من جراء الوقوف المستمر‪ .‬المعاناة األشد كانت دخول‬
‫الخالء إذ ينبغي خروج األشخاص الخمسة منه وعليهم أن يجدوا مكان ًا‬
‫مؤقت ًا ألنفسهم وسط هذه الكتلة البشرية المتراصة‪ ،‬وكان هذا مصدر‬
‫إزعاج كبير جد ًا ومحنة حقيقية إذ كيف تجد مكان ًا لخمسة أشخاص مقابل‬
‫واحد فقط دخل دورة المياه‪ ،‬وبسبب هذه المعاناة كان البعض ال يحبذ‬
‫الجلوس في دورة المياه‪ ،‬ألنه عرضة لتهديد مستمر بإخالء المكان بينما‬
‫يفضله آخرون رغم ذلك ألنه المكان الوحيد الذي يمكن الجلوس فيه‬
‫واالستراحة من عناء الوقوف اللقلقي المستمر‪ .‬وكم هو مقرف أن يكون‬
‫خيار المرء بين الوقوف لقلق ًا أو الجلوس في مرحاض ال أمر ثالث بينهما‪.‬‬
‫الحسنة الوحيدة في الزنزانة هو توفر ماء جار كثير‪ ،‬ألن هذه الوفرة لن‬
‫يطول بقائها خصوص ًا في السجن‪.‬‬
‫وبرغم هذا الضيق واألغالل التي تقيد حركة المعتقلين‪ ،‬فأنهم كانوا‬
‫يحملون في قلوبهم عزيم ًة هائلة وإرادة جبارة‪ .‬لم يمنعهم هذا العذاب ك ّله‬
‫من الجلوس في هذه الزنزانات نفسها ويعقدوا فيها ندوات يتحدثون فيها‬
‫عن أمور ثقافية ويتبادلون المعلومات ويجرون النقاشات والحوارات في‬

‫‪138‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أمور شتى حتى السياسية منها وجعلوا من هذه الزنزانات مدارس ثقافية‪.‬‬
‫لم يتوقف حس المعارضة للظلم‪ ،‬بل كان يزداد ويترسخ في صدورهم‬
‫كلما ازداد عذابهم وعرى التضامن تتوثق فيما بينهم وال يحسب ّن أحد إن‬
‫خفة الدم قد غادرتهم أو إنهم فقدوا حس الفكاهة والتندر‪ ،‬أبد ًا بل كانت‬
‫المزحة حاضرة دائمة حتى ان أحدهم اطلق كلمة ٍ‬
‫تندر خالدة‪ ،‬حين قال لو‬
‫قيض لي يوم ًا الخروج من هذا المعتقل فسوف أصنف كتاب ًا يحكي يومياتي‬
‫أسميه "الوقفة اللقلقية في السجون العفلقية"‪ .‬وأنا أنقل مقولته هذه عسى‬
‫أن يفي بوعده ويكتب كتابه المنتظر‪.‬‬
‫كثير من القصص القصيرة لم أعد‬
‫قبل أن يحين موعد محاكمتنا‪ ،‬انتثرت ٌ‬
‫أتذكر الكثير منها‪ ،‬ألنه لم يكن هناك من قرطاس أدونها فيه سوى ذاكرة‬
‫مشحونة بكثير من وقائع ثقيلة تحتل مساحة كبيرة منها‪ ،‬ولم يبق مع لطمات‬
‫الدهر ما يسعني االحتفاظ بكل هذه القصص القصيرة‪ .‬اّإل إن بعضها تمكن‬
‫من النجاة ومنها ما سوف أسرده‪.‬‬
‫مثل سائر المعتقالت هناك أصناف متنوعة من المعتقلين ألسباب أمنية‬
‫وال يمكن أن يصنفوا جميع ًا بالمعتقلين ألسباب سياسية أو ألنهم ذو نشاط‬
‫معارض‪ ،‬بل حتى إن بعضهم كان من اتباع السلطة وأجهزتها القمعية‪ .‬جاء‬
‫إلى الزنزانة يوم ًا أحد المعتقلين ممن يسكن المنطقة القريبة من الحدود‬
‫السورية وقص علينا نشاطه التخريبي لصالح المخابرات العراقية في‬
‫سوريا من تفجير بعض األهداف المدنية هناك وبعض األعمال اإلجرامية‬
‫األخرى‪ .‬اعتقل بعد عودته من السجن في سوريا تحسب ًا من كونه عمي ً‬
‫ال‬
‫مزدوج ًا للمخابرات على طرفي الحدود‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حدثنا عن السجون السورية وطرق التعذيب فيها‪ ،‬مثل وضع المعتقل‬


‫في عجلة ودحرجتها من علو بالسجين وهي طريقة لم نتعرف عليها في‬
‫المعتقالت األمنية العراقية‪ ،‬ربما لم تكن تعجبهم ألنها قد تكون متخلفة‬
‫قياس ًا لما عندهم من وسائل أكثر تطور ًا أو ألنها أقل فعالية قياس ًا بما يملكوه‪.‬‬
‫وعلى ذكر وسائل التعذيب فإنها على ما يبدو كانت وفق مواصفات عالمية‪،‬‬
‫فكما قيودنا كانت تحمل عبارة صنع في رومانيا فطرق التعذيب يبدو إنها‬
‫حصيلة نصيحة من خبراء أجانب‪ ،‬فقد رأينا في أحد األيام وفد ًا يتجول في‬
‫مديرية األمن ويبدو من سحنهم إنهم من شرق آسيا توقعنا إنهم قد يكونوا‬
‫من الصين لعالقة النظام الجيدة مع الحكم الصيني آنذاك‪.‬‬
‫وبالعودة لهذا العميل المخابراتي الذي كان يبدو مرتاح ًا مطمئن ًا غير‬
‫ألي أذى جسدي وعلى‬ ‫ال لم يتعرض ّ‬ ‫قلق من وجوده معنا في الزنزانة‪ ،‬وفع ً‬‫ٍ‬
‫األرجح أطلق سراحه عندما أخذوه بعد أيام من الزنزانة بطريقة فيها احترام‪،‬‬
‫ألن اعتقاله كان يبدو اجرا ًء احترازي ًا ليس اّإل‪ .‬تبا ُدلنا الحديث معه كان من‬
‫أي نشاط خالل وجوده وتحوطنا‬ ‫باب الفضول وحسب‪ ،‬ولم نشركه في ّ‬
‫كثير ًا منه لسبب ال يخفى‪ .‬وكما جاء غادر بال أثر وال مشاعر خلفها عقبه‪.‬‬
‫ترق لمستوى ُيعرض‬ ‫مر علينا فالحون ورعاة وطلبة ألسباب كثيرة لكنها لم ِ‬
‫ّ‬
‫أصحابها لخطر حقيقي مثل الذي كنّا فيه‪.‬‬
‫ضمت عدد ًا‬
‫زنزانة كبيرة بعيدة عن زنزانات المعتقلين السياسيين ّ‬
‫كبير ًا من المعتقلين ألسباب أغلبها غير سياسية بالصميم‪ ،‬وإن تعلقت بها‬
‫بنحو أو آخر في زمن كان كل شيء ممكن أن يصير تهمة سياسية‪ .‬كثير‬
‫من هؤالء المعتقلين كانوا قرويين بسطاء اعتقلوا في حملة تأديبية جماعية‬

‫‪140‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في مسعى من السلطة إلنزال العقاب والقصاص بسكان القرى حتى وإن‬
‫خرج منها رجل معارض واحد‪ .‬هذه الحملة التأديبية القاسية كانت بسبب‬
‫معارض مسلح كانت تقوم به جهات أيزيدية في مناطق شمال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نشاط‬
‫العراق متاخمة لسوريا‪ .‬كان الحرس يعاملونهم بازدراء واحتقار وتكبر‬
‫بغيض ويسخروهم بالقوة للقيام بأعمال التنظيف في مديرية األمن رغم إن‬
‫أغلبهم كانوا من كبار السن‪ .‬كان مشهد ًا مفجع ًا أن ترى حارس ًا طائش ًا قد بلغ‬
‫العشرين من عمره للتو وهو يذيق العذاب المر لرجل أربعيني ويسخر منه‬
‫ويحثه للعمل بالركل على مؤخرته والصراخ عليه‪ .‬وألن القرويين يكونوا‬
‫أشد الناس تعلق ًا بالدين ويحظى بقدسية كبيرة في نفوسهم أكثر من ّ‬
‫أي أحد‬
‫غيرهم من طبقات الشعب‪ ،‬خصوص ًا مع الجهل السائد بينهم والسذاجة‬
‫التي هم عليها‪ ،‬فقد وجد رجال األمن ذلك فرصة سانحة ألن يستغلوا هذه‬
‫السمة الخاصة المتجذرة فيهم إليذائهم بسب معتقداتهم ولعن مقدساتهم‪.‬‬
‫كنّا نتطلع إليهم وهم في وجوم صادم يسمعون تلك األلفاظ البذيئة‬
‫أي من مشاعر االعتراض حتى على قسمات وجوههم‬ ‫عاجزين عن إظهار ّ‬
‫خشية العقاب الجسدي الذي ال يوفره رجال األمن لهم في أي مناسبة‪.‬‬
‫كان منظر ًا يفطر القلب حق ًا ويجلي بوضوح مستنقع الحقارة والنذالة الذي‬
‫خرج منه رجال األمن وحجم الغل الكامن في صدورهم لكل ما يمت‬
‫بصلة للمشاعر اإلنسانية‪.‬‬
‫لم تتوفر أمامنا حلول كثيرة لتغيير هذا الواقع الصعب الذي يعيشوه‪،‬‬
‫نقو على البقاء ساكتين عليه‪ .‬قدمنا اقتراحا للحرس بأن الجزء‬
‫وبالمقابل لم َ‬
‫الخاص بنا من ممشى صغير يؤدي إلى دورة المياه‪ ،‬نتطوع نحن لتنظيفه‬

‫‪141‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يومي ًا وإعفاء هؤالء القرويين منه‪ .‬لم يكن هذا االقتراح يغير من الواقع‬
‫كثير ًا‪ ،‬فإنهم سوف يبقون ونساؤهم مسخرين ألداء هذه األعمال الحقيرة‬
‫في قلعة الخوف ولن يوقف فعلنا عوض ًا عنهم في تنظيف هذا الموضع‬
‫الصغير سبل االزدراء واالستكبار وال فحش األلفاظ واإلهانات وربما‬
‫أفعال أخرى أكثر قبح ًا لم نرها وال نستبعد حصولها من هذه الضواري‬
‫البشرية‪ .‬كل ما سعينا إليه هو إبعاد المشهد المؤلم عن نواظرنا رحمة‬
‫ٍ‬
‫حاجة لمزيد من األلم والضيم‬ ‫بأنفسنا وليس شفقة عليهم‪ .‬ألننا لم نكن في‬
‫أكثر مما هو متوزع في أرجاء نفوسنا ويسكن جوانحنا‪.‬‬
‫كان من المتوقع أن نكبح مشاهد السخرية واالهانة وتسير األمور سلسة‬
‫ال في األيام األولى‪ ،‬ألننا نقوم بعمل تطوعي وال نتوقع‬ ‫وهذا ما جرى فع ً‬
‫مضايقة من الحرس‪ .‬غير إنه في أحد األيام جاء شاب نزق‪ ،‬وبينما كنت‬
‫أحمل قطعة مبللة من قماش خرق أمسح بها البالط دفعني هذا الحارس‬
‫النزق بعنف مصحوب ًا بلفظ سخيف يريد أن يكرر معي ما كان يفعله مع‬
‫القرويين البسطاء‪ ،‬اّإل انه فوجئ بردة الفعل الغاضبة مني‪ .‬إذ استدرت اليه‬
‫غضب واضح تظهر‬ ‫ٍ‬ ‫مباشرة ملقي ًا قطعة القماش المبلل على األرض في‬
‫علي ومزمجر ًا ببضع كلمات حادة متوعد ًا ومتقدم ًا نحوه‬
‫عالمات الحدة َّ‬
‫بانفعال شديد‪ .‬ولحسن الحظ كان باب الزنزانة مفتوح ًا ويمكن لرفاقي‬
‫صراخ بيننا وحاول يائس ًا أن‬
‫ٌ‬ ‫التحرك بسهولة لنجدتي وهذا ما حصل‪ ،‬عال‬
‫يردعهم بالقوة فجرب رفع ساقه كي يركل أحدهم لكن رفيقي كان أسرع‬
‫منه فأمسك بطرف قدمه وأطاح به على األرض وسحق كل تجبره بمنظره‬
‫المضحك وهو يتزحلق على األرض المبللة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عمت الفوضى المكان ومأل الرعب قلب الحارس من حجم الغضب‬


‫واإلص��رار الذي انفجر عليه من زمالئي مما اضطره للهروب ب َع َج ٍل‬
‫مستعين ًا بغيره من الحرس الذين هرعوا إليه والصدمة تعلو محياهم وجلين‬
‫محاولين احتواء الموقف خشية تطوره إلى ما قد يعرضهم لمساءلة كبيرة‬
‫لين من الكالم وزعيق أعادونا إلى الزنزانة التي لم‬ ‫من رؤوسائهم‪ .‬وبين ٍ‬
‫نكن أصال في وارد الخروج منها ألننا لم نفكر بذلك بالمرة‪ ،‬بل كان حادث ًا‬
‫عرضي ًا ورد فعل صنعته اللحظة وليس خطة معدة للتمرد أو العصيان‪.‬‬
‫سارعوا إلبالغ دائرة التحقيق كما هي عادتهم في الوشاية والسعي في كل‬
‫صغيرة وكبيرة‪ ،‬وجاء موفدٌ منها مستفهم ًا‪ ،‬فقلنا له نحن معتقلون سياسيون‬
‫نقبل بالتحقيق األمني على ما فيه‪ ،‬لكن لن نقبل أن يعاملنا أحد كعبيد ألننا‬
‫لسنا كذلك‪ .‬مر األمر بسالم ويبدو إن تخفيف حكم اإلعدام كان له أثر‬
‫أيض ًا في ردة الفعل المتعقلة والهادئة من دائرة التحقيق وتفهم مفوض‬
‫التحقيق (م‪.‬ع‪ ).‬األمر‪ ،‬بل إنه قال لنا كلمة كانت تحكي إقرار ًا منه بخطأ‬
‫الحارس الذي لم نره ثانية وكانت تحمل رجا ًء منه لنا بالهدوء والتعاون‬
‫على تمرير القضية بهدوء‪.‬‬
‫‪ -‬مهال‪ ،‬مهال بالحرس إنهم إخوانكم‪.‬‬
‫كلمته زادتنا قوة إلى صالبة عزيمتنا وإصرار ًا على أن ال تثنينا أقسى المصاعب‬
‫أي مكان نكون فيه‪.‬‬ ‫عن الفخر واالعتزاز بحريتنا وكبريائنا في كل آن وفي ّ‬

‫‪143‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪18‬‬
‫***‬
‫بملل‪ ،‬أضحيت به كأني لفافة محشوة بسأم سمج قبيح‪ ،‬قضيت‬ ‫ٍ‬ ‫مثق ً‬
‫ال‬
‫أشهر ًا تسعة منتظر ًا الخروج من هذه الحفرة التي صار الوقت فيها جامد ًا‬
‫رسم بريشة بشاعته تجاعيد ًا على جسدي وغرز في أحشائي‬ ‫بال حراك‪ .‬سأ ٌم َ‬
‫كائن ًا يتلوى في عروقي مقرض ًا جفناي في اليقظة والمنام ويتقلب معي في‬
‫أي حركة هذه التي أتحدث عنها؟ حتى‬ ‫كل سكون وحركة‪ .‬حركة! عذر ًا ّ‬
‫مشاعر األلم أصابها الجمود وبدأت ذكريات العالم اآلخر تغادرني مع‬
‫أوجه الذين التقيتهم من الغرباء‪ ،‬بل حتى الذين أعرفهم‪ .‬نسيان مثل طمى‬
‫سيل جارف بدأ يطمر األشياء كلها وكان علي أن اكف عن التفكير بما وراء‬
‫الجدران‪ ،‬ألنه كان كابوس ًا يقض مضجعي ويجرفني إلى سعير‪.‬‬
‫فقط من عاش في هذه الصناديق المغلقة‪ ،‬ال أحد سواه‪ ،‬يعلم ماذا يعني‬
‫هبوب رياح الماضي العاتية‪ .‬لن يرى أحد غيره في هبوبها‪ ،‬كيف تتطاير‬
‫األشياء في كل األرجاء ال تجد مأوى لها تلوذ به اّإل ابواب ًا مؤصدة وطرق ًا‬
‫مسدودة‪ ،‬فترجع تدور وتدور حتى تفنى رهق ًا وال تسكن بسكون الريح بل‬
‫تخر إلى القاع تتلوى ألم ًا وتشكو دا ًء ال دواء له‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصخب ال يوائم إشراقة الفجر‬ ‫ٍ‬
‫غبش طرقنا زوار الفجر مندفعين‬ ‫عند‬
‫ٍ‬
‫مغلقة‬ ‫وأجبرونا أن نرتقي ساللم كثيرة صعود ًا ونزوالً‪ ،‬ثم حشرنا في ٍ‬
‫عربة‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بخرق قاتمة وأكف شبكت بالحديد واحدة‬ ‫ضمتنا إلى عتمتها‪ ،‬بعيون سملت‬
‫إلى األخرى ومن ثم إلى عمود أفقي يمتد على طول العربة الصندوق‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ُاجلسنا على صفيح معدني يشع ببرودة الموت في لهيب أواخر حزيران‪،‬‬
‫وزحفت بنا الزنزانة السيارة في رحلة طويلة نحو مدينة متخمة بأسماء سالم‬
‫لم تنعم بها أبد ًا‪ ،‬ولم تخذل عادة العرب في تسمية األشياء بضد حقيقتها‪.‬‬
‫وصلنا إليها والشمس معلقة في كبد السماء تطرق الحديد بعنف كأنها‬
‫تبحث عن الخبيئة التي يواريها‪ ،‬وهو يصرخ من لفعها سخونة‪ .‬بينما كانت‬
‫الشمس تواصل طرقها المجنون كنا نأمل ان ُيفتح الباب لكنه ظل موصدا‪.‬‬
‫يزداد الطرق منّا هذه المرة بأقدامنا على أرضية العربة المصفحة مع تزايد‬
‫أي فرد منهم يولج‬‫ارتفاع حماوة الحديد ونحن نرنو بعيون مغمضة إلى ّ‬
‫مفتاح ًا في األقفال لنغادر صخب الشمس وصرخات الحديد‪.‬‬
‫مغلق علينا‬
‫ٌ‬ ‫باب‬
‫كان هناك بابان في هذه الزنزانة الجديدة المتحركة ٌ‬
‫وباب آخر يجلس عنده الحرس‪ .‬فتحوا كوة صغيرة من أعلى الباب تسرب‬ ‫ٌ‬
‫منها ضوء سطع بشدة من وراء العصابة التي غلفت عيوننا‪ ،‬وصاحوا بنا‪.‬‬
‫‪ -‬ضاع المفتاح انتظروا إلى أن نجده‪.‬‬
‫عادوا وصفقوا الباب الخارجي بقوة وهم يرعدون ويزمجرون غضب ًا علينا‪.‬‬
‫ضاع الضوء وتالشى الهواء مع اختفاء المفتاح وبدأت أنوفنا تفتش عن بقاياه‬
‫المندثرة بال جدوى‪ .‬فار العرق من أجسادنا بينما كان الحديد يستعر غضب ًا من‬
‫لسعات الشمس‪ .‬ارتعشت أصواتنا موقن َة أننا قطعنا نصف تذكرة إلى الغربة‬
‫األخيرة‪ .‬رحيل لم يكن يخطر على بالنا إنه سيكون بهذه الطريقة الفظيعة‪.‬‬
‫لن أبالغ أبد ًا لو قلت إن أجسادنا تصببت كل السوائل التي فيها عرق ًا وما‬
‫زلت أذكر كيف إن العرق كان ينهمر من أرنبة أنفي‪ ،‬كأنها صنبور ماء مفتوح‬

‫‪145‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫على آخره‪ .‬حينها تمنينا كلنا أمنية واحدة وبصوت عال‪ ،‬الموت إعدام ًا ال‬
‫ضير فيه‪ ،‬لكن لنشم جرعة هواء واحدة ولتقطع بعدها الرقاب‪ .‬اقتربنا من‬
‫اإلغماء وتالشى كل شيء ولم نعد نقوى على الحركة‪ ،‬تمايلت أجسادنا‬
‫إلى األمام تترنح من الضعف‪ ،‬بل أوشكت على كامل االنهيار‪.‬‬
‫فجأة هب علينا نسيم ثلجي‪ ،‬أو هكذا حسبنا الهواء الالفح وهو يالمس‬
‫العرق الذي غطسنا به‪ .‬نفخت هذه النسمة الروح فينا من جديد‪ ،‬وأنهت‬
‫ٍ‬
‫برغبة سادية‪ ،‬لم ينته تعارفنا بها بعد‪ ،‬فقد كان علينا‬ ‫لذة قطيع وحوش ثملة‬
‫أن نلتقيها في قادم األيام والسنوات لمرات ومرات في سلسلة طويلة‪،‬‬
‫حلقاتها وجع وألم شبعى بالنكد واألسى واألنين‪.‬‬
‫ُأوقفنا بمواجهة حائط آخر من حيطان كثيرة تأملتنا بصمت وانكسار‬
‫ونحن ندير قفانا لهراوات في هذه المرة وفي غيرها وهي تنزل على أجسادنا‬
‫بقسوة تتكسر وال يرحمها حاملها‪ ،‬يدفعها مهشمة ويسحب أخرى‪ ،‬ومع‬
‫ذلك كنا لم نزل نملك الجرأة لنسأل انفسنا والعجب يتملكنا لماذا يحملون‬
‫كل هذا الكم من الحقد والضغينة ألناس ال يعرفون حتى أسمائهم‪ .‬أكثر ما‬
‫في الحروب مدعاة للقرف أن ترى عدو ًا يحاربك ويفتك بك بأقصى ما عنده‬
‫من همة ونشاط فقط لكي يستمر هو في الرزح تحت العبودية ليس غير‪.‬‬
‫ٍ‬
‫زنزانة ال تكفي ألن يمتد فيها أحد‪ ،‬وفي آخرها كان يوجد‬ ‫زججنا في‬
‫مرحاض ومثل طفل يحظى بلعبة جديدة انتشينا فرح ًا به‪ .‬فهذه أول مرة‬
‫ال سالسل وأقفال‬ ‫يصبح في قبضتنا مرحاض بعد أن حجزتنا عنه طوي ً‬
‫ٍ‬
‫وأبواب مصفحة‪ .‬وسط هذه الدهشة والفرح اغتسلنا بماء وفير نراه ألول‬
‫مرة أزاح عنا رهق الرحلة المرة‪ .‬فتحت األرض ذراعيها‪ ،‬صارت هي‬

‫‪146‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الوسادة والغطاء والفراش واستقبلت غفوتنا عليها‪ ،‬تنتظر مخاض ًا جديد ًا‬
‫بالشجى ولن يكون األخير‪.‬‬
‫طرقتنا شمس أربعاء حزيراني وألول مرة على خالف عادتها معنا‬
‫باالحتجاب وراء أسوار المعتقالت‪ ،‬أطلت علينا هذه المرة من نافذة سيارة‬
‫الدورية التي راحت تشق الزحام وتاهت نظراتنا في الشوارع لتنشر الملح‬
‫على الجروح وتسقينا مذاق ألم الفراق ممزوج ًا بدموع تسربت من المآقي‬
‫بال استئذان لتروي ظمأ النفوس‪.‬‬
‫أيتها المدينة التي طالما نثرنا عشقنا لك على أوراق سرية نرسم لوح ًة‬
‫جميل ًة فوق أسوارك التي كانت تخنق أنفاس ساكنيها‪ .‬في طرقاتك ُسحنا‬
‫بهوى تيم قلوبنا‪ ،‬همسنا به في آذان من أوشك أن يبلغ سن‬ ‫ً‬ ‫َولهين نبوح‬
‫الرشد ويقع في غرام أحالم الحرية والعيش الرغيد لكل الناس‪ .‬كنا نخلط‬
‫كل هذا بخالصات الكتب وعصارة األفكار نتبادلها في غرف مزوية صغيرة‬
‫ال جمي ً‬
‫ال ال نعرف متى يحل أوانه‪.‬‬ ‫نرسم مستقب ً‬
‫إيه أ ّيتها المدينة‪ ،‬مالك نسيت كل هؤالء العشاق وأشحت بوجهك عنهم‬‫ٍ‬
‫بعيد ًا‪ ،‬لم ال تقولي للمتسكعين على أرصفتك‪ ،‬إن قيس المفتون عشق ًا بك‬
‫ما عاد يراك اّإل من خلف قضبان‪ .‬وأنت أ ّيتها العربة مالك تندفعين بهذه‬
‫الخطوات مستعجلة‪ ،‬ال تلتفتين يمين ًا وال شماالً‪ ،‬تخوضين في بركة حزن‬
‫يتطاير منها وحل األسى فيغطي الوجوه الشاحبة‪ .‬تأني تمهلي تريثي فما‬
‫بعد هذا الخالء الواسع هوة من نسيان مجنون‪ .‬شبحت نظراتنا بعيد ًا تلتهم‬
‫كل ما تراه ولم نكن بحاجة إلى نصيحة من ناصح لفعل هذا ومع ذلك لم‬
‫أقدر على منع نفسي من القول لصحبي‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪ -‬تمعنوا جيد ًا وأطيلوا النظر فإنها آخر النظرات‪ ،‬نبوءة عن ٍ‬


‫دهر عصيب‬
‫قادم أتى بها وحي العذابات المتواصلة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بكراس خشبية‬ ‫ٍ‬
‫صالة مملوءة‬ ‫بلغنا مبنى قذر في ثكنة عسكرية لننزل إلى‬
‫مقتبس من لون‬
‫ٌ‬ ‫على شكل أريكة طويلة ال مساند لها‪ ،‬لونها أخضر كأنه‬
‫مخافر الشرطة‪ .‬المصطبات موزعة في اتجاهات شتى كأعمار الجالسين‬
‫عليها بال جامع واحد وال قاسم مشترك‪ .‬شيب ًا وشبانا بمالبس مدنية متهرئة‬
‫ال ينتظرون محكمة لن تدوم سوى دقائق‬ ‫وبعضها عسكرية‪ ،‬يجلسون طوي ً‬
‫ٍ‬
‫بهمة‬ ‫يسيرة‪ .‬اضمحل الخوف وانمحى االرتياب تمام ًا من قلوبنا وأفعمنا‬
‫زائدة تتنفس ثمن الحرية وتهزأ بالظالم‪ .‬نعم طمأنينة كاملة وسكون شامل‬
‫ّ‬
‫حل علينا ولم نعد نبالي بما ينتظرنا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حرس انتشر في كل مكان‬ ‫نزعنا ألبسة التوجس ونحن نتبادل الكالم مع‬
‫من القاعة أو مع صحبة من معتقلين آخرين لم نقابلهم من قبل وال أذكر اني‬
‫رأيت أحد ًا منهم بعدها أبد ًا‪ .‬ساعات من ترقب ونحن نرى أفواجا تصعد‬
‫وعندما تنزل تغيب منها وجوه سيقت من باب جانبي إلى قسم اإلعدام‪.‬‬
‫ألول مرة نسمع بمواد في قانون العقوبات ونسأل بعض الحاضرين عنها‬
‫وعن األحكام المتوقعة وفقها‪ .‬فكان واحدا من أغرب األجوبة التي سمعتها‬
‫طوال حياتي إنها مادة قانونية تشمل أحكام ًا من اإلفراج إلى اإلعدام!‪.‬‬
‫جواب كان يلخص حقيقة اإلج��راءات القضائية التي تتم في هذه‬ ‫ٌ‬
‫المحكمة‪ ،‬ال منطق فيها تمام ًا وال تدري ماذا سيفعل بك ألنك باختصار ال‬
‫أي دليل‬
‫تعرف عن تهمتك شيئا سوى إنك عدو للحزب للثورة‪ ،‬وال يوجد ّ‬

‫‪148‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ضدك على هذا االتهام سوى االتهام نفسه‪.‬‬


‫لحسن حظنا إننا قدمنا للمحاكمة في حقبة جديدة قللت فيها احكام‬
‫اإلعدام بشكل كبير‪ .‬في الحقبة األولى التي امتدت إلى نهاية السنة الثانية‬
‫من الحرب‪ .‬كان اإلعدام يشمل كل متهم بغض النظر عن السن أو الفعل‬
‫الذي ارتكبه‪ ،‬أو في الحقيقة بغض النظر عن التهمة التي وجهت له سواء‬
‫كانت عن وشاية أو نميمة أو اعتراف منتزع تحت التعذيب أراد صاحبه‬
‫الخالص منه فأوقعه على غيره ولم ينج منه ال هو وال صاحبه الذي وشى‬
‫به‪ .‬في تلك الفترة الدموية كان من ينجو من اإلعدام ثل ٌة قليلة أغلبهم بأعمار‬
‫دون الثامنة عشر‪ ،‬بل إن بعض اليافعين كانوا ينقلون إلى قسم طبي في أحد‬
‫المستشفيات ليعاد تقدير أعمارهم ويرفع سنهم إلى الثامنة عشر بتوصية‬
‫من لجنة خاصة ليقدموا بعدها إلى المحاكمة وينفذ بهم حكم اإلعدام‪ .‬لن‬
‫أقدر أن اقدم عدد ًا دقيق ًا للذين حكموا باإلعدام في تلك الفترة إنما أقدر‬
‫أن أقدم صورة يمكن أن تقرب المشهد لمن ال يعرف خبايا محكمة الثورة‪.‬‬
‫المحكمة تنعقد ستة ايام في اإلسبوع من الصباح وحتى منتصف‬
‫الليل وأطول مرافعة لم تكن تتجاوز الربع إلى نصف ساعة‪ ،‬هذا إذا كان‬
‫عدد المتهمين كبير ًا‪ ،‬ومن ثم تتم تالوة األحكام في غضون دقائق‪ٌ ،‬‬
‫مثال‬
‫واحدٌ على نوع األحكام التي كانت تصدر‪ ،‬أذكر واحدة من القضايا تشبه‬
‫العشرات أو المئات من الدعاوى‪ .‬صعد في هذه القضية لمواجهة الحاكم‬
‫العسكري أربعة وسبعون متهم ًا عاد منهم خمسة فقط بحكم السجن المؤبد‬
‫واآلخرون جميع ًا خرجوا من الباب الجانبي إلى قاطع اإلعدام‪.‬‬
‫صعدنا سلما قصير ًا لنقف حفاة بمواجهة ثالثة قضاة عسكريين‪ ،‬إلى‬

‫‪149‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫اليسار جلس ضابط أشقر بوجه متجهم طويل‪ ،‬كان انطباعنا عنه واحد ًا‪،‬‬
‫إنه يشبه عنصر غيستابو نازي كما كنا نراهم في السينما‪ .‬بدأ يلقي خطاب‬
‫االدعاء يصفنا بالخونة العمالء المتعاونين مع األعداء ضد القائد العظيم‬
‫ومسيرة الثورة وقيادتها الحكيمة والحق إننا لم نص ِغ إليه ألنه منذ أول‬
‫الكالم أفصح عن مراده وطالب بإنزال أقصى العقوبات وأشد القصاص‬
‫بنا وباختصار طلب من الحاكم إصدار حكم الموت علينا‪.‬‬
‫سألنا الحاكم العسكري عن أسمائنا‪ ،‬ومن ثم سؤال آخر هل أنت متهم‬
‫أم بريء‪ ،‬وعندما كنا نحاول توضيح شيء ما‪ ،‬كان يرد علينا مقاطع ًا حازم ًا‬
‫بكلمة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬اخرس!‪.‬‬
‫هذا الحاكم تعرفت اليه للمرة األولى هنا بزي عسكري ونحن نقف‬
‫أمامه بمالبس رثة حفاة األقدام ممنوعين من توكيل محام وممنوعين من‬
‫الدفاع عن أنفسنا وأنزل علينا هو ومعاونيه حفنة من سباب‪ ،‬فقط ألننا قلنا‬
‫ال يدعي‬ ‫له إن هذه اعترافات تحت التعذيب‪ .‬رأيته مرة ثانية عندما وقف ذلي ً‬
‫إن العقال العربي هويته ويطالب بحقوقه المدنية‪ .‬ال أدري ما الذي كان‬
‫يخطر بباله وهو يقف في هذا القفص‪ ،‬هل تذكر نهر الدماء الذي فجره‬
‫من أعناق الشباب نسا ًء ورجاال بأحكامه الجائرة الظالمة؟ وهل تذكر‬
‫مر عليه طيف‬ ‫الجبروت واالستعالء الذي كان عليه هو وزمرته؟ وهل ّ‬
‫األمهات الثكلى؟ وهل عبرت من أمام ناظريه جموع أطفال ُقصر ذاقوا‬
‫عذاب السجن بأحكام هزلية أصدرتها محكمته السخيفة؟ كم تمنيت لو‬
‫كنت أقدر أن أرى عقله في تلك اللحظات وكيف كان يدور وهو يجلس‬

‫‪150‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في القفص ويواجه القاضي‪ .‬أريد أن أعرف كيف يفكر هؤالء عند مواجهة‬
‫الموت في نهاية مسيرتهم الدامية هل يرددون مقولة فرعون الخائبة وهو‬
‫يم موسى‪ ،‬وهل يداخلهم ندم وهم يرون الهاربين الخائفين منهم‬ ‫يغرق في ّ‬
‫الذين كان يستعبدوهم ويقتلوهم ألنهم مستضعفون فقط وليس لهم ذنب‬
‫آخر‪ .‬اليوم ضحاياهم يمشون على البر بأمان أما هو واسياده القتلة فإنهم‬
‫ال تستريح فيه ال في ٍبر وال في بحر‪.‬‬
‫يدورون مثل جيفة نتنة ال تجد لها موئ ً‬
‫باب على اليسار خرج علينا رجل أعرج يلبس جبة محامي دفاع‬ ‫ومن ٍ‬
‫سمعت فيما بعد‪ ،‬عبارة كان يكررها في المرافعات وهي كاآلتي كما جاءت‬
‫على لسانه‪.‬‬
‫‪ -‬إني فتشت طوي ً‬
‫ال في قوانين األرض والسماء فلم أجد مادة قانونية‬
‫ترحم هذه الحفنة من العمالء وأطالب بإنزال أقصى العقوبات بهم‪.‬‬
‫للتاريخ والحقيقة فإنه في قضيتنا طالب بمالحظة أعمار بعضنا ممن‬
‫كان دون العشرين عام ًا‪ ،‬والرأفة بهم أما اآلخرون وطبع ًا أنا منهم فقد تبرع‬
‫بنا مجان ًا ألقسى قصاص‪.‬‬
‫لم تدم كل المرافعة أكثر من عشر دقائق على األكثر ونزلنا ثانية إلى‬
‫القاعة بحسب ادعاء الحاكم للمداولة‪ ،‬ثم نودي علينا ثانية‪ ،‬لننتقل إلى‬
‫رحلة عذاب جديدة ونذهب هناك بعيدين عن الحياة منسيين تحت األرض‬
‫تحت عنوان السجن المؤبد وراء أسوار عالية تحجب عنّا كل شيء‪.‬‬
‫في ذلك المبنى القذر بكل ما فيه جرت أحداث كثيرة في دقائق قليلة‬
‫ال يمكن لي مغادرتها سريع ًا فكل واحد منها يصلح أن يكون نافذة كبيرة‬

‫‪151‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫تشرف على تلك الحقبة المظلمة وال يحتاج أحد إلى تأمل أو فلسفة‬
‫ليستبين الذي جرى‪ .‬فقط عليه أن ينظر من هذه النوافذ المشرعة وسيفهم‬
‫بسهولة ما جرى بل وحتى ما يجري اآلن فاألمر لم يتغير كثير ًا بعد‪.‬‬
‫‪ ‬وجو ٌه شاحبة يكتظ بها المكان متوزع ٌة على مقاعد خشبية تحمل تنوع ًا‬
‫ٍ‬
‫بشكل غريب في كل المالمح واألعمار وقطع ًا في األفكار واالنتماءات‪ ،‬لم‬
‫يكن يوحدها شيء سوى الظلم الواقع عليها‪ .‬عيونها شاخصة إلى الالشيء‬
‫ال مجهوالً‪ ،‬بل وال تدري لماذا هي هنا باألصل‪ ،‬وهذا ما‬‫حائر ٌة تنتظر مستقب ً‬
‫لفت انتباهي بشدة في ذاك اليوم الرمضاني القائظ فلم أكن أتوقع إن جمع ًا‬
‫بأي شأن سياسي سوف يكون حاضر ًا بهذا‬ ‫بهذا الحجم ممن ال دخل له ّ‬
‫الكم في هذه المحكمة المختصة بمحاربة أصحاب الرأي‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬كنت أعرف إن الظلم فاحش لكن المشهد كان أكثر مما يستوعبه‬
‫خيالي وسوف يكون واحد ًا من معاناة األيام القادمة بل السنين القادمة‬
‫بكلمة أدق‪ .‬ورغم األحاديث القصيرة التي أجريتها أو سمعتها في فناء‬
‫تلك القاعة المنخفضة عن مستوى أرض المعسكر الذي كانت فيه‪ ،‬اّإل إني‬
‫قاض ال يفرق بين أعمى وبصير وليس له من‬ ‫ٍ‬ ‫أدركت إننا سوف نقف أمام‬
‫ٍ‬
‫بجمل كتبها غيره وتبرع هو للتلفظ بها سعي ًا للوقوع‬ ‫األمر شيء سوى النطق‬
‫يوما تحت واحدة منها من حيث ال يشعر وقد حصل له ذلك بالفعل‪.‬‬
‫‪ ‬ومع إن رائحة الظلم كانت في كل زاوية تخنق فضاء القاعة الجرداء‬
‫من األثاث اّإل من مروحتين معلقتين على علو شاهق‪ ،‬اّإل أن األنانية وعدم‬
‫ال في كثير من حركات وايقاعات بعض‬ ‫اإلحساس كان يمكن أن يرى ماث ً‬
‫الحمقى والضعفاء ممن كان يحسب على المعارضة السياسية وهو ال يفقه‬

‫‪152‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حرف ًا واحد ًا من أبجديتها‪ .‬فبينما كانت األحكام تصدر تباع ًا وترسل إلى‬
‫الموت المعتقلين زرافات ووحدانا‪ ،‬وفرق ًا أخرى إلى السجن بال ٍ‬
‫ذنب‬
‫مقترف‪ ،‬كانت هناك مجموعة من المعتقلين تقفز مهللة بمجد القائد‪ ،‬وهي‬
‫تهبط طائرة من باب المحكمة الداخلي المطل على الفناء الداخلي وهي‬
‫أي عدل هذا الذي رأيتموه وأنتم ترون إخوة معكم‬ ‫تصرخ يحيا العدل‪ّ .‬‬
‫يساقون للموت أو السجن؟‪.‬‬
‫هل ينتصب ميزان العدل مستوي ًا فقط ألنكم ظللتم أحياء‪ ،‬ولو غرق‬
‫الكون كله في بحر الظالم‪ .‬لم يخف أحد رفاقي استنكاره الشديد وانزعاجه‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال مستهجن ًا هذا الذل‬ ‫المفرط من تلك الصرخة الحمقاء وعلق‬
‫ال أن تسمع هذه الصيحة من شخص صعد‬ ‫المقرف‪ .‬كان أمر ًا مريع ًا فع ً‬
‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫للتو حافي القدمين مجرد ًا من كل حق مدني وإنساني بل ومن كل‬
‫يملكه‪ ،‬حتى مالبسه الداخلية سلبوها منه ويرجع اليك من عين المكان‬
‫الذي أغتصب فيه يترنم ويتغنى بعدله‪ .‬إن هذا المنادي بهذا التملق الغبي‬
‫ليس بأحمق وحسب‪ ،‬بل إنه وأمثاله هم من مكن العتاة المجرمين ألنهم‬
‫كانوا جيوش الذل التي يحارب الطغاة بها األحرار‪.‬‬
‫‪ ‬أذكر إن الحاكم العسكري كان يحاول أن يضفي على جلسته الصورية‬
‫شكليات قانونية ليظهرها وفق المقاييس فسألنا وبالتأكيد سأل كل المتهمين‬
‫الذين مروا عليه قبلنا وبعدنا هذا السؤال نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬هل عندك محا ٍم؟‪.‬‬
‫واإلجابة المعتادة تكون بالنفي فمن أين يتأتى لمته ٍم محروم حتى من‬

‫‪153‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫رؤية الشمس أن يوكل محامي ًا‪ ،‬لكن عندما سأل الحاكم أحدنا رد عليه بغير‬
‫ٍ‬
‫بجواب ساخر‪.‬‬ ‫المعتاد بل‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬هو آني نعال ما عندي‪ ،‬من أين اتي بمحام؟‪.‬‬
‫وطبع ًا امتألت بعدها ُاذنا صاحبنا كما آذاننا بحفنة ألفاظ كلها زجر‬
‫وسباب‪.‬‬
‫الثياب الرثة واإلعياء والشحوب وآثار التعذيب البادية على كل أحد‬
‫لم تكن تحتاج إلى نباهة كثيرة للتعرف عليها‪ ،‬بل حتى أغفل مغفلي الدنيا‬
‫كان له أن يعرفها من أول لمحة‪ .‬وال يحتاج إلدراك ذلك وال حتى إلى‬
‫أي قسوة بالغة تعرض لها السجناء‪ ،‬ومع ذلك كان‬ ‫نظرة واحدة‪ ،‬ليعرف ّ‬
‫الحاكم العسكري يبدي استغرابه عندما يرفض السجناء التهم الموجهة‬
‫لهم‪ ،‬ويزدري إنكارهم االعترافات المدونة بقولهم أنها انتزعت تحت‬
‫التعذيب‪ .‬وقد بالغ في إبداء سخريته عندما أنكر أحدهم اإلفادة الموجودة‬
‫أمام الحاكم فقال له صاحبي‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعرف يا سيدي (هكذا كنا نجبر على مخاطبة الضباط‬
‫والمسؤولين الكبار) لو إنك أنت بنفسك تعرضت للتعذيب الذي تعرضت‬
‫بأي تهمة توجه إليك حتى لو كانت االنتماء إلى البوليساريو‪.‬‬
‫اليه‪ ،‬العترفت ّ‬
‫لم أجد وصف ًا لتلك المحكمة يليق بها ويحاكيها سوى أنها تشبه لعبة‬
‫الروليت الروسي ولكن بالمقلوب‪ .‬إسطوانة كلها محشوة بالرصاص‬
‫وواحدة فارغة فقط ويقال جرب حظك فقد تنجو من الموت‪.‬‬
‫بدأ الحاكم يلقي األحكام علينا وتبدأ كالعادة أو هكذا حصل أمامي‬

‫‪154‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫بمواد قانونية وبداللة مواد‬ ‫من أقل األحكام‪ ،‬يذكر هذه العقوبات مشفوعة‬
‫أخرى ال أعرفها ولم أسمع بها ولم يصغ إليه أحد وهو يتلوها‪ ،‬ألننا كنا‬
‫بأي قانون سوى‬ ‫ندرك إنها مهزلة وكوميديا قاتمة السواد ال عالقة لها ّ‬
‫شريعة الوحوش‪ ،‬وصدق ًا أني لم أتعرف على هذه المواد اّإل بعد سنوات‬
‫طويلة حين بدأ الفرز األمني بحسبها في ظرف خاص‪ .‬وهذا لم يكن حالي‬
‫منفرد ًا به بل كان أغلب السجناء هكذا‪ ،‬المضحك في هذه القوانين إن‬
‫المادة التي كانت تعتبر مخففة في الزمن الذي حوكمنا فيها هي عينها التي‬
‫حكم بها آخرون بعقوبة اإلعدام قبل سنتين فقط‪ .‬القانون لم يكن سوى‬
‫جرة قلم ومطاط جد ًا‪ ،‬واألمر على األرجح سوف يظل هكذا في هذا البلد‪،‬‬
‫إن لم يصبح للقانون سطوة على القائمين به‪.‬‬
‫عندما بدأ بتالوة الحكم األخف لثالثة رفاق كانوا معنا‪ ،‬انتقل بعدها إلى‬
‫الحكم بالمؤبد على شخص آخر‪ ،‬ولم يتبق إذن بعد المؤبد سوى اإلعدام‬
‫فتسمرنا بذهول ننتظر حكم الموت‪ ،‬لكن المفاجأة كانت إن حصتي مع‬
‫اثنين آخرين هي السجن المؤبد أيض ًا‪ ،‬تنفسنا الصعداء وتبادلنا التهاني‬
‫جميع ًا ألن المقصلة اخطأت اعناقنا‪.‬‬
‫أحدهم كنّا نشعر منه بغضاضة لضعفه المشين أمام المحققين األمنيين‬
‫وعندما سمعنا نتبادل التهاني حاول أن يفعل ذلك معنا أيض ًا ويجارينا‪،‬‬
‫لكني نهرته بقسوة وبانفعال مصطنع‪ ،‬ألني لم أكن في الواقع منزعج ًا من‬
‫الحكم بالسجن المؤبد أبد ًا بل كنت أتوقعه‪ ،‬وربما أتمناه كأحسن الحلول‬
‫المتاحة‪ ،‬ولم يحدث ردة سلبية عندي عندما سمعته‪ .‬إنما فعلت ذلك ألني‬
‫كنت أريد أن أوبخه على ضعفه ومع ذلك اعتذرت له الحق ًا لهذه القسوة‬

‫‪155‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫وتهور‪،‬‬ ‫بعد سنوات‪ ،‬مع إني حتى اليوم ما زلت أرى أفعاله مزيج ًا من ٍ‬
‫جبن‬
‫ومع ذلك غفرت له وسامحته تمام ًا ألني أدركت بمرور األيام إنه ضعيف‬
‫حرج جد ًا ال يناسبه بالمرة‪.‬‬
‫التكوين نفسي ًا وحشر نفسه في موض ٍع ٍ‬
‫أي كان‪ ،‬وال هو نزوة أو‬ ‫العمل الثوري ليس هواية أو لعبة يمارسها ّ‬
‫طيش مغامرين‪ ،‬بل هو منهج وسبيل برؤية مسبقة وبصيرة واضحة‪ .‬سبب‬
‫فشل كثير من األعمال التي تبدو في الظاهر ثورية إنها لم تكن كذلك في‬
‫حقيقتها‪ ،‬بل كانت مجرد ردود أفعال وطيش ومغامرة‪ .‬الثورة فعل إنساني‬
‫منهج لتحرير اإلنسان‬
‫ٌ‬ ‫وليس رد فعل على ممارسة خاطئة ألحد ما‪ ،‬هي‬
‫أي زمن وتستمر أبد ًا مع رحلة اإلنسان‬‫من عوالق الغريزية وال تتوقف في ّ‬
‫في هذا الوجود‪ ،‬لذا الثوار يواصلون الثورة أما الطائشون والمتظاهرون‬
‫بها ينتهي غضبهم الهائج الذي يشبه الثورة عندما ينالوا ما يتوق إليه ظمأ‬
‫غرائزهم وليس ألنهم تحرروا منها‪.‬‬
‫حملت كل ما تبقى من ممتلكاتي بعد مصادرة المنقول منها وغير‬
‫ٍ‬
‫قميص جاءني بعد زيارة لتركيا قبل االعتقال بعام‬ ‫المنقول‪ ،‬ودسستها في‬
‫واحد‪ .‬كان قميص ًا مميز ًا وكنت أشعر إنه جزء مني منذ أول يوم حصلت‬
‫عليه‪ ،‬كنت اسميه مراد‪ ،‬ليس بال سبب‪ ،‬فقد كانت له نضارة الشباب‬
‫بمربعاته الحمراء السوداء وباسم صانعه (مراد) المكتوب تطريز ًا على ياقته‬
‫الداخلية‪ ،‬وعلى األكثر إنه كان اسم صاحب المصنع ولذلك أطلقت عليه‬
‫هذا االسم‪ .‬قميص ظل مصاحب ًا لي لمدة طويلة وكان شاهد ًا على وجودي‬
‫وقت للحديث عنها في حكاية مثل حكاية قميص يوسف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لحظة سيأتي ٌ‬ ‫في‬
‫مثير‬
‫جميل في فكره‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مرشح ألن يكون يوسف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ويبدو إن كل سجين رأي‬

‫‪156‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في تقلب أحواله‪ ،‬وشاهد أزلي على قيم الخير والجمال مهما حاول أخوته‬
‫األشقياء أن يطمسوها‪ .‬ال غرابة إن صاروا بعدئذ نقباء قومهم أو خالهم‬
‫آخرون أنبياء‪ ،‬لكنهم سوف يظلون مبرقعين بخطيئتهم أبد ًا وعندما يمر ذكر‬
‫يوسف أمامهم فسوف يبوحون بسر خبيئتهم النتنة ويتشكلون ثانية وثالثة‬
‫وإلى ما ال يعد وال يحصى من المرات‪ ،‬حساد ًا قتلة مجرمين حائرين في‬
‫طمس جنايتهم التي عافها الذئب واستنكف منها‪ .‬لن يتوبوا عنها أبد ًا فسوف‬
‫يقض مضجعهم ذكره‪ ،‬وينفجر غضبهم بوجه محبيه فيهبوا مثل مخبول َفز ٍع‬
‫بال يحكي فشلهم‬ ‫ٍ‬
‫مقرف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نشيد‬ ‫ٍ‬
‫بسخف ممل كلمات‬ ‫من كابوس‪ ،‬ليرتلوا‬
‫وعجزهم وجبنهم وغريزيتهم الحيوانية «تالله إنك لفي ضاللك القديم»‪.‬‬
‫وانا أوظب مراد بعناية زائدة كي ال يفقد شيئ ًا من محتوياته سرحت‬
‫الق نظرة الوداع األخيرة عليه فقد سبقني‬ ‫بنظراتي في ودا ٍع لرفيق شجاع‪ ،‬لم ِ‬
‫مع آخرين بيوم إلى تلك المحكمة المهزلة‪ ،‬وهناك اختفت آثاره لألبد من‬
‫دون الثالثة اآلخرين الذين كانوا معه‪ .‬تالشت آثاره كلها من هذه الدنيا ولم‬
‫أعد بعدها أراه متوثب ًا متحفز ًا ولم يصر بمقدوري أن ُاسمع إذناي كلماته‬
‫المنبثقة من بحر التحدي وال أنتشي بضحكاته الساخرة من األدعياء‪ .‬وأنا‬
‫أرمق جدران المحكمة بأسى وجزعٍ‪ ،‬عاتبتها وهي التي احتضنت آالم‬
‫ٍ‬
‫عذاب غمد نصله عميق ًا ف ّينا جميع ًا‪.‬‬ ‫وتأوهات‬
‫عاتبت هذه الجدر وجدر زنازين كثر مررنا بها برفقته‪ ،‬كيف له أن‬
‫ينفرط منكن وأنتن الالتي احتضنتن نغمات الدفء وكل األثار التي نحتت‬
‫شعارات الثورة‪ ،‬وأبيات الشعر التي كان كل ما فيها يفيض حب ًا وجماالً‬
‫وثورة‪ .‬حيطان دونت وصايا من غادر الدنيا سريع ًا وتاه جسده في كثبان‬

‫‪157‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫رمل تطيح بها الرياح وتسافر بها إلى جهات الدنيا األربعة‪ ،‬ولم تزل‬
‫تضمهم إلى حناياها تخبئهم في قلبها بعيد ًا عن أعين كل الناس حتى عن‬
‫بواصر ذويه ومحبيه تخشى عليهم أن يضيعوا في المدافن مع اآلخرين‪،‬‬
‫ألن المقابر ال تليق اّإل بالموتى فكيف لها أن تحويهم وهم األحياء‪ ،‬بل‬
‫هم وحدهم األحياء في هذا الكون الفسيح الوسيع وخالهم موتى ما لم‬
‫يلحقوا بركبهم‪.‬‬
‫أرواحهم لم تزل سائحة في براري وصحارى الوطن تالحق حلمها في‬
‫خالصه من سوأة ابن العاص المقيمة في مضامير الفروسية والنزال‪ .‬ولم‬
‫ٍ‬
‫كقردة وهي تنزو‬ ‫تزل أرواحهم ترنوا إلى يوم يخلو من حشود المهرجين‬
‫على منصة رئاسة خلقت للحكماء بنقاء فطرتهم ال للدهاة الثمل برجسهم‪.‬‬
‫يوم ال ترى فيه صنما يطوف حوله همج رعاع ينعقون مع كل ناعق‪.‬‬
‫عند غبش ال أعرف مطلعه‪ ،‬امتأل رفيقي وآخرون بالحياة استعداد ًا‬
‫للرحلة األخيرة‪ ،‬رحلة إلى نافذة تشرع فيها للريح أجنحة تنقل رغبة‬
‫المتمردين عشاق الحياة في رفض الموت‪ .‬نافذة تنقل إلى عالم الحقيقة‬
‫عشاق ًا سلكنا معهم كل الدروب‪ ،‬الجد والهزل‪ ،‬الضحك والبكاء والمرح‬
‫والشقاء‪ .‬سافرت بهم الريح بعيد ًا عن األوهام واقتربوا من مالمسة حقيقة‬
‫األشياء‪ ،‬لينعموا هناك بالسكون الخالد والراحة األبدية وينثروا من علياهم‬
‫زراع جدد مثابرون‬
‫على عالمنا بذور الحياة على األرض‪ ،‬عسى أن يتلقفها ٌ‬
‫لتستمر الحياة على هذا الكوكب الضاج بالخطايا‪ ،‬لعل يوما يأتي تتحقق‬
‫فيها نبوءة السماء ويصدق الكل حتى وإن كان شيطانا مريد ًا إن السماء تعلم‬
‫أي أحد وإنهم وحدهم العالمون باألشياء وغيرهم الجاهل‬ ‫ما ال يعلمه ّ‬

‫‪158‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫والمستكبر عليه أن يسجد لإلنسان الكامل دوم ًا أبد ًا وسرمد ًا‪.‬‬


‫رحلة غادر فيها صحبة لنا كل هذه األحالف الخبيثة المتواطئة ضد‬
‫غريزة التمرد فيهم‪ ،‬ألنهم كانوا حقيقة اإلنسان التي عجز عن بلوغها‬
‫رفاق كانوا هم الماء الذي أعطى الحياة‬ ‫الموغلون في شهوات الجسد‪ٌ .‬‬
‫لكل شيء وما يزال يفعل‪ .‬من رمادهم يصنع الشعراء قصائد ًا‪ ،‬وبدمهم‬
‫يكتب األدباء روايات ومن أجسادهم ينحت الم ّثالون نصب ًا‪ .‬ولوالهم‬
‫لحار المصممون األذكياء في متاهة البحث عن أسماء المباني والشوارع‬
‫والساحات وقاعات المثقفين‪ ،‬ولوالهم لتوقف المؤرخون عن تدوين‬
‫تتابع األشياء‪ .‬لوالهم لكان الكون سكون ًا محض ًا بل عدم ًا‪ .‬هم إكسير‬
‫الحياة وهم كانوا الكلمة في البدء وهم أيض ًا مسك الختام‪ ،‬هم قطر الغيث‬
‫العذب الذي يسقي الجمر في قلوب األحرار الولهين المتبعين آثار الحياة‪.‬‬
‫هم ليسوا كغيرهم محض سراب يتوسل الصخر متملق ًا بعبارات فجة افتح‬
‫يا سمسم عسى أن يحظون بكنوز الخرافة من سندباد الوهم والخيال‪ ،‬بل‬
‫هم حقيقة الوجود نثروا على الصخر القاسي دمهم فشقوا األنهار وانكفأت‬
‫كل األوثان خاضعة ذليلة لهم في كل آن ترتعد خشية من ذكرهم‪.‬‬
‫هل سمعتم يوم ًا إن الطغاة يحاربون أحد ًا غير الشهداء؟ وهل رأيتموهم‬
‫بحمق هذا وال خطل رأي‬ ‫ٍ‬ ‫يسعون لمحو ذكر أحد غيرهم مهما كان؟ ليس‬
‫من العتاة‪ ،‬بل ألن الشهداء وحدهم هم حقيقة الخطر‪ ،‬ألنهم أحياء ال‬
‫يمسهم سوى الخلود وما خالهم أموات لن يعرفوا الحياة إن لم يلتمسوا‬
‫سبيل الخالدين‪ .‬وداع ًا صديقي‪ ،‬كنت غفور ًا واغفر لنا لو أصابتنا ِسنة أو‬
‫نوم فقد تعبنا من ممارسة االنتظار للحاق بك‪ ،‬وداع ًا وإلى لقاء‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الشق الثاني‬
‫(السجن)‬
‫‪1‬‬
‫***‬
‫ساروا بنا من جديد في العربة عينها التي أقلتنا من المعتقل إلى ضفة‬
‫أخرى‪ ،‬سيسفح فيها العمر دمه على رصيف االنتظار‪ .‬وأنا أغادر المبنى‬
‫حد ابتلعت فيه كامل األفق البعيد حيث تسكن المدينة‬ ‫اتسعت حدقتاي إلى ٍ‬
‫التي تبني أرصفتها على جماجم الغائبين وواريت الصورة في جوفي ألتزود‬
‫بها في قابل األيام‪ .‬وما هي اّإل دقائق معدودة حتى وصلنا إلى مبنى ال يبدو‬
‫من واجهته األمامية سوى طابق واحد علقت على واجهته لوحة خشبية‬
‫بيضاء كتب عليها بخط أسود "وزارة الشؤون االجتماعية" وفي السطر‬
‫التحتاني "دائرة اصالح الكبار قسم األحكام الخاصة"‪ .‬استفزتني كلمة‬
‫إصالح رأيتها مثل لسان يندلع من وجه شيطان يسخر شامت ًا بنا‪ .‬أن نقبر هنا‬
‫أحياء في نزل موتى يسمى عندهم إصالح ًا!‪.‬‬
‫ال ضير وال عجب في ذلك فهذه ليست المرة األولى في التاريخ‪.‬‬
‫فكل األفعال القبيحة كانت تخفي قبحها وتضمر زيفها وراء مظاهر‬
‫خادعة‪ ،‬فأعتى الطغاة كانوا يحكمون باسم اإلله مدعين إنهم معينين‬
‫منه‪ ،‬بينما األنبياء كانوا مطاردين غرباء تالحقهم تهمة الجنون يتسكعون‬
‫مع الصعاليك والمشردين يحملون صلبانهم س ّلم ًا إلى الحقيقة‪ .‬إصالح‬

‫‪160‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يعني إننا منحرفون يجب أن نعاقب ونؤدب لنمشي على صراطهم األعوج‬
‫ونكون عبيد ًا لألقوى األخرق‪ .‬كلمة إصالح أزعجتني كثير ًا وتخيلت وأنا‬
‫ال كذلك في سوادها‬ ‫أمر من تحتها صور ًا أليام سوداء قادمة وكانت فع ً‬
‫وأقبح مما تخيلت‪.‬‬
‫تقيأت أحالمي الكبيرة وأنا أمر من تحت اللوحة الخشبية الساخرة‪،‬‬
‫ودلفنا إلى ممر‪ ،‬كان الظالم فيه واسع ًا ال تقوى على طرده زمرة مصابيح‬
‫صفراء شاحبة فرادى‪ ،‬تتدلى من سقف أسود كما في كل األماكن األخرى‬
‫التي سأزورها لسنوات تسع قادمة‪.‬‬
‫قصير سمين‬
‫ٌ‬ ‫عند أول خطوات ُادخلنا إلى غرفة صغيرة‪ ،‬استقبلنا ٌ‬
‫رجل‬
‫ال ليدون أسماءنا‬‫يتدلى كرشه أمامه يلبس زي ًا خاص ًا بالحرس وفتح سج ً‬
‫فيه‪ .‬كان له صوت مميز رفيع عال مزعج وبدأ يدون األسماء ويسألنا عن‬
‫تخصصاتنا العلمية‪ ،‬وعندما عرف إننا طلبة جامعيين بدأ بتوبيخنا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدون أن تصبحوا وتحصلوا عليه أال يكفيكم هذا المستوى؟‪.‬‬
‫نتلق تربي ًة صالحة وكلمات‬‫ويجيب نفسه بأننا أصحاب نوايا خبيثة ولم َ‬
‫أخرى بإمكاني اآلن أن أنمقها ألني ال أريد أن اعيد سماع قرفها ثانية وأترك‬
‫جالد فاشل لم يكمل‬‫ٍ‬ ‫الخيال أن يتصور منها من يريد وهي تخرج من لسان‬
‫سوى تعليم ًا متواضع ًا كما هو واضح من خطه وسؤاله كيف نتهجى أسماءنا‬
‫وهو يكتبها وظن إنه قد حانت له اليوم فرصة جيدة لالنتقام لذاته الفاشلة‪.‬‬
‫صوته العالي وصداه المزعج يتكرر في الممر الطويل ذكرني تلك‬
‫اللحظة بأبيات السياب‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ِ‬
‫ليعو سربروس في الدروب‪.‬‬
‫في بابل الحزينة المهدمة‪.‬‬
‫و يمأل الفضاء زمزمه‪.‬‬
‫كان يدون أسماءنا في سجل سري وهو يرمي علينا شتائم ترحيب‬
‫خاصة وعبارات تأنيب‪ ،‬حتى ضقنا ذرع ًا بثرثرته فقال له أحدنا زاجر ًا‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا تعرف أنت عنّا حتى تعرف ماذا نريد؟‪.‬‬
‫فغر فاهه ولم يصدق الجواب الجريء فكأنما ُلطم على فمه فسكت‪.‬‬
‫عندما كنت صغير ًا وعمري ال يتعدى سبع سنوات كان لي صديق‬
‫بعمري من الجوار العب معه دائم ًا‪ ،‬وكنت كما هو يذهب أحدنا إلى بيت‬
‫جدار في غرفة المعيشة خاصتهم‬ ‫ٍ‬ ‫اآلخر وفي إحدى المرات رأيت على‬
‫أشياء كثيرة معلقة مصنوعة من حبات صغيرة ملونة لماعة تسمى (نمنم)‬
‫أعجبتني جدا لجمالها وألوانها البراقة واستهوتني كثير ًا بمظهرها اللماع‪،‬‬
‫ولذا سألت صديقي عنها‪ ،‬قالت لي امه لتشفي فضولي وهي ترى لهفتي‬
‫وإعجابي بها إن لها أخ في السجن هو الذي يصنعها ويرسلها إليها كهدايا‬
‫في كل مرة يزوره أحد‪.‬‬
‫بينما كان يسير بنا الحارس في بداية الممر رأيت على اليمين صندوق ًا‬
‫زجاجي ًا كبير ًا من طابقين ولربما أكثر من ذلك‪ ،‬فيه معروضات تشبه تلك‬
‫األشياء الحلوة الملونة المعلقة في بيت صديق الطفولة‪ .‬صورة الجمال‬
‫انهارت من عيني وأنا أرنو ببصري إليها وكأني كنت أرى فيها ساحرة‬
‫بمظهر مخادع‪ .‬كم هو مقيت إضفاء الجمال على‬‫ٍ‬ ‫شمطاء تخفي بشاعتها‬

‫‪162‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫القبح واألكثر مقت ًا أن تصدق إنه بات جمي ً‬


‫ال فع ً‬
‫ال ألنك ال ترى سوى‬
‫مظهره الخادع وتعمى عن ل ّبه الماكر‪.‬‬
‫تابعنا المسير‪ ،‬وطلب حرس جدد بزي مدني انضموا لجوقة الترحيب‬
‫منّا الجلوس قرفصاء‪ ،‬فيما استقبلت وجوهنا حائط ًا‪ ،‬سألته في سري كم‬
‫عدد الذين طالعت وجوههم وهل حفظتها جميع ًا لتخبر األمهات الالتي‬
‫سيقفن أمامك حائرات يدرن في هذا الممر على غير هدى يبحثن عن‬
‫مغيبين وال أحد ينزع قلقهن؟‪.‬‬
‫ثم كان علينا أن نسير مهرولين إلى باب مصنوع من حديد ثقيل وفوقه‬
‫قطعة صغيرة مكتوب عليها "مخزن بطانيات"‪ .‬فتح الباب وكنا نظن إننا‬
‫سوف نزود ببطانيات‪ ،‬لكن ما أن فتح الباب حتى دفعنا إلى داخل مبنى‬
‫كبير وأصابتنا دهشة كبيرة لمنظره‪ ،‬إذ كان من طابقين‪ ،‬خمس زنزانات‬
‫إلى اليمين وأخرى مثلها على اليسار في كل طابق‪ .‬الواجهة األمامية لكل‬
‫زنزانة عبارة عن قضبان حديدية من أعلى السقف إلى األرض‪ ،‬بينما كانت‬
‫الزنزانة مكتظة بعيون تعبى تحملها رؤوس حليقة فوق أجساد هزيلة‪.‬‬
‫ُاستقبلنا بالهراوات من أشخاص ظنناهم رجال أمن‪ ،‬لكن تبين فيما بعد‬
‫إنهم زمرة خونة لهم قصة سوف يحين وقتها فيما بعد‪ ،‬راحوا يضربوننا‬
‫بدون سبب‪ ،‬ثم ُسحب كل واحد منّا إلى زنزانة وحشر فيها‪ ،‬ألجد نفسي‬
‫مع أربع وأربعين شخصا في زنزانة مربعة ضلعها خمسة أمتار وفي أحد‬
‫الزوايا مرحاض صغير‪.‬‬
‫بالقرب من هذا المرحاض كان محل نومي إلى جنب سجين أتم للتو‬

‫‪163‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫غسل أكواب بالستيكية وصحون معدنية‪ ،‬وراح يمسح عن األرض آثار الماء‬
‫بأجزاء من نعال إسفنجي خارج عن الخدمة وعندما انتهى من التجفيف أخذ‬
‫ٍ‬
‫سقيفة ثبتت على الحائط‪ ،‬وبدا لي‬ ‫النعال باحترام وعلقه في ٍ‬
‫سلك يتدلى من‬
‫جلي ًا إن كل األشياء لها قيمة هنا وإن كانت على وشك االنقراض‪.‬‬
‫صار مكان نومي الجديد تحت برميل ماء مشدود بإحكام‪ ،‬تطفو على‬
‫سطحه ما ال يحصى من حشرات سوداء دقيقة الحجم ال أعرف اسمها‪،‬‬
‫يبدو إنها تسللت من فتحات صغيرة للتهوية‪ ،‬في الحقيقة هي فراغات بين‬
‫قطع بلوك إسمنتي ولم تغلق عمد ًا لتسمح بمرور الهواء‪ .‬هذه الفتحات‬
‫ٍ‬
‫مجاور‬ ‫ساحة ترابية صغيرة تفصل القسم الذي نحن فيه عن قس ٍم‬ ‫ٍ‬ ‫تطل على‬
‫ال للنفايات‪ ،‬اذ كان السجناء يتخلصون من النفايات‬ ‫وصارت مكب ًا هائ ً‬
‫برميها فيها حين يفضل شيء منهم لوحين كانت المجاري تغلق تصرف‬
‫فيها‪ ،‬انه ال توجد سلة مهمالت وال أحد يجمع الفضالت إن وجدت‪.‬‬
‫أي أحد يمر بالقرب من هذه الساحة من حرس السجن أو‬ ‫كذلك كان يفعل ّ‬
‫أي شخص آخر‪ ،‬وال يهتم أحد برفع ما فيها أبد ًا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫إلى جواري امتد رجل طيب راح يسدي لي نصائح مهمة‪ ،‬أهمها أن‬
‫احذر من فالن وفالن‪ .‬سأكذب لو قلت إني فهمت ما يقول‪ .‬فكيف يمكن‬
‫لمظلوم مسحوق تحت كل هذه العذابات والكراهية أن يكون ظالم ًا وهو‬
‫مظلوم‪ ،‬لكن عرفت مصطلح ًا جديد ًا اسمه المراقب وهو بمثابة العين‬
‫لرجال األمن في الزنزانة وهذا حديث آخر طويل‪.‬‬
‫أشرعت نافذة بصري على الجدران اإلسمنتية السوداء واألكياس‬
‫الكثيرة المعلقة عليها التي تضم األموال المهربة من الحكم القضائي‬

‫‪164‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بمصادرة المنقول منها وغير المنقول‪ .‬أكياس كانت تحوي أسماالً وخردة‬
‫ليس لها قيمة اّإل في هذا المكان‪ .‬حكم مصادرة األموال كان يوزع على كل‬
‫الدوائر الحكومية حتى ال يفلت شيء من مقصلة إفناء كل آثار المعارضين‪،‬‬
‫وكان هذا أثر ًا جيد ًا صلح فيما بعد لتتبع عدد الذين سجنوا وقتلوا بطريقة‬
‫رسمية ودليل إدانة لمحاكمة من ارتكب تلك الجرائم‪ ،‬محاكمة لم تعقد‬
‫بعد رغم كل ما يقال عنها‪.‬‬
‫تاه بصري في هذه الصحراء الممتدة حيث يضيع الزمن فيها وأنا اتأمل‬
‫ال وقف وسط الجمع ضجر ًا من أشياء أجهلها وهو يردد‬ ‫ال ريفي ًا طوي ً‬
‫رج ً‬
‫عبارة ما زلت حتى اليوم أضحك من كيفية إلقائها بطريقته الكوميدية‬
‫السوداء وبلهجته الشعبية‪.‬‬
‫‪ -‬هاي شيگضيها العشرين سنة هنا!‪.‬‬
‫ضحكتي الصادقة الصادرة بعيد ًا من قاع قلبي‪ ،‬كانت بداية كبيرة لموجة‬
‫في وجعلتني أحيل الصحراء التائهة بال زمن‬ ‫عظيمة من التفاؤل سرت َّ‬
‫إلى أرض خصبة حبلى بالعطاء‪ ،‬فهي ليست كالشوارع واألرصفة التي‬
‫لفظتنا وصرن علينا سيوف ًا بتارة تحز الرقاب‪ .‬بل هي أرض تجمع كثير ًا من‬
‫الطيبين ومنهم طالب جامعي يدرس القانون ككثيرين مثله كانوا هناك لم‬
‫يكملوا دراستهم‪ ،‬ألن السلطة استبقت ثمرة نبوغهم فأجهضت أحالمهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هواء من منشفة باهتة‬ ‫علي نسمات‬
‫وقف يظللني مثل نخلة مريم تـُساقط َّ‬
‫كلل وال ملل‪ ،‬وهو يرى إجهادي وصعوبة‬ ‫األلوان كان يحركها فوقي بال ٍ‬
‫تنفسي وأنا أضطجع تعب ًا من مرض السل الرئوي الذي وفدت إلى الزنزانة‬
‫الجديدة أحمله معي من المعتقل‪ .‬لمحني أبحث عن الهواء في جو الزنزانة‬

‫‪165‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫المظلمة الرطبة فراح يحركه كما لو أنه كان يهدهد طف ً‬


‫ال حتى إبتلعتني‬
‫غفو ُة عميقة توائم بدني الذي كان يتجه نحو نقطة حرجة بسرعة كبيرة في‬
‫األسابيع األخيرة‪.‬‬
‫وأي خضرة داكنة نبتت على جدران اإلسمنت‬ ‫أي فيض من البهاء هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫يفوح منها عطر ًا‪ .‬ابتسمت روحي لهذا األريج واتقدت منتشية به‪ ،‬قد‬
‫عدت إذن إلى عالمي الذي أحلم به حيث تضوع ريح األنبياء وهي تالمس‬
‫األموات لتحييها وتبرئ األكمه واألبرص وترش الماء على طين رخيص‬
‫تسحقه األقدام ليطير محلق ًا بأمان عظام ويذرق على الذين أخلدوا إلى‬
‫األرض منسلخين من إنسانيتهم فباتوا يلهثون في كل أحوالهم وال يصدر‬
‫عنهم اّإل أنكر األصوات‪.‬‬
‫وبين تحذيرات صاحبي من الخونة وبين هذين الموقفين تشتت‬
‫مشاعري وتاه فكري وصرت بين حذر واطمئنان في الوقت عينه‪ .‬عرفت‬
‫أي شخص في زنزانة أخرى جريمة ُيعاقب عليها‬ ‫إن الكالم أو االشارة إلى ّ‬
‫السجين بقسوة‪ ،‬ولذلك حتى عندما لمحت أحد رفاقي في زنزانة أخرى‬
‫كما لمحني هو‪ ،‬لم أتبادل اإلشارة معه كما حاول أن يفعل‪ ،‬بل هربت من‬
‫أمامه ألن ذلك سيؤدي إلى عقوبة مشتركة نتقاسمها‪ .‬تأملت الحاضرين‬
‫من سكان الزنزانة جميع ًا وبدا مشهد ًا غريب ًا بالنسبة لي‪ ،‬كانوا يتفاوتون‬
‫بالمستوى الثقافي والتعليمي وال يبدو إنهم جميع ًا ممن مارس عم ً‬
‫ال‬
‫سياسي ًا أو فكري ًا معارض ًا‪ .‬كنت قد تعرفت على قسوة التعذيب ومخرجاته‬
‫كثير من السجناء أناس ال عالقة لهم‬‫لكن بصراحة لم أكن اتوقع أن يكون ٌ‬
‫بما كنّا نفعله قبل االعتقال من مقارعة السلطة‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي ظلم هذا الذي يزج بأبرياء ال عالقة لهم ال من بعيد وال من قريب‬
‫ّ‬
‫في سجون مخصصة للسياسيين‪ .‬كانت هذه صدمة كبيرة بالنسبة لي‪ ،‬ألني‬
‫بدأت اكتشف وحشية لم أكن قد أدركتها حتى تلك اللحظة‪ .‬أصبحت‬
‫لطبقة واحدة عشت معها‬‫ٍ‬ ‫في ارتباك كبير ألني كنت أظن السجن مكان ًا‬
‫في مراحل حياتي السابقة وتقاسمت معها الهموم والنشاطات والتفكير‬
‫وعلي أن أحسن التصرف مع‬ ‫ّ‬ ‫والتطلعات‪ .‬غير إن األمر ليس كذلك اآلن‬
‫هذه التضاريس المعقدة‪ .‬التضاريس ال أعني بها التنوع الطبقي االقتصادي‬
‫وال التفاوت التعليمي فقد ألفت هذه التناقضات‪ ،‬إذ إن المنهمكين بالعمل‬
‫السياسي لهم مشارب متعددة لكن أن تجد نفسك في سجن سياسي‬
‫وحولك مجموعة تتعرف على العمل السياسي ألول مرة شيء آخر تمام ًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مؤمن بهذا‬ ‫الصعوبة ليس في هؤالء فقط بل أن يكون بعضهم غير‬
‫العمل واألشد صعوبة أن يكون مقتنع ًا بالضد منه‪ ،‬بل ويزيد على ذلك‬
‫حماسه العلني ضد المعارضين السياسيين ويحملهم كل ما حصل له‪ .‬هذه‬
‫التنوعات كانت واضحة جد ًا في أول زنزانة دخلتها في السجن وكان األمر‬
‫بمثابة صدمة أولى لها تداعيات سوف تظهر الحق ًا‪ ،‬وسوف يأتي الحديث‬
‫عنها في وقت مناسب ورغم ذلك كان في الزنزانة نفسها أشخاص متميزون‪.‬‬
‫قبل منتصف الليل يطفأ المصباح الشاحب الوحيد في الزنزانة وكان‬
‫على الجميع بأمر من إدارة السجن أن يذهب إلى النوم اإلجباري‪ .‬كانت‬
‫الزنزانة ضيقة خانقة إلى حد كبير بالعدد الذي فيها (خمسة وأربعين‬
‫سجين) وفي جوها تشيع رائحة تبعث على الغثيان وعلى بالطها اإلسمنتي‬
‫فرشت بطانيات سوداء رقيقة‪ .‬كان النوم مهمة عسيرة إذ ال يمكن الرقاد اّإل‬

‫‪167‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي لحظة وكان البد من ترتيب‬


‫على الجنب ويستحيل النوم على الظهر في ّ‬
‫أي قدما سجين إلى جنب رأس سجين‬ ‫نوم السجناء بطريقة التخالف‪ّ ،‬‬
‫آخر‪ .‬ال يوجد مجال على االطالق لرأسين متجاورين‪ ،‬ولو اضطر أحدهم‬
‫خارج عن إرادته‪ ،‬مع إن النهوض وقت النوم كان‬
‫ٌ‬ ‫إلى النهوض لسبب ما‬
‫ممنوع ًا ويعاقب مرتكبه عليه فإنه لو أفلت من مراقبة عيون الخونة فسوف‬
‫يقع في مشكلة أكبر ألنه لن يجد فراغ ًا يضطجع فيه حين يعود‪ ،‬ويصبح‬
‫لزام ًا عليه مدافعة األجساد المتالصقة كي يحشر نفسه ثانية بينها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫برأس حليق مع‬ ‫في الليلة األولى كانت إلى جانب وجهي قدما شاب‬
‫ٍ‬
‫صلع خفيف وتبدو على وجهه آثار واضحة من عصبية وتوتر دائمين‬
‫يعكسها جبينه المتغضن‪ ،‬وكاآلخرين كان يرتدي ثياب ًا خلقة‪ .‬ذهبت في‬
‫غفوة عميقة من إرهاق المرض ويوم المحاكمة الطويل وعلى حين غرة‬ ‫ٍ‬
‫شعرت برفسة قد ٍم بشرية تركلني على فكي‪ ،‬فتحت عيني ألجد الدم يمأل‬
‫فمي‪ .‬فتحت عيني مرهوب ًا خائف ًا مصدوم ًا متوقع ًا األسوأ قبل أن أتبين إن‬
‫صاحبي الممتد إلى جنبي ممن يحلم كثير ًا أثناء نومه‪ ،‬ويتحرك منفع ً‬
‫ال مع‬
‫برفسة قوية‪ .‬عدت ألرقد‬‫ٍ‬ ‫كوابيسه المزعجة وشاركني كابوسه هذه الليلة‬
‫ٍ‬
‫حذاء متهرئ كنت أنتعله بانتظار طلوع النهار‬ ‫على وسادتي التي صنعتها من‬
‫من جديد ليسمح لنا بالحركة المحدودة من جديد في الزنزانة‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪2‬‬
‫***‬
‫عند الصباح دخل رجال األمن إلى قاعة السجن مع توزيع وجبة الطعام‬
‫األولى وبأيديهم هراوات‪ ،‬وقف أحدهم أمام الزنزانة بصحبة سجين‬
‫مسؤول عن توزيع األكل (يسمى خدمات) فتح الزنزانة‪ ،‬ليطلبوا من ٍ‬
‫شاب‬
‫بجسد ضئيل ال يتجاوز عمره السابعة عشر عام ًا أن يخرج إلى الممر‬ ‫ٍ‬ ‫نحيف‬
‫العريض واقتادوه إليه بعنف‪ ،‬عاد إلينا بعد ربع ساعة تقريب ًا بعد أن تم تعليقه‬
‫من أطرافه العليا في حالة تشابه التعذيب الذي كنا نتلقاه في مديريات األمن‬
‫ٍ‬
‫بخوف شديد‬ ‫إلجبارنا على تقديم االعترافات‪ .‬ال أخفي شعوري حينها‬
‫اقترب من الرعب‪ ،‬فقد استذكرت مراحل التعذيب في التحقيق والعذابات‬
‫التي تحملتها يومئذ وكنت أظن إن السجن ال يوجد فيه تعذيب ممنهج‪ .‬من‬
‫نقص في طعام وشراب‬ ‫ٍ‬ ‫الممكن أن أعاني في السجن من ٍ‬
‫ضيق في مكان أو‬
‫كما كان يحصل في المعتقل بعد انتهاء التحقيق وربما قد أنال ضربة من هذا‬
‫وهراوة من ذاك‪ ،‬لكن تعذيب منهجي لم أخاله موجود ًا‪ .‬يبدو األمر اآلن كما‬
‫لو كان عودة إلى مربع أول يأبى أن يكون له حدود ينتهي فيها بما يحمله من‬
‫ألي أحد أن يغادره‪ ،‬ألنه ال يوجد مربع ثان‪.‬‬ ‫عذاب وآالم وال يمكن ّ‬
‫حاولت أن استفهم عن سبب هذا التعذيب الصباحي غير المبرر‪،‬‬
‫ألصدم بأنه ال يوجد سبب‪ ،‬ومع غياب السبب صار واضح ًا أن ال شيء‬
‫بأي سجين‪ ،‬مهما حرص على أن يبعد األذى عن‬‫يمنع من نزول العقاب ّ‬
‫نفسه‪ .‬كان خوفي مبرر ًا جد ًا ألن السبب الحقيقي لتعذيب هذا الشاب‬
‫اليافع لم يكن سوى أنه ال يروق ألحد رجال األمن‪ .‬ففي يوم ما دخل رجل‬
‫‪169‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أمن إلى قاطع السجن ووقف أمام الزنزانة ولسبب ما أشاح هذا الشاب‬
‫بوجهه عنه بال قصد‪ ،‬لم تعجب هذه الحركة رجل األمن ولم يقبل عذره‬
‫بعدم التعمد‪ ،‬فاشتدت العداوة من رجل األمن لهذا السجين وكان عليه أن‬
‫يدفع ثمن هذه العداوة بين الحين واآلخر‪ ،‬هذه الغلطة التي لم تغتفر‪ ،‬لم‬
‫أعرف شرعة أو قانون ًا تعدها ذنب ًا أو خطيئة اّإل في ذاك اليوم‪.‬‬
‫محطم من المرض وقواي خائر ٌة بالكامل وصرت ال أقوى‬ ‫ٌ‬ ‫جسدي‬
‫على الحركة العادية‪ ،‬وكان هذا سبب ًا حقيقي ًا آخر لتخوفي مما رأيته للتو‪،‬‬
‫بقادر على تحمل التعذيب ثانية‪ .‬فزعت كثير ًا من هذه القصة‬ ‫ٍ‬ ‫ألني لم أعد‬
‫ونموذج‬
‫ٌ‬ ‫وكان الخوف والفزع واضح ًا على وجهي ألنها مفاجأة مرعبة‬
‫مخيف لما ستكون عليه قادم األيام‪.‬‬
‫الزنزانة التي وضعت فيها كانت واحدة من أسوأ الزنزانات‪ ،‬لوجود‬
‫مراقب فيها بأخالق وضيعة للغاية‪ ،‬جبان رعديد لحد ال يوصف‪ ،‬يقدم‬
‫معلومات أمنية عن السجناء اآلخرين إلى األمن بطريقة طوعية من أجل‬
‫لقيمات وشربة ماء زائدة‪ .‬المراقبون على الزنزانات كان تعيينهم يتم من‬
‫قبل الخدمات بموافقة األمن‪ ،‬وكان تقريب ًا جميع الخدمات والمراقبين‬
‫في الفترة التي دخلت فيها إلى السجن من المتعاونين مع األمن تقريب ًا‪،‬‬
‫البعض منهم خصوص ًا الخدمات كانوا يقومون بكل األفعال الخسيسة‬
‫حتى تصل بهم الخسة والنذالة إلى تعذيب السجناء بأيديهم‪ ،‬وباعوا‬
‫أنفسهم وضمائرهم لألمن بشكل كامل بل كانوا أشد قسوة منهم في بعض‬
‫األحيان‪ .‬كل ذلك كان مقابل أجر زهيد وهو أن يناموا خارج الزنزانات‬
‫المكتظة في مكان أكثر راحة بقليل مما نحن فيه‪ ،‬ويأكلون من األكل البائس‬

‫‪170‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نفسه الذي يقدم لنا لكن بحصة أكبر‪ .‬مقابل هذه المنح الوضيعة كان عليهم‬
‫أن يراقبوا السجناء ليل نهار على كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬ويتولوا بأنفسهم‬
‫أي مخالفة ولو كانت صغيرة إلنزال العقاب المر‬ ‫تقديم المعلومات عن ّ‬
‫بالسجناء‪ .‬الغريب في األمر والذي صدمني كثير ًا إن عدد المنافقين لم يكن‬
‫قليالً‪ ،‬اذ في زنزانة يسكنها خمسة وأربعون شخص ًا كان هناك متعاونان‬
‫بصورة علنية واضحة ال شك فيها وال لبس‪ ،‬ينضم إليهما آخران مذبذبان‬
‫كانا محل خشية سجناء الزنزانة‪ ،‬ولربما هناك شخص خامس لم تسنح له‬
‫الفرصة لفعل ذلك ال يساعده وضعه الجسماني ألداء هذه المهمة الحقيرة‪.‬‬
‫وبحساب الرياضيات كانت نسبة الخونة المؤكدة تقارب الخمسة بالمئة‬
‫وهذا الحال يسري تقريب ًا على كل الزنزانات األخرى‪ ،‬وأقدر أن اقول‬
‫ال هي نسبة الخونة من المتعاونين ممن‬ ‫إن نسبة الخمسة بالمائة كانت فع ً‬
‫ٍ‬
‫جاهروا بخيانتهم العلنية وصاروا بمواجهة كل السجناء في عداء علني‬
‫له قصص كثيرة الحقة‪ .‬اّإل إن المفارقة تكمن فيما حصل الحق ًا‪ ،‬فرغم‬
‫تبدل األحوال بعد عقود من الزمان وانقالبها رأس ًا على عقب‪ ،‬فان ّ‬
‫أي من‬
‫بأي عمل عدائي انتقامي ضدهم‪ ،‬كما كانوا هم يفعلون مع‬ ‫السجناء لم يقم ّ‬
‫السجناء في تلك الزنزانات‪.‬‬
‫كنت متوجس ًا جد ًا في أيامي األولى في الزنزانة ومع إني خبرت سكانها‬
‫جيد ًا‪ ،‬اّإل إن الحذر كان سم ًة الزم ًة في جميع أحاديثي وحرصت أن‬
‫أي شبهة عني‪ .‬فوجئت بشيء كنت أملكه ولم‬ ‫تكون سطحية جد ًا لتبعد ّ‬
‫أكن أحسب أنه سينفعني كثير ًا‪ ،‬بل ويمنحني حصانة وعصمة من وشاية‬
‫المخبرين‪ ،‬إذ عندما دخلت السجن كان معي ٌ‬
‫قليل من النقود حصلت‬

‫‪171‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عليها من مواجهة أهلي في المعتقل‪ ،‬ولم أك أخال أنها ستنفعني بشيء أبد ًا‬
‫في هذا المكان المقفل‪ .‬ولذا فوجئت عندما علمت إن رجال األمن يأتون‬
‫بين الحين واآلخر ويسمحون للسجناء باستخدام ما عندهم من أموال قليلة‬
‫لشراء علب الدخان والحليب المجفف ومعجون األسنان وأشياء أخرى‬
‫يسيرة‪ .‬كانت السجائر هي المادة األغلى واألنفس عند السجناء وإليها‬
‫تشرأب الرقاب وتلوى االعناق ومطمع دائم للمراقب وأتباعه وال سبيل‬
‫للوصول إليها اّإل عبر أموالي‪ ،‬ولذا صارت استراتيجية المراقب المحافظة‬
‫على عالقة طبيعية معي‪ ،‬ألن خالف ذلك يعني حرمان منها‪ .‬وكان حريص ًا‬
‫على إبعادي عن انظار رجال األمن وأذاهم خشية أن أنقل إلى زنزانة أخرى‬
‫فيضيع الكنز البورجوازي من بين يديه‪.‬‬
‫رغم ذلك لم تشجعني هذه الحصانة على التهور وال على التفريط‬
‫بسلوكية توخي الحذر الشديد واالقتصاد في العالقات واألحاديث مع‬
‫رفاق الزنزانة بشكل عام‪ .‬بالطبع كنت أتجنب المراقب تمام ًا وأتحاشى ّ‬
‫أي‬
‫الي بتملق شديد ووضع نفسه‬ ‫تطور للعالقة معه‪ .‬أحد السجناء كان يتقرب ّ‬
‫في منصب أمين صندوق السجائر التي أشتريها‪ ،‬كان يتوفر على قدرة هائلة‬
‫أي‬‫على الكذب واختالق األحداث والوقائع واألشخاص وال يكاد يفتح ّ‬
‫موضوع للحديث‪ ،‬مهما كان الموضوع غريب ًا وبعيد ًا عن عالمنا اّإل وأظهر‬
‫لنا أن له صلة عميقة به‪ ،‬وإنه مشارك بهذا الحدث بطريقة أو أخرى‪ .‬في‬
‫يوم ما طرح حديث عام‪ ،‬وذكر أحدهم لسبب ال أذكره اآلن دولة أرتيريا‬
‫التي كانت حينها ترزح تحت السيطرة اإلثيوبية‪ ،‬فانبرى هذا الرجل وقال‬
‫هل تعرفون من فجر الثورة األريتيرية ضد االحتالل اإلثيوبي؟ لم يرد عليه‬

‫‪172‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أحد ألنه موضوع ال يستأثر باهتمام أحد‪ ،‬وبصراحة ال أعرف من فجر هذه‬
‫الثورة حتى هذه اللحظة‪ ،‬انتظرنا جوابه الموسوعي ليقول لنا إن ابن خالته‬
‫جاسم قد فعل ذلك! ال تنقطع بطوالته وبطوالت عائلته اّإل حين يدخل‬
‫رجل األمن إلى القسم‪ ،‬وحتى قبل أن يقف رجل األمن قبال زنزانتنا كان‬
‫صاحبنا هذا يتحول إلى دجاجة مسكينة فقدت صوتها من الرعب كأنها‬
‫سمعت وطء نعال من يحبسها في القفص جاء ليذبحها وال أدري كيف كان‬
‫سيكون حاله لو رأى عصا الجالد‪.‬‬
‫تقريبا بعد عشرة أيام من دخولي السجن وعند غياب الشفق تمام ًا‪ ،‬دخل‬
‫ضابط أمن معروف بقساوته ليرتكب مجزرة بشعة‪ .‬هذا الضابط الوحش‪،‬‬
‫يقال إنه ابن شقيقة نائب الدكتاتور ولم يكن سه ً‬
‫ال بالنسبة لي التأكد من‬
‫دقة المعلومة‪ ،‬اّإل إنه كان يحمل شبه ًا غريب ًا به إضافة إلى انحداره من‬
‫المدينة نفسها‪ ،‬ولذا ال أستبعد صحة المقولة‪ُ .‬عرف هذا الضابط ببشاعة‬
‫تعذيب كثيرة بحق السجناء‪ ،‬كنت شاهد عيان على‬‫ٍ‬ ‫ظلمه وبارتكابه لجرائم‬
‫بعضها‪ .‬اّإل إن أبشع جرائمه كانت في استبدال السجناء السياسيين ممن‬
‫قضوا محكوميتهم من صغار السن بمجرمين عتاة محكومين باإلعدام‬
‫مقابل رش ًا مالية‪ .‬ولم يتفطن أحد لهذه الحيلة التي كان يقوم بها هذا‬
‫الوحش ألن المحكومين من أمثالنا كانوا محرومين من مواجهة األهل‬
‫ومن كل حقوقهم‪ ،‬وأخبارهم مقطوعة تمام ًا وال ُيعرف عنهم شيئا وكانوا‬
‫يعدون من األموات‪.‬‬
‫لذا أضحى من المستحيل أن يفكر أحد بالسؤال لمعرفة مصير ابنه‪ ،‬ألن‬
‫خط أحمر ال يصل اليه أحد اّإل وعرض‬ ‫المعتقلين والسجناء السياسيين ٌ‬

‫‪173‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نفسه لعقاب صارم‪ .‬لهذا السبب استسهل هذا الضابط استبدال السجناء‬
‫السياسيين بمجرمين محكومين باإلعدام الرتكابهم جرائم جنائية‪ .‬كان‬
‫متأكد ًا من ان ال أحد سيجرؤ على السؤال عما يجري ومستعين ًا على ما‬
‫يبدو بصلة القرابة بشخصية قوية في الحكم في إرهاب اآلخرين‪.‬‬
‫كان يتفق مع المجرم المحكوم باإلعدام على مغادرة البلد فور إخراجه‬
‫من السجن وبذلك تختفي آثار الجريمة‪ ،‬غير إنه في أحدى المرات‬
‫استسهل أحد المجرمين المحكومين باإلعدام األمر ولم يغادر البلد على‬
‫الفور حسب االتفاق‪ ،‬ولحسن الحظ بينما كان يمشي في أحد الشوارع‬
‫المهمة في العاصمة‪ ،‬لمحه ضابط شرطة جنائي كان قد أجرى التحقيق‬
‫معه بنفسه‪ ،‬فاستوقفه وسأله عن كيفية خروجه من السجن وهو محكوم‬
‫باإلعدام؟ أثارت أجوبته الهزيلة المرتبكة ريبة ضابط الشرطة فألقى القبض‬
‫عليه في الحال‪ ،‬الرتيابه بأنه قد ّفر من السجن وعند التحقيق معه أكتشف‬
‫المحققون األمر األدهى حين علموا بأمر استبداله بشخص آخر من‬
‫السجناء السياسيين بالتعاون مع ضابط األمن المسؤول عن السجن الذي‬
‫كنت فيه‪ .‬وتبين فيما بعد إن هذه ليست الجريمة الوحيدة بل واحدة من‬
‫سلسلة جرائم وقعت ألشخاص كُثر‪.‬‬
‫أصابنا العجب بعد سبع سنوات حين واجهنا العالم الخارجي ألول‬
‫مرة‪ ،‬ونحن نسأل عن سجناء كانوا معنا‪ ،‬ألن اإلجابة الصادمة كانت تأتي‬
‫بأن جثثهم قد سلمت ألهاليهم بعد تنفيذ حكم اإلعدام بهم‪ ،‬وآخرون‬
‫ال لم تصل جثثهم إليهم‪ .‬فقط صودرت شهادة الجنسية وهويات‬ ‫أص ً‬
‫األحوال المدنية من عوائلهم وأبلغوا بإعدامهم شفهي ًا وظلوا مجهولي‬

‫‪174‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫المصير حتى يومنا هذا‪ .‬إثر هذه الفضيحة اإلجرامية أبعد هذا المجرم من‬
‫ٍ‬
‫كمشرف على السجن الذي كنّا نُحتجز فيه‪ ،‬مما خفف علينا بعد‬ ‫وظيفته‬
‫إبعاده كثيرا من جرائمه الوحشية التي كان يرتكبها بشكل متواصل‪ .‬ومع‬
‫يتلق عقاب ًا كبير ًا ألن أرواح السجناء السياسيين لم تكن ذات أهمية‬
‫ذلك لم َ‬
‫بالنسبة للسلطة القمعية‪ ،‬وربما أيض ًا لقرابته من رأس السلطة‪ .‬سمعنا فيما‬
‫بعد إنه أبعد إلى السلك الجنائي كعقوبة له كما كان يفعل بالعادة مع ضباط‬
‫األمن المغضوب عليهم من السلطات األمنية العليا‪.‬‬
‫في تلك الليلة دخل هذا الضابط إلى السجن وكانت ليلة عيد‪ ،‬طلب من‬
‫الخدمات والمراقبين أن يقدموا أسماء السجناء الذين كانوا قد امتنعوا عن‬
‫األكل والشرب في هذا اليوم ألسباب دينية‪ .‬ولم يكن طلبه سؤاالً بل كان‬
‫يريد أشخاص ًا ليعذبهم حتى وإن لم يصوموا وبعضهم كان بالفعل كذلك‪.‬‬
‫اّإل إن الخدمات والمراقبين كانوا يحملون من الجبن والخوف من العقاب‬
‫ما ال يستطيعون معه أن يردوا على طلب هذا الضابط المتهور المجنون‬
‫المهووس بالتعذيب‪ ،‬خصوص ًا إنهم قد علموا بنيته األكيدة بإنزال عقاب‬
‫شديد بالسجناء‪ ،‬حين جاء مع مجموعة من رجال األمن مجهزة بهروات‬
‫خاصة إلقامة حفل تعذيب في تلك الليلة‪ .‬وبدأت المجزرة‪ ،‬كل من يرد‬
‫اسمه فهو مذنب وإن أثبت بألف بينة ودليل أن ال ذنب له‪ ،‬وهو األسلوب‬
‫ذاته الذي كان يجري في التحقيق‪ ،‬التهمة هي الذنب‪.‬‬
‫خالل دقائق جلس في الفناء العريض عد ٌد كبير من السجناء‪ ،‬من زنزانتا فقط‬
‫اثنا عشر شخص ًا‪ .‬بدأت حفلة تعذيب لمدة ساعة تقريب ًا‪ ،‬يمر أربعة من رجال‬
‫األمن ويضاف اليهم أربعة آخرين من الخدمات ينزلون أقصى ما يملكون من‬

‫‪175‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ضج‬
‫قوة عندهم على السجناء‪ ،‬بعصيهم وبالهراوات والكيبالت الكهربائية‪ّ .‬‬
‫المكان بصرخات األلم وسط صمت وخوف مأل المكان ك ّله‪ .‬لم يتوقفوا عن‬
‫الضرب حتى بعد أن أغمي على عدد من السجناء‪ ،‬انتهت الحفلة في فصلها‬
‫ال جديد ًا‪ .‬حيث‬‫األول عندما شعر الجالدون بالتعب واإلرهاق لتبدأ فص ً‬
‫أفرغت زنزانة كانت مخصصة للمصابين بمرض التدرن الرئوي‪ ،‬تم نقلهم‬
‫إلى قسم خاص سوف أحل عليه قريب ًا‪ ،‬ليوضع في هذه الزنزانة كل هؤالء‬
‫المتهمين بالعصيان‪ ،‬بزحام رهيب وإن كنت ال أدري كم كان عددهم بالضبط‬
‫يكتف هذا الضابط بهذا العقاب‪ ،‬بل أمر بوضع بطانيات على‬ ‫ِ‬ ‫أو تقريب ًا‪ .‬لم‬
‫القضبان الحديدية ليسد عليهم كل نور‪ ،‬وخفضت حصتهم من الطعام والماء‬
‫إلى النصف‪ ،‬وهي حصة باألصل لم تكن تكفي لسد الرمق وظلوا على هذا‬
‫الحال عدة أسابيع‪ .‬الغريب في األمر إنه بعد أن أخرجوا من هذه الزنزانة لم‬
‫يكونوا فرحين جد ًا كما هو المتوقع‪ ،‬بل بدا على بعضهم األسف حيال ذلك‬
‫وعندما سألت أحدهم عن سبب هذا الشعور الغريب قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬كان مكان ًا آمن ًا ال يوجد فيه مراقب متعاون مع األمن‪ ،‬والبطانيات‬
‫تحجب الرؤية عن رجال األمن والخدمات‪ ،‬لذلك كنّا نتصرف بحرية‬
‫كبيرة‪ ،‬نتكلم بما يحلو لنا ونفعل ما نشاء‪ .‬أما نقص الضوء واألكل والشرب‬
‫فهو أهون بكثير من هذا الرعب اليومي جراء مالحقة عيون الخدمات‬
‫ورجال األمن لنا ليل نهار‪.‬‬
‫بصراحة كان كالمه على غرابته مقنعا للغاية‪ .‬هذا اإلحساس بفقدان‬
‫األمن صار دافع ًا لكثير من السجناء للمخاطرة والقيام ببعض التصرفات‬
‫للحصول على فرصة كهذه‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪3‬‬
‫***‬
‫بعد هذه الليلة المرعبة تناقص عددنا في الزنزانة إلى ثالثة وثالثين‬
‫سجين ًا‪ ،‬كانت انفراجه كبيرة في المنام لليلتين تقريب ًا‪ ،‬وبسبب هذا النقص‬
‫الكبير في العدد حشر معنا سجناء جدد ممن وصلوا حديث ًا من المحكمة‬
‫وعاد العدد إلى طبيعته تدريجي ًا خالل أيام قليلة‪ ،‬إلى أن رفعت العقوبة‬
‫كل إلى زنزانته التي خرج منها‪،‬‬‫عن المعاقبين الذين طلب منهم العودة ٌّ‬
‫وفي لحظة واحدة قفز عددنا إلى سبعة وخمسين سجين ًا وأصبحت الزنزانة‬
‫ٍ‬
‫بشكل مثير لالشمئزاز‪ ،‬ألنه لم يعد هناك من مكان للنوم وال حتى‬ ‫مكتظة‬
‫للجلوس‪ ،‬وضاعف من تقززنا حصول حادث غريب تلقينا بسببه عقوبة‬
‫جماعية قاسية‪.‬‬
‫كان رجال األمن يغيرون الزنزانات لسبب أجهله‪ ،‬يأتون ويطلبون منّا أن‬
‫نخرج كلنا ونذهب إلى زنزانة أخرى فيما يأتي سجناء آخرون إلى زنزانتنا‪،‬‬
‫وهكذا كل الزنزانات األخرى‪ .‬انتقلنا إلى زنزانة جديدة تقع في ظهر‬
‫قسم آخر يوجد فيه سجناء سياسيون يعيشون بمثل ظروفنا‪ ،‬يسمى (ق‪)2‬‬
‫اختصار ًا السم (القاطع المغلق الثاني)‪ ،‬ونحن في (ق‪ .)1‬عندما ننتقل إلى‬
‫زنزانة جديدة نبدأ بالبحث عن ثقب صغير بين الجدران لنحشر فيه مسمار ًا‬
‫أو ما يشبهه لنعلق به (عليجة) تحوي كل أمالكنا من ثياب أو أشياء أخرى‪.‬‬
‫لم يكن من السهل إيجاد الثقوب لحشر الشناق الحديدي المستخدم‬
‫عادة لتعليق أكياس ًا صغيرة نضع فيها أغراضنا‪ ،‬وكان البد من االستعانة‬

‫‪177‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ال بين قطعتي البلوك حتى يحصل على موق ٍع‬ ‫بشيء ما للطرق والحفر قلي ً‬
‫ثابت نوع ًا ما‪ .‬كان أحد السجناء يملك حذاء قديما‪ ،‬ال يصلح لالنتعال‬
‫ٍ‬
‫بكعب صلد ينفع كمطرقة‪ .‬بعد أن انتهينا من استعماله‪،‬‬ ‫أبد ًا‪ ،‬اّإل انه يحتفظ‬
‫وألن عددنا كان كثيرا جد ًا وامتألت كل أنحاء الزنزانة بالبشر واألغراض‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بحبل صنعه من أسمال‬ ‫اخترع صاحبه طريقة مبتكرة لالحتفاظ به إذ ربطه‬
‫بالية وأخرجه من فتحة التهوية الوحيدة في الزنزانة ليتدلى في الخارج‪،‬‬
‫وليتمكن من سحبه ثانية عند الحاجة‪.‬‬
‫في المساء جاء رجل أمن مع أحد الخونة المتعاونين من (ق‪ )2‬ليلقي‬
‫علينا تهمة االتصال مع السجناء في (ق‪ )2‬وادعى إنه رأى يد ًا تمتد من‬
‫فتحة التهوية في زنزانتنا تلوح إلى شخص ما في قسمه‪ ،‬صار علينا وفق‬
‫هذا االتهام تحديد اسم الشخص المتهم بالتخابر من زنزانتنا وعليه أن‬
‫يعرف باسم الشخص اآلخر في الزنزانة المقابلة‪ .‬أصبنا بالذهول من هذا‬ ‫ّ‬
‫الموقف الغريب وكيف سنخرج منه‪ ،‬ولم تفد كل محاوالتنا بإقناع رجل‬
‫األمن بأن أحدنا أخرج الحذاء من فتحة الشباك ليس اّإل ورفض هذا التبرير‬
‫ولم يلتفت إليه‪.‬‬
‫مراقبنا كان جبان ًا رعديد ًا ووضيع ًا إلى حد بعيد وال يجرؤ على رد‬
‫االتهام‪ ،‬بل بذل كل جهده ليرمي التهمة على أحدنا ويتخلص من هذه‬
‫الورطة ويتملق بذلك إلى رجال األمن والخدمات‪ ،‬بالمقابل كان ال‬
‫يأمن إزاحته من منصبه ومعاقبته لو فشل في تقديم اسم متهم بهذا الذنب‬
‫المخترع‪ .‬ولما لم يعترف أحد بالتهمة عاقبنا على الفور رجل األمن‬
‫بإخراج عشرة منّا بشكل عشوائي وأوسعوهم ضرب ًا‪ ،‬وهدد بأنه سوف يعود‬

‫‪178‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫مع كل وجبة طعام ويختار عشرة أخرى وعلينا أن نقدم المذنب اّ‬
‫وإل فانه‬
‫حيص وبيص وال نعرف سبي ً‬
‫ال للخروج من‬ ‫ٍ‬ ‫سيعاقبنا جميع ًا‪ ،‬وصرنا في‬
‫هذا المأزق‪.‬‬
‫الخونة بيننا يبحثون عن قربان ونحن بالمقابل على يقين من بطالن‬
‫ال ال يمكن ألحد أن يرى أحد ًا من ذاك البعد بين‬‫ادعاء المخبر‪ ،‬ألنه اص ً‬
‫القسمين ومن خالل هذه الثقوب الصغيرة‪ .‬إضافة لذلك كنّا نزالء جدد‬
‫على هذه الزنزانة في يومنا األول وال يمكن أبد ًا أن نعرف من يسكن قبالنا‬
‫أو من خلفنا‪.‬‬
‫استمر الحال على ما هو عليه في الصباح وأخرج عشرة آخرين ليتلقوا‬
‫عقاب ًا جماعي ًا‪ ،‬وأصبحنا مع كل وجبة طعام يأتي الينا رجل األمن ونقدم له‬
‫عشرة قرابين ليعاقبهم‪ ،‬وزاد األمر على ذلك‪ ،‬إذ إن المسؤول األمني أصدر‬
‫أمر ًا بمنعنا من الوقوف في الزنزانة مطلق ًا‪ ،‬حتى عندما كنّا نريد الذهاب‬
‫إلى الخالء أو التحرك في داخل الزنزانة علينا أن نقفز إما مثل األرانب أو‬
‫نزحف كالسالحف‪ .‬كان وضع ًا قاسي ًا تكبدنا فيه محنة إضافية لكل ما نحن‬
‫فيه من ظروف شاقة وأليمة‪.‬‬
‫مرت ثالثة أيام بلياليها ونحن على هذا الحال إلى أن اقتنع رجل األمن‬
‫بأن المخبر متوهم فيما يقوله‪ ،‬بعد أن تصدى إلقناعه شاب شجاع ذلق‬
‫اللسان استخدم خزينه من الكلمات المنمقة التي بالغت في مدح رجل‬
‫األمن ووصفه بأوصاف لم يكن يحلم ان يسمعها‪ ،‬لترتفع نسبة الزهو‬
‫والغرور عنده إلى مديات عليا سهلت إصدار عفوه علينا امتنانا لكلمات‬
‫صاحبنا الذي تالعب به بشجاعة‪ ،‬ألنه لو لم ُيقنع رجل األمن بما قدمه من‬

‫‪179‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حجج لوضع نفسه في فوهة المدفع ولتجرع عقوبة قاسية‪.‬‬


‫في هذه األثناء واصلت صحتي االنحدار السريع وهزلت إلى درجة‬
‫قياسية‪ ،‬الحمى ال تفارقني وكنت أتعرق بشدة خصوص ًا في الليل‪ ،‬وتنفسي‬
‫بات شاق ًا وأقضي ليلي ونهاري مستلقي ًا‪ ،‬وفي أحد األيام عند الصباح وأنا‬
‫اغسل وجهي سعلت في إناء كنّا نغسل فيه وجوهنا وأيدينا جميع ًا‪ ،‬وإذا بدم‬
‫أحمر قان يخرج مع السعال ليدق جرس اإلنذار في الزنزانة‪ ،‬إذ كان هذا‬
‫بمثابة إعالن رسمي على إصابتي بمرض السل الرئوي‪.‬‬
‫فزع المراقب وبعض أنصاره خشية العدوى وبدأوا يفكرون اآلن‬
‫بطريقة للتخلص مني ونقلي خارج الزنزانة‪ .‬بالمقابل كان هناك آخرون‬
‫يبالغون في تقديم الرعاية والعناية لي ويضيقون على أنفسهم كثير ًا في‬
‫المأكل والمشرب والمنام ألجل توفير الراحة لي التي ال تتوفر ألحد‪.‬‬
‫تدهورت صحتي جد ًا وأصبحت على مشارف الموت الفعلي بحيث لم‬
‫ِ‬
‫يخف بعض السجناء قلقهم من ذلك‪ ،‬بل إيمانهم الكامل بأنه لم يتبق لي‬
‫اّإل القليل جد ًا في هذه الدنيا‪ ،‬وما زلت أذكر أحدهم الذي كان يكبرني‬
‫بسنوات قليلة وهو يجلس إلى رأسي يحدثني عن الدنيا الفانية ويقول لي‬
‫أن الموت حق‪ ،‬ويواسيني بكلمات ٍ‬
‫صبر وتشجيع‪.‬‬
‫بأي شيء في تلك الوضعية المزرية التي وصل‬
‫ال أعرف لماذا لم أشعر ّ‬
‫اليها جسدي‪ .‬ال أقدر أن أقول إني كنت صبور ًا على األوجاع واأللم‬
‫بأي شيء‪ .‬األمر‬
‫وانحطاط قواي البدنية‪ ،‬ألني بصراحة كنت ال أشعر ّ‬
‫بالنسبة لي كان يبدو عادي ًا جد ًا وحتى عندما كنت أسمع كلمات المواساة‬
‫والصبر لم أكن ألق لها باالً على اإلطالق أو أعيرها ّ‬
‫أي اهتمام‪ ،‬بل كنت‬

‫‪180‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أرى إنه ال يستحق كل هذا العناء والتفكير منهم‪ ،‬وأراهم مهووسين بأمر‬
‫ليس بذي بال‪ .‬وألبرهن على ذلك‪ ،‬إني لم أتوقف عن التدخين حتى في‬
‫هذه الظروف البائسة‪ ،‬اّإل في مرحلة متقدمة عندما وصل بي العجز درجة‬
‫تضاءلت فيها قدرتي على سحب األنفاس للبقاء على الحياة ولم يعد هناك‬
‫من مجال بعد للتمتع بلذة الدخان‪.‬‬
‫طبع ًا قد يظن البعض إننا كنّا ندخن بشراهة من الضجر والملل الذي‬
‫أصح‬
‫ُ‬ ‫يمألنا‪ ،‬وحتى نحن كنّا نحسب أنفسنا من المدخنين المدمنين ولم‬
‫من هذه الفرضية الخاطئة اّإل بعد سنوات‪ ،‬حين قابلنا طبيب في مستوصف‬
‫المستشفى وسأل سجين ًا كان يشاطرني الزنزانة هل تدخن؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫أجابه رفيقي‪ ،‬وكانت نعم كبيرة استرعت انتباه الطبيب فسأله ثانية‪:‬‬
‫‪ -‬كم سيجارة تدخن في اليوم؟‪.‬‬
‫فقال له صاحبي‪:‬‬
‫‪ -‬ثالث سجائر باليوم‪ ،‬تمر كل سيجارة على عشرين مدخن تقريبا في‬
‫الزنزانة ليأخذ كل واحد منهم نفس ًا واحد ًا فقط‪.‬‬
‫ضحك الطبيب مبتسم ًا ساخر ًا وانتبهت إلى العالم الغريب الذي نعيشه‬
‫وهم ظاهر‪.‬‬
‫وإلى كم المعتقدات التي نؤمن بها بشدة وهي ٌ‬
‫أن نركب حقائق عالم على عالم آخر ال يمت له بصلة ونسقط تداعياته‬
‫عليه بال وعي فواصل الزمان والمكان والظروف الموضوعية‪ ،‬سوف‬
‫يدفعنا إلى متاهة ال نهاية لها ويضعنا وسط لغز بال حل‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كنّا أحيان ًا ندخن بطريقة فكاهية بحق‪ ،‬وأكثر هزلية مما ذكرت‪ ،‬إذ‬
‫عندما تنقطع السجائر عنّا نروح نبحث عن بدائل لها‪ .‬جربت واحدة من‬
‫تلك البدائل مرة‪ ،‬وبعدها استسخفت الفكرة كثير ًا ألمتنع بعدها نهائي ًا عن‬
‫التدخين في السجن ولسنوات طويلة‪ .‬كنّا نجمع بقايا الشاي الذي يقدم‬
‫لنا في الصباح ونجففه تمام ًا‪ ،‬وكان لدينا صنبور ماء عاطل تم نزعه من‬
‫أحد الحمامات‪ ،‬ألنه باألصل ال يوجد ماء في الحمام‪ ،‬ولسنا بحاجة لهذا‬
‫الصنبور العاطل وال لغيره وان كان صالح ًا‪ .‬كنّا نضع فضالت الشاي في‬
‫هذا الصنبور ونحرقه ونسحب دخانه من الجهة األخرى للصنبور وكأننا‬
‫كنّا ندخن غليونا‪ .‬كان طعم الدخان ال يمت لدخان السجائر بشيء بل‬
‫مر ًا الذع ًا‪ ،‬ومع ذلك كنّا نشعر معه براحة أكثر من تدخين السجائر‪،‬‬ ‫كان ّ‬
‫س واحد عند محاولة‬ ‫ألن مخلفات الشاي كثيرة وكنّا نحظى بأكثر من َن َف ٍ‬
‫التدخين بهذا الغليون وال يوجد تزاحم عليه بين السجناء كما كان يحصل‬
‫في تدخين السجائر‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪4‬‬
‫***‬
‫كان الجوع شديد ًا‪ ،‬يقدم لنا في الصباح حساء عدس وشاي وقطعة خبز‬
‫صباحية (نسميها صمون باللهجة العراقية)‪ .‬كل صحن كان مخصص ًا ألن‬
‫يأكل منه خمسة أشخاص أو أكثر وهو بالكاد يكفي إلشباع شخص واحد‪.‬‬
‫وفي الغداء يقدم لنا رز بمقدار قدح صغير‪ ،‬ومع ذلك لم يكن يصلنا هذا‬
‫النزر الضئيل والمقدار البخس كل يوم‪ ،‬بل تقريب ًا مرتان أو ثالث مرات في‬
‫األسبوع الواحد في أحسن األحوال‪ .‬عدا ذلك‪ ،‬كانت الوجبة الرئيسية في‬
‫العشاء أو الغداء‪ ،‬عبارة عن حساء من شيء ال أعرف كنهه بالتحديد‪ ،‬يبدو‬
‫قدر كبير (يسمى قزان بمصطلح السجناء) كأنه ماء ساخن‬ ‫حين يصلنا في ٍ‬
‫تطفو عليه بضع رؤوس بصل وتسبح معه أشياء دقيقة سوداء‪ ،‬ال ُيدرى هل‬
‫هي ديدان أم أشياء تؤكل‪ .‬منظر القدر بما فيه يبعث على التقزز‪ ،‬ومع ذلك‬
‫كنا نأكله بنهم شديد‪ ،‬ألننا كنّا طاويين لحد المسغبة‪.‬‬
‫في مناسبات قليلة كان يصلنا لحم أو دجاج‪ ،‬مرة في الشهر أو أكثر من‬
‫ذلك‪ ،‬وفي مرات نادرة جد ًا حظينا بسمك‪ ،‬وكل ذلك لم يكف لسد الجوع أبد ًا‪.‬‬
‫األواني التي نستلم بها الطعام مضحكة‪ ،‬مثلما هي الطريقة التي ُيسلم‬
‫بها‪ .‬كان القزان الكبير يصل إلى باب الزنزانة يدفعه واحد من عناصر‬
‫الخدمات على صناديق بالستيكية تسهي ً‬
‫ال للحركة ويبدأ بإعطاء كل زنزانة‬
‫نصيبها‪ .‬يقدم المراقب صحن ًا كبير ًا من تحت القضبان لتسلم الرز‪ ،‬وبالطبع‬
‫هذا الصحن الكبير ليس كما تشي به الكلمة‪ ،‬ألنه لم يكن في الحقيقة سوى‬

‫‪183‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫غطاء لبرميل الماء البالستيكي‪.‬‬


‫يبدأ المراقب بعدها بتوزيع الحصص التموينية بواسطة قنينة زيت‬
‫بالستيكية (تشبه قناني الماء والكوال حجم لترين) شقت إلى نصفين‬
‫لتصبح أداة غرف ويقدم الطعام لكل مجموعة سجناء في صحون معدنية‬
‫مسطحة‪ .‬وهكذا األقداح التي نشرب بها‪ ،‬لها أشكال غريبة عجائبية منوعة‬
‫أي‬
‫مثل أدوات األكل ومن الممكن أن تكون عدلت طريقة استعمالها من ّ‬
‫شيء‪ ،‬كأن يكون علبة معدنية أو قعر قنينة زيت‪ ،‬وعلى كل حال لم يكن‬
‫هناك الكثير من الماء لنشربه‪.‬‬
‫الماء يصل إلينا عبر خرطوم طويل‪ ،‬الذي يمر نصف ساعة على كل‬
‫زنزانة لتتزود به بملء برميل بالستيكي يشد بإحكام إلى الحائط الذي‬
‫تتواجد فيه فتحات التهوية‪ .‬وألن الساحة الخلفية كانت مك ّب ًا ضخم ًا‬
‫للنفايات فكانت تتوافد إلى هذا البرميل حشرات ال عد لها وال حصر‬
‫وتموت فيه‪ ،‬ولم يكن هذا سبب ًا رادع ًا لالمتناع عن شرب الماء‪ .‬كل ما كان‬
‫ال قبل الشرب وينتهي الموضوع وكأن شيئ ًا لم يكن‬ ‫يجري‪ ،‬هو إزاحتها قلي ً‬
‫مع إنه كان يحصل في كل لحظة‪.‬‬
‫كان الماء شحيح ًا إلى درجة ال تصدق‪ ،‬وصل في بعض المرات إلى‬
‫أن يكون حصة كل سجين نصف لتر تقريب ًا‪ ،‬وفي أحسن المرات ثالثة‬
‫أرباع اللتر في اليوم والليلة الواحدة‪ ،‬يستعملها السجين لكل األغراض‬
‫من شرب واستحمام وللشطف بعد قضاء حاجته ولغسل مالبسه وأواني‬
‫طعامه‪ .‬ولوال إن المكان كان مظلم ًا ال تزوره الشمس بالمطلق لما أمكن‬
‫ألي أحد العيش في هذا العطش المتواصل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪184‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يحصل أحيان ًا أن يصل الينا الخبز أكثر من المعتاد‪ ،‬لذلك لجأ السجناء‬
‫إلى جمع كل الفتات المتبقي منه وتجفيفه في أكياس (جنفاص) بيضاء‬
‫تشبه الخيش اّإل إنها مصنوعة من خيوط نايلون صناعية‪ ،‬تعلق في أعلى‬
‫الزنزانة قريبة إلى السقف‪ ،‬توفر أليام المجاعة‪ ،‬وما أكثرها‪.‬‬
‫تمر علينا أيام صعبة من نقص شديد في الطعام‪ ،‬إذ يصبح ضئي ً‬
‫ال في‬
‫مقداره متأخر ًا في وصوله‪ .‬عندئذ‪ ،‬كنا ننقع الخبز اليابس بالماء لتصيبه‬
‫طراوة تيسر على األضراس طحنه‪ ،‬وبعضهم كان يستلذ بأكله يابس ًا كل‬
‫بحسب ما يروم ويشتهي‪ ،‬وباألحرى كل بحسب درجة الجوع التي انتهى‬
‫إليها‪ .‬كنت وأنا أكله أحس بطعم الغبار في حلقي‪ ،‬ولكنه لم يحجزني عن‬
‫جرشه وال صدني عنّه أبد ًا‪ ،‬ألن الجوع صاحب قلب كبير يتسع لكل أنواع‬
‫الطعام‪ ،‬ال يحجز أحد ًا منه‪ ،‬ال جيد وال رديء‪ ،‬ويشكر بعدها بامتنان مهارة‬
‫صانعيه ولو كانوا أسوأ الطباخين‪ .‬ال أقدر أن ٌأ َ‬
‫صور الجوع الذي كنا نتلوى‬
‫منه‪ ،‬هل تكفي كلمة مخمصة؟ ال أدري‪.‬‬
‫بعض السجناء خصوص ًا من حديثي السن المراهقين وبعضهم لم‬
‫يتجاوز الثالثة عشر ربيع ًا‪ ،‬كانوا زائد ًا عن ألم فراق آبائهم وامهاتهم بعد‬
‫أن اختطفوا من أحضان أهليهم‪ ،‬يأنون من لهيب جو ٍع يستعر وال يجدون‬
‫وجوع جارف كان حتى الكبار‬ ‫ٌ‬ ‫ما يخمدوه به‪ ،‬وحين يجتمع بر ٌد صرد‬
‫يتأوهون من فعلهما القبيح‪ .‬في إحدى الليالي شوهد أحد السجناء وهو‬
‫يجلس منزوي ًا تحت جنح الظالم يبكي‪ ،‬وراحت الظنون إن به أمرا جلال‬
‫كان يتكتم عليه وها قد طفح الكيل به‪ ،‬فلم يعد قادر ًا على مواراته أو لربما‬
‫دهمه شوق وحنين ما تملك من زجره كما كنا نفعل جميع ًا‪ ،‬اذ كنا جميع ًا‬

‫‪185‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نمارس لعبة فقد الذكريات ونفرغ أذهاننا من الماضي ونوصد األبواب‬


‫عليها حتى ال يصيبنا الجنون‪ ،‬لكن حين االستفهام منه عن سبب هذا البكاء‬
‫المباغت بال مقدمات جاء الجواب المريع‪.‬‬
‫‪ -‬البرد والجوع يقتلني‪ .‬هكذا قال‪ ،‬وعاد منخرط ًا في بكائه المرير‪.‬‬
‫اّإل إن معاناة الصغار كانت أشد من ذلك‪ ،‬وصل الجوع ببعضهم إلى أن‬
‫ِ‬
‫يوص بها أمهر الطباخين‪ .‬كانوا يأخذون قطع ًا من رغيف‬ ‫يصنع فطيرة لم‬
‫متيبس ويمسحوه بمعجون األسنان كما لو أنه يدهن الخبز بزبدة أو قشدة‪،‬‬
‫ويتلذذ أحدهم فرح ًا منتشي ًا وهو يقضمها مع مجموعة من رفاقه في حفلة‬
‫أكل جماعية والبسمة تعلو محياهم‪ ،‬كأنهم يحتفلون بعيد ميالد صديق‬
‫لهم‪ .‬لم يكن يسير ًا تجربة هذا النوع من الشطائر لذلك ال أعرف طعمها‪،‬‬
‫لكن أعرف من تذوقها بل ازدردها وأسكت عويل امعائه الخاوية بها ولم‬
‫يندم على ذلك‪.‬‬
‫مما يزيد الوجع واأللم قسوة هو االنتظار‪ ،‬وما يضاعفه أكثر حين يكون‬
‫الهدف المنشود واألمر المبتغى بمرأى العين تتحسسه الجوارح وتهفو إليه‬
‫الجوانح لشدة قربه‪ ،‬لكنه ينأى بعيد ًا في غور عميق وال يحول عنه ويحجز‬
‫وهم خادع‪ .‬هذا ما كان يحصل في‬ ‫اإلمساك به ويمنع الوصول اليه اّإل ٌ‬
‫مرات كثيرة ونحن نتلوى جوع ًا ننتظر وجب ًة مقرفة من حساء ال طعم له‪،‬‬
‫مجه وقيئه‪ ،‬لكن‬‫ونجبر ذائقتنا على التلذذ به برضا وقناعة مع إن األولى بنّا ّ‬
‫ال حيلة لذلك ألن خيار الموت جوع ًا هو البديل لو امتنعنا عن قبوله‪.‬‬
‫كنت أكل ليس حب ًا في األكل وال رغب ًة في البقاء على قيد الحياة ألجل‬

‫‪186‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫البقاء‪ ،‬إنما كنت أفعل ذلك ألواصل المقاومة وأتحدى بمواصلة الحياة‪،‬‬
‫عدوي الذي يريد أن يرغمني على الظن أن ال مكان لي في هذه الدنيا بهذه‬
‫علي أما الخضوع له أو مغادرتها إلى‬
‫األفكار وبهذا النفس المتمرد‪ ،‬ويجب ّ‬
‫عالم آخر‪.‬‬
‫نافذة خياالتي كانت تسرح بي بعيد ًا خارج الزنزانة‪ ،‬إلى ٍ‬
‫كتب أدمنت‬
‫مطالعتها‪ ،‬وقيم ومبادئ التزمت بها‪ُ ،‬أشربت بها وتجري في عروقي‪ ،‬منها‬
‫نبت لحمي وعظمي وكل كياني‪ .‬أسرح مثل خيول برية‪ ،‬أمرح في سهوب‬
‫ابحرت فيها من قبل‪ ،‬وقصائد عشقتها‪ ،‬أعلو هضاب كتابات جادة‬
‫ُ‬ ‫روايات‬
‫وألتقط من عشبها‪ .‬الذاكرة كانت حية ولم تزل فيها بعد طرية كلمات ناظم‬
‫حكمت وهو يقول في بعض أبيات قصيدة إلى مرشحي السجون كنت‬
‫متيم ًا بها قبل اعتقالي‪.‬‬
‫حصتك من الخبز حتى اللقمة األخيرة‪.‬‬
‫احرص على تناول ّ‬
‫واحذر من نسيان الضحك ملء الفم‪.‬‬
‫الشاعر التركي يبرر ذلك بأنهم يريدون قتلك‪ ،‬فال تمنحهم الفرصة‬
‫لفعل ذلك‪ .‬منطق سليم تلقفته وعملت به بإخالص شديد‪ ،‬كنت أواصل‬
‫الحياة ألنكد عليهم مسعاهم وأحبط مشروعهم وألقول لهم‪ ،‬إننا باقون‬
‫في هذه الدنيا وسوف يبقى صوتنا يطوف في الدنيا وصورنا سوف تظلل‬
‫األرض أعلى من السحاب‪ ،‬أما أنتم فسوف ترحلون ولن يبقى صوت لكم‬
‫وال صدى‪ ،‬وسوف تختفي عينكم هي واألثر‪.‬‬
‫كان أمر ًا يبعث على السأم والملل أن تجلس ساعات طوال ترنو بعينيك‬

‫‪187‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫إلى طعام ملقى أمامك‪ ،‬وأمعاءك أودى بها الخواء إلى العجز حتى عن‬
‫التلوي ألم ًا‪ .‬وتجد يدك مغلولة ال تجرأ على كسر رغيف خبز أو خطف‬
‫رشفة من حساء حسنته الوحيدة التي تشجع على األكل إنه ساخن وتراه‬
‫يبرد ويفقد كل ما فيه‪ ،‬وسبب ذلك كله إن التلفاز يذيع خطاب ًا للقائد الهمام‪،‬‬
‫أو يعرض برنامج ًا يزور فيه قطعة عسكرية أو يقلد أوسمة لضباط‪ .‬يستغرق‬
‫عرض البرنامج احيان ًا أكثر من أربع ساعات ونحن مسمرون إلى أماكننا‪.‬‬
‫ال يسمح لنا بالحديث وال بالحركة وال األكل والشرب وال حتى الذهاب‬
‫إلى المرحاض لقضاء الحاجة‪ ،‬ولو اضطر إلى ذلك‪ .‬نظل ملتصقين إلى‬
‫أي من هذه المحظورات‪،‬‬ ‫أماكننا‪ ،‬نجلس كأننا تماثيل شمع‪ .‬ومن يرتكب ّ‬
‫يعرض نفسه إلى عقاب كبير‪ ،‬ألن التجاوز على ذات القائد يعني الموت‬
‫ال متهم بالخيانة ومعاداة‬ ‫بحسب القانون‪ ،‬فكيف تفعل ذلك وأنت أص ً‬
‫الوطن والحزب القائد والثورة‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪5‬‬
‫***‬
‫استطاع شاب شجاع أن يدبر لي بعض المضادات الحيوية‪ ،‬ساعدت‬
‫على كبح تدهور صحتي ولو قليالً‪ .‬وقام بفعل جريء آخر‪ ،‬فحين يوضع‬
‫أمام الزنزانة كيس كبير فيه خبز لتؤخذ الحصة بحسب عدد السجناء‪ ،‬كان‬
‫يستغفل عناصر الخدمات ووكالء األمن ويأخذ أكثر من الحصة المقررة‬
‫بضع قطع اضافية ويدخرها لي ليمنحني فرصة أكبر لمقاومة المرض‬
‫الذي يواصل تقدمه ويحرز انتصارات واضحة في جسدي‪ .‬هذا الشاب‬
‫كان طالب ًا في الكلية العسكرية حين اعتقاله لذا كان شجاع ًا وجريئ ًا وفعل‬
‫أشياء كثيرة إلبقائي حي ًا وأعانتي على تجاوز األزمة وسوف أبقى أحتفظ‬
‫له بهذا الجميل رغم تواضعه وخجله عندما أذكره بها شاكر ًا‪ .‬مرة وبعد‬
‫سنوات طويلة التقيته في ظروف مثالية وشكرت له موقفه الخالد‪ ،‬رأيت‬
‫على سحنات وجهه حيا ًء كأنه َخ ْفر العذارى مما دفعه للطلب مني متوس ً‬
‫ال‬
‫أن ال أعيد ذكر ذلك‪ .‬لم أعد أذكر ذلك أمامه‪ ،‬لكن هل بوسعي أن ال أذكر‬
‫ذلك في كل مرة تخطر على بالي تلك األيام؟ كال‪ ،‬ليس بإمكاني تجاوز‬
‫أي مخاطرة كان يخاطر بها ألجل دافع إنساني في‬ ‫صنعه لي‪ ،‬ألني أعرف ّ‬
‫وأي تضحية كان مستعد ًا أن يقدمها إلنقاذ حياة إنسان مثله‪ .‬مثل‬
‫قلبه الطيب ّ‬
‫هذا الشاب كان يلقى في غياهب السجون ألنه يحمل قلب ًا طاهر ًا وأخالق ًا‬
‫رفيعة ويتصدى بنبله وعلو أخالقه لنظام يحمل كل الرذائل والمفاسد‪.‬‬
‫مع كل هذه الجهود التي بذلها صديقي‪ ،‬اّإل ان ذلك لم يحل من تراجع‬
‫صحتي‪ ،‬مما أشعل مخاوف ًا جدية من انتقال العدوى إلى اآلخرين‪ .‬الخوف‬
‫‪189‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كان واضح ًا على وجوه بعض السجناء ممن ال عالقة لهم ال بالسياسة‬
‫أي شيء يمنحهم لقب سجين سياسي من‬ ‫وال المعارضة وال الثقافة وال ّ‬
‫خصال التضحية‪ .‬دب الرعب بين هؤالء وانضموا لجوقة المراقب الذي‬
‫بذل جهود ًا كبير ًا عند الخدمات إلقناع األمن بضرورة إخراجي من الزنزانة‬
‫ونقلي إلى زنزانة مخصصة للحجر الصحي يودع فيها كل المصابين بمرض‬
‫التدرن الرئوي‪ ،‬وقد نجحت مساعيهم الحقا‪.‬‬
‫قبيل نقلي إلى زنزانة الحجر الصحي ورغم شدة مرضي‪ ،‬اّإل إني لم‬
‫أتوقف عن روح التمرد واالحتجاج‪ .‬في كل زنزانة هناك شخص يسمى‬
‫مسؤول الماء‪ ،‬له من األهمية والمقام الكثير‪ ،‬ألنه يمسك بالماء عصب‬
‫الحياة‪ ،‬وبالعادة في زنزانة مثل التي كنت فيها حيث يوجد مراقب يعد‬
‫واحد ًا من أكثر المتعاونين مع األمن خسة وجبن ًا ونذالة‪ ،‬فال بد أن يكون‬
‫مسؤول الماء متناغم ًا معه‪ .‬وكان كذلك وإن لم ِ‬
‫يش بأحد إلى األمن يوم ًا‪،‬‬
‫اّإل إنه كان إنتهازي ًا رخيص ًا‪ .‬وألن الماء شحيح‪ ،‬فمن المفترض أن نحظى‬
‫ٍ‬
‫بحصة زائدة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بحصص متساوية‪ ،‬اّإل إنه كان يسرق لنفسه ويرشي المراقب‬
‫واجهت سرقته وأحرجته باعتراض علني‪ .‬كان يحاول سرقة الماء حين‬
‫يطلب عناصر الخدمات سحب خرطوم الماء من زنزانتا إلى زنزانة أخرى‬
‫بعد انتهاء الوقت المخصص لنا‪ ،‬يقوم هو في هذا الوقت بوضع الخرطوم‬
‫ال الوقت القليل الذي يستغرقه سحب الخرطوم‪ ،‬وبدالً‬ ‫في إناء خاص مستغ ً‬
‫من أن يضع الماء في البرميل المخصص له يقوم بإخفائه لصالحه‪ .‬لم تكن‬
‫الكمية أكثر من قدحين إلى ثالثة أقداح‪ ،‬لكن كانت بالنسبة لي مهمة جد ًا‪،‬‬
‫واألهم إنه فاسد يستغل منصبه للتالعب بثروة عامة لصالحه الخاص‪ ،‬لذا‬

‫‪190‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كنت أراه أمر ًا ال يحتمل السكوت عليه‪.‬‬


‫الغريب إني اكتشفت خواءه وجبنه بحركة معارضة صغيرة‪ ،‬كان‬
‫تصد واحد‪ .‬مثله مثل كل المتظاهرين‬ ‫رعديد ًا تهزه كلمة‪ ،‬ويفزعه موقف ٍ‬
‫بالجبروت من الطغاة يفزعون من كلمة حق يلقيها امرؤ أعزل‪ .‬إن ما‬
‫يجعلهم كبار ًا مرهوبين هو وهم الخوف الذي يمأل نفوس الناس وليس‬
‫أي شيء آخر‪ .‬ولذلك سعى هو اآلخر للتخلص من وجودي في الزنزانة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تواجدي في محل واحد معه أرقه كثير ًا إلى حد إنه بعد عدة سنوات حين‬
‫جمعتنا الصدف مرة أخرى في زنزانة جديدة‪ ،‬وجدته أيض ًا مسؤول الماء‪،‬‬
‫الي مباشرة‪ ،‬هامس ًا طالب ًا‬
‫وبمجرد دخولي إليها‪ ،‬أول شيء فعله أن جاء ّ‬
‫بود واستعطاف أن ال أثير عليه المشاكل من جديد وأزيحه من منصبه‪،‬‬ ‫مني ٍ‬
‫ٍ‬
‫بمبالغة زائدة في االحترام‪.‬‬ ‫وحاول إرضائي‬
‫ازدادت قناعتي من هذا الموقف بأن المتجبرين ما هم اّإل جبناء ألبسهم‬
‫خوف الناس لباس القوة والجبروت‪ .‬وصرت أتمسك أكثر بمنهجي بأن ال‬
‫أهاب أحد ًا منهم وال أتردد في مواجهتهم‪ ،‬ويزداد عجبي من الخشية التي‬
‫تعتمر قلوب كثيرين من وهم القوة التي يصنعها الطغاة والمستكبرين ألنفسهم‬
‫ويخضعون لكذبتها ويظنوها حقيقة راسخة ال يمكن الفكاك من سطوتها‪.‬‬
‫قد يقال إن الحديث عن هذين الكوبين من الماء به مبالغة كبيرة‪،‬‬
‫وإني جعلت من الحبة قبة وصيرت أمر ًا هين ًا معضلة عويصة وأعطيتها‬
‫عناوينا ضخمة من استغالل منصب وتالعب بالثروة العامة إلى آخره من‬
‫الشعارات الكبيرة‪ .‬أستطيع أن اؤكد إن األمر يستحق وكان فعلي بالتصدي‬
‫مبرر جد ًا‪ .‬أما حديثي عن العناوين الضخمة مرده‪ ،‬إن من يظهر فحشه في‬

‫‪191‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫بحادث جديد بل هو تاريخ طويل من حوادث‬ ‫الجرائم الكبرى فهو ليس‬
‫صغيرة تراكمت‪ ،‬غفلت أو تغافلت عنها عيون الناس‪ ،‬ولما تعاظم عددها‬
‫كبر خطرها وانفجرت‪ .‬كان من السهل جد ًا وأدها أو اصالحها من قبل‬
‫وهي لم تزل صغيرة‪ .‬ال معلول بال علة‪ ،‬وتراكم الكم يحدث تغيير ًا في‬
‫الكيف‪ ،‬وإن المبادئ ال تتجزأ والقيم ال تتغير‪ ،‬ومن كان هنا سوف يكون‬
‫هناك إن صالح ًا أو طالح ًا شين ًا أو زين ًا‪ .‬أما هذان القدحان قد تُشتر بهما‬
‫حياة انسان في ذاك المكان المنسي‪ ،‬ألن الماء كان معدن ًا نفيس ًا أغلى من‬
‫الياقوت والزمرد‪ ،‬وكان كل سجين يحرص أن يتصرف به بعناية شديدة‬
‫واقتصاد مبالغ به‪.‬‬
‫طائف ذكّره بفحولته‬
‫ٌ‬ ‫شاب من رقدته وقد مر به‬
‫في ليلة من الليالي نهض ٌ‬
‫وبعيد مغادرته اكتشف إن ما خرج منه من مني قد أدخله في ورطة وأصاب‬
‫شحيح جد ًا فال يمكن له أن يغسل‬
‫ٌ‬ ‫مالبسه وبطانية ينام عليها‪ ،‬وألن الماء‬
‫أي موضع‬ ‫كامل ثيابه أو سائر البطانية مما اتسخت به‪ ،‬فكان عليه أن يحدد ّ‬
‫اصيب بالقذارة ويحاول أن ينظفه‪ ،‬لذا خاطر بالنهوض من مكانه لي ً‬
‫ال وجاء‬
‫بقطعة صابون ورسم على المواضع التي يريد غسلها دوائر صغيرة حتى‬
‫ال يهدر الماء ويبذره‪ ،‬ألن الحصة محدودة شحيحة‪ .‬النهوض في الليل‬
‫أمر محظور وجريمة كبرى وصادف لسوء حظه أن لمحه أحد عناصر‬
‫الخدمات وهو يخط بالصابون حدود ما يريد غسله فوشى به إلى األمن‪.‬‬
‫مساء اليوم التالي دخل ضابط األمن وزبانيته وأخرجوه من الزنزانة‪،‬‬
‫ليعذبوه تعذيب ًا أسطوريا النتهاكه قواعد السجن في النوم ولرسمه هذه‬
‫الدوائر الصغيرة‪ ،‬متهم ًا إ ّياه بممارسة السحر والشعوذة وإنه دجال إلى‬

‫‪192‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫آخره من التهم السخيفة التي ال أصل لها وال أساس‪ .‬جرى تعذيبه ألجل‬
‫أقداح ماء أراد أن يوفرها ونتيجة هذا التعذيب كانت أن فقد هذا الشاب‬
‫عقله‪ .‬بعد تسع سنين حينما رأيته آخر مرة‪ ،‬وجدته كما هو ما يزال يعاني‬
‫من آثار ذلك التعذيب الذي أفقده عقله‪ ،‬ولم يطرأ عليه تغيير وال تحسنت‬
‫حالته‪ .‬اذن‪ ،‬ثورتي على مسؤول الماء كانت تستحق االندالع‪ .‬القصص‬
‫كثيرة ولكني أوردت لها قصة واحدة‪،‬كمن يكتفي بنعيب غراب واحد من‬
‫كل خربة‪.‬‬
‫كل يوم يحمل قصة ألم جديدة‪ ،‬ترى شخص ًا يتعرض للضرب واألذى‬
‫لسبب ال تصدق أنه يعد ذنب ًا حتى في أخس الشرائع‪ .‬في إحدى األماسي‬
‫دخل أحد رجال األمن إلى القسم ورأى سجناء يشبكون أكفهم من بين‬
‫القضبان متكئين على حديدها‪ُ ،‬اعتبر ذلك سوء أدب ال يغتفر‪ .‬ولقنوا درس ًا‬
‫في عدم تكرار هذه المعصية الكبيرة بالضرب المبرح بالهراوات على‬
‫أكفهم حتى تورمت وانتفخت محمرة من جراء السياط التي تلقوها‪ .‬كنت‬
‫أنظر من آخر الزنزانة إلى منظرهم وهم يعاقبون وال أكاد أصدق إني سوف‬
‫أنجو من الضرب مهما حاولت أن أكون بعيد ًا متواري ًا عن األنظار‪ .‬إنه أمر‬
‫البد أن يحصل‪ ،‬ألنه وبكل بساطة ال يوجد منطق لتجنبه‪.‬‬
‫في يوم آخر وكان يوم عيد األضحى‪ ،‬جاء رجال األمن صباح ًا‬
‫وأخرجوا سجين ًا وانهالوا عليه بالضرب‪ ،‬كان يركض نصف عاري ًا في‬
‫الممر أمام مرأى كل من كان في الزنزانات‪ ،‬تنهال عليه الهراوات من كل‬
‫صوب وحدب‪ ،‬ال يعرف أين يختبئ وال إلى من يلجأ‪ ،‬صار جسده األسمر‬
‫احمر قان‪ ،‬واختلطت دماؤه باحمرار جلده من أثر الصفعات والركالت‬ ‫َ‬

‫‪193‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫والهراوات التي انهالت عليه‪ .‬لم نكن نعرف وال حتى هو يعرف ما ارتكب‬
‫من ٍ‬
‫ذنب ليتلقى كل هذا العذاب صبيحة يوم العيد‪ .‬وبعد نصف ساعة تقريب ًا‬
‫من جوالت التعذيب المتواصل وأمام الحاح منه بسؤاله للجالدين‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا فعلت؟‪.‬‬
‫جاءه الجواب‪:‬‬
‫‪ -‬انك حاقد‪.‬‬
‫كان شجاع ًا وظريف ًا أيض ًا ولم تختف روح الطرفة لديه حتى بعد كل‬
‫هذا العذاب فقال للضابط‪:‬‬
‫ال محظور ًا‪ ،‬لكن‬
‫‪ -‬سيدي أنا كنت خائف ًا من أن أكون قد ارتكبت فع ً‬
‫الحمد لله القضية سهلة ألن كل السجناء حاقدون‪.‬‬
‫رغم دموية المشهد وشفقتنا عليه مما لقي من األذى‪ ،‬اّإل أنه أضحكنا‬
‫جميع ًا وأخرس الجالد إلى حد أنه توقف عن ضربه وانسحب مستشعر ًا‬
‫الموقف السخيف الذي وضع فيه‪.‬‬
‫ألسباب ال يجدر بي أن أسميها أسباب ًا‪ ،‬ألنها لم تكن سوى ذرائع واهية‬
‫لالنتقام منّا‪ ،‬وقعت مشاهد كثيرة من التعذيب وبعضها كان فيه من حجم‬
‫الوحشية وكمية السادية التي تحتويها بحيث ال يمكن ألحد أن يصدق إن‬
‫بشر ًا قادر على فعلها‪ .‬بعضها أفضى إلى موت الضحايا إما مباشرة بعد‬
‫الضرب أو بسبب عطل أصاب أحد األعضاء الحيوية وتوفي إثر ذلك الحق ًا‪.‬‬
‫أحدهم كبل ومدد على منضدة ما عدا رأسه‪ ،‬كان يخرج عنها‪ ،‬وعلقت‬
‫قنينتي غاز موصولتان بسلسلة حديدية إلى طرفي عنقه كأنه مصلوب‬

‫‪194‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫على لوح خشب وانهالوا عليه بالضرب‪ ،‬لم يكن يقوى على الحركة فيما‬
‫الضربات تنزل عليه تسحق عظامه وتفتت جلده الطري لينزف من كل‬
‫موضع‪ ،‬وعنقه كاد يكسر من ثقل ما تدلى منه‪ ،‬حمل شبه مغشي عليه إلى‬
‫زنزانته وكانت هذه آخر مرة يرى فيها سليم ًا ليناله مرض شديد‪ ،‬وتضاءل‬
‫حجمه حتى صار شبح ًا ثم اختفى من السجن والدنيا إلى األبد‪.‬‬
‫آخرون كانوا يعاقبون بأن يطلب منهم ارتقاء قضبان الزنزانة إلى األعلى‬
‫ثم تقيد أيديهم وأرجلهم إلى القضبان‪ ،‬ويبقون معلقين وقوف ًا أيام ًا على‬
‫ذلك الحال‪ .‬أما ما كان يعرف بالفلقة فكان أمر ًا شائع ًا كثير االستعمال‪،‬‬
‫وفي مرات كثيرة كانوا يبالغون في إذالل السجناء فيطلب منهم التقلب على‬
‫ظهورهم ورؤوسهم في الممر بين الزنزانات‪ ،‬ومن يتردد أو يمتنع أو حتى‬
‫يتوقف من التعب يلهبوه بالسياط‪.‬‬
‫كان الموت يدور بين الزنزانات‪ ،‬يبحث عمن يستعجل الرحيل‪ .‬وفي‬
‫زنزانة مجاورة لزنزانتنا بلغ المرض أشده بسجين‪ ،‬وبعد تفسيرات وشرح‬
‫مطول لرجال األمن إن الزنزانة ال تكفي أن ينام فيها أحد على ظهره وإن‬
‫هذا السجين أضحى من الضعف بحال أنه لم يعد قادر ًا أن يقلب جسده‬
‫والبد من نومه مضطجع ًا طيلة الوقت على ظهره‪ ،‬حينذاك سمح األمن‬
‫بإخراجه من الزنزانة وأن يسجى إلى جانب قضبانها في الممر كي يقدم له‬
‫رفاقه في الزنزانة العناية الالزمة من أكل وشرب‪ ،‬اّإل إنه لم يرهق رفاقه ففي‬
‫صباح اليوم التالي غادرنا ليسحب ببطانية كان ينام عليها ويتالشى نجم‬
‫آخر من سمائنا‪ .‬وعقب ذلك عدنا إلى حياتنا اليومية بروتينها ننتظر حدث ًا‬
‫جديد ًا مفجع ًا آخر ًا‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي شيء‪ ،‬كل األمور سارت كما هي ألن الموت كان زائر ًا‬ ‫لم يتوقف ّ‬
‫مقيم ًا ال يثير فينا استغرابا‪ ،‬إذا ما خطف أحدنا إلى عالمه الفسيح‪ .‬األحداث‬
‫المفجعة والمحزنة كانت ال شيء بنظر رجال األمن‪ ،‬واذكر فيما كان‬
‫صاحبنا تلفه بطانية ويخرج من الباب عينه الذي دخل منه‪ ،‬حصلت بعض‬
‫الهمهمة أثناء توزيع وجبة الطعام الصباحية‪ ،‬فقال بصوت عال أحد افراد‬
‫الخدمات مؤنب ًا السجناء‪.‬‬
‫‪ -‬شبيكم اليوم؟ سامعين شي؟ صاير شي؟‪.‬‬
‫همس أحدهم في اذني‪.‬‬
‫‪ -‬ال ما صاير شي بس واحد مات‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪6‬‬
‫***‬
‫أخير ًا وبعد مناشدات كثيرة من مراقب الزنزانة للخالص مني خشية‬
‫العدوى من مرض السل الذي أنهكني ونصائح لي من مخلصين بأنه من‬
‫األفضل أن أذهب إلى زنزانة أخرى خاصة حصري ًا بمرضى التدرن إلمكانية‬
‫حصولي على عالج‪ ،‬جاء أفراد من األمن في أحدى الليالي وأخرجوني‬
‫َ‬
‫وآخ َري ْن من زنزانات اخرى لينقلونا إلى زنزانة الحجر الصحي‪ .‬وضعوا‬
‫أي أحد من التعرف علينا ونحن نسير في ممر‬‫على رؤوسنا منشفة ليمنع ّ‬
‫طويل فارغ نحو زنزانة الحجر الصحي‪.‬‬
‫كان الممر ذاته الذي دخلنا منه أول يوم عند وصولنا السجن‪ ،‬على‬
‫جنبيه توجد أقسام لسجناء آخرين ذوي قضايا لها عالقة بالسياسة أو األمن‬
‫الخارجي اّإل انهم غير متهمين بقضايا االنضمام إلى تنظيم معارض‪ .‬كانوا‬
‫يحظون بفرصة مواجهة أهاليهم في كل شهر مرة واحدة ولديهم حرية أوسع‬
‫بكثير منا‪ .‬بإمكانهم التمشي في الممرات وفي ساحة كبيرة بحجم ملعب كرة‬
‫قدم‪ ،‬يتعرضون للشمس يومي ًا ويطبخون أكلهم بأنفسهم وكل واحد منهم له‬
‫سرير خاص أو مكان خاص‪ ،‬أحيانا تكون األسرة متعددة الطوابق اّإل انه‬
‫مع ذلك يبقى لكل واحد منهم مكانه الخاص‪ ،‬وربما في فترات اكتظاظ‬
‫السجن ال يجد بعضهم مكان ًا ينام فيه‪ ،‬لكن ليس بالطريقة التي كنّا نعاني‬
‫منها‪ ،‬فهم في حال بالنسبة لنا كان يعد فردوس ًا ونعيم ًا‪ .‬ال يتوهمن أحد إنهم‬
‫يرض بالعمى‪.‬‬
‫كانوا مرفهين فعالً‪ ،‬إنما من ُضرب بالموت َ‬
‫ال اّإل إنهم كانوا يعرفون بوجودنا اإلجمالي‬
‫كان التواصل معهم مستحي ً‬

‫‪197‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وكانت تحاك حول أوضاعنا قصص مرعبة تزيد من خشيتهم من االلتحاق‬


‫بنا‪ ،‬لذا لم يجرؤ أحد منهم على ذكرنا ولو همس ًا‪ .‬ومع كل هذا فإن رجال‬
‫األمن عندما يريدون أن يدخلوا إلى أقسامنا يغلقون كل الزنزانات التي‬
‫يعيش فيها هؤالء السجناء الذين كنّا نسميهم سجناء األقسام المفتوحة‬
‫قبال تسميتنا‪ ،‬حيث كنا نسمى بسجناء السجون المغلقة والتعبير المختصر‬
‫الشائع المفتوحة والمغلقة‪.‬‬
‫إذا أراد رجال األمن إدخال شيء إلى أقسامنا يغلق السجن كله وتمنع‬
‫أي فرد حتى لو كان من‬‫الحركة في الممر بالتمام بعد إخالئه بالكامل من ّ‬
‫حرس السجن‪ ،‬إذ لم يكن يسمح ألحد بدخول أقسامنا اّإل أربعة أشخاص‬
‫من األمن مصرح لهم بصفة شخصية يستبدلون في فترات متباعدة‪ .‬وفي‬
‫أيام مواجهة سجناء األقسام المفتوحة كان تمنع علينا الحركة ويحظر علينا‬
‫الوقوف ونجبر إما على النوم أو الجلوس‪ ،‬ونؤمر أثناء ذلك بلزم الصمت‬
‫أي عالمة‬‫المطلق لمدة تتراوح بين أربع إلى ست ساعات حتى ال تظهر ّ‬
‫تدل على وجودنا للزوار القادمين من خارج السجن‪ .‬بعض األمهات‬
‫المنكوبات بفقد أبنائهن كن يأتين يبحثن عنهم ويسألن سجناء األقسام‬
‫المفتوحة لعل أحدهم يعرف مصيرهم‪ ،‬لكن ال يحظين بجواب‪ ،‬الن‬
‫الخوف من عقاب األمن كان رهيب ًا كما هو العقاب نفسه‪.‬‬
‫عرفت فيما بعد إن والدتي فعلت ذلك أيض ًا وحاولت معرفة مصيري‪،‬‬
‫أي شخص يلمسها يحظى بالشقاء االبدي‪ ،‬كان‬ ‫وألننا كنا مثل شجرة آدم‪ّ ،‬‬
‫سجناء المفتوحة يتهربون من اإلجابة في أكثر االحيان‪ ،‬اّإل إن صديق ًا لي‬
‫قال لوالدتي إني أقبع خلف هذه األبواب بطريقة الغمز واإلشارة وفهمت‬

‫‪198‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫هي تلك اإلشارة ورجعت مستبشرة ببقائي حي ًا وانتظرت سنوات بعدها‬


‫لتراني ألول مرة‪.‬‬
‫لكن والدة أخرى بلغت من الجرأة والتحدي الكثير‪ ،‬حين قال لها سر ًا‬
‫أحد السجناء‪ ،‬ابنك يخفى وراء هذه الباب وانسل بعيد ًا عنها‪ .‬وقفت أمام‬
‫الباب تصيح باسم ابنها وكان صوتها عالي ًا يصل لكل السجناء‪ ،‬وابنها فيهم‬
‫عاجز عن اإلجابة‪ ،‬وعندما سمع رجال األمن بصراخها حاولوا إفهامها‬
‫أنها متوهمة‪ ،‬وال يوجد أحد خلف الباب أبت تصديقهم وعرفت مكرهم‬
‫وخداعهم وأصرت على طرق الباب المصفح والنداء على ابنها السجين‬
‫السياسي المخفي‪ ،‬وعندما أجبرها األمن بالقوة على مغادرة السجن‬
‫صاحت منادية ابنها‪:‬‬
‫‪ -‬عفية ابني السبع‪ ،‬حكومة دبابات وطيارات وجيش وشرطة كلها‬
‫خايفة منك وضامتك علي‪ ،‬عفية ابني السبع‪.‬‬
‫في هذا الممر الذي شهد حكايات كثيرة من قتل سجناء من التعذيب الوحشي‬
‫أو سحب جثث آخرين بعد أن قضوا مرض ًا وجوع ًا‪ ،‬سرت تلك الليلة وأنا مغطى‬
‫وصاحبي‪ .‬نهرنا أحد رجال األمن يستعجلنا المشي‬
‫َّ‬ ‫الرأس بمنشفة‪ ،‬أمشي وئيد ًا‬
‫اّإل إننا كنّا نبذل قصارى ما عندنا للبقاء واقفين وان ال نهوي الى االرض وكان‬
‫المشي بالنسبة لنا مهمة عسيرة للغاية فقال له صاحبه رد ًا عليه‪:‬‬
‫‪ -‬اتركهم‪ ،‬كلها أسبوعين ثالثة ونخلص منهم لألبد‪.‬‬
‫يبق لنا من رحلة هذه الدنيا اّإل صبابة‬
‫كان جلي ًا إننا في الرمق األخير‪ ،‬ولم َ‬
‫كأس بلغ حد الثمالة‪ .‬وصلنا إلى آخر الممر حيث فتحت منه باب جانبية‬

‫‪199‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫على غرفة واسعة خاوية من كل شيء‪ ،‬ومنها فتحت باب أخرى قادتنا إلى‬
‫ٍ‬
‫صغير مظلم على جنبه األيسر ثالث زنزانات تكاد تكون مربعة بطول‬ ‫ٍ‬
‫ممر‬
‫ضلع يقارب األربع أمتار‪ .‬وعلى الجهة اليمنى خمس زنزانات صغيرة‬
‫ثالث منها بعرض متر ونصف تقريب ًا وأكثر من مترين بقليل طوالً تسمى‬
‫بالمحاجر وزنزانة أخرى كأنها مخبأ على شكل حرف (‪ )L‬باإلنجليزية ال‬
‫أي فتحة للتهوية أو الضوء‪ ،‬وزنزانة أخرى بأبعاد مترين في ثالثة‬
‫يوجد فيها ّ‬
‫أمتار‪ .‬صار نصيبي أن أودع في واحدة من تلك الزنزانات الكبيرة بسبب‬
‫وضعي الصحي المتدهور‪.‬‬
‫كان المكان مشبع ًا برائحة مرض ثقيلة ونتانة ورطوبة‪ ،‬ومظلم ًا أكثر من‬
‫األقسام األخرى التي عشت فيها‪ ،‬إال إن أبواب الزنزانات مفتوحة دائما‬
‫وهذا تطور كبير غير مألوف‪ ،‬إذ يمكن هنا أن يتحرك المرء بين الزنزانات‬
‫ويتزاور مع اآلخرين‪ .‬واألكثر أهمية إن الوشاة والخونة ال وصاية لهم في‬
‫هذا المكان‪ .‬كان المكان يعد آمن ًا منهم ومن مكرهم‪ ،‬وهذا الجو يسمح‬
‫بتداول األحاديث السرية بحرية أكبر من األقسام األخرى‪.‬‬
‫كان لكل زنزانة أسم خاص حصلت عليه من السجناء على سبيل‬
‫أي لحظة حتى في أشد‬‫المزاح والطرفة التي لم تعدم عندهم أبد ًا في ّ‬
‫الظروف قساوة‪.‬‬
‫زنزانتي األولى التي سكنت فيها في المحجر تسمى (عباد الرحمن)‬
‫وليس لهذه التسمية من سبب ديني كما يبدو للوهلة األولى‪ ،‬إنما سكان‬
‫هذه الزنزانة كانوا مرضى جد ًا ويمشون بتؤدة بالغة بسبب وضعهم الصحي‬
‫الحرج وبعضهم قد فارق الحياة لشدة مرضه‪ .‬اقتبس أحد الظرفاء من‬

‫‪200‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫آية قرآنية تقول (وعباد الرحمن الذين يمشون على األرض هون ًا) وصف ًا‬
‫لطريقة سيرهم وتلقف اآلخرون الفكرة المضحكة واصبحت تسمية شائعة‬
‫تطلق على هذه الزنزانة‪.‬‬
‫الزنزانة الوسطى تسمى بوليفيا ليس ألن فيها أحراش وال ألن سكنتها‬
‫من أمريكا الالتينية‪ ،‬بل ألنها كانت تشهد تغيير ًا في موقع المراقب بصورة‬
‫سريعة‪ ،‬بحيث كانت تنام على أسم مراقب وتصحو على آخر بحركة‬
‫مفاجئة غير مفهومة‪ ،‬في وقتها كانت بوليفيا تشهد موجة انقالبات كثيرة‬
‫فاطلق على هذه الزنزانة هذا االسم لتشابه األحوال بينهما‪.‬‬
‫حار جد ًا النعدامه من‬
‫الزنزانة الثالثة تسمى لبنان‪ ،‬السجن في الصيف ٌ‬
‫أي وسيلة للتبريد‪ ،‬اّإل هذه الزنزانة بالذات تقع‬
‫فتحات التهوية وخلوه من ّ‬
‫قرب ممر به مبردة هواء كبيرة مما أتاح لها التمتع بنسيم بارد يتسلل إليها‬
‫من تلك المبردة‪ ،‬فيما الزنزانات األخرى محرومة منه‪ .‬السجناء اعتبروها‬
‫منتجع ًا بارد ًا ذا جو معتدل يصلح أن يكون مصيف ًا كما كان يفعل من يريد‬
‫السياحة بزيارة ربوع لبنان ومصائفها في موسم العطلة الصيفية‪.‬‬
‫الزنزانات الصغيرة كانت محاجر انفرادية ليس لها تم ّيز‪ ،‬لذا لم تحظ‬
‫بأسماء خاصة‪ ،‬اّإل الزنزانة المخبأ‪ ،‬الخالية من الضوء وفتحة التهوية‬
‫سميت (الكهف) ألنها تختلف في كل شيء حتى أنها بال قضبان‪ ،‬مقدمتها‬
‫باب حديدي يشبه باب مخزن أو هو كذلك بالفعل‪.‬‬
‫المكان كله يسمى "المحجر" إشتقاق ًا من كلمة زنزانة الحجر الصحي‪،‬‬
‫وكان متميز ًا جد ًا في السجن‪ ،‬ليس ألن سكانه مرضى بالسل وحسب‪ ،‬بل‬
‫ألنه كان آمنا من مراقبة رجال األمن‪ ،‬ألنهم يخشون العدوى ويتجنبون‬

‫‪201‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الدخول إليه أو التقرب من نزالئه السجناء‪ .‬وهذه نقطة ضعف حرص‬


‫السجناء على تعزيزها عند كل رجل أمن يشرف على القسم ويحاول‬
‫الدخول إليه‪ .‬في الحقيقة كان المكان مقرف ًا برائحته لكننا تشبعنا بها ولم‬
‫نعد نميزها‪ ،‬أذكر مرة حاول رجل أمن أن يبدي أمام رفاقه شجاعة وجسارة‬
‫محاوالً اقتحام المكان لكنه ما أن دخل مترين أو ثالثة‪ ،‬حتى خرج راكض ًا‬
‫وما أن وصل الباب تقيأ كل ما في معدته مستفرغ ًا ما فيها‪ .‬لم يصبر على‬
‫عفونة المكان ولو لثواني قليلة‪ .‬الحادث كان مبعث سرور لنا‪ ،‬إذ إننا نلنا به‬
‫مزيد ًا من الحصانة واألمان‪ ،‬خصوص ًا إن الحادثة جرت على مرأى ومسمع‬
‫من رفاقه الذين رأينا بعضهم بالكاد يمسك نفسه عن التقيؤ‪ ،‬وهم يقفلون‬
‫باب القسم بسرعة ويهرولون هاربين من جحيمه‪.‬‬
‫هذا األمان النسبي جعل سجناء عديدون يخاطرون بالوصول إليه مدعين‬
‫اإلصابة بمرض التدرن‪ ،‬تخلص ًا من وشاية الخونة ومراقبة رجال األمن‬
‫ومن التعذيب شبه اليومي النمطي الذي كان مستمر ًا في األقسام األخرى‪.‬‬
‫وبالفعل نجح أكثر من واحد منهم بالوصول إلى المحجر بهذه الحيلة‪.‬‬
‫وجود ممر مفتوح على مدار الساعة سمح للبعض أن ينام فيه مما خفف‬
‫شدة الزحام في الزنزانات‪ ،‬كما إن األبواب المفتوحة تعني حرية ال بأس‬
‫بها من الحركة مما سمح للبعض بالمشي نهار ًا في هذا الممر القصير‪ .‬أما‬
‫عدد السجناء فيه فكان يعتبر جيد ًا قياس ًا إلى أعداد السجناء في األقسام‬
‫األخرى‪ ،‬على الرغم من إن عددنا بلغ مائة وثمانية وستون شخص ًا‪ ،‬في‬
‫حقيقة األمر كان مكان ًا مكتظ ًا جد ًا خصوص ًا مع وجود كثير من المرضى‬
‫فيه اّإل انه ورغم كل ذلك يعد مكان ًا أفضل من األقسام األخرى‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪7‬‬
‫***‬
‫بشكل مزمن ولم يصب الرئة فقط كما في‬‫ٍ‬ ‫مرض التدرن مستوط ٌن‬
‫حالتي‪ ،‬إنما اإلصابات توزعت على أجزاء أخرى من أجساد السجناء‪،‬‬
‫وال أعرف ماذا تسمى حالتهم من الناحية الطبية‪ ،‬إنما بحسب الشائع‬
‫وقتها إن جميع هذه الحاالت تندرج تحت أسم ال (‪ )TB‬وهو مختصر‬
‫للفظ اإلنجليزي ‪ .Tuberculosis‬رأيت البعض يشكو من إصابة في‬
‫الرقبة وآخر في العظام واصابات أخرى كثيرة‪ ،‬مخيفة ومرعبة في مظهرها‬
‫الخارجي‪ .‬البعض كان طريح فراشه لفترة طويلة ال يقوى على مغادرته‬
‫وبعض آخر لقي حتفه جراء تدهور صحته وقلة الدواء‪.‬‬
‫الدواء قليل جد ًا وال يمكن أن يكون عالج ًا حقيقي ًا لمثل هذا المرض‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مضاد حيوي وحبة فيتامين وقرص كأنه قطعة‬ ‫إذ ال يعدو عن كبسوالت من‬
‫طباشير كنت أتجرعه مكره ًا‪ .‬كمية الدواء لم تكن تكفي كل المرضى‪،‬‬
‫وكان من الالزم أن يقسم على المرضى بطريقة عادلة وليس بالتساوي‪،‬‬
‫وكما في كل الزنزانات واألقسام األخرى كان لدينا مراقبون وخدمات‪،‬‬
‫ألنه ٌ‬
‫عمل تنظيمي لتسيير األمور وليس إجراء أمنيا باألصل‪ ،‬وفي حالتنا هنا‬
‫في زنزانة الحجر الصحي كان المراقبون والخدمات ال يقدمون معلومات‬
‫لألمن كما في األقسام األخرى‪ ،‬بل كانوا بالعكس تماما يعملون لصالح‬
‫إخوانهم السجناء ونظم أمورهم بما ييسر عليهم مصاعب السجن الجمة‪.‬‬
‫وضع شباب الخدمات نظام ًا عادالً حكيم ًا لتوزيع األدوية بمنح‬

‫‪203‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫المريض األشد ضرر ًا دوا ًء منتظم ًا حتى يتجاوز مرحلة الخطر‪ ،‬وعند‬
‫ص الحصة تدريج ًا حتى يتجاوز مرحلة المرض ويصبح‬ ‫تحسن صحته ُت َق َل ْ‬
‫ال لحالة السجناء اآلخرين فتقطع عنه حينذاك‪ .‬عندها ُيكتفى‬ ‫وضعه مماث ً‬
‫بمنحه إياها في فترات متفاوتة بحسب تطورات وضعه الصحي‪ .‬هذا النظام‬
‫لم يكن صالح ًا أو مقبوالً من الناحية العلمية‪ ،‬لكن كان بيننا طبيب وهو‬
‫سجين مثلنا ومريض ًا هو اآلخر بالمرض نفسه‪ ،‬هو من اقترح هذه الطريقة‬
‫لتنظيم توزيع العالج وللحفاظ على حياة أكبر عدد ممكن من السجناء‬
‫المصابين بمرض السل‪.‬‬
‫هذا الطبيب نفسه كان يوصينا بشدة على تناول الحصة الغذائية كاملة‪،‬‬
‫ألنها الطريقة الوحيدة التي يسري معها مفعول الدواء في البدن بحسب‬
‫قوله‪ .‬هذه الوصية جاءت ألن فقدان الشهية كان العرض الرئيسي لدى كل‬
‫المصابين‪ ،‬وبما إني واحد منهم فلم أكن أستسيغ تناول الطعام وأجد نفسي‬
‫مكره ًا على تناوله‪ ،‬مع إن الطعام كان أفضل نسبي ًا من األقسام األخرى‬
‫حتى انه كانت تصلنا فواكه بين الحين واآلخر‪ .‬وكان السجناء رغم شدة‬
‫المرض الذي يضربهم وقسوة الظرف الذي يعيشوه‪ ،‬اّإل إنهم متعاونون‬
‫فيما بينهم‪ ،‬ويعطون الحصة األكبر من هذه الفواكه لشديدي المرض ألنه‬
‫بإمكانهم تقبلها دون باقي الطعام الذي كان تناوله أمر ًا شاق ًا‪ .‬ومن العسير‬
‫بمكان صد رغبة االمتناع عن الطعام لدى مريض التدرن‪ ،‬لكن كان البد‬
‫من المحاولة ويجب مقاومة هذا العرض المميت وهكذا بذلت كل جهدي‬
‫على ما في األمر من صعوبة بالغة‪.‬‬
‫طفيف في صحتي‬
‫ٌ‬ ‫استنهضت كل طاقتي في الممانعة وبدأ يظهر تحس ٌن‬

‫‪204‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وتلك عالمة مشجعة على فعل العقار في بدني وعلى سالمة طريقة العالج‬
‫المقترحة من الطبيب‪ .‬ولحسن الحظ كان بيننا ٌ‬
‫رجل نذر نفسه لمعاونة‬
‫المرضى يتابع أحوالنا ويبذل جهود ًا عظيمة ويقدم خدمات ال يمكن اّإل‬
‫لمتدرب في معهد تمريض عال فعلها‪ ،‬مع إنه في حقيقة األمر كان عسكري ًا‬
‫علي ومساعدتي‬ ‫من أصول ريفية ولم يتلق تعليم ًا كافي ًا‪ .‬كان يواصل حنوه ّ‬
‫كما مع اآلخرين على تجاوز األزمة ويحثني كثير ًا على األكل قائ ً‬
‫ال لي‪:‬‬
‫‪ -‬حتى لو أكلت األكل وتقيأته فعليك أن تواصل األكل‪ ،‬ألن ال بديل‬
‫عنه وهو العالج األمثل والوحيد‪.‬‬
‫هذا الرجل وأمثاله وشباب الخدمات كانوا يقدمون جهد ًا عظيم ًا‬
‫ويعملون بإخالص كبير لمساعدة السجناء المرضى واآلخرين المحتاجين‬
‫للرعاية والعناية‪ .‬أعمال ال ينبغي اّإل أن تذكر باحترام عظيم‪ .‬كانوا يعينون‬
‫بعض المرضى حتى على اخراج الفضالت من أبدانهم ألن عضالتهم‬
‫اصيبت بالضمور الشديد ولم يعودوا قادرين على أداء أي من هذه األفعال‪.‬‬
‫أما تنظيف المرضى وغسل أرديتهم وفرشهم وتخليصها وإياهم مما كان‬
‫ال يومي ًا روتيني ًا‪ ،‬يصاب بالدهشة كل‬ ‫ٍ‬
‫وغائط فكان عم ً‬ ‫يخرج منهم من ٍ‬
‫بول‬
‫من يراه لروح العطاء العظيمة التي يمتلكها هؤالء الشباب وقدرتهم الهائلة‬
‫أي مردود يأملونه أو فرض يدفعهم لذلك سوى‬ ‫على التضحية واإليثار بال ّ‬
‫مثل إنسانية تتوهج في قلوبهم البيضاء‪.‬‬
‫لحم‬
‫كان يصل إلينا في بعض المرات لعلها مرة واحدة أو مرتين بالشهر ٌ‬
‫أحمر مستورد على ما يبدو من دول بعيدة مثل استراليا أو نيوزيلندا‪ ،‬لذا‬
‫كان يقدم لنا صلب ًا متخشب ًا كأنه جثة في كفن‪ ،‬وال يلينه سوى ماء ساخن‬

‫‪205‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يأتي معه في قدر كبير‪ .‬بعض السجناء وألسباب دينية امتنع عن أكله‪ ،‬لكني‬
‫أي شيء يعيد لي قوتي‪ ،‬ومع استعادة‬ ‫لم أفعل ذلك ألني كنت بحاجة إلى ّ‬
‫الشهية تناولت كثير ًا منه إلى الحد الذي تجاوزت به مرحلة الخطر تمام ًا‪،‬‬
‫بما يمكن اعتباره تعافي ًا بمقاييس زنزانة الحجر الصحي التي هي معايير‬
‫ال عالقة لها بتشخيص األطباء وال موازينهم في العالم الخارجي‪ .‬لم‬
‫اتوقف عن أكل هذا اللحم حتى بعد ذلك بكل صراحة‪ ،‬ألني لم أكن مقتنع ًا‬
‫أي نقاش حوله‬ ‫ألي سبب‪ ،‬والمرض كان حجة جيدة إليقاف ّ‬ ‫باالمتناع عنه ّ‬
‫أو جدل يمكن أن يقترحه أحدهم‪ .‬ولحسن الحظ لم يحصل ذلك النقاش‬
‫في زنزانة الحجر الصحي ألنه كان أمر ًا في غاية الحمق أن تقول لمريض‬
‫أوشك على الموت‪ ،‬هيا امتنع عن األكل لنستعجل موتك‪ .‬في أقسام أخرى‬
‫جرت مثل هذه النقاشات وانتهت عند الكل بعدئذ إلى نتيجة واحدة وهي‬
‫ضرورة أكله بتوجيه من متخصصين في أمور الدين وعلومه‪ ،‬وال من داع‬
‫للوقوف عند أسباب وهمية تحول دون تناوله‪.‬‬
‫تغلب المنطق والعقل كما ينبغي له ذلك في تسيير أمور الحياة‪ ،‬ألن‬
‫الحياة خلقت بالعقل وبه وحده تسير‪ ،‬وخال ذلك ما هو اّإل قصص تسلية‬
‫وخرافات وأوهام ال تليق بعاقل أن يعتنقها‪ ،‬فهي تليق بالجهلة وأنصاف‬
‫المجانين وتجدر بهم وحدهم دون غيرهم‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪8‬‬
‫***‬
‫مدى واسع ًا لغياب المراقبة‬
‫ً‬ ‫التعارف بين السجناء أخذ في المحجر‬
‫األمنية‪ ،‬ولذلك نزعت حذري من االختالط مع اآلخرين بعد أن استعدت‬
‫بعض ًا من عافيتي‪ ،‬وبدأت أتعرف إلى السجناء الموجودين في القسم وأقيم‬
‫عالقات مع بعضهم‪ .‬وأكثر ما أثار استغرابي حين دخولي السجن‪ ،‬إن‬
‫نسبة كبيرة جد ًا من السجناء ليس لها شغل بالمعارضة السياسية‪ ،‬كانت‬
‫ضحية اعتقاالت عشوائية وتصفية انتقامية لمناطق جغرافية معينة أو بسبب‬
‫عداوات وخالفات شخصية أو أسباب أخرى ال عالقة لها بالتنظيمات‬
‫السياسية‪ .‬هناك بعض من السجناء مما يمكن لي أن أسميهم اطفاالً لصغر‬
‫سنهم عند اعتقالهم لم يتجاوزوا حتى الثالثة عشر من أعمارهم‪ .‬بينما‬
‫آخرون كانوا كبار ًا في السن‪ ،‬وبعض قليل منهم طاعن فيه إنما ال شغل‬
‫أي نشاط‬ ‫لهم بالسياسة ال من قريب وال بعيد‪ ،‬وهم أبعد ما يكونون عن ّ‬
‫سياسي أو ثقافي معارض أو حتى موال‪ ،‬فهم منخرطون بحياة تقليدية ال‬
‫شغل لهم بغيرها‪ .‬راعني سماع قصصهم المضحكة المبكية التي ال ُيفهم‬
‫منها اّإل شيء واحد هو وحشية النظام وانعدام القانون بالمطلق‪.‬‬
‫أحدهم كان سائق شاحنة بالكاد يفك الخط وسيق إلى الحرب العبثية‬
‫المندلعة آنذاك‪ ،‬وجاء تقرير أمني يخبر عن نشاط مشبوه لجندي يعمل مع‬
‫حزب معارض يحمل نفس أسم سائق الشاحنة هذا‪ .‬ما أن وصل التقرير‬
‫األمني إلى الفرع األمني في الوحدة العسكرية حتى سارعوا إلى اعتقال‬
‫سائق الشاحنة وأذاقوه العذاب باعتباره خائن ًا عميالً‪ ،‬والرجل غير مصدق‬
‫‪207‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫لما يحدث فهو ال يفقه حرف ًا واحد ًا مما يقولون‪ ،‬بينما هم يطالبوه بكشف‬
‫أسماء التنظيم السري الذي لم يسمع به أصالً‪ .‬بعد أشهر من االعتقال‬
‫انتبه المحققون األمنيون إلى الخطأ واعتقلوا الشخص الحقيقي المقصود‬
‫وتمت محاكمته ومن ثم نفذ حكم اإلعدام به‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬استبشر‬
‫صاحبنا سائق الشاحنة خير ًا وصار يرجو اإلفراج عنه في القريب العاجل‬
‫بعد هذا االكتشاف المتأخر لتشابه األسماء‪ ،‬لكن األمور جرت بطريقة‬
‫أخرى‪ ،‬فبما إنه اعتقل بتهمة سياسية وقد رأى السجون السرية‪ ،‬لذا البد‬
‫من محاكمته وحكم عليه بالفعل بالسجن المؤبد وظل معنا في السجن‬
‫نفسه يقضي مدة محكوميته‪ .‬وبعد كل هذه السنوات في سجن مخصص‬
‫للمعارضة‪ ،‬والسياسة هي الموضوع الرئيسي بين السجناء‪ ،‬اّإل إنه حين‬
‫خرج من السجن عاد لوضعه الطبيعي ولم ينشغل بالسياسة وال همه أمرها‬
‫يوم ًا كما لم تهمه من قبل‪.‬‬
‫كنت أحب الجلوس مع رجل كبير بالسن مطلع ال بأس بثقافته العامة‪،‬‬
‫سياسي حقيقي‪ ،‬عرفت بعد فترة إن له في السجن ابن عم وهو رجل كبير‬
‫مثله وبدافع من الفضول تعرفت عليه هو اآلخر ظن ًا مني إنه شخص مثقف‬
‫كابن عمه‪ ،‬اّإل إني دهشت لسذاجته وأن ال صلة له بالسياسة وال بالثقافة‬
‫بأي نحو من األنحاء‪ ،‬بل إنه کان يحسب المعارضة السياسية‬‫وال المعارضة ّ‬
‫ُاناس ًا سيئين يسببون المشاكل والمتاعب للناس وال ينبغي التعاطي معهم‪.‬‬
‫ولم يمكن بوسعي مناقشته لكبر سنه‪ ،‬وألنه بسيط وساذج جد ًا‪ ،‬والحوار‬
‫معه قطع ًا سيكون مضيعة للوقت‪ .‬والسبب األقوى لتعذر نقاشه إن الرجل‬
‫أي شيء‪ ،‬وال يشغله شيء سوى تدبر‬ ‫نفسه لم يكن مستعد ًا للنقاش في ّ‬

‫‪208‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫حاله اليومي‪ .‬أثار أمره استغرابي وصرت أتساءل بفضول كيف وصل‬
‫أي أساس اتهم بهذه التهمة‬ ‫هذا الرجل إلى هذا المعتقل الرهيب‪ ،‬وعلى ّ‬
‫الخطيرة؟ ظل الفضول يدفعني لمعرفة ذلك والحياء يمنعني من سؤاله‪،‬‬
‫ال في أمر شخصي أو يعد استهانة واستخفاف ًا به‪ .‬مرة وأنا‬
‫ألنه قد يعتبر تدخ ً‬
‫في حديث ودي كالعادة مع ابن عمه المثقف تدرجنا بالكالم إلى أن وصلنا‬
‫إلى منعرج في الحديث كان من المناسب جد ًا فيه أن اطرح سؤاالً يفض‬
‫لغز هذا الرجل واحجيته بال تحرج فقلت له‪:‬‬
‫‪ -‬فالن ابن عمك رجل طيب مسكين وإني ألعجب لوصوله إلى هذا‬
‫السجن‪ .‬من هذا الذي اعترف عليه إنه منخرط في تنظيم سياسي؟‪.‬‬
‫فصعقني برده الفوري قائ ً‬
‫ال وبال مقدمات‪:‬‬
‫‪ -‬أنا اعترفت عليه!‪.‬‬
‫‪ -‬لكن لماذا؟ أليس الرجل بعيد عن توجهاتك؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هو كذلك‪.‬‬
‫واستطرد سارد ًا لي قصته بالقول‪:‬‬
‫«اعتقلت في مرة سابقة قبل اندالع الحرب لعدة أشهر بتهمة االشتباه‬
‫أي دليل معتبر إلدانتي‬
‫بالتعاون مع تنظيم سياسي‪ ،‬ولما لم يجد المحققون ّ‬
‫أفرج عني‪ .‬في وقتها كانت التحقيقات ليست بهذه الوحشية وكان من‬
‫الممكن اإلفراج عن كثير من المعتقلين ألن كثير من االعتقاالت وقتها‬
‫كانت تأديبية والقليل منها يودي بأصحابها لعقوبة الموت أو السجن‪.‬‬
‫المهم بعد خروجي من االعتقال وكعادة العراقيين في األفراح واألحزان‬

‫‪209‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫باالجتماع جاء جمع غفير من األصدقاء واألقرباء لزيارتي وتهنئتي‬


‫بالخروج من المعتقل‪ ،‬وفي جلسة عامة سألني أحدهم بدافع الفضول‬
‫العراقي المعروف‪ ،‬لماذا اعتقلوك هل فعلت شيئ ًا ضد الحكومة؟ أجبته‬
‫أي شخص يخرج من المعتقل نافي ًا التهمة عن‬ ‫جواب ًا طبيعي ًا متوقع ًا من ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ألنه ليس من المعقول أن تفرج عني األجهزة األمنية لعدم امتالكها‬
‫لدليل ضدي وأنا اتبرع بإدانة نفسي فقلت له‪:‬‬
‫أي شيء ضد القانون‪.‬‬
‫‪ -‬كال‪ ،‬لم أفعل ّ‬
‫ٍ‬
‫وبصوت عال سمعه كل الحاضرين قائالً‪:‬‬ ‫فانبرى ابن عمي هذا‬
‫‪ -‬الحكومة ال تعتقل أحد ًا بال سبب‪.‬‬
‫بهتني بهذا التعليق السخيف‪ ،‬لم أرد عليه كي ال تتطور المسألة و ُأ ُ‬
‫صبح‬
‫في موقف من يهاجم الحكومة ويتهمها أمام تبرئة ابن عمي لها واتهامه لي‬
‫بالعمل ضدها‪ ،‬لكني أسررتها في نفسي وقلت في داخلي‪:‬‬
‫‪ -‬يا ابن العم‪ ،‬أنا متأكدٌ إنهم سوف يعتقلوني ثانية وحينها سوف أقدم‬
‫لك الدليل القاطع على إن الحكومة التي تدافع عنها تعتقل حتى من لم‬
‫يكن عنده شيء ضدها‪.‬‬
‫وبالفعل بعد سنين اعتقلوني ثانية وبدأ التعذيب الذي تعرفه‪ ،‬طالبوني‬
‫بأسماء الخلية الحزبية‪ ،‬حينها تذكرت ابن عمي على الفور وقلت لنفسي‪،‬‬
‫ها قد جاء وقتها اآلن وألدعو ابن عمي ليتنعم بضيافة الحكومة ورفاهية‬
‫عدالتها‪ ،‬فقلت للمحققين على الفور‪ :‬إن ابن عمي فالن معي في التنظيم‪.‬‬
‫وكما ترى هو معنا اآلن ومحكوم بالسجن المؤبد‪ ،‬ليس هو فقط‪ ،‬بل اعتقلوا‬

‫‪210‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫معه ابنه بعد ذلك وصار يحسب اآلن من العوائل المعارضة الحاقدة على‬
‫الحزب والثورة"‪ .‬ضحكت كثير ًا وشعرت باألسف عليه في الوقت عينه‪،‬‬
‫وأيض ًا بالغضب على هذه الطريقة العشوائية في تصفية المعارضة وعلى‬
‫وحشية التحقيق وإصدار األحكام ضد المعتقلين‪.‬‬
‫كان قسم الحجر الصحي (المحجر) مثل كل األقسام األخرى يضم‬
‫كثير ًا من السجناء ممن ال شغل له بالمعارضة أو السياسة‪ .‬وظل هذا الجمع‬
‫على حاله نفسها حتى بعد كل سنوات السجن‪ ،‬ألنه لم يكن يفكر بالشأن‬
‫العام بالمطلق وال هو من أولوياته‪.‬‬
‫هناك أناس كثر يعيشون لذاتهم فقط وهمومهم ذاتية‪ ،‬ال يفكرون اّإل بما‬
‫يتعلق بها‪ ،‬قد ُيرى طيب ًا وديع ًا مسالم ًا‪ ،‬إنما ليس مستعد ًا للدفاع عن مظلوم‬
‫ينتهك حقه أمام عينيه‪ ،‬ويصنف الدفاع عن المظلومين في خانة األشياء‬
‫التي ال تعنيه وال يشغل نفسه بها‪ ،‬اّإل من باب التأسف فقط‪ .‬وحين تزداد‬
‫قوة الظالم وشراسته يستشعر هؤالء المسالمون إن خطره بات قريب ًا منهم‬
‫بسبب قسوة واستخفاف السلطة القمعية بكل القوانين‪ ،‬هذا الصنف من‬
‫الناس يبدأ حينئذ وخالف المنطق بلوم معارضي السلطة والمحتجين على‬
‫إجراءاتها‪ ،‬وينسبون لهم تهمة انتاج هذا الوضع الخطر بدعوى إثارتهم‬
‫المشاكل ومشاكسة القانون‪ ،‬ويبدأ هذا الصنف من الناس حتى بتبرير هذه‬
‫القسوة المفرطة من النظام‪ .‬وكان معنا في السجن كثير من هؤالء الناس‬
‫فهم رغم طيبتهم ووداعتهم الظاهرة اّإل انهم ليسوا بذي اهتمامات عامة‬
‫وال يملكون وعي ًا رغم ادعاء البعض ذلك لنفسه‪.‬‬
‫في السجن كان هؤالء أحيان ًا يشكلون عقبة حقيقية أمام أفعال تحدي‬

‫‪211‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الجالدين التي يتصدى لها بعض السجناء الشجعان‪ .‬وبعد كل معاناة السجن‬
‫الرهيبة ورغم اختالطهم بشخصيات سياسية مؤثرة فيه‪ ،‬اّإل ان هؤالء لم‬
‫أي‬
‫أي نشاط عام‪ ،‬وما أن خرجوا حتى ذابوا في المجتمع دون ّ‬ ‫ينخرطوا في ّ‬
‫تأثير وما استطاعوا أن يحولوا مظلوميتهم إلى قضية‪ ،‬بل تحولت إلى مجرد‬
‫ذكريات مريرة ال يتمنوا أن تعاد عليهم مرة أخرى‪.‬‬
‫بالمقابل كان هناك اشخاص كثر منخرطون جد ًا بالشأن العام وهم من‬
‫أعطى للسجن طابع ًا خاص ًا‪ ،‬وهم من حوله إلى مدرسة فكرية سياسية وفي‬
‫هذا كالم كثير سوف يأتي وقته‪.‬‬
‫هناك قسم ثالث ليس بالقليل ممن دخل السجن بال قضية حقيقية‬
‫لكنه كان كمن تلقى في السجن تدريب ًا وتعليم ًا من خالل مخالطته سجناء‬
‫آخرين‪ ،‬وانتفع من ذلك ليصبح شخصية رائدة في مجتمعه ويعمل بوعي‬
‫واخالص لتغيير واقعه‪.‬‬
‫أما القسم الرابع فكان ممن خرج من السجن مبغوض ًا مذموم ًا ألفعاله‬
‫سعي ووشاية لرجال األمن أو قام‬ ‫ٍ‬ ‫الخسيسة التي قام بها في السجن من‬
‫بأفعال قبيحة يندى لها الجبين‪ ،‬ومن حسن الحظ إن هؤالء كانوا نسبة قليلة‬
‫جد ًا معروفين باألسماء على نطاق واسع جد ًا بين كل السجناء‪ .‬الكل كما‬
‫كان يعرفهم‪ ،‬كان يحتقرهم ويتحين الفرصة للحد من تأثيرهم‪.‬‬
‫المحجر كان يعيش بحبوحة أمنية‪ ،‬لتخوف رجال األمن من عدوى‬
‫المرض وانتقاله إليهم وتولى اإلشراف عليه مراقبون وخدمات صالحون‬
‫أغلقوا كل المنافذ امام السعاة والوشاة‪ .‬وفي أحد األيام دلف إلينا واحد‬

‫‪212‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من هؤالء السعاة‪ ،‬ف ُاطلقت صفارة اإلنذار بين السجناء باإلشارات والغمز‪،‬‬
‫وكان البد من توخي الحذر إلى أقصى حد‪ .‬بالمقابل كان البد من معالجة‬
‫نوع من البشر يعيش على إثارة الخوف عند‬ ‫سريعة للموقف‪ ،‬إذ هكذا ٌ‬
‫اآلخرين ويبرز وجوده من خالله‪ ،‬وعالج ذلك يكون بنقل الخوف إليه‬
‫إليقاف عدوانيته وخطره‪ .‬ومن العسير جد ًا تصديق الفكرة الساذجة التي‬
‫تروج أحيان ًا بأن هذا النوع الخبيث يتوب عن جرائمه ويتحول إلى جزء‬
‫صالح في المجتمع لو عومل جيد ًا‪ .‬هكذا نوع أفضل ما يمكن فعله له هو‬
‫نزع أنيابه ال تغيير طباعه التي جبل عليها‪ ،‬كما يروج بعض السذج وقليلو‬
‫الخبرة‪ .‬االنتقام صحيح إنه ال يحل المشاكل معه‪ ،‬لكن العقوبة القاسية‬
‫تجعل خبيئته الخبيثة تتحجر في داخله وال تجد منفذ ًا للخروج‪ .‬إن هؤالء‬
‫أي‬
‫الناس بال قيم أخالقية وهمومهم مادية نفعية كلها‪ ،‬ولذا فإنهم ينتهزون ّ‬
‫فرصة لتحقيقها بغض النظر عن طبيعة أو مشروعية هذه الوسيلة‪ ،‬ولما كانت‬
‫همومهم مادية نفعية فإن السلوك األجدى بالتعامل معهم هو تهديد هذه‬
‫ٍ‬
‫حينئذ سلسين مطيعين‪ ،‬لكن‬ ‫الطموحات وحرمانهم منها‪ ،‬وسوف تجدهم‬
‫الحذر كل الحذر منهم فإن طبعهم الرديء سوف يطل برأسه القبيح إلى‬
‫عالم الخبث والجريمة في أول مرة يرى العيون قد غفلت عن طبعه الماكر‪.‬‬
‫وهكذا كان‪ ،‬إذ حوصر هذا الخائن بأعين تنظر إليه شزر ًا‪ ،‬توجس شر ًا‬
‫كبير ًا وأيقن إنه بات بين فكي مجرشة صماء سوف تطحنه وتحيله دقيق ًا‬
‫ناعم ًا تطأه كل األقدام وتذروه بعدها الرياح‪ .‬ومما زاد من مخاوفه إن‬
‫الحلقة الملتهبة كانت تتسع وال يجد منفذ ًا منها‪ ،‬ورغم اقترابها الشديد منه‬
‫فإنها ال تطبق على رقبته‪ ،‬مما أدخل على قلبه رعب ًا مضاعف ًا وصار الهلع‬

‫‪213‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫فراشه والفزع لحافه‪ .‬وصار متيقن ًا من انتهاء اسطورته وصار جل حلمه أن‬
‫ال يهلك تحت أقدام ضحاياه‪.‬‬
‫أصدر مراقب الزنزانة له أمر ًا بأن يتخذ من جوار المرحاض مضجع ًا‬
‫له في أسوأ مكان يمكن أن ينام فيه السجين‪ ،‬وأدرك عندها وهو يرى مكانه‬
‫إن أيامه السوداء قد ابتدأ عهدها الطويل‪ .‬قاطعه الكل‪ ،‬ال يكلمه أحد وال‬
‫يتعامل معه أحد أبد ًا‪ ،‬اّإل المراقب الذي كان يوجه إليه أوامر أكثر مما هي‬
‫تبادل حديث معه‪.‬‬
‫شجار صغير بين سجينين وحاول أن يزج نفسه فيه‬ ‫ٌ‬ ‫في أحد األيام اندلع‬
‫ال بصورة ودية لفض النزاع‪ ،‬اّإل إنه وجد إن المتشاجرين أنهوا خصامهم‬ ‫قلي ً‬
‫بسرعة قياسية والتفتوا إليه‪ ،‬وضربه أحدهم بكلتا قبضتي يديه على ظهره‪.‬‬
‫ال قوي ًا جد ًا لو دفع أحد مزاح ًا ألوجعه فكيف‬
‫من ضربه كان شاب ًا ريفي ًا طوي ً‬
‫به وقد ضربه في أوج غضبه وبمنتهى قوته‪ .‬ضربة لفرط قوتها وشدتها‬
‫أجبرته على إفراغ ما في معدته بالحال‪ ،‬ومن حينها سكت هذا المنافق‬
‫أي أمر بعدها حتى‬
‫(كما كان يطلق على الوشاة) لألبد‪ ،‬ولم يحشر نفسه في ّ‬
‫خروجه من السجن‪.‬‬
‫لم تكن قصة هذا الساعي بالوشاية فريدة من نوعها‪ ،‬ونسبة الخونة‬
‫لم تكن قليلة وكان هناك عدد آخر مرشح لالنضمام إليهم تحت قسوة‬
‫الظروف الحياتية التي يعيشها السجناء‪ .‬بالمقابل كان هناك سعي حثيث‬
‫من نسبة ليست بالقليلة هي األخرى للقضاء على هذه الجماعة الضعيفة‬
‫ٍ‬
‫لفرصة مواتية لإلطاحة‬ ‫الخائنة‪ .‬وكان يجري التخطيط بهدوء وترقب‬
‫بتسيدهم على مناصب المراقبين والخدمات وهما المنفذ الوحيد للتعامل‬

‫‪214‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫المباشر مع رجال األمن‪.‬‬


‫في فترة الحقة ومع تراجع الوضع المتأزم على جبهات الحرب الذي‬
‫كان يهدد وجود النظام نفسه قبل سنوات‪ ،‬وبعد أن استعاد النظام توازنه من‬
‫ضربات عسكرية كبيرة أفقدته كل انتصاراته بل ألحقت به هزائم نكراء‪،‬‬
‫عاد من جديد ليوقف زحف ًا عسكري ًا معادي ًا‪ ،‬وبعد ان اطمأن إلى بقائه في‬
‫سدة الحكم واستقرار الوضع العسكري‪ ،‬شهد السجن انفراجة أمنية نسبية‪.‬‬
‫إذ خفت حاالت االنتقام والتعذيب العشوائي وإن لم تتوقف بالكامل‪،‬‬
‫وساهم في ذلك بشكل واضح تزامن الوضع مع نقل الضابط المتهم بإعدام‬
‫معارضين سياسيين مقابل اإلفراج عن قتلة محكومين باإلعدام القصة التي‬
‫تقدمت روايتها‪.‬‬
‫هذا التخفيف األمني النسبي كان فرصة مثالية للوثوب على الخونة‪ ،‬بدأ‬
‫من تسلل شاب شجاع سريع البديهية إلى صفوف الخدمات‪ ،‬وصار يحتال‬
‫عليهم بتقديم بالغات إلى األمن تكشف بعض ًا من أفعالهم التي يستقبحها‬
‫رجال األمن‪ .‬وصار تدريجي ًا يتم التخلص منهم الواحد تلو اآلخر ويستبدل‬
‫بعنصر جيد‪ .‬كانت عملية معقدة محفوفة جد ًا بالمخاطر‪ ،‬تنطوي على قدرة‬
‫كبيرة ليس من الشجاعة وحسب‪ ،‬بل على سرعة البديهة والقدرة الكبيرة على‬
‫التظاهر وادعاء الوالء لألمن‪ ،‬بينما كان في الواقع يخفي عكس ذلك تمام ًا‪.‬‬
‫لم تنته المشكلة بإزاحة الخونة المنافقين من الخدمات وحسب‪ ،‬بل‬
‫معاقبتهم في الزنزانات التي كانوا يدخلون إليها ومقاطعتهم بالطريقة نفسها‬
‫التي قوطع بها ذاك الخائن في المحجر‪ .‬تحول السجن بعدها إلى جحيم‬
‫حقيقي على هؤالء الخونة‪ ،‬إذ لم يسلموا حتى من الضرب على أيدي‬

‫‪215‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫السجناء وفقدوا كل حظوة عندهم لدى رجال األمن‪ ،‬بل أصبحوا اعدا ًء‬
‫لهم وعاقبوهم بشكل مبالغ به أحيان ًا من اإلذالل واإلهانة‪ .‬وهكذا حد من‬
‫خطرهم إلى حد كبير وإن لم يسلم السجناء من شرور بعضهم متسببين فيما‬
‫بعد بمقتل عدد مهم من السجناء في أحداث مؤسفة‪ .‬كما سوف يحل عهد‬
‫من إذالل كبير وخزي عظيم عاشه الخونة في أحداث غير عادية شهدها‬
‫السجن جسدت قوة السجناء السياسيين وقدرتهم على مناطحة النظام‬
‫الفاشي حتى وهم في األغالل وخلف القضبان‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪9‬‬
‫***‬
‫فيما كانت تتحسن صحتي كانت صحة آخرين تسوء بسبب انتشار‬
‫مرض السل الذي أصبح وبا ًء كارثي ًا يهدد الجميع‪ .‬أصاب المرض ثلث‬
‫عدد السجناء تقريب ًا وانتشرت أمراض غريبة وحاالت مرضية متنوعة كلها‬
‫بسبب نقص التغذية والرطوبة والظالم وغياب الظروف الصحية‪ .‬وفي‬
‫أحد األيام توقفت المجاري عن سحب المياه والقاذورات من المرحاض‪،‬‬
‫وعندما اقول في أحد األيام ليس حصر ًا به ألن مثل هذا اليوم تكرر وقوعه‬
‫لمرات عديدة‪ .‬حاول السجناء بأساليب متعددة فتح المجرى الوحيد لها‬
‫في المرحاض‪ ،‬أدخلوا أيديهم وكل آلة عندهم إلخراج ما علق فیه وسبب‬
‫هذا االنسداد لكن بال جدوى‪ ،‬بدأت تطفح المياه اآلسنة إلى أرضية الزنزانة‬
‫ورجال األمن ال يلقون باالً إلى طلبات السجناء وال يعيروها إهتمام ًا‪ .‬وألن‬
‫ال نحو المرافق بطريقة هندسية لتصريف‬ ‫أرض الزنزانة كانت مائلة قلي ً‬
‫المياه فإن وصول المياه اآلجنة لمقدمة الزنزانة حيث الباب والقضبان كان‬
‫ال عن الوصول لها بخالف غيرها من زوايا الزنزانة‪ ،‬لذا تجمع‬ ‫يتأخر قلي ً‬
‫السجناء في مقدمة الزنزانة‪ ،‬لكن الماء اآلسن يواصل زحفه ويدفع بعض ًا‬
‫من السجناء إلى تسلق القضبان والتعلق بها هرب ًا من هذا الماء اآلسن ومما‬
‫يحمله من بقايا فضالت بشرية‪ .‬أدرك آخرون أن ال مناص من هذه الفوضى‬
‫واستسلموا لواقعهم‪ ،‬وصاروا يأكلون ويشربون وقوف ًا‪ ،‬بل حتى ينامون‬
‫هكذا وأرجلهم تخوط مياه ًا قاءتها المجاري بكل ما فيها‪.‬‬
‫في الليل والنهار يجمع السجناء المياه الثقيلة بآنية الطعام المتوفرة‬
‫‪217‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عندهم ويرمون بحمولتها من خالل الفتحات التي تسمي شباك ًا إلى ساحة‬
‫الفناء الخارجي للتخفيف من منظر عدد األشياء العالقة في الماء ولتخفيف‬
‫مستواه الذي يشهد مد ًا متزايد ًا‪ .‬بهذا يفهم لماذا كنت أنعت الساحة بين‬
‫مكب هائل للنفايات ومصدر أساسي لكل الحشرات‪ .‬يبقى‬ ‫ٌ‬ ‫األقسام بأنها‬
‫الحال هكذا لنهارين متعاقبين بلياليها وأحيان ًا أكثر من ذلك‪ ،‬والسجناء‬
‫ابان ذلك يأكلون في اآلنية عينها التي يستعملوها للتخلص من الفضالت‪.‬‬
‫وهذه لن تكون المرة الوحيدة التي نقسر فيها على األكل في آنية ملوثة أو‬
‫تناول طعام ملوث‪.‬‬
‫فضاء الزنزانة كان ضيق ًا ومزدحم ًا للغاية بالسجناء وحاجياتهم‪.‬‬
‫وأي شيء يراد خزنه أو استعماله الحق ًا يوضع في آخر الزنزانة قريب ًا من‬
‫ّ‬
‫المرحاض‪ ،‬مثل فردة النعال المستهلك الذي يستعمل بتجفيف الماء‪،‬‬
‫وكذلك حساء الصباح (الشوربة) الذي يحفظ أحيان ًا قسم منه آلخر النهار‬
‫في جردل صغير‪ ،‬ألن بعض السجناء كان يمتنع نهار ًا عن األكل والشرب‬
‫ألسباب دينية خاصة بهم‪.‬‬
‫فردة النعال المستخدم للتجفيف تكرار ًا في اليوم الواحد‪ ،‬لم تكن‬
‫تربط بذاك االحكام ولذا كان يتكرر سقوط النعل وأحيان ًا يكون سقوطه‬
‫في جردل الحساء‪ .‬وحين يكتشف الحادث‪ُ ،‬يستخرج النعال وينظف من‬
‫الطعام العالق به فيما يتجمع الصائمون بعدها لتناول إفطارهم من الحساء‬
‫ذاته ألنهم ال يملكون شيئ ًا غيره يأكلوه‪ .‬كنت أمزح مع أحدهم يوم ًا عندما‬
‫تحدث عن الجراثيم التي تتكاثر في هذه البيئة القذرة فقلت له‪ :‬اطمأن يا‬
‫عزيزي هنا ال توجد ميكروبات وال جراثيم ولن يأتي المزيد منها‪ ،‬ألنها‬

‫‪218‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫باتت تخشى على صحتها‪.‬‬


‫أمام هذه الفوضى الشاملة في انعدام الرعاية الصحية بالمطلق‪ ،‬كان فريق‬
‫من أطباء أو متدربين في التمريض أو حتى طلبة في كلية الطب اعتقلوا قبل‬
‫إكمالهم الدراسة يعملون ما في وسعهم لتقديم المعونة بوسائل هي بنفسها‬
‫تخلو من الظروف الصحية‪ ،‬اّإل انه ليس باليد من حيلة كما يقال‪.‬‬
‫انتشرت بكثرة حالة مرضية تدعى الجيوب المائية تصيب الرئة‬
‫والصدر‪ ،‬وكان البد من سحب التقيحات والسوائل من تلك الجيوب‪ ،‬اّإل‬
‫إن الطريقة التي كان يتم فعل ذلك بها أشبه بحكاية رسوم متحركة تالئم‬
‫خيال األطفال‪ ،‬أو واحدة من بطوالت جندي أمريكي ال ينتصر اّإل في‬
‫خيال مخرجي األفالم السينمائية الهوليودية‪.‬‬
‫يأتي الطبيب السجين بخرطوم دقيق يستعمل فيما يعرف بالمغذي‪،‬‬
‫بأي أداة حادة متوفرة عنده إلدخال الخرطوم من‬
‫ويثقب جسم المريض ّ‬
‫خاللها‪ ،‬ليبدأ بعدها بسحب القيح من تلك الجيوب وسط صرخات األلم‬
‫من المريض‪ ،‬وعندما ينتهي الطبيب من تلك العملية الجراحية يطحن‬
‫قرص بارسيتول أو اسبين على موضع الجرح لتعقيمه‪ ،‬واألنكى من هذا‬
‫كله إن الطبيب كان يقف في الممر والمريض داخل الزنزانة تفصل بينهما‬
‫القضبان لتجري العملية من خلف القضبان‪ .‬لم يكن هذا حادث ًا عرضي ًا أو‬
‫عابر ًا يحصل لمرة واحدة بل لمرات متعددة جد ًا‪ .‬عمليات جراحية أخرى‬
‫كانت تجري باستعمال موس حالقة لشق غدد وأكياس ال أعرف ماهيتها‪،‬‬
‫لكنها كانت تنمو في أماكن متفرقة من أجساد السجناء‪ .‬كل هذه العمليات‬
‫الجراحية‪ ،‬رغم اآلالم التي فيها‪ ،‬كانت تتم بال تخدير‪ ،‬ألنه ترف غاية في‬

‫‪219‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الزيادة والستحالة توفره‪.‬‬


‫زرق اإلبر كان هو اآلخر من القصص الغريبة والحكايات العجيبة‪ ،‬ليس‬
‫ألن عدم توفر الدواء الكافي وحده معضلة كبيرة‪ ،‬بل ندرة اإلبر الصالحة‬
‫كانت مأزق ًا أكبر‪ .‬اإلبرة برأسها الدقيق يمكن أن تستعمل لمرة واحدة فقط‪،‬‬
‫وربما أكثر من مرة في بعض الحاالت‪ ،‬أما الحاجة إلى االستعمال المتكرر‬
‫ولعشرات المرات فكان خياالً فرضه واقع الوضع الصحي المتدهور بكثرة‬
‫اإلصابات بشتى الحاالت يرافقه نقص دواء هائل أجبر األطباء على تقسيم‬
‫دواء اإلبرة الواحدة على أكثر من مريض‪.‬‬
‫قطع ًا إن رأس اإلبرة الدقيق يغدو غليظا بعد االستعمال المتعدد‬
‫وال يمكن له أن ينفذ في الجلد‪ ،‬مما يعني عملي ًا عدم صالحية اإلبرة‬
‫لالستعمال‪ .‬وألن األشياء كلها في السجن ذات قيمة كبيرة ولو كانت تعد‬
‫نفاية غير قابلة لالستعمال بنظر من يعيش خارجه‪ ،‬كان البد أن تبرد االبر‬
‫ليعاد استعمالها‪ ،‬إنما هذا حل صعب للغاية فمن أين تحصل آلة برد؟ ومع‬
‫العجز عن إيجاد واحدة منها فقد اهتدى المشرفون على األمور الطبية إلى‬
‫حل ال يرد على بال وال يمر على خاطر‪ .‬إذ وجدوا إن بحوزتهم أكبر آلة‬
‫برد ومتوفرة في كل زاويا السجن وأركانه‪ .‬إنها األرض اإلسمنتية الخشنة‪،‬‬
‫وهكذا جاء الحل السحري الناجع وبه انتهت المشكلة ونفخت الروح في‬
‫اإلبر العاطلة ودخلت الخدمة من جديد‪ .‬صار باإلمكان استخدام اإلبرة‬
‫مرات ومرات مع زيادة في األلم يتحملها السجين وهي تنفذ إلى الجسد‪،‬‬
‫أمر لم يكن صعب ًا عليه تكبده‪ ،‬وهو الذي عانى أكثر بكثير من هذا من‬
‫وهذا ٌ‬
‫األلم وتحمل أنواع الصعاب والمشقة‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫قصة اإلبر ال تنتهي هنا‪ ،‬إذ إن تعقيمها هو اآلخر أمر ال مناص منه وللقيام‬
‫بذلك البد من توفر ماء مغلي‪ .‬في المحجر زود رجال األمن السجناء بعلبة‬
‫معدنية صغيرة لتعقيم اإلبر‪ ،‬أما األقسام األخرى فقد حرموا منها‪ ،‬لذا‬
‫جرى تدبير الوضع بتوصيل سلك كهربائي من المصدر الوحيد للكهرباء‬
‫في المصباح المعلق بالسقف وفي نهاية السلك توضع مالعق وتدخل في‬
‫الماء لتعمل على تسخين الماء بطريقة الدائرة الكهربائية‪ ،‬الماء الزائد عن‬
‫حاجة التعقيم كان يستخدم في تحميم المرضى‪ .‬وفي قسم الحجر الصحي‬
‫وبسبب انعدام الرقابة األمنية كانت عملية غلي الماء تجري بشكل مريح‬
‫وبصورة واسعة ألن اغلب سكانه من المرضى‪ ،‬بينما كان االستحمام‬
‫ال روتيني ًا يفعله باقي السجناء وال يتغير ذلك صيف ًا وال‬
‫بالماء البارد عم ً‬
‫شتا ًء‪ .‬ظلت طريقة تسخين الماء تستخدم بنجاح في المحجر إلى أن وقع‬
‫حادث كبير في أحد األيام كاد أن يؤدي إلى كارثة كبرى‪.‬‬
‫فبعد أن استسهلت عملية تسخين الماء‪ ،‬أصبح الماء الحار مطمع ًا في‬
‫أيام الشتاء حتى لغير المرضى مع ضعف األجساد وقسوة البرد‪ .‬وبدالً من‬
‫اإلناء الصغير لتعقيم اإلبر صار برميل ماء بالستيكي هو المستضيف لهذه‬
‫العملية المحظورة‪ ،‬وجرت األمور كما كان يشتهي السجناء ويرغبون إلى‬
‫أن جاء اليوم الموعود‪ .‬ففي يوم شتائي محشو بالبرودة ضاعف قرسه وهن‬
‫األبدان ورثاثة اللباس وتهالك الفرش وقلة األغطية التي ما فتأنا نستعين‬
‫بها في اليقظة والمنام لرد غائلة البرد عنّا‪ .‬وبينما كان الماء يغلي بأقصى ما‬
‫يمكن له ذلك ويشتد فوران الماء في غفلة من العيون‪ ،‬تحلق قربه بعض‬
‫السجناء يستلذون بدفء يبعثه البخار المتصاعد وهو ينفذ بسخونته إلى‬

‫‪221‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عظامهم المنخورة من المرض والبرد‪ .‬وبينما هم يتسامرون ضاحكين‬


‫وإذا بصرخة فزع تمأل كل جوانب زنزانة الحجر الصحي تتبعها صرخات‪.‬‬
‫بحشد يعدو على غير هدى وعلى وجه أفراده سيماء‬ ‫ٍ‬ ‫الممر الضيق يزدحم‬
‫فزع ورعب تغطيهم سحابة ضخمة من بخار كثيف كأنها دخان أبيض‪.‬‬
‫سحابة استوعبت كل شيء وكأنها غبرة معركة خلفتها ثورة خيول جامحة‬
‫ال تتوقف عن الخب‪ ،‬وسيطر الذهول على الجميع وظن البعض من‬
‫السجناء إن رجال األمن شنوا هجوم ًا لقتل السجناء‪ ،‬وما هي اّإل دقائق‬
‫حتى تبينت الكارثة والح جزء من تداعياتها الحقيقية‪.‬‬
‫كان الماء يواصل فورانه بعد أن بلغ درجة الغليان وقارب حد ًا لم يعد‬
‫البرميل البالستيكي بقادر على تحمله‪ ،‬ليذوب من شدة الحرارة منصهر ًا‪،‬‬
‫وينهار البرميل بحمولته الكاملة ساكب ًا الماء الحار بغتة وبسرعة خاطفة‬
‫على كل من كان يجاور البرميل في غفلة منهم‪ .‬حاولوا الفرار‪ ،‬لكن لم‬
‫يقدروا على اإلفالت ألن الكهرباء كانت لم تزل تسري في الماء فأوقفتهم‬
‫في مواضعهم وأسقطتهم أرض ًا‪ ،‬كل من وثب هارب ًا غطس بغير أهبة وال‬
‫استعداد في بركة ماء يغلي لتسلخ جلده كامالً‪ ،‬إلى أن بادر أحد السجناء‬
‫ٍ‬
‫بمهارة وخفة إلى نزع السلك الكهربائي لكن حينها الماء الساخن كان قد‬
‫فعل فعلته بالوجوه واألجساد بشكل رهيب‪.‬‬
‫كان الموقف أكبر من ان تتالفاه إسعافاتنا األولية البائسة‪ ،‬لذا تم‬
‫االتصال باألمن لنقل المصابين بالحروق ونقلوا بالفعل لمستشفى مدني‬
‫خارج السجن في جانب الكرخ من مدينة بغداد‪ .‬جرت هناك معالجتهم‬
‫بشكل أولي‪ ،‬اّإل إنه كاف إلنقاذ حياتهم من موت محقق حرق ًا واعيدوا‬

‫‪222‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫للسجن ثانية بعد ثالثة أيام وظلوا قرابة الشهر عراة ال يستطيعون ارتداء وال‬
‫حتى قطعة مالبس واحدة لشدة الحروق التي ألمت بهم‪.‬‬
‫تدبر السجناء أمرهم بصنع ما يشبه القفص غلف بالبطانيات لتدفئتهم‬
‫ورفع الحرج عنهم بحجز األنظار والعيون عن أجسادهم المجردة من كل‬
‫شيء حتى من الجلد‪ .‬نجوا من الموت وظلت أجسادهم طوال حياتهم‬
‫تحمل ذكرى الحادث المروع وفقد السجناء فرصة االستحمام بالماء‬
‫الحار من جديد خشية انكشاف أمرهم بعد أن مرت هذه الحادثة بسالم‪.‬‬
‫لم يجر تحقيق في الحادث لسبب لم نفهمه‪ ،‬لعله كان حسن الحظ أو ألن‬
‫القسم كان مخصص ًا للمرضى‪ ،‬ولم يشأ المسؤول األمني الذهاب بعيد ًا‬
‫في التحقيق خشية اضطراره إلنزال العقاب ببعض السجناء ومع تردي‬
‫وإل في‬ ‫أي عقاب سيتحول إلى مذبحة حقيقية‪ ،‬اّ‬ ‫وضعهم الصحي العام كان ّ‬
‫أي أحد ليصدق ولو كان أبله ًا كبير ًا إن علبة معدنية صغيرة‬‫الواقع لم يكن ّ‬
‫مخصصة لتعقيم اإلبر هي التي سببت كل هذه الحروق‪.‬‬
‫األفعال المحظورة كانت تنطوي على مخاطرة كبيرة بنفسها وبعواقبها‪،‬‬
‫خبر‬
‫ولبعضها قصص طريفة ومنها هذه القصة‪ ،‬ففي أحد المرات وصل ٌ‬
‫إلى رجال األمن بحدوث عملية تسخين للماء في إحدى الزنزانات ودخل‬
‫رجل أمن إلى أحد األقسام بغتة وتوجه بسرعة ومباشرة إلى الزنزانة‬
‫المقصودة‪ .‬سرعة الحدث لم يكن باإلمكان معها التخلص من الماء الذي‬
‫بدأوا بتسخينه للتو‪ ،‬اّإل إن السلك الكهربائي وعدة التسخين تم اخفاؤها‬
‫وسط حشد السجناء بسرعة‪ .‬توجه رجل األمن إلى البرميل صارخ ًا بوجه‬
‫السجناء مستفهم ًا‪:‬‬

‫‪223‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪ -‬كيف حصلتم على هذا الماء الساخن؟‪.‬‬


‫فأجابه أحدهم ببرود شديد‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي ال يوجد عندنا ماء ساخن إنه ماء بارد‪.‬‬
‫ارتسم االستغراب على محيا رجل األمن وسأله باستنكار‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا الماء ماذا تسميه؟ مشير ًا إلى برميل الماء الساخن‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وهدوء تام ووضع كفه مغترف ًا بيده الماء وقال له‪:‬‬ ‫فتقدم السجين ٍ‬
‫بثقة كاملة‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬هل تقصد هذا؟ إنه ماء بارد‪.‬‬
‫أصاب الذهول رجل األمن فدعا سجناء آخرين وقال لهم‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا؟‪.‬‬
‫كان الجواب جماعي ًا‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي إنه ماء بارد‪.‬‬
‫طلب منهم جميع ًا أن يضعوا أيديهم واحد ًا تلو اآلخر في الماء وكانوا‬
‫يفعلون ذلك بال أدنى تردد وبعضهم يرسم على وجهه ابتسامة عريضة‪.‬‬
‫رجل األمن ينظر إلى المشهد وهو ال يصدق ما يرى وأصبح في شك حتى‬
‫من نفسه‪ ،‬يعاود مد يده يشعر بسخونة الماء‪ ،‬بينما السجناء كلهم يقسمون‬
‫له وهم يدخلون أيديهم مرار ًا وتكرار ًا بأن الماء بارد وال يبدو عليهم مظهر‬
‫ألم أو حرقة وال أدنى تردد وهم يفعلون ذلك‪ .‬حتى رجل الخدمات لما‬
‫علم إصرار السجناء والمكيدة التي نصبها السجناء بسرعة البديهة لرجل‬
‫األمن اضطر إلى أن يؤكد على صحة اقوالهم وقال‪:‬‬

‫‪224‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪ -‬سيدي‪ ،‬نعم إنه بالفعل ماء بارد‪.‬‬


‫خرج رجل األمن غير مصدق نفسه‪ ،‬وال يعلم أهو في حلم أم علم‪،‬‬
‫بينما انبطح السجناء بعدها على ظهورهم من الضحك في واحدة من‬
‫أطرف الوقائع‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪10‬‬
‫***‬
‫هناك أشياء ال يمكن التخلص منها مع انعدام النظافة‪ ،‬ألنها كانت‬
‫مستوطنة في األجساد وفي شعر الرؤوس‪ ،‬والحل الوحيد إلبعادها كان‬
‫بالتخلص من كامل الشعر‪ .‬لذا كانت تجري عملية حالقة الرأس بحفلة‬
‫جماعية في فترات متباعدة وكانت أقرب إلى جز الشعر منها إلى الحالقة‪.‬‬
‫البعض من السجناء كان يفضل استخدام شفرة حالقة إلزالة شعر الرأس‬
‫تمام ًا تخلص ًا من عملية تنظيفه‪ ،‬إذ إن االستحمام كان أمر ًا عسير حصوله‪،‬‬
‫وكان هو اآلخر يحصل بطريقة جماعية نظر ًا لشحة الماء‪ ،‬لذا كان يتم‬
‫تحديد يوم مخصص لالستحمام الجماعي فترفع كل البطانيات السوداء‬
‫الرقيقة العسكرية المخصصة للنوم من على األرض‪ ،‬وتصبح الزنزانة بعدها‬
‫حمام ًا عام ًا يقف السجناء فيه مجردين من كل ثوب اال سراويل قصيرة لستر‬
‫العورة‪ ،‬ويبدأون بوضع رغوة الصابون على كامل أجسادهم بعد أن ينالوا‬
‫رشقة ماء خفيفة‪ .‬خالل دقائق يجب أن ينتهي الجميع إذ إن خرطوم الماء‬
‫ال يسمح ببقائه في الزنزانة ألكثر من نصف ساعة وخالل هذه الفترة ينبغي‬
‫ملء برميل الماء المخصص لكل االستعماالت األخرى من شرب وشطف‬
‫أوان ولقضاء الحاجة‪ .‬العملية كانت مضحكة بكل ما فيها ألنها بالواقع‬
‫ال تحقق من النظافة اّإل الشيء اليسير‪ ،‬اّإل إن السجناء كانوا يعيشون فيها‬
‫لحظات سعادة خاصة ويخلقون ألنفسهم جو ًا إستثنائي ًا من المرح بتبادل‬
‫ال فمن أين يمكن لهم أن يتوفروا‬ ‫الطرائف والمزاح‪ .‬إنها فرصة استثنائية فع ً‬
‫على لحظة كهذه يحظوا بها مع كل هذه الكمية الوفيرة من الماء‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كان القمل مقيم ًا دائمي ًا بأنواعه الثالثة‪ ،‬قمل الرأس‪ ،‬قمل الجسم وقمل‬
‫العانة‪ ،‬والعثور عليه غاية في اليسر بأقل جهد وفي أول حملة تفتيش عنه‪.‬‬
‫تنطلق حمالت التفتيش بشكل مستمر ألنه يقف وراء ظاهرة الحك المزعجة‬
‫مدى ال يطاق‪ ،‬يهرش السجين معها‬‫المزمنة التي تصل في بعض المرات ً‬
‫كل مكان في جلده الخارجي‪ ،‬من قمة رأسه إلى تحت إبطيه وعند المواضع‬
‫الحساسة التي يحار كيف ينبشها بحثا عن هذا الكائن المزعج‪.‬‬
‫علي لعنة الحكة بشكل جنوني وصرت ال‬ ‫في أحد المرات حلت ّ‬
‫حز كل شعرة نبتت على جسمي في الحال‪.‬‬ ‫أحتملها فأصررت وقتها على ّ‬
‫بالطبع ال أقدر على القيام بهذا اّإل بمساعدة من سجين آخر طلبت منه ذلك‬
‫ال لبعد تناول وجبة العشاء التي أوشكت بعد أن صب‬ ‫فآثر االنتظار قلي ً‬
‫الحساء في األواني المعدنية‪ ،‬اّإل إن هستيريا أصابتني من ذاك الهرش‬
‫وصرت أصرخ بوجهه أن يترك كل شيء ويقوم من فوره ويخلصني من‬
‫أبطي بالحال‪ .‬الموقف هزلي مبك مضحك‪ ،‬أنا‬ ‫ّ‬ ‫الشعر خصوص ًا تحت‬
‫اشعر بنار حرقة مستعرة جراء الحك والقمل يواصل قرصاته متلذذ ًا‬
‫والسجناء وهم يتهيؤون لتناول العشاء يضحكون على إصراري على‬
‫الحالقة الفورية وعلى غضبي وأنا أدور كمن يرقص من األلم‪ ،‬حتى أنا‬
‫استغرقت في ضحك طويل على نفسي لكن بعد أن خلصني صاحبي من‬
‫شعري ومن األقزام الساكنة فيه‪.‬‬
‫نوع القمل الذي يعيش في فروة الرأس كان السجناء يسموه كالبتوس‬
‫وفيما يبدو إنها تحريف السمه االنجليزي (‪ )Pediculus‬وربما سمعت‬
‫اللفظة من طبيب ما بطريقة خاطئة وأنتجت هذا المصطلح الغريب‪ .‬ولم‬

‫‪227‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يكن من السهل أبد ًا التعرف على مصدر بعض المصطلحات الخاصة في‬
‫السجن وتشعر كأنها لغة خاصة ولدت هناك في زمن سحيق عندما بلبلت‬
‫اآللهة األلسن في بابل القديمة‪.‬‬
‫السجن عالم آخر خلف هذا الكون‪ ،‬والعيش فيه يبرز الجوهر الحقيقي‬
‫لهذا العالم‪ .‬ليس من قوام لهذا الوجود اّإل بالحياة وال قيمة للحياة اّإل‬
‫بالحرية وال يمكن إدراك الشيء اّإل بادراك ضده‪ .‬وحيثما يوجد الضد‬
‫يوجد الوعي بحقيقة المعنى وعند غياب الضد لن تعرف اّإل مظاهر األشياء‬
‫دون كنهها وحقيقة جوهرها‪.‬‬
‫الحياة‪ ،‬ليس أن تجري دما ٌء في العروق وال أن ينبض قلب بضربات‬
‫تلقائية بفعل ال إرادي وال هي هواء يمأل رئتين ويزفرهما‪ ،‬ألنه حتى‬
‫األجساد الميتة يمكنها أن تفعل ذلك‪ .‬الحياة أن تشعر بالسعادة وتلمس‬
‫بحواسك جماالً أحاطت هالته بك‪ ،‬ويصيبك غم عظيم ويعتريك حزن‬
‫كبير عندما يزاحم الجمال قبح البهيمية ساعة يظلم اإلنسان نفسه بظلمه‬
‫أخيه‪ .‬ليس هناك من مكان أكثر مناسبة لرؤية كل هذا بأفضل صوره وأدق‬
‫معانيه أفضل من السجن‪ ،‬هناك يولد الوعي بمعنى الحياة وهناك تتكشف‬
‫جماالت الحرية‪.‬‬
‫في عال ٍم ينأى عن األسوار اإلسمنتية العالية وعن أبراج الحراسة يمكن‬
‫تصور معنى الجمال والحرية‪ ،‬لكن الوعي بأدق معانيه يولد فقط في تلك‬
‫الدائرة التي تغلقها أسالك شائكة وخنادق محفورة بعمق قامة بشرية‬
‫مغمورة بمياه راكدة وفي رقعة مظلمة تقع تحت مرمى بنادق قنص لجنود‬
‫قاطنين في أبراج محصنة‪ .‬نعم هناك يولد الوعي‪ ،‬وهل يولد اإلنسان اّإل‬

‫‪228‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من المعاناة؟‪.‬‬
‫مصطلحات لم أعرف أبد ًا كيف اشتقت وبدت غريبة جد ًا على كل‬
‫اللغات‪ .‬أسمع تارة عنها حكايات تبدو مثل األساطير تحاول تفسيرها وفك‬
‫شفرتها وفض لغزها لكنها تختفي بسرعة مثل طيف عابر‪ ،‬ليبقى السجن‬
‫أحجية عصية ال يمكن ألحد أن يدرك تمام ًا كل تفاصيله وال األشياء التي‬
‫وإن سكنه وعاش فيه دهر ًا‪.‬‬
‫تجري فيه‪ْ ،‬‬
‫مصطلح مثل “الكانة" لم أجد له تفسير ًا أبد ًا‪ ،‬حاولت أن أشتق له‬
‫عالقات مع المسمى وأنسج له قرابات مع لغات شتى بال جدوى‪ .‬إنما‬
‫البد من التعامل معه‪ ،‬ألنه األمل الوحيد في ستر الجسم العاري ووقايته‬
‫من برد ال يرحل في مكان حظر على الشمس الوصول إليه‪ .‬نسيج سميك‬
‫بني غامق في الغالب واحيانا رصاصي يوزع في فترات متباعدة وبطريقة‬
‫غير كافية كما هي كل األشياء التي توزع ليس لالكتفاء إنما لإلبقاء على‬
‫األنفاس تصعد شهيقا وزفير ًا ليس أكثر من هذا‪ .‬منظر الكانة الكريه‬
‫يبعث على القرف واالشمئزاز ويثير مشاعر كآبة سوداوية تدفع للزهد بها‬
‫واإلعراض عنها رغم الحاجة الشديدة‪ ،‬حتى إني لم أسمع أو َار يوم ًا تنافس ًا‬
‫عليها من السجناء أبد ًا‪.‬‬
‫في أيام الشتاء مع ندرة األغطية وبرودة األرض اإلسمنتية وتهلهل‬
‫المالبس‪ ،‬يصير البرد جهنمي ًا‪ .‬ولم أشعر بالدفء أبد ًا طيلة السنوات العشر‬
‫التي قضيتها هناك وال حتى للحظة واحدة‪ ،‬وفي الليلة األولى التي خرجت‬
‫فيها من السجن وجدت فراش ًا أعدته لي والدتي فوجئت وأنا أدخل تحت‬
‫أغطيته بكمية الدفء العظيمة التي يحتويها‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫إيه‪ ،‬كأني اضطجعت في موقد‪ ،‬أحسست وأنا أغفو فيه بالبرد يتسلل‬ ‫ٍ‬
‫خارج ًا من عظامي يصحب معه تعب السنين العشر‪ .‬وقتئذ أدركت إني كنت‬
‫واقف ًا مجرد ًا من ّ‬
‫أي دثار في عراء تلفحني فيه رياح باردة طيلة عقد كامل‪.‬‬
‫في كيس من الخيش كان يصل إلينا الخبز أحيان ًا وبعد أن يتم توزيع‬
‫الخبز من الممكن أحيان ًا االحتفاظ به بعيد ًا عن عيون األمن‪ .‬لم يكونوا‬
‫في حقيقة األمر يهتموا له ألنه ال فائدة منه‪ ،‬لكن كانت لهم سياسة ثابتة‬
‫باسترداد كل شيء يدخل إلينا ليسلبوا منا الشعور بتجدد الحياة‪ .‬كانوا‬
‫حريصين على أن نعيش مع األشياء القديمة المستهلكة المندثرة ليشعرونا‬
‫إننا صفحة من ماض انطوى ونوشك على االنقراض معه وال يوجد أي أمل‬
‫بتجدد الحياة أبد ًا‪.‬‬
‫كيس الخيش هذا صار سبب ًا من أسباب الدفء مع وجود بعض خياطين‬
‫مهرة قاسمونا العيش في الزنازين‪ .‬كانوا يفصلونه ليكون على شكل كنزة‬
‫أو معطف قصير ومن ثم ي ُبطن بقطعة من الكانة ويصبح قطعة رائعة مميزة‬
‫تحفظ حرارة الجسم‪ .‬لحسن الحظ حظيت بواحدة منها من خيش اسمر‪،‬‬
‫األكمام والياقة مزينة بالكانة فصارت كنزة ملونة‪ .‬حين ألبسها واآلخرون‬
‫عليهم ثياب ال تقيهم من شيء أبدو بينهم كأني أرتدي بدلة سموكن وأتمشى‬
‫في سوق شعبي‪ .‬رجل أربعيني صنع هو اآلخر واحدة له على شكل معطف‬
‫طويل يتجاوز ركبتيه بجيوب واسعة‪ .‬وحين يمشي في الممر مسرع ًا كعادته‬
‫في المشي ويضع يديه في جيوب المعطف العميقة كان يبعث الضحك‬
‫فينا‪ ،‬كأنه عائد من صفقة عقدها للتو في مقهى المصبغة حيث يجلس كبار‬
‫التجار قديما في بغداد‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وبرغم وجود صنعة ماهرين‪ ،‬لم يتمكن أحد من صنع مالبس‬


‫داخلية‪ ،‬ألن النسيج القطني المناسب لصنعها استعصى عليهم‪ ،‬ولم تفد‬
‫كل خبرتهم وال نفعت مهارتهم في إيجاد بديل لها‪ ،‬لذا كانت األغلبية‬
‫الساحقة من السجناء ال يرتدونها اّإل من احتفظ بواحدة منها من أيام خوال‬
‫انقضت وأنّى العودة اليها‪ .‬كان غياب المالبس الداخلية سبب ًا مهم ًا في عدم‬
‫االحساس بالدفء ألن الثياب كانت على الدوم فضفاضة ولم تكن يوم ًا‬
‫على المقاس‪ .‬الهواء البارد يجد فيها ملعب ًا كبير ًا وساحة رحبة يلهو فيها‬
‫ويمرح‪ ،‬يقرص العظام ويوخز العضالت الضامرة ويجعد الجلود المتيبسة‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪11‬‬
‫***‬
‫أين ذهبت قوتي وعضالتي‪ ،‬عبارة كان يرددها سجين شغوف بممارسة‬
‫رياضة األلعاب القتالية‪ ،‬وهو يقوم بحركات رياضية صباح ًا وفي بعض‬
‫األحيان مسا ًء وسط حشد مزدحم من أجساد مستلقية في الممر الضيق‪ .‬كنت‬
‫أسمعه وأراه كما اآلخرون ونسخر جميع ًا مما يقوم به‪ ،‬ألنه واحد من مجموعة‬
‫عبر وذكريات‪.‬‬
‫لم تدرك بعد إن الماضي قد انقضى ولم تبق منه سوى ٌ‬
‫مجموعة تظل تعيش الحاضر بعقلية أحداث مضت وتواصل رفض‬
‫حقيقة راسخة منذ األزل‪ ،‬إن العالم يتغير وال يوجد نهر ُي ْستحم فيه مرتين‪.‬‬
‫بأشياء بالها الزمن وهي تعطيها الخلود‪ ،‬معتقداتهم تشبه‬‫ٍ‬ ‫عقلية تمسكت‬
‫حلم مصري قديم بعودة مومياء َملك محنطة مع كنوزه ليعاود الجلوس‬
‫على عرش تنازعه الورثة واألعداء من بعده ولم يفضل منه شيء‪ُ .‬م ْل ٌك‬
‫أفضل ما فيه إنه قد يصلح ألن يكون قطعة أثرية يتفرج عليها فضوليون في‬
‫ٍ‬
‫متحف لألشياء العريقة‪.‬‬
‫هذا وآخرون مثله كانوا يترنحون من صدمات الواقع الذي يعيشوه‪ ،‬وهو‬
‫يرطم أحالم ًا بعثرها الزمان في أدارج عاصفته الهوجاء التي ابتلعتنا إلى هذا‬
‫النزل المظلم في العالم السفلي‪ .‬وكلما كانت األيام تواصل سيرها‪ ،‬كان‬
‫توازنهم يختل أكثر وأكثر كما هو عنادهم في مواصلة البقاء خارج الواقع‪.‬‬
‫تصلب لم يجد عقلهم معه من حل لهذه المعضلة المزمنة باأللم‪ ،‬اّإل بأن‬ ‫ٌ‬
‫يعلن استراحته وتقاعده عن العمل ويتركهم لفوضى من خياالت تسرح‬

‫‪232‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بهم وأفكار مبعثرة تشظي أفعالهم بال عقد جامع‪.‬‬


‫بعضهم بلغ به الحال أن يؤذي نفسه وآخر يقوم بأفعال غريبة مضحكة‪،‬‬
‫فيما آخرون يتكورون على أنفسهم يحيطوها بهالة كبيرة من كآبة سوداء ال‬
‫يخترقها شيء‪ ،‬ويسير رويد ًا رويد ًا لكن حثيث ًا نحو جنون تام سوف يضم‬
‫ألم أحد ًا منهم‪ ،‬ألن ما جرى لبعضهم كان أفضل‬ ‫إلى حضيرته آخرين‪ .‬لم ْ‬
‫حل يجده ليتخلص من وقع ذكريات متعبة تسحقه بألمها الفظيع‪.‬‬
‫منذ بواكير دخولي السجن عرفت إنه علي أن أتعلم اّأل أتذكر وأن ُأفرغ‬
‫ذهني من الماضي‪ ،‬الشاعر التركي التقدمي واإلنسان الرائع ناظم حكمت‬
‫كان أثير ًا عندي‪ ،‬وكنت متعلق ًا بقصيدة له اسمها (إلى مرشحي السجون)‬
‫ٍ‬
‫ومعان نفيسة مثل الدرر الكامنة في أعماق البحار‬ ‫بما فيها من نصائح غالية‬
‫الواسعة‪ ،‬يوصي فيها المرشحين للسجون مثلي حين تبدأ رحلتنا‪ ،‬أن ال‬
‫نفكر بالنساء وال باألشياء الرقيقة‪ ،‬وأن نفكر بالصخور ومثلها من األشياء‬
‫القاسية حتى ال يصيبنا وهن وال يعترينا ضعف‪ .‬أوصدت كل األبواب على‬
‫ذكرياتي وبنيت بينها وبين العالم الخارجي حاجز ًا ال تقوى على اختراقه‪.‬‬
‫فيما بعد‪ ،‬حتى عندما اتيحت الفرصة لي لالتصال بهذا العالم اآلخر‬
‫كنت مستمر ًا على أن ال أفكر به وأحسب السجن هو الكون الوحيد‬
‫نجم بعيد مأهول يسبح في الفضاءات البعيدة‬
‫المأهول بالبشر‪ ،‬وما خاله ٌ‬
‫ال تطأه اّإل روايات الخيال العلمي‪.‬‬
‫في أول األمر‪ ،‬كانت إذا حامت صور منه حولي في يقظة أو منام‪ ،‬كنت‬
‫أزجرها بعيد ًا عني وأنصحها بعدم التكرار‪ ،‬فلست أنا الشخص المعني بها‬

‫‪233‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كمن كان ينكر عالقته بتهمة‪ ،‬حتى أحالمي اختفت منها هذه الذكريات‬
‫وخمدت شعلة التعلق بالماضي والحنين اليه‪ .‬السجن علمني أن أعيش‬
‫الواقع وأدع الماضي يتالشى ويغرق ألنه اختفى من صفحة الزمان ويجدر‬
‫به أن يغرق في طم النسيان‪ .‬من يعش فيه سوف يورم رأسه ويأتي يوم‬
‫يهشم رأسه بنفسه بطرق الجدران والصخور به ويدع المعاول تهدمه حتى‬
‫يتخلص من هذا الورم‪ ،‬ولن يقدر على الخالص منه اّإل أن يذهبا سوية إلى‬
‫اضمحالل وتالش حيث تسمق منازل الفناء في هوة العدم‪.‬‬
‫الزنزانة علبة صغيرة‪ ،‬وما خلف جدرانها كون شاسع الحد ألبعاده‪،‬‬
‫قلت لنفسي ذلك في يوم اقتادنا رجال األمن فيه إلى باحة واسعة في السجن‬
‫حيث وقفت سيارة فحص األشعة السينية للتأكد من حاالت اإلصابة‬
‫بمرض السل الرئوي المنتشر بين السجناء مثل نزالت البرد الشتوية‪.‬‬
‫كان طقس ًا ربيعي ًا مشمس ًا راح بصري يبحر بسحره في السماء الواسعة‬
‫بمنظر غريب لم تألفه عيناي منذ سنوات‪.‬‬
‫«يا للهول‪ ،‬أحق ًا هذا العالم واسع جد ًا لهذا الحد؟ أو كل هذا الوسع‬
‫وترامي األطراف لم يقنع الناس ليتقاسموه ويعيشوا فيه بسالم؟ أحق ًا ال‬
‫يكفي كل هذا الرحب والسعة ليعيش كل واحد منا في زاوية فيه يفعل ما‬
‫يشاء فعله دون أن يزعج اآلخرين؟"‪.‬‬
‫أي تبلد بهيمي هذا الذي يغزو النفوس لتجعلها ترتكب كل هذه‬
‫الفظائع‪ ،‬وأي شيطان فيها هذا الذي يظهر بعدها بمظهر الرصانة والوقار‬
‫يبرر آثام فعلها بل ويصنفها في خانة وصايا الرب العشرة‪ .‬إنها آفة نفسية‬

‫‪234‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عميقة أو تشوه وراثي وخلل في الخلقة تدفع المرء لصنع كل هذه الجرائم‬
‫الرهيبة ويظهر صاحبها بعدها بال مباالة‪ ،‬بل ويفخر بها ويوهم نفسه وغيره‬
‫بأنه أحسن صنع ًا‪ .‬ال يمكن ان يكون من يفعل كل هذا سوي الخلقة أبد ًا‪ .‬لو‬
‫كان كذلك فأي كوابيس تقض مضجعه اآلن‪ ،‬وتجعله يتقلب في فراشه أرق ًا‬
‫سهد ًا في كل ليلة‪ ،‬لكنه ليس كذلك‪ .‬إنه حين ينهض من سريره مطلع كل‬
‫نهار يعاود جرائمه كأنها قوته اليومي‪ ،‬كفافه الذي يعيش به وينبذ ضحاياه‬
‫في قعر جب عميق مظلم أو تحت ثرى في صحراء ال أحد يعرف موقعها‪،‬‬
‫تسأل وال مجيب ما الدافع وما هو المغزى إلحداث كل هذا األلم بها‪.‬‬
‫هل صناعة األلم ترياق بمقدوره أن يشفي صدر ًا أوغر في كراهية كل ما‬
‫يمت لنوع اإلنسان من صلة‪ ،‬بل لكل ما في الحياة من جمال؟ كال‪ ،‬إنه لن‬
‫يفعل ذلك ولن يقوى كل الغل والبغض لإلنسان أن يطفأ جمال اإلنسان‬
‫الرائع‪ .‬ليس من شيء في هذا الوجود أجمل من اإلنسان‪ ،‬سجد الكون كله‬
‫له وخضعت له حتى المالئكة عنوان الجمال ومن يأبى سيبقى طريد ًا ملعون ًا‬
‫شيطان ًا ترجمه بكل حجر ومدر حشود الحب الساعية إلى كعبة الكمال‪.‬‬
‫الحياة لن تتوقف‪ ،‬فما ُصنْع الخريف بأوراق الشجر وظنونه الخاسرة‬
‫بأنه قد بلغ عتبة النصر حين يحيلها جرداء من الورق‪ ،‬اّإل آمال خائبة وأماني‬
‫عاطلة‪ .‬حين يأتي الربيع سوف تزداد قوة وترتفع أكثر ويواصل علوها‬
‫ارتفاع ًا معانق ًا السحب والسماء تزين أغصانها بأوراق أشد خضرة تدخل‬
‫الفرح والحبور في قلب من يرنو ببصره نحوها‪ ،‬وتُظل العابر والمقيم‬
‫بأفيائها وتمنح الجميع بال تمييز ثمر ًا يانع ًا يجري فيهم الحياة‪ .‬هكذا هي‬
‫دماء الشهداء وآالم المعذبين مثل عذابات سنديانة عصية تحطم كل فؤوس‬

‫‪235‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫األشقياء التي تريد النيل من بقائها السرمدي‪.‬‬


‫يا الله! ما أجمل اإلنسان حين يكون إنسان ًا‪.‬‬
‫عجز الطغاة رغم كل هذه العذابات واآلالم وبما امتلكوا من ماكنة‬
‫القمع الهائلة أن يجعلوا من السجن مقبرة لألحرار‪ ،‬كما كانوا يحلمون‬
‫ويمنون انفسهم‪ .‬لم يقدروا على فعل ذلك‪ ،‬السجن صار مصنع ًا يخرج منه‬
‫ثوار جدد ومدرس ًة ألشياء كثيرة لم يستطع الظفر بها جمع غفير من الناس‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وان ظن بنفسه إنه يعيش حر ًا خارج القضبان‪.‬‬
‫بمجرد أن تم التخلص من الخونة الوشاة‪ ،‬انشغل الجميع بعملية تثقيف‬
‫واسعة‪ ،‬تصدى لها سجناء يملكون الوعي والفهم والتفكير الصحيح وسعة‬
‫األفق‪ ،‬بغض النظر عن الدرجات العلمية التي باألصل ال تتوفر عند أغلب‬
‫السجناء حيث حرموا من إتمام تعليمهم جراء اعتقالهم‪ .‬صارت لهؤالء‬
‫السجناء مكانة اجتماعية لهذه السمات التي يتحلون بها خصوص ًا إن هذه‬
‫المؤهالت كانت تنعكس على سلوكهم الشخصي وحركتهم‪.‬‬
‫لقب المثقف والوجاهة االجتماعية التي ينالها بواسطته كان يعطى في‬
‫السجن ليس لكل من حفظ معلومة‪ ،‬بل لمن يقوم بدوره الرسالي‪ ،‬فليس‬
‫مثقف ًا من لم يك يعرف مشكالت بيئته وال يقدم لها حلوالً‪ ،‬وال يعد منهم‬
‫وإن قرأ الكثير أو كان ذلق اللسان‪ .‬المثقف من يشعر بالمسؤولية تجاه‬
‫مجتمعه وهو على أهبة االستعداد للتضحية في سبيل ذلك‪ .‬المثقفون‬
‫هم صناع الرأي العام يتبنون كشف الحقائق وهم شجعان في كشفها وفي‬
‫الدفاع عنها حين ينكص اآلخرون ألنهم أصحاب رسالة‪ ،‬إنهم كاألنبياء‬

‫‪236‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بين قومهم‪.‬‬
‫كانت تعقد حلقات صغيرة وأحيان ًا بشكل فردي للتثقيف في مواضيع‬
‫شتى‪ .‬وفي أوقات محددة ومناسبات معينة كان يجتمع كل سكان الزنزانة‬
‫لسماع محاضرة عامة أو المشاركة في برنامج احتفالي‪ .‬المناخ الثوري‬
‫كان هو السائد في عملية التثقيف واالحتفاالت وتصدح الحناجر بأناشيد‬
‫تحرض على الصبر والثبات وعلى مواصلة الثورة والتحدي وتبشر بالنصر‪.‬‬
‫بوارق األمل بنهاية حكم الظلم وسلطة القمع لم تتوقف ولم تخلو اإلشارة‬
‫أي برنامج خاص أو احتفال عام‪.‬‬
‫اليها في ّ‬
‫شغل بالمعارضة والسياسة بدأ يتعلم مفرداتها‬‫كثير ممن لم يكن له ٌ‬
‫وينخرط في أجوائها‪ ،‬وبالطبع ال يمكن القول إن الكل كان مهتم ًا بذلك‬
‫فبعض ممن وصل بقطار الصدفة لم تغيره األحداث‪ ،‬وبعض آخر أصابه‬
‫تيار جارف‬‫إرهاق وملل وتعب من المقاومة الصعبة والسباحة ضد ٍ‬
‫واستسلم‪ ،‬فصار سطحي ًا في مطالبه‪ ،‬تالطم به أمواج الحيرة والتوجس‪،‬‬
‫وتنشب مخالب الموت بجذوة الحياة لتنتزعه إلى اتجاه معاكس يحسبها‬
‫تستبقيه على الحياة وهي تغرس الخنجر تلو اآلخر فيه ليغدو كأنه جثة تأكل‬
‫وتمشي في زقاق مدفنها األخير‪.‬‬
‫وبرغم ذلك فإن تلك الفئتين لم تشكال عائق ًا أمام عملية التثقيف‬
‫وأصبح السجن مدرسة حقيقية‪ .‬تبادل المعلومات يجري بشكل متواصل‬
‫وبطريقة عمل األواني المستطرقة‪ٌ ،‬‬
‫فكل يقدم ما عنده من خالصة مطالعاته‬
‫وخبرته إلى اآلخرين‪ .‬وبوجود عدد ال بأس به ممن يحمل ثروة معرفية‬
‫وخبرة سياسية‪ ،‬تحول تبادل المخزون الثقافي إلى صناعة فكرية‪ ،‬إذ صار‬

‫‪237‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫هناك الكثير ممن بات يستثمر وقته في التحليل والتفكير العميق ليخرج‬
‫برؤى فكرية جديدة‪.‬‬
‫إنهمك الشعراء وما أكثرهم في نظم القصائد في مواضيع شتى أغلبها‬
‫يشع ثورية وتحدي ًا‪ ،‬يشجعهم على نظم المزيد منها شباب يحول تلك‬
‫القصائد إلى أناشيد تلهب الحماس وتشد أزر الجمع في مواجهة المحنة‬
‫القاسية وظرفها الرهيب‪.‬‬
‫االعتقال السياسي كانت له حسنة كبيرة على السجن‪ ،‬إذ بين هذا‬
‫الجمع الكبير من السجناء لم يكن بينهم اّإل قليل جد ًا من سيئي األخالق‬
‫وإن لم تكن‬ ‫رديئي الطباع مستعدين الرتكاب أفعال رذيلة‪ ،‬ألن األغلبية ْ‬
‫غير منخرطة بتنظيمات سياسية فإنها أيض ًا لم تعتقل بسبب ارتكاب فعل‬
‫سيء كما هو الحال في باقي السجون‪ ،‬بل جرى اعتقال كثير منهم لشبهات‬
‫تحوم حولهم أو ألنهم مرتبطون بعالقات خاصة مع شباب ثوري‪ .‬وإلى‬
‫جانب هذا هناك عدد كبير من السجناء ممن يلتزم بالفعل وليس بالقول‬
‫ٍ‬
‫أمانة ونبل‪ ،‬والتزا ٍم‬ ‫ٍ‬
‫ووفاء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫صدق‬ ‫فقط بأخالقيات الثوار الرومانسية‪ ،‬من‬
‫شديد بالسلوك القويم‪ ،‬بل مضاف ًا لذلك يحملون صفة غاية في األهمية‬
‫أي جمع يحلون فيه‪ .‬صفة رائعة وخصلة‬ ‫وهي الريادة والقدرة على توجيه ّ‬
‫مدهشة مكنتهم من فرض نهج أخالقي جميل في السجن‪ .‬أحب كل‬
‫السجناء ذلك والتزموا بتلك األخالق في تعامالتهم وتأكدت بذلك مقولة‬
‫آمنت بها مبكر ًا "عندما يصلح القائد تصلح الجموع" التي تتبعه في حركتها‪،‬‬
‫وتختفي كل عيوبها الداخلية الصغيرة‪.‬‬
‫هذه العيوب بغياب قائد صالح مصلح تبدو مشكل ًة اجتماعية عميقة ال‬

‫‪238‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫وأخالق‬ ‫ٍ‬
‫بخصال حميدة‬ ‫سبيل لحلها وال للخالص منها‪ ،‬أما إن ظهر رائدٌ‬
‫رفيعة يقود حركة المجتمع فإنه يجذبهم إلى شاطئ فطرة اإلنسان الجميل‬
‫وحينها يتحدون في األشياء الجميلة وتضيع كل العيوب األخرى والعكس‬
‫صحيح أيض ًا‪ .‬المجتمعات بحاجة إلى من ينظمها في مسار مستقيم بقدرات‬
‫فنية يملكها هذا القائد وأهمها حكمته وإخالصه لشعبه ولمبادئه‪ .‬ولحسن‬
‫الحظ كان السجن يعج بالمخلصين وال يخلو من الحكماء في األقوال‬
‫واألفعال‪ ،‬لذلك ارتقت األمانة والصدق إلى درجة مثالية بين السجناء‪.‬‬
‫بسبب الزحام الشديد وتشابه األشياء المستعملة كان يحصل في كثير‬
‫من المرات أن يتوهم سجين في ملكية حاجة ما‪ ،‬ويعتريه شك بعائديتها‪،‬‬
‫فيتركها زهد ًا وتعافها نفسه مع حاجته الماسة لها‪ .‬تتحول القضية أحيان ًا إلى‬
‫شبه معضلة‪ ،‬إذ تصبح هذ االشياء كدس ًا متراكم ًا في وسط الزنزانة ال أحد‬
‫يعرف مالكه وتأخذ حيز ًا في الزنزانة الضيقة وال يتقدم أحد الستعمالها‪،‬‬
‫وغالب ًا ما كانت تحل المشكلة بطلب إذن جماعي بحق التصرف يمنح‬
‫إلى مراقب الغرفة أو شخص آخر محل اعتماد في األمور اإلدارية ليتولى‬
‫توزيعها بما يقدّ ر ويرى‪.‬‬
‫وفي فترة الحقة عندما أصبح بإمكاننا مواجهة أهالينا‪ ،‬لجأ بعض‬
‫السجناء خصوص ًا من كانت ُأسرهم تعاني ضائق ًة مادية ويشكون من قلة‬
‫اليد‪ ،‬إلى بيع بضائع كانت تصلهم من عوائلهم مثل السجائر وأشياء بسيطة‬
‫أخرى‪ ،‬لتمشية أموره المالية ولرفع الحرج عن عوائلهم وتخفيف العبء‬
‫الذي ينوئون به‪ .‬في أيام المواجهة كان ينشغل عن بضاعته بمالقاة أهله‬
‫لكنه ال يتوقف عن بيعها‪ ،‬إذ يضعها مفروشة على األرض ويذهب لقضاء‬

‫‪239‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وقته مع عائلته فيما يأتي السجناء اآلخرون وبعض من زوارهم يتبضعون‬


‫منها‪ ،‬يأخذون ما يرغبون ويضعون مقابلها عوض مادي بال كاميرات مراقبة‬
‫وال أمن يقفون عند بوابات المحال وال هناك من محاسب وال رقيب اّإل‬
‫أخالق آمن الجميع بجدواها وتواصوا عليها وصارت خيمة يستظل‬
‫الجميع بأمانها وسلمها‪.‬‬
‫األمر بدا غريب ًا جد ًا لمن لم يعش بيننا في سجون االعتقال السياسي‪،‬‬
‫إذ في مرة بينما أحد رجال األمن يتجول في األقسام أثناء المواجهة رأى‬
‫عمليات البيع والشراء تسير بهذه الطريقة ولم يفهم ماذا يحدث بالضبط‪،‬‬
‫ولما ُشرح له الموقف لم يصدق إذنه وال عينيه‪ ،‬خرج مذهوالً يردد كلمات‬
‫استوحيت منها عبارة كتبتها في هذا الكتاب حين قلت "عالمي الذي أحلم‬
‫به حيث تضوع ريح األنبياء وهي تالمس األموات لتحييها"‪ .‬وقف رجل‬
‫األمن يقارن بين هذا العالم الغريب المخفي عن العيون وبين عالم وحشي‬
‫يعيشه‪ .‬عيناه حكت ألم ًا وهو يرى بل كان يردد ويقول‪ ،‬هل هذه هي الجنة‬
‫أم هذا هو الفردوس يتجسد أمامي؟‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪12‬‬
‫***‬
‫تطور األمر إلى أكثر من التثقيف الجماعي أو الفردي إلى درجة‪ ،‬إن‬
‫البعض اندفع إلى محاولة بناء تنظيم سري داخل السجن‪ .‬كانت عملية‬
‫يشوبها حماس زائد وتفتقر إلى الحكمة رغم سالمة النوايا‪ .‬خطوة قام بها‬
‫متحمسون وانضم اليهم شباب حديثو السن ولم يحسبوا جميع ًا أضرارها‬
‫ونتائجها‪ ،‬بخالف خطورتها األمنية الشديدة وعدم جداوها المطلق في‬
‫أي فائدة في زعزعة النظام كما هو هدف العمل التنظيمي إلحالل‬ ‫تحقيق ّ‬
‫بديل عنه‪ ،‬ألنها كانت تتحرك بمزاج أشخاص صنعوا هذا التنظيم الخاص‬
‫بأي تنظيم سياسي حقيقي خارج القضبان‪ ،‬مما يعني بكل‬ ‫وال عالقة لهم ّ‬
‫بساطة إنه مزاج أشخاص ورغبات ذاتية في بناء جسم تنظيمي يتولون هم‬
‫شخصيا قيادته‪ ،‬وهذه آفة التنظيمات السياسية‪.‬‬
‫التنظيم السياسي حركة جماعية لتحقيق أهداف يسعى إلى بلوغها‬
‫الفكر الذي تلتف حوله الجماعة‪ ،‬وليس هناك من تابع ومتبوع في الحركة‬
‫اّإل بمقدار تنظيم الحركة فيه‪ .‬القطب الذي ينبغي أن يدور حوله الكل هو‬
‫الفكر والهدف‪ ،‬ال األشخاص مهما كانوا‪ ،‬وعندما يصبح بعض األشخاص‬
‫في التنظيم بمنزلة الق ّيم على الفكر وتحديد غاياته ويصبحون هم من يحدد‬
‫المسارات برؤيتهم الخاصة‪ ،‬حينها يفقد التنظيم السياسي جدواه ويتحول‬
‫إلى ما يشبه دين وثني يتحكم به كاهن يسكن معبد ًا‪ ،‬وما على أتباعه سوى‬
‫تقديم القرابين والنذور على مذبحه‪ .‬النخبة التي تسيطر على التنظيم‬
‫وتسعى إلى التفرد تجهض التحرك الثوري بدال من قيادته فيما لو تعارضت‬
‫‪241‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫مصالحها مع مصالح الحركة الثورية ولن يستطيع تنظيم تأسس على هذه‬
‫الطريقة والمنهج أن يكون ذا جدوى ونفع أبد ًا‪.‬‬
‫بدأت هذه الخطوة االنفعالية المزاجية تقسم المجتمع المتماسك في‬
‫كبير من السجناء لم يكن‬‫بعدد ٍ‬‫ٍ‬ ‫جميع الزنزانات‪ ،‬إذ إنه في زنزانة محشوة‬
‫من العسير اكتشاف وجود عالقة خاصة بين مجموعة معينة منهم‪ ،‬وهم‬
‫يتكتمون في أحاديثهم على أمر خفي‪ ،‬خصوص ًا إن كثير ًا من السجناء كان‬
‫مدرب ًا على العمل السري ويلتقط بسهولة هذا النوع من العالقات‪.‬‬
‫مرض يتوفر دائما عند قليلي الحكمة المتهورون‬ ‫ٌ‬ ‫الثورية الزائدة‬
‫والمتزمتون‪ ،‬والمندفعون هم مشاريع تطرف سياسي ومرض طفيلي في‬
‫أي فكر تغييري‪ ،‬واألفعال التي تصدر منهم غالبا تتسم بانفعالية كينونتها‬‫ّ‬
‫رد الفعل‪ ،‬سلوكهم يتسم باالنغالق‪ ،‬وكل هذا جعل انكشاف أمرهم أكثر‬
‫سهولة ويسر ًا في مجتمع السجن الخاص‪.‬‬
‫هذا الشرخ االجتماعي متزامن ًا مع الرفض من قبل أغلب السجناء‪،‬‬
‫خصوص ًا ممن كانت له ريادة اجتماعية‪ ،‬جعل هذا المشروع التنظيمي في‬
‫وض ٍع ال يحسد عليه‪ ،‬وأصبح عرضة النتقاد شديد خلف عدد ًا من المتاعب‬
‫والمشاكل ألصحابه‪ ،‬وخلق جو ًا من التوتر العام في اكثر من مكان‪.‬‬
‫عدم االستجابة لرأي األكثرية واإلصرار على أمر خاص ال يختلف كثير ًا‬
‫عن الجهود التثقيفية التي كانت تتم في الجو العام أجهض المشروع نهائي ًا‪،‬‬
‫اّإل إنه لحسن الحظ تم احتواء هذا التحرك في النهاية بشكل تام‪ .‬لكن لم‬
‫يكن ذلك بال خسائر‪ ،‬بل أخذ وقت ًا ليس بالقليل وجهد ًا غير متواضع من‬

‫‪242‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الحوارات المطولة‪ ،‬وبنفس المقدار أحدث انقسامات وشجارات تطور‬


‫بعضها لآلسف إلى اعتداءات لفظية وجسدية‪.‬‬
‫لكن هذه الشجارات كانت ستحصل أيض ًا حتى بدون هذه الخطوة‬
‫السقيمة‪ ،‬إذ إن هناك كثير ًا مما يمكن له أن يسبب شجار ًا وخصومة بين‬
‫السجناء‪ ،‬فأجواء الحرمان القاسية والضغط النفسي كانت تنتظر شرارة‬
‫لتندلع فيها حرائق صغيرة سرعان ما تخمد‪ ،‬ألنها لم تكن سوى محاولة‬
‫للتنفيس عن توتر وغضب يعتمل داخل النفوس‪ .‬وكانت دوافعها في جميع‬
‫المرات أسباب تافهة جد ًا لكن يمكن تفهمها‪.‬‬
‫أي شخص بعد تناوله الفطور كان مضطر ًا لقضاء حاجته أن يجلس‬ ‫مث ً‬
‫ال ّ‬
‫أمام المرحاض في طابور طويل مكون من أربعين شخص ًا أو يزيد‪ .‬لنتخيل‬
‫كيف ستكون أعصابه حين يحاول جاهد ًا أن ال يصدر منه ما يعيبه بعد‬
‫أكثر من ساعة من انتظار ممل‪ ،‬ثم يأتي أحدهم ويحاول بحذلقة ماكرة أن‬
‫يتخلص من طول االنتظار مدعي ًا إن لديه مغص شديد أو حاجة مستعجلة‪.‬‬
‫التفاف ماكر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫سيحدث رد فعل غاضب خصوص ًا إن كان متاكد ًا إن هذا‬
‫وسوف ينفجر غضب ًا ويحدث شجار بينهم بالتأكيد‪.‬‬
‫ألي أحد أن يعيش في هذه الظروف أن تفسد طباعه وينقلب‬ ‫يمكن ّ‬
‫وحش ًا كاسر ًا‪ ،‬وهذا ما يحصل في السجون الجنائية حيث تتحول‬
‫الخصومات الصغيرة إلى معارك دائمية‪ ،‬لكن في هذا السجن كان كل شيء‬
‫ينتهي سريع ًا ويتم التصالح بين السجناء‪ ،‬مما جعل السجن رغم كل ما فيه‬
‫قابال لالحتمال‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫كان السجناء يتحينون الفرص للتصالح والتغاضي أحدهم عن اآلخر‬


‫من هذه الخصومات الهامشية‪ ،‬ويستغلون المناسبات واألعياد للتصالح‪،‬‬
‫ألنهم كانوا يرون في أنفسهم إنهم أصحاب قضية أكبر بكثير من سفاسف‬
‫األمور‪ .‬حتى أنا وبرغم الطبع الهادئ الذي أوصف به من أغلب من يتعرف‬
‫ال في إحدى‬ ‫علي‪ ،‬دخلت في هذه النوع من الخصومات ألكثر من مرة‪ .‬مث ً‬
‫ّ‬
‫المرات‪ ،‬كنت أنام عند جدار به ثقب صغير يمكن من خالله االتصال‬
‫بزنزانة مجاورة‪ ،‬هذا الثقب أصبح محج ًا لكثير من السجناء يتوافدون عليه‬
‫للحديث مع سجناء آخرين في زنزانات أخرى‪ .‬كان أمر ًا مضجر ًا فع ً‬
‫ال وكم‬
‫كان مزعج ًا أن ال أحظى بالراحة حتى في الشبر الواحد المخصص لي‪ .‬نعم‬
‫إنه شبر واحد تضطجع به‪ ،‬حتى إنه في يوم صرخ أحدهم‪:‬‬
‫‪ -‬يا الهي! حتى في القبر يعطون شبر ًا وأربعة أصابع‪.‬‬
‫ثقب‬‫نعم‪ ،‬إنه مضجع أضيق من القبر ومع ذلك ال أحظى به‪ ،‬ألنه قرب ٍ‬
‫مرة صار وقت النوم‬ ‫بحق كان أمر ال يحتمل‪ ،‬وفي ٍ‬
‫صار برج ًا لالتصاالت‪ٍ .‬‬
‫ٌ‬
‫وظل أحدهم يواصل ثرثرته‪ ،‬رجوته أن يترك المكان ويدعني أرتاح لكن‬ ‫ّ‬
‫في كل مرة كنت أرجوه المغادرة يطلب بضع دقائق إضافية‪ .‬كنت متعب ًا‬
‫ضجر ًا ونفسي متكدرة مما فاقم تعبي‪ .‬وبعد أن صار يقين ًا عندي إنه ال‬
‫يعيرني إهتمام ًا نفد صبري الذي بصراحة لم يكن كبير ًا ساعتئذ‪ .‬صرخت‬
‫به وتبادلنا الشجار بكلمات غضب واستغرق األمر عدة أيام فقط من إشاحة‬
‫الوجه فيما بيننا لنستعيد العالقة الودية من جديد وكأن شيئ ًا لم يكن‪.‬‬
‫االتصال من خالل ثقب الحائط كانت أبسط الطرق وأكثرها بدائية في‬
‫منظومة االتصاالت التي تعامل بها السجناء‪ ،‬ولربما اخترعوا بعض ًا منها‪،‬‬

‫‪244‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ألنها لم تكن سوى كالم ًا مسموع ًا ينتقل من ف ٍم إلى ُاذن‪ .‬كل ما في األمر‬
‫أن تضع فمك مرة على الثقب وتارة أخرى أذنك عليه لتسمع رد صاحبك‪.‬‬
‫الثقب لم يكن طبيعي ًا في أغلب األحيان‪ ،‬بل كانت تصنعه يد سجين تجد‬
‫مكان ًا رخو ًا في حائط فاصل بين زنزانتين‪ ،‬وحينها يبدأ حفر دقيق لإلسمنت‬
‫عند نقطة التقاء اكثر من بلوكة‪ ،‬ألحداث ممر صغير يمكن أن يمر منه خيط‬
‫ضوء رفيع جد ًا‪ .‬هذا المقدار الضئيل يكفي لمرور الصوت وتبادل األخبار‬
‫والنميمة أحيان ًا‪ ،‬اّإل أنه لم يكن الطريقة الوحيدة للتواصل‪.‬‬
‫كان هناك أشخاص يبرعون في التعامل بلغة المورس المعروفة عند‬
‫العسكريين‪ ،‬يتبادلون الحديث واألخبار بواسطة هذه اللغة وبسرعة فائقة‪،‬‬
‫ومع إني كنت أحفظ شفرتها جيد ًا‪ ،‬اّإل إني لم أكن سريع ًا بما فيه الكفاية في‬
‫استعمالها‪ .‬كنت ُأفضل طريقة أخرى في التواصل‪ ،‬وهي الكتابة في الهواء‬
‫وهي طريقة شائعة بين السجناء ومن إبداعاتهم الخاصة ألني لم َأر لها مثي ً‬
‫ال‬
‫أي مكان آخر‪ .‬تعتمد أصول هذه الطريقة على رسم الكلمة في الفضاء‬ ‫في ّ‬
‫بطريقة تقطيع الحروف‪ ،‬وعلى الشخص المقابل جمع هذه الحروف التي‬
‫تشكل أجزاء الكلمة وإدراك معناها وداللتها‪ .‬كنت أجيدها وأستخدمها‬
‫كثير ًا للتواصل مع سجناء في زنزانات أخرى‪ .‬لم تكن وسائل التواصل‬
‫هذه مخصصة لتبادل التحايا والسالم أو الثرثرة وحسب‪ ،‬بل كانت أيض ًا‬
‫قنا ًة للتزود الفكري والتعلم والتدريس‪ ،‬وإن كانت تسرق وقت ًا مديد ًا وجهد ًا‬
‫ضخم ًا‪ ،‬لكن لم يكن هذا عائق ًا مهم ًا‪ ،‬ألنه ال شيء عندنا أكثر من الزمن‬
‫الذي لم يكن ينقضي أبد ًا‪.‬‬
‫وألجل التواصل الثقافي والفكري كان السجناء يلجؤون إلى طريقة‬

‫‪245‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أخرى في تبادل الدروس عبر الزنزانات‪ ،‬فقد كانوا يتبادلون المخطوطات‬


‫فيما بينهم ولما كان القرطاس والدواة من المحظورات‪ ،‬كان من الالزم‬
‫إيجاد بديل عنهما‪ .‬في السنوات األربعة األخيرة من سني سجني بدأ‬
‫الوضع الغذائي بالتحسن قليالً‪ ،‬وصار يصل الينا بين حين وآخر كأس‬
‫صغير من اللبن‪ ،‬يتقاسمه أربعة أو خمسة أشخاص‪ ،‬لكن غطاءه العلوي‬
‫وهو من ورق السيلفون كان حصر ًا من نصيب المهتمين باألمور الثقافية‬
‫إن كانت فكر ًا أو أدب ًا‪ .‬وباالستعانة بعظام دقيقة من الدجاج الذي يستعمل‬
‫كدواة تحول السلوفان إلى قرطاس يجري الخط عليه بطريقة الحفر الدقيق‬
‫أي موضوع سياسي كان أو ديني ًا أو ثقافي ًا‬ ‫الناعم‪ ،‬كل ما يراد تسطيره في ّ‬
‫بشكل عام من شعر وأدب وغيره صار يدون على هذا القرطاس‪ .‬ولم يكن‬
‫هذا النوع الوحيد من القرطاس‪ ،‬ففي كل شهر تقريبا كانت تصل إلينا في‬
‫زنزانة الحجر الصحي علب حليب توزع على المرضى‪ ،‬وبالعادة تمنح‬
‫اوالً للحاالت المتدهورة جد ًا على األغلب‪ .‬كان الحليب يجلب الينا‬
‫معلب ًا في كارتون مغلف من الداخل بسلوفان سميك‪ ،‬وألن كل علبة كانت‬
‫تحوي لتر ًا من الحليب السائل فكانت القطعة كبيرة جد ًا تكفي لتدوين‬
‫مقالة طويلة‪ ،‬وباستخدام عظام الدجاج كانت الكتابة عليه أسهل وأسرع‬
‫وال يعاني من تشققات كما هو حال سلوفان اللبن‪.‬‬
‫استخدمت هذا الورق كثير ًا في اإلعداد لمحاضرات كنت ألقيها في‬
‫مناسبات عديدة‪ ،‬أو لتدوين أفكار كنت أظفر بها‪ ،‬خصوص ًا عندما يهجع‬
‫الكل إلى النوم‪ .‬كنت أحرص على استغالل فرصة الهدوء وأسرح بعيد ًا‬
‫في تأمالت عميقة أوصلني بعضها إلى اكتشافات فكرية جوهرية أسست‬

‫‪246‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫عندي لمبان فكرية جديدة طورت من فهمي ألشياء كثيرة‪ ،‬وربما أيض ًا‬
‫لنقص في خبرتي ولبعض‬ ‫ٍ‬ ‫سببت لي مشاكل ليست قليلة في حينها‪،‬‬
‫الحماس غير المبرر مني للجهر بآراء صريحة مقابل بعض محدودي الفهم‬
‫والمتعصبين‪ ،‬وأشخاص منزعجين جد ًا من تسيد المشهد الثقافي من قبل‬
‫مجموعة معينة كنت أحد أفرادها‪.‬‬
‫بعض ٌ‬
‫قليل من‬ ‫هذا الوضع المميز جعلنا في مركز اجتماعي حسن‪ٌ ،‬‬
‫السجناء كان ال يروق له ذلك واشتعلت الغيرة في صدره واضطرم الحسد‬
‫في نفسه المضطربة أصالً‪ ،‬فبدأ يختلق األعذار وينتحل الحجج للتوهين‬
‫من آخرين‪ .‬الغريب إنه حتى في هذه األوضاع المزرية حيث الحرمان من‬
‫كل شيء‪ ،‬كان التنافس على المواقع والحسد متوفر ًا بصورة ملحوظة مع‬
‫إنه ال يوجد شيء يستحق االهتمام فض ً‬
‫ال عن القتال عليه‪.‬‬
‫في إحدى المرات كنت أجلس متكئ ًا على حائط بينما تجتمع في‬
‫أحدى زوايا الزنزانة مجموعة من األشخاص لحل خالف نشب بينهم‪،‬‬
‫ولسبب ما أجهله اآلن‪ ،‬حجب بصري شيئ ما عن رؤيتهم‪ ،‬لم أقدر على‬
‫مالحظة المشهد اّإل من خالل النصف السفلي ألجسادهم‪ ،‬سقط نظري‬
‫على أقدامهم وهم وقوف ًا يهمون بالجلوس ورأيت أرجلهم حافية مجردة‬
‫في‪ .‬إنهم ال يملكون حتى نعاالً‬
‫أي نعل‪ ،‬مشهدٌ غريب أحدث أثر ًا عميقا ّ‬ ‫من ّ‬
‫ِ‬
‫ولو خلعوا أسمالهم البالية لكُش َف ْت عوراتهم في الحال‪ ،‬ألنهم ال يملكون‬
‫ال يستحق كل هذا التنافس‬‫سرواال داخليا ليرتدوه‪ .‬هل هناك من شيء فع ً‬
‫والخصومات؟ وهل يوجد شيء ليس هنا في هذا المكان المقفر من كل ما‬
‫يمت للدنيا وحسب‪ ،‬بل في كل هذه الدنيا يستوجب التنازع ألجله إلى حد‬

‫‪247‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫تصل األمور فيه إلى سفك الدماء وقتل األبرياء؟‪.‬‬


‫ما أغرب نفس المرء حين توهمه بمغريات زائفة وهي في حقيقتها‬
‫أوهام وعدم‪ ،‬أو كادت أن تكون كذلك في أكثر المرات‪ .‬النوازع البشرية‬
‫ال تتغير بتغير الظروف سواء كانت خشنة أو ناعمة‪ ،‬قاسية أو رقيقة‪ .‬غرائز‬
‫تبقى كما هي في كل األحوال وكل ما تفعله تبدالت الظروف في منعطفاتها‬
‫حين تدهم المرء على حين غرة‪ ،‬إنها تعطي دروس ًا مجانية لمن يريد أن‬
‫يهتدي بنورها‪.‬‬
‫في هذه المنعطفات الحادة تتعرى األشياء من تراكمات الزيف وتتبدى‬
‫أي زخرف وزينة‪ ،‬وتسقط الهالة الساحرة الغامضة‬ ‫ماهية الحياة مجردة من ّ‬
‫التي طالما خدعت األبصار وشوشت األفكار وهي تتلوى مائجة‪َ .‬م ْن أخذ‬
‫الدرس يركلها هي وكل األوهام التي تذهب بلب كل ٍ‬
‫تواق نهم يشتهي متع ًا‬
‫زائلة بال تدبر وال حسبان لعواقب وبيلة‪ ،‬ويقي نفسه عواقب ًا تنزل به الضرر‬
‫عاج ً‬
‫ال أو آجالً‪.‬‬
‫بسرية بالغة حتى بعد التخلص من‬ ‫ٍ‬ ‫كان تبادل المخطوطات يجري‬
‫ٌ‬
‫تحفظ كبير في تداولها ألن السجن معرض لحملة تفتيشية‬ ‫الخونة‪ ،‬وهناك‬
‫ٍ‬
‫بحذر‬ ‫أي لحظة‪ .‬كان الخدمات الصالحون يقومون بهذه المهمة‪ْ ،‬‬
‫وإن‬ ‫في ّ‬
‫شديد وفي مرات أخرى كثيرة كانت ُتنْ َقل داخل حاجيات أخرى وقد دست‬
‫في مكان سري‪ ،‬اّإل إن نقلها من قسم إلى آخر كانت مهمة عسيرة جد ًا‬
‫وتتطلب مهار ًة فائقة‪.‬‬
‫ُيصنع حبل وفي آخره ما يشبه صنارة صيد ويرمى بأقصى ما يمكن من‬

‫‪248‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫فتحة البلوك الوحيدة المسماة شباك ًا تسامح ًا‪ .‬ما يراد نقله يكون بالعادة بعض‬
‫من الحاجات المهمة التي تجمع لمدة طويلة من الزمن‪ ،‬وتنقل إلى قسم آخر‬
‫لحاجة ماسة إليه وطبع ًا ال تخلو البضاعة من أوراق ومواد ثقافية في أغلب‬
‫المرات‪ .‬كانت العملية تستغرق ساعات أحيان ًا ألنها تتم تحت جنح الظالم‪،‬‬
‫كان الطرف اآلخر يرمي بصنارته أيض ًا لمرات ومرات عسى أن تلتقط الحبل‬
‫الذي رماه صاحبه في الجهة المقابلة‪ ،‬وعندما تعلق الصنارتان‪ ،‬يبدأ سحب‬
‫بحذر بعد أن يربط به كيس البضاعة المهربة‪ ،‬ألن عرض الساحة بين‬ ‫ٍ‬ ‫الحبل‬
‫القسمين كان يزيد على العشرين متر ًا‪ ،‬واألنكى من هذا إنها كانت مكب ًا كبير ًا‬
‫للنفايات وكل شيء فيها يشكل عقبة أمام انسيابية النقل سحب ًا‪.‬‬
‫في مرات كثيرة كانت الصنارة تفلت ألن البضاعة تعلق في كومة نفاية‬
‫كبيرة يصعب تجاوزها‪ ،‬ويضطر الطرفان إلى سحب حبليهما ومعاودة‬
‫رميهما من جديد حتى تعلق مرة أخرى ويبدأ سحب آخر‪ .‬يظل الطرفان في‬
‫توتر وترقب طوال الوقت خشية أن يدهمهم حرس أو رجل أمن يسير في‬ ‫ٍ‬
‫دورية ليلية‪ ،‬وكانوا بالفعل يمرون كثير ًا لتفقد السجن من الخارج مما كان‬
‫يوقف عملية التهريب في فترات استراحات إجبارية‪ .‬اّإل إنهما يستمران في‬
‫محاولة تهريب البضاعة ويظالن واقفين طوال الليل حتى تتم العملية قبل‬
‫طلوع الفجر مكللة بالنجاح في كل المرات‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪13‬‬
‫***‬
‫رغم تخلصنا من الخونة‪ ،‬وفتح قسم جديد قلل نسبي ًا الزحام وصار‬
‫عددنا في كل زنزانة بحدود خمسة وثالثين شخص‪ ،‬اّإل إن الظروف‬
‫الصحية استمرت في حالها السيئ وتواصل انحدارها‪ .‬معاملة رجال األمن‬
‫لم تتوقف عن إذالل واحتقار السجناء وإنزال عقوبات قاسية بهم ألسباب‬
‫بالغة في التفاهة‪ .‬وكلما كانت أيام السجن يتزايد عددها كلما كانت األمور‬
‫تسوء اكثر‪ ،‬ويحتد الغضب والحنق اكثر عند السجناء ويتضاعف وجدهم‬
‫وتستفحل الضغينة ويتفاقم كربهم‪.‬‬
‫بين فترة وأخرى ليست متباعدة‪ ،‬يموت سجين بسبب هذه الظروف‬
‫المريعة وكثير منهم يصاب بنوبات من إغماء أو يضحون بهيئة وحال ُيشعر‬
‫معها بقلق حقيقي إنهم في سبيل التالشي وهجر الدنيا كلية‪ ،‬وبالفعل فارقنا‬
‫أكثر من واحد منهم وحصل ذلك أمام ناظري مباشرة وأنا أشهد ترجلهم‬
‫من الدنيا وعروجهم إلى سماء طالما انتظرنا عدلها‪.‬‬
‫شابان شهدت فقد حياتيهما جراء المرض الشديد على مقربة جد ًا مني‬
‫وسمعت كيف تخمد األنفاس في مشهد مرعب‪ .‬يجاهد صبي في صراع‬
‫مع مجهول لسحب أنفاسه وذاك الغريب من عالم الميتافيزيقيا يطبق عليها‪.‬‬
‫يرفع ساقيه محاوالً أن يرفسه بهما وهو يشدد عليه الخناق حتى ازرقت‬
‫قدماه وهوتا واحالمه بالبقاء لتخمد ضراوة المعركة مع انقطاع آخر أنفاسه‬
‫األخيرة وتسدل ستارة من حزن ووجوم على زنزانة تحوي جسد ًا غض ًا‬

‫‪250‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يسحبه رجال األمن في بطانية سوداء بعد ذلك إلى غرفة مجاورة‪.‬‬
‫كنا نتلصص من خالل ثقب الباب على جسده المطروح منبوذ ًا مهجور ًا‬
‫بال احترام‪ ،‬فيما يحاول قط سمين االقتراب منه يدور حوله ثم يتراجع ويقعد‬
‫بعيد ًا عنه في زاوية‪ ،‬كأنه يقول ال تخف يا عزيزي أنا لست وحش ًا كأبناء‬
‫ال في قلبي إلخوتك الصغار وهم يالحقونني في‬ ‫جنسك‪ ،‬وال أحمل غ ً‬
‫األزقة الضيقة‪ ،‬ولو كنت تركض معهم حافي ًا تقذفني بالحجارة من السطوح‬
‫فلن أرد عليك اإلساءة‪ ،‬أنا ال أملك كل هذا الحقد لفعل شيء كهذا كما فعله‬
‫بك من كنت تحسبهم بشر ًا وتحسبني حين كنت تراني وحش ًا‪.‬‬
‫الغضب يتزايد ككرة ثلج تواصل االنحدار وغدا معه أغلب السجناء‬
‫كثير منهم كان جسور ًا شجاع ًا ومستعد ًا للمواجهة بال‬
‫غير مبالين بالحياة‪ٌ ،‬‬
‫ال من سوء المعاملة فكيف به معها‪.‬‬ ‫أدنى تردد وبال حاجة ألن يغضب أص ً‬
‫يحاول السجناء في كل مناسبة أن يتكتموا على آالمهم أمام رجال األمن‬
‫ويبدون جلد ًا ومقاومة‪ .‬وما زلت أحتفظ في ذاكرتي بصورة شاب تلقى‬
‫صنوف العذاب مع آخرين‪ ،‬وحين انتهى التعذيب طلب منهم رجل أمن‬
‫أن يهرولوا مسرعين إلى زنزانتهم‪ .‬قام ورجع يمشي بكل هدوء ووقار‪،‬‬
‫فعاجله رجل األمن بضربات على ظهره الستعجاله‪ ،‬لم يأبه لها وظل‬
‫يمشي وكأن سياطهم ذباب يطنطن عند اذنيه ال يستحق منه االهتمام سوى‬
‫أن يهشه بيديه‪ .‬وصل الزنزانة دون أن يغير من نسق خطواته ولم يرتبك في‬
‫أي واحدة منها ولم يستعجلها وال حتى بنصف خطوة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كنا نمارس لعبة السعادة في رفع المعنويات‪ ،‬نشد أزر بعضنا بالتكاتف‬
‫والتواصي‪ ،‬ونقول حالنا أفضل من حال غيرنا حتى إننا في الزنزانة التي‬

‫‪251‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نقلت اليها بعد انتهاء فترة الحجر الصحي اخترعنا يوم ًا كنا نسميه يوم‬
‫الصبر‪ .‬موعده السنوي في اليوم التالي ليوم وطني (عيد الجيش العراقي)‬
‫تتردد قبله إشاعات كثيرة عن صدور عفو حكومي على السجناء ابتهاجا‬
‫بذاك اليوم‪ ،‬وتتكرر فيه كل سنة األخبار الكاذبة نفسها وكنّا نعلم إنها‬
‫إشاعات ليس اّإل‪ ،‬ومع ذلك كان البعض يشتد به الشوق والحنين لزوجة‬
‫تركها أو أطفال خلفهم كاليتامى أو آخر يتوق للعودة إلى عالم بال أسوار‬
‫وال قضبان ويصيبه وهن وتراخ ويحل به ضعف يزحزح قدميه ويرجرج‬
‫موقفه‪ .‬ضعف طبيعي‪ ،‬فما كنّا سوى بشر يعترينا ما يعتري غيرنا من لحظات‬
‫انتكاسة وقوة اّإل أنّا كنّا نبغي مطاولة البغي وهزيمة السيف بالصبر‪ .‬صار‬
‫رأينا ان نقيم احتفاالً عام ًا جماعي ًا في هذه المناسبة كل سنة في الموعد ذاته‬
‫نترنم فيه بأناشيد حماسية ونلقي قصائد وكلمات تشيع بيننا روح المقاومة‬
‫واالستخفاف بممارسات األمن وحربه النفسية‪ ،‬ونتجاوز لحظة االنكسار‬
‫والضعف بالوثوب خطوة إلى األمام في استجماع ولملمة كل قوانا‪.‬‬
‫من األشياء الغريبة في السجن هو كثرة الشائعات واألخبار عن عفو‬
‫رئاسي إلطالق سراح وشيك‪ .‬وكانت اإلشاعات تُروج بفكاهة ألنها تبنى‬
‫أي شيء آخر‪ .‬في‬ ‫على معطيات وهمية هي للتهريج والمزح أقرب من ّ‬
‫إحدى األمسيات وقف أحدهم وسط الزنزانة وطلب منّا الهدوء وبسمة‬
‫عريضة على وجهه والبشرى ترتسم على محياه‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬عندي خبر مهم!‪.‬‬
‫أنصت له الجميع بخشوع واهتمام كما لو انه كان يتلو قداس ًا‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪ -‬صدر عفو سري جد ًا من مجلس قيادة الثورة على جميع السجناء‬


‫السياسيين‪ ،‬وقريب ًا سوف تبدأ إجراءات إطالق سراحنا‪ ،‬أرجو التكتم على‬
‫الخبر ألنه وصل عن طريق ثقة وأخشى من األمن لو سمعوا بانتشار الخبر‬
‫يتعرفون على المصدر‪.‬‬
‫بادره على الفور شاب صغير لم يكن حينها قد أكمل خمس عشرة سنة‬
‫من عمره بنبرة سخرية واستهزاء‪.‬‬
‫واضح جد ًا إن هذا العفو سري للغاية‪ ،‬والدليل أنت معنا في هذه‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬‬
‫الزنزانة المظلمة ووصلك الخبر‪.‬‬
‫انفجر الحضور ضحك ًا‪ ،‬وتذكرت قصة (مالبس اإلمبراطور الجديدة)‬
‫والطفل الذي كشف عري اإلمبراطور وزيف المنافقين‪ .‬مثل هذه األخبار‬
‫كانت تشابه وتماثل األحالم والرؤى التي كان يتحدث بها بعضهم‪ .‬كان‬
‫أحدهم مستودع ًا ال ينضب خزينه من أحالم ورؤى ال تنقطع عنه لصالحين‬
‫وأولياء وائمة وأنبياء ليس لهم من هم وال شغل وال عمل اّإل المرور عليه‬
‫لينقلوا له نبوءات تبشر بالفرج القريب‪ ،‬لم تتحقق وال واحدة منها بالطبع‬
‫لكنه لم ينقطع عن رؤيتهم وال عن نقلها‪ .‬آخرون كانوا يتحدثون عن نبوءات‬
‫األقدمين ويوافقوها مع واقعنا مبشرين بسقوط النظام وخروجنا منتصرين‬
‫واكثرها مبعث ًا للسخرية واالزدراء لسخافتها كانت تقول أنه ورد في األخبار‬
‫الصحيحة عن السلف الصالح إن نهاية فالن (بتأويله صدام) تكون عندما‬
‫يبلغ العراق نهائيات كأس العالم‪ ،‬وكانت النتيجة أن خرج العراق من هذه‬
‫الكأس بثالث هزائم متوالية وهزيمة رابعة حلت بصاحب النبوءة عندما لم‬
‫نخرج من السجن نحن أيض ًا‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٍ‬
‫عجز ويأس وجهل في جماعة ال تعايش واقعها‪ ،‬ال تريد‬ ‫خلطة من‬
‫االعتراف به وال تحاول تغييره بنفسها لتلجأ إلى الخرافة واألساطير وتنعم‬
‫برفاهيتها الزائفة وتخدع نفسها بسعادة وهمية‪.‬‬
‫تمر على جميع األمم وأغلب المجتمعات ظروف طاحنة في ضراوتها‬
‫قاسية في وقائعها مريرة في أحداثها‪ ،‬الجهلة والعاجزون فيها يركضون‬
‫وراء األحالم والخرافات واألساطير ليناموا تحت أفيائها‪ ،‬ليتفاقم قبح‬
‫الواقع عليهم ويغرس مزيد ًا من حرابه في خواصرهم ونباله في صدورهم‬
‫ويجثو بثقل بشاعته ويكلفهم سخفهم ثمن ًا باهظ ًا وهم ال يفتأون يرددون‬
‫وقائع أحالم لن تتحقق أبد ًا ولن يقف على بابهم (غودو)‪ ،‬ولو ناموا الدهر‬
‫كله في انتظاره‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪14‬‬
‫***‬
‫الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بحتميتها كل البشر‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من هذا اّإل إن وقوعه يتحول دائم ًا إلى حدث مزلزل ثقيل الوطأة‬
‫على كل النفوس‪ ،‬وهذا ما جرى في ذاك اليوم المشهود‪.‬‬
‫شاب بغدادي في ريعان شبابه يحتضر من مرض عضال أصابه في‬
‫السجن جراء نقص التغذية وانعدام الرعاية الصحية بالمطلق‪ .‬جهد أفراد‬
‫زنزانته ومعهم شباب الخدمات على الطلب من الضابط المسؤول عن‬
‫األقسام المغلقة بتقديم بعض المساعدة له في محنته‪ ،‬واستنفدوا كل‬
‫الحجج والسبل في سبيل إقناعه بأن هذا الشاب في وضع صحي مزري‬
‫للغاية وينبغي تقديم العالج له وإسعافه‪ ،‬اّإل إن رجال األمن بالغوا في‬
‫أي عون‬‫تجاهل الطلبات إذالال وإهانة للسجناء‪ .‬أصروا على عدم تقديم ّ‬
‫له حتى لو كان يسير ًا لجبر الخواطر وليس إلسعافه فقد وصلت حالته إلى‬
‫نقطة حرجة جد ًا وأشك إن أحد ًا كان بوسعه إنقاذه‪ ،‬لم يقبلوا حتى أن يعاين‬
‫طبيب السجن حاله‪ ،‬وال أن ينقل لمستوصف السجن ليموت هناك‪ .‬كان‬
‫أي تكلفة‪ ،‬ألنه في األول واآلخر‬ ‫ال وبإمكانهم أن يفعلوه بال ّ‬‫هذا خيار ًا سه ً‬
‫سيرقد هناك قبل دفنه‪.‬‬
‫أي‬
‫مستوصف السجن هذا عبارة عن غرفة واحدة بسريرين ويخلو من ّ‬
‫تجهيزات طبية اّإل البدائي جد ًا منها‪ ،‬وهي ليست اكثر من حقيبة إسعافات‬
‫مغذ وبعض العقاقير الشائعة من اسبرين وبارسيتمول‬‫أولية وبضع قناني ٍ‬

‫‪255‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫أي‬ ‫ومضادات حيوية‪ ،‬ولم يكن صالح ًا إلجراء ّ‬


‫أي فحص متقدم أو إجراء ّ‬
‫أي مساعدة طبية‪ .‬نقلت إليه عند اصابتي بمغص‬
‫عملية جراحية وتقديم ّ‬
‫كلوي حاد وفي ظرف كانت أوضاع السجن فيه جيدة وقد تحسنت‬
‫المعاملة كثير ًا‪ ،‬ومع ذلك لم يستطيعوا تقديم ّ‬
‫أي مساعدة حقيقية لي سوى‬
‫مسكنات ألم ليس غير‪.‬‬
‫بالعودة لقصة الشاب المحتضر‪ ،‬بعد تفاقم وضعه بدأت المخاوف‬
‫الحقيقية من هبوط طائر الموت علينا من جديد تأخذ بعد ًا حقيقي ًا‪ ،‬حينئذ‬
‫اتصل أحد أفراد الخدمات باألمن من خالل جهاز اتصال داخلي قائال له‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يحتضر ويكاد يموت‪.‬‬
‫رد عليه أحد رجال األمن عليهم بوقاحة وصالفة واستهتار‪:‬‬
‫‪ -‬إذا مات لفه في بطانية وارمه خارج الزنزانة‪.‬‬
‫كلمات رجل األمن المتهتكة سمعها عدد كبير جد ًا من السجناء‬
‫مباشرة‪ ،‬ألنه كان يتكلم عبر سماعة جهاز محاكاة داخلي‪ .‬كانت مؤلمة‬
‫ولها وقع قاس في نفس كل من سمعها‪ ،‬لما فيها من استهانة بالغة وازدراء‬
‫شعر بها السجناء‪ ،‬صداها تردد في كل الزنزانات بعد أن تناقلتها األلسن‪.‬‬
‫نهاية هذا الشاب صارت عند كل واحد منهم نموذجا مثاليا لنهايتهم‪ ،‬وإنهم‬
‫سيموتون جميع ًا بهذه الطريقة ويرمون مثل جيفة على قارعة الطريق ال يعبأ‬
‫أحد لهم ولن يحظوا حتى بمدفن الئق يستريحوا فيه بسالم بعد رحلة‬
‫الحياة المضنية بعذاباتها وآالمها‪ .‬وقبل أن يمر وقت لتجرع هذه اإلهانة‬
‫وإذا بالخبر الصاعق ينزل ويدخل القسم في صمت رهيب وحزن عميق‬

‫‪256‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وغضب عظيم يغلي في الصدور‪.‬‬


‫لقد مات!‪.‬‬
‫الموت بوقعه المزلزل حادث مج ال تستسيغه النفوس فكيف به وقد‬
‫تزامن مع هذه اإلهانة واالستخفاف‪ .‬أصاب الذهول عقول السجناء‬
‫والغضب بلغ أوجه وبدأ يفور في الصدور ينشد منفذ ًا يخرج منه ويزيد‬
‫من غليانه الجسد المسجى أمامهم بال حراك‪ ،‬كل شيء كان ينذر بانفجار‬
‫عظيم‪ .‬وعند الغلس دخل رجال من األمن إلخراجه ملفوف ًا ببطانية كما‬
‫وعدوا من قبل‪ ،‬السجناء كانوا كلهم مستيقظين مترقبين‪ ،‬وهمهمة احتجاج‬
‫خافتة تسري مثل ريح ناعمة تسبق اعصار‪.‬‬
‫ما أن فتح باب الزنزانة يريدون سحب جثمانه وإذا بصرخة احتجاج‬
‫هادرة تنطلق من زنزانة ما مثل بركان يقذف أول حممه‪ ،‬وإذا بالسجن كله‬
‫ينفجر معها بهتافات احتجاج مدوية مثل سيل جارف ال يتوقف وال يخبو‬
‫بل يزداد مضي ًا في جريانه وتدفقا كلما سار إلى األمام‪ُ .‬ذ ِه َل رجال األمن‬
‫من هول الموقف وأسرعوا راكضين مع الجثمان مغلقين باب الزنزانة على‬
‫عجل ومثله كذلك باب القسم الخارجي وهم يرتجفون من شدة الفزع‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تظاهرة احتجاجية في جمهورية الخوف والقمع الرهيب‪ ،‬من يصدق هذا؟‪.‬‬
‫وقع عجيب لهذا االحتجاج‪ ،‬إذ إنها وقعت في آخر الليل مع‬
‫حدث ٌ‬
‫اشراقة الفجر األولى حيث يخيم الهدوء‪ ،‬صرخات مئات السجناء بأعلى‬
‫أصواتهم مزقت ليل السجن والخوف وطلعت مع الفجر في روح كل‬
‫نزالء سجن (أبو غريب)‪ .‬تظاهرة تحد‪ ،‬كشفت عن ٍ‬
‫ثائر أشوس قابع وراء‬

‫‪257‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ٌ‬
‫حدث قال بصريح‬ ‫القضبان ومقدام جسور ال تحجزه القيود وال السالسل‪.‬‬
‫العبارة‪ ،‬هنا يسكن الذين لم ترهبهم سنوات اإلخفاء القسري‪ ،‬والذين لم‬
‫تنل المعاملة الوحشية من عزيمتهم الجبارة بل يواصلون تحدي أعتى‬
‫نظام‪ .‬صيحة وصلت إلى كل أرجاء السجن وحار األمن كيف يتعاملون مع‬
‫الموقف‪ ،‬ألن إدارة السجن صارت تخشى انتقال عدوى االحتجاج إلى‬
‫أقسام أخرى‪ .‬وحينها يصبح السجن في طريق الخروج عن سيطرة األجهزة‬
‫األمنية بالكامل‪.‬‬
‫في أول النهار حاول رجال األمن تجاوز الموقف رغم خطورته‬
‫بتجاهل الحدث وإدخال الفطور الصباحي‪ ،‬اّإل إنهم جوبهوا برفض شديد‬
‫من السجناء وبمواصلة االحتجاج‪ ،‬صار الموقف أكثر تعقيد ًا مع بدء‬
‫ال خارجي ًا‬
‫اإلضراب عن الطعام واستمراره طيلة النهار‪ ،‬مما استدعى تدخ ً‬
‫من إدارة أمنية عليا بعد عجز إدارة السجن عن احتواء الموقف‪ ،‬وانتهى‬
‫اإلضراب إلى وعود نفذت على الفور بتحسين جزئي لألوضاع وإجراء‬
‫أول مواجهة لعدد محدود من السجناء مع أهاليهم‪ .‬تبعه تخفيف الضغط‬
‫ال بفتح أبواب الزنزانات في ساعات محددة من النهار ليحظى السجناء‬ ‫قلي ً‬
‫وألول مرة بحرية الحركة بين الزنزانات ولو كانت لثالث ساعات فقط في‬
‫اليوم‪ ،‬اّإل إنها كانت انفراجه كبيرة‪.‬‬
‫بهذه اإلجراءات الجزئية اليسيرة حاول األمن احتواء الموقف المتفجر‪،‬‬
‫ومن ثم يعاودون إجراءات القمع والتعذيب بعد امتصاص الغضب وتهدئة‬
‫الثورة مستعينين بواحد من الخونة الذين فقدوا قوتهم فيما سبق للحصول‬
‫على أسماء المحرضين على االحتجاج‪ .‬وبالفعل قام هذا الخائن وهو‬

‫‪258‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الشخص الوضيع نفسه الذي كان مراقب ًا في أول زنزانة دخلت فيها في‬
‫السجن‪ ،‬بمحاولة إيصال معلومات خطيرة إلى رجال األمن بصورة خفية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫لمحاصرة ومضايقة من كل السجناء‬ ‫ف وتعرض بعدها‬ ‫اّإل إن أمره ك ُِش َ‬
‫وتحولت حياته إلى جحيم في حكاية سوف يأتي وقتها‪.‬‬
‫خطط األمن لبدء الثورة المضادة وإجهاض مكاسب االحتجاج‪،‬‬
‫بافتعال حادثة صغيرة يجري تطويرها إلى قضية كبيرة وانزال عقوبات‬
‫قاسية بالسجناء ومن ثم تعود سلطة الخوف من جديد للتحكم بالمشهد‪.‬‬
‫بعد التطورات ونتيجة لالحتجاج منح السجناء حق البقاء خارج الزنزانات‬
‫إلى منتصف النهار ليعاد إقفالها عليهم من جديد حتى صباح اليوم التالي‪.‬‬
‫كانت هذه السويعات القليلة فرصة للحركة وتبادل الزيارات بين السجناء‪،‬‬
‫وساهمت في تخفيف الضغط النفسي وتخفيف التوتر وفتحت ممر ًا‬
‫ضيق ًا للتمتع بالحرية‪ .‬اّإل إن رجال األمن لم يرق لهم هذا التحول في‬
‫حياة السجناء وخططوا إلعادة حقبة التضييق والتعذيب المنهجي‪ .‬وفي‬
‫نهار دخلوا فجأة بهراوات يصرخون ويضربون السجناء إلجبارهم على‬
‫الدخول المبكر إلى الزنزانات بال أي مبرر‪ ،‬اّإل إن حساباتهم كانت غاية في‬
‫الخطأ في التوقيت ولم يقدروا الموقف جيد ًا‪ ،‬وال أخذوا بنظر االعتبار إنهم‬
‫في مواجهة مع سجناء سياسيين عد ٌد ليس بالقليل منهم إمتهن المعارضة‪،‬‬
‫وكثير أصابه يأس من‬
‫ٌ‬ ‫ويبرع في حشد األنصار وإثارة العواطف والحماس‪،‬‬
‫الظروف المزرية ويتشوق للمواجهة مع رجال األمن خالص ًا من حياة لم‬
‫تعد لها قيمة عنده وال يكترث لها‪.‬‬
‫رفض السجناء الدخول اّإل إن رجال األمن كان يبدو جلي ًا عليهم‬

‫‪259‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫إنهم يتحركون بتعليمات محددة‪ ،‬ملخصها إجبار السجناء على الدخول‬


‫شديد بهم إن بدا منهم أدنى احتجاج‪ ،‬في مسعى‬ ‫ٍ‬ ‫أذى‬
‫القسري وإيقاع ً‬
‫واضح الستعادة زمام المبادرة التي فقدت منهم منذ االحتجاج الكبير‪.‬‬
‫تحول الرفض إلى شجار باأللسن ومن ثم تطور سريع ًا إلى اشتباك‬
‫بشكل جماعي لنصرة أصحابهم نحو رجال‬ ‫ٍ‬ ‫باأليدي‪ ،‬ليندفع السجناء‬
‫األمن الذين هربوا مذعورين من الثورة الجماعية‪ .‬المقذوفات نزلت على‬
‫بأي شيء كانت تطاله أيدي‬ ‫رؤوس رجال األمن من كل حدب وصوب ّ‬
‫السجناء‪ ،‬وتحول السجن إلى فوضى حقيقية ال يعرف رجال األمن أين‬
‫يختبئون وال بمن يستنجدون‪ ،‬تشتت شملهم حتى إنهم باندفاعتهم السريعة‬
‫إلى باب القسم الرئيسي نسوا صاحب ًا لهم وخلفوه بين أيدي السجناء الذين‬
‫ال في رأسه ليمنعوه من رؤية الوجوه وأشبعوه رفس ًا ولكم ًا‬ ‫وضعوا سط ً‬
‫وركالً‪ ،‬وهو يركض باتجاه الباب الرئيسي وهناك علق بين الطرفين‪.‬‬
‫رجال األمن يحاولون إغالق الباب الخارجي خوف ًا من اندفاعة السجناء‬
‫إلى الخارج‪ ،‬وهو يقاتل ألجل فتحه واإلفالت من قبضة السجناء‪ ،‬وصار‬
‫يتلقى الضربات من السجناء تأديب ًا له ومن رجال األمن الذي خالوه سجين ًا‬
‫يحاول اقتحام الباب والهرب‪ ،‬فصاروا يضربوه بعصيهم وهو يصرخ بهم‬
‫طالبا النجدة‪ ،‬إلى أن تعرف عليه أحدهم من صوته وأنقذه بعد أن نال عقاب ًا‬
‫دب الفزع بين رجال األمن ولم يكتفوا بإغالق الباب المحصن‬ ‫ال ُينسى‪ّ .‬‬
‫باألقفال الثقيلة بل استدعوا حداد ًا على وجه السرعة ليغلق الباب المحصنة‬
‫بواسطة اللحام وصار اقتالعه أو فتحه أمر ًا مستحيالً‪.‬‬
‫استدعيت كل قوات حرس السجن وقوات إضافية على الفور ودخلوا‬

‫‪260‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في أقصى حاالت التأهب لبدء معركة حقيقية‪ ،‬ألن السجناء في هذه المرة‬
‫ال على القسم‪ .‬كان العدد في كل قسم يربو على األلف سجين‬ ‫سيطروا فع ً‬
‫أي حواجز بعد أن تركت‬ ‫وجميعهم أحرار في الحركة داخل القسم بال ّ‬
‫أبواب الزنزانات مفتوحة‪ .‬بدأ رجال األمن بإطالق الرصاص الحي على‬
‫جدران القسم من الخارج‪ ،‬اّإل إنه لحسن الحظ وألنهم من قبل لم يتركوا‬
‫أي فجوة في تلك الجدران المبنية بصورة محكمة ال يخترقها شيء خاب‬ ‫ّ‬
‫أي شخص‪ .‬أما السجناء فقد انبطحوا‬ ‫رميهم وفشل مسعاهم في إصابة ّ‬
‫جميع ًا إلى األرض يتقون الرمي األعمى بدرع الجدران الكونكريتية‬
‫المسلحة القوية‪.‬‬
‫لم يتوقف رجال األمن عن محاوالتهم‪ ،‬اذ صعد رجال مكافحة الشغب‬
‫إلى نقطة عالية في سطح السجن ومن خالل فتحات تهوية على علو شاهق‬
‫تطل على الممر بين الزنزانات‪ ،‬ألقوا قنابل مسيلة للدموع‪ ،‬لكن لم يفت‬
‫هذا في عضد السجناء وواصلوا الهتاف عالي ًا بصرخات االحتجاج‪،‬‬
‫واستعان السجناء بالماء والبصل وبطرق بدائية أخرى لمكافحة تأثير‬
‫الغازات المسيلة للدموع‪.‬‬
‫سيطر الرعب تمام ًا على رجال األمن ألن السجن كله صار اآلن‬
‫يسمع الفوضى وسرت عدوى االنتفاضة إلى أقسام أخرى من السجناء‬
‫السياسيين في األقسام المفتوحة‪ ،‬وأصبح السجن برميل بارود حقيقي‬
‫يوشك على االنفجار في أي لحظة‪ .‬ولم يستقر الموقف الهائج إلى أن جاء‬
‫وفد حكومي عالي المستوى لمعاينة السجن بإيفاد خاص من جهات عالية‬
‫في الدولة مفوض ًا بصالحيات واسعة على ما يبدو‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫طلب الوفد من السجناء األمان للدخول إلى القسم وإجراء مفاوضات‬


‫معهم‪ ،‬وهنا كانت براعة السجناء ومهارتهم العالية في التفاوض إذ إنهم‬
‫ردوا عليه رد ًا كان خطوة واسعة بإقناع الوفد الرسمي‪ ،‬وأجابوه بأنهم هم من‬
‫يطلب األمان وإن الوفد له كامل الحرية باعتباره هو المسؤول عن تحقيق‬
‫النظام بالدخول إلى السجن واتخاذ اإلجراء المناسب‪ .‬كان رد ًا فاجأ الوفد‬
‫إذ إن ما نقل إليه على ما يبدو‪ ،‬أنه تمرد ومحاولة للسيطرة على السجن‪.‬‬
‫عندما دخل الوفد إلى القسم زاد استغرابه من الهدوء الكبير وأن ال‬
‫ألي آثار معركة‪ ،‬إذ قام السجناء بتنظيف القسم بسرعة بمبادرة ذكية‬
‫وجود ّ‬
‫اقترحها أحدهم إلبطال دعوى سوف يدعيها رجال األمن بأنهم هوجموا‬
‫من قبل السجناء‪ .‬ولما لم يجد الوفد شيئا ظلوا يتبادلون النظرات فيما بينهم‬
‫في شعور واضح بأنهم قد ضللوا من قبل رجال األمن‪ .‬ظل الوفد يجول‬
‫على الزنزانات التي دخل إليها السجناء طوع ًا ويستفهم منهم عن سبب‬
‫الصياح والمشكلة فشرحوا له بنفس واحد‪ ،‬إنهم يعيشون ظروف ًا معاشية‬
‫قاسية وإنهم يطالبون بتحسينها من تغذية وصحة والسماح لهم بمواجهة‬
‫أهاليهم ورؤية الشمس بعد كل هذه السنوات‪.‬‬
‫أصر الوفد على التعرف على المطالب السياسية وحاول استدراجهم‬
‫أي مطلب لهم‪ ،‬بل قالوا له نحن سجناء‬ ‫أي منها‪ ،‬أنكر السجناء ّ‬ ‫لذكر ّ‬
‫محكومون وفق القانون ونطالب بحقوقنا كسجناء فقط ال أكثر من ذلك‪،‬‬
‫ولما اطمأن الوفد أن ال مطالب سياسية تقف وراء االحتجاج وأن ال وجود‬
‫لحركة معارضة للحكومة رغم محاولة الضابط المسؤول عن السجن‬
‫تدبير تهمة التظاهر السياسي‪ ،‬لكنه أحبط تمام ًا أمام براعة السجناء في إدارة‬

‫‪262‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫األزمة الذين عاملوا الوفد باحترام كبير وأدب جم مما أعطى الوفد انطباعا‬
‫مغاير ًا‪ ،‬بأن المطالب الحقيقية هي مطالب معيشية فقط لذا قال في الحال‪،‬‬
‫إن هذه حقوق لكم وليست مطالب وسوف تنفذ على الفور‪.‬‬
‫توافق حصول هذه األحداث مع قرب انتهاء حرب الخليج األولى وبروز‬
‫توجه حكومي نحو تخفيف القبضة الحديدية‪ ،‬وبدأت إدارة السجن بالفعل‬
‫بتنفيذ الوعود الحكومية بسرعة وسمح ألول مرة للسجناء بمواجهة األهل‬
‫والحصول على الفرصة من جديد لرؤية شمس غابت علينا آخر مرة قبل‬
‫سبع سنين عجاف‪ .‬اّإل إن اإلذن بالمواجهة كان يسير بإجراءات روتينية مملة‬
‫ومضحكة أحيان ًا‪ .‬كان رجال األمن يروحون ويجيئون ويسألون عن عناوين‬
‫سكنى كل واحد منّا‪ ،‬ثم يقولون‪ :‬لم نستطع العثور على العنوان الصحيح لربما‬
‫تغير سكنهم‪ ،‬سوف نجري بحث ًا جديد ًا عن أهاليكم وحالما نجدهم سوف يتم‬
‫تبليغهم للحضور إلى المواجهة‪ .‬تكرر هذا االدعاء منهم وكنّا نقابله بمزحة‪:‬‬
‫لكنكم حين اعتقلتمونا أخرجتمونا من تحت األرض في خمس دقائق‪.‬‬
‫هنا تدخل قميصي التركي “مراد" الذي جاء معي من المعتقل وأرسلته‬
‫مع عائلة أحد السجناء ليبشر أهلي بأني ما أزال حي ًا‪ ،‬وصل قميصي إلى‬
‫متجر والدي الذي تمكن من التعرف عليه وتأكد إني ما زلت على سطح‬
‫هذا الكوكب أتنفس الهواء مثله‪ ،‬وإن كنت أقطن مكان ًا قصي ًا‪ ،‬واستبشر به‬
‫بعد أن بلغ اليأس فيهم منهاه حتى ان والدتي لم تلبس غير اللون األسود‬
‫علي‪ ،‬وعلى العادة البغدادية بالنذور كانت تذهب‬ ‫طيلة سبع سنين حداد ًا َّ‬
‫والدتي ماشية حافية كل سبت إلى المشهد المقدس في الكاظمية تسأل‬
‫علي من جديد‪.‬‬ ‫يوم ًا تشرق الشمس فيه َّ‬

‫‪263‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪15‬‬
‫***‬
‫في مستهل األسبوع الثاني من بداية الخريف وبعد مرور عام كامل من‬
‫انتهاء حرب الخليج األولى‪ ،‬استقبلنا أهالينا ألول مرة في مواجهة جماعية‬
‫عامة‪ ،‬كانت حدث ًا غريب ًا عاد منه كل سجين بقصة غريبة ومشاهد عجيبة‬
‫ومشاعر مختلفة‪ .‬وجوه اآلخرين مسحت من الذاكرة واستعادتها كانت تشبه‬
‫رحلة النواخذة في استخراج اللؤلؤ تحتاج إلى غوص عميق بعدة بدائية‪.‬‬
‫كنّا كشجرة أصابها جفاف شديد احتواه زمن ممتد بسكونه وظله الكئيب‬
‫ما جعله دهر ًا ال ينقضي‪ ،‬ونست معه طعم الماء‪ .‬كنّا كذلك بحرماننا من‬
‫مشاعر العاطفة والرحمة حتى ظننا أن ليس للبشر شيء منها‪ ،‬وإنها مثل‬
‫خرافات األقدمين‪ .‬فجأة نزل علينا غيث غزير يكفي ألن تبحر به حتى‬
‫سفينة نوح‪ .‬التعرف على األهل مهمة ليست بيسيرة وتتطلب إعادة ترتيب‬
‫السجين لعالمه الداخلي وتعديل ذكريات طغى عليها األلم والغضب‬
‫والحزن واألسى‪ ،‬تعديل أفكار المرء عن نفسه مع مستقبل يقترب منه‪ ‬مهمة‬
‫ال يوجد اكثر منها مشقة وال أزيد صعوبة‪.‬‬
‫كنت واقف ًا أنتظر قدوم أحد ما لمواجهتي في ذلك اليوم عندما أذاعوا‬
‫إسمي في سماعة داخلية‪ .‬لم نكن نعرف من يأتي لمواجهتنا‪ ،‬فقط نعرف‬
‫إنه مسموح لنا بالخروج إلى ساحة المواجهة بعد أن يذاع اسم السجين‬
‫لنقف هناك منتظرين قدوم الزوار‪ .‬دخلت امرأة لم أتعرف عليها‪ ،‬رأيتها‬
‫تتلفت يمين ًا وشماالً تبحث عن الشخص الذي تقصده مما لفت انتباهي‪،‬‬

‫‪264‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وبينما هي تدور حائرة بين الوجوه مثلي وصلت قريب ًا جد ًا مني بحيث كان‬
‫بإمكاننا فقط لو فقط تستدير باتجاهي لوضعنا عيوننا احدنا بعين اآلخر‬
‫مباشرة وأن يسمع كل منّا أنفاس اآلخر في صعودها ونزولها‪ .‬سمعتها‬
‫الي وأنا أواصل النظر اليها مدقق ًا ولم ازل‬
‫تسأل أحد السجناء عني‪ ،‬أشار َّ‬
‫غير قادر على التعرف عليها‪ ،‬ثم سمعتها وهي تفتح عينيها بدهشة لتناديني‬
‫باسمي‪ ،‬حينها فقط اكتشفت إنها تشبه خالتي بل هي خالتي‪.‬‬
‫لم أتعرف على شقيقي األصغر هو اآلخر ألنه كبر وصار شاب ًا جامعي ًا‪،‬‬
‫وبدا لي والدي مسن ًا جد ًا قضى معظم الوقت يومها في نوبات بكاء‬
‫ينخرط فيها فجأة‪ ،‬يسبب لي معها اضطرابا شديد ًا يطيش بلبي وأنا انظر‬
‫إليه مشدوه ًا مبهوت ًا ال أعرف ما الذي علي فعله لمواجهة هكذا موقف‪.‬‬
‫في ويرقبون كل حركة تصدر‬ ‫كان أهلي يجلسون قبالي يمعنون النظر َّ‬
‫مني‪ ،‬ولم يخفت توترهم اّإل بعد أن تكررت مواجهتي واطمأنوا لتكرارها‬
‫فهدأ روعهم بعد أن أصبحت أمر ًا عادي ًا‪ ،‬يتكرر كل شهر مرة ثم صار كل‬
‫أسبوعين‪ .‬كثيرون جد ًا من أقاربي تجنبوا الحضور لمواجهتي خوف ًا على‬
‫سمعتهم لدى الدولة‪ ،‬خشية أن يلحقهم أذى محتمل في مستقبل وظائفهم‬
‫إن أعلنوا قرابتي منهم‪ ،‬ولم أعر ذلك اهتمام ًا‪.‬‬
‫كان معنا في زنزانة المعتقل ضابط برتبة كبيرة كان يعلم إنه محكوم‬
‫عليه باإلعدام حتم ًا ولن ينجو من الموت شنق ًا‪ ،‬كان يقول لشقيقه الخائف‬
‫الذي لم يكن له من األمر شيء واعتقل بسبب قرابته منه فقط‪:‬‬
‫‪ -‬ال تخف يا أخي الصغير‪ ،‬سوف تخرج من المعتقل وبعد سنوات‬
‫سوف تمشي في األسواق وتقول للناس أنا أخو الشهيد فالن وسوف‬

‫‪265‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫تبحث عن امتيازات باسمي‪.‬‬


‫«بطرس سوف ينكرنا ثالث مرات‪ ،‬مرة في السجن وأخرى في المواجهة‬
‫وثالثة حين نخرج من السجن‪ ،‬طالما حرس القيصر وكهنة المعبد ما يزالون‬
‫يحكمون أورشليم‪ ،‬وبعدما يصيح الديك معلن ًا فجر األمان سوف يخرج‬
‫حينئذ في الشوارع والطرقات ويقول أنا تلميذه المقرب وحواريه‪ ،‬ويجول‬
‫في كل مكان ليكرز باسمه ويقول خذوا دينكم مني أنا الباب المؤدي إليه‪،‬‬
‫ويبدأ في توزيع صكوك الغفران ويعطيهم شهادة نعيم يحوزها بعيد ًا عني»‪.‬‬
‫صور مأساوية كانت تحملها كل مواجهة‪ ،‬إحدى العوائل ُابلغت بأن‬
‫تأتي إلى السجن لتستلم جثة ابنها اّإل إنها فوجئت بابنها يدخل عليهم‪،‬‬
‫فاغمي على رب األسرة في الحال وسقط مغشي ًا عليه وحار األهل بين‬
‫الترحيب بابنهم المغيب منذ سنوات وبين إسعاف األب المغمى عليه‪ .‬اّإل‬
‫إن أشدها مأساوية كانت يوم رفضت أم تصديق ابنها حين واجهته‪ ،‬ألنه‬
‫ال قاصر ًا حين االعتقال بعمر ثالثة عشر سنة تقريب ًا وتقدم اليها‬
‫كان طف ً‬
‫في المواجهة وهو شاب عشريني‪ ،‬بشنب خطته عليه سنوات األلم وذقن‬
‫مرسل من حزن الفراق وهو يناديها باسمها‪:‬‬
‫‪ -‬اماه يا أماه أنا وليدك الصغير‪.‬‬
‫محاوالً االرتماء في حضنها عائد ًا لطفولته التي أريقت في هذا القبو‬
‫المظلم‪ .‬األم المفجوعة بصغيرها كانت تبعده عنها‪ ،‬وتقول له أنت ماكر‬
‫محتال‪ ،‬ابني طفل صغير وأنت مزيف عميل لألمن‪ ،‬يريدون أن يستبدلوك‬
‫بابني ليقتلوه‪ .‬جلسا على التراب أحدهما قبال اآلخر في حالة إنهيار شامل‪،‬‬

‫‪266‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫هي تبكي شوق ًا ألمومتها التي عجزت لسنوات أن تمنحها لصغيرها وهو‬
‫يبكي حنان ًا مفقود ًا‪ .‬السجناء وبعض من الزوار متحلقون حولهما في مشهد‬
‫مفجع‪ .‬كانوا مثل بندول يتأرجح بين بكاء على حالهما وبين محاولة إلقناع‬
‫األم بأن صغيرها قد عاد إليها لكنّه لم يعد يجري وراء الكرة مع الصبيان‬
‫في األزقة‪ ،‬وال يلعب بالكرات الزجاجية الملونة (الدعبل) في الحواري‪،‬‬
‫ال بالهموم يحمل عذابات لم يقو على تحملها كهلة وشيوخ‪.‬‬ ‫غدا شاب ًا مثق ً‬
‫ال أنسى يوم ًا كنت أنتظر دخول اهلي وإذا بامرأة تبكي تقترب مني‬
‫وتسألني عن فالن وفالن وفالن وفالن وفالن‪ ،‬نعم خمسة ال أعرفهم وال‬
‫سمعت بأسمائهم من قبل‪ ،‬سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬من هؤالء يا أماه؟‪.‬‬
‫قالت وهي تولول والدموع تغسل وجها من غبار الزمن‪.‬‬
‫‪ -‬ابنائي الخمسة‪ ،‬لما سمعت إنكم في مواجهة قلت البد أن يكونوا‬
‫معكم فهل تعرفهم يا ولدي؟‪.‬‬
‫افترشت التراب تبكي وأنا اقف على رأسها أنقل لها أسوأ خبر يمكن‬
‫نحرت آخر آمالها على التراب بين قدميها‬
‫ُ‬ ‫أن تسمعه‪ ،‬أن ال أحد منهم هنا‪.‬‬
‫وهي تهيله على رأسها وتولول‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين أذهب حتى أعثر عليهم يا أماه‪.‬‬
‫كان خليق ًا بي أن اهدئ من روعها وأن ال أوصد األبواب أمامها‪ ،‬لكني‬
‫فعلت عكس ذلك بحماقة‪ ،‬أو كأنما الموت صار خبر ًا عادي ًا عندي ولم‬
‫أي جحيم صببته بكلماتي على رأسها المتشح بالسواد كما هي سائر‬ ‫أدرك ّ‬

‫‪267‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫ثيابها حتى نعلها والجوارب‪.‬‬


‫كنت‪ ،‬ولست وحدي في ذلك‪ ،‬أعود متعب ًا من المواجهة يصيبني إرهاق‬
‫شديد كأنما كنت أحتطب في غابة جبلية منذ الغبش حتى الغسق ولم أفتر‬
‫وال لهنيهة واحدة‪ .‬وما أن أعود إلى الزنزانة أستلقي مسترخي ًا ألنزلق في‬
‫غفوة عميقة‪ .‬قبل المواجهة كنّا ننشغل كثير ًا في االستعداد لها‪ ،‬وساعة‬
‫اقتراب اللقاء تضطرب أعضائي بشدة ويتزايد وجيب قلبي ويرتج رأسي‬
‫ٌ‬
‫طويل جد ًا حتى صارت المواجهة شيئ ًا‬ ‫وقت‬
‫وتخفق حواسي كلها‪ ،‬فات ٌ‬
‫قريب ًا من المألوف‪.‬‬
‫األمر بالنسبة لي استغرق اكثر مما استغرق من أهلي‪ ،‬الذين كانوا‬
‫يرجعون إلى حياتهم وينشغلون بأمورهم اليومية بينما كنت أعود ألنشغل‬
‫علي‪ .‬مسافة‬
‫بمحاولة التوافق مع هذا العالم الغريب الذي أطل برأسه ّ‬
‫شاسعة ظلت تفصلني عن العالم الذي بدا غريب ًا جد ًا‪ ،‬فقد توقف الزمن‬
‫عندنا منذ ساعة اعتقالنا ولم تتحرك عقارب الساعة اّإل حين ولج من‬
‫الباب أولئك األقرباء الغرباء من ذاك الكون البعيد‪ ،‬كان مقدمهم زلزاالً‬
‫كل ٍ‬
‫بناء فوقها منهار ًا وخرج من باطنها ما قد‬ ‫أصاب أرض ًا ساكنة تداعى ُ‬
‫دفن لسنوات‪.‬‬
‫حدث انفراج واضح في وضعنا العام بحيث قل عدد السجناء في كل‬
‫زنزانة‪ ،‬وفتحت أبواب الزنزانات بشكل دائم وصار التزاور بين السجناء‬
‫واالتصال متاح ًا للجميع‪ .‬تحسنت كمية المياه الواصلة بشكل كبير ولم‬
‫نعد نعاني من شحتها ال في مشرب وال في استحمام‪ ،‬المواد الغذائية‬
‫تصل إلينا من الخارج وكذلك األدوية والثياب الجديدة واستغنينا عن زي‬

‫‪268‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫السجن وعن طعامه اّإل بحدود الخبز اليومي وبعض الوجبات اليومية التي‬
‫لم يكن سه ً‬
‫ال إعدادها‪.‬‬
‫أتيحت لنا الفرصة الكاملة إلعداد الطعام واستخدام معدات الطبخ‬
‫كاملة من مواقد بسيطة لكنّها تفي بالغرض المطلوب‪ .‬صار صوت‬
‫السجناء قوي ًا عالي ًا حتى إنهم فرضوا على األمن إخراج خائن من األقسام‬
‫بعد انكشاف وشاية قام بها لإليقاع بمجموعة من السجناء‪ ،‬رضخ األمن‬
‫لمطلب السجناء خشية تجدد المواجهة معهم من جديد‪.‬‬
‫ال يحتمي برجال األمن وسط‬ ‫كان يوم ًا مشهود ًا إذ وقف الخائن ذلي ً‬
‫صيحات غضب وهياج عارم من السجناء‪ ،‬فيما كان اكبر ضابط مسؤول‬
‫عن السجن يدور بين األقسام باذالً اقصى جهد عنده‪ ،‬يقفز بين المكر حين ًا‬
‫وممارسة المرونة واللين حين ًا آخر لمفاوضة السجناء وإقناعهم بقبول هذا‬
‫ال ذريع ًا في الحصول‬ ‫الخائن في أحد األقسام‪ .‬اّإل إنه لم يفلح وفشل فش ً‬
‫أي قسم على قبول هذا الخائن المنبوذ‪ ،‬مما اضطره إلى‬ ‫على الموافقة من ّ‬
‫أخذه إلى مكان منعزل‪ .‬الرفض الجماعي واإلصرار الشديد على لفظ‬
‫الخونة الوشاة بعيد ًا عنهم صار درس ًا قاسي ًا وعبرة كبيرة لم يجرؤ أحد‬
‫بعدها من الخونة والضعفاء على اللجوء إلى الوشاية أو للتعامل العلني بل‬
‫وال حتى السري مع األمن‪.‬‬
‫صارت الفرصة مواتية لكل شيء حتى لممارسة أنشطة رياضية وإقامة‬
‫مباريات دورية في كرة القدم المصغرة‪ ،‬إذ لم يكن هناك من ملعب حقيقي‬
‫يصلح ل ّلعب فيه بل وال توجد حتى قطعة أرض تصلح لذلك‪ .‬الحصول‬
‫على الكتب من خالل المواجهات صار ممكن ًا‪ ،‬بل تمكن كثير من األهالي‬

‫‪269‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫إدخال المذياع ألبنائهم السجناء وبعض قليل جد ًا تمكن من تهريب‬


‫كاميرات فوتوغرافية بطرق سرية بوضعها في قدور الرز المطبوخ الذي‬
‫كان يحمله األهالي معهم بشكل عادي‪ .‬باختصار شديد تغيرت األحوال‬
‫ٍ‬
‫بشكل كبير وانقلب الحال رأس ًا على عقب في آخر سنتين‪.‬‬
‫تقلصت األعداد في الزنزانات بشكل كبير جد ًا بفعل السياسة الجديدة‬
‫بفتح أقسام جديدة الحتواء أعداد السجناء‪ ،‬ونقلت ألحد هذه األقسام‬
‫الجديدة ويطلق عليه (ق‪ ،)3‬وهو قسم غريب في تصميمه‪ ،‬مع إنه كان‬
‫يحتوي أيض ًا على طابقين اّإل ان زنزاناته كانت تصل الى األربعين زنزانة‬
‫وصغيرة جد ًا بطول مترين وربع تقريب ًا وعرض يزيد عن المتر الواحد بقليل‪،‬‬
‫قضبان حديدية قوية‪ .‬هيئة الزنزانات كانت‬ ‫ٍ‬ ‫وكل زنزانة لها باب مصنوع من‬
‫أي لبس إنها سج ٌن انفرادي‪ ،‬اّإل إننا كنّا ننام تقريب ًا في كل زنزانة‬
‫توحي بال ّ‬
‫أربعة اشخاص‪ ،‬وكانت أبواب الزنزانات مفتوحة بشكل دائم مما سمح لنا‬
‫بالحركة في أرجاء القسم بحرية طوال الوقت‪ .‬في النهار تفتح بوابة خارجية‬
‫مطلة على ساحة صغيرة ملحقة بالقسم لنمارس فيها ألعاب ًا رياضية خفيفة‪،‬‬
‫وأيض ًا كان باإلمكان أن نعد وجبات الطعام في غرفة صغيرة ملحقة بهذه‬
‫الساحة‪ .‬كانت إنعطافة كبيرة في تحسن األوضاع عندما انتقلنا إلى هذا‬
‫القسم وشعرنا براحة كبيرة فيه مع سعته الظاهرة وقلة أعداد السجناء فيه‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪16‬‬
‫***‬
‫استيقظنا صباح يوم من صيف الهب بأحداثه على خبر مفاجئ تنقله‬
‫محطات اإلذاعات األجنبية والمحلية وهي تتحدث عن اقتحام الكويت‬
‫وغزوها الشهير من قبل القوات العراقية‪ .‬وبينا كنّا نستمع طوال الوقت بلهفة‬
‫إلى نشرات األنباء وتطورات األحداث المتسارعة عبر الراديو‪ ،‬وإذا بأوامر‬
‫طارئة تصدر إلينا على عجل تطلب منّا إخالء القسم (ق‪ )3‬بالحال والتوجه‬
‫فور ًا إلى األقسام التي كنا فيها سابق ًا‪ .‬وفي أقل من ساعة واحدة تم إخالء‬
‫القسم ليحل محلنا فيه سجناء جدد من طراز خاص‪ ،‬لم تتبين لنا هويتهم‬
‫في بادئ األمر وأصابنا فضول كبير لمعرفة القادمين الجدد لتزامنه مع غزو‬
‫الكويت مما ولد فينا رغبة كبيرة الكتشاف هذا التالزم بين الحدثين‪.‬‬
‫(ق‪ )3‬باألصل عائد لجهاز المخابرات المختص بالقضايا الخارجية‬
‫وسكانه من المحتجزين على حساب قضايا تهم جهاز المخابرات وليس‬
‫مديريات األمن الداخلي‪ ،‬ونحن إنما وضعنا فيه سابقا لشغوره وعدم حاجة‬
‫قسم المخابرات له‪ ،‬الذي كان يدير قسم ًا مجاور ًا له ويشبهه في التصميم‬
‫بالضبط‪ .‬لم نكن نملك أي فكرة عن المعتقلين في هذين القسمين ألنهما‬
‫ألي أحد بالتدخل‬
‫كانا تحت رعاية حصرية من المخابرات وال يسمح ّ‬
‫فيه حتى لو كان من األمن أو ادارة السجن وفي حاالت خاصة يستعينون‬
‫بسجناء محددين للقيام ببعض التصليحات الفنية الطارئة وسط إجراءات‬
‫أمنية مشددة‪ .‬لذلك اتجهت توقعاتنا إلى سجناء من طراز خاص وكان‬
‫حدسنا في محله عززه سماعنا ألصوات متباينة تكشف عن تنوع في‬
‫‪271‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نك متأكدين مما نسمعه بشكل قاطع اّإل إنه ولد‬‫األجناس واألعمار‪ ،‬ولم ُ‬
‫عندنا شكوك ًا قوية استنادا إلى خبرتنا التي صارت كبيرة اآلن بعد هذه المدة‬
‫الطويلة في السجن وتعاملنا مع ظروف وأحداث مختلفة‪ .‬أن يكون هؤالء‬
‫السجناء من العوائل أمر ليس بغريب فقد حصل هذا في السابق حين اعتقل‬
‫النظام عوائل بأكملها من مدن وقرى في العراق مثل َبلد والدجيل وقرى‬
‫كردية كثيرة‪ .‬غير إن ملف اعتقال العوائل تم تصفيته بإطالق سراح المتبقين‬
‫ٍ‬
‫باعداد غفيرة منهم وعثر على رفاتهم بعد عقود في‬ ‫منهم بعد أن نفذ اإلعدام‬
‫مقابر جماعية فيما ظل قسم آخر في عداد المجهول‪ .‬ووصلت أخبار هذه‬
‫العوائل إلينا من شيبة وشباب بل وحتى أطفال نقلوا إلى أقسامنا كسجناء‬
‫بعد أن صدرت بحقهم أحكام ًا بالسجن لمنع عودتهم إلى مدنهم وقراهم‪.‬‬
‫ومن خالل المواجهات تأكد لنا نبأ إغالق هذا الملف كامالً‪.‬‬
‫إذا لم يكونوا من هؤالء فمن يكونوا إذن هؤالء السجناء الجدد؟ صرنا‬
‫بأي وسيلة وبعد عدة أسابيع أستدعى جهاز‬ ‫نتلصص ونجمع األخبار عنهم ّ‬
‫المخابرات سجين ًا من األقسام المغلقة اسمه (ح‪.‬گ‪ ).‬من سكنة محافظة‬
‫البصرة وطلب منه القيام بتصليحات فنية طارئة وحذره رجال المخابرات‬
‫ألي سبب كان‪ ،‬وبحسب‬ ‫من الكالم أو إجراء أي حديث مع السجناء الجدد ّ‬
‫شهادته التي سمعتها شخصي ًا منه وتأكدت منها حتى بعد خروجنا من‬
‫السجن‪ ،‬إنه حين دخل هذا القسم رآه يشبه (ق‪ )3‬اّإل إن الزنزانات بدل أن‬
‫تكون واجهتها من القضبان كما هي العادة وجد إن هذه القضبان قد أغلقت‬
‫بصفيحة حديدية تمنع رؤية من في داخل الزنزانة‪ ،‬ولكن ألن عمله كان‬
‫داخل الزنزانات فقد استطاع رؤية السجناء وهم يخرجون منها ويوضعون‬

‫‪272‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫في الممر الوسطي بينما يقوم هو بأعماله من تصليحات‪ .‬يقول رأيتهم جميع ًا‬
‫من الشباب وكلهم يرتدون زي السجن الكانة باللونين الرصاصي واألحمر‬
‫وإن األغلب فيه الرصاصي ومن لهجتهم عرفت أنهم كويتيون وسمعتهم‬
‫يتحدثون بينهم وكان بعضهم قد بلغ به اليأس واإلحباط حد ًا كبير ًا بسبب‬
‫المعاملة السيئة ويتحدث عن بقائه إلى آخر عمره في هذا السجن‪.‬‬
‫لم يستطع (ح‪.‬گ‪ ).‬تبادل أي حديث معهم ولكن استرق السمع لكل‬
‫حديث كان يجري بالقرب منه باهتمام وعلم أنهم أسرى كويتيون وإن لم‬
‫يستطع تحديد وظائفهم‪ .‬وأغرب ما لفت انتباهه هو غرفة صغيرة أوسع من‬
‫باقي الزنزانات كان فيها أسرى لم يسمح له برؤيتهم ويبدو إن لهم خصوصية‬
‫ما‪ ،‬إما لوظائف عالية أو وجاهة اجتماعية كبيرة ولكن تبقى هذه تخمينات‬
‫فقط‪ .‬عدد األسرى في هذا القسم بحسب التقديرات غير الدقيقة بالطبع ال‬
‫تقل عن مائة شخص وربما يكون العدد ضعف ذلك إذ لم يتسن له معرفة‬
‫العدد الحقيقي في كل زنزانة ولكن لو طبقنا ظروفنا نفسها في (ق‪ )3‬لربما‬
‫يصل العدد إلى مئة وستين شخصا شخص أو حتى مئتي شخص‪.‬‬
‫أما (ق‪ )3‬الذي ُأخلينا منه فقد جاء إليه أسرى كويتيون ولكن من نوع آخر‬
‫وأيض ًا عن طريق العمال الفنيين حصلت على شهادة مباشرة إذ دخل إليهم‬
‫سجينان من القومية التركمانية (أ‪.‬ف‪ ).‬و(أ‪.‬ص‪ ).‬للقيام بإصالح أعطال‬
‫كهربائية وحين دخال اغلقت أعينهم ولكنهم قالوا للعنصر المخابراتي‬
‫أنه البد من السماح لهم بالرؤية اّ‬
‫وإل فإنهما ال يستطيعان أداء عملهما‪،‬‬
‫أي حديث مع السجناء‪ .‬قاال بحسب شهادتهما إن‬ ‫فحذرهما من اجراء ّ‬
‫الموجودين كانوا من األسرى الكويتيين وتبين ذلك من زيهم الخليجي‬

‫‪273‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وقد شاهدا نسا ًء خليجيات بزي محتشم بأردية طويلة وغطاء رأس وبينهن‬
‫أطفال بعمر يتراوح بين العشر سنوات واألربعة عشر سنة تقريب ًا وربما أقل‬
‫بقليل أو أكثر وألنها مشاهدات سريعة فلم يمكن التحقق من تفاصيلها جيد ًا‬
‫خصوص ًا مع التحذيرات األمنية‪ .‬كان بين األسرى شباب في العشرينات‬
‫من العمر ورجال بأعمار متوسطة‪ .‬تقديرات األعداد تكاد تكون مقاربة لما‬
‫تم توقعه عن أعداد األسرى في القسم اآلخر الذي تحدثت عنه للتو‪ .‬وبذا‬
‫يمكن الحديث عن أربعمائة أسير كويتي كحد أعلى تم احتجازه في هذين‬
‫القسمين وتبقى هذه تخمينات وليست أرقاما تقريبية‪.‬‬
‫بعد عدة أسابيع ومع بدء العمليات الحربية وتراجع القوات العراقية‬
‫أمام الضربات العسكرية سمح لألسرى الموجودين في (ق‪ )3‬بالخروج‬
‫إلى ساحة جانبية في القسم للتمشي أو لممارسة العاب رياضية‪ ،‬وطبع ًا من‬
‫الممكن أن يكون قد حصل األمر نفسه لألسرى في القسم اآلخر اّإل إنه لم‬
‫تتوفر لنا فرصة للتأكد من ذلك‪.‬‬
‫صارت أصواتهم واضحة لكل أحد وقطعت كل شك وصار األمر‬
‫جلي ًا للجميع‪ ،‬إنهم عوائل كويتية محتجزة‪ .‬استرقنا النظر من خالل فتحات‬
‫صغيرة في ممر السجن الكبير المالصق للساحة الصغيرة حيث كان‬
‫يسمح لهم بالتمشي‪ ،‬وكنّا نقف هناك بحجة االتكاء على الحائط ونتظاهر‬
‫باالنهماك في حديث طويل بينما في حقيقة األمر كنّا نواري زمي ً‬
‫ال لنا‬
‫يجلس إلى جوار فتحة صغيرة تقع أسفل الجدار الفاصل بينه وبين ساحة‬
‫القسم يمر من خاللها أنبوب ماء‪ ،‬وكنّا نحفظ مكانها جيد ًا ألننا سبق وان‬
‫سكنا في هذا القسم قبل فترة وجيزة‪ .‬التواصل كان صعب ًا جد ًا‪ ،‬أوالً خشية‬

‫‪274‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫المراقبة األمنية وخصوص ًا من المخابرات المعروفة قسوتهم وثاني ًا ألنه من‬


‫الصعب جد ًا أن يثق أحد أفراد هذه العوائل بشخص مجهول يكلمهم من‬
‫وراء جدار وكان من الطبيعي أن يظنوا به الظنون‪ .‬ومع ذلك خاطر شاب‬
‫منهم للحديث معنا فيما كان ٌ‬
‫رفاق له يلعبون كرة الطائرة مستغ ً‬
‫ال على ما‬
‫يبدو عدم تواجد عناصر المخابرات بالقرب منهم‪ ،‬وبعد أن أطمأن لطريقة‬
‫سالمنا عليه ونبرة حديثنا معه‪ ،‬عرفنا إنهم أسرى كويتيون محتجزون‬
‫وبينهم نساء واطفال‪.‬‬
‫لم يكن الوضع مريح ًا لألسف لتبادل أحاديث مفصلة‪ ،‬بل كل ما يجري‬
‫هو أسئلة وأجوبة سريعة‪ .‬علمنا بانه سمح لهم بمغادرة الزنزانات مؤخر ًا‬
‫وتحسنت شيئ ًا ما معاملتهم وأتيحت لهم فرصة الخروج إلى هذه الساحة‬
‫الصغيرة لرؤية الشمس وممارسة بعض األلعاب الرياضية‪ .‬وبدا من خالل‬
‫كلماته أنهم تعرضوا في أول أمرهم لتعذيب لجسدي لم نعرف مداه‪ ،‬إنما‬
‫المعاملة السيئة كانت حاضرة بال شك‪ .‬معاودة االتصال ثانية كانت صعبة‬
‫ألن رجال المخابرات كانوا يتميزون بسمعة سيئة للغاية في التعذيب حتى‬
‫إن رجال األمن أنفسهم كانوا يخشون اإلصطدام بهم أو المخاطرة بانتهاك‬
‫حدودهم األمنية‪ .‬بيد إن أحد رفاقي في السجن (س‪.‬ع‪.‬ش‪ ).‬تمكن من‬
‫التواصل عبر هذه الفتحة مع شاب كويتي آخر استبشر خير ًا بعد أن نقل له‬
‫أخبار تراجع الغزو وتقدم عملية تحرير الكويت وفي خطوة جريئة جد ًا بل‬
‫مغامرة كبيرة أوصل له صديقي راديو صغير بحجم الكف مما أدخل عليه‬
‫بهجة وإمتنان ًا كبير ًا‪ .‬هذه البشرى بانتهاء محنتهم كنّا أيض ًا قد نقلناها لذلك‬
‫الشاب وكنّا مقتنعين بالتالزم بين تحسن معاملتهم وأخبار تقدم عملية تحرير‬

‫‪275‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الكويت ويبدو إن الشاب الكويتي هو اآلخر استنتج األمر نفسه‪ .‬أوصي‬


‫صديقي هذا الشاب الكويتي أن ينقل قضيتنا إلى العالم الخارجي حين يعود‬
‫إلى وطنه سالم ًا وأن يعري هذا النظام الذي يذبح أبناء وطنه بينما يدعي‬
‫الدفاع عنه فيما هو ينكل ويخفي معارضيه في سجون سرية بظروف بشعة‪.‬‬
‫كنّا نتوقع أن يعودوا سالمين مع انكسار الجيش في حرب الخليج الثانية‬
‫خصوص ًا حين وضعت الحرب الخليج أوزارها‪ ،‬وبالفعل أفرغ القسم بعد‬
‫فترة قصيرة من وقف اطالق النار من جميع هؤالء األسرى ونقلوا جميع ًا‬
‫إلى جهة مجهولة كما جاءوا وبعملية سريعة دون أن يخلفوا أية آثار وراءهم‪.‬‬
‫ظلوا لغز ًا ال يعرفه أحد من السجناء كما هو مصيرهم وبقت األسئلة عنهم‬
‫حائرة تبحث عن جواب شاف‪ .‬من كان هؤالء األسرى وكيف جمعوا بهذه‬
‫السرعة؟ ومن أين جيء بهم‪ ،‬والى أين ُأخذوا؟ وما قصة هؤالء الذين‬
‫منع كل أحد من رؤيتهم بالمطلق؟ أسئلة ظلت حبيسة في صندوق أسرار‬
‫السجن الذي يخفي عجائب كثيرة‪ .‬أملنا الكبير بعودتهم سالمين كان تقلقه‬
‫يتوان عن ارتكاب أبشع‬‫َ‬ ‫دوم ًا خبرتنا الطويلة والمريرة مع نظام وحشي لم‬
‫المجازر المروعة بحق أبرياء مسالمين ال ذنب لهم‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪17‬‬
‫***‬
‫أمر إخالئنا كان من األحداث الغريبة جد ًا‪ ،‬إذ إننا لم نجد مكان ًا نأوي اليه‬
‫حتى في السجن‪ ،‬سكان الزنزانات لم يعودوا يتقبلوا فكرة زيادة األعداد من‬
‫جديد بعد فترة االزدهار التي شهدها السجن مؤخر ًا‪ ..‬كنت أقول ونفسي‪،‬‬
‫ها نحن صرنا تائهين في أول تبعة لهذا الغزو ولم نعد نعرف أين نأكل وال‬
‫أين ننام‪ ،‬حياتنا انقلبت إلى فوضى في نصف ساعة وانتهى االزدهار الذي‬
‫تنعمنا به لعام واحد فقط وكنا نأمل بأن عهده قد بدأ ليستمر طويالً‪ ،‬لننحدر‬
‫سريع ًا في حالة عكسية من التشرد والضياع فكيف أصبح حال الكويتيين‬
‫اآلن وأحسست حينها بمعاناة الغزو الذي تعرضوا له‪.‬‬
‫ال أريد وال أحب أن أكتب عن كل أمر حصل في السجن‪ ،‬وال أن‬
‫أصف كل زاوية وحجر فيه وإن كان التأريخ يلزمني بذلك‪ ،‬ألن استرجاع‬
‫األحداث يرهقني ليس في تذكرها وحسب لكن في مرارتها‪ ،‬وألني أيض ًا‬
‫لست بمؤرخ وغايتي التنبيه لتلك الوقائع ال سردها بالكامل‪ ،‬وإال لو كان‬
‫األمر غير ما ذكرت ولو كتبت عن كل شاردة وورادة وكلها تستحق ذلك‬
‫ألحتاج األمر مني إلى اكثر من مجلد ضخم بمئات الصفحات ولربما أكثر‬
‫من ذلك‪ .‬كل ما في السجن كان قصة لوحده‪ ،‬وكل يوم فيه يصلح أن تؤلف‬
‫عنه رواية بل لو قلت إن بعض المواقف وحدها التي لم تدم سوى دقائق‬
‫يستحق أن يكون رواية كبيرة أو فيلما سينمائي ًا مشوق ًا لما جاوزت الواقع‬
‫قدر أنملة‪ .‬أترك هذا لخيال لمؤلفي الدراما ومبدعيها ولكتاب السينما‬
‫والمسرح الجاد‪.‬‬
‫‪277‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫سوف أقدم وصف ًا مختصر ًا لحالة االزدهار التي عشناها لسنة تقريب ًا‪،‬‬
‫من خالل هذه الزنزانة التي أصبح لكل واحد منا فيها له بطانيته الخاصة‪،‬‬
‫وصار من الممكن أن يستحم أحدنا في كل يوم تقريبا وحتى حصلنا على‬
‫مبردة هواء صغيرة جلبها أهلي لي‪ ،‬ألننا لم نكن نملك مروحة هوائية في‬
‫هذه الزنزانات الصغيرة كما كان في الزنزانات الكبيرة‪ .‬وصار عندي مكتبة‬
‫خاصة صغيرة مؤلفة من عدة كتب ورجعت إلى مطالعة الروايات وكتب‬
‫أخرى كانت تقع بيدي من سجناء آخرين كنت أتبادل الكتب معهم أو‬
‫استعيرها منهم‪ .‬أحتفظ بأوراقي الخاصة في كراس وأدون عليه أفكاري‬
‫وحصلت على مذياع صغير خاص بي حرصت على االستماع عبره‬
‫بشكل منفرد وباهتمام كبير لكثير من البرامج السياسية والثقافية ونشرات‬
‫األخبار‪ .‬اّإل إن هذا كله انهار في ساعة الغزو وأصبحت أجرجر أغراضي‬
‫وأدور بها مثل متشرد هائم على وجهه ليس له من مأوى يركن إليه وال‬
‫مضجع يستلقي فيه‪ ،‬وكان من الغريب أن تظهر نوازع أنانية عند عدد من‬
‫السجناء الذين رفضوا التخلي عن وضعهم المريح نسبي ًا بسبب التحسن‬
‫األخير الذي طال الجميع‪ ،‬لم يرضوا باستقبالنا أو السكن معهم من جديد‬
‫في الزنزانات وتقاسم المحنة المؤقتة‪ ،‬صرنا ندور تائهين حيارى يبحث‬
‫كل واحد منّا عن مأوى يبات فيه ليلته أو يجد موضع ًا يركن إليه مع عفشه‬
‫المتواضع‪ .‬لم نجد من بد بعد أن وصلنا إلى آخر النهار اّإل أن نتجمع في‬
‫ساحة شبه مفتوحة في أحد األقسام‪ ،‬ونقضي ليلتنا هناك بل ليلتين وثالث‬
‫نهارات كاملة إلى أن فتح قسم جديد احتوانا واحتوى درس ًا جديد ًا عن‬
‫عيوب نفس أزاحت الستار عنها ريح خفيفة للغاية‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪18‬‬
‫***‬
‫مع اندالع حرب الخليج الثانية‪ ،‬تزعزع األمن وغابت الخدمات العامة‬
‫بشكل شبه تام عن سائر البلد بسبب ضربات جوية عنيفة وقاسية تعرض لها‬
‫البلد‪ ،‬وفي هذا الوضع بدأت أفكار الهروب تراود السجناء وصار بعض‬
‫منهم يخطط لذلك بشكل متكتم عليه بشدة بالغة‪ .‬وتمكن بعضهم من‬
‫اختراق األسوار العالية وعبور خنادق تحيط بالسجن مملوءة بمياه آسنة‬
‫وتجاوز أسالك شائكة مكهربة فقدت كثيرا من مناعتها وحصانتها مع ضياع‬
‫الطاقة الكهربائية بسبب استهداف محطات الطاقة من قبل قوات التحالف‬
‫األمريكي‪-‬العربي الذي شن هجوم ًا مدمر ًا على كل المرافق الحيوية‬
‫المدنية في البلد في خطوة لم نفهمها وقتها وكانت موضع تساؤل كبير‪ ،‬إذ‬
‫لم يكن الربط بينها وبين تحرير الكويت ممكن ًا أبد ًا وال مفهوما‪.‬‬
‫أول حوادث الهروب من السجن الرهيب والمحصن جيد ًا كانت من‬
‫األقسام المغلقة‪ ،‬في عملية جريئة هرب شخصان كان لهما خصوصية‬
‫ومحسوبان على األقسام المغلقة‪ ،‬وإن كانا بالحقيقية ليسا من السجناء بل‬
‫من المحتجزين دون توجيه تهمة لهما‪ .‬مثل هؤالء المحتجزين كان يوجد‬
‫اآلالف منهم بل عشرات اآلالف في أماكن شتى من البلد‪ ،‬سمعت قصص ًا‬
‫رهيبة عن مواقع االحتجاز هذه التي تقع في الصحراء في جنوب العراق‬
‫وعن المعاملة القاسية للعوائل من نساء وأطفال وكيف كان يتم كل فترة‬
‫بشكل دوري اختطاف مجموعة منهم بال تمييز ليساقوا إلى مقابر جماعية‬
‫سوف يتم اكتشافها كل حين في سنوات طويلة الحقة وسط صمت وال‬
‫‪279‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫مباالة يلف الحكومة والشعب وأوساط دعاة الثقافة والدولة المدنية‬


‫وحقوق اإلنسان ورجال الدين واألحزاب السياسية‪ ،‬ربما يمكنني الحديث‬
‫عنها في كتاب آخر غير هذا مستقب ً‬
‫ال رغم كل األلم الذي يسكن فيها‪.‬‬
‫كان الهروب األول هروب ًا ذكي ًا جرى التخطيط له مع سجينين آخرين‬
‫من األقسام المفتوحة‪ ،‬وأحدث الهروب مفاجأة مدوية في السجن وأذهل‬
‫السجناء واإلدارة مع ًا‪ ،‬ولوال ظروف الحرب وارتباك سلطات الحكم‬
‫آنذاك لكان رد الفعل قاسي ًا جد ًا ولوقعت بسببه عقوبات كبيرة يمكن لها أن‬
‫تتحول إلى مجزرة‪ ،‬وبالمقابل لوال ظروف الحرب أيض ًا لما كان بإمكان‬
‫أحد الفرار وال حتى محاولته‪ ،‬بل وال التفكير به أبد ًا‪.‬‬
‫عند كل شفق كان يجري تعدا ٌد للسجناء بإجراء روتيني يومي ال تتخلف‬
‫عنه ادارة السجن أبد ًا للتأكد من وجودهم بإحصاء كامل عددهم‪ ،‬ومن ثم‬
‫تقفل جميع أبواب األقسام وفي الضحى تفتح األبواب ثانية ليخرج السجناء‬
‫في ساحات صغيرة متجاورة أحدها ينفذ على األخرى وينهمك كل منهم‬
‫بأمر ما يستهويه‪ .‬بعض منهم كان حيوي ًا مرح ًا نشط ًا قوي اإلرادة لم تقدر‬
‫كل سنوات السجن الطويلة وال العقوبات الصارمة ان تفت من عضده‬
‫أو أن تسلبه إرادته وال أن تخلي قلبه من الشجاعة وال عقله من البصيرة‬
‫والحكمة‪ ،‬فيما آخر غدا ذو مزاج قاتم مظلم يسير منعزالً منفرد ًا بمنأى عن‬
‫اآلخرين وبمنجى من الحوار وأسئلة متطفلة قد تجره إلى بث مكنوناته‪،‬‬
‫يجترها وحده لتنعكس على وجهه حزن ًا وأسارير عابسة وصمت ًا على مدار‬
‫ليله وطوال نهاره‪ ،‬لتفعل به أحزانه أضعاف ما تفعله ظروف السجن القاسية‬
‫نفسها‪ .‬هذا وذاك كل واحد منهما ينهمك في عالمه فبعض يمارس الرياضة‬

‫‪280‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫وآخر يجلس تحت شمس الصباح الباردة يقرأ كتاب ًا‪ ،‬ويتجمع آخرون في‬
‫حلقات حوار ودردشة وآخرون ينهمكون في صناعة أشياء يدوية وآخرون‬
‫يقفون وحدهم كأنهم جثث هامدة تنتظر الدفن‪.‬‬
‫منشغل بعالمه الخاص وإذا بصوت‬‫ٌ‬ ‫في ذاك الصباح وبينما الكل‬
‫لتعداد على عجل وإخالء الساحات والدخول إلى األقسام‬ ‫ٍ‬ ‫الحرس ينادي‬
‫فور ًا‪ .‬شهد السجن حركة غير عادية وضوضاء وجلبة من الحرس حتى بعد‬
‫أن تم التعداد االستثنائي غير مفهوم األسباب‪ُ ،‬اقفلت األبواب في خطوة‬
‫غير مفهومة إلى ان انجلت الغبرة بعدها لنكتشف إن مجموعة من السجناء‬
‫قد هربت‪ ،‬اثنان من األقسام المغلقة وآخران من األقسام المفتوحة‪ .‬تم‬
‫اكتشاف ذلك بعد أن أبلغ نزالء الزنزانة إدارة السجن عن اختفائهما من ليل‬
‫البارحة وكانوا يظنون إنهما يبيتان في زنزانة أخرى مع أصدقاء لهم‪ ،‬ألن‬
‫أبواب الزنزانات كانت مفتوحة طوال النهار والمبيت يحصل أحيانا رغم‬
‫أنه لم يكن مسموحا به‪.‬‬
‫هذا الهروب الجريء فتح بوابة الهروب أمام آخرين وكسر حاجز ًا نفسي ًا‬
‫مهم ًا‪ ،‬وكشف عن ضعف الدولة وقتئذ‪ ،‬وبالفعل نجح أكثر من شخص‬
‫بالهروب بعدها‪ .‬بعض محاوالت الهروب كانت مغامرة شيقة تصلح ألن‬
‫تكون فيلم حركة مثير على الطريقة الهوليودية‪ .‬ومنها حادثة مثيرة حصلت‬
‫بعد تزايد حاالت الهروب من خالل إحداث فتحات في السور الداخلي‬
‫بعدئذ من فوق السجن الخارجي بتسلقه بواسطة حبال‬ ‫ٍ‬ ‫للسجن‪ ،‬والعبور‬
‫تصنع داخلي ًا بطريقة محترفة‪ ،‬لذلك قامت اإلدارة بتعزيز الحراسة على‬
‫أبراج المراقبة وعلى األسوار الخارجية بعناية كبيرة‪ ،‬وأصبح العبور على‬

‫‪281‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫السور صعب ًا جد ًا إن لم يكن مستحيالً‪ ،‬ألن كل نقاطه أصبحت تحت األنوار‬


‫الكاشفة وتحت مراقبة مشددة في الليل الوقت المثالي لعمليات الهروب‪.‬‬
‫أي أحد‪،‬‬ ‫اّإل إن أحد السجناء استطاع الهرب بمفرده وبدون مساعدة من ّ‬
‫بخطة جريئة أبهرت الكل‪ .‬وجد هذا السجين المنحدر‬ ‫ٍ‬ ‫ونفذ عملية فراره‬
‫من عائلة كردية تسكن منطقة جبلية بعد مراقبة طويلة ودقيقة‪ ،‬إن النقطة‬
‫الوحيدة التي ال تسلط عليها األنوار الكاشفة تقع تحت برج المراقبة تمام ًا‪،‬‬
‫وتبقى منطقة مظلمة دائم ًا وتشكل زاوية عمياء على الحرس القاطنين‬
‫فوقها‪ ،‬ويستحيل أن يصدق أحد إن من يحاول الهروب سوف يجازف‬
‫بالصعود إلى أكثر النقاط تحصين ًا ويجعل من برج الحراسة نفسه ممر ًا‬
‫لعبوره إلى الضفة األخرى من سور السجن الخارجي‪ .‬وبالفعل ألقى‬
‫بحباله المتينة إلى هناك وبدأ التسلق من تحت هذه النقطة تمام ًا من تحت‬
‫برج المراقبة‪ ،‬ليرتقي السور بخفة ورشاقة وهبط إلى الجهة األخرى فيما‬
‫كان الحرس متيقظين طوال الوقت ينظرون إلى كل الزوايا‪ ،‬ولم يدركوا إن‬
‫هروبه كان من بينهم‪ ،‬اّإل بعد أن ُعثِ َر على الحبل في نهار اليوم التالي وهو‬
‫ما يزال متدلي ًا من الدعامات الحديدية التي يستند إليها برج المراقبة تلوح‬
‫به الرياح‪ ،‬كأنه يسخر من غباوتهم ومن خططهم الفاشلة‪ .‬اختفى السجين‬
‫الهارب تمام ًا عن األنظار من يومها ولم يعثر عليه أبد ًا ال من قبل قوات‬
‫أي جهة أمنية أخرى‪.‬‬
‫األمن وال من حرس السجن وال ّ‬
‫بسبب هذا الضعف األمني السافر بدأ السجناء يفكرون بمحاولة هروب‬
‫جماعي‪ ،‬وجرى االستعداد لهذه المحاولة والتخطيط للسيطرة على‬
‫السجن ليالً‪ ،‬بافتعال حادثة شجار واستدراج الحرس لها ومن ثم اعتقالهم‬

‫‪282‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫والوصول إلى مفاتيح السجن وفتح األبواب أمام جميع السجناء‪ ،‬اّإل إن‬
‫الفكرة ألغيت بعد ذلك لتسرب نية الهروب إلى ادارة السجن فأحبطت‬
‫العملية‪ .‬تراجع منظمو هذه المحاولة عنها في اللحظة األخيرة لحسن‬
‫الحظ‪ ،‬ألنها كانت تحمل كثيرا من العشوائية واالرتجال وكان يمكن أن‬
‫تؤدي إلى مجزرة حقيقية إال أني وبصراحة كنت متحمس ًا لها في ساعتها‪.‬‬
‫إحباط هذه العملية لم يوقف مزيد ًا من عمليات هروب فردية وأحيان ًا‬
‫بعض منها تم في أيام المواجهة حيث استطاع بعض‬ ‫لمجموعات صغيرة‪ٌ .‬‬
‫السجناء الهرب باستنساخ أثر ختم كان يوضع على ذراع كل زائر‪ ،‬يقوم‬
‫السجين الهارب بوضع ذراعه على أثر الختم وينقله إلى ذراعه بعد معالجة‬
‫فنية ويخرج مع أول طالئع المغادرين من العوائل الزائرة ألبنائها‪ ،‬موهم ًا‬
‫ال بعد ترتيب‬ ‫الحرس إنه زائر ويقدم نفسه باسم زائر دخل إلى السجن فع ً‬
‫بطاقة تعريفية له‪ ،‬ثم يخرج الزائر الحقيقي في وقت الحق مع بطاقة تعريف‬
‫شخصية يحملها مضاف ًا إلى الختم الحقيقي الموشوم على ذراعه‪ .‬لم تكن‬
‫تساور حراس السجن الشكوك بعبور سجين باسم زائر حتى إن اكتشف‬
‫خروج االسم نفسه مسبق ًا بالرجوع الى قوائم الزوار ويتم التغاضي عن‬
‫هذا التكرار على إنه خطأ اداري ويمر الموضوع وسط الفوضى التي كانت‬
‫تعم البلد والسجن حينها بسبب ظروف حرب الخليج الثانية واالنفالت‬
‫اإلداري واألمني‪ .‬لم تكشف هذه الطريقة اّإل بعد تكررها وإلقاء القبض‬
‫على أحدهم بعد أن شك أحد الحرس بهوية السجين المتخفي المرتبك‬
‫وهو يرتدي ز ّي ًا غريب ًا محاوالً إخفاء مالمحه وحاول الفرار من الحارس‬
‫الذي استوقفه في محاولة يائسة‪ ،‬ليلقى القبض عليه وتتوقف سلسلة‬

‫‪283‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫الهروب في أيام المواجهة‪.‬‬


‫أما أغرب عمليات الهروب فكانت هروب شاب عرف بصالبته وجرأته‪،‬‬
‫الغريب في العملية إن هذا الشاب كان على وشك أن يطلق سراحه خالل‬
‫أشهر قليلة النقضاء مدة محكوميته اّإل إنه قرر المخاطرة والهروب ولو تم‬
‫إلقاء القبض عليه لدفع ثمن ذلك غالي ًا بسنوات طويلة إضافية يقضيها في‬
‫السجن وعقوبة شديدة‪.‬‬
‫واحدة من عمليات الهروب المشوقة في جميع أحداثها حصلت‬
‫حين ادعى سجين المرض الشديد في أحدى الليالي وأقنع الكل بما فيها‬
‫إدارة السجن بإصابته بالتهاب الزائدة الدودية‪ .‬تحسن معاملة ادارة السجن‬
‫للسجناء في حينها وفرت فرصة لنقل السجناء المرضى ذي الحاالت‬
‫الخطرة والطارئة إلى مستشفيات خارجية للعالج‪ .‬وبالفعل تم نقل هذا‬
‫السجين إلى مستشفى خارجي في منطقة الكرخ في منطقة سكنية كبيرة‪،‬‬
‫وهناك ظل مصر ًا على ادعاء المرض وأجريت له عملية الزائدة الدودية‬
‫بالفعل‪ ،‬ليحظى بفرصة البقاء في المستشفى ريثما يتعافى من آثار العملية‬
‫ولكنّه استطاع الهرب بعد ليلة واحدة قضاها في هذه المستشفى وهو ما‬
‫يزال يأن من جراح العملية وآثارها‪ .‬حمل أوجاعه معه في قصة مثيرة‬
‫واستطاع الهرب إلى مدينته وتجاوز مفارز تفتيش كثيرة رغم إن اسمه وزع‬
‫عليها في أحداث مثيرة ومن ثم أكمل رحلته إلى خارج العراق ليستقر هناك‬
‫أي جهاز أمني الوصول إليه أبد ًا‪.‬‬
‫ولم يستطع ّ‬

‫‪284‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪19‬‬
‫***‬
‫ساد التفاؤل كثير ًا وبدا إننا نعيش العام األخير في السجن وعمر النظام‪،‬‬
‫خصوص ًا مع اندالع انتفاضة شعبية كبيرة شملت معظم أرجاء البلد‪ ،‬عززها‬
‫فقدان السيطرة الحكومية على أربعة عشر محافظة من أصل ثمانية عشر‬
‫بعد هزيمة قاسية مذلة للجيش في حرب الخليج الثانية كلفت البلد آالف‬
‫الضحايا من الجنود والمدنيين وخسائر مادية هائلة‪ .‬تُوج كل هذا التهاوي‬
‫لسلطة وهيبة النظام‪ ،‬باستسالم ٍ‬
‫مخز لقيادة طالما تبجحت بقدراتها الحربية‬
‫الفارغة وبكبرياء أجوف‪ ،‬وجلست في اآلخر راضخة مستسلمة لكل‬
‫شروط الغزاة في خيمة صفوان الشهيرة‪ .‬كانت تصلنا األخبار عبر أجهزة‬
‫الراديو التي شاع وجودها بين السجناء حتى بعلم سلطات السجن وإن بغير‬
‫رضاها‪ ،‬وبدا إن عملية غزو الكويت قوضت النظام تمام ًا ولم تعد المسألة‬
‫سوى مسألة وقت قصير لسقوط حتمي لهذا النظام الهمجي العبثي‪.‬‬
‫تغير سلوك إدارة السجن تجاه السجناء بشكل كامل‪ ،‬وصار ودي ًا جد ًا‬
‫لكنه مرتبك أيض ًا‪ ،‬فمع إنهم ظلوا يمارسون دورهم الرسمي بإدارة السجن‬
‫وتنظيم أموره وفق التعليمات العامة‪ ،‬اّإل انهم بدأوا يهابون السجناء بشكل‬
‫أي مظاهر عدائية حتى مع صدور مخالفات جدية‬ ‫جدي ويتجنبون إبداء ّ‬
‫حقيقية‪ .‬هذه المخالفات لو صدرت في وقت سابق ولو بمقدار عشر معشارها‬
‫لكانت العواقب ال تحتمل‪ ،‬أما اآلن فتمر بسالم وكأنه لم يحدث شيء‪ .‬صار‬
‫الحرس يتوددون للسجناء وسط إيمان من الكل من سجين وسجان إن هذه‬
‫الحرب هي نهاية النظام الفعلية‪ ،‬وإنها دقت آخر مسمار في نعشه وسوف‬
‫‪285‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫يحمل إلى مزبلة التاريخ مقبرته ومقامه الالئق به في وقت قريب جد ًا‪ ،‬وما‬
‫على الكل سوى قليل من الصبر لحضور مراسم الدفن الرسمية‪.‬‬
‫خالل أيام الحرب كنّا نسمع صوت االنفجارات المرعب من الطائرات‬
‫والصواريخ األمريكية وهي تدك العاصمة‪ ،‬عبر فتحات شبابيك علوية‬
‫في أحد األقسام الجديدة‪ ،‬كنّا نرى لهب نيران االنفجارات الهائلة تضيء‬
‫السماء وتزيدنا قلقا لما يحصل بالبلد‪ ،‬مع مخاوف جدية من احتمال‬
‫تعرض السجن هو اآلخر لضربة جوية مماثلة لهذه الضربات لكونه يقع في‬
‫منطقة عسكرية (معسكر ابو غريب)‪ .‬وبالفعل سمعنا في إحدى األمسيات‬
‫أصوات انفجارات قريبة جد ًا أرعبتنا لشدتها ولهول قوتها‪ ،‬بل رأينا‬
‫صواريخ كروز أمريكية تتجه إلى أهدافها وال أحد يقدر على اعتراضها من‬
‫الدفاعات الجوية وتعبر بسالم من فوق السجن وعلى ارتفاعات منخفضة‬
‫جد ًا‪ ،‬بحيث كان باإلمكان أن نرى كل تفاصيلها بسهولة وكأنها من شدة‬
‫انخفاضها طائرة تستعد للهبوط في مدرج مطار قريب‪.‬‬
‫في إحدى النهارات وبينما كنا في ساحة السجن الخارجية مرت من فوقنا‬
‫ثالثة من هذه الصواريخ‪ ،‬وحاول حارس في أحد أبراج المراقبة أن يطلق‬
‫الرصاص عليها ظن ًا منه إنه قادر على إسقاطها‪ ،‬فهب عليه السجناء بصراخ‬
‫جماعي يوبخوه خشية أن يغير الصاروخ اتجاهه وينفجر فوق السجن‪.‬‬
‫بالطبع هذا االحتجاج لم يكن عن دراية وال عن علم بهذه الصواريخ‬
‫وال بالشؤون العسكرية‪ ،‬ألنه ال يوجد أحد من السجناء يملك معلومات‬
‫عسكرية حقيقية بمستوى محترف اّإل اشخاص قلة ال يتجاوز عددهم‬
‫أصابع اليد الواحدة وهناك شكوك جدية في اطالعهم على معلومات‬

‫‪286‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫تخص أسلحة متطورة كالتي نتحدث عنها‪ .‬هذا االحتجاج كان يعبر عن‬
‫حالة الضعف المتردي التي بلغها النظام واألمن في السجن بحيث صار‬
‫السجناء ال يهابون أحد ًا من رجاله‪ ،‬وباألحرى صار الحرس هم من يهابون‬
‫السجناء‪ .‬لم تكن هذه الحادثة هي المرة الوحيدة التي عرت وكشفت هذا‬
‫التردي األمني في حراسة السجن والسيطرة عليه‪ ،‬ففي يوم وفي عز الظهيرة‬
‫هرب أحد سجناء األقسام المفتوحة من فتحة صنعها في السور الخارجي‬
‫للسجن‪ ،‬واكتشف حركته أو باألحرى اشتبه أحد حراس أبراج المراقبة‬
‫بوجود حركة مريبة بين األحراش واألدغال المحيطة بالسجن فبدأ يطلق‬
‫النار عليها‪ ،‬فما كان من السجناء اّإل أن بدأوا بالصراخ عليه وهو يحاول‬
‫أن يفسر لهم ما يحدث‪ ،‬وهم يردون عليه بكلمات هي أقرب للتهديد من‬
‫النصح‪ ،‬كانوا يقولون له‪:‬‬
‫‪ -‬أخي‪ ،‬ال تورط نفسك! قد يكون هذا السجين الذي تدعي هروبه في‬
‫مرمى طلقاتك وينال إصابة قاتلة منك‪.‬‬
‫‪ -‬إذا تعرض للموت ماذا سيكون ردك؟‪.‬‬
‫‪ -‬هذا السجين حتم ًا وراءه من سوف يطالبك بدمه لو حصل مكروه له‪.‬‬
‫لم تكن هذه الحالة المنفلتة في السجن فقط‪ ،‬بل في عموم البلد‪ ،‬وكنّا‬
‫نراها ونسمعها في أحاديث الزوار وعلى وجوه أهالينا الذين نلتقيهم أيام‬
‫المواجهة حينئذ‪ .‬موجة التفاؤل الكبيرة بانهيار النظام في العاجل القريب‬
‫كانت طاغية على كل شيء‪ .‬مع إني كنت ضمن قالئل ينظرون بسلبية لدور‬
‫القوات األمريكية وهجماتها على البلد ولم أكن أرجو خير ًا منهم‪ ،‬وما‬

‫‪287‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫زلت مواظبا على عدم الثقة بسياسة أمريكا وأعدها ُا ّس البالء في العالم كله‬
‫وليس في منطقة الشرق األوسط وحسب‪ ،‬وعندما أقول من ضمن قالئل‬
‫بأي طريقة‪،‬‬‫ألن الجو السائد كان خالف ذلك وكان يتمنى سقوط النظام ّ‬
‫حتى إنه في أحد األيام وبعد نقاش عن هذه الحرب وجه أحدهم لي كلمة‬
‫فيها تشكيك بأصل معارضتي للحكم الفاشي‪ .‬كانت لحظة عابرة لم تؤثر‬
‫على عالقتي الشخصية مع هذا الصديق أبد ًا وما زلت أحتفظ بصداقته حتى‬
‫هذه اللحظة وال أظن سوف يصيبها شيء في المستقبل سوى مزيد ًا من‬
‫عرى الوثاقة‪ ،‬لكنها كانت مؤشر ًا مهم ًا على إن المعارضة السياسية ينبغي‬
‫عليها أن توسع افقها وتتخلى عن خصوماتها الشخصية‪ ،‬وان تجعل غايتها‬
‫إرساء المبادئ الحقة واهدافها في خدمة شعبها بوسائل صحيحة أخالقي ًا‪،‬‬
‫وأن تكون هذه األخالقيات هي المرشد والدليل القائد في جميع مواقفها‬
‫السياسية وال تسير وراء دوافع ذاتية وال خلف مشاعر االنتقام الشخصي‪.‬‬
‫سبيل االنتقام الشخصي األناني رغم كل األعذار التي تساق لتبريره‬
‫سوف يبقي الشعوب في تيه ال تجد منه مخرج ًا وتظل تدور في حلقة‬
‫معبأة بالكوارث والفتن وفي النهاية يضيع الشعب كله وإن كان معه بطل‬
‫عبوره موسى النبي نفسه ولن يجد لهما أحد من أثر سوى حكايا قديمة‬
‫تصلح للتسلية وللغارقين في أحالم لن يتحقق منها شيئ لتغدو بطول أمدها‬
‫كابوس ًا سرمدي ًا مزعج ًا‪.‬‬
‫بيد إن األمور جرت خالف كل التوقعات واستعاد النظام سيطرته على‬
‫أجزاء كبيرة من البلد وبدأ بحملة قمع شديدة‪ ،‬مماثلة تقريب ًا في قسوتها‬
‫لحملة مشابهة جرت في السنوات األولى للحرب‪ ،‬لكن هذه المرة لم‬

‫‪288‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫تستغرق هذه الحملة سوى أشهر قليلة ومع ذلك خلفت آالم ًا عظيمة‬
‫وضحايا بأرقام مرعبة‪ .‬وبعد أن أخذ النظام تفويض ًا غير علني من القوات‬
‫األمريكية بقمع االنتفاضة الشعبية بالسماح له باستخدام الطيران العمودي‬
‫واطمأن إلى أن هذه الحملة العسكرية الجبارة التي دمرت كل شيء في‬
‫البلد لن تستهدف السلطة القمعية ورأسها‪ ،‬بدأ عملية استرجاع النظام‬
‫لسيطرته الكاملة على معظم المدن التي انشقت عنه في عمليات عسكرية‬
‫وحشية خلفت رعب ًا عظيم ًا وفزع ًا كبير ًا بين الشعب‪ ،‬وموت ًا انتشر في‬
‫صحاري وسهوب ووديان وجبال الوطن الذي تحول إلى محرقة ومقبرة‬
‫هائلة‪ .‬حينئذ انقلب التفاؤل الكبير الذي كان يظهر على وجوه السجناء‬
‫وفي كلماتهم إلى تشاؤم أكبر منه‪.‬‬
‫في صباح يوم وبينما كان السجناء في األقسام المفتوحة يتجولون في‬
‫ساحة كبيرة مخصصة لهم بحجم مساحة ملعب كرة القدم‪ ،‬صعد على‬
‫سطح السجن رجال مسلحون ببنادق قنص وصدر أمر لجميع السجناء‬
‫بواسطة مكبرات صوت يدعوهم إلى الدخول فور ًا إلى األقسام‪ ،‬وحذر‬
‫بأن من يتخلف عن االستجابة الفورية يعرض نفسه لخطر الموت‪ .‬كان‬
‫ِ‬
‫حي‬
‫ب بها وفوجئ السجناء برصاص ّ‬ ‫طلب ًا يستحيل تنفيذه بالسرعة التي ُطل َ‬
‫يوجه لهم من قناصة متهيئين لعملية قتل عشوائي مما أردى بعضهم في‬
‫الحال‪ ،‬وهام السجناء يجرون في كل االتجاهات ال يعرفون أين يختبئون‬
‫وال بمن يستجيرون‪ .‬ثم بدأ هجوم كبير عليهم من قوات أخرى كانت على‬
‫أهبة االستعداد ومتهيئة للقيام بعملية انتقام كبيرة‪ ،‬وعاد الرعب من جديد‬
‫يخيم بمشاهد التعذيب االنتقامي والقسوة المفرطة‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫استمر الحال هكذا لعدة أسابيع‪ ،‬رعب وخوف يطبق على األنفاس وفي‬
‫الليل تشن غارات أمنية على السجن من قبل قوات أمنية ال ُي ْع َرف لصالح‬
‫أي جهة أمنية تعمل‪ ،‬وفي كل مرة كان يتم اختطاف مجموعة من السجناء‬ ‫ّ‬
‫المعروفين بنشاطهم العام‪ ،‬مجموعة تلو األخرى واقتيدوا إلى معسكر‬
‫الرضوانية حيث جرت فيه تصفية المعارضة المنتفضة وهناك اختفوا إلى‬
‫أي أثر لهم بعد ذلك الى يومنا هذا‪.‬‬
‫األبد‪ ،‬ولم يعثر على ّ‬
‫كان تنفيذ االعتقال يتم بطريقة تدخل الهلع والفزع في قلوب السجناء‬
‫ويطبق صمت كامل حين تدخل مجموعة من الجالدين ليبدأ أحدهم بقراءة‬
‫مجموعة من أسماء سجناء مطلوبين ثم يقتادوهم مكبلين معصوبي األعين‬
‫في اعتقال جديد‪ .‬وسمعنا فيما بعد وقت ليس بالقصير قصص ًا مرعبة عن‬
‫تصفية المتهمين بالمشاركة في االنتفاضة الشعبية وآخرين كانوا في معسكر‬
‫الموت هذا‪ ،‬بعد أن عاد بعض السجناء أحياء من هذا المعسكر الرهيب‪.‬‬
‫كما سمعنا تفاصيل عن حوادث قتل عشوائي كانت تجري بإشراف أكبر‬
‫الشخصيات المتحكمة بزمام الحكم في البلد‪ ،‬ومنها هذه القصة التي‬
‫أنقلها بإيجاز مخل لقسوتها‪.‬‬
‫أحد اركان النظام (ح‪.‬ك) كان يشرف شخصي ًا على عمليات التعذيب‬
‫وهو شخص مشهور بقسوته وشغل مناصب ًا حكومية رفيعة‪ ،‬وقف على‬
‫رأس مجموعة معتقلين في هذا المعسكر وبعد أن تعرضوا لحملة تعذيب‬
‫في تحقيق وحشي أمام عينه‪ ،‬طلب منهم بأن يديروا ظهورهم له ويسيروا‬
‫قائ ً‬
‫ال لهم‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أطلق الرصاص‪ ،‬ومن تصيبه الرصاصة ويموت فهو مجرم‬

‫‪290‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫خائن‪.‬‬
‫وبدأ يصطادهم واحد ًا تلو اآلخر بمسدسه الشخصي ولم ينج منهم اّإل‬
‫قليل حالفه الحظ وقتها‪ ،‬لكن القاتل لم ينج‪ ،‬فبعد أعوام قليلة فقط ذبح هو‬
‫وشقيقه ووالده وهدم داره من قبل نفس النظام وبأمر مباشر من سيده الذي‬
‫اتبعه كالكلب الوفي طوال عمره‪.‬‬
‫سمعنا بهذه القصص المرعبة بعد وقت طويل‪ ،‬ألن من كان يعود من‬
‫هذا المعسكر يعود صامت ًا ال ينبس ببنت شفة عن سبب اختطافه واحتجازه‬
‫في هذا المعسكر الرهيب وال يتحدث عما جرى هناك‪ ،‬بل يرجع مق ً‬
‫ال إلى‬
‫حد كبير في أحاديثه الخاصة والعامة‪ ،‬وال يتكلم اّإل بحدود الحاجة‪ .‬كان‬
‫يبدو واضح ًا إن العائدين من هذا المعسكر الرهيب تعرضوا لصدمة نفسية‬
‫هائلة‪ ،‬أفقدتهم القدرة على النطق وأزاحت الثقة منهم بكل أحد‪ ،‬لذلك‬
‫لم يجدوا من يبثوا إليه حزن تلك الصور الرهيبة التي شهدوها‪ ،‬واختاروا‬
‫االنطواء واالنعزال والتقوقع في مشهد كان يثير الرعب فينا‪ ،‬وربما حتى‬
‫أكثر مما كان في تلك الصور نفسها من قسوة‪ ،‬وهكذا يفعل الرعب‬
‫والخوف بصاحبه‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫‪20‬‬
‫***‬
‫بعد مرور عدة أسابيع وبعد أن اخمدت االنتفاضة تمام ًا‪ ،‬توقفت هذه‬
‫اإلجراءات القاسية‪ ،‬وبدا أيض ًا إن النظام أضحى واقع ًا تحت ضغط دولي‬
‫كبير لإلفراج عن السجناء السياسيين في جملة ضغوط واسعة مورست‬
‫لتجريده من قوته‪ ،‬بل تجريد البلد من كل شيء في مخطط كبير وعميق‬
‫لهدم الدولة العراقية بالكامل‪ ،‬والسير بها وئيد ًا نحو مرحلة الدولة الفاشلة‬
‫في عملية طويلة استغرقت عقود ًا‪ .‬حاول النظام تفادي الضغط‪ ،‬وفي خطوة‬
‫ترضية وتهدئة شعبية ودولية في الوقت عينه‪ ،‬أصدر عفو ًا عام ًا عن السجناء‬
‫السياسيين بمناسبة يوم ميالد الطاغية‪ ،‬الذي كان يحتفل به رغم كل الهزائم‬
‫والجراح والجوع والموت المنتشر في أرجاء البالد‪ .‬اّإل انه وبرغم كل هذه‬
‫الضغوط لم يطلق سراحنا كما هي العادة في كل عفو كان يعلن عنه طوال‬
‫عقد الثمانينات‪ ،‬واكتفى باطالق سراح السجناء السياسيين من األقسام‬
‫المفتوحة فقط‪ .‬ورغم مرور عدة أشهر على وعوده بإطالق سراح كل‬
‫أي بوادر على ذلك‪ ،‬وصرنا نظن إننا سوف‬ ‫السجناء السياسيين لم تظهر ّ‬
‫نواصل حياة السجن كالمرات السابقة حتى مع هذه التطورات الدراماتيكية‬
‫في البلد‪.‬‬
‫في هذه المرة كما في مرات سابقة تعرفنا على أسماء وأرقام المواد‬
‫التي حكم بها علينا‪ ،‬وكانت أول مرة نتعرف بها على أرقام المواد القانونية‬
‫أي من المعتقلين لم يلق‬ ‫التي ُحكمنا بها عندما صدر أول عفو رئاسي‪ّ .‬‬
‫باالً لما كان يثرثر به القاضي في المحكمة الصورية في قرار الحكم‪ ،‬ألن‬
‫‪292‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫جو السخرية واالستهزاء والالمباالة من هذه التمثيلية السخيفة والمحاكمة‬


‫الصورية كان يسيطر على األجواء‪ .‬كان القاضي يحاول أن يظهر نفسه مع‬
‫المحامي والمدعي العام كأنهم في محكمة حقيقية‪ ،‬وكأن التهم حقيقية‬
‫تسندها أدلة قاطعة وبراهين ثابتة‪ ،‬وإن ما جرى هو تحقيق قانوني عادل‬
‫وإن الدفاع قد بذل جهده واطلع على الملفات وفحصها بعناية وإخالص‪،‬‬
‫وليس إن األمر كله كان عبارة عن ته ٍم جزاف تلقى بال أدنى دليل وال برهان‪،‬‬
‫وإن التعذيب الوحشي كان الوسيلة الوحيدة النتزاع االعترافات‪ ،‬وكثير من‬
‫التهم كانت غير حقيقية كما هي االعترافات‪ ،‬وال إن القاضي والمدعي‬
‫العام ومحامي الدفاع كلهم طالبوا بالموت للمتهمين‪ ،‬وكانوا يقفون في‬
‫خندق واحد بالعداء السافر أمام معتقلين ال دليل عليهم سوى تهمة ُالقيت‬
‫عليهم بنا ًء على شبهة واستناد ًا إلى شكوك وظنون وتقارير وشاة ومخبرين‪.‬‬
‫وهل كانت المحاكمات أصولية حتى نقيم لها وزن ًا او تلفت انتباهنا؟‬
‫ولماذا نعير انتباهنا لما يتفوه به حاكم عسكري تلقى األوامر عليه بإصدار‬
‫أحكام ال رأي له فيها وال قرار؟ ألم يكن مجرد بوق ينقل صوت طاغية‬
‫يحكم بالحديد والنار؟ جل السجناء كانوا ال يميزون بين مادة وأخرى‪،‬‬
‫بل وال يعرفوها أس ًاس ًا لألسباب التي ذكرتها‪ ،‬حتى جاء أول عفو رئاسي‬
‫في منتصف الثمانينات تقريب ًا‪ ،‬وبدأت وقتها حملة إلخراج بعض السجناء‬
‫من األقسام المغلقة إلى األقسام المفتوحة‪ ،‬تمهيد ًا لإلفراج عنهم‪ .‬وجاء‬
‫وقتها رجال األمن يسألون عن أسماء السجناء وأرقام المواد التي ُحكموا‬
‫بها إلعداد قوائم إدارية تنظم عملية إطالق سراح المشمولين بالعفو‪.‬‬
‫استغربت ذلك وقتها‪ ،‬اذ لم أكن أميز مادة عن أخرى وكنت ال أظن أن‬

‫‪293‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫بين سجين وآخر من فرق ال بشكل التحقيق وال بنوع االتهام وكنت أظن‬
‫ان الجميع في مركب واحد‪ ،‬لكن ساعتئذ تبين إننا لسنا كذلك وان التهم‬
‫تختلف ولم أتفطن إلى السبب الحقيقي لهذا التمايز اّإل بعد فترة‪ ،‬حيث‬
‫كان واضح ًا إن المحكومين في فترات التوتر الشديد على جبهات القتال‪،‬‬
‫كانوا ينالون أشد األحكام وأقساها ويحكمون باسوأ المواد القانونية‪ ،‬أما‬
‫من حكم عليه في فترة سابقة الندالع الحرب أو في أولها حين كان الجيش‬
‫العراقي يحقق فيها انتصارات كانت المواد القانونية أقل وطأة في عقوباتها‬
‫وكذلك هي األحكام‪ .‬أضحيت أدرك من حينها إن التهمة التي حكمت‬
‫أي تخفيف ألنها أشد المواد قسوة‪ ،‬بل وصار البعض‬ ‫بسببها لن ينالها ّ‬
‫يخشى أن يمتد الحكم المؤبد أكثر مما هو عليه‪ ،‬خصوص ًا بعد أن تم تغيير‬
‫قانون مدة السجن المؤبد من عشرين سنة إلى خمسة وعشرين سنة في بلد‬
‫أي أحد‪.‬‬ ‫كان يمكن أن يكون للقانون أثر رجعي بال نقاش وال اعتراض من ّ‬
‫ومن ينسى صدور قانون شرع حكم الموت لكل منتم لتنظيم معارض ولو‬
‫كان قد انسحب منه بالفعل حتى قبل صدور ذلك القانون‪ .‬قطعت بهذا‬
‫القانون الغريب عشرات آالف الرقاب من الشباب وبتهم ملفقة في كثير‬
‫من الحاالت‪ .‬فإذا كان القانون يحكم بالموت على فعل لم يكن جريمة‬
‫قبل صدوره‪ ،‬فهل كان يجد حرج ًا لو مدد الحكم على من هو أص ً‬
‫ال اآلن‬
‫مدان بجريمة؟‪.‬‬
‫بأي عفو‬
‫المناخ السائد كان يشير إلى ما هو معتاد من عدم شمولنا ّ‬
‫وأصبحنا نك ّيف أنفسنا لذلك‪ ،‬وفي وقتها ظهر زعيم النظام وقال ال يوجد‬
‫لدينا سجناء سياسيون وسألنا أحد رجال األمن عن ذلك وقلنا له إذن ماذا‬

‫‪294‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫نعتبر نحن؟ فأجابنا ٍ‬


‫برد يعكس االستخفاف بالقانون والتالعب باأللفاظ‬
‫الذي تمارسه السلطة القمعية آنذاك‪.‬‬
‫‪ -‬أنتم نزالء ولستم سجناء‪.‬‬
‫لكن يبدو إن بعض الهاربين من السجن استطاعوا أن يسربوا أسماءنا‬
‫نحن سجناء األقسام المغلقة تحديد ًا‪ ،‬إلى جهة دولية محايدة وسلموها‬
‫قوائم مفصلة بشكل واضح جد ًا عن عدد وأسماء السجناء السياسيين‬
‫في األقسام المغلقة‪ ،‬مما اضطر النظام إلى االعتراف أخير ًا بوجودنا في‬
‫السجن و ُأجبر على إطالق سراحنا في إجراءات سريعة مستعجلة وخالل‬
‫أقل من أسبوع واحد‪ ،‬قبل موعد زيارة مبعوث دولي كبير كان يحمل‬
‫القائمة الطويلة بأسمائنا معه‪ .‬وبالرغم من كل ذلك فقد استثني عدد قليل‬
‫من السجناء وظلوا لفترات أطول بل إن بعضهم أكمل عشرين عام ًا بالتمام‬
‫والكمال في تلك الزنزانات المريعة‪.‬‬
‫في يوم شتائي قصير‪ ،‬تحديد ًا ليلة واحدة قبل عشية أعياد الميالد‪ ،‬استدعيت‬
‫اللتقاط صورة لي وألخذ بصماتي‪ .‬جلست مع مجموعة من السجناء في‬
‫ساحة كبيرة جد ًا تفصل بين باب قسم األحكام الخاصة والباب الخارجي‬
‫للسجن‪ ،‬حيث قضيت خلفه تسع سنوات وأربعة اشهر وخمسة أيام‪.‬‬
‫جاء رجل أمن بدين معروف بغبائه وقسوته يطلب منا المسامحة وبراءة‬
‫الذمة عما بدر منه تجاهنا‪ ،‬ويرجو أن ال يحقد أحد عليه ويبرر ذلك بأنه‬
‫كان يؤدي واجبه فقط‪ ،‬ثم يطلب من السجناء أن يتفهموا ذلك وأن ال‬
‫تؤخذ األمور على محمل شخصي‪ .‬ثم قال‪ ،‬عليكم اآلن وأنتم تخرجون‬

‫‪295‬‬
‫من شقوق الظالم‬

‫من السجن أن تهتفوا بحياة السيد الرئيس القائد‪ ،‬وأن تشكروه على عفوه‬
‫أي من كلماته الغبية‪،‬‬
‫وكرمه ومسامحته لكم‪ ،‬ونحن صامتون ال نرد على ّ‬
‫بل إني همست في ُأذن صاحبي بشتيمة مقذعة ذكرت فيها اسم القائد نفسه‬
‫صريح ًا‪.‬‬
‫هبط الغسق ونحن ال نزال في إجراءات اإلفراج‪ ،‬أتطلع إلى الجدران‬
‫اإلسمنتية العالية ومن خاللها تنبعث أمامي صور فتية من خيرة شعبنا قضوا‬
‫خلفها‪ ،‬وضاعت قدراتهم الخالقة ومواهبهم الرائعة تحت سنابك خيل‬
‫مسعورة‪ ،‬وطأتهم بحوافرها الحديدية وخلفت في صدورهم ندوب ًا عميقة‬
‫سيحملها أمثالي من بقية السيف طوال عمره المتبقي‪.‬‬
‫خيم الليل على السجن ونحن نهم بالخروج عبر البوابة الكبيرة وحينها‬
‫سألني سجين كان إلى جواري‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو شعورك اآلن وأنت تخرج من السجن؟‪.‬‬
‫فأجبته بما كان يجول في ضميري‪.‬‬
‫‪ -‬بال شعور‪.‬‬
‫لندن‬
‫‪2019-09-07‬‬
‫‪‬‬

‫‪296‬‬

You might also like