Professional Documents
Culture Documents
من شقوق الظلام
من شقوق الظلام
ناهض الهندي
من شقوق الظالم
5
من شقوق الظالم
6
من شقوق الظالم
إهداء
7
من شقوق الظالم
8
من شقوق الظالم
نفثة
***
9
من شقوق الظالم
(على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا) كافكا
***
هذه األسطر ليست رواية من الخيال ،بل إنها حقيقية بكل تفاصيلها،
قادر على جمعها كلها ،لذلكمثلها مثل كل الحقائق ،ليس هناك من أحد ٍ
ضاع الكثير جد ًا مما كان يجب ذكره وكان في نيتي أيض ًا سرده .إنما
يلزمني القول مشدد ًا إن كل السرد اآلتي ليس ألجل السرد فقط ،وال هو
مثل حكايات العجائز التي تخرج مقترنة مع دفء المواقد في ليالي الشتاء
الطويلة الباردة .وال هو حديث عن بطوالت ألفراد قضوا ،وال أبحث فيه
عن إدانة ألحد.
ما مضى قد مضى ال سبيل لعودته ،وما انفرط عقده ال يمكن جمعه ،وما
سكب امتصته األرض إلى عالمها السفلي .إنه ببساطة ليس حديث ًا يروى،
بل ألم ًا يتلوى شديد ًا في داخلي ال أقوى على السيطرة عليه حتى بعد
مرور ما يزيد على أكثر من عقدين على مغادرتي زنزانتي آلخر مرة ،رغم
محاوالتي الكثيرة للفرار منه ،والتي باءت جميعها بالفشل لسوء الحظ.
لم أجهد نفسي في اختيار عنوان لتجربتي هذه التي قد يحلو للبعض
أن يسميها رواية وربما آخر ينعتها بالمذكرات .وان كانت في حقيقتها
10
من شقوق الظالم
ليست كذلك بالنسبة لي ،وأنا أعرف من غيري بما كتبت وبما يعتمل في
نفسي .هي بضعة مني ال أقدر على الفكاك عنها وال الخالص منها .لم
أفكر باختراع عنوان لمجموعة السطور هذه ،بل جاء العنوان هكذا تلقائي ًا
مثلما جاءت التجربة نفسها بال تحضير الزم ،رغم أني كنت أتوقع حصول
االثنين .انبثق العنوان مثل دافع غريزي ُجبلت عليه الفطرة االنسانية و َم ُث َل
أمامي مغلق ًا كل المنافذ على ّ
أي خيار آخر.
السجن ،كان مكان ًا مظلم ًا شديد العتمة مغلق ًا بإحكام شديد ،إلى درجة لم
تسنح لي وال حتى فرصة واحدة لمغادرة الزنزانة العفنة برطوبتها ،المظلمة
بجدرانها الرمادية الغامقة ،والمزدحمة دائم ًا بأجساد بشرية وكائنات أخرى
ٍ
ولسنوات طويلة حتى وال لساعة واحدة حشرات وهوام .لم يحدث لي ٍ من
علي ،طيلة سبع سنوات تقريب ًا،
شمس ّ ٌ أن تنفست هوا ًء نقي ًا وال أن سطعت
مع أني في الواقع مكثت في السجن أكثر من ذلك .لذا كان السجن بالفعل
أي كائن من الخارج على رؤية ما في داخله .وإذا صندوق ًا مظلم ًا ال يقوى ّ
كان كذلك فكيف يتسنى لي أن اخذ القارئ اليه واطلعه عما يجري فيه ،اّإل
عبر وسيلة بدائية وحيدة ،هي استراق النظر من شقوق صغيرة في جدره
الصماء .أدرك كما تدركون إن أشق النظر وأصعب الرؤية هو أن تشخص
بصرك في صندوق مظلم تبحث فيه عما يدلك لما يحدث داخله.
إنها محاولة أشبه بعبث مجنون ،لكن كان لزام ًا ّ
علي فعلها ليس
ألجل أحد ،إنما ألجل خاطري المبرح ألم ًا من جلد ذكريات تولد معي
كل صباح .ألم يضطجع معي في الفراش ويسير إلى جنبي في الطرقات،
وعندما يختفي ظلي في الفيء يبقى هو متسمر ًا إلى جنبي ،ويعلو على كتفي
11
من شقوق الظالم
ٍ
سبيل للخالص من أنينه المستدام وهامتي .لعلي بمحاولتي هذه انفذ إلى
ٍ
بلسان أخرس .ذاكرتي ومن نشيجه الصامت في عويله وبكاءه الصاخب
المثقوبة هي الشقوق الوحيدة التي أملكها ،وبوسع من هو خارج الصندوق
أن يطلع من خاللها على ما في داخله .ومع ذلك أجزم أن لن يستشعر أحدٌ
أبد ًا برد الظالم وال وحشته كما شعرت بهما .سوف تغيب عنه أشياء كثيرة
علي أن اقول ،أن عددها ال يحصى وأعجز حتى أنا الخبير جد ًا من السهل َّ
بها (ألني عاصرتها) أن استرجعها جميع ًا .أشياء تخفيها حلكة ظالم داكنة
ال تزال تخيم على وقائع تلك األيام في ذاك المكان المنسي.
كل ما سوف أرويه حقيقي تمام ًا ال زيادة فيه وال مبالغة ،بل العكس هو
الصحيح تمام ًا .من االنصاف أيض ًا أن اقدم اعتراف ًا مسبق ًا ،بأني فشلت في
وصف الصورة الحقيقية بل عجزت عن ذلك تمام ًا .هذه الصورة حاولت
إلي ،ولسوء الحظأن أقدمها مرار ًا لمستمعين أجبرتهم على االنصات ّ
رأيت فشلي على مالمح وجوههم في كل هذه المرات .لم تسعفني براعتي
في األحاديث المسهبة أن أجعلهم يعيشون األلم والمرارة التي عشتها،
ليس فقط ما عانيته من ألم حين وقعت الوقائع ،بل حتى آثارها التي تتفجر
اقو على ايصالها لهم .فكيف لي بعد وأنا انكأ الجروح حين أحدثهم بها لم َ
هذا أن أتخيل أنهم سوف يتحسسوا ما عشته يومئذ أو إن القارئ سيفعل؟.
علي أن أثبت صحة قولي هذا ،لكنه صحيح رغم من العسير جد ًا َّ
ذلك .كل ما سوف ُيقرأ هنا ،هو صورة بالغ ٌة في البهاتة لما جرى في عالم
الحقيقة ،وعزائي الوحيد أن هذا الكون ال يخلو من بعض األذكياء ذي
النباهة العالية الذين سيدققون النظر جيد ًا في ثرثرتي هذه ،وسوف يبذلوا
12
من شقوق الظالم
غاية جهدهم ليعيدوا رسم الصورة بأفضل مما فعلت .وأني على يقين أيض ًا
أن بعضهم ممن ال أراه هذه األيام لنكد دنياي التي أعيشها سوف يجعلها
صورة ماثلة أمام عينيه أبد ًا حتى ال يعود أحدٌ غيري يرسم عذاباته من جديد
على الورق ويخدش به جمال الحياة .لهؤالء أكتب ،وارجو أن يصل اليهم
صوتي المبحوح من صراخ أستصرخ به غيرهم بال جدوى ،ألنهم وحدهم
من سيحاول أن يمنع اعادة طبع قصتي هذه ثانية.
في أحد األيام وبمناسبة عامة ،التقيت صديق ًا كان سجين ًا مثلي ،وألننا
ٍ
شيء آخر فقد ُا ْدلقنا في بئر أي
نحسن الحديث عن أيام السجون أكثر من ّ
الذكريات ،وقال لي عبارة بليغة المست شغاف قلبي ،كانت تجول في
داخلي خاطرة ولم أجد لها منفذ ًا عبر الحروف والكلمات اّإل حين أ ْط َلقها
بعفوية وبراءة ال أتوفر عليها كما يحوزها هو.
قال صديقي ونحن نجلس على رصيف تظللنا الشمس:
-لشدة المعاناة التي مررت بها ،تمنيت من يومها أن ال يتذوق هذا
العذاب أحدٌ غيري بعدي ،ولو كان جالدي نفسه .ونحن بالطبع نعرف
جالدينا بأسمائهم وذواتهم ،ومع ذلك لم يخطر ببالنا أن نُنزل بهم العذاب
الذي أنزلوه بنا.
هذه المقولة الرائعة لصديقي هي عصارة ما أريده أن يحدث للقارئ،
بل هي كل ما أريد من هذا الكالم .أملي وغايتي أن ال يسمح القارئ بتكرار
أي انسان آخر ،حتى لو كان جالدي نفسه الذي أذاقني ما حصل لي على ّ
كل هذا العذاب ،ولم يزل يفعل بأقنعة جديدة .أكرر هذا المعنى كثير ًا في
13
من شقوق الظالم
14
من شقوق الظالم
ختاما أقتبس أبيات ًا لناظم حكمت أهديها لوطني من محل الغربة الذي
نفيت إليه بإرادتي مكره ًا.
يا وطني يا وطني.
اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك.
تقطع حذائي الذي حمل تراب شوارعك.
آخر قميص اشتريته في (بغداد)* صار مقطع األوصال منذ زمن يا
وطني * ..في النص األصلي (تركيا).
لم يبق لدي منك ســوى الشــيب في شعري.
مــا عندي منــك غير خطوط مــن الهموم تعلو جبهتي.
يا وطني يا وطني يا وطني.
15
من شقوق الظالم
الشق األول
(المعتقل)
1
***
ٍ
ظهيرة قائظة ،عند عطلة نهاية أسبوع من صيف الهب ،وتحديد ًا في
األسبوع األخير من شهر آب ،ومن على مقعد خلفي لسيارة ايطالية سرقت
لون السماء ،ولدت حكايتي.
كان شهر ًا ساخن ًا بكل ما فيه ،طقس جهنمي وحرب مستعرة اشتد
أوارها ،حيث تزداد ضراوة المعارك على الحدود الشرقية بين جيش
الدولتين الجارتين .وقع الهزائم العسكرية في األسابيع األخيرة وفقدان
مساحات واسعة من اراضي الخصم كانت إلى وقت قريب تسيطر عليها
وحدات من الجيش العراقي ،قد اخذ مأخذه الكبير من معنويات النظام وبدأ
أثر ذلك حملة واسعة لتصفية كل من له اي عالقة مع المعارضة السياسية،
ولو كانت هذه العالقة المفترضة مستندة إلى شبهات وشكوك بل حتى
أي شخص يجهر برأي معارض للحرب أو يبدي قلق ًا وإن كانت أوهام ًاّ .
النتهاكات حقوق اإلنسان التي كانت قد اصبحت أمر ًا شائع ًا حينها ،بل كل
فرد عراقي بات يخشى من الوقوع تحت عجلة القمع واالضطهاد الجبارة
أي أحد ،لكان أشبه بسير حادلة فوق طريق عبد التي لو قدر لها السير فوق ّ
بالقير للتو ،ال تخلف بعدها غير صفحة سوداء ال أثر فيها وال ندوب كما
16
من شقوق الظالم
17
من شقوق الظالم
ٍ
وثقيل مشبع بالليالي الحزينة الطويلة. ٍ
طويل ٍ
لزمن
قلدوني أساور ًا هي مهر عرس الحرية الذي سوف أزف له ،وقبلها
أرجعوا المعصمين إلى ما وراء ظهري ،ثم طلبوا مني أن أسير على هدى
كلماتهم حين أنزلت من العربة بعد فترة وجيزة.
-سر يمين ًا ..اذهب إلى اليسار ..اخفض رأسك.
أي موضع لنية صادقة ال فيها ّال أعلم حتى اليوم هل كانت كلماتهم فع ً
ملتو ما زلت أجهل أبعاده وتضاريسه متعرج ٍ
ٌ طريق
ٌ ال رشادي إلى الطريق؟
ولم يتسن لي التعرف عليها أبد ًا ،أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها كل
ال كذلك على األرجح ،كما كان هناك السنوات المقبلة؟ نعم ،كانت هي فع ً
من بعدها ما يقارب العقد الكامل من السخرية الالذعة .انتهى المسار بي
إلى حجرة ما زلت أذكر بل أعرف كل تفاصيلها وأستطيع وصفها بمنتهى
الدقة ،كما أني أيض ًا في المقابل ما زلت أجهلها بالمطلق ،ألنها لم تكن
ٍ
دامس ومقعد خشبي لعله كان مصطب ًة طويل ًة تتسع آلخرين ،لم سوى ظال ٍم
أجرؤ على التحقق منه فقد كنت مرعوب ًا ومرتبك ًا إلى ٍ
حد كبير .لم ينقض
الكثير من زمن ثقيل كانت كل لحظة فيه تسحقني بحمولتها من الخوف
الشديد والقلق الكبير ،حتى غطس وجهي في سيل صفعات ،ثم توالت
مخاوف شتى وهواجس.
ٌ علي شالالً غزير ًا .غرقت في وحلها وعلقت بيّ
كان يخترق سمعي صراخ من بدأت حكايته قبلي ،صوت ألم مبرح وعذاب
شديد يخرج منه ليستقر في جسدي العشريني الغض .شرطي أمن يجلس
بالقرب مني كان يضحك متشفي ًا وهو يستمع لتلك الصرخات ،ويدس في
روحي رعب ًا جديد ًا وهو يقول ساخر ًا من ذاك المسكين الذي لم ِ
التق اّإل
18
من شقوق الظالم
صوته المعذب:
-هل حان زمن الوالدة أم انها الزالت متعسرة؟.
كان صدى صراخه وسخرية الحارس ينبعثان خوف ًا وارتجاف ًا في ثيابي
التي ابتلت بعرق فزع المواجهة األولى ،وما كان يعوزني لمزيد من التعرق
مع قيظ آب الالهب وطبيعة جسدي الخاصة الذي يتعرق حتى في أيام
الشتاء الباردة سوى هذا الرعب.
باردة بكل ما فيها ،أجلست على كرسي ٍ ٍ
غرفة ُسحبت بعد هنيئة إلى
حديدي ورفعت العصابة عن عيني ألرى قابيل منتصب ًا أمامي ألول مرةٍ
ُ
بزي عسكري وقد رسمت على كتفيه نجمة يتيمة .هذه المرة هكذا رأيته
وصورة جديدة ،وفي كل المرات ومهما تعددت ٍ وسوف أراه كل مرة ٍ
بهيئة
الصور فإن له حقيقة واحدة ال تتغير ،حقيقة شيطان .صور سوف تتكاثر
مثل قنبلة انشطارية تأبى أن تتوقف عن التزايد والتكاثر حتى هذا اليوم،
وقت معلو ٍم حين نرحل عن داره إلى ويبدو أن لن يصرع الشيطان اّإل في ٍ
أرض ليس فيها غريزة.
ضحك الضابط الصغير برتبته وسنه وكل شيء فيه ،ساخر ًا وهو يشير
ولمح بكلمات مقتضبة إلى تهمة إلى هيئتي التي بعثرتها كفوف غليظةّ ،
ٍ
تنتظرني .تهم ٌة ترحل بصاحبها سريع ًا إلى موت شاع انتشاره بين الهامسين
لحظات قليلة مرت بعد بدء هذه المقابلة
ٌ بحلم الحرية مثل طاعون أسود.
األولى ألجد نفسي تحت الكرسي الذي كنت اجلس عليه ،تمسك به يدا
هذا الضابط الصغير وبدأ يوزعه على جسمي النحيل بضربات متنوعة بكل
19
من شقوق الظالم
ما أوتي من ٍ
قوة ال يعبأ أين تقع. ّ
في تلك اللحظة بالذات بدأت اجمع أجزائي التي فرقتها مفاجأة الوهلة
األولى واستعيد وعيي الغائب .نفيت كل تهمة ألقاها علي اّإل إنه لم يكن
معني ًا باألمر كثير ًا ،إذ ما كان كل هذا سوى ممر قصير إلى أماكن أخرى
أشد رعب ًا واكثر ظالم ًا سوف أتنقل بينها قسر ًا .سوف تتغير مثل تغيير
مهترئة ٍ
بالية ال تصلح لالنتعال ،لكن ُارغم على استعمالها ٍ ٍ
قديمة أحذية
مع اهترائها المفضوح وعدم جدواها السافر على الخوض بها في مستنق ٍع
شديد الوحولة.
قبل أن يكمل عقرب الساعة دورة واحدة كاملة لينهي الساعة األولى
على ما قدرته حينها ،اقتادتني زنود شديدة جديدة ،وهذه المرة غلفت
عيناي عصابة جلدية سوداء في طرفيها قطعة بالستكية ،لتكتم الرؤية عني
بالكامل ،إلى أن وصلنا إلى بناية عالية متعددة الطوابق تسلقنا أدوارها
الكثيرة بمصعد كهربائي .العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمرة
في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعي وقيدت به إلى
عمود أو شيء يشبهه ،ال أدري ما هو ،ولم يتسن لي أن اراه أو أن أتحسسه
أبد ًا وال حتى لوهلة واحدة ،فقد حذرني أحدهم من الحركة أو أن انبس
ببنت شفة ،وكنت فتى مطيع ًا .على إن حجب بصري لم يمنعني من تحديد
الوقت بدقة ،إنه ما بعد الساعة الرابعة عصر ًا .دلني على ذلك صوت ٍ
مغن
مشهور ال يجهله أحد ،كان يلقب بالعندليب األسمر وكنت معجب ًا بصوته.
كان يشدو مغني ًا في فلم األسبوع الذي يعرض من بعد ظهر كل جمعة
كالعادة الجارية حينها .كان يشدو بأل ٍم رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي ويفوح
20
من شقوق الظالم
21
من شقوق الظالم
الكالم عنها ٌ
كل في حينه .قد ال أكون علمي ًا أو واقعي ًا بنظر كثير ،وحتى على
خالف طبعي في تفسير االشياء وتعقلها ،لكن ال يمكن لي أن أتجاوز هذه
الوقائع الغريبة والمشاعر العجيبة فقط ،ألني ال أريد أن اؤمن بالغيبيات أو
بأحداث منتزعة من عالم الباراسايكولوجي .وجودها هو أدل دليل على
حدوثها ،وألكن اكثر دقة واقول :إنها قد حصلت مع هذه التفسيرات غير
ٍ
صدفة كل شيء وقع في المنطقية مني وبهذه االحاسيس الغريبة ،لربما ُ
ٍ
محيرة ،ومع ذلك فإنه قد وقع بالفعل ،وحينما وقع آمنت به كما كنت أراه
وليس كما يجب أن أراه ،وألني عاهدت نفسي أن أكون صادق ًا فيما أروي
وأقول البد لي من االعتراف وبغاية الصراحة أني ال اقوى على تكذيب هذه
الوقائع والمشاعر ،وأعجز عن رميها بالصدفة والخرافة حتى هذا اليوم،
رغم إن عقلي الرياضي يجحد التالزم بينها وبين ما جرى .األمر بحاجة
إلى ما هو أكثر من نفسي المضطربة الحائرة حينها لتفسيرها وإلصابة علتها
الحقيقية ،وأكثر من برودة المعادالت الرياضية التي ال تدرك سر العشوائية
التي أنتجت بديع النظام.
ٍ
وهدوء تامين. ٍ
بسكون ال هناك إلى جوار العمود المفترض جلست طوي ً
ثم بعد تحقيق شكلي من تسجيل اسم ومعلومات أولية عن السن والوضع
االجتماعي والدراسي ،قام باستجوابي عنها شخص لم أتعرف عليه ،يبدو
أنه لم يكن معني ًا بنوع التهمة المزمع توجيهها إلي ،ألنه كان يعمل بشكل
شخص آخر اقتادني إلى أسفل البناية
ٌ اداري روتيني ليس اّإل ،أتى بعد ذلك
ٍ
كبيرة ٍ
قاعة في المصعد الكهربائي نفسه .دخلت إلى معتقل يتكون من
الحجر حين دخولي وغرفتين وفسحة بين كل ذلك ،بالطبع لم َأر هذه ُ
22
من شقوق الظالم
ألول مرة ألني كنت معصوب العينين ،اّإل إني رأيتها الحق ًاُ .اركنت إلى
حائط واتكأت عليه وصار موضع صغير مقابل باب احدى الزنزانات مح ً
ال
ليقظتي ومهجعي.
يداي سوف تستمر مقيدة للخلف ويحول بين النور وعيني تلك
العصابة ذاتها ،التي التصقت بها من هذا اليوم وألحد عشر يوم ًا كاملة
قادمة بلياليها .حتى عندما كان يقدم لي الطعام كنت أسحبه من الصحن في
حديد رخيص، ٍ ٍ
مشهد مدهش .كفاي مقيدتان إلى الخلف ترفعان ملعق ًة من
وبالكاد تالمس شفتاي أو تغرف شيئ ًا من صحن الطعام ،في عملية معقدة
جد ًا ال يمكن تصورها وفق قوانين مرونة عضالت الجسم .اّإل إن الحظ لم
يكن سيئ ًا تمام ًا فقد كانت الوجبات مشبعة وجيدة الطبخ ،طعمها ومذاقها
ال بأس بهما وال يمكن لي أن أشكو منها ،لم أقرف منها أبد ًا كما سأفعل
بعد ذلك لدهر طويل مع الوجبات التي سوف ُاكره نفسي التي تعافها على
تناولها مع إني في قادم األيام سوف أتضور جوع ًا.
أي وجبة ستكون لذيذة المذاق تسكر الطاوي بريحها العطر ،لكن رغم ّ
ذلك القحط والجوع لن استسيغها ،بينما وجبات هذا المعتقل األول ومع
أني كنت في أوائل ايامي من رحلة الخوف ،وال يخفى ما لأليام األولى
من خصائص أولها فقدان الشهية ،بيد إني كنت أرى الطعام بحق لذيذ ًا.
المرة الوحيدة التي كنت أتحرر فيها من هذا المشهد الغريب وأعني به
ضم األذرع إلى الوراء والعينين المعصوبتين كانت فقط حين يسمح لي
بمراجعة الخالء ،أما ما عدا ذلك فال .القيد والعصابة أصبحتا مفردتين
ثابتتين في حياتي الجديدة.
23
االستحمام كان ممنوع ًا ،أو لنقل الحقيقة بوضوح أكثر أني لم أجرؤ
ال عن طلبه ،لم يكن معلوم ًا عندي ما الذي يغضب على التفكير فيه فض ً
الحراس الحانقين بال سبب طيلة الوقت عما يرضيهم ،لذا صار السكوت
عندي وقتها معدن ًا غالي ًا للغاية ،بل أنفس من كل المعادن والفلزات.
صراعاتهم وشجاراتهم المستمرة فيما بينهم منعتني من التفكير في طلب
أي شيء منهم ،وحتى ُي ْفهم ترددي اكثر اذكر واحد ًا من أسباب شجاراتهم
ّ
السخيفة التي كانت تصل إلى تبادل أقذع السباب وأفحش الشتائم .في
أحد األيام سحل أحدهم كيس ًا للخبز واعترض عليه آخر رافض ًا اسلوب
السحل ،ألنه يريد أن يرفعه .اندلع بينهما شجار لم ينته اّإل بوساطات من
زمالء لهم وجهود تهدئة من آخرين ،بعد أن وصل األمر بينهم إلى حد
االشتباك باأليدي ،وامتأل المعتقل صخب ًا بكل أنواع سب اآللهة واألديان.
بالطبع في تلك اللحظات من األفضل ألي معتقل أن يتحول إلى حجر
أي تأوه منه قد يجعله هدف ًا في مرمى النيران،
صامت بال حراك ،الن ّ
ويتحول إلى كيس مالكمة ينفسوا به عن غضبهم ويفضوا به اشتباكهم.
علي أحدهم أي مقدمات ،أغدق ّ في يو ٍم ما وبال سابق انذار وبدون ّ
علي من الخوف وحر الصيف وخنقة المكان إبريق ماء ألزيح عرق ًا تراكم ّ
المغلق الرطب ألكثر من أسبوع .لربما أزعجته عفونة مالبسي برائحة
العرق المشبعة فيها في ذاك الصيف القائظ الذي ابتدأت به رحلتي .ال
أدري ما الذي دفعه لهذا السخاء لربما تكون نفح ًة إنسانية منه ،أو واجب ًا
روتيني ًا عليه أن يقوم به .لم يستغرق االستحمام سوى دقائق معدودة ،ال
تتجاوز حتى اصابع الكف الواحدة ،كانت تكفي إلراقة االبريق الصغير
من شقوق الظالم
بعناية واقتصاد على كل زوايا جسمي وفي جميع االتجاهات ،بيد أني
ٍ
بسؤال عسير الجواب، استغرقت بعدها وقت ًا أطول حين وقفت عاري ًا ،حائر ًا
كشفته اللحظة ولم يرد بخاطري قبلها :كيف سوف أجفف قطرات الماء
الملتصقة بجسدي اآلن؟ طلبت منشف ًا من الحارس لفعل ذلك متشجع ًا
علي بالضحك مقهقه ًا باقتضاب،
بتسامحه وبكرمه المفترض ،غير إنه رد ّ
ضحكة اختلطت فيها الشفقة مع السخرية.
-هنا ال يوجد شيء اسمه منشفة.
كان يدرك جهلي المدقع لألبجدية الجديدة ،التي ما علمتني إياها أعوام
ٍ
مسطور على ٍ
حرف أي
المواظبة على الدروس ،وال االستغراق في مطالعة ّ
قرطاس يقع بين يدي أو امام ناظري .بعد اآلن سوف تحتويني مدرس ٌة ٍ
أخرى تعلمني دروس ًا مقرر ًة في منهج الصراع من اجل البقاء ،دروس ًا
سيفهمها ٌ
كل بما يشاء ،ستنتج مر ًة عري ًا فاجر ًا وتار ًة أخرى دثار ًا لألنبياء.
دروس تسحق الكسالى البلداء وتسمو بغيرهم من اضدادهم فوق بعيد ًا
إلى حيث تتوحد األشياء باألحالم.
كنت أسمع اصوات ًا عديدة لمعتقلين ُاخر ال أرى أحد ًا منهم ،واجهل
الذي يجري بينهم وعليهم؟ لم اكن أدري حتى أين أنا تحديد ًا (عرفت
بعدئذ إنها مديرية أمن بغداد) وال أعرف شيئ ًا عن تهمتي التي اعتقلت
بسببها؟ وفي ضحى يوم سمعت جلب ًة وصخب ًا ،اقدا ٌم حافية كثيرة تمر
ابواب تفتح وأخرى توصد وفحيح سالسل ٌ مسرع ًة مهرول ًة بالقرب مني،
يقرقع صوتها وهي ترمى على األرض تارة وتارة أخرى تزمجر غاضبة
ٌ
وسكون قاتل صمت مطبقٌ حين تصك أسنانها على المعاصم .أعقب ذلك
25
من شقوق الظالم
طويل ،بددهما زعيق حارس أمني بلهجة نهر وحنق وبطريقة فظة تنم عن
خشونة صاحبها وقسوته.
-قم!.
ال وشعرت بصوت مفتاح من ورائي يدور في القيد لتطلق وقفت ممتث ً
يداي ألول مرة منذ اعتقالي ،طلب مني أن أرفع العصابة عن عيني ألجد
أمامي باب ًا مفتوحة يؤدي إلى زنزانة صغيرة خالية تمام ًا ،اّإل من مجموعة
بطانيات ركنت في زاوية وأخريات مفروشات على األرضية اإلسمنتية.
-أدخل!.
أغلق الباب خلفي ورحل ،شرعت أتلمس المكان مستمتع ًا بيدي
الطليقتين مثل طفل ينتشي برؤية لعبة جديدة ألول مرة ،عيوني ساهية
فضاء صغير لكنه بعد أيام سيكون من أرحب ما سوف تراه عيناي ٍ تسرح في
علي أن انتظرال جد ًا ،اذ كان َّ
ال مم ً
ال ثقي ً
لسنوات عديدة .كان الوقت طوي ً
فقط وماذا انتظر؟ ال شيء .األمر يبدو مثل حبل سائب ال نهاية له أبد ًا
بأي شيء وأصبح رأسي خاوي ًا من األفكار تمام ًا ،إنهم ال يتحدثون معي ّ
أبد ًا وال حتى يتهموني بشيء ،صار األمر كأنه لعبة عبثية قاسية .صرت
أي
أذرع الغرفة في كل االتجاهات ،أجول بنظري على الجدران أتفحص ّ
ُ
ال في األرض والسقف .قرأت كل أبيات الشعرشيء فيها ،وأحدق طوي ً
واألسماء المحفورة على الجدران ،ومنها عرفت أفكار بعضهم وتهمة
آخرين ممن سكن هذه الزنزانة قبلي.
كنت أشم رائحة الموت الذي ابتلعهم ،كانت كلماتهم تنم عن ٍ
تحد
26
من شقوق الظالم
27
من شقوق الظالم
2
***
بعد أحد عشر يوما بالتمام والكمال وبدون أن أعرف منهم لماذا
اعتقلوني ،ولماذا لم يتحدث معي أحد طيلة هذه المدة ،بدأ فصل جديد.
هذا الفصل سبقته رؤيا غريبة رأيتها ،فزعت من نومي هلع ًا في أحدى
الليالي بعد أن رأيت احدى شقيقاتي تبكي وهي تودعني ،ألنه قد حكم
شعور مأل تمام ٌ علي بالسجن المؤبد لمدة عشرين عام ًا .عندها انتابني
روحي بأن ما رأيته لم يكن أضغاث أحالم بل نبوءة مستقبلية قوضت كل
أحالمي باستعادة الحرية .لست أدري هل هي نوع من المصادفات أو انها
أمرأي شيء ،اّإل من ٍ تدخل في علم البارا سيكولوجي ،لست متأكد ًا من ّ
ٍ
غريب لم أجد له تفسير ًا أبد ًا. ٍ
شعور واحد ،إحساسي بصدقها كان تام ًا في
نهار معصب ًا بعد انقضاء هذه المدة ،أعني األحد عشر يوم ًا ،اقتادوني في ٍ
حديثة ذات دف ٍع رباعي ،طلبوا منّا أن ٍ ٍ
مركبة مكب ً
ال إلى الخلف كالعادة إلى
نخفض رؤوسنا وأن نجلس راكعين ،ومن أصوات الزجر الفاحش وبذئ
القول المستدام على ألسن من يقتادنا ،علمت أن هناك من يقاسمني الرحلة
ٍ
صعب جديد. ٍ
بمخاض هذه المرة ،وإننا نتجه للمرور
المسير في هذه العربة كان بعيد ًا هذه المرة ،وما أن تجاوزنا بوابة كبيرة
عالية بنيت حديث ًا شمال العاصمة العريقة التي طالما تغنى بها الشعراء
وامتدحوا سحرها ،اّإل إنهم لم يذكروا يوم ًا في قصائدهم هذا العالم السفلي
لجي كنت أعمل بالضد منه بحر ٌّالذي ابتدأت أخوض في بحر ظلماتهٌ .
28
من شقوق الظالم
خشية الطوفان القادم منذ وقت مبكر في مقتبل عمري ،منذ أن كنت تلميذ ًا
حاولت جاهد ًا أن اكشف الغطاء عن خطره الداهم في كل فرصة تسنح لي
سواء مع زمالئي في الدراسة أو مع من كنت أتعرف اليهم .كان التحذير من
كارثة أمواج خطره العالية القادمة ال محالة ،يشكل هاجس ًا رئيسي ًا في كل
ٍ
معين رغم انتمائي له بقدر أحاديثي الشخصية .لم أكن معني ًا كثير ًا بنشر ٍ
فكر
ما كان محور عملي واهتمامي األساسي هو رفض سياسة القمع وتكميم
األفواه وحساب األنفاس التي كان يتبعها النظام بأسلوب قم ٍع فاشي.
كنت أرى وما ازال في ذلك التيار السياسي فكر ًا يحمل صرخ ًة تعبر
عن ضمير اإلنسانية المعذب ،ويسعى لحل مشاكل هذا العالم بما يحقق
أي تيار إصالحي يرفع من إنسانية اإلنسان ،إنما لسوء الحظ لم ولن يخل ّ
راية اإلنسانية من جموع االنتهازيين وطالب السلطة ومن الضعفاء وقليلي
االدراك والوعي لقيمة ما يحملوه وينتسبوا إليه .وجود هؤالء بالتأكيد يشوه
جمال األفكار في كل مرة عبر التاريخ ،ويحبط نوايا الثوار ويصادر أحالمهم
حر تتساوى الفرص أمام جميع افراده .أحال ٌم يناضل ألجلها الثوار بعال ٍم ٍ
ويقدموا في سبيلها التضحيات بال تردد ،ويسترخصوا دمائهم لها ويجعلوا
من رقابهم جسور ًا تعبر اإلنسانية عليها إلى شاطئ اكثر أمن ًا ورفاها.
لم يكن انضمامي للعمل السياسي الحزبي تأثر ًا باآلراء السياسية أو
الفلسفية اّإل هامشي ًا ،الدافع الحقيقي كان توفري على خاصية لعلها تميزني
بعض ليس بالقليل من أقراني ،وهي الحساسية الشديدة من غياب ٍ عن
الحرية .حساسية لم تزل تؤرقني وهي سبب رئيس لكل مواقفي تجاه
األحداث والجهات والذوات واألفكار.
29
من شقوق الظالم
30
من شقوق الظالم
31
من شقوق الظالم
من مشارف المدينة كانت عتمة الليل قد نزلت بثقلها على الشوارع ،ومع
عودة الخرق من جديد تضاعفت ظلمة الدنيا حلكة وزادتها اسودادا،
لتغطي العيون الهائمة والنظرات التائهة التي كانت تواصل إبحارها في يم
ٍ
تفسير لما يجري. المجهول والتيه بحث ًا عن
بحث كثير ٍ
ونهر ال يتوقف من رجال األمن إلى ٍ ارتقينا ساللم ًا كثيرة
أن بلغنا فسح ًة في طابق علوي ،رأيتها فيما بعد وكانت شاهد ًا للحظة كان
يمكن لها أن تكون نقطة تاريخية وعالمة فارقة سوف يأتي الكالم عنها
الحق ًا .الردهة كانت تتوسط غرف ًا ضيقة كما رأيتها فيما بعد وتعرفت على
جغرافيتها ،أما اآلن فلم اكن أدرك أبعادها وال أين نحن بالتحديد؟ باعدوا
ال على خالف مشينا السابق ،حيث كان يمسك أحدنا المسافات بيننا قلي ً
أي حالباآلخر ونحن نسير صعود ًا على السلمُ .امرنا بالبقاء وقوف ًا ،وفي ّ
لم يكن لنا أن نختار هيئة سواء من وقوف أو جلوس وال حتى النوم ،ليس
في هذه اللحظة فقط بل لسنوات طويلة متوالية ،سيكون ذلك بمشيئة غيرنا
في أغلب االحيان وتبع ًا لتعليمات جائرة ال يحكمها قانون وال نظام تتغير
ال من عالقة عاطفية أو فش ً
ال بها أو بحسب تغير مزاج شرطي يعاني مل ً
مصاعب ًا في العمل ال يعرف حيلة لتيسيرها.
وقفنا بصمت في الردهة لدقيقة أو دقيقتين أو أكثر بقليل من ٍ
وقت ال أذكر
مقداره اآلن ،لكنه كان قصير ًا جد ًا لم يستغرق سوى انتظامنا في الوقوف ال
أكثر من ذلك .ثم فجأة تحولت أجسادنا إلى كيس مالكمة يتلقى مهارات
رجال األمن المدربين جيد ًا على فنون القتال .لم يكن بإمكان أحد منّا توقع
الضربات القادمة إليه بقصد أو التائهة منها ،وال رؤيتها ولم تكن أمامي من
32
من شقوق الظالم
وسيلة للدفاع سوى تكوير جسمي ،اّإل إن ذلك لم يساعدني كثير ًا وال أوقف
ترنحي بسبب زخم الضربات وقوتها .األرض بدأت تدور بي وصارت هشة
ال يمكن الوقوف عليها وتحول الترنح إلى نوبات سقوط متكرر.
كنت أحاول في كل مرة أن اعاود النهوض لكن ببطء لعل ذلك يؤخر
من اندفاعهم نحوي ،قبل أن أهوي تمام ًا في مرة أخيرة منزوع ًا من ّ
أي
قدرة أو قابلية على القيام مجدد ًا .سقطت على بالط بارد لتبدأ بتقليبي عليه
أحذية صلبة رفس ًا برؤوسها المدببة .ال أظن أن أ ّي ًا من أصحابي كان وضعه
أفضل مما كنت عليه ،لكن لم يكن لي شغل بهم وال كنت حتى أشعر حينها
بوجودهم ،اللهم اّإل حين تند منهم صرخات فز ٍع وألم .كان األمر باختصار
وكل يصارع لوحده وحوش ًا ضارية كاسرة انفلتت شغل عن غيره ٌ ٍ كل فيٌ
من عقالها فجأة .أحسست أن الكون خال من كل شيء حتى من صانعه،
ولم يتبق فيه اّإل أنا وهؤالء القتلة ،لم يكن هناك من شيء يمكن إلتقاطه
والتشبث به ،رأسي أصبح خاوي ًا تمام ًا كأنه قطع ٌة فضاء خارجي ال يمكن له
حتى أن يرجع الصدى.
إلتصق جسدي تمام ًا بالبالط ولم أعد أملك شيئ ًا من قوة أو قابلية،
سوى التقلب عليه حين يضطرني األمر تفادي ًا للركالت المتالحقة.
يدي بالكامل،مضاف ًا إلى إنهيار قواي بالكامل ،كان القيد الجامع قد شل َّ
فقد إنزلقت السلسلة إلى اآلخر أثناء العراك من طرف واحد ،واستحكم
إلتصاقها بالمعصمين حتى صار ذراعاي كأنهما جزء من ظهري .لم
ال جد ًا
تتوقف الحفلة السادية هنا ،بل وثبت فوقي أجسا ٌد بعضها كان ثقي ً
وأخرى ليست كذلك مع إنها جميع ًا كانت تتميز برشاقة الحركة وخفتها.
33
من شقوق الظالم
34
من شقوق الظالم
أن اخفف شعر رأسي كثير ًا .الشاي يقدم عادة في بلدي في ٍ
قدح والسكر
يكاد يمأل نصفه ،لم تكن هذه العادة تعجبني أبد ًا من قبل وال اآلن وهو ينزل
على رأسي .الشاي سوف يبرد بعد ذلك مهما كان ساخنا لكن ماذا سوف
افعل بكمية السكر الكبيرة التي تغلغلت في فروة رأسي .بقيت أشعر بالدبق
ٍ
لكثير من الهوام واللزوجة منها لوقت طويل جد ًا ثم صارت موئال مثالي ًا
والحشرات التي يزخر بها المعتقل ،خصوص ًا إن االستحمام غدا واحد ًا
من األمنيات المستحيلة لزمن طويل بل لدهور.
بعد انتظار طويل ،وكم كان من انتظار مقرف ألني كنت أنتظر أن يأتي
الال شيء أو االسوأ .أنتظر مجهوالً إن أتى لن يحل مشكلة بل سوف
يفاقمها ويزيدها تعقيد ًا وسوء ًا ،ومع ذلك كنت أوهم نفسي أنه من المحتم
علي ترقب المجهول وانتظاره ،ألن قدومه سيضع نهاية لهذا االرزاء
واالزدراء الذي غمرت به وغطست فيه عميق ًا نحو قاع بال قرارٌ .
وهم شبيه
بانتظار من ال يأتي أبد ًا رغم كل أوهام المنتظرين له ،انتظار ابتدع صورته
العجز حين يتملك صاحبه ،ويقرف منه فيتذاكى على نفسه ويشحن ذهنه
بخياالت وإبداعات من صنع أوهامه ،ويبحر فيها بعيد ًا بال شراع وال دليل
يتبع خطاه مصدق ًا واثق ًا أنه بها يمسك حبل نجاة ينتهي طرفه اآلخر عند بر
النجاة واألمان ،وال يدري أنه طرف حبل سائب يسحبه إلى عرض يم ال
متناهي األطراف من العجز والشلل واالنغماس في فضاء أحالم وهمية.
أي أحد ،من يريد بلوغها عليه أبواب النجاة لن تفتح لوحدها ولن تسير إلى ّ
أن يسعى اليها ويطرقها ويفتحها عنوة إن أبت ،وبالتأكيد لن يصل إلى باب
عاجز مشلول ،بل يبلغها الساعون اليها ويطرق بابها السائرون ٌ الخالص
35
من شقوق الظالم
36
من شقوق الظالم
على نفسي بسؤال ساذج كنت أحسبه جوهري ًا ،أين هو االتهام الموجه لي؟
ولماذا إذن كان تسونامي الرفس واللكم والهراوات؟ هل حقا ستكون
التهمة الموجهة لي كما كنا نقول ويقال لنا كثير ًا :أن النزوة المجنونة في أن
تكون إنسان ًا هي من أكبر الجرائم وأخطر التهم في جمهوريات الخوف؟.
إنهم ال يبحثون عن شيء ،بل يريدون وأد الفطرة اإلنسانية التي إن
طلت على صخب هذا العالم ونما برعمها قليالًُ ،استفز تج ّبرهم وتيقظ
استكبارهم وارتجف الطغاة وعبيدهم جنون ًا ،وطفقوا يغرفون من ظلمة
بئر الموت أنواع القسوة لمحوها .لو أصاب العث الشجر وفسد الثمر فان
الزاد والقوت ال يؤخذ اّإل من السليم ،وبهذا النزر القليل من الثمر تواصل
قافلة الوجود سيرها السرمدي وسيذهب العث مهما كثر إلى المزابل هو
وجميع الثمر الفاسد.
37
من شقوق الظالم
3
***
على ساللم كثيرة أنزلت إلى سرداب تحت الطابق األرضي في زنزانة
انفرادية عرضها أقل من ثالثة أرباع المتر وطولها يكاد يضاهي طولي ذا
األقدام الستة ،كنت وأنا افترشها متمدد ًا تصل أطراف أصابعي إلى الباب،
ورأسي يلتصق بآخر الجدار ،ارتفاعها لم يكن يجدي المرور من تحته اّإل
بانحناءة قصيرة مني ألدخل مسكني الجديد ،انخفاضها الشديد دون غيرها
سببه سوء طالعي إذ إنها واحدة من زنزانتين تقعان تحت سلم.
زنزانتي هذه كانت نزل الحرية الوحيد في هذا العالم المستعبد من
أباطرة القوة والجشع ،إذ كنت أختلي فيها بعيد ًا عنهم وأعتكف معيد ًا
ترتيب أفكاري .فضاءها كان مملو ًء حد التخمة المفرطة بالظلمة ومعه
صار الليل كسوتي وردائي .ليل لم يعد ينجلي ويهبط كما كان ،بل صار
مكتنف ًا هناك معي يأبى المغادرة ،لكنه جاء ال قمر معه وال نجوم .عيوني
تتنقل في الظلمة وتأخذ من خيوطها شعاع ًا أبصر به األشياء .باب الزنزانة
الحديدي السميك يقيده أكثر من مزالج و ُت ْغلقه أقفال ثقيلة من الخارج.
في الجزء العلوي من الباب توجد كوة صغيرة موصدة هي األخرى دائما
اّإل حين يدلف منها صحن عميق أو باألصح إنه طشت بالستيكي صغير
مخصص لألكل رسميا ،وسوف أكتشف له استعماالت أخرى لم تكن ٌ
لتخطر على بالي بالمرة ،ولن يمكن ألحد توقعها أبد ًا ألنها مفاجأة عجيبة
في زمن الثورة الجميل .الزمن الجميل! كما يسميه فاقدو الذاكرة ،يتبعون
في ذلك مرضى القلوب ومروجو الجريمة.
38
من شقوق الظالم
صرير صرصور ال يفتر كان يمزق سكون الظالم الذي يغطيني ،وبسذاجة
بالغة فتشت كثير ًا عن هذا الصرصور المزعج بالغ الثرثرة ،متحسس ًا في
الظالم كل زوايا الزنزانة لعلي أحظى بساعة نوم بعد هذه الرحلة الشاقة
الطويلة ،ومن سخونة االستقبال العنيف الذي لقيته .في النهاية لم أجد
الصرصار ولكن اكتشفت إني أبله كبير كما ظهر لي خبث الجالد ،إذ لم
ال من صرصار .لم يكن سوى صوت ال أعرف من أين كان يكن هناك أص ً
يطلق وال كيف .كل ما خمنته ،وصحيح كان حدسي هذه المرة ،بأنه ُم ٌ
وكل
رسمي ًا بأن يقض مضجعي ويسلب راحتي.
ٍ
إيه ،إني ألبله حق ًا إلى حد الضحك فعالً! كيف لي أن أتحدث عن شيء
اسمه الراحة في هذا الثقب األسود .لو قلت كُلف بأن يجعلني في ٍ
توتر ال
يسكن ألنصفته ،ألنه قد فعل.
التقيت فيما بعد ذلك أشخاص ًا آخرين صادفوا أساليب ُاخرى تجعلهم
مستيقظين دائم ًا مفتوحي األعين ،ال تجرؤ أجفانهم أن تُسدل على
بواصرهم وإن لهنيهة واحدة .روى لي أحدهم إنهم كانوا ُيدخلون معه في
الزنزانة عقرب ًا صغير ًا ،ويهددوه بالويل والثبور وأنه سيرى نجوم الظهيرة
فسخر كل اهتمامه لتجنب االحتكاك به ،وكان يدور ّ إن مسه بأذى أو قتله.
حوله مثل ثور في ساقية طوال الوقت في الزنزانة ،إلى أن اكتشف فيما بعد
عقرب ال يلدغ وإن فعل فإن لدغته غير ضارة
ٌ حين لم تعد قيمة الكتشافه أنه
ويستعمل إلرهاق المعتقلين وتدمير أعصابهم .هذا االكتشاف المتأخر من
قبلي كان مثل اكتشاف صاحبي غير ذي نفع بل كان مضر ًا ،ألنه لم يقلل من
توتري بل أعطاه زخم ًا أشد ودفع ًا أقوى ،ألني صرت أراهم بعين اليقين
39
من شقوق الظالم
هل حقا إنهم يظنون هذا الوقت القصير يكفي ألداء كل هذه الوظائف؟
علي أن أعترف اآلن إني كنت حتى تلك اللحظة أحمق ًا شديد البالهة ومث ً
ال
قياسي ًا في الغباوة ،كنت اسأل نفسي أسئلة تثير الضحك والشفقة لسخافتها
وسذاجتها .كل شيء كان معد ًا ليذيقوا المعتقل السياسي به َّ
الذل ويحاولوا
تحطيم شخصيته ،سحقها وإشعاره بأنه ال شيء .لم يكن الحرس يفعلون
ذلك لفطنة عندهم أو ألنهم يتوفرون على قدرة في ممارسة الحرب
النفسية .كانوا أغبياء جد ًا ال مواربة في ذلك وال شك ،انما الطريقة التي
رسمت لهم ألداء أدوارهم كانت تحقق ذلك ،حتى هم أنفسهم لم يكونوا
ال سلسلة المفاتيح كانت تصدر أصوات ًا مزعجةيدرون ماذا يفعلون .مث ً
مهما جهد حاملها في التكتم عليها ،لكن صوتها عندما يقترب كان يشبه
فحيح أفعى سامة تنتصب أمامك وتحملق فيك بعيون جامدة استعداد ًا
الفتراسك ،وأنت تقف أمامها تنتظر أن تبتلعك في احشائها مشلوالً من
نظراتها حتى قبل ان تلدغك ويسري سمها في جسدك.
دقيقتان ليس غير ،هو الحد األقصى لقضاء الحاجة حين يسمح بخروج
المعتقل لممارستها ،ويقف على منحنيات الطريق المؤدي إلى المرحاض
أي سجين يمر .زعيقهم متواصل رجال أمن بعصي غليظة يضربون بها ّ
عليه ،إن ركض في الممر أو صعد السلم القصير الموصل إلى خالء ضيق
بال باب .وحتى إن كان داخل المرحاض يقضي حاجته ال يتوقف الزعيق
ٍ
كامل ٍ
واحساس أي معتقل في ٍ
توتر دائ ٍم والسباب ،مما جعلني ويجعل ّ
بالضياع ،اضحيت مثل تائه يدور ويدور ليسقط دائخ ًا وينهض ثانية ليعاود
الدوران حول عمود التالشي وهكذا إلى حد النهاية له كأنه سيزيف يدفع
41
من شقوق الظالم
صخرة زيوس.
والداي كانا يفخران بي دوم ًا بأني ذكي سريع التعلم ولم أخيب ظنهم
هذه المرة أيض ًا ،فقد هضمت الدرس حتى الثمالة ،وانفجرت البراغماتية
واالنتهازية عندي بأبشع صورها داخلي الستثمار الفرصة الزمنية الخاطفة
الحق ًا ،كان قراري سريع ًا وجريئ ًا أيض ًا ،قرار طويت معه كل ترف العالم
الخارجي في كون ميتافيزيقي ال يشبه ذاك الذي كنت أسكنه قبل أسبوعين
بأي وجه .عالم ولجت فيه بغتة كالموت الذي يرحل باألرواح إلى عالم ّ
آخر ال يمت لعالم الدنيا بشيء اّإل في مسألة واحدة ،إن الروح سكنت
فيهما مع ًا .أبحرت سريع ًا في هذا العالم السريالي الجديد وصارت خطتي
بعد األكل في الوجبات الالحقة أن أقضي حاجتي في الصحن ذاته إن كنت
مضطر ًا لذلك ،ثم أغسله منها ومن بقايا الطعام حين يطلب مني الخروج
لقضاء الحاجة في تلك الدقيقتين ،وبذلك أهزم جالدي واستغفله .كانت
خطة ناجحة بالفعل وكافية الن أغسل الطشت حين فعلت ذلك فيما بعد،
بل حتى أني كنت اغسله وأنا اترنم بأغنية قديمة حفظتها من أيام المراهقة.
شعرت بالزهو لقراري وقلت لهم في ضميري ،سأنتصر عليكم أيها
األوباش ولن أخيب صديقي ناظم حكمت.
إنهم ال يدعوننا نغني ،يا روبسون.
يا كناري ،الذي له أجنحة النسر.
يا أخي األسود ذو األسنان اللؤلؤية.
إنهم ال يدعوننا نجلجل أغانينا.
42
من شقوق الظالم
43
من شقوق الظالم
4
***
تكف الشمس عن مالحقة الوقائع وأشخاصها ،تدخل ّ في الليل عندما
ٍ
ألحداث رهيبة تجري في غرفة معزولة العتمة بكل ثقل ظلمتها لتفتح أبواب ًا
في الطبقة الثانية ،لمبنى كان يدير قفاه لقاعة جميلة يجتمع فيها الكثير من
الحالمين .قاعة (ابن االثير) عند الساحل األيمن من الموصل كنت أرتادها
مع صحبي كثير ًا ،نحضر فيها عروض ًا مسرحية وحفالت موسيقية أو غنائية،
ولم يدر بخلدي يوم ًا أني سأقابلها في بناية جياشة بكل هذا العبث المجنون.
لم يتسن لي أن أتفحص مالمح هذه الحجرة الرهيبة أبد ًا ،إذ حال
عني ذلك عوازل غلفت عيناي كالمعتاد ،لكني لمست كل ركن وزاوية
فيها بآالمي وصرخاتي ،وبدمائي التي صادفت جدرانها تروي لها شيئ ًا
من مشاعر متالطمة كانت تتوزع بين أل ٍم من عذابات تجرعتها ،ومن
شفقة على جالد كان يرهق من إيقاع العقوبة بي لجرم ارتكبته بإدمان وما ٍ
زلت أفعل حتى اليوم بالزخم عينه .جرم شبق الحرية واإلصرار على بلوغ
قيم اإلنسانية إن لم يكن في حدود العالم الذي أقطن فيه ،فعلى األقل في
حدود نفسي .لم ولن أتنازل عن ذلك أبد ًا وإن قدر لي التنازل يوم ًا ما عنه،
مت فعالً.
فالموت حينها خير لي من الحياة ،ألني أكون قد ّ
في الليل اقتادوا أحد الرفاق إلى حيث ال أدري (وقتها لم أكن قد تعرفت
بعد عليها وال هي عرفتني) ،وتبين فيما بعد أنها الغرفة العلوية المقصودة
التي سوف أكون ضيف ًا مدمن ًا عليها .بعد ساعات عادوا به ثانية ،كان صدى
44
من شقوق الظالم
ألمه يشق كثبان الظالم ويحفر أخدود ًا في صخر الضمير اإلنساني المعطل.
انتابتني رعشة خوف غريزي من مواجهة األلم وتزايد خوفي وهلعي ،وأنا
أنصت إليه وهو يطلب من السجان أن يرفع عن عينيه الخرقة التي تعصب
عينيه ألنه بات عاجز ًا عن رفعها .يا للهول! ماذا فعلوا به فأضحى ال يقوى
عن إزاحة عصابة يمكن حتى للطفل الرضيع أن يرفعها؟ سؤال وجهته
في قشعريرةلنفسي ،لخص كل الخوف الذي انتابني وقتئذ ،حينها سرت ّ
أرجفتني وصرت مثل سعفة صغيرة وقعت في مجرى ريح مدارية.
ازدحمت مخيلتي بصور لم أشاهدها بعد ،يكسوها ثوب واحد هو
القسوة المفرطة .قسوة استحكم الفشل في إيجاد أي عذر لها أو تبريرها،
وإن وجد أصحاب السفسطة والجدل الفارغ ذريعة في كل مرة لهذا العنف
البهيمي الذي يتمثل على أيدي من يعدوه بشر ًا ،أو ينسبوه ظلما زيف ًا وزور ًا
للبشر وهو فعل ال يليق اّإل بوحوش إسطورية من صنع ساحرة شمطاء
مأوى للخفافيش طيور الظالم.
ً تسكن خربة مهجورة
جاء دوري أخير ًا ،صعدت ساللم ًا متعددة وطلب مني مرافقي من
الحرس ،أن احصي ثالث عشرة درجة في كل مرة حين ارتقيها ،كنت
أظنه يسخر بي كالعادة ،لكن عندما تعثرت في آخر درجة بعد أن اخطأت
الحساب وهوت قدمي في الفراغ تبحث عن الرقم المفقود في عدد
درجات السلم وبخني على ذلك بوكزة في خاصرتي.
أدخلت على الضابط (ع.ع ).وهو رجل كما به بدانة واضحة فكذلك به
قسوة مثلها وأكثر ،عرفت أوصافه من اللقاء األول .هذه المرة تعرفت عليه
من صوته المميز ،بت أنظر إلى العالم من إذني.
45
من شقوق الظالم
46
من شقوق الظالم
47
من شقوق الظالم
قال لي أحدهم بعد حفلة السمر هذه التي تجرعت فيها كثير ًا من
وعلي أن أعترف وكفى صمود ًا ومقاومة ألنها بال
َّ ساديتهم ،إنه قد أرهق
جدوى ،صدمته ٍ
برد لم يتوقعه حين قلت له بكل بداهة وبال أدنى تردد:
-إني لم ِ
أنو وال أريد أن أسبب لك تعبا.
أشفقت عليه كثير ًا لكنه قهقه ساخر ًا ولربما مستغرب ًا ،ظل يردد مقولتي
لوهلة وهو يضحك ،إنما بدا لي وهو يستعيدها أنه صدق نيتي بعمق ،لكن
لألسف بدا أيض ًا أنه لم يفهمها جيد ًا كما كنت أريد .كنت أتمنى له أن يفقه
ما أقول ،لكن أنّى لمن خاض في وحل حظيرة خنازير أن يشم شذى طيب ًا
أو عبير ًا فواح ًا .ليس باليد من حيلة اآلن ،لكن ما علي اّإل فعل ذلك ،ولن
أتوقف عن فعله ال اآلن وال من بعد ،وسوف يفهم هو ونظرائه اغنيتي في
يوم ما.
48
من شقوق الظالم
5
***
توالت ليالي التعذيب متواصلة ألربعة أسابيع ،تقطعها استراحات
اضطرارية كانوا يحرصون على تمتعي بها ،لمنح جسدي فرصة للتهيؤ
ال جد ًا ال يقوى
واالستعداد لتلقي مزيد ًا من التعذيب عندما يصبح هزي ً
ٍ
بخدر تام جراء التعليق ذراعي اللتين كانتا تصابان
ّ على تحمله ،وباألخص
إلى السقف.
بعد أن تهدأ قليال بعض جراحاتي تتكرر الحكاية من جديد ،ليس ٍ
لمرة
واحدة بل لمرات كثيرة ،وفي كل مرة كانوا يسقوني غضب غرائزهم من
جوارح هائجة تنفلت تمام ًا من عقالها كما هو حال الضواري المسعورة،
ٍ
كنت أسقيهم بالمقابل خمرة الصمت التي تطيح برؤوسهم ،وتجعلهم اكثر
جنون ًا يتقيئون الشر المتجمد في صدورهم .أرجع إلى زنزانتي متوجع ًا ال
ٍ
بحمرة قانية إ ّما من تتحمل أعضائي أن يحتك أحدها باآلخر وجلدي صبغ
د ٍم أو من أثر السياط بعد كل حفلة تعذيب ،وهم يعودون سكارى حيارى
ال لمعضلتي وال فك ًا ألُحجيتي.
ال يجدون ح ً
كنت أودعهم هادئ ًا في قرارتي رغم ألم الجراح ،وهم في انكسار وخيبة
يزبدون ويعربدون .صخب الصمت الذي أذيقه لهم كان يقتلع األصابع
الغبية التي يدسوها في آذانهم كي يصموها عن سماع رعد الحقيقة ،وهو
يمزق األسمال البالية التي يدفن بها البلهاء رؤوسهم .طرق شتى حاولوها
إلرغامي على البوح بأشياء لم ولن يعرفوها أبد ًا ،حتى يومنا هذا بقيت سر ًا
49
من شقوق الظالم
50
من شقوق الظالم
من عذابات جديدة تضاف إلى آالم السنين ،وعناء فالحة أرض ضمته إليها
سريع ًا بعد ابنه لتجفف دمعه وتمنحه أمن ًا وحنان ًا افتقدهما فوقها.
ال روتيني ًا شبه يومي فيه الكثير من الملل
أصبحت مواجهة قسوتهم عم ً
والرتابة ،وأصعب ما فيه كان االنتظار الذي طالما كرهته في كل األحوال،
أنتظرهم في حفرتي المعتمة مضمخ ًا بالدم والجراح ،محاوالً أن أتصلب
وأفرغ رأسي من الماضي القريب وأبعد كل صوره عني ،لكن كنت أترقب
بقلق وخوف تضطرب له كل أعضائي موعد زيارتهم الليلية ،وعندما
تضعف األقفال أمام المفاتيح وترخي صالبتها ويتحرك الباب المصفح
بي ويبلغ ذروته وتصير األولوية عندي بصريره المفزع ،كان القلق يستبد َّ
أن أخرج من دائرة الخوف هذه ،ولم يكن أمامي من بد اّإل استفزازهم
حتى يكسروا حلقة االنتظار ويبدأوا بممارسة القسوة التي البد منها ،تجنب ًا
لهذا االنتظار المزعج ولما هو قادم بال محالة ،فعالم الهروب منه ولماذا
التأخير؟.
سألني (ع.ع ).يوما:
-هل صفيت عقلك؟.
دفعت الجواب إليه سريع ًا ٍ
بتحد ممزوج بالسخرية.
-ذهني صاف أساسا.
ر ٌد ،لم يكن يتحسبه وال ينتظره ،إنما أنا الذي كنت أنتظر رده المتوقع
وأتلهف اليه للخالص من دائرة السؤال والجواب التي كانت تستنزف قواي
في الصمود اكثر من التعذيب نفسه بكثير جد ًا ،ولو قلت إني كنت أوشك
51
من شقوق الظالم
أن أسقط في لحظات االنتظار كثير ًا ،لكني لم أكن معرض ًا لهذا االحتمال
خالل حفالت التعذيب أبد ًا لما أوردت أحد ًا اّإل إلى عين الحقيقة.
رده كان غضب ًا بهيمي ًا ،فجروه كالعادة بنصب أرجوحة لجسدي من
السقف وتركه يسبح في الفضاء يتكئ على الفراغ .أشياء كثيرة كانت تزور
جسدي بعضها يحفر ثقوب ًا فيه لتعدم كثير ًا من خاليا شاء حظها النحس أن
تكون في جسدي على خط المواجهة األولى خط التماس ،تماس حتى مع
أسالك الكهرباء.
طالما سمعت جدالً في أيام الدراسة الثانوية بين تقليديين ومتنورين
يسألون سؤاالً ،هل ُيعقل أن توماس أديسون يذهب إلى الجحيم وهو الذي
خدم البشرية كلها ونَفعها باكتشاف الكهرباء؟ كنت دوم ًا إلى جانب الفريق
المدافع عن أديسون في كل مرة جرى فيها هذا النقاش ،ألن خلود اإلنسان
بما يقدم من خدمة لإلنسانية وينفعها ،ال بما يثرثره من كالم أو يرسمه من
بورتريهات مزيفة لإلله .بيد إني في تلك الليالي صرت أرى أديسون رج ً
ال
أي إثم قد اجترح عندما شرير ًا ارتكب خطيئة ال تغتفر بفعلته الشنعاء هذهّ .
اكتشف الكهرباء؟ هل يرى اآلن من جنته أو من جحيمه ما عاد يهمني
أين أستقر به المقام ،هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب؟ أال يرى كيف
أرتجف مصعوق ًا؟ وهل هو نفسه الذي علمهم أيض ًا أن الكهرباء يزدادُ
شرها عندما تعلق األسالك في أطراف األصابع وعند الحلمتين وأماكن
حساسة أخرى ال أخدش الحياء بها كما فعل أديسون باكتشافه المقرف؟
ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا أديسون؟ وماذا كان سيحصل لو أن لي
جلد سلحفاة فال أبه لغالظة العصي؟ أو لو اني كنت طويال مثل عوج بن
52
من شقوق الظالم
عنق؟ أو نبت لي عنق زرافة؟ كيف كانوا سيجدون سقف ًا ليعلقوني منه؟.
أمنيات مستحيلة كثيرة أخرى ،لم تكن هرا ًء .كانت جدية للغاية آنذاك
واألمر لم يكن مضحك ًا وال عبثي ًا ،بل كان بحث ًا عن مخرج خرافي من أزمة
ال مخرج منها .كنت تمام ًا مثل غريق تتقاذفه أمواج متالطمة في بحر هائج
ينتظر معجزة تخرجه من البحر اللجي ،وأين هي هذه المعجزات؟ لقد ولى
زمن المعجزات ألنها صنع الجهل واالوهام ،أما في الواقع فال توجد اّإل
قوانين الفيزياء .إنها أحالم وال عيب في األحالم وإن لم تحدث ألنها ليست
أوهام ًا ،وإن بدت كذلك أحيانا .الحلم هو النهاية السعيدة لحاجة واقعية
ولو لم تكن حقيقة موجودة لما اندفع إليها تفكيرنا وتاقت إليها نفوسنا.
ألسنا ما زلنا نحلم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق
شيء منها حتى االن؟ األحالم منفذ الخالص الوحيد حين توصد كل
األبواب ،واذا لم تؤد إلى الخالص فإنها على األقل سوف تمنع اليأس
والقنوط من التمدد إذا لم تقتله بالفعل.
بكل صدق يمكن أن يحتويه قلب القديسين ،تمنيت حينها أن ال يجلس
في محلي ذاك أحد من بعدي.
53
من شقوق الظالم
6
***
في ليلة طال صبرهم كثير ًا شعرت بقرارهم المسبق أنها سوف تكون ليلة
للتأريخ ،توسلت فيها بشدة للشمس أن تشرق لكنها أضاعت االتجاهات
فظلت تدور في صحراء الظلمة تائهة كتيه بني اسرائيل .تركتني معلق ًا
بي في الهواء ألكثر من أربع ساعات كما خمنت ذلك في ما بعد ،ينزلون َّ
صنوف العذاب بال كلل وال ملل ،لم يهدأوا وال فتروا وال لهنيئة واحدة.
صرت واثق ًا من إرادتهم وتصميهم على وضع خاتمة لقضيتي هذه الليلة
علي وإزهاق روحي. بأي طريقة تصل إليها أيديهم ،ولو كلفهم ذلك القضاء َّ
ّ
لن أرجع وأكرر شرح وسائل التعذيب التي استعملوها معي ،لكن أقول
ليلتئذ أعلنت التحالف بينها واتفقت في تلك األمسية الطويلة أن تزورني
جميعها .أصبحت عاجز ًا حتى عن الصراخ من األلم وفقدت الشعور
بالكثير من أجزاء جسدي بما أصابها من خدر ،اّإل رأسي كان نشط ًا فعاالً
ألقصى ما يمكن له كما لو أنه كان يستمد طاقته من العذاب الذي عطل كل
شيء غيره .واصلت االستمرار بالتركيز الشديد والتفكير بعمق ،كيف لي أن
أتخلص من عصفهم القاتل في هذه الليلة التي ال فجر في آخرها؟.
وأنا على هذا الحال تذكرت كراس لينين "ما العمل؟".
سألت نفسي ،ما العمل اآلن؟ األمر ال يحتاج إلى الصمود فقط ،وال
األحالم هي منقذي اإلسطوري ،ألني اقتنعت حينها أن ال أحد معني بي
حتى السماء هربت من وظيفتها ،البد من حل سحري للخروج من هذا
54
من شقوق الظالم
55
من شقوق الظالم
56
من شقوق الظالم
واقع ًا جديد ًا .الهمس الدائر بينهم صار حوار ًا مرتفع ًا ثم غدا أشبه ما يكون
بالشجار ،عاد علي ذلك بالراحة ليس النفسية فقط وارتفاع المعنويات،
بل براحة جسدية أيض ًا حيث توقف الركل والضرب بالكامل .لم يستمر
ال إذ كان البد من مرج ٍع يفصل في ما تنازعوا به وجاء
الخصام بينهم طوي ً
ٍ
بكلمة فيصل منه بعد أن وصله الخبر عن طريق أحدهم. من يفض النزاع
ٍ
بعنف عدة مرات ثم كلمني برفق ،كان يناديني باسمي طالب ًا مني هزني
بأي شيء ،وأقسم لي مغلظ ًا أنه لن يؤذيني أحد بعد اآلن ،فقط أن أن أكلمه ّ
رددت عليه .اّإل إني كنت موقن ًا على الدوام أن للمسرح دورا كبيرا وخطير
وال ينبغي التنازل عن هذا العرض الكبير الذي أقوم به ألجل شخص تافه
من النظارة ال يفهم ما يدور حوله .ذهبت كل محاوالت استدراجي عبث ًا
وانتهى األمر به إلى يأس تام من استجابتي ،وإن ما يراه ليس تمثي ً
ال بل واقع
وحقيقة ليصدر فرمانه قاطع ًا النزاع.
-نزلوه! هذا قد انتهى.
لم أع ْن جسدي على النزول من الحلقة المعقوفة المفتوحة المثبتة
بسقف الغرفة رغم محاوالتهم إقناعي بذلك ،أحدهم كان يطلب ذلك مني
بما يشبه لهجة المتوسل ،رفضي التعاون اضطرهم إلى التعاون الجماعي
على رفعي إلى األعلى وتخليص القيد الجامع من الحلقة المعقوفة في
علي أن استمر في أداء الدور
السقف .كنت أواصل الحديث مع نفسيّ ،
إلى النهاية.
شعور نرجسي بالتباهي
ٌ «أنت ممثل بامتياز» .سرى في داخلي
57
من شقوق الظالم
واإلعجاب وكذلك بالفخر .بدأت ألوم نفسي كثير ًا وأسلب منها شعور
االنتصار ،وأقول لها لماذا لم تفعلي ذلك مبكر ًا.
حتى أنه وردت حينها في بالي خاطرة ،عندما كنت أذهب إلى المسرح،
وكنت أذهب إلى هناك م��رار ًا لم أكن اختار الجلوس اّإل في مقاعد
الحضور ،مع أنه ثبت اآلن إنه كان باإلمكان جد ًا أن اصعد على المنصة
إيه قد فاتتني هذه الفرصةوأحدق في النظارة ببرود واؤدي أفضل األدوارٍ .
أيض ًا واكتشافي لمواهبي جاء متأخر ًا .قلت لنفسي ،ال تهتم كثير ًا لم يفتك
الشيء الكثير فالعالم كله مسرح كما يقول شكسبير.
أهبطت على األرض ثانية بعد التحليق الطويل ،أمسك بي من كل ذراع
واحد من الجالدين ،ويبدو إنهم قرروا إجراء اختبار سريع لكشف الكذب
لم يكن في حساباتي أبد ًا ،لذا لم أكن مستعد ًا للتملص منه ّ
بأي حيلة أو
ذراعي وحرروني من قبضاتهم القوية التي كنت اتكأ
ّ وسيلة .فجأة تركوا
غت بتصرفهم الذي لم يرد على خاطري ولكن ما صعقني أكثر من عليهاُ .ب ُّ
هذه المفاجأة ،إني هويت إلى األرض مثل حجر يسقط من علو ولم استطع
النهوض وال حتى الجلوس.
«ما هذا؟ هل فع ً
ال قدماي عاجزتان أن تحمال جسدي النحيل؟».
تكومت بال انتظام على البالط البارد عاري ًا امسحه بعرقي ،وأالمسه
بالحروق وآثار أعقاب السكائر والكدمات والجروح الموزعة بعشوائية
في كل مكان من جسدي المتعب المنهك.
وأي هراء هذا الذي كنت
أية أكذوبة تلك التي كنت أحدث بها نفسي ّ
58
من شقوق الظالم
سأصدقه حينما ظننت إني نجم مسرحي ،ذاك األداء التمثيلي الرائع لم يكن
اّإل وهم ًا جديد ًا وخياالً سخيف ًا ،وسوف يتبين بعد قليل إن كذبتي على نفسي
أي أحد ،علي أن أضع كل هذا الهراء كانت كبيرة جد ًا وأكبر مما يتصوره ّ
الفارغ في خانة مقفلة وانتزعه من تفكيري .استبد بي الضحك سخرية بل
عصبية وعلت قهقهة في أرجائي وأنا أتأمل حالي وما صرت إليه .انفضت
ال سحبها وأصبحت أجوف ًا فارغ ًا تمام ًا كل األفكار عني كأن مغناطيس ًا هائ ً
مثل قطعة من فضاء خارجي ال يسكنه اّإل أثير ال حقيقة له وال واقع.
رفعوني مثل كومة لحم من األرض وجرجروني في ممر قصير يقع إلى
جوار غرفة التعذيب (غرفة العمليات بحسب اصطالحهم) .بدا لي حينها
إنه ممر طويل ال نهاية له ،يسيرون بي فيه بسرعة لم تكن تناسب كومة اللحم
المتهالكة التي صرت إليها .قفزت حينها في بالي خاطرة سخيفة فع ً
ال لكنها
ال تناقض ميلي الدائم للمزاح حتى في أعسر المواقف وأكثرها جدية.
كم هو مضحك منظري اآلن ،وأنا أمشي عاري ًا ترى كيف سيكون رد
فعل زمالئي في الجامعة وباألخص الطالبات منهم لو رأينني هكذا؟ هل
هذا وقته لماذا ال تتوقف عن المزاح؟ ماذا بك هل جننت؟.
كنت أحدث نفسي بهكذا حوارات فوضوية ال رابط بينها وال نظام في
لحظات خاطفة أسرع من الضوء ،لكن بصراحة كنت أضحك في داخلي لهذا
الحوار وبدا لي أنه شيء قريب لحد المالمسة من همس الجنون أو اكتشاف
متأخر لعبثية الحياة التي لم أعد أحفل بقيمتها في تلك اللحظة بالكامل .حتى
إن االبتسامة غلبتني وأنا أحدث نفسي ولحسن الحظ لم ينتبهوا اليها ،وحتى
لو انتبهوا لها لم يكن بإمكانهم تمييزها ،ألن وجهي بل كياني كله بالتأكيد
59
من شقوق الظالم
كان مريع ًا ال يساعد أحد على تصور وجود ابتسامة فوقه وكيف لها أن تعلو
علي
هذا الخراب العارم .األمر األكيد إني أصبحت فوضى شاملة تتوارد َّ
في المشاعر وتمر فوقي الخواطر كأنها أمواج بحر هائج.
األفكار وتتضارب َّ
سارعت إليقاف خواطري أو لجمها قليالً ،ألني كنت سأنفجر ضاحك ًا وكان
يمكن أن أضحك بهستيرية لو فلتت ضحكة واحدة مني .أقولها مرة ثانية
اصبحت فوضى عارمة شاملة في المظهر والجوهر.
في هذه األثناء واصل اثنان من رجال األمن السير بي رواح ًا ومجيئ ًا
في الممر البارد ،يرفعاني بين الحين واآلخر عن األرض حين أعجز
عن مجاراتهم في المشي .كنت في تلك اللحظة قد قطعت عالقتي بكل
محتويات العالم وال أفكر اّإل بهذه النزهة اإلجبارية التي لم أفهم سرها وال
المغزى منها .بدوت بينهم وهم يسيرون مسرعين مثل طفل صغير يلهو
مرح ًا برفع قدميه من على األرض حين يمسك والداه ذراعيه.
كنت أشعر أن الممر بارد جد ًا ،كأنه مفروش بالصقيع مع أنه لم يكن
بارد ًا كما عرفته فيما بعد .صارت برودته زمهرير ًا آلني كنت عاري ًا مجرد ًا
عرق تصبب مني بغزارة أثناء التعذيب، أي قطعة على االطالق غارق ًا في ٍ
من ّ
وأيض ًا آلني بلغت من الضعف منتهاه وخارت قواي لآلخر فصار كل شيء
بارد ًا عندي وإن لم يكن في واقعه ونفس أمره كذلك ،وهكذا هو العالم،
ليس هناك من حقيقة واحدة فيه ثابتة .كل األشياء فيه لها صور متعددة ال عد
لها وال حد ،كل واحدة منها تناسب من يراها ،صور بعدد أنفاس الخالئق.
60
من شقوق الظالم
7
***
لم أعرف بالضبط لماذا كانوا يسيرون بي هكذا مسرعين في الممر
البارد ولفترة لم تكن قصيرة ،هل كان جز ًء من عالج طبيعي إلعادة الوعي
خوف ًا من سقوطي في غيبوبة وتحفيز ًا للجسد المتهالك للعودة إلى وضعه
الطبيعي؟ ال أدري ،ثم القوا بي إلى حائط أستند اليه وأنا معصوب العينين
مشلول اليدين تمام ًا ال أقدر حتى على تحريك اصبع واحد مع إنهما كانتا
أي خرقة طليقتين من القيود ألول مرة في تلك الليلة الدامية .عاري ًا من ّ
مالبس تغطيني يحيط بي صمت بارد ،بعد أن تالشت كل األصوات التي
كانت تتنافس على إصدار الصخب وإنزال العذاب .ثم تناهى لسمعي بعد
برهة وقع أقدام تتقدم بخفة ولكن بسرعة ال تحدث صوت ًا اّإل بما يشبه
الهمس ،جلس صاحبها أمامي مباشرة وأغلق فمي برقة وطلب مني أن ال
يدي المشلولتينأنبس ببنت شفة وهو يطبق سبابته على شفتي .بدأ بتحريك ّ
يثنيهما بقوة أوجعتني جد ًا كدت أصرخ من شدة األلم .وبدال من الصراخ
ٍ
بتأوه ضعيف احترام ًا لطلبه الرقيق مني أعلنت احتجاجي على هذا الوجع
بالصمت وأسكتني هذه المرة بحنان أكثر .صدقه كان يشع علي وينفذ بال
حواجز إلى كياني وأنا ألمس رحمة تنساب منه مثل النسيم تنعش روحي،
وشفقة تفيض علي تسكن ألمي ،قال لي:
-إذا لم تتحمل هذا األلم اآلن فسوف تفقد قابلية تحريك ذراعيك لما
تبقى من عمرك ،إني أفعل ذلك لصالحك.
61
من شقوق الظالم
62
من شقوق الظالم
63
من شقوق الظالم
وهناك .وقفت وسط الغرفة كما خمنته ،في الحقيقة لم أكن أعرف أين أقف
في هذا الكون كله ،ضاعت كل االتجاهات مني وصرت بوصلة بال مؤشر.
بقيت واقف ًا لمدة ليست بالقصيرة ويقف إلى جنبي رجل أمن واحد على
األقل أستند إليه يمسكني من زندي لئال أقع .لم أعرف وقتئذ كم كان عدد
الموجودين بالغرفة ،كنت أسمع أصوات ًا ال أرى أصحابها وشوش عقلي
الخبر السيء الذي تلقيته للتو باني أضحيت ال أجيد النظر ،ولهذا السبب
لم أتمكن من حصر العدد وال حتى محاولة تخمينه آلني أصبحت في شغل
عن هذه األشياء.
قال الضابط موجها كالمه لي:
-اجلس.
تلمست المكان ببصري المشوش ولمحت شيئ ًا ما يشبه مقعد ًا دائري ًا،
تقدمت ألجلس عليه وما أن وطأته إليتي حتى صرخت من سخونة المقعد
الذي لم يكن سوى مدفأة نفطية .قفزت فزع ًا متوجع ًا وسباب من الضابط
المسؤول عن التحقيق ينهمر علي.
-غبي ،هل هناك أحد يجلس على مدفأة؟.
امتأل المكان برائحة ألم ،غضب وسخرية وقليل من رائحة جلد بشري
لسعته نار .واألهم من ذلك كله ولدت قناعة راسخة عند المحقق بأني
أي استجواب معي ،وفع ً
ال انتهى اصبحت في وضع مثالي لعدم جدوى ّ
التحقيق رسمي ًا في تلك اللحظة .وباشروا بإلقاء ما تبقى من مالبسي َّ
علي،
وقبل أن يدفعوني في حجرة المصعد وليس نزوالً على الساللم كما هي
64
من شقوق الظالم
كل مرة في الطريق الطويل إلى الزنزانة االنفرادية ،شعرت أكثر ببرودة
األرض وتذكرت حذائي ،فطلبته ،لم يعبأ أحد بسؤالي ،طلبته ثانية وهذه
المرة بإلحاح استفز أحدهم فقال بغضب:
-عجيب أمرك! أنت تموت وما زلت تبحث عن حذائك؟.
الي بعد أن شعرت بنوع من األمان من عند تلك اللحظة رجع التحدي َّ
انتهاء حفلة الليلة ،حاولت السخرية منهم كما سخروا مني بسؤالي هذا.
كنت مصر ًا على أن ال أعيش شعور الهزيمة وأظل متمسك ًا بيقيني بان الفجر
علي وعلى وطني. سيطلع يوم ًا ما ،وسوف يطرد كل هذا الظالم المخيم َّ
ليال دامت على ما يزيد عن أربعة اسابيع بقليل يمكن لي أن الخصها ٍ
مصحوب بأل ٍم نفي قاطع لكل أنواع التهم التي وجهت لي ٍ
ٌ بعبارة واحدةٌ ،
فيرهيب .وبدا لي إني في طريق االنتصار على تلك المعاناة ،وسرى ّ
شعور من الزهو .بدأت أنتظر ذاك اليوم الذي تفتح األبواب فيه مغاليقها ٌ
ألعانق الحرية من جديد ،وأعود لما كنت عليه وأدلع بلساني اليهم ساخر ًا.
أول تباشير النصر جاءت حين أخلوني من الزنزانة االنفرادية في القبو إلى
زنزانة فوقية جماعية يدخلها نور من فتحة صغيرة.
التقيت في هذه الزنزانة ألول مرة بمعتقلين سياسيين من طلبة جامعيين
عرفت بعض ًا منهم ،كنت أراهم في أروقة الجامعة وآخرين التقيتهم ألول
مرة .التحقيق قد انتهى تقريبا اّإل من بعض الحاالت التي ال تقارن بما عشته
في الزنزانة االنفرادية وأصبحت أنام مسترخي ًا بعض الشيء لي ً
ال ال أنتظر فيه
زائر ًا يدعوني إلى حفلة تعذيب تنتهي عند بزوغ الفجر.
65
من شقوق الظالم
كنت حذر ًا كما يتطلب الموقف من شركاء الزنزانة ولم أرد على
أسئلتهم الفضولية عن تهمتي ،بل نفيت أن تكون سياسية أصالً .اخترعت
تهم ًة أخرى بعيدة كل البعد ألقطع االسئلة ،وادعيت فيما بعد إني كنت
أعاكس فتيات لهن وضع خاص وجيء بي إلى المعتقل لتأديبي .لكن جو
الزنزانة وشعوري باأللفة والثقة والتعاطف مع سكان الزنزانة وما ُخ ّيل
لي من انتهاء التحقيق حثني كل ذلك إلى أداء الدور الذي أهوى القيام به
دوم ًا بكل شغف ،وهو الحديث في الممنوع من الكالم .صرت أتحدث
معهم بكثير من األمور التي بالعادة من يخوض فيها ينتهي به المطاف إلى
السجن ،لكن أليس نحن اآلن في سجن؟ فال ضير إذن من الكالم .وصرت
في بعض األحيان أستعرض ثقافتي على بعض منهم ممن لم يخض في
هذا المضمار وتورط بالصدفة في هذا المأزق الذي نحن جميع ًا فيه .بدأنا
نخوض النقاشات وكنت أسيرها أحيان ًا ،أكمل معلومة ناقصة هنا وأصحح
أخرى هناك ،تسرب اطمئنان إلى داخلي وصرت أستعد ألنسى هذا الشهر
االستثنائي وأرجع ثانية إلى دوري الذي اختطته لنفسي واشرع بالدعوة لما
اؤمن به ولو كان ذلك في زنزانة اآلن ،وغد ًا سأفعل ذلك في كل أرجاء
ال بخبرة عظيمة في مواجهة الخصوم بعد هذه البلد وسوف أعود محم ً
التجربة المثيرة والمريرة.
كنّا نتكاثر رويد ًا رويد ًا في الزنزانة وأصبحنا نضايق الجدران بزحمة
أنفاسنا وأجسادنا ،ومع ذلك لم يكن ذلك مدعاة لإلزعاج بالنسبة لنا ،ولم
أسمع أحد ًا تأفف من ذلك .تنوعنا المتعدد االتجاهات في االنحدارات
أي تنافر أو فرقة بيننا
الطبقية واالجتماعية والفكرية والعرقية لم يسبب ّ
66
من شقوق الظالم
67
من شقوق الظالم
8
***
في ليلة من كل عام تضيع ساعة فيها بين توقيت صيفي وآخر شتوي،
جاء من يوقظني من أحالمي ويهد قوس النصر الذي كنت بنيته فوق
رأسي .أزيحت ستارة كانت تغطي القضبان القصيرة في باب الزنزانة،
وإذا بأحدهم ينادي باسمي وصوت المفاتيح يصلصل في يد حارس آخر
يقف إلى جنبه ،أصابتني الدهشة كما اآلخرين في الزنزانة إذ كان زائر ًا لم
يعهد أن جاء في مثل هذا الوقت المتأخر .كل الموجودين في الزنزانة
حسم أمرهم وال يتوقع أحد منهم أن يستدعى للتحقيق من جديد ،لذا لم
يفهم أحد سبب هذا االستدعاء في هذا الوقت المتأخر ،الدهشة والوجوم
ارتسما على وجوه الكل .صعدت ثانية إلى مسرح الجريمة ووقفت في
غرفة ما مقيد ًا من الخلف لكن مفتوح العينين وأطنان من سباب وشتائم
مر
علي من كل حدب وصوب .ألف سؤال واستفهام َّ وتهديد ووعيد تلقى َّ
ثوان قليلة وظلت كلها تدور حائرة بال جواب .ماذا حصل في رأسي في ٍ
ٌ
معتقل علي كل هذا الغضب من جديد؟ دخل وما الذي اكتشفوه لينهال ّ
معصوب العينين حافي القدمين يرتدي بيجاما صيفية ،لم أتعرف عليه في
البدء الن منظره كان مبعثر ًا جد ًا ،اّإل حين أزاحوا العصابة عن عينيه ليبدأ
المشهد المثير.
سأله شرطي أمن برتبة مفوض (م.س).
-من هذا؟.
68
من شقوق الظالم
69
من شقوق الظالم
يزال معقود ًا في فؤادي يمده بالدم أنت فككته ،كيف أوهمت نفسك أم
أوهمك آخرون أن الفؤاد يمكنه العيش بال دماء؟.
قد مات قلبك يا عزيزي ومن مات قلبه ما عاد إنسان ًا وإن ّ
عمر ألف
سنة أو يزيد .وداع ًا يا من كنت صاحبي لن يصل إليك صوتي ولن تحمل
أي شيء ،تهاوت كل الكلمات أ ّي ًا من مشاعري إليك ،ال حب ًا وال بغض ًا وال ّ
القناطر والجسور بينا وصرنا على ضفتين متباعدتين ما بينهما هوة سحيقة
بحجم ال نهائية الكون المتباعد والمتوسع في كل حين.
بعد أن خرج صاحبي الذي أدلى باعتراف كشف فيه المستور وأزاح
الي مفوض األمن وقال بنبرة تهديد مرعبة.
الحجاب عن المخبوء ،التفت ّ
-اآلن ماذا تقول؟.
جمدت الدماء في عروقي من هول المفاجأة وحجم الخيانة التي لم
أجد لها مبرر ًا حتى اليوم ،فكل شيء كان باإلمكان تجنبه ،بل أص ً
ال لم يكن
هناك شيء موجود حتى يتجنبه .تطوع مجان ًا إللحاق الهزيمة وهكذا تخسر
المعارك ،عندما يمأل الرعب قلوب ًا خاوية تشم الوحوش رعب ضحاياها
وتنقض عليها تنهش لحمها وعظمها وتتركها جيفة في العراء.
حفالت التعذيب التي راقصت فيها بمهارة كل براعة الجالدين انتهت
اآلن بجلسة صغيرة ،وأضحيت عاجز ًا حتى عن مراوغة سلحفاة ميتة.
خارت قواي دون أن يمسني أحد ،مادت بي األرض ولم تعد قدماي
تحمالني وهن الالتي حملني وأنا معلق في الفضاء .بلغ بي الوهن مداه
ال منكسر ًا ،وألول مرة سألت جالدي
والضعف غايته فانحنيت خاضع ًا ذلي ً
70
من شقوق الظالم
71
من شقوق الظالم
حزب معارض في بلد ال يؤمن حكامه اّإل بحزب واحد وفكر واحد وقائد
واحد؟ وما خال ذلك فهو حثالة ال يؤمن بها اّإل متآمر أو خائن.
دخلت على أصحابي متالشي ًا ،لكن أيض ًا على وجهي ضحكة تشبه
ضحك أبله مجنون .وقف أمامي واحد من الذين كان يشاركونني الزنزانة
وبعد أن استفهم عما جرى وفهم الذي حصل سألني باستغراب وحيرة.
-كيف تضحك وقد أعطيتهم صك اإلعدام؟.
لم يفهم ضحكتي الحنظل وشعرت باألسى مرتين ،مرة عليه ألنه كان
ضحية ال ناقة له وال جمل فيما أنا وصحبي فيه ،ومن العسير جد ًا علي
أن أعطيه درس ًا عن الشعور بالهزيمة التي تحل بثائر رومانسي حالم في
لحظة نشوة بخمرة االنتصار ،ومرة أخرى على نفسي فكيف سوف أزدرد
كل هذا الحنظل وحدي؟ إن مرارته أقسى من كل ما قرأت وسمعت وحتى
أكثر مرارة من لحظة فراق الروح للجسد والعبور إلى ضفة المجهول على
كل ما يتحدثون عن مرارتها ويقولون .لعل الموت كان شهد ًا لو قورن بما
حصل لي للتو.
كانت ساعة غريبة بكل ما فيها حصل كل هذا في ساعة تغيير الوقت
الصيفي إلى شتوي ،كنت أسمع ذلك من صوت تلفاز قريب .ما كان له أن
يحصل في زمن حقيقي ،البد أن يقع في نقطة خارج الزمن حيث الالشيء
وكأن التاريخ يقول إنك ال تصلحين ان يكون لك مكان في خط الزمن،
أنت لحظة تائهة ال تنتمي لتاريخ اإلنسان وال يحق لها أن تتكرر من جديد
وال يجوز.
72
من شقوق الظالم
9
***
اآلن بدأت مرحلة انتظار النهاية ،وال يدرى متى تأتي الساعة بغتة،
تملكني رعب هائل من النهاية المتوقعة .ابان األيام األولى العتقالي
استيقظت يوم ًا على رؤيا أشكو فيها ألحدى شقيقاتي وهي تودعني
علي بالسجن المؤبد عشرين عام ًا .اآلن يبدو ان الرؤيا بحزن وقد حكم َّ
أصبحت حقيقة واقعة ،بل إن األمور عادت توحي بأكثر من تلك الرؤيا
التي استرجعتها في تلك اللحظة ،كانت هاجس ًا فأصبحت نقش ًا محفور ًا في
الذاكرة ال تنفك عنها وال أستطيع التخلص من ذكراها .المؤشرات جميع ًا
تتجه نحو نهاية واحدة ،اإلعدام شنق ًا ،وعزز ذلك الشعور المتعاظم حادث
صغير حصل في أحد األيام عند بداية حلول فصل الشتاء .ففي أحد األيام
مخزن في البناية نفسها ليعطونا قطعة شتوية (بلوز) ،بعد أن ٍ اقتادونا إلى
تهرأت جميع مالبسنا تقريبا وهي ثياب صيفية باألصل كنّا نرتديها ساعة
اعتقالنا شديدة القيظ ،ولم تعد اآلن قادر ًة على مقاومة برد الشتاء ،حتى إن
البعض كان يرتدي مالبس نوم واقتيد من حجرة نومه بها .لم يكن رجال
أي قطعة اضافية أو تغيير ما األمن يسمحون الحد أثناء االعتقال بارتداء ّ
أي زي كان عليه وال يراعون ّوبأي ّ
يرتديه ،يأخذون من يريدوه بما هو عليه ّ
وضع هو فيه.
أحد المعتقلين ممن كان معنا في الزنزانة كان نائم ًا مثل عادة العوائل
العراقية آنذاك في موسم الصيف على سطح الدار ،وداهم رجال األمن الدار
ال وصعدوا إلى السطح يصوبون أسلحتهم اليه وهو في فراشه سحبوه منه لي ً
73
من شقوق الظالم
بمالبس نوم خفيفة جد ًا أقرب ما تكون لمالبس داخلية ،وهكذا كان حال
المعتقلين اآلخرين وهم يرتدون ثياب راحة وما شابه ذلك .المهم أثناء
تسلمنا لتلك البلوزات قال ضابط أسمر قبيح متجهم الوجه عابس الهيئة
ذو خلق سيء فوق العادة (ح.ب:).
-اعطهم بلوزات سود حتى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون.
األمر صار واضح ًا جد ًا وما علينا اذن اآلن ،اّإل أن نتسلى بما تبقى لنا
من أيام في هذه الدنيا وبات حالنا مثل نبتة تذوي في نسيان تام .هنا علي
أن أعترف بأن شعور ًا جارف ًا من اليأس تملكني في هذه المرحلة وأصبحت
عبثي ًا في تفكيري وأحاسيسي الداخلية ،رحت اتساءل عن جدوى العقل
في مدفن كهذا الذي نحن فيه .كنت ألوم نفسي بشدة متناهية ،أحس بالعار
يلبسني ويشي بكل سوءاتي وال يفتأ سؤال يقرعني ليل نهار ،لماذا لم
أقاوم وأرفض االعتراف حتى مع حصول الخيانة؟ ماذا كان سيحصل لو
قاومت هل كنت سأموت تحت التعذيب؟ كما مات زميلي الطالب في
كلية الهندسة الكهربائية الذي شاركنا المعتقل اّإل إني لم أره فيه .وسمعت
عن موته تحت التعذيب من آخرين.
كان قد سبقني إلى الزنزانات الفردية وروى لي أحدهم آخر أيامه ،أنه رآه
أثناء التحقيق وهو على األرض يرتدي دشداشة ،عاجز ًا تمام ًا عن الحركة
والقي على األرض بإهمال لتتكشف عورته بعد تهرء ما كان َّ ُش َل ْت ذراعاه
عروه من يكتسي به وتمزقها جراء التعذيب المتواصل .كان رجال األمن قد ّ
مالبسه الداخلية كما فعلوا بنا جميع ًا .يقول الشاهد ،انه رآه ضعيف ًا منهك ًا ال
واه خافت ضعيف كأنه همس مبحوح ،وطلب يقوى على الكالم اّإل بصوت ٍ
74
من شقوق الظالم
منه أن يعدل له وضع دشداشته كي يستر نفسه ألنه عجز عن فعل ذلك.
في صباح يوم عندما كان الحرس يوزعون شوربة الصباح طلبوا منه
النهوض الستالمها لم يرد ،صاحوا به عدة مرات وال يرجع لهم سوى
صدى صراخهم .اضطروا لفتح باب الزنزانة االنفرادية ،ليجدوه جثة
هامدة ،سحبوه في بطانية وأخذوه إلى مكان مجهول .لم يعثر أحد على
جثته وال رفاته إلى هذا اليوم ،مثله مثل عشرات اآلالف من أمثاله ،ولم
يكن تغييب جثث القتلى والمعدومين حالة استثنائية بل إجراء نمطي تقوم
به السلطة ،أعرف كثير ًا ممن مات في السجن أو أعدم ولم تسلم جثته.
سألنا عنهم عوائلهم الحق ًا عقب خروجنا من السجن أو بعد سقوط النظام
الفاشي كانوا يجهلون كل شيء وال يعرفون مصير أبنائهم المغيبين.
وم َم خفت؟كنت أقرع نفسي لماذا لم تصمد وتقاوم؟ ما الذي دهاكِ ،
وماذا ستكون النتيجة ،أليس الموت في اسوأ احتماالتها؟ اآلن سوف
أي موت؟ الموت محبط ًا كمن يجلس في ساعة رمل تموت أيض ًا ،ولكن ّ
محبوس ًا في زجاجة يعجزه الخروج من عنقها الضيق ويستمر تساقط ذرات
أي مقاومة .كنت سأبلغ مرتعي المظلم نفسه الرمل عليه ليدفن تحته بال ّ
في المقبرة لكن في خلو من هذا الشعور المزري ،وربما كنت سوف أرد
بإحساس من البطولة والتحدي وأترك المرارة في نفوس الجناة ٍ نهايتي
وليس كما الحال اآلن ،فهم الذين انتصروا وأنا الذي أشعر بالخيبة ومرارة
مواقع كان لنا أن نتبادلها لو واصلت الصمود؟ الشجاع يموت مرة
ٌ الهزيمة.
والجبان في كل يوم مرة ،ال بل ألف مرة.
وعلى عكس طبعي السابق المتفائل المحب للحياة واألشياء الجميلة
75
من شقوق الظالم
76
من شقوق الظالم
فقط ،ألني ال أحسن فعل شيء اّإل قص الحكايا وحسب .أما الرحيل مع
األنقياء الذين يكتبون التاريخ ويروون شجرة الحياة بدمائهم ،فهذا ثوب
قد ال أستحقه مثلهم .ومهما كان السبب سواء ما ذكرت أو غيره فالنتيجة
التي وقعت ،إن أمنيتي الصوفية قد تحققت وبقيت إلى هذا اليوم ألروي
حكايتي التي لم ِ
تنته بعد كل فصولها.
اذن ،صار علي اآلن أن أنتظر مع اآلخرين موعد المحاكمة التي تقرر
مصيرنا ،في زنزانة لم تكن تزيد على اثني عشر متر مربع .عددنا في أقل
األحوال ثالثة عشر شخص ًا ونزيد عن ذلك أحيان ًا ،يأتي البعض ويروح
لكن نحن كنا سكان ًا دائمين قد إستوطنّا الزنزانة وألفناها جيد ًا وحفظنا
كل أركانها وزواياها .باب حديدي ثلثه العلوي قضبان حديدية تغطيها
ٍ
بشكل دائم من الخارج ال يرفعها اّإل رجل أمن ساعة يريد ستارة من قماش
الحديث معنا.
في الغرفة شباكان أحدهما شباك طويل وضيق جد ًا لعل عرضه نصف
قدم تقريب ًا ،وآخر على شكل مربع صغير جد ًا ال يتجاوز ثالث ارباع القدم
بمقدار ٍ
كاف بالنسبة ٍ المربع ،لكنهما كانا جيدين لمرور الهواء والشمس
لمعتقل كالذي نحن فيه .األرض إسمنتية خشنة والجدران صفراء ال تسر
الناظرين ،والحقيقة إني لم أفهم أبد ًا كيف أن األصفر لون يسر الناظرين
سواء كان فاقع ًا أو باهت ًا ،حتى قبل أن أرى هذه الجدران .كنت ال أستسيغ
اللون االصفر بخالف األزرق أو الرمادي اللذان كانا يشكالن لونان رئيسيان
في أغلب ما ارتديه .بعد أن رأيت هذه الجدر الصفراء القبيحة ازدادت ثقتي
بذائقتي في األلوان ونأى أكثر وأكثر عني هذا اللون البشع الذميم.
77
من شقوق الظالم
78
من شقوق الظالم
وجبة طعام لكن هذا كان سبب ًا لإلزعاج المستمر ،ألن مع كل وجبة من
المحتمل جد ًا أن ننال حصتنا من الهراوة ،وفي الحقيقة هو كيبل كهربائي
صلب وليس هراوة لكن نسميها هكذا مراعاة لما يظنه الناس عنها أو
ما يسمونه باللهجة العراقية "صوندة" .وفي الحقيقة إني لم َأر صوندة
أي من المعتقالت التي زرتها ،بل كانت دائم ًا إما
تستعمل للتعذيب في ّ
ال كهربائي ًا أو مواسير معدنية وفي حاالت خاصة كانوا يستخدمون كيب ً
"حديد زاوية" كما يسميه العراقيون وهو الحديد المستخدم عادة في
صنع األبواب والشبابيك.
ربما كان األمر حتى أكثر من ضربة واحدة هذا بخالف السباب والشتم
والزعيق والصراخ غير المبرر ،ومنغصات أخرى بعضها يأتي بال أوامر من
ٍ
حارس أمني قد يكون منع من التمتع بإجازته مرؤوسيهم ،بل هو مجرد مزاج
العادية فيصب تعكر مزاجه وتكدر نفسه علينا بأنواع اإلهانة واإلذالل.
ال جديد ًا نشكل فيه عالم ًا آخر ًا جديد ًا خاص ًا بنا ،نصنعه بطريقة
بدأنا فص ً
بدائية لكنها كانت تحكي قصة إنسان يحاول أن يباعد جدران ًا متدانية ،وإن
ال معه ٍ
ليال طويلة في استمرت بالوقوف في محلها .امتد إلينا الشتاء حام ً
وقت كنا نعجز فيه عن العبور بين ضفتي النهار بال ملل.
كيف لنا أن نغتال كل هذا الزمن الثقيل؟ ال كتاب نقرأه وال مذياع
نسمعه وال تلفاز نشاهده ،كلها اضحت محظورات بل من المستحيالت.
هذه األشياء تقع هناك بعيد ًا في ذاك العالم العجيب حيث الضوء والحرية
واأللوان ،عالم صار حلم ًا ،خياالً وأوهام ًا .واظبنا لبرهة من الزمن على
ازدراد ما حصل لنا في التحقيق وظروفه في أحاديث طويلة عريضة بتكرار
79
من شقوق الظالم
ضجر وسأ ٌم منها ،وصرنا نمقت ٌ كنا ال نخفي تأففنا منه ،لذلك بدأ يتسرب
هذه القصص ألنها أحاديث غير ذات بال وال أهمية لها ،ال نجني منها شيئ ًا
سوى تكريس الهم الذي نحن نتوفر على ٍ
قدر ٍ
كبير جد ًا منه .إلى أن ُقدحت
شرارة فكرة للتسلية ،فكرة كانت جيدة وجديدة ،ال أعرف برأس َم ْن لمعت
وال كيف ُقدحت في ذهنه او من أين اقتبسها.
ٍ
شيء ما من بقايا الخبز يكون لنا تصبير ًا وتلهي ًة لم ال نحاول صنع
ولربما أيض ًا يواسينا؟ على الفور ازداد اكتراثنا بلب الصمون وغدا محط
أي من وجباتنا الثالث،اهتمامنا وبتنا نولي له عناي ًة فائق ًة حينما نتناول ّ
حرص حتى ال يضيع منه شيء ثم نرجعه عجين ًا ،ومن بعد ٍ كنّا نعزله في
ذلك نعيد تشكيل هيئته بصنع خرزات نحاول أن تكون كروية الشكل قدر
اإلمكان ،ومن ثم نتركها في مكان آمن بعيد ًا عن قدم تطأها بالخطأ ،وفي
العادة كانت حافة الشباك الرفيعة الموضع المفضل لحفظها بعيد ًا عن هذا
الدهس غير المتعمد .نتركها تجف هناك ألنه المكان الوحيد الذي يمكن
لها أن تتعرض فيه ألشعة الشمس في الزنزانة ،ثم ننظمها بعد ذلك في
خيط نستل ُه من البطانيات الخضراوات التي نفترشها ،وبذلك ننتهي من ٍ
صنع مسبحة عجينية .اّإل إنه وبصراحة لم يكن أحد يستخدم هذه المسبحة
ألغراض دينية أو ترفيهية اّإل القليل وفي أوقات نادرة ،آلنها كانت صناعة
رديئة سريعة التلف وبالرغم من ذلك فإنها كانت مفيدة وتمثل انعطافا
وتحوالً مهم ًا في حياتنا .ألن صنعها كان يبتلع الزمن بشراهة وهو أمر رائع
كنّا نبحث عنه ووجدنا ضالتنا فيه .تقضية الوقت في الالشيء كان يشكل
عامل ضجر مزعج لنا ،وظهور شيء يبدد هذا الملل البد أن يكون موضع
80
من شقوق الظالم
ترحيب حقيقي من الجميع .كما تطلب صنعها منّا أيض ًا للصبر ،كان يولد
فينا صبر ًا عجيب ًا في وقت نحن بأمس الحاجة لمزيد من الصبرٌ ،
صبر يقوينا
على ما نحن فيه.
انهماكنا في إنتاج شيء ما خلق فينا إحساس ًا رائع ًا بأننا ال زلنا على قيد
الحياة ،ولم نزل نملك القدرة على اإلبداع واإلنتاج والخلق .قد يكون
المنتج أمر ًا تافه ًا ليس بذي قيمة لكن مع مالحظة الظرف الذي نعيشه،
لمعتقل جهد جالدوه على ٍ كانت عملية إنتاجه وإبداعه أمر ًا حيوي ًا بالنسبة
رغبة عنده في الحياة .قد ال يدرك أهمية ذلك اّإل ٍ تحطيمه نفسي ًا ونزع كل
من عاش االعتقال في هذه الظروف المزرية .إن محاولة تجاوز المحنة
بالتأقلم معها يشكل منعطف ًا نفسي ًا استراتيجي ًا مهم ًا ،بدالً من العيش في
الواقع المر واالستسالم له والخضوع لظله الثقيل ،وهو حال يؤدي حتم ًا
إلى الكآبة التي تعد انتحار ًا مؤجال .تجاوز ذلك والتعامل مع المحنة كأنها
أمر عادي سوف يقلل من آثار السجن كثير ًا .وهذا ما حصل بوضوح بعدئذ
وقتعند كثير من السجناء غيروا حال السجن إلى واق ٍع آخر سوف يأتي ٌ
للحديث عنه ،وسوف تنكشف وقتها القيمة المعنوية الكبيرة لعملية صنع
حدث غير مجرى التاريخ يعد تافه ًا بمقاييسنا ٍ المسبحة العجينية .كم من
اآلن ،لذلك ال يصح الحكم على األشياء واألحداث بقيمة مطلقة ،قيمة
األشياء تأتي من قراءة السياق الذي ولدت فيه.
استهوتنا فكرة عمل المسابح وانتقلنا من العجين الذي كانت صناعته
رديئة في أغلب األحيان لهشاشته وتكسره السريع ،وألنه أيض ًا لم يكن
ٍ
سحق إما باألقدام أو باألجساد في تقلباتها أو احتكاكها أثناء النوم ينجو من
81
من شقوق الظالم
ضيق يزدحم بساكنيه .فكان قرارنا التحول إلى صناعة أخرى أكثر ٍ
مكان ٍ في
تطور ًا وأجود نوعية ،هذه المرة من نوى التمر الذي كان يصلنا بين الحين
واآلخر .كان جمع النوى يحتاج وقت ًا طوي ً
ال ألن التمر لم يكن يصلنا بشكل
دوري كما هو الخبز قوتنا اليومي .كنّا نستهل مرحل ًة جديد ًة من التطور
الصناعي مرحل ًة صعبة أحياها العجين ونفخ فيها الروح لمواصلة الحياة.
تشذيب النوى على األرض اإلسمنتية التي نفترشها كان يستغرق ذلك منّا
ال وربما أكثر من ذلك ،هذا الوقت كله ألجل صنع مسبحة أحيان ًا شهر ًا كام ً
ال يسير ًا فقد كنت دوم ًا متلكئ ًا
واحدة ليس غير .لم يكن األمر بالنسبة لي عم ً
في سائر الحرف اليدوية وما أزال لسوء الحظ مواظب ًا على هذه الخصلة السيئة
أي تحسن فيها ولم تنفعني سنوات السجن في تطوير حتى اليوم ،إذ لم اشهد ّ
مهاراتي اليدوية بل يمكن اعتباري بال تردد مزمن الفشل فيها .أما كيف نثقب
تلك النوى ونمرر منها الخيط الذي تنتظم بها فذاك وحده حكاية أخرى.
82
من شقوق الظالم
10
***
ما علينا من مالبس بدأ يتهرأ أكثر مما هو عليه فعالً ،وباتت أرديتنا ممزق ًة
يكاد نسيجها يتفتت لوحده وغدت أسماالً بالية بالمعنى الحرفي للكلمة.
خيط وابرة لعالج بعض التشققات ،فما عادت ثيابنا تستر ٍ كان البد من
أماكن ًا ال يصح التغاضي عنها لحساسيتها الشديدة .وكان السؤال الكبير
ما هو السبيل إلى اإلبرة والخيط في زمن الممنوعات الكثيرة .كنت كلما
صادفني ممنوع تذكرت قصيدة أحمد فؤاد نجم وأرددها بلحن شيخ إمام.
ممنوع من السفر.
ممنوع من الغنا.
ممنوع من الكالم.
ممنوع من االشتياق.
ممنوع من االستياء.
ممنوع من االبتسام.
وكل يوم في ح ِّبك.
تزيد الممنوعات.
وكل يوم بحبك.
أكتر من اللي فات.
كنت أردد المقطع األخير كثير ًا "وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات
83
من شقوق الظالم
وكل يوم بحبك أكثر من اللي فات" .صوت الضمير والفطرة كان يقاوم
داخلي ويرفض االستسالم رغم كل ما كنت أعيشه من اضطراب وتراجع
نفسي هائل.
لم نكن نعدم حيل ًة للوصول إلى ضالتنا من اإلبر في ما كان يقدم إلينا
في فترات متباعدة من عظام الدجاج .كنا نفتش بين العظام عن أدقه ونصنع
منه ابرة بعد معالجة دقيقة باألرض اإلسمنتية أحيان ًا .أما الخيط فكان أمره
هين جد ًا ،إذ لم يكن علينا اّإل سحبه من واحدة من البطانيات سواء التي
نفترشها أو نلتحف بها .إنما كانت عملية انتزاع الخيوط المتواصلة بالتأكيد
لها عامل كبير وتأثير مباشر في تقليل عمر هذه البطانيات ،بصراحة لم نكن
نبالي بهذا كثير ًا ،ألنه مهما حصل وسوف يحصل وحتى لو تكرر انتهاكنا
لتماسك نسيجها مرات ومرات فإن عمرها في كل األحوال سوف يكون
أطول من أعمارنا ،بهذا كنا نحدث أنفسنا ولربما أحيان ًا يهمس بعضنا
للبعض اآلخر به ،إذ كنّا نتحاشى التصريح بالنهاية المروعة التي تنتظرنا
كما يتحاشى أهل بلدي في تسمية السرطان عندما يصيب أحدهم ،فيقولون
أصيب بذاك المرض كأنهم يخافون من بطشه السريع أو إنهم يعترفون بأنه
جبار ال قبل لهم به ،وإنه ملك عظيم وصاحب جاللة مقدسة ،وال يصح
للعامة من الناس أن تذكر أسماء اآللهة والملوك اّإل باأللقاب الكبيرة
وبالصفات العليا والتبجيل العظيم.
نجحت تلك اإلبر الدقيقة في رتق ثيابنا لكن بطريقة هزلية ،اّإل إنها
بالرغم من ذلك كانت نافعة جد ًا وتفي كثير ًا بالغرض المطلوب ،بل ونفعتنا
أيض ًا في خرم النوى الذي صنعنا منه مسابح ًا ولو بصعوبة ومشقة أكثر ،إذ
84
من شقوق الظالم
كان علينا أن ننقع النوى في الماء لعدة أيام ليغدو لين ًا بينما نحاول في هذا
الوقت تجفيف عظام الدجاج المقترح ليكون ابرة ويصير أكثر صالبة.
ال ولذا كنا نحاول اختراع ممارسات شتى للخالص ال ثقي ً
الزمن كان طوي ً
من ظله السمج ،بانتظار موعد ينهي هذه الحقبة والخروج من هذه الزنزانة
إلى مكان ما .من جملة ما فعلناه خلقنا من العجين أحجار شطرنج وقطع
للعبة الداما وحتى صنعنا منه نرد طاولة .وصارت أغطية علب اللبن بعد
تنظيفها بالطبع مما علق فيها من اللبن قطع دومينو ،كنّا نتسلى بها أثناء
ذلك غير آبهين بالموت الذي ينتظرنا .أما في األمسيات فكنّا نتحدث كثير ًا
في السياسة والثقافة ،ألن تردد الحرس فيها يصبح نادر ًا ومع وجود بوابة
أي واحد حديدية كبيرة تفصل الزنزانة عن غرفة الحرس ،كان اقتراب ّ
منهم سوف يتزامن مع صلصلة المفاتيح الثقيلة التي يحملها وكان ذلك
يشكل صفارة إنذار وجرس تنبيه لنا خصوص ًا مع هدوء الليل وسكونه.
ٍ
غفلة إلينا أبد ًا مهما بالغ في تحفظه ألي حرس أن يتسلل في ال يمكن ّ
بشكل ٍ
كاف لنا ٍ وكتم خطواته ،فالبد من إصدار جلبة وضوضاء مسموعة
مع حذرنا المستمر منهم .لهذا السبب صار النهار وقت ًا لممارسة األلعاب
واللهو الذي لن يحاسبنا كثير ًا عليها لو رصدنا بالجرم المشهود ،أما الليل
فهو وقت األحاديث الجادة .غير إن هذا ليس بمسو ٍغ ألن يخامر أحد ما
إحساس خاطئ بأن األلعاب كانت مسموحة ،أو إن صنع كل هذه األشياء
من مسابح وغيرها كان أمر ًا متغاضي ًا عنه .أبد ًا لم يكن األمر كذلك ،كلها
كانت تندرج في خانة المحظورات .إنما هناك أمور تكون العقوبة عليها
يسيرة ال تتعدى صياح ًا وزعيق ًا وكومة من شتائم أو ضربات خفيفة مفردة
85
من شقوق الظالم
من ٍ
كيبل أو هراوة وهذه أمور عادت روتين ًا يومي ًا ال نأبه له بالعادة ،ألنها
صارت جز ًء من القوت اليومي.
شكلنا حلقة دورية نتناوب فيها ليلقي بعضنا محاضرات كأن تكون
ٍ
لكتاب كان قد قرأه المحاضر من قبل ،أو مادة له إطالع المحاضرة استذكار ًا
بصورة جيدة أو خبر ًة في أمر يجيده أحسن من اآلخرين ،وساعد ٍ عليها
في نجاح تلك األمسيات واثراؤها هو وجود أكثر من واحد بيننا ممن كان
يهوى المطالعة ،وأغلب من تواجد في الزنزانة في أكثر االوقات كانوا من
المتعلمين الجامعيين .البعض كان يتبارى الشعر ويجعلها بين فريقين ومن
المصادفات الحسنة كان بيننا أشخاص بارعون في هذا المجال من األدب،
بل حتى كان بيننا شاعر مثقف مهتم بمطالعة الفلسفة وحتى دراستها .كان
يعمل مصرفي ًا قبل اعتقاله اّإل إن كل ثقافته ونجاحه الباهر في عمله الذي
تمكن فيه لبراعته أن يصير مدير ًا ألحد المصارف الكبيرة رغم صغر سنه
(لم يكن يتجاوز الثمانية وعشرين سنة) ،لم يشفع له فيما بعد .لم تقدر
مواهبه ،بل العكس هو الذي جرى .هذه المواهب الرائعة نفسها هي التي
أودت به إلى مقصلة اإلعدام مع زميلين آخرين من زمالء الزنزانة وآخرين
كانوا في زنازين مجاورة لم أتعرف عليهم ،بل لم ألتقهم اصال سوى إني
كنت أسمع أصواتهم أحيان ًا حين يناديهم حرس أو يتحدث اليهم آخر عند
توزيع الطعام ،أو عند السماح لهم بمراجعة دورة المياه.
حاولت حفظ بعض األبيات الشعرية بلغات محلية غير العربية التي
أتحدث بها ،ألننا كنا مزيج ًا مختلف ًا من قوميات مختلفة وخليط ًا غير
متجانس من توجهات وافكار متباينة بشدة أحيان ًا ،اّإل ان ما كان يوحدنا
86
من شقوق الظالم
ٍ
خال من وطن ٍ
حر ٍ قضية واحدة .همنا في مواجهة الظلم والسعي إلى
ٍ
بهناء وسعادة نتحدث فيه وال نخشى الفاشية والدكتاتورية .وط ٌن نعيش به
ٍ
بصوت ٍ
حائط يسترق السمع فيه الينا ،وط ٌن نفكر على أرضه وفي سمائه من
عال ال نخشى أن تقطع رؤوسنا فيه ألنها فقط مارست التفكير بال قيود، ٍ
وط ٌن ال يخوض مغامرات دون كيشوتية تسفك فيها دماء أبناءه من أجل
إرضاء نزوة حاكم بقرار اتخذه ولم يراع فيه مصلحة لشعبه وال استمع لرأيه
فيه .همنا كان الحرية ،أن نعيش أحرار ًا نحن ووطننا كما جئنا لهذه الدنيا
قبل أن يمارس طغاة مستكبرون جهلة يمقتون العلم والحياة مهمة الحكم
فيه يحاولون استعباد الناس وتجهيلهم.
الشاعر المصرفي كانت له قصة خاصة ،إذ اعتقل بوشاية خائن ولم
يكن اعتقاله علني ًا ،بل جرى اختطافه بكمين بشكل سري للغاية ولم يكن
يعرف أحد بأمره ،ال من أهله وال من رفاقه .كانوا يجهلون أنه يقبع في
أحد الزنزانات المظلمة االنفرادية في القبو الذي سكنت فيه طوال فترة
التحقيق بظروفه الرهيبة .كان رجال األمن يوهمون أهله ومتعلقيه بطرق
شتى أنه هارب من السلطة خارج البلد وهي تبحث عنه وتفتش أيض ًا عن
أخباره .كانوا يشيعون عنه أخبار ًا عبر مندس خائن يعمل لصالح السلطة
القمعية ،بانه استقر في دولة عربية مجاورة ويتسلل بين ٍ
حين وآخر عبر
الحدود ويرسل رسائل من هناك .كان األمن يصنعون هذه الرسائل بطرق
احتيالية بالطلب منه كتابة مقاطع بحجة مطابقة الخطوط أو اعترافات عليه
أن يدونها بنفسه وطرق أخرى ،إيهام ًا منهم لرفاقه بأنها فع ً
ال منه لإليقاع
بأفراد التنظيم .وبعد ما يقارب السنة الكاملة أو يزيد من اإلخفاء في زنزانة
87
من شقوق الظالم
انفرادية في هذا القبو المرعب ،تم إلقاء القبض على كامل المجموعة تقريب ًا
وأكتشف رفاقه حقيقة اختفائه عندما التقوه للمرة األولى أثناء التحقيق
معهم .كان لون وجهه قد غدا أصفر ًا شاحب ًا بعد أن حجبت الشمس عنه
ال جد ًا يتقيأ دم ًا من جراء مرض التدرن
تمام ًا طوال هذه السنة ،وصار نحي ً
الذي أصيب به جراء عتمة وعفونة الزنزانة التي كان يقطنها ،كان سيموت
حتم ًا حتى لو تركوه لحاله لكنهم أبوا اّإل أن يضعوا بصمتهم المقرفة على
خاتمته فقتلوه شنق ًا هو وبعض رفاقه.
كان يحدثني هو ورفيق له في المجموعة التي اعتقلت الحق ًا له ،عن
العيش المر ألشهر عديدة في تلك الزنازين المظلمة ،وكيف إن أجسادهم
تتقرح من جروح تمألها بسبب التعذيب المتواصل .هذه الجروح لم
تكن تجد من يداويها وال من سبيل ألن تبرء ،للظروف بالغة السوء في
تلك الزنازين التي استعرضتها سابق ًا والتي سكنتها لفترة وجيزة .ظروف
ال يتخيل أحدٌ إنها تحصل إلنسان وربما حتى الذي يعرف وحشية النظام
ٍ
بلوحة الدكتاتوري أيض ًا لم يكن ليصدق إنها تحصل .كانت أحداثها أشبه
سريالية سوداء ،وهذه قصة واحدة من تلك اللوحات السريالية.
أسراب من الديدان تستوطن الزنزانات االنفرادية تعيش على جروح
وقروح المعتقلين فيها تمتص دمائهم وال من حيلة لهم للخالص منها
لغزارتها أوالً ولحال الجسد المنهك ثاني ًا .إذ ال يمكن االهتمام بنظافة
الجسد بالمطلق كما شرحت من قبل عن ظروف هذه الزنزانات .كان في
ال لبيع المجوهرات والحلى الذهبية احدى الزنزانات رفيق له يملك مح ً
وال يشكو عوز ًا مادي ًا ،وهو من أوضح األمثلة إن من كان يعارض النظام
88
من شقوق الظالم
الدكتاتوري لم يكن يفعل ذلك بسبب عوز مادي أو حاجة تنقصه أو فقر
يدفعه للثورة ،بل كانت معارضة طلب ًا للحرية ورفض ًا للدكتاتورية وتحدي ًا
للقمع والتسلط.
تلك الديدان كانت تعيش على قروح وجروح صاحب محل المجوهرات،
وكان معها كما هو مع كل الناس والدنيا رقيق ًا لدرجة أقرب من الخيال
وصبور ًا بطريقة عجائبية ،كان يشفق على تلك الديدان عندما تسقط من
بعض جروحه ويعود ليلتقطها ثانية من األرض ويرجعها إلى جرحه ،قائ ً
ال
لها كلي من رزقك .الحياة عنده انتهت ،والخاتمة باتت معروفة فلماذا ال
يساعد هذه الديدان على الحياة .لم يكن هذا يأس ًا منه وال احباط ًا كما قد يظنه
البعض ،بل كان على خالف ذلك بالتمام ،كان قوي ًا جد ًا ويتحمل صنوف
التعذيب بطريقة عجيبة وصبر ال يوصف .صبره واستعداده للموت كان
حافز ًا له ألن يهب الحياة لمن بعده حتى لو كان من هوام األرض وديدانها.
ال أستطيع أبد ًا حتى هذه اللحظة أن أصف مقدار رقتهما وانسانيتهما هو
وصاحبه المصرفي ،وصدق ًا لو رويت لي شخصي ًا هذه القصة من ألف ناقل
ثقة ما كنت أصدقها لوال أني رأيت بعيني جروح الرجل وندوبه ،وإني نفسي
عشت في المكان نفسه ولو لفترة وجيزة ورأيت فيه ما يشبه الخيال مما أعجز
اآلن عن سرده أو وصفه .كان أحدنا يقول لو روينا ما يحصل هنا لقال الناس
عنا كلمتين ليس غير ،إنكم أما كذبة أو أنتم مجانين.
لكن هذا الذي ال يصدق قد حصل فعالً ،وحصل مضاف ًا لهذا كله ،إنهم
صاحبي المصرفي البارع والصائغ الرقيق مطعم الديدان.
َّ قطعوا رأس
89
من شقوق الظالم
11
***
في زنزانتنا كان الوضع أفضل من وضع الزنزانة االنفرادية ،ألننا كنا
نقوم بزيارات سريعة لالستحمام وإن كان ال يعدو عن جردل ماء يسكب
على أجسادنا ويحصل ذلك بطريقة كوميدية ،حيث كنا نخرج كل اثنين
سوية إلى دورة المياه ،يجلس أحدنا لقضاء حاجته بعد أن يزوي كل ثيابه
عنه متجرد ًا منها ،فيما يقوم اآلخر في هذه األثناء بملء جردل ماء ويسكبه
على صاحبه ،خالل ذلك توضع المالبس التي ينوى غسلها في حوض
أي شيء في مغسلة األيدي ونمنع تسرب الماء منها إلى المجرى بحشر ّ
فتحتها ،لكي تأخذ مالبسنا فرصة كافية لتُغمر تمام ًا في الماء ،وبالطبع كنا
أي مسحوق غسيل ،بيد انه في بعض المرات قد يصدف هناك ننقعها دون ّ
وجود بقايا لقطعة صابون نسارع الستخدامها بحكها بالثياب .لكن هذا لم
أي مأزق نحن الذي فيه خصوص ًا يحسن الوضع كثير ًا إذ سرعان ما اكتشفنا ّ
حكة كانت تهرشنا في أماكن شتى من جسمنا ،ولنكتشف بعد ذلك أن ٍ مع
خلف هذه الحكة أسراب بأعداد هائلة من قمل يزاحمنا العيش في هذه
الزنزانة الضيقة بل يعتاش علينا.
كنا نخوض مع جمهورية القمل معركة لم ننتصر فيها أبد ًا رغم حجم
الخسائر الكبيرة التي نوقعها فيه .ولم تكن هذه المعارك خيار ًا تطوعي ًا
بل واجب ًا الزامي ًا البد من خوضه بشكل شبه يومي .كانت تتجمع أسراب
سوداء في حواشي مالبسنا بصورة كثيفة تتغذى على ما تبقى لدينا من دماء.
90
من شقوق الظالم
91
من شقوق الظالم
أم هي رغبة في اللهو ألني أمتلك قوة باطشة ال تملكها الضحية؟ هل هذا
يعطي لكل ذي قوة الحق والمشروعية إلرداء منافسيه وأن يسحق كل من
يتحرك بغريزته نحو ما يعتاش عليه ليبقى على قيد الحياة وال يطمع بغير
ذلك؟ هل يملك القمل من خيار آخر لقوته اليومي حتى أعده معتدي ًا؟
معركتي مع القمل تمام ًا هي المعركة نفسها التي يخوضها البشر فيما
بينهم فقط تتغير األسماء والعناوين .كل يبحث عن سبب يبرر بها فعله،
طرف يملك القوة ويزعجه وجود كائن آخر بجواره أضعف منه يطالب
فقط بالعيش كما جاء لهذه الدنيا ،فيقود القوي حمل ًة دعائي ًة ضده ويسميه
كائن ًا معتدي ًا ضار ًا ويقول بعدها وفق ًا لدعايته وتنظيراته الفكرية الخاصة ،إن
مضر يجب سحقه وإنهاء حياته وينبغي ان يباد هو ونسله ويشتت هذا كائ ٌن ٌ
جمعه ليعيش العالم بسالم ،وهل يبنى السالم بالقتل والدماء؟.
كنت أردد في حوار داخلي إن قوتي التي أسحق بها أسراب القمل
سوف تزول قريب ًا ،ألن ما أحسبه وحش ًا ينتظر قطع رقبتي هو عين ما ينظره
القمل لي اآلن ،وسوف يمارس ذاك الوحش معي فعلي ذاته الذي افعله مع
ٍ
سلوك غريب ،ربما القمل .حوار داخلي كان يذهب عميق ًا وينتهي بي إلى
بال معنى حقيقي لكنه كان يعكس حيرتي وتيهاني آنذاك .كنت أثر ذلك
أتجنب وبحرص شديد قتل القمل بالقدر الذي أخشاه وأمقته ،مصيري
الماثل أمام عيني ليل نهار جعلني أتعايش معه وأقبل حقه بالبقاء .لذا كنت
بدالً من قتله سحق ًا صرت أنقله حي ًا إلى داخل كوب ماء مملوء ليموت
غرق ًا .طريقة كانت أكثر سخف ًا ألنها أقسى تعذيب ًا له ،إنما بها كنت في
الحقيقة أحاول التشبث بالحياة وليس انقاذ ًا له ،كما كنت أحاول ان أخدع
92
من شقوق الظالم
93
من شقوق الظالم
12
***
في أحد األيام حشر عدد كبير من المعتقلين في زنزانتنا بعد أن تم نقل
مجموعة كاملة من زنزانة مجاورة ولم نفهم سبب هذا اإلفراغ المفاجئ
وبصورة كاملة للزنزانة المجاورة .توقعنا كالعادة وصول وجبة جديدة من
المعتقلين السياسيين ال يراد لهم أن يختلطوا مع من أكمل التحقيق من مثلنا
لدواع أمنية ،إذ قد تنقل إليهم خبرتهم في التعامل مع المحققين .لم يحدث
أي شيء وطال ترقبنا لتفسير هذا التصرف المفاجئ ،إلى ان سمعنا فحيح ّ
ٍ
مفاتيح الزنزانات الثقيل يصلصل بحقد من بعيد وبات قريب ًا جد ًا ليفتح
حرس المعتقل باب الزنزانة المجاورة التي ابتلعت ضحية جديدة ،لم نكن
كبير لنكتشف جنسها .صوتها األنثوي هو الهوية الواضحة بحاجة إلى ٍ
عناء ٍ ٍ
والعالمة الفارقة.
هذه هي المرة األولى واليتيمة التي عاصرت فيها شخصي ًا اعتقال سياسي
ألنثى في المعتقل نفسه .ماجدات وحرائر ،وحفظ شرفهن من األعداء
والغزاة ترنيمة روتينية تتردد صباح مساء في وسائل اإلعالم الحكومي ،وال
يفتر الحزب ومناضليه على تذكيرنا بها .ها قد جاء اليوم كي نختبرها في
معمل انتاج األمن الثوري .في المساء جاء الرفاق حماة الحرائر وصائنوا
أعراضهن من المتآمرين والخونة ومن األعداء الغزاة ،جاءوا بكل قيافتهم
وهمتهم وذهبوا بها هناك ،إلى الطابق العلوي إلى حيث ذهبنا من قبل لتبدأ
فصول حكايتها.
94
من شقوق الظالم
على الرغم من كل الذي حصل لنا ،ومع كل مرارة تجربتنا اّإل إننا كنا
نأمل بأنها ستحظى بمعاملة أحسن من التي أذاقونا إياها .إنها أنثى وامرأة
شابة ورجال األمن في األول واآلخر شرقيون مثلنا وسيمنعهم الحياء
وشيمتهم القبلية العربية من اجتراح أفعال مخزية وسوف يعاملونها بالتأكيد
بما إنها مرأة على أنها كائن ضعيف الجسد وإن كانت معتقلة سياسية ،ولو
اضطروا لمعاقبتها فسوف يكون من جنس التعذيب العادي المتوقع إنزاله
بكل معتقل سياسي.
لم نكن نطمع بأكثر من هذا لها ،لم يكن هذا توقع ًا بقدر ما كانت أمنية
أي مدى يمكن أن تصل إليه ساذجة من نفوس لم تتعرف بعد جيد ًا إلى ّ
البهيمية في المخلوق البشري عندما يواصل ركوب عربة االنحطاط .تمنينا
لها ليلة ال تسبح فيها عاري ًة في الفضاء معلق ًة بأحد السقوف كما فعلوا بنا.
لم نكن نجرؤ حتى في أحالمنا الوردية ال في يقظة أو في منام أن نبعد
الهراوات عنها ،ألننا كنا على يقين إن الركل والصفع والكيبالت زاد يومي
ألي أحد مهما كان عمره أو جنسه. لكل معتقل ،ولن يدخرها رجال األمن ّ
لم نتخيل أبد ًا أيض ًا إنّا كنا نختزن حلم ًا سخيف ًا آخر ًا ستبعثر أشالءه حين
تند صرخات سيدة شابة بموته .سيدة ما عرفنا لها اسما وال عنوانا اّإل
ٍ
بحرية ممنوعة في بلد تزدحم فيه كونها كائن اختار الحياة وقررت أن تفكر
الممنوعات أكثر من ازدحام القمل على ياقة سجين.
بقامة متوسطة ووجه يتراوح بين استدارة قليلة واستطالة تعلوه سمرة ٍ
بخوف ووجوم كثير ،يلتف عليه شعر اسود فاحم ينسدل ٍ حنطية مشوب ٌة
بنعومة إلى حد الكتفين تقريب ًا أو يتجاوزه قليالً ،هو كل ما بقي في الذاكرة
95
من شقوق الظالم
ٍ
طويلة سرقتها من كوة الزنزانة وهم يقتادوها إلى غرفة ٍ
متلصصة ٍ
نظرة من
التعذيب .عرفنا فيما بعد من كالم بعض الحراس األمنيين الذين عقدنا
معهم صداقات دردشة بسبب طول اإلقامة كيف إنها عذبت مثلنا تماما.
رواياتهم كانت تؤيدها الصرخات المرعبة وهي تشق سكون الليل من
على بعد عدة طوابق ،تصدع أركان قلوبنا ،وننصت لها خاشعين ال ننبس
ببنت شفة حين تنزل علينا كالصاعقة .نغيب في الصمت كأنما الطير يقف
على رؤوسنا وتتجمد مآقينا حتى عن ذرف الدموع ،كل شيء يصبح بارد ًا
كالموت ال نجسر على النظر اّإل إلى أسفل ،إلى ما تحت أقدامنا حيث
يسكن الذل والهوان.
تتوسل صرخاتها رحمة ورأفة من قلوبهم األقسى في صالبتها
من كل الجدران التي حبست فيها ،ومرة أخرى كانت تنادي السماء أن
تغيثها وتفك كربتها ،الصمم أصاب الكون كله حتى نحن كنا نحاول أن
نحشو آذاننا بالصمت بإغماض عيوننا وإخراس ألسنتنا .العجز والعار
كان يطوف فوق رؤوسنا يظللنا بكومة من سحابه الثقيل من الدهشة لما
يجري بإحساس هائل من ضياع وعدم وخواء كامل ،خواء لو قرعت فيه
مشاعر غطسنا
ٌ كل طبول االحتجاج لن يسمع لها صوت فيه وال صدى.
فيها وانتحرت على عتبتها خرافة أخرى من الخرافات التي كنا نأمل أن
أي نصيب من الصحة أو حظ من الحقيقة .لو يكون لبعضها وليس لكلها ّ
أي أمل في الثبات بين الكثبان،
كان لذرة رمل تطيح بها رياح خمسينية ّ
لكان لخرافة القبيلة التي تصون أعراض النساء حينئذ فرصة للنجاة بعد
هذه الحادثة المروعة.
96
من شقوق الظالم
97
من شقوق الظالم
13
***
دلف إلينا في نهار شتوي بجس ٍم ضئيل وذقن كث وسذاجة مفرطة
تغذيها براءته ،وبلغة غريبة عن مسامعنا كما هو دينه مجهول التفاصيل
من قبل كثير من الناس ونحن منهم اّإل بعنوانه العام .ما أن أخذ وقته حتى
راح يحدثنا بحماسة عن أجداده العظام وعن حدة سيوفهم ورهافة نصالها
التي حصدوا بها األعداء ،كما يحصد هو سنابل القمح في أرض الجزيرة.
كان يحفظ أسماء سبعة أجداد بالترتيب ألحد أبطال حكاياته وعندما كنّا
نسأله عن أسماء أجداده ،لم يكن بوسعه تجاوز ما هو أبعد من جده الثاني
ٍ
بمشقة وعناء ،ويبقى متردد ًا كثير ًا في تأكيد صحة جوابه إن تعدى جده اّإل
الثالث بل يعتذر عن الوصول إليه ويقر بجهله.
ماض موهوم ،يجهل حاضره ويتمسك بـأساطير ٍ كان الرجل يعيش في
وخياالت ينسبها للدين .يظن بل يجزم إنها حقيقة ال ريب فيها ويحسب
أنها محض خير وومضة جمال لن يجود الزمان بمثلها ،أما الذي سوف
يجري بالغد له وألطفاله وألجيال الحقة لهم ،فكانت عنده قصة مفككة
تشظت أجزاءها ،ال تماسك فيها وال تكامل البتة .كان الرجل بما يختزنه
من بساطة ووضوح في مشاعره وأحاسيسه نموذج ًا لنوع ليس بغريب عن
بيئتنا من قبل وال من بعد ،بل هو النوع األكثر شيوع ًا ويمثل في طريقة تفكيره
ومعيشته ومعتقداته نوع ًا يتجسد بمظاهر شتى ولكن بجوهر واحد .جوهر
نموذج يخال
ٌ لمشكلة حقيقية وعقبة كأداء ال يقوى الكثير على ارتقائها.
األوهام التي يحملها بظلمتها والتي يعيش فيها سقف العالم والمعرفة وما
98
من شقوق الظالم
من شيء بعده اّإل الهالك والخراب والضياع وغضب اآللهة والسماء التي
تحتويها والواقع إن البقاء فيها هو الهالك الحقيقي ال في مغادرتها .أما متى
سوف يجرؤ على اقتحام ممنوعاته فال أحد يدري لكنه إن عاجال أو آجال
أي ذنب أرتكب بحق نفسه وسيكون على األغلب قد فات سوف يدرك ّ
األوان إلصالح ما أفسده الزمان.
اّإل إن حكايات الرجل القصيرة في سردها ،الغريبة في أحداثها
والمعجزات الخيالية التي تجترحها شخصياتها األسطورية ،كسرت بعض ًا
من جمود الحياة التي نعيشها وأحدثت خل ً
ال في الروتين المهيمن علينا
لطرافتها .كان الرجل طيب ًا جد ًا إلى حد اإلفراط ،لم يالمس جسده ماء ال
بارد وال دافئ منذ دهر بعيد ألمر من وحي دينه الغريب .كان يحمل مع
طيبته المبالغ بها رائحة أيض ًا بالغ فيها جد ًا وأضحت بمنسوب يبعث على
الغثيان .وهكذا يفعل إرث العقيدة الفاسدة باإلنسان ان أخذها بال تعقل
وسار بها وراء القطيع واتبع بها من اتبع بال ٍ
نظر وال تدبر أو أسلم نفسه
ألصنام ادعى زيف ًا أنها ظالل إلله يحتجب وراءها.
بطريقة مضحكة وتفوح من أجسادنا هي األخرى ٍ ومع إنّا كنّا نستحم
رائح ًة ثقيلة ،اّإل إنّا لم نستطع رغم ذلك تحمل رائحته التي كانت عفونة
حقيقية ،وكان علينا أن نفكر بطريقة للتخلص من هذا المأزق .األغطية
القليلة نتقاسمها بحرج في المنام وإن كنّا حصلنا على بطانيات إضافية
قبل فترة قصيرة ،اّإل إن ذلك لم يغير من حقيقة أن يكون شخصان تحت
بطانية واحدة هو ذروة في الرفاهية التي ننعم بها عندما يتقلص عديدنا في
الزنزانة ،أما الوضع الطبيعي أن يكون العدد أكثر من ذلك مع ان حجم
99
من شقوق الظالم
ٍ
لشخص واحد فقط .سؤال ملح صار يتردد اآلن ،من ذا بعضها مخصص
الذي يقدر على مشاركته بلحاف واحد؟ بسبب رائحته وعذر إضافي تعلل
آخرون به لمعتقد ديني خاص بهم ،انتهى بنا النقاش إلى قرار عدم محاولة
تجربة مساكنة الرجل وال حتى لليلة واحدة.
كان قرار ًا صعب ًا أن يعطى لوحده مستق ً
ال بطانية مع قلة عددها وكثرتنا.
وكان علينا أن نتحمل جرعة إضافية من البرد وضيق ًا في المنام ،وهذه هي
ضريبة قرار التعالي أو االشمئزاز .هكذا يكون مجرى األمور كلما ُرفض
خيار تزداد الحياة مع هذا االستثناء مشق ًة وصعوبة ،فاالنتقاء واالنتخاب له
محصلة تتبعه وليس من العدل للتذمر وإلقاء اللوم على غيره.
انتدبت وشخص آخر معنا في الزنزانة كان يتكلم لغة قريبة منه إلبالغه
القرار بطريقة سمحة ال تؤذيه متجنبين اإلشارة والتلميح إلى الدوافع
الحقيقية لهذا القرار ،ألن الجميع بالفعل أحبه منذ اليوم األول بالمقدار
نفسه بل أكثر من مقتنا لرائحة جسده .جلست إلى جواره مع زميلي نحدثه
عن أهمية الصبر في هذا الموقف الصعب الذي يمر به ،وإن الفرج قريب
ولن يطول به الوقت كثير ًا حتى يعود ثاني ًة إلى مرعاه ومزرعته ،وسوف
يعيش حياته الوادعة المسالمة من جديد بعيد ًا عن هذه الحال التعس.
سار بنا الحديث رويد ًا من الحديث عن الواقع الجديد الذي دخل فيه،
إلى تجربة التكيف معه وبأن ال طائل من التذمر والضجر وإنهما لن يحال
معضلة وال يفكا عقدة .ثم قلنا له إننا مع ذلك ننظر بعين االعتبار والتقدير
النتقاله المفاجئ لهذا العالم الصعب وتهوين ًا منّا لهذا الوضع حتى يألفه
واحترام ًا لكبر سنه (كان أكبر من أسننا بما يقارب عشر سنوات وربما
100
من شقوق الظالم
101
من شقوق الظالم
102
من شقوق الظالم
البراءة وكان يقهقه بملء شدقيه كثير ًا ويخرج ضحكاته من أبعد نقطة في
قلبه األبيض ،وكنّا بالمقابل نبعث فيه األمل بكلمات الحماسة ،عندما كان
يتألم من سياطهم ومن إهاناتهم التي يوجهونها لمعتقده وديانته العنصر
األهم عنده .كان بعض الحرس يحاول إذالله بتصرف فردي على ما يبدو
النهم يريدون ان يتسلون بعذابات غيرهم أو النهم يريدون صب جام
أي أحد بعد يوم نكد عليهم لم ينالوا فيه ما يبتغون ويريدون.
غضبهم على ّ
«أنت لست وحدك إن أجدادك األبطال ينظرون إليك من جناتهم العالية
ويراقبونك فال تخيبهم».
بهكذا كلمات كنّا نواسيه ونؤازره ونقدم له الدعم ألنه لم يكن هناك
شي ٌء أكثر من ذلك في حيلتنا لنقدمه له .كنّا نبشره بأن الفرج بات قريب ًا جد ًا
منه فليبتسم لمقدمه وليزيح اإلنكشار من وجهه الذي خلفه هؤالء التافهون
السخفاء .وبعد تطمينات كثيرة له عن فرجه القريب سألنا يوم ًا عن موعد
ٍ
صلوات خاصة. فرجنا متى يحل بعد أن صلى ألجلنا في
«إننا سنغادر هذا الباب ونترك األلم واألحزان وراءنا في هذه الدنيا
ونذهب هناك إلى حيث الراحة األبدية".
رددنا على سؤاله ضاحكين مبتسمين.
اغتم كثير ًا لهذا النبأ غير المتوقع ،لكنّه ازداد قرب ًا منّا وتعاظم و ّده لنا،
وصار الذي بيننا أكثر من محبة عالقة طارئة ،إنها محبة إخوة ال تندرس مهما
تعاقب الزمان عليها ،توثقها عرى صداقة ال تضمحل وآصرة إخوة ال تفنى.
وفي مساء قرروا أن يرجعوه إلى مرعاه الذي أخذوه منه ،وكعادتهم
103
من شقوق الظالم
عندما يصير في نيتهم إطالق سراح أحد ما ،فإنهم يحاولون استرضائه
بإبداء مرونة في التعامل معه ،ولم يشذوا عن ذلك معه فأعطوه علبة دخان.
-إنها ال تكفي ،قال لهم.
-ال تكن طماع ًا ستغادر بعد يوم واحد فقط ،هكذا قال له ضابط
التحقيق.
-أنا ال أتحدث عن نفسي ،إنها ال تكفي أصحابي الذين معي في
الزنزانة.
-خذها واتركهم أنت ال عالقة لك بهم.
أي شيء منك.
-ال أريدها ،أما أن تعطهم مثل ما تعطني أو ال أريد ّ
كلمة لطم بها الجالد ،لكنها حركت اإلنسان في قلب هذا الجالد
وانتفضت الفطرة فيه وأزاحت القسوة عنه بشكل مطلق في تلك اللحظة.
نزل الينا الضابط ووقف أمام الزنزانة مذهوالً يحدثنا.
-ماذا فعلتم بالرجل؟.
جاءنا الجالد هذه المرة إنسان ًا قد هدّ ه التعب ونبتت في قلبه من جديد
زهرة اإلنسانية النائمة ،كان يحمل إلينا بيديه المجردتين كثير ًا من علب
الدخان وأكثر منها قهقهة صادقة واعتراف الحب أبلج بالهزيمة .أصر ضابط
التحقيق على أن يأتي بنفسه ليقدم لنا علب السجائر بيديه مثني ًا على تعاملنا
ال منكسر ًا أمام موعظة قروي ساذج اإلنساني مع الرجل ومبدي ًا إعجابه بنا ،ذلي ً
لقنته درس ًا بليغ ًا في الشهامة والمروءة .موعظة جعلته يعترف بأن أواصر
اإلنسانية أقوى من كل األسلحة التي يملكها هو ومن معه من الجالدين.
104
من شقوق الظالم
14
***
في مساء شتوي بارد ُطلب منا االستعداد لمقابلة مهمة مع مدير المعتقل
(مديرية أمن نينوى) الذي كنّا نُحتجز فيه وهو شقيق جنرال عسكري كبير
معروف اسمه (ه.ص.ف) .تمت إزالة الروائح الكريهة من أجسادنا
بالسماح لنا باالستحمام بشكل جيد وترتيب ما يمكن ترتيبه من هندامنا
المضحك الذي عاد في شأن ال يمكن أن يصلحه أشطر دراز في المدينة.
البعض منا كان يعول كثير ًا على هذه المقابلة واستعد لالنتفاض أمام مدير
المعتقل بإنكار كل التهم المنسوبة إلينا وشرح السبب الحقيقي وراء هذه
اإلفادات المزيفة بأنها منتزعة تحت التعذيب الجسدي والنفسي القاسي.
كنت أشعر بعدم اكتراث شديد من هذا الحدث المرتقب من غيري ولم
أي أهمية بالمرة .كنت أتعامل مع أعول عليه تمام ًا ،ولم يشكل عندي ّ
الحدث بحالة من ال أبالية منقطعة النظير ،ألني وبكل صدق وصراحة كنت
شعور
ٌ أعيش حالة يأس تام من تغيير ما يجري ،ويتملكني في الوقت عينه
يتبق اّإل النزر اليسير في مساحة هذه الدنيا
مرير بالهزيمة وإحساس بأنه لم َ ٌ
التي ضاقت جد ًا وأصبحت بحجم حبة رمل.
ترصد وسبق إصرار وال يخفى علىٍ كنت مؤمن ًا بأنهم يريدون قتلنا عن
واحد منهم حجم الظلم الذي تعرضنا له أو مقدار الهمجية والوحشية ٍ أي
ّ
التي عوملنا بها ،ألنهم كانوا مستمرين عليها بشكل نمطي وكلما سنحت
لهم فرصة أو الحت لهم قناة ،يضعون فيها مركب حقدهم على اإلنسانية.
كيف لي أن آ َمل بعد ذلك من مجرم كبير بل من كبيرهم أن يكون منصف ًا
105
من شقوق الظالم
وعادالً ويصير مح ً
ال لشكوى مظلوم؟ منطق خالف العقل كمن يستعين
بالشيطان لدفع شره.
أنها سذاجة مفرطة وحماقة كبيرة وغباوة منقطعة النظير أن تهرب من
الظلم إلى الظالم هكذا قدرتها وحسبتها ،وفي الوقت عينه كنت أختلق
ألصحابي عذر ًا في داخلي ،إنهم غرقى والغريق يبحث عن قشة ،وهل
نسيت أحالمي يوم كنت أتلقى التعذيب؟ إنها كانت سخيفة هي األخرى
ومضحكة بالقدر نفسه أو أكثر.
شعور من نوع آخر ولو بدرجة أقل ،وهو شعور الكبرياء ٌ كان يراودني
أي طلب. والتعالي ،ألني كنت أستنكف أن اطلب من هؤالء المجرمين ّ
إحساسي بالفخر والعزة أخذته بالوراثة أو بالتربية .كنت أرى والدي ال يذل
أي أحد شيئ ًا حتى إنه امتنع عن التدخين ألنه طلب يوم ًانفسه وال يطلب من ّ
نزل نفسي موضع الذلة ومنزلة اإلهانة ٍ
صديق له ،فكيف لي أن ُا َ سيجارة من
أمام هؤالء الذين ال يليق بي أن اتحدث اليهم فكيف بالتفكير بالطلب منهم
أو التوسل .موضعي الصحيح اإلصطدام بهم وليس مهادنتهم ،فكيف لي
أن اترجاهم بشيء حتى لو كان ذلك الشيء حريتي وكان به خالصي من
سجونهم ومعتقالتهم.
الحرية وكل الحقوق تنال بالنضال والصراع ،وال تأخذ منحة من
أحد ،أ ّي ًا كان محله وموضعه ومنصبه في كل هذا الكون .الكسالى العجزة
واألغبياء ينتظرون السماء تمطر رزق ًا لهم ،أما الحاملون لمسيح الطهر
حتى في يوم ضعف الوالدة يهزون جذع النخل ليستمطروا ُقوتَهم ،وهل
يهز النخل اّإل االقوياء؟.
106
من شقوق الظالم
أي
قابلنا الضابط الكبير على انفراد وسألنا أسئلة عادية ال تنم عن ّ
اهتمام بنا ،بل كانت الزيارة تبدو وكأنها اإلمضاء األخير على مكافأة ينالها
فريق التحقيق ثمنا لجهوده في قطع رقابنا المنتظر .اّإل إنه مع ذلك ورغم
هذه األجواء المزيفة المخادعة بالتعامل الدبلوماسي الهادئ الناعم الذي
يطرح به المدير أسئلته الباردة الخالية من كل روح ،اّإل إن النوايا الخبيثة
كانت سافرة جد ًا في الوقت نفسه تفضحها نظراته الماكرة هو وفريقه .وكما
كان مقرر ًا فقد شكا البعض منّا للمدير الظروف القاسية التي دفعته كمعتقل
لتقديم إفادات مزيفة ،ومع كل الشفافية المدعاة اّإل انه حتى هذه الشكوى
لم تنل رضاه وال رضا ضابط التحقيق (ع.ع ،).وتحولت المقابالت من
لقاءات منفردة مع المدير إلى لقاء جماعي بحضور ضابط التحقيق لكبح
أي شيء هذه الجرأة على اإلنكار من تكرارها ثانية .وبالطبع لم يتغير ّ
بعدها كما كنت واثق ًا متيقن ًا ،ومع كل ذلك لم يغير ما حصل من عرض
مسرحي سخيف قناعة معتقلين آخرين كانوا مصرين على إن هذه فرصة
يجب استثمارها ،واختلفنا في ذلك بحوارات ونقاشات لم تخل من عتب
وربما في بعض النوبات كانت تحمل تلميح ًا لي بالجبن والضعف ،مع
أي حد تحملت التعذيب ،بل إني كنت واحد ًا من أنهم كانوا يعرفون إلى ّ
أكثر الموجودين ممن صمد بوجه التعذيب والتحقيق إلى آخر المطاف،
بأي أحد على اش ّ ال األكثر صبر ًا على التعذيب بينهم .لم ِ إذا لم أكن فع ً
االطالق ولم أقدم للمحققين شيئ ًا ذا نفع في كل مراحل التحقيق وظلت
أسرار عملي الحقيقي حبيسة صدري ،بالمقابل غيري ممن كان يعاتبني
ويتهكم على تصرفي مع مدير األمن قد فعل الكثير جد ًا مما يجب أن
107
من شقوق الظالم
108
من شقوق الظالم
بشكل نهائي ،وهذه المقابلة ما كانت اّإل بمثابة نظرة أخيرة على جثمان
مسجى ينتظر الدفن بعد برهة قصيرة .وستثبت األيام ذلك قريب ًا ،وقريب ًا
قلوب ُختم عليها بصنعها القبيح ٍ ِ
استجد من جد ًا .وحسن ًا فعلت حين لم
صمها ،وأسدلت على أبصارها ستائر غشاوة ال
وفي أسماعها حشر حجر ّ
لجي ،فأنى
يتسرب منها نور الحقيقة فأضحوا يعيشون في ظلمات قاع بحر ّ
يم
لهم مع كل هذا النظر إلى شمس الحقيقة ولو كانت تسطع مشرقة فوق ّ
الحياة واإلنسانية.
109
من شقوق الظالم
15
***
على ذكر قاضي التحقيق ،هناك قصة لو تمت الختلفت األمور كلها
ولسارت في مسار آخر .قلت في بواكير هذه الحكاية "إننا بلغنا فسح ًة في
طابق علوي ،رأيتها فيما بعد وكانت شاهد ًا للحظة كان يمكن ان تكون
تاريخية" .جاء اآلن دور هذه الحكاية ألرويها .كانت أجهزة األمن رغم
كل أعمالها التعسفية وممارساتها الخارجة عن القانون ،الشبيهة بعمل
العصابات اإلجرامية بل هي كذلك فعالً ،اّإل إنها كانت تحرص جد ًا على
ال قانوني ًا صوري ًا ،حتى وإن لم يطبق بالمرة .فمث ً
ال منح كل إجراءاتها شك ً
اإلعدامات تنفذ بحضور ممثلين عن التنفيذ من جهات معنية به ،وإذا قتل
شخص أثناء التعذيب تُصدر له ورقة يدعى فيها إنه قد حكم عليه باإلعدام
قريب لي قتل في التعذيب وتسلمت ٌ من محكمة الثورة ونفذ به الحكم.
عائلته جثته ودفنته ،وبعد سقوط النظام الفاشي وجدنا ورقة رسمية تتحدث
عن تنفيذ حكم اإلعدام به لكن بعد أربع سنوات من يوم مواراته التراب .إذا
أرادوا إعدام صبي لم يبلغ سن البلوغ يأخذوه إلى مستشفى لمقابلة لجنة
طبية خاصة تقرر أن عمره الحقيقي غير عمره المثبت رسمي ًا ،ثم يقدم إلى
محكمة الثورة على أنه رجل بالغ تجاوز السن القانونية ويصدر عليه حكم
اإلعدام أو المؤبد وفق ًا للقانون.
التقيت كثير ًا ممن قابلوا هذه اللجنة ممن ُرفعت سنّهم القانونية وحكم
عليهم كبالغين راشدين وأخذوا أحكام ًا بالمؤبد ،ورأيت بعيني وسكنت مع
آخرين في الزنزانة ذاتها مع مجموعة سجناء أعمارهم تحت السن القانونية
110
من شقوق الظالم
يك يتجاوز الثالثة عشر عام ًا ،وقضوا مدد ًا طويلة في
حتى إن بعضهم لم ُ
السجن بالظروف نفسها التي كنّا نعيشها ،كانوا مثل الصبية واألطفال بل
هم كذلك وكنّا نرعاهم رعاية خاصة.
تحقيق
ٌ ومن ضمن هذه اإلجراءات الشكلية بحسب القانون ،تحقيقان،
أولي وآخر قضائي ،األول كانت تنتزع االعترافات فيه تحت التعذيب ،أما
التحقيق القضائي فيعرض المتهم مع إفادته أمام قاضي تحقيق ،ويسأله
أقر المتهمالقاضي بعد أن يقرأ إفادته عليه هل توافق على هذه اإلفادة؟ وإذا ّ
بها يوقع عليها وتصبح رسمية ،وطبع ًا هذا إجراء صوري أما الحقيقة شي ٌء
آخر .إذ كانوا يعرضون المتهم على القاضي فإن قال نعم ،مرت األمور كما
هي ،وأما إن أنكر االعترافات فإنهم يعرضوه لجولة جديدة من التعذيب
القاسي المرير ويعاد عرضه ثانية أمام قاضي التحقيق وال سبيل له إلنكار
اإلفادة مطلق ًا شاء أم أبى .في بعض األحيان يتجاوزون حتى هذا الشكل
الصوري ويعتبرون التحقيق األولي تحقيق ًا قضائي ًا ،وكانوا يلجؤون لهذا
اإلجراء مع المتهمين الذين ُحسم أمرهم بمجرد اعتقالهم ألنهم مطلوبون
بشدة من قبل األجهزة األمنية .السلطة القمعية كانت قد قررت قتلهم مسبق ًا
حتى قبل إلقاء القبض عليهم لذا كل ما كان يحصل هو جولة قاسية من
التعذيب النتزاع المعلومات منهم فقط ،ثم يقسر على التوقيع على إفادة
تعتبر تحقيق ًا قضائي ًا ويرسل إلى اإلعدام بأسرع ما يمكن ،حتى لو لم
يعترف أو رفض التوقيع على اإلفادة المفبركة ،تعد أوراق تحقيق مزيفة في
أي حال.
غرفة خاصة بهذا ويعدم على ّ
في نهار يوم شتائي استدعيت إلى قاضي التحقيق كالعادة ،وصعدت مع
111
من شقوق الظالم
حارس أمني واحد عبر المصعد وعندما وصلنا الردهة العلوية تُركت هناك
واقف ًا بانتظار وصول قاضي التحقيق تأملت الردهة وعرفت إنها المكان
األول الذي شهد بداية جوالت التعذيب .كانت ردهة واسعة بين مجموعة
غرف ،إلى اليمين هناك غرفة التقيت فيها ضابط التحقيق (ع.ع ).ألول مرة
وإلى اليسار يوجد ممر فيه أكثر من غرفة ،اّإل ان ما لفت انتباهي إن لهذه
الردهة الواسعة شباك كبير جد ًا تمام ًا بحجم الجدار ،تنسدل عليه ستائر
من قماش سميك رصاصية اللون متراصة بكثافة .لعل الشباك كان عرضه
ال أن تكون ردهة في طابق يوازي الخمسة أمتار تقريب ًا وكان منظر ًا غريب ًا فع ً
ثالث تحتوي على شباك واسع بهذا الحجم وبدا لي كما لو أنه كان جدار ًا
من زجاج.
كنت أقف في منتصف الردهة وحدي طليق اليدين مفتوح العينين،
ال يوجد بالقرب مني سوى شرطي أمن واحد ضخم الجثة ،يقف تمام ًا
بمالصقة الحائط الزجاجي وهنا خطرت لي فكرة .ماذا يحصل لو إني
ٍ
بسرعة كبيرة باتجاه هذا الشرطي وداهمته بكل قوتي ،إنه ركضت بغت ًة
بالتأكيد لن يستطيع تدارك الموقف .سأخذه على حين غرة وسوف نحطم
الزجاج باندفاعتي نحوه وبثقل جسدينا ،وننزل مع ًا من الطابق الثالث
إلى األرض تُهشم عظامنا وتكسر جمجمتانا ونقتل سوية ،وأكون بذلك
عاقبتهم على قتلي المقرر الحق ًا بقتل واحد منهم.
أنا ميت ال محال في كال الحالتين ،في هذا اليوم أو بعد صدور الحكم
باإلعدام شنق ًا وهو ليس ببعيد .لم يخطر على بالي بالمطلق إنه قد يكون
زجاج ًا مدرع ًا وال إنه من الممكن أن يكون سميك ًا جد ًا ،إذ لم يكن في
112
من شقوق الظالم
وقتها هذا النوع من الزجاج شائع ًا وال أنا اعرف بوجوده ،لذا لم أفكر بهذا
االحتمال .بدأت أستعد لتنفيذ الفكرة التي وصلت عندي لمرحلة القرار
النهائي وتجاوزت كل المراجعات النفسية الداخلية ،كنت أنتظر فقط
لحظة ال ينتبه فيها الشرطي لحركتي ،لمباغتته وتحقيق نجاح مثالي كامل
للخطة .اّإل انه في هذه اللحظة بالذات اقترب الرجل كثير ًا من الحائط
الزجاجي وكنت قد سمرت نظري عليه استعدادا للوثبة االخيرة نحو
الخاتمة التاريخية ،وإذا به وهو يزيح الستارة بتأن لينظر من خالل الشباك
ٍ
بشبكة محمي إلى أمر ما في الخارج ،أرى إن هذا الشباك الزجاجي الكبير
ٌ
ٍ
حديدية قوية نطلق عليها في العراق تسمية "الكتيبة" ،صعقت وتخيلت كم
كان للمشهد أن يكون دامي ًا لكن من جانبي فقط .إذ لو نفذت خاطرتي
لكنت أوقعته أرض ًا وربما تكسر الزجاج ليس غير ،أما أنا فسوف تكسر
عظامي بعدها تحت هراوات رجال األمن ومن الممكن أن أموت تحتها
حتى قبل صدور حكم اإلعدام .وئدت الخطة قبل تنفيذها لكن قرار ًا كهذا
يأس كنت أحمله من تلك الحياة التي بأي درجة ٍمني وإن لم ينفذ ،يشي ّ
أي حد كنت أخاطر بمواجهة هذا اليأس. ٍ
اعيش فيها حينئذ وإلى ّ
اليائسون حينما يرتكبون أفعاال انتحارية إنما يفعلون ذلك ألن كل سبل
النجاة أوصدت أمامهم ،وحينها يرون أن ال قيمة الستمرارهم في مواصلة
كفاح محتوم الخسارة ،والخطورة األشد واألعظم إنهم لن يجدوا من ثمن
أي من خصومهم .المنتحرون ال يفعلون شيئ ًامهم أو قيمة ذي بال لحياة ّ
سوى إنهم ينتقلون من موت إلى موت آخر.
بعد أن انتهى التحقيق تمام ًا وتمت كل اإلج��راءات الشكلية،
113
من شقوق الظالم
114
من شقوق الظالم
115
من شقوق الظالم
لوحته في هذا المبنى القذر وهو الذي كنّا نعتبره من طليعة الثوريين ومن
المثقفين الداعين إلى النزعة اإلنسانية في الفكر والتعامل مع اآلخر؟ اّإل
اني سرعان ما استرجعت وعيي موبخ ًا نفسي .ما الذي دهاك؟ هل جننت؟
وما يدري الرجل بما ُيفعل برسومه حين تباع؟ هل عليه أن يتابعها واحد ًة
تلو األخرى؟ ثم كيف له أن يعرف انها أخذت إلى مديرية أمن؟ إذا كانت
الناس عندما تدخل إليها تختفي آثارها مثل ملح يذوب في ماء فهل تبقى
من ٍ
آثار للوحة فنية حتى يمكن له ان يقتفيها؟.
وأنا أصعد تكاثرت أمام ناظري صور صعودي الوئيد حين كانوا
يقتادوني على هذه الساللم نفسها ،وكيف كنت أحصي ثالث عشرة
علي لينزلوا بي قصاص ًا ْ
درجة ،وإن أخطأت في حسابها تثور حفيظتهم ّ
علي حينها ،انما بكل عاج ً
ال من صفع أو شتم .ال أذكر كم من خاطرة مرت َّ
يقين لو حاولت عدها لعجزت عن إحصائها ،ال حين مرقت بسرعة البرق
وقتئذ وال اآلن عندما أحاول استرجاع شريطها.
كانت أوصالي ساكنة ورأس��ي ترتعد فرائصه خشية اللحظة
المرتقبة .أمواج هائجة من خواطر متضاربة وأفكار متناقضة وأسئلة حائرة
وردود عليها كانت تنهمر ،فتصيب لبها وتطفأ ظمأها بشكل عجيب .كل
هذا كان يحصل في تلك الدقيقتين أو حتى الثالث دقائق المدة الكافية
الستغراق طي كل الساللم وصوالً إلى غرفة اللقاء المنتظر .انبثقت وسط
هذه الثورة العارمة خاطرة غريبة مرقت بسرعة البرق ،كأنها صاعقة نزلت
لتميت كل شيء وأذهبت كل فورة خواطري في سكون عميق .خاطرة
كانت خارج نسق األفكار وأثارت ذهولي وقتها وال أصدق حتى وأنا
116
من شقوق الظالم
117
من شقوق الظالم
التفوه اّإل ٍ
بنزر ٍ
يسير جد ًا من كلمات يمكن احصاءها بسهولة .استجمعت
كل قواي وأضمرت ضعفي وإحباطي أمامهم .كان همي الشديد أن أفهم ما
شخصٍ ٍ
بطريقة مشفرة بعض الشيء عن الذي يجري في الخارج واستفهمت
يهمني أعتقل بسببي وتأكد لي عبرهما خروجه من المعتقل ،وكان خبر ًا
مفاجئ ًا وسار ًا في الوقت نفسه .كانت مواجهة قصيرة سريعة لم تغير شيئ ًا من
الواقع الذي نعيشه ،ولم تكن أيض ًا محل تفاؤل كبير كما يتوقع لها أن تكون،
برغم إن حصولها كان أمر ًا غير مطروق في معسكرات االعتقال السياسي.
حصلت من هذه المواجهة على بطانية وفيرة منحتني ورفاقي دفئ ًا
ال من هيئتي ،وإن علمت ٍ
بصورة مثالية وعلى ثياب جديدة حسنت قلي ً
بعدها إن رجال األمن سرقوا الجزء األفضل واألجمل منها ،وحصلت
كذلك على سجائر ووجبة طعام منزلي صنعت خصيص ًا لي واألكثر من
ٍ
سكينة وطمأنينة هدأت من روعي. ذلك قليل من
اّإل ان هذه الزيارة لم تشع جو ًا للتفاؤل ،بل على العكس من ذلك سادنا
تشاؤم كبير بعدها .كانت زيارة غريبة في حصولها وأغرب في نتائجها فقد
علمنا إن مديرية األمن هذه تعطي ألهل المعتقلين السياسيين فيها فرص ًة
إللقاء نظرة أخيرة عليهم قبل ايقاع حكم الموت بهم .عزز هذا التشاؤم
لطلبة زمالء من جامعتنا (جامعة الموصل)ٍ استذكار حادثة وقعت من قبل
سبقونا في زمن االعتقال .ال أدري كم واحد مثلي من قاطني الزنزانة ازداد
يقينه بأننا ننزلق سريع ًا إلى الهاوية التي سوف تبتلع الكل .أحد المعتقلين
كان متيقن ًا من هذه النتيجة المنتظرة من هذه الزيارة ،وهو نفسه كان رائد ًا
في سبر غور تاريخ هذه الحادثة بهذه النظرة التشاؤمية ،بل إنه هو من نقل
118
من شقوق الظالم
أحداثها لنا بالتفصيل وكانت بالفعل مطابقة لحالتنا .توقعه لهذه النهاية
طابق خاتمته المفجعة بالفعل فيما بعد مع آخرين التقوا أهاليهم وكانوا
معنا في الزنزانة ذاتها أو في المعتقل نفسه.
راودني إحساس بأن األرض ستنشق يوم ًا بغتة وتبتلعنا إلى حيث ال
رجعة ،وشعور االطمئنان الذي بدا على محيانا بعيد الزيارة بدأ باالنحدار
سريع ًا وانتهى إلى وجوم .نعم ،كانت األمور تسير فع ً
ال نحو هذه النهاية
التراجيدية ،اذ بعد زيارة األهل المفاجئة والغريبة تم نقل مجموعة من
سكنة الزنزانة إلى معتقل آخر يحتجز فيه بالعادة من حان وقت محاكمته.
بشعور آخر من عدم وتالش حين جاء ٍ واستبدل شعور االرتياح واالطمئنان
فجر يوم اربعاء بضعة حرس لم نرهم من قبل بمزاج قاتم وطبع غليظ،
ساقوا نفر ًا منّا إلى معتقل آخر تمهيد ًا لنطق الحكم عليهم في محكمة
صورية ،تستلم قراراتها من ضباط التحقيق في دوائر األمن .ها إذن قد
أزفت اآلزفة وقربت ساعة إسدال الستار على المشهد األخير من فصول
هذه الملهاة المأساوية.
خرجوا فجر ًا وغابوا ما يناهز اإلسبوعين أو أكثر ال أذكر ذلك تحديد ًا
اآلن فقد مضى زمن طويل ،ولم يعد الوقت مهم ًا حينها ألنشغل بحسابه،
ولم أعبأ وقتها وال بعدها بعملية إحصاء األيام التي سوف أقضيها في َ
السجن فهي كلها متشابهة .كنّا نترقب فجر أربعاء جديد وهو الموعد
الدوري لنقل المعتقلين من مديرية األمن إلى محكمة الثورة ،غير إنّا دخلنا
في نفق من انتظار مقلق ،وما كنّا نخاله أمر ًا دوري ًا تحول إلى ترقب عشوائي
ولد في كوامن نفوسنا مد ًا عالي ًا من القلق والحيرة.
119
من شقوق الظالم
120
من شقوق الظالم
بعد عناء التفكير ومشقة األسئلة السائبة أن نجبه هذه الحلكة المضاعفة إما
بالقبول بأننا على وشك أن نفقد كل شيء أو نظل نتشبث بسراب الواحة
النائمة خلف التل .لم يكن وارد ًا أبد ًا زجر كال الصورتين عن أعيننا الشاحبة
المنهكة فقد علقنا بينهما بال فكاك وفقدنا غريزة النسيان واستقرت شهوة
القلق في قعر ذاكرتنا اليقظة أبد ًا.
إلى أن ايقظنا من نومتنا وحيرتنا صوت ضابط في ساعة متأخرة ،قال
كلمات تحمل نبر ًة جديدة تخمد
ٌ بضع كلمات باستعجال ورحل سريع ًا،
الحيرة وتحيي أمال في مواصلة الحياة ولو في زنزانة .كلمات ما زلت
أحفظها حرفي ًا قذفها في داخلي عميق ًا صخب تنازع الصور وتجاذب
أطراف القلق.
-خفيفة إن شاء الله ،السيد الرئيس أمر بإيقاف اإلعدامات.
ٍ
زاوية بعيدة منكفئ ًا تغير ُ
كل شيء وقرار الحكم علينا باإلعدام اندلف إلى
وصار يحدونا أمل حقيقي بمواصلة البقاء ،على األقل أنا شخصي ًا صرت
متيقن ًا من هذا في قرارة نفسي ،ووثبت أمامي تلك الرؤيا الغريبة التي رأيتها
أول اعتقالي بأني سوف أحكم لعشرين سنة ،الحت لنواظري صور تجرجرني
وبت أتهيأ ألخمد رغبة اليأس والعبث التي استوطنتني ألشهر.
لألمام ُّ
تبرير واحد أفسر به هذا التحول في الحكم علينا وظل ٍ لم أقف على
عصي ًا على الفهم أبد ًا ،ألن كل شيء في البلد كان يجري بقرارات مزاجية
لفرد واحد وليس من اليسير فهم دواعي صنعها ،بل كانت كأنها أحجية ولغزٍ
في أكثر األحيان ،وال يوجد وصف مالئم لها اّإل انها نوبات انفعال وهلع
121
من شقوق الظالم
122
من شقوق الظالم
هي موجعة بنفسها ولوحدها .وعلى األغلب هذا كان يحصل للجميع ،ال
أدري قد يكون حتى أكثر مما كنت أقاسيه وأكابده .لم نتشارك إبداء الوجع
بل حاولنا مواراته عن بعضنا حتى ال يؤذي أحدنا اآلخر أو كنا نخشى أن
ننكأ الجرح فيتضاعف األلم علينا.
بارد في صناديق خشبية يحيط بها حرس عنبر ٍ
صورة قاتمة لخروجنا من ٍ
قساة يحظرون البكاء ويمنعون العزاء ،أمام نواظر أمهات ثكلى تغطيهن
جالبيب سود ما أذن لهن من البقاء في هذه الدنيا .هيئة تدفع بقتامتها
إلى كل األشياء الالتي تحيط بهن وتحيل أيامهن لياليا ،وآبا ُء لن يفارقهم
عبوس أزلي ويستعيضون بوجو ٍم مقيم بدالً عن دمو ٍع لن يذرفوها علن ًا،
وحين يفعلون فسوف تكون دموع كمد في الخلوات فقط ،هرب ًا من مالحقة
شماتة اآلخرين ومن عيون رجال األمن .شقيقات سوف يوصدن كل
النوافذ والشبابيك ألن دروب العشاق ستحول مسارها بعيد ًا عنهن خشية
من مصير مشابه لمصير أشقائهن ،وفرسان أحالم سوف يستنكفون المرور
تحت نوافذهن ،فقد صرن منتميات لطبقة الداليت الهندية المنبوذة وال
يجوز لألشراف مصاهرتها .سيخرج أشقاؤنا كل يوم إلى أعمال جديدة،
على األرجح سوف تكون حقيرة بعد أن يطردوا من وظائفهم الحكومية،
يتحاشون نظرات االتهام والريبة من الجيران وتتضاعف قتامة وحلكة
األيام بنهاراتها الدامسة قبل لياليها أمامهم حين يتحاشاهم صديق أو قريب
كان يرتاد المقاهي والمالهي معهم .ال يمكن أن اصف جميع الصور
الوخيمة ،ألن حتى مجرد كتابتها اآلن يقطعني بشفرات نصلها الحاد واني
علي وليتها ال تعاود المرور ٍ
مرت ّ ألرأف بكل أحد أن يتخيلها .المهم أنها ّ
123
من شقوق الظالم
أي إنسان.
على ّ
-هل تعرفون إني سمعت قوالً ديني ًا مأثور ًا عن النبي محمد أنه قال:
ميت ونهض بعدها فلن أعجب لذلك؟ أت الفاتحة سبعين مرة على ٍ
لو ُق ِر ْ
سألنا أحد الذين كان معنا في الزنزانة ممن كان يحفظ من أمور الدين
ويمارس طقوسه أكثر من اآلخرين ،وحثنا على فعلها.
ال أخفي القول ،عقلي لم يصدق أبد ًا ما كان يقوله صاحبنا ،وال كنت
ال هناك نقل موثوق معتمد بمثل هذا القول أدري من قبل وال اآلن هل فع ً
عن النبي محمد أم ال .رغم ذلك فإني لم أنبس ببنت شفة اعتراض ًا عليه
أي نوع من أنواع التلميح للرفض أو التعجب ولو وال حتى جربت إبداء ّ
بتقطيب وجه أو رفع حاجب أو نظرة شزراء .بدا ما يقوله غريب ًا جد ًا وأقرب
إلى االسطورة المبالغ فيها من أي شيء آخر ،لكني لم أنكر عليه قوله ولربما
لو قيل لي هذا القول في غير تلك الساعة لكنت تفحصته وقلبته ألف مرة
ومرة ومن كل الوجوه كعادتي المألوفة في النظر والتدقيق وما كنت ألصدقه
في النهاية .غير إن قوله نزل كقارب نجاة ال مناص من التشبث به والعبور
علي مثل غيث يطمر ببرده به للنجاة من خطر الغرق المحدق ،وحل قوله َّ
لسعة نيران تكتوي بها حشاشتي .جلسنا مجتمعين هادئين بانكسار ،كنت
أسمع نشيج خفي من بعض رفاق الزنزانة ونحن نقرأ سورة الفاتحة لسبعين
مرة بإخبات وفي صمت محكم خبت معه اآلهات ،كل اآلهات .حين انتهينا
ٍ
بفيض من رئتي بهواء نقي جاء من عالم آخر أشبعنيتنفست عبق عطر مأل ّ
شيء أجهله ،مثله مثل نسيم ربيعي يهب في ظهيرة يوم تموزي .انزوينا
كل إلى محله في مخدعنا المشترك المزدحم وقد هدأت طباعنا كأننا بعدها ٌ
124
من شقوق الظالم
قفلنا للتو من حلقة ذكر صوفي أنهكنا فيها الرقص عشق ًا.
هذا الحادث الغريب حصل في عشية اليوم الذي اقتادوا فيه بعضا من
رفاقنا إلى المحاكمة الملغاة والتي تغير فيها الحكم باإلعدام إلى حكم
آخر .عندما سمعت الضابط يقول:
-خفيفة إن شاء الله ،السيد الرئيس أمر بإيقاف اإلعدامات.
اندفعت تلك الليلة الصوفية بكل ما فيها إلى كياني ولم تخرج منه أبد ًا.
125
من شقوق الظالم
16
***
عدنا إلى الحياة من جديد بعد هذه الحادثة الغريبة أو المصادفة العجيبة
وبدأت بعدها أحاول أن أرتب دواخلي لحياة طويلة في السجن ،غير
إنه صادفتنا أمور كثيرة كانت تثير الغثيان واالشمئزاز والقرف منها ومن
سلوك رجال األمن والحرس الحافل بالتناقض .فجوة شاسعة جد ًا بين
بريق الشعارات وبهرجة االدعاءات التي يتظاهر بها الحزب الفاشي هو
والمروجين له ،وبين واقع حاله وهذا ليس حكر ًا عليه ،بل إنه عين ما
جل أصحاب الجمعيات واألحزاب وحال مناصريهم الذين يقاتلون يفعله ّ
بشراسة ألجل السلطة ،وال يناضلون للفكرة كما يزعمون .لذا يستفرغون
كل ما في وسعهم ويبذلون أقصى جهدهم لبلوغ مآربهم الخبيثة ،فيرى
ألجل هذا قادة تلك الجهات يزوون جانب ًا النظر في أخالق أتباعهم الرذيلة
وأصولهم المنحطة ما بلغوا بهم مآربهم في الجاه والسلطة والزعامة والثراء،
بل إنهم يستعملون تلك الزمر من األوباش واألراذل عن عل ٍم ودراية وال
يوفروا جهد ًا من حثهم وتشجيعهم على ارتكاب كل الموبقات ليرهبوا
بهم خصومهم ويختصروا المسالك ألمانيهم الخاطئة .في بعض األحيان
تبلغ تناقضاتهم من السخف حد ًا يثير الشفقة على أصحابها ويبعث على
الضحك ويدعو للسخرية من عفن عقولهم .وهذا كان حال العاملين في
هذه األجهزة القمعية فقد كانوا سيئو الطباع واألخالق ،ال ينطقون اّإل سباب ًا
وشتائم ًا كأنهم لم يعرفوا لغة غيرها من ساعة والدتهم ،لذا كنت أراهم
متعجب ًا يجيدون ألفاظها بطريقة فريدة ال تخطر على بال أحد ولم اسمع
126
من شقوق الظالم
بها من قبل.
كنت أتساءل ونفسي عندما أصغي لهذا السباب المقذع المتبادل بينهم،
هل هؤالء بعد العمل يعودون لبيوت يسكن فيها أطفال وترعاها زوجات
فترق قلوبهم لها وتحنوا عليهم ،أم إنهم يسكنون صحراء َقفر من كل شيء،
جردتهم من مشاعر وأخالق البشر؟ كانوا فاسدين لدرجة فظيعة وإني
لواثق من إنهم كانوا فاسدين باألصل ،قضوا أعمارهم سعي ًا في البحث
مهنة يمارسون فيها رذائلهم فبلغوا مرامهم المطلق في هذه الحرفة عن ٍ
الفظيعة بقبحها .كانت الدسائس والوشايات والنميمة زادهم اليومي،
يتشاتمون على كل شيء ،بل وألجل ال شيء أيض ًا .من اليسير جد ًا أن
تنشب المهاترات بينهم ،ويكفي لحصولها مجرد ريح باردة تمر من فتحة
ٍ
باب موارب لينهمكوا في شجار ال يوفرون لفظ ًا قبيح ًا اّإل واستخرجوه من
جعبتهم التي ال تنفد.
وأنا اسمعهم وأراهم على هذه الحال أحسب إنهم خلقوا ألجل هذا
وحسب .قساة غالظ لحد مرعب غير إني الحظت عليهم سلوك ًا غريب ًا
حين كان يسمح لنا بمراجعة دورة المياه بعد كل وجبة طعام .كان يتناوب
علينا حرس مخصصون لهذا العمل ،ومن يأتي اليوم ال يأتي بالغد ولم
تكن تتغير مجموعة الحرس وحسب بل تتغير األخالق معها أيض ًا ،يأتي
ٍ
جاف غليظ يشبعونا سب ًا ومهانة ويثيرون حنقنا ٍ
بأسلوب الحرس اليوم
وغضبنا ،ويحل محلهم في اليوم التالي آخرون على النقيض من أصحابهم
متساهلين ويسردون علينا أحاديث وقصص وقعت لهم كأنهم يسلونا
ويروحون عنّا يخال المرء بعدها إنهم ال ينتمون لهذا المكان ،لوال زيهم
ّ
127
من شقوق الظالم
128
من شقوق الظالم
الحارس بالذات كان يختص ببالدة حيوانية وفظاظة مفرطة بشكل متفرد.
كانت البداوة والقساوة تشع من محياه لكل من يراه ولو لبرهة واحدة ومن
لهجته حتى لو سمعه شخص يتلفظ بضع كلمات ال معنى لها .عيناه زائغتان
بالخلقة ،قبيح المنظر بال حاجة لهذا القبح اإلضافي وبمرافقة هذه العيون
المتشاكسة فيما بينها ازداد قبح ًا وبشاعة .قوي ،قصير ،ذو جثة مملوءة ،ال
يتوقف لسانه عن التسبيح والتهليل بينما كنَّا نخرج لقضاء حاجتنا .وفي
يوم ما ولسبب مفرط في السخافة إلى الحد الذي لم أوفق السترجاعه من
ذاكرتي رغم محاوالتي الكثيرة اليائسة للعثور عليه انفجر غاضب ًا مثل برميل
بارود .لهذا السبب المفرط في التفاهة والمجتمع مع تلك البالدة ،فهم هذا
الحارس الغبي شيئ ًا ال يمكن فهمه بهذه الطريقة المعوجة اّإل من معتوه
مثله فائق الغباوة وانفجر ألجل ذلك غضبه الهستيري على أحد المعتقلين
وأشبعه ضرب ًا وشتم ًا بطريقة تشبه فتك وحش ضاري منفلت من عقاله.
بالمقابل كان صاحبنا المعتقل على عكسه تمام ًا من النوع الفاشل جد ًا في
أي أمر حتى ولو كان يملك كامل حريته ،فكيف به اآلن أي أحد في ّ
إقناع ّ
وتقلبه على البالط ركالت من أقدام وحش أصم.
لم نملك خيار ًا ساعتئذ لنصرته في هذه المواجهة غير المتكافئة ولو
ٍ
مجزرة حقيقية .ومع ذلك جربنا ذلك تهور ًا ،ألنقلب الحال بال ريب إلى
لم نقدر على التقوقع بالسكوت فانبرى أحدنا بطريقة رقيقة بعد أن لمس
ٍ
بكلمات مختصرة لكنها كانت فتور ًا في ثورة هذا الدرويش الوحش فأقنعه
متماسكة وبليغة بأن األمر ال يعدو سوء فهم ،وان هذا المعتقل لم يكن
يقصد شيئ ًا سيئ ًا .حينها بدت على الحارس البدوي عالمات تراج ٍع وندم
129
من شقوق الظالم
ٍ
عقاب مجاني انعكست علينا فرح ًا وبشرى بإنقاذ المعتقل المسكين من
بأي معيار أو مقياس .ولم تكتملألي أحد أن يبرره وال ّ
ظفر به ال يمكن ّ
فرحتنا لنواجه معضلة أشد بعد ذلك ،إذ قال لنا هذا الحارس األمني الورع:
-ادخلوا الزنزانة ،ال أقدر على السماح لكم بدخول المرحاض اآلن.
بهتنا لذلك ولم نفهم ،بعد ان ظنّنا إن كل شيء قد عاد لمجراه ،اّإل إنه
ٍ
متدين غاية في الورع موضح ًا قراره الغريب. ٍ
رجل أردف بثقة وبيقين
-ألني بينما كنت غاضب ًا أضرب صاحبكم ،أقسمت يمين ًا أن ال تخرجوا
لقضاء حاجتكم اليوم ،ولذلك ال أستطيع كسر يميني اآلن ألن ذلك حرام.
تبادلنا نظرات دهشة وكتمنا قهقهة استغراب ،ومن حينها ازدادت
ٍ
طويل حرموا أنفسهم سخريتي ممن ينصتون خاشعين لتالوة بورع بعد ٍ
نهار
فيه من لذائذ الشراب والطعام ليهبوا بعدها لفعل اشد الموبقات .هذا األمر
تكرر حصوله من أولئك الحرس ورجال اآلمن حيث كنّا نراهم من كوة
الزنزانة يتحلقون على مائدة إفطار رمضاني ثم ينهضون بعدها مسرعين
تملؤهم الحماسة لجلد أمرئ ال يعرفوه وينزلوا به أشد العذاب ولو قيض
لهم افتراسه لفعلوا .من يومها سخرت ولم أندم على ذلك أبد ًا من دين قوم
يجيز كل هذه الفواحش والقبائح وال يجيز كسر يمين على دخول مرحاض.
130
من شقوق الظالم
17
***
ال للحديث عن أصحابنا الذين عادوا من علي اآلن أن أرجع قلي ً ّ
المحكمة الملغاة والتكلم عن الظروف الخارقة في غرابتها وندرة حصولها
التي عاشوها في المعتقل وهي أقرب للخيال من الواقع ،وال أفهم كيف
يمكن ألحد أن يبررها أو يتغاضى عنها وعمن وقف وراءها أو يتهاون مع
مرتكبيها .سوف أسرد بعض ًا من هذه الحكايات العجيبة التي لم أشهدها
بنفسي لكنها كانت متواترة ،إلى حد إنه يكاد ال يوجد سجين سياسي اّإل
ومر بها اّإل القليل جد ًا ،ونحن لحسن الحظ ،أقصد المجموعة التي كانت
تعيش معي في الزنزانة ،كنّا من هذه القلة القليلة.
مديرية األمن العامة أكبر ُم ْعتقل سياسي وتضم الشعبة الخامسة الرهيبة
المتكفلة بالشأن السياسي أو باألحرى الشعبة المختصة بتصفية المعارضة
السياسية ،ولذا يحتجز فيها أكبر عدد من السياسيين تمهيد ًا لمحاكمتهم
الصورية في محكمة الثورة .محكمة سأروي في حينه تجربتي معها ،وهو
على كل حال مع انه كان مشهد ًا زمني ًا قصير ًا جد ًا لكنه كان ثقي ً
ال للغاية ينوء
بعبء حمل خالصته تمثل واقع حقبة مظلمة امتدت لثالث عقود متوالية.
سأترك هذا لوقته أما اآلن فألقفل عائد ًا إلى رواية مشهد آخر وإن كنت أنقله
ال عن عيان إنما عن سماع من مئات األشخاص ممن التقيتهم أو عشت
معهم ،ولفرط ما يروى ويسمع من أغلب المعتقلين السياسيين صار كأنه
اغنية شعبية يحفظها جميع األطفال.
131
من شقوق الظالم
132
من شقوق الظالم
حديث طويل استمر أياما ،اّإل اني سوف أوجز كل ذلك كما أفعل مع سائر
ما حصل اّ
وإل لو فصلت كل شيء فلن أنتهي أبد ًا.
رفاقنا األربعة احتجزوا هناك بعد إلغاء المحاكمة ،في زنزانة طولها
ثالثة أمتار وعرضها متران وفيها دورة مياه بدون باب مساحتها متر مربع
متر واحدواحد ،ولهذه المرحاض ثالث جدر يصل علوها ألكثر من ٍ
باب حديدي محصن ضخم وموصد بأقفال كبيرة من بقليل .للزنزانة ٌ
مغلق على الدوام وفيه فتحة صغيرة في األعلى ُيمرر منها الطعام
الخارجٌ ،
إلى القاطنين في الزنزانة .ولهذه الزنزانة فتحة واحدة للتهوية بحجم خمسة
وعشرين سنتمتر ًا طوالً وعرض ًا تقريب ًا ،توجد فيها مفرغة هواء صغيرة
تناسب حجمها الصغير وخلف تلك المفرغة وضعت صفيحة معدنية
سميكة بها ثقوب صغيرة كثيرة كي تسمح للهواء بالمرور منها وتحجب
أي شعاع للشمس من أي مشهد في الخارج وتمنع ّ أيض ًا الرؤية كاملة عن ّ
الدخول إلى الزنزانة .يتدلى من السقف مصباح باهت فيما األرضية إسمنتية
خشنة كما هي كل أرضيات المعتقالت والسجون التي مررنا بها .اّإل إن
كل هذا لم يكن هو األمر االستثنائي وال حتى المثير لالشمئزاز في القصة
بالنسبة لنا كما يبدو لغيرنا حتى اآلن .هذا الوصف المقرف لهذه الزنازين
سوف يزعج وربما يسبب بعض اآلالم النفسية كما البد له أن يفعل بالعادة
لكل إنسان ألف العيش في الفضاءات المفتوحة ويمارس حرية التنقل فيها،
عندما يسمع قصصا كئيبة كهذه .رأيت بنفسي بعض ًا من آثار هذه الحكايات
عندما كنت أرويها شفاه ًا لبعض من أراد أن يسمع بعض الذي كان يجري.
وعندما أقول إنها تسبب آالم ًا نفسية فإني اعني ما أقول ألني تعرفت على
133
من شقوق الظالم
134
من شقوق الظالم
ويغدو بعدها نزالً يتسع ألربعة اشخاص محظوظين .لعله اآلن قد بانت علة
تضخم أقدام رفاقنا الذين عادوا إلينا من تلك الزنازين في رحلة المحكمة
الملغاة ،واذا لم ينكشف ذلك لحد اآلن ،فلنذهب إلى حكاية اللقلق وهي
كفيلة بتفسير كل شيء.
طائر اللقلق الذي عشعش في رأسي منذ ما يزيد عن ثالثين عاما ،ليست
حكاية عذبة بريئة ،كقصة اللقلق الذي يعرفه األطفال األوربيون حين
يسألون أهليهم كيف يأتي األطفال إلى هذه الدنيا فيشبعوا فضول سؤالهم
بأن لقلق ًا قد جاء بهم .قصة ظريفة رأيتها فيلما سينمائي ًا اسمه وداع ًا أيها
اللقلق ،على كل حال هذه قصة عندما كانت الحشمة لها محل في العوائل
األوربية ،أما وقد مات اللقلق األوربي مع مصرع الحشمة في أوربا وربما
في العالم كله .فإن لقلقي لم يرحل بعيد ًا بل ما يزال يعشعش في رأسي
مثلما يستوطن برج كنيسة بغدادية ،يبيض ويفرخ فيه وكلما رحل عنه يعود.
أراد العتاة بهذه الزنزانات الرهيبة أن يحطموا نفوس المعارضين ويسحقوا
عزيمتهم قبل أن ُينزلوا العقاب األخير بهم .كانت هذه الزنزانات ممر ًا إلى
موت محتوم ،في السنتين األوليتين من حرب الخليج األولى ،وكانت هذه
الزنزانات وعددها اثني وثالثين زنزانة تودع يومي ًا عشرات الشباب إلى
محكمة الثورة حيث يتلقون أحكام اإلعدام .وهو الحكم الوحيد الذي يناله
المعتقلون السياسيون أ ّي ًا كانت تهمتهم أو السن الذي بلغوه ولو كانوا دون
الثامنة عشر اّإل قليل جد ًا منهم ممن كان يأخذ الحكم بالسجن المؤبد إما
بضربة حظ أو مشيئة قدر ال يعرف أحد مغزاها والحكمة منها.
بمعدل ثالثين فرد ًا في ستة أمتار مربعة ال يرتدون اّإل مالبس داخلية كان
135
من شقوق الظالم
يتشكل المشهد الثابت .وألن الجو خانق يكتم األنفاس والحر شديد إلى
حد إن السقف كان يمطر على مدار الساعة ما كان لهم أن يرتدوا غير هذه
ال للخروج المالبس .المطر ينزل بفعل أنفاس المعتقلين التي ال تجد سبي ً
من هذه الزنزانة ال هي وال العرق المتصبب من األجساد المنهكة التعبى،
وحتى أكثر األيام قساوة في برد الشتاء القارس لم تكن تعني شيئ ًا بالمرة
لدى سكان الزنزانة ،ألنهم لم يكونوا يشعرون به أبد ًا جراء اكتظاظهم
المتواصل .أكثر السجناء كانوا يفقدون ما عليهم من ثياب في التعذيب
أي شيء يستر عورتهم وعلى كل حال وعندما ينتهي التحقيق معهم ُيعطون ّ
لم يكونوا بحاجة ألكثر من هذا فالمكان لم يكن يالئمه ارتداء أردية كثيرة.
لن أقول كم هو خانق ذلك المكان ،بل أروي حادثة واحدة فقط حصلت
في هذه الزنزانات تفسر كل شيء .ففي أحد األيام انقطعت الكهرباء أو
ُقطعت وتوقفت مفرغة الهواء عن عملها ،وألن القصة مفرطة في القسوة
تكاد نفسي تخرج من بدني حين أتذكرها ألني أعرف بعض أبطالها فسوف
بعض من سكان الزنزانة أختصرها بكلمات موجزة جد ًا .نفد الهواء ومات ُ
اختناقا ألنه لم يعد هناك هواء ٍ
كاف يستنشقوه .لقد نفد الهواء في الزنزانة،
نعم نفد الهواء ،وأعدموا شنق ًا بال حاجة لحبل مشنقة يفعل ذلك بهم ،ومن
ال من جراء كان محظوظ ًا منهم دخل في غيبوبة وبعضهم أصبح لسانه ثقي ً
ال استدعى الشفاء منها وقت ًا طويالً .أحد
هذه الغيبوبة ،وأصابت آخرون عل ً
علي بالخال
ال لي في المدرسة الثانوية وما يزال وجهه يطل ّالضحايا كان زمي ً
الذي يزين خده كلما تذكرت هذه الزنزانات الفظيعة .هناك أفل نجمه وغاب
لألبد وما زال أهله ومحبوه يتشوقون للمعة خاله ويترقبون ظهوره.
136
من شقوق الظالم
137
من شقوق الظالم
كل واحدة منها قطعة خبز واحدة من صمون هش مصنوع من طحين الذرة
يذوب سريع ًا في الفم ال يسد جوع أحد ،ودجاجتين في العشاء يتقاسمها
الجميع وبضع أكواب من الرز في منتصف النهار وقطعة من جبن على
شكل مثلثات في أول النهار مع ثمانية أقداح شاي توزع على الكل لمن
أراد أن يشرب منها.
هذا المقدار الضئيل لم يساعد األبدان على المقاومة ،في وقت كانت
تتورم األقدام من جراء الوقوف المستمر .المعاناة األشد كانت دخول
الخالء إذ ينبغي خروج األشخاص الخمسة منه وعليهم أن يجدوا مكان ًا
مؤقت ًا ألنفسهم وسط هذه الكتلة البشرية المتراصة ،وكان هذا مصدر
إزعاج كبير جد ًا ومحنة حقيقية إذ كيف تجد مكان ًا لخمسة أشخاص مقابل
واحد فقط دخل دورة المياه ،وبسبب هذه المعاناة كان البعض ال يحبذ
الجلوس في دورة المياه ،ألنه عرضة لتهديد مستمر بإخالء المكان بينما
يفضله آخرون رغم ذلك ألنه المكان الوحيد الذي يمكن الجلوس فيه
واالستراحة من عناء الوقوف اللقلقي المستمر .وكم هو مقرف أن يكون
خيار المرء بين الوقوف لقلق ًا أو الجلوس في مرحاض ال أمر ثالث بينهما.
الحسنة الوحيدة في الزنزانة هو توفر ماء جار كثير ،ألن هذه الوفرة لن
يطول بقائها خصوص ًا في السجن.
وبرغم هذا الضيق واألغالل التي تقيد حركة المعتقلين ،فأنهم كانوا
يحملون في قلوبهم عزيم ًة هائلة وإرادة جبارة .لم يمنعهم هذا العذاب ك ّله
من الجلوس في هذه الزنزانات نفسها ويعقدوا فيها ندوات يتحدثون فيها
عن أمور ثقافية ويتبادلون المعلومات ويجرون النقاشات والحوارات في
138
من شقوق الظالم
أمور شتى حتى السياسية منها وجعلوا من هذه الزنزانات مدارس ثقافية.
لم يتوقف حس المعارضة للظلم ،بل كان يزداد ويترسخ في صدورهم
كلما ازداد عذابهم وعرى التضامن تتوثق فيما بينهم وال يحسب ّن أحد إن
خفة الدم قد غادرتهم أو إنهم فقدوا حس الفكاهة والتندر ،أبد ًا بل كانت
المزحة حاضرة دائمة حتى ان أحدهم اطلق كلمة ٍ
تندر خالدة ،حين قال لو
قيض لي يوم ًا الخروج من هذا المعتقل فسوف أصنف كتاب ًا يحكي يومياتي
أسميه "الوقفة اللقلقية في السجون العفلقية" .وأنا أنقل مقولته هذه عسى
أن يفي بوعده ويكتب كتابه المنتظر.
كثير من القصص القصيرة لم أعد
قبل أن يحين موعد محاكمتنا ،انتثرت ٌ
أتذكر الكثير منها ،ألنه لم يكن هناك من قرطاس أدونها فيه سوى ذاكرة
مشحونة بكثير من وقائع ثقيلة تحتل مساحة كبيرة منها ،ولم يبق مع لطمات
الدهر ما يسعني االحتفاظ بكل هذه القصص القصيرة .اّإل إن بعضها تمكن
من النجاة ومنها ما سوف أسرده.
مثل سائر المعتقالت هناك أصناف متنوعة من المعتقلين ألسباب أمنية
وال يمكن أن يصنفوا جميع ًا بالمعتقلين ألسباب سياسية أو ألنهم ذو نشاط
معارض ،بل حتى إن بعضهم كان من اتباع السلطة وأجهزتها القمعية .جاء
إلى الزنزانة يوم ًا أحد المعتقلين ممن يسكن المنطقة القريبة من الحدود
السورية وقص علينا نشاطه التخريبي لصالح المخابرات العراقية في
سوريا من تفجير بعض األهداف المدنية هناك وبعض األعمال اإلجرامية
األخرى .اعتقل بعد عودته من السجن في سوريا تحسب ًا من كونه عمي ً
ال
مزدوج ًا للمخابرات على طرفي الحدود.
139
من شقوق الظالم
140
من شقوق الظالم
في مسعى من السلطة إلنزال العقاب والقصاص بسكان القرى حتى وإن
خرج منها رجل معارض واحد .هذه الحملة التأديبية القاسية كانت بسبب
معارض مسلح كانت تقوم به جهات أيزيدية في مناطق شمال ٍ ٍ
نشاط
العراق متاخمة لسوريا .كان الحرس يعاملونهم بازدراء واحتقار وتكبر
بغيض ويسخروهم بالقوة للقيام بأعمال التنظيف في مديرية األمن رغم إن
أغلبهم كانوا من كبار السن .كان مشهد ًا مفجع ًا أن ترى حارس ًا طائش ًا قد بلغ
العشرين من عمره للتو وهو يذيق العذاب المر لرجل أربعيني ويسخر منه
ويحثه للعمل بالركل على مؤخرته والصراخ عليه .وألن القرويين يكونوا
أشد الناس تعلق ًا بالدين ويحظى بقدسية كبيرة في نفوسهم أكثر من ّ
أي أحد
غيرهم من طبقات الشعب ،خصوص ًا مع الجهل السائد بينهم والسذاجة
التي هم عليها ،فقد وجد رجال األمن ذلك فرصة سانحة ألن يستغلوا هذه
السمة الخاصة المتجذرة فيهم إليذائهم بسب معتقداتهم ولعن مقدساتهم.
كنّا نتطلع إليهم وهم في وجوم صادم يسمعون تلك األلفاظ البذيئة
أي من مشاعر االعتراض حتى على قسمات وجوههم عاجزين عن إظهار ّ
خشية العقاب الجسدي الذي ال يوفره رجال األمن لهم في أي مناسبة.
كان منظر ًا يفطر القلب حق ًا ويجلي بوضوح مستنقع الحقارة والنذالة الذي
خرج منه رجال األمن وحجم الغل الكامن في صدورهم لكل ما يمت
بصلة للمشاعر اإلنسانية.
لم تتوفر أمامنا حلول كثيرة لتغيير هذا الواقع الصعب الذي يعيشوه،
نقو على البقاء ساكتين عليه .قدمنا اقتراحا للحرس بأن الجزء
وبالمقابل لم َ
الخاص بنا من ممشى صغير يؤدي إلى دورة المياه ،نتطوع نحن لتنظيفه
141
من شقوق الظالم
يومي ًا وإعفاء هؤالء القرويين منه .لم يكن هذا االقتراح يغير من الواقع
كثير ًا ،فإنهم سوف يبقون ونساؤهم مسخرين ألداء هذه األعمال الحقيرة
في قلعة الخوف ولن يوقف فعلنا عوض ًا عنهم في تنظيف هذا الموضع
الصغير سبل االزدراء واالستكبار وال فحش األلفاظ واإلهانات وربما
أفعال أخرى أكثر قبح ًا لم نرها وال نستبعد حصولها من هذه الضواري
البشرية .كل ما سعينا إليه هو إبعاد المشهد المؤلم عن نواظرنا رحمة
ٍ
حاجة لمزيد من األلم والضيم بأنفسنا وليس شفقة عليهم .ألننا لم نكن في
أكثر مما هو متوزع في أرجاء نفوسنا ويسكن جوانحنا.
كان من المتوقع أن نكبح مشاهد السخرية واالهانة وتسير األمور سلسة
ال في األيام األولى ،ألننا نقوم بعمل تطوعي وال نتوقع وهذا ما جرى فع ً
مضايقة من الحرس .غير إنه في أحد األيام جاء شاب نزق ،وبينما كنت
أحمل قطعة مبللة من قماش خرق أمسح بها البالط دفعني هذا الحارس
النزق بعنف مصحوب ًا بلفظ سخيف يريد أن يكرر معي ما كان يفعله مع
القرويين البسطاء ،اّإل انه فوجئ بردة الفعل الغاضبة مني .إذ استدرت اليه
غضب واضح تظهر ٍ مباشرة ملقي ًا قطعة القماش المبلل على األرض في
علي ومزمجر ًا ببضع كلمات حادة متوعد ًا ومتقدم ًا نحوه
عالمات الحدة َّ
بانفعال شديد .ولحسن الحظ كان باب الزنزانة مفتوح ًا ويمكن لرفاقي
صراخ بيننا وحاول يائس ًا أن
ٌ التحرك بسهولة لنجدتي وهذا ما حصل ،عال
يردعهم بالقوة فجرب رفع ساقه كي يركل أحدهم لكن رفيقي كان أسرع
منه فأمسك بطرف قدمه وأطاح به على األرض وسحق كل تجبره بمنظره
المضحك وهو يتزحلق على األرض المبللة.
142
من شقوق الظالم
143
من شقوق الظالم
18
***
بملل ،أضحيت به كأني لفافة محشوة بسأم سمج قبيح ،قضيت ٍ مثق ً
ال
أشهر ًا تسعة منتظر ًا الخروج من هذه الحفرة التي صار الوقت فيها جامد ًا
رسم بريشة بشاعته تجاعيد ًا على جسدي وغرز في أحشائي بال حراك .سأ ٌم َ
كائن ًا يتلوى في عروقي مقرض ًا جفناي في اليقظة والمنام ويتقلب معي في
أي حركة هذه التي أتحدث عنها؟ حتى كل سكون وحركة .حركة! عذر ًا ّ
مشاعر األلم أصابها الجمود وبدأت ذكريات العالم اآلخر تغادرني مع
أوجه الذين التقيتهم من الغرباء ،بل حتى الذين أعرفهم .نسيان مثل طمى
سيل جارف بدأ يطمر األشياء كلها وكان علي أن اكف عن التفكير بما وراء
الجدران ،ألنه كان كابوس ًا يقض مضجعي ويجرفني إلى سعير.
فقط من عاش في هذه الصناديق المغلقة ،ال أحد سواه ،يعلم ماذا يعني
هبوب رياح الماضي العاتية .لن يرى أحد غيره في هبوبها ،كيف تتطاير
األشياء في كل األرجاء ال تجد مأوى لها تلوذ به اّإل ابواب ًا مؤصدة وطرق ًا
مسدودة ،فترجع تدور وتدور حتى تفنى رهق ًا وال تسكن بسكون الريح بل
تخر إلى القاع تتلوى ألم ًا وتشكو دا ًء ال دواء له.
ٍ
بصخب ال يوائم إشراقة الفجر ٍ
غبش طرقنا زوار الفجر مندفعين عند
ٍ
مغلقة وأجبرونا أن نرتقي ساللم كثيرة صعود ًا ونزوالً ،ثم حشرنا في ٍ
عربة ُ
ٍ
بخرق قاتمة وأكف شبكت بالحديد واحدة ضمتنا إلى عتمتها ،بعيون سملت
إلى األخرى ومن ثم إلى عمود أفقي يمتد على طول العربة الصندوق.
144
من شقوق الظالم
ُاجلسنا على صفيح معدني يشع ببرودة الموت في لهيب أواخر حزيران،
وزحفت بنا الزنزانة السيارة في رحلة طويلة نحو مدينة متخمة بأسماء سالم
لم تنعم بها أبد ًا ،ولم تخذل عادة العرب في تسمية األشياء بضد حقيقتها.
وصلنا إليها والشمس معلقة في كبد السماء تطرق الحديد بعنف كأنها
تبحث عن الخبيئة التي يواريها ،وهو يصرخ من لفعها سخونة .بينما كانت
الشمس تواصل طرقها المجنون كنا نأمل ان ُيفتح الباب لكنه ظل موصدا.
يزداد الطرق منّا هذه المرة بأقدامنا على أرضية العربة المصفحة مع تزايد
أي فرد منهم يولجارتفاع حماوة الحديد ونحن نرنو بعيون مغمضة إلى ّ
مفتاح ًا في األقفال لنغادر صخب الشمس وصرخات الحديد.
مغلق علينا
ٌ باب
كان هناك بابان في هذه الزنزانة الجديدة المتحركة ٌ
وباب آخر يجلس عنده الحرس .فتحوا كوة صغيرة من أعلى الباب تسرب ٌ
منها ضوء سطع بشدة من وراء العصابة التي غلفت عيوننا ،وصاحوا بنا.
-ضاع المفتاح انتظروا إلى أن نجده.
عادوا وصفقوا الباب الخارجي بقوة وهم يرعدون ويزمجرون غضب ًا علينا.
ضاع الضوء وتالشى الهواء مع اختفاء المفتاح وبدأت أنوفنا تفتش عن بقاياه
المندثرة بال جدوى .فار العرق من أجسادنا بينما كان الحديد يستعر غضب ًا من
لسعات الشمس .ارتعشت أصواتنا موقن َة أننا قطعنا نصف تذكرة إلى الغربة
األخيرة .رحيل لم يكن يخطر على بالنا إنه سيكون بهذه الطريقة الفظيعة.
لن أبالغ أبد ًا لو قلت إن أجسادنا تصببت كل السوائل التي فيها عرق ًا وما
زلت أذكر كيف إن العرق كان ينهمر من أرنبة أنفي ،كأنها صنبور ماء مفتوح
145
من شقوق الظالم
على آخره .حينها تمنينا كلنا أمنية واحدة وبصوت عال ،الموت إعدام ًا ال
ضير فيه ،لكن لنشم جرعة هواء واحدة ولتقطع بعدها الرقاب .اقتربنا من
اإلغماء وتالشى كل شيء ولم نعد نقوى على الحركة ،تمايلت أجسادنا
إلى األمام تترنح من الضعف ،بل أوشكت على كامل االنهيار.
فجأة هب علينا نسيم ثلجي ،أو هكذا حسبنا الهواء الالفح وهو يالمس
العرق الذي غطسنا به .نفخت هذه النسمة الروح فينا من جديد ،وأنهت
ٍ
برغبة سادية ،لم ينته تعارفنا بها بعد ،فقد كان علينا لذة قطيع وحوش ثملة
أن نلتقيها في قادم األيام والسنوات لمرات ومرات في سلسلة طويلة،
حلقاتها وجع وألم شبعى بالنكد واألسى واألنين.
ُأوقفنا بمواجهة حائط آخر من حيطان كثيرة تأملتنا بصمت وانكسار
ونحن ندير قفانا لهراوات في هذه المرة وفي غيرها وهي تنزل على أجسادنا
بقسوة تتكسر وال يرحمها حاملها ،يدفعها مهشمة ويسحب أخرى ،ومع
ذلك كنا لم نزل نملك الجرأة لنسأل انفسنا والعجب يتملكنا لماذا يحملون
كل هذا الكم من الحقد والضغينة ألناس ال يعرفون حتى أسمائهم .أكثر ما
في الحروب مدعاة للقرف أن ترى عدو ًا يحاربك ويفتك بك بأقصى ما عنده
من همة ونشاط فقط لكي يستمر هو في الرزح تحت العبودية ليس غير.
ٍ
زنزانة ال تكفي ألن يمتد فيها أحد ،وفي آخرها كان يوجد زججنا في
مرحاض ومثل طفل يحظى بلعبة جديدة انتشينا فرح ًا به .فهذه أول مرة
ال سالسل وأقفال يصبح في قبضتنا مرحاض بعد أن حجزتنا عنه طوي ً
ٍ
وأبواب مصفحة .وسط هذه الدهشة والفرح اغتسلنا بماء وفير نراه ألول
مرة أزاح عنا رهق الرحلة المرة .فتحت األرض ذراعيها ،صارت هي
146
من شقوق الظالم
الوسادة والغطاء والفراش واستقبلت غفوتنا عليها ،تنتظر مخاض ًا جديد ًا
بالشجى ولن يكون األخير.
طرقتنا شمس أربعاء حزيراني وألول مرة على خالف عادتها معنا
باالحتجاب وراء أسوار المعتقالت ،أطلت علينا هذه المرة من نافذة سيارة
الدورية التي راحت تشق الزحام وتاهت نظراتنا في الشوارع لتنشر الملح
على الجروح وتسقينا مذاق ألم الفراق ممزوج ًا بدموع تسربت من المآقي
بال استئذان لتروي ظمأ النفوس.
أيتها المدينة التي طالما نثرنا عشقنا لك على أوراق سرية نرسم لوح ًة
جميل ًة فوق أسوارك التي كانت تخنق أنفاس ساكنيها .في طرقاتك ُسحنا
بهوى تيم قلوبنا ،همسنا به في آذان من أوشك أن يبلغ سن ً َولهين نبوح
الرشد ويقع في غرام أحالم الحرية والعيش الرغيد لكل الناس .كنا نخلط
كل هذا بخالصات الكتب وعصارة األفكار نتبادلها في غرف مزوية صغيرة
ال جمي ً
ال ال نعرف متى يحل أوانه. نرسم مستقب ً
إيه أ ّيتها المدينة ،مالك نسيت كل هؤالء العشاق وأشحت بوجهك عنهمٍ
بعيد ًا ،لم ال تقولي للمتسكعين على أرصفتك ،إن قيس المفتون عشق ًا بك
ما عاد يراك اّإل من خلف قضبان .وأنت أ ّيتها العربة مالك تندفعين بهذه
الخطوات مستعجلة ،ال تلتفتين يمين ًا وال شماالً ،تخوضين في بركة حزن
يتطاير منها وحل األسى فيغطي الوجوه الشاحبة .تأني تمهلي تريثي فما
بعد هذا الخالء الواسع هوة من نسيان مجنون .شبحت نظراتنا بعيد ًا تلتهم
كل ما تراه ولم نكن بحاجة إلى نصيحة من ناصح لفعل هذا ومع ذلك لم
أقدر على منع نفسي من القول لصحبي.
147
من شقوق الظالم
148
من شقوق الظالم
149
من شقوق الظالم
اليسار جلس ضابط أشقر بوجه متجهم طويل ،كان انطباعنا عنه واحد ًا،
إنه يشبه عنصر غيستابو نازي كما كنا نراهم في السينما .بدأ يلقي خطاب
االدعاء يصفنا بالخونة العمالء المتعاونين مع األعداء ضد القائد العظيم
ومسيرة الثورة وقيادتها الحكيمة والحق إننا لم نص ِغ إليه ألنه منذ أول
الكالم أفصح عن مراده وطالب بإنزال أقصى العقوبات وأشد القصاص
بنا وباختصار طلب من الحاكم إصدار حكم الموت علينا.
سألنا الحاكم العسكري عن أسمائنا ،ومن ثم سؤال آخر هل أنت متهم
أم بريء ،وعندما كنا نحاول توضيح شيء ما ،كان يرد علينا مقاطع ًا حازم ًا
بكلمة واحدة.
-اخرس!.
هذا الحاكم تعرفت اليه للمرة األولى هنا بزي عسكري ونحن نقف
أمامه بمالبس رثة حفاة األقدام ممنوعين من توكيل محام وممنوعين من
الدفاع عن أنفسنا وأنزل علينا هو ومعاونيه حفنة من سباب ،فقط ألننا قلنا
ال يدعي له إن هذه اعترافات تحت التعذيب .رأيته مرة ثانية عندما وقف ذلي ً
إن العقال العربي هويته ويطالب بحقوقه المدنية .ال أدري ما الذي كان
يخطر بباله وهو يقف في هذا القفص ،هل تذكر نهر الدماء الذي فجره
من أعناق الشباب نسا ًء ورجاال بأحكامه الجائرة الظالمة؟ وهل تذكر
مر عليه طيف الجبروت واالستعالء الذي كان عليه هو وزمرته؟ وهل ّ
األمهات الثكلى؟ وهل عبرت من أمام ناظريه جموع أطفال ُقصر ذاقوا
عذاب السجن بأحكام هزلية أصدرتها محكمته السخيفة؟ كم تمنيت لو
كنت أقدر أن أرى عقله في تلك اللحظات وكيف كان يدور وهو يجلس
150
من شقوق الظالم
في القفص ويواجه القاضي .أريد أن أعرف كيف يفكر هؤالء عند مواجهة
الموت في نهاية مسيرتهم الدامية هل يرددون مقولة فرعون الخائبة وهو
يم موسى ،وهل يداخلهم ندم وهم يرون الهاربين الخائفين منهم يغرق في ّ
الذين كان يستعبدوهم ويقتلوهم ألنهم مستضعفون فقط وليس لهم ذنب
آخر .اليوم ضحاياهم يمشون على البر بأمان أما هو واسياده القتلة فإنهم
ال تستريح فيه ال في ٍبر وال في بحر.
يدورون مثل جيفة نتنة ال تجد لها موئ ً
باب على اليسار خرج علينا رجل أعرج يلبس جبة محامي دفاع ومن ٍ
سمعت فيما بعد ،عبارة كان يكررها في المرافعات وهي كاآلتي كما جاءت
على لسانه.
-إني فتشت طوي ً
ال في قوانين األرض والسماء فلم أجد مادة قانونية
ترحم هذه الحفنة من العمالء وأطالب بإنزال أقصى العقوبات بهم.
للتاريخ والحقيقة فإنه في قضيتنا طالب بمالحظة أعمار بعضنا ممن
كان دون العشرين عام ًا ،والرأفة بهم أما اآلخرون وطبع ًا أنا منهم فقد تبرع
بنا مجان ًا ألقسى قصاص.
لم تدم كل المرافعة أكثر من عشر دقائق على األكثر ونزلنا ثانية إلى
القاعة بحسب ادعاء الحاكم للمداولة ،ثم نودي علينا ثانية ،لننتقل إلى
رحلة عذاب جديدة ونذهب هناك بعيدين عن الحياة منسيين تحت األرض
تحت عنوان السجن المؤبد وراء أسوار عالية تحجب عنّا كل شيء.
في ذلك المبنى القذر بكل ما فيه جرت أحداث كثيرة في دقائق قليلة
ال يمكن لي مغادرتها سريع ًا فكل واحد منها يصلح أن يكون نافذة كبيرة
151
من شقوق الظالم
تشرف على تلك الحقبة المظلمة وال يحتاج أحد إلى تأمل أو فلسفة
ليستبين الذي جرى .فقط عليه أن ينظر من هذه النوافذ المشرعة وسيفهم
بسهولة ما جرى بل وحتى ما يجري اآلن فاألمر لم يتغير كثير ًا بعد.
وجو ٌه شاحبة يكتظ بها المكان متوزع ٌة على مقاعد خشبية تحمل تنوع ًا
ٍ
بشكل غريب في كل المالمح واألعمار وقطع ًا في األفكار واالنتماءات ،لم
يكن يوحدها شيء سوى الظلم الواقع عليها .عيونها شاخصة إلى الالشيء
ال مجهوالً ،بل وال تدري لماذا هي هنا باألصل ،وهذا ماحائر ٌة تنتظر مستقب ً
لفت انتباهي بشدة في ذاك اليوم الرمضاني القائظ فلم أكن أتوقع إن جمع ًا
بأي شأن سياسي سوف يكون حاضر ًا بهذا بهذا الحجم ممن ال دخل له ّ
الكم في هذه المحكمة المختصة بمحاربة أصحاب الرأي.
نعم ،كنت أعرف إن الظلم فاحش لكن المشهد كان أكثر مما يستوعبه
خيالي وسوف يكون واحد ًا من معاناة األيام القادمة بل السنين القادمة
بكلمة أدق .ورغم األحاديث القصيرة التي أجريتها أو سمعتها في فناء
تلك القاعة المنخفضة عن مستوى أرض المعسكر الذي كانت فيه ،اّإل إني
قاض ال يفرق بين أعمى وبصير وليس له من ٍ أدركت إننا سوف نقف أمام
ٍ
بجمل كتبها غيره وتبرع هو للتلفظ بها سعي ًا للوقوع األمر شيء سوى النطق
يوما تحت واحدة منها من حيث ال يشعر وقد حصل له ذلك بالفعل.
ومع إن رائحة الظلم كانت في كل زاوية تخنق فضاء القاعة الجرداء
من األثاث اّإل من مروحتين معلقتين على علو شاهق ،اّإل أن األنانية وعدم
ال في كثير من حركات وايقاعات بعض اإلحساس كان يمكن أن يرى ماث ً
الحمقى والضعفاء ممن كان يحسب على المعارضة السياسية وهو ال يفقه
152
من شقوق الظالم
حرف ًا واحد ًا من أبجديتها .فبينما كانت األحكام تصدر تباع ًا وترسل إلى
الموت المعتقلين زرافات ووحدانا ،وفرق ًا أخرى إلى السجن بال ٍ
ذنب
مقترف ،كانت هناك مجموعة من المعتقلين تقفز مهللة بمجد القائد ،وهي
تهبط طائرة من باب المحكمة الداخلي المطل على الفناء الداخلي وهي
أي عدل هذا الذي رأيتموه وأنتم ترون إخوة معكم تصرخ يحيا العدلّ .
يساقون للموت أو السجن؟.
هل ينتصب ميزان العدل مستوي ًا فقط ألنكم ظللتم أحياء ،ولو غرق
الكون كله في بحر الظالم .لم يخف أحد رفاقي استنكاره الشديد وانزعاجه
ٍ
بصوت عال مستهجن ًا هذا الذل المفرط من تلك الصرخة الحمقاء وعلق
ال أن تسمع هذه الصيحة من شخص صعد المقرف .كان أمر ًا مريع ًا فع ً
ٍ
شيء للتو حافي القدمين مجرد ًا من كل حق مدني وإنساني بل ومن كل
يملكه ،حتى مالبسه الداخلية سلبوها منه ويرجع اليك من عين المكان
الذي أغتصب فيه يترنم ويتغنى بعدله .إن هذا المنادي بهذا التملق الغبي
ليس بأحمق وحسب ،بل إنه وأمثاله هم من مكن العتاة المجرمين ألنهم
كانوا جيوش الذل التي يحارب الطغاة بها األحرار.
أذكر إن الحاكم العسكري كان يحاول أن يضفي على جلسته الصورية
شكليات قانونية ليظهرها وفق المقاييس فسألنا وبالتأكيد سأل كل المتهمين
الذين مروا عليه قبلنا وبعدنا هذا السؤال نفسه.
-هل عندك محا ٍم؟.
واإلجابة المعتادة تكون بالنفي فمن أين يتأتى لمته ٍم محروم حتى من
153
من شقوق الظالم
رؤية الشمس أن يوكل محامي ًا ،لكن عندما سأل الحاكم أحدنا رد عليه بغير
ٍ
بجواب ساخر. المعتاد بل
-سيدي ،هو آني نعال ما عندي ،من أين اتي بمحام؟.
وطبع ًا امتألت بعدها ُاذنا صاحبنا كما آذاننا بحفنة ألفاظ كلها زجر
وسباب.
الثياب الرثة واإلعياء والشحوب وآثار التعذيب البادية على كل أحد
لم تكن تحتاج إلى نباهة كثيرة للتعرف عليها ،بل حتى أغفل مغفلي الدنيا
كان له أن يعرفها من أول لمحة .وال يحتاج إلدراك ذلك وال حتى إلى
أي قسوة بالغة تعرض لها السجناء ،ومع ذلك كان نظرة واحدة ،ليعرف ّ
الحاكم العسكري يبدي استغرابه عندما يرفض السجناء التهم الموجهة
لهم ،ويزدري إنكارهم االعترافات المدونة بقولهم أنها انتزعت تحت
التعذيب .وقد بالغ في إبداء سخريته عندما أنكر أحدهم اإلفادة الموجودة
أمام الحاكم فقال له صاحبي.
-هل تعرف يا سيدي (هكذا كنا نجبر على مخاطبة الضباط
والمسؤولين الكبار) لو إنك أنت بنفسك تعرضت للتعذيب الذي تعرضت
بأي تهمة توجه إليك حتى لو كانت االنتماء إلى البوليساريو.
اليه ،العترفت ّ
لم أجد وصف ًا لتلك المحكمة يليق بها ويحاكيها سوى أنها تشبه لعبة
الروليت الروسي ولكن بالمقلوب .إسطوانة كلها محشوة بالرصاص
وواحدة فارغة فقط ويقال جرب حظك فقد تنجو من الموت.
بدأ الحاكم يلقي األحكام علينا وتبدأ كالعادة أو هكذا حصل أمامي
154
من شقوق الظالم
ٍ
بمواد قانونية وبداللة مواد من أقل األحكام ،يذكر هذه العقوبات مشفوعة
أخرى ال أعرفها ولم أسمع بها ولم يصغ إليه أحد وهو يتلوها ،ألننا كنا
بأي قانون سوى ندرك إنها مهزلة وكوميديا قاتمة السواد ال عالقة لها ّ
شريعة الوحوش ،وصدق ًا أني لم أتعرف على هذه المواد اّإل بعد سنوات
طويلة حين بدأ الفرز األمني بحسبها في ظرف خاص .وهذا لم يكن حالي
منفرد ًا به بل كان أغلب السجناء هكذا ،المضحك في هذه القوانين إن
المادة التي كانت تعتبر مخففة في الزمن الذي حوكمنا فيها هي عينها التي
حكم بها آخرون بعقوبة اإلعدام قبل سنتين فقط .القانون لم يكن سوى
جرة قلم ومطاط جد ًا ،واألمر على األرجح سوف يظل هكذا في هذا البلد،
إن لم يصبح للقانون سطوة على القائمين به.
عندما بدأ بتالوة الحكم األخف لثالثة رفاق كانوا معنا ،انتقل بعدها إلى
الحكم بالمؤبد على شخص آخر ،ولم يتبق إذن بعد المؤبد سوى اإلعدام
فتسمرنا بذهول ننتظر حكم الموت ،لكن المفاجأة كانت إن حصتي مع
اثنين آخرين هي السجن المؤبد أيض ًا ،تنفسنا الصعداء وتبادلنا التهاني
جميع ًا ألن المقصلة اخطأت اعناقنا.
أحدهم كنّا نشعر منه بغضاضة لضعفه المشين أمام المحققين األمنيين
وعندما سمعنا نتبادل التهاني حاول أن يفعل ذلك معنا أيض ًا ويجارينا،
لكني نهرته بقسوة وبانفعال مصطنع ،ألني لم أكن في الواقع منزعج ًا من
الحكم بالسجن المؤبد أبد ًا بل كنت أتوقعه ،وربما أتمناه كأحسن الحلول
المتاحة ،ولم يحدث ردة سلبية عندي عندما سمعته .إنما فعلت ذلك ألني
كنت أريد أن أوبخه على ضعفه ومع ذلك اعتذرت له الحق ًا لهذه القسوة
155
من شقوق الظالم
ٍ
وتهور، بعد سنوات ،مع إني حتى اليوم ما زلت أرى أفعاله مزيج ًا من ٍ
جبن
ومع ذلك غفرت له وسامحته تمام ًا ألني أدركت بمرور األيام إنه ضعيف
حرج جد ًا ال يناسبه بالمرة.
التكوين نفسي ًا وحشر نفسه في موض ٍع ٍ
أي كان ،وال هو نزوة أو العمل الثوري ليس هواية أو لعبة يمارسها ّ
طيش مغامرين ،بل هو منهج وسبيل برؤية مسبقة وبصيرة واضحة .سبب
فشل كثير من األعمال التي تبدو في الظاهر ثورية إنها لم تكن كذلك في
حقيقتها ،بل كانت مجرد ردود أفعال وطيش ومغامرة .الثورة فعل إنساني
منهج لتحرير اإلنسان
ٌ وليس رد فعل على ممارسة خاطئة ألحد ما ،هي
أي زمن وتستمر أبد ًا مع رحلة اإلنسانمن عوالق الغريزية وال تتوقف في ّ
في هذا الوجود ،لذا الثوار يواصلون الثورة أما الطائشون والمتظاهرون
بها ينتهي غضبهم الهائج الذي يشبه الثورة عندما ينالوا ما يتوق إليه ظمأ
غرائزهم وليس ألنهم تحرروا منها.
حملت كل ما تبقى من ممتلكاتي بعد مصادرة المنقول منها وغير
ٍ
قميص جاءني بعد زيارة لتركيا قبل االعتقال بعام المنقول ،ودسستها في
واحد .كان قميص ًا مميز ًا وكنت أشعر إنه جزء مني منذ أول يوم حصلت
عليه ،كنت اسميه مراد ،ليس بال سبب ،فقد كانت له نضارة الشباب
بمربعاته الحمراء السوداء وباسم صانعه (مراد) المكتوب تطريز ًا على ياقته
الداخلية ،وعلى األكثر إنه كان اسم صاحب المصنع ولذلك أطلقت عليه
هذا االسم .قميص ظل مصاحب ًا لي لمدة طويلة وكان شاهد ًا على وجودي
وقت للحديث عنها في حكاية مثل حكاية قميص يوسف. ٍ
لحظة سيأتي ٌ في
مثير
جميل في فكرهٌ ، ٌ مرشح ألن يكون يوسف،
ٌ ويبدو إن كل سجين رأي
156
من شقوق الظالم
في تقلب أحواله ،وشاهد أزلي على قيم الخير والجمال مهما حاول أخوته
األشقياء أن يطمسوها .ال غرابة إن صاروا بعدئذ نقباء قومهم أو خالهم
آخرون أنبياء ،لكنهم سوف يظلون مبرقعين بخطيئتهم أبد ًا وعندما يمر ذكر
يوسف أمامهم فسوف يبوحون بسر خبيئتهم النتنة ويتشكلون ثانية وثالثة
وإلى ما ال يعد وال يحصى من المرات ،حساد ًا قتلة مجرمين حائرين في
طمس جنايتهم التي عافها الذئب واستنكف منها .لن يتوبوا عنها أبد ًا فسوف
يقض مضجعهم ذكره ،وينفجر غضبهم بوجه محبيه فيهبوا مثل مخبول َفز ٍع
بال يحكي فشلهم ٍ
مقرف ٍ ٍ
نشيد ٍ
بسخف ممل كلمات من كابوس ،ليرتلوا
وعجزهم وجبنهم وغريزيتهم الحيوانية «تالله إنك لفي ضاللك القديم».
وانا أوظب مراد بعناية زائدة كي ال يفقد شيئ ًا من محتوياته سرحت
الق نظرة الوداع األخيرة عليه فقد سبقني بنظراتي في ودا ٍع لرفيق شجاع ،لم ِ
مع آخرين بيوم إلى تلك المحكمة المهزلة ،وهناك اختفت آثاره لألبد من
دون الثالثة اآلخرين الذين كانوا معه .تالشت آثاره كلها من هذه الدنيا ولم
أعد بعدها أراه متوثب ًا متحفز ًا ولم يصر بمقدوري أن ُاسمع إذناي كلماته
المنبثقة من بحر التحدي وال أنتشي بضحكاته الساخرة من األدعياء .وأنا
أرمق جدران المحكمة بأسى وجزعٍ ،عاتبتها وهي التي احتضنت آالم
ٍ
عذاب غمد نصله عميق ًا ف ّينا جميع ًا. وتأوهات
عاتبت هذه الجدر وجدر زنازين كثر مررنا بها برفقته ،كيف له أن
ينفرط منكن وأنتن الالتي احتضنتن نغمات الدفء وكل األثار التي نحتت
شعارات الثورة ،وأبيات الشعر التي كان كل ما فيها يفيض حب ًا وجماالً
وثورة .حيطان دونت وصايا من غادر الدنيا سريع ًا وتاه جسده في كثبان
157
من شقوق الظالم
رمل تطيح بها الرياح وتسافر بها إلى جهات الدنيا األربعة ،ولم تزل
تضمهم إلى حناياها تخبئهم في قلبها بعيد ًا عن أعين كل الناس حتى عن
بواصر ذويه ومحبيه تخشى عليهم أن يضيعوا في المدافن مع اآلخرين،
ألن المقابر ال تليق اّإل بالموتى فكيف لها أن تحويهم وهم األحياء ،بل
هم وحدهم األحياء في هذا الكون الفسيح الوسيع وخالهم موتى ما لم
يلحقوا بركبهم.
أرواحهم لم تزل سائحة في براري وصحارى الوطن تالحق حلمها في
خالصه من سوأة ابن العاص المقيمة في مضامير الفروسية والنزال .ولم
ٍ
كقردة وهي تنزو تزل أرواحهم ترنوا إلى يوم يخلو من حشود المهرجين
على منصة رئاسة خلقت للحكماء بنقاء فطرتهم ال للدهاة الثمل برجسهم.
يوم ال ترى فيه صنما يطوف حوله همج رعاع ينعقون مع كل ناعق.
عند غبش ال أعرف مطلعه ،امتأل رفيقي وآخرون بالحياة استعداد ًا
للرحلة األخيرة ،رحلة إلى نافذة تشرع فيها للريح أجنحة تنقل رغبة
المتمردين عشاق الحياة في رفض الموت .نافذة تنقل إلى عالم الحقيقة
عشاق ًا سلكنا معهم كل الدروب ،الجد والهزل ،الضحك والبكاء والمرح
والشقاء .سافرت بهم الريح بعيد ًا عن األوهام واقتربوا من مالمسة حقيقة
األشياء ،لينعموا هناك بالسكون الخالد والراحة األبدية وينثروا من علياهم
زراع جدد مثابرون
على عالمنا بذور الحياة على األرض ،عسى أن يتلقفها ٌ
لتستمر الحياة على هذا الكوكب الضاج بالخطايا ،لعل يوما يأتي تتحقق
فيها نبوءة السماء ويصدق الكل حتى وإن كان شيطانا مريد ًا إن السماء تعلم
أي أحد وإنهم وحدهم العالمون باألشياء وغيرهم الجاهل ما ال يعلمه ّ
158
من شقوق الظالم
159
من شقوق الظالم
الشق الثاني
(السجن)
1
***
ساروا بنا من جديد في العربة عينها التي أقلتنا من المعتقل إلى ضفة
أخرى ،سيسفح فيها العمر دمه على رصيف االنتظار .وأنا أغادر المبنى
حد ابتلعت فيه كامل األفق البعيد حيث تسكن المدينة اتسعت حدقتاي إلى ٍ
التي تبني أرصفتها على جماجم الغائبين وواريت الصورة في جوفي ألتزود
بها في قابل األيام .وما هي اّإل دقائق معدودة حتى وصلنا إلى مبنى ال يبدو
من واجهته األمامية سوى طابق واحد علقت على واجهته لوحة خشبية
بيضاء كتب عليها بخط أسود "وزارة الشؤون االجتماعية" وفي السطر
التحتاني "دائرة اصالح الكبار قسم األحكام الخاصة" .استفزتني كلمة
إصالح رأيتها مثل لسان يندلع من وجه شيطان يسخر شامت ًا بنا .أن نقبر هنا
أحياء في نزل موتى يسمى عندهم إصالح ًا!.
ال ضير وال عجب في ذلك فهذه ليست المرة األولى في التاريخ.
فكل األفعال القبيحة كانت تخفي قبحها وتضمر زيفها وراء مظاهر
خادعة ،فأعتى الطغاة كانوا يحكمون باسم اإلله مدعين إنهم معينين
منه ،بينما األنبياء كانوا مطاردين غرباء تالحقهم تهمة الجنون يتسكعون
مع الصعاليك والمشردين يحملون صلبانهم س ّلم ًا إلى الحقيقة .إصالح
160
من شقوق الظالم
يعني إننا منحرفون يجب أن نعاقب ونؤدب لنمشي على صراطهم األعوج
ونكون عبيد ًا لألقوى األخرق .كلمة إصالح أزعجتني كثير ًا وتخيلت وأنا
ال كذلك في سوادها أمر من تحتها صور ًا أليام سوداء قادمة وكانت فع ً
وأقبح مما تخيلت.
تقيأت أحالمي الكبيرة وأنا أمر من تحت اللوحة الخشبية الساخرة،
ودلفنا إلى ممر ،كان الظالم فيه واسع ًا ال تقوى على طرده زمرة مصابيح
صفراء شاحبة فرادى ،تتدلى من سقف أسود كما في كل األماكن األخرى
التي سأزورها لسنوات تسع قادمة.
قصير سمين
ٌ عند أول خطوات ُادخلنا إلى غرفة صغيرة ،استقبلنا ٌ
رجل
ال ليدون أسماءنايتدلى كرشه أمامه يلبس زي ًا خاص ًا بالحرس وفتح سج ً
فيه .كان له صوت مميز رفيع عال مزعج وبدأ يدون األسماء ويسألنا عن
تخصصاتنا العلمية ،وعندما عرف إننا طلبة جامعيين بدأ بتوبيخنا.
-ماذا تريدون أن تصبحوا وتحصلوا عليه أال يكفيكم هذا المستوى؟.
نتلق تربي ًة صالحة وكلماتويجيب نفسه بأننا أصحاب نوايا خبيثة ولم َ
أخرى بإمكاني اآلن أن أنمقها ألني ال أريد أن اعيد سماع قرفها ثانية وأترك
جالد فاشل لم يكملٍ الخيال أن يتصور منها من يريد وهي تخرج من لسان
سوى تعليم ًا متواضع ًا كما هو واضح من خطه وسؤاله كيف نتهجى أسماءنا
وهو يكتبها وظن إنه قد حانت له اليوم فرصة جيدة لالنتقام لذاته الفاشلة.
صوته العالي وصداه المزعج يتكرر في الممر الطويل ذكرني تلك
اللحظة بأبيات السياب.
161
من شقوق الظالم
ِ
ليعو سربروس في الدروب.
في بابل الحزينة المهدمة.
و يمأل الفضاء زمزمه.
كان يدون أسماءنا في سجل سري وهو يرمي علينا شتائم ترحيب
خاصة وعبارات تأنيب ،حتى ضقنا ذرع ًا بثرثرته فقال له أحدنا زاجر ًا.
-وماذا تعرف أنت عنّا حتى تعرف ماذا نريد؟.
فغر فاهه ولم يصدق الجواب الجريء فكأنما ُلطم على فمه فسكت.
عندما كنت صغير ًا وعمري ال يتعدى سبع سنوات كان لي صديق
بعمري من الجوار العب معه دائم ًا ،وكنت كما هو يذهب أحدنا إلى بيت
جدار في غرفة المعيشة خاصتهم ٍ اآلخر وفي إحدى المرات رأيت على
أشياء كثيرة معلقة مصنوعة من حبات صغيرة ملونة لماعة تسمى (نمنم)
أعجبتني جدا لجمالها وألوانها البراقة واستهوتني كثير ًا بمظهرها اللماع،
ولذا سألت صديقي عنها ،قالت لي امه لتشفي فضولي وهي ترى لهفتي
وإعجابي بها إن لها أخ في السجن هو الذي يصنعها ويرسلها إليها كهدايا
في كل مرة يزوره أحد.
بينما كان يسير بنا الحارس في بداية الممر رأيت على اليمين صندوق ًا
زجاجي ًا كبير ًا من طابقين ولربما أكثر من ذلك ،فيه معروضات تشبه تلك
األشياء الحلوة الملونة المعلقة في بيت صديق الطفولة .صورة الجمال
انهارت من عيني وأنا أرنو ببصري إليها وكأني كنت أرى فيها ساحرة
بمظهر مخادع .كم هو مقيت إضفاء الجمال علىٍ شمطاء تخفي بشاعتها
162
من شقوق الظالم
163
من شقوق الظالم
غسل أكواب بالستيكية وصحون معدنية ،وراح يمسح عن األرض آثار الماء
بأجزاء من نعال إسفنجي خارج عن الخدمة وعندما انتهى من التجفيف أخذ
ٍ
سقيفة ثبتت على الحائط ،وبدا لي النعال باحترام وعلقه في ٍ
سلك يتدلى من
جلي ًا إن كل األشياء لها قيمة هنا وإن كانت على وشك االنقراض.
صار مكان نومي الجديد تحت برميل ماء مشدود بإحكام ،تطفو على
سطحه ما ال يحصى من حشرات سوداء دقيقة الحجم ال أعرف اسمها،
يبدو إنها تسللت من فتحات صغيرة للتهوية ،في الحقيقة هي فراغات بين
قطع بلوك إسمنتي ولم تغلق عمد ًا لتسمح بمرور الهواء .هذه الفتحات
ٍ
مجاور ساحة ترابية صغيرة تفصل القسم الذي نحن فيه عن قس ٍم ٍ تطل على
ال للنفايات ،اذ كان السجناء يتخلصون من النفايات وصارت مكب ًا هائ ً
برميها فيها حين يفضل شيء منهم لوحين كانت المجاري تغلق تصرف
فيها ،انه ال توجد سلة مهمالت وال أحد يجمع الفضالت إن وجدت.
أي أحد يمر بالقرب من هذه الساحة من حرس السجن أو كذلك كان يفعل ّ
أي شخص آخر ،وال يهتم أحد برفع ما فيها أبد ًا. ّ
إلى جواري امتد رجل طيب راح يسدي لي نصائح مهمة ،أهمها أن
احذر من فالن وفالن .سأكذب لو قلت إني فهمت ما يقول .فكيف يمكن
لمظلوم مسحوق تحت كل هذه العذابات والكراهية أن يكون ظالم ًا وهو
مظلوم ،لكن عرفت مصطلح ًا جديد ًا اسمه المراقب وهو بمثابة العين
لرجال األمن في الزنزانة وهذا حديث آخر طويل.
أشرعت نافذة بصري على الجدران اإلسمنتية السوداء واألكياس
الكثيرة المعلقة عليها التي تضم األموال المهربة من الحكم القضائي
164
من شقوق الظالم
بمصادرة المنقول منها وغير المنقول .أكياس كانت تحوي أسماالً وخردة
ليس لها قيمة اّإل في هذا المكان .حكم مصادرة األموال كان يوزع على كل
الدوائر الحكومية حتى ال يفلت شيء من مقصلة إفناء كل آثار المعارضين،
وكان هذا أثر ًا جيد ًا صلح فيما بعد لتتبع عدد الذين سجنوا وقتلوا بطريقة
رسمية ودليل إدانة لمحاكمة من ارتكب تلك الجرائم ،محاكمة لم تعقد
بعد رغم كل ما يقال عنها.
تاه بصري في هذه الصحراء الممتدة حيث يضيع الزمن فيها وأنا اتأمل
ال وقف وسط الجمع ضجر ًا من أشياء أجهلها وهو يردد ال ريفي ًا طوي ً
رج ً
عبارة ما زلت حتى اليوم أضحك من كيفية إلقائها بطريقته الكوميدية
السوداء وبلهجته الشعبية.
-هاي شيگضيها العشرين سنة هنا!.
ضحكتي الصادقة الصادرة بعيد ًا من قاع قلبي ،كانت بداية كبيرة لموجة
في وجعلتني أحيل الصحراء التائهة بال زمن عظيمة من التفاؤل سرت َّ
إلى أرض خصبة حبلى بالعطاء ،فهي ليست كالشوارع واألرصفة التي
لفظتنا وصرن علينا سيوف ًا بتارة تحز الرقاب .بل هي أرض تجمع كثير ًا من
الطيبين ومنهم طالب جامعي يدرس القانون ككثيرين مثله كانوا هناك لم
يكملوا دراستهم ،ألن السلطة استبقت ثمرة نبوغهم فأجهضت أحالمهم.
ٍ
هواء من منشفة باهتة علي نسمات
وقف يظللني مثل نخلة مريم تـُساقط َّ
كلل وال ملل ،وهو يرى إجهادي وصعوبة األلوان كان يحركها فوقي بال ٍ
تنفسي وأنا أضطجع تعب ًا من مرض السل الرئوي الذي وفدت إلى الزنزانة
الجديدة أحمله معي من المعتقل .لمحني أبحث عن الهواء في جو الزنزانة
165
من شقوق الظالم
166
من شقوق الظالم
أي ظلم هذا الذي يزج بأبرياء ال عالقة لهم ال من بعيد وال من قريب
ّ
في سجون مخصصة للسياسيين .كانت هذه صدمة كبيرة بالنسبة لي ،ألني
بدأت اكتشف وحشية لم أكن قد أدركتها حتى تلك اللحظة .أصبحت
لطبقة واحدة عشت معهاٍ في ارتباك كبير ألني كنت أظن السجن مكان ًا
في مراحل حياتي السابقة وتقاسمت معها الهموم والنشاطات والتفكير
وعلي أن أحسن التصرف مع ّ والتطلعات .غير إن األمر ليس كذلك اآلن
هذه التضاريس المعقدة .التضاريس ال أعني بها التنوع الطبقي االقتصادي
وال التفاوت التعليمي فقد ألفت هذه التناقضات ،إذ إن المنهمكين بالعمل
السياسي لهم مشارب متعددة لكن أن تجد نفسك في سجن سياسي
وحولك مجموعة تتعرف على العمل السياسي ألول مرة شيء آخر تمام ًا.
ٍ
مؤمن بهذا الصعوبة ليس في هؤالء فقط بل أن يكون بعضهم غير
العمل واألشد صعوبة أن يكون مقتنع ًا بالضد منه ،بل ويزيد على ذلك
حماسه العلني ضد المعارضين السياسيين ويحملهم كل ما حصل له .هذه
التنوعات كانت واضحة جد ًا في أول زنزانة دخلتها في السجن وكان األمر
بمثابة صدمة أولى لها تداعيات سوف تظهر الحق ًا ،وسوف يأتي الحديث
عنها في وقت مناسب ورغم ذلك كان في الزنزانة نفسها أشخاص متميزون.
قبل منتصف الليل يطفأ المصباح الشاحب الوحيد في الزنزانة وكان
على الجميع بأمر من إدارة السجن أن يذهب إلى النوم اإلجباري .كانت
الزنزانة ضيقة خانقة إلى حد كبير بالعدد الذي فيها (خمسة وأربعين
سجين) وفي جوها تشيع رائحة تبعث على الغثيان وعلى بالطها اإلسمنتي
فرشت بطانيات سوداء رقيقة .كان النوم مهمة عسيرة إذ ال يمكن الرقاد اّإل
167
من شقوق الظالم
168
من شقوق الظالم
2
***
عند الصباح دخل رجال األمن إلى قاعة السجن مع توزيع وجبة الطعام
األولى وبأيديهم هراوات ،وقف أحدهم أمام الزنزانة بصحبة سجين
مسؤول عن توزيع األكل (يسمى خدمات) فتح الزنزانة ،ليطلبوا من ٍ
شاب
بجسد ضئيل ال يتجاوز عمره السابعة عشر عام ًا أن يخرج إلى الممر ٍ نحيف
العريض واقتادوه إليه بعنف ،عاد إلينا بعد ربع ساعة تقريب ًا بعد أن تم تعليقه
من أطرافه العليا في حالة تشابه التعذيب الذي كنا نتلقاه في مديريات األمن
ٍ
بخوف شديد إلجبارنا على تقديم االعترافات .ال أخفي شعوري حينها
اقترب من الرعب ،فقد استذكرت مراحل التعذيب في التحقيق والعذابات
التي تحملتها يومئذ وكنت أظن إن السجن ال يوجد فيه تعذيب ممنهج .من
نقص في طعام وشراب ٍ الممكن أن أعاني في السجن من ٍ
ضيق في مكان أو
كما كان يحصل في المعتقل بعد انتهاء التحقيق وربما قد أنال ضربة من هذا
وهراوة من ذاك ،لكن تعذيب منهجي لم أخاله موجود ًا .يبدو األمر اآلن كما
لو كان عودة إلى مربع أول يأبى أن يكون له حدود ينتهي فيها بما يحمله من
ألي أحد أن يغادره ،ألنه ال يوجد مربع ثان. عذاب وآالم وال يمكن ّ
حاولت أن استفهم عن سبب هذا التعذيب الصباحي غير المبرر،
ألصدم بأنه ال يوجد سبب ،ومع غياب السبب صار واضح ًا أن ال شيء
بأي سجين ،مهما حرص على أن يبعد األذى عنيمنع من نزول العقاب ّ
نفسه .كان خوفي مبرر ًا جد ًا ألن السبب الحقيقي لتعذيب هذا الشاب
اليافع لم يكن سوى أنه ال يروق ألحد رجال األمن .ففي يوم ما دخل رجل
169
من شقوق الظالم
أمن إلى قاطع السجن ووقف أمام الزنزانة ولسبب ما أشاح هذا الشاب
بوجهه عنه بال قصد ،لم تعجب هذه الحركة رجل األمن ولم يقبل عذره
بعدم التعمد ،فاشتدت العداوة من رجل األمن لهذا السجين وكان عليه أن
يدفع ثمن هذه العداوة بين الحين واآلخر ،هذه الغلطة التي لم تغتفر ،لم
أعرف شرعة أو قانون ًا تعدها ذنب ًا أو خطيئة اّإل في ذاك اليوم.
محطم من المرض وقواي خائر ٌة بالكامل وصرت ال أقوى ٌ جسدي
على الحركة العادية ،وكان هذا سبب ًا حقيقي ًا آخر لتخوفي مما رأيته للتو،
بقادر على تحمل التعذيب ثانية .فزعت كثير ًا من هذه القصة ٍ ألني لم أعد
ونموذج
ٌ وكان الخوف والفزع واضح ًا على وجهي ألنها مفاجأة مرعبة
مخيف لما ستكون عليه قادم األيام.
الزنزانة التي وضعت فيها كانت واحدة من أسوأ الزنزانات ،لوجود
مراقب فيها بأخالق وضيعة للغاية ،جبان رعديد لحد ال يوصف ،يقدم
معلومات أمنية عن السجناء اآلخرين إلى األمن بطريقة طوعية من أجل
لقيمات وشربة ماء زائدة .المراقبون على الزنزانات كان تعيينهم يتم من
قبل الخدمات بموافقة األمن ،وكان تقريب ًا جميع الخدمات والمراقبين
في الفترة التي دخلت فيها إلى السجن من المتعاونين مع األمن تقريب ًا،
البعض منهم خصوص ًا الخدمات كانوا يقومون بكل األفعال الخسيسة
حتى تصل بهم الخسة والنذالة إلى تعذيب السجناء بأيديهم ،وباعوا
أنفسهم وضمائرهم لألمن بشكل كامل بل كانوا أشد قسوة منهم في بعض
األحيان .كل ذلك كان مقابل أجر زهيد وهو أن يناموا خارج الزنزانات
المكتظة في مكان أكثر راحة بقليل مما نحن فيه ،ويأكلون من األكل البائس
170
من شقوق الظالم
نفسه الذي يقدم لنا لكن بحصة أكبر .مقابل هذه المنح الوضيعة كان عليهم
أن يراقبوا السجناء ليل نهار على كل صغيرة وكبيرة ،ويتولوا بأنفسهم
أي مخالفة ولو كانت صغيرة إلنزال العقاب المر تقديم المعلومات عن ّ
بالسجناء .الغريب في األمر والذي صدمني كثير ًا إن عدد المنافقين لم يكن
قليالً ،اذ في زنزانة يسكنها خمسة وأربعون شخص ًا كان هناك متعاونان
بصورة علنية واضحة ال شك فيها وال لبس ،ينضم إليهما آخران مذبذبان
كانا محل خشية سجناء الزنزانة ،ولربما هناك شخص خامس لم تسنح له
الفرصة لفعل ذلك ال يساعده وضعه الجسماني ألداء هذه المهمة الحقيرة.
وبحساب الرياضيات كانت نسبة الخونة المؤكدة تقارب الخمسة بالمئة
وهذا الحال يسري تقريب ًا على كل الزنزانات األخرى ،وأقدر أن اقول
ال هي نسبة الخونة من المتعاونين ممن إن نسبة الخمسة بالمائة كانت فع ً
ٍ
جاهروا بخيانتهم العلنية وصاروا بمواجهة كل السجناء في عداء علني
له قصص كثيرة الحقة .اّإل إن المفارقة تكمن فيما حصل الحق ًا ،فرغم
تبدل األحوال بعد عقود من الزمان وانقالبها رأس ًا على عقب ،فان ّ
أي من
بأي عمل عدائي انتقامي ضدهم ،كما كانوا هم يفعلون مع السجناء لم يقم ّ
السجناء في تلك الزنزانات.
كنت متوجس ًا جد ًا في أيامي األولى في الزنزانة ومع إني خبرت سكانها
جيد ًا ،اّإل إن الحذر كان سم ًة الزم ًة في جميع أحاديثي وحرصت أن
أي شبهة عني .فوجئت بشيء كنت أملكه ولم تكون سطحية جد ًا لتبعد ّ
أكن أحسب أنه سينفعني كثير ًا ،بل ويمنحني حصانة وعصمة من وشاية
المخبرين ،إذ عندما دخلت السجن كان معي ٌ
قليل من النقود حصلت
171
من شقوق الظالم
عليها من مواجهة أهلي في المعتقل ،ولم أك أخال أنها ستنفعني بشيء أبد ًا
في هذا المكان المقفل .ولذا فوجئت عندما علمت إن رجال األمن يأتون
بين الحين واآلخر ويسمحون للسجناء باستخدام ما عندهم من أموال قليلة
لشراء علب الدخان والحليب المجفف ومعجون األسنان وأشياء أخرى
يسيرة .كانت السجائر هي المادة األغلى واألنفس عند السجناء وإليها
تشرأب الرقاب وتلوى االعناق ومطمع دائم للمراقب وأتباعه وال سبيل
للوصول إليها اّإل عبر أموالي ،ولذا صارت استراتيجية المراقب المحافظة
على عالقة طبيعية معي ،ألن خالف ذلك يعني حرمان منها .وكان حريص ًا
على إبعادي عن انظار رجال األمن وأذاهم خشية أن أنقل إلى زنزانة أخرى
فيضيع الكنز البورجوازي من بين يديه.
رغم ذلك لم تشجعني هذه الحصانة على التهور وال على التفريط
بسلوكية توخي الحذر الشديد واالقتصاد في العالقات واألحاديث مع
رفاق الزنزانة بشكل عام .بالطبع كنت أتجنب المراقب تمام ًا وأتحاشى ّ
أي
الي بتملق شديد ووضع نفسه تطور للعالقة معه .أحد السجناء كان يتقرب ّ
في منصب أمين صندوق السجائر التي أشتريها ،كان يتوفر على قدرة هائلة
أيعلى الكذب واختالق األحداث والوقائع واألشخاص وال يكاد يفتح ّ
موضوع للحديث ،مهما كان الموضوع غريب ًا وبعيد ًا عن عالمنا اّإل وأظهر
لنا أن له صلة عميقة به ،وإنه مشارك بهذا الحدث بطريقة أو أخرى .في
يوم ما طرح حديث عام ،وذكر أحدهم لسبب ال أذكره اآلن دولة أرتيريا
التي كانت حينها ترزح تحت السيطرة اإلثيوبية ،فانبرى هذا الرجل وقال
هل تعرفون من فجر الثورة األريتيرية ضد االحتالل اإلثيوبي؟ لم يرد عليه
172
من شقوق الظالم
أحد ألنه موضوع ال يستأثر باهتمام أحد ،وبصراحة ال أعرف من فجر هذه
الثورة حتى هذه اللحظة ،انتظرنا جوابه الموسوعي ليقول لنا إن ابن خالته
جاسم قد فعل ذلك! ال تنقطع بطوالته وبطوالت عائلته اّإل حين يدخل
رجل األمن إلى القسم ،وحتى قبل أن يقف رجل األمن قبال زنزانتنا كان
صاحبنا هذا يتحول إلى دجاجة مسكينة فقدت صوتها من الرعب كأنها
سمعت وطء نعال من يحبسها في القفص جاء ليذبحها وال أدري كيف كان
سيكون حاله لو رأى عصا الجالد.
تقريبا بعد عشرة أيام من دخولي السجن وعند غياب الشفق تمام ًا ،دخل
ضابط أمن معروف بقساوته ليرتكب مجزرة بشعة .هذا الضابط الوحش،
يقال إنه ابن شقيقة نائب الدكتاتور ولم يكن سه ً
ال بالنسبة لي التأكد من
دقة المعلومة ،اّإل إنه كان يحمل شبه ًا غريب ًا به إضافة إلى انحداره من
المدينة نفسها ،ولذا ال أستبعد صحة المقولةُ .عرف هذا الضابط ببشاعة
تعذيب كثيرة بحق السجناء ،كنت شاهد عيان علىٍ ظلمه وبارتكابه لجرائم
بعضها .اّإل إن أبشع جرائمه كانت في استبدال السجناء السياسيين ممن
قضوا محكوميتهم من صغار السن بمجرمين عتاة محكومين باإلعدام
مقابل رش ًا مالية .ولم يتفطن أحد لهذه الحيلة التي كان يقوم بها هذا
الوحش ألن المحكومين من أمثالنا كانوا محرومين من مواجهة األهل
ومن كل حقوقهم ،وأخبارهم مقطوعة تمام ًا وال ُيعرف عنهم شيئا وكانوا
يعدون من األموات.
لذا أضحى من المستحيل أن يفكر أحد بالسؤال لمعرفة مصير ابنه ،ألن
خط أحمر ال يصل اليه أحد اّإل وعرض المعتقلين والسجناء السياسيين ٌ
173
من شقوق الظالم
نفسه لعقاب صارم .لهذا السبب استسهل هذا الضابط استبدال السجناء
السياسيين بمجرمين محكومين باإلعدام الرتكابهم جرائم جنائية .كان
متأكد ًا من ان ال أحد سيجرؤ على السؤال عما يجري ومستعين ًا على ما
يبدو بصلة القرابة بشخصية قوية في الحكم في إرهاب اآلخرين.
كان يتفق مع المجرم المحكوم باإلعدام على مغادرة البلد فور إخراجه
من السجن وبذلك تختفي آثار الجريمة ،غير إنه في أحدى المرات
استسهل أحد المجرمين المحكومين باإلعدام األمر ولم يغادر البلد على
الفور حسب االتفاق ،ولحسن الحظ بينما كان يمشي في أحد الشوارع
المهمة في العاصمة ،لمحه ضابط شرطة جنائي كان قد أجرى التحقيق
معه بنفسه ،فاستوقفه وسأله عن كيفية خروجه من السجن وهو محكوم
باإلعدام؟ أثارت أجوبته الهزيلة المرتبكة ريبة ضابط الشرطة فألقى القبض
عليه في الحال ،الرتيابه بأنه قد ّفر من السجن وعند التحقيق معه أكتشف
المحققون األمر األدهى حين علموا بأمر استبداله بشخص آخر من
السجناء السياسيين بالتعاون مع ضابط األمن المسؤول عن السجن الذي
كنت فيه .وتبين فيما بعد إن هذه ليست الجريمة الوحيدة بل واحدة من
سلسلة جرائم وقعت ألشخاص كُثر.
أصابنا العجب بعد سبع سنوات حين واجهنا العالم الخارجي ألول
مرة ،ونحن نسأل عن سجناء كانوا معنا ،ألن اإلجابة الصادمة كانت تأتي
بأن جثثهم قد سلمت ألهاليهم بعد تنفيذ حكم اإلعدام بهم ،وآخرون
ال لم تصل جثثهم إليهم .فقط صودرت شهادة الجنسية وهويات أص ً
األحوال المدنية من عوائلهم وأبلغوا بإعدامهم شفهي ًا وظلوا مجهولي
174
من شقوق الظالم
المصير حتى يومنا هذا .إثر هذه الفضيحة اإلجرامية أبعد هذا المجرم من
ٍ
كمشرف على السجن الذي كنّا نُحتجز فيه ،مما خفف علينا بعد وظيفته
إبعاده كثيرا من جرائمه الوحشية التي كان يرتكبها بشكل متواصل .ومع
يتلق عقاب ًا كبير ًا ألن أرواح السجناء السياسيين لم تكن ذات أهمية
ذلك لم َ
بالنسبة للسلطة القمعية ،وربما أيض ًا لقرابته من رأس السلطة .سمعنا فيما
بعد إنه أبعد إلى السلك الجنائي كعقوبة له كما كان يفعل بالعادة مع ضباط
األمن المغضوب عليهم من السلطات األمنية العليا.
في تلك الليلة دخل هذا الضابط إلى السجن وكانت ليلة عيد ،طلب من
الخدمات والمراقبين أن يقدموا أسماء السجناء الذين كانوا قد امتنعوا عن
األكل والشرب في هذا اليوم ألسباب دينية .ولم يكن طلبه سؤاالً بل كان
يريد أشخاص ًا ليعذبهم حتى وإن لم يصوموا وبعضهم كان بالفعل كذلك.
اّإل إن الخدمات والمراقبين كانوا يحملون من الجبن والخوف من العقاب
ما ال يستطيعون معه أن يردوا على طلب هذا الضابط المتهور المجنون
المهووس بالتعذيب ،خصوص ًا إنهم قد علموا بنيته األكيدة بإنزال عقاب
شديد بالسجناء ،حين جاء مع مجموعة من رجال األمن مجهزة بهروات
خاصة إلقامة حفل تعذيب في تلك الليلة .وبدأت المجزرة ،كل من يرد
اسمه فهو مذنب وإن أثبت بألف بينة ودليل أن ال ذنب له ،وهو األسلوب
ذاته الذي كان يجري في التحقيق ،التهمة هي الذنب.
خالل دقائق جلس في الفناء العريض عد ٌد كبير من السجناء ،من زنزانتا فقط
اثنا عشر شخص ًا .بدأت حفلة تعذيب لمدة ساعة تقريب ًا ،يمر أربعة من رجال
األمن ويضاف اليهم أربعة آخرين من الخدمات ينزلون أقصى ما يملكون من
175
من شقوق الظالم
ضج
قوة عندهم على السجناء ،بعصيهم وبالهراوات والكيبالت الكهربائيةّ .
المكان بصرخات األلم وسط صمت وخوف مأل المكان ك ّله .لم يتوقفوا عن
الضرب حتى بعد أن أغمي على عدد من السجناء ،انتهت الحفلة في فصلها
ال جديد ًا .حيثاألول عندما شعر الجالدون بالتعب واإلرهاق لتبدأ فص ً
أفرغت زنزانة كانت مخصصة للمصابين بمرض التدرن الرئوي ،تم نقلهم
إلى قسم خاص سوف أحل عليه قريب ًا ،ليوضع في هذه الزنزانة كل هؤالء
المتهمين بالعصيان ،بزحام رهيب وإن كنت ال أدري كم كان عددهم بالضبط
يكتف هذا الضابط بهذا العقاب ،بل أمر بوضع بطانيات على ِ أو تقريب ًا .لم
القضبان الحديدية ليسد عليهم كل نور ،وخفضت حصتهم من الطعام والماء
إلى النصف ،وهي حصة باألصل لم تكن تكفي لسد الرمق وظلوا على هذا
الحال عدة أسابيع .الغريب في األمر إنه بعد أن أخرجوا من هذه الزنزانة لم
يكونوا فرحين جد ًا كما هو المتوقع ،بل بدا على بعضهم األسف حيال ذلك
وعندما سألت أحدهم عن سبب هذا الشعور الغريب قال لي:
-كان مكان ًا آمن ًا ال يوجد فيه مراقب متعاون مع األمن ،والبطانيات
تحجب الرؤية عن رجال األمن والخدمات ،لذلك كنّا نتصرف بحرية
كبيرة ،نتكلم بما يحلو لنا ونفعل ما نشاء .أما نقص الضوء واألكل والشرب
فهو أهون بكثير من هذا الرعب اليومي جراء مالحقة عيون الخدمات
ورجال األمن لنا ليل نهار.
بصراحة كان كالمه على غرابته مقنعا للغاية .هذا اإلحساس بفقدان
األمن صار دافع ًا لكثير من السجناء للمخاطرة والقيام ببعض التصرفات
للحصول على فرصة كهذه.
176
من شقوق الظالم
3
***
بعد هذه الليلة المرعبة تناقص عددنا في الزنزانة إلى ثالثة وثالثين
سجين ًا ،كانت انفراجه كبيرة في المنام لليلتين تقريب ًا ،وبسبب هذا النقص
الكبير في العدد حشر معنا سجناء جدد ممن وصلوا حديث ًا من المحكمة
وعاد العدد إلى طبيعته تدريجي ًا خالل أيام قليلة ،إلى أن رفعت العقوبة
كل إلى زنزانته التي خرج منها،عن المعاقبين الذين طلب منهم العودة ٌّ
وفي لحظة واحدة قفز عددنا إلى سبعة وخمسين سجين ًا وأصبحت الزنزانة
ٍ
بشكل مثير لالشمئزاز ،ألنه لم يعد هناك من مكان للنوم وال حتى مكتظة
للجلوس ،وضاعف من تقززنا حصول حادث غريب تلقينا بسببه عقوبة
جماعية قاسية.
كان رجال األمن يغيرون الزنزانات لسبب أجهله ،يأتون ويطلبون منّا أن
نخرج كلنا ونذهب إلى زنزانة أخرى فيما يأتي سجناء آخرون إلى زنزانتنا،
وهكذا كل الزنزانات األخرى .انتقلنا إلى زنزانة جديدة تقع في ظهر
قسم آخر يوجد فيه سجناء سياسيون يعيشون بمثل ظروفنا ،يسمى (ق)2
اختصار ًا السم (القاطع المغلق الثاني) ،ونحن في (ق .)1عندما ننتقل إلى
زنزانة جديدة نبدأ بالبحث عن ثقب صغير بين الجدران لنحشر فيه مسمار ًا
أو ما يشبهه لنعلق به (عليجة) تحوي كل أمالكنا من ثياب أو أشياء أخرى.
لم يكن من السهل إيجاد الثقوب لحشر الشناق الحديدي المستخدم
عادة لتعليق أكياس ًا صغيرة نضع فيها أغراضنا ،وكان البد من االستعانة
177
من شقوق الظالم
ال بين قطعتي البلوك حتى يحصل على موق ٍع بشيء ما للطرق والحفر قلي ً
ثابت نوع ًا ما .كان أحد السجناء يملك حذاء قديما ،ال يصلح لالنتعال
ٍ
بكعب صلد ينفع كمطرقة .بعد أن انتهينا من استعماله، أبد ًا ،اّإل انه يحتفظ
وألن عددنا كان كثيرا جد ًا وامتألت كل أنحاء الزنزانة بالبشر واألغراض،
ٍ
بحبل صنعه من أسمال اخترع صاحبه طريقة مبتكرة لالحتفاظ به إذ ربطه
بالية وأخرجه من فتحة التهوية الوحيدة في الزنزانة ليتدلى في الخارج،
وليتمكن من سحبه ثانية عند الحاجة.
في المساء جاء رجل أمن مع أحد الخونة المتعاونين من (ق )2ليلقي
علينا تهمة االتصال مع السجناء في (ق )2وادعى إنه رأى يد ًا تمتد من
فتحة التهوية في زنزانتنا تلوح إلى شخص ما في قسمه ،صار علينا وفق
هذا االتهام تحديد اسم الشخص المتهم بالتخابر من زنزانتنا وعليه أن
يعرف باسم الشخص اآلخر في الزنزانة المقابلة .أصبنا بالذهول من هذا ّ
الموقف الغريب وكيف سنخرج منه ،ولم تفد كل محاوالتنا بإقناع رجل
األمن بأن أحدنا أخرج الحذاء من فتحة الشباك ليس اّإل ورفض هذا التبرير
ولم يلتفت إليه.
مراقبنا كان جبان ًا رعديد ًا ووضيع ًا إلى حد بعيد وال يجرؤ على رد
االتهام ،بل بذل كل جهده ليرمي التهمة على أحدنا ويتخلص من هذه
الورطة ويتملق بذلك إلى رجال األمن والخدمات ،بالمقابل كان ال
يأمن إزاحته من منصبه ومعاقبته لو فشل في تقديم اسم متهم بهذا الذنب
المخترع .ولما لم يعترف أحد بالتهمة عاقبنا على الفور رجل األمن
بإخراج عشرة منّا بشكل عشوائي وأوسعوهم ضرب ًا ،وهدد بأنه سوف يعود
178
من شقوق الظالم
مع كل وجبة طعام ويختار عشرة أخرى وعلينا أن نقدم المذنب اّ
وإل فانه
حيص وبيص وال نعرف سبي ً
ال للخروج من ٍ سيعاقبنا جميع ًا ،وصرنا في
هذا المأزق.
الخونة بيننا يبحثون عن قربان ونحن بالمقابل على يقين من بطالن
ال ال يمكن ألحد أن يرى أحد ًا من ذاك البعد بينادعاء المخبر ،ألنه اص ً
القسمين ومن خالل هذه الثقوب الصغيرة .إضافة لذلك كنّا نزالء جدد
على هذه الزنزانة في يومنا األول وال يمكن أبد ًا أن نعرف من يسكن قبالنا
أو من خلفنا.
استمر الحال على ما هو عليه في الصباح وأخرج عشرة آخرين ليتلقوا
عقاب ًا جماعي ًا ،وأصبحنا مع كل وجبة طعام يأتي الينا رجل األمن ونقدم له
عشرة قرابين ليعاقبهم ،وزاد األمر على ذلك ،إذ إن المسؤول األمني أصدر
أمر ًا بمنعنا من الوقوف في الزنزانة مطلق ًا ،حتى عندما كنّا نريد الذهاب
إلى الخالء أو التحرك في داخل الزنزانة علينا أن نقفز إما مثل األرانب أو
نزحف كالسالحف .كان وضع ًا قاسي ًا تكبدنا فيه محنة إضافية لكل ما نحن
فيه من ظروف شاقة وأليمة.
مرت ثالثة أيام بلياليها ونحن على هذا الحال إلى أن اقتنع رجل األمن
بأن المخبر متوهم فيما يقوله ،بعد أن تصدى إلقناعه شاب شجاع ذلق
اللسان استخدم خزينه من الكلمات المنمقة التي بالغت في مدح رجل
األمن ووصفه بأوصاف لم يكن يحلم ان يسمعها ،لترتفع نسبة الزهو
والغرور عنده إلى مديات عليا سهلت إصدار عفوه علينا امتنانا لكلمات
صاحبنا الذي تالعب به بشجاعة ،ألنه لو لم ُيقنع رجل األمن بما قدمه من
179
من شقوق الظالم
180
من شقوق الظالم
أرى إنه ال يستحق كل هذا العناء والتفكير منهم ،وأراهم مهووسين بأمر
ليس بذي بال .وألبرهن على ذلك ،إني لم أتوقف عن التدخين حتى في
هذه الظروف البائسة ،اّإل في مرحلة متقدمة عندما وصل بي العجز درجة
تضاءلت فيها قدرتي على سحب األنفاس للبقاء على الحياة ولم يعد هناك
من مجال بعد للتمتع بلذة الدخان.
طبع ًا قد يظن البعض إننا كنّا ندخن بشراهة من الضجر والملل الذي
أصح
ُ يمألنا ،وحتى نحن كنّا نحسب أنفسنا من المدخنين المدمنين ولم
من هذه الفرضية الخاطئة اّإل بعد سنوات ،حين قابلنا طبيب في مستوصف
المستشفى وسأل سجين ًا كان يشاطرني الزنزانة هل تدخن؟.
-نعم.
أجابه رفيقي ،وكانت نعم كبيرة استرعت انتباه الطبيب فسأله ثانية:
-كم سيجارة تدخن في اليوم؟.
فقال له صاحبي:
-ثالث سجائر باليوم ،تمر كل سيجارة على عشرين مدخن تقريبا في
الزنزانة ليأخذ كل واحد منهم نفس ًا واحد ًا فقط.
ضحك الطبيب مبتسم ًا ساخر ًا وانتبهت إلى العالم الغريب الذي نعيشه
وهم ظاهر.
وإلى كم المعتقدات التي نؤمن بها بشدة وهي ٌ
أن نركب حقائق عالم على عالم آخر ال يمت له بصلة ونسقط تداعياته
عليه بال وعي فواصل الزمان والمكان والظروف الموضوعية ،سوف
يدفعنا إلى متاهة ال نهاية لها ويضعنا وسط لغز بال حل.
181
من شقوق الظالم
كنّا أحيان ًا ندخن بطريقة فكاهية بحق ،وأكثر هزلية مما ذكرت ،إذ
عندما تنقطع السجائر عنّا نروح نبحث عن بدائل لها .جربت واحدة من
تلك البدائل مرة ،وبعدها استسخفت الفكرة كثير ًا ألمتنع بعدها نهائي ًا عن
التدخين في السجن ولسنوات طويلة .كنّا نجمع بقايا الشاي الذي يقدم
لنا في الصباح ونجففه تمام ًا ،وكان لدينا صنبور ماء عاطل تم نزعه من
أحد الحمامات ،ألنه باألصل ال يوجد ماء في الحمام ،ولسنا بحاجة لهذا
الصنبور العاطل وال لغيره وان كان صالح ًا .كنّا نضع فضالت الشاي في
هذا الصنبور ونحرقه ونسحب دخانه من الجهة األخرى للصنبور وكأننا
كنّا ندخن غليونا .كان طعم الدخان ال يمت لدخان السجائر بشيء بل
مر ًا الذع ًا ،ومع ذلك كنّا نشعر معه براحة أكثر من تدخين السجائر، كان ّ
س واحد عند محاولة ألن مخلفات الشاي كثيرة وكنّا نحظى بأكثر من َن َف ٍ
التدخين بهذا الغليون وال يوجد تزاحم عليه بين السجناء كما كان يحصل
في تدخين السجائر.
182
من شقوق الظالم
4
***
كان الجوع شديد ًا ،يقدم لنا في الصباح حساء عدس وشاي وقطعة خبز
صباحية (نسميها صمون باللهجة العراقية) .كل صحن كان مخصص ًا ألن
يأكل منه خمسة أشخاص أو أكثر وهو بالكاد يكفي إلشباع شخص واحد.
وفي الغداء يقدم لنا رز بمقدار قدح صغير ،ومع ذلك لم يكن يصلنا هذا
النزر الضئيل والمقدار البخس كل يوم ،بل تقريب ًا مرتان أو ثالث مرات في
األسبوع الواحد في أحسن األحوال .عدا ذلك ،كانت الوجبة الرئيسية في
العشاء أو الغداء ،عبارة عن حساء من شيء ال أعرف كنهه بالتحديد ،يبدو
قدر كبير (يسمى قزان بمصطلح السجناء) كأنه ماء ساخن حين يصلنا في ٍ
تطفو عليه بضع رؤوس بصل وتسبح معه أشياء دقيقة سوداء ،ال ُيدرى هل
هي ديدان أم أشياء تؤكل .منظر القدر بما فيه يبعث على التقزز ،ومع ذلك
كنا نأكله بنهم شديد ،ألننا كنّا طاويين لحد المسغبة.
في مناسبات قليلة كان يصلنا لحم أو دجاج ،مرة في الشهر أو أكثر من
ذلك ،وفي مرات نادرة جد ًا حظينا بسمك ،وكل ذلك لم يكف لسد الجوع أبد ًا.
األواني التي نستلم بها الطعام مضحكة ،مثلما هي الطريقة التي ُيسلم
بها .كان القزان الكبير يصل إلى باب الزنزانة يدفعه واحد من عناصر
الخدمات على صناديق بالستيكية تسهي ً
ال للحركة ويبدأ بإعطاء كل زنزانة
نصيبها .يقدم المراقب صحن ًا كبير ًا من تحت القضبان لتسلم الرز ،وبالطبع
هذا الصحن الكبير ليس كما تشي به الكلمة ،ألنه لم يكن في الحقيقة سوى
183
من شقوق الظالم
يحصل أحيان ًا أن يصل الينا الخبز أكثر من المعتاد ،لذلك لجأ السجناء
إلى جمع كل الفتات المتبقي منه وتجفيفه في أكياس (جنفاص) بيضاء
تشبه الخيش اّإل إنها مصنوعة من خيوط نايلون صناعية ،تعلق في أعلى
الزنزانة قريبة إلى السقف ،توفر أليام المجاعة ،وما أكثرها.
تمر علينا أيام صعبة من نقص شديد في الطعام ،إذ يصبح ضئي ً
ال في
مقداره متأخر ًا في وصوله .عندئذ ،كنا ننقع الخبز اليابس بالماء لتصيبه
طراوة تيسر على األضراس طحنه ،وبعضهم كان يستلذ بأكله يابس ًا كل
بحسب ما يروم ويشتهي ،وباألحرى كل بحسب درجة الجوع التي انتهى
إليها .كنت وأنا أكله أحس بطعم الغبار في حلقي ،ولكنه لم يحجزني عن
جرشه وال صدني عنّه أبد ًا ،ألن الجوع صاحب قلب كبير يتسع لكل أنواع
الطعام ،ال يحجز أحد ًا منه ،ال جيد وال رديء ،ويشكر بعدها بامتنان مهارة
صانعيه ولو كانوا أسوأ الطباخين .ال أقدر أن ٌأ َ
صور الجوع الذي كنا نتلوى
منه ،هل تكفي كلمة مخمصة؟ ال أدري.
بعض السجناء خصوص ًا من حديثي السن المراهقين وبعضهم لم
يتجاوز الثالثة عشر ربيع ًا ،كانوا زائد ًا عن ألم فراق آبائهم وامهاتهم بعد
أن اختطفوا من أحضان أهليهم ،يأنون من لهيب جو ٍع يستعر وال يجدون
وجوع جارف كان حتى الكبار ٌ ما يخمدوه به ،وحين يجتمع بر ٌد صرد
يتأوهون من فعلهما القبيح .في إحدى الليالي شوهد أحد السجناء وهو
يجلس منزوي ًا تحت جنح الظالم يبكي ،وراحت الظنون إن به أمرا جلال
كان يتكتم عليه وها قد طفح الكيل به ،فلم يعد قادر ًا على مواراته أو لربما
دهمه شوق وحنين ما تملك من زجره كما كنا نفعل جميع ًا ،اذ كنا جميع ًا
185
من شقوق الظالم
186
من شقوق الظالم
البقاء ،إنما كنت أفعل ذلك ألواصل المقاومة وأتحدى بمواصلة الحياة،
عدوي الذي يريد أن يرغمني على الظن أن ال مكان لي في هذه الدنيا بهذه
علي أما الخضوع له أو مغادرتها إلى
األفكار وبهذا النفس المتمرد ،ويجب ّ
عالم آخر.
نافذة خياالتي كانت تسرح بي بعيد ًا خارج الزنزانة ،إلى ٍ
كتب أدمنت
مطالعتها ،وقيم ومبادئ التزمت بهاُ ،أشربت بها وتجري في عروقي ،منها
نبت لحمي وعظمي وكل كياني .أسرح مثل خيول برية ،أمرح في سهوب
ابحرت فيها من قبل ،وقصائد عشقتها ،أعلو هضاب كتابات جادة
ُ روايات
وألتقط من عشبها .الذاكرة كانت حية ولم تزل فيها بعد طرية كلمات ناظم
حكمت وهو يقول في بعض أبيات قصيدة إلى مرشحي السجون كنت
متيم ًا بها قبل اعتقالي.
حصتك من الخبز حتى اللقمة األخيرة.
احرص على تناول ّ
واحذر من نسيان الضحك ملء الفم.
الشاعر التركي يبرر ذلك بأنهم يريدون قتلك ،فال تمنحهم الفرصة
لفعل ذلك .منطق سليم تلقفته وعملت به بإخالص شديد ،كنت أواصل
الحياة ألنكد عليهم مسعاهم وأحبط مشروعهم وألقول لهم ،إننا باقون
في هذه الدنيا وسوف يبقى صوتنا يطوف في الدنيا وصورنا سوف تظلل
األرض أعلى من السحاب ،أما أنتم فسوف ترحلون ولن يبقى صوت لكم
وال صدى ،وسوف تختفي عينكم هي واألثر.
كان أمر ًا يبعث على السأم والملل أن تجلس ساعات طوال ترنو بعينيك
187
من شقوق الظالم
إلى طعام ملقى أمامك ،وأمعاءك أودى بها الخواء إلى العجز حتى عن
التلوي ألم ًا .وتجد يدك مغلولة ال تجرأ على كسر رغيف خبز أو خطف
رشفة من حساء حسنته الوحيدة التي تشجع على األكل إنه ساخن وتراه
يبرد ويفقد كل ما فيه ،وسبب ذلك كله إن التلفاز يذيع خطاب ًا للقائد الهمام،
أو يعرض برنامج ًا يزور فيه قطعة عسكرية أو يقلد أوسمة لضباط .يستغرق
عرض البرنامج احيان ًا أكثر من أربع ساعات ونحن مسمرون إلى أماكننا.
ال يسمح لنا بالحديث وال بالحركة وال األكل والشرب وال حتى الذهاب
إلى المرحاض لقضاء الحاجة ،ولو اضطر إلى ذلك .نظل ملتصقين إلى
أي من هذه المحظورات، أماكننا ،نجلس كأننا تماثيل شمع .ومن يرتكب ّ
يعرض نفسه إلى عقاب كبير ،ألن التجاوز على ذات القائد يعني الموت
ال متهم بالخيانة ومعاداة بحسب القانون ،فكيف تفعل ذلك وأنت أص ً
الوطن والحزب القائد والثورة.
188
من شقوق الظالم
5
***
استطاع شاب شجاع أن يدبر لي بعض المضادات الحيوية ،ساعدت
على كبح تدهور صحتي ولو قليالً .وقام بفعل جريء آخر ،فحين يوضع
أمام الزنزانة كيس كبير فيه خبز لتؤخذ الحصة بحسب عدد السجناء ،كان
يستغفل عناصر الخدمات ووكالء األمن ويأخذ أكثر من الحصة المقررة
بضع قطع اضافية ويدخرها لي ليمنحني فرصة أكبر لمقاومة المرض
الذي يواصل تقدمه ويحرز انتصارات واضحة في جسدي .هذا الشاب
كان طالب ًا في الكلية العسكرية حين اعتقاله لذا كان شجاع ًا وجريئ ًا وفعل
أشياء كثيرة إلبقائي حي ًا وأعانتي على تجاوز األزمة وسوف أبقى أحتفظ
له بهذا الجميل رغم تواضعه وخجله عندما أذكره بها شاكر ًا .مرة وبعد
سنوات طويلة التقيته في ظروف مثالية وشكرت له موقفه الخالد ،رأيت
على سحنات وجهه حيا ًء كأنه َخ ْفر العذارى مما دفعه للطلب مني متوس ً
ال
أن ال أعيد ذكر ذلك .لم أعد أذكر ذلك أمامه ،لكن هل بوسعي أن ال أذكر
ذلك في كل مرة تخطر على بالي تلك األيام؟ كال ،ليس بإمكاني تجاوز
أي مخاطرة كان يخاطر بها ألجل دافع إنساني في صنعه لي ،ألني أعرف ّ
وأي تضحية كان مستعد ًا أن يقدمها إلنقاذ حياة إنسان مثله .مثل
قلبه الطيب ّ
هذا الشاب كان يلقى في غياهب السجون ألنه يحمل قلب ًا طاهر ًا وأخالق ًا
رفيعة ويتصدى بنبله وعلو أخالقه لنظام يحمل كل الرذائل والمفاسد.
مع كل هذه الجهود التي بذلها صديقي ،اّإل ان ذلك لم يحل من تراجع
صحتي ،مما أشعل مخاوف ًا جدية من انتقال العدوى إلى اآلخرين .الخوف
189
من شقوق الظالم
كان واضح ًا على وجوه بعض السجناء ممن ال عالقة لهم ال بالسياسة
أي شيء يمنحهم لقب سجين سياسي من وال المعارضة وال الثقافة وال ّ
خصال التضحية .دب الرعب بين هؤالء وانضموا لجوقة المراقب الذي
بذل جهود ًا كبير ًا عند الخدمات إلقناع األمن بضرورة إخراجي من الزنزانة
ونقلي إلى زنزانة مخصصة للحجر الصحي يودع فيها كل المصابين بمرض
التدرن الرئوي ،وقد نجحت مساعيهم الحقا.
قبيل نقلي إلى زنزانة الحجر الصحي ورغم شدة مرضي ،اّإل إني لم
أتوقف عن روح التمرد واالحتجاج .في كل زنزانة هناك شخص يسمى
مسؤول الماء ،له من األهمية والمقام الكثير ،ألنه يمسك بالماء عصب
الحياة ،وبالعادة في زنزانة مثل التي كنت فيها حيث يوجد مراقب يعد
واحد ًا من أكثر المتعاونين مع األمن خسة وجبن ًا ونذالة ،فال بد أن يكون
مسؤول الماء متناغم ًا معه .وكان كذلك وإن لم ِ
يش بأحد إلى األمن يوم ًا،
اّإل إنه كان إنتهازي ًا رخيص ًا .وألن الماء شحيح ،فمن المفترض أن نحظى
ٍ
بحصة زائدة. ٍ
بحصص متساوية ،اّإل إنه كان يسرق لنفسه ويرشي المراقب
واجهت سرقته وأحرجته باعتراض علني .كان يحاول سرقة الماء حين
يطلب عناصر الخدمات سحب خرطوم الماء من زنزانتا إلى زنزانة أخرى
بعد انتهاء الوقت المخصص لنا ،يقوم هو في هذا الوقت بوضع الخرطوم
ال الوقت القليل الذي يستغرقه سحب الخرطوم ،وبدالً في إناء خاص مستغ ً
من أن يضع الماء في البرميل المخصص له يقوم بإخفائه لصالحه .لم تكن
الكمية أكثر من قدحين إلى ثالثة أقداح ،لكن كانت بالنسبة لي مهمة جد ًا،
واألهم إنه فاسد يستغل منصبه للتالعب بثروة عامة لصالحه الخاص ،لذا
190
من شقوق الظالم
191
من شقوق الظالم
ٍ
بحادث جديد بل هو تاريخ طويل من حوادث الجرائم الكبرى فهو ليس
صغيرة تراكمت ،غفلت أو تغافلت عنها عيون الناس ،ولما تعاظم عددها
كبر خطرها وانفجرت .كان من السهل جد ًا وأدها أو اصالحها من قبل
وهي لم تزل صغيرة .ال معلول بال علة ،وتراكم الكم يحدث تغيير ًا في
الكيف ،وإن المبادئ ال تتجزأ والقيم ال تتغير ،ومن كان هنا سوف يكون
هناك إن صالح ًا أو طالح ًا شين ًا أو زين ًا .أما هذان القدحان قد تُشتر بهما
حياة انسان في ذاك المكان المنسي ،ألن الماء كان معدن ًا نفيس ًا أغلى من
الياقوت والزمرد ،وكان كل سجين يحرص أن يتصرف به بعناية شديدة
واقتصاد مبالغ به.
طائف ذكّره بفحولته
ٌ شاب من رقدته وقد مر به
في ليلة من الليالي نهض ٌ
وبعيد مغادرته اكتشف إن ما خرج منه من مني قد أدخله في ورطة وأصاب
شحيح جد ًا فال يمكن له أن يغسل
ٌ مالبسه وبطانية ينام عليها ،وألن الماء
أي موضع كامل ثيابه أو سائر البطانية مما اتسخت به ،فكان عليه أن يحدد ّ
اصيب بالقذارة ويحاول أن ينظفه ،لذا خاطر بالنهوض من مكانه لي ً
ال وجاء
بقطعة صابون ورسم على المواضع التي يريد غسلها دوائر صغيرة حتى
ال يهدر الماء ويبذره ،ألن الحصة محدودة شحيحة .النهوض في الليل
أمر محظور وجريمة كبرى وصادف لسوء حظه أن لمحه أحد عناصر
الخدمات وهو يخط بالصابون حدود ما يريد غسله فوشى به إلى األمن.
مساء اليوم التالي دخل ضابط األمن وزبانيته وأخرجوه من الزنزانة،
ليعذبوه تعذيب ًا أسطوريا النتهاكه قواعد السجن في النوم ولرسمه هذه
الدوائر الصغيرة ،متهم ًا إ ّياه بممارسة السحر والشعوذة وإنه دجال إلى
192
من شقوق الظالم
آخره من التهم السخيفة التي ال أصل لها وال أساس .جرى تعذيبه ألجل
أقداح ماء أراد أن يوفرها ونتيجة هذا التعذيب كانت أن فقد هذا الشاب
عقله .بعد تسع سنين حينما رأيته آخر مرة ،وجدته كما هو ما يزال يعاني
من آثار ذلك التعذيب الذي أفقده عقله ،ولم يطرأ عليه تغيير وال تحسنت
حالته .اذن ،ثورتي على مسؤول الماء كانت تستحق االندالع .القصص
كثيرة ولكني أوردت لها قصة واحدة،كمن يكتفي بنعيب غراب واحد من
كل خربة.
كل يوم يحمل قصة ألم جديدة ،ترى شخص ًا يتعرض للضرب واألذى
لسبب ال تصدق أنه يعد ذنب ًا حتى في أخس الشرائع .في إحدى األماسي
دخل أحد رجال األمن إلى القسم ورأى سجناء يشبكون أكفهم من بين
القضبان متكئين على حديدهاُ ،اعتبر ذلك سوء أدب ال يغتفر .ولقنوا درس ًا
في عدم تكرار هذه المعصية الكبيرة بالضرب المبرح بالهراوات على
أكفهم حتى تورمت وانتفخت محمرة من جراء السياط التي تلقوها .كنت
أنظر من آخر الزنزانة إلى منظرهم وهم يعاقبون وال أكاد أصدق إني سوف
أنجو من الضرب مهما حاولت أن أكون بعيد ًا متواري ًا عن األنظار .إنه أمر
البد أن يحصل ،ألنه وبكل بساطة ال يوجد منطق لتجنبه.
في يوم آخر وكان يوم عيد األضحى ،جاء رجال األمن صباح ًا
وأخرجوا سجين ًا وانهالوا عليه بالضرب ،كان يركض نصف عاري ًا في
الممر أمام مرأى كل من كان في الزنزانات ،تنهال عليه الهراوات من كل
صوب وحدب ،ال يعرف أين يختبئ وال إلى من يلجأ ،صار جسده األسمر
احمر قان ،واختلطت دماؤه باحمرار جلده من أثر الصفعات والركالت َ
193
من شقوق الظالم
والهراوات التي انهالت عليه .لم نكن نعرف وال حتى هو يعرف ما ارتكب
من ٍ
ذنب ليتلقى كل هذا العذاب صبيحة يوم العيد .وبعد نصف ساعة تقريب ًا
من جوالت التعذيب المتواصل وأمام الحاح منه بسؤاله للجالدين:
-ماذا فعلت؟.
جاءه الجواب:
-انك حاقد.
كان شجاع ًا وظريف ًا أيض ًا ولم تختف روح الطرفة لديه حتى بعد كل
هذا العذاب فقال للضابط:
ال محظور ًا ،لكن
-سيدي أنا كنت خائف ًا من أن أكون قد ارتكبت فع ً
الحمد لله القضية سهلة ألن كل السجناء حاقدون.
رغم دموية المشهد وشفقتنا عليه مما لقي من األذى ،اّإل أنه أضحكنا
جميع ًا وأخرس الجالد إلى حد أنه توقف عن ضربه وانسحب مستشعر ًا
الموقف السخيف الذي وضع فيه.
ألسباب ال يجدر بي أن أسميها أسباب ًا ،ألنها لم تكن سوى ذرائع واهية
لالنتقام منّا ،وقعت مشاهد كثيرة من التعذيب وبعضها كان فيه من حجم
الوحشية وكمية السادية التي تحتويها بحيث ال يمكن ألحد أن يصدق إن
بشر ًا قادر على فعلها .بعضها أفضى إلى موت الضحايا إما مباشرة بعد
الضرب أو بسبب عطل أصاب أحد األعضاء الحيوية وتوفي إثر ذلك الحق ًا.
أحدهم كبل ومدد على منضدة ما عدا رأسه ،كان يخرج عنها ،وعلقت
قنينتي غاز موصولتان بسلسلة حديدية إلى طرفي عنقه كأنه مصلوب
194
من شقوق الظالم
على لوح خشب وانهالوا عليه بالضرب ،لم يكن يقوى على الحركة فيما
الضربات تنزل عليه تسحق عظامه وتفتت جلده الطري لينزف من كل
موضع ،وعنقه كاد يكسر من ثقل ما تدلى منه ،حمل شبه مغشي عليه إلى
زنزانته وكانت هذه آخر مرة يرى فيها سليم ًا ليناله مرض شديد ،وتضاءل
حجمه حتى صار شبح ًا ثم اختفى من السجن والدنيا إلى األبد.
آخرون كانوا يعاقبون بأن يطلب منهم ارتقاء قضبان الزنزانة إلى األعلى
ثم تقيد أيديهم وأرجلهم إلى القضبان ،ويبقون معلقين وقوف ًا أيام ًا على
ذلك الحال .أما ما كان يعرف بالفلقة فكان أمر ًا شائع ًا كثير االستعمال،
وفي مرات كثيرة كانوا يبالغون في إذالل السجناء فيطلب منهم التقلب على
ظهورهم ورؤوسهم في الممر بين الزنزانات ،ومن يتردد أو يمتنع أو حتى
يتوقف من التعب يلهبوه بالسياط.
كان الموت يدور بين الزنزانات ،يبحث عمن يستعجل الرحيل .وفي
زنزانة مجاورة لزنزانتنا بلغ المرض أشده بسجين ،وبعد تفسيرات وشرح
مطول لرجال األمن إن الزنزانة ال تكفي أن ينام فيها أحد على ظهره وإن
هذا السجين أضحى من الضعف بحال أنه لم يعد قادر ًا أن يقلب جسده
والبد من نومه مضطجع ًا طيلة الوقت على ظهره ،حينذاك سمح األمن
بإخراجه من الزنزانة وأن يسجى إلى جانب قضبانها في الممر كي يقدم له
رفاقه في الزنزانة العناية الالزمة من أكل وشرب ،اّإل إنه لم يرهق رفاقه ففي
صباح اليوم التالي غادرنا ليسحب ببطانية كان ينام عليها ويتالشى نجم
آخر من سمائنا .وعقب ذلك عدنا إلى حياتنا اليومية بروتينها ننتظر حدث ًا
جديد ًا مفجع ًا آخر ًا.
195
من شقوق الظالم
أي شيء ،كل األمور سارت كما هي ألن الموت كان زائر ًا لم يتوقف ّ
مقيم ًا ال يثير فينا استغرابا ،إذا ما خطف أحدنا إلى عالمه الفسيح .األحداث
المفجعة والمحزنة كانت ال شيء بنظر رجال األمن ،واذكر فيما كان
صاحبنا تلفه بطانية ويخرج من الباب عينه الذي دخل منه ،حصلت بعض
الهمهمة أثناء توزيع وجبة الطعام الصباحية ،فقال بصوت عال أحد افراد
الخدمات مؤنب ًا السجناء.
-شبيكم اليوم؟ سامعين شي؟ صاير شي؟.
همس أحدهم في اذني.
-ال ما صاير شي بس واحد مات.
196
من شقوق الظالم
6
***
أخير ًا وبعد مناشدات كثيرة من مراقب الزنزانة للخالص مني خشية
العدوى من مرض السل الذي أنهكني ونصائح لي من مخلصين بأنه من
األفضل أن أذهب إلى زنزانة أخرى خاصة حصري ًا بمرضى التدرن إلمكانية
حصولي على عالج ،جاء أفراد من األمن في أحدى الليالي وأخرجوني
َ
وآخ َري ْن من زنزانات اخرى لينقلونا إلى زنزانة الحجر الصحي .وضعوا
أي أحد من التعرف علينا ونحن نسير في ممرعلى رؤوسنا منشفة ليمنع ّ
طويل فارغ نحو زنزانة الحجر الصحي.
كان الممر ذاته الذي دخلنا منه أول يوم عند وصولنا السجن ،على
جنبيه توجد أقسام لسجناء آخرين ذوي قضايا لها عالقة بالسياسة أو األمن
الخارجي اّإل انهم غير متهمين بقضايا االنضمام إلى تنظيم معارض .كانوا
يحظون بفرصة مواجهة أهاليهم في كل شهر مرة واحدة ولديهم حرية أوسع
بكثير منا .بإمكانهم التمشي في الممرات وفي ساحة كبيرة بحجم ملعب كرة
قدم ،يتعرضون للشمس يومي ًا ويطبخون أكلهم بأنفسهم وكل واحد منهم له
سرير خاص أو مكان خاص ،أحيانا تكون األسرة متعددة الطوابق اّإل انه
مع ذلك يبقى لكل واحد منهم مكانه الخاص ،وربما في فترات اكتظاظ
السجن ال يجد بعضهم مكان ًا ينام فيه ،لكن ليس بالطريقة التي كنّا نعاني
منها ،فهم في حال بالنسبة لنا كان يعد فردوس ًا ونعيم ًا .ال يتوهمن أحد إنهم
يرض بالعمى.
كانوا مرفهين فعالً ،إنما من ُضرب بالموت َ
ال اّإل إنهم كانوا يعرفون بوجودنا اإلجمالي
كان التواصل معهم مستحي ً
197
من شقوق الظالم
198
من شقوق الظالم
199
من شقوق الظالم
على غرفة واسعة خاوية من كل شيء ،ومنها فتحت باب أخرى قادتنا إلى
ٍ
صغير مظلم على جنبه األيسر ثالث زنزانات تكاد تكون مربعة بطول ٍ
ممر
ضلع يقارب األربع أمتار .وعلى الجهة اليمنى خمس زنزانات صغيرة
ثالث منها بعرض متر ونصف تقريب ًا وأكثر من مترين بقليل طوالً تسمى
بالمحاجر وزنزانة أخرى كأنها مخبأ على شكل حرف ( )Lباإلنجليزية ال
أي فتحة للتهوية أو الضوء ،وزنزانة أخرى بأبعاد مترين في ثالثة
يوجد فيها ّ
أمتار .صار نصيبي أن أودع في واحدة من تلك الزنزانات الكبيرة بسبب
وضعي الصحي المتدهور.
كان المكان مشبع ًا برائحة مرض ثقيلة ونتانة ورطوبة ،ومظلم ًا أكثر من
األقسام األخرى التي عشت فيها ،إال إن أبواب الزنزانات مفتوحة دائما
وهذا تطور كبير غير مألوف ،إذ يمكن هنا أن يتحرك المرء بين الزنزانات
ويتزاور مع اآلخرين .واألكثر أهمية إن الوشاة والخونة ال وصاية لهم في
هذا المكان .كان المكان يعد آمن ًا منهم ومن مكرهم ،وهذا الجو يسمح
بتداول األحاديث السرية بحرية أكبر من األقسام األخرى.
كان لكل زنزانة أسم خاص حصلت عليه من السجناء على سبيل
أي لحظة حتى في أشدالمزاح والطرفة التي لم تعدم عندهم أبد ًا في ّ
الظروف قساوة.
زنزانتي األولى التي سكنت فيها في المحجر تسمى (عباد الرحمن)
وليس لهذه التسمية من سبب ديني كما يبدو للوهلة األولى ،إنما سكان
هذه الزنزانة كانوا مرضى جد ًا ويمشون بتؤدة بالغة بسبب وضعهم الصحي
الحرج وبعضهم قد فارق الحياة لشدة مرضه .اقتبس أحد الظرفاء من
200
من شقوق الظالم
آية قرآنية تقول (وعباد الرحمن الذين يمشون على األرض هون ًا) وصف ًا
لطريقة سيرهم وتلقف اآلخرون الفكرة المضحكة واصبحت تسمية شائعة
تطلق على هذه الزنزانة.
الزنزانة الوسطى تسمى بوليفيا ليس ألن فيها أحراش وال ألن سكنتها
من أمريكا الالتينية ،بل ألنها كانت تشهد تغيير ًا في موقع المراقب بصورة
سريعة ،بحيث كانت تنام على أسم مراقب وتصحو على آخر بحركة
مفاجئة غير مفهومة ،في وقتها كانت بوليفيا تشهد موجة انقالبات كثيرة
فاطلق على هذه الزنزانة هذا االسم لتشابه األحوال بينهما.
حار جد ًا النعدامه من
الزنزانة الثالثة تسمى لبنان ،السجن في الصيف ٌ
أي وسيلة للتبريد ،اّإل هذه الزنزانة بالذات تقع
فتحات التهوية وخلوه من ّ
قرب ممر به مبردة هواء كبيرة مما أتاح لها التمتع بنسيم بارد يتسلل إليها
من تلك المبردة ،فيما الزنزانات األخرى محرومة منه .السجناء اعتبروها
منتجع ًا بارد ًا ذا جو معتدل يصلح أن يكون مصيف ًا كما كان يفعل من يريد
السياحة بزيارة ربوع لبنان ومصائفها في موسم العطلة الصيفية.
الزنزانات الصغيرة كانت محاجر انفرادية ليس لها تم ّيز ،لذا لم تحظ
بأسماء خاصة ،اّإل الزنزانة المخبأ ،الخالية من الضوء وفتحة التهوية
سميت (الكهف) ألنها تختلف في كل شيء حتى أنها بال قضبان ،مقدمتها
باب حديدي يشبه باب مخزن أو هو كذلك بالفعل.
المكان كله يسمى "المحجر" إشتقاق ًا من كلمة زنزانة الحجر الصحي،
وكان متميز ًا جد ًا في السجن ،ليس ألن سكانه مرضى بالسل وحسب ،بل
ألنه كان آمنا من مراقبة رجال األمن ،ألنهم يخشون العدوى ويتجنبون
201
من شقوق الظالم
202
من شقوق الظالم
7
***
بشكل مزمن ولم يصب الرئة فقط كما فيٍ مرض التدرن مستوط ٌن
حالتي ،إنما اإلصابات توزعت على أجزاء أخرى من أجساد السجناء،
وال أعرف ماذا تسمى حالتهم من الناحية الطبية ،إنما بحسب الشائع
وقتها إن جميع هذه الحاالت تندرج تحت أسم ال ( )TBوهو مختصر
للفظ اإلنجليزي .Tuberculosisرأيت البعض يشكو من إصابة في
الرقبة وآخر في العظام واصابات أخرى كثيرة ،مخيفة ومرعبة في مظهرها
الخارجي .البعض كان طريح فراشه لفترة طويلة ال يقوى على مغادرته
وبعض آخر لقي حتفه جراء تدهور صحته وقلة الدواء.
الدواء قليل جد ًا وال يمكن أن يكون عالج ًا حقيقي ًا لمثل هذا المرض،
ٍ
مضاد حيوي وحبة فيتامين وقرص كأنه قطعة إذ ال يعدو عن كبسوالت من
طباشير كنت أتجرعه مكره ًا .كمية الدواء لم تكن تكفي كل المرضى،
وكان من الالزم أن يقسم على المرضى بطريقة عادلة وليس بالتساوي،
وكما في كل الزنزانات واألقسام األخرى كان لدينا مراقبون وخدمات،
ألنه ٌ
عمل تنظيمي لتسيير األمور وليس إجراء أمنيا باألصل ،وفي حالتنا هنا
في زنزانة الحجر الصحي كان المراقبون والخدمات ال يقدمون معلومات
لألمن كما في األقسام األخرى ،بل كانوا بالعكس تماما يعملون لصالح
إخوانهم السجناء ونظم أمورهم بما ييسر عليهم مصاعب السجن الجمة.
وضع شباب الخدمات نظام ًا عادالً حكيم ًا لتوزيع األدوية بمنح
203
من شقوق الظالم
المريض األشد ضرر ًا دوا ًء منتظم ًا حتى يتجاوز مرحلة الخطر ،وعند
ص الحصة تدريج ًا حتى يتجاوز مرحلة المرض ويصبح تحسن صحته ُت َق َل ْ
ال لحالة السجناء اآلخرين فتقطع عنه حينذاك .عندها ُيكتفى وضعه مماث ً
بمنحه إياها في فترات متفاوتة بحسب تطورات وضعه الصحي .هذا النظام
لم يكن صالح ًا أو مقبوالً من الناحية العلمية ،لكن كان بيننا طبيب وهو
سجين مثلنا ومريض ًا هو اآلخر بالمرض نفسه ،هو من اقترح هذه الطريقة
لتنظيم توزيع العالج وللحفاظ على حياة أكبر عدد ممكن من السجناء
المصابين بمرض السل.
هذا الطبيب نفسه كان يوصينا بشدة على تناول الحصة الغذائية كاملة،
ألنها الطريقة الوحيدة التي يسري معها مفعول الدواء في البدن بحسب
قوله .هذه الوصية جاءت ألن فقدان الشهية كان العرض الرئيسي لدى كل
المصابين ،وبما إني واحد منهم فلم أكن أستسيغ تناول الطعام وأجد نفسي
مكره ًا على تناوله ،مع إن الطعام كان أفضل نسبي ًا من األقسام األخرى
حتى انه كانت تصلنا فواكه بين الحين واآلخر .وكان السجناء رغم شدة
المرض الذي يضربهم وقسوة الظرف الذي يعيشوه ،اّإل إنهم متعاونون
فيما بينهم ،ويعطون الحصة األكبر من هذه الفواكه لشديدي المرض ألنه
بإمكانهم تقبلها دون باقي الطعام الذي كان تناوله أمر ًا شاق ًا .ومن العسير
بمكان صد رغبة االمتناع عن الطعام لدى مريض التدرن ،لكن كان البد
من المحاولة ويجب مقاومة هذا العرض المميت وهكذا بذلت كل جهدي
على ما في األمر من صعوبة بالغة.
طفيف في صحتي
ٌ استنهضت كل طاقتي في الممانعة وبدأ يظهر تحس ٌن
204
من شقوق الظالم
وتلك عالمة مشجعة على فعل العقار في بدني وعلى سالمة طريقة العالج
المقترحة من الطبيب .ولحسن الحظ كان بيننا ٌ
رجل نذر نفسه لمعاونة
المرضى يتابع أحوالنا ويبذل جهود ًا عظيمة ويقدم خدمات ال يمكن اّإل
لمتدرب في معهد تمريض عال فعلها ،مع إنه في حقيقة األمر كان عسكري ًا
علي ومساعدتي من أصول ريفية ولم يتلق تعليم ًا كافي ًا .كان يواصل حنوه ّ
كما مع اآلخرين على تجاوز األزمة ويحثني كثير ًا على األكل قائ ً
ال لي:
-حتى لو أكلت األكل وتقيأته فعليك أن تواصل األكل ،ألن ال بديل
عنه وهو العالج األمثل والوحيد.
هذا الرجل وأمثاله وشباب الخدمات كانوا يقدمون جهد ًا عظيم ًا
ويعملون بإخالص كبير لمساعدة السجناء المرضى واآلخرين المحتاجين
للرعاية والعناية .أعمال ال ينبغي اّإل أن تذكر باحترام عظيم .كانوا يعينون
بعض المرضى حتى على اخراج الفضالت من أبدانهم ألن عضالتهم
اصيبت بالضمور الشديد ولم يعودوا قادرين على أداء أي من هذه األفعال.
أما تنظيف المرضى وغسل أرديتهم وفرشهم وتخليصها وإياهم مما كان
ال يومي ًا روتيني ًا ،يصاب بالدهشة كل ٍ
وغائط فكان عم ً يخرج منهم من ٍ
بول
من يراه لروح العطاء العظيمة التي يمتلكها هؤالء الشباب وقدرتهم الهائلة
أي مردود يأملونه أو فرض يدفعهم لذلك سوى على التضحية واإليثار بال ّ
مثل إنسانية تتوهج في قلوبهم البيضاء.
لحم
كان يصل إلينا في بعض المرات لعلها مرة واحدة أو مرتين بالشهر ٌ
أحمر مستورد على ما يبدو من دول بعيدة مثل استراليا أو نيوزيلندا ،لذا
كان يقدم لنا صلب ًا متخشب ًا كأنه جثة في كفن ،وال يلينه سوى ماء ساخن
205
من شقوق الظالم
يأتي معه في قدر كبير .بعض السجناء وألسباب دينية امتنع عن أكله ،لكني
أي شيء يعيد لي قوتي ،ومع استعادة لم أفعل ذلك ألني كنت بحاجة إلى ّ
الشهية تناولت كثير ًا منه إلى الحد الذي تجاوزت به مرحلة الخطر تمام ًا،
بما يمكن اعتباره تعافي ًا بمقاييس زنزانة الحجر الصحي التي هي معايير
ال عالقة لها بتشخيص األطباء وال موازينهم في العالم الخارجي .لم
اتوقف عن أكل هذا اللحم حتى بعد ذلك بكل صراحة ،ألني لم أكن مقتنع ًا
أي نقاش حوله ألي سبب ،والمرض كان حجة جيدة إليقاف ّ باالمتناع عنه ّ
أو جدل يمكن أن يقترحه أحدهم .ولحسن الحظ لم يحصل ذلك النقاش
في زنزانة الحجر الصحي ألنه كان أمر ًا في غاية الحمق أن تقول لمريض
أوشك على الموت ،هيا امتنع عن األكل لنستعجل موتك .في أقسام أخرى
جرت مثل هذه النقاشات وانتهت عند الكل بعدئذ إلى نتيجة واحدة وهي
ضرورة أكله بتوجيه من متخصصين في أمور الدين وعلومه ،وال من داع
للوقوف عند أسباب وهمية تحول دون تناوله.
تغلب المنطق والعقل كما ينبغي له ذلك في تسيير أمور الحياة ،ألن
الحياة خلقت بالعقل وبه وحده تسير ،وخال ذلك ما هو اّإل قصص تسلية
وخرافات وأوهام ال تليق بعاقل أن يعتنقها ،فهي تليق بالجهلة وأنصاف
المجانين وتجدر بهم وحدهم دون غيرهم.
206
من شقوق الظالم
8
***
مدى واسع ًا لغياب المراقبة
ً التعارف بين السجناء أخذ في المحجر
األمنية ،ولذلك نزعت حذري من االختالط مع اآلخرين بعد أن استعدت
بعض ًا من عافيتي ،وبدأت أتعرف إلى السجناء الموجودين في القسم وأقيم
عالقات مع بعضهم .وأكثر ما أثار استغرابي حين دخولي السجن ،إن
نسبة كبيرة جد ًا من السجناء ليس لها شغل بالمعارضة السياسية ،كانت
ضحية اعتقاالت عشوائية وتصفية انتقامية لمناطق جغرافية معينة أو بسبب
عداوات وخالفات شخصية أو أسباب أخرى ال عالقة لها بالتنظيمات
السياسية .هناك بعض من السجناء مما يمكن لي أن أسميهم اطفاالً لصغر
سنهم عند اعتقالهم لم يتجاوزوا حتى الثالثة عشر من أعمارهم .بينما
آخرون كانوا كبار ًا في السن ،وبعض قليل منهم طاعن فيه إنما ال شغل
أي نشاط لهم بالسياسة ال من قريب وال بعيد ،وهم أبعد ما يكونون عن ّ
سياسي أو ثقافي معارض أو حتى موال ،فهم منخرطون بحياة تقليدية ال
شغل لهم بغيرها .راعني سماع قصصهم المضحكة المبكية التي ال ُيفهم
منها اّإل شيء واحد هو وحشية النظام وانعدام القانون بالمطلق.
أحدهم كان سائق شاحنة بالكاد يفك الخط وسيق إلى الحرب العبثية
المندلعة آنذاك ،وجاء تقرير أمني يخبر عن نشاط مشبوه لجندي يعمل مع
حزب معارض يحمل نفس أسم سائق الشاحنة هذا .ما أن وصل التقرير
األمني إلى الفرع األمني في الوحدة العسكرية حتى سارعوا إلى اعتقال
سائق الشاحنة وأذاقوه العذاب باعتباره خائن ًا عميالً ،والرجل غير مصدق
207
من شقوق الظالم
لما يحدث فهو ال يفقه حرف ًا واحد ًا مما يقولون ،بينما هم يطالبوه بكشف
أسماء التنظيم السري الذي لم يسمع به أصالً .بعد أشهر من االعتقال
انتبه المحققون األمنيون إلى الخطأ واعتقلوا الشخص الحقيقي المقصود
وتمت محاكمته ومن ثم نفذ حكم اإلعدام به .وبطبيعة الحال ،استبشر
صاحبنا سائق الشاحنة خير ًا وصار يرجو اإلفراج عنه في القريب العاجل
بعد هذا االكتشاف المتأخر لتشابه األسماء ،لكن األمور جرت بطريقة
أخرى ،فبما إنه اعتقل بتهمة سياسية وقد رأى السجون السرية ،لذا البد
من محاكمته وحكم عليه بالفعل بالسجن المؤبد وظل معنا في السجن
نفسه يقضي مدة محكوميته .وبعد كل هذه السنوات في سجن مخصص
للمعارضة ،والسياسة هي الموضوع الرئيسي بين السجناء ،اّإل إنه حين
خرج من السجن عاد لوضعه الطبيعي ولم ينشغل بالسياسة وال همه أمرها
يوم ًا كما لم تهمه من قبل.
كنت أحب الجلوس مع رجل كبير بالسن مطلع ال بأس بثقافته العامة،
سياسي حقيقي ،عرفت بعد فترة إن له في السجن ابن عم وهو رجل كبير
مثله وبدافع من الفضول تعرفت عليه هو اآلخر ظن ًا مني إنه شخص مثقف
كابن عمه ،اّإل إني دهشت لسذاجته وأن ال صلة له بالسياسة وال بالثقافة
بأي نحو من األنحاء ،بل إنه کان يحسب المعارضة السياسيةوال المعارضة ّ
ُاناس ًا سيئين يسببون المشاكل والمتاعب للناس وال ينبغي التعاطي معهم.
ولم يمكن بوسعي مناقشته لكبر سنه ،وألنه بسيط وساذج جد ًا ،والحوار
معه قطع ًا سيكون مضيعة للوقت .والسبب األقوى لتعذر نقاشه إن الرجل
أي شيء ،وال يشغله شيء سوى تدبر نفسه لم يكن مستعد ًا للنقاش في ّ
208
من شقوق الظالم
حاله اليومي .أثار أمره استغرابي وصرت أتساءل بفضول كيف وصل
أي أساس اتهم بهذه التهمة هذا الرجل إلى هذا المعتقل الرهيب ،وعلى ّ
الخطيرة؟ ظل الفضول يدفعني لمعرفة ذلك والحياء يمنعني من سؤاله،
ال في أمر شخصي أو يعد استهانة واستخفاف ًا به .مرة وأنا
ألنه قد يعتبر تدخ ً
في حديث ودي كالعادة مع ابن عمه المثقف تدرجنا بالكالم إلى أن وصلنا
إلى منعرج في الحديث كان من المناسب جد ًا فيه أن اطرح سؤاالً يفض
لغز هذا الرجل واحجيته بال تحرج فقلت له:
-فالن ابن عمك رجل طيب مسكين وإني ألعجب لوصوله إلى هذا
السجن .من هذا الذي اعترف عليه إنه منخرط في تنظيم سياسي؟.
فصعقني برده الفوري قائ ً
ال وبال مقدمات:
-أنا اعترفت عليه!.
-لكن لماذا؟ أليس الرجل بعيد عن توجهاتك؟.
-نعم ،هو كذلك.
واستطرد سارد ًا لي قصته بالقول:
«اعتقلت في مرة سابقة قبل اندالع الحرب لعدة أشهر بتهمة االشتباه
أي دليل معتبر إلدانتي
بالتعاون مع تنظيم سياسي ،ولما لم يجد المحققون ّ
أفرج عني .في وقتها كانت التحقيقات ليست بهذه الوحشية وكان من
الممكن اإلفراج عن كثير من المعتقلين ألن كثير من االعتقاالت وقتها
كانت تأديبية والقليل منها يودي بأصحابها لعقوبة الموت أو السجن.
المهم بعد خروجي من االعتقال وكعادة العراقيين في األفراح واألحزان
209
من شقوق الظالم
210
من شقوق الظالم
معه ابنه بعد ذلك وصار يحسب اآلن من العوائل المعارضة الحاقدة على
الحزب والثورة" .ضحكت كثير ًا وشعرت باألسف عليه في الوقت عينه،
وأيض ًا بالغضب على هذه الطريقة العشوائية في تصفية المعارضة وعلى
وحشية التحقيق وإصدار األحكام ضد المعتقلين.
كان قسم الحجر الصحي (المحجر) مثل كل األقسام األخرى يضم
كثير ًا من السجناء ممن ال شغل له بالمعارضة أو السياسة .وظل هذا الجمع
على حاله نفسها حتى بعد كل سنوات السجن ،ألنه لم يكن يفكر بالشأن
العام بالمطلق وال هو من أولوياته.
هناك أناس كثر يعيشون لذاتهم فقط وهمومهم ذاتية ،ال يفكرون اّإل بما
يتعلق بها ،قد ُيرى طيب ًا وديع ًا مسالم ًا ،إنما ليس مستعد ًا للدفاع عن مظلوم
ينتهك حقه أمام عينيه ،ويصنف الدفاع عن المظلومين في خانة األشياء
التي ال تعنيه وال يشغل نفسه بها ،اّإل من باب التأسف فقط .وحين تزداد
قوة الظالم وشراسته يستشعر هؤالء المسالمون إن خطره بات قريب ًا منهم
بسبب قسوة واستخفاف السلطة القمعية بكل القوانين ،هذا الصنف من
الناس يبدأ حينئذ وخالف المنطق بلوم معارضي السلطة والمحتجين على
إجراءاتها ،وينسبون لهم تهمة انتاج هذا الوضع الخطر بدعوى إثارتهم
المشاكل ومشاكسة القانون ،ويبدأ هذا الصنف من الناس حتى بتبرير هذه
القسوة المفرطة من النظام .وكان معنا في السجن كثير من هؤالء الناس
فهم رغم طيبتهم ووداعتهم الظاهرة اّإل انهم ليسوا بذي اهتمامات عامة
وال يملكون وعي ًا رغم ادعاء البعض ذلك لنفسه.
في السجن كان هؤالء أحيان ًا يشكلون عقبة حقيقية أمام أفعال تحدي
211
من شقوق الظالم
الجالدين التي يتصدى لها بعض السجناء الشجعان .وبعد كل معاناة السجن
الرهيبة ورغم اختالطهم بشخصيات سياسية مؤثرة فيه ،اّإل ان هؤالء لم
أي
أي نشاط عام ،وما أن خرجوا حتى ذابوا في المجتمع دون ّ ينخرطوا في ّ
تأثير وما استطاعوا أن يحولوا مظلوميتهم إلى قضية ،بل تحولت إلى مجرد
ذكريات مريرة ال يتمنوا أن تعاد عليهم مرة أخرى.
بالمقابل كان هناك اشخاص كثر منخرطون جد ًا بالشأن العام وهم من
أعطى للسجن طابع ًا خاص ًا ،وهم من حوله إلى مدرسة فكرية سياسية وفي
هذا كالم كثير سوف يأتي وقته.
هناك قسم ثالث ليس بالقليل ممن دخل السجن بال قضية حقيقية
لكنه كان كمن تلقى في السجن تدريب ًا وتعليم ًا من خالل مخالطته سجناء
آخرين ،وانتفع من ذلك ليصبح شخصية رائدة في مجتمعه ويعمل بوعي
واخالص لتغيير واقعه.
أما القسم الرابع فكان ممن خرج من السجن مبغوض ًا مذموم ًا ألفعاله
سعي ووشاية لرجال األمن أو قام ٍ الخسيسة التي قام بها في السجن من
بأفعال قبيحة يندى لها الجبين ،ومن حسن الحظ إن هؤالء كانوا نسبة قليلة
جد ًا معروفين باألسماء على نطاق واسع جد ًا بين كل السجناء .الكل كما
كان يعرفهم ،كان يحتقرهم ويتحين الفرصة للحد من تأثيرهم.
المحجر كان يعيش بحبوحة أمنية ،لتخوف رجال األمن من عدوى
المرض وانتقاله إليهم وتولى اإلشراف عليه مراقبون وخدمات صالحون
أغلقوا كل المنافذ امام السعاة والوشاة .وفي أحد األيام دلف إلينا واحد
212
من شقوق الظالم
من هؤالء السعاة ،ف ُاطلقت صفارة اإلنذار بين السجناء باإلشارات والغمز،
وكان البد من توخي الحذر إلى أقصى حد .بالمقابل كان البد من معالجة
نوع من البشر يعيش على إثارة الخوف عند سريعة للموقف ،إذ هكذا ٌ
اآلخرين ويبرز وجوده من خالله ،وعالج ذلك يكون بنقل الخوف إليه
إليقاف عدوانيته وخطره .ومن العسير جد ًا تصديق الفكرة الساذجة التي
تروج أحيان ًا بأن هذا النوع الخبيث يتوب عن جرائمه ويتحول إلى جزء
صالح في المجتمع لو عومل جيد ًا .هكذا نوع أفضل ما يمكن فعله له هو
نزع أنيابه ال تغيير طباعه التي جبل عليها ،كما يروج بعض السذج وقليلو
الخبرة .االنتقام صحيح إنه ال يحل المشاكل معه ،لكن العقوبة القاسية
تجعل خبيئته الخبيثة تتحجر في داخله وال تجد منفذ ًا للخروج .إن هؤالء
أي
الناس بال قيم أخالقية وهمومهم مادية نفعية كلها ،ولذا فإنهم ينتهزون ّ
فرصة لتحقيقها بغض النظر عن طبيعة أو مشروعية هذه الوسيلة ،ولما كانت
همومهم مادية نفعية فإن السلوك األجدى بالتعامل معهم هو تهديد هذه
ٍ
حينئذ سلسين مطيعين ،لكن الطموحات وحرمانهم منها ،وسوف تجدهم
الحذر كل الحذر منهم فإن طبعهم الرديء سوف يطل برأسه القبيح إلى
عالم الخبث والجريمة في أول مرة يرى العيون قد غفلت عن طبعه الماكر.
وهكذا كان ،إذ حوصر هذا الخائن بأعين تنظر إليه شزر ًا ،توجس شر ًا
كبير ًا وأيقن إنه بات بين فكي مجرشة صماء سوف تطحنه وتحيله دقيق ًا
ناعم ًا تطأه كل األقدام وتذروه بعدها الرياح .ومما زاد من مخاوفه إن
الحلقة الملتهبة كانت تتسع وال يجد منفذ ًا منها ،ورغم اقترابها الشديد منه
فإنها ال تطبق على رقبته ،مما أدخل على قلبه رعب ًا مضاعف ًا وصار الهلع
213
من شقوق الظالم
فراشه والفزع لحافه .وصار متيقن ًا من انتهاء اسطورته وصار جل حلمه أن
ال يهلك تحت أقدام ضحاياه.
أصدر مراقب الزنزانة له أمر ًا بأن يتخذ من جوار المرحاض مضجع ًا
له في أسوأ مكان يمكن أن ينام فيه السجين ،وأدرك عندها وهو يرى مكانه
إن أيامه السوداء قد ابتدأ عهدها الطويل .قاطعه الكل ،ال يكلمه أحد وال
يتعامل معه أحد أبد ًا ،اّإل المراقب الذي كان يوجه إليه أوامر أكثر مما هي
تبادل حديث معه.
شجار صغير بين سجينين وحاول أن يزج نفسه فيه ٌ في أحد األيام اندلع
ال بصورة ودية لفض النزاع ،اّإل إنه وجد إن المتشاجرين أنهوا خصامهم قلي ً
بسرعة قياسية والتفتوا إليه ،وضربه أحدهم بكلتا قبضتي يديه على ظهره.
ال قوي ًا جد ًا لو دفع أحد مزاح ًا ألوجعه فكيف
من ضربه كان شاب ًا ريفي ًا طوي ً
به وقد ضربه في أوج غضبه وبمنتهى قوته .ضربة لفرط قوتها وشدتها
أجبرته على إفراغ ما في معدته بالحال ،ومن حينها سكت هذا المنافق
أي أمر بعدها حتى
(كما كان يطلق على الوشاة) لألبد ،ولم يحشر نفسه في ّ
خروجه من السجن.
لم تكن قصة هذا الساعي بالوشاية فريدة من نوعها ،ونسبة الخونة
لم تكن قليلة وكان هناك عدد آخر مرشح لالنضمام إليهم تحت قسوة
الظروف الحياتية التي يعيشها السجناء .بالمقابل كان هناك سعي حثيث
من نسبة ليست بالقليلة هي األخرى للقضاء على هذه الجماعة الضعيفة
ٍ
لفرصة مواتية لإلطاحة الخائنة .وكان يجري التخطيط بهدوء وترقب
بتسيدهم على مناصب المراقبين والخدمات وهما المنفذ الوحيد للتعامل
214
من شقوق الظالم
215
من شقوق الظالم
السجناء وفقدوا كل حظوة عندهم لدى رجال األمن ،بل أصبحوا اعدا ًء
لهم وعاقبوهم بشكل مبالغ به أحيان ًا من اإلذالل واإلهانة .وهكذا حد من
خطرهم إلى حد كبير وإن لم يسلم السجناء من شرور بعضهم متسببين فيما
بعد بمقتل عدد مهم من السجناء في أحداث مؤسفة .كما سوف يحل عهد
من إذالل كبير وخزي عظيم عاشه الخونة في أحداث غير عادية شهدها
السجن جسدت قوة السجناء السياسيين وقدرتهم على مناطحة النظام
الفاشي حتى وهم في األغالل وخلف القضبان.
216
من شقوق الظالم
9
***
فيما كانت تتحسن صحتي كانت صحة آخرين تسوء بسبب انتشار
مرض السل الذي أصبح وبا ًء كارثي ًا يهدد الجميع .أصاب المرض ثلث
عدد السجناء تقريب ًا وانتشرت أمراض غريبة وحاالت مرضية متنوعة كلها
بسبب نقص التغذية والرطوبة والظالم وغياب الظروف الصحية .وفي
أحد األيام توقفت المجاري عن سحب المياه والقاذورات من المرحاض،
وعندما اقول في أحد األيام ليس حصر ًا به ألن مثل هذا اليوم تكرر وقوعه
لمرات عديدة .حاول السجناء بأساليب متعددة فتح المجرى الوحيد لها
في المرحاض ،أدخلوا أيديهم وكل آلة عندهم إلخراج ما علق فیه وسبب
هذا االنسداد لكن بال جدوى ،بدأت تطفح المياه اآلسنة إلى أرضية الزنزانة
ورجال األمن ال يلقون باالً إلى طلبات السجناء وال يعيروها إهتمام ًا .وألن
ال نحو المرافق بطريقة هندسية لتصريف أرض الزنزانة كانت مائلة قلي ً
المياه فإن وصول المياه اآلجنة لمقدمة الزنزانة حيث الباب والقضبان كان
ال عن الوصول لها بخالف غيرها من زوايا الزنزانة ،لذا تجمع يتأخر قلي ً
السجناء في مقدمة الزنزانة ،لكن الماء اآلسن يواصل زحفه ويدفع بعض ًا
من السجناء إلى تسلق القضبان والتعلق بها هرب ًا من هذا الماء اآلسن ومما
يحمله من بقايا فضالت بشرية .أدرك آخرون أن ال مناص من هذه الفوضى
واستسلموا لواقعهم ،وصاروا يأكلون ويشربون وقوف ًا ،بل حتى ينامون
هكذا وأرجلهم تخوط مياه ًا قاءتها المجاري بكل ما فيها.
في الليل والنهار يجمع السجناء المياه الثقيلة بآنية الطعام المتوفرة
217
من شقوق الظالم
عندهم ويرمون بحمولتها من خالل الفتحات التي تسمي شباك ًا إلى ساحة
الفناء الخارجي للتخفيف من منظر عدد األشياء العالقة في الماء ولتخفيف
مستواه الذي يشهد مد ًا متزايد ًا .بهذا يفهم لماذا كنت أنعت الساحة بين
مكب هائل للنفايات ومصدر أساسي لكل الحشرات .يبقى ٌ األقسام بأنها
الحال هكذا لنهارين متعاقبين بلياليها وأحيان ًا أكثر من ذلك ،والسجناء
ابان ذلك يأكلون في اآلنية عينها التي يستعملوها للتخلص من الفضالت.
وهذه لن تكون المرة الوحيدة التي نقسر فيها على األكل في آنية ملوثة أو
تناول طعام ملوث.
فضاء الزنزانة كان ضيق ًا ومزدحم ًا للغاية بالسجناء وحاجياتهم.
وأي شيء يراد خزنه أو استعماله الحق ًا يوضع في آخر الزنزانة قريب ًا من
ّ
المرحاض ،مثل فردة النعال المستهلك الذي يستعمل بتجفيف الماء،
وكذلك حساء الصباح (الشوربة) الذي يحفظ أحيان ًا قسم منه آلخر النهار
في جردل صغير ،ألن بعض السجناء كان يمتنع نهار ًا عن األكل والشرب
ألسباب دينية خاصة بهم.
فردة النعال المستخدم للتجفيف تكرار ًا في اليوم الواحد ،لم تكن
تربط بذاك االحكام ولذا كان يتكرر سقوط النعل وأحيان ًا يكون سقوطه
في جردل الحساء .وحين يكتشف الحادثُ ،يستخرج النعال وينظف من
الطعام العالق به فيما يتجمع الصائمون بعدها لتناول إفطارهم من الحساء
ذاته ألنهم ال يملكون شيئ ًا غيره يأكلوه .كنت أمزح مع أحدهم يوم ًا عندما
تحدث عن الجراثيم التي تتكاثر في هذه البيئة القذرة فقلت له :اطمأن يا
عزيزي هنا ال توجد ميكروبات وال جراثيم ولن يأتي المزيد منها ،ألنها
218
من شقوق الظالم
219
من شقوق الظالم
220
من شقوق الظالم
قصة اإلبر ال تنتهي هنا ،إذ إن تعقيمها هو اآلخر أمر ال مناص منه وللقيام
بذلك البد من توفر ماء مغلي .في المحجر زود رجال األمن السجناء بعلبة
معدنية صغيرة لتعقيم اإلبر ،أما األقسام األخرى فقد حرموا منها ،لذا
جرى تدبير الوضع بتوصيل سلك كهربائي من المصدر الوحيد للكهرباء
في المصباح المعلق بالسقف وفي نهاية السلك توضع مالعق وتدخل في
الماء لتعمل على تسخين الماء بطريقة الدائرة الكهربائية ،الماء الزائد عن
حاجة التعقيم كان يستخدم في تحميم المرضى .وفي قسم الحجر الصحي
وبسبب انعدام الرقابة األمنية كانت عملية غلي الماء تجري بشكل مريح
وبصورة واسعة ألن اغلب سكانه من المرضى ،بينما كان االستحمام
ال روتيني ًا يفعله باقي السجناء وال يتغير ذلك صيف ًا وال
بالماء البارد عم ً
شتا ًء .ظلت طريقة تسخين الماء تستخدم بنجاح في المحجر إلى أن وقع
حادث كبير في أحد األيام كاد أن يؤدي إلى كارثة كبرى.
فبعد أن استسهلت عملية تسخين الماء ،أصبح الماء الحار مطمع ًا في
أيام الشتاء حتى لغير المرضى مع ضعف األجساد وقسوة البرد .وبدالً من
اإلناء الصغير لتعقيم اإلبر صار برميل ماء بالستيكي هو المستضيف لهذه
العملية المحظورة ،وجرت األمور كما كان يشتهي السجناء ويرغبون إلى
أن جاء اليوم الموعود .ففي يوم شتائي محشو بالبرودة ضاعف قرسه وهن
األبدان ورثاثة اللباس وتهالك الفرش وقلة األغطية التي ما فتأنا نستعين
بها في اليقظة والمنام لرد غائلة البرد عنّا .وبينما كان الماء يغلي بأقصى ما
يمكن له ذلك ويشتد فوران الماء في غفلة من العيون ،تحلق قربه بعض
السجناء يستلذون بدفء يبعثه البخار المتصاعد وهو ينفذ بسخونته إلى
221
من شقوق الظالم
222
من شقوق الظالم
للسجن ثانية بعد ثالثة أيام وظلوا قرابة الشهر عراة ال يستطيعون ارتداء وال
حتى قطعة مالبس واحدة لشدة الحروق التي ألمت بهم.
تدبر السجناء أمرهم بصنع ما يشبه القفص غلف بالبطانيات لتدفئتهم
ورفع الحرج عنهم بحجز األنظار والعيون عن أجسادهم المجردة من كل
شيء حتى من الجلد .نجوا من الموت وظلت أجسادهم طوال حياتهم
تحمل ذكرى الحادث المروع وفقد السجناء فرصة االستحمام بالماء
الحار من جديد خشية انكشاف أمرهم بعد أن مرت هذه الحادثة بسالم.
لم يجر تحقيق في الحادث لسبب لم نفهمه ،لعله كان حسن الحظ أو ألن
القسم كان مخصص ًا للمرضى ،ولم يشأ المسؤول األمني الذهاب بعيد ًا
في التحقيق خشية اضطراره إلنزال العقاب ببعض السجناء ومع تردي
وإل في أي عقاب سيتحول إلى مذبحة حقيقية ،اّ وضعهم الصحي العام كان ّ
أي أحد ليصدق ولو كان أبله ًا كبير ًا إن علبة معدنية صغيرةالواقع لم يكن ّ
مخصصة لتعقيم اإلبر هي التي سببت كل هذه الحروق.
األفعال المحظورة كانت تنطوي على مخاطرة كبيرة بنفسها وبعواقبها،
خبر
ولبعضها قصص طريفة ومنها هذه القصة ،ففي أحد المرات وصل ٌ
إلى رجال األمن بحدوث عملية تسخين للماء في إحدى الزنزانات ودخل
رجل أمن إلى أحد األقسام بغتة وتوجه بسرعة ومباشرة إلى الزنزانة
المقصودة .سرعة الحدث لم يكن باإلمكان معها التخلص من الماء الذي
بدأوا بتسخينه للتو ،اّإل إن السلك الكهربائي وعدة التسخين تم اخفاؤها
وسط حشد السجناء بسرعة .توجه رجل األمن إلى البرميل صارخ ًا بوجه
السجناء مستفهم ًا:
223
من شقوق الظالم
224
من شقوق الظالم
225
من شقوق الظالم
10
***
هناك أشياء ال يمكن التخلص منها مع انعدام النظافة ،ألنها كانت
مستوطنة في األجساد وفي شعر الرؤوس ،والحل الوحيد إلبعادها كان
بالتخلص من كامل الشعر .لذا كانت تجري عملية حالقة الرأس بحفلة
جماعية في فترات متباعدة وكانت أقرب إلى جز الشعر منها إلى الحالقة.
البعض من السجناء كان يفضل استخدام شفرة حالقة إلزالة شعر الرأس
تمام ًا تخلص ًا من عملية تنظيفه ،إذ إن االستحمام كان أمر ًا عسير حصوله،
وكان هو اآلخر يحصل بطريقة جماعية نظر ًا لشحة الماء ،لذا كان يتم
تحديد يوم مخصص لالستحمام الجماعي فترفع كل البطانيات السوداء
الرقيقة العسكرية المخصصة للنوم من على األرض ،وتصبح الزنزانة بعدها
حمام ًا عام ًا يقف السجناء فيه مجردين من كل ثوب اال سراويل قصيرة لستر
العورة ،ويبدأون بوضع رغوة الصابون على كامل أجسادهم بعد أن ينالوا
رشقة ماء خفيفة .خالل دقائق يجب أن ينتهي الجميع إذ إن خرطوم الماء
ال يسمح ببقائه في الزنزانة ألكثر من نصف ساعة وخالل هذه الفترة ينبغي
ملء برميل الماء المخصص لكل االستعماالت األخرى من شرب وشطف
أوان ولقضاء الحاجة .العملية كانت مضحكة بكل ما فيها ألنها بالواقع
ال تحقق من النظافة اّإل الشيء اليسير ،اّإل إن السجناء كانوا يعيشون فيها
لحظات سعادة خاصة ويخلقون ألنفسهم جو ًا إستثنائي ًا من المرح بتبادل
ال فمن أين يمكن لهم أن يتوفروا الطرائف والمزاح .إنها فرصة استثنائية فع ً
على لحظة كهذه يحظوا بها مع كل هذه الكمية الوفيرة من الماء.
226
من شقوق الظالم
كان القمل مقيم ًا دائمي ًا بأنواعه الثالثة ،قمل الرأس ،قمل الجسم وقمل
العانة ،والعثور عليه غاية في اليسر بأقل جهد وفي أول حملة تفتيش عنه.
تنطلق حمالت التفتيش بشكل مستمر ألنه يقف وراء ظاهرة الحك المزعجة
مدى ال يطاق ،يهرش السجين معهاالمزمنة التي تصل في بعض المرات ً
كل مكان في جلده الخارجي ،من قمة رأسه إلى تحت إبطيه وعند المواضع
الحساسة التي يحار كيف ينبشها بحثا عن هذا الكائن المزعج.
علي لعنة الحكة بشكل جنوني وصرت ال في أحد المرات حلت ّ
حز كل شعرة نبتت على جسمي في الحال. أحتملها فأصررت وقتها على ّ
بالطبع ال أقدر على القيام بهذا اّإل بمساعدة من سجين آخر طلبت منه ذلك
ال لبعد تناول وجبة العشاء التي أوشكت بعد أن صب فآثر االنتظار قلي ً
الحساء في األواني المعدنية ،اّإل إن هستيريا أصابتني من ذاك الهرش
وصرت أصرخ بوجهه أن يترك كل شيء ويقوم من فوره ويخلصني من
أبطي بالحال .الموقف هزلي مبك مضحك ،أنا ّ الشعر خصوص ًا تحت
اشعر بنار حرقة مستعرة جراء الحك والقمل يواصل قرصاته متلذذ ًا
والسجناء وهم يتهيؤون لتناول العشاء يضحكون على إصراري على
الحالقة الفورية وعلى غضبي وأنا أدور كمن يرقص من األلم ،حتى أنا
استغرقت في ضحك طويل على نفسي لكن بعد أن خلصني صاحبي من
شعري ومن األقزام الساكنة فيه.
نوع القمل الذي يعيش في فروة الرأس كان السجناء يسموه كالبتوس
وفيما يبدو إنها تحريف السمه االنجليزي ( )Pediculusوربما سمعت
اللفظة من طبيب ما بطريقة خاطئة وأنتجت هذا المصطلح الغريب .ولم
227
من شقوق الظالم
يكن من السهل أبد ًا التعرف على مصدر بعض المصطلحات الخاصة في
السجن وتشعر كأنها لغة خاصة ولدت هناك في زمن سحيق عندما بلبلت
اآللهة األلسن في بابل القديمة.
السجن عالم آخر خلف هذا الكون ،والعيش فيه يبرز الجوهر الحقيقي
لهذا العالم .ليس من قوام لهذا الوجود اّإل بالحياة وال قيمة للحياة اّإل
بالحرية وال يمكن إدراك الشيء اّإل بادراك ضده .وحيثما يوجد الضد
يوجد الوعي بحقيقة المعنى وعند غياب الضد لن تعرف اّإل مظاهر األشياء
دون كنهها وحقيقة جوهرها.
الحياة ،ليس أن تجري دما ٌء في العروق وال أن ينبض قلب بضربات
تلقائية بفعل ال إرادي وال هي هواء يمأل رئتين ويزفرهما ،ألنه حتى
األجساد الميتة يمكنها أن تفعل ذلك .الحياة أن تشعر بالسعادة وتلمس
بحواسك جماالً أحاطت هالته بك ،ويصيبك غم عظيم ويعتريك حزن
كبير عندما يزاحم الجمال قبح البهيمية ساعة يظلم اإلنسان نفسه بظلمه
أخيه .ليس هناك من مكان أكثر مناسبة لرؤية كل هذا بأفضل صوره وأدق
معانيه أفضل من السجن ،هناك يولد الوعي بمعنى الحياة وهناك تتكشف
جماالت الحرية.
في عال ٍم ينأى عن األسوار اإلسمنتية العالية وعن أبراج الحراسة يمكن
تصور معنى الجمال والحرية ،لكن الوعي بأدق معانيه يولد فقط في تلك
الدائرة التي تغلقها أسالك شائكة وخنادق محفورة بعمق قامة بشرية
مغمورة بمياه راكدة وفي رقعة مظلمة تقع تحت مرمى بنادق قنص لجنود
قاطنين في أبراج محصنة .نعم هناك يولد الوعي ،وهل يولد اإلنسان اّإل
228
من شقوق الظالم
من المعاناة؟.
مصطلحات لم أعرف أبد ًا كيف اشتقت وبدت غريبة جد ًا على كل
اللغات .أسمع تارة عنها حكايات تبدو مثل األساطير تحاول تفسيرها وفك
شفرتها وفض لغزها لكنها تختفي بسرعة مثل طيف عابر ،ليبقى السجن
أحجية عصية ال يمكن ألحد أن يدرك تمام ًا كل تفاصيله وال األشياء التي
وإن سكنه وعاش فيه دهر ًا.
تجري فيهْ ،
مصطلح مثل “الكانة" لم أجد له تفسير ًا أبد ًا ،حاولت أن أشتق له
عالقات مع المسمى وأنسج له قرابات مع لغات شتى بال جدوى .إنما
البد من التعامل معه ،ألنه األمل الوحيد في ستر الجسم العاري ووقايته
من برد ال يرحل في مكان حظر على الشمس الوصول إليه .نسيج سميك
بني غامق في الغالب واحيانا رصاصي يوزع في فترات متباعدة وبطريقة
غير كافية كما هي كل األشياء التي توزع ليس لالكتفاء إنما لإلبقاء على
األنفاس تصعد شهيقا وزفير ًا ليس أكثر من هذا .منظر الكانة الكريه
يبعث على القرف واالشمئزاز ويثير مشاعر كآبة سوداوية تدفع للزهد بها
واإلعراض عنها رغم الحاجة الشديدة ،حتى إني لم أسمع أو َار يوم ًا تنافس ًا
عليها من السجناء أبد ًا.
في أيام الشتاء مع ندرة األغطية وبرودة األرض اإلسمنتية وتهلهل
المالبس ،يصير البرد جهنمي ًا .ولم أشعر بالدفء أبد ًا طيلة السنوات العشر
التي قضيتها هناك وال حتى للحظة واحدة ،وفي الليلة األولى التي خرجت
فيها من السجن وجدت فراش ًا أعدته لي والدتي فوجئت وأنا أدخل تحت
أغطيته بكمية الدفء العظيمة التي يحتويها.
229
من شقوق الظالم
إيه ،كأني اضطجعت في موقد ،أحسست وأنا أغفو فيه بالبرد يتسلل ٍ
خارج ًا من عظامي يصحب معه تعب السنين العشر .وقتئذ أدركت إني كنت
واقف ًا مجرد ًا من ّ
أي دثار في عراء تلفحني فيه رياح باردة طيلة عقد كامل.
في كيس من الخيش كان يصل إلينا الخبز أحيان ًا وبعد أن يتم توزيع
الخبز من الممكن أحيان ًا االحتفاظ به بعيد ًا عن عيون األمن .لم يكونوا
في حقيقة األمر يهتموا له ألنه ال فائدة منه ،لكن كانت لهم سياسة ثابتة
باسترداد كل شيء يدخل إلينا ليسلبوا منا الشعور بتجدد الحياة .كانوا
حريصين على أن نعيش مع األشياء القديمة المستهلكة المندثرة ليشعرونا
إننا صفحة من ماض انطوى ونوشك على االنقراض معه وال يوجد أي أمل
بتجدد الحياة أبد ًا.
كيس الخيش هذا صار سبب ًا من أسباب الدفء مع وجود بعض خياطين
مهرة قاسمونا العيش في الزنازين .كانوا يفصلونه ليكون على شكل كنزة
أو معطف قصير ومن ثم ي ُبطن بقطعة من الكانة ويصبح قطعة رائعة مميزة
تحفظ حرارة الجسم .لحسن الحظ حظيت بواحدة منها من خيش اسمر،
األكمام والياقة مزينة بالكانة فصارت كنزة ملونة .حين ألبسها واآلخرون
عليهم ثياب ال تقيهم من شيء أبدو بينهم كأني أرتدي بدلة سموكن وأتمشى
في سوق شعبي .رجل أربعيني صنع هو اآلخر واحدة له على شكل معطف
طويل يتجاوز ركبتيه بجيوب واسعة .وحين يمشي في الممر مسرع ًا كعادته
في المشي ويضع يديه في جيوب المعطف العميقة كان يبعث الضحك
فينا ،كأنه عائد من صفقة عقدها للتو في مقهى المصبغة حيث يجلس كبار
التجار قديما في بغداد.
230
من شقوق الظالم
231
من شقوق الظالم
11
***
أين ذهبت قوتي وعضالتي ،عبارة كان يرددها سجين شغوف بممارسة
رياضة األلعاب القتالية ،وهو يقوم بحركات رياضية صباح ًا وفي بعض
األحيان مسا ًء وسط حشد مزدحم من أجساد مستلقية في الممر الضيق .كنت
أسمعه وأراه كما اآلخرون ونسخر جميع ًا مما يقوم به ،ألنه واحد من مجموعة
عبر وذكريات.
لم تدرك بعد إن الماضي قد انقضى ولم تبق منه سوى ٌ
مجموعة تظل تعيش الحاضر بعقلية أحداث مضت وتواصل رفض
حقيقة راسخة منذ األزل ،إن العالم يتغير وال يوجد نهر ُي ْستحم فيه مرتين.
بأشياء بالها الزمن وهي تعطيها الخلود ،معتقداتهم تشبهٍ عقلية تمسكت
حلم مصري قديم بعودة مومياء َملك محنطة مع كنوزه ليعاود الجلوس
على عرش تنازعه الورثة واألعداء من بعده ولم يفضل منه شيءُ .م ْل ٌك
أفضل ما فيه إنه قد يصلح ألن يكون قطعة أثرية يتفرج عليها فضوليون في
ٍ
متحف لألشياء العريقة.
هذا وآخرون مثله كانوا يترنحون من صدمات الواقع الذي يعيشوه ،وهو
يرطم أحالم ًا بعثرها الزمان في أدارج عاصفته الهوجاء التي ابتلعتنا إلى هذا
النزل المظلم في العالم السفلي .وكلما كانت األيام تواصل سيرها ،كان
توازنهم يختل أكثر وأكثر كما هو عنادهم في مواصلة البقاء خارج الواقع.
تصلب لم يجد عقلهم معه من حل لهذه المعضلة المزمنة باأللم ،اّإل بأن ٌ
يعلن استراحته وتقاعده عن العمل ويتركهم لفوضى من خياالت تسرح
232
من شقوق الظالم
233
من شقوق الظالم
كمن كان ينكر عالقته بتهمة ،حتى أحالمي اختفت منها هذه الذكريات
وخمدت شعلة التعلق بالماضي والحنين اليه .السجن علمني أن أعيش
الواقع وأدع الماضي يتالشى ويغرق ألنه اختفى من صفحة الزمان ويجدر
به أن يغرق في طم النسيان .من يعش فيه سوف يورم رأسه ويأتي يوم
يهشم رأسه بنفسه بطرق الجدران والصخور به ويدع المعاول تهدمه حتى
يتخلص من هذا الورم ،ولن يقدر على الخالص منه اّإل أن يذهبا سوية إلى
اضمحالل وتالش حيث تسمق منازل الفناء في هوة العدم.
الزنزانة علبة صغيرة ،وما خلف جدرانها كون شاسع الحد ألبعاده،
قلت لنفسي ذلك في يوم اقتادنا رجال األمن فيه إلى باحة واسعة في السجن
حيث وقفت سيارة فحص األشعة السينية للتأكد من حاالت اإلصابة
بمرض السل الرئوي المنتشر بين السجناء مثل نزالت البرد الشتوية.
كان طقس ًا ربيعي ًا مشمس ًا راح بصري يبحر بسحره في السماء الواسعة
بمنظر غريب لم تألفه عيناي منذ سنوات.
«يا للهول ،أحق ًا هذا العالم واسع جد ًا لهذا الحد؟ أو كل هذا الوسع
وترامي األطراف لم يقنع الناس ليتقاسموه ويعيشوا فيه بسالم؟ أحق ًا ال
يكفي كل هذا الرحب والسعة ليعيش كل واحد منا في زاوية فيه يفعل ما
يشاء فعله دون أن يزعج اآلخرين؟".
أي تبلد بهيمي هذا الذي يغزو النفوس لتجعلها ترتكب كل هذه
الفظائع ،وأي شيطان فيها هذا الذي يظهر بعدها بمظهر الرصانة والوقار
يبرر آثام فعلها بل ويصنفها في خانة وصايا الرب العشرة .إنها آفة نفسية
234
من شقوق الظالم
عميقة أو تشوه وراثي وخلل في الخلقة تدفع المرء لصنع كل هذه الجرائم
الرهيبة ويظهر صاحبها بعدها بال مباالة ،بل ويفخر بها ويوهم نفسه وغيره
بأنه أحسن صنع ًا .ال يمكن ان يكون من يفعل كل هذا سوي الخلقة أبد ًا .لو
كان كذلك فأي كوابيس تقض مضجعه اآلن ،وتجعله يتقلب في فراشه أرق ًا
سهد ًا في كل ليلة ،لكنه ليس كذلك .إنه حين ينهض من سريره مطلع كل
نهار يعاود جرائمه كأنها قوته اليومي ،كفافه الذي يعيش به وينبذ ضحاياه
في قعر جب عميق مظلم أو تحت ثرى في صحراء ال أحد يعرف موقعها،
تسأل وال مجيب ما الدافع وما هو المغزى إلحداث كل هذا األلم بها.
هل صناعة األلم ترياق بمقدوره أن يشفي صدر ًا أوغر في كراهية كل ما
يمت لنوع اإلنسان من صلة ،بل لكل ما في الحياة من جمال؟ كال ،إنه لن
يفعل ذلك ولن يقوى كل الغل والبغض لإلنسان أن يطفأ جمال اإلنسان
الرائع .ليس من شيء في هذا الوجود أجمل من اإلنسان ،سجد الكون كله
له وخضعت له حتى المالئكة عنوان الجمال ومن يأبى سيبقى طريد ًا ملعون ًا
شيطان ًا ترجمه بكل حجر ومدر حشود الحب الساعية إلى كعبة الكمال.
الحياة لن تتوقف ،فما ُصنْع الخريف بأوراق الشجر وظنونه الخاسرة
بأنه قد بلغ عتبة النصر حين يحيلها جرداء من الورق ،اّإل آمال خائبة وأماني
عاطلة .حين يأتي الربيع سوف تزداد قوة وترتفع أكثر ويواصل علوها
ارتفاع ًا معانق ًا السحب والسماء تزين أغصانها بأوراق أشد خضرة تدخل
الفرح والحبور في قلب من يرنو ببصره نحوها ،وتُظل العابر والمقيم
بأفيائها وتمنح الجميع بال تمييز ثمر ًا يانع ًا يجري فيهم الحياة .هكذا هي
دماء الشهداء وآالم المعذبين مثل عذابات سنديانة عصية تحطم كل فؤوس
235
من شقوق الظالم
236
من شقوق الظالم
بين قومهم.
كانت تعقد حلقات صغيرة وأحيان ًا بشكل فردي للتثقيف في مواضيع
شتى .وفي أوقات محددة ومناسبات معينة كان يجتمع كل سكان الزنزانة
لسماع محاضرة عامة أو المشاركة في برنامج احتفالي .المناخ الثوري
كان هو السائد في عملية التثقيف واالحتفاالت وتصدح الحناجر بأناشيد
تحرض على الصبر والثبات وعلى مواصلة الثورة والتحدي وتبشر بالنصر.
بوارق األمل بنهاية حكم الظلم وسلطة القمع لم تتوقف ولم تخلو اإلشارة
أي برنامج خاص أو احتفال عام.
اليها في ّ
شغل بالمعارضة والسياسة بدأ يتعلم مفرداتهاكثير ممن لم يكن له ٌ
وينخرط في أجوائها ،وبالطبع ال يمكن القول إن الكل كان مهتم ًا بذلك
فبعض ممن وصل بقطار الصدفة لم تغيره األحداث ،وبعض آخر أصابه
تيار جارفإرهاق وملل وتعب من المقاومة الصعبة والسباحة ضد ٍ
واستسلم ،فصار سطحي ًا في مطالبه ،تالطم به أمواج الحيرة والتوجس،
وتنشب مخالب الموت بجذوة الحياة لتنتزعه إلى اتجاه معاكس يحسبها
تستبقيه على الحياة وهي تغرس الخنجر تلو اآلخر فيه ليغدو كأنه جثة تأكل
وتمشي في زقاق مدفنها األخير.
وبرغم ذلك فإن تلك الفئتين لم تشكال عائق ًا أمام عملية التثقيف
وأصبح السجن مدرسة حقيقية .تبادل المعلومات يجري بشكل متواصل
وبطريقة عمل األواني المستطرقةٌ ،
فكل يقدم ما عنده من خالصة مطالعاته
وخبرته إلى اآلخرين .وبوجود عدد ال بأس به ممن يحمل ثروة معرفية
وخبرة سياسية ،تحول تبادل المخزون الثقافي إلى صناعة فكرية ،إذ صار
237
من شقوق الظالم
هناك الكثير ممن بات يستثمر وقته في التحليل والتفكير العميق ليخرج
برؤى فكرية جديدة.
إنهمك الشعراء وما أكثرهم في نظم القصائد في مواضيع شتى أغلبها
يشع ثورية وتحدي ًا ،يشجعهم على نظم المزيد منها شباب يحول تلك
القصائد إلى أناشيد تلهب الحماس وتشد أزر الجمع في مواجهة المحنة
القاسية وظرفها الرهيب.
االعتقال السياسي كانت له حسنة كبيرة على السجن ،إذ بين هذا
الجمع الكبير من السجناء لم يكن بينهم اّإل قليل جد ًا من سيئي األخالق
وإن لم تكن رديئي الطباع مستعدين الرتكاب أفعال رذيلة ،ألن األغلبية ْ
غير منخرطة بتنظيمات سياسية فإنها أيض ًا لم تعتقل بسبب ارتكاب فعل
سيء كما هو الحال في باقي السجون ،بل جرى اعتقال كثير منهم لشبهات
تحوم حولهم أو ألنهم مرتبطون بعالقات خاصة مع شباب ثوري .وإلى
جانب هذا هناك عدد كبير من السجناء ممن يلتزم بالفعل وليس بالقول
ٍ
أمانة ونبل ،والتزا ٍم ٍ
ووفاء، ٍ
صدق فقط بأخالقيات الثوار الرومانسية ،من
شديد بالسلوك القويم ،بل مضاف ًا لذلك يحملون صفة غاية في األهمية
أي جمع يحلون فيه .صفة رائعة وخصلة وهي الريادة والقدرة على توجيه ّ
مدهشة مكنتهم من فرض نهج أخالقي جميل في السجن .أحب كل
السجناء ذلك والتزموا بتلك األخالق في تعامالتهم وتأكدت بذلك مقولة
آمنت بها مبكر ًا "عندما يصلح القائد تصلح الجموع" التي تتبعه في حركتها،
وتختفي كل عيوبها الداخلية الصغيرة.
هذه العيوب بغياب قائد صالح مصلح تبدو مشكل ًة اجتماعية عميقة ال
238
من شقوق الظالم
ٍ
وأخالق ٍ
بخصال حميدة سبيل لحلها وال للخالص منها ،أما إن ظهر رائدٌ
رفيعة يقود حركة المجتمع فإنه يجذبهم إلى شاطئ فطرة اإلنسان الجميل
وحينها يتحدون في األشياء الجميلة وتضيع كل العيوب األخرى والعكس
صحيح أيض ًا .المجتمعات بحاجة إلى من ينظمها في مسار مستقيم بقدرات
فنية يملكها هذا القائد وأهمها حكمته وإخالصه لشعبه ولمبادئه .ولحسن
الحظ كان السجن يعج بالمخلصين وال يخلو من الحكماء في األقوال
واألفعال ،لذلك ارتقت األمانة والصدق إلى درجة مثالية بين السجناء.
بسبب الزحام الشديد وتشابه األشياء المستعملة كان يحصل في كثير
من المرات أن يتوهم سجين في ملكية حاجة ما ،ويعتريه شك بعائديتها،
فيتركها زهد ًا وتعافها نفسه مع حاجته الماسة لها .تتحول القضية أحيان ًا إلى
شبه معضلة ،إذ تصبح هذ االشياء كدس ًا متراكم ًا في وسط الزنزانة ال أحد
يعرف مالكه وتأخذ حيز ًا في الزنزانة الضيقة وال يتقدم أحد الستعمالها،
وغالب ًا ما كانت تحل المشكلة بطلب إذن جماعي بحق التصرف يمنح
إلى مراقب الغرفة أو شخص آخر محل اعتماد في األمور اإلدارية ليتولى
توزيعها بما يقدّ ر ويرى.
وفي فترة الحقة عندما أصبح بإمكاننا مواجهة أهالينا ،لجأ بعض
السجناء خصوص ًا من كانت ُأسرهم تعاني ضائق ًة مادية ويشكون من قلة
اليد ،إلى بيع بضائع كانت تصلهم من عوائلهم مثل السجائر وأشياء بسيطة
أخرى ،لتمشية أموره المالية ولرفع الحرج عن عوائلهم وتخفيف العبء
الذي ينوئون به .في أيام المواجهة كان ينشغل عن بضاعته بمالقاة أهله
لكنه ال يتوقف عن بيعها ،إذ يضعها مفروشة على األرض ويذهب لقضاء
239
من شقوق الظالم
240
من شقوق الظالم
12
***
تطور األمر إلى أكثر من التثقيف الجماعي أو الفردي إلى درجة ،إن
البعض اندفع إلى محاولة بناء تنظيم سري داخل السجن .كانت عملية
يشوبها حماس زائد وتفتقر إلى الحكمة رغم سالمة النوايا .خطوة قام بها
متحمسون وانضم اليهم شباب حديثو السن ولم يحسبوا جميع ًا أضرارها
ونتائجها ،بخالف خطورتها األمنية الشديدة وعدم جداوها المطلق في
أي فائدة في زعزعة النظام كما هو هدف العمل التنظيمي إلحالل تحقيق ّ
بديل عنه ،ألنها كانت تتحرك بمزاج أشخاص صنعوا هذا التنظيم الخاص
بأي تنظيم سياسي حقيقي خارج القضبان ،مما يعني بكل وال عالقة لهم ّ
بساطة إنه مزاج أشخاص ورغبات ذاتية في بناء جسم تنظيمي يتولون هم
شخصيا قيادته ،وهذه آفة التنظيمات السياسية.
التنظيم السياسي حركة جماعية لتحقيق أهداف يسعى إلى بلوغها
الفكر الذي تلتف حوله الجماعة ،وليس هناك من تابع ومتبوع في الحركة
اّإل بمقدار تنظيم الحركة فيه .القطب الذي ينبغي أن يدور حوله الكل هو
الفكر والهدف ،ال األشخاص مهما كانوا ،وعندما يصبح بعض األشخاص
في التنظيم بمنزلة الق ّيم على الفكر وتحديد غاياته ويصبحون هم من يحدد
المسارات برؤيتهم الخاصة ،حينها يفقد التنظيم السياسي جدواه ويتحول
إلى ما يشبه دين وثني يتحكم به كاهن يسكن معبد ًا ،وما على أتباعه سوى
تقديم القرابين والنذور على مذبحه .النخبة التي تسيطر على التنظيم
وتسعى إلى التفرد تجهض التحرك الثوري بدال من قيادته فيما لو تعارضت
241
من شقوق الظالم
مصالحها مع مصالح الحركة الثورية ولن يستطيع تنظيم تأسس على هذه
الطريقة والمنهج أن يكون ذا جدوى ونفع أبد ًا.
بدأت هذه الخطوة االنفعالية المزاجية تقسم المجتمع المتماسك في
كبير من السجناء لم يكنبعدد ٍٍ جميع الزنزانات ،إذ إنه في زنزانة محشوة
من العسير اكتشاف وجود عالقة خاصة بين مجموعة معينة منهم ،وهم
يتكتمون في أحاديثهم على أمر خفي ،خصوص ًا إن كثير ًا من السجناء كان
مدرب ًا على العمل السري ويلتقط بسهولة هذا النوع من العالقات.
مرض يتوفر دائما عند قليلي الحكمة المتهورون ٌ الثورية الزائدة
والمتزمتون ،والمندفعون هم مشاريع تطرف سياسي ومرض طفيلي في
أي فكر تغييري ،واألفعال التي تصدر منهم غالبا تتسم بانفعالية كينونتهاّ
رد الفعل ،سلوكهم يتسم باالنغالق ،وكل هذا جعل انكشاف أمرهم أكثر
سهولة ويسر ًا في مجتمع السجن الخاص.
هذا الشرخ االجتماعي متزامن ًا مع الرفض من قبل أغلب السجناء،
خصوص ًا ممن كانت له ريادة اجتماعية ،جعل هذا المشروع التنظيمي في
وض ٍع ال يحسد عليه ،وأصبح عرضة النتقاد شديد خلف عدد ًا من المتاعب
والمشاكل ألصحابه ،وخلق جو ًا من التوتر العام في اكثر من مكان.
عدم االستجابة لرأي األكثرية واإلصرار على أمر خاص ال يختلف كثير ًا
عن الجهود التثقيفية التي كانت تتم في الجو العام أجهض المشروع نهائي ًا،
اّإل إنه لحسن الحظ تم احتواء هذا التحرك في النهاية بشكل تام .لكن لم
يكن ذلك بال خسائر ،بل أخذ وقت ًا ليس بالقليل وجهد ًا غير متواضع من
242
من شقوق الظالم
243
من شقوق الظالم
244
من شقوق الظالم
ألنها لم تكن سوى كالم ًا مسموع ًا ينتقل من ف ٍم إلى ُاذن .كل ما في األمر
أن تضع فمك مرة على الثقب وتارة أخرى أذنك عليه لتسمع رد صاحبك.
الثقب لم يكن طبيعي ًا في أغلب األحيان ،بل كانت تصنعه يد سجين تجد
مكان ًا رخو ًا في حائط فاصل بين زنزانتين ،وحينها يبدأ حفر دقيق لإلسمنت
عند نقطة التقاء اكثر من بلوكة ،ألحداث ممر صغير يمكن أن يمر منه خيط
ضوء رفيع جد ًا .هذا المقدار الضئيل يكفي لمرور الصوت وتبادل األخبار
والنميمة أحيان ًا ،اّإل أنه لم يكن الطريقة الوحيدة للتواصل.
كان هناك أشخاص يبرعون في التعامل بلغة المورس المعروفة عند
العسكريين ،يتبادلون الحديث واألخبار بواسطة هذه اللغة وبسرعة فائقة،
ومع إني كنت أحفظ شفرتها جيد ًا ،اّإل إني لم أكن سريع ًا بما فيه الكفاية في
استعمالها .كنت ُأفضل طريقة أخرى في التواصل ،وهي الكتابة في الهواء
وهي طريقة شائعة بين السجناء ومن إبداعاتهم الخاصة ألني لم َأر لها مثي ً
ال
أي مكان آخر .تعتمد أصول هذه الطريقة على رسم الكلمة في الفضاء في ّ
بطريقة تقطيع الحروف ،وعلى الشخص المقابل جمع هذه الحروف التي
تشكل أجزاء الكلمة وإدراك معناها وداللتها .كنت أجيدها وأستخدمها
كثير ًا للتواصل مع سجناء في زنزانات أخرى .لم تكن وسائل التواصل
هذه مخصصة لتبادل التحايا والسالم أو الثرثرة وحسب ،بل كانت أيض ًا
قنا ًة للتزود الفكري والتعلم والتدريس ،وإن كانت تسرق وقت ًا مديد ًا وجهد ًا
ضخم ًا ،لكن لم يكن هذا عائق ًا مهم ًا ،ألنه ال شيء عندنا أكثر من الزمن
الذي لم يكن ينقضي أبد ًا.
وألجل التواصل الثقافي والفكري كان السجناء يلجؤون إلى طريقة
245
من شقوق الظالم
246
من شقوق الظالم
عندي لمبان فكرية جديدة طورت من فهمي ألشياء كثيرة ،وربما أيض ًا
لنقص في خبرتي ولبعض ٍ سببت لي مشاكل ليست قليلة في حينها،
الحماس غير المبرر مني للجهر بآراء صريحة مقابل بعض محدودي الفهم
والمتعصبين ،وأشخاص منزعجين جد ًا من تسيد المشهد الثقافي من قبل
مجموعة معينة كنت أحد أفرادها.
بعض ٌ
قليل من هذا الوضع المميز جعلنا في مركز اجتماعي حسنٌ ،
السجناء كان ال يروق له ذلك واشتعلت الغيرة في صدره واضطرم الحسد
في نفسه المضطربة أصالً ،فبدأ يختلق األعذار وينتحل الحجج للتوهين
من آخرين .الغريب إنه حتى في هذه األوضاع المزرية حيث الحرمان من
كل شيء ،كان التنافس على المواقع والحسد متوفر ًا بصورة ملحوظة مع
إنه ال يوجد شيء يستحق االهتمام فض ً
ال عن القتال عليه.
في إحدى المرات كنت أجلس متكئ ًا على حائط بينما تجتمع في
أحدى زوايا الزنزانة مجموعة من األشخاص لحل خالف نشب بينهم،
ولسبب ما أجهله اآلن ،حجب بصري شيئ ما عن رؤيتهم ،لم أقدر على
مالحظة المشهد اّإل من خالل النصف السفلي ألجسادهم ،سقط نظري
على أقدامهم وهم وقوف ًا يهمون بالجلوس ورأيت أرجلهم حافية مجردة
في .إنهم ال يملكون حتى نعاالً
أي نعل ،مشهدٌ غريب أحدث أثر ًا عميقا ّ من ّ
ِ
ولو خلعوا أسمالهم البالية لكُش َف ْت عوراتهم في الحال ،ألنهم ال يملكون
ال يستحق كل هذا التنافسسرواال داخليا ليرتدوه .هل هناك من شيء فع ً
والخصومات؟ وهل يوجد شيء ليس هنا في هذا المكان المقفر من كل ما
يمت للدنيا وحسب ،بل في كل هذه الدنيا يستوجب التنازع ألجله إلى حد
247
من شقوق الظالم
248
من شقوق الظالم
فتحة البلوك الوحيدة المسماة شباك ًا تسامح ًا .ما يراد نقله يكون بالعادة بعض
من الحاجات المهمة التي تجمع لمدة طويلة من الزمن ،وتنقل إلى قسم آخر
لحاجة ماسة إليه وطبع ًا ال تخلو البضاعة من أوراق ومواد ثقافية في أغلب
المرات .كانت العملية تستغرق ساعات أحيان ًا ألنها تتم تحت جنح الظالم،
كان الطرف اآلخر يرمي بصنارته أيض ًا لمرات ومرات عسى أن تلتقط الحبل
الذي رماه صاحبه في الجهة المقابلة ،وعندما تعلق الصنارتان ،يبدأ سحب
بحذر بعد أن يربط به كيس البضاعة المهربة ،ألن عرض الساحة بين ٍ الحبل
القسمين كان يزيد على العشرين متر ًا ،واألنكى من هذا إنها كانت مكب ًا كبير ًا
للنفايات وكل شيء فيها يشكل عقبة أمام انسيابية النقل سحب ًا.
في مرات كثيرة كانت الصنارة تفلت ألن البضاعة تعلق في كومة نفاية
كبيرة يصعب تجاوزها ،ويضطر الطرفان إلى سحب حبليهما ومعاودة
رميهما من جديد حتى تعلق مرة أخرى ويبدأ سحب آخر .يظل الطرفان في
توتر وترقب طوال الوقت خشية أن يدهمهم حرس أو رجل أمن يسير في ٍ
دورية ليلية ،وكانوا بالفعل يمرون كثير ًا لتفقد السجن من الخارج مما كان
يوقف عملية التهريب في فترات استراحات إجبارية .اّإل إنهما يستمران في
محاولة تهريب البضاعة ويظالن واقفين طوال الليل حتى تتم العملية قبل
طلوع الفجر مكللة بالنجاح في كل المرات.
249
من شقوق الظالم
13
***
رغم تخلصنا من الخونة ،وفتح قسم جديد قلل نسبي ًا الزحام وصار
عددنا في كل زنزانة بحدود خمسة وثالثين شخص ،اّإل إن الظروف
الصحية استمرت في حالها السيئ وتواصل انحدارها .معاملة رجال األمن
لم تتوقف عن إذالل واحتقار السجناء وإنزال عقوبات قاسية بهم ألسباب
بالغة في التفاهة .وكلما كانت أيام السجن يتزايد عددها كلما كانت األمور
تسوء اكثر ،ويحتد الغضب والحنق اكثر عند السجناء ويتضاعف وجدهم
وتستفحل الضغينة ويتفاقم كربهم.
بين فترة وأخرى ليست متباعدة ،يموت سجين بسبب هذه الظروف
المريعة وكثير منهم يصاب بنوبات من إغماء أو يضحون بهيئة وحال ُيشعر
معها بقلق حقيقي إنهم في سبيل التالشي وهجر الدنيا كلية ،وبالفعل فارقنا
أكثر من واحد منهم وحصل ذلك أمام ناظري مباشرة وأنا أشهد ترجلهم
من الدنيا وعروجهم إلى سماء طالما انتظرنا عدلها.
شابان شهدت فقد حياتيهما جراء المرض الشديد على مقربة جد ًا مني
وسمعت كيف تخمد األنفاس في مشهد مرعب .يجاهد صبي في صراع
مع مجهول لسحب أنفاسه وذاك الغريب من عالم الميتافيزيقيا يطبق عليها.
يرفع ساقيه محاوالً أن يرفسه بهما وهو يشدد عليه الخناق حتى ازرقت
قدماه وهوتا واحالمه بالبقاء لتخمد ضراوة المعركة مع انقطاع آخر أنفاسه
األخيرة وتسدل ستارة من حزن ووجوم على زنزانة تحوي جسد ًا غض ًا
250
من شقوق الظالم
يسحبه رجال األمن في بطانية سوداء بعد ذلك إلى غرفة مجاورة.
كنا نتلصص من خالل ثقب الباب على جسده المطروح منبوذ ًا مهجور ًا
بال احترام ،فيما يحاول قط سمين االقتراب منه يدور حوله ثم يتراجع ويقعد
بعيد ًا عنه في زاوية ،كأنه يقول ال تخف يا عزيزي أنا لست وحش ًا كأبناء
ال في قلبي إلخوتك الصغار وهم يالحقونني في جنسك ،وال أحمل غ ً
األزقة الضيقة ،ولو كنت تركض معهم حافي ًا تقذفني بالحجارة من السطوح
فلن أرد عليك اإلساءة ،أنا ال أملك كل هذا الحقد لفعل شيء كهذا كما فعله
بك من كنت تحسبهم بشر ًا وتحسبني حين كنت تراني وحش ًا.
الغضب يتزايد ككرة ثلج تواصل االنحدار وغدا معه أغلب السجناء
كثير منهم كان جسور ًا شجاع ًا ومستعد ًا للمواجهة بال
غير مبالين بالحياةٌ ،
ال من سوء المعاملة فكيف به معها. أدنى تردد وبال حاجة ألن يغضب أص ً
يحاول السجناء في كل مناسبة أن يتكتموا على آالمهم أمام رجال األمن
ويبدون جلد ًا ومقاومة .وما زلت أحتفظ في ذاكرتي بصورة شاب تلقى
صنوف العذاب مع آخرين ،وحين انتهى التعذيب طلب منهم رجل أمن
أن يهرولوا مسرعين إلى زنزانتهم .قام ورجع يمشي بكل هدوء ووقار،
فعاجله رجل األمن بضربات على ظهره الستعجاله ،لم يأبه لها وظل
يمشي وكأن سياطهم ذباب يطنطن عند اذنيه ال يستحق منه االهتمام سوى
أن يهشه بيديه .وصل الزنزانة دون أن يغير من نسق خطواته ولم يرتبك في
أي واحدة منها ولم يستعجلها وال حتى بنصف خطوة. ّ
كنا نمارس لعبة السعادة في رفع المعنويات ،نشد أزر بعضنا بالتكاتف
والتواصي ،ونقول حالنا أفضل من حال غيرنا حتى إننا في الزنزانة التي
251
من شقوق الظالم
نقلت اليها بعد انتهاء فترة الحجر الصحي اخترعنا يوم ًا كنا نسميه يوم
الصبر .موعده السنوي في اليوم التالي ليوم وطني (عيد الجيش العراقي)
تتردد قبله إشاعات كثيرة عن صدور عفو حكومي على السجناء ابتهاجا
بذاك اليوم ،وتتكرر فيه كل سنة األخبار الكاذبة نفسها وكنّا نعلم إنها
إشاعات ليس اّإل ،ومع ذلك كان البعض يشتد به الشوق والحنين لزوجة
تركها أو أطفال خلفهم كاليتامى أو آخر يتوق للعودة إلى عالم بال أسوار
وال قضبان ويصيبه وهن وتراخ ويحل به ضعف يزحزح قدميه ويرجرج
موقفه .ضعف طبيعي ،فما كنّا سوى بشر يعترينا ما يعتري غيرنا من لحظات
انتكاسة وقوة اّإل أنّا كنّا نبغي مطاولة البغي وهزيمة السيف بالصبر .صار
رأينا ان نقيم احتفاالً عام ًا جماعي ًا في هذه المناسبة كل سنة في الموعد ذاته
نترنم فيه بأناشيد حماسية ونلقي قصائد وكلمات تشيع بيننا روح المقاومة
واالستخفاف بممارسات األمن وحربه النفسية ،ونتجاوز لحظة االنكسار
والضعف بالوثوب خطوة إلى األمام في استجماع ولملمة كل قوانا.
من األشياء الغريبة في السجن هو كثرة الشائعات واألخبار عن عفو
رئاسي إلطالق سراح وشيك .وكانت اإلشاعات تُروج بفكاهة ألنها تبنى
أي شيء آخر .في على معطيات وهمية هي للتهريج والمزح أقرب من ّ
إحدى األمسيات وقف أحدهم وسط الزنزانة وطلب منّا الهدوء وبسمة
عريضة على وجهه والبشرى ترتسم على محياه ،وهو يقول:
-عندي خبر مهم!.
أنصت له الجميع بخشوع واهتمام كما لو انه كان يتلو قداس ًا.
252
من شقوق الظالم
253
من شقوق الظالم
ٍ
عجز ويأس وجهل في جماعة ال تعايش واقعها ،ال تريد خلطة من
االعتراف به وال تحاول تغييره بنفسها لتلجأ إلى الخرافة واألساطير وتنعم
برفاهيتها الزائفة وتخدع نفسها بسعادة وهمية.
تمر على جميع األمم وأغلب المجتمعات ظروف طاحنة في ضراوتها
قاسية في وقائعها مريرة في أحداثها ،الجهلة والعاجزون فيها يركضون
وراء األحالم والخرافات واألساطير ليناموا تحت أفيائها ،ليتفاقم قبح
الواقع عليهم ويغرس مزيد ًا من حرابه في خواصرهم ونباله في صدورهم
ويجثو بثقل بشاعته ويكلفهم سخفهم ثمن ًا باهظ ًا وهم ال يفتأون يرددون
وقائع أحالم لن تتحقق أبد ًا ولن يقف على بابهم (غودو) ،ولو ناموا الدهر
كله في انتظاره.
254
من شقوق الظالم
14
***
الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بحتميتها كل البشر ،وعلى
الرغم من هذا اّإل إن وقوعه يتحول دائم ًا إلى حدث مزلزل ثقيل الوطأة
على كل النفوس ،وهذا ما جرى في ذاك اليوم المشهود.
شاب بغدادي في ريعان شبابه يحتضر من مرض عضال أصابه في
السجن جراء نقص التغذية وانعدام الرعاية الصحية بالمطلق .جهد أفراد
زنزانته ومعهم شباب الخدمات على الطلب من الضابط المسؤول عن
األقسام المغلقة بتقديم بعض المساعدة له في محنته ،واستنفدوا كل
الحجج والسبل في سبيل إقناعه بأن هذا الشاب في وضع صحي مزري
للغاية وينبغي تقديم العالج له وإسعافه ،اّإل إن رجال األمن بالغوا في
أي عونتجاهل الطلبات إذالال وإهانة للسجناء .أصروا على عدم تقديم ّ
له حتى لو كان يسير ًا لجبر الخواطر وليس إلسعافه فقد وصلت حالته إلى
نقطة حرجة جد ًا وأشك إن أحد ًا كان بوسعه إنقاذه ،لم يقبلوا حتى أن يعاين
طبيب السجن حاله ،وال أن ينقل لمستوصف السجن ليموت هناك .كان
أي تكلفة ،ألنه في األول واآلخر ال وبإمكانهم أن يفعلوه بال ّهذا خيار ًا سه ً
سيرقد هناك قبل دفنه.
أي
مستوصف السجن هذا عبارة عن غرفة واحدة بسريرين ويخلو من ّ
تجهيزات طبية اّإل البدائي جد ًا منها ،وهي ليست اكثر من حقيبة إسعافات
مغذ وبعض العقاقير الشائعة من اسبرين وبارسيتمولأولية وبضع قناني ٍ
255
من شقوق الظالم
256
من شقوق الظالم
257
من شقوق الظالم
ٌ
حدث قال بصريح القضبان ومقدام جسور ال تحجزه القيود وال السالسل.
العبارة ،هنا يسكن الذين لم ترهبهم سنوات اإلخفاء القسري ،والذين لم
تنل المعاملة الوحشية من عزيمتهم الجبارة بل يواصلون تحدي أعتى
نظام .صيحة وصلت إلى كل أرجاء السجن وحار األمن كيف يتعاملون مع
الموقف ،ألن إدارة السجن صارت تخشى انتقال عدوى االحتجاج إلى
أقسام أخرى .وحينها يصبح السجن في طريق الخروج عن سيطرة األجهزة
األمنية بالكامل.
في أول النهار حاول رجال األمن تجاوز الموقف رغم خطورته
بتجاهل الحدث وإدخال الفطور الصباحي ،اّإل إنهم جوبهوا برفض شديد
من السجناء وبمواصلة االحتجاج ،صار الموقف أكثر تعقيد ًا مع بدء
ال خارجي ًا
اإلضراب عن الطعام واستمراره طيلة النهار ،مما استدعى تدخ ً
من إدارة أمنية عليا بعد عجز إدارة السجن عن احتواء الموقف ،وانتهى
اإلضراب إلى وعود نفذت على الفور بتحسين جزئي لألوضاع وإجراء
أول مواجهة لعدد محدود من السجناء مع أهاليهم .تبعه تخفيف الضغط
ال بفتح أبواب الزنزانات في ساعات محددة من النهار ليحظى السجناء قلي ً
وألول مرة بحرية الحركة بين الزنزانات ولو كانت لثالث ساعات فقط في
اليوم ،اّإل إنها كانت انفراجه كبيرة.
بهذه اإلجراءات الجزئية اليسيرة حاول األمن احتواء الموقف المتفجر،
ومن ثم يعاودون إجراءات القمع والتعذيب بعد امتصاص الغضب وتهدئة
الثورة مستعينين بواحد من الخونة الذين فقدوا قوتهم فيما سبق للحصول
على أسماء المحرضين على االحتجاج .وبالفعل قام هذا الخائن وهو
258
من شقوق الظالم
الشخص الوضيع نفسه الذي كان مراقب ًا في أول زنزانة دخلت فيها في
السجن ،بمحاولة إيصال معلومات خطيرة إلى رجال األمن بصورة خفية،
ٍ
لمحاصرة ومضايقة من كل السجناء ف وتعرض بعدها اّإل إن أمره ك ُِش َ
وتحولت حياته إلى جحيم في حكاية سوف يأتي وقتها.
خطط األمن لبدء الثورة المضادة وإجهاض مكاسب االحتجاج،
بافتعال حادثة صغيرة يجري تطويرها إلى قضية كبيرة وانزال عقوبات
قاسية بالسجناء ومن ثم تعود سلطة الخوف من جديد للتحكم بالمشهد.
بعد التطورات ونتيجة لالحتجاج منح السجناء حق البقاء خارج الزنزانات
إلى منتصف النهار ليعاد إقفالها عليهم من جديد حتى صباح اليوم التالي.
كانت هذه السويعات القليلة فرصة للحركة وتبادل الزيارات بين السجناء،
وساهمت في تخفيف الضغط النفسي وتخفيف التوتر وفتحت ممر ًا
ضيق ًا للتمتع بالحرية .اّإل إن رجال األمن لم يرق لهم هذا التحول في
حياة السجناء وخططوا إلعادة حقبة التضييق والتعذيب المنهجي .وفي
نهار دخلوا فجأة بهراوات يصرخون ويضربون السجناء إلجبارهم على
الدخول المبكر إلى الزنزانات بال أي مبرر ،اّإل إن حساباتهم كانت غاية في
الخطأ في التوقيت ولم يقدروا الموقف جيد ًا ،وال أخذوا بنظر االعتبار إنهم
في مواجهة مع سجناء سياسيين عد ٌد ليس بالقليل منهم إمتهن المعارضة،
وكثير أصابه يأس من
ٌ ويبرع في حشد األنصار وإثارة العواطف والحماس،
الظروف المزرية ويتشوق للمواجهة مع رجال األمن خالص ًا من حياة لم
تعد لها قيمة عنده وال يكترث لها.
رفض السجناء الدخول اّإل إن رجال األمن كان يبدو جلي ًا عليهم
259
من شقوق الظالم
260
من شقوق الظالم
في أقصى حاالت التأهب لبدء معركة حقيقية ،ألن السجناء في هذه المرة
ال على القسم .كان العدد في كل قسم يربو على األلف سجين سيطروا فع ً
أي حواجز بعد أن تركت وجميعهم أحرار في الحركة داخل القسم بال ّ
أبواب الزنزانات مفتوحة .بدأ رجال األمن بإطالق الرصاص الحي على
جدران القسم من الخارج ،اّإل إنه لحسن الحظ وألنهم من قبل لم يتركوا
أي فجوة في تلك الجدران المبنية بصورة محكمة ال يخترقها شيء خاب ّ
أي شخص .أما السجناء فقد انبطحوا رميهم وفشل مسعاهم في إصابة ّ
جميع ًا إلى األرض يتقون الرمي األعمى بدرع الجدران الكونكريتية
المسلحة القوية.
لم يتوقف رجال األمن عن محاوالتهم ،اذ صعد رجال مكافحة الشغب
إلى نقطة عالية في سطح السجن ومن خالل فتحات تهوية على علو شاهق
تطل على الممر بين الزنزانات ،ألقوا قنابل مسيلة للدموع ،لكن لم يفت
هذا في عضد السجناء وواصلوا الهتاف عالي ًا بصرخات االحتجاج،
واستعان السجناء بالماء والبصل وبطرق بدائية أخرى لمكافحة تأثير
الغازات المسيلة للدموع.
سيطر الرعب تمام ًا على رجال األمن ألن السجن كله صار اآلن
يسمع الفوضى وسرت عدوى االنتفاضة إلى أقسام أخرى من السجناء
السياسيين في األقسام المفتوحة ،وأصبح السجن برميل بارود حقيقي
يوشك على االنفجار في أي لحظة .ولم يستقر الموقف الهائج إلى أن جاء
وفد حكومي عالي المستوى لمعاينة السجن بإيفاد خاص من جهات عالية
في الدولة مفوض ًا بصالحيات واسعة على ما يبدو.
261
من شقوق الظالم
262
من شقوق الظالم
األزمة الذين عاملوا الوفد باحترام كبير وأدب جم مما أعطى الوفد انطباعا
مغاير ًا ،بأن المطالب الحقيقية هي مطالب معيشية فقط لذا قال في الحال،
إن هذه حقوق لكم وليست مطالب وسوف تنفذ على الفور.
توافق حصول هذه األحداث مع قرب انتهاء حرب الخليج األولى وبروز
توجه حكومي نحو تخفيف القبضة الحديدية ،وبدأت إدارة السجن بالفعل
بتنفيذ الوعود الحكومية بسرعة وسمح ألول مرة للسجناء بمواجهة األهل
والحصول على الفرصة من جديد لرؤية شمس غابت علينا آخر مرة قبل
سبع سنين عجاف .اّإل إن اإلذن بالمواجهة كان يسير بإجراءات روتينية مملة
ومضحكة أحيان ًا .كان رجال األمن يروحون ويجيئون ويسألون عن عناوين
سكنى كل واحد منّا ،ثم يقولون :لم نستطع العثور على العنوان الصحيح لربما
تغير سكنهم ،سوف نجري بحث ًا جديد ًا عن أهاليكم وحالما نجدهم سوف يتم
تبليغهم للحضور إلى المواجهة .تكرر هذا االدعاء منهم وكنّا نقابله بمزحة:
لكنكم حين اعتقلتمونا أخرجتمونا من تحت األرض في خمس دقائق.
هنا تدخل قميصي التركي “مراد" الذي جاء معي من المعتقل وأرسلته
مع عائلة أحد السجناء ليبشر أهلي بأني ما أزال حي ًا ،وصل قميصي إلى
متجر والدي الذي تمكن من التعرف عليه وتأكد إني ما زلت على سطح
هذا الكوكب أتنفس الهواء مثله ،وإن كنت أقطن مكان ًا قصي ًا ،واستبشر به
بعد أن بلغ اليأس فيهم منهاه حتى ان والدتي لم تلبس غير اللون األسود
علي ،وعلى العادة البغدادية بالنذور كانت تذهب طيلة سبع سنين حداد ًا َّ
والدتي ماشية حافية كل سبت إلى المشهد المقدس في الكاظمية تسأل
علي من جديد. يوم ًا تشرق الشمس فيه َّ
263
من شقوق الظالم
15
***
في مستهل األسبوع الثاني من بداية الخريف وبعد مرور عام كامل من
انتهاء حرب الخليج األولى ،استقبلنا أهالينا ألول مرة في مواجهة جماعية
عامة ،كانت حدث ًا غريب ًا عاد منه كل سجين بقصة غريبة ومشاهد عجيبة
ومشاعر مختلفة .وجوه اآلخرين مسحت من الذاكرة واستعادتها كانت تشبه
رحلة النواخذة في استخراج اللؤلؤ تحتاج إلى غوص عميق بعدة بدائية.
كنّا كشجرة أصابها جفاف شديد احتواه زمن ممتد بسكونه وظله الكئيب
ما جعله دهر ًا ال ينقضي ،ونست معه طعم الماء .كنّا كذلك بحرماننا من
مشاعر العاطفة والرحمة حتى ظننا أن ليس للبشر شيء منها ،وإنها مثل
خرافات األقدمين .فجأة نزل علينا غيث غزير يكفي ألن تبحر به حتى
سفينة نوح .التعرف على األهل مهمة ليست بيسيرة وتتطلب إعادة ترتيب
السجين لعالمه الداخلي وتعديل ذكريات طغى عليها األلم والغضب
والحزن واألسى ،تعديل أفكار المرء عن نفسه مع مستقبل يقترب منه مهمة
ال يوجد اكثر منها مشقة وال أزيد صعوبة.
كنت واقف ًا أنتظر قدوم أحد ما لمواجهتي في ذلك اليوم عندما أذاعوا
إسمي في سماعة داخلية .لم نكن نعرف من يأتي لمواجهتنا ،فقط نعرف
إنه مسموح لنا بالخروج إلى ساحة المواجهة بعد أن يذاع اسم السجين
لنقف هناك منتظرين قدوم الزوار .دخلت امرأة لم أتعرف عليها ،رأيتها
تتلفت يمين ًا وشماالً تبحث عن الشخص الذي تقصده مما لفت انتباهي،
264
من شقوق الظالم
وبينما هي تدور حائرة بين الوجوه مثلي وصلت قريب ًا جد ًا مني بحيث كان
بإمكاننا فقط لو فقط تستدير باتجاهي لوضعنا عيوننا احدنا بعين اآلخر
مباشرة وأن يسمع كل منّا أنفاس اآلخر في صعودها ونزولها .سمعتها
الي وأنا أواصل النظر اليها مدقق ًا ولم ازل
تسأل أحد السجناء عني ،أشار َّ
غير قادر على التعرف عليها ،ثم سمعتها وهي تفتح عينيها بدهشة لتناديني
باسمي ،حينها فقط اكتشفت إنها تشبه خالتي بل هي خالتي.
لم أتعرف على شقيقي األصغر هو اآلخر ألنه كبر وصار شاب ًا جامعي ًا،
وبدا لي والدي مسن ًا جد ًا قضى معظم الوقت يومها في نوبات بكاء
ينخرط فيها فجأة ،يسبب لي معها اضطرابا شديد ًا يطيش بلبي وأنا انظر
إليه مشدوه ًا مبهوت ًا ال أعرف ما الذي علي فعله لمواجهة هكذا موقف.
في ويرقبون كل حركة تصدر كان أهلي يجلسون قبالي يمعنون النظر َّ
مني ،ولم يخفت توترهم اّإل بعد أن تكررت مواجهتي واطمأنوا لتكرارها
فهدأ روعهم بعد أن أصبحت أمر ًا عادي ًا ،يتكرر كل شهر مرة ثم صار كل
أسبوعين .كثيرون جد ًا من أقاربي تجنبوا الحضور لمواجهتي خوف ًا على
سمعتهم لدى الدولة ،خشية أن يلحقهم أذى محتمل في مستقبل وظائفهم
إن أعلنوا قرابتي منهم ،ولم أعر ذلك اهتمام ًا.
كان معنا في زنزانة المعتقل ضابط برتبة كبيرة كان يعلم إنه محكوم
عليه باإلعدام حتم ًا ولن ينجو من الموت شنق ًا ،كان يقول لشقيقه الخائف
الذي لم يكن له من األمر شيء واعتقل بسبب قرابته منه فقط:
-ال تخف يا أخي الصغير ،سوف تخرج من المعتقل وبعد سنوات
سوف تمشي في األسواق وتقول للناس أنا أخو الشهيد فالن وسوف
265
من شقوق الظالم
266
من شقوق الظالم
هي تبكي شوق ًا ألمومتها التي عجزت لسنوات أن تمنحها لصغيرها وهو
يبكي حنان ًا مفقود ًا .السجناء وبعض من الزوار متحلقون حولهما في مشهد
مفجع .كانوا مثل بندول يتأرجح بين بكاء على حالهما وبين محاولة إلقناع
األم بأن صغيرها قد عاد إليها لكنّه لم يعد يجري وراء الكرة مع الصبيان
في األزقة ،وال يلعب بالكرات الزجاجية الملونة (الدعبل) في الحواري،
ال بالهموم يحمل عذابات لم يقو على تحملها كهلة وشيوخ. غدا شاب ًا مثق ً
ال أنسى يوم ًا كنت أنتظر دخول اهلي وإذا بامرأة تبكي تقترب مني
وتسألني عن فالن وفالن وفالن وفالن وفالن ،نعم خمسة ال أعرفهم وال
سمعت بأسمائهم من قبل ،سألتها:
-من هؤالء يا أماه؟.
قالت وهي تولول والدموع تغسل وجها من غبار الزمن.
-ابنائي الخمسة ،لما سمعت إنكم في مواجهة قلت البد أن يكونوا
معكم فهل تعرفهم يا ولدي؟.
افترشت التراب تبكي وأنا اقف على رأسها أنقل لها أسوأ خبر يمكن
نحرت آخر آمالها على التراب بين قدميها
ُ أن تسمعه ،أن ال أحد منهم هنا.
وهي تهيله على رأسها وتولول:
-إلى أين أذهب حتى أعثر عليهم يا أماه.
كان خليق ًا بي أن اهدئ من روعها وأن ال أوصد األبواب أمامها ،لكني
فعلت عكس ذلك بحماقة ،أو كأنما الموت صار خبر ًا عادي ًا عندي ولم
أي جحيم صببته بكلماتي على رأسها المتشح بالسواد كما هي سائر أدرك ّ
267
من شقوق الظالم
268
من شقوق الظالم
السجن وعن طعامه اّإل بحدود الخبز اليومي وبعض الوجبات اليومية التي
لم يكن سه ً
ال إعدادها.
أتيحت لنا الفرصة الكاملة إلعداد الطعام واستخدام معدات الطبخ
كاملة من مواقد بسيطة لكنّها تفي بالغرض المطلوب .صار صوت
السجناء قوي ًا عالي ًا حتى إنهم فرضوا على األمن إخراج خائن من األقسام
بعد انكشاف وشاية قام بها لإليقاع بمجموعة من السجناء ،رضخ األمن
لمطلب السجناء خشية تجدد المواجهة معهم من جديد.
ال يحتمي برجال األمن وسط كان يوم ًا مشهود ًا إذ وقف الخائن ذلي ً
صيحات غضب وهياج عارم من السجناء ،فيما كان اكبر ضابط مسؤول
عن السجن يدور بين األقسام باذالً اقصى جهد عنده ،يقفز بين المكر حين ًا
وممارسة المرونة واللين حين ًا آخر لمفاوضة السجناء وإقناعهم بقبول هذا
ال ذريع ًا في الحصول الخائن في أحد األقسام .اّإل إنه لم يفلح وفشل فش ً
أي قسم على قبول هذا الخائن المنبوذ ،مما اضطره إلى على الموافقة من ّ
أخذه إلى مكان منعزل .الرفض الجماعي واإلصرار الشديد على لفظ
الخونة الوشاة بعيد ًا عنهم صار درس ًا قاسي ًا وعبرة كبيرة لم يجرؤ أحد
بعدها من الخونة والضعفاء على اللجوء إلى الوشاية أو للتعامل العلني بل
وال حتى السري مع األمن.
صارت الفرصة مواتية لكل شيء حتى لممارسة أنشطة رياضية وإقامة
مباريات دورية في كرة القدم المصغرة ،إذ لم يكن هناك من ملعب حقيقي
يصلح ل ّلعب فيه بل وال توجد حتى قطعة أرض تصلح لذلك .الحصول
على الكتب من خالل المواجهات صار ممكن ًا ،بل تمكن كثير من األهالي
269
من شقوق الظالم
270
من شقوق الظالم
16
***
استيقظنا صباح يوم من صيف الهب بأحداثه على خبر مفاجئ تنقله
محطات اإلذاعات األجنبية والمحلية وهي تتحدث عن اقتحام الكويت
وغزوها الشهير من قبل القوات العراقية .وبينا كنّا نستمع طوال الوقت بلهفة
إلى نشرات األنباء وتطورات األحداث المتسارعة عبر الراديو ،وإذا بأوامر
طارئة تصدر إلينا على عجل تطلب منّا إخالء القسم (ق )3بالحال والتوجه
فور ًا إلى األقسام التي كنا فيها سابق ًا .وفي أقل من ساعة واحدة تم إخالء
القسم ليحل محلنا فيه سجناء جدد من طراز خاص ،لم تتبين لنا هويتهم
في بادئ األمر وأصابنا فضول كبير لمعرفة القادمين الجدد لتزامنه مع غزو
الكويت مما ولد فينا رغبة كبيرة الكتشاف هذا التالزم بين الحدثين.
(ق )3باألصل عائد لجهاز المخابرات المختص بالقضايا الخارجية
وسكانه من المحتجزين على حساب قضايا تهم جهاز المخابرات وليس
مديريات األمن الداخلي ،ونحن إنما وضعنا فيه سابقا لشغوره وعدم حاجة
قسم المخابرات له ،الذي كان يدير قسم ًا مجاور ًا له ويشبهه في التصميم
بالضبط .لم نكن نملك أي فكرة عن المعتقلين في هذين القسمين ألنهما
ألي أحد بالتدخل
كانا تحت رعاية حصرية من المخابرات وال يسمح ّ
فيه حتى لو كان من األمن أو ادارة السجن وفي حاالت خاصة يستعينون
بسجناء محددين للقيام ببعض التصليحات الفنية الطارئة وسط إجراءات
أمنية مشددة .لذلك اتجهت توقعاتنا إلى سجناء من طراز خاص وكان
حدسنا في محله عززه سماعنا ألصوات متباينة تكشف عن تنوع في
271
من شقوق الظالم
نك متأكدين مما نسمعه بشكل قاطع اّإل إنه ولداألجناس واألعمار ،ولم ُ
عندنا شكوك ًا قوية استنادا إلى خبرتنا التي صارت كبيرة اآلن بعد هذه المدة
الطويلة في السجن وتعاملنا مع ظروف وأحداث مختلفة .أن يكون هؤالء
السجناء من العوائل أمر ليس بغريب فقد حصل هذا في السابق حين اعتقل
النظام عوائل بأكملها من مدن وقرى في العراق مثل َبلد والدجيل وقرى
كردية كثيرة .غير إن ملف اعتقال العوائل تم تصفيته بإطالق سراح المتبقين
ٍ
باعداد غفيرة منهم وعثر على رفاتهم بعد عقود في منهم بعد أن نفذ اإلعدام
مقابر جماعية فيما ظل قسم آخر في عداد المجهول .ووصلت أخبار هذه
العوائل إلينا من شيبة وشباب بل وحتى أطفال نقلوا إلى أقسامنا كسجناء
بعد أن صدرت بحقهم أحكام ًا بالسجن لمنع عودتهم إلى مدنهم وقراهم.
ومن خالل المواجهات تأكد لنا نبأ إغالق هذا الملف كامالً.
إذا لم يكونوا من هؤالء فمن يكونوا إذن هؤالء السجناء الجدد؟ صرنا
بأي وسيلة وبعد عدة أسابيع أستدعى جهاز نتلصص ونجمع األخبار عنهم ّ
المخابرات سجين ًا من األقسام المغلقة اسمه (ح.گ ).من سكنة محافظة
البصرة وطلب منه القيام بتصليحات فنية طارئة وحذره رجال المخابرات
ألي سبب كان ،وبحسب من الكالم أو إجراء أي حديث مع السجناء الجدد ّ
شهادته التي سمعتها شخصي ًا منه وتأكدت منها حتى بعد خروجنا من
السجن ،إنه حين دخل هذا القسم رآه يشبه (ق )3اّإل إن الزنزانات بدل أن
تكون واجهتها من القضبان كما هي العادة وجد إن هذه القضبان قد أغلقت
بصفيحة حديدية تمنع رؤية من في داخل الزنزانة ،ولكن ألن عمله كان
داخل الزنزانات فقد استطاع رؤية السجناء وهم يخرجون منها ويوضعون
272
من شقوق الظالم
في الممر الوسطي بينما يقوم هو بأعماله من تصليحات .يقول رأيتهم جميع ًا
من الشباب وكلهم يرتدون زي السجن الكانة باللونين الرصاصي واألحمر
وإن األغلب فيه الرصاصي ومن لهجتهم عرفت أنهم كويتيون وسمعتهم
يتحدثون بينهم وكان بعضهم قد بلغ به اليأس واإلحباط حد ًا كبير ًا بسبب
المعاملة السيئة ويتحدث عن بقائه إلى آخر عمره في هذا السجن.
لم يستطع (ح.گ ).تبادل أي حديث معهم ولكن استرق السمع لكل
حديث كان يجري بالقرب منه باهتمام وعلم أنهم أسرى كويتيون وإن لم
يستطع تحديد وظائفهم .وأغرب ما لفت انتباهه هو غرفة صغيرة أوسع من
باقي الزنزانات كان فيها أسرى لم يسمح له برؤيتهم ويبدو إن لهم خصوصية
ما ،إما لوظائف عالية أو وجاهة اجتماعية كبيرة ولكن تبقى هذه تخمينات
فقط .عدد األسرى في هذا القسم بحسب التقديرات غير الدقيقة بالطبع ال
تقل عن مائة شخص وربما يكون العدد ضعف ذلك إذ لم يتسن له معرفة
العدد الحقيقي في كل زنزانة ولكن لو طبقنا ظروفنا نفسها في (ق )3لربما
يصل العدد إلى مئة وستين شخصا شخص أو حتى مئتي شخص.
أما (ق )3الذي ُأخلينا منه فقد جاء إليه أسرى كويتيون ولكن من نوع آخر
وأيض ًا عن طريق العمال الفنيين حصلت على شهادة مباشرة إذ دخل إليهم
سجينان من القومية التركمانية (أ.ف ).و(أ.ص ).للقيام بإصالح أعطال
كهربائية وحين دخال اغلقت أعينهم ولكنهم قالوا للعنصر المخابراتي
أنه البد من السماح لهم بالرؤية اّ
وإل فإنهما ال يستطيعان أداء عملهما،
أي حديث مع السجناء .قاال بحسب شهادتهما إن فحذرهما من اجراء ّ
الموجودين كانوا من األسرى الكويتيين وتبين ذلك من زيهم الخليجي
273
من شقوق الظالم
وقد شاهدا نسا ًء خليجيات بزي محتشم بأردية طويلة وغطاء رأس وبينهن
أطفال بعمر يتراوح بين العشر سنوات واألربعة عشر سنة تقريب ًا وربما أقل
بقليل أو أكثر وألنها مشاهدات سريعة فلم يمكن التحقق من تفاصيلها جيد ًا
خصوص ًا مع التحذيرات األمنية .كان بين األسرى شباب في العشرينات
من العمر ورجال بأعمار متوسطة .تقديرات األعداد تكاد تكون مقاربة لما
تم توقعه عن أعداد األسرى في القسم اآلخر الذي تحدثت عنه للتو .وبذا
يمكن الحديث عن أربعمائة أسير كويتي كحد أعلى تم احتجازه في هذين
القسمين وتبقى هذه تخمينات وليست أرقاما تقريبية.
بعد عدة أسابيع ومع بدء العمليات الحربية وتراجع القوات العراقية
أمام الضربات العسكرية سمح لألسرى الموجودين في (ق )3بالخروج
إلى ساحة جانبية في القسم للتمشي أو لممارسة العاب رياضية ،وطبع ًا من
الممكن أن يكون قد حصل األمر نفسه لألسرى في القسم اآلخر اّإل إنه لم
تتوفر لنا فرصة للتأكد من ذلك.
صارت أصواتهم واضحة لكل أحد وقطعت كل شك وصار األمر
جلي ًا للجميع ،إنهم عوائل كويتية محتجزة .استرقنا النظر من خالل فتحات
صغيرة في ممر السجن الكبير المالصق للساحة الصغيرة حيث كان
يسمح لهم بالتمشي ،وكنّا نقف هناك بحجة االتكاء على الحائط ونتظاهر
باالنهماك في حديث طويل بينما في حقيقة األمر كنّا نواري زمي ً
ال لنا
يجلس إلى جوار فتحة صغيرة تقع أسفل الجدار الفاصل بينه وبين ساحة
القسم يمر من خاللها أنبوب ماء ،وكنّا نحفظ مكانها جيد ًا ألننا سبق وان
سكنا في هذا القسم قبل فترة وجيزة .التواصل كان صعب ًا جد ًا ،أوالً خشية
274
من شقوق الظالم
275
من شقوق الظالم
276
من شقوق الظالم
17
***
أمر إخالئنا كان من األحداث الغريبة جد ًا ،إذ إننا لم نجد مكان ًا نأوي اليه
حتى في السجن ،سكان الزنزانات لم يعودوا يتقبلوا فكرة زيادة األعداد من
جديد بعد فترة االزدهار التي شهدها السجن مؤخر ًا ..كنت أقول ونفسي،
ها نحن صرنا تائهين في أول تبعة لهذا الغزو ولم نعد نعرف أين نأكل وال
أين ننام ،حياتنا انقلبت إلى فوضى في نصف ساعة وانتهى االزدهار الذي
تنعمنا به لعام واحد فقط وكنا نأمل بأن عهده قد بدأ ليستمر طويالً ،لننحدر
سريع ًا في حالة عكسية من التشرد والضياع فكيف أصبح حال الكويتيين
اآلن وأحسست حينها بمعاناة الغزو الذي تعرضوا له.
ال أريد وال أحب أن أكتب عن كل أمر حصل في السجن ،وال أن
أصف كل زاوية وحجر فيه وإن كان التأريخ يلزمني بذلك ،ألن استرجاع
األحداث يرهقني ليس في تذكرها وحسب لكن في مرارتها ،وألني أيض ًا
لست بمؤرخ وغايتي التنبيه لتلك الوقائع ال سردها بالكامل ،وإال لو كان
األمر غير ما ذكرت ولو كتبت عن كل شاردة وورادة وكلها تستحق ذلك
ألحتاج األمر مني إلى اكثر من مجلد ضخم بمئات الصفحات ولربما أكثر
من ذلك .كل ما في السجن كان قصة لوحده ،وكل يوم فيه يصلح أن تؤلف
عنه رواية بل لو قلت إن بعض المواقف وحدها التي لم تدم سوى دقائق
يستحق أن يكون رواية كبيرة أو فيلما سينمائي ًا مشوق ًا لما جاوزت الواقع
قدر أنملة .أترك هذا لخيال لمؤلفي الدراما ومبدعيها ولكتاب السينما
والمسرح الجاد.
277
من شقوق الظالم
سوف أقدم وصف ًا مختصر ًا لحالة االزدهار التي عشناها لسنة تقريب ًا،
من خالل هذه الزنزانة التي أصبح لكل واحد منا فيها له بطانيته الخاصة،
وصار من الممكن أن يستحم أحدنا في كل يوم تقريبا وحتى حصلنا على
مبردة هواء صغيرة جلبها أهلي لي ،ألننا لم نكن نملك مروحة هوائية في
هذه الزنزانات الصغيرة كما كان في الزنزانات الكبيرة .وصار عندي مكتبة
خاصة صغيرة مؤلفة من عدة كتب ورجعت إلى مطالعة الروايات وكتب
أخرى كانت تقع بيدي من سجناء آخرين كنت أتبادل الكتب معهم أو
استعيرها منهم .أحتفظ بأوراقي الخاصة في كراس وأدون عليه أفكاري
وحصلت على مذياع صغير خاص بي حرصت على االستماع عبره
بشكل منفرد وباهتمام كبير لكثير من البرامج السياسية والثقافية ونشرات
األخبار .اّإل إن هذا كله انهار في ساعة الغزو وأصبحت أجرجر أغراضي
وأدور بها مثل متشرد هائم على وجهه ليس له من مأوى يركن إليه وال
مضجع يستلقي فيه ،وكان من الغريب أن تظهر نوازع أنانية عند عدد من
السجناء الذين رفضوا التخلي عن وضعهم المريح نسبي ًا بسبب التحسن
األخير الذي طال الجميع ،لم يرضوا باستقبالنا أو السكن معهم من جديد
في الزنزانات وتقاسم المحنة المؤقتة ،صرنا ندور تائهين حيارى يبحث
كل واحد منّا عن مأوى يبات فيه ليلته أو يجد موضع ًا يركن إليه مع عفشه
المتواضع .لم نجد من بد بعد أن وصلنا إلى آخر النهار اّإل أن نتجمع في
ساحة شبه مفتوحة في أحد األقسام ،ونقضي ليلتنا هناك بل ليلتين وثالث
نهارات كاملة إلى أن فتح قسم جديد احتوانا واحتوى درس ًا جديد ًا عن
عيوب نفس أزاحت الستار عنها ريح خفيفة للغاية.
278
من شقوق الظالم
18
***
مع اندالع حرب الخليج الثانية ،تزعزع األمن وغابت الخدمات العامة
بشكل شبه تام عن سائر البلد بسبب ضربات جوية عنيفة وقاسية تعرض لها
البلد ،وفي هذا الوضع بدأت أفكار الهروب تراود السجناء وصار بعض
منهم يخطط لذلك بشكل متكتم عليه بشدة بالغة .وتمكن بعضهم من
اختراق األسوار العالية وعبور خنادق تحيط بالسجن مملوءة بمياه آسنة
وتجاوز أسالك شائكة مكهربة فقدت كثيرا من مناعتها وحصانتها مع ضياع
الطاقة الكهربائية بسبب استهداف محطات الطاقة من قبل قوات التحالف
األمريكي-العربي الذي شن هجوم ًا مدمر ًا على كل المرافق الحيوية
المدنية في البلد في خطوة لم نفهمها وقتها وكانت موضع تساؤل كبير ،إذ
لم يكن الربط بينها وبين تحرير الكويت ممكن ًا أبد ًا وال مفهوما.
أول حوادث الهروب من السجن الرهيب والمحصن جيد ًا كانت من
األقسام المغلقة ،في عملية جريئة هرب شخصان كان لهما خصوصية
ومحسوبان على األقسام المغلقة ،وإن كانا بالحقيقية ليسا من السجناء بل
من المحتجزين دون توجيه تهمة لهما .مثل هؤالء المحتجزين كان يوجد
اآلالف منهم بل عشرات اآلالف في أماكن شتى من البلد ،سمعت قصص ًا
رهيبة عن مواقع االحتجاز هذه التي تقع في الصحراء في جنوب العراق
وعن المعاملة القاسية للعوائل من نساء وأطفال وكيف كان يتم كل فترة
بشكل دوري اختطاف مجموعة منهم بال تمييز ليساقوا إلى مقابر جماعية
سوف يتم اكتشافها كل حين في سنوات طويلة الحقة وسط صمت وال
279
من شقوق الظالم
280
من شقوق الظالم
وآخر يجلس تحت شمس الصباح الباردة يقرأ كتاب ًا ،ويتجمع آخرون في
حلقات حوار ودردشة وآخرون ينهمكون في صناعة أشياء يدوية وآخرون
يقفون وحدهم كأنهم جثث هامدة تنتظر الدفن.
منشغل بعالمه الخاص وإذا بصوتٌ في ذاك الصباح وبينما الكل
لتعداد على عجل وإخالء الساحات والدخول إلى األقسام ٍ الحرس ينادي
فور ًا .شهد السجن حركة غير عادية وضوضاء وجلبة من الحرس حتى بعد
أن تم التعداد االستثنائي غير مفهوم األسبابُ ،اقفلت األبواب في خطوة
غير مفهومة إلى ان انجلت الغبرة بعدها لنكتشف إن مجموعة من السجناء
قد هربت ،اثنان من األقسام المغلقة وآخران من األقسام المفتوحة .تم
اكتشاف ذلك بعد أن أبلغ نزالء الزنزانة إدارة السجن عن اختفائهما من ليل
البارحة وكانوا يظنون إنهما يبيتان في زنزانة أخرى مع أصدقاء لهم ،ألن
أبواب الزنزانات كانت مفتوحة طوال النهار والمبيت يحصل أحيانا رغم
أنه لم يكن مسموحا به.
هذا الهروب الجريء فتح بوابة الهروب أمام آخرين وكسر حاجز ًا نفسي ًا
مهم ًا ،وكشف عن ضعف الدولة وقتئذ ،وبالفعل نجح أكثر من شخص
بالهروب بعدها .بعض محاوالت الهروب كانت مغامرة شيقة تصلح ألن
تكون فيلم حركة مثير على الطريقة الهوليودية .ومنها حادثة مثيرة حصلت
بعد تزايد حاالت الهروب من خالل إحداث فتحات في السور الداخلي
بعدئذ من فوق السجن الخارجي بتسلقه بواسطة حبال ٍ للسجن ،والعبور
تصنع داخلي ًا بطريقة محترفة ،لذلك قامت اإلدارة بتعزيز الحراسة على
أبراج المراقبة وعلى األسوار الخارجية بعناية كبيرة ،وأصبح العبور على
281
من شقوق الظالم
282
من شقوق الظالم
والوصول إلى مفاتيح السجن وفتح األبواب أمام جميع السجناء ،اّإل إن
الفكرة ألغيت بعد ذلك لتسرب نية الهروب إلى ادارة السجن فأحبطت
العملية .تراجع منظمو هذه المحاولة عنها في اللحظة األخيرة لحسن
الحظ ،ألنها كانت تحمل كثيرا من العشوائية واالرتجال وكان يمكن أن
تؤدي إلى مجزرة حقيقية إال أني وبصراحة كنت متحمس ًا لها في ساعتها.
إحباط هذه العملية لم يوقف مزيد ًا من عمليات هروب فردية وأحيان ًا
بعض منها تم في أيام المواجهة حيث استطاع بعض لمجموعات صغيرةٌ .
السجناء الهرب باستنساخ أثر ختم كان يوضع على ذراع كل زائر ،يقوم
السجين الهارب بوضع ذراعه على أثر الختم وينقله إلى ذراعه بعد معالجة
فنية ويخرج مع أول طالئع المغادرين من العوائل الزائرة ألبنائها ،موهم ًا
ال بعد ترتيب الحرس إنه زائر ويقدم نفسه باسم زائر دخل إلى السجن فع ً
بطاقة تعريفية له ،ثم يخرج الزائر الحقيقي في وقت الحق مع بطاقة تعريف
شخصية يحملها مضاف ًا إلى الختم الحقيقي الموشوم على ذراعه .لم تكن
تساور حراس السجن الشكوك بعبور سجين باسم زائر حتى إن اكتشف
خروج االسم نفسه مسبق ًا بالرجوع الى قوائم الزوار ويتم التغاضي عن
هذا التكرار على إنه خطأ اداري ويمر الموضوع وسط الفوضى التي كانت
تعم البلد والسجن حينها بسبب ظروف حرب الخليج الثانية واالنفالت
اإلداري واألمني .لم تكشف هذه الطريقة اّإل بعد تكررها وإلقاء القبض
على أحدهم بعد أن شك أحد الحرس بهوية السجين المتخفي المرتبك
وهو يرتدي ز ّي ًا غريب ًا محاوالً إخفاء مالمحه وحاول الفرار من الحارس
الذي استوقفه في محاولة يائسة ،ليلقى القبض عليه وتتوقف سلسلة
283
من شقوق الظالم
284
من شقوق الظالم
19
***
ساد التفاؤل كثير ًا وبدا إننا نعيش العام األخير في السجن وعمر النظام،
خصوص ًا مع اندالع انتفاضة شعبية كبيرة شملت معظم أرجاء البلد ،عززها
فقدان السيطرة الحكومية على أربعة عشر محافظة من أصل ثمانية عشر
بعد هزيمة قاسية مذلة للجيش في حرب الخليج الثانية كلفت البلد آالف
الضحايا من الجنود والمدنيين وخسائر مادية هائلة .تُوج كل هذا التهاوي
لسلطة وهيبة النظام ،باستسالم ٍ
مخز لقيادة طالما تبجحت بقدراتها الحربية
الفارغة وبكبرياء أجوف ،وجلست في اآلخر راضخة مستسلمة لكل
شروط الغزاة في خيمة صفوان الشهيرة .كانت تصلنا األخبار عبر أجهزة
الراديو التي شاع وجودها بين السجناء حتى بعلم سلطات السجن وإن بغير
رضاها ،وبدا إن عملية غزو الكويت قوضت النظام تمام ًا ولم تعد المسألة
سوى مسألة وقت قصير لسقوط حتمي لهذا النظام الهمجي العبثي.
تغير سلوك إدارة السجن تجاه السجناء بشكل كامل ،وصار ودي ًا جد ًا
لكنه مرتبك أيض ًا ،فمع إنهم ظلوا يمارسون دورهم الرسمي بإدارة السجن
وتنظيم أموره وفق التعليمات العامة ،اّإل انهم بدأوا يهابون السجناء بشكل
أي مظاهر عدائية حتى مع صدور مخالفات جدية جدي ويتجنبون إبداء ّ
حقيقية .هذه المخالفات لو صدرت في وقت سابق ولو بمقدار عشر معشارها
لكانت العواقب ال تحتمل ،أما اآلن فتمر بسالم وكأنه لم يحدث شيء .صار
الحرس يتوددون للسجناء وسط إيمان من الكل من سجين وسجان إن هذه
الحرب هي نهاية النظام الفعلية ،وإنها دقت آخر مسمار في نعشه وسوف
285
من شقوق الظالم
يحمل إلى مزبلة التاريخ مقبرته ومقامه الالئق به في وقت قريب جد ًا ،وما
على الكل سوى قليل من الصبر لحضور مراسم الدفن الرسمية.
خالل أيام الحرب كنّا نسمع صوت االنفجارات المرعب من الطائرات
والصواريخ األمريكية وهي تدك العاصمة ،عبر فتحات شبابيك علوية
في أحد األقسام الجديدة ،كنّا نرى لهب نيران االنفجارات الهائلة تضيء
السماء وتزيدنا قلقا لما يحصل بالبلد ،مع مخاوف جدية من احتمال
تعرض السجن هو اآلخر لضربة جوية مماثلة لهذه الضربات لكونه يقع في
منطقة عسكرية (معسكر ابو غريب) .وبالفعل سمعنا في إحدى األمسيات
أصوات انفجارات قريبة جد ًا أرعبتنا لشدتها ولهول قوتها ،بل رأينا
صواريخ كروز أمريكية تتجه إلى أهدافها وال أحد يقدر على اعتراضها من
الدفاعات الجوية وتعبر بسالم من فوق السجن وعلى ارتفاعات منخفضة
جد ًا ،بحيث كان باإلمكان أن نرى كل تفاصيلها بسهولة وكأنها من شدة
انخفاضها طائرة تستعد للهبوط في مدرج مطار قريب.
في إحدى النهارات وبينما كنا في ساحة السجن الخارجية مرت من فوقنا
ثالثة من هذه الصواريخ ،وحاول حارس في أحد أبراج المراقبة أن يطلق
الرصاص عليها ظن ًا منه إنه قادر على إسقاطها ،فهب عليه السجناء بصراخ
جماعي يوبخوه خشية أن يغير الصاروخ اتجاهه وينفجر فوق السجن.
بالطبع هذا االحتجاج لم يكن عن دراية وال عن علم بهذه الصواريخ
وال بالشؤون العسكرية ،ألنه ال يوجد أحد من السجناء يملك معلومات
عسكرية حقيقية بمستوى محترف اّإل اشخاص قلة ال يتجاوز عددهم
أصابع اليد الواحدة وهناك شكوك جدية في اطالعهم على معلومات
286
من شقوق الظالم
تخص أسلحة متطورة كالتي نتحدث عنها .هذا االحتجاج كان يعبر عن
حالة الضعف المتردي التي بلغها النظام واألمن في السجن بحيث صار
السجناء ال يهابون أحد ًا من رجاله ،وباألحرى صار الحرس هم من يهابون
السجناء .لم تكن هذه الحادثة هي المرة الوحيدة التي عرت وكشفت هذا
التردي األمني في حراسة السجن والسيطرة عليه ،ففي يوم وفي عز الظهيرة
هرب أحد سجناء األقسام المفتوحة من فتحة صنعها في السور الخارجي
للسجن ،واكتشف حركته أو باألحرى اشتبه أحد حراس أبراج المراقبة
بوجود حركة مريبة بين األحراش واألدغال المحيطة بالسجن فبدأ يطلق
النار عليها ،فما كان من السجناء اّإل أن بدأوا بالصراخ عليه وهو يحاول
أن يفسر لهم ما يحدث ،وهم يردون عليه بكلمات هي أقرب للتهديد من
النصح ،كانوا يقولون له:
-أخي ،ال تورط نفسك! قد يكون هذا السجين الذي تدعي هروبه في
مرمى طلقاتك وينال إصابة قاتلة منك.
-إذا تعرض للموت ماذا سيكون ردك؟.
-هذا السجين حتم ًا وراءه من سوف يطالبك بدمه لو حصل مكروه له.
لم تكن هذه الحالة المنفلتة في السجن فقط ،بل في عموم البلد ،وكنّا
نراها ونسمعها في أحاديث الزوار وعلى وجوه أهالينا الذين نلتقيهم أيام
المواجهة حينئذ .موجة التفاؤل الكبيرة بانهيار النظام في العاجل القريب
كانت طاغية على كل شيء .مع إني كنت ضمن قالئل ينظرون بسلبية لدور
القوات األمريكية وهجماتها على البلد ولم أكن أرجو خير ًا منهم ،وما
287
من شقوق الظالم
زلت مواظبا على عدم الثقة بسياسة أمريكا وأعدها ُا ّس البالء في العالم كله
وليس في منطقة الشرق األوسط وحسب ،وعندما أقول من ضمن قالئل
بأي طريقة،ألن الجو السائد كان خالف ذلك وكان يتمنى سقوط النظام ّ
حتى إنه في أحد األيام وبعد نقاش عن هذه الحرب وجه أحدهم لي كلمة
فيها تشكيك بأصل معارضتي للحكم الفاشي .كانت لحظة عابرة لم تؤثر
على عالقتي الشخصية مع هذا الصديق أبد ًا وما زلت أحتفظ بصداقته حتى
هذه اللحظة وال أظن سوف يصيبها شيء في المستقبل سوى مزيد ًا من
عرى الوثاقة ،لكنها كانت مؤشر ًا مهم ًا على إن المعارضة السياسية ينبغي
عليها أن توسع افقها وتتخلى عن خصوماتها الشخصية ،وان تجعل غايتها
إرساء المبادئ الحقة واهدافها في خدمة شعبها بوسائل صحيحة أخالقي ًا،
وأن تكون هذه األخالقيات هي المرشد والدليل القائد في جميع مواقفها
السياسية وال تسير وراء دوافع ذاتية وال خلف مشاعر االنتقام الشخصي.
سبيل االنتقام الشخصي األناني رغم كل األعذار التي تساق لتبريره
سوف يبقي الشعوب في تيه ال تجد منه مخرج ًا وتظل تدور في حلقة
معبأة بالكوارث والفتن وفي النهاية يضيع الشعب كله وإن كان معه بطل
عبوره موسى النبي نفسه ولن يجد لهما أحد من أثر سوى حكايا قديمة
تصلح للتسلية وللغارقين في أحالم لن يتحقق منها شيئ لتغدو بطول أمدها
كابوس ًا سرمدي ًا مزعج ًا.
بيد إن األمور جرت خالف كل التوقعات واستعاد النظام سيطرته على
أجزاء كبيرة من البلد وبدأ بحملة قمع شديدة ،مماثلة تقريب ًا في قسوتها
لحملة مشابهة جرت في السنوات األولى للحرب ،لكن هذه المرة لم
288
من شقوق الظالم
تستغرق هذه الحملة سوى أشهر قليلة ومع ذلك خلفت آالم ًا عظيمة
وضحايا بأرقام مرعبة .وبعد أن أخذ النظام تفويض ًا غير علني من القوات
األمريكية بقمع االنتفاضة الشعبية بالسماح له باستخدام الطيران العمودي
واطمأن إلى أن هذه الحملة العسكرية الجبارة التي دمرت كل شيء في
البلد لن تستهدف السلطة القمعية ورأسها ،بدأ عملية استرجاع النظام
لسيطرته الكاملة على معظم المدن التي انشقت عنه في عمليات عسكرية
وحشية خلفت رعب ًا عظيم ًا وفزع ًا كبير ًا بين الشعب ،وموت ًا انتشر في
صحاري وسهوب ووديان وجبال الوطن الذي تحول إلى محرقة ومقبرة
هائلة .حينئذ انقلب التفاؤل الكبير الذي كان يظهر على وجوه السجناء
وفي كلماتهم إلى تشاؤم أكبر منه.
في صباح يوم وبينما كان السجناء في األقسام المفتوحة يتجولون في
ساحة كبيرة مخصصة لهم بحجم مساحة ملعب كرة القدم ،صعد على
سطح السجن رجال مسلحون ببنادق قنص وصدر أمر لجميع السجناء
بواسطة مكبرات صوت يدعوهم إلى الدخول فور ًا إلى األقسام ،وحذر
بأن من يتخلف عن االستجابة الفورية يعرض نفسه لخطر الموت .كان
ِ
حي
ب بها وفوجئ السجناء برصاص ّ طلب ًا يستحيل تنفيذه بالسرعة التي ُطل َ
يوجه لهم من قناصة متهيئين لعملية قتل عشوائي مما أردى بعضهم في
الحال ،وهام السجناء يجرون في كل االتجاهات ال يعرفون أين يختبئون
وال بمن يستجيرون .ثم بدأ هجوم كبير عليهم من قوات أخرى كانت على
أهبة االستعداد ومتهيئة للقيام بعملية انتقام كبيرة ،وعاد الرعب من جديد
يخيم بمشاهد التعذيب االنتقامي والقسوة المفرطة.
289
من شقوق الظالم
استمر الحال هكذا لعدة أسابيع ،رعب وخوف يطبق على األنفاس وفي
الليل تشن غارات أمنية على السجن من قبل قوات أمنية ال ُي ْع َرف لصالح
أي جهة أمنية تعمل ،وفي كل مرة كان يتم اختطاف مجموعة من السجناء ّ
المعروفين بنشاطهم العام ،مجموعة تلو األخرى واقتيدوا إلى معسكر
الرضوانية حيث جرت فيه تصفية المعارضة المنتفضة وهناك اختفوا إلى
أي أثر لهم بعد ذلك الى يومنا هذا.
األبد ،ولم يعثر على ّ
كان تنفيذ االعتقال يتم بطريقة تدخل الهلع والفزع في قلوب السجناء
ويطبق صمت كامل حين تدخل مجموعة من الجالدين ليبدأ أحدهم بقراءة
مجموعة من أسماء سجناء مطلوبين ثم يقتادوهم مكبلين معصوبي األعين
في اعتقال جديد .وسمعنا فيما بعد وقت ليس بالقصير قصص ًا مرعبة عن
تصفية المتهمين بالمشاركة في االنتفاضة الشعبية وآخرين كانوا في معسكر
الموت هذا ،بعد أن عاد بعض السجناء أحياء من هذا المعسكر الرهيب.
كما سمعنا تفاصيل عن حوادث قتل عشوائي كانت تجري بإشراف أكبر
الشخصيات المتحكمة بزمام الحكم في البلد ،ومنها هذه القصة التي
أنقلها بإيجاز مخل لقسوتها.
أحد اركان النظام (ح.ك) كان يشرف شخصي ًا على عمليات التعذيب
وهو شخص مشهور بقسوته وشغل مناصب ًا حكومية رفيعة ،وقف على
رأس مجموعة معتقلين في هذا المعسكر وبعد أن تعرضوا لحملة تعذيب
في تحقيق وحشي أمام عينه ،طلب منهم بأن يديروا ظهورهم له ويسيروا
قائ ً
ال لهم:
-سوف أطلق الرصاص ،ومن تصيبه الرصاصة ويموت فهو مجرم
290
من شقوق الظالم
خائن.
وبدأ يصطادهم واحد ًا تلو اآلخر بمسدسه الشخصي ولم ينج منهم اّإل
قليل حالفه الحظ وقتها ،لكن القاتل لم ينج ،فبعد أعوام قليلة فقط ذبح هو
وشقيقه ووالده وهدم داره من قبل نفس النظام وبأمر مباشر من سيده الذي
اتبعه كالكلب الوفي طوال عمره.
سمعنا بهذه القصص المرعبة بعد وقت طويل ،ألن من كان يعود من
هذا المعسكر يعود صامت ًا ال ينبس ببنت شفة عن سبب اختطافه واحتجازه
في هذا المعسكر الرهيب وال يتحدث عما جرى هناك ،بل يرجع مق ً
ال إلى
حد كبير في أحاديثه الخاصة والعامة ،وال يتكلم اّإل بحدود الحاجة .كان
يبدو واضح ًا إن العائدين من هذا المعسكر الرهيب تعرضوا لصدمة نفسية
هائلة ،أفقدتهم القدرة على النطق وأزاحت الثقة منهم بكل أحد ،لذلك
لم يجدوا من يبثوا إليه حزن تلك الصور الرهيبة التي شهدوها ،واختاروا
االنطواء واالنعزال والتقوقع في مشهد كان يثير الرعب فينا ،وربما حتى
أكثر مما كان في تلك الصور نفسها من قسوة ،وهكذا يفعل الرعب
والخوف بصاحبه.
291
من شقوق الظالم
20
***
بعد مرور عدة أسابيع وبعد أن اخمدت االنتفاضة تمام ًا ،توقفت هذه
اإلجراءات القاسية ،وبدا أيض ًا إن النظام أضحى واقع ًا تحت ضغط دولي
كبير لإلفراج عن السجناء السياسيين في جملة ضغوط واسعة مورست
لتجريده من قوته ،بل تجريد البلد من كل شيء في مخطط كبير وعميق
لهدم الدولة العراقية بالكامل ،والسير بها وئيد ًا نحو مرحلة الدولة الفاشلة
في عملية طويلة استغرقت عقود ًا .حاول النظام تفادي الضغط ،وفي خطوة
ترضية وتهدئة شعبية ودولية في الوقت عينه ،أصدر عفو ًا عام ًا عن السجناء
السياسيين بمناسبة يوم ميالد الطاغية ،الذي كان يحتفل به رغم كل الهزائم
والجراح والجوع والموت المنتشر في أرجاء البالد .اّإل انه وبرغم كل هذه
الضغوط لم يطلق سراحنا كما هي العادة في كل عفو كان يعلن عنه طوال
عقد الثمانينات ،واكتفى باطالق سراح السجناء السياسيين من األقسام
المفتوحة فقط .ورغم مرور عدة أشهر على وعوده بإطالق سراح كل
أي بوادر على ذلك ،وصرنا نظن إننا سوف السجناء السياسيين لم تظهر ّ
نواصل حياة السجن كالمرات السابقة حتى مع هذه التطورات الدراماتيكية
في البلد.
في هذه المرة كما في مرات سابقة تعرفنا على أسماء وأرقام المواد
التي حكم بها علينا ،وكانت أول مرة نتعرف بها على أرقام المواد القانونية
أي من المعتقلين لم يلق التي ُحكمنا بها عندما صدر أول عفو رئاسيّ .
باالً لما كان يثرثر به القاضي في المحكمة الصورية في قرار الحكم ،ألن
292
من شقوق الظالم
293
من شقوق الظالم
بين سجين وآخر من فرق ال بشكل التحقيق وال بنوع االتهام وكنت أظن
ان الجميع في مركب واحد ،لكن ساعتئذ تبين إننا لسنا كذلك وان التهم
تختلف ولم أتفطن إلى السبب الحقيقي لهذا التمايز اّإل بعد فترة ،حيث
كان واضح ًا إن المحكومين في فترات التوتر الشديد على جبهات القتال،
كانوا ينالون أشد األحكام وأقساها ويحكمون باسوأ المواد القانونية ،أما
من حكم عليه في فترة سابقة الندالع الحرب أو في أولها حين كان الجيش
العراقي يحقق فيها انتصارات كانت المواد القانونية أقل وطأة في عقوباتها
وكذلك هي األحكام .أضحيت أدرك من حينها إن التهمة التي حكمت
أي تخفيف ألنها أشد المواد قسوة ،بل وصار البعض بسببها لن ينالها ّ
يخشى أن يمتد الحكم المؤبد أكثر مما هو عليه ،خصوص ًا بعد أن تم تغيير
قانون مدة السجن المؤبد من عشرين سنة إلى خمسة وعشرين سنة في بلد
أي أحد. كان يمكن أن يكون للقانون أثر رجعي بال نقاش وال اعتراض من ّ
ومن ينسى صدور قانون شرع حكم الموت لكل منتم لتنظيم معارض ولو
كان قد انسحب منه بالفعل حتى قبل صدور ذلك القانون .قطعت بهذا
القانون الغريب عشرات آالف الرقاب من الشباب وبتهم ملفقة في كثير
من الحاالت .فإذا كان القانون يحكم بالموت على فعل لم يكن جريمة
قبل صدوره ،فهل كان يجد حرج ًا لو مدد الحكم على من هو أص ً
ال اآلن
مدان بجريمة؟.
بأي عفو
المناخ السائد كان يشير إلى ما هو معتاد من عدم شمولنا ّ
وأصبحنا نك ّيف أنفسنا لذلك ،وفي وقتها ظهر زعيم النظام وقال ال يوجد
لدينا سجناء سياسيون وسألنا أحد رجال األمن عن ذلك وقلنا له إذن ماذا
294
من شقوق الظالم
295
من شقوق الظالم
من السجن أن تهتفوا بحياة السيد الرئيس القائد ،وأن تشكروه على عفوه
أي من كلماته الغبية،
وكرمه ومسامحته لكم ،ونحن صامتون ال نرد على ّ
بل إني همست في ُأذن صاحبي بشتيمة مقذعة ذكرت فيها اسم القائد نفسه
صريح ًا.
هبط الغسق ونحن ال نزال في إجراءات اإلفراج ،أتطلع إلى الجدران
اإلسمنتية العالية ومن خاللها تنبعث أمامي صور فتية من خيرة شعبنا قضوا
خلفها ،وضاعت قدراتهم الخالقة ومواهبهم الرائعة تحت سنابك خيل
مسعورة ،وطأتهم بحوافرها الحديدية وخلفت في صدورهم ندوب ًا عميقة
سيحملها أمثالي من بقية السيف طوال عمره المتبقي.
خيم الليل على السجن ونحن نهم بالخروج عبر البوابة الكبيرة وحينها
سألني سجين كان إلى جواري:
-ما هو شعورك اآلن وأنت تخرج من السجن؟.
فأجبته بما كان يجول في ضميري.
-بال شعور.
لندن
2019-09-07
296