Professional Documents
Culture Documents
القرآن نسخة شخصية
القرآن نسخة شخصية
ﻮﻭﺍﻟﺘ
ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
القرآن :نسخة شخصية
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
القرآن :نسخة شخصية
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�إهداء11.............................................................
مقدمة13............................................................
ﻋﺼ
تعميم 17............................................................
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�سورة البقرة :2ال�صراع املرير مع الواقع املر ال يزال م�ستم ًّرا 32...
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�سورة الكهف � :18أطوار اال�ستحالة لي�ست م�ستحيلة109............. .
ﲑ ﺍﻟ
�سورة مرمي :19عن املر�أة اخلارقة 113..............................
ﻜﺘ
ﻋﺼ
�سورة ي�س :36يا �إن�سان! 235.........................................
ﲑ ﺍﻟ
ال�صافات :37ا�ستعد ،تث َّبت ،انطلق244...............................
ﻜﺘ
-7-
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
�سورة النجم :53يف �أعايل التجربة 338..............................
ﲑ ﺍﻟ
�سورة القمر :54بديهيات وا�ضحة كال�شم�س ..والقمر342............
ﻜﺘ
-8-
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
إهداء
ﻋﺼ
�إىل قارئ «جمهول»
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
هذا لي�س كتاب تف�سري ،وال يجب �أن يكون كذلك بالن�سبة لأي �شخ�ص؛
قليل عن �أي كتاب تف�سري �سوا ًء من �أمهات الكتب �أولذلك فهو ال يغني ولو ً
من الكتب املعا�صرة ،ويهمني ج ًّدا �أن �أ�ؤكد ذلك و�أكرره؛ لأن معاملته ككتاب
ﻋﺼ
فادحا ،كما �أنه �سي�أخذ من الكتاب هدفه الأ�سا�سي.
ﲑ ﺍﻟ تف�سري �سيكون خط�أً ً
هذا الكتاب مثل هوام�ش كتبها �شخ�ص ما وهو يقر�أ القر�آن ويحاول
ﻜﺘ
�أن يتفاعل مع حياته اليومية عربه ،فيكتب كيف �ساعدته الآيات على فهم
ﺐ ﻟﻠﻨ
العامل املحيط به ،وكيف يتعامل مع هذا العامل ،ومن البديهي ج ًّدا �أن هذا
ﺸﺮ
�شخ�صي ج ًّدا ،وميكن ل�شخ�ص �آخر مير بظروف مغايرة �أن يكتب
ٌّ الأمر
ﻭ
متاما ،كما ميكن لل�شخ�ص نف�سه يف ظروف �أخرى �أن�أ�شيا ًء �أخرى خمتلفة ً
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
هناك جيل جديد مل يعد يحر�ص على «ختمة رم�ضان»� ،أو �أي ختمة يف
ﻜﺘ
�أي وقت.
ﺐ ﻟﻠﻨ
وهو العنوان الذي كنت �أق�صد عربه �أن تكون الر�ؤية املق َّدمة هي ر�ؤية
�شاملة لل�سورة عرب جتوال يف داخلها ،كما لو كنت �أنظر لها عرب زاوية نظر
360درجة.
لكن مع الوقتَ ،ب َدا يل �أن ما �أفعله �أقرب �إىل �أن يكون ن�سخة �شخ�صية
منه �إىل �شمولية الر�ؤية لل�سور القر�آنية؛ لذا فقد ف�ضلت �أن يكون العنوان
خمتل ًفا؛ ليعرب �أكرث عن املحتوى.
- 14 -
مقدمة
حدث تغيري على املن�شورات بطبيعة الأمر ،وما ُن ِ�ش َر على الفي�سبوك
يومها لي�س ما ُي ْن َ�ش ُر يف هذا الكتاب بالظبط.
***
علي �أن �أ�سجلهما هنا:
مالحظتان َّ
الأوىل :الكتاب ال يغطي كل ال�سور القر�آنية ،بل يغطى الأجزاء الـ 27
الأوىل� ،أي بداية من �سورة الفاحتة �إىل نهاية �سورة احلديد.
ال�سبب يف ذلك �أن �أغلب ال�سور يف الأجزاء الثالثة الأخرية (وحتى بع�ض
ﻋﺼ
ال�سور يف اجلزء ال�سابع والع�شرين) ذات طبيعة مكثفة يف املعاين؛ مما
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
كتاب «كبري احلجم» �إىل جانب القر�آن �سيكون �أم ًرا م�ستبعدً ا بالن�سبة
ﺸﺮ
ً
متو�سطا.
ﺯﻳﻊ
�أقول هذا و�آمل �أن تكون هناك فر�صة للعودة �إىل الأجزاء الثالثة
الأخرية.
الثانية :حجم ال�سورة وم�ساحتها وعدد �آياتها ال ي�ؤثر بال�ضرورة على
حجم وم�ساحة التفاعل ال�شخ�صي معها؛ لذا رمبا يكون التفاعل املكتوب
مع �سورة متو�سطة احلجم �أو ق�صرية ن�سب ًّيا �أكرب حج ًما �أو م�ساو ًيا لتفاعل
مع �سورة من طوال ال�سور ،وقد يعود هذا ب�شكل �أ�سا�سي �إىل طبيعة التفاعل
ال�شخ�صي التي تتفاوت بني مو�ضوع و�آخر ،وبالتايل بني �سورة و�أخرى.
- 15 -
القرآن نسخة شخصية
كاف من ال�سطور» للتفاعل مع �أي �شخ�ص ًّيا �أعرف �أن ال يوجد «عدد ٍ
�سورة من �سور القر�آن ،من �أق�صر �سورة فيه �إىل �سورة البقرة؛ لذا ال يجب
و�ضع �أي اعتبار للعدد �أو احلجم هنا.
�أقدم عملي هذا و�أنا �أعرف �أن ال �شيء ميكن �أن يفي القر�آن حقه من
التفاعل ،لكن هذا ما ا�ستطعته ،فما كان فيه ح�سن فمن توفيق اهلل وف�ضله،
�أما التق�صري فهو من طبيعتي الب�شرية.
�أ�س�أله تعاىل �أن ي�صحح نيتي يف عملي هذا ،و�أن يغفر يل ما فيه من
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ زلل.
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 16 -
تعميم
كل �سور القر�آن حتتوي على ثالثة عنا�صر �أ�سا�سية يف ن�سيجها؛ مثل
احلجر والإ�سمنت واحلديد يف البناء ،تتكامل مع بع�ضها لت�ش ِّكل «البناء» �أو
«الن�سيج» الذي �سي�ضم �أ�شيا ًء �أخرى الح ًقا.
ﻋﺼ
هذه العنا�صر الثالثة ال تكاد تخلو �سورة يف القر�آن منها جمتمعة،
ﲑ ﺍﻟ
با�ستثناء القليل من ق�صار ال�سور التي قد تقت�صر على عن�صر واحد �أو
ﻜﺘ
� ً
أول� :صفات اهلل -عز وجل -وقدرته وخلقه لنا ولكل ما هو موجود.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
(مثل احلرارة وال�ضغط).
ﲑ ﺍﻟ
لذلك ف�إن التفاعل ال�شخ�صي مع هذه العنا�صر الثالثة لن يكون �شديد
ﻜﺘ
الو�ضوح يف هذا الكتاب ،رغم �أنها تقود التفاعل وت�ؤثر به وحتيط به من
ﺐ ﻟﻠﻨ
كل اجلهات.
ﺸﺮ
من هذا الكتاب ،وعليه �أن يبحث عن حل مل�شكلته � ًأول يف كتاب �آخر.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 18 -
سورة الفاتحة 1
عين على العالم
بها ُي ْف ُ
تتح القر�آن.
وميكن لها �أن تفتح عينيك ،تفتح قلبك ،تفتح عقلك.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
تفتحك نحو ر�ؤية خمتلفة للعامل.
ﻜﺘ
الفاحتة مثل مقدمة �أو ا�ستهالل للقر�آن ،كل ما تقر�أه يف القر�آن �سيمر
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
من�ضبطا مبا حمكوما
ً � ًأول بهذه املقدمة ،كل معنى ي�أتي يف القر�آن �سيكون
ﺸﺮ
تقوله املقدمة.
ﻭ
لي�س هذا فقط ،هذه املقدمة� ،ستكون رك ًنا من �أركان �صالتك ،ال ت�صح
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
�صالة من دونها ،وهذا يعني �أن كل م�سلم «ملتزم بفر�ض ال�صالة» «يقول»
الفاحتة « »17مر ًة يف اليوم كحد �أدنى.
ماذا نقول يف الفاحتة؟ لقد تعودنا الأمر حتى �صرنا نقولها دون تفكري
فيما تعنيه.
لكن لو فتحنا �أعيننا عليها لر�أينا الكثري.
***
- 19 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
«احلمد هلل»� ،إيجابية رغم الوعي بال�سلبيات.
ﲑ ﺍﻟ
جتد ما تثني عليه ،جتد ما ي�ستحق احلمد عند م�ستحق احلمد ،وت�ؤكد
ﻜﺘ
على ذلك 17مرة يف اليوم يف عمود دينك ،كما لو �أن هذا احلمد هو
ﺐ ﻟﻠﻨ
كل يوم ،مهما كان و�ضعك �صع ًبا ،ف�إنك تقف لت�شهر «احلمد» بوجه هذا
ﻭ
هذا احلمد مرتبط يف الفاحتة بثالث �صفات هلل عز وجل ،من بني
كل �صفاته وقدراته -عز وجل -الفاحتة حتدد ثالث �صفات فقط :رب
العاملني ،الرحمن الرحيم ،مالك يوم الدين.
رب العاملني يعني �أنه رب اجلميع حرف ًّيا ،رب الفقراء والأغنياء و� ً
أي�ضا
�أولئك الذين يف الو�سط ،رب الأ�صحاء واملر�ضى ،رب املتعلمني واجلهلة،
رب الن�ساء والرجال والأطفال وال�شيوخ ،رب الناجحني والفا�شلني ،رب
امل�شهورين واملغمورين ،رب الب�شر من كل الأعراق والألوان ،رب امل�ؤمنني.
- 20 -
سورة الفاتحة
به ورب الذي ال ي�ؤمنون به على حد �سواء� ،أحيا ًنا ننحاز �إىل الوهم �أنه ربنا
ِّ ْ َ
رب ال َعال ِم َني{ 17مرة كل يوم. نحن فقط ،لكن الفاحتة ت�ؤكد لنا �أنه }
ِيم{ (الفاحتة)3 : َّ ْ َ َّ
}الرح ِن الرح ِ
ال�صورة لنحكم عليها ،علينا �أن نحاول قدر الإمكان م�شاهدة اجلزء الأكرب
ﺐ ﻟﻠﻨ
منها.
ﺸﺮ
يعني �أن املنتهى له ،وهذا املنتهى يعني �أن كل �شيء له ،وهو يعني � ً
أي�ضا
ﺯﻳﻊ
أي�ضا ،وعدله يتحقق يف يوم�أنه لي�س رحما ًنا رحي ًما فح�سب ،بل هو عادل � ً
الدين.
هو �إذن رب اجلميع ،رحمن رحيم ،وعادل � ً
أي�ضا.
***
اك ن َ ْس َتع ُ
ني{ (الفاحتة)5 :
َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ
}إِياك نعبد وإِي
ِ
كل ما نفعله يف حياتنا ميكن �أن يندرج يف هذين الأمرين ،عبادتنا له،
وا�ستعانتنا به.
- 21 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
�أن «يهدينا ال�صراط امل�ستقيم» ،وهذا الطلب يعني �ضم ًنا �أنك ترغب يف
ﲑ ﺍﻟ
معرفة هذا ال�صراط ،يف كل خطوة يف حياتك ،يف كل مفرتق طرق هناك
ﻜﺘ
خيار ،و�أنت تطلب منه -عز وجل� -أن ير�شدك للطريق ال�صواب ،وهذا
ﺐ ﻟﻠﻨ
يعني � ً
أي�ضا �أن الطريق ال�صواب ،ال�صراط امل�ستقيم ،لي�س حمتك ًرا عندك
ﺸﺮ
كما يتوهم البع�ض ،بل �أنت تطلبه 17مرة يف اليوم كحد �أدنى.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
دوما
أي�ضا تعرف �أن هناك َمنْ �أخط�أ الطريق قبلك ،لكن اخلط�أ ً و�أنت � ً
ﺯﻳﻊ
يكون من طريقني :الأول هناك َمنْ �أخط�أ عامدً ا متعمدً ا ،مع �سبق الإ�صرار
والرت�صد؛ املغ�ضوب عليهم ،وهناك طريق �آخر للخط�أ غري العامد ،ح�صل
ولكنه مل يحدث بنية م�سبقة؛ ال�ضالني.
و�أنت ت�ؤمن ب�إمكانية وجود طريق ثالث غري هذين الطريقني ،طريق
الذين �أنعمت عليهم بنعمة املراجعة والتقييم يف كل خطوة على الطريق،
17مرة يف اليوم.
- 22 -
سورة الفاتحة
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
((( للمزيد :الجزء الثالث من سلسلة كيمياء الصالة للمؤلف ،بعنوان :عامل جديد ممكن.
- 23 -
سورة البقرة ،2الجزء األول
الصراع المرير مع األمر الواقع المر
ﻋﺼ
القر�آن الكرمي يجعلك مبا�شر ًة يف مواجهة مع حقائق الأ�شياء هذه كلما
ﲑ ﺍﻟ
فتحت القر�آن لتقر�أ فيه ،ال �شيء يزيف �صعوبة الواقع و ُي َج ِّمله ،وال �شيء
َ
ﻜﺘ
يقول لك� :إن الأمر ا�ستثنائي و�إنك تعي�ش يف مرحلة �سيئة بتف ُّرد ويجعلك
ﺐ ﻟﻠﻨ
حتنُّ لزمان �آخر ،ال ،هذه هي احلياة بكل روعتها وب�شاعتها ،وه�ؤالء هم
ﺸﺮ
أي�ضا ،بكل �سموك الذي تركز الب�شر بكل �سموهم و�سقوطهم ،وهذا �أنت � ً
عليه وكل �سقوطك الذي تتجاهله ،هذه هي احلياة وهذا هو الأمر الواقع،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لديك خياران :الأول �أن تتعامل مع هذا الواقع ،والثاين �أن تتجاهله ،و�أنت
ﺯﻳﻊ
َمنْ يقرر.
�سورة البقرة مثل ن�شرة �أنباء مليئة ب�أخبار الكوارث الطبيعية وغري
الطبيعية؛ ظلم وا�ستبداد واغت�صاب وقتل و�سفك للدماء ،ن�شرة الأنباء
هذه كانت على مدار تاريخ الب�شرية كله� ،أغلب فرتات التاريخ كان فيها من
دوما هناك
خا�صا بع�صرنا وال ع�صر نزول ال�سورةً ، هذا الكثري ،لي�س الأمر ًّ
ودوما هناك «بنو �إ�سرائيل» فرعون ما ب�أ�سماء خمتلفة و�أ�شكال خمتلفةً ،
ودوما هناك حماوالت �إ�صالح من ِق َب ِل البع�ض.، أي�ضا ب�أ�سماء خمتلفةً ، � ً
- 24 -
سورة البقرة 1
ﻋﺼ
ال ْو ِم ْالخِر َو َما ُه ْم ب ُم ْؤمن َ
آم َّنا باهلل َوب ْ َ
َ ْ َُ ُ َ
ني ِ ِِ ِ ِ ِ
ﲑ ﺍﻟ اس من يقول } َوم َِن انلَّ ِ
ُُ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ ْ ُ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ َّ َ َ ُ َُ ُ َ
ِين آمنوا َوما يدعون إِل أنفسه ْم َوما يشع ُرون ِ ف قلوب ِ ِه ْم يادِعون اهلل وال
ﻜﺘ
َ َ َُ َ َ َ ُ َ ْ ُ َ َ ً َُ َ َ ٌ َ َ ٌ َ َ ُ
م َرض ف َزاده ُم اهلل م َرضا َوله ْم عذاب أ ِل ٌم بِما كنوا يكذِبون َ وإِذا قِيل له ْم ل
َ َ َّ ُ ْ ُ ُ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ْ ُت ْفس ُدوا ف ْالَ ْ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ُ َّ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ َ
كن ِ ل و ون د سِ ف م ال م ه م ه نِ إ ل أ ون ِح ل ص م ن ن ا منِ إ وا ال ق ضِ ر ِ ِ
َ َْ ُُ َ
ﺸﺮ
ملاذا خرب الأنف�س هذا مق َّدم على كل الأخبار الأخرى :فرعون وظلمه
ﺯﻳﻊ
وما يفعل بالنا�س ،يف ن�شرات الأخبار العادية الت�سل�سل معكو�س ،البداية
تكون ب�أخبار الكوارث ،ثم ي�أتي احلديث عن خرب الأنف�س يف نهاية الن�شرة.
لكن لي�س مع �سورة البقرة ،ملاذا؟
بب�ساطة لأن اخلرب الأول �أهم ،اخلرب الأول هو الذي يحدد كيف
�ستت�صرف وتتعامل مع كل ما يلي من �أخبار ،اخلرب الأول هو الذي يقول:
�إن كنت �ستكون فرعونَ بطريقة ما ،فرعونَ يف بيتك مع َمنْ حولك �أو يف
عملك� ،أو عو ًنا له� ،أو �أنك �ستكون يف اجلهة املقابلة.
- 25 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
�سرتى ظل ًما وا�ستبدادًا ،و�سرتى املظلومني ي�صبحون ظاملني � ً
أي�ضا، ﲑ ﺍﻟ
�أحيا ًنا بنف�س دور الظامل الذي ظلمهم ،و�أحيا ًنا ب�أنواع �أخرى من الظلم،
ﻜﺘ
فالظلم �أنواع.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ُ َ ِّ ُ َ َ ْ َ َ ُ ْ َْ َ َُ ُ َ ُ ْ ُ َ َْ َ َ ْ َ َّ ْ َ ُ ْ ْ
اءك ْم اب يذبون أبن ِ ذ ع ال وء س م ك ونوم س ي ن و عِر ف آل
ِ ِن }وإِذ نيناكم م
ﺸﺮ
ْ
ُ ُ َ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ٌ ْ َ ِّ ُ
ك ْم َعظ ٌ َ َ ََْ َ ْ ُ َ َ َ ُ
الح َر يم َ وإِذ ف َرقنا بِكم ِ اءك ْم َو ِف ذل ِكم بلء مِن رب ويستحيون ن ِس
َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َْ َ ً َ ََْ َْ ُ َ َ
ﻭ
ون{ (hgfrابلقرة .)51 :49 ثم اتذتم ال ِعجل مِن بع ِده ِ وأنتم ظال ِم
- 26 -
سورة البقرة 1
ُ َّ َ َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ ْ ً َّ
ارة ِ أ ْو أشد قس َوة َوإِن م َِن }ثم قست قلوبكم مِن بع ِد ذل ِك ف ِه كل ِج
ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ََ
ال ِجارة ِ لما يتفجر مِنه النهار وإِن مِنها لما يشقق فيخرج مِنه الماء وإِن مِنها لما
َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ َْ ُ ْ َ ْ َ
يهبِط مِن خشي ِة اهلل َوما اهلل بِغاف ٍِل عما تعملون{hgfr( .ابلقرة)74 :
ﻋﺼ
و�إن كانت مع �أ�سماء �أخرى ،هل هو التاريخ يكرر نف�سه؟ �أم هي الطبيعة
ﲑ ﺍﻟ
الب�شرية تقع يف نف�س الأخطاء مرة بعد �أخرى؟
ﻜﺘ
ُ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َ َّ َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ َّ ُ َ
ارى حت تتبِع مِلته ْم قل إِن هدى اهلل ه َو }وَلن ترض عنك الهود ول انلص
ﺐ ﻟﻠﻨ
ْ َ ٍّ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َّ
اءه ْم بعد الِي جاءك مِن ال ِعل ِم ما لك مِن اهلل مِن و ِل ول
َ ئ اتبعت أهو الهدى ول ِ ِ
َ
ﺸﺮ
ت�أخذنا ال�سورة � ً
أي�ضا �إىل خرب �آخر من الأنف�س :كل فئة لن تر�ضى عنك
ﺯﻳﻊ
من تخطر يف ذهن �أحدهم عندما يقر�أ �سورة البقرة ،انتبه لذلك ،انظر
لعيوبك قبل عيوب الآخرين ،عيوب الآخرين هم أَ � ْو َل ب�إ�صالحها� ،أما
عيوبك فهي يف متناول يدك� ،أم �أنها �أ�صعب من �أن تكون كذلك؟
مع كل ذكر لبني �إ�سرائيل ،ال�سورة ال تتحدث لك عنهم ملجرد احلديث
التاريخي عنهم ،بل لأنهم النموذج الذي ميكن �أن ننزلق جمي ًعا �إىل تكرار
فعل ،منقليل فينا؛ لوجدنا �أن ذلك حدث ويحدث ً �أخطائهم ،ولو دققنا ً
ال ِع ْجل الذي �أُ ْ�ش ِر َب يف قلوب البع�ض -كما �أُ ْ�ش ِر َب ْت �أ�شيا ٌء �أخرى� -إىل ر�ؤية
مبعان و�أ�سماء خمتلفة ،حتى التيه الذي دخله بنو اهلل جهر ًة ،كل ذلك ٍ
ﻋﺼ
�إ�سرائيل ،يبدو �أننا قد دخلنا يف تيه مماثل� ،أو �أن بع�ضنا على الأقل قد
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
فعل.
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ ً َ ُ َ ََْ ُ َ َ ْ َْ ْ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ
} َوإِذ قال َربك ل ِلملئ ِك ِة إِن جاعِل ِف ال ْر ِض خلِيفة قالوا أتعل فِيها من
ﺸﺮ
ُ ْ ُ َ َ َ ْ ُ ِّ َ َ َ ْ ُ َ ِّ ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ ِّ َ ْ َ َ َ
اء َون ُن نسبح ِبَمدِك َونقدس لك قال إِن أعل ُم ما ل يف ِسد فِيها ويس ِفك ادلم
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َْ َُ َ
ون{ (ابلقرة.)30 : تعلم
ﺯﻳﻊ
ت�أخذك ال�سورة �إىل �أ�صل احلكاية وبدايتها� ،سرتى �آدم وهو يت�سلم
من�صب اال�ستخالف واملالئكة تت�ساءل عن �أهليته للمن�صب ،وتل ِّمح �إىل
�إمكانية �أن ي�سفك الدم ،و�ستتذكر �أن احلياة الإن�سانية يف �أحيان كثرية
قدمت معطيات قد تبدو �أنها ل�صالح املالئكة يف ت�سا�ؤلهم هذا ،يكاد
«الواقع املعا�صر» يكون م�صدا ًقا ملا قالته املالئكة� ،أو على الأقل هذا ما
يبدو لنا الآن.
- 28 -
سورة البقرة 1
ﻋﺼ
تبت؟
تعلمه جيدً ا ،فهل َ
ﲑ ﺍﻟ
ق�صة �سيدنا �آدم هي ق�صتنا جمي ًعا ،نحملها معنا �أينما كنا� ،إنها حكاي ُة
ﻜﺘ
كل يوم التي تتكرر ب�أ�شكال خمتلفة ،املهم يف الأمر هو كيف تنتهي هذه
ﺐ ﻟﻠﻨ
احلكاية.
***
ﻭ ﺸﺮ
َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ُ َ َ َّ ُ َ ُ ُ ً َ َ ْ َ َ ُ َ َ
ﺍﻟﺘﻮ
َّ
} َوإِذ قال موس ل ِق ْو ِم ِه إِن اهلل يأمركم أن تذبوا بقرة قالوا أتتخِذنا هزوا قال
ﺯﻳﻊ
الاهل َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ ُ
ِني{ (ابلقرة)67 : أعوذ بِاهلل أن أكون مِن َ ِ
�ستلفت نظرك «البقرة» هنا ،ما الذي جاء بها �إىل هنا؟ وملاذا هي
مهمة لهذه الدرجة بحيث �إن ال�سورة �أخذت ا�سمها؟ �ستت�أمل يف احلكاية،
اهلل ي�أمر بذبح بقرة� ،أمر ب�سيط وا�ضح ،ولكن تنهال الأ�سئلة :لونها وزنها
ُّ
تعك�س التنطع عمرها� ،إلخ� ،أ�سئلة ال عالقة لها باملق�صد من الذبح ،ولكنها
والتكلُّف يف تنفيذ الأوامر ال�شرعية.
�أال يذكرنا هذا ب�شيء؟ هل ميكن � َّأل يذكرنا هذا ب�شيء؟
- 29 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
خ�صو�صا على ت�ضحيته هو � -أكرث منً البع�ض يركز على «الت�ضحية» -
ﲑ ﺍﻟ
تركيزه على نتائج هذه الت�ضحية.
ﻜﺘ
البع�ض يتعامل مع «ت�ضحيته» كما لو كانت ُم ْن َجزًا عليه �أن يذكره يف
ﺐ ﻟﻠﻨ
بدل من �أن تكون و�سيلة �إىل الهدف. �أ�صبحت الت�ضحية هد ًفاً ،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
ْ َ ُ َّ َ َ َ َّ ْ َّ َّ َ َ ْ َ َ ْ َْ َ ُ َْ ُ َْ َ َ َ َْْ
ت َوإِسماعِيل َربنا تقبل مِنا إِنك أنت الي ِ }وإِذ يرفع إِبراهِيم القواعِد مِن
َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ِّ َّ َ ُ َّ ً ُ ْ َ ً َ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ
ي لك ومِن ذريتِنا أمة مسلِمة لك وأرِنا الس ِميع العلِيم ربنا واجعلنا مسلِم ِ
الرح ُ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َّ َّ ُ
اب َّ
ِيم{ (ابلقرة )128 :127 منا ِسكنا وتب علينا إِنك أنت اتلو
و�سرتى �أن م�شهد رفع البناء ُي ْع َر�ض ب�صيغة الفعل امل�ضارع ( ...يرفع)،
كما لو �أنه يفتح الباب لت�شا ُرك �إبراهيم وابنه يف رفع البنيان.
و�سيتدخل ارتفاع القواعد مع دعاء �إبراهيم لذريته ،العائلة هي ما
يجب �أن ُي ْح َمى بالبنيان ،هذا هو جوهر االرتفاع احلقيقي.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 31 -
سورة البقرة - 2الجزء الثاني
ًّ
مستمرا الصراع المرير مع الواقع المر ال يزال
ي�ستمر ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر ،ولكن توا�صل �سورة البقرة
منحنا �إ�شارات ت�ساعدنا يف هذا ال�صراع ،تقول لنا� :إن هذا جزء من
ﻋﺼ
طبيعة احلياة نف�سها ،و�إن �صعوبة هذا ال�صراع جزء من االمتحان الذي
ﲑ ﺍﻟ
علينا اجتيازه يف احلياة الدنيا.
ﻜﺘ
ِين أوتوا الكِتاب ج ِد الرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإِن ال الم ِ
س
َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ُّ ْ َ ِّ ْ َ َ
ون{ (ابلقرة)144 :
لعلمون أنه الق مِن رب ِهم وما اهلل بِغاف ٍِل عما يعمل َ
ﻭ ﺸﺮ
قليل ،يذكرك الأمر ب�شكل ما لها ،كما لو �أنها تخفف من عناء �صراعك ً
بكل احلرية التي مررتَ �أو متر بها ،بل يذكرك بحرية اجليل كله وهو مير
مبنعطفات تاريخية دون �أن يجد « ِق ْب َل ًة ير�ضاها».
كم من �أنا�س �ضاعوا و�أ�ضاعوا لأنهم مل يجدوا قبل ًة ،هد ًفا ،اجتاهً ا
ميكن لبو�صلتهم �أن ت�ساعدهم يف الو�صول �إليه ،وتذكرنا الآيات ب�أننا يف
كل مفرتق نحتار فيه؛ علينا �أن نتجه �إىل ذات القبلة� ،إىل ذلك البيت
الإبراهيمي الذي ر�أينا رفع قواعده قبل قليل يف نف�س ال�سورة ،والذي كانت
ال�صيغة امل�ضارعة تدعونا للم�شاركة يف البناء.
- 32 -
سورة البقرة 2
تذكرنا هذه الآيات ب�ضرورة �أن ُن ِع َيد �ضبط بو�صلتنا بني احلني والآخر
لتعود �إىل «�إعدادات امل�صنع» الأولية والأ�سا�سية؛ لنزيل ما ترا َك َم عليها من
�صد�أ وغبار.
***
َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ ِّ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ ُ
ِين مِن قبلِك ْم }يا أيها الِين آمنوا كتِب عليكم الصيام كما كتِب ع ال
َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ
لعلك ْم تتقون{ (ابلقرة)183 :
َّ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ُّ َ ْ ُ ٌ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ْ َ َ َ
جدال ِ ل و وق س ف ل و ث ف ر ل ف ج ال ن ِيه
ِ ف ض }الج أشهر معلومات فمن فر
ﻋﺼ
َ َّ ْ َ َ َّ ُ َّ َ َ َ َّ ُ َ َّ َ َْ ْ َْ َْ َُْ ْ َ ِّ َ َ َ ْ َ ُ
ون يا ِ ق ات و ى و قاتل د
ِ ا الز ي خ ن ِ إ ف وا دو ز ت و اهلل ه
ﲑ ﺍﻟم ل ع ي ي
ٍ خ ِنم وا ِف الج وما تفعل
َ ُ
اب{ (ابلقرة.)197 : أول ْال ْ َ
ل
ِ ِ
ﻜﺘ
َ َ ْ َ َّ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َْ
اليت أ ِو اعتمر فل جناح علي ِه أن الص َفا َوال ْ َم ْر َو َة م ِْن َش َعائ ِر اهلل فمن حج َ َّ َّ
}إِن
ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ُ ُ
وموا هلل قانِتِ َني{(ابلقرة.)238 : ات والصلة ِ الوسطى وق }حاف ِظوا ع الصلو ِ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ور َرح ٌِيم{ (ابلقرة.)173 : اغ َو َل َعد َف َل إ ْث َم َعلَ ْيه إ َّن اهلل َغ ُف ٌ ْ ُ َّ َ ْ َ َ
يب ٍ اضطر غ
ِ ِ ِ ٍ
َُُْ َ ْ ٌ َ ٌ َ َ ُ َّ ُْ َْ ْ َ ْ َ ْ َْ َُ َ َ َ
اس َوإِثمهما ري َومناف ِع ل ِلن ِ ِيهما إِثم ك ِب ِ ف ل ق س
ِ ِ ي م الو ر
ِ م ال ن}يسألونك ِ
ع
َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ُِّ
اتأكب مِن نف ِع ِهما ويسألونك ماذا ين ِفقون ق ِل العفو كذل ِك يبي اهلل لكم الي ِ
َ َ َّ ُ َ َ َ َّ َ
لعلك ْم تتفك ُرون{ (ابلقرة)219 :
يف الأ�سئلة ،وتف َّك ْر :البع�ض منا فعل ال�شيء ذاته مع كل هذه ال�شعائر؛ يف
ال�صالة ،يف ال�صيام ،يف احلج ،يف كل ركن من �أركان الإ�سالم ،بل يف كل
�أمر �شرعي ،هناك من يقف نف�س موقف بني �إ�سرائيل من البقرة ،وال�سورة
تذكرنا� :إياك �أن تغرق يف التفا�صيل بحيث تن�سى الهدف واملق�صد من
الأمر ال�شرعي.
وكث ًريا ما يحدث مع الأ�سف.
***
ال ُّر ب ْ ُ اص ف الْ َق ْت َل ْ ُ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ُ
ﻋﺼ
َُْْ
ال ِّر َوالعبد ِ ِ }يا أيها الِين آمنوا كتِب عليكم ال ِقص
َ َ َ ٌ َْ َ ْ ٌ َ ِّ َ ٌ ْ َ ُْ ْ َْ َ ْ ُْ َ ْ ُْ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ
ﲑ ﺍﻟ
وف وأداء إِل ِه ف لُ مِن أخِي ِه شء فاتباع بِالمعر ِ بِالعب ِد والنث بِالنث فمن ع ِ َ
َ
ﻜﺘ
ٌ َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ٌ َ ْ ْ ْ ِّ ُ َ َ َْ ٌ ْ َ
ان ذل ِك ت ِفيف مِن َربكم َو َرحة فم ِن اعتدى بعد ذل ِك فله عذاب أ ِل ٌم بِإِحس ٍ
َ َْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ ََ ٌ َ ُ ْ َ ََ ُ
اب لعلك ْم تتقون كتِ َب عليك ْم كْ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِ ول الل ِ أ ا ي اة ي ح اص
ِ ص ق
ِ ال فِ م ول
َ ًّ ُ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ ً ْ َ َّ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ
وف حقا إِذا حض أحدكم الموت إِن ترك خيا الو ِصية ل ِلو ِالي ِن والقربِني بِالمعر ِ
ﺸﺮ
َ ْ ُُ ْ ْ ُ ْ ََْ ُ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ
ِين آمنوا إِذا تداينت ْم بِدي ٍن إِل أج ٍل مس ًّم فاكتبوهُ َو َلكتب بينك ْم
}يا أيها ال
َْْ َ
كت ٌِب بِالعد ِل{(ابلقرة)282:
هذا ال�صراع املرير مع الأمر الواقع املر �سيتطلب وجود قوانني تنظم
الأمر الواقع وتخفف من مرارته قدر الإمكان ،احلياة لي�ست نزهة يف
ب�ستان ،ومواجهتها بال�شعارات �أمر لطيف يف البداية ولكن م�آالت النهاية
تزيد املرارة� ،سيكون هناك ق�صا�ص ،و�سيكون هناك و�صية ُت ْتَك حلفظ
احلقوق� ،سيكون هناك من يظلم يف الو�صية ،و�سيكون هناك من عليه �أن.
- 34 -
سورة البقرة 2
يتدخل ملنع الظلم ،و�سيكون هناك ديون بني النا�س ،وكاتب بالعدل ينظم
ذلك ،فاملدينة الفا�ضلة جمرد وهم ال وجود له ،والطبيعة الب�شرية تتطلب
توثي ًقا كهذا.
ُ َ َ َْ ُ ُ ْ َ ُ َ ُ َ ُ ٌْ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ًْ َ ُ َ َ ٌْ َ ُ
ي لك ْم }كتِب عليكم ال ِقتال وهو كره لكم وعس أن تكرهوا شيئا وهو خ
َْ َ َُْ َ َْ َُ َ َ َ َ َ ْ ُ ُّ َ ْ ً َ ُ َ َ ٌّ َ ُ
ش لك ْم َواهلل يعل ُم َوأنت ْم ل تعلمون{(ابلقرة)216 : وعس أن تِبوا شيئا وهو
ُ َ ُ
ك ْم{ ،لكنها احلياة أي�ضا ،رغم �أنه }ك ْر ٌه ل
�سيكون هناك قتال � ً
بواقعيتها ،لي�ست نزهة ،وتتطلب املواجهات مهما كرهنا ذلك ،و�ستذكرك
ﻋﺼ
ال�سورة ب�أن الأ�صل يف الأمر هو �أنك تكره «القتال» ،و�أن الأمر لي�س كما
ﲑ ﺍﻟ
ير ِّو ُج البع�ض كما لو �أننا ُخ ِل ْق َنا لنقاتل ،لكنه اال�ضطرار ومواجهة الأمر
ﻜﺘ
سحوهن بِمعر ٍ
وف ٍ ِ }وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأم ِسك
َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َْ َ َ َ ْ
َ َ َ ُ ْ ُ ُ َّ َ ً ْ َ ُ
ارا ِلَعتدوا َومن يفعل ذل ِك فقد ظل َم نفسه{ (ابلقرة)231 :
ﺸﺮ
�سيكون هناك زواج وخالفات يف الزواج تقود �إىل الطالق� ،أمر م�ؤ�سف
ﺍﻟﺘﻮ
بالت�أكيد ،ولكنه يجب �أن ُي َن َّظ َم و ُي َق َّ َن ،و�ضع �ضوابط لهذا الأمر �سيقلل
ﺯﻳﻊ
حت ًما من خ�سائر الطالق ،ومواجهة الواقع عرب ت�شريعات تقلل اخل�سائر
�أف�ضل بكثري من منع الطالق ب�شكل قاطع.
***
َ َّ
الس َم َ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ُّ ْ َ ُّ ُ َ َ ْ ُ ُ ُ َ ٌ َ َ َ ْ ٌ َ ُ َ
ات َوما ِ او ف}اهلل ل إِل إِل هو الح القيوم ل تأخذه ِسنة ول نوم ل ِ
ا م
َ ْ َ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ َّ ف ْالَ ْ
ِيهم وما خلفهم ول ِ د ي أ ي ب ا م م ل ع ي هِ نذ
ِ ِِ ِإب ل إ ه د ِن
ع ع ف ش ي ِي
ال ا ذ ن م ضِ ر ِ
ودهَُ َْْ َ ََ َُ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ُ ْ ُّ ُ َّ َ ْ ْ ْ ُ ُ َ َ
ات والرض ول يئ يِيطون بِش ٍء مِن عِل ِم ِه إِل بِما شاء و ِسع كر ِسيه السماو ِ
يم{ (ابلقرة)255 : ل الْ َعظ ُ ْ ْ
حِف ُظ ُه َما َو ُه َو ال َع ِ ُّ
ِ
- 35 -
القرآن نسخة شخصية
خ�ضم كل هذا ال�صراع املرير ت�أتي �آية الكر�سي كما لو �أنها جاءت
ِّ يف
لرتيحك من ال�صراع ً
قليل ،تر ِّب ُت على كتفيك وتقول لك �أن ت�سرتيح هنا
من كل هذا الذي مررتَ به ،ت�شري لك �إىل ملكوت اهلل وقدرته وعلمه الذي
يفوق كل قدراتنا على التخيل� ،ست�شعرك الآية ب�أنه عز وجل يعرف كل هذا
الذي متر به ،ويعرف ما �سيحدث الح ًقا ،جمرد معرفته بذلك �ستمنحك
متاما يف هذا ال�صراع ،هوبع�ضا من الطم�أنينة وال�سكينة ،ل�ست وحدك ًً
َ َ َ َ ََ
الذي ال يغفل عنك حلظة واحدة ،و�سيذكرك ذلك ب�آية �سابقة} ،وإِذا سألك
ْ ْ ُ ُ
ُ َ ْ َ َ َّ ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ِّ َ ِّ َ ٌ َ
جيبوا ِل َولُؤمِنوا ِب
جيب دعوة ادلاع إِذا دع ِن فليست ِ عِبادِي عن فإِن ق ِريب أ ِ
ﻋﺼ
َ َ َّ ُ َ ُ ُ َ
لعله ْم ي ْرشدون{ (ابلقرة)186 :
ﲑ ﺍﻟ
يبوا ل{ دوما نن�سى هذا اجلزء من الآية ،نركز على } ُأج ُ ََْ ْ َ ُ
ﻜﺘ
�سرنتاح بعلمه الذي ال يغيب عنه �شيء ،لكن هذا ال يحدث بحفظ «�آية
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الكر�سي» منف�صلة عما قبلها وبعدها من و�صايا و�أوامر ،بل عندما ن�أخذ
ﺯﻳﻊ
�ستذكر كم من الإكراه ُمو ِر َ�س با�سم هذا الدين الذي قال � َّأل �إكراه
يف الدين ،كل �أمر �شرعي تع َّر�ض لإكراه بدرجة �أو ب�أخرى ،و�ستالحظ �أن
الر�شد هو ذاته يف الال �إكراه ،ويف الآية التي حتدثت عن �إجابة دعوة الداع
َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ ْ ْ ُ ََْ ْ َ ُ
ون {�صدفة! حا�شا هلل. جيبوا ِل َولُؤمِنوا ِب لعلهم يرشد
}فليست ِ
لكي تفهم الال �إكراه ح ًّقا ،ومتار�سه ح ًّقا ،ومتنع الإكراه با�سم دين الال
�إكراه ،عليك �أن تكون را�شدً ا � ًأول.
***
ََْ ُْ َْ ْ َ َ َ َََْ ُْ ْ َ َ ََ ََ ْ ﻋﺼ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ِّ َ
ﲑ ﺍﻟ
كن ح الموت قال أولم تؤمِن قال بل ول ِ ِ ت ف ي ك ن ِ }وإِذ قال إِبراهِيم رب ِ
ر أ
ﻜﺘ
ٌ َ ٌ َ َ
جزءا ثم ادعهن يأت ِينك سعيا واعلم أن اهلل ع ِزيز حكِيم{ (ابلقرة.)260 :
ﺸﺮ
أي�ضا �إىل �أبيك �إبراهيم وهو ي�س�أل ربه عن �إحياء �ست�أخذك ال�سورة � ً
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
املوتى لكي يطمئن قلبه ،و�ستتذكر كم قلو ًبا كتمت حاجتها �إىل الطمـ�أنينة
ﺯﻳﻊ
- 37 -
القرآن نسخة شخصية
َ ْ ً َّ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َّ َ َ َ ُ َ ِّ ُ
}ل يكلف اهلل نفسا إِل ُوسعها لها ما كسبت َوعليها ما اكتسبت َربنا ل
ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ ً َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ ْ
ِين مِن تؤاخِذنا إِن ن ِسينا أو أخطأنا ربنا ول ت ِمل علينا إِصا كما حلته ع ال
َ ْ ُ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ِّ ْ َ َ َ َ َ َ َ
قبلِنا َربنا َول تَملنا ما ل طاقة لَا ب ِ ِه واعف عنا واغ ِفر لا وارحنا أنت مولنا
ين{(ابلقرة)286 :ع الْ َق ْو ِم الْ َكف ِر ََ ْ ُ َْ ََ
فانصنا
ِ
ويف �آخر كل هذه امللحمة من ال�صراع مع الأمر الواقع� ،ستـ�أتي كلمات
تعبت؟ هل �أرهقك هذا الأمر الواقع؟ اخلامتة يف ال�سورة لرت ِّب َت عليك ،هل َ
نف�سا �إال و�سعها ،ميكنك �أن تطلب � َّأل ال ب�أ�س ،هذا طبيعي ،ال يكلف اهلل ً
ن�سيت �أو �أخط�أتَ ،ميكنك �أن تقول� :إن بع�ض الأمور ال ي�ؤاخذك اهلل �إن َ
ﻋﺼ
طاقة لك بها ،وتطلب منه عز وجل � َّأل يح ِّم َل َك فوق طاقتك ،افعل ما يف
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
و�سعك ،ولكن كن على ب�صرية بهذا الواقع املحيط بك ،حا ِو ْل �أن تو�سع مما
يف و�سعك بالتدريج ،بحيث يتنا�سب مع ما ُك ِّل ْف َت به.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 38 -
سورة آل عمران 3
عن جبر الخواطر المكسورة
التي قد تغيب عن �أذهاننا �أحيا ًنا ،خا�ص ًة يف حلظة �أمل االنك�سار واملعاناة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
كيف ذلك؟
ﺸﺮ
ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ َ ٌ ُ َّ ُ ُّ ْ َ ُ َ َّ
اب َوأخ ُر }هو ال َِي أنزل عليك الكِتاب مِنه آيات مكمات هن أم الك ِ
ِت
ﻭ
- 39 -
القرآن نسخة شخصية
َ
وتذكرك ب�أن نهاية الق�صة هي يف يوم قادم حت ًما }ل َر ْي َب فِي ِه{ ولي�س
يف �أيام عابرة جعلك �أملها يوهمك �أنها النهاية.
ْ َ ُ َ َّ ُْ
(آل ون إِل َج َه َّن َم َوبِئْ َس ال ِم َه ُاد{
َ ََُ َ ُْ ُ َ َ ْ َ ُ َ
}قل ل ِلِين كفروا ستغلبون وتش
عمران)12 :
َّ ُ َّ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ ُ ُ ُ
اء َوت ِع ُّز نع الملك مِمن تش ك تؤ ِت الملك من تشاء وت ِ }ق ِل اللهم مال ِك المل ِ
ُ ُ َّ ْ َ ش ٍء َقد ٌك َ َْ ْ َ َ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ِّ
ِير تول ِج الليل ِف من تشاء وتذِل من تشاء بِيدِك الي إِنك ع
َّ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ُ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ِّ َ َ ْ ُ ُ انلَّ َه ُ ُ َّ َ َ
ت وت ِرج الميت مِن الح وترزق ار َوتول ِج انلهار ِف اللي ِل وت ِرج الح مِن المي ِ ِ
َ َ ْ ََ ُ َْ
ﻋﺼ
اب{ (آل عمران )27 :26
ﲑ ﺍﻟ ي حِس ٍ من تشاء بِغ ِ
تقول لك ال�سورة� :إن الف�صول تتغري ،والدوائر تدور ،و�إن ما يبدو
ﻜﺘ
تقول لك ال�سورة� :إن �شهوات احلياة مباحة وجميلة ،لكن ال تك�سر نف�سك
ﺸﺮ
ب�أن حت�صر نف�سك فيها ،ف َث َّم ما هو �أكرث من ذلك يف هذه احلياة ،تقول
لك� :إن املحك هناك يف �أفق �أبعد لكنه حقيقي� ،ستنبهك �إىل دوران العامل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وامللك واملال وال�سلطة واجلاه بني النا�س ،مالك امللك ي�ؤتي امللك من ي�شاء
ﺯﻳﻊ
وينزعه ممن ي�شاء ،يعز من ي�شاء ويذل من ي�شاء ،فال تغرت كث ًريا بعزك
فهو عابر ،وال يحزنك عز َمنْ �أذلك �أو ظلمك فهو عابر كذلك ،ال �شيء
يدوم من هذه الأمور.
َ َ َ َّ ْ ِّ َّ َ َُ َْ ْ َ ُ ْ َ ِّ ِّ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ
ت ام َرأة عِم َران َرب إِن نذ ْرت لك ما ِف بط ِن م َّر ًرا فتقبل مِن إِنك }إِذ قال ِ
َ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ِّ ِّ َ ْ ُ َ ُ ْ َ يع الْ َعل َُ ْ َ َّ ُ
ِيم فلما َوضعتها قالت َرب إِن َوضعتها أنث َواهلل أعل ُم بِما أنت الس ِم
َّ َ َ ُ َ َ ُ ُ ِّ ْ
َ َّ ُ َ َ َ ِّ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ
َوضعت َوليس اذلك ُر كلنث َوإِن سميتها م ْري َم َوإِن أعِيذها بِك َوذ ِّريتها م َِن
الر ِج ِيم{ (آل عمران .)36 :35 الش ْي َطان َّ َّ
ِ
- 40 -
سورة آل عمران
ْ َ ُ ْ َ ُ َّ ً َ ِّ َ ً َّ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ ِّ َ ْ
لنك ذ ِّرية طيبة إِنك س ِميع }هنال ِك دع زك ِريا َربه قال َرب هب ِل مِن
ُ َ ِّ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ٌ ُ َ ِّ ُّ َ
شك بِيح َي اب أن اهلل يب ادلعءِ فنادته الملئ ِكة وهو قائ ِم يصل ِف ال ِمحر ِ
َ َ ِّ َ َّ ال َ َّ َ َ ِّ ً َ َ ُ ً َ ًّ َ َ ُ َ ِّ ً
ِني قال َرب أن ورا َونبِيا م َِن الص ِ مصدقا بِكلِم ٍة م َِن اهلل وسيدا وحص
َ َ َ ْ َ َ َ
ون ِل ُغل ٌم َوق ْد بَل َغ ِ َن الك َ ُِب َو ْام َرأ ِت َعق ٌِر ق َال ك َذل َِك اهلل َي ْف َع ُل َما ي َ َش ُاء{
َ ُ ُ
يك
(آل عمران .)40 :38
يلُ ُق َما ي َ َش ُ
َْ َ َ ْ َ ِّ َ َّ َ ُ ُ َ َ ٌ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ
اء ش قال كذل ِِك اهلل }قالت رب أن يكون ِل ول ولم يمسس ِن ب
َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ُ ُ
إِذا قض أم ًرا فإِنما يقول لُ كن فيكون{ (آل عمران )47
ﻋﺼ
�سيعرفك جرب اخلواطر على �أ�سرة ب�سيطة فقرية ،وامر�أة تنذر طفلها ﲑ ﺍﻟ
القادم بعد طول انتظار ،تبدو الأمور �صعبة بالن�سبة لها عندما ي�أتي الطفل
ﻜﺘ
فلي�س الذ َكر كالأنثى ،لكن جرب اخلواطر ي�أخذ هذه الأنثى �إىل مكانة
َّ �أنثى،
ﺐ ﻟﻠﻨ
غري م�سبوقة بني العاملني ،وت�أخذك ال�سورة مرة �أخرى �إىل �شيخ يكاد �أن
يفقد الأمل يف �صبي له ،لكن جرب اخلواطر من جديد يحقق له ما َب َدا
ﺸﺮ
مي�سها ب�شر� ،أي كدر وانك�سار هذا الذي �سيحدث معها ،لكن ومن غري �أن َّ
ﺯﻳﻊ
متاما ،و�سرنى مكرهم يحيقجرب اخلواطر يقودها �إىل طريق �آخر خمتلف ً
بابنها الح ًقا ،ولكن النهايات �ستجعله فوقهم على نحو غري م�سبوق.
َ َ ْ
َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َْ ْ ْ َ
ون{ ال َّق ب َ
ون َ
الاط ِِل وتكتمون الق وأنتم تعلم ِ }يا أهل الكِت ِ
اب ل ِم تلبِس
(آل عمران.)71 :
وقد يك�سر خاطرك �أن ترى �أهل الكتاب يلب�سون احلق بالباطل ويكتمون
احلق وهم يعلمون ،ولكن هذا يجب �أن يذكرك �أنه خطر حمدق حتى
بك ،بكل من يزعم �أنه يحمل «الكتاب» ،كل الطرق التي �ضلوا عربها هي.
- 41 -
القرآن نسخة شخصية
يف عز انك�سارك �ستقول ال�سورة لك� :إنك من خري �أمة ،لكن لن يرتكك
ﻋﺼ
ت�ستعمل ذلك ك�أفيون يخدرك عن واقعك ،بل �سيجعله جبرية وعي :الأمر
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
م�شروط ،فهل �أديت �شروطه؟ �أن ت�أمر باملعروف وتن َه عن املنكر يعني � ً
أي�ضا
�أن كلمتك يجب �أن تكون م�سموعة� ،أن لك مكانة جتعلك «قدوة» ،و�أنك مثال
ﺐ ﻟﻠﻨ
ملا ت�أمر به وتنهى عنه ،فهل �أديت هذه ال�شروط لكي حتقق هذا االنتماء؟
ﺸﺮ
َ ُ
َ ُ ْ ْ ُ َ َ َّ
ٌ َّ ُ ُْ َ
َْ َ َّ َ
} َول َق ْد نَ َ َ ُ َ
(آل ون{ صك ُم اهلل بِبد ٍر َوأنت ْم أذِلة فاتقوا اهلل لعلكم تشكر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عمران.)123 :
ﺯﻳﻊ
ت�أخذك ال�سورة �إىل �أعلى حلظات عزك� ،إىل حلظة الن�صر يف بدر،
فرييك ما جعلك الن�صر تن�ساه ،ويقول لك :لقد كنت ً
ذليل ك�س ًريا ،لكن
متاما ،ج َرب الن�صر ك�س َرك وما
�سارت الأمور �إىل عاقبة �أخرى خمتلفة ً
كنت فيه من ذل ،وتغريت نظرتك لنف�سك ونظرة النا�س �إليك.
ْ َْ َ ْ ُ َ ٌ
ني إِن يمسسك ْم ق ْرح } َو َل تَه ُنوا َو َل َتْ َزنُوا َو َأ ْن ُت ُم ْالَ ْعلَ ْو َن إ ْن ُك ْن ُت ْم ُم ْؤمن َ
ِِ ِ ِ
َّ َ َ ُ َ َ ْ ََ َّ َ َ َ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ٌ ْ ُ ُ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ُ َ ُ َ َ ْ
اس و ِلعلم اهلل الِين آمنوااولها بي انل ِ فقد مس القوم قرح مِثله وت ِلك اليام ند ِ
َ َ َّ َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ ُّ َّ
الظال ِ ِم َني{ (آل عمران .)140 :139 ويتخِذ مِنكم شهداء واهلل ل يِب
- 42 -
سورة آل عمران
ثم ت�أخذك ال�سورة �إىل ك�سر كبري� ،إىل يوم �أُ ُح ٍد ،فرت ِّبت على كتفيك كما
لو �أنك كنت هناك� ،إنه حال الدنيا ،تتغري الف�صول ،تلك الأيام نداولها بني
النا�س ،مرة له�ؤالء ومرة لأولئك ،لكن ال �سواء بال�ضرورة حتى لو ت�شابهت
الظروف ،فاملهم �أن تكون العاقبة خمتلفة.
تقب�ض عليك ال�سورة يف حلظة انك�سار هائل ،هوان وحزن ،وتقول لك:
�إنك الأعلى.
ً
م�شروطا� ،إن كنت م�ؤم ًنا. ثم مرة �أخرى جتعل ذلك
ﻋﺼ
ً
حمتمل، بل �إن جرب اخلواطر ي�أخذك حتى �إىل ك�سر مل يحدث ،لكنه كان
ﲑ ﺍﻟ
ك�سر كبري ج ًّدا� ،أن ُي ْقت ََل الر�سول -عليه ال�صالة وال�سالم -نف�سه.
ﻜﺘ
ُّ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ َّ ٌ َّ ُ ٌ َ ْ َ َ ْ ْ َ ْ
الرسل أفإِن مات أ ْو قتِل انقلبت ْم ع } َوما ممد إِل َرسول قد خلت مِن قبلِ ِه
ﺐ ﻟﻠﻨ
َّ
الشاك ِر َ َ ًْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ ََْ ْ ََ
ع َع ِق َب ْي ِه َفلَ ْن يَ ُ َّ
ين{ ِ اهلل ي ز
ِ ج ي س و ا ئ ي ش اهلل ض أعقابِكم ومن ينقلِب
ﺸﺮ
***
كل منا يوم بدر ،ويف حياة كل منا يوم أُ � ُحد ،وجبل مت حتذيرنا
يف حياة ٍّ
منه ،وطعنة م�ؤملة يف الظهر ،وهزمية موجعة مفجعة ،وخواطر مك�سورة.
أي�ضا �سورة �آل عمران ،ت�أتيك لتجرب ك�سرك وتط ِّيب جرحك ولكن هناك � ً
ومت�سح دمعتك ،كان ال�صراع مري ًرا يف «�سورة البقرة» ،وال بد �أنه ت�ض َّمنَ
ك�س ًرا كك�سر يوم �أُ ُحد� ،أو �أيام �أُ ُحد؛ لذلك ت�أتي بعدها �سورة �آل عمران؛
لتجرب ما ُك ِ�س َر.
- 43 -
القرآن نسخة شخصية
دوما ،انظر
خ�صي�صا ليهم�سوا يف �أذنيك :هذا يحدث ً
ً �آل عمران ي�أتونك
�إىل ال�صورة الكبرية� ،إىل العاقبة� ،إىل النهاية التي ت�ضم كل النهايات.
َ ُ ُْ َ َّ َّ ُ َ َ َُ ْ َّ َ
َ ُّ َ
ك ْم تفل ُِح َ
ون{ ُ
بوا َوصاب ِ ُروا َو َرابِطوا َواتقوا اهلل لعل
اص ُ
}يا أيها الِين آمنوا ِ
(آل عمران.)200 :
ﻋﺼ
وامل�صابرة خارجية ،جتاه الأمر املحيط بك ،وال ميكن �أن يحدث ما مل
ﲑ ﺍﻟ
ت�صبهم
أي�ضاِّ ، ً
تفاعل بينك وبني َمنْ حولك � ً يبد�أ من ال�صرب ،ويكون
ﻜﺘ
وي�صبونك.
ِّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
- 44 -
سورة النساء 4
عن المستضعفين في األرض
ورغم �أن ا�سمها �سورة الن�ساء� ،إال �أنها لي�ست فقط عن الن�ساء� ،إال �أنها
عن كل امل�ست�ضعفني يف الأر�ض؛ الن�ساء واليتامى وامل�ساكني ،كل من ميكن
ﻋﺼ
�أن يكون عر�ضة لال�ستغالل.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لكن هذه ال�سورة لي�ست لذرف الدموع على ه�ؤالء وال حتى للحث على
أ�صل على الكثري من التعاطف الذي ال التعاطف معهم ،فه�ؤالء يح�صلون � ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
ُي ْ�سمن وال ُي ْغني من جوع ،بل هي بب�ساطة لتغيري �أو�ضاعهم ،وتغيري هذه
ﺸﺮ
الأو�ضاع ال يحدث باملواعظ وال بالنوايا احل�سنة فقط ،بل بالقوانني ،بتغيري
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الأو�ضاع التي قادت �إىل ا�ستغالل �ضعفهم ،ولأن اال�ستغالل الأكرب كان ي�أتي
ﺯﻳﻊ
عن طريق جعل ه�ؤالء يف حالة حاجة «مادية» ف�إن �أول خطوة كانت يف ك�سر
هذا الو�ضع وتغيريه.
تخلي�صهم من «ال َع َو ِز املادي» وجعلهم «م�ستقلني» مال ًّيا هو �أول خطوة
يف هذا.
يب م َِّما تَ َر َك ال ْ َو ِ َ ِّ َ َ ٌ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ
ون َول ِلنِّ َساءِ نَص ٌ
ان
ِ ال ِ ان والقرب }ل ِلرج ِ
ال ن ِصيب مِما ترك الو ِال ِ
َ َ
َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ ْ ُ ْ ُ َ َ ً َ ْ ً
َ
ث ن ِصيبا مف ُروضا{ (النساء)7 : والقربون مِما قل مِنه أو ك
- 45 -
القرآن نسخة شخصية
ُ ْ َّ َ ْ ُ َ ِّ ْ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َ ً َ َ ََْ ُ ُ ُ
اء ف ْوق ي فإِن كن ن ِس وصيكم اهلل ِف أولدِكم ل ِذلك ِر مِثل حظ النثي ِ }ي ِ
َُْ َ َ ْ ُ ِّ ْ ُ َ ً َََ ََْْ ََُ َُُ َ َ َ ْ َ َ ْ
ي فله َّن ثلثا ما ت َرك َوإِن كنت َواحِدة فلها انلِّصف َو ِلب َوي ِه ل ِك َواح ٍِد مِنهما اثنت ِ
ُ
َ ُ َ َ ِّ ُّ ُ ُ َ ْ َ ك ْن َلُ َو َ ٌُّ ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ
ل َو َو ِرثه أب َواهُ ف ِلم ِه اثللث فإِن السدس مِما ترك إِن كن ل ول فإِن لم ي
َْ ُ ُ َ َْ َ ُ ُ َ َ َّ ُ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ ٌ َ ُ ِّ
وص بِها أ ْو دي ٍن آباؤك ْم َوأبناؤك ْم كن لُ إِخ َوة ف ِلم ِه السدس مِن بع ِد َو ِصي ٍة ي ِ
َ َ ْ ُ َ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ َ ْ ً َ َ
يض ًة م َِن اهلل إ ِ َّن اهلل َك َن َعل ًِيما َحك ًِيما{ ل تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ف ِر
(النساء)11 :
َ َْ ُ ُ َ ْ َُ َ َّ ِّ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ َ
ب َول تأكلوا أم َواله ْم إِل
ِ ي الطِ ب يث}وآتوا التام أموالهم ول تتبدلوا البِ
َ ْ َ ُ ْ َّ ُ َ َ ُ ً
ﻋﺼ
ريا{ (النساء)2 :وبا َكب ً أموال ِكم إِنه كن ح
ﲑ ﺍﻟ ِ
بعد �أن كانت املر�أة عند �أغلب قبائل العرب تو َر ُث كما يو َرث املتاع عندما
ﻜﺘ
يتوفى عنها زوجها(((� ،أ�صبحت �شري ًكا يف الإرث كما الآخرين ،و�سيتغري
ﺐ ﻟﻠﻨ
بذلك ح�ساب �إرث اجلميع� ،أول درو�س �إزالة اال�ست�ضعاف ت�أتي هنا حتديدً ا،
ﺸﺮ
أي�ضا ،وحتى �صغار الذكور الذين ذلك الأمر الزوجة �إىل البنت والأخت � ً
ﺯﻳﻊ
كانوا ال يرثون �ساب ًقا؛ لأنهم ال يعتربون عند القبيلة قوة مهمة ما داموا غري
قادرين على حمل ال�سيف ح�سب �أعراف العرب((( ،الآن الأمر اختلف ،لقد
�أُ ِع َيد ر�سم كل �شيء ،و�ضمن ما ُر ِ�س َم كانت تلك احلدود التي تف�صل بني
ال�ضعف واال�ست�ضعاف ،حدود اهلل ،مل ي ُع ْد من ال�سهل ا�ستغالل و�ضع املر�أة
ْ َ ُ ُ ُ
�أو اليتيم ما دام قد �أ�صبح �شري ًكا� ،سماها القر�آن حدود اهلل.} ،ت ِلك حدود
َ َ ْ َْ َ ْ َْ َ ُ َ َْ َ َ ُ َ ُ ُ ْ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ
ِين فِيها
الار خ ِ ات ت ِري مِن تتِها النه
اهلل ومن يطِعِ اهلل ورسول يدخِله جن ٍ
يم{ (النساء)13 : َو َذل َِك الْ َف ْو ُز الْ َعظ ُ
ِ
ﻋﺼ
الاط ِِل إِل أن تكون ِتارة عن تر ٍ ِ تأكلوا أموالكم بين
ً َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َّ
ﲑ ﺍﻟ
أنفسك ْم إِن اهلل كن بِك ْم َرحِيما{ (النساء )29 :28
ﻜﺘ
ال�سورة تقول لنا� :إن الإن�سان ُخ ِلقَ �ضعي ًفا ،لكنها تف ِّرق بني هذا وبني
ﺐ ﻟﻠﻨ
مر�شح لأن يكون م�ست�ضع ًفا يف مرحلةوال اليتامى وامل�ساكني فقط ،كل منا َّ
ما ،يف منعطف ما من حياته ،قد يتعر�ض لظلم ،ملن ي�أخذ حقه ،لظلم
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
دوما اال�ست�ضعاف مرتبط بظلم ظامل من �شخ�ص �أ�شد قو ًة ي�ستغل قوتهً ،
ﺯﻳﻊ
ِّ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ِّ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َُ ُ َ
ال َوالنساءِيل اهلل والمستضع ِفني مِن الرج ِ ِ ِ ب س فِ ون }وما لكم ل تقات ِل
ْ َ ْ َْ ُ
ْ َ َ َ َ َّ ْ َ
َّ َ َ ُ ُ َ َّ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َْ
ِين يقولون َربنا أخ ِرجنا مِن ه ِذه ِ الق ْري ِة الظال ِِم أهلها َواجعل لَا مِن ان الوال ِول ِ
ك نَ ِص ً َ ُ ْ َ َ ًّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ
ريا{ (النساء.)75 : لنك و ِلا واجعل لا مِن لن
ِّ
م�صاف �ستقول لنا ال�سورة� :إن تغيري و�ضع ه�ؤالء ي�ستحق �أن يكون يف
ُْ ْ َ ْ
ض َعف َ َ َ َ َ ُ ْ َ َُ ُ َ
ني م َِن يل اهلل َوالمست ِ
القتال يف �سبيل اهلل} ،وما لكم ل تقات ِلون ِف سبِ ِ
ْ ْ
الر َج ِال َوالنِّ َساءِ َوال ِو َلان{� ،إنها �سورة كل امل�ست�ضعفني ولي�س الن�ساء فقط.
ِّ
َُ َ َ َْ ُ ُ َ ْ َ َ َ ُْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ
ات مِن ذك ٍر أ ْو أنث َوه َو مؤم ٌِن فأول ِك يدخلون الص ِ َ }ومن يعمل مِن
ﻋﺼ
ال ِ
ْ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ُ َ
ون نَ ِق ً
ﲑ ﺍﻟ
ريا{ (النساء)124 : النة ول يظلم
ﻜﺘ
الذ َك ِر والأنثى ،لكن لي�س عند رب نعم ،رمبا هناك اختالفات بني َّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
احل َك ِم العدل.
اخلري ،وت�ؤكد �أن اجلميع �سوا�سية عند َ
ُ َ َْ ََ َْ ُ َ َ ُّ َ َّ َ َ
ﻭ
اء هلل َولو ع أنف ِسك ْم أ ِو ِني بالْ ِق ْس ِط ُش َه َد َ آم ُنوا ُكونُوا َق َّوام َ
ﺍﻟﺘﻮ
َ َ َ َ َّ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ًّ ْ َ ً َ
ريا فاهلل أ ْول ب ِ ِهما فل تتبِعوا اله َوى أن الو ِالي ِن والقربِني إِن يكن غنِيا أو ف ِق
ون َخب ً َ َ َ ََْ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ ُ َ َّ
ريا{ (النساء)135 : ِ لم ع ت ا م ِ ب ن ك اهلل ن تعدِلوا وإِن تلووا أو تع ِرضوا فإ ِ
وتقول لنا ال�سورة� :إن العدل والقيام بالعدل وحده هو الذي ميكن �أن
يزيل اال�ست�ضعاف يف الأر�ض ،وهذا ال ميكن �أن يحدث بال�شعارات وال
بالدعوة لذلك وال حتى بتغيري مفاهيم النا�س فح�سب.
أي�ضا �أن ُي ْق َرنَ بالقانون.
بل يجب � ً
- 48 -
سورة النساء
ولذلك عندما تنتهي ال�سورة فهي تنتهي بحكم �آخر من �أحكام املرياث،
يف �آية الكاللة ،كما لو �أنها تقول� :إن كل احلديث عن الق�سط والعدل يجب
�أن ُي َق َّي َد بقانون ،يجب �أن ُي َق َّ َن ،يجب �أن يجد ما يحميه ويحققه.
***
فلنتذكر هنا �أن منح احلقوق للمر�أة �أو لأي م�ست�ض َع ٍف يف الأر�ض ،لي�س
منحة وال منة من �أحد ،بل هو واجب ،بال�ضبط هو �إرجاع احلق ل�صاحبه،
الذي قد ال يعرف � ً
أ�صل �أنه حقه!
ﻋﺼ
َ ْ َّ َ َ َْ َ َ َ َ َ ُْْ َْ َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ ْ َ َ َ َّ
اس أن
ات إِل أهلِها وإِذا حكمتم بي انل ِ }إِن اهلل يأمركم أن تؤدوا المان ِ
ﲑ ﺍﻟ
َ َ َ ً
يعا بَ ِص ً َّ َّ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َّ
ريا{ (النساء)58 : تكموا بِالعد ِل إِن اهلل ن ِ ِعما ي ِعظك ْم ب ِ ِه إِن اهلل كن س ِم
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف منت�صف ال�سورة جند هذا احلوار الذي ال ميكن �إال �أن يجعلنا نفكر
ﺸﺮ
}إِن ال
َ َُ َ َ ُ َ ًَ ََُ َ ُ ََْ َ ُ ْ َْ ُ ْ َْ ُ ْ َ ْ َ َ
جروا فِيها فأول ِكمستضع ِفني ِف الر ِض قالوا ألم تكن أرض اهلل وا ِسعة فتها ِ
اء ْت َم ِص ً ََْ ُ
اه ْم َج َه َّن ُم َو َس َ
ريا{ (النساء)97 : مأو
ﻋﺼ
الأمر �صادم ،مظلوميتك التي رمبا كانت «عذ ًرا» تربر به �أمو ًرا كثرية
ﲑ ﺍﻟ
دليل �ضدك.قد تكون ً
ﻜﺘ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�سورة الن�ساء لي�ست عن الن�ساء فقط ،بل عن الإن�سان ككل ،ال ميكن
ﺯﻳﻊ
- 50 -
المائدة 5
الطبيعة البشرية بال تجميل وال فوتوشوب
ﻋﺼ
لوجه ،وت�ضع لك النقاط على احلروف بحيث يبدو كل �شيء يف �أق�صى
ﲑ ﺍﻟ
حاالت و�ضوحه.
ﻜﺘ
ْ ُ ُ ُ َّ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ُ ْ َ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُ
ام إِل ما يتلآمنوا أ ْوفوا بِالعقو ِد أحِلت لكم ب ِهيمة النع ِ }يا أيها الِين
ﺸﺮ
وكل ما يلي �سيبني لك �أن احلياة كلها ميكن �أن تكون جمموعة من
ﺯﻳﻊ
العقود التي ينبغي االلتزام بها ،و�أن الطبيعة الب�شرية حتتاج �إىل �أن يكون
هناك «عقد» � ًأول ،ومن َث َّم حتتاج �إىل �أن تلتزم ببنود هذا العقد ،دون وجود
عقود ملزمة متيل الطبيعة الب�شرية �إىل �أن تتمادى� ،إىل �أن تتجاوز� ،إىل �أن
تذهب �إىل �أ�سفل ما فيها و�أكرث جوانبها ظلم ًة.
ُ َّ ْ َ ُ َ َ ُ
�سيبد�أ الأمر بوجود عقد �أو ت�شريع يخ�ص الطعام }أحِلت لك ْم ب ِهيمة
َْ
ال ْن َع ِام{ ،و�سيكون هناك تعليمات �أخرى تخ�ص الطعام متنع امليتة والدم
أو�ضاعا معينة لأنعام هي حالل بالأ�صل.
وحلم اخلنزير ،و�أخرى حت ِّرم � ً
- 51 -
القرآن نسخة شخصية
ُْْ َ َ ُ َ َ ُ َّ َ ْ ُ ِّ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ ْ
ي اهلل ب ِ ِه َوالمنخنِقة ِ ِغ ل ِل ه أ ا م و }حرمت عليكم الميتة وادلم َ ولم ال ِ ِ
ير ِن
ُ َّ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ْ ُ َ َ ِّ َ ُ َ َّ َ ُ َ َ َ َ َّ
الس ُب ُع إِل َما ذك ْي ُت ْم َو َما ذب ِ َح َ َع انلُّ ُص ِب{ والموقوذة والمتدية وانل ِطيحة وما أكل
(املائدة)3 :
لكن ملاذا هذا الأمر مهم ج ًّدا لدرجة �أن ال�سورة تبد�أ به؟
بب�ساطة لأن الإن�سان «م�ضطر» �إىل طعامه كي ي�ستمر باحلياة ،ال �شيء
�سيغري هذه احلقيقة ،وعندما ترت�سخ عنده فكرة وجود عقد يحتوي على
ممنوعات وم�سموحات يف طعامه ،ويعتاد عليها وعلى االلتزام بها ،ف�إن
ﻋﺼ
فكرة العقد نف�سها والوفاء بالعقد �ستتكر�س �أكرث و�أكرث.
ﲑ ﺍﻟ
َ َْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ
ال َرام َول الهد َي َول القلئ ِد ِين آمنوا ل تِلوا شعائ َِر اهلل ول الشهر}يا أيها ال
ﻜﺘ
َ َ ِّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ ً ْ َ ِّ ْ َ ْ َ ً َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ
ول آمني اليت الرام يبتغون فضل مِن رب ِهم ورِضوانا وإِذا حللتم فاصطادوا
َْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ْ
ﺐ ﻟﻠﻨ
اونوا ع ج ِد الر ِام أن تعتدوا وتع ول ي ِرمنكم شنآن قومٍ أن صدوكم ع ِن المس ِ
َ ُ ْ َ َّ ْ ِّ َ َّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ُ
ﺸﺮ
وال�صيد يف احلرم ،حتى يف احلرب هناك «عقد» يجب �أن يوفى به ،حتى
ﺯﻳﻊ
َ َ ْ َ َّ ُ َ َ ُ
مع ظلم البع�ض هناك التزام بعقد �أن تعدل معهمَ } ،ول ي ِرمنك ْم شنآن
ُ َ َّ َ
ق ْومٍ َ َع أل َت ْعدِلوا{.
هذه العقود �أو الت�شريعات التي قد تبدو ب�سيطة هي منوذج م�صغر
للميثاق الأكرب ،لعهد وعقد �أكرب على الإن�سان �أن يويف به ويلتزم به،
وال�سورة تتدرج معنا يف فهم ذلك؛ من عقود يومية �سهلة يف الأداء (فيما
يخ�ص الطعام ً
مثل) �إىل ما هو �أكرب و�أ�شمل.
***
- 52 -
سورة املائدة
ْ َ َ ََ ََْ ُْ ُ ْ َْ َ َ َ َ ً َ َ َ َ َ ََ ْ َ َ َ
ش ن ِقيبا َوقال اهلل } َولقد أخذ اهلل مِيثاق ب ِن إِسائ ِيل وبعثنا مِنهم اثن ع
َ ُُ ُ َْ ْ ُ ُ ِّ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ ْ ُ
الزكة َوآمنت ْم ب ِ ُرس ِل َوع َّز ْرتموه ْم َوأق َرضت ُم إِن معكم ل ِئ أقمتم الصلة وآتيتم
ْ َْ َ َْ َ ْ ً َ َ ً َ ُ َ ِّ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ َّ
ات ت ِري مِن تتِها اهلل قرضا حسنا لكفرن عنكم سيئات ِكم ولدخِلنكم جن ٍ
السبيل َ فب َما َن ْقضهمْ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َّ
ِ ِ ِ ِ ِ النهار فمن كفر بعد ذل ِك مِنكم فقد ضل سواء
َ َ ُ َ ًّ َّ َ َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ً ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ ْ ََ
اض ِع ِه ونسوا حظا مِما مِيثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قا ِسية يرفون الكِم عن مو ِ
َ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ً ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ ُ ِّ
ذك ُروا ب ِ ِه ول تزال تطلِع ع خائ ِن ٍة مِنهم إِل قلِيل مِنهم فاعف عنهم واصفح إِن
ني{ (املائدة .)13 :12اهلل ُي ُّب ال ْ ُم ْحسن َ
ِ ِ ِ
ت�أخذنا �سورة املائدة �إىل ميثاق بني �إ�سرائيل الذي ُن ِق َ�ض بق�سوة قلوبهم
ﻋﺼ
وحتريفهم ملقا�صد كتابهم (ق�سوة القلب وحتريف املعاين ،هل يذكرنا هذا ﲑ ﺍﻟ
ب�شيء؟)
ﻜﺘ
َ ُ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ِّ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ََْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َْ ْ َ َ َ
ون{ اء إِل ي ْو ِم ال ِقيام ِة َوس ْوف ينبئه ُم اهلل بِما كنوا يصنع بينهم العداوة والغض
ﺸﺮ
(املائدة.)14:
ﻭ
أي�ضا �إىل ميثاق الن�صارى الذي ُن ِق َ�ض بتفرقهم وبغلوهم يف وت�أخذنا � ً
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ُّ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َْ َ َ ُ َ ُ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ ً َ َ ُ
}قالوا يا موس إِنا لن ندخلها أبدا ما داموا فِيها فاذهب أنت َو َربك فقات ِل إِنا
ََ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ِّ َ َ ْ ُ َّ َ ْ َ َُ َ ُ َ
ي الق ْو ِم هاهنا قاعِدون ( )24قال َرب إِن ل أملِك إِل نف ِس وأ ِخ فافرق بيننا وب
َ َ َْ َ َْ َ َ َ َّ َ ُ َ َّ َ ٌ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ً َ ُ َ الْ َفاسق َ
ني سنة يتِيهون ِف ال ْر ِض فل تأس ني ( )25قال فإِنها مرمة علي ِهم أرب ِع ِ ِ
ني{ (املائدة )26 :24ع الْ َق ْو ِم ال َفاسق َ
ْ ََ
ِ ِ
رمبا كنت تتوهم �أنك على �صراط م�ستقيم� ،أنك على الطريق ال�صواب.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إنها الطبيعة الب�شرية عندما تكون بال ميثاق وال عقد وال بو�صلة� ،ستتيه،
�ستكون مر�صودة للتيه.
ﺸﺮ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ِّ ْ َ َ ُ َ ً َ ُ ُ ِّ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ َّ ْ
الق إِذ ق َّربا ق ْربانا فتقبل مِن أح ِدهِما َول ْم يتقبل
ﺯﻳﻊ
من �أر�ض التيه �ست�أخذنا ال�سورة �إىل �أ�صل الق�صة� :إىل �أول جرمية يف
تاريخ الطبيعة الب�شرية ،عندما قتل قابيل هابيل ،الدافع؟ الغرية ،احل�سد.،
- 54 -
سورة املائدة
ﻋﺼ
ي نف ٍس أ ْو فسا ٍد }مِن أج ِل ذل ِك كتبنا ع ب ِن إِسائ ِيل أنه من قتل نفسا بِغ ِ
َ َ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ ً َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َّ َ َ ً َ َ َ ْ َْ
ﲑ ﺍﻟ
ِف ال ْر ِض فكأنما قتل انلاس جِيعا ومن أحياها فكأنما أحيا انلاس جِيعا ولقد
َْْ َُ ْ ُ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ َ ْ َ ِّ َ ُ َّ َّ َ ً ْ ُ َ ْ َ َ َ
ﻜﺘ
َّ َ
سفون ( )32إِنما ِ ريا مِنه ْم بعد ذل ِك ِف الر ِض لم ات ثم إِن كثِجاءتهم رسلنا بِالين ِ
َ َ ً َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ ْ َْ َ َ ُ َُ ََْ َْ َ َ َ ُ َّ َ ُ َ ُ َ
اربون اهلل ورسول ويسعون ِف الر ِض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا جزاء الِين ي ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ َ َ َ َ َ ً
اء بِما كسبا نكال م َِن اهلل َواهللارقة فاقطعوا أيدِيهما جز }والس ِ
ارق والس ِ
َعز ٌ
يز َحك ٌ
ِيم{ (املائدة.)38: ِ
قد يعدها البع�ض قا�سي ًة ،لكنها الطبيعة الب�شرية للأ�سف� ،إن مل ُت ْل ِج ْم َها
بردع وقوة� ،سيحدث معها التمادي بكل �أ�شكاله ،الق�صا�ص ال بد منه لي�س
لعقوبة «املجرم» فقط ،ولكن ملنع جمرمني كامنني �آخرين يف الطبيعة
الب�شرية من الظهور.
- 55 -
القرآن نسخة شخصية
تلك الطبيعة الب�شرية عندما تكون بال عقد وال رادع ،تكون هي
«اجلاهلية» بعينها.
ُ ُ َ ُ ْ ً َْ ك َم ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َََ ُ ْ
ون{ يوق ِن الا ِهلِي ِة يبغون َومن أحسن مِن اهلل حكما ل ِقومٍ }أفح
(املائدة)50:
اجلاهلية هي �أن ترتك الطبيعة الب�شرية بال تهذيب وال تعليم وال التزام
أنا�سا ي َّد ُعون �أنهم
برادع �أو قانون ،و�ستحتوي على تدرجات وا�سعة وت�شمل � ً
�ضد اجلاهلية و�أنهم يحاربونها و�أنهم �إمنا يريدون حكم اهلل ،لكنهم يف
ﻋﺼ
احلقيقة التطبيق العملي ملعنى اجلاهلية الأعمق.
ﲑ ﺍﻟ
البع�ض منهم �سيتنازل عن �إن�سانيته ويرتد �إىل م�ستوى حيواين يف
ﻜﺘ
(الطاغوت).
ُ ْ َ ْ ُ َ ِّ ُ ُ ْ َ ٍّ ْ َ َ َ ُ َ ً ْ َ
ﺸﺮ
ازير وعبد الطاغوت أول ِك ش مكنا وأضل عن سواءِ وجعل مِنهم ال ِقردة والن ِ
ﺍﻟﺘﻮ
َّ
ﺯﻳﻊ
- 56 -
سورة املائدة
ﻋﺼ
عند الإن�سان ،الربح املبني على حم�ض «احلظ» ال على اجلهد والعرق،
ﲑ ﺍﻟ
وهذا � ً
أي�ضا قد يربز فيه �أ�سو�أ ما فيه.
ﻜﺘ
الطبيعة الب�شرية التي ال تكف عن الطلب ،حتى عند امل�ؤمنني ،هذه املرة
ﺸﺮ
اريون يا عِيس ابن مريم هل يست ِطيع ربك أن ينل علينا مائ ِدة }إِذ قال الو ِ
ُ ْ َ ُ َ ُ َ َّ َ َ َ
ﺯﻳﻊ
***
نزلت مائدة ال�سماء على حواريي ال�سيد امل�سيح� ،أما املائدة التي �أُ ْن ِز َل ْت
لنا فهي مائدة مواجهة مع النف�س ومع الطبيعة الب�شرية ،مائدة نواجه
فيها تاريخ ما م�ضى وجتاربه املريرة ،مائدة تقلب الطاولة على الكثري من
الأوهام فيما يتعلق بالطبيعة الب�شرية.
- 57 -
القرآن نسخة شخصية
وج ًها لوجه مع �أنف�سنا ،على تلك املائدة ،نعم ،نحتاج �إىل قوانني رادعة،
دوما قابيل يقتل هابيل ،و�أر�ض التيه
�إىل ت�شريعات ملزمة ،و�إال ف�إن هناك ً
حميطة بنا ويف انتظارنا ،نحتاج �أن نكون �صادقني مع حقائق الطبيعة
الب�شرية «امل�ؤ�سفة» لكي نقر باحتياجاتها ،نحتاج ال�صدق يف مواجهة ذلك.
ال�صدق.
ُ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُ َّ
الصا ِدق َِني ِص ْدق ُه ْم{. تنتهي ال�سورة ب�آية تقول لنا} :هذا يوم ينفع
للخروج من التيه ،ولكي مننع قابيل �آخر من �أن يقتل هابيل جمددًا.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 58 -
سورة األنعام 6
أهم عالقة في حياتك
ﻋﺼ
وال حتى عن عالقتك بنف�سك.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ال�سورة هي �أول �سورة مكية من طوال ال�سور؛ لذا فهي بال حديث عن
ﻭ
ت�شريع �أو عقود ،ال وجود للمنافقني فيها ،وال �شيء عن اليهود ،وهي �أمور
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
الآن بعد �أن اجتزتَ كل هذا ،ت�صل �إىل العالقة الأهم يف حياتك.
ملاذا لي�س قبل هذا؟ �أال يفرت�ض �أن تركز على هذه العالقة قبل كل
�شيء؟
لي�س بال�ضرورة ،فكل ما �سبق ميكن له �أن ي�شو�ش عليك يف عالقتك
تلك� ،صراعك املرير مع الواقع من حولك ومع الك�سر الذي فيك ومع
اال�ست�ضعاف ومع طبيعتك الب�شرية ميكن له �أن ي�ؤثر �سلب ًّيا على كل
عالقاتك ،حتى العالقة الأهم؛ لذا فت�س ْل ُ�سل �سور القر�آن يجعلك «حت ُّل»
ق�ضاياك العالقة � ًأول� ،أو على الأقل ت�صبح �أكرث وع ًيا بها ،قبل �أن ُي ْد ِخلك
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
�إىل ال�سورة التي ت�أخذك �إىل العالقة الأهم يف حياتك ،طب ًعا هذا ال يعني
ﻜﺘ
�أن ما �سبق كان خال ًيا من هذه العالقة ،ال بالت�أكيد ،فكل ما يف �سور القر�آن
يرتبط بهذه العالقة بطريقة �أو ب�أخرى ،لكن احلديث هو عن �أهم و�أبرز ما
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
تبد�أ هذه ال�سورة مبا بد�أ به القر�آن كله :باحلمد ،هذه العالقة الأهم يف
دوما من ناحيتك باحلمد ،مهما كان ومهما حدث ،احلمد، حياتك �ستبد�أ ً
لكنك متر �أحيا ًنا مبا يجعل هذا �صع ًبا.
ُْ َ ْ َ ريوا ف ْالَ ْر ِض ُث َّم ْان ُظ ُروا َك ْي َف َك َن َعق َِب ُة ال ْ ُم َك ِّذب َُ ُْ
ني قل ل ِمن ما ِف ِ }قل ِس َ ِ
َّ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َ ََ ََ َْ ُْ ْ ْ َّ َ َ
الرحة َلجمعنك ْم إِل ي ْو ِم ال ِقيام ِة ل ات َوالر ِض قل هلل كت َب ع نف ِس ِه السماو ِ
َّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ُ َ َْ َ
سوا أنفسه ْم فه ْم ل يؤمِنون{ (األنعام .)12 :11 ريب فِي ِه الِين خ ِ
- 60 -
سورة األنعام
ﻋﺼ
نن�ساها دائ ًما بينما نن�ساق �إىل التكذيب واجلدال بحق وبغريه.
ﲑ ﺍﻟ
ت�أخذك �سورة الأنعام �إىل الأر�ض ،ت�سري بك لتتجول فيها عرب مقطع
ﻜﺘ
يدر�س تاريخا وينظر يف م�صائر �أممها ،وت�أخذك �إىل هذا الكون ً عر�ضي
ﺐ ﻟﻠﻨ
امل�صنوع بدقة ،كم تبدو �صغ ًريا عندما تقارن نف�سك فيه ،لكن ال�سورة ال
أي�ضا� :إن خالق تدعك تق ِّلل من �ش�أنك وتن�ساق يف ذلك ،بل هي تقول لك � ً
ﺸﺮ
هذا الكون قد �أمرك �أن تكون �أول َمنْ �أ�سلم له� ،أول امل�سلمني.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ُ ْ ُ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ
ون َّن م َِن ال ْ ُم ْشك َ
ِني{ (األنعام.)14: ِ أمِرت أن أكون أول من أسلم ول تك
اب
مِن داب ٍة ِف الر ِض ول طائ ٍِر ي ِطري ِبناحي ِه إِل أمم أمثالكم ما فرطنا ِف الكِت ِ
ون{ (األنعام.)38 :
ش َ ش ٍء ُث َّم إ َل َر ِّبه ْم ُيْ َ ُ
م ِْن َ ْ
ِ ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺸﺮ
َ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ً َ ً ِّ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َْ ُ َ
ِيم ِلبِي ِه آز َر أتتخِذ أصناما آل ِهة إِن أ َراك َوق ْومك ِف ضل ٍل }وإِذ قال إِبراه
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ْ
ون م َِن ال ُموقِن َ ُ َ ْ
َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َْ َ َ ََ َ َ ُ ُ
ﺯﻳﻊ
ني ِ ات والر ِض و ِلك ني وكذل ِك ن ِري إِبراهِيم ملكوت السماو ِ مبِ ٍ
ِب ْالفِل َ َ َ َّ َ َّ َ َ ْ َّ ْ ُ َ َ َ ْ َ ً َ َ َ َ َ ِّ َ َ َّ َ َ َ َ َ
ال َل ُأح ُّ
ِني فلما جن علي ِه الليل رأى كوكبا قال هذا رب فلما أفل ق
ئ ل َ ْم َي ْهدِن َر ِّب َلَ ُ َ َّ َ الْ َقو ِمَْ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ ً َ َ َ َ َ ِّ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ ْ
كونن مِن ِ فلما رأى القمر بازِغ قال هذا رب فلما أفل قال ل ِ
َّ ْ َ َ َ ً َ َ َ َ َ ِّ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ َْ َ َ َّ َ َ الضالِّ َ
َّ
ازغة قال هذا رب هذا أكب فلما أفلت قال يا قو ِم ِ ب س مالش ى أ ني فلما ر
َْ َ َ ً َ َ َ َّ َ َ ِّ َ َّ ْ ُ َ ْ َ َّ ِّ َ ٌ َّ ُ ْ ُ َ
ات َوال ْرض حنِيفا ه ل ِلِي فطر السماو ِ شكون إِن وجهت وج ِ إِن ب ِريء مِما ت ِ
ِني{ (األنعام )79 :74 َو َما َأنَا م َِن ال ْ ُم ْشك َ
ِ
ثم ت�أخذك ال�سورة �إىل حوار �إبراهيم و�أبيه ،وتلك الليلة التي قرر فيها
�إبراهيم �أن يواجه معبودات قومه.
- 62 -
سورة األنعام
ﻋﺼ
وجهه لفاطر ال�سماوات والأر�ض ،اكت�شف بداهة اخلالق ووحدانيته بعقله
ﲑ ﺍﻟ
قبل �أن يتنزل عليه الوحي ،وفتح لنا الدرب كي نوفق بني عقلنا و�إمياننا،
ﻜﺘ
تلك الليلة ال تزال ت�شع نو ًرا ميكننا �أن نتلم�سه ونتح�س�سه كلما حا�صرتنا
ُظ ْل َم ُة ال�شك والت�شكيك وظلمة اجلمود والظالميني(((.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺸﺮ
َ ُ
ﻭ
وكما �ساح �إبراهيم يف ملكوت اهلل بعقله ت�أخذنا ال�سورة �إىل }فال ِق
ﺍﻟﺘﻮ
َ ُ
ال ِّب َوانلَّ َوى{ و«خمرج احلي من امليت وخمرج امليت من احلي» }فال ِق َْ
ﺯﻳﻊ
َ ْ َ ْ َ َ َ ٌ ُ ُ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ً ُُ ََ ُ َ
جنا َوإِن يكن ميتة ورنا ومرم ع أزوا ِ ِ كلِ ة ِص ل ا خ ِ
ام عن ال ِ ه ذ
ِ ه ون
ِ ط ب ف ِ ا م وقالوا
ِيم{ (األنعام .)139 :138
َ
ِيم عل ٌ ُ َّ ُ َ ْ
شك ُء سيجزيه ْم َوصفه ْم إنه َحك ٌ ْ َ َ َ َف ُه ْم فِي ِه َ
ُ
ِ ِ ِ
ملاذا الأنعام؟ ت�شري ال�سورة يف �أكرث من مو�ضع �إىل تالعب امل�شركني يف
عالقتهم بالأنعام وتق�سيمها ،مرة يق�سمونها لتكون حمرمة على الإناث،
ومرة تكون فقط ل�سدنة الأوثان ،مرة ُي ْذ َك ُر عليها ا�سم اهلل ومرة �أ�سماء
الأوثان.
لكن هذه الأنعام مل تكن جمرد �أنعام ،كانت دعامة من دعائم االقت�صاد
قليل لوجدنا �أن هذا التالعب �آنذاك ،كانت مثل «ر�أ�س املال» ،ولو فكرنا ً
ﻋﺼ
بر�أ�س املال عرب الدين وعرب ال�شعارات الدينية التي ُت ْظ ِهر الورع و ُت ْب ِطن
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
الربح يف التجارة.
يوما ما ،ميكن �أن يكون ال�سورة تنبهنا �إىل ذلك ،وما كان ا�سمه �أنعام ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
ا�سمه املال� ،أو ر�أ�س املال اليوم� ،أو �أي �صيغة و�شكل من �صيغه و�أ�شكاله.
ﺸﺮ
لي�س هذا فقط ،ف�ضعف عالقتك به عز وجل لن يقود فح�سب �إىل �أن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أي�ضا جز ًءا من «عملية الرتبح» لكنه ميكن �أن يقودك �إىل �أن تكون �أنت � ً
التي يديرها البع�ض� ،أن تكون كالأنعام التي يربحون عرب التالعب
مبقدراتها.
عالقتك به -عز وجل -هي الفي�صل الفارق احلا�سم بني �أن تكون �أنت،
و�أن تكون من الأنعام ،كلها يف النهاية «�أمم �أمثالكم» ،لكن الإن�سان لديه
خيار �آخر؛ � َّأل يكون كالأنعام.
***
- 64 -
سورة األنعام
ً َ ً َّ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َ ِّ َ َ ُ ْ َ
ِيم حنِيفا َوما كن يم دِينا قِيما مِلة إِبراهاط مست ِق ٍ }قل إِن ِن هد ِان رب إِل ِص ٍ
َ اي َو َم َمات هلل َر ِّب الْ َعالَم َ َ َْ
م َي َ ُُ ُ ْ َّ َ َ م َِن ال ْ ُم ْشك َ
ني ل ِ ِ ِني قل إِن صل ِت َونس ِك و ِ
َ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ
شيك ل وبِذل ِك أمِرت وأنا أول المسلِ ِمني{ (األنعام )163 :161 ِ
تنتهي ال�سورة بذلك االكت�شاف الذي �أنار �شعلته �سيدنا �إبراهيم �أول
ِّ َ ََْ َ َ َ ُُ ُ ْ َّ َ َ
اي َومم ِات هلل َرب مرة ،و�أكمله �سيدنا حممد} ،قل إِن صل ِت َونس ِك ومي
َ َ ُ َ َ َ
ني{ (األنعام .)163 :162يك َلُ َوب ِ َذل َِك أم ِْر ُت َوأنَا أ َّو ُل ال ْ ُم ْسلِ ِم َ ش
ِ ل الْ َعالَم َ
ني ِ
ال يزال هذا الأمر م�ضي ًئا ،وال يزال ميكنه �أن ينري ليايل �ش ِّكك وحريتك،
ﻋﺼ
وتكت�شف ذلك الأول الكامن فيك.
ﲑ ﺍﻟ
ُ ِّ َ َ ُْ َ
}قل أ َغ ْ َ
ي اهلل أبْغ َر ًّبا َو ُه َو َر ُّب ك ْ
ش ٍء{؟ تت�ساءل الآيات يف خامتة
ﻜﺘ
ِ
ال�سورة بعد �أن قادتنا من «احلمد» �إىل فالق احلب والنوى وخالق ال�سماوات
ﺐ ﻟﻠﻨ
- 65 -
سورة األعراف 7
األنا في النحن
ﻋﺼ
َ َْ
م َي َ ُُ َ ت َو ْج ِ ََ َّ ْ ُ
اي َو َم َم ِات{ َ
ه{ و}صل ِت َونس ِك و
ﲑ ﺍﻟ هكذا انتقلنا من }وجه
َ
ُ
و}أ َّو ُل ال ْ ُم ْسلِ ِم َ
ني{ و} ِج ْئ ُت ُمونَا ف َر َادى{ يف ال�سور ال�سابقة �إىل «يا بني �آدم»
ﻜﺘ
- 66 -
سورة األعراف
تبد�أ ال�سورة مبدخل يعيد لنا ق�صة �أبينا �آدم (من الآيات )25 - 11
ً
مدخل لكل منذ �سجود املالئكة لآدم �إىل خروجه من اجلنة ،فيكون ذلك
ما �ست�أخذنا �إليه ال�سورة من نداء لنا ب�صفتنا �أبناء �آدم.
ْ ُ ً ُ َ َ َ َ َ َ ْ ََْ َْ َ َْ ُ ْ َ ً
اسا يُ َ
اري س ْوآت ِك ْم َو ِريشا َو ِ َلاس اتلَّق َوى
ِ و }يا ب ِن آدم قد أنزلا عليكم ِل
َّ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َّ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ ٌْ َ َ ْ َ
ات اهلل لعله ْم يذك ُرون يا ب ِن آدم ل يفتِننك ُم الشيطان ي ذل ِك مِن آي ِ ذل ِك خ
َ َّ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ ُ َ ُ َ َ
ْ َ
ِييهما س ْوآت ِِهما إِنه ي َراك ْم نع عنهما ِلاسهما ل ِ كما أخرج أبويكم مِن الن ِة ي ِ
َ
ُ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ
ون{ هو وقبِيله مِن حيث ل ترونهم إِنا جعلنا الشياطِني أو ِلاء ل ِلِين ل يؤمِن
}يا ب ِن آدم إِما يأت ِينكم ُرسل مِنكم يقصون عليكم آي ِات فم ِن اتق َوأصلح
َ ُ َْ ُ َ ََ َ ٌ َ َْ
فل خ ْوف علي ِه ْم َول ه ْم ي َزنون{ (األعراف.)35:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
اخلطاب هنا للمجتمع (بني �آدم) ،لكننا دخلنا �إليه من ق�صة فرد
(�آدم) ميكن �أن نتمثل جتربته يف كل حياتنا.
الأعراف نقلتنا من «الفرد» � -آدم -وجتربته كفرد �إىل جتربة «�أبناء
�آدم» املجتمعية التي ت�ستفيد من جتربة هذا الفرد.
من الأنا �إىل النحن.
***
- 67 -
القرآن نسخة شخصية
انتقلنا هنا من �سورة الأنعام التي ق َّد َم ْت لنا �سيدنا �إبراهيم «منفردًا»
يف تلك الليلة التي �أعلن فيها �أنه ال يحب الآفلني� ،إىل �سورة الأعراف التي
ق َّدمت لنا الأنبياء( :نوح وهود و�صالح ولوط و�شعيب) َومنْ معهم من
امل�ؤمنني وهم يحاولون �إ�صالح جمتمعاتهم.
َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ ِّ ُُْ ََ َ َ َ ََ ْ َ َ َْ ُ ً َ َ
يهُ إِن }لقد أ ْرسلنا نوحا إِل ق ْو ِم ِه فقال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ
َ َ ُ َ َْ ُ ْ َ َ َ َْ َ
يم{ (األعراف.)59: ٍ ظ
ِ ع أخاف عليكم عذاب يومٍ
َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َََ ُُْ َ َ َ َ ُ ُ ً َ َ َ َ
يهُ أفل } َوإِل ع ٍد أخاه ْم هودا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ
ﻋﺼ
َ َّ ُ َ
ﲑ ﺍﻟ تتقون{ (األعراف.)65 :
َ َ ُ ْ ْ َ َُْ َْ ُُْ َ َُ َ َ َ ُْ َ ً َ َ َ َ
يهُ قد الا قال يا ق ْو ِم اعبدوا اهلل ما لكم مِن إ ِ ٍل غ }وإِل ثمود أخاهم ص ِ
ﻜﺘ
ك ْم ب ِ َها م ِْن أ َح ٍد م َِن ال َعال ِم َني{ }ولوطا إِذ قال ل ِقو ِم ِه أتأتون الفاحِشة ما سبق
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
(األعراف.)80:
َ َْ َ َ َ ُ ُ ًَْ َ َ َ َ
ﺯﻳﻊ
- 68 -
سورة األعراف
تنجو مبفردك بينما يذهب جمتمعك �إىل القاع ،عليك �أن حتاول كل ما يف
ﺸﺮ
و�سعك ،وهذا وحده ميكنه �أن يعطيك تذكرة جناة ،قارب جناة تقفز به
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الأمر ثقيل و�صعب حت ًما ،الأمر هنا لي�س �أن ت�ؤمن �شخ�ص ًّيا فقط ،بل
�أن متد يدك لت�ساعد الآخرين يف �إميانهم ،وكثري منهم ال يرغبون بذلك
� ً
أ�صل ،هل هذا يف�سر ما ابتد�أت به ال�سورة؟
ْ ْ ََ َ َُْ ٌ َ
ك ْن ِف َص ْد ِر َك َح َر ٌج م ِْن ُه ِلُ ْنذ َِر ب ِ ِه َوذِك َرى ل ِل ُم ْؤ ِمنِ َني{
َ ُ َ
}ك ِتاب أن ِزل إ ِ ْلك فل ي
(األعراف.)2:
فلنتذكر هنا �أنك عندما تدخل ق�ص�ص الأنبياء وهالك �أقوامهم يف
�سورة الأعراف ،ثم ت�أخذك ال�سورة بعدها �إىل ما م َّر معك �ساب ًقا من
- 69 -
القرآن نسخة شخصية
ق�صة فرعون ومو�سى ،ف�إنك ال تعود تنظر �إىل الق�صة كما يف ال�سابق ،الآن.
�أ�صبحت تعي �أن مو�سى خرج بكل قومه ،ا�ستطاع �أن ي�أخذهم جمي ًعا يف
قارب النجاة ،مل يكن الأمر كما حدث يف ق�ص�ص الأنبياء الآخرين الذين
إال منْ معهم من امل�ؤمنني ،هنا ا�ستطاع مو�سى �أن
تع َّر�ض �أقوامهم للهالك � َ
ي�أخذ كل قومه معه ،كما لو �أنك �ستعيد فهم ق�صة �سيدنا مو�سى من جديد
على �ضوء التجارب النبوية الأخرى وباملقارنة بها.
***
ﻋﺼ
�ست�أخذك بع�ض الآيات �إىل منطقة �شخ�صية وعامة يف الوقت نف�سه،
ﲑ ﺍﻟ
�إىل حيث تتجاور الأنا والنحن ويتداخل البيت واملجتمع.
ﻜﺘ
كن كذبوا فأخذناه ْم بِما كنوا يك ِسبون أفأم َِن أهل الق َرى أن يأتِيه ْم ول ِ
ْ ْ
َُ ْ َ َُْ َ ُ َ ُ ً َ ُْ َ َُ َ ْ َ ْ ُ َ
َ َ ْ َ َ َْ ُ َ َ َ ً َ ُ ْ ُ َ
َ
ﺸﺮ
بأسنا بياتا وهم نائ ِمون أوأمِن أهل القرى أن يأتِيهم بأسنا ضح وهم يلعبون{
ﻭ
ت�شعر بطريقة ما �أنك املق�صود بذلك ،ت�شعر �أنك عندما فكرت بالهجرة
كنت تريد �أن تهرب من كنت ت�شعر بهذه الآيات ،ت�شعر �أنك عندما هاجرتَ َ
كنت �شري ًكا يف امل�س�ؤولية.
هذا� ،شيء ما يف �أعماقك يقول لك� :إنك َ
ولكن �شي ًئا �آخر -يف �أعماقك � ً
أي�ضا -ير ُّد عليك ويقول :لقد دفعت ثم ًنا
ً
باهظا.
***
َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ًّ َ َ ْ َ ْ ُ
ار أن قد َوجدنا ما َوعدنا َربنا حقا فهل َوجدت ْم
}ونادى أصحاب الن ِة أصحاب انل ِ
- 70 -
سورة األعراف
الظالِمنيَ َّ ال َ
َ َ َّ َ َ َ ُّ ُ َ ًّ َ ُ َ َ َ َ َّ َ ُ َ ِّ ٌ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ ُ
ِين ِ ما َوعد َربك ْم حقا قالوا نع ْم فأذن مؤذن بينه ْم أن لعنة اهلل ع
هل �أولئك الرجال على الأعراف� ،أولئك الذين يف الو�سط ،بني اجلنة
والنار ،الذين ُ�س ِّم َيت ال�سورة على املكان الذي يقفون عليه ،هل �أولئك كانوا
من الذين مل يحققوا املعادلة؟ جنوا �شخ�ص ًّيا وفرد ًّيا ،ولكن مل يحاولوا مبا
فيه الكفاية مع �أقوامهم ،وبقوا يف الو�سط بني الأنا والنحن ،بني ال�سفينة
ﻋﺼ
الغارقة وقارب النجاة ،بني اجلنة والنار؟
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
جمرد �س�ؤال ،ال نعرف جوابه ،و�إن كنا نعرف �أنهم �أف�ضل من الذين
دخلوا النار ،و�أنهم مل يدخلوا اجلنة ،لكنهم «يطمعون» ،لديهم �أمل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 71 -
سورة األنفال 8
محاسبة المنتصر
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ يتلقى اخلا�سر اللوم والتقريع.
متاما ،يف «�آل عمران» َج َ َب خواطرالقر�آن يقوم ب�شيء خمتلف ً
ﻜﺘ
وهنا يف الأنفال بعد ن�صر يوم بدر ،اللهجة �شديدة القوةً ،
بدل من
ﺸﺮ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ (األنفال.)5:
َ ُ ْ ُ َ َّ ً ْ َ ُ َ َّ َ َّ ُ ْ َ ً َ ُ َ َّ َّ َ َ َ ُ
ِين ظلموا مِنك ْم خاصة َواعلموا أن اهلل شدِيد }واتقوا ف ِتنة ل ت ِصيب ال
ﻜﺘ
ْ َ
اب{ (األنفال.)25: ال ِعق ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ُ ُّ َ َ ْ ِين َخ َر ُجوا م ِْن دِيَاره ِْم َب َط ًرا َورئَ َ كونُوا َك َّل َََ َ ُ
اس َويصدون عن اء انلَّ ِ ِ ِ }ول ت
ﺸﺮ
اتقوا اهلل و أَ� ْ�ص ِل ُحوا ذات بي ِنكم ،كانوا على و�شك االعتقاد �أنهم على
ﺯﻳﻊ
قمة جبل التقوى وال�صالح ،لكن تعاجلهم ال�سورة يف مطلعها وهي تقول
لهم :اتقوا اهلل.
تذ ِّكرهم �أن منهم َمنْ مل يكونوا يريدون اخلروج لبدر � ً
أ�صل ،و�أنهم
جادلوا يف ذلك ،جادلوا فيما قاد �إىل هذا الن�صر الذي ميكن لل�شيطان �أن
يو�سو�س لهم �أنه كان نتيجة حتمية جلهودهم.
ال�سورة ت�سحب منهم «ا�ستحقاق الن�صر».
- 73 -
القرآن نسخة شخصية
هل �أ�صابكم الغرور على هذا الذي حتقق؟ ح�س ًنا ،خذوا هذه الآن� ،أنتم
مل تقاتلوا � ً
أ�صل ،وهذا الرمي املوفق مل يكن رميكم ،اهلل رمى.
فلننتبه �أن هذا مل يحدث قبل القتال ،بل حدث بعده ،وبعد حتقق
الن�صر ،ولو كان حدث قبل ملا قاد �إىل الن�صر ،خطاب ما قبل املعركة كان
َْ ْ ْ َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ ْ ُ
خمتل ًفا ج ًّدا ومن�سج ًما مع } َوأعِدوا لهم ما استطعتم مِن ق َّو ٍة َومِن ِرب ِ
اط الي ِل
َْ َُُ َ َ َْ َُ َُ َ َ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ ُ َ ُ ُ ُ َ
ين مِن دون ِِه ْم ل تعلمونه ُم اهلل يعلمه ْم َوما
ﻋﺼ
ت ْرهِبون ب ِ ِه عد َّو اهلل وعدوكم وآخ ِر
ُ َّ َ ُ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ َ ُت ْن ِف ُقوا م ِْن َ ْ
ﲑ ﺍﻟ َ
يل اهلل ي َوف إ ِ ْلك ْم َوأنت ْم ل تظلمون{ (األنفال.)60:
ِ ِ ب س فِ ء
ٍ ش
ﻜﺘ
لو اعتقد امل�ؤمنون قبل القتال �أنهم لن يقاتلوا ولن يرموا بل اهلل هو
ﺐ ﻟﻠﻨ
الذي �سيفعل ،فذلك لن يجعلهم حري�صني على �شيء ،بل �سيفرت همتهم.
ﺸﺮ
لكن خطاب ما بعد الن�صر هو الذي ينفي عنهم الفعل ،هو الذي يزيل
ﻭ
وهم انتفاخ الذات ،وهم قد قاتلوا ورموا بالت�أكيد ،لكن هذا ال يعني �أن جملة
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
من الظروف املحيطة بهم وداخلهم وداخل الكافرين مل تكن عوامل فاعلة
�ساه َم يف رفع معنوياتهم، مثل َ يف حتقيق الن�صر� ،إميانهم مبدد املالئكة ً
َْ ُ َّ َ َ ُ
الكفار فقدوا عزمهم بعد جناة قافلة قري�ش }ذل ِك ْم َوأن اهلل موه ُِن كي ِد
ْ َ َ َ ْ
ال َكف ِِر َين{(األنفالَ } ،)18 :ول ْو تَ َو َاع ْد ُت ْم ل ْخ َتل ْف ُت ْم ِف ال ِم َيعا ِد{(األنفال،)42 :
قليل ،كل هذه جملة من الظروف التي مل ور�ؤية عدد امل�شركني يف املنام ً
يكن للم�ؤمنني دخ ٌل يف �إن�شائها ،ولكنها �ساهمت يف حتقيق الن�صر.
بل حتى «الظروف ال�صعبة» التي ننت�صر �أحيا ًنا «بالرغم عنها» ،حتى
هذه ت�ساهم يف حتقيق االنت�صار على نحو غري مبا�شر؛ ذلك �أن التحدي.
- 74 -
سورة األنفال
ﻋﺼ
طاوو�س مفرت�س ،يفرت�س �صاحبه ويحيل ن�صره �إىل هزمية �أق�سى من
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
هزمية اخل�صم.
لكن �سورة الأنفال تقرتب منك ،وتعطيك �سكي ًنا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
- 75 -
سورة التوبة 9
الحرب والسالم
ﻋﺼ
الآيات املجتز�أة من ال�سورة جتعلها «�سورة احلرب» بال منازع ،وغال ًبا
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
فعل ،ولكنهالكن قراءة لل�سياق ككل �ستجعلنا نرى �أنها �سورة احلرب ً
ﺸﺮ
�سورة ال�سالم � ً
أي�ضا.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حتاربوا».
َ َْ ُ َ ْ ُُ ُ ُ ُ ُ َ ُُْ ُْ ْ
ِني حيث َوجدتموه ْم َوخذوه ْم مثل تركز على }فاقتلوا الم ِ
شك االجتزاءات ً
َ ُ َّ َ ْ ُ ُ ُ ْ
وه ْم َواق ُع ُدوا ل ُه ْم ك َم ْر َص ٍد{( .التوبة)5: واحص
َّ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ُّ َ ْ َ ُ ََ ُ
الزكة فخلوا أي�ضا} :فإِن تابوا َوأقاموا الصلة وآتوا
وما بعدها يف نف�س الآية � ً
َسبيلَ ُه ْم إ َّن اهلل َغ ُف ٌ
ور َرح ٌِيم{ (اتلوبة.)5: ِ ِ
�أي �إن «التوبة» -وكان ه�ؤالء قد نق�ضوا عهدهم مع امل�سلمني -كفيلة
ب�إلغاء �سبب القتال.
َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ ٌ َ ُْ ْ
ارك شك ِني استجهو �أكرث }وإِن أحد مِن الم ِ ْ
وبعدها هناك مرة �أخرى ما
َ
ٌ َْ ُ َ َ َ ُ َّ َ ُ َْ ْ ُ َ ََ ُ َ
َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ ََ
ج ْرهُ حت يسمع كلم اهلل ث َّم أبلِغه مأمنه ذل ِك بِأنه ْم ق ْوم ل يعلمون{ (اتلوبة.)6: فأ ِ
�إنْ َط َل َب ه�ؤالء «الذين �سيقاتلونهم» احلماية «اجلوار»؛ فقدِّ ُموا لهم
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ احلماية!
ﻜﺘ
نعم ،هي �سورة احلرب ،لكنها حرب م�شروطة مبحاولة ال�سالم حتى
�آخر فر�صةً ،
فعل هي �سورة احلرب ،لكنها احلرب كخيار �أخري ،بعد
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ت�أخذنا �سورة التوبة بعدها من �ساحة احلرب امل�شروطة هذه �إىل ما قد
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
َّ َ ْ ُ َ َ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ
ك ُم انْ ِف ُ
يل اهلل اثاقلت ْم إِل }يا أيها الِين آمنوا ما لكم إِذا قِيل ل
ِ ِ بس ف ِ وا ر
ﲑ ﺍﻟ
ْ َ َّ ُّ ْ َ ُّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ُ ْ َْ َ َْ
ال ْر ِض أر ِضيتم ِب
ﻜﺘ
الياة ِ ادلنيا مِن الخِرة ِ فما متاع الياة ِ ادلنيا ِف الخِرة ِ إِل
َ
قلِي ٌل{ (اتلوبة.)38:
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ ْ ُ ُ َ َ َ َ ُّ َ ُ ُ َّ ً َ َ ْ َ َ َْ َ َ ُ
كن ك ِر َه اهلل انبِعاثه ْم فثبطه ْم َوقِيل ِ ل و ة دع ل وادعل وج ر ال وااد }ولو أر
ﺸﺮ
معا�صيه و�شهواته ،و�سيجد ت�شاب ًها رهي ًبا ،بل �سيجد �أن حرب الذات �أكرث
خمادعة وزئبقية وغد ًرا من حرب امل�شركني.
فعل ،لكنها � ً
أي�ضا عن احلرب وال�سالم. �سورة التوبة عن احلرب ً
احلرب وال�سالم مع الأعداء.
و� ً
أي�ضا مع الذات.
***
ويف �سورة التوبة � ً
أي�ضا تلك الآية التي تنقلنا �إىل ذلك الغار.
َ َْ ْ َْ ْ َُ ُ َ
ﻋﺼ
ْ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ
ﲑ ﺍﻟ
حبِ ِه ل ت َزن
ار إِذ يقول ل ِصا ِ
ِ غ ال في إِذ ه ِ
ام }إِذ أخرجه الِين كفروا ث ِان اثن ِ
ﻜﺘ
َََ َّ
إِن اهلل معنا{( .اتلوبة)40:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال ميكن لإن�سان م َّر ب�أزمة -ب�شدة -واحتاج فيها �إىل �صديق �إال �أن
ﻭ
البع�ض منا وجدوا من يقف معهم يف غارهم� ،آخرون كانوا �أقل ًّ
حظا.
رمبا كنا نحن �أحيا ًنا من وقف مع �صاحبه ،ورمبا كنا �أحيا ًنا من تخلى
وتركه وحيدً ا يف الغار.
رحلة حياتنا لي�ست ً
عر�ضا قري ًبا ،وال �سف ًرا قا�صدً ا ،و�أ�صدقاء ال�شدة
قليلون ،و�إن مل جتد واحدً ا منهم معك ،فهذا �أمر حمزن ،لكن ميكنك �أن
تهم�سها لنف�سك.
ال حتزن� ،إن اهلل معنا.
- 79 -
يونس هود يوسف 12 -11 – 10
من البئر إلى العرش
ﻋﺼ
وال�سالم -يف الفرتة املكية.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�أمر نادر �أن يتوافق ترتيب امل�صحف مع ت�سل�سل النزول ،وال ميكن �أن
يكون هذا التوافق اعتباط ًّيا ،حا�شا هلل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
يون�س ،هود ،يو�سف ،ثالث �سور �إذن متتالية ،ال بد �أن يف هذا الرتتيب
ﺸﺮ
ر�سالة ما.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
ﺯﻳﻊ
مبدئ ًّيا� ،سورة يون�س تتحدث عن «ال�ضر» وعن «ك�شف ال�ضر»� ،إزالته،
َ َ َ َّ ْ ْ َ َ ُّ َ َ َ ْ َ
لنبِ ِه أ ْو
الض دعنا ِ َ
ُّ
ال�ضر َعندما ي�صيب «الأفراد» كما يف } َوإِذا مس ِ
النسان
َ ً ْ َ ً َ َ َّ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ٍّ َ َّ ُ َ َ َ ُ ِّ
ض مسه كذل ِك زي َن قاعِدا أو قائ ِما فلما كشفنا عنه ضه مر كأن لم يدعنا إِل
َ َ َ ُ ََْ ُ َ ُْ ْ
ِني ما كنوا يعملون{ (يونس.)12: سف
ل ِلم ِ
َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ً ْ َ ْ َ َّ َ َ َّ ْ ُ
اء مسته ْم �أو عندما ي�صيب املجتمعات} :وإِذا أذقنا انلاس رحة مِن بع ِد ض
َ ْ َ ُ َ ْ ً َّ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ ُ ْ َ َ
إِذا ل ُه ْم َمك ٌر ِف آيَات َِنا ق ِل اهلل أسع مكرا إِن رسلنا يكتبون ما تمكرون{
(يونس.)21:
- 80 -
يونس -هود -يوسف
كذبت الر�سل ،قوم يف ال�سورة منوذجني ل�ض ٍّر �أ�صاب «املجتمعات»؛ لأنها َّ
نوح وقوم فرعون ،وال�ضر الذي �أ�صاب قوم نوح يعر�ض له ب�شكل �سريع
ََْ َ َ َ ُ َ َ َ ْ ُ َّ َ ال ل َِق ْوم ۦه يَٰ َق ْ
ْ َ َ َ ُْ َ َْ ْ َََ ُ
ِريى
ِ ك ذ
َ
تو ام
ِ ق م م ك ي ل ع ب ك ن ك ن إ
َ ِِ
م و ِ ِ
َ
ق ذ} ٱواتل علي ِهم نبأ ن ِ
إ ٍ
وح
َ َ َّ ْ ُ َ ْ ُ ٓ ْ ْ َ ُ ْ َ ُ َ َ ٓ ُ ُ َ َ ُ ْ ْ ُ ََ َ َٰ
شك َءك ْم ث َّم ل يكن أم ُرك ْم ت اهلل فعل اهلل توكت فأجِعوا أمركم و ب ِ َٔـاي ِ
ْ َ ْ ْ َ ْ َ َّ ْ ُ َ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ ُ َّ ً ُ َّ ْ ُ ٓ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ
ون فإِن ت َوليت ْم فما سألتك ْم مِن أج ٍر إِن نظر ِعليكم غمة ثم ٱقضوا إِل ول ت ِ
َ ْ َ
َّ ُ َ َّ ْ َ َ َ ْ َُ ْ ُ َ ْ َ َ
ون م ِْن ال ُم ْسلم َ ُ َّ َ َ َ ْ
ين فكذبوهُ فنجيناهُ َومن ِِ أج ِري إِال على الل َِ ّ وأمِرت أن أك
َ َ َ ُْ ََْ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ َّ ُ ََُ
ِين كذبوا بِآيات ِنا فانظ ْر كيف ك وجعلناهم خالئ ِف وأغرقنا الذ معه ف ِي الفل ِ
ين{ (يون�س .)73-71 ان َعاق َِب ُة ال ْ ُم ْن َذر ََ َ
ك
ِ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
هذا عن ال�ضر ،فماذا عن ك�شفه بالن�سبة للمجتمعات؟
ﻜﺘ
}فل ْول كنت ق ْرية آمنت فنفعها إِيمانها إِل ق ْوم يونس لما آمنوا كشفنا عنه ْم
ْ َ َ ُّ ْ َ َ َ َّ ْ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ ْ
ﺸﺮ
�إنه الإميان النافع ،الإميان الذي نفع القرية ،قرية يون�س ،الإميان الذي
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
لي�س هذا فقط ،لكن ال�سورة تقدم ُب ْعدً ا �شخ�ص ًّيا �شديد الأمل ملا حدث
مع �سيدنا نوح؛ �إذ �إنها تقدم م�شهد غرق ابنه.
ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ ٌ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ْ َ َ َْ
اركب ال ونادى نوح ابنه وكن ِف مع ِز ٍل يا بن لب ِه ت ِري ب ِ ِهم ِف مو ٍج ك ِ }و ِ
َ َْ َ َ َ َ ََ َْ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َََ ََ
آوي إِل جب ٍل يع ِصم ِن مِن الماءِ قال ل معنا ول تكن َمع الكف ِِرين قال س ِ
ْ َ ْ َّ ْ
َع ِص َم َال ْو َم م ِْن أ ْم ِر اهلل إِل َم ْن َرح َِم َو َح َال بَيْ َن ُه َما ال َم ْو ُج ف َك َن م َِن ال ُم ْغ َرق َِني{
(هود)43 :42:
هنا مل يعد تكذيب «القوم» يخ�ص الآخرين ،يخ�ص املجتمع ،بل �أ�صبح
ﻋﺼ
دوما هكذا ،لكنه عندما يتج�سد يف
�شخ�ص ًّيا داخل بيت النبي ،الأمر ً ﲑ ﺍﻟ
�شخ�ص نحبه ونعرفه يكون م�ؤملًا �أكرث.
ﻜﺘ
هنا يف هذه ال�سورة خم�س �إ�شارات لأقوام ق�ضت بالعذاب ،ال �إ�شارة
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ َ ُّ َ ْ َ ْ ُ
} َوما كن َربك ِ ُلهلِك الق َرى بِظل ٍم َوأهلها مصلِحون{ (هود)117:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لي�س هذا فقط ،بل �إن ال�سورة هي ال�سورة الوحيدة التي ا�شتملت على
ﺯﻳﻊ
ََ ََ ُْ ً َ َْ ُ
الدعاء بهالك القرى الظاملة} ،أل بعدا ل ِعا ٍد قو ِم هو ٍد{(هود} )60:أل
َ َ ََ
ُب ْع ًدا ِ َل ُم َود{(هود})68:أل ُب ْع ًدا ل َِم ْد َي َن ك َما بَ ِع َد ْت ث ُم ُود{(هود ،)95:ال يوجد
قوما بعينهم �إال يف هذه ال�سورة. يف �سور القر�آن كلها دعاء يحدد ً
نزلت تلك ال�سورة بعد ع�شر �سنوات تقري ًبا يف مكة ،بعد ع�شر �سنوات
من ال�صدود والتكذيب ،كل �شيء كان ي�شري �إىل �أن مكة كانت ت�سري يف درب
�أمثلة القرى التي �سي�صيبها الدمار ،وال �شيء ي�شري �إىل ما يقربها من قرية
يون�س.
- 82 -
يونس -هود -يوسف
وكان عليه ال�صالة وال�سالم بالت�أكيد ال يريد ملكة �أن ي�صيبها ما �أ�صاب
عاد وثمود ،مل يكن يريد �أن تكون هناك «�أال بعدً ا ملكة».
ورغم ذلك ،كان ذلك واردًا ج ًّدا ،وقبل نهاية ال�سورة ي�أتي �أمر االنتظار:
َ ْ َ ُ َّ ُ ْ َ ُ َ
ون{(هود.)122: }وانت ِظروا إِنا منت ِظر
ﻋﺼ
ً
بدل من «�أال بعدً ا ملكة» ،نزلت �سورة «يو�سف».
ﲑ ﺍﻟ
متاما ،بن�سق خمتلف ،هي ال�سورة الوحيدة التي َت ْر ِوي
�سورة خمتلفة ً
ﻜﺘ
وهي �سورة بال عذاب للقوم ،بل تنتهي بنجاح «النبي» وحتقيقه لغاياته،
ﺸﺮ
�صحيح �أنه يحقق ذلك بعيدً ا عن قومه � ًأول ،لكن هذا بحد ذاته قد ي�شري
ﻭ
كما لو �أن ال�سورة تقول للنبي :النجاح ممكن ،ومكة قد تتغري ،لكن لي�س
بال�ضرورة يكون التغيري فيها � ًأول.
***
ثمة �شيء �شخ�صي يف �سورة يو�سف� ،شخ�صي ج ًّدا وحميم للغاية.
َمنْ منا مل يتعر�ض لغدر يف حياته من قريب �أو ممن توهم قربه؟ َمنْ مل
يتعر�ض لظلم؟ لفتنة وغواية؟
ثمة �شيء يف �سورة يو�سف مي�سنا جمي ًعا.
- 83 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ كان مظل ًما ،وكنت وحيدً ا.
وكانوا �إخوتك!
ﻜﺘ
ﻋﺼ
ً
خما�ضا �صع ًبا مري ًرا -يف البئر وحدك. دت -
�شخ�صا جديدً اُ ،و ِل َّ
ﲑ ﺍﻟ �صرت ً
اكت�شفت معنى �أن يتدفق النور من داخلك ،ال من فتحة يف ال�سقف.
ﻜﺘ
يف البئر اكت�شفت قواك التي مل تعرفها ،اكت�شفت �أنه ميكنك �أن ت�ستغني
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عنهم ،و�أن الأمر لي�س �صع ًبا كما توهمت ،اكت�شفت �أن عالقتك بهم تكون
ﺯﻳﻊ
- 85 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ دوما ثمة يو�سف ،ثمة بئر.
ً
وثمة �إخوة ليو�سف.
ﻜﺘ
ولأن هذا البئر ميكن �أن يكون منج ًما ن�ستك�شف فيه كنو ًزا مل نعرف
ﺐ ﻟﻠﻨ
بوجودها فينا.
ﺸﺮ
- 86 -
سورة الرعد 13
التغيير قيد اإلجراء
ﻋﺼ
لدينا غال ًبا فكرة �ساذجة عن التغيري ،فكرة عن كون التغيري ي�أتي
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ب�ضربة �سحرية تغري الواقع � -أو الأ�شخا�ص -بلمح الب�صر ،وهذه الفكرة
تكون «معوقة» لأي تغيري حقيقي؛ لأنها بب�ساطة ترفع �سقف التوقعات
ﺐ ﻟﻠﻨ
«ال�سريعة» على نحو يجه�ض �آلية التغيري البطيئة ل�صالح «عمليات جتميل»
ﺸﺮ
�سورة الرعد تزيح هذا الوهم من �أذهاننا ،تع ِّلمنا �أن نتعامل مع التغيري
ﺯﻳﻊ
طويل ،ال �سحر وال �ضرباتعلى حقيقته ،بطيء وتراكمي وي�ستغرق وقتًا ً
ع�صا وال معجزات خارقة.
ال�سورة تنبهنا منذ بدايتها �إىل �أن هذا الكون مبني على قوانني ،ال�سماء
مرفوعة بعمد؛ قوانني غري مرئية ،وكل تغيري من�شود ال بد �أن يكون مبن ًّيا
على قوانني من باب �أَ ْو َل.
َ َّ ََ َْ َْ َ َ َ ََ ُ ْ َ َ َ َ َّ
الس َم َ َّ
ي عم ٍد ت َر ْونها ث َّم است َوى ع الع ْر ِش َوسخ َر
ِ غِ ب ات
ِ او عف ر ِي ال }اهلل
َ َ ُ َ ًّ ُ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ِّ ُ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ٌّ َ ْ
ات لعلكم بِلِقاءِ الشمس والقمر ك ي ِري ِلج ٍل مسم يدبر المر يفصل الي ِ
- 87 -
القرآن نسخة شخصية
ِيها َر َو ِ َ َ َ ْ َ ً َ ْ ُ ِّ َّ َ َ
ُ َ َّ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ِّ ُ ُ ُ َ
َربك ْم توق ِنون وَهو الِي مد الرض وجعل ف
اس وأنهارا ومِن ك اثلمر ِ
ات
َ َ َ َ َّ َ َّ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َْْ ُْ
ات ل ِق ْومٍ يتفك ُرون َ و ِف ي يغ ِش الليل انلهار إِن ِف ذل ِك لي ٍ ي اثن ِجعل فِيها زوج ِ
َ َ
َ ٌ ُ َ َ َ ٌ َ َ َّ ٌ ْ ْ َ َ َ ْ ٌ َ ٌ ْ َ ٌ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ ْالَ ْ
ان يسق ٍ و ن ص
ِ ي غ و انو ن صِ ِيل ن و ع ر ز و اب
ٍ ن ع أ ِنم ات نجو ات ر او
ِ جت م ع ِط ق ضِ ر
َْ َْ ُ َ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ
ات ل ِقومٍ يع ِقلون{ ك إِن ِف ذل ِك لي ٍ بِما ٍء واح ٍِد ونفضل بعضها ع بع ٍض ِف ال ِ
(الرعد .)4 :2
ﻋﺼ
الثمار ال ت�أتي «ب�ضربة ع�صا» �أو مبعجزة ،كذلك التغيري ،هو الثمرة
ﲑ ﺍﻟ
املن�شودة التي تتطلب كل ما تتطلبه الثمرة من جهد ووقت وتداخل عوامل
ﻜﺘ
وظروف.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ْ َ
ار{ (الرعد.)8:
ب ِ ِمقد ٍ
ﺯﻳﻊ
وكل حمل ي�ستغرق وقتًا و�أطوا ًرا متتالية لي�صل �إىل نهايته ،وكذلك
التغيري ،ال بد له �أن مير مبراحل تنقله من البذرة �إىل اجلنني �إىل الطفل
املكتمل ،و�سيبقى بحاجة �إىل الرعاية واحلماية حتى بعد والدته.
َ ُ َ ِّ ُ َ َّ ْ َ ْ ََْ ُ َُ ْ َْ َ ُ ُ َ ِّ َ ٌ ْ َ ْ َ َ ْ
ي ما ي يدي ِه َومِن خل ِف ِه يفظونه مِن أم ِر اهلل إِن اهلل ل يغ }ل معقبات مِن ب ِ
َ َ َ َ َ َ َ يوا َما بأَ ْن ُف ِسه ْم َ
ْ ُ ُ َ َ َّ
وءا فل م َرد لُ َوما له ْم مِن دون ِ ِه
َ َ
اد اهلل بق ْومٍ ُس ًر أ ا ذ إ و ب َق ْومٍ َح َّت ُي َغ ِّ ُ
ِ ِ ِ ِ ِ
َ ْ
ال{ (الرعد.)11 : مِن و ٍ
- 88 -
سورة الرعد
التغيري ال ي�أتي كهدية من ال�سماء ،وال حتى كلعنة منها ،هو ي�أتي من
{ما ِب�أَ ْن ُف ِ�س ِه ْم} على �أنها «الذي
داخلنا« ،ما ب�أنف�سنا» ،ميكن �أن نفهم َ
ب�أنف�سهم»� ،أو نفهمها على �أنها «يقوموا بالتغيري ب�أنف�سهم» ،والأمران
متطابقان من عدة جوانب ،وحتى «ب�أنف�سهم» ميكن �أن ُت ْف َه َم على �أنها
أي�ضا �أن ُت ْف َه َم «وعيهم»،
«نفو�سهم»�« ،أخالقهم»« ،قيمهم» ،وميكن � ً
«�أفكارهم» ،وال �أرى مرة �أخرى فار ًقا كب ًريا بني الأمرين.
املهم �أن التغيري ال ينزل باملظلة من �أعلى ،بل ي�شق الأر�ض كنبتة ت�أخذ
ﻋﺼ
وقتها يف النمو.
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا �إىل �أن التغيري ال ي�شرتط �أن يكون �إيجاب ًّيا ال�سورة تنبهنا � ً
ﻜﺘ
َ ْ ُ ً َ َ َ َ َّ َُ َ َ
بال�ضرورةَ } ،وإِذا أ َر َاد اهلل بِقومٍ سوءا فل مرد ل{ ،كم من تغيري من�شود ه َّل ْلنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
له ثم �صار ُي َع ُّد �أ�سو�أ ما مر بنا ،لكن التغيري حا�صل� ،إن مل نوجهه �إىل
�أن يكون �إيجاب ًّيا؛ �سيكون �سلب ًّيا ،جمرد البقاء يف «نف�س الو�ضع» هو تغيري
ﺸﺮ
�سلبي؛ لأن الواقع ي�ستمر بالتغري والتحرك ،وعدم «تغريك» لتواجه هذه
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ت�أخذنا ال�سورة � ً
أي�ضا �إىل �صورة �شاملة كبرية للتغيري كما يحدث يف
الواقع.
َّ ً َ ْ َ َ َ َّ َ َ ً َ َ َ ْ َ َ ٌ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ ُ َ َ ً
اء فسالت أ ْودِية بِقد ِرها فاحتمل السيل زبدا َرابِيا َومِما }أنزل مِن السماءِ م
ْ َ َّ َّ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ٌ ْ ُ ُ َ َ َ َ ْ ُ ُ ُ َ َ َْ
ضب اهلل الق اع زبد مِثله كذل ِك ي ِ ار ابتِغاء حِلي ٍة أو مت ٍ ِ يوق ِدون علي ِه ِف انل
َْ َ الاط َِل َفأَ َّما َّ
َ ُ َ ْ
الز َب ُد ف َيذ َه ُب ُج َف ًاء َوأ َّما َما َي ْن َف ُع انلَّ َاس ف َي ْمك ُث ِف ال ْر ِض{ َو ْ َ
(الرعد.)17 :
- 89 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
َْْ َ ً
ﲑ ﺍﻟ الم ُر جِيعا{( .الرعد)31 :
ﻜﺘ
لكن القر�آن لن يفعل ذلك ،لي�س هذا مطلو ًبا منه ،بل يفعل فعل املطر
يف الأر�ض ،تغيري حقيقي ي�أخذ وقته لكي يحدث ،وتدخل فيه كل ال�سنن
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ُ َ ِّ ُ ُ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ً َ َ َ ً َ ُ ْ ُ َّ َ َ ِّ َ َ ُ َّ
ئ السحاب اثلقال َ ويسبح }ه َو الِي ي ِريكم البق خوفا وطمعا وين ِش
ﺯﻳﻊ
َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ ُ ُ َْ َ َ ُ ْ َّ ْ ُ ْ
اء َوه ْم الرعد ِبَم ِده ِ َوالملئ ِكة مِن خِيفتِ ِه وير ِسل الصواعِق في ِصيب بِها من يش
َ َُ َ ُ ْ َ َُ ُ َ
ال{ (الرعد .)13 :12 يادِلون ِف اهلل وهو شدِيد ال ِمح ِ
برق ورعد �إذن.
الربق ي�ضيء الليلة املظلمة ،والرعد �صوته مهيب ،يهز القلب.
لكن ما يحدث بعدهما هو الذي ُي ْح ِد ُث التغيري احلقيقي الذي �أ�شارت
له ال�سورة كمثال.
- 90 -
سورة الرعد
املطر.
الرعد والربق دون مطر لن ُي ْح ِد َثا تغي ًريا يف الأر�ض.
«ال�صوت وال�ضوء» جمرد �إ�شارة لك لكي تنتبه �إىل ما �سيحدث الح ًقا
-لو حدث ،-املطر ،كي ت�ساهم فيه ،كي تكون �شري ًكا.
«ما ب�أنف�سهم».
***
ﻋﺼ
الرعد والربق احلقيقي يف الداخل.
ﲑ ﺍﻟ
�صوت و�ضوء يف �أعماقك.
ﻜﺘ
«ما ب�أنف�سهم».
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 91 -
سورة إبراهيم 14
الخروج من الظلمات إلى النور
ﻋﺼ
َ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ ُّ ُ َ
افتتاحية ال�سورة تقول} :ك ِتاب أنزلاه إ ِ ْلك ِلخ ِرج انلاس مِن الظلم ِ
ات إِل ﲑ ﺍﻟ
اط الْ َعزيز ْ َ
ال ِمي ِد{ (إبراهيم.)1 : ص ِانلُّور بإ ْذن َر ِّبه ْم إ َل ِ َ
ﻜﺘ
ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ
وبعد �آيات ي�أتي ذكر �سيدنا مو�سى.
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ِّ ُ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ُّ
الظلُ َمات إ َل انلُّ َََ ْ َْ َ َْ ُ َ
ور َوذك ْره ْم ِ ِ ِن
م ك م و ق ج ر خ أ ن أ ا ِن تا آي ب وس }ولقد أرسلنا م
ﺸﺮ
َ َ َ َْ ُ ْ ْ َ َْ ُ ْ ْ ْ ُُ ََْ َ ْ َ َ ُ َ َْ
آل ف ِْرع ْون
}وإِذ قال موس ل ِقو ِم ِه اذكروا ن َِعمة اهلل عليكم إِذ أناكم م ِ
ِن
َ ُ َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ َُ ُ َ ُ ْ ُ َ َْ َ
اءك ْم َو ِف ذل ِك ْم اب ويذبون أبناءكم ويستحيون ن ِس يسومونكم سوء العذ ِ
َ َ ٌ ْ َ ِّ ُ
ك ْم َعظ ٌ
يم{ (إبراهيم.)6 : ِ بلء مِن رب
تلك كانت الظلمات ،ف�أين النور الذي يفرت�ض �أن نخرج �إليه عرب
«الكتاب»؟
ال�سورة ت�أخذنا �إىل َمنْ ُ�س ِّم َيت على ا�سمه� ،سيدنا �إبراهيم عليه ال�صالة
وال�سالم ،هناك �سنتعرف �إىل «امل�ضاد املو�ضوعي» ملجتمع الظلمات� ،إىل
املجتمع املعاك�س� ،إىل النور.
***
َْ َ ْ َ ْ ْ َ
} َوإِذ ق َال إِبْ َراه ُِيم َر ِّب ْاج َعل َه َذا َال َل آم ًِنا َو ْاج ُنبْ ِن َو َب ِ َّن أ ْن َن ْع ُب َد ال ْص َن َام{
َْ ُ َ
يشك ُرون{ (إبراهيم.)37 :
ﺸﺮ
هذا الدعاء للبلد «اجلديد» �أن يكون �آم ًنا ،ح ًّرا بال قيود (بال �أ�صنام)،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عادل م�ستق ًّرا مزده ًرا ،هذا هو «النور» يف الدنيا ،هذا هو «الهدف» ً
ﺯﻳﻊ
وكانت تلك هي اللحظة الأعلى يف رحلته عليه ال�سالم ،كانت تلك قمته
بعد رحلة وعرة.
رمبا لذلك �أخذت هذه ال�سورة حتديدً ا ا�سمه ،توزعت ق�صته على �سور
كثرية يف القر�آن ،وكان له حمطات ومواقف مهمة للغاية ،لكن هنا و�صل
للهدف (الدنيوي) على الأقل ،هنا ت�أخذنا ال�سورة �إىل نهاية الرحلة؛ لذلك
دوما بنهاية رحلته،
ت�أخذ ا�سمه ،كما لو �أنها تريد �أن تربط �سيدنا �إبراهيم ً
باملجتمع الذي �سعى لتحقيقه ،املجتمع الذي نريده جمي ًعا.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
�أولئك الذين يقررون -يف خيار �صعب � -أن يرتكوا �أوطانهم نحو بالد
ﻜﺘ
جمتمعاتهم �إىل نور املجتمعات الأخرى� ،أو على الأقل �إىل جمتمعات �أخرى
ﺸﺮ
تبدو ظلماتها �أقل ُظ ْلمة� ،أو يبدو �أن فيها من النور �أكرث.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أولئك الذين يرتكون كل �شيء خلف ظهورهم ،كل ما خ َّلفه لهم �آبا�ؤهم،
ﺯﻳﻊ
- 94 -
سورة إبراهيم
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
- 95 -
الح ْجر 15
سورة ِ
الصورة الكاملة
احل ْجر هي �سورة «ال�صورة الكاملة» ،هي ال�سورة التي تع ِّلمنا كيف
�سورة ِ
ننظر �إىل كل �شيء ب�شمولية وبتكامل ،دون �أن جنتزئ ،دون �أن ننظر �إىل
ﻋﺼ
متاما �أو نغ�ض عنها النظر.بع�ض الأجزاء بعد�سة مكربة ونتجاهل �أخرى ً
ﲑ ﺍﻟ
تقول لنا ال�سورة منذ مطلعها �شي ًئا غري متوقع.
ﻜﺘ
ُ َ َ َ َ ُّ َّ َ َ
ك َف ُروا ل َ ْو َكنُوا ُم ْسلم َ
ني{ (احلجر.)2 : ِِ }ربما يود الِين
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سنعرف اجلواب الح ًقا عرب ال�سورة ،و�سندرك �أن جز ًءا كب ًريا من
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الرف�ض وال�صدود الذي ميكن �أن يحدث للإميان (�أو لأي فكرة) �إمنا يعود
ﺯﻳﻊ
�إىل النظر عرب ن�صف عني ،النظر �إىل جزء من ال�صورة ،لكن لو �أُتيحت
لهم �أن يروا ال�صورة كاملة ،ال�صورة بكل تفا�صيلها و�أجزائها ،ف�إن موقفهم
ُ َ َ َ َ ُّ َّ َ َ
ك َف ُروا ل َ ْو َكنُوا ُم ْسلم َ
ني{ (احلجر.)2 : ِِ هذا قد يتغري ،و}ربما يود الِين
َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ِ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ِّ َ ْ َ ْ ُ
ون }والرض مددناها وألقينا فِيها رواس وأنبتنا فِيها مِن ك ش ٍء مو ٍ
ز
َ ْ ْ َ ْ َّ ْ َ َ ِيها َم َعاي َش َو َم ْن ل َ ْس ُت ْم َلُ ب َرازق َ َ َ َ َْ َ ُ ْ َ
ش ٍء إِل عِندنا ِني وإِن مِن ِ ِ ِ وجعلنا لكم ف
ْ ْ َ َ َ
َ ْ َ َ ِّ َ َ َ َ َ َ َ َّ ْ َ ُ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ ِّ ُ
الس َماءِ َم ً
اء نلُ إِل بِقد ٍر معلومٍ وأرسلنا الرياح لواق ِح فأنزلا مِن
َ َ
خزائ ِنه وما ن
بازن َ ََ ْ َ َْ ُ ُ ُ َ َ ُْْ ُ َ
َ َ
ِني{ (احلجر )22 :19 فأسقيناكموه وما أنتم ل ِ ِ
- 96 -
سورة الحجر
يف �سبيل ذلك ت�أخذنا ال�سورة � ًأول �إىل جولة �شاملة يف الكون؛ ال�سماء
والأر�ض وظواهر الطبيعة من رياح و�أمطار ،فهم الرتابط املوجود بني كل
عن�صر من عنا�صر ال�صورة مهم يف تكوين حا�سة «ال�صورة الكاملة».
َ َ ْ ََ َ ْ ُ َ َ َْ َ ُ ْ َْ ُ َ َ َ َ َْ َُ ْ َ ْ َ
ون قال ٍ ن س م إ
ٍ ح ِن
م ال
ش خلقته مِن صل ٍ
ص }قال لم أكن ِلسجد ل ِب ٍ
َ
َ َ ِّ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ ِّ َ ْ ُ ْ ْ َ َ َّ َ
ين قال َرب فأن ِظ ْر ِن جيم وإِن عليك اللعنة إِل يو ِم ادل ِ
ك َر ٌ
ِ فاخرج مِنها فإِن
َ َ ِّ َ َْ َْ ْ ْ ْ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َْ َُُْ َ
وم قال َرب ت ال َمعل ِ
إِل يو ِم يبعثون قال فإِنك مِن المنظ ِرين إِل يو ِم الوق ِ
جع َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َْْ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ ِّ َ َّ َ ُ ْ
ني{ (احلجر .)39 :33 بِما أغويت ِن لزين لهم ِف الر ِض َولغ ِوينهم أ ِ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
بعدها ت�أخذنا �إىل �أ�صل احلكاية� ،إىل َق َ�س ِم �إبلي�س� ،إبلي�س رف�ض �أن
ﻜﺘ
ي�سجد لآدم لأنه نظر �إىل جزء من ال�صورة� ،إىل خلق �آدم من �صل�صال ،ومل
ﺐ ﻟﻠﻨ
ينظر �إىل ما �أودعه اهلل فيه من �إمكانات؛ لذا فقد رف�ض الأمر بال�سجود
ومل ينظر �إىل �أن هذا الأمر ما كان ميكن �أن يكون من دون حكمة له عز
ﺸﺮ
وجل.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ور َّ
الكثريون يتعاملون مع اهلل و�صفاته بتجزئة ،غال ًبا كما يريدون �أو
يتمنون ،يركزون على �صفة واحدة ويرتكون �أخرى ،هو غفور رحيم بالفعل،
أي�ضا عذابه هو العذاب الأليم ،البع�ض يركز على العذاب وي�ستخدمهلكن � ً
يف الدعوة هلل وين�سى الغفور الرحيم ،كما ين�سى بع�ض �آخر �صفات املغفرة
والرحمة.
- 97 -
القرآن نسخة شخصية
َ ُ َ َ َ ْ َّ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ً َ َ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ
جلون قالوا ل ت ْوجل إِنا }إِذ دخلوا علي ِه فقالوا سلما قال إِنا مِنكم و ِ
َ َ َ ْ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ َ َّ ْ ُ ُ ُ َ ِّ ُ َ ُ َ َ
ون ع أن مس ِن الكِب فبِم تبشون ِيم قال أبشت ِ
م شك بِغلمٍ عل ٍ نب
َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ْ َ ِّ َّ ك ْن م َِن الْ َقانِط َ ْ
َ ُ َ َّ ْ َ َ َ ِّ َ َ َ ُ
ني قال َومن يقنط مِن َرح ِة َرب ِه إِل ِ قالوا بشناك بِالق فل ت
َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ
َ َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ُّ َ ُ ْ َ َ
ُ َّ ُّ َ
ون قالوا إِنَّا أ ْر ِسل َنا إِل ق ْومٍ ُ ْم ِرم َِني{ الضالون قال فما خطبكم أيها المرسل
(احلجر .)58 :52
ﻋﺼ
له نب�أ العذاب النازل بقوم لوط ،حتى مع قوم لوط كانت هناك فر�صة
ﲑ ﺍﻟ
لتحقيق الرحمة لوال �إ�صرارهم على فح�شهم العلني ،وحتى مع امر�أة لوط
ﻜﺘ
كانت هناك فر�صة للرحمة ،لكنها خالفت الأمر الإلهي بعدم االلتفات بعد
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِين
ُ ْ
َج َعلوا ال ُق ْر َآن ع ِِض َني{ ،وع�ضني تعني �أنهم جعلوه �أع�ضا ًء� ،أجزا ًء� ،آمنوا
ببع�ض وكفروا ببع�ض� ،إمنا هو جملة واحدة ال ميكن جتزئتها عن �سياقها
وعن متامها ،كلما مت�سكت بال�صورة الكاملة ،بالفهم الكامل ،كلما ابتعدت
عن �أخذ القر�آن ك ِع�ضني ،وما �أكرث من يفعل ذلك اليوم من كل االجتاهات!
بال�ضبط مثل «الغفور الرحيم ،وعذابي هو العذاب الأليم» ،وبال�ضبط مثل
الرتكيز على ال�صل�صال وجتاهل نفخة الروح.
***
- 98 -
سورة الحجر
َ َّ
ك َف ُروا ل ْو َكنُوا ُم ْسلِ ِم َني{ (احلجر )2 :يف ع�صرنا اليوم،
َ َ َ َ َ ُّ
} ُربما ي َود الِين
من النادر ج ًّدا �أن يود الذين كفروا لو كانوا م�سلمني ،لي�س بال�ضرورة
لأنهم عجزوا عن ر�ؤية ال�صورة الكاملة بل لأننا نحن قدمنا �صورة م�سيئة
انعكا�سا بالغ ال�سوء لأغلب قيم الإ�سالمً ،
بدل من �أن نكون ً للإ�سالم ،قدمنا
مركزً ا للجذب يجعلهم يتحرون «ال�صورة الكاملة»؛ �أ�صبحنا مركز طرد،
يجعلهم يت�صورون �أن ال�صورة الكاملة �سيئة ج ًّدا.
�إال من رحم ربي منا ومنهم.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
َ َّ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ٌ ْ ُ ََ ْ َ ْ َ ْ
اره ْم َول يلت ِفت مِنك ْم أحد َوامضوا }فأ ِ
س بِأهلِك ب ِ ِقط ٍع مِن اللي ِل واتبِع أدب
ﻜﺘ
َْ ُ ُْ َ َ
حيث تؤم ُرون{ (احلجر)65 :
ﺐ ﻟﻠﻨ
ََ ََْ ْ ْ ُ َ
ك ْم أ َح ٌد{ . }ول يلت ِفت مِن
ﺸﺮ
كم نحتاج �إىل ذلك ك�أ�شخا�ص و�أحيا ًنا كمجتمعات ،نحتاج � َّأل نلتفت
ﺯﻳﻊ
�إىل الوراء �أحيا ًنا� ،أن نقلب ال�صفحة� ،أن نبد�أ من جديد دون �أن نبقى
�أ�سرى ملا ي�شدنا �إىل اخللف.
نحتاج �أن نتعلم ذلك� ،أن نتخل�ص من التفاتنا املزمن لأ�شخا�ص �أو
جروحا غائرة فينا.
�أماكن �أو جتارب تركت ً
نحتاج �أن ن�سري �إىل ال�صبح ،دون �أن نلتفت �إىل الليل.
- 99 -
سورة النحل 16
عن قواعد متعددة وسقف واحد
ﻋﺼ
وثباته ،عدم االلتزام بها يقود �إىل �أن يخ َّر ال�سقف كنتيجة حتمية منطقية.
ﲑ ﺍﻟ
ُ ُ َ ُْ َ َ ُ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ً َ ُ ْ ْ ُ َ َ ٌ
شاب َومِنه شج ٌر فِي ِه ت ِسيمون
ﻜﺘ
َُْ ً َْ َ َ َ َ ُ َ َْ ُ َ ُ َ َّ َ ٌ َ ْ َّ َ َ َ َ
ات ل ِق ْومٍ يع ِقلون َ وما ذ َرأ لك ْم ِف ال ْر ِض متلِفا مسخرات بِأم ِره ِ إِن ِف ذل ِك لي ٍ
ﻭ
َ ْ
َ َّ َ َ ْ َ َ ُ ُ ْ ُ ْ ً ْ َّ ُ َ َ َ َ ً َ َ َّ َّ َ َ ْ ُ ُ َّ
أل َوانه إِن ِف ذل ِك لية ل ِق ْومٍ يذك ُرون َ وه َو الِي سخر الحر ِلأكلوا مِنه
ﺍﻟﺘﻮ
لما
ُْ ْ َ َ َ ًّ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ً َ ْ َ ُ َ َ َ
ﺯﻳﻊ
ْ َ ْ َُْ
ط ِريا َوتستخ ِرجوا مِنه حِلية تلبسونها َوت َرى الفلك م َواخ َِر فِي ِه َو ِلَبتغوا مِن فضلِ ِه
َ َ َّ ُ َ ْ ُ َ
َولعلك ْم تشك ُرون{(انلحل .)14 :10
ال�سورة ت�أخذنا � ًأول يف قواعد بنى اهلل على �أ�سا�سها بنيان الكون
موظفة من خالل قوانني �أوجدها عز وجل واخلليقة ،كل ِن َعم اهلل هي ِن َع ٌم َّ
لتي�سر للإن�سان حياته ،ت�أخذنا ال�سورة �إىل الأنعام ومنافعها و�سائل الركوب
َْ ُُ َ َ
الأخرى املعروفة �آنذاك ،وتفتح الباب ملا مل ُي ْع َرف �آنذاكَ } ،و يلق ما ل
َْ َُ َ
ون{ ،وت�أخذنا ال�سورة �إىل املاء النازل من ال�سماء وال�شجر والنخيل تعلم
ﻋﺼ
َْ ُ َ َ ََ ُ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ْ ْ َ
مِن ف ْوق ِِه ْم َوأتاه ُم العذاب مِن حيث ل يشع ُرون{ (انلحل.)26 :
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ثم تعتقد بعدها �أنك خارج القوانني ،تعتقد �أن كل ما حولك قائم على
ﺸﺮ
ل�صاحلك) ،ولكن ي�صل الأمر �إليك فتعتقد �أنك خارج اللعبة وقواعدها
ﺯﻳﻊ
بال�ضبط هكذا.
كل هذا الكون -من ال�شم�س �إىل النحلة وكل ما بينهما -قائم على
قوانني وقواعد� ،أي منطق يجعل الإن�سان ال يخ�ضع لنف�س م�صدر القوانني
والقواعد؟
�أي منطق يجعل الإن�سان منفردًا بال وظيفة كما لكل �شيء وظيفة؟
َ َ ً َ ْ ً َ ْ ُ ً َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ ْ ً َ َ ً َ َ َ
ش ٍء َومن َرزقناهُ مِنا ِرزقا حسنا ضب اهلل مثل عبدا مملوك ل يقدِر ع }
ﻋﺼ
َ ُ َ ُ ُ ُ ًّ َ َ ً َ َ ْ َ ُ َ
ْ ْ ْ ْ
ون{ (انلحل.)75 : ﲑ ﺍﻟ فهو ين ِفق مِنه ِسا وجهرا هل يستو
ُ ًََ َ ُ َْ َ َ ُ ُ َ َْ َ ُ َ َْ ُ ََ َ ْ َ ْ َْ َ َ َ َ َ
ش ٍء ،هل يست ِوي ه َو ي أحدهما أبكم ل يقدِر ع } ْوضب اهلل مثل رجل ِ
ﻜﺘ
َ َ ْ َ ُُ َْ ْ َ َُ ََ
ص ٍاط ُم ْس َت ِق ٍيم{(انلحل.)76 : ع ِ َ ومن يأمر بِالعد ِل وهو
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺸﺮ
ال�سورة كلها مل ت�أت على ذكر ا�سم نبي �إال �إ�شارة واحدة ل�سيدنا �إبراهيم
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ ً ََْ َ ُ َ ُْ ْ َّ ْ َ َ َ َ ُ َّ ً َ ً
شك َِني{(انلحل.)120 : ِ م ال ِن
م ك ي م ل و ا يفِ ن ح هلل ا ِت }إِن إِبراهِيم كن أمة قان
ﻋﺼ
تفا�صيل رحلته عليه ال�صالة وال�سالم يف الإ�سراء واملعراج.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لكن �سورة الإ�سراء ابتد�أت بالإ�شارة �إىل رحلة الإ�سراء يف �آيتها الأوىل،
ثم �أَ ْ�س َر ْت بنا �إىل مو�ضوعات �أخرى� ،أو هكذا قد يبدو الأمر ،على الأقل
ﺐ ﻟﻠﻨ
للوهلة الأوىل.
ﺸﺮ
تفح�صا �أعمق لل�سورة �سيعود بنا -الح ًقا � -إىل الإ�سراء ،بحيثً لكن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ ُ َّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ُ َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ
ام ِة ك َِتابًا يَلْ َقاهُ َمنْ ُش ً
ورا ان ألزمناه طائ ِره ِف عن ِق ِه ون ِرج ل يوم ال ِقي }وك إِنس ٍ
َْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َْ ْ َ َ َ ْ َ َ ً
اقرأ ك ِتابك كف بِنف ِسك الوم عليك ح ِسيبا م ِن اهتدى فإِنما يهتدِي ِلف ِس ِه
َ َ ْ َ َّ َ َّ َ َ ُّ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َّ ُ َ ِّ َ َ َّ َ ْ َ َ
ني حت نبعث ازرة ِوزر أخرى وما كنا معذب ِ ومن ضل فإِنما ي ِضل عليها ول ت ِزر و ِ
َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َََْ َ ْ ُْ َ ًََْ َََْ َُْ َ ََ َ ُ ُ ً
تفِيها ففسقوا فِيها فحق عليها الق ْول َرسول وإِذا أردنا أن نهلِك قرية أمرنا م
َ َ َّ ْ َ َ
اها تَ ْدم ً
ِريا{ (اإلرساء .)16 :13 فدمرن
َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َّ
اء ل ِمن ن ِريد ث َّم جعلنا لُ جهن َم جلة عجلنا ل فِيها ما نش }من كن ي ِريد العا ِ
َ َ َ ُ َ َ َ ََ َ ْ ََ ُ ُ ْ َ ْ َ َْ وما َم ْد ُح ًَ ْ َ َ َ ْ ُ ً
ورا َ ومن أ َراد الخ َِرة َوسع لها سعيها َوه َو مؤم ٌِن فأول ِك يصلها مذم
ُ
َك َن َس ْع ُي ُه ْم َم ْشك ً
ﻋﺼ
ورا{ (اإلرساء .)19 :18
َ َ َ َّ ُ َّ ُّ َ َ َ ُ ً
ﲑ ﺍﻟ
َ َ َْ َ ْ َ ََ ْ َْ َ ْ َ ََ
الش كن يئوسا ان أع َرض َونأى ِبَانِبِ ِه وإِذا مسه النس ِ }وإِذا أنعمنا ع ِ
ﻜﺘ
ُ ْ ُ ٌّ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ً
اكتِ ِه فربكم أعلم بِمن هو أهدى سبِيل{ (اإلرساء .)84 :83 قل ك يعمل ع ش ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف عنقك وكتابك بيدك� ،أنت وحدك م�س�ؤول عن الذي تفعله ،تهزنا الآيات
كما قد نفعل مع �شخ�ص �ضعيف وخائر ومتذمر طيلة الوقت ،نقول َ
له :لْ ِل ْم
نف�سك وا�سرتجل ،كذلك تقول لنا الآيات ،حت َّمل م�س�ؤوليتك.
ولي�س بعيدً ا عن هذا ،بل يف العمق منه ،وجود الن�سخة الإ�سالمية
املحدثة من الو�صايا الع�شر التي �سبق و�أن �أنزلها اهلل على قوم مو�سى،
الن�سخة الإ�سالمية يف الآيات (من � 22إىل )38تتجاوز الو�صايا التوراتية
املعروفة وت�ضيف عليها املزيد :عدم البخل وعدم التبذير بل التو�سط يف.
الأمر ،عدم اتباع �أمر ما دون علم والتوا�ضع ،كما ت�سقط من هذه الن�سخة
اخلامتة و�صية تقدي�س يوم ال�سبت.
هذه الو�صايا هي � ًأول توحيد اهلل وعدم عبادة �سواه ،بر الوالدين،
ال�صدقات ،الإنفاق ال�سليم والتو�سط بني البخل والتبذير ،البعد عن الزنا،
حماية الأرواح الربيئة ،املحافظة على �أموال اليتامى ،الوفاء بالعهود،
والعدل يف امليزان وعدم الغ�ش ،التحقق من كل �شيء قبل اتباعه ،التوا�ضع.
وكل هذه الو�صايا هي يف النهاية «م�س�ؤولية �شخ�صية»� ،صحيح �أن ً
بع�ضا
أ�شخا�صا» �آخرين بحيث تنظم عالقتك بهم ،لكن يف النهاية
ً منها يخ�ص «�
ﻋﺼ
هذه و�صايا �شخ�صية ،م�س�ؤولية �شخ�صية ،ال�سورة ت�سري بك �إىل دورك
ﲑ ﺍﻟ
الذي حتاول �أن تبقيه يف ُّ
الظ ْل َم ِة ،ت�ضعك مبواجهة عواقب هذا اللقاء،
ﻜﺘ
وقرارك جتاهه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺸﺮ
َّ َ َ
تهم�س �سورة الإ�سراء يف �أذنيك ب�شيء عن القر�آن ،تقول لك} :إِن هذا
ﻭ
ات أن له ْم أج ًرا الق ْرآن يهدِي ل ِل ِت ِه أقوم ويبش المؤ ِمنِني الِين يعملون الص ِ
ال ِ
ﺯﻳﻊ
َكب ً
ريا{ (اإلرساء.)9 :ِ
القر�آن يهديك الطريق �إىل الأ ْق َوم.
عليك �أنت �أن ت�سري يف هذا الطريق.
***
ت�سمى � ً
أي�ضا ال�سورة �سورة بني �إ�سرائيل� ،إذ بعد مطلع ال�سورة ت�أخذنا
فو ًرا �إليهم ،بال�ضبط �إىل موقع من ق�صتهم مل يتكرر يف �أي �سورة �أخرى،
ق�صة تع ُّر�ضهم للهالك والدمار على �أيدي �أقوام �آخرين مرتني.
- 106 -
سورة اإلرساء
َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ
ي َولَعل َّن عل ًّوا ِيل ف الْك َِتاب َلُ ْفس ُد َّن ف ْالَ ْ
ََ َ َْ َ َ ْ َ َ
ِ ت ر م ضِ ر ِ ِ ِ سائ ِ }وقضينا إِل ب ِن إ ِ
َكب ً
ريا{ (اإلرساء.)4 : ِ
نتعامل مع هذه الآيات �أحيا ًنا كما لو كانت حتمل نبوءة �سرية بزوال
«دولة �إ�سرائيل» ،واحلقيقة �أن كل ما ُذ ِك َر من ق�ص�ص لبني �إ�سرائيل يف
القر�آن كان الهدف منه �أن نتعظ نحن و� َّأل منر بنف�س الأخطاء التي وقعوا
فيها.
ولقد فعلنا بال�ضبط ،بحيث �إن هذه الآيات الآن تكاد تنطبق علينا،
ﻋﺼ
وتتكرر علينا.
ﲑ ﺍﻟ
ْ ْ
ك ْم َوإ ْن ُع ْد ُت ْم ُع ْدنَا َو َج َعل َنا َج َه َّن َم ل ِل َكف ِر ََ
َ َ َ ُّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ُ
ين َح ِص ًريا{ }عس ربكم أن يرح
ﻜﺘ
ِ ِ
(اإلرساء.)8 :
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وهذا ي�أخذنا مرة �أخرى �إىل الآية الأوىل :الإ�سراء ،نعرف �أنه عاد عليه
مهموما من �أن النا�س لن ي�صدقوا ما �سيقوله لهم ،ثبت ً ال�صالة وال�سالم
ذلك بال�صحاح ،وت�أتي هذه الآيات كما لو ُت ْل ِقي ال�ضوء على هذه الفرتة �أو
ما ي�شابهها ،نحن هنا نرى ما يدور يف نف�سه عليه ال�صالة وال�سالم.
- 107 -
القرآن نسخة شخصية
ونحن نعلم �أن ال�صالة ُف ِر َ�ضت يف رحلة املعراج((( ،هنا نعرف �أي توقيت
منا�سب جاء هذا الفر�ض ،ليكون العالج والدواء لهذا املوقف ،ولكل املواقف
ﻋﺼ
التي يكون فيها �صدقك مبواجهة الآخرين. ﲑ ﺍﻟ
ْ َُْ َ ْ َْ ْ َ ْ ْ ُْ َ ْ ُ ْ ِّ َ ْ ْ ُ ْ َ َ
لنك } َوقل َرب أدخِل ِن مدخل ِصد ٍق َوأخ ِرج ِن م َرج ِصد ٍق َواجعل ِل مِن
ﻜﺘ
ُسلْ َطانًا نَ ِص ً
ريا{ (اإلرساء.)80 :
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
تقول لكَ :ح ِّلقْ به ،و�أنت َمنْ يحدد �أين ُّ
يحط.
ﻋﺼ
الرئي�سية :فتية الكهف� ،صاحب اجلنتني ،مو�سى والعبد ال�صالح ،وذو
ﲑ ﺍﻟ القرنني.
ﻜﺘ
�سياقات امل�ألوف واملعتاد ،غال ًبا م�ستهجنة وحماربة �أو يف �أح�سن الأحوال
ﺯﻳﻊ
متجاهلة من اجلميع.
َ
ْ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ً َ َ ِّ ْ َ ْ ْ َ
ْ
ئ لَا مِن أم ِرنا }إِذ أوى ال ِفتية إِل الكه ِف فقالوا ربنا آت ِنا مِن لنك رحة وهي
َ َ َ ً ْ َ ْ َر َش ًدا َ ف َ َ ْ َ َ َ َ ْ
ني عددا{ (الكهف .)11 :10 ضبنا ع آذان ِِهم ِف الكه ِف ِسنِ
تلك املرحلة هي الكهف ،الكهف الذي �أوى له الفتية وهم يحملون
�إميانهم باهلل ،والكهف الذي يحتوي �أي فكرة يف بدايتها ،فكرة علمية،
�أو فكرة مل�شروع� ،أي فكرة حتتاج �إىل «حا�ضنة» عندما تكون ال تزال بذرة.،
أن ت َمى من �أي ت�أثري� ،أن يحت�ضنها �صاحبها بعيدً ا عن كل �شيء، حتتاج � ُ ْ
�أن ينفرد بها لكي ي�ستطيع �أن يجعلها مميزة.
- 109 -
القرآن نسخة شخصية
الكهف هنا مثل احلا�ضنة؛ الرحم والفكرة ،البذرة هنا مثل اجلنني
الذي ال بد �أن ينمو داخل الرحم بعيدً ا عن العامل اخلارجي.
***
َ ََْ َُ ْ َ َْ َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ ً َ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ
اب َوحففناهما ٍ ن ع أ ِن
م يي جعلنا ِلح ِدهِما جنت ِ اضب لهم مثل رجل ِ }و ِ
ْ َ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ْ ْ ُ َ ْ ً َ َ َّ ْ َ ً َ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ
ي آتت أكلها ولم تظلِم مِنه شيئا وفجرنا ِ بِنخ ٍل َوجعلنا بينهما ز ْرع ِ كتا النت
َ ُ َ َُ ُُ ََ َ ْ َُ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ ََ ََ َ َ َ َُ َ َ َ
ث مِنك مال َوأع ُّز اوره أنا أكحبِ ِه وهو ي ِ خِللهما نه ًرا َ وكن لُ ثم ٌر فقال ل ِصا ِ
ََ
نف ًرا{ (الكهف .)34 :32
مرحلة �صاحب اجلنتني هي �أوىل مراحل اخلروج من الكهف ،النزول
ﻋﺼ
�إىل الواقع ،يف الق�صة يحاور امل�ؤمن «�صاحبه» الكافر ويحاول تغيري فكرته،
ﲑ ﺍﻟ
الفكرة �إذن �أ�صبحت م� َّؤهلة لكي تواجه الفكرة املقابلة وتناق�شها ،خرجنا
ﻜﺘ
من احلا�ضنة �إىل الت�ضاد والتفاعل مع الأفكار الأخرى ،تفاعل ميكن �أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
يكون مثل اللقاح الذي يزود الفكرة الأ�صلية مبناعتها عرب تكوين م�ضادات
ﺸﺮ
كل فكرة حتتاج هذا اجلدل ،هذا التفاعل ،ال ميكن لها �أن تنزل �إىل
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ً
وبدل من حتطمها على �صخرة الواقع ،ال بد من نوع من املرونة ،ال بد من
حتديث منا�سب للواقع ومعطياته التي كانت غائبة يف مرحلة «الكهف».
الأمر هذا يحدث مع كل فكرة وكل م�شروع ،مهما كانت طبيعته ،بل حتى
مع العالقات ال�شخ�صية ،الفكرة امل�سبقة قبل الدخول يف «معرتك احلياة»
تكون «نظرية» ومليئة بالتوقعات العالية ،لكن الح ًقا حتدث «تعديالت»
متاما.
تنا�سب الواقع ،دون �أن تلغي الفكرة الأ�صلية ً
***
َّ َ َّ َّ َ َْ ْ َْ ُْ َ َْ ُ َ َْ ُ ْ ُ ْ َ َْ َُ َ َ َ ْ
ي قل سأتلو عليك ْم مِنه ذِك ًرا إِنا مكنا لُ ِف
ﻋﺼ
ِ ن ر ق ال ِي ذ ن }ويسألونك ع
ََ َ ًَ ْ َ َ ْ َ ًَ َ ِّ ُ ْ ََْ َْ
ال ْر ِض َوآتيناهُ مِن ك
ﲑ ﺍﻟ
ش ٍء سببا فأتبع سببا{ (الكهف .)85 :83
ﻜﺘ
املرحلة النهائية ،الهدف لكل ما �سبق ،يف الق�صة يبدو «اتباع الأ�سباب»
وا�ضحا كركيزة لهذا النجاح ،لكن احلقيقة �أن هذا النجاح كان النتيجة ً
ﺸﺮ
كهف �صغري ،كهف تن�سحب �إليه لرتاجع وتعيد النظر وتعيد التقييم ،كهف
تختلي فيه مع نف�سك ومع فكرتك ،وهناك يف كل مرحلة ذلك النقا�ش .
أي�ضا هناك ذلك التفاعل مع الواقع مع الفكرة امل�ضادة ،ويف كل مرحلة � ً
ومتطلباته.
كل املراحل موجودة يف كل طور من الأطوار ،املهم �أن تكون واع ًيا ب�أهمية
ووظيفة كل طور.
***
- 111 -
القرآن نسخة شخصية
أملت يف حياتك لرمبا وجدت بع�ض هذه الأطوار ،رمبا كنت ال تزال لو ت� َ
متر بها ،رمبا كنت يف الكهف ،ورمبا كنت ال تعرف �أن عليك اخلروج منه،
ودفعت ثم ًنا ً
باهظا لذلك، َ رمبا وجدت نف�سك خارج الكهف قبل الأوان،
علقت يف الكهف؛ لأن اخلارج َب َدا لك خمي ًفا ج ًّدا.
رمبا َ
رمبا جتد يف الكهف الرباءة والنقاء الأول الذي كان ذات يوم ،ورمبا
تعرفت فيها على �أفكار �أخرى خمتلفة
َ جتد يف �صاحب اجلنتني �أول مرة
عما تعتنقه ،رمبا جتد �صدمتك الأوىل والثانية والثالثة يف ق�صة املو�سى
ﻋﺼ
والعبد ال�صالح ،رمبا �ستجد فيها كل ما كرهته يف حياتك عندما حدث،
ﲑ ﺍﻟ
واعتربته �أ�سو�أ ما حدث لك ،ثم متر الأيام ،ف�إذا بك تكت�شف �أنها كانت
ﻜﺘ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
أ�صبحت
ِ طينك الأر�ضي حتى �
ِ أنت يا مرمي؟ ب�أي �شيء ُع ِجنَ
من �أي �شيء � ِ
ﺸﺮ
بهذه القوة؟
ﻭ
يا مرمي ،ال ي�ستطيع رجل �أن يفهم هذا ،ال ي�ستطيع �أن يت�صوره.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
عن وظيفة زوجها ،ترك�ض هذه املر�أة بني عدة جبهات وتنت�صر فيها
جمي ًعا ،وقد تكون مري�ضة �أو ُن َف َ�ساء �أو مر�ضع �أثناء ذلك ،ولكن كل �شيء
ﺐ ﻟﻠﻨ
أ�صل لها ،بينما قد يدخل ي�سري غال ًبا ح�سب املعتاد ،دون �أن ينتبه �أحد � ً
ﺸﺮ
ال �أقول� :إن ال�سيدة مرمي كانت خارقة بهذا املعنى ،ال ،هي �أعلى بكثري
ﺯﻳﻊ
من هذا اخلارق «املوجود» ،لكن من هذا الباب َد َل َف ْت مرمي �إىل �أملها،
و� ً
أي�ضا �إىل جمدها.
مرمي اختزنت كل �آالم ن�ساء العامل ،وكل �صربهنَّ وجلدهنَّ ،هي ممثلة
عنهنَّ جمي ًعا ،تنوب عنهنَّ وقد تقطرت كل جتاربهنَّ ومعاناتهنَّ عربها.
منذ �أن ُو ِل َدت مرمي وهي منذورة لكي تثبت �أن املر�أة ميكنها �أن تقوم
مقام الرجل ،كما جاء يف �سورة �آل عمران:
ُ َ َ َ َ َّ ْ ِّ َّ َ َْ ْ َ ُ ْ َ ِّ ِّ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ
ت ام َرأت عِم َران َرب إِن نذ ْرت لك ما ِف بط ِن م َّر ًرا فتقبل مِن إِنك }إِذ قال ِ
َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ِّ ِّ َ ْ ُ َ ُ ْ َ
ِيم ،فلما َوضعتها قالت َرب إِن َوضعتها أنث َواهلل أعل ُم بِما َوضعت أنت الس ِميع العل
َ َّ ْ ُ َ َ َ ِّ ُ
َ ْ َ َّ َ َ ْ ْ َ
َوليس اذلك ُر كلنث َوإِن سميتها م ْري َم{ (آل عمران.)35 :
�أمها كانت تريد َذ َك ًرا تهبه هلل ح�سب الت�شريع اليهودي ،لكن مرمي �أنثى،
ومن تلك اللحظة كان على مرمي �أن تثبت ما على ماليني ،مئات املاليني
كالذ َكر،
الذ َكر ،هي لي�ست َّ
من الن�ساء� ،أن ُي ْث ِب ْت َنهُ ،لي�ست الأنثى �أقل من َّ
لكنها لي�ست �أقل منه ،وميكنها �أن تقوم بالكثري مما ميكنه هو �أن يقوم به،
كما ميكنها �أن تقوم هي مبا ال ميكنه هو �أن يفعله.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
هذا التحدي يواجه الكثري من الإناث على نح ٍو يجعل حياتهنَّ ب�أ�سرها
ﻜﺘ
مربجمة على �أ�سا�سه ،ق�صة يبدو �أنها لن تنتهي منذ فجر التاريخ ،تدخل
ﺐ ﻟﻠﻨ
كانت ال تزال جني ًنا يف بطن �أمها يوم بد�أ التحدي ،مل يكن من املعتاد
تقدمي الإناث للخدمة الدينية ،وكان الفر�ض يف ال�شريعة عندهم تقدمي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الطفل الأول �إذا كان َذ َك ًرا ولي�س �أنثى ،ولكن �أمها كانت َن َذ َر ْت َها و َ أ� ْو َف ْت
ﺯﻳﻊ
الذ َكر ،و أ� ْب َل ْت يف ذلك بال ًء خار ًقا، بالنذر ،وكان على مرمي �أن تقوم مقام َّ
بل �أكرث من ذلك ،قامت بدور ما كان ميكن َلذ َك ٍر �أن يفعله.
قد يتخيل الرجال ما مرت به ال�سيدة مرمي ،لكني �أعتقد �أن خيالنا
يبقى قا�ص ًرا مقابل ما ميكن �أن تفهمه املر�أة من ذلك� ،أن تكون �شريفة
مل مي�س�سها ب�شر يف بيئة �شديدة التدين واملحافظة ،ثم �أن ُت َب َّل َغ باخلرب
ال�صاعقُ :ح ْب َلى.
تخيلوا الأمر ،وحدها ،يف العراء ،وطفل �أول ،دون جتربة �سابقة ت�سهل عليها
ﺐ ﻟﻠﻨ
يلدن يف اخلفاء ومبفردهنَّ ،لكنه يبقى �أم ًرا �صع ًبا �شديد ال�صعوبة.
ﻭ
وكان خما�ضها م�ؤملًا� ،أجاءها من �أمله �إىل جذع النخلة ،ا�ضطرها �إىل
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
***
ال ميكن �أن �أ�سمع تلك الآيات التي تق�ص ق�صة مرمي وحملها دون �أن
يت�س َّلل �إىل خيايل �صوت جعفر بن �أبي طالب وهو يقر�أها �أمام النجا�شي،
يوم هاجر امل�سلمون �إىل احلب�شة فرا ًرا من �أذى قري�ش ،و�أر�سلت قري�ش
خلفهم من يطلب من النجا�شي ت�سليمهم.
((( �أتخيل �صوته الذي مل �أ�سمعه من ُ
قبل وهو يقر�أ الآيات.
مف�سحا املجال
ً تخيلوه ،تخيلوا الكلمات تخرج من جعفر ،ويعم ال�صمت
لذلك النور املتدفق حز ًنا ورق ًة ،تخيلوها وهي تتجول يف الق�صر وامللك
ﻋﺼ
وحوله حا�شيته.
ﲑ ﺍﻟ
َ َّ َ َ ْ ْ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ْ ًّ َ َ ْ َ َ ْ ُْ
شقِيا فاتذت مِن اب م ْري َم إ ِ ِذ انتبذت مِن أهلِها مكنا }واذكر ِف الكِت ِ
ﻜﺘ
َ َ ْ ِّ َ ُ ُ َّ ْ َ ُ ْ َ ً َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ ً َ ًّ
الرح ِن دون ِِهم حِجابا فأرسلنا إِلها روحنا فتمثل لها بشا س ِويا قالت إِن أعوذ ب ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ َ ُّ ُ َ َ َ َ
ك ه َو ش َولم أك ب ِغيا قال كذل ِِك قال رب ِ أن يكون ِل غلم ولم يمسس ِن ب
َ َ َ َْ ُ َ ََْ َ ْ ْ َ ً َّ َ َ َ ْ َ ْ ًّ ْ َ َ ُ َ ً َّ َ َ َّ
ﻭ
جذ ِع انلَّخل ِة قالت يا ْلت ِن مِت قبل هذا مكنا ق ِصيا فأجاءها المخاض إِل ِ
َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُّ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ ً َ ْ ًّ
سيًّا{ ِ
ت َتك َ
ِ كَوكنت نسيا من ِسيا فناداها مِن تتِها أل تز ِن قد جعل رب ِ
(مريم .)24 :16
و�ضعتهم الآيات يف قلب �أزمة مرمي ،الأزمة التي جعلتها تتمنى لو �أنها
َ ُ َ َ
متاماْ } ،لتَ ِن م ُِّت ق ْب َل َه َذا َوك ْن ُت ن ْس ًيا َمنْ ِس ًّيا{ ،امر�أة يف
ماتت و ُن ِ�س َي ْت ً
�أزمة ،وحيدة ،على و�شك �أن تواجه اتهامات العار والف�ضيحة من قومها.
كم ت�شبه �أولئك الغرباء املهاجرين الذين كان قومهم يريدون �أن
يرجعوهم غ�ص ًبا وقه ًرا لينالوا منهم �سوء العذاب.
ال بد �أنهم �سمعوا الآيات كما لو كانت تنزل للتو ،كما لو �أنهم ي�سمعونها
�أول مرة.
رجل وزوجاتهم.كانوا ب�ضعة وثمانني ً
كلهم �أح�سوا �أنهم مرمي.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
أي�ضا ،البع�ض منا على الأقل� ،أجاءنا خما�ضنا �إىل جذوع نخل،ونحن � ً
ﻜﺘ
ال ،مل تكن جذوع نخل بال�ضبط ،كانت قوارب هجرة� ،أحيا ًنا كانت جمرد
َق َّ�شة ،وتع َّل ْق َنا بها تعلُّق الغريق.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
***
ﺯﻳﻊ
ال ميكن لقارئ �سورة مرمي �أن يغفل عن تكرار ذكر لفظ «الرحمن»
فيها 11 ،مرة ُذ ِك َرت الكلمة يف �سورة مرمي عدا الب�سملة ،ال يوجد �أي �سورة
�أخرى يف القر�آن تقرتب من ذلك ،و�أقرب �شيء �إىل ذلك هي �سور الأنبياء
وي�س وامللك ،وكل منها ُذ ِك َرت الكلمة فيها 4مرات.
�صدفة؟! حا�شا هلل.
لعله عز وجل هنا ي�شري لنا �إىل معاين الرحمة التي ت�شري �إليها لفظة
الرحمن ،فريبطنا مبرمي ،بالأم ،باملر�أة اخلارقة ،هل هناك �أكرث رحمة
من الأم بني الب�شر؟ �ألي�س معنى الرحمة قد جاء من «الرحم» �أم العك�س؟
ال فرق ،لكن رحمة الأمهات �أمر ال خالف عليه ،حتى يف ق�سوتهنَّ �أحيا ًنا،
ثمة رحمة تكون من �أجل م�صلحة �أبنائهنَّ وبناتهنَّ .
كما لو �أنه عز وجل قد �شاء �أن يقربنا من معنى «الرحمن» عرب �أو�سع
و�أقرب ما نعرفه من معاين الرحمة.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
يف نف�س ال�سورة ،على ُب ْع ِد �آياتَ من َق�صة مرمي ،ي�أتينا م�شهد ل�سيدنا
ﻜﺘ
َ َ َ ٌ ْ َ َ ْ َ َ َْ ُ َ ْ َ ََْ
ِيم ل ِئ ل ْم تنت ِه
�إبراهيم يف مواجهة مع �أبيه} ،قال أراغِب أنت عن آل ِه ِت يا إِبراه
َ ًّ َ َ ُ َ َّ َ ْ ُ
ل ْرجنك َواهج ْر ِن ملِيا{ (مريم.)46 :
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
الأمهات عاد ًة ال يفعلن ذلك ،رحمتهنَّ متنعهنَّ من قول ذلك مهما كان
موقفهنَّ ،لديهنَّ �أ�ساليب «م�ضادة» �أخرى طب ًعا ،لكن هذا النمط نادر عند
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الن�ساء.
ﺯﻳﻊ
***
ويف نهاية ال�سورة تقري ًبا.
َ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َّ ْ َ ًّ َّ َّ َّ َ َ ُ َ ُ
الرح ُن ُودا{ (مريم.)96 : ات سيجعل لهم الص ِ َ
ال ِ ِين آمنوا َوع ِملوا
}إِن ال
الود؟
كم هو منا�سب هذا جلو ال�سورة وملرمي عليها ال�سالم!
***
- 119 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
َ َْ ْ َ َْ َ ُْ َ َ ْ َ
}طه ما أن َزلَا عليك الق ْرآن ل ِتشق{ (طه .)2 :1
ال�شقاء موجود يف هذا العامل كجزء منه ،هو موجود قبل �أن يتنزَّل
ﺐ ﻟﻠﻨ
القر�آن وبعد �أن تنزَّل ،ويف الغالب �سيبقى كذلك �إىل �أن تقوم القيامة.
ﺸﺮ
كلها ت�ش ِّكل هذا العامل كما نعرفه ،رمبا ال ِّن َ�سب لي�ست مت�ساوية ،رمبا ال�شقاء
ﺯﻳﻊ
ولعل الأمر بد�أ من كفار قري�ش وهم يقولون للم�سلمني :لقد �أ�شقاكم
هذا القر�آن.
ولعل البع�ض من امل�سلمني كان ينظر �إىل الأمور ،و ُي َخ َّيل له �أن هذا
ال�شقاء �أمر مالزم للإميان.
ال�سورة تقول يف مطلعها � َّأل نتمادى يف ذلك ،ال�شقاء قد يحدث ،لكنه
لي�س هد ًفا بحد ذاته وال مق�صدً ا ،هو حم�ض نتيجة عار�ضة وعابرة.
ي�سهل على البع�ض �أن يعي�ش الدور ،دور ال�شقي املظلوم ،يربر لنف�سه
ﻋﺼ
البقاء فيه بهذه احلجة �أو تلك ،كي يبقى يف الدور ،يف عدم املواجهة،
ﲑ ﺍﻟ
هناك َمنْ ظلمه ،هناك من يتوجه له باللوم.
ﻜﺘ
ال�سورة -باملنا�سبة -ال تقول لنا� :إن القر�آن قد تنزَّل لكي يجعلنا ن�شعر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
بال�سعادة.
ﺯﻳﻊ
ال�سعادة ميكن �أن حتدث ،بل هي حتدث لكثريين بالفعل ،يقدم القر�آن
لهم م�صد ًرا من م�صادر الطم�أنينة وال�سعادة.
لكن هذا مرة �أخرى ،لي�س الهدف منه ،بل هو جمرد نتيجة.
ْ
القر�آن نزل }تَذك َِرةً ل َِم ْن َ ْي َش{ (طه.)3 :
و�سيكون هناك -يف خامتة ال�سورة تقري ًبا � -شيء �آخر عن هذا.
***
ْ ُ ُ ِّ َ ْ ُ
ت نَ ً ْ ََ َ ً َ َ َ َ ْ َْ ََ َ َ ُ ُ َ
ارا ارا فقال ِلهلِ ِه امكثوا إِن آنس } َوهل أتاك حدِيث موس إِذ رأى ن
ُ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ً َ َ ِّ
ار هدى{ (طه .)10 :9 جد ع انل ِلعل آتِيكم مِنها بِقب ٍس أو أ ِ
�أول مواجهة تعقدها ال�سورة هي مع �سيدنا مو�سى.
مو�سى كان طريدً ا ب�سبب قتل �سابق ،وكان ميكن �أن يبقى داخل هذا
الدور ،دور القاتل الذي مل يتعمد القتل ،املظلوم بـ«حظ �سيئ» �أو ب�سرعة
غ�ضب ،املذنب «باخلط�أ» الذي �سيبقى طريدً ا منف ًّيا طيلة عمره.
َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ْ ُ َ َّ ُ
لكن الوحي ي�أتيه �أن }فاخلع نعليك إِنك بِال َوا ِد المقد ِس ط ًوى{ (طه.)12 :
ﻋﺼ
يخرجه الوحي من دوره القدمي ،دور القاتل املظلوم ،ويقدِّ ُم له دو ًرا
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
متاما ،دور النبي �صاحب الر�سالة ،ويطلب من هذا «املظلوم خمتل ًفا ً
�ساب ًقا» �أن يواجه فرعون نف�سه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ َ
}اذهب إِل ف ِْرع ْون إِنه طغ{ (طه.)24 :
ﺸﺮ
***
ﺯﻳﻊ
ال بد �أن �صدر مو�سى قد كان فيه ما فيه وهو يخرج من دور املذنب
املظلوم �إىل مهمة النبي الر�سول.
ال بد �أن �صدره �ضاق الأمر.
وكان الدعاء ،دعاء املواجهة� ،أي مواجهة.
ْ ُْ ُ ْ َ ً ْ َ َ َ ِّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ْ َ ْ
س ِل أم ِري َ واحلل عقدة مِن ل ِس ِان اشح ِل صد ِري وي }قال رب
ََْ ُ َْ
يفقهوا قو ِل{ (طه .)28 :25
ﻋﺼ
مل يكن هذا �أول خروج من «مظلومية» يف حياة �سيدنا مو�سى.
ﲑ ﺍﻟ
اليم ،ومن ثم
فقد ُو ِل َد يف مرحلة قتل �أطفال بني �إ�سرائيل� ،ألقته �أمه يف ِّ
ﻜﺘ
ُ َّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ
جئت ع قد ٍر يا موس{ (طه.)40 :}ثم ِ
ﺸﺮ
***
حتى �سحرة فرعون ،عندما �آمنوا برب مو�سى ،وهددهم فرعون
بالتعذيب وال�صلب.
ِّ ْ َّ َ َّ ِّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ
قالوا له} :إِنا آمنا ب ِ َربنا ِ َلغ ِف َر لَا خطايانا َوما أك َرهتنا علي ِه م َِن السح ِر َواهلل
َ ٌْ ََْ
ي َوأبق{ (طه.)73 : خ
ﻋﺼ
ُّ َّ ََ َ َْ َ َ َ َ َ ََْ
فقذفناها فكذل ِك ألق السام ِِري{ (طه .)87 :86
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
وعندما عاد مو�سى �إىل قومه ووجدهم يعبدون العجل الذي �صنعه
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال�سامري.
ﺸﺮ
هم اتهموا ال�سامري ب�أنه ال�سبب ،وهارون قال� :إنه مل يفعل �شي ًئا كي ال
ﻭ
َََ ْ ُ َْ َ ً ص ُت ب َما ل َ ْم َي ْب ُ ُ َ َ َ َ ََ َ ْ ُ َ َ َ
ﺯﻳﻊ
صوا ب ِ ِه فقبضت قبضة ال بَ ُ ْ}قال فما خطبك يا سام ِِر ُّي ق
ِ
َْ ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ْ
ول فنبذتها َوكذل ِك س َّولت ِل نف ِس{ (طه .)96 :95 مِن أث ِر الرس ِ
حتى ال�سامري ،ا َّدعى �أنه ر�أى ما ي�شبه املالك ،وبعدها �س َّولت له نف�سه.
مل يتحمل �أحد امل�س�ؤولية.
الكل �ضحية.
***
منذ �أن و�سو�س �إبلي�س لآدم وزوجه ،وهناك من يجد �أن احلل هو �أن
مظلوما كي يتخلى عن م�س�ؤوليته.
ً يكون �ضحية
لكن عندما أُ � ْخ ِر َجا من اجلنة.
َ ُ ٌّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ ِّ ُ ً َ َ ْ َ َ ْ َ َْ َ ً َْ ُ ُ
}قال اهبِطا مِنها جِيعا بعضك ْم ِ َلع ٍض عدو فإِما يأت ِينكم مِن هدى فم ِن
َّ َ َ ُ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ْ َ
اي فل ي ِضل َول يشق{ (طه.)123 : اتبع هد
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ على العك�س.
ﻜﺘ
َ َ َ َ ُ ُ َ ً َّ
ين فجعله ْم جذاذا إِل ك ْم َب ْع َد َأ ْن تُ َولُّوا ُم ْدبر َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ُ
} َوتاهلل لك ِيدن أصنام
َ
ِِ
َ َ َّ ُ َ َ َّ
الظالِم َ َ ُ َ ْ َََ َ َ َ ً َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َ
ني ِ جعون قالوا من فعل هذا بِآل ِهتِنا إِنه ل ِمن كبِريا لهم لعلهم إِل ِه ير ِ
َّ َ َ ْ َ َ َ
َ ُ
اس لعله ْم ي انلَّ ِ
ََ ْ ُ ُ ُ َ ُ َ َْ ًَ َْ ُُ ُْ َُ ُ ُ َْ ُ
قالوا س ِمعنا فت يذكرهم يقال ل إِبراهِيم قالوا فأتوا ب ِ ِه ع أع ِ
َ َ َْ َ َ َُ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َْ ُ َ ُ ََْ َ َ َ ْ َ َ َ َْ َ ُ َ
ريه ْم هذا يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بِآل ِهتِنا يا إِبراهِيم قال بل فعله كبِ
َ ْ َُ ُ ْ َ ُ َْ ُ َ
فاسألوه ْم إِن كنوا ين ِطقون{ (األنبياء .)63 :57
ومن تفا�صيل ما تذكره ال�سورة ،نفهم �إن �إبراهيم كان �صغري ال�سن
َ ْ ُ َ
وقتهاَ } ،س ِم ْع َنا ف ًت يَذك ُر ُه ْم ُي َق ُال لُ إِبْ َراه ُِيم{.
ونتعرف على مواجهته لقومه عندما ا�ستجوبوه وح َّو َل اال�ستجواب هو
�إىل كبري الأ�صنام ،عامدً ا �أن يواجههم بال منطقية ما ي�ؤمنون به.
و�سالما
ً وانتهى الأمر بقرارهم عقوبته باحلرق ،ثم كانت النار بردًا
عليه.
***
ﻋﺼ
هذا امل�شهد هو امل�شهد املركزي يف �سورة الأنبياء.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
هد ًفا ،لي�س الهدم �إال و�سيلة للو�صول �إىل مكان منا�سب للبناء.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
و�سيكون هناك تركيز على داود و�سليمان -عليهما ال�سالم -وقد حققا
�أعلى معاين البناء.
العدل كما يف مثال حكمهما على �صاحب الغنم واحلرث ،وال�سنن؛
املعرفة بال�صنائع والتحكم باملوارد الطبيعية.
***
�إذن مقابل م�شهد الهدم املركزي يف ال�سورة ،نقطة االنطالق ،هناك
� ً
أي�ضا التتمة ال�ضرورية ،م�شاهد البناء التي تكمل ال�صورة.
ﻋﺼ
ولو قمنا بح�ساباتنا ،ف�إن مناذج البناء �ستكون �أكرث من مناذج الهدم.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ملاذا؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
للهدم جاذبيته ،خا�صة عندما تكون �شا ًّبا ومتمردًا وتريد �أن تثبت
ﺸﺮ
ً
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
مل تنت ِه رحلة �إبراهيم يف املعبد تلك الليلة ،بل قادته �إىل طريق ر�أيناه
فيه وهو يرفع القواعد من البيت ،وي�ؤ�س�س البلد الآمن.
فعل ،لكنه هدم من �أجل البناء ،ولو يف مكان كان امل�شهد م�شهد هدم ً
�آخر.
فلننتبه هنا �إىل �أن م�شهد الهدم هذا مل ي�ؤ ِّد �إىل �أن ي�ؤمن قومه ،رغم
�أنه �ضرب معتقداتهم يف ال�صميم.
كما لو �أن الر�سالة هنا هي �أنه لكي جتعل النا�س ي�ؤمنون بك ،عليك � َّأل
ﻋﺼ
تكتفي بهدم �إميانهم،
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
كانت جناتهم من دمار حتمي بالظروف االعتيادية؛ النار ،الغرق،
ﲑ ﺍﻟ احلجارة.
ﻜﺘ
تغي الأمر.
مع الأنبياء الالحقني الذين تذكرهم ال�سورة َّ َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل يعد هناك «عقوبة جماعية» تتطلب التدخل ،كما ال تذكر ال�سورة
ﺸﺮ
كلما اقرتبنا من ختم النبوة �أكرث -منه عليه ال�صالة وال�سالم -يقل
ﺯﻳﻊ
الأمر ،مع ا�ستثناء ما حدث ل�سيدنا عي�سى -عليه ال�سالم -ولكن رفعه مل
ُي ْذ َك ْر يف هذه ال�سورة.
كما لو كان الأمر لتدريبنا على �أن نعتمد على �أنف�سنا �أكرث ف�أكرثَّ � ،أل
نتوقع املعجزات ،فهي خا�صة بالر�سل والأنبياء.
و�سالما ملجرد
ً كما لو �أنها لتدريبنا على � َّأل نتوقع �أن تتحول النار بردًا
�أننا دعونا اهلل �أن يفعل ذلك كما فعل مع �إبراهيم ،جت َّنب �أن تقودك طرقك
�إىل النار� ،أو حا ِو ْل حماربتها وتخفيف �آثارها بالطرق التقليدية.
***
ﻋﺼ
�سورة الأنبياء هي واحدة من ثالث �سور يف القر�آن تذكرنا بحقيقة
ﲑ ﺍﻟ
نادرة من حقائق احلياة التي ال يجادل فيها �أحد؛ املوت.
ﻜﺘ
ُ ُّ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ َّ ِّ َ ْ َ ْ ْ َ ً َ َ ُ َ ُ َ
ي ف ِتنة َوإ ِ ْلنا ت ْرجعون{ (األنبياء.)35 : }ك نف ٍس ذائ ِقة المو ِ
ت ونبلوكم بِالش وال ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
وما دام الأمر كذلك ،وبح�سم ،ما دام املوت ينتظرنا عند منعطف ما.
ﺸﺮ
***
ﺯﻳﻊ
العباد ال�صاحلون....
لعلهم �أولئك الذين وا َز ُنوا بني ح�سابات الهدم والبناء.
لعلهم �أولئك الذين مل يكونوا عن هذه احل�سابات غافلني.
- 132 -
سورة الحج 22
تأشيرة حج
ما كان ميكن ل�سورة نزلت �آياتها متفرقة يف مكة واملدينة ،واحل�ضر
وال�سفر ،والليل والنهار� ،إال �أن تكون «�سورة احلج».
كنت -منذ �أن تنوي احلج،
ﻋﺼ
احلج الذي هو رحلة تبد�أ من بيتك � -أينما َ
ﲑ ﺍﻟ
وتنتهي �إىل البيت العتيق.
ﻜﺘ
و�سورة ت�صف رحلة كهذه ،ما كان ميكن �إال �أن تتنزل على هذا النحو،
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إنها رحلة ،ت�أخذك ال�سورة لها ،حتى لو كنت مل تذهب للحج �ساب ًقا� ،أو
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ال�سورة ت�أخذك جمددًا �أو لأول مرة �إىل عمق احلج ،لكن دون حاجة �إىل
ت�أ�شرية �أو بطاقة �سفر.
***
بينما تع ُّد نف�سك لهذه الرحلة ،تذكرك ال�سورة ب�أن حياتك كلها رحلة
�سفر مبحطات متعددة.
َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ َ ُ ْ َْ َ َ ُّ َ َّ ُ
اس إ ْن ُك ْن ُت ْ
اب ث َّم مِن رت ِن م م اك ن ق ل خ ا ن إف ثِ ع ال ِنم ب ي ر فِ م }يا أيها انل
َ ْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ ِ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ ٍ َّ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ ِ ُ َ ِّ َ َ ُ ْ َ ُ ُّ ٍ ْ َ
ي ملق ٍة ِلبي لكم ون ِقر ِف الرح ِ
ام نطف ٍة ثم مِن علق ٍة ثم مِن مضغ ٍة ملق ٍة وغ ِ
- 133 -
القرآن نسخة شخصية
ْ ُ َ ْ ُ َ َّ ْ ً ُ ْ ُ ُ َ ُ َّ ُ ُ ُْ ُ ُ َ ََ ُ َ َ َ ُ َ
اء إِل أج ٍل مس ًّم ث َّم ن ِرجك ْم طِفل ث َّم ِلَبلغوا أشدك ْم َومِنك ْم من يت َوف ما نش
ْ َ ًْ َََ ْ َْ َ َ َ ً َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ
ومِنكم من يرد إِل أرذ ِل العم ِر ل ِكيل يعلم مِن بع ِد عِل ٍم شيئا وترى الرض هامِدة
َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ِّ َ ْ َ
يج{ (احلج.)5 : فإِذا أنزلا عليها الماء اهتت وربت وأنبتت مِن ك زو ٍج ب ِ ٍ
ه
مل ُي ْذ َكر هذا عن الكعبة �أو البيت احلرام �إال هنا يف هذه ال�سورة ومرتني.
ُ َّ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ ُ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َّ ُ ْ َ ْ ْ َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻋﺼ
ِلطائف َ َ ْ ً َ َ ِّ ْ َ ْ َ َّ
ني ِِ ل تِ يب ر هطو ا ئ ي ش بش ِ
كت أن ل ت ِ }وإِذ بوأنا ِ ِلبراهِيم مكن الي ِ
ﲑ ﺍﻟ
ْ َ ِّ َ ُ َ َ ً َ َ ُ ِّ َْ َ ِّ ْ ُّ ُ َ َ ُّ َّ َْ
الج يأتوك ِرجال َوع ك ضام ٍِر الركعِ السجو ِد َ وأذن ِف انلَّ ِ
اس ِب َوالقائ ِ ِمني و
ﻜﺘ
َ ْ َ ْ ُ ِّ َ ٍّ َ
يق{ (احلج .)27 :26 يأتِني مِن ك فج ِ ٍ
م ع
ﺐ ﻟﻠﻨ
نحن يف مرحلة ما بعد البناء ،وهذا النداء باحلج -املوجه لكل النا�س-
ﺸﺮ
�إبراهيم وبنيه� ،إىل ما هو �أبعد و�أو�سع من ذلك ،ميكننا �أن نقول� :إنها
ﺯﻳﻊ
�سورة احلج احتوت على الآية التي �أَ ِذنَ فيها اهلل للم�سلمني بالقتال.
ِير (َّ )39ال َ
ع نَ ْصه ِْم لَ َقد ٌ
ََ ُ َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ َّ
ِين ِ اهلل ن }أذِن ل ِلِين يقاتلون بِأنهم َ ظلِموا وإ ِ
ْ َ ْ َ ْ َ ٍّ َّ ْ َ ُ ُ ُّ َ ُ ْ ُ
ي حق إِل أن يقولوا َربنا اهلل{ (احلج .)40 :39 ِ غِ ب ِم
ه ار
ِ ِي
د ِن
م واج أخ ِر
�صار عندهم يف هذه املرحلة -ما بعد الهجرة حتديدً ا -بناء ي�ستحق
الدفاع عنه حلمايته.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ُ ٌْ َ ُ
ك ْم{ كما قيل يف �سورة �سابقة. القتال �أمر لي�س باللطيف ،وهو }كره ل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
َ ُ َ َ ْ ٌ َ ْ َ ِّ ُ َّ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َّ
ﺍﻟﺘﻮ
َ َ َ َ ْ ُ َ ِّ ْ ُ ُ َ
ي لُ عِند َرب ِه َوأحِلت لك ُم النعام إِل }ذل ِك ومن يعظم حرم ِ
ات اهلل فهو خ
ﺯﻳﻊ
وكل من اعتمر �أو حج ،يعرف �أن طول مدة �أداء املنا�سك يجعل البع�ض
يت�صرف كما لو �أن الأمر عادي ،ي�ضحك ،يتحدث يف �أي �شيء عادي.
تقن ًّيا� ،أداء املنا�سك هنا �صحيح ،ال يوجد ما يدل على غري ذلك.
لكن التعظيم لها� ،أخذها بجدية بالغة بحيث تنعزل عن �صغار الأمور،
هو �أتقى بالت�أكيد.
***
وال ميكن �أن نتجاهل �أن الفعل «يعظم» هنا ،قد يرتبط بالآية الأوىل من
ال�سورة. ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ْ َ َ
ﻜﺘ
َ
َ ُّ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ ْ َّ َ َ َ َّ َ
ش ٌء َع ِظ ٌيم{ (احلج.)1 :
اع ِة ْ }يا أيها انلاس اتقوا ربكم إِن زلزلة الس
ﺐ ﻟﻠﻨ
} َّات ُقوا{ تذكرنا بالتقوى التي يبدو �أنها مرتبطة باحلج على نحو قوي.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ففي �سورة البقرة -يف �آيات احلج منها ُ -ذ ِك َرت التقوى ب�صفتها خري
ﺯﻳﻊ
الزاد.
َّ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ُّ َ ْ ُ ٌ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ْ َ َ َ
جدال ِ ل و وق س ف ل و ث ف ر ل ف جال ن ِيه
ِ ف ض }الج أشهر معلومات فمن فر
َ
ون يا
َّ ْ َ َ َّ ُ
ق ات و ىو ق اتل د
ِ ا ي َّ
الز ال ِّج َو َما َت ْف َعلُوا م ِْن َخ ْي َي ْعلَ ْم ُه اهلل َوت َز َّودوا فإن خ َ
ْ َ َّ َ ُ َ ف َْ
ِ ِ ٍ ِ
ْ َ َْ ُ
اب{ (ابلقرة.)197 : ول الل ِ أ ِ
وهنا يف �سورة احلج ،التقوى جمددًا.
ُ ْ ُ
َّ َ ْ َ ْ َ َ
َ َ َ ْ ُ َ ِّ ْ َ َ َ َ
وب{ (احلج.)32 :
}ذل ِك ومن يعظم شعائ ِر اهلل فإِنها مِن تقوى القل ِ
ْ ُ َ َ َ َ َّ َ ُُ ُ َ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ََ َ
كن ينالُ اتلَّق َوى مِنك ْم كذل ِك سخ َرها}لن ينال اهلل لومها ول دِماؤها ول ِ
ني{ (احلج.)37: اك ْم َوب َ ِّش ال ْ ُم ْحسن َ
ََ َ َ َ ُ
بوا اهلل ع ما هدك ْم ِلُ َك ِّ ُ
َ ُ
ل
ِ ِ ِ
التقوى �إذن ،تقوى القلوب حتدِّ د الآية الكرمية.
كم تبدو فري�ضة احلج من خارجها «عبادة جوارح»!
وكم هي يف عمقها «عبادة قلوب»!
�أمر ال ميكن �أن يحدده �إال املطلع على ما يف القلوب.
كل �شيء عدا ذلك حم�ض مظاهر.
*** ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
و�سورة احلج هي ال�سورة التي ح َّددت لنا �أن �سيدنا �إبراهيم هو الذي
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سمانا م�سلمني.
َّ َ َ ُ ْ ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ َ ك ْم ف َِّ َ َ َ َ َ َْ ُ
ِيم ه َو سماك ُم
ين مِن ح َر ٍج مِلة أبِيكم إِبراه
ﺸﺮ
ي�شبه الأمر -بال ت�شبيه � -أن يقال لك� :إن جدك فالن -الذي مل تره
ﺯﻳﻊ
دت.�سمعت عنه كث ًريا -قد اختار لك ا�سمك عندما ُو ِل َّ َ ولكن
يربطك ذلك عاطف ًّيا به على نحو خمتلف ،ي�صنع بينكما رابطة �أعمق
من رابطة الدم التي تربطك به.
�إبراهيم �سمانا م�سلمني.
اختار لنا هذا اال�سم.
ً
ارتباطا به وانتما ًء لر�سالته. �شيء يزيدنا
***
- 139 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
لكي نذهب �أخ ًريا �إىل بيتنا الأول.
ﲑ ﺍﻟ
البيت العتيق.
ﻜﺘ
ﻋﺼ
فعل ...وه�ؤالء البع�ض من املبدعني وهذا ُي ْح ِد ُث �أث ًرا عند البع�ض ً
ﲑ ﺍﻟ
واملتميزين عاد ًة ما يكونون قلة .هذه طبيعة الأ�شياء.
ﻜﺘ
عن �أهمية ال�شخ�ص العادي ،ال�شخ�ص الذي �أهميته يف �أنه �شخ�ص عادي،
ﺸﺮ
قد نتوقع من قائمة ال�صفات �أن تكون �صعبة ،خارقة ال�صعوبة ،قد
نتوقع على �سبيل املثال ما ن�سمعه عن �أعمال بع�ض ال�سلف يف العبادات،
ال�صالة �ألف ركعة يف اليوم والليلة� ،أو قيام الليل كله طيلة �أيام ال�سنة� ،أو
قراءة القر�آن يف ركعة واحدة.
لكن ال �شيء من كل هذا.
َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ُ َْ ََْ َ ُْ ْ ُ َ
ِين ه ْم ع ِنِين ه ْم ِف صلت ِِه ْم خا ِشعون وال }قد أفلح المؤمِنون ال
َ ُ
ج ِه ْم حاف ِظونَ َ َّ َ ُ ْ ُ ُ َ َّ َ ُ ْ َّ َ َ ُ َ َّ ْ ُ ْ ُ َ
اللغ ِو مع ِرضون والِين هم ل ِلزكة ِ فاعِلون والِين هم ل ِفرو ِ
َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ
ﻋﺼ
ََ ََْ َ َ َ َ َ
اء ذل ِك ي َملُوم َان ُه ْم َفإ َّن ُه ْم َغ ْ ُ
ِني فم ِن ابتغ ور ِ
ﲑ ﺍﻟ ج ِهم أو ما ملكت أيم إِل ع أزوا ِ
َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ُ َُ َ َ ُ َْ ُ َ
ِين ه ْم ع ِين ه ْم ِلمانات ِِه ْم َوعه ِده ِْم َراعون وال فأول ِك ه ُم العادون وال
ﻜﺘ
ُ َ َ ُ ُ َْ ُ َ َ ََ ْ َُ ُ َ
ارثون{ (املؤمنون .)10 :1 صلوات ِِهم ياف ِظون أول ِك هم الو ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
لن �أ َّدعي �أنها �سهلة �أبدً ا ،ولن أ � َّدعي وجودها يف �شخ�ص بعينه.
ﺯﻳﻊ
ولكنها �صفات ممكنة التحقيق ،لي�ست خارقة وال م�ستحيلة ،ميكن �أن
تع َّد يف حياتك عدة �أ�شخا�ص عرفتهم و�أنت تظن بينك وبني نف�سك �أنهم
قد حققوا هذه ال�صفات �أو �أغلبها� ،أو هذا ما َب َدا لك منهم� ،إال اخل�شوع يف
ال�صالة الذي ال ميكن �أن ُيقا�س �أو ُيعرف ،والذي ال بد من االعرتاف �أنه
قد يكون �أ�صعب ما يف القائمة.
هي �صفات ميكن �إجنازها ،لي�ست �صفات الواحد يف املليون بالت�أكيد،
وال ن�سبة حمتملة عندي ملن ميكن �أن يحققها ،لكن ميكن جلارك �أو عمك.
- 142 -
سورة املؤمنون
�أو رفيق لك �أن يكون قد حققها ،دون �أن يبدو عليه ذلك التميز �أو الإبداع،
ودون �أن يكون له منجزات كبرية تتحدث عنها و�سائل الإعالم.
�إنها �صفات ميكن لل�شخ�ص العادي �أن يحققها ويحوزها.
لو �أننا نظرنا �إىل هذه ال�صفات من منظور معا�صر؛ لر�أينا يف هذا
ملتزما بالقوانني والتعليمات� ،سواء تلك التي تنظمً �شخ�صا
ال�شخ�ص ً
عموما،
عالقته بربه؛ ال�صالة ،اخل�شوع فيها واملحافظة عليها� ،أو العبادات ً
�أو التي تنظم عالقته باملجتمع؛ الزكاة ،العفة� ،أمانة العهد.
ﻋﺼ
هو �شخ�ص عادي ،ملتزم بالقانون (باملعنى الوا�سع للكلمة ،عل ًما �أن
ﲑ ﺍﻟ
�أمانة العهد ت�شمل القانون ً
فعل).
ﻜﺘ
بل �إن �سورة امل�ؤمنون ت�أخذنا �إىل ق�ص�ص الأنبياء ،وتبني لنا �أن الكفار
ﺸﺮ
دعوتهم.
ﺯﻳﻊ
كل الأنبياء الذين �سرت ُد ق�صتهم يف هذه ال�سورة �ست�شري �إىل ذلك.
ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ٌ ْ ُ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ
ش مِثلك ْم ي ِريد أن ِين كف ُروا مِن قو ِم ِه ما هذا إِل ب مع نوح} :فقال المل ال
َ ْ َ ْ ً َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ
ك ْم َول ْو َش َاء اهلل لن َزل َملئ ِكة َما س ِمعنا بِهذا ِف آبائ ِنا ال َّول َِني{
َ َ َ َ َ َ
يتفضل علي
(املؤمنون.)24 :
ْ َ َ َّ ُ َّ َ َ َ َ َ َْ َُ ْ َ
ِين كف ُروا َوكذبوا بِلِقاءِ الخ َِرة ِ مع �صالحَ } :وقال المل مِن ق ْو ِم ِه ال
ْ َ َ ُّ ْ َ َ َ َ َّ َ َ ٌ ْ ُ ُ ْ َ ْ ُ ُ َّ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ ُ َْ َْ ُ
شب َوأت َرفناه ْم ِف الياة ِ ادلنيا ما هذا إِل بش مِثلكم يأكل مِما تأكلون مِنه وي
َّ َ ْ َ ُ َ
شبون{ (املؤمنون)33 : مِما ت
َ
ْ َ َ ْ َُُ َ َ ُ َ َ ُْ ُ َ َ َْ َ ُ َ
َ
ون{ شي ِن مِثلِنا وقومهما لا عبِد مع مو�سى وهارون} :فقالوا أنؤمِن ل ِب
(املؤمنون.)47 :
أ�شخا�صا عاديني.
ً كل ه�ؤالء َب َد ْوا �
ومبتابعة خوامت ما حدث يف هذه الق�ص�ص ،ن�صل �إىل نتيجة مهمة ،ال
تقلل �أبدً ا من قيمة ال�شخ�ص العادي.
***
ماذا عن الأ�شخا�ص الآخرين الذين مل يحققوا الفوز والفالح ،وانتهوا
ﻋﺼ �إىل جهنم.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
أ�شخا�صا عاديني ،فال�شخ�ص العادي ميكن ً أي�ضا يف الغالب كانوا �هم � ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
ْ َ ُ َ َ ُ َّ َ ْ ً َ
ضالِّ َ
ني{ (املؤمنون.)106 : ِشقوتنا وكنا قوما
ﺯﻳﻊ
ف�ضلُّوا الطريق.
لقد ان�ش ُّقوا عن االن�ضباط وااللتزامَ ،
***
ْ َ
َ ِّ َ ُ ْ ُ ُ ََ ْ
ُ ْ ََ َ ََْ َ ٌ َْ ُ َ َّ
ُ َ ُ َْ ً ِّ َ
ون{ لينا ك ِتاب ين ِطق بِالق وهم ل يظلم } َول نكلف نفسا إِل وسعها و
(املؤمنون.)62 :
وردت هذه الآية �أو ما ي�شابهها يف املبنى واملعنى خم�س مرات يف القر�آن
الكرمي.
- 144 -
سورة املؤمنون
هنا -يف �سورة امل�ؤمنون -هي املرة الأخرية التي �سنقر�أها �أثناء قراءة
امل�صحف.
كما لو �أنها ُذ ِك َرت هنا بال�ضبط لت�ؤكد فكرة �أن هذه ال�صفات ممكنة
التحقيق لأي �شخ�ص دون موا�صفات خارقة.
***
َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ َ ُ ْ ْ ُ ْ ُُْ َ َ ُّ َ
اب ث َّم مِن ٍ ث فإِنا خلقناكم مِن تر ب مِن الع ِ ٍ }يا أيها انلَّاس إِن كنت ْم ِف َري
َْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ َّ ْ ُ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ ُ َ ِّ َ َ ُ ُ
ي لك ْم َون ِق ُّر ِف ال ْر َح ِ
ام ي ملق ٍة ِلب نطف ٍة ثم مِن علق ٍة ثم مِن مضغ ٍة ملق ٍة وغ ِ
َ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ًّ ُ َّ ُ ْ ُ ُ ْ ْ ً ُ َّ َ ْ ُ ُ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َّ
ﻋﺼ
ما نشاء إِل أج ٍل مسم ثم ن ِرجكم طِفل ثم ِلبلغوا أشدكم ومِنكم من يتوف
ْ َ ًْ َََ ْ َْ َ َ َ ً ْ ُ َ ْ ُ ُّ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ
ﲑ ﺍﻟ
َومِنك ْم من ي َرد إِل أ ْرذ ِل العم ِر ل ِكيل يعل َم مِن بع ِد عِل ٍم شيئا وترى الرض هامِدة
ﻜﺘ
َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ِّ َ ْ َ
يج{ (احلج.)5 : فإِذا أنزلا عليها الماء اهتت وربت وأنبتت مِن ك زو ٍج ب ِ ٍ
ه
ﺐ ﻟﻠﻨ
طفل� ،سيكون ً
جميل ،فقط لأنه �إن�سان ،رغم �أنه عادي. وعندما يولد ً
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
اء ِ ٍ غربِي ٍة يكاد زيتها ي ِضء ولو لم تمسسه نار نور
ُ ِّ َ ْ َ ْ َ َ َّ ََ ْ ُ
شء َعل ٌ
ﲑ ﺍﻟ
ِيم{ (انلور.)35 : اس َواهلل بِكل ْ ٍ ضب اهلل المثال ل ِلن ِ
وي ِ
ﻜﺘ
َ
ات َو ْال ْر ِض{ من �أكرث الآيات ً
جمال ُ ُ َّ َ َ
رمبا تكون �آية }اهلل نور السماو ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
واحلميمية.
ﺍﻟﺘﻮ
َْ
ﺯﻳﻊ
َ
وره ِ ك ِم ْش َك ٍة ف َِيها م ِْص َب ٌاح{ََُ ُ او َ ْ ُ ُ َّ َ َ
}اهلل نور السم ِ
ات والر ِض مثل ن ِ
وامل�شكاة هي الك َّوة يف احلائط ،مغلقة لي�ست نافذة ،كانت موجودة يف
طرز العمارة التقليدية ،ويو�ضع فيها امل�صباح حلمايته من تيار هواء قد
ي�ؤثر عليه.
ْ َ ُ ُ َ َ ْ
اج ٍة{.}ال ِمصباح ِف زج
حماية �أخرى لنور امل�صباح ،الزجاجة �ستمنع -جمددًا � -أي تيار هوائي
ميكن �أن ي�ؤثر على نور امل�صباح.
- 146 -
سورة النور
َ َ ََ
اج ُة كأ َّن َها ك ْوك ٌب ُد ِّر ٌّي{.
ُّ َ َ
}الزج
الزجاجة نف�سها م�ضيئة تلتمع ،الكوكب الدري هو غال ًبا كوكب الزهرة،
الكوكب الأكرث ملعا ًنا بالن�سبة للأر�ض بعد ال�شم�س والقمر.
َ َ َ َ
اركة َز ْي ُتونَة ل َ ْ
ُ ُ ْ َ َ َ َُ َ َ
شق َِّي ٍة َول غ ْرب ِ َّي ٍة{. ٍ }يوقد مِن شجر ٍة مب ٍ
ﻋﺼ
�أيام ال�سنة ،هذا الزيت هو الأ�صفى والأنقى مبعايري الوقود يف امل�صابيح.
ﲑ ﺍﻟ
َ َ َ
ولأن هذه ال�شجرة }ل َ ْ
شق َِّي ٍة َول غ ْرب ِ َّي ٍة{ ،فكل ثمارها تع َّر�ضت لنف�س
ﻜﺘ
متاما.
متجان�سا ً
ً امل�ستوى الو�سطي من �أ�شعة ال�شم�س ،وهذا يجعل زيتها
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ ُ َ ُْ َ ُ ُ َ َْ َْ َ ْ َ ْ ُ َ ٌ ُ ٌ ََ ُ
ور{. }يكاد زيتها ي ِضء ولو لم تمسسه نار نور ع ن ٍ
ﺸﺮ
من �شدة نقاء هذا الزيت ،يكاد ي�ضيء دون �أن يو َق َد.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ُ ٌ ََ ُ
ﺯﻳﻊ
ور{.
}نور ع ن ٍ
نعم ،نحن يف دوائر متداخلة من النور ،نور امل�صباح ،نور الزيت ،ونور
الزجاجة � ً
أي�ضا؛ لأنها تعك�س نور امل�صباح كما يعك�س الكوكب نور ال�شم�س.
هذا النور يغمر ال�سماوات والأر�ض.
وهو يغمرك � ً
أي�ضا ،يغمر قلبك وروحك ،يغمر كلك بكل ما فيك.
�أنت �أمام اجلدار ،والنور منبعث من الك َّوة يف احلائط ،هادئ ثابت ال
يهتز ،وهو بثالث تدرجات من النور؛ نور على نور.
- 147 -
القرآن نسخة شخصية
النور يغمر املكان ،و�أنت �أمام اجلدار ،هل ميكن �إال �أن تنجذب �إىل هذا
النور ،يحيط بك ويخرتقك؟ نور ال ي�شبه الأ�ضواء ال�ساطعة الزاعقة التي
نعرفها اليوم ،وال �أ�ضواء النيون الباهتة الكئيبة ،بل نور حقيقي ي�صعب
و�صفه ،كل ما عرفت يف حياتك من �أ�ضواء كان ن�سخة مز َّورة وباهتة من
النور ،حماولة فا�شلة لتقليد هذا النور.
من تلك الك َّوة يتدفق النور ،ويغطي على عاملك كله ،يغرقك من �أق�صاك
�إىل �أق�صاك بطم�أنينة � ِآ�س َرة ال فكاك عنها ،يغمرك النور حتى تتنف�سه،
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ في�صري لهاثك كالن�شوة.
ثم تقول :نعم ،نور ال�سماوات والأر�ض.
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
للوهلة الأوىل ،قد جند �أن هذه الآية ،باذخة اجلمال به َّية الروحانية،
ﺸﺮ
تنتمي ل�سور ب�سياق خمتلف عن �سورة النور� ،آية روحانية كهذه ،ميكن �أن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
نتو َّقع �أنها تكون يف ال�سور املكية ،ال�سور التي ركزت على جالل اهلل و�صفاته
ﺯﻳﻊ
َّ َ ُ ُ َ ٌ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ِّ َ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ
الزانِية ات لعلك ْم تذك ُرون }سورة أنزلاها وفرضناها وأنزلا فِيها آي ٍ
ات بين ٍ
ك ْم به َما َر ْأ َف ٌة ف دِين اهلل إ ْن ُك ْن ُتمْ
ْ ُ َ َ َ َ َْ ََ َْ ُ ْ ُ َ َّ َ ْ ُ ُ َّ
ِ ِ ِ ِِ لوا ك َواح ٍِد مِنهما مِائة جل ٍة ول تأخذ والز ِان فاج ِ
َ ََْ ْ َ ْ َ َ َُ َ َ َ ٌ َ ُْ ْ َ َْْ ْ ُْ ُ َ
تؤمِنون بِاهلل والو ِم الخ ِِر وليشهد عذابهما طائ ِفة مِن المؤ ِمنِني{ (انلور .)2 :1
ﻋﺼ
ثم هناك بع�ض التعليمات �أو القواعد ال�سلوكية التي تقوم مقام غلق
ﲑ ﺍﻟ
الأبواب املفتوحة التي ميكن �أن تقود للفاح�شة ،مثل عدم دخول البيوت دون
ﻜﺘ
ينت�شر وهناك فارق بني االثنني) ،والآيات التي حتدد �شكل تغطية املر�أة
ﺸﺮ
لر�أ�سها و�صدرها.
ﻭ
خ�ضم هذا االجتاه املنهمك يف تعديل «التجاوزات» التي حتدث يف يف
ﺍﻟﺘﻮ
ِّ
ﺯﻳﻊ
متاما� ،شهوات
�شيء �آخر ً ي�ضربك النور فج�أة دون مقدمات ،كنت يف
َ ْ َ َ ْ
ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ
وره ِ ك ِمشك ٍة{. وعالجها وعقوباتها ،وفج�أة} ،اهلل نور السماو ِ
ات والر ِض مثل ن ِ
***
بل ب�سببه.
ﻋﺼ
نعم ،لي�س بالرغم من �أن ال�سياق كان يف اجتاه العالقات بني اجلن�سني
ﲑ ﺍﻟ
و�ضوابطها.
ﻜﺘ
القر�آن كان يتنزل على جمتمع حي ،ولي�س على مدينة فا�ضلة.
ﺸﺮ
مت�شي على الأر�ض ،بل ب�شر لديهم نوازعهم املختلفة وجتاربهم وزللهم
ﺯﻳﻊ
و�سقوطهم و�سموهم.
وه�ؤالء الب�شر ميكن ج ًّدا �أن يتعر�ضوا لأخطاء يف االجتاه الذي حتدثت
عنه ال�سورة.
ولأنهم كذلك ،فهم بحاجة �إىل جرعة معادلة ومكثفة من النورانية
والروحانية.
مثلنا جميعا ،كلنا نحتاج �إىل هذه اجلرعة من النور يف عروقنا
وب�صائرنا ،وهم مثلنا ،املجتمع كله بحاجة �إىل هذا لكي يوازن طبيعته.
- 150 -
سورة النور
الب�شرية َّ
اخلطاءة ،حتى �أولئك الذين حت َّد َث ْت عنهم ال�سورة يف مطلعها،
حتى الزناة والزانيات و�أولئك الذين يرمون املح�صنات ،حتى �أولئك
بحاجة �إىل ذلك النور املتدفق من امل�شكاة ،كلنا بحاجة بالت�أكيد ،لكنهم
� ً
أي�ضا قادرون على التفاعل مع النور ،على ر�ؤيته يف �أعماقهم ،على ر�ؤية
�أنف�سهم من خالله.
***
لي�س هذا فقط.
ﻋﺼ
الكثري من هذه الق�ضايا ُت َع ُّد ح�سا�سةُ ،ت َع ُّد من املحرمات التي ال داعي
ﲑ ﺍﻟ
أ�صل ،تكفيها املواعظ العامة دون تفا�صيل ،وكل �شيء على ما يرام لذكرها � ً
ﻜﺘ
ت�سلط ال�سورة النور على عيوب املجتمع وحمرماته دون تخ ُّوفِ ،
واج ْه
حقيقة ب�شرية املجتمع وال حت ِّو ْل ُه �إىل مقد�س مالئكي؛ لأنه �سيتحول �إىل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ال�سورة تع ِّلمنا �أن نوجه النور �إىل جتاوزات الطبيعة الب�شرية و�إخفاقاتها؛
لأن هذا هو الطريق ملعاجلة الأمر.
و�ستتعرف على نف�سك �أكرث وب�صورة �أدق مع هذا النور الذي غمرك.
وكما تط ِّهر ال�شم�س اجلروح وتقتل جراثيمها.
ف�إن هذا النور املتدفق من الكوة ميكنه �أن يط ِّه َرك ،ويقتل جراثيم
و�أدران روحك.
***
- 151 -
القرآن نسخة شخصية
لأن عقوبة «الزنا» لن تتحقق �إال بوجود �أربعة �شهود �شاهدوا الواقعة
�شاهدا ً
رجل وامر�أة يختليان يف َ ً
ولي�س مثل �أنْ ً
تف�صيل فعل ًّيا� ،شاهدوها
ﺐ ﻟﻠﻨ
مكان ما ،ال� ،إن قال هذا �شي ًئا عن زنا وهو مل ي�شاهد �سوى �أنهما دخال �إىل
ﺸﺮ
عمل ًّيا ،هذا يجعل حتقق العقوبة �صع ًبا ج ًّدا؛ �إذ هذا يعني �أن الواقعة
ﺯﻳﻊ
حدثت بتفا�صيلها الكاملة على نحو علني فاح�ش ،وهو �أمر غري منت�شر� ،أو
�أن الطرفني اعرتفا لأي �سبب كان.
وهذا كله يجعل هذه العقوبات رادعة من طرفني.
رادعة لل�شريكني ،ورادعة �أكرث ملن يخو�ض يف الأمر ويتحدث عنه ،ملاذا
�أكرث؟ لأن الواقعة حتتاج �إىل �شهود �شاهدوا الأمر بالتف�صيل وهو �صعب،
�أما عقوبة اخلائ�ضني يف الأعرا�ض فهي ال حتتاج �إىل هذا التعقيد ،اتهمت.
فالن وفالنة ،هات �أربعة �شهود على ما تقول؛ �شاهدوا كل �شيء� ،أو تعا َقب
80باملائة من عقوبة الفعل نف�سه ،وال ُت ْق َبل �شهادتك بعدها.
الأمر باخت�صار هو تعامل واقعي مع الطبيعة الب�شرية ،الأخطاء حتدث،
لكن ال�سرت �أَ ْو َل� ،إن مل يكن هناك �شهود واعرتاف ،فالأمر �سيبقى �أخرو ًّيا،
ورمبا هناك توبة ومغفرة وعفو قبلها.
والأخطاء حتدث ،لكن احلديث عنها يزيدها وي�شيع الفاح�شة؛ لذا
فعقوبة من يتحدث عن الأمر م�شددة ج ًّدا وتقارب -من ناحية ال�شدة
-عقوبة الفعل نف�سه.
ﻋﺼ
*** ﲑ ﺍﻟ
ُّ ْ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ َ ٌ َ َّ َّ َ ُ ُّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ
ِين آمنوا له ْم عذاب أ ِل ٌم ِف
ﻜﺘ
هناك بع�ض النف�سيات التي تنوح وتبكي على الف�ضيلة طيلة الوقت،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لكنها يف الوقت نف�سه تتحدث عن �أن «الكل الآن �ساقط»« ،الكل يفعلها»،
ﺯﻳﻊ
وهذا � ً
أي�ضا من النور على نور على نور.
***
- 153 -
القرآن نسخة شخصية
***
�سورة النور.
ﻋﺼ
املهمة امللقاة على عاتقنا وال ب�سبب طبيعة الظروف املحيطة بها فح�سب.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
بل بب�ساطة لأن كالم النا�س قد يزيد كل الأمور �صعوبة ،جتد نف�سك
فج�أ ًة فري�سة التهاماتهم و�سخريتهم و�سوء ظنونهم و�أحيا ًنا كثرية
ﺐ ﻟﻠﻨ
افرتاءاتهم وكذبهم ،ويكون ما يف داخلك خمتل ًفا ج ًّدا عما يقولون وعما
ﺸﺮ
يفرتون ،وت�صبح هذه اجلبهة فج�أة �أ�صعب و�أكرث م�شقة من جبهة العمل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ميكنك �أن تقول :وملاذا كالم النا�س مهم؟ دعهم وكالمهم ،املهم �أن
تفعل ما �أنت م�ؤمن به.
�صحيح ،لكنك ال تولد مع هذه القدرة ،ال نولد «بجلد التم�ساح» للأ�سف،
بل نتطور بهذا االجتاه مع الوقت ،عرب التجارب واملواجهات ال�صعبة ،جتد
نف�سك �شي ًئا ف�شي ًئا �أقل اكرتا ًثا مبا يقال ،وتنتبه لنف�سك فج�أة ذات يوم
و�إذا بجلدك قد َف َق َد ح�سا�سيته.
ﻋﺼ
ب�سبب وزنك �أو طريقتك يف الكالم.
ﲑ ﺍﻟ
رمبا بال �سبب على الإطالق غري ح�سا�سيتك نف�سها.
ﻜﺘ
دوما �أن يجد فري�سة يت�سلى بها ،يختارها البع�ض من النا�س يحاول ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
الأ�ضعف والأكرث ح�سا�سية لكي يق�ضي بها وقتًا� ،أو يع ِّو�ض عربها �إحباطاته
ﺸﺮ
وتعر�ضه نف�سه لأن يكون �صيدً ا وفري�سة يف وقت �سابق ،دورة ال تنتهي �أبدً ا،
ﻭ
ً
ا�ستعرا�ضا لع�ضالت �سخريتنا. ملن حولنا� ،أو
�أمر �شائع ج ًّدا.
لكن �شيوعه ال يقلل من �صعوبته.
***
�سورة الفرقان تقب�ض عليك يف حلظاتك ال�صعبة تلك وتقول لك :ح ًّقا،
من تظن نف�سك يا �صاح؟ لقد تع َّر َ�ض َمنْ هو �أف�ضل منك بكثري �إىل ما هو
�أ�سو�أ من هذا بكثري ،ف ِل َم تعتقد �أنك ا�ستثناء؟
- 156 -
سورة الفرقان
ت�أخذنا ال�سورة �إىل داخل نف�سه الكرمية -عليه ال�صالة وال�سالم ،-
�إىل موا�ضع تلك الطعنات التي حاول كفار مكة �أن يجرحوه من خاللها،
ت�أخذنا ال�سورة �إىل حزنه النبيل -عليه ال�صالة وال�سالم ،-ثم تقول
لنا بني ال�سطور :متا�سك وجت َّلد �إذن ،هذا هو الرجل الذي بلغ الكمال
الإن�ساين ،ورغم ذلك فقد تع َّر�ض لأ�سو�أ مما تعر�ضت له.
تخط الأمر ،وحا ِو ْل � َّأل تكرتث ملا يقولون.
ُك َّف عن التذمر والبكاءَّ ،
***
ﻋﺼ
�سورة الفرقان فيها �شيء من احلزن النبيل الراقي الذي كان ي�شعر
ﲑ ﺍﻟ
به -عليه ال�صالة وال�سالم -يف املرحلة التي نزلت فيها ال�سورة ،نحن يف
ﻜﺘ
منت�صف املرحلة املكية تقري ًبا ،بعد هجرة احلب�شة وقبل الإ�سراء.
ﺐ ﻟﻠﻨ
وكفار مكة ال يزالون على عنادهم ،ال يزالون يتهمونه ب�شتى االتهامات
ﺸﺮ
َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ ٌ َ ُ َ
ﺍﻟﺘﻮ
ون َف َق ْد َج ُ
اءوا }وقال الِين كفروا إِن هذا إِل إِفك افتاه وأعنه علي ِه قوم آخر
ﺯﻳﻊ
َ َ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َ ً ُظلْ ًما َو ُز ً
ورا وقالوا أساطِري الول ِني اكتتبها ف ِه تمل علي ِه بكرة وأ ِصيل{
(الفرقان .)5 :4
كل ال�صدق الذي يحمله يف قلبه ،كل الثقل الكبري الذي كان ينوء به منذ
�أن تنزَّل عليه الوحي ،كان ه�ؤالء يقابلونه ب�أنه جمرد كذبة ،متثيلية� ،ساهم
فيها هو مع �آخرين من �أتباعه �أو ممن مل يظهروا بو�ضوح.
مقابل كل اجلدية التي كان عليه ال�صالة وال�سالم يتعامل بها مع الأمر،
كان ه�ؤالء يرفعون �أكتافهم �ساخرين مت�سائلني عن �أهمية ما جاء به حممد.،
- 157 -
القرآن نسخة شخصية
كل �شيء مما يقوله موجود يف �أخبار الأولني ،مل ي�أت بجديد ،حممد يجمع
ما ُك ِت َب من قبل ،وي�ساعده يف ذلك َمنْ له علم مبا يف �أخبار الآخرين.
إقناعا ،فقد حددوا
ولأن وجود التفا�صيل يف �أي كذبة يجعلها �أكرث � ً
ُ ْ َ ً ََ ً
الوقت الذي حتدث فيه عملية �إمالء الأ�ساطري هذه؛ }بكرة وأ ِصيل{.
ْ َْ َ َ َ ُْ َ َ َ َ ٌ َ َ ُ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ
اق ل ْول أن ِزل إ ِ ْل ِه ملك
ول يأكل الطعام ويم ِش ِف السو ِ }وقالوا م ِ
ال هذا الرس ِ
ََ ُ َ
ون َم َع ُه نَذ ً
ِيرا{ (الفرقان.)7 : فيك
كانوا يعيبون عليه ب�شريته ،يعيبون عليه �أنه يت�صرف كما يفعل النا�س،
ﻋﺼ
وي�أكل كما ي�أكلون ،ومي�شي يف �أ�سواقهم� ،أي ظلم �أن ت�شعر �أن من يرف�ضك
ﲑ ﺍﻟ
مثل؟ ماذا تقرتحون؟ يتحجج بكونك �إن�سا ًنا لريف�ضك ،ماذا �أفعل ً
ﻜﺘ
متاما،
يقرتحون �أن يكون معه مالك� ،أو يدله ربه على كنز يغنيه عن العمل ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أو �أن يجعل له جنة بحيث ي�أكل منها متى ما �أرادً ،
بدل من ال�سعي لرزقه.
ﺸﺮ
لكنهم لي�سوا جادين يف �شيء مما يقولونَ ،منْ يع ِّلق �إميانه على طلبات
َ َ
كهذه �سيبقى يجد ما يطلبه ،لن تنتهي طلباتهم واحتجاجاتهمَ } ،وقال
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ضبوا لك المثال فضلوا ورا نظر كيف الظال ِمون إِن تتبِع ِ
ََ َْ َ ُ َ َ ً
فل يست ِطيعون سبِيل{ (الفرقان .)9 :8
�سري ًعا يجدون تف�س ًريا �آخر؛ «ال�سحر» ،لقد �سحركم حممد فاتبعتموه.
َّ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ
اءنا ل ْول أن ِزل علينا الملئ ِكة أ ْو ن َرى َربنا لق ِد }وقال الِين ل يرجون ل ِق
َ َ ْ
ْاس َتك َ ُبوا ِف أ ْن ُف ِس ِه ْم َو َع َت ْوا ُع ُت ًّوا كبِ ًريا{ (الفرقان.)21 :
ولو �أُ ْن ِز َل عليهم مالئكة؛ �سيقولون :هذا ِ�س ْح ٌر َ�س َح َر �أب�صارنا ،ولو �أنهم
ر�أوه ً -
جدل -لقالوا :أ � َر ٌّب ُي َرى؟
ﻋﺼ
ُ َ َ َ َ َ َّ ْ َ ُ َ ْ ً
فؤادك ورتلناه ترتِيل{ (الفرقان.)32 :
ﲑ ﺍﻟ
لقالوا :ل ُ �أ ْن ِز َل جملة واحدة؟ �أما
َِ ولو �أن القر�آن �أُ ْن ِز َل عليه جملة واحدة
ﻜﺘ
كان من الأف�ضل �أن يتنزل مف َّر ًقا؟ �سيجادلون يف �أي �شيء وعك�سه� ،إلهه
ﺐ ﻟﻠﻨ
هواه.
ﺸﺮ
لكن حتقيق طلباتهم لي�س هد ًفا ب�أي حال من الأحوال ،وهذا القر�آن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ُ ً َ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َّ َ َ َ
}إِذا َرأ ْوك إِن يتخِذونك إِل ه ُز ًوا أهذا الِي بعث اهلل َرسول{ (الفرقان.)41 :
يقولونها منتق�صني� ،أهذا الذي َب َعثَ اهلل ً
ر�سول؟ �أمل يجد َمنْ هو �أف�ضل
منه؟! ما باله هذا بال�ضبط؟ ما هي املوا�صفات التي كنتم �ستقبلون بها؟
ال �شيء بالت�أكيد ،مهما كانت املوا�صفات �سيتعاملون بنف�س الطريقة� :أهذا
الذي بعث اهلل ً
ر�سول؟! الأنا يف دواخلهم جتعلهم غري قادرين على تق ُّبل � ٍّأي
كان يف مو�ضع �أعلى منهم.
القر�آن يجعل عليه ال�صالة وال�سالم يرى نهاية ه�ؤالء ،النهاية الأخرية
ج ًّدا؛ الندم ،الع�ض على الأ�صابع من الندم ،واالتهامات بينهم.
َ َ ً َ َ ْ َ َ َ ُّ َّ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ َّ ُ
ول سبِيل يا }ويوم يعض الظال ِم ع يدي ِه يقول يا لت ِن اتذت مع الر ِ
س
َ َ اذل ْكر َب ْع َد إذ َج َ
ْ ِّ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ُ َ ً َ ً
اء ِن َوكن ِ ِ ن
ِ ع نِ ل ض أ د ق ل ِيل ويلت لت ِن لم أتِذ فلنا خل
َ ُ ً َّ ْ َ ُ ْ ْ َ
ان خذول{ (الفرقان .)29 :27 الشيطان ل ِِلنس ِ
ولكن القر�آن � ً
أي�ضا ُي ْت ِبع هذا امل�شهد مب�شهد الر�سول وهو يبث حزنه �إىل
ربه.
ﻋﺼ
َّ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ
آن َم ْه ُج ً َ َ َ َّ ُ ُ َ ِّ َّ َ
ورا{ (الفرقان.)30 : الرسول يا َرب إِن ق ْو ِم اتذوا هذا القر
ﲑ ﺍﻟ }وقال
ﻜﺘ
َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ ُّ
ام بل ه ْم أضل
}أم تسب أن أكثهم يسمعون أو يع ِقلون إِن هم إِل كلنع ِ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ ً
سبِيل{ (الفرقان.)44 :
ﺯﻳﻊ
هذا هو احلل الذي يجعلك تتجاوز كل ما يقال ،هم حال ًّيا -وبعد كل ما
بذلته من جهد معهم -كالأنعام ،بل هم �أ�ضل ً
�سبيل ،ال ي�سمعون ما تقول
وال يعقلونه؛ لذا جتاوزهم ،ال تكرتث � ً
أ�صل ملا يقولون.
***
يوجه لنا يدل على �أننا على �صواب ،ولي�س
ال يعني هذا �أن كل انتقاد َّ
�صحيحا باملطلق �أن «الأ�شجار املثمرة وحدها هي التي ُت ْر َمى باحلجارة»
ً
متاما.،
يوجه من انتقادات تكون �صحيحة ً كما ير ِّوج البع�ض ،بع�ض ما َّ
- 160 -
سورة الفرقان
ﻋﺼ
واحدة من �أجمل و�أرق الآيات يف و�صف امل�ؤمنني جاءت يف �سورة
ﲑ ﺍﻟ
الفرقان.
ﻜﺘ
َ ْ ً َ َ َ َ َ ُ ُ َْ ُ َ َ ُ َ َ ُ َّ ْ َ َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ
الاهِلون قالوا ِين يمشون ع ال ْر ِض هونا وإِذا خاطبهم }وعِباد الرح ِن ال
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ ً
سلما{ (الفرقان.)63 :
ﺸﺮ
اللي.
الهي ِّ
تعامل الآية على �أنها ت�صف امل�ؤمن ِّ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
واحدة من هذه املراحل لها جاذبية �شديدة ،وهي مرحلة «القنفذ»� ،أن
حتمي جلدك ب�أ�شواك القنفذ ،لي�س من ال�سهل �أن يطعنك �أحد ،فهو قد
أي�ضا ب�أ�شواكك ،وهذا يوفر احلماية لك وحل�سا�سيتك ،ولكنه � ً
أي�ضا ي�صاب � ً
يجعلك «مكو ًرا» على نف�سك على نحو مغلق وغري متفاعل مع ما حولك.
مرحلة «جلد التم�ساح» �أف�ضل و�أجدى و�أوعى بكثري.
حمظوظون هم �أولئك الذين ميلكون الوعي الكايف والإرادة الالزمة
للو�صول لها.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
الأ�شخا�ص مرهفو احل�س ال�صادقون ،مييلون �أحيا ًنا �إىل لوم �أنف�سهم،
عندما ال ت�سري الأمور معهم كما ينبغي لها �أن ت�سري.
ﻋﺼ
يفكرون :لعل اخلط�أ كان منهم ،لعل �أ�سلوبهم هو ال�سبب ...لعلها النية!
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لكنهم يف غمرة �صدقهم مع �أنف�سهم ،ال يجدون تف�س ًريا �آخر ،ال بد �أننا
ﺸﺮ
م�س�ؤولون عن هذا.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
ﺯﻳﻊ
كلمة «ي�ؤمله» ال تعرب بال�ضبط عما كان يعتمل يف �صدره ال�شريف -عليه
ال�صالة وال�سالم .-
كان الأمر �أكرب و�أ�شد بكثري.
َ َ َّ َ َ ٌ
}لعلك باخِع كان الأمر يكاد «يهلكه» حرف ًّيا ،هكذا خاطبه القر�آن،
َ ْ َ َ َ َّ َ ُ
كونُوا ُم ْؤمن َ
ني{ (الشعراء.)3 : ِِ نفسك أل ي
ُ
�صدق ال�صادقني م� ٍؤذ ج ًّدا ،فكيف بال�صادق الأمني؟!
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سورة ال�شعراء.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
فلننتبه هنا �إىل �أن خماطبة الوحي للر�سول -عليه ال�صالة وال�سالم -
ﺯﻳﻊ
بكونه «باخع نف�سه» قد جاءت مرتني :مرة يف �سورة الكهف ،والأخرى هنا
يف ال�شعراء.
لكن ترتيب نزول �سورة ال�شعراء كان �ساب ًقا لنزول �سورة الكهف ،حتى
و�إن كان الرتتيب يف امل�صحف اليوم خمتل ًفا ،وهذا يعني �أن �سورة ال�شعراء
هي تعاملت � ًأول مع و�ضعه -عليه ال�صالة وال�سالم -يف هذا الأمل من عدم
�إميان قومه.
فماذا فعلت �سورة ال�شعراء؟
مو�سى كان معه ر�سول �آخر؛ هو هارون ،وكان م�ؤيدً ا باملعجزة يف يده،
وحتقق انت�صاره مبعجزته على ر�ؤو�س الأ�شهاد.
لكن كل هذا مل يغري من موقف َمنْ كان م�ص ًّرا على الكفر.
ﻋﺼ
ال �شيء �أكرث ميكن �أن ُي ْف َع َل معهم ،لقد فعل مو�سى كل �شيء ،ومع ذلك
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�إذن الأمر ال يتعلق مبا يفعله ر�سول ما وما ال يفعله ،كلهم فعلوا الأق�صى
حت ًما ،لكن ق�ضية الإميان � ْأع َق ُد بكثري.
ﺸﺮ
***
ﺯﻳﻊ
والأبوة ،جند حوار �إبراهيم مع �أبيه وقومه حوا ًرا هاد ًئا يف منتهى الرقي
والرقة.
لكن مل ي�ؤمنوا � ً
أي�ضا.
تعددت �أ�ساليب الر�سل مع �أقوامهم.
لكن الإميان والكفر � ْأع َق ُد بكثري من ذلك.
تلك الكلمات التي قالها �إبراهيم تبدو كما لو كانت تر ِّبت على قلب
حممد ،وعلى قلب كل مكلوم من بعده.
ﻋﺼ
ُ َّ َ ََ ََُ َْ َّ
ِين َ والِي ه َو كان يتحدث عن رب العاملني} ،
ِ د ه ي و هف نِ قلخ ِي ال
ﲑ ﺍﻟ
َ َّ َ َّ ُ ُ ُ َّ ُْ َ َ َ ْ ُ ََُ َْ ُْ ُ ََْ
ﻜﺘ
ني والِي ني والِي ي ِميت ِن ثم ييِ ِ ني وإِذا م ِرضت فهو يش ِف ِ يط ِعم ِن ويس ِق ِ
ين{ (الشعراء .)82 :78 َأ ْط َم ُع َأ ْن َي ْغف َر ل َخطيئَت يَ ْو َم ِّ
ادل ِ ِ ِ ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِ
***
ﻭ ﺸﺮ
ت�أخذنا ال�سورة الح ًقا �إىل ق�ص�ص �أنبياء �آخرين :نوح ،هود� ،صالح،
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ني{ (الشعراء .)109 :107 ع َر ِّب الْ َعالَم َ
ََ
ﲑ ﺍﻟ ِ
ْ َ َ َُ ْ ُ َْ ََ
أي�ضا لكن دون كلمة «�أخوهم»} ،إِذ قال لهم شعي ٌب أل وتكرر مع �شعيب � ً
ﻜﺘ
نف�س �أ�سا�سات احلوار عند كل ه�ؤالء ،ثم يتفرق عند كل منهم ح�سب
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
حت ِّلق �سورة ال�شعراء �إىل حيث ميكننا �أن نرى هذه الق�ص�ص من �أعلى
كما يراها الطائر ،ومن �إطاللة الطائر تلك ،نرى املح َكم وامل�شرتك يف تلك
الق�ص�ص ،نفهم م�سارات الق�صة واجتاهاتها ،نرى �أن ثمة منط متكرر.
هذا النمط ال يخ�ص وجود نبي يدعو قومه وتنتهي الق�صة بالعذاب
للقوم الكافرين فح�سب.
ﻋﺼ
ال�سورة �أخذته عليه ال�صالة وال�سالم من �شعور الأمل ال�شديد على عدم
ﲑ ﺍﻟ
�إميان قومه �إىل ما هو �أبعد� ،إىل الق�ضية الأ�سا�سية يف الإميان.
ﻜﺘ
تخفْ ُ ،
قد تزَ ُر ،قد ثمة �أمور �أ�سا�سية يف احلياة ،ال تنتهي وال تزول ،قد ُّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
يبدو �أن بع�ض الأمور الأخرى قد غلبتها ،لكنها ما تلبث �أن تعود من جديد،
ﺸﺮ
الإميان باهلل من هذه الأمور التي �ستبقى موجودة ،قد نتخ َّيل �أن الإحلاد
ﺯﻳﻊ
على و�شك االنت�صار ونحن نرى زيادة ن�سبته ،لكننا نرى جز ًءا �صغ ًريا فقط
دوما ،و�سيبقى هناك من امل�شهد الذي طاملا تكرر� ،سيبقى هناك �إميان ً
كفر ،ي ُّد هذا و ُي ْجزَ ُر ذاك ،ثم يتبادالن الأدوار ،ويكون عليك �أن تختار.
َُ
***
للجديد زهوته وجاذبيته ،والنا�س حتب �أن جتربه ،لكنها ت�ستهلكه � ً
أي�ضا
ب�سرعة ،وتبحث عن �شيء �آخر.
ﻋﺼ
َ ُ َ
اوون ألم ت َر أنهم ِف ك َوا ٍد ي ِهيمون َ وأنه ْم يقولون
ﲑ ﺍﻟ }والشعراء يتبِعهم الغ
َ َ َْ َُ َ
ما ل يفعلون{ (الشعراء .)226 :224
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
فرق كبري بني �أمل �صاحب الق�ضية ،الذي يعرف �أين ق�ضيته ،وبني الذي
ﺸﺮ
مثل الفرق بني ما يبقى ،ما �سيبقى موجودًا وبني ما �سيزول بعد �أن
ﺯﻳﻊ
ي�أخذ وقته ك�صرعة ،ومثل الفرق بني ثكلى تبكي َمنْ َح َم َل ْت ُه وه ًنا على وهن،
وبني نائحة م�ست� َأج َرة تتخذ من البكاء مهن ًة.
كث ًريا ما ن�ستعجل النتائج على نحو يجعلنا ال ن�صل لها �أبدً ا ،نحاول
الو�صول ب�أق�صر الطرق و�أقلها تكلف ًة ،وتكون النتيجة باهظة الثمن على
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ كل النواحي.
يكاد هذا النزق يكون طبيعة ب�شرية ،يكاد يكون هو الأ�صل يف ال�سلوك
ﻜﺘ
الب�شري.
ﺐ ﻟﻠﻨ
لكن الب�شر يتعلمون من جتاربهم� ،أو هذا ما ُي ْف َتَ�ض �أن يحدث على
ﺸﺮ
الأقل؛ لذا فقد مت تروي�ض هذه الطبيعة الب�شرية وتقليل خماطرها عند
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
البع�ض.
ﺯﻳﻊ
تقدم لنا � ًأول نبي اهلل مو�سى -عليه ال�سالم -وهو ي�ستلم الوحي �أول
مرة.
ْ ُ ُ ِّ َ ْ ُ
ت نَ ً ْ ََ َ ً َ َ َ َ ْ َْ ََ َ َ ُ ُ َ
ارا ارا فقال ِلهلِ ِه امكثوا إِن آنس } َوهل أتاك حدِيث موس إِذ رأى ن
ِّ َ ُ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ً َ َ ِّ
ار هدى فلما أتاها نود َِي يا موس إِن ِ انل ع د ج
ِ أ وأ سٍ ب ق ِ ب ا ه ِن م م ِيك ت آ ل لع
ُ َّ َ ُ ْ ْ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُّ ََ
أنا َربك فاخلع نعليك إِنك بِال َوا ِد المقد ِس ط ًوى{ (طه .)12 :9
ﻋﺼ
وقتلوهم لرمبا مل ينتبه لفقدانهم �أحد ،ورمبا ما تغري �شيء من حياة �أحد.
ﲑ ﺍﻟ
لكن ما حدث بعدها �أحدث تغيريات يف العامل كله.
ﻜﺘ
ر�أى مو�سى نا ًرا ،فذهب يطلب من �أ�صحابها خ ًربا عن الطريق �أو رمبا
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
قليل من النار ي�ستخدمها لأهله.
ﺸﺮ
عاد بخرب عن الطريق بالفعل ،لكن لي�س �أي طريق ،عاد بالوحي الذي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
ثم ما ا�ستخدمه �سليمان من «العلم» لكي يبهرها بقوة وتقدم مملكته.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ثم �إ�سالمها.
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
مثل كيف تغري موقف «امللك» من نف�س الدعوة �إىل ميكن �أن نالحظ ً
ﺯﻳﻊ
اهلل.
مو�سى وفرعون� ،سليمان وملكة �سب�أ.
فرعون مل يقتنع رغم كل ما قدمه مو�سى من براهني.
مع ملكة �سب�أ كان الأمر �أكرث ي�س ًرا بفارق كبري.
هل يتعلق الأمر بب�صرية ملكة �سب�أ ً
مثل مبا يبدو �أنه بعد عن االنفراد
بالر�أي بكل ما ميثل ذلك من �صفات؟
ﻋﺼ
ُ ْ
} ُظل ًما َو ُعل ًّوا{ كانوا عالني ،وا�ستعلوا �أكرث.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
الآن الطرف امل�ؤمن �صار �أعلى ،وهو يطلب من الطرف الآخر � َّأل يكون
ﻭ
�أعلى منه.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
�أجيال كثرية ف�صلت بني بني �إ�سرائيل يف عهد مو�سى ،وبينهم يف عهد
�سليمان� ،أجيال خا�ضت الكثري من التجارب وح�صلت على الكثري من
اخلربات �إىل �أن و�صلت �إىل املرحلة العليا يف عهد �سليمان.
�أخذت الثمرة وقتها ،الكثري من ال�صراع مع النف�س و�سنوات يف التيه
وجتارب دفعت فيها ت�ضحيات كبرية.
لكن الثمرة يف النهاية �أثبتت �أنها ت�ستحق.
عدا الثمرة الأُخروية التي ت�ستحق �أكرث يف النهاية ج ًّدا.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ومقابل هذا النجاح الذي تط َّل َب وقتًا كب ًريا ،ت�أخذنا �سورة النمل �إىل
ﺐ ﻟﻠﻨ
}قال يا قو ِم ل ِم تستع ِ
جلون بِالسيئ ِة قبل
ُ َُ َ
ت ْرحون{ (انلمل.)46 :
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
لكن ال�سياق يخربنا �أن الأمر ي�ستغرق وقتًا ً
طويلـ ،و�أن العالقة بني ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ِ ِ
َ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ُ ْ َْ ُ
جلون{ (انلمل .)72 :71 لكم بعض الِي تستع ِ
ﺸﺮ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ َّ َ َ َ َ ُ ُ ُّ َ ْ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َّ
ش ٍء َوأم ِْرت أن أكون
ﺯﻳﻊ
ك�أفراد ،لي�س �أمامنا �سوى �أن نفعل ما ينبغي فعله ،نحن جزء �صغري
ج ًّدا ،بحجم منلة من م�شهد كبري ج ًّدا لن نتمكن من ر�ؤيته ً
كامل.
علينا �أن نفعل ما يجب �أن نفعله ،من اهتدى فلنف�سه.
نعم ،نحن �صغار يف النهاية بحجم النملة.
- 175 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ خمتلفة.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
وبع�ض الق�ص�ص تنتهي فقط لتبد�أ ق�صة جديدة يف داخلك ،تدخل فيك
الق�صة ُ ْ
وت ِد ُث �أث ًرا يبقى معك ،ومن هذا الأثر تبد�أ ق�صة جديدة ،ق�صتك
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال تبقى كما هي بعد �أن دخلت فيها ق�صة �أخرى ،كل �شيء يتغري.
ﺸﺮ
هنا نراها وقد جتمعت ،على الأقل هذا «�أ�شمل» ما �سرناه من ق�صته
عليه ال�سالم.
اليم ،من �إلقاء �أم مو�سى لطفلها �سورة ال َق َ�ص�ص ت�أخذنا من ِّ
اليم �إىل ِّ
اليم ،كل ما حدث بينهما منيف اليم� ،إىل حلظة غرق فرعون وجنده يف ِّ
�أحداث عرفناه يف �سورة �أخرى �سابقة متفرقة ،لكن هنا جتميع كل ما
حدث ،ما عدا جزء ال�سحرة ال ُي َ�شار له يف ال�سورة هنا.
ما الفرق بني �أن تقر�أ ق�صة مو�سى متفرقة -كما يف �أغلب ال�سور -وبني
ﻋﺼ
�أن تقر�أها مت�سل�سلة من والدته �إىل جناته وقومه من فرعون؟
ﲑ ﺍﻟ
تطلع على موقف �أو جزء من الق�صة وتربطه مع الق�ص�ص املتفرقة� ،أنت َّ
ﻜﺘ
االختالف� ،أي �إنك تقر�أ الق�صة من خالل منظور يتجاوز �سياق الق�صة
ﺸﺮ
املبا�شر �إىل �سياقات عامة تربطها بق�ص�ص �أخرى ،رمبا ُب ْق�سم �إبلي�س يف
ﻭ
مع الق�ص�ص وهي متفرقة� ،أنت ترى من منظور �أعلى بكثري ،الطائر
يحلق �أعلى ويط ُّل على منظر �أكرب ،ثم ت� ِّؤ�شر لك ال�سورة على نقاط هنا
وهناك بحيث تربط بينها.
مع الق�صة وهي مت�سل�سلة� ،إطاللة الطائر ت�أتي من ارتفاع �أقل من
كنت ترى يف
ال�سابق ،ولكن برتكيز �أكرب على م�ساحة واحدة ،كما لو �أنك َ
الق�ص�ص املفرقة خارطة العامل �أجمع ،ثم �صرتَ يف الق�صة املت�سل�سلة ترى
خارطة لبلد واحد �أو قارة واحدة.
ﻋﺼ
واملعتاد يف الق�ص�ص ،فالقر�آن ال يقدمه كث ًريا.
ﲑ ﺍﻟ
لكن عندما يقدمه ،فهو يقدمه ل�سبب.
ﻜﺘ
مع �سورة يو�سف كان الأمر لإي�صال فكرة �أن النجاح ممكن يف �أماكن
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أخرى ،لي�س بال�ضرورة �أن تنجح يف بلدك الأم ،ميكن �أن حتقق �أعلى جناح
ﺸﺮ
يف مكان خمتلف ،ولكن ذلك ما كان ميكن �أن ي�صل بو�ضوح �إال بربط كل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الأحداث وما تع َّر�ض له يو�سف من البئر �إىل الق�صر مرو ًرا بال�سجن.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
وكان هذا بالت�أكيد �أمر يعني الكثري له عليه ال�صالة وال�سالم.
ﲑ ﺍﻟ
كل هذه املواجهات كان يخو�ضها هو � ً
أي�ضا بطريقة �أو ب�أخرى.
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
منذ الليلة الأوىل لأول وحي نزل عليه ال�صالة وال�سالم ،وهناك َمنْ
ﺸﺮ
ربط بينه وبني مو�سى عليه ال�سالم ،قال له ورقة بن نوفل وهو ي�شرح له ما
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أحتدث هنا عن واقعة م�ساعدته للفتاتني ،ومن َث َّم زواجه من واحدة
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
منهما بعد �أن اقرتحت على �أبيها �أن ي�ست�أجره؛ لأنه القوي الأمني.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تلك ال�سنوات التي ق�ضاها �سيدنا مو�سى يف َم ْد َين وهو يعمل ك�أجري؛
� َّأه َل ْت ُه ليتنزَّل عليه الوحي ويحمل الر�سالة �إىل فرعون وقومه ،قبلها كان
ﺸﺮ
مو�سى ربيب الق�صور ،قوي و�أمني نعم ،لكنه كان مرت ًفا� ،سريع الغ�ضب،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
فعل.مهام ،ال ميكن لقائد �إال �أن مير بذلك لكي يكون قائدً ا ً
وهذا اجلزء -على �أهميته -ما كان ميكن �أن ُي ْف َه َم �إال يف �سياق الق�صة
كاملة ،خروجه من م�صر وهو خائف من العقوبة ،ومن َث َّم ذهابه �إىل مدين
وعمله فيها ع�شر �سنوات ،ومن َث َّم نزول الوحي عليه.
َْ َ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ
اءهُ َوقص علي ِه القصص قال ل تف نَ ْوت م َِن الق ْو ِمقال له �شعيب} ،فلما ج
َّ
الظال ِ ِم َ
ني{ (القصص.)25 :
ﻋﺼ
مو�سى ينتهي من مواجهة فرعون ويخرج بقومه ،وهناك �سيبد�أ
ﲑ ﺍﻟ
مبواجهتهم هم ،املواجهة التي �ستثبت �أنها �أ�صعب.
ﻜﺘ
هل كان ثمة ما يدور يف مكة يف تلك املرحلة مما ميكن �أن ي�شابه كل
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أبو طالب ميوت دون �أن يقول كلمة الإميان ،قلب حممد َّ
يتفطر بينما
هو يطلب منه �أن يقول ولو كلمة على فرا�ش املوت ،لكن كفار قري�ش على
الطرف الآخر� :أترتك دين عبد املطلب؟
وال يقولها ،ميوت دون �أن يقولها.
َ َ
الق�صة تنتهي كما تنتهي كل الق�ص�ص} ،إِنَّ َك ل َت ْهدِي َم ْن أ ْح َب ْب َت{
أحببت ،ال �شيء ميكن �أن يغري ذلك.
مهما � َ
ذهب العم ال�سند الذي وقف معه منذ طفولته.
ﻋﺼ
كانت هذه نهاية م�ؤ�سفة للق�صة(((.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
فبعد �شهر تقري ًبا ،تتو َّفى خديجة -ر�ضي اهلل عنها .-
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
يفقد املر�أة ال�سند التي وقفت معه منذ البداية ،نعم� ،إنها نهاية مرحلة
ﺯﻳﻊ
وتنتهي ال�سورة مبوا�ساة ملن فقد �سندين يف �شهر واحد ،تخفف وط�أة
قانون احلياة القا�سي.
َ ً َ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ ٌ َّ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ َْ ُ ََ
الك ُم } َول تدع مع اهلل إِلها آخر ل إِل إِل هو ك ش ٍء هال ِك إِل وجهه ل
َ ُ َ ُ َ
َوإ ِ ْل ِه ت ْرجعون{ (القصص)88 :
َّ ك َ ْ
ُ ُّ
ش ٍء َهال ٌِك إِل َو ْج َه ُه{. }
كل الق�ص�ص تنتهي ،الكل يرحلون ،وال يبقى �إال هو عز وجل.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
قال عليه ال�صالة وال�سالم:
ﻜﺘ
هل جاءه تلك الليلة يوم توفت خديجة -ر�ضي اهلل عنها-؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ودر�س احلياة هذا�( ،أحبب من �شئت ف�إنك مفارقه) ،هل جاءه ليلة
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
لكن كما يف احلياة الدرا�سية هناك امتحانات حا�سمة م�صريية ،تغري
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
امتحانات كبرية كهذه تتعلق عاد ًة بقدرتنا على الثبات على مبادئنا� ،أن
ﺸﺮ
نكون على قدر ما م�ؤمن به� ،أن نثبت �أهليتنا ملا نعتنقه من �أفكار.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عندما تكون الأمور ي�سرية لطيفة ،لن تكون هناك م�شكلة يف �أن تعتنق
ﺯﻳﻊ
�أفكارك ومبادئك و�أن تتحدث عن ذلك ،بل و�أن حتكم على النا�س بها.
تتم�سك بها عندما ت�أتي �ساعة اجلد واالختبار،
لكن االمتحان هو �أن َّ
�أن تبقى عليها بينما الإع�صار ي�ضربك من الداخل ومن اخلارج ومن كل
اجلهات.
دوما ،لكن عندما
امتحان كهذا ال يحدث يف كل خطوة ،ال يحدث ً
يحدث ،فقد تكون نتائجه دائمة.
***
- 185 -
القرآن نسخة شخصية
َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ُ َ
تكوا أن يقولوا آمنا َوه ْم ل يفتنون َ ولقد فتنا }الم أح ِسب انلاس أن ي
َ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ َّال َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ
ِين مِن قبل ِِهم فليعلمن اهلل الِين صدقوا ولعلمن الكذِبِني{( العنكبوت .)3 :1
فعل للكثري من االمتحانات ما الذي ميكن �أن يكون ،وقد تعر�ضوا ً
ﺸﺮ
والفنت منذ �أن �آمنوا ،بل �إن خيار الإميان و�إظهاره كان � ً
أي�ضا فتنة؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ونحن نعرف طب ًعا �أن امل�سلمني كانوا قد �سبقوا الر�سول -عليه ال�صالة
وال�سالم -يف الهجرة �إىل املدينة.
�أي �إن �سورة العنكبوت نزلت يف الوقت الذي كان فيه بع�ض امل�سلمني
يهاجرون� ،س ًّرا �أو جه ًرا �إىل املدينة.
ً
لي�س �سهل على االمتحان الكبري هو هذا ،هو قرار مغادرة مكة ،الأمر
اجلميع ،مهما كان الأذى الذي تع َّر�ضوا له ،لكن يف النهاية كانوا قد �صمدوا
ل�سنوات طويلة ،ما الذي ميكن �أن يحدث �أ�سو�أ؟
ﻋﺼ
فعل ،ولكنهم بعد � 13سنة بالن�سبة للبع�ض منهم،
ﲑ ﺍﻟ لقد مروا بالكثري ً
كانوا قد تعاي�شوا مع الواقع ال�صعب.
ﻜﺘ
لكن هذا القرار اجلديد؛ �أن يرتكوا مكة ،الأهل والأقارب ممن بقوا
ﺐ ﻟﻠﻨ
م�شركني ولكن � ً
أي�ضا ال يزالون �أقرباء ،الع�شرية ،العمل واملال ،البيوت.
ﺸﺮ
ً
جمهول ،ومن امل�ؤكد �أن العودة عنه و�أن يذهبوا �إىل و�ضع جديد ال يزال
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
هكذا هو الأمر اليوم ،وقد كان كذلك و�أكرث وقتها ،الهجرة اليوم
م�ألوفة ،والنا�س يتبادلون التهاين عندما يح�صلون عليها ،لكنها مل تكن.
كذلك �آنذاك ،وهذا التنقل مل يكن ً
مقبول بالن�سبة للعربي احل�ضريَ ،منْ
يولد يف مدينة ميوت فيها غال ًبا.
لكن.
َ
َ َّ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ ُ ُ َ َ َ
ون{ (العنكبوت.)2 : ْ َُ اس أ ْن ُي ْ َ
تكوا أن يقولوا آمنا وهم ل يفتن
َ َ َّ ُ
}أح ِسب انل
***
ﻋﺼ
لو قر�أنا ال�سورة من هذا املنظور؛ لوجدنا لكل �شيء مع ًنى خمتل ًفا.
ﲑ ﺍﻟ
ن َعن الْ َعالَم َ
ﻜﺘ
اجلهاد ،ال�سورة مكية قبل �أي معركة ،لكن امل�شكلة هي يف فكرتنا التي
ﺸﺮ
تق�صر اجلهاد على احلرب والقتال ،وتن�سى �أنه بذل للجهد و�أن بع�ض
املواجهات ال�شخ�صية االجتماعية تكون �أكرث �ضراو ًة من �أي مواجهة
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ع�سكرية.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
الق�ص�ص ع ِر َ�ض ْت �ساب ًقا يف �سور خمتلفة ،لكننا الآن نراها
ﲑ ﺍﻟ ُ ق�صة من هذه
على نحو خمتلف ،هذه املرة نراهم وهم يهاجرون ،كما يجب �أن يفعل َمنْ
ﻜﺘ
َ ِّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ُ ٌ َ َ َ ِّ ُ َ
ج ٌر إِل َرب إِنه بل �إننا �سرنى ً
لوطا وهو يعلنها} ،فآمن ل لوط وقال إِن مها ِ
ﺯﻳﻊ
يز ْ َ
الك ُِيم{(العنكبوت.)26 : ُه َو الْ َعز ُ
ِ
مل ُي ْ�ست َْخ َدم لفظ «مهاجر» يف و�صف �أي نبي يف القر�آن ،هذه هي
املرة الوحيدة ،وقد جاءت يف �سورة العنكبوت ،ال�سورة التي �أُ ْن ِز َلت بينما
امل�سلمون يع ُّدون ال ُع َّدة للهجرة من مكة بالتدريج.
�صدفة؟! حا�شا هلل.
***
حتى املثل الذي �أخذت ال�سورة ا�سمها منه ،نقر�أه الآن على نحو خمتلف.
َّ َ َ ْ َ ْ ً َّ َ َ َْ َ َ َََ َْْ َُ ْ ُ َ َ ُ َّ َ َّ َ ُ
وت اتذت بيتا َوإِن أ ْوه َن
اء كمث ِل العنكب ِ }مثل الِين اتذوا مِن د ِ
ون اهلل أو ِل
ُُْ ََْ ُ ْ َ ْ َ ُ َْ َ ُ َ ْ َ ُ َ
ون{ (العنكبوت.)41 : وت لو كنوا يعلم
وت ليت العنكب ِ الي ِ
هذه البيوت التي تتم�سكون بها ،املجتمعات التي ال تريدون الهجرة عنها،
مهما كنتم حتبونها ومتعلقني بها ،مهما َب َد ْت جميلة مزخرفة �أو مريحة.
يف حقيقتها لي�ست �أقوى من بيوت عنكبوت قد تنهار يف �أي وقت.
لو �أن بع�ضنا نظر ب�صدق وجت ُّرد �إىل الكثري من جمتمعاتنا� ،أوطاننا
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ لقلنا دون مواربة.
ﻜﺘ
***
ﺸﺮ
َ َ ٌ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ َّ َ َ
ون{ (العنكبوت .)56
ِ د ب اع ف اي يِ إف ة ع س
ِ او ضِ ر ِ }يا عِبادِي الِين
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
بع�ض الأحداث التي تبدو بعيدة ن�سب ًّيا عنا يف البداية ،ت�ؤثر الح ًقا على
حياتنا اخلا�صة وحياة املاليني من النا�س حولنا.
ﻋﺼ
حرب بني بلدين و�أنت تعي�ش يف بلد ثالث رمبا ال يكون حتى جماو ًرا لأي
ﲑ ﺍﻟ
من البلدين ،لكن النتائج تطالك بالتدريج ،وتغري من حياتك �إىل درجة مل
ﻜﺘ
الطاولة كلها حتى لو كان اجتاه الكرة الأوىل حمددًا يف حيز معني.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وما يبدو يف البداية خ ًربا رئي�س ًّيا يخ�ص ال�سيا�سة العامة يف مكان بعيد،
ﺯﻳﻊ
منا اليوم ،الروم والفر�س يف �سلة واحدة ،ولن يختلف من ينت�صر على من
ﺸﺮ
رمبا لي�س فقط لأن الروم كانوا �أقرب -ك�أهل كتاب � -إىل امل�سلمني من
ال ُف ْر�س.
وال لأن ت�أثريات النفوذ الفار�سي يف اجلزيرة كانت �أخطر و�أعقد على
امل�سلمني من الروم عرب دولة املناذرة يف �شمال �شرق اجلزيرة ،وت�أثرياتهم
يف �شرق اجلزيرة وجنوبها.
ولكن رمبا � ً
أي�ضا لأن هذه احلرب املتوا�صلة بني �أقوى �إمرباطوريتني يف
العامل وتدا ُول الن�صر واخل�سارة بينهما كان ي�ؤدي �إىل �إنهاك وا�ستنزاف
القوتني م ًعا ،ورمبا مي ِّهد لظهور قوة ثالثة جديدة.
نحن الآن يف �أواخر املرحلة املكية� ،سورة الروم كانت من �أواخر ما نزل
يف مكة ،تف�صلها عن الرحلة �إىل املدينة �سورتان فقط.
وعمل ًّيا كانت هجرة امل�سلمني التدريجية قد بد�أت غال ًبا يف تلك الفرتة.
احلرب يف ال�شمال بني �أقوى دولتني يف العامل القدمي.
ﻋﺼ
لكن يف اجلنوب ،كانت هناك نقطة جديدة بد�أت يف التك ُّون ،وعلى نح ٍو
ﲑ ﺍﻟ
مل يكن رمبا قد َل َف َت �أ ًّيا من القوتني �آنذاك.
ﻜﺘ
َ َْ َُ َ َ
ك َّن أ ْك َ َ
ث انلَّ ِ
اس ل يعلمون{ (الروم.)6 :
ْ َُ َ َ ُْ ُ ْ َ
} َوعد اهلل ل يلِف اهلل َوعده َول ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ ﺸﺮ
و�سورة الروم تذ ِّكر بدورة حياة الدول واملجتمعات ،وت�ش ِّبهها بدورة
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
حياة الإن�سان.
منو ،قوة� ،ضعف ،انهيار.
َ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ َ ْ َْ َ
}أ َول َ ْم ي َ ِس ُ
ِين مِن قبل ِِه ْم كنوا أشد ريوا ِف ال ْر ِض فينظروا كيف كن عق ِبة ال
ْ ُ ْ ُ َّ ً َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ ُ ْ ْ َ ِّ َ َ َ
ات فما مِنهم قوة وأثاروا الرض وعمروها أكث مِما عمروها وجاءتهم رسلهم بِالين ِ
َ ُ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ َْ َ ُ ْ ََ ْ َ ُ َُْ َ ُ َْ ُ َ َ َ
اءوا ِين أس ُ كن كنوا أنفسه ْم يظلِمون ثم كن عق ِبة ال كن اهلل ِلظلِمهم ول ِ
َ ْ َ ُ َْ ْ َ ُ ُ ُ ُ َ ُ َ َْ َْ ُ َ ُّ َ َ ْ َ َّ ُ َ
ات اهلل َوكنوا بِها يسته ِزئون اهلل يبدأ اللق ث َّم ي ِعيدهُ ث َّم السوأى أن كذبوا بِآي ِ
َ ُ َ ُ َ
إ ِ ْل ِه ت ْرجعون{ (الروم .)11 :9
ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ُ ْ َ ِّ َ َ ْ َ ِّ َ ُ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َ
ح ال ْرض بعد م ْوت ِها ت و َي ِرج الميت مِن الح وي ِ }ي ِرج الح مِن المي ِ
ُْْ ََ ٌ ََْ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َُ َُ َ ْ َ َ َ َ َ َُْ ُ َ
ون{ اب ث َّم إِذا أنتم بش تنت ِش
ٍ ر ت ِن
م م ك ق لخ ن أ ه
ِ ِ تا آي ِنم و ()19 ونوكذل ِك ترج
(الروم .)20 :19
َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ ُ ُ ُ ْ ُ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ َ َ ُ َّ
شكئ ِك ْم }اهلل الِي خلقكم ثم رزقكم ثم ي ِميتكم ثم ييِيكم هل مِن
َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ
ون {(الروم.)40 : شك
من يفعل مِن ذل ِكم مِن ش ٍء سبحانه وتعال عما ي ِ
من امل�ؤكد �أن ما ي�شابه هذه الآيات قد وردت يف �سور �أخرى ،لكن
معان
ال�سياق هنا -املرتبط ب�صراع الروم وفار�س -يجعل لهذه الآيات ٍ
ﻋﺼ
خمتلفة تتعلق بدورة حياة الدول وال�سنن التي تتحكم بها كما تتحكم بدورة
ﲑ ﺍﻟ
حياة الإن�سان.
ﻜﺘ
َ َُ َ
وها{ عن الأر�ض مل يرد يف �أي أي�ضا �إىل �أن لفظ }عمر فلننتبه هنا � ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
ْ َ ْ َ َ ُْ
مكان �آخر يف القر�آن غري هنا يف �سورة الروم ،ورد لفظ }استعمركم{
ُ َْ َْ َ ُ
يف �سورة هود } ُه َو أن َشأك ْم م َِن ال ْر ِض َو ْاس َت ْع َم َرك ْم ف َِيها{ ،ولكن ن�سبة فعل
ﻭ ﺸﺮ
لي�س �صدفة ،حا�شا هلل ،بل تذكري مبعايري املناف�سة والقوة بني الدول،
لي�ست احلرب والقوة الع�سكرية فقط ،بل � ً
أي�ضا الإعمار.
***
ولي�س �صدفة � ً
أي�ضا �أن ت�أتي الإ�شارة �إىل اختالف الأعراق والثقافات يف
هذه ال�سورة.
ُ َْ ً َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ ََْ ُ ْ َ َ ْ َ ََ َ ُ ْ َُْ
} َومِن آيات ِ ِه أن خلق لك ْم مِن أنف ِسك ْم أز َواجا ل ِتسكنوا إ ِ ْلها َوجعل بينك ْم
َ ْ َ َ َ َّ ُ َ َ َ َّ ً َ َ ْ َ ً َّ َ َ َ َ
ون{ (الروم.)21 : ات ل ِقومٍ يتفكر
مودة ورحة إِن ِف ذل ِك لي ٍ
هذا الوعي اجلديد ينفتح على االختالف الثقافات والأعراق باعتباره
�آية من �آيات اهلل يف خلقه ولي�س �أم ًرا يجب العمل على �إلغائه.
***
ﻋﺼ
َ ُ َ ْ َ َّ ْ َ ِّ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َْ َ ُ
اس ِ ُلذِيقه ْم بعض الِي
الح ِر بِما كسبت أيدِي انلَّ ِ }ظه َر الفساد ِف الب و
ﲑ ﺍﻟ
َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ َ
ﻜﺘ
هل هو هذه الر�ؤية املادية التي ال ترى �إال جان ًبا واحدً ا من احلياة؟
َ ُُ َ ْ ْ
َ ْ ُ َ َ ً َ َ َ ُّ ْ َ ُ َ َ
ادلنيا َوه ْم ع ِن الخ َِرة ِ ه ْم غف ِل
ﻭ
كل �سور القر�آن التي حملت �أ�سما ًء لأ�شخا�ص يف عناوينها كانت لأنبياء
ور�سل :نوح ،هود ،يون�س ،يو�سف� ،إبراهيم ،عليهم ال�سالم �أجمعني.
ﻋﺼ
وهناك ا�ستثناءان اثنان:
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
والثاين هو لقمان.
ﺸﺮ
وقربها من النبوة.
ﺯﻳﻊ
مل يح�صل على مكانته التي ح�صل عليها لأنه عابد �أو زاهد� ،أو ب�سبب
فعل اخلري.
رمبا كان كل هذه الأ�شياء باملنا�سبة ،لكننا ال نعرف ذلك؛ لأن القر�آن مل
يذكرها عنه ،بل ذكر �شي ًئا خمتل ًفا.
ماذا كان لقمان؟ ما الذي نقله القر�آن الكرمي عنه؟
كان مر ِّب ًيا.
�أو على الأقل هذا ما �أظهره القر�آن منه ،هذا هو اجلزء الذي جعله
ﻋﺼ ي�ستحق مكانته.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ُم َر ٍّب؟
ﺸﺮ
هذا فقط؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
نعم ،كان مرب ًيا ،قد ننظر �إىل الأمر على �أنه جمرد عمل تكميلي �أو
ﺯﻳﻊ
حت�صيل حا�صل.
لكن هذا العمل كان مه ًّما لدرجة جعلت من لقمان يف مكانته تلك.
أي�ضا �إىل هذا العمل على �أنه جمرد تنظري ،وهي قد ينظر البع�ض � ً
تعامل كما لو كانت �سبة �أو منق�صة حال ًّيا ،رغم �أنها
الكلمة التي �صارت َ
عالية املقام يف حقيقتها؛ لأنها تعرب عن �أرقى ما ميكن �أن للإن�سان �أن
ميار�سه :التفكري.
بكل الأحوال� ،سواء كانت الرتبية تنظ ًريا �أو تفك ًريا ،فقد كانت �أ�سا�سية
لدرجة جعلت من لقمان يف املو�ضع الذي هو فيه.
***
مرب بالت�أكيد.
لكنه مل يكن �أي ٍّ
كان حكي ًما.
***
ﻋﺼ
و«احلكمة» �أمر ظاهر يف هذه ال�سورة.
ﲑ ﺍﻟ
الك ِِيم{ (لقمان .)2 :1 ات الْك َِتاب ْ َ ْ َ َ ُ
}الم ت ِلك آي
ِ
ﻜﺘ
َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ ْ ََ ْ ََْ ُْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ ُ
} َولقد آتينا لقمان ال ِكمة أ ِن اشك ْر هلل َومن يشك ْر فإِنما يشك ُر ِلَف ِس ِه َومن
ﺸﺮ
َ ٌّ َ ٌ َ َ َ َ َّ
ن حِيد{ (لقمان.)12 : كفر فإِن اهلل غ ِ
ﻭ
ْ َ َ َ َ ْ َ ٌ َ ْ َ ْ َ ُ ُّ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ َْ َ َ َّ َ
الح ُر يمدهُ مِن بع ِده ِ سبعة أبُ ٍر ما } َول ْو أنما ِف ال ْر ِض مِن شجر ٍة أقلم و
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
َ َ ْ َ َ ُ
ات اهلل إ ِ َّن اهلل َع ِز ٌيز َحك ٌِيم{ (لقمان.)27 : ن ِفدت كِم
الإح�سان � ً
أي�ضا له ح�ضور مكثف يف �سورة لقمان.
ْ
ح ًة ل ِل ُم ْح ِسنِ َني{ (لقمان.)3 :
ًُ َ ََْ
}هدى ور
َ ْ َْ ََ ْ َْ َ َ ُْ ُ ُْ ْ َُ َ َ ْ ُْ
} َومن يسل ِْم َوجهه إِل اهلل َوه َو م ِس ٌن فق ِد استمسك بِالع ْر َوة ِ ال ُوثق َوإِل اهلل
َ َُ ُُْ
ور{ (لقمان.)22 : عق ِبة ال ِ
م
***
أي�ضا �إىل �أمر يرتبط باحلكمة. الآية الأخرية يف ال�سورة رمبا ت�شري � ً
َ ْ ٌ َ ِّ َ ْ َ ُ ُ َ َْ
وت إ ِ َّن اهلل َعل ٌِيم َخبِ ٌري{ (لقمان.)34: } َوما تد ِري نفس بِأي أر ٍض تم
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
فاهلل و�صف نف�سه وكتابه باحلكمة ،ثم انتهت ال�سورة بو�صفه بالعلم
ﻜﺘ
واخلربة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
وهل احلكمة -عندما ت�ؤتى للب�شر -لي�ست �إال هذا الناجت من العلم
واخلربة والإح�سان؟
ﺸﺮ
وهل ميكن �أن يكون هناك حكمة بعلم فقط� ،أو بخربة فقط� ،أو ب�إح�سان
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
فقط.
ﺯﻳﻊ
�أمر �آخر يجب �أن ننتبه له هنا هو ح�ضور الأبوة� ،أو العالقة بني الأبناء
ووالديهم يف �سورة لقمان.
ُ َ َ ُّ َ
أي�ضا الإ�شارة �إىل }يا أيها انلَّاس
هناك و�صية لقمان بالوالدين ،وهناك � ً
َ ًْ َ ٌ َ ْ ََ ََ َُْ ٌ َُ َ َ ْ َّ ُ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ً َ َ ْ
از عن َو ِ ِ
اله ِ شيئا ٍ ج و ه ودل وم لو ِ ه ِ
ل و ن ع الِ و ي ز
اتقوا ربكم واخشوا يوما ل ي ْ ِ
َ ْ ُ َّ ُ َ
ادلنيا َول يغ َّرنك ْم باهلل الغ ُر َُ َ ْ ُ َ
الياة ُّ ك ُم َ َ ٌّ َ َ َ ُ َّ َّ ُ َّ ْ َ
ور{ (لقمان)33 : ِ إِن َوعد اهلل حق فل تغرن
َْ َ
أي�ضا } َويَ ْعل ُم َما ِف ال ْر َح ِام{ ،هذا بالإ�ضافة �إىل �أن حوار لقمان كان مع و� ً
ابنه.
هل ي�شري هذا �إىل �أن عمق احلكمة وجوهرها هو هذا التوا�صل الذي
ميرر ع�صارتها وخال�صتها �إىل اجليل التايل؟ وهذا هو اال�ستمرار
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
وحققت من م�آثر ،ف�إن عدم حمافظتك على َ احلقيقي ،مهما �أجنزت
اجليل التايل يعني �ضياع كل ما حققته.
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ُ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ ُ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ
}قالوا بل نتبِع ما وجدنا علي ِه آباءنا أولو كن الشيطان يدعوهم إِل عذ ِ
اب
ﻭ
َّ
ﺍﻟﺘﻮ
هذه الأبحر ال�سبعة التي ميكن �أن تنفد لو �أ�صبحت مدادًا لكلمات اهلل،
ﺐ ﻟﻠﻨ
هل ت�شمل كلمات احلكمة التي تعك�س قدرة اهلل وتق ِّر ُب له عز وجل؟
ﺸﺮ
هذه الكلمات التي على �أل�سنة الب�شر ولكنها تق ِّرب كلمة اهلل لهم ،هل
ﻭ
رمبا.
***
َ ْ ْ َ َّ َ َ
ي عِل ٍم َويتخِذها
ُ َّ َ ْ َ اس َم ْن ي َ ْش َتي ل َ ْه َو ْ َ
} َوم َِن انلَّ ِ
يل اهلل بِغ ِ
ِيث ِل ِضل عن سبِ ِ
الد ِ ِ
ُ َ َ
ُه ُز ًوا أول َِك ل ُه ْم َع َذ ٌاب ُم ِه ٌني{ (لقمان.)6 :
عاد ًة يتبادر �إىل �أذهاننا �أن لهو احلديث هو احلديث التافه العادي.
لكن لو دققنا يف الآية؛ لوجدناها حتدد } ِ ُل ِض َّل َع ْن َسبِ ِيل اهلل{.
ونحن نعرف �أن الآيات القر�آنية ُت ْ�ستَخدم �أحيا ًنا لهذا ،لي�س احلديث
التافه وحده ،بل �أحيا ًنا حديث مليء بالآيات وبالأحاديث ،ولكنها َّ
توظف
متاما -بق�صد �أو بغري ق�صد -فت�ضل عن �سبيل اهلل بعيدً ا عن م�سارها ً
ومقا�صده.
كم من �سنن يف الهيئة �أو اللبا�س ا�ست ُْخ ِد َمت للتغطية والإلهاء عن �سبيل
اهلل ،عن مقا�صده.
دوما يف ذلك الناجت الذي ينبثق من تفاعل العلم واخلربة
املحك ً
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ والإح�سان.
بعبارة �أخرى :يف احلكمة.
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
يحدث كث ًريا �أن تغطي الألفة والرتابة على م�شاعرنا حتى تفقد حرارتها
الأوىل ،و َي ْ�ض َحى الأمر جمرد تع ُّود رتيب ال �أثر للهيب �أو �شغف فيه.
ﻋﺼ
يحدث هذا كث ًريا يف العالقات الإن�سانية ،و� ً
أي�ضا يف عالقاتنا مع ﲑ ﺍﻟ
يوما� ،أو الهواية
الأماكن والأ�شياء ،ورمبا حتى مع املهنة التي �شغفنا بها ً
ﻜﺘ
ويحدث �أحيا ًنا -و�أحيا ًنا كثرية ج ًّدا -يف عالقتنا مع الإميان باهلل عز
ﺯﻳﻊ
وقد جند الكثري من الأ�سباب التي تف�سر هذا� ،أ�سباب متزج بني
ال�سيا�سة وعلم االجتماع ،ف�شل تيار الإ�سالم ال�سيا�سي وكوارثه ،الفظاعات
التي ار ُت ِك َب ْت با�سم الدين ،الت�صرفات ال�شخ�صية لهذا الرمز �أو ذاك.
وكل هذا �صحيح وم�ؤثر وال بد.
ولكن هذا الفتور كان �سيحدث حتى لو مل يتغري العامل من حولنا ،وحتى
لو يتورط فالن �أو فالن فيما تورطا به ،الفتور هو جزء من طبيعة الأ�شياء.
من الطبيعي ج ًّدا �أن يحدث ،على الأقل مع �أغلب النا�س.
ﻋﺼ
�أن يتحول الإميان بالتدريج ومع مرور الوقت �إىل جمرد ت�صديق.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سورة ال�سجدة ت�سلط ال�ضوء على جزء من الفرق بني الإميان وبني
ﺸﺮ
الت�صديق.
ﻭ
ت�ضعنا �أمام م�شهد لهذا الإميان احلقيقي ،ثم ت�ضعنا �أمام �إمياننا نحن.
هل هذا ي�شبه ذاك؟
***
لكي ت�صل بنا ال�سورة �إىل هذا امل�شهد ،متر بنا � ًأول باجلهة املعاك�سة.
ت�أخذنا �إىل املكذبني ،بينما هم يكذبون ب�أهم و�أدق �شيئني يف الإميان:
الكتاب.
والقيامة.
هذان هما ال�شيئان ال َّل َذان يقف عندهما الكثري من الراف�ضني للإميان،
ويتخذونهما �سب ًبا يف االبتعاد عنه �إىل اجلهة املعاك�سة.
الكتاب �أو الوحي ،ويوم القيامة ،البعث.
�أغلب غري امل�ؤمنني ميكن لهم �أن يقروا بوجود اهلل ،وبقدرته على خلق
كل ما يف الكون.
لكنهم يقفون عند هذا دون خطوة �إ�ضافية.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
�أن يتحدث هذا الإله العظيم اخلالق مع �أحد الب�شر بو�سيلة ما� ،أو �أن
ﻜﺘ
يعيد �إحياء كل من مات على الأر�ض ،هذا يبدو بالن�سبة لهم غري ممكن.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ون ْاف َ ََْ َُ ُ َ يل الْك َِتاب َل َر ْي َب فِيه م ِْن َر ِّب الْ َعالَم َ
ﺯﻳﻊ
تاهُ َْ ُ
ني أم يقول ِ ِ ِ }الم ت ِ
ن
ُ َ َ ْ َ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُّ ْ َ َ ُ َ ْ ً َ
َ ْ ِّ
ون{ ِير مِن قبلِك لعله ْم يهتد بل هو الق مِن ربك ِلنذِر قوما ما أتاهم مِن نذ ٍ
(السجدة .)3 :1
َ ْ ُ ْ َ َ ِّ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ََ ُ َ َ َ ََْ
ون{ ِيد بل هم بِلِقاءِ رب ِهم كف ِر }وقالوا أإِذا ضللنا ِف الر ِض أإِنا ل ِف خل ٍق جد ٍ
(السجدة)10 :
ما العمل؟
ال �شيء مبا�شر ،ه�ؤالء �س ُي ْع َر ُفون الح ًقا.
- 206 -
سورة السجدة
ﻋﺼ
االختبار يف الأمر لو كان هكذا؟
ﲑ ﺍﻟ
َمنْ هو امل�ؤمن ح ًّقا يف كل هذا؟ هل هو الذي �ص َّدق بالوحي وبيوم
ﻜﺘ
القيامة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
ََْ ُ ُْ ُ َ
َرزقناه ْم ين ِفقون {(السجدة .)16 :15
هذا هو م�شهد الإميان الأعلى� ،أو على الأقل هذا امل�شهد يعرب عن جزء
كبري من هذا الإميان.
�أن يخ َّر املرء �ساجدً ا� ،أي �أن يخ�ضع دون وعي م�سبق منه �أو �إرادة،
�إميانه يت�صرف عنه دون �أن ي�ستكرب ،دون �أن متنعه عن ذلك �أي «�أنا»
مت�سلطة ترى يف خ�ضوعه �أو يف خ�ضوع عقله �إهانة لها.
َ
} َت َت َجاف{.
عب به القر�آن عن عالقة ه�ؤالء مع �أَ ِ�س َّرتهم هو لفظهذا اللفظ الذي َّ َ
خا�صا ،مل َي ِر ْد �سوى مرة واحدة يف القر�آن يف هذا املو�ضع، ميتلك �سح ًرا ًّ
وهو يعرب عن عالقة تباعد بني ال�شخ�ص و�سريره ،لكنه تباعد متقطع،
يرتك ال�شخ�ص �سريره -على حاجته الطبيعية له -ل�شوقه �إىل موعد �آخر،
ً
يدعو فيه ربه } َخ ْوفا َو َط َم ًعا{.
هذا امل�شهد يعرب عن «الذين �آمنوا».
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ فهل هو يعرب عنا؟
***
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
لكن عندما ت�ضع «اليقني» هد ًفا لك ،ف�إنك قد ت�صل �إىل ما دونه� ،إىل
الإميان.
كيف ال�سورة مغمورة بهذا؟
َ ْ
َْ ُ
اب «ل َر ْي َب» فِي ِه{. َ
}ت ِ
نيل الكِت ِ
ْ ْ َ َ ْ َ َ ً َّ ُ ُ َ ْ َ
ون»{. الا إِنا «موق ِن }فار ِ
جعنا نعمل ص ِ
ََ ْ َ
ك ْن ِ«ف م ِْريَ ٍة» م ِْن ل َِقائ ِ ِه{.
َ ُ َ َ َ ْ ََْ ُ َ
} َولقد آتينا موس الكِتاب فل ت
َ َ
َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ ً َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ ُ ََ ْ
ون»{. }وجعلنا مِنهم أئ ِمة يهدون بِأم ِرنا لما صبوا وكنوا بِآيات ِنا «يوق ِن
كلها �إ�شارات �إىل يقني ال َل ْب َ�س فيه ،وجوده هو املنجى ،وغيابه �إ�شارة
هالك.
وهو حمرك �إميان امل�ؤمن ،الذي «يتجافى جنبه عن م�ضجعه».
***
كيف ال�سبيل �إىل هذا اليقني؟
ﻋﺼ
ً
لي�س �سهل وال و�صفة ت�سهل الو�صول له.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لكن �أي �صاحب يقني عليه �أن يحدد �أمرين لكي تكون هد ًفا ليقينه:
ﺐ ﻟﻠﻨ
الوحي والبعث.
ﺸﺮ
هذان الأمران يجب �أن يكونا حا�ضرين يف ذهنه ،م�ستح�ض ًرا م�شاهدهما
ﻭ
ا�ستثم ْر م�شاكلك الدنيوية ا�ستثما ًرا �أمثل يف جعلك تتقرب �إىل اهلل،
ِ
ورمبا يقودك هذا �إىل ما بعد وما بعد ،م�صلحة؟ بالت�أكيد م�صلحة ،ال تن�س
�أنك عبد ،اخلع �أناك كما خلع مو�سى نعليه ،نعم� ،أناك مثل نعليه.
نعم ،هي م�صلحة ،وهو يقولها لك �صراح ًة ،لعلك ترجع.
***
ثمة حوار �أخري ينهي ال�سورة يعرب � ً
أي�ضا عن اليقني.
ِني قُ ْل يَ ْو َم الْ َف ْت َل َي ْن َف ُع َّال َ
ون َم َت َه َذا الْ َف ْت ُح إ ْن ُك ْن ُت ْم َصادق َ
ََُ ُ َ
}ويقول
ﻋﺼ
ِين حِ ِ ِ
ْ
َ ُْ َ َ ْ ُْ ُ َ ُ َ َّ ْ ْ ْ ْ َ َ َ َ ْ ُْ ُ َ ُ
َ ُْ ََ
كف ُروا إِيمانهم َول هم ينظ ُرون فأع ِرض عنهم وانت ِظر إِنهم منت ِظر
ون{
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
بال�ضبط كما ننتظر �أذان املغرب يف نهاية يوم رم�ضان ونحن نعرف �أنه
ﻭ
�سي�أتي.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
انتظ ْر يوم الفتح ،يوم البعث ،يوم يت�أكدون من �أنهم كانوا يف
كذلك ِ
اجلهة اخلط�أ.
ﻋﺼ
قد يبدو ذلك �أم ًرا مرت ًفا يف البداية ،وال ُي ْد َرج يف خريطة البناء.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
بل كل منا يحتاج �إىل هذا اخلندق� ،إىل خندق ما مبعزل عن وجوده
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ حتى هو.
اخلندق الأول الذي يحتاجه اجلميع:
ﻜﺘ
«التقوى».
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ً
حكِيما{ (األحزاب)1 :
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
اليوم ميكن لعبارة «اتق اهلل» �أن تثري غ�ضب من تقال له ،كما لو كانت
ﺯﻳﻊ
انتقا�صا منه ومن تقواه� ،أو كما لو كان هو فوق م�ستوى التذكري بالتقوى.
ً
لكن ها هي ال�سورة تفتتح بهذا الأمر ،وبهذه ال�صيغة املبا�شرة للنبي -
عليه ال�صالة وال�سالم ،-ال �أحد فوق هذا الأمر ،ال �أحد فوق �أن يحتاج هذه
الن�صيحة ،هذا اخلندق.
هذا هو اخلندق الأول :التقوى.
وبالفعل ،ما الذي ميكن �أن يعرب عن التقوى �أكرث من اخلندق الذي
يقيك من املخاطر؟
- 212 -
سورة األحزاب
هذا خندق ال مفر من حفره� ،إن مل تفعل ،ف�أنت حتفر ما �سيقودك �إىل
الهاوية.
***
َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ َ َ ْ ََْْ ُ َ َ ََ
ي ِف ج ْوف ِ ِه َوما جعل أز َواجك ُم الل ِئ تظاه ُِرون ِ }ما جعل اهلل ل َِرج ٍل مِن قلب
ُ ْ ُ َّ ُ َّ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ َ ُ َ ُ ُ َ ْ
اءك ْم ذل ِك ْم ق ْولك ْم بِأف َواهِك ْم َواهلل مِنهن أمهات ِكم وما جعل أدعِياءكم أبن
َ ُ ُ ْ َ َّ ُ َ ْ
السبِ َيل{ (األحزاب.)4 :
َّ
الق َوه َو يهدِي يقول
يحميك هذا اخلندق من �أن يدخلك قلب �آخر ي�ش ِّو�ش على قلبك ،من �أن
ﻋﺼ
يت�سلل قلب �إىل قلبك ،فيجعل لك قلبني ،وما جعل اهلل لرجل من قلبني يف
ﲑ ﺍﻟ
جوفه؛ لأن هذا بب�ساطة �سيخرب عمل القلب الأ�صل.
ﻜﺘ
يحميك اخلندق � ً
أي�ضا من تداخل احلقيقة مع الوهم ،عالقات القرابة
ﺐ ﻟﻠﻨ
والدم لن تتغري فقط بكلمة تقولها لهذا ال�سبب �أو ذاك ،زوجتك لن ت�صبح
ﺸﺮ
ك�أمك فقط لأنك تريد عقوبتها دون �أن تطلقها ،وهذا الغريب مل ي�صبح
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ابنك فقط؛ لأنك تريد زيادة عدد الذكور يف قبيلتك كي تزيد قوتها.
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ْ
َم ْع ُروفًا ك َن ذل َِك ف الك َِتاب َم ْس ُط ً
َ َ
ورا{ (األحزاب.)6 : ﲑ ﺍﻟ ِ ِ
كيف تكون �أزواج النبي �أمهات امل�ؤمنني دون �أن يكون هو عليه ال�صالة
ﻜﺘ
نعم ،لكن هذا لي�س �ضمن املعتاد ،هنا نخرج من ال�سلطة الأبوية
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
التقليدية �إىل �شيء جديد خمتلف ،تتمثل ال�سلطة اجلديدة يف �شكل من
ﺯﻳﻊ
�أ�شكالها بهذه الأمومة ،الأمومة احتواء وعطف وحنان واحت�ضان ،و�أنت من
خالل عالقة الأمومة هذه بزوجات النبي ،تنتمي لبيت النبوة ،تكون ربي ًبا
فيه دون �أن تختلط عالقتك فيه عليه ال�صالة وال�سالم لت�صبح عالقة �أبوة
ً
بدل من عالقة ر�سول مبتبعيه.
�أمهاتنا هُ نَّ الالئي قمن برتبيتنا.
وهنَّ كذلك ً
فعل عرب القرون ،ودور �أمهات امل�ؤمنني هو هذا.
كل واحدة منهنَّ :ال�سيدة خديجة ،ال�سيدة عائ�شة ،ال�سيدة حف�صة ،لكل
منهنَّ دور يف غر�س �شيء ما فينا.
�أو هذا ما يجب �أن يحدث على الأقل.
***
ْ َْ َ ُ َ ََ ْ َ ْ ََ ْ ُ ْ ْ َ َ }إ ْذ َج ُ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ
ت البصار َوبلغ ِ
ت اءوكم مِن فوق ِكم َومِن أسفل مِنكم َوإِذ زاغ ِ ِ
َُ َ ُْ ُْ ْ ُ َ َ ُْ ُ َْ ً َ ُ ُّ َ ُّ ُ َ َ ْ
ُْ ُ ُ َ
ج َر َوتظنون بِاهلل الظنونا هنال ِك ابت ِ َ
ل المؤمِنون وزل ِزلوا ِزلزال القلوب النا ِ
َ ً
شدِيدا{ (األحزاب .)11 :10
ﻋﺼ
ثم ت�أخذنا ال�سورة �إىل عمق املواجهة التي تط َّل َب ْت حفر اخلندق� ،إىل
ﲑ ﺍﻟ
غزوة الأحزاب.
ﻜﺘ
لقد جاءوا من كل مكان ،من الداخل واخلارج ،زاغت الأب�صار؛ �إذ مل
ﺐ ﻟﻠﻨ
يعد هناك مكان واحد ميكن الرتكيز عليه ،القلوب عند احلناجر ،تكاد
ﺸﺮ
خ�ضم حماولتنا
تخرج من هول ما ت�شعر به ،يكاد يخرج ما بها من �إميان يف ِّ
ﻭ
ُّ
الظ ُنونَا{. َ ُ ُّ َ
الإم�ساك بالقلبَ } ،وتظنون بِاهلل
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
يف كل مرة مل ت�أت العا�صفة� ،أو مل ي�أت الن�صر� ،أو جاءت الهزمية ،كان
يخرج البع�ض منا� ،أحيا ًنا يخرج جزء منا ليقول� :أين وعد اهلل؟
أ�صل بهذا املعنى الذي نحاول �أن نت�شبث به ،بل ق َّدم لنا واهلل مل يعدنا � ً
جمموعة �أ�سباب تقود �إىل نتائج ،مل ننجز الأ�سباب ،ولكن انتظرنا النتائج،
وملَّا مل حتدث ،قلنا� :أين وعد اهلل؟ وذهب البع�ض بعيدً ا يف ذلك �إىل حد
ترك الإميان كله ،بنا ًء على جمموعة افرتا�ضات خاطئة.
ارا{ (األحزاب)13: ون إ َّل ف َِر ً
َ ُ ُ َ َّ ُ ُ َ َ َ ْ َ ٌ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ
}يقولون إِن بيوتنا عورة وما ِ
ه بِعور ٍة إِن ي ِريد ِ
ﻋﺼ
فعل ،بال خنادق ،تركوها ُع ْر َ�ض ًة الكثريون منا تركوا بيوتهم عورة ً
ﲑ ﺍﻟ
أ�صل ،وطفق يقدم لكل ما ي�أتي من �سموم ،البع�ض منا كان فخو ًرا بذلك � ً
ﻜﺘ
َّ ْ ُ ُ َ
ون إِل ف َِر ًارا{. وكانت النتيجة واحدة} :إِن ي ِريد
ﺸﺮ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ ِّ َ ْ ُ ْ َ َْ َْ َ
الأس ِني مِنك ْم َوالقائِلِني ِ ِلخوان ِِهم هلم إِلنا ول يأتون }قد يعل ُم اهلل المعوق
ﺯﻳﻊ
َّ َ ً
إِل قلِيل{ (األحزاب.)18 :
ْ
}ال ُم َع ِّوق َِني{ بك�سر الواو ،الذين يعيقون النا�س ،رمبا �أحيا ًنا حتدث
الإعاقة بن�شر الي�أ�س ،و�أحيا ًنا بن�شر �أمل خيايل ب�سقف توقعات مرتفع،
يقود �إىل الي�أ�س بعد �أن يثبت ف�شله ،لي�ست الإعاقة فقط يف دعوات
التحبيط والتثبيط ،بل � ً
أي�ضا يف ا�ستخدام الأمل كمخدر ،يف الرتويج �أن
الن�صر «�صرب �ساعة» مبعزل عن �صرب �سنوات من العمل ،يف النظر �إىل.
ﻋﺼ
ما كان يفعله وكيف كان يفكر ،وكيف كان يت�صرف.
ﲑ ﺍﻟ
ملاذا ت�أخذنا �سورة الأحزاب وغريها من ال�سور �إىل داخل بيته� ،إىل
ﻜﺘ
م�شاكل قد يتعر�ض لها كل بيت؟ لأنه من املهم ج ًّدا �أن نفهم واقعيته
ﺐ ﻟﻠﻨ
وب�شريته ،مل ي�صل ملا و�صله دون املرور بامل�شاكل اليومية لكل النا�س ،مل
ﺸﺮ
يكن لديه قدرات خارقة جتعل كل َمنْ حوله يطيعونه ،بل كان يجاهد من
ﻭ
�أجل ذلك ،ومعرفة ذلك بالن�سبة لنا �أمر �أ�سا�سي يف االقتداء به ،ال يوجد
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
حل �سحري لأي م�شكلة ،بل مواجهتها � ًأول كما هي ،وعر�ض احللول املمكنة،
حتى مع �أ�صعب هذه احللول.
َْ ََْ َ َ َّ َ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ ِّ َ َ َ َ َّ ِّ َ ْ ُ َّ َ َ َ
ت فل تضع َن بِالق ْو ِل فيطمع ت كأح ٍد م َِن النساءِ إ ِ ِن اتقي }يا ن ِساء انل ِب لس
َْ ََ ٌ َُْ َ ًَْ َُْ ً َّ
الِي ِف قلبِ ِه مرض وقلن قول معروفا{ (األحزاب.)32 :
علينا �أن ننتبه هنا �إىل �أن كل �شخ�صية عامة -يف �أي جمال كانت
�شهرتها -تتع َّر�ض للنظر �إليها من خالل عد�سة مكربة ،يحدث هذا حتى
مع م�شاهري الفن والريا�ضة� ،إذ تتم مراقبة زوجاتهم �أو �أوالدهم على نحو.
جلل و�أم ًرا كب ًريا ،النا�س تتعامل مع يجعل من �أي هفوة طبيعية حد ًثا ً
عموما مبعايري خمتلفة عن تلك التي تعامل نف�سها بها ،وهذا �أمر امل�شاهري ً
يكاد يكون جز ًءا من الطبيعة الب�شرية يف كل زمان ومكان ،مهما كان هذا
ب�سيطا �أو متوا�ض ًعا �أو ُم ِ�ص ًّرا على �أن يعي�ش حياته كما الآخرين، امل�شهور ً
متاما ،و�ستتعامل مع «عاديته» باعتبارها حد ًثا النا�س لن ترتكه يفعل ذلك ً
خار ًقا ،ونف�س ال�شيء �سيحدث مع �أبنائه �أو �أهل بيته.
�إذا كان يحدث مع امل�شاهري العاديني ،فهو يحدث من باب �أَ ْو َل مع
م�شاهري الدعاة وامل�صلحني ،ومن باب �أَ ْو َل و�أَ ْو َل مع الر�سل والأنبياء.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
خنادق حلماية �أهل بيت النبي -عليه ال�صالة وال�سالم - َ ال�سورة حتفر
ﻜﺘ
من هذه الطبيعة الب�شرية ،حلمايتنا من التمادي يف ذلك ،من النظر لهم
بعني جتعلهم لي�سوا من الب�شر؛ لأن هذه النظرة بالذات هي التي ت�سيء لهم
ﺐ ﻟﻠﻨ
(األحزاب.)33 :
ﺯﻳﻊ
ال ميكن لدور البيت الرتبوي -دور االقتداء والتعليم � -أن يكون ً
فاعل
ومتفاعل عرب الع�صور �إن مل يكن رج�س هذه النظرة الت�ضخيمية قد زال. ً
ال ميكنك � ً
أ�صل �أن تقتدي ب�شخ�ص �أو تتعلم منه �إن كنت تعامله على
�أ�س�س غري ب�شرية.
و�أهل البيت -بالتعريف -هم َمنْ حملوا بيت النبوة لنا ،ب�أخالقه
و�سلوكياته ،والتعامل معهم على �أ�س�س ت�ضخمهم وحتا�سبهم على طبيعتهم
الب�شرية يعطل عملية الرتبية نف�سها.
- 218 -
سورة األحزاب
نوعا من احلماية
اخلنادق التي ُو ِ�ض َعت هنا يف ال�سورة ،والتي حققت ً
لأهل بيته عليه ال�صالة وال�سالم ،كانت �ضرورية جلعل دور �أهل البيت
الرتبوي �أكرث جناع ًة وتركيزًا.
***
و�سورة الأحزاب هي التي و�صفته -عليه ال�صالة وال�سالم -بال�سراج
املنري.
ْ َ ً َ شا َونَذ ً َ َ ُّ َ َّ ُّ َّ َ ْ َ ْ َ َ
اك َشاه ًِدا َو ُمبَ ِّ ً
ِيرا َ وداعِيا إِل اهلل بِإِذن ِ ِه }يا أيها انل ِب إِنا أرسلن
ﻋﺼ
س ًاجا ُمنِ ًريا{ (األحزاب .)46 :45
ﲑ ﺍﻟ َو ِ َ
�سراجا من ًريا نحتاجه �أثناء حفر اخلندق ،يف الظلمة ،بينما نتلم�س
ً
طريقنا للخروج.
ﺸﺮ
�سراجا من ًريا ،رغم �أننا مل نتعامل معه على هذا الأ�سا�س يف �أكرث
نعمً ،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الأحيان.
ﺯﻳﻊ
***
وهي ال�سورة التي نزل فيها الأمر بال�صالة على النبي -عليه ال�صالة
وال�سالم .-
َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُّ َ َ َ َّ ِّ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ ُّ َ َ ْ َ ِّ ُ َّ
ِين آمنوا صلوا علي ِه َوسلموا
}إِن اهلل وملئ ِكته يصلون ع انل ِب يا أيها ال
َ
ت ْسل ًِيما{ (األحزاب.)56 :
ﻋﺼ
«ال�صالة على النبي» هي اخلندق الذي مينعنا من ال�سقوط هنا �أو
ﲑ ﺍﻟ
هناك.
ﻜﺘ
كيف؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لأن ال�صالة على النبي هي دعاء له� ،أي �إنك تدعو اهلل له عليه ال�صالة
ﺯﻳﻊ
وال�سالم.
ال ميكنك �أن ت�صلي على النبي و�أن ت�صلي له.
جمرد كون �أعظم عبادة ترتبط به عليه ال�صالة وال�سالم هي الدعاء
له؛ فهذا �أمر يحمي مكانته من الغلو.
على الأقل من ناحية التعبد.
***
َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ
ي أن ي ِملنها َوأشفق َن
ﺸﺮ
ﻋﺼ
�أ�ضعف �أو �أكرث ً
جهل �أو �أقبح.
ﲑ ﺍﻟ
يف احلالتني ،هذه الأوهام ميكن �أن ت�أخذ �صاحبها �إىل هاويته ،لي�س
ﻜﺘ
مبا�شر ًة بالت�أكيد ،لكن يف الطريق �إىل الهاوية ثمة �إ�شارات �إىل ما هو قادم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
نرى ذلك كث ًريا مع �أ�شخا�ص حولنا نعرفهم ويعرفوننا ،رمبا نراه �أحيا ًنا
مع �أنف�سنا� ،أحيا ًنا ننتبه �إىل الإ�شارات املحذرة فنم�سك اللجام ،و�أحيا ًنا ال
ﺸﺮ
طرف �أوهام القوة وال�ضعف تلك تعتا�ش على بع�ضها البع�ض ،مثل َ
ﺯﻳﻊ
ملخ�ص ما �أ�شارت �إليه الآيات �أن �سب�أ كانت ت�شهد ازدها ًرا اقت�صاد ًّيا
كب ًريا ،قائ ًما ب�شكل كبري على تنوع منتجاتها الزراعية ،ومن َث َّم الإجتار
بهذه املنتجات ،وكانت الرحلة التجارية التي تبيع منتجات �سب�أ متر بطريق
فيه قرى ظاهرة((( ،وهذا يعني وجود مراكز مدنية طيلة الطريق على نحو
يجعل الطريق �آم ًنا؛ �إذ �إن ُق َّطا َع الطرق ال ميكنهم غزو قوافل التجارة �إال
عندما متر يف طريق مقفر بعيد.
َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ ُ ً َ َ ً َ َ َّ ْ َ َ َّ
الس ْ َ
ي }وجعلنا بينهم وبي القرى ال ِت باركنا فِيها قرى ظاهِرة وقدرنا فِيها
َ َ َ َ َ َ َّ ً
اما آمن َ ِس ُ
ﻋﺼ
ني{ (سبأ)18 : ِِ ريوا فِيها ل ِال وأي
ﲑ ﺍﻟ
ورغم ميزة هذا الأمر� ،إال �أنه ميكن �أن يكون عي ًبا يف ح�سابات من
ﻜﺘ
ورفع ال�سعر ،ميكن ل ٍّأي كان �أن يجلب نف�س الب�ضاعة من م�صدرها الأ�صلي
عندما يكون الطريق �آم ًنا(((.
ﻭ ﺸﺮ
من الأرباح.
َ َ َْ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ
ارنا َوظلموا أنفسه ْم فجعلناه ْم أحادِيث َوم َّزقناه ْم}فقالوا ربنا باعِد بي أسف ِ
ُ ِّ َ َّ َ ُ ُ َّ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ
ور{ (سبأ.)19 : ٍ ك ش ار
ٍ بص ِك ل ات
ٍ ك ممز ٍق إِن ِف ذل ِك لي
ﻋﺼ
َ َ َُُ لَِيل َوج َفان َك ْ َ َْ َ ُ َ َُ َ ََ ُ ْ ََ َ َََ َ
اتور را ِسي ٍ
ٍ د ق و اب
ِ و ِ ٍ اريب وتماث
ﲑ ﺍﻟ }يعملون ل ما يشاء مِن م ِ
ْ َ
َّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ً َ َ ٌ ْ َ َ َّ
ور فلما قضينا علي ِه الم ْوت الشك ُ اعملوا آل داوود شكرا وقلِيل مِن عِبادِي
ﻜﺘ
ْ ُّ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َّ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ُ َ َ َّ َ َّ َ َ َّ َ
الن أن لو كنوا ت ِ ما دلهم ع موت ِ ِه إِل دابة الر ِض تأكل مِنسأته فلما خر تبين ِ
ْ ْ َْ َُ َ ْ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ
ون ال َغ ْي َب َما لِ ُثوا ِف ال َع َذ ِاب ال ُم ِه ِني{ (سبأ .)14 :13يعلم
ﺸﺮ
بطريقة ما على بقية الب�شر ،و َد َف َع ُه ْم هذا �إىل تو ُّهم �أنهم الأعلم ،بل دفعهم
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
هذا �إىل ت�صور �أن علمهم ال حدود له� ،إىل �أن ا�صطدموا بعدم معرفتهم
بوفاة �سليمان رغم مرور بع�ض الوقت على ذلك.
يحدث هذا كث ًريا اليوم ،حت ُّول الإميان ب�أن العلم ال حدود لقدراته و�أنه
قادر على الرد على كل الأ�سئلة و�إيجاد كل احللول ،هذا الوهم �شائع ج ًّدا
اليوم ،وهو من �أ�سباب الإحلاد اجلديد ،ثمة هاوية تنتظر ه�ؤالءـ مع �أ�سئلة
يتجاهلونها � ًأول لأنهم يعرفون �أن العلم -بطبيعته -ال ميكنه �أن يجيب
عليها ،ثم مي�ضون �إىل ما �أبعد من ذلك ،يقررون �أن الال جواب هو جواب
بحد ذاته.
- 224 -
سورة سبأ
�إنه وهم �آخر من تلك الأوهام التي يعتا�ش عليها البع�ض ،ريثما ُتودي
بهم �إىل هاوية ما.
***
على ُب ْع ِد �آيات من كل هذا �سرنى ذلك احلوار:
َْ َ َُ ُ َّ ُ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ِّ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َْ ََ
جع بعضه ْم إِل بع ٍض الق ْول يقول }ولو ترى إ ِ ِذ الظال ِمون موقوفون عِند رب ِهم ير ِ
بوا اس َت ْك َ ُ
َ َ َّ َ ْ
ني قال الِين بوا ل َ ْو َل َأ ْن ُت ْم لَ ُك َّنا ُم ْؤمن َ
اس َت ْك َ َُّ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ ْ
الِين استض ِعفوا ل ِلِين
ِِ
ْ ُ ُ ْ
ك ْم بَل ك ْن ُت ْم مرم َ َ َ ُ ْ َُ َْ َ ْ َّ َ ْ ُ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ
َ
ِني َ ِ ِين استض ِعفوا أن ُن صددناك ْم ع ِن الهدى بعد إِذ جاء ل ِل
ﻋﺼ
ك ُفرََ َ َ َّ َ ْ ُ ْ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َّ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ
وقال الِين استض ِعفوا ل ِلِين استكبوا بل مكر اللي ِل وانلهارِ إِذ تأمروننا أن ن
ﲑ ﺍﻟ
َ َْ َّ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ
َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ً َ َ ُّ
بِاهلل ونعل ل أندادا وأسوا انلدامة لما رأوا العذاب وجعلنا الغلل ِف أعن ِ
اق
ﻜﺘ
َّ َ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ
ون{ (سبأ .)33 :31 الِين كفروا هل يزون إِل ما كنوا يعمل
ﺐ ﻟﻠﻨ
باجلميع ،والأغالل يف النهاية ت�سحب اجلميع ،ال فرق كبري بني متوهم
بالقوة ومتوهم بال�ضعف ،الكل جمرم باجلرمية ذاتها لكن ب�أدوات خمتلفة.
وتنتهي ال�سورة بخامتة موحية ج ًّدا ،جتعلنا جمي ًعا يف مواجهة هذه
ال�سب�أ التي قد ن�سكنها دون �أن نعلم ،جتعلنا نراجع �أوهامنا التي تع َّودنا
التعامل معها على �أنها حقائق ال تقبل ال�شك.
احلق يف مواجهة الباطل ،يف مواجهة الوهم الذي ال يبدئ وال يعيد.
ُ ْ َ َ ْ َ ُّ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ ِّ َ َّ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َّ َ ِّ َ ْ ُ
الاطِل وب قل جاء الق وما يبدِئ }قل إِن رب يقذِف بِالق علم الغي ِ
َ ُ ُ
َوما ي ِعيد{ (سبأ .)49 :48
َ َّ ِّ َّ ُ َ ٌ ََْْ ُ َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ ُّ َ َ َ ْ
ل َرب إِنه س ِميع ت فبِما ي ِ
وح ِإ }قل إِن ضللت فإِنما أ ِضل ع نف ِس َوإ ِ ِن اهتدي
ْ َ َ َ َ َْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ َُ ُ َقر ٌ
يب{ (سبأ .)51 :50 ر
ٍ ِ ٍ ق نك م ِنم وا ِذ خ أو ت و ف لف واع ز
ِ ف ذِ إ ىر ت ولو يب ِ
الوهم مكان قريب ج ًّدا ،تلك الأوهام التي تقودنا �إىل الهاوية قريبة
ج ًّدا منا� ،أقرب مما نتخيل ،هي يف داخلنا ،يف �أعماقنا.
َ َّ َ َ ُ
} َوقالوا َآم َّنا ب ِ ِه َوأن ل ُه ُم اتلَّ َن ُاو ُش م ِْن َم َك ٍن بَ ِع ٍيد{ (سبأ.)52 :
ﻋﺼ
الوهم بد�أ قري ًبا ،ثم قادنا �إىل بعيد� ،إىل هاوية �سحيقة ال ر َّد ي�أتي منها
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
وال جواب.
َ َ
ِيل بَيْ َن ُه ْم َو َب ْ َ ْ َ َ َ ْ َُْ ََْ ُ َ َْْ ََْ ََُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِ ٍ
ذلك ال�شك املريب ،قد يكون هو هذا الوهم الذي ينزلق البع�ض �إليه.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
وهم مزخرف �آخر وهم قوة �أو �ضعف ما� ،أو �أي ْ
يف حياة كل منا �سب�أ ماْ ،
يع ِّبد طريقنا �إىل الهاوية.
يف حياة كل منا خطوط طول وخطوط عر�ض حتاول �أن تقودنا �إىل �سب�أ
ما.
املهم �أن نكون واعني مبا هو ،وما هو حق.
منذ �أن تبد�أ رحلة حياتنا وهناك خيارات حتتِّم علينا �أن نحدد موق ًفا
جتاهها.
ﻋﺼ
منذ البداية املبكرة لها �إىل نهاية الرحلة
ﲑ ﺍﻟ
َ ََ ُ ْ ْ َُ ُ ْ ُْ َ ُ َ َ َ ُ َْ ً َ َْ ُ ْ ُْ َ
اب ث َّم مِن نطف ٍة ث َّم جعلك ْم أز َواجا َوما ت ِمل مِن أنث } َواهلل خلقكم مِن تر
ﻜﺘ
ََ
ع اهلل ي َ ِس ٌ
ري{(فاطر.)11 :
ﺸﺮ
يف هذه الرحلة ،لو نظرنا لها من بعيد دون تفا�صيل� ،سرنى �أن الأمر
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ميكن �أن ُي ْختَزَ ل -على الأقل يف �أجزاء كبرية منه � -إىل �أن تكون هنا �أو
ﺯﻳﻊ
هناك� ،أن تكون مع احلق �أو الباطل� ،أن حتدد موقفك �إن كنت معه عز
وجل� ،أي مع نف�سك.
حتالفت �ضد نف�سك ،واتخذتَ نف�سك عد ًّوا.
َ �أو �أن تكون قد
َُْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َّ َّ ْ َ َ َ ُ ْ َ ُ ٌّ َ َّ ُ ُ َ ُ ًّ َّ َ َ ْ ُ
}إِن الشيطان لكم عدو فاتِذوه عدوا إِنما يدعو حِزبه ِلكونوا مِن أص ِ
اب ح
َّ
ري{ (فاطر.)6 :الس ِع ِ
من �أجل القدرة على حتديد املواقف يجب �أن منيز بني ما هو خمتلف،
وما هو �ضد.
- 227 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
�أ�صحاب ال�سعري.
ﲑ ﺍﻟ
ْ ُ ٍّ َْ ْ َ َ َ َ ْ ٌ َُ ٌ َ ٌ َ َ ُُ َ َ ْ ٌ ُ َ ٌ َ َ َْ َ
شابه َوهذا مِلح أجاج َومِن ك ان هذا عذب فرات سائ ِغْ }وما يست ِوي الحر ِ
ﻜﺘ
البحران خمتلفان ،من ال�سهل ج ًّدا على من مل يعرف واحدً ا منهما �أن
ﻭ
يت�صور �أن هذا الذي مل يعرفه ،املختلف عما عرفه ،هو �ضد ،لكن اختالف
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
البحرين مل يكن اختالف ت�ضاد ،كان جمرد تدرج يف �صورة واحدة ،نغفل
عن كلها فتفوتنا الفكرة.
ْ َ َ ُ ٌّ َ ْ َّ ْ َ َ َّ َّ ْ }يُول ُِج اللَّ ْي َل ف انلَّ َهار َويُول ُِج انلَّ َه َ
ار ِف اللي ِل َوسخ َر الشمس َوالقم َر ك ي ِري ِ ِ
َ َْ ُ َ ْ َ ُّ ُ ْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ ُ ََ ُ َ
ِلج ٍل مس ًّم ذل ِكم اهلل ربكم ل الملك والِين تدعون مِن دون ِ ِه ما يملِكون مِن
ق ِْط ِم ٍري{ (فاطر.)13 :
معاك�سا
ً الليل والنهارَ ،ي ْب ُد َوان خمتلفني ج ًّدا ،يبدو كل منهما لو كان
متاما ،لكن هذا ما تراه من قريب فح�سب ،عندما تكون داخل حدود. للآخر ً
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ ور{ (فاطر .)22 :19 من ِف الق ِ
ب
هذه �أ�ضداد كاملة ال ن�سبي فيها وال تد ُّرج ،وعليك �أن حتدد موقفك،
ﻜﺘ
هل تختار العمى �أم الب�صرية؟ هل تختار الظلمات �أم النور؟ هل تختار �أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
دوما� ،أن تكون م�سرتخ ًيا حتت الظل� ،أم عليك �أن
تبقى يف منطقة الراحة ً
حت�سم �أمرك ومت�ضي �إىل ما يجب �أن مت�ضي �إليه ولو كان يف منتهى َ
ﺸﺮ
احلر؟
َّ َْ
}إ ِ ْن أن َت إِل نَذ ٌِير{ (فاطر.)23 :
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
هنا الإنذار ،ر�سالة تطلب منك �أن حتدد موقفك مما يدور حولك،
ميكنك �أن تختار � َّأل ترى �شي ًئا� ،أن تغم�ض عينيك� ،أن تختبئ يف الظالم..
حتت الظالم ..يف الظالل� ،أن تكون الظالل عنوانك الدائم الذي ال
ت�ستطيع اخلروج منه.
وميكنك �أن تختار الب�صرية� ،أن تنزع عن عينيك وعقلك كل عوائق
الر�ؤية والفكر ،و�أن تختار �أن يغمرك النور ً
بدل من �أن تغط�س يف الظلمة،
و�أن تخرج عن مناطق اعتيادك وراحتك �إىل قارات العمل والتغيري.
خيارات كهذه ال ميكن �أن يكون موقفك منها « َب ْ َي َب ْيَ» ،ال ميكن �أن
تكون رماد ًّيا هنا ،ال ميكن �أن ت�ضع قدمك يف منطقة والقدم الأخرى يف
أ�صل خيار كهذا. املنطقة امل�ضادة ،ال ف�صام هنا ،ال يوجد � ً
هنا ثمة قرار حا�سم يجب �أن ُيت ََّخ َذ.
هذا القرار وبهذا االجتاه ،هو جزء من الفطرة الإن�سانية ،كيف؟ لأن
العمى ،الظلمات ،الظل؛ هي خيارات تقود �إىل املوت يف �آخر املطاف ،طبيعة
احلياة الإن�سانية وال�صراع امل�ستمر من �أجل البقاء يتطلب �أن حتدد موق ًفا
ﻋﺼ
فيه احلركة الواعية مبا حولك ،قد تقودك احلركة �إىل الهالك � ً
أي�ضا، ﲑ ﺍﻟ
لكنها حتتوي � ً
أي�ضا على احتمالية النجاة� ،أما البقاء يف الو�ضع ال�ساكن؛
ﻜﺘ
يف العمى والظلمات والظل ،فهي توقيع م�س َبق على ر�سالة االنتحار ،مهما
ﺐ ﻟﻠﻨ
طال الأمد.
ﺸﺮ
لذا كانت املقارنة النافية بني الأموات والأحياء ،هي املقارنة املتممة
ملقارنات العمى -الب�صرية ،الظلمات -النور ،الظل َ -
احلرور.
هذا القرار الذي نحدد فيه موقفنا ،هو جزء من الفطرة التي �أودعها
َْ َّ َ َ َ
ات َوال ْر ِض{ الذي تبتدئ ال�سورة باحلمد له يفاهلل فينا} ،فاط ِِر السماو ِ
هذه ال�صفة حتديدً ا� :أنه فاطر كل �شيء ،والفاطر هو الذي ابتد�أ كل �شيء،
كما لو �أن احلمد هنا يتجه هلل الذي و�ضع هذا القانون وابتد�أ فيه كل �شيء؛
ال�سماوات والأر�ض ،ومن �ضمنها نحن.
هذا االختالف املتنوع املتدرج هو �سنة اهلل يف خلقه ،وقدرة النا�س -
بع�ضهم على الأقل -على متييز هذا االختالف عن االختالف املت�ضاد هو
منبع خ�شية اهلل ،اخل�شية التي تثمر حتديدً ا �صائ ًبا للمواقف بني اخليارات
ﻋﺼ
املتنوعة.
ﲑ ﺍﻟ
يف النهاية� ،أغلب اخليارات من النوع املف�صلي ميكن اختزالها �إىل
ﻜﺘ
ْ َ
اس أ ْن ُت ُم ال ُف َق َر ُ ْ
ال ِم ُيد{ (فاطر.)15:
ن َاء إِل اهلل َواهلل ُه َو ال َغ ِ ُّ َ ُّ َ َّ ُ
}يا أيها انل
ﺸﺮ
عليك �أن حتدد موقفك ،هل تنحاز �إىل فقرك الذي هو جزء �أ�سا�سي من
ﻭ
طبيعتك الإن�سانية ،املفتقرة �إىل الكمال بالتعريف؟ �أم تذعن �إىل احلقيقة
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ك ٌّل يحمل ثقله بنف�سه ،يحمل قراراته ومواقفه ونتائجه ،من �سيتحرى
ال�صواب �سينفع نف�سه � ًأول..
�أدا�ؤنا كب�شر �سيختلف يف امتحان حتديد املواقف هذا.
ُْ ْ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ
ِين اصطفينا مِن عِبادِنا ف ِمنه ْم ظال ٌِم ِلَف ِس ِه َومِنه ْم}ثم أورثنا الكِتاب ال
َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ٌ َ ْ ُ ْ َ ٌ َْ
ال ْ َ
ات بِإِذ ِن اهلل ذل ِك ه َو الفضل الكبِ ُري{(فاطر.)32 :ي ِ مقت ِصد ومِنهم سابِق ب ِ
بع�ضنا �سيكون ظاملًا ،ظاملًا ملن؟ لنف�سه � ًأول ،كل ظلم للآخرين هو ظلم
للنف�س � ًأول؛ لأنه انحياز لطبيعة ب�شرية مفتقرة �إىل الكمال� ،إنه الرهان
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ على اخلا�سر.
ﻜﺘ
يف اخلريات؟ لي�س � ٌّأي منا ،كلنا يف النهاية جنل�س يف قاعة االمتحان
كممتحنني ،لكن البع�ض منا يت�صور �أن له احلق �أن يوزع نتائج االمتحان
قبل انتهائه وقبل ت�صحيح النتائج.
يف النهاية ،وا�ضع االمتحان وحده -عز وجل -هو الذي يحدد َم ِن
املقت�صدَ ،م ِن الظاملَ ،وم ِن ال�سابق باخلريات ،ومن املحتمل ج ًّدا �أن من
ن�صبوا �أنف�سهم كموزعني للنتائج يكونون يف خانة الظاملني ،وهو عز وجل َّ
أي�ضا بحق كاتب هذه ال�سطور وقارئيها كذلك.�أعلم ،كما �أن ذلك حمتمل � ً
- 232 -
سورة فاطر
ﻋﺼ
دوما ،رمبا دفعوا ثم ًنا غال ًيا نتيجة حتديدهم ملواقفهم ،ولكنهم و�صلوا �إىل
ﲑ ﺍﻟ ً
اجلنة يف نهاية املطاف.
ﻜﺘ
ُ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ ً َ ْ َ َّ
ي الِي كنا نعمل أ َول ْم }وهم يصط ِرخون فِيها ربنا أخ ِرجنا نعمل ص ِ
الا غ
ﻭ
َ ْ َّ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ُ ُ َ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ َّ
ﺍﻟﺘﻮ
نعم ْرك ْم ما يتذك ُر فِي ِه من تذكر وجاءكم انلذِير فذوقوا فما ل ِلظال ِ ِمني مِن
ﺯﻳﻊ
حتديد املواقف هذا -بني ثنائيات متعار�ضة -هو جزء من نظام هذا
الكون كله.
َْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َْ َ َ َُ ْ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َّ
ات َوال ْرض أن ت ُزول َول ِئ زالَا إِن أمسكهما مِن أح ٍد }إِن اهلل يم ِسك السماو ِ
ْ َ ْ َّ ُ َ َ َ ً
ِيما َغ ُف ً
ورا{ (فاطر.)41: مِن بع ِده ِ إِنه كن حل
هل من فرار من هذا؟ من �ضرورة اتخاذ موقف ،من �أن تكون جمموعة
هذه املواقف �أ�سا�سية يف حتديد م�صرينا الح ًقا.
َ ْ ً َ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ َّ
ت تد ل ِسن ِ ت اهلل تبدِيل ولن ِ تد ل ِسن ِ }فهل ينظرون إِل سنت الول ِني فلن ِ
َ ً
اهلل تْ ِويل{ (فاطر.)43:
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ال فرار ،هذه هي �سنت الأولني والآخرين� ،سنة اهلل يف خلقه.
ﻜﺘ
َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ْ ُ َ ِّ ُ َْ ُ َ ُ
كن يؤخ ُره ْم } َولو يؤاخِذ اهلل انلاس بِما كسبوا ما ترك ع ظه ِرها مِن داب ٍة ول ِ
َ ُ َ َ َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ
إِل أ َج ٍل ُم َس ًّم فإِذا َج َاء أ َجل ُه ْم فإِ َّن اهلل َك َن ب ِ ِع َبا ِده ِ بَ ِص ًريا{(فاطر.)45 :
ﺸﺮ
لكنه لن ي�ؤاخذهم ،بل يرتك لهم الفر�ص الثانية ،العمر كله فر�ص
ﻭ
ثانية يف النهاية ،ي�ؤخرهم �إىل حني �أن ُت ْ�س َت ْن َفد هذه الفر�ص ،لي�سوا دوا ًّبا،
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
اعتدنا على �أن ُت ْق َر َ�أ هذه ال�سورة على املوتى ،ال دليل قوي على �صحة
هذا الفعل ،وقد فهم الأولون الدليل ال�ضعيف على �أنه قراءة لهذه ال�سورة
ﻋﺼ
على املحت�ضر ،ولي�س امليت الذي مات وانتهى عمله.
ﲑ ﺍﻟ
رغم هذا ،مل �أفهم ملاذا �سورة ي�س حتديدً ا هي التي ُت ْق َر�أ على امليت
ﻜﺘ
�أو حتى املحت�ضر ،ما الذي مييزها حتى يجعلها خا�صة باملوت؟ فيها ذك ٌر
للموت نعم ،لكن لي�س �أكرث من �سور �أخرى كثرية ،املوت وما بعد املوت
ﺐ ﻟﻠﻨ
من العنا�صر الثابتة يف الن�سيج القر�آين ،ويندر �أن تخلو �سورة من ذكره،
ﺸﺮ
ما الذي فيها �إذن؟ ملاذا ارتبطت يف �أذهان النا�س باملوت حتى �صارت
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
الك ِِيم إِنَّ َك ل ِم َن ال ُم ْر َسل َِني{ (يس .)3 :2
ﲑ ﺍﻟ ِ
كما لو �أنك جتد يف نف�سك �شي ًئا يجمعك معه عليه ال�صالة وال�سالم،
ﻜﺘ
مفتاحا لنا
لي�س هذا فقط ،لكن �إن�سانيته عليه ال�صالة وال�سالم �ستكون ً
ﺸﺮ
مرئية ،هي على الأغلب� :أغالل نف�سية وعقلية جتعلهم م�شدودين �إىل
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
وعر�ضا ،لكن �أب�صارهم �إىل طولالأعلى؛ لأنهم رمبا يعي�شون حياتهم ً
ﻭ
الأ�سفل؛ لأنهم بب�ساطة مل يعرفوا �أن ثمة ُب ْعدً ا �آخر غري الطول والعر�ض:
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
العمق.
َ َ
َ َْ ُ ْ ُ ْ ُْ ُ َ ََ ْ
َ ًّ ْ َ ْ َ ًّ َ
َ َ َ َ ْ َْ ْ ْ
ون{ ِيه ْم سدا َومِن خل ِف ِه ْم سدا فأغشيناهم فهم ل يب ِص }وجعلنا مِن ب ِ
ي أيد ِ
(يس.)9 :
�سد من �أمام ،و�سد من اخللف ،ال يرون القادم ،وال يرون املا�ضي ،كيف
ميكن لوعي �أن يت�شكل عندما ت� َؤخذ منه �إمكانية النظر �إىل الأمام واخللف،
ال نظر �إال �إىل القاع.
لكن هذه ال�سدود ،ومن قبلها الأغالل ،الآيات تقول عنها «جعلنا»� ،أي
�إن ه�ؤالء -يف هذه احلالة -ال حول لهم وال قوة ،اهلل -عز وجل -هو الذي
جعل هذه الأغالل يف �أعناقهم وهذه ال�سدود بني �أيديهم ومن خلفهم.
�إنهم بطريقة ماُ ،م َ�س َّ ُيون على طريق القطيع.
لكن هذا الت�صور نا�شئ عن خلط يف �أفهامنا بني «اجلعل» و«اخللق»،
ال�سورة مل تقل� :إن اهلل خلق يف �أعناقهم هذه الأغالل �أو ال�سدود بني
�أيديهم ومن خلفهم ،بل قالت� :إنه جعلها.
ﻋﺼ
ما الفرق؟ ﲑ ﺍﻟ
الفرق �أن اجلعل يعني ت�صيري �أو توظيف �شيء معني موجود من قبل
ﻜﺘ
هذا اجلعل؛ ليكون يف وظيفة معينة ،بينما اخللق يعني �إيجاد هذا ال�شيء
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً (((
�أ�صل.
ﺸﺮ
�إذن الأغالل وال�سدود كانت موجودة ب�صيغة ما ،والفعل الإلهي كان �أنه
ﻭ
و�أ�صبح:
َ َ َ ََْ
َ َ َ ٌ َ ْ ْ ََُْْ ْ ْ ُْ ْ ُْ ُْ ُ َ َ
ون{ (يس.)10 : }وسواء علي ِهم أأنذرتهم أم لم تنذِرهم ل يؤمِن
كل املوتى �سيحييهم اهلل ليواجهوا هذا االختبار :هل كانت حياتهم مو ًتا
ﻋﺼ
�آخر قبل �أن ميوتوا؟ هل دلت �آثارهم على حياة غفلة كاملوت؟ �أم كانت
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لكن كما مع كل امتحان ،لن نعرف الإجابة �إال الح ًقا ،حياتنا كلها
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
نق�ضيها يف قاعة االمتحان ونحن نحاول �أن نقدم �أجوبتنا؛ بوعي �أحيا ًنا
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
القرية ،ولكن �أهلها ميانعون ،لقد ت�شاءموا من الر�سل وما يدعون �إليه ،يف
ﲑ ﺍﻟ
الوقت الذي يتم�سكون فيه مب�صدر ال�ش�ؤم :بحياتهم املنغم�سة يف كل ما هو
ﻜﺘ
لكن ال�سورة ال ترتكنا مع الر�سل ،بل متر بهم ومت�ضي �إىل �شخ�ص
ﺸﺮ
عادي ،جمرد رجل �آخر يف املدينة ،لكنه حمل احلقيقة التي ي�ؤمن بها �إىل
ﻭ
َّ ُ َ ْ
ِني اتبِعوا من ِ }وجاء مِن أقص المدِين ِة رجل يسع ق
َ ُ َ ُ َ َ َ َّ ُُ ْ َ َ ون َ و َما ِ َ َ َْ َُ ُ ْ َ ْ ً َ ُ ْ ُ َْ ُ َ
ل ل أعبد الِي فط َر ِن َوإ ِ ْل ِه ت ْرجعون ل يسألكم أجرا وهم مهتد
َ ً ْ ُ ْ َّ ْ َ ُ ُ ٍّ َ ُ ْ َ ِّ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ً َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ ُ ْ ُ
ون ِ ذ ق
ِ ن ي لو ا ئ يش م ه ت اع ف ش ن ع ن ِ غ ت ل ض ِ ب ن ح الر ن در
ِ ِ ِي ن إ ة ِه لآ ه
ِ ِ نود أأتِذ مِن
ِّ َ ْ ُ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ُ ِّ ً َ َ َ ُ
ون{ (يس .)25 :20 ني إِن آمنت بِربكم فاسمع ِ إِن إِذا ل ِف ضل ٍل مبِ ٍ
جمرد رجل �آخرـ قد ي�شبهنا جمي ًعا ،رمبا بال مالمح مميزة مثل �أغلبنا،
لي�س بر�سول ،لكنه �آمن مبا قالته الر�سل� ،آمن بحياة يف عمق احلياة وبعد
احلياة ،وجاء ي�سعى من �أق�صى املدينة وهو يحمل ما يرى �إىل النا�س.
ِّ َ َ َ َ َ َ َْ َُ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ُ
النة قال يا ْلت ق ْو ِم يعلمون بِما غف َر ِل َرب َوجعل ِن م َِن }قِيل ادخ ِل
ِني{ (يس )27 :26 ال ْ ُم ْك َرم َ
ْ ُ
لقد انتهى الأمر فيما يخ�ص امتحانه� ،صدرت نتيجته النهائية� :أن }ادخ ِل
َ َْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ َّ َ
ون{ ،لو �أنهم كانوا قد خرجوا من النة{ ،ماذا كان رده} :يا لت قو ِم يعلم
�أغاللهم ،لو �أنهم نظروا �إىل الأعلى ،لو �أنهم �آمنوا بالبعد الأعمق للحياة.
لقد حمل معه ذلك ال�شعور باحل�سرة عليهم حتى �آخر العمر ،ال ،بل بعد
�آخر العمر ،يف الآخرة .ال ميكن �أن يحدث ذلك من دون �أن يكون هناك
ﻋﺼ
حب لهم ،ولي�س فقط حب للفكرة التي يحملها.
ﲑ ﺍﻟ
َْ َْ ُ َ َ ُ َّ
ْ ْ َ ُ َ َ َ ْ ْ
َ َ ْ َ ً ََ
ون{ (يس.)30: ول إِل كنوا ب ِ ِه يسته ِزئ }يا حسة ع ال ِعبا ِد ما يأت ِ
ِيهم مِن رس ٍ
ﻜﺘ
حتى النهاية� ،سيكون هناك هذا ال�شعور باحل�سرة ،لو �أنهم �سمعوا ،لو
ﺐ ﻟﻠﻨ
�أنهم رفعوا �أب�صارهم �إىل الأعلى ،لو �أنهم �أدركوا معنى احلياة قبل �أن
ﺸﺮ
ميوتوا.
ﻭ
َ َ َْ َ ٌ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ًّ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ
ﺍﻟﺘﻮ
} َوآية له ُم ال ْرض الميتة أحييناها َوأخ َرجنا مِنها حبا ف ِمنه يأكلون َ وجعلنا
ﺯﻳﻊ
والأزواج � ً
أي�ضا تنبت من هناك ،من نف�س الأر�ض ،ولعل هذه الأزواج
تكون ميتة � ً
أي�ضا �إىل �أن تنتج ،مثل موت الأر�ض التي خرجت منها ،لعل
احلياة يف �أعمق معانيها هو هذا الإنتاج الذي يحقق الهدف من اخللق.
ُ ْ ُ
ون َم َت َه َذا ال َو ْع ُد إ ِ ْن ك ْن ُت ْم َصا ِدق َِني{ (يس.)48 :
ََُ َ
}ويقول
ال يرون �إال ما هو �أدناهم؛ لذا فهم ال ي�ستطيعون فهم الآخرة ،يريدونها
(الآن وهنا) ليفهموها؛ لأنهم ال يفهمون �إال ما هو �آ ٌّ
ين ومبا�شر ،الآن وهنا.
لذلك ي�س�ألون :متى؟
تغي �شيء يف موقفهم،
ﻋﺼ
ولو جاءهم اجلواب مبا�ش ًرا حمددًا التاريخ؛ ملا َّ َ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
***
ﺸﺮ
من بني كل �سور القر�آن ،ف�إن هذه ال�سورة حتديدً ا هي الأكرث التي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�إمام مبني� ،ضالل مبني ،عدو مبني ،خ�صيم مبني ،وقر�آن مبني.
�سبع مرات ،تكررت فيها الكلمة ،كما لو كانت ت�شري لنا �إىل �أهمية �أن
وا�ضحا ،معنى احلياة ومعنى املوت ومعنى ال�ضالل َومنْ هو
ً يكون كل �شيء
عدوك ومن هو خ�صمك.
هناك �أ�شياء يجب �أن تكون وا�ضحة؛ لأن حياتك -وبالتايل �آخرتك -
�ستعتمد عليها.
هناك �أ�شياء عليك �أن حتدد بو�صلتها؛ لأنها �ستحدد �أين �سرت�سو
مراكبك يف النهاية.
***
}يس{.
فلنتذكر �أنها رمبا كانت تعني :يا رجل� ،أو يا �إن�سان.
}يس{ يا �إن�سان ،ال�سورة تقول لك �أن تعي�ش ح ًّقا قبل �أن متوتَّ � ،أل
متوت قبل املوت.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
نحن �أَ ْو َل بقراءتها من املوتى.
ﻜﺘ
ﻋﺼ
تتعلم منه ،ومن َث َّم ت�أخذ دورك يف العمل ،ت�صطف لتعمل.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
فالذكر.
ﺯﻳﻊ
يبدو هذا املعنى �أكرث ات�سا ًقا مع ما �سبق ،ومع جو ال�سورة العام كما
�سرنى.
ْ َ
}فاتلَّ ِ َ
ات ذِك ًرا{.
ال ِ
ﻋﺼ
اال�ستواء يف ال�صف ،احلث على الإ�سراع وامل�ضي ،وبعدها� :أن يبد�أ
ﲑ ﺍﻟ
الذكر ،الذكر بهذا املعنى الذي يت�ضمن الفهم وتبليغ الفهم.
ﻜﺘ
�سورة ال�صافات ت�أخذنا �إىل هذه الثالثية� ،إىل حيث نقف يف ال�صف
ﺸﺮ
الأمامي ،حتثنا على امل�ضي ،ثم تقول :اذكروا جيدً ا ما �سرتون و�ستعون؛
ﻭ
***
ﺯﻳﻊ
دت يف مطلعه ،ال �أبراج هناك ت�ؤثر على حياتنا �إال تلك �أو �صفاتك لأنك ُو ِل َّ
الأبراج التي نبنيها نحن ،والتي ن�ؤثر عليها �أكرث مما ت�ؤثر علينا.
افهم هذا وانطلق بعدها� ،أنت تتعامل مع هذا العامل املرئي وظروفه
وتعقيداته وتداخالته ،ال تعلق ف�شلك �أو تف�سر جناح الآخرين ب�شيء قادم
من عامل �آخر مل يبذل فيه الب�شر جهدً ا.
دخول هذا الفهم اخلاطئ �إىل ثالثية اال�ستواء واحلث والذكر �سيقتل
�أهم معاين الثالثية.
ﻋﺼ
ما هي معاين هذه الثالثية؟ �سرنى.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
كل يف طرف ،فيها ما يجمعها، يف هذا ال�صف �سرنى �أ�شيا ًء متقابلةًّ ،
ﺐ ﻟﻠﻨ
فيها ت�شابه ،ولكن جوهر كل واحدة منها يعاك�س الأخرى ،و�سيكون علينا �أن
ﺸﺮ
�ضمن هذه التقابالت �سرنى �أ�سئلة ُت ْط َرح ظاهرها مت�شابه ،لكن لأن
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
مبقايي�س احلياة اليومية املادية املبا�شرة ،فيجدون �صعوبة يف ت�صديقها �أو
ﲑ ﺍﻟ
عظاما متحللة؟
تخيلها ،في�س�ألون هذا ال�س�ؤال� :أبعد �أن منوت ون�صبح ً
ﻜﺘ
قد نتخيل �أن ال�س�ؤال تكرر كث ًريا يف القر�آن ،لكنه ُذ ِك َر خم�س مرات
ﺐ ﻟﻠﻨ
املرة الأوىل كانت بال�صيغة التي نعرفها والتي تكررت يف بقية املوا�ضع.
ﺯﻳﻊ
َ ً َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ ً
}أإِذا مِتنا َوكنا ت َرابا َوعِظاما أإِنا لمبعوثون{ (الصافات.)16 :
واملرة الثانية حدث فيها تغيري ب�سيط ،لكنه تغيري مهم ج ًّدا ُي ْك ِمل
ال�صورة ،ويجيب عن ال�س�ؤال تلقائ ًّيا.
َ ً َ َّ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ ً
}أإِذا مِتنا َوكنا ت َرابا َوعِظاما أإِنا لمدِينون{ (الصافات.)53 :
مبعوثون � ًأول.
مدينون ثان ًيا.
- 247 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
حياتنا �سوى ح�سابات عاجلة خمتزلة.
ﲑ ﺍﻟ
مبعوثون نعم ،ولكن :مبعوثون لأنهم َم ِدينون.
ﻜﺘ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
يف ال�صف � ً
أي�ضا �سرنى �شجرتني؛ كل واحدة منهما يف طرف م�ضاد
للآخر.
َّ َ َ َ ٌ َّ َ َ ْ َ َ ْ َ ً َّ
ِلظالِم َ َ َ َ َ ْ ٌ ُ ُ ً َ ْ َ َ َ ُ َّ ُّ
ني إِنها شج َرة ِ ل ة ن ِت ف ا اه ن لعج ا نِ إ ِ
وم ق }أذل ِك خي نزل أم شجرة الز
َ َ
ِني{ (الصافات .)65 :62 ط ا
َ ْ ُ َ َ َّ ُ ُ ُ ُ َّ َ
ي الش وس ء ر ه ن أ ك ا هع لط يم
ِ ح
ِ ت ُر ُج ف أ ْصل ْ َ
ال
َْ
ِ ِ ِ
يم َ و َأنْبَ ْت َنا َعلَ ْيه َش َج َرةً م ِْن َي ْقطني َ و َأ ْر َسلْ َناهُ
} َف َن َب ْذنَاهُ بالْ َع َراءِ َو ُه َو َسق ٌ
ِ ٍ ِ ِ ِ
َ َ َْ َْ َ ُ
ون{ (الصافات .)147 :145 إِل مِائ ِة أل ٍف أو ي ِزيد َ
�إنها ال�شجرة التي نبتت على النبي يون�س بعد �أن خرج من بطن احلوت،
قبل �أن يعود ملواجهة املهمة التي ت�صور �أنها م�ستحيلة.
ارتفاعا وبرو ًزا من �شجرة
ً ال�شجرة الأوىل :الفتنة ،رمبا تكون �أكرث
اليقطني ،لكن ارتفاع الأوىل هو الذي يجعلها فتنة ،هو الذي يجعل النا�س
ينخدعون بها ،يعتقدون �أن عل َّوها يجعلها �أف�ضل ،لكن العربة احلقيقية هي
ﻋﺼ
يف الثمار ،يف النتائج ،ولي�س يف االرتفاع.
ﲑ ﺍﻟ
�شجرة اليقطني لي�ست �شاهقة العلو واالرتفاع ،لكنها كانت �شجرة الأمل
ﻜﺘ
ارتفاعا ،فننخدع
ً وكذلك يحدث كث ًريا يف حياتنا ،نرى الأعلى والأكرث
ﺸﺮ
ارتفاعا
ً به وبربيقه ونغفل عن نتائجه وثماره ،وقد نزهد فيما يبدو �أقل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
املرات الأربعة الأوىل كانت ب�صيغة اال�ستثناء:
ﲑ ﺍﻟ
َّ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ َ َْ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ
اب ال ِل ِم َ وما ت َز ْون إِل ما كنت ْم تعملون إِل عِباد
}إِنكم لائ ِقو العذ ِ
ﻜﺘ
َّ َ َ
اد اهلل ال ْ ُم ْخلَص َ َ َ َّ ُ ُ َ َّ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ
ني{ (الصافات .)128 :127 ِ ضون إِل عِب }فكذبوه فإِنهم لمح
ﺯﻳﻊ
ُْ َ َ ْ َّ ُ َّ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ َّ َ َ ً َ َ ْ َ َ
ضون سبحان النة إِنهم لمح ت ِ الن ِة نسبا َولقد علِم ِ }وجعلوا بينه وبي ِ
َ ْ ْ
اد اهلل ال ُمخلص َ َّ َ َ َ َّ َ ُ َ
ني{ (الصافات .)160 :158 ِ اهلل عما ي ِصفون إِل عِب
َْ ْ
هناك من يحاول التحجج ،لو �أن عندنا }ذِك ًرا م َِن ال َّول َِني{؛ لأ�صبحنا
من ه�ؤالء ،من عباد اهلل املخل�صني ،لو �أننا كنا مع الر�سول ،زمن الر�سول؛
لأ�صبحنا مثل ال�صحابة.
مبدئ ًّيا ،لكل مرحلة تاريخية ظروفها ،كما لكل �شخ�ص تف ُّرده الذي ال
يطابق فيه �أحدً ا كما ب�صمته ال تطابق �أحدً ا ،ال �أحد ميكنه �أن يكون ن�سخة
من �شخ�ص �آخر ،وخا�صة من �شخ�ص ينتمي حلقبة تاريخية خمتلفة.
وهذا ال مينع االقتداء ،ال�سري على النهج� ،أن جند الإلهام بهذه
ﻋﺼ
ال�شخ�صيات ،ولكن ال تطابق ،ال ن�سخ كربونية عابرة للزمان واملكان.
ﲑ ﺍﻟ
الأهم من هذا� :إن حجة «لو �أننا كنا يف ذلك الزمان؛ ل ُك َّنا مثلهم» حجة
ﻜﺘ
نا�سا عا�شوا يف تلك احلقبة ،وكانوا على الطرف أ�صل؛ لأن هناك ً �ساقطة � ً
َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
وقد تكون قد َ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
فلننتبه �أن «عباد اهلل املخ َل�صني» تعبري ميكن �أن ي�صف �أي �شخ�ص
دون م�ؤهالت م�سبقة ،ال يتطلب منه �أن يكون ً
ر�سول �أو نب ًّيا �أو �صحاب ًّيا �أو
حوار ًّيا ،جواز املرور �إىل هذه «الفئة» يتطلب الإخال�ص يف العبادة فقط،
ً
لي�س م�ستحيل. �سهل ميكن احل�صول عليه ب�سهولة ،لكنه � ً
أي�ضا لي�س �أم ًرا ً
***
ت�أخذنا �سورة ال�صافات عرب ثالثية« :اال�ستواء واحلث والذكر» �إىل
ق�ص�ص الأنبياء ،لكننا �سرناها هذه املرة من خالل هذه الثالثية حتديدً ا.
�سنبد�أ بنوح ،ثم نذهب �إىل �إبراهيم ،ثم مو�سى وهارون ،ثم �إليا�س ،ثم
لوط ،و�أخ ًريا يون�س.
�أغلب ق�ص�ص الأنبياء نعرفها من �سور �سابقة ،عدا �إليا�س الذي ال ُي ْذ َكر
يف القر�آن �إال هذه املرة.
لكن ما الذي مييز ق�ص�ص الأنبياء يف �سورة ال�صافات عن �سواها؟
ما الذي نراه عرب ثالثية اال�ستواء واحلث والذكر؟
�سرنى �أن كل ه�ؤالء -عدا يون�س -قد ُذ ِك َر ومعه �أهله �أو �أ�سرته �أو
ذريته.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
َ َ َّ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ ْ َ َََ ْ َ َ َ ُ ٌ ََ ْ َ ُْ ُ َ
ﻜﺘ
يم
جيبون ونيناه وأهله مِن الكر ِب ال ِ ِ
ظ ع }ولقد نادانا نوح فلنِعم الم ِ
ْ ْ ُ
َو َج َعل َنا ذ ِّريَّ َت ُه ُه ُم َالاق َِني{ (الصافات .)77 :75
ﺐ ﻟﻠﻨ
د ه
َُ َ
ِيم{ (الصافات .)101 :99 بِغلمٍ حل ٍ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ َّ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ
} َولقد مننا ع موس َوهارون َ ونيناهما َوقومهما مِن الكر ِب الع ِظ ِ
ﺯﻳﻊ
يم
ْ َ
صنَ ُاه ْم ف َكنُوا ُه ُم ال َغ ِالِ َني{ (الصافات .)116 :114 َونَ َ ْ
ََْ ُ َ َ ْ ً َ َ َ َّ ُ َ ْ َ َ َ اس لَم َن ال ْ ُم ْر َسل ََ َّ ْ َ َ
ِني إِذ قال ل ِق ْو ِم ِه أل تتقون أتدعون بعل ِ }وإِن إِل
ِك ُم ْالَ َّول َ
ِني َ ف َك َّذبُوهُ َفإ َّن ُهمْ َ َّ ُ ْ َ َ َّ َ ُ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َْ
ِ وتذرون أحسن الال ِ ِقني اهلل ربكم ورب آبائ
َ َ ٌ ََ َ ْ َََ ْ َ َ َْ اد اهلل ال ْ ُم ْخلَص َ َّ َ َ َُ ْ َ ُ َ
ني وتركنا علي ِه ِف الخ ِِرين سلم ع ِ ضون إِل عِب لمح
ني { (الصافات .)130 :123 إ ْل يَاس َ
ِ ِ
َّ َ ُ ً جع َ َ َ َ
ْ َّ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َّ ُ ً َ َ ْ ُ ْ َ َ
ني ( )134إِل عجوزا ِف } َوإِن لوطا ل ِمن المرسلِني ( )133إِذ نيناه َوأهله أ ِ
ين{ (الصافات .)135 :133 الْ َغابر َ
ِِ
- 252 -
سورة الصافات
لي�س �صدفة �أن يكون هناك ذكر للأهل يف كل هذه ال�سياقات؛ �أ�سرة
�أو �أخ �أو زوجة �أو �آل ،اال�صطفاف � ًأول يكون هنا يف الأ�سرة ،احل�صن الأول
و�أحيا ًنا الأخري يف النهاية ،الأ�سرة هنا مبعناها ال�ضيق :الأخ والزوجة
والأبناء ،ومعناها الأو�سع :الذرية ،الآل.
متاما ،على الأقل عليك �أن جترب � َّأل تكون كذلك� ،أنل�ست وحدك ً
تتم�سك ب�أ�سرتك ومن حولك لأن قوتك تزيد بقوتهم ،كما قوة كل �شخ�ص
منهم تزيد بقوتك ،الأمر ي�شبه بديهيات احل�ساب ،2 =1 +1 .و.4 =2 +2
ﻋﺼ
فلننتبه �أن الأمر هنا يعتمد � ًأول على غريزة �أ�سا�سية من غرائز الب�شر؛
ﲑ ﺍﻟ
التنا�سل والتكاثر ،منذ فجر احلياة ،وهذه الغريزة حترك كل املخلوقات،
ﻜﺘ
كل خملوق يف كل نوع يريد �أن يحفظ نوعه عرب �صراع م�ستمر على البقاء،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ولكي تبقى ف�إن عليك �أن تنتج ن�سخة من نوعك ،تدخل بدورها يف ملحمة
ال�صراع من �أجل البقاء.
ﻭ ﺸﺮ
لكن الأمر هنا يتجاوز بدائية الغريزة التي ن�شرتك فيها مع كل املخلوقات
ﺍﻟﺘﻮ
ً
ﺯﻳﻊ
مرتبطا بحاجاتك �إىل ما هو �أعلى ،مل يعد الأمر جمرد بقاء للنوع ،بل �أ�صبح
أي�ضا ،يف �أن يكون هناك معنى يف هذه الرابطة� ،أن يكون البقاء النف�سية � ً
«نوع ًّيا» و�أن تكون العالقات بني �أفراد هذه الرابطة تربطهم ب�أكرث من
قرابة الدم والعرق والن�سب ،بل بالقيم الأخالقية املح ِّركة للمجتمع ،القيم
التي حتمي املجتمع والتي جتعله ينمو ويتطور يف الوقت نف�سه.
جوهر الأمر هنا �أن غريزة البقاء التي متثل واحدة من خماوف الإن�سان
املزمنة ،تتحول هنا �إىل عن�صر قوة.
ﻋﺼ
لكن ملاذا «يون�س» يختلف عن كل الأنبياء الذين ُذ ِك ُروا يف عدم وجود �أي
ﲑ ﺍﻟ
ِذ ْكر لأ�سرة �أو ذرية يف �سياق ق�صته؟
ﻜﺘ
ال�سبب وا�ضح ،علينا �أن نعرف �أن ذلك قد ال يتي�سر �أحيا ًنا لأي �سبب
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان ،الأمور �ستكون �أكرث �صعوبة عندما تكون وحدك ،لكن هذا ال ي�شرتط
ﺸﺮ
بال�ضرورة ترك املهمة �أو الف�شل ،على العك�س ،جناح يون�س يف جعل قومه
ي�ؤمنون وجعل �إميانهم ينقذهم كان �أم ًرا ممي ًزا له بني �سياقات ق�ص�ص
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الأحداث معه بعدها ،ينتقل من بلد �إىل �آخر ،ال�شيء ذاته بالن�سبة ملو�سى
وهارون ولوط ويون�س.
هناك حركة دائمة ،هجرة ،انتقال من حال �إىل �آخر.
ك�أن هذا يت�سق مع معنى الزجر ،احلث على الإ�سراع؟
***
مل تنته درو�س ال�صا َّفات.
خ�ضم هذه ال�سياقات.
ثمة در�س مهم ج ًّدا يف ِّ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ف�سورة ال�صافات هي ال�سورة الوحيدة التي ُذ ِك َرت فيها ق�صة ر�ؤيا
ﻜﺘ
�إبراهيم بذبح ابنه ،مل ُي ْذ َكر الأمر �أو ترد �إ�شارة له يف �أي �سورة �أخرى.
ﺐ ﻟﻠﻨ
الق�صة جاءت يف �سورة ن�صطف فيها بانتظام ،ونحث على العمل ،ومن
ﺸﺮ
ني
ِ ِ ب ج ِل ل ه ل تو ا ملسأ ا م لف ين ِِ ِن م اهلل اء ِ ِ ِ ِ يا أب
َّ َ َ ْ َ َ
الر ْؤيَا إنَّا ك َذل َِك نْزي ال ُم ْحسن َ
ت ُّ ْ
ْ َ َّ َ َ َ ََ َ
اد ْي َناهُ أ ْن يَا إبْ َراه ُ
ني إِن هذا ِ ِ ِ ِ ِيم قد صدق ِ ون
يم{ (الصافات .)107 :102
َ ْ ْ
َ َ َ ُ َ ل َ ُه َو ْ َ ُ ُ ُ
ْ َ
اللء المبِني وفديناه بِذِب ٍح ع ِظ ٍ
ﻋﺼ
ذاق نعمة وجودهم وتربيتهم و�أن يقفوا بجانبه.
ﲑ ﺍﻟ
ثم الذبح بيديه.
ﻜﺘ
الت�ضحية عظيمة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ال ي�شبه الأمر ابن نوح �أو زوجة لوط ،ال ،ذاك كان خيارهما ،هنا االبن
ﺸﺮ
لعل هذا ال�سياق ي�شري �إىل �أننا قد ن�ضطر يف �أحيان كثرية �أن ن�ضحي
مبا هو عزيز ج ًّدا علينا ،مبا هو جزء منا ،لي�س لأن هذا اجلزء ينبغي
التخل�ص منه ِل َع ْي ٍب فيه ،بل لأن الأولويات حتتِّم تقدمي �أ�شياء �أخرى �أَ ْو َل
و�أَ َهم� ،أن تتخل�ص مما هو عزيز عليك -مثل جزء من قلبك -لأن قيمك
حتتِّم ذلك.
امتحان عظيم ،ن�س�أل اهلل �أن يجنبنا �إياه.
***
- 256 -
سورة الصافات
ﻋﺼ
الب�شرية ،البع�ض ال ميكنه �أن يت�صور �أن هناك ما هو خارج هذه الطبيعة؛
ﲑ ﺍﻟ
لذا فهم يت�صورون الإله مثل الب�شر ،و�أنه -حا�شاه -يتزوج وينجب �إلخ.
ﻜﺘ
الب�شر.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
هذه �أول خطوة للخروج من �سوء الفهم� ،سوء الفهم الذي قد يرتاوح
ﺯﻳﻊ
بني انحراف يف العقيدة ال�صافية نحو ال�شرك �أو نحو الإحلاد الراف�ض
لفكرة اهلل :ما هذا الإله الذي ي�شبه الب�شر؟
***
ٌّ
�صف ا�ستوينا فيه.
وزجر ،حث ،تنبيه انتبهنا له.
وتذكرة لكي نرى كل ما مير بنا من منظار دقيق.
ولي�س �صدفة -حا�شا هلل � -أن تنتهي ال�سورة بهذه الت�سبيحة حتديدً ا:
َ َّ َ ُ َ ُ ْ َ َ ِّ َ ِّ ْ
}سبحان َربك َرب ال ِع َّزة ِ عما ي ِصفون{ (الصافات.)180 :
رب العزة ،املرة الوحيدة التي ُو ِ�ص َف رب العاملني بهذه ال�صفة هي يف
هذه ال�سورة.
العزة ،ن�ست�شعر معانيها �أكرث عندما نكون يف «ال�صف» ،متنبهني لأي
�أمر �أو زجر �أو حث ،ويف قمة اال�ستعداد للذكر.
رب العزة ،نعم �سبحانه.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
خا�صة �أن ال�سورة التالية �ستتحدث عن العزة وال�شقاق.
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
َّ َ َ ََُ
اق{ (ص.)2 :
ﲑ ﺍﻟ كفروا ِف عِز ٍة و ِشق ٍ
ﻜﺘ
بل؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
بل تفيد اال�ستدراك ،تتحدث عن �شيء معني ،فت�ستدرك ،هو �أكرث مما
قلت ومما ت�صورت.
ﺸﺮ
ً
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
لكن ال�سورة تبد�أ هكذا ،دون �أن يكون هناك ما ي�سبق هذه الـ «بل» حتى
ت�ستدرك عليه.
متلب�سا به،
ال ،كان هناك �شيء يف نف�سك ،وال�سورة �ألقت القب�ض عليك ً
َ َّ َ َ
ك َف ُروا ِف ع َِّز ٍة َو ِش َق ٍاق{ (ص.)2 : وقالت لك بو�ضوح} :ب ِل الِين
�ألي�س كذلك؟
«القر�آن ذو الذكر» يقر�أ �أفكارك� ،إن مل تكن تقولها الآن ،فرمبا قلتها
َ َّ َ َ َ
ِين كف ُروا�ساب ًقا� ،أو �ستقولها الح ًقا ،وها هو يقول لك -ا�ستبا ًقا } :-ب ِل ال
ِف ع َِّز ٍة َو ِش َق ٍاق{ (ص.)2 :
نعم� ،إنهم يف عزة ظاهرة للعيان ،لكن ثمة ما هو �أكرث يف هذه العزة،
ثمة �شيء قد ال يكون مرئ ًّيا على الفور ،ي�ستلزم �أن تدقق كي ترى ما حتت
هذه العزة من �شقاق.
ﻋﺼ
ي�شبه الأمر بنا ًء تاريخ ًّيا ً
�شاخما مرتف ًعا ،تراه من بعيد فيخطف ب�صرك ﲑ ﺍﻟ
بهيبته ،ثم تقرتب فرتى �آثار الت�صدعات وال�شقوق على واجهته ،ثم تقرتب
ﻜﺘ
متاما.
من بعيد ،الأمر خمتلف ً
ﺸﺮ
َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ
ش ٌء ي َراد ما }وانطلق المل مِنهم أ ِن امشوا واص ِبوا ع آل ِهتِكم إِن هذا ل
ﻭ
َ ُ ْ َ َ َ ْ ِّ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َّ ْ َ ٌ ْ َّ ْ َ َْ َ َ
س ِمعنا بِهذا ِف ال ِمل ِة الخ َِرة ِ إِن هذا إِل اختِلق أأن ِزل علي ِه اذلكر مِن بينِنا بل
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
َ ْ َ َّ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ٍّ ْ ْ
اب{ (ص .)8 :6 هم ِف شك مِن ذِك ِري بل لما يذوقوا عذ ِ
يريدون الإبقاء على الو�ضع القائم �ضد �أي تغيري ،كل �شيء م�ؤامرة
بالن�سبة لهم ،م�ؤامرة تريد �أن تطيح بهم وبعزتهم وبقوتهم وبرثوتهم.
َ ْ َ ُ ََُ ُ ََُْ ُ َ َّ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ٌ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ
وط َوأصحاب
وح وعد وف ِرعون ذو الوتا ِد وثمود وقوم ل ٍ }كذبت قبلهم قوم ن ٍ
َْ ْ َْ َ ُ َ
ك ِة أول َِك ال ْح َز ُاب{ (ص .)13 :12 الي
دوما هناك ح�ضارات قبلهم كانوا ه�ؤالء ،ولكن ال�سل�سلة ت�ستمرً ،
وجمتمعات ت�شبه هذه املجتمعات .عزة ال تخطئها العني ،ولكن � ً
أي�ضا �شقاق.
- 260 -
سورة ص
املهم ،ال تغرت كث ًريا بالعزة� ،سواء يف الأ�شخا�ص �أو يف املجتمعات ،فقد
ﺐ ﻟﻠﻨ
هكذا �إذن ،هل ير�سل لنا القر�آن ر�سالة مفادها �أن هذه املجتمعات
ﺯﻳﻊ
وال�شخ�صيات القوية لي�ست بهذه القوة التي نتخيلها ،و�أن علينا �أن ننتظر
�إىل �أن تتغلب نقاط ال�ضعف على نقاط القوة وينتهي الأمر؟
حمال ،القر�آن ال يفعل هذا.
القر�آن يدلنا على �أمثلة �أخرى للعزة ،العزة امل�ستمدة من رب العزة -
متاما ،-العزة التي ي�أمرنا -عز وجل � -أن
كما و�صفته ال�سورة ال�سابقة ً
من�شي على خطاها ونقتفي �آثارها ،ال التي ننبهر بها فح�سب.
َّ َ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َّ ُ َ َّ ٌ
البال ِ ا ن ر خ س ا ن ِ إ اب }اص ِب ع ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الي ِد إِنه أو
َ
ََ َ َْ ُ ْ َ ُ
ورة ك لُ أ َّواب وشددنا ملكه
ٌ َ َّ ْ َ َ ْ ُ َ ً ُ ٌّ َ
اق والطي مش ش َو ْال ْ َ
ش
ْ
َم َع ُه ي ُ َس ِّب ْح َن بِال َع ِ ِّ
ِ ِ
ْ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َْ ْ ْ َ َ َ ََْ ُ ْ ْ َ َ ََ ْ َ ْ َ
اب َ وهل أتاك نبأ الص ِم إِذ تس َّو ُروا ال ِمح َراب إِذ وآتيناه ال ِكمة وفصل ال ِ
ِط
َ َ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ُْ
ان بغ بعضنا ع بع ٍض فاحكم دخلوا ع داوود فف ِزع مِنهم قالوا ل تف خصم ِ
َّ َ َ َ َ ُ ْ ٌ َ ْ ُ َ اهدِنَا إ َل َس َواءِ ِّ َ َ ْ َ َ ْ َ ِّ َ َ ُ ْ ْ َ ْ
اط إِن هذا أ ِخ ل ت ِسع وت ِسعون الص ِ َِ بيننا بِالق ول تش ِطط و
َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ ْ َ َ َ َْ َ ً َ َ َْ َ ٌ َ ٌَ
اب قال لقد ظلمك ل نعجة واحِدة فقال أك ِفلنِيها ْوعز ِن ِف ال ِط ِ نعجة و ِ
َّ َّ ْ َ ُ
ريا م َِن الل َطاءِ َلبغ َبعضه ْم َع َبعض إل ال َُ ْ ْ َ َ ُ َ َّ
ك إل ن ِعاج ِه َوإن كثِ ً َ َ ُ َ َ َ َ
ْ
ِين ٍ ِ َِ ِ ِ ال نعجتِ ِ بِسؤ ِ
َ َ ٌ َ ُ ْ َ َ َّ َ ُ ُ َّ َ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ََّ َّ ُ َ َُ
ات وقلِيل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر ال ِالص ِ َ آمنوا َوع ِملوا
ً ََ َ
َراك ِعا َوأناب{ (ص .)24 :17
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
َ َْ
هذا هو منوذج العزةَ } ،د ُاو َود ذا اليْ ِد{.
ﻜﺘ
كم يدً ا ل�سيدنا داود؟ اثنتان فقط كما لنا جمي ًعا ،لكن الأيد هنا تعني
ﺐ ﻟﻠﻨ
القوة ،و�سائل التنفيذ التي امتلكها �سيدنا داود والتي �ش َّكلت �أعلى ما ميكن
ﺸﺮ
لكن هذا التقدم لي�س املعيار الوحيد الذي ميكن ح�ساب العزة فيه ،بل
ﺯﻳﻊ
هناك يف �سياق ق�صة داود ما ال يقل �أهمية� :إنه العدل االجتماعي الذي
جعل داود ينتبه �إىل احتكار الرثوة الذي متار�سه بع�ض الفئات ورغبتها يف
اال�ستئثار باملزيد ،ووقوفه �ضد ذلك.
ْ َ ِّ َ َ ْ ُ
ك ْم َب ْ َ َْ َ َ ُ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ ً
الق َول ي انلَّ ِ
اس ِب اوود إِنا جعلناك خلِيفة ِف ال ْر ِض فاح �إنه} :يا د
َُ ْ َ َ ٌ َّ َّ َ َ ُّ َ َ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َّ َ َ ْ َ
يل اهلل لهم عذاب يل اهلل إِن الِين ي ِضلون عن سبِ ِ تتبِعِ الهوى في ِضلك عن سبِ ِ
َ ٌ َ َُ ََْ ْ َ
اب{ (ص.)26 : شدِيد بِما نسوا يوم ال ِس ِ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
املزيد من العزة ،املزيد من و�سائل القوة الأكرث تطو ًرا ح�سب معايري
ﻜﺘ
ع�صره ،مع املحافظة على القيم التي ك َّر�سها والده داود ،عليهما ال�سالم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
هل متدنا �سورة �ص مب َثل �آخر عن العزة كما يجب �أن تكون غري َم َث َلي
داود و�سليمان؟
ﻭ ﺸﺮ
َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ِّ َ َّ َ َّ ْ َ ُ ُ ْ
ﺯﻳﻊ
َ َ َ
اب ٍ ذ ع و }واذكر عبدنا أيوب إِذ نادى ربه أن مس ِن الشيطان بِن ٍ
ب ص
ََْ َ َْ َُ َُْ ََُ ًَْ ْ َ َ َ َُْ َ ٌ َ ٌ َ َ َ ٌ ْ ُ ْ
شاب َ و َوهبنا لُ أهله َومِثله ْم معه ْم َرحة ارد و
ِ ب ل س تغ م ا ذه ِك لجر
ِ ِ ب ض ارك
ْ َ َْ َّ َ ْ َ ُ
اب{ (ص .)43 :41 ول الل ِ مِنا وذِكرى ِل ِ
كيف يكون �أيوب َم َث ًل عن هذه العزة وهو الذي اب ُت ِل َي مبر�ض باعد عنه
النا�س؟ بب�ساطة ،هذه هي العزة احلقيقية عندما متر ب�أزمة� ،أن تبقى
متما�س ًكا� ،صامدً ا� ،صاب ًرا؛ �إىل �أن جتتاز العا�صفة.
�أيوب و�سليمان وداود ،كيف ميكن الربط بني هاته ال�شخ�صيات؟ مناذج
خمتلفة عن العزة احلقيقية يف مراحل خمتلفة ،العزة التي جعلها الإميان
تكون قوية وعادلة ،وجعلها �أي�ضا ت�صمد.
***
ماذا عن �أمثلة �أخرى عن العزة وال�شقاق ،تلك التي ال نراها يف حياتنا
الدنيا؟
ْ ًّ َ ْ َ َّ َ ْ َ ُ َ
} َو َقالُوا َما َلَا َل نَ َرى ر َج ًال ُك َّنا َن ُع ُّد ُه ْم م َِن ْال ْ َ
ار أتذناه ْم ِسخ ِريا أم ش
ﻋﺼ
ِ ِ
َّ َّ َ َ َ َ ٌّ َ َ ُ ُ َ ْ ت َع ْن ُه ُم ْالَبْ َص ُ
َ َ ْ
ار إِن ذل ِك لق تاصم أه ِل انلارِ{(ص .)64 :62 زاغ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لقد انتهوا �إىل جهنم ،لكنهم يريدون �أن ي�أخذوا اجلميع معهم� ،أين
َِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
مثال مبك ًرا ج ًّدا عن هذه العزة وذلك ال�شقاق ،قبل �أن
ﺯﻳﻊ
يبد�أ كل �شيء.
َ َ َ ُُْ ََ ْ ُ ْ َ َ َ ُّ َ ْ َ َ َ ِّ َ ٌ َ َ ً ْ
ِني فإِذا س َّويته َونفخت فِي ِه ٍ ط ِن }إذ قال ربك ل ِلملئ ِك ِة إِن خال ِق بشا م
َ ْ َّ َُ َ ْ َ ُ ُّ ُ ُ َ َ َ َ َْ َ َ وح َف َق ُعوا َلُ َساجد َ ْ
ِين فسجد الملئ ِكة كه ْم أجعون إِل إِبلِيس ِ مِن ُر ِ
َ َ َ ْ ُ َ َََ َ َ ْ َْ ُ َ َ َ َْ ُ ََ ب َو َك َن م َِن الْ َكف ِر َاس َت ْك َ َْ
ين قال يا إِبلِيس ما منعك أن تسجد ل ِما خلقت بِيد َّي ِ
ْ َ َ َ َْ َُ ْ َ َ ََ َ ٌْ ْ ُ َ َْ َ ت م َِن الْ َعال ََ ْ َ ْ َْ َ َْ ُْ َ
ِنيٍ ط ِن م ه ت قلخو ار
ٍ ن ِن م ن ِ ت ق ل خ ه ِن
م ي خ ا نأ ال ق ِني أستكبت أم كن
َ
ك ل ْع َنت إل يَ ْو ِم ِّ َ َ
َ َّ َ ْ َ ك َرج ٌ َ َ َ ْ ُ ْ ْ َ َّ َ
َ
ين{ (ص .)78 :71 ِ ادل ِ ِ ي ل ع ن ِ إو يم ِ قال فاخرج مِنها فإِن
ﻋﺼ
تر�سيها ر�سالته ،وبني العزة الأخرى ،عزة الكرب واال�ستعالء ،وكل ال�شقاق
ﲑ ﺍﻟ
والت�صدعات التي تتبع ذلك.
ﻜﺘ
َ َ
ين إِل ي ْو ِم ك م َِن ال ْ ُم ْن َظر َ َ َ َ َّ َ
ن إف الق
َ َْ َُُْ َ
ون ثع ب ي ِ
م و ي ل إ ن ال َر ِّب َفأَنْظ ْ
ر
َ َ
}ق
ِ ِ ِ ِ ِ
َ ْ ْ َّ َ
َ َّ ُ ْ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ ُ ْ َْ ْ
ج ِع َني إِل ع َِب َاد َك م ِْن ُه ُم ال ُمخل ِص َني{ ْ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ت ال َمعل ِ
وم قال فبِ ِع َّزت ِك لغ ِوينهم أ الوق ِ
ﺸﺮ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
لوال �أن هناك �سورة �أخرى ا�سمها �سورة الإخال�ص لرمبا �أخدت �سورة
الز َُّمر هذا اال�سم بجدارة،
ﻋﺼ
فمنذ البداية ت�شري ال�سورة �إىل الإخال�ص ،وتتكرر هذه الإ�شارة �صريحة
ﲑ ﺍﻟ
يف �أربعة موا�ضع الح ًقا.
ﻜﺘ
و�سنعرف �أن «الإخال�ص» و«الزمر» مرتبطان ب�أكرث مما َب َدا لنا � ًأول.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
ﺯﻳﻊ
َ َ َ َّ ْ ْ َ َ ُ ٌّ َ َ َ َّ ُ ُ ً َ ْ ُ َّ َ َ َّ َ ُ ْ َ ً ْ ُ َ َ َ َ َ
س ما كن النسان ض دع ربه منِيبا إِل ِه ثم إِذا خول ن ِعمة مِنه ن ِ }وإِذا مس ِ
ُ ْ َ َ َّ ْ ُ ْ َ َ ً َ ْ َ ً ُ َّ َ ْ َ ْ َُْ َ َ ََ َْ ُ َ
يدعو إ ِ ْل ِه مِن قبل وجعل هلل أندادا ِل ِضل عن سبِيلِ ِه قل تمتع بِكف ِرك قلِيل
َ َ َّ ْ ُ َ َ ٌ َ َ َّ ْ َ ً َ ً َ ْ َ ْ ك م ِْن َأ ْص َحاب انلَّ َّ َ
جدا َوقائ ِما يذ ُر الخ َِرة ِ ا س ل ِ ي الل اء آن ِت ن ا ق و ه ن م أ ار
ِ ِ إِن
َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ ُ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ِّ ُ ْ َ ْ َ ْ َ
ويرجو رحة رب ِه قل هل يست ِوي الِين يعلمون والِين ل يعلمون إِنما يتذكر أولو
َ
اب{ (الزمر .)9 :8 ْ َْ
الل ِ
ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ ادل َ مل ًِصا َلُ ِّ ُْ ُ ْ ِّ ُ ُ َ ْ َ ْ ُ َ
ين َ وأم ِْرت ِلن أكون أ َّول }قل إِن أم ِْرت أن أعبد اهلل
َ ُُْ ُ ُ ْ ِّ َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ ِّ َ َ َ َ ْ َ َ ُْ ْ
يم ق ِل اهلل أعبد المسلِ ِمني قل إِن أخاف إِن عصيت رب عذاب يومٍ ِ ٍ
ظ ع
َ
ُ ْمل ًِصا لُ د ِِين{ (الزمر .)14 :11
ْ ِّ َ ْ ٌ ْ َ َ ُ ُ ُ ُ َ ْ َُ ْ ْ َ َ َُ ََ ُ
ﻋﺼ َََ ْ َ َ َ
ﲑ ﺍﻟ
ور مِن َرب ِه ف َويل ل ِلقا ِسي ِة قلوبه ْم ٍ ن ع و ه ف م ِ ل س ِل
ِ ل هر د ص اهلل ح }أفمن ش
ﻜﺘ
ُ ََ ُ َُ َ ُ َ َ َ ُ ً َ ًَ َ ُ َْ َْ َ َ ًََ َ ُ ً َ َ َ
ان }ضب اهلل مثل رجل فِي ِه شكء متشاك ِسون ورجل سلما ل ِرج ٍل هل يست ِوي ِ
َْ َ ْ َُ ُ ْ َ َ ْ َُ َ َ َ ً َْ ْ ُ
ﺸﺮ
َ
ِين مِن دون ِ ِه َومن يضل ِِل اهلل فما لُ مِن }أليس اهلل بِك ٍ
ﺍﻟﺘﻮ
َ َ
يز ذِي انتِقامٍ { (الزمر .)37 :36 ٍ ز
ِ ع ِ ب اهلل س ي ل أ ل ضِ م ِن م ل ا م ف اهلل دِ ه ها ٍد ومن ي
َ ْ َ َّ َ َّ َ ْ َ ِّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َّ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ
الق فم ِن اهتدى فلِنف ِس ِه َومن ضل فإِنما اس ِب }إِنا أن َزلَا عليك الكِتاب ل ِلن ِ
َ َْ َ
يَ ِض ُّل َعل ْي َها َو َما أن َت َعل ْي ِه ْم ب ِ َوك ٍِيل{ (الزمر.)41 :
َ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ
شكت َلحبط َّن عملك َولَكون َّن وح إِلك وإِل الِين مِن قبلِك ل ِئ أ }ولقد أ ِ
الشاك ِر َ ْ ُ ْ َ ْ َ َّ ُ َ َ الاس َ َ َْ
ين{ (الزمر .)66 :65 ِ ين ب ِل اهلل فاعبد وكن مِن ِ ِ مِن
من مو�ضع -ب�أمر داخلي جواين يخ�ص كل �شخ�ص على ِح َدة ،الإخال�ص
ال ميكن قيا�سه �أو تعيريه �أو حتى معرفة وجوده من اخلارج ،هذا �أمر بينك
وبينه عز وجل فقط ،بل �إنك �أنت �شخ�ص ًّيا كنت تكون يف �شك �أحيا ًنا من
�إخال�صك ،ووحده رب العاملني هو القادر على حتديد ذلك.
الإخال�ص معركتك ال�شخ�صية الداخلية ،مثل ذلك الرجل الذي ذكرته
َ ُ ََ ُ َُ َ ُ َ
ون{ و�آخر } َسل ًما ل َِر ُج ٍل{ ،املعنى املبا�شر الآيات ،رجل فيه }شكء متشاك ِس
كان يعني الرق ،فقد ي�شرتك ب�ضعة رجال يف امتالك عبد يف زمن العبودية،
وقد يكون هذا العبد ِم ْل ًكا لرجل واحد ،هذا املعنى ميكن �أن نراه اليوم
بزاوية �أخرى� ،أحيا ًنا يكون يف داخل فرد واحد «�أ�شخا�ص مت�شاك�سون» ،كل
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
منهم ميتلك جز ًءا من روح هذا ال�شخ�ص �أو عقله �أو من قلبه وعواطفه،
كل منهم وعندما يحدث ت�ضارب م�صالح بني ه�ؤالء املت�شاك�سني؛ ف�إن ًّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
�إنها موقعة الإخال�ص ،ال ي�سمع �صوتها �أحد ،وال ُت ْع َر ُف نتائجها �إال
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لكن رغم فردية املعركة� ،إال �أننا �سرنى يف نهاية ال�سورة �شي ًئا خمتل ًفا
ج ًّدا.
َ َ َّ َ َّ َ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َّ ُ َ ً َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ
اءوها َوفتِحت أب َوابها َوقال }و ِسيق الِين اتقوا ربهم إِل الن ِة زمرا حت إِذا ج
َّ َ َ ُ ْ َ ُْ ُْ َ ْ ُ ُ َ َ َُ َ ََُ َ َ ٌ َ َْ ُ
ِين وقالوا المد هلل الِي ال َ له ْم خ َزنتها سلم عليك ْم طِبت ْم فادخلوها خ ِ
َ ُ َ َ
ْ َ َ َص َد َق َنا َو ْع َدهُ َوأ ْو َر َث َنا ْال ْر َض نَتَ َب َّوأ م َِن ْ َ
ال َّن ِة َح ْي ُث ن َش ُاء فنِ ْع َم أ ْج ُر ال َعا ِملِني َ{
(الزمر .)74 :73
ﻋﺼ
دوما ،جمرد فكرة �أن هناك ُز ْم َرة بانتظارك �ستخفف
ﲑ ﺍﻟ مل يكن ذلك حاله ً
من الأمر ،جمرد �إميانك ب�أنك ل�ست وحدك يف هذه املواجهة ،و�أن هناك
ﻜﺘ
ت�شبه هذه اللحظة ،حلظة الوعي ب�أنك جزء من فوج �ستن�ضم له ،حلظة
ﺯﻳﻊ
ً
موح�شا كما كان. ا�ستنارة ،حلظة يت�سرب فيها النور �إىل دربك ،فال يعود
ت�شبه تلك اللحظة الأخرى:
َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َ ِّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ َّ ِّ َ َ ُّ
الش َه َداءِ َوقُ ِ َ
ض ور ربها وو ِضع الكِتاب و ِجء بِانلبِيني و
ت الرض بِن ِ }وأشق ِ
َ ْ َ ُ ْ ْ َ ِّ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ
بينهم بِالق وهم ل يظلمون{ (الزمر.)69 :
�أر�ضك �ست�شرق بنور ربك.
والطريق من الأنا �إىل النحن �سيكون �أي�سر.
�سورة غافر تنقلك �إىل ذلك ال�س�ؤال الذي قد تطرحه على نف�سك يف
حلظة �ضياع وي�أ�س ،عندما ت�س�أل نف�سك :كيف و�صلت �إىل هنا؟
ﻋﺼ
هل �س�أمتكن من اخلروج؟
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
تلك اللحظة عندما ت�شعر �أن كل �شيء يحا�صرك ،و�أن كل �شيء يطاردك،
ﺐ ﻟﻠﻨ
(اغفر.)11 :
ﺍﻟﺘﻮ
ْ ُ ْ َ َ َّ ُ َ
الر َشا ِد{ (اغفر.)38 :
ﺯﻳﻊ
يل َّ
فتقول لك} :اتبِع ِ
ون أهدِكم سبِ
تدلك على الطريق الذي ينقذك من �ضياعك ،من �شعورك بالي�أ�س ،من
�شعورك �أن ال حل هناك ميكن �أن ينقذك مما �أنت فيه.
يبد�أ هذا الطريق بهذا الو�صف هلل -عز وجل -الذي ابتد�أت به
َ َ َّ ُ َ َّ ْ َ َّ ْ َ َّ ْ َ َ َ
اب ذِي الط ْو ِل ل إِلَ إِل ه َو إ ِ ْل ِه
ب وقاب ِ ِل اتلو ِب شدِي ِد ال ِعق ِال�سورة} :غف ِِر اذلن ِ
ْ
ال َم ِص ُري{ (اغفر.)3 :
أوغلت يف
مهما كانت مع�صيتك ،مهما ابتعدت عنه عز وجل ،مهما � َ
َ َّ ْ َ
اذلن ِب َوقاب ِ ِل اتلَّ ْو ِب{. ذنوبك ،ف�إنه }غف ِِر
هذه اجلهة �أو تلك بني الرتهيب �أو الرتغيب .بل االثنان م ًعا يف �سياق واحد
ال يف�صل بينهما فا�صل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
َّ
الط ْو ِل{؟ �صاحب النعمة والف�ضل ،و�أ�صل الكلمة من لفالن َ
«ط ْو ٌل» }ذِي
ﺸﺮ
على فالن� ،أي ف�ضل عليه ،واملطاولة تعني املباراة يف الف�ضل ،ومنها ما جاء
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
هنا ي�صبح ملحاولة اخلروج معنى �آخر ،لي�س مبعنى املحاولة كما نفهما
احل ْول والقوة منه عز وجل يف بلغتنا اليومية الدارجة ،بل مبعنى ا�ستمداد َ
هذه املحاولة.
َّ ْ َ َّ ْ َ َّ ْ َ َ َ
الط ْو ِل{. اب ذِي
ب وقاب ِ ِل اتلو ِب شدِي ِد ال ِعق ِ}غف ِِر اذلن ِ
اهلل دون �أي جتزئة يف �صفاته.
***
َ َُْ ْ َُ َ َ ََْ ُ َّ َّ َ َ َ
ب مِن ِين كف ُروا يناد ْون لمقت اهلل أك�ستقابلنا �آية تتحدث عن }إِن ال
ﻋﺼ
َْ ُ ْ َُْ َ ُ ْ ْ ُْ َ ْ َ َ ْ َ ََ ْ ُ ُ َ
مقتِكم أنفسكم إِذ تدعون إِل ِاليم ِان فتكفرون{ (اغفر.)10 :
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
والتف�سري ال�سائد -وال �شك يف �صحته -ي�شري �إىل �أن الكفار �سيكرهون
�أنف�سهم يوم يرون حقيقة �أعمالهم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
متاما.
بكثري ،يكرهونها يف احلياة الدنيا رمبا دون �أن يعوا ذلك ً
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أولئك الذين لديهم الكثري من الكرب ،من الذات املت�ضخمة ،من الأنا
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ْ َ ْ َ َ ْ ُُ َ َُ ََْ ُُ َ َ ُ ً َ ْ َُ َ
ول َر ِّ َ ََ َ َ ٌُ ُْ ٌ ْ
ب آل ف ِرعون يكتم إِيمانه أتقتلون رجل أن يق }وقال رجل مؤمِن مِن ِ
ﲑ ﺍﻟ
ْ َ ُ َ ً َ َ َْ َ ُُ ْ َ ُ َ ً ْ ِّ ُ َ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ ِّ َ
ات مِن َربك ْم َوإِن يك كذِبا فعلي ِه كذِبه َوإِن يك صادِقا
ﻜﺘ
الين ِ اهلل وقد جاءكم ب ِ
َ َ َ ْ ُ َ ُ ْ ٌ َ َّ ٌ َ َْ َ ُ ُ ْ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َّ
سف كذاب يا ق ْو ِم ن َاهلل ل يهدِي من هو م ْ ِ ي ِصبكم بعض الِي ي ِعدكم إ ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِين وح وع ٍد وثم اب مِثل دأ ِب قو ِم ن ٍ قو ِم إِن أخاف عليكم مِثل يو ِم الحز ِ
َ َ ِّ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ ُ ُ ُ ًْ ْ َ ْ َْ
ﺯﻳﻊ
َ
مِن بع ِده ِْم َوما اهلل ي ِريد ظلما ل ِل ِعبا ِد َ ويا ق ْو ِم إِن أخاف عليك ْم ي ْوم اتلَّنا ِد
َ َ َ ْ َ ُ َ ُّ َ ُ ْ َ َ َ ُ
ك ْم م َِن اهلل م ِْن َع ِص ٍم َو َم ْن يُ ْضل ِِل اهلل ف َما لُ م ِْن َها ٍد{ يوم تولون مدب ِ ِرين ما ل
(اغفر .)33 :28
ما الذي حدث مل�ؤمن �آل فرعون؟ ال نعرف ،بقي يجادل قومه وهو يخاف
عليهم العاقبة ،ال تخربنا ال�سورة ماذا حدث له وماذا كان رد فعل فرعون
جتاهه بال�ضبط ،نعرف �أنه جنا من «�سيئات ما مكروا» ،هل لعبت القرابة
دو ًرا؟ �أم �أن �أ�سلوب هذا امل�ؤمن كان � َّ
أخف وق ًعا من �صدمة ال�سحرة الذين.
انقلبوا على فرعون �أمام اجلميع؟ ال نعرف التفا�صيل ،لكننا نعرف �أن
م�ؤمن �آل فرعون يذ ِّكرنا -كما تذ ِّكرنا زوجة فرعون -ب�أن النف�س الب�شرية
يف داخلها خري مهما كانت الظروف املحيطة بها ،و�أنه هناك ب�شر لديهم
م�شاعر ونوازع �إميانية رغم �أنهم يف عمق مع�سكر �أعداء الإن�سانية.
ويخربنا �سكوت ال�سورة عن التفا�صيل � ً
أي�ضا �أن م�صري ال�سحرة لي�س
حتم ًّيا على كل امل�ؤمنني �أن يتجهوا له بعيون مغم�ضة ،بل رمبا كان هناك
�سبيل للخروج.
***
َ ْ ُ َْ ََ ُ ﻋﺼ
ب َم ْق ًتا ع ِْن َد اهلل َوع ِْن َد َّال َ
ﲑ ﺍﻟ َّ َ ُ َ ُ َ
ِين اه ْم َك ُ َ ان أت
َ
}الِين يادِلون ِف آي ِ
ي سلط ٍ ات اهلل بِغ ِ
ﻜﺘ
ات فأطلِع إِل إِلِ موس َوإِن لظنه صحا لعل أبلغ السباب أسباب السماو ِ
َ َ ْ ُ َ َ َّ َّ َ ً َ َ َ َ ُ ِّ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َ ُ َّ َ
يل َوما كيد ف ِْرع ْون إِل ِف
ﺸﺮ
�صرحا يناطح ال�سماء ،كان ك�أنه يهرب منفرعون وهو يريد �أن يبني ً
كرهه لذاته احلقيقية ،فرعون هو النموذج الأعلى للذات املت�ضخمة بني
الب�شر ،ولأنه كذلك فال بد �أن كرهه لنف�سه احلقيقية -نف�سه الب�شرية
ال�ضعيفة مثلنا جمي ًعا -ال بد �أن يكون �أكرب من �أي كره �آخر �شعر به الب�شر
لأنف�سهم.
كان كرهً ا فرعون ًّيا لدرجة ال�صعود لل�سماء ،فقط ليهرب من حقيقة
�ضعفه �إىل وهم الأنا املت�ضخمة ،يف الظاهر كان يريد �أن يتحدى مو�سى.
ويرى ربه ،لكنه يف جوهر الأمر رمبا كان يريد �أن يهرب من حقيقة يعرفها:
مو�سى على حق ،هو لي�س �إل ًها ،لي�س �سوى �إن�سان �آخر ،مثل كل الذين
يحكمهم.
�ضاقت عليه الدنيا وهي حتا�صره بهذه احلقيقة الكريهة :رمبا ال�سماء
تكون �أو�سع له.
لكن عندما تكره نف�سك ،حتا�صرك هذه النف�س يف كل مكان ،فهل �إىل
خروج من �سبيل؟
ﻋﺼ
ال ،ال �سبيل هناك �إال �إن بد�أتَ يف ا�ستجواب نف�سك وما �أو�صلك �إىل
ﲑ ﺍﻟ
هناك.
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
الطريق �إىل �سبيل الر�شاد� ،سبيل اخلروج من هذه املتاهة ميكن �أن
ﺸﺮ
وا�ضحا.
ً يكون ً
ب�سيطا
ﻭ
َْ َ ُ َ َ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َّ َ
ﺍﻟﺘﻮ
َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ
الرشا ِد يا ق ْو ِم إِنما ه ِذه ِ الياة ون أهدِكم سبِيل }وقال الِي آمن يا قو ِم اتبِع ِ
ﺯﻳﻊ
َّ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ َ ً َ َ ُ ْ
ار من ع ِمل سيئة فل ي َزى إِل مِثلها َومن ار الْ َق َ
ر اع َوإ َّن ْالخ َِر َة ِ َ
ه َد ُ ُّ ْ َ َ َ ٌ
ادلنيا مت
ِ ِ
َ َ َ ً ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ ْ ٌ َ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ ْ
ي
الا مِن ذك ٍر أو أنث وهو مؤمِن فأول ِك يدخلون النة يرزقون فِيها بِغ ِ ع ِمل ص ِ
ح َِس ٍاب{ (اغفر .)40 :38
لي�س الأمر معقدً ا مثل نظرية فيزيائية حتتاج �إىل �شهادة عليا لفهمها.
الأمر ب�سيط مثل بديهة ال حتتاج �إىل تف�سري :العمل ال�سيئ له عقاب،
واجليد له ثواب .نقطة انتهى.
للأ�سف ،ال يبدو الأمر كذلك بالن�سبة لكثريين� ،سيكون هناك الكثري
من اجلدل لغر�ض اجلدل ،ال لغر�ض الو�صول �إىل احلقيقة ،اجلدل املدفوع
بقوة ُّ
ت�ضخم الأنا ،والذي �سيقود �إىل حائط م�سدود.
بالن�سبة مل�ؤمن �آل فرعون ،وكل َمنْ هو مثله ،مبا فيهم �أنت �شخ�ص ًّيا ،لن
َّ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َُ ُ َ ُ َُ ُ َْ
يكون هناك �سوى قول} :فستذك ُرون ما أقول لك ْم َوأف ِّوض أم ِري إِل اهلل إِن
ْ
اهلل بَ ِص ٌري بِال ِع َبا ِد{ (اغفر.)44 :
***
ﻋﺼ
يف هذه الرحلة يف البحث عن �سبيل للخروج �سنمر ب�آية �سبق و�أن مررنا
ﲑ ﺍﻟ
مبا ي�شبهها يف �سورة البقرة ،لكن هذه املرة �سنفهمها على نحو خمتلف.
ﻜﺘ
َ ْ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ ُ
بون عن عِباد ِت
جب لكم إِن الِين يستك ِ }وقال ربكم ادع ِ
ون أست ِ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َْ ُ ُ َ
ون َج َه َّن َم َداخِر َ
ين{(اغفر.)60 : ِ سيدخل
ﺸﺮ
هنا �سرنى �أن الدعاء واال�ستجابة تتعلقان ب�سبيل اخلروج من هذا التيه.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أما الذي يعتقد �أنه لي�س بحاجة للدعاء لي�صل �إىل الطريق ،فلن يجد
�سوى طريق فرعون و�صرحه الذي يريد �أن َّ
يطلع به �إىل ال�سماء.
ونهايته معروفة �سل ًفا.
***
وقبل �أن نغادر �سورة غافر تقول لنا ال�سورة� :إن رحلة البحث عن �سبيل
للخروج �ساهم فيها ر�سل كثريون.
- 277 -
القرآن نسخة شخصية
ََ ْ َ َ َْ ُ ً ْ َْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َْ َ ْ ُ َ ْ َ َْ ُ ْ
} َولقد أ ْرسلنا ُرسل مِن قبلِك مِنه ْم من قصصنا عليك َومِنه ْم من ل ْم نقصص
ُ َ ْ َ ِّ َ َ َ َ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َّ ْ
الق اء أم ُر اهلل ق ِض ِبت بِآي ٍة إِل بِإِذ ِن اهلل فإِذا جول أن يأ ِ
عليك وما كن ل ِرس ٍ
َ َ َ َُ َ ُْْ ُ َ
ون{ (اغفر.)78 : وخ ِس هنال ِك المب ِطل
لي�س املهم �أن نعرف �أ�سماء كل الر�سل ،املهم �أن ننتبه �إىل �أن كل
جتاربهم كانت مت�شابهة يف العمق واجلوهر ،و�أن ننتبه �إىل الأمناط
دوما رغم
املتكررة يف �سلوك النا�س من حولهم؛ لأنها غال ًبا �ستبقى تتكرر ً
اختالف الأزمنة والأماكن واللغات ودرجة تطور املجتمعات.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ويف خامتة ال�سورةـ تودعنا مبلخ�ص عام.
ﻜﺘ
رمبا �ساروا ولكن مل يب�صروا جيدً ا� ،أو �أ�شاحوا ب�أنظارهم بعيدً ا ،رمبا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وجدوا املتعة يف املتاهة وقرروا �أن ميعنوا يف ال�ضياع ،رمبا كان �ضياعهم
ﺯﻳﻊ
�سورة ُف ِّ�ص َلت مثل �صافرة �إنذار تطلق �صوتها داخل ر�أ�سك.
�صافرة �إنذار ت�صرخ يف �أذنك :حذار ،ال�صاعقة قادمة.
ﻋﺼ
�أغلب �صافرات الإنذار ُت ْط َلقُ عندما يكون اخلطر و�شي ًكا ،الغارة
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
جمال جو ًّيا قري ًبا ،بالكاد ت�ستطيع �أن تذهب �أنت قادمة ،ال�صواريخ دخلت ً
و�أطفالك �إىل امللج�أ لو كان قري ًبا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
لكن �سورة ُف ِّ�ص َل ْت هي �صافرة �إنذار تقول لك :ال�صاعقة قادمة ،وال
ﺸﺮ
وبالتايل فالهروب ال يجدي ،كل ما ت�ستطيع فعله هو �أن حتاول �أن تتغري،
امللج�أ الوحيد املمكن من �صاعقة ت�أتيك منك هو �أن تتغري �أنت.
هذا ما تقوله ال�سورة ،وهذا تف�سري �صوت �صافرة الإنذار الذي يد ِّوي يف
ر�أ�سك عندما تقر�أها.
وهذا ما فهمه بع�ض رجاالت قري�ش عندما قر�أها عليهم عليه ال�صالة
وال�سالم.
َقا ُلواَ :و ْي َل َك ُي َك ِّل ُم َك َر ُج ٌل ِبا ْل َع َر ِب َّي ِة َل ت َْد ِري َما َق َال؟
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
َ (((
ال�ص ِاعق ِة.ا ما َق َال َغ ْ َي ِذ ْك ِر َّ َق َالَ :ل َواهلل َما َف ِه ْم ُت َ�ش ْي ًئ ِ َّ
عتبة كان يفهم حت ًما ما يقال ،لكن �صوت �صافرة الإنذار يف ر�أ�سه كان
عال ًيا مدو ًيا ،مل ي�ستوعب �سوى ذكر ال�صاعقة.
كانت هذه املرة الأوىل والوحيدة التي يتم فيها توجيه �إنذار مبا�شر
و�صريح لقري�ش ب�صاعقة ت�ضربهم كما �ضربت عادًا وثمود.
((( مصنف أيب شيبة ،36560املستدرك عىل الصحيحني للحاكم ،3002وصححه األلباين يف صحيح السرية.
- 280 -
سورة فصلت
ولقد �أعر�ضوا.
�إذن؟
�صاعقة عاد وثمود.
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
لكن ما الذي �أو�صل الأمور �إىل هذه النقطة؟
ﻜﺘ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ْ َْ َ َْ َ َ ٌ َ َ ْ َ ُ ُ ُ ُ َ َ َّ َّ َ ْ ُ َ َ
} َوقالوا قلوبنا ِف أكِن ٍة مِما تدعونا إ ِ ْل ِه َو ِف آذان ِنا َوق ٌر َومِن بينِنا َوبينِك حِجاب
ﺯﻳﻊ
َ ْ َ ْ َّ َ َ ُ َ
ون{ (فصلت.)5 : فاعمل إِننا عمِل
يف كل تلك ال�سور ال�سابقة هناك و�صف لهم م�شابه لهذه الآية ،الآيات
ْ َ َ َ ُُ
ت�صفهم ب�أنهم } َ َع قلوب ِ ِه ْم أك َِّن ًة أ ْن َي ْف َق ُهوهُ َو ِف آذان ِِه ْم َوق ًرا{.
هنا هم من يعرتف بذلك ،هنا يقولون بو�ضوح :يف قلوبنا �أك َّنة مما
تدعوننا �إليه ،يف �آذاننا وقر ،وبيننا وبينك حجاب ،فاعمل �إننا عاملون.
بعبارة �أخرى معا�صرة �أكرث :نحن ال ولن وال ميكن �أن ن�سمع لك،
�أ�صابعنا يف �آذاننا ومهما ارتفع �صوتك لن ن�سمع ،فافعل ما تريد.
الأمر هنا �صار مع �سبق الإ�صرار والرت�صد.
ﻋﺼ
و�صلنا ملرحلة مل يعد ال�سري مع القطيع �أو اتباع الآباء هو ال�سبب يف
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
رف�ض الإميان.
رف�ضا واع ًيا مدر ًكا �أنه �إمنا يتعمد عدم ال�سماع.
بل �صار ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
َْ َ ُ ُ َ َ ً ْ َ َ َ َ َ ُ َ
}أنذ ْرتك ْم صاعِقة مِثل صاعِق ِة ع ٍد َوثمود{ (فصلت.)13 :
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
ﺯﻳﻊ
َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ ْ َ ًّ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ ٌّ َ َ َ ٌّ ُ ْ ُ
ب قل ه َو َّ }ولو جعلناه قرآنا أع َّج ِميا َلقالوا لول فصلت آياته أأعج ِم وعر ِ
َ ْ ٌَْ َ ُ َ َ َْ ْ َ ً ُ َ َ َ َُ ًُ َ َ ٌ َ َ ُْ ُ َ
ِين ل يؤمِنون ِف آذان ِِهم وقر وهو علي ِهم عم أول ِك ل ِلِين آمنوا هدى و ِشفاء وال
ُي َن َاد ْو َن م ِْن َم َك ٍن بَ ِع ٍيد{ (فصلت.)44 :
هذا النوع من الأ�شخا�ص ال يكتفي �أبدً ا من اجلدل ،ي�س�ألون الأ�سئلة ال
لغر�ض الو�صول �إىل جواب ،بل لغر�ض طرح �س�ؤال �آخر ،يفعلون ذلك عمدً ا.،
ملاذا نزل القر�آن بالعربية؟ مهما كان اجلواب ف�سيكون هناك �أ�سئلة �أخرى،
و�سيقولون ال�شيء ذاته عن �أي لغة �أخرى.
ال يريدون احلق وال اجلواب ،قلوبهم يف �أك َّنة ،ويف �آذانهم وقر.
ُ ٌّ ُ ْ
ك ٌم ُع ْ ٌ
م{ ،مع �سبق الإ�صرار والرت�صد. }صم ب
***
أ�شخا�صا كه�ؤالء ،يرف�ضون احلق وهم يعلمون �أنه
ً يف حياتنا قد نلتقي �
احلق ،خمتلفون عن �أولئك الذين يتبعون الباطل؛ لأنه خدعهم �أو �ض َّللهم
ﻋﺼ
�أو غ�سل �أدمغتهم �أو ا�ستغل جهلهم ،ه�ؤالء م�ضللون ،لكن �أولئك يعرفون
ﲑ ﺍﻟ
متاما ما يفعلونه وهم يفعلونه عن �سابق ت�صميم ،عن وعي.ً
ﻜﺘ
لكن على امل�ستوى الفردي ال�شخ�صي ،رمبا �صاعقة كل منا خمتلفة ،رمبا
حتجر م�شاعر ُن َ�صاب به فت�صبح قلوبنا ميتة ،جمرد م�ضخة ت�ضخ تكون يف ُّ
الدم �إىل اجل�سم ،رمبا تكون يف ثقب �أ�سود من ثقوب احلياة ومتاهاتها،
يبتلعنا �إىل ما ال نهاية ،فنن�سى �أنف�سنا فيه ،رمبا تكون �أن نتح َّول لن�صبح
كل ما نكرهه ونكره �أن نكونه.
وقد تكون ال�صاعقة هي تلك ال�صعقة يف النهاية ج ًّدا يوم القيامة؛
نفخة ال�صعق.
لل�صاعقة �أ�شكال كثرية ج ًّدا.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
علينا �أن نتجنب ما ميكن �أن يقود لها يف حياتنا.
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
كل حوا�سهم �ستترب�أ منهم ،هذه احلوا�س تعرف �أنهم كانوا متعمدين يف
موقفهم ،كانت تنقل لهم املعلومات كما هي ،لكنهم كانوا َي ُ�ص ُّمون �آذانهم
ويغم�ضون عيونهم عامدين ،بالت�أكيد �ستترب�أ منهم حوا�سهم وتقف لتكون
موج َه ًة �أ�صابع االتهام لهم.
�شاهدة ِّ
يوما ما لو حدث ن�ستطيع �أن نتخيل �أن حوا�سنا �ستتن�صل عنا بكل �سهولة ً
ﻋﺼ
�شيء م�شابه ،و�ستتوجه �أ�صابع االتهام نحونا �آنذاك.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
تنتهي �سورة ُف ِّ�ص َل ْت بذلك الوعد الذي ال نزال نراه متجددًا ح ًّيا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ
الق أ َول ْم يك ِف اق و ِف أنف ِس ِهم حت يتبي لهم أنه يهم آيات ِنا ِف الف ِ }س ِ
ن ِ
ﺸﺮ
امل�سافة بني النف�س والآفاق قد تبدو طويلة ،لكنها �ستكون مليئة بالآيات
ﺯﻳﻊ
التي لن نب�صرها �أو ن�ست�شعرها �أو نعقلها �إال �إذا نزعنا الوقر عن �آذاننا،
وقلوبنا من الأكنة.
و�إذا مل نفعل ،ف�صافرة الإنذار ت�صيح مدوية :ال�صاعقة قادمة.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ الغربية �إلخ.
لكن ال �شيء من هذا كله يف �سورة ال�شورى ح ًّقا.
ﻜﺘ
وال يعني هذا موق ًفا م�ضا ًّدا للدميقراطية على الإطالق ،كما ال يعني
ﺸﺮ
�أنه موقف م�ؤيد لها ،هذا خلط للأوراق ،والدميقراطية �آلية خمتلفة عن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ال�سورة يف احلقيقة تهم�س يف �أذنيك �شخ�ص ًّيا ب�أمور قد تكون بعيدة عن
ال�سيا�سة ،ال�سورة ت�صاحلك مع حقيقة �إن�سانية قد تكون مزعجة لكثريين،
لكنها ككل حقائق احلياة ،يجب �أن نت�صالح مع وجودها ،ونتعامل معها
ب�أنها �أمر كان و�سيكون وال جدوى من �إنكاره ،علينا التعامل مع خمرجات
هذه احلقيقة بواقعية.
هذه احلقيقة هي االختالف بني الب�شر.
ﻋﺼ
ُ ً َّ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ ِّ
ين ما َوص ب ِ ِه نوحا َوالِي أ ْوحينا إ ِ ْلك َوما َوصينا ب ِ ِه ﲑ ﺍﻟ }شع لكم مِن ادل ِ
َ َ ََُ ََ ُْ ْ ِّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َْ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ
ِني ما شك م ال ع ب ك ه
ِ ِي ف وا ق ر ف ت ت ل و ين ادل وا ِيم إِبراهِيم وموس وعِيس أن أق
ﻜﺘ
ِ
َ َ َ َ َّ ُ َّ اء َويَ ْهدِي إ ْله َم ْن يُن ُ َ وه ْم إ َ ْل ِه اهلل َيْ َتب إ َ ْل ِه َم ْن ي َ َش ُ َْ ُ ُ
يب وما تفرقوا إِل ِ ِ ِ ِ ِ ِ تدع
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ ْ ِّ َ َ ٌ َ َ َ َ ً ََُْ ْ ْ ْ ْ َْ َ َ َ ُ
اءه ُم ال ِعل ُم بغيا بينه ْم َول ْول كِمة سبقت مِن َربك إِل أج ٍل مس ًّم مِن بع ِد ما ج
ُ
ﺸﺮ
َ َ َ ُ ُ ْ ٍّ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َّ َُ َ ََُْ ْ َ
يب ف ِلل ِك ورثوا الكِتاب مِن بع ِدهِم ل ِف شك مِنه م ِر ٍ لق ِض بينهم وإِن الِين أ ِ
َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ
ﻭ
ْ َ
ﺍﻟﺘﻮ
اب ٍ ِت ك ِن م اهلل ل فادع واست ِقم كما أمِرت ول تتبِع أهواءهم وقل آمنت بِما أنز
َ ُّ ُ َ َ ْ َ ُ َ ُ َ ْ َ ُ
ُ ُ ُ َْ َ ََْ ُ
ﺯﻳﻊ
ُ َّ َ ُّ َ
َوأم ِْرت ِلعدِل بينك ُم اهلل َربنا َو َربك ْم لَا أعمالَا َولك ْم أعمالك ْم ل حجة
ْ َْ َ َّ َ ُ ُّ َ ك ُم اهلل َيْ َم ُع بَيْ َن َنا َوإ َ ْل ِه ال ْ َم ِص ُ َََْ َََْ ُ
ِين يَاجون ِف اهلل مِن بع ِد ري وال ِ بيننا وبين
َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ِّ ْ ٌ َ َ ُ ُ َ اس ُتج َ َ ْ
يب لُ ُح َّجته ْم داحِضة عِن َد َرب ِه ْم َوعلي ِه ْم غض ٌب َوله ْم عذ ٌاب شد ٌِيد{ ِ ما
(الشورى )16 :13
االختالف حقيقة م�ؤكدة �إذن ،بع�ض الأمور قد ي�ؤدي اخلالف فيها �إىل
ُْ
ما ال ت َمد عاقبته يف الآخرة ،لكن دنيو ًّيا ،االختالف �سيبقى قائ ًما.
قد يتبادر �إىل الذهن هنا �أن مفهوم ال�شورى الذي تطرحه ال�سورة هو
حلل االختالف احلا�صل� ،أو للو�صول �إىل حل و�سط ير�ضي جميع الأطراف.
على الإطالق ،مفهوم ال�شورى ال عالقة له بحل هذا االختالف.
ال�سورة ت�شري �إىل االختالف بالفعل ،ولكنها تدخل بعدها �إىل �شيء �آخر.
لكن ما معنى كلمة �شورى � ً
أ�صل؟ من �أين جاءت؟
***
ﻋﺼ
قد نتخيل �أن �أ�صل الكلمة يف معنى مرتبط بالنقا�ش والت�سا�ؤل ،وهو ما
ﲑ ﺍﻟ
يدل عليه املعنى اال�صطالحي ،لكن يف احلقيقة الأ�صل لهذه الكلمة يرتبط
ﻜﺘ
لكن كيف تط َّور الأمر من ا�ستخراج الع�سل �إىل الو�صول �إىل ر�أي �سديد
كما هو معنى ال�شورى اليوم؟
يبدو الأمر بعيدً ا.
على الإطالق ،الأمران قريبان ج ًّدا ،وهذا املعنى الأ�صلي هو الذي
�سيو�ضح لنا املعنى احلقيقي لل�شورى ،املعنى الذي ميكن �أن يكون ً
فاعل
وم�ؤث ًرا حتى يف حياتنا ال�شخ�صية.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ اجلميع.
ﻜﺘ
اجلميع َمنْ ؟
اجلميع يف م�ستعمرة النحل ولي�س يف امل�ستعمرة املجاورة� ،أو يف م�ستعمرة
ﺐ ﻟﻠﻨ
بعبارة �أخرى :هو ناجت يعمل عليه جمموعة من الأ�شخا�ص الذين ينتمون
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ملنظومة واحدة.
ﺯﻳﻊ
منظومة فكرية واحدة �أو منظومة وطنية واحدة �أو منظومة عمل واحدة،
املهم �أن لديهم ما يجمعهم على �أ�سا�سات ومبادئ م�شرتكة ،ميكنهم بعدها
العمل للو�صول �إىل الر�أي الأمثل ،ناجت عمل اجلميع.
الر�أي هنا ناجت عن جمموعة من�سجمة مع نف�سها ،لديها مرجعية
م�شرتكة ومبادئ م�شرتكة و�أهداف م�شرتكة ،ي�أتي الناجت هنا كثمرة لكل
هذا.
ﻋﺼ
ِين آمنوا ادلنيا َوما عِند اهلل خي وأبق ل ِل }فما أوت ِيتم مِن ش ٍء فمتاع الياة ِ
ون ْ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َّ َ ثْم َوالْ َف َواح َِش َوإ َذا َما َغض ُبوا ُهمْ َ َ َ َ ِّ ْ َ َ َ َّ ُ َ
ﲑ ﺍﻟ
ِ ِ ِ ال
ِ ِر ئ ا ب ك ون بِ ن ت ي ِين
الو وع رب ِهم يتوك
َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ُ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ َّ َ ْ َ َ ُ َ ِّ ْ َ َ َ ُ
ﻜﺘ
َ َْ
يغ ِف ُرون والِين استجابوا ل ِرب ِهم وأقاموا الصلة وأمرهم شورى بينهم ومِما
ََْ ُ ُْ ُ َ
َرزقناه ْم ين ِفقون{ (الشورى .)38 :36
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
الب�شر عرب جتاربهم التاريخية و�أثبتت جناعتها يف �أحوال كثرية ،ومل تقدم
الكثري يف �أحوال �أخرى.
�سورة ال�شورى ت�شري لنا بب�ساطة �إىل �أننا عندما نريد �أن ن�س�أل الن�صح،
�أن ن�صل �إىل حل مل�شكلة تواجهنا ،علينا �أن نبحث عن �أ�شخا�ص يفهموننا،
يتحدثون بلغتنا ويعرفون كيف نفكر؛ لأن هذا �سيعني �أننا نقف على �أر�ضية
واحدة ،لن تكون هناك ن�صيحة قادمة من مرجعية خمتلفة ال تفهم �أن لكل
�شيء �سياقاته و�أ�سبابه وجذوره ،و�أنك ال ميكن �أن ت�ستورد الن�صائح كما
ت�ستورد الأدوية واملراهم.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
لكن ماذا عن الأ�شخا�ص الذين ال ن�شرتك معهم يف نف�س املرجعية؟
ﻜﺘ
هناك � ًأول �إ�شارة �أرى �أنها قد جاءت لتذكرينا مبا هو خارج هذه
ﺯﻳﻊ
املودة يف القربى.
عليه ال�صالة وال�سالم ،كانت لديه قرابة مع كل بطون قري�ش بدرجات
أ�سا�سا ملودة ،لنوع من التعاي�ش بني.
خمتلفة ،وقرابة كهذه ميكن �أن تكون � ً
- 291 -
القرآن نسخة شخصية
الفرقاء املختلفني يف �أمور كثرية ،لكن القرابة ميكن �أن تكون منطل ًقا حلل
مبني على املودة ،حل ودي.
من الذي ميكن �أن ُي ْ�س َت ْث َنى من هذا؟
َ ْ ْ َ ِّ ُ َ َ ون ف ْالَ ْ
َّ َ َّ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ َ
الق أول ِك ي
ِ ِغب ضِ ر }إِنما السبِيل ع الِين يظلِمون انلاس ويبغ ِ
َُ َ َ ٌ َ
له ْم عذاب أ ِل ٌم{ (الشورى.)42 :
الأمر هنا اختلف مع الظلم والبغي ،املودة يف القربى يتوقف العمل بها.
***
ﻋﺼ
على امل�ستوى ال�شخ�صي ،قد ينفعنا كث ًريا �أن نرى وجهة نظر خمتلفة
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
متاما �أن تعاملك اجلاد معها كن�صيحة قد يحمل لكن عليك �أن تعي ً
بع�ضا من ال�شك مبرجعيتك الأ�سا�سية� ،أو �أنها مل تعد متدك بالن�صح ً
ﺸﺮ
قد ال يعني هذا وجود م�شكلة يف مرجعيتك نف�سها ،بل رمبا فيمن حولك،
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
برقبتك ،بينما �أنت معجب ومنبهر بلمعانه وبريقه.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ت�أخذك �سورة الزخرف �إىل ملعان قد ي�سلب ُل َّبك وقلبك ،وهو يف حقيقته
زيف �أجوف ،لكنك ت�سري خلفه كاملن َّوم ،بل رمبا �أ�صبح ال�سري خلف هذا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الزيف املجوف �أ�سلوب حياة يتبعه كثريون ،بل ويعتربونه هو �أ�سلوب احلياة
ﺯﻳﻊ
َ َ ُ ِّ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ الن َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َّ َ َ َّ َ ْ ُ ُ َ َ
ضب ني ( )16وإِذا بش أحدهم بِما ات َوأصفاكم ب ِ َ ِ }أ ِم اتذ مِما يلق ب ٍ
ن
يم{ (الزخرف .)17 :16 حن َم َث ًل َظ َّل َو ْج ُه ُه ُم ْس َو ًّدا َو ُه َو كظ ٌ
َ َّ ْ َ
ِ ل ِلر ِ
الذكر واحلزن على والدة الأنثى؛ عالمة على جعل التفاخر بالولد َّ
املعايري مرتبطة باالقت�صاد ،بال�ضبط بالظاهر ال�سطحي من الرثوة ،فكل
َذ َك ٍر كان ُي َعد قو ًة عامل ًة �إ�ضافية للع�شرية �أو القبيلة مبا �أنه قادر على حمل
ال�سالح.
�أما الأنثى فلم تكن ت�ضيف للقبيلة ثروة ح�سب ت�صورهم ال�ضيق.
ﻋﺼ
الذ َكر يف هذا ال�سياق كان مفخرة اقت�صادية ،مثل التفاخر والدة َّ
ﲑ ﺍﻟ
اليوم بال�سيارات الفارهة �أو املالب�س ذات العالمات التجارية الفاخرة �أو
ﻜﺘ
َ َ ُ َ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ َ ْ ْ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ
ﺍﻟﺘﻮ
الرح ُن ما عبدناه ْم ما له ْم بِذل ِك مِن عِل ٍم إِن ه ْم إِل ي ُرصون }وقالوا لو شاء
ﺯﻳﻊ
َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َُّ
ون بل قالوا إنا وجدنا آب ََ ُ َ ْ
ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َْ ََْ ُ ْ َ ً ْ
اءنا ع أم ٍة ِ ك سِ م ت س م ه
ِِ ب م ه ف ه
ِِ ل ب ق ِن
أم آتيناهم ك ِتابا م
َّ َ َ ََْ ْ َ ََ َ َ َ ْ َ َْ ْ َْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ
ِير إِل قالارهِم مهتدون ُ وكذل ِك ما أرسلنا مِن قبلِك ِف قري ٍة مِن نذ ٍ وإِنا ع آث ِ
ُ َُ َْ َ َ ُ ْ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ
َّ َ َ َ
اره ِْم مقتدون{ (الزخرف .)23 :20 ِ آث ع متفوها إِنا وجدنا آباءنا ع أم ٍة وإِنا
َ َْ ْ ََْ َ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ُ
يم{ (الزخرف.)31 : }وقالوا لول نزل هذا القرآن ع رج ٍل مِن القريت ِ
ي ع ِظ ٍ
النجاح وال�شرف والعظمة ح�سب معايريهم كانت تتطلب �أن ينزل
القر�آن على رجل من كبار �أثرياء قري�ش �أو الطائف ،يف هذا ال�سياق مل
يكن لديهم م�شكلة يف وجود قر�آن يتنزل �أو ر�سول من اهلل يحمل ر�سالته،
كانت م�شكلتهم يف �أن هذا الرجل الذي تنزَّل عليه القر�آن � -صلوات اهلل
و�سالمه عليه -مل تنطبق عليه �شروط العظمة وال�شرف ح�سب معايريهم،
ال مال كثري يخ�صه ،وال ذكور� .إذن ،كيف يختاره اهلل لهذه املهمة؟!
ﻋﺼ
معايري التفاخر املادي كانت تعميهم لهذه الدرجة.
ﲑ ﺍﻟ
هل تعمينا نحن � ً
أي�ضا لنف�س الدرجة؟ �أم �أقل؟ �أم �أننا نحاول �أن َّ
نغ�ض
ﻜﺘ
النظر عن ذلك؟
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ ُ َّ ً َ َ ً َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ
ﺸﺮ
ُ ًُ ُ
الرح ِن ِلُيوت ِِه ْم سقفا }ولول أن يكون انلاس أمة واحِدة لعلنا ل ِمن يكفر ب ِ
َ ُ ُ ْ َ ْ َ ً َ ُ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ
َ ْ َّ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ
ﻭ
س ًرا عليها يتكِئون ارج عليها يظه ُرون و ِليوت ِِهم أبوابا و
ﺍﻟﺘﻮ
مِن ف ِض ٍة ومع ِ
ْ ْ ْ ْ َ َ ُ ْ ً ْ ُ ُّ
ﺯﻳﻊ
َ ْ ك ل ِل ُم َّتق َ َ ُ ْ َ َ ِّ َ َ َّ َ َ ُ َ َ ُّ َ
ني َ ومن ِ ادلنيا َوالخِرة عِند رب َوزخ ُرفا َوإِن ك ذل ِك لما متاع الياة ِ
حن ُن َق ِّي ْض َلُ َش ْي َطانًا َف ُه َو َلُ َقر ٌ َ ْ ُ َ ْ ْ َّ ْ َ
ين{ (الزخرف .)36 :33 ِ يعش عن ذِك ِر الر ِ
َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ ْ َّ ْ َ
ح ِن{. }ومن يعش عن ذِك ِر الر
لأن بريق الف�ضة والزخرف وكل الزيف املبهرج الأجوف بلمعانه ال َّأخاذ
�أعماهم عن ذلك ،خطف �أب�صارهم و�سلب عقولهم.
ﻋﺼ
وال ميكن �أن يكون هناك حديث عن هذا الزخرف الكاذب دون �أن نرىﲑ ﺍﻟ
فرعون ،منوذج الأنا العليا يف �أ�شد �صورها طغيا ًنا ،وهو ي�ستخدم املظاهر
ﻜﺘ
ان�صياعا له.
ً والرتف كدليل جلعل قومه �أ�شد
ُ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َ ُ َْ َ َ َ َ ََْ َ َ َ َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ ُ
ار ت ِري } َونادى ف ِْرع ْون ِف ق ْو ِم ِه قال يا ق ْو ِم أليس ِل ملك مِص وه ِذه ِ النه
َُ َ ٌ ََ َ َ ُ
اد يُب ُ َ ْ َ َ َ ْ ٌ ْ َ َ َّ ْ َْ َََ ُْ ُ َ
ﺸﺮ
ني مِن ت ِت أفل تب ِصون أم أنا خي مِن هذا الِي هو م ِهني ول يك ِ
َ ْ َ َ َّ َََْ ُْ َ َ َْ َ ْ َ ٌ ْ َ َ َْ َ َ َ َ ُ َْ َ َ
ِك ُة ُم ْق َتن َ
ﻭ
ِني فاستخف ِ ب أو جاء معه الملئ فلول أ َل ِق علي ِه أس ِورة مِن ذه ٍ
ﺍﻟﺘﻮ
فرعون يقول لقومه :عندي كل هذه الأموال والأمالك ،لو �أن مو�سى جاء
على الأقل ب�أ�سورة ذهبية� ،أو كان معه مالئكة.
منطق ال يكاد ي�صلح للحديث مع �شخ�ص نا�ضج.
تعامل مع قومه بهذا املنطق الذي ي�ستخف بعقولهم.
لكنه جنح معهم� ،أطاعوه ،ملاذا؟ لأنهم � ً
أ�صل كانوا فا�سقني ،قدموا
�شهواتهم وغرائزهم على عقولهم وجعلوا لها الأولوية.
- 296 -
سورة الزخرف
لو كان ملنطق الزخرف قوة و�صالبة وميكن �أن ي�ؤتي ثماره ،لو كانت هذه
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
و�أحيا ًنا ُت ْ�ست َْخ َدم الزخارف للرتويج لأيديولوجيات و�أفكار ،نبتلع الطعم
وجند �أنف�سنا يف داخل بطن حوت عمالق.
حتى «قال اهلل ،قال الر�سول» ميكن �أن ُت ْ�ست َْخ َدم كزخارف للأ�سف،
ميكن �أن تكون �ضمن كالم من َّمق يهاجم حقائق العلم� ،أو يدعو للقتل
والذبح با�سم الدين.
ال ميكن لتجار ال�شر �إال �أن يجدوا زخر ًفا ما لريوجوا لتجارتهم.
ي�ستخ ُّفون القوم؛ ليطيعوهم.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ال دخان بال نار كما يقولون ،والدخان يعني هنا �شي ًئا واحدً ا ،لقد ابتد�أ
ﺐ ﻟﻠﻨ
الكتاب املبني ،الذي ُت ْف َتت َُح ال�سورة بالإ�شارة �إليه ،هو الذي يدلك على
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ما يجب �أن تفعله ،عندما ترى ال�سماء وهي ت�أتي بالدخان.
لكنه دخان مبني ،هذا الدخان.
الدخان عاد ًة يكون مموهً ا ،يخفي ما خلفه ،عندما يراد �أن ي�صرف
�أنظار النا�س عن �شيء معني ،يرمي لهم بقنبلة دخانية.
لكنه هنا دخان مبني ،دخان يقول لك احلقيقة ،رمبا يواجهك بنف�سك،
بحقيقة ما ق َّدمت وكنت تتلهى عنه بقنابل دخانية اخرتعتها بنف�سك.
لكن هذا دخان من نوع �آخر.
- 299 -
القرآن نسخة شخصية
َّ َ ُ ُ َ ُ َ ْ َ ْ َْ َ َْ
ني{ (ادلخان.)10 : ب
ٍ ِ ٍم ان خ دِ ب اء مالس تِ }فارت ِقب يوم تأ
بل هو �شك العب� ،شك يت�سلى به �أ�صحابه ملجرد ال�شك ،مثل لعبة �أخرى
يق�ضون بها �أوقاتهم.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ميكنك �أن ت�شك بينما �أنت يف طريق رحلتك لليقني� ،شك جاد باحث
ﺸﺮ
عن الأجوبة ،هذا ال�شك ميكن �أن يكون معي ًنا لك على الطريق.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
اجلديدة ،فهو ال ميكن �أن يكون �إال مثل قنبلة دخانية تزيدك ً
�ضالل على
الطريق.
رمبا هذا الدخان يعتمد على كيفية ر�ؤيتنا له.
ميكن �أن يكون معي ًنا لنا على الطريق ،مبي ًنا لأخطائنا وعيوبنا� ،إنذار
بحريق قادم ميكننا �أن نعمل على حتا�شيه �أو �إطفائه.
وميكنه �أن يكون على العك�س من ذلك.
***
- 300 -
سورة الدخان
ال ميكن �أن يكون هناك حديث عن الدخان املبني دون �أن من َّر على
فرعون ،منوذج مثايل للأنا العليا التي تعمى عن ر�ؤية الدخان القادم
ب�إنذار النار.
َ ْ ُ ْ َ ْ ْ َّ ُ ُ ْ ٌ ُ ْ ُ َ َ ْ ً َّ ُ ْ ُ َّ َ ُ َ َ ََ ْ
الح َر َره ًوا إِنه ْم جند مغ َرقون كِ ر اتو ون ع ب ت م م ك ن ِ إ ل ل ِيدا ب }فأ ِ ِ ِ
ع ب س
َ ََْ َ ُ َ َ ََ ُ َ ُُ ْ َ َّ َ ْ ََُ
يم َ ونعم ٍة كنوا فِيها وع ومقامٍ ك ِر ٍ ون َ وز ُر ٍ ات وعي ٍ كم تركوا مِن جن ٍ
آخر َ َ َ َ ََ ْ َ ْ َ َ َ ْ ً َ َ َ
ين{ (ادلخان .)28 :23 فاك ِِهني كذل ِك وأورثناها قوما ِ
الذين �آمنوا تعاملوا مع الإنذار كما يجب؛ فنجوا.
بتحد ،با�ستهزاء ،بلعب.
لكن فرعون َومنْ معه تعاملوا مع الدخان ٍّ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
فكانوا مغرقني.
َْ
اء َوال ْر ُض َو َما َكنُوا ُم ْن َظر َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ََّ َ
الس َم ُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
وتبكي لفراقنا.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
لكن يف احلقيقة ال �شيء من هذا يحدث ،احلياة ت�ستمر كما لو �أننا مل
منر بها � ً
أ�صل.
َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ْ َ ِّ َ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ
الق ات والرض وما بينهما ل ِعبِني ما خلقناهما إِل ب ِ }وما خلقنا السماو ِ
َ َ َّ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ
كن أكثهم ل يعلمون{ (ادلخان .)39 :38 ول ِ
�صعب �أن تتجاوز �إ�شارة النفي عن اللعب هنا ،خا�صة بعد لعبة ال�شك
التي مررنا بها قبل قليل.
هذا العامل مل ُي ْخ َلقْ لع ًبا �أو له ًوا �أو عب ًثا ،بل ُخ ِلقَ باحلق ،بقوانني و�سنن
بع�ضا منها وجنهل الكثري منها. نعلم ً
هذا احلق ،هذا اخللق باحلق ،بالقانون ،يتطلب جدية يف البحث عنه،
حتى لو �شككت بكل �شيء ،ليكن �شكك على م�ستوى هذا اخللق ،ليكن �شكك
جا ًّدا ،ال لع ًبا وله ًوا.
و�إن ق�ضيتها لع ًبا ً
وخو�ضا وال مباالة ،ف�سيكون لديك لعبة �أخرى هناك،
الح ًقا يف الآخرة.
ﻋﺼ
ما ر�أيك �أن حتاول امل�شاركة بها؟
ﲑ ﺍﻟ
ََ ْ ُْ ُ َ ُْْ َْ َ َ ُ َْ َّ َ َ َ َ َّ ُّ
ﻜﺘ
ُ ُ ْ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ َْ
ال ِم ِيم ذق إِنك أنت الع ِزيز الك ِريم{ (ادلخان .)49 :43
ﺸﺮ
ْ َ َْ ْ ُ
}ذ ْق إِنَّ َك أن َت ال َع ِز ُيز الك ِر ُيم{ �ساب ًقا ومبعايريك �أنت ،ولكن لأنك ق�ضيت
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�شي ًئا ف�شي ًئا �إىل كل �شيء ،فقد و�صلت �إىل هنا.
ماذا عنا نحن؟
تقول لنا ال�سورة �أن نراقب الدخان ومنيزه جيدً ا.
َ ْ َ ْ َّ ُ ُ َ ُ َ
ارت ِقب إِنه ْم م ْرت ِقبون{ (ادلخان.)59 : }ف
جربت االنتظار؟
َ
مثل ،امتحان م�صريي يحدد م�ستقبلك، انتظار نتيجة ما ،امتحان ً
ﻋﺼ
�أو نتيجة مقابلة عمل يتوقف عليه م�سارك املهني� ،أو نتيجة فح�ص طبي
ﲑ ﺍﻟ
يقطع ال�شك باليقني يف كون هذا الت�ضخم الذي �شككت بوجوده هو �سرطان
ﻜﺘ
�أغلب الب�شر يتوترون �أثناء االنتظار �أكرث من توترهم �أثناء التح�ضري له
ﺸﺮ
يف�ضل الهرب �إىل عدم التفكري، معر�ضا لالنفجار يف �أي حلظة ،البع�ض ِّ
ً
مثل �أو االن�شغال بالكثري من العمل ،ريثما تظهر النتيجة. النوم ً
يف اللحظات الأخرية من االنتظار ،بينما النتيجة تكاد ُت ْع َلن ،يبلغ التوتر
مداه ،القلوب عند احلناجر ،تكاد ت�سمع دقاتها كما لو كانت يف مكرب �صوت.
البع�ض هنا ال حتمله قدماه من �شدة التوتر ،يجثو على الأر�ض ،ال هو
ي�ستطيع الوقوف قائ ًما ،وال ميلك ترف اال�ستلقاء على الأر�ض يف هذه
اللحظات.
- 303 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
تفعله لغري النتيجة التي مل ُت ْع َلنْ بعدُ؟
ﲑ ﺍﻟ
خ�ضم فال�ش باك ي�أخذنا يف
ِّ تقول لنا ال�سورة� :إننا غال ًبا �سنكون يف
ﻜﺘ
ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ِّ ُ َ َ َ
اب أ ِل ٍم ْ ً ُ ْ َ َ َ ْ ُ َّ ُ ُّ َْ َ ُ َ
}يسمع آي ِ
ات اهلل تتل علي ِه ثم ي ِص مستك ِبا كأن لم يسمعها فبشه بِعذ ٍ
ﺸﺮ
ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ً َّ َ
ات َذ َها ُه ُز ًوا أول َِك ل ُه ْم َع َذ ٌاب ُم ِه ٌني{ (اجلاثية .)9 :8 وإِذا علِم مِن آيات ِنا شيئا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ثم تقول لك ال�سورة �شي ًئا ال تعرف �إن كان �سيهدئ من روعك يف هذه
اللحظات �أم �سيزيد من توترك.
ُْ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ َ َ ً َ َْ
ون{ ترجع اء فعليها ث َّم إِل َربك ْم }من ع ِمل ص ِ
الا فلِنف ِس ِه ومن أس
(اجلاثية.)15 :
حتار هنا� ،أين �ست َُ�ص َّنف �أنت؟ مع َمنْ عمل �صا ً
حلا �أم مع من �أ�ساء؟
حلظات وتعرف �أين موقعك ،ولكنها تبدو كدهر.
َ ْ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ
ِين ل يعلمون{ }ثم جعلناك ع ِ
شيع ٍة مِن الم ِر فاتبِعها ول تتبِع أهواء ال
(اجلاثية.)18 :
هذا �سيكون م�ؤملًا يف الفال�ش باك ،لو �أننا فقط اتبعنا «ال�شريعة من
ﻋﺼ
الأمر»؛ لكان و�ضعنا �أف�ضل الآن ،ما الذي منعنا من ذلك؟
ﲑ ﺍﻟ
َ ََ َْ ََ ْ َ َ ََ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ
}أف َرأيت م ِن اتذ إِلهه ه َواهُ َوأضله اهلل ع عِل ٍم َوخت َم ع سم ِع ِه َوقلبِ ِه َوجعل
ﻜﺘ
�شخ�صا
أيت؟ كنا نقول :ال ،من هذا الذي يتخذ �إلهه هواه ،ال نعرف ً
�أفر� َ
ﺸﺮ
الآن نفهم ،لقد كنا نرى هذا ال�شخ�ص دائ ًما ،رمبا ر�أيناه مرا ًرا يف
ﺯﻳﻊ
ال بد �أنه �إله الهوى ال�شخ�صي� ،إله الفردية ،مفهوم احلرية ال�شخ�صية
وقد و�سع من نف�سه و َن َ�ص َب ذاته وث ًنا ال يقبل لطاعته �شري ًكا �أو خال ًفا يف
الر�أي.
َ َ َّ َ َ ُ َ ُّ ْ َ
ادلنيا }ما ِه إِل حياتنا
ال بد �أنه هو الذي �أو�صلنا �إىل هذه القناعة
َُ ُ َ
وت َونْ َيا{؛ لأن هذه القناعة هي التي متنح كل ال�صالحيات لإله الهوىنم
ال�شخ�صي.
ولكن ،فج�أة.
َ ُ ْ
َ َ ْ َ َ ُ ُ َّ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َْ
ُ ُ َّ َ َ ْ
ون{ س المب ِطل ات َوال ْر ِض ويوم تقوم الساعة يومئِ ٍذ ي َ
}وهلل ملك السماو ِ
(اجلاثية.)27 :
ما الذي يحدث؟ لقد متناُ ،ي ْف َتَ�ض �أن تلك كانت النهايةُ ،ي ْف َتَ�ض �أنها
ﻋﺼ
حياتنا الدنيا ،ومن َث َّم نقطة نهاية ال�سطر ،ما الذي يحدث الآن؟ هل هذا
ﲑ ﺍﻟ
كابو�س يزعج نومتنا الأبدية؟
ﻜﺘ
ها نحن يف انتظار ما �سيحدث ،قيل لنا� :إن هناك بع ًثا وح�سا ًبا وجزا ًء
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻋﺼ
�أدق ،ثمة كامريات يف كل مكان ،حتى يف داخلنا ،ت�سجل كل �شيء.
ﲑ ﺍﻟ
ها نحن ننتظر النتيجة.
ﻜﺘ
جنثو تقري ًبا يف و�ضع الركوع ،ال ن�ستطيع �أن نقف قائمني ،ولكن ال
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِ ِ
قد تتخيل �أن الأر�ض حتت قدميك �صلبة ،ال ي�ساورك �أدنى �شك يف ذلك،
بل وتبني ً
خططا وم�شاري َع ال ميكن �أن تتحقق لوال �صالبة هذه الأر�ض.
ﻋﺼ
لكنك ال حتاول حتى �أن تت�أكد من ذلك� ،صالبة الأر�ض حتت قدميك
ﲑ ﺍﻟ
هي من ُم َ�س َّل َماتك.
ﻜﺘ
ثم فج�أة دون مقدمات� ،أو على الأقل دون مقدمات تنبهت لها ،ت�ستحيل
ﺐ ﻟﻠﻨ
واحدة.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�إىل اللحظة التي تكت�شف فيها �أن الأر�ض لي�ست �صلبة ح ًّقا كما كنت
تتوهم ،و�أنك تغو�ص يف رمال متحركة ،كلما حاولت �أن تخرج منها ُغ ْ�ص َت
فيها �أكرث.
***
ْ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ََْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َْ َ َ َْ َ ُ ْ َ ْ َ
ي يدي ِه َومِن ِ ب ِن
م ر ذ انل ت
ِ لخ دقو }واذكر أخا ع ٍد إِذ أنذر قومه بِالح ِ
اف ق
ِّ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َّ
يم{ (األحقاف.)21 : خل ِف ِه أل تعبدوا إِل اهلل إِن أخاف عليكم عذاب يومٍ ع ِظ ٍ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ كيف تغري الأمر؟
َ ُ َ َ َ ٌ ُ ْ َ َْ ُ َ َ َ َّ َ َ ً ُ ْ َ ْ َ َ َ
}فلما َرأ ْوهُ عرِضا مستقبِل أ ْودِيتِ ِه ْم قالوا هذا عرِض مم ِط ُرنا بل ه َو ما
ﻜﺘ
ُ َ ِّ ُ ُ َّ َ ْ َ ْ ِّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُ ٌ َ َ َ ٌ َ ْ َْ َ ُْ
ش ٍء بِأم ِر َربها فأصبحوا ل ي َرى استعجلت ْم ب ِ ِه ِريح فِيها عذاب أ ِل ٌم تدمر ك
ﺐ ﻟﻠﻨ
الغيوم تتجمع يف ال�سماء ،ثمة مطر قادم �إذن ،هذا خري �أكيد� ،سريتوي
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لكن �أحيا ًنا ،هذا الذي ن�أمل ونخطط �أن يكون فيه ازدهارنا هو ذاته
الذي ت�أتي نهايتنا منه ،ذلك املطر الذي ا�ستب�شر فيه قوم عاد كان فيه
دمارهم وزوالهم ،الأر�ض التي كانت تبدو �صلبة حتت �أقدامهم غارت
و�أخذتها معهم.
كيف؟ من التف�سريات املطروحة �أن الفراغات بني جزيئات الرمال يف
بع�ض �أنواع الرمال تكون �أكرب بكثري من �أنواع �أخرى ،و�أن هذا يجعل املياه
التي تت�سرب بينها كافية لتحويل كل �شيء �إىل كتلة ت�سحب كل ما فوقها.
ﻋﺼ
كم �أقبلنا على جتارب من هذا النوع ونحن نتحدث عن تغرينا 180
ﲑ ﺍﻟ
درج ًة �إىل الأف�ضل طب ًعا ،ومل ننتبه يف
ﻜﺘ
} َه َذا َع ِر ٌض ُم ْم ِط ُرنَا{ ،لي�س قوم عاد وحدهم َمنْ قالوها ،بل هذا كان
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حتت قيادة فالن �أو ب�أيديولوجية معينة ،ثم انتهت الأمور �إىل حيث ت�سر
الأعداء.
حدث هذا كث ًريا ويحدث با�ستمرار.
***
ال�سورة حتدثنا � ًأول عن عدم ال�سقوط يف هذا امل�ستنقع بالأ�سا�سَّ � ،أل
تبني بيتك و�أحالمك وم�شاريعك على رمال متحركة ،حتى لو َب َد ْت لك هذه
الرمال �صلبة يف البداية.
- 310 -
سورة األحقاف
كيف؟
الإميان بالطبع ،الإميان كقيم فاعلة وحمركة ،الإميان باهلل اخلالق
وا�ضع القوانني وال�سنن و ُم ْن ِز ِل كتب الهداية والإر�شاد.
الإميان على ر�أ�س قائمة �أ�سباب الوقاية من ال�سقوط ،وعلى ر�أ�س قائمة
مكونات حبل الإنقاذ الذي ميكن �أن ميتد لأيادينا فيما لو حدث و�سقطنا.
لكن الإميان يت�ضمن � ً
أي�ضا ما هو �أكرث ،ما ال ن�ضعه يف ح�سباننا ك�إميان.
لكنه يف �صلبه ،ويف �صلب موانع ال�سقوط يف الرمال املتحركة.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ ويف ر�أ�س قائمة الإنقاذ.
ﻜﺘ
***
ﺸﺮ
َ َُْ ُ ً َُُْ َ َ َّ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ً َ َ َ ْ ُ ُ ُّ ُ ُ ً
الي ِه إِحسانا حلته أمه ك ْرها َو َوضعته ك ْرها َوحله النسان بِو ِ }ووصينا ِ
َْ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ ْ ً َ َّ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ً َ َ َ ِّ َ ْ ْ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وف ِصال ثلثون شهرا حت إِذا بلغ أشده وبلغ أرب ِعني سنة قال رب أو ِزع ِن أن
َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ َ َ ْ ْ
ﺯﻳﻊ
الا ت ْرضاهُ َوأصلِح ِل ِف أشكر ن ِعمتك ال ِت أنعمت ع وع و ِالي وأن أعمل ص ِ
َ
ُ َ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ ك َوإ ِّن م َِن ال ْ ُم ْسلم َ ُ ِّ َّ ِّ ُ ْ ُ َ ْ َ
ِين نتقبل عنه ْم أحس َن ما ني أول ِك ال ِِ ِ ذري ِت إِن تبت إِل
َ ُ ُ َ ُ َ َّ َ َّ ْ َ ِّ ْ ْ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ ِّ َ
الن ِة َوعد الصد ِق الِي كنوا يوعدون اب
ِ اوز عن سيئات ِِه ْم ِف أصح ع ِملوا ونتج
َ ْ ُ ْ َ َ ََْ َ َ ُْ ُ ُ ْ َْ َ َُ َ َ َ َ ْ ُ ٍّ َ ُ َ َ َ َ َّ
ت القرون مِن قب ِل وهما َوالِي قال ل ِو ِالي ِه أف لكما أت ِعدان ِِن أن أخرج وقد خل ِ
ِري ْالَ َّول َ َ
ِني ول َما َه َذا إ َّل أ َساط ُ
َ ٌّ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َّ ْ َ
ان اهلل َويلك آمِن إِن َوعد اهلل حق فيق
َْ َ َ
يست ِغيث
ِ ِ
ُ َ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ْ ِّ َ ْ ْ َّ ُ
الن ِس إِنه ْم الن و ِ
أول ِك الِين حق علي ِهم القول ِف أم ٍم قد خلت مِن قبل ِِهم مِن ِ
ين{ (األحقاف .)18 :15 َكنُوا َخاس َ
ِ ِ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ لكنه د َّمر حبل النجاة.
***
ﻜﺘ
هل كان قوم عاد �أغبياء؟ كيف فات عليهم هذا الأمر؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
هل كان كل من ي�سري على ُخطاهم غب ًّيا لي�صل �إىل تلك النهاية يف
ﺸﺮ
الرمال املتحركة؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
على العك�س.
ﺯﻳﻊ
َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ً ََْ َ ً َ ْ َ ً َ َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َّ َّ ُ
ارا َوأفئِدة فما} َولقد مكناه ْم فِيما إِن مكناك ْم فِي ِه وجعلنا لهم سمعا وأبص
َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ ْ ََ َْ َ ُ ُ ْ ََ َْ َ ُ ُ ْ ْ َ ْ ْ َ ُ َْ َ ُ َ َ
ات اهلل
ش ٍء إِذ كنوا يحدون بِآي ِ أغن عنهم سمعهم ول أبصارهم ول أفئِدتهم مِن
َْ َْ ُ َ َ َ ُ َ َ
َوحاق ب ِ ِه ْم ما كنوا ب ِ ِه يسته ِزئون{ (األحقاف.)26 :
كان لديهم كل �أدوات التمكني ،وكل �آليات العقل ،ولكن رمبا وثقوا فيها
�أكرث مما يجب ،ت�صوروا �أن ال حدود لإمكاناتهم ،وكان ذلك نقطة التحول
التي جعلت من متكينهم انتحا ًرا.
ال يتطلب الأمر قدرة خارقة �أحيا ًنا لكي ترى ما هو �شديد الو�ضوح،
حتتاج فقط �أن تكون متواز ًنا يف النظر �إىل الأمور� ،إىل قدراتك و�إىل
قدرات خالقك وقوانينه و�سننه و�إر�شاداته.
َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ً َ ْ ِّ َ ْ َ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ ُ
ضوهُ قالوا أن ِصتوا }وإِذ صفنا إِلك نفرا مِن ِ
الن يست ِمعون القرآن فلما ح
ين{ (األحقاف.)29 : ض َول َّ ْوا إ َل َق ْومِه ْم ُم ْنذِر َ
َفلَ َّما قُ ِ َ
ِ ِ ِ
ال نعرف الكثري عن اجلن ،غري �أنهم خملوقات يف ُب ْع ٍد �آخر �إن جاز
التعبري ،القر�آن نزل لنا ب�شكل �أ�سا�سي ،لكنهم بقليل من اال�ستماع ،من
ﻋﺼ
النظر من بعيد؛ �آمنوا به.
ﲑ ﺍﻟ
ال حتتاج الكثري لكي ت�ؤمن مبا هو وا�ضح وبديهي.
ﻜﺘ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
َ ُّ ُ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ََ ُ ُ َْْ
جل له ْم كأنه ْم ي ْوم ي َر ْون
}فاص ِب كما صب أولو العز ِم مِن الرس ِل ول تستع ِ
ﺯﻳﻊ
َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ َ َ ً ْ َ َ َ َ ٌ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َّ ْ َ ْ ُ ْ َ ُ َ
ون{ ار بلغ فهل يهلك إِل القوم الفا ِسق ما يوعدون لم يلبثوا إِل ساعة مِن نه ٍ
(األحقاف.)35 :
مهمة �إنقاذ النا�س من الرمال املتحركة لي�ست �سهلة �أبدً ا.
حتتاج �ص ًربا وعزمية بوجه الرياح والرمال املتحركة ،وبوجه َمنْ ي�ص ِّفق
لكل عار�ض ممطر ،بينما على ب�صريته غ�شاوة.
ت�صلي عليه عندما ترى ا�سمه الكرمي ا�س ًما لل�سورة ،يت�أهب قلبك
ت�شرئب م�شاعرك و�أنت تريد �أن مت�سه �أو تعانقه ،وقد ُّ حل�ضوره املنري،
ﻋﺼ
ت�صل �أحالمك �إىل �أن تق ِّبل يديه �أو خده �أو ر�أ�سه ال�شريف.
ﲑ ﺍﻟ
تريد الفردو�س الأعلى ،ف ِل َم ال؟
ﻜﺘ
ُي َ�ض ُّخ يف عروقك ك�شالل هادر ،تكاد تتعرث ارتبا ًكا و�أنت تدخل ،ك�أي حمب
ﺸﺮ
تدخل وتدير ر�أ�سك بح ًثا عنه ،نعم ،ثمة نور يف �أرجاء ال�سورة ،لكن �أين
ﺯﻳﻊ
�ستفهم بينما تقر�أ �أن الأمر مق�صود� ،أن تدخل ال�سورة بهذا الرتقب،
تريد �أن تقرتب منه عليه ال�صالة وال�سالم ،لكن ال�سورة �ستدلك على ما
هو �أهم من ذلك� ،ستدلك على قرب حقيقي تناله منه� ،ستدلك على نف�سك
عندما تقرتب من �سريته و�شخ�صه.
�ستحدثك ال�سورة عنك �شخ�ص ًّيا ،عنك يف �أف�ضل حاالتك ،يف �أف�ضل
ن�سخة ممكنة منك� ،ألي�س هذا ما ُب ِعثَ عليه ال�صالة وال�سالم من �أجله
بالأ�سا�س؟
***
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
َ َ ُ َ ُ ِّ َ َ َ ُ َ َّ َ ُ َ ْ َ ُّ ْ ِّ َ ُ َّ َ َ ُ
ﻜﺘ
َّ
الق مِن َرب ِه ْم ات وآمنوا بِما نزل ع مم ٍد وهو ال ِالص ِ َ ِين آمنوا َوع ِملوا
}ال
َ
َ َّ َ ْ ُ ْ َ ِّ َ ْ ْ َ َ َ َ ُ ْ
كف َر عنهم سيئات ِِهم َوأصلح بالهم{(حممد.)2 :
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﺸﺮ
�أ�صلح بالهم!
ﻭ
َ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َ ُ ُّ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ِّ َ
اب حت إِذا أثنتموه ْم فشدوا ال َوثاق الرق ِ }فإِذا ل ِقيتم الِين كفروا فضب
َ
َ ْ َ َ َ ْ ُْ
اء اهلل لنتص مِنهم
َ َ َ َ َ
ارها ذل َِك َول ْو يش ُ ض َع ْ َ
ال ْر ُب أ ْو َز َ َ َّ َ ًّ َ ْ ُ َ َّ َ ً َ َّ َ َ
فإِما منا بعد وإِما ف ِداء حت ت
َ َ َ َ ُ ُ َّ ََ ْ َْ َُ َْ َ ُ
ِين قتِلوا ِف َسبِ ِيل اهلل فل ْن يُ ِض َّل أ ْع َمال ُه ْم{ ك ْم ب َب ْعض َوال َ
ِ ٍ كن ِلبلو بعض ول ِ
(حممد.)4 :
�إنها املواجهة� ،صالح البال حدث باملواجهة ،ع�سكرية هنا كما هو
وا�ضح ،لكن الأمر يف جوهره هو املواجهة ،لي�ست ع�سكرية بال�ضرورة،
بل مواجهة �أفكار �أحيا ًنا ،مواجهة نف�سك يف �أخطائها ،يف تق�صريها ،يف
ذنوبها.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
�صالح البال ي�أتي �أحيا ًنا من مواجهات كهذه ،وال ي�أتي �أبدً ا �إذا هربنا،
ﻜﺘ
صكم َويثبت أقدامكم{ (حممد.)7 : آم ُنوا إ ْن َت ْن ُ ُ }يا أيها الِين
ِ
ﺸﺮ
اخلطوة الأوىل هنا ت�أتي منك ،وهل يحتاج اهلل جل جالله �إىل ن�صر؟!
ﻭ
حا�شاه.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ال� ،أنت من يحتاج -يف �أف�ضل ن�سخة منك � -أن تقدم م�ستحقات
الن�صر� ،أن تثبت لنف�سك � ًأول �أنك ت�ستحق العون منه عز وجل� ،أنت َمنْ يف
حاجة �إىل �أن تثبت لنف�سك ذلك كي يث ِّب َت هو �أقدامك.
َ َ َ ِّ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ُ َّ ً ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ
اه ْم َف َل نَ ِ َ
اص }وكأين مِن قري ٍة ِه أشد قوة مِن قريتِك ال ِت أخرجتك أهلكن
َ
ل ُه ْم{ (حممد.)13 :
كل الأمور يف النهاية متر ،و�أنت ل�ست حج ًرا يف قريتك �أو مدينتك �أو
يف جمموعة الأ�صدقاء حولك ،ت�ستطيع �أن تغري عنوانك وموقعك لو عجزت.
- 316 -
سورة محمد
عن تغيري قريتك �أو مدينتك �أو �أ�صحابك .ل�ست الأول ولن تكون الأخري،
الفراق �صعب حت ًما ،لكن �أن تتحول �إىل حجر �أ�صعب بكثري.
َ ُْ َْ ُْ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ُ ْ ُ ً
ِين اهتد ْوا زادهم هدى َوآتاهم تق َواهم{ (حممد.)17 :
}وال
ﻋﺼ
حقيقتان �أ�سا�سيتان ال مفر منهما ،مثل البديهيات بالن�سبة ملن يريد �أن
ﲑ ﺍﻟ
يقرتب منه عز وجل� ،أن يكون يف �أح�سن ُن َ�س ِخه.
ﻜﺘ
�أنه ال �إله �إال هو ،بكل معاين ذلك ،و�أنك كب�شر معر�ض للخط�أ؛ لأنه جزء
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ َ ُ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ َ ٌ ُ
ورة مكمة َوذك َِر فِيها }ويقول الِين آمنوا لول نزلت سورة فإِذا أن ِزلت س
ﻭ
ْ ُ ُ ْ َ َ ٌ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ِّ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َّ َ
ﺍﻟﺘﻮ
تال ِقتال رأيت الِين ِف قلوب ِ ِهم مرض ينظرون إِلك نظر المغ ِش علي ِه مِن المو ِ
ََ َ َُ ْ
ﺯﻳﻊ
البع�ض ال يريد املواجهة ،يف�ضل �أن يبقى يف منطقة الراحةَ ،منْ ه�ؤالء
البع�ض؟ الذين يف قلوبهم مر�ض ،تقول الآية ذلك كما لو كانت تقول لك:
هل �أنت منهم؟
تبحث يف الآيات عن املزيد من العالمات لكي حتدد جوابك ،فتجد
جوا ًبا يفتح لك باب اخلروج من هذه اخلانة لو كنت فيها � ً
أ�صل.
َْ ُ ُُ َ ْ
َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ َََ
وب أق َفال َها{ (حممد.)24 :
ٍ ل ق ع }أفل يتدبرون القرآن أم
�ستخرج من هذه اخلانة ب�أن تزيل الأقفال على قلبك ،ب�أن تتدبر كل ما
مر عليك من �آيات.
ثم تتابع الآيات وهي ت�صف �أولئك الذين يف الطرف الق�صي من
الن�سخة الأف�ضل منك ،يف الطرف الأبعد منه عليه ال�صالة وال�سالم ،و�أنت
تقف عند كل �صفة لتت�أمل ،نعم ،ال ،رمبا!
وتوقفك �آية وهي حتذرك من �أن تقف يف منت�صف الطريق ،من ن�صف
املواجهات.
ﻋﺼ
ََ ُ ْ ََ ْ َ َُ َّ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ َ َْ ُ ََ َ ُ
تك ْم}فل ت ِهنوا َوتدعوا إِل السل ِم َوأنتم العلون َواهلل معكم ولن ي ِ
ﲑ ﺍﻟ
َ ْ َ َ ُ ْ
أعمالكم{ (حممد.)35 :
ﻜﺘ
�إن كنت يف موقع القوة �ضمن مواجهتك ،فال ُت ْق ِد ْم على ن�صف مواجهة،
ﺐ ﻟﻠﻨ
در�سا يف القيم
أ�صل هو �أن تعطي ً ال ُت ْن ِه َها بالتنازل �إال �إذا كان هدفك � ً
ﺸﺮ
والأخالق وك�سب العقول والقلوب ،كما فعل عليه ال�صالة وال�سالم يف فتح
ﻭ
ﻋﺼ
دوما مرتبط يف �أذهاننا بحدث كبري من هذه الأحداث.
الفتح ً
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ً
مرتبطا بانت�صار كبري �ساحق حا�سم. ال بد �أنه كان
ﺸﺮ
ماذا �إذن؟ �أي انت�صار ع�سكري هذا الذي و�صفته ال�سورة بالفتح املبني؟
ال يوجد ،ال�سورة حتدثت عن معاهدة �صلح ،الفتح املبني كان اتفاقية
هدنة ،معاهدة �صلح احلديبية .ال معركة وال انت�صار ع�سكري �ساحق.
لي�س هذا فقط ،الكثري من امل�سلمني -ومنهم عمر بن اخلطاب -كانوا
قد اعتربوا �أن �شروط الهدنة لي�ست ل�صالح امل�سلمني ،و�أنها كانت جمحفة
يف جوانب كثرية(((.
((( صحيح البخاري 3182
- 319 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
ما حدث لنا ،ال �أق�صد هنا �أن التجربة الناجتة عن هذا ال�شيء ال�سيئ قد
ﲑ ﺍﻟ
زادنا قوة وجعلنا �أكرث خربة ،فكان بالتايل �أف�ضل ما حدث لنا.
ﻜﺘ
املق�صود حرف ًّيا �أن حد ًثا ما َب َدا لك يف البداية كما لو �أنه دون �أحالمك
ﺸﺮ
خططت له وما
َّ وطموحاتك ،ثم فهمت بالتدريج �أنه كان �أف�ضل من كل ما
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حلمت به.
َ
ﺯﻳﻊ
فتحا مبي ًنا يف احلقيقة ،لكنك ت�صورتَ �أنه جمرد هدنة ب�شروط كان ً
مهينة.
قد يحدث هذا يف ارتباطاتنا ال�شخ�صية ،نحلم ب�شخ�ص مبوا�صفات
َُ
أحالمنا ال ت َّقق على �أر�ض الواقع ،وقبل �أن يفوت الوقت، معينة ،لكن �
نقبل مبوا�صفات نعتقد �أنها �أقل من �أحالمنا ،نقبل ب�شخ�ص لي�س على قدر
طموحتنا ،ولكن كحل و�سط؛ ع�صفور يف اليد.
ثم نكت�شف �أن هذا ال�شخ�ص كان فوق كل �أحالمنا الأوىل ،و�أنه كان
فتحا مبي ًنا لنا ،بينما ت�صورناه � ًأول «هدنة
�أف�ضل لنا مبا ال يقا�س ،و�أنه كان ً
ب�شروط جمحفة».
ميكن �أن يحدث هذا كث ًريا يف حياتنا ،مع خيارات الدرا�سة والعمل
واالرتباط والق�ضايا امل�صريية الأخرى.
البع�ض ي�ستطيع �أن ينظر �إىل الوراء ليق ِّيم ما حدث ،فيكت�شف �أن ما م َّر
كان ملي ًئا ب�إيجابيات مل َت ُد ْر يف باله يوم ندب حظه على ما حدث.
ﻋﺼ
حبي�س حلظة الندب ،حلظة «مل يكن هذا ما َ البع�ض الآخر �سيبقى
ﲑ ﺍﻟ
�أريده» ،حلظة «�أ�ستحق �أف�ضل من هذا».
ﻜﺘ
ب�سياقات �أو�سع.
ﺸﺮ
�سورة الفتح ت�أخذك من يديك لتع ِّلمك كيف تخرج من هذه اللحظة� ،أن
حتاول جت ُّنب دخولها � ً
ﻭ
�إىل الن�ضج.
ﺯﻳﻊ
َ ََُ ُ ُ ُ ْ َ َّ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ
الا ِهلِي ِة فأن َزل اهلل سكِينته ِين كف ُروا ِف قلوب ِ ِهم ال ِمية حِية}إِذ جعل ال
َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ََ ُ
ولِ وع المؤ ِمنِني وألزمهم كِمة اتلقوى وكنوا أحق بِها وأهلها وكن اهلل ع َرس ِ
ُ ِّ َ ْ َ ً
ش ٍء علِيما{ (الفتح.)26 : بِكل
ﻋﺼ
�أحداث ،هو �أول خطوة يف �إمكانية فهم �إمكانات الفتح فيها ،يف ر�ؤية ما ال
ﲑ ﺍﻟ
ميكن ر�ؤيته يف جزع اللحظة الأوىل.
ﻜﺘ
بعد ال�سكينة� ،سيكون هناك عقد بيع عليك �أن تذهب لتوقيعه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
عقد البيع هذا هو ال َب ْي َعة ،عهد تقطعه على نف�سك مع نف�سك �أمام اهلل،
ﺯﻳﻊ
لي�س لديك فر�صة �أن ت�ضع يدك على يديه ال�شريفتني ،لكن هناك فر�صة
�أن تعاهد قيمه ور�سالته ،هذا ال يقل �أهمية عن و�ضع يدك حتت يديه
ال�شريفتني ،ما دمت �صاد ًقا يف ذلك.
هنا بعد ال�سكينة ،عندما تعاهد قيمه ،يكون ذلك عهدً ا على موا�صلة
الطريق ،على رف�ض الي�أ�س ،على حماولة ر�ؤية ما هو �إيجابي.
ُُ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ }لَ َق ْد َر ِ َ
ني إِذ يبايِعونك تت الشج َرة ِ فعل َِم ما ِف قلوب ِ ِه ْم ض اهلل ع ِن المؤ ِمنِ
َ َ ََ َ َ َ ْ َ َ َّ
السك َِين َة َعل ْي ِه ْم َوأث َاب ُه ْم ف ْت ًحا ق ِر ًيبا{ (الفتح.)18 : فأنزل
ال ميكن �أن نبايعه عليه ال�صالة وال�سالم حتت ال�شجرة ،جئنا يف زمان
�آخر.
دوما �أن ن�ستظل ب�شجرة تعليماته وقيمه ،و�أن نقف حتتها
لكن ميكننا ً
لنبايعه جمددًا.
ْ َ ِّ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ
ام إ ْن َش َ َ ُ َ ُ ُّ ْ َ ََ ْ َ َ َ
اء اهلل جد الر ِ }لقد صدق اهلل رسول الرؤيا بِالق لدخلن المس ِ
َ ُ َ ِّ َ ُ ُ َ ُ ْ َ ُ َ ِّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ
صين ل تافون فعلِم ما لم تعلموا فجعل مِن ِ
ون د آ ِمنِني مل ِقني رءوسكم ومق ِ
َ َ َْ ً َ ً
ذل ِك فتحا ق ِريبا{ (الفتح.)27 :
ﻋﺼ
كانت الر�ؤيا هي دخول مكة كهدف نهائي ،لكن دون ذلك كانت موانع
ﲑ ﺍﻟ
عديدة ،لي�ست الع�سكرية �أهمها ،بل كانت هناك عوامل �أكرث �أهمية ُت ْغ ِلقُ
ﻜﺘ
كل ت�أجيل �أو ت�أخري متر به -مهما �أزعجك -ميكن �أن يحتوي على
مفاتيح ثمينة حتملها يف رحلتك ،تفتح به ما يو�صد �أمامك.
من هذه املفاتيح :خربتك ال�شخ�صية ،قدرتك على التحمل� ،إعادة
احل�سابات والتقييم ،توا�ضعك �أمام الظروف التي ال ت�ستطيع تغيريها
وو�ضعها يف ح�ساباتك.
كل �صاحب جتربة يعرف جيدً ا كم هي مهمة هذه املفاتيح يف حتقيق
الأهداف.
ﻋﺼ
أجيل كهذا ،ميكن �أن يكون هو كل �صاحب جتربة يعرف �أن ت�أخ ًريا �أو ت� ً
ﲑ ﺍﻟ
الفتح احلقيقي الذي م َّهد للنجاح الح ًقا.
ﻜﺘ
َّ ً َ َّ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ َّ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ َّ ٌ ُ ُ
اء بينه ْم ت َراه ْم ُركعا ار رح
ِ }ممد َرسول اهلل والِين معه أ ِشداء ع الكف
ْ َ ُّ ُ َ َ َ ُ َ ُ ْ ً ُ َّ ً َ ْ َ ُ َ َ ْ ً
سجدا يبتغون فضل م َِن اهلل َو ِرض َوانا ِسيماه ْم ِف ُوجوه ِِه ْم مِن أث ِر السجو ِد ذل ِك
ﺐ ﻟﻠﻨ
ِ
َّ َّ َ َ ُ َ ُ ُ ْ ُ ُّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ََ ُ
ات
ال ِالص ِ َ ِين آمنوا َوع ِملوا ار َوعد اهلل ال جب الزراع ِل ِغيظ ب ِ ِهم الكف ع سوق ِ ِه يع ِ
ﻭ
ُْ َْ ً َ ْ َ ً
ﺍﻟﺘﻮ
تختتم �سورة الفتح بهذه ال�صورة ملحمد والذين معه� ،صورة الزرع الذي
بلغ �أعلى �صور ن�ضوجه وزيادته ،تذ ِّكرنا ال�صورة هنا ب�أن كل ذلك بد�أ ببذور
�صغرية ،ومر رمبا بظروف �صعبة ،واحتاج �إىل وقت طويل و�صرب لكي ينمو
وي�شتد �إىل �أن ي�صل �إىل زهوته قبل احل�صاد.
الفتح مل يكن حلظة احل�صاد.
بل يف املرور بكل مرحلة يف وقتها املنا�سب ،ويف عدم ا�ستعجال �أي �شيء
للو�صول �إىل الهدف قبل �أوانه.
- 324 -
سورة الحجرات 49
في حجرة مجاورة
تبدو �سورة احلجرات كما لو �أنها �ض َّمت �أهم قواعد ال�سلوك والتعامل
جمتمع �إن�ساين ،من �أب�سط َهذه القواعد :خف�ض ال�صوت َ
بني الب�شر يف
َّ َ َ َ َ
ْ َ ُ ْ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ُ َّ َ ُّ َ
ﻋﺼ
ت انل ِّ ْ َ َ
ب ول احلديث} ،يا أيها الِين آمنوا ل َ ترف َعوا أ َصواتكم فو َق ص َو ِ ِ �أثناء
ْ ُُ َ َ ْ ُ
ْ ََْ ْ َ ُ ْ َ ْ َْ َ َ ْ َ ََْ
ُ ُ
ﲑ ﺍﻟ
ون{ ته ُروا لُ بِالق ْو ِل كجه ِر بع ِضك ْم ِ َلع ٍض أن تبط أعمالك ْم َوأنت ْم ل تشعر
ﻜﺘ
(احلجرات.)2 :
َ ُْ ْ َ ََُْ َ ْ َ ََ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ني اقتتلوا ان مِن المؤ ِمنِاملجتمع} ،وإِن طائ ِفت ِ ف�ض النزاعات بني �أفراد �إىل ِّ
َ َّ َ َ َ َْ َ َ ْ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َّ
ﺸﺮ
فأصلِحوا بينهما فإِن بغت إِحداهما ع الخرى فقات ِلوا ال ِت تب ِغ حت ت ِفء إِل
ْ َْ ْ ََ َ َ َ
أ ْم ِر اهلل فإِ ْن ف َاء ْت فأ ْصل ُِحوا بَيْ َن ُه َما بِال َع ْد ِل َوأق ِس ُطوا إ ِ َّن اهلل ُيِ ُّب ال ُم ْق ِس ِط َني{
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
(احلجرات.)9 :
ﺯﻳﻊ
ال�سورة تو�صي � ً
أي�ضا بتجنب الكثري من الظن ،ولي�س جتنبه نهائ ًّيا فهذا
�أمر م�ستحيل ما دام هناك عقل يف حالة عمل ،النهي عن التج�س�س ،وعن
الغيبة:
َّ َ ْ َ َّ ْ َ َ َّ ُ َّ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ
اج َتنِ ُبوا َكثِ ً
ريا م َِن الظ ِّن إِن بعض الظ ِّن إِث ٌم َول تَسسوا }يا أيها الِين آمنوا
َ ْ ً َ َ ْ ُ ُ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ ً َ ُ ُّ َ َ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ
ول يغتب بعضكم بعضا أيِب أحدكم أن يأكل لم أخِي ِه ميتا فك ِرهتموه واتقوا
َ َّ ٌ
اب َرح ٌ َّ
ِيم{ (احلجرات.)12 : اهلل إِن اهلل تو
بعد هذا القواعد الناظمة للتعامل اليومي بني �أفراد املجتمع الواحد
ْ َ َ ُْ َ َ َ َْ ُ ُ ُ ً ُ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ ُّ َ
تقول ال�سورة} :يا أيها انلَّاس إِنا خلقناك ْم مِن ذك ٍر َوأنث َوجعلناك ْم شعوبا
ِيم َخب ٌ ََْ ُ
ﻋﺼ
َ َ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ
اك ْم إ َّن اهلل َعل ٌ
ﲑ ﺍﻟ
ري{ (احلجرات.)13 : ِ ِ ارفوا إِن أك َرمك ْم عِند اهلل أتقوقبائ ِل ِلع
ﻜﺘ
كما لو �أن ال�سورة تقول لنا -بعد �أن � َّأ�س�ست لقواعد تعاملنا مع بع�ضنا
ﺐ ﻟﻠﻨ
� :-إن التعامل نف�سه يجب �أن يكون مع باقي املجتمعات ،و�إننا لن نتمكن من
ﺸﺮ
ً
من�ضبطا. حتقيق تعامل متوازن مع اخلارج �إال �إن كان تعاملنا يف الداخل
ﻭ
قليل ونت�شابه كث ًريا،أي�ضا� :إننا يف النهاية واحد ،نختلف ً �إنها تقول لنا � ً
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ولكننا مت�شابهون� ،إذا كنا نعيب على فالن �أو نغتاب عال ًنا فنحن يف الوقت
نف�سه لدينا عيوب ميكن �أن ي� َّؤ�ش َر عليها و�أمور ميكن �أن ُن ْغت َ
َاب عليها.
كلنا ن�سكن يف حجرات متجاورة ،كلنا جريان يف نهاية الأمر ،مت�شابهون
يف عيوبنا وميزاتنا مهما حاولنا جتاهل ذلك ،وكلما تعارفنا على بع�ضنا؛
تع َّرفنا على �أنف�سنا �أكرث ،واكت�شفنا ت�شابهنا وتقاربنا �أكرث و�أكرث.
ميزان واحد هو الذي ميكن �أن يق ِّيم فروقاتنا واختالفاتنا :التقوى.
***
- 326 -
سورة الحجرات
�سـت�أخذك الآيات �إىل مكان تكون فيه قري ًبا منه عليه ال�صالة وال�سالم،
كما لو �أنه يف احلجرة املجاورة �أو يف حجرة قريبة ننتظره فيها.
نعم ،هو قريب ج ًّدا.
كل ما علينا �أن نفعله هو �أن ن�صرب.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
و�سرناه يخرج �إلينا ،و�سيكون خ ًريا لنا.
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ثمة �صنف �سينمائي حديث يقوم على نوع من التفاعل بني امل�شاهد
واملادة التي يراها ،ي�سمى هذا ال�صنف باملتفاعل ،حيث يختار امل�شاهد
ﻋﺼ
خيا ًرا من �ضمن عدة خيارات مف�صلية ملا �سيحدث من �أحداث ،وت�سري كل
ﲑ ﺍﻟ
الأحداث الح ًقا بنا ًء على خيار امل�شاهد ،الذي قد يختلف ً
متاما عن خيار
ﻜﺘ
م�شاهد �آخر ،وبالتايل ف�إن للفيلم جمموعة نهايات خمتلفة بعدد اخليارات
ﺐ ﻟﻠﻨ
املطروحة � ً
أ�صل.
ﺸﺮ
ثم تقودنا �إىل «الفال�ش باك» الذي يو�صل �إىل اخليار الذي اخرتته.
اخرتت؟
�إذن تعود �إىل خط �سري �أحداث حمدد يف ما�ضيك ،ت�سري عليه مبا
يتنا�سب مع خيارك.
تف�شل يف ذلك؟
تعود �إىل اخليار جمددًا ،هل �أنت مت�أكد من �صحة خيارك؟ «الفال�ش
باك» اخلا�ص بك يوحي بخيار �آخر.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
هل �أنت واثق �أنك تريد �أن تكرر اخليار؟ �أم �أنك هذه املرة �ستغري
ﻜﺘ
ذكرياتك� ،ستغري حياتك احلالية ،ما �سيكون الح ًقا «الفال�ش باك»؟
ْ َْ َْ ُ ُ َْ َْ ُ َ َََ ْ َ َْ َ ْ َْ َ َْ َ َ ُ ْ ُ
النسان َونعل ُم ما ت َوس ِوس ب ِ ِه نفسه َون ُن أق َرب إ ِ ْل ِه مِن حب ِل
ﺐ ﻟﻠﻨ
}ولقد خلقنا ِ
ْ
ال َو ِري ِد{ (ق.)16 :
ﻭ ﺸﺮ
هذا القرب ميكنك �أن تتعامل معه بعدة م�ستويات� ،أن ت�شعر ب�أمان
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
َ َ ُّ ُ َ ْ َ ِّ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ } َو َج َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ
الق ذل ِك ما كنت مِنه تِيد َ ون ِفخ ِف الصورِ ذل ِك ت بِ
اءت سكرة المو ِ
َََ َ ٌ َ ٌ َ َ َ ْ ُ ُّ َ ْ َ ُ ْ
اءت ك نف ٍس معها سائ ِق َوش ِهيد{ (ق .)21 : 19 ي ْوم ال َوعِي ِد وج
بد�أت امل�شاهد تتواىل �إذن ،ها �أنت ت�شاهد نف�سك و�أنت ت�صارع املوت،
ر�أيت اللقطة رمبا مع �أحباب لك ور�أيتها على ال�شا�شات ،هذه املرة �أنت
احلبيب املفارق� ،أو �أنت البطل الذي ميوت على ال�شا�شة ،ثم متوت ،مل
متاما.
تنطفئ الأ�ضواء كما توقعت ،بل حدث �شيء �آخر ً
ْ َ
اء َك ف َب َ ُ َ َ
َ َْ َْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ْ َُ َ
ص َك َال ْو َم َحد ٌِيد{ ك غ َِط َ }لقد كنت ِف غفل ٍة مِن هذا فكشفنا عن
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ (ق.)22 :
َ ُ
}ك ْن َت ِف َغ ْفل ٍة{.
ﻜﺘ
َ ْ َ َ ُ ُ ِ َ َ َّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ ْ َ
يد{ (ق.)30 : ت وتقول هل مِن ِ ٍ
ز م }يوم نقول لهنم ه ِل امتل ِ
ﺯﻳﻊ
َ َُ ْ َ ََ ُ َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُْ ُ
ون ف َِيها َو َل ْي َنا َم ِز ٌيد{ }ادخلوها بِسلمٍ ذل ِك ي ْوم اللو ِد لهم ما يشاء
(ق .)35 :34
نحب دور البطولة ،وقد نحلم به ،ونخطط لطموحاتنا على مقا�سه
وح�سب موا�صفاته.
ﻋﺼ
وبغ�ض النظر عن ف�شلنا �أو جناحنا يف حتقيق هذا الدور ،ف�إن ت�صورنا
ﲑ ﺍﻟ ِّ
�أن دور البطولة هو الدور الأف�ضل والأهم فيه م�شكلة كبرية.
ﻜﺘ
البطل مهم فقط يف �سياقه� ،ضمن �أدوار �أخرى مت ِّكنه من �إبراز بطولته،
ﺐ ﻟﻠﻨ
�سورة الذاريات ت�أخذنا �إىل هذه احلقيقة الأ�سا�سية التي يتعرث كثريون
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
منا قبل �أن يتقبلوها ،حقيقة �أن الأدوار يجب �أن ُت َو َّزع ،و�أن كل امل�شاريع
ﺯﻳﻊ
الكبرية التي تخدم النا�س وتعمر الأر�ض ال ميكن �أن حتدث �إال بوجود توزيع
للأدوار على نحو يجعل الكل �شركاء يف جناح امل�شروع ،ال بطل واحد ،وال
قائد �أوحد.
َ ْ ُ َ ِّ َ ات ي ُ ْ ً َ َْ َ ْ َ َْ َ َ َ َّ َ
ات
سا فالمقسم ِ الارِي ِ ت ِوق ًرا ف
الامِل ِ ات ذ ْر ًوا ف
}واذلارِي ِ
َْ
أم ًرا{ (اذلاريات .)4 :1
ﻋﺼ
لكن هذا امل�شروع ال ميكن �أن ينجح دون منفذين ،مرحلة «اجلاريات
ﲑ ﺍﻟ
ي�س ًرا» والتي ُت َف َّ�سر عاد ًة ب�أنها ال�سفن التي حتمل الثمار ،هي مرحلة املنفذين
ﻜﺘ
حقيقته جزء ال ميكن اال�ستغناء عنه يف جناح هذا امل�شروع ،نعي�ش موجة
ﺸﺮ
قادة ورياديني وعمالقة ومردة ،لكن هذا عدا عن كونه غري منطقي ف�إنه
ﺯﻳﻊ
�أربع مراحل �إذن ،حتدِّ ثنا عنها �سورة الذاريات لأجل حتويل �أهدافنا
و�أحالمنا �إىل «�أمر واقع».
بهذه الطريقة ميكننا �أن نرى كل الق�ص�ص التي �أوردتها ال�سورة:
(�إبراهيم ومالئكة الب�شرى له ،والعذاب لقوم لوط ،ق�صة مو�سى وفرعون،
ق�صة نوح وقومه ،وعاد وقومه) كلها من خالل منظار توزيع الأدوار،
رمبا ال نعرف كيف حدث التوزيع ،لكن يف كل هذه الق�ص�ص كانت هناك
دوما للأنبياء يف
مق�سمات) ،القيادة كانت ً
(ذاريات ،حامالت ،جارياتِّ ،
ﻋﺼ
هذه الق�ص�ص ،لكن البذرة مل ت�أت منهم ،بل ا�ستلموها من رب العاملني،
ﲑ ﺍﻟ
وهناك كان َمنْ ق َّدم لها احلماية والدعم ،وكان هناك َمنْ حملها ون َّفذ
ﻜﺘ
تعليماتها.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺯﻳﻊ
ولي�س �صدفة �أبدً ا �أن تكون هذه ال�سورة حتديدً ا هي التي جاءت فيها �آية
مفتاحية تو�ضح الهدف من خلقنا.
َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ
ون{ (اذلاريات.)56 :
النس إِل ِلعبد ِ الن و ِ}وما خلقت ِ
ما عالقة هذا بالذاريات ذر ًوا واحلامالت وق ًرا واجلاريات ي�س ًرا
واملق�سمات �أم ًرا؟
ِّ
((( للمزيد عن سورة الذاريات كتاب سرية خليفة قادم للمؤلف.
- 333 -
القرآن نسخة شخصية
ال�سورة ت�شري لنا �أن الهدف من خلقنا �أو�سع بكثري من �أن ُي ْخت ََ�ص َر
بقالب واحد �أو دور واحد كما يتوهم كثريون.
العبادة هنا لي�ست مقت�صرة على املعنى ال�شعائري ،املعنى ال�شعائري
حم�سوم �ضمن مفهوم الإميان نف�سه� ،أما العبادة -هدف اخللق وامتحانهم
-فهي �أفق وا�سع متدرج ،تت�ضمن كل م�شاريع الإعمار والعدل والتوازن
القائمة على القيم التي �أنزلها اهلل يف كتبه ،وال ُي ْ�ش َت َُط فيها �أن تكون
البطل اخلارق الفاحت� ،أو القائد الفذ الأوحد� ،أو �صاحب الفكرة البذرة
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ العبقرية.
ميكنك �أن تكون �أ ًّيا من ه�ؤالء� ،أو �أن تكون واحدً ا من املنفذين ،اجلنود
ﻜﺘ
ُْ ُ َ ُ َ ُ َ
ِرزقك ْم َوما توعدون{ (اذلاريات .)22 :20
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ وهناك � ً
أي�ضا بحر مرتامي الأطراف غام�ض ومهيب ككل البحار.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ً
م�شو�شا ،ما كل كما لو �أنك ر�أيت كل هذا يف منام ،وا�ستيقظت حائ ًرا
ﺯﻳﻊ
هذا؟
وت�أخذ �سورة الطور بيدك لتف�سر لك هذا املنام الذي ميكن �أن يكون
ق�صة حياتك.
***
�أما اجلبل فهو جبل الطور ،اجلبل الذي ا�ستلم فيه �شريعته.
اجلبل هنا رمز لل�شريعة ،ميكن لل�شريعة �أن جتعلك مثل اجلبل يف قوته
و�صموده وعلوه.
- 335 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
ميكنك �أن تنطلق دون كوابح.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
لكن ال تن�س �أبدً ا ،مهما ارتفعت ،هذا «البيت املعمور» ،هذا البيت الذي
دوما ،البيت هو املعيار احلقيقي
يجب �أن ت�ساهم يف جعله «عام ًرا معمو ًرا» ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
الذي يتَحن فيه ارتفاعك بال حدود وال �سقف ،مهما ارتفعت �إذا مل ينعك�س
ُْ
ﺸﺮ
هذا االرتفاع يف زيادة متانة و�صالبة البيت ،الأ�سرة ،ف�إن هذا االرتفاع كان
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
البحر هو هذه احلياة التي نعي�ش فيها جمي ًعا ،حتا�صرنا جمي ًعا كما
يحا�صر املحيط جزيرة منفردة ،واحلياة كما البحر� ،إن ُخ َّ
�ضت فيها دون
غرقت فيها و�أغرقتك.
معرفة بال�سباحةَ ،
تدربت جيدً ا قبل امل�ضي فيه ،ميكن �أن تكت�شف فيه الكنوز والرثوات.
و�إن َ
***
كان هذا هو ت�أويل منامك ،ميكن �أن جتد فيه ق�صة حياتك كلها لو
دققت ،بالأحرى ميكن �أن جتد فيه ما يختزل �أهم ما يف حياتك ،ما يحدد
َ
م�صريك بعدها.
عندما ُت ْق ِبل على حياتك و�أنت حتمل هذه املعاين يف وعيك (ويف ال
وعيك) ف�أنت تعلم جيدً ا طريق حياتك ،حتى لو ُت ْه َت ً
قليل وتعرثت� ،أنت
ﻋﺼ
تعرف الطريق بطريقة ما ،رمبا دون تفا�صيل.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
�أما الذين ال يعرفون هذه املعاين ،فحياتهم قد تكون بال جبل� ،أو قد
تكون على كومة من الرمال يظنونها ً
جبل ،وكتابهم ُي ْكتَب كما اتفق،
ﺐ ﻟﻠﻨ
وال�سقف كلما ارتفع �ضعفت �أ�سا�سات البيت ،والبحر مغامرة غري م�أمونة
ﺸﺮ
وعندما حتني حلظة احلقيقة ،لن يفهموا ما �سيحدث ،لن يتمكنوا من
ﺯﻳﻊ
�أما �أنت.
فقد ِن ْل َت فر�صة �أن َّ
تطلع على �أهم الأ�سئلة قبل دخولك االمتحان.
ت�أخذك �سورة النجم على ظهر جنم ،لي�س وهو يهوي ،بل وهو يرتقي.
ت�أخذك يف رحلة تقربك من الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم ،يف واحدة
ﻋﺼ
من �أهم و�أعلى حلظات ارتقائه وقربه من الوحي املنزل عليه.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
هذا القرب منه وهو يف هذه احلالة ،يكاد ي�شبه رحلة �إىل النجوم
البعيدة يف جمرات ق�ص َّية ،وهي رحلة -يف الوقت نف�سه -داخل نف�سه
ﺐ ﻟﻠﻨ
بني هذا النجم وتلك التجربة الفريدة ،ت�أخذك ال�سورة و�أنت تلتقط
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
�أنفا�سك ب�صعوبة ،رمبا كان �أق�صى �أمنياتك �أن تقرتب منه يف �أحواله
ﺯﻳﻊ
العادية.
لكن ال�سورة ت�أخذك �إليه وهو يف رحلة املعراج ،جتعلك تتم�سك به بينما
العامل كله يهوي �أمام عينيك ،و�أنت ترتقي معه �أف ًقا بعد �أفق� ،إىل الأفق
الأعلى.
ُ ََ ُ ْ ُُ ْ َ َْ َ ْ َ ُ َ َّ َ ُ َ ُ ْ ُ
}علمه شدِيد الق َوى ذو م َِّر ٍة فاست َوى َ وه َو بِالف ِق الع ث َّم دنا
َ َ َ َ ََ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ ْ َ َْ َ َ َ َ َّ
ي أ ْو أدن فأ ْوح إِل عب ِده ِ ما أ ْوح ما كذب فتدل فكن قاب قوس ِ
خ�ضم الرحلة ،ال تكاد متيز �إن كان احلديث هنا عن الر�سول و�أنت يف ِّ
-عليه ال�صالة وال�سالم � -أم عن مالك الوحي جربيل؟ َم ِن الذي دنا
فتدل؟ َم ِن الذي كان قاب قو�سني �أو �أدنى؟ النور املت�سرب من الآيات يكاد َّ
يعميك عن بع�ض تفا�صيل الأجوبة ،ال ي�ستطيع ب�صرك �أن يركز على كل
ص اغ ْ َ
ال َ ُ َ َ َ
�شيء هنا ،لكن يكفي �شالل النور املنبعث هنا لكي تعرف �أنه }ما ز
ﻋﺼ
أي�ضا �أن �أي حديث عن �إله �آخر من تلك َو َما َط َغ{ (انلجم ،)17 :وتعرف � ً
ﲑ ﺍﻟ
الأ�صنام املقد�سة� ،أو من مفاهيم مادية تقول« :ال �إله» و ُت َع َامل كما لو �أنها
ﻜﺘ
�آلهة يف هيكل العلموية املزعوم� ،أي حديث �آخر ال ميكن �أن ينبثق منه �شالل
َ َ َ ْ ُ َّ َ ْ ُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ َ َ َ َّ َ َ
الة متاما} ،أف َرأيت ُم اللت َوالع َّزى ومناة اثل ِ
نور مماثل ،قلبك يعرف هذا ً
ُْْ
ﺸﺮ
كم تبدو كل تلك الأوثان ،وكل الن�سخ املعا�صرة منها ،هزيلة وتافهة �أمام
ﺯﻳﻊ
جتربة قرب نب�صرها بقلوبنا! كم يبدو كل ما ميكن �أن ُي َرى بالعني تاف ًها وال
معنى له �أمام ما ال ُي ْد َرك بالب�صر ولكن ُي ْ�ست َْ�ش َع ُر بالقلب! ب�شيء ال ميكنك
متاما ،ولكن ال ميكنك �أن جتادله � ً
أي�ضا. تف�سريه وفهمه ً
بينما تكاد الرحلة تنتهي ،وبعدما ا�ستهلكك هذا النور و�أمدك بطاقة
احلياة يف الوقت نف�سه ،تهم�س �سورة النجم بحقائق �أ�سا�سية عليك �أن
حتملها يف رحلتك يف احلياة.
هنا نحن �أمام ر�ؤية �شاملة تبد�أ منك كفرد ،فرد واحد �سيتحمل
ﺐ ﻟﻠﻨ
م�س�ؤوليته و�سعيه و�سيجازى على �أفعاله �شخ�ص ًّيا دون �أن يتحمل عبء �أفعال
ﺸﺮ
الآخرين ،ال تزر وازرة وزر �أخرى ،عليك بنف�سك � ًأول ،هذا هو الدر�س الأول
ﻭ
الذي ميكن فهم كل الدرو�س الأخرى من خالله ،لن حتمل �أثقال غريك،
ﺍﻟﺘﻮ
النجم فيك بعد �أن جعلتك تكون قري ًبا منه يف جتربة املعراج الهائلة وبعد
�أن �سلبت منك كل �آليات مقاومتك وقابليات جدالك؛ هو در�س م�س�ؤوليتك
ال�شخ�صية وحت ُّملك لها يف احل�ساب الأخروي ،در�س �أن �سعيكم �سوف ُي َرى
و�سيكون له جزاء ،وهو الدر�س الذي �سيكون حجر الأ�سا�س يف كل ال�شريعة.
هذا الدر�س -لو ت�أملته � -ستجده بديه ًّيا منطق ًّيا ،يرتبط بكل النظام
الذي ُب ِن َي عليه الكون.
ومنطقية هذا الدر�س �ستجعلك ت�سجد له.
َُْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ َْ ُ َ َ
}أ َف ِم ْن َه َذا ْ َ
ﻋﺼ
َْ َُ َ
ِيث تعجبون َ وتضحكون َول تبكون َ وأنت ْم سامِدون
ﲑ ﺍﻟ الد ِ
ُُْ َ ْ ُ ُ
فاسجدوا هلل َواعبدوا{ (انلجم .)62 :59
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ومنط حياتهم ،لكل ما هو م�ألوف وم�ستقر بالن�سبة لهم.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
حتى لو كانت هناك حقائق �صارخة تقول� :إن كل �شيء يف طريقه �إىل
الزوال� ،سي�شيحون بوجوههم وي�ؤكدون �أن كل هذه حم�ض �أكاذيب ،الو�ضع
ﺐ ﻟﻠﻨ
حتت ال�سيطرة.
ﺸﺮ
ممكن �أن يكون الأمر يف �أي �شيء� ،أن تكون كل الدالئل ت�شري �إىل وجود
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
م�شكلة يف �أحد �أوالدك� ،أو يف عالقة �شخ�صية ت�ستنزفك ،ولكنك م�ص ِّمم
ﺯﻳﻊ
على �أن تخرتع تف�سريات وتربيرات جتعل هذه الدالئل ال قيمة لها ،هذه
�أمور حتدث مع اجلميع ،جمرد مرحلة ،و�ستمر بالت�أكيد.
ممكن �أن يكون الأمر يف ورم بد�أ يظهر بروزه يف ج�سدك ،لكنك ال
تريد �أن تواجه كل االحتماالت التي ميكن �أن تنتج من الذهاب �إىل طبيب
لإجراء الفحو�صات؛ لذا تقول لنف�سك� :إن هذا الربوز كان موجودًا دائ ًما،
و�إنه يظهر ويختفي من تلقاء نف�سه منذ �سنوات ،كل �شيء طبيعي وحتت
ال�سيطرة.
وميكن �أن يكون الأمر يف حدث يندلع من حتت رماد ما ت�سميه ا�ستقرا ًرا
يف بلدك ،وهنا يكون كل �شيء م�ؤامرة كونية ت�ستخدم كل �شيء م�ستهدف ًة
ا�ستقرار بلدك.
من العالقات العائلية �إىل ال�سيا�سة الدولية ،مرو ًرا بال�صحة ال�شخ�صية،
ميكن �أن يواجه بع�ض النا�س احلقائق الوا�ضحة بالإنكار ،وباملزيد من
الإنكار.
يكذبون؟ الكذب جزء من املو�ضوع لكنه ال يكفي لتف�سري ما يحدث،
ﻋﺼ
رمبا يبد�ؤون بالكذب ،لكن بالتدريج ي�صدِّ قون �أنف�سهم ،يرتكون لأدمغتهم
ﲑ ﺍﻟ
حيل نف�سية عديدة لإ�شعارهم بالأمان ،ومن �ضمنها حيلة ممار�سة ً
ﻜﺘ
«الإنكار».
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
�أغلبنا تع َّرف يف حياته على هذا النوع من الب�شر ،وهم ميار�سون هذا
النوع من الإنكار (رمبا نكون منهم �أحيا ًنا).
نعرف �أنهم لو �شاهدوا ب�أم �أعينهم ما يخالف �أهواءهم؛ لقالوا :مل
يحدث ،مل نر �شي ًئا.
ترغب �أن مت�سك بر�ؤو�سهم وتديرها نحو احلدث ،تفتح �أعينهم على
ات�ساعها وتقول لهم :انظروا جمددًا.
ﻋﺼ
ْ ٌَ َ َ ٌ ََ ُْ ُ َ َ َ
ْ َْ َ َََ ْ َ َ ُ َ
ْ ُ ْ َ
اءه ْم م َِن النباءِ ما فِي ِه م ْزدج ٌر حِكمة بال ِغة فما تغ ِن أم ٍر مست ِق ٌّر ولقد ج
ﲑ ﺍﻟ
َ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ِ َ َ ْ ُ ُ ُ
انلُّذ ُر فتول عنهم يوم يدع ادلاع إِل
ﻜﺘ
�أن ي�أتي يوم ي�أتي فيه هذا الذي �أنكروه ليكون �شي ًئا يواجههم وج ًها لوجه.
ﺯﻳﻊ
يف كل ال�سورة �سرنى هذا ال�شي� ،إنذار ،تكذيب و�إنكار ،تذكري بالإنذار.
ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َّ ْ ْ َ ََْ َ َ َ َ
سنَا ال ُق ْر َآن ل ِِّذلك ِر ف َهل م ِْن ُم َّدك ٍِر{ ُُ
}فكيف كن عذ ِاب َونذ ِر ولقد ي
(القمر .)17 :16
يتكرر الأمر مع قوم نوح وعاد وثمود ولوط و�آل فرعون ،الأحداث لي�ست
مت�شابهة يف تفا�صيلها ،فلكل منهم « ُن ُذره» اخلا�صة به ،وعذابه املختلف عن
عذاب الآخرين ،ولكن املت�شابه فيها هو يف الداخل ،يف �آلية الإنكار التي
وحدت بني كل هذه الأقوام. َّ
- 344 -
سورة القمر
ما �أجمل هذا! ما �أروعه! �أن ترى هذه النهاية ال�سعيدة يف حياتك الدنيا.
�أين االختبار يف هذا؟
االمتحان هو يف �أن تتعامل مع الآية يف �سياقها ،ال �أن تتخذها كما لو
كانت وعدً ا �إله ًّيا قاط ًعا مينح �أعداءك الهزمية يف الدنيا ب�شكل حا�سم.
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ال ،الآية مل تقل ذلك ،بل حتدثت عما ميكن فهمه �أنه يخ�ص «كفار مكة»
ﻜﺘ
حتديدً ا ،ورمبا يخ�ص غريهم ورمبا ال ،هذا ممكن ،لكن �أن تتخذها كما
لو كانت �آية عامة تخ�ص كل من يقف على املع�سكر الآخر ف�أنت بب�ساطة
ﺐ ﻟﻠﻨ
رمبا كان الواقع كله ي�شري �إىل �أن الهزمية الدنيوية بعيدة عن مع�سكرهم،
بل رمبا هي �أقرب �إليك.
لكنك �ستنكر الواقع ودالالته و ُن ُذره ،وتقول :بل وعدنا اهلل بغري ذلك،
َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ ُّ َ
ادلبُ َر{ ال بد �أن يحدث ذلك. ون ُّ }سيهزم المع ويول
�سقطت يف فخ �إنكار احلقائق وال ُّن ُذر َّ هنا تكون قد ف�شلت يف االختبار،
الذي حذرت َْك منه ال�سورة مرا ًرا وتكرا ًرا.
***
- 345 -
القرآن نسخة شخصية
العربة كلها يف �صدقك ،يف التعامل مع كل �شيء ،مع الواقع املحيط ومع
نف�سك ومع �آيات اهلل يف كتابه � ً
أي�ضا.
ال�صدق.
لذلك لي�س غري ًبا �أن تنتهي ال�سورة بال�صدق.
ْ
ِيك ُم ْق َت ِد ٍر{ َْ َ ْ َْ َ َََ َ َّ َّ ُ َّ َ
}إِن المت ِقني ِف جن ٍ
ات ونه ٍر ِ ف مقع ِد ِصد ٍق عِند مل ٍ
(القمر .)55 :54
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
هذه ال�سورة جل�سة عالج نف�سي �إلزامي يحتاجه الأ�صحاء نف�س ًّيا قبل
املر�ضى.
ﻋﺼ
هذا يف حالة وجود َمنْ هو �صحيح نف�س ًّيا على نحو كامل بينما هو يتفاعل
ﲑ ﺍﻟ
مع هذه احلياة املليئة بكل املمر�ضات على �صعيد النف�س واجل�سد.
ﻜﺘ
كلنا مر�ضى بطريقة �أو ب�أخرى ،بن�سبة ما على الأقل ،فينا يتعلق بهذا
ﺐ ﻟﻠﻨ
لذلك ف�أغلبنا نحتاج �إىل جل�سة عالج نف�سي تقدمها �سورة الرحمن.
�صحيحا «نف�س ًّيا» مائة باملائة فيمكنك �أن ت�أخذ اجلل�سة
ً حتى لو كنت
مثل م�صل مناعة( ،على فر�ض وجود �شخ�ص كهذا ،عل ًما �أن من يعتقد �أنه
�صحيح نف�س ًّيا �إىل هذه الدرجة يحتاج �إىل جل�سة عالج �أكرث من �سواه).
كلنا بحاجة لهذه اجلل�سة ،ن�س ِّلم ر�ؤو�سنا امل�شو�شة املنهكة �إىل �سورة
تواجه ،تعا ِلج.
ت�شذبِ ،تنظمِّ ،الرحمن ،ونرتكها تت�سللِّ ،
�إنها �سورة الرحمن.
***
- 347 -
القرآن نسخة شخصية
ﻋﺼ
اليان{ (الرمحن .)4 :1 النسان علمه ِ ق لخ آن }
ﲑ ﺍﻟ
جمرد ذكر ا�سمه الرحمن وارتباط �أغلب نهايات الآيات بحرفني
ﻜﺘ
م�شابهني لنهاية ا�سم الرحمن ،ف�إن هذا يجعل معنى هذا اال�سم العظيم
ﺐ ﻟﻠﻨ
يخ ِّيم على ال�سورة كلها� ،ست�شعر بالرحمن يف ال�سورة كلها رغم �أن لفظها
ﺸﺮ
ت�شعر بها كما لو �أنها تعني �أنه تركه عالمة على الطريق ،تدل الإن�سان
على الطريق ال�صواب و�سط مفرتقات الطرق.
كما لو �أن الثالثة هنا مرتبطون وظيف ًّيا م ًعا( :القر�آن ،الإن�سان ،البيان)
وبهذا الت�سل�سل ،البيان مهارة �إن�سانية يف الفهم والتدبر ،دونها لن ميكن
للإن�سان �أن يعرف عالمات الطريق التي يف القر�آن.
ما هو �أول ما �سيفهمه الإن�سان عرب البيان من القر�آن ،عالمة الطريق؟
َ َّ َ َ َ َ َ َ َّ ْ ُ َ َّ َ ُ َ ْ ُ َ َّ ْ ُ َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ
اء َرفعها ان والسم
ان وانلجم والشجر يسجد ِ }الشمس والقمر ِبسب ٍ
َ َ َ َ ْ َ َ
زيان{ (الرمحن .)7 :5 ووضع ال ِم
التوازن ،كل �شيء يف هذا العامل متوازن وحم�سوب ،من النبتة ال�صغرية
�إىل النجم ،كل �شيء مبيزان ،حتى ال�سماء.
وهذا التوازن هو مفتاح جل�سة العالج النف�سية التي نحتاجها جمي ًعا،
والتي تقدمها لنا �سورة الرحمن.
ْ ُ َْ ْ ْ ْ
ْ َ َ ْ َْ َْ َ َّ
سوا ال ِم َزي َان{
ت ِ ُ ُ
ان َ وأقِيموا ال َوزن بِال ِقس ِط َولَ
}أل تطغوا ِف ال ِمزي ِ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ (الرمحن .)9 :8
ﻜﺘ
َ ََ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ ِّ َ َ ِّ ُ َ ُ َ ِّ َ
ﺍﻟﺘﻮ
ار َ وخلق
ِ خ ف لك ال
ٍ ص لص ِنم ان س نال
ِ ق لخ }فبِأي آلءِ ربكما تكذب ِ
ان
ﺯﻳﻊ
َ ِّ ُ َ ُ َ ِّ َ َ َ َ ِّ ْ َ ْ َ َّ ْ َ
ان{ (الرمحن .)16 :13ار فبِأي آلءِ ربكما تكذب ِ ٍ ن ِن
م ج
ٍ ار
الان مِن ِ
م
�صيغة اخلطاب باملثنى ،ميكن �أن ُت ْف َه َم ب�أنها خطاب عام للإن�س واجلن،
ولكن هذا الذي جاء �إىل �سورة الرحمن لي�س ِّلم لها ر�أ�سه املتعب ونف�سه
املثقوبة مبعارك احلياة اليومية� ،سيجد �أن اخلطاب باملثنى ينا�سبه ،يف
داخله هناك �شخ�صان يت�صارعان� ،أو يتنازعانه فيما بينهما� ،أحيا ًنا تكون
الغلبة لواحد منهما ،و�أحيا ًنا يكون �صراعهما �شديدً ا ،و�أحيا ًنا يتناق�شان
ب�صوت مرتفع طيلة الوقت.
تذ ِّكرهما ال�سورة بكل ِن َع ِم اهلل عليهما م ًعا ،حتى مرج البحرين عندما
يلتقيان بينهما برزخ ال يبغيان ،كل �شيء بامليزان ،فب�أي �آالء ربكما ِّ
تكذبان؟
وبني النعم التي ت�ستخدمها ال�سورة يف عالجك تقول لك حقيقة �سته ِّون
َ َ ْ َ َ ْ ُ َ ِّ َ ُ ْ َ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ
الل ِل ان ويبق وجه ربك ذو عليك الكثري من �أوجاعك} :ك من عليها ف ٍ
َ ْ ْ
الك َرام ِ{ (الرمحن .)27 :26
و ِ
كل َمنْ عليها فان يا �صديقي ،كل �شيء �سينتهي ،كل خالفاتنا ومعاركنا
وماراثوننا اليومي ومنجزاتنا وف�شلنا وانت�صاراتنا وهزائمنا وخيباتنا
ﻋﺼ
وع َقدنا ،كلها �ستنتهي كما لو مل تكن ،فال حتمل همها على
ﲑ ﺍﻟ و�إحباطاتنا ُ
نحو خارج طاقتك ،خارج التوازن والق�سط ،كل من عليها فان ،فه ِّون على
ﻜﺘ
نف�سك.
ﺐ ﻟﻠﻨ
�ست�أخذنا رحلة العالج هذه �إىل العقاب والثواب ،ال جماملة يف ذلك،
ﺸﺮ
َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ِّ َ َّ َ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ً
مثل �سورة الواقعة جتلب الرزق ،لو قر�أتها �إحدى ع�شرة مرة.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
و�سورة ال�ضحى جتعلك جتد ال�شيء املفقود الذي تبحث عنه منذ
�ساعات.
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف بع�ض الدول املتقدمة ،ت�سيطر طبقة الـ %10العليا على ما هو �أكرث
من %70من الرثوة يف البالد ،بينما الـ %10التي تليها حت�صل على %12
من الرثوة.
الطبقة الو�سطى ،و ُت َق َّ�سم بدورها �إىل «و�سطى عليا» و«و�سطى دنيا»،
وهم يقعون يف املنت�صف من حيث الدخل بني الأغنياء (الطبقة العليا)
والفقراء (الطبقة الدنيا) ،وغال ًبا يق�ضي ه�ؤالء حياتهم يف حماولة البقاء
يف طبقتهم� ،أو ال�صعود �إىل الطبقة الأعلى� ،أو على الأقل عدم ال�سقوط
�إىل الطبقة الأدنى ،وتكون هذه املحاوالت يف حالة جناحها ،مثل الدوران
ﻋﺼ
يف عجلة هام�سرت ال تتوقف �أبدً ا ،ن�سبة ه�ؤالء من ال�سكان يف بع�ض البلدان
ﲑ ﺍﻟ
قد تبلغ ،%40وهم يح�صلون تقري ًبا على % 15من الرثوة يف البالد(((.
ﻜﺘ
مقاربة لن�سبة الطبقة الو�سطى %40 ،من ال�سكان ،ويح�صلون على �أقل من
ﺸﺮ
(((
%1من الرثوة والدخل.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ق�سمة ِ�ضيزَ ى بال �شك ،لي�س فقط ب�سبب الفجوة الهائلة املوجودة بني
ﺯﻳﻊ
الطبقات ،ولكن لأن الطبقة العليا قوية مبا فيه الكفاية لت�ضمن بقاء هذه
الق�سمة على ما هي عليه.
***
لكن �سورة الواقعة حتدثنا عن تق�سيم �آخر ،تق�سيم عادل مبعايري
خمتلفة عن معايري الدخل والرثوة ،معايري
َ َ ٌ ٌَ
}خاف ِضة َراف ِعة{(الواقعة.)3 :
قد ترى بع�ض َمنْ كانوا يف الطبقة العليا ج ًّدا يف قعر التوزيع اجلديد،
وقد ترى العك�س ،قد ترى �أن من ت�صورته �سيكون يف و�ضع ممتاز �أخرو ًّيا
أي�ضا� ،شخ�ص حكم عليه كثريون قد �سقط يف التقييم ،وقد ترى العك�س � ً
احل َك ُم العدل لين�صفه.
دون حق ،وجاء َ
وقد ترى غن ًّيا مت َّكن من امتالك الدنيا والآخرة ،وفقري خ�سر االثنتني
م ًعا.
ﻋﺼ
متاما ،ال ميكن �إيجاد م�ساحة م�شرتكة فيها مع
�إنها معايري خمتلفة ً
ﲑ ﺍﻟ
املعايري ال�سائدة للطبقات دنيو ًّيا.
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
ثالث طبقات � ً
أي�ضا.
ﻭ ﺸﺮ
ميمنة ،م�ش�أمة.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
لكنه �أمر واعد وباعث للأمل بالن�سبة ملن يف امل�ش�أمة ،امل�سافة بينهم
وبني َمنْ يف امليمنة لي�ست بعيدً ا ح ًّقا ،ميكنهم �أن يفعلوا �شي ًئا لكي يغريوا
موقعهم الطبقي ،الفجوة بني الطبقتني لي�ست �سحيقة كما هي يف طبقات
الدنيا.
ال �أحد منا يعرف موقعه الطبقي الآن ،لكن على اجلميع �أن يعي �أن
الطبقتني متجاورتان ،و�أن ذلك فيه �إيجابيات و�سلبيات ،الإيجابية
الأ�سا�سية هي �أن الأمل موجود دائ ًما يف النجاة ،مهما كانت املعطيات
ﻋﺼ
حم�صن من االنزالق
ت�سري يف اجتاه �آخر ،وال�سلبية الأ�سا�سية �أن ال �أحد َّ
ﲑ ﺍﻟ
�إىل الطبقة الدنيا؛ لذا فعلى اجلميع التم�سك واحلذر.
ﻜﺘ
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
وم َّهدوا الطريق ملن بعدهم يف �أن تكون حياتهم �أكرث عدالة وتواز ًنا ،يف �أن
يكونوا �ضمن امليمنة.
لكن ماذا عن ن�سب كل من هذه الطبقات؟ بالن�سبة لنا ،تع َّودنا �أن نقي�س
احتمالية وجودنا يف فئة ما بكونها الأكرب حج ًما ،كلما كانت ن�سبتها كبرية،
زادت احتمالية �أن نكون فيها ،منطق تع َّودنا على التعامل معه ومن خالله.
لكن �سورة الواقعة ال توقعنا يف فخ توقعات رقمية ،بل تع ِّلمنا �أن نرى
الأمر من منظور خمتلف.
- 354 -
سورة الواقعة
ﻋﺼ
عدد كبري �إذن من الأولني ،مقارن ًة بعددهم من الآخرين ،مل يغلق
ﲑ ﺍﻟ
متاما ،ولكن عددهم �أقل باملقارنة بالأولني ،ال ب�أ�س ،هذا الباب للآخرين ً
ﻜﺘ
فر�صة �أن تكون من هذه الفئة قليلة ،ولكن فلنكن واقعيني ،هذا منطقي
ج ًّدا ،ن�سبة ه�ؤالء الأ�شخا�ص قليلة ج ًّدا يف �أي جمتمع ،ووجود الأنبياء
فر�صا م�ضافة -هو الذي يجعل هذه والر�سل -الذين منحوا الإن�سانية ً
الطبقة حتتوي على «ثلة من الأولني».
الأمر مع �أ�صحاب امليمنة �سيكون متواز ًنا بني الأولني والآخرين.
}ثُلَّ ٌة م َِن ْالَ َّول َ
ِني َ وثُلَّ ٌة م َِن ْالخِر َ
ين{ (الواقعة .)40 :39 ِ
كاف ج ًّدا لكي ميلأنا بالأمل ،هذه الطبقة فيها جمع غفري من هذا ٍ
الأولني والآخرين ،لدينا فر�صة �أن نكون من �أ�صحاب امليمنة ،الآية تفتح لنا
الباب على م�صراعيه� ،إذا كانت طبقة «ال�سابقون ال�سابقون» �صعبة ،ف�إن
هذه ممكنة ،لي�ست �سهلة بالت�أكيد ،لكنها ممكنة ..واقعية.
***
ماذا عن �أ�صحاب ال�شمال؟
ال�سورة ال تخربنا عن ن�سبتهم ،ال قليل وال كثري ،ال من الأولني وال من
ﻋﺼ الآخرين.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
هذه املعلومة ُت ْتَك عمدً ا؛ لكيال ت�ؤثر علينا ونحن ن�أمل �أن نكون من
�أ�صحاب اليمني� ،أ�صحاب ال�شمال على ُب ْع ِد خطوات ،وال�سورة تخربنا عما
ﺐ ﻟﻠﻨ
كاف ج ًّدا لكي يجعلنا نبذل كل ما و�سعنا لكي نكون منميرون به ،وهذا ٍ
ﺸﺮ
�أ�صحاب اليمني.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
من �أفالم اخليال العلمي واحلركة� ،إىل احلمالت االنتخابيةُ ،ي ْ�ست َْخ َدم
ﲑ ﺍﻟ
اللقب لو�صف هذا النوع �أو ذاك من القوة.
ﻜﺘ
�سورة احلديد ت�أخذنا �إىل و�صف خمتلف للقوة� ،إىل �إن�سان يدخل
ﺐ ﻟﻠﻨ
احلديد يف تكوينه وبنائه ،لكن ال ميكن اختزاله �إىل هذا املكون فقط ،بل
ﺸﺮ
هو مكون �ضمن عدة مكونات ت�ساهم كلها يف �صنع هذا الإن�سان.
ﻭ
***
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
�أول ما حتدِّ ثنا به �سورة احلديد عن هذه القوة املختلفة ،عن هذا
الإن�سان اجلديد قيد التكوين ،هو احلديث عن اهلل الذي ي�ؤمن به هذا
الإن�سان.
ُ َْ ُ ش ٍء َقد ٌ َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ َ ُ ِّ
ك َ ْ
ِير ه َو ال َّول ات والر ِض ي ِي وي ِميت وهو ع }ل ملك السماو ِ
َ
شء عل ٌ َ ِّ ُ ُ َ ْ ُ َ َّ
الظاه ُِر َو ْ َ ُ َ
ِيم{ (احلديد .)3 :2 الاطِن َوهو بِكل ْ ٍ والخِر و
َ َ ُ ِّ َ ْ َ
ش ٍء قد ٌِير{. قدرة مطلقة} ،ع ك
لي�س هذا فقط ،هو مطلق� ،أول و�آخر وظاهر وباطن ،خارج كل املقايي�س
الب�شرية املادية ،جمرد قدرتك على الإميان به خارج مفاهيم «التج�سيم»
و«التمثيل» التي تق ِّيد فكرة الإميان وجتعلها حمدودة؛ جمرد �إميانك بهذا
مينحك قوة خمتلفة.
هذا الإميان باملطلق هو �أول ما مينحك قوة احلديد ،ح�سب املوا�صفات
التي تدلك عليها �سورة احلديد.
َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُ
ك ْم ُم ْس َت ْخلَف َ ُ ُ
ِين آمنوا مِنك ْم
ني فِي ِه فال ِ }آمِنوا بِاهلل َو َرس ِ
ولِ وأن ِفقوا مِما جعل
َ َ
َوأ ْن َف ُقوا ل َ ُه ْم أ ْج ٌر َكب ٌ
ﻋﺼ
ري {(احلديد.)7 :
ﲑ ﺍﻟ ِ
الإنفاق؟ ال ،لي�س فقط الإنفاق ،الإنفاق مما هم م�ستخلفون فيه� ،إنهم
ﻜﺘ
م�س�ؤولون ومنتجون ،وبعد ذلك :منفقون ،قوة الإنفاق هنا تت�ضمن قوة
ﺐ ﻟﻠﻨ
العمل والإنتاج ،القوة على مقاومة طبيعة النف�س الب�شرية التي متيل �إىل
ﺸﺮ
احلر�ص وال�شح.
َ َ َ َ َ َ ْ َ ِّ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ ُ ُ
ﻭ
الق َول يكونوا ِين آمنوا أن تشع قلوبه ْم ِلِك ِر اهلل وما نزل مِن
ﺍﻟﺘﻮ
}ألم يأ ِن ل ِل
َ َ ْ َ َّ َ ُ
ِين أوتُوا الْكِتاب مِن قبل فطال عليهم المد فقست قلوبهم َوكثِ ٌ
ري م ِْن ُهمْ ْ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ
ﺯﻳﻊ
ُ كل
ِ
َ ُ َ
فا ِسقون{ (احلديد.)16 :
وهذه القوة لي�ست مثل قوة حجر اجلرانيت الذي ال يكاد يت�أثر ب�شيء،
بل هي مثل قوة احلديد ،ميكن �أن ين�صهر ،يتمدد ،قابل َّ
للط ْر ِق وال�سحب
وال َّث ْن ِي ،خ�شوع احلديد هذا هو عن�صر قوة �إ�ضايف؛ لأنه بتغرياته هذه
يتم َّكن من تكييف نف�سه مع تغريات املحيط من حوله« ،الذين �أوتوا الكتاب
من قبل» رمبا كان �إميانهم قو ًّيا � ً
أي�ضا ،لكنه كان بقوة احلجر ال�صوان �أو.
اجلرانيت ،ال يتفاعل مع املحيط� ،صلد ،يقاوم التغريات ،نعم ،لكن �إىل
درجة معينة ،بعدها �سينك�سر ،يتحطم.
احلديد يقاوم وبعدها يتغري ،يعيد ت�شكيل نف�سه ،لكن يبقى حديدً ا.
هذا هو الفرق احلقيقي بني �أن تكون قو ًّيا كاحلديد ،وبني �أن تكون قو ًّيا
ك�صخر ،احلديد قوته مرنة ،يتغري كي ال ينك�سر ،بينما ال ميلك ال�صخر
َّ
ويت�شظى. هذه املرونة ،فينك�سر
رمبا هذه املرونة هي التي جتعلهم يتعاملون مع الأحداث التي حتيق بهم
ﻋﺼ
على هذا النحو:
ﲑ ﺍﻟ
ْ َْ َ ْ َ ُ ْ َّ َُْ ََ َْْ َ َ َ َ ْ ُ َ
اب مِن قب ِل أن}ما أصاب مِن م ِصيب ٍة ِف الر ِض ول ِف أنف ِسكم إِل ِف ك ِت ٍ
ﻜﺘ
َ ْ َ َْ َ ْ ََ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ َ ُ ع اهلل ي َ ِس ٌ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ
ري ل ِكيل تأسوا ع ما فاتك ْم َول تف َرحوا بِما آتاك ْم نبأها إِن ذل ِك
ﺐ ﻟﻠﻨ
َُ َ َ ُ ُّ ُ َّ ُ ْ َ
ور{ (احلديد .)23 :22
ٍ خ ف ال
واهلل ل يِب ك م ٍ
ت
ﺸﺮ
ال �أ�سى على ما م�ضى ،ال عي�ش على ذكريات املا�ضي ونواح وندب عليه،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ُ ََْ َ َْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ ِّ َ
زيان ِ َلقوم انلَّاس ات وأنزلا معهم الكِتاب وال ِم
الين ِ }لقد أرسلنا رسلنا ب
ِ ْ ْ َ
َ َْ َْ َ َ ْ ْ
اس َو ِ َل ْعلَ َم اهلل َم ْن َي ْن ُ ُ
صهُ َ ٌ َ ٌ َ َ ُ َّ
الدِيد فِي ِه بأس شدِيد َومناف ِع ل ِلن ِ بِال ِقس ِط وأنزلا
يز{ (احلديد.)25 :َو ُر ُسلَ ُه بالْ َغ ْيب إ َّن اهلل َقو ٌّي َعز ٌ
ِ ِ ِ ِ ِ
ْ
الكتاب وامليزان } ِ َل ُق َوم انلَّ ُاس بِال ِق ْس ِط{ ،وبعدهما :احلديد.
كما لو �أنك ال ميكن �أن حتافظ على الق�سط� ،إن مل يكن لديك قوة
احلديد� ،صالبة احلديد ،مطاوعة احلديد.
***
- 359 -
القرآن نسخة شخصية
ال ميكن اال�ستغناء عن احلديد يف احلياة الإن�سانية ،حتى �أنه يدخل يف
تكوين كريات الدم.
لكن � ً
أي�ضا ال ميكن اال�ستغناء عنه يف �إمياننا ،بل يكون كالعمود الفقري
الذي نقف به منت�صبني.
اللهم ق ِّللْ من ن�سبة احلجر يف �إمياننا ،وزِدْ من ن�سبة احلديد...
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ