العدول في الرتبة بين الوظيفة النحوية والبلاغية

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 15

‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬

ّ ‫العدول في‬

‫ نعيمة حمو‬.‫أ‬
-‫بوزريعة‬- ‫مركز ترقية اللغة العربية‬
:‫الملخص‬

‫الدراسات اللّغوية‬
ّ ‫يهدف هذا المقال إلى إبراز أهمية التّقديم والتّأخير في‬
‫ وكذا تحديد إلى أي علم‬،‫ والجملة العربية بشكل خاص‬،‫العربية بشكل عام‬
‫النحوية والبالغية من خالل بيان‬
ّ ‫ينتمي هذا األسلوب؟ ومن ثم إبراز وظيفته‬
،‫ مما يؤدي إلى تغيير في الرتبة‬،‫التّغيرات التي تحدث للكلمة داخل التركيب‬
.‫ بل يكون لغرض بالغي‬،‫وهذا ال يحدث اعتباطا فحسب‬

‫ الغرض‬،‫ الرتبة‬،‫ الوظيفة النحوية والبالغية‬،‫ التأخير‬،‫ التقديم‬:‫الكلمات المفتاحية‬


.‫البالغي‬
Résumé: Cet article vise à mettre en évidence, l’importance de
l’anastrophe dans les études linguistiques arabes en général, et en
particulier, la phrase arabe, ainsi d’identifier à quelle science
appartient ce style? Et puis mettre en évidence, la fonction
grammaticale et rhétorique dans l’état des changements d’un mot dans
la combinaison, qui conduit à un changement dans l’ordre, et cela ne
se produit pas seulement au hasard, mais dans un but rhétorique.
Abstract: This article aims to highlight the importance in Arab
language studies in general and in particular the Arab sentence, and to
identify how this style? Then highlight the grammatical and rhetorical
function in the statement of changes of a word in the combination,
which leads to a change in the order, and this occurs not just at
random, but in a rhetorical purpose.

189 ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫يعد التّقديم والتّأخير من أهم مباحث علم المعاني‪ ،‬الذي يبحث في بناء‬
‫ّ‬
‫الجمل وصياغة العبارات‪ ،‬ويتأمل التّراكيب لكي يبرز ما يكمن وراءها من‬
‫ألنه عدول عن القاعدة‬
‫متغير أسلوبي في اللّغة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أسرار ومزايا بالغية‪ ،‬فهو‬
‫األصلية‪ ،‬وذلك بتحويل األلفاظ عن مواقعها األصلية لغرض يتطلّبه المقام‪،‬‬
‫النحوية والبالغية لهذا األسلوب ويكون هذا العدول‬
‫يحدد الوظيفة ّ‬
‫وهذا ما ّ‬
‫متميزة‪ ،‬وهو انزياح سياقي‬
‫فنية ّ‬
‫منبه فني يعمد إليه المبدع‪ ،‬ليخلق صورة ّ‬
‫بمثابة ّ‬
‫إن أسلوب التّقديم والتّأخير له المساحة‬
‫يصبح معلما متمي از لل ّشعرية‪ .‬لذا نقول ّ‬
‫حد من التّأثير في‬
‫األكبر في هذه البالغية‪ ،‬ليصل منشئ الكالم إلى أقصى ّ‬
‫المتغير األسلوبي فقد عني به علماء اللّغة منذ عصر‬
‫ّ‬ ‫المتلقي‪ ،‬وألهمية هذا‬
‫كأنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم‬
‫مب ّكر‪ ،‬فهذا سيبويه (ت ‪180‬ه) يقول‪ّ » :‬‬
‫وسماه ابن جني (ت‬
‫لهم‪ ،‬وهو بباينه أعنى وان كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم‪ّ ،‬‬
‫‪392‬ه) مع أبواب أخرى بـ‪ :‬باب شجاعة العربية‪ ،‬لما يولده من معاني‬
‫(‪)1‬‬
‫بالغية«‬

‫النحو والبالغة‪ ،‬فتجده في‬


‫والتّقديم والتّأخير نافذة مشتركة بين علمي ّ‬
‫النحو في أبواب المسند والمسند إليه‪ ،‬وتجده في كتب البالغة في‬ ‫كتب ّ‬
‫النحو والبالغة‪.‬‬
‫يثبت صلة العالقة بين ّ‬
‫موضوعات علم المعاني‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫السؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬لماذا يقدم بعض الكالم على بعضه اآلخر؟ وما‬
‫و ّ‬
‫الغرض أو الفائدة من ظاهرة التّقديم والتّأخير؟ أو ما هي أسباب التّقديم‬
‫النحوي‪ ،‬يعني مخالفة القواعد أو ّأنه‬
‫والتّأخير؟ وهل هذا التّصرف في البناء ّ‬
‫النحو أو‬
‫يعني العدول عن األصل؟ وهل أسلوب التّقديم والتّأخير من وظيفة ّ‬
‫البالغة‪ ،‬أو من وظيفتهما معا؟ هذا ما سنحاول اإلجابة عنه في هذا البحث‪.‬‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪190‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫‪ -1‬التّقديم والتّأخير في اللّغة واالصطالح‪ :‬عند البحث عن معنى التّقديم‬
‫ٍ‬
‫معان مختلفة‪ ،‬ذكرتها المعاجم‬ ‫(قدم) تؤدي‬
‫أن مادة ّ‬‫والتّأخير في اللغة‪ ،‬نجد ّ‬
‫دمة‪ ،‬والقَ َدم أي‪:‬‬ ‫أن» القُ َ‬ ‫العربية‪ :‬فالفراهيدي (ت‪175‬ه) في معجم العين يذكر ّ‬
‫َن لَهُ ْم قَ َدم ص ْد ٍ‬ ‫السَّابقَةُ في األ َْمر« ‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ »:‬وَب ِّشر الذ َ‬
‫)‪(2‬‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫آمُنوا أ َّ‬
‫ين َ‬
‫ع ْن َد َربِّهم« )سورة يونس‪ :‬اآلية‪ )02:‬وقال ابن منظور(ت‪711‬ه)‪»:‬القَ َدم‬
‫َخ َر‪،‬‬‫َخ ْرتَهُ فَتَأ َّ‬
‫استَ ْق َدم‪ :‬تَقَ َّدم وأ َّ‬ ‫َّ‬
‫َ َ‬ ‫والقُ ْد َمة‪ :‬السَّابقَةُ في األ َْمر‪َ ،‬وتَقَد َم َكقَ َدم‪َ ،‬وقَ َدم َو ْ َ‬
‫ين م ْن ُكم َولَقَ ْد َعل ْم َنا‬
‫الم ْستَ ْق َدم َ‬
‫)‪(3‬‬
‫ْخ َر َكتَأ َّ‬
‫َخ َر« ‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ »:‬ولَقَ ْد َعل ْم َنا ُ‬ ‫استَأ َ‬
‫َو ْ‬
‫أن التّقديم والتّأخير في اللّغة‬ ‫ين« (الحجر‪ :‬اآلية‪ )24:‬وهذا يعني ّ‬ ‫ْخر َ‬
‫الم ْستَأ َ‬
‫ُ‬
‫متناقضان حيث يعني األول بوضع ال ّشيء أمام غيره‪ ،‬وقد كان خلفه‪ ،‬ويعني‬
‫الثّاني بوضع ال ّشيء خلف غيره‪ ،‬وقد كان أمامه‪ ،‬وبالمعنى نفسه انتقل هذا‬
‫الداللة االصطالحية‪.‬‬
‫المبحث من الوضع اللّغوي إلى ّ‬

‫‪ -2‬أهمية التّقديم والتّأخير‪ :‬التّقديم والتّأخير سمة أسلوبية لها أثر عظيم في‬
‫روعة األسلوب وبالغته‪ ،‬ومن أهم مباحث علم المعاني‪ ،‬الذي يبحث في بناء‬
‫الجمل‪ ،‬وصياغة العبارات ويتأمل التّراكيب لكي يبرز ما يكمن وراءها من‬
‫أسرار ومزايا بالغية‪ ،‬وأهمية التّقديم والتّأخير في كالم العرب تتضح من‬
‫وجهين‪ّ -1:‬أنه سمة بارزة في الكالم‪ ،‬تشهد للعرب بتم ّكنهم في الفصاحة‪،‬‬
‫وامتالكهم ناصية الكالم‪ ،‬وتصرفهم فيه على حكم ما يختارونه‪ ،‬وانقياده لهم لقوة‬
‫ملكتهم فيه‪ ،‬وفي معانيه‪ ،‬ثقة بصفاء أذهانهم‪ ،‬فهو عالمة من عالمات سمو‬
‫التّفكير عند العرب‪.‬‬

‫‪ّ -2‬إنه كما يقول عبد القاهر الجرجاني‪» :‬باب كثير الفوائد‪ ،‬جم المحاسن‪،‬‬
‫واسع التّصرف بعيد الغاية«)‪ ،(4‬وهذا دليل على أهمية التّقديم والتّأخير عند‬
‫البالغيين‪ ،‬وباألخص عبد القاهر الجرجاني‪.‬‬

‫‪191‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫سر من‬‫ويعد ّ‬
‫فك ّل تغيير يحصل في مستوى التّراكيب فهو مراد ومقصود‪ّ ،‬‬
‫الداللة البعيدة‪ ،‬فالعربية كغيرها‬
‫أسرار العربية ووسيلة يقرب بها المعنى العميق و ّ‬
‫حر للكالم‪ ،‬ولع ّل العامل األكبر في ذلك هو‬
‫من اللّغات تتميز بنظام ترتيبي ّ‬
‫تميزها بالحركات اإلعرابية‪ ،‬يقول الجرجاني (ت‪337‬ه)‪» :‬األسماء لما كانت‬
‫تعتورها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافا إليها‪ ،‬ولم يكن في صورها‬
‫وأبنيتها ّأدلة على هذه المعاني جعلت حركات اإلعراب فيها تنبئ عن هذه‬
‫أن الفعل واقع به‪،‬‬
‫عمرا) فدلوا برفع زيد على ّ‬
‫المعاني‪ :‬فقالوا‪( :‬ضرب زيد ً‬
‫وكذلك سائر المعاني‪ ...‬ليسعوا في كالمهم يقدموا الفاعل إذا أردوا ذلك‪ ،‬أو‬
‫المفعول عند الحاجة إلى تقديمه وتكون الحركات دالة على المعاني«(‪ ،)5‬فتقديم‬
‫معين‪ ،‬والعرب إذا أرادت العناية بشيء‬
‫يحدده معنى ّ‬
‫معين ّ‬‫العناصر في تركيب ّ‬
‫قدمته‪ ،‬ولكون التّقديم والتّأخير أقوى أسباب العدول الذي يفضي إلى اإلبداع‬
‫بالسعة‪ ،‬وحرية المتكلم التّصرف في التّراكيب‬
‫ويتميز التّقديم والتّأخير ّ‬
‫ّ‬ ‫الفني‪،‬‬
‫اللّغوية وفق الفائدة التي يحصل عليها المخاطب في سياقات التّقديم والتّأخير‪،‬‬
‫والذي يكتسب أهمية خاصة من حقيقة ّأنه يخضع للطّابع الخاص‪ ،‬فيما يتعلق‬
‫بترتيب األجزاء في الجملة فيها‪.‬‬

‫إن ك ّل تقديم وتأخير فيه‬


‫وفي األسلوب القرآني تكمن أهميته من حيث ّ‬
‫حكمة بالغة‪ ،‬وقدرة فائقة‪ ،‬ليس فيه ما يفسد المعنى‪ ،‬واّنما فيه الواضح الجلي‬
‫تأخر‬
‫تقدم أو ّ‬
‫فكأن المعنى يقتضي ما ّ‬
‫ّ‬ ‫البليغ‪ ،‬وليس هناك ما يقوم مقامه‬
‫اقتضاء طبيعيا‪ ،‬بما يؤثر في المتلقي تأثي ار واضحا‪.‬‬

‫يتعين‬
‫‪ -3‬أغراض التّقديم والتّأخير‪ :‬للتّقديم والتّأخير أغراض متعددة متنوعة‪ّ ،‬‬
‫أن الغرض‬
‫المقدم وبحسب المقامات واألحوال‪ ،‬إالّ ّ‬‫ّ‬ ‫أحدها بحسب العنصر‬
‫األهم من ذكر باقي أجزاء الكالم‪ ،‬والعناية‬
‫األول من تقديم عنصر ما هو كونه ّ‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪192‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫عبر عنه سيبويه بقوله في الفاعل‬ ‫به أكثر من العناية بذكر غيره‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫أهم لهم وهم ببيانه أعنى‪ ،‬وان كانا جميعا‬‫والمفعول‪» ...‬يقدمونا الذي بيانه ّ‬
‫يهمانهم ويعنيانهم«)‪ ،(6‬وجعله اإلمام عبد القاهر قاعدة للتّقديم بقوله‪»...‬لم‬
‫ّ‬
‫نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى األصل غير العناية واالهتمام‪ ،‬إالّ ّأنه‬
‫أن االقتصار على العناية واالهتمام ال يكتفي لبيان سبب تقديم لفظ ما‪ ،‬بل‬
‫أ ّكد ّ‬
‫يتقدم في حين تأخر‬ ‫يفسر وجه العناية فيه وسبب أهميته التي جعلته ّ‬
‫يجب أن ّ‬
‫غيره«)‪.(7‬‬

‫ومما ذكروه من أغراض تقديم الخبر المفرد على المبتدأ ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬التّخصيص‪ :‬كأن يقول أحد‪ :‬زيد إما قائم أو قاعد‪ ،‬فيردده بين القيام والقعود‬
‫من غير أن يخصصه بأحدها‪ ،‬فالرد عليه يكون بتقديم الخبر لتخصيص المبتدأ‬
‫به‪.‬‬

‫‪ -2‬االفتخار‪ :‬نحو‪ :‬تميمي أنا‪ ،‬فتقديم الخبر هنا‪ :‬يفهم منه معنى ال يفهم‬
‫بتأخيره‪ ،‬وهو االفتخار‪.‬‬

‫‪ -3‬التّفاؤل أو التّشاؤم‪ :‬مثل‪ :‬ناجح زيد‪ ،‬ومقتول إبراهيم‪.‬‬

‫ومن أغراض تقديم الخبر الظرف والجار والمجرور‪:‬‬

‫‪ -1‬االختصاص‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪ (:‬له الملك وله الحمد) فالغرض من‬
‫عز وج ّل‪ ،‬ال بغيره‪ ،‬ويجب التنبيه‬
‫التّقديم هنا بيان اختصاص الملك والحمد باهلل ّ‬
‫أن التّقديم لالختصاص ليس مقصو ار على كون المقدم ظرفا والمؤخر‬ ‫هنا إلى ّ‬
‫مبتدأ‪.‬‬

‫‪193‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫أن الظرف خبر ال نعت‪ ،‬كما في قول ال ّشاعر‪:‬‬
‫‪ -2‬التّنبيه من أول األمر على ّ‬
‫ُّغ َرى أَج ٌل م َن َّ‬
‫الد ْهر‬ ‫َوه َّمتُهُ الص ْ‬ ‫لَهُ ه َم ُم الَ ُم ْنتَهَى لك َبارَها‬

‫فقدم الخبر للتّنبيه وازالة الوهم‪.‬‬


‫أخر فقال‪ :‬همم له‪ ،‬لنتوهم ّأنه صفة‪ّ ،‬‬
‫فإنه لو ّ‬
‫ّ‬

‫ولتقديم المبتدأ على الفعل أغراض كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪ -‬التّخصيص بالخبر الفعلي‪ ،‬نحو‪ :‬أنا سعيت في حاجتك‪ ،‬إلفادة االنفراد‬


‫بالسعي وعدم ال ّشركة فيه‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ -2‬تحقيق األمر‪ ،‬وازالة الشك‪ :‬مثل‪ :‬هو يعطي الجزيل‪ ،‬فليس الغرض هنا‬
‫ّادعاء اختصاصه بذلك دون غيره‪ ،‬واّنما الغرض تأكيد المعنى في نفس‬
‫السامع‪.‬‬
‫ّ‬

‫النحو بالبحث عن حال أواخر‬


‫حددت وظيفة علم ّ‬
‫‪ -4‬عالقة ال ّنحو بالبالغة‪ّ :‬‬
‫الكلمات عند التّأليف وعن موقع المفردات‪ ،‬وصوغ جملة من المفردات على‬
‫وحددت وظيفة علم البالغة العربية بطريقة‬
‫الصحيح‪ّ ،‬‬‫مقتضى الكالم العربي ّ‬
‫االحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد في علم المعاني‪ ،‬واالحتراز عن‬
‫النحو في الحفاظ على‬
‫التّعقيد المعنوي في علم البيان‪ ،‬لذلك تكمن وظيفة ّ‬
‫سالمة الجملة من حيث عالقة أركان الجملة بعضها بالبعض اآلخر لكن‬
‫النحو ينقل الجملة‬
‫النحو‪ ،‬و ّ‬
‫وظيفة علم البالغة تبدأ عندما تنتهي وظيفة ّ‬
‫الناحية اإلعرابية والتركيبية إلى علم البالغة ليضفي المتكلم أو‬
‫الصحيحة من ّ‬
‫ّ‬
‫الكاتب البليغ إليها جماال ورونقا أدبيا بالتفنن في أساليب الجملة الصحيحة‪،‬‬
‫النحو هو صحة التكلم‪ ،‬والتعبير في اللغة‬
‫إن ّ‬ ‫وبذلك نصل إلى أن نقول ّ‬
‫النظر عن المقام والحال‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬واالستقامة على وفق قوانين عربية بغض ّ‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪194‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫النحو‪ ،‬وتزيد عليه من ذوقها‬
‫ومقتضاهما‪ ،‬أما البالغة فهي تحافظ على صحة ّ‬
‫وجمالها‪ ،‬فترى النظم متعلقا بالحال والمقام‪ ،‬وتنظر من فوق الصحة من حيث‬
‫الجودة والرداءة‪.‬‬

‫النحوي في الجوانب‬
‫‪ -5‬التّقديم والتّأخير في النّحو والبالغة‪ :‬تنحصر وظيفة ّ‬
‫اإلعرابية‪ ،‬أما وظيفة البالغي‪ ،‬فتتجاوز الجانب اإلعرابي إلى جوانب داللية‬
‫النحوي والبالغي المسند‬
‫مرتبطة بمسائل نحوية‪ ،‬ومن المسائل المشتركة بين ّ‬
‫فالنحوي يكتفي بتحديد أنواع المسند والمسند إليه‪ ،‬أما البالغي‬
‫والمسند إليه‪ّ ،‬‬
‫النحوية‬
‫فيهتم بما يط أر عليهما من تقديم وتأخير وحذف‪ ،‬وغيرها من التّغيرات ّ‬
‫التّركيبية‪.‬‬

‫النظام اللّغوي وضوابطه‪،‬‬


‫النحوي التّقديم والتّأخير وفق معايير ّ‬
‫يدرس ّ‬
‫فيحدد المواضع التي يجوز فيها‪ ،‬أو التي ال يجوز فيها تقديم الخبر على‬
‫المبتدأ‪ ،‬أو تقديم المفعول به على الفاعل‪ -‬على سبيل المثال‪ -‬أما البالغي فال‬
‫يكتفي بهذا التحديد‪ ،‬بل يتأمل داللة التّقديم والتأخير بأشكاله كافة‪ ،‬فيربط أي‬
‫النفسية أو الوجدانية للمتكلم‪،‬‬
‫الداللي‪ ،‬وبالحالة ّ‬
‫السياق ّ‬
‫تقديم وتأخير بمقتضيات ّ‬
‫أن ك ّل تغيير في ترتيب عناصر التّركيب يقتضي‬
‫الربط على ّ‬
‫ويعتمد في هذا ّ‬
‫داللة جديدة‪.‬‬

‫أن‬
‫النحاة والبالغيين نجد ّ‬
‫واذا عدنا لنقارن ظاهرة التّقديم والتّأخير عند ّ‬
‫الداللة‪ ،‬أما عند النحاة فتكون في الجانب التّركيبي‬
‫هذه الظاهرة تكون في جانب ّ‬
‫فإن‬
‫النحوي يشرح تركيبا من نحو‪(:‬ضاحكا) جاء زيد‪ّ ،‬‬ ‫الّنحوي »فإذا كان ّ‬
‫أن تقديم (ضاحكا) جاء لغاية ليحقق المتكلم‬
‫البالغي يحرص على بيان ّ‬
‫الداللية‪ ،‬فـ (ضاحكا) تحمل وظيفة تداولية‪ ،‬قد‬
‫احتياجات المخاطب أو المتلقي ّ‬

‫‪195‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫تكون للتّخصيص أو للتّفاؤل أو لغير ذلك من مقاصد التّقديم وأغراضه«)‪ .(8‬أي‬
‫أن البالغي يحرص على كشف اإلرادة االستعمالية للتّركيب المنجز‪ ،‬وهذه‬ ‫ّ‬
‫ألنها مرتبطة بسياق الحال وموافقة لمقتضاه‪،‬‬
‫اإلرادة شيء زائد على التّركيب‪ّ ،‬‬
‫فالقصد ليس مسلطا على التّركيب في ذاته حسب‪ ،‬واّنما في خواصه‪ ،‬كما يقول‬
‫السكاكي (ت ‪1160‬ه‪122 -‬م)‪» .‬ولذا كان التركيب مختلفا عن‪:‬‬
‫ّ‬

‫جاء ضاحكا زيد‬


‫ضاحكا جاء زيد‬
‫ألن (مقتضى الحال) أو االعتبار المناسب (للحال) يستدعي في ك ّل من‬ ‫ّ‬
‫السابقين المختلفين بنية‪ ،‬ناتجا دالليا يوافق سياقهما ومقامهما‪ ،‬وتفويت‬
‫التّركيبين ّ‬
‫يشد البنية إلى جبرية تناسب وظيفتها اللّغوية التّداولية«)‪ ،(9‬وهكذا ينطلق‬
‫ذلك ّ‬
‫النظر إلى التّراكيب على أساس صورتها الظّاهرة المنجزة في إطار‬ ‫البالغي من ّ‬
‫من التّفاعل بينها‪ ،‬وبين مقتضيات المقام‪ ،‬وادراك هذه القيمة وجماليتها في‬
‫التّراكيب‪ ،‬يستلزم استحضار األصل واستصحابه ليقاس عليه ضبط درجة‬
‫العدول كما وكيفا‪.‬‬

‫النحو يتفق بها فهم البنية التّركيبية وداللتها‪،‬‬


‫إن مباحث ّ‬‫وأخي ار نقول ّ‬
‫تتحدد أهداف التّعبير والتّواصل‪ ،‬وبهما معا يوقف على داللة‬
‫وبمباحث البالغة ّ‬
‫التّراكيب وأسرارها‪.‬‬

‫‪ -5‬مواضع التّقديم والتّأخير‪ :‬قد يكون التّقديم والتّأخير في الحاالت التالية‪:‬‬

‫َج ُرهُ« [ سورة البقرة‬


‫‪ -1‬تقديم الخبر على المبتدأ‪ :‬يقول تعالى‪َ » :‬فلَهُ أ ْ‬
‫اآلية‪ ]112:‬ففي هذا المثال تقدم الخبر الذي هو شبه جملة (له) على المبتدأ‬
‫قدمنا المبتدأ‪ ،‬وقلنا‪( :‬أجره له) لعاد الضمير على صاحب األجر‪،‬‬
‫(أجره) ولو ّ‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪196‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫وهو اهلل ال على المأجور‪ ،‬وهو العبد‪ ،‬وهو مؤخر لفظا ورتبة‪ ،‬وفي هذه الحالة‬
‫ألن المبتدأ اشتمل على ضمير يعود على شيء في الخبر‪.‬‬
‫يكون التّقديم واجبا‪ّ ،‬‬

‫َج ُرُهم« [البقرة اآلية‪ ]62 :‬ففي اآلية شاهد آخر‬


‫وقوله تعالى‪َ »:‬فلَهُ ْم أ ْ‬
‫بصيغة الجمع‪ ،‬وهو‪( :‬فلهم أجرهم) فـ (لهم) جار ومجرور متعلقان بمحذوف‬
‫الضمة‬
‫خبر مقدم للمبتدأ الثّاني‪ ،‬و( أجر) مبتدأ ثان مرفوع‪ ،‬وعالمة رفعه ّ‬
‫الظّاهرة على آخره‪ ،‬وهو مضاف‪ ،‬والهاء ضمير متصل مبني على الضم في‬
‫الضمير المتصل بالمبتدأ‬
‫ألن ّ‬
‫مح ّل جر مضاف إليه‪ ،‬وال يجوز تأخير الخبر؛ ّ‬
‫الضمير على‬‫قدم لعاد ّ‬
‫وهو (هم) عائد على( لهم) وهو جزء من الخبر‪ ،‬فلو ّ‬
‫مسوغ إالّ تقديم الخبر‪:‬‬
‫متأخر لفظا ورتبة‪ ،‬وهذا ال يجوز‪.‬كون المبتدأ نكرة‪ ،‬وال ّ‬
‫اوةٌ« [البقرة‪ ]07 :‬ففي هذه‬
‫شَ‬ ‫ص اره م غ َ‬
‫وذلك في مثل قوله تعالى‪َ »:‬و َع لَى أ َْب َ‬
‫تقدم الخبر الذي هو شبه الجملة (على أبصارهم) على المبتدأ‬ ‫اآلية الكريمة ّ‬
‫ي«‬ ‫(غشاوة)‪ ،‬وفي قوله تعالى‪»:‬فيه ظُلُ َم ات« [ البقرة‪» ]19:‬لَهُم في ُّ‬
‫الدْنَيا خْز ٌ‬
‫صاص َح َي َاواة« [البقرة‪ ]179 :‬ففي هذه األمثلة تقدم‬ ‫[البقرة‪َ » ]114 :‬ولَ ُكم في الق َ‬
‫ألن الخبر مع التّأخير والحالة‬
‫ألن المبتدأ جاء نكرة‪ّ ،‬‬‫الخبر على المبتدأ وجوبا‪ّ ،‬‬
‫النعت ليخصصها أقوى من حاجتها‬ ‫النكرة إلى ّ‬
‫ألن حاجة ّ‬
‫بأنه نعت؛ ّ‬ ‫هذه يوهم ّ‬
‫إلى الخبر‪ ،‬فكان الح ّل هو أن يتقدم الخبر لئال يوقع تأخيره لبسا ظاهرا‪ ،‬والتّقديم‬
‫ّإنما هو لرفع لبس الخبر بالصفة‪ .‬وقد يسوغ االبتداء بالنكرة في حاالت‪ ،‬جاز‬
‫بالنكرة التي وردت في القرآن‪،‬‬
‫فيها تقديم الخبر وتأخيره‪ ،‬ومسوغات االبتداء ّ‬
‫منها ما ورد في سورة البقرة‪ ،‬والتي تكون فيها موصوفة لفظا أو تقدي ار أو معنى‪،‬‬
‫وذلك في قوله تعالى‪َ »:‬ولَ َع ْب ٌد ُم ْؤم ُن َخ ْيٌر م ْن ُم ْشرك« (البقرة‪ )221:‬أو العطف‬
‫بشرط كون المعطوف أو المعطوف عليه ما يسوغ االبتداء به‪ ،‬مثل قوله‬

‫‪197‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫ص َدقَ ٍة َيتَْب ُعهَا أَ َذى« (البقرة‪ )263 :‬واّنما‬
‫وف َو َم ْغف َرةُ َخ ْيٌر م ْن َ‬
‫تعالى‪»:‬قَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ‬
‫صح االبتداء بالنكرة الختصاصها بالصفة‪ ،‬فأخذ العطف الحكم نفسه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬كون الخبر مما له الصدارة في الكالم‪ :‬قد يتقدم الخبر على المبتدأ لحالة الصدارة‬
‫في الكالم بنفسه أو بغيره‪ ،‬بأن يكون شبيها بما له الصدر‪ ،‬وذلك في مثل قوله‬
‫تعالى» َما لَ ْوُنهَا« (سورة البقرة‪.)79 :‬‬
‫مقدم‪.‬‬
‫محل رفع خبر ّ‬
‫السكون في ّ‬
‫فـ (ما)‪ :‬اسم استفهام مبني على ّ‬
‫الضمة الظّاهرة على آخره‪ ،‬وهو‬
‫لونها‪ :‬مبتدأ مؤخر مرفوع‪ ،‬وعالمة رفعه ّ‬
‫مضاف‪ ،‬والهاء ضمير متصل مبني على السكون في مح ّل جر مضاف إليه‪.‬‬

‫وكذلك في قوله تعالى‪َ »:‬ماه َي« (البقرة‪ :‬اآلية‪ )90:‬فـ (ما) اسم استفهام‬
‫مقدم‪ ،‬وهي‪ :‬ضمير منفصل مبني في‬ ‫السكون في مح ّل رفع خبر ّ‬ ‫مبني على ّ‬
‫مح ّل رفع مبتدأ مؤخر‪.‬‬

‫‪ -2‬تقديم خبر كان على اسمها‪ :‬قد يتقدم خبر كان وأخواتها على أسمائها في‬
‫الحاالت التالية‪:‬‬

‫النحاة‪»:‬ويجوز في الجميع أن يتوسط الخبر‬


‫‪ -1‬الجواز‪ :‬يجوز ذلك فيما قاله ّ‬
‫بين الفعل واالسم‪ ،‬وال يمنع من ذلك تساويهما في التّعريف والتّنكير«(‪ ،)10‬وقال‬
‫ابن مالك‪»:‬وتوسيط أخبارها كلّها جائز‪ ،‬ما لم يمنع مانع أو موجب«(‪ )11‬وفي‬
‫ت لَ ُك ْم َّ‬
‫الد ُار اآلخَرةُ« (البقرة‪ )94 :‬فهنا حالة جواز إذا لم يكن‬ ‫قوله تعالى‪َ »:‬ك َان ْ‬
‫هناك ضمير يستوجب تقديم الخبر وليس هناك لبس كي يمنع‪ ،‬فهنا تقدم خبر كان‬
‫الذي هو شبه الجملة (لكم) على اسم كان (الدار)‪.‬‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪198‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫‪ -2‬الوجوب‪ :‬يجب تقديم خبر كان وأخواتها على اسمها‪ ،‬بمعنى يجب توسط‬
‫الخبر بين الفعل واالسم في مواضع‪ ،‬والذي يهمنا في هذه المواضع ما إذا كان‬
‫الضمير على‬ ‫في االسم ضمير يعود على شيء متصل بالخبر لئال يعود ّ‬
‫وها« (البقرة‪:‬‬
‫َن َي ْد ُخلُ َ‬
‫ان لَهُ ْم أ ْ‬
‫متأخر لفظا ورتبة‪ ،‬وذلك في مثل قوله تعالى‪َ »:‬ما َك َ‬
‫تقدم خبر كان الذي هو شبه الجملة(لهم) على اسم كان الذي هو‬ ‫‪ .)114‬هنا ّ‬
‫المصدر المؤول (أن يدخلوها)‪.‬‬

‫‪ -3‬مواضيع التّقديم في اإلسناد‪:‬‬

‫اهم‬
‫ين م َما َرَزْق َن ُ‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬تقديم المفعول به على الفعل‪ :‬وذلك في مثل قوله تعالى‪»:‬الذ َ‬
‫ون« (البقرة‪ )03 :‬فقدم هنا مفعول الفعل داللة على كونه أهم‪.‬‬
‫ُي ْنفقُ َ‬

‫‪ -6‬معاني التّقديم والتّأخير‪ :‬نسعى من خالل هذا العنصر إلى بيان الوظيفة‬
‫النحوية والبالغية لهذا األسلوب‪ ،‬وهذا من خالل التغيرات التي تط أر للكلمة‬
‫ّ‬
‫معين وبيان الغرض البالغي منه‪ ،‬وهذا من خالل ما يلي‪:‬‬
‫داخل تركيب ّ‬

‫ب« (البقرة‬
‫الم ْغر ُ‬
‫ق َو َ‬
‫الم ْشر ُ‬
‫‪ -‬التّبرك والتّعظيم‪ :‬وذلك في مثل قوله تعالى‪َ »:‬وللّه َ‬
‫متكونة من‬
‫تقدم الخبر الذي هو شبه الجملة ال ّ‬ ‫اآلية‪ )115 :‬ففي هذا المثال ّ‬
‫الجار والمجرور على المبتدأ (المشرق) وهذا لغرض التبرك والتعظيم‪ ،‬أو نقول‬
‫إن سبب التقديم في مثل هذه المواضع لعظمة اللفظة والمفردة ألجل االهتمام‬ ‫ّ‬
‫أن من عادة العرب الفصحاء ّأنهم إذا أخبروا عن مخبر ما وأناطوا به‬
‫بها‪ ،‬وذلك ّ‬
‫حكما‪ ،‬وقد يشركه غيره في ذلك الحكم‪ ،‬أو فيما أخبر به عنه‪ ،‬وقد عطفت أحدهما‬
‫فإنهم مع ذلك ّإنما يبدؤون باألهم‬
‫على اآلخر بالواو المقتضية عدم التّرتيب‪ّ ،‬‬
‫واألولى‪.‬‬

‫‪199‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫‪ -‬ال ّنفي‪ :‬ومن ذلك قوله تعالى‪ :‬في وصف خمر الجنة‪»:‬الَ فيهَا َغ ْو ٌل« وال هم‬
‫عنها ينزفون (الصافات‪ :‬اآلية‪ )47 :‬ففي تقديم الجار والمجرور في قوله (ال‬
‫فيها غول(‪ ،‬داللة على نفي الغول عن خمر الجنة‪ ،‬واثباته لخمور الدنيا‪،‬‬
‫فخمور الدنيا تغتال العقول‪ ،‬أي تفسدها‪ ،‬وينزف عنها شاربوها‪ ،‬أي يسكرون‪،‬‬
‫وتذهب عقولهم‪ ،‬أما خمر الجنة فمنزهة عن ذلك‪.‬‬

‫ومن هنا نتساءل‪ :‬لماذا لم يقدم الجار والمجرور في وصف القرآن في‬
‫ب فيهَا« (البقرة‪ )02:‬كما فعل في اآلية‬
‫أول سورة البقرة في قوله تعالى‪»:‬الَ َرْي َ‬
‫الريب عن القرآن الكريم دون أن يتعرض للكتب‬ ‫السابقة (ال ريب فيها) أن ينفي ّ‬
‫ّ‬
‫السماوية األخرى بمدح أو غير مدح‪ ،‬ولو عكس التّعبير فقال‪( :‬ال فيه ريب)‬
‫ّ‬
‫الريب عن القرآن‪ ،‬واثباته في نفس الوقت لغيره من الكتب‪ ،‬وهو‬
‫ّأدى إلى نفي ّ‬
‫غير مراد‪.‬‬

‫تعد المتعلقات فضلة أو تابع في بنية‬


‫‪ -‬تقديم المتعلقات (الجار والمجرور)‪ّ :‬‬
‫الجملة‪ ،‬ولكن قد تتساوى تلك الفضلة مع العمدة في أداء المهمة الداللية‪ ،‬إذ‬
‫تتسلط عملية التّحريك التّقدمي على الجار والمجرور ليسبق متعلقه‪ ،‬وبهذا‬
‫الداخلي‪،‬‬
‫السياق ّ‬
‫السياق الخارجي في هذه التحوالت وبين ّ‬
‫يحدث التوافق بين ّ‬
‫ين َحتَى َي ْرج َع إلَ ْي َنا‬
‫وما فيه من دالالت‪ ،‬ففي قوله‪»:‬قَالُوا لََنا لَ ْن َن ْب َرَح َعلَْيه َعاكف َ‬
‫تقدم الجار والمجرور (إلينا)‬ ‫وسى« ( سورة طه اآلية‪ ،)91 :‬ففي هذه اآلية ّ‬ ‫ُم َ‬
‫على الفاعل (موسى) لتوجيه عدسة ال ّذهن إلى ّأنهم سوف يستمرون في عبادة‬
‫فكأن التركيز هو على عودة‬
‫ّ‬ ‫العجل حتى يعود إليهم موسى ال إلى غيرهم‪،‬‬
‫إن موسى عاد‪،‬‬‫موسى إلى قومه‪ ،‬وليس المهم هو عودته فقط‪ ،‬فيمكن أن يقال ّ‬
‫خصصوا عودته بـ‬
‫ولكن لم يعد إليهم‪ ،‬رّبما إلى قوم آخرين أو إلى مكان آخر‪ ،‬ف ّ‬
‫( إلينا) عند ذاك سينظرون في األمر‪.‬‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪200‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫وكذلك في تقديم الجار والمجرور عليه على متعلقه عاكفين‪ ،‬وذلك من أجل‬
‫تخصيصه بالعكوف‪ ،‬أي نخصه بالمالزمة بقصد القربة والتّعبد‪ ،‬وال نعكف على‬
‫غيره‪.‬‬

‫النوع من التّقديم في آيات كثيرة نورد‬ ‫‪ -‬تقديم المفعول على الفاعل‪ :‬ورد هذا ّ‬
‫ون‬
‫ضرُب َ‬
‫المالَئ َكةُ َي ْ‬ ‫عددا منها‪ ،‬في قوله تعالى‪َ »:‬ولَ ْو تََرى إ ْذ َيتَ َوفَّى الذ َ‬
‫ين َكفَُروا َ‬
‫تقدم‬
‫الحريق« (األنفال‪ ،)50 :‬ففي هذه اآلية ّ‬ ‫اب َ‬ ‫وههم َوأ َْد َب َارُه ْم َوُذقُوا َع َذ َ‬
‫ُو ُج َ‬
‫المفعول به ( الذين كفروا)‪ :‬االسم الموصول وصلته) على الفاعل (المالئكة)‬
‫الضرب على‬
‫لبيان حال الكافرين عند االحتضار‪ ،‬إذ أخزاهم سبحانه يجعل ّ‬
‫أشد‪،‬‬
‫النكال في ضربهما ّ‬
‫ألن الخزي و ّ‬
‫بالضرب‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وجوههم‪ ،‬وأدبارهم‪ ،‬واّنما خصوها‬
‫ألنه ليس كاحتضار المؤمن‪ ،‬وما‬
‫فالمراد تسليط عدسة الذهن عليهم عند احتضارهم‪ّ ،‬‬
‫فالناتج‬
‫يلقون من احتضار ومشقة‪ ،‬وا ّن العذاب يصب عليهم صبا لحظة االحتضار ّ‬
‫فقدم المفعول (الذين‬
‫الداللي إذًا تشنيع حالة الكفر‪ ،‬وتغليظ بيان عقوبة الكافرين‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ألنه ال يتعلق‬
‫قدم الفاعل (المالئكة) في هذا الموضع لم يفد ذلك المعنى‪ّ ،‬‬
‫كفروا) ولو ّ‬
‫فإن المالئكة يتوفون بني آدم جميعا مؤمنهم وكافرهم‪.‬‬
‫غرض بذكرهم‪ّ ،‬‬

‫النظام العربي أن يتصدر الفعل‬ ‫‪ -‬تقديم المفعول على الفعل‪ :‬المألوف في ّ‬


‫النموذج المعتاد من الكالم‪ ،‬فال‬
‫الجملة الفعلية لكن إذا انحرف التّركيب عن هذا ّ‬
‫سر بالغي‪ ،‬وداللة ثانية يختبئان وراء ذلك االنحراف في التّشكيل البنائي‬
‫بد من ّ‬
‫فقدم المفعول به‬
‫األصلي‪ ،‬وورد في سورة العنكبوت اآلية‪ 40 :‬فكالّ أخذنا بذنبه‪ّ ،‬‬
‫السابقة‪ ،‬كقوم لوط‬
‫أن ك ّل واحد من المجرمين المذكورين في اآليات ّ‬ ‫(كال) أي ّ‬
‫وفرعون وهامان‪ ،‬وغيرهم أهلكوا بسبب ذنبهم وعوقبوا بجنايتهم‪ ،‬وكانت عقوبته بما‬
‫كل واحد منهم ال بعض‬
‫يناسبهم‪ ،‬فقدم كال لالهتمام بأمر االستيعاب واالستغراق‪ ،‬أي ّ‬
‫من دون بعض‪.‬‬

‫‪201‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬


‫نعيمة حمو‬
‫وقد يأتي موضع تقديم المفعول على الفعل في معنى الحصر‪ ،‬وذلك في‬
‫يت‬
‫ُحيي َوأُم ُ‬
‫ال أ ََنا أ ْ‬
‫يت‪ ،‬قَ َ‬
‫يم َربِّي الذي ُي ْحيي َوُيم ُ‬
‫ال إ ْب َراه ُ‬
‫قوله تعالى‪»:‬إ ْذ قَ َ‬
‫أن المحي وال‬ ‫«(البقرة‪ )258 :‬فتقديم (رّبي) على (يحي) يفيد الحصر‪ ،‬أي ّ‬
‫مميت إالّ اهلل‪ ،‬ولو قيل يحيي ويميت رّبي لكان المراد نسبة اإلحياء واإلماتة إلى‬
‫اهلل على سبيل التّوكيد ال الحصر‪.‬‬

‫ين م َن النَّ ار‬


‫وفي معنى القصر‪ ،‬في قوله تعالى‪َ » :‬و َم ا ُه م ب َخ ارج َ‬
‫«(البقرة‪ )167 :‬ففي هذه اآلية تركيب دال على القصر بالمعاني الثالث‬
‫بالضرورة‬
‫ّ‬ ‫النار ونفيه عن الكفّار واثباته‬
‫السابقة‪ ،‬وهي هنا ثبوت الخروج من ّ‬
‫لمن يدخل النار من المؤمنين‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫النحو والبالغة‪ ،‬فهما مرتبطان‪.‬‬


‫الرتبة من أهم مقومات علمي ّ‬
‫إن العدول في ّ‬
‫‪ّ -‬‬

‫إن التّصرف في الكالم ال يكون اعتباطا‪ ،‬واّنما لعلّة وغرض مقصود‪.‬‬


‫‪ّ -‬‬

‫تفسر‬
‫السعة التي يمتلكها المتكلم في سياقات التّقديم والتّأخير‪ّ ،‬‬
‫إن الحرية و ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الثّراء والتّوسع اللّغوي للغة العربية‪.‬‬

‫النحوي ال يعني مخالفة القواعد‪ ،‬واّنما هو عدول‬‫إن التّصرف في البناء ّ‬


‫‪ّ -‬‬
‫جائز ومقبول وضرب من التّوسع اللّغوي‪.‬‬

‫العربية – العدد السابع‬ ‫‪202‬‬


‫الرتبة بين الوظيفة النحوية والبالغية‬
‫العدول في ّ‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫(‪ -)1‬سيبويه بشر عمر بن عثمان بن قنبر‪ ،‬تح‪ :‬عبد السالم محمد هارون‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬‬
‫بيروت‪ ،1988:‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.228‬‬

‫(‪ -)2‬الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ ،‬العين‪ ،‬تح‪ :‬مهدي المخزومي‪ ،‬إبراهيم السمرائي‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬‬
‫العراق‪ ،1981 :‬مادة‪ :‬قدم‪.‬‬

‫(‪ -)3‬ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم‪ ،‬لسان العرب‪،‬ط‪ .1‬بيروت‪:1990:‬‬
‫مادة‪ :‬قدم‪.‬‬

‫(‪ -)4‬الجرجاني عبد القاهر‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تح‪ :‬محمود شاكر‪ ،‬دط‪ .‬القاهرة‪ ،1984 :‬مكتبة‬
‫اليازجي‪ ،‬ص‪.137‬‬

‫(‪)5‬‬
‫النحو‪ ،‬تح‪ :‬مازن المبارك‪ ،‬ط‪ .3‬بيروت‪1979:‬‬
‫الزجاجي أبو القاسم‪ ،‬اإليضاح في علل ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫النفائس‪ ،‬ص ‪.220‬‬ ‫دار ّ‬
‫(‪)6‬‬
‫السالم محمد هارون‪ ،‬دط‪.‬‬
‫‪ -‬سيبويه بشر عمر بن عثمان بن قنبر‪ ،‬تح‪ :‬عبد ّ‬
‫بيروت‪ ،1988:‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.230‬‬

‫(‪ -)7‬الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪.138‬‬

‫(‪)8‬‬
‫النحوية‬
‫‪ -‬عبد الحميد السيد‪ ،‬دراسات في اللّسانيات العربية‪ ،‬بنية الجملة العربية‪ ،‬التّراكيب ّ‬
‫النحو وعلم المعاني‪ ،‬ط‪ .1‬األردن‪ ،2004 :‬دار الحامد‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫والتّداولية‪ ،‬علم ّ‬
‫(‪)9‬‬
‫السيد‪ ،‬دراسات في اللّسانيات العربية‪ ،‬ص ‪.129‬‬
‫‪ -‬عبد الحميد ّ‬

‫(‪ -)10‬أنظر شرح اللّمحة البدرية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.10‬‬

‫(‪ -)11‬ينظر التّسهيل‪ ،‬ص‪.54‬‬

‫‪203‬‬ ‫العربية – العدد السابع‬

You might also like