Professional Documents
Culture Documents
خيانات ذهبية
خيانات ذهبية
خيانات ذهبية
"الموت فن،
على غرار كل ماعداه
وإني أمارسه بإتقان..
أمارسه حتى يصير جهنم
أمارسه حتى يبدو حقيقة
في وسعكم القول إنه دعوتي"[.]1
ب ق ْد يسكنُ المسافة بين نَصل الدوا ِة وبياض ُ
فموت الكات ِ ت قليالً على ذكر االنتحار Mفي عالم المبدعين،
لنأ ِ
إيقاع َرقّ ِ
اص الحياة ِ السأم المفاجئ من
ِ ألعراض
ِ حزين
ٍ ت قُنو ٍط ومسا ٍء
الورقة؛" ألنّه ُمعرضٌ دائِمـًا ُك َّل ذا ِ
َورتابَ ِة التَنفُس ال ُم ِملّة"[.]2
تلك الخيانات الذهبية ،التي كان المبدعون أبطالها وضحاياها ،التهمت هواءهم وأرواحهم ،بقدر ما صنعت من
ت يحملها أعالم الفن واألدب.
األلم رايا ٍ
يقول التشيكي فرانز Mكافكا ( 3يوليو 3 -1883يونيو " )1924إن المقدم على االنتحار هو ذلك السجين الذي
يراهم يعدون له منصة اإلعدام في الساحة ويعتقد أن هذا قدر Mيقرره بنفسه ..يهرب في الليل من زنزانته،
ينزل إلى الساحة ويشنق Mنفسه" .أما الفرنسي ألبير كامي فيرى Mأن "االنتحار Mيتم في سكون القلب مثل عمل
فني عظيم .ويتفق معه مواطنه أونوريه دي بلزاك ،إذ يعتبر أن "كل انتحار هو نظام راق للحزن"[.]3
تلك الجاذبية القاتلة لالنتحار تركت بصمتها الراسخة على لحظة الختام في حياة كثير من المبدعين ،بد ًءا من
رسام المنمنمات الهندي داسوانت ( ،)1584 -1560والمهندس المعماري Mاإليطالي فرانشيسكو Mبوروميني( M
،)1667 -1599ومرو ًرا Mبالرسام البريطاني Mروبرت فاغان ( ،)1816 – 1721والرسامة الفرنسية
كونستانس ماييه ( ،)1821 -1775وانتها ًء بالرسام Mالياباني كازان واتانابي ،)1841 -1793( MوالرسامM
الهولندي فنسنت فان غوغ (.)1890 -1853
بعض المنتحرين من المشاهير ،من الكاتب الياباني Mيوكيو ميشيما ( )1970إلى المغنية اإليطالية داليدا (
،)1987ومن الروائي Mاألمريكي إرنست هيمنغواي ( )1961إلى الشاعرة األمريكية آن سيكستون (،)1974
ومن الشاعر الروسي فالديمير Mماياكوفسكي )1930( Mإلى المؤلفة والقاصة اإلنجليزية فرجينيا وولف (
، )1941وجدوا أنها رسالتهم Mاألخيرة وردهم على حياة لم تعد محتملة ..لكنها الحياة ،والبقاء فيها على رغم
كل شيء ،فعل إرادة وليس ترفـًا Mيمكن االستغناء عنه في لحظة يأس.
ولنأخذ مثالً على ذلك مالبسات انتحار يوكو ميشيما في قاعدة إيجيغايا العسكرية في 25نوفمبر ،1970 Mالذي
حصل بالسيف Mوفقـًا لطريقة السيبوكو Mأو الهاراكيري M،بعد محاولة فاشلة لالنقالب العسكري .]4[Mفقد احتل
ميشيما وقلة من رفاقه مقر كلية األركان العسكرية في قلب طوكيو Mواحتجزوا Mقائدهم ثم صعد ميشيما Mإلى
شرفة الكلية المطلة على ساحة التدريب وألقى كلمة عصيبة لم تستغرق Mأكثر من عشر دقائق في الجنود
الشباب المندهشين لحديثه دعاهم فيها رفض خضوع Mاليابان ألمريكا وإلى تغيير دستورها" Mالسلمي" الذي
فرض عليها بعد االحتالل األمريكي عام ،1945والعودة إلى تقاليد اليابان العسكرية وقيمها القومية التاريخية
قبل أن ينجرف مجتمعها مع موجة التغريب والتأمرك في العقود األخيرة ،وعلى الرغم من أن رد فعل الجنود
كان أقرب إلى السخرية بل إن بعضهم أغرق في الضحك ،لعصبية ميشيما وغرابة أفكاره ـ بمعيار الجيل
الجديد في اليابان ـ ولحركاته الدرامية المبالغ فيها ،على الرغم من ذلك فإن ميشيما قرر Mالمضي في عملية
االنتحار[.]5
وقبل دخوله القاعدة العسكرية ،نظم يوكيو ميشيما" Mجيساي نو كو" أو "قصائد Mالموت" التي تعد تقليدًا متبعـًا
ضمن طقوس االنتحار في اليابان[ .]6ويرى Mمترجم أعمال ميشيما وكاتب سيرته الذاتية جون ناثان أن
محاولة االنقالب لم تكن سوى ذريعة لتنفيذ طقوس االنتحار Mالتي لطالما حلم بها هذا األديب الياباني[.]7
ومن األسماء العالمية أيضـًا الكاتب والروائي Mالياباني الشهير ياسوناري كاواباتا M،الذي نال جائزة نوبل
لآلداب عام ،1968وبعدها بأربعة أعوام قرر Mاالنتحار بخنق نفسه بالغاز ،في ظل أحاديث عن تأثره بصدمة
انتحار تلميذه وصديقه يوكو ميشيما ،وقصة حُبٍّ فاشلة ،واكتشاف Mإصابته بمرض باركنسون[.]8
الكاتبة األرجنتينية الشهيرة مارتا لينش انتحرت في منزلها في 8أكتوبر ،1985بعد أن طالها اإلحباط ،حين
رأت أن الزمن بدأ يتالعب بمالمحها مع تقدم الزمن ،فلم تحتمل ما رأته ،وتناولت مسدسها Mوانتحرت .وقد أفاد
زوجها أنها كانت على صراع مرير مع تقدم السن قبل انتحارها Mبعشرين سنة ،ويبدو Mأنها خرجت في النهاية
بال أمل.
أم ٌر مماثل نراه في حالة انتحار القاصة اإلنجليزية فرجينيا وولف Mالتي ألقت بنفسها في النهر ،بعد أن تركت
لزوجها رسالة ،مما جاء فيها :
"إنني على يقين من أنني أرجع لجنوني من جديد .أشعر أننا ال يمكن أن نمر في فترة أخرى من هذه الفترات
الرهيبة .وأنا لن اشفى هذه المرة .أبدأ بسماع أصوات ،وال يمكنني التركيز M.ولذا سأفعل ما يبدو أنه أفضل
شيء يمكن القيام به ...ال أستطيع أن أواصل إفساد حياتك أكثر من هذا .ال أعتقد أن شخصين من الممكن أن
يكونا أكثر سعادة مما كنا نحن.
ف.]9[".
هوامش
[.Sylvia Plath, Ariel, New York, Harper Perennial Modern Classics, 1964 ]1
[ ]2ليث العبدويس ،وقائع انتحار كاتب غاضب ،جريدة "القدس العربي" ،لندن 18 ،مايو .2012
[ ]3د .محمد المهدي ،من تاريخ االنتحـار ..هنري دي مونترالن M..الحياة خارج الزمـن ،مجلة "وجهات نظر،
القاهرة ،يوليو.2009 M
[ ]4محمود داود ،اليوم األخير من حياة الروائي Mالياباني يوكيو ميشيما ،جريدة "الثورة" ،دمشق 15 ،نوفمبر
.2009
[ ]5د .محمد جابر األنصاري ،انتحار المثقّفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية ،المؤسسة العربيّة
للدراسات والنشر ،ط ،2بيروت.1999 ،
[Donald Keene, The Pleasures of Japanese Literatures, New York, Columbia ]6
.University Press, 1988
[John Nathan, Mishima: A biography, Little Brown and Company: ]7
.Boston/Toronto, 1974
[Donald Keene, Five Modern Japanese Novelists, New York, Columbia ]8
.University Press, 2005
[Phyllis Rose, Woman of Letters: A Life of Virginia Woolf, ]9
.London, Routledge, 1986
[ ]1خليل الشيخ ،االنتحار في األدب العربي ،المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر ،ط ،1بيروت.1997 ،
[ ]2إيليا حاوي ،قراءة في شعر خليل حاوي ،مجلة الفكر العربي المعاصر ،عدد يونيو /يوليو،1983
بيروت ،ص .28
[ ]3خليل حاوي ،األعمال الكاملة ،دار العودة ،بيروت.1982 ،
[ ]4د .محمد جابر األنصاري ،مرجع سابق.
[ ]5طالل الطريفي ،انتحـار األدبـاء ترجمة عشق للخيـال ..بلغـة المـوت ،مجلة "المجلة" ،لندن 13 ،سبتمبرM
.2007
[ ]6خليل حاوي ،مرجع سابق.
[ ]7إبراهيم خليل ،تيسير سبول من الشعر إلى الرواية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر M،بيروت.2005 ،
[ ]8تيسير السبول ،األعمال الكاملة ،دار ورد للنشر والتوزيع ،عمان.1998 ،
[ ]9المرجع نفسه.
عزا البعض انتحار الرسام والشاعر العراقي Mإبراهيم زاير ( )1972 -1944إلى هموم سياسية ،في حين قال
آخرون إنه عانى أزمة عاطفية وذهب فريق ثالث إلى القول بوجود مشكالت مالية وراء االنتحار .الشاعر
الذي كان ناشطـًا Mفي صفوف Mفصيل فلسطيني Mفي بيروت ،انتحر بإطالق النار على رأسه يوم 24إبريل
1972في العاصمة اللبنانية .بعد انتحاره بأيام قليلة ،ولِ ْ
دت ابنته في العاصمة العراقية بغداد ،التي شيع فيها
باعتباره "شهيد المقاومة الفلسطينية والنضال المسلح".
انتقص الموت المبكر من صورة هذا الشاعر والرسام التي كان من الممكن أن تكتمل وأن تندفع أكثر وأكثر،
وهو الذي جعلته الظروف يرى في موته ضرورة وحالً.
"تك ،تك ،األمر أسهل من التثاؤب" .هكذا كان يردد أمام أصدقائه وهو يشير بيده وكأنه يمسك المسدس .ثم
فعلها في شقة في بيروت وهو وحيد ،إلى الحد الذي جعله يحسن إطالق النار على صدغه كما كان مقدرًا له
أمام العدو .رحل إبراهيم زاير تاركـًا وراءه قصاصة كتب عليها" :لقد قررت االنتحار ،آسف إلزعاجكم"،
كما لو أنها آخر مقطع شعري ممكن أن يكتبه شاعر وهو يختار حتفه[.]1
في قصيدته "وردة الضحايا" ،يقول إبراهيم زاير:
ك وذ ّكروني Mبنوايا البحر ،وبكوا Mعني عند جثتي وأنا أتيت ..وقفت إلى جسد
"ج ّملوني وردة الضحايا إلي ِ
ُ
وجئت أنقش لوثتي على أعمدة النهار) ُ
رحلت في موتي الدالالت أقول وصوتي حداء يتلوى يفارقه الحنين (أنا
ُ
وعرفت أنهم قتلوني (مرّة أخرى) وتابعوا نشيدي"[.]2 بحثت يتبعني تحي ُ
ّرت من غربة نفسي ُ
الشاعر العراقي Mقاسم جبارة قصيدة تقيم في عزلتها .قصيدة منسية بالتمام Mوالكمال.
ولد عام ،1935وهاجر Mإلى فيينا عام ،1977وهناك راح يبيع الصحف تارة ويعمل عامل تنظيف تارةً
ت من التشرد ،لكن زواجه انتهى بالطالق عام ،1986إثر محاولة انتحار
أخرى .تزوج واستقر بعد سنوا ٍ
فاشلة لزوجته .الشاعر المنزوي المتحفظ والصموت ،انتحر بإطالق النار على رأسه في منفاه في فيينا Mعام
،1987بعدما اشترى Mمسدسـًا قديمـًا من بائع خردوات Mوكتب "كل أعضائي هادئة باستثناء العراق" M.لم يحسن
التصويب ،فبقي مشلوالً Mفي المستشفى إلى أن فارقته الحياة[.]3
ثمة إشارات في قصيدته إلى أنه شاعر منفي مرتين ،مرّة في وطنه وثانية في منفاه ،حتى أنه يورد فيينا،
العاصمة النمساوية ،مكانـًا لقصيدة كتبها عام .1982ويذكر أيضــًا في قصيدة بعنوان "نشيد Mنصفي":
"راض بالموت وبالمنفى ،وبعنف الركالت وبالمرحاض الرطب ،وبالغرفة في آخر طابق Mوبتوزيع Mاإلعالنات
ٍ
وبموزارت Mالممنوع عل ّي
بحذاء العسكر
ي
بجواز هولند ٍّ
بفتا ٍة مفلس ٍة
ت
راض بالصم ِ
ٍ
وبالثرثرة العظمى
الهائل
ِ بالهذيان
بئر أسود
بالذكرى إذ تسقط في ِ
باللحية والشعر الكث
ْ
القوادين وبسمح صحون
ِ وبالجلد المدبوغ
بنشيد الصف الثالث
بصديقة المالية
بالقرآن
بتنزيالت السوق
ب أجالف
بأصحا ٍ
برسائل حوليات تأتي من بغداد
بالطابور Mالخامس
بقلعة صالح
بترتيالت أسمعها حين أنام… كأني ٍن ال متنا ٍه…"[.]4
أما القاص والروائي Mالعراقي مهدي الراضي فقد كان للخيبة نصيب في نهايته عام ،2007حيث كان الفشل
مصير تفاعالته مع محيطه .فعلى الجانب السياسي Mكان يرى أن السياسة العربية متشبعة بالرأي األوحد،
والتيار الحاكم .ولعل ما زاد من صدمة مهدي؛ أنه كان معارضـًا Mلنظام صدام حسين ،والنظام الذي جاء بعده
على ح ٍد سواء .كما أن مهدي طرق باب العشق والحب ،ولم يكن مصيره إال الويل والتعاسة ،ذلك أنه وقع في
غرام إحدى األديبات ،ليكتشف Mالحقـًا أنه حُبٌّ من طرف واحد.
تحدث الراضي عن معاناته قبل االنتحار؛ في إحدى رواياته األخيرة ،التي أطلق عليها اسم "بيان الحب
والعذاب" ،والتي توضح مدى خيبته ،وسوداوية الحياة التي كان يعيشها ،كترنمه في أعماله "حلم يوم ما"
و"مدن الشمع" و"حفلة إعدام" و"العراقي Mالمهجور" .ضاق مهدي الراضي ذرعـًا بتهميشه األدبي
والسياسي ،فقرر أن ينفذ في نفسه حكم اإلعدام[.]5
ابن مدينة حمص ،الشاعر السوري Mعبدالباسط Mالصوفي )1960 -1931( Mعانى ويالت الحب والغربة ،حتى
قرر التخلص من حياته .كان عبدالباسط عاشقـًا لفتاة لم يستطع الزواج بها لظروف قاهرة ،وكانت النتيجة
شاعرًا مهشم الفؤاد .سافر إلى إفريقيا في بعثة لتدريس اللغة العربية ،وربما Mكان ذلك هروبـًا زائفـًا سرعان ما
أدرك زيفه[ .]6فقد أوفدته وزارة التربية والتعليم لتدريس العربية في غينيا في ،1960وهناك أصيب بانهيار
عصبي وأقدم Mعلى عدة محاوالت انتحار ،ومات في مستشفى Mفي كوناكري في 20يوليو ،1960 Mونُقل جثمانه
بحرًا إلى بلده حيث دفن بعد شهرين من وفاته.
هو الذي صاح يومـًا" :كيف ال أشكو ودائي Mليس يشفيه دواء" ،والذي اعترف ملء دفاتره الشعرية بمعاناته،
إذ يقول في قصيدته "مكادي"M:
"فـ"سيزيف" من قبل ،ش َّد إلى الصخرة الجامدة
تسلق ،يحمل أثقال خيبته الخالدة
مكادي! أنا بعض "سيزيف" Mبعض الذي كابده
فرغت على الزرقة األبدية،
قلبـًا هشيمـًا وروحـًا خراب
تسلقتها ،لجة وعرة ،وارتميت عليها،
ي الرغاب
عص َّ
مكادي! أنا بعض "سيزيف" Mبعض الذي جالده
يطاردني Mاليأس ،دامي السياط ،كما طارده
مكادي! هما :الصخر والعقم في لجتي الصاعدة"[.]7
هوامش:
[ ]1عالية ممدوح ،الشاعر العراقي Mإبراهيم زاير :متى تفتح الشبابيك للثورة؟! ،جريدة "الرياض" ،الرياض،
24مايو .2012
[ ]2إبراهيم زاير ،وردة الضحايا ،مجلة "مواقف" ،بيروت ،العدد ،21يونيو.1972 M
[ ]3جمانة حداد ،سيجيء الموت وستكون له عيناك :مئة وخمسون Mشاعرًا انتحروا في القرن العشرين ،الدار
العربية للعلوم ناشرون/دار Mالنهار ،بيروت ،2008 ،ص .449
[ ]4عوّاد ناصر ،من يعرف قاسم جبارة؟ ،جريدة "الزمان" ،بغداد 17 ،فبراير .2012
[ ]5طالل الطريفي ،مرجع سابق.
[ ]6لينا هويان الحسن ،بورتريه :عبد الباسط الصوفي Mكيف ال أشكو ودائي ليس يشفيه دواء ،جريدة
"الثورة" ،دمشق 6 ،سبتمبر.2006 M
[ ]7عبدالباسط الصوفي ،أبيات ريفية ،منشورات Mوزارة الثقافة السورية ،دمشق.2004 ،
قائمة مشاهير Mالمنتحرين العرب تضم أيضـًا د .درية شفيق إحدى رائدات حركة تحرير المرأة في مصر في
النصف األول من القرن العشرين ،والتي ينسب إليها الفضل في حصول المرأة المصرية على حق االنتخاب
والترشح في دستور مصر عام .1956غير أن درية شفيق ،التي أسست عام " 1952اتحاد بنت النيل" الذي
يعد أول حزب نسائي سياسي Mفي مصر ،عانت بسبب األوضاع السياسية المتغيرة في مصر بعد ثورة يوليوM
،1952وعدم وجود Mنشاط سياسي حقيقي ،وعاشت درية شفيق في عزلة نحو 18عامـًا قبل أن تنتحر
بالسقوط من شرفة منزلها في 30سبتمبر .1975
وانتحرت الكاتبة والمترجمة المصرية أروى صالح ،مؤلفة كتاب "المبتسرون" ،في 7يونيو .1997أروى،
ابنة الحركة الطالبية المنتمية إلى اليسار ،ألقت بنفسها من الدور الثاني عشر في مبنى العمارة التي كانت
تقطنها في القاهرة ،وقد ذكرت بعض الصحف أنها انتحرت نتيجة للعنف الذكوري M،في حين أنها ألمحت إلى
اإلحباط الذي كان يكتنفها في كتابها األخير ،وكأنها فيه تكشف زيف الشيوعية التي كانت تؤمن بها ،كما أنها
لم تحتمل ما سمته بالخيانة من رفاقها ،الذين تبرأوا من معتقدهم بعد انهيار Mالشيوعية العالمية.
كما أن احتقارها لذاتها ورفاقها Mالذين كانوا يبيعونها Mالوهم كما تصف؛ زاد من دوافع االنتحار Mلديها،
خصوصـًا Mأنها كانت تروي Mفي مسودة كتابها؛ أنها كانت تشتري أبخس بضاعة من الكالم على لسان أحدهم،
وتدفع لذلك ثمنـًا باهظـًا في ساعات متأخرة من الليل ،األمر الذي جعلها تنتقم من هذا العالم الذي جعل منها
أضحوكة لهذا اليساري أو ذاك .لذا انتقمت من هؤالء الباعة بفضحهم ،على الرغم من أنهم حاولوا كثيرًا ثنيها
عن ذكر أسماء .ونتيجة لكل هذا قررت أروى Mاالنتحار؛ انتقامـًا من سذاجتها في السير مع ركب أناس ال
يتقنون إال الكالم .ومن يقرأ "سرطان Mالروح" الذي صدر عن دار النهر في ،1998ويضم Mخالصة وافية عن
أعمالها غير المنشورة ،سيرصد Mفكرة محورية حول االنعزالية واالكتئاب والشرود في أحالم اليقظة .وتتحدث
عل .تقول د .نوال
أروى في هذا الكتاب عن محاولة انتحار سابقة ،قبل أن تلفظ أنفاسها األخيرة بالسقوط Mمن ٍ
السعداوي إنه قبل انتحار أروى "جاءني صوتها عبر التليفون :موتي Mسالحي األخير ضد المبتسرين وناقصي
التكوين"[.]1
أما الدكتور Mإسماعيل أدهم ( 13يناير 23 -1911يوليو )1940مؤلف كتاب "لماذا أنا ملحد" الذي أثار ضجة
كبرى في الساحة الثقافية آنذاك ،فقد أثار خبر انتحاره ضجة أخرى وقتذاك M.كان إسماعيل أدهم يجيد عددًا من
اللغات ،وله كثير من الدراسات والكتب والبحوث ،لكنه واجه صعوبات مجتمعية بسبب موقفه من األديان ،إذ
يقول "إن األسباب التي دعتني للتخلي عن اإليمان باهلل كثيرة منها ما هو علمي بحت ومنها Mما هو فلسفي
صرف ومنها ما هو بين بين ومنها ما يرجع لبيئتي وظروفي Mومنها ما يرجع ألسباب سيكولوجية"[.]2
ويضيف Mقائالً "وكانت نتيجة هذه الحياة أني خرجت عن األديان وتخليت عن كل المعتقدات وأمنت بالعلم
وحده وبالمنطق العلمي ،ولشد ما كانت دهشتي وعجبي أني وجدت نفسي أسعد حاالً وأكثر اطمئنانـًا Mمن
حالتي حينما كنت أغالب نفسي لالحتفاظ بمعتقد ديني"[.]3
تقول الباحثة د .رجاء بن سالمة "عمد الشيخ يوسف Mالدجوي إلى استعداء السلطة السياسية بقوله إن صاحب
الرسالة يطعن في دين الدولة ومليكها حامي الدين والعلم ،وإن ما جاء فيها يتناقض مع الفطرة اإلسالمية التي
جبل عليها سائر البشر .وهو ما يدل على تعاضد المؤسستين الدينية والسياسية في محاصرة الفكر ..وقد لبت
وزارة النحاس نداء الشيخ يوسف Mالدجوي واستجابت للدعوة التي قدمها شيوخ األزهر ضد إسماعيل أدهم،
وقامت النيابة بالتحقيق معه ومصادرة رسالته وتفتيش منزله فوجدت فيه رسالة (لماذا أنا ملحد؟) ،وملفات
أخرى تحوي بعض نسخ من بحوث متعددة عن فلسفة النشوء واالرتقاء ،وكتاب (لماذا أنا ملحد؟) لراسل،
ومظروفـًا يحوي Mأكثر من ثالثين صفحة من كتاب بخطه يشرع في تأليفه ينكر فيه وجود Mهللا ويؤكد إلحاده.
وقد حالت جنسيته التركية وحالته الصحية بينه وبين السجن واكتفت النيابة بتحذيره وتعطيل مجلة اإلمام التي
نشرت الرسالة ألول مرة ..يقول إسماعيل أدهم في بعض مقاالته إن شيخ األزهر قرر Mبمرسوم Mمسجدي
حرماني الجنة جزاء لكفري ..وألن الرقابة تنتقل بالعدوى ،وتتّسع Mدائرتها تلقائيـًا ،فإن العزل الذي تقوم عليه
طال محقّق أعماله الكاملة .فقد ذكر لي أحد المفكرين المصريين المطّلعين (ال أذكر اسمه خوفـًا عليه من
العدوى نفسها) أن أحمد الهراوي Mطرد من جامعة صنعاء ألنه درّس أحد مؤلفات إسماعيل أدهم في النقد
األدبي وصادف Mأن كان هذا المؤلّف منشو ًرا Mفي المجلّد الذي يتض ّمن رسالته (لماذا أنا ملحد)"[.]4
عانى إسماعيل أدهم أمراض الصدر لفترة طويلة ،وأدت آراؤه في الدين إلى شعوره بالعزلة ،حتى كره الحياة
التي ال تنتهي إلى شيء ،فكانت النهاية .فقد فوجئت Mاألوساط العلمية والثقافية بخبر انتحار د .إسماعيل أدهم
بإلقاء نفسه في البحر على شاطئ جليم في اإلسكندرية ،وسط محاولة بعض رواد Mالشاطئ إنقاذه من دون
جدوى .وبعد بضع ساعات ،انتشل رجال األمن واإلسعاف جثته ،ووجدت في مالبسه رسالة قال فيها إنه
انتحر زهدًا في الحياة وكراهية لها .وأوصى أدهم بإحراق جثته وعدم دفنه في مقابر المسلمين ،لكن وصيته لم
تنفذ وتم دفنه وسط أجواء من الصمت ،ولم يمش في جنازته إال خمسة أشخاص[.]5
وذهب البعض إلى القول بأن إسماعيل أدهم "إنه الصورة المضادة للشهيد .الشهيد يعزل بالتضحية التي تنقله
إلى دائرة القداسة ،والمنتحر Mيعزل بتضحية فردية تع ّدها المجموعة (هدرًا) وهباء ،أي مدنّسـًا ضديدًا للمق ّدس
اإلضحوي .أما أن يكون المنتحر ملحدًا ،فتلك مسرحة ألقصى صور الغيريّة المرفوضة .الغيريّة التي تأتي
من (الداخل) في عالم ما زال فيه الدم وثاقـًا Mيشد الدنيوي إلى المق ّدس إلنتاج العنف العتيق"[.]6
هوامش
[ ]1د .نوال السعداوي ،حلمي سالم وأروى صالح ،جريدة "المصري اليوم" ،القاهرة 5 ،أغسطس .2012
[ ]2د .إسماعيل أحمد أدهم ،أعمال مختارة ،منشورات Mالجمل ،بيروت.2010 ،
[ ]3المرجع نفسه.
[ ]4د .رجاء بن سالمة ،إسماعيل أدهم واختالفه غير المحتمل مثاالً عن آليات الحجز الرقابي M،موقع "الحوار
المتمدن" ،العدد 4 ،2455نوفمبر .2008
[ ]5هاني الخير ،مشاهير وظرفاء القرن العشرين ،دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع ،بيروت ،1993 ،ص
.65
[ ]6د .رجاء بن سالمة ،مصدر سابق.
شكل انتحار الشاعر والناقد المصري فخري أبو السعود ( )1940-1910صدمة لألوساط األدبية في مصر.
كان هذا الباحث الموهوب في مجال األدب المقارن ،مبتعثـًا في بعثة دراسية إلنجلترا (.]1[)1934 - 1932
وحين عاد إلى الوطن وبصحبته زوجته اإلنجليزية ،التي تعرف عليها في رحاب الجامعة ،وأنجب منها
ولدين ،أقام في اإلسكندرية مع أسرته الصغيرة .وحدث أن سافرت زوجته إلى لندن مع ولديه ،قبل نشوب
نيران الحرب العالمية الثانية بأسابيع قليلة ،فلما اشتعلت ميادين القتال في أوروبا عام 1939واستهدفت
الطائرات األلمانية المدن البريطانية الرئيسية وكان الولدان من بين األطفال البريطانيين المرحلين إلى
الواليات المتحدة ،من أجل تجنيبهم Mاألخطار ،فغرقت بهم السفينة جميعـًا[.]2
أما زوجته فقد منعتها أجواء الحرب عن العودة ثانية إلى مصر ،فانقطعت أخبارها عنه ،ففقد صوابه
وشجاعته معـًا.
وكانت هذه الحالة األليمة ،ضياع أسرته ،سبب انتحاره حيث أطلق رصاصته من مسدسه على رأسه في أحد
أيام شهر مارس من عام 1940فكانت نهايته ،وطويت صفحة أيامه[.]3
لم يترك الراحل فخري وصيته كعادة المنتحرين ،بل ترك بخط يده المرتعشة وعلى بياض الورق ،بيتين من
الشعر أحدهما للمتنبي والثاني Mلزهير بن أبي سلمى .أما بيت المتنبي فهو:
وإني لمن قوم كرام نفوسهم ترفع أن تحيا بلحم وأعظم
أما بيت زهير فهو:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حوالً ال أبالك يسأم
وقد وضع كلمة ثالثين بدالً من ثمانين ،ذلك أنه عندما أنهى حياته ،وهو في حالة انهيار نفسي واكبه االكتئاب
الشديد ،كان في حوالي الثالثين من العمر[.]4
وكان أحمد العاصي ( )1930 -1903شاعرًا معروفـًا في عصره ،وقد أصدر ديوانـًا يتيمـًا هو "ديوان
العاصي" وكتب له أحمد شوقي Mمقدمة شعرية يشيد في أول بيت منها بالتشابه بين اسم العاصي ونهر Mالعاصي
الذي يتدفق Mفي أرض سوريا.
التحق العاصي بمدرسة الطب في القاهرة ،ولما أصيب بمرض الصدر هجر دراسة الطب ،والتحق بكلية
اآلداب ،وتخرج في قسم الفلسفة ،ليعمل موظفـًا بمكتبة هذه الكلية.
انعكست حياته المرضية القاسية ،وثقافته الفلسفية ،وحساسيته الشعرية على قصائده ،فجاءت متشائمة ذات
نظرة عبثية إلى الحياة .وهذا الشاعر الذي حياه شوقي Mبقصيدة كان قد دعاه فيها إلى الكف عن الشكوى Mألنه ال
يزال شابـًا في مقتبل الحياة ،انتحر وهو في السابعة والعشرين من عمره بعد أن أصدر ديوانه الوحيد عام
1926وأصدر إلى جانبه رواية منشورة اآلن هي "غادة لبنان"[.]5
غير أن التعبير عن عالمه الحزين القاتم لم يفرج همه ،فغلبته هواجسه ،حتى أغلق نوافذ Mمسكنه في القاهرة،
وأنهى حياته بيده تاركـًا قصاصة بخط يده يقول فيها" :جبان من يكره الموت ،جبان من ال يرحب بذلك
المالك الطاهر .إنني أستعذب الموت ،وهو لي كالعطر".]6[M
ويحدث أحد مؤرخي Mحياته وهو األديب الناقد محمد محمود زيتون بأنه انتحر بأن دهن جسمه بمادة كاوية ثم
أوى الى فراشه .وظلت هذه المادة تأكل جسمه بالتدريج وتحرق الفراش ببطء ،من الساعة التاسعة صباحـًاM
حتى الخامسة من اليوم التالي ،حيث قضت عليه وأحرقت Mالحجرة.
ورمى الشاعر المصري صالح الشرنوبي ( )1951 -1924بنفسه تحت عجالت القطار عام 1951بعد أن
ترك في جيبه ورقة توصي Mأهله بطباعة ديوانه ،وقد كان شاعرًا رومانتيكيـًا صعلوكـًا Mرغم تعليمه الديني .فقد
حصل على الثانوية األزهرية من المعهد األحمدي بطنطا Mعام ،1947لكنه فشل في االلتحاق بدار العلوم بعد
أن اجتاز االمتحان التحريري ،بسبب تعنت أستاذ الشريعة في االمتحان الشفهي للقرآن الكريم .التحق بكلية
أصول الدين ثم هجرها بعد سبعة أشهر من الدراسة.
بعد عام من تركه كلية أصول الدين ،عاد إلى بلطيم ليعمل مدرسـًا بالمدرسة االبتدائية .ترك بلطيم إلى القاهرة
بعد أن رفض أبناء عمه يده في طلب شقيقتهم التي كان يحبها ويرى في ارتباطه بها نهاية كل متاعبه.
في القاهرة تعاطى Mكل ألوان الضياع ،وعاقر كل ألوان الصعلكة ،وكتب أروع وأبدع قصائد الشك والحزن
والحرمان والموت سواء وهو مقيم بحجرة الدجاج على سطح أحد المنازل ،أو وهو ملتجئ ،بعد أن طردته
صاحبة البيت لعجزه عن دفع اإليجار ،إلى مغارة بجبل المقطم ،أو وهو مقيم في بدروم تحت األرض يخيل
إلى داخله أنه يستنشق هواء قد سبق تنفسه حسب تعبير Mالدكتور عبد الحي دياب[.]7
عمل مدرسـًا Mبمدرسة أجنبية للبنات هي مدرسة "سان جورج" ،لكنه فصل منها لكثرة تخلفه وعدم التزامه
بمواعيد الحضور واالنصراف .مرة ثانية حاول االلتحاق بكلية دار العلوم ليلقى نفس النتيجة التي لقيها عام
،1947وعلى يد نفس أستاذ الشريعة .التحق بكلية الشريعة ،لكنه سرعان ما هجرها لنفس األسباب التي هجر
بها كلية أصول الدين.
كتب عنه عدد من أبرز األدباء المصريين مثل كامل الشناوي Mوصديقه صالح جودت ،وقد قدم ألحد دواوينه
علي أحمد باكثير ،وقال عنه العقاد إنه "لو عاش لب َّز شوقيا".
تعرف على الممثلين والممثالت وكتب أغنيات بعض األفالم ،كما أنه عرف وذاق كل خصائص عالم الفن إلى
درجة التخمة .علم كامل الشناوي Mبمأساة الشاعر صالح الشرنوبي فعينه مصححـًا في جريدة "األهرام" لتظل
المأساة قائمة نتيجة لنمط الحياة التي قد استغرقت هذا الشاعر.
في إجازة عيد األضحى عاد الشاعر إلى بلطيم لتكون النهاية الحزينة ،ولتشيع بلطيم شاعرها يوم 17سبتمبر
.1951
الشاعر المصري Mمنير رمزي ( ،)1945 -1925كان بدوره مهمومـًا Mبفكرة الموت في قصائده ،وهو ما
نلمسه في مجموعته الشعرية الوحيدة "بريق Mالرماد" التي نشرت بعد رحيله عام .1997انتحر بإطالق النار
على نفسه في 25مايو 1945بسبب قصة حب فاشلة ،بعدما كتب على قصاصة ورق" :أنا هارب".
يقول في قصيدته "أنا الغريب":
"أهيم بين مجالس الموتى
هامسـًا في آذانهم
بأغان ّي التي ال معنى لها،
أرسلها في خفوت
خائفـًا إيقاظهم،
ثم أجلس في صمت"[.]8
وفي قصيدته "في الليل األبدي" ،يقول:
"نهاري قصير ،ولكن ليل أبدي..
لي ٌل مرّت أطرافه،
لم تعكس صفحة قلبي شعاعـًا واحدًا
لكوكب من كواكبه..
أسدلت عين ّي حتى ال يروعني،
ما يحوطني Mمن ظالم"[.]9
هوامش
رصاصة قاتلة أنهت حياة الشاعر والمخرج والرسام Mاللبناني أنطوان مشحور Mالمولود عام 1936؛ إذ انتحر
بإطالق النار على رأسه صباح يوم 17نوفمبر ،1975 Mبعدما كان أس ّر إلى صديق Mله قبل أيام باعتزامه
االنتحارُ .و ِج َد في سريره في شقته الواقعة في أحد مباني شارع الحمراء ،وحوله صور زوجته اليونانية التي
كانت هجرته بعد خالف حا ٍد بينهما .لم تكن قصائد هذا الشاعر السوريالي Mتخلو من مفردة "ليل" أو "عتمة".
ومن مجموعته الشعرية الوحيدة الصادرة باللغة الفرنسية عام 1965بعنوان "أعشاب الليل الطويلة" ،نطالع
عبارات مثل:
"سأبسط خيوط Mالدم في جسدي
شراعـًا وسأقول وداعـًا لألرض"[.]1
وأيضـًا:
أحدثك عن الموت.
ِ "سألتِني أن
عندما رأيته للمرة األخيرة كان
قد غيّر تسريحة شعره".
وهكذا بدا االنتحار ومحاوالت التخلص من الحياة أمرًا مألوفـًا Mلدى عدد من المبدعين ،ورأينا من يقدم لنا
تصورًا فلسفيـًا للمأساة ،ومن ذلك ما أورده األديب النوبي Mالراحل إدريس علي الذي قال في حوار صحفي قبل
واقع مهين .فأنا لم أحبب الحياة بما
ٍ وفاته بقليل" :أرى أن مسألة االنتحار أشرف Mوأنبل وسيلة لالنسحاب من
فيها من تفاهات وصراعات وتفاوت طبقي ،وروايتي" Mتحت خط الفقر" تُعري هذا الواقع وتفضح المستور
ُ
حاولت االنتحار بإلقاء ُ
واكتشفت أنه ال فائدة من الكتابة .لقد وتكشف المسكوت عنه .وقد مات ابني منتحرًا،
نفسي في النيل أكثر من مرة ،ولكن النيل أبى أن يبتلع جثتي"[.]2
األجزاء األربعة التي صدرت من سيرته الذاتية بعنوان "كتابة البوح" كانت بالفعل "مشاهد من قلب الجحيم".
لكن جرأتها غطّت على
ربما لم تلفت هذه السيرة كثيرين .ربما لم يهتم فيها بالتفاصيل الفنية واللغة والبناءّ ،
كل هذه العناصر .هذه الجرأة كانت سببـًا في أن تالحقه المشكالت واألحزان .وكان آخرها مصادرة روايته
"الزعيم يحلق شعره" ،التي تناول فيها سنوات قضاها في العمل في ليبيا.
ثم صدرت روايته "انفجار جمجمة" التي عبّر فيها ببراعة عن هواجسه الداخلية ،مف ّككـًا األنظمة القمعية .هذه
الرواية غيّرت حياته؛ إذ كان يعمل فى إحدى الشركات مضطه ًدا Mومعزوالً Mباعتباره كاتبـًا مجنونـًا شيوعيـًا،
لكن فجأة حصلت الرواية على جائزة معرض الكتاب في القاهرة ،فالتقى إدريس علي مع الرئيس المصري
الذي صافحه ،وتغيّرت حياته ،وزاد راتبه ،وصار Mأمينـًا لمكتبة الشركة[.]3
غير أنه بقي وفيـًا لحياته المعذبة القلقة ،حتى وافاه األجل المحتوم.
ربما يكون إدريس علي ( )2010 -1940األكثر سعادة بموته .فقد حقق أخيرًا "حلمـًا" سعى إليه طويالً.
جرّب االنتحار مرارًا ،احتجاجـًا على األوضاع Mالبائسة التي عاناها طويالً ،لكنه في كل مرة كان يفشل في
بلوغ مبتغاه .وفي أحد أيام ديسمبر Mالشتوية حقق "حلّمه" .مات ،لكن في فراشه ،متأثرًا بأزمة قلبية لم يستطع
تح ّملها.
ومن الجزائر ،يبرز اسم الشاعرة الجزائرية صفية كتو ( )1989 -1944التي خرجت من بيتها ذات صباح
شتوي بارد ،ولم تتردد في رمي جسدها من أعلى جسر تيليملي بوسط Mالجزائر العاصمة ،لتنتشل جثة هامدة
عند الشارع السفلي من أعلى ثمانية طوابق Mكاملة.
صفية كتو هو االسم الفني للشاعرة التي كانت في وثائقها الرسمية تحمل اسم زهرة رابحي ،وولدت في مدينة
العين الصفراء عند بوابة الجنوب الغربي للجزائر حيث عملت مدرسة للغة الفرنسية حتى سنة 1969لتنتقل
إلى مدينة الجزائر M.في سنة 1973أصبحت صحفية في وكالة األنباء الجزائرية ،ومن عناوين كتبها األدبية،
المجموعة الشعرية "صديقتي Mالقيثارة" سنة 1979والمجموعة القصصية "الكوكب البنفسجي" إضافة إلى
عناوين أخرى.
قبل انتحار الشاعرة صفية كتو ،كان الشاعر الشاب (حينها) عبد هللا بوخالفة ( 2 -1964أكتوبر )1988الذي
بدأ يشق طريقه بتجربة شعرية مختلفة ،قد أنهى حياته بطريقة مأساوية في ضاحية مدينة قسنطينة بالشرق
الجزائري .لم يتردد هذا الناشط الطالبي في إلقاء نفسه أمام القطار الذي حوله إلى أشالء .ولم تصدر أشعاره
في كتب إال بعد سنوات طويلة على رحيله ،بجهود بعض أصدقائه ومحبيه ،وذلك عن منشورات المكتبة
الوطنية عام .2005
يقول عبدهللا بوخالفة في قصيدته "التروبادور :"1
"يبني من الياسمين الساللم
يبني من االنتحار Mالندى
بعدما كان يصبّ الماء في األنعام"[.]4
وفي قصيدة "التروبادور:"2 M
"وقال لها:
علّميني الفراق
أنا سيد اليائسين
ُ
وانتحرت مع أوراق الصباح ُ
فتحت الرؤىM
ُ
انتحرت مع النور والسحب الشجرية
ومن شفتيك تفجّرت المطرات التي حملتني إلى الليل"[.]5
بعد ست سنوات من انتحار الشاعر عبد هللا بوخالفة ،أقدم شاعر آخر وهو فاروق Mاسميرة على رمي جسده من
أعلى الجسر المعلق لمدينة قسنطينة من علو يقترب من 200متر ،وكان ذلك سنة ،1994وهو الشاعر
المميز الذي كان يعد لرسالة ماجستير M.وكان قد أحيا بشعره ذكرى صديقه عبد هللا بوخالفة في أكثر من
قصيدة وتأثر كثيرًا لرحيله بتلك الطريقة قبل أن يلحقه.
وبعد سنين من رحيله بتلك الطريقة ،كتب عنه صديقه الشاعر عادل صياد يقول'' :لست أدري ماذا كان يقول
صديقي فاروق Mوهو يهوي بجسده من الجسر المعلّق في الخواء .بالتأكيد لم يكن ينوي االنتحار ..كان يرغب
في اختراق القشرة األرضية ،والنفاذ منها إلى الفراغ الفسيح ،والتحليق في أرجائه تحليقـًا أبديـًا ،يليق بجناحيه
وقدرته على الطيران''.
لم تتوقف Mظاهرة انتحار الشعراء في الجزائر عند هذا الحد ،ففي سنة 2010أقدمت الشاعرة الشابة هادية
رجيمي على االنتحار داخل بيتها وهي التي لم تتجاوز Mالثالثين من العمر ،وفعلت ذلك بعد أن أصدرت
مجموعتها الشعرية األولى "عطر الثرى" .وتبقى أسباب االنتحار مجهولة.
ظاهرة انتحار الشعراء في الجزائر ليست وليدة سنوات االستقالل ،بل تجاوزت ذلك في التاريخ المعاصر.
ولعل أشهر المنتحرين قبل هذه الفترة هو الشاعر مبارك جلواح الذي رمى بنفسه في نهر السين بالعاصمة
الفرنسية باريس سنة 1943وهو المولود Mسنة 1908بضاحية سطيف Mبالشرق الجزائري ،تاركـًا Mديوانـًا
شعريـًا بعنوان "دخان اليأس" .وبعد Mسنين طويلة من رحيله المفجع جمع الناقد عبد هللا الركيبي كل أعماله في
كتاب بعنوان "جلواح"[.]6
الظروف Mالصحية الصعبة حالت دون متابعة الشاعر المغربي كريم حوماري ،المولود Mعام 1972في مدينة
صفرو ،تحصيله الدراسي .في قصائده التي أثبتت موهبته الصاعدة ،كانت تيمات الموت والوحدة والجروح
والحزن والهزيمة حاضرة بقوة .كتب إلى صديقه قبل أيام من رحيله رسالة يقول فيها" :عين األشباح
تطاردني Mصباح مساء"[ ،]7قبل أن ينتحر بشنق نفسه يوم 4مارس .1997
يقول كريم حوماري Mفي قصيدته "يحفر الليل قبري وينام":
"أظل مفتوح العين
حتى يشنق Mخط الفجر عنق هيامي
يحفر الليل قبري Mوينام".8
ويقول في "سفر داخلي":
"أمشي ليس في طريقي غير نوافذ مشرعة على ضياء من خرير دمي .قلبي مكفّن في هواه ،قدماي بال وقع.
أمشي على رصيف الغواية وليس في هذه الطريق غير الضياع الرابض في أنفاسي"[.]9
وفي قصيدة "قل ٌ
ق صامت" يقول:
"ذبل الياسمين في فمي
وشقائق النعمان
مغمورةٌ برماد عظامي
هكذا ،أموت سالمـًا
في حديقة جنوني".]10[M
هوامش
[Antoine Mechawar, Les longues herbes de la nuit, Ed. Harb Bijjani, Byrouth, ]1
.1965
[ ]2خالد شحاتة ،إدريس علي ،حاولت االنتحار Mورفض النيل ابتالع جثتي ،مجلة "المرأة اليوم" ،أبوظبي،
17مارس ،2011ص .99-98
[ ]3محمد شعير ،إدريس علي ..وقائع موت معلن ،جريدة "األخبار" ،بيروت 1 ،ديسمبر .2010
[ ]4جمانة حداد ،مرجع سابق ،ص .483
[ ]5المرجع نفسه ،ص .483
[ ]6صفية كتو تفتح جرح المنتحرين في الشعر الجزائري ،مدونة "الخير شوار" 1 ،مارس .2012
[ ]7جمانة حداد ،ص .487
[ ]8كريم حوماري ،تقاسيم على آلة الجنون ،جمعية قدماء تالميذ ثانوية األصيلي ،دار قرطبة ،الدار البيضاء،
.1997
[ ]9المرجع نفسه.
[ ]10المرجع نفسه.
كان الشاعر السوداني Mعبدالرحيم أبو ذكري ( )1989-1943يقول ألصدقائه" :أشعر أن لي مكانـًا في الحياة
ينتظرني Mوأن هذا المكان لن يمأله أح ٌد غيري في الشعر والترجمة" ،لكن صاحب ديوان "الرحيل في الليل"
عانى باكرًا سلسلة انهيارات عصبية وحاالت اكتئاب وإرهاق ،وكانت صحته ضعيفة هشة[ .]1وضع أبو
ذكري حدًا إلبداعه برمي نفسه من مبنى أكاديمية العلوم السوفيتية صباح 5نوفمبر 1989وسط Mثلوج
موسكو[.]2
يقول أبو ذكري في قصيدته "في الفاجعة":
"لحظتها ُ
قلت :أموت هنا...
عيناك لد َّ
ي كفن ِ
عينك أشرب طعم الموت العالق
ِ من
في أفق األجفان
فيك وأنصت:
أتمعن ِ
أسمع خشخشة األكفان"[.]3
قائمة األدباء والشعراء العرب المنتحرين تطول ،وتضم من السودان مثالً :الشعراء محمد عبد الرحمن شيبون
( ،)1961-1930وسامي Mيوسف قبريال ( ،)1975 -1951وأحمد الطيب عبدالحفيظ.
ساهمت في إضاءة عوالم االنتحار Mعدة روائع أدبية عربية وغربية خطتها أقالم إبداعية ألدباء عرب وغير
عرب ،مثل جورج باطاي ،وجورج Mسالم ،وغابرييل مارسيل ،وألبير كامو ،والمغربي Mمحمد أسليم ،ممن مثل
الموت نقطة ارتكاز في أعمالهم ،وقد Mقادهم ذلك إلى الشعور بعبثية الحياة[.]4
وهناك نصوص غربية تشاكس تيمة الموت ،بكيفية أو بأخرى ،مثل "الميت" لجورج باطاي[]5؛
"ميثولوجيات Mالموت" لمناحيم Mروث؛" الطقوس الجنائزية؛ الحداد" لمناحيم Mروث.
أما الشعر العربي ،قديمه وحديثه فلم يخل هو اآلخر من شعراء تأملوا الموت ،نذكر منهم :عنترة بن شداد،
وسيد بن عامر المصطلقي ،وطرفة بن العبد ،وعمر الخيام .وفي حقل الفلسفة ،اعتبر أفالطون الفلسفة تأمالً
في الموت ،ويرى ول ديورانت أن "الموت أصل الديانات كلها"[ ،]6وع َّد شوبنهاور Mالموت الموضوع
الرئيسي للفلسفة والملهم األكبر للتفكير الفلسفي ،فيما اعتبر الفيلسوف Mالمصري د .عبد الرحمن بدوي الموت
فعالً فيه قضاء على فعل.
وتقدم الشاعرة اللبنانية جمانة حداد أنطولوجيا للشعراء المنتحرين تحت عنوان "سيجيء الموت وستكون له
ت شخصية في
عيناك :مئة وخمسون شاعرًا انتحروا في القرن العشرين" .األنطولوجيا Mالتي تضم تأمال ٍ
الموت واالنتحار ،ترسم صورتين متناقضتين إلى ح ّد ما .واحدة ،هي األكثر طغيانـًا ،كأنما تمجّد فيها جمانة
حداد الموت االنتحاري ،أو تنحاز غالبـًا إلى جعله خيارًا شبه بطولي أو موقفـًا ض ّد الحياة الفارغة نفسها[.]7
يبرز هذا في عدد من االقتباسات من كتاب كثر تسبق العناوين الفرعية في المدخل ،من قبيل" :أنا أموت إ ًذا
أنا موجود"" M،حي هو كل من يمكنه أن يختار الكف عن العيش"" ،في أحد األيام سأكون ميتة بيضاء
كالثلج…"" ،أحبك يا موتي الطويل المرّ"" ،الموت ّ
فن وإني أمارسه بإتقان"…إلخ .أو حين تكتب الشاعرة
اللبنانية" :نعم .مئة وخمسون ،في القرن العشرين ،انتحروا… .احتقروا… هذه الحياة االنتحارية .مئة
وخمسون بطالً وبطلة ازدروا Mالعروش كلها ،الباطلة منها وغير الباطلة ،وارتموا في الهاوية"[.]8
أما الصورة األخرى المناقضة لهذه الصورة السحرية الجذابة ،فهي حين تسأل ح ّداد" :هل االنتحار Mشعر؟"،
وتجيب" :ظللت أرى االنتحار شعرًا حتى رأيته .أعني حتى رأيته بأم العين .فعندما Mنشاهد األجساد المشوّهة
والممزقة ،ال يظل هناك شاعرية الفعل ،بل بشاعة النتيجة في ذاتها"[ .]9وتذكر Mفي هذا السياق مشهد جدتها
المنتحرة ،مستعرضة أشكال االنتحار المختلفة ،القاسية في معظمها M.ال تنفي ح ّداد قسوة االنتحار من حيث
الشكل ،أي طريقة الموت (ولذلك تمتدح االنتحار بالحبوب المنومة" :أدركت أن االنتحار بالحبوب المنوّمة
ربما يكون األكثر "جمالية") ،أما من حيث الجوهر فاالنتحار غالبـًا هو فعل طقوسي ،وصرخة رمزية ،ال
سيما حين تأتي من شاعر.
وفي سياق الحديث عن حوافز االنتحار Mتجزم حداد" :ال ،ليس االنتحار Mا ّمحاء في الضرورة .ليس تنازالً ،ليس
استسالمـًا ،ليس اندحارًا ،ليس تراجعـًا ،ليس غيابـًا وال هزيمة :بل هو غالبـًا هجوم إلى األمام".
هوامش
في األدب العربي الحديث كتابات عدة عن االنتحار ،1مثل النصوص السردية للمغربي Mمحمد أسليم التي
تحمل عنوان "حديث الجثة" .2يبدو محمد أسليم ممتلئـًا بعشق الموت واالنتحار؛ إذ يقول" :لما عزمت على
وضع ح ٍد لحياتي بتناول كمية كبرى من العقاقير وإحراق Mجثتي ،ولما دبجت قبل ذلك خطابـًا أوضح فيه
أسباب انتحاري"( Mص )21؛ "حاول أن يموت .جرع حفنات رمل وحصى Mوأقراصـًا Mعديدة" (ص )26؛ "...
ماذا يتم عندما ألقي بجثتي اآلن تحت هذه القوة العمياء؟" (ص )28؛ " ...بيني وبين الموت قيد شعرة .أهو
موعده قد حان؟ لو أني أقوم ،وأبتلع صيدلية المنزل فأسقط Mجثة هامدة" (ص )55؛ " ...قد أنتحر بأن ألقي
بنفسي من الطابق العاشر Mكما فعل جاري البدين منذ بضعة أيام" (ص )57؛ "أي سبيل إلى الموت المريح؟ لو
أيقنت أن موتي سيستنزفني قبل محوي لداهمته قبل أن يداهمني ،لتناولت دفعة واحدة كمية هائلة من عقاقير ما
تكاد تبلغ الحنجرة حتى تنيمني وتميتني"( Mص )58؛ "كيف أنتحر؟" (ص )64؛ "انتحار الطفل الزبير"( Mص
)73؛ "قلت :يا لغباوتي! لماذا اخترت هذه الطريقة "المتوحشة" في إخراج موتي؟ Mاآلن فقط أدرك أن أحسن
ُ
استمسكت ووثبت يدي طريقة يملكها المرء لصنع موته هي أن يتناول أكياس أقراص" (ص )84؛ " ...ثم
على السطح بقوة وسحبتهما Mملقيـًا بنفسي في الخواء" (ص )87؛ "أتمنى لو تنبت لي أجنحة بالسرعة ذاتها
فأطير"( Mص .)88
ويقدم المنفلوطي رؤية أخالقية خالصة لالنتحار؛ إذ يقول في كتابه "النظرات":
"إن الرجل المؤمن يعتقد وال شك بسوء عاقبة المنتحر ،فكيف هان عليه ،وهو في آخر يوم من أيام حياته ،أن
يضم إلى خسارة دنياه خسارة آخرته ،وهي العزاء الباقي له عن كل ما القاه في حياته من شقاء وعناء؟".3
ويقرر هذا الكاتب األديب أن "االنتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور ،وما يصل إليه العقل من
االضطراب والخبل ،وأحسب أن اإلنسان ال يقدم على االنتحار ،وفي رأسه ذرة من العقل والشعور".
ومما قاله المنفلوطي .." :والمنتحر Mيبغض نفسه أشد مما يبغض العدو عدوه ،فهو شاذ بطبيعته ،غريب في
خلقه ،معان ٌد إلرادة هللا تعالى في بقاء الكون وعنوانه ،ومن كان هذا شأنه كان بال قلب وال عقل.
وبوضوح Mشديد يرى المنفلوطي أنه "ما س ِّمي القاتل مجرمـًا إال ألنه قاسي القلب متحجر الفؤاد ،وأقسى Mمنه
وجدة ما بين القاتل والمقتول ،فهو أكبر المجرمين ،وأقسى
قاتِ ُل نفسه؛ ألنه ليس بينه وبينها من الضغينة وال َم ِ
القاتلين".4
ويطرح صاحب "النظرات" رؤيته ومنطقه في هذه المسألة ،موضحـًا أنه "يخدع المنتحر نفسه إن ظن أنه
مقتنع بفضل الموت على الحياة ،وأنه إنما يفعل فعلته عن روي ٍة وبصيرة ،فإنه ال يكاد يضع قدمه في المأزق
األول من مآزق الموت حتى يثوب إلى رُشده وهُداه ويحاول Mالتخلص مما وقع فيه لو وجد إلى ذلك سبيالً.
"إن ألقى نفسه في الماء تخبَّط وبسط Mيده إلى من يرجو الخالص على يده وو َّد لو يفتدي نفسه بكل ما تملك
يمينه ،وإن حبس نفسه في غرفته ليموت مختنقـًا بالغاز و َّد لو سقط عليه سقف الغرفة ليستنشق Mنسمة من
كسير اليد والرجل ،فاسد Mالسمع والبصر".5M
َ نسمات الهواء ،ولو عاش بعد ذلك
ويضيف Mقائالً" :إن فكرة االنتحار نزعة من نزعات الشيطان ،وخطرة من خطرات النفس الشريرة ،فمن
ح َّدثته نفسه بقتل نفسه فليتريث ريثما يتبين كيف يكون صبره على احتمال سكرات الموت ،وآالم النَّزع ،وماذا
يكون حديث الناس عنه بعد موته ،وهل يمكن أن يكون بينهم عاذ ٌر له أو مشفق عليه ،أو مقتصد في النيل منه
والسخرية به؟ وليعرض على مخيلته قبل ذلك أشكال العذاب وأنواع Mالعقاب التي أعدها هللا في الدار اآلخرة
ألمثاله.
"إني ال أظنه بعد ذلك فاعالً ،إال إذا كان وحشـًا في ثوب إنسان ،أو بطالً من أبطال المارستان".6
أما الكاتبة اللبنانية ياسمين خالط -المولودة في مصر -فقد كتبت رواية بعنوان "ستقول لي عند المغيب"،7
يقع االنتحار في صلب أحداثها .القصة التي تسردها Mخالط في هذه الرواية يمكن تلخيصها على النحو اآلتي:
شابة فرنسية تدعى كلير تقرر السفر إلى شرقنا لوضع نفسها في خدمة عالمة اجتماع تدعى أورتانس Mزيمينا
وتعيش في دير للعمل على موضوع االنتحار Mوكشف أسباب تواتره أحيانـًا داخل عائل ٍة واحدة .وبسرعة ،تهتم
كلير بهذا الموضوع Mإلى حد تقوم فيه بحضّ أورتانس على اإلسراع في معالجته من منطلق الخطر الذي يته ّدد
ت دؤوبة في هذا االتجاه ،تالحظ كلير
أحد أفراد هذه العائلة ،إن صحّت النظرية المطروحة .وبعد محاوال ٍ
تهرّب أورتانس Mمن إنجاز مهمتها ،قبل أن ينكشف Mلها انتماء هذه األخيرة إلى العائلة المه َّددة ورغبتها في
توكيل هذه المهمة إليها ..قبل انتحارها.
وقد يخيب أمل القارئ الذي ينتظر معالجة مباشرة لموضوع Mاالنتحار وتفاصيل مثيرة حوله .فعلى هذا
المستوى تعمد الروائية إلى مقاربة تتجنب فيها التحليل السيكولوجي لمصلحة تشييد بارع للمناخ الذي يقود إلى
االنتحار بواسطة جُم ٍل شعرية قوية.
هوامش:
1خليل الشيخ ،االنتحار في األدب العربي ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت.1997 ،
2محمد أسليم ،حديث الجثة ،منشورات مجلة "عالمات" ،مكناس.1996 ،
3مصطفى لطفي المنفلوطي ،مرجع سابق ،ج ،2ص .152
4المرجع نفسه ،ج ،2ص .154 -153
5المرجع نفسه ،ج ،2ص .154
6المرجع نفسه ،ج ، 2ص .154
7ياسمين خالط ،ستقول لي عند المغيب ،دار المجلة الفينيقية ،بيروت.2010 ،
1سما أشرف ،الخواجة عبدالقادر يحاول االنتحار في الحلقة الثالثة ،موقع "البديل" اإللكتروني 23 ،يوليو
.2012
2عبدالحسيب زيني ،االنتحار في الدراما ..تخاطر بين المؤلفين وحلول حتمية للخالص من الشخصية،
جريدة "بلدنا" ،دمشق 6 ،سبتمبر .2011