Professional Documents
Culture Documents
f961915aaecdbf879cafe6341c46e383
f961915aaecdbf879cafe6341c46e383
f961915aaecdbf879cafe6341c46e383
الخوارج شعريفشعر
القرآني في
التناص القرآني
التناص
*
فاضل أحمد القعود.د
الملخص
التناص القرآني يف شعر اخلوارج من خالل أربعة يتناول هذا البحث التناص القرآني يف شعر
تناص استشهادي: اشكال من التناص متثلت يف بوصفه ميثِّل ظاهرة الفتة يف شعرهم ال، اخلوارخ
، وتناص تلميحي إشاري، وتناص إحالي، اقتباسي واهلدف استكشاف جتليات هذا اللون، ختطئها العني
فهو منهج نقدي، وأما منهج الدراسة. وتناص أسلوبي . من التناص يف شعر هذه الطائفة الدينية اجلاحمة
األخذ، من أهم أدواته اإلجرائية، تطبيقي حتليلي وقد حت ّرك البحث – وفق مقتضيات خطته اإلجرائية
مبعطيات املناهج النقدية احلديثة وفتوحاتها الباهرة األول نظري توقف عند مفهوم التناص: – يف حمورين
كما تطرق إىل أهمية القرآن، لغة واصطالحًا:
– التناص – تداخل النصوص:الكلمات المفتاحية
الكريم وتوظيفه يف النصوص الشعرية خباصة
اإلبداع
الذي ميثل أصل، وأما احملور الثاني. واألدبية بعامة
وفيه مت استجالء، فهو تطبيقي خالص، الدراسة
Abstract
This research paper deals with the As for the second axis, that represents
Qur’anic intertextuality in the poetry of the authenticity of the study, the paper is
the Khawarkhs, as it represents a purely empirical, in which the Qur’anic
remarkable phenomenon in their poetry intertextuality has been clarified in the
that cannot be missed by the eye. The poetry of the Kharijites through four
aim of the paper is to explore the forms of intertextuality, represented in:
manifestations of this type of quotational intertextuality,
intertextuality in the poetry of this intertextuality of reference, indicative
unruly religious sect. The research has intertextuality, and the stylistic
been conducted according to the intertextuality. The paper has followed
requirements of its procedural plan that the analytical and empirical
consists of two axes. The first is methodology; one of its most important
theoretical that it stops at the concept of procedural instruments is the adaption of
intertextuality in terms of linguistic and the modern critical methods and their
idiomatic intertextuality. The paper also brilliant conquests.
tackles the importance of Holy Qur’an
and its employment in poetic texts, in Keywords: Intertextuality
particular, and literary texts, in general. - Overlapping Texts - Creativity
ISSN : 2410-1818
التناص القرآني يف شعر الخوارج .
د .فاضل أحمد القعود
متهيد :
مفهوم التناص :
يعدّ التناص من املصطلحات النقدية احلديثة ،وهو صيغة صرفية على وزن ( تفاعل ) ،وهي صيغة
– كما يشي بذلك مبناها -تكتنز باملفاعلة بني طرف وطرف آخر يقابله أو أطراف أخرى ،األمر
الذي يدل على معاني املشاركة والتداخل والتشابك .
والتناصُّ ،يف اللغة ،يتحرَّك يف أفق اجلذرين اللغويني " نصَّ و نَصَصَ" ،اللذين أوردت هلما املعاجم
العربية عدّة دالالت ؛ فقد جاء يف لسان العرب أن النصَّ " :رفْعُك الشيء ،نصَّ احلديث ينُصُهُ نَصًّا :رَفَعَه
وكل ما أُظهرِ فقد نُصّ ...واملِنَصّةُ :ما تُظْ َهرُ عليه العروس لِ ُترَى ...ونصَّ املتاعَ نصًّا :جَعَل بَعْضَه على
بعض ...والنّصُّ :اإلسنادُ إىل الرئيس األكرب ،والنصُّ التوقيف ،والنص :التعيني على شيء ما ...ونصَّ
الرجل نصًّا إذا سأله عن شيء حتى يستقصي ماعنده .ونصُّ كلّ شيء مُ ْنتَهاه...ونَصْنصتَ الشَّيءَ
"()1 حرَّكْتَه ...وانتصَّ الشيءُ وانتصب إذا استوى واستقام
وجاء يف املعجم البسيط " :ناصَّ غرميه :استقصى عليه وناقشه ،واتَّصل به ؛ يقال :هذه الفالة
تُنَاصِي أَ ْرضَ كذا )2(".مبعنى تتصل بها.
وهكذا فالتناص يف اللغة – يف ضوء ما تقدم – ينطوي على عدة دالالت ؛ فهو الرفع ،واإلظهار،
والتجميع ،واإلسناد ،والتوقيف ،وامل نتهى ،والتحريك ،والتعيني ،واالستقصاء ،واملناقشة ،واالستواء،
واالستقامة ،واالزدحام ،واالتصال .
ويف كل هاته الدالالت واملعاني مايوحي -على حنو من األحناء – إىل مفهوم التناص بصيغته
احلديثة ،خاصة دالليت (:االزدحام واالتصال مبا يتضمناه من معنى التعالق والتداخل ) ،كيف ال ،
نص ما.
ٍّ و تداخل النصوص وتعالقها هو – من بعض الوجوه -ليس إال اتصاهلا وازدحامها يف
واآلن نأتي على مفهوم التناص يف االصطالح .احلق أن التناص – كما أشرنا فيما مرَّ بنا -من
املفاهيم النقدية األساسية احلديثة ،كما جتدر اإلشارة هنا ،إىل أنه قد نشأ وترعرع يف أحضان
ويطلق على التناص يف الدراسات الغربية " ، " Intertextuality )3(. الدراسات األلسنية يف أول أمره
وأول من بلوره كمفهوم يُقْصَد به العالقة بني النصوص حتدث بكيفيات خمتلفة ،هو العامل الروسي
(ميخائيل باختني) ،وذلك من خالل حديثه عن مفهوم ( احلوارية ) الدال على تقاطع النصوص و
امللفوظات يف اخلطاب الروائي الواحد ،ناهيك عن حديثه عن (تعددية األصوات ) و ( تعددية اللغات )
اليت تلتقي مع مفهوم احلوارية عند النظر إىل النصوص .
(نص) .
( )1ينظر :لسان العرب ،ابن منظور دار صادر -بيروت ،ج ،7ص . 98 - 97مادة َّ
( )2ينظر :المعجم الوس ي ي ييمع ،مجم الربي العرممي ،مصوراي مب ي ي يير العرممي ،مدولي ال ي ي ييرو ال ولمي ،2005 ،4 ،
(نص ونبص).
ص.927 -926مادة َّ
( )3ينظر :الوناص س ي ي يلى دلا د ارسي ييي النص ال ي ييعر ،،ج ي يرمل داار ،مجري مبي ييول ،الصيلي المب ي يراي العامي لر واب،
مج( )16ع(،)1القاهرة،1997،ص.127
من هنا ميكن القول إن مفهوم احلوارية ميثل املمهِّد األول لظهور التناص ،والغرو ،فباختني يرى أن
)4(. النص يدخل يف حوارات مع نصوص سابقة
غري أن ( جوليا كريستيفا ) ،هي أول من تلقّف أفكار ( باختني ) حول حوارية النصوص لتنتهي
إىل مصطل ح يقارب مفهوم احلوارية ،أال وهو ( التناص ) ،وقد كشفت عن ذلك يف عام 1966يف
كتاباتها يف جملة ( )Tel .Quelو جملة ( كرتك ) ويف كتابها ( نص الرواية ) ويف تقدميها لكتاب
.وترى كريستيفا أن" : ()5 ( دستوفسكي ) لباختني ،وبهذا فقد أدخلته يف حقل الدراسات األدبية
كل نص يتشكّل من تركيبة فسيفسائية من االستشهادات ،وكل نص هو امتصاص أو حتويل
"(. )6 لنصوص أخرى
ومن اجلدير ذكره يف هذا الصدد ،أنه قد تولّد عن مصطلح التناص هذا ،جمموعة من
املصطلحات ،ليصبح مبثابة البؤرة يف جمال النقد احلديث ،ومن هذه املصطلحات اليت انبقثت عن
التناص :التناصية ،املناص ،املتعاليات النصية ،وامليتانص وغريها ،وقد قامت مبمارسته مجاعة" تل
"(. )7 كل " Tel .Quelالفرنسية اليت كانت كرستيفا أحد أعضائها
على أن من املهم التنويه – هنا – إىل أن نقّادًا آخرين بعد كرستيفا ،قد وجّهوا جهودهم حنو هذا
املصطلح ،بغية تطوير مفهومه وتوسيع آفاقه ،وقد كان هلم ذلك ،وليس ها هنا جمال بيان ذلكم ،
ومن أبرز هؤالء النقاد :روالن بارت وجريار جينت وريفاتري وغريهم .
وإذا ما عرّجنا إىل مفهوم التناص ونشأته يف الرتاث األدبي العربي ،فإن بوسعنا القول إن هذا
املصطلح يعدُّ جديداً لظاهرة أدبية ونقدية قدمية ؛ حيث إن " :ظاهرة تداخل النصوص هي مسة جوهرية
ة ،ج،40 ( )4ينظر - :الوناص وإنوا مي المعاني ،حمي الحم اني ،مجري علمات مي النق واألدب – السعوديي -
مجر ، 2001 ،10ص. 67
-الخطاب الروائي ،ممخائيل باخوين ،تر مي محم برادة ،دار األمان ،المبرب – الرما ،1987 ،ص46
ي ييمن تواب ةما الوناصي ييمي ،ت :محم خير اللقاعي ،الصيلي ( ) 5ينظر :الوناصي ييمي ،مارج ننجينو ،د ارسي ييي مور مي
المبراي لر واب 1998 ،م ،ص .65،66
مقما ،د .نحم الزع ي ،مؤسسي عمون لرن ر والووزا ،األردن 2000 ، 2 ،م ،ص.12
( )6الوناص نظراَّا وتط َ
عزام ،من ورات اتحاد ال واب العرمي – دم ق 2005 ،م ،ص.116
( )7ينظر :جعراي الخطاب السرد ،،محم ّ
العدد( )45المجلد( )8يوليو -سبتمبر2021م 99 للعلوم اإلنسانية واالجتماعية
ISSN : 2410-1818
التناص القرآني يف شعر الخوارج .
د .فاضل أحمد القعود
يف الثقافة العربية حيث تتشكَّل العوامل الثقافية يف ذاكرة اإلنسان العربي ممتزجة ومتداخلة يف تشابك
"(. )8 عجيب ومذهل
لكن ملاذا مل خيرت النقاد والدارسون العرب املعاصرون واحدًا من هذه املصطلحات القدمية اآلنفة للداللة
على ظاهرة التداخل النصي بدالً عن مصطلح التناص ؟ وجنيب :ذلك ملا ينطوي عليه مصطلح التناص
من احلياد واملوضوعية ،والبعد عن شبهات االتهام واملفاضلة ،هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،جند
مرونة املصطلح ورحابته الداللية ،وقابليته الستيعاب صور من التأثر أوسع مما يتسع له غريه من
املصطلحات " (. )9
وعلى أية حال ،فإن من اجلدير اإلشارة إليه يف هذا السبيل ،أنه إذا كانت املناهج النقدية
الغربية احلديثة وفتوحاتها الكربى ،مناط احتفاء واهتمام السواد األعظم من الباحثني والنقّاد العرب
احملدثني ،فإن التناص بوصفه أحد أهم منتجات هذه املناهج وفتوحاتها اجلذّابة ،قد حظي – على حنو
خاص -باحتفاء واهتمام كبريين من قبل كثريين من هؤالء النقاد والدارسني ،بدليل أنهم سارعوا إىل
إعطاء التعريفات الكاشفة عن ماهية هذا املصطلح ،كما أجنزوا الكثري من الدراسات النظرية
والتطبيقية اليت دارت يف فلكه ،ناهيك عن وقوعهم يف إشكالية هذا املصطلح الناجتة – أصلًا – عن
اختالف مشاربهم وأفهامها ومدارسهم النقدية وتفاوت الرتمجات أيضًا ؛ فهذا حممد مفتاح يطلق على
التناص " التعالق النصي " ويعرفه بقوله " :هو تعالق – الدخول يف عالقة – نصوص مع نص حدث
بكيفيات خمتلفة " (.)10
ة،- ( ) 8ثقامي األس ي ي ييلري ( ،مقالت مي النق والنظراي ) ،د .ع هللا الب ّذامي ،الناد ،األدبي الثقامي الس ي ي ييعوديي-
،1992 ،2ص.119
( ) 9ينظر :من ةما الف ر ال لاي عن العرب ،د .ع الحدمم ار ي ي ي ي ي ييي ،مدولي ا داب -القاهرة ،2006 ،1 ،
ص .49
( )10تحريل الخطاب ال ي ي ي ييعر( ،اس ي ي ي ييوراتمجمي الوناص ) ،المرتز الثقامي العرمي ،ال ار ال مض ي ي ي ييا – بيروت ، 4 ،
، 2005ص . 121 – 120
أما حممد ب نيس فقد استبدل مصطلح التناص مبصطلح " التداخل النصي " ،وهذا التداخل النصي
من وجهة نظره ،حيدث نتيجة تداخل نص حاضر مع نصوص غائبة ،والنص الغائب هو الذي تعيد
النصوص كتابته وقراءته أي النصوص املسترتة اليت حيتويها النص احلاضر ،وتعمل بشكل عضوي
على حتقق هذا النص وتشكُّل داللته (.)11
وأما سعيد يقطني فيطلق عليه " التفاعل النصي " عادلًا عن استعمال " التناص " ذلك " :أن النص
. ()12 ينتج ضمن بنية نصية سابقة ،فهو يتعالق بها ،ويتفاعل معها حتويلًا أو تضمينًا أو خرقًا "
وأما عبداهلل الغذّامي فقد أطلق على التناص مصطلح " تداخل النصوص أو النصوص املتداخلة " ،
والنص املتداخل – حسب تعريفه -هو " :نصٌّ يتسرّب إىل داخل نص آخر ،ليجسِّد املدلوالت سواء
)13(. وعى الكاتب [ أو املبدع عموماً ] بذلك أم مل يع "
على أن مصطلح " التناص " -يف نهاية املطاف – قد تغلّب على كل هاته املصطلحات السالفة
الذكر وغريها ،فارضًا نفسه وحضوره بقوّة يف األوساط النقدية واألدبية والثقافية بصورة عامة .
وعلى أية حال ،فإن تعاريف التناص اآلنفة الذكر ،قد دلّت عليه واكتنهت جوهره – فيما نعتقد –
على الرغم من اختالف صياغاتها ،وهذه التعاريف – كما هو جليٌّ – ليست إال عالة على تعريف
كرستيفا ،ودوران يف فلكه .
ولعلَّه من املفيد -هنا -ختم هذه النقطة بتعريف للتناص يتسم – فيما حنسب – باملقاربة الواضحة
والشاملة حلقيقة التناص وجوهره ،ونعين به تعريف الناقد أمحد الزعيب ،الذي خالصته أن التناص
هو أ ن يتضمن نصٌّ أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أو معارف أخرى سابقة عليه ،حبيث تندمج النصوص
. ()14 السابقة مع النص األصلي مشكّلة نصَّاً جديدًا موحدًا متكامالً
( ) 11ينظر :ظاهرة ال عر المعاصر مي المبرب العرمي ،دار العودة ،بيروت ،1979 ،1 ،ص.252 ،251
( ) 12انفواح النص الروائي (النص والسي ي ي ي ييما ) ،المرتز الثقامي العرمي ،المبرب – ال ار ال مضي ي ي ي ييا ،2001 ، 1 ،
ص.98
ة1985، -م،ص .320 ( ) 13الخطيلي والوف ير من ال نيواي دلا الو راعمي ،الناد ،األدبي الثقامي السعوديي-
وملّا كان التناص على هذا النحو من احلظوة واالهتمام لدن النقّاد والدارسني العرب ،فقد ألفيناهم
يستغرقون يف تفاصيل ماهيته ،من خالل عملية اجتهادية حماولني استجالء قوانينه ( مستوياته ) اليت
حتدد عالقة النص الغائب بالنص املاثل ،فقد حُدِّدت بثالثة قوانني على النحو اآلتي :
-1االجرتار :وفيه يستمد األديب من عصور سابقة ،ويتعامل مع النص الغائب بوعي سكوني ،فينتج
عن ذل ك انفصال بني عناصر اإلبداع السابقة والالحقة ،وميجّد السابق ،حتى لو كان جمرد شكل
فارغ ،مبعنى أكثر وضوحًا ،إنه يعيد كتابة النص الغائب بشكل منطي جامد ال حياة فيه .
-2االمتصاص :وهو أعلى درجة من سابقه ,وفيه ينطلق األديب من اإلقرار بأهمية النص الغائب ،
وضرورة امتصاصه ،ضمن النص املاثل ،كاستمرار متجدّد .بتعبري أوضح ،إن الشاعر أو األديب
يعيد كتابة النص الغائب وفق متطلبات جتربته ووعيه الفين حبقيقة هذا النص شكلًا ومضمونًا .
-3احلوار :هو أعلى املستويات الثالثة ،إذ يعتمد على القراءة الواعية املعمّقة اليت ترفد النص املاثل
ببنيات نصوص سابقة ،معاصرة ،أو تراثية ،فتتفاعل فيه النصوص الغائبة واملاثلة يف ضوء قوانني
الوعي والالوعي (.)15
كما استمرّ هؤالء النقاد يف اجتهادتهم حول التناص فأخذوا يف تقسيمه إىل :تناص خارجيّ وتناص
داخليّ ،واألول :يقصد به تناصّ املنشئ مع نصوص غريه ،والثاني :تناصاته مع نصوصه املختلفة
وأيضًا مت – يف إطار التنظري واالجتهاد -تعيني نوعني من التناص ؛ أوهلما ()16 ( التناص الذاتي ) .
التناص املباشر ،وفيه تربز تقنيات االقتباس والتضمني واالستشهاد وغريها ،تعبريًا عن اتكاء األديب
على نص (ما) بلغته اليت وردت فيها اآليات واألحاديث واألشعار والقصص مع األخذ بعني االعتبار طبيعة
املرجعية (تارخيية أم دينية أم أدبية . )...أما النوع الثاني فهو التناص غري املباشر حيث يستنتج استنتاجًا
،وهو يدخل يف دائرة تناص األفكار أو املقروء الثقايف ،ويدخل ضمن التناص غري املباشر أيضًا تناص
اللغة واألسلوب(.)17
( )15ينظر :النص الغائب (تجليات التناص في الشععععععععر العربي )،محمد عزام ،منشعععععععورات اتحاد الكتاب العرب –
دمشععععع ،ط ، 2001 ، 1ص .53و ظاهرة الشععععععرالمعا عععععر في المغرب الغربي ،محمد بنيس ،م.س ،ص
.253
( )16ينظر :تحليل الخطاب الشعري ،محمد مفتاح ،م.س ،ص .119وينظر :أيضًا ،النص الغائب ،محمد عزام ،
م.س ،ص .52
( )17ينظر :الوواص ييل مي ج ييعر عز ال ين المناصي يرة ،ص يياد ،مس ييا الخض ييور ،دار المج لو ،لرن يير والووزا –
عمان ، 2007 ،1 ،ص.107
وبصفة عامة ،فإن النقاد مل يتفقوا حول وضع تقسيم حاسم ألنواع التناص وأقسامه ؛ إذ كثرت
اجتهاداتهم يف هذا الباب ،غري أننا ،يف دراستنا هذه ،قد ارتضينا أربعة ألوان من التناص ،هي :
التناص االستشهادي االقتباسي ،والتناص اإلحالي ،والتناص التلميحي اإلشاري ،والتناص األسلوبي
(.)18
وأياً كان الشأن ،فال حاجة بنا لالسرتسال يف احلديث عن التناص نظريًّا ،ذلك أن غاية
الدراسة ومنطلقها -يف ضوء ما حيكي عنوانها -تطبيقي خالص ،وإمنا غايتنا – بطبيعة احلال -
من هذا اإلطارالنظري ،هو توظيفه الفعلي يف خدمة املنت التطبيقي .
والغرابة فقد كان للقرآن الكريم " :آثار بعيدة املدى يف احلياة الفكرية ،وتطور اللغة وأساليبها
مبا جاء به من أساليب رفيعة ،وتنسيق مل يألفه العرب يف أقصى درجات البالغة ،فجعل األدباء يقتبسون
من عباراته و معانيه ،مكتسبني يف خطابتهم وكتاباتهم طرق املنطق واحلوار ،ونأى الشعراء عن
مهازل اجلاهلية وعفّ لسانهم بتهذيب األسلوب القرآني " (.)19
والشك أن هذا الشاعر أو الناثر ،عندما يعمد إىل توظيف القرآن يف إبداعه ،غايته األساسية ،
من وراء ذلك ،االرتقاء بأسلوبه وخدم ة املعنى الذي يرومه .بعبارة أدق ،إنه يسعى إىل ختصيب معانيه
وأفكاره ومنحها عمقًا و َقوّةً ،بل ومصداقية وقداسة من خالل هذا التوظيف .
وال عجب فالقرآن ذو سلطة تأثريية قوية ،ومن ثَمَّ فهو جيعل النصوص األدبية ،سواء كانت شعرية
أو نثرية ،تكتسب شيئًا من هذه ال سلطة التأثريية اآلسرة واملهيمنة ،وذلك ألن القرآن العظيم يتدفق
عمان ،2011 ،1 ،ص ( ) 18ينظر :الوناص الوراثي مي ال ييعر العرمي المعاصيير ،عبييام واصييل ،دار اي ا – ّ
ض ي ي ي يا :نظراي ال وناص ،راهام نلن ،تر مي د .باسي ي ي ييل المسي ي ي ييالمي ،دار الو وان ،
،109 ، 95 ،78وانظر ني ى
2011 ،1م ،ص . 269 دم ق ،
)، ( )19د ارس ي ييات مي األدب الح ي ، .د .محم س ي ييع ال ين الجيزاو ، ،دار نصض ي ييي مب ي يير لرطاب والن ي يير ( ،د.
(د .ت ) ،ص .28
مبعناه ومبناه على هذه النصوص مبا يكتنزه من قيم إنسانية و أخالقية ومعان كونية ،وأساليب بيانية
ومجالية آسرة ،الشيء الذي دفع الكتاب خاصة الشعراء منهم – حسبما أشرنا قبالً – دفعهم إىل
النهل من ينبوعه املتفجِّر :مجاالً وروعة وبيانًا .
ولعلَّ هذا التوجه حنو القرآن ،يصدق على شعراء اخلوارج خباصة وأدبائهم بعامة أكثر من سواهم ،
حتى ليكاد يكون هو املصدر األساسي لثقافتهم ،كيف ال ،وقد " :كان القرآن الكريم عنصرًا
حيَّا قوي األثر يف حياتهم ،استشهدوا بآياته يف تأييد وجهات نظرهم ومتثّلوا به يف أحواهلم املختلفة "
( .)20حتى لنستطيع القول إن اخلوارج كانوا أكثر الفرق الدينية واألحزاب السياسية تلقُّفًا للقرآن وأشد
إقباالً عليه حفظًا وتشرُّبًا ،وال أدل على ذلك من أن احلجاج سأل سربة بن اجلعد :هل قرأت القرآن ؟
فقال سربة :حفظته يف صدري (. )21
ومثة ملحظ مهم يؤكد على تأثر اخلوارج بالقرآن الكريم كلَّ التأثُّر ،أال وهو اعتمادهم يف
تسمية مجاعتهم وحزبهم على خلفية قرآنية جلية ؛ فهم اخلوارج من قوله تعاىل " :وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ
جرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْ َموْتُ
خرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَا ِ
اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَ ْرضِ مُرَاغَمًا كَثِريًا وَسَعَةً ۚ َومَن يَ ْ
َّللا ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" ( . )22وهم احملكِّمة كذلك من قوله تعاىل " :قُلْ
جرُهُ عَلَى ه ِ
فَقَدْ وَ َقعَ أَ ْ
حكْمُ إِالَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ ُهوَ خَيْرُ
إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْ ُ
الْفَاصِلِنيَ "( . )23وهم الشُّراة أيضاً من قوله تعاىل " :وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ َمرْضَاتِ ه ِ
َّللا ۗ
.ومن هنا ،ندرك مدى االرتباط القوي ،إن مل نقل العضوي ،بني اخلوارج ()24 وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"
والقرآن الكريم منذ اللحظة األوىل لنشأتهم .
وبالفعل فإن من يقف على ديوانهم ،جيد أنهم قد تفاعلوا مع النص القرآني وأعادوا كتابته يف
نصوصهم ،من خالل تقنية التناص ،وفق مستويات تناصية خمتلفة ،بهدف إثراء املضمون وإغناء هذه
النصوص بقيم داللية وشكلية ورمزية ومجالية وفكرية متعددة ،فضال عن منحها لونًا من القداسة .
( )20ندب الخوارج مي العب ي يير األمو ، ،س ي ييصير القرماو ، ،مطلعي لجني الوالمف والور مي والن ي يير – القاهرة ،1940 ،
ص .41
ييمف ،دار المعار بمبيير 1981 9 ،م ،ص ( )21ينظر :تاراخ األدب العرمي -العبيير االسييلمي .د.جييو ي
. 33
وكل أولئك متثّل جُلَّ وظائف التناص ،وهو بهذا – أي التناص -يشكِّل آلية فنية مجالية تضيف
إىل النص بعداً مجاليًّا وفنيًا يكون من شأنه إدهاش املتلقي /القارئ ،واستدراجه إىل وهج النص
املشتهى .
وال ريب أن توظيف الشعراء اخلوارج للقرآن يف شعرهم ،هو توظيف قصديّ بامتياز ،مبعنى أنه
مل يأت عفو اخلاطر أو مصادفة ،أو بغية حتقيق حلية لفظية أو نغمة طربية ،بل لقد وظّفوه بوعي
دقيق – كما ستجلو ذلك القراءة التطبيقية -حتى غدا جزءًا أصيالً من مكونات نصّهم الشعري ،
الذي توخّوا من ورائه ،وهم فرقة دينية سياسية ،الدفاع عن مذهبهم ،والتناص مع القرآن – بالقطع –
كان إحدى أهم وسائل احلِجَاج واملناظرة والتأييد واستخالص العرب لديهم ،هذا باإلضافة إىل حتقيق
وظائف التناص األخرى اليت أحملنا إىل جلّها فيما مرّ بنا منذ قليل.
بكلمات أخرية وحامسة ،إن استدعاء النص القرأني ،والتناص معه يف اخلطاب الشعري ،أيًا
كان نوعه ،يعين إعطاء مصداقية ومت ّيُزًا لدالالت النصوص الشعرية ،انطالقًا من مصداقية اخلطاب
)25(. القرآني وقداسته وإعجازه ؛ فأكثر املبدعني أصالة ،من كان تركيبه الفنّي ذا طبيعة تراكمية
( )25ي نظر :ار ات نس ي ييروممي مي ال ي ييعر الح ي ، .د .محم ع المطرا ،الصيلي المبي ي يراي العامي لر واب ، 1995 ،
ص . 162
وبالقراءة الفاحصة لشعر اخلوارج ،جند هذا النوع من التناص حاضرًا فيه على حنو الفت ؛ فهذه
مليكة الشيبانية ترثي أخاها احلازوق اخلارجي قائلة (: )27
فاملالحظ أن الشاعرة – هنا -قد استلهمت عجز البيت لفظًا وداللة و قافية من قول اهلل تعاىل :
جزَاءُ اإلحْسَانِ إِال اإلحْسَانُ "(. )28
"هَلْ َ
والواضح أنّها قد تغيّت من هذا التناص – يف سياق الرثاء -االرتقاء بأخيها الشهيد /املرثي ،
والتحليق به يف آفاق الصاحلني ليُجْزى اجلنة ،انطالقًا من كونه أحسن بعمله يف الدنيا ،كيف ال ،
وقد عمدت إىل تصويره حمسنًا استثنائيًّا تدثَّر بثياب الرمحة والشفقة وهو حيمي املوالي تلك الفئة
املستضعفة من الناس ،كما أنه كان جيتهد يف صناعة اخلري باندفاع واجرتاح صادقني بدليل الفعل
املضارع ( يصطنع ) على وزن ( يفتعل ) ،والذي دلّ مبا فيه من زيادة يف املبنى أدَّت إىل زيادة يف املعنى ،
نقول دلّ على استغراق املرثي يف عمل اخلري ،ومن ثَمّ فإن جزاء هذا اإلحسان يف الدنيا من قبل املرثي
،إحسان ينتظره يف اآلخرة مينحه اهلل تعاىل إياه ،أال وهو الفوز باجلنة ،وما كان هلذا املعنى أن يتحقق
على هذا النحو من الفاعلية املؤسَّسة على املنطقية امللفعة باليقني ،لوال التناص مع اآلية الكرمية مبنى
ومعنى ،ذلك أن كالم اهلل هو احلقُّ والصدق الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه .
ومن املالحظ أن مثة تغيريًا وحتويرًا يف التشكيل اللغوي ؛ فقد جاء البنيان القرآني يف املنطوق
الشعري خمتلفًا بعض االختالف عما هو عليه يف القرآن ،إذ ورد بدون االستفهام بـ (هل ) كما جاء
امل صدر ( جزاء ) فعلًا ( يُجْزى ) ناهيك عن استبدال ( إال ) بـ ( الباء ) .وهذا انزياح يعكس تناصًّا
خالّقاً .
ويستمرُّ هذا اللون من التناص ،يطالعنا يف سياق إبراز مناقب شهداء اخلوارج .تقول مليكة الشيبانية
: ()29 أيضاً يف رثاء الضحّاك بن قيس
باخلري واملعروف والذِّكْرِ ذهب الذي قد كان يأمُرنا
، 1983 ، 1ص.203 ،دار المسيرة ، ( ) 27ينظر :ديوان الخوارج ،تحقيق :نايف معرو
وهنا نرى أن الشاعرة قد ارتشفت ،مع شيء من االنتقاء والتحوير اخلالّقني ،معظم مكونات هذا
البيت لفظًا وتركيبًا وداللة ،ارتشفته من قوله تعاىل " :وَلْ َتكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْ ُمرُونَ
.ويتجلّى االنتقاء يف االقتصار على الفعل "()30 بِالْمَ ْعرُوفِ وَيَنْ َهوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَ ِئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
املضارع (يأمرنا) مبا هو مملوء بداللة اإللزام بدالً عن تعدد األفعال كما يف اآلية الكرمية ،وهذا
يشري إىل عظم مكانة الضحَّاك لدى مجاعته اخلارجية ،وال أدلَّ من أنه يأمر وهم يطيعون وأهمية
التناص وفاعليته يف البيت ،تكمن يف أنه يؤكد -من جهة أخرى -مدى اتباع املرثي ملا يدعو اهلل إليه
من عمل اخلري ويأمر به من انتهاج املعروف والذكر ،بل وترمجة ذلك من خالل خالل أمر مجاعته
اخلارجية مبا دعا اهلل وأمر به من هذه القيم اجلليلة ،وبالتالي فإن رحيله إن كان ميثل خسارة كبرية
لداعية وقائد من قواد مجاعة اخلوارج فإنه -يف الوقت نفسه -ميثل أيضًا رحيالً ملؤمن ال خوف عليه
من لقاء ربه ،ذلك أنه كان متمثالً وممتثالً ملا حيبه اهلل ويرضاه.
وملّا كان اخلوارج يرون أنفسهم الفئة املؤمنة اليت متثل احلق ،وسواهم من اجلماعات اإلسالمية
كفَّارًا ،فقد ألفيناهم يستدعون آيات القرآن الكريم ،على سبيل التناص ،خاصة اليت تصدق عليهم
يف هذا األفق من خالل توظيفها يف شعرهم ،بغية االستدالل بها على نصر اهلل هلم بوصفهم مؤمنني ،
)31(. حتى ولو كان عددهم قليالً حمدودًا .يقول عيسى اخلطيّ
ويهزمهم بآسكَ أربعون ـ ـ ـ ـ ـا أألفا مؤمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن فيـ ـ ـ ـــما زعَمْتُ ــ ـ ـ ــ ــم
ولكن اخلوارج مؤمنونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا كَـ ـ ـ ـ ـذَبْتُم ليس ذاك كما زعمتم
على الفئة الكثرية يُنْصَرونا ٍّ
هــم الفئة القليلة غي ـ ـ ـ ـ ـ ــر ش ـ ـــك
وما من طاعة للظاملينـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ا أطـ ــعتم أمر جبّ ـ ـ ـ ـارٍ عني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدٍ
تتصاعد يف هذه النسيجة الشعرية ،أنفاس التناص مع القرآن الكريم وآياته بدءًا من املطلع ؛
َرضِ الْمُؤْمِنِنيَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن
حيث ميثل البيت األول امتصاصًا ساطعًا لقوله تعاىل " :يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ح ِّ
شرُونَ صَا ِبرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَ َفرُوا بِأَنَّهُمْ
َيكُن مِّنكُمْ عِ ْ
َقوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ" (. )32
( ، 1974 ، )2ص .55-54ةس ي : ،لاس ،دار الثقامي ،بيروت ،
( )31جييعر الخوارج ،م وتحقيق د .دحسييان ّ
بر ة مي ديران .
كما ميثل البيت الثالث امتصاصًا واضحًا لقوله تعاىل " :فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ
شرِبُوا مِنْهُ
شرِبَ مِنْهُ فَلَ ْيسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْ َت َرفَ ُغرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَ َ
ُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن َ
إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ُهوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ بِجَالُوتَ َوجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِريَةً بِ ِإذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ َمعَ الصَّابِرِينَ" (.)33
صوْا
أما البيت الرابع ففيه تناص واضح أيضًا مع قوله تعاىل " :وَتِ ْلكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَ َ
()34 رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَ ْمرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ"
وجليُّ كل اجلالء ،أن الشاعر اخلارجي قد استدعى دوالّ ومدلوالت اآليات القرآنية اآلنفة لريصِّع
بها نصًّه ،أو باألحرى يشكِّله ،فبدت نسيجته الشعرية متواشجة ومتماهية مع النسيج القرآني على
حنو خلّاق ،إذ رام الشاعر إثبات أن اخلوارج – بالفعل – هم الفرقة املؤمنة دون غريهم ،بدليل أن عددًا
حمدودًا منهم و قوامه أربعون مقاتلًا بقيادة مرداس اخلارجي ،نقول استطاع هذا العدد احملدود -على
قلّته – االنتصار على جيش األمويني املكوّن من ألفي مقاتل ،ذلك اجليش الذي أرسله عبيد اهلل بن
زياد إىل منطقة األهواز لقتال اخلوارج ،وملا أدرك الشاعر – فيما نعتقد – أن املتلقي حتماً لن يقتنع
بأنه ميكن ألربعني مقاتلًا أن يهزم ألفني ،فقد جلأ إىل التناص مع آيات القرآن الثالث اآلنفة الذكر
بغية االستدالل والربهنة ليصرف الكذب عن نصّه ،حيث أكّدت اآليات اليت استشهد بها على أن
املؤمنني -على قلّة عددهم -يكون النصر حليفهم حتمًا ؛ ألنهم يقاتلون بإميان ومحاس ويصربون وقت
الشدائد ،ناهيك بكون اهلل معهم ميدهم بنصره .ومما عاظم من فاعلية التناص التصرُّف اخللَّاق يف
التشكيل اللغوي األسلوبي ،سواء من خالل االستفهام االستنكاري التعجيب التوبيخي املاثل يف البيت
األول (:أألفا مؤمــن فيــما زعمتــــــم ويهزمهم بآسكَ أربعونا ؟! ) ،أو من خالل إسناد األفعال السلبية
الناجزة من حيث ماضويتها إىل الطرف املعادي للخوارج وهذه األفعال متثَّلت يف ( :زعمتم [ مرتني ] –
كذبتم – أطعتم أمر جبار عنيد ) ،يف حني أسندت أو ارتبطت األفعال اإلجيابية باجلماعة اخلارجية ،
حنو ( يهزمهم – ينصرونا ) .
وهكذا فقد جتلّت هذه النسيجة فسيفساء تناصية ،فقد استدعى الشاعر أكثر من آية قرآنية ،
مازجاً إياها يف نصِّه ،ليحقق من وراء ذلك تعالقًا مع القرآن على مستوى اللفظ و الداللة.
وال يين الشاعر اخلارجي يوظّف النص القرآني ،يف خطابه الشعري ،بغية تدعيم و إثراء ما يلهج به من
انثياالت شعرية ،حتوم يف أفق عقيدته اخلارجية وأتباعها ونضاالتهم ،فضالً عن حتقيق أغراض تصبُّ
يف خدمة هذه العقيدة وهؤالء األتباع ،ومن هذه األغراض ،إبراز اخلوارج مجاعة جهادية استثنائية ،
ال سيما وهي تتّبع يف قتاهلا الطرق اليت حيبها اهلل ويرضاها يف اجملاهدين يف سبيله .يقول الرهني املرادي
)35(:
وهنا جند الشاعر يرتشف هذا البيت من آية كرمية هي قوله تعاىل " :إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ َّمرْصُوصٌ" ( . )36نقول يرتشفه لفظًا وتركيبًا ومعنى لريسم الصورة /
احلال ،اليت حيب اهلل أن جيسدها – عمليًّا -املقاتلون يف سبيله ،إذ حيبهم متماسكني متالصقني ،
كتلة واحدة ،متاماً كالبنيان املرصوص ،على أن الشاعر رغم تعالقه مع النص القرآني :لفظًا
وتركيبًا وداللة وصورة ،إال أن هذا التعالق ليس على سبيل االستشهاد واالقتباس الكامل ،وإمنا هو
تعالق جزئي خلّاق دَاخَلَه شيء من التصرُّف البنائي اللغوي ،ذلك أن اصطفاف اخلوارج أو صفهم يف
كل معاركهم ،نقول إن هذا االصطفاف أو الصف الواحد يتخذ طابعًا خاصًا يغاير قليلًا الصف الوارد
يف اآلية الكرمية ،وذلك من حيث هو عبارة عن سور من البنيان املرصوص ،وليس بنيانًا مرصوصًا
ككتلة واحدة ،كما يف اآلية ،وال شك أن تشبيه اصطفاف اخلوارج وصفهم بالسور ،من خالل
التشبيه البليغ ،وعلى هذا النحو من التحديد ،قد جعلنا أمام مشبّه به بدا نظريًا جتسيديًّا مماثلًا لطبيعة
الصف الواحد املتماسك املمتد املتالصق احملكم الذي ال فرجة فيه ،األمر الذي أثرى الداللة املتوخاة
وبالطبع فإن استحضار ( البنيان املرصوص ) من النص الغائب ( القرآن) يأتي اعتمادًا على ما هو كامن
يف ذهن املتلقي الذي يدرك حقيقة ذلك أميا إدراك ،وهنا يتعاظم – بفضل التناص -تكثيف املعنى
لديه أَميا تعاظم .وهنا ميكن القول مع د.حممد مفتاح " :بأن اعتماد الشاعر على ذاكرة املتلقي وثقافته
)37(. محله على التناص ،فأعاد مناذج مرتبطة بثقافة املتلقي السامع "
ويوغل الشاعر اخلارجي متوسلًا بالتناص ،بغرض الكشف عن احلالة النفسية /الشعورية اليت
تتملّك على اخلوارج نفوسهم ،فنراه يعمد إىل استكناه ما خيتلج يف صدورهم من مشاعر الوجل واخلوف
()38 عند تذكريهم باهلل أو ذكرهم إيَّاه .يقول قيس بن األصم الضيبّ :
يومَ النخيلةِ عند اجلوسقِ اخلربِ إني أدينُ مبا دان الشُّراةُ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
من اخلوارج قبلَ الشكِّ والري ـ ـ ـ ـبِ النافرين على منهاجِ أوّلِه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
خَرُّوا من اخلوفِ لألذقانِ والرُّكبِ قوماً إذا ذُكّروا باهلل أو ذكـ ـروا
وبتأمُّل البيت األخري جند أنه يتقاطع يف نظمه ويتمازج يف وقعه مع ثالث آيات قرآنية ،األوىل قوله
ُكرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْ َتكْ ِبرُونَ "
تعاىل " :إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذ ِّ
ﱛﱝﱞﱟﱠﱡﱢﱣﱤ ﱥﱦ
ﱜ .والثانية قوله تعاىل :ﱡﭐ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ()39
ﲊﲌﲍﲎ ﲏﲐﲑ
ﲋ ﱿﲀﲁﲂﲃ ﲄﲅﲆﲇﲈﲉ
ﲓ ﲕ ﱠ(.)41
والساطع أن الشاعر – هنا -قد استلهم اآليات القرآنية اآلنفة :دوالّ ومدلوالت وصورة ،وذلك
لتصوير احلالة النفسية و السلوكية التعبدية اليت تتملّك اخلوارج إذا ما ذُكِروا بآيات اهلل ،نقول
استلهم اآلية وامتصها مسقطَا تصويرها على أصحابه اخلوارج ،بهدف تصوير مدى اخلشوع الذي
يتملّكهم عند مساع الذكر أو تذكره ،حيث يهوي بهم سُجّدًا وعلى وجه السرعة ،الشيء الذي
أوحى به الفعل ( خرّوا ) الفعل – الصورة -إذا صح التعبري -كيف ال ،وقد جعل خيالنا يطالع تلكم
احلركة السريعة كما لو كانت ومضة خاطفة كالربق.
باختصار شديد إن هذا الفعل املسند إىل الشراة يتضمن كناية ساطعة عن سرعة االستجابة ،ثم
إن سجود هذه اجلماعة اخلارجية هو سجود يبلغ األذقان ،كناية عن حرصهم البالغ على إمتام سجودهم
وإسباغه.
على أن غاية الشاعر من توظيف التناص – ها هنا – هو التجاوب مع مذهب اخلوارج الذي يعدهم
الفئة املؤمنة الوحيدة باهلل ،أما سواهم من الفرق الدينية فليسوا إال مجاعات ضالّة كافرة مصريها
جهنم احلمراء ،ويف هذا الصدد جند شاعرًا خارجيًّا آخر يتناص مع القرآن الكريم ،كيما يؤكد
حتمية هذه النهاية لغريهم من الفرق الدينية .يقول عمران بن حطّان ).)42
إننا نرى ،من خالل هذا البيت ،نار جهنم قوة كاسحة نشطة ،حيَّة متحرِّكة ،تتحكَّم بالفعل
والفاعلية التدمريية جتاه أتباع اجلماعات الدينية الكافرة غري اخلوارج ،يف حني يبدو هؤالء األتباع
مستسلمني خانعني ،أو لنقل ،جمالًا لعذاباتها القاسية ،وفاعليتها الفتاكة ،اليت تراءت أول ما تراءت
يف أن هذه النار أخذت تدعوهم بعلو صوت نريانها املتقدة ،وهليبها الصائت ،تدعو هؤالء األتباع
املكذبني الضالني اجملرمني لرتميهم بشرر كبري احلجم عظيم ككرة النار الضخمة ،كأنه مجال
صفراء ،أي إبل سوداء لكثرتها وتتابعها وسرعة حركتها وفظاعة لونها ...وغري خاف أن الشاعر قد
وأيضاً من قوله تعاىل " :إِنَّهَا َترْمِي شَوَى"()43
لِّل ّ امتص هذا البيت من قوله تعاىل ":كَلَّا إِنَّهَا لَظَى َنزَّاعَةً
صرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُ ْفرٌ"(. )44
شرَرٍ كَالْقَ ْ
بِ َ
وتوظيف التناص – هنا -كان من شأنه تكثيف املعنى املراد وخدمته ،ال سيما وأنه كان متواشجًا
ومتماهيًا مع اآليتني القرآنيتني لفظًا وتركيبًا ومعنى وصورة ،لكن يف أفق واضح من التعديل والتصرُّف
اخللّاقني اللذين يعكسان براعة الشاعر اخلارجي يف استلهام التناص ،وحسن توظيفه .ويتجلى التصرُّف
يف جمئ الفعل ( ترْمي ) يف التعبري القرآني مضارعًا يف حني جاء يف املنطوق الشعري فعلًا ماضيًا (رمتهم)
( ) 43نزاعي ال وى :صنم ،الجمال البفر :سود االبل ،وتسميصا العرب صف ار لر ثرة والوواب وسرعي الحرتي ومظاعي
الرون.
ولكل داللته ،فالفعل املضارع يدل على استمرار الفاعلية ،بينما املاضي يدل على جناز هذه الفاعلية
وحتققها .وأيضًا جمئ الرتكيب الوصفي ( اجلمال الصفر ) معرفة يف البيت الشعري ،يف حني ورد يف
القرآن نكرة ( مجالة صفر ) ولكل داللته.
ولئن كان توظيف التناص السالف البيان ،غايته جالء النهاية املروعة ،واجلزاء األوفى ألتباع
الفرق الدينية من غري اخلوارج ،أال وهو جهنم احلمراء – حسب ما رأينا منذ قليل – فإن مثّة تناصات
شتى مع القرآن خلصت لوجه بيان اجلزاء الذي أَعَدَّه اهلل للخوارج ،أال وهي اجلنة مبا فيها من غرف
)45(: عالية جتري من حتتها األنهار .يقول حبيب بن خدرة
والواضح أن الشاعر قد امتصّه من اآلية اآلنفة ،لفظًا وتركيبًا وداللة و تصويرًا .غري أنه – على
الرغم من ذلك – قد أجرى حتويرات ختدم املعنى الشعري املقصود ؛ حيث جعل اجلزاء (= اجلنة ) يبدو
أمراً حمسوماً ومتحققاً ،على عكس اآلية اليت يبدو فيها هذا اجلزاء مستقبلياً ،وال أدلّ على حتقق
هذا اجلزاء من استخدام فعلني ماضيني ،هما ( :تبوءوا) املسند للجماعة اخلارجية املرثية ،والفعل
( جرت ) املسند لألنهار اليت جاءت نكرة ( أنهار ) حتى تدلَّ على العموم والشمول.
وملّا كانت الشهادة أو املوت يف سبيل اهلل ،اهلدف األول بل واألخري بالنسبة للخوارج ،فقد ألفينا
الشاعر اخلارجي يتناص مع القرآن الكريم ،وهو يدعو اهلل – سبحانه – أن يرزقه الشهادة .تقول أم
)47(: عمران اخلارجية يف رثاء ولدها
الواضح أن الشاعرة قد ارتشفت ( سرًّا وإعالنًا ) هذه الصيغة املاثلة يف البيت من قوله تعاىل ":الَّذِينَ
حزَنُونَ
خ ْوفٌ عَلَيْ ِهمْ وَلَا هُمْ يَ ْ
جرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا َ
يُنفِقُونَ أَ ْموَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَ ْ
"(.)48
بيد أن التناص – هنا – هو تناص يف اللفظ ويف املعنى مع اختالف يف املوقف فصيغة ( سرًّا
وإعالنًا ) يف البيت مرتبطة بدعاء عمران يف السر واإلعالن أن يرزقه اهلل الشهادة يف سبيله ،يف حني
ارتبطت هذه الصيغة يف اآلية بعمل اخلري وإنفاق احملسنني أمواهلم على حنو جيمع بني السرِّ والعلن ،
ومن املهم اإلشارة ،إىل أن الفعل املضارع ( يدعوه ) املسند إىل املرثي ( عمران ) قد أسهم يف تقوية املعنى
الناتج عن التناص ،وذلك من حيث دلَّ على استمرارية املرثي واستغراقه الدعاء لريزقه اهلل الشهادة يف
سبيله ،وهو ما كان .
واحلق أن السعي إىل االستشهاد يف سبيل اهلل ،أو طلب املوت ،ميثل الوحدة األوىل من الوحدات
الثالث يف الشعر اخلارجي – حسب الدكتور إحسان عبّاس – وتتجلّى يف ( وحدة الغايات ) اليت تشكِّل
النقطة اليت تلتقي عندها أحالم كل واحد من اخلوارج(.)49
ومن هنا فال غرابة ،أن وجدنا الشعراء اخلوارج حيرصون على ترديد هذه الفكرة يف أشعارهم ،
مع حرصهم -يف الوقت نفسه -على التناص مع آيات القرآن الكريم اليت متجّد هذه الفكرة ،بل
أكثر من ذلك ،أال وهو ارتباط امسهم املزدوج بهذه الفكرة ؛ سواء ( اخلوارج ) من اخلروج يف سبيل
اهلل ،أو ( الشُّراة ) من بيع النفس يف سبيل اهلل أيضًا .ومن التناص مع القرآن يف هذا األفق قول معدان
)50(: اإليادي
وليس على احلزْبِ املقيمِ سالمُ سالمٌ على من بايع اهلل شاريًا
()51 وقول معاذ الطائي :
وقد يـ ـ ـ ـ ـ ـرى أنه رثُّ القِوى واهِ قل للمولَّى على اإلسالم مؤتنفًا
نبغي بذاك إليه أعظمَ اجل ــاهِ أَنَّا شرين ـ ـا بدينِ اهلل أَنْفُسَنـ ـ ـ ـ ـ ــا
وبقراءة فاحصة لألبيات اآلنفة ،جند أنها ليست إال امتصاصًا وتشرُّبًا – على وجوه خمتلفة –
شرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ َمرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ "(.)53
لقوله تعاىل " :وَمِنَ النَّاسِ مَن يَ ْ
والتناص – هنا – فيما يبدو غايته حتقيق أمرين :األول ،التأكيد للمتلقي – على سبيل اليقني
املطلق -أن اخلوارج ،هم الفئة الوحيدة من الناس املقصودة يف اآلية املذكورة دون غريهم ،ومعلوم
أن من (للتبعيض ) والواردة يف صدر اآلية القرآنية ؛ ذلك أنهم من يعشقون املوت يف سبيل اهلل ،حتى
إنه أشهى إليهم من العسل ،كما قال شاعرهم البهلول .واألمر الثاني :التأكيد على اتِّباع اخلوارج
وترمجتهم -فعليًّا -ملا يريده اهلل تعاىل أَال وهو بيع النفس وبذهلا يف سبيل اهلل.
وبإرجاع البصر والبصرية كرَّتني لتأمُّل األبيات يف متازجها مع التناص ،نلحظ أن هذه الفكرة
املركزية يف االيدلوجيا اخلارجية ترتاءى يف شعر اخلوارج ترائيًا ساطعًا ،ونعين بذلك فكرة ( بيع
النفس يف سبيل اهلل ) ،نقول نلحظ أنَّها قد جاءت يف األبيات بصيغ ماضيه للداللة على حتقُّقها بالنسبة
للخوارج كما يف التالي( :بايع اهلل شاريا -شرى نفسه هلل -أنَّا شرينا بدين اهلل أنفسنا ) ،بينما وردت
يف اآلية املتناص معها بصيغة املضارع ( يشري نفسه ) وذلك لكون اخلطاب القرآني ممتد ومستمر
ودائم.
وإن مما زاد من هذه اليقينية استخدام األسلوب اإلنشائي ( النداء ) يف ( :أال أيها الشارون ) اململوء
بداللة التبشري ،وأيضًا استخدام أساليب خربية حتمل الطابع التأكيدي كما يف ( :شرى نفسه -أنا
شرينا بدين اهلل أنفسنا ) .
وملّا كان الشِّعار الذي اعتمده اخلوارج يف حركتهم ،هو ( :ال حكم إال هلل ) ،متجاوزين غريهم
من الفرق ،اليت رفعت شعارات االستحقاقات العائلية والقبلية ،نقول ملا كان شعارهم هو هذه
الصيغة ،فقد وجدنا الشعراء اخلوارج يتناصون مع القرآن ،يف سبيل التأكيد على أن هذا الشعار
)54(: مستمدّ من كتاب اهلل األعظم .يقول فروة األشجعي
على كلِّ حال كان طاعةُ مصعب ولسنا نقولُ الدَّهْرَ عصمةُ أَمْرِنا
وباهلل نرضى والنب ـ ـ ـ ـي املقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرَّب ولـ ــكن نقولُ احلُكْمُ هلل وحْـ ـ ـ ـدَهُ
() 56 ويقول العيزار الطائي :
ﱶﱸﱹﱺﱻﱼ ﱽ
ﱷ ﱫﱬﱭﱮﱯ ﱰﱱﱲﱳﱴﱵ
ﲞﲠﲡ
ﲟ ﲖﲘﲙﲚﲛﲜﲝ
ﲗ ﲍﲎﲏﲐﲑﲒﲓﲔﲕ
( )56نفسه ،ص .32يحض ون :يحط ون بربي نهل الممن ن ،يحط ون الرماح .الحوب :االثم والذنا.
ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﱠ "(.)60
وال ريب أن إحلاح الشاعر اخلارجي على التناص مع القرآن ،خاصة مع هذه الفكرة املركزية
بالنسبة جلماعته اخلوارج ،اهلدف من ورائه التأكيد خلصومهم ،يف سياق احلجاج معهم ،وأيضا
التأكيد لألمة مجعاء ،على أن مرجعيتهم كتاب اهلل الذي هو دستور املسلمني ؛ فمنه يستمدون
ركائز منهج عقيدتهم .
ويوظف الشعراء اخلوارج التناص االستشهادي يف موقف الوعظ واإلرشاد والتذكري .يقول احلسن
()61 اإلباضي :
وال أنَّ ما خيفى عليه يغيبُ وال َتحْسَبَنَّ اهللَ يَغْفلُ ساعةً
ينضح هذا البيت بالتناص مع قوله تعاىل ":وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِالً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا
َخرُهُمْ لِ َيوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ "( )62ومع قوله تعاىل :ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ
يُؤ ِّ
ﱵ ﱶ ﱷ ﱠ " ( )63وقوله تعاىل " :قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ
أَقُل َّلكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ َتكْتُمُونَ "( )64ناهيك عن
عديد من اآليات القرآنية اليت تتحرَّك يف هذا األفق .
واملهم أن التناص – ها هنا – مع اآليات القرآنية ،هو تناص يف الرتكيب و اللفظ واملعنى ،وقد رام
الشاعر من ورائه ،إرشاد أصحابه وغريهم ،مبا فيهم الظاملون ،إىل ضرورة مراقبة اهلل يف كل
أعماهلم وعدم اجرتاح أعمال السوء ،ذلك أن اهلل ليس بغافل البتة ،وأنه يعلم كل شيء وال ختفى عليه
خافية ،ال يف األرض ،وال يف السماء؛ فحذار حذار من الغفلة .
ولعلَّ من املفيد اإلملاح إىل أن مثَّة مغايرة جزئية يف التشكيل اللغوي للتناص ،وبالتحديد يف صدر
البيت مع اآلية القرآنية األوىل ،حيث ورد يف البيت املفعول الثاني يف مجلة فعلية فعلها مضارع
( يغفل ) ،بينما ورد يف صدر اآلية ( امسًا /غافالً ) ،ولكل داللته .أما عجز البيت فواضح أنه قد
تناص مع اآليتني ( )2،3وآيات أخرى .وهذا التناص هو يف اللفظ واملعنى ال يف الرتكيب .
أما عمران بن حطان ،وهو يعظ ويرشد ،جنده حيرص على التذكري بعظمة اهلل وفضله على
اإلنسان ،انطالقاً من كون الذكرى تنفع املؤمنني ،وذلك من خالل تصويره ألطوار خلق اإلنسان
()65 مستلهمًا ذلك ،عرب التناص ،من القرآن الكريم .يقول :
فَسَوَّاكَ حتّى صِرْتَ مُلْتَئِمَ األَسْرِ بَرَاك تُرابًا ثُمَّ صيَّرْكَ نُطْفَةً
فهذا البيت مرتشف – يف معظمه -من قوله تعاىل " :قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَ ُهوَ يُحَاوِرُهُ أَكَ َفرْتَ بِالَّذِي
خَلَ َقكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا "(.)66
)68( : ويتناص الشاعر اخلارجي مع القرآن ،يف سياق لوم النفس ( التلُّوم النفسي ) يقول أحدهم
حتى رفضتُ جمالسَ الفتيانِ ما زال بي صَرْفُ الزمانِ وَ َريْبُـ ـ ـ ـهُ
وهجرتُ غريَ مفارق إخوان ـ ـي وأَلِفْتُ أقواماً لغريِ م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــودَّة
ب ـع ــد اعتيادِ تِــالوةِ الـقـ ـ ـ ـ ـرآنِ وَأَفَضْتُ يف هلوِ احلديثِ و ُهجْرِهِ
ﱭ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱠ "( ، )69وأيضاً
ﱮ ﱥ ﱦﱧﱨﱩﱪﱫﱬ
ﱠ "() 70 قوله تعاىل :ﱡﭐ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ
والشاعر اخلارجي – هنا – يلوم نفسه اليت جعلته يفارق إخوانه اخلوارج ،ويعاشر أقوامًا غريهم
ممن ال حيب ،كما أنه يلوم نفسه كذلك ،اليت دفعته لالستغراق يف هلو احلديث بدليل الفعل املاضي
(أفضتُ) املشحون – زمنيًّا – بداللة جناز الفاعلية السلبية لذات الشاعرة اخلارجية ،ممثلة فذه الفاعلية
يف االستغراق يف هلو احلديث وأيضًا املشحون – معنويًّا بداللة اإلفراط وجتاوز احلد يف هلو احلديث ،
وهلو احلديث هو كل ما يُلهي عن طاعة اهلل ويصد عن مرضاته،إىل درجة جعلته يهجر تالوة القرآن ،
بعد أن كانت عادة تربّى عليها واعتادها .والتناص – هنا – هو تعالق بدرجة كبرية مع القرآن لفظًا
وتركيبًا ومعنًى وصورة .
وجند الشاعر اخلارجي يتناص مع القرآن ،يف سياق الدعوة إىل الزهد وعدم االستغراق يف اللهو
()71 واحلياة وملذاتها ؛ ألن اجلزاء واحلساب قريبان .يقول عمران بن حِطّان :
ﱿﲀﲁﲂﲃﲄﲅ ﲆﲇﲈﲉﲊﲋﲌﲍﲎﲏ
ومبتغى الشاعر من هذا التناص ،حتذير الغارقني يف اللهو انقيادًا حلب احلياة ،حتذيرهم ،يف
أفق تصويري مروّع ،بأن الوعد احلق وهو املوت قريب جدًّا وقد يهجم عليهم فجأة ،فإذا أبصارهم
شاخصة .وإنه ملن البيِّن ،تالحم هذا التناص مع اآلية الكرمية تركيبًا ( :اقرتب الوعدُ ) .ناهيك عن
التالحم :لفظًا ومعنًى وصورة ،مع االنتباه إىل وجود شئ من االنزياح اخللَّاق مبنى ومعنى.
وألفينا الشاعر اخلارجي يوظِّف مع القرآن الكريم ،يف مقام االقتتال واالشتباك مع اخلصوم .
()73 يقول عبداهلل بن حييى مرجتزًا يوم قديد :
صدر البيت ،نستحضر العديد من اآليات ،منها قوله تعاىل " :ﱡﭐ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ
أما عجز البيت ،فهو يذهب بنا مباشرة إىل قوله تعاىل :ﱡﭐ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ
ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﱠ )76(.ولعلَّ من املفيد اإلشارة ،إىل أن اجلملة الفعلية ( حبطت أعماهلم ) ،تبدو مجلة
تصويرية تعكس حالة نفسية جِدّ خطرية تتملّك خصوم الذات الشاعرة اخلارجية ،وذلك حينما حتبط
أعماهلم وتبطل ويداخلها الفشل واالنكسار فتخلو من الثمرة والنجاح.
ويستهدف الشاعر الراجز من وراء التناص ،أوالً ،خلق احلماس يف نفسه وأنفس أصحابه من
اخلوارج وهم يف خضم املعركة ،وثانياً ،التأكيد على أن النصر حليف اخلوارج ألنهم مؤمنون واهلل
موالهم ،يف حني اهلزمية حليفة خصومهم ،ألنهم كافرون وأعماهلم باطلة .والتناص مع النص الغائب
/القرآن الكريم – هنا – هو يف اللفظ والرتكيب واملعنى ( :حبطت أعماهلم – اهلل موالنا – ال موىل
هلم ) حسبما هو واضح.
.2التناص اإلحالي:
احلق أن هذا اللون من التناص ال يعلن عن نفسه على حنو صريح وكليّ ،بل حييل إىل ذاكرة
املتلقي القارئ بأحد دوالّه ،أو ما ينوب عنه ،فيذكر شيئًا ويسكت عن آخر ،دون استحضار
)77(. املتناص ( النص الغائب ) حرفيًّا
وبقراءة فاحصة يف شعر اخلو ارج حبثًا عن هذا اللون من التناص ،جنده مبثوثًا هنا وهناك ,على
امتداد جسم الديوان ،مرتقرقًا يف أنسجتهم الشعرية ومتجلّيًّا يف تضاعيفها جتليًّا أقرب إىل اخلفاء حينًا,
وإىل التجلّي حينًا آخر ،بيد أننا يف كال احلالني حنس بنبضه ومترتسه – إذا جاز التعبري -وهو على
أي حال قد تراءى يف سياقات شتى ،ومن ذلك سياق التذكري والوعظ بعبثية احلياة وحتمية املوت
()78 الطرِماح بن حكيم :
واهلالك على الرغم من تكالب الناس على هذه احلياة وزينتها .يقول ِّ
( )78ج ييعر الخوارج ،ص .237 -236يطرد بالناس :يس ييو صم .ل ير ثان :ل يؤخران .مود :هال .المخول :و
المال والخ م .الر :ج ة الخبومي والق رة عرا الج ل .يسون :يومادى .الفن :الحمق وال ذب.
ال نعدو احلقيقة إذا ما قلنا إن الشاعر – يف هذه الفلذة الشعرية – يفكِّر باملعاني والدالالت
القرآنية العليا ،كيف ال ،وقد استوحى ظالل اآليات القرآنية – على سبيل التناص -فمازجها يف
خطابه الشعري ،فإذا بنا حنس بأنفاسها يف نصّه على حنو بديع ،حنسها وقد جتسّدت يف مشهد
تصويري أخّاذ جعلنا نصغي إىل أصداء البيان القرآني وظالله – على حنو أو آخر – وذلك حني يُصافح
أعيننا وقلوبنا اليوم والغد وهما " ال يلبثان اإلنسان" وأيضًا أن (كل حيّ مستكمل عدة القمر ...إذا
َخرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِريٌ بِمَا
انقضى عدده ) .الشئ الذي حييلنا إىل قوله تعاىل " :وَلَن يُؤ ِّ
تَعْمَلُونَ" ()79؛ فإذا بهذا اإلنسان أخريًا يف مواجهة مشهد القيامة واحلساب " وخصماه رجله ويده " وهذا
أيضاً حييلنا – بدوره -إىل قول اهلل تعاىل َ " :يوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ " ( . )80وساعتئذ ال تنفع هذا اإلنسان أمانيه وال ماله وال خدمه وال " خالنه وال ولده " ،
وهذا املبنى واملعنى حييلنا – بدوره -إىل قوله تعاىل َ " :يوْمَ ال يَن َفعُ مَالٌ وَال بَنُونَ إِال مَنْ أَتَى
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ "( ، .)81وختاماً ،ها هو الشاعر اخلارجي حيرص – يف نهاية دفقته الشعرية -على
تلخيص احلقيقة الوجودية لإلنسان ،وهي أن الفناء مصري كل إنسان ،يلخصها متوسِّلًا مبعاني القرآن
وتصويراته املدهشة ،وذلك من خالل تصويره التشبيهي لدورة حياة اإلنسان ،بدورة حياة نابتة الزرع ،
فاإلنسان متامًا ,كالزرع مير مبراحل ت نتهي به إىل املوت مثلما الزرع مير مبراحل تنتهي به – حتمًا -
إىل احلصاد عندما حيني وقت حصاده ،وهذا املعنى مستوحى – خبفاء -من القرآن ؛ حيث أشارت
عدة آيات قرآنية – على حنو من األحناء -إىل هذا املعنى /الصورة ،ومن ذلك قوله تعاىل :ﱡﭐ ﳊ ﳋ
ﳌﳍﳎﳏﳐﳑﳒﳓﳔﳕﳖ ﳗﳘﳙﳚﳛﳜﳝﳞ
وهكذا فقد تناص الشاعر ،مع عدة آيات مازجًا إيّاها يف حلمته الشعرية ،بهدف تكثيف املعنى
الذي توخاه ،وقد استطاع بالفعل خلق صورة مجالية مؤثرة ،صورة شيدت قوتها منذ مطلع الدفقة
الشعرية ،وذلك من خالل تصوير الدهر /الزمان على سبيل االستعارة املكنية ،قوة تدمريية تفتك
بالبشر ،الفتك الذي جيعلهم شعبًا وأوصاالً ( :ترك الدهر أهله شعبًا ) ...
باختصار شديد ،إن الشاعر اخلارجي ،قد رام من وراء هذا التناص املعتمد على التصوير ،حثّ
اإلنسان اخلارجي خاصة واإلنسان عامة ،على أن يسارع يف اجرتاح أعمال اخلري والرب ؛ ألن احلياة مآهلا
الفناء ال حمالة .على أن غاية الشاعر من وراء هذه اللحمة الشعرية أيضًا ،هو حثَّ اخلوارج على
االستغراق يف عامل االستشهاد يف سبيل اهلل ،والذي يعدُّ بالنسبة هلم الديدن األوحد ،ذلك أن احلياة
اآلخرة هي احلياة احلقيقية والدائمة .
ويالحظ أن الشاعر اخلارجي ظلَّ يؤكد على هذه احلقيقة ،أال وهي حقيقة أن احلياة فانية ،وأن
()84 املوت مسألة حتمية لكل الكائنات يقول قطريّ بن الفجاءة :
( )84جييعر الخوارج ،ص ُ . 109ي ْعوَلع :يموت من اير عري ،يسيي:م :يمل من الصرم وت المفه َ .سييقع المواع :ما ل
خير فمه .
واحلق أن الشاعر اخلارجي لطاملا أكّد ،متأ ّثرًا بالقرآن و متعالقًا معه ،على فكرة أن احلياة
مآهلا ال فناء ،ومن ثَمّ فهو يسعى دومًا للموت أو االستشهاد يف سبيل اهلل طمعًا يف احلياة الباقية ،أال
()86 وهي احلياة اآلخرة .يقول أبو بالل :
تبقى على دين مرداسٍ وطوّافِ حتى أبيعَ الذي يفنى بآخرةٍ
ويستمر الشاعر اخلارجي ،يف ترديد هذه الفكرة والتأكيد عليها بألفاظ أخرى تدلّ عليها ،
()90 مستلهمًا إيّاها من -القرآن -أيضًا ،وعلى سبيل التناص .يقول عمران بن حِطّان :
من نبطال الخوارج وجص ائصم . ( )86جعر الخوارج ،ص .59مرداس وطوا
ﱠ)92(.
أما البيتان اآلخران فمستمدّان لفظًا وتركيبًا ومعنى من ﱍﱏﱐﱑﱒ
ﱎ ﱋ ﱌ
ومل يكتفِ الشاعر اخلارجي بالدعوة غري املباشرة أو الضمنية إىل طلب االستشهاد يف سبيل اهلل ،
بل نراه – يف مواطن كثرية – يدعو بشكل صريح وواضح إىل اجلهاد يف سبيل اهلل .يقول قطري بن
()94 الفجاءة املازني :
وَما جَعَلَ الرَمحنُ عُذراً لِقاعِدِ أَبا خا ِلدٍ يا اِنفُر فَلَستَ بِخا ِلدٍ
ٍّ وَجاحِ ـ ـ ـ ِد
وَأَنتَ مُقيمٌ بَنيَ لِص أَتَزعُمُ أَنَّ اخلارِجِيَّ عَلى اهلُدى
يطالعنا التناص يف البيت األول ،من خالل الفعل (انفر) والذي يتقاطع لفظًا ومعنى وصورة مع
ثالث آيات قرآنية أوالها قوله تعاىل ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ
ﱲﱴﱵﱶ
ﱳ ﱧﱨﱩﱪﱫﱬﱭﱮﱯﱰ ﱱ
() 96 ﱸ ﱺﱻﱼﱽ ﱾﱿﲀ ﲁ ﲂ ﱠ"
ﱹ ﱷ
"()97 وأما ثالثتها فقوله تعاىل " :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَان ِفرُوا ثُبَاتٍ أَوِ ان ِفرُوا جَمِيعًا
.وامللحوظ أن هذا الفعل ( يا انفر ) قد دخلت عليه أداة النداء مباشرة وحذف املنادى املكرر أبا خالد
فانصب النداء على الفعل بعده ،وهو من األساليب املألوفة يف القرآن غري أن األصل هو دخول ( يا )
النداء على األمساء ال األفعال .
ويبدو أن غاية الشاعر اخلارجي من التناص – هنا – ليس الوعظ فحسب ،وإمنا غايته األساسية
-فيما نعتقد -هي دعوة أصحابه إىل طلب املوت و االستشهاد يف سبيل اهلل حتقيقًا لقضيتهم اليت
نذروا أنفسهم ألجلها .
ومن اجلدير ذكره – هنا -أن لفظ ( قاعد ) ليس إال تناصًّا مع قوله تعاىل " :ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ
ﱎﱐﱑﱒﱓ ﱔ
ﱏ ﱄﱅﱆﱇﱈﱉ ﱊﱋﱌﱍ
تعاىل :ﱡﭐ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ
ﱠ "()99
وقوله تعاىل " :وَ ِإذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا َمعَ رَسُولِهِ اسْتَ ْأذَ َنكَ أُولُو ﲧﲨ
) ومهما يكن من شيء ,فالساطع أن الشاعر "100(. الطوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا َنكُن َّمعَ الْقَاعِدِينَ
َّ
اخلارجي يعمد إىل التناص مع القرآن ,لكنه يتصرف يف املبنى واملعنى وفقًا ملا خيدم الداللة اليت يرومها
ويشتهيها .وهنا تبدو عبقرية الشاعر اخلارجي .
ويتجلّى التناص اإلحالي يف سياق التغنّي بالصفات السامية للجماعة اخلارجية .يقول عمرو
()101 اإلباضي :
ﱔﱖ ﱗﱘﱙ
ﱕ ﱋ ﱍﱎﱏﱐﱑﱒﱓ
ﱌ ﱆﱇﱈﱉﱊ
ﱠﱢ ﱣﱤﱥﱦﱧﱨﱩﱪ ﱫ
ﱡ ﱛﱝﱞﱟ
ﱜ ﱚ
ﱱﱳﱴﱵ ﱶﱷﱸﱹﱺﱻﱼ
ﱲ ﱬﱭﱮﱯﱰ
ﱠ)102(.
أما البيت الثاني فقد تداخل يف نظمه ومتازج يف وقعه مع قول اهلل تعاىل " :لِلْفُ َقرَاءِ الَّذِينَ ﱽ
ضرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَ ْعرِفُهُم
صرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ َ
أُحْ ِ
بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَ ْيرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ " )103(.وكذلك مع قوله تعاىل
:ﱡﭐ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ
ﳌ ﳎﳏﳐﳑﳒﳓﳔﳕ
ﳍ ﳅﳆﳇﳈﳉﳊﳋ
ﱠ)104(.
والتناص مع القرآن – هنا – هو تناص يف اللفظ واملعنى و الداللة ،وكانت براعة هذا التناص مع
التصوير القرآني الذي انتظم كل أولئك خالقًا -يف النهاية – هذه الكثافة العالية يف املعنى والداللة.
على أن من املهم اإلملاح إىل أن هذا التناص ،قد تأسَّس على االنزياح يف التشكيل اللغوي البنائي ،ال
الداللي فـ ( رمحاء ) اللفظ القرآني مت تغيريها إىل ( مرتامحني ) يف املنطوق الشعري و( خصاصة ) اللفظ
القرآني ،مت تغيريه إىل ( خصاصتهم ) ،كما مت تعديل اللفظ القرآني (التعفف ) إىل ( عفتهم ) ،وهذا
التطويع كله يف سبيل تكثيف املعنى والتجاوب مع طبيعة الداللة املرادة .
ومن السياقات اليت جتلّى فيها التناص اإلحالي ،سياق رفض التفاضل يف األنساب واألحساب
)105( : واالعتداد بالقربى .يقول عيسى اخلطيّ
تصافحنا يف األبيات السابقة نظرة اإلسالم احلقيقة والسامية للناس إمجاالً ،واليت آمن بها
اخلوارج كل اإلميان ،واليت خالصتها أن كرامة اإلنسان ومعيار وزنه عند اهلل – سبحانه -ال ترتبط
بعراقة نسبه أو حسبه أو جنسه أو لونه أو شكله ...إخل ،وإمنا كرامة هذا اإلنسان عند اهلل ،مرتبطة
فقط بتقواه وصالحه وطاعته وشكره .
والظاهر أن الشاعر ،يف هذه األبيات ،قد تغيّا التأكيد على هذه احلقيقة اإلنسانية من خالل
احلقيقة اإلسالمية القرآنية ،يف عجز البيت الثالث حتديدًا ،حيث استدعى هذه الداللة العليا :لفظًا
ﱯﱱﱲ
ﱰ ومعنى من قوله تعاىل :ﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ
ﱠ)106( . ﱵﱷﱸ ﱹﱺﱻ
ﱶ ﱳﱴ
على أن التناص -هنا -فيه حتوير واضح عما هو عليه يف القرآن من جهة املبنى اللفظي ؛ ففي حني
ورد يف القرآن أفعالًا ( أكرمكم -أتقاكم ) ،فإنه يف البيت الشعري قد جاء يف صورة امسية وصفية
( التقي – الكريم ) .ولكل داللته .وجيدر بنا يف هذا الصدد استدعاء بيت عمران بن حطان ،الذي
أكَّد فيه على هذا املعنى بصورة ساطعة متناصًّا مع اآلية اآلنفة الذكر .ونص هذا البيت كالتالي :
()107
وأَوْىل عِباد اهلل باهلل مَنْ شَكَرَ فنحن بنو اإلسالم واهلل ربُّنا
وميتصُّ الشاعر اخلارجي آية قرآنية ،في سياق التقرير واإلخبار بأن أي دين غري الدين
اإلسالمي الذي جاء به النيب حممد -ﷺ – هو دين ضالل ،وعالمة ذلك أن أهله تكون صدورهم
()108 ضيقة حرجة .يقول عِمْران بن حطّان :
ﱕﱗﱘ
ﱖ ﱈﱊﱋ ﱌﱍﱎﱏﱐﱑﱒﱓ ﱔ
ﱉ
والتناص يف هذا البيت – كما هو ساطع -هو تناص يف اللفظ واملعنى والصورة مع حتوير ملحوظ
يف التشكيل اللغوي للبيت .
()110 ويوظِّف ال شاعر اخلارجي التناص اإلحالي ،يف سياق الرثاء .يقول عبيدة اليشكري :
َعجِبْتُ ألحداثِ البالءِ وللدَّهْرِ ولِ ْلحَيْنِ يأتي امل ْر َء من حيثُ ال يدري
فاملالحظ أن الشاعر قد وظّف نصًّا قرآنيًّا يرتاءى يف عجز البيت ،وذلك لفاجعة املوت اليت تعصف
باإلنسان من حيث ال يعلم وال يدري ،ويتمثل ذلك يف قوله تعاىل :ﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ
ﳌ ﳎﳏﳐﳑﳒ
ﳅﳇﳈﳉﳊﳋ ﳍ
ﳆ ﳀﳁ ﳂﳃﳄ
()111 ﳓﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﱠ.
ويبدو أنه اختذ من معنى اآلية و مقصديتها مدخلًا لتأكيد حقيقة الضعف البشري ،وأن اإلنسان
مسيّر ال خميّر يف هذه احلياة ،وأن اهلل وحده هو من عنده علم كل شيء كما له القدرة على كل
شيء ،أما اإلنسان فمسكني ضعيف ال حول له وال قوة .
ولعلَّ جتسيد احلني /املوت قوة معادية مباغتة عرب الصورة االستعارية ( وللحني يأتي املرء من حيث
ال يدري ) ،نقول لعلَّ ذلك دلَّ على مدى الضعف البالغ لإلنسان وحمدودية قدرته وقد كان للتناص أو
التعالق من اآلية الكرمية دور ال خيفى يف تأكيد هذه احلقيقة الوجودية لإلنسان ،على الرغم من أن
التنا ص كان كامالً على مستوى املعنى ،غري أنه كان جزئيًّا على مستوى املبنى .ومن اجلدير ذكره
أن تصرُّف الشاعر باآلية القرآنية املتناص معها ليبدو تصرُّفًا خلَّاقًا ,وال أدلّ من أن املوت يف املنطوق
الشعري هو الفاعل النحوي والداللي املتسلطة فاعليته على النفس اإلنسانية ،بينما الفاعل النحوي
الداللي ،هي النفس ذاتها.
ونطالع تأمُّالً زهديًّا يف شعر اخلوارج يتحرك يف أفق هذا احملور ،تأمُّالً يتكئ على تناص حيال
()112 فيه املتلقي إىل صورة نفسية قرآنية .يقول عمران بن حطّان :
من لُبَانَاتٍ إذا مل يَقْضِه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا يأسفُ املرءُ على ما فات ـ ـ ـ ـ ـه
باليت أمْضى كأن مل يُمْضها وتراه فَرِحًا مستبشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرًا
بعدما قد خرجتْ من قبضها عجبًا من فرحِ النَّفْسِ بهـ ـ ـا
لقريبٌ بعضها من بعضه ـ ـ ـ ـ ـ ـا أنا عندي ذاك أحالم الكرى
وبقراءة نافذة هلذه األبيات ،خاصة الثالثة األوىل منها ،نلحظ أنها قد أحالتنا مباشرة إىل قوله
ﲾﳀ ﳁﳂﳃﳄ
ﲿ تعاىل :ﱡﭐ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ
)113(. ﳅ ﳆ ﱠ"
الالفت – هنا -أنه قد مت استدعاء النص القرآني ،وممازجته بالدفقة الشعرية ،بهدف تكثيف
املعنى املبتغى ؛ خاصة وأن مدار هذه الدفقة هو الكشف ،يف أفق تأملي وعظي زهدي ،عن طبيعة
مركوزة يف النفس البشرية ،أال وهي التأسف والتأمل على ما فات اإلنسان من حاجات وطموحات
دنيوية ،وفرح نفسه -باملقابل -مبا يناله وحيققه من هذه احلاجات والطموحات .ويبدو أن غاية الشاعر
،من وراء ذلك ،التعجب من النفس اإلنسانية ،ودعوة صاحبها إىل الزهد يف احلياة وعدم االكرتاث
ألي شيء ،ألن كال الفعلني ( = األسى والفرح ) أحالم الكرى ،ونتيجتهما واحدة ،ألن احلياة
احلقيقية هي يف اآلخرة .وهنا ندرك أن الشاعر ،يف تصويره هذا ،قد تناص مع القرآن فجاء تصويره
متمازجًا يف تركيبه وألفاظه ومتداخلًا يف تكوينه ومعانيه مع النص القرآني إىل حد بعيد ،وهو ما
كان من شأنه تكثيف املعنى وتعميقه.
ويف سياق الرثاء كذل ك يصافح أعيننا توظيف الشاعر لآليات القرآنية يف خطابه الشعري الراثي .
ك
عَلى جابِرٍ صَلَّت خيارَ املَالئِ ـ ـ ـ ـ ِ كَفى حزناً أَنّي َتذَكَّرتُ جابِرًا
وَلَم يَنتَظِر إِذ قيلَ :إِنَّكَ هالِكُ قَتيلٌ مَضى إِذ عا َهدَ اللَهَ نَحبَهُ
وال حاجة لنا – هنا -للتأمل طويالً ,وإدراك أن البيت الثاني يتداخل يف نظمه ويتمازج يف وقعه
ﱈﱊﱋ ﱌ
ﱉ لفظاً وتركيباً ومعنى مع قوله تعاىل :ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ
على أن الشاعر قد تصرَّف يف اآلية القرآنية على حنو خلَّاق ،كان من شأنه خدمة املعنى الذي
توخَّاه ،فإذا كانت اآلية قد تكلمت عن مجاعة من املؤمنني فالتزمت صيغة اجلمع امسًا وفعلًا
(:املؤمنني – رجال – صدقوا – عاهدوا) ,فإن الشاعر قد تكلم عن املرثي جابر بصيغة املفرد ( ،
مضى – عاهد – حنبه – مل ينتظر – إنك – هالك ) مشريًا إىل أنه كان من الفريق الذي مل ينتظر ،
فاستشهد يف سبيل اهلل ،وتلك غاية كل خارجي .
ويلقانا التناص اإلحالي -باإلضافة إىل ما تقدَّم ذكره – يف سياق نقد تعلُّق الناس الشديد
()116 باحلياة الدنيا .يقول عمران بن حطّان :
حييلنا اللفظ ( عُرَاة وجوَّع ) املاثالن يف عجز البيت إىل قوله تعاىل ":ﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ
()117
ﱽﱾﱿ ﱠ ".
فالشاعر – هنا – يلمح ،من خالل التناص مع آية قرآنية واحدة ،يلمح للمتهالكني على الدنيا
وزينتها وللمتلقني هلذه املوعظة الشعرية إمجالًا ،يلمح هلم مجيعًا بقصة آدم وحواء مع إبليس ،إذ ما
كان من اهلل – سبحانه – وقد أخذ آدم يف االستسالم لوساوس إبليس اليت أخرجته وزوجه من اجلنة
إىل الدنيا الفانية ،نقول ما كان من اهلل إال أن خاطبه بقوله " :فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك
فال خيرجنكما من اجلنة فتشقى إن لك أن ال جتوع فيها وال تعرى وأنك ال تظمأ فيها وال تضحى "
)118(.والشاعر أراد من خالل هذا التناص تأكيد حقيقة احلياة الدنيا ،وأنها ليست إال دار شقاء وجوع
وعري والتناص مع اآلية القرآنية – كما هو بيِّن – تناص يف اللفظ واملعنى والصورة مع ضرورة اإلملاح
إىل أنه تناص قد اختلف من حيث طبيعة األلفاظ مناط التناصية حيث وردت يف البيت الشعري أمساء
( أشقياء – عراة – جُوَّع ) يف حني وردت يف اآلية الكرمية أفعالًا ( تشقى – جتوع – تعرى ) .وعلى أية
حال ،فإن هذا التناص قد عزّز املعنى وكثّفه على حنو شديد السطوع.
ونرى الشاعر اخلارجي يوظّف النصَّ القرآني يف األوقات العصيبة اليت مير بها أو متر بها مجاعته
()119 اخلارجية .يقول عبيدة اليشكريّ :
بقومسَ إذ فيها الشُّراةُ حلولُ إىل اهلل أشكو ال إىل الناس أشتكي
وهمًّا دخيلًا ال أرى منه خمرجا إىل اهلل أشكو كربة أن تفّرجا
وهنا جند أن هذين البيتني وبالتحديد يف صدريهما ،حييالنا مباشرة إىل قوله تعاىل " :قَالَ إِنَّمَا
حزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ "( . )121ومعلوم أن هذه اآلية قد وردت على لسان
شكُو بَثِّي وَ ُ
أَ ْ
يعقوب -عليه السالم -حني ابتلي بفقد ولديه .
ويف البيت األول نلحظ أن الشاعر(عبيدة ) قد تغيَّا من وراء هذا التناص ،التعبري عن مدى أمله
وحزنه ،وذلك هلروبه وأصحابه إىل قومس ( بلدة يف عمق إيران ) فرارًا من مواجهة املهلّب بن أبي صفرة
العدو اللدود للخوارج ،وكأني بالشاعر يقول عرب تناصه مع القرآن ،إن احلالة اليت أحياها وأصحابي
اخلوارج مالحقني هي متامًا كحالة األمل واحلزن اليت أملَّت بالنيب يعقوب على ابنه يوسف -عليه
السالم – عندما فرَّط فيه إخوته .
أما يف البيت الثاني فقد عمد الشاعر اخلارجي ،إىل هذا التناص ليكشف عن حمنته وأصحابه
من اخلوارج ،وذلك عندما مرَّ وإيَّاهم بلحظة عصيبة ،أال وهي حلظة االنهزام واإلنكسار أمام
أعدائهم ،األمر الذي شكَّل كربة بالغة ،لذا فقد توجه بالشكاية إىل اهلل طالبًا منه منحهم الفرج
القريب.
ونلحظ أن التناص يف البيتني اآلنفني ،قد كان على مستوى اللفظ والرتكيب واملعنى ،لكن
املغايرة كانت على مستوى التشكيل اللغوي يف أفق أسلوب التقديم والتأخري ،إذ تقدمت يف املنطوق
الشعري شبه اجلملة ( إىل اهلل ) على اجلملة الفعلية ( أشكو ) ،أما يف التعبري القرآني فقد تقدَّمت
اجلملة الفعلية ( أشكو )على شبه اجلملة ( إىل اهلل ) .والتقديم يف البيت غايته حصر الشكوى على
اهلل وحده دون سواه .ومهما يكن من شئ ،فإن هذا التطويع قد خدم املعنى وعاظم من داللته وتأثريه
أميا تعاظم .
ويلقانا التناص اإلحالي أيضًا ،يف سياق احتفاء الشاعر اخلارجي بالنصرعلى أعداء مجاعته .يقول
()122 يزيد بن حبناء :
صرْكُمْ عَلَيْهِمْ
خزِ ِهمْ وَيَن ُ
حييلنا صدر هذا البيت إىل قوله تعاىل " :قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُ ْ
)123(. وَيَشْفِ صُدُورَ َقوْمٍ مُّؤْمِنِنيَ "
والتناص – ها هنا – مع اآلية الكرمية ،تناص على مستوى اللفظ وأيضًا املعنى ،غري أنه تناص
منزاح وخمتلف على مستوى التشكيل اللغوي ،وال أدلّ على ذلك من طبيعة إسناد الفعل ،حيث أسند
الفعل يف اآلية ( يشفي صدور قوم مؤمنني ) إىل اهلل ،بينما أسند الفعل يف البيت ( شفينا من يزيد
جيلا .
( )122جعر الخوارج ،ص .85مب م :ال جاع الذ ،ل يصاب ى
صدورنا ) إىل الذات اخلارجية اجلمعية ،فهي من شفت صدورها من ( يزيد ) وجنوده وهو والي األمويني
على الرّي ( طهران عاصمة إيران حاليًّا ) ،وذلك من خالل االنتصار الكاسح على هذا الوالي وال شكَّ
أن توظيف التناص القرآني ،يف حلمة البيت وسداته ،قد عاظم من قيمة الداللة وجعلها أكثر بالغة
وعمقًا.
ويطالعنا هذا النوع من التناص يف شعر اخلوارج ،لكن ليس بتلك الكثافة اليت متتع بها النوعان
السابقان .ولقد ورد يف سياقات شتى ،منها سياق الرثاء .تقول عمرة اخلارجية يف رثاء ابنها عمران
()125 الراسيب :
السحَرِ
وكان عِمْرانُ يدعو اهللَ يف َّ أيدَ عِمْرانًا وطهَّرَهُ
اهللُ َّ
يكشف هذا البيت عن تناص خفي حيتاج إىل غري قليل من التأمل ملالحظة عالقته بالنص الغائب
/القرآن ؛ فقوهلا ( اهلل أيد) متثل تناصًّا – كما يبدو لنا -مع قوله تعاىل " :وَإِن ُيرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ
أما قوهلا ( وطهَّره ) فتمثل تناصًّا مع قوله ()126 فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ ُهوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِنيَ " .
وأما قوهلا ( يدعو اهلل يف ()127 َهرُكَ. "....
تعاىل ِ " :إذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُ َتوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُط ِّ
وأيضًا قوله تعاىل " :الصَّا ِبرِينَ )128( . السحر ) فهو يتعالق مع قوله تعاىل " :وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْ ِفرُونَ "
.والتناصات اإلشارية املختلفة -هنا ()129 وَالصَّادِقِنيَ وَالْقَانِتِنيَ وَالْمُنفِقِنيَ وَالْمُسْتَغْ ِفرِينَ بِالْأَسْحَارِ " .
– مع النص القرآني ،تستهدف الشاعرة اخلارجية من ورائها ،منح ابنها املرثي ( = عمران ) مكانة
مقدسة وهبه اهلل إيّاها كما وهب األنبياء ؛ فقد منحه التأييد بالنصر كما منح نبيه حممد – ﷺ –
وطهره من الرذائل متاما كما طهَّر عيسى – عليه السالم – وال عجب فهذا الشهيد اخلارجي (قتل مع
نافع بن األزرق يوم دوالب) كان من املتقني الذين من أبرز صفاتهم دعاء اهلل واستغفاره يف أوقات السحر،
أي أواخر الليل .
بيد أن غاية الشاعرة من هذه الفسيفساء التناصية من القرآن – فيما نعتقد -التأكيد للمتلقني –
يف ضوء مرجعية دينية قرآنية -بأن فتى هذا حاله ال خوف عليه ألن مصريه حتمًا اجلنَّة.
ويستعني الشاعر اخلارجي بالقرآن يف موقف التصاحل مع اخلصوم ،بعد أن بدا منهم معروفًا ،
ومن ذلك إطالق احلجّاج بن يوسف الثقفي لعِمْران لن حطَّان وقد طُلِب منه معاودة قتال األول ،فما
()130 كان من عمران إال أن قال :
بيدٍ تُقِـ ـ ــرُّ بأنَّها موالتُ ـ ـ ـه أأقاتل احلجّا َج عنْ سُلطان ـ ـ ـ ـهِ
عَفَّت عَلى عِرفانِهِ جَهَالتُهُ إِنّي إِذَاً لَأَخو الدَناءَةِ وَالَّـ ـ ـ ـذي
وجوارحي وسالحها آالتـ ـه تـ ـ ـ ــاهللِ ما كدْتُ األمريَ بآلـ ـةٍ
والتناص يف البيت الثالث ،مستمدٌّ من قصة أبي األنبياء ابراهيم مع قومه ،وبالتحديد من قوله
()131 تعاىل " :وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَا َمكُم بَعْدَ أَن ُتوَلُّوا مُدْبِرِينَ ".
وبوسعنا القول إن الشاعر -يف هذا البيت -قد وظّف التناص القرآني توظيفًا جديدًا خبالف ما هو
عليه يف القرآن ،فالقسم ( تاهلل ) يف البيت لنفي القيام بالفعل /الكيد ،فعل املكر والغدر ومعاودة
قتال احلجّاج ،يف حني القسم نفسه ( تاهلل ) يف اآلية القرآنية ،الغرض منه تأكيد النيب إبراهيم –
عليه السالم – لقومه بأنه سيقوم بالكيد واملكر بأصنامهم من خالل تكسريها بعد أن يتولوا عنها
ذاهبني .
ويستثمر الشاعر اخلارجي النص القرآني ،يف مقام الرثاء وإبراز بطوالت مجاعته اخلارجية .يقول
()132 يزيد بن حبناء:
جَـراثـيـمَ صَـرعـى لِلنُّسـورِ القَـشـاعِ ـ ِم إِذا اِنـتَـطَـحـتَ مِـنّـا كَراديسُ غادَرَت
وَبِـالسَـفـحِ إِذ نَـغشى صُدورَ الغَواشِمِ وَلَم أَكُ م ـشـغـوالً بِـسـابـورَ عَـنـكُـ ـ ـ ـ ـ ـمُ
صرْعى ) ،أن يتعالق مع آية تنسجم
لقد استطاع الشاعر بكلمة ماثلة يف صدر البيت الثالث وهي ( َ
ﳀﳂﳃﳄ ﳅﳆﳇ
ﳁ مع هدفه ،وتتمثل يف قوله تعاىل :ﱡﭐ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ
ونلحظ أن الشاعر قد أحالنا -من خالل هذه اآلية -إىل مشهد قرآني متكامل ،أحالنا ويف ذهنيته
قارئ يشاركه ثقافته وجتربته .باختصار لقد جعلنا هذا التناص نستحضر قصة قوم عاد ،وكيف
أهلكهم اهلل ،متامًا كما أهلك اهلل – عزَّ وجلَّ -على يد هذه الثلة من اخلوارج ،أهلك خصومهم ؛
فقد أحالتهم هذه الثلة اخلارجية املؤمنة إىل جثث صرعى تأكلها النسور الضخمة .ومما زاد من قوة
صرْعى ) اليت جاءت حنويًا
التناص وفاعليته يف رفد املعنى والتحليق به يف ذهن املتلقي ،املفردة ( َ
( حالًا ) لتستحضر صورة ساطعة بالغة التأثري يف النفس والوجدان ،وهو ما ساهم يف خدمة املعنى .
وغري خافٍ أن التناص – هنا – قد أفرز عالقة جديدة ،مع ضرورة اإلشارة إىل أن هذا التناص كان
على مستوى اللفظ والصورة و املعنى .
()134 ويوظف الشاعر اخلارجي الدعاء القرآني ،كما يف قول أحدهم :
واكفِ املهمَّ فأَنْتَ الرازق الكايف يا ربِّ هَبْ لي التُّقَى والصدقَ يف ثَبَتٍ
والصيغة الدعائية القرآنية اليت وظّفها الشاعر – هنا – هي ( رب هب لي ) ،وتوظيفها ليس لذات
الطلب أو املعنى يف القرآن وإمنا ملعنى جديد أو عالقة جديدة ،وهذا ما سنتبيّنه بعد سرد اآليات
شعر الخوارج ،ص . 86كراديس :ج كردوس وهي كتائب الخيل العظيمة .جراثيم :العدد الكبير المتجمع من المقاتلين .القشاعم :ج ()132
قشعم ،وهي النسور الضخمة .
الثالث واليت تتمثّل يف قوله تعاىل " :رَبِّ َهبْ لِي مِنَ الصَّالِحِنيَ " ) 135( .وقوله تعاىل " :رَبِّ َهبْ لِي
كرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ َهبْ لِي مِن لَّدُنكَ
وقوله تعاىل " :هُنَا ِلكَ دَعَا زَ َ ()136 حكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِنيَ "
ُ
)137( . ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إ َِّنكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ "
فالشاعر يدعو اهلل أن يهب له التقى والصدق مشفوعني باحلجة والبينِّة ،والتقى والصدق – كما
نعلم – هما قيمتان مركزيتان بالنسبة للمسلم احلق فما بالك باخلوارج الذين يعتربون أنفسهم بين
اإلسالم ( حنن بنو اإلسالم . )...وعليه فهو ال يطلب أيَّ غرض دنيوي .بعبارة حامسة إنها الذات اخلارجية
التقية الزاهدة الصادقة اليت عينها فحسب على اآلخرة ال الدنيا الفانية .
فقد استلهم الصيغة الدعائية القرآنية ( هب لي ) مصدّرًا إياها باملنادى ( إهلي ) ال ( رب) ،وواضح أنه
مل يطلب أمرًا دنيويًّا ،بل الزلفى والوسيلة بفعل الطاعات وترك املعاصي ،متامًا كصاحبه .وهكذا
هم اخلوارج ينشدون كل ما يوصلهم إىل اآلخرة ونعيمها املقيم أما الدنيا فال وزن هلا عندهم .
ويستدعي الشاعر اخلارجي القرآن ،من خالل تق نية التناص ،بغية إظهار مدى تعاضد اخلوارج
وتآلفهم فيما بينهم ،ومدى تسابقهم إىل ساحات احلروب ،ووقودهم يف كل ذلك هدى اهلل .يقول
()139 الطرماح بن حكيم :
( )138جعر الخوارج ،ص .28الزلفي :القرمي والمنزلي ،ومثرصا الوسيري .
.عبائا :ماعات .الموا ف :معارج الحرب . ( )139جعر الخوارج ،ص . 238خائف :مخو
يتجلّى التناص القرآني يف البيت الثاني يف الرتكيب اإلضايف ( هدى اهلل ) ،املستدعى – على
ﱳﱵ
ﱴ ﱫﱭﱮﱯﱰﱱﱲ
ﱣﱤﱥﱦﱧﱨ ﱩﱪ ﱬ
ﲎﲐ
ﲏ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱠ " )140( .وقوله تعاىل :ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ
ﲞﲠﲡﲢﲣ
ﲟ ﲑﲒﲓﲔﲕﲖﲗﲘﲙ ﲚﲛﲜﲝ
ﱐﱒﱓﱔﱕﱖﱗ ﱘﱙﱚﱛﱜﱝﱞ
ﱑ ﱉﱋﱌ ﱍﱎﱏ
ﱊ
ويبدو أن الشاعر قد تغيّا من وراء هذا التناص ،التأكيد على أن اخلوارج – على الرغم من تعدُّد
فرقهم – يوحدهم ويؤلف بينهم شيء واحد ،أال وهو هدى اهلل الذي يتمثل يف الدين الصحيح دين
اإلسالم – حسب فهم اجلماعة ملاهيته – هذا الدين الذي يرسم الصراط املستقيم للمؤمنني به ،يف
ضوء كتاب اهلل األعظم القرآن الكريم .باختصار إنه يريد أن يقول إن اخلوارج هم من جيمعهم -
على تعددهم -هدى اهلل ،أما سواهم من اجلماعات الدينية ،فضالون كافرون .
ويعمد الشاعر اخلارجي إىل تطعيم نصوصه بصيغة االستعاذة باهلل الواردة يف القرآن الكريم ،
فقال سبحانه " :وَ ِإذْ قَالَ مُوسَى لِ َقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْ ُمرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَ َقرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا ُهزُوًا قَالَ أَعُوذُ
()144 ومن ذلك قول يزيد بن حبناء : )143(. بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِنيَ "
فالشاعر – هنا – يستعيذ باهلل تعاىل من أي أمر قد يثنيه ،حتت ضغط عشريته ،عن االخنراط
يف اجلهاد اخلارجي ،األمر الذي يقربه من العار ،وقد استلهم الرتكيب القرآني ( أعوذ باهلل ) ،ذلك
أن االستسالم للوم العشرية ،يف اعتقاده ،أمر جلل البدّ من اللجوء إىل اهلل حتى يعينه ويصرفه عن
الوقوع فيه .
كما جند الشاعر اخلارجي يوظّف التناص مع القرآن ،يف سياق التغنّي جبماعته اخلارجية :عبادةً
()145 وتقوىً .يقول عمرو التميمي :
ففي اجلسم منه نهْكَةٌ وشحوبُ معي كلُّ أوّاهٍ برى الصَّومُ جسمَهُ
مُّنِيبٌ "()146 حتيلنا املفردة ( أوّاه ) الساطعة يف صدر البيت إىل قوله تعاىل " :إِنَّ إِ ْبرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ
وهكذا فإن الشاعر يروم من وراء هذا التناص اإلشارة – وإن من طرف خفي – إىل أن أصحابه اخلوارج
هم متامًا كأبي األنبياء إبراهيم – عليه السالم – كثريوا التأوّه من خوف اهلل تعاىل ؛ حتى إنهم -
كما عكست ذلك الصورة االستعارية – قد جعلوا العبادة ممثلة بالصوم سلوكًا يوميًّا ،وهو ما بدا
فيه هذا الصوم مرباة ( آلة الربي ) تربي أجسادهم اليت استحالت بفعله إىل أجساد هزيلة منهكة يهيمن
على وجوه أصحابها الشحوب .بعبارة أكثر وضوحًا ،إن الشاعر يريد أن يقول :إن اخلوارج استثنائيون
يف عبادتهم حتى لكأنهم كاألنبياء من أولي العزم ،والذي يأتي على رأسهم سيدنا إبراهيم .
ومن التوظيف القرآني االستفادة من تركيب (صلوات ااهلل )على العباد املؤمنني الصاحلني ،حيث
()147 ألفينا الشاعر اخلا رجي يوظف ذلك يف سياق رثاء الزوجة احلبيبة .يقول مالك املزموم :
حيث استلهم الشاعر تركيبه الفعلي ( صلّى اإلله ) واملتجلي يف صدر البيت ،من الرتكيب االمسي
ﱮ ﱰ ﱱ
ﱯ ( صلوات اهلل) املاثل يف قوله تعاىل :ﱡﭐ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ
والواضح أنه قد وظّفه يف عالقة جديدة خبالف ما هي احلال عليه يف اآلية ()148 ﱲ ﱳ ﱠ.
الكرمية ،إذ رام من ورائه ،ثناء اهلل ورمحته على زوجته احلبيبة وحدها دون سواها ،الشيء الذي
دلّ على مدى حبه هلا ،وأيضًا مدى حزنه على رحيلها الفاجع .
ويعمد الشاعر اخلارجي إىل توظيف التسبيح ،يف سياق التأكيد على حتمية اآلخرة وأنَّها املآل
ألي إنسان ،وأنَّ اهلل – سبحانه – هو باعث اخللق وهو وحده من سيحاسبهم .يقول قطري بن الفجاءة
مرجتزاً(:)149
ويظهر أنه قد استلهم الصيغة التسبيحية ( سبحان ربي ) من قوله تعاىل :ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ
ﲤﲦﲧﲨﲩ ﲪ
ﲥ ﲘﲙﲚﲛﲜﲝﲞ ﲟﲠﲡﲢﲣ
ﱠ ()150
.استلهمها يف أفق التأمُّل األخروي ،ليؤكد على حتمية اآلخرة وأنَّها حقًّا ﲫﲬﲭﲮ
متثّل احلياة احلقيقية ،ومن ثَمَّ فإنه يتوجب على من يريد الفوز يوم البعث واحلساب ،أن يضمن ذلك
من خالل ولوجه من باب الشهادة يف سبيل اهلل.
وتتجلى حماكاة الشاعر ألسلوب القرآن يف قافية البيت الثالث ممثلة بفعل األمر (ذق) املستوحى
كرِيمُ" ( )152وإذا كان هذا الفعل األمر يف اآلية القرآنية ،هو
من قوله تعاىل " :ذُقْ إ َِّنكَ أَنتَ الْ َعزِيزُ ا ْل َ
خطاب تهكمي توبيخي لألثيم الشقي مبعنى ذق هذا العذاب الذي تعذَّب به اليوم ،إنك أنت العزيز يف
قومك ،الكريم عليهم ،فإن هذا الفعل يف البيت الشعري ،يعكس هول املعركة بني الطرفني :
اخلوارج بقيادة نافع بن األزرق ،وجيش األمويني بقيادة املهلَّب بن أبي صفرة ،غري أن ( ذق ) يف البيت
أيضًا ،تدل على تكافؤ الطرفني يف هذه املعركة من حيث اثخان كل طرف يف اآلخر .واجللي أن
الشاعر قد وظَّف التناص – هنا – لإلحياء بهول املعركة ،وشدتها وعظيم التهابها بني الطرفني ،من
خالل استحضار أجواء جهنم احلمراء ،اليت حترِّك يف أفقها فعل األمر (ذق) املاثل يف اآلية الكرمية.
ويفيد الشاعر اخلارجي من أسلوب القرآن الكريم ،يف سياق لوم النفس وزجرها على استغراقها يف
احلب ،وعشق املرأة ،واتباع هوى النفس ،يف حني أن اخلوارج مل خيلقوا لذلك .يقول مالك املزموم :
() 153
وَأَن أَزجُرَ النَفسَ اللَجوجَ عَنِ اهلَوى أَلَم يَأنِ لي يا قَلبُ أَن أَتركَ الصِبا
فالشاعر – هنا – قد استقى الصيغة االستف هامية القرآنية ( أمل يأن ) واملشحونة باالستنكار
والعتاب واللوم ،استقاها من قوله تعاىل " :ﭐﱡﭐ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ
ﲹﲻﲼﲽ
ﲺ ﲪﲫﲬﲭﲮﲯﲰﲱﲲﲳﲴ ﲵﲶﲷﲸ
ﱠ "()154 ﲾ
نقول استقاها مبحموالتها وتوابعها وامتداداتها ،كيما يعزِّز من قيمة مقوله الشعري ،أسلوبيًّا
ودالليَّا.
ويوظف األسلوب القرآني عند املقارنة بني البطل اخلارجي عاشق السيف وغريه ممثلُا بعاشق األكل
()155 .يقول شاعر جمهول منهم :
فاملالحظ أن الشاعر قد وظّف األسلوب القرآني عند املقارنة بني شيئني متباينني متام التباين ،وقد
جتلّى هذا يف غري آية قرآنية لعلَّ أبرزها قوله تعاىل " :قُل لَّا يَسْ َتوِي الْخَبِيثُ وَالط َِّّيبُ وَ َلوْ أَعْجَ َبكَ كَ ْثرَةُ
وقوله تعاىل :ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ()156 الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعََّلكُمْ تُفْلِحُونَ"
وقوله تعاىل أيضاً :ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱠ "()157 ﱲﱴﱵﱶﱷﱸ
ﱳ ﱱ
وغاية الشاعر من هذا االستلهام ،منح أسلوبه قوة بالغية وإبالغية معًا ،ولك عند عقد املقارنة
بني السلوك الفعلي ألي خارجي ،وسلوك غريه من الناس .
ومن أساليب القرآن اليت استقاها الشاعر اخلارجي – على سبيل التناص – صيغة ( كل جبّار
)159( : عنيد ) ،وذلك يف سياق الذم .يقول الصحاري بن شبيب
وهذه الصيغة أو السبيكة القرآنية تتجلّى يف القرآن الكريم يف آيتني :األوىل تتمثل يف قوله تعاىل
صوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَ ْمرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ "()160وألخرية تتمثل يف قوله
" :وَتِ ْلكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَ َ
عَنِيدٍ")161(. تعاىل " :وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ
والشاعر اخلارجي قد حاكى طريقة القرآن – هنا -موظّفًا هذه الصيغة ،ودافعه ورودها يف
القرآن مبا هي منزرعة يف سياق إهالك عاد والظاملني املكذبني لرسل اهلل ،وكأني بالشاعر – ها هنا
– يشري إىل أن مصري الوالي ( خالد بن عبداهلل القسري ) كمصري عاد وكل ظامل ،كيف ال ،وقد
قتل ظلمًا أحد اخلوارج الصفرية ،لذا فقد عزم – الشاعر – على قتل القسري انتقامًا لصاحبه.
ويتناص الشاعر اخلارجي مع القرآن ،مستنريًا من أسلوبه األثري يف أفق حديثه عن بطوالته
()162 وأصحابه يف مقارعة األعداء .يقول حبيب اهلاللي :
ما ترى منهنَّ إال احلدقـ ـ ـ ــا وشَ ِهدْتُ اخليلَ يف ملمومةٍ
من جنيع املوتِ كأسًا دهقا ي ــتساقون بأطرافِ القن ـ ـا
ال حنتاج إىل كبري تأمل – ها هنا -إلدراك السبيكة القرآنية ؛ إذ نراها ساطعة يف نهاية البيت
()163 الثاني ممثلة يف ( كأسا دهقا ) ،واليت ارتشفت من قوله تعاىل " :وَكَأْسًا دِهَاقًا " .
بيد أن التوظيف األسلوبي – هنا – قد اختذ شكل عالقة جديدة ؛ على معنى أنه مغاير ملا ورد
يف القرآن ،ذلك أن السياق القرآني يتعلق باألشياء اليت أعدها اهلل للمتقني يف اجلنة ،واليت منها
الكأس الدهاق ،أي املرتعة املليئة من مخر اجلنة ،يف حني أن التوظيف يف البيت يقصد به الكأس
املليئة من جنيع املوت وشتان بني احلالة القرآنية ،وهذه احلالة ،حيث طالعنا البيتان الشعريان بلوحة
قتالية توجها التناص القرآني ،حيث يسقي اخلوارج ،وهم على خيوهلم يف كتيبة متماسكة أشدَّ
التماسك ،يسقون وجيرِّعون أعداءهم يف معركة حامية الوطيس املوت إىل درجة غابت معها أجساد
( )162جعر الخوارج ،ص .213المرمومي :ال ويلي ال ثمفي .القنا :الرماح .
اخل يول ،وما عادت تُرى إال حدقات عيونها ،كناية عن هول املعركة وعظيم عنفوانها ،نقول بكلمات
حامسة :يسقونهم وجيرِّعونهم كؤوسًا مملوءة باملوت الزؤام .
وهكذا ،فإن الشاعر اخلارجي – يف ضوء ما تقدم – قد أفاد من القرآن الكريم وأساليبه
وطرائقه يف عرض داللته ومعاني ه ،فألفينا هذا الشاعر اخلارجي أو ذاك ،يوظّف هذه األساليب على
حنو متوافق ومنسجم مع أغراضه ومراميه ،وبذلك فقد استطاع أن يوصل رسالته الشعرية للمتلقني أميا
توصيل.
اخلامتة :
وبعدُ ،فقد انتهى البحث إىل عدة نتائج ومالحظات ،بوسعنا سرد أبرزها على النحو التالي :
)1يزخر شعر اخلوارج بالتناص القرآني على حنو شديد الوضوح ،األمر الذي يدل على تشرُّب الشعراء
اخلوارج بالقرآن الكريم وتعمقهم آلياته ونصوصه ،وهو ما ميكن معه القول إن القرآن الكريم
يشكِّل املصدر األساسي لثقافة الشعراء اخلوارج ،حتى لنكاد نقول إن جُلَّ أفكارهم بل
ومشاعرها مستمدَّة منه .
)2كشف التناص القرآني يف شعر اخلوارج ،عن طبيعة عقيدتهم ،وهمومهم ،وأفكارهم اليت
كافحوا ألجلها ونذرو أنفسهم هلا كفكرة احلاكمية هلل ،وعشق االستشهاد واملوت ....إخل.
)3مل يوظِّف الشعراء اخلوارج القرآن يف شعرهم بوصفه ميثل مرجعية دينية وشعرية ذات بعد معنوي
فحسب ،وإمنا بوصفه جزءًا أصيلًا من البنية الداللية للخطاب الشعري اخلارجي ،مبعنى أنه مرتبط
عضويًّا ،وبنيويًّا ،ودالليًّا بهذا اخلطاب .
)4امتصَّ الشاعر اخلارجي اآليات والنصوص القرآنية يف أفق سياقات شعرية وفكرية ونفسية تتجاوب
مع أنفاس شاعريته املتمحورة حول قضيته اخلارجية .
)5وظَّف الشعراء اخلوارج التناص القرآني بغية تكثيف املعاني والدالالت وتقويتها وتعميقها خاصة يف
أفق احلجاج مع الفرق الدينية األخرى .
)6يدور التناص القرآني يف شعر اخلوارج – يف أغلبه – يف حيّز التجلِّي ال اخلفاء ؛ أي أن تناصاتهم مع
اآليات القرآنية متثل – يف معظمها -بوابة إىل املضمون.
)7يكشف التناص القرآني يف شعر اخلوارج عن تصرُّف وحتوير خلَّاقني بل وعن وعي شديد من الشاعر
اخلارجي بالنصني املتعالقني ،مبعنى أن استدعاء النص القرآني واستحضاره مل يكن قائمًا على
االس تشهاد فحسب ،وإمنا مت التصرُّف به وحتويره خلدمة املعنى املراد واملشتهى.
)8اختذ التناص القرآني يف شعر اخلوارج أشكاالً متعددة :تناص استشهادي اقتباسي ،وتناص إحالي
،وتناص تلميحي إشاري ،وتناص أسلوبي.
)9كشف البحث عن ثورية اخلوارج وزهدهم ومدى إكبار الشاعر اخلارجي لإلنسان اخلارجي إمجاالً
إىل درجة بدا فيها هذا اإلنسان منوذجًا استثنائيًا ملن يقدِّم حياته سعيدًا يف سبيل عقيدته ،ذلك أن
املوت لديه يعدُّ معادلًا موضوعيًا للحياة األبدية يف اآلخرة.
)10أظهر التناص القرآني يف شعر اخلوارج مدى حرص الشاعر اخلارجي على إبراز مناقب اجلماعة
اخلارجية وأبطاهلا وتضحياتها يف أفق قرآني ،بهدف إظهارهم اجلماعة املؤمنة اليت متتلك احلقيقة
الدينية يف مقابل اجلماعات األخرى املضادَّة.