Professional Documents
Culture Documents
بحث الشيخ العابدين بن حنفية
بحث الشيخ العابدين بن حنفية
- 1احلمد هلل محدا كثريا طيبا مباركا فيه ،والصالة والسالم على عبده ورسوله ،وصفوته من خلقه ،حممد بن عبد اهلل ،وعلى
آله وصحبه ومن وااله .
اما بعد :فإن من املسائل الشرعية اليت كثر فيها االختالف وانتشر ،وحتدث فيها من علم وجهل ،ومن هب ودب؛ اعتماد تقومي
الفلكيني يف وقت صالة الفجر خباصة ،فان بعض اهل العلم قرر أن تقوميهم متقدم على طلوع الفجر ،ألنه راقبه فألفاه ال يتبني
إال بعد مدة اختلف الناس فيها ،فقال بعضهم هي عشر دقائق ،ووصل بعضهم هبا إىل أربعني دقيقة .
ومن العجب أن يقول هذا بعض الفلكيني يف بلدنا منذ أيام ،ويقرره بعض علماء الشام ،وهو قول غري صحيح بل هو متناقض
مضطرب بالنسبة للفلكيني ،بل ولغريهم كما سيتبني لك إن شاء اهلل .
ومساجدنا تعيش آثار هذا االختالف ،منذ أكثر من عشرين عاما ،إذ غدا أذان صالة الفجر ال يدل على دخول وقت الصالة
بالفعل عند معظم الناس يف صالة الصبح النه يعتمد فيه على تقومي الفلكيني ،وهو خمالف للواقع كما يظن القائلون ،واملقلدون،
والتقليد ليس علما ،وكنا نسأل عن حكم هذا األذان الذي يتقدم على الوقت فيؤدي إىل تضليل الناس يف أهم ركن بعد
الشهادتني ،هل جيوز أو ال جيوز ؟ .
وقد بلغ األمر باجلهة اليت يرجع إليها البت يف هذه الشعرية أن اعترب بعض املسؤولني فيها االعتماد على هذه اجلداول دليال على
الوفاء للوطن وحمبته!! ~،وخمالفتها قرينة على االرتباط جبهات خارجية ،ولك أن تقول هو دليل عندهم على كراهته !! ~،وقد قيل
هذا يف أمور أخرى أيضا .
وأعرف واهلل من كان يستأين بالصالة بعد األذان ثالثني دقيقة أو أزيد ،مث تغري (والؤه) فصار يقتصر على أقل من عشر دقائق!!
.
وبعض الناس يصلي راتبة الصبح مباشرة بعد األذان ،وينتظر صالة الفريضة .
وبعضهم يؤخر الراتبة اىل أقصى ما ميكن من التأخري .
وأعرف من يدأب على تأخري الراتبة على الفريضة ،ويصليها يف املسجد باستمرار ،وهذا أشبه ما يكون بالبدعة ،وألنه يضلل من
ال يعرف والسيما إذا كان ممن عرف باحملافظة على الصالة .
وأعرف من ترك صالة الصبح يف املساجد رأسا ألنه اقتنع بأن الفجر ال يطلع اال بعد أربعني دقيقة !! ،فحاولت ثنيه عن صنعه،
فأفلحت يف أن أقنعه بالصالة مع اجلماعة،؛مث إعادهتا إن شاء !! ،فحمدت اهلل على هذا اإلجناز .
ويعظم خطر املخالفة للوقت يف زمن الشتاء حسب ظن بعضهم حيث يطالب الناس بتقليص املدة الفاصلة بني األذان واإلقامة
كي يتمكنوا من االلتحاق بأعماهلم ،وتتدخل االدارة لتلزم األئمة هبذا التقليص !! .
وقد سرى هذا االختالف إىل وقت إمساك من أراد الصوم ،فإن من الناس من يأمر أهله أن يعدوا له سحوره بعد أن يؤذن
للصالة ،ويعترب ذلك مطلوبا ألن تأخري السحور فيه من الفضل والربكة ما هو معلوم من األحاديث ،ورمبا فعل ذلك الطالعه
على من خالف من السلف يف هذا األمر ،وهو خالف صار شاذا حيث استقر اإلمجاع على لزوم اإلمساك مىت تبني الفجر .
1
ولو ذهبت أسرد لك ما أعلمه مما حصل لطال األمر فلننصرف إىل غريه .
إن هذا الذي ذكرته من االختالف واالضطراب وتشكيك الناس يف عبادهتم تعرفه هيآت الدولة يف خمتلف مستوياهتا وال أعلم
مع ذلك حماولة لتوضيح األمر وبيان احلق فيه ،فلهذا كتبت هذه األسطر لعلها تكون سببا يف جلب انتباه اهل العلم وطالبه اىل
هذه املسألة ليقولوا فيها ما ينفع الناس ،وينهي هذا النزاع الذي طال ،وال حول وال قوة إال باهلل ~...
- 2أوقات الصالة كلها مرتبطة بالشمس عينا أو أثرا ،فبداية ظهور ضوئها هو وقت صالة الفجر ،وغياب بقية الضوء هو
وقت صالة العشاء ،واختفاء قرصها هو وقت املغرب ،وزواهلا هو وقت الظهر ،وهناية القامة هو وقت صالة العصر .
وقد دل كتاب اهلل على هذه األوقات جمملة ،وجاءت السنة القولية والعملية ببياهنا بداية وهناية .
وأمجع آية أشري فيها إىل أوقات الصالة قول اهلل تعاىل" :أقم الصالة لدلوك الشمس إىل غسق الليل وقرآن الفجر" ( ،اإلسراء:
،)78وقد نزلت بعد افرتاض الصالة فيتعني أن تشمل كل أوقاهتا ،وكيف يعقل ان ال تشملها وقد أمر فيها النيب صلى اهلل عليه
وآله وسلم بالتنفل؟ .
ووجه مشوهلا الصلوات كلها أن دلوك الشمس ميلها ،وبداية امليل هو زوال الشمس عن كبد السماء ،وهناية امليل غروب
الشمس ،وبينهما العصر ،فهذه ثالثة أوقات ،وغسق الليل ظلمته ،وهو وقت العشاء مبغيب الشفق ،وقرآن الفجر ،هو صالة
الفجر .
ومن ذلك قول اهلل تعاىل" :وأقم الصالة طريف النهار وزلفا من الليل"(إبراهيم ،)114:وطرف النهار األول الفجر ،والثاين
املغرب ،وقيل الظهر والعصر ~،وفيه دليل على اشرتاكهما يف الوقت ،والزلف مجع زلفة كقربة وغرفة ،هي من الزلف مبفتوحتني
مبعىن الدنو والقرب ،ومعناه ساعات من الليل قريبة من النهار ،فيدل على صالة العشاء ،وقيل هي واملغرب ،وقد يرتجح مبعىن
الزلف أن هناية وقت العشاء ثلث الليل ،ألن منتصفه ال يصدق عليه الدنو من النهار ،وقد جاء أنه منتصفه ~،وهو توسعة بذكر
وقتني هلا كالتوسعة يف وقت العصر لصعوبة التحديد على من مل يعرف ظل الزوال ،فذكر هلا يف احلديث عالمتان ،خبالف
غروب الشمس وزواهلا وطلوع الفجر ،فإن عالماهتا سهلة واضحة .
ومن ذلك قول اهلل تعاىل" :فسبحان اهلل حني متسون وحني تصبحون وله احلمد يف السموات واألرض وعشيا وحني تظهرون"
(الروم17~:و ،)18وفيهما داللة على الصلوات اخلمس أيضا ،وهو مأثور عن مالك وغريه .
ومما دل عليه ظاهر هذه اآليات املبادرة بالصالة يف أول الوقت ،فإن الالم يف قوله تعاىل" :لدلوك الشمس" الم التأقيت كما
يقولون ،ودل على ذلك الظرف يف قوله تعاىل" :حني متسون وحني تصبحون" ،كما دلت الغاية يف قوله تعاىل" :إىل غسق
الليل" على أول وقت العشاء ،وهناية وقت املغرب ~،وهذا من بديع اإلجياز .
ودل على هذا أيضا عمومات القرآن اليت فيها األمر باملسارعة إىل اخلريات ،ومدح من يعجل هبا كقوله تعاىل" :سارعوا إىل
مغفرة من ربكم"(آل عمران ،)133:وقوله" :سابقوا إىل مغفرة من ربكم"(احلديد ،)21:وقوله" :إهنم كانوا يسارعون يف
اخلريات"(األنبياء ،)90:وقوله" :وعجلت إليك رب لرتضى"(طه ،)84~:وقول النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم حني سئل أي
األعمال أحب إىل اهلل تعاىل؟ ،فقال" :الصالة على مواقيتها" ،وأخص منه قوله" :الصالة يف أول وقتها"،
2
- 3داللة كتاب اهلل تعاىل على أوقات الصلوات داللة جمملة فسرت بأفعال النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم وأقواله الكثرية،
وميكن الرجوع هبا إىل حديثني فعليني ،أحدمها هو الذي أمه فيه جربيل عليه السالم يومني متوالني بعد افرتاض الصالة ،وقد
رواه أبو داود والرتمذي ،والثاين جاء بيانا للذي سأله عن وقت الصالة فأمره أن يصلي معهم يومني ~،وقد رواه مسلم والرتمذي
عن بريدة .
وإمنا ذكرت هذا ألدلل على ما سبق وهو أن األصل أن تؤدى الصالة يف أول وقتها ،كما يدل عليه قوله صلى اهلل عليه وآله
وسلم يف احلديث األول ،حديث ابن عباس ،وقول الواصف لفعله يف احلديث الثاين وهو بريدة؛ يف بيان هذه األوقات" :حني
زالت الشمس"" ~،حني صار ظله مثله"" ~،حني كان ظله مثليه"" ،حني أفطر الصائم"" ،حني غاب الشفق"" ،حني طلع الفجر"،
فهذا هو أول الوقت ،وال شك أن الناس خيتلفون يف معرفة أول بعض األوقات كالفجر والزوال ،فإن تبني طلوع الفجر خيتلف
بالنسبة لألفراد ألمور سأذكرها فيما بعد إن شاء اهلل ،وبداية الزوال أمر دقيق ال يضبطه إال من رصد حركة الظل قبل الزوال
بوقت ما ،ومن مل يعرف ذلك ال يتأتى له أن يعرف بداية وقت العصر ~،وهلذا جاء يف احلديث بيان طول الظل حني صلى الظهر
بأنه قدر شراك النعل ،وهو السري الذي تشد به ،ويف بعض األحاديث حدد وقت الظهر بدحوض الشمس" :إذا دحضت
الشمس" ،أي زالت .
واملقصود~ أن من علم بدخول الوقت فصالته صحيحة ،وإن مل يظهر ذلك لغريه .
وملا كان وقت الصالة موسعا بني يف احلديثني هناية تلك األوقات يف اليوم الثاين على هذا الرتتيب" :حني كان ظله مثله"" ،حني
كان ظله مثليه"" ،قبل أن يغيب الشفق" " ،إىل ثلث الليل"" ،وصلى الفجر فأسفر".
وال بأس أن أخص صالة الفجر بشيء من التفصيل ألن هذا إمنا كتبته من أجلها ،فأذكر قول النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم:
"إن بالال يؤذن بليل فكلوا واشربوا حىت يؤذن ابن أم مكتوم ،قال :ومل يكن بينهما إال أن ينزل هذا ويرقى هذا" ،رواه مسلم
عن ابن عمر رضي اهلل عنهما .
الحظ قوله عن بالل" :يؤذن بليل" ،وهذه حقيقة ،ألهنا األصل ال جماز ،مث قول ابن عمر عن الفارق الزمين بني وقت أذانه وأذان
ابن أم مكتوم:" :ومل يكن بينهما ...اخل .
وقد جاء يف رواية البخاري هلذا احلديث" :وكان رجال أعمى ال ينادي حىت يقال له" :أصبحت ،أصبحت" ،أي دخلت يف
الصباح ،ويف هذا مع الذي قبله داللة واضحة على أن أذانه كان أول الوقت ،وأن الصحابة كانوا يرصدون ظهور أول ضوء
الفجر ،والناس ال يستوون يف ذلك كما سبق ،وال أحسب أن وسائل الرصد يف هذا األمر توقيفية ،ومن قال بذلك تناقض ألنه
ال يطرد قاعدته ،وليس حتديد أوائل الشهور وأواخرها من هذا القبيل للدليل اخلاص .
وإذا استقام هذا وهو مستقيم إن شاء اهلل فإين أتساءل عن مقدار الفارق الزمين بني األذانني حبسب ما ذكره ابن عمر ،ال شك
أنه فارق يسري ،ألهنما كانا يؤذنان يف موضع واحد ،ومل تكن هناك صومعة يقضى يف صعودها والنزول منها وقت كبري،
وستقف على كالم احلافظ العسقالين الذي يؤيد هذا الظاهر ،وهو أن األذان يف عهد النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم كان عند
أول بزوغ ضوء الفجر ،واحلافظ ابن حجر أعظم األمة حفظا واستحضارا للروايات والطرق واختالف ألفاظ احلديث ،ومن
كان كذلك كان أعلم باألحكام من غريه .
3
وال يصح أن يعرتض على هذا بلفظ التبني يف قول اهلل تعاىل" :وكلوا واشربوا حىت يتبني لكم اخليط األبيض من اخليط األسود
من الفجر"البقرة ( ،)186حيث جعل اهلل تعاىل التبني غاية حلل األكل والشرب ممن يريد الصوم ،فإنه من التيسري والسعة ورفع
احلرج الذي طبع هذا الدين ،ويقال عنه ما سبق من أن الناس خيتلفون يف ذلك ،لكن ال يصح أن يعمل كل أحد على تبينه هو،
وإال الخنرم النظام ،وصلى كل أحد يف الوقت الذي يراه ،وأمسك كما يرى ،لكن إذا انفرد املرء عن الناس فإن األمر يرجع إىل
تبينه هو .الصالة ال يقدم املرء عليها إال إذا تأكد أن وقتها قد دخل ،لقول اهلل تعاىل" :إن الصالة كانت على املؤمنني كتابا
موقوتا"(النساء ،)103:وإذا صلى شاكا يف دخول الوقت كانت باطلة ،ولو وقعت فيه .
وقد راقبت طلوع الفجر مرات عدة ،ومنها يف صيف ،1428وقارنته باجلدول الذي يعده الفلكيون ،فألفيته يتأخر عنه بنحو
عشر دقائق فيما ظهر يل ،وأعدت ذلك يف شهر رمضان من هذا العام ( ،)1438وكان معي غريي ،فكان الفارق كاألول ،مع
أن املنطقة اليت راقبنا الفجر فيها هبا أضواء اصطناعية يف املوضع الذي يبزغ فيه الفجر ،وهو مرتفع شيئا ما عما جاوره ،مما يعين
أن ذلك الفارق يقل لو كان املوضع مستويا .
ويشتد عجبك من أن الناس كلهم يعتمدون على حساب الفلكيني يف كل األوقات إال وقت الفجر ،فإهنم خيالفوهنم فيه،
ويقولون إهنم مل يتبينوه ،مع أن حساب الفلكيني واحد ،يعتمدون فيه على حركة الشمس ،ودوران األرض حوهلا ،وقد علمت
أن أوقات الصالة كلها مرتبطة هبا .
لو كان صحيحا أن الوقت الذي يعينه الفلكيون متقدما على الفجر هبذا الذي اختلفوا فيه النعكس ذلك على بقية األوقات،
فيكون طلوع الشمس ووقت الظهر والعصر وغروب الشمس ومغيب الشفق كل منها متقدما ب 40دقيقة أو بعشرين ،أو غري
ذلك .
لكن مقارنة هذه األوقات مبا يف تلك اجلداول يبني موافقتها للواقع ،فأين اخللل إذن؟ ،أهو يف هذه الدعاوى اليت كثرت أم يف
حساب الفلكيني ؟ .
من ذا الذي يقول إن طلوع الشمس أو غروهبا أو زواهلا يتأخر عما يف تلك اجلداول بذلك القدر؟ ،ال أحد يقول هبذا إال يف
الفجر
وليس صحيحا أن وقت الفجر عندهم يكون عند الفجر الكاذب ،ألنه لو كان كذلك ملا كانت بقية األوقات موافقة للواقع
ألن النهار ال يبتدئ من ذلك الفجر .
فإن أردت أن تعرف السبب الذي جعل صالة الفجر ختتص هبذا التشكيك يف وقتها؛ فإين ذاكر لك أن الفلكيني يرصدون
بتقوميهم طلوع الفجر يف أول بزوغه ،وال يكاد يراه إال قليل من الناس حينئذ .
وهذا غري منكور يف الشرع ،بدليل اختالف الناس يف التبني كما سبق ،وقد مر بك شيء من هذا حني ذكرت لك رصد
الصحابة للفجر ،وسأعود إليه بعد إن شاء اهلل .
وليعلم أن أول بزوغ الفجر يرى يف املوضع الذي تكون الشمس فيه حتت األفق ،وهو غري موضع طلوعها ،مث يقوى الضوء يف
ذلك املوضع ،فيكون ارتفاعه فيه عن األفق أكثر من غريه ،ويأخذ يف االنتشار إىل ميني تلك النقطة الضوئية ويسارها ،إىل أن
يتبني الفجر لعموم الناس .
4
لكن الناس يتفاوتون يف تبينه حبسب تفاوت أبصارهم يف القوة ،وحبسب معرفتهم مبوضع بزوغ الفجر الذي يتبع موضع الشمس
حتت األفق ،وهو قريب من تبعية اهلالل هلا ليلة أول الشهر .
وموضع بزوغ الفجر يف فصل الصيف مثال يف جهة وهران وبلعباس ومعسكر ومستغامن وحنوها يكون يف الشمال الشرقي،
خبالف الربيع واخلريف فإنه يكون يف الشرق ،ومن ال يعرف هذا فإنه يلتمس الفجر يف غري موضع طلوعه ،فيقرر أنه مل يطلع .
وينضاف إىل هذا ما قد يكون بني الرائي واألفق من األضواء االصطناعية ،وللفرق يف التبني بني الليايل املقمرة وغري املقمرة،
واالرتفاع واالخنفاض ،وغري ذلك .
ومرد مغاالة بعض الناس يف القول بالتأخري ظنهم أهنم إن مل يشاهدوا ضوء الفجر فهو مل يطلع ،مع أن األفق حيجبه عنهم ما
ذكرناه من قبل غالبا ،فال يكادون يتبينونه حىت يبلغ سلخ النهار الليل فوق رؤوسهم ،وهو ال يبلغ ذلك املستوى إال بعد حنو
نصف الساعة .
وهلذا فنحن ال نكذب الفلكيني يف ضبطهم هلذه املواقيت للتناقض الذي نقع فيه ،وألننا علمنا موافقتهم للواقع يف طلوع الشمس
وغروهبا وزواهلا ،وألن اهلل ذم الكفار بقوله" :بل كذبوا مبا مل حييطوا بعلمه"(يونس. )39~:
لكنين أنبه إىل أن ما ألزم به بعض العلماء ومنهم الشيخ حممد رشيد رضا يف تفسريه ألزم الذين يعتمدون على الفلكيني يف
موقيت الصالة بأنه يلزمهم االعتماد عليهم يف إثبات اهلالل ،وذكر قول اهلل تعاىل" :أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون
ببعض"(البقرة. )85:
أقول إن هذا غري الزم هلم لورود النص فيه خبصوصه ،فإن قول النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم" :حنن أمة أمية ال نكتب وال
حنسب ...احلديث خاص بالسياق ،وهو إثبات األهلة ،وليس صحيحا أن اخلطاب فيه ألصحابه وحدهم ،وقد كان يغلب
عليهم عدم معرفة القراءة والكتابة ،وهو ما ذهب إليه احلافظ ابن حجر ،فإن األصل عموم خطابه ألمته مجيعا ،وألن الزم هذا
أن يقال باالعتماد على هذا العلم مىت مهر فيه املسلمون .
وأنبه إىل أن عدم مطابقة حساب الفلكيني للواقع أحيانا يأيت من كوهنم ال يضعون يف حساهبم خصائص تضاريس اجلهات من
االرتفاع أو االخنفاض عن السطح العام ،أو عن مستوى سطح البحر إن كان هو مرجع قاعدة حساهبم ،فهذا منشأ اخلطإ
احملتمل .
لكن هذا ال يتجاوز يف الغالب الدقيقة اىل الثالث تقدميا أو تأخريا ،وأحسب أن هذا األمر ممكن التدارك بالنظر إىل تقدم وسائل
ضبط املواقع .
-5آخر ما جرى احلديث عنه فيما سبق من هذه الكلمات هو أن الفلكيني يرصدون الفجر يف أول بزوغه ،وأن تبينه ال يتأتى
ملعظم الناس حينئذ ،وبناء على ذلك حصل هذا االختالف يف الفارق الذي بني تقوميهم وبني ما يرتاءى للناظرين .
وقد حصل التأكد من صحة تقوميهم يف طلوع الشمس وزواهلا وغروهبا ،وهو قرينة على صحة تقوميهم ،إذ إن ذلك الفارق
املختلف فيه لو كان صحيحا النعكس على بقية األوقات ،وأنا ال أتكلم إال على التقومي الذي أتعامل معه منذ عقود يف بلدي .
واملستيقن أن من ضبط وقتا من أوقات الصالة يف يوم معني من العام الشمسي يف موضع حمدد من األرض مل حيصل فيه حتول؛
5
فإن ذلك الوقت ال يتغري فيما يأيت من السنوات ،وما يقال من ميالن حمور األرض فإنه طفيف ال يظهر أثره إال يف قرون،
ويؤكد هذا أن مواقيت جداول الفلكيني ثابتة إال مما قد يدخل عليها من التصحيح الطفيف لألخطاء الناشئة عما سبقت اإلشارة
إليه .
بعد هذا فليعلم أن أحكام الشرع وتقديراته يف الزمان واملكان والصفات يكون املطلوب فيها التحديد والضبط ،مىت كان ذلك
متيسرا ،وهو األصل ،والتقريب والتغليب مىت كان التحديد متعسرا ،وهذا من يسر هذه الشريعة ومساحتها ،وكوهنا أمية كما
وصفها به بعض أهل العلم .
فمثال إذا كان املرء حبيث يرى الشمس فإن غروهبا حد النتهاء النهار فيفطر ويصلي ،وقد حصل هذا للنيب صلى اهلل عليه وآله
وسلم يف بعض أسفاره ،إذ أمر من كان معه أن جيدح هلم فراجعه ثالث مرات ألنه كان يظن أن النهار ما زال قائما ،فبني له
النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم ذلك ،وهذا فيه دليل على أنه ال يلزم الصائم أن ميسك جزءا من الليل لتمكنه من عالمة هي
يقني ،خبالف من مل يكن يف مثل هذه احلال ،وشروق الشمس من هذا القسم أيضا .
وهكذا من كان حبيث يرى الكعبة فإن املطلوب منه استقبال عينها وال بد ،خبالف من مل يكن كذلك فإن املطلوب منه استقبال
شطرها كما قال اهلل تعاىل" :ومن حيث خرجت فول وجهك شطر املسجد احلرام"( . )148
وإمعانا يف هذا التقريب والتيسري جاء قول النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم" :ما بني املشرق واملغرب قبلة" ،وهذا فيمن كانت
الكعبة تقع منه إىل جهة اجلنوب.
ومن القسم الثاين هناية وقت العشاء فإنه ملا كان التحديد بالثلث عسريا جاءت التوسعة بذكر منتصف الليل ،وقريب منه بداية
وقت العصر .
والغرض من إيراد هذا أن نتساءل عن األمور اليت اعتمد الشرع فيها على التقريب؛ هل جيوز أن يعتمد فيها على التحديد
والتدقيق مىت كان ذلك متيسرا؟ ،الظاهر أنه ال مانع منه ،ألنه هو األصل .
ومن األمثلة على ذلك أن غسل الوجه واجب يف الوضوء ،وهذا ال يتيسر يف الغالب إال بغسل جزء من الرأس ،وهو احملاذي
للوجه ،ويقال هذا يف غسل اليدين إىل املرفقني ،والرجلني إىل الكعبني ،فإن اإلتيان بالواجب متوقف يف الغالب على غسل غريه
مما جاوره ،فلو أن امرأ متكن من االقتصار على الواجب فإنه ال يالم ألنه األصل ،ويقال هذا يف التوجه شطر املسجد احلرام ،فإن
من اعتمد على ما يدله على استقبال عني الكعبة كالبوصلة ،فقد يسر اهلل له أن يفعل األصل ،ورصد األوقات يف أوهلا ومنها
الفجر من هذا القبيل ،ال فرق بني أن يكون حبساب الفلكيني ،أو بتحري األفراد العاديني .
ومما يؤيد هذا الذي قلته ما سبق يف حديث ابن عمر يف الفارق بني أذاين بالل وابن أم مكتوم رضي اهلل عنهما ،فإنه فارق ضئيل
كما سبق بيانه ،مع أن األول كان يؤذن بليل كما هو نص احلديث .
قال احلافظ رمحه اهلل بعد أن بني ما يف هذه املسألة من اإلشكال الكبري ،وهو قول الراوي عن ابن أم مكتوم" :وكان رجال
أعمى ال ينادي حىت يقال له أصبحت أصبحت" ~،ووجه اإلشكال عنده ما يلزم من ذلك من خمالفة اإلمجاع على عدم جواز
األكل وغريه من املفطرات بعد طلوع الفجر ،إال عند من شذ ،واستبعاده ما تأول غريه عليه احلديث من أن معىن "أصبحت"
قاربت الصباح ،قال" :مث ظهر يل أنه ال يلزم من كون املراد من قوهلم أصبحت أي قاربت الصباح؛ وقوع أذانه قبل الفجر،
6
الحتمال أن يكون قوهلم ذلك يقع يف آخر جزء من الليل ،وأذانه يقع يف أول جزء من طلوع الفجر ،وهذا وإن كان مستبعدا
يف العادة ،فليس مبستبعد من مؤذن النيب صلى اهلل عليه وآله وسلم املؤيد باملالئكة ،فال يشاركه فيه من مل يكن بتلك الصفة،
وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن عمر حديثا فيه" :وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فال خيطئه" ،انتهى كالمه ،واملقصود
حتري الصحابة وإخبارهم ابن أم مكتوم بذلك .
وقد يكون يف كالم حافظ األمة ما يتعقب ،وكنت أستغربه منذ أزيد من عشرين عاما ،لكوين أعتقد أن ثبوت األحكام ال يناط
مبثل هذا األمر وإن كنت ال أستكثر حصوله على ذلك العهد الذي ال نظري له ،لكنه مع ذلك حماولة للعمل بالنصوص وطاعتها
مجيعا إذا تعلقت مبسألة واحدة ،مع أن هذا الذي ذهب إليه مؤيد بأحاديث صحيحة تقدم بعضها ،وهو من القوة مبكان ،ودونه
فيها ما جاء عن أم املؤمنني عائشة رضي اهلل عنها" :إن كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء
متلفعات مبروطهن ما يعرفن من الغلس" ،وقد كان يقرأ يف الصبح ما بني الستني إىل املئني ،وقرأ بسورة ق ،وبسورة الطور،
وبسورة املؤمنون ومل يكملها .
أضف إىل ذلك أن قراءته كانت مرتسلة متأنية ،وكان يضطجع إذا صلى راتبة الفجر ،كل هذا يقوي أن أذان الفجر على عهده
كان يف أول وقته كما ذكره احلافظ ،وأن أصحابه كانوا يرصدونه ويتحرونه .
- 6املستخلص :
- 1بني ربنا سبحانه وتعاىل مواقيت الصالة يف كتابه إمجاال ،وفسرهتا السنة القولية والفعلية تفسريا شافيا كافيا .
- 2أما مواقيت الصيام فهي منصوصة يف الكتاب والسنة معا من وقت تبني الفجر إىل غروب الشمس ،واملعول عليه لزوم
اإلمساك بتبني طلوع الفجر ،وما خالفه فشذوذ .
- 3من األوقات ما له عالمة يستيقن هبا دخول الوقت يف أوله ،فمن شاهدها ممن كان مواجها لألفق عمل عليها كطلوع
الشمس وغروهبا .
- 4ومن األوقات ما عالمته خفية يف بدايته فال يراها معظم الناس إال بعد مضي وقت ما ،فيختلف الناس فيها إثباتا ونفيا،
ومن ذلك طلوع الفجر ،وزوال الشمس ،وهناية القامة اليت هي بداية وقت العصر ملن مل يعلم ظل الزوال .
- 5الشرع يعتمد التحديد والتدقيق يف الزمان واملكان وغريمها مما ترتبط به األحكام ،حيث يكون ذلك ميسورا الحرج فيه،
ويعتمد التقريب والتغليب لرفع الكلفة واحلرج .
- 6لكن مهما تيسر للمسلم الوسيلة اليت يتحقق هبا التحديد؛ فإنه ال مانع من اعتمادها ،ألهنا مما يتأدى به األصل ،وهو
الصالة يف أول وقتها ،واإلمساك أو اإلفطار يف أول وقتهما .
- 7إن جداول املواقيت اليت يعدها الفلكيون ال بد منها للمسلمني ،بل هي من األمور الضرورية ألن احملافظة على ركنني من
أركان اإلسالم ومها الصالة والصيام متوقفة عليها ،لتعذر االعتماد على وسائل املعاينة املرتبطة بعني الشمس وظلها وأثرها
بسبب سعة املدن وما حيول دون ذلك من البنيان واألضواء وغريها .
- 8إن ما يف جداول الفلكيني من خمالفة حلقيقة املواقيت مرده كما أراه يف خصوص بلدي إىل أمور:
7
--رصدهم الوقت يف أوله ،وهو أمر خيفى على معظم الناس فيطلقون القول بأن ما يف اجلدول متقدم على الوقت ،مث خيتلفون
يف قدر هذا التقدم كما نراه يف وقت الفجر ،وقد ذكر يل بعضهم قبل أشهر أن وقت الزوال متقدم فرصدته فألفيته موافقا
للوقت الشرعي يف قسم التدقيق ،لكن ذلك يتطلب مالحظة ظل العود الذي ينصبه املراقب عموديا مدة نصف ساعة أو أكثر
قبل منتصف النهار .
--وقد يرجع اخلطأ إىل القاعدة اليت مت على أساسها حساب الوقت ،وهي السطح العام أو مستوى البحر ،من غري أن يوضع
يف احلسبان االرتفاع و االخنفاض عن ذلك املستوى ،وهذا ما استيقناه خبصوص غروب الشمس وطلوعها ،فإهنا تتقدم أحيانا
بنحو الثالث دقائق ،ورمبا تأخرت يف مواضع أخرى بذلك القدر ألسباب خمالفة ألسباب التقدم .
--ومن عرف هذا اخللل فعالجه هو اآليت:
--فعلى افرتاض التقدم قبل الوقت ممن علمه فاألمر واضح ،فال تصح الصالة وال حيرم األكل والشرب أو حيرم حسب أول
النهار أو آخره .
--وعلى افرتاض التأخر عن الوقت ،وهذا نادر ،فيحتاط للصوم باإلمساك استصحابا لألصل اال ملن تيقن دخول الوقت،
فيفطر من تيقن انقضاء النهار وكان منفردا ،وخري له أن يستأين إن كان يف اجلماعة ،وال حرج يف اعتماد ذلك يف وقت الصالة
ألنه موسع .
-- 9وهذا ليس إال حماولة لرتق الفتق ،ورأب الصدع يف التعامل مع هذه الوسيلة الضرورية يف هذا العصر ،وإال فإنه جيب
وجوبا كفائيا مؤكدا على أهل االختصاص من الفقهاء وعلماء الفلك واجلغرافية الطبيعية وغريهم من املسلمني يف البلد الواحد
سواء أضمتهم هيئة أو ال؛ أن يتعانوا على الطرق اليت يتم هبا كتابة املواقيت كتابة صحيحة تزيل هذا اإلشكال الذي استفحل
وطال أمده ،وشكك الناس يف صحة أعظم عبادة عند املسلمني بعد الشهادتني .
بل جيب على اهليآت اليت تعىن هبذا األمر يف العامل اإلسالمي أن تتشاور وتتعاون على إجناز تقومي واحد لكل العامل ال االسالمي
وحده ،فإنه من غري املقبول أن يكون بني تقومي اهليئة الفالنية وتقومي هيئة أخرى فارق نصف الساعة ،بل أكثر يف صالة الفجر
يف املدينة الواحدة .
هذا ما يسر اهلل كتابته ومل أكتب كل ما كنت أريد من التفاصيل لدقة احلروف وعسر الكتابة علي يف هذا اجلهاز ،فما كان فيه
من صواب فمن اهلل وما كان فيه من خطإ فمن نفسي ومن الشيطان ،اللهم لك احلمد وإليك املشتكى وأنت املستعان وبك
املستغاث وعليك التكالن ،وصلى اهلل على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين ،واحلمد هلل رب
العاملني .
كتبه بن حنفية العابدين
عني املانعة /بلدية عني احلجر ،يف 12من شوال ،1438املوافق 6جيولية 2017
8