تصوير الصراع بين الحق والباطل في القرآن الكريم دراسة فنية - الجزء الأول

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 82

‫الفصل الثاني‬

‫ميدان الصراع بين االنسان والشيطان‬

‫المبحث االول ‪ :‬مفهوم الشيطان لغة واصطالحا‬


‫المبحث الثاني ‪ :‬الصراع بين االنسان والشيطان‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬كيفية السيطرة على هذا الصراع‬
‫( الحذر من الشيطان)‬

‫المبحث األول‬
‫الشيطان لغة واصطالحا‬
‫الفرع األول ‪ :‬ـ الشيطان وابليس لغة ‪ :‬اختلف في معنى‬
‫الشيطان من ناحية اللغة بناءا على االختالف في اشتقاقه وأصالة النون‬
‫في بناءه ‪ ،‬فقال قوم إنه مشتق من (شطن ) بمعنى بعد عن الحق فهو‬
‫من شطنه يشطنه شطنا إذا خالفه عن وجهته ونيته@ وشطت الدار بعدت‬
‫والشاطن الخبيث وتشيطن الرجل إذا صار كالشيطان وفعل فعله ومنه‬
‫الشيطنة@ التي هي مرتبة@ كلية عامة لمظاهر اإلسم المضل ‪ ،‬وعلى هذا‬

‫‪276‬‬
‫االشتقاق تكون كلمة شيطان على وزن ( فيعال ) والنون فيه أصلية(‪.)1‬‬
‫وقال قوم آخرون إن الشيطان مأخوذ من الفعل ( شاط ) بمعنى احترق‬
‫من الغضب فهو من شاط يشيط وتشيط إذا لفحته النار فاحترق أو هلك‬
‫مثل هيمان وغيمان من هام وغام وعلى هذا االشتقاق يكون على وزن‬
‫فعالن والنون فيه زائدة(‪ .)2‬والقول األول هو األرجح أي اشتقاقه من‬
‫( شطن ) وذلك ألنها أقرب الى وصف أعمال الشيطان التي تهدف إلى‬
‫إبعاد الناس عن عمل الخير واتباع الحق ( ألن اشتقاق الشيطان من‬
‫شطن بمعنى بعد عن الخير ومال عن الحق أقرب الى الحقيقة من‬
‫اشتقاقه من شاط بمعنى احترق ذلك أن عمل الشيطان هو ابعاد الناس‬
‫عن الحق والذي يبعد الناس عن الحق والخير يكون هو بعيدا عنه ) (‪.)3‬‬
‫والبد ونحن بصدد تعريف الشيطان من ناحية اللغة أن نقف على‬
‫تعريف ابليس من ناحية اللغة أيضا ذلك ان بعض الناس يتصور ان‬
‫ابليس والشيطان بمعنى واحد فوجب التمييز من ناحية اللغة ‪ ،‬ذهب قوم‬
‫من أهل الغة الى أن إبليس@ مشتق من أبلس الرجل إذا انقطع ولم تكن‬
‫له حجة وأبلس الرجل قطع به وأبلس@ أيضا سكت وأبلس من رحمة هللا‬
‫يئس واإلبالس@ الحزن المعترض من شدة البأس وقد استخدم العرب هذه‬
‫المعاني فقالوا ناقة مبالس إذا كانت ال ترغوا من الخوف وفالن أبلس‬
‫إذا سكت من شدة الخوف(‪.)4‬‬
‫والقرآن الكريم استخدم هذه المعاني اللغوية@ لكلمة أبلس ‪ ،‬فقال‬

‫) ينظر قاموس العين ـ الفراهيدي ج‪ 6‬ص ‪ ، 236‬واساس البالغة ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ، 329‬القاموس المحيط ج‪ 1‬ص‪ ، 870‬والمصباح المنير ج‪ 1‬ص‪، 313‬‬


‫والمعجم الوسيط ج‪ 1‬ص ‪ ، 483‬وتهذيب اللغة ج‪ 11‬ص‪ ، 213‬وجمهرة‬
‫اللغة ج‪ 2‬ص ‪ ، 867‬ومختار الصحاح ص ‪.142‬‬
‫) ينظر مقاييس اللغة ج‪ 3‬ص ‪ 184‬ـ ‪ ، 185‬ولسان@ العرب ج‪ 17‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ، 105‬والمفردات@ ـ الراغب االصفهاني ص ‪.261‬‬


‫) التطور الداللي@ بين لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن ـ د‪ .‬عودة خليل ابو‬ ‫‪3‬‬

‫عودة ـ مكتبة المنار ـ االردن@ ص ‪.478‬‬


‫) ينظر مقاييس اللغة ج‪ 1‬ص ‪ 299‬ـ ‪ ، 300‬والمفردات@ ـ الراغب‬ ‫‪4‬‬

‫االصفهاني ص ‪ ، 60‬وينظر التبيان في تفسير غريب القرآن ـ شهاب الدين‬


‫أحمد بن محمد الهائم المصري ـ دار الصحابة للطباعة ط‪ 1992 1‬م ج‪1‬‬
‫ص ‪.76‬‬

‫‪277‬‬
‫ون }(‪ )1‬وقال تعالى {فَلَ َّما نَس ْ‬
‫ُوا َما‬ ‫تعالى { َويَ ْو َم تَقُو ُم السَّا َعةُ يُ ْبلِسُ ْال ُمجْ ِر ُم َ‬
‫ُوا بِ َما أُوتُ ْ‬
‫وا أَ َخ ْذنَاهُم بَ ْغتَةً‬ ‫اب ُكلِّ َش ْي ٍء َحتَّى إِ َذا فَ ِرح ْ‬ ‫ُوا بِ ِه فَتَحْ نَا َعلَ ْي ِه ْم أَب َْو َ‬
‫ُذ ِّكر ْ‬
‫ُون }(‪ . )2‬وذهب قوم آخرون الى أن ابليس@ اسم أعجمي‬ ‫فَإِ َذا هُم ُّم ْبلِس َ‬
‫األصل ممنوع من الصرف(‪ . )3‬وذهب بعض الدارسين الى أنها كلمة‬
‫يونانية األصل هي ( ديا بولس ) جرى عليها بعض التغيير والتحريف‬
‫حتى صارت كذلك(‪ . )4‬أقول على الرغم من ذلك فإنها كلمة عربية‬
‫االشتقاق والقرآن الكريم كما أشرنا آنفا قد استعملها بهذا االشتقاق‬
‫اللغوي والقول بأنها ليست عربية تمحل في غير محله ودعوى ال دليل‬
‫عليها فنقول إنها عربية االشتقاق وأنها مشتقة من أبلس الرجل إذا‬
‫انقطع‪ .‬إذن هذا معنى الشيطان وإبليس من ناحية اللغة واآلن نحاول أن‬
‫نعرفهما من ناحية االصطالح ‪.‬‬
‫الفرع الثاني ‪ :‬ـ الشيطان وابليس اصطالحا ‪:‬‬
‫يطلق@ الشيطان من ناحية االصطالح على كل متمرد من الجن‬
‫واالنس والدواب(‪ .)5‬فبناءا على هذا التعريف يصبح مفهوم الشيطان‬
‫صفة يمكن أن يتصف بها أي أمرئ يسلك طريق الشر والشيطنة@ فكثير‬
‫من الناس نراهم ويروننا نعاملهم ويعاملوننا هم في ظاهرهم من اإلنس‬
‫ولكنهم في حقيقة األمر تصرفاتهم وأفكارهم ومكائدهم وأخالقهم‬
‫يكونون من مردة الشياطين الذين قد يعجز عن مكائدهم وحبائلهم إبليس‬
‫نفسه ‪ .‬أما ابليس@ فهو علم على مخلوق خلقه هللا عزوجل من النار‬
‫وجعله في عداد المالئكة وقام بعمله ما شاء هللا أن يقوم ثم نازع ربه‬
‫الكبرياء والعظمة فاستكبر عن طاعته وعصى ربه فطرده من رحمته‬

‫) الروم ‪.12 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) األنعام ‪.44 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر القاموس المحيط ج‪ 1‬ص ‪ ، 687‬والمعجم الوسيط ج‪ 1‬ص‪، 3‬‬ ‫‪3‬‬

‫والمفردات ـ االصفهاني ص‪.60‬‬


‫) ينظر ابليس ـ عباس محمود العقاد ـ نشر المكتبة العصرية ـ صيدا ـ‬ ‫‪4‬‬

‫بيروت ـ ص‪.47‬‬
‫) ينظر المفردات ‪ ،‬االصفهاني ص‪ ، 261‬وينظر روح المعاني ـ االلوسي@‬ ‫‪5‬‬

‫ج‪ 1‬ص‪ ، 157‬وقد نسب اآللوسي@ هذا التعريف البن عباس ( رضي هللا‬
‫عنهما )‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫ومن وظيفته@ فهبط الى األرض وأصبحت الشيطنة صفة له(‪.)1‬‬
‫وإبليس@ له ذرية بصريح القرآن الكريم قال تعالى { أَفَتَتَّ ِخ ُذونَهُ‬
‫َو ُذرِّ يَّتَهُ أَ ْولِيَاء ِمن ُدونِي }(‪ .)2‬فابليس من الجن المخلوقين من نار السموم‬
‫وانه ليرانا هو وقبيله من حيث ال نراهم‪ .‬وقد فسق عن أمر ربه وهو‬
‫رأس الشياطين والمتمرد وجمعه أباليس وأبالسة(‪ . )3‬إذن ابليس@ هو‬
‫االسم العلم لهذا المخلوق المتمرد والشيطان صفة له ولغيره‪ .‬بقيت‬
‫قضية مهمة هي إن هناك نصوص ذكرت أن ابليس من المالئكة كقوله‬
‫يس أَبَى }(‪ )4‬ونصوص‬ ‫تعالى { َوإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم فَ َس َج ُدوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫{وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم‬
‫أخرى ذكرت أنه من الجن كقوله تعالى َ‬
‫ان ِم َن ْال ِجنِّ فَفَ َس َق َع ْن أَ ْم ِر َربِّ ِه }(‪ .)5‬فكيف يكون ابليس@‬ ‫يس َك َ‬ ‫فَ َس َج ُدوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫من المالئكة ومن الجن في الوقت نفسه؟ وما العالقة بينه@ وبين‬
‫الشيطان؟ أقول إن ابليس من المالئكة إذ أمر بالسجود معهم وهو من‬
‫الجن بنص القرآن الكريم ‪ .‬وليس في األمر غرابة عندما نعلم أن ابليس@‬
‫كان في المالئكة وليس من جنسهم بل هو من الجن وهم جنس من‬
‫الخلق خلقه هللا من نار ‪ ،‬وخلق المالئكة من نور فأبليس من المالئكة‬
‫بطاعته وعبادته في البداية@ ومن الجن نسبا وأصال(‪ .)6‬إذا وضح ذلك فال‬
‫داعي للخالف الذي أثاره العلماء حول هذه المسألة(‪ )7‬إذ ال فائدة وراءه‪.‬‬

‫) ينظر جامع البيان ـ الطبري ج‪ 1‬ص ‪ ، 226‬والمفردات ـ االصفهاني ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ، 60‬وينظر شواهد في االعجاز@ القرآني ـ د‪ .‬عودة أبو عودة@ ص‪.227‬‬


‫) الكهف ‪.50 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر المعجم الوسيط ج‪ 1‬ص‪.3‬‬ ‫‪3‬‬

‫) طه ‪.116 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) الكهف ‪.50 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ينظر التفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 2‬ص‪ ، 215‬وتفسير الخازن ج‪ 4‬ص‬ ‫‪6‬‬

‫‪ ، 338‬وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ـ مجد الدين‬


‫الفيروز آبادي ـ تحقيق محمد علي النجار ـ دار احياء التراث االسالمي ـ‬
‫القاهرة ـ ج ‪ 2‬ص ‪ ، 154‬وغرائب وعجائب الجن كما يصورها القرآن‬
‫والسنة ـ للقاضي بدر الدين عبد هللا الشلبي ـ تحقيق إبراهيم احمد الحمد ـ‬
‫مطبعة ديانا ‪ 1988‬ـ ص ‪.34‬‬
‫) ينظر في ذلك جامع البيان ـ الطبري ج‪ 1‬ص ‪ ، 224‬وتفسير القرآن‬ ‫‪7‬‬

‫العظيم ـ ابن كثير ج‪ 1‬ص ‪.77‬‬

‫‪279‬‬
‫أما االجابة عن الشطر الثاني من السؤال عن الصلة بين‬
‫الشيطان وابليس@ هو أن الشيطان صفة يتصف بها أي امرئ يعمل عمله‬
‫‪ ،‬وقد وصف هللا عزوجل بها ابليس حتى التصقت به فصار الناس‬
‫يظنون أنها خاصة به ولكن آيات القرآن الكريم بينت أن ابليس@ غير‬
‫الشيطان وأن الشيطان صفة البليس@ قال تعالى{ َوإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُد ْ‬
‫وا‬
‫ين‪َ ‬وقُ ْلنَا يَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن‬‫ان ِم َن ْال َكافِ ِر َ‬ ‫يس أَبَى َوا ْستَ ْكبَ َر َو َك َ‬ ‫وا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫آل َد َم فَ َس َج ُد ْ‬
‫ُك ْال َجنَّةَ َو ُكالَ ِم ْنهَا َر َغداً َحي ُ‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوالَ تَ ْق َربَا هَـ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا‬ ‫نت َو َز ْوج َ‬ ‫أَ َ‬
‫ان َع ْنهَا فَأ َ ْخ َر َجهُ َما@ ِم َّما َكانَا فِي ِه َوقُ ْلنَا ا ْهبِطُ ْ‬
‫وا‬ ‫ين‪ ‬فَأ َ َزلَّهُ َما ال َّش ْيطَ ُ‬ ‫ِم َن ْالظَّالِ ِم َ‬
‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌع إِلَى ِحي ٍن}(‪. )1‬فلو نظرنا‬ ‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫بَ ْع ُ‬
‫ان) ألوحت لنا بصفات إبليس أي أزلهما إبليس@‬ ‫الى جملة( فَأ َ َزلَّهُ َما ال َّش ْيطَ ُ‬
‫بكيده وتزيينه@ ووسوسته ومثل ذلك ورد في آيات سورة طه فبعد أن‬
‫أمر هللا عزوجل ابليس@ ان يسجد آلدم واستكبر ابليس@ عن طاعة هللا‬
‫عزوجل حذر هللا آدم منه ‪ ،‬وأمره أن يتخذه عدوا حتى ال يخرجه من‬
‫ك َعلَى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍ‬
‫ك اَّل‬ ‫ال يَا آ َد ُم هَلْ أَ ُدلُّ َ‬ ‫س إِلَ ْي ِه ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان قَ َ‬ ‫الجنة {فَ َوس َْو َ‬
‫يَ ْبلَى } (‪ )2‬فابليس هو الوسواس ‪ ،‬وهو الشيطان ولكنه ليس وحده‬
‫الشيطان بل هناك شياطين كثر من االنس والجن يعملون عمله ويهتدون‬
‫بسنته ويسلكون طريقه طريق@ الشيطنة فهل أدركنا الصلة بين ابليس‬
‫والشيطان؟‬

‫الفرع الثالث ‪:‬ـ ابليس والشيطان في القرآن الكريم‪:‬‬


‫ورد ذكر ابليس في القرآن الكريم في احدى عشرة آية من آيات‬
‫القرآن الكريم(‪ .)3‬بينما ورد ذكر الشيطان على جهة االفراد والجمع في‬
‫ثمان وثمانين آية(‪ .)4‬والقرآن وهو يستعمل هذين اللفظين يعطي لكل لفظ‬
‫داللته ‪ ،‬فنرى النصوص التي تحدثت عن ابليس@ تذكر ابليس على أنه‬
‫علم لذلك المتمرد الذي عصى ربه وتذكر الطبيعة@ التي خلق منها‪ .‬قال‬

‫) البقرة ‪ 34 :‬ـ ‪.36‬‬ ‫‪1‬‬

‫) طه ‪.120 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم ـ محمد فؤاد عبد الباقي ص‬ ‫‪3‬‬

‫‪.134‬‬
‫) المصدر نفسه ص ‪ 382‬ـ ‪.383‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪280‬‬
‫يس أَبَى } (‪ )1‬و قال‬ ‫وا آل َد َم فَ َس َج ُد ْ‬
‫وا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫تعالى{ َوإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُج ُد ْ‬
‫يس } (‪ )2‬وقال تعالى {إِاَّل‬ ‫وا آل َد َم فَ َس َج ُد ْ‬
‫وا إِالَّ إِ ْبلِ َ‬ ‫تعالى {ثُ َّم قُ ْلنَا لِ ْل َمآلئِ َك ِة ا ْس ُج ُد ْ‬
‫ين } (‪ )3‬وفي بيان أصل خلقته قال تعالى‬ ‫َّاج ِد َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫يس أَبَى أَن يَ ُك َ‬ ‫إِ ْبلِ َ‬
‫ق َع ْن‬‫ان ِم َن ْال ِجنِّ فَفَ َس َ‬ ‫يس َك َ‬ ‫{ َوإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ئِ َك ِة ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم فَ َس َج ُدوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫س لِلظَّالِ ِم َ‬
‫ين بَ َدالً}‬ ‫أَ ْم ِر َربِّ ِه أَفَتَتَّ ِخ ُذونَهُ َو ُذرِّ يَّتَهُ أَ ْولِيَاء ِمن ُدونِي َوهُ ْم لَ ُك ْم َع ُد ٌّو بِ ْئ َ‬
‫(‪.)4‬‬
‫أما النصوص التي ذكرت الشيطان فذكرته على أنه وصف‬
‫البليس ووصفت به كذلك كل من سلك مسلكه كما أشرنا في أثناء‬
‫التفريق@ بين ابليس والشيطان والنصوص حذرت من الشيطان وعداوته‬
‫لبني آدم ومداخله على بني آدم ‪ .‬فالنصوص التي تحدثت عن الشيطان‬
‫كان الحديث فيها مركزا على العموم على كل من سلك طريق الشيطنة@‬
‫سواء أكان اللفظ على جهة االفراد أو الجمع‪ .‬قال تعالى {فَأ َ َزلَّهُ َما‬
‫وا ِم َّما فِي‬ ‫ان َع ْنهَا فَأ َ ْخ َر َجهُ َما@ ِم َّما َكانَا فِي ِه } (‪ )5‬وقال تعالى { ُكلُ ْ‬ ‫ال َّش ْيطَ ُ‬
‫{وإِنِّي‬
‫وقال تعالى ِ‬
‫(‪)6‬‬
‫ت ال َّش ْيطَا ِن }‬ ‫ض َحالَالً طَيِّبا ً َوالَ تَتَّبِع ْ‬
‫ُوا ُخطُ َوا ِ‬ ‫األَرْ ِ‬
‫َّج ِيم } (‪ )7‬و قال تعالى { َو َمن يَ ُك ِن‬ ‫ان الر ِ‬ ‫ك َو ُذرِّ يَّتَهَا ِم َن ال َّش ْيطَ ِ‬‫أُ ِعي ُذهَا بِ َ‬
‫ُوا َما‬ ‫ان لَهُ قَ ِرينا ً فَ َساء قِ ِريناً} (‪ )8‬وعلى جهة الجمع قال تعالى { َواتَّبَع ْ‬ ‫ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان } (‪)9‬و قال تعالى { َكالَّ ِذي ا ْستَ ْه َو ْتهُ‬ ‫ك ُسلَ ْي َم َ‬‫ين َعلَى ُم ْل ِ‬ ‫اط ُ‬ ‫وا ال َّشيَ ِ‬ ‫تَ ْتلُ ْ‬
‫ك َج َع ْلنَا لِ ُكلِّ نِبِ ٍّي َع ُد ّواً‬ ‫(‪)10‬‬
‫{و َك َذلِ َ‬
‫ان} وقال تعالى َ‬ ‫ض َحي َْر َ‬ ‫ين فِي األَرْ ِ‬ ‫اط ُ‬ ‫ال َّشيَ ِ‬
‫ُون إِلَى‬ ‫ين لَيُوح َ‬ ‫نس َو ْال ِجنِّ } (‪ )11‬و قال تعالى { َوإِ َّن ال َّشيَا ِط َ‬ ‫ين ا ِإل ِ‬ ‫َشيَ ِ‬
‫اط َ‬

‫) البقرة ‪.34 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) األعراف ‪.11 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) الحجر ‪.31 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) الكهف ‪.50 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) البقرة ‪.36 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) البقرة ‪.168 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫) آل عمران ‪.36 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫) النساء ‪.38 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫) البقرة ‪.102 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫) األنعام ‪.71 :‬‬ ‫‪10‬‬

‫) األنعام ‪.112 :‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪281‬‬
‫ين أَ ْولِيَاء لِلَّ ِذ َ‬
‫ين الَ‬ ‫أَ ْولِيَآئِ ِه ْم لِيُ َجا ِدلُو ُك ْم} و قال تعالى {إِنَّا َج َع ْلنَا ال َّشيَ ِ‬
‫اط َ‬ ‫(‪)1‬‬

‫ون }(‪ )2‬وهكذا الكثير من النصوص األخرى التي بينت حقيقة‬ ‫ي ُْؤ ِمنُ َ‬
‫الشيطان وحذرتنا منه وأمرتنا في استفراغ الجهد لمعاداته وبينت أنه‬
‫عدو لدود(‪.)3‬‬
‫وتحسن االشارة ـ هنا ـ الى االستعمال الخاطئ لمصطلح‬
‫الشيطان عند الناس ـ بحيث لم يعد بمقدور المسلم العادي أن يتخذ موقفا‬
‫واقعيا محسوسا من الشياطين@ وأضاليلهم ‪ ،‬وصار محرجا للمسلم‬
‫المثقف أن يتطرق لمناقشة عمل الشياطين وآثارها لما يرى في ذلك من‬
‫امكانية الوقوع في شرك الخرافة أو االتهام بالتفكير الخرافي‪ .‬إن القرآن‬
‫كما الحظنا يطلق@ لفظ ـ الشيطان ـ على المنشط أي المنحرف الضال‬
‫من قصد وإصرار(‪ ، )4‬والشيطان في القرآن كما الحظنا من النصوص‬
‫السابقة وغيرها قسمان ‪ :‬األول ؛ هو الشيطان الجني الذي اليرى وال‬
‫يسمع من البشر العاديين متمثال في ابليس@ وذريته وقد ذكر القرآن هذا‬
‫النوع في معرض تعريفه بعناصر الوجود المحيط وتفاعل االنسان معها‬
‫‪ ،‬ويخبر أن هذا الشيطان الجني ضعيف الكيد والتدبير@ وان عمله في‬
‫الغالب ـ بين بني جنسه‪ .‬والنوع@ الثاني ؛ هو الشيطان األنسي الذي‬
‫ينشطن ـ أي ينحرف عن قصد وإصرار ‪ .‬عن منهج هللا ويتبنى منهاجا‬
‫مضادا في الفكر والسلوك ويجعل من االنحراف والضالل فكرا صائبا‬
‫وعمال صالحا وانجازا حضاريا متقدما ثم يكرس حياته وجهوده للدعوة‬
‫الى هذا االنحراف والضالل وإشاعتهما وهذا هو المعنى بالصراع مع‬
‫االنسان في محاولة صرفه عن الطريق@ القويم@ ان عداوة الشيطان التي‬
‫بينها القرآن لنا تتركز على شياطين االنس أكثر من شياطين الجن وهذا‬
‫ما أكده الحديث النبوي أيضا فعن أبي ذر ‪ ‬قال ‪ :‬قال رسول هللا ‪ ( ‬يا‬
‫أبا ذر تعوذ من شياطين االنس والجن ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ولإلنس شياطين؟ قال ‪:‬‬
‫( نعم شر من شياطين الجن ) ) (‪.)5‬إذن التركيز الصحيح هو على‬
‫) األنعام ‪.121 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) األعراف ‪.27:‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر روح المعاني ج‪ 15‬ص‪ ، 94‬والسنن االلهية في الحياة االنسانية ـ‬ ‫‪3‬‬

‫د‪ .‬شريف الشيخ صالح ج‪ 1‬ص‪.121‬‬


‫) ينظر جامع البيان ـ الطبري ـ ج‪ 1‬ص‪ ، 49‬وتفسير ابن كثير ج‪ 1‬ص‪.52‬‬ ‫‪4‬‬

‫) أخرجه أحمد في مسنده ج‪ 5‬ص‪ ، 178‬والنسائي في الصغرى ج‪ 8‬ص‬ ‫‪5‬‬

‫‪282‬‬
‫شياطين االنس ألن هذا التصور الذي قدمه القرآن الكريم والحديث‬
‫النبوي@ للشيطان سيجعل هناك شيطان الفكر وشيطان التربية وشيطان‬
‫الثقافة وشيطان اآلداب وشيطان الفنون وشيطان اإلعالم وشيطان‬
‫اإلباحية وشيطان األزياء ومن أحب أحدا من هؤالء الشياطين أو قلده‬
‫فهو ولي له وهم أولياء له باعتبار ان لكل هؤالء اهتمامات مشتركة‬
‫تعمل في االتجاه المضاد لإلسالم واخالقياته(‪ .)1‬هذا الفهم للشيطان هو‬
‫الذي ينبغي أن يسود وعلى ضوئه يجب تصحيح المفاهيم التي سادت‬
‫في عصور الجمود واالستبداد@ والتي انحرفت في فهم الشيطان‬
‫وغاصت في الغيبيات بحثا عن شياطين الجن التي ال ترى وال يحس‬
‫لها أثر وأشغلت تفكير الناس بذلك حتى انتهت بكثير منهم الى‬
‫الوسوسة والجنون لذلك يجب أن نعيد تصحيح مفاهيمنا على ضوء‬
‫القرآن الكريم والسنة@ النبوية‪ .‬والسؤال الذي يطرح نفسه هو ‪ :‬ما‬
‫الحكمة من عد شياطين اإلنس شر من شياطين الجن كما يقرر الحديث‬
‫النبوي@ الذي مر ذكره؟ الجواب ‪ :‬هو ما يوجه اليه قوله تعالى {فَإِ َذا‬
‫ان َعلَى الَّ ِذ َ‬
‫ين‬ ‫ْس لَهُ س ُْلطَ ٌ‬ ‫َّج ِيم‪ ‬إِنَّهُ لَي َ‬
‫ان الر ِ‬ ‫آن فَا ْستَ ِع ْذ بِاهّلل ِ ِم َن ال َّش ْيطَ ِ‬ ‫قَ َر ْأ َ‬
‫ت ْالقُرْ َ‬
‫ون‪ ‬إِنَّ َما س ُْلطَانُهُ َعلَى الَّ ِذ َ‬
‫ين يَتَ َولَّ ْونَهُ َوالَّ ِذ َ‬
‫ين هُم بِ ِه‬ ‫وا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَتَ َو َّكلُ َ‬‫آ َمنُ ْ‬
‫ون } (‪ ،)2‬إن القراءة ممارسة فكرية ينبغي أن يسبقها ابتعاد عن‬ ‫ُم ْش ِر ُك َ‬
‫كل المفاهيم الضالة والمشككة حول النص القرآني فالشيطان الجني‬
‫مخلوق خفي ال فاعلية له االّ في بيئات الظلم@ والفساد والفاحشة التي‬
‫تسهل عمله على ايقاع البشر في المعاصي تماما كما ال تعمل الجراثيم‬
‫والفايروسات اال في بيئات التلوث والقذارة التي تيسر لها التكاثر‬
‫والفتك باألصحاء‪ .‬لذلك ال سلطان للشيطان في بيئات االيمان باهلل‬
‫وتطبيقاته@ النظيفة ‪ ،‬وإنما سلطانه حين (يتواله) المنشطئون من البشر و‬
‫( يشركون ) به و ( يؤمنون ) بالضالل الذي يريده ‪ ،‬و(يهاجرون )‬
‫الى تطبيقات هذا الضالل و ( يجاهدون ) لتلويث البيئة العامة بهذه‬
‫الفواحش ‪ ،‬و ( يؤون ) روادها ويسبغون عليهم المال والجاه والمكانة‬

‫‪ 275‬كتاب االستعاذة باب االستعاذة من شر شياطين الجن واالنس ‪.‬‬


‫) ينظر أهداف التربية االسالمية ـ د‪ .‬ماجد عرسان الكيالني ـ مؤسسة‬ ‫‪1‬‬

‫الريان ـ بيروت ـ لبنان ـ ‪1419‬هـ ـ ‪1998‬م ص ‪ 348‬ـ ‪.349‬‬


‫) النحل ‪ 98 :‬ـ ‪.100‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪283‬‬
‫الوظيفية ‪ ،‬ويجتهدون في نصرتها وحراستها(‪ . )1‬هل علمنا اآلن لماذا‬
‫كان شياطين اإلنس أشر من شياطين الجن ؟ إذن هذا الفهم هو الذي‬
‫ينبغي أن يسود حول الشيطان وبقيت قضية أرى من الضروري أن‬
‫أشير اليها وهي ذات صلة بما سبق الحديث عنه ‪ ،‬هذه القضية متمثلة‬
‫في أن أمتنا االسالمية في زمانها الجديد قد بليت بأبناء يحملون رايات‬
‫التنوير@ وينتسب بعضهم الى علوم الدين ‪ ،‬ممن حاولوا التوفيق بين‬
‫االسالم وبين أوضاع مختلفات من افرازات الحضارة األوربية الحديثة‬
‫والمعاصرة ‪ ،‬في مجال األفكار والفلسفات كما في مجال العلوم‬
‫والتجارب‪.‬وكان المنحنى األبرز في ذلك الجهد ‪ ،‬هو محاولة ( عقلنة‬
‫الدالالت االسالمية ) حسب ظن هؤالء وفهمهم ‪ ،‬ومن ثم أتوا على‬
‫الكثير من المعاني االسالمية الكبرى ‪ ،‬مما ثبت في كتاب هللا أو سنة‬
‫رسوله ‪ ،‬ليحاولوا تأويلها تأويال ‪ ،‬متعنتا لكي يضفوا على داللتها‬
‫معاني ( عقالنية@ ) تستسيغها الحضارة الحديثة@(‪. )2‬‬
‫وعلى الرغم من الخطأ المبدئي@ في هذا المنحنى أعني‬
‫( االنحراف الشرعي ) في التعامل مع نص الوحي ‪ ،‬االّ أن األمر الذي‬
‫نشير اليه في هذا السياق إن هذا المنحى الجديد قد أضر باإلسالم‬
‫وقضيته@ على صعيد الواقع الدعوي ولم يحقق أدنى فائدة مما زعموها‬
‫لوجهتهم الجديدة ‪ ،‬فقد باعد هذا المنحى التفسيري@ بين العقل االسالمي‬
‫وبين‬

‫) ينظر أهداف التربية االسالمية ـ د‪ .‬ماجد عرسان الكيالني ـ ص‪.350‬‬ ‫‪1‬‬

‫) من هؤالء صادق جالل العظم في كتابه نقد الفكر الديني ـ طبعة دار‬ ‫‪2‬‬

‫الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت ص ‪ 81‬وما بعدها فقد كان متجرأً في‬
‫التهجم على العقلية المسلمة والتشكيك بثوابتها ذلك أنه اسمى فصال من‬
‫كتابه الذي مأله بالتهجم ـ على ثوابت الدين أسماه مأساة ابليس وأظهر‬
‫ابليس كأنه ضحية الطاعة لألمر االلهي وليس التمرد عليه وملئ كتابه‬
‫بهرطقات باطلة ال يقوم عليها دليل سوى@ نقول من مقاالت باطنية إن‬
‫هؤالء يلتقون جميعا في الدعوة@ الى عقلنة المصطلحات االسالمية واالنبهار‬
‫بالحضارة الغربية وكأن من سبقونا لم يحملوا لواء العقلنة في فهمهم‬
‫لنصوص القرآن الكريم ‪ ،‬نعم لقد اصاب األمة فترة من الركود والجمود‬
‫ولكن ذلك لم يمنع أن تظل الدالالت القرآنية ثابتة وواضحة وبينة فليتهم‬
‫عملوا عقولهم في العودة الى المصطلحات القرآنية الواضحة الداللة ال‬
‫االنبهار بالغرب والطعن بالعقل المسلم‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫مدركات دينه الصحيحة‪ .‬في حين لم يقرب العقل األوربي خطوة‬
‫من مدارات الوحي اإللهي واإلسالم وكان الحديث عن ( الشيطان في‬
‫القرآن الكريم أحد الوجوه التطبيقية لهذا المنحى التفسيري المنحرف ‪،‬‬
‫حيث راح بعضهم ينكر وجوده بطريق غير مباشر‪ .‬عن طريق@ وصفه‬
‫بأنه ( رمز معنوي ) لقوى الشر ) (‪ )1‬وآخرون قالوا ‪ ( :‬هو تعبير عن‬
‫وساوس النفس ) وغير ذلك من بدع الفكر وطرائف التأويل@ التي ال‬
‫تليق بحال ـ بمجال البحث والتعرف على كتاب هللا وأصول الديانة ‪.‬‬
‫وكان من مأالت هذا التفسير المنحرف ما سبق أن ذكرناه قبل أسطر‬
‫من أن خف احتفاء بعض المسلمين بمسألة ( الشيطان ) وأصبحت‬
‫ان لَ ُك ْم َع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوهُ‬ ‫دالالت آية جليلة مثل قول الحق تعالى {إِ َّن ال َّش ْيطَ َ‬
‫َع ُد ّواً}(‪ .)2‬أصبحت مشوشة وغير مفهومة واألكثر خطورة أنها غير‬
‫ذات مردود عملي في سلوك المسلم ‪ ،‬مما أورث ويورث المزالق‬
‫والمهالك والمنكرات ‪ ،‬ألن احساس المسلم بحقيقة وجود الشيطان ‪،‬‬
‫يجعل معنى ( الصراع ) معه حافزا لصموده أمام الفتن والشهوات‬
‫وطرائق الباطل فإذا غاب هذا االحساس غاب ادراك معنى الصراع‬
‫وغاب معه أو ضعف الصمود أمام هذه المكائد الشيطانية@ ‪ .‬إن الفاظ‬
‫القرآن الكريم ذات دالالت محددة ومفاهيم واضحة التلد شيئا من هذه‬
‫الصور الغريبة التي ولدها منها أصحاب الشطحات الخيالية@ مدعي‬
‫التعقل في الفهم ‪ ،‬واالسالم في بناءه للعقلية المسلمة قد راعى بناء‬
‫(‪)3‬‬
‫ون }‬‫ت آيَاتُهُ قُرْ آنا ً َع َربِيّا ً لِّقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫مفاهيم االلفاظ قال تعالى { ِكتَابٌ فُصِّ لَ ْ‬
‫وفي صحيح البخاري ان الرسول ‪ ‬قال ألحد أصحابه ‪ ،‬وهو البراء@ بن‬
‫عازب وهو يعلمه دعاء النوم (( آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي‬
‫أرسلت )) فقال البراء@ ورسولك الذي أرسلت فقال النبي@ الكريم ‪ ‬قل‬
‫ونبيك الذي أرسلت ) (‪ .)4‬وهذه ليست أخطر مما نحن بصدده من‬
‫تحريف للكثير من دالالت المفاهيم االسالمية بدعوى التعقل والعقالنية@‬
‫إنها وهللا الفوضوية والتملص من معاني هذا الدين ومدخل من مداخل‬
‫) ينظر تفسير المنار ج‪ 1‬ص ‪ 281‬ـ ‪.284‬‬ ‫‪1‬‬

‫) فاطر ‪.6 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) فصلت ‪.3 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب فضل من بات على الوضوء ج‪1‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪.97‬‬

‫‪285‬‬
‫الشيطان على هؤالء العقالنيين ‪ .‬هذا ما أردت االشارة اليه بين يدي‬
‫ذكر الشيطان في القرآن وسيتضح األمر أكثر عند عرضنا لصور‬
‫صراع الشيطان مع االنسان‪.‬‬
‫الفرع الرابع ‪:‬ـ الحكمة من جعل الشيطان عدوا لإلنسان‪:‬‬
‫ما الحكمة من وراء جعل الشيطان بمختلف دالالته عدوا لإلنسان‬
‫يؤزه أزا ويتربص به ويقعد له على طريقه القويم محاوال صرفه عنه ‪.‬‬
‫يمكن أن نستنبط الحكم من ذلك على النحو اآلتي‪ :‬ـ‬
‫‪1‬ـ إبتالء العباد واختبارهم ‪ :‬وهذه الحكمة واضحة لتمييز@ من يطيع‬
‫هللا ممن يعصيه ذلك ان الشيطان مثله مثل القوى الشهوية في االنسان‬
‫ومثل ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع@ المالذ والمالهي‬
‫التي يمتحن هللا بها عباده(‪.)1‬‬
‫‪2‬ـ اظهار قدرة هللا تعالى في خلق المتضادات ‪ :‬لقد خلق هللا في‬
‫كونه الكثير من المتضادات التي فيها اظهار لقدرته سبحانه وتعالى‬
‫خلق السماء واألرض والليل والنهار والداء والدواء والجنة والنار‬
‫والخير والشر والشيطان الذي هو أخبث الذوات وسبب كل شر بمقابل‬
‫جبريل ‪ ‬الذي هو من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ومثال للخير‬
‫ففي هذا اظهار لقدرة القادر وفيه اظهار لحسن الضدين فان الضد إنما‬
‫يظهر حسنه بضده ‪ ،‬فلوال القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولوال الفقر‬
‫لم يعرف قدر الغنى ولوال الشر لم يعرف طريق@ الخير وفضله(‪.)2‬‬
‫‪3‬ـ ظهور متعلقات أسماء هللا تعالى ‪ :‬إن أسماء هللا تعالى تستدعي‬
‫متعلقات تظهر فيها أحكامها ‪ ،‬كأسماء هللا تعالى القهرية ( القهار‬
‫والمنتقم ‪ ،‬والضار والخافض والرافع ) ‪ ،‬فلهذه األسماء كماالت البد‬
‫من وجود متعلقاتها ‪ ،‬ولو كان الجن واإلنس@ على طبيعة المالئكة لم‬

‫) ينظر الكشاف ـ الزمخشري@ ج‪ 2‬ص‪ ، 69‬وتفسير البيضاوي ج‪ 3‬ص‪، 7‬‬ ‫‪1‬‬

‫وفتح القدير ـ الشوكاني ج‪ 2‬ص‪.186‬‬


‫) ينظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ـ ـ ابن قيم‬ ‫‪2‬‬

‫الجوزية ـتحقيق حسن عبد هللا الحسان ـ دار التراث ـ القاهرة ـ ص ‪، 324‬‬
‫وعالم الجن والشياطين ـ د‪ .‬عمر سليمان االشقر ـ دار الكتب العلمية ـ‬
‫بيروت ط‪ 2‬ص ‪ ، 157‬والعقائد االسالمية ـ سيد سابق ـ دار الكتب‬
‫العربي ـ بيروت ص‪.155‬‬

‫‪286‬‬
‫يظهر أثر هذه األسماء كذلك هو الحال في أسمائه تعالى التي تدل على‬
‫حكمته ‪ ،‬فاسم الحكيم يدل على أنه تعالى صاحب الحكمة لكمال علمه‬
‫واتقانه كل شيء ويعد وجود ابليس@ والشيطان من تمام حكمته لذا‬
‫يمكن القول أن من الحكم المترتبة على اأخلق الشيطان هو ظهور‬
‫متعلقات أسمائه جل شأنه(‪.)1‬‬
‫‪4‬ـ ويمكن أن نظيف حكمة أخرى نستنبطها من خالل النصوص‬
‫القرآنية@ هي أن في خلق الشيطان وتسليطه@ على االنسان ابراز واظهار‬
‫لقدرات االنسان على المدافعة والتنبه@ ‪ ،‬فلو لم يكن الشيطان مسلطا على‬
‫االنسان لما برزت دوافعه في القدرة على المدافعة والصد ولما شحذ‬
‫ذهنه في التنبه@ ولتبلدة@ دوافعه كذلك فإن في هذا التسلط@ إظهار لمعنى‬
‫ين اتَّقَ ْ‬
‫وا إِ َذا َم َّسهُ ْم‬ ‫اللجوء الى هللا في الشدائد@ والملمات قال تعالى {إِ َّن الَّ ِذ َ‬
‫ُون }(‪ . )2‬تلك بعض الحكم لخلق‬ ‫ان تَ َذ َّكر ْ‬
‫ُوا فَإِ َذا هُم ُّمب ِ‬
‫ْصر َ‬ ‫ف ِّم َن ال َّش ْيطَ ِ‬ ‫َ‬
‫طائِ ٌ‬
‫الشيطان وتسليطه على االنسان وهللا اعلم وأحكم فيما يخلق ويريد!‬
‫المبحث الثاني‬
‫صور الصراع بين االنسان والشيطان‬
‫المطلب األول‬
‫بدايات هذا الصراع‬
‫بدأت قصة الصراع بين االنسان والشيطان في الجنة وتستمر في‬
‫األرض الى يوم القيامة بدأت مع خلق أول إنسان واستمرت في ذريته‬
‫من بعده‪ .‬فما سر هذا الصراع وما هي بذوره وجذوره ؟ وكيف نفهم‬
‫أبعاده ؟ لقد صور القرآن الكريم بداية@ هذا الصراع بأبلغ عبارة اذ‬
‫اظهر الشيطان ممثال للباطل بكل أوصافه وخصائصه وأظهر آدم ‪‬‬
‫ممثال للحق بكل أوصافه وخصائصه ‪ ،‬والمدقق في العبارة القرآنية يجد‬
‫أن الصراعات التي توالت بين الحق والباطل فيما بعد ما هي االّ صدا‬
‫وانعكاسا لهذا الصراع األول بكل أبعاده ومالمحه‪ ،‬فقد بذر ابليس عليه‬
‫اللعنة بذرة التكبر واالستعالء والغرور واتباع الهوى التي هي ابعاد‬
‫الصراع بين الحق والباطل@ ‪ ،‬وسن آدم ‪ ‬طريق االستقامة والثبات‬
‫) ينظر المصادر السابقة وينظر اآليات المتعلقة بالصراع بين الشيطان‬ ‫‪1‬‬

‫واالنسان ـ رسالة ماجستير الى كلية العلوم@ االسالمية ـ اعداد@ الطالبة نيكاز‬
‫صالح الدين عباس الجاف ـص ‪.25‬‬
‫) األعراف ‪.201:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪287‬‬
‫على الحق واألوبة بعد السقوط ‪ .‬إن قصة الصراع األولى تمثل لنا‬
‫نموذجين نموذج الباطل ونموذج الحق ‪ .‬ولنقف اآلن على أبعاد هذا‬
‫الصراع ‪.‬قبل أن يخلق هللا سبحانه آدم ‪ ‬قال لمالئكته { إِنِّي َج ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫اع ٌل فِي‬
‫ض َخلِيفَةً }(‪ . )2‬فهو سبحانه خلق آدم ليكون في األرض ال في‬ ‫األَرْ ِ‬
‫ك ال ِّد َمااء }‬‫السماء‪ .‬وعندما قالت المالئكة { أَتَجْ َع ُل فِيهَا َمن يُ ْف ِس ُد فِيهَا َويَ ْسفِ ُ‬
‫(‪ )3‬لم ينف سبحانه عن خليفة األرض الفساد وسفك الدماء ‪ .‬وقال‬
‫ون }(‪ .)4‬فاالنسان قبل ان يخلق ق ّدر هللا أن‬ ‫سبحانه { إِنِّي أَ ْعلَ ُم َما الَ تَ ْعلَ ُم َ‬
‫تكون حركته على األرض وألن هذه الحركة لحكمة ومن وراء هذه‬
‫الحكمة هدف أقام هللا الحجة على هذه الحركة فإذا اقترف االنسان‬
‫المعاصي وسفك الدماء‪ :‬كانت الحجة شاهدا عليه(‪ . )5‬ولكن ما هي هذه‬
‫الحجة التي جعلها هللا شاهدا على االنسان‪ .‬إنها الفطرة ذلك أن حركة‬
‫االنسان في هذه الحياة ال ينبغي أن تخرج عن دائرة العبادة هلل سبحانه‬
‫نس إِاَّل لِيَ ْعبُ ُدو ِن‪َ ‬ما أُ ِري ُد ِم ْنهُم ِّمن‬
‫ت ْال ِج َّن َواإْل ِ َ‬‫{و َما َخلَ ْق ُ@‬
‫وتعالى قال تعالى َ‬
‫ون } (‪ )6‬فالمراد بخلقهم للعبادة ‪ ،‬خلقهم على وجه‬ ‫ق َو َما أُ ِري ُد أَن ي ْ‬
‫ُط ِع ُم ِ‬ ‫ِّر ْز ٍ‬
‫صالح ألن يعبدوا هللا بجعلهم ذوي اختيار وعقل واستطاعة والغرض‬
‫من خلقهم تعريضهم للثواب وذلك ال يحصل االّ بأداء العبادات(‪ .)7‬ولما‬
‫كان االنسان قد خلق من أجل العبادة وعلى طريق@ هذه العبادة توجد‬

‫) سوف أقف في قصة آدم وابليس مع ابعاد الصراع وصوره ولن ادخل‬ ‫‪1‬‬

‫في تفاصيل ال تخدم البحث ‪ ،‬كموقع الجنة وهيئة السجود وكيف دخل‬
‫ابليس في األمر مع المالئكة الى آخر ما هناك من قضايا حول القصة‬
‫نجدها مفصلة في كتب التفسير وانما التركيز هنا ينصرف الى الصراع‬
‫األزلي بين االنسان والشيطان وهو البعد األهم في القصة برأيي‪.‬‬
‫) البقرة‪30 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) البقرة‪30 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) البقرة‪30 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ينظر االنحرافات الكبرى ـ القرى الظالمة في القرآن الكريم ـ سعيد أيوب‬ ‫‪5‬‬

‫ـ ط‪ 1‬ـ ‪1412‬هـ ‪1992‬م ـ دار الهادي ـ بيروت ـ لبنان ص ‪.14 ،13‬‬


‫) الذاريات ‪56 :‬ـ‪.57‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ينظر التفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 28‬ص ‪200‬ـ ‪ ، 202‬والكشاف ـ‬ ‫‪7‬‬

‫الزمخشري ج‪ 4‬ص ‪ 408‬ـ ‪ ، 409‬وتفسير ابي السعود ج‪ 8‬ص ‪، 144‬‬


‫وروح المعاني ـ اآللوسي ج‪ 27‬ص‪.20‬‬

‫‪288‬‬
‫دوائر لإلفساد وسفك الدماء هدفها عرقلة هذه العبادة ‪ .‬فأنه تعالى وضع‬
‫أصول هذه العبادة في حصن الفطرة الحصين ‪ .‬ليعبر االنسان بفطرته@‬
‫السليمة تلك العقبات ويصل بعباداته الى حيث ينال الثواب‪ .‬فالفطرة‬
‫شعاع يهدي صاحبه الى طريق النجاة‪ .‬والفطرة حجة بذاتها على‬
‫االنسان تنطق@ عليه بالحق يوم يقف امام هللا تعالى يوم القيامة ويقول له‬
‫({ا ْق َر ْأ َكتَابَ َك َكفَى بِنَ ْف ِس َك ْاليَ ْو َم َعلَي َْك َح ِسيبا ً }(‪.)1‬‬
‫ومخزون الفطرة الحجة بذاته جاء ذكره في أكثر من موضع من‬
‫{وإِ ْذ أَ َخ َذ َرب َُّك ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُه ِ‬
‫ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم‬ ‫كتاب هللا منه قوله تعالى َ‬
‫وا يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا‬
‫وا بَلَى َش ِه ْدنَا أَن تَقُولُ ْ‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُ ْ‬
‫َوأَ ْشهَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم أَلَس ُ‬
‫ك آبَا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِّمن بَ ْع ِد ِه ْم‬‫وا إِنَّ َما أَ ْش َر َ‬
‫ين‪ ‬أَ ْو تَقُولُ ْ‬ ‫ُكنَّا َع ْن هَ َذا َغافِلِ َ‬
‫ون}(‪(.)2‬أي أذكر للناس موطنا قبل الدنيا أخذ فيه‬ ‫أَفَتُ ْهلِ ُكنَا بِ َما فَ َع َل ْال ُم ْب ِطلُ َ‬
‫ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم ) فما من أحد منهم االّ استقل من‬ ‫ربك ( ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُه ِ‬
‫غيره وتميز منه فاجتمعوا هناك جميعا وهم فرادى فأراهم ذواتهم‬
‫المتعلقة بربهم ( َوأَ ْشهَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم) فلم يحتجبوا عنه‪ .‬وعاينوا@ انه‬
‫ربهم كما أن كل شيء بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم ) وهو خطاب حقيقي لهم ال بيان حال وتكليم@ إلهي‬ ‫عنه‪ (.‬أَلَس ُ‬
‫لهم فانهم يفهمون مما يشاهدون إن هللا سبحانه يريد به منهم االعتراف‬
‫وا يَ ْو َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا َع ْن هَ َذا َغافِلِ َ‬
‫ين)‬ ‫واعطاء الموثق@ وقوله (أَن تَقُولُ ْ‬
‫ْت بِ َربِّ ُكم) القائلين (بَلَى َش ِه ْدنَا ) فهم هناك‬ ‫الخطاب للمخاطبين بقوله (أَلَس ُ‬
‫يعاينون االشهاد والتكليم من هللا والتكلم@ باالعتراف من انفسهم وإن‬
‫كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة باالستدالل ثم اذا كان‬
‫يوم البعث وانطوى بساط الدنيا وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا‬
‫الى مشاهدتهم ومعاينتهم وذكروا ما جرى بينهم@ وبين ربهم ) (‪ .)3‬فهذا‬
‫الميثاق الذي أخذه هللا سبحانه وتعالى من بني آدم جميعا هو مخزون‬
‫الفطرة وهو حجة بذاته على االنسان في كل حركة له على األرض‬
‫وهو بعد هذا وذاك الكشاف الذي يهدي الى الطريق المستقيم ويجنب‬
‫صاحبه االنزالق@ الى طريق@ االفساد وسفك الدماء الذي لم ينف هللا‬
‫سبحانه وجوده عن االنسان عندما قالت المالئكة {أَتَجْ َع ُل فِيهَا َمن يُ ْف ِس ُد‬

‫) االسراء ‪.14:‬‬ ‫‪1‬‬

‫) األعراف ‪172:‬ـ ‪.173‬‬ ‫‪2‬‬

‫) تفسير الميزان ـ السيد الطباطبائي ـ ج‪ 8‬ص‪.322‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪289‬‬
‫فِيهَا َويَ ْسفِ ُ‬
‫ك ال ِّد َماء}‪.‬‬
‫إذن بعد هذه التقدمة يمكن لنا أن نفهم بذور االنحرافات الكبرى‬
‫في قصة الصراع األولى بين االنسان والشيطان ‪ .‬لم تظهر بذور‬
‫االفساد وسفك الدماء الذي ذكرته المالئكة عندما خاطبهم هللا بأنه جاعل‬
‫في األرض خليفة االّ عندما أمر سبحانه المالئكة بالسجود آلدم‪ .‬ففي‬
‫هذا الوقت خط ابليس@ خط االنحراف الذي تنمو عليه بذور االفساد التي‬
‫ال َرب َُّك لِ ْل َماَل ئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌ‬
‫ق بَ َشراً ِمن ِط ٍ‬
‫ين‪ ‬فَإِ َذا‬ ‫وضعها(‪ . )1‬قال تعالى {إِ ْذ قَ َ‬
‫ين‪ ‬فَ َس َج َد ْال َماَل ئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم أَجْ َمع َ‬
‫ُون‬ ‫وحي فَقَعُوا لَهُ َسا ِج ِد َ‬ ‫ت فِي ِه ِمن رُّ ِ‬ ‫َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬
‫ك أَن تَ ْس ُج َد لِ َما‬ ‫ال يَا إِ ْبلِيسُ َما َمنَ َع َ‬ ‫ين‪ ‬قَ َ‬ ‫ان ِم ْن ْال َكافِ ِر َ‬
‫يس ا ْستَ ْكبَ َر َو َك َ‬ ‫‪ ‬إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫ال أَنَا َخ ْي ٌر ِّم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِمن نَّ ٍ‬
‫ار‬ ‫ين‪ ‬قَ َ‬ ‫نت ِم َن ْال َعالِ َ‬
‫ت أَ ْم ُك َ‬ ‫ي أَ ْستَ ْكبَرْ َ‬ ‫َخلَ ْق ُ‬
‫ت بِيَ َد َّ‬
‫ين} (‪ .)2‬لقد ذكرت اآلية إن مبدأ خلق االنسان الطين وفي‬ ‫َو َخلَ ْقتَهُ ِمن ِط ٍ‬
‫ب ثُ َّم إِ َذا أَنتُم‬‫سورة الروم التراب قال تعالى { َو ِم ْن آيَاتِ ِه أَ ْن َخلَقَ ُكم ِّمن تُ َرا ٍ‬
‫ُون }(‪ )3‬وفي سورة الحجر صلصال من حمأ مسنون قال‬ ‫بَ َش ٌر تَنتَ ِشر َ‬
‫صا ٍل ِّم ْن َح َمإٍ َّم ْسنُو ٍن }(‪ .)4‬وفي سورة‬ ‫ص ْل َ‬ ‫ان ِمن َ‬ ‫{ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ‬
‫اإلن َس َ‬ ‫تعالى َ‬
‫ال َك ْالفَ َّخ ِ@‬
‫ار‬ ‫ص ٍ‬ ‫ص ْل َ‬
‫ان ِمن َ‬ ‫ق اإْل ِ ن َس َ‬‫{خلَ َ‬
‫الرحمن صلصال كالفخار قال تعالى َ‬
‫}(‪)5‬وال ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته األصلية التي منها خلق وقد‬

‫) ينظر االنحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم ـ سعيد أيوب ـ‬ ‫‪1‬‬

‫ص ‪16‬ـ ‪.17‬‬
‫) ص ‪ 71 :‬ـ ‪ ، 76‬هذا وقد وردت قصة آدم وابليس مكررة في سبعة‬ ‫‪2‬‬

‫مواضع وفي سبع سور وهي حسب ترتيب نزولها ص اآليات ‪ 71‬ـ ‪، 85‬‬
‫األعراف اآليات ‪11‬ـ‪ ، 24‬طه اآليات ‪ 115‬ـ ‪ ، 123‬االسراء@ اآليات ‪ 61‬ـ‬
‫‪ ، 65‬الحجر اآليات ‪ 28‬ـ ‪ ، 42‬الكهف اآلية ‪ ، 50‬البقرة اآليات ‪ 30‬ـ ‪، 39‬‬
‫ينظر االتقان في علوم القرآن ـ السيوطي ـ المطبعة االزهرية ـ بمصر ـ ط‬
‫‪ 2‬ـ ‪1343‬هـ ـ ‪1925‬م ـ ج‪ 1‬ـ ص ‪ ، 25‬وتفسير الطبري ـ ج‪ 9‬ـ ص ‪110‬‬
‫‪ ،‬وتفسير القرطبي ـ ج‪ 7‬ـ ص ‪.314‬‬
‫) الروم‪20:‬‬ ‫‪3‬‬

‫) الحجر‪.26:‬‬ ‫‪4‬‬

‫) الرحمن ‪.14:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪290‬‬
‫(‪)2‬‬
‫أشير في كل موضع الى واحدة منها(‪ . )1‬ثم جاء األمر بالسجود آلدم‬
‫إذا سواه بتركيب أعضائه بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان‬
‫تام ونفخ فيه الروح(‪ . )3‬وسجد المالئكة ألمر هللا ولم يذكر أحد منهم أي‬
‫عالقة بين الطين والنور فعندما أمروا بالسجود سجدوا‪ .‬ولم يشذ في هذا‬
‫المشهد المهيب سوى ابليس@ قال (أَنَا َخ ْي ٌر ِّم ْنهُ ) لقد علل عدم سجوده بما‬
‫يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكونه خلقه من نار خير من آدم المخلوق‬
‫من طين وكأنه بهذا التعليل يزعم أنه ال يؤمر الفاضل بالسجود‬
‫) ينظر فتح القدير ـ الشوكاني ج‪ 4‬ص‪ ، 444‬وأضواء البيان في ايضاح‬ ‫‪1‬‬

‫القرآن بالقرآن ـ الشنقيطي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ‪ 1415‬هـ ـ ‪1995‬م ـ ج‬


‫‪ 4‬ص ‪.25‬‬
‫) اختلف العلماء في كيفية هذا السجود@ على اربعة اقوال ‪1‬ـ إنه مجرد‬ ‫‪2‬‬

‫الخضوع دون@ ايماء وال انحناء وال نحوهما وهذا يرجع الى احد معاني‬
‫السجود اللغوية والمقصود اقرارهم آلدم بالفضل والقيام بمصالحه‪2 .‬ـ‬
‫االيماء والخضوع‪3 .‬ـاالنحناء المساوي@ للركوع ذلك بالكفي والتعظيم‬
‫كسالم االعاجم ‪4 .‬ـ إنه السجود المتعارف وهو وضع الجبهة باألرض‬
‫وعزاه القرطبي الى الجمهور وهو الصواب وال يعكر عليه أن السجود@ في‬
‫الشريعة االسالمية محرم ألن ذلك خاص بآدم في العالم العلوي@ وليس ذلك‬
‫ضمن التكاليف المنوطة بأهل األرض فال يقاس عليه ومما يدل على أن‬
‫سجودهم كان على الجباه قوله تعالى (فَقَعُوا لَهُ َسا ِج ِدينَ ) الحجر ‪ ، 29 :‬حيث‬
‫أمرهم بالوقوع وهو السقوط ومن المرجحات لقول الجمهور أن االصل في‬
‫حكم اللفظ أن يكون محموال على بابه وحقيقته وال شك أن هذا يـتاكد اذا‬
‫كان معه قرينة تدل عليه كما في هذا السجود@ ولهذا قال ابن عطية ( وهذه‬
‫اللفظة ( فقعوا ) تقوي أن سجود المالئكة إنما كان كالمعهود عندنا ال انه‬
‫خضوع وتسليم واشارة كما قال بعض الناس ) المحرر الوجيز في تفسير‬
‫الكتاب العزيز ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط‪ 1‬ـ ‪1413‬هـ ـ ‪1993‬م ـ‬
‫ج‪ 8‬ص‪ ، 308‬لكنه ـ رحمه هللا ـ ناقض نفسه في موضع آخر من تفسيره‬
‫اج ِدينَ ) ال دليل فيه ألن الجاثي على ركبتيه‬ ‫فقال ‪ :‬وقوله تعالى (فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬
‫واقع وما اعتل به منقوض بكالمه اآلنف الذكر كما أن الجثي ال يلزم منه‬
‫االنحناء‪ .‬فيترجح قول الجمهور ف هذه المسألة وهللا اعلم‪ .‬ينظر في ذلك‬
‫المفردات ـ الراغب االصفهاني ص‪ ،224‬والجامع ألحكام القرآن ـ‬
‫القرطبي ج‪ ، 293 1‬ومعاني القرآن ـ الفراء ـ تحقيق احمد يوسف بحاتي ـ‬
‫ومحمد علي النجار ـ طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ‪1980‬م ـ ج‪2‬‬
‫ص‪ ، 88‬وأحكام القرآن ـ الجصاص ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ‬
‫‪1405‬هـ ـ ج‪ 1‬ص‪ ، 32‬وفتح القدير ـ الشوكاني ج‪ 1‬ص‪ ، 66‬والتحرير‬

‫‪291‬‬
‫للمفضول ‪ ،‬يعني لعنه هللا‪ :‬وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ؟‬
‫ثم بين وجه هذه الخيرية@ بأنه خلق من نار ‪ ،‬والنار أشرف من الطين@‬
‫الذي خلق منه آدم فنظر اللعين إلى أصل العنصر الذي خلق منه ولم‬
‫ينظر الى التشريف العظيم الذي ناله آدم وهو إن هللا تعالى خلقه بيده‬
‫ونفخ فيه من روحه ‪ ،‬وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى‬
‫ين ) كما أنه لم ينظر لعنه هللا ألمر من أمره‬ ‫للمالئكة(فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬
‫اج ِد َ‬
‫بالسجود وهو هللا جل جالله ثم أن ابليس حتى في دعواه أن النار‬
‫أشرف من الطين ادعاء غير صحيح ‪ ،‬فإن الطين من شأنه الرزانة‬
‫والحلم واألناة والتثبت ‪ ،‬وهو محل النبات والنمو والزيادة ‪ ،‬والنار من‬
‫شأنها االحراق والطيش والسرعة (‪.)1‬وهذا االدعاء اإلبليسي قائم على‬
‫فريتين@ قاعدتهم التوهم الباطل@ ودافعهما الكبر وحب االستعالء ولو بغير‬
‫إن من كان مخلوقا من عنصر أو عناصر أشرف‬ ‫حق ‪ ،‬الفرية األولى ‪َّ :‬‬
‫‪ ،‬كان هو أشرف دواما ‪ ،‬ولو ظهرت منه بعد خلقه قبائح ومكنرات‬
‫وأشياء خسيسة ‪ ،‬لم تظهر ممن كان مخلوقا من عناصر أقل قيمة من‬
‫عناصره التي خلق هو منها ‪ ،‬ولو ظهرت منه بعد خلقه فضائل ومزايا‬
‫ومحاسن عظيمة لم يأت بمثلها ذو العنصر األشرف ‪ ،‬وهذه الفرية هي‬
‫أساس االستعالء@ واالستكبار باألعراق واألصول القائم على ادعاء‬
‫التفاضل العرقي الذي يسري الى الفروع ‪ ،‬وفروع الفروع ولو فسدت‬
‫ونجم عنها ضر كبير وشر مستطير@ ‪.‬‬
‫الفرية الثانية ‪ :‬إن عنصر النار أشرف من عنصر الطين وهذا‬
‫ادعاء توهمي باطل فالنار ذات نفع بحرارتها ألنضاجها األشياء‬
‫واستخدامها في منافع كثيرة ‪ ،‬وذات ضرر عظيم وخطر جسيم حينما‬
‫تحرق وتتلف وتهلك ‪ ،‬والطين ذو نفع عظيم جدا حينما يكون عنصرا‬
‫إلنبات الزروع والثمار وسائر نباتات األرض النافعات لألحياء في‬
‫غذائهم‪.....‬فتفضيل عنصر النار على عنصر الطين تفضيل توهمي‬
‫باطل دافعه النزعة االستكبارية@ المنتنة التي نفخت في صدر ابليس@‬

‫والتنوير ـ ابن عاشور ج‪ 1‬ص ‪.422‬‬


‫) ينظر فتح القدير ـ الشوكاني ج‪ 4‬ص‪.444‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر تفسير ابن كثير ج‪ 2‬ص‪ ، 203‬والمستفاد من قصص القرآن ـ عبد‬ ‫‪1‬‬

‫الكريم زيدان ج‪ 1‬ص ‪14‬‬

‫‪292‬‬
‫فجعلته يعصي ربه ) (‪ .)1‬وابليس@ بمقولته@ هذه يكون اول من بذر بذرة‬
‫االستعالء والتحقير ذلك أنه عبر التاريخ ظهر صنف من الناس وسوس‬
‫لهم الشيطان وألقى في روعهم أنهم ارقى من البشر وتجري في‬
‫عروقهم دماء اآللهة فكانوا اتباعه وكان كبيرهم في هذا التحقير‬
‫واالستعالء ‪ .‬ووفقا لهذا الفقه الشيطاني@ ادعى هذا الصنف من البشر‬
‫األلوهية وفي عهودهم اندرج االنسان الى مستوى أقل من مستوى‬
‫البهيمة ‪ .‬فابليس بهذه المقولة ذل االنسان على يدي االنسان ‪ .‬من‬
‫منطلق حقده وخصومته آلدم وأبنائه@ ‪ .‬ولم يقذف الشيطان بفقه (أَنَا َخ ْي ٌر‬
‫ِّم ْنهُ )على الجبابرة الذين ادعوا األلوهية على امتداد التاريخ فقط ‪ .‬وإنما‬
‫قذف بفقه (أَنَا َخ ْي ٌر ِّم ْنهُ) على الخاص والعام في الساحة االنسانية لوقف‬
‫تقدم دين الفطرة‪ .‬فما من نبي أو رسول بعثه هللا منذ ذرأ هللا ذريته آدم‬
‫االّ رفعت في وجهه الفتة تحقير االنسان التي انبثقت من فقه (أَنَا َخ ْي ٌر‬
‫ِّم ْنهُ) الذي يحمل بين طياته الخصومة لبني االنسان لقد واجه الخاص‬
‫والعام رسل هللا عليهم السالم بقول واحد على امتداد الرساالت فقالوا {‬
‫نز َل الرَّحْ من ِمن َش ْي ٍء }(‪ ،)2‬وقالوا {إِ ْن أَنتُ ْم إِالَّ‬ ‫َما أَنتُ ْم إِالَّ بَ َش ٌر ِّم ْثلُنَا َو َما أَ َ‬
‫ان يَ ْعبُ ُد آبَآ ُؤنَا }(‪ )3‬وقالوا {فَقَا َ@ل ْال َمأَل ُ‬ ‫ص ُّدونَا َع َّما َك َ‬ ‫ون أَن تَ ُ‬ ‫بَ َش ٌر ِّم ْثلُنَا تُ ِري ُد َ‬
‫ين َكفَرُوا ِمن قَ ْو ِم ِه َما هَ َذا إِاَّل بَ َش ٌر ِّم ْثلُ ُك ْم ي ُِري ُد أَن يَتَفَض ََّل َعلَ ْي ُك ْم }(‪ . )4‬لقد‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫قام ابليس بتوظيف خصومته لإلنسان بأن بث ثقافة من شأنها أن تمنع‬
‫السجود هلل واذا كان هو أصل هذه الثقافة يوم أن رفض السجود‪ .‬فإن‬
‫هذه الثقافة حملها في الدنيا االنسان ضد االنسان بعد أن دق الشيطان‬
‫وتدها في الكيان االنساني وفقه التحقير هذا باق ما بقي الشيطان‬
‫فالشيطان يطرحه على قوم وعند ذهاب السلف يلقيه الشيطان على‬
‫الخلف وهكذا تتسع الحلقات ليكون التحقير مألوفا على امتداد القافلة‬
‫البشرية وهذا ما نلحظه اليوم في واقعنا وما نعاني منه نحن أمة االسالم‬
‫تلك هي خطة الشيطان في فقه التحقير الذي يرفض الهدى ليفتح أبواب‬

‫) معارج التفكر ودقائق التدبر ـ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ـ دار‬ ‫‪1‬‬

‫القلم ـ دمشق ـط‪ 1‬ـ ‪ 1421‬هـ ـ ‪2000‬م مجلد ‪ 4‬ص ‪113‬ـ ‪.115‬‬
‫) يس ‪.15 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) إبراهيم ‪.10:‬‬ ‫‪3‬‬

‫) المؤمنون ‪.24 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪293‬‬
‫النار(‪.)1‬‬
‫ثم يظهر للمتدبر الفطن أن ابليس@ بمقولته@ هذه ورفضه للسجود‬
‫آلدم هو في نفس الوقت رفضا ً للخضوع لالنسان والعمل في سبيل‬
‫سعادته واعانته على كمال المطلوب على خالف ما ظهر من المالئكة‬
‫فهو بإبائه عن السجدة خرج من جموع المالئكة كما يفيده قوله تعالى‬
‫ين }(‪ .)2‬وأظهر الخصومة لنوع‬ ‫َّاج ِد َ‬
‫ون َم َع الس ِ‬ ‫ك أَالَّ تَ ُك َ‬‫ال يَا إِ ْبلِيسُ َما لَ َ‬
‫{قَ َ‬
‫االنسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا‪ .‬وابليس بمخالفته أمر هللا أصبح‬
‫من المرجومين والملعونين@ والصاغرين وكأن هذه الصفات تعطي‬
‫انطباعا أن كل من يخالف أمر هللا سبحانه وتعالى ‪ ،‬يتلبس@ بهذا اللبوس@‬
‫ويتصف بهذا الوصف ذلك أن الذي يتكبر على هللا يجلببه@ هللا بجلباب‬
‫الذل والصغار فمن تواضع هلل رفعه ومن تكبر على هللا وضعه(‪.)3‬‬
‫وبعد هذا الطرد واللعن طلب االنظار واالمهال الى يوم يبعثون‬
‫ين} (‪ .)4‬أي‬‫ك ِم َن ال ُمنظَ ِر َ‬ ‫ال إِنَّ َ‬‫ون‪ ‬قَ َ‬‫ال أَن ِظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫قال تعالى {قَ َ‬
‫امهلني وال تمتني الى يوم يبعثون أي بعث آدم وذريته من قبورهم وهو‬
‫ين} أي من المؤجلين الى ذلك‬ ‫ك ِم َن ال ُمنظَ ِر َ‬ ‫ال إِنَّ َ‬
‫يوم القيامة والحساب { قَ َ‬
‫اليوم(‪. )5‬‬
‫لقد تكرر هذا الطلب من ابليس في سورتي ( ص ) والحجر ‪ .‬قال‬
‫ك ِم َن ْال ُمنظَ ِر َ‬
‫ين} (‪ )6‬وقال‬ ‫ال فَإِنَّ َ‬ ‫ون‪ ‬قَ َ‬‫نظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫ال َربِّ فَأ َ ِ‬
‫تعالى {قَ َ‬
‫(‪)7‬‬
‫ك ِم َن ْال ُمنظَ ِر َ‬
‫ين }‬ ‫ال فَإِنَّ َ‬ ‫ون‪ ‬قَ َ‬‫نظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫ال َربِّ فَأ َ ِ‬
‫تعالى {قَ َ‬
‫) ينظر االنحرافات الكبرى ـ القرى الظالمة في القرآن الكريم ـ سعيد أيوب‬ ‫‪1‬‬

‫ص ‪ 17‬ـ ‪ ،19‬وينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ عبد الرحمن حسن‬


‫حبنكة الميداني ـ م ‪ 4‬ص ‪.114‬‬
‫) الحجر ‪. 32 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر محاسن التأويل ـ القاسمي ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار‬ ‫‪3‬‬

‫احياء التراث العربي ـ بيروت ـ ط‪ 1‬ـ ‪1415‬هـ ـ ‪1995‬م ـ ج‪ 7‬ص ‪26‬ـ‬


‫‪ ، 27‬والمنار ج‪ 8‬ص‪ ، 334‬وصفوة التفاسير ـ محمد علي الصابوني ـ دار‬
‫القرآن الكريم ـ بيروت ـ ط‪ 2‬ـ ‪1402‬هـ ـ ‪1981‬م ـ ج‪ 1‬ص ‪.438‬‬
‫) األعراف ‪ 14 :‬ـ ‪.15‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ينظر تفسير القاسمي ج‪ 7‬ص‪.27‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ص ‪ 79 :‬ـ ‪.80‬‬ ‫‪6‬‬

‫) الحجر ‪36 :‬ـ ‪.37‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪294‬‬
‫نلحظ في هاتين اآليتين@ فروقا تعبيرية عن آية األعرف وهي فروق‬
‫يكتمل فيها البناء الفني للقصة وتوضح من خاللها الصورة الفنية@ بهذا‬
‫التنوع@ في التعبير فقد ذكر في سورة ( ص ) و (الحجر ) لفظ الرب في‬
‫اثناء السؤال وجاء بالفاء ‪ .‬فما الوجه في ذلك ؟ إنه السياق الذي يحدد‬
‫تركيب االلفاظ وحسن اتساق المعاني وارتصافها ‪ ،‬وتجدد المعاني‬
‫وتغايرها بحيث تحمل كل وحدة لفظية@ داللة معنوية@ مستقلة(‪.)1‬ففي‬
‫سورة األعراف لما اختصر هللا سبحانه وتعالى في السؤال على‬
‫الخطاب دون صريح االسم في هذه السورة اختصر في الجواب أيضا‬
‫على الخطاب دون ذكر المنادى ‪ .‬وأما زيادة الفاء في السورتين دون‬
‫هذه السورة فألن داعية الفاء ما تضمنه النداء@ من أدعوا أو أنادي نحو‬
‫(‪)3‬‬
‫( َربَّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا) (‪ )2‬أي أدعوك وكذلك داعية الواو في قوله ( َربَّنَا َوآتِنَا)‬
‫فحذف المنادى في هذه السورة فلما حذفه انحذفت الفاء ) (‪ . )4‬ويمكن أن‬
‫نلحظ بعدا فنيا آخر إن ابليس قد جرت له محكمة ربانية حول عدم‬
‫تنفيذه ألمر هللا سبحانه وتعالى وهذه المحكمة قد تمت على جلسات‬
‫ظهر فيها ابليس@ في الجلستين@ األولى والثانية@ كما في سورتي ص‬
‫والحجر يستعطف ربه سبحانه وتعالى فقال فيهما بعد اصدار الحكم‬
‫ون} أما في سورة االعراف هذه‬ ‫ال َربِّ فَأ َ ِ‬
‫نظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫عليه {قَ َ‬
‫فكانها كانت الجلسة الثالثة واألخيرة فخاطب هللا جل جالله بجفاء دون‬
‫ون } لقد واجه‬ ‫ال أَ ِ‬
‫نظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬ ‫أن يقول له ‪ ( :‬رب ) بل قال {قَ َ‬
‫ربه بخطاب مماثل لخطاب هللا له ‪ .‬فكما قال هللا له في هذه اآلية {قَا َل‬
‫ين‬ ‫ال أَنَاْ َخ ْي ٌر ِّم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِمن نَّ ٍ‬
‫ار َو َخلَ ْقتَهُ ِمن ِط ٍ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ك أَالَّ تَ ْس ُج َد إِ ْذ أَ َمرْ تُ َ‬
‫َما َمنَ َع َ‬
‫} دون أن يتلطف@ به بذكر اسمه كما فعل في سورتي ـ ص والحجر ـ‬
‫ون } دون أن يقول ( رب ) فقد كان في‬ ‫قال ابليس {أَن ِظرْ نِي إِلَى يَ ْو ِم يُ ْب َعثُ َ‬
‫هذا الخطاب شديد الوقاحة فخاطب ربه بأسلوب ال يكون االّ من الند‬

‫) ينظر نظرية السياق القرآني ـ د‪ .‬مثنى عبد الفتاح محمود ص ‪.233‬‬ ‫‪1‬‬

‫) آل عمران ‪.193 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) آل عمران ‪.194 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) اسرار التكرار في القرآن ـ محمود بن حمزة بن نصر الكرماني ـ دراسة‬ ‫‪4‬‬

‫وتحقيق عبد القادر احمد عطا ـ دار أبو سالمة للطباعة والنشر والتوزيع ـ‬
‫تونس ‪ :‬ص ‪ 78‬ـ ‪.79‬‬

‫‪295‬‬
‫للند(‪ .)1‬ولما علم ابليس@ بامهال هللا له الى يوم القيامة كشف اللعين عن‬
‫حقده وعداوته آلدم وذريته وما هو عازم عليه إليذائهم@ واضرارهم‬
‫واضاللهم وصرفهم عن الصراط المستقيم(‪ )2‬قال تعالى حكاية عما قال‬
‫ك ْال ُم ْستَقِي َم‪ ‬ثُ َّم آلتِيَنَّهُم ِّمن بَ ْي ِن‬ ‫ال فَبِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي ألَ ْق ُع َد َّن لَهُ ْم ِ‬
‫ص َراطَ َ‬ ‫ابليس {قَ َ‬
‫أَ ْي ِدي ِه ْم َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم َو َع ْن أَ ْي َمانِ ِه ْم َو َعن َش َمآئِلِ ِه ْم َوالَ تَ ِج ُد أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِر َ‬
‫ين‪ ‬قَا َل‬
‫(‪)3‬‬
‫ألن َجهَنَّ َم ِمن ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين }‬ ‫ك ِم ْنهُ ْم ألَ ْم َّ‬ ‫اخرُجْ ِم ْنهَا َم ْذ ُؤوما ً َّم ْدحُوراً لَّ َمن تَبِ َع َ‬ ‫ْ‬
‫فهنا ابليس جريا على وقاحته ادعى أن هللا سبحانه وتعالى أغواه بما‬
‫فعل وفعل الغواية هذا قد تكرر في ص والحجر ففي ص قال‬
‫({ فَبِ ِع َّزتِ َك أَل ُ ْغ ِويَنَّهُ ْم }(‪ )4‬وفي الحجر قال { َربِّ بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي } ‪ .‬ففي‬
‫(‪)5‬‬

‫االعراف مقتصرا على الخطاب دون النداء@ وهو متماشي مع سياق‬


‫اآلية أما في ص فقد أقسم هو على اغواء آدم وذريته وفي الحجر‬
‫مطابق لما قبله في الجري على النداء@(‪ .)6‬وللمفسرين في الباء الواردة‬
‫ال فَبِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي } أقوال ‪:‬‬
‫في قوله تعالى {قَ َ‬
‫القول األول ‪ :‬على إنه باء القسم أي باغوائك اياي ألقعدن لهم‬
‫صراطك المستقيم أي ‪ :‬بقدرتك عل ّي ونفاذ سلطانك ف ّي ألقعدن لهم على‬
‫الطريق@ المستقيم@ الذي يسلكوه الى الجنة ‪ ،‬ولما كانت ( الباء ) باء القسم‬
‫‪ ،‬كانت ( الالم ) جواب القسم و ( ما ) بتأويل المصدر و ( أغويتني )‬
‫صلتها‪.‬‬
‫القول الثاني ‪:‬ـ الباؤء في قوله تعالى ( فَبِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي ) سببية ‪،‬‬
‫أي بسبب اغوائك إياي ألقعدن لهم ‪ ،‬والمراد انك لما أغويتني فأنا أيضا‬
‫أسعى في اغوائهم‪.‬‬
‫القول الثالث ‪:‬إن ( ما ) في قوله ( فَبِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي) لالستفهام كأنه‬
‫قال ‪ :‬بأي شيء أغويتني@ ثم ابتدأ@ وقال (ألَ ْق ُع َد َّن لَهُ ْم) وفيه اشكال وهو‬
‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني م‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 4‬ص‪ 118‬ـ ‪.119‬‬


‫) ينظر المستفاد من قصص القرآن ـ عبد الكريم زيدان ـ ج‪ 1‬ص ‪، 15‬‬ ‫‪2‬‬

‫ومعارج التفكر ودقائق التدبر م‪ 12‬ص ‪.119‬‬


‫) األعراف ‪16 :‬ـ ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ص‪.82‬‬ ‫‪4‬‬

‫) الحجر ‪.39 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ينظر اسرار التكرار في القرآن ـ الكرماني ص‪.79‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪296‬‬
‫أن اثبات األلف إذا دخل حرف الجر على ( ما ) االستفهامية قليل(‪.)1‬‬
‫والذي يترشح عن المعاني أن الباء جارة سببية كأنه قال فبسبب حكمك‬
‫عل ّي بالغواية@ و ( ما ) هنا مصدرية وهي التي تؤول مع الفعل الذي‬
‫بعدها بمصدر أي ‪ :‬فباغوائك لي في حكمك الصادر عل ّي والمراد‬
‫باالغواء الحكم الصادر على ابليس@ بعد رفضه أمر هللا بالسجود آلدم ‪،‬‬
‫ال تقديره وال االجبار عليه فهو الذي جناه بيده والالم في (ألَ ْق ُع َد َّن )‬
‫واقعة في جواب قسم محذوف فيكون تقدير الكالم فبسبب حكمك عل ّي‬
‫بالغواية أقسم ألقعدن الغوائهم مالزما صراطك المستقيم يفسر ذلك‬
‫ك أَل ُ ْغ ِويَنَّهُ ْم)‪ .‬واالغواء االيقاع‬
‫ويوضحه قسمه في سورة ص(‪( )2‬فَبِ ِع َّزتِ َ‬
‫في الغواية وهي ضد الرشاد يقال غوى الرجل يغوي غيا إذا فسد عليه‬
‫أمره أو فسد هو في نفسه ‪ ،‬ويقال أغواه هللا أي أضله ‪ ،‬فاغواء ابليس‬
‫آلدم وذريته هو اضاللهم وافسادهم وصدهم عن سبيل الحق(‪. )3‬‬
‫وصراط هللا المستقيم@ هو الطريق الذي يصل بسالكه الى السعادة‬
‫التي اعدها هللا تعالى لمن زكى نفسه بهداية@ دينه الحق(‪. )4‬وانتصب لفظ‬
‫( صراط ) لتضمن فعل ( أقعد ) معنى فعل ( االزم ) على أنه مفعول‬
‫به فأغنى هذا التضمين عن التصريح بجملتين إذ الجملة األولى حذف‬
‫معمولها والجملة الثانية حذف لفظ فعلها وضمن الفعل المذكور معناه‬
‫والتقدير ‪ :‬ألقعدن عند صراطك مالزما اياه (‪ .)5‬والتضمن ظاهرة قرآنية‬
‫هي من عناصر ابداعه@ البياني@ لها اثرها في رسم الصورة الفنية فقد‬
‫أبان ابليس بقعوده معنى التمكن وأضاف إليه معنى المالزمة فتمت له‬
‫المرابطة@ بكامل عناصرها(‪.)6‬‬

‫) ينظر الكشاف ج‪ 2‬ص‪ ، 541‬وزاد المسير ج‪ 3‬ص ‪ ، 176‬والتفسير‬ ‫‪1‬‬

‫الكبير ـ الرازي ج ‪ 19‬ص ‪ ، 147‬وتفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ج‪2‬‬


‫ص ‪ ، 552‬وروح المعاني ج‪ 8‬ص ‪. 94‬‬
‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ حبنكة الميداني م‪ 4‬ص ‪.120‬‬ ‫‪2‬‬

‫) معجم مقاييس اللغة ج‪ 4‬ص ‪ ،399‬ولسان العرب ج‪ 15‬ص ‪، 140‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومحاسن التاويل ج‪ 7‬ص ‪.31‬‬


‫) ينظر تفسير المنار ج‪ 8‬ص ‪ ، 337‬والمستفاد من قصص القرآن ـ عبد‬ ‫‪4‬‬

‫الكريم زيدان ج‪ 1‬ص‪.15‬‬


‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪.121‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ينظر مفاتيح الغيب ـ الرازي ج‪ 14‬ص ‪.36‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪297‬‬
‫إذن المرابطة بتمكن ومالزمة وترصد هي أول شروط اعمال‬
‫االغراء واالغواء@ لإلبعاد والصرف عن صراط هللا المستقيم@ وابليس@ لم‬
‫يعط العهد على نفسه بهذه المرابطة االّ بعد أن الحظ ذريته االبالسة‬
‫وجنوده من شياطين الجن واالنس وانهم سيكونون أعوانه@ في تنفيذ@ هذه‬
‫الخطة المبرمجة بدليل@ قوله تعالى في سورة الكهف { َوإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ئِ َك ِة‬
‫ق ع َْن أَ ْم ِر َربِّ ِه أَفَتَتَّ ِخ ُذونَهُ َو ُذ ِّريَّتَهُ‬
‫يس َكانَ ِمنَ ْال ِجنِّ فَفَ َس َ‬ ‫ا ْس ُج ُدوا آِل َد َم فَ َس َج ُدوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫س لِلظَّالِ ِمينَ بَ َدالً }(‪ )1‬وقول هللا عزوجل في‬ ‫أَوْ لِيَاء ِمن ُدونِي َوهُ ْم لَ ُك ْم َع ُد ٌّو بِ ْئ َ‬
‫سورة الشعراء بشأن مصير الغاوين والمشركين في الجحيم وجنود‬
‫يس أَجْ َمعُونَ } (‪ )2‬فابليس‬ ‫ابليس أجمعين ‪{ :‬فَ ُك ْب ِكبُوا فِيهَا هُ ْم َو ْالغَاوُونَ ‪َ ‬و ُجنُو ُد إِ ْبلِ َ‬
‫لما أعطى العهد على نفسه باالغواء كان يعلم أنه سيكون له جنود‬
‫وأعوان يعينوه في تنفيذ@ خطته هذه ‪ .‬وجعل ابليس مكان المرابطة على‬
‫صراط هللا المستقيم ألن مهمته صرف المتجهين لسلوكه عنه واخراج‬
‫السالكين فيه منه أما اآلخرون السالكون في سبلهم المختلفة البعيدة عن‬
‫صراط هللا المستقيم فانهم غاوون بأنفسهم وقد وفروا على ابليس‬
‫مباشرة مهمة اغوائهم بل هم مهيئون ألن يكونوا من جنوده شياطين‬
‫اإلنس مع شياطين الجن المالزمين لهم(‪ .)3‬ثم بعد هذه المالزمة على‬
‫الصراط المستقيم@ بين أنه سيحيط باالنسان ويأتيه من كل جانب كما قال‬
‫خَلفِ ِه ْم َوع َْن أَ ْي َمانِ ِه ْم َوعَن َش َمآئِلِ ِه ْم َوالَ ت َِج ُد‬
‫تعالى {ثُ َّم آلتِيَنَّهُم ِّمن بَ ْي ِن أَ ْي ِدي ِه ْم َو ِم ْن ْ‬
‫أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِرينَ }(‪ .)4‬وقد ذهب المفسرون في تحديد هذه الجهات مذاهب‬
‫شتى يمكن اجمالها على النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪1‬ـ جاء عن عبد هللا بن عباس في تفسير هذه أالية@ (ثُ َّم آلتِيَنَّهُم ِّمن‬
‫بَي ِْن أَ ْي ِدي ِه ْم ) أي أشككهم في آخرتهم ) ( َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم ) أي أرغبهم في‬
‫دنياهم ( َو َع ْن أَ ْي َمانِ ِه ْم ) أي أشبه عليهم أمر دينهم ( َو َعن َش َمآئِلِ ِه ْم ) أي‬
‫أشهي لهم المعاصي(‪.)5‬‬
‫‪2‬ـ ذهب السدي وابن جريح الى أن معنى قوله تعالى ( ِّمن بَ ْي ِن أَ ْي ِدي ِه ْم‬

‫) الكهف ‪.50:‬‬ ‫‪1‬‬

‫) الشعراء ‪94 :‬ـ ‪.95‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص‪.122‬‬ ‫‪3‬‬

‫) األعراف ‪.17 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ج‪ 2‬ـ ص ‪.204‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪298‬‬
‫) أي من قبل دنياهم وقوله تعالى ( َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم) أي ‪ :‬من قبل آخرتهم (‪.)1‬‬
‫‪3‬ـ قال مجاهد ‪ :‬بأن المراد به هو من حيث يبصرون ومن حيث ال‬
‫يبصرون(‪.)2‬‬
‫‪4‬ـ وذهب ابن جرير الى أن المراد جميع طرق الخير والشر ‪،‬‬
‫فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم(‪.)3‬‬
‫‪5‬ـ وذهب صاحب تفسير الميزان الى أن المراد بما بين أيديهم ‪ :‬ما‬
‫يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم والمراد بخلفهم ‪ :‬ناحية االوالد‬
‫واألعقاب والمراد باليمين‪ :‬هو الجانب القوي الميمون في االنسان ناحية‬
‫سعادتهم وهو الدين والمراد بالشمال‪ :‬خالف اليمين@ واتيانه@ منه أن يزين‬
‫لهم الفحشاء والمنكر(‪.)4‬‬
‫تلك جل أقوال المفسرين حول هذه اآلية@ لكننا يمكن أن نلحظ فيها‬
‫معنى أعمق مما ذكر يتماشى مع البناء@ الفني للنص القرآني هذا الملحظ‬
‫يتمثل في أن االغواء يتطلب مغوي ومغوى وتنحصر أعمال المغوي‬
‫الحريص على صد السالك عن سبيل هللا ‪ ،‬واخراج السالك فيه منه‬
‫وتوجيهه لسبل ضالة شتى في اربع جهات‪:‬‬
‫الجهة األولى ‪ :‬هي جهة ما بين يدي السالك‪.‬‬
‫الجهة الثانية@ ‪ :‬هي جهة ما خلف السالك‪.‬‬
‫الجهة الثالثة ‪ :‬هي الجهة الواقعة عن يمين السالك‪.‬‬
‫الجهة الرابعة ‪ :‬هي الجهة الواقعة عن شمال السالك‪.‬‬
‫واعمال المغوي ‪:‬اما أن تكون صدا وهذه تكون من االمام وإما أن‬
‫تكون جذبا ومنعا من التقدم وهذه تكون من الخلف واما أن تكون تحويال‬
‫عن خط السير وهذه تكون عن االيمان وعن الشمائل ‪ ،‬أما ما هو فوق‬
‫الصراط ‪ ،‬أو ما هو تحته ‪ ،‬فال دفع وال جذب يكون في أي واحد منهما ‪،‬‬
‫ألن موقع الصراط شامل لما هو فوقه ولما هو تحته فمن كان سالكا على‬
‫صراط هللا المستقيم فكل علو فوقه أرضه هو منه وكل عمق تحت أرضه‬
‫) زاد المسير في علم التفسير ـ ج‪ 3‬ص ‪ 176‬ـ ‪.177‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر ‪ :‬المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ـ ابن عطية ج‪ 2‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ، 381‬وتفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ج‪ 2‬ص ‪.205‬‬


‫) ينظر جامع البيان ‪ :‬ج‪ 8‬ص ‪.136‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر تفسير الميزان ـ الطبطبائي ج‪ 31‬ص‪.8‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪299‬‬
‫هو منه وبهذا ابان ابليس خطته في الحصار االغوائي وطوى النص‬
‫حركات الصد والمنع والتحويل عن صراط هللا المستقيم ألنها مما يمكن‬
‫فهمه ذهنا فالنص هنا يصور لنا خطة ابليس في هذا الحصار@ االغوائي أما‬
‫الوسيلة المستعملة في هذا االغواء فقد بينتها سورة الحجر قال تعالى {قَ َ‬
‫ال‬
‫ض َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين }(‪ )1‬فالوسيلة‬ ‫ُ‬
‫َربِّ ِب َما أَ ْغ َو ْيتَنِي أل َزيِّنَ َّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫المتبعة بعد هذا الحصار@ الشيطاني هي التزيين لهم في األرض من أفكار‬
‫وأهواء وشهوات وغرائز وهو ما جاء بيانه في هذه االية من سورة الحجر‬
‫إذن البناء الفني يكتمل إذا فهمنا أن آية سورة األعراف تصور الحصار‬
‫الشيطاني لإلنسان بعد القعود له على الصراط المستقيم وآية سورة الحجر‬
‫تبين الوسيلة المستخدمة في االغواء فأصول االغواء ترجع الى ثالثة‬
‫أعمال في خطة ابليس‪:‬‬
‫األول ‪ :‬الصد من االمام‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬المنع والجذب من الخلف‪.‬‬
‫الثالث ‪:‬التحويل ذات اليمين وذات الشمال‪.‬‬
‫وهكذا أعلن ابليس@ أصول خطته العامة إلغواء ذرية آدم في هذه‬
‫أآلية (‪ .)2‬وإبليس بعد أن أعلن عن خطته بين قوة اضالله بأن خاطب‬
‫ين} كأن عبارته هذه توحي‬ ‫هللا جل جالله بقوله { َوالَ تَ ِج ُد أَ ْكثَ َرهُ ْم َشا ِك ِر َ‬
‫بأن خطته محكمة فلن يفلت من الوقوع في حبائله االّ القليل من‬
‫الناس(‪.)3‬وشاكر اسم فاعل وهو يطلق@ على من يكون منه شكر ما ولو‬
‫كان قليال أما من ليس لديه أدنى شكر لربه فهو كفور ( صيغة مبالغة‬
‫لكافر ) والكفور هو الذي ليس في قلبه مثقال ذرة من ايمان ولهذا عبر‬
‫هللا عزوجل عن المؤمن ولو من أدنى درجات االيمان بعبارة ( شاكر )‬
‫وعبر عن الكافر ولو من أخف دركات الكفر بعبارة (كفور ) فقال‬
‫اج نَّ ْبتَلِي ِه‬ ‫ان ِمن نُّ ْ‬
‫طفَ ٍة أَ ْم َش ٍ‬ ‫تبارك وتعالى في سورة االنسان {إِنَّا َخلَ ْقنَا اإْل ِ ن َس َ‬
‫يل إِ َّما َشا ِكراً َوإِ َّما َكفُوراً} (‪ )4‬أي ‪ :‬إما‬ ‫فَ َج َع ْلنَاهُ َس ِميعا ً بَ ِ‬
‫صيراً‪ ‬إِنَّا هَ َد ْينَاهُ ال َّسبِ َ‬
‫أن يكون بعد رحلة امتحانه شاكرا ولو من أدنى درجات الشكر بايمان‬
‫مقبول يدخل الجنة وإما أن يكون بعد رحلة امتحانه كفور ولو كان‬
‫) الحجر ‪.39 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪122‬ـ ‪.123‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر التحرير والتنوير ـ ابن عاشور@ ج‪ 8‬ص‪.150‬‬ ‫‪3‬‬

‫) االنسان ‪.3 ، 2 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪300‬‬
‫كفره من أخف دركات الكفر ‪ ،‬وهو الكفر الذي يجعله خالدا في عذاب‬
‫النار(‪ .)1‬هل أدركنا دقة التعبير القرآني في استعمال العبارة ورسم‬
‫الصورة للشخوص؟ ولنا أن نتسأل هنا من أين جاءت هذه الثقة@ إلبليس@‬
‫حتى أخبر أن خطته ستنجح في المستقبل عبر تاريخ االنسان في‬
‫األرض فيكون أكثرهم كفورين لربهم ؟ يمكننا القول أن هذا كان من‬
‫ابليس مستندا@ الى ما رآه من عوامل ضعف االنسان في تكوينه@ ‪ ،‬وتأثير‬
‫أهوائه وشهواته وغرائزه على ارادته وإمكان استهوائه@ بها ‪ .‬أو أنه‬
‫قاس االنسان على ما سبق أن عرفه من طبيعة الجن ‪ ،‬ذوي االرادات‬
‫الحرة واالهواء والشهوات والغرائز ‪ .‬وهذه مشابهة لما لدى االنسان(‪.)2‬‬
‫والدليل@ على أن هذا قد كان ظنا من إبليس@ مستندا الى امارات الحظها‬
‫قول هللا عزوجل في سورة سبأ في معرض الحديث عن سبأ‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫ومعاقبتهم بالسيل العرم وتمزيقهم كل ممزق { َولَقَ ْد َ‬
‫ص َّد َ‬
‫ين }(‪ .)3‬إذن هذه خطته التي أفصح‬ ‫ظنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِاَّل فَ ِريقا ً ِّم َن ْال ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫إِ ْبلِيسُ َ‬
‫عنها بعد أن أمهل الى يوم الوقت المعلوم ‪ ،‬وقبل أن انتقل الى الواقع‬
‫التطبيقي لهذه الخطة الشيطانية علينا أن نشير الى بقية أجزاء هذه الخطة‬
‫ذلك ان هناك نصوص قرآنية أخرى أفصحت عن جوانب أخرى من‬
‫الخطة الشيطانية في إضالل الناس فإذا كان هنا قد بين المكان الذي‬
‫سيكمن فيه لبني آدم والجهات التي سيراودهم من خاللها فانه في‬
‫نصوص أخرى ـ كما ذكرت آنفا ـ قد ذكر الوسائل المستعملة في‬
‫تطبيق خطة االحاطة هذه ‪ .‬نقرأ في سورة الحجر الوسيلة األولى في‬
‫ال َربِّ بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي‬
‫اإلضالل اآل وهي التزيين واالغواء قال تعالى {قَ َ‬
‫ين } أي ألزينن لهم الباطل@ أو‬ ‫ض َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ُ‬
‫أل َزيِّنَ َّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ألزينن لهم المعاصي والمراد بالتزيين لهم في األرض غرورهم في‬
‫هذه الحياة الدنيا وهو السبب القريب لإلغواء(‪ . )4‬لقد اعتمد الشيطان فقه‬
‫التزيين واالغواء فهذا الفقه وحده يحافظ على الشذوذ وينقله@ من عصر‬
‫الى عصر ويطالعنا إبليس@ بوسيلة@ أخرى من وسائل تنفيذ خطته اآل‬
‫وهي وسيلة االحتناك التي جاءت االشارة اليها في قوله تعالى {قَا َل‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪.124‬‬ ‫‪1‬‬

‫) المصدر السابق م‪ 4‬ص ‪ 24‬ـ ‪.125‬‬ ‫‪2‬‬

‫) سبأ ‪.20 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر تفسير الميزان ـ الطبطبائي ـ ج‪ 12‬ص ‪.164‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪301‬‬
‫ت َعلَ َّي لَئِ ْن أَ َّخرْ تَ ِن إِلَى يَ ْو ِم ْالقِيَا َم ِة ألَحْ تَنِ َك َّن ُذ ِّريَّتَهُ إَالَّ قَلِيالً‬ ‫أَ َرأَ ْيتَ َ‬
‫ك هَـ َذا الَّ ِذي َك َّر ْم َ‬
‫}(‪ )1‬واالحتناك ‪ :‬االقتطاع من األصل يقال ‪ :‬احتنك فالن من مال أو‬
‫علم إذا استقصاه فأخذه كله واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله وحنك‬
‫الدابة@ بحبلها إذا جعل في حنكها األسفل حبال يقودها به ‪.‬والمعنى‬
‫األخير هو األصل في الباب فاإلحتناك ‪ :‬االلجام كأن المعنى ألقودهم‬
‫الى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها االّ قليال من ذريته وهم‬
‫المخلصون(‪ .)2‬أنه فقه تلجيم العقول وتكميم األفواه وتعصيب العيون فقه‬
‫اليخدم االّ الغوغاء وتجار الشهوات لنثر االنحراف والشذوذ تحت الفته‬
‫براقة تنادي‪ :‬بالديمقراطية@ وحرية االنسان فيما يختار من تزيين‬
‫الشيطان أنه فقه يحمي الهجوم باالنحراف لتدمير الجنس البشري بأيدي‬
‫الجنس البشري(‪.)3‬‬
‫{وقَ َ‬
‫ال‬ ‫ومن وسائله أيضا في تنفيذ خطته ما جاء في قوله تعالى َ‬
‫ضلَّنَّهُ ْم َوألُ َمنِّيَنَّهُ ْم َوآل ُم َرنَّهُ ْم فَلَيُبَتِّ ُك َّن‬
‫صيبا ً َّم ْفرُوضا ً‪َ ‬وألُ ِ‬ ‫أَل َتَّ ِخ َذ َّن ِم ْن ِعبَا ِد َ‬
‫ك نَ ِ‬
‫ان األَ ْن َع ِام َوآل ُم َرنَّهُ ْم فَلَيُ َغيِّر َُّن َخ ْل َق هّللا ِ} (‪ .)4‬فهو هنا يفصح أنه سيستخلص‬ ‫آ َذ َ‬
‫أناسا يغويهم ويضلهم وعبر عن هذا االستخالص بالنصيب المفروض‬
‫كأن هؤالء الضالين نصيب ابليس@ الواجب له‪ .‬واضاللهم يكون‬
‫باالشتغال بعبادة غير هللا وباقتراف المعاصي واغرائهم باالشتغال‬
‫باآلمال واألماني التي تصرفهم عن االشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم‬
‫من أمرهم ثم يأمرهم بشق آذان االنعام وتحريم ما أحل هللا وأمرهم‬
‫بتغير خلق هللا وينطبق@ على مثل األخصاء وأنواع@ المثلة@ واللواط‬
‫والسحاق‪ .‬وليس من البعيد@ أن يكون المراد بتغير خلق هللا ‪ ،‬الخروج‬
‫عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف(‪ .)5‬فهذه األشياء وسائل الشيطان‬
‫في تنفيذ خطته وكل من اتخذ الشيطان له وليا أصبح أداة للشيطان‬
‫يحركه ليصيب به ما يشتهيه في عالم الزينة@ واالغواء@ ‪.‬بعد أن طرد هللا‬

‫) االسراء ‪.62 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) مفاتيح الغيب ج ‪ 21‬ص ‪ ،4‬وينظر تفسير القران العظيم ج‪ 3‬ص‪50‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪،‬ومحاسن التأويل ج‪ 9‬ص ‪.247‬‬


‫) ينظر االنحرافات الكبرى ـ سعيد ايوب ـ ص ‪ 23‬ـ ‪.24‬‬ ‫‪3‬‬

‫) النساء ‪ 118 :‬ـ ‪.119‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ينظر الجامع ألحكام القرآن ـ القرطبي ج‪ 5‬ص ‪ 388‬ـ ‪ ، 389‬وتفسير‬ ‫‪5‬‬

‫الميزان ج‪ 5‬ص ‪. 84‬‬

‫‪302‬‬
‫سبحانه وتعالى ابليس من الجنة(‪ )1‬الستكباره ورفضه السجود آلدم أسكن‬
‫هللا تعالى آدم وزوجه في الجنة وأباح لهما األكل منها من حيث شاء االّ‬
‫من شجرة واحدة عيّنها لهما ونهاهما عن األكل منها قال تعالى { َويَا آ َد ُم‬
‫ك ْال َجنَّةَ فَ ُكالَ ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوالَ تَ ْق َربَا هَـ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا‬ ‫نت َو َز ْو ُج َ‬‫ا ْس ُك ْن أَ َ‬
‫ين}(‪ )2‬وقد تكرر هذا األمر حرفيا في سورة البقرة ولكن‬ ‫ِم َن الظَّالِ ِم َ‬
‫ُك ْال َجنَّةَ َو ُكالَ‬
‫نت َو َز ْوج َ‬ ‫{وقُ ْلنَا يَا آ َد ُم ا ْس ُك ْن أَ َ‬
‫بزيادة لفظة ( قلنا ) قال تعالى َ‬
‫ين } ويمكن‬ ‫(‪)3‬‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوالَ تَ ْق َربَا هَـ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا ِم َن ْالظَّالِ ِم َ‬‫ِم ْنهَا َر َغداً َحي ُ‬
‫لنا أن نستنبط@ بعض القضايا المهمة من خالل هذين النصين ‪.‬‬
‫‪1‬ـ ان اآليتين@ دلتا على هللا عزوجل خلق آلدم زوجة وهي أمنا‬
‫حواء وأنه سبحانه تولى بنفسه عقد التزويج هذا بصريح قوله {ا ْس ُك ْن‬
‫ُك ْال َجنَّةَ}‪.‬‬ ‫أَ َ‬
‫نت َو َز ْوج َ‬
‫‪2‬ـ ان هللا عزوجل أسكنهما في بيت الزوجية المعد لهما ولذريتهما‬
‫المؤمنين باهلل المسلمين له ‪ ،‬أما غيرهم فالحظ لهم فيها‪ .‬وكان هذا‬
‫االسكان األول اسكان امتحان واختبار ال إسكان خلود واستقرار‪.‬‬
‫‪3‬ـ ان هللا عزوجل احل لهما أن يأكال من كل مأكول في الجنة ومن‬
‫كل مكان من امكنتها وحرم عليهما في اقامتهما االختبارية@ أن يأكال من‬
‫شجرة خاصة عينها لهما بشخصها أو بنوعها إذ نهى عن االقتراب منها‬
‫نهي تحريم بدليل@ ترتيب العقاب على األكل ‪ .‬دل على هذه القضية قوله‬
‫ْث ِش ْئتُ َما َوالَ تَ ْق َربَا هَـ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ} والنهي عن قرب‬‫تعالى {فَ ُكالَ ِم ْن َحي ُ‬
‫الشيء أبلغ من النهي عنه فهو يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي‬
‫تغري بالمنهي عنه وتفضي اليه@ ‪ ،‬ومن وقع في الشبهات وقع في‬
‫الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه ‪ ،‬كما ورد في‬
‫حديث رسول هللا ‪.)4( ‬‬
‫) سبق ان اشرت في بداية الحديث عن صور الصراع االولى مع الشيطان‬ ‫‪1‬‬

‫الى اني سأركز الحديث على جوانب الصراع في هذه القصة أما التفاصيل‬
‫عن حقيقة هذه الجنة ‪ ،‬والشجرة التي نهي آدم من األكل منها فمن ما اليفيد‬
‫البحث في شيء ويبعدنا عن جانب العبرة في هذه القصة‪.‬‬
‫) األعراف ‪.19 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) البقرة ‪.35:‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر تفسير المنار ـ محمد رشيد رضا ـ ج‪ 8‬ص ‪ ، 346‬ومعارج التفكر‬ ‫‪4‬‬

‫ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص‪.130‬‬

‫‪303‬‬
‫‪4‬ـ والقضية الرابعة@ ‪ :‬ان هللا عزوجل حذرهما من مغبة معصيتهما‬
‫إذا أكال من الشجرة التي حرّم عليهما أن يأكال منها‪ .‬د ّل على هذه‬
‫ين}والحكم بالظلم@ يستدعي العقوبة‬ ‫القضية قوله تعالى {فَتَ ُكونَا ِم َن ْالظَّالِ ِم َ‬
‫وكانت العقوبة االخراج من الجنة وجعل االرض هي مسرح االمتحان‬
‫( ورحلة االمتحان في االرض آلدم وزوجه وذريتهما ‪ ،‬رحلة كدح‬
‫ومكابدة وكشف لما في النفوس ‪ ،‬من إرادة خير واعتراف بالحق ‪ ،‬أو‬
‫إرادة شر وجحود للحق واتباع لألهواء والشهوات وزينة الحياة الدنيا )‬
‫(‪ )1‬ولما رأى ابليس ما أنعم هللا به على آدم من أمر مالئكته بالسجود له‬
‫ومن اسكان هللا له وزوجه في الجنة حسدهما على ذلك فبدأ بتنفيذ خطته‬
‫في االنتقام من آدم وزوجه(‪ )2‬فكيف بدأ بتنفيذ@ خطته ؟ انه بدأ أول ما بدأ‬
‫ي َع ْنهُ َما‬ ‫ي لَهُ َما َما ُو ِ‬
‫ور َ‬ ‫س لَهُ َما ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان لِيُ ْب ِد َ‬ ‫بالوسوسة قال تعالى {فَ َوس َْو َ‬
‫ال َما نَهَا ُك َما َربُّ ُك َما َع ْن هَـ ِذ ِه ال َّش َج َر ِة إِالَّ أَن تَ ُكونَا َملَ َكي ِْن أَ ْو‬
‫ِمن َس ْو َءاتِ ِه َما َوقَ َ‬
‫ين } (‪ )3‬والوسوسة‬ ‫ص ِح َ‬ ‫تَ ُكونَا ِم َن ْال َخالِ ِد َ‬
‫ين‪َ ‬وقَا َس َمهُ َما إِنِّي لَ ُك َما لَ ِم َن النَّا ِ‬
‫والوسواس حديث النفس واالسم منه الوسواس بفتح الواو ويطلق@ على‬
‫الشيطان اسم ( الوسواس ) ألنه يحدث من داخل النفس(‪ )4‬وهذا أدعى‬
‫لإلستجابة واالندفاع الى ما تدعوا اليه الوسوسة باعتبار ان الداعي‬
‫شيء من ذات النفس ال من جهة أخرى تأمر وتنهى وتغري ‪ .‬فبهذه‬
‫الوسوسة أضل ابليس@ آدم وأغراه باألكل من الشجرة ‪ ،‬فالشيطان‬
‫يستطيع أن يصل الى فكر االنسان وقلبه بطريقة ال ندركها وال نعرفها‬
‫يساعده على ذلك طبيعته التي خلق منها وهي خاصية تميز بها ابليس‬
‫والشياطين ‪ ،‬من خالل الدخول في النفس االنسانية@ فيحدثونها بالشر ‪،‬‬
‫ويحضونها على فعله باستمرار ال يتخلله@ انقطاع وبإصرار اليلين@(‪.)5‬‬
‫ثم يمكن لنا أن نالحظ بعدا فنيا في هذا النص متمثال في ان الفعل‬

‫) معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪.131‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر تفسير ابن كثير ج‪ 2‬ص ‪.205‬‬ ‫‪2‬‬

‫) األعراف ‪.20 ، 19 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر جامع البيان ج‪ 30‬ص ‪ ، 356‬والمحرر الوجيز ج‪ 5‬ص ‪، 456‬‬ ‫‪4‬‬

‫وأنوار التنزيل ج‪ 3‬ص‪. 6‬‬


‫) ينظر حقيقة الشيطان بالمنظور القرآني ـ شاكر عبد الجبار ـ مطبعة‬ ‫‪5‬‬

‫اليرموك ـ بغداد ط‪ 5‬ـ ‪ 1990‬م ص‪ ، 43‬وينظر عالم الجن والشياطين ـ‬


‫عمر سليمان االشقر ـ ص ‪.80‬‬

‫‪304‬‬
‫س لَهُ َما )‬
‫وسوس قد جاء معدى بالالم في سورة االعراف هكذا (فَ َو ْس َو َ‬
‫س إليه ) فما هو‬ ‫بينما جاء معدى بـ ( الى ) في سورة طه هكذا (فَ َو ْس َو َ‬
‫هذا البعد الفني؟ يمكننا القول ان الشيطان لم يوسوس آلدم في أول‬
‫األمر بصورة مباشرة بل كان يتخذ وسائل بعيدة عن الوسوسة المباشرة‬
‫وهي في آخرها تحدث الوسوسة ‪ ،‬دل على هذا استخدام حرف ( الى )‬
‫المشعر بطول المسافة بين بدء الشيطان بحركته وبين حدوث الوسوسة‬
‫‪ ،‬ودل عليه أيضا استخدام اسلوب العرض االستفهامي في العبارة‬
‫ك َعلَى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍ‬
‫ك‬ ‫ال يَا آ َد ُم هَلْ أَ ُدلُّ َ‬
‫ان قَ َ‬ ‫س إِلَ ْي ِه ال َّش ْيطَ ُ‬‫االغرائية@ {فَ َوس َْو َ‬
‫اَّل يَ ْبلَى }(‪ )1‬فهي عبارة تثير الشوق الى المعرفة وليس فيها إشارة ما‬
‫إلى الشجرة التي نهى هللا عزوجل عن االقتراب منها‪ .‬فما جاء في‬
‫سورة ( طه ) بيان للمحاولة األولى من محاوالت الشيطان تلتها‬
‫محاوالت أخرى في خطوات شيطانية@ تهبط في الدركات ـ فإبليس أول‬
‫ما استخدم حيلة التشويق@ للربط@ حتى وقع على المغمز المالئم لصيد‬
‫الفريسة فأمسك به(‪ )2‬وقد دل على هذا ما جاء في سورة ( االعراف )‬
‫ان ) (‪ )3‬فالشيطان هنا قد‬ ‫س لَهُ َما ال َّش ْيطَ ُ‬‫وهو قول هللا عزوجل (فَ َوس َْو َ‬
‫استعمل فقه الشعار في الوسوسة الى آدم وزوجه وهو فقه يقوم على‬
‫تمييع القضايا وترقيع الحقائق برقع الباطل@ أو تزين الباطل@ بالفتات‬
‫الحق وفقه الشعار الذي يعمل به أولياء الشيطان أول من عمل به‬
‫الشيطان نفسه ثم ألقاه على عقولهم الصدئة ليعملوا به ضد البشرية‬
‫ولكن بأسلوب آخر(‪ .)4‬ثم جاء النص ليشير الى الغاية الشيطانية من هذا‬
‫الفقه إن غايته إيقاع آدم وزوجه في معصية هللا ربهما قال تعالى‬
‫ي َع ْنهُ َما ِمن َس ْو َءاتِ ِه َما } (‪ )5‬أي ليظهر لهما ما كان‬ ‫ي لَهُ َما َما ُو ِ‬
‫ور َ‬ ‫{لِيُ ْب ِد َ‬
‫مستورا من العورات التي يقبح كشفها(‪ )6‬وبانكشاف سوأتهما المادية‬
‫تنكشف سوأتهما النفسية المستعدة للسقوط في المعصية وارتكاب اإلثم‬
‫) طه ‪.120 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪.135‬‬ ‫‪2‬‬

‫) األعراف ‪.20 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر االنحرافات الكبرى ـ القرى الظالمة في القرآن الكريم ـ سعيد ايوب‬ ‫‪4‬‬

‫ـ ص ‪.21‬‬
‫) األعراف ‪.20:‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ينظر صفوة التفاسير ج‪ 1‬ص ‪.239‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪305‬‬
‫‪ .‬لقد كان ابليس متلهفا أن يرى أول ظاهرة من ظواهر معصيتهما وهي‬
‫بدو سوأتهما فالوسوسة الشيطانية@ بدأت باستثارة رغبتهما في أن يكون‬
‫لهما انطالق@ المالئكة في السموات بأجساد نورانية أو أن يكونا خالدين‬
‫فيما هما فيه من نعيم الجنة ‪ .‬فبدأت الخطة الشيطانية بأن زرع الشك‬
‫في قلبيهما حول الغرض من نهي هللا لهما عن ان يأكال من الشجرة‬
‫المحرمة فقال لهما مع ما قدم لهما من إغراءاته وتسويالته ما نهاكما‬
‫ربكما عن األكل من هذه الشجرة االّ منع أن تكونا ملكين أو تكونا من‬
‫الخالدين‪ .‬وربما قال لهما ان المالئكة لم يصيروا نورانيين ينطلقون في‬
‫السماوات بأجساد نورانية االّ بعد أن أكلوا من هذه الشجرة(‪ .)1‬فهذه‬
‫فكرة إبليسية قديمة تجعل لألشياء طبائع ذاتية@ أصلية ثابتة وأن هللا يخلق‬
‫من خاللها فابليس لما رفض السجود آلدم علل رفضه بأن عنصر النار‬
‫بطبيعتها الذاتية@ أشرف من عنصر الطين وفي تسويله@ آلدم وزوجه‬
‫زعم لهما كاذبا أن عنصر الشجرة المحرمة يحول األكل منها إلى ملك‬
‫نوراني يعبر أقطار السماوات بخفة األنوار@ أو األرواح المجردة أو‬
‫يجعله خالدا يعيش أبدا دون أن يدركه الموت‪ .‬والسؤال الذي يمكن أن‬
‫يطرح هنا كيف وقع آدم وزوجه في هذه الغفلة فتصور ان شجرة يمكن‬
‫أن تمنح الصفة المالئكية أو الخلد األبدي؟ أقول الذي أوقعهما في هذه‬
‫الغفلة شدة رغبتمها بأن يكونا ملكين أو بأن يكونا خالدين ومعلوم أن‬
‫شدة الرغبة تتحول إلى هوى ومن شأن الهوى أن يغشي على مراكز‬
‫التفكر الصحيح ويجعل االنسان يتصرف بموجه من رغبات نفسه ال‬
‫بموجه من فكره وعقله وايمانه ‪ ،‬ومن هنا سقط المؤمنون في أوحال‬
‫المعاصي والخطايا(‪ )2‬الالفت للنظر@ هنا في هذه الصورة الفنية@ ان‬
‫الشيطان عندما وسوس آلدم وزوجه معا وعدهما بأن الشجرة ستجعلهما‬
‫ال َما نَهَا ُك َما َربُّ ُك َما َع ْن هَـ ِذ ِه‬
‫{وقَ َ‬
‫ملكين من المالئكة أو خالدين قال تعالى َ‬
‫ين} (‪)3‬؛ وعندما كانت‬ ‫ال َّش َج َر ِة إِالَّ أَن تَ ُكونَا َملَ َكي ِْن أَ ْو تَ ُكونَا ِم َن ْال َخالِ ِد َ‬
‫الوسوسة آلدم وحده فقد وعده بالخلد وبالملك الذي ال يبلى قال تعالى‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ م‪ 4‬ص ‪138‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر االنحرافات الكبرى ـ سعيد ايوب ـ ص ‪، 21‬ومعارج التفكر ودقائق‬ ‫‪2‬‬

‫التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪.139‬‬


‫) األعراف ‪.20:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪306‬‬
‫ال يَا آ َد ُم هَلْ أَ ُدلُّ َك َعلَى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍك اَّل يَ ْبلَى } (‪.)1‬فما البعد الفني‬ ‫{قَ َ‬
‫لهذين التعبيرين@ الذي يظهر للمتأمل في هذين الوعدين أن كال الوعدين‬
‫يتناسب مع التركيبة@ الذكورية واألنثوية فالذكور هم األكثر حلما بالخلود‬
‫بينما األناث أكثر حلما بالمالئكة وهذا يتناسب مع تأنيث العرب‬
‫للمالئكة ومع ربط المرأة الجميلة بصورة المالك وهذا الذي بدى لي‬
‫ليس من التفسير في شيء وال أدعي أنه مراد هللا وإنما هو استقراء‬
‫للمسارب التي تتفتح على النص بال انتهاء‪ .‬والمدهش في هذه الوسوسة‬
‫حقا هو ان آدم رأى المالئكة يسجدون له فكيف يتمنى أن يكون منهم‬
‫وقد علم في ذلك السياق تميزه الظاهر عليهم ؟ ثم هو لم يجرب الموت‬
‫ولم يشاهده‪ .‬فكيف يحلم بالخلود ؟ الذي يظهر لنا متولدا من مسارب‬
‫النص التي ال تنتهي ان آدم عليه السالم اطلع على الطبيعة التركيبية‬
‫والحركية للمالئكة فحلم أن يكون منهما وأما الحلم بالخلد فانه استنتج‬
‫من خالل طبيعته@ التركيبية@ انه الى فناء أو انه وزوجه كانا يعلمان انهما‬
‫في سكنى ابتالء@ ال في سكنى دوام وبقاء‪ .‬ولكن مع هذا االغراء وتلك‬
‫الوسوسة هل استسلم آدم وزوجه بسهولة ؟ الصورة التي يرسمها لنا‬
‫النص تبين ان آدم وزوجه قد وجما عن قبول ما سول ابليس@ لهما به‪،‬‬
‫فلجأ أوال الى حيلة حلف االيمان المؤكدة ‪ ،‬فشرع يقسم لهما بربه كاذبا‬
‫ويؤكد أقسامه ويقول لهما‪ :‬اني لكما لممن الناصحين ‪ .‬قال تعالى‬
‫ين } أي حلف لهما باهلل على ذلك انه‬ ‫اص ِح َ‬ ‫{ َوقَا َس َمهُ َما إِنِّي لَ ُك َما لَ ِم َن النَّ ِ‬
‫ناصح لهما فيما يقول في خداعهما وقد يخدع المؤمن بالحلف باهلل(‪ )2‬ولم‬
‫يكتف ابليس بالتشديد في القسم بل شدد أيضا في تأكيد المقسم عليه بعدة‬
‫مؤكدات هي ( إن ـ والجملة االسمية ـ والالم المزحلقة في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ين }(‪ )3‬ومرة أخرى ورغم كل هذه التأكيدات فان‬ ‫اص ِح َ‬ ‫{ إِنِّي لَ ُك َما لَ ِم َن النَّ ِ‬
‫آدم وزوجه لم يسرعا في االستجابة لدعوته وتسويالته‪ .‬فاتخذ ابليس‬
‫معهما أسلوب الخطوات االزالقية@ المتشابهة‪ .‬والتدلية شيئا فشيئا في بئر‬
‫المعصية ومع كل مرحلة من مراحل التدلية اغراءات من منابع التغرير‬
‫والخداع واالطماع بالباطل دل هذا على قول هللا عزوجل ({فَ َدالَّهُ َما‬

‫) طه ‪.120 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر صفوة التفاسير ج‪ 1‬ص ‪.239‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر الكشاف ـ الزمخشري@ ـ ج‪ 2‬ص ‪ 73‬ـ ‪ ، 74‬وتفسير المنار ج‪8‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص ‪ ، 348‬وتفسير المراغي ج‪ 7‬ص ‪.120‬‬

‫‪307‬‬
‫ُور ‪ )1( }...‬أي فبعد ان شدد الحلف لهما وأكد لهما انه لهما لمن‬ ‫بِ ُغر ٍ‬
‫الناصحين أخذ ينزلهما شيئا فشيئا في بئر المعصية أو مهواة المعصية‬
‫ليجعلهما عند حدها تماما ليس بينهما االّ المالمسة وعندئذ يسهل جدا‬
‫إزالقهما وإيقاعهما في الزلل(‪.)2‬ومعلوم ان التدلية التكون رميا أو قذفا‬
‫وإنما تكون إرساال برفق شيئا فشيئا وهذه وسيلة الشيطان انها قائمة‬
‫على أسلوب الخطوات المتتابعات تنازال الى الحضيض او الى الدرك‬
‫االسفل من الجحيم(‪. )3‬ومرة أخرى تطالعنا العبارة القرآنية@ لترسم لنا‬
‫ظالل صورة فنية رائعة الجمال فهل رأينا أبلغ وأجمل من هذه المطابقة‬
‫بين العبارة التي هي غاية في اإليجاز وبين الفكرة المرادة ذات‬
‫المرامي واألبعاد الواسعة ان تشبيه@ عملية االغواء ذي الخطوات‬
‫المتتابعات في االنحدار بالتدلية في بئر أو في مهواة من أبدع التشبيهات‬
‫وأبرعها وأدقها واستعمال فعل ( دلى ) كان على سبيل االستعارة الفنية@‬
‫الرائعة(‪ .)4‬ونجح اللعين في ايقاعيهما بالمعصية قال تعالى {فَلَ َّما َذاقَا‬
‫ق ْال َجنَّ ِة َونَا َداهُ َما‬
‫صفَا ِن َعلَ ْي ِه َما ِمن َو َر ِ‬ ‫ت لَهُ َما َس ْو َءاتُهُ َما َوطَفِقَا يَ ْخ ِ‬ ‫ال َّش َج َرةَ بَ َد ْ‬
‫(‪)5‬‬
‫ين }‬ ‫َربُّهُ َما أَلَ ْم أَ ْنهَ ُك َما َعن تِ ْل ُك َما ال َّش َج َر ِة َوأَقُل لَّ ُك َما إِ َّن ال َّش ْيطَ َ‬
‫آن لَ ُك َما َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ‬
‫أي فحين ذاقا طعم مأكول ما من الشجرة ( فلما ) حينية ظرفية تختص‬
‫بالماضي انكشف لهما سوأتهما إذ كانت مواراة عنهما ال يريانها‬
‫والسوأة فرج الرجل والمرأة من السوء وسميت العورة سوأة ألن‬
‫انكاشفها يسوء صاحبها ولهذا أوجب هللا تعالى على االنسان أن يستر‬
‫عورته(‪ )6‬ألن التعري بحد ذاته خروج عن الفطرة فلما علم آدم وزوجه‬
‫بانكشاف عورتيهما سرعان ما دعاهما الحياء بان يغطيا عورتهما‬
‫ق ْال َجنَّ ِة } أي‬ ‫بورق الشجر قال تعالى ‪َ { :‬وطَفِقَا يَ ْخ ِ‬
‫صفَا ِن َعلَ ْي ِه َما ِمن َو َر ِ‬
‫أخذا يلزقان من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عوراتهما ليستترا@‬

‫) األعراف ‪.22 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر ‪ :‬تفسير الخازن ج‪ 2‬ص ‪ ، 83‬وتفسير ابي السعود ج‪ 2‬ص ‪،244‬‬ ‫‪2‬‬

‫وروح المعاني ج‪ 8‬ص ‪.87‬‬


‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ م‪ 4‬ص ‪.141‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر تفسير المنار ج‪ 8‬ص ‪.349‬‬ ‫‪4‬‬

‫) األعراف ‪.22 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ينظر جامع البيان ـ ج‪ 8‬ص ‪ ، 146‬وزاد المسير ج‪ 3‬ص ‪، 180‬‬ ‫‪6‬‬

‫والجامع الحكام القرآن ج‪ 7‬ص ‪.180‬‬

‫‪308‬‬
‫به كما يخصف النعل بأن تجعل طرفة على طرفه وتوثق بالسيور(‪.)1‬‬
‫وهنا ملحظ فني مهم يكمل أجزاء هذه الصورة الفنية@ هذا الملحظ‬
‫هو ان سورة االعراف ذكرت التذوق@ وسورة طه ذكرت األكل من‬
‫ت لَهُ َما َس ْوآتُهُ َما }(‪ )2‬وهو يبين ان بدو‬ ‫الشجرة قال تعالى {فَأَكَاَل ِم ْنهَا فَبَ َد ْ‬
‫السوءة بعد الذواق كأن بدوا أوليا وجزئيا وأن البدو@ الذي كان بعد‬
‫األكل قد كان نهائيا وكامال و ( يظهر ان لذة طعم الشجرة غلبت‬
‫ارادتيهما فأتما األكل ولم يملكا أنفسهما للفظ ما في أفواههما من‬
‫الشجرة اكتفاء بما حصل لهما من ذواق واتعاضا ببدوا@ آثارة بل تابعا‬
‫أكل ما في أفواههما وابتالعه ) (‪ . )3‬بعد ان وقعا في حبائل الشيطان‬
‫جاء النداء@ االلهي { َونَا َداهُ َما َربُّهُ َما أَلَ ْم أَ ْنهَ ُك َما َعن تِ ْل ُك َما ال َّش َج َر ِة َوأَقُل لَّ ُك َما‬
‫ين }(‪ )4‬وهو نداء@ بدأ باالستفهام الذي خرج‬ ‫إِ َّن ال َّش ْيطَ َ‬
‫آن لَ ُك َما َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ‬
‫للعتاب والتوبيخ ‪ ،‬إذ ناداهما هللا تعالى معاتبا وموبخا لهما وقال ألم‬
‫أنهكما من أن تقربا هذه الشجرة واقل لكما ان الشيطان ظاهر العداوة‬
‫لكما فان اطعتماه أخرجكما من الجنة حيث العيش الرغيد الى حيث‬
‫الشقاء في العيش والتعب في الحياة (‪)5‬ومن المالحظ ان هللا عزوجل لما‬
‫نهاهما عن االقتراب من شجرة االبتالء@ ذكرها بلفظ االشارة الموضوع‬
‫{والَ تَ ْق َربَا هَـ ِذ ِه ال َّش َج َرةَ فَتَ ُكونَا ِم َن‬ ‫للمشار إليه@ القريب إذ قال لهما َ‬
‫ين }(‪ )6‬لكنه جل جالله في سؤال العتاب قال لهما {أَلَ ْم ‪....‬أَ ْنهَ ُك َما‬ ‫الظَّالِ ِم َ‬
‫َعن تِ ْل ُك َما ال َّش َج َر ِة } (‪ )7‬فذكرها بلفظ االشارة الموضوع للمشار إليه البعيد‬
‫‪ .‬فدل ذلك على انهما ابتعدا@ بعد األكل منها وانكشاف سوءاتيهما عن‬
‫موقع خطيئتهما ابتعادا يصح معه أن يشار الى الشجرة باسم االشارة‬
‫الموضوع للمشار إليه البعيد ويصح معه أن يخاطب بالنداء الذي يكون‬
‫للبعيد ‪ .‬ومعلوم ان من طبيعة@ المذنب إذا ظهرت عليه بعض أمارات‬
‫) ينظر تفسير الرازي ج‪ 14‬ص ‪ 41‬وتفسير البيضاوي ج‪ 3‬ص‪.13‬‬ ‫‪1‬‬

‫) طه ‪.121:‬‬ ‫‪2‬‬

‫) معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني م‪ 4‬ص ‪.142‬‬ ‫‪3‬‬

‫) األعراف ‪.22 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ينظر روح المعاني ج‪ 8‬ص‪ ، 101‬وفتح القديرـ ج‪ 2‬ص ‪ ، 186‬والمنار‬ ‫‪5‬‬

‫ج‪ 8‬ص ‪ ، 350‬وتفسير المراغي ج‪ 8‬ص‪.121‬‬


‫) األعراف ‪.19 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫) األعراف ‪.23 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪309‬‬
‫الذنب ان يبتعد عن المكان الذي ارتكب فيه ذنبه وهذه الحركة تكون‬
‫منه حركة تلقائية توجهها البديهة دون أناة في التفكير(‪ . )1‬وبعد هذا‬
‫العتاب الرباني لم يكن من آدم وزوجه االّ االعتراف لربهما بانهما قد‬
‫ظلما انفسهما والحقا االعتراف بطلب مغفرته ورحمته واستعطافه بانه‬
‫ان لم يغفر لهما ولم يرحمهما فانهما ليكونان من الخاسرين حتما ألن‬
‫خطيئتهما تقتضي خسارتهما بمقتضى أحكام العدل الربانية@ قال تعالى‬
‫{قَاالَ َربَّنَا ظَلَ ْمنَا أَنفُ َسنَا َوإِن لَّ ْم تَ ْغفِرْ لَنَا َوتَرْ َح ْمنَا لَنَ ُكونَ َّن ِم َن ْال َخا ِس ِر َ‬
‫ين }‬
‫(‪.)2‬وقد روي ان هذا الدعاء باالستغفار والتوبة هو الكلمات التي تلقاها‬
‫اب َعلَ ْي ِه إِنَّهُ هُ َو‬ ‫آدم من ربه(‪ )3‬قال تعالى {فَتَلَقَّى آ َد ُم ِمن َّربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫ت فَتَ َ‬
‫التَّ َّوابُ ال َّر ِحي ُم }(‪ )4‬وهكذا تاب هللا تعالى على آدم وزوجه واكتفى هللا‬
‫تعالى بذكر توبة آدم دون ذكر توبة زوجه حواء ألنها كانت تبعا له(‪.)5‬‬
‫فالعقاب األخروي المترتب على عصيان آدم وزوجه قد غفره هللا تعالى‬
‫صى آ َد ُم َربَّهُ فَ َغ َوى‪‬‬ ‫{و َع َ‬‫بالتوبة وجعله محال الصطفائه كما قال تعالى َ‬
‫اب َعلَ ْي ِه َوهَ َدى} (‪ )6‬ولكن يبقى العقاب الدنيوي@ على تلك‬ ‫ثُ َّم اجْ تَبَاهُ َربُّهُ فَتَ َ‬
‫المعصية وهو الحدث األهم في افرازات معركة إبليس@ مع آدم وهو‬
‫إخراج آدم وزوجه من الجنة وهو نوع من العقاب الذي قضت به سنته‬
‫) ينظر دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية ـ د‪ .‬سليمان الطراونة ـ ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 59‬ـ ‪ ، 60‬ومعارج التفكر ودقائق التدبر ـ م‪ 4‬ص ‪ . 145‬وقد@ استنبط‬


‫االستاذ سليمان الطراونة من خالل التمايز بين اسمي االشارة في الموقفين‬
‫الى ان الشجرة قد تكون رمزا وليست حقيقة في الشيء وذكر ان القرآن‬
‫لطالما استعمل الشجرة رمزا مثل الشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة التي‬
‫انبتت سبع سنابل ‪ ...‬الخ أقول ان ذلك ليس واردا في شجرة آدم ألن‬
‫االشارة قد جاءت صريحة مما يؤكد على حقيقتها دون@ رمزيتها أما ما‬
‫ضرب من أمثلة فان القرآن نفسه قد أفصح عن رمزية هذه االشجار من‬
‫ذكره للفظ المثال في ثناياها‪.‬‬
‫) األعراف ‪.23 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر جامع البيان ـ ج‪ 1‬ص ‪ ، 243‬والتفسير الكبير ج‪ 3‬ص ‪،19‬‬ ‫‪3‬‬

‫والجامع ألحكام القرآن ج‪ 1‬ص ‪.324‬‬


‫) البقرة ‪.37:‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ينظر التفسير الكبير ج‪ 3‬ص‪ ،26‬وينظر البيضاوي ج‪ 1‬ص ‪، 299‬‬ ‫‪5‬‬

‫وتفسير ابو السعود@ ج‪ 1‬ص‪.92‬‬


‫) طه ‪ 121 :‬ـ ‪.122‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪310‬‬
‫تعالى بان يكون أثرا طبيعيا للعمل السيء مترتبا عليه (‪)1‬قال تعالى‬
‫ع إِلَى ِحي ٍن }‬ ‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض ُم ْستَقَرٌّ َو َمتَا ٌ‬ ‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫ال ا ْهبِطُ ْ‬
‫وا بَ ْع ُ‬ ‫{قَ َ‬
‫في هذا الحكم الصادر عليهما وعلى ذريتهما الذين سيتناسلون منهما‬
‫نقل لرحلة االبتالء@ من الجنة المعدة في الخطة الربانية@ ألن تكون احدى‬
‫داري الجزاء الى األرض التي نحن فيها والمعدة في أصل الخطة‬
‫الربانية ألن تكون هي مكان االبتالء وان الخلود السعيد ال يكتسب‬
‫باألكل من شجرة أو مادة ما فيها اكسير الخلود السعيد وإنما يكون‬
‫بالعمل االرادي الذي يتحقق به رضوان هللا رب األكوان والمهيمن على‬
‫كل شيء فيها بعلمه وحكمته وقدرته والمجري احداثها بقضائه وقدره‬
‫وخلقه(‪ )2‬واألمر بالهبوط موجه آلدم وزوجه عليهما السالم وإبليس@ عليه‬
‫اللعنة(‪.)3‬أما وجه العداوة الكائنة بين بني آدم بعضهم مع البعض اآلخر‬
‫فهو راجع الى التكوين@ النفسي للناس القائم على حرية ارادة الفرد‬
‫وعلى اختالف المصالح واألهواء والشهوات والمطالب وعلى تعارضها‬
‫وتباينها مع التزاحم والتنافس وما في النفوس من تحاسد من شأنه أن‬
‫تظهر بينهم العداوات وهي عداوات تكون بين االفراد وبين الجماعات‬
‫الصغرى ثم بين األقوام واألمم وهي تظهر في شتى أنواع سلوكهم‬
‫وتحركاتهم حتى تصل إلى مكايد كثيرة بينهم وإلى خصومات شديدات‬
‫ثم إلى مقاتالت وحروب كبرى وهكذا كان واقع حال الناس في‬
‫تاريخهم الطويل(‪. )4‬‬
‫انتهت المعركة إذن بالتوبة على آدم وباهباطه إلى األرض وشتان‬
‫بين معصية آدم وإبليس فآدم عصى وندم وابليس@ عصى وتكبر ولم‬
‫يندم من هنا أصبح من المرجومين المطرودين@ الى قيام الساعة‪ .‬بعد هذا‬

‫) ينظر تفسير المنار ج‪ 8‬ص‪ ، 351‬وتفسير المراغي ج‪ 8‬ص‪.122‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـم ‪ 4‬ص ‪ 146‬ـ ‪.147‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر الجامع ألحكام القرآن ج‪ 1‬ص ‪.319‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر م‪ 4‬ص‪ ، 149‬ويشير السيد الميداني‬ ‫‪4‬‬

‫الى ان العداء في النص بين الشيطان وبني آدم ألن االشارة الى عداوة‬
‫ك فَاَل‬ ‫الشيطان قد جاءت في قوله تعالى {فَقُ ْلنَا يَا آ َد ُم إِ َّن هَ َذا َع ُد ٌّو لَّ َ‬
‫ك َولِ َزوْ ِج َ‬
‫ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِمنَ ْال َجنَّ ِة فَتَ ْشقَى }ـ طه‪117‬ـ ولكن أقول ال محظور ان قلنا ان‬
‫العداوة بين بني االنسان بعضهم مع البعض اآلخر ناتجة عن تحرش‬
‫الشيطان بينهم وعداوته لهم ‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫العرض لتفاصيل المعركة األولى بين االنسان والشيطان والذي نتج‬
‫عنه استحكام العداء@ بين الشيطان واالنسان‪.‬علينا أن نعرف أن الجنة‬
‫هي ميدان الصراع األول وان األرض ستكون هي ميدان المعركة‬
‫الثانية@ وسيقوم إبليس@ فيها بتطبيق@ افعاله الذميمة ووسائسه القبيحة على‬
‫ذرية آدم ‪ ،‬وهذا ما اقتضته الحكمة األلهية ‪،‬ليكون ابتالء@ هللا تعالى‬
‫للبشر على أوسع نطاق ‪ ،‬فاالنسان هو خليفة هللا على هذه األرض ‪،‬‬
‫والشيطان هو مصدر الشر وهدفه ان يعرقل مسيرة االنسان في قيادته‬
‫األرض الى االصالح واالعمار ‪،‬فاألرض هي ميدان الصراع الدائمي‬
‫‪ ،‬وإبليس يتحين كل الفرص لإليقاع بهذا االنسان ‪ .‬فقضية ( ان‬
‫الشيطان هو عدو االنسان األول ) هي حقيقة واقعية ال يمكن لالنسان‬
‫أن ينساها أو يغفل عنها ويجب عليه االّ تفوته العبرة المتوخاة من قصة‬
‫معركته األولى مع إبليس عندما أخرج أبويه من الجنة كما ذكرها‬
‫القرآن الكريم(‪ . )1‬وإبليس@ في قصة صراعه األولى مع االنسان قد بذر‬
‫بذور سنراها واضحة في صور الصراع األخرى التي جاءت تبعا بعد‬
‫قصة الصراع األولى فهو قد بذر بذور االستعالء@ والتحقير كما‬
‫شاهدناها في مقولته (أنا خير منه ) فهذه المقولة كان لها أثرها في‬
‫بروز فقه االستعالء والتحقير لدى طائفة من الناس كما عرضناها فيما‬
‫سبق وكذلك فانه بذر بذور المتاجرة بالدين وجدنا ذلك واضحا في قوله‬
‫ص َراطَ َك ْال ُم ْستَقِي َم } فكل الذين ظهروا بعد ذلك وتاجروا‬ ‫{ ألَ ْق ُع َد َّن لَهُ ْم ِ‬
‫بالدين وحرفوا الكلم عن مواضعه فانما زادهم كان من فقه الشيطان‬
‫الذي كمن لهم على الصراط المستقيم@ فهو قد عمل عرقلة طريق@ العبادة‬
‫ت ْال ِج َّن َواإْل ِ َ‬
‫نس‬ ‫{و َما َخلَ ْق ُ@‬
‫التي من أجلها خلق هللا الجن واالنس@ قال تعالى َ‬
‫إِاَّل لِيَ ْعبُ ُدو ِن}(‪ )2‬أي الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين هللا ال كونه‬
‫(‪)3‬‬
‫ون) ولم يقل ‪ :‬ألعبد أو ألكون معبودا لهم فاهلل‬ ‫معبودا فقد قال (لِيَ ْعبُ ُد ِ‬
‫هو المعبود الحق ‪...‬وهو سبحانه قد بين للجن واالنس كيف يعبدوه‬
‫فالعبادة هي ان تعبد هللا كما يريد هللا وإبليس أدلى بدلوه في‬
‫اتجاهين‪..‬االتجاه األول انه وسوس لإلنسان بعيدا عن المعنى المقصود‬

‫) ينظر في ظالل القرآن ‪ :‬م‪ 4‬ص ‪.2355‬‬ ‫‪1‬‬

‫) الذاريات ‪.56 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) ينظر الكشاف ج‪ 4‬ص ‪ ، 408‬والتفسير الكبير ج‪ 28‬ص‪ ، 200‬وتفسير‬ ‫‪3‬‬

‫ابي السعود@ ج‪ 8‬ص ‪ ، 144‬والجامع لحكام القرآن ج‪ 17‬ص ‪ 55‬ـ ‪.56‬‬

‫‪312‬‬
‫(لِيَ ْعبُ ُدو ِن) ونصب خيمته في مربع ألكون معبودا لهم ووفقا لتصورات‬
‫هذا المربع تم عبادة االصنام والطاغوت على امتداد المسيرة البشرية‬
‫واالتجاه الثاني وسوس لإلنسان ليعرقل المسيرة نحو المعنى المقصود‬
‫ون ) فاهلل تعالى بين لعباده كيفية عبادته على لسان‬ ‫لقوله تعالى (لِيَ ْعبُ ُد ِ‬
‫رسله عليهم السالم ولما كانت دعوة الرسل على صراط مستقيم فإن‬
‫إبليس نصب له خيمة على هذا الصراط مهمتها الصد عن سبيل هللا‬
‫وعرقلة الطريق@ امام العبادة الحقة وتالميذ إبليس على هذا الصراط هم‬
‫المنافقون على امتداد التاريخ االنساني فالمنافق يسير على الصراط‬
‫المستقيم عند العرض على هللا يوم القيامة(‪ )1‬فهذا بعض إيحاء قوله‬
‫ص َراطَ َك ْال ُم ْستَقِي َم } ‪.‬وبذر كذلك بذور المتاجرة‬ ‫تعالى { ألَ ْق ُع َد َّن لَهُ ْم ِ‬
‫بالشهوات فهو قد انطلق في ذلك من فقه التزيين واالغواء فهذا الفقه‬
‫وحده يحافظ على الشذوذ وينقله@ من عصر الى عصر تحت حماية فقه‬
‫ال َربِّ بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي‬‫االحتناك وفقه التزيين واالغواء جاء في قوله {قَ َ‬
‫ين }(‪ )2‬وفقه االحتناك جاء في قوله‬ ‫ض َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ُ‬
‫أل َزيِّنَ َّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ي لَئِ ْن أَ َّخرْ تَ ِن إِلَى يَ ْو ِم ْالقِيَا َم ِة ألَحْ تَنِ َك َّن‬‫ت َعلَ َّ‬‫ك هَـ َذا الَّ ِذي َك َّر ْم َ‬ ‫ال أَ َرأَ ْيتَ َ‬‫تعالى {قَ َ‬
‫ُ‬
‫ُذ ِّريَّتَهُ إَالَّ قَلِيالً } ومفهوم (أل َزيِّنَ َّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫(‪)3‬‬
‫ض ) أي ألزينن لهم‬
‫الباطل أو ألزينن لهم المعاصي والمراد بالتزين لهم في األرض‬
‫غرورهم في هذه الحياة الدنيا وهو السبب القريب لإلغواء(‪. )4‬‬
‫فالركوبة مزخرفة وتعبر من الماضي الى الحاضر الى المستقبل‬
‫وهي تحمل زخارف كل عصر وتسير قافلة الزخارف والشهوات‬
‫محملة بانحرافاتها وشهواتها بضجيج أو بال ضجيج في مجتمعات‬
‫هيمن عليها فقه االحتناك ‪.‬‬
‫تلك بعض البذور التي بذرها إبليس والتي كانت صدا لكل‬
‫الصراعات األخرى معه كما سنالحظ في صور الصراع األخرى التي‬
‫سنعرض لها بعد هذه الصورة‪.‬‬

‫) ينظر االنحرافات الكبرى ـ سعيد ايوب ـ ص ‪19‬ـ ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫) الحجر ‪.39 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫) االسراء ‪.62 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر تفسير الميزان ـ الطبطبائي ـ ج‪ 12‬ص ‪.164‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪313‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫أصالة الصراع واستمراره‬
‫يستمر صراع الشيطان مع االنسان في االرض ‪،‬ويأخذ أبعادا‬
‫مختلفة ‪ ،‬لكنه في مجمله ينطلق@ من البذور التي بذرها الشيطان في‬
‫قصة صراعه األولى مع االنسان ‪،‬وقد جاء القرآن الكريم كاشفا لهذه‬
‫الصور األخرى من الصراع التي هي امتداد للصراع األول‪ ،‬ومجمل‬
‫هذه الصور يمكن تصنيفها على النحو اآلتي ‪ :‬ـ‬
‫‪1‬ـ الجدل بالباطل والصد عن طريق الحق ‪ :‬سبق لنا ‪،‬ذكرنا ان من‬
‫البذور التي بذرها الشيطان في قصة صراعه األولى‪ ،‬بذر المتاجرة‬
‫بالدين ‪،‬والتي من خاللها يلقي الشبه واألكاذيب ‪ ،‬والمراء بالباطل‪،‬‬
‫وبغير علم‪ ،‬على أوليائه ‪ ،‬وقد ذكر لنا النص القرآني الكثير من الصور‬
‫ُون إِلَى‬
‫ين لَيُوح َ‬ ‫التي تندرج تحت هذا االطار‪ ،‬قال تعالى { َوإِ َّن ال َّشيَ ِ‬
‫اط َ‬
‫ون }(‪، )1‬اآلية تتحدث عن‬ ‫أَ ْولِيَآئِ ِه ْم لِيُ َجا ِدلُو ُك ْم َوإِ ْن أَطَ ْعتُ ُموهُ ْم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْش ِر ُك َ‬
‫ايحاء ‪ ...‬الشياطين ألوليائهم من أجل المجادلة بالباطل ‪،‬والقاء الشكوك‬
‫والشبه ‪،‬حول المنهج الحق‪ ،‬وقد جاءت روايات في أسباب النزول تبين‬
‫لنا حقيقة هذا األمر‪ ،‬فقد ذكر ان الشياطين@ المشار اليهم في هذه اآلية‬
‫شياطين فارس من المجوس ‪ ،‬وان أولياءهم هم المتمردون من مشركي‬
‫قريش ‪ .‬فقد أرسلت فارس الى اوليائها من قريش‪ ،‬ان جادلوا محمدا ‪‬‬
‫واصحابه‪ ،‬حول أكل الميتة‪ ،‬وكانوا يسمونها قتل ‪ ،‬هللا ‪ .‬فقالوا ‪ :‬ما قتل‬
‫هللا ال تأكلونه وما قتلتم تأكلون ؟ وفي رواية قال المشركون للرسول ‪:‬‬
‫أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها ؟ فقال ‪ (( :‬هللا قتلها )) قالوا ‪:‬‬
‫فتزعم ان ما قتلت أنت‪ ،‬وأصحابك حالل ‪،‬وما قتله هللا حرام؟ فأنزل‬
‫وا ِم َّما لَ ْم ي ُْذ َك ِر ا ْس ُم هّللا ِ َعلَ ْي ِه}(‪، )2‬وفي رواية أخرى قالوا ‪:‬‬ ‫هللا‪َ { :‬والَ تَأْ ُكلُ ْ‬
‫ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه ‪،‬وأما قتل هللا فال تأكلونه؟ فوقع في‬
‫نفوس بعض المسلمين شيء فأنزل هللا اآلية (‪،)3‬ونزلت أيضا آية‬
‫)األنعام ‪.121 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)األنعام ‪.121:‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ينظر جامع البيان ـ الطبري ـ ج‪ 8‬ص‪ 16‬ـ‪ ، 17‬وفتح القدير ـ الشوكاني‬ ‫‪3‬‬

‫‪314‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ُف ْالقَ ْو ِل ُغرُوراً}‬
‫ْض ُز ْخر َ‬
‫ضهُ ْم إِلَى بَع ٍ‬ ‫نس َو ْال ِجنِّ ي ِ‬
‫ُوحي بَ ْع ُ‬ ‫اإل ِ‬
‫ين ِ‬ ‫{ َشيَ ِ‬
‫اط َ‬
‫فهذه الروايات عن مناسبة اآلية@ تبين بوضوح‪ ،‬ان الشياطين@ يوحون‬
‫ألوليائهم‪ ،‬والوحي االشارة السريعة‪ ،‬وااللهام الخفي‪ ،‬والمراد به في‬
‫اآلية الوسوسة‪ ،‬وسمي وحيا ألنه يكون خفية فيما بينهم(‪ ، )2‬وقد أخرج‬
‫الطبري ـ رحمه هللا ـ بسنده الى ابن زميل(‪ :)3‬قال (كنت قاعدا عند ابن‬
‫عباس‪ ،‬فجاءه رجل من أصحابه ‪ ،‬فقال يا ابن عباس ‪ :‬زعم ابو اسحاق‬
‫انه أوحي اليه هذه الليلة ‪،‬يعني المختار بن ابي عبيد ‪،‬فقال ابن عباس ‪:‬‬
‫صدق ‪:‬فنفرت فقلت يقول ابن عباس صدق! فقال ابن عباس ‪ :‬هما‬
‫وحيان ‪ :‬وحي هللا ‪،‬ووحي الشياطين@ ليوحون الى أوليائهم)@ (‪ )4‬إذن‬
‫فهؤالء الشياطين يوسوسون في صدور أوليائهم‪ ،‬طالبين منهم الجدال‬
‫بالباطل‪ ،‬معاندة هلل ورسوله ‪ ، ‬من غير دليل أو برهان ‪،‬والقاء للشبه‬
‫والشكوك ‪،‬وهؤالء االولياء@ يتمركزون في قلب االجتماع البشري‪،‬‬
‫ويمثلون سلوكا بشريا متخلفا وضارا(‪ .)5‬وهذا النص يبين لنا بوضوح‪،‬‬
‫ان ظاهرة شياطين الفكر من المستعمرين الذين يثيرون الشبهات حول‬
‫االسالم ‪ ،‬وظاهرة أوليائهم من العرب ـ أو العمالء حسب لغة العصر‬
‫الحديث ـ الذين يشيعون هذه الشبهات ‪ .‬ظاهرة قديمة حديثة ‪ .‬فالعرب‬
‫كانوا وما زالوا يتلقون القضايا الفكرية من شياطين الخارج ‪ ،‬ففي‬
‫الماضي يتلقون المعتقدات والشبهات من فارس ‪،‬والروم‪ ،‬واليوم‬
‫يتلقونها من الغرب ‪،‬والشرق ‪ ،‬وال عاصم لهم االّ االسالم ‪ .‬ثم جاء‬
‫التعقيب في اآلية@ ‪ ،‬على عقوبة االستمرار في اتباع وحي الشياطين ‪،‬في‬
‫المجادلة والقاء الشبه‪ ،‬بالدخول في الشرك ‪،‬وفي ذلك اشارة الى نهاية‬
‫ج‪ 2‬ص ‪ ، 158‬وسنن الترمذي ج‪ 5‬ص‪ ، 263‬وقال حسن غريب ‪.‬‬
‫) االنعام ‪ ، 112 :‬وينظر جامع البيان ـ الطبري ج‪ 8‬ص‪.5‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر المفردات ـ الراغب االصفهاني ص ‪ ، 515‬ومختار الصحاح ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.297‬‬
‫) ابو زميل ‪ :‬سماك بن الوليد الحنفي اليمامي ثم الكوفي@ ‪ ،‬ليس به بأس ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫أخرج له البخاري في االدب@ المفرد ‪ .‬ومسلم@ واالربعة في السنن ـ ينظر‬


‫تقريب التهذيب ص ‪ 256‬رقم الترجمة (‪.)28‬‬
‫) جامع البيان ـ ج‪ 8‬ص‪.20‬‬ ‫‪4‬‬

‫) ينظر أهداف التربية االسالمية ـ د‪ .‬ماجد عرسان الكيالني ـ ص‪349‬‬ ‫‪5‬‬

‫واالتباع انواعه وآثاره في بيان القرآن ـ محمد بن مصطفى السيد ـ مؤسسة‬


‫صالح السليم ـ ط‪ 1‬ـ ‪1423‬هـ ‪ 2002‬م ج‪ 2‬ص ‪.529‬‬

‫‪315‬‬
‫هذا الصراع‪ ،‬والسجال‪ ،‬فقد نسبهم الى الشرك إذا استمروا على هذه‬
‫إن ) لتحقق التحاقهم بالمشركين ‪،‬اذا‬ ‫الطاعة‪ ،‬فجاء تأكيد ( الخبر بـ ( ّ‬
‫أطاعوا الشياطين@ ‪ ،‬وإن لم يدعوا هلل شركاء ‪،‬ألن تخطئة أحكام االسالم‬
‫تساوي الشرك ‪ ،‬فلذلك أحتيج الى التأكيد ) (‪، )1‬وهكذا يفهم ان اتباع‬
‫الشياطين في ايحائهم بالباطل ؛ إنما هو شرك ‪ ،‬أو قل مؤداً الى الشرك‬
‫‪،‬وموصول إليه‪ ،‬وكال األمرين خطير ‪ .‬وقريب من هذا المعنى قوله‬
‫ضهُ ْم‬ ‫نس َو ْال ِجنِّ ي ِ‬
‫ُوحي بَ ْع ُ‬ ‫اإل ِ‬
‫ين ِ‬ ‫ك َج َع ْلنَا لِ ُكلِّ نِبِ ٍّي َع ُد ّواً َشيَ ِ‬
‫اط َ‬ ‫{و َك َذلِ َ‬
‫تعالى ‪َ :‬‬
‫ُف ْالقَ ْو ِل ُغرُوراً َولَ ْو َشاء َرب َُّك َما فَ َعلُوهُ فَ َذرْ هُ ْم َو َما يَ ْفتَر َ‬
‫ُون}‬ ‫ْض ُز ْخر َ‬
‫إِلَى بَع ٍ‬
‫(‪، )2‬ففي هذه اآلية@ تسلية@ للنبي@ ‪ ‬بسبب ما لقيه من عداء قومه‪،‬‬
‫ومخاصمتهم ‪،‬وجدالهم‪ ،‬إذ تبين ان هذا العداء‪ ،‬وتلك الخصومة ليستا‬
‫خاصتين بك يا محمد ‪ ،‬بل هي حاصلة لكل نبي سبقك ‪ ،‬ولذلك فانه‬
‫يجب عليك ان تصبر كما صبروا ؛ ألن هذه هي سنة هللا في االنبياء@‬
‫وا }‬‫ُوا َوأُو ُذ ْ‬
‫ُوا َعلَى َما ُك ِّذب ْ‬
‫صبَر ْ‬‫ك فَ َ‬
‫ت ُر ُس ٌل ِّمن قَ ْبلِ َ‬ ‫قال تعالى ‪َ { :‬ولَقَ ْد ُك ِّذبَ ْ‬
‫(‪،،)3‬وقال تعالى { َما يُقَا ُل لَ َك إِاَّل َما قَ ْد قِي َل لِلرُّ س ُِل ِمن قَ ْبلِ َك }(‪، )4‬وقال أيضا‬
‫ين }(‪ )5‬والحاصل ان عداوة‬ ‫ك َج َع ْلنَا لِ ُكلِّ نَبِ ٍّي َع ُد ّواً ِّم َن ْال ُمجْ ِر ِم َ‬
‫{ َو َك َذلِ َ‬
‫الشياطين من الجن واالنس@ لألنبياء@ ‪،‬قديمة قدم دعوات األنبياء@ ‪،‬وقد‬
‫صورت اآلية هذه العداوة بصورة استعارية ‪ ،‬فهؤالء الشياطين@ عندما‬
‫يلتقون مع بعضهم اآلخر يعلمون بعضهم اآلخر طرائق اإلضالل‬
‫ُف ْالقَ ْو ِل)‪ ،‬والزخرف كما هو‬ ‫‪،‬وجاء التعبير عن هذه الطرائق بـ ( ُز ْخر َ‬
‫معلوم التزيين للشيء(‪، )6‬االّ ان هذا التزيين يظل (خارجيا ) ‪،‬و‬
‫( سطحيا ) ‪،‬وال عالقة له بمضمون االشياء ‪،‬وهذا ما نالحظه من‬
‫الزخرف الذي توش به العمارات‪،‬إذ انه مجرد تزيين خارجي ال عالقة‬
‫له بمتانة العمارة‪ ،‬وأحكامها ‪،‬وإذا نقلنا هذه الحقيقة الحسية الى صعيد‬

‫) التحرير والتنوير ـ ج‪ 8‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬

‫) األنعام ‪.112:‬‬ ‫‪2‬‬

‫) األنعام ‪.34:‬‬ ‫‪3‬‬

‫) فصلت ‪.43:‬‬ ‫‪4‬‬

‫) الفرقان ‪.31:‬‬ ‫‪5‬‬

‫) ينظر المفردات ـ ص‪ ،212‬والجامع ألحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج‪ 7‬ص‬ ‫‪6‬‬

‫‪ ، 67‬وتفسير ابن كثير ج‪ 2‬ص ‪ 167‬وتفسير القاسمي ج‪ 7‬ص ‪688‬ـ‬


‫‪.689‬‬

‫‪316‬‬
‫االفكار‪ ،‬أو االقوال‪ ،‬أو المعامالت ‪،‬نجد ان اعارتها من صعيدها‬
‫الحسي الى صعيدها المعنوي‪ ،‬يحمل أهمية فنية كبيرة‪ ،‬نظرا للتماثل‬
‫بين ما هو معنوي من الحقائق‪ ،‬وامكانية@ تمويهها‪ ،‬وبين ما هو مادي‬
‫‪،‬وإمكانية تمويهه من خالل الزخرف‪ .‬فمهمة الشياطين@ اغواء الناس‪،‬‬
‫واالغواء ايصال االشياء الى اآلخرين بخالف حقائقها‪ ،‬لكن بطرق@‬
‫خاصة تعتمد تمويه الحقائق ‪،‬ولذلك فان عملية التمويه@ للحقائق ‪،‬تتناسب‬
‫مع عملية (الزخرفة ) حيث تجد ان الزخرفة الحسية ‪،‬تضيف جمالية‬
‫ظاهرة على هذه العمارة أو تلك ‪ ،‬فيما تخفي تحتها أما بناءا غير متماسك‪،‬‬
‫أو تشويها وقبحا ملحوظين‪ ،‬وكذلك الزخرف من القول ‪ .‬وهنا ينبغي أن تلحظ‬
‫ُف ْالقَ ْو ِل )‪ ،‬تتمثل في كونها‬
‫أيضا ان أهمية هذه الصورة االستعارية‪ُ ( ،‬ز ْخر َ‬
‫أهمية مزدوجة‪ ،‬فهي من جانب تشير الى ان ما توحي به الشياطين مطلقا هو‬
‫(زخرف) أي ‪ :‬أن ما يوسوس به الشيطان للناس هو كالم مزخرف ‪ ،‬ومن‬
‫جانب آخر تشير الى أن ما يوحي به الشياطين بعضهم الى بعض‪ ،‬هو كالم‬
‫مزخرف أيضا ‪،‬وهذا ما لم تصرح به الصورة مباشرة‪ ،‬بل تتركنا نحن‬
‫نستخلص ذلك ‪ ،‬وهو أمر يضفي مزيدا من الجمالية على الصورة المشار‬
‫اليها(‪ .)1‬فالشياطين تلقي قوال مزيّن ظاهره‪ ،‬باطل باطنه ‪،‬فهذه اآلية وما تحتها‬
‫من معاني عظيمة بينت لنا أصول الباطل‪ ،‬ونبهتنا على مواقع الحذر منها وعدم@‬
‫االغترار بها‪ ،‬واذا ( تأملت مقاالت أهل الباطل‪ ،‬رأيتهم قد كسوها من العبارات‬
‫‪،‬وتحبروا لها من االلفاظ الرائقة‪ ،‬ما يسرع الى قبوله كل من ليس له بصيرة‬
‫نافذة ‪ ،‬وأكثر الخلق كذلك ) (‪، )2‬ونحن إذ ننظر الى هذه اآلية نرى كانها نزلت (‬
‫لهذا العصر الذي أصبح فيه لوسائل االعالم@ سلطان كبير‪ ،‬وتأثير شديد على‬
‫الناس ‪ ،‬لقد وجه شياطين اإلنس من أعداء اإلنسان بوحي من شياطين الجن‪،‬‬
‫كثيرا من وسائل االعالم@ المسموعة ‪،‬والمرئية‪ ،‬والمقروءة‪ @،‬الى الشعوب@‬
‫االسالمية ‪ ،‬ليفتنوا المسلمين عن دينهم ‪،‬وأخالقهم‪ @،‬وقد ملؤوها بالبرامج‬
‫المزخرفة المموهة ‪ ،‬التي تستهدف في حقيقتها تشكيك المسلمين بدينهم‪ ،‬وإشاعة‬
‫الفواحش‪ ،‬والفجور في مجتمعاتهم ) (‪ )3‬والنص يطلعنا بجملة من الحقائق‪ ،‬يمكن‬
‫لنا أن نقف معها‪ ،‬في دورة الصراع التي ال تنتهي مع الباطل‪ ،‬انه يقرر اوال‬
‫‪:‬ان الذين يقفون بالعداوة لكل نبي‪ ،‬ويقفون باألذى@ ألتباع األنبياء هم شياطن ـ‬

‫) ينظر دراسات فنية في صور القرآن ـ د‪ .‬محمود البستاني ـ ص‪ 172‬ـ‬ ‫‪1‬‬

‫‪.173‬‬
‫) بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية ـ جمع يسري السيد محمد‬ ‫‪2‬‬

‫طبعة دار ابن الجوزي@ ـ الدمام ـ ط‪ 1‬ـ ‪ 1414‬هـ ‪ 1993‬م ج‪ 2‬ص ‪. 174‬‬
‫) بصائر الحق في سورة االنعام ـ عبد الحميد طهماز ـ ص ‪.107‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪317‬‬
‫شياطين من االنس والجن ـ وإنهم يؤدون جميعا وظيفة واحدة ‪،‬وان@ بعضهم‬
‫يخدع بعضعا‪ ،‬ويضله كذلك‪ ،‬مع قيامهم جميعا بوظيفة التمرد ‪،‬والغواية@‬
‫‪،‬وعداء أولياء هللا ‪،‬ويقرر لنا ثانيا أن هؤالء الشياطين@ ال يفعلون شيئا‬
‫من هذا كله ‪،‬وال يقدرون على شيء من عداء االنبياء ‪،‬وايذاء أتباعهم‬
‫بقدرة ذاتية@ فيهم‪ ،‬إنما هم في قبضة هللا ‪،‬وهو يبتلي@ بهم اولياءه‪ ،‬ألمر‬
‫يريده من تمــحيـــص هؤالء االولياء‪ ،‬وتطــهير@ قلوبهم ‪،‬وامتحان‬
‫صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء ‪،‬ويقرر ثالثا ‪ :‬ان حكمة هللا‬
‫الخالصة هي التي اقتضت ان يترك لشياطين االنس ‪ ،‬والجن ان‬
‫يتشيطنوا فهو إنما يبتليهم@ في القدر الذي تركه لهم من االختيار‪،‬‬
‫والقدرة ـ وان يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان‪ ،‬فهو إنما يبتلي@‬
‫أولياءه كذلك لينظر@ ‪ :‬أيصبرون ؟ أيثبتون؟ على ما معهم من الحق‬
‫بينما الباطل ينتفش عليهم‪ ،‬ويستطيل@ ‪ ،‬ويقرر لنا رابعا ‪ :‬هوان‬
‫الشياطين من االنس‪ ،‬والجن‪ ،‬وهوان كيدهم واذاهم‪ ،‬فما يستطيلون@ بقوة‬
‫ذاتية لهم ‪ ،‬وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن هللا به على ايديهم@ ‪،‬‬
‫والمؤمن الذي يعلم ان ربه هو الذي يقدر‪ ،‬وهو الذي يأذن خليق أن‬
‫يستهين بأعدائه من الشياطين@ ؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة ‪،‬وسلطانهم‬
‫المدعى ومن هنا جاء هذا التوجيه العلوي لرسول هللا الكريم (صلى هللا‬
‫ُون )‪ ،‬دعهم وافتراءهم فأنا من ورائهم‬ ‫عليه وسلم ) ‪ (:‬فَ َذرْ هُ ْم َو َما يَ ْفتَر َ‬
‫قادر على أخذهم‪ ،‬مدخر لهم جزاءهم ‪ ،‬والتقرير الخامس المهم في‬
‫العرض لهذه الصورة من الصراع هو ما نلمسه في قوله تعالى‬
‫ض ْوهُ َولِيَ ْقتَ ِرفُ ْ‬
‫وا َما هُم‬ ‫اآلخ َر ِة َولِيَرْ َ‬
‫ون بِ ِ‬ ‫{ َولِتَصْ َغى إِلَ ْي ِه أَ ْفئِ َدةُ الَّ ِذ َ‬
‫ين الَ ي ُْؤ ِمنُ َ‬
‫ون }(‪، )1‬أي لتستمع إلى ذلك الخداع ‪،‬وااليحاء قلوب الذين ال‬ ‫ُّم ْقتَ ِرفُ َ‬
‫يؤمنون باألخرة ‪،‬فهؤالء يحصرون همهم كله في الدنيا‪ ،‬وهم يرون‬
‫الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي ‪ ،‬وينالون باألذى كل‬
‫نبي ‪ ،‬ويزين بعضهم لبعض القول والفعل ‪،‬فيخضعون للشياطين@‬
‫معجبين بزخرفهم الباطل@ ‪،‬ومعجبين بسلطانهم الخادع‪ ،‬ثم يكسبون ما‬
‫يكسبون من االثم@ ‪،‬والشر ‪،‬والمعصية‪ ،‬والفساد في ظل ذلك االيحاء‬
‫‪،‬وبسبب هذا االصغاء(‪. )2‬‬

‫) األنعام ‪.113:‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر في ظالل القرآن ـ سيد قطب ـ م‪ 3‬ص ‪ ، 1190‬وينظر تيسير‬ ‫‪2‬‬

‫الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان ـ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ‬

‫‪318‬‬
‫فهذه جملة من التقارير أوقفنا عندها النص حتى نعرف كيف‬
‫تدور رحى المعركة مع الباطل‪ ،‬والمشهد الذي يرسمه القرآن لهذه‬
‫المعركة يتمثل في انها ( معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا‬
‫الكون‪ ....‬شياطين االنس والجن ‪...‬تتجمع في تعاون‪ ،‬وتناسق إلمضاء‬
‫خطة مقررة هي عداء الحق الممثل في رساالت االنبياء ‪،‬وحزبة‬
‫ُف ْالقَ ْو ِل‬
‫ْض ُز ْخر َ‬ ‫ضهُ ْم إِلَى بَع ٍ‬ ‫ُوحي بَ ْع ُ‬ ‫‪.....‬خطة مقررة فيها وسائلها ‪ {..‬ي ِ‬
‫ُغرُوراً } يمد بعضهم بعضا بوسائل الخداع‪ ،‬والغواية@ ‪،‬وفي الوقت ذاته‬
‫يغوي بعضهم بعضا ! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في‬
‫حرب الحق وأهله ‪..‬ان الشياطين يتعاونون فيما بينهم‪ ،‬ويعين بعضهم‬
‫بعضا على الضالل أيضا ! إنهم ال يهدون بعضهم البعض الى الحق‬
‫أبدا ‪،‬ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق‪ ،‬وحربه‪ ،‬والمضي في‬
‫المعركة معه طويال ) (‪. )1‬‬
‫وقريب من هذه الصورة من الصراع وضمن هذا االطار قوله‬
‫ان فِي‬ ‫ُول َواَل نَبِ ٍّي إِاَّل إِ َذا تَ َمنَّى أَ ْلقَى ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ك ِمن َّرس ٍ‬ ‫{و َما أَرْ َس ْلنَا ِمن قَ ْبلِ َ‬
‫تعالى َ‬
‫أُ ْمنِيَّتِ ِه فَيَن َس ُخ هَّللا ُ َما ي ُْلقِي ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان ثُ َّم يُحْ ِك ُم هَّللا ُ آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم } ‪.‬لهذه‬
‫(‪)2‬‬

‫اآلية قصة طويلة@ ‪ ،‬وفيها خالف كبير ‪،‬وهي ما يعرف بقصة الغرانيق@‬
‫ولن أدخل في تفاصيلها من حيث الصحة وعدمها ؛ فان ذلك يرجع إليه‬
‫في مظانه ‪ ،‬والمهم ان اآلية تصور لنا عداوة الشيطان المتحكمة‬
‫لألنبياء‪ ،‬وأتباعهم فهذا النبي ما ان يتمنى هداية قومه‪ ،‬أو يقرأ أمرا‪ ،‬أو‬
‫ان فِي أُ ْمنِيَّتِ ِه )‪ ،‬بان يحاول تغيير حديثه‬ ‫يحدث حديثا االّ (أَ ْلقَى ال َّش ْيطَ ُ‬
‫‪،‬وتحريفه‪ ،‬أو بان يحاول الوسوسة في قلب ذلك النبي@ بان يجعله ييأس‬
‫من هداية قومه ‪ ،‬أو في قلب الناس بان يأمرهم بالكذب‪ ،‬والعصيان‪،‬‬
‫فيروج في نفوسهم الشكوك ‪،‬والشبهات‪ ،‬التي تصدهم عن الهدى ‪،‬وذلك‬
‫قريب من زخرفة القول الذي يتنمق@ الشيطان بالقائه على مسامع الناس‪،‬‬
‫لينصرفوا عن طريق الحق‪ ،‬فكأن هذه اآلية مع التي قبلها تشكل بناء‬
‫فنيا متكامال ‪،‬إلعطاء الصورة الحقيقية@ للصراع مع الشيطان(‪ . )3‬ثم‬

‫ص ‪.270‬‬
‫)في ظالل القرآن ـ م‪ 3‬ص ‪.1190‬‬ ‫‪1‬‬

‫)الحج ‪.52 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ينظر التفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 23‬ص ‪ ،45‬والكشاف ـ الزمخشري ج‪3‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص ‪ ، 167‬واالتباع انواعه وآثاره في بيان القرآن ـ محمد بن مصطفى‬

‫‪319‬‬
‫ينسخ هللا ذلك بأن يفضح كالم الشيطان ‪،‬ووسوسته‪ ،‬ويحكم آياته بان‬
‫يزيدها وضوحا ‪،‬وبرهانا يخلصها من الباطل الذي علق بها عن طريق‬
‫وسوسة الشيطان‪ ،‬وهذه اآلية@ كانها إفصاح وبيان لما ورد في الصورة‬
‫السابقة من صور الصراع الشيطاني عند قوله تعالى (فَ َذرْ هُ ْم َو َما يَ ْفتَر َ‬
‫ُون‬
‫)‪ ،‬فهذه اآلية كانها تقول للنبي ‪ ‬اتركهم وال تبال بخداعهم ‪،‬وأكاذيبهم‬
‫فان هللا يحكم آياته بأن يزيدها وضوحا‪ ،‬وبرهانا‪ ،‬ويخلصها من‬
‫الباطل(‪.)1‬‬
‫مرة أخرى يعرض لنا النص لوحة فنية تدل على تكامل البناء@‬
‫الفني للنص القرآني ‪،‬وانه يكمل بعضه البعض اآلخر ‪،‬ويوضح بعضه‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬سواء أكان ذلك من الناحية الفنية@ أم من الناحية الفكرية؟‬
‫وال يخفى ان في هذه اآلية تثبيتا للرسول محمد ‪، ‬وتسلية وذلك حين‬
‫يعلم بان ما يحصل له من العناد ‪،‬والتكذيب‪ ،‬وما يلقيه الشيطان من‬
‫التحريف‪ ،‬والتبديل وقد حصل لغيره من االمم السابقة‪ ،‬وقد أفاد ذلك‬
‫ُول َواَل نَبِ ٍّي)‪ ،‬وهذا من شأنه (أن يبعد اليأس عن قلبه‬ ‫عموم قوله ( ِمن َّرس ٍ‬
‫‪ ،‬وان يكون حافزا له على زيادة ما كلف به من الدعوة الى هللا‪،‬‬
‫والصبر على األذى في ذلك(‪ .)2‬فاآلية تبين لنا بوضوح ( ان االنبياء@‬
‫والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا ‪ ،‬فيبلغونهم ما ينزل اليهم‬
‫من هللا ‪ ،‬ويعضونهم ويدعونهم بالحجة‪ ،‬والمجادلة الحسنة حتى يظنوا@‬
‫ان امنيتهم قد نجحت ‪،‬ويقترب القوم من االيمان كما حكى هللا عن‬
‫ُضلُّنَا َع ْن آلِهَتِنَا لَ ْواَل‬ ‫المشركين قولهم {أَهَ َذا الَّ ِذي بَ َع َ‬
‫ث هَّللا ُ َرسُوالً‪ ‬إِن َكا َد لَي ِ‬
‫صبَرْ نَا َعلَ ْيهَا } (‪ ،)3‬فيأتي الشيطان فال يزال يوسوس في نفوس‬ ‫أَن َ‬
‫الكفار‪ ،‬فينكصون على اعقابهم‪ ،‬وتلك الوساوس ضروب شتى من‬
‫تذكيرهم بحب الهتهم‪ ،‬ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ‪،‬ونحو ذلك‬
‫من ضروب الضالالت التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن ‪ ،‬فيتمسك‬
‫أهل الضاللة بدينهم ‪،‬ويصدون عن دعوة رسلهم ‪،‬وذلك هو الصبر‬
‫صبَرْ نَا َعلَ ْيهَا) ‪،‬وكلما أفسد الشيطان دعوة الرسل‬ ‫الذي في قوله (لَ ْواَل أَن َ‬
‫أمر هللا رسله فعادوا االرشاد وكرروه ‪،‬وهو سبب تكرار مواعظ‬
‫السيد ـ ج‪ 2‬ص ‪ 521‬ـ ‪.522‬‬
‫)ينظر اضواء البيان ـ الشنقيطي ج‪ 5‬ص ‪ 285‬ـ ‪.286‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر االتباع انواعه وآثاره في بيان القرآن ـ ج‪ 2‬ص ‪.522‬‬ ‫‪2‬‬

‫)الفرقان ‪ 41 :‬ـ ‪.42‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪320‬‬
‫متماثلة في القرآن ‪ ،‬فبتلك المعاودة ينسخ ما القاه الشيطان‪ ،‬وتثبت‬
‫اآليات السالفة ) (‪.)1‬‬
‫ان طريق القاء الشبه‪ ،‬وتزوير الحقائق إحدى طرق الشيطان في‬
‫الصد عن سبيل هللا ‪ ،‬وهذه الشبه ال تفعل فعلها االّ عند ضعاف‬
‫االيمان‪ ،‬أو من كان الجهل ضاربا أطنابه@ لديه‪ ،‬ألن من كان ايمانه‬
‫قويا‪ ،‬ومن كان لديه علم ‪،‬فإن الشيطان ال يتمكن من صد هذا عن الحق‬
‫مهما أوتي من قوة ‪،‬لشدة حفظ هللا تعالى لهذا ولذلك قال تعالى {لِيَجْ َع َل‬
‫ين فِي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ َو ْالقَا ِسيَ ِة قُلُوبُهُ ْم }(‪، )2‬أي فتنة‬ ‫َما ي ُْلقِي ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان فِ ْتنَةً لِّلَّ ِذ َ‬
‫لمن في قلبه مرض بسبب ضعف االيمان(‪، )3‬أي ان هؤالء يعانون من‬
‫( ضعف ‪ ،‬وعدم ايمان تام وتصديق@ جازم‪ ،‬فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة‬
‫تطرأ عليه ‪،‬فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان داخلهم الريب‪ ،‬والشك فصار‬
‫فتنة لهم ‪َ (،‬و ْالقَا ِسيَ ِة قُلُوبُهُ ْم) أي الغليضة التي اليؤثر فيها زجر ‪،‬وال‬
‫تذكير وال تفهم عن هللا ‪،‬وعن رسوله‪ ‬لقسوتها فإذا سمعوا ما ألقاه‬
‫الشيطان جعلوه حجة لهم عن باطلهم‪ ،‬وجادلوا به وشاقوا هللا ورسوله )‬
‫(‪ )4‬انها صورة نفسية شاخصة لحال هؤالء الذين يتقبلون الشبه‪،‬‬
‫ويجعلون ما يلقيه الشيطان حجة ‪،‬فهؤالء صنفان من الناس‪ ،‬ضعف‬
‫مريض القلب تؤثر فيه أدنى شبهة تطرأ عليه‪ ،‬وصنف قاسي القلب ال‬
‫يؤثر فيه زجر وال تذكير ‪،‬وبهذا التصنيف@ تظهر الصورة الفنية‬
‫واضحة جلية إنه اختبار لقلوب الناس في ايمانهم ‪ .‬وهاك صورة أخرى‬
‫لهذا الصراع وضمن نفس اإلطار إطار المجادلة بالباطل والصد عن‬
‫اس َمن ي َُجا ِد ُل فِي هَّللا ِ بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َويَتَّبِ ُع ُك َّل‬
‫{و ِم َن النَّ ِ‬
‫طريق الحق‪ ،‬قال تعالى َ‬
‫ان َّم ِري ٍد }(‪ . )5‬ان النص يتحدث عن فريق من المنحرفين‪ ،‬ممن‬ ‫َش ْيطَ ٍ‬
‫ينطلق@ من نزعة مرضية هي ( المجادلة )‪ ،‬والعناد ونحن نعرف ان‬
‫المجادلة بغير علم هي تعبير عن االلتواء النفسي‪ ،‬انها تغطية@ أو قناع‬
‫لما تتستر به الشخصية من أحاسيس النقص‪ ،‬والشعور بالدونية ‪،‬وما‬
‫)التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ـ ج ‪ 17‬ص ‪.300‬‬ ‫‪1‬‬

‫)الحج ‪.53 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ينظر ارشاد العقل السليم ج‪ 6‬ص‪ ، 114‬واختصار النكت ـ ج‪ 2‬ص‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ،362‬وأضواء البيان ـ الشنقيطي ـ ج‪ 5‬ص ‪.288‬‬


‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ابن السعدي ص ‪.542‬‬ ‫‪4‬‬

‫)الحج‪.3 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪321‬‬
‫يستتبع ذلك من الصراعات التي تبحث لها عن منفذ الى الخارج‪،‬‬
‫فتلجيء حينئذ إلى أحد أشكال التعبير عن المرض اآل وهو الجدال بغير‬
‫علم‪ ،‬ان النص يتناول هذا النمط من الناس ويقرر بأن هؤالء يجادلون‬
‫في هللا بغير علم‪ ،‬ويتبعون كل شيطان مريد أي متعري من الخيرات‬
‫من قولهم شجر أمرد‪ ،‬إذا تعرى من الورق‪ ،‬ومنه قيل رملة مرداء لم‬
‫تنبت شيئا(‪ .)1‬فهذا التوصيف للشيطان يتناسب مع طبيعة@ هؤالء الذين‬
‫يجادلون متعرين من العلم‪ ،‬ألنهم اتبعوا@ الشيطان الذي هو متعري من‬
‫كل خير وعلم(‪، )2‬فهل رأينا كيف وافق القرآن بين حال هؤالء ‪ ،‬وحال‬
‫شيطانهم انها صورة فنية قرآنية رائعة تدل على التناسق@ الفني للنص‬
‫القرآني‪ ،‬ثم يقول النص القرآني عن هؤالء المرضى بانهم إذا تولوا‬
‫الشيطان فانه سيظلهم ‪،‬ويوصلهم الى عذاب السعير‪ ،‬وهذا الجزاء هو‬
‫نتيجة لما قدمت أيديهم ألنهم اتخذوا الشيطان المريد دليال وهاديا لهم‪،‬‬
‫فأوصلهم الى هذه النتيجة‪ .‬إذن الصور السابقة من الصراع كانت‬
‫تتحرك ضمن اطار الجدل بالباطل‪ ،‬والصد عن طريق@ الحق بمحاولة‬
‫القاء الشبه والشكوك حول الحق وأهله‪ ،‬واآلن ننتقل إلى إطار آخر‬
‫تحرك فيه الشيطان لتنفيذ خطته الشيطانية في اإلضالل ‪.‬‬
‫‪2‬ـ التزيين لألعمال ‪ :‬سبق لنا أن ذكرنا ان من معالم الخطة‬
‫الشيطانية@ التي اختطها في قصة الصراع األولى ‪،‬معلم التزيين‬
‫والمتاجرة بالشهوات‪ ،‬ذلك ان من كيده لإلنسان أنه يورده موارد الهالك‬
‫التي يخيل اليه@ أن فيها منفعته‪ ،‬ثم يصدره على المصادر التي فيها‬
‫عطبه وهالكه‪ ،‬ويتخلى عنه بعد ذلك ويشمت به(‪ ، )3‬فتزين الشيطان‬
‫للباطل يتم بان يستعين الشيطان بالنفس فيحثها على الشهوة ‪،‬وعلى‬
‫هواها(‪، )4‬ويرى االنسان عمله حسنا فال يفكر فيه وال يفتش في عمله‬

‫)المفردات في غريب القرآن ـ االصفهاني ـ ص ‪.466‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر ارشاد العقل السليم ج‪ 6‬ص ‪ ، 92‬و اختصار النكت ج‪ 2‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ، 344‬ودراسات@ فنية في صور القرآن ـ د‪ .‬محمود البستاني ـ ص ‪ 402‬ـ‬


‫‪. 403‬‬
‫)ينظر اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ـ ابن قيم الجوزية ـ تحقيق محمد‬ ‫‪3‬‬

‫عفيفي ـ المكتب االسالمي ـ بيروت ـ ط‪ 2‬ـ ‪1409‬هـ ـ ‪1989‬م ـ ج‪ 1‬ـ ص‬


‫‪.108‬‬
‫)ينظر تلبيس ابليس ـ ابن الجوزي ـ تحقيق السيد الجميلي ـ دار الكتاب‬ ‫‪4‬‬

‫‪322‬‬
‫ليرى مواضع الخطأ‪ ،‬والنقص فيه النه واثق من انه ال يخطئ ‪،‬متأكد‬
‫انه دائما على صواب‪ ،‬معجب بكل ما يصدر عنه مفتون بكل مايتعلق‬
‫بذاته‪ ،‬هذا هو البالء الذي يصبه الشيطان على االنسان‪ ،‬والذي يقوده‬
‫الى الضالل(‪. )1‬وقد بين هو بنفسه معالم فقهه هذا قال تعالى { قَا َل َربِّ‬
‫ين}(‪ ، )2‬أي احبب‬ ‫ض َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ُ‬
‫بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي أل َزيِّنَ َّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫اليهم المعاصي ‪،‬وارغبهم فيها ‪،‬وأأزهم اليها ‪،‬وازعجهم اليها ازعاجا‬
‫‪،‬واليك@ التطبيق العملي لهذا الفقه الشيطاني@ كما ذكرته النصوص‬
‫ت قُلُوبُهُ ْم‬ ‫ض َّر ُع ْ‬
‫وا َولَـ ِكن قَ َس ْ‬ ‫القرانية@ ‪ .‬قال تعالى {فَلَ ْوال إِ ْذ َجاءهُ ْم بَأْ ُسنَا تَ َ‬
‫ون }(‪ ، )3‬االية تبين أن هللا سبحانه‬ ‫ان َما َكانُ ْ‬
‫وا يَ ْع َملُ َ‬ ‫َو َزي ََّن لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫وتعالى اخذ هؤالء القوم بالباساء والضراء ‪،‬لعلهم يتضرعون‪ ،‬ولكنهم‬
‫لم يتضرعوا بسب قساوة قلوبهم‪ ،‬واذا كان النص القراني يتحدث عن‬
‫أمم أرسل هللا لها رسال ‪،‬فانه يتحدث في ذلك عن جانب من أسرار‬
‫سنته وقدره لنأخذ نحن حذرنا‪ ،‬ونتعظ وندرك ما وراء الواقع التاريخي‬
‫من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة ‪ ،‬افتتح النص بـ ( لوال) التي تفيد انه‬
‫ما كان لهم من عذر في ترك التضرع االّ عنادهم‪ ،‬وقسوتهم ‪،‬وإعجابهم‬
‫بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم(‪، )4‬وقسوة القلب هذه كانت خير معين‬
‫للشيطان على الوسوسة والنفث ؛ إذ زين لهم االستمرار على هذا الكبر‬
‫والتكذيب للرسل‪ ،‬وتقبيح الطاعة لهم فظنوا ان ما هم عليه دين الحق‬
‫فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان‪ ،‬ولعب بعقولهم الشيطان(‪. )5‬‬
‫فالشيطان عندما يبرز للتزيين ‪،‬يبحث عن مواضع الضعف عند االنسان‬
‫فيركز عليها‪ ،‬ألم نرى في قصة الصراع األولى كيف حرك في نفس‬
‫أبينا آدم‪ ،‬وزوجه غريزة حب البقاء‪ ،‬فأوقعهم من خاللها في شراكه‪،‬‬
‫فكذلك هو هنا وقف على نقطة الضعف عند هؤالء انها قسوة القلب‬

‫العربي ـ بيروت ـ ط‪ 1‬ـ‪1405‬هـ ـ ‪1985‬م ـ ص ‪.33‬‬


‫)في ظالل القرآن ـ م‪ 5‬ص ‪.2927‬‬ ‫‪1‬‬

‫)الحجر ‪.39:‬‬ ‫‪2‬‬

‫)االنعام ‪.43:‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر التفسير الكبير ـ الرازي ـ ج‪ 12‬ص ‪ ، 185‬واالساس في التفسير ـ‬ ‫‪4‬‬

‫سعيد حوى ـ م‪ 3‬ص ‪.1630‬‬


‫)ينظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان ـ ابن السعدي@ ص‬ ‫‪5‬‬

‫‪.256‬‬

‫‪323‬‬
‫الذي تحجر ومات‪ ( ،‬فلم تعد الشدة تثير فيه االحساس‪ ،‬وتعطلت أجهزة‬
‫االستقبال الفطرية@ فيه‪ ،‬فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة‪ ،‬التي تنبه@‬
‫القلوب الحية للتلقي ‪،‬واالستجابة ‪،‬والشدة ابتالء@ من هللا لعبده‪ ،‬فمن كان‬
‫حيا أيقظته‪ ،‬وفتحت مغاليق قلبه ‪،‬وردته الى ربه ‪،‬وكانت رحمة له من‬
‫الرحمة التي كتبها هللا على نفسه‪ ،‬وإن كان ميتا حسب عليه ولم تفده‬
‫شيئا ‪،‬وإنما استقطعت عذره وحجته ‪،‬وكانت عليه شقوة وكانت موطئة‬
‫للعذاب ) (‪،)1‬والحاصل من خالل اآلية ان على المرء التفتيش@ عن قلبه‬
‫بين الوقت واآلخر ‪،‬حتى ال يقسو فإن قسوة القلب سبب لولوج الشيطان‬
‫إليه ‪،‬وكلما كان القلب لينا متأثرا بالمواعظ رجّاعا الى الحق كان أمنع‬
‫من وسوسة الشيطان‪ ،‬وكلما كان قاسيا جلمدا كالصخر كان أسهل‬
‫لدخول الشيطان ‪،‬وهذا ما أشار إليه@ أيضا الحديث النبوي@ الشريف‬
‫(( اآل ان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ‪ ،‬وإذا فسدت‬
‫فسد الجسد كله ‪ ،‬اآل وهي القلب )) (‪، )2‬إن هذا التعبير هو أبلغ ما يقال‬
‫في الموضوع‪ ،‬فإن صالح القلب صالح الجسد‪ ،‬وإن فساد القلب فساد‬
‫للجسد‪ ،‬وبه تتضح الخطة الشيطانية في التزيين‪ .‬ومن تزيين الشيطان‬
‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم َوقَا َل الَ‬
‫{وإِ ْذ َزي ََّن لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫أيضا ما نجده في قوله تعالى َ‬
‫ص َعلَى َعقِبَ ْي ِه‬ ‫ان نَ َك َ‬ ‫ت ْالفِئَتَ ِ‬ ‫ب لَ ُك ُم ْاليَ ْو َم ِم َن النَّ ِ‬
‫اس َوإِنِّي َجا ٌر لَّ ُك ْم فَلَ َّما تَ َراء ِ‬ ‫َغالِ َ‬
‫ب}@‬ ‫اف هّللا َ َوهّللا ُ َش ِدي ُد ْال ِعقَا ِ‬‫ال إِنِّي بَ ِري ٌء ِّمن ُك ْم إِنِّي أَ َرى َما الَ تَ َر ْو َن إِنِّ َي أَ َخ ُ‬ ‫َوقَ َ‬
‫(‪،)3‬فالشيطان هنا يزين لكفار قريش قتال المسلمين ويبين@ لهم انه جار‬
‫لهم‪ ،‬ومعين‪ ،‬وقد ذكر أهل التفسير في هذا التزيين وجهين ‪ :‬أحدهما ‪:‬‬
‫انه الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل@ في صورة إنسان ‪ ،‬وثانيهما ‪:‬‬
‫ان ظهر لكفار قريش في صورة انسان‪ ،‬ألنهم لما أرادوا السير الى بدر‬
‫لقتال المسلمين خافوا من بني كنانة‪ ،‬أن يأتوهم من ورائهم‪ ،‬فتمثل‬
‫ابليس اللعين في صورة سراقة الكناني‪ ،‬وقال لكفار قريش ‪ :‬أنا جار‬
‫(وإِنِّي َجا ٌر لَّ ُك ْم )‬
‫لكم من بني كنانة ‪،‬فال يصل اليكم مكروه منهم فقوله َ‬

‫)ينظر االتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن ـ محمد بن مصطفى السيد ج‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص ‪.525‬‬
‫)صحيح البخاري كتاب االيمان ـ باب فضل من استبرأ لدينه ج‪ 1‬ص ‪ 28‬ـ‬ ‫‪2‬‬

‫عن النعمان بن بشير‪.‬‬


‫)األنفال ‪.48 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪324‬‬
‫على الحقيقة ومعنى الجار هنا الدافع للضرر عن صاحبه(‪ . )1‬فهذه‬
‫عادته ـ لعنه هللا ـ إذ يحسن للناس عمل المنكر ‪،‬ويطمعهم فيه ‪ ،‬كما في‬
‫هذه المعركة ثم يتخلى عنهم في أشد حاجتهم إليه@ ‪،‬وفي أحلك الظروف‪،‬‬
‫ويسلمهم الى أعدائهم‪ ،‬ألنه قضى وطره‪ ،‬وحصّل مأربه منهم هذا في‬
‫الدنيا‪ ،‬وأما في اآلخرة فانه يتبرأ أشد البراءة ‪ ،‬ويوردهم شر الموارد‬
‫( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) (‪، )2‬فانظر كيف صور اعراضه‬
‫وتراجعه بعد ان كان واعظا مزينا االعمال لهؤالء المغترين‪ ،‬لقد عبّر‬
‫عن ذلك بـ الفعل ( نكص )‪ ،‬الذي هو اإلحجام مصحوب بسرعة تخلي‪،‬‬
‫وترك لآلخر‪ ،‬وهكذا هو الشيطان ( مع كل أوليائه فانه يدعوهم‬
‫‪،‬ويدليهم@ بغرور الى ما يضرهم حتى اذا وقعوا في الشباك ‪،‬وحاق بهم‬
‫أسباب الهالك تبرأ منهم وتخلى عنهم ) (‪ .)3‬وال لوم على الشيطان ألنه‬
‫عدو‪ ،‬ومن الطبيعي ان يخطط العدو لاليقاع بخصمه ‪،‬ولكن اللوم@ كل‬
‫اللوم على من يتبع هذا التزين‪ ،‬ويطبعه@ فيه فهذا من أعجب العجب‬
‫!‪.‬ومن باب التزين لألعمال أيضا ما جاء في قوله تعالى { َو َجدتُّهَا‬
‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫ص َّدهُ ْم َع ِن‬ ‫ون هَّللا ِ َو َزي ََّن لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫س ِمن ُد ِ‬‫ون لِل َّش ْم ِ‬
‫َوقَ ْو َمهَا يَ ْس ُج ُد َ‬
‫ون} ‪.‬في هذه الصورة الشاخصة يقف مخلوق ال‬ ‫(‪)4‬‬
‫ال َّسبِي ِل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَ ُد َ‬
‫يعقل ليبدي استغرابه ‪ ،‬وألمه وغيظه من فعل أقدم عليه من يعقلون انه‬
‫فعل السجود ( للشمس والقمر من دون هللا ‪،‬فما أروع هذا الهدهد‬
‫العجيب في استنكاره سجود القوم للشمس من دون هللا ‪،‬وما أروع‬
‫تعليله لضاللهم بأن الشيطان زين لهم أعمالهم‪ ،‬فأضلهم فهم ال يهتدون‬
‫الى عبادة هللا العليم الخبير‪ ،‬وال شك ان هللا سبحانه هو الذي ألهم‬
‫الهدهد‪ ،‬وهداه الى معرفته ووجوب السجود‪ ،‬له كما ألهم وهدى غيره‬
‫من الطيور‪ ،‬وسائر الحيوان المعارف اللطيفة@ التي يكاد العقالء الرجاح‬
‫ال يهتدون لها ‪ ،‬بل ان ادلة التوحيد التي جاءت على لسان هذا الهدهد‬
‫لمما يسترعي االنتباه ‪،‬ويمأل النفس ايمانا بالحقيقة ‪ ،‬حيث تأتي الحقيقة‬
‫على لسان هدهد في الوقت الذي يغفل عنها االنسان‪ ،‬فالهدهد هنا قد‬

‫)ينظر جامع البيان ـ الطبري ـ ج‪ 10‬ص‪ ، 20‬وتفسير القاسمي ج‪ 8‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 73‬ـ ‪.74‬‬
‫)األنفال ‪.22:‬‬ ‫‪2‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ابن السعدي ـ ص ‪.853‬‬ ‫‪3‬‬

‫)النمل ‪.24 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪325‬‬
‫مثل دور الداعية@ الحريص على هداية الناس ‪،‬ولكنهم ساروا خلف تزين‬
‫الشيطان ألعمالهم ‪،‬فتصوروا ما هم فيه أو عليه هو الحق(‪ .)1‬وإذا كان‬
‫هناك من شيء يتوقفنا في كالم الهدهد هذا‪ ،‬فطانته الى ان الحامل لهم‬
‫على هذا الفعل‪ ،‬هو ( تزين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن‬
‫السبيل المستقيم ‪،‬وهو السجود هلل وحده ‪،‬ثم أخبر ان ذلك الصد حال‬
‫بينهم وبين الهداية‪ ،‬والسجود هلل الذي ال ينبغي السجود االّ له ) (‪.)2‬‬
‫وفي مسيرة التزين@ الشيطاني@ يطالعنا النص القرآني بإشارة فيها‬
‫نوع من التسلية‪ ،‬والتثبيت للنبي@ ‪، ‬هذه اإلشارة تتمثل@ في ان فقه التزين‬
‫الشيطاني لم يقف عند قوم ‪،‬وإنما هو مستمر مع وجود المجتمع‬
‫االنساني قال تعالى {تَاهّلل ِ لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا إِلَى أُ َم ٍم ِّمن قَ ْبلِ َ‬
‫ك فَ َزي ََّن لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان‬
‫أَ ْع َمالَهُ ْم فَه َُو َولِيُّهُ ُم ْاليَ ْو َم َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم}(‪ . )3‬فهذا قسم من هللا تعالى بنفسه‬
‫بأنه قد أرسل رسال من قبل محمد ‪، ‬دعوا الناس الى عبادة هللا وحده‬
‫‪،‬وترك الشرك ( فزين لهم الشيطان أعمالهم ) (( فكذبوا الرسل وزعموا‬
‫ان ما هم عليه هو الحق ‪ ،‬المنجي من كل مكروه‪ ،‬وان ما دعت اليه@‬
‫الرسل فهو بخالف ذلك ) (‪، )4‬ولما أطاعوا في تكذيب الرسل ‪ ،‬صار‬
‫الشيطان وليا لهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ولذلك قال تعالى (( فهو وليهم‬
‫اليوم ))‪ ،‬وال ولي لهم غيره ‪ ،‬وبئست الوالية هذه التي تقود الى‬
‫العذاب االليم يوم القيامة ‪،‬والخسران في الدنيا(‪. )5‬‬
‫ومن فقه التزين أيضا ما جاء في قوله تعالى { َو َعاداً َوثَ ُمو َد َوقَد‬
‫يل َو َكانُوا‬ ‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫ص َّدهُ ْم َع ِن ال َّسبِ ِ‬ ‫تَّبَي ََّن لَ ُكم ِّمن َّم َسا ِكنِ ِه ْم َو َزي ََّن لَهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ين}(‪ .)6‬ففي هذه اآلية بيان صريح جدا يكشف عن سر ضاللهم‬ ‫ُم ْستَب ِ‬
‫ْص ِر َ‬
‫‪،‬وهو تزين الشيطان ألعمالهم ‪ ،‬فقد عرفهم هللا الحق وما يؤدي إليه‪،‬‬
‫والباطل وماذا يترتب عليه‪ ،‬فمن هاهنا كانوا ضمن دائرة االستبصار‬
‫‪،‬ولكن دائرة االستبصار هذه انطفئت في صدور الذين كفروا ‪،‬وذلك بعد‬
‫)ينظر أدب القصة في القرآن الكريم ـ عبد الجواد محمد المحص ـ ‪.206‬‬ ‫‪1‬‬

‫)بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية ـ ج‪ 3‬ص ‪.338‬‬ ‫‪2‬‬

‫)النحل ‪.63 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ابن السعدي ص‪.443‬‬ ‫‪4‬‬

‫)ينظر االتباع انواعه وآثاره في بيان القرآن ـ ج‪ 2‬ـ االتباع المذموم ـ ص‬ ‫‪5‬‬

‫‪.521‬‬
‫)العنكبوت ‪.38 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪326‬‬
‫أن زين لهم الشيطان أعمالهم ‪ ،‬واتبعوا@ أهواءهم ‪،‬وعلى هذا كانت‬
‫دائرة العمى وعندما جاءهم رسول من ربهم كي يعيدهم الى دائرة‬
‫االستبصار صدوا عن سبيل هللا ‪،‬وكان الصاد لهم تزين الشيطان‬
‫ألعمالهم(‪ .)1‬فهؤالء القوم قد ( كانت لهم عقول ‪،‬وكانت أمامهم دالئل‬
‫الهدى‪ ،‬لكن الشيطان استهواهم ‪،‬وزين لهم أعمالهم‪ ،‬وآتاهم من هذه‬
‫الثغرة المكشوفة ‪،‬وهي غرورهم بأنفسهم ‪،‬واعجابهم بما يأتون من‬
‫األعمال‪ ،‬وانخداعهم بما هم فيه من قوة‪ ،‬ومال‪ ،‬ومتاع) (‪ )2‬ولم يكن‬
‫ضاللهم ناتجا عن قصور في النظر ‪،‬وإنما كانوا ( أهل بصائر أي‬
‫عقول فال عذر لهم في صدهم عن السبيل‪ ،‬وفي هذه الجملة اقتضاء ان‬
‫ضالل عاد كان ضالال ناشئا عن فساد اعتقادهم‪ ،‬وكفرهم المتآصل‬
‫فيهم والموروث عن آبائهم‪ ،‬وإنهم لن ينجوا من عذاب هللا ألنهم كانوا‬
‫يستطيعون النظر في دالئل الوحدانية‪ ،‬وصدق رسلهم ) (‪.)3‬وهكذا‬
‫يمضي الشيطان في تنفيذ الخطة التي اختطها على نفسه في تزين‬
‫االعمال الباطلة في أعين الناس‪ ،‬حتى يروها حسنة جميلة ‪،‬وهي في‬
‫حقيقتها قبيحة باطلة مخالفة للشرع ‪ ،‬فالشيطان يدفعهم بهذا التزين وهذا‬
‫العمل الباطل إذا كانوا مترددين في فعله‪ ،‬إلى فعل هذا األمر القبيح‬
‫الباطل‪ ،‬وإلى الثبات عليه واالستمرار فيه‪ ،‬إذا كانوا متلبسين به وبفعله‬
‫‪،‬ورأينا في الصور التي عرضناها حقيقة هذا األمر ‪.‬‬
‫‪3‬ـ الوعود واالماني الكاذبة ‪:‬ـ ومن االساليب التي اتخذها‬
‫الشيطان لتنفيذ@ بنود خطته التي أختطها على نفسه‪ ،‬في اضالل بني آدم‬
‫ومناصبة العداء لهم ـ الوعود واألماني الكاذبة ـ فهو يعدهم ويمنيهم‪،‬‬
‫باألماني الكاذبة ‪،‬كإطالة العمر والحصول على الدنيا وعلى ما يشتهون‬
‫‪،‬ويعدهم أيضا بالحسنى على شركهم ومعاصيهم‪ ،‬فوعده ما يصل الى‬
‫قلب االنسان من نحو ‪ :‬سيطول عمرك وتنال من الدنيا لذتك ‪،‬وستعلوا‬
‫على أقرانك وتظفر بأعدائك‪ ،‬والدنيا@ دول ستكون لك كما كانت لغيرك‬
‫(‪ ، )4‬وبأنه الفائز في الدنيا واآلخرة الى غير ذلك من الوعود الباطلة‪،‬‬
‫المحببة للنفس والتي ال يتخذ لها أسبابا‪ ،‬والتي غالبها يقوم على الكذب‪،‬‬
‫)ينظر االنحرافات@ الكبرى ـ سعيد أيوب ـ ص ‪.92‬‬ ‫‪1‬‬

‫)في ظالل القرآن ـ سيد قطب ـ م‪ 5‬ص ‪.2735‬‬ ‫‪2‬‬

‫)التحرير والتنوير ـ ج‪ 20‬ص ‪.249‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ـ ج‪ 1‬ص‪.68‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪327‬‬
‫وما ال حقيقة له(‪.)1‬‬
‫فهذا معنى وعوده الكاذبة ‪،‬أما االماني فهي االماني الكاذبة‬
‫والفارغة والموهومة(‪،)2‬وقيل ‪ :‬طول البقاء ودوام النعيم@ فيها وترك‬
‫التوبة@(‪ ، )3‬وذهب اآللوسي الى انه يجوز ان يكون المعنى واحدا يفعل‬
‫لهم الوعد ويفعل التمنية(‪.)4‬وهذا ما ذهب اليه ايضا الشيخ محمد رشيد‬
‫رضا حيث قال (( ويؤيد وعوده الباطلة باألماني الباطلة‪ ،‬يلقيها اليه@‬
‫ولهذا أعاد ذكر األمنية في بيان خسران‪ ،‬من يتخذ الشيطان وليا في‬
‫(وألُ َمنِّيَنَّهُ ْم ) (‪، )5‬وقد ذكر ابن القيم فرقا بين وعد الشيطان ‪،‬وتمنيته‬ ‫قوله َ‬
‫فقال ‪ ( :‬والفرق بين وعده وتمنيته@ انه يعد الباطل ويمني المحال ) (‪، )6‬‬
‫وذكر بعد ذلك النفس التي تقبل هذه الوعود‪ ،‬واالماني الباطلة فقال ‪:‬‬
‫( والنفس المهينة التي ال قدر لها تتغذى بوعوده وتمنيه@ كما قال القائل‬
‫‪:‬‬
‫منى ان تكن حقا لكن أحسن المنى‬
‫وإالّ فقد عشنا بها زمنا‬
‫رغدا‪.‬‬
‫فالنفس المبطلة الخسيسة ‪ ،‬تلتذ باألماني الباطلة ‪،‬والوعود الكاذبة‬
‫وتفرح بها كما يفرح بها النساء‪ ،‬والصبيان ويتحركون لها ‪،‬فاألقوال‬
‫الباطلة@ مصدرها وعد الشيطان وتمنيته فإن الشيطان يمني أصحابها )‬
‫(‪ .)7‬وهذا الذي ذكره ابن القيم رحمه هللا هو األفصح واألولى في هذا‬
‫المقام‪ ،‬ذلك ان هللا ( سبحانه وتعالى ) قد ذكر على لسان الشيطان في‬
‫ان لَ َّما قُ ِ‬
‫ض َي‬ ‫ال ال َّش ْيطَ ُ‬
‫{وقَ َ‬
‫القرآن ان وعوده إيعادا بالباطل قال تعالى َ‬

‫)ينظر تفسير المنار ج‪ 5‬ص‪.427‬‬ ‫‪1‬‬

‫) ينظر اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ـ ج‪ 1‬ص‪ ،68‬وفي ظالل القرآن‬ ‫‪2‬‬

‫م‪ 2‬ص‪.760‬‬
‫)ينظر تفسير القران العظيم ج‪ 1‬ص ‪.557‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر روح المعاني ـ ج‪ 5‬ص ‪.150‬‬ ‫‪4‬‬

‫)تفسير المنار ج‪ 5‬ص ‪.430‬‬ ‫‪5‬‬

‫) اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ـ ج‪ 1‬ص‪.68‬‬ ‫‪6‬‬

‫)المصدر السابق ج‪ 1‬ص ‪ ،68‬وينظر السنن االلهية في الحياة االنسانية ـ‬ ‫‪7‬‬

‫د‪ .‬شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب ج‪ 1‬ص ‪125‬ـ ‪.126‬‬

‫‪328‬‬
‫األَ ْم ُر إِ َّن هّللا َ َو َع َد ُك ْم َو ْع َد ْال َح ِّق َو َو َعدتُّ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفتُ ُك ْم }(‪،)....)1‬فقد أقر ان وعد‬
‫هللا حق وكل ما عدا الحق فهو باطل‪ ،‬فوعده باطل ‪ ,‬وأما األماني فتمني‬
‫المحال كالمرء يحب ان يكون له الشيء ‪،‬وإن لم يتخذ له أسبابه ‪.‬واآلن‬
‫مع هذه الصور القرآنية للوعود واألماني الشيطانية التي أغرى بها‬
‫{وألُ ِ‬
‫ضلَّنَّهُ ْم‬ ‫ذوي النفوس المهينة@ ‪ ,‬قال تعالى حاكيا قول الشيطان َ‬
‫ق هّللا ِ َو َمن يَتَّ ِخ ِذ‬ ‫َوألُ َمنِّيَنَّهُ ْم َوآل ُم َرنَّهُ ْم فَلَيُبَتِّ ُك َّن آ َذ َ‬
‫ان األَ ْن َع ِام َوآل ُم َرنَّهُ ْم فَلَيُ َغيِّر َُّن َخ ْل َ‬
‫ون هّللا ِ فَقَ ْد َخ ِس َر ُخس َْرانا ً ُّمبِينا ً‪ ‬يَ ِع ُدهُ ْم َويُ َمنِّي ِه ْم َو َما يَ ِع ُدهُ ُم‬ ‫ان َولِيّا ً ِّمن ُد ِ‬ ‫ال َّش ْيطَ َ‬
‫ان إِالَّ ُغرُوراً}(‪ .)2‬سبق لنا ان وقفنا على بعض مالمح هذا النص‬ ‫ال َّش ْيطَ ُ‬
‫عند حديثنا عن قصة الصراع األولى ‪،‬ولكن الذي يستوقفنا هنا مما لم‬
‫نشر إليه@ سابقا ‪،‬هو حديث الشيطان عن فقه التمني عنده في إضالل‬
‫بني آدم‪ ،‬وتعليق النص على هذه الوعود واالماني ‪ ،‬فالشيطان بعد ان‬
‫ذكر في مقدمة النص أنه سيظل بني آدم ‪،‬عطف على ذلك األماني‬
‫ليبين انه سيزين لهم هذا اإلضالل ‪ ،‬وفي هذه زيادة شر الى شرهم‬
‫‪،‬حيث يعملون اعمال اهل النار الموجبة للعقوبة‪ ،‬ويحسبون انها موجبة‬
‫للجنة‪ ،‬وقد حكى النص القرآني انطباق هذا الفقه الشيطاني على‬
‫أصناف من الناس‪ ،‬منهم اليهود ‪،‬والنصارى ‪،‬قال تعالى حاكيا عنهم‬
‫ارى تِ ْل َك أَ َمانِيُّهُ ْم}(‪،)3‬وقال‬
‫ص َ‬‫ان هُوداً أَ ْو نَ َ‬
‫وا لَن يَ ْد ُخ َل ْال َجنَّةَ إِالَّ َمن َك َ‬‫{ َوقَالُ ْ‬
‫ك َزيَّنَّا لِ ُكلِّ أُ َّم ٍة َع َملَهُ ْم }(‪، )4‬وقال تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُ ُك ْم‬
‫تعالى { َك َذلِ َ‬
‫ُون أَنَّهُ ْم‬
‫ض َّل َس ْعيُهُ ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم يَحْ َسب َ‬ ‫ين َ‬ ‫ين أَ ْع َماالً ‪‬الَّ ِذ َ‬ ‫بِاأْل َ ْخ َس ِر َ‬
‫ص ْنعاً}(‪،)5‬وقال تعالى عن المنافقين انهم يقولون يوم القيامة‬ ‫ون ُ‬ ‫يُحْ ِسنُ َ‬
‫للمؤمنين {أَلَ ْم نَ ُكن َّم َع ُك ْم قَالُوا بَلَى َولَ ِكنَّ ُك ْم فَتَنتُ ْم أَنفُ َس ُك ْم َوتَ َربَّصْ تُ ْم َوارْ تَ ْبتُ ْم‬
‫َو َغ َّر ْت ُك ُم اأْل َ َمانِ ُّي َحتَّى َجاء أَ ْم ُر هَّللا ِ َو َغ َّر ُكم بِاهَّلل ِ ْال َغرُورُ}(‪.)6‬فاإلقامة على‬
‫اإلضالل يتمثل في التنمية@ الباطلة@ ‪ ،‬التي يلقيها الشيطان على قلب بني‬
‫آدم(‪ ،)7‬ثم ان األماني التي يقذفها الشيطان في قلوب بني آدم ‪،‬حتى‬

‫)ابراهيم ‪.22 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)النساء ‪119 :‬ـ ‪.120‬‬ ‫‪2‬‬

‫)البقرة ‪.111 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)االنعام ‪.108 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)الكهف ‪ 103 :‬ـ ‪.104‬‬ ‫‪5‬‬

‫)الحديد ‪.14 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)ينظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان ـ ص ‪.204‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪329‬‬
‫يقوموا على الضاللة‪ ،‬ليست واحدة ‪،‬وإنما تتنوع@ وتختلف باختالف‬
‫األشخاص ‪،‬واألحوال ‪ ،‬قال اإلمام القرطبي في قوله تعالى ( َوألُ َمنِّيَنَّهُ ْم‬
‫) ( وهذا الينحصر بواحدة من األماني‪ ،‬ألن الشيطان يمني كل انسان‬
‫بنوع من األماني‪ ،‬ويقدر رغبته فيما يهواه ‪ .)1( )،‬ومن االمثلة@ على ذلك‬
‫ان من يغريه الشيطان بالقمار يمنيه@ بالثروة والغنى‪ ،‬ومن غلبت عليه‬
‫شهوته في الزنا‪ ،‬يمنيه@ الشيطان بالتوبة مستقبال وان ال بأس عليه في‬
‫استمراره على الزنا ‪،‬ألنه شاب وأمامه زمن طويل‪ ،‬يستطيع فيه أن‬
‫يتدارك ما ارتكبه من الزنا‪ ،‬وذلك بالتوبة@ وان تأخرت وهكذا(‪ ،)2‬ثم بين‬
‫النص بعد ذلك بان أماني الشيطان ووعوده غرور قال تعالى { يَ ِع ُدهُ ْم‬
‫ان إِالَّ ُغرُوراً}‪،‬أي يعد الشيطان من يسعى في‬ ‫َويُ َمنِّي ِه ْم َو َما يَ ِع ُدهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫إضاللهم ويمنيهم األماني الباطلة‪ ،‬التي هي عند التحقيق كالسراب الذي‬
‫ال حقيقة له(‪.)3‬‬
‫ان إِالَّ ُغرُوراً}أي باطال يغترون‬ ‫ولهذا قال تعالى { َو َما يَ ِع ُدهُ ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫به وال يملكون منه ما يحبون‪ ،‬وإيهامهم بنفع شيء ليس فيه االّ الضرر‬
‫‪،‬فالشيطان عمدته في كيده لإلنسان ‪،‬إنما هو في وعوده الباطلة@ له‪ ،‬وفي‬
‫أمانيه الكاذبة‪ ،‬يلقيها في قلبه‪ ،‬وتلك الوعود واألماني التفيد االنسان االّ‬
‫غرورا والغرور هو ما يرى من ظاهر محبوب‪ ،‬ولكن فيه باطن‬
‫مكروه ‪،‬أو هو أن يظن االنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ‪ ،‬ثم يتبين اشتماله‬
‫على أعظم اآلآلم ‪،‬والمضار فيعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه(‪.)4‬‬
‫فوعود الشيطان وأمانيه وعود وأماني مصحوبة بالخداع واالطماع‬
‫بالباطل ‪ ،‬وهذا ما استعمله في قصة الصراع األولى فقد جاء التعبير‬
‫عنه بقوله تعالى ( فدلهما بغرور ) ‪،‬فوعوده باطلة وأمانيه ‪،‬خادعة(‪. )5‬‬
‫فهذا النص أعطانا صورة واضحة لوعود الشيطان وأمانيه انها وعود‬
‫)تفسير القرطبي ـ ج‪ 5‬ص ‪.389‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر تفسير المنار ج‪ 5‬ص ‪ ، 430‬والمستفاد من قصص القرآن ـ د‪ .‬عبد‬ ‫‪2‬‬

‫الكريم زيدان ـ ج‪ 1‬ص‪.68‬‬


‫)ينظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان ـ ص ‪.204‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر تفسير الرازي ج‪ 11‬ص‪ ، 40‬وتفسير القرطبي ج‪ 5‬ص ‪،389‬‬ ‫‪4‬‬

‫وتفسير القاسمي ج‪ 5‬ص ‪ ،484‬وتفسير ابن كثير ج‪ 1‬ص ‪ ، 557‬وينظر‬


‫المستفاد من قصص القرآن ـ ج‪ 1‬ص ‪ 68‬ـ ‪.69‬‬
‫)ينظر معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني ـ م‪ 4‬ص ‪.141‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪330‬‬
‫كاذبة وأماني ال حقيقة لها ‪ .‬وهذه صورة أخرى من وعوده الكاذبة قال‬
‫ان يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر َويَأْ ُم ُر ُكم بِ ْالفَحْ َشاء َوهّللا ُ يَ ِع ُد ُكم َّم ْغفِ َرةً ِّم ْنهُ‬
‫تعالى { ال َّش ْيطَ ُ‬
‫َوفَضْ الً }(‪)1‬إنها صورة أخرى من وعود الشيطان الكاذبة انه الوعد‬
‫ألتباعه‪ ،‬انهم إذا أنفقوا في سبيل هللا فسيحل بهم الفقر ‪،‬وهذا الوعد قد‬
‫يث ِم ْنهُ تُنفِقُ َ‬
‫ون‬ ‫وا ْال َخبِ َ‬ ‫{والَ تَيَ َّم ُم ْ‬
‫سبق بالنهي عن انفاق الخبيث قال تعالى َ‬
‫}(‪، )2‬ففيه إيحاء إلى ان الحامل لهم على ذلك إنما هو الشح ‪،‬والبخل‬
‫ان يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر )‬ ‫بالجيد الذي يثيره الشيطان ‪ ،‬بدأ بعد ذلك بجملة (ال َّش ْيطَ ُ‬
‫وان ما تصدقتم من الخبيث إنما ذلك من نزعات الشيطان‪ ،‬ليقبح لهم ما‬
‫ارتكبوه من ذلك بنسبته الى الشيطان‪ ،‬فيكون أبعد شيء منه(‪ . )3‬فأسم‬
‫الشيطان قد وقع مسندا إليه‪ ،‬ألن تقديمه مؤذن بذم الحكم الذي سبق له‬
‫الكالم ‪ ،‬وشؤمه ‪ ،‬ولتحذير المسلمين من هذا الحكم ‪ ،‬فأفاد هذا التقديم‬
‫تقوية الحكم وتحقيقه(‪ ، )4‬ودل على ان الباعث الحقيقي على بخل‬
‫النفس‪ ،‬وإمساكها عن االنفاق والخوف من الفقر ‪،‬هو الشيطان‪ ،‬فهو‬
‫اآلمر بكل فحشاء ‪،‬وقد كنى بها هنا عن البخل فأوحت بلفظها قيمة‬
‫خلقية سلبية‪ ،‬ال تليق@ بحياة المؤمنين(‪ ،)5‬أما (عدكم الفقر ) فعلى معنى‬
‫يسول لكم الشيطان ‪ ،‬وقوعه في المستقبل ‪ ،‬إذا أنفقتم خيار أموالكم ‪،‬‬
‫وذلك بما يلقيه@ في قلوب ‪ ،‬الذين تخلقوا باألخالق الشيطانية@ ‪ ،‬وسمي‬
‫األخبار بحصول أمر في المستقبل@ ‪ ،‬وعدا مجازا مع انه اعتبر فيه‪،‬‬
‫اإلخبار بما سيكون من جهة المخبر(‪ ((، )6‬والشيطان لم يضف مجيء‬
‫الفقر الى جهته لإليذان بمبالغته في االخبار يتحقق مجيئه كأنه نزله في‬
‫تقرر الوقوع ‪،‬منزلة أفعاله الواقعة حسب ارادته@ ‪،‬أو لوقوعه في مقابلة‬

‫)البقرة‪.268 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)البقرة‪.267:‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ينظر البحر المحيط ج‪ 1‬ص ‪.331‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر دالئل االعجاز ـ الجرجاني ـ ص ‪.159‬‬ ‫‪4‬‬

‫)ينظر الكناية في القرآن الكريم ـ أطروحة دكتوراه قدمها أحمد فتحي‬ ‫‪5‬‬

‫رمضان إلى كلية اآلداب@ ـ جامعة الموصل ـ اشراف ‪ :‬الدكتورة مناهل‬


‫فخر الدين فليح ت ‪1995‬م ص ‪.175‬‬
‫)ينظر التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ـ ج‪ 3‬ص‪ ، 59‬وينظر دالالت‬ ‫‪6‬‬

‫الترتيب والتركيب في سورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة ـ‬


‫الدكتورة زهراء خالد سعد العبيدي ـ ص‪.68‬‬

‫‪331‬‬
‫وعده تعالى على طريق المشاكلة ) (‪، )1‬وقد قدم وعد الشيطان على‬
‫أمره‪ ،‬ألنه بالوعد يحصل االطمئنان إليه@ ‪،‬فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر‬
‫تسلط عليه باألمر(‪ .)2‬فالنص بهذه االسرار التعبيرية يبين ان الشيطان‪،‬‬
‫يخوف أولياءه بالفقر إذا أنفقوا في مرضاة هللا ‪،‬ويأمرهم بالمعاصي‬
‫واالنفاق فيها‪ ،‬وما ذلك االّ من االماني الخادعة والوعود الكاذبة ‪.‬‬
‫وإليك هذه الصورة الشاخصة لوعود الشيطان ‪ ،‬الكاذبة جاءت‬
‫ض َي األَ ْم ُر إِ َّن‬
‫ان لَ َّما قُ ِ‬
‫على لسانه هو‪ ،‬قال تعالى حاكيا عنه { َوقَا َل ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان لِ َي َعلَ ْي ُكم ِّمن س ُْلطَا ٍن إِالَّ أَن‬ ‫ق َو َو َعدتُّ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفتُ ُك ْم َو َما َك َ‬‫هّللا َ َو َع َد ُك ْم َو ْع َد ْال َح ِّ‬
‫وا أَنفُ َس ُكم َّما أَنَاْ بِ ُمصْ ِر ِخ ُك ْم َو َما أَنتُ ْم‬
‫َد َع ْوتُ ُك ْم فَا ْستَ َج ْبتُ ْم لِي فَالَ تَلُو ُمونِي َولُو ُم ْ‬
‫(‪)3‬‬
‫ين لَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم }‬ ‫ون ِمن قَ ْب ُل إِ َّن الظَّالِ ِم َ‬ ‫ت بِ َما أَ ْش َر ْكتُ ُم ِ‬ ‫ي إِنِّي َكفَرْ ُ‬ ‫بِ ُمصْ ِر ِخ َّ‬
‫في هذا النص تبيين لحقيقة وعود الشيطان ‪،‬فهو بعد أن ينقض األمر‬
‫يوم القيامة يتخلى عن اتباعه ‪،‬ويفرق الجميع بين وعود هللا الحقة التي‬
‫حققها سبحانه لعباده الصالحين وصدقهم إياها ‪،‬وبين وعود ابليس@‬
‫الخادعة التي كذب على جنوده بها ‪،‬ففي هذه اآلية@ تصوير لحال‬
‫الشيطان ‪،‬وكيف انه يقف خطيبا في نار جهنم يلقي على من اتبعه‬
‫خطبته العصماء‪ ،‬التي يعلن فيها صدق وعد هللا وكذب وعده‪ ،‬وكيف‬
‫ان لِ َي َعلَ ْي ُكم ِّمن‬‫انه غرهم وخدعهم ثم يؤنبهم ويوبخهم بقوله{ َو َما َك َ‬
‫وا أَنفُ َس ُكم}‪ ،‬أي ليس‬ ‫ان إِالَّ أَن َد َع ْوتُ ُك ْم فَا ْستَ َج ْبتُ ْم لِي فَالَ تَلُو ُمونِي َولُو ُم ْ‬
‫س ُْلطَ ٍ‬
‫لي حجة على تأييد قولي سوى اني دعوتكم الى مرادي ‪،‬وزينته لكم‬
‫فاستجبتم لي اتباعا ألهوائكم وشهواتكم‪ ،‬فإذا كانت الحال بهذه الصورة‬
‫فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب‪ ،‬ثم يذكر لهم انه عاجز‬
‫عن انقاذهم كما انهم عاجزون عن انقاذه { َّما أَنَاْ بِ ُمصْ ِر ِخ ُك ْم َو َما أَنتُ ْم‬
‫ت بِ َما أَ ْش َر ْكتُ ُمو ِن‬ ‫ي}ويتخلى عنهم ويعلن براءته@ منهم (إِنِّي َكفَرْ ُ‬ ‫بِ ُمصْ ِر ِخ َّ‬
‫ِمن قَ ْبلُ)‪ ،‬أي تبرأت من جعلكم لي شريكا مع هللا‪ ،‬فلست شريكا هلل وال‬
‫تجب طاعتي ‪ ،‬وهذا من لطف هللا بعباده ان حذرهم من طاعة الشيطان‬
‫وأخبر بمداخله التي يدخل منها على االنسان‪ ،‬ومقاصده فيه وانه يقصد‬
‫ان يدخله النيران‪ ،‬وهنا بين لنا انه إذا دخل النار وحزبه يتبرأ منهم‪،‬‬

‫)تفسير أبي السعود ـ ج‪ 1‬ص ‪.262‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر تفسير اآللوسي@ ـ ج‪ 3‬ص ‪.40‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ابراهيم ‪.22:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪332‬‬
‫هذه البراءة@ ويكفر بشركهم(‪ )1‬فاهلل قد صدق وعده لعباده‪ ،‬وأنجزه لهم‬
‫وبذلك يكون وعده حقا متحققا على أرض الواقع‪ ،‬اما ابليس فقد وعدهم‬
‫فأخلفهم ولم ينجز لهم ما وعدهم به وبذلك خدعهم وغرهم وكان وعده‬
‫باطال(‪ .)2‬وهنا في اآلية@ مسألة هو ان هللا قد ذكر في هذه اآلية@ انه ليس‬
‫له سلطان‪ ،‬وقال في آية أخرى {إِنَّ َما س ُْلطَانُهُ َعلَى الَّ ِذ َ‬
‫ين يَتَ َولَّ ْونَهُ َوالَّ ِذ َ‬
‫ين هُم‬
‫ون}(‪،)3‬فالسلطان الذي نفاه هللا عنه هو سلطان الحجة والدليل‬ ‫بِ ِه ُم ْش ِر ُك َ‬
‫( فليس له حجة اصال على ما يدعوا إليه‪ ،‬وإنما نهاية ذلك ان يقيم لهم‬
‫من الشبه‪ ،‬والتزينات ما به يتجرؤون على المعاصي واما السلطان‬
‫الذي اثبته فهو التسلط باالغراء على المعاصي‪ ،‬ألوليائه@ يؤزهم الى‬
‫المعاصي أزا‪ ،‬وهم الذين سلطوه على أنفسهم بمواالته وااللتحاق‬
‫بحزبه‪ ،‬ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون )‬
‫(‪ .)4‬هكذا رأينا كيف كانت وعود الشيطان قائمة على الباطل ‪،‬والغرور‪،‬‬
‫والخداع ‪ ،‬والكذب ‪ ،‬واالفتراء@ ‪ ،‬فقد وعد أولياءه بالكثير من الوعود ـ‬
‫لكنها وعود زائفة ـ التتحقق@ وال توجد في الواقع ألن الشيطان كاذب‬
‫في الوعد بها‪ ،‬هدفه منها هو االستحواذ على بني آدم واسقاطهم‬
‫واضاللهم ولذلك يعدهم ويمنيهم‪.‬‬
‫‪4‬ـ إيقاعهم في الكفر والردة ‪ :‬ـ إن غاية الشيطان من خطته التي‬
‫اختطها‪ ،‬وأقسم على تنفيذها غايته منها إيقاع بني آدم في الكفر‪،‬‬
‫واالرتداد عن الدين ‪ ،‬ذلك ان من أعظم صفاته التي وصفه هللا بها‬
‫ان لِ َربِّ ِه َكفُوراً}(‪، )5‬ومعنى كونه كفورا انه‬ ‫ان ال َّش ْيطَ ُ‬
‫{و َك َ‬
‫الكفر قال تعالى َ‬
‫يستعمل بدنه في المعاصي واالفساد في االرض واإلضالل للناس(‪. )6‬‬
‫ومن كانت هذه صفته انه وال شك سوف يدعو الناس‪ ،‬الى كفره‪،‬‬
‫واتباعه سوف يؤدي حتما الى الكفر‪ ،‬وما سبق عرضه من صور‬
‫خطته في صراعه مع بني آدم تصب كلها في هذه الغاية الكبرى‬
‫)ينظر تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.425‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر وعود القرآن بالتمكين لإلسالم ـ د‪ .‬صالح عبد الفتاح الخالدي@ ـ دار‬ ‫‪2‬‬

‫القلم ـ دمشق ـ ط‪ 1‬ـ ‪ 1425‬هـ ـ ‪2004‬م ص ‪.27‬‬


‫)النحل ‪.100 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.425‬‬ ‫‪4‬‬

‫)االسراء ‪.27 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)ينظر التفسير الكبير ـ الرازي ـ ج‪ 20‬ص ‪.155‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪333‬‬
‫للشيطان‪ . ،‬والنصوص القرآنية@ التي تحدثت عن هذه الغاية الكبرى‬
‫للشيطان قد صرحت ‪،‬بأمر الشيطان لإلنسان بالكفر حينا ‪،‬وباالرتداد‬
‫حينا آخر وبالمواالة التي تعني الكفر بسبب اتباعه ‪،‬فلننظر@ الى هذه‬
‫الصور القرآنية@ لنتعرف على أبعاد الخطة الشيطانية‪ ،‬وكيفية تنفيذها ‪.‬‬
‫ال إِنِّي بَ ِري ٌء ِّمن َ‬
‫ك‬ ‫ان ا ْكفُرْ فَلَ َّما َكفَ َر قَ َ‬‫ال لِإْل ِ ن َس ِ‬ ‫ان إِ ْذ قَ َ‬
‫قال تعالى { َك َمثَ ِل ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ين}(‪، )1‬النص يشبه حال المنافقين وحلفائهم من‬ ‫اف هَّللا َ َربَّ ْال َعالَ ِم َ‬‫إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫يهود بني النضير بحال الشيطان إذ قال لإلنسان ‪ :‬أكفر فلما كفر قال ‪:‬‬
‫إني بريء منك‪ ،‬وذلك ان المنافقين قالوا لهم كما جاء في سورة‬
‫ُج َّن َم َع ُك ْم َواَل نُ ِطي ُع فِي ُك ْم أَ َحداً أَبَداً َوإِن قُوتِ ْلتُ ْم‬ ‫الحشر{ لَئِ ْن أُ ْخ ِرجْ تُ ْم لَنَ ْخر َ‬
‫لَنَنص َُرنَّ ُك ْم‪)2( }...‬ولكن هللا قال في شأن المنافقين كما جاء عقبه في‬
‫ُون َم َعهُ ْم َولَئِن‬‫ُون‪ ‬لَئِ ْن أُ ْخ ِرجُوا اَل يَ ْخ ُرج َ‬ ‫{وهَّللا ُ يَ ْشهَ ُد إِنَّهُ ْم لَ َكا ِذب َ‬
‫السورة نفسها َ‬
‫ُون}(‪،)3‬وكذلك‬ ‫صر َ‬ ‫صرُوهُ ْم لَي َُولُّ َّن اأْل َ ْدبَا َر ثُ َّم اَل يُن َ‬ ‫صرُونَهُ ْم َولَئِن نَّ َ‬ ‫قُوتِلُوا اَل يَن ُ‬
‫كان من أمرهم حين حاصرهم الرسول و أجالهم عن المدينة‪ @،‬لم‬
‫ينصرهم اخوانهم المنافقون فكان حال المنافقين وإخوانهم من يهود‪،‬‬
‫كحال الشيطان إذ قال لإلنسان أكفر ‪،‬وكان الوصف هنا شبيه الوصف‬
‫هناك(‪. )4‬فالشيطان يدعو أولياءه وحزبه من الناس‪ ،‬واالنسان ينخدع‬
‫بالشيطان فهما متالزمان غواية واستجابة‪ ،‬حتى إذا تم التأثير@ وتنمر‬
‫المرء بطغيانه‪ ،‬وكفره نقض منه كفيه ( وأسلمه الى الهالك وأظهر قطع‬
‫العالقة‪ ،‬وتهاون الصلة بدعوى الخوف من هللا رب العالمين‪ ،‬وهكذا‬
‫أولياء الشيطان من كل الفصائل واالجناس في اغراءاتهم المشتركة‬
‫‪،‬فإذا حمي الوطيس@ تبرأ القرين من قرينه@ واألخ من أخيه وعادوا‬
‫سواسية في ملحظ الهالك ومنظار االستسالم )(‪ )5‬ان تبرؤ الشيطان‬
‫ياتي في أحلك الظروف ؛ إذ يأتي والمرء بحاجة الى المعين والناصر‬
‫فيتبرأ منه والحالة هذه ( ففي اآلية@ إيجاز حذف حذف فيها معطوفات‬
‫مقدرة بعد شرط (لما )‪ ،‬هي داخلة في الشرط إذ التقدير@ ‪ :‬فلما كفر‬

‫)الحشر‪16:‬‬ ‫‪1‬‬

‫) الحشر ‪.11‬‬ ‫‪2‬‬

‫)الحشر ‪11 :‬ـ‪.12‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر تفسير ابن كثير ـ ج‪ 4‬ص ‪ ، 341‬وينظر أمثال القرآن وصور من‬ ‫‪4‬‬

‫أدبه الرفيع ـ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ـ ص ‪.36‬‬


‫)الصورة الفنية في المثل القرآني ـ محمد حسين علي الصغير ـ ص ‪.293‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪334‬‬
‫واستمر على الكفر ‪،‬وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال‬
‫الشيطان ‪ :‬إني بريء منك ‪ ..‬الخ ) (‪،)1‬وفي النهاية يعاقب كال الطرفين‬
‫الممثل بهما بالخسران في اآلخرة ‪،‬وذلك بخلودهما في النار وهي عاقبة‬
‫كل ظالم ‪،‬ومفسد ‪،‬وباحث عن المكيدة للمسلمين‪ ،‬وبعد هذا البيان‬
‫واألعذار واالنذار@ فال شك ( ان المقدم على طاعته عاص على بصيرة‬
‫ال عذر له ) (‪، )2‬وهو يستحق هذه العقوبة العظيمة@ ‪ ،‬وقد جاءت هذه‬
‫العقوبة موضحة بشكل أكبر عند قوله تعالى {فَ َو َرب َِّك لَنَحْ ُش َرنَّهُ ْم‬
‫ين ثُ َّم لَنُحْ ِ‬
‫ض َرنَّهُ ْم َح ْو َل َجهَنَّ َم ِجثِيّاً}(‪ ،)3‬ففي اآلية@ اقسام من هللا‬ ‫َوال َّشيَ ِ‬
‫اط َ‬
‫تعالى بنفسه بانه ‪،‬سوف يبعث هؤالء المشركين من قبورهم ‪،‬ويحشرهم‬
‫مع الشياطين الذين أضلوهم في جهنم(‪ ، )4‬فالمعنى ( انهم يحشرون مع‬
‫قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرنون كل كافر مع شيطان ) (‪،)5‬‬
‫وعطف ( الشياطين على ضمير المشركين بقصد تحقيرهم‪ ،‬بانهم‬
‫يحشرون مع أحقر جنس ‪،‬وأفسده ‪،‬ولإلشارة الى ان الشياطين@ هم سبب‬
‫ضاللهم الموجب لهم على هذه الحالة ‪،‬فحشرهم مع الشياطين انذار لهم‬
‫بان مصيرهم هو مصير الشياطين‪ ،‬وهو محقق عند الناس كلهم ) (‪،)6‬‬
‫وال يخفى ذلك التهديد@ الرهيب في اآلية باحضارهم حول جهنم جاثين‬
‫على ركبهم ‪،‬وهم في كل ذلك يتنقلون@ بين انواع العذاب‪ ،‬هم وقرناؤهم‬
‫‪،‬كما التخفى اآلية تلك العالقة ‪،‬القائمة بين المشركين والشياطين والتي‬
‫تعني عالقة بين التابع والمتبوع@ والقائد والمقود‪ ،‬نتيجة ألمر الشيطان‬
‫لهم بالكفر واتباعهم إياه(‪.)7‬‬
‫وهذه صورة أخرى للكفر متمثلة باالرتداد‪ ،‬يصور لنا فيها القران‬
‫حال فئة من الناس ساروا في طريق الحق والهدى‪ ،‬ثم رجعوا عنه‬
‫بعدما تبين لهم صورة وهي تتمثل@ بحركة حسية‪ ،‬تعني الرجوع الى‬
‫)التحرير والتنوير ـابن عاشور ـ ج‪28‬ص ‪.109‬‬ ‫‪1‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.853‬‬ ‫‪2‬‬

‫)مريم ‪.68:‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر االتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن ـ ج‪ 2‬ـ االتباع المذموم ـ ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪.515‬‬
‫)تفسير القرطبي ج‪ 11‬ص‪.88‬‬ ‫‪5‬‬

‫)التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ـ ج‪ 16‬ص ‪.147‬‬ ‫‪6‬‬

‫) ينظر االتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن ـ ج‪ 2‬ص ‪.516‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪335‬‬
‫األدبار‪ ،‬وسبب ذلك كله هو تزيين الشيطان واغراؤه قال هللا تعالى‪:‬‬
‫ار ِهم ِّمن بَ ْع ِد َما تَبَي ََّن لَهُ ُم ْالهُ َدى ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان َس َّو َل لَهُ ْم‬ ‫ين ارْ تَ ُّدوا َعلَى أَ ْدبَ ِ‬
‫{إِ َّن الَّ ِذ َ‬
‫َوأَ ْملَى لَهُ ْم}(‪ ، )1‬فاالية تحكي صفة بعض اهل الكتاب والمنافقين الذين‬
‫تبين لهم الحق‪ ،‬ثم منعهم متابعتهم للشيطان‪ ،‬وتسويله‪ ،‬وتزينه‪ ،‬وامالءه‬
‫‪،‬لهم من اتباع هذا الحق فارتدوا على ادبارهم‪ ،‬ورجعوا القهقري(‪. )2‬‬
‫فاالرتداد على ادبارهم هنا ( تمثيل للراجع الى الكفر بعد االيمان بحال‬
‫من سار ليصل الى مكان‪ ،‬ثم ارتد في طريقه ولما كان االرتداد سيرا‬
‫الى الجهة التي كانت وراء السائر‪ ،‬جعل االرتداد الى االدبار‪ ،‬أي الى‬
‫جهة االدبار ) (‪ .)3‬وإنما كان هذا االرتداد واالنتكاس ‪ .‬كما ذكرنا آنفا ـ‬
‫سببه تسويل الشيطان وتزينه@ فهو يزين للناس طريق@ الباطل@ ‪،‬ويوهمهم‬
‫ان في هذا الطريق ارضاء لشهواتهم‪ ،‬وإشباعا لغرائزهم‪ ،‬فيسيرون فيه‬
‫‪ ،‬وكم يرى المرء من هؤالء الذين تنكبوا الطريق@ وحادوا عنه بعدما‬
‫عرفوه‪ ،‬ال لشيء االّ بسبب تسويل الشيطان ‪ .‬وهذه صورة أخرى تمثل‬
‫{وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذ َ‬
‫ي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا‬ ‫حالة االرتداد@ بعد معرفة الحق قال تعالى َ‬
‫ين‪َ ‬ولَ ْو ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَـ ِكنَّهُ‬
‫او َ‬ ‫ان ِم َن ْال َغ ِ‬ ‫ان فَ َك َ‬ ‫فَان َسلَ َخ ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ث أَ ْو تَ ْت ُر ْكهُ‬‫ب إِن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬ ‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬ ‫أَ ْخلَ َد إِلَى األَرْ ِ‬
‫ُون}‬ ‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكر َ‬ ‫ص َ‬ ‫ُص ْالقَ َ‬ ‫ُوا بِآيَاتِنَا فَا ْقص ِ‬ ‫ين َك َّذب ْ‬ ‫ك َمثَ ُل ْالقَ ْو ِم الَّ ِذ َ‬ ‫يَ ْلهَث َّذلِ َ‬
‫(‪،)4‬انه مثال للعلماء الذين أتبعوا أهواءهم‪ ،‬فلعبت بهم الشياطين وجعلتهم‬
‫يتنكبون الطريق@ ويحيدون عن الصراط القويم‪.‬وإذا@ كانت كتب التفسير‬
‫قد خاضت في معرفة هذا الرجل الذي نزلت فيه هذه اآلية@ ‪،‬وذهبت فيه‬
‫كل مذهب‪ ،‬فمن قائل انه بلعام بن باعوراء‪ ،‬ومن قائل أنه أمية بن‬
‫الصلت‪ ،‬ومن قائل انه ابو عامر الفاسق‪ ..‬وثمة آراء أخرى ال تخلوا من‬
‫االسرائليات(‪، )5‬لذلك فانني لن أتوسع في تفاصيل معرفة ذلك الرجل‪،‬‬

‫)محمد ‪.25 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق ـ د‪ .‬صالح عبد الفتاح‬ ‫‪2‬‬

‫الخالدي ـ دار النفائس ـ االردن@ ـ ط‪ 2‬ـ ‪1422‬هـ ـ ‪ 2001‬م ص ‪، 272‬‬


‫وينظر االتباع ـ ج‪ 2‬ص ‪.517‬‬
‫)التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ج‪ 26‬ص‪.115‬‬ ‫‪3‬‬

‫)األعراف ‪ 175 :‬ـ ‪.176‬‬ ‫‪4‬‬

‫)ينظر جامع البيان ـ الطبري ـ ج‪ 9‬ص ‪ ، 123‬والتفسير الكبير ـ الرازي ـ‬ ‫‪5‬‬

‫ج‪ 15‬ص‪ ، 46‬والجامع ألحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج‪ 7‬ص ‪.319‬‬

‫‪336‬‬
‫ألن المهم هو صفته ال شخصه ‪ ،‬تلك الصفة التي تبين لنا باختصار ‪:‬‬
‫صفة رجل أتاه هللا آياته‪ ،‬ثم لم يستقم عليها بل انحرف عنها اتباعا‬
‫لهواه وشهواته‪ ،‬وشيطانه‪ ،‬وهذا ما أراد النص الوصول إليه ‪ ،‬ولكم‬
‫يشاهد المرء في كل عصر ومصر عند العصور الغابرة‪ ،‬وحتى‬
‫عصرنا هذا من يعرف الحق ثم يحيد عنه‪ ،‬أو يتخلى عنه اتباعا لهواه‪،‬‬
‫سواء كان ذلك على مستوى الذي ّ‬
‫من هللا عليهم بالهداية‪ ،‬ثم انحرفوا‬
‫عن الجادة بسبب من الهوى والشيطان‪ ،‬أو على مستوى العلماء‬
‫‪،‬والحكام الذين يعلمون الحق ثم يتركونه‪ :‬فكم ( من عالم دين رأيناه‬
‫يعلم حقيقة دين هللا ‪،‬ثم يزيغ عنها ويعلن غيرها ‪ ،‬ويستخدم علمه في‬
‫التحريفات المقصودة والفتاوى المطلوبة‪ ،‬لسلطان األرض الزائل يحاول‬
‫أن يثبت بها هذا السلطان‪ ،‬المعتدي على سلطان هللا‪ ،‬وحرماته في‬
‫األرض جميعا ) (‪ ،)1‬ثم لننظر@ كيف صور القرآن الكريم حالة االرتداد‬
‫عند هذا المسكين الذي اتبع الشيطان ‪،‬فيما وسوس له فيه من اتباع هواه‬
‫‪،‬انه شبهه بعملية االنسالخ واالنسالخ ‪ (،‬حقيقتة خروج جسد الحيوان‬
‫من جلده حينما يسلخ عنه جلده ‪،‬والسلخ ازالة جلد الحيوان الميت عن‬
‫جسده ‪،‬واستعير في اآلية@ لإلنفصال المعنوي‪ ،‬وهو ترك التلبس بالشيء‬
‫أو عدم العمل به ) (‪، )2‬وهذا االنسالخ مستعمل عند العرب في خروج‬
‫الثعابين من جلودها وفيه داللة واضحة على ان الجلد ( كان متمكنا‬
‫منها ظاهرا ال باطنا ) (‪ ،)3‬وبذلك نفهم ان هذا الرجل أتاه هللا اآليات‬
‫والهدى والعلم‪ ،‬وأنعم عليه بذلك ولكن هذا العلم لم يالمس شغاف قلبه‬
‫‪،‬ولم يصل الى مرحلة العمل بل بقي علما في الظاهر ال أثر له على‬
‫القلب البته@ ‪،‬ولذلك انسلخ من هذه اآليات وتركها كانسالخ الحيات من‬
‫جلدها ‪،‬وسبب هذا االنسالخ اتباعه لهواه وتزين الشيطان له(‪ ،)4‬وعليه‬
‫فإن هذا الرجل قد ( فارق االيمان مفارقة من ال يعود اليه@ أبدا ‪،‬فانه‬
‫انسلخ من اآليات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها‪ ،‬ولو بقي شيء لم‬

‫)في ظالل القرآن ـ سيد قطب ـ م‪ 3‬ص ‪.1398‬‬ ‫‪1‬‬

‫)التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ج‪ 5‬ص ‪.176‬‬ ‫‪2‬‬

‫)تفسير المنار ـ ج‪ 9‬ص ‪.406‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر االتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن ـ ج‪ 2‬االتباع المذموم@ ـ محمد‬ ‫‪4‬‬

‫بن مصطفى السيد ـ ص ‪.448‬‬

‫‪337‬‬
‫ينسلخ منها ) (‪، )1‬ولذلك فانه قد ضل عن علم واختار الكفر عن عمد‪،‬‬
‫ثم ترتب على انسالخه من اآليات ان أدركه الشيطان ولحقه حتى‬
‫صيّره تابعا له‪ ،‬وهذا يدل على ظفره به واقتناصه له‪ ،‬وما ذاك االّ ألن‬
‫هذا الرجل (خرج من الحصن الحصين وسار الى أسفل سافلين فأ ّزه‬
‫إلى المعاصي أ ّزا ) (‪ ،)2‬ألنه فقد حصنه الذي كان يتحصن به وهو‬
‫إيمانه والعلم الذي أتاه هللا إياه‪ ،‬فأصبح عرضة لوساوس الشيطان كذلك‬
‫مثل االنسان الذي يفقد جلده الخارجي انه ال شك سيكون عرضة‬
‫لإلصابة‪ ،‬بالكثير من الجراثيم@ واألمراض ( فاإلنسالخ من اآليات أثر‬
‫من وسوسة الشيطان‪ ،‬وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من‬
‫مقاده فسخره وادام إضالله ) (‪، )3‬ثم ترتب على ذلك مرة أخرى أن كان‬
‫هذا الرجل من الغاوين ‪،‬وتأمل التعبير بالفاء إلفادة الترتيب مع‬
‫التعقيب‪ ،‬فان هذا الرجل انسلخ من اآليات فكان ذلك سببا في تمكن‬
‫الشيطان منه ‪ ،‬وكان هذا سببا في غوايته ‪،‬وكأنها أمور حدثت بشكل‬
‫سريع ومتتابع(‪.)4‬‬
‫والحاصل ان هذا الرجل ( غوى بعد الرشد والغي الضالل في‬
‫العلم والقصد‪ ،‬وهو أخص بفساد القصد والعمل‪ ،‬كما ان الضالل أخص‬
‫بفساد العلم واالعتقاد‪ ،‬فإذا أفرد أحدهما دخل فيه اآلخر ) (‪ .)5‬ثم يقول‬
‫تعالى ( َولَ ْو ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا ) قال الطبري@ ـ رحمه هللا ـ بعد ان ساق‬
‫األقوال الواردة في معنى (لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا )قال ( وأولى األقوال في تأويل‬
‫ذلك بالصواب أن يقال ‪ :‬إن هللا عم الخبر بقوله ( َولَ ْو ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا )‬
‫ان لو شاء رفعه بآياته التي أتاه إياها‪ ،‬والرفع يعم معاني كثيرة منها‬
‫الرفع في المنزلة@ عنده ‪ ،‬ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها ‪،‬‬
‫ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء@ الرفيع ‪،‬وجائز أن يكون هللا عنى‬
‫كل ذلك‪ ،‬أنه لو شاء لرفعه فأعطاه كل ذلك بتوفيقه@ للعمل بآياته التي‬

‫)بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية ـ ج‪ 2‬ص ‪.312‬‬ ‫‪1‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ابن السعدي ـ ص ‪.309‬‬ ‫‪2‬‬

‫)التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ـ ج‪ 5‬ص ‪.177‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪ 309‬واالتباع في القرآن ـ ج‪ 2‬االتباع‬ ‫‪4‬‬

‫المذموم ص ‪.449‬‬
‫)بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية ـ ج‪ 2‬ص ‪.313‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪338‬‬
‫كان أتاها إياه‪، )1( )...‬فهذه العبارة من النص تعطي تصورا أن هللا‬
‫سبحانه وتعالى ‪ (،‬لم يشأ رفعه بآياته ألنه لم يستحق هذا الرفع ‪،‬وهو‬
‫ممكن باختياره الحر أن يرتفع ‪،‬وليس من حكمة هللا أن يرفع المتسفلين@‬
‫بإرادتهم الحرة ‪،‬وهم موضوعون في الحياة الدنيا موضوع االبتالء@‬
‫واالمتحان ) (‪.)2‬‬
‫( ولكنه أخلد إلى األرض واتبع هواه )‪ ،‬لقد عبر عن حرصه على‬
‫الدنيا وميله اليها باالخالد إلى األرض ( ألن ما فيها من العقار‪،‬‬
‫والضياع ‪،‬وسائر أمتعتها من المعادن‪ ،‬والنبات ‪،‬والحيوان‪ ،‬مستخرج‬
‫من األرض إنما يقوى‪ ،‬ويكمل بها فالدنيا كلها هي األرض فصح أن‬
‫يعبر عن الدنيا باألرض ) (‪.)3‬‬
‫إذن فهذا الرجل مال إلى الدنيا بكليته ‪،‬ولزمها‪ ،‬ونتج عن ذلك أنه‬
‫اتبع هواه فصار تابعا له يقتدي به ويحذو حذوه ‪،‬وهذا يعني حرصه‬
‫على مسافل األمور واالبتعاد عن معاليها‪ ،‬نتيجة لحقارة همته وخسة‬
‫نفسه ‪ ،‬ونتيجة@ لذلك فقد شبهّه بالكلب فقال {فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬
‫(‪)4‬‬
‫ب إِن تَحْ ِملْ‬
‫(‪)5‬‬
‫ث أَ ْو تَ ْت ُر ْكهُ يَ ْلهَث } (( وهذا التمثيل@ من مبتكرات القرآن ))‬ ‫َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬
‫‪،‬ووجه الشبه بين هذا الرجل وبين الكلب ما ذكره الرازي رحمه هللا‬
‫فقال (إن كل شيء يلهث فإنما يلهث من اعياء ‪،‬أو عطش‪ ،‬االّ الكلب‬
‫الالهث فانه يلهث في حال اإلعياء وفي حال الراحة ‪ ،‬وفي حال‬
‫العطش‪ ،‬وفي حال الري فكان ذلك عادة منه وطبيعة‪ ،‬وهو مواظب‬
‫عليه كعادته األصلية‪ ،‬وطبيعته الخسية ال ألجل حاجة وضرورة‪،‬‬
‫فكذلك من أتاه هللا العلم والدين وأغناه عن التعرض ألوساخ أموال‬
‫الناس‪ ،‬ثم انه يميل الى طلب الدنيا ‪،‬ويلقي نفسه فيها كانت حاله كحال‬
‫ذلك الالهث‪ ،‬حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح@ لمجرد‬
‫نفسه الخبيثة@ ‪،‬وطبيعته@ الخسيسة ال ألجل الحاجة والضرورة ) (‪.)6‬فهو‬
‫)جامع البيان ـ ج‪ 9‬ص ‪.127‬‬ ‫‪1‬‬

‫)معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني ـ م‪ 5‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫)التفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 15‬ص ‪.46‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر بدائع التفسير ج‪ 2‬ص ‪311‬ـ ‪ 313‬واالتباع انواعه وآثاره في بيان‬ ‫‪4‬‬

‫القرآن ج‪ 2‬ص‪.450‬‬
‫)التحرير والتنوير ـ ج‪ 5‬ص‪.177‬‬ ‫‪5‬‬

‫) مفاتيح الغيب ـ ج‪ 5‬ص ‪.46‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪339‬‬
‫يكد ويتعب وال يصل الى مبتغاه‪ ،‬ذلك ان مطالب نفسه تتجدد دوما‬
‫(فكلما حقق مطلبا‪ ،‬أو خاب في سعيه‪ ،‬تجدد في نفسه مطلب يطمع في‬
‫تحقيقه ‪،‬فيسعى مجتهدا كادا الهثا في جريه ‪،‬طامعا في الحصول عليه‬
‫‪،‬مشوقا للظفر به‪ ،‬فهو بسبب أهوائه ‪،‬وشهواته‪ ،‬وشره نفسه لمتاع‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬ال يتوقف عند الكد والكدح الذي يجعله الهثا دواما ) (‪.)1‬‬
‫والحاصل من هاتين اآليتين (( الترغيب في العمل بالعلم وان ذلك رفعة‬
‫من هللا لصاحبه‪ ،‬وعصمة من الشيطان ‪،‬والترهيب من عدم العمل به‬
‫‪،‬وانه نزل الى أسفل سافلين وتسليط@ للشيطان عليه ‪،‬وفيه ان اتباع‬
‫الهوى ‪،‬وإخالد العبد الى الشهوات يكون سببا للخذالن ) (‪.)2‬‬
‫وضمن هذا االطار والية الشيطان للكافرين‪ ،‬والمنافقين‪ ،‬والعصاة‬
‫‪،‬يتوالهم باإلضالل‪ ،‬واإلفساد ‪ ،‬واإلصطدام مع اوامر هللا‪ ،‬وسنته في‬
‫الحياة‪ ،‬وإلى هذا المعنى كانت اإلشارة بأمثال قوله تعالى {فَ َزي ََّن لَهُ ُم‬
‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَه َُو َولِيُّهُ ُم ْاليَ ْو َم َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم}(‪، )3‬وقوله تعالى {إِنَّا‬
‫ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ون}(‪ )4‬وقوله تعالى {فَ ِريقا ً هَ َدى َوفَ ِريقا ً‬ ‫ين الَ ي ُْؤ ِمنُ َ‬ ‫ين أَ ْولِيَاء لِلَّ ِذ َ‬‫َج َع ْلنَا ال َّشيَا ِط َ‬
‫ُون أَنَّهُم‬ ‫ين أَ ْولِيَاء ِمن ُد ِ‬
‫ون هّللا ِ َويَحْ َسب َ‬ ‫ضالَلَةُ إِنَّهُ ُم اتَّ َخ ُذوا ال َّشيَ ِ‬
‫اط َ‬ ‫ق َعلَ ْي ِه ُم ال َّ‬
‫َح َّ‬
‫(‪)5‬‬
‫ون} ‪.‬فهؤالء حلت فيهم سنة الضالل‪ ،‬وحقت عليهم الضاللة من‬ ‫ُّم ْهتَ ُد َ‬
‫الهدى والرشاد‪ ،‬باتخاذ الشيطان وليا من دون هللا ‪،‬فالفريق الذي حق‬
‫عليه الضاللة إنما ضلوا عن سبيل هللا ‪،‬وجاروا عن قصد المحجة‬
‫باتخاذهم الشياطين نصراء من دون هللا ‪،‬وظهراء ‪،‬وظهرا جهال منهم‬
‫بخطأ ما هم عليه‪ ،‬من ذلك بل فعلوا ذلك‪ ،‬وهم يظنون انهم على الهدى‬
‫وان الصواب ما أتوا وركبوا(‪ ،)6‬فهم قد رفضوا والية هللا لهم‪ ،‬فلم‬
‫يتبعوا ما انزل هللا لهدايتهم‪ ،‬بل زينت لهم الشياطين اتباع األهواء‪،‬‬
‫والشهوات‪ ،‬والمحرمات من زينة الحياة الدنيا فاتخذوا الشياطين@ أولياء‬
‫لهم من دون هللا باءارادتهم الحرة ( فغرّتهم الشياطين@ بوساوسهم‪،‬‬
‫)معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني ـ م‪ 5‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.309‬‬ ‫‪2‬‬

‫)النحل ‪.63:‬‬ ‫‪3‬‬

‫)االعراف ‪.27:‬‬ ‫‪4‬‬

‫)االعراف ‪.30:‬‬ ‫‪5‬‬

‫)ينظر تفسير الطبري ـ ج‪ 5‬ص ‪ ، 159‬وتفسير البيضاوي ج‪ 2‬ص ‪، 189‬‬ ‫‪6‬‬

‫وتفسير الخازن ج‪ 2‬ص ‪.223‬‬

‫‪340‬‬
‫وتسويالتهم‪ ،‬واطماعاتهم لهم بالباطل ‪،‬من زخرف االفكار واالقوال‪،‬‬
‫فصاروا يتابعون في مسيراتهم خطوات الشياطين‪ ،‬آنا فآنا على غير‬
‫بصيرة ‪،‬حتى أوصلتهم الى حضيض الضاللة‪ ،‬وأدركتهم مناياهم وهم‬
‫في هذا الحضيض ) (‪ )1‬إذن تولية@ الشيطان تعني طاعته واتباعه في كل‬
‫ما يؤمر ‪،‬وهذا يعني بوضوح االرتداد‪ ،‬ألن من تولى أحدا كان له تبعا‬
‫في كل أمر فالنصوص رسمت األطار لهذه الوالية@ بالباطل ‪ ،‬وقد قضى‬
‫هللا عزوجل فيمن تولى الشيطان أن يضله عن الصراط المستقيم‪،‬‬
‫ان َّم ِري ٍد‪ُ ‬كتِ َ‬
‫ب‬ ‫ويهديه الى عذاب الجحيم ‪ ،‬قال تعالى { َويَتَّبِ ُع ُك َّل َش ْيطَ ٍ‬
‫(‪)2‬‬

‫ير}(‪ .)3‬تلك كانت‬ ‫ب ال َّس ِع ِ‬ ‫َعلَ ْي ِه أَنَّهُ َمن تَ َواَّل هُ فَأَنَّهُ ي ِ‬


‫ُضلُّهُ َويَ ْه ِدي ِه إِلَى َع َذا ِ‬
‫صورة أخرى من صور صراع الشيطان مع االنسان‪ ،‬وتلك كانت‬
‫أيضا فقرة أخرى من فقرات خطته التي أراد من خاللها إيصال‬
‫االنسان الى مرحلة الكفر والردة‪.‬‬
‫‪5‬ـ ايقاع العداء بين المسلمين ‪:‬ـ‬
‫هذه صورة أخرى من صور الصراع الشيطاني مع االنسان‪ ،‬انه‬
‫ايقاع العداء بين المسلمين ‪،‬وتفريق@ كلمتهم ذلك أنه لما أفصح عن‬
‫خطته في إضالل بني آدم جعل من ضمن بنودها بث البغضاء‪،‬‬
‫وا إِنَّ َما ْال َخ ْم ُر َو ْال َم ْي ِس ُر‬
‫ين آ َمنُ ْ‬
‫والتشاحن بينهم@ قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّ ِذ َ‬
‫صابُ َواألَ ْزالَ ُم ِرجْ سٌ ِّم ْن َع َم ِل ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ان فَاجْ تَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِح َ‬
‫ُون * إِنَّ َما‬ ‫َواألَن َ‬
‫ضاء فِي ْال َخ ْم ِر َو ْال َمي ِْس ِر َويَ ُ‬
‫ص َّد ُك ْم‬ ‫ان أَن يُوقِ َع بَ ْينَ ُك ُم ْال َع َدا َوةَ َو ْالبَ ْغ َ‬
‫ي ُِري ُد ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ُون}(‪، )4‬ففي اآلية@ بيان صريح‬ ‫صالَ ِة فَهَلْ أَنتُم ُّمنتَه َ‬ ‫َعن ِذ ْك ِر هّللا ِ َو َع ِن ال َّ‬
‫ان )‪،‬ولذلك أمرنا‬ ‫ط ِ‬‫وواضح ان الخمر والميسر ( ِرجْ سٌ ِّم ْن َع َم ِل ال َّش ْي َ‬
‫باجتنابهما ‪،‬وجاء ايضاح هذا المعنى على شكل صورة تمثيلية ‪ ،‬والتي‬
‫تعني إيجاد عالقة بين شيئين أحدهما تجسيد أو تعريف لآلخر فلو‬
‫نصابُ َواألَ ْزالَ ُم ِرجْ سٌ ) لوجدنا‬ ‫الحظنا قوله تعالى ( ْال َخ ْم ُر َو ْال َمي ِْس ُر َواألَ َ‬
‫ان الرجس هو تجسيد‪ ،‬أو تعريف أو تمثيل@ لما هو خمر وميسر‬
‫وانصاب وأزالم ‪ ،‬والرجس معناه ( القذارة )‪ ،‬والقذارة ـ كما نعرف ـ‬
‫شيء مادي‪ ،‬ولذلك عندما ينقل النص هذه الداللة المادية الى داللة‬
‫)معارج التفكر ودقائق التدبر ـ الميداني ـ م‪ 4‬ص ‪.177‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر تفسير الطبري ج‪ 17‬ص ‪.116‬‬ ‫‪2‬‬

‫)الحج ‪3 :‬ـ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫)المائدة ‪ 90 :‬ـ‪.91‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪341‬‬
‫معنوية@ حينئذ نكون أمام صورة ( تخيلية@ أي ‪ :‬أمام صورة فنية تخلع ما‬
‫ينتسب الى شيء مادي ‪،‬على ما ينتسب الى شيء معنوي ‪،‬حيث خلعت‬
‫الصورة المشار إليها صفة القذر أو ( الرجس ) المادي على ممارسات‬
‫مثل الخمر ‪،‬والميسر‪ ،‬واألنصاب‪ ،‬واألزالم )(‪ .)1‬ثم جاءت اآلية الثانية@‬
‫معللة هذا األمر ‪،‬بانه ليس للشيطان هم وال عمل االّ ايقاع العداوة‬
‫والبغضاء بسبب الخمر والميسر ‪،‬وكذلك الصد عن ذكر هللا والصالة ‪.‬‬
‫إذن الشيطان يريد من وراء شرب الخمر ولعب والميسر أن يعادي‬
‫الناس بعضهم البعض اآلخر‪ ،‬ويبغض بعضهم البعض اآلخر‪ ،‬فقد أبرز‬
‫النص االضرار الدنيوية@ للخمر والميسر‪ ،‬والمتمثلة@ في بروز العداوة‬
‫والبغضاء بين الخمارين والمقامرين ‪،‬ان شارب الخمر يفقد توازنه@‬
‫العقلي فيعتدي على اآلخرين‪ ،‬وان المقامر ليأسى على ماله فيختزن‬
‫العداء في أعماقه ‪ ،‬فيؤدي هذا العداء الى تشتت األمر وذهاب أخوة‬
‫االسالم(‪ .)2‬ترى هل يمكن لنا أن نتخيل ( رجسا ) أو ( قذرا ) أكثر من‬
‫العداوة‪ ،‬والبغضاء اللتين@ تمزقان كل ما هو منتسب الى التوازن@‬
‫والطمأنينة@ واألمن ؟! والنجوى وسيلة أخرى من وسائل الشيطان في‬
‫ايقاع الحزن في قلوب المسلمين ‪ ،‬وزرع العداء قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّ ِذ َ‬
‫ين‬
‫ُول َوتَنَا َج ْوا بِ ْالبِ ِّر‬
‫ت ال َّرس ِ‬ ‫ْصيَ ِ‬ ‫ان َو َمع ِ‬ ‫اج ْوا بِاإْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َو ِ‬ ‫آ َمنُوا إِ َذا تَنَ َ‬
‫اج ْيتُ ْم فَاَل تَتَنَ َ‬
‫ُون ‪ ‬إِنَّ َما النَّجْ َوى ِم َن ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ان لِيَحْ ُز َن‬ ‫َوالتَّ ْق َوى َواتَّقُوا هَّللا َ الَّ ِذي إِلَ ْي ِه تُحْ َشر َ‬
‫ون}‬ ‫ضارِّ ِه ْم َشيْئا ً إِاَّل بِإِ ْذ ِن هَّللا ِ َو َعلَى هَّللا ِ فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُ َ‬‫ْس بِ َ‬ ‫ين آ َمنُوا َولَي َ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫(‪،)3‬وأصل النجاء ـ كما يقول الراغب ـ رحمه هللا ـ ( االنفعال من‬
‫الشيء ومنه نجا فالن من فالن‪ ،‬وأنجيته@ ونجيته@ ‪ ...‬وناجيته أي‬
‫ساررته‪ ،‬وأصله أن تخلوا به في نجوة من األرض‪ ،‬وقيل‪ :‬أصله من‬
‫النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خالصه ‪،‬أو أن تنجو بسرك من أن‬
‫اج ْوا بِاإْل ِ ْث ِم‬ ‫يطلع عليك ‪ ...‬قال {يَا أَيُّهَا الَّ ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا إِ َذا تَنَا َج ْيتُ ْم فَاَل تَتَنَ َ‬
‫اج ْوا بِ ْالبِرِّ َوالتَّ ْق َوى }(‪ {،)4‬إِ َذا نَ َ‬
‫اج ْيتُ ُم‬ ‫ُول َوتَنَ َ‬
‫ت ال َّرس ِ‬ ‫ْصيَ ِ‬ ‫َو ْال ُع ْد َو ِ‬
‫ان َو َمع ِ‬

‫) دراسات فنية في صور القرآن ـ د‪ .‬محمود البستاني ـ ص ‪.137‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر تفسير الطبري ج‪ 7‬ص ‪ ،32‬ودراسات@ فنية في صور القرآن ـ د‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫محمود البستاني ص ‪.140‬‬


‫)المجادلة ‪9 :‬ـ ‪.10‬‬ ‫‪3‬‬

‫)المجادلة ‪.9:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪342‬‬
‫ص َدقَةً }(‪ ، )1‬وانتجيت فالنا ‪ :‬استخلصته‬
‫ُول فَقَ ِّد ُموا بَي َْن يَ َديْ نَجْ َوا ُك ْم َ‬
‫ال َّرس َ‬
‫(‪)2‬‬
‫لسري ) وفي اآلية استخدام ألسلوب القصد الذي يعني ان النجوى‬
‫ليست االّ من الشيطان‪ ،‬فهو المختص بها وهي المختصة به ‪ ،‬يوسوس‬
‫الى قلوب العباد بوساوسه الخبيثة ليحزن الذين آمنوا ‪،‬وذلك لما يقع في‬
‫نفوسهم من خوف الشر من المشركين‪ ،‬والمنافقين‪ ،‬وكذلك لما يستشعره‬
‫المقابل من ان ( الحديث عنه بما يكره‪ ،‬أو انه لم يروه أهال ليشركوه‬
‫في حديثهم ) (‪، )3‬وقد جاءت نصوص كثيرة في السنة تحذر من النجوى‬
‫من ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عمر ‪ ‬ان رسول هللا ‪ ‬قال ‪:‬‬
‫( إذا كانوا ثالثة فال يتناجى اثنان دون الثالث)(‪.)4‬‬
‫كما أخرج البخاري أيضا عن ابن مسعود ( رضي هللا عنه )قال‪:‬‬
‫( إذا كنتم ثالثة فال يتناجى رجالن دون اآلخر ‪،‬حتى‬ ‫قال النبي ‪‬‬
‫تختلطوا@ بالناس ‪ ،‬من أجل أن ذلك يحزنه ) (‪، )5‬ومن أجل هذا المعنى ـ‬
‫أي الحزن ـ ( يستوي في ذلك كل االعداد ‪،‬فال يتناجى أربعة دون واحد‬
‫‪،‬وال عشرة‪ ،‬وال ألف مثال لوجود ذلك المعنى في حقه‪ ،‬بل وجوده في‬
‫العدد الكثير أمكن وأوقع‪ ،‬فيكون بالمنع أولى‪ ،‬وإنما خص الثالثة بالذكر‬
‫ألنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه وظاهر الحديث يعم جميع األزمان‬
‫واألحوال‪ ،‬وإليه ذهب ابن عمر ومالك‪ ،‬والجمهور‪ ،‬وسواء أكان‬
‫التناجي في مندوب‪ ،‬أو مباح‪ ،‬أو واجب فان الحزن يقع به ) (‪.)6‬إذن‬
‫فالغرض من ذلك النهي ـ كما تقدم ـ هو عدم ايقاع الحزن والضغينة@‬
‫في قلوب المسلمين واحزانهم مع االشارة الى ان ذلك من الشيطان ‪،‬‬
‫ولذلك يجب تفويت الفرصة عليه حتى ال يوقع ذلك(‪،)7‬والمهم ان هذه‬
‫النجوى ال تضر المؤمنين االّ بإذن هللا تعالى ‪ ،‬والحمد هلل فان المكر‬
‫)المجادلة ‪.12:‬‬ ‫‪1‬‬

‫)المفردات في غريب القرآن ـ ص ‪ 483‬ـ ‪.484‬‬ ‫‪2‬‬

‫)الجامع ألحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج‪ 1‬ص ‪.295‬‬ ‫‪3‬‬

‫)أخرجه البخاري في كتاب االستئذان باب ( ال يتناجى اثنان دون@ الثالث )‬ ‫‪4‬‬

‫ج‪ 5‬ص ‪.2318‬‬


‫) أخرجه البخاري في كتاب االستئذان باب ( اذا كانوا أكثر من ثالثة فال‬ ‫‪5‬‬

‫بأس بالمسارة والمناجاة ) ج‪ 5‬ص ‪.2319‬‬


‫)الجامع ألحكام القرآن ـ القرطبي ج‪ 17‬ص ‪.295‬‬ ‫‪6‬‬

‫)ينظر االتباع انواعه وآثاره في بيان القرآن ج‪ 2‬ص ‪.542‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪343‬‬
‫السيء ال يحيق االّ باهله ( فأعداء هللا ‪،‬ورسوله ‪،‬والمؤمنين@ مهما تناحوا‬
‫‪،‬ومكروا فان ضرر ذلك عائد على نفوسهم ‪،‬واليضر المؤمنين االّ‬
‫شيء قدره هللا وقضاه ) (‪ ،)1‬وحتى نفوت الفرصة على الشيطان فقد‬
‫أمرنا هللا سبحانه وتعالى بأمر ممهد ‪،‬لعدم ايقاع العداوة والبغضاء‪ ،‬إذا‬
‫وا الَّتِي ِه َي أَحْ َس ُن إِ َّن ال َّش ْيطَ َ‬
‫ان‬ ‫{وقُل لِّ ِعبَا ِدي يَقُولُ ْ‬
‫التزمه الناس فقال تعالى َ‬
‫ان َع ُد ّواً ُّمبِينا} في هذا النص توجيه‬
‫ً (‪)2‬‬
‫إل ْن َس ِ‬
‫ان لِ ِ‬ ‫نز ُ‬
‫غ بَ ْينَهُ ْم إِ َّن ال َّش ْيطَ َ‬
‫ان َك َ‬ ‫يَ َ‬
‫رباني الى أدب المخاطبة والمحاورة بين المسلمين ‪،‬بعضهم مع البعض‬
‫اآلخر‪ ،‬ذلك ألن الشيطان يسوء محاورة بعضهم ‪،‬لينزغ بينهم@ والنزغ@‬
‫أصله الطعن السريع واستعمل هنا في االفساد السريع‪ ،‬وفي استعمال‬
‫فعل النزغ‪ ،‬تصوير لسرعة عمل الشيطان في ايقاع العداوة والبغضاء‬
‫بين الناس‪ ،‬عن طريق الكالم والخطاب وما ذلك االّ ألن عداوة‬
‫الشيطان مستقرة في خلقته‪ ،‬قد جبل عليها‪ ،‬وعداوته متقررة من وقت‬
‫نشأة آدم ‪ ،‬أو ان من أعظم كيد الشيطان أن يوقع المؤمن في الشر‬
‫وهو يوهمه أنه يعمل الخير(‪ .)3‬والمالحظ على النص هو التعبير بقوله‬
‫(الَّتِي ِه َي أَحْ َس ُن )‪ ،‬وهذا يعني أفضل الكالم و ( حسنه بل انه إذا دار‬
‫الكالم بين أمر حسن ‪ ،‬وأمر أحسن فانه يؤثر أحسنهما في حالة عدم‬
‫الجمع بينهما ‪(،‬وهذا أمر بكل كالم يقرب الى هللا من قراءة وذكر‬
‫‪،‬وعلم ‪،‬وأمر بمعروف ونهي عن منكر‪ ،‬وكالم حسن لطيف مع الخلق‬
‫على اختالف مراتبهم‪ ،‬ومنازلهم ‪،‬وانه إذا دار األمر بين أمرين حسنين‬
‫فانه يؤمر باءيثار أحسنهما ‪،‬ان لم يمكن الجمع بينهما‪ ،‬والقول الحسن‬
‫داع لكل خلق جميل‪ ،‬وعمل صالح فان من ملك لسانه ملك جميع أمره‬
‫) (‪،)4‬وهذا الكالم كله هو في المسلمين مع بعضهم لتبقى تلك الرابطة‬
‫األخوية‪ ،‬فيما بينهم ال تخدشها كلمة من هنا أو تصرف من هناك‬
‫‪،‬وينسحب هذا الكالم على دعوة غير المسلمين‪ ،‬وحتى على المخالفين‬
‫أيضا ‪،‬أيّا كانوا وذلك بان يحاول المرء ان يعرض حجته ودليله@‬
‫بأسلوب حسن ‪،‬بعيدا عن البذاءة والتجريح ألنه إذا كان األمر كذلك أثر‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.846‬‬ ‫‪1‬‬

‫)االسراء ‪.53 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ينظر جامع البيان ـ الطبري ـ ج‪ 15‬ص ‪ ، 102‬والتحرير والتنوير ـ ابن‬ ‫‪3‬‬

‫عاشور ج‪ 2‬ص ‪.233‬‬


‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.460‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪344‬‬
‫في القلب تأثيرا شديدا‪ ،‬أما حين يعرض المرء حجته مختلطا بها شيء‬
‫من السب ‪،‬أو الشتم‪ ،‬فال شك أنه سوف ( يزداد الغضب وتتكامل النفرة‬
‫‪،‬ويمتنع حصول المقصود ) (‪ )1‬وعلى كل حال فإن المقصود من هذا‬
‫كله ‪،‬هو تفويت الفرصة على الشيطان لكيال يجد مدخال يدخل منه‬
‫للنزغ بين العباد‪ ،‬الم يقل هللا سبحانه وتعالى على لسان يوسف ‪ِ { ‬من‬
‫بَ ْع ِد أَن نَّز َغ ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان بَ ْينِي َوبَي َْن إِ ْخ َوتِي}(‪،)2‬ان الشيطان ( ينزغ بين األخوة‬
‫بالكلمة الخشنة تفلت‪ ،‬وبالرد السيء يتلوها ‪ ،‬فإذا جو الود‪ ،‬والمحبة‬
‫‪،‬والوفاق‪ ،‬مشوب بالخالف‪ ،‬ثم بالجفوة‪ ،‬ثم بالعداء ‪،‬والكلمة الطيبة@ تأسو‬
‫جراح القلوب ‪،‬وتندي جفافها ‪،‬وتجمعها على الود الكريم ) (‪ .)3‬ونظرة‬
‫سريعة الى واقعنا اليوم نجد ان الشيطان قد نجح في ايقاع العداوة بين‬
‫الناس‪ ،‬وأوغر صدور بعضهم على بعض‪ ،‬فنجد البغضاء والعداوات‬
‫بين بعضهم البعض‪ ،‬والمؤسف ان بعض هؤالء يسوغ عمله بحجج‬
‫واقعية‪ ،‬وأدلة شرعية على حد زعمه ‪ ،‬متخذا منها ستارا للنفث في‬
‫قلوب أغمار الناس وعقولهم‪ ،‬وعندها تحدث العداوات والبغضاء ‪.‬‬
‫وياليتنا ننتبه@ الى هذا االرشاد القرآني‪ ،‬ونقف عنده ونحذر من عداوة‬
‫الشيطان‪ ،‬وما يبثه بيننا ‪ ،‬ويظل النزغ@ أهم فقرة في خطة الشيطان‬
‫يستخدمها لتفريق شمل الناس‪.‬‬
‫تلك كانت أهم الفقرات في خطة الشيطان التي حاول تحقيقها على‬
‫أرض الواقع‪ ،‬وهناك فقرات أخرى ذكرها القرآن‪ ،‬والناظر اليها يجد‬
‫انها تصب فيما ذكرنا‪ ،‬ويظل علينا أن نتذكر دوما ان عدونا الحقيقي‬
‫هو الشيطان ‪ ،‬وهذا العدو هو الذي تجب محاربته بكل ما أوتينا من‬
‫الوسائل ‪ ،‬كما يجب أن نعلم ان هذا الشيطان قد يتمثل@ بصور شتى‪،‬‬
‫وبمداخل على المرء كثيرة ‪ ،‬فيجب عليه أن يأخذ حذره وان الحزم كل‬
‫الحزم هو في صد هذا العدو‪ ،‬وقمع النفس االمارة بالسوء التي يدخل‬
‫الشيطان من قبلها ‪،‬فبذلك تكون طاعة هللا ـ تعالى ـ واستقامة األمر‬
‫والهداية للرشد(‪.)4‬‬

‫) مفاتيح الغيب ـ الرازي ـ ج‪ 20‬ص ‪.183‬‬ ‫‪1‬‬

‫)يوسف ‪.100:‬‬ ‫‪2‬‬

‫)في ظالل القرآن ـ سيد قطب ـ م‪ 4‬ص ‪.2234‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر تيسير الكريم الرحمن ص ‪.460‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪345‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫التحصن من كيد الشيطان ( وسائل التخلص من هذا الصراع )‬
‫بعد ان بين هللا تعالى لنا في كتابه العزيز حقيقة الصراع‬
‫الدائربين@ الشيطان واالنسان ‪،‬وكشف لنا أبعاد خطة الشيطان والمداخل‬
‫في تنفيذ خطته هذه‪ ،‬فإنه لم يترك االنسان وحده يواجه قدره مجردا من‬
‫الوسائل واالسلحة لصد هذا الصراع والعدوان ‪،‬وانما جعل له منهجا‬
‫متكامال للوقوف بوجه هذا العدوان ‪،‬وزوده بما يمكنه من صد هذا‬
‫العدوان ‪،‬وسنحاول في هذا المبحث تسليط@ الضوء على هذا المنهج‬
‫األقوم في مواجهة خطة الشيطان وكيده‪ ،‬ويمكن إجمال ذلك على‬
‫النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪1‬ـ التمسك بالطريق@ القويم@ والصراط المستقيم‪.‬‬
‫ذكر نا فيما سبق ان الشيطان لما أعلن عن خطته في حرب‬
‫االنسان‪ ،‬بيّن أنه سيكمن لهم على الصراط المستقيم ‪ ،‬لذلك وجب على‬
‫االنسان أن يكون دائما على حذر‪ ،‬وتشبث بالصراط ‪،‬وقد جاءت‬
‫اطي‬ ‫{وأَ َّن هَـ َذا ِ‬
‫ص َر ِ‬ ‫النصوص القرآنية@ مبينة@ لهذا األمر قال تعالى َ‬
‫ق بِ ُك ْم َعن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُكم بِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫ُم ْستَقِيما ً فَاتَّبِعُوهُ َوالَ تَتَّبِع ْ‬
‫ُوا ال ُّسب َُل فَتَفَ َّر َ‬
‫ون }(‪،)1‬أي هو المنهج القويم والدين المستقيم@ ‪،‬الذي ارتضاه هللا‬ ‫تَتَّقُ َ‬
‫تعالى لعباده المؤمنين ‪،‬فوجب أتباعه جملة وتفصيال ‪ ،‬ثم جاء النهي‬
‫عن اتباع السبل ‪،‬وهي الشرائع والعقائد والملل والنحل ‪ ،‬المخالفة لدين‬
‫االسالم ألنها تميل بالمتبع لها عن الصراط المستقيم‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ضالَ ُل }(‪،)2‬فللحق طريق@ واحد وللباطل طرق‬ ‫{ فَ َما َذا بَ ْع َد ْال َح ِّ‬
‫ق إِالَّ ال َّ‬
‫كثيرة متفرقة متشعبة‪ ،‬لكثرة األهواء واختالفها‪ ،‬وان الشيطان عامل‬
‫)االنعام ‪.154 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)يونس ‪.32 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪346‬‬
‫على صرف الناس عن هذا الصراط المستقيم الى هذه الشعب‬
‫المتفرقة(‪، )1‬فاتباع ما جاءنا من عقائد ‪،‬وأعمال ‪،‬وأقوال ‪،‬وعبادات‬
‫‪،‬وتشريعات ‪،‬وترك كل ما نهى عنه ‪ ،‬يجعل العبد في حرز من‬
‫وا فِي الس ِّْل ِم‬
‫وا ا ْد ُخلُ ْ‬
‫ين آ َمنُ ْ‬
‫الشيطان(‪ . )2‬لذلك قال سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّ ِذ َ‬
‫ين}(‪،)3‬يقول هللا تعالى آمرا‬ ‫ت ال َّش ْيطَا ِن إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌ‬ ‫َكآفَّةً َوالَ تَتَّبِع ْ‬
‫ُوا ُخطُ َوا ِ‬
‫عباده المؤمنين به المصدقين برسوله ‪ ،‬أن ياخذوا بجميع تعاليم االسالم‬
‫‪،‬وشرائعه‪ ،‬والعمل بجميع أوامره‪ ،‬وترك جميع زواجره‪ ،‬واجتناب ما‬
‫يأمر به الشيطان‪ ،‬وطرائقه التي يزين بها المعاصي(‪ ،)4‬وقد جاء التعبير‬
‫عن هذا المعنى بواسطة التصوير الفني‪ ،‬إذ عبّر عن االلتزام بجميع‬
‫شرائع االسالم ( بالدخول في السلم ) ‪ ،‬والدخول الى رحاب الشيء‬
‫يعني االستقرار والثبات‪ ،‬في ذلك المكان مع ما يواكب هذا االستقرار‬
‫والثبات من مشاعر الطمأنينة ‪ ،‬واالمن والتوازن النفسي ‪ ،‬إذن الدخول‬
‫في السلم يعني استعارة بما هو آمن ومطمئن ومتوازن ‪،‬وهذا قمة ما‬
‫يتطلع اليه@ االنسان‪ ،‬وهذه االستعارة قد تبعتها في النص استعارة‬
‫أخرى‪ ،‬ك ّملت لنا أجزاء الصورة الفنية@ حيث عبّر عن طاعة الشيطان بـ‬
‫(اتباع خطواته )‪ ،‬وكان يمكن للنص ان يقول ( ال تتبعوا الشيطان )‪،‬‬
‫ولكنه خلع على هذه الظاهرة صفة ( الخطوات )‪ ،‬أي جعل للشيطان‬
‫خطوات أو أرجال تخطوا ‪،‬وفي إكساب السلوك الشيطاني@ صفة‬
‫( المشي ) أو ( الخطوات )‪ ،‬ثم اتباع االنسان لتلكم الخطوات‪ ،‬سوف‬
‫يكسب المعنى المقصود مزيدا من العمق‪ ،‬ألن اتباع خطوات اآلخرين‬
‫دون ان يفكر االنسان في الجهة التي يتحرك اليها ‪،‬يعني تعطيال لفكر‬
‫االنسان وسلخه من دائرة العقل أساسا ‪،‬وهذا ما يستهدف النص االشارة‬
‫إليه عن طريق@ هذه االستعارة‪ ،‬فالنص عن طريق هاتين االستعارتين‬
‫( الدخول )‪ ،‬و ( اتباع الخطوات ) قد بيّن ان الدخول في رحاب‬

‫)ينظر جامع البيان ـ ج‪ 8‬ص ‪ ،87‬والتفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 14‬ص ‪، 3‬‬ ‫‪1‬‬

‫والتفسير الوسيط ـ محمد سيد طنطاوي ـ ج‪ 5‬ص ‪.299‬‬


‫)ينظر عالم الجن والشياطين ـ عمر سليمان االشقر ـ ص ‪115‬ـ‪.116‬‬ ‫‪2‬‬

‫)البقرة‪.208 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ـ ج‪ 1‬ص ‪ ، 248‬وصفوة البيان‬ ‫‪4‬‬

‫لمعاني القرآن ـ الشيخ حسنين محمد مخلوف ص‪ ، 49‬وتيسير الكريم‬


‫الرحمن ـ ص ‪.94‬‬

‫‪347‬‬
‫االسالم يعني االستقرار والثبات‪ ،‬اما اطاعة الشيطان فيقود الى التعب‬
‫ألنها مشي بما تواكبه من مشاعر التمزق والتوتر ‪،‬والقلق@ نتيجة الجهل‬
‫بالجهة التي يتحرك إليها الشيطان ‪،‬وهذا ما أفصحت عنه أيضا صيغة‬
‫( تتبعوا ) التي تشعر بالجهد والتعب في اتباع خطوات الشيطان(‪ . )1‬إذن‬
‫المنهج األقوم في صد عدوان الشيطان هو في التمسك بالصراط‬
‫المستقيم ‪،‬وعدم الحيادة عنه ‪،‬وهذا الصراط الحق يتمثل في االلتزام@‬
‫بكتاب هللا ‪،‬واتباع رسول هللا ‪ ‬في قوله وفعله‪ ،‬وليعزم على سلوك هذا‬
‫الطريق@ عزيمة من اليشك انه على الصراط المستقيم(‪.)2‬‬
‫‪2‬ـ االلتجاء الى هللا ‪ :‬والمعلم الثاني في المنهج الذي رسمه القرآن‬
‫لإلعتصام من الشيطان‪ ،‬والتصدي@ لحربه يتمثل@ في اللجوء الى هللا‬
‫باإلستعاذة من شره ‪،‬وخطره فقد أمرنا في آيات عدة أن نستعيذ به من‬
‫الشيطان الرجيم ‪،‬وهذه االستعاذة حصن حصين نتحصن به من هذا‬
‫العدو‪ ،‬المتربص بنا ‪ ،‬قال تعالى { َوقُل رَّبِّ أَ ُعو ُذ بِ َ‬
‫ك ِم ْن هَ َم َزا ِ‬
‫ت‬
‫ضرُو ِن }(‪، )3‬ففي هذه اآلية أمر من هللا‬ ‫ك َربِّ أَن يَحْ ُ‬
‫ين َوأَ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫ال َّشيَ ِ‬
‫اط ِ‬
‫سبحانه وتعالى لنبيه ‪، ‬أن يستعيذ من همزات الشياطين‪ ،‬وأن يستعيذ من‬
‫حضورهم معه‪ ،‬فيفسدوا عليه أمره ـ ويشار هنا الى ان رسول هللا ‪ ‬معصوم‬
‫من هذه الهمزات ‪،‬ومع ذلك أمر بالدعاء لكي يزيد من التجائه الى هللا تعالى ـ‬
‫يقيه منها ولتعليم األمة من بعده ‪،‬وهذا هو المقصد األهم ـ اللجوء@ الى هللا ـ‬
‫ليحصنهم من الشياطين‪ ،‬في جميع األحيان فاالستعاذة هنا تضمنت ( استعاذة من‬
‫مادة الشر كله وأصله ‪،‬ويدخل فيها االستعاذة من جميع نزغات الشيطان ‪،‬ومن‬
‫مسه ووسوسته‪ ،‬فإذا أعاذ هللا عبده من هذا الشر وأجاب دعاءه سلم من كل شر‬
‫ووفق لكل خير ) (‪ )4‬وهذه االستعاذة تكون بمجرد أن ينزغ الشيطان االنسان‬
‫غ فَا ْستَ ِع ْذ بِاهَّلل ِ إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع‬
‫ان نَ ْز ٌ‬
‫ك ِم َن ال َّش ْيطَ ِ‬
‫بنزغه قال تعالى { َوإِ َّما يَن َز َغنَّ َ‬
‫ْال َعلِي ُم }(‪ .)5‬ففي هذين النصين ارشاد للنبي ‪ ،‬بانه إذا غضب أو رغب في‬

‫)ينظر دراسة فنية في صور القرآن ـ د‪ .‬محمود البستاني ـ ص ‪ 52‬ـ ‪، 53‬‬ ‫‪1‬‬

‫ودالالت@ الترتيب والتركيب في سورة البقرة ـ د‪ .‬زهراء خالد سعد هللا‬


‫العبيدي ص ‪.259‬‬
‫)ينظر اغاثة اللهفان ـ ابن قيم الجوزية ـ ج‪ 1‬ص ‪.112‬‬ ‫‪2‬‬

‫)المؤمنون ‪ 97 :‬ـ ‪.98‬‬ ‫‪3‬‬

‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪ ، 559‬وينظر االتباع أنواعه وآثاره في بيان‬ ‫‪4‬‬

‫القرآن ج‪ 2‬ص ‪.546‬‬


‫)فصلت ‪.36 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪348‬‬
‫فعل ما اليحل بسبب الشيطان فعليه االستعاذة باهلل تعالى ‪ ،‬من هذا الشيطان‬
‫الذي قد يحمله على ارتكاب ما التحمد عقباه‪ ،‬وهذا ( الخطاب وإن خص هللا به‬
‫الرسول االّ انه تأديب عام لجميع المكلفين ) (‪ ،)1‬والنزغ في الحسيات هو‬
‫النخس‪ ،‬والغرز بابرة أو نحوها‪ ،‬لإلثارة والدفع ألمر ما‪ ،‬ويستعمل في‬
‫المعنويات للداللة على ما يشبه ذلك من وساوس مثيرة للغضب‪ ،‬ومهيجة‬
‫لإلنتقام ‪،‬ونزغ الشيطان وساوسه وتسويالته‪ ،‬وتزيناته التي يحمل بها االنسان‬
‫على المعاصي(‪ ، )2‬وقد@ جاء الفعل (يَن َز َغنَّكَ )مؤكدا بنون التوكيد الثقيلة‪ ،‬للداللة‬
‫على ان النزغ قد بلغ مبلغ حدوث بدايات الغضب‪ ،‬وتحرك ثورته‪ ،‬إذا وصل المرء‬
‫إلى هذا الحد وجب عليه اللجوء@ الى هللا بالدعاء ‪،‬في طلب الحماية والحفظ‬
‫وصرف الشر واالذى‪ @،‬ألن هللا هو الذي بيده مقاليد كل شيء في الوجود‪ @،‬وهو‬
‫على ما يشاء قدير‪ ،‬لذلك فان من قام بواجبه كما أمره هللا ‪،‬واستعاذ به‬
‫صادق النية‪ ،‬متضرعا له دخل في ملجأ هللا ‪،‬وفي دائرة عصمته وحـمايته(‪، )3‬‬
‫وقـد خـتـم الـنـصيــــن بـ (ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم ) لإلشارة الى مطلبين@ ‪:‬ـ‬
‫‪1‬ـ أن تكون االستعاذة بكالم مصحوب بصوت مهما كان خافتا‬
‫ليسمع‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن تكون االستعاذة مقرونة بنية@ صادقة‪ ،‬من عمق الفؤاد جديرة‬
‫بأن تعلم بأنها عبادة هلل‪ ،‬في سلوك قلبي ‪،‬فإذا تحقق هذان المطلبان ‪،‬‬
‫وهما االستعاذة بصوت‪ ،‬مع االخالص في القلب ـ أعاذه هللا صارفا عنه‬
‫ما يجد في نفسه من ذلك وما يجد في نفسه من أثره(‪ . )4‬ومن هنا يمكن‬
‫أن نفهم سر التعبير آية فصلت بقوله { إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم }‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي جاء في سورة األعراف دون ضمير الفصل والم التعريف‬
‫({إِنَّهُ َس ِمي ُع َعلِي ُم}‪،‬والوجه ان ( التوكيد في قوله ( إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم‬
‫) في سياق هذه االفكار‪ ،‬أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع‪،‬‬
‫وإحاطة العلم‪ ،‬ال كما يظن به أعداؤه الجاهلون انه اليسمع‪ ،‬ان اخفوا‬
‫‪،‬وانه ال يعلم كثيرا مما يعملون‪ ،‬وحسّن ذلك أيضا أن المأمور به في‬
‫سورة فصلت ‪،‬دفع اساءتهم إليه@ بإحسانه اليهم ‪،‬وذلك أشق على‬
‫{و َما يُلَقَّاهَا إِاَّل‬
‫النفوس‪ ،‬من مجرد االعراض عنهم ‪،‬ولهذا عقبه بقوله َ‬
‫)التفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 15‬ص‪.80‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر المفردات في غريب القرآن ـ ص ‪ ، 488‬وتفسير القرآن العظيم ـ ج‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 2‬ص ‪ ، 290‬ومعارج التفكر ودقائق التدبر ـ م‪ 5‬ص ‪.121‬‬


‫)ينظر معارج التفكر ـ م‪ 5‬ص ‪121‬ـ‪.122‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ينظر معارج التفكر ـ م‪ 5‬ص‪.122‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪349‬‬
‫ظ َع ِظ ٍيم }(‪ ،)1‬فحسن التأكيد لحاجة‬ ‫صبَرُوا َو َما يُلَقَّاهَا إِاَّل ُذو َح ٍّ‬ ‫ين َ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫المستعيذ ) (‪، )2‬وثمة ملمح آخر هو ان هذه الزيادة في آية ( فصلت )‬
‫تنبيه@ مشدد باللجوء الى هللا من كل نزغ شيطاني‪ ،‬ألن هللا هو وحده في‬
‫الوجود السميع العليم ‪،‬فال سميع في الوجود لكل شيء وال عليم بكل‬
‫شيء االّ هللا تبارك وتعالى ( دل على الحصر تعريف طرفي االسناد‪،‬‬
‫والتأكيد بضمير الفصل ( هو )‪ ،‬وأداة التعريف ( ال ) في ( السميع ) و‬
‫( العليم ) هي للكمال‪ ،‬الدالة على استغراق كل أفراد جنس السمع وكل‬
‫أفراد جنس العلم وكل مستوياتهما ) (‪، )3‬وفي ذلك ما فيه من تربية لحس‬
‫المؤمن على مراقبة هللا في هواجسه وهمساته ‪ ،‬ولذلك فان هللا سبحانه‬
‫وتعالى ـ أثنى على الذين يلجؤون إليه ويستعيذون به فقال {إِ َّن الَّ ِذ َ‬
‫ين‬
‫ُون}(‪ .)4‬إن المرء‬ ‫ْصر َ‬ ‫ان تَ َذ َّكر ْ‬
‫ُوا فَإِ َذا هُم ُّمب ِ‬ ‫ف ِّم َن ال َّش ْيطَ ِ‬
‫طائِ ٌ‬ ‫اتَّقَ ْ‬
‫وا إِ َذا َم َّسهُ ْم َ‬
‫قد تستزله المعصية أو يهم بها‪ ،‬وقد يغضب فيجهل‪ ،‬وكل هذه األمور‬
‫من الشيطان فيتذكر اليم العقاب‪ ،‬وجزيل الثواب ونعم هللا عليه ( فيدعوه‬
‫كل واحد من هذين األمرين‪ ،‬الى االعراض عن مقتضى الطبع‬
‫ف )قراءتين@ فقد قرأ‬ ‫‪،‬واإلقبال على أمر الشرع ) (‪ ،)5‬ونلمح في (طَائِ ٌ‬
‫ابن كثير‪ ،‬وابو عمرو ‪،‬والكسائي‪ ،‬ويعقوب ووافقهم اليزيدي‬
‫والشنبوذي@ ( طيْف)وقرا باقي القراء العشرة ( طائف ) (‪ ،)6‬والطائف‬
‫هو الذي يحمل الوساوس ‪ ،‬والدسائس والتسويالت التزيينية‪ ،‬فيطوف‬
‫بها على النفوس‪ ،‬ويقذف بها في نفس فريسته‪،‬وهذا الحاصل البد أن‬
‫يكون شيطانا ‪،‬والطيف التخيالت والرؤى النفسية التي قد يهيجها‬
‫الشيطان ويستثيرها(‪، )7‬فبين القراءتين@ تكامل في الداللة على المعنى‬
‫المراد‪ ،‬والنص يعطينا صورة للمؤمنين الحريصين على حفظ أنفسهم‬

‫)فصلت ‪.35 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)بدائع التفسير ـ ج‪ 2‬ص ‪.101‬‬ ‫‪2‬‬

‫)معارج التفكر ـ م‪ 5‬ص ‪.127‬‬ ‫‪3‬‬

‫)االعراف ‪.201 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)التفسير الكبير ـ الرازي ج‪ 15‬ص‪.81‬‬ ‫‪5‬‬

‫)ينظر الميسر في القراءات االربع عشرة ـ محمد فهد خاروف ـ ص‬ ‫‪6‬‬

‫‪.176‬‬
‫)ينظر المفردات في غريب القرآن ـ ص ‪ ، 311‬ومعارج التفكر ـ م‪ 5‬ص‬ ‫‪7‬‬

‫‪.127‬‬

‫‪350‬‬
‫‪ ،‬أنهم إذا مسهم الشيطان بالوسواس والدسائس ‪ ،‬والتسويالت التزينية‬
‫‪،‬وطاف عليهم بهذه المعاني أو بطيف يهيجه ‪ ،‬ويستثيره في نفوسهم‪،‬‬
‫تذكروا ربهم وسلطانه على جميع خلقه‪ ،‬فاستعاذوا به فأعاذهم فصرف‬
‫عنهم نزغات الشيطان التي ربما ألقت غشاوة على بصائرهم(‪ ، )1‬وقد‬
‫دل النص على سرعة الفزع الى هللا‪ ،‬إذ في التعبير بـ اذا مع الفعل‬
‫مسهم داللة على إصابة غير مكينة‪ ،‬وإشارة الى ان الفزع الى هللا من‬
‫الشيطان عند ابتداء المام الخواطر الشيطانية‪ ،‬بالنفس ألن تلك الخواطر‬
‫إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزما ثم عمال(‪ .)2‬وفي ختم اآلية@ بقوله (‬
‫ُون ) إضافة ‪ (،‬معاني كثيرة الى صدر اآلية ليس لها ألفاظ‬ ‫ْصر َ‬ ‫فَإِ َذا هُم ُّمب ِ‬
‫تقابلها هناك ‪ ،‬إنه يفيد ان مس الشيطان يعمي‪ ،‬ويطمس ويغلق البصيرة‬
‫‪ ،‬ولكن تقوى هللا ومراقبته وخشية غضبه وعقابه‪ ،‬تلك الوشيجة التي‬
‫تصل القلوب باهلل ‪،‬وتوقظها من الغفلة عن هداه ‪ ،‬تذكر المتقين ‪،‬فإذا‬
‫تذكروا تفتحت بصائرهم ‪،‬وتكشفت الغشاوة عن عيونهم (فَإِ َذا هُم‬
‫ُون ) (‪ .)3‬ثم جاء األمر باالستعاذة عند فعل قربة من أعظم‬ ‫ْصر َ‬ ‫ُّمب ِ‬
‫ت ْالقُرْ َ‬
‫آن‬ ‫القربات‪ ،‬اآل وهي قراءة القرآن يقول هللا تعالى {فَإِ َذا قَ َر ْأ َ‬
‫ان الر َِّج ِيم}(‪ ،)4‬والمعنى من وراء االستعاذة عند‬ ‫فَا ْستَ ِع ْذ بِاهّلل ِ ِم َن ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ممارسة القراءة التي هي مجهود فكري‪ ،‬لئال يلبّس@ على القارئ‬
‫قراءته‪ ،‬ويخلّط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر(‪ )5‬والصورة في ذلك أن‬
‫االنسان في كل ممارساته الفكرية‪ ،‬عليه أن يبتعد عن الوساوس‬
‫الشيطانية@ وأن تكون ممارساته الفكرية ‪ ،‬مجردة هلل وحده‪ ،‬ولذلك كان‬
‫رسول هللا ‪ ‬اذا ابتدأ@ قراءته يقول ‪ (( :‬أعوذ باهلل السميع العليم@ من‬
‫الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ) (‪ ، )6‬ذلك ان الشيطان‬
‫( أحرص ما يكون على العبد عند شروعه في األمور الفاضلة‪ ،‬فيسعى‬
‫في صرفه عن مقاصدها‪ ،‬ومعانيها ‪،‬فالطريق الى السالمة من شره‬
‫)ينظر بدائع التفسير ج‪ 2‬ص ‪ ، 321‬ومعارج التفكر م‪ 5‬ص ‪.128‬‬ ‫‪1‬‬

‫)ينظر التحرير والتنوير ـ ابن عاشور ـ ج‪ 9‬ص ‪.232‬‬ ‫‪2‬‬

‫)في ظالل القرآن ـ سيد قطب ـ م‪ 3‬ص ‪.1420‬‬ ‫‪3‬‬

‫)النحل ‪.98:‬‬ ‫‪4‬‬

‫)ينظر تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ـ ج‪ 2‬ص ‪.507‬‬ ‫‪5‬‬

‫)أخرجه ابو داود من حديث ابي سعيد الخدري@ ـ رضي هللا عنه ـ في كتاب‬ ‫‪6‬‬

‫الصالة باب من رأى االستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك ج‪ 1‬ص ‪.206‬‬

‫‪351‬‬
‫االلتجاء الى هللا ‪،‬واالستعاذة به فيقول القارئ ( أعوذ باهلل من الشيطان‬
‫الرجيم ) متدبرا لمعناها معتمدا بقلبه@ على هللا‪ ،‬في صرفه عنه مجتهدا‬
‫في دفع وسواسه‪ ،‬وأفكاره الرديئة مجتهدا على السبب األقوى في دفعه‬
‫وهو التحلي بحلية االيمان والتوكل) (‪. )1‬ولعلنا يمكن أن نعرف بعض‬
‫الحكم ‪،‬من االستعاذة عند القراءة ‪ ،‬هذه الحكم تتمثل@ في ‪ :‬ـ‬
‫‪1‬ـ أن القرآن شفاء لما في الصدور ‪،‬مذهب لما يلقيه@ الشيطان فيها‬
‫من الوساوس‪ ،‬والشهوات واإلرادات الفاسدة‪.‬‬
‫‪2‬ـ ان الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله ‪ ،‬حتى يشغله عن‬
‫المقصود بالقرآن‪ ،‬وهو تدبره وتفهمه‪ ،‬ومعرفة ما أراد المتكلم به‬
‫سبحانه‪ ،‬فيحرص بجهده على ان يحول بين قلبه ‪،‬وبين مقصود القرآن‬
‫فال يكمل انتفاع القارئ به فأمر عند الشروع أن يستعيذ باهلل عزوجل‪.‬‬
‫‪3‬ـ ان الشيطان أحرص ما يكون على االنسان‪ ،‬عندما يهم بالخير‬
‫‪،‬أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه@ عنه(‪.)2‬‬
‫إذن المعلم الثاني من معالم االعتصام من الشيطان‪ ،‬هو اللجوء الى‬
‫هللا متمثال في االستعاذة من الشيطان وفي هذه االستعاذة فائدتان‪:‬‬
‫األولى‪ :‬ان االستعاذة باهلل تعالى فيها لجوء الى هللا تعالى‪ ،‬لينجو‬
‫المرء من شر تلك الوسوسة ‪،‬ذلك انه في االلتجاء الى هللا واالعتصام‬
‫به يندفع عن المرء شر هذا الشيطان‪ ،‬وشركه بل يحبب إليه@ االيمان‬
‫ويزين في قلبه‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ان هذا اللجوء الى هللا تعالى ‪،‬يؤدي الى تذكر خطورة تلك‬
‫الوسوسة‪ ،‬فيجاهدها ويتحفز لردها وهذا هو ديدن المتقين‪.‬‬
‫وهذه االستعاذة ال تتحقق االّ بالمداومة على ذكر هللا‪ ،‬والقيام بأوامره‪،‬‬
‫وهو ما أكدناه في المعلم األول متمثال بالثبات على الصراط‪.‬‬
‫‪4‬ـ استشعار عداوة الشيطان حقيقة‪.‬‬
‫هذا معلم آخر من معالم التوجيه@ الرباني في التصدي للشيطان‪،‬‬
‫في معركته الدائرة مع االنسان‪ ،‬وهذا المعلم يتمثل‪ ،‬في بناء فكر الفرد‬
‫على ان الشيطان عدو له‪ ،‬وهذا يتطلب@ دوما التنبه والتهيء للمواجهة‪،‬‬
‫)تيسير الكريم الرحمن ـ ص ‪.449‬‬ ‫‪1‬‬

‫)هذه بعض الفوائد والوجوه@ التي ذكرها ابن القيم وينظر كالما طويال له‬ ‫‪2‬‬

‫في بدائع التفسير ج‪ 3‬ص ‪ 52‬ـ ‪.57‬‬

‫‪352‬‬
‫ألن االنسان اذا عرف عدوه لم يغفل عنه ‪ ،‬وهذه العداوة بدأت منذ‬
‫إخراجه ـ لعنه هللا ـ من الجنة بل منذ أمر هللا سبحانه وتعالى المالئكة‬
‫ت‬‫ك هَـ َذا الَّ ِذي َك َّر ْم َ‬ ‫ال أَ َرأَ ْيتَ َ‬
‫قال {قَ َ‬ ‫بالسجود آلدم عليه السالم ‪ ،‬عند ذلك ِ‬
‫َعلَ َّي لَئِ ْن أَ َّخرْ تَ ِن إِلَى يَ ْو ِم ْالقِيَا َم ِة ألَحْ تَنِ َك َّن ُذرِّ يَّتَهُ إَالَّ قَلِيال } ‪ ،‬وقد كان له‬
‫ً (‪)1‬‬

‫ما اراد ‪،‬مع انه لم يستخدم القوة في ذلك‪ ،‬أو السلطان‪ ،‬قال الحسن‬
‫البصري ـ رحمه هللا ـ ((وهللا ما كان له سيف‪ ،‬وال سوط‪ ،‬ولكنه‬
‫استمالهم فمالوا بتزينه ) (‪ ، )2‬وحين يتأمل المرء تلك القصة العجيبة‬
‫التي حصلت بين آدم ـ عليه السالم ـ‪ ،‬وبين ابليس لعنه هللا يظهر له‬
‫شيء واضح جلي اال وهو األثر الفاعل لتلك العداوة الشيطانية‪ ،‬وان‬
‫المرء يوم ان يغفل عن هذه الحقيقة يقع فريسة سهلة في شراك‬
‫الشيطان ‪،‬إن آدم كان يعرف تلك العداوة مع الشيطان‪ ،‬ومع ذلك‬
‫استماله الشيطان اليه@ ‪ ،‬فأكل من الشجرة التي نهاه هللا عنها ‪ ،‬وما ذلك‬
‫االّ لكثرة تعرض ابليس@ له ‪،‬وغفلته عن عدوه‪ ،‬ولإلمام الرازي كالم‬
‫جميل حول هذا المعنى ‪،‬ننقله بنصه‪ ،‬اذ يقول رحمه هللا ( واعلم ان‬
‫واقعة آدم عجيبة‪ ،‬وذلك ألن هللا تعالى ـ رغبه في دوام الراحة‪ ،‬وانتظام‬
‫ك فَاَل ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِم َن‬ ‫ك َولِ َز ْو ِج َ‬‫المعيشة بقوله‪ {:‬فَقُ ْلنَا يَا آ َد ُم إِ َّن هَ َذا َع ُد ٌّو لَّ َ‬
‫ظ َمأ ُ فِيهَا َواَل‬
‫ك اَل تَ ْ‬
‫ك أَاَّل تَجُو َع فِيهَا َواَل تَع َْرى‪َ ‬وأَنَّ َ‬
‫ْال َجنَّ ِة فَتَ ْشقَى‪ ‬إِ َّن لَ َ‬
‫ك َعلَى‬‫تَضْ َحى}(‪،)3‬ورغبه ابليس@ أيضا في دوام الراحة بقوله ‪{:‬هَلْ أَ ُدلُّ َ‬
‫َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد }‪ ،‬وفي انتظام@ المعيشة بقوله{ َو ُم ْل ٍك اَّل يَ ْبلَى }(‪، )4‬فكان‬
‫الشيء الذي رغبه هللا آدم فيه هو الذي رغبه ابليس@ فيه‪ ،‬االّ ان هللا‬
‫تعالى وقف ذلك على االحتراس عن تلك الشجرة‪ ،‬وابليس@ وقفه على‬
‫االقدام عليها‪ ،‬ثم إن آدم ـ عليه السالم ـ مع كمال عقله وعلمه بأن هللا‬
‫تعالى مواله وناصره ومربيه ‪،‬أعلم بأن ابليس عدوه حيث امتنع من‬
‫السجود له‪ ،‬وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته‪ ،‬كيف قبل في الواقعة‬
‫الواحدة ‪،‬والمقصود الواحد قول إبليس@ مع علمه بكمال عداوته له‬
‫‪،‬واعرض عن قول هللا تعالى مع علمه بانه هو الناصر والمربي ؟ ومن‬

‫)االسراء ‪.62 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)المحرر الوجيز ـ ابن عطية ـ ج‪ 3‬ص ‪.469‬‬ ‫‪2‬‬

‫)طه ‪ 117 :‬ـ ‪.119‬‬ ‫‪3‬‬

‫)طه ‪.120 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪353‬‬
‫تأمل في هذا الباب طال تعجبه!‪ )1( )...‬وقد صدق رحمه هللا‪ ،‬فان المرء‬
‫ال ينقضي عجبه من التأمل في هذه الواقعة العجيبة@ فهذا آدم يقع في‬
‫معصية هللا تعالى‪ ،‬مع ان هللا حذره من ذلك ‪،‬ومن ثم يقع موافقة ألعدى‬
‫أعدائه إبليس ‪،‬ما ذلك االّ للغفلة عن عداوة هذا المخلوق‪ ،‬لنا ذلك ان‬
‫عداوته ثابتة وطبيعة عالقته بنا مبنية على العداء@ لنا‪ ،‬وال يمكن تبديل@‬
‫أو تغيير هذه الحقيقة‪ ،‬وال يمكن اجراء المصالحة بإزالة هذه العداوة‬
‫‪،‬ألن الشيطان ال هم له‪ ،‬وال غرض في حياته سوى إضالل االنسان‪،‬‬
‫وصرفه عن الحق ‪،‬ودفعه الى معصية هللا تعالى‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫وصف هللا تعالى الشيطان بأنه عدو لإلنسان قال تعالى {إِ َّن ال َّش ْيطَ َ‬
‫ان لَ ُك ْم‬
‫ير }(‪، )2‬وهللا‬ ‫َع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوهُ َع ُد ّواً إِنَّ َما يَ ْد ُعو ِح ْزبَهُ لِيَ ُكونُوا ِم ْن أَصْ َحا ِ@‬
‫ب ال َّس ِع ِ‬
‫جل جالله عندما يصفه بهذا الوصف ‪ ،‬فهو وصف دقيق ‪ ،‬ومطابق‬
‫للشيطان ‪ ،‬بكل ما تعنيه@ كلمة عدو‪ ،‬وليس في اطالقها على الشيطان‬
‫أي معنى مجازي‪ ،‬أو معنى فيه مبالغة‪ ،‬وإنما هو وصف دقيق واطالق@‬
‫مطابق لواقع الشيطان ولطبيعته@ العدوانية لإلنسان‪ ،‬وبالتالي وجب‬
‫اتخاذه عدوا كما جاء في النص(‪ ، )3‬فقضية ( ان الشيطان هو عدو‬
‫االنسان األول ) هي حقيقة ثابتة على االنسان ان اليغفل عنها ‪،‬وأن‬
‫تكون حاضرة دوما نصب عينيه@ ‪،‬فالعداء متأصل منذ أن خلق هللا تعالى‬
‫آدم‪ ،‬ويستمر وال يكاد يفتر فإبليس تعهد بهذا العداء@ وتعهد باستخدام‬
‫أساليبه ومداخله ووسائله في سبيل اغواء وإضالل بني آدم ‪،‬عن طريق@‬
‫الحق وعن طاعة هللا تعالى واالنسان أيضا مأمور بأن يتخذ الشيطان‬
‫وذريته أعداء‪ ،‬ليكتسب هذا العداء صفة األصالة‪ ،‬وديمومة االستمرار‪،‬‬
‫وهذا معنى المعلم الرابع‪.‬‬
‫‪5‬ـ معرفة خطورة هذا المخلوق‪.‬‬
‫وهذا معلم مهم في الحذر من هذا المخلوق‪ ،‬وذلك بمعرفة حقيقته‬
‫وامكانياته‪ ،‬يقول ابن تيميه ( رحمه هللا )‪ ( :‬فأصل الشر عبادة النفس‬
‫والشيطان‪ ،‬وجعلهما شريكين للرب ‪،‬وأن يعدال به‪ ،‬ونفس االنسان تفعل‬

‫)التفسير الكبير ج‪ 22‬ص ‪.109‬‬ ‫‪1‬‬

‫)فاطر ‪.6 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)ينظر المستفاد من قصص القرآن ـ ج‪ 1‬ص ‪ ، 45‬وينظر اآليات المتعلقة‬ ‫‪3‬‬

‫بالصراع بين الشيطان واالنسان@ ـ نيكاز صالح الدين ـ ص ‪95‬ـ‪.96‬‬

‫‪354‬‬
‫الشر بأمر الشيطان ) (‪، )1‬ويقول رحمه هللا أيضا ‪(:‬فالشياطين لهم‬
‫غرض فيما نهى هللا عنه من الكفر‪ ،‬والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬ولهم لذة في‬
‫الشر والفتن يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم‪ ،‬وهم يأمرون‬
‫السارق أن يسرق ويذهبون الى أهل المال فيقولون فالن سرق متاعكم‪،‬‬
‫ولهذا يقال القوة الملكية‪ ،‬والبهيمية‪ ،‬والسبعية ‪ ،‬والشيطانية‪ @،‬فان الملكية@‬
‫فيها العلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح ‪،‬والبهيمية@ فيها الشهوات كاألكل‬
‫والشرب‪ ،‬والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي ‪،‬وأما الشيطانية@ فشر‬
‫محض ليس فيها جلب منفعة وال دفع مضرة ) (‪، )2‬وكشف حقيقة هذا‬
‫المخلوق‪ ،‬ومداخله يكون عن طريق@ تدبر آيات القرآن فمعظم االساليب‪،‬‬
‫والوسائل والمداخل التي يستخدمها الشيطان موجودة في آيات القرآن‬
‫المتفرقة‪،‬ولهذا أمرنا سبحانه وتعالى بتدبر القرآن قال تعالى {أَفَاَل‬
‫ب أَ ْقفَالُهَا}@(‪ ،)3‬ويمكن للمؤمن المستيقظ@ أن‬
‫آن أَ ْم َعلَى قُلُو ٍ‬ ‫ُون ْالقُرْ َ‬
‫يَتَ َدبَّر َ‬
‫يكشف خواطر الشيطان التي يقذفها الى االنسان ‪ ،‬وذلك برفع الغطاء‬
‫عن خواطر الشيطان‪ ،‬ويجب وزن هذه الخواطر بميزان االسالم بما‬
‫هو مقرر في القرآن الكريم والسنة@ النبوية@ المطهرة‪ ،‬فإذا وجدنا أن هذه‬
‫الخاطرة تدعو الى فعل الخير فهي من هللا تعالى‪ ،‬أما إذا وجدنا ان هذه‬
‫الخاطرة تدعو الى الشر والمعصية فهي من الشيطان ‪ ،‬فنفهم من‬
‫طبيعة هذا المخلوق انه‪ ،‬شر محض وال يأمر االّ بكل شر ‪،‬وان‬
‫مخططاته@ تتمثل@ في غواية بني آدم‪ ،‬وجرهم الى هذا الشر (‪ )4‬فهذا‬
‫المعلم يتمثل@ في الوقوف على خطورة هذا المخلوق‪ ،‬وطبيعته@ عن‬
‫طريق تدبر آياي القرآن‪.‬‬
‫‪6‬ـ كيد الشيطان ضعيف ومهزوم‪.‬‬
‫هذا معلم ال يقل أهمية عن المعالم السابقة يتمثل في استيقان‬
‫المؤمن أن كيد الشيطان مهما عظم فهو ضعيف‪،‬قال تعالى { فَقَاتِلُ ْ‬
‫وا‬
‫ض ِعيفاً}(‪، )5‬وان مكر الشيطان مهزوم‬ ‫ان َ‬ ‫أَ ْولِيَاء ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ان إِ َّن َك ْي َد ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ان َك َ‬
‫ألنه يمثل الباطل ‪،‬والباطل@ مهزوم في كل عصر وأوان‪ ،‬والمتدبر@ فيما‬
‫)مجموع الفتاوي ج‪ 14‬ص ‪.362‬‬ ‫‪1‬‬

‫)مجموع الفتاوي ج‪ 13‬ص ‪.83‬‬ ‫‪2‬‬

‫)محمد ‪.24:‬‬ ‫‪3‬‬

‫) ينظر المستفاد من قصص القرآن ـ ج‪ 1‬ص ‪90‬ـ ‪.92‬‬ ‫‪4‬‬

‫)النساء ‪.76 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪355‬‬
‫عزم عليه الشيطان لتدمير البشر يجد أن أسلحته وإن كانت تبدو فتاكة‪،‬‬
‫االّ انها أسلحة محاصرة‪ ،‬وال تصيب األ من دخل في مرماها أو حام‬
‫حولها‪ ،‬وإذا كان هللا قد أعطى إبليس سالحا ‪ ،‬فانه تعالى أعطى‬
‫للمؤمن السالح األقوى‪ ،‬وعلى سبيل المثال فان هللا تعالى أيد ابليس‬
‫على االنسان باإلنظار الى يوم الوقت المعلوم ‪ ،‬وأيد االنسان عليه‬
‫بالمالئكة الباقين ببقاء الدنيا‪ ،‬وايد إبليس@ بالتمكين بتزيين الباطل‪ ،‬وأيد‬
‫االنسان بأن هداه الى الحق ‪ ،‬وزين االيمان في قلبه‪ ،‬وفطره على‬
‫التوحيد ‪،‬وعرفه الفجور والتقوى‪ ،‬وجعل له نورا يمشي به في الناس‪،‬‬
‫إن آمن بربه الى غير ذلك من األيادي ‪،‬وبعث إليه@ الرسل واالنبياء‬
‫بهداية التشريع الذي يحمي هللا تعالى به عبده الصالح المجتنب عما‬
‫يسخطه ويكرهه ‪،‬عن مضار الدنيا ‪،‬ويجنبه عن مضالت الفتن‪ ،‬ويلطف‬
‫به الطافا ظاهرة أو خفية حتى يخرج من الدنيا سالما دينه ‪،‬راضيا عنه‬
‫ربه‪ .‬فبناءا على هذا فان معسكر الشيطان مهزوم مهزوم ‪،‬ولقد هزم في‬
‫كل عصر ‪،‬هزم يوم أن قتل ابن آدم األول أخيه بحجر‪ ،‬وسيهزم بعد ان‬
‫قتل األخ أخاه‪ ،‬بكل اسلحة الفتك التي تفتق@ عنها ذهن الشيطان ‪ .‬إن‬
‫هزيمة الباطل@ ـ كما أسلفنا ـ في كل عصر هي عنوان الحق األصيل‬
‫في الوجود ودعوة للسائرين في طريق@ االنحراف كي يصححوا‬
‫مسارهم‪ ،‬ويعلموا ان الباطل@ طارئ ال أصالة فيه‪ ،‬وانه مطارد من هللا‬
‫وال بقاء لشيء يطارده هللا ‪ ،‬والفقه الشيطاني هزمه هللا في كل عصر‬
‫من العصور‪ ،‬وكانت هزيمته عنوانا النتصار الحق ودعوة للسائرين‬
‫في الظالم‪ ،‬كي يخرجوا من خيام ضربت عليها الهزيمة في الحياة‬
‫الدنيا ‪،‬ولها في اآلخرة عذاب اليم‪ ،‬الى رحاب الكون الذي يتنفس@‬
‫بمخزون الفطرة‪ ،‬ويدور في اتجاه واحد نحو غاية واحدة(‪ ،)1‬إذن هذا‬
‫المعلم يعطينا الثقة بالنفس في مواجهة كيد الشيطان‪،‬وأوال وأخيرا فان‬
‫الشيطان يعتمد على نقاط الضعف لدى االنسان فيزين له الشر بطرق@‬
‫معينة@ تناسب ضعفه‪ ،‬ثم يطيعه المرء وهو ال يشعر بذلك ويمكن رد‬
‫هذا الكيد بما أسلفنا من معالم للمنهج القرآني‪ ،‬في التصدي لحرب‬
‫الشيطان عن طريق تقوية الصلة باهلل تعالى‪،‬ودوام الذكر على كل حال‪،‬‬
‫وكثرة تالوة القرآن‪ ،‬ومالزمة الصالحين‪ ،‬واستشعار الثقة@ بالقدرة عليه‪،‬‬

‫)ينظر االنحرافات@ الكبرى ـ سعيد أيوب ـ ص ‪24‬ـ‪ ، 25‬والمستفاد من‬ ‫‪1‬‬

‫قصص القرآن ـ ج‪ 1‬ص ‪70‬ـ ‪.71‬‬

‫‪356‬‬
‫وبضعف كيده فأنها أعظم األمور في مدافعة هذا العدو‪.‬‬

‫‪357‬‬

You might also like