Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 45

‫مذكزات‬

‫شمس بدران‬

‫‪2014‬‬
‫‪0‬‬
‫قمنا فً مدونة مذكرات كتاب قرأته ‪ http://ktoob1435.blogspot.com‬بإعداد هذا‬
‫الكتاب من خالل نسخ نصوصه من الحلقات التً نشرتها جرٌدة‬

‫الكوٌتٌة فً شهر ‪2014/2‬م‬

‫‪1‬‬
‫الحلقة األولى‬

‫تنشر “السٌاسة” فً حلقات متتالٌة مذكرات وزٌر الحربٌة المصري‬


‫األسبق شمس بدران‪ ,‬الذي كان ٌعتبر خزانة أسرار الرئٌس الراحل جمال‬
‫‪ٌ 23‬ولٌو عام ‪ ,1952‬وعاصر‬ ‫عبدالناصر واحد المشاركٌن فً ثورة‬
‫األحداث المهمة فً تلك المرحلة بدءا من العدوان الثالثً على مصر‪,‬‬
‫ومرورا باألعمال اإلرهابٌة التً ارتكبتها جماعة االخوان المسلمٌن فً‬
‫‪1967‬‬ ‫خمسٌنات وستٌنات القرن الماضً‪ ,‬وصوال الى حرب ٌونٌو‬
‫والهزٌمة التً منً بها العرب‪ ,‬وانتحار عبدالحكٌم عامر‪ ,‬وتسلم السادات‬
‫‪.‬‬ ‫سدة الحكم بعد وفاة عبدالناصر‬
‫لهذا كله فإن مذكرات بدران لٌست مذكرات شخص‪ ,‬انما هً رواٌة‬
‫لمرحلة من التارٌخٌن المصري والعربً حٌن تداخلت األحداث وارتبطت‬
‫تطورات الوضع المصري بالقضاٌا العربٌة‪ ,‬وهً كشؾ عما كان تستره‬
‫الضرورات‪ ,‬والٌوم بعد مرور كل تلك العقود ٌفتح شمس بدران خزانة‬
‫أسراره‪ ,‬وٌروي للمرة األولى بعد صمت طوٌل ما جرى خلؾ جدران‬
‫‪.‬‬ ‫القصور الرئاسٌة وفً مقرات مفاصل الدولة المصرٌة‬
‫شمس بدران ال ٌتحدث فقط فً الشؤن السٌاسً‪ ,‬انما ٌطل على الجوانب‬
‫االجتماعٌة والنفسٌة فً حٌاة كل شخص من الذٌن ٌروي عنهم‪ ,‬كما‬
‫ٌكشؾ عن نزوات بعضهم‪ ,‬لذلك فً هذه المذكرات صورة شبه متكاملة‬
‫‪.‬‬ ‫لمصر فً الفترة التً ٌتحدث عنها الرجل‬
‫نقرأ أٌضا قصة تعٌٌنه لساعات عدة رئٌسا للجمهورٌة كما ٌكشؾ عن‬

‫‪2‬‬
‫األسباب الحقٌقٌة لهزٌمة ٌونٌو ‪ 1967‬وتآمر الروس واألمٌركٌٌن على‬
‫بالده‪ ,‬ودور انور السادات فً تورٌط مصر بحرب الٌمن وعالقة‬
‫عبدالناصر بحمزة بسٌونً‪ ,‬باإلضافة الى العدٌد من األسرار عن أهل الفن‬
‫وعالقتهم بصناع القرار فً مصر فً تلك المرحلة‪ ,‬أٌضا ٌتحدث عن‬
‫عالقته بصدام حسٌن بعد خروجه الى المنفى حٌث ٌقٌم حتى الٌوم فً‬
‫برٌطانٌا‪ ,‬والالفت ان الرجل احتفظ باسراره لنفسه اذ ال ٌعرؾ حتى افراد‬
‫اسرته الكثٌر عن شخصٌته العسكرٌة ودوره فً مصر‪ ,‬ولذلك فً احدى‬
‫المرات كان قد حذر كاتب المذكرات من االستفاضة بالحدٌث مع زوجته‬
‫عن شخصٌته العسكرٌة‪ ,‬ولهذا فإن ما ٌروٌه شمس بدران هو فً جانب‬
‫منه سبر أؼوار هذه الشخصٌة التً حاولت لسنوات طوٌلة االحتفاظ‬
‫بؤسرارها الى االبد‪ ,‬لكن هناك من استطاع فتح هذه الخزانة ربما ألن‬
‫بدران أٌقن بعدما وصل الى هذه السن ان من حق المصرٌٌن علٌه معرفة‬
‫‪.‬‬ ‫ما خفً عنهم فً تلك المرحلة وٌستفٌدوا منه فً المرحلة الحالٌة‬
‫وفً ما ٌؤتً ما قاله وزٌر الحربٌة المصري األسبق‪:‬‬

‫ال أحد ٌستطٌع إنكار ما كان ٌتمتع به عبدالناصر من صفات القٌادة‬


‫والزعامة‪ ,‬وال أحد ٌستطٌع التقلٌل من دوره فً التخطٌط والترتٌب لثورة‬
‫‪ٌ 23‬ولٌو‪ ,‬وال ٌمكن لمنصؾ أن ٌتجاهل إخالصه ووطنٌته‪ .‬لكن فً‬
‫الوقت نفسه ال بد أن ٌعلم الناس أنه إنسان ٌحب وٌكره‪ٌ ,‬نجح وٌفشل‪,‬‬
‫ٌصٌب وٌخٌب‪ ,‬له أخطاء كما أن له حسنات‪ ,‬فهو لٌس إلها أو نبٌا أو‬
‫‪.‬‬ ‫قدٌسا‪ ,‬كما حاول أن ٌصوره لنا البعض‬
‫كان عبدالناصر حرٌصًا على أن ٌترك انطباعًا ؼٌر تقلٌدي لدى اآلخرٌن‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫هذا االنطباع تجاوز فً أحٌان كثٌرة الواقع‪ ,‬وخالؾ الحقٌقة فً أمور‬
‫كثٌرة‪.‬‬
‫‪ 15‬عامًا‬ ‫بحكم قربً الشدٌد واحتكاكً المباشر به على مدى أكثر من‬
‫متواصلة‪ٌ ,‬مكننً القول أنه تعرض لتحوالت جذرٌة ؼٌرت من تكوٌنه‪,‬‬
‫‪.‬‬ ‫وأثرت سلبًٌا على قراراته وعالقاته وتوجهاته‬
‫لن أستطٌع تقدٌم تحلٌل نفسً وإنسانً للرجل بشكل واؾٍف ‪ ,‬لكنً فقط‬
‫سؤتناول محطات ومواقؾ محددة تكشؾ جوانب أخرى ال تعلمها ؼالبٌة‬
‫المصرٌٌن فً شخصٌة الرجل الذي أحبوه والتفوا حوله‪ ,‬ثم خذلهم‬
‫بقراراته االنفعالٌة‪ ,‬وتسرعه ؼٌر المحسوب‪ ,‬فكانت المحصلة صفرً ا‪,‬‬
‫فؤصبحوا مثل المراهن فً سباق الخٌل الذي اختار فرسًا توسم فٌه الفوز‪,‬‬
‫وظل طوال المباراة ٌترقب واستمتاع باللعب متوقعًا ً‬
‫فوزا لم ٌؤت حتى آخر‬
‫‪.‬‬ ‫لحظة فً المباراة‬
‫ٌجب أال ٌنسى من ٌندهش لرأًٌ فً عبدالناصر أنه كان رئٌس الخلٌة‬
‫السرٌة التً كنت أتبعها قبل الثورة‪ ,‬وأنه هو الذي تحمس ألن أشارك بدور‬
‫بارز فً لٌلة الثورة‪ ,‬وقدمنً إلى المشٌر عامر وأوصاه أن ٌهتم بً‪ ,‬ثم‬
‫ظل ٌسند إلً المهمات الجسام‪ ,‬والتً كانت آخرها وزارة الحربٌة‪ ,‬ثم‬
‫‪.‬‬ ‫رئاسة الجمهورٌة‬
‫فهذه اآلراء لن تخرج عن كونها تقٌٌم للشخص والتجربة بشًء من‬
‫التجرٌد والحٌادٌة‪ ,‬لنعطً كل ذي حق حقه‪ ,‬ألننً وؼٌري تعرضنا لظلم‬
‫شدٌد نستحق جزءًا منه وال نستحقه كامالً‪ ,‬فً المقابل هناك َمن تحولت‬
‫سٌئاتهم إلى حسنات‪ ,‬وهزائمهم إلى نصر‪ ,‬وفشلهم إلى نجاح!‬

‫الحٌاة الخاصة للرئٌس‬


‫‪4‬‬
‫ُ‬
‫سجلت جزءًا من آرائً إلحدى المإسسات الصحافٌة القومٌة‪ ,‬تطرق‬ ‫عندما‬
‫فرٌق العمل إلى الحٌاة الخاصة ل¯عبدالناصر‪ ,‬وانا تحفظت على البوح‬
‫بما ال ٌجوز الحدٌث عنه للرأي العام‪ .‬لكنً توقفت أمام زوبعة فً‬
‫الصحافة المصرٌة تحدثت عن أننً فضحت الحٌاة الجنسٌة للراحل‬
‫عبدالناصر‪ ,‬بٌنما القصة الحقٌقٌة أننً لم أتطرق الى تفاصٌل مسٌئة‪ ,‬فكل‬
‫‪)1967-1957‬‬ ‫ما ذكرته كان ٌتعلق بعالقة رئٌس جهاز المخابرات (‬
‫‪.‬‬ ‫صالح نصر بالرئٌس عبدالناصر‬
‫فقد الحظ نصر أن زٌادة نسبة السكر التً كانت تشكل أزمة صحٌة دائمة‬
‫لعبدالناصر خالل سنواته األخٌرة كانت لها تؤثٌر مباشر على حٌاته‬
‫الجنسٌة مثل أي مرٌض سكري‪ ,‬فكان دور صالح نصر تزوٌد الرئٌس‬
‫بمشاهد جنسٌة مثٌرة سبق أن سجلها الجهاز للفنانة سعاد حسنً‪ ,‬وؼٌرها‬
‫من الفنانات الشهٌرات فً ذلك الوقت‪ .‬وٌبدو أن تلك المشاهد كانت تساعد‬
‫‪.‬‬ ‫عبدالناصر فً التؽلب على تؤثٌرات مرض السكري‬
‫ُ‬
‫كنت أعلق على سإال عن‬ ‫لم أقصد اإلساءة إلى شخصه وال إلى ؼٌره‪ ,‬بل‬
‫?‬ ‫مدى استقامة الرئٌس‪ ,‬وهل كانت له عالقات جنسٌة ؼٌر شرعٌة‬
‫بالطبع الذٌن ثاروا على هذا التعلٌق واعتبروننً أتناول حٌاة عبدالناصر‬
‫الجنسٌة أقول لهم‪ :‬لماذا لم تؽضبوا ممن تناولوا حٌاة المشٌر عامر الخاصة‬
‫بسبب زواجه من الفنانة برلنتً عبد الحمٌد (توفٌت عام ‪ ,)2010‬رؼم أنها‬
‫كانت زوجته على سنة هللا ورسوله‪ ,‬بل وأنجب منها طفالً‪ .‬كما أذكرهم‬
‫باختالق القصص الوهمٌة عن عالقة المشٌر بالمطربة وردة‬
‫الجزائرٌة(توفٌت فً ماٌو ‪ ,)2012‬وؼٌرها من الحكاٌات التً ال تمت‬
‫‪.‬‬ ‫الى الواقع بصلة‬

‫‪5‬‬
‫لكن على كل حال كان عبدالناصر أكثر الناس التزامًا من الناحٌة‬
‫األخالقٌة‪ ,‬فلم ٌكن لدٌه الوقت ولم تتح له ظروفه أن ٌنجرؾ إلى مثل هذه‬
‫االمور‪ .‬و رؼم ذلك فإن كل ما قٌل عن إعجاب السادات بالمذٌعة همت‬
‫مصطفى‪ ,‬فإن الحقٌقة هً أن المعجب األول بها كان عبدالناصر‪ ,‬فقد‬
‫طلبها باالسم لتؽطٌة زٌارة مهمة للجزائر‪ ,‬وأذكر أنها كانت ال تزال‬
‫صؽٌرة السن‪ ,‬وفً المستوى العادي إعالمٌا‪ ,‬مما دفع الصحافً موسى‬
‫صبري الى كتابة مقالة نشرت فً صحٌفة”األخبار” انتقد فٌها من اختارها‬
‫لتؽطٌة حدث بهذا المستوى‪ ,‬فصدر قرار فوري بوقفه عن العمل‪.‬‬

‫بذخ عبدالناصر‬

‫ً‬
‫بعٌدا عن الحٌاة الجنسٌة والعاطفٌة‪ ,‬فإن الدعاٌة اإلعالمٌة الجبارة نجحت‬
‫فً تصوٌر عبدالناصر أنه ٌعٌش فً حالة تقشؾ وضنك‪ ,‬وأن طعامه لٌس‬
‫سوى كسرة خبز وقطعة من “الجبن القرٌش”‪ ,‬كما أن أبناءه عاشوا حٌاة‬
‫صعبة‪ ,‬لم ٌستمتعوا فٌها مثل ؼٌرهم من أطفال مصر‪ .‬لكن الحقٌقة أن‬
‫ً‬
‫مبالؽا فٌها بدرجة كبٌرة‪ ,‬فإن الرئٌس بالفعل‬ ‫مسؤلة “الجبن القرٌش” لٌس‬
‫كان اكثر أكله من الجبن‪ ,‬لكن لٌس القرٌش‪ ,‬بل الجبن السوٌسري‪ ,‬وهو‬
‫من أفخم وأؼلى األنواع‪ ,‬كما كان ٌوجد فً المنزل‪ -‬سواء فً كوبري القبة‬
‫‪.‬‬ ‫أو االسكندرٌة‪ -‬مخزن ٌضم أفضل المؤكوالت والمعلبات المستوردة‬
‫أما بالنسبة الى اوالده‪ ,‬فٌمكن الرجوع إلى المهمات المتكررة التً كان‬
‫ٌكلؾ بها سامً شرؾ بالسفر إلى لبنان لشراء متطلبات أسرة الرئٌس من‬
‫المالبس حتى لعب األطفال‪( .‬شرؾ هو أحد مإسسً المخابرات العامة‬
‫المصرٌة‪ ,‬وسكرتٌر الرئٌس عبدالناصر الشخصً للمعلومات‪ ,‬قبل وفاة‬
‫عبدالناصر‪ ,‬عٌن وزٌرً ا للدولة ثم وزٌرً ا لشإون رئاسة الجمهورٌة‪ ,‬وذلك‬
‫‪6‬‬
‫‪).1970‬‬ ‫فً شهر أبرٌل عام‬
‫وقد ٌكون أمرا طبٌعٌا‪ ,‬ومن حق عبدالناصر وأسرته أن ٌعٌشوا فً وضع‬
‫ٌلٌق بهم‪ ,‬لكن األمر المدهش أن آلة اإلعالم المزٌؾ خاضت فً رسم‬
‫صورة منافٌة للواقع والحقٌقة عن حٌاة الرجل وأسرته‪ .‬لكن من أهم ما‬
‫ٌحسب لعبدالناصر أنه كان ٌكبح جماح أي مسإول فً الدولة‪ ,‬وكان‬
‫حرٌصًا على المال العام‪ ,‬وال ٌتهاون مع الفاسدٌن‪ ,‬ولم تمتد ٌده إلى أموال‬
‫الدولة‪ ,‬بل كان ٌتقاضى راتبه المحدد‪ ,‬إلى جانب مخصصات الرئاسة‬
‫والمصارٌؾ السرٌة التً كان ٌساعد منها أي ضابط أو شخص ٌتعرض‬
‫لظروؾ استثنائٌة طارئة‪ .‬وظل ٌتعامل مع رفاقه والمحٌطٌن به بتواضع‬
‫شدٌد‪ ,‬حتى حادث االعتداء على حٌاته فً مٌدان المنشٌة فً اإلسكندرٌة‬
‫عام ‪ 1954,‬وبعد الحادث أصبح عبدالناصر شخصًا آخر‪.‬‬

‫تحوٌله أسطورة‬

‫والحقٌقة أن معظم المتعاملٌن معه لمسوا التحول المفاجئ فً سلوكه‪ ,‬لكن‬


‫هذا التحول ال ٌقارن بالتؽٌٌر الذي شهدته شخصٌته وحٌاته بعد عدوان‬
‫‪ 1956,‬والفضل هنا ٌعود إلى محمد حسنٌن هٌكل الذي بدأ ٌتحدث عن‬
‫عبدالناصر الزعٌم واألسطورة‪ ,‬ووضع كل قدراته فً استثمار النصر‬
‫السٌاسً الذي تحقق لٌصب فً تؤلٌه شخص واحد هو الرئٌس‪ .‬بعد ذلك بدأ‬
‫عبدالناصر ٌتعامل مع رفاقه فً مجلس قٌادة الثورة بطرٌقة ؼٌر الئقة‪ ,‬ثم‬
‫‪.‬‬ ‫بدأ محاوالت التخلص منهم الواحد تلو اآلخر‪ ,‬حتى انفرد بالسلطة‬
‫فً تلك األثناء ابتدع فكرة المجلس الرئاسً‪ ,‬وكان ٌسعى من خالله الى‬
‫تحقٌق هدفٌن‪ ,‬األول‪ :‬نٌل رضا الرفاق‪ ,‬والثانً‪ :‬سحب صالحٌات المشٌر‬

‫‪7‬‬
‫‪.‬‬ ‫المتعلقة بترقٌات قادة القوات المسلحة‬
‫هنا قدم المشٌر عبدالحكٌم عامر استقالته للمرة االولى‪ ,‬وحدث أول خالؾ‬
‫بٌن الصدٌقٌن‪ ,‬لكن عبدالناصر تدارك الموقؾ واسترضى المشٌر‪ ,‬وجرت‬
‫‪.‬‬ ‫مصالحة كانت الكفة فٌها لصالح عامر‬
‫ظل هٌكل ٌمارس أالعٌبه فً إقناع الرأي العام أن عبدالناصر لٌس شخصًا‬
‫عادٌا‪ ,‬بل هو أسطورة وزعامة تارٌخٌة‪ .‬من جانبً لم أختلؾ مع هٌكل‬
‫على زعامة عبدالناصر‪ ,‬فقد كان بحق الشخصٌة األبرز فً العالم العربً‪,‬‬
‫لكن الخالؾ كان على التمادي فً هذا التصور إلى درجة تحول فٌها‬
‫عبدالناصر من إنسان إلى نصؾ إله‪ .‬ولدرجة أن الرجل نفسه صدق ذلك‪,‬‬
‫فقد اعتاد فً سنوات ما قبل هزٌمة ‪ 1967‬أن ٌرفع ٌده لكل من ٌستقبله‬
‫‪.‬‬ ‫بطرٌقة تبدو فً الصور كؤن الضٌؾ ٌُ َقبِّل ٌده‬
‫ُ‬
‫ذهبت مع وفد رجال أعمال‬ ‫لم أكن أصدق ما ٌفعله الرئٌس إلى أن‬
‫أمٌركٌٌن كانوا ٌستعدون لالستثمار فً مشارٌع صناعٌة واستثمارٌة‬
‫ضخمة فً مصر‪ ,‬وعندما صافحهم كان ٌرفع ٌده وٌمدها بالقرب من وجه‬
‫ك ٍّل منهم‪ ,‬كؤنه ٌطلب تقبٌلها‪ .‬وأحد الضٌوؾ لفت نظري فتعمدت التركٌز‬
‫على تلك الحركة أثناء المؽادرة‪ ,‬ثم تكرر المشهد مع شخصٌات عربٌة‬
‫وأجنبٌة عدة‪ ,‬كان مثل هذا السلوك مستحدثا ودخٌال على شخصٌة‬
‫عبدالناصر التً نعرفها جمٌعًا‪ ,‬ولم أجد ما مبرره سوى دور هٌكل فً‬
‫!‬ ‫استكمال صناعة األسطورة‬
‫لو أضفنا رد الفعل الشعبً على قرار تؤمٌم قناة السوٌس إلى نتائج عدوان‬
‫‪ 1956,‬ثم الموقؾ األمٌركً الؽبً من تجمٌد قرض بناء السد العالً‪ ,‬نجد‬
‫أنفسنا أمام مجموعة أحداث جمعتها الصدفة لتصب مباشرة فً دفع‬

‫‪8‬‬
‫‪.‬‬ ‫عبدالناصر للتحول زعٌما إقلٌمٌا‬
‫فً عام ‪ 1956‬منح عبدالناصر قالدة النٌل لؽالبٌة رفاقه فً الثورة‪ ,‬وبعد‬
‫إعالن نتٌجة االستفتاء على الرئٌس والدستور‪ ,‬تقدم أعضاء مجلس قٌادة‬
‫‪.‬‬ ‫الثورة باستقاالتهم‬
‫فً ذلك الوقت كانت هناك بعض المواقؾ‪ ,‬منها أن جمٌع المحٌطٌن‬
‫بالرئٌس لم ٌعد ٌنادونه باأللقاب التً اعتادوا أن ٌطلقوها علٌه‪ ,‬اذ كانوا‬
‫ٌنادونه باسمه مجر ًدا‪ ,‬أو أخ جمال‪ ,‬وأحٌا ًنا “ٌا جٌمً”‪ ,‬لكن فجؤة أطلق‬
‫علٌه السادات لقب “رٌس” ثم بدأ ٌطلب من الجمٌع أن ٌتوقفوا عن مناداة‬
‫‪”.‬‬ ‫الرئٌس بؤي لقب ؼٌر “رٌس‬
‫لكن حدث موقؾ الفت وفارق أٌضًا‪ ,‬فقد فوجئنا أثناء افتتاح البرلمان أنه‬
‫ٌصدر تعلٌماته بالدخول بمفرده من بوابة المجلس‪ ,‬وهنا وضع بداٌة جدٌدة‬
‫لعالقاته مع رفاقه فً مجلس قٌادة الثورة الذٌن انزووا جمٌعًا‪ ,‬وحملوا‬
‫عبدالناصر المسإولٌة بعد أن شعروا أن دورهم انتهى‪ ,‬ولم ٌعد مرؼوبًا‬
‫بوجودهم على الساحة السٌاسٌة‪ .‬لقد كان الشك أبرز صفات عبدالناصر‪,‬‬
‫ً‬
‫جهازا خاصا لٌتمكن من‬ ‫لذلك كان حرٌصًا‪ -‬رؼم انشؽاله‪ -‬أن ٌقتنً‬
‫‪.‬‬ ‫التنصت بنفسه على هواتؾ أقرب الناس إلٌه‬
‫شك بالجمٌع‪ ,‬بما فٌهم المشٌر عامر وأنا وهٌكل أٌضًا‪ ,‬وحتى أعضاء‬
‫مكتبه وبعض أفراد أسرته‪ ,‬فقد كانت هناك أجهزة تتولى هذا الدور‪,‬‬
‫وترسل إلٌه محتوى المكالمات فورا وبانتظام‪ ,‬فضالً عن وجود طاقم فً‬
‫مكتبه ٌإدي المهمة نفسها‪ ,‬إال أنه لم ٌطمئن لكل هإالء‪ ,‬ومارس هذه‬
‫الهواٌة بنفسه وبشكل دائم‪ ,‬مما ٌثبت أنه كان ٌعانً من الشك فً كل َمن‬
‫حوله‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫كان المشٌر عكس عبدالناصر تمامًا فً مثل هذه األمور‪ ,‬هذا ال ٌعنً أنه‬
‫لم ٌكن ٌتخذ االحتٌاطات الالزمة فً أوقات الضرورة‪ ,‬لكن كانت صفة‬
‫الشك ؼٌر موجودة لدٌه‪ ,‬وكان ٌفترض حسن الظن فً اآلخرٌن حتى ٌثبت‬
‫العكس‪ ,‬أما عبدالناصر فكانت لدٌه المسؤلة معكوسة; حٌث ٌفترض سوء‬
‫الظن فً اآلخرٌن حتى ٌثبت العكس‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الحلقة الثانية‬

‫اكتشفت فً عبدالناصر الجبن والخوؾ بعد الهزٌمة وكان ٌخشى انتقام‬


‫المشٌر السادات كان على عالقة بٌمنٌة ولذلك اقترح على ناصر إرسال‬
‫فرقة عسكرٌة إلى الٌمن آلة الدعاٌة “الهٌكلٌة” صورت وجود قواتنا فً‬
‫الٌمن كؤنه ٌصب فً صمٌم القومٌة العربٌة تنشر “السٌاسة” فً حلقات‬
‫متتالٌة مذكرات وزٌر الحربٌة المصري األسبق شمس بدران‪ ,‬الذي كان‬
‫ٌعتبر خزانة أسرار الرئٌس الراحل جمال عبدالناصر واحد المشاركٌن فً‬
‫ثورة ‪ٌ 23‬ولٌو عام ‪ ,1952‬وعاصر األحداث المهمة فً تلك المرحلة‬
‫بدءا من العدوان الثالثً على مصر‪ ,‬ومرورا باألعمال اإلرهابٌة التً‬
‫ارتكبتها جماعة االخوان المسلمٌن فً خمسٌنات وستٌنات القرن الماضً‪,‬‬
‫وصوال الى حرب ٌونٌو ‪ 1967‬والهزٌمة التً منً بها العرب‪ ,‬وانتحار‬
‫عبدالحكٌم عامر‪ ,‬وتسلم السادات سدة الحكم بعد وفاة عبدالناصر‪ .‬لهذا كله‬
‫فإن مذكرات بدران لٌست مذكرات شخص‪ ,‬انما هً رواٌة لمرحلة من‬
‫التارٌخٌن المصري والعربً حٌن تداخلت األحداث وارتبطت تطورات‬
‫الوضع المصري بالقضاٌا العربٌة‪ ,‬وهً كشؾ عما كان تستره‬
‫الضرورات‪ ,‬والٌوم بعد مرور كل تلك العقود ٌفتح شمس بدران خزانة‬
‫أسراره‪ ,‬وٌروي للمرة األولى بعد صمت طوٌل ما جرى خلؾ جدران‬
‫القصور الرئاسٌة وفً مقرات مفاصل الدولة المصرٌة‪ .‬شمس بدران ال‬
‫ٌتحدث فقط فً الشؤن السٌاسً‪ ,‬انما ٌطل على الجوانب االجتماعٌة‬
‫والنفسٌة فً حٌاة كل شخص من الذٌن ٌروي عنهم‪ ,‬كما ٌكشؾ عن‬
‫نزوات بعضهم‪ ,‬لذلك فً هذه المذكرات صورة شبه متكاملة لمصر فً‬
‫الفترة التً ٌتحدث عنها الرجل‪ .‬نقرأ أٌضا قصة تعٌٌنه لساعات عدة رئٌسا‬

‫‪11‬‬
‫للجمهورٌة كما ٌكشؾ عن األسباب الحقٌقٌة لهزٌمة ٌونٌو ‪ 1967‬وتآمر‬
‫الروس واألمٌركٌٌن على بالده‪ ,‬ودور انور السادات فً تورٌط مصر‬
‫بحرب الٌمن وعالقة عبدالناصر بحمزة بسٌونً‪ ,‬باإلضافة الى العدٌد من‬
‫األسرار عن أهل الفن وعالقتهم بصناع القرار فً مصر فً تلك المرحلة‪,‬‬
‫أٌضا ٌتحدث عن عالقته بصدام حسٌن بعد خروجه الى المنفى حٌث ٌقٌم‬
‫حتى الٌوم فً برٌطانٌا‪ ,‬والالفت ان الرجل احتفظ باسراره لنفسه اذ ال‬
‫ٌعرؾ حتى افراد اسرته الكثٌر عن شخصٌته العسكرٌة ودوره فً مصر‪,‬‬
‫ولذلك فً احدى المرات كان قد حذر كاتب المذكرات من االستفاضة‬
‫بالحدٌث مع زوجته عن شخصٌته العسكرٌة‪ ,‬ولهذا فإن ما ٌروٌه شمس‬
‫بدران هو فً جانب منه سبر أؼوار هذه الشخصٌة التً حاولت لسنوات‬
‫طوٌلة االحتفاظ بؤسرارها الى االبد‪ ,‬لكن هناك من استطاع فتح هذه‬
‫الخزانة ربما ألن بدران أٌقن بعدما وصل الى هذه السن ان من حق‬
‫المصرٌٌن علٌه معرفة ما خفً عنهم فً تلك المرحلة وٌستفٌدوا منه فً‬
‫المرحلة الحالٌة‪ .‬وفً ما ٌؤتً ما قاله وزٌر الحربٌة المصري األسبق ‪ :‬بعد‬
‫الهزٌمة تعمق لدي اإلحساس بضرورة االبتعاد‪ ,‬واالكتفاء بما ادٌته من‬
‫مهمات ألكثر من ‪ 15‬عامًا متواصلة من الضؽوط والمفاجآت‪ .‬لم أكن‬
‫ً‬
‫سعٌدا بفكرة اختٌاري رئٌسًا لمصر فً تلك الظروؾ وبتلك الطرٌقة‪ ,‬لكن‬
‫ُ‬
‫اكتشفت أن عبد الناصر كان ٌرؼب فً استمالتً بؤي وسٌلة‪ ,‬ألنه‬ ‫بعد ذلك‬
‫ُ‬
‫شئت ذلك وبمنتهى‬ ‫كان ٌدرك أننً قادر على اإلطاحة به فورً ا إذا‬
‫السهولة‪ .‬فعالً ربما ٌكون أكبر خطؤ وقعت فٌه‪ ,‬وأعترؾ اآلن به‪ ,‬وهو‬
‫اننً كان علً ٌوم ‪ٌ 6‬ونٌو ‪ 1967‬إلقاء القبض على عبد الناصر‪ ,‬وتقدٌمه‬
‫للمحاكمة على جرٌمة تورٌطه مصر وجٌشها فً حرب عبثٌة كان بإمكاننا‬

‫‪12‬‬
‫تجنبها‪ ,‬لو كانت لدٌنا قٌادة سٌاسٌة أكثر حكمة من عبد الناصر‪ .‬طبعًا هذا‬
‫الكالم سوؾ ٌصدم كل دراوٌش الناصرٌة‪ ,‬وكل الذٌن تؤثروا بالدعاٌة‬
‫السوداء فً إعالم عبد الناصر‪ ,‬الذي أسند مهمته إلى الصحافً الشهٌر‬
‫محمد حسنٌن هٌكل أكبر كاذب عرفته مصر فً القرن العشرٌن‪ .‬لكن لكل‬
‫هإالء وؼٌرهم ممن صدقوا تلك األكاذٌب أقول‪:‬إن التارٌخ والوثائق‬
‫والسجالت الرسمٌة تحتوي على أدلة براءة المشٌر والجٌش من تلك‬
‫الكارثة‪ ,‬وتشٌر أصابع االتهام إلى القٌادة السٌاسٌة التً كانت مهمة عبد‬
‫الناصر وحده وبال منازع‪ .‬أي مإرخ منصؾ عندما ٌطلع على السجالت‬
‫واللقاءات التً َدوَّ نت مواقؾ عبد الناصر من بداٌة ٌونٌو ‪ٌ 1967‬جد أنه‬
‫كان خاضعًا لتؤثٌر أالعٌب السوفٌات المرٌبة بطرٌقة ؼٌر طبٌعٌة‪ ,‬فمثالً‬
‫رؼم تبٌن كذبهم فً مسؤلة الحشود اإلسرائٌلٌة على الحدود السورٌة‪,‬‬
‫ومماطلتهم فً تزوٌدنا قطع ؼٌار الطائرات الضرورٌة‪ ,‬وعدم وضوح‬
‫موقفهم السٌاسً فً حال تعرض مصر لعدوان مفاجئ‪ ,‬وتحفظ قادة‬
‫الجٌش والطٌارٌن على طرح عبد الناصر الخاص بتحمل تبعات الضربة‬
‫اإلسرائٌلٌة األولى‪ ,‬كل هذا وؼٌره فوجئنا به ٌصدق تسرٌباتهم حول‬
‫تخطٌط إسرائٌل لتوجٌه ضربة عسكرٌة لمصر ٌوم ‪ 4‬أو ‪ٌ 5‬ونٌو‪ ,‬ثم ٌؽلق‬
‫المالحة فً خلٌج العقبة‪ ,‬وطرد القوات الدولٌة‪ ,‬ونشر قوات مصرٌة فً‬
‫شرم الشٌخ‪ ,‬وهو ما سبق وحذر منه الفرٌق عبد المحسن كامل مرتجى‬
‫(‪ ,)2013 – 1916‬قائد الجٌش المصري فً حرب الٌمن ‪ 1964 ,‬وقائد‬
‫جبهة سٌناء فً نكسة ‪ 1967‬اذ قال‪ ”:‬إن ذلك سٌجر مصر إلى حرب مع‬
‫إسرائٌل‪ ,‬والجمٌع وعلى رأسهم عبد الناصر ٌعلم أننا لم نكن على استعداد‬
‫لدخول المعركة فً هذا الوقت”‪ .‬بماذا نسمً كل هذا التهور السٌاسً؟ أنا‬

‫‪13‬‬
‫شخصٌا رؼم أننً كنت وزٌرً ا للحربٌة نفذت التعلٌمات التً أقرها عبد‬
‫الناصر والمشٌر‪ ,‬ألننً كنت أتصور أن من خالل عالقاته الدولٌة –‬
‫خصوصا الروس – لدٌه معلومات وٌرى الصورة بشكل أوضح‪ ,‬وفً‬
‫النهاٌة علٌه أن ٌتحمل المسإولٌة أمام الشعب والعالم‪ .‬فً ٌونٌو عام‬
‫‪ 1967‬خٌب عبد الناصر ظنً وظن ؼالبٌة قادة المٌدان فً قدرته الفائقة‬
‫على تقدٌر الموقفٌن العسكري والسٌاسً‪ ,‬وؼامر بفتح نار جهنم على‬
‫مصر وجٌشها‪ ,‬وتوهم‪ ,‬أو أوهمه الروس وربما ؼٌرهم‪ ,‬بؤوهام دفعت‬
‫ً‬
‫باهظا لها‪ ,‬أما المشٌر عبدالحكٌم عامر فقد ٌتحمل أمام التارٌخ‬ ‫مصر ثم ًنا‬
‫موافقته عبد الناصر والسٌر وراء خٌاله بتنظٌم تظاهرة عسكرٌة‪ ,‬وقبول‬
‫فكرة “تهوٌش” إسرائٌل فً ذلك العام من دون مراجعة أو توقع للنتائج‬
‫الكارثٌة لتلك المؽامرة‪ .‬قربً من المشٌر كشؾ لً حقٌقة معدن هذا الرجل‬
‫الوطنً المخلص بحق لجٌشه ولبالده‪ ,‬فقد كان شدٌد اإلٌمان بوطنٌة‬
‫وإخالص عبد الناصر‪ ,‬وكان ٌرفض حتى آخر لحظة مجرد التشكٌك فً‬
‫امكانٌة ان ٌؽدر به أو ٌخونه أو ٌنقلب علٌه‪ ,‬وٌفضل اللعب على المكشوؾ‬
‫بدالً من الضرب تحت الحزام أو التجسس أو التنصت على أقرب الناس‬
‫إلٌه! وأقول لمن أسكرته دعاٌة هٌكل الكاذبة‪ :‬إن قادة وجنود القوات‬
‫المسلحة لٌسوا سذجً ا أو مؽررً ا بهم جمٌعًا لٌحظى المشٌر بحبهم ودعمهم‬
‫والوالء له‪ ,‬فً ذروة زعامة عبد الناصر محلٌا ودولٌا‪ ,‬فقد كانت إنسانٌته‬
‫وشهامته ووطنٌته هً التً دفعت جمٌع قادة القوات المسلحة بجنودها‬
‫وضباطها الى ان ٌدٌنوا بالوالء واالنتماء إلى قائدهم‪ .‬الذي ال تعرفه ؼالبٌة‬
‫المصرٌٌن حتى الٌوم أن المشٌر عامر هو من بنى جٌش مصر الحدٌث‬
‫بصورته القائمة حالًٌا‪ ,‬فقد كنا من قبل نتندر على الجٌش ونحن جزء منه‬

‫‪14‬‬
‫بؤنه جٌش “المحمل” ٌعنً ٌنتظره المصرٌون سنوٌا فً موسم الحج وهو‬
‫ٌستعرض كسوة الكعبة التً كانت تتبرع بها مصر كل عام‪ ,‬كما كان‬
‫ضباطه وجنوده ٌستعرضون حرس الشرؾ أمام الملك فً المناسبات‬
‫الرسمٌة‪ ,‬وأبسط دلٌل على ذلك تلك الهزٌمة التً وقعت للجٌش المصري‬
‫على أٌدي العصابات الٌهودٌة عام ‪ 1948 ,‬وكانت سببًا أساسٌا فً ثورة‬
‫‪ٌ 23‬ولٌو ‪ 1952.‬ففً عهد قٌادة المشٌر للجٌش‪ ,‬نعم كانت هناك أخطاء‬
‫وإخفاقات‪ ,‬بل وتجاوزات أٌضا‪ ,‬إال أن االنصاؾ ٌفرض علًَّ االعتراؾ‬
‫بفضله وكفاءته وشفافٌته فً إرسال البعثات وبمئات من الضباط‬
‫المصرٌٌن إلى روسٌا وإنكلترا‪ ,‬الذٌن أسهموا بخبراتهم وعلمهم فً إعادة‬
‫بناء جٌش مصر الوطنً‪ٌ .‬كفً أن أتخٌل معكم لو كان المشٌر فً موقع‬
‫عبد الناصر‪ ,‬أُجزم أنه‪ ,‬ووف ًقا لمعرفتً به لن ٌوافق ً‬
‫أبدا على حصار بٌته‬
‫وال اعتقاله وال تسلٌمه لشخصٌات كانت تكن له كل الحقد والكراهٌة‪ ,‬كما‬
‫لم ٌكن ٌسمح مهما كانت الضؽوط بإعدامه والتخلص منه بهذه الطرٌقة‪,‬‬
‫بعد حملة ضارٌة لتشوٌهه وتحمٌله أخطاء وخطاٌا كل األطراؾ! مستنقع‬
‫الٌمن ال أحد ٌنكر أننا كنا فً ؼنى عن تورٌط الجٌش المصري فً مستنقع‬
‫الٌمن‪ ,‬وكان باإلمكان تحقٌق مصالح مصر الستراتٌجٌة وتقدٌم الدعم‬
‫الالزم ألشقائنا فً الٌمن‪ ,‬لكن من هو صاحب فكرة إرسال الجٌش‬
‫المصري الى الٌمن؟ وكٌؾ حدث هذا؟ ومن ٌتحمل مسإولٌة تلك الكارثة؟‬
‫عبد الناصر أم المشٌر؟ ظل هذا السإال ٌراودنً كثٌرً ا‪ ,‬رؼم مشاركتً فً‬
‫بعض مراحل حرب الٌمن‪ ,‬ورافقت المشٌر فً سفرٌاته إلى هناك مرات‬
‫عدة‪ ,‬وطرحت السإال على المشٌر فلم أجد لدٌه اإلجابة الشافٌة‪ ,‬إما عن‬
‫قصد أو عن تعمد للتهرب من تقدٌم اإلجابة الحقٌقٌة على السإال‪ .‬لكن عند‬

‫‪15‬‬
‫عبد الناصر وجدت ضالتً‪ .‬ففً وسط تفاقم أزمة جنودنا‪ ,‬وتصاعد التكلفة‬
‫البشرٌة والمالٌة على أرض الٌمن‪ ,‬جمعنً لقاء مع عبد الناصر‪ ,‬وفجؤة‬
‫وجدته ٌبلؽنً أن السادات كان سبب تورٌطنا فً الٌمن‪ .‬كانت المرة األولى‬
‫التً أعلم فٌها بعالقة السادات بموضوع الٌمن‪ ,‬فهو كان على عالقة‬
‫بزوجة شخصٌة سٌاسٌة ٌمنٌة مرموقة‪ ,‬ووف ًقا لهذه العالقة جاءت فكرة‬
‫إرسال فرقة عسكرٌة مصرٌة لمساندة الثوار الٌمنٌٌن‪ ,‬الذٌن تؤثروا بالثورة‬
‫المصرٌة وأرادوا أن ٌكرروا نموذج ٌولٌو ‪ 52‬فً بالدهم‪ .‬وقال لً عبد‬
‫الناصر أن السادات ظل ٌلح علٌه إلظهار أهمٌة وجودنا إلى جانب األشقاء‬
‫فً الٌمن‪ ,‬وأن حضورنا هناك من شؤنه تؤمٌن باب المندب الذي ٌعد‬
‫عنصرً ا حٌوٌا لتؤمٌن المالحة فً قناة السوٌس‪ ,‬وؼٌرها من األسباب‪.‬‬
‫واقتنع عبد الناصر بفكرة السادات‪ -‬كما قال‪ -‬وطلب من المشٌر زٌارة‬
‫الٌمن ودراسة الموقؾ استعدا ًدا إلرسال قوات رمزٌة الى هناك‪ .‬وعبر آلة‬
‫الدعاٌة الهٌكلٌة ( نسبة الى الصحافً محمد حسنٌن هٌكل الذي كان مقربا‬
‫جدا من عبد الناصر)‪ ,‬جرى تصوٌر الموقؾ على أن وجود قواتنا فً‬
‫الٌمن ٌصب فً صمٌم القومٌة العربٌة‪ ,‬التً كانت درة التاج عند عبد‬
‫الناصر‪ .‬وهكذا ٌوما بعد ٌوم وكتٌبة تجر كتٌبة‪ ,‬أصبح ربع الجٌش‬
‫المصري المدرب مشتتا وسط جبال الٌمن الوعرة‪ ,‬والسبب عالقة حمٌمٌة‬
‫كان تربط بٌن السادات وتلك السٌدة‪ .‬وهذا كما قال الرئٌس عبد الناصر‬
‫الذي اكتشؾ بالصدفة عبر بحثه المخابراتً عن سر حماسة السادات‬
‫المبالػ فٌها إلرسال القوات المصرٌة الى الٌمن! كان طبٌعٌا أن ٌخطئ‬
‫انور السادات وٌتالعب بمصٌر مصر ومستقبل جٌشها‪ ,‬وٌتحمس عبد‬
‫الناصر‪ ,‬وفً المقابل ٌتحمل المشٌر أمام الرأي العام مسإولٌة تورط‬

‫‪16‬‬
‫الجٌش فً الٌمن! لم ٌكن لٌحدث هذا إال فً وجود آلة هٌكل اإلعالمٌة‬
‫المضللة‪ ,‬التً اعتادت قلب الحقائق وتزٌٌؾ التارٌخ‪ .‬تلك الرواٌة عن دور‬
‫السادات فً حرب الٌمن سوؾ تصدم الناصرٌٌن والساداتٌٌن‪ ,‬كالهما ربما‬
‫ٌتهمنً بؤفظع االتهامات‪ ,‬وٌشكك فً مصداقٌة تلك الحقٌقة‪ ,‬لكن بعض‬
‫السٌاسٌٌن الٌمنٌٌن ٌعرفون ذلك‪ ,‬وهناك مقربون من عبد الناصر رووا‬
‫القصة نفسها لً أٌضًا‪ .‬لكن لألمانة كان عبد الناصر ٌعترؾ بهذه الورطة‬
‫وهو متؤلم‪ ,‬وٌعترٌه الخجل‪ ,‬ألنه ٌشعر فً النهاٌة أنه المسإول حتى لو‬
‫كان السادات زٌن له أهمٌة إرسال القوات المصرٌة إلى هناك‪ .‬أذكر أن‬
‫الرئٌس عبد الناصر عندما اعترؾ لً بعالقة السادات بتورٌط مصر فً‬
‫أوحال الٌمن رواها بشًء من المرارة واألسى المخلوط بالسخرٌة‪ ,‬اذ‬
‫قال‪”:‬إن السادات استمتع بامرأة ٌمنٌة‪ ,‬فكلؾ الخزانة مالٌٌن الدوالرات‪,‬‬
‫وفقدنا آالؾ الشهداء فً جبال الٌمن”‪ ,‬ثم تحدث بطرٌقة شعبٌة ال تخلو من‬
‫الوضوح عن تلك العالقة‪ ,‬بما ٌوحً بمدى ثقته فً المعلومات التً ٌستند‬
‫إلٌها فً اتهام السادات! طبعًا‪ ,‬التدخل فً الٌمن وإرسال قواتنا إلى هناك‬
‫كان بالفعل فكرة السادات‪ ,‬لكن سرعان ما القت قبوالً وترحٌبًا من عبد‬
‫الناصر ألسباب عدٌدة‪ ,‬منها‪ :‬رؼبته فً التؽطٌة على فض الوحدة مع‬
‫سورٌة بالطرٌقة التً كبدت مصر خسائر مادٌة ومعنوٌة وسٌاسٌة فادحة‪,‬‬
‫فضالً عن اعتقاده أن الحضور المصري فً الٌمن ربما ٌسهم فً كسر‬
‫حالة الحصار االقتصادي التً كان ٌواجهها نظامه‪ ,‬كما أنه كان ال ٌزال‬
‫مإم ًنا بدور مصر فً مساعدة حركة التحرر العربٌة‪ ,‬وأن الوجود‬
‫المصري فً الٌمن ٌسهم فً دعم فكرة القومٌة العربٌة‪ ,‬وتعمٌق زعامته‬
‫لدى العرب‪ ,‬وهذا األمر كان فً ؼاٌة األهمٌة بالنسبة الٌه‪ .‬ال عبد الناصر‬

‫‪17‬‬
‫وال عبد الحكٌم عامر كانا ٌدركان أن األمر فً الٌمن لن ٌقتصر على‬
‫إرسال سرٌة رمزٌة من الصاعقة قوامها ‪ 200‬جندي‪ ,‬لم ٌتخٌل أحد أنه‬
‫سٌؤتً وقت ٌكون لنا نحو ‪ 60‬ألؾ جندي هناك‪ ,‬ألن جنودنا لم ٌخوضوا‬
‫حربًا نظامٌة كما تدربوا‪ ,‬األمر فً الٌمن كان أقرب إلى حرب العصابات‪,‬‬
‫وهو ما ضاعؾ من مصاعب مهمتنا‪ ,‬وتسبب فً رفع عدد خسائرنا من‬
‫األفراد والمعدات بطرٌقة لم تكن فً الحسبان‪ .‬أذكر أن عبد الناصر قرر‬
‫تقٌٌم الموقؾ فً الٌمن‪ ,‬وطلب االجتماع مع بعض القادة العائدٌن من‬
‫هناك‪ ,‬وكان االجتماع فً قصر المنتزه فً اإلسكندرٌة‪ ,‬وكانت هناك نٌة‬
‫لتطوٌر العملٌات ومهاجمة منطقة “جٌزان” المتنازع علٌها‪ ,‬وقتذاك‪ ,‬بٌن‬
‫السعودٌة والٌمن‪ ,‬خصوصا أن المعلومات االستخباراتٌة كشفت عن أن‬
‫االمام البدر هرب إلٌها واستقر فٌها‪ ,‬وهناك احتضنته السعودٌة‪ ,‬وقدم‬
‫الملك فٌصل له الدعم‪ ,‬وزود قواته بالسالح‪ ,‬وشرع فً استمالة القبائل‬
‫الٌمنٌة ضد الوجود المصري‪ .‬فٌما كانت هناك أصوات تنادي بالخروج‬
‫بؤقل خسائر من الٌمن وفً أسرع وقت‪ ,‬لكن هنا دخل عبد الناصر فً‬
‫عناد مع السعودٌٌن بعد إعالن دعمهم لحكم اإلمام البدر الذي كان ٌتعمد‬
‫هو ووالده أن ٌبقى الٌمن خارج التارٌخ‪ ,‬وبعد شرح بعض القادة للموقؾ‬
‫فً حال الدخول فً هذه المؽامرة أن القوات المصرٌة ربما تحتاج الى‬
‫ضعؾ اإلمكانٌات المتوفرة فً العدد والعتاد كً تنجح المهمة‪ .‬فً ذلك‬
‫االجتماع طلب أحد القادة الكلمة وحذر من خطر تورطنا فً هذه القضٌة‬
‫ألن األمٌرٌكٌٌن لن ٌتركوا مصر تقترب من حدود السعودٌة‪ ,‬واألرجح‬
‫أنهم سٌدخلون وبقوة على الخط إلنقاذها من التهدٌد المصري‪ ,‬فً حال‬
‫نجحت عملٌة استعادة جٌزان‪ .‬بعض الحاضرٌن المتحمسٌن للهجوم على‬

‫‪18‬‬
‫جٌزان قال‪:‬إن األمٌركٌٌن متورطون فً حرب فٌتنام‪ ,‬ولن ٌؽامروا‬
‫بمحاربة الجٌش المصري‪ ,‬لكن والحق ٌقال صمت عبد الناصر قلٌالً ثم‬
‫تراجع عن الفكرة‪ ,‬وفضل تسوٌة الخالؾ مع السعودٌة بطرٌقة مباشرة‬
‫عبر لقائه مع الملك فٌصل‪ .‬الٌمن كان مل ًفا شائ ًكا‪ ,‬وكان عبد الناصر ٌسعى‬
‫فً ذلك الوقت إلى تثبٌت زعامته العربٌة واإلقلٌمٌة‪ ,‬لكن لألسؾ على‬
‫حساب الجٌش والخزانة التً كانت تعانً أصالً من شح العملة الصعبة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبدأت فً إقناع عبد‬ ‫فً هذا الوقت تبنٌت فكرة االنفتاح على األمٌركٌٌن‪,‬‬
‫الناصر بفتح الباب أمام االستثمارات األمٌركٌة‪ ,‬وكان لً صدٌق مصري‬
‫على عالقة قوٌة بكبار أصحاب المصانع والشركات األمٌركٌة‪ ,‬فرتبت لهم‬
‫زٌارة إلى القاهرة‪ ,‬وبالفعل نجحت الزٌارة فً لفت أنظارهم الى عدد من‬
‫المشارٌع الضخمة فً مجال البتروكٌماوٌات‪ ,‬والسٌاحة‪ ,‬وصناعة‬
‫اإلسمنت وؼٌرها‪ ,‬وطلبت من عبدالناصر االجتماع بهم‪ .‬كنا على وشك‬
‫سحب اقدامهم لالستثمار فً مصر‪ ,‬ومن وجهة نظري كانت هذه الخطوة‬
‫مدخالً ً‬
‫جٌدا للتعاون السٌاسً‪ ,‬وتخفٌؾ التوتر بٌن البلدٌن‪ ,‬لكن هذه‬
‫الخطوة أزعجت الروس‪ ,‬فحركوا أتباعهم الذٌن زرعوهم فً عمق النظام‬
‫فؤجهضوا المحاولة‪ ,‬التً اعترؾ عبد الناصر نفسه بؤنها لو نجحت لكانت‬
‫أدت إلى تؽٌٌر شامل فً مجرٌات األحداث‪ ,‬وربما كانت تصبح مقدمة‬
‫لفتح قنوات اتصال وتعاون سٌاسً مع األمٌركٌٌن‪ ,‬ونؽلق بها الباب أمام‬
‫مزاٌا الجانب اإلسرائٌلً علٌنا بعالقته وتنسٌقه الكامل مع واشنطن ‪. - See‬‬

‫‪19‬‬
‫الحلقة الثانية‬

‫ُ‬
‫تلقٌت مكالمة هاتفٌة من‬ ‫فً صٌؾ عام ‪ 1965 ,‬فً منتصؾ شهر ٌولٌو‪,‬‬
‫الرئٌس جمال عبد الناصر‪ ,‬طلب خاللها لقائً على وجه السرعة ألمر‬
‫مهم‪ .‬وحٌن اجتمعت به فً مكتبه طلب منً رئاسة جهاز البحث الجنائً‬
‫العسكري الذي أنشؤه خصٌصًا للتحقٌق فً مإامرة اؼتٌاله التً خططت‬
‫ودبرت لها خلٌة سرٌة تابعة لجماعة اإلخوان المسلمٌن‪ ,‬إلى جانب تنظٌم‬
‫‪.‬‬ ‫مسلح آخر كان ؼاٌة فً التعقٌد أشرؾ علٌه الداعٌة الشهٌر سٌد قطب‬
‫الصدفة وحدها كشفت المخطط “اإلخوانً” الذي لو لم ٌحبط لكانت مصر‬
‫كلها مرشحة للسقوط فً دوامة العنؾ والفوضى‪ ,‬ال سٌما أن التنظٌم كان‬
‫قد نجح فً تجنٌد إسماعٌل الفٌومً وهو رقٌب بالحرس الجمهوري‪ ,‬وقد‬
‫درب على عملٌة االؼتٌال‪ ,‬ووافق بالفعل على مهمة قتل عبد الناصر‪ ,‬لكن‬
‫شجاعته خانته فً الفرص المحدودة التً سنحت له‪.‬‬

‫كٌؾ تم الكشؾ عن المخطط?‬

‫ً‬
‫بالؼا من‬ ‫فً ٌولٌو عام ‪ 1965‬تلقت التحرٌات العسكرٌة فً االسكندرٌة‬
‫سائق شاحنة ٌُدعى الشٌشٌنً‪ ,‬كان أحد المشاركٌن فً عملٌة اؼتٌال أمٌن‬
‫عثمان مع الرئٌس السادات والقٌادي “اإلخوانً” حسٌن توفٌق‪ ,‬الشٌشٌنً‬
‫قال فً بالؼه إن توفٌق قابله قبل أٌام وحضه على المشاركة فً اؼتٌال‬
‫عبدالناصر ألن نهجه السٌاسً هو الوحدة العربٌة كٌؾ ما كان وبؤي شكل‪,‬‬
‫ولقد بدأ بالوحدة مع سورٌة‪ ,‬ولكن الوحدة الحقٌقٌة بالنسبة الى مصر ال‬
‫تتحقق إال مع السودان ولٌبٌا‪ .‬و طلب توفٌق من الشٌشٌنً شراء قنابل‬
‫‪.‬‬ ‫ٌدوٌة وبعض األسلحة استعدا ًدا لتنفٌذ العملٌة‬

‫‪20‬‬
‫بعد عرض البالغ على عبدالناصر‪ ,‬استدعانً على الفور‪ ,‬ثم كلفنً‬
‫التحقٌق فٌه والتعامل مع المخطط‪ ,‬تعاملت مع األمر بمنتهى الجدٌة‪,‬‬
‫وبدأت فً تتبع البالغ الذي تبٌن صدقه‪ ,‬ووضعنا ٌدنا فً هدوء على‬
‫صنادٌق القنابل والسالح‪ ,‬الذي تبٌن أن مصدره مخازن القوات المصرٌة‬
‫فً الٌمن‪ ,‬ونجح بعض المجندٌن فً إعادته إلى مصر واٌصاله إلى أفراد‬
‫‪”.‬‬ ‫محسوبٌن على جماعة “اإلخوان‬
‫إذا لم تخنً الذاكرة‪ ,‬فإن تنظٌم حسٌن توفٌق كان مستقالً عن تنظٌم سٌد‬
‫قطب‪ ,‬لكن كلٌهما أدى إلى الكشؾ عن اآلخر‪ ,‬واعتمدنا على كوادر‬
‫المباحث الجنائٌة العسكرٌة‪ ,‬والتً كان أبرزها الرائد رٌاض إبراهٌم الذي‬
‫ذهب بنفسه إلى إحدى قرى محافظة الدقهلٌة‪ ,‬ونجح فً العثور على كمٌة‬
‫من األسلحة مخبؤة بمنزل أحد أتباع “اإلخوان” هناك‪ ,‬و هذه األسلحة كانت‬
‫‪.‬‬ ‫الخٌط الذي أدى إلى سقوط تنظٌم سٌد قطب‬
‫أذكر أٌضًا‪ ,‬أن عبد الناصر طلب مقابلة السائق المُبلػ (الشٌشٌنً) وفً‬
‫منشٌة البكري سؤله‪“ :‬لماذا اخترت إبالغ المباحث الجنائٌة العسكرٌة‬
‫بالواقعة رؼم تعدد أجهزة األمن”؟ فؤجاب الشٌشٌنً إجابة مباشرة انه ٌعتقد‬
‫أن الجٌش لدٌه جدٌة واهتمام‪ ,‬وسٌتعامل مع األمر أفضل من بقٌة األجهزة‬
‫األمنٌة األخرى‪ ,‬وفً نهاٌة المقابلة شكره عبد الناصر وأمر بتعٌٌنه فً‬
‫هٌئة “قناة السوٌس”‪ ,‬كما أهداه سٌارة “لوري”(شاحنة) من إنتاج شركة‬
‫‪.‬‬ ‫النصر الشهٌرة‬
‫والحقٌقة أن انور السادات اتصل بً وقدم لً خبراته فً التعامل مع حسٌن‬
‫توفٌق‪ ,‬ونصحنً إقناعه بتكرار ما حدث معه فً قضٌة اؼتٌال أمٌن‬
‫عثمان عام ‪ 1946 ,‬وهو أن ٌكون شاهد ملك‪ ,‬وبالفعل بعد القاء القبض‬

‫‪21‬‬
‫علٌه فً االسكندرٌة وإقناعه بالفكرة اعترؾ بسهولة على نفسه وعلى‬
‫‪.‬‬ ‫شركائه‪ ,‬وأرشد الى مصادر الحصول السالح الالزم‬
‫أما خلٌة الداعٌة سٌد قطب (سٌد قطب إبراهٌم حسٌن الشاذلً – ‪ 9‬أكتوبر‬
‫‪ 29 – 1906‬أؼسطس ‪ -1966‬كاتب وأدٌب ومنظر إسالمً مصري‪,‬‬
‫وعضو سابق فً مكتب إرشاد جماعة اإلخوان المسلمٌن‪ ,‬رئٌس سابق‬
‫لقسم نشر الدعوة فً الجماعة‪ ,‬رئٌس تحرٌر جرٌدة اإلخوان المسلمٌن)‪.‬‬
‫هذه الخلٌة ج َند لها عشرات الشباب من المهندسٌن واألطباء والعمال‬
‫وؼٌرهم من الفئات فً عشر محافظات‪ ,‬ووضعوا مخططا لتفجٌر عشرات‬
‫المنشآت والكباري والهٌئات‪ ,‬واؼتٌال عدد من الشخصٌات السٌاسٌة من‬
‫بٌنها جمال عبد الناصر‪ ,‬ثم بعدها تستولً الجماعة على الحكم‪ ,‬وتعلن‬
‫‪.‬‬ ‫تطبٌق الشرٌعة اإلسالمٌة‬
‫ُ‬
‫كنت فً ذلك الوقت نائبًا لرئٌس جهاز األمن القومً‪ ,‬وكان عبدالناصر ال‬
‫ٌثق باألجهزة المدنٌة من شرطة إلى نٌابة عامة‪ ,‬وٌتشكك فً عملها‪ ,‬فطلب‬
‫من صالح نصر أن ٌتولى جهاز المخابرات التحقٌق فً القضٌة برمتها‪,‬‬
‫لكن نصر اعتذر واقترح إعفاء الجهاز من هذه القضٌة‪ ,‬واالكتفاء‬
‫‪.‬‬ ‫بالمساعدة فً جمع المعلومات عن المتهمٌن‬
‫وهنا خطرت فً ذهن عبدالناصر فكرة إنشاء وحدة تحقٌق جنائٌة تابعة‬
‫للشرطة العسكرٌة تحت رئاستً للتحقٌق بالقضٌة‪ ,‬نظرً ا الى خطورتها‬
‫‪.‬‬ ‫على األمن القومً‬
‫اعتمدت فً مهمتً الصعبة على عدد من الضباط المتمٌزٌن والمشهود لهم‬
‫بالكفاءة والنزاهة للعمل معً‪ ,‬وتلقٌت الملفات‪ ,‬ووزعت المهمات على كل‬
‫فرقة‪ ,‬اذ أن المتهمٌن كانوا موزعٌن على عدد من محافظات الوجه‬

‫‪22‬‬
‫البحري‪ ,‬لكن كانت اجتماعاتهم تعقد فً منزل مهندس زراعً بمنطقة‬
‫إمبابة‪ ,‬وبسرعة كان كل العاملٌن معً من الضباط على دراٌة كاملة‬
‫بحساسٌة المهمة وخطورتها ودقتها‪ ,‬ووضعنا الخطط الالزمة لضمان‬
‫‪.‬‬ ‫سرٌة عملنا وحماٌة المعلومات التً ٌتم جمعها‬
‫من خالل مراقبة المهندس الزراعً‪ ,‬باعتباره العنصر النشط والفاعل فً‬
‫الخلٌة‪ ,‬علمنا أنهم ٌجتمعون كل ٌوم جمعة فً منزله بعد صالة العشاء‪ .‬فً‬
‫أحد االجتماعات التً كان من المقرر أن توضع خاللها اللمسات األخٌرة‬
‫للمخطط داهمنا المنزل لٌالً‪ ,‬وكان ضرورًٌا القاء القبض علٌهم وهم‬
‫‪.‬‬ ‫متلبسون‪ ,‬وتحرٌز كل المستندات واألدوات التً بحوزتهم‬
‫بالفعل دخلت الفرقة المكلفة بعملٌة القاء القبض من باب خلفً للمنزل‪ ,‬بعد‬
‫أن نسقنا مع الجهات األخرى لقطع الكهرباء عن الحً فً تلك األثناء‪.‬‬
‫وفً هدوء تام ألقٌنا القبض على المشاركٌن فً االجتماع‪ ,‬وهم كانوا‬
‫‪.‬‬ ‫مقدمة لإلٌقاع بباقً أطراؾ المإامرة‬
‫ُ‬
‫اتفقت مع عبدالناصر على أن ٌكون السجن الحربً المكان المناسب لحجز‬
‫المتهمٌن فً هذه القضٌة‪ ,‬باعتباره األكثر تحصٌ ًنا وتؤمٌ ًنا‪ ,‬طالما أن من‬
‫ٌحقق هو طرؾ عسكري ولٌس مدنٌا‪ .‬وهناك وبالتنسٌق مع حمزة‬
‫البسٌونً( مؤمور السجن الحربً وقتذاك) أعدوا لً مكتبًا‪ ,‬والى جانبً‬
‫‪.‬‬ ‫مكاتب أخرى للضباط الذٌن ٌساعدوننً فً التحقٌق‬
‫من خالل اعترافات المجموعة تبٌن أن القضٌة بالفعل مإامرة‪ ,‬وأن الخلٌة‬
‫الصؽٌرة لٌست سوى رأس مخطط لجٌش كبٌر من التابعٌن منتشرٌن فً‬
‫الدقهلٌة والشرقٌة‪ ,‬وأن هناك توزٌع أدوار بٌن أصحاب الفكر والمخططٌن‬
‫ثم المنفذٌن‪ ,‬وتبٌن أن صاحب الفكرة هو سٌد قطب الذي سبق اتهامه فً‬

‫‪23‬‬
‫حادث مٌدان المنشٌة فً االسكندرٌة‪ ,‬وفٌه استهدؾ جمال عبد الناصر عام‬
‫‪ 1954,‬ثم أفرج عنه بقرار من عبد الناصر نفسه ألسباب صحٌة‪.‬‬

‫اعترافات المتهمٌن‬

‫أحداث السجن الحربً أحاطها الكثٌر من اللؽط والتهوٌل‪ ,‬وحولت جماعة‬


‫“اإلخوان” دورنا فً إحباط مإامرتها وحماٌة المصرٌٌن من خطر‬
‫مخططها اإلجرامً بكائٌة‪ ,‬وفرصة لالنتقام‪ ,‬وتصوٌر المحبوسٌن أمام‬
‫‪.‬‬ ‫أتباعها كضحاٌا ولٌسوا مجرمٌن‬
‫نسجوا األساطٌر واألكاذٌب حول عملٌات تعذٌبهم والتنكٌل بهم‪ ,‬فعندما‬
‫قرأت قصص بعض المتهمٌن بعد ذلك شعرت أنهم ٌتحدثون وٌصفون‬‫ُ‬
‫‪.‬‬ ‫ً‬
‫أحداثا وشخصٌات أخرى ؼٌر التً حققنا معهم واعترفوا بجرٌمتهم‬
‫صحٌح أن مجرمًا خطط لجرٌمة بهذا الحجم كانت تستهدؾ وط ًنا بؤكمله‬
‫لن ٌعترؾ بسهولة‪ ,‬فكان طبٌعًٌا الضؽط علٌه وحصاره‪ ,‬واستخدام أسالٌب‬
‫‪.‬‬ ‫متعددة للحصول على هذه االعترافات‬
‫أعترؾُ اننا لم نبتكر ولم نستخدم معهم أي أسالٌب جدٌدة سوى تلك التً‬
‫كانت ُتسْ َتخدم فً انتزاع االعترافات من المتهمٌن‪ .‬والذي ٌنكره هإالء‬
‫المجرمون أننا كنا نراعً الجوانب اإلنسانٌة للكثٌر منهم‪ ,‬فمثال كان هناك‬
‫شاب متورط فً القضٌة من إحدى قرى الدقهلٌة‪ ,‬عند القبض علٌه كان‬
‫ُ‬
‫عرفت ذلك حققنا معه بسرعة‪ ,‬واتفقنا معه‬ ‫عرسه فً الٌوم التالً‪ ,‬وعندما‬
‫على الصدق مقابل اإلفراج‪ ,‬فكانت النتٌجة أنه اعترؾ على أن والده كلفه‬
‫ُ‬
‫أمرت بتوصٌله إلى منزله‪ ,‬وتقدٌم‬ ‫إخفاء قنابل وأسلحة على سطح المنزل‪.‬‬
‫هدٌة له مكافؤة له على تعاونه‪ ,‬ثم ذهبت فرقة من الشرطة العسكرٌة إلى‬

‫‪24‬‬
‫‪.‬‬ ‫المنزل‪ ,‬وجمعت األسلحة‪ ,‬وألقت القبض على والده‬
‫وهكذا كنا نضع العنصر اإلنسانً فوق كل اعتبار‪ ,‬خصوصا مع من نعتقد‬
‫‪.‬‬ ‫أنهم تورطوا فً الجرٌمة بالصدفة أو من دون قصد‬
‫لكن بالنسبة الى قادة الخلٌة والمخططٌن الفعلٌٌن‪ ,‬لقد فبركوا احداثا ً لم تقع‪,‬‬
‫ُ‬
‫وقرأت بدهشة ما كتبته السٌدة زٌنب الؽزالً عن عملٌات‬ ‫ُ‬
‫سمعت‬ ‫فمثال‬
‫‪.‬‬ ‫تعذٌب وانتهاك تعرضت لها أثناء االستجواب واالعتقال‬
‫والحقٌقة أنا ال أذكرها بشكل محدد‪ ,‬واالمر المإكد أننً لم أحقق معها كما‬
‫زعمت‪ ,‬ومن ثم لم أعذبها كما ذكرت فً كتبها‪ ,‬وحولت نفسها ضحٌة أمام‬
‫وحوش بشرٌة ال ٌعرفون حرمة النفس وال حقوق المرأة وال ظروفها‬
‫وخصوصٌتها‪ .‬رواٌتها جعلتنً أعرؾ حجم التزٌٌؾ الذي تنتهجه هذه‬
‫‪.‬‬ ‫الجماعة وطرٌقتها فً قلب الحقائق‬
‫نؤتً إلى سٌد قطب‪ ,‬هذا الرجل كان ٌعانً من أمراض خطٌرة‪ ,‬لذلك‬
‫ُ‬
‫حرصت على أن اجري التحقٌق معه شخصًٌا‪ ,‬كان ٌؤتً الى جلسات‬
‫التحقٌق ٌسنده جندٌان‪ ,‬وٌعلم هللا أننً كنت أتعامل معه بكل احترام وتقدٌر‪,‬‬
‫ولم ٌمارس علٌه اي تعذٌب أو إكراه أو حتى مجرد تخوٌؾ منً او من‬
‫ُ‬
‫كنت أحاول فً كل جلسة أن ٌحصل على راحة‪,‬‬ ‫فرٌق المحققٌن‪ ,‬بل‬
‫وٌتناول الدواء الالزم‪ ,‬ونتوقؾ أو نإجل الجلسات وفقا لظروفه ورؼبته‪,‬‬
‫رؼم إدراكً انه صاحب فكرة المإامرة‪ ,‬وأنه األب الروحً للخلٌة‬
‫‪.‬‬ ‫وراعٌها ومروجها بٌن بعض شباب “اإلخوان” المتحمسٌن‬
‫وربما ال أتجاوز الحقٌقة عندما أزعم أنه استؽل حماسة هذا الشباب المندفع‬
‫فً تبنً أفكاره نحو تؽٌٌر الواقع‪ ,‬وتطبٌق شرع هللا بالقوة‪ ,‬حتى لو كانت‬
‫النتٌجة سقوط مالٌٌن المصرٌٌن األبرٌاء ضحاٌا لفكرة استقاها من بٌئة‬

‫‪25‬‬
‫ومجتمع آخر‪ ,‬وهً فكرة تحدث عنها المفكر الهندي أبو األعلى المودودي‪.‬‬
‫بعد نقاش طوٌل مع سٌد قطب اعترؾ بكل شًء من دون أي ضؽط‪ ,‬ال‬
‫منً وال من أي ضابط آخر‪ ,‬بل كان الرجل متعاو ًنا معنا بدرجة أكثر مما‬
‫كنا نتوقع‪ ,‬وطلب أن ٌكتب بنفسه القصة الكاملة للقضٌة من وجهة نظره‪,‬‬
‫‪.‬‬ ‫ملتمسًا العفو من رئٌس الجمهورٌة‬
‫على مدار أٌام عدة ظل ٌكتب كل ما ٌتذكره من أحداث وأشخاص‪ ,‬فً‬
‫مصر والخارج‪ ,‬شاركوا أو دعموا مخططه الشٌطانً‪ ( .‬مذكرة سٌد قطب‬
‫منشورة فً عدد من المصادر “اإلخوانٌة”‪ ,‬لكنهم ٌزعمون أن مضمونها‬
‫كتب تحت الضؽط والتعذٌب‪ ,‬فً حٌن استخدمتها جهات التحقٌق كدلٌل‬
‫‪).‬‬ ‫دامػ إلدانته وإعدامه‬
‫كنت على اتصال دائم ومباشر بالرئٌس عبدالناصر‪ ,‬أطلعه أوالً بؤول على‬
‫التحقٌقات واعترافات المتهمٌن‪ ,‬ألنه كان منشؽالً بفكرة استهدافه‪ ,‬ومحاولة‬
‫اؼتٌاله‪ .‬ومن هنا تؤكد لً ولكل من شاركوا فً القضٌة أنها كانت مإامرة‬
‫مكتملة األركان‪ ,‬الؽرض منها تدمٌر المنشآت الحٌوٌة للبلد‪ ,‬واؼتٌال‬
‫الرئٌس‪ ,‬وعدد من كبار المسإولٌن فً الدولة‪.‬‬

‫استخدمنا القسوة‬

‫هذا الكالم من واقع اعترافاتهم ولٌس استنتاجً ا وال تلفٌ ًقا كما ٌدعون‪ ,‬لذلك‬
‫أشعر بارتٌاح كبٌر للدور الذي ادٌته فً منع هذه الجرٌمة‪ ,‬وحماٌة أمن‬
‫ً‬
‫وحافظا على أرواح المالٌٌن الذٌن كانوا بالتؤكٌد سٌذهبون ضحاٌا‬ ‫مصر‪,‬‬
‫‪.‬‬ ‫لتلك الجرٌمة البشعة‬
‫هناك تهوٌل كبٌر فً عدد الذٌن القٌنا القبض علٌهم‪ ,‬لكن وف ًقا لمستنداتها‬

‫‪26‬‬
‫فقد وصل إجمالً عدد المتهمٌن الى خمسة آالؾ شخص‪ ,‬أما الذٌن ثبتت‬
‫‪ 500‬متهم ‪.‬‬ ‫مشاركتهم فً التخطٌط والتنفٌذ وإخفاء األسلحة فلم ٌزد عن‬
‫وبعد االنتهاء من التحقٌقات أفرجنا عن جمٌع المتهمٌن باستثناء‬
‫المتورطٌن‪ ,‬لكن ٌبدو أن وزارة الداخلٌة أعادت التحقٌق مرة أخرى مع‬
‫المفرج عنهم‪ ,‬وربما مارست ضدهم التعذٌب‪ .‬ألننً وف ًقا للمستندات وما‬
‫أذكره عن هذه القضٌة أن نحو سبعة متهمٌن توفوا فً السجن‪ ,‬إما بسبب‬
‫عدم تحملهم أوضاع السجن‪ ,‬أو ربما تعرضوا للقسوة خالل التحقٌقات‪ ,‬فال‬
‫بد أن أعترؾ أن من أصل خمسة آالؾ متهم لم ٌمت سوى سبعة‬
‫أشخاص‪ ,‬وهذه نسبة ؼٌر الفتة للنظر‪ ,‬ألن بعض المتهمٌن أحٌا ًنا وبمجرد‬
‫‪.‬‬ ‫القاء القبض علٌه ٌمكن أن ٌصاب بؤزمة قلبٌة من شدة الصدمة‬
‫على كل حال ال أنكر أننا اضطررنا إلى استخدم القسوة مع بعض المتهمٌن‬
‫حتى ٌعترؾ بدوره فً المإامرة‪ ,‬وبخاصة أن ؼالبٌتهم كانت من‬
‫المتشددٌن‪ ,‬وكانت العملٌة برمتها تجري فً السجن الحربً الذي ٌعتمد‬
‫على طرٌقة انتزاع االعترافات من المتهم بكل الوسائل‪ ,‬بما فً ذلك‬
‫استخدام أسالٌب التعذٌب المختلفة التً وضعها اإلنكلٌز أنفسهم للتعامل مع‬
‫نزالء هذا السجن‪ ,‬وحدث أن زار رئٌس تحرٌر “األهرام” محمد حسنٌن‬
‫هٌكل السجن بطلب من عبد الناصر‪ .‬تلك الزٌارة أثارت الكثٌر من‬

‫المشكالت سوؾ أتحدث عنها فً الجزء الخاص بهٌكل‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الحلقة الثالثة‬

‫رحلة الى المنفى االختياري‬

‫فً مدٌنة بلٌموث البرٌطانٌة الهادئة كان لقائً مع شمس بدران وزٌر‬
‫الحربٌة األسبق‪ ,‬جلساتنا استمرت أكثر من أسبوعٌن‪ ,‬بمعدل ثالث ساعات‬
‫صباحا ومثلها بعد الظهر‪ ,‬ورؼم ؼموضه وحذره البالػ‪ ,‬إال أنه أجاب عن‬
‫معظم ما طرح ُته علٌه من أسئلة واستفسارات‪ ,‬حول تلك الفترة الشائكة من‬
‫تارٌخ مصر‪ ,‬وعن عالقته بكل من الرئٌس عبد الناصر والمشٌر عامر ‪.‬‬
‫تقدمه فً السن وضعؾ سمعه لم ٌمنعاه من أن ٌستعٌد شرٌط ذكرٌاته‪ ,‬منذ‬
‫أن قرر االلتحاق بالكلٌة الحربٌة‪ ,‬حتى اللحظة التً كنا نجلس فٌها معًا‬
‫‪.‬‬ ‫على شاطئ بلٌموث الساحر‬
‫هناك كانت تحلق فوقنا طٌور النورس‪ ,‬وتسبح أمامنا مجموعات من األوز‬
‫األبٌض الجمٌل‪ ,‬ومن بعٌد ترعى قطعان األؼنام بؤلوانها الناصعة‪ ,‬وحولنا‬
‫تتدلى شجٌرات التوت البري بؤحجامه وأشكاله الممٌزة‪ ,‬وسط هذه األجواء‬
‫صال شمس بدران وجال بٌن أحداث كثٌرة‪ ,‬ملٌئة باالنتصارات‬
‫واالنكسارات‪ ,‬بالصعود والهبوط‪ ,‬بالتوهج واالنطفاء‪ ,‬باألحالم والكوابٌس‪,‬‬
‫‪.‬‬ ‫بالكرامة والمهانة‪ ,‬بالنشوة والؽٌبوبة‬
‫فهو ال ٌزال ٌتمتع بلٌاقة بدنٌة عالٌة‪ ,‬باستثناء تذكره الصعب لبعض‬
‫التوارٌخ وأسماء األماكن واألشخاص ؼٌر المإثرٌن‪ ,‬ممن لم تسعفه‬
‫ذاكرته باستحضارهم بسهولة‪ ,‬لكن ؼٌر ذلك كان ٌحكً عن المواقؾ‬
‫الخطٌرة والمفصلٌة فً عالقته بكل من عبد الناصر والمشٌر عامر كؤنها‬
‫!‬ ‫وقعت باألمس القرٌب‬

‫‪28‬‬
‫سرد تفاصٌل دقٌقة ومواقؾ عصٌبة عاٌشها‪ ,‬وكان طر ًفا أساسٌا فٌها منذ‬
‫أن صمم على االلتحاق بالقوات المصرٌة المتجهة إلى فلسطٌن فً حرب‬
‫‪1948.‬‬
‫ٌعٌش الرجل فً مدٌنة العجائز التً اختارها مقرا دائمًا له فً برٌطانٌا‪,‬‬
‫بعد رحلة قاسٌة من التنقل والترحال بٌن أحٌاء لندن‪ ,‬فً هذه المدٌنة التً‬
‫ٌطلقون علٌها مدٌنة “المتقاعدٌن” لتمٌزها بمناخ معتدل وجو صاؾ‪ ,‬عالوة‬
‫على أنها بعٌدة من صخب لندن الهادر‪ ,‬وال ازدحام المدن الصناعٌة‬
‫الضخمة‪.‬‬
‫المسافة بٌن لندن وبلٌموث طوٌلة‪ٌ ,‬قطعها القطار السرٌع فً أربع ساعات‬
‫من دون توقؾ‪ ,‬اثناء تلك الرحلة تفكٌري لم ٌتوقؾ منذ أن انطلق القطار‬
‫فً الصباح الباكر من قلب العاصمة البرٌطانٌة‪ ,‬فقد قرأت عن الرجل‬
‫الكثٌر وسمعت عنه أكثر‪ ,‬لدرجة جعلت خفقات قلبً تتضاعؾ كلما اقترب‬
‫‪.‬‬ ‫القطار من محطته األخٌرة‬
‫هذه الخفقات تزاٌدت إلى أن توقؾ سائق سٌارة االجرة البولندي الذي‬
‫تحمس لتوصٌلً إلى عنوان المنزل الذي ٌقٌم فٌه وزٌر الحربٌة األسبق‬
‫‪.‬‬ ‫شمس بدران‬
‫كؤنً كنت على موعد طال انتظاره‪ ,‬أو فً انتظار مقابلة مع شخصٌة‬
‫تقرر مصٌري‪ ,‬ال أدري سببا لذلك االرتباك الذي اعترانً‪ .‬قابلت‬
‫شخصٌات عدٌدة ربما ال تقل أهمٌة عن شمس بدران‪ ,‬لكن اللقاء كان‬
‫ممٌزا ربما ألنه ٌعتبر آخر رجال تلك المرحلة الحاسمة من تارٌخ مصر‪,‬‬
‫وألنه األكثر ؼموضًا وإثارة فً مواقفه‪ ,‬وفً األدوار والمهمات التً‬
‫‪.‬‬ ‫مارسها فً عهد عبد الناصر‬

‫‪29‬‬
‫وح َّملَنًِ قدرً ا كبٌرً ا من المسإولٌة كً استنطقه‪,‬‬
‫كل هذا ضاعؾ من قلقً‪َ ,‬‬
‫وأشجعه كً ٌروي ذكرٌاته بصدق وأمانة ً‬
‫بعٌدا من المراوؼة والمجاملة !‬
‫لعل أهمٌة هذه المذكرات تكمن فً أنها تخص آخر رجال حقبة عبد‬
‫الناصر‪ ,‬وأكثرهم جسارة وحبا للمؽامرة واستعدا ًدا للتضحٌة‪ ,‬ربما لهذا‬
‫السبب قرَّ به عبد الناصر واختاره مدٌرً ا لمكتبه عندما كان رئٌسًا للوزراء‬
‫‪.‬‬ ‫فً فترة حكم الرئٌس محمد نجٌب‬
‫كما أن أهمٌة هذه المذكرات تؤتً أٌضا من أنها لمسإول كبٌر (وزٌر‬
‫حربٌة) ارتبط اسمه بمرحلة حكم عبد الناصر‪ ,‬وقد حظً بثقته الكاملة‪,‬‬
‫فاختاره لٌكون عٌنه التً ترصد ما ٌجري داخل القوات المسلحة‪ ,‬كما كان‬
‫بحق صائد االنقالبات‪ ,‬اذ نجح بالفعل فً إحباط أكثر من محاولة فً‬
‫مهدها‪.‬‬
‫عبد الناصر لم ٌكتؾ بذلك‪ ,‬بل اختاره لخالفته فً منصب رئٌس‬
‫الجمهورٌة‪ ,‬عندما قرر التنحً فً أعقاب هزٌمة ٌونٌو‪ ,‬كما كان أقرب‬
‫مستشارٌه الذي ٌثق بإخالصه ووالئه‪ ,‬فكلفه بمهمات ستراتٌجٌة وأمنٌة‬
‫وسٌاسٌة خطٌرة فً لحظات حاسمة من تارٌخ مصر‪ ,‬كما حدث فً‬
‫زٌارته الشهٌرة الى روسٌا قبل أٌام من العدوان اإلسرائٌلً المباؼت على‬
‫‪1967‬‬ ‫مصر عام ‪.‬‬
‫ورؼم مرور السنٌن وتقدم شمس بدران فً السن إال أن الرجل ٌؤبى أن‬
‫ٌؽٌر طبٌعته العسكرٌة الؽامضة والحذرة‪ ,‬لدرجة أن زوجته البرٌطانٌة‬
‫وأبناءه منها ال ٌعرفون أنه كان وزٌرً ا فً بلده‪ ,‬وال ٌعلمون شٌ ًئا عن‬
‫خلفٌته السٌاسٌة‪ ,‬وال األدوار الخطٌرة التً اداها فً تلك الفترة‪ ,‬وإن كل‬
‫!‬ ‫ما ٌعرفونه عنه أنه مجرد رجل أعمال مصري‬

‫‪30‬‬
‫عندما دار حدٌث بٌنً وبٌن زوجته‪ ,‬كدت أن أتطرق معها الى خلفٌته‬
‫العسكرٌة والمهمات التً اداها فً عهد عبد الناصر‪ ,‬فنبهنً بسرعة كً‬
‫!‬ ‫أؼٌر طبٌعة الحدٌث‪ ,‬ألنها ال تعرؾ سوى القلٌل عن حٌاته فً مصر‬
‫لقد الحظت أن إقامة بدران وسط البرٌطانٌٌن طوال أربعة عقود متواصلة‬
‫تركت آثارها بوضوح لٌس فقط على عاداته‪ ,‬بل ظهرت بجالء على‬
‫مالمحه‪ ,‬لدرجة أن الذي ٌقارن بٌن صوره كوزٌر ومسإول ٌصعب أن‬
‫ٌصدق أن الذي ٌجلس أمامً هو الشخص نفسه الذي كان عندما ٌُذكر‬
‫اسمه ٌصاب الحضور بالرعب والخوؾ والقلق‪ ,‬فمالمحه الحالٌة أقرب‬
‫إلى عجوز برٌطانً منه إلى مسإول مصري سابق فً عصر عبد‬
‫الناصر!‬
‫لم ألحظ فً بٌته الرٌفً أي مالمح مصرٌة‪ ,‬فهو منزل إنكلٌزي بامتٌاز‪,‬‬
‫من األثاث إلى الدٌكور‪ ,‬ومن الموسٌقى إلى اللوحات التً تزٌن جدرانه‪,‬‬
‫والحدٌقة التً تحٌطه من كل اتجاه إلى برودة االستقبال‪ ,‬فالمنزل عبارة‬
‫عن فٌلال من طابقٌن‪ ,‬فً أحد أرقى أحٌاء المدٌنة الصؽٌرة‪ ,‬لكن مقارنته‬
‫ببٌوت جٌرانه البرٌطانٌٌن لٌست فً صالحه‪ ,‬فالحً عامر بالقصور‬
‫!‬ ‫والفٌالت الفاخرة‬
‫الحظت أنه قلٌل الكالم بطرٌقة الفتة‪ ,‬فهو ال ٌجٌد فن الكالم‪ ,‬لكنه فً‬
‫الوقت نفسه تلقائً ال ٌلجؤ إلى استخدام العبارات المفخمة كعادة السٌاسٌٌن‪,‬‬
‫وال ٌستطرد فً الكالم‪ ,‬بل كانت إجاباته على قدر السإال‪ ,‬ربما السبب فً‬
‫ذلك لٌس الحرص بقدر عدم القدرة على شرح األفكار والمواقؾ‬
‫باستفاضة‪.‬‬
‫حدٌثه كان ٌتسم بالجدٌة والصرامة‪ ,‬وبعٌدا عن الطرافة المعتادة عن‬

‫‪31‬‬
‫المصرٌٌن‪ ,‬كما الحظت أٌضًا أنه ال ٌحب قراءة التارٌخ‪ ,‬وال األدب‪ ,‬لكنه‬
‫ٌهوى الموسٌقى‪ ,‬وال ٌحرص على الدفاع عن نفسه‪ ,‬وال ٌهتم بما ٌقوله‬
‫عنه المصرٌون‪ ,‬ومن حٌن الى آخر ٌتصل بشقٌقته الصؽرى المقٌمة فً‬
‫حً الدقً فً القاهرة‪ ,‬وٌتابع آخبار أبنائه وأحفاده على فترات متباعدة‪,‬‬
‫لٌس على صلة سوى بعدد محدود للؽاٌة ممن عملوا معه‪ ,‬وبخاصة رجال‬
‫األعمال‪.‬‬
‫صدمنً عندما سؤلته هل تشعر بالندم على ما مارسته مع عناصر الخلٌة‬
‫‪1965‬؟ أجاب بحسم أنه ال ٌشعر‬ ‫اإلخوانٌة التً قادها سٌد قطب عام‬
‫بوخز الضمٌر‪ ,‬ولو عادت األٌام سوؾ ٌفعل ما فعله‪ ,‬ألنه كان ٌحمً‬
‫مصر وشعبها من فئة ضالة حاولت تدمٌر القناطر الخٌرٌة إلؼراق‬
‫المصرٌٌن‪ ,‬كما كانوا ٌخططون لسلسلة اؼتٌاالت تنال كبار المسإولٌن;‬
‫!‬ ‫بهدؾ نشر الفوضى بزعم تطبٌق شرع هللا‬
‫رفض بدران تلبٌة طلبً أن ٌتقدم باعتذار ألبناء ضحاٌا جماعة “اإلخوان”‬
‫الذٌن ماتوا نتٌجة التعذٌب أثناء التحقٌق معهم فً السجن الحربً‪ ,‬باعتباره‬
‫المسإول األول عن هذه القضٌة‪ ,‬وكان تعلٌقه أن‪ ”:‬عدد الذٌن ماتوا ال‬
‫ٌتجاوز العشرة‪ ,‬فهإالء لم ٌموتوا نتٌجة التعذٌب‪ ,‬بل بالصدمة بعد أن‬
‫‪”.‬‬ ‫واجهناهم بكل األدلة والبراهٌن التً تثبت تورطهم‬
‫أعرؾ أن الكثٌر من أصدقائً الناصرٌٌن سٌؽضبون وٌثورون‪ ,‬بل وربما‬
‫ٌقاضون شمس بدران وٌقاضوننً شخصٌا بسبب ما قد ٌرونه إساءة‬
‫لتارٌخ زعٌمهم المفدى عبد الناصر‪ ,‬لكن أقول لهإالء األصدقاء ما سبق‬
‫أن قاله سقراط ‪”:‬إننً أحبكم ٌا رجال أثٌنا… لكننً أحب الحقٌقة أكثر‪”.‬‬

‫‪32‬‬
‫الحلقة الرابعة‬

‫“أٌام من حٌاتً” كان أشهر هذه الكتب‪ ,‬وهو من تؤلٌؾ زٌنب الؽزالً‪.‬‬
‫(زٌنب محمد الؽزالً الجبٌلً‪ ,‬داعٌة وسٌاسٌة مصرٌة تنتمً إلى اإلخوان‬
‫المسلمٌن‪ ,‬ولدت فً ‪ٌ 2‬ناٌر ‪ 1917‬فً قرٌة مٌت ٌعٌش التابعة لمركز‬
‫مٌت ؼمر فً محافظة الدقهلٌة‪ ,‬بعد وفاة والدها وكانت حٌنذاك فً العاشرة‬
‫من عمرها انتقلت مع أمها وإخوتها للعٌش فً القاهرة‪ ,‬تعرفت على‬
‫االتحاد النسائً الذي كانت ترأسه هدى شعراوي‪ ,‬وتوثقت العالقة بٌنهما‪,‬‬
‫وأصبحت من أعضاء االتحاد البارزات‪).‬‬

‫ال أذكر زٌنب‬

‫هذه السٌدة ال أذكرها على اإلطالق‪ ,‬وال أعرؾ شكلها‪ ,‬ولم أقابلها‪ ,‬ولم‬
‫ُ‬
‫وتركت التفاصٌل لضباط‬ ‫ُ‬
‫كنت أتابع التحقٌقات عن بعد‪,‬‬ ‫أحقق معها‪ ,‬فقد‬
‫‪.‬‬ ‫مشهود لهم باألمانة والنزاهة والوطنٌة‬
‫ُ‬
‫حرصت على التحقٌق‬ ‫كان سٌد قطب هو المتهم الوحٌد فً القضٌة الذي‬
‫معه بنفسً‪ ,‬بسبب حساسٌة موقعه فً التنظٌم‪ ,‬فضالً عن ظروفه الصحٌة ‪.‬‬
‫لم أهتم بما كتبته السٌدة زٌنب الؽزالً‪ ,‬لكن دهشت مما سمع ُته عن‬
‫حكاٌاتها ورواٌاتها ألحداث تلك الفترة‪ -‬فقد صورتنً‪ -‬وأنا الذي ال أذكر‬
‫مالمحها بدقة‪ -‬على أنً وحش بشري‪ ,‬واستفاضت فً سرد وقائع أؼلب‬
‫‪.‬‬ ‫الظن أنها لم تقع سوى فً خٌالها هً‬
‫لكن حكاٌات زٌنب الؽزالً الخٌالٌة لم تكن الوحٌدة‪ ,‬بل كانت ضمن سلسلة‬
‫طوٌلة من الكتب والمطبوعات‪ ,‬بعض الجهات وجدت أنها بمثابة تنفٌس‬

‫‪33‬‬
‫عن المتهمٌن فً قضاٌا مست األمن القومً من جماعة اإلخوان المسلمٌن‪.‬‬
‫هذه الجهات ربما أقنعت السادات فً ذلك الوقت أن نشر هذه الكتب وما‬
‫تحتوٌه من قصص تعذٌبهم الخٌالٌة وسٌلة حٌوٌة لفتح صفحة جدٌدة معهم‪.‬‬
‫لذلك لم أعلق على ما جاء فٌها‪ ,‬ألن اعترافاتهم موجودة وموثقة‪ ,‬وأٌضًا‬
‫الضباط بعضهم ال ٌزال على قٌد الحٌاة‪ ,‬وٌعلمون جٌ ًدا مدى المبالؽات‬
‫‪.‬‬ ‫التً احتوتها تلك المطبوعات‬
‫إذن‪ ,‬لٌس أمامً سوى إعادة النظر فً استعراض ما قالته عنً السٌدة‬
‫زٌنب الؽزالً‪ ,‬مع التؤكٌد على أنً لم أرها‪ ,‬وال أذكر أي لقاء جمعنً بها‬
‫على اإلطالق‪ ,‬مما ٌثبت أن رواٌتهم ألحداث تلك الفترة كانت مؽلوطة‪,‬‬
‫وما هذه الكتب سوى هروب من مواجهة الرأي العام القترافهم جرائم ضد‬
‫‪.‬‬ ‫هذا الشعب الطٌب‬
‫فً السطور التالٌة جانب مما زعمت السٌدة زٌنب الؽزالً أنها تعرضت له‬
‫من تعذٌب فً السجن الحربً‪ ,‬أثناء اعتقالها بتهمة تجنٌد واحتضان‬
‫عناصر الخلٌة التً شاركت فً مإامرة ‪.1965‬‬

‫شهادة الحاجة زٌنب‬

‫”‬ ‫“مع شمس بدران زنزانة الماء والجرٌمة‬


‫استمر صفوت فً سٌره حتى مكتب ضابط ٌُدعى هانً‪ ,‬أخذنً إلى مكتب‬
‫شمس بدران‪ ,‬وما أدراك ما شمس بدران! إنه وحش ؼرٌب عن اإلنسانٌة‪,‬‬
‫‪.‬‬ ‫وأكثر وحشٌة من وحوش الؽاب‪ ,‬إنه أسطورة فً التعذٌب والقسوة‬
‫كان ٌنطلق فً لذة ؼرٌبة ٌضرب الموحدٌن المإمنٌن‪ ,‬بؤعنؾ ما ٌمكن أن‬
‫ٌتصوره العقل البشري‪ ,‬ظنا منه أن القسوة والعنؾ فً التعذٌب ٌرد‬

‫‪34‬‬
‫‪.‬‬ ‫المسلمٌن عن دٌنهم وعقٌدتهم! وقد خاب ظنه‬
‫سؤلنً شمس بدران فً ؼطرسة كؤنه جامع رقاب الخلق بٌن أصابعه‪ :‬هو‬
‫!‬ ‫أنت بقى ست زٌنب الؽزالً؟ قلت‪ :‬نعم‬
‫كان مكتب حمزة البسٌونً ٌتصل بمكتب شمس‪ ,‬وكان ٌقؾ خلفً اثنان‬
‫‪.‬‬ ‫آخران‪ ,‬وبٌد كل منهما سوط كؤنه لسان من لهب‬
‫قال شمس بدران وهو ما زال فً ؼطرسته‪ٌ“ :‬ا بنت ٌا زٌنب! خلً بالك‬
‫وتكلمً بعقل وشوفً فٌن مصلحتك‪ ,‬خلٌنا نخلص منك ونشوؾ ؼٌرك‪,‬‬
‫‪”.‬‬ ‫وإال بعزة “عبد الناصر” أجعل السٌاط تمزقك‬
‫‪.‬‬ ‫قلت‪ٌ :‬فعل هللا ما ٌشاء وٌختار‬
‫?‬ ‫فقال‪ :‬ما هذه الرطانة العجٌبة ٌا بنت‬
‫?”‬ ‫فلم أرد علٌه‪ ,‬فقال‪“ :‬ما هً صلتك بسٌد قطب والهضٌبً‬
‫‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قلت فً هدوء‪ :‬أخوة فً اإلسالم‬
‫?‬ ‫فقال فً استنكار بلٌد‪ :‬أخوة ماذا‬
‫‪.‬‬ ‫فؤعدت‪ :‬أخوة فً اإلسالم‬
‫‪?”.‬‬ ‫فقال‪“ :‬ما مهنة سٌد قطب‬
‫قلت‪ :‬األستاذ اإلمام سٌد قطب مجاهد فً سبٌل هللا‪ ,‬ومفسر لكتاب هللا‪,‬‬
‫‪.‬‬ ‫ومجدد ومجتهد‬
‫?‬ ‫فقال فً بالدة‪ :‬ما معنى هذا الكالم‬
‫ُ‬
‫قلت وأنا أضؽط على مخارج األلفاظ تؤكٌدا له‪ :‬معناه أن األستاذ سٌد قطب‬
‫زعٌم‪ ,‬ومصلح‪ ,‬وكاتب إسالمً‪ ,‬بل من أعظم الكتاب اإلسالمٌٌن‪ ,‬ووارث‬
‫محمدي‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫?‬ ‫وبإشارة من أصبعه انهال علً الزبانٌة‪ ,‬وقال هو‪ :‬إٌه ٌا ست‬
‫‪.‬‬ ‫ولم أجبه‬
‫?‬ ‫قال‪ :‬ومهنة الهضٌبً إٌه كمان‬
‫فقلت‪“ :‬األستاذ اإلمام حسن الهضٌبً” إمام مباٌع من المسلمٌن المنتمٌن‬
‫لجماعة اإلخوان المسلمٌن الملتزمٌن بتنفٌذ أحكام الشرٌعة‪ ,‬والمجاهدٌن فً‬
‫‪”.‬‬ ‫سبٌل هللا حتى تعود األمة اإلسالمٌة كلها إلى كتاب هللا وسنة رسوله‬
‫!‬ ‫وما أن فرؼت من كالمً حتى عاود الزبانٌة التعذٌب بالسوط‬
‫”‪¯¯”….‬‬ ‫فقال‪“ :‬هراء‪ ,‬وكالم فارغ… ما هذا ٌا بنت ال‬
‫ت كتاب “معالم فً‬
‫ثم تقدم إلً وأمسكنً من ذراعً وقال‪“ :‬هل قرأ ِ‬
‫الطرٌق” لسٌد قطب؟ فقلت‪ :‬نعم قرأته‪ .‬فقال رجل آخر من الجالسٌن‪ -‬وكان‬
‫ٌدخل بعض الضباط أثناء االستجواب وٌجلسون للمشاركة فً االستجواب‬
‫ً‬
‫موجزا لهذا‬ ‫من جهة‪ ,‬ومن جهة أخرى كنوع من اإلرهاب‪ -‬ممكن تعطٌنا‬
‫الكتاب?‬
‫فقلت‪“ :‬بسم هللا الرحمن الرحٌم‪ ,‬والصالة والسالم على سٌدنا محمد‪ ,‬وعلى‬
‫‪”.‬‬ ‫آله وصحبه أجمعٌن‬
‫فقاطعنً شمس بدران فً صفاقة ؼرٌبة‪ :‬أنت واقفة على منبر مسجد ٌا‬
‫¯¯‬ ‫‪“…”.‬‬ ‫بنت ال¯¯”…”؟ إننا فً كنٌسة ٌا أوالد ال‬
‫‪.‬‬ ‫وقال حسن خلٌل‪ :‬معذورة ٌا باشا‬
‫?‬ ‫أكملً ٌا زٌنب‪ ,‬ماذا فهمت من كتاب معالم فً الطرٌق‬
‫فقلت‪ :‬كتاب معالم فً الطرٌق فً فهم المجتهد المفسر سٌد قطب‪ٌ ,‬دعو‬
‫المسلمٌن لمراجعة أنفسهم مع كتاب هللا‪ ,‬وسنة رسول هللا‪ ,‬وتصحٌح‬
‫تصورهم لعقٌدة التوحٌد‪ ,‬فإذا وجدوا أنفسهم‪ -‬وهذا هو الواقع اآلن‪-‬‬
‫‪36‬‬
‫منقطعٌن عن كتاب هللا‪ ,‬وسنة رسوله سارعوا بالتوبة‪ ,‬وعادوا إلى دٌنهم‬
‫وكتابهم وسنة رسولهم! ثم ٌدعوهم للمفاصلة بٌنهم وبٌن الجاهلٌة المتفشٌة‬
‫فً األمة‪ ,‬فطمست وضوح الرإٌة فً فهم القرآن‪ ,‬وتصور أوامره تصورا‬
‫سلٌما‪ ,‬فإذا راجعت األمة الكتاب ومرامٌه ومقاصده والتزمت بدٌنها‬
‫صحت عقٌدتها‪ ,‬فالسٌد قطب ٌرى ضرورة تبصٌر األمة بمراجعة عقٌدتها‬
‫لتقرر صدقا من قلبها وضمٌرها‪ ,‬أنها ملتزمة بكل ما تكلفها به شهادة أن ال‬
‫إله إال هللا‪ ,‬وأن محم ًدا رسول هللا‪ ”.‬هذا ما كتبته زٌنب الؽزالً فً‬
‫‪”.‬‬ ‫كتابها”أٌام من حٌاتً‬
‫!‬ ‫لٌس لدي تعلٌق على مثل هإالء من أصحاب الخٌال المرٌض‬
‫(ٌذكر ان اللواء حمزة البسٌونً‪ ,‬تخرج فً الكلٌة الحربٌة‪ ,‬وانضم إلى‬
‫‪ٌ 23‬ولٌو ‪ 1952‬وهو برتبة رائد‪,‬‬ ‫الضباط األحرار لٌشارك فً ثورة‬
‫واتهم فً قضاٌا تعذٌب السجناء‪ ,‬توفً ٌوم ‪ 19‬نوفمبر ‪ 1971‬عندما كان‬
‫مسافرا من اإلسكندرٌة إلى القاهرة ومعه شقٌقه وذلك حٌن اصطدمت‬
‫سٌارته بإحدى السٌارات المحملة بحدٌد مبان‪ ,‬أدت إلى مصرعهما‪).‬‬

‫‪37‬‬
‫الحلقة الخامسة‬

‫ما ٌجب ذكره أن عبد الناصر فً بعض المواقؾ كان ٌتؽاضى عن أبشع‬
‫األسالٌب التً ٌستخدمها رجاله‪ ,‬ففً قضٌة االنقالب علٌه بعد أحداث عام‬
‫‪ 1967‬سمح لمدٌر المخابرات محمد أحمد صادق‪ ,‬وإبراهٌم سالمة بؤن‬
‫ٌستخدما أسالٌب التعذٌب فً الحصول على اعترافات من كل من عثمان‬
‫نصار‪ ,‬وحلمً عبد الخالق‪ ,‬وحسٌن مختار‪ ,‬وأحمد أبو نار‪ ,‬وتحسٌن‬
‫زكً‪ ,‬وإسماعٌل حمدي‪ ,‬ومدحت الرٌس‪ ,‬وعبد السالم فهمً‪ ,‬وعبد هللا‬
‫الشرقاوي‪ ,‬وإسماعٌل مبارز‪ ,‬ومتولً محمد السٌد‪ ,‬وإن كنت أنا وصالح‬
‫نصر وعباس رضوان لم نتعرض ألي نوع من التعذٌب‪ ,‬اذ كان عبد‬
‫الناصر ٌقول‪”:‬ال تعذبوا هإالء (اي نحن الثالثة)‪ ,‬لكن عذبوا اآلخرٌن”‬
‫الذٌن كانوا مشتركٌن معنا فً المإامرة و االتهامات نفسها‪ .‬ولم ٌكن‬
‫التعذٌب قاصرا على السجن الحربً‪ ,‬بل كان أٌضا فً المباحث العامة فً‬
‫وزارة الداخلٌة‪ ,‬وكذلك فً جهاز المخابرات العامة التابعة لرئٌس الدولة‪,‬‬
‫ومن األدلة على ذلك إن قضٌة عبد القادر عٌد‪ ,‬الذي كان أحد مدٌري‬
‫مكتب المشٌر عبد الحكٌم عامر‪ ,‬وقد اعتقل وجرى التحقٌق معه فً‬
‫المخابرات العامة‪ ,‬احضرت زوجته إلى مقر المخابرات وهددوه باالعتداء‬
‫علٌها أمامه‪ ,‬مما أدى به إلى االعتراؾ‪ ,‬وكشؾ الحقائق الخاصة بمحاولته‬
‫االنقالبٌة‪ .‬كل ما حدث فً تحقٌقات حادث المنشٌة سنة ‪ 1954‬التً أشرؾ‬
‫علٌها زكرٌا محٌى الدٌن فً السجن الحربً‪ ,‬تكرر أٌضا فً تحقٌقات سنة‬
‫‪ ,1965‬وكان جمال عبد الناصر فً كلتا الحالتٌن ٌعلم تمامًا بما ٌجري فً‬
‫السجن الحربً أثناء التحقٌق‪ ,‬وكنت قد طلبت من المباحث الجنائٌة‬
‫العسكرٌة أن تجري تفتٌشا منظما وتفتٌشا مفاجئا على الزنازٌن وؼرؾ‬

‫‪38‬‬
‫السجن‪ ,‬للتؤكد من سالمة معاملة المساجٌن بعد انتهاء التحقٌق معهم‪ ,‬وفً‬
‫أثناء اتصاالتنا بعبد الناصر إلطالعه على نتائج التحقٌق حدث أن قال ال‪:‬‬
‫“إن السجن الحربً مملكة حمزة البسٌونً‪ ,‬فإذا حاولت التدخل فى شإونه‬
‫ٌمكنه عرقلة عملك بتؤلٌب المتهمٌن علٌك‪ .‬أنصحك أن تتركه حرا فً‬
‫مملكته”‪ .‬هذا ٌكشؾ عن وجود اتصال مباشر بٌن حمزة البسٌونً وعبد‬
‫الناصر عبر سامً شرؾ‪ ,‬وقد ثبت ذلك فً أعقاب القاء القبض علٌنا فً‬
‫‪ 26‬أؼسطس ‪ )1967‬فقد كان‬ ‫ما عرؾ بمإامرة “قضٌة المشٌر” (بعد‬
‫حمزة البسٌونً هو الوحٌد بٌن المعتقلٌن الذي ٌتمتع بالحرٌة الكاملة فً‬
‫المعتقل‪ ,‬ثم فوجئنا باإلفراج عنه بهدوء قبل بدء المحاكمة‪ ,‬كما لم ٌقدم أي‬
‫دلٌل إلدانته‪ ,‬رؼم أنه كان من المقٌمٌن الدائمٌن معنا فً منزل المشٌر فً‬
‫الجٌزة‪ ,‬كما حضر بعض االجتماعات التً عقدت فً المنزل للتحضٌر‬
‫لالنقالب‪ .‬وما أود اإلشارة إلٌه هنا أن عبد الناصر كان على علم كامل بما‬
‫ٌجري فً السجن الحربً من تعذٌب‪ ,‬بل ربما كان ٌتابع عملٌات التعذٌب‬
‫مباشرة عبر دوائر مؽلقة‪ ,‬ولن أبالػ إذا قلت إن التعذٌب كان ٌجري فً‬
‫بعض األحٌان بؤوامره شخصٌا! عالقتً بعبدالوهاب للموسٌقار الكبٌر‬
‫محمد عبد الوهاب مكانة كبٌرة فً قلبً وعقلً‪ ,‬فقد ارتبطنا معا بعالقة‬
‫صداقة وود‪ ,‬تخطت حدود اإلعجاب بصوته العبقري‪ ,‬وإبداعه الؽنائً ذلك‬
‫أن مكانته الفنٌة لم ٌنافسها أي فنان آخر‪ ,‬رؼم أنهم جمٌعا كانوا ٌتسابقون‬
‫على التقرب منً ودعوتً لحضور حفالتهم الفنٌة وجلساتهم الخاصة‬
‫ً‬
‫اعتقادا منهم أن اقترابهم منً ٌعنً بالضرورة‬ ‫بهدؾ تقدٌم أنفسهم‪,‬‬
‫االقتراب من رأس الدولة‪ ,‬وهو فً ذلك الوقت جمال عبد الناصر وعبد‬
‫الحكٌم عامر‪ .‬عالقتً بعبد الوهاب كانت محل نقاش وجدل دائم فً‬

‫‪39‬‬
‫األوساط الفنٌة أثناء وجودي فً السلطة‪ .‬هذا الجدل وصل إلى ذروته‬
‫خالل وجودي فً السجن‪ ,‬وال ٌزال مستمرا حتى الٌوم‪ ,‬رؼم هجرتً من‬
‫مصر ورحٌل عبد الوهاب عن الدنٌا‪ .‬لكن الرجل طٌلة حٌاته تجنب‬
‫الحدٌث عن عالقتنا‪ ,‬ال من بعٌد أو قرٌب‪ ,‬واعتبرها مرحلة مضت من‬
‫عمره‪ ,‬بحلوها ومرها‪ ,‬ومع ذلك لم تمر أي مناسبة إال وٌتجدد الحدٌث عن‬
‫تلك العالقة وخصوصٌتها‪ ,‬فقد وصل األمر بمن تناولوا هذا الموضوع الى‬
‫اتهامً بامتالك أستودٌو متكامل فً منزلً للؽناء‪ ,‬واننً كنت أختطؾ عبد‬
‫الوهاب وأجبره على تسجٌل أؼنٌات خاصة لً وألسرتً رؼمًا عنه!‬
‫الطرٌؾ أنه كثٌرً ا ما كان ٌتسبب فً إثارة المشكالت بٌن والدي ووالدتً‬
‫وأنا صؽٌر‪ ,‬اذ كان الوالد من عشاق فنه‪ ,‬وٌنتظر صدور أي أسطوانة‬
‫جدٌدة له لٌشترٌها فورً ا مهما كان ثمنها‪ ,‬فً حٌن كانت والدتً ترى‬
‫األجدى أن ٌشتري بثمن تلك األسطوانات حاجٌات األسرة‪ ,‬وهذه المعارك‬
‫العائلٌة ظلت تتكرر فً منزلنا بسبب الموسٌقار حتى وفاة الوالد (رحمه‬
‫ُ‬
‫تعرفت الى عبد الوهاب صدفة‪ ,‬فقد كان ٌشارك أم كلثوم فً‬ ‫هللا)‪ .‬لقد‬
‫‪ٌ 23‬ولٌو بعد العدوان‬ ‫إحدى االحتفاالت الوطنٌة‪ ,‬بمناسبة عٌد ثورة‬
‫الثالثً‪ .‬وبعد انتهاء الحفل انتظر المشاركون مصافحة عبد الناصر‬
‫والمشٌرعامر‪ ,‬حٌنها لمحنً عبد الوهاب وتعرؾ الً‪ ,‬وعلمت برؼبته فً‬
‫مصافحة عبد الناصر من دون أن ٌفصح عن ذلك‪ ,‬فؤخذته من ٌده وتوجهنا‬
‫مباشرة نحو الرئٌس وقدمته له‪ ,‬وتركته ٌتبادل معه أطراؾ الحدٌث‪ ,‬ثم‬
‫انشؽلت فً باقً ترتٌبات الحفل‪ ,‬وبعد مؽادرة الرئٌس بحث عنً وشكرنً‬
‫بحرارة كؤنً أسدٌت له جمٌالً كبٌرا‪ ,‬ثم تواعدنا على اللقاء مرة أخرى‬
‫وتبادلنا ارقام الهاتؾ‪ .‬بعد مضً شهر على هذا الموقؾ اتصل عبد‬

‫‪40‬‬
‫الوهاب بمنزلً‪ ,‬وكرر الشكر‪ ,‬ودعانً لحضور إحدى حفالته الؽنائٌة‪,‬‬
‫وبالفعل لبٌت الدعوة‪ .‬فً ختام الحفل اصر على أن نحتسً القهوة معًا‪,‬‬
‫ً‬
‫وتحفظا شدٌدٌن‪,‬‬ ‫ُ‬
‫لمست فً حدٌثه رهبة‬ ‫تحدثنا قلٌالً حول القضاٌا العامة‪,‬‬
‫ثم دعوته لزٌارتً بمنزلً‪ ,‬وقضٌنا وق ًتا ممتعًا‪ ,‬دار الحدٌث حول الفن‪,‬‬
‫ومشكالت الوسط الفنً‪ ,‬حٌنها طلب منً أن تساوي الدولة فً االهتمام‬
‫بالفنانٌن‪ .‬تدرٌجٌا اقتربت أكثر وأكثر من عبد الوهاب‪ ,‬وتعمق إعجابً‬
‫بشخصه وفنه‪ ,‬كما عرفت وللمرة االولى أنه مثل الكثٌر من الفنانٌن الذٌن‬
‫ٌشعرون بالرعب من السلطة ورجالها‪ ,‬كما أسر لً بعد ذلك أنه كان ٌرتعد‬
‫عندما ٌسمع اسم عبد الناصر أو أحد مساعدٌه‪ ,‬ثم أدركت فٌما بعد أن هذه‬
‫سمة ؼالبٌة الفنانٌن على مرِّ العصور‪ ,‬وانهم ٌسعون إلى كسب السلطة‬
‫القائمة اتقا ًء لشرها‪ ,‬وتجنبا للصدام معها أو معاداتها‪ .‬على عكس ما ٌردده‬
‫البعض أننً كنت أُجبر الرجل على الؽناء لً فً منزلً وبمفردي‪ ,‬فقد‬
‫فوجئت فً احدى زٌاراته جلب العود معه‪ ,‬وبدأ ٌُسمعنً آخر ألحانه‪,‬‬
‫وهكذا تحولت جلساتنا من مجرد زٌارات عادٌة إلى حفالت طرب‬
‫وموسٌقى‪ ,‬ولم ٌحدث على اإلطالق أن أجبرته على الؽناء‪ ,‬فهل هذا ٌعقل؟‬
‫عبد الوهاب بطبعه كان ؼٌورً ا‪ ,‬بما أنه قاسى وعانى من أجل الوصول إلى‬
‫مركز وموقع فرٌد فً عالم الموسٌقى‪ ,‬وظل حرٌصًا أن ٌحافظ على‬
‫وضعه‪ ,‬وكان ٌتابع ما تنشره الصحؾ من أخبار‪ ,‬وٌنشؽل كثٌرً ا بكل ما‬
‫ٌنشر‪ ,‬سواء عنه أو عن ؼٌره من نجوم جٌله‪ .‬من وجهة نظري كنت‬
‫متعجبًا من أمره; ألنه ال منافس له وال ٌوجد فً مصر والعالم العربً من‬
‫ٌستطٌع منازعته أو منافسته على عرش الموسٌقى والؽناء‪ ,‬لكنه كان دائم‬
‫القلق من هذه الجزئٌة‪ ,‬كما أنه كان ٌشكو كثٌرً ا من معاملة الصحافٌٌن‬

‫‪41‬‬
‫الذٌن ٌجاملون بعض الفنانٌن وهم ال ٌستحقون ذلك‪ ,‬وفً المقابل ربما‬
‫كانوا ٌتعمدون نشر أخباره بطرٌقة ال تتناسب مع تارٌخه ومكانته! منذ أن‬
‫عملت فً مكتب المشٌر عامر وأنا مهتم بترتٌب حفالت ثورة ٌولٌو‬
‫السنوٌة أو الحفالت التً تنظمها الشإون المعنوٌة فً الجٌش‪ ,‬فكنت محط‬
‫ً‬
‫اعتقادا منه‬ ‫اهتمام ؼالبٌة الفنانٌن‪ ,‬وكان معظمهم ٌسعى إلى التقرب منً‬
‫بؤن ذلك ٌإثر على ضمه او استبعاده من تلك الحفالت التً كان ٌشارك‬
‫فٌها الرئٌس عبد الناصر عادة‪ ,‬وؼالبٌة رجال الدولة‪ .‬وحقٌقة األمر ؼٌر‬
‫ذلك‪ ,‬فقد كانت هناك لجنة متخصصة تتولى ترشٌح الفنانٌن‪ ,‬وتتم مراجعة‬
‫أسماء المشاركٌن فٌها من جانب أجهزة المخابرات وأمن الرئاسة‪ ,‬ألن‬
‫لٌس من الالئق أن ٌشارك فنان أو فنانة مشبوهة فً مثل هذه الحفالت‬
‫الرسمٌة‪ ,‬فاألمور الفنٌة البسٌطة كانت تلقى اهتمامًا ومتابعة من الجهات‬
‫المختصة‪ .‬التسجٌالت النادرة نؤتً إلى قصة التسجٌالت النادرة‪ ,‬لم ٌكن‬
‫ً‬
‫مقصودا أن أحصل على تسجٌالت خاصة ونادرة من الفنان الكبٌر‪ ,‬بل إن‬
‫األمر كان ولٌد الصدفة البحتة‪ .‬فعندما تكررت زٌارة عبد الوهاب لمنزلً‬
‫أسبوعٌا تقرٌبا‪ ,‬حرص عبد الوهاب على أن ٌؽنً خالل تلك الزٌارات‪,‬‬
‫هنا عرضت علٌه أن نسجل جانبًا منها ألتمكن فٌما بعد من االستمتاع بها‬
‫إذا سافرت وفً أوقات الفراغ‪ ,‬فرحب فورا‪ ,‬وبدأ هو من تلقاء نفسه‬
‫ٌبلؽنً أنه ٌعمل على لحن جدٌد وٌرؼب فً أن ٌستطلع رأًٌ فٌه‪ .‬وهكذا‬
‫تكررت التجارب والتسجٌالت المتنوعة ألؼان قدٌمة تخصه هو أو ألحان‬
‫ُ‬
‫بدأت أقدم له بعض األشعار التً تصلنً من‬ ‫تخص مطربٌن آخرٌن‪ ,‬كما‬
‫بعض الضباط أو أقاربهم وأعرضها علٌه‪ ,‬فكان ٌستبعد ؼالبٌتها وٌلحن‬
‫بعضها‪ .‬لم أفكر لحظة فً استثمار تلك التسجٌالت النادرة بؤي صورة من‬

‫‪42‬‬
‫الصور‪ ,‬ولم ٌخطر ببالً ٌومًا أن اجعلها عمال تجارٌا‪ ,‬كما لم ٌحدث أن‬
‫ساومت الرجل على هذه األشرطة‪ ,‬بل على العكس تمامًا‪ ,‬فقد حرصت‬
‫على أن تظل التسجٌالت مجرد ذكرى جمٌلة‪ ,‬تعٌدنً إلى أٌام ولحظات‬
‫نادرة قضٌتها وأنا أستمع لصوت فنان عبقري‪ .‬كنت أسمو فً عالقتً‬
‫بالموسٌقار الكبٌر إلى درجة كبٌرة‪ ,‬وٌكفً أنه كان ٌعلم مكانته لدي‬
‫وصدق عالقتً به‪ ,‬كما أننً فعالً كنت متٌمًا بفن وموسٌقى عبد الوهاب‪,‬‬
‫وكان ٌصطحب زوجته نهلة القدسً معه فً بعض زٌاراته التً امتدت‬
‫لسنوات‪ ,‬فهل كان عبد الوهاب ٌقبل أن ٌؽنً مكرهًا لشمس بدران أو ؼٌره‬
‫طوال سنوات عدة من دون أن ٌشكو أو ٌتؤلم؟ لم ٌتضرر عبد الوهاب من‬
‫جلساتنا األسبوعٌة‪ ,‬بل كان ٌؤتً سعٌ ًدا‪ ,‬كما كان دائمًا ٌجدد أؼانٌه من‬
‫القدٌم إلى الجدٌد‪ ,‬وٌظل ٌؽرد طوال اللٌل محتض ًنا عوده فً نهاٌة كل‬
‫أسبوع فً إبداع وتؤلق منقطع النظٌر‪ ,‬وبعد أن ٌشعر بالتعب والرؼبة فً‬
‫النوم أصطحبه بعد منتصؾ اللٌل فً سٌارتً‪ ,‬وال أتركه إال بعد أن أتؤكد‬
‫من دخوله إلى بٌته‪ .‬لم أكرر عالقتً ب¯عبد الوهاب مع أي مطرب أو‬
‫مطربة أخرى‪ ,‬رؼم ؼٌرتهم من تلك الخصوصٌة التً تربطنً به‪ ,‬حتى‬
‫ان أم كلثوم أبلؽت بعض أصدقائً بقلقها من هذه العالقة‪ ,‬لكنً لم أبال‬
‫ُ‬
‫وتجنبت اللقاء معها أكثر من مرة‪,‬‬ ‫ألنً لم أكن من المعجبٌن بها وال بفنها‪,‬‬
‫لٌس عٌبًا فٌها ولكن ذوقً الفنً لم ٌتوافق مع لون أؼانٌها وال مع فنها‪,‬‬
‫على عكس ما حدث مع عبد الوهاب وفنه‪ .‬طبعًا أنا لست ً‬
‫ناقدا فنٌا وال‬
‫متخصصًا‪ ,‬لكنً مجرد مستمع ومتذوق جٌد للفن والموسٌقى العربٌة‬
‫والؽربٌة‪ ,‬ومن هذا الموقع أتصور أن عبد الوهاب احدى الظواهر الفنٌة‬
‫النادرة التً قلما ٌجود بها الزمان على أمة مثل األمة العربٌة‪ .‬أذكر أننً‬

‫‪43‬‬
‫ُ‬
‫قابلت عبد الوهاب أثناء عالجه فً بارٌس‪ ,‬وكان فً‬ ‫فً إحدى المرات‬
‫حقٌبتً أحد األشرطة التً سجلناها معًا‪ ,‬وخالل اللقاء استمعنا لمحتواه‪,‬‬
‫وأعادتنا األؼنٌة إلى الوراء ألكثر من عشرٌن عاما‪ ,‬وعندما تؤكد من نقاوة‬
‫الصوت فً الشرٌط سؤلنً ماذا ستفعل فً هذه األؼانً؟ فقلت له أحتفظ‬
‫ببعضها الستعادة الذكرٌات واالستمتاع بها فً الؽربة‪ ,‬اقترح فكرة‬
‫استثمار مضمونها الفنً‪ ,‬وإعادة طرحها فً األسواق تجارٌا عبر الشركة‬
‫الفنٌة التً كان ٌملكها‪ ,‬وعدته بالبحث عنها ومحاولة تجمٌعها‪ ,‬لكن هذا لم‬
‫ٌحدث‪ ,‬لٌس عمدا‪ ,‬بل ألننً فشلت فً العثور علٌها‪ ,‬فقد كنت أنوي ردها‬
‫لصاحبها ألنها ال تمثل بالنسبة لً أكثر من كونها جزءًا من ذكرٌات‬
‫لمرحلة مثٌرة من عمري‪ .‬ما مصٌر تلك األشرطة؟ طبعًا هذا السإال كثٌرً ا‬
‫ما رددته الصحؾ فً مصر‪ ,‬وبخاصة المهتمون بجمع تراث الراحل‬
‫العظٌم‪ .‬لن ٌصدق البعض أن ظروؾ خروجً من مصر وما صاحبها من‬
‫عجلة وقالقل لم تتح لً فرصة جمع هذه األشرطة‪ .‬الذي حدث أننً حملت‬
‫معً بعضها إلى الخارج‪ ,‬ونظرً ا الى تنقلً من بلد إلى بلد ومن مسكن إلى‬
‫مسكن كانت النتٌجة ضٌاع ؼالبٌة هذه األشرطة‪ ,‬والشرٌط الوحٌد الذي‬
‫تبقى بحوزتً حصل علٌه أحد الصحافٌٌن على سبٌل الهدٌة‪ ,‬بعد أن أسدى‬
‫ُ‬
‫علمت من‬ ‫لً جمٌالً ٌتعلق بظهوري فً برنامج تلفزٌونً‪ ,‬لكن المإلم أننً‬
‫صدٌق مصري بعد ذلك أن هذا الشخص عرض بٌع هذا الشرٌط النادر‬
‫ألحد األثرٌاء العرب مقابل ‪ 5‬مالٌٌن جنٌه مصري! كنت وما زلت حزٌ ًنا‬
‫على ضٌاع هذه الثروة الفنٌة النادرة‪ ,‬التً أدرك قٌمتها والتً ال تقدر بثمن‬
‫ألسطورة الفن والموسٌقى العربٌة محمد عبد الوهاب‪.‬انتهى‪.‬‬

‫‪http://ktoob1435.blogspot.com‬‬ ‫مع تحيات مدونة مذكرات كتاب قرأته‬

‫‪44‬‬

You might also like