Professional Documents
Culture Documents
مذكرات شمس بدران
مذكرات شمس بدران
شمس بدران
2014
0
قمنا فً مدونة مذكرات كتاب قرأته http://ktoob1435.blogspot.comبإعداد هذا
الكتاب من خالل نسخ نصوصه من الحلقات التً نشرتها جرٌدة
1
الحلقة األولى
2
األسباب الحقٌقٌة لهزٌمة ٌونٌو 1967وتآمر الروس واألمٌركٌٌن على
بالده ,ودور انور السادات فً تورٌط مصر بحرب الٌمن وعالقة
عبدالناصر بحمزة بسٌونً ,باإلضافة الى العدٌد من األسرار عن أهل الفن
وعالقتهم بصناع القرار فً مصر فً تلك المرحلة ,أٌضا ٌتحدث عن
عالقته بصدام حسٌن بعد خروجه الى المنفى حٌث ٌقٌم حتى الٌوم فً
برٌطانٌا ,والالفت ان الرجل احتفظ باسراره لنفسه اذ ال ٌعرؾ حتى افراد
اسرته الكثٌر عن شخصٌته العسكرٌة ودوره فً مصر ,ولذلك فً احدى
المرات كان قد حذر كاتب المذكرات من االستفاضة بالحدٌث مع زوجته
عن شخصٌته العسكرٌة ,ولهذا فإن ما ٌروٌه شمس بدران هو فً جانب
منه سبر أؼوار هذه الشخصٌة التً حاولت لسنوات طوٌلة االحتفاظ
بؤسرارها الى االبد ,لكن هناك من استطاع فتح هذه الخزانة ربما ألن
بدران أٌقن بعدما وصل الى هذه السن ان من حق المصرٌٌن علٌه معرفة
. ما خفً عنهم فً تلك المرحلة وٌستفٌدوا منه فً المرحلة الحالٌة
وفً ما ٌؤتً ما قاله وزٌر الحربٌة المصري األسبق:
5
لكن على كل حال كان عبدالناصر أكثر الناس التزامًا من الناحٌة
األخالقٌة ,فلم ٌكن لدٌه الوقت ولم تتح له ظروفه أن ٌنجرؾ إلى مثل هذه
االمور .و رؼم ذلك فإن كل ما قٌل عن إعجاب السادات بالمذٌعة همت
مصطفى ,فإن الحقٌقة هً أن المعجب األول بها كان عبدالناصر ,فقد
طلبها باالسم لتؽطٌة زٌارة مهمة للجزائر ,وأذكر أنها كانت ال تزال
صؽٌرة السن ,وفً المستوى العادي إعالمٌا ,مما دفع الصحافً موسى
صبري الى كتابة مقالة نشرت فً صحٌفة”األخبار” انتقد فٌها من اختارها
لتؽطٌة حدث بهذا المستوى ,فصدر قرار فوري بوقفه عن العمل.
بذخ عبدالناصر
ً
بعٌدا عن الحٌاة الجنسٌة والعاطفٌة ,فإن الدعاٌة اإلعالمٌة الجبارة نجحت
فً تصوٌر عبدالناصر أنه ٌعٌش فً حالة تقشؾ وضنك ,وأن طعامه لٌس
سوى كسرة خبز وقطعة من “الجبن القرٌش” ,كما أن أبناءه عاشوا حٌاة
صعبة ,لم ٌستمتعوا فٌها مثل ؼٌرهم من أطفال مصر .لكن الحقٌقة أن
ً
مبالؽا فٌها بدرجة كبٌرة ,فإن الرئٌس بالفعل مسؤلة “الجبن القرٌش” لٌس
كان اكثر أكله من الجبن ,لكن لٌس القرٌش ,بل الجبن السوٌسري ,وهو
من أفخم وأؼلى األنواع ,كما كان ٌوجد فً المنزل -سواء فً كوبري القبة
. أو االسكندرٌة -مخزن ٌضم أفضل المؤكوالت والمعلبات المستوردة
أما بالنسبة الى اوالده ,فٌمكن الرجوع إلى المهمات المتكررة التً كان
ٌكلؾ بها سامً شرؾ بالسفر إلى لبنان لشراء متطلبات أسرة الرئٌس من
المالبس حتى لعب األطفال( .شرؾ هو أحد مإسسً المخابرات العامة
المصرٌة ,وسكرتٌر الرئٌس عبدالناصر الشخصً للمعلومات ,قبل وفاة
عبدالناصر ,عٌن وزٌرً ا للدولة ثم وزٌرً ا لشإون رئاسة الجمهورٌة ,وذلك
6
).1970 فً شهر أبرٌل عام
وقد ٌكون أمرا طبٌعٌا ,ومن حق عبدالناصر وأسرته أن ٌعٌشوا فً وضع
ٌلٌق بهم ,لكن األمر المدهش أن آلة اإلعالم المزٌؾ خاضت فً رسم
صورة منافٌة للواقع والحقٌقة عن حٌاة الرجل وأسرته .لكن من أهم ما
ٌحسب لعبدالناصر أنه كان ٌكبح جماح أي مسإول فً الدولة ,وكان
حرٌصًا على المال العام ,وال ٌتهاون مع الفاسدٌن ,ولم تمتد ٌده إلى أموال
الدولة ,بل كان ٌتقاضى راتبه المحدد ,إلى جانب مخصصات الرئاسة
والمصارٌؾ السرٌة التً كان ٌساعد منها أي ضابط أو شخص ٌتعرض
لظروؾ استثنائٌة طارئة .وظل ٌتعامل مع رفاقه والمحٌطٌن به بتواضع
شدٌد ,حتى حادث االعتداء على حٌاته فً مٌدان المنشٌة فً اإلسكندرٌة
عام 1954,وبعد الحادث أصبح عبدالناصر شخصًا آخر.
تحوٌله أسطورة
7
. المتعلقة بترقٌات قادة القوات المسلحة
هنا قدم المشٌر عبدالحكٌم عامر استقالته للمرة االولى ,وحدث أول خالؾ
بٌن الصدٌقٌن ,لكن عبدالناصر تدارك الموقؾ واسترضى المشٌر ,وجرت
. مصالحة كانت الكفة فٌها لصالح عامر
ظل هٌكل ٌمارس أالعٌبه فً إقناع الرأي العام أن عبدالناصر لٌس شخصًا
عادٌا ,بل هو أسطورة وزعامة تارٌخٌة .من جانبً لم أختلؾ مع هٌكل
على زعامة عبدالناصر ,فقد كان بحق الشخصٌة األبرز فً العالم العربً,
لكن الخالؾ كان على التمادي فً هذا التصور إلى درجة تحول فٌها
عبدالناصر من إنسان إلى نصؾ إله .ولدرجة أن الرجل نفسه صدق ذلك,
فقد اعتاد فً سنوات ما قبل هزٌمة 1967أن ٌرفع ٌده لكل من ٌستقبله
. بطرٌقة تبدو فً الصور كؤن الضٌؾ ٌُ َقبِّل ٌده
ُ
ذهبت مع وفد رجال أعمال لم أكن أصدق ما ٌفعله الرئٌس إلى أن
أمٌركٌٌن كانوا ٌستعدون لالستثمار فً مشارٌع صناعٌة واستثمارٌة
ضخمة فً مصر ,وعندما صافحهم كان ٌرفع ٌده وٌمدها بالقرب من وجه
ك ٍّل منهم ,كؤنه ٌطلب تقبٌلها .وأحد الضٌوؾ لفت نظري فتعمدت التركٌز
على تلك الحركة أثناء المؽادرة ,ثم تكرر المشهد مع شخصٌات عربٌة
وأجنبٌة عدة ,كان مثل هذا السلوك مستحدثا ودخٌال على شخصٌة
عبدالناصر التً نعرفها جمٌعًا ,ولم أجد ما مبرره سوى دور هٌكل فً
! استكمال صناعة األسطورة
لو أضفنا رد الفعل الشعبً على قرار تؤمٌم قناة السوٌس إلى نتائج عدوان
1956,ثم الموقؾ األمٌركً الؽبً من تجمٌد قرض بناء السد العالً ,نجد
أنفسنا أمام مجموعة أحداث جمعتها الصدفة لتصب مباشرة فً دفع
8
. عبدالناصر للتحول زعٌما إقلٌمٌا
فً عام 1956منح عبدالناصر قالدة النٌل لؽالبٌة رفاقه فً الثورة ,وبعد
إعالن نتٌجة االستفتاء على الرئٌس والدستور ,تقدم أعضاء مجلس قٌادة
. الثورة باستقاالتهم
فً ذلك الوقت كانت هناك بعض المواقؾ ,منها أن جمٌع المحٌطٌن
بالرئٌس لم ٌعد ٌنادونه باأللقاب التً اعتادوا أن ٌطلقوها علٌه ,اذ كانوا
ٌنادونه باسمه مجر ًدا ,أو أخ جمال ,وأحٌا ًنا “ٌا جٌمً” ,لكن فجؤة أطلق
علٌه السادات لقب “رٌس” ثم بدأ ٌطلب من الجمٌع أن ٌتوقفوا عن مناداة
”. الرئٌس بؤي لقب ؼٌر “رٌس
لكن حدث موقؾ الفت وفارق أٌضًا ,فقد فوجئنا أثناء افتتاح البرلمان أنه
ٌصدر تعلٌماته بالدخول بمفرده من بوابة المجلس ,وهنا وضع بداٌة جدٌدة
لعالقاته مع رفاقه فً مجلس قٌادة الثورة الذٌن انزووا جمٌعًا ,وحملوا
عبدالناصر المسإولٌة بعد أن شعروا أن دورهم انتهى ,ولم ٌعد مرؼوبًا
بوجودهم على الساحة السٌاسٌة .لقد كان الشك أبرز صفات عبدالناصر,
ً
جهازا خاصا لٌتمكن من لذلك كان حرٌصًا -رؼم انشؽاله -أن ٌقتنً
. التنصت بنفسه على هواتؾ أقرب الناس إلٌه
شك بالجمٌع ,بما فٌهم المشٌر عامر وأنا وهٌكل أٌضًا ,وحتى أعضاء
مكتبه وبعض أفراد أسرته ,فقد كانت هناك أجهزة تتولى هذا الدور,
وترسل إلٌه محتوى المكالمات فورا وبانتظام ,فضالً عن وجود طاقم فً
مكتبه ٌإدي المهمة نفسها ,إال أنه لم ٌطمئن لكل هإالء ,ومارس هذه
الهواٌة بنفسه وبشكل دائم ,مما ٌثبت أنه كان ٌعانً من الشك فً كل َمن
حوله.
9
كان المشٌر عكس عبدالناصر تمامًا فً مثل هذه األمور ,هذا ال ٌعنً أنه
لم ٌكن ٌتخذ االحتٌاطات الالزمة فً أوقات الضرورة ,لكن كانت صفة
الشك ؼٌر موجودة لدٌه ,وكان ٌفترض حسن الظن فً اآلخرٌن حتى ٌثبت
العكس ,أما عبدالناصر فكانت لدٌه المسؤلة معكوسة; حٌث ٌفترض سوء
الظن فً اآلخرٌن حتى ٌثبت العكس.
10
الحلقة الثانية
11
للجمهورٌة كما ٌكشؾ عن األسباب الحقٌقٌة لهزٌمة ٌونٌو 1967وتآمر
الروس واألمٌركٌٌن على بالده ,ودور انور السادات فً تورٌط مصر
بحرب الٌمن وعالقة عبدالناصر بحمزة بسٌونً ,باإلضافة الى العدٌد من
األسرار عن أهل الفن وعالقتهم بصناع القرار فً مصر فً تلك المرحلة,
أٌضا ٌتحدث عن عالقته بصدام حسٌن بعد خروجه الى المنفى حٌث ٌقٌم
حتى الٌوم فً برٌطانٌا ,والالفت ان الرجل احتفظ باسراره لنفسه اذ ال
ٌعرؾ حتى افراد اسرته الكثٌر عن شخصٌته العسكرٌة ودوره فً مصر,
ولذلك فً احدى المرات كان قد حذر كاتب المذكرات من االستفاضة
بالحدٌث مع زوجته عن شخصٌته العسكرٌة ,ولهذا فإن ما ٌروٌه شمس
بدران هو فً جانب منه سبر أؼوار هذه الشخصٌة التً حاولت لسنوات
طوٌلة االحتفاظ بؤسرارها الى االبد ,لكن هناك من استطاع فتح هذه
الخزانة ربما ألن بدران أٌقن بعدما وصل الى هذه السن ان من حق
المصرٌٌن علٌه معرفة ما خفً عنهم فً تلك المرحلة وٌستفٌدوا منه فً
المرحلة الحالٌة .وفً ما ٌؤتً ما قاله وزٌر الحربٌة المصري األسبق :بعد
الهزٌمة تعمق لدي اإلحساس بضرورة االبتعاد ,واالكتفاء بما ادٌته من
مهمات ألكثر من 15عامًا متواصلة من الضؽوط والمفاجآت .لم أكن
ً
سعٌدا بفكرة اختٌاري رئٌسًا لمصر فً تلك الظروؾ وبتلك الطرٌقة ,لكن
ُ
اكتشفت أن عبد الناصر كان ٌرؼب فً استمالتً بؤي وسٌلة ,ألنه بعد ذلك
ُ
شئت ذلك وبمنتهى كان ٌدرك أننً قادر على اإلطاحة به فورً ا إذا
السهولة .فعالً ربما ٌكون أكبر خطؤ وقعت فٌه ,وأعترؾ اآلن به ,وهو
اننً كان علً ٌوم ٌ 6ونٌو 1967إلقاء القبض على عبد الناصر ,وتقدٌمه
للمحاكمة على جرٌمة تورٌطه مصر وجٌشها فً حرب عبثٌة كان بإمكاننا
12
تجنبها ,لو كانت لدٌنا قٌادة سٌاسٌة أكثر حكمة من عبد الناصر .طبعًا هذا
الكالم سوؾ ٌصدم كل دراوٌش الناصرٌة ,وكل الذٌن تؤثروا بالدعاٌة
السوداء فً إعالم عبد الناصر ,الذي أسند مهمته إلى الصحافً الشهٌر
محمد حسنٌن هٌكل أكبر كاذب عرفته مصر فً القرن العشرٌن .لكن لكل
هإالء وؼٌرهم ممن صدقوا تلك األكاذٌب أقول:إن التارٌخ والوثائق
والسجالت الرسمٌة تحتوي على أدلة براءة المشٌر والجٌش من تلك
الكارثة ,وتشٌر أصابع االتهام إلى القٌادة السٌاسٌة التً كانت مهمة عبد
الناصر وحده وبال منازع .أي مإرخ منصؾ عندما ٌطلع على السجالت
واللقاءات التً َدوَّ نت مواقؾ عبد الناصر من بداٌة ٌونٌو ٌ 1967جد أنه
كان خاضعًا لتؤثٌر أالعٌب السوفٌات المرٌبة بطرٌقة ؼٌر طبٌعٌة ,فمثالً
رؼم تبٌن كذبهم فً مسؤلة الحشود اإلسرائٌلٌة على الحدود السورٌة,
ومماطلتهم فً تزوٌدنا قطع ؼٌار الطائرات الضرورٌة ,وعدم وضوح
موقفهم السٌاسً فً حال تعرض مصر لعدوان مفاجئ ,وتحفظ قادة
الجٌش والطٌارٌن على طرح عبد الناصر الخاص بتحمل تبعات الضربة
اإلسرائٌلٌة األولى ,كل هذا وؼٌره فوجئنا به ٌصدق تسرٌباتهم حول
تخطٌط إسرائٌل لتوجٌه ضربة عسكرٌة لمصر ٌوم 4أو ٌ 5ونٌو ,ثم ٌؽلق
المالحة فً خلٌج العقبة ,وطرد القوات الدولٌة ,ونشر قوات مصرٌة فً
شرم الشٌخ ,وهو ما سبق وحذر منه الفرٌق عبد المحسن كامل مرتجى
( ,)2013 – 1916قائد الجٌش المصري فً حرب الٌمن 1964 ,وقائد
جبهة سٌناء فً نكسة 1967اذ قال ”:إن ذلك سٌجر مصر إلى حرب مع
إسرائٌل ,والجمٌع وعلى رأسهم عبد الناصر ٌعلم أننا لم نكن على استعداد
لدخول المعركة فً هذا الوقت” .بماذا نسمً كل هذا التهور السٌاسً؟ أنا
13
شخصٌا رؼم أننً كنت وزٌرً ا للحربٌة نفذت التعلٌمات التً أقرها عبد
الناصر والمشٌر ,ألننً كنت أتصور أن من خالل عالقاته الدولٌة –
خصوصا الروس – لدٌه معلومات وٌرى الصورة بشكل أوضح ,وفً
النهاٌة علٌه أن ٌتحمل المسإولٌة أمام الشعب والعالم .فً ٌونٌو عام
1967خٌب عبد الناصر ظنً وظن ؼالبٌة قادة المٌدان فً قدرته الفائقة
على تقدٌر الموقفٌن العسكري والسٌاسً ,وؼامر بفتح نار جهنم على
مصر وجٌشها ,وتوهم ,أو أوهمه الروس وربما ؼٌرهم ,بؤوهام دفعت
ً
باهظا لها ,أما المشٌر عبدالحكٌم عامر فقد ٌتحمل أمام التارٌخ مصر ثم ًنا
موافقته عبد الناصر والسٌر وراء خٌاله بتنظٌم تظاهرة عسكرٌة ,وقبول
فكرة “تهوٌش” إسرائٌل فً ذلك العام من دون مراجعة أو توقع للنتائج
الكارثٌة لتلك المؽامرة .قربً من المشٌر كشؾ لً حقٌقة معدن هذا الرجل
الوطنً المخلص بحق لجٌشه ولبالده ,فقد كان شدٌد اإلٌمان بوطنٌة
وإخالص عبد الناصر ,وكان ٌرفض حتى آخر لحظة مجرد التشكٌك فً
امكانٌة ان ٌؽدر به أو ٌخونه أو ٌنقلب علٌه ,وٌفضل اللعب على المكشوؾ
بدالً من الضرب تحت الحزام أو التجسس أو التنصت على أقرب الناس
إلٌه! وأقول لمن أسكرته دعاٌة هٌكل الكاذبة :إن قادة وجنود القوات
المسلحة لٌسوا سذجً ا أو مؽررً ا بهم جمٌعًا لٌحظى المشٌر بحبهم ودعمهم
والوالء له ,فً ذروة زعامة عبد الناصر محلٌا ودولٌا ,فقد كانت إنسانٌته
وشهامته ووطنٌته هً التً دفعت جمٌع قادة القوات المسلحة بجنودها
وضباطها الى ان ٌدٌنوا بالوالء واالنتماء إلى قائدهم .الذي ال تعرفه ؼالبٌة
المصرٌٌن حتى الٌوم أن المشٌر عامر هو من بنى جٌش مصر الحدٌث
بصورته القائمة حالًٌا ,فقد كنا من قبل نتندر على الجٌش ونحن جزء منه
14
بؤنه جٌش “المحمل” ٌعنً ٌنتظره المصرٌون سنوٌا فً موسم الحج وهو
ٌستعرض كسوة الكعبة التً كانت تتبرع بها مصر كل عام ,كما كان
ضباطه وجنوده ٌستعرضون حرس الشرؾ أمام الملك فً المناسبات
الرسمٌة ,وأبسط دلٌل على ذلك تلك الهزٌمة التً وقعت للجٌش المصري
على أٌدي العصابات الٌهودٌة عام 1948 ,وكانت سببًا أساسٌا فً ثورة
ٌ 23ولٌو 1952.ففً عهد قٌادة المشٌر للجٌش ,نعم كانت هناك أخطاء
وإخفاقات ,بل وتجاوزات أٌضا ,إال أن االنصاؾ ٌفرض علًَّ االعتراؾ
بفضله وكفاءته وشفافٌته فً إرسال البعثات وبمئات من الضباط
المصرٌٌن إلى روسٌا وإنكلترا ,الذٌن أسهموا بخبراتهم وعلمهم فً إعادة
بناء جٌش مصر الوطنًٌ .كفً أن أتخٌل معكم لو كان المشٌر فً موقع
عبد الناصر ,أُجزم أنه ,ووف ًقا لمعرفتً به لن ٌوافق ً
أبدا على حصار بٌته
وال اعتقاله وال تسلٌمه لشخصٌات كانت تكن له كل الحقد والكراهٌة ,كما
لم ٌكن ٌسمح مهما كانت الضؽوط بإعدامه والتخلص منه بهذه الطرٌقة,
بعد حملة ضارٌة لتشوٌهه وتحمٌله أخطاء وخطاٌا كل األطراؾ! مستنقع
الٌمن ال أحد ٌنكر أننا كنا فً ؼنى عن تورٌط الجٌش المصري فً مستنقع
الٌمن ,وكان باإلمكان تحقٌق مصالح مصر الستراتٌجٌة وتقدٌم الدعم
الالزم ألشقائنا فً الٌمن ,لكن من هو صاحب فكرة إرسال الجٌش
المصري الى الٌمن؟ وكٌؾ حدث هذا؟ ومن ٌتحمل مسإولٌة تلك الكارثة؟
عبد الناصر أم المشٌر؟ ظل هذا السإال ٌراودنً كثٌرً ا ,رؼم مشاركتً فً
بعض مراحل حرب الٌمن ,ورافقت المشٌر فً سفرٌاته إلى هناك مرات
عدة ,وطرحت السإال على المشٌر فلم أجد لدٌه اإلجابة الشافٌة ,إما عن
قصد أو عن تعمد للتهرب من تقدٌم اإلجابة الحقٌقٌة على السإال .لكن عند
15
عبد الناصر وجدت ضالتً .ففً وسط تفاقم أزمة جنودنا ,وتصاعد التكلفة
البشرٌة والمالٌة على أرض الٌمن ,جمعنً لقاء مع عبد الناصر ,وفجؤة
وجدته ٌبلؽنً أن السادات كان سبب تورٌطنا فً الٌمن .كانت المرة األولى
التً أعلم فٌها بعالقة السادات بموضوع الٌمن ,فهو كان على عالقة
بزوجة شخصٌة سٌاسٌة ٌمنٌة مرموقة ,ووف ًقا لهذه العالقة جاءت فكرة
إرسال فرقة عسكرٌة مصرٌة لمساندة الثوار الٌمنٌٌن ,الذٌن تؤثروا بالثورة
المصرٌة وأرادوا أن ٌكرروا نموذج ٌولٌو 52فً بالدهم .وقال لً عبد
الناصر أن السادات ظل ٌلح علٌه إلظهار أهمٌة وجودنا إلى جانب األشقاء
فً الٌمن ,وأن حضورنا هناك من شؤنه تؤمٌن باب المندب الذي ٌعد
عنصرً ا حٌوٌا لتؤمٌن المالحة فً قناة السوٌس ,وؼٌرها من األسباب.
واقتنع عبد الناصر بفكرة السادات -كما قال -وطلب من المشٌر زٌارة
الٌمن ودراسة الموقؾ استعدا ًدا إلرسال قوات رمزٌة الى هناك .وعبر آلة
الدعاٌة الهٌكلٌة ( نسبة الى الصحافً محمد حسنٌن هٌكل الذي كان مقربا
جدا من عبد الناصر) ,جرى تصوٌر الموقؾ على أن وجود قواتنا فً
الٌمن ٌصب فً صمٌم القومٌة العربٌة ,التً كانت درة التاج عند عبد
الناصر .وهكذا ٌوما بعد ٌوم وكتٌبة تجر كتٌبة ,أصبح ربع الجٌش
المصري المدرب مشتتا وسط جبال الٌمن الوعرة ,والسبب عالقة حمٌمٌة
كان تربط بٌن السادات وتلك السٌدة .وهذا كما قال الرئٌس عبد الناصر
الذي اكتشؾ بالصدفة عبر بحثه المخابراتً عن سر حماسة السادات
المبالػ فٌها إلرسال القوات المصرٌة الى الٌمن! كان طبٌعٌا أن ٌخطئ
انور السادات وٌتالعب بمصٌر مصر ومستقبل جٌشها ,وٌتحمس عبد
الناصر ,وفً المقابل ٌتحمل المشٌر أمام الرأي العام مسإولٌة تورط
16
الجٌش فً الٌمن! لم ٌكن لٌحدث هذا إال فً وجود آلة هٌكل اإلعالمٌة
المضللة ,التً اعتادت قلب الحقائق وتزٌٌؾ التارٌخ .تلك الرواٌة عن دور
السادات فً حرب الٌمن سوؾ تصدم الناصرٌٌن والساداتٌٌن ,كالهما ربما
ٌتهمنً بؤفظع االتهامات ,وٌشكك فً مصداقٌة تلك الحقٌقة ,لكن بعض
السٌاسٌٌن الٌمنٌٌن ٌعرفون ذلك ,وهناك مقربون من عبد الناصر رووا
القصة نفسها لً أٌضًا .لكن لألمانة كان عبد الناصر ٌعترؾ بهذه الورطة
وهو متؤلم ,وٌعترٌه الخجل ,ألنه ٌشعر فً النهاٌة أنه المسإول حتى لو
كان السادات زٌن له أهمٌة إرسال القوات المصرٌة إلى هناك .أذكر أن
الرئٌس عبد الناصر عندما اعترؾ لً بعالقة السادات بتورٌط مصر فً
أوحال الٌمن رواها بشًء من المرارة واألسى المخلوط بالسخرٌة ,اذ
قال”:إن السادات استمتع بامرأة ٌمنٌة ,فكلؾ الخزانة مالٌٌن الدوالرات,
وفقدنا آالؾ الشهداء فً جبال الٌمن” ,ثم تحدث بطرٌقة شعبٌة ال تخلو من
الوضوح عن تلك العالقة ,بما ٌوحً بمدى ثقته فً المعلومات التً ٌستند
إلٌها فً اتهام السادات! طبعًا ,التدخل فً الٌمن وإرسال قواتنا إلى هناك
كان بالفعل فكرة السادات ,لكن سرعان ما القت قبوالً وترحٌبًا من عبد
الناصر ألسباب عدٌدة ,منها :رؼبته فً التؽطٌة على فض الوحدة مع
سورٌة بالطرٌقة التً كبدت مصر خسائر مادٌة ومعنوٌة وسٌاسٌة فادحة,
فضالً عن اعتقاده أن الحضور المصري فً الٌمن ربما ٌسهم فً كسر
حالة الحصار االقتصادي التً كان ٌواجهها نظامه ,كما أنه كان ال ٌزال
مإم ًنا بدور مصر فً مساعدة حركة التحرر العربٌة ,وأن الوجود
المصري فً الٌمن ٌسهم فً دعم فكرة القومٌة العربٌة ,وتعمٌق زعامته
لدى العرب ,وهذا األمر كان فً ؼاٌة األهمٌة بالنسبة الٌه .ال عبد الناصر
17
وال عبد الحكٌم عامر كانا ٌدركان أن األمر فً الٌمن لن ٌقتصر على
إرسال سرٌة رمزٌة من الصاعقة قوامها 200جندي ,لم ٌتخٌل أحد أنه
سٌؤتً وقت ٌكون لنا نحو 60ألؾ جندي هناك ,ألن جنودنا لم ٌخوضوا
حربًا نظامٌة كما تدربوا ,األمر فً الٌمن كان أقرب إلى حرب العصابات,
وهو ما ضاعؾ من مصاعب مهمتنا ,وتسبب فً رفع عدد خسائرنا من
األفراد والمعدات بطرٌقة لم تكن فً الحسبان .أذكر أن عبد الناصر قرر
تقٌٌم الموقؾ فً الٌمن ,وطلب االجتماع مع بعض القادة العائدٌن من
هناك ,وكان االجتماع فً قصر المنتزه فً اإلسكندرٌة ,وكانت هناك نٌة
لتطوٌر العملٌات ومهاجمة منطقة “جٌزان” المتنازع علٌها ,وقتذاك ,بٌن
السعودٌة والٌمن ,خصوصا أن المعلومات االستخباراتٌة كشفت عن أن
االمام البدر هرب إلٌها واستقر فٌها ,وهناك احتضنته السعودٌة ,وقدم
الملك فٌصل له الدعم ,وزود قواته بالسالح ,وشرع فً استمالة القبائل
الٌمنٌة ضد الوجود المصري .فٌما كانت هناك أصوات تنادي بالخروج
بؤقل خسائر من الٌمن وفً أسرع وقت ,لكن هنا دخل عبد الناصر فً
عناد مع السعودٌٌن بعد إعالن دعمهم لحكم اإلمام البدر الذي كان ٌتعمد
هو ووالده أن ٌبقى الٌمن خارج التارٌخ ,وبعد شرح بعض القادة للموقؾ
فً حال الدخول فً هذه المؽامرة أن القوات المصرٌة ربما تحتاج الى
ضعؾ اإلمكانٌات المتوفرة فً العدد والعتاد كً تنجح المهمة .فً ذلك
االجتماع طلب أحد القادة الكلمة وحذر من خطر تورطنا فً هذه القضٌة
ألن األمٌرٌكٌٌن لن ٌتركوا مصر تقترب من حدود السعودٌة ,واألرجح
أنهم سٌدخلون وبقوة على الخط إلنقاذها من التهدٌد المصري ,فً حال
نجحت عملٌة استعادة جٌزان .بعض الحاضرٌن المتحمسٌن للهجوم على
18
جٌزان قال:إن األمٌركٌٌن متورطون فً حرب فٌتنام ,ولن ٌؽامروا
بمحاربة الجٌش المصري ,لكن والحق ٌقال صمت عبد الناصر قلٌالً ثم
تراجع عن الفكرة ,وفضل تسوٌة الخالؾ مع السعودٌة بطرٌقة مباشرة
عبر لقائه مع الملك فٌصل .الٌمن كان مل ًفا شائ ًكا ,وكان عبد الناصر ٌسعى
فً ذلك الوقت إلى تثبٌت زعامته العربٌة واإلقلٌمٌة ,لكن لألسؾ على
حساب الجٌش والخزانة التً كانت تعانً أصالً من شح العملة الصعبة.
ُ
وبدأت فً إقناع عبد فً هذا الوقت تبنٌت فكرة االنفتاح على األمٌركٌٌن,
الناصر بفتح الباب أمام االستثمارات األمٌركٌة ,وكان لً صدٌق مصري
على عالقة قوٌة بكبار أصحاب المصانع والشركات األمٌركٌة ,فرتبت لهم
زٌارة إلى القاهرة ,وبالفعل نجحت الزٌارة فً لفت أنظارهم الى عدد من
المشارٌع الضخمة فً مجال البتروكٌماوٌات ,والسٌاحة ,وصناعة
اإلسمنت وؼٌرها ,وطلبت من عبدالناصر االجتماع بهم .كنا على وشك
سحب اقدامهم لالستثمار فً مصر ,ومن وجهة نظري كانت هذه الخطوة
مدخالً ً
جٌدا للتعاون السٌاسً ,وتخفٌؾ التوتر بٌن البلدٌن ,لكن هذه
الخطوة أزعجت الروس ,فحركوا أتباعهم الذٌن زرعوهم فً عمق النظام
فؤجهضوا المحاولة ,التً اعترؾ عبد الناصر نفسه بؤنها لو نجحت لكانت
أدت إلى تؽٌٌر شامل فً مجرٌات األحداث ,وربما كانت تصبح مقدمة
لفتح قنوات اتصال وتعاون سٌاسً مع األمٌركٌٌن ,ونؽلق بها الباب أمام
مزاٌا الجانب اإلسرائٌلً علٌنا بعالقته وتنسٌقه الكامل مع واشنطن . - See
19
الحلقة الثانية
ُ
تلقٌت مكالمة هاتفٌة من فً صٌؾ عام 1965 ,فً منتصؾ شهر ٌولٌو,
الرئٌس جمال عبد الناصر ,طلب خاللها لقائً على وجه السرعة ألمر
مهم .وحٌن اجتمعت به فً مكتبه طلب منً رئاسة جهاز البحث الجنائً
العسكري الذي أنشؤه خصٌصًا للتحقٌق فً مإامرة اؼتٌاله التً خططت
ودبرت لها خلٌة سرٌة تابعة لجماعة اإلخوان المسلمٌن ,إلى جانب تنظٌم
. مسلح آخر كان ؼاٌة فً التعقٌد أشرؾ علٌه الداعٌة الشهٌر سٌد قطب
الصدفة وحدها كشفت المخطط “اإلخوانً” الذي لو لم ٌحبط لكانت مصر
كلها مرشحة للسقوط فً دوامة العنؾ والفوضى ,ال سٌما أن التنظٌم كان
قد نجح فً تجنٌد إسماعٌل الفٌومً وهو رقٌب بالحرس الجمهوري ,وقد
درب على عملٌة االؼتٌال ,ووافق بالفعل على مهمة قتل عبد الناصر ,لكن
شجاعته خانته فً الفرص المحدودة التً سنحت له.
ً
بالؼا من فً ٌولٌو عام 1965تلقت التحرٌات العسكرٌة فً االسكندرٌة
سائق شاحنة ٌُدعى الشٌشٌنً ,كان أحد المشاركٌن فً عملٌة اؼتٌال أمٌن
عثمان مع الرئٌس السادات والقٌادي “اإلخوانً” حسٌن توفٌق ,الشٌشٌنً
قال فً بالؼه إن توفٌق قابله قبل أٌام وحضه على المشاركة فً اؼتٌال
عبدالناصر ألن نهجه السٌاسً هو الوحدة العربٌة كٌؾ ما كان وبؤي شكل,
ولقد بدأ بالوحدة مع سورٌة ,ولكن الوحدة الحقٌقٌة بالنسبة الى مصر ال
تتحقق إال مع السودان ولٌبٌا .و طلب توفٌق من الشٌشٌنً شراء قنابل
. ٌدوٌة وبعض األسلحة استعدا ًدا لتنفٌذ العملٌة
20
بعد عرض البالغ على عبدالناصر ,استدعانً على الفور ,ثم كلفنً
التحقٌق فٌه والتعامل مع المخطط ,تعاملت مع األمر بمنتهى الجدٌة,
وبدأت فً تتبع البالغ الذي تبٌن صدقه ,ووضعنا ٌدنا فً هدوء على
صنادٌق القنابل والسالح ,الذي تبٌن أن مصدره مخازن القوات المصرٌة
فً الٌمن ,ونجح بعض المجندٌن فً إعادته إلى مصر واٌصاله إلى أفراد
”. محسوبٌن على جماعة “اإلخوان
إذا لم تخنً الذاكرة ,فإن تنظٌم حسٌن توفٌق كان مستقالً عن تنظٌم سٌد
قطب ,لكن كلٌهما أدى إلى الكشؾ عن اآلخر ,واعتمدنا على كوادر
المباحث الجنائٌة العسكرٌة ,والتً كان أبرزها الرائد رٌاض إبراهٌم الذي
ذهب بنفسه إلى إحدى قرى محافظة الدقهلٌة ,ونجح فً العثور على كمٌة
من األسلحة مخبؤة بمنزل أحد أتباع “اإلخوان” هناك ,و هذه األسلحة كانت
. الخٌط الذي أدى إلى سقوط تنظٌم سٌد قطب
أذكر أٌضًا ,أن عبد الناصر طلب مقابلة السائق المُبلػ (الشٌشٌنً) وفً
منشٌة البكري سؤله“ :لماذا اخترت إبالغ المباحث الجنائٌة العسكرٌة
بالواقعة رؼم تعدد أجهزة األمن”؟ فؤجاب الشٌشٌنً إجابة مباشرة انه ٌعتقد
أن الجٌش لدٌه جدٌة واهتمام ,وسٌتعامل مع األمر أفضل من بقٌة األجهزة
األمنٌة األخرى ,وفً نهاٌة المقابلة شكره عبد الناصر وأمر بتعٌٌنه فً
هٌئة “قناة السوٌس” ,كما أهداه سٌارة “لوري”(شاحنة) من إنتاج شركة
. النصر الشهٌرة
والحقٌقة أن انور السادات اتصل بً وقدم لً خبراته فً التعامل مع حسٌن
توفٌق ,ونصحنً إقناعه بتكرار ما حدث معه فً قضٌة اؼتٌال أمٌن
عثمان عام 1946 ,وهو أن ٌكون شاهد ملك ,وبالفعل بعد القاء القبض
21
علٌه فً االسكندرٌة وإقناعه بالفكرة اعترؾ بسهولة على نفسه وعلى
. شركائه ,وأرشد الى مصادر الحصول السالح الالزم
أما خلٌة الداعٌة سٌد قطب (سٌد قطب إبراهٌم حسٌن الشاذلً – 9أكتوبر
29 – 1906أؼسطس -1966كاتب وأدٌب ومنظر إسالمً مصري,
وعضو سابق فً مكتب إرشاد جماعة اإلخوان المسلمٌن ,رئٌس سابق
لقسم نشر الدعوة فً الجماعة ,رئٌس تحرٌر جرٌدة اإلخوان المسلمٌن).
هذه الخلٌة ج َند لها عشرات الشباب من المهندسٌن واألطباء والعمال
وؼٌرهم من الفئات فً عشر محافظات ,ووضعوا مخططا لتفجٌر عشرات
المنشآت والكباري والهٌئات ,واؼتٌال عدد من الشخصٌات السٌاسٌة من
بٌنها جمال عبد الناصر ,ثم بعدها تستولً الجماعة على الحكم ,وتعلن
. تطبٌق الشرٌعة اإلسالمٌة
ُ
كنت فً ذلك الوقت نائبًا لرئٌس جهاز األمن القومً ,وكان عبدالناصر ال
ٌثق باألجهزة المدنٌة من شرطة إلى نٌابة عامة ,وٌتشكك فً عملها ,فطلب
من صالح نصر أن ٌتولى جهاز المخابرات التحقٌق فً القضٌة برمتها,
لكن نصر اعتذر واقترح إعفاء الجهاز من هذه القضٌة ,واالكتفاء
. بالمساعدة فً جمع المعلومات عن المتهمٌن
وهنا خطرت فً ذهن عبدالناصر فكرة إنشاء وحدة تحقٌق جنائٌة تابعة
للشرطة العسكرٌة تحت رئاستً للتحقٌق بالقضٌة ,نظرً ا الى خطورتها
. على األمن القومً
اعتمدت فً مهمتً الصعبة على عدد من الضباط المتمٌزٌن والمشهود لهم
بالكفاءة والنزاهة للعمل معً ,وتلقٌت الملفات ,ووزعت المهمات على كل
فرقة ,اذ أن المتهمٌن كانوا موزعٌن على عدد من محافظات الوجه
22
البحري ,لكن كانت اجتماعاتهم تعقد فً منزل مهندس زراعً بمنطقة
إمبابة ,وبسرعة كان كل العاملٌن معً من الضباط على دراٌة كاملة
بحساسٌة المهمة وخطورتها ودقتها ,ووضعنا الخطط الالزمة لضمان
. سرٌة عملنا وحماٌة المعلومات التً ٌتم جمعها
من خالل مراقبة المهندس الزراعً ,باعتباره العنصر النشط والفاعل فً
الخلٌة ,علمنا أنهم ٌجتمعون كل ٌوم جمعة فً منزله بعد صالة العشاء .فً
أحد االجتماعات التً كان من المقرر أن توضع خاللها اللمسات األخٌرة
للمخطط داهمنا المنزل لٌالً ,وكان ضرورًٌا القاء القبض علٌهم وهم
. متلبسون ,وتحرٌز كل المستندات واألدوات التً بحوزتهم
بالفعل دخلت الفرقة المكلفة بعملٌة القاء القبض من باب خلفً للمنزل ,بعد
أن نسقنا مع الجهات األخرى لقطع الكهرباء عن الحً فً تلك األثناء.
وفً هدوء تام ألقٌنا القبض على المشاركٌن فً االجتماع ,وهم كانوا
. مقدمة لإلٌقاع بباقً أطراؾ المإامرة
ُ
اتفقت مع عبدالناصر على أن ٌكون السجن الحربً المكان المناسب لحجز
المتهمٌن فً هذه القضٌة ,باعتباره األكثر تحصٌ ًنا وتؤمٌ ًنا ,طالما أن من
ٌحقق هو طرؾ عسكري ولٌس مدنٌا .وهناك وبالتنسٌق مع حمزة
البسٌونً( مؤمور السجن الحربً وقتذاك) أعدوا لً مكتبًا ,والى جانبً
. مكاتب أخرى للضباط الذٌن ٌساعدوننً فً التحقٌق
من خالل اعترافات المجموعة تبٌن أن القضٌة بالفعل مإامرة ,وأن الخلٌة
الصؽٌرة لٌست سوى رأس مخطط لجٌش كبٌر من التابعٌن منتشرٌن فً
الدقهلٌة والشرقٌة ,وأن هناك توزٌع أدوار بٌن أصحاب الفكر والمخططٌن
ثم المنفذٌن ,وتبٌن أن صاحب الفكرة هو سٌد قطب الذي سبق اتهامه فً
23
حادث مٌدان المنشٌة فً االسكندرٌة ,وفٌه استهدؾ جمال عبد الناصر عام
1954,ثم أفرج عنه بقرار من عبد الناصر نفسه ألسباب صحٌة.
اعترافات المتهمٌن
24
. المنزل ,وجمعت األسلحة ,وألقت القبض على والده
وهكذا كنا نضع العنصر اإلنسانً فوق كل اعتبار ,خصوصا مع من نعتقد
. أنهم تورطوا فً الجرٌمة بالصدفة أو من دون قصد
لكن بالنسبة الى قادة الخلٌة والمخططٌن الفعلٌٌن ,لقد فبركوا احداثا ً لم تقع,
ُ
وقرأت بدهشة ما كتبته السٌدة زٌنب الؽزالً عن عملٌات ُ
سمعت فمثال
. تعذٌب وانتهاك تعرضت لها أثناء االستجواب واالعتقال
والحقٌقة أنا ال أذكرها بشكل محدد ,واالمر المإكد أننً لم أحقق معها كما
زعمت ,ومن ثم لم أعذبها كما ذكرت فً كتبها ,وحولت نفسها ضحٌة أمام
وحوش بشرٌة ال ٌعرفون حرمة النفس وال حقوق المرأة وال ظروفها
وخصوصٌتها .رواٌتها جعلتنً أعرؾ حجم التزٌٌؾ الذي تنتهجه هذه
. الجماعة وطرٌقتها فً قلب الحقائق
نؤتً إلى سٌد قطب ,هذا الرجل كان ٌعانً من أمراض خطٌرة ,لذلك
ُ
حرصت على أن اجري التحقٌق معه شخصًٌا ,كان ٌؤتً الى جلسات
التحقٌق ٌسنده جندٌان ,وٌعلم هللا أننً كنت أتعامل معه بكل احترام وتقدٌر,
ولم ٌمارس علٌه اي تعذٌب أو إكراه أو حتى مجرد تخوٌؾ منً او من
ُ
كنت أحاول فً كل جلسة أن ٌحصل على راحة, فرٌق المحققٌن ,بل
وٌتناول الدواء الالزم ,ونتوقؾ أو نإجل الجلسات وفقا لظروفه ورؼبته,
رؼم إدراكً انه صاحب فكرة المإامرة ,وأنه األب الروحً للخلٌة
. وراعٌها ومروجها بٌن بعض شباب “اإلخوان” المتحمسٌن
وربما ال أتجاوز الحقٌقة عندما أزعم أنه استؽل حماسة هذا الشباب المندفع
فً تبنً أفكاره نحو تؽٌٌر الواقع ,وتطبٌق شرع هللا بالقوة ,حتى لو كانت
النتٌجة سقوط مالٌٌن المصرٌٌن األبرٌاء ضحاٌا لفكرة استقاها من بٌئة
25
ومجتمع آخر ,وهً فكرة تحدث عنها المفكر الهندي أبو األعلى المودودي.
بعد نقاش طوٌل مع سٌد قطب اعترؾ بكل شًء من دون أي ضؽط ,ال
منً وال من أي ضابط آخر ,بل كان الرجل متعاو ًنا معنا بدرجة أكثر مما
كنا نتوقع ,وطلب أن ٌكتب بنفسه القصة الكاملة للقضٌة من وجهة نظره,
. ملتمسًا العفو من رئٌس الجمهورٌة
على مدار أٌام عدة ظل ٌكتب كل ما ٌتذكره من أحداث وأشخاص ,فً
مصر والخارج ,شاركوا أو دعموا مخططه الشٌطانً ( .مذكرة سٌد قطب
منشورة فً عدد من المصادر “اإلخوانٌة” ,لكنهم ٌزعمون أن مضمونها
كتب تحت الضؽط والتعذٌب ,فً حٌن استخدمتها جهات التحقٌق كدلٌل
). دامػ إلدانته وإعدامه
كنت على اتصال دائم ومباشر بالرئٌس عبدالناصر ,أطلعه أوالً بؤول على
التحقٌقات واعترافات المتهمٌن ,ألنه كان منشؽالً بفكرة استهدافه ,ومحاولة
اؼتٌاله .ومن هنا تؤكد لً ولكل من شاركوا فً القضٌة أنها كانت مإامرة
مكتملة األركان ,الؽرض منها تدمٌر المنشآت الحٌوٌة للبلد ,واؼتٌال
الرئٌس ,وعدد من كبار المسإولٌن فً الدولة.
استخدمنا القسوة
هذا الكالم من واقع اعترافاتهم ولٌس استنتاجً ا وال تلفٌ ًقا كما ٌدعون ,لذلك
أشعر بارتٌاح كبٌر للدور الذي ادٌته فً منع هذه الجرٌمة ,وحماٌة أمن
ً
وحافظا على أرواح المالٌٌن الذٌن كانوا بالتؤكٌد سٌذهبون ضحاٌا مصر,
. لتلك الجرٌمة البشعة
هناك تهوٌل كبٌر فً عدد الذٌن القٌنا القبض علٌهم ,لكن وف ًقا لمستنداتها
26
فقد وصل إجمالً عدد المتهمٌن الى خمسة آالؾ شخص ,أما الذٌن ثبتت
500متهم . مشاركتهم فً التخطٌط والتنفٌذ وإخفاء األسلحة فلم ٌزد عن
وبعد االنتهاء من التحقٌقات أفرجنا عن جمٌع المتهمٌن باستثناء
المتورطٌن ,لكن ٌبدو أن وزارة الداخلٌة أعادت التحقٌق مرة أخرى مع
المفرج عنهم ,وربما مارست ضدهم التعذٌب .ألننً وف ًقا للمستندات وما
أذكره عن هذه القضٌة أن نحو سبعة متهمٌن توفوا فً السجن ,إما بسبب
عدم تحملهم أوضاع السجن ,أو ربما تعرضوا للقسوة خالل التحقٌقات ,فال
بد أن أعترؾ أن من أصل خمسة آالؾ متهم لم ٌمت سوى سبعة
أشخاص ,وهذه نسبة ؼٌر الفتة للنظر ,ألن بعض المتهمٌن أحٌا ًنا وبمجرد
. القاء القبض علٌه ٌمكن أن ٌصاب بؤزمة قلبٌة من شدة الصدمة
على كل حال ال أنكر أننا اضطررنا إلى استخدم القسوة مع بعض المتهمٌن
حتى ٌعترؾ بدوره فً المإامرة ,وبخاصة أن ؼالبٌتهم كانت من
المتشددٌن ,وكانت العملٌة برمتها تجري فً السجن الحربً الذي ٌعتمد
على طرٌقة انتزاع االعترافات من المتهم بكل الوسائل ,بما فً ذلك
استخدام أسالٌب التعذٌب المختلفة التً وضعها اإلنكلٌز أنفسهم للتعامل مع
نزالء هذا السجن ,وحدث أن زار رئٌس تحرٌر “األهرام” محمد حسنٌن
هٌكل السجن بطلب من عبد الناصر .تلك الزٌارة أثارت الكثٌر من
27
الحلقة الثالثة
فً مدٌنة بلٌموث البرٌطانٌة الهادئة كان لقائً مع شمس بدران وزٌر
الحربٌة األسبق ,جلساتنا استمرت أكثر من أسبوعٌن ,بمعدل ثالث ساعات
صباحا ومثلها بعد الظهر ,ورؼم ؼموضه وحذره البالػ ,إال أنه أجاب عن
معظم ما طرح ُته علٌه من أسئلة واستفسارات ,حول تلك الفترة الشائكة من
تارٌخ مصر ,وعن عالقته بكل من الرئٌس عبد الناصر والمشٌر عامر .
تقدمه فً السن وضعؾ سمعه لم ٌمنعاه من أن ٌستعٌد شرٌط ذكرٌاته ,منذ
أن قرر االلتحاق بالكلٌة الحربٌة ,حتى اللحظة التً كنا نجلس فٌها معًا
. على شاطئ بلٌموث الساحر
هناك كانت تحلق فوقنا طٌور النورس ,وتسبح أمامنا مجموعات من األوز
األبٌض الجمٌل ,ومن بعٌد ترعى قطعان األؼنام بؤلوانها الناصعة ,وحولنا
تتدلى شجٌرات التوت البري بؤحجامه وأشكاله الممٌزة ,وسط هذه األجواء
صال شمس بدران وجال بٌن أحداث كثٌرة ,ملٌئة باالنتصارات
واالنكسارات ,بالصعود والهبوط ,بالتوهج واالنطفاء ,باألحالم والكوابٌس,
. بالكرامة والمهانة ,بالنشوة والؽٌبوبة
فهو ال ٌزال ٌتمتع بلٌاقة بدنٌة عالٌة ,باستثناء تذكره الصعب لبعض
التوارٌخ وأسماء األماكن واألشخاص ؼٌر المإثرٌن ,ممن لم تسعفه
ذاكرته باستحضارهم بسهولة ,لكن ؼٌر ذلك كان ٌحكً عن المواقؾ
الخطٌرة والمفصلٌة فً عالقته بكل من عبد الناصر والمشٌر عامر كؤنها
! وقعت باألمس القرٌب
28
سرد تفاصٌل دقٌقة ومواقؾ عصٌبة عاٌشها ,وكان طر ًفا أساسٌا فٌها منذ
أن صمم على االلتحاق بالقوات المصرٌة المتجهة إلى فلسطٌن فً حرب
1948.
ٌعٌش الرجل فً مدٌنة العجائز التً اختارها مقرا دائمًا له فً برٌطانٌا,
بعد رحلة قاسٌة من التنقل والترحال بٌن أحٌاء لندن ,فً هذه المدٌنة التً
ٌطلقون علٌها مدٌنة “المتقاعدٌن” لتمٌزها بمناخ معتدل وجو صاؾ ,عالوة
على أنها بعٌدة من صخب لندن الهادر ,وال ازدحام المدن الصناعٌة
الضخمة.
المسافة بٌن لندن وبلٌموث طوٌلةٌ ,قطعها القطار السرٌع فً أربع ساعات
من دون توقؾ ,اثناء تلك الرحلة تفكٌري لم ٌتوقؾ منذ أن انطلق القطار
فً الصباح الباكر من قلب العاصمة البرٌطانٌة ,فقد قرأت عن الرجل
الكثٌر وسمعت عنه أكثر ,لدرجة جعلت خفقات قلبً تتضاعؾ كلما اقترب
. القطار من محطته األخٌرة
هذه الخفقات تزاٌدت إلى أن توقؾ سائق سٌارة االجرة البولندي الذي
تحمس لتوصٌلً إلى عنوان المنزل الذي ٌقٌم فٌه وزٌر الحربٌة األسبق
. شمس بدران
كؤنً كنت على موعد طال انتظاره ,أو فً انتظار مقابلة مع شخصٌة
تقرر مصٌري ,ال أدري سببا لذلك االرتباك الذي اعترانً .قابلت
شخصٌات عدٌدة ربما ال تقل أهمٌة عن شمس بدران ,لكن اللقاء كان
ممٌزا ربما ألنه ٌعتبر آخر رجال تلك المرحلة الحاسمة من تارٌخ مصر,
وألنه األكثر ؼموضًا وإثارة فً مواقفه ,وفً األدوار والمهمات التً
. مارسها فً عهد عبد الناصر
29
وح َّملَنًِ قدرً ا كبٌرً ا من المسإولٌة كً استنطقه,
كل هذا ضاعؾ من قلقًَ ,
وأشجعه كً ٌروي ذكرٌاته بصدق وأمانة ً
بعٌدا من المراوؼة والمجاملة !
لعل أهمٌة هذه المذكرات تكمن فً أنها تخص آخر رجال حقبة عبد
الناصر ,وأكثرهم جسارة وحبا للمؽامرة واستعدا ًدا للتضحٌة ,ربما لهذا
السبب قرَّ به عبد الناصر واختاره مدٌرً ا لمكتبه عندما كان رئٌسًا للوزراء
. فً فترة حكم الرئٌس محمد نجٌب
كما أن أهمٌة هذه المذكرات تؤتً أٌضا من أنها لمسإول كبٌر (وزٌر
حربٌة) ارتبط اسمه بمرحلة حكم عبد الناصر ,وقد حظً بثقته الكاملة,
فاختاره لٌكون عٌنه التً ترصد ما ٌجري داخل القوات المسلحة ,كما كان
بحق صائد االنقالبات ,اذ نجح بالفعل فً إحباط أكثر من محاولة فً
مهدها.
عبد الناصر لم ٌكتؾ بذلك ,بل اختاره لخالفته فً منصب رئٌس
الجمهورٌة ,عندما قرر التنحً فً أعقاب هزٌمة ٌونٌو ,كما كان أقرب
مستشارٌه الذي ٌثق بإخالصه ووالئه ,فكلفه بمهمات ستراتٌجٌة وأمنٌة
وسٌاسٌة خطٌرة فً لحظات حاسمة من تارٌخ مصر ,كما حدث فً
زٌارته الشهٌرة الى روسٌا قبل أٌام من العدوان اإلسرائٌلً المباؼت على
1967 مصر عام .
ورؼم مرور السنٌن وتقدم شمس بدران فً السن إال أن الرجل ٌؤبى أن
ٌؽٌر طبٌعته العسكرٌة الؽامضة والحذرة ,لدرجة أن زوجته البرٌطانٌة
وأبناءه منها ال ٌعرفون أنه كان وزٌرً ا فً بلده ,وال ٌعلمون شٌ ًئا عن
خلفٌته السٌاسٌة ,وال األدوار الخطٌرة التً اداها فً تلك الفترة ,وإن كل
! ما ٌعرفونه عنه أنه مجرد رجل أعمال مصري
30
عندما دار حدٌث بٌنً وبٌن زوجته ,كدت أن أتطرق معها الى خلفٌته
العسكرٌة والمهمات التً اداها فً عهد عبد الناصر ,فنبهنً بسرعة كً
! أؼٌر طبٌعة الحدٌث ,ألنها ال تعرؾ سوى القلٌل عن حٌاته فً مصر
لقد الحظت أن إقامة بدران وسط البرٌطانٌٌن طوال أربعة عقود متواصلة
تركت آثارها بوضوح لٌس فقط على عاداته ,بل ظهرت بجالء على
مالمحه ,لدرجة أن الذي ٌقارن بٌن صوره كوزٌر ومسإول ٌصعب أن
ٌصدق أن الذي ٌجلس أمامً هو الشخص نفسه الذي كان عندما ٌُذكر
اسمه ٌصاب الحضور بالرعب والخوؾ والقلق ,فمالمحه الحالٌة أقرب
إلى عجوز برٌطانً منه إلى مسإول مصري سابق فً عصر عبد
الناصر!
لم ألحظ فً بٌته الرٌفً أي مالمح مصرٌة ,فهو منزل إنكلٌزي بامتٌاز,
من األثاث إلى الدٌكور ,ومن الموسٌقى إلى اللوحات التً تزٌن جدرانه,
والحدٌقة التً تحٌطه من كل اتجاه إلى برودة االستقبال ,فالمنزل عبارة
عن فٌلال من طابقٌن ,فً أحد أرقى أحٌاء المدٌنة الصؽٌرة ,لكن مقارنته
ببٌوت جٌرانه البرٌطانٌٌن لٌست فً صالحه ,فالحً عامر بالقصور
! والفٌالت الفاخرة
الحظت أنه قلٌل الكالم بطرٌقة الفتة ,فهو ال ٌجٌد فن الكالم ,لكنه فً
الوقت نفسه تلقائً ال ٌلجؤ إلى استخدام العبارات المفخمة كعادة السٌاسٌٌن,
وال ٌستطرد فً الكالم ,بل كانت إجاباته على قدر السإال ,ربما السبب فً
ذلك لٌس الحرص بقدر عدم القدرة على شرح األفكار والمواقؾ
باستفاضة.
حدٌثه كان ٌتسم بالجدٌة والصرامة ,وبعٌدا عن الطرافة المعتادة عن
31
المصرٌٌن ,كما الحظت أٌضًا أنه ال ٌحب قراءة التارٌخ ,وال األدب ,لكنه
ٌهوى الموسٌقى ,وال ٌحرص على الدفاع عن نفسه ,وال ٌهتم بما ٌقوله
عنه المصرٌون ,ومن حٌن الى آخر ٌتصل بشقٌقته الصؽرى المقٌمة فً
حً الدقً فً القاهرة ,وٌتابع آخبار أبنائه وأحفاده على فترات متباعدة,
لٌس على صلة سوى بعدد محدود للؽاٌة ممن عملوا معه ,وبخاصة رجال
األعمال.
صدمنً عندما سؤلته هل تشعر بالندم على ما مارسته مع عناصر الخلٌة
1965؟ أجاب بحسم أنه ال ٌشعر اإلخوانٌة التً قادها سٌد قطب عام
بوخز الضمٌر ,ولو عادت األٌام سوؾ ٌفعل ما فعله ,ألنه كان ٌحمً
مصر وشعبها من فئة ضالة حاولت تدمٌر القناطر الخٌرٌة إلؼراق
المصرٌٌن ,كما كانوا ٌخططون لسلسلة اؼتٌاالت تنال كبار المسإولٌن;
! بهدؾ نشر الفوضى بزعم تطبٌق شرع هللا
رفض بدران تلبٌة طلبً أن ٌتقدم باعتذار ألبناء ضحاٌا جماعة “اإلخوان”
الذٌن ماتوا نتٌجة التعذٌب أثناء التحقٌق معهم فً السجن الحربً ,باعتباره
المسإول األول عن هذه القضٌة ,وكان تعلٌقه أن ”:عدد الذٌن ماتوا ال
ٌتجاوز العشرة ,فهإالء لم ٌموتوا نتٌجة التعذٌب ,بل بالصدمة بعد أن
”. واجهناهم بكل األدلة والبراهٌن التً تثبت تورطهم
أعرؾ أن الكثٌر من أصدقائً الناصرٌٌن سٌؽضبون وٌثورون ,بل وربما
ٌقاضون شمس بدران وٌقاضوننً شخصٌا بسبب ما قد ٌرونه إساءة
لتارٌخ زعٌمهم المفدى عبد الناصر ,لكن أقول لهإالء األصدقاء ما سبق
أن قاله سقراط ”:إننً أحبكم ٌا رجال أثٌنا… لكننً أحب الحقٌقة أكثر”.
32
الحلقة الرابعة
“أٌام من حٌاتً” كان أشهر هذه الكتب ,وهو من تؤلٌؾ زٌنب الؽزالً.
(زٌنب محمد الؽزالً الجبٌلً ,داعٌة وسٌاسٌة مصرٌة تنتمً إلى اإلخوان
المسلمٌن ,ولدت فً ٌ 2ناٌر 1917فً قرٌة مٌت ٌعٌش التابعة لمركز
مٌت ؼمر فً محافظة الدقهلٌة ,بعد وفاة والدها وكانت حٌنذاك فً العاشرة
من عمرها انتقلت مع أمها وإخوتها للعٌش فً القاهرة ,تعرفت على
االتحاد النسائً الذي كانت ترأسه هدى شعراوي ,وتوثقت العالقة بٌنهما,
وأصبحت من أعضاء االتحاد البارزات).
هذه السٌدة ال أذكرها على اإلطالق ,وال أعرؾ شكلها ,ولم أقابلها ,ولم
ُ
وتركت التفاصٌل لضباط ُ
كنت أتابع التحقٌقات عن بعد, أحقق معها ,فقد
. مشهود لهم باألمانة والنزاهة والوطنٌة
ُ
حرصت على التحقٌق كان سٌد قطب هو المتهم الوحٌد فً القضٌة الذي
معه بنفسً ,بسبب حساسٌة موقعه فً التنظٌم ,فضالً عن ظروفه الصحٌة .
لم أهتم بما كتبته السٌدة زٌنب الؽزالً ,لكن دهشت مما سمع ُته عن
حكاٌاتها ورواٌاتها ألحداث تلك الفترة -فقد صورتنً -وأنا الذي ال أذكر
مالمحها بدقة -على أنً وحش بشري ,واستفاضت فً سرد وقائع أؼلب
. الظن أنها لم تقع سوى فً خٌالها هً
لكن حكاٌات زٌنب الؽزالً الخٌالٌة لم تكن الوحٌدة ,بل كانت ضمن سلسلة
طوٌلة من الكتب والمطبوعات ,بعض الجهات وجدت أنها بمثابة تنفٌس
33
عن المتهمٌن فً قضاٌا مست األمن القومً من جماعة اإلخوان المسلمٌن.
هذه الجهات ربما أقنعت السادات فً ذلك الوقت أن نشر هذه الكتب وما
تحتوٌه من قصص تعذٌبهم الخٌالٌة وسٌلة حٌوٌة لفتح صفحة جدٌدة معهم.
لذلك لم أعلق على ما جاء فٌها ,ألن اعترافاتهم موجودة وموثقة ,وأٌضًا
الضباط بعضهم ال ٌزال على قٌد الحٌاة ,وٌعلمون جٌ ًدا مدى المبالؽات
. التً احتوتها تلك المطبوعات
إذن ,لٌس أمامً سوى إعادة النظر فً استعراض ما قالته عنً السٌدة
زٌنب الؽزالً ,مع التؤكٌد على أنً لم أرها ,وال أذكر أي لقاء جمعنً بها
على اإلطالق ,مما ٌثبت أن رواٌتهم ألحداث تلك الفترة كانت مؽلوطة,
وما هذه الكتب سوى هروب من مواجهة الرأي العام القترافهم جرائم ضد
. هذا الشعب الطٌب
فً السطور التالٌة جانب مما زعمت السٌدة زٌنب الؽزالً أنها تعرضت له
من تعذٌب فً السجن الحربً ,أثناء اعتقالها بتهمة تجنٌد واحتضان
عناصر الخلٌة التً شاركت فً مإامرة .1965
34
. المسلمٌن عن دٌنهم وعقٌدتهم! وقد خاب ظنه
سؤلنً شمس بدران فً ؼطرسة كؤنه جامع رقاب الخلق بٌن أصابعه :هو
! أنت بقى ست زٌنب الؽزالً؟ قلت :نعم
كان مكتب حمزة البسٌونً ٌتصل بمكتب شمس ,وكان ٌقؾ خلفً اثنان
. آخران ,وبٌد كل منهما سوط كؤنه لسان من لهب
قال شمس بدران وهو ما زال فً ؼطرستهٌ“ :ا بنت ٌا زٌنب! خلً بالك
وتكلمً بعقل وشوفً فٌن مصلحتك ,خلٌنا نخلص منك ونشوؾ ؼٌرك,
”. وإال بعزة “عبد الناصر” أجعل السٌاط تمزقك
. قلتٌ :فعل هللا ما ٌشاء وٌختار
? فقال :ما هذه الرطانة العجٌبة ٌا بنت
?” فلم أرد علٌه ,فقال“ :ما هً صلتك بسٌد قطب والهضٌبً
. ُ
قلت فً هدوء :أخوة فً اإلسالم
? فقال فً استنكار بلٌد :أخوة ماذا
. فؤعدت :أخوة فً اإلسالم
?”. فقال“ :ما مهنة سٌد قطب
قلت :األستاذ اإلمام سٌد قطب مجاهد فً سبٌل هللا ,ومفسر لكتاب هللا,
. ومجدد ومجتهد
? فقال فً بالدة :ما معنى هذا الكالم
ُ
قلت وأنا أضؽط على مخارج األلفاظ تؤكٌدا له :معناه أن األستاذ سٌد قطب
زعٌم ,ومصلح ,وكاتب إسالمً ,بل من أعظم الكتاب اإلسالمٌٌن ,ووارث
محمدي.
35
? وبإشارة من أصبعه انهال علً الزبانٌة ,وقال هو :إٌه ٌا ست
. ولم أجبه
? قال :ومهنة الهضٌبً إٌه كمان
فقلت“ :األستاذ اإلمام حسن الهضٌبً” إمام مباٌع من المسلمٌن المنتمٌن
لجماعة اإلخوان المسلمٌن الملتزمٌن بتنفٌذ أحكام الشرٌعة ,والمجاهدٌن فً
”. سبٌل هللا حتى تعود األمة اإلسالمٌة كلها إلى كتاب هللا وسنة رسوله
! وما أن فرؼت من كالمً حتى عاود الزبانٌة التعذٌب بالسوط
”¯¯”…. فقال“ :هراء ,وكالم فارغ… ما هذا ٌا بنت ال
ت كتاب “معالم فً
ثم تقدم إلً وأمسكنً من ذراعً وقال“ :هل قرأ ِ
الطرٌق” لسٌد قطب؟ فقلت :نعم قرأته .فقال رجل آخر من الجالسٌن -وكان
ٌدخل بعض الضباط أثناء االستجواب وٌجلسون للمشاركة فً االستجواب
ً
موجزا لهذا من جهة ,ومن جهة أخرى كنوع من اإلرهاب -ممكن تعطٌنا
الكتاب?
فقلت“ :بسم هللا الرحمن الرحٌم ,والصالة والسالم على سٌدنا محمد ,وعلى
”. آله وصحبه أجمعٌن
فقاطعنً شمس بدران فً صفاقة ؼرٌبة :أنت واقفة على منبر مسجد ٌا
¯¯ “…”. بنت ال¯¯”…”؟ إننا فً كنٌسة ٌا أوالد ال
. وقال حسن خلٌل :معذورة ٌا باشا
? أكملً ٌا زٌنب ,ماذا فهمت من كتاب معالم فً الطرٌق
فقلت :كتاب معالم فً الطرٌق فً فهم المجتهد المفسر سٌد قطبٌ ,دعو
المسلمٌن لمراجعة أنفسهم مع كتاب هللا ,وسنة رسول هللا ,وتصحٌح
تصورهم لعقٌدة التوحٌد ,فإذا وجدوا أنفسهم -وهذا هو الواقع اآلن-
36
منقطعٌن عن كتاب هللا ,وسنة رسوله سارعوا بالتوبة ,وعادوا إلى دٌنهم
وكتابهم وسنة رسولهم! ثم ٌدعوهم للمفاصلة بٌنهم وبٌن الجاهلٌة المتفشٌة
فً األمة ,فطمست وضوح الرإٌة فً فهم القرآن ,وتصور أوامره تصورا
سلٌما ,فإذا راجعت األمة الكتاب ومرامٌه ومقاصده والتزمت بدٌنها
صحت عقٌدتها ,فالسٌد قطب ٌرى ضرورة تبصٌر األمة بمراجعة عقٌدتها
لتقرر صدقا من قلبها وضمٌرها ,أنها ملتزمة بكل ما تكلفها به شهادة أن ال
إله إال هللا ,وأن محم ًدا رسول هللا ”.هذا ما كتبته زٌنب الؽزالً فً
”. كتابها”أٌام من حٌاتً
! لٌس لدي تعلٌق على مثل هإالء من أصحاب الخٌال المرٌض
(ٌذكر ان اللواء حمزة البسٌونً ,تخرج فً الكلٌة الحربٌة ,وانضم إلى
ٌ 23ولٌو 1952وهو برتبة رائد, الضباط األحرار لٌشارك فً ثورة
واتهم فً قضاٌا تعذٌب السجناء ,توفً ٌوم 19نوفمبر 1971عندما كان
مسافرا من اإلسكندرٌة إلى القاهرة ومعه شقٌقه وذلك حٌن اصطدمت
سٌارته بإحدى السٌارات المحملة بحدٌد مبان ,أدت إلى مصرعهما).
37
الحلقة الخامسة
ما ٌجب ذكره أن عبد الناصر فً بعض المواقؾ كان ٌتؽاضى عن أبشع
األسالٌب التً ٌستخدمها رجاله ,ففً قضٌة االنقالب علٌه بعد أحداث عام
1967سمح لمدٌر المخابرات محمد أحمد صادق ,وإبراهٌم سالمة بؤن
ٌستخدما أسالٌب التعذٌب فً الحصول على اعترافات من كل من عثمان
نصار ,وحلمً عبد الخالق ,وحسٌن مختار ,وأحمد أبو نار ,وتحسٌن
زكً ,وإسماعٌل حمدي ,ومدحت الرٌس ,وعبد السالم فهمً ,وعبد هللا
الشرقاوي ,وإسماعٌل مبارز ,ومتولً محمد السٌد ,وإن كنت أنا وصالح
نصر وعباس رضوان لم نتعرض ألي نوع من التعذٌب ,اذ كان عبد
الناصر ٌقول”:ال تعذبوا هإالء (اي نحن الثالثة) ,لكن عذبوا اآلخرٌن”
الذٌن كانوا مشتركٌن معنا فً المإامرة و االتهامات نفسها .ولم ٌكن
التعذٌب قاصرا على السجن الحربً ,بل كان أٌضا فً المباحث العامة فً
وزارة الداخلٌة ,وكذلك فً جهاز المخابرات العامة التابعة لرئٌس الدولة,
ومن األدلة على ذلك إن قضٌة عبد القادر عٌد ,الذي كان أحد مدٌري
مكتب المشٌر عبد الحكٌم عامر ,وقد اعتقل وجرى التحقٌق معه فً
المخابرات العامة ,احضرت زوجته إلى مقر المخابرات وهددوه باالعتداء
علٌها أمامه ,مما أدى به إلى االعتراؾ ,وكشؾ الحقائق الخاصة بمحاولته
االنقالبٌة .كل ما حدث فً تحقٌقات حادث المنشٌة سنة 1954التً أشرؾ
علٌها زكرٌا محٌى الدٌن فً السجن الحربً ,تكرر أٌضا فً تحقٌقات سنة
,1965وكان جمال عبد الناصر فً كلتا الحالتٌن ٌعلم تمامًا بما ٌجري فً
السجن الحربً أثناء التحقٌق ,وكنت قد طلبت من المباحث الجنائٌة
العسكرٌة أن تجري تفتٌشا منظما وتفتٌشا مفاجئا على الزنازٌن وؼرؾ
38
السجن ,للتؤكد من سالمة معاملة المساجٌن بعد انتهاء التحقٌق معهم ,وفً
أثناء اتصاالتنا بعبد الناصر إلطالعه على نتائج التحقٌق حدث أن قال ال:
“إن السجن الحربً مملكة حمزة البسٌونً ,فإذا حاولت التدخل فى شإونه
ٌمكنه عرقلة عملك بتؤلٌب المتهمٌن علٌك .أنصحك أن تتركه حرا فً
مملكته” .هذا ٌكشؾ عن وجود اتصال مباشر بٌن حمزة البسٌونً وعبد
الناصر عبر سامً شرؾ ,وقد ثبت ذلك فً أعقاب القاء القبض علٌنا فً
26أؼسطس )1967فقد كان ما عرؾ بمإامرة “قضٌة المشٌر” (بعد
حمزة البسٌونً هو الوحٌد بٌن المعتقلٌن الذي ٌتمتع بالحرٌة الكاملة فً
المعتقل ,ثم فوجئنا باإلفراج عنه بهدوء قبل بدء المحاكمة ,كما لم ٌقدم أي
دلٌل إلدانته ,رؼم أنه كان من المقٌمٌن الدائمٌن معنا فً منزل المشٌر فً
الجٌزة ,كما حضر بعض االجتماعات التً عقدت فً المنزل للتحضٌر
لالنقالب .وما أود اإلشارة إلٌه هنا أن عبد الناصر كان على علم كامل بما
ٌجري فً السجن الحربً من تعذٌب ,بل ربما كان ٌتابع عملٌات التعذٌب
مباشرة عبر دوائر مؽلقة ,ولن أبالػ إذا قلت إن التعذٌب كان ٌجري فً
بعض األحٌان بؤوامره شخصٌا! عالقتً بعبدالوهاب للموسٌقار الكبٌر
محمد عبد الوهاب مكانة كبٌرة فً قلبً وعقلً ,فقد ارتبطنا معا بعالقة
صداقة وود ,تخطت حدود اإلعجاب بصوته العبقري ,وإبداعه الؽنائً ذلك
أن مكانته الفنٌة لم ٌنافسها أي فنان آخر ,رؼم أنهم جمٌعا كانوا ٌتسابقون
على التقرب منً ودعوتً لحضور حفالتهم الفنٌة وجلساتهم الخاصة
ً
اعتقادا منهم أن اقترابهم منً ٌعنً بالضرورة بهدؾ تقدٌم أنفسهم,
االقتراب من رأس الدولة ,وهو فً ذلك الوقت جمال عبد الناصر وعبد
الحكٌم عامر .عالقتً بعبد الوهاب كانت محل نقاش وجدل دائم فً
39
األوساط الفنٌة أثناء وجودي فً السلطة .هذا الجدل وصل إلى ذروته
خالل وجودي فً السجن ,وال ٌزال مستمرا حتى الٌوم ,رؼم هجرتً من
مصر ورحٌل عبد الوهاب عن الدنٌا .لكن الرجل طٌلة حٌاته تجنب
الحدٌث عن عالقتنا ,ال من بعٌد أو قرٌب ,واعتبرها مرحلة مضت من
عمره ,بحلوها ومرها ,ومع ذلك لم تمر أي مناسبة إال وٌتجدد الحدٌث عن
تلك العالقة وخصوصٌتها ,فقد وصل األمر بمن تناولوا هذا الموضوع الى
اتهامً بامتالك أستودٌو متكامل فً منزلً للؽناء ,واننً كنت أختطؾ عبد
الوهاب وأجبره على تسجٌل أؼنٌات خاصة لً وألسرتً رؼمًا عنه!
الطرٌؾ أنه كثٌرً ا ما كان ٌتسبب فً إثارة المشكالت بٌن والدي ووالدتً
وأنا صؽٌر ,اذ كان الوالد من عشاق فنه ,وٌنتظر صدور أي أسطوانة
جدٌدة له لٌشترٌها فورً ا مهما كان ثمنها ,فً حٌن كانت والدتً ترى
األجدى أن ٌشتري بثمن تلك األسطوانات حاجٌات األسرة ,وهذه المعارك
العائلٌة ظلت تتكرر فً منزلنا بسبب الموسٌقار حتى وفاة الوالد (رحمه
ُ
تعرفت الى عبد الوهاب صدفة ,فقد كان ٌشارك أم كلثوم فً هللا) .لقد
ٌ 23ولٌو بعد العدوان إحدى االحتفاالت الوطنٌة ,بمناسبة عٌد ثورة
الثالثً .وبعد انتهاء الحفل انتظر المشاركون مصافحة عبد الناصر
والمشٌرعامر ,حٌنها لمحنً عبد الوهاب وتعرؾ الً ,وعلمت برؼبته فً
مصافحة عبد الناصر من دون أن ٌفصح عن ذلك ,فؤخذته من ٌده وتوجهنا
مباشرة نحو الرئٌس وقدمته له ,وتركته ٌتبادل معه أطراؾ الحدٌث ,ثم
انشؽلت فً باقً ترتٌبات الحفل ,وبعد مؽادرة الرئٌس بحث عنً وشكرنً
بحرارة كؤنً أسدٌت له جمٌالً كبٌرا ,ثم تواعدنا على اللقاء مرة أخرى
وتبادلنا ارقام الهاتؾ .بعد مضً شهر على هذا الموقؾ اتصل عبد
40
الوهاب بمنزلً ,وكرر الشكر ,ودعانً لحضور إحدى حفالته الؽنائٌة,
وبالفعل لبٌت الدعوة .فً ختام الحفل اصر على أن نحتسً القهوة معًا,
ً
وتحفظا شدٌدٌن, ُ
لمست فً حدٌثه رهبة تحدثنا قلٌالً حول القضاٌا العامة,
ثم دعوته لزٌارتً بمنزلً ,وقضٌنا وق ًتا ممتعًا ,دار الحدٌث حول الفن,
ومشكالت الوسط الفنً ,حٌنها طلب منً أن تساوي الدولة فً االهتمام
بالفنانٌن .تدرٌجٌا اقتربت أكثر وأكثر من عبد الوهاب ,وتعمق إعجابً
بشخصه وفنه ,كما عرفت وللمرة االولى أنه مثل الكثٌر من الفنانٌن الذٌن
ٌشعرون بالرعب من السلطة ورجالها ,كما أسر لً بعد ذلك أنه كان ٌرتعد
عندما ٌسمع اسم عبد الناصر أو أحد مساعدٌه ,ثم أدركت فٌما بعد أن هذه
سمة ؼالبٌة الفنانٌن على مرِّ العصور ,وانهم ٌسعون إلى كسب السلطة
القائمة اتقا ًء لشرها ,وتجنبا للصدام معها أو معاداتها .على عكس ما ٌردده
البعض أننً كنت أُجبر الرجل على الؽناء لً فً منزلً وبمفردي ,فقد
فوجئت فً احدى زٌاراته جلب العود معه ,وبدأ ٌُسمعنً آخر ألحانه,
وهكذا تحولت جلساتنا من مجرد زٌارات عادٌة إلى حفالت طرب
وموسٌقى ,ولم ٌحدث على اإلطالق أن أجبرته على الؽناء ,فهل هذا ٌعقل؟
عبد الوهاب بطبعه كان ؼٌورً ا ,بما أنه قاسى وعانى من أجل الوصول إلى
مركز وموقع فرٌد فً عالم الموسٌقى ,وظل حرٌصًا أن ٌحافظ على
وضعه ,وكان ٌتابع ما تنشره الصحؾ من أخبار ,وٌنشؽل كثٌرً ا بكل ما
ٌنشر ,سواء عنه أو عن ؼٌره من نجوم جٌله .من وجهة نظري كنت
متعجبًا من أمره; ألنه ال منافس له وال ٌوجد فً مصر والعالم العربً من
ٌستطٌع منازعته أو منافسته على عرش الموسٌقى والؽناء ,لكنه كان دائم
القلق من هذه الجزئٌة ,كما أنه كان ٌشكو كثٌرً ا من معاملة الصحافٌٌن
41
الذٌن ٌجاملون بعض الفنانٌن وهم ال ٌستحقون ذلك ,وفً المقابل ربما
كانوا ٌتعمدون نشر أخباره بطرٌقة ال تتناسب مع تارٌخه ومكانته! منذ أن
عملت فً مكتب المشٌر عامر وأنا مهتم بترتٌب حفالت ثورة ٌولٌو
السنوٌة أو الحفالت التً تنظمها الشإون المعنوٌة فً الجٌش ,فكنت محط
ً
اعتقادا منه اهتمام ؼالبٌة الفنانٌن ,وكان معظمهم ٌسعى إلى التقرب منً
بؤن ذلك ٌإثر على ضمه او استبعاده من تلك الحفالت التً كان ٌشارك
فٌها الرئٌس عبد الناصر عادة ,وؼالبٌة رجال الدولة .وحقٌقة األمر ؼٌر
ذلك ,فقد كانت هناك لجنة متخصصة تتولى ترشٌح الفنانٌن ,وتتم مراجعة
أسماء المشاركٌن فٌها من جانب أجهزة المخابرات وأمن الرئاسة ,ألن
لٌس من الالئق أن ٌشارك فنان أو فنانة مشبوهة فً مثل هذه الحفالت
الرسمٌة ,فاألمور الفنٌة البسٌطة كانت تلقى اهتمامًا ومتابعة من الجهات
المختصة .التسجٌالت النادرة نؤتً إلى قصة التسجٌالت النادرة ,لم ٌكن
ً
مقصودا أن أحصل على تسجٌالت خاصة ونادرة من الفنان الكبٌر ,بل إن
األمر كان ولٌد الصدفة البحتة .فعندما تكررت زٌارة عبد الوهاب لمنزلً
أسبوعٌا تقرٌبا ,حرص عبد الوهاب على أن ٌؽنً خالل تلك الزٌارات,
هنا عرضت علٌه أن نسجل جانبًا منها ألتمكن فٌما بعد من االستمتاع بها
إذا سافرت وفً أوقات الفراغ ,فرحب فورا ,وبدأ هو من تلقاء نفسه
ٌبلؽنً أنه ٌعمل على لحن جدٌد وٌرؼب فً أن ٌستطلع رأًٌ فٌه .وهكذا
تكررت التجارب والتسجٌالت المتنوعة ألؼان قدٌمة تخصه هو أو ألحان
ُ
بدأت أقدم له بعض األشعار التً تصلنً من تخص مطربٌن آخرٌن ,كما
بعض الضباط أو أقاربهم وأعرضها علٌه ,فكان ٌستبعد ؼالبٌتها وٌلحن
بعضها .لم أفكر لحظة فً استثمار تلك التسجٌالت النادرة بؤي صورة من
42
الصور ,ولم ٌخطر ببالً ٌومًا أن اجعلها عمال تجارٌا ,كما لم ٌحدث أن
ساومت الرجل على هذه األشرطة ,بل على العكس تمامًا ,فقد حرصت
على أن تظل التسجٌالت مجرد ذكرى جمٌلة ,تعٌدنً إلى أٌام ولحظات
نادرة قضٌتها وأنا أستمع لصوت فنان عبقري .كنت أسمو فً عالقتً
بالموسٌقار الكبٌر إلى درجة كبٌرة ,وٌكفً أنه كان ٌعلم مكانته لدي
وصدق عالقتً به ,كما أننً فعالً كنت متٌمًا بفن وموسٌقى عبد الوهاب,
وكان ٌصطحب زوجته نهلة القدسً معه فً بعض زٌاراته التً امتدت
لسنوات ,فهل كان عبد الوهاب ٌقبل أن ٌؽنً مكرهًا لشمس بدران أو ؼٌره
طوال سنوات عدة من دون أن ٌشكو أو ٌتؤلم؟ لم ٌتضرر عبد الوهاب من
جلساتنا األسبوعٌة ,بل كان ٌؤتً سعٌ ًدا ,كما كان دائمًا ٌجدد أؼانٌه من
القدٌم إلى الجدٌد ,وٌظل ٌؽرد طوال اللٌل محتض ًنا عوده فً نهاٌة كل
أسبوع فً إبداع وتؤلق منقطع النظٌر ,وبعد أن ٌشعر بالتعب والرؼبة فً
النوم أصطحبه بعد منتصؾ اللٌل فً سٌارتً ,وال أتركه إال بعد أن أتؤكد
من دخوله إلى بٌته .لم أكرر عالقتً ب¯عبد الوهاب مع أي مطرب أو
مطربة أخرى ,رؼم ؼٌرتهم من تلك الخصوصٌة التً تربطنً به ,حتى
ان أم كلثوم أبلؽت بعض أصدقائً بقلقها من هذه العالقة ,لكنً لم أبال
ُ
وتجنبت اللقاء معها أكثر من مرة, ألنً لم أكن من المعجبٌن بها وال بفنها,
لٌس عٌبًا فٌها ولكن ذوقً الفنً لم ٌتوافق مع لون أؼانٌها وال مع فنها,
على عكس ما حدث مع عبد الوهاب وفنه .طبعًا أنا لست ً
ناقدا فنٌا وال
متخصصًا ,لكنً مجرد مستمع ومتذوق جٌد للفن والموسٌقى العربٌة
والؽربٌة ,ومن هذا الموقع أتصور أن عبد الوهاب احدى الظواهر الفنٌة
النادرة التً قلما ٌجود بها الزمان على أمة مثل األمة العربٌة .أذكر أننً
43
ُ
قابلت عبد الوهاب أثناء عالجه فً بارٌس ,وكان فً فً إحدى المرات
حقٌبتً أحد األشرطة التً سجلناها معًا ,وخالل اللقاء استمعنا لمحتواه,
وأعادتنا األؼنٌة إلى الوراء ألكثر من عشرٌن عاما ,وعندما تؤكد من نقاوة
الصوت فً الشرٌط سؤلنً ماذا ستفعل فً هذه األؼانً؟ فقلت له أحتفظ
ببعضها الستعادة الذكرٌات واالستمتاع بها فً الؽربة ,اقترح فكرة
استثمار مضمونها الفنً ,وإعادة طرحها فً األسواق تجارٌا عبر الشركة
الفنٌة التً كان ٌملكها ,وعدته بالبحث عنها ومحاولة تجمٌعها ,لكن هذا لم
ٌحدث ,لٌس عمدا ,بل ألننً فشلت فً العثور علٌها ,فقد كنت أنوي ردها
لصاحبها ألنها ال تمثل بالنسبة لً أكثر من كونها جزءًا من ذكرٌات
لمرحلة مثٌرة من عمري .ما مصٌر تلك األشرطة؟ طبعًا هذا السإال كثٌرً ا
ما رددته الصحؾ فً مصر ,وبخاصة المهتمون بجمع تراث الراحل
العظٌم .لن ٌصدق البعض أن ظروؾ خروجً من مصر وما صاحبها من
عجلة وقالقل لم تتح لً فرصة جمع هذه األشرطة .الذي حدث أننً حملت
معً بعضها إلى الخارج ,ونظرً ا الى تنقلً من بلد إلى بلد ومن مسكن إلى
مسكن كانت النتٌجة ضٌاع ؼالبٌة هذه األشرطة ,والشرٌط الوحٌد الذي
تبقى بحوزتً حصل علٌه أحد الصحافٌٌن على سبٌل الهدٌة ,بعد أن أسدى
ُ
علمت من لً جمٌالً ٌتعلق بظهوري فً برنامج تلفزٌونً ,لكن المإلم أننً
صدٌق مصري بعد ذلك أن هذا الشخص عرض بٌع هذا الشرٌط النادر
ألحد األثرٌاء العرب مقابل 5مالٌٌن جنٌه مصري! كنت وما زلت حزٌ ًنا
على ضٌاع هذه الثروة الفنٌة النادرة ,التً أدرك قٌمتها والتً ال تقدر بثمن
ألسطورة الفن والموسٌقى العربٌة محمد عبد الوهاب.انتهى.
44