Professional Documents
Culture Documents
ملائك نصيبين
ملائك نصيبين
مالئك نصيبين
!رواية?
ع
�أنت بكل غالئل نف�سك وقبائح تفا�صيلك� ..أنام معك و�أ�صحو...
ص
�أنت ال تتخ َّيل � ًأبدا �أيها اجلرذ.
ال ري
انظر �إىل �أقرب �إن�سان �إليك ..الآن يف هذه اللحظة!
ك
جيدا وا�ش ُعر فقط �أنك قد � َ
أوكلت به طوال حياتك! ُ
انظر له ً
ب ت
مت�شِ ي معه ،تنام معه ،تدخل اخلالء معه ،ت ِّ
ُفكر معه� ...شيء ُمريع �ألي�س كذلك؟
ن ل ل اع َلم �أيها القرد �أين �أنا ال�سيد الذي فوق ر�أ�سك.
ش
ر الو
�أو عن ميينك �أو عن �شمالك...
تو
ُوجه النعجة!
أوجهك كما ت ِّ آمرك و� َ
أنهاكِّ � ، � َ
زيع
�أقول فت�سمعني� ،أغيب فتغيب لذة حياتك.
ما الذي جا َء َ
بك ها هنا؟
ً
حكاية تُغني بها جوعك؟ تُريد
مللل َّ
تع�ش�ش يف روحك؟ �أم َ
جئت داف ًعا ٍ
جائع لك.
�إين �أنا الذي ٌ
َ
يتخذك للت�سل َية. �أنا امللول الذي
تخ َّيل لذ َة �أن تل ُهو ب�ضفدع ُ
يظن �أن الكون كله قد ُخلق لأجله!
تعدو هكذا الإن�سان ُ
يظن! ،هكذا �أنت ...لكنني جئتك اليوم لأعرفك مقا َمك حتى ال ُ
عليه.
�أنا ال�سامي الذي يع ُلو على قفاك يف هذه ال�ساعة وكل �ساعة� ،أنا الأعلى و�أنت الأدنى.
11
َ
كذبت علي يا كاذب و�س َّودت روحي ور�سمتَني ب�صور من منابت خيالك �أنا هو الذي
العفِن...
�أنا العايل عليك وعلى قبيلتك� ،أنا الأول و�أنت بعدي �أتيت!
�أنا ال�شيطان� ..ألي�س ا�سمي له هي َبة رغم �أنفك؟ فدن ر�أ�سك �أيها الداين وتع َّلم درجتَك.
ان�س كل الذي تع َّلمتَه عني وقر�أتَه عني و�شاهدتَه عني ...فكله هراء �أل َفه َ ٌ
ب�ش مثلك؛ َ
ع
كله بال ا�ستثناء!
ال
مك �أول در�س� ،أنت خملوق مهني من عائلة القردة!
يف �أول الزمان َ
كنت �أنت قردا! ،تهيم على وجهك مثل بقية حيوانات الأر�ض!
ت ك
لكن �صدفت �صدفة.
ش
تعال و�شاهِ د القرد الذي �صار له عقل ماذا فعل يف العامل؟
و ر
الت
وظن �أنه كل �شيء. �سفك الدم و�أهلك كل �شيء جميل!َ ،
وتعال على كل �شيءَّ ، َ
و
يح�ض جمراته وماليني خملوقاته قد ُخلِق ً
تهيئة له �أن ِ املتعجرف اعت َقد �أن الكون مباليني َّ
يع ز
و ُي� ِّرشف الأر�ض!
z
12
و�صدقتَها! َ
أجابتك نف�سك بكثري من الكذبَّ ، َ
نف�سك عني ف� َ
�ساءلت لطاملا
و� َ
إنك لت�سائل نف�سك الآن؛ ماذا يجعلني ملثلك قرين؟ ماذا يجعلني �أ�شغل �سمو نف�سي
لأجل �سفاهاتك؟ و�أنا هنا لأعلمك.
ص ع
�إن كنت تظن �أنني قرينك �أنت الذي يحوم بجوارك! ،ف�أنت ُمغ َّفل.
ال ري
ارتق بعقلِك ً
قليل حتى ُ
فل�ست �أدري �أي عني �ستفتح �صحائف كالمي هذا وتقر�أهِ ،
ت�ساويني ودع عنك الغباء.
ت ك
َ
قرينك الذي فوق ر�أ�سك �إمنا �أنا �أتلو َ
عليك حديث كل قرين ،بنف�س احلروف التي َيود
ش ن
أ�رشفك باحلديث و� َ
أعلمك! مثلك و� َ
ما الذي يجعلني �أنا البهي ال�سامي �ألتفِت �إىل مهني َ
و ر
�س� َ
أجيبك رغم �أين ُ
ظننت �أن هذا معلو ًما ملن كان مثلك.
و الت
�إن �أنت َ
لقيت �صحائفي هاته و�أخرجتَها من �أكفانها ف�أنت ل�ست من العموم العامة.
يع ز
أحجم عن
أنت ُم�سك �صحائفي يف يدك؛ ف�إمنا هذا يعني �أن الذي �أر�شدك �إليها قد � َوطاملا � َ
فعهد بها �إليك �أنت!
تنفيذ ما فيهاَ ،
أنت �أيها املهني �إذا قر� َأت ما فيها ثم مل جتِد يف نف�سك عليها همة؛ �أعِدها �إىل مو�ضعها.
و� َ
�شخ�صا رمبا ترى فيه على ذلك ُقدرة.
ً ّ
ودل عليها
ذبحا � َ
آتيك به من حيث ال تدري. ف�إن مل تف َعل فارتقِب ً
نورا ال ت�ستحقه! َ
نف�سك ً أ�سقطت عن نف�سك الذبح ،وف َّو َّت على
َ أحدا عليها � ف�إن َ
دللت � ً
حمقورا كما هي حالك.
العلم ف�إما ت�صري به رفي ًعا �سامي الرتبة!� ،أو تبقى ملو ًما ً
جاءك ُ
�ستجد يف الردمية التي �أخرجتَها خبيئة ظل �إخبا�ؤها � ًرسا عهدت به �إىل �صفائف
ال�سحار يتوارثونه فيهم.
�صحائف ،فيها منتهى العلم.
14
�صحائف نُ�س ِّميها الإي�ستوريجا ،املكاتيب.
تعجل على فهم ما يعني ا�سمها؛ فلي�س العلم ي�ؤتى دفقة واحدة ،ولرمبا ا�ست�شفوال َ
عقلك من لفظها معناها.
�إن ما �أروم منك و�أبتغي يفوق حدود فهمك الآن! ،لكن لي�س بعد �أن تنال من علم
الإي�ستوريجا ما يكفي.
ع
تدريجا � َ
أدرجك �إياه ،وترقية �أرقيك فيها. هذا العلم ي�ؤتى
ص
ً
ال ري
ارتقيت كلما َ
فهمت الذي �أن�شده منك. َ فكلما
لي�س ذلك العلم �سحر ،ولي�س ذلك العلم تنجيم ...هذا العلم فوق ذلك كله.
ت ك
هذا العلم لو تع َّلمتَه �ست�صري به ال�سيد املخل�ص؛ تدين لك الأر�ض من �أطرافها.
ش
احفظ حروف ا�سمي يف حفيظة من نور بداخل عقلك( ،ظ ا م) ا�سمي «ظــام».
و ر
الت
ا�سودادي وا�سوداد َ
عاملك �سواء ،عيناي �شقيقتان لعني قط تتل َّونان يف �سودة الليل.
و
�أ ُذناي امتلأتا ب�سماعات تلقيتُها يف مقاعد لل�سمع يف جو ال�سماء! ،فكتبتُها و�سطرتها
يع ز
ف�سموت بها فوق اجلن والإن�س.
خمتارا! لي�س لب�رش زري مثلك �أن َّ
يطلع على الإي�ستوريجا �إال �أن يكون ً
َ
اخرتتك فافتح روحك لكل هذا العلم ،و�سن�ؤتيك املزيد. و�أنا
مبتد�أ هذا العلم كله يف ذلك املجلد من ال�صحائف املحزومة بالرباط الأحمر.
�أخ ِرجها من مرقدها وانفخ الغربة التي تكتمها.
ذلك هو املجلد الأول؛ �أخ ِرجه ودع املج َّلدين الآخرين.
واقر�أ ال�صحائف برتتيب تن�سيقها.
أعجل. و�إن كنت ً
عجول بالقراءة ف�س�أعجل بقتلك! ،فال جتعلني � ِّ
z
15
()1
ملك
ِ
وساحر
وشيطان
قبل �أل َفني من ال�سنني �إال مائتني ،تعاظ َمت مملكة �س َب�أ بني املما ِلك ،بح�شد
مرمر من جنات متتد على �أر�ضها وتزين جبالها ،وق�صور وبنيان وبيوت من َ
و�أحجار ورخام ...وتبابعة يحكمونها يف �سل�سلة طويلة من الزمن ،يرادفون يف
ع
عظمتهم قيا�ص َرة روما و�أكا�سرة فار�س ...حتى �أتى عليها زمان؛ قبل �ألفني
ص
من ال�سنني �إال مائتني ،حو�صر ملكها التبع احلكيم «ملكيكرب» فوق قمة جبل
ال ري
«�أهنوم» الكبري ،وكان يرتاجع بقدميه �إىل احلافة ناظ ًرا �إىل ُما�صريه بعيون
لي�س فيها خوف ،بينما كانت عيونهم تناظره وت�ساقط عليه �شر ًرا ميتلئ حقدً ا
ك
و�ش ًرا و�شماتة ...وخا�صة عيون رجل منهم يقف يف منت�صفهم؛ رجل �سي�صري
ت
مل ًكا على اليمن �إن �سقط «ملكيكرب» من هذه احلافة يف هذا اليوم ،رجل يدعى
ن
بدرع كان معه �ضرب ًة �أطا َرت
ش
مل ي�صرب ثانية �أخرى �إذ هجم على امللك و�ضربه ٍ
ر
ج�سده جتاه الهاوية!
قدمي امللك من مكانهما و�أطارت َ
الت و
�شاخ�ص بب�صره �إىل من �أ�سقطوه! ،وبدت عيونهم ظ َّل ج�سد امللك يهوي وهو ِ
و
من مكانه ك�أنها تلمع ُمنت�صر ًة و ُمت�ش ِّفية ،ثم �أغم�ض عينيه وه َوى ...وم�ضت
يع ز
�سراعا قبل �أن ميوت؛ ذكريات زوجته اجلميلة «فارعة» وابنه على باله ذكريات ً
امل�شاغب «�أ�سعد» الذي كان ي�أمل �أن يخلفه من بعده وي�صري تب ًعا عظي ًما ..لكن
َ
ال�سقطة لن يكون ابنه تب ًعا ،بل �إن م�صريه �سيكون املوت؛ ف�إن «كرب �إيل بعد هذه
وتر» لن يرتُك �أحدً ا من ُ�ساللة امللك ُينازعه مل َكه بعد ح ٍني من الزمن ..انفط َر
ف�ؤاده ملا �أتاه هذا اخلاطر ،وا�ست�سلم ل�صدمة ج�سده يف �صخرة يف �سفح اجلبل،
خطا دمو ًيا ُي ِنذر بانتهاء حكم �ساللة ودماءه التي �سا َلت على احلجر را�سم ًة ًّ
«ملكيكرب» �إىل الأبد.
واجب النفاذ؛ وبعد دقيقة واحدة نظر امللك اجلديد �إىل زبان َيته و�أ�صدر �أم ًرا َ
�أن الطفل �أ�سعد ابن «ملكيكرب» يجب �أن يل َقى حت َفه الليلة! ،و�أن يتم ذلك يف
غف َلة من النا�س ويف غفل ٍة من �أهله ،وبطريقة تبدو بها ميتَته طبيعية ال �ش َي َة
فيها.
z
19
ق�صر ت�سيل املياه من �شعابه �أنهارا ُتز ِّينه من فخامته ،عرف يف التاريخ يف ٍ
بق�صر خمر ،كان يعي�ش الطفل �أ�سعد و �أمه «فارعة» وج ّده «موهبيل» ...ولقد
نزل عليهم خرب وفاة امللك ك�أنه زلزال ق َّو�ض �أركان ق�صرهم؛ قيل لهم �أنه َ
مر�ضا �شديدً ا ثم مات ،لكن «فارعة» كانت تعرف� ،إن زوجها قد قتل هذا مر�ض ً َ
خوف وتر ُّقب،
م�ؤكد ،ولقد بكت حتى نفذ الدمع منها ،ونظرت �إىل ابنها نظر َة ٍ
خم�سا وال يدري من �أمره �شي ًئا ،وكيف �ستقولابنها الذي مل يب ُلغ من ال�سنوات ً
ع
له خرب موت والده!� ،أعياها التفكري فار َمتت على �ساعد �أبوها العجوز «موهبيل»
ص
الذي كانت ت�أتيه �أفكار كثرية يف تلك اللحظة عن ذلك الطفل «�أ�سعد» وكيف
ال ري
يحميه.
ويف ذات ليل ٍة ..ويف غف َلة من اجلميع ،خرج الطفل «�أ�سعد» من الق�صر،
ت ك
لقدره! ،كان يبحث عن اللعب ومل َعت خلروجه عيون كانت ترقبه ،خرج ك�أنه خرج َ
ل ب
وال�صحبة؛ فلي�س يف ق�صر خمر لعب وال �صحبة ،لي�ست فيه �إال نوافري ومياه
ن ل
أعي حتى جتري �أنها ًرا و�أحزان تلف الأركان وتهزها! ،خرج �أ�سعد وراقبته ال ُ
ش
ً
ان�سالل ان�سل
دخل ال�سوق ،ولقد �شكرت تلك الأعني حظها ،ف�إن ذلك الطفل قد َ
و ر
من الق�صر يف غف َلة حتى من احلر�س �أنف�سهم ،ولقد كانت العيون التي ُ
تر�صد
و الت
�أ�سعد وتتَّبعه هما امر�أتني؛ مر�سالت من عند امللك اجلديد ،امر�أتان قاتلتان.
يع ز
وفج�أة �أم�س َكت بكتف الطفل يد �أنثوية ،فنظر وراءه ف�إذا امر�أتني ُمبت�سمتني
ناظرتَني �إليه بو ّد! ،قالت �إحداهما:
مر�سالت من عند ج ّدك «موهبيل»� ،أمل ي ُقل لك �أال تخ ُرج �أيها الطفل �إنا َ
نعيدك الآن.
من الق�صر بدون علمه� ،إنه يجب علينا �أن َ
ت�أ َّفف الطف ُل ال�صغري وقال:
بعد حني.
أعيداين َ �إين �أريد اللعب ..دعاين �أل َعب ً
قليل ثم � َ
قا َلت املر�أ ُة الأخرى:
واحة يل َعب فيها ال�صبيان ثم نعيدك فتعال �أد ّلك على َ
كنت تريد اللعب َ �إن َ
�إىل �أمك.
ته َّل َلت �أ�سارير «�أ�سعد» وم�شى معهما وكل امر�أ ٍة منهما ُت ِ�سك بيد ،وم�شيا
حتى انتهيا به �إىل جبل �أهنوم ،ثم �أخذتا ت�صعدان به �صخور اجلبل حتى وقفتَا
و�سط اجلبل ونظرتا منها �إىل الأ�سفل حتى اطم�أنتا �أن ال ُبعد عند حاف ٍة يف َ
20
عال وهو ي�ص ُرخ َ
و�سقط من ٍ منا�سب ،ثم �ضر َبت �إحداهن «�أ�سعد» بقدمها َّ
فتعث
حتى غاب يف الظالم ...وا�ستدارت املر�أتان وعادتا من حيث �أتيتا ،وظ َّلت
�صخور جبل �أهنوم �صامت ًة وك�أنها يف ٍ
حداد على ملك وابن ملك قد نزفا هاهُ نا
يف يومني!
z
ع
لمات تك َّو َمت حتت �سفح اجلبل ،كان ير ُقد ج�سد طفل �صغري ،تها�ضمت يف ُظ ٍ
ص
�سيف�شل!،وا�ضحا �أنه َ
ً روحه حية ،وكان وتق�صفت! ،وبدا �أنه ُينازع ل ُيبقي َعظامه َّ
ري
وطالعت عينه طي ًفا �آت ًيا عليه من بعيد ،وظ َّل الطيف يق ِرتب حتى ظن �أنه �سيتب َّي َنه
ال
لكنه اختفى ك�أن مل ي ُكن! ،هال ِو�س رمبا خلقها ف�ؤاده ثم �أخفاها ،كان الطيف قد
ك
ينظر �إىل الطفل بعينني ُم�شفقتني م�ضى ليختفي وراء حجر قريب ،وظ َّل الطيف ُ
ت
ترتقرق فيهما الدموع! ،ثم ذهب الطيف من املكان ك�أن مل ي ُكن له وجود!،
ن
ُ
ش
وا�ضحا ،واقرتب حتى وقف عند ر�أ�س ً الطيف يتهادى �إليه ،لكنه كان هذه املرة
ر
الطفل وانحنى ،ونظر �إليه الطف ُل ب� َأل ،ف�إذا هي امر�أة تنحني عليه ومت ّد َيدها
الت و
لتلم�سه!� ،شيء ما يف نظراتها �أ�سك َنه! ،كانت لها عينان ك�أنهن الد ّر الأز َرق،
و
طف ،ثم غاب الطفل عن الوعي. و�ضعت يدها على عينه ف�أغلقت ُهما ب ُل ٍ
يع ز
آالما
آالما �شتى قد زالت و� ً تراءت له الدنيا من بني عينني منهكتني� ،شع َر �أن � ً
�أخرى قد خ َّفت وط�أَتها ،و�أ�صبح قاد ًرا على حتريك عظامه ،فارتفع عن مرقده
ونظر �إىل �أجمل ب�سمة قد تكون ر�أتها عينه ال�صغرية من قبل ،كانت رقيق ًة
فيهن زرقة عجيبة ،كانت قد عاجلت �آالمه و�أناته حتى ال بي�ضاء ذات عينني ِ
ُ
يكاد ي�شعر ب�شيء ،قالت له �أن ا�سمها «�إينور» ،و�أنها ت�سكن باجلوار ،قال لها
�أنه «�أ�سعد» ابن امللك «ملكيكرب» ،و�أن �أباه قد ذهب يف رحل ٍة طويلة ،و�أنه رمبا
�سيعود قريبا و...
أباك لن يعود من �أي مكان �أيها الطفل!� ،إن �أباك امللك قد هراء� ..إن � َ
مات.
مكان ما خلف الفتاة «�إينور» ،فنظ َر الطف ُل كان هذا �صوتًا اعرتا�ض ًيا �أتى من ٍ
ري من الغرابة ...كان �أ�ش َقر ال�شعر رجل يف هيئته كثري من البهاء وكث ٌ فر�أى ً
املن�سدل على كتفيه ،وذو مالب�س مل يعتَد الطفل على ر�ؤيتها!.. ِ الكثيف الناعم
تق َّدم الأ�شقر ناح َية «�أ�سعد» وقال له:
21
مت قبل يومني ،ولقد �أعلنوا خ َرب موتك يف كافة �أنحاء أنت �أي�ضا قد َّ
و� َ
مدينة خمر! ،قالوا �أن ال�ضباع قد �أك َلتك.
كان «�أ�سعد» م�شدوهً ا يرتقرق يف عينه كثري من الدمع ،وحكى لهما عن
خروجه من ق�صر خمر ،وعن املر�أتني ،والواحة التي يلعب فيها ال�صبيان...
نظر الأ�شقر �إىل «�أ�سعد» بعينني ال تعرف املحاباة:
ع
أب�شع من ال�ضباع ،وال تظن �أننا من ُكم� ،إمنا نحن من الـ... جن�سكم � َ
�إن َ
ص
الرجل...
ُ�سكت ُ�صاحت «�إينور» �صيح ًة لت ِ
َ
ال ري
وظ َّلت عني «�أ�سعد» تتن َّقل بني الرجل واملر�أة وتتح َّرك تلقائ ًيا لتلحظ املكان
من حوله! ،و�إن تفا�صيل �شديدة الغرابة التقطتها عيناه ال�صغريتان...
z
ت ك
ن ل ل ب
�صحته �أف�ضل مما كانت ،و�أتت �ساعة قالت له «�إينور» م�ضت حتى عادت َّ �أيا ٌم َ
ش
بر َّق ٍة �أن �أوان رحيله قد حان! ،و�أنه يجب �أن َ
يذهب مع الأ�ش َقر ل ُيعيده �إىل ق�صر
ر
حلزن �أن ُيهلكهما ،ولقد هرع الطفل �إىل «�إينور» خمر عند �أمه وجده فلقد كاد ا ُ
الت و
وقت ي�شاء؛
بحنان وقالت �أنه ُي ِكنه �أن ي�أتي ليزورها يف �أي ٍيحت�ضنها ،نظ َرت له ٍ
و
ف�إنها تعي�ش يف هذه الأنحاء.
يع ز
�أم�سك الرج ُل بيد الطفل و�سح َبه معه ما�ش ًيا ،نظر «�أ�سعد» �إىل الرجل ،كان
بهي املنظر هو الآخر بهذا ال�شعر الأ�صفر الطويل املم َّيز الذي ميلكه ،عرف �أن
ا�سمه «عمرو بن جابر» ،و�أنه زوج اجلميلة «�إينور» ،وكان «عمرو بن جابر» ذا
طبع حاد ،لكن املرء ي�ش ُعر بالأمان وهو يجاوره بطول قامته وبهائه وقوة عينيه.
هندامه �أكرث طبيعية،
َ الحظ «�أ�سعد» �أن «عمرو بن جابر» قد تل َّثم وجعل َ
تتح�س�سه من بني طوائف وتوج َه به مبا�شرة �إىل ق�صر خمر ،هنالك ه َّبت �أ ُّمه َّ َّ
�أحزانها ،ونظر «عمرو» �إىل ج ّد «�أ�سعد» وقال له:
�ستجده غدً ا ُمر ًقا!،
إنك ِ �إن عرف فر ٌد واحد غ َرينا �أن هذا الطفل َحي ف� َ
جتد �أحدً ا ي�أتيك به ،و�إنه لي�س لك �إال �أن ُتخرجه من و�ساعتها لن ِ
ر�سله ليعي�ش يف مدينة ظفار ،على �أال يعرفه �أحد من ق�صرك هذا و ُت ِ
نا�صح ،ف�إن يف ظفار رجل �صالح ُيدعى «�شافع» ،ي�أتيه النا�س ...و�إين لك ِ
22
ال�صبيان ليتع َّلموا كنوز العلوم ،فلتذهب بطفلك هذا �إليه ،ف�إنه �س ُيع ِّلمه
ويكتُم عنه.
نظر اجلد «موهبيل» �إىل «عمرو بن جابر» وهو يتح َّدث� ،س�أ َله :
من �أنت!..
وبدت يف �شفتيه كهيئة ابت�سامة! ،ثم نظ َر �إىل فنظر «عمرو» �إىل الطفل َ
ع
تغيت مالحمه �إىل اجلد يف ثانية: «موهبيل» وقال وقد َّ
حفيدك هذا من بني يعنيك هو �أنني �أعدتُ لك َ
ريص
يعنيك من �أنا ،ما َ لي�س َ
ال
�ضباع اجلبل.
ك
حدث وا�ستدار «عمرو» وان�ص َرف ...و�أخذ اجل ّد والأم ي�س�أالن الطفل عما َ
ت
الذعر معه ،والطفل يروي ،وعالمات اال�ستغراب ُتراود العيون ،لكن عالمات ُ
ش
أقفال من حديد قبل قليل بعد �أن �أدخلوا منها الطفل يحر�سونها والتي �أغل ُقوها ب� ٍ
ُ
ر
والرجل الأ�ش َقر املل َّثم الذي كان يرافقه ،عند تلك البوابة التي لي�س لق�صر خمر ُ
الت و
مدخل �سواها ،وجدوا الرجل الأ�شقر واق ًفا بينهم خارج البوابة ناظ ًرا خم َرج وال َ
و
لهم بع ٍني من فوالذ ...وقال لهم:
يع ز
�أتعجبونَ �أن يخ ُرج من بوابتكم هذه رجل كامل ُمير من حتت �أنو ِفكم!،
طفل يخ ُرج منها بكل الإزعاج تلحظ ً ولقد عجزَ ت عيونكم من قبل �أن َ
الذي ي�س ِّببه!
با�ستغراب و�شعور بالإها َنة� ،إن فيها فرجات ٍ نظر الرجال �إىل البوابة
رجل كهذا فم�ستحيل! ..نظروا �إىل تنجح يف مترير طفل� ،أما ُ �صغريات رمبا َ
خرج من الأر�ض ثم عاد الرجل ثاني ًة ُبذعر فلم يجدوا مكانه �إال هواء! ،وك�أنه َ
�إليها ،تل َّفتوا حولهم و�إىل َمد ب�صرهم بح ًثا عن «عمرو» ،لكنهم مل يجدوا �إال
اللحظة نف�سها ي�سري تنظر �إىل بع�ضها يف ُذعر! ،وكان «عمرو» يف تلك َ وجوههم ُ
عند جبل �أهنوم ،وك�أنه كان �شيطا ًنا.
z
ودروب َ
وب�شر ...هذا ما كانت تراه عني الطفل «�أ�سعد»، ٌ �أ�سوا ٌق و�ضجي ٌج
ي�سحبه من يده معه داخل مدينة ظفار ،وكان
كان ي�ستدير هنا وهناك وج ّده َ
23
�أمامهما رجل ُمل َّثم ذو �شعر �أ�ص َفر ُيدعى «عمرو بن جابر» ،حتى �إذا انقط َعت
رجل �أب َي�ض
�صومعة �أو دير ،وفيه ُعنهم كرثة امل�ساكن� ،إذ و�صلوا �إىل ما بدا ك�أ َّنه َ
ينظر �إىل الدير و�إىل الرجل الثياب واللحية وال�شعر ...كان اجلد «موهبيل» ُ
با�ستغراب! ،فلم يعتَد �أن تكون �أديرة الن�صارى هكذا وال زِيهم ،يف تلك اللحظة
ينظر �إىلكالما ثم ُ
كان «عمرو بن جابر» مييل على � ُأذن الرجل و ُيلقي �إليه ً
أح�سن الكالم واحتفى «�أ�سعد» ،ا�ستب�ش َر وج ُه الرجل ذو الرداء الأبي�ض وتك َّلم ف� َ
ع
وفتحه ف�إذا وراءه جمعباب كبري َ باجلد وو َّقر االبن ،وقام ف�أخذ الكل معه �إىل ٍ
ص
مال «عمرو» على اجلد من ُحدثاء ال�سن والأطفال يتذاكرونَ كت ًبا و�سطو ًراَ ...
ال ري
«موهبيل» وقال له:
�إن ه�ؤالء �إما يتامى �أو م�ساكني ..و�إنه ُيع ِّلمهم كل �شيء ،الأ َدب ِ
وال�شعر
ت ك
والف َلك واحل�ساب ...تذ َّكر ا�سمه جيدً ا�« ..شافع بن كليب ال�صديف»،
ب
لأنك �ست�ش ُكره �إذا ب َلغ ولدك ون َبغ� ...إن ولدك هنا لن يدري عنه �أحد،
ن ل ل و�سيكرب ويتع َّلم ب�أف�ضل مما ترت ِقب.
ر ش
�أعجب اجلد باملكان واطم�أن ،وملا م�ضى كل رجل �إىل حاله وتركوا «�أ�سعد»
الت و
أجل�سه و�سط قرنائه الأطفال ،وظ َّل بينهم �سنني وحيدً ا �أخذه الراهب «�شافع» و� َ
و
خم�س؛ يقر�أ ما يقر�ؤون ،ويح َفظ ما يحفظون ...وك َّلما م َّرت �سن ٌة بلغ عقله من
يع ز
الفهم مبل ًغا عظي ًما ،تع َّل َم �أن هناك ثور عظيم يع ُبده �أهل اليمن ا�سمه «املقه»،
و�أن هذا حمق و�أباطيل ،و�أنه ال �إله �إال من �سمى نف�سه «رحمنن» ،وكانوا ي�سمونه
«ذي �سماوي»؛ يعني الرحمن �سيد ال�سماء ،وتع ّلم �صالة فيها ركوع و�سجود ،ومل
يكن يقطع �أمه «فارعة» ،ومل يكن يقطع «�إينور» �ساكنة اجلبل ،ومل يكن «عمرو
بن جابر» يقطعه بل كان ي�أتيه كل حني فج�أة ،ك�أمنا يظهر من الالمكان! ،ولقد
كان «�أ�سعد» ُيحاول دائ ًما �أن ي�س�أل الراهب «�شافع» عن «�إينور» وعن زوجها
الغريب «عمرو بن جابر» ،لكن الراهب كان ُيهله حتى يكرب.
حتى بلغ من ال�سنني ع�ش ًرا ..حينها قال له الراهب:
أقواما يرو َننا وال نراهم ،وي�سمعوننا وال �أعلم يا «�أ�سعد» �أن هناك � ً
ن�سمعهم ،ي�سكنون �سفوح اجلبال والوديان� ...إ�سراعهم يف الأر�ض
�أ�سرع من ملح الب�صر ،لهم زوجات و�أبناء وقبائل ،ال ُيخالطوننا وال
ُنخا ِلطهم� ...إال �أنهم �إذا �أرادوا منا �أم ًرا مت َّث ُلوا يف هيئة ُت�شبه هيئتنا
فرناهم و ُنحدِّ ثهم ،ف�إذا انتهى غر�ضهم منا ذابوا يف ط َّيات الهواء ك�أن
24
مل يكونواُ ،ن�س ِّميهم اجلن لأنهم جنوا وخفوا عن �أب�صارنا ،و�إن منهم
م�شيت فيه على
�صاحلني ومنهم �شياطني يكرهونك ويكرهون اليوم الذي َ
هذه الأر�ض!
اتَّ�سعت عيون «�أ�سعد» وجعل يل َمح يف ذاكرته مالمح مما ر�آه عند «�إينور»
وزوجها ...وا�ستغرقته خواطره حتى انت َبه �إىل كيان يجل�س بجانبه! ،فنظر
ن�سدل وعيناهو�شعره املُ ِ
مبالمه الو�سي َمة َِ �إليه ف�إذا هو «عمرو بن جابر»!،
ع
ال�صريحتان.
ريص
ال
انتف�ض «�أ�سعد» من مكانه ك�أن عق َر ًبا ل�س َعته ثم �أهد�أ نف�سه واطم�أن ملا ر�أى َ
ب�س َم َة «عمرو» التي مل يكن يراها كث ًريا ...قال «�أ�سعد»:
ت ك
أنت �شيطان؟ هل � َ
ب
�ضح َكت عني «عمرو» وقال له:
ر
بغ�ضب طفويل:ٍ قال «�أ�سعد»
و
ب�شر.
يع ز
قال له «عمرو»:
أ�صحبت ولدً ا �سي ًئا ُمتمردًا قلنا َ
عليك �شيطان. َ أنت �إذا �
� َ
قال «�أ�سعد»:
ولكنك تـ ...
قال له «عمرو»:
ال�شيطان �ص َفة لكل ُمتم ِّرد ،ونحن مثلكم ،منا ال�صاحلون ِومنا ال�شياطني.
قال «�أ�سعد»:
وملاذا ت�سكنون اجلبال وال�صحراوات؟
قال له «عمرو» ُمبت�س ًما:
لأنكم تزعجوننا.
25
بدا على «�أ�سعد» �أنه ال يف َهم جيدً ا! ،فف َّكر «عمرو» ثم قال له:
مكان لتنام
وافر�شها يف ٍ لك اذهب ِ �إذا �أعطيتُك هذه احل�صرية الآن وقلت َ
لتفر�شها و�سط املوا�شي َ
والقطط؟ �ستذهب ِفيه ويكون لك م�سك ًنا ...هل َ
قال له «�أ�سعد»:
أفر�شها فيه بعيدً ا عن الإزعاج ،و�سـ... ال� ..س� ِأجد مكا ًنا ُم ً
ريحا � ِ
ع
�سكت «�أ�س َعد» ُبره ًة ثم فهم ما ُيريد �أن يقوله «عمرو» ،ثم قال بغ�ضب:
ص
َ
ال ري
�إذن هل �أنتُم تعتربوننا مثل املوا�شي والقطط؟
�ضحك «عمرو بن جابر» وقام «�أ�سعد» ُيحاول مناك�شته والتعلُّق به والرك�ض
ت ك
خل َفه ،ولعب «عمرو» معه حتى خرجا �إىل خارج الدير وهما يت�ضاحكان ...ثم
الحظ «عمرو» �شي ًئا ف�أو َقف «�أ�سعد» َ
ب
بحزم!
ش
�أ�س َمر اللون �أ�سود ال�شعر ،ينزل �شعره �أمام كتفيه يف َ�ضفريتني كبريتني ،له
و ر
رجل عجوز �صحيح البدن يرتدي ثيا ًبا ُمتهدِّ لة و�شيء يف مالمح ال متزح ،والآخر ُ
و الت
�سميه النا�س «ذومريحا ،كان الأ�سمر الطويل �شا ًبا من الأعيان ُي ِّ هيئته ال يبدو ً
يع ز
نوا�س» ب�سبب ال�ضفريتني ،والعجوز الذي ُيرافقه �أينما ذهب هو ال�ساحر «هريا»،
وكل من وراءهما من النا�س من ُمريديهما يطلبون بر َكتهما ...الحظ «�أ�سعد»
تالم َذته ُيعاينون ال�ضجة.خروج الراهب «�شافع» وبع�ض ِ
�أم�سك «عمرو بن جابر» يد «�أ�سعد» م�سك ًة حازم ًة وقال:
الآن هذا هو ال�شيطان!
الت�صق بعمرو بن جابر لي�ست�ش ِعر متاما� ،إال �أنه َ جتف «�أ�سعد» ومل يف َهم ً ار َ
ق�سطا من الأمان ،اقرتب ال�شاب الأ�سمر «ذو نوا�س» وال�ساحر «هريا» يف قوته ً
من الدير ،وكادا مي�ضيان يف طريقهما �إال �أن ال�ساحر تو َّقف فج�أ ًة ونظر �إىل
«عمرو بن جابر» نظر ًة مل يفهم �سببها �أحد من الواقفني! ،مل يكن «عمرو» ُ
ينظر
أي�ضا مل يفهمها �أحد من ينظر فوق ر�أ�س ال�ساحر بنظر ٍة � ً �إىل ال�ساحر ،بل كان ُ
ينظر �إىل رفيقه ال�ساحر: الواقفني ،قال الأ�سمر «ذو نوا�س» وهو ُ
هل ُي�ضايقك هذا الأ�ش َقر ف�أ�س ِّودَنَّ له خلقته هذه؟
26
ينظر �إىل ما فوق ال�ساحر «هريا»؛ فهناك، عال �آخر ُ كان «عمرو» وك�أنه يف َ
وفوق كتف ال�ساحر بقليل كان ي ِقف �شيطان!
تنزل من فوق ر�أ�سه �إىل قدميه ،وال يكاد �شيطان يط ُفو يف عباء ٍة �سوداء ِ
أب�شع وجه على الأر�ض ُخ ِلق ،كان «عمرو» يظ َهر منه �إال وجهه! ،ولقد بدا وك�أنه � َ
ُيتم ِتم بكالم مل ي�س َمعه �سوى «�أ�سعد» الذي �سمعه وهو يقول:
ع
يا �إلهي ..هذا «�إزب».
ص
هم الأ�سمر ذو ال�ضفائر بالهجوم على «عمرو بن جابر»! ،وتق َّدم ما�ش ًيا �إليه َّ
ال ري
موجهة له ،بل َ
بالفعل ،لكن كل َمة من ال�ساحر �أوقفته! ،مل تكن كلمة ال�ساحر َّ
وجهة للراهب «�شافع» ...قال له: كانت ُم َّ
ت ك
ديرك هذا وفقرك؟ �أمل ي�أ ِتك ربك «رحمنن» ببع�ض املال طوال أالزلت يف َ
� َ
ل ب
عاما؟ �إين ال �أراك �إال تزداد فق ًرا و�شحو ًبا.
ع�شرين ً
ر
ت�سجد �إال
ل�ستُ �صاغ ًرا من �أعطاين املال �سجدتُ له ..هذه اجلب َهة ال ُ
الت و
مثلك من جيوب املغ َّفلني الذين للذي خل َقها ،تركنا املال ليجبيه خبيثٌ َ
و
من حوله.
يع ز
�سرى بني اجلمع �إنذا ٌر بالعراك!� ،إال �أن �إ�شار ًة من ال�ساحر �أوق َفتهم ،وبدون
كلمة �أخرى نظر ال�ساحر «هريا» مط َّوال �إىل «عمرو بن جابر» ،ثم حت َّرك ُمغاد ًرا
والتفت ال�شيطانُ ذو العباءةَ املكان وتبعه الأ�سمر ال�شاب ك�أنهما الظل و�صاحبه..
ينظر �إىل «عمرو بن جابر» �أي�ضا ،ثم ك َّونت �أ�سنانه ما ال�سوداء من فوق ال�ساحر ُ
بدا �أنه ابت�سامة ،لكنها كانت ابت�سامة �شديدة الدمامة.
z
كان ذو نوا�س و�ساحره «هريا» ميتلكان قلوب كثري من النا�س خو ًفا وط ًمعا،
ظل مي�شيان يف ذلك الطريق حتى �أتَت عليهما خيل بفر�سانها ،وتو َّق َفت ولقد ّ
عندهما ..قال لهما �أح ُد الفر�سان من فوق خيله:
فو�صفك بجدائلك هذه ال َ أنت
�أنت «يو�سف ذو نوا�س»؟ نعم يبدو �أنه � َ
ر�سل من عند امللك «كرب �إيل وتار»� ،إنه ُيريدك يفُيخطئك ،جئنا لك ً
ق�صره.
27
وتفلتَت بع�ض ال�ضحكات من باقي الفر�سان مل يتم َّكنوا من كتمانها ،نظر
اكرتاث ثم َّول وج َهه َّ
وهم ب�إكمال امل�شي �إال �أن �صوت �إخراج ٍ «ذو نوا�س» لهم بال
َ ً َ
ال�سيوف من �أغمادها �أوقفه قليل ،عندها مال عليه ال�ساحر «هريا» و�أ�س َّر �إليه
بكلمات مل َعت لها عني «ذو نوا�س» ،ملعتا ملع ًة َبدت ُميف ًة لبع�ض الفر�سان ،ثم ٍ
نظ َر �إليهم وقال مبا�شرة:
� َإذن هيا بنا �إليه.
ع
ق�صر تتم َّدد اجلنان من حوله ..كان ين َعم «كرب �إيل وتر» ُمب ٍلك عظيم، ويف ٍ
ريص
َ
وكان وقت الليل قد دخل و�أ�ضيئت امل�شاعل يف جنبات الق�صر و�أ�ضاءت النجوم
ال
ال�سماء ...ودخل «ذو نوا�س» و�سط كل هذا واحلرا�س ينظرون �إليه نظر ًة فيها
ال�سخرية ال�شيء الكثري ،وبع�ضهم عمل بيده خف َية �ساخ ًرا �شكل اجلدائل من ُ
ت ك
ً
الطويلة ،ف�ضحك �أ�صحابة �ضحكة مكتُومة ،ثم �أدخلوه �إىل غرفة كبرية فيها
ب
والتحف ما فيها ،وفيها حر�س واقفون ك�أنهم الأوتاد ووجوههم �إىل من الزينة َ
ش
تك�شف �أطرافه ،وقال يف لهج ٍة غري ثم دخل عليه «كرب �إيل وتر» يف ح َّلة حمراء ِ
ر
ُمريحة:
الت و
أنت اليوم �ضيف امل ِلك يا «ذو نوا�س»� ،ضيف م ِلك �س َب�أ ،و�إنني قد �سمعتُ � َ
و
و�شهرتك ...فاليوم هو يومك. عنك وعن و�سامتك ُ َ
يع ز
كان «كرب �إيل وتر» بعد �أن �أ�سقط «ملكيكرب» من فوق اجلبل و�أر�سل
املر�أتني لقتل الطفل «�أ�سعد» بد�أ يتخذ طريق ًة خ�سي�سة يف �إق�صاء �شباب عائلة
«ملكيكرب» من احتمال القفز على احلكم؛ طريقة هي � َأخ�س ما و�ص َلت �إليه
يوما ،كان ي�ستدعي �أبناء العائلة حتى �أ�صحاب ُم ّيلة ملك ح َكم هذه الأر�ض ً
القرابة البعيدة ،ويفعل بهم الفاح�شة! ،في�شاع بني النا�س �أن هذا ال�شاب من
مو�سوما بها بقية حياته ،فال يجعله النا�س م ِل ًكا
ً العائلة مفعول فيه كذا ،في�صري
يوما �أبدً ا! ..قال له «ذو نوا�س»: عليهم ً
أكرهك و�أكرهأي�ضا �أنني � َ
�إذن فقد �أخربوك عني كل �شيء� ،أفلم ُيخربوك � ً
ا�سمك �إذا ُذ ِكر �أمامي.
احلر�س الواقفني �سيو َفهم ن�صف �إخراج وهم ال ُ ويف حلظ ٍة واحدة �أخ َرج
زالت وجوههم �إىل احلائط! ،نظر لهم «ذو نوا�س» ثم قال بلهجة َمن َ
خ�ضع:
يبدو �أنك �ستجربين �أن �أفعل ما تريد �أيها امللك� ،أين ميكنني �أن �أخ َلع
حذائي؟
28
�أ�شا َر له «كرب �إيل وتر» �أن يخلعه يف �أي مكان ،وانحنى «ذو نوا�س» ليخ َلع
احلذاء ،ف�أخ َرج من حتت حذائيه خنجرين ما�ضيني كان يخفيهما ،ثم ا�ستدار
ؤو�سهم بحركة وانق�ض كعا�صفة فاج َعة على كل الذين يولونه ظهورهم فقطع ر� َ َّ
ح�سنها �سوى فار�س �شديد املهارة ،ثم ا�ستدار �إىل ذو الرداء الأحمر فوثب لي�س ُي ِ
عليه يقطعه حتى اختلطت دما�ؤه بردائه الأحمر ثم ح َّز ر� َأ�سه حزًّا ك�أنه بعري.
وكان «كرب �إيل وتر» �إذا انتهى من فع َلته ال�سيئة يف �أي �شاب يظهر ر�أ�سه من
ع
�شباك الغرفة وهو ي�ضع م�سوا ًكا يف فمه! ،فيفهم احلر�س ملا يرون ر�أ�س «كرب
ريص
�إيل وتر» �أنه قد فر َغ مما كان يفعل ،يف تلك اللحظة كان احلر�س ينظرون �إىل
ال
�شباك الغرفة كل حني حتى ظهرت لهم ر�أ�س «كرب �إيل وتر» ويف فمه م�سواك،
ينظرخارجا ومل ُفت�ضاحكوا بينهم ،ثم نزَ ل «ذو نوا�س» من الق�صر ،وحت َّرك ً
ت ك
حتى �إليهم! ،قالوا له وهم يتغامزون:
و ر
ا�س�ألوا الر�أ�س.
و الت
بع�ض ونظروا �إىل ر�أ�س ذو نوا�س بع�ضهم �إىل ٍ ثم م�ضى يف طريقه ..ونظر ُ
يع ز
فدخل �إىل الق�صر. الظاهرة من ال�شباك ،ثم �أ�صا َبت �أحدهم بع�ض الري َبة َ
بكلمات غري مفهومة حتى ٍ كان «ذو نوا�س» مي�شي وهو ُيعدِّ ل هندامه و ُيتم ِتم
توقفت خطواته �أمام �صيحة احلر�س من ورائه� ..أيها ال�شاب ...قب�ض «ذو
نوا�س» يده على خناجره ،لكن احلر�س كان لهم حديث �آخر! ..قالوا له �أن لي�س
ج�سور مثلك ،رجل من من رجل يجدر �أن يكون م ِل ًكا مكان ذلك اخلبيث �إال رجل ُ
القذر بفواح�شه. بني «ملكيكرب» ،فلقد �أت َعبنا ذلك ِ
و�شهدت �سب�أ بزوغ ملك جديد عليها؛ ملك تناقل �سريته القا�صي والداين،
«ذو نوا�س» ،ذو الغديرتني ،كان �أول �شيء فعله «ذو نوا�س» ملا دخل �إىل الق�صر
ي�سري مما كان يخبئ ل�صفحة الزمان� ،أم َر ب�أولئك احلر�س الذين هو �شيء ِ
ون�ص ُبوه مل ًكا ،فلما �أتَوه ومث ُلوا �أمامه قت َلهم كلهم! ،لأنهم هز�ؤُوا به ذات تبعوه َّ
يوم؛ هز�ؤوا بامل ِلك.
z
29
وح َكم «ذو نوا�س» الي َمن ..وحت َّو َلت حم َّبة النا�س له واجتماعهم حو َله طم ًعا
خوف �شديد منه ،فهو امللك الوحيد الذي ُيرافقه �ساحر، يف حتقيق رغباتهم �إىل ٍ
و َمنت كلماتٌ يف البيوت �أن «ذو نوا�س» يرا ُكم وي�سمع ُكم بتوابعه و�شياطينه!« ،ذو
نوا�س» يعرف كل �شيء ويرى كل �شيء ...ومنت الإ�شاعات التي ُيخرجها النا�س
ويقدر على �صيه بع�ضهم �إلها يع َلم كل �شيءِ ، عنه وعن ِ�سحره و ُقدرته حتى َّ
كل �شيء ...وطغى «ذو نوا�س» ف�صار يفعل �أمو ًرا مل ي ُكن يفعلها امللوك قب َله،
ع
وا�ضحا �أنه يحقر جميع الأديان! ،ويكفي �أن تقول �أمامه �أن دينك كذا �أو ً و�أ�صبح
ص
كذا فرمبا ينزلك �إىل �أ�سافل الأر�ض! ،ومل يكن هذا غريب ورفيقه هو ال�ساحر
ال ري
ال�سحر �إال حتقري من �ش�أن الأديان ،وتعظيم من �ش�أن ال�شيطان... «هريا» ،ولي�س ِ
أمره ح َمالت تهجم على كنائ�س الن�صارى فتهدمها عن بك َرة فكانت تخ ُرج ب� ِ
ت ك
�أبيها ،خم�س �سنوات م َّرت من حكم «ذو نوا�س» ،ومل يكن �أحد يج ُر�ؤ على ُم َّرد
ب
الوقوف �ض ّده ،حتى �أتى ذلك اليوم.
ر ش
ال�سحر مني فتم ِلك البالد من بعدي �سنني طوال. يا «ذو نوا�س» تع َّلم ِ
الت و
ولقد كان ال�ساحر «هريا» ُيراوده بذلك حتى قبل �أن ي�صري «ذو نوا�س» م ِل ًكا،
ز و
وما ،ما كان ير�ضى �أن يكون تاب ًعا لأحدِ ،ج ًنا كان لكن «ذو نوا�س» كان ير ُف�ض َد ً
يع
خادما� ،أما هو فال ُير�ضيه �إال �أنال�سحر �إال �أن تكون لل�شيطان ً ن�سا ...ولي�س ِ �أم ِ�إ ً
يخدم �أحدً ا وال ي�سرت�ضي �أحدً ا ،بل الكل يخدمه يكون الأعلى ،ال ِآمر الناهي ،ال ِ
رجل وي�سرت�ضيه ،فلما م َّل ال�ساحر من �إقناعه �أ�شار عليه �أن يختار من �شعبه ً
رجل ال�سح َر ال�سحر ،فر َف�ض «ذو نوا�س» ،ف�إنه لو تع َّلم ُ
ي�أتي �إليه كل يوم يتع َّلم منه ِ
يوما �آخر ب ُقوة ذلك ال�سحر ،ف�أ�شار عليه ال�ساحر �أن يوما �سينق ِلب على احلكم ً ً
عقل �أ َملعي ،يتع َّلم ال�سحر و�أ�صوله ويكونغالما �صغ ًريا ،يكون ذا ٍ يختار �ص ِب ًّيا ً
ُم�ض َغة يف �أ�سنان امل ِلك ُيك ِّيفه كيف ي�شاء ...فوافقَ «ذو نوا�س».
واختار فتى من �أق�صى املدينة ُيقال له «عا�صف» ،مل ي ُكن ذا �ش�أن كبري
لكنه كان ذو ِفطنة ال �شك فيها ،وا�شتهر يف املدينة �أمر «عا�صف» الذي �سيتع َّلم
ال�سحر من �ساحر امللك ،و�صار الكل يهابه بعد �أن مل ي ُكن ذا بال ،مي�شي يف
فيتهام�س النا�س واقفني بعيدً ا عنه ،ولو كنت ذا عني ترى اجلن لوجدتَ َ املدينة
تغي حاله و�صار تلميذ «عا�صف» ما�ش ًيا يف ذلك اليوم وقد زارته خيالء بعد �أن َّ
30
امللك ،و ُيح ِّلق وراءه يف الهواء «عمرو بن جابر» بهيئته اجلنية التي مل ت ُكن تخت ِلف
عن هيئته ال َب�شر ّية ال�شقراء التي يتم َّثل بها عادة.
وتابعه «عمرو بن جابر» ِخفي ًة حتى دخل على ال�ساحر يف ق�صر امللك،
ب�صوت عال ...وبد�أ الغالم يق َر�أ ٍ ف�أمره ال�ساحر �أن يفتح كتا ًبا ويقر�أ ما فيه
وق�شعرير ٌة ظه َرت يف �صوته الفتي! ،لكنه مل يف َهم ماذا كان يقر�أ ،ف�إنه و�إن كان
يتعث الل�سان عن مكتو ًبا بحروف �آرامية يعرفها لكنها منطو َق ًة ب ُلغة �أخرى ،لغة َّ
ع
كيان �آخر من وراءه!، ينظر ثم �شع َر بح�ضور ٍ �إجادتها ،كان «عمرو بن جابر» ُ
ريص
فالتفت فر�آه ...كان ذلك ال�شيطان نف�سه الذي ر�آه �ساب ًقا حائ ًما فوق ال�ساحر، َ
ال
بنف�س خل َقته الب�ش َعة ،وطاقة روح َّية عال َية تنبعث منه ال يعرف تقديرها �إال
فانق�ض على ال�شيطان.َّ اجلن ،لكن «عمرو بن جابر» مل ي ُكن �صبو ًرا،
ينظر ثبت و�صار ُ
ت ك
الغالم ك�أن ع�ص ًفا يجري يف الأجواء ،لكن ف�ؤاده َ ُ �شع َر
ن
ا�ستغراب نظر َة الذي ي�ش ُعر
ش
بخطب وال يراه ...ف�صرخ ال�ساح ُر يف الغالم �أن ٍ ٍ
ر
ً
ين�صرف ،فقام الغالم فان�ص َرف ،ومل ي َر ال�ساحر �شيئا مما دار هنالك ،ف�إن ِ
الت و
غطاء قد ُخ ِلق على عني الإن�سان فال يرى �أبدً ا ِج ًّنا وال �شيطا ًنا� ...سواء كان هذا
و
خارجا ِوذهنه ُيف ِّكر يف �أمور تفوقه، �ساحر ،م�شى الغالم ً الإن�سان �ساح ًرا �أو غري ِ
يع ز
مل يكن ب�إمكان �أحد �أن يتخ َّيل الذي دار حينها ،لكن ما دار مل ي ُكن �شي ًئا �سا ًّرا،
فهناك ،وعلى ُبعد �أمتار من �سور الق�صر ،كان ير ُقد «عمرو بن جابر» م�ضرج يف
حدث معه لي�س دمائه ،ي ِئن ويدمى وهو جني ،كان ُيكا ِفح فقط لين َه�ض ،و�إن ما َ
مما حكاه ،ومل يعرفه �أحد �أبدً ا.
�أين تفلت خمك يا «عمرو»!� ،أتن َق�ض على مارِد يف َ
�صومعته؟
وحرق يف الفم والذقن. لي�س بي َب�أ�س يا «�إينور»� ،إمنا هو �شق َ
غطت ف َمه بلثامة ،وابت�س َمت نظ َرت «�إينور» �إىل وجهه الو�سيم يف ُحزن ،ثم َّ
وقالت له:
ال ت� َأ�س على هذا� ،ست َرب�أ بعد حني.
z
ذهب فيه «عمرو
وم َّرت �أيا ٌم وتنا�سى «عمرو بن جابر» الأمر ..وجاء يو ٌم َ
الكاهن «�شافع» لالطمئنان على حال «�أ�سعد» ...دخل «عمرو بن
بن جابر» �إىل ِ
31
جابر» ُمتم ِّثال يف هيئته الب�شر َّية ،فت�س َّم َرت قدماه فج�أ ًة على الأر�ض ،فقد وجد
اخلام�سة ع�شر من ُعمره الآن ي ِقف بجوار الغالم «عا�صف»، َ «�أ�سعد» الذي �صار يف
ويقف �أمامهما الكاهن «�شافع» ُيع ِّلمهما �أم ًرا ما ،ات�س َعت عينا «عمرو»!� ،ألي�س
يذهب يوم ًيا لتعلُّم ال�سحر عند ال�ساحر«هريا»؟ ما الذي �أتى هذا الغالم الذي َ
به �إىل هنا عند الراهب! ..اقرتب «عمرو بن جابر» منهما ،وكان الكاهن «�شافع»
يقول لهما يف قوة:
ع
واع َلم �أن ال�سحر يا «عا�صف» هو �أن ُي�س ِّلط ال�ساحر �شيطا ًنا على واحد
ريص
من الإن�س ،في�أتي ال�شيطان �إىل ذلك الإن�سي فال يقدر منه على �شيء
ال
�أبدً ا �إال �أن ُيو�س ِو�س له ب�أن يفعل �أم ًرا �سي ًئا ُيريده ال�ساحر ،وال يقدر
إن�سي �إما َ
ير�ضخ �إىل و�س َو�سة هذا ال�شيطان على �أكرث من هذا! ..وال ِ
ت ك
ال�شيطان �أو ير ُف�ضها ،فال ُقد َرة لل�شياطني �أن ترغم �أحدً ا على �شيء،
ل ب
�إمنا هم ُيو�س ِو ُ�سون.
ر
«عا�صف»:
الت و
انظر يا «عا�صف» ..هذا ِجني. ُ
ز و
�ش َّد «عمرو بن جابر» على َيد «�أ�سعد» لي�س ُكت ،ونظ َر �إىل «عا�صف» وقال
يع
ُمتجاوزا الأمر:
�صومعته كل يوم يا «عا�صف» له �شيطان مارِد تذهب �إىل َ ال�ساحر الذي َ
ا�سمه «�إزب بن �أزيب» ..وهو من عتاة اجلن ،لكن حتى عتاة اجلن ه�ؤالء ال
يقدرون من النا�س �إال على الو�س َو�سة ،لكن هناك �شيئا �أهم من الو�سو�سة
يفعله ال�شيطان لل�ساحر!� ،شيء ميت ِلك به ال�ساحر عقول النا�س وقلوبهم.
قال «عا�صف»:
وما ذاك؟
قال «عمرو»:
التج�س�س ..خفاء اجلن عن عيون الإن�س يجعلهم ي�ضربون �أنظارهم ُّ
و�أ�سماعهم يف �ش�ؤون الإن�س كما ي�شا�ؤون! ،فتجد ال�ساحر يعرف عن
يظن الرجل �أنه �أجاد �إخفاءها. الرجل �أمو ًرا كان ُ
32
�صوت �صادق:
ثم قال له «عمرو» يف ٍ
واع َلم �إن لهذا الكون خا ِل ًقا ،و�أن ا�سمه «رحمنن» ،و�أنه خلق الإن�س وخلق
ب�شر �إال فاز، وي�سجد له الإن�س واجلن ،و�أنه ما جل�أ �إىل الرحمن َ اجلنُ ، ِ
َ
وما جل�أ �إىل ال�شيطان َ
ب�شر �إال خ�سر.
تجا:قال «عا�صف» ُم ًّ
ع
لكنهم يف الق�صر والعز و�أنتم هنا يف دير ُمنهكون.
ريص
با َد َره «�أ�سعد» وقال له بطريق ٍة فيها �شيء من احل َّدة:
ال
التج�س�س!� ،إن كان فيهم عزة ما احتاجوا ُّ �أي ِعز؟ �إنهم ال يقدرون �إال على
ك
�أن يتج�س�سوا على النا�س� ،إن كان فيهم ِعزَّة ما عملوا من وراء ال�ستار
ت
كاجلبناء وا�ستخ ُّفوا عقول الب�شر.
ش
خياالته كثري من الأمنيات لأ�س َعد �سليل امللوك� ،أما «عا�صف» ف�سمع نف�س
ر
الكلمات من «�أ�سعد» الذي كان ُيقاربه يف ال�سن ،و�أ َّث َرت فيه ال�شيء القليل ،لكن
الت و
يع�صف بنف�سه ويراوده كل حني. �شك كان ِ ال�شك كان �أقوى من كل �شيءٌّ ،
ز و
يع
و�ساحر
ان�صرف عنهم «عا�صف» وم�ضى مي�شي يف طريقه ناح َية بيته ،م ِلك ِ
و�شيطان ميلكون ال�شعب وال يجر�ؤ �أحد �أن ي ِقف �أمامهم ،وراهب فقري يدعو ربه
رحمنن� ،ض َّيقَ «عا�صف» عينه يف تفكري ،طوال حياته مل يع ِرتف ب�إله قومه ،هذا
الذي ُيق ِّربون له القرابني ،ذلك الثور الذي ُي�س ُّمونه «املقه» ،ثم يف الأيام الأخرية
خبه عرف �أن هناك ُقوى �أخرى! ،قوى خف َّية حقيقية ،هي عند ال�ساحر «هريا» ُت ِ
كث ًريا من الأمور ،قوى �شيطانية يتق َّرب لها بطقو�س البد �أن يحت ِقر فيها كت ًبا
تب هذا؟ �أن يحت ِقر ومق َّد�سات �إبراهيمية م�سيحية �أو يهودية! ،هل هذه القوى ُ ِ
ال�ساحر املقد�سات الإبراهيمية فرت�ضى عنه ال�شياطني وتخدمه! ..وماذا عن
رحمنن؟ يقول الراهب «�شافع» �أن رحمنن خ َلق كل �شيء ،خ َلق ال�ساحر وخلق
توجه عقله �إىل يخدم َ
الب�شر � ً
أي�ضا؟ َّ ال ُقوى التي ت�ساعده ...لكن هل رحمنن ِ
ناحية واحدة فقط� ،إن كانت القوى ال�شيطانية هذه هي الآلهة احلقيقية ،ملاذا
ُتب احتقار املقد�سات؟ �أن حتت ِقر �شي ًئا بهذه الطريقة ال يعني �أنك �إله� ،ألي�س
أ�صل لت�ؤ ِّثر
املفرت�ض عن الإله �أنه غني عن �أن يحتقر الأ�شياء ،ما هي الأ�شياء � ً
يف عظ َمته فيحتقرها� ،إن رحمنن هو الأقرب �أن يكون الإله العظيم ،الغني عن
33
كل �شيء ...لكن هل ُي�ساعد رحمنن خل َقه �إذا طلبوا منه كما ي�ساعد ال�شياطني
�أولياءهم؟ كان «عا�صف» �شديد الذكاء ،وكان �إذا ف َّكر يف � ٍ
أمر ي�سرح ومي�شي بال
هدى ،لكن �شي ًئا ما �أخرجه فج�أ ًة مما كان فيه� ،صوت خ َلع ف�ؤا َده� ،صوت كان
الب�شع!
الزجمرة والعواء وال�ضحك ِ
َ مزيجا من
ً
z
ع
ج�سد رمادي كبري فيه خطوط �سوداء�َ ،شعر انت َف�ش على كامل الظهر ،عيون َ
ص
ت�ضيء يف وجهه ال�ساخر ك�أنه وجه �شيطان ُمف ِرت�س ،كان �ضب ًعا عظي ًما من
ري
ً
ال
و�شمال يف �شهوة ناظ ًرا �ضباع ال�صحاري ،يت�ساقط لعابه منه وهو مي�ضي ميي ًنا
�إىل �أربعة من الب�شر بينهم امر�أة ،يرتاجعون �إىل �صخرة وراءهم وقد حب�سهم
ك
زجمررك�ض عليهم وان َق�ض ،و�إن هم بقوا مكانهم �س ُي ِ اخلوف ،ف�إن هم رك�ضوا َ
ت
أعي ال�ضبع ب�ضع ثوان ثم �سينق�ض عليهم! ،وكان موقع «عا�صف» بعيدً ا عن � ُ
ش ن
خاطر عجيب يف ذهن «عا�صف» ماذا يفعل �سوى هذا ،وو�سط كل هذا خطر ِ
ر
أم�سك «عا�صف» حج ًرا كب ًريا كان بجواره ،ورفع ر� َأ�سه ينظر �إىل امل�شهد؛ � َ وهو ُ
الت و
�إىل ال�سماء ومتتَم وك�أنه ُيك ِّلم ال�سماء ...يا رحمنن ،يا ذي �سماوي ،يا رب هذه
و
ال�سماء �أينما كنت� ...إن كان �أمر الراهب «�شافع» هو الأحب �إليك فاقتُل هذا
يع ز
ال�ضبع بهذا احلجر حتى مي�ضي ه�ؤالء النا�س �إىل رحالهم ...فرمى احلجر
رم َي ًة �سريعة باجتاه ال�ضبع الذي كان يتح َّرك ميي ًنا ثم ا�ستدار فج�أة ليتحرك
بط�ش به ودما ٌء نز َلت من ر�أ�سه ،ولقد تنازع روحه وانتف�ض ي�سا ًرا ففاج�أه حجر َ
و�سقط �إىل الأر�ض فتطا َير حول �سقطته الرتاب ،وانزاح الهم عن َ ثم انطوى
قلوب املحبو�سني وقاموا عن �صخرتهم �إىل «عا�صف» الذي كان يف �ش� ٍأن �آخر؛ مل
ينظر �إليهم! ،كان ُ
ينظر �إىل ال�سماء. ي ُكن ُ
فاج�أته حما�سته �إىل دير الراهب «�شافع» ،ودخل ُم�ستب�ش ًرا ،قال:
يا «�شافع» �إن الرحمن قد �سم َعني اليوم!
فتب�س َمت �أ�سارير الراهب و�سمع حكاية «عا�صف» كلها ثم قال له: َّ
�أي ُبني� ..إنك اليوم �أف�ضل مني ،و�إنك �ستُبتلى يف �إميانك هذا ،ف�إن
ابتُليت يا بني فال تدل علي وعلى هذا الدير ،فلو ق�ضوا علينا لن يعود
لهذا الدين وجود! ،حتى ي�أتي املخل�ص.
34
بغمو�ض غري راغب يف ٍ نظ َر «عا�صف» �إىل الراهب الذي �أنهى كالمه
التف�صيل ،وظ َّلت عني «عا�صف» ت�س َرح هُ نا وهناك حتاول �أن تف َهمَ ،
ن�صحه
الراهب �أن يذهب يوم ًيا �إىل ال�ساحر وك�أن �شي ًئا مل ي ُكن! ،ويظل ي�سمع منه ،و�أن
ويتظاهر �أنه ُي�صدِّ قه ...وظ َّل «عا�صف» �شهو ًرا يزور ال�ساحر
َ ُيهادنه يف ما يقول
ال�سحر ،ويزور الراهب يتع َّلم �أمور الدين ...لكن «عا�صف» �أ�صبح يتع َّلم �أمور ِ
ال�ساحر ،وعجيبة على م�سامع الراهب!، ِ يفعل �أمو ًرا كانت عجيبة على م�سامع
ع
�أمور ال ُت�ص َّدق.
ص
تب َّدلت ِم�شيته بني النا�س من اخليالء �إىل التوا�ضع ..وهو الذي قد ا�شتهر
ال ري
خبه؛ فهو ال�صبي الذي اختاره امللك ليتعلم ال�سحر ،وكان النا�س يجتمعون وذاع َ
حوله ي�شكون له �أدواءهم و�أوجاعهم ،فكان ي�شفي منهم من كان �أعمى �أو �أبر�ص
ت ك
�أو فيه �أي داء ...ولقد ات�سعت عني ال�ساحر من العجب! ،ف�إنه لي�س �إن�س وال جن
خ�ص
وتعجب الراهب من الأمر� ،آهلل َّ الب�صر!َّ ، يقدر على �أن ُيعيد من ذهب عنه َ
ش ن
ويف ذات ليلة يف ذلك الدير امل�سترت� ..أتى «عا�صف» ُمتخ ِّف ًيا يف ُظلمة الليل
ر
فوجد «�أ�سعد» ُيو ِقد بع�ض ال�شموع يف الدير ولي�س �أحد غريه م�ستيقظ ..قال:
الت و
يا «�أ�سعد» �إين ر�أيتُ الليلة يف منامي �أنني �أُذبح! ،و�أن دمائي ت�صعد �إىل
و
ال�سماء فتمطر على النا�س ...و�إين �أريد �أن ُتو ِقظ الراهب «�شافع» ،فلي�س
يع ز
غريه يعرب ر�ؤياي.
ا�ستدار «�أ�سعد» ليذهب و ُيوقظ الراهب فناداه «عا�صف» وقال:
يا «�أ�سعد»...
ينظر له نظر ًة ُمتلفة ويقول: وقف «�أ�سعد» والت َفت �إىل «عا�صف» الذي كان ُ
أنت الذي �س ُيخرج ديننا �إين �أريد �أن �أقول لك �أمرا يا «�أ�سعد» ...اعلم �إمنا � َ
هذا من هذا بني جدران هذا الدير فتبلغ به م�شارق الأر�ض ومغاربها ،يا
نف�سك ،ف�إن لك موعدً ا يا �سليل «�أ�سعد» �إن نحن انتهينا فلتح َفظ عليك َ
امللوك ،و�ستم ِلك هذه البالد ومتلأها ح ًقا ً
وعدل.
وف�سر لعا�صف ر�ؤياه ...و�إن تف�سريها قد جلب �إىل نف�سه ثم �أتى الراهب َّ
الق َلق مما هو �آت ،وجاء �صباح تال ،وم�شى «عا�صف» �إىل ال�ساحر مثلما كان
يفعل كل يوم ،لكن هذا اليوم كان خمتل ًفا!
z
35
رجل واق ًفا يعطيه ظهره ..وملا ا�ستدار له الرجل وجد «عا�صف» عند ال�ساحر ً
تراجع «عا�صف» ب�ضع خطوات! ،فقد كان للرجل عينان مم�سوحتان كليهما َ
يخلعان قلب من يراهما �أول مرة ،وكان �أعمى ،عرفه «عا�صف» مبا�شر ًة ملا ر�آه،
كان هذا «حيان» الأعمى جلي�س امللك.
ابت�سم جلي�س امللك وابت�سمت عينه العمياء ..قال ال�ساحر «هريا» لعا�صف:
�إن جلي�س امللك قد �سمع ب�أمرك يا «عا�صف» و�أَمر �سحرك العظيم الذي
ص ع
يرد الأب�صار �إىل العيون امليتة ...و�إن جلي�س امللك قد جمع لك من الهدايا
ال ري
أنت �شفيتَه من العمى. والعطايا ويقول �أنه �سيهبها كلها لك �إن � َ
فابت�سم «عا�صف» ب�سم ًة �صفراء لل�ساحر وه َّز ر� َأ�سه ُموافقا ...و�أخذ جلي�س َ
ت ك
يل بنور قلبك� ،إين امللك «حيان» �إىل غرفة منفردة ،قال له يا حيانُ ،
انظر �إ َّ
ب
آمنت
أنت � َال �أ�ش ِفي �أحدً ا يا «حيان»� ،إمنا ي�شفيهم الرحمن ربي وربك ،ف�إن � َ
ش
�أوتا ًرا عديدة يف قلب «حيان» ،ف�آمن حيان بالرحمن ،فدعا له «عا�صف» ،فر َّد
ر
الرحمنُ �إليه ب�ص َره ،ونظر فر�أى الدنيا تظ َهر �أمامه على �صورتها ور�أى وجه
الت و
يبت�سم له ،قال له «عا�صف»: «عا�صف» الو�سيم ِ
ز و
يع
يقدر على حتريك �شعرة من مكانها ،و�إن الرحمن �إن ال�سحر يا «حيان» ال ِ
هو الذي مي ِلك كل �شيء وخلقَ كل �شيء ...فال جت َعل له ِندًّا من َثور �أو
فيل ،ف�إمنا هذا من مر�ض القلوب.
ودخل جلي�س امللك على امللك «ذو نوا�س» الذي �أفجره ملكه ف�صار عال ًيا يف
نظر نف�سه ال يعلو عليه �شيء! ،فنظر «ذو نوا�س» �إىل جلي�سه ف�إذا هو مي�شي على
ويتح�س�س الطريق ،قال له:
َّ وب�صر بعد �أن كان مي�شيهدى َ
يا «حيان» ما الذي ر َّد � َ
إليك ب�صرك؟
�إمنا رده يل ربي.
ولك رب غريي؟ َ
ومل يد ِر «حيان» كيف جت َّر�أ وقا َلها! ،وهو الذي عا�ش طي َلة عمره تاب ًعا ُمنحن ًيا،
ثقيل كجبال �أهنوم ،فوجد نف�سه �إال �أن معجزة رد ب�صره �أدخ َلت يف قلبه �إميا ًنا ً
يقول للملك:
36
ربي وربك الرحمن �أيها امللك.
وكانت كل َمته طا ّمة عليه� ،إذ �أخذه امللك فجع َله ُمع َّلقا و�أذاقه من �صنوف
العذاب حتى �أخرب امللك عن �سر الغالم «عا�صف» ...ف�أوقدت عيون امللك �شر ًرا.
مت�ض �ساعات �إال و�شعب ظفار يرى الغالم «عا�صف» وجنود امللك يج ُّرونه ومل ِ
ج ًّرا ال ُي ِنذر بخري ،وح�ضر «عا�صف» �أمام «ذو نوا�س» ،فقام له «ذو نوا�س» بكل
ع
ِكرب و�ص َلت �إليه روحه! ،قال:
ص
مناك ال�سحر والكنوز وكنت حمقو ًرا ال �ش�أنَ لك ف�صرتَ بك فع َّل َ �أتينا َ
ال ري
ُتربئ الأك َمه والأب َر�ص وتف َعل وتفعل و...
بجر�أ ٍة مل يج ُر�ؤ عليها �أحد قب َله وقال:قاطعه «عا�صف» ُ
واهن ،و�إينو�ساحرك هو �شيء هزيل ِ َ
ت ك أنت
�إين وجدتُ ال�سحر الذي ت�أتيه � َ
ن
أراذل اخللق ،ووجد ُته ال ي�شفي وال يُ�سمِ ن وال ُيغني� ،أما �أنا فما �شفيتُ
ش
من � ِ
ر
نا�ص َية كل داب ٍة تدب على �أحدً ا� ،إمنا �شفاهم ربك الرحمن ،الذي بيده ِ
الت و
�أر�ضه.
و
�ساحة الق�صر يف ذلك الأوان ..و�صارت عني امللك تتح َّرك ونزل ال�صمتُ يف َ
يع ز
َ
هنا وهناك وك�أنها تود الإفالت من ُمقلتيهما من �شدة الغ�ضب ،ثم رفع �أم ًرا
نكال و�ضر ًبا حتىغا�ض ًبا �إىل جالديه ف�أم�سكوا بالغالم «عا�صف» و�أنزلوا عليه ً
دل على الراهب «�شافع». تف َّك َكت عظامه ولبثوا يج ِلدونه حتى َّ
دير ُمتها ِلك قريب �أحاطه اجلند من كل زواياه ..كان الراهب «�شافع» ويف ٍ
مم�سو ًكا ي ُغلُّون له يديه ورجليه والغلمان من حوله يبكون ...عندها و�صل «�أ�سعد»
فانتف�ض واند َفع بج�سده
َ لدى الباب ،ور�أى ُمع ِّلمه ي�سحبونه وحل َيته على الأر�ض،
عاما �إىل �أربعة جنود ُم�س َّلحني فلطموه لطم ًة �أ�سا َلت دماءه ذو اخلم�سة ع�شر ً
وه َوى «�أ�سعد» على ظهره ،ثم قام فلطموه �أخرى ،ثم �س� َأل �أحدهم:
َمن هذا الفتى؟
الراهب ا�صب َعه خف َية لـ «�أ�س َعد» �إ�شارة �أن ي�س ُكت ...و�ش َّد اجلنو ُد ُ فر َفع
الراهب و�أخذوه �إىل �إيوان امللك.
َ
z
37
دين �آخر يف
تدعو �إىل ٍمقبول �أن ُدفعوه حتى �ساووا بجبهته الأر�ض ..مل ي ُكن ً
العال بكل �شيء� ...أف ُكل فئة منكم تتحزَّب عهدي؛ �أنا �أنا الرب و�أنا امل ِلك و�أنا ِ
على نف�سها وتدعو نف�سها دينا...
العظمة يف نف�س «ذو نوا�س» ،و�أم َر ِمبن�شا ٍر عظيم، هكذا تط َّرفت خواطر َ
ورمى الراهب على الأر�ض ُمق َّيدً ا وبجواره جلي�س امللك ،وتقار َبت ر�ؤو�سهما على
الأر�ض ،فقال الراهب جللي�س امللك:
روحك ويبعثك �إىل لك موعدً ا عند الرحمن ،و�إنه �س ُريد َ
عليك َ
ص ع
اث َبت ف�إنَّ َ
ال ري
نعيم ُمقيم.
ٍ
ولكن الرجل كان يبكي ويُغمِ �ض عينيه ،فنادى امللك:
ت ك
أدعك تخ ُرج قطع ًة واحدة؟ أترجع عن دينك هذا و� َ الراهبِ � ..
�أيها ِ
ش ن
وعزَّة ذي �سماوي� ،أنني خارج من هُ نا �إىل الرحمن ،و� َ
إنك لتُ�س ِعد قلبي
ر
مبا تف َعل.
الت
َ
و ف�أ�شار امللك فن�ش َره ُ
و
افرتق قط َعتني على الأر�ض رجال امللك باملن�شار حتى
يع ز
وتناث َرت دما�ؤه على ثياب جلي�س امللك الذي كانت عيونه حائرة من اخلوف،
يتح�س�س دماء الراهب على �صدره ،ثم ُيغم�ض تقطعة ...و�أخذ َّ ودموعه ت�سيل ُم ِّ
عينه ويرفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء ...فنادى ُ
امللك:
ترجع �إىل ِجواري بني الدراهم ينك هذا ِ عنك ِد َ يا «حيان» ..دع َ
واجلواري...
وبكى «حيان» وتع َّر َق جبينه وه َّز ر� َأ�سه بالنفي وهو يبكي ..وك�أنَّ طائ ًفا من
الإميان قد انغر َز يف قلبه فلم ي ُعد يق َبل �أن ُيخرجه �أبدً ا ،ومل ي�ش ُعر بنف�سه �إال
قطعه يف مفرق ر�أ�سه هو الآخر. واملن�شار ُي ِّ
ناظر دماء قد تب َّللت بها �أر�ض الق�صر ،وقال وجيء بالغالم «عا�صف» ل ُي ِ
امللك:
يا �أيها الغالم ..ارجع عما ُت� ِؤمن� ،أو تكون ُم َّددًا يف دمائك مثل
�صاحبيك!
38
قال «عا�صف»:
إنك ال مت�سني حتى ي� َأذن الرحمن ربي لك. � َ
توهجت عني «ذو نوا�س» بالبغ�ضاء ..وقال: َّ
لك مي َت ًة �سيتح َّدث عنها �أهل �سب�أ ..خذوه �إىل جبل �أهنوم، أنت ف�إن َ �أما � َ
فانتهوا به �إىل قمة اجلبل ثم �أل ُقوه من هناك ،ثم ائتوين بعظامه ال�صغرية
ع
احلقرية� ...أف�أ�صبح ال�صغار ال�سفهاء يتطا َولونَ هنا يف �ساحة امللك؟
ريص
قال له «عا�صف»:
ال
أنت بقا ِتل بعو�ض ًة حتى ي� َأذن اهلل لك بها. ما � َ
ت ك
فلما جنَّ اللي ُل �أ�صبحت ترى فواني�س مت�شي وراء بع�ضها ت�ص َعد اجلبل..
ب
بعا�صف �إىل ق َّمة جبل �أهنوم ،وملح «عمرو بن كان �أولئك جنود امل ِلك ي�صعدون ِ
ش
زوجته ،قا َلت له: َ
و ر
ب�ش ًرا عد ًوا �سي�سقطونك تذهب يا «عمرو» فيقتلوك ،ف� َ
إنك لو مت َّث َلت لهم َ ال َ
الت
ُ
و
ان�س هذا يا «عمرو» ولو �أردتَ ن�صرة هذا الدين فاع ِنت بـ «�أ�سعد»؛ وراءهَ ،
ز
فال � َ
يع
أمل لهذا الدين �سواه.
�أع َر َ�ض عنها «عمرو بن جابر» وقال:
أنك
�أخط� ِأت يا «�إينور» ..فالرحمن ُم ِتم نو َره �سواء ب�أ�س َعد �أو بدونه� ،أم � ِ
ن�سيت �أمر املخل�ص؟ ِ
نظ َرت «�إينور» �إليه ومل تعرف لكالمه ردًّا ..ثم �سمع اجلمي ُع �صوت كار َثة
ك�أنها ت�ص َعد من باطن الأر�ض ،وفج�أ ًة حت َّرك كل �شيء.
زلزلت الأر�ض من حت ِتهم وحت َّرك اجلب ُل ب�أ�صحابه و�سقط �أ�صحاب امل�شاعل
كلهم وانطف�أت �أنوارهم يف عدة ثوان ..ثم عاد كل �شيء �إىل هدوءٍ ُم�ستقر،
بيده مقاليد اجلبال وي�سمع من ات�سعت عينا «عمرو بن جابر»� ،سبحان الذي ِ
ينتظر ُجنده،
امللك بني جدرانه ِ هو فوق الأر�ض ومن هُ م حتت الأر�ض ...وظل ُ
هب ُ
امللك منهما وهم�س للم ِلك بكلمتني َّ
َ لكن �أحدً ا منهم مل ي�أ ِته!� ،إال واحدً ا �أتى
�صحته ،وكاد «ذو نوا�س» �أن ي�شد داخل عليه بكامل َّ واق ًفا! ،ونظر ف�إذا «عا�صف» ِ
�ضفريتيه من الغيظ ،قال له:
39
�أين جندي يا غالم ال�شر؟
قال الغالم:
كفانيهم الرحمن.
فقال امل ِلك:
يا جنودًا كاجلرذان �أتعج ُزونَ عنه؟ واهلل لأ�سقي َّن َك الرعب �سقيا ًنا حتى
ع
جئت فيه �إىل هذه الدنيا... تل َعن اليوم الذي َ
ريص
ال
حجر
غياهب البحر فريبطوه يف َ و�أم َر جنودًا �آخرين لي�أخذوا «عا�صف» �إىل ِ
كبري و ُيل ُقونه يف ظالم البحر ومل ي ُعد يريد له ُج َّثة.
ت ك
وتو�سطوا به البحر ..ف�أغارت عليهم الرياح والأمواج فانطلقَ اجلنود َّ
فانكف�أوا جمي ًعا وغرقوا! ..وعاد الفتى مغرور ًقا مباء البحرَ ،
ب
ودخل ق�صر امللك
ش
لك �إن ربي الرحمن مل ي� َأذن لك؟ �أمل �أ ُقل َ
و ر
الت
قال «ذو نوا�س»:
و
�شيطان �أنت؟
ٍ أنت بال�ضبط؟ �أي ما � َ
يع ز
تنجذب �إال �إىل الأجنا�س.
قال له «عا�صف»:
ال�شياطني ال تق ِرتب مني؛ ال�شياطني ال ِ
فانفعل امل ِلك؛ َ
انفعل «ذو نوا�س» َ و�أ�شا َر ب�إ�صبعه بطريقة �أنه يق�صد امللك..
وتقدم ليذبح الغالم بنف�سه ..لوال �صوت ال�ساحر أخرج خنجريه من ِغمدهما َّ و� َ
«هريا» احلازم الذي �أو َقف امل ِلك ،وانط َلق يهمِ �س له:
يا «ذو نوا�س»� ..إن هذا قد يكون له �شيطان مثلما َ
لك �شيطان؛ ال تق ِرتب
منه بنف�سكُ ،مر �أحدً ا من ا ُ
جلند �أن...
قاطع «عا�صف» حديثهما وقال:
ل�ست بقاتلي �أبدً ا �أيها امل ِلك حتى تفعل ما �أقوله لك؛ حي َنها تقدر �إنك َ
على قتلي.
نظ َر له امل ِلك والغيظ يقطر منه وقال:
40
�أي �شيء هذا؟
قال «عا�صف»:
عنك هذا العجوز اخلرف وا�سمع يل جيدً ا �إن �أردتَ �أن تقتُلني و�أن دع َ
�صعيد واحد ،وا�ص ُلبني علىيتح َّدث النا�س عن قتلي ،فاجمع النا�س يف ٍ
جذع ،ثم ُخذ �سه ًما من كنانتي ،ثم �ضع ال�سهم يف كبد القو�س وقل با�سم
ع
ارم بال�سهم �إىل ر�أ�سي ،ف�إنك ب�صوت عال ،ثم ِ
ٍ الرحمن رب الغالمُ ،قلها
ص
فعلت هذا قتلتَني مبا�شر ًة ...ولن ُت�س َّلط َّ
علي بغري هذه �أبدً ا. �إن َ
ريأناعا�ص ًفا �سوف ُي�ص َلب على م�ش َهد من اجلميع؛ جزاء
z
له على خيا َنته للملك ال ل
و�سمعت البلد ُة كلها �
ك
عا�صف يف املرتني �إىل امللك ُمتحدِّ ًي تا ...وت�ش َّعبت �أقوالهم فتح َّدث ُ
أعظم ،ملك �سب�أ العريقة ..وعرفت البلدة كلها �أن امللك
ل ب
وتناقلوا ق�صة زلزال اجلبل وعلو البحر وعودة مل يقدر على َقتل «عا�صف»،
ن ل
بع�ضهم �أن
زيحتى �أ�صبح
بالرحمن رب الغالم ..و�سمع «�أ�سعد» �أن «عا�صف»
ع
ير ُك�ض يف ُطرقات املدينة التي ازدح َمت ب� ٍ
وجد ازدحام النا�س قد ا�شت َّد وظل ي�شتد وكلما اقرتب من الق�صر َ
النا�س ُمتال�صقني يتطاولون لريوا م�شهد ال�صلب! ،ور�أى «�أ�سعد» بعينه �أن رفيقه
«عا�صف» ُير َفع على خ�شبة عالية ،ثم يتم تثبيته جيدا عليها ...نادا ُه «�أ�س َعد»:
�أيا عا�صف.
بغ�ض ٍب وظ َّل يقرتب وهو �شاعر فلم ي�س َمعه! ،فاخرتَق «�أ�سعد» �صفوف النا�س َ
ينظر فيها �إىل «عا�صف» املُع َّلق ،وحت َّو َلت غ�صته �إىلبغ�صة تتزايد يف كل مرة ُ َّ
وفا�ضت عيناه من الدمع �صرخات ي�صرخها وهو يق ِرتب ويخرتق ال�صفوف!َ ،
وا�شت َّدت قوته يف االخرتاق حتى اقرتب ،قال ب�أعلى �صوته:
يا عا�صف� ،إن ُمع ِّلمنا � َ
أخربك �أن...
وفج�أ ًة �أم�سكت ي ٌد قوي ٌة برق َبة «�أ�سعد» ف�سح َبته �إىل اخللف ور َّدته �إىل الأر�ض
أم�سك مبن �سحبه م�سك ًة قوي ًة الغ�ضب نف�س «�أ�سعد» و� َ
ُ َ
فا�شتعل و�سط الزحام!،
41
لكن نظر ًة واحدة �إىل وجهه جعلتَه ي�س ُكن!؛ لقد كان هذا «عمرو بن جابر» ،كان
ب�صوت حازم خفي�ض: ٍ غا�ض ًبا حازم املالمح ...قال له
أخذوك بجواره معه و ُيع ِّلقوك؟
نت �أيها الغالم� ..أتريد �أن ي� َ � ُأج ِن َ
قال «�أ�سعد»:
فلي�أخذوين ً
بدل منه.
ع
قال له «عمرو»:
ريص
�إن كل ه�ؤالء املتج ِّمعني حمتاجني � َ
ال
إليك يف يوم ما يا «�أ�سعد» ،و�إين متـ...
مل ي�سمع «�أ�سعد» ،ومت َّل َ�ص من يد «عمرو بن جابر» وانطلقَ و�سط الزحام
ت ك
ينظر �إىل امللك الذي ي�سحب ُينادي ..يا عا�صف ،وكان عا�صف يف ذلك الوقت ُ
ب
واحدً ا من ال�سهام من الكنانة ،ثم ُي�ص ِّوب ال�سهم جيدً ا� ..أ�شار له «عا�صف»
ش
عال:
ب�صوت ٍ ٍ ف�صاح امل ِل ُك
و ر
با�سم الرحمن رب الغالم.
و الت
ال�سهم مبا�شر ًة
ُ أخذته املفاج�أة ومل يفهم �شي ًئا ...وانطلقَ
تو َّقف «�أ�سعد» وقد � َ
يع ز
ينظر �إىل ال�سماء يف ر�ضا وك�أنه يف عامل ثان ،ثم �إىل وجه «عا�صف» الذي كان ُ
�صدغه ،وتناثرت دما�ؤه ،وتناثرت لها دموع ال�شعب� ،إمنا الرحمن ال�سهم َ ُ َ
اخرتق
غلب �سحر امللك؛ امللك الذي تنا َقلتُم �أ�ساطريه وك�أنه العامل بكل �شيء هو الذي َ
يقدر �أن يف َعل �شيئا �إال ب�إذن الرحمن وبا�سم واملط ِلع على كل �شيء ...اليوم ال ِ َّ
وت�صاعد �صوتُ النا�س با�سم الرحمن هنا وهناك ،قالوا �آمنا برب َ الرحمن...
الغالم� ،آمنا برب الغالم� ،آمنا برب الغالم ،وظلوا يقولونها عال َية وهم ينظرون
�إىل ال�سهم امل�ستقر يف �صدغ «عا�صف» ،ومل يلب ُثوا �إال وجنود امل ِلك قد توافدوا
وحدث هرج كثري ،وهرب كل من مل َ مكان ف�ضربوهم و�أوقعوهم � ً
أر�ضا، من كل ٍ
أم�سك اجلنود بالآخرين ،وو�سط كل هذا رك�ض «�أ�سعد» ناح َي َة ُي� ِؤمن بالرحمن ،و� َ
امل ِلك.
ب�صوت ي�سمعه كل �أحد:
ٍ ي�صيح كان امللك ِ
�أال فاحفروا لهم الأخاديد يف �أفواه ال�س َكك ،و�أوقدوا عليهم فيها نا ًرا،
فليعلمنَّ الرحمن و�أهله َمن امل ِلك يف هذه البلدة.
42
بغ�ضب؛ كان هذا
ٍ غالما ُيجاهد بني الزحام ويتَّجه ناح َيته
امللك ً عندها ر�أى ُ
�شديد و�أ�صد َر �أم ًرا ما للجنود ،لكن الزحام
بغ�ضب ٍ ٍ «�أ�سعد» ،فنظر ُ
امللك �إليه
ا�صطدم ب�أحد الهاربني يف طريقه، َ واله َرج حال بينه وبني ُر�ؤ َية «�أ�سعد» الذي
فوق َع «�أ�سعد» ،وو َثب «عمرو بن جابر» فوقه ،ولكن قو ًة كقوة الثور كانت قد
أفلت من «عمرو» وانطلقَ ُيريد ر� َأ�س امل ِلك! ،ثم ت�صاعدت من قلب «�أ�سعد» ف� َ َ
ُ
�أظ َلم ب�صره فج�أ ًة ووقع على الأر�ض ،و�أ�صبح ينظر من بني �آالمه �إىل قدم جندي
ع
يبدو �أنه �ضر َبه على ر�أ�سه ومت َّكن منه.
ريص
ي�سحبه اجلندي و�سط الفو�ضى ،اتَّ�س َعت عينا «عمرو بن جابر» وها هو الآن َ
ال
ثم هد�أتا ،فقد ر�أى �أف�ضل ما ُي ِكن �أن يرى يف ذلك املوقف ،كان هذا «موهبيل»
َج ّد «�أ�سعد» ومعه ُجنديني من ق�صر خمر قد �أتوا ليلحقوا ب�أ�سعد ،ولقد حلقوا به
ت ك
و�سحبوه �إىل ق�صر خمر ...واختفى «عمرو بن جابر» من املكان ك�أن مل ي ُكن ،ومت
بل
حب�سا حقيق ًيا يف ق�صر خمر عند �أمه «فارعة» وجده «موهبيل»، حب�س «�أ�سعد» ً
ن ل
ومل يد ِر بالكار َثة التي كانت تدور يف ظفار؛ الكارثة التي تناق َلتها الكتُب ً
جيل
َ ش
بعد جيل؛ كارثة الأخدود.
ر z
كانت �أعدادهم كبرية� ،آالف ..ولقد �سحلهم جنو ُد امل ِلكووق َّيدوهم بال�سال�سل
جمموعني �إىل بع�ضهم البع�ض ومدفوعني �إىل ِقدر حارِق،التوملاو ر�أوا الأخاديد
ع ز
بعدي �أن �أراهم ت� َّأج َجت بالنريان تراجعت �أقدامهم وزلزلت قلوبهم ،وقال امل ِلك
العذاب:
من رج َع من ُكم عن دينه ف�سنرتُكه.
�ضجة بني امل�سل�س ِلني ثم �صاح �أحدهم:و�صا َرت َّ
�آمنا بالرحمن رب الغالم.
فقال ُ
امللك:
ائتوين به.
ف�أتوا به ي�سح ُبونه على الأر�ض ،فقال امل ِلك:
�أ َّما هذا ِّ
فم�شطوا له ر� َأ�سه ب�أم�شاط احلديد فتخرتق ما دون عظمه من
وع�صب ،وانظروا ماذا �سيقول حي َنها. حلم َ
43
يف�صلونه عن الباقني وي�ضعون الرجل الذي مل يهتَز واجلنود ِ النا�س �إىل ُ
نظ َر ُ
�ستخدم يف التعذيب و�إدماء الر�أ�س!، ً
يف ر�أ�سه م�شطا فار�س ًّيا حديد ًّيا حادًا ُي َ
الرجل حتى كا َدت روحه �أن تفي�ض ،فلم ي�صرفه ذلك عن ف�صرخ َُ فو�ضعو ُه له،
وندم اختلط فيها كل �شيء؛ خوف َ َ �سال�سلهم مب�شاعر
ِ النا�س يف
و�ضج ُدينه!َّ .
وثبات وعزمية ...و�إن اجلنود ظلُّوا يدفعونهم �إىل �أخاديد خ َّدت لهم يف الأر�ض
لتهب! ،فت�ساقطوا كلهم على ركبهم غري قادرين وا�شتع َلت نا ًرا ذات وقود ُم ِ
ع
ري منهم وجوههم النار ،ولقد نزل بينهم اجلدل فارت َّد كث ٌ على امل�سري ،تل َفح َ
ص
عن الرحمن وقال �آمنتُ بامللك �إنه ربي� ،آمنتُ بذي نوا�س ..وبقي جم ٌع من ُهم
ال ري
�صابرون ،ثبتُوا ب�إميانهم يف وجه كل زلز َل ٍة تزلز َلت بها قلوبهم ،وكل ل�س َع ٍة
لفحتها النار يف وجوههم ،وقالوا �آمنا بربنا الرحمن ذي �سماوي؛ الذي له ملك َ
ت ك
ال�سماوات والأر�ض ،و�إنا له راجعون فيجزينا وهو العزيز احلميد ...فدفعهم
اجلنو ُد دف ًعا بالع�صي والأقدام! ،فكانت كلما َ
ب
�سقطت منهم جمموعة يف النار
ش
وجاءت امر�أ ٌة حتمِ ل اب ًنا �صغ ًريا وقد و�ضعوها يف ال�سال�سل ودفعوها..
و ر
جلندي: تدخل يف النار ،فقال لها ا ُ
فتقاع�ست �أن ُ فنظ َرت �إىل �صغريها ُم�شفق ًة
الت
َ
و
رجعت عن دينك؟ حت ِّركي يا امر�أة ..هل ِ
يع ز
قدما و ُت� ِّؤخر �أخرى ..و�إن �سماع �صرخات املُحرتقني ُيزلزل فكانت ُتقدِّ م ً
جلندي �إميانها ،هل �أ�ضاع �أولئك حياتَهم هباء ،هل جزاهم الرحمن! ..ودفعها ا ُ
بالع�صا ،ونظ َرت �إىل �صغريها ُم�شفقة ،وهنا انخ َلع قلبها و�سا َلت من عيونها
وجدت �صغريها الذي مل يب ُلغ دموع ال تدري �أي نوع من �أنواع الدموع هي! ،فلقد َ
ينظر لها نظر ًة ال عالقة لها بنظرات ال�صغار املحمولني على الأيادي، �سنتني ُ
الرجل دفع ًة �أخرى: لتهب ،ودفعها ُ ف�ساء َلت نف�سها عما �أ�صا َبه و�سط هذا اللفح املُ ِ
هيا يا امر�أة ،عودي �إىل دين امللك واحفظي هذا ال�صغري.
نظ َرت �إىل اجلندي و�إىل النار ..ثم نظ َرت �إىل ال�صغري النظرة الثالثة وهنا
ت�ستطع حملها؛ لأنها مل ُت�صدِّ ق و�إن كانت قد �سم َعت ب�أذنها خا َرت قدماها ومل ِ
ور�أت بعينها نظرة �صغريها اجلادة و�شفتي �صغريها تتح َّركان باحلديث ،قال
لها:
إنك على احلق. يا �أماه ا�صربي ف� ِ
44
وجاء ُجندي �آخر ورك َلها ور�ضيعها �إىل الأخدود ..وكانت حم َرق ًة ظ َّلت
الأجيال تتناقلها طويال عن «ذو نوا�س» -حمرقة �أ�صحاب الأخدود -وا�صف َّرت
النار بحرق الأج�ساد امل�ؤمنة وت�صاعدت �أرواحهم �إىل الرحمن ،وهرب النا�س
�إىل بيوتهم وقد علموا �أنهم لي�سوا يف حكم رجل عادي من تبابعة اليمن؛ بل
يف حكم �شيطان ،طاغية ..ظ َّل مع جنوده و�ساحره قعودًا على النار يتمتَّعون
يتب�سم حتى ظه َر ب�أجيجها! ،و�إن من خلفهم من بني الأدخنة كان �شيطان مارد ِ
ع
ب�شع وظالم ،هكذا كان حال �سب�أ! �س ّنه� ،شيطان وطاغية ،ووجه ِ
ريص
حمبو�سا يف ُغرفة يف ق�صر ً وكان غالم مل يُكمِ ل من عمره �ست ع�شرة �سنة
ال
ينظر �إىل النافذة بع ٍني بر َقت فيها كثري من املعاين ،وكثري من الذكريات؛ خمرُ ،
يبت�سم بلح َيته البي�ضاءذكريات كلما نظ َر �إىل ال�سماء ر�آها ...الراهب �شافع ِ
ت ك
املهذبة ،والغالم عا�صف بعقله الأملعي«َ ،من لهذا الدين من بعدكم! »..ثم يخ ُبو َّ
ب
يف عينه بريق الذكريات وي�شتعل ً
ل
بدل عنه لهيب الغ�ضب ،وتذ َّكر حديث عا�صف
ن ل
له عند تلك ال�شموع�( ،إين �أريد �أن �أقول لك �أم ًرا يا «�أ�سعد» ..اع َلم �إمنا �أنت
ش
الذي �سيخرج ديننا ،هذا الدين من هذا ،بني جدران هذا الدير فيب ُلغ به م�شارق
و ر
الأر�ض ومغاربها ..يا «�أ�سعد» �إن نحن انتهينا فلتح َفظ عليك نف�سك ،ف�إنَّ لك
و الت
موعدً ا يا �سليل امللوك).
يع ز
أق�سم
أق�سم وهو �صبي �صغري هكذاَ � ، أق�سم «�أ�سعد»�« ..أ�سعد بن ملكيكرب»؛ � َ و� َ
نب الأر�ض على ر�ؤو�س اجلميع ،بنوا�سهم و�ساحرهم و�شيطانهم... ليق ِل َّ
z
46
َ
واخ�ضع. فا�سمع عدت � َ
إليك بعلمي وبهائيَ .. ُ
«�شافع بن كليب ال�صديف» ،راهب ن�ساه التاريخ� ،أو حذفنَاه نحن من �أ�ساطري التاريخ،
قدر ا�ستطاعتنا!
ندعو �إليه ،يفي�ض على تالميذه من كتاب
علما هو النقي�ض التام ملا ُ
ص ع
كان ُيع ِّلم النا�س ً
ال ري
بقي كتابه هذا
قدمي عنده مكتوب على جلود احليوانات ُي�س ِّميه ُ�صحف �إبراهيم -وللأ�سف َ
موجودا حتى اليوم!-ً
ت ك
وحرفناه� ...صار ا�سمه الفيدا -وهو الكتاب املقد�س للهندو�س.-
لكننا ذ َّوبناه ذوبانًا َّ
ن
املحر َفة قدر ا�ستطاعتنا من ُ�صحف �إبراهيم. َ
الن�سخة َّ �إبراهيم! ،و�أن الفيدا هي
ر ش
لكن «�شافع» كانت لديه نُ�سخة �أ�صلية من تلك ال�صحف ،وكان يجب �أن منحوها ومنحو
الت و
�أثر «�شافع» نف�سه من التاريخ.
ز و
يع
قال «�شافع» لل�صبي �أن ال�شياطني تكرهك وتكره اليوم الذي ُو َ
لدت فيه -وكالمه
�صحيح.-
َ
جلن�سك البهيم!� ،أتدري ر�ضي جن�سنا اجلني ال�شامخ �أن يكون قرينًا وبرغم هذا ُ
الكرهَ ..
ملاذا يا بهيم؟
َ
ن�سمعك تُر ِّددها كل حني� ،أن باليني اجلن موكولون غبا�ؤك قد ُي�ص ِّور لك ت�صاوير،
ُ
وندخل وراءك ...تبالغ � َ
أنت يف تخ ُّيل �أهم َّيتك!، َ
�سيادتك النار ب�إ�ضالل َِك من �أجل �أن نُدخِ ل
وتبالغ يف حتقري ذكائنا.
أمرنا �أن نكون قرناء لك! ،لو كان اهلل �أمرنا بذلك فلماذا�أو مثل قولك �أن اهلل هو الذي � َ
أنت يجِ ب �أن ُ
تدخل النار لغبائك فقط! �س ُيحا�سِ بنا و ُيدخِ لنا النار بذلك!� ،أتع َلم � ً
أمرا؟ � َ
قردا وانت�ش َلك من بني �أوحال البهائم ،وهداك
نت ً الرب بعد �أن ُك َ َ
أكرمك ُّ ذات يوم� ..
�إىل جنة على هذه الأر�ض فيها من كل �شيء ،جنة كانت �أجمل بقعة يف الأر�ض؛ بني دجلة
والفرات ،جنة كان و�صفها �أنها جنة َع ْدن يعني ُم�ستوية ،جنة ُ
كنت �أنا فيها� ،أنا ال�شيطان
47
كنت فيها ،فوجدت َُك فج�أ ًة �آت ًيا � َ
أنت وزوجك... ال�سامي ُ
َ
وجعلتك تع�صي ربك نف�سك البهيمية غل َبت َ
عليك َ ماذا َ
فعلت يف تلك اجلنة �أيها الإن�سان؟
َ
فليخرجك ربك منها ويريحنَا منك... يف �شيءٍ تافِه! ،لي�ست هذه هي امل�شكلة..
كذبت َ
وقلت �أنني �أغويتُك ،و�أ�شهدت على ذلك زوجتك!، َ َ
دناءتك َ
كذبت ..بكل َ
لكنك
أخرجني ربي معك� ،أخرجني َ
معك �أيها ال�سافِل. ف� َ
ع
َ
وق�ضى علينا �أن ن�سيح يف الأر�ض ونُ�صلِح فيها ،ف�إن ف َعلنا �أدخ َلنا ً
جنة �أعلى و�أ�سمى
ريص
لي�ست على هذه الأر�ض ،جنة تعلو على ال�سماوات. و�أعظم ،جنة َ
ال
َ
وطبيعتك احليوانية دخلت ً
جنة �أينما كانت ،ف�إنك بكل ُل�ؤمِك َ جيدا� ..إذا و�أنا � َ
أعرفك ً
كت
�ستُف�سِ دها وتُخ ِرجنا منها! ،كما �أخرجتَنا من التي قبلها.
ب نل
ُلدغ من ُجح ٍر مرتني.
ونحن ال ن َ
كذبت عليه و�أخرجتَه وقبيلته َ
ل
فعهد �إلينا نبينا لو�سيفر -النبي الأمري البهي -الذي
ش
َ
ر
طريق ونغويك لئال تكون ٍ نتبعك �أينما ذهَ بت ،و�أن ن� َ
أتيك من كل َ عهد �إلينا �أن
من اجلنةَ ...
الت و
�صا ًحلا؛ حتى نح َفظ اجلنة من �أمثالك ،لئال يدخلنَّها يف ذلك اليوم علينا �إن�سان� ،إال �أن يكون
و
�سام ًيا مثلنا ،وهم قليل يف بني الإن�سان.
يع ز
نر�صدهم ونزلهم ونُز ِّين لهم
�أما بهيميو النف�س والروح وهم الكرثة الكاثرة فنحنُ ُ
حتى ي�ستجيبوا ،ف�إن ا�ستجابوا ف�إن نفو�سهم اخلبي َثة قد َّ
تك�ش َفت وافت�ضحت؛ فريمون يف نار
هُ م �أهل لها.
ك�شفنا البهائم �أنهم بهائم ،و� َأبرزنا ال�رشفاء �أنهم �رشفاء.�أما نحن ..فلنا ثواب �أنا َ
قرينك ،لهذا �أنا حولك� ،أحوم ،حتى �أُخ ِّل�ص الدنيا من َ هذا �أنا ،وهذا �أنت ..لهذا �أنا
َ
أ�سقطك يف � ِّرش �أعمالك. �رشك� ،
أ�سمعك وال ت�سمعنيُ � ،
أمتلك قدر َة �أن � َّ
أحتدث �إىل ولأنني بهي �سام ..ف�إين � َ
أراك وال تراينَ � ،
عليك وعلى من حواليك. أبث فيها ما �أريد ،هكذا وهكذا فقط �أ�ستطيع �أن �أ�ؤ ِّثر َ
روحكُّ � ،
فيك وتن َّبه لها ،وال يخدعن ََّك كالم املتك ِّلمني َ
الب�ش. عقيدتي َ
فتع َّلم َ
z
48
()2
عيون
ٌ
تست ِعر
َ
بالغضب
َ
وت�صاعد دخن من ف ّوهاتها ،دخن �أ�س َود كثيف َ �أخاديد ج َّفت نريانها،
ي�صنع �أ�شباهً ا لأرواح �أح َرقها ،ومالمح َّ
ع
تفحمت جنباتها ،و�سال عذ َبها� ،أخاديد َّ
ص
القيح يف عروقها وفرجاتها ...وظ َّل هو على حاله؛ �ساعات طوال وهو ماكث
ال ري
على ُركبتيه يلفح الدخان وجهه ،ولوال �أن الهواء ُيح ِّرك مالب�سه و�شعره الأ�شقر
الطويل لظننته �صن ًما! ،كانت �أذناه التزال تلتقط ذكرى �صخبهم و�صراخهم
ت ك
يرت َّدد بني الدخان ومن الدخان ،واحم َّرت عيناه اجلنية من البكاء ،ولقد م�ضى
ب
يبك حتى ق�سا وت�ص َّلب وظنَّ �أنه قادر على التمالك، زمان على ذلك القلب مل ِ
ش
�إىل الأخدود بع َثت له �صورة ن َفر من بني الإن�سان ،م�ؤمنني وم�ؤمنات ،ثبتوا يف
و ر
الت
إن�س وال جان ،وقد ال تدري الب�شر َّية عنهم �أي �شيء،م�شهد مل يثبت فيه قبلهم � ٌ ٍ
و
غطت على كل �ألوانه لكنه يدري ،وقام بج�سده الطويل مي�شي و�سط غيوم �سود َّ
يع ز
خارجا ،وعيون حمر من غ�ضب ومن حزن، فلم ي َر منه �إال ظل �أ�سود يتحرك ً
ت�شع منهكتمل ...كانت ُنذر اخلطر ِ وبدت �ألوانه تظهر يف خروجه حتى ُر� َؤي ُم ً
م�ضة غا�ضبة عازمة على الق�صا�ص! إ�شعاعا ،ثم تال�شى ك َو َ
� ً
و�أمام واجهة ق�صر خمر كان هناك حدث �آخر� ..صبي قد �أتى يجر قدمه
ج ًّرا ومي�سك يف يده �شيء ما ي�ض ّمه �إىل �صدره �ض ًما �شديدً ا ويقرتب ما�ش ًيا من
الق�صر وينادي (يا «�أ�سعد»)...
ر�صدته عني «�أ�سعد» الواقف يف نافذته فتح َّرك ً
نازل �إليه� ،أم�سك وقد َ
اجلنود احلار�سون بال�صبي فتدافع معهم فدفعوه ب�أرجلهم حتى وقع على ظهره
وتبي ال�شيء الذي مي�سك به؛ كان كتا ًبا يبدو على �صحائفه �آثار القدم� ،سمع َّ
�ضج ًة عند باب الق�صر الذي انفتح وبرز منه «�أ�سعد» ووراءه ج ّده و�أمه اجلميع َّ
ي�صرخون فيه ويحاولون منعه من اخلروج ،وانطلق جندي حار�س �إىل «�أ�سعد»
ووقف يف طريقه و� َ
أم�سك به ،نادى ال�صبي (يا «�أ�سعد» ..لقد قتلونا يا «�أ�سعد»، َ
55
دخلوا �إىل ديرنا ف�أ�سالوا الدماء و�أزهقوا الأرواح وك َّوموا �أج�سادنا ك�أج�ساد
املوا�شي املذبوحة ،مل ي ُعد �أحد باق ًيا يا «�أ�سعد» ،مل ي ُعد �أحد باق ًيا)...
تو َّقف الكل ينظرون �إىل ال�صبي وهو ي ِئن ب� َأل كتب عليه �أن يراه يف هذا
ال�سن ..نظر �إليه «�أ�سعد» بعيون تهتز من الثورة ،وم�شى �إليه يحت�ضنه ،كان
يعرفه جيدً ا ،كان �صب ًيا ناب ًغا يف الدير ا�سمه «يزن» ...نظر «�أ�سعد» �إىل الكتاب
ونظر �إىل «يزن» ب� َأل نظر ًة ُمت�سائلة ك�أمنا ي�س�أله (�أهذا هو ؟)� ..أوم�أَ له «يزن»
ص ع
بنظرة حزينة �أن (نعم).
ال ري
�أم�سك «�أ�سعد» الكتاب و�ض َّمه ..كان هذا كتاب الراهب «�شافع» والذي فيه
تعاليم الدين التوحيدي ،والذي كان ُيع ِّلمهم منه يف الدير وهم �صغار.
ت ك
وبرز «عمرو بن جابر» ك�أمنا �أتى من ال مكان! ،ونظر �إىل «�أ�سعد» ،والت َقت
ب
عيو ٌن غا�ضبة ب�أخرى ،وتو َّت َرت جوانب امل�شهد ُبرهة حتى حت َّرك اجلندي الواقف
ش
وراءه وح�شت قدم «�أ�سعد» قدمه ف�سقط على وجهه� ..صاح اجلد «موهبيل» يف
و ر
جنوده:
و الت
ال تدعوا «�أ�سعد» يخ ُرج� ..أم�سكوا به يف احلال.
يع ز
وقف «�أ�سعد» مكانه و�أق�سم قائال:
حب�سني �أحدكم �ساعة �أخرى لأق ُتلنَّ نف�سي دون �أن تهتز يف يدي لئن َ
�شع َرة.
كانت الأم «فارعة» تبكي وتنادي با�سم «�أ�سعد» وال يلت ِفت لها ...وتق َّدم
عازما على اخلروج وهو حمت�ضن ال�صبي «يزن» ب�إحدى يديه «�أ�سعد» من الباب ً
ومم�س ًكا بالكتاب يف اليد الأخرى ،فنظر حرا�س الباب �إىل «موهبيل» ينتظرون
الأمر ،ف�أ�شار لهم باالبتعاد عن الطريق ،وملا و�صل «�أ�سعد» �إىل جوار «عمرو
التفت «عمرو» �إىل اجلد وهم اجلميع باملغاد َرة ،ثم َ بن جابر» ا�ستدار «عمرو» َّ
«موهبيل» وقال:
كيف حت ُلم �أن يح ُكم حفيدك هذه البالد ثم حت ِب�سه بني �أربعة جدران يا
موهبيل؟
قال له «موهبيل»:
56
�سي�أتي يوم ميوت فيه «ذو نوا�س» يا «عمرو» ...عندها ُن ِ
خرج ولدنا �إىل
احلكم.
قال «عمرو بن جابر»:
ال تدري لعل ذلك اليوم يكون قريبا يا موهبيل.
z
َ
تو�صلك �إىل
ص ع
هذه العيون التي ت�ست ِعر َ
بالغ�ضب يا «�أ�سعد» ..هذه العيون قد
ال ري
َ
تو�صلك �إىل القرب! الآفاق ،وقد
نف�س م�ؤمنة �أزه َقها. لقد �أباد اجلميع ،ولأجعل َّنه ي�ص ُرخ �صرخ ًة عن كل ٍ
ت ك
أنت واحد� ،أما هو فجنود اململكة كلها يلت ُّفون حوله لن ت�سلط عليهَ � ..
ل ب
كالطوق� ،إىل جانب مهارته القتالية العالية التي ُت ِّكنه من تقطيع
ر
أقطع لك �أنا �أي�ضا تع َّلمتُ القتال عند الراهب «�شافع» ..هل تريد �أن � ِّ
الت و
ر� َأ�سك لرتى بنف�سك؟
ز و
يع
دعك من هذا يا «�أ�سعد»� ..أنت لن حتتاج �إىل هذا� ،إن الطغاة يف عاملنا َ
ي�سقطون بطريق ٍة �أخرى ،فا�سمع مني جيدً ا ،ولتجعل َّنه يدور حول نف�سه
حتى تتم َّكن منه يف النهاية وت�ضع ر�أ�سه على ر�أ�س �سيفك هذا.
لي�ست ك�أي عقول؛ عقو ٌل �أ َملعية!
و�أدرك «�أ�سعد» �أن اجلن لهم عقو ٌل َ
z
ر�سل �أ�ضوا ًء مرتاق�صة على حوائط ُمز َّينة بعناية ،ورجل ذو حل َي ٍة �شمو ٌع ُت ِ
ويتلحف بها ..يفتح كتا ًبا ُ
ينظر فيه ويُغمِ �ض طويلة و�شعر طويل وعباءة يلب�سها َّ
كالما خف ًّيا ال ي�سمعه �أحد غريه! ،كان
عينه ويبدو من تعبريات وجهه �أنه ي�سمع ً
هذا هو ال�ساحر «هريا» يف �أحد جنبات ق�صر بلقي�س ...قام «هريا» عن الكتاب
وا�ستدار ليذهب �إىل مكان ما ،لكنه توقف وقد �ضرب قلبه الرعب مما ظهر
ينظر له بجر�أة! ،تراجع ال�ساحر رجل ُمل َّثما واق ًفا كالطود ُ
�أمام عينه! ،ر�أى ً
بكلمات ونظ َر حوله ...قال له امللثم بحزم:
ٍ ومتتم
57
ت�سلني كيف دخلتُ �إىل �صومعتك وكيف جتاوزتُ ال تق َلق يا «هريا» وال َ
أنت تعلم �أن هناك �أمو ًرا يف هذا العامل تكون حر�سا كث ًريا ودهاليز ...ف� َ
ً
ُ
أمر يخ�ص امل ِلك. َ
عجيبة ،لكن � ِأعرين �سم َعك ف�إين �أود �أن �أ�س ّر لك ب� ٍ
ومال املُل َّثم عليه وقال له خف َية:
�شديدَ ..اقرتب ال�ساحر «هريا» بحذ ٍر ٍ
�إن ابن «ملكيكرب» مل ُميت ..ولقد كرب اليوم و�سيبد�أ بعمل ثورة على
ع
حكم «ذو نوا�س» ،و�أنت تعلم �أن �آل «ملكيكرب» هم �أقرب �إىل قلوب
ص
النا�س و�أقرب �إىل احلكم ،ولو ُو ِ�ض َع «ذو نوا�س» بكل ُظلمه ل�شعبه �إىل
ال ري
جوار ابن «ملكيكرب» �أمام النا�س ف�إن النا�س �ستكون مع �آل «ملكيكرب».
ب�صوت �أكرث
ٍ ثم مال عليه وك�أ َّنه ُيخربه ب�أمر �أ�شد �أهمية من هذا كله؛ قال له
ت ك
ً
انخفا�ضا:
ش
ثم ه َم�س له:
و ر
الت
وال حتى �شيطانك «�إزب بن �أزيب» يع َلم.
و
هنا ات�س َعت عني ال�ساحر ح ًقا� ..إنه ال يدري �أح ٌد على َظهر الأر�ض با�سم
يع ز
�شيطانه! ،ثم �إن �أمر ابن «ملكيكرب» هذا لي�س �أم ًرا هي ًنا ...قال له امللثم:
آتيك بخرب كل �شيء اتبعني �إىل وادي هانون �إذا غا َبت ال�شم�س ..و�س� َ
ً
تف�صيل.
وبقي ال�ساحر
ثم ا�ستدار امللثم وفتح الباب ك�أمنا يفتح باب بيته وان�ص َرفَ ..
«هريا» تتخ َّبطه الأفكار.
وفور غياب �شم�س وادي هانون� ..أتى ال�ساحر «هريا» بعباءته ووقف على
ر�أ�س الوادي ُ
ينظر ،ثم برز له املُل َّثم على جواد له ،فنزل عن جواده ثم م�شى �إليه
بهدوء ،ووقف �أمامه وقال له:
هل �أح�ضرتَ �شيطانك َ
معك يا «هريا»؟
لهجة
نظر له «هريا» بجب ٍني ُمقطب ومل ي ُرد �شاع ًرا ب�شبه ن َربة ا�ستخفاف يف َ
امللثم ..قال امللثم:
58
العال
خربك �شيطانك من �أنا؟ �ألي�س هو ال�شيطان املارد ِ «هريا»� ..أمل ُي َ
بكل �شيء؟
نوع ما! ،ثم
مكيدة من ٍنظر ال�ساحر «هريا» حوله وقد بد�أ يتي َّقن �أن الأمر فيه َ
�سمع �صوت ا�ستالل ال�سيف فنظر ف�إذا امللثم قد ا�ست َّل �سي َفه فج�أة ،و�أزال اللثامة
عن وجهه فظهرت مالحمه اليمنية الو�سيمة ال�شابة ،نظر له ال�ساحر ُم ً
اول
ع
فهم ما يجري ،لكن امللثم قال له:
ريص
خن�س من ر�ؤيتي؟ َ
�شيطانك �أم �أنه َ ها قد �أزلتُ اللثامة� ..أومل يعرفني
نف�سه �ألف مرة
ال
توتَّرت �أقدام ال�ساحر و�أ�سقط يف يده ومل يد ِر ما يفعل ..ولعنَ َ
ت ك
على الإتيان هنا ،قال له امللثم الذي مل ي ُعد ُملث ًما:
ل ب
ربك عن �ش�أن ابن «ملكيكرب»؛ بوعودي �أيها ال�ساحر ..و�إين ُم َ �أنا � ِأف ُ
ن ل
�سيي ُكم�أال �إن ابن «ملكيكرب» هذا ا�سمه «�أ�سعد»� ،أال �إن «�أ�سعد» هذا ُ
ر ش
�سوءاتكم ويقطعها لكم� ،أال �أنه ي�س ُكن قرب هذا الوادي؛ �أال �إن ابن
الت و
«ملكيكرب» هو �أنا!
و
للرتاجع وال تقوى قدماه على ُ ج�سد ال�ساحر وهو يتج َّهز رع�ش ٌة يف َ
�س َرت َ
يع ز
حمله ..و َثب «�أ�سعد» �إىل اجلواد وانطلق كال�سهم ناحية ال�ساحر الذي َّ َ
تعثت
قب�ضة «�أ�سعد» �أم�س َكت به
�ساقطا �إىل الوراء ،لكن َ ً الرتاجع ومال
ُ قدمه من
ورفعته �إىل اجلواد وك�أنها قب�ضة من حديد و�أركبته على اجلواد �أمام «�أ�سعد»!،
�شع َر ال�ساحر بخنجر يلم�س ظهره حتذي ًرا وتخوي ًفا ،و�ضعه «�أ�سعد» و�ش َّد به
وتوعده �أن مي�ضيه يف ج�سده عند �أول بادرة على ظهره حتى �أدماه ،ثم �أرخاه َّ
بكف يده على وجهه �صفع ًة موج َعة مهينة للمقاومة ،ثم �ضرب «�أ�سعد» ال�ساحر ِّ
�أتبعها ب�صفعة �أخرى ،ومع كل �صفعة يكاد ال�ساحر يقع من فوق اجلواد لكن
«�أ�سعد» مي�سك به ويعيده ،ثم �سحب «�أ�سعد» عباءة ال�ساحر ورماها يف الهواء
و�ضرب فيها ال�سيف ف�ش َّقها ن�صفني! ،فظهرت مالب�س ال�ساحر ر َّثة من حتت
العباءة ،فنكز «�أ�سعد» اجلواد نكز ًة حازمة وانطلق اجلواد ب�سرعة ناحية �سوق
مدينة ظفار.
z
59
عا�صفة من الغربة والرتاب �شهدها النا�س يف �سوق ظفار �آت َية عليهم..
فار�سا ينطلق بجواده ب�سرعة جنونية ومي�سك �أمامه على اجلواد وتب َّينوا وراءها ً
رجل ذو حلية طويلة ،كان هذا «�أ�سعد» الذي تو َّقف بجواده يف و�سط ال�سوق
و�صاح ب�أعلى �صوت ميلكه:
أحتكم �إلي ُكم يف هذا الرجل هاهُ نا؛
يا مع�شر ظفار ..يا �أهل �سب�أ� ..إين � ِ
فاحكموا يل يف �أمره.
عجب وت�سا�ؤل ..ف�صفع «�أ�سعد» النا�س يف ال�سوق ينظرونه يف َ
ص عجت َّمع �إليه ُ
ري
ال�ساحر �صفع ًة � َ
ال
أ�سقطته من على اجلواد ،ف�صاح بع�ض النا�س ُمعرت�ضني على
�أن يفعل هذا برجل عجوز! ،قال لهم «�أ�سعد»:
ت ك
رجل مثل هذا رث تت�صاعد من ج�سده رائحة العفن؛ هل ي�ستحق �أن
ُن ِّ
ب
عظمه فينا؟
ش
«�أ�سعد»:
و ر
الت
ا�ستخف كث ًريا من النا�س وا�ستهانَ بعقولهم و�أخربهم �أنهَّ رجل مثل هذا
و
عظمه فينا؟ يعلم كل �شيء ...هل ي�ستحق �أن ُن ِّ
يع ز
�صاح بع�ض الرجال وقد عرف الأمر:
�إن هذا هو �ساحر امللك.
و�سرت اجلملة بني اجلمع ي�سوقونها بع�ضهم �إىل بع�ض� ..س�أله «�أ�سعد» يف
�صرامة:
هل تع َلم كل �شيء �أيها ال�ساحر؟ هل بلغ َ
علمك �أنك ت�سمع النا�س يف
العال بكل �شيء؟
لك وراء ظهري �أيها ِ بيوتاتهم؟ هل تع َلم ما الذي �أُخ ِّبئه َ
و�أخفى «�أ�سعد» يده خلف ظهره ..و�أعاد �س�ؤاله لل�ساحر:
هل تع َلم ما الذي �أُخفيه خلف ظهري؟
بل َع ال�ساحر ُلعا َبه ونظر �إىل وجوه النا�س وعيونهم الناظرة له يف تعبريات
كثرية متداخلة ال ميكن للبيان �أن ي�صفها؛ عن ع�شر �سنوات من اخلوف
بوجل يف قلوبهم ،عن «هريا» �ساحر والتفادي ،عن ا�سمه الذي �إذا ُذ ِكر ي�شعرون َ
60
امللك الذي يبدو يف �أر َد�أ حاالته اليوم يف �ساحة �سوق ظفار ...و«�أ�سعد» ُيك ِّرر
خرج «�أ�سعد» يده من وراء ظهره ب�صوت �أعلى ..وال ي ُرد ال�ساحر ف ُي ِ ٍ عليه ال�س�ؤال
ويهوي بها بلط َمة على وجه ال�ساحر ويقول:
لك �أيها املنافق الأ َّفاك القذر. هذا هو ما �أخ ِّبئه َ
ثم ُيخفي يده مرة �أخرى وي�صيح ً
�سائل:
ع
ما الذي �أُخ ِّبئه فيها؟
ريص
ثم ُيخرجها ويهوي بها على وجه ال�ساحر الذي نز َلت الدماء من وجهه
ال
الذل الذي مل يكن يكفي �سنني املهانة و�سقط على ركبتيه وذاقت عيونه معاين ُ
التي �أذاقها للبالد والعباد.
ت
�سقطت �أ�سطورة ..وبد�أ ال�صبيان يت�ضاحكون عليه
ك ويف ب�ضع دقائق َ
و ر
ا�ستغراب وا�ستنكار ،ف� َ
أكمل «�أ�سعد»: ٍ النا�س �إىل بع�ضهم يف
نظر ُ
و الت
ابن امللك العظيم «ملكيكرب».
يع ز
بع�ضهم ته َّل َل وجهه ،وبع�ضهم حتا�شى االنفعال ،وبع�ضهم ا�ستن َكر ...وفار
وا�ضحا ..ويف جانب من جوانب ً ال�ضجيج يف و�سط ال�سوق فلم ت ُعد ت�سمع ً
قول
َ
فتطاول النا�س فر�أوا ثالثة �أتوا على �أح�صنة ال�سوق ع َلت ال�ضجة عن بقية ال�سوق
لهم؛ اجلد «موهبيل» والأم «فارعة» و «عمرو بن جابر».
�سار الثالث ُة حتى �أتوا �إىل جوار «�أ�سعد» ،وقال اجلد «موهبيل»:
َ
اختطف من بني �أيادينا �صب ًّيا �إمنا هذا هو «�أ�سعد بن ملكيكرب» ،و�إنه قد
حفظه و�أعاده �إلينا فر َّبيناه و�أخفيناه ممن ِبن َّية القتل! ،لكن ربه قد َ
حاولوا قتله.
ازداد عدد املُه ِّللني يف ال�سوق ..ورفع «�أ�سعد» قب�ضته عال ًيا ،ثم هوى بها على
وجه ال�ساحر فهوى على الأر�ض يبت ِلع الدماء ،وقال «�أ�سعد»:
�أال �إن ال�سحر ي�سقط اليوم على هذا ال�ساعد.
ورف َع ب�ساعده بحركة تدُل على القوة.
61
ثم خ َبت �أكرث الأ�صوات وخفتَت ،و�سكنت �أكرث احلركات ،وحت َّركت النظرات
�إىل جهة واحدة من اجلهات؛ جهة كان يقف فيها جواد ملكي وعليه رجل ينظر
يف ب�أ�س و�سلطان و�صمت وترهيب! ،كان ذاك «ذو نوا�س» قد �أتى وخلفه جن ٌد
وبدت �ضفائره يف ذلك اليوم �أكرث ً
طول عن ذي قبل! ،و�أكرث ُرع ًبا. جم َّندون َ
z
ع
تف َّرق النا�س حتى عملوا مم ًّرا وا�س ًعا بينهم ..م�شى فيه «ذو نوا�س» وحوله
ص
جنوده يتبعونه ،وتباعد النا�س وتراجعوا فات�سعت الدائرة التي ُي�ش ِّكلونها حول
ال ري
امل�شهد ،نظر «ذو نوا�س» بال كالم �إىل «�أ�سعد» ،فقط نظر وك�أنه ال يريد �أن
مينحه �شرف التح ُّدث �إليه! ،و�أ�شار بيده فتح َّرك اجلنود ...قال «�أ�سعد» لذو
ك
نوا�س م�ش ًريا �إىل ال�ساحر:
أ�صبحت ُت�شري
َ
ب ت
أنك مل تتع َّلم �شي ًئا من ب�أ�س الرجال� ..
�أيها امللك يبدو � َ
ش
ال�سحر ،ويبدو �أن ال�سحر الذي تتماجد به ُملقى ها هنا حتت قدمي.
و ر
تعجب �أونظ َر «ذو نوا�س» �إىل ال�ساحر نظر ًة طويل ًة ال تدري �أهي نظرة ُّ
و الت
�صدمة! ،قال «ذو نوا�س» لأ�سعد:
يع ز
أنت يا َ
طويل الل�سان؟ ومن � َ
قال له «�أ�سعد» بعزَّة:
ح�سن �أنا ابن «ملكيكرب» ..كيف وجدتَ عر�ش والدي؟ هل �أبقيتَه َ
َ
برائحتك القذرة؟ الرائحة؟ �أم �أجن�ستَه
ثم قفز «�أ�سعد» فج�أ ًة بال ُمقدِّ مات على فر�سه وانطلق �إىل «ذو نوا�س»..
حتديدً ا �إىل ر�أ�س «ذو نوا�س» ،ورفع «�أ�سعد» �سي َفه و�أهبطه يف �ضربة قو َّية على
ر�أ�س «ذو نوا�س» الذي تراجع بب�ساطة املقاتلني ور َّد �ضر َبة «�أ�سعد» ب�سي ِفه!،
فتالقى ن�ص َلي �سيفيهما يف م�شهد مل يعتَد ال�شعب �أن يراه من قبل؛ فلم ي َر
�أحدهم من قبل �سي ًفا ُير َفع على «ذو نوا�س»!
z
64
م�شى احل�صانني مبقاتليهما يف �ساحة ال�سوق يدوران حول بع�ضهما ..ثم
بد�أ «ذو نوا�س» احلراك ،فم َّد يده �إىل �ساقه فا�ست َّل خنج ًرا من خناجره ورماها
لي�صطك اخلنجرَ موجهة �سريعة ناحية «�أ�سعد» الذي رفع �سيفه �سري ًعا �أمامه
يف َن�صل ال�سيف وي�سقط ...ف�أخذ ن�صل �سيف «�أ�سعد» يهتز ك�أمنا ُفوجئ بحرك ٍة
غري ُمعتادة! ،ابت�سم «ذو نوا�س» وعمل �شي ًئا ات�سعت له عني «�أ�سعد» لثانية؛
فقد قفزَ من على فر�سه وا�ست َّل خنجرين من �ساق ومن �ساق ورمى اخلنجرين
ع
مبا�شرة �إىل «�أ�سعد» الذي ر َّد واحدً ا منهم ب�سيفه ،لكن الثاين انغر َز يف كتفه
ريص
و�ضجت النا�س.
و�سقط على ظهره على الأر�ضَّ ... َ و�أطاره من فوق فر�سه
ال
ينظر يف وجوه النا�س غطى �ضجيج النا�س على كل الأ�صوات ..و «ذو نوا�س» ُ
ك
ينظر يف وجوه النا�س ،مالمح ال تدري يف عجب واختيال ،وكان «�أ�سعد» �أي�ضا ُ
�ضج بالثورة! ،وبني الوجوه
ب ت
�ضج بالظلم �أم ممن َّ أهي م َعك �أم �ضدك� ،أهي ممن َّ � َ
ل ل
�أ�ش َرف له وجهها ،ببهائها وو�ضاءتها وعيونها التي مثل البحر ،كانت ُ
ن
تنظر له
ش
يف �شف َقة وت�شجيع؛ «�إينور» بجمال روحها وجمال عينها ،لكن «ذو نوا�س» مل يكن
ر
ُي�ض ِّيع وقتًا ..كان قد ا�ست َّل �سي َفه وتق َّدم من «�أ�سعد» يريد �إنهاء حياته ،وكان
الت و
�سيف «�أ�سعد» واق ًعا بعيدً ا عنه ،ونزل «ذو نوا�س» بال�سيف بحرف َّية على ر�أ�س
ز و
«�أ�سعد» ب�ضربة حادة.
يع
بدل من �صوت الدماء! .كان «�أ�سعد» قد انتز َع اخلنجر �صليل ً
و�سمع النا�س ً
ويح�صل على �سيفه،
ُ من كتفه ور َّد به �ضربة ال�سيف ،ثم ا�ستغ َّل املفاج�أة ليبتعد
ثم �ص َّفر «�أ�سعد» حل�صانه ف�أتاه فاعتاله ،وذهب «ذو نوا�س» واعتلى فر�سه
أي�ضا ،وعاد كل �شيء �إىل حال اللحظة الأوىل ،وانطلق احل�صانان يف مواجهة � ً
ثانية �أ�ش ّد �ضرا َو ًة من الأوىل ،ارتفع فيها رنني ال�سيوف وقرعها بع�ضها على
هجم بفر�سه بزاوية معينةبع�ض ،لكن هذه املرة فعل «�أ�سعد» �شي ًئا عجي ًبا؛ فلقد َ
�سمحت له �أن يتجا َوز فر�س «ذو نوا�س» ،ثم م َّد «�أ�سعد» يده وراء ظهره وقب�ض َ
على �ضف َريتي «ذو نوا�س» وهما تطريان يف الهواء ،قب�ض عليهما قب�ضة مفاجئة
فاختل توازن «ذو نوا�س» من على فر�سه و� َآل لل�سقوط فنزل «�أ�سعد» بال�سيف َّ
انقلب على
فقطع ال�ضفريتني ب�ضربة واحدة ،و�سقط «ذو نوا�س» على ظهره ثم َ
و�ضجت
ينظر �إىل �ضفائره املرمية على الأر�ض يف ذهولَّ ، وجهه ورفع ر�أ�سه ُ
�ضجوا بال�ضحك.النا�س ،لكن هذه املرة ُّ
65
كانت بقايا �ضفريتي «ذو نوا�س» تبدو مثل قرنني فوق ر�أ�سه ..ا�ستغ َّل «�أ�سعد»
ده�شة «ذو نوا�س» و�ضر َبه �ضرب ًة مبقب�ض ال�سيف على �أم ر�أ�سه فرت َّدى على َ
الأر�ض ،و�أم�سك «�أ�سعد» بتالبيبه و�سح َبه حتى و�ضعه مرم ًيا �إىل جوار ال�ساحر،
ورفع �سيفه ور�أ�سه ونظر �إىل النا�س؛ ال�شعب الذي ما ذاق طعم احلرية منذ
عقدين من الزمان ،وانحنى اجلنود كلهم وو�ضع ك ٌّل منهم ر�أ�س �سيفه على
الأر�ض ،كان ذو نوا�س و�ساحره يف دوار �شديد يحاوالن القيام من على الأر�ض
ع
بال جدوى! ..التقط «�أ�سعد» اخلنجرين الذين رماهما ذو نوا�س �ساب ًقا ،ونظر
ص
�إليهما ً
قليل ثم فج�أ ًة رمى �أحدهما رم َي ًة خاطف ًة فانغر َز يف رقبة ال�ساحر ،ثم
ال ري
رمى الآخر رمية �أ�شد و�أعتى من الأوىل لت�ستقر يف و�سط ر�أ�س ذو نوا�س وتنفجر
ابي�ضت عينا ال�ساحر يف ميل �إىل املوت ،ور�أى من بني لها كثري من دمائهَّ ...
ت ك
أب�شع من جمامع �أج�ساد النا�س كيا ًنا يرتدي عباء ًة على ر�أ�سه ويبدو وجهه � َ
ب
الب�شاعة كلها يتب�سم يف ُ�سخرية ويتق َّدم منه! ،كان ذلك «�إزب بن �أزيب» ..وكان
ش
وظ وقرنني فوق ر�أ�سه جح ٍامل�صري� ،أما «ذو نوا�س» فكان وجهه يطالع ال�سماء يف ُ
ر
وخنجر مغروز يف جبهته!..
ت ل ا وملك «�أ�سعد» ابن «ملكيكرب» عر�ش �سب�أ ..وبد�أت و
z
تنق�شع؛ ف�أمنَ النا�سوبعد خوف ،وهنئوا
ي ز
الغيمة ال�سوداء التي كانت
بعد ب�ؤ�س ،وا�ستغنوا بعد فقر ،و�أ�صبحوا �أحرا ًرا يف دينهم ميار�سون ماع يريدون...
قد �أع�ش�شت يف كل ناحية يف البالد �أن ِ
نظمة من امللك قد نز َلت يف البالد تدعو �إىل الإله الواحد؛ رحمن �إال �أن دعو ًة ُم َّ
ذي �سماوي ،مليك الأر�ض وال�سماوات ،قب َلها من قبل ور َّدها من رد ..واكتملت
الدولة فلم يكن يعيبها �أو ينق�صها �شيء ..وجت َّندت اجلنود وجت َّهزت اجليو�ش
و ُردت كل االعتداءات على الدولة ال�سبئية ممن كان حولها من الدول ،فل َّقب
النا�س «�أ�سعد» بالكامل ،ف�صار «�أ�سعد الكامل» ،وعرفه النا�س بهذا اال�سم ف�صار
ُ
َ
يوما ،و�صارت كلمة «تبع» ملا ُتذكر وحدها ف�إنها
�أعظم و�أ�سمى «تبع» ملك اليمن ً
ُت�شري يف التاريخ �إىل «�أ�سعد» الكامل وحده ،لكن ا�سم الكامل هذا مل ي�أت من
كمال دولته فقط ،لقد �أتى من �شيء �آخر؛ �شيء جعل ا�سمه هذا يط ُرق الآفاق...
فلقد عزم «�أ�سعد الكامل» بعد �أن ملك عر�ش �سب�أ �أن يخ ُرج بدين الرحمن ذي
�سماوي من �سب�أ فيب ُلغ به م�شارق الأر�ض ومغاربها ،لكن م�شارق ومغارب الأر�ض
66
بالن�سبة لأ�سعد يف ذلك احلني كانت حت ُكمها امرباطوريات عظمى؛ الفار�سية
ال�سا�سانية والرومانية ...ومل تكن حت ًما �ست�س َعد بدينه اجلديد.
ح�سن �إثارة احلما�سة يف قلوب الرجال ..ولقد �سقى لكن «�أ�سعد» كان خطي ًبا ُي ِ
أ�صبحت ،وجت َّر�أت
النا�س �سقاية مبدى عظمة مملكة �سب�أ وكيف كانت وكيف � َ
عليها املما ِلك يف خم�س وع�شرين �سنة حتى مل ي ُعد ُيقيم لها �أحد وز ًنا ..وكان
ف�صيحا ُيت ِقن ال�شعر ويقوله يف كل منا�سبة ،ومكثَ يف النا�س ُي�ش ِعل نياط قلوبهم ً
ع
ً ِّ ِّ
وي�شد على عزائمهم و ُيجندهم و ُي�سلحهم حتى كون جي�شا مل ي َر �أهل �سب�أ مثله
ريص
من قبل!� ،أربعون �أل ًفا من الرجال انطلقَ بهم من �سب�أ �إىل ما حولها ،فخ�ضعت
ال
وعدن وعمان وكل ما يجاورهم) ،ف�صار امللك التبع هامة َ له يف ع�شر �سنني ( ُت َ
الوحيد الذي ُل ِّق َب بلقب ُمر َّكب طويل جدً ا« ..ملك �سب�أ وذي ريدان وح�ضرموت
ت ك
يدخله ،وظل وميانت و�أعرابهم طود وتهامت» ،وكان ُيج ِّند النا�س يف كل �إقليم ُ
ل ب
طلب فيه من اجليو�ش التي ج َّهزها كلها لتجتمِ ع يف َعل ذلك حتى جاء اليوم الذي َ
ن ل
يف وادي «ما�سل اجلمح» و�سط اجلزيرة العربية ،وهناك ر�أى عزَّته احلقيقية.
ر ش
ثمانني �أل ًفا �أو يزيدون من الفر�سان �أتخموا ذلك الوادي ..وفوق �أحد � ِأل�سنة
الت و
اجلبل كان يقف «�أ�سعد الكامل» يف ُح َّلة حربية ملكية ،وبجواره «عمرو بن جابر»
و
يف هيئته الب�شرية ...قال له «�أ�سعد»:
يع ز
هل ر�أيتَها يا «عمرو» بعي ِنك؟
نعم ر�أيتُها.
وما ا�سمها؟
«فاران».
الب�شر فيها يا «عمرو»؟ وكيف يعي�ش َ
هُ م قوم ُب َ�سطاء.
�صف يف ُكتب الراهب التوحيدي «�شافع»؟ �أفيها ح ًقا البيت الذي ُو َ
نعم هو فيها ..و�أهلها ُيقدِّ �سونه.
بيت ُو�ض َع للنا�س على هذه الأر�ض؟ �ألي�س ذلك البيت هو �أ َّول ٍ
بلى هو كذلك ..ولقد رفع �إبراهيم قواعده بعد �أن �أخفاه الطوفان.
67
وكيف �سيكون م�سرينا �إليها؟
ع�شر �أيام ن�س ُريها حثي ًثا �أو خم�سة ع�شر يف م�س ٍري ُم ِّ
تو�سط.
أقد�س وحت َّرك ثمانون �ألفا �أو يزيدون �إىل مدينة فاران ..املدينة التي فيها � َ
�شيء ي�ؤمن به «�أ�سعد» يف دين ذي �سماوي؛ فيها البيت املح َّرم الذي هو �أول ُمتع َّبد
للرحمن على هذه الأر�ض ،بناه «�آدم» وردمه طوفان «نوح» ثم رفع «�إبراهيم»
ع
وم َّرم مبناه مر ًة �أخرى ...ف�صار بيتًا ُمق َّد ً�سا يطوف النا�س عنده للرحمنُ ،
صري ال z
على النا�س القتال عنده ،يف مدينة كان ا�سمها (فاران) ،ثم �صار ا�سمها عند
العرب ذلك اال�سم الذي بل َغ امل�شارق واملغارب من ُ�شهرته� ،صار ا�سمها (مكة).
ل ب
ورجل على ر�أ�س اجليو�ش كان
ن ل
انحنى ورمى �سالحه! ،ورمى كل اجلنود يف جي�شه �أ�سلحتَهم يف �صوت جلجلة
ش
ال�صغري الذي يتو�سط مدينتهم -تنحني هزَّت م�شاعر �أهل فاران -ذلك البيت
ر
ملك يفنى �سوى ملكوالربي ..فله ملكنا حميدً ا
وخيولهم ...الكل ينحني ،ويذرف قائده له ُجند جمندة ب�أ�سلحتهم وعتادهم
ت
دموعا �سا َلت من ال�شوق ،ويخلع القائد خوذته
جميدً ا ..خلق اخللق فاج ًرا وتق ًيا ..و�شق ًيا ب�سعيه و�سعيدً ا..وقاه ًرا قاد ًرا مييت
ويتقدم من ذلك البيت احلجري ً
زي
و ُيق ِّبله ،وقال يف �شعر �شهري ..كل ٍ
ع
ف�أمر «�أ�سعد» �أن توقد ال�شماع املنرية ف�أوقدت ..وم�ضى اجلي�ش بها يف �أر�ض
ريص
الظلمات ،ثم تو َّقف اجلميع! ،توقفوا على َ
خب �ضج به امللك «�أ�سعد» وثار! ،قالوا:
ال
يا �أيها امللك� ..إن وزي ًرا لك اليوم قد ُق ِتل ،يف بلد من البلدان التي
ك
�أخ�ضعتَها ل�سلطانك...
ب ت
فعب�س فلم ُير من قبل يف مثل هذا الغ�ضب ..وقال:
ش
بلد ٍة تلك التي قت َلت وزيري؟ ر�ؤو�س النخيل فيت�شردون يف الأر�ض� ...أي َ
و ر
الت
بلدة قريبة من فاران ،و�إنها ُتدعى ي ِرثب. قالوا �إنها َ
و
نزل عليها اخلراب. �أب ِلغوا يرثب �أين هادمها و ُم ً
يع ز
وجاءها بت�سعني �أل ًفا من اجلنود ..حتى �إذا وقف على �أعتابها وبانَ له
نخيلها ،خرج له منها رجلني من �أحبار اليهود؛ �أحدهما يدعى كعب والآخر
�شامول ،قال له كعب:
يا داعي الرحمن كيف ت�أتي خلراب بلدة هي مهاجر نبي يخرج من هذا
احلرم يف �آخر الزمان تكون داره وقراره ..و�إنا نحن اليهود ما �أتينا �إليها
وتركنا كل بلدة �إال لأنا علمنا �أن ُم�ستق َّره يكون فيها.
فوقف «�أ�سعد» وك�أنَّ على ر�أ�سه الطري ..وذهب عن وجهه العبو�س وتب َّدل
مبالمح �أقرب �إىل الوجد ،وقال:
�أهي كذلك؟
وين�صره �أهلها ..و�إن ا�سمه يف كتبنا نعم ي�أتيها ف ُينري منها كل �شيءُ ،
«�أحمد».
69
ولقد كفى هذا «�أ�سعد» ليحني ر�أ�سه ويرفع خوذته عن ر�أ�سه ..قال «�أ�سعد»:
ما لهذا البلد من �سبيل ..وما كان خرابها ليكون على يد �أي �أحد من
العاملني ،و�إين بالرحمن داع ولنبي الرحمن داع� ...شهدتُ على «�أحمد»
�أنه ر�سو ٌل من الرحمن باري الن�سم ،فلو م َّد عمري �إىل عمره لكنتُ وزي ًرا
له وابن عم ،وجلاهدتُ بال�سيف �أعدائه ،وف َّرجتُ عن �صدره كل َهم.
ع
أغدق عليهم ورفع من �شانهم ..و�أقام لديهم يف و�أكرم «�أ�سعد» �أهل يرثب و� َ
ص
وادي قباء �سب ًعا من الأيام ،وحف َر لهم بئرا الزالوا ي�سمونه بئر امللك ،و�أ�ص َّر
ال ري
�أن ي� ُأخذ معه احلربين كعب و�شامول �إىل اليمن ف ُيكرمهما ويهديهما يف ق�صرا
ب�ش َراه بالنبي الأحمد...يعي�شان فيه مبا َّ
ت ك
وعاد «�أ�سعد» �إىل �سب�أ ف�أقام فيها ما �شاء اهلل له �أن ُيقيم �إىل �أن جاء ذلك
ب
اليوم.
ش
اجل�سد و�ضعفت الروح، َ هذه الدنيا �إال �أتاه� ،أتى �شبح املوت على امللك ،وهنَ
و ر
ح�سب ،وغزا املر�ض اخلاليا ،كان قد تزوج ف�صار ال يقيمه �إذا انحنى مال وال َ
الت
و� َ
و
«ح�سان» و«�شرحبيل» و«ملي�س» ،وكانت «ملي�س» عند قدمه ال ُتغادره أجنب ثالثةَّ ،
يع ز
ولديه «ح�سان» و«�شرحبيل» قال( ..يا بني ال تخت ِلفوا بعدي �أبدً ا ،ف�أر�سل �إىل َ
لك �سي�أتي كل واحد منكم ،وليبد�أ بها «ح�سان» لأنه فتذهب عزَّتكم ..و�إن املُ َ َ
الأكرب وليخلفه �أخوه من بعده )...ثم غاب عن الوعي.
فلما � َ
أفاق قال:
ائتوين ب�سكان اجلبل ..ائتوين بعمرو بن جابر ،وائتوين ب�إينور ،ائتوين
ب�إينور.
فظنَّ �أهله �أنه يهذي ..لكنه ظ َّل ُيك ِّررها وي�صف مكا ًنا يف اجلبل ي�س ُكن فيه
«عمرو بن جابر» وت�س ُكن فيه «�إينور»! ،وكان يغيب عن الوعي فيذ ُكر �أيام لعبه
مع «عمرو بن جابر» يف الدير ،ويغيب فريى «�إينور» وهي ت�أتيه مت�شي و ُتن ِقذه
�سقطة كادت �أن تق�ضي عليه ،ويغيب ويرى الكعبة وك�سوتها ،ثم يفيق ويغيب من َ
فريى نخيل يرثب ،وي�سمع الأحبار ينطقون با�سم «�أحمد» ،ثم يفيق فريى �أمامه
وجها هو �أح�سن وجه ،وعني هي �أجمل عني؛ زرقاء ُيحاكي �صفا�ؤها البحر ،كانت
تنظر له بنظرة تذ َّكر �أين ر�آها �أول مرة ،نظرة فيها من «�إينور» قد �أتت له ُ
70
ينظر لهال�شف َقة واحلنان ما ال ميلكه بني الإن�سان ،و«عمرو بن جابر» بجوارها ُ
بوجهه احل�سن الذي ال ت�شيبه ال�سنني �أبدً ا ،وك�أنَّ ه�ؤالء اجلن ال يهرمون!
تب�سم «�أ�سعد» ملر�آهما و�أدم َعت عيناه وقال: َّ
يا «عمرو» ..وددتُ لو �أن يل مزيدً ا من ال�سنني يف هذه احلياة باق َية،
فكانت عيني هذه لتدمع من جمال ر�ؤياه يا «عمرو».
ع
فابت�سم «�أ�سعد» ونظر �إىل الأعلىحماول �أن يفهمَ .. ً نظر له «عمرو بن جابر»
ص
يف �شيء ُي�شبه الر�ضا ،وقال:
ال ري
�إن ا�سمه «�أحمد» يا «عمرو»� ،أحمد...
ك
�أوم�أ «عمرو» بر�أ�سه ُمواف ًقا ..فقال «�أ�سعد»:
الن�سم ..فلو كان م ّد
ب ت
�شهدتُ على «�أحمد» �أنه ..ر�سو ٌل من الرحمن باري َ
ش
عجم ..وجلعلتُ نف�سي له جنة ..وف َّرجتُ عن عرب ومن َ على الأر�ض من ٍ
ر
�صدره كل َغم ..نبي وجدناه يف كتُبنا ..به الهدى وبه املعت�صم ..ومنا
الت و
قبائل ي�ؤ ُوو َنه� ..إذا ح َّل يف احلل بعد احل َرم.
ز و
يع
ونظر �إىل �إينور وقال:
زمانك زمانه �أن
ِ أ�شهدك بالرحمن يا ذات احل�سن والنور� ..إذا بل َغ � ِ
وهن مني تقرئيه مني ال�سالم ،وقويل له �أن الوجد بحبه قد نالني حتى َ
باجل�سد ف�أعياها ..و�إنها
َ العظم وا�شتعل الر�أ�س �شي ًبا ..وثق َلت الروح
ملغادرة �إىل روح ربها و�سلطانه.
ونظ َر �إىل «ح�سان» فقال له:
فانظر لنف�سك فالزمان زمان ..فلرمبا ح�ضرتَ وفاة �أبيك يا «ح�سان»ُ ..
ذل العزيز ورمبا ..ع َّز الذليل وهكذا الإن�سان. َّ
أغم�ض عينيه با�ست�سالم ..ثم فتحها فج�أ ًة ك�أمنا تذ َّكر �أم ًرا ،ونظر بع ٍني و� َ
واه َنة �إىل «عمرو» ،قال له:
الكتاب يا «عمرو».َ يا «عمرو»..
ف�سكت حلظ ًة ثم قال:َ ً
مت�سائل.. نظ َر له «عمرو»
71
كتاب الراهب «�شافع»� ..إين �أحفظه حتت عر�ش امللك ،فال ي�ضيعن من
بعدي يا «عمرو».
هم «عمرو» �أن يتك َّلم ..لكن قطع احلديث فج�أ ًة �صوت «�إينور»؛ قا َلت: َّ
ال ينبغي ملثله من كتاب �أن يكون حتت العر�ش ..وال ينبغي له �أن يكون يف
تتغي
الق�صر ،ف�إن املمالك مهما طال عهدها ت�سقط ،و�إن نفو�س امللوك َّ
القدر� ،إمنا ينبغي للكتاب �أن يعود �إىل يا «�أ�سعد» ،فال جتعله يف براثن َ
ع
ِّ
دير الراهب «�شافع» ،فيتع َّلم منه املُتعلمون ا�سم الرحمن ِ
وينت�شر.
ريص
ال
نظر «�أ�سعد» �إليها بحنان ،ثم نظ َر �إىل ابنه «ح�سان» وقال له:
اع َهد بالكتاب �إىل «يزن» ..ف�إنه �أح َفظ له من كل �أحد.
ت ك
ثم نظ َر �إىل «�إينور» وقال:
ل ب
تك يا «�إينور» ..فال ي�ضي َعنَّ من بعدي. �إن هذا الكتاب يف ذ َّم ِ
ن ل
ترقرقت عيني «�إينور» بكثري من الدموع والكالم ..ونظر يف عينها وتذ َّكر
ش
ر
تلك العيون الآمنات التي �آم َنته يوما يف العتمة ،و�إنها لت�أمنه اليوم.
الت و
خرجت وم َّرت دقائق من احلزن حتى �أذن اهلل لروحه �أن تفي�ض ..فنازع حتى َ
و
قيم له م� َأت ح�ضرته الأقيال والأذواء وكثري من جموع �سب�أ منه �إىل بارئها ،و�أُ َ
يع ز
وما حولها ،ون َّفذ �أهله و�ص ّي ًة عجيب ًة له؛ فلقد �أو�صى �أن ُيد َفن قائ ًما! ،ولقد تعب
النا�س يف ُماولة حتقيق ذلك حتى �أجنزوه ،فكان الوحيد الذي ُد ِفنَ قائ ًما يف
التاريخ كله!
ونزل الليل على �سب�أ ولي�س فيها «�أ�سعد الكامل» ..ولزم النا�س بيوتهم من
رجل مي�شي حمني الظهر الكرب فلم ُي َر يف �شوارع ظفار ما�ش ًيا وال راك ًبا� ،إال ً
يتلحف بها من فوق ر�أ�سه ،ثم �أح�سر عباءته عن ر�أ�سه حتى بانت مالحمه بعباءة َّ
خارجا منالكريهة ،لقد كان ذلك «�إزب»�« ...إزب بن �أزيب» ،كان ال ًّما عباءته ً
مكان �آخر ،وفتن ٍة �أخرى!
توج ًها �إىل ٍ ظفار ُم ِّ
z
تمت
َّ
z
72
ع
�إين زعي� � ٌم بق�ص ��ة عج ��ب
ص
عن ��دي مل ��ن ي�س ��تزيدها اخل�ب�ر
ال ري
يك ��ون يف الأ�س ��ر م ��ر ًة
ك
خطر رج�ل لي��س ل�ه يف ملوكه�م َ
ت
ُ
ب
مول ��ده يف ق ��رى ظواه ��ر
الت و
و
�س ��نه ويخف ��ى فيه ��م ويحتق ��ر
يع ز
حت ��ى �إذا �أمكنت ��ه �صولت ��ه
ولي� ��س ي ��دري ب�ش� ��أنه َ
الب�ش ��ر
وج ��ل�أ�صب ��ح يف هن ��وم عل ��ى َ
و�أهل ��ه غافل ��ون م ��ا �ش ��عروا
ر�أوا غالما بالأم�س عندهم
�أزرى لديه�م جهلا ب�ه ال�صغ�ر
فار�ش�د فلا ت�س�كن يف خم�ر
ورد ظف ��ار ف�إنه ��ا الظف ��ر
نح�ن م�ن اجل�ن ي�ا �أب�ا ك�رب
ياتب ��ع اخل�ي�ر هاجن ��ا الذع ��ر
73
ف�س�ار عنه�م م�ن بع�د تا�س�عة
�إىل ظف ��ار و�ش ��انه الفك ��ر
فح�ل فيه�ا والده�ر يرفع�ه
يف عظ ��م ال�ش� ��أن وه ��و ي�ش ��تهر
ع
فعب� ��أ اجلي� ��ش ث ��م �س ��ار ب ��ه
ص
مث ��ل الدب ��ا يف الب�ل�اد ينت�ش ��ر
ال ري
قد ملأ اخلافقني ع�سكره
ك
ك�أن ��ه اللي ��ل ح�ي�ن يعتك ��ر
الت و
و
يف علمن ��ا وامللي ��ك ُمقت ��دِ ر
يع ز
واحلم ��د هلل والبق ��اء ل ��ه
كل �إىل ذي اجل�ل�ال مفتق ��ر
�أ�سعد الكامل
74
«عمرو بن جابر بن طارق»« ،و�إينور بنت �آمون» ..كثري من اجلن يعتربونهما من ذوي
الذكر الرفيع ،وكث ٌري �آخرون يعتربونهما من ذوي الذكر املحتقر! ،لكن الأكيد -كما
�سيظهر الح ًقا يف الإي�ستوريجا� -أن وجودهما عالمة ً
فارقة يف تاريخ اجلن.
الإي�ستوريجا هي علم الزمان.
وفرق وطرائق تكون ب�سبب اختالفهم فيما
كل اختالفات النا�س يف هذه احلياة �إىل �أديان َ
كان يف الزمان.
َ
حدث كذا ،والبع�ض الآخر يقول بل حدث كذا؛ فيفرتقوا �إىل عقائد يقول بع�ضهم
ويختلفوا ،ويتحاربوا.
�أما الإي�ستوريجا فهي احلديث احلق ..ما َ
حدث كيفما حدث.
حدث دون حتريف
موكول بها فرق من اجلن ت�شاهد كل �شيء ،وتكتُب كل �شيء كما َ
وت�أويل.
ب�أمر لو�سيفر ..يكتبون وال ُيغادرون حد ًثا يف تاريخ الإن�س.
تع َّلمنا �أن التغيري والتبديل يف الإي�ستوريجا هو املفتاح ملن �أراد َ
للب�ش �أن ي�رضبوا رقاب
منكم يهتَم بتدوين التاريخ بد َّقة يف زمانه ،نحن نن�سيكم هذا، بع�ضهم البع�ض ..فال �أحد ُ
فتتعار�ض كتبكم يف التاريخ ،وتتواىل الأجيال ويختلف الإن�س ويتناحرون ،ويتحاربون
بع�ضا ،لأن جن�سكم ُيزعجنا ،متا ًما كما
ويفنون ،هذا هو الهدف؛ �أن ت�سفكوا دماء بع�ضكم ً
ُيزعج الذباب وجوهكم ،و�إبادتكم بالن�سبة لنا راحة مثل �أن �إبادة الذباب لكم راحة.
تن�سها كما تن�سى ال�ضباع!،�ضع هذه الكلمات يف جانِب من ذهنك بينما من�ضي ..وال َ
و�إن ال�ضباع �ستُخ ِّيم على �أر�ضكم ،بعد �أن �أ�شعل «�أ�سعد» الكامل جذو ًة من نور؛ �ستُخ ِّيم
ال�ضباع من بعده حتى تبتلعكم جمي ًعا.
z
()3
في سبع
قطع من
الزمان
رب تناقل يف العرب البائدين� ..أن امر�أ ًة كانت كالنجم يف الن�ساء الأولني، خ ٌ
زرقاء كانوا ي�س ُّمونها ولي�س ا�سمها زرقاء؛ زرقاء كانت عيونها ،وكل زرقاء عني
يف العرب ُيل ِّقبونها زرقاء ،وكل زرقاء عني عندهم �ش�ؤم لوالدها وتعا�سة ،يئدها
ع
وجع م�ستمر ،يوجعها حديثه وتوجعها يف الرتاب �إن كان له قلب �أو حتيا يف َ
ص
عيونه ،تع َّلم العرب �أن الزرقة من العجم ،ف�إن �أتتهم الزرقاء ظنوا بوالدها
ال ري
الظنون.
رب تناقل يف العرب البائدين� ..أن امر�أة زرقاء مل ت ُكن ك�أي زرقاءَّ ،
ق�ص خ ٌ
ت ك
العرب وح َّدثوا عنها حتى �صار العربي ي�أمل ويبتغي �أن ت�أتيه ابنة زرقاء!؛ �ساحر
وجهها ن�ضرة مالحمها ،ك�أن وجهها يف وجوه القوم قمر ت�سامى فوق كل ال ُ
ب
أجنم،
ش
تنظر بها �إىل �أبعد مما ينظر الب�شر ،يف لها كل �شيء! ،يف ب�صرها ح َّدة �شديدة ُ
ر
ر�أ�سها عقل ك�أمنا نزل من ال�سماء وحده ثم نزلت عقول القوم بعده ،وحولها
الت و
ميامة برية ال تفارقها ،حتط على كتفها كال�صقر تارة وعلى كفها تارة �أخرى،
و
ف�أعطاها القوم نعتًا غري ًبا لكنه يليق بها� ..س ُّموها «زرقاء»؛ (زرقاء اليمامة).
ع
يق�ص على النا�س الق�ص�ص �شاب رحا َلة حلو الل�سان جعد ال�شعرّ ... يوما ٌ بالدها ً
ريص
ويحكيها ،وكان ا�سمه «خرافة» ،خرافة العذري ،وكانت كلما م َّرت عند �سوق
ال
وجدت حوله جمهرة من النا�س ي�ستمعون �إليه! ،فاقرت َبت مرة بكل بهائها املدينة َ
ت�سمع ما يقول.
ت ك
أمر و�إين ورب القمر املنري ل�صادق� ..إين قد �أ�س َرين قال يا قوم �إين ُمدِّ ثكم ب� ٍ
ش ن
�شابت به �شعرات �شابة من ر�أ�سي ،عجيبة كانت هيئاتهم و�شعورهم ،فبينما �أنا
ر
معهم �إذ اختلفوا ما يفعلون بي ،فم َّر عليهم رجل من اجلن فقال ما َل ُكم؟ ،قالوا
الت و
أنت ال تكافئنا..اختلفنا يف �أمر هذا الإن�سان ،قال لهم ف�أ�شركوين معكم ..قالوا � َ
و
قال �س�أحكي لكم حكاي ًة حد َثت معي و�ستعلمون ما هو قدري� ،إين عط�شتُ ذات
يع ز
يوم فنزلتُ لأ�شرب من بئر قريب ف�إذا �صيحة عالية ُميفة �صمت �أذين فهربت!،
علي �صاحب لكن العط�ش �أعادين مر ًة �أخرى �إىل البئر فنزلتُ و�شربت ،فدعا َّ
رجل فحوله امر�أة ..و�إن كانت ال�صرخة اجلني فقال (اللهم �إن كان ال�شارب ً
امر�أة حولها �إىل رجل)! ،فنظرتُ ف�إذا �أنا قد حت ّولتُ �إىل امر�أة! ،وم�ضيتُ �إىل
رجل و�أجنبتُ منه ،وم َّرت ال�سنني وعدتُ �إىل البئر و�شربتُ ... املدينة وتز َّوجتُ ً
رج ًل! ،وتز َّوجتُ
فدعا جني البئر بنف�س دع َوته ،فنظرتُ ف�إذا �أنا قد ُعدتُ ُ
و�أجنبت! ،ف�إن يل ابنان من بطني ،وابنان من ظهري...
ق�صتك عجيبة ،و�إنا �س ُن�شركك معنا يف م�صري ذلك َ قال له اجلن واهلل �إن
الرجل الإن�سان ..و�أ�شركوه معهم ،وتك َّلموا كث ًريا حتى انتهوا �إىل �أن يرتكوين
�أم�ضي �إىل حال �سبيلي ،كان عامل اجلن عجي ًبا جدً ا ومليئا بالغرائب ،و�إن عندي
كثري من احلكايا عنه.
كان النا�س يتج َّمعون حول خرافة وي�سمعون له غري ُم�صدِّ قني ،لكنهم ُيح ُّبون
طريقته وطرافة حكاياته ومل ُي�ص ِّرحوا بعدم ت�صديقهم ...وبرز بني املجتمعني
82
يتلحف بعباءة �سوداء رج ٌل م�ألوف ،بدا �أن احلديث عن اجلن قد �أعج َبه؛ رجل َّ
وعلى وجهه الدميم ب�سمة �أ ِلفناها�« ،إزب بن �أزيب» ..و�إن وجوده يف حا�ضرة من
ينظر �إىل «خرافة» وهو يتح َّدث عن اجلن احلوا�ضر ال يتبعه �إال الباليا! ،كان ُ
وعيونه ال�شيطانية تلمع من ال�سخرية ،لكنه �صمت وا�ستمع مع ال�صامتني الغري
يجد النفاق �إليه ً
�سبيل ..كان ُم�صدِّ قني ،ثم برز من بني ال�صمت وجه بهي مل ِ
وجه زرقاء اليمامة.
ع
برزت خلرافة من بني وجوه النا�س وقا َلت له:
ريص
ال
لكاذب يا هذا ،كاذب وذا عقل خمتل �أحمق. واهلل �إنك ِ
نظر لها «خرافة»� ..إن املالئكة بنات اهلل �إذا نز َلت لن يكن �أجمل من هذه
ت ك
و�صمت ومل يتك َّلم! .فنظرت �إىل عينيه وارتباكه وخجله؛ كانَ الغادة ال�صبوحة!،
ب
يف عينه براءة طفول َّية �أح َّبتها؛ براءة مل تل َم�سها يف بني الإن�سان ،رمبا مل�ستها
ش
بنظره مب ُهوتا!
وم�ضت �إىل طريقها ،وتابعها هو ِ
و ر
خطب اليمامة ،وكان حد ًثا يف مت�ض �شهور ي�سرية �إال و«خرافة» قد ومل ِ
الت
َ
َ
و
البالد عظيم ..ثم نزلت على �أهل البالد م�صيبة جعلت تدور فيها ر�ؤو�سهم
يع ز
وت�سيل فيها دما�ؤهم؛ م�صيبة عظمى جاءتهم من حيث ال ي�ستطيعون لها ردًا،
جاءتهم من فوقهم ،من م ِلك ظامل كان على بالدهم ُيدعى «عمليق» ،جبار من
فحكم فيهم ُحك ًما مل يح ُكمه
جبابرة العرب البائدين ..غ�ضب عليهم ذات يوم َ
قبله طاغوت على بالده وال �شيطان! ،وظهرت بوادر نفثات �إزب.
z
كانوا قبي َلتني يف «جو»؛ ط�سم وجدي�س ..امر�أة من جدي�س �أغ�ض َبت امللك
حكم �أال تتز َّوج امر�أة من جدي�س �إال
فغ�ضب امل ِلك وحكم؛ ََ ب�ش ٍعر قا�س،
وهجته ِ
َ
ويدخل هُ و عليها قبل زوجها! ،و�إذا رف�ضت ُتقتَل و ُيقتَل زوجها! ،و�إذا َ
انف�صل
حلكم ُيقتل الزوج وت�ؤخذ الفتاة جار َية عند خطيبني قبل زواجهما تفاد ًيا لهذا ا ُ
امل ِلك! ،ولقد كانت اليمامة �أ�شهر خمطوبة يف ذلك الوقت ،وكانت من جدي�س.
كل يوم ُمير على جدي�س كان يوم عار ..ت�أتي جنود امللك لت� ُأخذ فتاة ا�شتُهر
بني النا�س �أنها خمطوبة ،وال تقدر هي وال زوجها وال �أهلها على الع�صيان
جلند على بيتهاونزل ا ُ
وال�سالح مي�س رقبتها ...حتى �أتى يوم زرقاء اليمامةَ ،
83
و�ساقوها.
ابدي بعمليق وقومي واركبي
وبادري ال�صبح لأمر ُمعجب
ف�سوف تلقني الذي مل تط ُلبي
ع
وم ��ا لبك ��ر عن ��ده م ��ن مه� � َرب
ص
وفج�أ ًة بر َز «خرافة» للجنود بع�صا يحمِ لها ُيدافع بها عن التي اختارها قلبه..
ال ري
وحتى يف دفاعه كان بري ًئا؛ فخرج ي�صيح ويرفع الع�صا ولي�س ُيح�سن ً
قتال وال
مح انغر َز يف ظهره و�أدماه و�سالت دما�ؤه وقب َلها خطة! ،فرماه �أحد اجلنود ب ُر ٍ
ك
َ ُ
ت
دموعه التي ر�أتها الزرقاء يف عينه قبل �أن ميوت ...و�أخذت الزرقاء �إىل ق�صر
امللك العمليق.
ش
�أرجائها ،يهتز ج�سدها من �أثر معركة يبدو �أنها انت َهت بانتهاك �شرفها،
و ر
وارجتفت مالحمها تود البكاء لكن عزمية بداخلها �أم�س َكت نف�سها ،وم�شت حتى
الت
�أتت نادي قومها بني جدي�س ،ف�سكتوا عن كل حديث ملا ر�أوها ،دامي ًة مالب�سها
ز و
وعيونها دامية ،مل ت ُعد ترى زرقة العني من حمرة القهر ...قال يا جدي�س �إنكم
يع
لأذل �أهل الأر�ض يف الأر�ض ،و�إنه لي�س يف العرب قوم �أذل منكم� ،أ ُت�ؤتَى ن�سا�ؤكم
و�أنتم رجال هاهنا تقعدون؛ رجا ٌل كح َّبات الرمل ال �ش�أن لهم وال َوزن؟ � ّ
أتزف
العرو�س يف نهارها وتنت َهك يف ليلها! ،ولو �أننا كنا رجاال وكنتم ن�سا ًء لكان �أكرم
ك�شف! ،واهلل �إن لكم ،مت�شون تختالون كم�شية الرجال ودماء ن�س َوتكم ت�ؤتَى و ُت َ
جدي�س لأذل �أهل الأر�ض ..واهلل �إن جدي�س لأذل �أهل الأر�ض.
ف�إن �أن ُتم مل تغ�ضبوا بعد هذه
فكونوا ن�سا ًء ال تغب عن الكحل
ودون ُك ��م طي ��ب العرو� ��س ف�إمن ��ا
ُخلق ُتم لأثواب العرو�س وال ُغ�سل
فل ��و �أنن ��ا كن ��ا رج � ً�ال و�أنت ��م
ن�س ��ا ًء ل ُك َّن ��ا ال ُنقي ��م عل ��ى ال ��ذل
84
و�س ��ح ًقا لل ��ذي لي� ��س داف ًع ��ا ف ُبع ��دا ُ
ويختالمي�شيبيننام�ش َيةالفحل
فموت ��وا كِرا ًم ��ا �أو �أميت ��وا عد َّو ُك ��م
وادنوالناراحلربباحلطباجلزل
النا�س وحمي الرجال وتدافعوا �إىل ال�سالح ..وقال �أعقلهم يا بني ُ فثار
ع
جدي�س �إنكم �إذا ُقمتم اليوم �إىل عمليق لتقاتلوه ف�إنه واهلل قاتل ُكم و ُمبيدكم
ريص
بجنده و�سالحه ،ف�أقيموا ولي َم ًة فادعوه لها وادعوا لها كرباء ط�سم ،ثم اقتلوهم
ال
غيل ًة واقطعوا ر�ؤو�سهم ،ويكون لكم الأمر من بعدهم ...وفك َّرت جدي�س وق َّدرت،
وق َّر َرت ،وكانت مذبحة.
z
ت ك
ن ل ل ب
َق�صر بلقي�س ..مملكة �سب�أ العظمى ،ومليكها ح�سان بن �أ�سعد الكامل ..قالوا
ش
رجل �أ�ش َعث من وعثاء ال�سفر جاء يريدك ويقول �أنه من له يا م ِلك �إن على الباب ُ
ر
ط�سم ،ومعه كلب يعرج عرجة �شديدة ...قال ائتوين به.
الت و
و
فلما �أتاه الرجل قال:
يع ز
يا م ِلك� ..أغثنا ف�إن �إخوتنا من جدي�س قد �أغاروا علينا فذبحوا كرباءنا
وذبحوا امللك ب�ضربة واحدة ،ولقد �سطوا على حكم البالد...
قال امللك لأقياله و�أذوائه:
�أفتوين يف �أمر ط�سم وجدي�س.
قالوا له:
يا �أيها امللك ،ما َلنا بهم ..فليغريوا على �أنف�سهم ،ما �أبعدهم عنا.
قال الرجل من ط�سم:
وانظر �إىل عرجة كلبي هذا؛ ف�إن كنا بعيدً ا ما بل نحن قريب يا م ِلكُ ..
كان قد َر على املجيء معي بهذه العرجة!
امللك عن كالم �أقياله و�ص َّدق كالم الرجل ..وعزم �أن َّ
يتدخل وينتقم �أعر�ض ُ
تب�س َم الرج ُل من ط�سم ب�سم ًة
لط�سم هذه؛ ف�إنه ال ي ُرد �أحدً ا ا�ستغاث به �أبدً اَّ ..
85
يدخل �إىلخفية ،ونظر �إىل عرجة كلبه ،ف�إنه قد ك�سر قدم هذا الكلب قبل �أن ُ
لي�ست بعيدة. امللك؛ لرييه �أن البالد َ
امللك بنف�سه على ر�أ�س جي�ش كبري �إىل «جو» ..ويف الطريق قال له وم�شى ُ
ذلك الرجل من ط�سم:
بجي�ش على بالدنا عرفنا مبجيئه قبل �أيها امللك� ..إنا كنا �إذا جاءنا غاز ٍ
ع
باغتناه و�أحلقنا به الهزمية ،فلم تقدر �أن ي�أتي بثالثة �أيام ،ف�إذا جاء َ
ص
امللوك على دخول بالدنا �أبدا.
ال ري
قال امل ِلك:
وكيف تعلمون قبل ثالثة �أيام؟
ت ك
لدينا امر�أة كاهنة زرقاء من بني جدي�س ..لها عني ك�أنها عني الآلهة!،
ن
�سرتانا من على َت َّلتها و�ستُب ِّلغ قومها ،و�سريهقوننا.
ر ش تب�سم امل ِلك «ح�سان» وقال وهو ُيخفي �أمرا: َّ
َ
الت و ُ
و
كاهنتك �سندخل على جدي�س بكل رجالنا وعدتنا هذه ولن ترانا بل
ز
الزرقاء ولو اتخذت �س َّلما يف ال�سماء.
يع
امللك خدع ًة عجيبة� ..أمر الرجال �أن يقطعوا ال�شجر ال�صغري من ن َّف َذ ُ
جذوره ،ثم يربطوا ال�شجر على بطون اجلياد ،و�أن مت�شي اجلياد ب�أ�شجارها
ُمتال�صقة يف اجلي�ش! ،فيبدو للرائي من بعيد �أن هذا لي�س ً
جي�شا؛ و�إمنا هو
جمموعة من الأ�شجار! ..وملا اقرتب اجلي�ش� ،أمرهم امللك �أن مي�شوا ب ُبطءٍ
�شديد حتى ال يلحظ الرائي حر َكتهم فريى غابة من الأ�شجار وال يفطن �أنها
تتح َّرك ببطء وتقرتب منه!
فعل اجلنود �أوامر امللك ..وكانت الطيور تطري فوق �أ�شجار اجلنود وحتط
تنظر �إىل الأفق يفعليها بال خوف ،وكانت زرقاء اليمامة جال�سة مع ميامتها ُ
فقدت من عر�ض ،وتذكر «خرافة» وم�شهده الأخري ...ونزلت ُحزن ،تذ ُكر ما َ
تكث فيها الأ�شجار ،اقرتب حتى من عينها الدموع ..واقرتب اجلي�ش من جهة ُ
�أ�صبح يف مرمى عيون اليمامة ،لكنها مل تنت ِبه ،ثم فطن عقلها من طول جل�ستها
86
ل�شيء غريب! ،وقفت الزرقاء على التل وم�سحت دموعها و�ض َّي َقت عينها؛ هذه
الأ�شجار� ،إنها تتح َّرك ،هذه الأ�شجار �آت َية �إلينا.
وم�ضت �إىل قومها يف عجالة ..وقالت يا قوم �إين ر�أيتُ الأ�شجار ت�أتي �إلينا.. َ
نظر قومها �إليها يف ُ�سخري ٍة وجتاهلوا قولها ،ثم ذهبت يف اليوم التايل و�صعدت
التلة ونظرت فر�أت �شيئا �أعجب ،فهرعت �إىل قومها وقالت �أنها ترى الأ�شجار
ب�شر ..ف�سخ َر قو ُمها منها ُ�سخري ًة �أ�شد من �سخريتهم الأوىل ،ومل يلبثوا خلفها َ
ع
فحطمهم وقتل بجنده و�سالحه َّ من ليلتهم هذه �ساعة �إال دخل عليهم «ح�سان» ُ
ريص
كرباءهم.
ال
خ ��ذوا حِ ذرك ��م ي ��ا ق ��وم ينفعك ��م
ت ك
فلي�س ما �أرى بالأم�س يحتقر
ر
z
الت و
و
يف خيم ٍة على �أعتاب «جو» ..فيها امللك «ح�سان بن �أ�سعد الكامل» ،دخل
يع ز
جلند عليه بامر�أة زرقاء ،فنظر ف�إذا هي اجلمال ُم َّ�سدً ا يف امر�أة ،والقهر يف ا ُ
عينها واحلزن �أهل َكها! ،قال لها:
وعينك يا زرقاء.
ِ قد �أتينا برغم �أن َف ِك
قالت له:
وحذرتُ قومي لكنهم �صموا �آذانهم �إين ر�أيتُكم ت�أتون حتملون الأ�شجار َّ
حلزن �أ�ضعف عيني. وقالوا �أن ا ُ
و�سن�ستخدمك يف بالدنا� ،أما بالدك هذه فلن
ِ �أما نحن ف�إنا �س ُن ِ
كرمك
يكون ا�سمها «جو» بل �سيكون ا�سمها اليمامة ،على ا�سمك.
مزقنَّ عيني هذهلديك جار َية! ،واهلل �إين لأُ ِّ
وتظن �أين َ قتلت كرباء �أهلي ُ َ
لئال ي�ستخدمني قا ِتل قومي.
غ�ضب امللك «ح�سان» وقال:
87
جلند خذوا طوي َلة الل�سان فاذهبوا بها �إىل خي َمة «مزيقياء» �أمري �أيها ا ُ
فلي�ستخدم ب�صرها يف مراقبة ال�سد والعناية ِ م�أرب فتكون جار َي ًة عنده
ولتنظرنَّ لنا من �أتانا و�أراد بنا �ش ًّرا.به ،ولت ِق َفنَّ على �أعايل ال�سد ُ
ودخلوا بها �إىل «مزيقياء» ُمكفه َّرة الوجه ..و«مزيقياء» �شيخ كبري َ�س ْمح
ب�صوت خفي�ض ،وظ َّل َّ
يتحدث ٍ تب�س َم ملا ر�آها ،ثم دعاها وحت َّدث لها الوجهَّ ...
�إليها حتى �ضح َكت ،مل يعرف احلرا�س مل �ضح َكت هذه الفتاة العنيدة بعد
ع
جل�س ٍة واحدة مع «مزيقياء»! ،قال لها:
ريص
يا زرقاء� ،إنا ما َد َرينا بالأمر ال�شنيع الذي فعله العمليق في ُكم ..قد
ال
�أتانا من عند ط�سم رجل يتباكى عند امل ِلك ،ومل ُن ِقر امللك على ما فعل،
ك
و�إنه ل�شاب فيه َطي�ش ،لي�س مثل �أبوه �أ�سعد الكامل العظيم ،لكن �أخوه
ت
عقل ،و�إنك لت�سمعني غدً ا خ َرب قتل «�شرحبيل» �أق َرب لوالده و�أكمل ً
ن
فل�ست جاري ًة لأحد ،كوين
ش
أنت ِ «مزيقياء» لأجل من مات من �أهلك� ،أما � ِ
ر
م�سموعة الر�أي؛ فلقد �سمعنا عن ب�صريتك َ معي و�ستكونني فينا عظيم ًة
الت و
وفطنتك ...ثم قال لها:
و
ما ا�سمك يا زرقاء؟
ال ري
حتتها يجري ملُ�ستق ٍّر له والثمار من فوقها دان َي ًة على الأ�شجارُ ...
�ستظنّ �أنك
مكان واحد! ،لكنها مل ت ُكن
ُت�شاهد لوح ًة تعمد را�س ُمها �أن يح�شد كل اجلمال يف ٍ
ت ك
لوحة؛ لقد كانت �سب�أ ،لي�ست جن ًة واحدة ،بل جنتني عن ميني و�شمال� ...صنع َ
�أه ُلها هذا ال�سد الهائل قبل �أكرث من �ألفي عام ،و�أجروا له قنوات كالأنهار جتري
م�شيت
َ
ن ل ل ب
فرت ِوي ،ف�صارت جنتني عظيمتني يف �سب�أ فيهما من كل �شيء ،حتى �إذا
ش
ت�ساقط عليك من ثمارها الأ�شجار! ..وجاءت �سب�أ مغامن كثرية َ وعلى ر�أ�سك �س َّلة
ر
من فتوحاتهم يف بالد اجلزيرة ..ف�صار الأمر �إىل غنى بال فقر وثمار حلوم
الت و
وتتعجب ،انتهى عجبها ب�سحر وطيور ال نهاية لها ،وكانت زرقاء اليمامة مت�شي َّ
و
تعجب ممن ي�سكنون فيها؛ فلقد ا�ست�ش َرت فيهم رغبة فا�سدة أ�صبحت َ البالد و� َ
يع ز
�أثارت حنق اليمامة!
جتا ُرهم و�أقيالهم و�أذوائهم �أن جتارتهم تبور دائ ًما ..ف�إن وجد كربا�ؤهم و َّ
ط ُرق التجارة بني اليمن وال�شام �آمنة وعامرة بالقرى اخل�ضراء امل�سكونة،
وتي�سر واخلو�ض يف طريق التجارة �سهل لكل من يريد ،وكلما َ
�سهل �أمر الطريق َّ
نق�صت �أثمان الب�ضائع التي يبيعها التجار؛ فا�ست�شرى وكرث عدد التجار ،كلما َ
متباعدة وغري
بني التجار وعلية القوم �أمنية عجيبة ،متنوا �أن تكون طرقهم ِ
�آمنة! ،فال يخو�ض فيها �إال كبار التجار؛ فيزيدون يف �سعر ب�ضائعهم طم ًعا من
عند �أنف�سهم وج�ش ًعا ...كانت اليمامة ال تفهم كيف ُيف ِّكر بع�ض بني الإن�سان،
�أيريد �أحد �أن يبدل هذه اجلنات الن�ضرة! ،ثم توقفت اليمامة فج�أ ًة عن امل�سري!،
َ
وانده�شت. ونظرت �أمامها
ر�أت جمموعة من الريابيع واقفني على �أرجلهم منت�صبني ي�ضعون �أياديهم
على �أعينهم كل حني! .والريبوع حيوان ُي�ش ِبه الف�أر بذيل طويل ،فتو َّق َفت ُ
تنظر
م�شت فر�أت �سلحفاة ُمنقل َبة على ظهرها ال تقدر على االعتدال فتحثو �إليهم ،ثم َ
89
وتقذف بالبول من مثانتها! ،ونظرت فر�أت �أ�صنا ًفا الرتاب على بطنها وجنبها ِ
من احليوانات ُتغادر �أماكنها يف غري موعدها! ،وهي التي تفهم احليوان �أكرث
من فهمها للب�شر ،ثم ات�سعت عينا اليمامة اجلميلتني يف ُرعب!؛ �إن هذا ال يعني
�إال �شي ًئا واحدً ا؛ هذه احليوانات� ،إنها ُتغادر ه َر ًبا من كارثة! ،ال�سلحفاة ال تنق ِلب
على ظهرها وتبول على نف�سها �إال ُرع ًبا من �شيء ،والريبوع ال ي�ضع يده على عينيه
ريح ك�أنها قد لب�سها �شيطان! ،ونظرت �إال ُرع ًبا ...ثم ر�أت الأ�شجار تهتز من غري ٍ
ع
اليمامة حولها وفه َمت كل �شيء ،ثم انطلقت كال�سهم �إىل الأمري «مزيقياء».
ريص
وكان عند ال�سد رجل وزوجته ينظران �إىل ال�سد والدواب التي ت ِفر ..وكان
ال
ن�صيب وا ِفر من الو�سامة؛ «عمرو بن جابر» وزوجته «�إينور» ...نظر «عمرو» ٌ لهما
�إىل زرقة عيني زوجته وقال لها� :أفهمت ِكما فه َمت اليمامة يا «�إينور»؟
ش
متى!
و ر
قالت له :متى ماذا؟
و الت
نظ َر �إىل ال�سماء ومل ي ُرد!
يع ز
وكان «مزيقياء» يف ج َّنته التي بجوار ال�سد ..فدخ َلت اليمام ُة عليه وقا َلت:
والنور والظلماء ..والأر�ض وال�سماء� ..إن ال�شجر لتالف ..و�سيعود املاء ملا
كان يف الدهر ال�سا ِلف.
تعجب ف�أكم َلت:نظ َر لها يف ُّ
داهية ركي َمة ..وم�صا ِئب عظي َمة لأمور ج�سي َمة.
قال لها� :أو�ضحي يا ظري َفة.
قالت� :إن بيننا وبني هالك هذا ال�سد �أ َوان ي�سري.
انده�شت عيناه وقال لها:
ما تقولني؟ �إن هذا �س ٌّد قائم ال يهتز منذ �ألفي �سنة.
فانتظر هالكه يف �سبع قطع من الزمان تن ُق�ص �أو تزيد! ِ
90
يا زرقاء �إن التبع «�شرحبيل» قد �أمر رجاله منذ �شهور بال�سد يعنون به؛
فهم قائمون عليه بكرة و� ً
أ�صيل.
�إين �أعلم ما ترى عيني ..و�إن بناءكم هذا لها ِلك ،و�إن كل جنة يف �سب�أ
�إىل زوال!
دارت الدنيا حول «مزيقياء» ..وهو �أمري م�أرب ومالك اجلنان حول ال�سد
ع
والأرا�ضي� ...أت�صدق زرقاء العيون �أن بناء ُم�ش َّيدً ا كهذا ي�سقط وينهار!،
ص
وح�سم «مزيقياء» �أمره فلم ُمتر عليه لي َلة �إال وقد �صدرت �أوامره �إىل بنيه
ري
و�أحفاده و�إخوته وع�شريته �أين راح ٌل من �سب�أ؛ فاجمعوا رحالكم وبيعوا �أر�ضكم
ال
بع�ضهم وبقوا ،ونزل معه كثري ،فكان ممن نزل معه ولده وجناتكم ...فعار�ضه ُ
ك
و�أبناءهم ون�ساءهم ،ونزلت معه الزرقاء ،وهي حتمل على ذراعها اثنني من
ت
�أحفاده�« ،أو�س» و«خزرج» ،وكانا �صغا ًرا يف ا َملهد.
ش
الرحمن قد ارتفع ذكره يف هذه الدولة يا «�إينور» ..ودول الأر�ض كلها يرفعون
ر
و�صلبانهم ،و�إن الرحمن �سيد ُُّك هذه الدولة د ًّكا! ،ثم �شرد ب�صره يف �أ�صنامهم ُ
الت و
ال�سماء وقال :متى ..متى ي�أتي �أحمد يا «�إينور» ،متى ي�أتي املُخ ِّل�ص ،من �أي ٍ
بلد
و
يخ ُرج ،قد علمنا �أن يرثب مهاجر له بعد حني ،لكن من �أين يخ ُرج؟ ومتى؟ متى
يع ز
يا رحمن! ،الإميان يف ميان� ..أفهو خارج من اليمن؟ ثم ا�ستدار وقال لإينور� :إنا
راحلون يا «�إينور» ..ف�إن فا�ض هذا املاء ف�إنه يغ�شى م�ساكننا وم�ساكن اجلن.
مت�سائل! ،قالت له :هل ن�سيت الكتاب ً مل ت ُرد عليه «�إينور»! ،فنظر لها
يا «عمرو»؟ ماذا �إن هل َكت هذه القرية وتف َّرق �أهلها وهاجروا كما هاجر بنو
«مزيقياء»؟ �إين واهلل ال �أخرج من هنا مادام ذلك الكتاب هنا.
قال لها «عمرو» :يا «�إينور» يا ذات احل�سن� ..إن ذلك الكتاب مع بني يزن،
و�إنهم له حافظون.
قالت :ف�إين مع بني يزن قائمة ال �أبارحهم.
الحق بركب «مزيقياء»؛ ف�إين وجدتُ فيهم �إميا ًنا قال «عمرو»� :أما �أنا ف�إين ِ
مل �أجده يف �سواهم ،وموعدنا بعد ح ٍني يا «�إينور»...
ومال عليها ف�ض َّمها �إليه ..ثم نظر �إىل جمالها نظر ًة �أخري ًة ،ثم دار على َ
عقبيه وح َّلق بعيدا الح ًقا بركب بني «مزيقياء».
91
وبعد �ستة �أيام �سمع النا�س �ضجيج الأر�ضَّ ..
فكذبوا �آذانهم ،ثم �أ�س َمعتهم
النا�س فزعى
أر�ض مزيدً ا من �ضجيجها واهتزَّت من حتت �أقدامهم ،وخرج ُ ال ُ
وت�ش َّققت عليهم بيوتهم ،ثم ت�ش َّقق ال�سد ،وح�ضرت نذر الكارثة ،و�أثقل املاء
على جدار ال�سد وت�س َّلق يريد اخلروج ،وهرب النا�س والدواب والأر�ض توقعهم
�إليها ...حتى دكت �أ�صول ال�سد د ًّكا وانهدمت من كل مكان ك�أن مل ي ِع�ش ع�شر
�سنني! ،و�أغار املاء على �سب�أ و�أهل �سب�أ مبا كفروا ب�أن ُعم ربهم؛ جنات من
ع
فوقهم و�أنهار حتتها جتري ،رغبوا بها ً
ص
بدل كف ًرا من عند �أنف�سهم! ،ف�أبدلهم
ري
أكل َخ ٍ
مط و� ٍأثل و�شيء من ِ�سد ٍر قليل ...و�سقطت ربهم جنتيهم بجنتني ذواتي � ٍ
ال
مملكتهم وا�ستق َّلت عنها كل �أقطار اجلزيرة ،ومتزَّقوا يف الأر�ض وهاجروا منها
ك
و�ساحوا هنا وهناك! ،وكانوا هم العرب الذين يعرفهم التاريخ با�سم العرب،
ت
�أقام كل فريق منهم يف �أر�ض من �أرا�ضي اجلزيرة ،ولقد هلك من كان قبلهم
ن
�إال ً
ش
قليل!
ر
z
الت و
و
رحلة طويلة �شاقة ملحم َّية ..بد�أت من م�أرب اليمن �إىل مكان جمهول،
يع ز
«مزيقياء» وبنيه وما معهم من الأموال والأنعام واجلنود والعز الذي انهدم
مع انهدام ال�سد وبقي يف قلوبهم وعيونهم ،ثالثمائة �إن�سان �أو يزيدون ومعهم
زرقاء اليمامة ي�ستد ُّلون من ب�صريتها على �أر�ض يقيمون بها ...وكانوا ك َّلما
أر�ض هادنهم �أهلها ثم اختلفوا واقتتلوا معهم فينت�صر بنو «مزيقياء» ثم
نزلوا ب� ٍ
يكرهون املكوث بالأر�ض فينتقلون منها �إىل غريها ،وقبل ذهابهم من كل �أر�ض
كان يتخ َّلف منهم فريق يعي�ش وي�ستقر يف تلك الأر�ض ويعلو �ش�أنه فيها ،فمن عك
�إىل همدان �إىل عمان �إىل مكة ثم �إىل ال�شام ...ومات «مزيقياء» يف عك فخلفه
بنوه واحدا تلو الآخر ،ويف ال�شام اقتتلوا مع الروم ً
قتال عظي ًما �أ�شد من كل ما
كان قبله! ،وبقي منهم فريق يقاتل يف ال�شام وهاجر الباقني منهم �إىل ذات
النخيل؛ هاجروا �إىل يرثب.
وقبل يرثب َ
�سقطت زرقاء اليمامة� ..سقطت ويف عينها بحر من الذكرى ُمي ُّر
عليها ك�أنه قد كان بالأم�س كله قد حدث ،وحولها بنو مزيقياء ينظرون �إليها،
قوما �شدادًا ال ي�أتي عليهم �أحد �إال انتقموا منه! ،ونظرت بعينها تبحث عن
كانوا ً
92
ال�صبيني ،ثم ظهرا لها من بني الزحام «�أو�س» و«خزرج» ،ت�أ َّملت فيهما ً
قليل ثم
�أخذتها �سكرات املوت فماتت يف حملها وهي ناظرة �إليهما.
الركب الكبري �إىل البلدة التي كانت منتهى الرحلة الطويلة يرثب..ُ وانطلق
وكان فيها يهود من كل �صنف وقبيلة ،ومل يتح َّمل بنو مزيقياء معا�شرة اليهود
فا�شتعل بينهم وبينهم القتال ،وا�ستعان اليهود باليهود ،ف�أتت جحافل يهودية
من ال�شام ومن خيرب ،وانهزم بنو مزيقياء وبعثوا �إىل اليهود يطلبون ال�صلح
ع
طرف من �أطراف �أر�ض يرثب.على �أن ُيقيموا على ٍ
ال
ثقيل على نفو�س بنو مزيقياء؛ ف�إن اليهود كانوا يفر�ضون عليهم
� ً
أموال و ُي�ض ِّيقون عليهم يف املاء ويف كل �شيء! ،وكرب «�أو�س» و«خزرج» و�صار لهم
ك
بنني وقبيلة ،وعا�ش الأو�س واخلزرج يف م�ش َّق ٍة من العي�ش وتوا َلت �أجيالهم يف
ت
يرثب ،وم َّل «عمرو بن جابر» من متابعتهم؛ خا�صة �أن كث ًريا منهم قد انقل َبت
ش ن
عازما على مكان �آخر قد يجد فيه بذور �إميان دين الرحمن ،فا�ستدار «عمرو» ً
ر
َّ
�أف�ضل من هذه ،لكن «عمرو» تو َّقف حمله! ،فلقد ر�أى ما جمد قدمه وذكره مبا
الت و
قبيحا يف عباءة قامتة ،مي�شي يف الدروب قا�صدً ا مو�ض ًعارجل ً ال يحب ،ر�أى ً
و
معي ًنا؛ �إزب القميء ال�شيطان ،و�إن ر�ؤيته تعني �أن كارثة حد َثت �أو �ستحدُث
ي ز
ب�شكل ما!؛ فبقي «عمرو» يف يرثب.
خرج املنادي يف يرثب ...يا بني �إ�سرائيل �إنَّ املُلك اليوم �صارعللفطيون
z
عظيم بني ثعلبة ،وكان «الفطيون» هذا راهب �سوء ،ح َكم يف اليهود ُحك ًما (�أال
فتح�صل لها بذلك بركة ُ تتز َّوج امر�أة يف يرثب �إال ُ
يدخل بها هو قبل زوجها،
الراهب) ،ومال الأو�س واخلزرج على بع�ضهم� ،أتذكرون اليمامة الزرقاء ،لقد
أوقدت حر ًبا �أبيدت فيها ر�ؤو�س كبار قومها« ،ط�سم» و«جدي�س» ...لكن �أولئك � َ
كان عمليق متج ًربا عليهم طاغ ًيا� ،أما ه�ؤالء اليهود ف�إنهم يقدمون حلاكمهم
العذارى طواعية ،بئ�س اجلوار جوارهم.
حكم «الفطيون» �أن قراره يف اليوم التايل �أتى اخلرب الذي �أ�ش َعل كل �شيءَ ..
ي�سري على كل من ي�س ُكن يرثب؛ والأو�س واخلزرج ي�سكنونها! ،فبنات الأو�س
يدخل بهن قبل �أزواجهن ،و�إن �أعر�ضوا ف�إن «الفطيون» واخلزرج ِح ّل للفطيون ُ
اقتالعا.
ً بجنود ال َ
قبل لهم بها فيقتلعهم من يرثب ٍ ي�أتيهم
93
زواج �شديدبيوم واحد قد �أعلنوا عن ٍ امل�شكلة �أن اخلزرج كانوا قبل هذا ٍ
الأهمية؛ زواج �أخت كبريهم «مالك بن العجالن».
واختلف كبار الأو�س واخلزرج� ..أن ُنحارب اليهود مبا فينا من �ضعف� ،أم
نرتُك لهم الديار! ،ومل يبقَ �سوى �أيام على موعد الزواج املُع َلن.
�إن هذا الزواج �سي ِتم ،لكننا �سن� ِّؤخره �شه ًرا واحدً ا ،و�سندعو له كرباء
ع
اليهود � ً
أي�ضا.
ص
كان هذا «مالك بن العجالن» يتك َّلم عن زواج �أخته ...و�سكت اجلميع ونظروا
ال ري
له يف َح َنق! ،ظهر على وجهه كهيئة ابت�سامة ،ثم �أخربهم ب�أمو ٍر �أعج َبتهم� ،أمور
رمبا ُت ِّغي كل �شيء.
ت ك
و�أقيم حفل الزواج بعد �شهر ..وح�ضره كبار الأو�س واخلزرج وكبار اليهود،
ل ب
وتز َّينت يرثب بزينة الفرح ،وز َّفت الن�ساء �أخت مالك العجالن �إىل بيت
ن ل
«الفطيون» ،وانفتح باب بيت «الفطيون» الكبري ،ودخلت الن�س َوة مع العرو�س
ش
ولوعة ،حتى �أن بع�ض جواري «الفطيون» ُيهدِّ ئن من روعها؛ فقد كانت يف انهيا ٍر َ
و ر
�شاركنَ يف تهدئتها ،ثم ظهر «الفطيون» ،رجل يف ج�سده �ضخامة ويف حل َيته
الت
طول بال تهذيب ،و ُكح ٌل كثيف حول عينه جعله �أ�شبه بال�شيطان ...كان ِ
و
يبت�سم
يع ز
يف �إذالل للعرو�س ،ويقرتب منها يف طمع ،ثم م َّد يده لي�ضعها على كتفها فارت َّدت
�إىل الوراء مذعورة ،فات�س َعت عيناه �إرعا ًبا ،وتق َّدم لي�ضع يده عليها يهدئها،
والتقطت �أذناه �صوت ًا غري ًبا.
مل يجد وقتًا ملعرفة ال�صوت ..فقد طارت رقبته وتدحرجت ر�أ�سه على
الأر�ض ك�أنها قلن�سوة! ،ونظرت اجلواري ف�إذا هناك �سيف قد ا�ستل ،ومن �س َّلته
هي واحدة من الن�ساء الالتي دخلنَ مع العرو�س! ،وكانت تغطي ر�أ�سها ُمنتقب ًة،
ثم رفعت غطاء ر�أ�سها ،مل ت ُكن �أنثى! ،بل كان «مالك بن العجالن» نف�سه؛ �أخو
العرو�س.
هاج اليهو ُد يف يرثب وق َّرروا �أن ي�ست� ِأ�صلوا الأو�س واخلزرج عن بك َرة �أبيهم َ
ولي�ستعينن يف ذلك بيهود خيرب ويهود ال�شام ..لكن فج�أ ًة نزل على اليهود ٌ
جيو�ش
من كل �صوب! ،ما يدرون ما ه�ؤالء ،نزلوا ب�أ�سلحتهم وخيولهم فقتلوا يف اليهود
قتل عظي ًما ،كان ه�ؤالء هم الأو�س واخلزرج الذين كانوا يف ال�شام ،انطلق ً
متاما يف«مالك بن عجالن» �إليهم قبل �شهر ،و�أعل َمهم مبا ُيريد ،ثم دخلوا ً
94
الوقت الذي ُق ِتل فيه «الفطيون» ،و�صارت الأو�س واخلزرج قو ًة يف يرثب ،ونزح
ري ممن كان يف ال�شام من الأو�س واخلزرج �إىل يرثب وا�ستق ُّروا فيها ،و�أ�صبح
كث ٌ
اليهود فيها م�ست�ضعفني.
z
أالزلت ت�ضع هذه اللثامة يا «عمرو بن جابر»؟ �أالزا َلت الندبة ظاه َرة � َ
ع
فيك؟
ص
بك �إىل هذه البلدة يا «�إزب»؟ ما الذي جاء َ
ال ري
أنظر يف �صدور النا�س. جئتُ � ُ
ك
تنظر يا «�إزب»؟ عن �أي �شيء ُ
الت و
ُذر َّية َمن؟
ز و
يع
امل�شاهد كانت
ِ احم َّرت عيناه ب�صور ٍة �شيطانية ومل ي ُرد ...لكن كث ًريا من
ُتراود ذاكرته؛ م�شاهد لـ«�أ�سعد الكامل» وهو ينزل بفر�سه يف ال�سوق يلطم
يف ر�أ�س ال�ساحر هريا َين ًة و َي�س َر ًة ويقول ِمبلء فيه� ..أين �شيطانك يا هريا..
و«�إزب» ال�شيطان واقف هناك يف عباءته ال يقدر على �شيء! ،ويرفع «�أ�سعد» يده
وعينه تنطق بالتحدي واجلذل ،وال يقدر «�إزب» له ردًا ..ثم قال «�إزب»:
�إين �س�آتيهم من بني �أيديهم ومن خلفهم وعن �أميانهم وعن �شمائلهم،
ولآمر َّنهم فلي�ضرب بع�ضهم رقاب بع�ض حتى ال تبقى لهم باقية.
مت�ض غداة على يرثب �إال ونزل فيهم رجل غريب يذكر �أنه من جند.. ومل ِ
ِّ
«�إزب بن �أزيب» ،نزل ُمتنك ًرا يف �سوق اليهود� -سوق بني قينقاع -وقد كان �سو ًقا
�شه ًريا؛ فيه الأقوام تتفاخر وال�شعراء ،نزل «�إزب» ومعه جواد عربي �أ�شهب،
خيل يف اجلياد ال�صافنات ،قال يا خالط بيا�ضه �سواد �شعره ،مل ير �أح�سن منه ً
قوم �إين �أهب هذا اجلواد لأعز �أهل يرثب ،ف َمن هو �أعز �أهل يرثب؟ �أيف اليهود
هو �أم يف الأو�س واخلزرج؟
95
قيل له :واهلل �إن العز َة اليوم للأو�س واخلزرج؛ فقد ظهروا على اليهود. َ
بر َز يهودي كان يتابع امل�شهد وقال� :أنا �أ�شهد �أن العز َة مل ت ُعد فينا.
قال «�إزب» :فمن الأعز يف الأو�س واخلزرج؟
ت�صايح النا�س وذكروا �أ�سما ًء ..ثم �صاح اليهودي وقد بدا للجميع ذا َ
�صوت م�سموع بعد �أن اعرتف ب�ضعف قومه :واهلل �إن �أع ّز �أهل يرثب «مالك بن ٍ
ع
العجالن» ،و�إين جا ٌر له وحليف ،وقد ر�أيتُ فيه من العزة مثل كل بني اخلزرج..
ص
�أما الأو�س فلي�س فيهم َخري وال كرامة.
ال ري
وجت َّمع الأو�س واخلزرج يت�صايحون يف ال�سوق ،وكان فيهم «مالك بن
العجالن» وفيهم من ذكرت �أ�سماءهم من الأو�س...
ت ك
قال «�إزب»� :إين وهبتُ فر�سي هذه لأعز �أهل يرثب كلهم؛ «مالك بن العجالن
ش ن
جاري وحليفي هو �أعز �أهل يرثب كلها.
ر
فقتل اليهودي! ،وت�صايح النا�س وع َلت �أ�صواتهم فقفزَ فج�أ ًة رج ٌل من الأو�س َ
الت و
يف ال�سوق ،وظهر �شبح ابت�سام ٍة على زاوية فم «�إزب بن �أزيب» ،وان�صرف من
و
ال�سوق تار ًكا الأ�صوات تتعاىل من ورائه.
يع ز
قتال بني الأو�س واخلزرج ..وحت َّول القتال �إىل حرب، وانطلقت �شرار ُة ٍ
وحت َّولت احلرب �إىل حروب ،حروب بني الأو�س واخلزرج ا�ستم َّرت مائة عام �أو
و�سبب خمت ِلف ،وكان بع�ض اليهود يزيد! ،ويف كل مر ٍة تكون لها �شرارة خمتلفةٌ ،
ُيحالفون الأو�س ،وبع�ضهم يحالفون اخلزرج ،ال يحالفونهم بالرجال يف احلرب
و�إمنا بال�سالح! ،يرمون �إليهم بال�سالح وي�شاهدون دماءهم تفور وت�سيل على
�أر�ض يرثب...
z
«�شافع الكاهن»« ،عا�صف الغالم» ،ثم «�أ�سعد الكامل» ...وفكرة توحيدية
على دين �إبراهيم ..بر َزت ذات ليلة ،وخ َبت ذات ليلة فلم ي ُعد لها وجود! ،ك�أنها
وجني�شهاب تن َّو َرت به �صفحة الليل ،ثم خبا وتوارى ك�أن مل َي ْ�سطع بالأم�سِ ،
وقف و�سط كل هذا وقد �أ�صابه الي�أ�س ،وت�ص َّور له �أ�صحاب الأخدود ي�صرخون، َ
ثم ت�ص َّورت له جيو�ش «�أ�سعد الكامل» امل�ؤمنني يف م�أ�سل اجلمح ،ثم ت�ص َّور له
96
الأو�س واخلزرج واليهود يتقاذفونهم ،ثم ت�ص َّورت له الكعبة بك�س َوتها ال�سوداء،
وهنتُ ،
رب �إين قد َ رب �إين �أ َو ّد لو َت ُد َّلني �إىل الطريق� ،أو على �صاحب الطريقِّ ،
ِّ
أر�سلت ال�شياطني
رب �إنك قد � َ أظلم ف�ؤاديِّ ..وخ َبت يف عروقي �أنوار الأمل؛ ف� َ
عليهم ت�ؤ ُّزهم �أ ًّزا؛ فلم ترتك ال�شياطني يف نفو�سهم جذو ًة من �إميان �إال �أطف�أتها،
وال رجل يقول يا رحمن �إال كادت له ال َكيد ،ومل ي ُعد على الأر�ض �إال بيتك املح َّرم.
يف احت�ضنَ ظهره ..فعر َفه ،بل عرفها ،كانت «�إينور» قد و�أتى من ورائه َط ٌ
ع
�أتت له من �أر�ض �سب�أ ..قالت :يا «عمرو» �إن كان بنو «مزيقياء» قد �ضلوا؛ ف�إن
ريص
بني يزن با ُقونَ على العهد.
ال
إنك لذات احل�سن ،و�إنك احل�سن َ
وا�ستب�شر بقدومها وقال :واهلل � ِ فا�ستدار لها
ك
يف هذه احلياة الدنيا.
ي�س ُّرك.
ش
ينظر له يف جذل ...قال� :أما ذلك البيت املح َّرم فارتقب ف�إن وج َهه ،كان ُ
و ر
�أيامه معدودات! ،وارتقب �أر�ض ال�سود ،ي�أتيه منها اجلنود ال�سود؛ ينزلون عليه
الت
ركاما ،وال ُير َفع لإلهك الرحمن يف هذه الأر�ض مبنى وال ته ُفو �إليه
و
فيجعلونه ً
يع ز
نف�س ،وال...
انتف�ض «عمرو بن جابر» فج�أ ًة وانطلق ناح َية «�إزب» ،وات�سعت عينا «�إزب» َ
من املفاج�أة ،مل يد ِر �إال و براثن «عمرو» مغروز ًة يف نحره وانح�سرت عباءته
عن ر�أ�سه ،ف�شاهدت «�إينور» �شعره اجلعد الطويل وقد �أ�ضاف �إىل مالحمه
ب�شاعتني ،وانبعث منه عوي ٌل ك�أمنا ثعبان يخت ِنق! ،ور�أت «�إينور» زوجها يرميه
بذراع من حديد.
من تالبيب عنقه �إىل الأر�ض ٍ
ثم نظر «عمرو» �إىل زوجته وقال :تعايل يا «�إينور»� ..إن هذه البلد َة بلدة �شر!،
و�إنهم قد رجعوا كفا ًرا ي�ضرب بع�ضهم رقاب بع�ض ،تعايل �إىل �أهنوم يف �سب�أ؛
حيث م�سكننا ،حتى يق�ضي الرحمن �أم ًرا كان ً
مفعول.
رفع «�إزب» ر�أ�سه من بني الرتاب ونظر ُمته ِّكما :ما َ
نلت مني �إال بالفج�أة يا بن
أدعك حتى �أرى احل�سر َة يف عينك ل�ست عندي ب�شيء ،لكني �س� َ جابر ،وتع َلم �أنك َ
بعد �سبع قطع من الزمان ،فارتقب البداية يف �سب�أ ،والنهاية عند َ
بيتك الأ�س َود،
حجر على حجر... فال يبق َّني منه َ
97
تر َكه «عمرو بن جابر» وم�ضى كلم َعة الربق �إىل جبل �أهنوم ..وكل كلم ٍة تف َّوه
بها «�إزب» ت�صول يف ر�أ�سه و ُ
جتول ،ومل ي ُعد له �إال �أن يرت ِقب.
ويف �سب�أ اجلدباء بعد �سيل العرم ..كانت ال�صحاري قد �أك َلت كل نبات ،وعال
ً
متخاذل بعد ع ّز ٍة؛ يح ُكم تبحث يف الأر�ض ،وبدا ق�صر بلقي�س �صوت غربانها َ
فيه تبع من التبباعة يف �أيام اجلفاف؛ جفاف �س َب�أ وما حولها ،ولقد حت َّققت
كلمات «�إزب» ،وكانت البداية من �سب�أ ،حتديدً ا من عند م�شهد �أمام ق�صر التبع.
رج َلني �إىل الق�صر ..ي�سوقونهما بكث ٍري من االرتعاب؛
ص ع
جنود امللك ي�سوقون ُ
ري
ارتعاب يف عيون اجلنود ومالحمهم ،ف�إن �شي ًئا يف وجوه ُ
الرج َلني مل ي ُكن
ال
طبيع ًيا! ،كانت وجوههما ُميفة �شديدة الت�ش ُّوه!� ،أحدهما غزا الت�ش ُّوه ن�صف
ك
وجهه ،والثاين غزا الت�ش ُّوه وجهه كله حتى ق َّل بروز مالحمه! ،ومل تكن هذه هي
ت
ِع َّلة ارتعاب اجلنود فح�سب؛ بل �إن الرعب كان ين ُبع من �شيء �آخر؛ �أن هذين
ش ن
ر
z
الت و
ز و
يع
98
و�س و�س و�س و�س و�س
أحمق ُم َّدعي للعِلم
ُ�صدق �أي � َ
هكذا نذِ ل الرجال ونُ�شعِل قلوب الن�ساء؛ بالو�سو�سة ..ال ت ِّ
ُيخربك �أن اجلن ت�ستطيع �أن ت�ؤذي �أو جترح �أو ُت ِر�ض �أو تقتُل� ...أو هم �أغوال ُ
تخرج للنا�س
ع
الب�ش نحب �أن نل ُهو بهم ،ونُو�س ِو�س لهم مبزي ٍد منيف الطريق لت�أكلهم! ،هذه العينات من َ
ص
التخويف هم وتفكريهم ال�سقيم ،لقد جعلهم خوفهم منا يع ُبدوننا يف كث ٍري من البلدان،
ال ري
وهذا ُير�ضينا ...تَخ َّيل �أن مت�شي يف مكان ونا�س املكان يخافون منك ويرتعبون هكذا و� َ
أنت ال
أنت مل ُت ِّرب هذا. َ
حول لك وال قو َة عليهم! ،هذا ُمتِعَ � ،
ت ك
ن�صل بالرجل �إىل �أن ميوت �أو مير�ض �أو تُد َّمر حياته!. لكن بهذه الو�سو�سة ميكننا �أن ِ
ب
أمورا ت�ؤدِي به �إىل الهالك �أو املر�ض �أو الف�شل ...وكل قري ٍن منا يكون
فنجعل الرجل يفعل � ً
ش
يتعاون قرينني �أو �أكرث لإغواء �صديقني �أو زوجني �أو جمموعة من الأخالء!،
لكن قد َ
و ر
فرق بني املرء القرين الذي يجعل الإن�سان يقتُل ُيحبه «لو�سيفر» ،والقرين الذي ُي ِّ
الت
و�سو�ستنا �إلقاء نُلقِيه يف ال�صدور؛ لأن ال�صدر هو البيت الذي وزوجه ُيحبه «لو�سيفر»َ ،
و
ُ
ز
ت�سكن فيه الروح ،جنثم عليه جثو ًما!� ،أنت ال ترى جثومنا ،ولو ر�أيتَه الت�س َعت عيناك!،
يع
ينقلب الواحد منا يف الهواء فتكون ر�أ�س ال�شيطان عند �صدرِك وقدماه بارجتَان يف الهواء،
ذكرت ر َّب َك خن ََ�س ال�شيطان وتوارى وحزن �أن مل يقدر َ ويداه كاملخلبني يف تالبيبِك! ..ف�إذا
قلبك انقلب ال�شيطان يف الهواء و�أم�سك مبجامع �صدرك غفل َ
على غوايتك يف تلك امل�س�ألة ،ف�إذا َ
�صدرك! ،ثم ُيو�س ِو�س ،فتت�ش َّبع روحك َ وجهه من �صدرك ك�أمنا يريد �أن ُيك ِّلم وقر َب َ َّ
تطرده خارجها. ُ أو � نه ت�ستح�سِ وقد بالكالم ة َ
الراب�ض
موك ًل �أو قرينًا ل َأحد ..فهذا ُيكنه �أن ُيو�س ِو�س لأي �إن�سان يف
�أما اجلِن العادي الذي ال يكون َ
ُ
الطريق! ،لكنه ال يف َعل هذا لأنه ال يحوز �شيئا يف املقا ِبل فال ُي�ض ِّيع وقتَه يف تفاهات الب�رش،
أنت ال تُ�ض ِّيع وقتَك يف �أذ َّية ق َِّطة ما�شية على قارعة الطريق� ،إال �إذا...
مثلما � َ
�إال �إذا كان هُ ناك �ساحِ ر ..وكان هناك �شيطان ..وكان هناك ت�سليط ..لكن تلك حكاية
رج َلني �ساحرين فعال
�أخرى ،وعلى ذكر ال�سحر وال�سحار ،ف�إن املكاتيب �ستحكي عج ًبا عن ُ
أتيك البيان. ً
م�ستحيل يف عامل الإن�س! ،و�سي� َ �شيئًا يكاد يكون
z
99
()4
وحش الفال
عن كل اخلالئق تر َّفعوا وارتفعوا ..عن كل الكيانات �س َمت �أج�سادهم ،وع َلت
�سدلني �أيديهم�أفهامهم و�أ�سماعهم فوق ال�سماعات� ،سبعة كانوا �صاعدينُ ،م ِ
ع
رافعي ر�ؤو�سهم طالعني �إىل جو ال�سماء ،جامد ًة وجوههم ال يكادون يطرفون مي َن ًة
ص
وال ي�س َر ًة� ،سبعة كانوا �شياطني ..تبا َينت هيئاتهم وقلوبهم جمموعة �إىل مق�صد
ال ري
وحده لل�صعود!� ،سبعةأجنحة ال يخفقون بها وك�أن اندفاعهم يكفي َ واحد ،لهم � َ
كانوا يت�س َّلقون اجلو يف حلق ٍة �ش َّكلوها ب�أج�سادهم ،ولهم بغ َية واحدة انتظموا
ت ك
لها ،وت�صاعدوا حتى بلغوا الغمام املركوم على بع�ضه ك�أكوام اجلبال� ..سبعة
كانوا يرتقون يف مغرب ال�شم�س ،حتى ع َلت �أقدامهم �سطح ال�سحاب الف�سيح
أجنحتهم فوق �صفحة الغمام
ن ل ل ب
ك�أنه جلج البحر� ..سبعة كانوا من اجلن فردُوا � َ
ش
وتو َّقفوا عن ال�صعود وقد بلغوا مب َلغهم الذي �أرادوا ،و�أم�سكوا بع�ضهم ك ًّفا بكف
ر
و�ضربوا ب�أجنحتهم خافقني ،حتى َطفوا يف ال�سماء ثابتني على ارتفاعهم ،ثم
الت و
انفك من ت�شكيلهم واحد منهم ارتقى فوقهم فم ُّدوا �أياديهم ُي�سكونه حتى تع َّلق َّ
و
ج�سده ومالحمه ،كان ميلك مالمح يف الهواء! ،ورفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء ،و�سكنَ َ
يع ز
الب�شاعة وال�شدة ال�شيء الكثري ...وغر َبت ال�شم�س وهم على حالهم َ فيها من
وهو على حاله؛ �سبعة كانوا �شياطني ،ويف و�سطهم �شيطان يع ُلوهم ا�سمه «�إزب».
تعرفه من مالحمه و ب�شاعتها ..برغم ال�سكون الذي غزاها فوق الغمام؛
هام�س ال ت�سمعه �آذان ح�س ِ ً
مغم�ضا عينيه ُمن�صتا �إىل ٍّ �إال �أنها ب�شعة! ،كان
املخلوقات!ِ ،ح�س يتح َّدث ب�صوت انحد َرت موجاته عن مدى م�سامع �أهل
الأر�ض ،ال ت�سمعه �إال �آذان اجلن ،و�شو�شة تناثرت يف غمام ال�سماء ،وح َّل الليل
واخلافقني ب�أجنحتهم يخفقون بها ،يحملون الذي ي�سمع ،وم�ضى من الوقت
الثقيل ما م�ضى ،وت�صاعدت ت�شكيالت �أخرى من اجلن وال�شيطان ،يتح َّلقون
املقاعد يف ال�سماء ،وال ُيعلم لأي �شيء ويف و�سطهم �شيطان ،وقعدوا لل�سمع ِ
ي�سمعون.
�أ�صوات ي�سمعونها ب�آذان اجلن فيها حديث عن �أهل الأر�ض ،ب ُلغة �أهل
�سينزل ب�أهل الأر�ض ،تعلموا �أن هذا من حديث الأر�ض ..حديث ُينبئ مبا ِ
املالئكة؛ تتح َّدث بالوحي الذي �س ُينزله اهلل على عظيم اجلن� ،أمري النور
105
الكائن اخلالد الذي ال ميوت ،ومتوت كل نف�س �سواه� ،أمري النور «لو�سيفر»..
ولي�س يرى املالئكة �أحد �سواه -عظيم اجلن واخلالئق كلهم -فكانوا يتحينون
الليل ويتَّخذون مقاعد يف ال�سماء ،ي�سمعون لأهل ال�سماء فيتع َّلمون ما يكون
على الأر�ض ...وكان «�إزب» ُمغل ًقا عينه ي�ستق�صي و�ش َو َ�شة ال�صوت ،ثم فج�أ ًة
فتح «�إزب» عينه و�صاحبت ب�شاعتها مل َع َة الذي ح�صل على ما يريد! ،ف�ألقى ما
�سمع �إىل الذين يحملونه ،فك َّفت �أجنحتهم عن اخلفقان ،وانقلبوا ب�أج�سادهم
ع
ُّ
وانف�ضوا كل �إىل وج َهة يعرفها... يت�ساقطون �إىل الأر�ض!،
ل ب
فجمعوا له كل عارف وكاهن َّودجال ،ل
يا خا�صة بالد اليمان� ،أين ر�أيتُ
ن
كاه ًنا �أو ُم ِّ
ر
فقال� :إين ر�أيتُ ر�ؤيا فزعت بها...
ل ا
ففيكمت َّ ُقال :لو �أخربت ُكم مبا ر�أيتُ لن �أطمئن لت�أويلكم؛ و
خب بها ها �أحدً ا �أبدً ا ،و�إنه لن ي�أتيني بت�أويلها �أحد �وأبدً ا� ،إال رجل ي�أتيني
ي ز
دجالون ومنافقون...
ع
نظرا �إليه نظرات �أزا َلت ف�ؤا َده من مكانه؛ �إن لهما عينان كال�صقر ...قال له
ص
�سطيح :ونع َلم ما ُتخفي يف �صدرك وما حاك فيه.
ال ري
أنظر هل تتفقان �أو علي ُفرادى ،ف� ُ
علي م ًعا ،بل ادخال َّ قال لهما :ال ُ
تدخال َّ
تختلفان.
ت ك
�سخ َرت مالحمهما من �أحاديثه ومل يتك َّلما ،ف�أدخل عليه ذو الوجه ال�سطيح،
ل ب
قال له ف�أخربين ماذا ر�أيتُ يف منامي؟
َ
جاءتك ر�ؤياك ب�شيء
ر
خرجت من ُظل َمة ،فوق َعت ب�أر�ض تهامة ،ف�أك َلت منها أيت فيها حم ًماَ ،عظيم ..ر� َ
الت و
كل ذات جمجمة!..
و
إعجاب وقال له :فما َ
عندك يف ت�أويلها يا «�سطيح»؟ اتَّ�س َعت عينا امللك يف � ٍ
يع ز
أر�ضكم احلب�ش ،فليملكن قال� :أح ِلف مبا بني احل َّرتني من حن�ش ..لتهبطنَّ � َ
ما بني �أبني �إىل جر�ش!
�صدمة ..ح َب�ش ينزلون وميلكون �أر�ض �سب�أ؟ قال له حت َّول �إعجاب امل ِلك �إىل َ
امللك :ومتى هو كائن� ..أيف زماين �أم بعده؟
َ
زمانك بح ٍني من الزمان. قال «�سطيح» :بل بعد
ينقطع؟
قال� :أف َيدُوم ملك احلب�ش يف �أر�ضنا �أم ِ
ينقطع! ،و�س ُيقتلون ويخرجون منها هاربني. قال «�سطيح» :ال ..بل ِ
خرجهم؟ قال :ومن ُي ِ
قال :فتى يخ ُرج من بيت ذي يزن ،يخ ُرج عليهم من عدن ،فال يرتك منهم
�أحدً ا باليمن!
فقال امل ِلك :وهل يدوم ملك ذلك الفتى وذريته؟
ينقطع؛ يقطعه نبي زكي ،ي�أتيه الوحي من قبل العلي... قال :بل ِ
107
بيت هو ذلك النبي؟ اعتدل ُ
امللك وقال :ومن �أي ٍ
قال :من و َلد غالب بن فهر بن مالك بن الن�ضر.
ني مل َعت بلمع ٍة مل تلمع مثلها
ني كانت ترى وت�سمع كل �شيء ..ع ٌ هنا مل َعت ع ٌ
قبلها؛ عني «عمرو بن جابر».
م�ضت عليه وهو يبحث وينتظر ..حتى ي� َأ�س من كل �شيء ،وراودته عهو ٌد قد َ
ع
نف�سه اجلنية �أنه ال � َأمل ،و�أنه ال نب َّو َة يف �آخر الزمان ،والآن قد خفقَ قلبه وهو
ص
مف�ص ًل �أن النبي
ي�سمع؛ لقد �سمع ال�شياطني اخلرب من �أحاديث ال�سماء� ،سمعوه َّ
ري
يكون من العرب من و َلد غالبَّ ،
ال
ظل «عمرو بن جابر» ي�س ِرتق ال�سمع ،وقد خرج
�سطيح ودخل �شق على امللك.
ك
وج ٌه ت�ش َّوه ن�صفه وبقي ن�صفه! ،ومل تت�أ َّثر نظ َرته ..قال «�شق» للملك :لقد
ت
خرجت من ظ ُلمة ،فوقعت بني رو�ضة ر�أيتُ �أيها امللك يف ذلك املنام ح َم ًماَ ،
ش ن
امللك عينه وقال له :وما َ
عندك يف ت�أوي ِلها يا «�شق»؟ �ض َّيقَ ُ
ر
قال� :أح ِلف مبا بني احلرتني من �إن�سان ،لينزلنَّ �أر�ضكم ال�سودان ،فليملكنَّ
الت و
ما بني �أبني �إىل جنران.
و
قال ُ
ز
امللك� :أهو كائن يف زماين هذا �أم بعده؟
يع
قال :بل يكون بعدك بزمان ..ثم ي�ستن ِقذكم منهم عظي ٌم ذو �ش�أنُ ،يذيقهم
�أ�ش َّد الهوان...
قال امل ِلك :ومن هو عظيم ال�ش�أن هذا؟
قال :غال ٌم من بيت ذي يزن ،يخ ُرج عليهم من عدن ،فال يرتُك �أحدً ا منهم
باليمن.
قال امل ِلك :ومن مي ِلك بعده؟
ر�سل ،ي�أتي باحلق والعدل ،من �أهل الدين والف�ضل ،يكون املُلك قال :ر�سول ُم َ
يف قومه �إىل يوم الف�صل.
وكالربق الطالع ..انطلق «عمرو بن جابر» �إىل حيث �أوالد «غالب بن فهر بن
مالك»؛
انطلقَ �إىل تهامة...
z
108
املغرب؛
بج ٍند ُ�سود ُمتكتِّلني يف دروع �سود� ..آتني من قبل ِ ثم �أتى الزمان ُ
جيو�ش و�سالح و�أفيال و�صليب يرفعونه ،وطبول ي�ضربون عليها ،وفر�صة
أجيال لينزلوا �إىل بالد �إذا ملكتها ملكت جزيرة العرب؛ بالد اليمن، يتحينونها � ً
نزلوا واليمن قد �أ�ضرم فيها اجلفاف نا ًرا بني �أهلها ،فانف�صلت عنهم البالد
وحت َّز َبت قبائلهم �إىل �أحزاب ،نزلوا وملك يف اليمن ُيقال له «يو�سف» ،ينادي يف
النا�س بكلمة التبابعة ،يا �آل �سب�أ �إنكم �إذا تباينتُم مال علي ُكم عدوكم ،فيبيدكم
ع
من عند �آخركم ...و�سم َع له قوم وجتاه َله �آخرون! ،حتى نزل احلب�ش �إىل بالده
ص
َ
ا�ستب�سل يف وجه بنو أرتال ي�سدون ر�سمة الأفق« ،يو�سف بن �أ�س�أر» التبع الأخري.. � ً
ال ري
احلب�ش وحرق ما يب ُنونه من بنيان ،ودخلت قبائل من �سب�أ يف القتال ،دخلت �إىل
جوار الأحبا�ش على امللك يو�سف ،و�سقط عر�ش �سب�أ.
ت ك
وانطلق «يو�سف بن �أ�س�أر» بفر�سه ناحي َة البحر ومعه رهط من �أن�صاره من
ل ب
بني يزن ..وانطلق الأحبا�ش وراءهم يريدون ر�ؤو�سهم ،فدخل امل ِلك «يو�سف»
ن ل
جلند وفيهم �أمري اجلي�ش «�أرياط» وقائد ومن معه �إىل غابة بجوار البحر ،و�أتى ا ُ
ش
اجلند «�أبرهة» ،وحامت الفر�سان حول الغاب يحر�سون خمارجها ،وم َّر ٌ
طيف
و ر
ذو رداءٍ �أب َي�ض فوق الغاب ناظرا �إىل ما يحدُث بق َلق!؛ كان طيف «�إينور»� ،إن
الت
«بني يزن» حرا�س الكتاب اليوم يف ح َرج ..هذا ما يه ّمها ،م َّدت ب�صرها فر�أَت
ز و
يع
امل ِلك «يو�سف» قد ثنا ركبتيه على الأر�ض يف الغاب خامدً ا ُملق ًيا �سالحه ويف
عينيه ذل وحوله �أبناء يزن ي�ش ُّدون من �أزرِه.
امللك «يو�سف» ر� َأ�سه �إىل ال�سماء وقال :يا رحمن ذي �سماوي ،يا مليك رفع ُ
ال�سماوات والأر�ض� ،إنا قد قاتَلنا ورابطنا على هذه الأر�ض و�أهلكنا منهم �ألو ًفا؛
رجال يطردون كل ُمعتَد ،ليتق َّدم ا�سمك الرحمن فلتبعث يا رحمن من بعدي ً
الذي له احلمد.
ثم نظ َر �إىل «بني يزن» وقال لهم :يا بنو يزن� ،إين خارِج من تلك الناح َية
و�سيخرجون ورائي و�سيظفرون بر�أ�سي� ،أما �أنتُم فانتهزوا خروجي وعودوا
وحت�ص ُنوا يف ح�صونكم يف اجلنوب. َّ
أنت للي َمن من بعدي يا «ذو ونظر �إىل قائدهم الأمري «ذي يزن» وقال لهَ � :
يزن» ،فال ُت�س ِّلمها للغربان احلب�ش.
فر�سه وخرج من بني الأدغال ،فا�ستدار له الأحبا�ش، ثم انتف�ض فج�أ ًة وركب َ
فاخرتق من بينهم بفر�سه كال�سهم ُمنطل ًقا �إىل البحر ،وم�ضى فيه بفر�سه َ
109
بحر قد غ�ضب ،ك�أنه
والرجال ي�شاهدونه حتى غلبت عليه الأمواج وغرق يف ٍ
غ�ضب من �سقوط �سب�أ.
َ
ونظر «�أبرهة» ويف عينيه مقت �ساخر وهو ُ
ينظر �إىل «بني يزن» ين�سحبون
من الناحية الأخرى ،وا�ست َّل �سي َفه ،وا�ستدار �إىل �أمري اجلي�ش «�أرياط» وهوى
فقطع ر� َأ�سه! ،ومل ُيح ِّرك اجلند �ساك ًنا ،بل ظه َرت على وجوههم بال�سيف عليه َ
ملحة ته ُّكم مبن مات! ،ومنا�صر ًة ملن ُق ِتل ،وكي ٌد ب َّيتُوه منذ َ
زمن ،وعال «�أبرهة» َ
ع
َ
عر�ش �سب�أ.
z ص
«�أبرهة» �أ�صولهريمن �سب�أَ ،لونه ك َلون �أهل �سب�أ ..لكن وال َءه للحب�شة وم ِلك
احلب�شة ،وملك احلب�شةال وال�ؤه مللك الروم ،وم ِلك الروم هو الذي �أم َر الأحبا�ش
ت اليوم قد َ�سقطت يف قب�ضةك
ب
بنزول اليمن و�أم َّدهم بالرجال والعتاد ،والروم لطاملا �أرادوا احتالل �سب�أ ،و�سب�أ
ش
فهم مذاق الويل مبا وه َبه الرحمن من حت�صنَ لهم يف اجلنوب وع َّر
يزن»؛ فقد َّ
ز
�أمر فجائي ًمن م ِلك احلب�شة باال�ست�سالم َووقف القتال يف ً ي
اجلنوب،عواالعرتاف
و�سيل للدماء �صد َر يبقَ يف النبوءة �إال الن�صر ،ولكن بعد طول ٍ
بذي يزن ملكا على جنوب اليمن ،على �أن يظل «�أبرهة» م ِلكا على �شمالها ،بل
أر�سل هدايا ُ�صلح و�سالم �إىل «ذي يزن»؛ هدايا مملوءة �إن ملك احلب�شة هذا � َ
وديباجا وذه ًبا وف�ضة وجار َية من �سمر الأحبا�ش يفوق جمالها ً ِم�س ًكا َ ً
وعنبا
ن�ساء �سب�أ كافة! ،وكان ا�سمها «ريحانة» ،هدية �أر�س َلتها بالد احلب�ش ومعها يف
فرغه يف �شراب امللك ليموت يف احلال من غري ذوائب �شعرها ً
مثقال من ال�سم ُت ِ
حرب وال قتال...
ٍ
�سمراء ُتع ِّلم البي�ضاوات �أ�صول الفتنة� ..أقب َلت على امل ِلك «ذي يزن» ونز َلت
ين�سدل كاحلرير وق َّب َلت الأر�ض بني قدمي امللك ،وق َب َل ُ
امللك و�شعرها الأ�س َود ِ
ال�صلح ،و�أثار هذا نفو�س بنيوقبل ُ منزل كر ًميا َ الهدية واجلار َية و�أنزلها ً
يزن ،كانوا يريدون حترير الأر�ض ...قال لهم ذو يزن ا�صربوا ..ف�إن الأحبا�ش
110
�أ�ضعاف �أعدادنا ،و�إننا �إن هلكنا يف هذه ال�سنون فلن تقوم لليمن قائمة ،و�إن
لدي حيلة فا�ستمعوا لها... َّ
ترت لها نفو�سهم الثائرة! ،و�إمنا �سكتوا طاع ًة للملك، فل َّما �أنب�أهم بها مل َ
لكن هناك �أذ ًنا كانت ت�ستمع مع ال�سامعني� ،أذن حتفزت ملا �سمعت؛ �أذن ل�سمراء
فاتنة ،كانت مر�سل ًة لل َقتل! ،واليوم بعد �سماعها اخلرب كان يجب �أن تتح َّرك
ُحذر قومها �أن ذو يزن ُير ِّتب حي َلة. لت ِّ
ص ع
وانطلقَ «ذو يزن» يف خف َي ٍة من الليل يف رحلة طويلة جدً ا لتنفيذ حي َلته..
ري
انطلق ومعه ن َفر قليلون �إىل بالد فار�س ليط ُلب الن�ص َرة واجلند من «ك�سرى»،
ال
تار ًكا وراءه بنو يزن ُيخفون �أمر �سفره ،وال�سمراء يف و�سطهم ُتخبئ لهم
ك
اخلديعة ...وقالت للغالم اجلا�سو�س اذهب ف�أنبئ القوم �أن «ذو يزن» قد َّ
ان�سل
ت
من البالد طال ًبا الن�صرة من فار�س ...ف�أتاها الغالم وقال يقولون �أبلغينا
ن
وانق�ضوا على بني يزن يف غف َل ٍة من الأمر...
ش
ُّ ظهور الأفيال ،وحملوا الرماح
ر
حت�صن بنو يزن ..و�سال وكان معرت ًكا ملي ًئا بالدم يف ح�صن الغراب حيث َّ
الت و
الدم على جدران احل�صن وك�سرت �أبوابه الأفيال ،ودخل الغربان ح�صن
ز و
الغراب ،وكان على ر�أ�سهم «�أبرهة» ،وبينما كان الرجال يتنازعون بال�سيف
يع
والن�ساء تهرع �إىل البوابات للفرار من هذا اجلحيم ،كانت هناك امر�أة واحدة
تخ ِرتق ال�صفوف داخ َل ًة �إىل ُعمق احل�صن؛ كانت تلك هي «�إينور» وقد ته َّي�أت يف
ج�سار ٍة َبدت لكل من ر�آها جنو ًناالب�شر ،ودخلت بني الأج�ساد املتناحرة يف َ هيئة َ
مل يفهم له �أحد �سب ًَبا؛ كانت تبحث عن مكان الكتاب ،وك�أن الكتاب هو احلياة
كلها ،فلو ُذبح بنو يزن اليوم يف دمائهم ف�إن عليها �أن تنتزع الكتاب قبل �أن ُيذبح
رجل هو من وجدت ً معهم ..و�أ�ص َّرت على بغيتها حتى �أدر َكت مكانها ،فلما �أتتها َ
خا�صة امللك قد �أخرج الكتاب من �صندوقه و�أخفاه يف رحا ِله وانطلقَ به ً
خارجا
تنظر بعينني زرقاوين قل َقتني �إىل كتابه ،فخطا يتخ َّفى! ،ور�أى «�إينور» مقبل ًة �إليه ُ
�إىل الوراء يف خوف ،لكن «�إينور» رفعت يدها وتراجعت و�أ�شارت له بالعبور!،
الده�شة ثم م�ضى �إىل حاله ...كان هذا «يرثب»، َ فنظر لها نظر ًة �أخري ًة متل�ؤها
م�ست�شار امللك «ذي يزن» ،وكان ذلك الكتاب حمفو ًرا يف �صدره �سط ًرا �سط ًرا،
حتى �سمى نف�سه «يرثب» تي ُّم ًنا مبهاجر النبي املخل�ص الذي يتن َّب�أ به الكتاب.
111
و�شج كتفها ..وكان اجلن و�سيف قد �شقَّ ن�صله الهواء َّ ومل تدر «�إينور» �إال َ
َ
املُتم ِّثلون يت�أ ُّذون �إذا �أذيت �صورتَهم التي ت�ص ّوروا �إليها ،فت� َّأذت «�إينور» و�سقطت
أبرهة» الذي رمقها بنظرة املقت التي كانت تبدو على الأر�ض ،كان ذلك �سيف «� َ
وك�أنها مطبوعة يف عينيه ،لكن فج�أ ًة �سمع �صوتًا من وراءه فالت َفت غا�ض ًبا فلم
التفت �إىل «�إينور» فلم يراها يف مو�ضعها ،بل مل يراها يف �أي يجد �أحدً ا! ،ثم َ ِ
مو�ضع حو َله ،ومل يكن لذلك املكان خم َرج ،فاتَّ�س َعت عينه يف ارتعاب ق َلق ،ثم ٍ
ع
ا�ستدا َر وانطلق �إىل موا�ضع اجلند.
ريص
كان «عمرو بن جابر» يحت�ضن «�إينور» وقد انتقال �إىل �صورتهما اجلن َّية بعد
ال
�أن �ألهى «�أبرهة» بذلك ال�صوت فالتهى ..وكان كتف «�إينور» قد ت� َّأذى كث ًريا،
فحم َلها «عمرو» وانطلق بها طائ ًرا من املكان ،لكنها �أجل�أته �إىل �أن يلحق بالرجل
ت ك
خرج من احل�صن ُمتخ ِّف ًيا �إىلال�صالح «يرثب» لرتى ماذا ح َّل به ،فوجداه قد َ
ل ب
الأحرا�ش ،ونظر وراءه �إىل نريان قد اندل َعت يف احل�صن و�صرخات قد خ َبت!؛
ن ل
لقد هزم الأحبا�ش اليمن ،لقد انتهت ح�ضارة �آالف ال�سنني ...ونظرت «�إينور»
ش
ليهزم الأحبا�ش؟
�إىل «عمرو» وقالت :يا «عمرو» �أين ذو يزن؟ �أه َو � ٍآت ِ
و ر
الت
�أطرق «عمرو» بر�أ�سه �إىل الأر�ض وقال :لقد رف�ض «ك�سرى» معاون َة «ذو يزن»
و
ب�أي �شيء ،وعاد خائ ًبا ومات يف فار�س ،رمبا مات ح�سر ًة ،ترقر َقت عينها بالدمع
يع ز
وقالت :يا «عمرو» لقد كذ َبت النبوءة؛ لقد انهزم بنو يزن!
مل ي ُرد عليها «عمرو»؛ فقد كان يف نف�سه نريان ت�ضرب بع�ضها ،ومل ي ُعد
يفهم �شي ًئا من الأمر.
z
ور�ضي عنه ملك احلب�شة ،ور�ضي عنه قي�صر َ وجتب..
�أما «�أبرهة» فقد عال َّ
الروم ،وبد�أت الأفكار جتري يف ُلب القي�صر؛ �أفكا ٌر عن �سب�أ التي كانت عرو�س
املمالك بذلك ال�سد الذي انهدم ،ف�إن كان قد انهدم ف�إن الروم قادرون �أن يبنوا
�سدً ا خ ًريا منه؛ فاخلري يف �سب�أ ويف �أر�ض �سب�أ.
وبال�سخرة والت�سخري ،وبال�سوط امل�س َّلط على ظهورهم عمل العاملون من
�أهل �سب�أ �سدًّا جديدً ا كب ًريا يحمل امل�سحة الرومانية يف البناء ،لكن يبدو �أن
لع َن َة اهلل التي نز َلت من ال�سماء قد �أجد َبت تلك الأر�ض حتى حني! ،فما �أغنى
خرج لهم �أر�ض �سب�أ ما كانت ُتخرجه لبلقي�س عن الرومان �س ّدهم �شي ًئا ،ومل ُت ِ
112
كامل يف بناء ذلك ال�سد ،و�أنفقَ عليه � ً
أموال عاما ً
ومن بعدها! ..و�أ�ضاع «�أبرهة» ً
طائل ًة ومل ي ُكن له طائل ُيذ َكر.
�أما «ريحانة ال�سمراء» فقد تز َّو َجت من «�أبرهة» ،و�صارت �أمرية اليمن..
تتح�س�س حم َلها ،فلما و�ض َعته كان ذك ًرا وكانت ت�ضع يدها على بطنها كل حني َّ
ورث عنها جمالها ،لكن �شيئا يف عينها كان قل ًقا ،مل تكن يف عينها فرحة جميل ًَ
�صافية؛ ف�إن هذا الذكر اجلميل مل ي ُكن ابن �أبرهة!� ،إمنا هو ابن «ذو يزن»،
ع
ولقد حارت كيف ُتخفي هذا عن «�أبرهة» ،ثم ح�س َمت �أم َرها و�أخ َربته ،قا َلت يا
ريص
فاعل فيه. فانظر ما �أنت ِ «�أبرهة» �إن هذا ابن «ذي يزن» ولي�س ولدكُ ،
ال
إنك �ستقتُل َني ذلك ظهرت البغ�ضاء على وجه «�أبرهة» والغ�ضب ،فقالِ � :
ك
تده�س عظامك. الرجيم بيدك وترمينه �إىل القفار �أو لأجعلنَّ الأفيال َ
ب ت
أخرجت خنج ًرا وقب�ضت على مقب�ضه بيدها ..واقرتبت من فلما جنَّ الليل � َ
ش
ذنب فع َله هذا الغالم حتى ُتذيقيه لها ،قالت :يا �سمو الأمرية ال�سعيدة� ..أي ٍ
ر
الآالم وت�سقيه ك�أ�س احلمام.
الت و قالت :فماذا �أنا فاع َلة �إن نف�سي ال ُتطيعني.
ز و
يع
هالك هذا الغالم قال اجلارية :يا ذات العقل الر�شيد� ،إن كان البد من ِ
ف�أر�سليه مع �أحد اخلدام فريميه يف الرباري والآكام ويكون بعيدً ا عن هذه
الأوطان ،ف�إن عا�ش عا�ش لأمله ،و�إن مات مات لأجله...
فلما �سمعت «ريحانة» هذا الكالم �أخذها الفرح واالبت�سام و�أعجبها هذا
جواد
اخلادم احلب�شي يف �آخر الليل على ٍ ُ كمخرج مما هي فيه ..وانطلق ٍ الأمر
من خري اجلياد ومعه الطفل ،وم�ضى به بعيدً ا �إىل ناح َية بحر اليمن ،وعند فال ٍة
َ
وارحتل بعيدً ا من حيث ب�ساط من الديباج ،ثم هج َره
موح�ش ٍة و�ض َع الوليد على ٍ
�أتى.
وحجبت ال�شم�س عن ال�صحاري بال�سحاب ،رحمة من الرحمن ..والطفل يف ُ
ُ َّ
و�سطها ي�ضرب بالأيادي والأقدام ،وعيون اجلن قد التفت حوله تنظر �إليه يف
عجب ،ولي�س ي�س ُكن يف ال�صحاري غري اجلن واحل َّيات ...واقرتبت من الوليد
تتح�س�سه ،ثم فارت الدماء من ج�سدها الوحيد غزالة ،ما َلت عليه بر�أ�سها َّ
ب�سهم
وانقل َبت على الأر�ض ،ونظر اجلن وراءها ف�إذا رجل �صياد قد رماها ٍ
113
ده�شة ،طفل ذكر رقيق ينظر �إىل ما حتتها يف َ ف�أرداها! ،وهو من بعد هذا ُ
وا�سع العينني يتح َّرك يف ظرافة ،فانحنى �إليه وحم َله ونظر �إىل لبا�سه الفاخر
والديباج الذي حتته ،ولعبت بح�سبته الظنون...
انف�صل منهم فريق مي�شون وراء اخلادم احلب�شي ليع َلموا من �أما اجلن فقد َ
يعث عليه وي�أخذه �أين �أتى الطفل ،وفريق بقوا عند الطفل و�شاهدوا ال�صياد ُ
ويرحل ...وتعلمت جوا�سي�س اجلن �أن الطفل هو ابن «ذي يزن» ،و�أن «�أبرهة» قد
ع
رماه لوحو�ش ال�صحاري.
ريص
ال
ولع َبت الأقدار لع َبتها ورجع ال�صياد �إىل زوجته و�أنب�أها بخرب الطفل وهي
حتمله وتالعبه وجماله قد �أ�س َر ُل َّبها ..قا َلت :وحق زحل �إن هذا الطفل من �أوالد
ك
امللوك؛ ف�إن �أطفال النا�س ال يلب�سون هكذا.
ب ت
�صباحا و�أهديه �إىل �أمري البلدة؛ ع َّل ُه يعطينا نفح ًة من
ً قال :ف�إين �أذهب به
ش
ويدخل ال�صياد على �أمري �شمال �سب�أ ،وكان ومت�ضي الأقدار يف ذات اللعبة ُ
و ر
من الأمراء الأحبا�ش الذين يح ُكمون املناطق حتت حكم «�أبرهة» ،وكان ا�سمه
و الت
فرحا وطارت به زوجته ،وعزما ُلي ِّبيانه «�أفراح» ،فلما ر�أى الطفل طا َر بجماله ً
يع ز
يف الق�صر ول ُيك ِّرمانه ،و�س ُّموه ا�س ًما حب�ش ًيا حرب ًيا( ،وح�ش الفال) -،لأنهم
ال�شرفات ،كان فيهم اجلن وجدوه يف الفال ،-كان بع�ض اجلن ينظرون من ُ
بع�ضهم لبع�ض� :إنا �سمعنا امر�أ ًة من الذين تبعوا الطفل وعلموا �أم َره ...قال ُ
وتهب حياتها للذب عنهم� ،أفال ُنن ِبئها ب�أمر هذا الطفل قومنا تذ ُكر بني يزن ِ
ال�شريد؟
قالوا :هل تق�صدون «�إينور» ذات احل�سن والنور؟ قالوا بلى ..وانطلقوا
ُ
كال�شهب املتعاقبة �إىل «�إينور».
وجاءت «�إينور» ونور عينيها الذي كان خبا من الي�أ�س قد �شرع يف اللمعان،
والدمع يف �أحداقها نازِل كماء الل�ؤل�ؤ ،ف�أتته وجارية يف الق�صر ُتل ِب�سه لبا�سا
فتب�سمت «�إينور» و�أ�شر َقت بعد �أن غزَ ت الظل َم ُة
العبهَّ ... هدهده و ُت ِ
فاخرا و ُت ِ
رب الأقدار �أن ابن ذي يزن �-أو وح�ش الفال كما كانوا ُي�س ُّمونه- روحها ،و�شاء ُّ
َ
ِّ
ين�ش�أ عند �أم ٍري حب�شي حربي النزعة ،فلم يرتكه للدعة والك�سل؛ �إمنا كان ُيعلمه
الفرو�س َّية وال�شجاعة واحلرب والطعان وقوى الرباعة وال�صد والرد ...حتى
114
خلد وا�شتهر يف عدن ،وعزَ فوا ا�شت َّد عود الفتى الو�سيم اجلميل ذو ال�شامة على ا َ
عن ت�سمِ يته وح�ش الفال ،و�أ�صبحوا ُي�س ُّمو َنه «�سيف» لِ ا ر�أوا منه من قوة وبهاء،
و�إن الأقدار كانت ُتخبئ له ما تخبئ...
z
د َّقت الطبول و�أُوقدت امل�شاعل ،و�أتى الأحبا�ش من كل ٍ
حدب يف �أل ِب َ�سة
ع
حلوة و�أثواب ُمل َّونة؛ ف�إن ملك احلب�شة اليوم يف �سب�أ قد نزل ،ينظر �إىل الأر�ض
ص
اجلديدة التي ا�ستملكها ولطاملا مت َّناها �أ�سالفه ،و�إن �أمراء املناطق كلهم قد
ري
ن�سا بالغ َل َبة والن�صر ...وكانحفل كبري �أُ ً
ال
�أتوا و�أبناءهم ملالقاة امللك الكبري يف ٍ
«�أبرهة» ملك �سب�أ مي�شي يختال زهوا و«ريحانة اجلذابة» يف كامل زينتها بجواره،
ك
وخلفهما ابنيهما «اك�سوم» و«م�سروق» ،وجاء الأمري «�أفراح» ومعه �أبنا�ؤه وفيهم
ت
وح�ش الفال «�سيف» ،ومل يكن يف احلفل �أجمل منه �إن�سان.
جمل�س
ٍ
ن ل ل ب
ور�سم �إله ال�سماء خطة القدر ..واجتمع ال�شباب �أبناء امللوك يف
ش
يت�سامرون ،وجاءهم وح�ش الفال ُي�سامرهم والبهاء يف طل َعته يغيظ قلوبهم.. َ
ر
قال له «�أك�سوم»:
و
ألب�سك لبا�س امللوك؟ � َ
يع ز
قال له وح�ش الفال بهدوء:
�أما دريت؟ لقد وجدوا حتتي الديباج.
َ
�ضحك «م�سروق» وكان �أكرثهم مك ًرا وقال:
دريت �أنت� ..إنه لي�س يوجد يف الفال ِطفل طريح �إال �أن يكون ابن زنا. �أما َ
فتقطب جبني وح�ش الفال وانتف�ش ج�سده واندفع �إىل تالبيب الفتى و�أم�سك
بذراع من حديد يف و�سط احلفل ..قال: بها و�سحبه ٍ
أخرجتني واحدة من �أمهاتكم. �إن كنتُ ابن زنا ف�إن من ز َنت و� َ
قتال يف ناحية �أبناء امللوك وقف له ال�شهود ..وامر�أة واحدة كانت قد وكان ً
طفل حم َلته يف بطنها ثم �سم َعت حديث �أبناء امللوك وانتف�ض قلبها ،وتذ َّكرت ً
رمته �إىل الوحو�ش ...امر�أة كانت ُت�س َّمى «ريحانة»، م َّدت يدها عليه لتقتُله ثم َ
وو�سامته وعيناه اللتان ترجتفان غ�ضبا َ نظرت �إىل وح�ش الفال «�سيف» بقوته
وحري ًة ،وامللأ ينظرون �إليه ويحتقرونه ،ومل يكن غريها يدري �أن هذا الذي
115
ي�ستهينونه ب�أفواههم �إمنا هو «�سيف» �-سيف بن ذي يزن -ابن ملك �سب�أ ،و�أنهم
جمي ًعا غربان ُمتلني ،و�أن هذا الق�صر الذي يجتمعون فيه �إمنا هو ق�صر
والده!..
وعاد «�سيف بن ذي يزن» �إىل حجر زوجة امللك «�أفراح»؛ وهي التي ر َّبته
�صغ ًريا ..قال لها:
يا �أُ ّمه ..هل كانت �أمي بغ ًّيا� ،أكانت �أمي زانية؟ ف�إن مل ت ُكن ف ِل َم َ
ع
رمتني
ص
�إىل الفال؟
ال ري
نظ َرت له زوجة امللك واحلنان من عينها ي�سيل ..قالت:
وجدك.
يا بني �إمنا �أتى بك �إلينا �صياد فقري ،و�إنا ال ندري �أين َ
ت ك
قال :فد ُّلوين �إليه ،و�إين ال �أبرحه حتى يهديني �إىل املكان.
ش
مو�ضع بعيد يف الفال ،ثم تركه وتوىل ،و�سار وح�ش الفال ٍ ُيحدِّ ثه و ُي�شري له �إىل
ر
يف ذلك العراء ،وال �شيء يلي الب�صر ،ال �شيء �إال كثبان و�آكام وعيو ٌن من اجلن
الت و
انكتم
طفل! ،واليوم َ تنظره وال تدري �أنه هو الذي كان ي�صرخ يف هذا اخلالء ً ُ
و
�صوته وترقرقت عيناه بدمع احلرية.
التفت
يع ز
الظل َمة وغزَ اه الي�أ�سَ ، فلما م َّرت عليه مقادير الوقت وح َّلت عليه ُ
خارجا من تلك الأر�ض� ،إنها املرة الأوىل التي ي�ش ُعر فيها ب�أن له من لق ِبه ن�صيب
-وح�ش الفال -مي�شي ولي�س من حوله �إال الفال ،ولي�س يف قلبه �إال الفال ...حتى
ً
وجف الدمع يف املُق َلتني� ،إذا �أ�ستار الليل تتهادى، �إذا بلغ القنوط يف عت َمة الليل َّ
وتخ ُرج من خلفها غادة ذات قوام ح�سن ووجه ح�سن وقلب حريري ...مل ت ُكن
لترت َكه وحده «�إينور» ،وهي التي ُتتا ِبعه مذ كان ً
طفل.
�أنت �صاحب الأر�ض يا بن «ذي يزن»� ..أنت مليك الأر�ض ،و�إن الأحبا�ش
ل�ست وح�ش الفال؛ أر�ضك وعر�ضك� ...أنت َ قد غزوا �أه َلك واغت�صبوا � َ
�أنت �أمري الفال وال�سهل واجلبل� ،أمري �سب�أ.
فا�ستعجب من قولها وا�ستح�سنته ِفطرته ..قال: َ
بقي من قومي �أحد؟
وهل َ
قالت:
116
رج ٍل منهم يقال له «يرثب»؛ فقد كان �صاحب ِ�سر
هم قليل ..فاذهب �إىل ُ
�أبيك.
وهل قتلوا �أبي؟
بل ذهب �إىل ك�سرى الفر�س يط ُلب الن�صرة ،وخذله «ك�سرى» ومات يف
طريق العودة.
ع
بقلب غري القلب الذي دخلها به،
وخرج «�سيف بن ذي يزن» من تلك الفال ٍ
ص
وبعيون يطري منها ال�ش َرر.
ٍ
ر
عامرة باحلكايا والأحزان ُيل ِقيها كل ٍ
و
وقفتككلهاهذه،من الوقالبعده.وت
واحلرية ،ومل�سوا يف قلبه الثورة واالنتها�ض و ُكره ا
ؤو�سهم... ير�سمها للثورة؛ طريقة ملا �سمعوها �أطرقوا بر�
ي ز
ف�سكت «�سيف» ومل ي ُرد ..وبقي معهم �سنوات يتع َّلم دين �آبائهعو�أجداده
َ
مقالتك فينا مثل َ وقف فينا كمثل يا «�سيف» �إن َ
والدك َ
وطريقتك ،ولقد َ
ف�شل و�أف�ش َلنا و�أف�شل �سب�أ
ع
�أخ َلفته حتى عاد ومات بح�س َرته على قارعة الطريق� ،أنا ابن امللك «ذي
ص
يزن» ،ملك بالد �سب�أ التي عدا عليها احلب�ش فما تركوا فيها مغن ًما �إال
ري
َ
ال
وينالك لتن�صرين ف�أطرد الأغربة عن بالدي �سلبوه ،و�إين �أتيتُك اليوم ُ
منا َف ْيئ و ِفري يف كل عام.
ت ك
قال «ك�سرى» من وراء الزبرجد واللآيلء التي ُتيط به:
ل ب
بعدت بالدك عن بالدي ولي�س فيها غري ال�شاء والبعري ..وما كنتُ لأو ِّرط
ن ل
جي�شا من فار�س ب�أر�ض العرب. ً
ر ش
ثم �أعطاه «ك�سرى» ع�شرة �آالف درهم ذهبي فار�سي ،وقال له:
الت و
مال بعد هذه العطية.بقومك ف�إنك ال تزال �أكرث �أهلك ً احلق ِ َ
ز و
َ
يع
ان�صرف احلر�س الرجلني ...وان�صرف «�سيف» كما ُ خرج و�أ�شار بيده ل ُي ِ
أغ�شت مالحمه ،ومل يد ِر �أن �أر�ض �سب�أ يف �أيام �سفره هذه كانت والده؛ بح�سر ٍة � َ
تهتز؛ تهتز بالغ�ضب وك�أن الزمان ي�أ َبى �إال �أن ُيعيد الهزة يف �أر�ض �سب�أ كلما
�سافر «ذو يزن»! ،لكن اله َّز َة يف عهد �سيف كانت �أ�شد و�أنكى ،وانهارت لها نفو�س
بني يزن �أكرث من انهيارهم الأول.
z
يتعجب من �شيء ُيالحظ حدث �أن «�أبرهة» يف طوال �سنني ُحكمِ ه لليمن كان َّ َ
�أن العرب يفعلونه ويحر�صون عليه بكافة طوائفهم وبلدانهم ..كانوا يروحون يف
يحجون فيهاعام يف جموع وقوا ِفل م�سافرين من �أق�صى الأر�ض �إىل م َّكة ُّ كل ٍ
تاجرون ...ولي�س يف مكة هذه �إال جبال وواد غري ذي زرع وقوم �أجالف ال دينَ و ُي ِ
فيهم وال ح�ضارة.
فوجه «�أبرهة» �س� ًؤال �إىل �أحالفه العرب من قبائل �سب�أ:
َّ
ما الذي ته ُفو �إليه القلوب يف تلك الأر�ض؟
118
حجر ال يزيد حجمه عن حجم ُغر َفة يف ق�صرك يا م ِلك. بيتًا من َ
بيت كهذا ته ُفو �إليه القلوب؟ وما بال ٍ
�إنهم يذ ُكرون �أن �إبراهيم النبي قد بناه وابنه �إ�سماعيل.
فظه َر م�سحة غا�ضبة على وجه «�أبرهة» وكان م�سيح ًيا ُمت�شدِّ دًا ..قال:
�أي هراءٍ هذا؟ ما الذي �سي�أتي ب�إبراهيم النبي �أبو ال�صاحلني �إىل تلك
ع
الأر�ض اجلدباء ،واهلل �إن �أفكارهم وقلوبهم ُتاثل طبائعهم جالفة.
ريص
ال
قالوا:
أ�صناما ..كل �أ�صنام العرب و�آلهتهم و�إنهم قد ن�صبوا حول ذلك البيت � ً
ت ك
حتج �إىل ذلك البيت تتق َّرب كل من�صوبة هناك ،حتى �إذا �أتت القبائل ّ
ب
قبيل ٍة لأ�صنامها.
ر ش
لأن كل القبائل العربية يف اجلزيرة تعرف �أن ذلك البيت ُمق َّد�س ،و�أن
الت و
«�إبراهيم» هو الذي بناه.
ز و
يع
�سكت «�أبرهة» ،وب َّي َت �ش ًّرا يف دواخل نف�سه.
وبال�سوط املُ�س َّلط على ظهورهم� ..أمر «�أبرهة» ب َن�صب ِ وبال�سخرة والت�سخري،
كع َبة يف �سب�أ ،تكون هي اجلمال ُم َّ�سدً ا يف ِبناء ،وتعا�ضدت �سواعد من �سب�أ
ونظ َمت �أحجا ًرا على �أحجار وم�سامري من ذهب وف�ضة ...فانت�ص َبت على �أر�ض َّ
املرمر املُ َّلون تع ُلوها ق َّبة ُم�ش َّي َدة
�سب�أ كع َبة دائرية لها باب ذهبي وبالط من َ
وجعلت على ت َّلة ُمرتفعة زينة للناظرين ،وبعث «�أبرهة» من الف�سيف�ساءُ ...
مبعوثني �إىل القبائل يدعونهم للحج �إىل كعبة �سب�أ ،و�س َّماها القلي�س ،وقطب
ومطوا �شفاههم واتخذوها �سخر ًيا! ،لكن الداعني �إىل القلي�س العرب جباههم ُّ
فحدثت املناو�شات م ّر ًة قد زادوا وكانوا من ع َرب �سب�أ املتحالفني مع احلب�شَ ،
عرب نزلوا على كعبة أوقدت منها نار القلوبٌ ، بعد مرة ،ثم مل َعت ال�شرارة التي � َ
�سب�أ و�سعروا فيها نا ًرا ،ف�سعرت النار يف قلوب الأحبا�ش!
وقف ناظ ًرا �إىل النار ،واحلب�ش من حولها ي�صيحون بلغامت ..و«�أبرهة»
غا�ضب ما ،وقف ي�سمع كالم «�أبرهة» الذي يقوله لوزرائه، ٍ ي�صيح يف ُجنده ب�أمر
119
كان ُي�صدر �أمره �أن جي�شوا اجلي�ش والأخيال والأفيال واقرعوا الطبل؛ ف�إن
ترحم ،وال تقف �إال عند كعبة جموع تغزو وال َ احلب�ش نازلون �إىل العرب يف ٍ
ينظر �إىل حرقتهم وحريقهم واللهب العرب فال تدعها �إال حطاما ،وقف �ساه ًما ُ
ينظر �إىلينعك�س على �شعره الأ�صفر الذي اعتدنا عليه« ،عمرو بن جابر» كان ُ
عيون حمر قد وق َفت على جانب من النار -عيون �شيطان -قال له هل تذ َّكرتَ يا
يوما ،كانت ُ�شعلة ولد منها«عمرو»؟ �أن نا ًرا قد �أُ ِّج َجت من �أخاديد هذه الأر�ض ً
ص ع
رجل غا�ضب ي�سمى «�أ�سعد» رفع كلمة الرحمن من �سب�أ �إىل الكعبة ليك�سوها..
واليوم نار قد �أُججت يف هذه الأر�ض ،كانت ُ�شع َلة خرج منها رجل غا�ضب ي�سمى
ال ري
«�أبرهة» ،نازل بجنده من �سب�أ �إىل الكعبة ليهدمها� ..ألي�س َ
النظر يف القدر ُم ِتع
ك
ألي�ست هذه الكعبة هي �آخر ما ميلك الرحمن على هذه الأر�ض؟ حتى و�ساخر؟ � َ
ت
يجد معبدً ا يع ُبد الرحمن عنده...�أن ُمل�صه �إذا �أتى لن ِ
ش
نكذب يف النبوءات.«�سطيح» كانت نبوء ًة زائف ًة يا بن جابر!� ،أال تدري �أننا ِ
و ر
ثم َّ
zالت
تول وهو ي�صدح بال�شماتة وهو يقول :نحن نكذب يف النبوءات يا بن
و
جابر ..نحن نكذب يف النبوءات...
يع ز
لي�س من ح َكى عن اجلي�ش كمن ر�أى اجلي�ش ،قبائل و�أفيال ورومان وح َب�ش...
ع�شرات الآالف تتبع بع�ضها وك�أنه ال نهاي َة لها! ،و�إن �أكرب حرب بني العرب مل ِيزد
أ�سلح ٍة يرفعونها
املتقاتلون فيها عن �ألفني� ،أما وقد �أتتهم اليوم ع�شرات الألوف ب� َ
و�أفيال يج ُّرونها وغ�ضب ا�ستق َّر يف عيونهم ،ف�إن العرب اليوم يف ح َرج ...كان
«عمرو» يتبعهم وعيونه اجلنية ال ترى �آخرهم ،وخاطر يجول بذهنه؛ ح ًقا �إن
يكذبون يف النبوءات! ،فلم تذ ُكر النبوءة �أن احل َب�ش �سينزلون �إىل ال�شياطني ِ
مكة� ،إمنا قالت �أنهم �سيحكمون �إىل جنران ،لعنهم اهلل ال�شياطني قد �أوقدوا
يوما.
يف قلبه الأمل ً
جيو�ش العرب ُتدا ِفع عن �أر�ضها ..فخرج �أول من خ َرج �أ�شراف ُ وخرجت
ُ
اليمن ،فانهزموا و�أبيدوا عن بك َرة �أبيهم ،ثم خرجت قبائل �شهران وناه�س،
فانهزموا ومل تبقَ منهم باق َية ،خرجوا ً
رجال على ق َّلتهم ِّ
بكل ب�سا َلة العرب
120
وج�سارتها ،لكن اجلي�ش مل يكن عاد ًيا ،وعلم بقية العرب �أنهم لو حاربوا هذا
اجلي�ش واجتمعوا له كلهم� ،ستنزل عليهم جحافل الروم فتطبق عليهم عن
�آخرهم؛ فاحل َب�ش والروم فريق واحد.
فكانت جحافل الأحبا�ش مت�شي وتتحا�شاها القبائل حتى و�صلوا �إىل �أر�ض
لينق�ض على مكة وي�ستبيحهاَّ املغم�س على �أعتاب مكة ..فتو َّقف جي�شهم وت� َّأهب
ويد ُّك حرامها وحاللها ...لكن فر�سا ًنا ثالثة قد انطلقوا من مكة وعلى
ع
مالحمهم �ألوان من الغ�ضب ،حتى �أتوا على خيمة «�أبرهة» وم�شوا بني اجلي�ش
ريص
ال ينظرون حتى �إىل عتاده وجهازه! ،قيل لأبرهة �إن ه�ؤالء �أ�سياد مكة وقد �أتوا
ال
جال�سا فدخل عليه ثالثة فر�سان للتحادُث ..قال ف�أدخلوهم ،وكان على عر�ش له ً
رجل هو الهيبة كلها واجلالل كله ،طول وربعة يف اجل�سد وو�سامة يتق َّدمهم ُ
ت ك
يف الوجه وجالل ،و�شعر �أ�س َود تتخ َّلله خ�صلة بي�ضاء �أ�ضافت �إىل هيبته مهابة
ل ب
ورزانة ،وكان ا�سمه «عبد املطلب»� ،سيد مكة و�صاحب بئرها ..فلما ر�آه «�أبرهة»
ن ل
قام واق ًفا ،ثم انتبه �إىل وقفته التي وقفها على غري عادته ،وا�ستكرب �أن يج ِل�س
ش
إجالل ،فم�شى با�ستكبا ٍر ثم َ
جل�س على عر�شه بعد �أن وقف لئال ُيقال �أنه وقف � ً
و ر
ب�ساط ملكي للزائرين ،و�أ�شار للثالثة �أن يجل�سوا. على ٍ
و الت
و�أ�شار «�أبرهة» للرتجمان �أن ي�س�أل الرجال عن حاجتهم ..فتك َّلم �سيد بني
يع ز
بكر ،وقال:
تعر�ض عليه ُثلث �أموالها على �أن ُقل ملليكك يا ترجمان �أن «بني بكر» ِ
ين�صرف عن مكة. ِ
ثم تك َّلم �سيد «هذيل» وقال مثل قول �صاحبه ...ف�سمع «�أبرهة» ترجمة
كالمهم فقال:
حاج َة يل ب�أموالهم ،و�إن �أرادوا ال�سلم فليخلوا بيننا وبني ذلك البيت ال َ
فند ّكه د ًّكا ب�أفيالنا.
ثم �أ�شار «�أبرهة» �إىل ترجمانه لي�س�أل الرجل ذو اخل�ص َلة البي�ضاء عن
حاجته ...ف�س�أله الرتجمان ،فتك َّلم «عبد املطلب» قال:
ُقل ملليكك الأ�ش َرم �أنه قد اعتدى يف طري ِقه �إىل هنا على �إ ِبل يل ..مائتني
من الإبل ،ف ُقل له �أن ي ُر َّدها يل.
121
العجب والغ�ضب ...قال: فرتجم الرتجمان ..فظهرت على «�أبرهة» عالمات َ
�أ ُتك ِّلمني يف مائتي بعري �أ�صبتُها لك! ،وترتُك بيتًا هو دين �آبائك و�أجدادك
قد جئتُ لأهدمه على ر�ؤو�سكم فال تكلمني فيه؟ لقد كنتُ �أعجبتَني حني
ر�أيتك ثم زهدتُ َ
فيك حني ك َّلمتني.
قال عبد املطلب بحزم:
ع
هدمه
رب يحميه ،وما �أنت على ِ �أما هذه الإبل ف�أنا ربها ..و�أما البيت فله ٌّ
ص
بقادر.
ال ري
وملا �سمع «�أبرهة» الرتجمان اتَّ�س َعت عيناه مقتا وقال:
كت
�أما ذلك الرجل ذو اخل�صلة البي�ضاء فر ُّدوا �إليه �إ ِبله� ..أما البيت ف�إين
�س�أزيله و�أزيل من يع ِرت�ض طريقي �إليه.
ب نل
z
ش ل
رمال �صفر امت َّدت �إىل حافة الب�صر ،تراها قد متاثلت �صورتها يف كل ناحية،
و ر
ولو ملكت عني ال�صقر لن ترى غريها� ..صحراء فاقعة �أكلت �أر�ض اجلزيرة كلها
الت
�إال ً
و
قليل ،وهي حول مكة �أ�شد ،و«عمرو بن جابر» واقف على �أعتاب مكة ناظر
ز
�إىل ال�صحراء ير ُقب �شي ًئا �شقَّ �صفحة الأفق!؛ ظالل �سود �أبرز الأفق الطويل
يع
ر�ؤو�سها تربج من كل حافة ،م�صفوفة على طول ال�شفق ،ر�ؤو�س ترتدي خوذات
تغطت ر�ؤو�سها بالدروع ،ورجال حب�شان على ظهور الأفيال حربية ،ور�ؤو�س �أفيال َّ
يد ُّقون الطبل ...وتقدموا راجلني وراكبني وعجز الب�صر �أن يرى منتهاهم!،
و�صعد «عمرو» يف الهواء لريى فعجز �أن يرى منتهاهم ،وارجتفت عينه املتَّ�س َعة،
امل�سري لقادر على �أكل اجلبال �إذا �أراد ،واقرتب منهم طائ ًرا واهلل �إن هذا ِ
بجناحيه ،فرمقت عينه حرك ًة يف مقدم اجلي�ش ك�س َرت انتظام امل�سري ،حتديدً ا
عند الأفيال التي يف طليعة اجلي�ش.
أح�ست �شي ًئا! .و�صارت ُت�ض َرب بال�سياط فتم�شي يف كل
توقفت الأفيال ك�أمنا � َّ
جهة �إال جهة امل�سري ،وتوقفت الطبول عن الدق ،وتعاىل �صياح الرجال ،ثم انتقل
ال�صياح �إىل م� ِّؤخرة اجلي�ش! ،فنظر «عمرو بن جابر» ف�إذا اجلنود يف اخللف
رافعوا ر�ؤو�سهم �إىل ال�سماء من خلفهم وي�صيحون ...وانتق َلت عني «عمرو» �إىل
ال�سماء ،وارجتفُ ،
وانظر �إىل اجلن ملا يرجتف ماذا يرى!
122
وهدت من بعيد ..تتقارب فتكون ك�أنها ب�ساط �سرب من الذرات ال�سود ُ�ش ِ
مديد من الذر الأ�سود! ،وتتباعد فتكون ك�أنها ُكرة ،وتظل تتقارب وتتباعد
كال�شياطني يف ال�سماء و ُت�ش ِّكل الأ�شكال ...واقرتبت �أ�سراب الذر من بعيد فر�أت
تفا�صيلها العيون؛ فلم ت ُكن ذرات ،ومل ت ُكن �سوداء!
كانت طيور ..طيو ٌر من ف�صائل مل تعرفها بالد العرب! ،لكن بالد احلب�ش
ع
تتو�سع يف
تعرفها ،ويدعونها (الزرازير اجلواثم) وبد�أ اجلي�ش يتف َّرق ،والطيور َّ
ص
وتعث الرجال ه َر ًبا ،ونزل الطري �سربها حتى ما خال منها مو�ضع يف ال�سماءَّ ،
ال ري
كله �إىل �أ�سفل مما كان فر�ؤ َيت �ألوانه و�أ�شكاله و�أعداده� ...أزرق الأج�ساد �أحمر
العيون والأجنحة� ،أعدادهم ال ُت ِ�صيها حتى عني زرقاء اليمامة ،كان مائتي
ت ك
�ألف طري �أو يزيدون ،ي�صدرون �أ�صوات طريية عالية ،غا�ضبة ثائرة ،وكان يف
اجلي�ش عرب �ضلُّوا ال�سبيل فلم يفقهوا من الأمر �شيء ،و�إن مل يعرفوا الطري �إال
ر
نظمة ،والآن ال تعرف طليعته من جلي�ش كان � ً
أرتال ُم َّ تنظر ٍ «عمرو» يف ال�سماء ُ
الت و
قفاه ،يخافون من طري ُيح ِّلق يف جو ال�سماء له نعيق و�صرير! ،كانت املرة الأوىل
و
رحا َلة ،مل ي ُكن يدري �أن
ز
التي يرى فيها «عمرو بن جابر» هذا الطري رغم �أنه َّ
يع
�أر�ض �أفريقية مملوءة ب�أمثاله ،ال ميرون بقرية �إال �أهلكوا حم�صو َلها ونزل بني
�شعبها امل َر�ض ...كان اجلي�ش يحاول التف ُّرق والطري فوقهم �صافات ،ثم فعلت
الطيور �شي ًئا جعل الأحبا�ش ي�صرخون على �صراخهم �ألف �صراخ!
حتجرت يف جو ال�سماء ونزلت مائتي �ألف طري �أل َقت من بطونها عذرات َّ
كالوابل املُنهمِ ر ..وكان احل َب�ش يعلمون معنى هذا ،نزلت عذرات الطيور وتف َّتتَت
على الأر�ض والأج�ساد ،و�أعادت الطيور ت�شكيل �سربها ب�أ�شكال و�أ�شكال! ،ثم
جي�شا مفر ًقا �شتيتًا تغمرهمحت َّركت بعيدً ا �إىل العرين الذي �أتت منه تاركة ً
احل�سرات ،حتى غابت عليهم ال�شم�س ونزلت �ستارة الليل وف�شا بينهم اجلدال،
قالوا �إن تلك الطيور ال ُمتر �إال واملر�ض تابعها ،ولقد �أل َقت علينا العذرات
كعهدها ك َّلما م َّرت يف مكان ،فما لنا �إال العود �إىل احلب�شة ...فغ�ضب «�أبرهة»
وقال :ما بال الرجال �أ�صحاب الدروع وال�سيوف يخافون من مرميات الطيور!،
واهلل ال نرجع حتى ند ُّك ذلك احلجر ،وما بيننا وبني مكة �إال ميل �أو اثنني...
123
فنظ ُمواوتوج�س ،حتى �أتى ال�صباح َّ
وبقوا �ساعات الليل يعدونها عدا ..بني حرية ُّ
تنظيمهم ،وحملوا �سالحهم ،وم�شوا يف تهيب وجبانة ملأت قلوبهم ،ثم نزل بهم
ما كانوا يحذرون.
ف�شت يف جثمانهم ا ُ
حل ّمى وتو َّلدت ال�سموم يف بطونهم ..فمر�ضوا وتق َّي�أوا، َ
و�سع َلت ح ُلوقهم ...وتو َّقف امل�سري و�أعياهم امل َر�ض ،وعزموا على العود،
ع
َ
احلب�شة مي�شون م�ش َية املر�ض ،وبقت �أفيالهم فا�ستداروا وم�ضوا �إىل ناح َية
ص
أياما بغري عائقة ،ثم اندفع البرث على وخيولهم مل مي�س�سها �ضر ،فم�شت بهم � ً
ال ري
وجحظت عيونهم َ وجوههم و�أعناقهم وغزا �أيديهم و�أرجلهم ،وانتفخت �أ�شكالهم
من الرعب ،واهتاجت �أبدانهم و�شاعت فيهم حكة ُيطفئون بها ما ثار عليهم،
ك
ف�صاروا يفركون البثور ب�أظفارهم فتخلف وراءها حف ًرا! ،وتباي َنت جلودهم بني
ت
ُمنت ِفخ وحمفور ،و�سقط ثلث منهم �صرعى �شاخ�صني ب�أب�صارهم �إىل ال�سماء
ب
ن ل ل
وقد انطف�أت فيهم احلياة ،وبقي الآخرون �أحياء يحثون على الرتاب مر�ضى
ش
نبت َ
نه�شته بني �أمواتهم ،وجلودهم م�أكو َلة مم َّددين على الرمال ك�أنهم �أ�صناف ٍ
ر
ودا�ست عليه احلوافر.
قطعان البعري َ
الت و
و
وم�شى «�إزب» بينهم وب�شاعة البغ�ضاء طالعة على وجهه ..ترمي الرياح
يع ز
عباءته �إىل ي�ساره ،ثم رفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء و�صرخ ،وما كان ال�شيطان لينعى
املوتى و�إمنا كان ينعى انهزامه! ،ونزل من تلك ال�سماء «عمرو بن جابر» كاملالك
الأمري ،وكان يف عينيه َن�صر وغل َبة ،فلما ر�آه «�إزب» �سحب عباءته ورحل مغا�ض ًبا،
الحقه ك�أنه له ظل. َ
كالوم�ضة وابن جابر ُي ِ وانتقل من املكان
z
يف �سوق من �أكرب �أ�سواق بالد فار�س ..وقف «�سيف بن ذي يزن» على �أعلى
مو�ضع ميكن �أن يقف فيه ،و�أخرج الدراهم الفار�سية الذهبية التي �أعطاه �إياها
ينثها على النا�س ويتح َّدث ب ُلغته التي مل يكن يفهمهما �أحد من ك�سرى ،وبد�أ ُ
�أهل ال�سوق ،لكنهم اجتمعوا كاملحمومني على الدراهم يتل ُّقونها من الأر�ضَ � ،
أنت
ينث الذهب يف ال�سوق كل يوم ،وبلغ الأمر «ك�سرى» ،فقال ائتوين ال ترى جمنو ًنا ُ
يدخل فيها �أحد على «ك�سرى» يف بهذا الفتى اليماين ،وكانت املرة الأوىل التي ُ
يومني ُمتتاليني! ،فلما �أتاه قال:
124
تنث �أموايل التي �أعطيتُك على ر�ؤو�س النا�س؟ دعاك �إىل �أن ُ
ما َ
هل ترى هذا الذهب الذي و�ضعتَه يل يف كي�س ورميتَه �إيل ،ف�إن جبال
بالدي ذهب وف�ضة ،و�إين �أتيت َُك ل َ
أعطيك �أنا الأموال �إذا مددتَني
جلند� ،أما � َ
أموالك �أنت فال حاج َة يل بها. با ُ
وعلى جراءته �إال �أنه �أعجب «ك�سرى» ..ونظر �إىل حا�ش َيته يف تفكري ،قال له
ع
املوبذان وهو قا�ضي الق�ضاة:
ريص
ال
ُخرج له «وهرز» ومن معه ،ف�إن ماتوا ف�إنا ُنريد يا عظيم البالد ..فلت ِ
خراجا.
هالكهم ،و�إن ن�ص ُروه ف�سي�أتينا من بالده ً
ت ك
رتجم �إىل «�سيف» وهو متفاجيء من حديث «ك�سرى» واملوبذان.. نظر املُ ِ
ل ب
ت�سائل ،قال له املرتجم:ونظر له «�سيف» ُم ً
و ر
بي له املرتجم الأمر ،ات�س َعت عني «�سيف» نظر له «�سيف» بعدم فهم ..وملا َّ َ
و الت
تبي �أن من �سيخ ُرجون معه لن يخرجوا من مع�سكرات ً
اندها�شا؛ فلقد َّ الو�سيمة
يع ز
جنود فار�س� ،إمنا �سيخرجون من ال�سجون� ،أعتى املجرمني ال ُفر�س املحكوم
عليهم بالإعدام« ،وهرز الأعور» ،وثمامنائة ُمرم من �سف َلة بالد فار�س.
وهبطت �س ُفن ثمانية على خليج عدن ..وانترث منها رجال �أتوا من فار�س
يف عدة و�سالح ،وقمع انكتم بداخل نفو�سهم يف ال�سجون وقد �آن �أوان �إخراجه،
باحلقد على احلب�ش وحتى على �أمه احلب�شية!، ير�أ�سهم رجل ميتلئ حتى �آخره ِ
و�أق�سم ل ُيخرج َّنهم منها �أجمعني ،و�إن ُمه َّمته كادت �أن تكون م�ستحيلة بثمامنائة
رجل؛ فجي�ش «�أبرهة» و�إن كان الذي خرج منه �إىل بالد العرب قد �صاروا
�سيطر على بالد اليمن ،مائة �صف م�أكول �إال �أن بق َّية جي�ش الأحبا�ش كان ُي ِ ك َع ٍ
ألف من الرجال يف �أح�سن التقادير ،يحكم عليهم «م�سروق ابن �أبرهة» �صاحب � ٍ
يكتف مبجرمي الفر�س الذين معه بل كان الل�سان البذيء ،لكن «ذي يزن» مل ِ
ُمير على القبائل و ُي�ش ِعل نريان الغ َرية يف نفو�سهم على الأر�ض ،حتى جمع ما
جمع من العرب الرجال.
125
واندل َعت حرب �أخرية ملحم َّية ..جنح فيها «وهرز» �أن يقتُل «م�سروق بن
�أبرهة» بطعن ٍة بني عينيه ،وانته�ضت قبائل اليمن الأخرى وانق�ضوا على الأحبا�ش
من �شرق ومن غرب ،وانطلقت كل غرائز الوح�ش َّية يف املجرمني اخلارجني من
ً
و�شمال! ،وبرز «�إزب» يف ال�سماء �سجون فار�س؛ فكانوا ي�ضربون الر�ؤو�س ميي ًنا ُ
يظهر يف مو�ضع ويختفي ليظهر يف مو�ضع �آخر ك�أنه اخليال ووراءه «عمرو ابن
جيده وخن َقه ب َي ٍد واحدة من فوالذ ،لكن «�إزب»
جابر» ،حتى �أم�سك به «عمرو» من ِ
ع
انتف�ض وتخ َّلى عن عباءته التي كان مي�سك بها «عمرو» ،فبانت مالمح ج�سده
ص
الرمادي ور�أ�سه اخلايل من ال�شعر ومالحمه ال�شيطانية ...و�صرخ �صرخ ًة ك�أنه
ال ري
ينظر �إىل «�إزب» الذي �صرخ ثاني ًة �صرخها بج�سده كله! ،وتراجع «عمرو» وهو ُ
ك�أنه ي�ص ُرخ لل�سماء ،ونظر «�إزب» �إىل «عمرو» بنظ َرة مقت ،ثم اندفع كال�شهاب
ت ك
زجت به �إىل الأر�ض و�أحر َقت وجه «عمرو» من �أ�سفله. ف�صدمه �صدم ًة َّ
َ
ل ب
�أما «�إينور» فقد بق َيت ل�سيف بن ذي يزن تتع َّقبه ..حتى انت�صر ُ
جي�شه يف تلك
ن ل
وا�ستعبدهم وطرد �أكرثهم ،وعاد «وهرز» ومن معه َ احلرب ،وهزم الأحبا�ش
ش
انب�سطت يف �أنحاء اجلزيرة كلها� ،أهلَ �إىل بالد فار�س �أحرا ًرا ،وكانت فرحة
و ر
�سب�أ يحتفلون بطرد الأحبا�ش وا�ستعادة التبابعة ُحكم البالد ،وقري�ش حتتفل
الت
جي�شا ً بق�صوف الطري الأبابيل التي �أهل َكت ً
و
مهول جاء لهدم كعبتهم ،و�أتت وفود
ز
العرب من كل �صوب ُتهنئ امللك «�سيف بن ذي يزن» ،و«�إينور» ُ
يع
تنظر �إليه و�إىل
جواره �صاحب العلم «يرثب» ،وعينها ترتق َرق بالدمع؛ �إن النبوءة حت َّققت كما
قيلت ،ورفعت ر� َأ�سها لل�سماء امتنا ًنا للإله الرحمن ذي �سماوي.
و�شاهدت من الوفود وفد قري�ش قد �أتى وفيهم �أ�سياد مكة و�أ�شرافها« ..خويلد
رجل مهيب بن �أ�سد» و«عبد املطلب بن ها�شم» وغريهم ...وكان «عبد املطلب» ُ
املنظر يف �شعره خ�صلة بي�ضاء ،مل تكن تعرفه لكن مر�آه �أ�س َّر عينها عمن �سواه،
ينظر �إىل �سواه! ،فتك َّلم «عبد املطلب» وقاللفت نظر «�سيف» �أي�ضا فكان ال ُ ولقد َ
مقال ًة بليغ ًة يف تهنئة امللك ،فزاد �إعجاب «�سيف» به ف�س�أله:
من �أنت؟
�أنا عبد املطلب بن ها�شم.
ا�ستب�ش َر «�سيف» خ ًريا وته َّل َلت �أ�ساريره وهو يقوم من مكانه ويقول:
ابن �أخ ِتنا اليمانية اخلزرجية البا�س َلة «�سلمى»؟
127
قال له عبد املطلب :نعم...
فرحا وا�ستب�شا ًرا و�أك َرم �سيف وفادة عبد املطلب نظر «�سيف بن ذي يزن» ً
با�سل يف حروب وكل من كان معه ،و«�سلمى �أم عبد املطلب» كان لها مو ِقف ِ
العرب مو ِقفها حتى ا�شته َرت ...والأو�س واخلزرج �إمنا الأو�س واخلزرج وتناقلت ُ
هم من �أهل اليمن ،ثم ان�صرف الوفد القر�شي من عند «�سيف» ،لكن «�سيف»
ع
ليدخل عليه ،و�سمعته «�إينور» وهو يقول ليرثب: وحده ُ ا�ستدعى «عبد املطلب» َ
ص
رجل غريه ،فلي�أتوين ب�س ٍّر ال ميكن �أن �أف�ضيه �إىل ُ
مف�ض �إىل ابن �أخ ِتنا ِ
�إين ٍ
ال ري
به وحده.
ف�أتاه «عبد املطلب» وحده ..و«�إينور» تتح َّرق �شو ًقا لت�سمع ماذا يريد �أن يقول
ت ك
له ،لكن «�سيف» �أدخل «عبد املطلب» يف �سرادق خا�ص و�أغلق الباب ،و«�إينور»
ن
وا�ضحا جدً ا... لت�سمع ما يقال ،فلم ي�أ ِتها الكالم
ش
ً
ر
كان «�سيف» يقول لعبد املطلب:
الت و
و
أطلعك على طليعة ،فاجعلها عندك مطو َّي ًة يا عبد املطلب� ..إين �س� َ
يع ز
حتى ي�أذن اهلل ،ف�إن اهلل با ِلغ �أمره� ..إين �أجد يف الكتاب املكنون والعلم
املخزون الذي اخرتناه لأنف�سنا وحفظناه دون غرينا خ ًربا عظي ًما فيه
ولرهط َك خا�صة.
ِ �ش َرف للنا�س عامة
قال «عبد املطلب»:
فدا� َؤك �أيها امللك ..و�أنت �صاحب ال�سر والرب.
قال له «�سيف»:
�إذا ُو َلد غال ٌم لدي ُكم بتهامة ،به عالمة ،بني كت َفيه �شامة ،كانت له النب َّو َة
والإمامة ،ول ُكم به الزعامة.
قال له «عبد املطلب»:
أمره.
فزدين من � ِ ب�ش َر َك اهلل �أيها امللكِ ..
َّ
قال «�سيف»:
128
هذا حينه الذي ُيو َلد فيه ..يبعثه الرحمن وهو يع ُبد الرحمنِ ،
واحدً ا
�أحدً ا ال ُت�شاركه �أوثان.
قال «عبد املطلب»:
فزدين �أيها امل ِلك.املوحدين يف �أر�ض تهامة قليل ،و�أنا ِمنهمِ .. �إن ِّ
قال له «�سيف»:
ع
أنت �س ِّيد من �أ�سياد العرب ..ف�إن وجدته انظر يف القوم يا عبد املطلب و� َ ُ
ريص
واحذر عليه النا�س ،واط ِو �أم َره عن كل �أحد ،ف�إين ل�ستُ � َآمن فاحفظه َ
ال
النفا�سة من �أن تكون له الريا�سة، َ عليه �إن عر َفه النا�س �أن ُ
تدخل لهم
فيطلبون له الغوائل وين�ص ُبون له احلبا ِئل ،ولوال �أين �أع َلم �أن املوت
ت ك
ُمتاحي قبل مب َعثه ،ل�سرتُ بخيلي ورجلي حتى �أنتظره بيرثب دار
ل ب
مملكته ومهاجره ،ف�إين � ِأجد يف الكتاب الناطق والعلم ال�سابق �أن بيرثب
ن ل
ا�ستحكام �أمره و�أهل ن�ص َرته ،ولوال �أين �أ ِقيه الآفات و�أحذر عليه العاهات
ش
احلول لأعلنتُ على حداثة �سنه �أمره ،فاذهب يا عبد املطلب ،و�إذا حال َ
و ر
�سمعت عنَ جتد �أحدً ا �أو
كنت قد وجدتَه ،لكن هل ِ فائتني و�أع ِلمني �إن َ
الت
موحد ُو ِلد له و َلد فيه تلك العالمة بني كتفيه؟
ز و
يع
قال «عبد املطلب»:
�أيها امللك ..كان ،لـ...
يعت�صر كبدها! ،ثم تن َّب َهت �أن ومل ُتكمِ ل «�إينور» ال�سماع! .فقد �شع َرت ب� َأل ِ
جتد �سالحا ما�ض ًيا قد انغر َز فيها من وراء ظهرها ف�سا َلت منها الدماء ،ومل ِ ً
وقتًا لتت� َّأل ،ف�إن الذي طع َنها �أدار ال�سالح ليزيد من وط�أة القتل ،ثم تركها
ف�سقطت على الأر�ض م�ضرجة يف دمائها ،وعينها تفي�ض دم ًعا ...ونظرت َ
ينظر لها يف بطرف عينها وراءها فر�أته يف عباءته املقيتة�« ،إزب بن �أزيب» ،كان ُ ِ
أخذتنا مغالبة الإن�س وتركنا اجلن ي�صب�أون حتى غ َّرهم ِحل ُمنا، مقت ويقول ،قد � َ
لك بعد حني ،و�إين قد �ضللتُه فال الح ٌق ِ
انتظري زوجك يف �أر�ض اجلحيم ،ف�إنه ِ
�أظنه يدري �أين �أنا.
وانطف�أ نور عني «�إينور» فغ�شا عينها الظالم الأ�س َود ..ومل ينق�ص من جمالها
ق�ضت �أكرب قطعة �شيء ،وا�ستل َقت بجوار �سرادق «�سيف بن ذي يزن» ،بعد �أن َ
129
املوحدين ،وقد بذ َلت حياتها لأجل هذه الغاية وحدها، من عمرها ُتن ِّور طريق ِّ
تذ َّكرت «�أ�سعد» وجبل �أهنوم ،وتذكرت «يزن» ال�صغري متعهد الكتاب ،وتذ َّكرت
مالحقتها للكتاب و�ضر َبة «�أبرهة» لها بال�سيف ،ثم تذ َّكرت «�سيف»َّ ...
فتب�س َمت
مالحمها ،وخرج «�سيف» من ال�سرادق ومعه «عبد املطلب» ُيح ِّييه و ُي َب ِّييه ،ومل
فا�ضت روحها حتت قدميه. يوما جلادة احلق قد َ يد ِر �أن الغادة التي د َّلته ً
ع
العدم ..وتل َّف َت باح ًثا عن «�إزب ثوان وظه َر «عمرو بن جابر» ك�أمنا بر َز من َ ٍ
ص
بن �أزيب» ،ثم وجد «�إينور» على الأر�ض ،وال�سواد املُظ ِلم قد غزَ ا عيونها! ،فتو َّقف
ال ري
مكانه وات�سعت عيناه وارجتف حاجباه�« ،إينور» يا �صاحبة النور� ،أين النور الذي
كان منك ي�شع ،وهوى «عمرو» على ركبتيه! ،ثم هوى على مرفقيه وك�أن ج�سده
ت ك
ي�أبى االنتها�ض ،وبكى حتى غطى الدمع على ما يرى فلم ي ُعد يرى �إال لقطات
ل ب
جتيء على خياله جتمعه ب�إينور! ،ويداه ممت َّدة ما�سك ًة بيدها وهي ُم�ستلق َية على
ر
ثوان فكان عند جبل �أهنوم ..و�أقربها وحمل «عمرو» «�إينور» وانطلقَ بها يف ٍ
الت
وتنتحب ،ثم نظر والعني قد
و يف دارها والعني ت�سيل بالعربات والروح ت�ستدمع ِ
ز و
يع
ظهر العزم على ر�س َمتها ،وانطلق يبحث عن اخلبيث ،ولي�س يف الدنيا �شيء
ُيهدئ مرارة الروح �إال ر�أ�س اخلبيث ،وظ َّل ينتقل يف الظلمات بني دور ال�سحرة
كالنجم يهوي ويرحتل ...حتى عرث عليه بعباءته اخل�سي�سة.
مو�ضع ن�ش�أته ووالدته ،يط ُفو فوق بيت ُمتها ِلك، كان «�إزب» يف طور �سيناءِ ..
ثم نزل فيه من فتح ٍة يف �سق ِفه ،وتبعه «عمرو» بال تفكري ،يف داخل البيت كان
حظي به ابن �آدم ،م�سطحة مالحمه مغم�ضة رجل ُم�ست ٍَلق يف �إعياء ،له �أب�شع وجه َ ُ
عيناه ،كان ذلك «�سطيح»؛ �ساحر العرب الأ�شهر ،متمدِّ د َمت ُّدد املر�ض الأخري،
أمر
وجل�س ال�شيطان عند ر�أ�سه ،وك�أن بينه وبينه حديث ،كان ال�شيطان ُيخربه ب� ٍ
غم�ضا عينه ك�أنه �ص َنم ،ثم من �أمور ال�سماء ،و«�سطيح» ذو الوجه ال�سطيح ُم ً
فج�أ ًة فتح عينيه املغم�ضتني يف ِجد ملا �سم َع ما قاله ال�شيطان ،ويف نف�س الوقت
بخلدهارجتف «عمرو بن جابر» �إذ �سم َع الكلمة ،ارجتف حتى ن�سي كل ما كان ُ
يدور من ث�أر وق�صا�ص ...ف�إن ال�شيطان كان ُيل ِقي بكلمة نز َلت من عنان ال�سماء!،
130
بخ ٍرب من �أخبار ال�سماء ،فخ�شعت منها املالمح وامل�سامع ،كلمة تنزَّلت وتناقلت
أبلجت و�أ�شرقت ،و�أبر َقت كائناتها و� َ
أوم�ضت، يف اخلافقني� ،أن تهامة اليوم قد � َ
وت�أ َّلقت درة الأرحام فيها و�أولدت ،نو ًرا م�صطفى من بيت فهر وز َّي َنت ،والدته
�صفح َة الأر�ض و�أ َملعت ،مبولده ال�سماء و�أنو َرت ،ملولده املالئك وال�صور ،يا مع�شر
ومتتم والروح
املنتظر ،وخ َبت عيون كاهن العرب ال�سطيحَ ، الإن�سان ُو َلد النبي َ
تخ ُرج من بني �أ�ضلعه:
ص ع
ل َعمري مل ت ُعد ال�شام بعد اليوم ل�سطيح يا «�إزب»! ،ومل ت ُعد الرافدين لك�سرى
ري
فا�ضت روحه. بعد اليوم رافدين ،وكل ما هو � ٍآت �آت ،كل ما هو � ٍآت �آت ،ثم َ
الz
ت ك
ب نل
ل
شر
وال وت
زيع
131
ماتت «�إينور» ..ومات معها احلر�ص على الكِ تاب ،وانطلق «عمرو بن جابر» يبحث عن
النبي وترك الكتاب ،و�صار الكتاب يف براثن القدر ،وكنا نحن يف ت�صاريف القدر ،فو�سو�سنا
بدلوا فيه مع
أوعزنا �إليهم �أن ُي ِّ
�إىل من جاءوا بعد «�سيف بن ذي يزن» �أن يزيدوا يف الكتاب ،ثم � َ
ع
فبدلوا وكتبوا وانتهى �إىل ما انتهت �إليه الفيدا من قبله.
تبدل الزمانَّ ،
ريص
نف�سك ،كيف ومات «�سطيح» ذو الوجه ال�سطيح ..وبقي «�شق» من بعده ،ولع َّل َك ٌ
�سائل َ
ال
عبدا ،لأن � َ
إرادتك تهرب بخب ر�ؤيا ر�آها �شخ�ص يف نومه!� ،أنت عند النوم تكون لنا ً علِمنا َ
تخرج منك فتكون �صاف َية متقدة �أمامنا نُو�س ِو�س لها كيف ن�شاء ،بال حاجةمنك وروحك ُ
ت ك
ُقرب وجوهنا من �صدرك العفِن ،ف�إذا و�سو�سنا لها ب�شيء وهي يف ذلك ال�صفاء طافية لأن ن ِّ
ش ن
لروحك ب�أمر ثعبان ،وت�أتيك ال�صورة يف �أحالمك كيفما ت�أتيك! ،والذي يفعل هذا و ُيو�س ِو�س
ر
لروحك عند النوم هو القرين ،و�إنه لي�ستمتِع بر�ؤيتك ترجف والعرق ينحدر على جبهتك.
الت و
لكن قرين امللك مل ُ
يكن هو الذي ت�س َّبب له يف تلك الر�ؤيا اخلا�صة بغزو احلب�شة ..فال
و
حدث به نف�سه �سمع ما كان امللك ُي ِّ
عالقة للقرين بهذه الأمور امل�ستقبلية ،لكن القرين َ
يع ز
ب�صوت عال �إذا خال �إىل نف�سه ،و�إن توابع «�شق» و«�سطيح» من اجلن �س�أ َلت قرين امللك َ
وعلمت ٍ
منه �أو�صاف ر�ؤيا امللك.
نف�سك عن ال�سحر وال�سحار ..ول�ست �أدري ما هي درجتك يف ال�سحر، ولع َّل َك �سائل َ
أحد َ
ثك ب�أمو ٍر هي �أعلى ما ميكن �أن ت�صل �إليه يف علم ال�سحر، ورمبا يكون لك توابع ،لكني �س� ِّ
عنك كل ما يكذب عليك به توابعك من اجلن� ،أو َمن تعرفه من ودع َ �س�أحدثك باخلال�صة؛ َ
ال�سحار ،فكله هراء! ..الكل ُيحب �أن ُيبالِغ ،والكل يحب �أن يكذب ،يقولون �أن ال�سحر يقتُل،
ؤذونك لو تركتَهم ،يقولون كل ما يقولون لك ُ
لتظن �أنك تف َعل �شيئا ُميتا!، يقولون �أنهم �سي� َ
َ
أحدثك بخال�صة احلق ،لأين �أريد لك �أن تكون ..املـ... لكن كل هذا هراء فارغ� ،أما �أنا ف�س�
لن � َ
أخربك الآن عما �أريده منك ..لكنني �س� َ
أعلمك خال�صة هذا الأمر.
�ساحرا هكذا من عنديات نف�سه ،البد من �ساحر �أن ُيع ِّلمه ً إن�سان �أن ي�صري
ال يقدِ ر � ٌ
َ
بنف�سك من متوارث منذ �آالف ال�سنني ،منذ زمن النمرود� ،أو �أن تتع َّلم
الطريقة ،هذا الأمر َ
كتاب �سِ حر حقيقي.
132
عليك �أن كافرا باهلل! .ولإثبات هذا َ ً تدور حول �أن ت�صري �ساحرا كلها ُ ً طرق �أن ت�صري
ُ
مك أ�صل� ،ستجِ د ال�ساحر الذي ُيع ِّل َ رت ،حتى يلتف َِت �إليك ال�شيطان � ً تُثبِت لل�شيطان �أنك ك َف َ
إجنيل كان �أو هك �إىل �شيء تدن�س فيه الهالة املقد�سة التي تعتقد �أنت �أنها دين اهللً � ، وج َقد َّ
دينك الذي ُت�ؤمِن به� ،إما تُلقِي بكتابك تورا ًة �أو �صلي ًبا �أو قر�آنًا ،هذا يختلِف ح�سب اختالف َ
املقد�س يف املزا ِبل� ،أو تكتُب �آياته بدم احلي�ض� ،أو بالرجز �أو تتب َّول عليه ...البد �أن تف َعل �شيئًا
خلوة تزيد عن ال�شهر ،ال ت� ُأكل ُم�شينًا ..لي�س فقط هذا ،بل يجب �أن تختلِي بنف�سك يف َ
ع
فيها �إال القليل اجلاف! ،هكذا َّ
ص
تتعذب من �أجل ال�شيطان ،هكذا ت�صوم لأجل ال�شيطان ،هكذا
ري
تتقرب لل�شيطان ويلتفِت لك ال�شيطان. َّ
ويتقرب لها؛ ف�إنهم �إن نالوا هذا ،نالوا عند َّ
ال
و�إن ال�شياطني تتمنَّى �أن يك ُفر �إن�سان بر ِّبه
ك
مكانة ًً
ت
عالية؛ لأنهم قد �أن�ش�أوا �إن�سِ ًّيا «لو�سيفر» منزلة خا�صة خا�ص اخلوا�ص ،ونالوا عند اهلل
ب
جدا ممن هم حوله ،فتجد ال�شياطني يتج َّم ُعون حول الكافر الذي بد�أ كافرا� ،سي�ضل كث ًريا ً ً
ش
تقر ًبا لل�شيطان ،هنا البد �أن أو�صافه ،تذبحه ُّ البد �أن تذ َبح �شيئًاُ ..يعطيك ال�شيطان � َ
و ر
الت
عرفه ب�أ�سمائهم ال�ساحر الذي ع َّلمه ال�سحر، يذكر الكافر ا�سم �شيطا ٍن ُم َّعي �أو �أكرثُ ،ي ِّ
و
فيتقرب بالذبح لذلك ال�شيطان ،هذا نفعله ك�شياطني لأن الذبح ال يفرت�ض �أن يكون �إال هلل َّ
يع ز
تقر ًبا لل�شيطان وعِباد ًة لل�شيطان ،ويف كل خدم ٍة ي�ؤديها لك جنعلك تذبحه ُّ الذي خ َلق ،لكنا َ
ال�شيطان البد �أن تذ َبح �شيئًا! ،لذلك ترى ال�سحار يطلبون من النا�س بع�ض احليوانات الغريبة
الأو�صاف مقابل �أن يخدموهم.
ثم ي�صري للإن�سان ال�ساحر تاب ًعا �أو توابع من اجلن ..يخدمونه ويخدمون من ي�أتِيه ،ال
يراهُ م بعينه � ًأبدا على هيئاتهم اجلنية؛ فعني الإن�سان ال ت�ستطيع ذلك� ،إمنا يراهم �إذا مت َّث ُلواَ
دخل يف حالة اال�سرتواح؛ وتلك حكاية �أخرى من الأ�رسار بهيئات �إن�سِ َّية� ،أو يراهم �إذا َ
العاليةَ � ،
آتيك بها يف وقتها.
z
133
()5
مالئك نصيبين
أرعدت فيها غمائم ن�صيبني ،فخ َرج كل لي َل ٌة ا�ستَرت منها قمر ن�صيبني ..و� َ
�شاخ�صة �أب�صارهم �إىل َ من فيها من �إن�سان ودابةُ ،منت�شرين من ديارهم
ع
ال�سماء ،ال يكادون ينظرون �إىل �شيء غريها ،تعرف يف وجوههم �صب َغة الكارثة،
ريص
يف كل م َّر ٍة ي�شق الرعد وجه ال�سماء تن�شق معه نياط قلوبهم! ،كانت ال�شهب
ال
ت�ستنري وتل َمع ويرمى بها هنا وهناك ك�أنها زخات ل َهب ُمنهمِ ر! ،حتى غلب على
ظنهم �أن النجوم تزول عن موا�ضعها ،وكلما برقت �صفحة الأفق خ ُّروا ُ�س َّجدً ا
ت ك
ُم َّرغي ر�ؤو�سهم يف تراب ن�صيبني ،خا�ضعني لأ�صنام ن�صيبني ،الأ�صنام التي
ل ب
تنظر بعيونها احلجرية �إىل �أبواب ال�سماء ،وال �شيء �إال احل َرية يع ُلو َبدت وك�أنها ُ
ر
الزمن يف اجلاهلية واملكان بن�صيبني ..مدينة ترت َّبع ب�أ�شجارها بني دجلة
الت و
والفرات ،ووابل من ال�ش ُهب املتتابعة يل َفح ظهر الأر�ض منذ �شهر كامل ،وحا َلة
و
خ�صو�صا ل�شدةً من الفزع احلقيقي زلز َلت �أفئدة �أهل الأر�ض جمي ًعا ،والعرب
يع ز
أعي مل�ؤها الرعب ليعرفوا �إن كانت هذه جهلهم ،كانوا ينظرون �إىل ال�سماء ب� ُ
النجوم التي يرمى بها يف ال�سماء فتختفي من �أماكنها هي جنومهم التي
يعرفونها ويهتدُون بها �أم �أنها جنوم �أخرى جمهولة! ،ولقد �سجدوا كثريا وذبحوا
لأ�صنامهم كثريا ،وط َّي ُبوها كثريا وز َّي ُنوها كث ًريا ومل يتوقف وا ِبلهم بل زادت
ح َّدته!
وقام �أهل ن�صيبني يح ُثون الرتاب من على وجوههم من �أثر ال�سجود ،ونظر
نازل �إليهم من جبل «�إيزال» �شمال بع�ضهم �إىل بع�ض يف َي ْ�أ�س ،ف�سمعوا ُمناد ًيا ً
ن�صيبني؛ كان ي�صيح بكالم مل يتب َّي ُنوه جيدً ا حتى اقرتَب ،فلما اقرتب عرفوه،
�إنه الق�س «جون داليما» ،كان يقول لهم:
يا �أهل ن�صيبني� ..أع ِتقوا من ا�ستطعتم من عبيدكم و�سيبوا ما ا�ستطعتم من
موا�شيكم ت�سرح يف الأر�ض ،وافعلوا ذلك هلل وحده ،لع َّل اهلل ير�ضى.
139
ولو كانوا يف �أيامهم العادية ما كانوا �سمعوا للق�س ..فهم و َث ِن ُّيون ،لكن �شي ًئا
ما يف كالمه جع َلهم ال ينامون من لي َلتهم هذه �إال وقد �أعتقَ كثري منهم عبيدهم
و�س َّي ُبوا موا�شيهم ...وم َّرت الليلة والليلتان والثالثة وال�ش ُهب ترمي م�ستعرة،
ونزلت عواميد الرعد من ال�سماء ت�ضرب كل ما يقابلها من نخيل با�سقات،
فتفجرت وتطاير منها ال�سعف واجلريد ،فت�صايحوا بينهم �أن الآلهة �ستُه ِلككم َّ
من ليلتكم هذه مبا �سمعتم لذلك الق�س املخرف ،وكان بينهم َ�شيخ كبري ف�ص َرخ
ص ع
فيهم �أال تَال َوموا ف�إن الوقت قد �أزف ،و�أن ام�ضوا بنا �إىل ذلك الكاهن يف بطن
ري
اجلبل ،فان له رئ ًيا من اجلن ،ولقد كان يعلمنا بجنيه من �أمور الغيب الكثري...
ال
بع�ض يف قلق! ،وقال رج ٌل منهم :
فنظر بع�ضهم �إىل ٍ
ت ك
�أتق�صد «كني» �صاحب اجلدائل؟
ب
َّول ال�شيخُ وج َهه ناح َية اجلبل وقال :
ر ش
نراه �إال يعظم �آلهتنا ،ولن يكون بها علينا غ�ضب.
ل ا كان ي ِقف على حافة اجلبل �ساه ًماُ ..يحدِّ ق يف و
z
ال�سماء،ت ت� ُأخذ الرياح بردائه
وك�أنها �ستُوقعه ،رعد و َبرق و�ش ُهب ...لكن كل هذا مل ي ُكن يع ِنويه ،فقد �سما ب�صره
ع
النجوم كيفمافوق �أب�صار الب�شر ،و�سما فهمه كذلك ،فلتغ�ضب الأنواء وتهويزي
ت�شاء ،ف�إمنا هي �أج َرا ٌم حترقها ال�سماء ،لكن ما يع�صف َ
بقلبك هو �أن يغيب من
وهبت له كل �شيء ،نا�صيتَك وكرامتك وروحك ذاتها ،ثم غاب ومل ي ُعد ،ثالثون َ
منك الذين عبدتَهم؟ يوما ،انقطع �صوته ،بل �صوتهم ،هل �س ِئموا منك؟ هل م َّل َ ً
منك اجلن؟ �أم �أنهم تواروا من ع�صف �ضج َ وعبدهم كل ذو حك َمة و�س ُمو ،هل َّ َ
هذه ال�سماء ..لكن مثلهم ال يتوارى� ،أم �أنهم هل ُكوا؟ وكيف للأرباب �أن ته َلك! .
كان واقفا بج�سده الهزيل و �شعره الذي يربطه يف جديلتني ..و مل ير �أو يح�س
بوجود ح�شد من الب�شر يقفون وراءه غري بعيد ..ينادون با�سمه ب�صوت عال ..
وك�أن �سمعه قد احتجب ..ثم �إن بع�ضهم اقرتب منه بحذر وهو واقف بثبات
على احلافة ال يهتز و ال مييل ..مد �أحدهم يده لي�صل �إليه ..لكن الرجل ذو
140
اجلديلتني كان قد رفع يديه �إىل جانبيه ..وتخلى عن ثباته و ترك نف�سه يهوي
منت�ص ًبا من احلافة ..هرع كل من كان واق ًفا لينظر من احلافة ،قال �أحدهم:
�ضي علينا. فتك ذو اجلدائل بنف�سه ،لقد ُق َ هلك «كني» ..لقد َ لقد َ
كان «كني» يهوي ك�أنه �صخرة ُمنت�صبة� ..أول ثوان من �سقوطه كان يف وعي
يائ�سا ال مبال ًيا ،ثم تب َّدل حاله ،لي�س خما َفة املوت فلقد جتاوز هذه كامل وكان ً
ع
ب�صر �أمو ًرا مل ي ُكن ليب�صرها ،وي�سمع �أ�صواتًا جملجلة املرحلة؛ �إمنا لأنه �صار ُي ِ
ريص
بو�ضوح �شديد ،وك�أن ب�صره �صار � َأح ّد من ال�سيف و�سمعه ،وك�أنه ي�سمع �ضحكات
ال
تنظر يف كل مكان اتقاء �أ�صحاب جحظت عيناه ،و�أ�صبحت ُ �شياطني وهو يهويَ ،
ك
لي�ست هي ال�سرعة الطبيعية لأي �شيء ال�ضحكات ،ثم الحظ �أن �سرعة وقوعه َ
ت
يهوي ،بل �شعر �أنه كالري�شة التي تتهادى نازل ًة ب ُبطء �إىل الهاوية ،ثم فطنَ �إىل
ش
بو�ضوح مل يع َهده ،ثم �سمع �صوت ج�سده ي�ضرب �أر�ض الهاوية البعيدة بقوة
ر
�ضجيجا عال ًيا ُم ِد ًثا بع�ض ال�ضجيج� ،إن �سم َعه الذي �صار حادًا جعله ي�سمع
و
ً
الت
جدً ا لوقوع ج�سده على �أر�ض لي�ست بقريبة .
ز و
يع
يتخطفه وهو يهوي ..بل �أ�شياء؛ �أ�شياء لها كيان َّ حلظات و�شعر ب�شيء
ووجوه وعيون ،تدور حوله ،كانت تهزَ �أ به وت�ش َمت ،و�إذ به فج�أ ًة يفهم كل �شيء،
فاتَّ�س َعت عينا روحه هذه التي تهوي ،لقد عا�ش حياته يتق َّرب �إليهم ،ع َّلموه كل
ما يعقله وما ال يعقله الب�شر ،كان يراهم كظالل وي�سمع �أ�صواتهم �إذا ح َّدثوه،
كانوا يطلبون منه فيفعل ويطلب فيفعلون ،وكانوا ي�أتونه بالغيب ...و�ض َع ر� َأ�سه
يف الرتاب �إر�ضا ًء لهم� ،صار طاغوتًا يفعل كل ما ت�ست�شنعه الفطرة ،د َّن َ�س كل
�شيء ُيقدِّ �سه �أهل الأديان من �أجلهم� ،آمنَ بهم وتوالهم وهابهم ،وبعد هذا ها
لينظر لهم م ِل ًّيا لأن هم يلت ُّفونَ حو َله ويهز�ؤون ،ملاذا يفعلون هذا! ،مل يجد الوقت ُ
�شخ�ص الب�صر �إىل َ ب�ص َره قد �صار فج�أ ًة يتح َّرك رغ ًما عنه ،ويف ثان َي ٍة واحدة
النظر �إىل تلك الناحية ،و�صار �شلل قد �أ�صاب روحه و�أجربه على َ الأفق ،وك�أن ً
ح�ض َره املوت ،ومل ي َر «كني» �أمو ًرا جيدة �أبدً ا.يرى الأمور التي يراها من َ
z
141
يا«كني» ..كيف ت ِثق يف َقول من تك َّلم عن اهلل ومل ي َر اهلل! ،كيف ت ِثق يا
ب�شر!� ،أمل ت َر �إىل حياتهم كيف د َّمرتها �شرائعهم!، «كني» يف �شرائع و�ض َعها َ
انظر �إىل �أعالك يا«كني»� ،إن اهلل لي�س هذا الذي ُيحدِّ َ
ثونك عنه . ُ
كان واق ًفا عند ذلك الدير امل�سيحيُ ..يلقي فيه كل ما ا�ستقذر ،ويرمي دماء
رمز ن�صب فيه.الكالب على كل ٍ
ص ع
�أما نحن يا«كني» ففي ع ِّليني ..نرا ُكم و�أقذاركم وال ت َروننا �أبدً ا ،و�إنا
ال ري
�سنجعلك م�سموعا يف َ َ
جاعلوك ت�س ُمو �إلينا ،وكلما �سموتَ ر�أيت �أكرث!،
قومك مبا ُنخربك من الغيب .
ت ك
كان يتذ َّكر �أقوالهم ..ويتذ َّكر �أفعا َله ،مل يكن ُي�صدِّ قهم ،لكنهم كانوا ُيل ُّبون
ل ب
�شهواته ،و ُي�شبعون ف�ضو َله ،لو كانوا يف ع ِّليني ما حت َّي ُنوا غواية �أمثاله ،و�إن
ر
بها �إىل �أعلى ،ال يدري �أين يذهبون بها ،ظلُّوا به ي�صعدون ...حتى �إذا بلغ
الت و
الغمام ر�أى ما �أثار ا�ستغراب روحه! ،و�أي �شيء ُيكن �أن ُيثري ا�ستغرابه بعد �أن
يع
�أج�ساد موتى تت�ساقط من ال�سماء ..ت�شتعل منها ر�ؤو�سها ،كثرية ُمتف ِّرقة يف
الأنحاء من حوله تهوي �إىل الأر�ض ،بينما هو �صاعد و�سطها ،ثم �أتَته �صرخات
من جهات كثرية ،يع ُلو �صوتها كلما ي�صعد ،وو�سط الأج�ساد املحرتقة ر�آهم؛
وجوه مفزوعة ته ِبط هارب ًة �إىل �أ�سفل ما ت�ستطيع تتبعها عواميد من نار ،كانوا
يهربون وي�صرخون! ،وكان حماله ي�صعدون به ب�سرعة ثابتة و�سط كل هذا وك�أنه
كامل قبل �أن ميوت، ال يعنيهم ،والآن تذ َّكر ال�شيء الذي كان ي�ش َغل باله �شه ًرا ً
وا ِبل ال�ش ُهب الذي ا�ستع َمر ال�سماء ،نظر نظر ًة بعيون ُمتَّ�س َعة ،مل يفهم من الذي
يهربون وت�شتعل ر�ؤو�سهم! ،ثم نظر نظر ًة بعيون ُمد ّققة يف الوجوه التي تهرب
أرجل وعيون ومالمح� ...أج�ساد �سريعة من حوله� ،إنها �أج�ساد كاملة لها �أياد و� ُ
جدً ا لكن ال�شهب �أ�سرع منها� ،أج�ساد يبدو �أنهم لي�سوا بخري ،و�أنه قد �أملَّت بهم
بع�ضا منها قبل املوت تهزَ �أ به ،لقد عرف من ه�ؤ...مذبحة ،وجوه ر�أى ً
142
فج�أ ًة تركه املالئكة الذين كانوا يحملونه ..تركوه بعد �أن بلغوا به مبل ًغا بعيدً ا
يف ال�صعود! ،تركوه يهوي وحده ،ثم ان�صرفوا عنه ،ومل ت ُكن �سرعة هبوطه
يلحظ م�شهد امللحمة النارية من ك�سرعة �صعوده معهم ،بل كانت �أبط�أ! ،و�أ�صبح َ
روحه حوله وقد ظن �أنه �صار جز ًءا منها ،و�أن �شها ًبا �سي َقع عليه بعد حني ويث ُقب َ
ينظر حوله وقد املنتنة التي ي�شم رائحتها منذ �أن �أخرجوها من ج�سده ،كان ُ
ع
ات�ضح له �شيء من الأمر؛ �إن ه�ؤالء �شياطني ،ويبدو �أنهم ملا ر�أوا من �أمر ال�شهب
ص
املُنهمِ رة عل ًوا ب�أج�سادهم لينظروا الأمر ،ويبدو �أنهم قد �أحيط بهم!
بحذر
ال ري
هوى «كني» حتى م َّر بن َفر قد ا�ستم�سكوا ببع�ضهم ُمرتعبني ..يهبطون َ
ك
و�سط �أجواء تبدُو هادئة ال نريان فيها ،وملا تراءى لهم «كني» نظروا �إليه ،ونظ َر
ت
�إليهم ،فعرفهم وعرفوه ،هم اجلن الذين كانوا يرتاءون له يف حياته كظالل،
ب
ن ل ل
مطبوعة يف ذهنه! ،فكان ُيف ِّرق بني ِظل كل واحد منهم، َ لكن كياناتهم كانت
ش
�شهاب
ٌ والآن تراءوا له يف مماته ،ر�أى مالحمهم و�أج�سامهم و�أ�شكالهم ،ثم بر َز
و ر
من الفراغ ك�أنه انبثقَ وانطلق �إىل اجتماعهم فتف َّر ُقوا عنه وم َّر بينهم وظلوا
و الت
بحذر وينظرون �إىل «كني» نظرات خاو َية بني الفينة والأخرى� ،أفلهذا يهبطون َ
يع ز
ِغبتُم �أيها املردة� ،أومل تكونوا من قبل تتكربون يف عيوننا حتى ا�ست�صغرنا �إىل
و�صرت ك�أنكم جرذان! ،وظ َّل «كني» يه ِبط ويه ِبط جانبكم كل �شيء! ،والآن قد ُح ُ
حتى نز َلت روحه �إىل مو�ضع ج�سده من الأر�ض .
z
أهرام ُم َّر َدة يع ُلوها ال َبحر من كل جانب ..ك�أن من م َّردها ال ت�سريه
يف � ٍ
قوانني البناء ،اجتمعت �أنفار من ع�شرية الرجل حول الرجل ،ينظرون �إىل
�سابحا يف خواطره راف ًعا ب�ص َره �إىل ال�سماء،
الرجل �صامتني ك�أنهم قبور! ،كان ً
مل يكن ُيف ِّكر بقدر ما كان يتذكرُ ،ي�ض ِّيق عينيه ويتذكر ،ع�شريته ُيحرقون
ويت�ساقطون اليوم من ال�سماء ك�أنهم الذباب امل�صروعُ ،يذ ِّكره هذا مب�شاهد
خارجه وا�شتعل
ومذابح �شتى يف املا�ضي ال�سحيق ...وكلما �أتته الذكرى نبذها َ
فكره يف هذه الطا َّمة التي �أملَّت به ،كان من حوله ينظرون �إليه يف رهبة! ،فلم ُير
143
غا�ض ًبا منذ عهد طويل ،كان دائ ًما هاد ًئا �ساخ ًرا ال�س ًعا كالأفعى ،لكن م�شاعره
�صا َرت الآن مك�شوفة وال حتمل �إال الغ�ضب ،كان يرتدي عباءة مل َّونة ك�أن فيها من
طويل كان جميل الكيان ،خميف املالمح حاد العيون، كل لون وجد على الأر�ضً ،
ني ر�أَت كل �شيء ،ر�أت تقلُّب ال�سماء يف الع�صور حتمل عينه نظرة كال�شفرة! ،ع ٌ
ع
تنظر عند خلق الإن�سان ،وقبل ذلك وحفظت جنومها و�شهبها ،عني كانت هناك ُ َ
ص
اخلطر ،يولد الإن�س واجلن ويهرمون وميوتون وتظل ني �شديدة َ وبعد ذلك ...ع ٌ
�شيطان رجيم .
ٍ ني
ري
له يف كل لغ ٍة ا�سم ،ال
هي باق َية ُ
تنظر وترقب؛ ع ُ
ش ثم َ
وقف اليوم �أمام �صرحه وعر�شه ،ينظر
يف النجوم التي تهوي ،و�إىل ع�ش َريته التي ن
�أحد ولكن الكل يع َلم �أنه موجود ،وقد
144
وخرجوا من عنده يتف َّرقون يف الأر�ض بدوابهم ورواحلهم ،يبحثون يف الأر�ض
خيط واحد يد ّلهم �إىل ال�صواب ،كانت عما �أغاظ ال�سماء ،كانوا يبحثون عن ٍ
لعذاب
معا�شر اجلن تتناقل بينها �أن ال�سماء ال ترمي هكذا �إال لأحد �أم َرين؛ �إما ٍ
ر�سله �إليهم ...وبرغم �أن ال�سماء
ُي ِنزله اهلل على �أهل الأر�ض� ،أو لنبي يب َعثه و ُي ِ
قد هد�أَت بعد �شهر كامل وعا َدت �إىل طبيعتها الوديعة �إال �أنهم مل تكن يعنيهم
ع
هدوءها ،كان ما يعنيهم هو �سبب ثورتها يف ذلك ال�شهر ،ولقد دخلوا �إىل كل
ص
مدينة وقرية وباد َية وجنع على ظهر الأر�ض ،وبني هذه الأفواج اجلنية كلها،
ال ري
فوج واحد هو الذي عرف احلقيقة و �أتى باخلرب اليقني ،فوج كانوا من �أعايل
و�أ�شراف جن ن�صيبني ،من تلك الطائفة التي ُيعرفون بني باقي اجلن با�سم
ت ك
املالئك ،وكان عددهم �سبعة ،وكانت طوائف من الإن�س يف تلك البالد تع ُبدهم
ش ن
الأر�ض ،و�أنهم نزلوا من ن�صيبني يبحثون يف بالد ما بني النهرين ويف ال�شام
ر
�سطرتها مكاتيبواجلزيرة العربية ،و�أنهم دخلوا كل القرى ،و�أن حكايتهم قد َّ
و
zالت
اجلن َ
و
وحفظتها القرون .
ع ز
ارتف َعت عقائرهم بالغناء ..وكان للهيب نريانهم �صوت ،يوكانوا يدُورون
َ
بع�ضا منهم حولها كاملحمومني ،ثم حدثت خلخلة يف تناغم حركتهم وتبني �أن ً
قد ان�شغلوا بعمل �شيء ما يف منت�صف الدائرة ،ثم خرج بع�ضهم من الدائرة
ور�شوه مباء الورد،غطوه برداء �أحمر فاخر ُّ جل �أ�س َود وقد ُّ
وهم ي�سحبون ِع ً
ثم اندفعت بع�ض الأيادي ُتثبت رق َبة العجل و� ٍ
أياد �أخرى تذ َبحه ،و�أياد ترفع
ر�أ�سه وتلوح به �إىل ُظلمة الوادي الذي نزلوا فيه يف ن�صيبني ،لقد ذبحوه تق ُّر ًبا
للمالئك ،يا �سادة ن�صيبني ك ُّفوا عنا �شروركم و�شرور هذا العامل ،نعوذ بكم من
�سوء ما ُتقدِّ ره لنا الدنيا .
كانوا ينظرون �إىل الوادي وال يرون �شي ًئا! .ال ي�سمعون �إال �صوت العزيف،
ويقولون �أنه �صوت اجلن ،ينظرون �إىل الوادي ويعرفون �أن اجلن ي�سكنون فيه،
146
وال يدرون كيف هي هذه ال�سكنى ،هل لهم بيوت �أم ق�صور �أم �أنهم ي�سكنون بني
ثنايا التجاويف ،يعبدون اجلن خما َف ًة منهم ال ُح ًّبا ،يذبحون لهم يف كل عام
مرة ،يف ليلة ينطلقون فيها �إىل �أكرب واد من �أود َيتهم ،ويختارون �أو َفر عجولهم
حل ًما ويذبحونه وال ي�أكلونه بل يرمون ج َّثتَه �إىل ُظلمة الوادي ،حتى تر�ضى عنهم
املالئك ،و�إن املالئك عاد ًة ت�شهد هذه الليلة ،وينظرون �إىل هذا النج�س الفكري
ع
ويتكبون .
الإن�ساين ويتعاظمون يف �أنف�سهم ّ
ريص
كان ثالثة من مالئك ن�صيبني حا�ضرين يف تلك الليلة بهيئاتهم ال�شيطانية
ال
احلقيقية التي ال تراها �أعني الإن�س ..ولي�ست الهيئات اجلنية ال�شيطانية ُمي َفة
ك
جتد بع�ضهم �أكرث مها َب ًة من يف حقيقتها بل هي مثل جميع خلق اهلل املرئيِ ،
أعي الب�شر ال تراهم �إال
ب ت
بع�ض ،وبع�ضهم �أكرث غرا َب ًة من بع�ض ،وبرغم �أن � ُ
ش
تراهم قبل �أن يذبح ،كان الثالثة واقفني يف الهواء بثبات ك�أنهم الطري اخلافق،
و ر
الت
و�إن كان حلركتهم يف الهواء �إذا م�ضوا فيه �صوت ُم َّيز ك�أنه الع�صف �أو الن�سيم
و
ال ت�سمعه �آذان الب�شر .
يع ز
كان �أحدهم عظيم اجل�سمُ ،ب ِّني الب�ش َرة �أحمر ال�شعر طويلهَ ،كثّ اللح َية
مر طويل احلمراء ،له مالمح حف َر فيها الزمان كثريا من احلفر مما يدل على ُع ٍ
وحكمة ،كان ا�سمه «الأرقم» ،ويبدو �أعالهم �ش�أ ًنا ،نظر �إىل الراق�صني ب�شيءٍ
ال�سخرية الرا�ضية وقال لرفيقيه: من ُ
هل تريان ما �أرى؟ �إن الكائنات الب�شرية �أكرث غبا ًء من العجول التي
يذبحونها .
ر َّد عليه الذي على ميينه وكان ا�سمه «�إنيان» وكان �شا ًبا و�سيم املالمح ذا
ب�صوت هاديء:
ٍ �شعر �أ�ش َقر مرتفع ورداء بهي فتَّان ...قال
�إن هذه طوائف جاهل َّية بدو َّية ،ل ُر َّبا كان �أ�صحاب احل�ضارة �أكرث حظا
من العقل عن ه�ؤالء.
147
قال الأرقم:
ما ر�أيت �أ�صحاب احل�ضارة �إال يفعلون كما يفعل �أ�صحاب اجلاهلية،
بل �إنهم يزيدون ويب ُنون ال�صروح ملن يتق َّربون لهم� ،أمل ت َر من ه�ؤالء يا
«طيفون»؟
ع
نظرا �إىل �صاحبهما الثالث «طيفون» طل ًبا لر�أيه ،وبرغم �أن هيئة «طيفون»
ريص
ال
من بينهم كانت هي املرعبة بكيانه الذي يحيطه اللهب الأزرق وعينيه اللتان
عب كحفرتني �سوادوتني� ،إال �أن «طيفون» كان ُ
ينظر �إىل ال�سماء ب ُر ٍ تبدوان ُ
ت ك
ارت�سم يف �شكل عينيه ،فنظرا �إىل ما ُ
ينظر ،ف�إذا ُ�ش ُهب تت�ساقط من كل حقيقي َ
ش
نفو�س ثالثتهم ،لأنه ومن بني ال�شهب املت�ساقطة ،برزت �أج�ساد من اجلن ت�سقط
و ر
والحظ الإن�س ا�ضطراب ال�سماء بعد �أن ذبحوا ا ول
جريحة وجثث من اجلن ت�سقط ميتة! .
148
قاط َعه «الأرقم» ُمي ًبا:
ميتاترون.
الب�شر قد بد�أوا يج ُرون هنا وهناك هاربني من املجهول الذي هر َبت كان َ
منه حيواناتهم ..ومن بني �أج�سادهم التي تتف َّرق هنا وهناك ظه َرت ثالثة
ع
كيانات �شيطانية مت�شي ببطء ،يتو�سطهم �أعالهم منزل ًة ،ويبدو �أنه هو
ص
أح�ست به« ،ميتاترون»� ،شيطا ٌن مارد ُمنب ِعث من �سبب هروب احليوانات ملا � َّ
ال
اجل�سد ذه ِب ّي ال�شعر كبري اجلناحني ،يرافقه ما ِر َدين؛
ري
عند «لو�سيفر»ِ ،ف ّ�ضي َ
«بيليعال»و«�سيدوك» ،واملر َدة �أ�شد اجلن قوة ،يليهم العفاريت ثم املالئك ثم
ت ك
الأرواح ،ويف جبال ن�صيبني يف تلك الليلة ،التقى ثالث ٌة من املر َدة مع ثالثة من
انزلوا من ن�صيبني �إىل جزيرة
ش
خرج فيها نزل بها عذاب �أو َالعرب ،فانظروا يف �أحوال �ساكنيها� ،إن كان قد َ
و ر
الت
نبي ،و�إنا معكم نازلون.
و
قال «�سيدوك» وكان �شيطا ًنا �أ�سودًا ُمي ًفا ِ ً
كالا له �شعر �أبي�ض طويل:
يع ز
لكن بل َغنا �أن يف ن�صيبني ج ِّني ًة يقال لها «ما�سا» ..ولقد �سمعنا عنها
�سماعات ونحن نازلون �إلي ُكم فيها من العجب ما جعلنا نعمل النظر يف
اال�ستعانة بها قبل �أن ننزل.
قال له«�إنيان»:
هي يف جبال كا�شياري �شمال ن�صيبني عند َنهر ُي�س ِّميه الأهايل با�سمها؛
نهر ما�سا.
قال «�سيدوك» بحزم :
�ستكون هي �سابعتنا .
149
«ما�سا» جنية من طائفة الأرواح ،فاتنة املالمح ،ك�أن ح�سنها ي�ضيء يف الليل،
طويل ين�سدل خلفها ك�سال�سل احلرير ،و�صفها الأهايل مت ِلك �شع ًرا �أ�سودًا ً
أو�صاف �شتى و�أنها �إذا ظهرت لأحدهم ف�أن هذا يعني �أن �أحدً ا من �أهله ب� ٍ
�سيموت ،ويف هذا حمق و�سخف �شديد� ...إن �أ�سماء اجلن وال�شياطني وحكاياتهم
عاد ًة ما تت�س َّرب �إىل النا�س من �أبناء الكهنة وخا�صتهم� ،أو من الكهنة �أنف�سهم،
وعادة ما يزيدون يف الق�ص�ص مل�سات ب�شرية ركيكة« ،ما�سا» ال تظهر لأحد ،لكن
ص ع
فيها موهبة جعلت ا�سمها ي�شتهر بني اجلن يف ن�صيبني وما حولها ،كان ميكنها
ري
�أن ترى ملحات من ما�ضي مكان �إذا م َّرت بذلك املكان ،ت�أتيها اللمحات بال ط َلب
ال
منها ،ت�أتيها كنو َبة �شديدة مت�سك فيها ر�أ�سها وتغم�ض عينها وترى م�شاهد مما
ك
حدث كما حدث.
ن�سد ًل
ت
كانت واقفة هناك عند نهر ا�سمه مكدونيو�س ،وال�شعر كالليل ُم ِ
ب
ن ل ل
ما�ض �سحيق� ،أيام كانت طفلة ت ِقف نف�س الوقفة على وراءها ،ت�أتيها ر�ؤى من ٍ
ش
ال�شيب ر� َأ�سه يقف بجوارها ومي�سك بيدها بعناية ،كانت ُ نف�س النهر ،ورجل غزا
ر
تنظر �إىل فت َية يلعبون عند النهر يرمون املاء العذب على بع�ضهم البع�ض... ُ
الت و
ب�شر على عينهم قالت له يا �أبت ما بال ه�ؤالء ال�صبية ال يروننا؟ قال :لأنهم َ
ز و
غطاء يا بنيتي ..قالت يا �أبت ومن و�ضع عليها الغطاء؟ قال :اهلل ..قالت :وما
يع
اهلل؟ قال :اهلل الذي خل َقنا من نا ٍر �سامية وخلق ه�ؤالء من طني مهني ..قالت
�إذن �أين اهلل؟ قال :اهلل يف ال�سماء .
كان الفتية قد �أتى �آبا�ؤهم ل ُيخرجوهم من النهر ..نظ َرت �إليهم وت�أ َّم َلت ثم
قالت ،وهل ه�ؤالء يعرفون اهلل؟ قال :كل ما يعرفونه عن اهلل كذب يخدعهم بها
�أنبيا�ؤهم ..قالت ومن �أنبيا�ؤهم؟ قال هم قوم منهم يكون بهم لوثة يف عقولهم
يتح َّدثون عن اهلل ومل يروه ..قالت :وهل ر�أينا نحن اهلل؟ قال� :إن اهلل مل ي َره من
اجلن والإن�س �إال واحد ،هو اخلالد املخ َّلد �أمري النور «لو�سيفر» ،هو وحده اخلالد
والب�شر يفنون ،هو وحده عرف اهلل وح َّدثه وكل من عداه يفنى ،فنحن نفنى َ
و َر�آه ،فهو وحده الذي حديثه �صدق عن اهلل ،وكل من عداه يكذبون ويهرفون مبا
ال يعرفون ،من ذا الذي يف عق ِله ج َّنة ل ُي�صدِّ ق ً
رجل فان ًيا يتح َّدث عن اهلل� ،إمنا
ُن�صدِّ ق من هو خالد ال ميوت ،خلق يف �أول الزمان وبقي وتعاقبت عليه الأجيال
ور�أى كل �شيء ر� َأي العني� ،إمنا نحن ُن�صدِّ ق «لو�سيفر».
151
كانت واق َف ًة هناك عند نهر مكدونيو�س و�ستة �شياطني يقرتبون منها يف
عزم ..ويف وجود �شياطني مثل «ميتاترون» و«بيليعال» كان احلديث مع اجلميلة
كارهة
تخذا �صفة الإجبار �أكرث من الإقناع ،ولقد احتدت معهم وهي َ «ما�سا» ُم ً
لهم وما يعزمون ،ونزل ال�سبعة من جبال كا�شياري �إىل اجلنوب ،كانوا ينزلون
يوما ،ينزلون
و�سط القرى بهيئات ب�شر َّية كم�سافرين ،يقيمون يف كل بلدة �أربعني ً
على النا�س �ضيو ًفا وي�س�ألونهم ،يح�ضرون �أ�سواقهم و�أفراحهم ،ولقد كان
ع
جميل ،لأن مه َّمتهم تبغي �أن يت�شكلوا يف الهيئة الب�شرية فرتات طويلة �صربهم ً
ص
من الزمن ..واجلن �إذا ت�ش َّكل يف �أي هيئة مادية ف�إنه ي� ُأخذ �صفات هذه الهيئة
ال ري
املادية ويف ِقد كل خوا�صه اجلنية ،والهيئة اجلنية ال ت�ص ُلح ل�س�ؤال النا�س لأنها
والتج�س�س...
ُّ خمفية عن عيون الب�شر وعن �أ�سماعهم ،ال ت�صلح �إال لال�ستماع
ت ك
ولقد كانوا ي�ستخدمونها �إذا �أرغمتهم الأحوال.
ب
ن�صب وال ك َلل ،كانوا
ل
انق�ضت �شهورها يف الرتحال ..ومل ُي ِ�صبهم َ �سنواتٌ َ
ن ل
ينامون كما ينام اجلن حتى تغرب ال�شم�س ،ف�إذا غربت خرجوا ،ف�إذا طلعت
ش
رجعوا �إىل م�ساكنهم! ،كان �أول نزولهم �إىل الأنا�ضول ،موئل الروم ،وكان هرقل
و ر
ان�صرمت وهم يدورون يف بالد الروم يعي�شون عظيمها ،ثالث من ال�سنوات
الت
َ
و�سط املُزارعني يف �أكواخهم ،وحول الأغنياء يف ق�صورهم ،خابت م�ساعيهم،
ز و
يع
ترميهم قرية �إىل قرية ،مل ميروا بقرية �إال وهي يف �أح�سن حال ،لي�س فيها
خ�سف �أو مر�ض �أو لعنة� ،أو نبي .
عقائد النا�س م�سيحية كلها ،ال �أحد يتحدث �إال عن الفر�س وخطر الفر�س
الذين �سيقتحمون البالد ويذيقونهم �صنوف الويل ،ثم نزلوا �إىل ال�شام ثم �إىل
العراق ،وكانت كلها داخل امرباطورية الروم املتباعدة ،وكان حظهم يف �شامها
احلول ودخل الفر�س على الروم و�أذاقوا الروم وعراقها �أ�سو�أ مما كان ،وم َّر َ
�صنوف الويل وغلبوهم �شر غل َبة ،وا�ستمر الفر�س يزحفون على �أر�ض الروم
ي�أكلون الأرا�ضي حتى م َّرت من ال�شهور �سبعة ،وهبط ال�سبعة من الروم �إىل
فار�س ،وبقوا يدورون ويجولون فيها ،حتى كاد حولهم �أن يرتخي ،وكاد جهدهم
�أن ين�ضب.
مكان �آخر من �أر�ض هذه الدنيا ،جني حظا ..يف ٍ لكن ج ِّن ًيا واحدً ا كان �أكرث ً
واحد كان يبحث وحده ،ما هو من املالئك وما هو من الأجناد� ،أ�صفر ال�شعر
رمته اخلطوب من بالد اليمن �إىل تهامة، الم َعه طويل الأهداب و�سيم املالمحَ ،
152
ينظر �إىل مرامي النار يف ال�سماء واجلن جني ا�سمه «عمرو بن جابر» ،وقف ُ
ي�سقطون منها حوله كالفرا�ش املح ِرتق ،وم�شى و�سط اللهب املنهمر ناظ ًرا �إىل
قبة ال�سماء ي�ساءل نف�سه ،احلرية �أحارت قلبه ،فت�صاعد طائ ًرا بني النريان
ينظر هنا وهناك �إىل كارثة �أر َدت �ألو ًفا من بني ال�شيطان ،وحتادث اجلن �أن
يف الأر�ض �أفواج من اجلند واملالئك ،نزلوا ليتب َّي ُنوا ويبحثوا ،ف�إن لهذا الأمر
�ش�أن ،وجمامع حكماء اجلن يجودون الر�أي الذي يقول �أنه نبي من الب�شر
ع
خرج ليتح َّدث عن اهلل ،ورب ال�سماء يغ�ضب �إذا حتدث الب�شري املحدود عن
ص
اهلل ،فلي�س يف الأر�ض نبي يتكلم عن اهلل �إال لو�سيفر اجلني القدمي الأبدي
ال ري
َ
فانتف�ض قلبه ملا الذي ال ميوت� ،أما الب�شر ف ِبئ�س الكائنات هم� ،أما «عمرو»
�سمع تف�سريهم ،و�أ�سقط منه كل الكالم �إال كلمة واحدة( ،نبي) ،لقد �آن َ
لقلبك
ت ك
يبتهج ،حتى ه�ؤالء قد عرفوا خروج النبي الأحمد ،وكل املحزون يا «عمرو» �أن ِ
ما َ
ب
عرفت البقعة التي �سيخرج فيها،
َ ت�صل �إليه قبلهم ،ولقد
عليك فعله هو �أن ِ
ش
z
zر الو
مالئك نصيبين
و ت
ع زي
أوقدت م�شاعل عيد الكافرين ورفعت بها املعا�صم والأيادي لل�سماء ..و�أنزلت
ال�سماء من فوقهم �أ�ستا ًرا للغروب خم�ضبة بحمرة ال�شفق ،واجتمع الأ�صاغر
والأكابر عند كعبة الرب لينظروا �إىل الرب ،يف �أح�سن ثيابهم وعطورهم،
� َ
ف�إن الرب اجلليل �صاحب القداح خارج عليهم اليوم من �أعلى الكعبة ،وتع َّلقت
الأنظار وهفت القلوب وخ�ضعت الوجوه ،ثم ارتفعت امل�شاعل فج�أة كلها و�أ�شرف
عليهم الرب �صاعدً ا من جوف الكعبة� ،أحمر مهيب العار�ضني ذو حلية عليه
وتاج ،فتعاظم قدره يف القلوب من ُح�س ِنه ودقة تكوينه ،وعلت �أ�صوات الكافرين
تقول لبيك اللهم لبيك ،لبيك ال �شريك لك لبيك� ،إال �شري ًكا هو لك ،متلكه
برتنيم يوحي
ٍ اعل هبل ،اع ُل هبل ..وقالوها
وما ملك ...ثم هتفوا :اع ُل هُ َبلُ ،
بالعظ َمة .
حلزنني �أبكى، وم�شى و�سطهم واحلزن يف �صدره �أثقال ..لي�س يدري �أي ا ُ
فقدها� ،أم �صنم من عقيق �أحمر قد ت�ص َّدر فوق �سطح الكعبة ،وكانت زوجة قد َ
لثامة قد ل َّفها على وجهه تخفي كل هذا وهو مي�شي بني امل�شاعل متج�سدً ا يف
153
هيئة بني �آدم ،مل تنجح اللثامة يف �إخفاء ُ�ش ْق َرة �شعره وحاجبيه« ،عمرو بن
جابر» ،الغريب الوحيد؛ ُغر َبة الأهل وغربة الدين ،ولي�س يعنيه يف هذا البلد �إال
�أن فيه فت َية من �أوالد «غالب بن فهر بن مالك» ،ع�شرون �سنة ق�ضاها يتبعهم يف
تهامة من �أعالها �إىل �أ�سفلها ،من عند ما �سال من احلرتني �إىل �أ�سياف البحر
حتى �أطراف اليمن ،حتى �أتى �إىل �آخر بقعة يف تهامة( ،مكة) ،ولقد تناثر فيها
كثري من �أوالد غالب ،كثري جدا ،فبني �أمية كلهم من �أوالد غالب ،وبني عدي،
ع
وبني ها�شم ،وبنو تيم ،وبنو زهرة ،وبني خمزوم ،و�أغلب بطون قري�ش ،ف�أ�صبح
ص
ينظر �أحوالهم وما يعبدون وما يقومون عليه وما يت�أ َّملون، يجول فيهم ويطوفُ ،
ال ري
َ
ف�إن «�أحمد» من بني �أ�صالبهم قد طلع جنمه و�أق َمر ،وتخطو �أقدامه على هذه
الأر�ض اليوم ،ولو �أن جبال تهامة كلها قد �أثقلت �شو ًقا ،ما بلغ ذلك �شيء مما
ت ك
يف قلب «عمرو» �إىل ر�ؤ َيته.
ل ب
بطن من بطون تهامة اال�سم «�أحمد» ولي�ست العرب ت�سمي �أحمد ،وال يف �أي ٍ
ن ل
واليمن ..فلي�س هذا ا�سمه� ،إمنا هي �ص َفته و ُكنيته ،والأحمد هو من حت َّلى
ش
ينظر �إىلالنا�س من َحمده ،فلم يكن «عمرو بن جابر» ُ ب�أف�ضل ال�صفات ف�أك َرث ُ
و ر
�أ�سماء الرجال ،بل كان ينظر �إىل الأكرمني منهم ،ولي�س �أي كرمي من الأكرمني،
و الت
بل �إىل نبي زكي ،بهي ال�صورة والكالم ،ال يع ُبد �صن ًما وال يتق َّرب له ،بل يع ُبد
يع ز
الرحمن حتى قبل �أن ي�صطفيه الرحمن بالنبوة ،ع�شرون �سنة ينزل يف تهامة
ويرتل ،يبحث يف القائمني والقاعدين ،لعله يراه ،فلم ي َر �إال ما يظلم الوجه، َِ
وجن يعبدون يف الأودية ...حتى �أتى ذلك العيد جنوم و�أنواء و�أ�صنام وكواكب ِ
ً
يف مكة بعد ع�شرين �سنة ،وحتت ر�أ�س هبل� ،سمع ب�أذنه اجلنية حديثا مل ي�سمعه
ينظر بعينه وقف مبهوتًا بني امل�شاعل ُ �سحيق! ،حتى َ أمد ِ من بني الإن�سان منذ � ٍ
�إىل م�صدر احلديث.
كانوا �أربعة ،والنور من عقولهم يغلو على �ضوء امل�شاعل ،ودار بينهم حوار
�أملعي و�سط كل هذا اجلهل...
قوما قد ت�صاغ َرت عقولهم� ،أ َّمن خلق ال�سماوات والأر�ض وخلقكم، �أيا ً
أفتد ُعونه وتعبدون ما خلقتُم ب�أيديكم؟ � َ
ينظرون �إىل حجا َرة ال�صنم يف عبادتهم� ،إمنا علمت �أن القوم ال ُ �أما َ
يكون احلجر رمزًا لإله قد تعاىل يف ال�سماء وا�ستفحل.
�إمنا هي �أ�صنا ٌم ُتك َّنى ب�أ�سماء �آلهة ت�ضارع اهلل يف ال�سماء .
154
ومن خلقَ هذه الآلهة؟ �ألي�س هو اهلل؟ �أيخ ُلقها ب َيده ثم ُت�ضارعه وتغالبه؟
�أفال يعقلون؟
لي�ست خملوقات، لي�س اهلل الذي خل َقها يف نامو�سهم؛ �إمنا هي �آلهة َ
ت�ساوي اهلل و ُتغا ِلبه.
هي ال تغالب اهلل بل ت�شاركه؛ فاهلل تز َّوج ال ُعزى ف�صا َرت �صاح َبة اهلل
ع
وملكة ال�سماء ،و�أجنبا بنات اهلل الالت ومناة ،فمن تق َّرب لأي منهم فقد
ص
تق َّرب هلل.
ال ري
وهلل بناتٌ �أخ َريات ،فهو قد تز َّوج �سروات اجلن �-أف�ضل ن�ساء اجلن-
أي�ضا ،فمن عبد اجلن واملالئكة فقد و�أجنب املالئكة فهُنَّ بنات اهلل � ً
ت ك
تق َّرب هلل .
ل ب
قومنا
أف�شهد �أوالء على ربهم �أم كانت لهم مقاعد يف ال�سماء؟ واهلل �إن َ � َ
ن ل
قد زاغوا وتاهوا! ،و�إنا واهلل �إن بقينا هاهُ نا �إنا ل�ضالون.
ر ش
الدين يف البالد. ف�إنا خارجون منها نلتمِ �س لأنف�سنا ِ
الت و
وتوافقوا عليه ..ف�أتاهم �صوتٌ من ورائهم يقول يف ن َربة هادئة :ف�إن كنتم
و
رجل ً
طويل ُمل َّث ًما �أ�ش َقر خارجني ف�إين معكم خارج ...نظروا وراءهم فر�أوا ً
يع ز
ال�شعر واق ًفا يف ثبات ...قالوا له َ:من الرجل؟ قال لهم وهو يفك لثامته :عمرو
بن جابر ،من �أهل �سب�أ.
قوم يعبدون ثو ًرا الم ًعا خربك يا بن جابر؟ قال :جئتُ من عند ٍ َ قالوا :وما
هدتني ب�ص َريتي �أن �آتي �إىل يوما معهم ،و�إين قد َ ي�سمونه املقه! ،و�إين مل �أع ُبده ً
دار الكعبة �ألتمِ �س الدين احلق.
فابت�سم «عمرو بن جابر» وقال :فلما �أتيتُها َ بع�ضهم �إىل بع�ض يف تهاز�ؤ!، نظر ُ
مل �أكد �أراها مما �صنع قو ُمكم بها؛ وجد ُتها قائمة متوارية يف ك�س َوتها وحولها
ثالثمائة �ص َنم �أو يزيدون! ،ووجدت ثور املقه من�صو ًبا بينهم ها هناك بقر َنيه
ينظر يل يف �شماتة!.. ُ
تب�سم بع�ضهم ونظروا �إىل ثور من�صوب يف زاوية قريبة وحوله �أ�صنام و�أوثان َّ
َ
ال ح َّد لكرثتها ..قال «عمرو»:
ف�إن كنتم خارجني لهذا الأمر ف�أخرجوين معكم و�س�أكون لكم عو ًنا.
155
كنت كما تقول فواهلل �إنا ال َ
نردك �أبدً ا... �أ�ضاءت له وجوههم وقالوا :ف�إن َ
بعيون عرف فيها كث ًريا من الذكاء ،وكث ًريا من احلرية ،كان الأربعة
ونظروا له ٍ
و�ضاءون من خرية قومهم ،ما عبدوا يف حياتهم من �أوالد غالب بن فهر ،يافعون َّ
�صن ًما وال تق َّربوا له ..ملأ بن جابر عي َنه من مالحمهم ،وا�ستب�شرت نف�سه
وا�ست�ضاءت ب�ضيائهم ،واهلل �إن �أحدهم لهو النبي الزكي ،واهلل �إن �أحدهم لهو
الب�شري املنتظر ،و�إن الرحمن لي�صطفيه من بينهم ا�صطفاء ،و�إن ذلك اليوم
ع
لقريب ،وانطلق معهم �إىل حيثما انطلقوا.
ص
z
ال ري
لأول مرة منذ �سبع دورات عجاف يف بالد فار�س ..مل َعت عيون اجلن املالئك،
ل�صدف ٍة وجدوها هناك اجتالتهم عن طريقهم الذي كانوا قد هي�أوه لأنف�سهم
ت ك
�إىل طريق �آخر ،كان قد �أتى من الليل �آخره ،يف بلدة تدعى (رام هرمز) يف
ب
قلب فار�س ،وقد افرتق اجلن �إىل �سبعة طرق؛ واحدة منهم هي طريق ق�صر
ش
يتق�صى اخلرب ،وطالت عليه ال�ساعات ومل يجد من اخلرب �شيء! ،حتى الق�صر َّ
ر
حذر وخرج ُ
�إذا �أتى �آخر الليل تو َّقف لينظر �إىل باب الق�صر وقد انفتح ببطء ِ
الت و
خروجه من
َ منه فتى ُمل َّثم عرفه «�إنيان» فور �أن ر�آه؛ �إنه ابن ملك البلدة ،و�إن
و
الق�صر ملثما هكذا لهو �شيء يثري طوفا ًنا من الأ�سئلة ،كان امللثم مي�شي ب�سرعة
يع ز
وينظر ناح َية الق�صر كل حني ،وقد م�شى وراءه اجلني «�إنيان» ،كان متو�سطة ُ
يفكر يف الـ..
إنك �إذا �أردتَ �أن تتخ َّفى ،فال تتخفى مني. �أما � َ
ليجد فتى انخ َلع قلب «�إنيان» وظنَّ �أن ال�صيحة عليه! .فنظر خلفه يف ُرعب ِ
وجه حديثه �إىل امللثم ،فالتفت له امللثم مبالمح الذي مراه ًقا يبدو غا�ض ًبا وهو ُي ِّ
ي�ستعد لتربير �شيء ما ،وقال:
يا �سلمان �أنت �صغري ال�سن ولو �أخرب ُت َك عما �أفعله �آخر الليل �ستخرب �أبي،
و�إذا �أخربتَ �أبي �سيكون غ�ضبه هال ًكا .
قال «�سلمان»:
ني على �س ِّر َك يا �صاحبي ،ف�أخربين عما تف َعل ،ف�إين ر�أيتك تخ ُرج �إين �أم ٌ
من الق�صر يف مثل هذا الوقت من كل ليلة ،و�إنه قد ا�شتعل القلق يف
نف�سي عليك.
156
نظ َر املل َّثم ل�سلمان نظر ًة طويل ًة ثم �أ�شار �إليه ليتَّبعه ..وانطلقا ناح َية
وظل ي�صعدان اجلبل حتى �أتوا �إىل قوم قد اجلبل ،وانطلق «�إنيان» خلفهماَّ ،
ب ُنوا لأنف�سهم دي ًرا يتع َّبدون فيه ،كانوا �ستة تبدو �أج�سادهم وك�أن �أرواحهم قد
خرجت منها من العبادة ،لكنهم ملا ر�أوا امللثم قد �أح�ضر معه «�سلمان» ،نظروا
مت�سائلني بق َلق ،فقال لهم امللثم ُمطم ِئ ًنا:
هو �صاحبي ،وهو �أمني يح َفظ ال�سر.
بحديث كان غري ًبا على م�سامع ٍ
ص ع
فرح ُبوا به و�أح�سنوا فيه القول ..ثم حت َّدثوا َّ
ال ري
قوم يعبدون النار والأوثان� ،أما ه�ؤالء فقد كانوا يتح َّدثون «�سلمان»؛ فهو من ٍ
عن اهلل الواحد ،الذي خلقَ النار وخلق اجلبال ،وحمدوه و�أثنوا عليه كث ًريا ،ثم
ك
لك معادًا ،و�إن بني َ لك ر ًبا ،و�إن َ
نظروا ناح َية «�سلمان» وقالوا :يا غالم �إن َ
ت
يديك
ب
جنة ونا ًرا �إليهما ت�صري ،و�إن ه�ؤالء القوم الذين يعبدون النريان �أهل �ضاللة
ش
الر�سل والأنبياء حتى خل�صوا �إىل ذكر «عي�سى حديثهم ،فذكروا من م�ضى من ُ
و ر
كالما مل يعتَد «�سلمان» �أن ي�سمعه من ن�صارى قومه ،قالوا بن مرمي» وقالوا فيه ً
الت
و�سخر له ما كانر�سول �إىل بني �إ�سرائيل َّ لقد بعث اهلل «عي�سى» عليه ال�سالم ً
و
يفعل ،فكان يحيي املوتى ويخ ُلق من الطني كهيئة الطري ،فين ُفخ فيه فيكون ط ًريا،
يع ز
و�أنه كان ُيربيء الأك َمه والأبر�ص والأعمى ،فك َفر به قوم وتبعه قوم ،و�إمنا كان
عبد اهلل ور�سوله ،و�إن اهلل �سوف يبعث من بعده نبي ا�سمه «�أحمد» يخ ُرج من
جبال تهامة و�إن هذا هو زمانه قد تقارب ف�إن �أدركتموه فاتبعوه و�إنه لـ...
�ضجة ت�أتي من خارج الدير! .ثم اقتحم عليهم �أ�صحاب ال�ضجة �سمع اجلمي ُع َّ
ينظر �إليهم وينظر �إىل الدير ،كان امللك مع جنوده ،ولقد كان �شديد الغ�ضب ُ
ابنه الذي يجل�س يف ح�ضرتهم ..قال امل ِلك:
ُ
فعمدت يا ه�ؤالء ..قد جاورمتوين ف�أح�سنتُ جوا َركم ومل تروا مني �سوءا،
�إىل ابني ف�أف�سد ُمتوه ع َل َّي .
متالك بع�ضا من نف�سه وقال : ثم َ
�إين قد �أجلت ُكم ثال ًثا ،ف�إن قدرتُ عليكم بعد ثالث �أحرقتُ عليكم ديركم
هذا ،فاحلقوا ببالدكم ف�إين �أكره �أن يكون مني �إليكم ال�سوء.
157
نازل من اجلبل، مل ي�ستمع «�إنيان» �إىل باقي احلديث ،فقد هرع من فوره ً
ولقد نادى �أ�صحابه من اجلن ،و�أخربهم مبا �سمع :يا �أيها اجلن �إن �صاحبكم
بتهامة ،و�إن ا�سمه �أحمد.
ومل يلبثوا يف ديرتهم هذه �إال �ساعة ارحتلوا بعدها �إىل ناح َية الغرب� ،إىل
جبال تهامة،
ع
�إن �سرعة ج�سم د�أب على م�سابقة ال�شهب جتعله يقطع �ألفي ميل يف دقيقة
ص
واحدة ،ولقد قطعت �أج�سام اجلن ما بني فار�س وتهامة يف �أربعني ثانية! ،ثم
ري
هبطوا تهامة من �أ�سفلها ناحية اليمن ،و�أعادوا الت�ش ُّكل يف هيئة الب�شر ونزلوا يف
ال
ت�صحرت الأر�ض قرى العرب ،مل ت ُعد هناك �صروح م�ش َّيدة و�أن�سام باردة� ،إمنا َّ
ك
واحت َّدت ال�شم�س وطغت البادية على احلا�ضرة ،وكانت جاهلية العرب �أ�شد من
ت
غريها ،فلم تنزل اجلن يف قرية �إال وهي �أجهل من التي قبلها� ،أوثان و�أ�صنام
ن
ُمطرهم� ،أو هكذا ف َّكرت عقولهم! ،ال
ش
ي�ستن�صرونها فتن�صرهم وي�ستمطرونها فت ِ
ر
يدرون �شي ًئا عن احل�ضارة والعلم والفل�سفة...
الت و
خرج فيكم من نبي �أو �أتاكم ولقد نزل ه�ؤالء ي�سائلونهم وي�ستنطقونهم؛ هل َ
و
من نذير ،هل �سمعتُم عن رجل يدعو �إىل غري ما دين ...حتى �أنهم �أتوا العرافني
يع ز
و الكهان ،هل جاءكم رئيكم من اجلن قبل ليايل ال�شهب امل�ش�ؤومة بنبوء ٍة �أو
غيب عن رجل يخرج يف هذه الأنحاء يتحدث عن اهلل بغري ما يتحدث به قومه...
وم َّر ال�شهر وال�شهرين والثالثة ومل ي�أتوا بجواب عن �س�ؤاالتهم ،حتى �أتوا �أر�ض
احلجاز ،فا�ست�ضاءت وجوههم بعد طول ال�سواد ،ولقد ر�أوا الذي مل يره نف ٌر من
اجلن فيمن كان قبلهم ،ومل يره نفر ممن كان بعدهم ،وحت َّدثت بهذا �أجيالهم
و�أن�سالهم ،وكتبوا يف هذا املكاتيب.
z
158
عهودا ،على حمبة «لو�سيفر» ،و�أمر «لو�سيفر»..
تعاهد قومي على هذا الأمر ً
ع
كيف ال وهو الكائن الوحيد الذي ال ُميوت ،الكائن اخلالد الوحيد ،الذي ر�أى كل �شيء
ص
منذ �أن انخلق هذا الكون ،املخلوق الوحيد الأ�سمى والأعلى الذي ك َّلم اهلل ،وعرف اهلل،
ال ري
وحتدث عن اهلل ،وكالمه �صدق ،لأنه خالد �أمري ،انبعث بعده من اجلن �أنبياء كذبة كثريون، َّ
ب�ش الكالم ،لكنهم فانون ،مثلنا ،كيف ويذكرون «لو�سيفر» َ ُ يحومون على عوايل اجلن
ك
ُ�صدق من كان فانيا ون ِّ
ُكذب اخلالد املخلد الأمري!.. ن ِّ
ب ت
ال ميكنك �أن تقتُل «لو�سيفر» ،وال ت�ؤذيه! .ولقد حاول �أنفار من اجلن بكل ما �أوتوا ،لكنه
ر ش
�أما �أنت ،يا قرد ال�رش ..ف�إنه قد ظهر يف قومك �أنبياء كذبة ال ح�رص لهم ،وهذا ُم�ضحك،
الت و
ك�أنك تقول �أن يف القطط �أنبياء� ،أنت قرد يا عزيزي ،قرد ،كيف يخرج يف جن�سك �أنبياء؟
و
أعلمتنا �أنهم كذبوا ،نظر ًة �إىل كالمهم عن اجلن،
نظرة واحدة يف كتبهم املوروثة عنهم � َ
يع ز
من يقول �أنا �أوالد زنا �آدم مع �شيطانة ا�سمها ليليث ،ومن يقول �أنا مالئكة �ساقطة متمردة،
ومن يقول �أننا ندخل يف اخلنازير ...مهازل.
َ
دعك من هذا وا�سمع يل..
� َ
آتيناك من ق�ص�ص الأولني �شيئًا كث ًريا ،لكن يف �صحيفتني تاليتني ،البد �أن تتع َّلم �شيئًا
�آخر.
�شيء ما هو بالعلم اخلفي ،لكنه ُمتعِب �إذا � َ
أردت جمع جمامعه� ،ستجِ د اخت�صاره يف
�صحيفتيي الإي�ستوريجا التاليتني؛ �شيء يتع َّلق بالعقائد ،و�إنه لي�س َ
لب�ش عادي �أن يطلع
على الإي�ستوريجا ،لكني �أريد لك �أن تطلع �أنت.
ولقد حان الوقت لكي �أن ِّبئك الذي �أريده منك.
ق�ضت حكمتنا� ،أنه �إذا قر�أت علومنا ،تكون �أنت ا ُملخ ِّل�ص الذي ارت�ضاه النبي
�إنه قد َ
«لو�سيفر» ،املخل�ص من الإن�سان لبني الإن�سان ،املخل�ص الذي �س ُيعطيه نبينا �أمري النور هدية
159
�إىل اليهود ،لأنهم ي�ؤمنون �أن «لو�سيفر» مالك كرمي� ،أعظم من �أعظم املالئكة� ،أم �أنك ظننت �أن
�سيخرج لهم من بني
ُ املخل�ص الذي يرتقبه اليهود يف التوراة �سينزل لهم من ال�سماء ،بل هو
�أظهر النا�س ،نحن ن�صنعه ون�ؤتيه العلم �أثقال� ،سحره يكون فوق كل الأ�سحار ،وعلمه فوق
كل العلوم...
و�سجدت روحك ل�سيدك «ظام» ،ف�ستكون �أنت� ،أنت �أنت ،وال �أحد
َ ف�إذا �صفا ذهنك يل،
ع
�سيكون غريك.
ريص
ال
z
ت ك
ن ل ل ب
ر ش
الت و
ز و
يع
160
() 6
ألباب األحبار
كانوا �أرب َعة رجال وجني ،ح�سن ٌة وجوههم وعقولهم وخيولهم ،نزلوا
يلت َّم�سون الدين يف يرثب ..وذهن «عمرو بن جابر» يف نخيلها �شارد ،يذكر منها
كل مو�ضع�« ،أ�سعد» وجنوده و ُب�شراهم ب�أحمد� ،أو�س وخزرج ويهود وحروب...
ع
ا�ستفاق من َ�سه ِوه على جل َبة و�صخب ،رجال ون�ساء يهود و�أطفال احت�شدوا يف
ص
ربج ،والب�سمة يف وجوههم تع ُلو ،مي�شون الهوينى يرفعون ً
متثال رديء زينة وت ُّ
ال ري
ال�صنع ،يتمتمون بكالم من التوراة ،ثم تو َّقفوا مكانهم و�أبرزوا التمثال و�أ�شعلوا
حتي!،وتب�سموا و�شربوا اخلمر ،واخلم�سة ينظرون لهم يف ُّ فيه النار وته َّللوا َّ
ك
و�أفراد من الأو�س واخلزرج واقفني على الأطراف ينظرون .
ب ت
نزل اخلم�سة عن رحالهم وم�شوا بني اجلموع ووجوههم مغربة من �أثر ال�سفر،
ش
النا�س فتو َّقفوا ،حتى خرج من الكني�س رهبان يف �سواد م�سدل على �أكتافهم،
ر
أمر فنظر الراهب له يف تق َّدم �أحد اخلم�سة من الرهبان ومال عليه و�أ�س َّر له ب� ٍ
الت و
ده�شة وريبة! ثم ا�ست�شار �أقرانه الرهبان ثم �أ�شار للخم�سة �أن يدخلوا معه �إىل
و
الكني�س .
يع ز
دخل «عمرو» والأربعة الأنوار من بني «غالب بن فهر» �إىل الكني�س اليهودي
يلت َّم�سون لأنف�سهم الدين ،فجل�سوا على مثل الأرائك ينظرون حولهم �إىل
حوائط مزينة و�ستائر حمر ،وجل�س الرهبان على دكة متجاورين ينظرون...
قال �أحدهمَ :من الرجال؟
فع َّر َف الرجال اخلم�سة الأزهار عن �أنف�سهم ،ثم �س�ألوا الرهبان فقالوا لهم:
ومن الرجال؟
قالوا هذا احل�صني من بني قينقاع ،وهذا يامني من بني الن�ضري ،وذاك
أي�ضا ،من �أعاظم �أحبار يرثب ..فما بال ُكم �آذيتمونا يف خمرييق بني الن�ضري � ً
عيدنا! ،قالوا :ف�إنا تعاهدنا �أن نن�صرف عن دين قومنا وما يعبدون من خبال
عظيم ،ففررنا بعقولنا عنهم نلتم�س لأنف�سنا الدين احلق ف�أتيناكم لعلنا جند
أحلدنا بكل �شيء �سوى ما تق َبله ذلك عندكم ،فع ِّلمونا يا بني �إ�سرائيل ،ف�إنا � َ
عقولنا .
167
قال احل�صني وكان يبدو �أنه �أعالهم :اعلموا �إنه لي�س �إله لهذه الدنيا �سوى
�إله واحد ،ال �إله �إال هو ،خ َلقَ ال�شم�س والأر�ض والكواكب ،وخلق اجلبال والبحار،
وخلق ُكم وخلق �أنعامكم� ،إله غري حمدود ال ُتدركه الأب�صار والأفهام وال تقدروا
�أن تت�صوره ...قالوا :فما ا�سمه و�أين هو؟
قال :ا�سمه يه َوه ..وال ي�صح �أن يكون له مكان لأنه خلق املكان.
ع
كان «عمرو بن جابر» ي�سمع و ُيف ِّكر يف ربه رحمنن ذي �سماوي ..قال واح ٌد
ص
من الأربعة :فكيف بالذي ال ُي َرى وال ُيد َرك وال ُيل َم�س �أن يخ ُلق �أ�شياء ُتد َرك و
ال ري
ُتل َم�س و ُترى؟
قال احلرب «يامني»� :إن ربنا اهلل الأزيل الالنهائي كان وحده ومل ي ُكن �شيء
ت ك
غريه ،فلما �أراد خلقَ هذا العامل �صد َرت منه �أربعة انبثاقات عظيمة ُن�س ِّميها
ب
الفيو�ضات الإلهية الأربعة ،يف كل في�ض تد َّفقت عدة تلأل�ؤات �صد َرت عن
ش
�أن يخلقه� ،أحد هذه الفيو�ضات الأربعة هو ال ُعزير ،ويعني التكوين ،وهو الفي�ض
ر
الذي خلق اهلل به هذا العامل.
الت و
و
قال له «عمرو» :وهل ر�أى �أحد اهلل قبل ذلك؟ قال «يامني» :نعم ر�آه اليهود
يع ز
�أكرث من مرة ..حتديدً ا ر�أوا �أحد تلأل�ؤات اهلل؛ وهو تلأل�ؤ ال�سكينة� ،أقرب �صفة
من �صفات اهلل للعامل ،وهي �سكنى الرب يف هذا العامل.
انتبه اجلميع و �س�ألوه� :أين ر�أوها وكيف؟ قال :ر�آها بنو �إ�سرائيل على هيئة
�سحابة كبرية كانت ُتر�شدهم للطريق ملا خرجوا من م�صر وتاهوا يف الربية،
وهي نف�سها التي تكلم اهلل بها مع مو�سى وتك َّلم اهلل بها مع كرباء بني �إ�سرائيل
ذات مرة ،ولقد و�صفوها �أنها كانت كالعقيق الأزرق ال�شفاف الفاخر� ...سكت
اجلميع وك�أنهم كانوا ي�ستوعبون ما يقول .
قال �أحدهم :كيف عرفتم كل هذا؟ قال «خمرييق»ِ :من التوراة والتلمود
والكاباال .قالوا :وما التوراة؟ قال :هي الكتاب الذي نزل على مو�سى ،والتلمود
التعاليم ال�شفهية التي تلقاها مو�سى من ربه وعلمها لكرباء بني �إ�سرائيل،
والكاباال هي العلم الباطني الذي �أوحاه اهلل �إىل كرباء بني �إ�سرائيل من بعد
مو�سى ...قالوا :وما مو�سى؟ قال� :أول نبي بعثه اهلل ..قالوا :وما النبي؟ قال:
رجل يهودي يختاره اهلل و ُيوحي �إليه ُلي ِ�شد و ُي�ص ِلح بني �إ�سرائيل ..قالوا :فقط
169
بني �إ�سرائيل؟ قال :نعم ..قالوا :وماذا عن باقي ال�شعوب؟ قال خمرييق :ال نبي
�إال من اليهود ،وال نبي �إال و ُيب َعث لإ�صالح بني �إ�سرائيل.
ثم قال خمرييق :لكن عهد الأنبياء انق�ضى منذ قرون طويلة جدا ،ومل
ب�ش َرتنا به التوراة ...تن َّبه «عمرو بن جابر» وانحلت �أ�ساريره يبق �إال نبي واحد َّ
نبي هذا؟
و�س�أله� :أي ٍ
ع
خرج احلق للأمم ..ت�ش َّنفت �آذان «عمرو قال احل�صني :نبي خمتار هاديُ ،ي ِ
ص
بن جابر» و�أهد�أ نف�سه لي�سمع ..قالوا :ومتى يظهر ذلك النبي؟ قال :يظهر يف
ال ري
هذا الزمان الذي نعي�شه الآن ..قالوا :وهل له عالمات؟ قال :هو لي�س ب�صخاب
وال ي�صيح وال ُي�س َمع يف ال�شارع �صوته ،ال يكل وال ينك�سر حتى ي�ضع احلق يف
ك
الأر�ض ،يحفظه اهلل ويجعله عهدا لل�شعب ونو ًرا للأمم ،يفتح به عيون العمي
ت
ويخرج من احلب�س امل�أ�سورين يف الظلمات ،فلرتفع تلك الربية ومدنها �صوتها
ش ن
ويهتفوا من ر�ؤو�س اجلبال فخ ًرا به ،ليعطوا الرب جمدً ا ويخربوا بت�سبيحه يف
ر
البالد.
الت و
تفتَّحت �أزهار قلوبهم ملا �سمعوا احلديث وقالوا� :أن ِب ٌّي من بالد العرب؟ قال
و
«يامني» :نعم عربي لكنه من بني �إ�سرائيل ،وي�أتي هنا عند �سكان جبل �سلع يف
يع ز
يرثب ،ملاذا تظنون �أنا قد �أتينا �إىل يرثب قبل قرون!؟ �ضاقت عينا «عمرو بن
جابر» و�أوم�ضت يف حافظته م�شاهد من زمن قدمي ،خرج فيه يهود يرثب �إىل
جي�ش يقوده «�أ�سعد» فقالوا له يا «�أ�سعد» حدك هنا� ،إن هذا ملهاجر نبي زكي،
ألي�ست تقولفخ�ضع «�أ�سعد» وخ�ضعت جيو�شه ...لكن ،نبي من بني �إ�سرائيل؟ � َ
الب�شا َرة �أنه من ولد «غالب بن فهر» من قري�ش ...ودارت ر�أ�س «عمرو» يف �أفكا ٍر
ال تنتهي!
قال �أحد الرجال :وما �إبراهيم؟ �ألي�س نب ًيا عرب ًيا � ً
أي�ضا؟ قال احلرب� :أبونا
رجل يعي�ش يف مدينة �أور احلبيب �إبراهيم مل ي ُكن عرب ًيا ومل يكن نب ًيا؛ بل كان ً
ت�ضر وال تنفع ،و�أن قومه كلهم على هدته ب�صريته ب�أن هذه الأ�صنام ال ُ البابليةَ ،
رب عظيم �أعلى و�أرقى من كل تلك ال�صور ،ودعا قومه �ضالل ،و�أن لهذه الدنيا ٌّ
لهذه الفكرة بكل الطرق ،حتى �أنه ك�سر �أ�صنامهم فقب�ضوا عليه و�ألقوه يف النار
َّ
وجناه اهلل مبعجزة...
170
قال �أحد الرجال :واهلل �إنه لأبيكم �إبراهيم يا رجال الذي بنى كع َبتكم،
و�إن ت�أمالته مثل ت�أمالتكم ...حت َّفظ الأحبا ُر ونظروا �إىل بع�ضهم ومل ي ُردوا!،
ثم �س�ألوه :وابنه �إ�سماعيل �أبو العرب ماذا عنه؟ قال احلرب :كان لإبراهيم
حلا وهو �أبو اجلن�س اليهودي كله، ولدين؛ �إ�سماعيل و�إ�سحق� ،إ�سحق كان �صا ً َ
ل�صا يقطع الطريق وي�سرق لكن �إ�سماعيل كان همج ًيا يعي�ش يف الربية وكان ً
امل�سافرين...
ع
قام «عمرو بن جابر» وقد �أخذه الغ�ضب و�أم�سك بتالبيب «خمرييق» يرفعه
ريص
فتناه�ض الرجال عليه� ،صرخ «عمرو»� :أل�ستُم عر ًبا يا هذا� ،أت�ؤمنون بالتوراة
ال
وهي تل َعن �أبوكم �إ�سماعيل؟ قال له «يامني» :بل نحن عرب من بني �إ�سرائيل من
َن�سل �إ�سحق ول�سنا من ن�سل �إ�سماعيل ،ون�ؤمن بالتوراة لأنها كلمة اهلل ...وفج�أ ًة
ت ك
هجم الأحبا ُر على «عمرو» ف�أم�سكوا به وقالوا :تاهلل ما �أنتم بخارجني من حينا
ل ب
�إال هالكني ..وقام الأربعة الأنوار لتهدئة الغ�ضب ،قال �أحدهم للحرب «خمرييق»:
ن ل
�آذيتَنا بلعن �أبينا �إ�سماعيل ،و�أنت تعلم �أن َفة العرب ،و�إنا قد �أتينا هاهنا ال نريد
ش
�إال �أن نكون يهودًا �أمثالكم ..لكن اجلو كان قد توتَّر ومل يهد�أ �أحد من الأحبار �إال
و ر
بعد �أن مت ُطرد «عمرو بن جابر» خارج الدير.
ع
ت�أ ُّثر و َوجد ،واجلن ينظرون مي َن ًة وي�س َرة وال�صوت ي�صدح.
ص
مت الهداة به و�إن �صخرا لت�أ ّ
ك�أن ��ه عل ��م يف ر�أ�س ��ه ن ��ار
ال ري
ك
جلد جميل املحيا كامل ورع
ب
وللحروب غداة والروع م�سعار
ت
ن ل ل
وظ َّلت ت�شدو حتى تو َّقفت والعربات يف القوم قد ظه َرت ..فوقف النابغ ُة وقال
ش
أنك �أ�شعر النا�س يا خن�ساء ،واهلل �إنك أن�شدين قب َلك لقلتُ � ِ
لها :لوال �أن الأع�شى � َ
و ر
�أ�شعر من كل امر�أة ...هنا ارتفع �صوتٌ بني اجلموع يقول :واهلل �إين �أنا �أ�ش َعر
و الت
منها ومنك! .التفت اجلميع �إىل م�صدر ال�صوت يف اندها�ش ،كان ذلك «ح�سان
يع ز
بن ثابت» �شاعر اخلزرج واقفا يف �سمو .
بتحدٍّ :ما �أج َود بيت يف ق�صيدتك يا ح�سان؟ قالت له «اخلن�ساء» َ
قال:
لنا اجلفنات الغر يل َمعن بال�ضحى
و�أ�سيافنا يقطرن من جن َد ٍة دما
افتخارك هذا يف موا�ضع عدة، َ �سكتت «اخلن�ساء» ثم قالت :واهلل لقد �ضعف
�أنت تقول اجلفنات وهي �أوعية الطعام التي ُتق َّدم لل�ضيوف داللة على الكرم،
فلما تقول جفنات فهذا يدل على ال ِق َّلة! ،وكان يجب �أن تقول اجلفان ،لأن يف
هذا كرثة و�أن�سب لالفتخار ...قام «النابغة الذبياين» وقال :كذلك ُق َلت �أ�سيافنا
وهي تدل على القلة ،ولو كنت تريد الكرثة لكنت قلت �سيوف ..كان «ح�سان» قد
ج َّهز نف�سه للرد حني �شعر اجلميع ب�شيء يتحرك عند باب اخليمة! ،كان النا�س
172
معظم ،داخل على جمل �أحمر ،والنا�س يتهام�سون عليه، يو�سعون لرجل مهيب َّ
كان ذلك «ق�س بن �ساعدة»� ،أحكم حكماء العرب و�أف�صحهم على الإطالق،
كان خطيب العرب الذي �إذا قال ي�سمعون و�إذا حت َّدث ُيق ِّلدون ..نظر «ق�س»
�إىل «اخلن�ساء» وقال� :أما اجلفنات فقد قال �أنها اجلفنات الغر يعني امل�شهورة،
دما ،ولو قال ال�سيوف ف�إمنا �أراد ُ�شه َرتها ولي�س كرثتها ،وقال الأ�سياف يقطرن ً
ع
لتكثريها لكان افتخا ًرا بكرثة القتل ،و�إمنا �أراد االفتخار بال�شجاعة� ...سكت
ص
اجلميع ينظرون �إليه يف مهابة ،ثم �ش َّد جلام جمله الأحمر يجوده ونظر للنا�س
ال ري
نظر ًة لها معنى ثم قال قول ًة عجيبة:
عا�ش مات ،ومن �أيها النا�س ،ا�سمعوا وعوا ..و�إذا وعيتُم فانتفعوا ،فانه من َ
ت ك
مات فات ،وكل ما هو � ٍآت �آت� ،إن يف ال�سماء خلربا و�إن يف الأر�ض لعربا� ،أق�سم
ل ب
ق�س ًما حقا ال حان ًثا فيه وال �آث ًما� ،إن هلل دي ًنا هو �أحب �إليه من دينكم الذي �أنتُم
ن ل
عليه ،ونب ًيا قد حان حينه ،و�أظ َّل ُكم زمانه ،و�أدرك ُكم �إبانه ،فطوبى ملن �آمنَ به
ش
ر
فهداه ،ووي ٌل ملن خا َلفه وع�صاه ،ت ًّبا لأرباب الغف َلة من القرون اخلالية.
الت و
يا مع�شر �إياد �أين الآباء والأجداد و�أين الفراعنة ال�شداد� ،أين من بنى و�ش َّيد
ز و
يع
وزخرف وج َّدد ،وغره املال والولد� ،أين من طغى وبغى وجمع ف�أوعى ،وقال �أنا
آمال و�أطول منكم � ً
آجال، أموال و�أبعد منكم � ً
ربكم الأعلى� ،أمل يكونوا �أكرث منكم � ً
طحنهم الرثى بكلك ِله ومزقهم بتطاوله ،ف�صارت عظامهم بال َية وبيوتهم خال َية
ع َّمرتها الذياب العادية ،يف الذاهبني الأولني من القرون لنا ب�صائر ،ملا ر�أيت
موارد للموت لي�س لها م�صادر ،ور�أيت قومي نحوها مت�ضي الأ�صاغر والأكابر،
�أيقنتُ �أين ال حمالة حيث �صار القوم �صائر.
نظر الناظرون وقد �أ�ص َّمتهم الكلمات ،وجتولت عيون اجلن بني املالمح
فب�شرهم وتف َّر�ست يف «ق�س بن �ساعدة» ،بعد �سنني التجوال �ضحك الزمان لهم َّ
مبا كانوا يظنون ،و�أجمعوا �أنف�سهم وانطلقوا �إىل «ق�س بن �ساعدة» الذي حت َّرك
بجمله يريد الرحيل ..قالوا له يا ذا الهيبة �إنا قد �أتينا من �أق�صى الأر�ض نبحث
أ�سهبت لنا يف �أمره؟ قال «ق�س» :ال �أزيد
عن ذلك النبي الذي تن َّب�أتَ به ،فهال � َ
عما قلت حر ًفا ،لكن ابحثوا عنه يف تهامة ،و�إن �أعيان تهامة ليجتمعون يف رحلة
173
ال�صيف امل�سافرة �إىل ال�شام للتجارة ،فاحلقوا بها ،فرمبا يخ ُرج معهم ..قالوا
أنت ،يهودي �أم ن�صراين؟ قال :بل �أنا على احلنيفية ..قالوا :وما احلنيفية له :ما � َ
هل هو دينٌ جديد؟ قال :بل هو دين �إبراهيم� ،أع ُبد اهلل واحدً ا ال �شريك له ،و�إن
باطل ..نظر اجلن بع�ضهم �إىل بع�ض ،وقالوا :موعدكم كل ما خال دين �إبراهيم ِ
ال�صيف ،ولي�س ال�صيف بقريب ،فلتمكثوا ولرتتقبوا.
z
ص ع
ري
م�ضى «عمرو بن جابر» هائ ًما على وجهه بعد �أن طرد من الدير ..ثم تو َّقف
ال
فج�أة وت�س َّمر مكانه ،ا�ستدعته حا�سته اجلنية �أن يتوقف!� ،شيء ما ميلأ الأجواء،
�شيء ما له ح�ضور كثيف ،و�ضع «عمرو» يده على ر�أ�سه ،ثم �سمع �شي ًئا ما ك�أنه مير
ت ك
يف جواره ،انتف�ض «عمرو» وا�شتعلت مواقد احلذر يف نف�سه ،و�صار ي�سمع �أ�شياء
ش ن
أب�شر من حلم ودم ال يرون �إال موا�ضع خطوتهم �سيتك َّلمون با�سم الرحمن، � َ
ر
أب�شر يكون منهم �أنبياء مثل اجلن يا بن جابر ،هل ترى بني القرود �أنبياء؟ �إمنا � َ
الت و
ميزهم الرحمن ب�شيء من الوعي يف عقولهم ف�أتلفوا به �سطح الربية اخل�ضراء،
ز و
والر�سل؟ �أال تراهم يتحدثون با�سم الرب �أف�أمثال ه�ؤالء يكون بينهم الأنبياء
يع
ُ
في�سفكون به الدماء ويحرقون به النخيل� ،أم �صرت متيل لهم يا بن جابر؟ رجال
�أربعة تتبعهم كاملفتون وهم ال يدرون ما ربهم و�أين ربهم� ،أفيكون منهم �أنبياء!..
�أم�سك «عمرو بن جابر» ر�أ�سه وا�شتعلت عينه ك�شيطان للحظة ثم خ َبت و�ألقى
عن خياله كل ما ُتدِّ ثه به نف�سه ،ونظر حوله� ،إنه يح�س ب�شيء ما� ،أو بكيان
ما!..
يا بن جابر لقد تناهى علم �أهل الكتاب �أنه �إن كان نبي ف�سيكون يهوديا،
أي�ضا ي�ؤمنون بالتوراة ولو ارحتلتُم �إىل الن�صارى �سيذكرون لكم هذا ،فهم � ً
ويعتربونها ن�صف كتابهم املقد�س� ،أت�صدق نبوات ال�شياطني �أن نب ًيا من بني
غالب بن فهر وترتك حديث �أهل الكتاب؟ �ألي�س يفرت�ض �أن يكون �أهل الكتاب
أ�ضعت
�أعلم باهلل من غريهم من الب�شر ،لقد �أ�ضعت حياتك يف هذه الأوهام و� َ
أل�ست تذ ُكرها وتذكر روحها يا بن جابر� ،أل�ست تذ ُكر نظراتها امر�أتَك «�إينور»َ � ،
174
لك! ،نز َلت دموع «عمرو بن جابر» حارة وهو يذكر ،ثم نف�ض عن ر�أ�سه الأفكار
بقلة حيلة ،الإن�سان فان واجلن فان ،ولي�س يف هذه الدنيا �إال خالد واحد،
ذلك الذي كفرت به يا بن جابر ،املالك املنري املتوج ،اعتدلت عيون «عمرو»
من احلرية �إىل العزم ،ونف�ض عن نف�سه كل الو�ساو�س و�أرهف �سمعه برهة ثم
ا�ستدار بلمح الب�صر �إىل ورائه ونظر فر�آه.
ع
كان يطفو يف علو من الأر�ض وعينه بارقة ،وب�سمة من الأذى تع ُلو حمياه..
ص
كان هو ذلك اجلن املارد «�إزب بن �أزيب» ،كان ُيو�س ِو�س له منذ البداية ،ا�ستعر
تنحى «�إزب» كالطيف ثم قال� :أنت عار
ال ري
وجه «عمرو» بالغ�ضب وحت َّرك �إليهَّ ..
على م�ؤتلف اجلن يا بن جابر ،كان من الأجدر �أن يخلقك اهلل حيوا ًنا مثل
ت ك
أخذتك �أوهامك �أنك تقدر �أن مت�سني بج�سدك �أولئك الذين حتن �إليهم� ،أم قد � َ
ل ب
انظر �إىل نف�سك و�أنت ت�ستمع خلف هذا اجلدار �إىل لغو الب�شري املحقور هذا!ُ ،
ن ل
بني الإن�سان وقد طردك بنو الإن�سان ،لقد كانت تلك النبوءة التي �ألقيتُها �أنا يف
ش
ر
� ُأذن الكاهن �سطيح كذ ًبا يا بن جابر� ،إمنا نحن نزيدهم يف الغي� ،إن كان نبي يف
الت و
�أولئك املحقورين فلن يكون �إال من بني �إ�سرائيل ...قال له «عمرو»:
ز و
يع
يقدر
�إن كان كذ ًبا فلم �ألقيتَه يف �سطيح وهو يلفظ �أنفا�سه الأخرية ولي�س ِ
�أن يغوي به �أحدً ا؟
مل ي ُرد «�إزب» ..ثم اجنت «عمرو بن جابر» من املكان ك�أن مل ي ُكن فيه ،ثم
برز يف هيئته اجلنية عال ًيا فوق «�إزب» ،ثم �أقدم على «�إزب» ويف عينيه غ�ض َبة
يغ�ضب مثلها من قبل ،غ�ضبة تذكر فيها «�إينور» ومت ُّددها على الأر�ض عند مل َ
عباءة ذلك ال�شيطان ،لكن «عمرو» ال يتع َّلم من ما�ضيه ،مل يذ ُكر كلمات «�إينور»
وهي ُتعا ِتبه �أن يجابه ماردًا ،م َّد ذلك املارد يده فانغرزت يف �صدر «عمرو» ك�أنها
�إىل جوفه ما�ضية ،وتك َّورت قب�ضته بداخل ال�صدر لتفتك مبهجة «عمرو بن
جابر» الذي تق َّو�س ج�سده للوراء وملحت عينه �شي ًئا ما باجلوار.
عن �أي نبي تتح َّدثان يا �إزب؟
175
التفت «�أزب» بعني م�صدومة ..و�سقط «عمرو بن جابر» كاجلثة ،ر�أى «�إزب»
ظل ،بل جال�سا على عقبيه وركبتاه مثنيتان ،ثم تن َّبه �إىل �أنه لي�س ً
ظال م�ستو ًرا ً
كان ج�سدً ا� ،أ�س َود حالك يحموم ،له �شعر �أبي�ض يفرقه من منت�صفه ،ومالمح
ال تتبينها لكنها كاحلية ال�ضارية ،كان ذلك هو «�سيدوك» ،من مردة «لو�سيفر»
الثالثة ،والرجل الثاين يف وفد ن�صيبني ،كان يجل�س يراقب كالقدر وقد �س�أل
ب�صوت ال ي�ستطيع املرء �أن يكذب �أمامه.
ٍ ال�س�ؤال
ع
تناه�ض «عمرو بن جابر» من الأر�ض وهو مي�سك �صدره يف � َأل ونظر �إىل
ريص
حيث يجل�س «�سيدوك» فات�سعت عيناه� ،إن مثل هذا ال ينزل يف �سهول الأر�ض �إال
ال
و الأمر �أمر ع�ضال ،لقد �أنزلتهم من موا�ضعهم بخربك يا «�أحمد» ،واهلل لئن
ر�أتك عيني لأن�صرنك ..قال «�إزب»:
ت ك
�إمنا هي �أخبا ٌر �سمعناها من عجيج الغمام البد �أنها تناهت �إىل م�سامع
ش ن
قال «�سيدوك»� :أي �أخبار هذه؟ قال «�إزب»� :سمعنا �أن نب ًيا يف هذه الأر�ض قد
ر
ُو ِلد ،من بني غالب بن فهر ،من �أ�شراف قري�ش .قال «�سيدوك» وقد تب َّدل لون
الت و
أيت هذه الر�ؤيا يا �إزب؟ ظهر التوتُّر على وجه «�إزب» الب�شع وهو عينيه :متى ر� َ
و
فعلت يف
يقول بخفوت :قبل �أربعني �سنة تزيد �أو تنق�ص ..قال �سيدوك :وماذا َ
يع ز
�أربعني �سنة؟ قال «�إزب» :كنتُ �أبحث عنه يف كل درب ..نظر له «�سيدوك» نظر ًة
حادة وقال :وهل وجدتَه يا �أزب؟ قال «�إزب» :خ�سئت �أن �أع َلمه قبل �أن يع َلمه
ر�سل �سيدي.
ُ
نظر «�سيدوك» �إىل «عمرو بن جابر» الذي قام واق ًفا ..قال «عمرو» هاز ًئا:
ر�سلكم لتبحثوا عن عج ًبا من �أمر �سيدكم� ،أت�أتيه املالئكة الكرام باخلرب و ُي ِ
�صحة اخلرب ،ف�إما العوار يف قلوبكم �أو العوار يف �سيدكم!
نظر «�سيدوك» بعني ك�أنها عني ثعبان وقال :من هذا الكائن؟ قال له «عمرو»:
�أنا الكافر بالهراء الذي �أنتُم عليه ..نظر «�سيدوك» �إىل «�أزب» وقال له :انط ِلق
التفت �إىل «عمرو» بع ٍني م�شقوقة وقاليا �إزب �إىل الهرم ف�أب ِلغ عما ر�أيت ..ثم َ
كنت ت�سمع وراء ذلك اجلدار؟ خ�شي «عمرو» �أن ُيحدِّ ث ب�شيء يدُل له� :إالم َ
على الأربعة الأنوار ،فتما�سك وقال :دخلتُ لأ�س�أل اليهود عن دينهم وعن النبي
خارجا ..قال «�سيدوك» وقد ات�س َعت عيناه كاملجنون: الذي ينتظرون ،فطردوين ً
كذبت.
177
طار الطري من على ر�ؤو�س ال�شجر ونظر «عمرو» راج ًفا �إليهم ثم نظ َر �إىل
«�سيدوك» الذي مل ي ُعد يف مكانه ..تل َّفت «عمرو» ثم وقف ُمتج ِّمدً ا ك�أنه م�شلول!،
ويده جتري على رقبة «عمرو» ب ُبطء ،و�صار كان «�سيدوك» واق ًفا وراء «عمرو» َ
«عمرو» ينزف و�سقط على الأر�ض يف � َأل ..قال له «�سيدوك»� :ستكون عيني
وبال ،و�ستذ ُكر ا�سمي كلما قب�ضك ال�سم عليك ً
وراءك يا �أ�ش َقر ،و�سيكون ُكفرك َ
بقلبك قب�ضة ،حتى يق�ضي عليك.
ع
نظر «عمرو» �إىل «�سيدوك» الذي اجنت من املكان ك�أن مل يكن فيه ..ودفع
ريص
«عمرو» ج�سده حتى ا�ستند على حائط الدير ،و�أ�سند ر�أ�سه وو�ضع يده على رقبته
ال
يتح�س�سها ،فر�أى يف يده من �أثر ال�سم �شيء ،وعرف �أن لي�س قد بقي له يف عمره
الطويل �إال نزر �ضئيل.
z
ت ك
ن ل ل ب
جلو�سا يعتذرون �آ�سفني عما بدر من «عمرو بن جابر».. بقى الرجال الأربعة ً
ش
قال «احلرب يامني»� :صاحبكم الأ�شقر قد �آذانا ،ويظن �أننا من العرب� ،إمنا
ر
نحن يهود من بني �إ�سرائيل ،و�إنه قد كانت لنا �أر�ض مقد�سة نعي�ش فيها ،لكنا مل
الت و
نحفظ عهد اهلل وعبدنا �آلهة �أخرى ،فغ�ضب علينا ف�س َّلط علينا الأمم ف�أخرجتنا
و
من �أر�ضنا ،فت�ش َّردنا يف الأر�ض ،ولن نعود �إلها حتى يبعث اهلل فينا امل�سيح
يع ز
املخل�ص ،الذي �سيجمع اليهود كلهم يف الأر�ض املوعودة ويبني الهيكل الثالث
ويهزم لهم �أعدا�ؤهم .
قالوا :ومتى ينزل هذا امل�سيح املُخ ِّل�ص؟ قال احلرب :ينزل يف �آخر الزمان..
قالوا :وهل قبله عالمات؟ قال :ينزل قبله النبي �إيليا من ال�سماء ُي ِّ
ب�شر النا�س
باقرتاب نزول امل�سيح املخل�ص ..قالوا ومتى ينزل �إيليا؟ قال يف �آخر الزمان..
قالوا وهل قبله من عالمات؟ قال :يظهر قبله النبي املختار نبي �آخر الزمان
الذي �سيخ ُرج يف �أر�ض العرب.
�سكت الرجال قليال ثم قال «يامني» :لذلك ملا جا َءنا يف �أيام �ضعفنا واحتالل
أنت
أنت؟ هل � َالرومان رجل ا�سمه يحيى يعظ النا�س و يدعوهم للتوبة �س�أل َناه من � َ
امل�سيح؟ قال ال ،قلنا هل �أنت �إيليا؟ قال ال ،قلنا هل �أنت النبي؟ قال ال ،ثم قال
أب�شركم و�أنذركم ،لقد خرج فيكم امل�سيح املخل�ص ،و�إنه لنا يا بني �إ�سرائيل �إين � ِّ
لعي�سى بن مرمي ،و�إين ر�أيتُ روح اهلل ينزل عليه كما احلمامة ،فقابلنا عي�سى
ب�سيطا لي�س به قوة جتعله امل�سيح الذي وعدنا به الكتاب، رجل ً هذا فوجدناه ً
178
فال هو من الالويني وال هو من الكهنة وال من الر�ؤ�ساء.. .بل كان َّ
جنا ًرا ،مل ن َر
فيه �أنه �سيحررنا من الأمم التي ا�ستعبدتنا ،بل �إنا وجدناه يتكلم �ضد كرباء
دمر اهلل لهم حذرهم �إن هُ م بقوا على ف�سادهم ف�س ُي ِّ اليهود وينتقد �أفكارهم و ُي ِّ
الهيكل ،جماهري كثرية اتَّبعته ،والحظ الرومان حدوث فرقة بني اليهود وخ�شوا
�أن حتدُث ثورة ،ف�أوعزنا للرومان �أن ي�صلبوه لأنه كافر و�ضال وم�ضل ،وكان يف
نف�سونا �أننا نفعل هذا امتحا ًنا ،ف�إن مات فلي�س هو امل�سيح املنتظر! ،وبالفعل
ع
�أم�سك به الرومان و�صلبوه ومات ،فعرفنا يقي ًنا �أنه لي�س امل�سيح .
ريص
�سكت الرجال وخرجوا ولي�ست قلوبهم مرتاحة ..فلقيهم «عمرو بن جابر» يف َ
ال
اخلارج وهو واق ًفا بهيئته العجيبة ..قال �أو�سطهم :واهلل �إن ه�ؤالء القوم قد �أكلوا
عقولنا ،قوم ال يجوزون الأنبياء �إال منهم وك�أن اهلل تارك �شعوب العامل هائمون
ت ك
على وجوههم ال يدرون عنه �شي ًئا.
ش ن
فيهم ودًا ولينا ،و�إن لديهم الدين والدنيا ،و�إنهم ليبنون لدينهم املدائن
ر
والق�صور ،ولقد �أ�صبح لدينهم �أ ُلوف م�ؤ َّلفة من الأجناد والأن�صار؛ ف�إن مل ي ُكن
الت و
يف دينهم ح ًقا ف�أين �سيكون! ،و�إن رحلة ال�صيف �إىل ال�شام قد اقرت َبت ،فلنخ ُرج
و
مع اخلارجني ..وانتظروا حتى �أتى ال�صيف ،وانطلق �أربعة من بني غالب ومعهم
يع ز
جني �إىل بالد ال�شام يف رحلة ال�صيف ،غري عاملني �أن ت�سعة من جنون ن�صيبني
نزلوا �إىل نف�س الرحلة ،والكل يبحث عن نبي!
z
نف وب�ضاعة، نياق تتابعت خطواتها م�صفوفة يف �صفوف ،عليها من كل َ�ص ٍ
م�سافرة يف قافلة طويلة تلقي بظاللها على اجلبال ،تبغي ربوع ال�شام للتجارة
والربح ..كان «عمرو بن جابر» قد اختلط ببني الإن�سان العرب حتى �صار بع�ضهم
يعرفه باال�سم ،و�إمعا ًنا يف ادعاء الب�شرية فقد جعل «عمرو» لنف�سه جتارة ُي�سافر
بها �إىل بالد ال�شام ،ولقد كان �صفه و�صف �أ�صحابه الأربعة مقر ًبا وجماو ًرا
لأبو �سفيان بن حرب� ،سيد قبائل قري�ش كلها وكنانة ،وكانت جماورتهم له لأن
واحدً ا من الأربعة الأنوار له معه قرابة ،كان «عمرو بن جابر» الفتًا بذلك ال�شعر
الذهبي الذي ميلكه ،كان ي�ضاحك �أ�صحابه وهو يعدل ال�سرج على ناقته ،وحانت
منه نظرة �إىل الأمام فتغريت كل مالحمه ..فهناك ويف مو�ضع غري بعيد عنه،
ر�آهم فعرفهم ،مبالحمهم و�شعورهم ،واجلن يعرف اجلن و�إن مت َّثل كالب�شر،
179
ويتلطفون النا�س ،وعيونهم تربق �إذا تباعدت عنها الأنظار ،كور كانوا مي�شون َّ
«عمرو» عمامته فوق ر�أ�سه وو�ضع اللثامة ليخفي منظره ،واطم�أن لبعد مو�ضعه
عنهم ولأنه ال مي�شي يف عري �أبو �سفيان �إال من كان مقر ًبا منه ..كان يت�ساءل
تبي �أن كيف و�صل اجلن بهذه ال�سرعة! ،كان يالحظ انت�شارهم بطرف عينهَّ ..
كل واحدً ا منهم قد و�ضع نف�سه عند جماعة من جماعات الركب ،ومل ي َر �أحدً ا
منهم قد �أتى لدى عري �أبي �سفيان ،فتن َّهد و�أكمل جتهيز ناقته.
ع
مل �أد ِر �أن اجلن �إذا �أرادوا �إخفاء �أنف�سهم يكونون بهذا الغباء.
ريص
ال
انت َف�ض قلبه وت�صاعد التوتر فيه وعرف �أن �أمره قد انك�شف ..ثم كظم غيظه
تنظر للإهانة وا�ستدار ونظر من وراء لثامته ،فر�أى «ما�سا» -اجلنية احل�سناءُ -
ك
له يف ثبات ،قال لها بحزم :اكتمي عني عند �أ�صحابك و�س�أنبئك ب�أمري بعد
ت
حني ..نظ َرت �إىل و�سامته وقالت :فلي ُكن كما تريد �أيها الو�سيم ..ثم �أتاها �صوت
ن
مل يبد �أن مالمح «ما�سا» �أجنبية ،فلها �شعر �أ�س َود ومالمح �سه َلة ،لكن لهجتها
ر ش
ف�ضحتها ..قالت له� :إين من عري وراءكم ،و�إين قد �أتيتُ لأ�سائلك عن �أمر... َ
الت و
قال لها :ت�س�ألينني �أنا؟ قالت :نعم� ،إنا �أتينا من ن�صيبني �إىل بالدكم وقد تن َّب�أ
و
رجل نب ًيا مر�سل من رب ال�سماء ،فهل �أتاكم مثل هذا �أو لنا كاهننا �أن فيكم ً
يع ز
قريب منه يا �سيد قري�ش؟ قال «�أبو �سفيان»� :إن الـ....
قاط َعه �صوتٌ هادئ من جواره يقول:
�إين �أنا ن ِبي هذه الأمة.
بده�ش ٍة ونظر «عمرو بن جابر» بعيون �أتع َبها ال�شوق �إىل �صاحب ذلك نظ َرت َ
رجل بهي ال�صورة �أبي�ض الوجه ،كان الأربعة الأنوار ال�صوت الوا ِثق؛ فوجداه ً
ُيتابعون امل�شهد وبع�ض ال�سائرين القريبني� ..س�أله «عمرو بن جابر» مبا�شرة:
قليل؛ فقد كان يريد ما ا�سمك؟ قال الرجل� :أدعى �أبا القا�سم ..توتَّر «عمرو» ً
رجل �أن يعرف ن�س َبه ،ف�س�أل �أحد الرجال حوله ،قال له الرجل� :إن �أبا القا�سم ُ
�صالح عذب الل�سان وحلو الكالم ،نحن ن�سافر للتجارة وهو ُي�سافر يحمل الكتب
املقد�سة يقر�أها ويحفظها ..قال له «عمرو»� :أي ُك ٍتب مقد�سة؟ قال الرجل :كتُب
اليهود والن�صارى� ..س�ألت «ما�سا» «�أبا القا�سم» فقا َلت له :ماذا ترى يف الدين
يا �أبا القا�سم؟ قال� :أرى اهلل وال �أرى �سواه ..ثم قال:
180
لك احلمد والنعماء وامللك ربنا َ
أجمد
منك جدا و� َ فال �شيء �أعلى َ
مليك على عر�ش ال�سماء مهيمن
ع
لعزت ��ه تعن ��و الوج ��وه وت�س � ُ�جد
ص
علي ��ه حج ��اب الن ��ور والن ��ور حول ��ه
و�أنه ��ار ن ��ور حول ��ه تتو َّق ��د
ال ري
ك
و�أنى يكون اخللق كاخلالق الذي
ب ت
ي ��دوم ويبق ��ى واخلليق ��ة تنف ��ذ
ر ش
�إم ��اء ل ��ه طوع ��ا جميع ��ا و�أعب ��د
الت و
ز و
يع
z
181
«عمرو بن جابر» ذهَ ب« ..عمرو بن جابر» جاء ..طردوه من الدير� ،س َّم ُموه ،و�إنه قد
�أتى احلني الذي �أخربك فيه بال�شيء الذي مل ُيخربك به الأولون ،ولن يخربك به الآخِ رون،
ع
بكرة �أبيهم� ،س�أخربك يا عبدي فهما خاطئًا ،كلهم عن َ
ال�شيء الذي فهمه كل بني جن�سك ً
ريص
عن التمثل.
ال
�إن بنو جن�سك ب�أفهامهم ال�سقيمة الب�رشية و�ألبابهم ،يظنون �أنا نحن اجلن ميكنهم التم ُّثل
ك
ب�أي �شيء وب�أي �صورة؛ يعني ميكننا التم ُّثل ب�صورة �أبيك و�أمك� ،أو �أخوك� ،أو �أح�سن �شيخ
ت
أمورا على ل�سانه ت�ضلكم وت�ضل جن�سكم كله! ،يا ليتنا نقدر ُخب النا�س � ً
فا�ضل يف البلدة فن ِ
ن
لكنا لعبنا بكم �ألعا ًبا وغررنا بقبيلكم كله وجعلناكم مالهي وتالهي...
ش
ملخلوق يف هذه الأر�ض �أن يتح َّول عن خلقته التي خلقه
ٍ لكننا ال نقدر على مثل هذا ،ولي�س
ر
�سحرة عوايل ،ماهرين بالتخييل نُ�س ِّميهم
اهلل عليها �إىل خلقة �أخرى ..ولكن ،لنا يف جِ ن�سنا َ
الت و
ال�سعايل ،ينرث اجلني ال�ساحر منهم على ج�سده ووجهه وفجواته ومالب�سه اجلو�ستار ،وهو
و
جدا �إذا نرثناه يلزب بذراته على �أج�سادنا و�ألبا�سنا فن�ستبني لعيون الإن�سان، عن�رص ثمني ً
يع ز
فيتك�شف اجلني للأب�صار ،بنف�س مالمح اجلني ومالب�س اجلني ،وج�سد اجلني ،و�إن �أج�سادنا
ومالحمنا ال تختلِف عن مالحمكم و�أج�سادكم يف �أي �شيء ،لي�ست لنا مالمح مريعة وقرون
و�أنياب كما حت�سب خواطركم ال�سفيهة يا �سفهاء الأر�ض� ،إمنا نحن �أمثالكم ،منا اجلميل
الأجمل منكم ومنا القبيح الأقبح منكم� ،إال �أن فئة منا تكون لهم �أجنحة ك�أجنحة الطري
العظيم ،وفئة لي�س لديهم �أجنحة ،هذه الأجنحة ال تكون ملغالبة الريح والتطاير فيها،
ف�إن �إ�رساعنا يف الأر�ض يجعلنا ننقل من مدينة �إىل �أخرى قبل �أن يخفق طائر من طيوركم
خفقة واحدة يف الريح� ،إمنا �أجنحتنا تكون ملغالبة جلج من الأثري لي�ست بعيونكم ً جناحه
تُرى ،و�أجنحة كهذه ال يلزب عليها اجلو�ستار � ًأبدا؛ لأنها �أجزاءها دائمة النب�ض فال يقدر
جني �أن ُيظهرها بني الب�رش.
جميع ال�سحرة ال�سعايل العارفني للتمثل هم من �أتباع الأمري «لو�سيفر» ..هذا مفهوم
منطقا لأن التمثل هو �ش�أن يخ�ص التعامل مع الإن�س ،وهو تعامل ال يعتني به �سوى �أتباع الأمري
«لو�سيفر» ،لكن عامة اجلن لي�س لديهم �أي اهتمام ملثل هذا ،وال ميلك اجلو�ستار �إال «لو�سيفر»
182
و�شيعته ،وال يحوزه غريهم ،التم ُّثل بالن�سبة لل�سحرة ال�سعايل هو �أحد طرق الإ�ضالل،
فيتحدث لهم بالكذبَّ يتم َّثل �أحدهم وي�أتي النا�س يف �صورة �شخ�ص مل يروه من قبل،
والإ�ضالل وال يحتاج ال�سعايل لفعل هذا �إال يف حوادث تعجز الو�سو�سة على التغيري فيها.
جميع الذين تدعونهم مالئك ن�صيبني �إمنا هم �سعايل ن�صيبني ..كلهم من رهط
«لو�سيفر» ،حتى «عمرو بن جابر» وزوجته «�إينور»� ،إال �أن هذين انتف�ضا وع�ص َيا وخانا
ع
يتحدث عنها القا�صي والداين ،كيف كانا من �أ�رش�س و�أخل�صالعهد وكان لهم ق�صة يف اجلن َّ
ص
�أن�صار الأمري ،وكيف تقابال يف حكاية ملحم َّية وكيف حتا َّبا وكيف ع�ص َيا ،حكاية �ستجدها
ال ري
يف املجلد الثاين من ال�صحائف.
م�شكلة التم ُّثل الوحيدة �أن اجلو�ستار �إذا �أبلجنا و�أظهرنا يف هيئة مرئية ،حتجمت جميع
ت ك
ً
حركة م�ست�صعبة، فنتحرك
َّ خوا�صنا اجلنية ،بل هو يثقل على ذراتنا اجلنية حتريكه
ل ب
جدا� ،إن �أم�سكت ذلك الإن�سان ال يقدر �أن ُي�ؤذيك وال �أن يعمل فنكون ك�أننا �إن�سان �ضعيف ً
ن ل
فيك �أي �شيء ي�رضك ،و�إذا قطعتنا ب�أداة �أو �رضبتنا بع�صا ف�إنا نت�أذى يف هيئتنا اجلنية بقدر
ش
�رضبتك �أو قطعتك للهيئة املرئية ،لكن ال تكون لنا دماء!
و ر
الت
كل حكاياتكم امل�سطورة واملنقولة عن اجلن�س بني اجلن والإن�س �إمنا هي خ َبال� ..إال لو
و
وفعلتك هذه ال ينتُج عنها �أي حمل؛ لأن َ مت َّث َلت �إحدانا و�أم�سكت بها بالقوة واغت�صبتَها،
يع ز
اجلو�ستار �إمنا ُيظ ِهر الأجزاء اخلارجية من اجل�سد والفجوات الظاهرة ،لكن الأح�شاء الداخلية
املغت�صب �سيهبط يف وعاء فارغ من اجلو�ستار ولن يكون هناك رحِ م ِ ال ي�صل لها جو�ستار ،فماء
ال�ستقباله ،و�إن حدث هذا وا�ستظهرت �إحداهن رحمها باجلو�ستار مبعجز ٍة ما ،ف�إن احلمل ال
يقع ،مثلما ال يقع احلمل بينكم وبني القرود �إذا نكحتُم القرود ،وال يقدر اجلن الرجل �أن ميار�س
جن�سا مع �أحد؛ لأن �أع�ضاءه اجلن�سية حتتاج لأح�شاء داخلية تثري فيها احلركة ،واجلو�ستار ال ً
يغطي �إال اجلزء اخلارجي من �أع�ضائه.
اجلو�ستار فيه خا�صية االنت�شار الذاتي ..فال يقدر جني �أن ي�ضعه على �أجزاء من ج�سده
دون �أجزاء ،وال يقدر جني �أن يختفي من �أمامك فج�أة كما قد تظن �ألبابكم اجلاهلة ،بل �إن
اجلو�ستار هي طبقة يحتاج �إىل �أن يخلعها اجلني قبل �أن يخفى �إىل عامله امل�ستجن ،وخلعها عنه
يحتاج �إىل ب�ضع دقائق �أو ثوان ح�سب مهارته.
z
183
()7
اآلب
االبن
الروح القدس
م�ضت يف عروق اجلميع ملا �سمعوا حديث الرجل�« ..أبو القا�سم» قال رع�ش ٌة َ
لهم :مل يبعثني ربي لكن بعثي قريب ..ط َّلت �أعينهم �إىل هيئته وثقته ،وت�سابقت
ع
أنت يهودي �أم�آذانهم ل�سماع قوله و�أعجبتهم حالوته ...قال له �أحدُهم� :أف� َ
ص
ن�صراين؟ قال :ل�ستُ هذا �أو ذاك ،ولقد دار�ست �أحبار اليهود يف ك ُت ِبهم حتى
ال ري
�أهدُوين جميع �أ�سفارهم وتلمودهم ،ودار�ست رهبان الن�صارى و�إن يل فيهم ودا
و�صحبة ...قال �أحد الأربعة :واهلل �إننا ما خرجنا يف هذا الركب �إال لنبتغي دين
ت ك
التع�سف واجلور ..قال:
الن�صارى؛ فقد جال�سنا يهود يرثب ووجدنا يف دينهم ُّ
ب
�إين كذلك قد م�ضيتُ فيما مر بكم ومال قلبي �إىل دين الن�صارى ،لكني مل � ُ
أدخل
ش
ف�إن َ
بعثك اهلل ف�إنا لك تابعون.
و ر
قال «�أبو القا�سم» :يذكرون �أن اهلل الواحد له ثالثة كيانات مت�ساوية يف
و الت
القدر والعظمة( ،الآب واالبن والروح القد�س) ،كل واحد منها لوحده هو اهلل،
يع ز
والثالثة كيانات معا هي اهلل ،فالآب هو اهلل الالنهائي الغري حمدود والغري
منظور ،واالبن هو اهلل املنظور ،والروح القد�س هو روح اهلل وهو اهلل ..ورغم
�أنها ثالثة كيانات متماثلة �إال �أنها كلها كيان واحد هو اهلل ،وهذه الثالثة كيانات
موجودة يف العامل يف نف�س الوقت.
ثم قال «�أبو القا�سم» :كيان االبن املنظور هو كيان �صادر منذ الأزل من كيان
الآب الالنهائي الغري منظور ،بينما كيان الروح القد�س انبثق منهما ،كيان االبن
هو الذي خلق العامل ،وكيان الروح القد�س هو الذي �أعطى املخلوقات احلياة،
جت�سد فيه الكيان االبن الذي هو اهلل يف هيئة ب�شريةثم �أتى حني من الزمانَّ ،
ونزل �إىل الدنيا فر�آه النا�س ،وهذا الكيان االبن هو امل�سيح عي�سى ،ولأن كيان
ل�سبب ُم َّعي..
جت�سد يف �صورة �إن�سان ٍاالبن هو اهلل ،ف�إن امل�سيح هو اهلل ،ولقد َّ
قالت «ما�سا» :ما هو هذا ال�سبب؟
�ضحي بنف�سه وميوت ُقربا ًنا لأجل خطايا العامل التي
قال «�أبو القا�سم»� :أن ُي ِّ
بلغت حدً ا عظي ًما متعاظ ًما ال يقدر على غفرانها �أي قربان ،فق�ضى اهلل �أن
187
فتج�سد كيان االبن يف هيئة ب�شرية يرحم هذا العامل رغم خطيئته املتعاظمةَّ ،
هي امل�سيح عي�سى ،و�سمح للإن�سان �أن يقتُله وي�صلبه ،وما فعل ذلك �إال ليبذل
نف�سه قربا ًنا لريحم العامل كله رحم ًة �أبدية ويغفر خطايا الإن�سان املتعاظمة.
قال �أحدهم� :أي خطي ٍة ُمتعاظمة؟ �ألي�س اليهود كانوا يعبدون اهلل وحده
و�سط �أُ َم كثرية رف�ضته؟ قال «�أبو القا�سم» :العامل كله كان قد غرق يف اخلطية
حتى طفا ،الأمم الغري يهودية غا�صت يف اخلطية وعبادة الأ�صنام ،واليهود
ع
بعد �أن ح َّررهم الرومان من ال�سبي و�أرجعوهم �إىل الأر�ض املقد�سة وبنوا املعبد
ريص
الثاين ،ا�ستمر�أوا اخلطية وتركوا التوراة ومار�سوا الربا على �أبواب املعبد،
ال
كانت الأر�ض �سابحة يف اخلطيئة ،لكن لي�ست هذه هي اخلطيئة التي جعلت اهلل
ي�ضحي بنف�سه قربا ًنا لريحم العامل ،هذه جزء فقط من اخلطية ،هناك جزء
ت ك
�آخر �أكرث �أهمية ...قال الرجل� :أي جزء؟ قال «�أبو القا�سم» :اخلطيئة املتوارثة
ب
التي ورثها كل �إن�سان من جده �آدم ،هذه موجودة مع الإن�سان يو َلد بها وهو ُم�ش َّبع
ش
بهذه اخلطية الأ�صلية التي ورثوها من �أبوهم �آدم� ،إمنا �أخط�أوا خطايا �أخرى
و ر
ا�ستوحلوا بها يف وحل اخلطية �أكرث.
و الت
رجل ،خطية �آدم قبل �آالف ال�سنني؟ ما عالقة قال «عمرو بن جابر» :يا ُ
يع ز
ذريته بها؟ قال «�أبو القا�سم»� :آدم ملا �أكل من ال�شجرة �أ�صبحت نف�سه خاطئة
وت َّواقة للخطية بعد �أن كان بري ًئا ،هذه النف�س اخلاطئة التواقة للخطية �أورثها
�آدم لكل ذريته ،ولقد ق�ضى اهلل يف الأزل �أن العا�صي يخ ُرج من رحمة اهلل ،ف�آدم
ملا ع�صى خرج من رحمة اهلل وخرج من اجلنة ،وذرية �آدم كلها بالتايل خاطئة
تب�س َمت «ما�سا» وقالت :ما احلل �إذن؟ ماذا يفعل وخارجة من رحمة اهللَّ ...
�ضحى بنف�سه تب�سم «�أبو القا�سم» وقال :احلل هو امل�سيح ،فلما َّ بني الإن�سان؟ َّ
وبذل دمه ،رفعت خطيئة �آدم الأ�صلية �أثقالها عن بني الب�شر ،ورفعت كل خطايا
الب�شر الأخرى.
قال «عمرو»� :إذن اهلل غفر للعامل كله خطيئاتهم بعد �أن ُ�ص ِلب امل�سيح؟ قال
«�أبو القا�سم» :ال ،فقط الذي ي�ؤمن �أن امل�سيح �ضحى بنف�سه لأجله هو الذي ترتفع
خطيئته� ،أما الذي ال ي�ؤمن بذلك ف�إن خطيئته باقية مل ترتفع.
قال «عمرو»� :إذن يكفي �أن �أ�ؤمن بت�ضحية امل�سيح حتى تغفر يل جميع
أدخل اجلنة؟ قال «�أبو القا�سم» :نعم ..قال الرجل :وماذا �إن ع�صيتُ خطاياي و� ُ
188
فزنيت �أو قتلتُ ..قال «�أبو القا�سم» :كل خطاياك هذه مغفورة بت�ضحية امل�سيح
طاملا �أنت م�ؤمن به.
الحظ «عمرو» �أن اجلميع ُيف ِّكر يف الأمر ب�شكل جدي ..مل تكن وجوههم
ممتع�ضة كما كانت �أثناء �سماعهم لكالم اليهود ،ثم تن َّبه «عمرو» �إىل نقطة
وقال :ماذا عن اليهود وكتب اليهود وعقيدتهم ،ماذا يقول الن�صارى فيها؟ قال
«�أبو القا�سم» :الن�صارى ي�ؤمنون بكل ما جاء يف التوراة اليهودية ،كله كما هو
ع
بل ويقولون �أنه هو كلمة اهلل املقد�سة كما يقول عنه اليهود ...ولكنهم ال ي�ؤمنون
ريص
بالتلمود ..قال «عمرو» :فما االختالف �إذن؟ قال :االختالف هو يف عي�سى؛
ال
اليهود ال يعتربونه �شي ًئا على الإطالق والن�صارى يعتربونه هو اهلل نف�سه ،اهلل
املثلث الكيانات �أنزل ابنه الوحيد يف هيئة ب�شرية ليبذل دمه على ال�صليب لرفع
ت ك
خطيئة العامل.
ش ن
من �أر�ض العرب يخ ُرج يف زماننا هذا ،وينتظرون بعده نزول النبي �إيليا الذي
ر
�سيب�شر بنزول امل�سيح املخل�ص ..قال «�أبو القا�سم» وقد �شردت عينه :بالن�سبة
الت و
للن�صارى فامل�سيح املخل�ص الذي ينتظره اليهود قد نزل لليهود بالفعل واليهود
و
كذبوه و�صلبوه ،وهو امل�سيح عي�سى ،وهو من ن�سل النبي داوود ،يعني من الن�سل
يع ز
املق َّد�س كما كان ينتظر اليهود.
قال الرجل :لكنه مل ُيح ِّرر اليهود من اال�ستعباد ومل ُي ِعد لهم الأر�ض املقد�سة
املحتلة من الرومان ..قال له «�أبو القا�سم» :كانت ُمه َّمته هو تنبيههم �إىل
خطاياهم والت�ضحية بنف�سه لغفران خطايا العامل ،وبالن�سبة للأر�ض املقد�سة
فلم يكونوا ي�ستحقونها ،لأن اهلل وعد الأر�ض املقد�سة لليهود الذين يحافظون
على العهد ،وهم يف زمن عي�سى كانوا قد تركوا التوراة وظلموا وعملوا اخلطايا،
بل �إن عي�سى تب َّن�أ لهم �أن معبدهم الثاين هذا �سيتم هدمه ب�سبب �أعمالهم،
وحت َّققت نبوءته بالفعل؛ وته َّدم املعبد الثاين بالفعل حني غزا الرومان الأر�ض
غزو ًة غا�شمة طردوا اليهود من الأر�ض �إىل الأبد ،لكنه �سيعود يف �آخر الزمان
ليحقق النبوءة.
�أما النبي الذي ينتظره اليهود ،فلأن الن�صارى ي�ؤمنون بالتوراة فمن
ب�شرأي�ضا ،لكن اعلموا �أن ذلك النبي لو �أتى �س ُي ِّ
الطبيعي �أن يكونوا ينتظرونه � ً
ب�إتيان امل�سيح عي�سى يف �آخر الزمان ل ُيح ِّقق النبوءة ،ولذلك لن ُي� ِؤمن به اليهود.
189
نزل اجلميع منزال يف الطريق لي�سرتيحوا فيه ..ومت َّددت العظام ومتطت
الأج�ساد ونزلت ال�شم�س تود الغروب ،والأربعة الزالوا ي�شكون وي�س�ألون �أبا
القا�سم ..قالوا له :وكيف يريد الن�صارى �أن ي�ؤمن اليهود �أن عي�سى هو امل�سيح
املنتظر وهو مل ينزل قبله �إيليا كما تقول النبوءة يف التوراة؟ قال «�أبو القا�سم»:
ب�شر بامل�سيح ..قالبل نزل �إيليا وح َّل يف روح يحيى ،ويحيى هذا هو الذي كان ُي ِّ
له «عمرو بن جابر» :هذا من الـ...
ع
فج�أ ًة فجع القائمون والقاعدون ب�صرخة �أنثوية ُمت� ِّألة بق�سوة! ،فنظر
ريص
الناظرون لها ف�إذا هي «ما�سا» ت�ص ُرخ ومت�سك بر�أ�سها يف � َأل وتبي�ض عيناها
ال
اجلميلتان ..فهرع لها قومها من اجلن وان�سحب «عمرو بن جابر» وتخفى عن
النظر ،و�أهد�أ اجلن املتمثلون النا�س وقالوا �أنها ُت�ص َرع ..والنا�س من حولهم
ت ك
يعجبون من غرابة مالحمهم وغرابة فتاتهم� ..أما «ما�سا» فلم تكن ُت�ص َرع؛ �إمنا
ب
كانت يف تلك اللحظة ترى من ذكرى املكان �أحدا ًثا عج ًبا.
ل ل
كابدة يف و�سط نال�سماء تذرف لها اجلباه ..و«ما�سا»
z
ر ش ب�شم�س َ
ٍ تنامى اللهيب
و
الذي نز َلت فيه قافلتها منذ تعتدل ،ر�أت �أنها على دير ُ
ينظر �إىل نف�س املو�ضع
زيالذكرى التي
ع
ذلك امل�سرتاح ،قافلة ثوان ،فتطاولت فر�أت قافلة قد توقفوا يحطون رحالهم يف
لي�ست هي قافلتها و�إن كانت تقف يف نف�س املكان ..واحلقيقة �أن
وقافلة يف زمن �سنوات طويلة جدً ا،
ٍ غ�شيتها قد �أخذتها �إىل نف�س املو�ضع قبل
قدمي كانت متر يف املكان ،فنظرت عينيها اجلميلتني �إىل تلك القافلة القدمية،
وا�ضحا
ً كانت القافلة حتط الرحال على ُبعد خطوتني من الدير ويبدو منظرهم
رجل يقف معها على ال�سطح! ،فجعت وقري ًبا من مكانها ،فج�أة تن َّبهت �إىل وجود ُ
�شيخا يرتدي زي رهبان الن�صارى ،لكن وجودها «ما�سا» من وجوده ،كان راه ًبا ً
الروحي كان مينع �أي �شخ�ص يف امل�شهد �أن يراها �أو يح�س بها ،بدا بال الرجل
ً
م�شغول ونظره مرك ًزا على القافلة ،حتديدً ا عند نقطة واحدة من القافلة ،وعينه
تنب�ض مرجفة ك�أمنا يرى م�شهدً ا مل حتتمله عينه! ،ورغ ًما عنها حولت «ما�سا»
ت�ستوعب ما الذي يلفت نظره ،ثم �ضيقت
ِ �أنظارها لرتى ما يرى ،يف البداية مل
عينها يف ا�ستغراب ،فقد كان ما تراه عجي ًبا!
190
غالم زكي كان من �أمره عج ًبا ..كانت رحال القافلة تو�ضع و ُتفر�ش والغالم
مي�شي ُمتج ِّو ًل �أمام القافلة ،كانت القافلة قد نزلت و�سط مدينة ب�صرى ،وكان
م�سرتاحها و�سط كثري من البنيان وال�شجر ،وكل بناية و�شجرة ُتل ِقي بظلها �أمام
ذاتها ،وبني الظالل م�ساحات م�شم�سة ،وال�صبي مي�شي هنالك ،وهنا �ضيقت
م�شم�سا �أمام
ً ما�سا عينها ،فقد بدا �أن ظالل الأ�شياء تتحرك فال تدع مو�ض ًعا
قدم ال�صبي �إال ظ َّللته! ،كان هذا عجي ًبا للوهلة الأوىل ك�أن ال�شجر واحلجر
ع
يخ�ضع لل�صبي ،ثم نظر الرجل �إىل ال�سماء ففطن �إىل الأمر ،كانت هناك غمامة
ص
بعيدة تتح َّرك و�سط الغمام تلقي بظاللها يف ذلك املو�ضع وتوافقت حركتها مع
ال ري
حركة ال�صبي ..تن َّهد ال�شيخ الراهب ُمتف ِّهما ،ثم حاد ال�صبي عن جوار البنيان
وال�شجر وحت َّرك �إىل ناحية �ساحة م�شم�سة كبرية ،حترك �إىل غري اجتاه حركة
ت ك
الغمامة ،وهنا انتف�ض قلب الراهب ،والتب�س الأمر على «ما�سا» فلم تعد تفهم.
ل ب
حت َّركت الغمامة من بني �أخواتها ك�أمنا لها ح�س ..حت َّركت لتالحق حركة
ن ل
ال�صبي ،كان هذا م�شهدً ا يرجف القلوب �إرجا ًفا! ،فهرع الرجل ينادي على
ش
�أ�صحابه «زريرا» و«ثماما» و«دري�سما» ..ف�أتوا �إليه يف اندها�ش ،قالوا ما بالك
و ر
�شهدت عيوين عج ًبا ما كنت �أعلمه �إال م�سط ًرا يفيا «بحريا»؟ قال �إين قد َ
و الت
املكاتيب� ،أن اجلماد �إذا خطا يف جواره نبي ،ت�شوق اجلماد �إىل حفاوته ،و�إن
يع ز
الغمام ال يتح َّرك �إال لأجل نبي� ،أفال تذكرون الغمامة التي تابعت مو�سى وقومه
يف الربية؟ �أو تلك الغمامة التي ظللت امل�سيح على جبل التجلي؟ كان الرجال
وك�أمنا �سكرت �أب�صارهم ينظرون ..قالوا له :يا بحريا ،ما من نبي �إال من بني
دعك من هذا ..قال «بحريا» :ال واهلل حتى �إ�سرائيل وهذه قافلة من قري�شَ ،
أنظر يف �أمره.� ُ
ونزل ونزلت «ما�سا» وراءه ..فتخلل القوم ما�ش ًيا بينهم ،قال :يا قوم
طعاما و�أحب �أن حت�ضروا كلكم �صغريكم وكبريكم وعبدكم �إين �صنعتُ لكم ً
كنت ت�صنع هذا بنا وكنا ُمن ُّر َ
عليك بالك يا بحريا؟ ما َ وح ّركم ..قالوا له :ما َ
أنك اليوم؟ قال� :صدقت قد كان ما تقول ،لكنكم �ضيف وقد كث ًريا! ،فما �ش� َ
�أحببتُ �أن �أكرمكم ..فرجع ف�صنع لهم طعاما ف�أتوه معجبني مما ي�صنع ..نظر
«بحريا» بينهم يبحث عن ال�صبي وقد كان يعرفه من مالب�سه التي ر�آها وا�ضحة
من فوق الدير ..فقال لهم وهو ُ
ينظر ويتطا َول :يا مع�شر قري�ش ال يتخ َّلف �أحدكم
ً
وداخل �إىل الدير، رجل ُمت�ض ًنا ً
غالما عن طعامي ..ثم مل يلبث �إال �أن ر�أى ً
191
تك فارتاحت �أ�سارير «بحريا» ،كان هو ذلك الغالم نف�سه ،و�إن «ما�سا» مل ُ
ت�ستطيع الو�صول �إىل الغالم بب�صرها من كرثة الرجال ،لكنها �شاهدت الراهب
الط ًفا� :أ�س�ألك بحق الالت فتب�سم له و�س�أ َله ُم ِ
يتخ َّلل النا�س حتى و�صل �إليهَّ ،
ألك عنه ..ويف مفاج�أ ٍة للراهب قال له الغالم :ال والعزى �إال ما �أخربتَني عما �أ�س� َ
الراهب
ُ ت�س�ألني بالالت والعزى �شي ًئا ،فواهلل ما �أ ُب ِغ�ض �شيئا قط بغ�ضهما ..نظر
يتب�سمون؛ فالغالم الزال يف التا�سعة �إىل وجوه الرجال يتنحنحون لكنهم كانوا ِ
ع
من العمر.
ريص
�صار الراهب ُي�ساءل الغالم �أ�سئل ًة والغالم ُيجيب و«ما�سا» ال ت�س َمع جيدً ا..
ال
وينظر �أ�سفل كتفه ،فات�سعت عينا ثم �شاهدت الراهب يك�شف ك ِتف الغالم ُ
الراهب ،وظهرت املهابة على وجهه ،ثم رفع الراهب يد الغالم وقال :هذا �سيد
ت ك
ت�ستطع
العاملني ،هذا ر�سول رب العاملني ..ارجتفت �أ�سارير «ما�سا» لكنها مل ِ
ل ب
التح ُّرك �أكرث ،ف�إن ج�سدها الروحي ال يخرتق الأ�شياء ..ثم قال النا�س للراهب:
ن ل
أعلمك بهذا؟ قال الراهب� :إنكم حني �أ�شرفتُم من هذه الثنية مل يبقَ حجر ما � َ
ش
�شجر �إال تذلل له ،و�إين �أعرفه بهذه ال�شامة بني كتفيه ..نظر له الأ�شياخ يف وال َ
و ر
تعجب وعدم قبول لأي �شيء مما قال ،ثم �س�ألهم ال�س�ؤال َ
املنتظر :يا �أ�شياخ
الت
ُّ
و
قري�ش هل هذا الغالم من قري�ش؟ َمن وا ِلد هذا الغالم؟ قال رجل من القوم:
يع ز
�أنا �أبوه ..قال الراهب :ال واهلل ما ينبغي �أن يكون له �أب ..قال الرجل� :صدقت،
الراهب للغالم ،مل
ُ و�إين ملا قلتُ �أبوه فهي قد تعني يف لغة العرب عمه ...نظ َر
يكن الغالم من بني �إ�سرائيل ،بل كان من قري�ش ،لكن الراهب «بحريا» كان
جازما �أن هذا الغالم نبي ،ولقد عرفه بعالماته التي تك َّلمت عنها كتب اليهود ً
الإ�سينيني ،وهم طائفة من اليهود الزاهدين العابدين ال�ساكنني قرب قمران،
تك َّلمت كتبهم عن املختار الذي �ستكون لديه �شامة ،ويكون يتيما يف ِقد �أبوه ويفقد
�أوالده ،و�سيكون حكي ًما ت�صل حكمته للعاملني ،و�سيكون حك ًما وباحلق خري حكم،
و�إن خطته لتنجح لأنه خمتار من اهلل ،و�ستك�شف له الأنوار و�سيقد�س املالئكة،
ممجدً ا يف منطقته ،و�سيمتلئ كالمه حكمة عظيمة ،و�سيكتب كلمات اهلل �سيكون َّ
يف كتاب حمفوظ ال يف�سد.
نظر الراهب «بحريا» �إىل عم الغالم وقال له :ال ُت�سا ِفر بهذا الغالم �إىل
ال�شام؛ ف�إن اليهود �إذا عرفوه �سرييدون به ال�شر ،ف�أي نبي من غري بني �إ�سرائيل
هو عندهم دجال ..ثم دخل الرهبان �أ�صحاب «بحريا» ووجوههم ال حتمِ ل
192
اخلري ،فانتحوا ببحريا جانبا وحت َّد ُثوا له ،فانطلقت «ما�سا» لت�سمع حديثهم..
زعمت �أنه خارج مع �أهل هذا املو�سم؟ قالوا له :ماذا وجدتَ يف هذا النبي الذي َ
قال :لي�س الغالم يهود ًيا ..قالوا� :أما واهلل �إن هذا الغالم لي�س بنبي ،بل �إنه قد
دجال من الدجاجلة ..قال لهم «بحريا» :يا يكون �ساح ًرا �أو به جنة �أو �سيكون ً
حذرنا يا بحريا قوم �أال تفقهون� ،أ�ساحر يتح َّرك له الغمام؟ قالوا� :إن كتابنا ُي ِّ
من الأنبياء الكذبة ،ويقول �أنهم �سيكونون م�ؤ َّيدين باملعجزات� ،إنا �سنغافل
ع
تظن ف�إن ربه القوم ون� ُأخذ الغالم ونبط�ش به ،ف�إن كان من�صو ًرا من ربه كما ُ
ص
�س ُينجيه ...قال لهم :ما بال ُكم �أطم�ست عليكم عقولكم� ،أفر�أيتُم �أم ًرا �أراد اهلل
ال ري
دعوه ف�إن
�أن يق�ضيه ،هل ي�ستطيع �أحد من النا�س رده؟ قالوا :ال ..قال� :إذن ُ
ي�شاء اهلل �أظهره و�إن ي�شاء �أهلكه.
ت ك
ف�س َّلم الرهبانُ له بالر�أي ونظروا �إىل الغالم ..وكان قوم الغالم خارجني
ل ب
�إىل ظل �شجرة قريبة يجل�سون حتتها ،فجل�سوا يف جميع موا�ضع الظل �أ�سفلها
ن ل
ومل تبقَ �إال موا�ضع تتخللها ال�شم�س و�سط �أغ�صان الظل ،ثم تبع الغالم القوم
ش
�إىل ال�شجرة وجل�س يف ذلك املو�ضع امل�شم�س املتخلل ب�أغ�صان الظل ،والرهبان
و ر
ً
م�ستحيل، تنظر ...وال�شجرة تفعل �أم ًرا ينظر و«ما�سا» ُينظرون و«بحريا» ُ
الت
تها�صرت �أغ�صانها واقرتبت من بع�ضها لتُظ ِّلل جميع موا�ضع ال�شم�س �أ�سفلها
ز و
يع
عند جمل�س الغالم! ،وو�سط ده�شة الرهبان انطلقت «ما�سا» مت�شي �إىل حيث
الغالم لرتى وجهه ،لكن �شي ًئا ك�أمنا كان ي�سحبها من الأجواء كلها ..ثم ا�ستفاقت
ينظر لها يف قلق ملول ،فنظرت �إليه ونظرت فج�أ ًة لرتى �شعر الأرقم الأحمر وهو ُ
حولها ،فوجدت �أن القافلة قد نزلت يف نف�س مو�ضع دير الراهب «بحريا» الذي
وق�صت لهم ما يظهر بقبابه الثمانية ها هناك ،وحت َّدثت �إىل �إخوانها من اجلن َّ
ر�أَت ،ف�س�ألوها عن ا�سم عم الغالم ،فقالت �أنها مل ت�س َمع اال�سم ُيذ َكر يف ر�ؤياها،
جتد
جتده ومل ِ ثم نظ َرت حولها لتبحث عن ذلك اجلني الذهبي ال�شعر فلم ِ
جتده.الو�ضاء الذي قال �أنه �سيكون نبيا مل ِ �أ�صحابه الأربعة ،حتى ذلك الرجل َّ
z
يف كني�سة عظيمة البنيان مزخرفة جدرانها بنقو�ش و�صلبان ..دخل �أربعة
من �أنوار قري�ش ومعهم رجل ميني ذو �شعر �أ�صفر ،ورجل ُيل َّقب ب�أبي القا�سم له
معرفة برهبان الكني�سة الذين �أخذوا يحتفون به احتفاء عظي ًما ،كان ق�سي�س
رجل ذو مالمح مميزة ،وكان ا�سمه متيم« ،متيم الداري» ،كان الأربعة الكني�سة ً
193
ينظرون �إىل ح�سن البناء واحل�ضارة ويقارنونه يف عقولهم بذلك الدير اليهودي
الذي كانوا فيه ،كان الفارق �ضخما� ،إن كل �صورة وقبة هنا توحي بعظمة هذا
الدين امل�سيحي ..وكانت جتول يف �ألبابهم �أ�سئلة كثرية بعد حديث �أبي القا�سم
لهم يف الطريق ،ولقد وجدوا من الق�ساو�سة يف هذه الكني�سة ترحي ًبا بهم
وب�شا�شة عك�س الذي وجدوه عند اليهود ،خا�صة ملا عرف الق�ساو�سة �أن ه�ؤالء َ
خ�صهم باحلفاوة والرتحيب، يلتم�سون لأنف�سهم الدين ،و«متيم الداري» هذا قد َّ
ع
فابتدره «عمرو بن جابر» بال�س�ؤال ،قال له :باهلل عليك يا ق�س �أف�أنتم تقولون �أن
ص
اهلل له ثالثة ذوات؟ قال «متيم» :نعم ..قال «عمرو» :وتقولون �أنها كلها واحد؟
ال ري
تب�سم
قال «متيم» نعم ..قال :فكيف يكون الثالثة واحدً ا ،ويكون الواحد ثالثة؟ َّ
«متيم» وقال له:
ت ك
أنت ُ
تظن �أن اهلل هو مثل هذه املاديات التي يف الدنيا� ..إن اهلل ال يد َرك �أف� َ
ل ب
بالعقل ،فكيف تريد �أن جتعله يخ�ضع لقوانني املاديات ،فتقول كيف يكون
ن ل
ثالثة ويكون واحد ،املاديات قوانينها تر ُف�ض هذاِ � ،أمن احلق �أن جتري
ش
قوانني املادة على اهلل؟
و ر
الت
قال له «عمرو» :ال لي�س اهلل ُيقارن باملاديات ،لكن ملاذا ال يكون اهلل واحدا
و
له ذات واحدة ،ملاذا ثالثة ذوات؟ قال له «متيم» :حتى يخ ُلق هذا العامل ،كيف
يع ز
هلل الغري مادي والغري منظور والالنهائي �أن يخ ُلق هذا العامل املادي؟ البد �إذن
�أن يكون له ذات منظورة منذ الأزل ،قادرة على خلق العامل املادي ،هذه الذات
بع�ض الرجال قو َله ،ثم �س�أله �أحدهم :وما حكاية هي كيان االبن ...ا�ستح�سن ُ
�أنه فقط �إذا �آمنا بت�ضحية امل�سيح من �أجلنا ف�إن كل خطايانا ال�سابقة والالحقة
مغفورة؟ قال «متيم» :من قال لكم هذا؟ نظ ُروا �إىل «�أبو القا�سم» الذي نظ َر
لتميم ُم ً
ت�سائل!.
�صحيحا هكذا على عواهنه ،و�إال ً مط «متيم الداري» �شفتيه وقال :لي�س هذا َّ
ملاذا نحن نعمد النا�س يف الكني�سة يعني نغمرهم باملاء املق َّد�س حتى ُنن ِّقيهم
من خطاياهم؟ كان يكفيهم الإميان بامل�سيح ،وملاذا نحن ن�أ ُمر النا�س �أن ي�أتوا
للكني�سة ويعرتفوا بخطاياهم للق�س� ،ألي�ست خطاياهم مغفورة فقط بالإميان
بت�ضحية امل�سيح؟ ملاذا ي�أتي امل�سيح يف يوم الدينونة و ُيحا�سب امل�ؤمنني به على
خطاياهم� ،ألي�س يفرت�ض �أن تكون مغفورة لهم ملا �آمنوا به يف املرة الأوىل؟
فالأمر لي�س كما َ
قيل لكم ..قال له «عمرو» :وكيف الأم ُر �إذن؟
194
قال «متيم»� :إن امل�سيح ملا ُ�صلب و�ضحى بنف�سه ،مل يفعل ذلك ليغفر خطايا
ال�سابقني والالحقني؛ �إمنا فعل ذلك لي�سمح خلطايا ال�سابقني والالحقني �أن
ُتغفر؛ يعني هو ك�أنه ملا �ضحى بنف�سه �إمنا �شفع �شفاعة عظيمة للعاملني� ،شفع
أ�صل ...قال له «عمرو»: لهم عند اهلل حتى يقبل اهلل �أن يغفر خطاياهم � ً
أولي�س الآب هو اهلل؟ �ألي�س امل�سيح هو اهلل؟ قال «متيم» :نعم ..قال «عمرو»َ � :
�ضحي بنف�سه لي�شفع عند قال «متيم» :نعم ..قال له «عمرو» :وملاذا يحتاج �أن ُي ِّ
ع
كنت تريده �أن يفعل؟ قال «عمرو» :عند اليهود اهلل نف�سه؟ قال «متيم» :وماذا َ
ص
يغفر اخلطايا مبج َّرد �أن يتوب ال�شخ�ص يف نف�سه ،اهلل ميلك �سلطان غفران
ال ري
اخلطايا ،ملاذا يحتاج �إىل فداء؟
قال «متيم» :كيف ُتريد �أن ُتخطيء ثم ُتغمِ �ض عينك ب�ضع ثوان ت�ستغ ِفر
ت ك
ف َيغ ِفر اهلل لك؟ هل امل ِلك لو �أخط�أ �شخ�ص يف ح ِّقه ثم �أتاه يقول له �أن يغفر له،
ب
فيغفر هكذا بدون �شيء؟ بال وا�سطة وال فداء تفدي به نف�سك؟ اع َلم �أنه البد هلل
ش
ذبائح يذبحونها للرب يحرقونها كلها هلل ليغفر لهم �أو يذبحونها لي�أكل منها
و ر
الكهنة� ،أما عندنا فال توجد ذبائح؛ لأن اهلل َعفانا من هذا فق َّدم ابنه ذبيح ًة
و الت
نهائية ،فال ميكن �أن ت�صل �إىل غفران اهلل �إال بالوا�سطة ،والوا�سطة هي هذه
يع ز
الذبيحة النهائية ،الوا�سطة هي امل�سيح.
وغفرت لك خطاياك ال�سابقة كلها ،ف�إنك �ستحتاج آمنت بامل�سيح ُ
وحتى لو � َ
�أن ت�أتي لالعرتاف يف الكني�سة لأن امل�سيح قد �أعطى تالمذته ومن بعدهم �سلطة
غفران اخلطايا؛ فه�ؤالء الرجال ال�صاحلون �سيكونون الوا�سطة بينك و بني اهلل،
�إن غفروا لك يغفر لك اهلل.
ثم ختم «عمرو» ب�س�ؤال �أخري قال :ماذا عن ذلك النبي الذي ينتظره بنو
�إ�سرائيل ،النبي الذي من بالد العرب؟ نظر الكل �إىل «متيم» ير ُقبون قو َله..
قال «متيم»:
ب�شر بنزول �إيليا ونزول حكاية �أن اليهود ينتظرون نب ًيا ي�أتي يف �آخر الزمان ُي ِّ
امل�سيح املخل�ص فنحن ال ن� ِؤمن بهذا ،وحتى لو جاء نبي ح ًقا ف�سيكون ِّ
ممجدا
للم�سيح و�سيخا�صم اليهود لأنهم رف�ضوا امل�سيح ،وبالتايل �سيك ُفر به اليهود.
z
195
هنا تك َّلم «�أبو القا�سم» ،قال :يا «متيم» �أتنكر �أن امل�سيح عي�سى بنف�سه
ب�شر بالنبي الذي �سي�أتي من بعده؟ قال «متيم»� :أين قيل هذا؟ قال «�أبو كان ُي ِّ
القا�سم» :يف كتابكم الإجنيل �أو كما ت�صفونه بالعهد اجلديد ..قال «متيم» :نعم
� ِأنكر هذا� ،أين وجدت هذا يف كتابنا؟ قال «�أبو القا�سم»:
يف الأ�سبوع الأخري من حياة امل�سيح ،قبل �ساعات من �صلبه ،علم �أن �ساعته
قد جاءت ،حينها قال لتالميذه �أنه ذاهب �إىل حيث ال ميكن �أن يتبعه �أحد،
ع
�أي �أنه �سيغادر هذه الدنيا ،وكان هذا يعار�ض ما ُو�صف به امل�سيح املخل�ص يف
ريص
التوراة �أنه �سيملك �أور�شليم و�س ُيح ِّرر اليهود ويعيد �أر�ض امليعاد لهم ...فقال
ال
ذاهب لأعد لكم مكانا«امل�سيح» لتالميذه امل�ؤمنني به :ال تخافوا وثقوا بي ف�إين ٌ
عند الآب ،ف�إن ذهبت و�أعددتُ املكان �س�آتي و�آخذكم �إيل ،واحفظوا و�صاياي
ت ك
ر�سل لكم «مناحما» �آخر ،ر�سول من عنده مي ُكث معكم و�س�أط ُلب من الآب �أن ُي ِ
ل ب
�إىل الأبد ،ر�سول هو روح احلق ،العامل ال ي�ستطيع �أن يقبله لأنهم ال يرونه وال
ن ل
يعرفونه ،لكنكم تعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم ،و�أنا بعد قليل ال يراين
ش
العامل � ً
أي�ضا� ،أما �أنتم فرتونني �أين �أنا حي ف�أنتم بهذا �ستحيون ،لكني ال �أترككم
و ر
يتامى� ،إين �آتي �إليكم.
و الت
أظهر
فالذي يحفظ و�صاياي هو الذي يحبني والذي ُيحبني يحبه �أبي و�س� ِ
يع ز
ُظهر ذاتك لنا نحن ولي�س للعامل له ذاتي ..فقال له �أحد التالميذ :ملاذا �ست ِ
كم�سيح ُمل�ص ملك على �أور�شليم مثل نبوءة التوراة؟ و�أراد امل�سيح �أن يعلمهم
عدم النظر �إىل ملك الدنيا و�أر�ض موعودة فان َية يف الدنيا ويرغبهم يف النظر
�إىل ملكوت الآخرة ..فقال له «امل�سيح»� :إن الذي ُيحبني �سيحفظ كالمي
وو�صاياي و�سيحبه �أبي و�إليه �سن�أتي م ًعا ون�صنع عنده منزال يف ملكوت الآخرة،
�سي�سله الآب با�سمي فهو ُيع ِّلمكم كل �شيء و�أما املناحما ،الروح القد�س ،الذي ُ
و ُيذ ِّكركم بكل ما قلته لكم ،فال ت�ضطرب قلوبكم وال ترهب� ،أخربتكم �أين �أذهب
ثم �آتي �إليكم ،لو كنتم حتبوين �ستفرحون �أين قلت �أين �أم�ضي �إىل �أبي ،لأن �أبي
�أعظم مني.
�إن كان العامل ُيب ِغ�ضكم فاعلموا �أنه قد �أبغ�ضني قبلكم� ،إن كانوا قد
ا�ضطهدوين ف�سي�ضطهدونكم� ،س ُيخرجونكم من املجامع و�ست�أتي �ساعة يظن
فيها كل من يقتلكم �أنه ُيقدِّ م خدم ًة هلل ،و�سيفعلون بكم هذا من �أجل ا�سمي
لأنهم ال يعرفون الذي �أر�سلني ،لو مل �أكن قد عملت بينهم � ً
أعمال مل يعملها
196
�أحد غريي ،مل تكن لهم خطية ،لكن لي�س الآن وقد ر�أوا �أعمايل و�أبغ�ضوين �أنا
و�أبي ،ومتى جاء املناحما الذي �س�أر�سله �أنا �إليكم من الآب ،هو روح احلق الذي
من عند الآب ينبثق ،فهو ي�شهد يل ،و�أنتم �أي�ضا ت�شهدون يل لأنكم معي من
بر�سول يدعى «مناحما»،
ٍ أنت ُت� ِؤمن �أن امل�سيح َّ
ب�شر االبتداء� ...إذن يا «متيم» � َ
وهو ر�سول غري مرئي و�أنه هو الروح القد�س �سري�سله امل�سيح من عند اهلل ليمكث
مع امل�ؤمنني بامل�سيح �إىل الأبد.
ع
وبالفعل بعد �صلب امل�سيح و�إيداعه يف قربه بثالثة �أيام ،وجد التالميذ قربه
ريص
فارغا ،ثم فج�أ ًة ر�أى التالميذ «امل�سيح» ظهر �أمامهم بلحمه و دمه ..وقال� :سالم ً
ال
لكم ،كما �أر�سلني الآب �أر�سلكم �أنا ..ثم ن َفخ بفمه ال�شريف عليهم وقال :اقبلوا
الروح القد�س ..فهي�أهم وهي�أ �أج�سادهم �أن تقبل وعد اهلل بنزول الروح القد�س
ت ك
غفرت خطاياه ُتغ َفر له ومن �أم�سكتُم خطاياه �أم�سكت.. عليهم ،ثم قال لهم :من ُ
ل ب
ثم �أمرهم �أال يربحوا �أور�شليم و�أن ينتظروا موعد اهلل ،لأنهم �سيتعمدون بالروح
ن ل
القد�س ،لي�س بعد هذه الأيام بكثري ..وقال �ستكونون يل �شهودا بقوة الروح
ش
القد�س يف �أور�شليم ويف كل اليهودية وال�سامرة و�إىل �أق�صى الأر�ض ..فهنا هو
و ر
�أعطى للتالميذ �سلطان مغفرة اخلطايا متى حتقق وعد اهلل ونزل عليهم الروح
و الت
القد�س ،و�أعطاهم مهمة تب�شري العامل.
يع ز
ثم �صعد «امل�سيح» �إىل ال�سماء ..وبعد �صعوده بع�شرة �أيام ،كان التالميذ
ُمتمعني م ًعا ف�سمعوا �صوت ريح عا�صفة من ال�سماء ،وظهرت لهم �أل�سنة
منق�سمة من نار ا�ستق َّرت على كل واحد منهم فامتلأ اجلميع من الروح القد�س،
وفج�أة وجدوا �أنف�سهم قادرين على التح ُّدث بلغات �أخرى وكانت معجزة،
فذهبوا ليب�شروا وي�شهدوا للم�سيح يف البلدان ،ثم �أن �أربعة منهم كتبوا الأناجيل
الأربعة مبعاونة الروح القد�س ،فتح َّققت فيهم النبوءة �أن الروح القد�س ُيع ِّلمهم
�سجل فيه حياة ويذكرهم بكل ما قاله امل�سيح ..فكتب كل واحد منهم � ً
إجنيل َّ
امل�سيح و�أقواله ،و�أ�صبحوا �شهودًا للم�سيح بقوة الروح القد�س.
ثم �أنهم قد �أورثوا قوة الروح القد�س �إىل خلفائهم من الأ�ساقفة �إىل الأبد..
فتحققت نبوءة امل�سيح عن الروح القد�س ،الر�سول املناحما الغري مرئي الذي
مي ُكث معهم �إىل الأبد ،وهذا مثل الذي ح�صل ملا ذهب �سبعني من كرباء بني
�إ�سرائيل مع «مو�سى» ليكلمهم اهلل ،فر�أوا ال�سحابة ،عندها تقول التوراة �أن اهلل
�أخذ من روحه و�أح َّل عليهم منها ف�صاروا كهنة ،فه�ؤالء �أي�ضا قد جعلهم اهلل
197
كهنة بقوة حلول الروح القد�س.
قال له «متيم الداري»:
ح�سنا ،ما امل�شكل َة لديك ،مل �أفهم؟
قال «�أبو القا�سم» :امل�شكلة هو �أن امل�سيح قال يف هذه الب�شارة يف �أولها،
ب�شر به ..قال «متيم» :مناحما أي�ضا ُم َّ
«مناحما �آخر»� ،أي �أن هناك مناحما غريه � ً
ع
تق�صد؟
غريه؟ من ِ
ريص
قال «�أبو القا�سم» :قبل �أن يخ ُرج امل�سيح �إىل وادي قدرون الذي قب�ض عليه
ال
ما�ض �إىل الذي �أر�سلني ولي�س �أحد فيه الرومان ،قال للتالميذ� ،أما الآن ف�أنا ٍ
منكم ي�س�ألني �أين مت�ضي ،لكن لأين قلتُ لكم هذا قد ملأ احلزن قلوبكم ،لكني
ت ك
�أقول لكم احلق� ،إنه خري لكم �أن �أنطلق ،لأنه �إن مل �أنطلق ال ي�أتيكم املناحما،
ل ب
ولكن �إن ذهبت �أر�سله �إليكم ،ومتى جاء ذاك �سيحاج العامل على خطية وعلى
ن ل
بر وعلى دينونة� ،أما اخلطية ف�سيحاج العامل ب�أنهم مل ي�ؤمنوا بي ،و�أما على بر
ش
أي�ضا� ،أما على دينونة فلأن ال�شيطان رئي�س هذا فلأين ذاهب �إىل �أبي وال تروين � ً
و ر
العامل قد انهزم (يعني �سيحاجهم ب�أن الرب هو يف الإميان بي ولي�س يف �إنكاري
و الت
�سيحرمهم من اخلال�ص يف يوم الدينونة). ِ و�سيحاجهم ب�أن اتباع ال�شيطان
يع ز
�إن يل �أمو ًرا كثرية لأقول لكم ..ولكن ال ت�ستطيعون �أن حتتملوا الآن ،و�أما متى
جاء ذاك روح احلق فهو ُير�شدكم �إىل جميع احلق ،لأنه ال يتكلم من نف�سه ،بل
كل ما ي�سمع يتكلم به ،ويخربكم ب�أمور �آتية ،ذاك ُيجدين ،لأنه ي�أخذ مما يل
و ُيخربكم وكل ما للآب هو يل ،لهذا قلتُ �أنه ي�أخذ مما يل ويخربكم.
ب�شر مبناحما ثان �أو�صافه غري �أو�صاف هكذا ترى يا «متيم» �أن امل�سيح كان ُي ِّ
الروح القد�س ،وال تنطبق على الروح القد�س الذي هو روح غري مرئي ..لكن
هذا املناحما الثاين ي�أتي من بعد امل�سيح ميجد امل�سيح وير�شد �إىل جميع احلق
ويخرب ب�أمو ٍر �آتية ،ثم �إنه يحاج العامل كله على رف�ض امل�سيح و ُيعلمهم �أن الرب
حذرهم من اتباع ال�شيطان ،وال يتك َّلم من عند نف�سه ،بل يف الإميان بامل�سيح و ُي ِّ
كل ما ي�سمع يتكلم به ،هذا هو املناحما الثاين ،وهو نف�سه النبي الذي ينتظره
اليهود من �أر�ض العرب.
قليل ثم قال :ومل تالحظ يا قا�سم �أنه يقول ير�شدكم �سكت «متيم الداري» ً
�إىل جميع احلق ويخربكم ب�أمور �آتية ،يعني ير�شد التالميذ ويخرب التالميذ،
198
يعني هو �سينزل للتالميذ فقط ..قال «�أبو القا�سم» :بل امل�سيح مل يكن ُيحدِّ ث
التالميذ فقط� ،أمل تره منذ �أن بد�أ احلديث معهم يف �أول ب�شارة قال لهم �أنه
ذاهب لي ِعد لهم مكانا عند الآب ثم �سي�أتي �إليهم ،وهو منذ �أن �صعد �إىل الآب مل
ي�أت للتالميذ مرة �أخرى ولن ي�أتي �إال يف جميئه الثاين يف �آخر الزمان؛ فكالمه
مل ي ُكن موج ًها للتالميذ فقط ،بل كان موج ًها لكل امل�ؤمنني به عرب الأجيال،
يب�شرهم ب�أنه �سيذهب �إىل ربه ثم �سي�أتي لهم يف �آخر الزمان ولن يرتكهم
ع
يتامى ،ثم الأهم من هذا ،ما حكاية �أن املناحما يحاج العامل كله على �إنكارهم
ص
حذرهم من اتباع ال�شيطان ،و�أنه ال يتك َّلم �إال مبا ي�سمع ،كل هذا ال
للم�سيح ..و ُي ِّ
ال ري
ينطبق على الروح القد�س �أبدً ا ،كيف يقوم بهذه الأ�شياء روح غري مرئي مثل
الروح القد�س ،هذا مناحما غري الروح القد�س ،لذلك ملا َّ
ب�شر امل�سيح بالروح
ت ك
القد�س ،قال عنه �أنه مناحما (�آخر) ،فهناك مناحمني.
ب
قال «متيم» :اع َلم يا �أبا القا�سم �أنه لو كان نبي من �أر�ض العرب �سي�أتي
ش
امل�سيح ،و�سي�ؤمن به امل�سيحيون لأنه يدعو للم�سيح.
و ر
الت
تدخل «عمرو بن جابر» وقال لتميم وهو ي�شري لأبي القا�سم� :إن هذا الرجل هنا َّ
و
يا «متيم» قد �أخربنا �أنه �سيكون هو النبي املنتظر ..ات�سعت عينا «متيم الداري»
يع ز
ونظر �إىل «�أبو القا�سم» وقال له :يا �أبا القا�سم� ،إنه ال يكون نبي �إال �أن يكون من
بني �إ�سرائيل ،فحتى لو كان عرب ًيا فالبد �أن يكون من بني �إ�سرائيل ،هذا ثابت
ن�ؤمن به من التوراة ..قال «�أبو القا�سم» :هذا �شيء يتع�سف به اليهود جلن�سهم
و�أنا �أعجب كيف توافقونهم عليه� ،أفيرتك اهلل الأمم الأخرى بال �أنبياء؟ �أم
�أنه خلقهم فقط ليقتلهم بني �إ�سرائيل وي�أخذوا �أر�ضهم! ،ثم �أن هناك نبوءة
يتناقلها الكهان �أن نب ًيا من �أر�ض العرب من غالب بن فهر �سي�أتي ولي�س من بني
�إ�سرائيل ،يعني من قري�ش ،و�أنا والدتي من قري�ش ،ويتناقل الكهان يف و�صفه
�أنه �أحمد يعني حممود بني القوم ،و�أنا عليم باللغات ،كلمة مناحما الواردة يف
�إجنيلكم �آرامية تعني الأحمد املحمود ،بهذا تطابقت النبوءات ،نبوءة الكهنة
ونبوءة الإجنيل ونبوءة التوراة ...نظر له «متيم» بعني �آ�سية وقال له :يا عزيزي
حتى لو �صدقت نبوءة الكهنة ف�إن الن�سب يف النبوات ال يكون من جهة الأم ،بل
يكون من جهة الأب ،يعني البد �أن تكون من غالب بن فهر من جهة الأب ،يعني
تكون من قري�ش من جهة الأب ..بان عدم الر�ضا يف عني «�أبو القا�سم» ،ومال
199
«عمرو بن جابر» على واحد من الرجال الأربعة و�س�أله مبا�شر ًة :ما ا�سم «�أبو
ون�سبه؟
القا�سم» َ
مال الرجل على «عمرو بن جابر» وقال له :ا�سمه �أم َّية بن �أبي ال�صلت ،وهو َ
من ثقيف يف الطائف ولي�س من قري�ش ..ات�سعت عني «عمرو بن جابر» ،و�شرد
ذهنه يف م�شاهد و�أمور ،ومل ي�ست ِفق �إال على كلمة �أحد الرجال الأربعة وهو يقول:
ع
�أيها الق�س الكرمي� ،إين �أريد �أن �أتن�صر.
ص
بعيون ملئها املعاين �إىل ذلك الذي انتف�ض كيان «عمرو بن جابر» ونظر ٍ
ال ري
تكلم ..كان واحدً ا من الرجال الأربعة ويبدو �أكربهم �سنا ،فا�ستب�شر به
فرحا �شديدً ا ،وهنا قام رج ٌل �آخر من الرجال الأربعة وقال: الق�سي�سون وفرحوا ً
ت ك
أي�ضا �أريد �أن �أتن�صر ..ثم قام رج ٌل ثالث من الرجال الأربعة و�أنا مع ابن عميً � ،
ب
وكان هو قريب �أبو �سفيان وقال :و�أنا معكم� ...سقطت روح «عمرو بن جابر»
ش
جال�سا ثابتًا مل يتزحزح مثل �أ�صحابه ...نظر «عمرو» �إىلالرجل الرابع الذي كان ً
ر
الرجال الثالثة الذين كان الق�سي�سني يحتفون بهم وي�سوقونهم ليعمدوهم باملاء
الت و
املقد�س ،وقال يف دواخله� ،إن النبي لي�س من املعقول �أن يتن�صر ،هذا م�ستحيل،
و
على الأقل لن يتن�صر على منهج الن�صارى يف الإميان بكتاب اليهود الذي فيه ما
يع ز
فيه من الفظائع عن الأنبياء و�سفك الدم ب�أمر اهلل ،حتى امل�سيح رغم �أنه كان
يهود ًيا �إال �أنه كان يعار�ض اليهود ويغا ِلطهم يف ت�صرفاتهم و�أفكارهم.
و�شطب «عمرو بن جابر» من ذهنه �أ�سماء ثالثة من الرجال الأربعة« ..ورقة
تن�صر منهم ،والذي تبعه هو ابن عمه« ،عثمان بن احلويرث»، بن نوفل» �أول من َّ
رجلثم الذي تبعهما «عبيد اهلل بن جح�ش» زوج بنت �أبو �سفيان ،ومل يتبقَّ �إال ُ
واحد ،رف�ض �أن يتن�صر ورف�ض قبل ذلك �أن يته َّود ،بل قام وقال للن�صارى:
�أما �أنا فال �أتبعكم �أبدً ا� ،إنني من لعنة اهلل �أفر ،ثم �آتيكم لتخربوين �أن
كل �إن�سان مولود باخلطيئة ،حتى الطفل الر�ضيع ،فلو �س�ألتُكم ما خطية
الطفل الر�ضيع ،تقولون خطيئة �آدم ،فالعامل كله خاطيء بالفطرة ،وربنا
�ضحى بابنه الوحيد فقط لي�سمح لنف�سه �أن يغفر خطيئة العامل، العظيم َّ
�أولي�س ربكم بقا ِدر على �أن يغفر دون �أن ي�ضحي بابنه؟ �آهلل �أعطاكم
ككهنة �سلطان مغفرة اخلطايا� ،أفيعطيكم اهلل �سلطان مغفرة اخلطايا
وال يعطيه لنف�سه!؟
200
ثم قام وقال :وت�ؤمنون بتوراة اليهود بكل ما فيها من �أمور م�ست�شنعة
وت�س ُّمونها العهد القدمي ،واليهود هم الذين رف�ضوا امل�سيح وح َّر�ضوا على قت ِله،
�أفت�ؤمنون بكل �شنائعهم على الأنبياء ثم تكفرون بقولهم يف امل�سيح؟ ثم نظر �إىل
�أ�صحابه وقال :من �أراد �أن يتن�صر فليتن�صر ،ف�إمنا نحن نبتغي لأنف�سنا الدين،
�أما �أنا فل�ستُ معكم ،ونظر �إىل «عمرو بن جابر» وقال :وماذا َ
عنك يا �أخا الي َمن؟
ينظر �إليه نظر ًة لو ترجمت مللأت �أ�سفا ًرا ،نظرة �ساعتها كان «عمرو بن جابر» ُ
ع
فقد كل � َأمل �إال فيك ،رجل حار مئات ال�سنني وبحث حتى وقف هاهنا ،مل رجل َ
ص
يرتك قري ًة وال جن ًعا �إال حت َّرى فيها ،ومل ي ُعد باق ًيا �إال �أنت ،نظرة �ساهمة �آملة
ال ري
�شخ�صا �آخر.
ً �إىل رجل ال ُي ِكن �إال �أن يكون هو النبي املنتظر ،ال ميكن �أن يكون
ت ك
z
ن ل ل ب
ر ش
الت و
ز و
يع
201
�إننا ن�ؤز ،ون�ؤز ،ثم ن�ؤز �أ ًّزا �أنت ال تدريه ،حتى نُخرج كل من ي�ؤمِن ب�شيء م�ستقيم �إىل
الإميان ب�شيء فيه من ال�شناعة ما فيه ،كيف تريدنا �أن ننقذ اجلنة من �أمثالكم..
رمل
�أن ت�ؤمن �أن اهلل نف�سه قد نزل بنف�سه ليم�شي على هذه الأر�ض ،وهي من هي ،حبة ٍ
ع
ه ِّينة و�سط كون عارم ك�أنه ال�صحراء فيها رمال ورمال ،هذا اعتقاد كبري..
ريص
ال
نظن يف جني من الأنبياء �أنه �إن لدينا �أنبياء مثلما ُ
لديكم ،ومنا طوائف وطرائق ،لكنا مل ُ
هو اهلل نف�سه� ،إال «لو�سيفر» ،ظنه بع�ض اجلن �أنه اهلل ،وهذا طبيعي لأنه الأول؛ فهو �أبو اجلن
ك
كلهم ،وهو الآخر ،يعني ال ميوت ،خملوق من بداية الزمان وم�ستمر �إىل نها َيته ،ظنوه �أنه الرب
ت
رغم �أنه ال يقول هذا عن نف�سه � ًأبدا ،وكيف يقدر �أن يقول هذا وهو نف�سه يف �أول الأمر كان
ش
اهلل وحب اهلل ،كانت �سكناه مع قبيله من اجلن يف جنة عظيمة بني دجلة والفرات ...لكن اجلن
ر
كانوا ي�سيحون يف بقية الأر�ض كل حني ينظرون �إىل حيواناتها ونباتها و�أنهارها وبحارها،
الت و
وبالفعل مل ُ
تكن يف الأر�ض ُبقعة �أجمل من جنة «لو�سيفر».
ز و
يع
القردة من حيوانات الأر�ض �إىل قردة �أذكياء ..وبنوا م�ساكن لأنف�سهم
حتى حت َّول بع�ض َ
وا�ستعمروا كث ًريا من الأر�ض وتخريوا �أح�سن املوا�ضع فيها ..وحكى لنا نبينا «لو�سيفر» عن
واحدا من الأذكياء �أدخله اهلل �إىل جنتنا ،فيها من كل حيوان �أني�س وجميل ،ومل يكن فيها
�أن ً
�ضواري ،لكن اهلل �سمح فج�أة لذلك القرد الذي كان ا�سمه �آدم �أن يدخل ،هو وزوجه حواء،
ومن بعدها مل نرى اخلري ..يقول «لو�سيفر» �أن �آدم هذا �أحدث خطيئة عظيمة ف�أخرجنا اهلل
منها جمي ًعا.
وا�ستعمر بنو �آدم الأر�ض وكرث ن�سلهم وناكدونا فيها ،و�إنا اعتدنا �أال ُ
ن�سكن بجوار
م�ساكن احليوانات ،كنا ن�سكن ال�سهول واملوا�ضع اجلميلة الوا�سعة ،لكن بنو �آدم كانوا يبنون
القرى حول الواحات والأنهار و�أجمل البقاع ،مل يكونوا يختبئون يف اجلحور كاحليوانات ،بل
كانوا ي�ستعمرون الأر�ض بالبناء ويقطعون كث ًريا من الأ�شجار.
و�أمر «لو�سيفر» قبي َله �أن يتبعوا ه�ؤالء الأوادم وي�ضلوهم ويرجعوهم �إىل حيوانيتهم
و�شهواتهم ،وال يرتقون بروحهم و�أفكارهم �إىل ربهم ،حتى ال يف�سدون علينا �آخرتنا كما
202
�أف�سدوا يف الدنيا ..وقد كان ،و�سنعيدك �إىل بهيميتك �أيها البهيم كلما �أتيحت لنا لذلك
بادرة.
الآن قد عرفت ما يجب �أن تعرف من �صحائف الدين ..الزال اليهود ينتظرونك� ،أن تكون
من ن�سل داوود ،و�أن تعيدهم �إىل الأر�ض املقد�سة ،ال تغتم فلقد تاهت الأن�سال الآن وميكن �أن
ت�صنع لنف�سك ً
ن�سل �إىل داوود ،لن ينظر �أحد بدقة �شديدة �إىل ن�سلك �إذا � َ
أعدت اليهود �إىل
ع
�أر�ض امليعاد ،و�إن لأر�ض امليعاد حديث �آخر.
ريص
ال
z
ت ك
ن ل ل ب
ر ش
الت و
ز و
يع
203
()8
نبي بهي
قد تسامى وظهر
لي ٌل بهيم �أ�س َود ،ورجل بقلب بهيمي �أ�سود ،وراءه امر�أة تكاد حتثو الرتاب على
ر�أ�سها من الأ�سى ..تقول له يا �أبا فالن ارحم وليدتنا ..وهو مي�ضي ً
حامل طفلة
ع
ر�ضيعة يف غاللة �سوداء ،بكحل �أ�سود على عينيه ك�أن مداده من �سواد قلبه،
ص
جبل �أ�سودًا ال يبني من �سواد الليل ،كان الرجل يريد �أن يئد الر�ضيعة حتى �أتيا ً
ال ري
يف حفرة حتت اجلبل ،جبل دالمة امللعون الأ�سود الذي تئد عنده العرب بناتها،
لوحة امناعت �ألوانها ف�صارت �أ�سودًا ،وال �شيء �إال الأ�سود.
ت ك
�أعطى الرجل َ
فلذة كبده �إىل �أمها و�ش َّمر عن �ساعديه وبد�أ يح ُفر يف الأر�ض..
ب
والأم �إىل ر�ضيعتها ُ
ل
تنظر يف فجع! ،والر�ضيعة ال تكاد تفتح عينها ،ال تدري �أنها
ن ل
�سواد �آخر ُيحفر لها باجلوار ..تو َّقف الرجل
خرجت من �سواد الرحم لتعود �إىل ٍ
ش
وم�سح عن جبينه ذرات عرق تركت بعد م�سحها �سوادًا على جبهته ،ثم رفع
و ر
لينظر �إىل وجوههما يفر�أ�سه ،ف�إذا ب�أقدام غريبة واقفة يف حزم ،رفع مق َلتيه ُ
و الت
يتبي �إال �أن �أحدهما �أ�شقر عجيب والآخر فيه من �أح�سن مالمح هذا ال�سواد فلم َّ
يع ز
العرب.
مت�سك
كان هذان هما «عمرو بن جابر» والرجل الأنور الوحيد الذي َّ
باحلنيفية ..كانا عائدان من رحل ٍة طويلة من ال�شام ومتددا لي�سرتيحا عند جبل
أمرك بهذا يا �صاحبدالمة �إذ واجههما هذا امل�شهد ..قال الرجل الأن َور� :آهلل � َ
ويحك� ،إن البنات من عند اهلل� ،أما الذكران فمن اجلبني الأ�سود؟ قال الرجلَ :
َ
عند الآلهة املقد�سة� ،إمنا �أنا �أعيدها ملن �أر�سلها� ،إىل اهلل ،فال حاجة يل بها..
أمرك بهذا يا �صاحب القلب البهيم؟ ملعت عني الرجل الأنور غ�ض ًبا وقال� :آهلل � َ
جند قوت يومنا ..قال له قال الرجل :ذرين وما �أنا فيه� ،إمنا نحن فقراء ،ال ِ
الرجل الأنور� :أنا �أكفيك م�ؤونتها ..و�أخذ منه الطفلة ُيالعبها و ُي�ضاحكها ور�آها
«عمرو» بعينه النافذة ك�أن �شفتاها قد انفرجتا بب�سمة �ضاحكة يف هذا الظالم...
يوم يت�أ َّكد لعمرو بن جابر �أن هذا الرجل الأنور لهو النبي امل�صطفى؛ يف كل ٍ
كل كالمه وحديثه وب�شا�شته يف جتارته وحمبة النا�س له وثباته على تقدي�س ربه
و�أنبياء ربه عن كل منق�صة ...كان «عمرو» مي�شي مع الرجل ومعهما الر�ضيعة
207
�إىل ناحية مكة ،ثم توقف «عمرو» فج�أ ًة بال �سبب! ،وطافت يف عينه الدنيا
ودرات ،ك�أن ل�سعة من نار �أ�صابته يف الف�ؤاد ،ومال «عمرو» �إىل الأمام ثم اتزن
واعتدل ،تنامت الل�سعة �إىل � َأل حارق �سعى يف ن�صفه الأعلى حتى رفع رقبته
ور�أ�سه �إىل ال�سماء من الأمل ،ثم هوى على ركبتيه وتذ َّكر ،ذلك ال�سم ،كان وجه
ال�شيطان «�سيدوك» يجول يف ذاكرته ،لكن هذه الآالم مل تكن يف �صالح �صورته
متاما من ال َأل وهو ُ
ينظر الإن�سية التي ت�ص َّور بها ،لأن عيناه كانت قد ابي�ضتا ً
ع
�إىل ال�سماء.
ريص
نظر �إليه الرجل الأنور وقد تنامى الرعب يف �صدره ،وم َّد يده حتى يلم�سه،
ال
بحدة ،ونظر �إليه بعني �صافية البيا�ض فانتف�ض الرجل أبعد يده ِ
لكن «عمرو» � َ
الأنور مرتاج ًعا والر�ضيعة يف يده ،دقائق وهد�أت �آالم «عمرو» و�أم�سك برقبته
ت ك
وحركها ك�أمنا يود اخلروج من ج�سده ،ثم ا�ستقر «عمرو» وقال للرجل �أال ي�شغل
ل ب
باله ،ف�إنها نوبات �ص َرع ت�أتيه من ح ٍني لآخر ..لكن نظ َرة الرجل الأنور له مل
ن ل
ت ُكن مرتاحة ،ومل تكن ُت�صدِّ ق ..وبد�أ مي�شي قل ًقا بجوار «عمرو» يف الطريق،
ش
أنت يا بن
و�أ�صبحت �أ�سئلته موجهة ناحية �شخ�ص «عمرو» ،قال له :من �أي قبيل ٍة � َ
و ر
جابر؟ نظر له «عمرو» وملحات من احلرية تغزُو مالحمه ،ثم قال له �أنه يتيم،
و الت
ال �أب له وال �أم ،وال يدري لنف�سه قبيلة ..ف�سكت الرجل الأنور ،وت�شاغل بالتفكري
يع ز
أمر �آخر رغم �أن �شكه مل يخبو ،وبد�أ ينظر �إىل «عمرو» نظر ًة خمتلفة ،فلميف � ٍ
يكن ما ر�آه جمرد ابي�ضا�ض عني فقط ،كان قد ر�أى �أمو ًرا �أخرى ،لكنه كتمها
يف نف�سه.
z
نزل الرجلني �إىل مكة وافرتقا فيها� ..أما «عمرو بن جابر» فقد هرع �إىل
وادي عبقر ،ف�إن فيه من اجلن حكماء ،لينظر يف �أمر ال�سم املبيد الذي �أ�صبح
ي�أتيه بالأمل �ساعة و�ساعة� ،أما جن ن�صيبني فقد ت�شاغلوا باحلوم حوايل «�أمية
خب كل من يعرفه �أنه نبي هذه الأمة. بن �أبي ال�صلت» ،فلم يعرفوا ً
رجل غريه ُي ِ
�أما الرجل الأنور فقد و�ضع على نف�سه عهدً ا ب�أن يكلم كل من يعرفه ب�سفاهة
هذا الدين الذي يتبعون ،و�سفاهة هذه الأ�صنام التي يعبدون ..بد�أ ُيحدِّ ث النا�س
كلما ن َّورت له فر�صة ،كان يحاول بالعقل �أن ُيع ِّلمهم وباحلجة ،ويدعوهم �إىل �أن
وحده ال �شريك له ،و�أ�صبح ال ي�أ ُكل
يعودوا �إىل دين �أبيهم �إبراهيم ،ويعبدوا اهلل َ
مما يذبحون لآلهتهم؛ يقول لهم :ال�شاة خلقها اهلل و�أنزل لها من ال�سماء ماء
و�أنبت لها من الأر�ض� ،أف�أنتُم تذبحونها على غري ا�سم اهلل؟ لكن الأمر مل يكن
208
بالن�سبة لقري�ش دي ًنا ،بل كان جتارة ،كل تلك الأ�صنام حول الكعبة �إمنا و�ضعوها
لت�أتي قبائل العرب حتج �إليهم ،واحلج يعني التجارة واملكانة والأمان ،من ذا
الذي يج ُر�ؤ �أن ُيهاجم بلدهم املق َّد�س وفيها البيت احلرام ولكل فئة من فئات
العرب فيها �أ�صنام مقد�سة ،التخلي عن كل هذا هو �أمر م�ستحيل.
أ�سند ظهره �إىل جدار الكعبة و�صاح فيهم ذات ف�ضج بهم الرجل الأنور ..و� َ َّ
يوم :يا مع�شر قري�ش ،والذي نف�سي بيده ما �أ�صبح �أحدكم على دين �إبراهيم
ع
غريي ..ثم قال ب�صوت خفي�ض ناظ ًرا �إىل ال�سماء :اللهم �إين لو �أعلم �أحب
ريص
الوجوه �إليك عبد ُت َك به ،لكني ال �أعلم ..وعمل حرك ًة عجيبة �أثناء دعائهَ ،
�سجد
ال
متوج ًها �إىل الكعبة ،ثم قام ونظر �إىل ال�سماء وهو يقول ب�صوت عال: على راحته ِّ
�إلهي �إله �إبراهيم ،وديني دين �إبراهيم ..ثم عال �صوته �أكرث وقال:
ش
دحاه ��ا فلم ��ا ر�آه ��ا ا�س ��ت َوت
و ر
الت
على املاء �أر�سى عليها اجلباال
و
و�أ�سلمت وجهي ملن �أ�سلمت
يع ز
ل ��ه امل ��زن حتم ��ل عذب ��ا زالال
بد�أ النا�س يتج َّمعون حوله ،فنظر �إىل الأ�صنام املوتودة ك�أوتاد الغزاة هنا
وهناك ،وقال:
أرب واح� � ٌد �أم �أل ��ف رب � ٌّ
�أدي ��ن �إذا تق�س ��مت الأم ��ور
عزلت الالت والعزى جمي ًعا
كذل ��ك يفع ��ل اجلل ��د ال�صب ��ور
فال العزى �أدين وال ابنتيها
وال �صنم ��ي بن ��ي عم ��ر �أزور
ولكني �أعبد الرحمن ربي
ليغف ��ر ذنب ��ي ال ��رب الغف ��ور
209
غليظا ،قال له :ما مقالة رجل ً وتوجه �إىل بيته فوجد عمه عند الباب ،وكان ً
َّ
عقلكبل َغتني عنك؟ �أنك ُت�س ِّفه من �آلهتنا املقد�سة عند كل من حتادث� ،أغاب َ
�أم تريد �أن ت�أتينا قري�ش مبا نكره؟ �أل�ست عندهم حممودًا طوال عمرك؟ قال له:
يا عم� ،إمنا يفعلون ال�شر ويذبحون لأخ�شاب وي�سجدون لأحجار ويقتلون �أوالدهم
وبناتهم� ،إن كان هناك عقل قد ذهب فهي عقولهم وعقلك معهم ...وكانت
م�شادة بني الرجل وعمه ،وع َلت الأ�صوات ،وجتم َهر بع�ض ال�ساكنني يف اجلوار،
ع
وكانت بينهم عني رجل جني كان للتو �آت ًيا من وادي عبقر ،وقع يف نف�سه ملا ر�أى
ص
امل�شهد �أن نب ًيا يف هذه الأرجاء �سيت�صدى لأيام �صعاب و�أنا�س �صعاب ،ويبدو �أنه
ال ري
يرى النبي الآن وهو يبد�أ بذور دعوته ،م�ضى الرجل الأنور ما�ش ًيا بعيدً ا ،وحيدً ا
غري ًبا كغربة عقيدته ،وبقى «عمرو بن جابر» بهيئته اجلنية يرقبه من َعل.
ت ك
مهموما على غري هدى ..فناداه ً أر�ض ف�ضاء مي�شي فيها
خرج الرجل �إىل � ٍ
ل ب
فالتفت لها ،ف�إذا بهم فتية من حدثاء قومه ،ومل يكن َ �صوتٌ بل نادته �أ�صوات،
ن ل
يف وجههم خري ،يف �أعينهم نظرات مراهقة جذلة ،ثم فاج�أوه ووثبوا عليه وثب َة
ش
رج ٍل واحد ،فجالت �أياديهم يف وجهه وج�سده حتى مل يبق فيه مو�ضع �سامل ..ثم ُ
و ر
م�ضرجا يف دمائه ،وقد نقلوا له ر�سالة من مطروحا على الأر�ض وحيدً ا تركوه
الت
ً ً
و
فل�ست
وارحل من هذا البلدَ ، عمه� ،أن قد �آذناك ثالثة �أيام ،ثم اجمع رحالك َ
ز
ِح ًل لهذا البلد.
يع
فقام الرجل ومل ي ُعد يدري ما الذي يجول بفكره ،تالطمت �أفكاره كما
تالطمت عظامه ،ورجع �إىل بيته وزوجه ،وارمتى على فرا�شه...
يوم �آخر خرج من بيته وركب ناقتَه �إىل وادي بلدح قرب جبل حراء، ويف ٍ
وتو�سطت ال�شم�س �صفحة ال�سماء حار ًة ملتهبة ،والرجل الأنور مي�شى بناقته
والأفكار يف وجدانه تخطر ،حتى �إذا نزل يف �أ�سفل الوادي لق َيه رجل من قري�ش
ق�سيم و�سيم ك�أنه القمر ،كان راك ًبا على ناقة له ،فح َّياه الرجل الأنور فقال
وتب�س َم له وقال :مايل �أرى قومك قد �صباحا ،فرد له الرجل التحية ًَّ له حييت
�شنفوك؟ فقال له الرجل الأنور وقد بلغ منه الهم مبلغه� :أما واهلل �إن ذلك لغري
ثائرة كانت مني فيهم ،لكني �أراهم على �ضالل� ،إين خرجتُ �أبتغي هذا الدين
ف�أتيتُ �إىل �أحبار يرثب اليهود فوجد ُتهم يعبدون اهلل وي�شركون به ،فقلتُ ما
هذا بالدين الذي �أبتغي ،فخرجتُ حتى �أقدمتُ على �أحبار ال�شام الن�صارى
فوجد ُتهم يعبدون اهلل وي�شركون به ،فقال يل حرب من �أحبار ال�شام �إنك لت�س�أل
210
�شيخا يف اجلزيرة ،فخرجتُ فقدمت عليه عن دين ما نعلم �أحدً ا يعبد اهلل به �إال ً
ف�أخربته بالذي خرجتُ له ،فقال يل �إن كل من ر�أيت يف �ضاللة� ،إنك ت�س�أل عن
دين هو دين اهلل ودين مالئكته ،فمن �أنت؟ قلت �أنا من �أهل بيت اهلل ومن �أهل
خرج جنمه ،فارجع ال�شوك والقرظ ...فقال يل� :إنه خارج يف بلدك نبي �أو قد َ
واتبعه و� ِآمن به ،فرجعتُ ومل �أح�س �شي ًئا بعد.
ف�أنزل الرجل الق�سيم الو�سيم ناقتَه و�أتى له خادمه ..كان يبدو �أن ذلك
ع
اخلادم قد فرغ لتوه من عمل �شاق ،فلما تك َّلم اخلادم ات�ضح الأمر ،دعا اخلادم
ريص
الرجلني �إىل �سفرة� ،شاة ذبحها لت ِّوه وح�ضرها يف مائدة ،ف�أبى الرجل الق�سيم ُ
ال
الو�سيم �أن ي�أ ُكل من ال�سفرة! ،ف�س�أل الرجل الأنور اخلادم وقال :ما هذه
ال�سفرة؟ قال اخلادم :هذه �شاة ذبحناها لن�صب من الأن�صاب ..قال الرجل
ت ك
الأنور :ما �آكل �شي ًئا ُذ ِبح لغري اهلل ..وقام الرجل الأنور وفارقهم ،وم�ضى يف
ل ب
تعجب «عمرو بن طريقه ،فال �أكل الرجل الأنور ،وال �أكل الرجل الو�سيم الأقمرَّ ..
ن ل
جابر» من هذا ،لكن كان همه مع الرجل الأنور املهموم الذي بد�أ يجهز رحاله
ش
لي�سافر �أو ليهاجر هجرة نهائية ،فال �أحد من قومه يحتمله ،و�إن �أفكاره لت�ضع
و ر
قبيلته يف م�أزق ال يحتملونه مع قري�ش ..وبالفعل غادر الرجل الغريب ،غادر مكة
و الت
وهاجر �إىل حيثما هاجر ،مل يدر «عمرو بن جابر» ما يفعل ،لإن كان نب ًيا فلماذا
ز
أح�س «عمرو» ببدء و�ساو�س مثل التي �أتته َّ
يع
و�شك يف كل يرتُك البلد ويهاجر! ،و� َّ
يجد حوله �شيطان ،فعلم �أنها و�ساو�س من نف�سه التي ما يعت ِقد ،فنظر حوله فلم ِ
بني جنبيه ،و�ساو�س ملحدة.
z
حوافر عاديات على كثيب ال�صحراء عليها رجل �أنور من �أح�سن �أن�ساب
نبذه قومه فخرج برحاله �إىل العراء م�ساف ًرا �إىل وجهة بعيدة ،كان قري�شَ ،
يلتفت حواليه كل حني وك�أمنا يح�س �شي ًئا ما! ،وبالفعل كان هناك �شيء يطوف
به وك�أمنا يج�س �أمره ،كان ذاك «عمرو بن جابر» يطري وقد طار عنه كثري من
ً
حمتفظا ب�أمل �أخري يف ذلك ح�سن �إميانه ،وراودته �أفكار و�أفكار ،لكنه كان
الرجل على �أي حال.
وفج�أة �سمع الرجل �صوت حوافر لها دوي عال يف ال�صحراء مما ي�شري �إىل
كرثتها ..كانت �آت َية من خلفه ،نظر الرجل �إىل اجتاه ال�صوت فر�أى ال�صورة،
رجال �شدادًا من قبيلة خلم يتجهون �إىل ناحيته وي�شدون على خيلهم كانوا ً
211
لتعجل يف العدو ،ويف ثوان كان الرجال يعدون حول الرجل بخيولهم وينظرون
�إليه نظرات مل يفهمها ،ثم حاد بع�ضهم وجعلوا �أنف�سهم يعدون �أمامه ،ف�أحاطوا
به ،فعلم �أنهم يطلبونه ،ف�أبط�أ ناقتَه حتى �أوقفها ،لكن الرجال مل يتوقفوا ،ظلوا
بالتدخل بطريقة ما لكنه توقف� ،أوقفته ُّ هم «عمرو بن جابر»يحومون حوله؛ َّ
�أفكاره التي تطوف يف قلبه ،ونظر ،ثم ترقب وانتظر ،فريى ماذا ي�صنع القدر
بذلك الرجل الأنور.
ع
لقد قر�أها «عمرو بن جابر» يف عيون الرجال ،كانوا ُمر�سلني للقتل� ،أخرجوا
ريص
�سيوفهم من �أغمادها وكانوا �أكرث من ع�شرة ،والرجل الأنور وحده ال �أحد معه،
ال
ف�أخرج �سي ًفا كان معه جمه ًزا ليحمي نف�سه يف الطريق� ،أخرجه ويف عينه حرية
وحزن ،ومل يكن يف عينه خوف ،فقاتله الرجال وقاتلهم حتى �أردوه عن ناقته
ت ك
�إىل رمال ال�صحراء احلارة ،ونزلوا عن جيادهم وتهازءوا به� ،أيهم يقطع ر�أ�سه،
ل ب
فهوت عليه �ضربات حاول �أن يتفاداها لكنها �أ�صابته يف موا�ضع خطرة ،وبني
ن ل
زحمة الرجال وال�سيوف ،ر�أى الرجل الأنور طيف «عمرو بن جابر» واق ًفا خلف
ش
الرجال ينظر ويف عيونه كلمات مل يفهمها الرجل الأنور ،م َّد الرجل الأنور يده
و ر
�إىل «عمرو بن جابر» وك�أنه ي�شري له �أن يبتعد ويحذر ،لكن «عمرو» كان مي�شي
و الت
�إليه بثبات ال يح�س ب�شيء.
يع ز
ور�أى الرجل الأنور بعينه �أن �أج�ساد الرجال تخرتق ج�سد «عمرو» ك�أنه طيف،
و�أنهم ال يح�سون به ،ثم توقف «عمرو» ونظر �إىل الرجل الأنور ،كان يزحف
والدماء تفور من �أطرافه ،و�ضربات ال�سيوف و�ضحكات الرجال املجرمني ت�صم
الأذن ،و«عمرو» واقف ينظر �إليه ويف عينه برود قا�س ،فرفع الرجل وجهه �إىل
رب ال�سماء وقال ،اللهم �إن كنت حرمتني �صحبة نبيك ،فال حترم منها ابني
�سعيدً ا ،ارجتفت جنبات «عمرو» من كلمات الرجل ،ثم عاد له لبا�س الق�سوة،
و�أعر�ض وجهه عن الرجل ،وم�شى مبتعدً ا ،وهو ي�سمع الرجال ي�ضربونه ُوي ِّثلون
به وي�ضحكون ك�ضباع ال�صحاري ،ولي�س من كلمة على وجه الأر�ض ميكنها �أن
ت�صف امل�شاعر التي كان يح�س بها «عمرو بن جابر» وهو مي�شي مبتعدً ا عن ذلك
امل�شهد ،عن ذلك الأمل الأخري الذي مات �أمام عينيه ،ته َّدمت �أ�سوار �إميانه
وت�صديقه بالق�ضية كلها ،و�شطب ا�سم الرجل الأخري الذي كان وا�ض ًعا فيه �أمله،
�شطب ا�سم «زيد»« ،زيد بن عمرو بن نفيل» ،ومل يبقَ بعده �أحد.
212
�إىل اهلل �أهدي مدحي وثنائيا
وقوال را�ضيا ال يني الدهر باقيا
�إىل امللك الأعلى الذي لي�س فوقه
�إل ��ه وال رب يك ��ون مداني ��ا
حناني ��ك �إن اجل ��ن كان ��ت رجاءه ��م
ص ع
و�أن ��ت �إله ��ي ربن ��ا ورجائي ��ا
ال ري
ر�ضي ��ت ب ��ك الله ��م رب ��ا فل ��ن �أرى
�أدي ��ن �إله ��ا غ�ي�رك اهلل ثاني ��ا
ت ك
و�إين ل ��و �س ��بحت با�س ��مك ربن ��ا
ل ب
لأُك�ث ِ�ر �إال م ��ا غف ��رت خطائي ��ا
و ر
عل � ّ�ي وب ��ارِك يف بن ��ي ومالي ��ا
و الت
«زيد بن عمرو بن نفيل»
ي ز
�س ِّيد املوحدين يف اجلاهلية.
�إىل مكة كانت عودته �ساهما يف �سري الأمور ..تذكر ملا دخلها مرة معع«�أ�سعد»
z
حتا يف جيو�ش ،وو�ضعوا على البيت ك�س َوته ،كان ا�سمها فاران ،وتذكر الكامل فا ً
الطري الأبابيل ،وتذكر وجه «�إزب» و«�سيدوك»� ،إن كل هذا َوهم� ،إنه �أكرث خملوق
رمته اخلطوب وال�سنني الطوال يتتبع هذا الأمر� ،أربعمائة �سنني �أو �أكرث وهو
ينتقل من ق�صة �إىل ق�صة ومن �أر�ض �إىل �أر�ض ،خ�سر حياته وزوجه و�شبابه،
وال �شيء يف النهاية �إال نبوءات �شياطني وكالم يف كتب �أهل الكتاب بكل عجائب
الأ�شياء التي و�ضعوها يف الكتاب.
ألي�ست لك جماعة �أيها الو�سيم؟ � َ
تنظر له يف لوم م�شوب باملرح..نظ َر �إىل م�صدر ال�صوت فر�أى فتا ًة ح�سناء ُ
نظر لها وفو ًرا تذ َّكر «�إينور» ،لكنها مل تكن «�إينور» ،ف�أطرق بر�أ�سه �إىل الأر�ض
213
لي�ست يل جماعة� ،إالم و�صلتم؟ كان تلك هي «ما�سا» ،من يف ُحزن وقالَ :
وفد جن ن�صيبني ..ح َكت له «ما�سا» تفا�صيل ر�ؤياها التي ر�أتها عن الراهب
«بحريا» والغالم الذي يتح َّرك له الغمام ،وعرفته بقدرتها التي ا�شتهرت بها
يف ن�صيبني� ...أنها ترى املا�ضي بكل تفا�صيله ،و«عمرو» ي�سمع لها وعروق عيونه
ترجتف! ،قالت له :ما بك يا هذا؟ قال لها� :أف�أنتم ت�ؤمنون �أن يف هذه البالد
يخ ُرج نبي ح ًقا؟ �إين كعمرو بن جابر مل � ُأعد �أ�ؤمن بهذا� ،أف�أ�صدق ر�ؤيا ت�أتيك
ع
�أنت ملا تنامني عن راهب يف دير يف ال�شام؟
ريص
تنظر �إليه وعينها بارقة بطريقة عجيبة ..وك�أنها قد انف�صلت كانت «ما�سا» ُ
ال
عن هذه الأر�ض كلها ،ثم �أغم�ضت عينها وعملت بالحمها ما يوحي ب�أنها تت� َّأل،
«رب �إين �أود لو تد ّلني �إىل الطريق� ،أو على
ثم فتحت عينها ونظرت له وقالتِّ :
ت ك
�صاحب الطريق ،رب �إين قد وهنت ،وخبت يف عروقي �أنوار الأمل ،ف�أظلم
ل ب
أر�سلت ال�شياطني عليهم ت�ؤزهم �أزا ،فلم ترتك ال�شياطني ف�ؤادي ،رب �إنك قد � َ
ن ل
يف نفو�سهم جذوة من �إميان �إال �أطف�أتها ،وال رجل يقول يا رحمن �إال كادت له
ش
الكيد ،ومل يعد على الأر�ض �إال بيتك املحرم».
و ر
الت
كان «عمرو» ي�سمع وعينه مت�سعة؛ لقد كانت هذه كلماته ،هذا ما دعا به ربه
و
على �أعتاب مكة قبل �سنني طوال عند هذا املو�ضع �أو حوله ،ات�سعت عني «عمرو»،
يع ز
هذه الفتاة التي �أمامه ترى املا�ضي بتفا�صيل ال يقدر عليها �سواها ..هذا الدعاء
ب�صوت خفي�ض ،و�ساحت نف�س «عمرو بن جابر» ،هذه الفتاة ٍ قاله منذ زمن
ً
�صادقة ،ور�ؤياها �صادقة ،وتذ َّكر «عا�صف» ،الذي مات مربوطا على خ�شبة؛ مات
لأجل دين اهلل ،وتذكر «�أ�سعد» الكامل وب�سمته حني موته وهو يقول� :شهدت على
�أحمد �أنه ،ر�سول من اهلل باري الن�سم ..ثم تذكر الرجل الأنور «زيد بن عمرو
بن نفيل» وطيبته وخلقه اجلميل ثم �سجوده لربه يف و�سط ثالثمائة �ص َنم ثم
أح�س باحلياء من نف�سه ،وترقرقت عيناه موته املفزع الدامي ...تذكر كل هذا و� َّ
بالدمع حا ًرا على الوجنتني ،هذه الفتاة ..لقد ر�أت ر�ؤيا ل�صبي من تلك الديار
يتحرك الغمام ملوا�ضع قدميه ،هذه الفتاة ،لقد ر�أت «�أحمد»� ،أخفى دموعه عنها
و�أعر�ض بوجهه ،وهو يقول :و�أين و�صلتُم بعد هذه الر�ؤيا؟
قالت له وقد التقطت ما يفعل وما يخفي :نحن الزلنا نتبع �أمية بن �أبي
ال�صلت ،والزال يخرب اجلميع �أنه �سيكون نب ًيا ...مل ي�ش�أ «عمرو» �أن يخربها �أن
«�أمية» هذا موهوم ،و�أنه لي�س هو من يبحث عنه اجلميع ،ف�سكت «عمرو».
214
قالت له :يا «عمرو» ماذا عنك� ،أت�ؤمن �أن نب ًيا من بني الإن�سان �سيدعو �إىل
اهلل ح ًقا؟ �أعر�ض عنها وقال :مل � ُأعد �أدري ماذا �أ�ؤمن.
وافرتقا ...فعادت «ما�سا» �إىل �أ�صحابها� ،أما «عمرو» فذهب �إىل رجل واحد
كان البد �أن ُيخربه ب�أمر «بحريا» الراهب ،رجل تن�صر من الأربعة الأنوار� ،أو من
الأربعة الذين كانوا �أنوا ًرا ،ذهب �إىل «ورقة»- ،ورقة بن نوفل.-
z
ص ع
كان «ورقة» ً
رجل �ساه ًما كثري النظر يف النجوم ،كثري همه َمة ال�صدر ،وكان
ال ري
له �صوان خارج بيته يجل�س فيه ينظر �إىل ال�سماء ،وكان «عمرو» �إليه �آتيا يف
هيئته الب�شرية ،لكنه ملا اقرتب �سمع �صوت �شخ�ص عند «ورقة»! ،فتوقف «عمرو»
ت ك
وتنحى عن الدرب والتقطت �أذنه حدي ًثا يدور بني ورقة وبني من عنده ،لكن
ب
«عمرو» مل يحتمل ،فزال من املكان بهيئة الب�شر وانتقل �إىل هيئة اجلن وحل
ش
جال�سا بفناء
طويل ال�شعر �أ�سوده ،كان الرجل يقول لورقة :يا ورقة �إين كنت ً
ر
الكعبة ،وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدا ،فم َّر به �أمية بن �أبي ال�صلت ،فقال
الت و
كيف �أ�صبحت يا زيد ،قال بخري ،قال له �أمية ،هل وجدت النبي الذي تبحث عنه
و
يا زيد؟ قال زيد ،ال يا �أمية ،مل �أجد من ذلك �شيء� ،أما �إن هذا النبي املنتظر
يع ز
�سيكون منا �أو منكم �أو �سيكون من �أهل فل�سطني ،ف�سكت �أمية و رحل عن زيد.
ثم قال الرجل اجلميل لورقة� :إين مل �أ�سمع قبل هذا بنبي ينتظر �أو يبعث،
�أفهذا الأمر حق يا ورقة؟ قال له «ورقة» :نعم واهلل �إنه حلق� ،إن هذا النبي
املنتظر �سيكون من �أو�سط العرب ن�س ًبا ،و�إن يل ِعلم بالن�سب ،وقومك �أو�سط
العرب ن�س ًبا ،و�إن النبي �إذا خرج �سيكون منكم ..قال الرجل اجلميل :وما يقول
هذا النبي �إذا خرج؟ قال «ورقة» :يقول ما قيل له من عند اهلل ،ال يزيد على هذا
وال ينق�ص.
ثم ان�صرف الرجل اجلميل املحيا من عند ورقة ..وعلى الفور ت�صور «عمرو»
يف �صورة الب�شر ودخل على «ورقة بن نوفل» فا�ستب�شر به «ورقة» وح َّياه و�أكرم
وفادته ،قال كيف حالك يا بن اليمن ،مكث «عمرو» عنده ي�سائله ويتذاكران
رحلتهما ويتذاكران «زيد» ،ويتذاكرا «�أمية بن �أبي ال�صلت» ووهمه يف الن�سب
والنبوة ،وعلم «عمرو» �أن «عثمان بن احلويرث» الرجل الثالث يف الأربعة الأنوار
215
قد ُقتل يف ال�شام ،وحكى له «عمرو» حكاية «بحريا» الراهب ،فخ�شع قلب ورقة
للحكاية ومل يكن يعلمها ..قال «عمرو»َ :من هذا الرجل ذو الوجه احل�سن الذي
خرج من عندك لت ِّوه يا ورقة؟َ
قال «ورقة»� :إنه رجل حممود يف قومه ي�سميه قومه بال�صادق من عظم
�صدقه فيهم ..ا�ستب�شر قلب «عمرو» ،لكن «ورقة» قال له :يا عمرو �أعلم ما ُتف ِّكر
فيه ،لكن يا عمرو ،اع َلم �أن النبي ال يكون ينتظر النبي �أو يبحث عن النبي� ،إن
ع
النبي يعلم �أنه نبي ..ات�سعت عني «عمرو» وقال :كيف يعلم �أنه نبي يا ورقة؟ قال
ريص
«ورقة» :هذا ما هداين �إليه نظري يا «عمرو» ،ولي�س لدينا �إال االنتظار ..لكن
ال
عار�ضه ب�شدة ومل ُيوافقه على هذا النظر.«عمرو» َ
ك
وان�صرف من عنده وهو ُيف ِّكر يف حكاية �أخرى� ..إن «ورقة» يظن مبا عنده
ت
من العلم �أن النبي �سيكون من �أوا�سط العرب ن�س ًبا ،من بني مرة بن كعب بن
ن
لقد �ضاقت الدائرة ً
ش
قليل ف�صارت من بني مرة بن كعب بن ل�ؤي ..هذا يلغي
ر
ن�صف بطون قري�ش على الأقل ،ومل ُي�ضع «عمرو» وقتًا ،و�إمنا انطلق �إىل ذلك
الت و
الرجل اجلميل الذي كان عند «ورقة» لينظر يف �أمره ،وقبل �أن يتح َّرك خطوة
و
من بيت «ورقة» ،وجدها �أمامه؛ احل�سناء من طائفة الأرواح« ،ما�سا».
يع ز
أنت ت�ضللنا يا عمرو؟ �إين قد �سمعتُ حديثك مع ورقة ،وقولكما قالت له� :أف� َ
�أن �أمية بن �أبي ال�صلت موهوم� ،أتخاف علينا من نبيك �إذا خرج يا عمرو؟ �أال
تدري �أنه �إذا خرج وكان نب ًيا من ربه فلن نقدر على �أن ن�ؤذيه؟ مل يدر «عمرو» ما
هم «عمرو» بالكالم ف�سب َقته وقالت: يجيبها ،وكان يف �س�ؤالها كثري من املنطقَّ ،
واهلل �إين لأرى من �أمر هذا النبي عج ًبا عجا ًبا ،و�إين ل�ست كل ما �أراه �أحدث به
�أ�صحابي ..انتف�ض «عمرو» وقال لها :ما هذا الذي ترينه وال ُتدِّ ثني به يا هذه؟
عرفت من هو �أحمد؟ هل ِ
�أطرقت بر�أ�سها وقالت :ليتني �أعلمه ،لكني ر�أيت من حياته عجبا ..قال� :أمل
ت�ستديل عليه؟ قالت� :إين ل�ست �أخرب �أحدً ا ب�شيء حتى �أريد �أن �أخرب ..نظر لها
�شوق وقال� :أرجوك يا �صاحبة الأرواح �أن تنبئيني مبا ر�أيت ..قالت بعني كلها ٍ
«ما�سا»� :إين ال �أفعل ذلك �أبدا ،لكن اعلم �أين قد �أتيتُ مع وفد ن�صبني �إىل هاهنا
ُمربة ،و�إنك �إن �أردتَ �أن ُت�ضللهم لن جتد �أف�ضل مني ،ف�إين بينهم ذات ثقة..
نظر لها «عمرو» وهو ُيف ِّكر وقال :ملاذا تفعلني هذا وت�ضلليهم؟ ظه َرت يف عينها
216
�أ�شباح الدمع وهي تتذكر مرائيها ومل ترد! ،ثم فج�أ ًة �أم�سكها من �ساعدها
و�سحبها معه بقوة ،وقال� :إذن تعايل معي ..وانطلق «عمرو» بها �إىل حيث كان
يريد �أن ينطلق� ،إىل ذلك الرجل اجلميل ال�صادق من بني مرة بن كعب بن ل�ؤي.
z
وق َفا �أمام بيته ..و«ما�سا» مت�سك ب�صدغها وك�أنها تتهي�أ لرتى �أمو ًرا ،ثم
فج�أة تق َّو�س ظهرها ونظرت �إىل ال�سماء وات�سعت عينها و�صرخت ،و�أُخذت �إىل
ص ع
عامل من ال�صور ،عامل من املا�ضي ،عند نف�س هذا البيت ،حيث خرج من البيت
ال ري
رجل ومعه غالمه املراهق الذي ناهز احللم ،كان هذا هو �صاحب الوجه اجلميل
ملا كان غالما ،وكان معه �أبوه ،فانطلق �أبوه به �إىل خمدع الأ�صنام ،وقال له :يا
ك
بني ،هذه �آلهتك ال�شم العوايل فتع َّبد لها ..ثم ذهب الرجل وترك ابنه يف خمدع
ت
الأ�صنام وحده.
ش
له� :أيها املُ�ش َّيد من احلجارة� ،إين جائع ف�أط ِعمني� ،إين عط�شان فا�س ِقني ،ومل
ر
ي ُرد ال�صنم بل ظل ناظ ًرا بال هدى ...ثم ذهب ال�صبي �إىل �صنم �آخر عليه
الت و
هيبة ،قال له :يا ذا الهيبة �إين عا ٍر فاك�سني ،ظل ال�صنم ينظر و�أنفه �أمامه،
و
ف�أم�سك ال�صبي حج ًرا من الأر�ض وقال� :إين راميك بحجر يا هذا فادفع عن
يع ز
نف�سك ،فلما مل يجد ردًا رمى احلجر ف�ضرب مقدمة ال�صنم فخ َّر على وجهه
وانك�سر ..ونظر له ال�صبي بع ٍني حانقة ،ومل ترى ما�سا بقية احلدث فا�ستفاقت
و�أم�سكت ر� َأ�سها من � َأل �شديد ،وحكت لعمرو كل ما ر�أته ،فتل َّهف قلب «عمرو»
�صاحب ذلك الرجل ،و...
�أن ينتقل �إىل هيئة ب�شرية و ُي ِ
لي�س هو.
َ
نظرا م ًعا �إىل ما وراءهما ..كان يجل�س جل�سته القرف�صاء املعهودة ويكتئب
اجلو ملر�آه�« ،سيدوك» �-شيطان ال�سم -نظر �إىل «ما�سا» نظر ًة لن تن�ساها وقال
لها :مل �أكن �أدري �أن يف بعثتنا املقد�سة رجل مياين؟ قا َلت له ب�سرعة دون �أن
ترتبك� :إمنا هو قد علم يف رحلته ما مل نعلمه وكنت �أ�ستزيده من اخلرب ..رفع
«�سيدوك» حاجبه وقال :وما الذي يع َلمه هذا الكائن وال نعلمه نحن؟ قالت :لقد
كان يف رحلة مع �أربعة يظن �أن واحدا فيهم النبي ،وكان معهم �أمية بن �أبي
ال�صلت ،وكان �أمية يعلمهم الدين ،وهو...
217
ظهر �شيء على ر َقبة «ما�سا» جعلها تهرع بيدها لتم�سك رقبتها! ،كان
كالطوق القاب�ض الذي قب�ض عليها فت�ساقطت والدنيا بها تدور ،حتى �سكنت
حركتها على الأر�ض! ،الحظ «عمرو» طو ًقا م�شاب ًها قد ُر�سم على رقبته فرتاجع
و�سقط من الرتاجع ..قال له «�سيدوك»� :إن الذي تقف �أمام بيته لي�س هو الرجل
غي نربة �صوته �إىل ما ك�أنه ثعبان �ساخر وهو يقول� :أمل ي ُقل
تنتظر ،ثم َّ
الذي ِ
ً
تو�سعت عني «عمرو» وهو يطرد �شيئا ال يفهمه لك ورقة �أن النبي يعرف �أنه نبيَّ ..
ع
عن رقبته ..و«�سيدوك» يقول له وهو ي�شري �إىل عينه ال�سوداء :لقد قلت �أن عيني
ص
�ستكون وراءك يا بن جابر ..ثم �أغلق عينيه ومل ي ُعد هنالك ،ومل ت ُعد «ما�سا»
ال ري
يتح�س�س ما بقى فيها
�أي�ضا هنالك ،وانفك الطوق من على رقبة «عمرو» ،وبقى َّ
من � َأل ،وح�سرة.
ت ك
توجهوا �إىل بقعة واحدةرفع «عمرو» ر� َأ�سه لريى النا�س كلهم يف الدرب قد َّ
ب
وهم يتك َّلمون ب�شيء غري معتاد ،فتناه�ض «عمرو» من بني �آالمه وانطلق �إىل حيث
ش
عند الكعبة ينظر ،وهناك جت َّمد «عمرو»! ،جتمد وارجتفت يده و�سقط على
و ر
ركبتيه ،لقد كانت الكعبة منهدمة على �أركانها ،وقري�ش كانت حولها يهدمونها
و zالت
مبعاولهم ،ومل يكن هذا كل �شيء ،بل كان هناك �شيء �آخر� ،شيء خميف!
يع ز
قري�شا تهدم الكعبة ،رغم �أنها هي �شرفهم وحرزهم كانت حقيقة� ..إن ً
ومنعتهم من النا�س ،لكن من �أحاديث القوم تبني �أن الأمر على غري ظاهره،
�إمنا كانوا يخافون عليها من ال�سيل الذي نزل مبكة ف�أرادوا رفعها و�أرادوا
ت�سقيفها بخ�شب لئال يدخلها ماء ،مل تكن هذه هي امل�شكلة ،امل�شكلة �أن كل من
معول حول الكعبة قد تراجع من اخلوف ،فلما هدمت قري�ش الكعبة، كان يحمل ً
و�أخرجت ما بداخلها من الأ�صنام ظهرت لهم من جوف الكعبة حية �ضخمة
ج�سيمة ملت َّفة حول نف�سها راب�ضة على الأر�ض ،وكلما اقرتبوا منها رفعت ر�أ�سها
وفتحت فاهً ا وكان مو�ضعها يف قعر الكعبة ،فهابوا
وك�شت يف وجوههم واحز�ألت َ
منها و�شعروا �أن اهلل غا�ضب عليهم لأنهم هدموا الكعبة ،وظنوا �أنهم هالكون.
دخلو يف بنيانها من ك�سبكم �إال طيبا ،ال ف�أ�شار عليهم كبري منهم �أال ُت ِ
تدخلو فيها بيع ربا وال مظلمة لأحد من النا�س ..فتعاهدوا عليه ،و�أمروا بحربة
لريمونها على احلية ،فتحركت احلية امللتفة على نف�سها وخرجت وان�س َّلت من
218
بني �أحجار الكعبة وغابت بعيدً ا فج�أة ،فعلموا �أن اهلل قد ر�ضي على تعاهدهم،
فمكثوا ي�ضعون احلجر على احلجر وي�ضعون اخل�شب على ال�سطح حتى �أعادوا
بناء الكعبة كلها لتكون �أح�سن و�أعلى مما كانت عليه ،حتى بلغوا مو�ضع الركن
واحلجر الأ�سود ،فتناظروا بينهم� ،أيكم ي�ضع احلجر الأقد�س ،وت�صايحت
القبائل واختلفت وعلت الأ�صوات وتنابزوا بالألقاب وكانت العرب ميكن �أن
ما�ض
تقيم حر ًبا على �أمور �أقل من هذه �أهمية! ،وبدا من �أحاديثهم �أن الأمر ٍ
ص ع
وتناحر.
�إىل فرقة ُ
ال ري
وحتالف بع�ضهم على بع�ضهم يف وقفتهم هذه بل �أعدوا للقتال ،بل �إن «بني
عبد الدار» �أخرجوا قربة مملوءة بالدم فو�ضع كل املتحالفني معهم �أ�صابعهم
ت ك
فيها ،فكان حتالف على الدم واملوت ،و�إن ما �أ�صعد الأمر لهذه الدرجة هو
التنابز بني القبائل ،فذكرت كل قبيلة معايب الأخرى ،ويف وجود �أ�سياد القبائل،
ش
ثم خرج منهم رج ٌل ر�شيد واحد ،قال لهم :يا قري�ش اجعلوا بينكم حكما فيما
و ر
اختلفتم فيه ،واجعلوه �أول رجل ُ
الت
يدخل علينا من باب هذا احلرم ..فنظروا �إىل
و
بع�ضهم وتخافتوا بينهم ينظرون يف الأمر ،وبينما هم يتخافتون� ،إذ دخل عليهم
يع ز
من تلك الناحية من احلرم رجل ،وانقلب بدخوله كل �شيء ر� ًأ�سا على ع ِقب!
نظر له الرجال وهو � ٍآت وابتهجوا وان�شرحت �صدورهم وتراخت مالحمهم
بعد عبو�س ووجوم..
قالوا :ر�ضينا ،هذا الأمني ،قد ر�ضينا به واهلل ،هذا حممد ..والتفت «عمرو
بن جابر» وقد كان ً
قبل يلتفت بر�أ�سه �أما الآن فقد التفت كله ،التفت ونظر �إىل
حممد.
z
دخل عليهم يف تلك ال�ساعة رج ٌل بهي ،ك�أن وجهه قطعة قمر� ،أب َي�ض مهيب
وا�سع املنكبني ،له مالمح و�سيمة ك�أمنا �أن�شئت لوحدها �إن�شاء دونا عن جميع
مالمح قومه ،يتباهى يف ر�سمها البيا�ض الأقمر مع ال�سواد الفاحم ،اخلد
�سهل �سوي �أزهرُ ،تفاخر بيا�ضه حل َية �سوداء عليه جتمله ،خاف�ض الطرف
والعني حورى طويلة �أرما�شها� ،سوداء و�أحداقها �سوداء ،يعلوها حاجبان قويان
219
ر�سل طويل نازل على كتفني عري�ضني، مت�صالن و�شعر �أ�سود فاحم م�ص َّفف ُم َ
�إذا ر�أيته �أكربته وال تطيل فيه النظر مهابة.
كان هو ذلك الرجل الأقمر الذي قابله «زيد بن عمرو بن نفيل» قبل �أن يهاجر،
ذاك الذي ُقدمت له ال�سفرة املذبوحة على الأن�صاب ورف�ض �أن ي�أكل منها..
ا�ستب�شر كل الرجال بقدومه ،كان مي�شي م�ش َية جادة فيها �شيء من �سرعة ،وملا
بثوب و�أمر �أن يو�ضع عليه احلجر الأ�سود ،وجعل عرف اختالف الرجال �أمر ٍ
ع
رئي�س كل قبيلة مي�سك بطرف من الثوب ورفعوه جمي ًعا ،ثم �أم�سك هو باحلجر
ريص
الأ�سود وو�ضعه يف ركن الكعبة.
ال
ينظر �إىل «حممد» ،فقط �إىل ينظر �إىل امل�شهد ولكن كان ُ مل يكن «عمرو» ُ
ك
يلحظ تواجده� ،إنه مل ي�أكل من تلك ال�سفرة ملا ُقدِّ مت �إليه، «حممد»! ،كيف مل َ
ت
و�إنه من «غالب بن فهر» ،بل هو من «مرة بن كعب بن ل�ؤي بن غالب بن فهر»،
ش ن
بن ق�صي بن حكيم بن مرة بن كعب بن ل�ؤي بن غالب بن فهر» ،ال يناديه قومه
ر
�إال بال�صادق الأمني ،وا�سمه «حممد» ،ارجتف قلب «ابن جابر» و�سقط يف قدميه
الت و
ينظر� ،أهو «�أحمد» ،بل لي�س هناك يف القوم �أحمد منه عندهم ،كان كل وهو ُ
و
�شيء يف «عمرو» يهتز حتى مل ي�سمع ما يقال وال ماذا حدث ،لكنه فقط كان
يع ز
ينظر �إىل الأر�ض ومي�سك ينظر �إىل «حممد» وتتوارد الأفكار عليه كال�سيل ،ثم ُ
ينظر �إىل حممد ،ويذ ُكر كل ما م َّر به ،وترجتف عيناه بر�أ�سه ويجف حلقه ،ثم ُ
ينظر �إىل «حممد» ،والبهاء والنور الذي على «حممد» كاد ك�أنها تود البكاء ،ثم ُ
�أن يحلل ذرات ج�سد «عمرو بن جابر» من االرجتاف.
ف َّكر حلظة يف ذلك الرجل اجلميل الذي ذهب �إىل «ورقة بن نوفل» والذي
ر�أت «ما�سا» من طفولته �أنه يكره الأ�صنام� ،إن ا�سمه �أبو بكر ،و ُيل ِّقبه النا�س
بال�صديق ،ثم تذ َّكر كلمة «�سيدوك» ب�أنه لي�س هو� ،أيعلم ذاك اخلبيث «�سيدوك»
�شي ًئا ال يعلمه!� ،أيعرف «حممدً ا»؟ نظر «عمرو» حواليه ،وح َّول نظره عن «حممد»
لأول مرة منذ �أتى ،فجعل ينظر حوله ليبحث عن �أحد من جن ن�صيبني يف
اجلوار ،ثم تذ َّكر �أن «�أمية بن �أبي ال�صلت» قد ارحتل �إىل اليمن ورمبا يكونوا
قد ارحتلوا معه ،ثم تذ َّكر «ما�سا» ونظر �إىل الأر�ض وهو ال يدري ماذا ح َّل بها،
ثم عاود النظر �إىل «حممد» ،والقوم حول «حممد» ،ومل ت ِغب عينه عنه فيما �أتى
من الأيام طرفة عني.
220
كان يتيما مات �أبوه و�أمه ور َّباه ج ُّده «عبد املطلب» ..تذ َّكر «عمرو» الر�ؤيا التي
ح َكتها «ما�سا» وكالم الراهب «بحريا» ،عن الغالم الذي يتح َّرك الغمام ملو�ضع
وذكر يف كتب اليهود �أنه يتيم ،ثم �أن «حممدً ا» قدمه ،كان ذلك الغالم يتي ًما ُ
مات عنه جده بعد ذلك فر َّباه عمه �أبو طالب ،فكان «�أبو طالب» له خري �أب،
ُيحبه �أكرث من �أبنائه جمي ًعا ،وكانت زوجة �أبو طالب له خري �أم« ،فاطمة بنت
�أ�سد» ،كان ال يناديها �إال �أمي ،فكانت �أمه بعد �أمه ،وملا حكى لها «�أبو طالب» عما
ع
كان من �أمر الراهب «بحريا» وهو يقول �أن هذا الغالم هو ر�سول رب العاملني..
ص
غالما ،فكانت جتوع ا�ستب�شرت «فاطمة» بذلك و�ص َّدقت به و�آمنت وهو ال يزال ً
ال ري
نف�سها وت�شبعه وتعرى لتك�سوه ومتنع نف�سها طيبها و ُتطعمه ...ال تريد بذلك �إال
وجه اهلل والدار الآخرة.
ت ك
ويف ر�ؤيا الراهب «بحريا» التي ح َكتها «ما�سا» ..ذلك الغالم ال�صغري الذي
ل ب
يتبعه الغمام كان معه رجل قال �أنه عمه ،كان ذاك �إذا هو «�أبو طالب» ،وملا
ن ل
أجنب منها
كرب «حممد» ز َّو َجه «�أبو طالب» من امر�أة فا�ضلة ا�سمها «خديجة» و� َ
ش
ولدين و�أربعة بنات ،تذكر «عمرو» كالم الراهب «بحريا» �أن النبي «حممد» َ
و ر
ميوت عنه �أوالده ،فاغتم «عمرو» لذلك ،لكنه طرد هذا اخلاطر عن ر�أ�سه وجعل
و الت
يتابع «حممد» ،ويف كل �ساعة ي�ستنري قلبه مبحمد نو ًرا.
يع ز
ويف �ساعة من ال�صباح ..كان «حممد» مي�شي ومعه خادمه ،ذاك اخلادم
نف�سه الذي ق َّدم ال�سفرة ملحمد ولزيد بن عمرو بن نفيل ف�أبيا �أن ياكال منها،
كانا مي�شيان عند �صحن الكعبة يطوفان بها و«عمرو» ينظر �إليهما يف اهتمام،
حتى م َّرا ب�صنمني كبريين من نحا�س ا�سمهما �إ�ساف ونائلة ،ي�ؤمن العرب �أنهما
�إن�سانني زنيا عند الكعبة فم�سخهما اهلل �صنمني ،وكان الذين يطوفون عادة
ومت�سح بهما ،فنهاه
يتم�سحون بهما لنيل الربكة ،فتوجه اخلادم �إليهما َّ بالبيت َّ
مت�سح بهما ف�إنهما رج�س ..فرتكهما مت�سهما وال َ
«حممد» عن ذلك وقال له :ال َّ
وي�ستب�شر.
ِ ينظراخلادم ،و«عمرو بن جابر» ُ
حتى �أتى ذلك اليوم..
غا ٌر معزول يف بطن اجلبل ،فجوة ظلماء ال تكاد تبني يف جوف الليل ،ورجل
حممد قد انتبذ قومه فيها وتنحى ،وتوحد بنف�سه فيها وتخلى ،كان ي�أتيها
يف كل عام �شه ًرا ،ثم حبب �إليه اخلالء فيها فانعزل �شهورا ،كانت مثل هذه
الأماكن املعزولة خميفة جدً ا لأهل مكة والعرب ملا �شاع بينهم من ق�ص�ص اجلن
221
والأغوال� ،أما ذلك الرجل املحمد فكان يذهب �إليها كل يوم ،ل�شهور عدة...
و«عمرو بن جابر» وراءه يحوم ،حتى �أتى يوم من الأيام الدابرة..
يف ظلماء الليل وع�سع�سة النجوم ،وكل غافل يف امل�ساكن منك�سف� ،إذ ق�ضى
اهلل الأمر الذي كان منتظر ،وق�ضى «عمرو» كل �صرب معترب ،ور�أت عيون «عمرو»
يف هاته العتمة �أم ًرا خارج �سلطان الب�شر� ،أمر تنزل من فوق �سبع �سماوات
بقدر ،فلما ر�آه خ َّر على رجليه واكتوى كل جن واندحر ،وتهللت النجوم وانق�شعت
ع
ري من �ألف �شهر ،على نبي
الغيوم حتى خ�شع اجلبل ،تنزَّل الأمر يف ليل ٍة هي خ ٌ
ريص
بهي يف �آخر الزمان قد ت�سامى وظهر ،ب�ش ًريا نذي ًرا لقوم غافلني من الأعراب
ال
والعجم.
zك ت
ن ل ل ب
ر ش
الت و
ز و
يع
222
�أر�أيت ملا ابي�ضت عني «عمرو» وقال �أنه ُي�رصع� ،أر�أيت خوف الرجل الأنور منه وذعره
وهو رجل بكامل رجولته ..ذاك ب�سبب �أ�سطورة تناقلتها �أجيالكم� ،أ�سطورة بد�أت من
روحا �رشيرة كانت ُ
تدخل فيه وت�ؤذيه، التوراة ،تقول �أن اهلل �أر�سل على امللك �شاول ً
ع
عزفا رائ ًعا على القيثارة ،فليعزف لك حتى تخرج فن�صحه خا�صته �أن املقاتل داوود يعزف ً
ص
تلك الروح ،فا�ستدعى داوود وعزف له وخرجت منه الروح ال�رشيرة ،ويف مكاتيب يهود
ال ري
قمران وجدت تفا�صيل مف�صلة عن كيفية �إخراج الأرواح ال�رشيرة التي ت�سبب املر�ض
يطرد الأرواح ال�رشيرة التي متر�ض النا�س ،لكن ،كل للنا�س ،ويف الإجنيل �أن «عي�سى» كان ُ
ت ك
هذا قد ُفهم خط�أ ،وت�سبب يف �أ�سطورة عظيمة تناقلتها احل�ضارات� ،أن هناك �أرواحا �رشيرة،
ب
وهذه الأرواح هي ال�شياطني ،وهذه ال�شياطني ُ
ل
تدخل يف النا�س وتتل َّب�س فيهم وت�رصعهم
ن ل
وتتحدث على ل�سانهم ومتر�ضهم ورمبا تقتلهم!
ر ش
نحن نحب هذا الت�صور ،لأنه ميل�ؤكم منا رع ًبا ،وكم يجعلنا هذا نتعاظم يف �أنف�سنا ،نحن
الت و
ُفكرون بها بال�ضبط؟ندخل �إىل جتاويف �أج�سادكم العفنة؟ �أي دما ٍغ عفنَة ت ِّ العالون الراقونُ ،
و
نحن ال نقدر �أن نفتح با ًبا مغل ًقا ،وال نقدر �أن منر من حتته وال من خالله وال من جتاويفه� ،أفنقدر
يع ز
�أن منر من جتاويفكم ال�صغرية برائحتكم الكريهة احليوانية؟
نحن لنا كيان خملوق من نف�س املادة التي ت َُكون النار ،لي�ست مادة �سائلة �أو �صلبة �أو
غازية ،بل هي حالة رابعة فوق غازية ،وهي حالة مثلها مثل كل حاالت املادة ،لي�س لها
القدرة على التخلل خالل الأ�شياء ،فالنار ال قدرة لها �أن متر عرب جدار ،وال قدرة لها �أن حتل
يف الأ�شياء ،بل لها كيان م�ستقل خا�ص ،وكل �شيء يف هذه الدنيا له كيان م�ستقل خا�ص.
لهذا ترى �أن الو�ضع الأن�سب بالن�سبة لنا يف الو�سو�سة �أن نطري مقلوبني ر�أ�سا على عقب،
فن�ضع ر�ؤو�سنا عند �صدوركم و�أرجلنا يف الهواء ،لأنه لو م�شينا �أو طرنا ب�شكل معتدل
�ستزاحمنا �أج�سادكم املا�شية و�أ�شيائكم التي ت�ضعونها على الأر�ض ،لكن الطريان يجعلنا
نقتن�ص �صدوركم يف الو�سو�سة بحرية.
أ�صوات خميفة ليظن النا�س
حتدث ب� ٍ
جميع الأ�شياء الغريبة التي يفعلها بع�ض الإن�س من ُّ
�أنهم يلب�سهم �شيطان �إمنا يكون هذا من مر�ض يف نفو�سهم ،مر�ض نف�سي يجعلهم يبتكرون
�شخ�صيات تعي�ش فيهم� ،شخ�صيات كاملة لها �أ�صوات و طريقة يف الكالم وطموحات،
223
�شخ�صيات ت�ستخدم اجل�سد ،وبع�ضهم تبتكر نف�سه بداخله �شخ�صية �شيطان يتحدث
ب�صوت ب�شع ،من يف اجلحيم قال لكم �أن �أ�صواتنا تكون هكذا ك�أ�صوات ال�ضواري؟ �إذا ر�أيت
ويزعم �أنه �شيطان اع َلم �أن هذا قد ابتكر �شخ�صية �شيطان ب�صوت كهذا ُ
ٍ يتحدث
َّ �شخ�صا
ً
يتحدث هكذا. َّ يف خياله ،فهو يظن �أن ال�شيطان
أ�صوات غريبة بلغات
يتحدثون ب� ٍ َّ يرون �أنا�سا طبيعيني
لكن النا�س الأقدمني ،ملا كانوا َ
ع
غريبة ويقومون بحركات غريبة ،يقولون هذا قد �أ�صيب بروح �رشيرة ،لكن الأمر كله
ص
يرجع �إىل مر�ض نف�سي ..كان «داوود» و«عي�سى» يعاجلون النا�س من �أمرا�ضهم النف�سية
ال ري
التي ا�صطلح النا�س على ت�سميتها روح �شيطانية ،لكن عدوى الروح ال�رشيرة هذه قد
تنامت بني النا�س َّ
وتف�شت ،وفرحنا نحن بها ،فهي تُهلِككم يف �أوهامكم.
ت ك
�إن عقولكم ُم�ص َّممة بحيث حتفظ كل �صورة وكل كلمة ُمتر عليها ،حتى لو كانت تلك
ب
الكلمة ب ُل َغ ٍة خمتلفة ،حتى لو كانت ذاكرتكم ال تذكرها فهي حمفوظة يف دواخل عقولكم،
وحتدث بلغة غريبة ،نحن ال
ش
ن�ستغرب ،لأن عقله الباطني ي�ستخدم كل الكلمات املحفوظة بداخله والتي �سمعتها الأ ُذن
و ر
الت
يو ًما ،فيخرجها على هيئة كالم منطوق ،هذه �أمور �شديدة الدقة داخل نفو�س وعقول
و
الب�رش ،وكثري من الب�رش �إمنا تكون ع َّلتهم يف هذه الأمور ،ويظنون ويظن النا�س �أننا قد تل َّب�سنا
يع ز
بهم!
ُّ
التحكم بهم فعال ،جلعلنا حياتكم جحيما، و�إنا لو كنا نتلب�س بالنا�س ،ونقدر على
كناكم مثل الدمى و�أجربناكم على فعل ما نريد ،ولأمر�ضناكم ولآذيناكم ،لكن وحلر ُ
َّ
اهلل مل يجعل لنا عليكم �سلطانًا �إال �أن ندعوكم بالو�سو�سة فت�ستجيبون لدعوتنا وتنجرفون
�إىل �شهواتكم.
وال يوجد حاكم عادل �سيجرمنا مبا نفعل ..كالذي وقع يف حفرة من الوحل وا�شتكى
عند القا�ضي ،فلما �س�أله من �أوق َعك ،قال �إن هذا ال�شيطان قال يل �أن �أقفِز يف حفرة الوحل
�سيحكم َ
عليك ب�أنك غبي ،ويالكرثة ُ يحكم القا�ضي على ال�شيطان بل فقفزت! ،هنا لن ُ
الأوحال التي دعوناكم �أن تقفِزوا فيها فقفزمت.
z
224
()9
ع
للنور ف�سمي جبل النور.
ص
يف �سودة من الليل ،بني تفا�صيل اجلبل ..كان يجل�س مربع اليدين والرجلني،
ال ري
يف هيئة جنية كاملة ،يرى كل �شيء ،وال يراه �شيء ،ب�شعره املميز ومالحمه التي
مل يدع فيها الزمن �أث ًرا �إال ر�سمه« ،عمرو بن جابر» اجلني القدمي ،قبل مئات
ت ك
من ال�سنني كانت تقوده فك َرة ،و َّدع من �أجلها كل �شيء� ،أهله وبنيه وزوجه ..حتى
ب
جال�سا على �صخرة بارزة يف جبل من جبال الب�شر� ،صخرة قاعد �أتى �إىل هناً ،
ش
رجل ميكن �أن تراه العني ،ال يخرج منه �إال ليتزود مبا جف من الطعام والزاد،
ر
كان ي�أتيه يف كل �سنة �شه ًرا واحدً ا ،و«عمرو» يتابعه على هذا خم�س �سنني ..ثم
الت و
تغي هذا فج�أة و�أ�صبح الرجل ماك ًثا يف الغار �شهورا متوا�صلة ال تنقطع. َّ
ز و
ينظر �إليه كل يوم ،لكنه ال ُ �أ�صبح «عمرو» ُ
يع
يدخل عليه يف خل َوته وال يقتحمها
واحرتاما ،قد يكون نظر �إليه يف الغار مرة �أو مرتني ،هذاً بب�صرهً � ،
إجالل له
الرجل ال يبحث عن ربه مثل �أحناف قري�ش ،هذا الرجل عرف ربه بالفعل ،كل
ت�صرفاته تدل على هذا� ،إن له �ستة �أ�شهر يذ ُكر �أنه ال يرى ر�ؤيا �إال جاءت كفلق
ال�صبح ،وله �ستة �أ�شهر منقطع يف ذلك الغار� ،أتراه يعلم �أنه نبي؟ ف�إن كان يعلم
فلماذا ينقطع النا�س؟ �أيكون مت�ش ِّو ًقا ال�صطفاء ربه؟ ف�إن كان ال يعلم �أنه نبي،
عاما؟ بل هو
�ضج مبفا�سد النا�س بعد �أن بلغ �أربعني ً فلماذا ينقطع النا�س؟ هل َّ
واهلل مت�شوق ال�صطفاء ربه فيما يبدو.
كان ذلك ال�شق الطويل يف اجلبل ُي ِطل مبا�شرة على �صفحة ال�سماء ،بكل
جنومها وكواكبها ،ويف داخله كوة ت�صنعها ال�صخور تطل على مكة كلها وترى
الكعبة بو�ضوح ،ورجل بداخل كل هذا قد تزهد النا�س ا�سمه «حممد».
يف قطعة من الليل ،بني بروزات اجلبل ..كان «عمرو» م�ستغر ًقا يف �أفكاره
تلك� ،إذ �أح�س ب�شيء من ناحية الغار فالتفت بحدة ،وات�سعت عينه كما مل تت�سع
231
من قبل ،وانتف�ض قلبه وانقب�ض وانقب�ضت �أطرافه املرتبعة حتى كاد �أن يف ِقد
توازنه ،وتعدل وانزوى وراء �صخرة واختب�أ كمثل اختباء اجلن ،ونظر �إىل �شيء
مل ي َره قبله �إن�س وال جان� ،شيء كان يحدُث هناك ،قرب ذلك الغار...
نظر «عمرو» �إىل مثل ذرات تتك َّون �أو هيئة تت�صور وتت�شكل ،ك�أمنا تنبعث من
العدم؛ ذرات ك�أمنا توم�ض يف الفراغ لتنحت �صورة تت�صور �أمام عني «عمرو»،
كان «عمرو» جني يعرف الت�شكل و طرائقه ،لكن ما يراه �أمام عينه مل ي ُكن ميت
ع
ب�صلة لأي �شيء ر�آه يف حياته! ،ف�إن كان ج ًنا فلماذا ال يراه يف هيئته اجلنية ،ثم
ريص
ا�ضطربت �أو�صال «عمرو» ملا �أتته فكرة يف عقله عما ميكن �أن يكون يحدث الآن
ال
�أمام عينيه ،يا ويلتا يا «عمرو» ،ما ذلك الذي ترى؟ كانت الذرات الزالت تتكون
حتى متثلت ب�ش ًرا �سو ًيا ،وكاد قلب «عمرو» �أن يتو َّقف حمله.
ت ك
ب�ش ًرا كان بهي ال�صورة بهي الوجه بهي امللب�س الأبي�ض ،ك�أمنا انبعث من
ش ن
توجه يف هيبة و�سمو �إىل ذلك الغار مبا�شرة، الذي انبعث من الالمكان فقد َّ
ر
توجه �إىل «حممد».
الت و
انحدر «عمرو» عن مو�ضعه وجر قدمه ج ًرا وراءه وهو ال يدري �أيخ�شى على
و
«حممد» �أم يخ�شى على نف�سه! ،ومل ي�ستطع �أال ينظر يف الغار ،فاكت َمن بني �أكوام
يع ز
ال�صخور ونظر؛ نظر �إىل م�شهد جمد �أركانه ف�صارت ك�أركان ال�صخر الذي
ي�سترت وراءه.
كان الرجل املنبعث من نور قد دخل على «حممد» ففج�أه فج�أ ًة عظيمة ..كان
الرجل مي�سك يف يده ب�شيء ما ،فم َّده ب ُبطء �إىل «حممد» وقال له:
�إقر�أ.
نظ َر «حممد» �إىل ما يف يد الرجل ف�إذا هو ديباج فاخر من قطيفة مل َّونة
وحرير ،مكتوب عليه كالم ..قال له «حممد»:
ما �أنا بقارئ.
وهنا م َّد الرج ُل يده الأخرى التي ال مت�سك بالديباج وجذب «حممد» جذب ًة
َ
و�ضغطه لف يده الأوىل التي مت�سك بالديباج حول «حممد» و�ضمه بها، �شديد ًة ثم َّ
�ضغط ًة �شديدة جدً ا حتى بلغ به اجلهد ،ثم �أفلتَه ..وم َّد يده �إليه بالديباج الفاخر
وقال له بحزم:
232
�إقر�أ.
وكان «حممد» �أم ًّيا ال يعرف القراءة ،فقال له:
ما �أنا بقارئ.
ف�أخذه فغطه غطة �شديدة �أخرى حتى �أجهده ،و«عمرو بن جابر» مند�س بني
ال�صخور ال يبني منه �إال ارجتاف عينيه ،ثم �أر�سل الرجل حممدا وقال له بقوة:
ع
�إقر�أ.
ريص
ال
كان هذا منذر ب�شيء ما ،ال تدري الكائنات ما هو ،قال له «حممد» للمرة
الثالثة:
ت ك
ما �أنا بقارئ.
ب
فجذبه و�ضمه �ضم ًة ثالثة ..ثم قال له:
الت و
و
اقر�أ وربك الأكرم
يع ز
الذي ع َّلم بالقلم
علم الإن�سان ما مل يعلم
وجف كل عرق يف عروقفارجتفت بوادر «حممد» ،وذهب الرجل من �أمامهَّ ،
«عمرو بن جابر» الذي �شل تفكريه كما �شلت �أطرافه وبردت وحتجرت ،ونزل
ينظر هنا وهناك ،ومل يكن ثمة«حممد» برجفته من اجلبل ،ونزل «عمرو» وراءه ُ
�أثر لذلك الرجل املنبعث من نور ،وعاد «حممد» �إىل بيته و�أغلق الباب ...ومل
ت ُعد الدنيا بعد هذا كما كانت قبلها.
z
وانق�ضت فرتَة من الزمان انقطع فيها ذلك الرجل املتنور البهي ك�أمنا كان
جميل� ،سطع ذات ليلة ،و�أفل ذات ليلة ،وجاءت ليلة نزل فيها «حممد» خيال ًً
�إىل بطن ذلك الوادي نف�سه ،وم�شى فيه يتلفت كل حني ك�أمنا ي�سمع �شي ًئا! ،لكن
«عمرو» مل يكن ي�سمع� ،أما «حممد» فقد كان يف �ش� ٍأن �آخر ،كان ي�سمع �أحدً ا
233
فينظر �أمامه وخلفه وعن ميينه وعن �شماله فال يرى �أحدً ا ،ثم ُيناديه با�سمه ُ
�سمعه ُيناديه با�سمه تار ًة �أخرى ،فنظ َر فلم ير �أحدً ا ،ثم نودي الثالثة ،فرفع
ر�أ�سه ف�إذا الرجل املنور الذي جاءه يف الغار ،مل يكن على الأر�ض بل كان يف
ال�سماء ،مهي ًبا كان يف و�سط فراغ �أ�سود يخالطه ذر �أبي�ض تذروه الرياح،
جال�سا على كر�سي بني ال�سماء والأر�ض� ،سادا عظم خلقه ما بينهما من الأفق ً
رعدة �شديدة ظهرت جلية على وجهه الكرمي ،حتى أخذت حممدً ا َ الأعلى ...ف� َ
ع
�أنه هوى على الأر�ض ،ومل يفهم «عمرو» �سبب هذه االنفعاالت كلها! ،فلم يكن
ص
«عمرو» يرى ما يرى «حممد» ،وال ي�سمع ما ي�سمع «حممد» ،لكنه ر�أى حممدً ا
ال ري
ُي�سرع يف اخلطا مرجت ًفا حتى دخل بيته عند زوجته ،ومل ي�سمع «عمرو» �إال قوله
زم ُلوين َز ِّملوين ،د ِّثروين د ِّثروين ...وظ َّل «عمرو» يطوف باخلارج وهو داخلِّ ،
ت ك
ويحاول اال�ستماع ،لكنه مل ي�س َمع �شي ًئا �أبدً ا.
ل ب
يف داخل البيت الكرمي ..دخل الكرمي ذو اخللق الكرمي والروع اليزال يف
ن ل
زملوين؛ فز َّم ُلوه حتى ذهب عنه الروع ،وحكى نف�سه� ،إىل زوجته وبنيه يقول ِّ
ش
لزوجه «خديجة» اخلرب ،وقال �أي «خديجة» ،مايل ،لقد خ�شيتُ على نف�سي� ،إين
و ر
�إذا خلوتُ وحدي �سمعتُ نداء خلفي ،يا «حممد» يا «حممد» ،فقا َلت له الكرمية
و الت
ذات النف�س الأمرية� :أب�شر فواهلل ال ُيخزيك اهلل �أبدً ا� ،إنك لت�صل الرحم
ز
وت�صدق احلديث َوتمِ ل ال َك َّل وتك�سب املعدوم وتقري ال�ضيف وتعني على نوائب
يع
مت�ض �ساعة �إال وقد �أتى رجل جميل عند الباب عرفه «عمرو بن احلق ...ومل ِ
جابر» فور �أن ر�آه ،هذا «�أبو بكر» ،ال�صديق ،ما الذي �أتى به ها هنا؟ مل يكن
«عمرو» يدري �أن «�أبو بكر» �صاحب «حممد» منذ �سنوات� ..أدخلت «خديجة» «�أبا
بكر» وذك َرت له ما حدث ملحمد وقالت له :يا �أبا بكر ،اذهب مع حممد �إىل ورقة
بن نوفل ..فانطلق «�أبو بكر» مع �صاحبه الكرمي املحمد� ،إىل «ورقة بن نوفل»
الرجل ال�ساهم املنتظر.
ق�ص عليهفلما �أتيا �إىل «ورقة» الذي ا�ستحال �شيخا كبريا قد عم َيت عيناهَّ ..
اخلب ،فته َّلل «ورقة» وتي َّمن وا�ستب�شر وظهر هذا على وجهه امل�سن «�أبو بكر» َ
الذي كانت م�سحت عليه اخلطوب م�سحة الي�أ�س� ،سمع ما �سمع توارت فم�سحة
اخلطوب جميعها واختلجت جميع الأ�سارير ،قال «حممد»� :إين �إذا خلوتُ وحدي
َ
متالك �سمعتُ ندا ًء خلفي يا «حممد» يا «حممد» ،ف�أنط ِلق هاربا يف الأر�ض...
«ورقة» نف�سه من الفرحة وقال :ال تفعل� ،إذا �أتاك فاثبت حتى ت�سمع ما يقول ثم
أخبين.ائتني ف� ِ
234
فخرج «حممد» من يومه هذا حتى خال بنف�سه ..فناداه ذلك الذي ناداه،
فثبت مكانه ومل ُيويل ،فقال له ذاك الذي كان يناديهُ :قل ب�سم اهلل الرحم َ
الرحيم ،احلمد هلل رب العاملني ،الرحمن الرحيم ،مالك يوم الدين� ،إياك نعبد
و�إياك ن�ستعني ،اهدنا ال�صراط امل�ستقيم� ،صراط الذين �أنعمت عليهم ،غري
املغ�ضوب عليهم وال ال�ضالني.
فجاء �إىل «خديجة» والروع يف قلبه قد برد ..فانطل َقت هي بنف�سها به �إىل
ع
«ورقة بن نوفل» ،قا َلت له :يا ورقة ،ا�سمع من ابن �أخيك ..ف�أخ َربه «حممد» خرب
ريص
ما �سمع من النداء ،فنظر «ورقة» �إىل النجوم ،تلك التي مل ي ُعد يراها ،بل نظر
ال
�إىل رب النجوم ،والوجد يف قلبه قد بدا وجت َّلى ،وتلألأت ق�سمات وجهه حتى
نزل على مو�سى ..ثم ظهرت ظهر اهتزازها ،وقال :هذا واهلل النامو�س الذي َ
ت ك
بدموع لي�ست ُترى� ،أفلم يكن للعني �أن ت�صطرب ٍ همهمة �صدره وبكت دواخله
ل ب
فال تعمى حتى ترى «�أحمد» ،فقال والأ�سى يف حمياه قد بدى :يا ليتني فيها
ن ل
رج َّي جذعا ،ياليتَني �أكون حيا حني ُيخرجك قومك ،فقال له «�أحمد»ُ � :
أوم ِ ً
ش
جئت به �إال عودي ،و�إن يدركني هُ م؟ قال «ورقة» :نعم ،مل ي� ِأت رجل قط مبا َ
و ر
َ
أن�صرك ن�ص ًرا م�ؤز ًرا ،وواهلل ال يحزنك اهلل �أبدً ا. يومك �
و الت
وم َّر اليوم واليومني ..ومل ين�شب «ورقة» �أن توفاه اهلل �إليه ،ولقد �أهدى ربه
يع ز
�إليه بع�ض الذي كان ينتظر ...فت�شنفت �أذنه ب�سماع �صوت ر�سول اهلل ،فبكى وبكى
من يومه ذاك حتى اخ�ضلت روحه بدموعه� ،أما «عمرو بن جابر» ف�إن الدنيا مل
تكن ت�سعه يف ذلك احلني� ،إنه ما قر�أ يف التوراة �أو الإجنيل عن و�سيط يكون بني
يتج�سد يف هيئة ب�شرية �إال واحد ،مالك من �أعظم مالئكة اهلل يف اهلل و�أنبيائه َّ
التوراة والإجنيل« ،جربيل» ،ي�ؤمن اليهود �أنه املالك الذي �أتى �إىل «�إبراهيم» مع
اثنني من املالكة يب�شره ب�إ�سحق ،وهو امللك الذي جاء للنبي «دانيال» �أيام ال�سبي
البابلي يب�شره بامل�سيح املنتظر بعد �أربعمائة وت�سعني �سنة ،ورغم هذه الب�شارة
الوا�ضحة العددية مل ي�ؤمن اليهود بامل�سيح ملا جاء بعد �أربعمائة وت�سعني �سنة،
ب�شرها بامل�سيح «عي�سى»� ،إذن و«جربيل» يف الإجنيل هو املالك الذي جاء ملرمي ُي ِّ
فذلك الرجل املنري الذي �أتى فدخل على «حممد» ال ينبغي �أن يكون �إال واحد،
املالك «جربيل» نف�سه.
خ�شوعا وخو ًفا ..فرقا وارتقى حتى بلغ ال�سحاب، ً وجل قلب «عمرو بن جابر» َ
ر�سل الر�سل ،ويا �سامع الإن�س واجلان ،يا ورفع ر� َأ�سه ويده ،وقال يا اهلل يا ُم ِ
235
مليك الأر�ض وال�سماوات وعظيمهما� ،إين تبتُ �إليك مما تعلم ،و�إين �آمنتُ بك
وبدينك الذي ارت�ضيت وبنبيك الذي �أر�سلت ...ثم تذ َّكر ما قاله «ورقة بن نوفل»
من �أن القوم �س ُيخرجون «حممد» فتن َّكد لذلك ،وعلم ملاذا قال ورقة هذا ،فما
حدث لزيد بن عمرو بن نفيل مل يربد من الذاكرة ،و�إن نب ًيا يخ ُرج و�سط ه�ؤالء
القوم من بني �أ�صنامهم التي �سدت بجثمانها وجه الكعبة لهو خارج �إىل الهاوية.
z
ص ع
�أر�ض مكورة �سابحة يف ظالم ل�ست تدري ما بها ،من �أمور و�أمور ،وبحار
ال ري
وافرات وجبال ،وعرو�ش تغالبها عرو�ش ،و�إن�س فيها يعمرها يظن يف كل حني
�أنه قد قدر عليها.
ت ك
�أر�ض مكورة �سابحة ..ثالثة بني ت�سع كواكب جدباء ما فيها نف�س يتن َّف�س،
وك ٌّل يف ِ
ب
�شم�س واحدة ،تنور لهم من نواحيهم وتدفئ فلكه ي�سبح ،يطوفون حول ٍ
ش
�سياج من �سحاب يف�صلهم عما يجاورهم ،جمموعة كلها تعتني بالأر�ض التي
ر
ت�سبح بينهم ،جمموعة تعتني باحلياة ،وحتافظ على احلياة ،جمموعة من
الت و
كواكب ي�شاهدها ال�سائر على الأر�ض كدرر ك�أنها الل�ؤل�ؤ تنور يف ال�سماء ،و�شم�س
و
يراها كل �صبح ،وقمر يراه كل ليل ،جمموعة ت�سمى ال�سماء الدنيا.
طيف من
يع ز
جتاورها ومتاثلها جمموعات من كواكب و�شمو�س �سابحات يف ٍ
الف�ضاء ك�أنها الذر ت�سمى ال�سماء الثانية ،فتجتمع الأطياف من املجموعات
لت�سبح يف جم َّرة هادرة ج�سيمة ك�أنها القر�ص هي ال�سماء الثالثة ،جتاورها
جمرات المعات ك�أنها املرجان يجتمعون يف طيف واحد هو ال�سماء الرابعة،
فت�ستوي �أطياف املجرات لت�صنع عنقودًا ملو ًنا م�ضي ًئا هو ال�سماء اخلام�سة،
طيف هو ال�سماء ال�ساد�سة ،ثم جتاوره عناقيد وعناقيد كالياقوت يجتمعون يف ٍ
وح ُبك هي ال�سماء ال�سابعة� ،سماوات تخيط �أطياف العناقيد كلها يف خيوط ُ
�سبعة طبا ًقا ،فيها باليني املجموعات الكوكبية ،وباليني الكواكب التي يعي�ش
عليها �أنا�س و�أنا�س مثل الأر�ض ،كون كبري عظيم ُمت َقن له رب واحد واجد ،حكم
عدل ،جميل ال يخلق �إال اجلمال.
يوم فر�أى �شيئا �آخر؛
رجل على هذه الأر�ض نظر �إىل ال�سماء يف ذات ٍ لكن ً
�شيء �سد �أفق� ،شيء كبري ،ال هو ب�شم�س وال بقمر وال بنجم؛ �شيء �أكرب� ،شيء
مهيب ،بل ملك مهيب ،ا�سمه «جربيل».
236
كيان من نور تبدى له يف خلقته احلقيقية ..ورغم �أنه كان �أبهى مما ر�أت
عني على وجه الأر�ض �إال �أن الرجل املحمد ر�آه فارجتف و�سقط وهرع �إىل بيته،
فاملالك اجلليل كان ح ًقا به ًّيا وح ًقا باه ًرا ،عليه �أجنحة كثرية جدً ا لها مظهر
رفيع ماجد� ،ستمائة جناح ،ثالثمائة عن اليمني و ثالثمائة عن ال�شمال ،كل
ثالثمائة يخرجون يف ثالث جمموعات ،كل جناح ظاهر يكون وراءه جناحني
يعززانه ،قوي متني كث الأجنحة ،ينترث منه �إذا حترك اجلناح تهاويل متلألئة
ع
كالدر الأبي�ض والياقوت الأحمرَ � ،أغر خالب جميل ال تقدر احلروف على خلق
ال
قبل �سنوات من زمان الأر�ض �أراد اهلل �أن يتك َّلم بوحي �سيوحي به �إىل �أهل
ك
الأر�ض املوكل بها هذا املالك اجلربيل ،فرجفت ال�سماوات كلها رجف ًة عظيمة،
ت
و�سمعت مالئكة ال�سماوات �صل�صلة ك�صل�صلة ال�سال�سل على ال�صخر الأمل�س!،
ب
ن ل ل
ف�أخذتهم رِعدة �شديدة من خوف اهلل ف�صعقوا وخروا ُ�س َّجدً ا �أجمعني ،فكان �أول
ش
من رفع ر�أ�سه منهم «جربيل» ،فك َّلمه اهلل من وح ِيه مبا �أراد ،فنزل به «جربيل»
ر
�شديد القوى من عند اهلل فك َّلما م َّر يف �سماء وجد مالئكتها ُ�سجدً ا يغ�شاهم
الت و
اخلوف ،يظنون �أن �أمر ال�ساعة قد وقع ،ف�إذا ر�أوه قالوا :يا جربيل ماذا قال
ز و
ربنا؟ فيقول لهم :قال احلق وهو العلي الكبري ،حتى نزل �إىل ال�سماء الدنيا ،تلك
يع
املجموعة الكوكبية ال�صغرية التي فيها تدور الأر�ض ،فم�ضى �إىل مو�ضع يعرفه
فوق جو الأر�ض ،مو�ض ٌع َ�سمِ ٌّي كرمي ،م�شرف مفخم كائن فوق كل �أر�ض يعي�ش
عليها مكلفون� ،صرح جميد هو ،للمالئكة مثوى وم�ست ِقرُ ،مير عليه من يعرج
منهم �إىل ال�سماء ومن ينزل منهم �إىل الأر�ض ،بيت مكرم ا�سمه بيت العزة.
�إىل بيت العزة ق�صد ،ويف بيت العزة دخل ،ف�أم َلى ما لديه من الوحي على
مالئك ٍة �سف َرة ،كرام ب َررة ،كتبوه يف ُ�ص ُح ٍف مكرمة ،مرفوعة مط َّهرة ،فكان
ميلي لهم ويقول� ،ضعوا �آية كذا يف مو�ضع كذا ،فكتبوه �آيات و�س َور ،حتى �أمتوه
كتا ًبا واف ًيا ،فيه ذكر �أمور �سابقات ،وذكر �أمور تاليات مل حتدُث على الأر�ض،
�أمور يف حياة الذي ا�صطفى اهلل ليكون نب ًيا خا ًمتا من بني املا�شني على الأر�ض،
�صحف �ش َّكلت كتا ًبا ،كتاب مكنون ،من نور كرمي ،ا�سمه (القر�آن الكرمي).
�آيات ق ّدر لها ربها �أن تتنزَّل على عدد النجوم البائنة يف ال�سماء ،لتكون هُ دى
الظلمة كما �أن النجوم هدى ،قدر لها �أن تتنزل يف كل مرة �آية �أو لل�سائرين يف ُ
237
تنزيل من رب العاملني ،لتوافق الأحداث خم�ساً ، �آيتني� ،أو ثالث �آيات� ،أو �أرب ًعا �أو ً
التي متر بالنبي القا�سم ،يتنزل بها عليه «جربيل» من بيت العزة.
وحي قر�آن �أماله «جربيل» لل�سف َرة الكرام الربرة ووحي مل ميليه لهم ،لأنه
(ال�س َّنة) ،وهي وحي م�أمور �أن يبلغه املالك مل يكن من القر�آن ،وحي ا�سمه ُ
«جربيل» للنبي تبلي ًغا باملعنى ،يبلغه ب�أمور من عند اهلل ،وعلوم من عند اهلل
وفيو�ض ..افعل كذا وكذا ،حقيقة ذلك الأمر كذا وكذا ،اعلم �أمنا �سيحدث كذا
ع
ال�سنة وحي ال يتلوه النبي على النا�س تالوة وكذا� ،أو قد حدث كذا و كذا ...لكن ُ
ريص
القر�آن؛ �إمنا يجعله يف �صدره ،ويتك َّلم به للنا�س ب�أ�سلوبه ال�شخ�صي النبوي،
ال
افعلوا كذا �أو ال تفعلوا كذا ،اعتنوا بكذا ،قال يل ربي كذا� ،سيحدُث كذا وكذا...
ف�آتاه اهلل القر�آن ومثله معه من ال�سنة ،و�آتاه من �أجل ال�سنة موهبة جوامع الكلم،
ت ك
فكانت اجلمل التي ينطق بها ب�أ�سلوبه ي�سرية كلماتها عظيمة ،ليبلغ ال�سنة بخري
ب
الكلمات ،فكان ال يتحدث وال ينطق �إال مبا بلغه به ربه� ،إما يتلوه قر�آ ًنا على
ش
يوحي.
وحي َ البيان؛ فكان ال ينطق عن الهوى� ،إن هو �إال ٌ
و ر
الت
ويف تلك الليلة ..كان يف منزله يقول د ِّثروين دثروين من هول ما ر�أى ،وهناك
و
كان البد �أن تتنزَّل عليه �آيات بينات.
يع ز
هناك و�سط ما يدثرونه به �سمع ذلك ال�صوت فتن َّبه له و�سكت وظن �أن نف�سه
تقب�ض� ،صوت ك�أنه �صل�صلة اجلر�س� ،أو ك�صوت �سل�سلة متر على �صخر �أمل�س،
كان ي�سمع و يرتبد وجهه ك�أنه يركز يف �أمر جلل ،ثم بد�أت �أنفا�سه تت�سارع و ُت�سمع
ب�صوت عال ،ووجد بردا يف ثناياه وحتدرت منه حبات من ندى ك�أنها الل�ؤل�ؤ
واجلمان ..ثم فج�أةُ ،نفث الكالم يف روعه نفثا ،فجاءته �آيات كرميات..
َ
وثيابك فط ِّهر ،والرجزَ ُ
فاهجر... فكب،يا �أيها املد ِّثر ،قم ف� ِأنذر ،وربك ِّ
z
قر�آن كرمي� ..أ�صدر له الأمر ،فقام املدثر ،و� َأنذر �سبعة كانوا يف بيته هم �أول
من نزل يف قلبهم النور ،زوجته ،وبناته الأربع ال�شابات« ،زينب» و«رقية» و«�أم
كلثوم» و«فاطمة» ،وولد باهر جميل وا�سع العينني �أ�سودهما ،يف العا�شرة من
عمره ،لي�س ابنه و�إمنا ابن عمه ،وا�سمه علي«-علي بن �أبي طالب»� -أبوه �سيد
بني ها�شم� ،أبو طالب بن عبد املطلب ،عم «حممد» الذي ربى حممدً ا �صغ ًريا
238
ورعاه و كف َله وز َّوجه ،لكنه كان �ضيق احلال كثري العيال ،فلما تزوج «حممد»
وتي�سر يف املال ،دعا �أبا طالب �إىل �أن ي�أخذ منه واحدً ا من بنيه لريبيه عنده،
فيخفف عنه ،ف�أخذ منه الطفل العلي« ،علي بن �أبي طالب» ،ور َّباه يف بيته ،فكما
مالزما ملحمد �أينما
ً ربى �أبو طالب حممدً ا ،ربي حمم ٌد عليا ،وكان الطفل العلي
ذهب ،حتى كان يطلع معه �إىل غار حراء يف �شيء من الأوقات.
و�سابع من يف البيت كان رجل ،ا�شرتته خديجة من �سوق عكاظ ،ا�سمه «زيد
ع
بن حارثة» ،كان �سنه قريب من �سن «حممد» ،فلما تز َّوجت خديجة مبحمد
ريص
وه َبته ملحمد ،فكان «حممد» يعامله معاملة مل ي َر مثلها �أحد ،حتى �أن �أهل «زيد»
ال
قد �أتوا بعد �سنني طوال ليفتدوا ابنهم وي�أخذوه من «حممد» ،قبل بعثة «حممد»
عليك �أحدً ا� ،أنت مني مبنزلة الأب بكثري ،فقال زيد ملحمد :ما �أنا بالذي �أختار َ
ت ك
ويحك يا زيد �أتختار العبودية على احلرية وعلى �أبيك والأم ...قال له �أهلهَ :
ب
ً
ل
وعمك و�أهل بيتك؟ فقال :نعم �إين ر�أيتُ من هذا الرجل �شيئا ما �أنا بالذي �أختار
ن ل
عليه �أحدً ا �أبدً ا ...فلما ر�أى «حممد» ذلك خرج به �إىل الكعبة ذات يوم و نادى
ش
وقال :يا من ح�ضر ا�شهدوا� ،أن زيدا ابني يرثه ويرثني ...فتب َّناه ف�صار اب ًنا له
و ر
وهو يف مثل �سنه ..وكان «زيد» هو نف�سه الرجل اخلادم الذي قدم ملحمد ولزيد
و الت
بن عمرو بن نفيل ال�سفرة لي�أكال منها ف�أبيا �أن ي�أكال ،وهو الذي كان يت َّربك
يع ز
ب�إ�ساف ونائلة فمنعه «حممد».
�أنذر �سبعة ف�آمن �سبعة ،وكان ثامنهم «�أبو بكر»� ،صاحبه الكرمي النبيل ،ثم
انطلق النبي �إىل �أمه و�أبيه� ،أمه بعد �أمه و�أبوه بعد �أبوه ،الذين ربياه وكانا له
كل �شيء ،عمه «�أبو طالب» وزوجته الطيبة «فاطمة بنت �أ�سد» ،التي ر َّبته وهي
به م�ؤمنة ،فلما علمت «فاطمة» �أن اهلل قد بعثه نب ًيا فرحت روحها وا�ستب�شرت
و�أ�سلمت هلل كما كانت قد �أ�سلمت من قبل� ..أما «�أبو طالب» فقد كان ً
مري�ضا
يومئذ منه ًكا ،فدخل عليه ر�سول اهلل فعاده ،فقال له «�أبو طالب» :يا بن �أخي،
ادع �إلهك الذي تع ُبد �أن يعافيني ..فدعا النبي الزكي وقال اللهم ا�شف عمي..
فوجد «�أبو طالب» نف�سه قد قام ك�أمنا ن�شط من عقال ،وقال :يا بن �أخي� ،إن
أطعت اهلل ليطيعنك. �إلهك الذي تع ُبد ليطيعك ..قال النبي :و�أنت يا عماه لئن � َ
كان «�أبو طالب» على ِم َّلة �أبيه «عبد املطلب» ،وملة «عبد املطلب» هي
احلنيفية؛ عبادة اهلل ال �شريك له ملة «�إبراهيم» ،التي عليها �أجداد النبي كلهم
�إىل «�إبراهيم» ،ومن «�إبراهيم» �إىل «�آدم» ...ولقد كان عبد املطلب يعلم علم
239
اليقني �أن حفيده «حممد» نبي ،ملا �أنب�أه «�سيف بن ذي يزن» عن �أو�صافه وقال
له �أن بني كتفيه �شامة و�ستكون له النبوة والإمامة ،كان «حممد» �ساعتها يعي�ش
يف كنفه ،بعد �أن مات �أبوه و�أمه و�صار يتي ًما يف الثامنة من عمره ..هنالك عرف
«عبد املطلب» النبي و�آمن به ،لكنه كتم الأمر لئال ي�ؤذيه النا�س ح�سدً ا من عند
�أنف�سهم ،وكذا �أو�صاه «�سيف بن ذي يزن»� ،أن يحفظه ويحذر عليه النا�س.
فلما ح�ضرت «عبد املطلب» الوفاة ،عهد مبحمد �إىل «�أبي طالب» ،و�أنب�أه
ع
بنبوته و�أو�صاه �أن يحفظه و�أن يحذر عليه النا�س ...وكان «�أبو طالب» هو الأخ
ريص
ال�شقيق الوحيد لعبد اهلل والد النبي ،ولقد ر�أى «�أبو طالب» بعينه على «حممد»
ال
معجزات ال جتوز على ب�شر؛ كتتبع الغمام له وتها�صر ال�شجرة لأجله ،و�آيات
�أخرى معجبة ..ف�ص َّدق به و�آمن و�أح َّبه �أكرث من جميع �أوالده والنبي ال يزال
ت ك
دون البلوغ.
ش ن
ي�ؤمن «�أبو طالب» �ساعتها وي�صدح ب�إميانه وهو �سيد بني ها�شم فيدعو بقية
ر
بني ها�شم ،لكن هذا مل يحدث؛ بل اختار «�أبو طالب» �أن يعمل �شيئا �آخر؛ اختار
الت و
�أن يكتم �إميانه وال ي�صدح به ،ف�إنه �إن ي�صدح �سيد بني ها�شم ب�إميانه �ستن�شق
و
بني ها�شم على بقية القبائل و�ستعاديها القبائل كلها وتكون عداوة قبلية ،وقد
يع ز
يتجر�أوا على �أذية النبي �أو قت ِله بعداوتهم لبني ها�شم� ،أما �إن كتم �إ�سالمه،
ف�إن النبي �سيدعو كما �شاء ولن يجر�ؤ �أحد �أن ي�ؤذيه بل �سيحميه �سيد بني
ها�شم وقبيلة بني ها�شم كلها وين�صروه بدعوى القبلية لأنه يف كنف بني ها�شم
املتحالفة �أ�صال مع بقية القبائل.
فرح «�أبو طالب» وزوجته «فاطمة» ب�إ�سالم ابنهما «علي» ،ودعيا ابنهما
الثاين «جعفر» -جعفر بن �أبي طالب -وهو �أ�سن من «علي» بع�شر �سنوات،
يعني يف الثالثة والع�شرين ،وكان �أ�شبه النا�س بر�سول اهلل ،بذلك الوجه املت�ألق
وذلك ال�شعر الفاحم الأ�سود ،فا�ستنار قلبه بكالم ر�سول اهلل كما ا�ستنار وجهه
مب�شابهته ،ف�أ�سلم و�أ�سلمت معه زوجته «�أ�سماء بنت عمي�س».
وم�ضى النبي �إىل عمه الثاين« ،العبا�س بن عبد املطلب» ،ابن عبد املطلب
من زوجة ثانية� ،سيد يف بني ها�شم وله عمارة البيت احلرام و ال�سقاية� ،أ�سن
حاجا من احلجاج ُي�سب �أو ُيظلم �أو يجوع،
من النبي بثالث �سنوات ،كان ال يدع ً
فا�ضل من �أح�سن الرجال �صورة و �أبهاهم ،فجاءه ً وكان ً
رجل ج�سي ًما �ضخ ًما
240
النبي ف�أخربه �أن رب ال�سماوات قد �أمره بهذا الدين ،و�أنه �ستُفتح لهذا الدين
كتم
يوما كنوز ك�سرى وقي�صر ،ف�آمن العبا�س لكنه فعل كما فعل «�أبو طالب»؛ َ
�إ�سالمه حماية للنبي ،و�أ�سلمت معه زوجته «�أم الف�ضل»� ،أخت «�أ�سماء بنت
عمي�س» زوجة «جعفر».
ثم ذهب النبي �إىل عمه الثالث ،وهو ابن عبد املطلب من زوجة ثالثة،
وهو الفار�س البا�سل ،الأ�سد �صياد الأ�سود« ،حمزة بن عبد املطلب»� ،أخوه من
ع
الر�ضاعة و�صاحبه الذي تربى معه ..كان ذلك املغوار �أ�سن من النبي ب�سنتني،
ريص
ومل يكن يف �أيام العرب وحروبها من هو �أ�شهر منه فرو�سية� ،صاحب حلية
ال
طويلة ناعمة ومالمح قوية جدً ا� ،أقرب �أعمام النبي �إليه وهو الذي خطب له
وب�شره ،ف�ألقى اهلل يف نف�سه الإميان مبا «خديجة» ...ف�أقبل عليه النبي فعرفه َّ
ت ك
أظهرقال له ر�سول اهلل ،فقال له «حمزة»� :أ�شهد �أنك ل�صادق �شهادة ال�صدق ،ف� ِ
ب
يا بن �أخي دينك ،فواهلل ما �أُحب �أن يل ما �أظلته ال�سماء و�أنا على ديني الأول..
ش
و«�أم الف�ضل».
و ر
الت
�أما عمه الرابع فهو الذي �أتى بنف�سه �إىل الكرمي «حممد» ،وهو من زوجة
و
رابعة ،كان ذهبي ال�شعر واللحية واحلاجبني ،ين�سدل �شعره على كتفيه ،و�سيم
يع ز
ك�أن وجهه الذهب ،وا�سمه «�أبو لهب» ،وهو الذي خطب النبي ابنتيه البنيه..
قال له :ماذا �أُعطى �إذا �آمنتُ بك يا «حممد»؟ قال له النبيُ :تعطى كما ُيعطى
فتم�ص�ص «�أبو لهب»
امل�سلمون ..قال :مايل عليهم من ف�ضل؟ قال النبي :الَّ ..
َ
ان�صرف �شفتيه وه َّز ر� َأ�سه وقال :ت ًّبا لهذا من دين� ،أن �أكون �أنا وه�ؤالء �سواء؟ ثم
مغا�ض ًبا.
وبغ�ض النظر عن �أبي لهب ،ولهيب �أبي لهب ،فقد زاد ثمانية م�سلمني على
الثمانية الأولني ف�أ�صبحوا �ستة ع�شر ،ع�شرة من بيت ر�سول اهلل يزيد عليهم
�أربعة من زوجاتهم ثم «�أبو بكر» ال�صاحب البار و«زيد» ابن «حممد» بالتبني،
ثم �أ�سلمت «�أم رومان» زوجة «�أبو بكر» ،ف�صاروا �سبعة ع�شر.
قليل ،نزل فيها قر�آن كثري.. وظ َّلوا �سبعة ع�شر �سنة� ،أو تزيد ً
ثم انقطع «جربيل» فرت ًة من الزمن فلم يره «عمرو بن جابر» ي�أتي على تلك
ال�صورة البهية �إياها �أبدً ا ،و�أحزن ذلك «ر�سول اهلل» ،وحزنت «خديجة» الأمرية
حلزنه ،وعرف ُخطابهن اخلرب ،عتبة وعتيبة ابني �أبي لهب ،ف�ضحكت وبناتها ُ
241
�أمهما العوراء وهزئت ،فياملنظر عيونها العوراء يف ُ�سخريتها من نبي! ،كانت
تلك هي �أم جميل العوراء� ،أخت «�أبو �سفيان» �سيد قري�ش وزوجة «�أبو لهب»،
حاطبة حتطب الكالم وتنقله ملزا من هنا �إىل هنا ،فلم حتتمل نف�سها �أن تكتم
يف نف�سها ،فلما ر�أت ر�سول اهلل ذات بارحة قالت :ما بالك يا «حممد» ،ما �أرى
�شيطانك �إال قد قالك وودعك ..فزاد بكلمتها حزن النبي اخلامت.
مي�ض حني من الأوان� ،إذ ظهر اجلليل «جربيل» ،وهذه املرة كان لديهومل ِ
ع
�شيء �آخر� ،شيء عظيم.
z
ري كان «عمرو بنص
جابر» يتبع حممدً ا وهو حلزنه حزين حتى و�صل «حممد» �إىل
ل �أعلى مكة ..وهناك ا
ت ك
جتلى الأمني املجيد «جربيل» ،على تلك الهيئة الب�شرية التي
َ ُّ
الض َ ٰ �أتاه فيها �أول مرة ،بهي املر�أى و�ضاء املنظر ،فب َّلغه ب�سورة من ربه،
ل
ورقب «عمرو» ذلك امل�شهد يف �أعلى ن
واللي ِل إِذا سج * ما ودعك ربك وما قل * وللخِرة خي لك مِن الول * ولسوف يع ِطيك
ك َف َ ْ
ت َ ٰ
ي ز
ثم �أذنيه وقدماه ،وفعل ناحية املاء ف�أندى به يداه ووجهه ثم مرفقاه و�شعره،
ع
ناظرين �إىل الأر�ض «حممد» كما فعل «جربيل» ،ثم وقف االثنان وقفة �ساكنة
وجل�سوا و�سلموا، التي �أمامهم ،خا�شعة �أب�صارهم وقلوبهم ،وركعوا و�سجدوا،
كان «جربيل» يفعل وقمر بني ها�شم «حممد» يتابعه ال يخطئه ،ثم قام «جربيل»
عنه وان�صرف.
وع َّلمها «حممد» خلديجة وع َّلمها لبناته وع َّلمها لعلي ال�صغري البهي و�أخوه
جعفر القمر ،ثم علمها لأبو بكر وع َّلمها لزيد ،علمهم �أن تلك النداوة باملاء هي
الو�ضوء ،وذلك الوقوف بالركوع وال�سجود وال�سالم هي ال�صالة ..وكان يخرج
�إىل �شعاب مكة مع الطفل اخللوق «علي» ،في�صليها معه يف ال�شعاب ،فعلمه
ال�صالة وعلمه التنزيل ،فكان تربية النبي وتعليم النبي.
وتعلمها «عمرو بن جابر» ملا ر�آها ،و�صار يركع وي�سجد ،وي�ضع جبهته يف
الأر�ض ،و�شعرت روحه �أنها �صالة� ،صلة بني الكائن وربه ،وما �سميت �صالة �إال
لأنها �صلة ،وكانت نف�س «عمرو بن جابر» تتوق �إىل النبي «حممد» ،تتوق �أن يعلمه
242
النبي «حممد» ،تت�شوق �أن تراه عني النبي «حممد» ،يود لو �أنه يقول له يا نبي،
�إين مكثت يف �شوق يا نبي ،ومكثت يف كد يا نبي ،لكنه يعلم �أنه لي�س له �أن يفعل
هذا ،حتى ي�أذن اهلل لنبيه �أن يجهر للجميع ،وبقي «عمرو» وحده يركع وي�سجد
ويناجي ربه وحده.
ويف ذات مرة يف ال�شعاب ،حتديدً ا عند �شعب �أجياد ..كان النبي ي�صلي
ع�ص ًرا م�ستخف ًيا بها عن القوم ،وفتى وراءه ينظر �إليه وهو ي�صلي ،فتى يف
ع
ال�سابعة ع�شرة من عمره ،ق�صري �أ�سمر الوجه خم�ضب جلده بال�سواد يف موا�ضع
ريص
عدة ،جعد ال�شعر �أفط�س الأنف ،حاد الب�صر ،فتى كان ا�سمه «�سعد»�«-سعد بن
ال
�أبي وقا�ص» -كان ينظر �إىل ال�صالة وقد �شدت حركاتها عينه ،فما درى �إال
و�صوت رجل من ورائه! ،فالت َفت ف�إذا هو «�أبو بكر» ،فتح َّدث معه ي�س ًريا فقط
ت ك
نف�سه هلل وك�أنه كان ينتظرها ،ف�صار و�أنب�أه بالنبي اجللي ..ف�أ�س َلم «�سعد» َ
ل ب
الإ�سالم ثمانية ع�شر.
z
ن ل
قري�ش قد متددت على �أر�ض �صحراء يف طريقش
ر عائدين من ال�شام بني
وهد�أة ال�سماء ..كانت �أج�ساد من يف خ�شوع الليل ،و�إطراق ال�شجر واحلجر،
ل وغطوا يف و ٍ
ا
كان ي�ستند �إىل جذع �شجرة يحدق يف ال�سماء ،كان مميزًا يف ت
ال�سفر
و
معان والزرقاء ،وقد تغطى كل منهم بغطاء ُّ
ز
�سبات عظيم� ،إال واحدً ا
ع ي
القوم بهيئته� ،شعر
أ�صفر ،ومن�ش مموج �أ�سود �إىل الكتفني وحلية عظيمة جدً ا يخ�ضبها باللون ال
على اخلدين وق�سامة يف الثغر ملا يبت�سم ،عظيم اجلاه يف قري�ش يحبونه ح ًبا
وح�س ِبه وجاهه وعذوبة كلماته و�شدة حيائه ورقة طباعه وع َّفته... ج ًما ملاله َ
وكان ا�سمه «عثمان» «-عثمان بن عفان» -كان �ساه ًما يف �أمور �شتى والليل ال
يزال يف منت�صفه ،والقمر باد حا�ضر ك�أعظم ما يكون القمر ،وحديث نف�سه يف
نف�سه ك�أعظم ما يكون احلديث ،حتدثه نف�سه �أن يتزوج ،وكالم الن�سوة يف قومه
يف �أذنه يرتدد ،عن فالنة وفالنة ،لكن نف�سه ت�أبى كلما تذكر ا�س ًما لفالنة �أو
فالنة ،لأن ا�س ًما واحدً ا كان كلما يرت�سم �أمامه ميحو جميع الأ�سماء من حوله،
ا�سم ل�شريفة من �أ�شراف بني ها�شم« ،رقية» «-رقية بنت حممد» -فعزم �أنه �إذا
رجع �أن يتزوجها ،ولو نظر «عثمان» يف كتاب الزمن املدون يف �صفحة ال�سماء
لعلم �أن تلك الرقية نورها هو القمر و�أن اختياره لهو االختيار الأوفى.
243
التقطت �أذنه �صوت �إن�سان ينادي �آت من بعيد يعابث �سكون الليل ..فتن َّبه
وتن�صت ،كان ال�صوت يقرتب حتى عال وات�ضح وخرق كل ال�سكون وبد�أ النائمون
يتململون ،مل يكن قري ًبا من «عثمان» مبا ي�سمح له �أن مييزه ،فقام «عثمان»
واقرتب ،ف�إذا هو رجل يف ُجبة طويلة كالتي يرتديها ال�سحرة الكهان! ،كان
مي�شي وك�أنه قد خبل ،وكان ينادي:
�أيها النيام هبوا.
ب�ضيق �إىل ذلك الرجل املنادي وتد َّثر البع�ض
ص ع
�صحا بع�ض النائمني ونظروا ٍ
ال ري
أحلفته حتى ال ي�سمع ،و�أكمل الرجل ينادي:
الآخر ب� ِ
�أيها النيام هبوا� ،إن �أحمد قد خرج مبكة.
ت ك
رمى كثري من النائمني �أغطيتهم على ر�ؤو�سهم وظنوا �أنه رجل يهذي يف
ل ب
جوف الليل ..وجاء «عثمان» ينظر �إىل الرجل الذي كان يف �صوته خليط عجيب
ن ل
بني الأ�سى والطرب ..قال رجل من القوم من وراء «عثمان» :يا عثمان �إن وراء
ش
ه�ؤالء ما وراءهم ،ما �أبعد ما فات وما �أقرب ما �سي�أتي ..نظر «عثمان» �إىل
و ر
مربوعا �إىل الق�صر �أقرب، الرجل وراءه ف�إذا هو رجل �أبي�ض ي�ضرب �إىل احلمرة
الت
ً
و
كان هذا «طلحة بن عبيد اهلل»� ،أ�سد قري�ش التاجر القوي البنية ..قال «طلحة»:
يع ز
لقد ر�أيت مثل هذا ملا كنا يف �سوق ب�صرى ،وال�شم�س تهبط �إىل مغربها ،والتجار
العرب يجمعون حوائجهم ويرحلون ،بقيت �أنا يف زاوية من ال�سوق �أحادث جتا ًرا
قد �أتوا من بالد ال�شام جميعها ،وكنا نتحدث يف �أمور ال�سوق� ،إذ خرج علينا
رجل مثل هذا ،كاه ًنا كان �أو منج ًما ل�ست �أدري ،ف�س�ألنا يف جدية� ،سلوا �أهل
هذا املو�سم �أفيهم �أحد من �أهل احلرم؟ فقلت له نعم �أنا من �أهل احلرم...
حتيتُ من طريقته وقلتُ له: ف�أم�سك بي من ردائي وقال :هل ظهر �أحمد بعد؟ َّ
ومن �أحمد؟ مل ي ُرد علي وقال يل :هذا �شهره الذي يخرج فيه ،نبي من الأنبياء
هو ،ف�إياك �أن ي�سبقوك �إليه ..فوقع يف قلبي ما قال ،ورجع «عثمان» و«طلحة» من
�سفرهم هذا وا�سم «�أحمد» يف وجدانهم يرتدد ،بال هوية.
z
فلما نزل «عثمان» مبكة تناهت �إىل �سمعه �أخبار �أظلمت ف�ؤاده وانكدر..
�أن رقية بنت «حممد» قد خطبها «عتيبة بن �أبي لهب» ،وهو ابن عم «حممد»،
َ
يحزنك يا عثمان؟ قال� :إين ت�أ�سفتُ �أين مل �أكن �أنا مهموما :ما
ً فدخل على �أمه
244
أب�شر ..فنظر ف�إذا هي الذي تزوجها ..ف�سمع من ورائه �صوت امر�أة تقول لهِ � :
خالته الكاهنة «�سعدى بنت كريز» التي تعمل ال�سحر ،فتهيب منها ،قالت له:
�أب�شر وحييت ثال ًثا ترتًا ،ثم ثال ًثا وثال ًثا �أخرى ،ثم ب�أخرى كي تتم ع�ش ًرا� ،أتاك
ووقيت �ش ًرا� ،أنكحت واهلل زهرا و�أنت بكر ولقيت بكرا ،وافيتها بنت عظيم خريَ ،
قد ًرا ،بنيت �أمرا قد �أ�شاد ذك ًرا ..فتعجب منها «عثمان» وقال لها :يا خالة!،
ماذا تقولني �أتب�شريني بامر�أة قد تز َّوجت بغريي؟ قالت :عثمان لك اجلمال،
ع
ولك الل�سان ،هذا النبي معه الربهان� ،أر�سله بحق الديان ،وجاءه التنزيل
ص
والفرقان ،فاتبعه وال تغتالك الأوثان ..قطب «عثمان» جبينه عج ًبا ،وتذكر �أمر
ال ري
الكاهن املنادي وكالمه عن النبي! ،لكنه مل يدر ما العالقة بني هذا وبني «رقية»،
يبدو �أن كل الكهان يذكرون �أمر هذا النبي ..قال لها :يا خالة �أنت تذكرين �أم ًرا
ت ك
ما وقع ببلدنا؟
ل ب
قالت له :حممد بن عبد اهلل ،ر�سول من عند اهلل ،جاء بتنزيل اهلل ،يدعو
ن ل
به �إىل اهلل ،م�صباحه م�صباح ،ودينه فالح ،و�أمره جناح ،وقرنه نطاح ،ذلت له
ش
البطاح ،ما ينفع ال�صياح لو وقع الذباح ،و�سلت ال�صفاح ومدت الرماح...
و ر
الت
فانطلق «عثمان» من عندهم مفك ًرا ..الكهان يذكرون «�أحمد» ،وخالته
و
تذكر «حممد»� ،أفتكون «رقية» �أبوها «حممد» نبي؟ وهل بهاء «رقية» �إال من بهاء
يع ز
«حممد»� ،إنه لي�س يف القوم من هو �أ�صدق منه و�أجمل منه ،لكن «رقية» الآن
تزوجت ،فما حاجته مبحمد ،ثم فكر تارة �أخرى وتفكر ،لي�س �أحد يف القوم
قابله منذ �أن خرج من عند خالته ف�س�أله هل خرج نبي يف بلدنا �إال قابل �س�ؤاله
والتعجب ،كيف يقول كهان ال�شام وكهان العرب �أنه نبي ،وهو نف�سه ال ُّ بالعجب
يقول هذا عن نف�سه� ،أف�إن كان نب ًيا �أو مل يكن� ،ألك به حاجة بعد رقية يا عثمان؟
ي�سجد ل�صنم قط ،كان تقلب الأمر يف ر�أ�سه ..كان «عثمان» منذ �صغره مل ُ
يكره هذا من قومه ،ب�أي عقل ي�صنع الرجل �شي ًئا بيده ثم ي�سجد له ،هذا هراء
وحمق ،واهلل لئن كان ذلك البهي نب ًيا لي�صدقن به ..ومازال «عثمان» مي�شي على
عماء حتى لقيه «�أبو بكر» وكان �صاح ًبا له ،ف�أخربه «عثمان» باخلرب كله ..قال له
«�أبو بكر» :ويحك يا عثمان� ،إنك لرجل حازم ما يخفى عليك احلق من الباطل،
ما هذه الأ�صنام التي يع ُبدها قومنا؟ �ألي�ست من حجارة �صم ال ت�سمع وال تب�صر
وال ت�ضر وال تنفع؟ قال «عثمان» :بلى واهلل �إنها لكذلك ..قال «�أبو بكر» :واهلل
لقد �صدقتك خالتك ،هذا ر�سول اهلل «حممد بن عبد اهلل» قد بعثه اهلل �إىل
245
خلقه بر�سالته ،فهل لك �أن ت�أتيه؟ فوافق «عثمان» ..ولق َيا يف طريقهما «طلحة
بن عبيد اهلل» ،فحكى «عثمان» لأبي بكر ما حدثه به «طلحة» يف ال�شام من �أمر
فتوجه «�أبو
«�أحمد» ،ف�س َّر «�أبو بكر» باخلرب ،وكان «طلحة» ابن عم «�أبو بكر»َّ ،
بكر» �إىل «طلحة» مبا�شرة و�سمع منه و�أ�سمعه من الإ�سالم ف�أحبه قلبه ،فانطلق
«�أبو بكر» بعثمان» وطلحة� ،إىل النور ذاته� ،إىل «حممد».
z
ص ع
وحدها جتال�س نف�سها ،وطوق على عنقها يطوق روحها« ،ما�سا» التي كانت
ال ري
يف جبال ن�صيبني ،والذكرى تالزمها ،ذكرى مر�سومة يف وجدانها بكل خطوطها
كما حدثت يف واقع الأمر ،ر�أته يف خيالها م َّرات ومرات ،ذلك النبي الأحمد ،بني
ك
طفولة و�شباب ،يف �شعاب مكة ،وبرغم عديد الذكريات التي م َّرت على خاطرها
ت
يف حياتها� ،إال �أن ذكراه كانت وحدها ت�ضيء يف عقلها وال تنفك تراودها منذ �أن
ش ن
كانت يف عامل غري العامل ..و�صروح غري التي تراها عني الب�شر ،م�أ�سورة
ر
من عنقها مطوقة من �أطرافها ،م�أخوذة �إىل مو�ضع ال ي�ؤخذ �إليه �إال ذو قلة
الت و
يف احلظ ،م�أخوذة �إىل بيت التحقيق الأعلى� ،أو كما ي�سمونه «اجلوداكيوال»،
و
مو�ضع يحاكم فيه اخلطائون من �أتباع «لو�سيفر» ،وال يخرج الداخلون �إليه �إال
يع ز
بحكم احلتف والإفناء� ،إال �إذا حدثت معجزة ..كانت «ما�سا» مغلولة حمبو�سة
يف حجرة متماثلة اجلدران البي�ضاء ،وهي جال�سة فيها �ضامة ركبتيها ،ال تدري
ما �س ُيفعل بها..
أل�ست �صغرية على اجلوداكيوال يا غانية؟
� ِ
تن َّبهت من رقدتها ،ك�أن ال�صوت قادم من ي�سارها ..فقامت ونظرت من بني
فرجات حمب�سها ،فر�أت املتكلم؛ كان ذا وجه �شديد الب�شاعة تبدو منه البغ�ضاء
واملقت! ،كان يتب�سم بب�شاعة ،وكان ا�سمه «�إزب» �«-إزب بن �أزيب» -وكان
حمبو�سا مثلها يف اجلوداكيوال ..قال لها:
يبدو �أن كل من يقرتب من ذلك اليماين الأ�شقر ينتهي هاهنا ،ال �أدري
مل ال ي�أخذوه معنا.
قالت له «ما�سا» :هل تعرفه يا هذا؟ �ض َّيق «�إزب» عينيه وك�أن نقمة الكون قد
بدت له ملا تذكر ،وتكلم «�إزب» �إليها وذكر لها كل الذي م َّر به مع ذلك الأ�شقر
246
«عمرو بن جابر» ...وكانت هي ت�سمعه وتت�أثر ،ملحمة م�ضت من �سب�أ �إىل
الزرقاء �إىل تهامة �إىل ال�شام ،وكل هذا لأجل عقيدة واحدة ي�ؤمن بها ..حتى
قال لها «�إزب» :وقد كان له زوجة ح�سناء متاثله عنادًا وتك ًربا يف هذا الأمر،
و�سقطت بني قدمي ،على بعد قليل من �أن تعرف حتى �أتيتها من ورائها فاغتَلتُها َ
احلقيقة التي كانت تبحث عنها ،وكان ا�سمها «�إينور».
ت�أ َّثرت عيون «ما�سا» وكانت رقيقة ..وعلمت �أ�سباب تهدج مالمح «عمرو» ملا
ص ع
كان ي�سمع منها �أمر النبي ،ثم نظرت �إىل �سقف حجرتها وتفكرت� ..أتراه وجد
ري
ذلك النبي؟
ال
قطع �أفكارها دخول مر َدة من اجلن يفتحون عليها حمب�سها ،وي�أخذونها
ك
للمحاكمة! ،وكان هذا يعني �أنها ما�ض َية �إىل حكم املوت ،قال لها «�إزب» وب�شاعة
ت
أراك يف اجلحيم.ب�سمته تزيدها وجال :يا هذهِ � ،
للن ب
ش
z
وال ر
و ت
ع زي
247
«حممد» و�أي �شيء فعله بنا «حممد»..
ع
�إن قطع الزمان كثرية..
ص
ُ
تخريت لك القطعة من الزمان التي انقلب عاملكم فيها ر� ًأ�سا على عقب.. لكني
ال ري
ن�سختها لك من الإي�ستوريجا ،و�أخرجتها لك ،ق�صة انقالب عاملكم..
ك
مل تكن لت�صبح هذه مع�ضلة ،فلتحرتقوا جمي ًعا يف يوم واحد..
ب ت
لكن البلوى �أن ما قلب عاملكم ،قلب عاملنا بدوره كمثل انقالب عاملكم �أو �أ�شد..
الت و
و
�أتى بعد ب�ضع قرون انقطع من دنيانا كل الأنبياء الكذبة ،لو يعودوا يخرجون كما
يع ز
كانوا ،انقطعوا من اجلان ،ومن بني الإن�سان...
ثم خرج..
خرج يف بني الب�رش �إن�سان ،مل يكن ك�أي �إن�سان..
�إن�سان «حممد»..
زلزل بخروجه عقائد اجلن ،وعقائد الإن�س..
ذ َّلت له �أعلى وجوه يف مع�رش اجلن قاطبة..
وحكى عن اجلن ما هو العجب العجاب ،وفجع من ذلك العوايل والأقا�صي� ،أن كيف ي�ؤتى
ذلك العلم �إن�سان!.
مل يكن مثل «�سليمان» ،ذلك ال�ساحر الذي غلب �سحره على �أ�شداء اجلن..
بل كان �أقرب �إىل نبي..
248
حممدا كان وا�سمه حممد..
«حممد» الأخالق« ،حممد» ال�صفاتً ،
عقيدة واحدة �أخرجها..
َ
و�صل زلزالها امل�شارق واملغارب حتى زلزلت ب�شدتها عر�ش نبي النور« ،لو�سيفر»..
عقيدة الإ�سالم..
ع
وا �أملاه ملا �أتذكر ،وا �أنيناه..
ص
وا عذاباه يا بني �شيطان ،وا حزناه..
ال ري
ك�أن ما كنا فيه وعِ�شنا لن�صنعه قد ُر َّد �إىل وجوهنا ف�صف َعنا..
كت
� َأف َل � َ
أفل ،كل جن ٍم وكوكب..
ب ل نل
قمر واحد؛ قمر بني ها�شم..
وطلع ٌ
249
()10
اعتقلوا
الجني القديم
لو يعلم «�أمية بن �أبي ال�صلت» عدد اجلن الذين كانوا حوله يف اليمن
ال�ستخفى يف بيته ،ولو يعلم �أقدارهم يف اجلن َ
لقتل نف�سه ُرع ًبا! ،كانوا ال ينفكون
يتابعون خطواته حتى ملُّوا منه ،ر�أوه يف ذلك اليوم يتحادث مع قافلة �آتية من
ع
مكة يف رحلة ال�شتاء ،ي�ستعلم �أخبار قري�ش ،كان يتح َّدث بحالوة منطقه املعتادة
ص
وحوله قد ا�ستكرث النا�س ،حتى ر�أى امر�أة راكبة على بعري ،والبعري يرفع ر�أ�سه
ال ري
�إىل املر�أة ويرغو ،فنظر «�أمية» �إىل املر�أة وقال لها :يا امر�أة �إن البعري يقول لك
�أن الهو َدج الذي تركبني عليه مغروز يف �أ�سفل بطنه ..فا�ستعجب النا�س كيف
ك
فهم البعري! ،ونزلت املر�أة وك�شفوا عن الهودج ف�إذا فيه حديدة مغروزة يف بطن
ت
وبدت وجوه اجلن مت�سائلة. البعري ،وعلت وجوه النا�س نظرات الإعجابَ ،
ش
ال ُيخرب �أحدً ا �أنه نبي� ،إمنا يذ ُكر �أنه �سيكون هو النبي ،وال يقول هذا غال ًبا �إال
ر
للن�ساء الالتي يخرج معهن ويغدو ويروح ،وبد�أت نظرة اجلن له تتغري ،حتى
الت و
رجلتوافقوا �أن يقتلوه ،ف�إن كان نب ًيا فقد قتلوه ،و�إن كان غري ذلك فقد قتلوا ً
و
�أ�ضاع كث ًريا من وقتهم.
يع ز
وال �سلطان للجن على الإن�س بالقتل �أو بالأذى� ،إمنا �سلطانهم بالو�سو�سة
والفتنة ..وهذا ما عملوه ،حاموا على رجال من العرب ي�ؤزونهم �أ ًّزا حتى ا�ستل
الرجال �سيو َفهم وعدوا على «�أمية بن �أبي ال�صلت» ورجل كان معه هو حرب ُ
والد �أبو �سفيان ،وكانت مفاج�أة عظيمة للرجلني ،لكن القدر كان قد كتب �أن
«�أمية» �سيخرج من هذا بال خد�ش واحد ،فخرج منها ومل مي�سه �سيف! ،لكن
ً
معزول مات يف هذه العدوة والد �أبو �سفيان ،وكان قربه يف املكان الذي مات فيه،
بعيدً ا عن قبيلته ،وزعمت العرب �أن اجلن قد قالت فيه �شع ًرا قد ا�شتهر..
وق�ب ُ�ر ح ��ربٍ مب ��كان قف� � ٍر
ولي� ��س ُق ��رب َق�ب�ر ح ��رب ق�ب�ر
�أما اجلن فكانوا يف �ش� ٍأن �آخر؛ اختلطت م�شاعرهم يف «�أمية بن �أبي ال�صلت»،
وبد�أ بع�ضهم ُي�صدِّ ق �أن الرجل حقا ُمت ِلف ،ف�إن كان نبي يف القوم ف�سيكون
هذا.
253
وظلُّوا على �ش�أنهم يدورون يف ال�ضالل حتى �أتى ذلك اليوم� ،إذ تنبه واحد
منهم �إىل ما مل يتن َّبه �إليه �أي منهم..
كان ذاك «طيفون»� ،أ�شد مارد فت ًكا يف �أ�ساطري اليونان ،قالوا عنه من
�أوهامهم ما قالوا ،قالوا هو املجنون الذي حتدى زيو�س وغالبه على حكم الكون،
وهزمه زيو�س ودفنه يف احلمم حتت اجلبال ،فل َّقبوه بعدو الآلهة ،و�أ�صبح من
ع
منبوذا يف حمم الأر�ض ،و�أ�صبح هو �سبب كل بركان ً �ساعتها «طيفون» مدفو ًنا
ص
�أو زلزال ،فلما يغ�ضب تهتز لغ�ضبته الأر�ض ،و�إن الإن�سان ليغلو يف خياله ،لقد
ال ري
كان طيفون فقط ماردًا جن ًيا متمردًا ،ولقد �سكن ن�صيبني وما حولها ،وخرج يف
رمته
وفد ن�صيبني حتى انتهى معهم �إىل «�أمية بن �أبي ال�صلت» ،لكن «طيفون» َ
كت
ال�صدفة �إىل احلقيقة ،رمته هو وحده.
z
قدمت من مكة �إىل
ب نل
ل
حدثت ال�صدفة �سري ًعا ..يف تلك القافلة القر�ش َّية التي َ
وح�سن ،له
ر ش
اليمن يف رحلة ال�شتاء ،جاء فيها �شاب طويل �أبي�ض يف وجهه حمره ُ
الت و
�سمة يف وجهه �أن لديه �شي ًئا ي�س ًريا من الطول يف النابني الأعليني من ثغره،
و
ولديه حدبة ي�سرية يف ظهره ،كان ثر ًيا جدً ا يحب التجارة والك�سب ،وكان ا�سمه
يع ز
«عبد الرحمن» «-عبد الرحمن بن عوف» -ولقد �أذهبت به ال�صدفة �إىل �أن
�ساحر من �سحار اليمن؛ �شيخ قد كرب وبلغ �أرذل العمر �شيخ كبري ِ
ينزل يف بيت ٍ
حتى �صار �أ�شبه بالفرخ ،وكان ا�سمه ع�سكالن.
كان ع�سكالن �شادًا ع�صابة على عينيه ..فر�أى «عبد الرحمن» ب�صعوب ٍة
فقال له :انت�سب يا �أخا قري�ش ..قال� :أنا عبد الرحمن بن عوف بن احلارث
أب�شرك بب�شارة وهي خري لك من التجارة؟ بن زهرة ..قال ال�شيخ :ح�س ُبك� ،أال � َ
قال عبد الرحمن :بلى ..قال� :أتيتك با َملعجبة و�أب�شرك با َملرغبة� ،إن اهلل قد بعث
يف ال�شهر الأول من قومك نب ًيا ارت�ضاه �صف ًيا ،و�أنزل عليه كتا ًبا وف ًيا ،ينهى عن
الأ�صنام و يدعو �إىل الإ�سالم ،ي�أمر احلق و يفعله ،وينهى عن الباطل ويبطله،
و�إنه من بني ها�شم ،و�إن قومك لأخواله ،يا عبد الرحمن وازره و�صدقه.
كان رئي اجلن الذي ي�أتي ذلك ال�شيخ قد �أتى له باخلرب قبل �أن ي�سمع به
اجلن املوفدون من ن�صيبني ،وكذا �سحرة ال�شام �سمعوا وعلموا اخلرب ،وكذا
254
اخلالة «�سعدى» ،ف�آمن �أولئك اجلن و�آمن ب�إميانهم �سحرتهم ،وكل هذا ووفد
ن�صيبني ال يدري من الأمر �شي ًئا ..لكن يف تلك ال�ساعة عند ذلك ال�شيخ
الع�سكالن ،كان املارد «طيفون» من �أبناء ن�صيبني مي�شي باجلوار ،ور�أى امل�شهد
كامل ،وعرف اخلرب ،عرف �أن احلق لي�س ها هنا ،بل �إن احلق هناك ،يف مكة. ً
وكان «طيفون» ماردًا يحب املجد؛ يحب �أن يناله وحده دون غريه ،ف�أخفى
اخلرب عن �أبناء ن�صيبني كلهم ،ويف غفل ٍة من اجلميع انطلق وراء «عبد الرحمن
ع
بن عوف» �إىل مكة ،يريد �أن يعرف �أمر ذلك النبي� ،أما «عبد الرحمن» فكان
ريص
الأمر �شاغله طوال طريق ال�سفر ،لطاملا �شعر �أن �شي ًئا ما خط�أ فيما يفعله النا�س
ال
يف الأر�ض ،لكن املال �ألهاه عن النظر يف هذه الأمور ،فلما نزل �إىل مكة لقيه «�أبو
خليل له ،وكان مع «�أبو بكر» «عثمان» و«طلحة»، بكر» ،ال�صديق العتيق ،وكان ً
ت ك
�آخذا بيدهما �إىل ر�سول اهلل ،فقال «عبد الرحمن» :يا �أبا بكر ،ذرين � َ
أحدثك
ل ب
أمر لدي عجيب ...وحكى له من �أمر ع�سكالن ،فقال «�أبو بكر» :يا بن عوف، ب� ٍ
ن ل
ر�سول ،و�إنا ما�ضون �إليه ِ
فام�ض هذا حممد بن عبد اهلل ،بعثه اهلل �إىل خلقه ً
ش
معنا.
و ر
الت
طويل جدً ا كثيف ال�شعر مل ُيجاوزفبينا هم على طريقهم �إذ ر�أوا فتى �أ�سمر ً
و
أي�ضا مل يجاوز الثالثني ،ومعهما ال�سابعة ع�شرة ،ومعه �شاب يافع كثري ال�شعر � ً
يع ز
َكهل يف مالحمه �سمت بني ها�شم ،قال «�أبو بكر» :ه�ؤالء �أبناء عمات ر�سول
اهلل ..كان الأ�سمر ال�صغري ال�سن هو «الزبري» «-الزبري بن العوام» -فتى ا�شتُهر
بق�س َوة �أمه عليه�« ،صفية بنت عبد املطلب» عمة النبي ،كانت ت�ضربه �ضر ًبا
مدلل ،وقد كان لها ما �أرادت ،فكان «الزبري» �شديدً ا ُم�ؤذ ًيا حتى ال يكون ناع ًما ً
قو ًيا على �صغره ،والأو�سط الكثري ال�شعر هو «عبد اهلل بن جح�ش» ،ابن �أميمة
بنت عبد املطلب عمة النبي ،والكبري الذي ي�شبه الها�شميني هو «�أبو �سلمة» ،ابن
العمة الثالثة لر�سول اهلل «ب ّرة بنت عبد املطلب» ،وكان �أخو النبي من الر�ضاعة،
أوقدت يف نف�س «الزبري» و«عبد اهلل» و«�أبو وكلمتني من «�أبي بكر» مل يزيدهما � َ
اهتماما عجي ًبا فا�ستمعوا �إىل بقية الكالم وا�ستح�سنوه ..وك�أنَّ «�أبا بكر»
ً �سلمة»
كان يقول �سح ًرا �أو ك�أن نفو�س �أولئك كانت خمتارة من عند ربها!
وم�ضى �ستة رجال مع ال�صديق ،لكنه فج�أة توقف ،ونظر �إىل ناحية معينة
وثبت عينيه! ،كان هناك يقف ابن الرجل الأنور ،ابن زيد بن عمرو بن نفيل،
«�سعيد» �«-سعيد بن زيد» ،-ذاك الذي دعا له �أبوه املنا�ضل ملا كان ميوت وحده
255
كنت حرمتني ُ�صحبة نبيك فال حترم منها ابني يف ال�صحراء� ،إذ قال :رب �إن َ
�سعيدً ا ..وكان «�سعيد» ُي�شبه �أبوه ،كان واق ًفا مع اثنني من �أترابه يتحادثون،
وكلهم يف نهاية الع�شرين من العمر� ،شباب يافعون� ،أحدهم كان مميزً ا جدً ا،
ريان و�سيم عليه ثياب ك�أنها من حرير ،يقف ب�شعر مرجل وعطر فائع ،كان
ذاك الفتى املنعم الواقف مع «�سعيد» هو حديث ح�سناوات مكة ول�ؤل�ؤة ندواتها
ع
و جمال�سها« ،م�صعب» «-م�صعب بن عمري» ،-وثالثهم كان فتى نحي ًفا خفيف
ص
اللحية �صاب ًغا �شعره باحلناء وله عقي�صتني م�ضفرتني يقو�سهما خلف �أذنيه ،وله
ال ري
يد عروقها ظاهرة من عمله يف حفر القبور ،كان ذاك «�أبو عبيدة» �«-أبو عبيدة
بن اجلراح».-
ت ك
وبخط َو ٍة ال ترتدد ..حترك «�أبو بكر» �إىل «�سعيد بن زيد» ومن معه ،فذ َّكر
ل ب
�سعيدً ا بوالده ،وكالم والده ،وح َّدثه ومن معه عن النبي الأمني ،و�إن �أبا بكر �إذا
ن ل
حت َّدث عن النبي يكون ك�أن قلبه هو الذي يتحدث ،فيلفت ب�صائر القلوب �إليه..
ش
ر
كان «�سعيد» �أول من ت�أ َّثر لأن والده كان قد رباه على النبي املنتظر ،و«م�صعب
الت و
بن عمري» الذي كان ُمن َّع ًما يف ثياب ورغد �أ�صبحت عينيه اجلميلتني تبديان
و
اهتماما ب�أمر مل ي� ِأت على خاطره من قبل ..و«�أبو عبيدة بن اجلراح» ال�شاب
يع ز
مي�ض من الوقت �شيء حتى �ضم العفي بدا ُمنتب ًها �إىل �أبي بكر بكل كيانه ،ومل ِ
«�أبو بكر» ثالثة �آخرين ،وك�أنه يف ذلك اليوم كان مي�شي يف طريق دانية عليها
قطوف من اجلنة فجعل يقطفها واحدة واحدة.
وانطلق «�أبو بكر» بت�سعة من زينة الرجال �إىل النور املحمد ،كانوا مي�شون
ووراءهم عني تنظر ومتني نف�سها باملجد ،عني جني« ،طيفون» الذي �سمع كل
هذا ور�أى ،وعلم �أنه قد وقع على الكنز املخبوء الذي نزلت لأجله عوايل اجلن
تقطعت كالكلهم ،فانطلق «طيفون» وراء «�أبي بكر» من ن�صيبني يبحثون حتى َّ
و�صحبه �إىل حيثما انطلقوا.
و�أتوا عند الهادي مينون �أنف�سهم بر�ؤيته ،فلما ر�أوه كان بها�ؤه �أجمل مما
ارت�سم يف خيالهم ،و�أجمل مما يذكرون من ر�ؤيته يف ال�سابق ،فعر�ض عليهم
الإ�سالم وقر�أ عليهم القر�آن ،ومل يره «طيفون» حتى خرج من بيته ال�شريف،
256
هنالك ر�آه وملأ عينيه منه ومل�سه يف قلبه �شيء لكنه كتمه ،بهي جميل املحيا
ق�سي ًما يف اجل�سم كان «حممد» ،وك�أنه قد خلق كما ي�شاء ،فحتى مارد اجلن
العتيد توقف برهة يف قلبه ينظر ،ما هكذا اعتاد �أن يكون الب�شر!..
وملا �أ�سلم الت�سعة �أ�سلم نفر من قرابة الت�سعة� ،أ�سلمت عمات النبي ب�إ�سالم
�أبنائهن ،ف�أ�سلمت «�صفية» القوية ال�شديدة �أم «الزبري بن العوام» و�أخت «حمزة»،
ع
و�أ�سلمت «�أميمة» الف�صيحة �أم «عبد اهلل بن جح�ش»� ،أ�سل َمت هي وابنتها «زينب
ري ص
بنت جح�ش» ،و�أ�سلمت «�أروى» ال�شاعرة املجيدة �أخت «عبد اهلل» وا ِلد النبي،
ثم �أ�سلمت الزوجات ..ا«ل�أم �سلمة» زوجة «�أبو �سلمة»« ،فاطمة بنت اخلطاب»
وكانت العمة الأخرية «برة» والدة �أبو �سلمة متوفاة.
ل
وثالثنينم�سل ًما يف �أيام معدودة.
�سبعة على الت�سعة ف�أ�صبحوا �ستة ع�شر ،زادوا زيد بن نفيل» الرجل الأنور ،فزاد
�أما «طيفون» املارد فقد نظر �إىل الت�سعة يومهاشثمروىل بعيدً ا ،باجتاه اليمن،
وال وت
ي ز
ل ُيخرب عن «حممد».
بغ�ضب كما ع
يلتفت املردة ٍ فالتفت
َ
�إىل �أين �أنت ذاهب يا �أ�صلع؟
ب�صوت حازم من وراء «طيفون»!.
ٍ قيل هذا
فنظر ف�إذا جني واقف �أمامه وقفة الغ�ضب ،كان ذاك «عمرو بن جابر» ،واق ًفا
له ك�أمنا مينعه من املرور ..قال «عمرو»:
ُخب اللئام
�إىل �أين امل�سري يا �أ�صلع؟ �إىل �أتباع الأمري ال�سفيه الإبلي�س؟ فت ِ
أمر مل ي�أذن اهلل له �أن ُيع َلن؟
ب� ٍ
كان «عمرو» يعرف �أنه يقف �أمام مارد من نار ،و�أنه لي�س كف�ؤا له وال حتى
ن�صف كف�ؤ ،لكن قلبه وروحه كان فدا ر�سول اهلل و�أمر اهلل ،وعزم �ألن مير ذلك
الأ�صلع العارم من هنا �إال على جثته ،وكانت جمابهة غري عادلة.
z
257
مقاعد م�صفوفة بعناية على �شبه م�سرح دائري ،خافية يف ظالم فال ترى
اجلال�سني عليها ،ومن�صة يف منت�صفها ك�أنها من�صة م�سرح ،تقف عليها وحدها
وال�ضوء متوجه �إليها؛ «ما�سا» �صاحبة الروح الرقيقة� ،إن �شر الأعمال اخليانة،
و�أ�شر ال�شر �أن تخون الأمري� ،أمري النور ،فلت ُكن من الكفار به كما �شئت ،لكن
ال تدخل يف نعيمه ورفاهته وتتبعه وتق�سم على الطاعة ثم تخرج على كل هذا
ع
وتتمرد بل تع�صى وتخون ،ف�إن فعلت ف�سيكون هذا مو�ضعك ،و�سط �شخو�ص
ص
جلو�س على مقاعد ملتفة يف ال�سواد ال تبدو منهم �سوى عيونهم ،هم يعلمون
ال ري
و�أنت تعلم �أنهم �سيكونون �آخر ما ترى من هذه الدنيا ،اجلوداكيوال ،املحكمة،
بل املقتلة.
ت ك
لكن العيون املتوارية يف طرف الظالم � َّأج َلت احلكم على «ما�سا» ،وق�ضوا ب�أن
ش
به للتجرمي والت�أثيم ،فهو الغرمي اخل�صيم للنور ولأبناء النور ،اعتقلوا اجلني
و ر
الت
القدمي ،اعتقلوا «عمرو بن جابر» ،ولتُ�سندوا الأمر �إىل فوج ن�صيبني ،ف ُهم �إليه
و
�أقرب.
يع ز
فحط بني زمرة اجلن املجتمعني يف ونزل مبعوث اجلن من اجلوداكيوالَّ ،
�ضاللهم حول «�أمية بن �أبي ال�صلت» ..قال :يا �أبناء ن�صيبني� ،إن الأمر قد
رجل له عزم ،لي�أت �إلينا بعمرو اليماين بن جابر، �صدر� ،أن �أر�سلوا من بينكم ً
ف�إن حكم احلتف ب�ش�أنه قد ح�صل ..ظهرت ب�سمة وا�سعة على وجه «�سيدوك»،
وقال :دعوا يل هذا الأمر ..لكن«ميتاترون» �أوق َفه بنظرة ،ثم نظر«ميتاترون»
�إىل �أحد اجلن ،و�أ�شار له بدون كلمة �أن ينطلق؛ �أ�شار«ميتاترون» �إىل الإثم
املتج�سد� ،أ�شار �إىل «بليعال»!
�شيطان قدمي دميم ،تع َّدى على وجدان بني �إ�سرائيل حتى كتبوه يف �سبعة
وع�شرين مو�ض ًعا من التوراة ..كتبوا �أنه ال�شر والأذى ،وال�ضالل والتلف،
و�سطروا له ال�سطور يف �صحف قمران ،قالوا ذاك الذي كان يخدمه �سحرة
فرعون ،و�أن امل�سيح املنتظر �سيدمره يف �آخر الزمان� ،شيطان ا�سمه «بليعال»،
258
حتى قدامى الن�صارى ذكروه فقالوا هذا الذي يف �أ�صل اجلحيم ،منظور فيها
مع � 666شيطان ،وله يف مكاتيب ال�سحرة ِذكر ومكان ،ف�إن الكتاب الثالث يف
�إجنيل ال�شيطان هو كتاب بليعال ،ولقد نزل «بليعال» اليوم يف مكة؛ نزل كما
تتنزل ال�شياطني.
z
ص ع
نزل الأثيم �إىل مكة وطاف بها طوفة واحدة من �أعالها فر�آه ،بل ر�آهما،
ري
التفت
«عمرو بن جابر» و«طيفون» يقفان متواجهني ،فلما اقرتب من مكانهما َ
ال
�إليه كليهما وكان حل�ضوره طاقة زعزعت ذرات الهواء ،فنزل نزلة غا�ضبة ،قال:
ك
َ
ت
أخرجك عن ال�سرب؟ قب�ض «عمرو بن جابر» ما �ش�أنك هنا يا «طيفون» ،ماذا �
ب
أح�س بهول الورطة التي َ
�سقط فيها ،كان يف البدء �أمام مارد� ،أما االن َ
قب�ضته و� َّ
ش
ف�إن «طيفون» كان قد حترك من مكانه وتهجم على «بليعال» ،هجم ًة مفاجئة مل
و ر
كان «طيفون» ي�شتعل نا ًرا من دواخله حتى بدت يف ا
عروقهل وت
تكن يف ح�سبان «بليعال» فراغ منها وتفاداها ،وت�صارع اجلحيم مع اجلحيم،
توقف «عمرو» حمله وهو ال يدري ما الذي يفعله «طيفون» بال�ضبط وملاذا!
�أن ينفرد باملجد ،لو ع ِلم «بليعال» باخلرب ف�سي�شاركه املجد -جمدزيع
وثناياه ،كان يريد
«لو�سيفر»،-
وا�ضحا ..وتع َّرق
ً وال يوجد �أعظم من جمد «لو�سيفر» ،لكن فارق القدرة كان
«عمرو بن جابر» وهو ُ
ينظر �إىل ما فعله «بليعال» يف «طيفون» ،كان «بليعال» هو
املتج�سد ،وكان يبدو �أن نريان «طيفون» تلتهب فت�أكل ج�سده ،ثم امتدت
ِّ الأذى
يد «بليعال» الي�سرى ك�أنها الوتد ف�أم�سكت بفك «طيفون» حتى اختل اتزان املارد
وارجتف ،ثم دفع «بليعال» بيده دفعة ثانية �أ�شد من الأوىل فدخلت يف فك
«طيفون» وانغر�ست كمثل غر�س الرمح فت�ضاءلت نريان «طيفون» وبدت عليه
عالمات االنك�سار ،و�أحنى ر�أ�سه �إىل الوراء فبدت مدحورة وهي داخلة فيها يد
«بليعال» الواحدة املمدودة.
259
تك�سرت لها جنبات فك «طيفون» وفقد الوعي ..ثم التفت كانت تلك غر�سة ٍيد َّ
«بليعال» �إىل «عمرو بن جابر» الذي تراجع تراج ًعا غريز ًيا ،قال «بليعال» :يبدو
�أنك يا �أ�شقر �ست�ضيف واحدً ا �آخر �إىل قائمة امل�سجونني ب�سببك يف اجلوداكيوال،
نظر «عمرو» �إىل «طيفون» ال�ساقط على الأر�ض ومل يتك َّلم ..فقال «بليعال»:
أي�ضا �ستجتمع معهم ..كان كل ما ي�شغل «عمرو» هو �أن وقوفهما ويبدو �أنك �أنت � ً
يف هذا املكان هو على بعد خطوة واحدة من بيت النبوة ،كان يخاف �أن يرى
ع
«بليعال» �شيئا ،ثم هد�أت نف�س «عمرو» �إذ تذكر �أن اهلل �إن �أراد �أن يخفي �أم ًرا
ص
�سيخفيه ،و�إن �أراد �أن يك�شفه �سيك�شفه ..قال «بليعال»� :إن جنيئة طائفة الأرواح،
ال ري
«ما�سا هارينا» ،حتاكم يف اجلوداكيوال بتهمة اخلديعة ،و�أنت قد �صدر الق�ضاء
ب�ش�أنك �أنك ل�شريعتنا عدو مبني ،وقد جاء الأمر بت�سليمك �إىل اجلوداكيوال.
ت ك
مل ُيع ِّلق «عمرو» و�إن كان ت�أ َّثر مب�صري «ما�سا» وغ�ضب غ�ضب ًة خفية ل�شعوره
ل ب
�أن هذا ب�سببه ،لكنه ت�صنع االنهزام وم�شى مع «بليعال» �شيطان الأذى الذي كان
ن ل
يجر وراءه املارد «طيفون» ج َّر الذل ،كل ما كان يهم «عمرو» �أن يبعد «بليعال» عن
ش
هذا املكان ،بل عن هذه البلدة كلها ،و �إن كان الثمن �إعدامه يف اجلوداكيوال..
و ر
وبرغم كل الذي ي�سمعه عن اجلوداكيوال �إال �أن نف�سه مل ترجف رجفة واحدة.
ت وعلى �أعتاب مكة نزل رجل ظاه َرة عليه وع َثاء ال
ال�سفر..وتراخى على راحلته
z
ي ز
م َّر معه يف رحلته و يذكر ما �أخرجه من مكة ،كان ذاك هو الرجل ع
كان يذكر كل ما
احلي الوحيد
من التعب ملا دخل الديار ،وكان ُيع ِّلق على �صدره �صلي ًبا فاخ ًرا،
الباقي من الأربعة الأنوار «عبيد اهلل بن جح�ش» ،ولقد ارت�ضى الن�صرانية دينا،
ولقد بلغه موت �أ�صحابه الثالثة الذين كانوا معه يف الرحلة« ،ورقة» و«زيد»
و«عثمان بن احلويرث» ..فكان يتذكرهم ويتذكر �سريتهم.
كان «عبيد اهلل بن جح�ش» هو زوج «�أم حبيبة بنت �أبو �سفيان» ،وكان «عبيد
اهلل بن جح�ش» يف نف�س الوقت ابن عمة ر�سول اهلل�« ،أميمة بنت عبد املطلب»،
وما كان يدري �أن «�أحمد» قد ُبعث ،وما كان يدري �أنه هو ابن عمته ،لكنه علم
اخلرب فو ًرا ملا دخل بيته ،ف�أمه «�أميمة» �أ�سل َمت و�أخوه «عبد اهلل» و�أخته «زينب
بنت جح�ش» ،نظر له �أخوه «عبد اهلل» و�إىل ال�صليب الذي ُيع ِّلقه على �صدره،
وقال له :واهلل يا عبيد �إن ذلك الذي كنت عنه تبحث وتتح َّدث يف �أيامك القدمية
262
قد بعثه اهلل من بيننا ،من بيتنا ،و�إنه ملحمد بن عبد اهلل ،ابن عمتك ،ولقد
�آمنتُ به �أنا و�أمك �أميمة و�أختك زينب.
ينظر ويقارن بني هذا الأمر وبني تو َّقف «عبيد اهلل» ومل يحر جوا ًبا ..حتى ُ
ما حتت يديه من دين وما على رقبته من �صليب ،ف�أتى �إىل ر�سول اهلل الب�شري
املحمد ،فوجد النبوة وك�أنها تفي�ض من بني عينيه ،النبي املناحما املعزي
الأحمد ،بل �إن ا�سمه املحمد ،لكنه لي�س من بني �إ�سرائيل� ،أفيكون اليهود ح ًقا
ع
متع�سفون يف احتكار النبوة لأنف�سهم دو ًنا عن جميع الأمم؟ �إن تع�سفهم هذا ال
ريص
يتفق مع عدالة اهلل ،كان يح�س بهذا لكنه يخفيه ،املناحما الثاين الذي َب َّ�شر به
ال
ميجد «امل�سيح» ِّ
ويب�شر الإجنيل قد نزل اليوم ليحاج العامل على اخلطية ،نزل ِّ
متاما كما جاءت ب�شارة الإجنيل... بنزول «امل�سيح» ،نزل وال يتكلم �إال مبا ي�سمعً ،
ت ك
نظر «عبيد اهلل بن جح�ش» وهو يفكر يف كل هذا �إىل مالمح «حممد» ،والنور
ل ب
ينور �صدره رويدً ا رويدً ا.
خرج احلق
ر
للأمم ،قالوا لي�س ب�صخاب وال ي�صيح وال ي�سمع يف ال�شارع �صوته ،ال يكل وال
الت و
ينك�سر حتى ي�ضع احلق يف الأر�ض ،قالوا هو الذي يحفظه اهلل ويجعله نورا
و
للأمم ،يفتح به عيون العمي ويخرج من احلب�س امل�أ�سورين يف الظلمات ،قالوا
يع ز
ب�شرت به مكاتيب اليهود يف هو الذي ي�سكن قيدار �أر�ض العرب ،هو النبي الذي َّ
قمران ..فكتبوا �أنه يتيم ،و�أن بني كتفيه �شامة ..نظر «عبيد اهلل بن جح�ش» وهو
ُيف ِّكر يف هذا �إىل مالمح «حممد» ،و�إىل �شامة «حممد» ،وال�سنا من نوره قد غزا
قلبه وا�ستحوذ.
و�شردت عيونه وهو ينظر� ..أفت�صدق يف ابن عمتي نبوات الكهنة؟ �أهو من
غالب بن فهر من جهة الأم مثل �أمية بن �أبي ال�صلت ،ال بل كان حممد من غالب
بن فهر من جهة الأب ومن جهة الأم �أي�ضا.
ثم ا�ستمع «عبيد اهلل» �إىل ما نزل من القر�آن الكرمي ..وك�أنه نزل فغ�سل
ما علق ب�صدره من كدر ،ال توجد ذوات ت�صدر من اهلل لتخلق العامل ،ال يوجد
عوامل �أربعة متلألئة فيها عزير يخلق العامل ،ال يوجد ذات امل�سيح ال�صادرة التي
تخلق العامل ،بل يوجد ذات اهلل الأحد ،اهلل ال�صمد ،مل ي ِلد منه ذات ومل ُيولد
من ذات ،ومل يكن له كف ًوا �أحد� ،إمنا �أمره �إذا �أراد �أن يخلق �أن يقول كن فيكون
ما �أراد.
263
كان قد نزل حتى ذلك الوقت كثري من القر�آن يف�صح عن عقيدة الإ�سالم
ويحكي ق�ص�ص الأنبياء ،ولعمري لقد و�ضع «عبيد اهلل» يده على جبينه من
ح�سرته على �سوء و�شناعة ما كان ي�سمع من ق�ص�صهم يف التوراة ،الآن �سمع
الق�ص�ص وهي لفطرته دانية ،ال توجد خطايا للأنبياء ،بل �إنهم بريئون من هذا
ب�شر عاديونال�شر براءة ال�شم�س من اللم�س ،لي�س لأنهم فوق الب�شر ،بل هم َ
لهم �شهوات كبقية الب�شر لكنهم بلغوا درجة من ال�صالح والتقوى ورقي الروح
ع
واخلوف من اهلل وحب اهلل ما مينعهم عن اخلط�أ ،لهذا ا�صطفاهم اهلل من
ص
بني الب�شر فجعلهم �أنبياءه ..فهم مع�صومون باجتهادهم الب�شري لي�س بطاقة
ال ري
خارقة �أعطاها اهلل لهم فميزهم بها عن الب�شر.
«�آدم» نبي �أخط�أ خط�أ ب�سيطا وا�ستغ َفر اهلل فغفر له ومل يورث خطيئته لأحد
ت ك
�ضاجع احليوانات كما يقول التلمود...
كما يف الإجنيل ومل ُي ِ
ش ن
حفيده «كنعان» الذي فيه كل الأمم التي �سكنت ال�شام كما قيل يف التوراة بل �إن
ر
كل الأن�سال عند اهلل �سوا�سية ،وقد �أر�سل اهلل الطوفان على قوم «نوح» وحدهم
الت و
ولي�س على العامل كله كما يف التوراة؛ �أر�سله عليهم ملا كذبوا بعد �ألف �سنة من
و
حماوالت «نوح» لدعوتهم لي�س ب�سبب �أن اهلل غ�ضب على العامل من خطيئة
يع ز
ال�صاحلني مع الن�ساء كما يف التوراة...
و«�إبراهيم» نبي هو �أ ّمة وحده ،و«�إ�سماعيل» ابنه نبي �صالح �صادق الوعد
رجل همج ًيا يحاول قتل �أخيه «�إ�سحق» ومل يعبد ي�أمر �أهله بال�صالح ولي�س ً
الأ�صنام يوما كما قيل يف التلمود ،و�أخوه «�إ�سحق» هو �أي�ضا نبي ،و«لوط» نبي
يزن ببناته ومل ت�سكره بناته ومل ي�ضاجعنه واحدة كرمي �آتاه اهلل حك ًما وعل ًما ومل ِ
ن�سل كما يف التوراة ،ومل يكن ديو ًثا كما يف التلمود، تلو الأخرى ليقمن منه ً
ليح�صل على البكورية من �أخوه الهمجي ُ يخدع �أبوه
و«يعقوب» نبي �صالح مل َ
«عي�سيو» والد الأدوميون �أعداء بني �إ�سرائيل كما يف التوراة.
ال توجد �أن�سال ملعونة يف ن�سبها زنا وفح�ش ،ال توجد دياثة وزنا حمارم ،ال
توجد ق�ص�ص جن�سية...
يزن ب�سرية
�أبناء «يعقوب» مل يرتكبوا زنا حمارم« ،راوبني ابن يعقوب» مل ِ
يزن مع «ثامارا» زوجة ابنه التي�أبيه بلهة كما يف التوراة« ،يهوذا ابن يعقوب» مل ِ
264
تن َّكرت له يف �شكل موم�س لت�صحح له ن�سله لأنه كان يتزوج كنعانيات كما تقول
التوراة .
ال يوجد قتل ن�ساء ارتكبه «مو�سى» ب�سبب زنا اليهود معهن ،وال قتل «مو�سى»
ف�صيحا
ً الرجال والن�ساء والأطفال من الكنعانيني ب�أمر اهلل ،و«هارون» كان نب ًيا
ومل ي�ص َنع العجل لقومه يف غياب «مو�سى» �إمنا �صنعه لهم «ال�سامري» ،و«ي�شوع»
ع
خليفة «مو�سى» مل يقتُل � 13شعبا واحدا وراء الآخر بكل من فيه من ن�ساء و�أطفال
ك
�شعبه ورغبته يف �إح�صائهم كما ُن ِ�سب له يف التوراة..
و�سخر له اجلن والريح ومل يتو َّدد تب�صناعة معابد الأ�صنام لن�ساء املمالك
ب نل
و«�سليمان» كان نب ًيا �أوا ًبا مثل �أبيه �آتاه اهلل احلكم والعلم وعلمه منطق الطري
ل ا و ر يزن ب�أخته�« ،أب�شالوم بن داوود» مل بن داوود» مل ِ
تلك التوراة التي ي�ؤمن بها اليهود وي�ؤمن بها الن�صارىتووي�سمونها العهد
�شعب �إ�سرائيل كما يف التوراة.
ع
«حممد»...القدمي بكل ما فيها من هذه ال�شنائع ،ال يوجد �شيء من هذا عندزي
كذلك «يحيى» نبي ولي�س جمرد واعظ كما يف الإجنيل ،و«عي�سى» نبي وجيه
هو امل�سيح املنتظر ،وهو كلمة اهلل وروح منه ،يعني خملوق بكلمة اهلل بدون �أب،
وهو روح من اهلل ت�شري ًفا له على كل روح ،م�ؤيد بالروح القد�س ..والروح القد�س
هو املالك «جربيل» ولي�س �أحد ذوات اهلل وال ينبغي له؛ بل هو مالك �أ َّيد اهلل به
خا�صا؛ فكان «عي�سى» بهذا الت�أييد ُيك ِّلم النا�س يف املهد ويخلق
«عي�سى» ت�أييدً ا ً
من الطني كهيئة الطري فينفخ فيها فتكون ط ًريا ويحيي املوتى وبربيء الأك َمه
والأبر�ص ب�إذن اهلل ،لكنه لي�س ذاتًا من ذوات اهلل ولي�س �صاد ًرا منه ومل يخلق
العامل ومل يتج�سد اهلل به ،ومل يقتله النا�س على ال�صليب و�إمنا ُ�ش ِّبه لهم ،بل
رفعه اهلل �إليه و�سينزل يف �آخر الزمان ليحقق نبوءة اهلل يف امل�سيح املنتظر.
265
ال توجد خطية و َّرثها «�آدم» لكل ذريته امل�ساكني الذين ال ذنب لهم فيها..
ال توجد كهنة و�سيطة تعرتف لهم بخطيتك ف�إذا غفروا لك غفر لك اهلل� ،إمنا
�أنت ُتدِّ ث اهلل يف �أي وقت وت�شتكي له يف �أي وقت ،ويغفر لك يف �أي وقت فور �أن
يح�صل يف قلبك الندم ..اهلل كرمي عظيم قريب جميب.
ال توجد ذبائح حترق كاملة حتى تتفحم لأجل اهلل كما يف التوراة ..وال ذبائح
تذبح لي�أكل منها الكهنة وحدهم ..وال ذبائح خم�صو�صة بالرهبان ال يجوز �أن
ع
يذبحها غريهم� ..إمنا الذبائح يذبحها �أي �أحد بطريقة رحيمة غري موجعة،
ريص
تذبح ليت�ص َّدق بلحمها على الفقراء وامل�ساكني ،فال ينال اهلل من حلومها �إمنا
ال
يناله التقوى ممن ذبحها.
ك
غ�سيل �شامل كامل لكل �شائبة قيلت ب�ش�أن اهلل �أو ب�ش�أن �أنبيائه ،غ�سيل
ت
وتطهر من كل ما ت�ست�شنع النف�س �أو ي�ستغرب العقل �أو ت�ستقبح الروح ..فقال
ش ن
ب�إ�سالمه خم�سة وثالثني نف�سا.
z
و ر
و الت
بني حواري مكة ،كان ال�صبي الأ�سمر «�سعد بن �أبي وقا�ص» الذي ال يتجاوز
يع ز
جال�سا يف حمل عمله يربي ال�سهام كما اعتاد ،كان يربي و ُيف ِّكر
عاما ً�ست ع�شرة ً
يف م�شهد «�أبي بكر» وهو داخل على النبي بت�سعة رجال يف يوم واحد ،ويذكر
ا�ستب�شار النبي بهم وفرحته ،ونظر �إىل املارة هنا وهناك؛ �إن ه�ؤالء ال يدرون
�أن نب ًيا قد خرج بينهم ،مي�شون يعاي�شون حياتهم ،لكن اهلل مل ي�أذن بالإعالن،
كان ي َو ّد لو �أن يفعل �شيئا هو الآخر ،ثم ح�سم �أمره وقام بحزم ورمى ما كان يف
خارجا� ،إىل �سفح جبل ال�صفا ،وبني عينيه مهمة واحدة. يده من �أ�سهم ،وتوجه ً
قليل عن بقية البيوت، عند �سفح ذلك اجلبل كان هناك بيت متجنب ً
ي�سكنه فتى واحد يتيم ،لي�س له ذكر يف القوم وال �أهمية� ،إال �أنه �أرقم ،والأراقم
هم �أ�صحاب العيون املل َّونة ال�ضيقة ،فتى من رقمته يقال له الأرقم ،مل يجاوز
ال�سابعة ع�شرة ،وحيدً ا يعي�ش يف بيت كامل ُمنزَ ٍو حتت جبل ال�صفا ،وال �صاحب
له يف القوم �إال فتى من �سنه ُيدعى «�سعد بن �أبي وقا�ص» ،ولقد ر�آه يف ذلك اليوم
� ٍآت عليه ويف عينيه حديث كثري.
266
�أتاه «�سعد» ف�أخرجه من بيته وك َّلمه وكلمه عن اهلل ور�سول اهلل و�سفاهة ما
ي�صنع القوم ،فان�شرح �صدر الفتى ،ف�أتى �إىل النبي امل�صطفى ف�أ�س َلم ،وخرج
به «�سعد» مي�شي معه �إىل ذلك ال�شعب الذي كان «�سعد» يحبه� ،شعب �أجياد،
�أول مكان وقعت فيه عينه على ر�سول اهلل ،فوجدا رجاال ي�صلون ..قال «�سعد»:
يا �أرقم ه�ؤالء �أ�صحاب ر�سول اهلل ،ف�صلوا معهم و�أ َن�سوا بهم ..لكن �صوتًا
ع
�أتى على �آذانهم وهم ي�صلون� ،صوت ِ�صبية �أجالف ،ي�ضحكون ويت�ضاحكون،
ص
دخلوا على ال�شعب فوجدوا �ص ًفا من ال�ساجدين ،ف�سكتت �ضحكاتهم حلظة،
ال ري
ثم �ضجوا وا�ست�ضحكوا وت�ساقطوا على الأر�ض ثم تك َّلموا وملزوا وتهكموا ،عن
�صف الدافنني ر�ؤو�سهم يف �أدمي الأر�ض ،فلما فرغت ال�صالة قام «�سعد» ووجهه
ت ك
تفجر من الغ�ضب ،وتهاو�ش مع ال�صبية و�أم�سك بهم و�أم�سكوا به ومل يجد �أحد ُم ِّ
ب
وقتًا لف�ض العداء ،ف�إن �سعدً ا قد انحنى على الأر�ض فرفع عظام فك ملقاة
ش
�أ�صحابه ،وكان هذا من �أعظم اخلطر على تلك الفئة امل�سلمة القليلة التي تن�ش�أ
و ر
الت
يف جمتمع قري�ش ،خطر الدم.
و
وعادوا مبا فعلوا �إىل ر�سول اهلل ،وحتدثوا وتفكروا ..لكن الأرقم ذو ال�سنني
يع ز
ال�سبعة ع�شر عر�ض له يف خاطره �أمر� ،أن تعالوا �إىل بيتي جميعا �إذا �أردمت �أن
جنتمع بر�سول اهلل ،ولنجتمع كل يوم �أ َّنى ِ�شئتُم لأي مدة �شئتم ،و�إن بيتي خري
لكم ،ف�إنه متنح عن بقية البيوت عند �سفح اجلبل ،ولئن �شوهدمت ما�ضني �إليه
وعائدين من عنده فلن ي�أبه بكم �أحد ،فك�أنكم ذاهبون �إىل ال�صفا ،ولي�س يف
بيتي ن�سوة وال عيال ...وظ َّل ُيحدثهم حتى ا�ستح�سنوا ر�أيه و�أقره النبي املجتبى،
فكانت تلك الدار يف �سفح اجلبل هي جمتمعهم وم�ؤتلفهم ،ويف و�سطهم ر�سول
اهلل ،يجل�سون �إليه وعيونهم ال ترتفع وظهورهم ال تتكيء ،ي�سمعون �إىل الهدى،
ف�إذا حتدث مدت �أعناقهم وتبادرت �آذانهم ،و�إذا �سكت �أطرقوا ..يتلوا عليهم
�آيات بينات ت�صفو لها نفو�سهم وت�سموا لها �أفكارهم ،ف�إذا خرجوا وجدوا قومهم
يف التالهي ،تت�سافل �أفكارهم وذقونهم حتت ال�صنم واحلجر ،ف�إذا عادوا �إىل
ر�سول اهلل تن َّورت نفو�سهم وقلوبهم.
267
وك�أن تلك الدار بعثت نو ًرا ،ف�أ�سلم فيها �ضعف الذين �أ�سلموا قبلها..
يوما بعد يوم ،ي�أتي كل يوم �إىل جمتمعهم م�ؤمن جديد ،حتى وظلوا يزدادون ً
امتلأت بهم �أركان بيت الأرقم وبلغوا ال�ستني رجال وامر�أة ،وظلوا يزدادون حتى
نزل الأمر لر�سوله من فوق �سبع �سماوات ،الأمر املنتظر ،بعد ثالث م�ضني من
ال�سنني على نزول «جربيل» عليه يف الغار ،وبعد �سنة �أو تزيد من دخوله دار
َ
ع�شريتك الأقربني ..وكان هذا يعني البداية؛ الأرقم ،نزل �أمر اهلل؛ �أن � ِأنذر
ع
بداية الر�سالة ،واملواجهة.
صري ال z
ت ك
ب نل
ل
شر
وال وت
زيع
268
َ
ورقدت على ذلك الفرا�ش الذي لك، أعتمت من حولك كل نور، َ
خلوت �إىل نف�سك ،و� َ �إذا
فاذكر �أنني هنالك� ،أر ُقد على نف�س الفرا�ش� ،أدور يف نف�س احلجرةُ � ،
أنظر �إليك� ،أحتني تلك ُ
ع
ال�سهوة التي ت�أتيك ،لأنق�ض على جمامع �صدرك.
ريص
ال
ظن الإن�س �أنا نقدر على قراءة �أفكارهم بينما يفكرون بها ،ظن الإن�س �أنا نطلع على
خواطرهم العفنة ،و�إن الإن�س يف حمق وخبال عظيم� ،إن �شيئًا بداخل فكرك وعقلك ال
ك
كبدا على
لتي�س لنا �أن جنعل حياتك ً
يقدر جني على �أن ي�ستظهره� ،إن كنا نقدر على هذا َّ
ت
كبد ،وملا هن�أت بفكرة �إال �أتيتك بنقي�ضها ،لكن هذا َوهم� ،إنا فقط نراقبك ونحلل تعابريك
ش
وتنفذها ورمبا تتجاهلها ،دع عنك كل خمبول يظن فينا غري هذا الظن.
و ر
ثكم عنا �أحاديث و�أحاديث ..حدثكم عن تفا�صيل يف حياتنا حتريت فحد ُ
جاءكم «حممد» َّ
و الت
اجلن كيف ا�ستعلمها ،كثري من اجلن �إذا كان ي�سمع ويرى «حممد» ،ف�إنه ُي�سلِم من فوره ،بل
يع ز
ويهرع �إىل عبده ال�ساحر الذي تلوثت حليته بالنجا�سة لأجله ،فيخربه عن «حممد» ،ف ُي�سلم
حممدا كان ُيخرب عن اجلن مبا
ال�ساحر بدوره ...هكذا كانوا ،عتاة من �أبال�ستنا مل يتحملوا ،لأن ً
ي�ستحيل �أن يعرفه �أحد �إن�سي �إال �أن يكون نب ًيا.
حتدث و�أمر النا�س �أن يكفوا �صبيانهم و�أن يدخلوهم للبيوت بعد الغروب ..ف�إذا ذهبت
�ساعة من الليل فيخلوهم ،لأن ال�شيطان ينت�رش �ساعة الغروب ،هكذا قال بالن�ص ،من املمكن
�أن يظن كل �أحد �أنا خملوقات مرعبة ت�ستفيق يف الظالم ،لكن �أن يحدد �ساعة واحدة بعد
الغروب ،فهو �أمر �شديد اال�ستحالة ،كيف عرف �أهمية تلك ال�ساعة ،نحن ننام طاملا كان
يف الدنيا نور من ال�صباح ،ف�إذا نزلت ال�شم�س وحدث الغروبُ ،قمنا من مراقدنا وانت�رشنا
يف الأر�ض ،مثلما تنت�رشون �أنتم يف ال�صباح �إىل معا�شكم ،اجلن ينت�رشون يف مدائن اجلن ،لكن
حتديدا يف تلك
ً ال�شياطني �أمثالنا املوكلون ب�إ�ضاللكم ،ف�إنهم ينت�رشون يف مدائن الإن�س،
ال�ساعة ،حتى ي�ستقر كل �شيطان �إىل وجهته وهدفه.
أفواجا من جند الأمري
وال�صبيان الذين جاوزوا احللم جميعهم ال قرناء لهم ..و�إن منا � ً
269
تنزل �إىل املدائن يف كل يوم تبحث عن �إن�سي من ال�صبيان تكون له قرين ،ورغم �أن هذه
مهمة مقد�سة يتطوع كثري منا لعملها� ،إال �أن كث ًريا منا �إمنا يفعل هذا ملا يح�صل عليه من رغد
من الأمري و�سمات ،وهبات ل�ست تدريها وم�آثر وحباء ،وكثري منا يفعل هذا لأجل املال ..و�إن
فيها ثروة ل�ست تدريها ،نتحني ال�صبيان فيتخذ الواحد منا لنف�سه �صب ًيا ،يلزمه ال يفارقه،
�سنوات طوال حتى ميوت الإن�سي.
ع
نو�سو�س له ومن�سه حتى ن�ستميله �إىل طريق اخلباثة ،ف�إذا ا�ستلم ذلك الطريق و�سار
ص
فيه حثي ًثا ،تروح الواحد منا وغاب عنه وتنعمنا مبالنا وثرواتنا وعطياتنا من الأمري ،وننظر
ال ري
�إىل قريننا كل حني ،ف�إذا ر�أيناه قد تاب عدنا له ومكثنا عنده حتى نرديه �إىل طريق الردى،
وهكذا مت�ضي حياتنا!
ت ك
ينهى �أ�صحابه �أن ُي�ص ُّلوا �ساعة ال�رشوق و�ساعة الغروب ..يقول �إن ال�شم�س
«حممد» كان َ
ل ب
تغرب بني قرين �شيطان،يف ال�رشوق تطلع بني قرين �شيطان ،وي�صلي لها الكفار ،ويف الغروب ُ
ن ل
وي�صلي لها الكفار ..هذا �شيء جعلني �أنا نف�سي �أ�رضب ك ًفا بكف! ،القرن يف العرب يعني
ش
الأمة ،يقول «حممد» �أن ال�شم�س ملا ت�رشق يف مكة وما حافها من مدن اجلزيرة ف�إنها ت�رشق بني
و ر
الت
�أمتي �شيطان ،و�إذا غربت ف�إنها تغرب بني �أمتي �شيطان ،وهو �شيء حمري ،ففي نف�س �ساعة طلوع
و
ال�شم�س على مكة ،فهي تطلع على �أمتني ي�سكنون �شمال جزيرة العرب؛ الأمة الأوىل القوط
يع ز
وهم �شعب منت�رشين يف امرباطورية الروم يعبدون الإله دازبوك �إله ال�شم�س ،يعبدونه منذ
عهود قدمية ،وملا �أتت امل�سيحية �أ�صبحت تقول على دازبوك �أنه �شيطان من �أقوى �شياطني
اجلحيم ،ودازبوك حقا �شيطان له حلية عظيمة ويرتدي الفراء ،فالقوط هم قرن ال�شيطان
الأول.
الأمة الثانية هي الفر�س ..يعبدون �إله ال�شم�س هافارا ،وهو نف�سه دازبوك �شيطان القوط
ا�سما �آخر ،ملثل هذا �أ�سلم ملحمد من اجلن كثري ..كان من امل�ستحيل
�سموه ًلكن الفر�س ُّ
�أن يذكر �أ�شياء مثل هذه وكل خربته يف الرتحال رحلة واحدة �إىل ال�شام وعمره فيها ال
يتجاوز ال�سنوات ال�سبع.
خب النا�س ب�أمور و�أمور ..يكفي �أن �أخربك ب�أن قرين «حممد» نف�سه قد
ر�أينا «حممد» ُي ِ
�أ�سلم ،كل هذا ومل يكن �شياطني الأمري قد تو�صلوا ملحمد ،حتى حان ذلك احلني..
z
270
()11
انقذوا
أنفسكم
من النار
يف ناحية من الأر�ض لي�ست ُترى ..وقف ُمك َّب ًل ب�سال�سل من �ضياء ،وفوقه
قباب وقباب ،وكل فكره وروحه عند ر�سول اهلل ،فلم ي�ستوعب كل هذا ،مي�شون
به بني ال�صرح والبنيان ،يف حمل هو ذعر لكل جن ،حتى انتهوا به �إىل من�صة
ع
دوارة ،حولها درجات ودرجات ،عليها مقاعد خالية ،ثم تركوه وحده وان�صرفوا..
ص
فم�ضى بعينه حواليه بال اكرتاث ،حتى �شهد نزولهم� ،أنوار تنزلت يف الظالم
ال ري
حتى حط كل نور منهم على مقعد ،ور�أى عيونهم فعرفهم� ،إنهم الق�ضاة ،القهرة
الزبانية ،ودارت به املن�صة وك�أنها ت�ستعر�ضه �أمام وجوههم.
ت ك
قال قائل منهم :عمرو بن جابر بن طارق ،من �أجنان �سب�أ� ،أمل ت ُكن منا
ن
خطوب و�أحداث كانت يف �شبابه� ،أيام كان يرتدي لبا�سهم ،وا�ستذكر ما كان
ر ش
يج ُّب ما
فتخ�شب وجهه من الكدر ،ثم تذكر �أن الإ�سالم ُ يفعل من �إثم وخطيئةَّ ،
الت و
قبله ،فوقف ثابتًا �أمامهم ،ثم خطر عليه ما كدره ،لقد متنى �أن يراه ر�سول اهلل،
و
�إن كان �إعدامه هاهنا ف�إن هذا لن يكون له ولن ينال هذا ال�شرف ،لكنه كتمها
يع ز
يف نف�سه ووقف بثبات ..ثم تكلم املتكلم وقال :ق�ضى ق�ضا�ؤنا �أن حتفك هاهنا
يكون ،و...
قاطع «عمرو بن جابر» املتك ِّلم ،لقد �شع َر �أنه يجب عليه �أن يفعلها ،طاملا هو
�إىل نهايته ما�ض.
ويف و�سط اجلوداكيوال ،بني الق�ضاة والزبانية ..رفع «عمرو» �صوته و�صاح:
يا بني �إبلي�س �إن الوقت قد �أزف ،و�إين قائلها فا�سمعوا� ،أل�ستم ملا �صعدمت �إىل
را�ض
�أعايل ال�سماء ت�سمعون اخلرب� ،أتاكم حظكم من ال�شهاب الثاقب� ،آهلل ٍ
عنكم يا بني �إبلي�س؟ ف�إن كان را�ض ًيا فلماذا ُيعذبكم� ،ألي�س �سفيهكم �إبلي�س
يق�ضي �سنونه منذ ذلك احلني وهو ال يدري ما اخلرب وال �أين النبي� ،آهلل را�ض
عنك يا �إبلي�س؟ �أومل تتفتق �أذهانكم عن فكرة واحدة تزيل من على عيونكم
عماها� ،أفيخلق اهلل ب�شرا ثم يرتكهم هكذا بال �أنبياء وال ر�سل� ،آهلل ظامل �أم
عادل؟ �أم �أنه عدل عليكم وظ ُلوم عليهم؟
273
مل ي�سمع ردًا وك�أنه ال �أحد معه ،فنظر �إىل عيونهم ،ومل يهتد منها �إىل �أي
تعبري ،ثم فج�أة برزت على ج�سد «عمرو» خيوط طلعت من الأر�ض وت�س َّلقت على
ج�سده حتى ك َّبلته ،ثم قب�ضت عليه ف�صرخ و�سقط على ظهره ،لقد كان يعرف،
يعرف �أنها النهاية.
z
ع
كانت ليلة يف بيت الهادي ..ليلة �أذن له ربه �أن يجهر ويقولها عالنية ،ويبد�أ
ص
الرحلة ،رحلة ختام النبوات كلها؛ فدعا الكرمي ذو اخللق الكرمي «حممد» ابن
ال ري
عمه العلي ذو الذكر العلي« ،علي بن �أبي طالب» ،ويومذاك ما كان قد �أمت الرابعة
ع�شرة ،قال له :يا علي ،ا�صنع رجل �شاة ب�صاع من طعام واجمع يل بني ها�شم..
ت ك
رجل وامر�أة ،دعاهم فعمل البهي العلي ذلك ودعا بني ها�شم وهم يومئذ �أربعني ً
ل ب
على رجل �شاة واحدة ال تكاد تكفي خم�سة نفر ،كان هذا �شيء عجاب ،لكن عل ًيا
ن ل
ِفعل كما �أمر النبي الهادي ..وح�ضر ثالثون ً
رجل �إىل البيت ويف ح�سبانهم �أنها
ش
م�أدبة ،فلما قعدوا قدمت لهم �سفرة تبدو كطعام ي�سري ،فجالت فيها عيونهم ثم
و ر
نظروا �إىل بع�ضهم ،ودعاهم �أهل البيت بثقة �إىل بدء الطعام ك�أن ما يف ال�سفرة
الت
يكفي ،فم َّد القوم �أيديهم يف ُّ
حت�شم لي�أكلوا ،وك�أن بع�ضهم �شعر باالنتقا�ص� ،أن
ز و
يدعى �إىل مثل هذا وك�أن هذا قدره وحجمه ،ومل يكن هذا حممودًا عند العرب،
يع
لكن �أياديهم ملا مدت �إىل الطعام اختلف كل �شيء.
كان الرجل منهم ي�أخذ من اللحم والإدام في�أ ُكل كيفما ا�شتهى ثم ُ
ينظر �إىل
فتب�سموا بتعجب ومدوا �أيديهمما �أمامه من طعام ف�إذا هو كما بد�أه �أول مرةَّ ،
ومدوا و�أكلوا وتنبهوا لعل عيونهم تخدعهم ،حتى بلغوا ال�شبع ..قال «�أبو لهب»:
َ
ك�سحرك هذا الذي �أريتَنا يا«حممد» ..مل ي ُرد عليه النبي ،فلما ما ر�أينا �سح ًرا
فرغ احلا�ضرون من طعامهم دعا النبي «علي بن �أبي طالب» �أن ي�أتي ب�أقداح،
ف�أتى بها علي فو�ضعها �أمامهم و�صب لهم فيها اللنب ف�شربوا حتى ارتووا ،والقدح
الكبري يف يد «علي» مل ينق�ص منه �شيء ،فنظر بع�ضهم �إىل بع�ض ،فقال «�أبو
لهب» :ما ر�أينا كهذا ال�سحر ..ثم جل�س �إليهم ر�سول اهلل وقبل �أن يتك َّلم بكلمة
قال «�أبو لهب»:
ه�ؤالء عمومتك وبنو عمك فتك َّلم مبا تريد ودع ال�صباة ،واعلم �أنه لي�ست
لقومك بالعرب قاطبة طاقة ،و�إن �أحق من �أخذك فحب�سك �أ�سرتك وبنو
274
�أبيك �إن �أقمت على �أمرك هذا ،ف�إنه واهلل �أي�سر من �أن تثب بك بطون
قري�ش ومتدها العرب.
ف�سكت النبي الهادي ومل يتكلم ،لكنه �أعاد عليهم الدعوة �أن ي�أتوه بعد �أيام
رجل ..فابتد َرهم وقال: ف�أتوه كلهم بل زادوا فكانوا خم�سة و�أربعني ً
يا بني عبد املطلب� ،إين واهلل ال �أعلم �شا ًبا من العرب جاء قومه ب�أف�ضل
ع
مما جئتكم به� ،إين قد جئتكم بخري الدنيا والآخرة ،و�إن الرائد ال يكذب
ص
�أهله ،واهلل الذي ال �إله �إال هو� ،إين لر�سول اهلل �إليكم خا�صة و�إىل النا�س
ال ري
بعامة ،ولقد ر�أيتم من هذه الآية ما ر�أيتم ،واهلل لتموتن كما تنامون
ولتبعثنَّ كما ت�ستيقظون ولتحا�سنب مبا تعملون ،ولتجزون بالإح�سان
ك
�إح�سا ًنا وبال�سوء �سو ًءا ،و�إنها للجنة �أبدً ا والنار �أبدً ا ،و�أنتم لأول من �أنذر،
ت
ف�أيكم يبايعني على �أن يكون �أخي و�صاحبي؟
ش
املحمود «حممد» مبفاج�أة �أعظم ،ولقد �أراهم من بني �أيديهم �آي ًة جلية وا�ضحة،
ر
وما كانوا قد جربوا عليه �سح ًرا �أو َله ًوا من قبل وهو فيهم م�صدق حممود،
الت و
لكن �أحدً ا منهم مل ُيجبه� ،إال واحدً ا فقط قال ب�صوت واثق� :أنا يا ر�سول اهلل..
و
فنظروا ف�إذا هو «علي بن �أبي طالب» ،قال له ر�سول اهلل :اجل�س ..ثم حت َّول
يع ز
�إليهم النبي وقال:
من ي�ض َمن عني ذمتي ومواعيدي وهو معي يف اجلنة؟
قال عمه «�أبو طالب»:
ما �أحب �إلينا معاونتك ومرافدتك و�أقبلنا لن�صيحتك و�أ�شد ت�صديقنا
حلديثك ،وه�ؤالء بنو �أبيك جمتمعون و�إمنا �أنا �أحدهم ،غري �أين �أ�سرعهم
فام�ض ملا �أُمرتَ به ،فواهلل ال �أزال �أحوطك و�أمنعك. �إىل ما حتب ِ
ثم حت َّول النبي �إليهم وقال:
�أيكم يق�ضي عني حملي ويكون خليفتي يف �أهلي؟
ف�سكت القوم كلهم �أجمعني ،وقال «علي بن �أبي طالب»� :أنا يا ر�سول اهلل.. َ
فقام له ر�سول اهلل و�ضرب بيده على يده وقال له:
أنت يا علي� ،أنت يا علي. � َ
275
بنف�س ذات لهب:
فقال «�أبو لهب» ٍ
هذه واهلل ال�سو�أة ،يا بني عبد املطلب خذوا على يديه قبل �أن ي�أخذ على
يده غريكم ،ف�إن �أ�سلمتموه حينئذ ذللتُم ،و�إن منعتموه قتلتم.
فاحتد عليه «�أبو طالب» وقال:
واهلل لنمنعنه ما بقينا.
ع
فقال �أبو «لهب» هازئا:
ريص
ال
�إن كان كالم ابن �أخي ح ًقا ف�إين �أفتدي نف�سي يوم القيامة من العذاب
مبايل وولدي.
ت ك
ثم قام القوم وان�صرفوا ..فلما طلع ال�صباح انطلق ر�سول اهلل �إىل ر�ضمة من
ب
جبل ال�صفا ،فعال �أعالها حج ًرا ثم فعل �أم ًرا هو حذافري الآية� ،أنذر ع�شريتك
ش
و�سع من دائرة القرابة ،الأقرب فالأقرب ،فو�ضع النبي حماية له ،كان البد �أن ُي ِّ
ر
يده على �أذنه ونادى وقال:
الت و
و
يا بني عبد مناف ،يا بني مرة بن كعب ،يا بني عدي بن كعب ،يا بني
يع ز
كعب بن ل�ؤي ،يا بني فهر بن مالك...
وظ َّل ُيعدِّ د بطون ن�سبه ال�شريف كلها ..من عبد مناف بن ق�صي بن كالب بن
مرة بن كعب بن ل�ؤي بن غالب بن فهر بن مالك ،يعني الأقربني فالأقربني من
الع�شرية ..فر�آه النا�س فقالوا من هذا الذي يهتف ،قالوا هذا «حممد» ..فاجتمع
�إليه رهط كثري من قرابته وع�شريته الأقربني ومن كان غائبا �أر�سل من ينوب عنه
لي�سمع من «حممد» ،حتى امتلأ �سفح جبل ال�صفا بالنا�س ..فوقف البهي املنري
العري�ض املنكبني «حممد» على ر�ضمة اجلبل يف ذلك اليوم وع�شريته ينظرون
�إليه وي�ستنظرون منه القول ومل يكونوا قد اعتادوا على هذا من «حممد» ..فوقف
لهم ال�صادق الأمني والنور من طلعته قد غ�شى كل نور ،فقال لهم:
يا �صباحاه.
وال�صبح ما �أ�سفر على خري من «حممد» ،فر ُّدوا عليه حت َّيتَه ..فقال لهم:
خيل تخ ُرج من �سفح هذا اجلبل تريد �أن تغري �أر�أيتُم �إن �أخرب ُتكم �أن ً
عليكم� ،أكنتم م�صدقي؟
276
قالوا :ما ج َّربنا عليك كذبا قط ..فقال:
فيا مع�شر النا�س� ..إين نذير� ،إمنا َم َث ِلي َو َم َث ُل ُك ْم َك َم َث ِل رجل ر�أى ا ْل َع ُد ّو َ،
فانطلق َي ْر َب�أُ �أَ ْه َلهُ ،فخ�شي �أن َي ْ�س ِب ُقو ُه ،فجعل يهتف َيا َ�ص َب َاحا ُه ،يا مع�شر
النا�س� ،أال �إين نذير لكم� ،أال �إين نذير لكم...
بع�ض ثم نظروا �إليه فقال: بع�ضهم �إىل ٍفنظ َر ُ
ع
�إين قد جئتكم ب ِع ِّز الدنيا و�ش َرف الآخرة� ،أيها النا�س� ،إين ر�سول اهلل
ص
�إليكم ،و�إين نذي ٌر لكم بني يدي عذاب �شديد.
ال ري
فا�ستعجبوا وانده�شوا! .ثم نظر �إليهم يف موا�ضعهم مو�ض ًعا مو�ض ًعا وقال:
ك
يا بني كعب بن ل�ؤي� ،أنقذوا �أنف�سكم من النار ..يا بني مرة بن كعب،
ت
�أنقذوا �أنف�سكم من النار ..يا بني عبد �شم�س� ،أنقذوا �أنف�سكم من النار.
ش
يا بني عبد مناف� ،أنقذوا �أنف�سكم من النار ..يا بني ها�شم� ،أنقذوا
و ر
�أنف�سكم من اهلل ..يا بني عبد املطلب� ،أنقذوا �أنف�سكم من النار ..ف�إين
و الت
ال �أم ِلك لكم �ض ًرا وال نف ًعا.
يع ز
ثم نظر �إىل �أهله وقال:
نف�سك من النار ،ال �أغني عنك من اهلل �شي ًئا ..يا عبا�س يا فاطمة� ،أنقذي ِ
بن عبد املطلب ،ال �أغني عنك من اهلل �شي ًئا ..يا �صفية عمة حممد ،ال
�أغني عنك من اهلل �شي ًئا ،غري �أن لكم رحما �س�أبلها بباللها.
ثم تك َّلم «�أبو لهب» ونف�ض يديه وقال ب�صوت عال وقال:
لك �سائر اليوم� ،أما جمعتنا �إال لهذا؟ ت ًّبا َ
ثم قام وان�صرف ..وان�صرف النا�س الن�صرافه من �أمام ر�سول اهلل ،فقد
كان من �سادة بني ها�شم.
z
ْ َُُ َ َ ْ َٰ َ ً َ َ َ َ َ َّ ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ٰ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ
ب * َوام َرأته
ل نارا ذات له ٍ ن عنه مالُ َوما كس َب * سيص ب وتب * ما أغ ﴿تبْت يدا أ ِب له ٍ
َ َ ْ ٌ ِّ َّ َ
ال َط ِب * ِف ِجيدِها حبل من مس ٍد﴾ نزلت من فوق �سماوات �سبع على ر�أ�س رجل حالَ َة َ
َ َّ
وامر�أة ،مل تنزل كيدً ا وال ردًا لتب؛ �إمنا نزلت �إعال ًنا و�إعجا ًزا �أن هذا الرجل
277
واملر�أة �سيعي�شان وميوتان ولن ي�ؤمنا ولو �آمن كل من يف الأر�ض ،وملا بلغهما ما
�أنزل اهلل وهما يف بيتهما وابنيهما �أمامهما ،قالت �أم جميل العوراء البنها :ط ِّلقا
بنات حممد ف�إنهما �صابئتني ولآتينه بعد حني ..و�أبدى ال�شابني بع�ض �إ�شارات
االعرتا�ض فهدر «�أبو لهب» ب�صوته وقال :ر�أ�سي من ر� َأ�سيكما حرام �إن مل ُتط ِّلقا
ابنتيه.
وتلففت العوراء بردائها وخرجت وحم َلت يف يدها حج ًرا �صل ًبا ،فجاءت �إىل
ع
النبي وهو جال�س عند الكعبة ومعه «�أبو بكر» ،قال له «�أبو بكر» :يا ر�سول اهلل
ريص
�إنها امر�أة بذيئة و�أخاف �أن ُت�ؤذيك فلو قمت ..قال له النبي� :إنها لن تراين!.
ال
فا�ستعجب «�أبو بكر» و�سكت.
ك
فت�سارعت
َ تنظر هنا وهناك حتى ر�أت «�أبو بكر» ف�أقب َلت يف �صحن الكعبة ُ
ت
تنظر �إليه وتنظر حواليه ،قالت له :يا �أبا بكر ف�أين ينظر لها ،فر�آها ُ
�إليه وهو ُ
ش ن
لها «�أبو بكر» :ال �إنه مل يهجوك ..قالت� :أنت عندي ُم�ص َّدق ..ثم ا�ستدارت
ر
ُمن�صرفة ،لكنها التفتَت �إليه وقالت :و�أمي اهلل �إين ل�شاعرة و�إن زوجي ل�شاعر،
الت و
ف�سقطت، َ فتعثت يف ردائها ولقد علمت قري�ش �أين بنت �سيدها ..ثم ا�ستدارت َّ
و
مذمما �أبينا ودينهً مذم،
فتربمت وقالت :تع�س مذمم ،ما هو مبحمد و�إمنا َّ
يع ز
قلينا و�أمره ع�صينا ...وان�صرفت بعوار قلبها.
ويف ظهرية اليوم انطلق «عتيبة بن �أبي لهب» �إىل ر�سول اهلل وكان فتى غن ًيا
رائ ًقا ،فط َّلق «�أم كلثوم» بنت ر�سول اهلل ،ويف امل�ساء �أتى «عتيبة بن �أبي لهب»،
فاح�شا ،فدخل على ر�سول اهلل بعلو ال�صوت ،وكان القر�آن ذو البيان وكان فتى ً
ينطق عن يتلى فيقال ..والنجم �إذا هوى ،ما �ضل �صاحب ُكم وما غوى ،وما ِ
وحي يوحى ،ع َّلمه �شديد القوى ،ذو ِم َّر ٍة فا�ستوى ،وهو بالأفقالهوى� ،إن هو �إال ٌ
الأعلى ،ثم دنا َّ
فتدل ،فكان قاب قو�سني �أو �أدنى...
حكاية عن �شديد القوى «جربيل» الذي علم الوحي ،ودنا فتدىل واقرتب وبلغ
أم�سك النبي من الكالم �إىل احلبيب املحمد ..لكن «عتيبة» دخل و�سط كل هذا ف� َ
فتدل ،و�إنقمي�صه و�ش َّده حتى ان�شق بع�ضه ،وقال له� :إين كفرتُ بهذا الذي دنا َّ
احذر ال ي�أكلك كلب اهلل ..فوجم «عتيبة» َ
وتفل ابنتك طا ِلق ..فقال له النبيَ :
تفل ًة وانطلق.
278
ومت ُّر �أيام اهلل ..ويخ ٌرج «عتيبة» يف جتارة �إىل اليمن يف نفر من �أ�صحابه،
ففر�شوا وناموا يف قطعة من الطريق ،ويخرج ليث ك�أنه ان�شق من بطانة
الأر�ض ،فجعل ي�ستن�شق ر�ؤ�سهم حتى �سحب «عتيبة» من خباءته ف�صرخ و�صرخ،
فا�ستيقظ ال�شباب النيام وفزعوا وهربوا وبقى «عتيبة» بني �أ�سنان �شيء ال يدري
� َ
أتنه�ش فيه من ُج ٍوع �أم من نقم.
z
ص ع
ثالثة زنازين متقابلة مقامة بهند�سة ب�أبعاد �أخرى ..و�إن للزنازين �صدى
ال ري
و�إن كانت لدى اجلن ،ي�سكنها ثالثة ممن تداول اجلن �س َريتهم فكانت ً
تاريخا،
«عمرو بن جابر» و«�إزب بن �أزيب» ،و«ما�سا هارينا» ،كان «�إزب» ير ُقد يف ٍ
�سبات
ك
بني ظالل ت�صدرها �أ�ضواء زنزانته ،فقام «عمرو» ً
ناه�ضا ،ف�أ�صدر �إ�شارة «ملا�سا»
ت
فقامت من مرقدها وي�أ�سها فنظرت له فانفرجت �أ�سارير جمالها ..هم�س لها:
ل ب
�إين ر�أيتُ حممدً ا ،و�إنه واهلل ملحمد ،وجهه حممد وكل �أَ ِ
ل
مره حممد ،و�إن �ضياءه
ن
بالغ �أقمار الإن�س واجلن ..ا�ضطربت �أ�ساريرها حلظ ًة ثم ر َّقت عيناها ،ونظرت
ر ش
ناح َية زنزانة «�إزب» فوجدته راقدً ا غري �سامع ..قالت :وهل بعثه اهلل ح ًقا؟ قال:
الت و
نعم بعثه اهلل ،و�إنه لأح�سن من كل الب�شارات التي �سمعنا بها ،ب�ضعة �سطور كنا
و
نتجرعها ال ت�سمن وال تغنى من جوع� ،أما َمر�آه فهو �أمر ال ت�صوغه الكلمات.
يع ز
كانت «ما�سا» ال تدري مل هذا ال�شوق الذي يف نف�سها �إىل «حممد»!� ،أفمن
م�شاهد ر�أتها؟ ماذا �إن ر�أته ر�أي العني؟ امل�ستعجب �أن عقلها الزال على ب�ضع ِ
عقيدة اجلن ور�سالة «�إبلي�س» ،لكن فيها �شوق ال يدريه �إال من ي�س ُكن فيه ،ثم
تذ َّكرت �أنها هنا يف هذا املكان البارد ،فلن ترى �شي ًئا ..قال لها «عمرو» :هلم
يا غادة ن�صيبني� ،إنا خارجون من هنا ..نظ َرت �إليه بي� ٍأ�س وقالت :لي�س لنا من
تب�سم بوجهه الو�سيم الواثق وقال لها :بل �إن اخلروج ي�سري ،وال هاهنا خروجَّ ..
أنت.
بك � ِ
يكون �إال ِ
ب�صوت خفي�ضٍ لفت حديثه نظرها فانتبهت �إليه؛ كان يتح َّدث وي�شرح َ
تنظر له وتنظر ُمف ِّكرة �إىل ناحية من النواحي، وكلمات �سريعة واثقة ،وهي ُ
حتى �أ�سرتها خطته وختم ً
قائل :واهلل ال يكون ر�سول اهلل يف مكان و�أنا ُملقى يف
غياهب هذا املكان.
فا�ستع َّدت وجت َّهزت حتى ا�ستحكمت من �أمر نف�سها ثم قررت فنفذت..
و�صرخت �صرخ ًة �أليمة �صحا لها جنون اجلوداكيوال كلهم �أجمعني هم ومن
279
أهل للفزع ،فجاء لها من جاء من اجلن فزعا ولي�س � ً وراءهم! ،و�صحا «�إزب» ً
للح َك َمة بكل �شيء ،وكان
واملردة ي�س�ألونها عن اخلرب ،قالت �إين �أريد �أن �أعرتف َ
ويبت�سم ب�سمة خف َّية.
«عمرو» ينظر لها ِ
z
حياك ودًا ،حياك ودًا ،حياك ودًا ف�إنه ال يحل لنا ،لهو الن�ساء �إن الدين قد
ع
عزما
ً
ص
يج ّرونترتيل ،مي�شون بها يف الربية ،رجال حماربني من قبيلة كلبُ ، رتلوها ً
ال ري
وراءهم �سبيهم من حربهم الأخرية ،رجال ون�ساء مغلولني غال ،م�أ�سورين من
غارة �أغارها جمرمو بني كلب على م�ساكنهم ،ومل تكن م�ساكن عادية ،بل كانت
ت ك
ق�صو ًرا ،وبع�ضهم ا�شرتتهم كلب من جمرمني �آخرون ،وم�شت كلب يف الرباري
ب
وعبيدهم وراءهم والأ�سارى ،بينهم �شاب ذو وجه م�ألوف ،خم�ضو�ضر العني
ش
ين�شدون حوله للإله ود ،وهو يذ ُكر �أمو ًرا �سمعها من رهبان اجلبل ،عن �إله �آخر،
ر
واحد خالق لي�س كمثله �شيء ،وعن نبي زاهر يخ ُرج يف غفلة من الأر�ض� ...أمور
الت و
جعلته ين�أى بروحه عن عبادة النار �إىل عبادة خالق النار ،ثم �أغم�ض عينيه
و
وتذ َّكر ما م َّر معه من م�شاهد قبل �أن ي�أتي �إىل هنا.
يع ز
م�أ�سور بجواره �شاب قريب من عمره� ..أحمر ال�شعر حاد الق�سمات ،ا�سمه
«�صهيب» ،له ق�صة �أ�شد من ق�صة «�سلمان» ،وكانت الطريق طويلة ،فكلب
م�سافرة عائدة �إىل �أر�ضها عرب ال�صحاري بعد عدة حمالت غازية ،فطر�أت
رفقة بني «�سلمان» و«�صهيب» ذو ال�شعر الأحمر ،وكان «�صهيب» �صاحب عجمة
يف ل�سانة يتحدث العربية بلك َنة �أجنبية ،وكذلك كانت يف «�سلمان» عجمة ل�سان
فار�سية ..قال «�سلمان» :ماذا رمى بك �إىل كلب يا رفيق؟ قال «�صهيب»� :إين
ابن �أمري يف بالد فار�س ،كنت �أعي�ش يف ق�صر والدي بقرية على �شط الفرات،
عدا علينا الروم وغزو �أر�ضنا وم�ساكننا و�أخذوين من ق�صري وقتلوا �أبي ثم َ
و�أمي و�أ�سروين �أ�سرا �إىل بالد الروم ،كنت �صغ ًريا يتي ًما �أو�ضع حيث ي�ضعوين،
فجعلني الروم عبدً ا �أباع و�أ�شرتى ،و�أعمل يف منازلهم وق�صورهم ،حتى باعني
�أحدهم يف ال�شام �إىل رجل من قبيلة كلب ..رفع «�سلمان» حاجبه وقال� :إذن �أنت
فار�سي مثلي ..قال له «�صهيب» :بل �أنا عربي من قبيلة النمر ،و�إن �أبي كان �أم ًريا
لك�سرى يف ناحية من بالد العراق.
280
قال «�سلمان»� :أما �أنا ف�إين فار�سي من �أبناء الفر�سان يف بالد فار�س ،و�إن
يل ق�صة عج ًبا ..اعتدل له «�صهيب» وبد�أ ي�س َمع منه ما كان من �أمر رام هرمز،
و�صعوده مع ابن الأمري �إىل رهبان اجلبل ،وحديث رهبان اجلبل ،وانتهى به
�إىل حيث فج�أ الأمري رهبان اجلبل واقتحم عليهم الدير ورماهم ب�إف�ساد ابنه
و�أنذرهم ثال ًثا �أن يرحلوا و�إال �أحرق عليهم الدير ..هنالك قال «�سلمان»:
ع
�أخذ ذلك الأمري ابنه الذي كان �صديقي وحب�سه يف الق�صر ،وجمع الرهبان
ص
رحالهم لريحلوا فن�شبت �أنا لهم فقلت واهلل ال �أفارقكم �أبدً ا� ،إين قد �أحببتُ
ال ري
كالمكم ومنطقكم وكرهت قومي وما يفعلون ،بل �إن فكري قد هداين �إىل �أن
احلق لي�س يف عقيدة هذه البالد ،بل �إن لهذه البالد والعباد خال ًقا واحدً ا ،ف�إين
ك
واهلل ال �أفارقكم حتى �أتع َّلم منكم هذا الأمر ،وطاملا �أخرجكم قومي وال مكث
ت
لكم عندنا ف�إين راح ٌل معكم.
ش
ن�صنع ،ف� ِآمن باهلل وادعه وابقَ يف بيتك ،واحذر عباد النار من قومك ف�إنهم ال
ر
يعرفون اهلل وال يذكرونه ،وال يخدع َّن َك �أحد منهم عن دينك ..فقلت :واهلل ال
الت و
�أفارقكم ..و�أ�صررتُ عليهم حتى �أخذوين معهم وهاجرت وتركتُ �أهلي وداري
و
حتى انتهيتُ معهم �إىل بلدة ا�سمها املو�صل ،وهناك كان رئي�س دينهم الذي
يع ز
يدينون به ،كانوا حنفاء يعبدون اهلل وال ي�شركون به ،فن�شبت لرئي�س دينهم ذاك
وقلت له واهلل ال �أفارقك حتى ُتع ِّلمني كل �شيء ..قال� :إين �أعتزل يف كهف يف
اجلبل �أع ُبد ربي وال �أحمل معي �إال قليل من الزاد ،و�إنك لن تطيق ..قلت له واهلل
ال �أفارقك ..فلزمتُه حتى انتهى بي �إىل بيت املقد�س ،وهناك دا َر بيننا كالم.
قال يل� :أي ُبني ،واهلل ما �أعلم �أحدً ا بقي على ديننا هذا �إال قليل ،ولقد
�أظلنا زمان نبي يبعث من تهامة ،مهاجره بني ح َّرتني �إىل �أر�ض �سبخة مليئة
بالنخيل ،و�إنَّ فيه عالمات ال تخفى؛ بني كت َفيه �شامة هي خامت النبوة ،ي�أكل
ا�ستطعت �أن تخل�ص �إىل تلك البالد فافعل ف�إنه
َ ال�صدقة ،ف�إن
َ الهدية وال ي�أكل
قد �أظلك زمانه ..قلت له� :أف�إن وجد ُته َّ
فعلي �أن �أتبعه؟ قال :نعم ..قلت له :و�إن
أنت عليه؟ قال :نعم ات ُركه ،ف�إن احلق فيما ي�أ ُمر ور�ضى �أم َرين برتك دينك وما � َ
الرحمن فيما قال ..وهنا فارقتُه وعزمتُ �أن �أنط ِلق �إىل تهامة ،فلقيت نف ًرا من
بني كلب ،ف�س�ألتُهم �أن يحملوين �إىل تهامة ،فغد ُروا بي و�أ�س ُروين كما ترى.
281
كان «�صهيب» ي�سمع ور�أ�سه الأحمر قد ا�شتعل بالفكر ..لقد �أ�سفرته حياته
لينظر �إىل �أهله العرب الذين يعبدون الأحجار ،وكان �أحالف �أهله من الفر�س
ي�أتون �إىل البالد وميار�سون ما كانت عينه ت�ستغربه من �إيقاد للنار وحر�ص على
�أال تنطفيء ،يتع َّبدون لها ويتذللون ،وكان ي�سائل نف�سه ،كيف يع ُبد الإن�سان �شي ًئا
ي�صنعه بيده �أو ُي�شعله بيده! ،واهلل �إن قومي و�أحالف قومي يف �ضالل ..ثم ملا
�أ�سره الروم وم�ضوا به �إىل بالدهم وكنائ�سهم وبنيانهم انبهر ونظر ووجدهم
ع
ير�سمون وينحتون «عي�سى» يف كل مو�ضع ويدعونه ويبكون عنده ،وكان ي�سائل
ص
رجل! .لذلك �أثارت ق�صة «�سلمان» يف نف�س «�صهيب» نف�سه ،كيف لرجل �أن يع ُبد ً
ري
كثري من اخلواطر ،وكث ًريا من االنتباه.
الركب �إىل بالد كلب ،وفيها قلعة كبرية لهم تدعى
ال
وظال يتح َّدثان حتى و�صل ُ
ك
عبيدهم و�إمائهم ،كان بداخل القلعة قلعة مارد ،فدخلوا �إليها يحتفلون و�أدخلوا َ
ت
متثال عظيم يف و�سط معبد مزين ،متثال رجل ح�سن الوجه والثياب متقلد �سيفا
ن
و�أتوا ب�إناءٍ من َلب وظلوا ي�ص ُّبون على ال�صنم �ص ًّبا ك�أنهم ي�س ُقونه ،و«�سلمان»
ر ش
و«�صهيب» يف زاوي ٍة ينظران.
الت و
و�أتت قبائل من العرب املجاورة حتتفل بكلب ومبغامن كلب ..فان�ضموا �إليهم
و
تاجريف ناديهم ،وعر�ضت كلب ما لديها من عبيد وجواري للبيع ،فابتغى كل ِ
يع ز
عربي لنف�سه عبدً ا �أو اثنني ..فجاء �أحد التجار �إىل «�سلمان» و�س�أل عنه ،فقال
له �سيده الكلبي� :إن هذا من بالد فار�س ،و�إين �أطلب فيه كذا وكذ ..فوافق
تعج ًبا
الرجل ..ف�س�أله «�سلمان» مبا�شرة :هل �أنت من تهامة؟ نظر له الرجل ُم ِّ
وقال نحن من �شمال تهامة ،من يرثب بلد النخيل ..فا�ستب�شر «�سلمان» و�ضحك
و�س ِعد ،و�س ِعد «�صهيب» ل�سعادته ،ف�إن الفتى الفار�سي الذي �ضرب الأر�ض باح ًثا
عن النور وخدعته الدنيا وجعلته عبدً ا �أ�س ًريا ،قد �أ�شر َقت له اليوم بني �إظالمها
فوجهته �إىل وجهة كان يبغيها؛ وجهة ذكرها له ذلك الكاهن �أنها يف تهامة و�أن َّ
فابت�سم له «�صهيب» و�س َّلم عليه واحت�ضنه ،وم�ضى «�سلمان» مع َ نخيل، فيها
�سيده اجلديد ،وكان يف الرجال �سيد من �سادات قري�ش ،فر�أى �صهي ًبا ب�شعره
الأحمر ف�سحبه �إليه وطلب �أن ي�شرتيه ،فباعه �سيده مبا�شرة ،كان ذاك رجل من
رجاالت مكة ا�سمه «عبد اهلل بن جدعان» ،ف�أخذ �صهي ًبا �إىل مكة ،وكذا افرتق
الأعجمان ،فم�ضى «�سلمان الفار�سي» �إىل يرثب ،وم�ضى «�صهيب الرومي» �إىل
مكة.
z
282
جلند من حولها �أرتال ،قالت لهم� :أخرجوا معي هذا الرجل كانت «ما�سا» وا ُ
ف�إن العرتايف �ش�أ ٌن به ..ف ُفتح �سجن «عمرو بن جابر» الذي كان ينظر هادئا
هدوء العا�صفة قبل �أن تثور ،ف�ساقوه و�ساقوا «ما�سا» �إىل م�سرح املحاكمة..
كان «عمرو» مي�شي وعينه ت�س َرح يف �أيام �سابقات ،كان قائدً ا على مثل ه�ؤالء،
ي�أ ُمرهم وينهاهم و ُيدربهم ،ثم فج�أ ًة توقفت «ما�سا» ك�أمنا �أ�صابها �شلل!،
ع
وتق َّو�س ج�سدها للوراء و�صدرت منها هنات من الأمل ،ثم فتحت عينها و�صرخت
ص
تقطعة ق�صرية ،ووقف اجلند ال يدرون ما يفعلون ،و«عمرو» ي�ضيق �صرخات ُم ِّ
ال ري
عينه ويرقب ،ثم �صرخت «ما�سا» �صرخ ًة من �صرخاتها الهائلة حتى و�ضع
البع�ض �أيديهم على �آذانهم ..هنا تفتحت عني «عمرو بن جابر» تفتح الظفر،
ك
كانت «ما�سا» قد �أُخذت بوعيها من هذا العامل �إىل عامل �آخر؛ عامل الزال يبني
ر ش
�سوطا لعمرو بن جابر يف قتال ،كانت �سوطا من واحد منهم ،وال تعطي ً التقط ً
الت و
جل بداعته وحذاقته يف ال�سوط ،ف�صرع �أقدامهم وجندل قاماتهم ،كانوا ع�شرة
و
�أو يزيدون ،وهو ُي ِوم�ض من هنا ويلمح من هناك ،و�صورته فيهم مبظهره وهو
يع ز
بيد واحدة وانط َلق مي�ضي يف يرديهم جمي ًعا �صورة �أ�سطورية ،ثم �أم�سك مبا�سا ٍ
دروب تعلوها ال�ضياء ،لي�س يدري �إىل �أين ميكن �أن ُت�ؤدِّي ،ف�إذا واجهه ميني �أو
دخل �إىل اليمني ،و�إذا واجهه حائط ارتد ،وكان ُ
ينظر �إىل «ما�سا» كل �شمال َ
حني وينتظر �أن ت�صحو� ،أما هي فقد كانت يف عامل من البنائني امل�شيدين،
فنظرت �إىل كل خمرج ودلفت �إىل كل منفذ ،جنية كال�صورة ال يراها �أحد من
�أهل ال�صورة� ..أما «عمرو» فلم يكن لديه وقت ،كان ين�صرف �إىل كل من�صرف
�أمامه ،وبلغ النداء القا�صي والداين يف اجلوادكيوال ،وطلع اجلن �أمامه من كل
تو�سعت
وظل مي�ضى حتى َّ جانب ،فكان ُيهديهم ال�سوط ،وال �شيء غري ال�سوطَّ ،
الدروب فلم ت ُعد �ض ِّيقة ،وتناق�صت �شعابها فلم ت ُعد تتفرع كث ًريا ،وبلغ منه
وظل مي�شي ويغالب حتى انتهى �إىل �شيء مل يجد منه فكاكا� ،شيء اجلهد مبلغهَّ ،
من اجلحيم!
283
الالفا ماجنا ..حمم من الفا الرباكني يتخللها �صخر من املاجنا ،وكان هذا
�شيء قار�س؛ فاملاجنا �صخور جاذبة �ساحبة ال ميكن جلن �أن يطري فوقها ،والالفا
ت�أ ُكل كل �شيء مي�سها ،تكاثر الكاثرون على «عمرو» واحت�شدوا ،وهو يرتاجع �إىل
ينظر �إىل �أ�سفل الهاوية ويلمح حم ًما ،كان ي�سمع عن وجود هاوية املاجنا ،كان ُ
هذه الأ�شياء لكنه مل ي َر مثلها �إال الآن ،وحا�صروه حتى وقف على العتبة ،وفج�أة
ا�ستيقظت «ما�سا» كمن ي�شهق من غرق ،ونظرت �إىل امل�شهد فا�ستوعبت الأمر،
ع
و«عمرو» ال يزال مي�سك بها بقوة ،واجلند يقرتبون ،ولكن «ما�سا» فع َلت �أم ًرا
ص
ال ُيكن �أن ُي�ص َّدق ،وات�سعت عني «عمرو بن جابر» وقد �أحيط به ،لقد دفعته
ال ري
«ما�سا» دفعة قوية �إىل الهاوية ،ف�سقط وكبا ،و�أ�سقطت نف�سها وراءه ،ومل تقدر
ع�ضالته الطائرة �أن ترتفع و�سحبته املاجنا ،فهوى وتردى ب�سرعة �إىل �أفواه
ت ك
احلمم.
ل ب
ارتفعت يداه تتحا�شى وارتفع ر�أ�سه و�أغم�ضت عينه وانغم�س يف وجه احلمم
ن ل
وانكم�شت �أ�ضالعه وغاب ،ونظر اجلن من على الهاوية وا�ستداروا وان�صرفوا،
ش
وبانت ر�أ�س «عمرو» طافية من بني احلمم ،ثم بانت ر�أ�س «ما�سا» ،وانطوت
و ر
�صفحتهما� ،أو كادت ،فلقد كانت «ما�سا» تتح َّرك ومت ّد َيدها �إىل «عمرو»
و الت
وت�سحبه� ،أو ت�ستفيقه.
يع ز
فتح «عمرو» عينه على �آخرها من هولة الرعب! .ونظر حوله �إىل ما بدا له
�أنه اجلحيم ،قالت له «ما�سا» و�سط متايل التيار :لقد نظرت �إىل هذا املكان
خ�ضبوها ب َلونوهُ م عليه ماكثني يبنونه� ،إمنا هذه مياه من مياه البحر ،ولقد َّ
احلمم ،ترهي ًبا وتخوي ًفا! .نظر «عمرو» حوله و� َآلته اخلدعة وقال :قد كنتُ �أتفكر
ِ
حو�ضا من احلمم� ،إنه حتى كيف ميكن لبنيان �أيا ما كان نوعه �أن يحوي بداخله ً
معمار الإن�س ال يقدر على هذا ..ثم �سبحا ب�صعوب ٍة بالغة وال�صخر يجذبهم،
وكان جميع االعتماد على قوة «عمرو بن جابر» الذي خرج من ذلك احلو�ض �إىل
�ساحة خالء ،وارمتى بج�سده على الأر�ض من التعب.
تنظر �إىل �ساحة ف�ضاء لي�س فيها �شيء ..وتوالت ثوان معدودات كانت «ما�سا» ُ
ثم قام «عمرو بن جابر» ،واملاء من ج�سده يقطر وم�شى مع «ما�سا» ينظران �إىل
املكان ،حتى انتهيا �إىل جدار مل ير «عمرو» يف حياته �أعظم منه جدار ،عال
و�شمال� ،صلب قا�س ال تدري كيف ً متعال ال ترى �آخره ،وا�سع يبلغ الأفق ميي ًنا
�صنعه �أحد� ،شعر «عمرو» بحركة من «ما�سا» فنظر لها ف�إذا هي ت�ضع يديها على
285
رقبتها وك�أنها متنع �شي ًئا! ،وعلى الفور نظر «عمرو» �إىل ناحية من الي�سار ،فر�آه،
مل يكن يجل�س القرف�صاء ،ومل يكن يتل َّون كالثعبان ،بل كان واقفا كالعفارتة
الطوال ،يداه مقبو�ضتان �إىل جواره ،وعينه تنظر يف �أحيح ،كان ذاك «�سيدوك».
z
كان راع ًيا يرعى غنمه يف �سفح اجلبل� ،أ�سود الب�شرة زجن ًيا �شا ًباً ،
طويل
نحيل كثيف ال�شعر ،يختلط �سواد �شعره ببيا�ض �شعر وراثي ،يف وجهه َ�سمت ً
حمبب ،وكان ا�سمه «بالل» «-بالل بن رباح» ،-كان حب�ش ًيا من مواليد مكة،
َعبد ل�سيد من �سادات مكة هو «عبد اهلل بن جدعان» ،يرعى له غنمه ،وكانت
تلك ظهرية هي �أجمل ظهرية م َّرت على «بالل» يف حياته ،فلقد حدثت له ق�صة
منها العجب ،قد كان يف تلك الظهرية مي�شي يقطب وجهه حلر ال�شم�س �إذ ر�أى
ك�أن وج ًها كالقمر يطل عليه من فوهة غار يف اجلبل ،وجه ك�أنه وجه �أمري ،ب�شعر
�أمري وبهاء �أمري ،ومعه �صاحب له ح�سن املالمح ،كان الأمري هو ر�سول اهلل
الرحمة املهداة ومعه �صاحبه «�أبو بكر» وكانا معتزالن يف غار ..قال له الأمري
الر�سول :يا راعي ،هل من َلب؟
قال له «بالل» :مايل �إال �ساة منها قوتي ،ف�إن �سئتما �آثرتكما بلبنها اليوم..
ائت بها ..فتحرك «بالل» ينطق ال�شني �سي ًنا ،فقال له الر�سولِ : وكان بالل ِ
�صاعدً ا �إىل الغار ومعه �شاة �صغرية جعلها له �سيده ي�شرب لبنها كل يوم على
�أال مي�س بقية ال�شياة ،فجاء ر�سول اهلل بقعب فو�ضع يده امل�شرفة على ال�شاة
وحلبها حتى امتلأ القعب ،ف�شرب النبي حتى روى ،ثم حل َبها مرة �أخرى حتى
امتلأ بلبنها القعب ،ثم �سقى «�أبا بكر» حتى روي ،ثم حلبها مرة ثالثة وامتلأ
بالل ،ثم ترك ال�شاة و�ضرعها يبني �أنه �أكرث امتالء مما القعب بلبنها ،ف�سقى ً
راع
كان حالها ملا �صعد بها «بالل» ،كان «بالل» �صامتًا ينظر وقد ُ�ص ِدم� ،إنه ٍ
منذ �سنوات ويعلم �أن هذا م�ستحيل� ،أن حتلب �شاة كهذه ثالث مرات وترتكها
و�ضرعها ممتلئ عن �آخره!� ،إنه كان ي�شرب منها كفا ًفا ..قال له ر�سول اهلل :يا
غالم ،هل لك يف الإ�سالم؟ فحكى له ر�سول اهلل من �ش�أن الدين ..ور َّقت عني
«بالل» وراقت مالحمه وان�شرح مبر�أى ر�سول اهلل �صدره وقلبه وروحه ذاتها،
وب�صحبته ت�ش َّرف ..قال له النبي :يا «بالل» ،اكتُم �إ�سالمك ..فقد كان
به َ�س ِع َد ُ
النبي يعلم �أنه �إن كان كل من �أ�سلم حتى الآن يحتمي بقبيلته من �أذى �سادات
فلي�س له �أحد يحميه ..وان�صرف «بالل» وهو عن قري�ش ،ف�إن من هو مثل «بالل» َ
را�ض ،بل وهو عن الأر�ض كلها را�ض. حياته ٍ
وعاد «بالل» �إىل �أمالك �سيده «عبد اهلل بن جدعان» ،الذي له يف مكة �آبار
ومزارع وعبيد يب ُلغ عددهم مائة عبد ،وكان منهم عبد ذو �شعر �أحمر ،هو ابن
�أمري يف بالد فار�س ،ولقد رمته النوائب واملحن �إىل «عبد اهلل بن جدعان»،
«�صهيب الرومي» �صاحب «�سلمان» ،يف تلك الظهرية ر�أى «�صهيب» ً
بالل عائدً ا
أفرحناوال�سعادة يف قلبه باد َية على وجهه� ،س�أله «�صهيب» بلهجته الأجنبيةِ � :
معك يا «بالل»� ..أجا َبه «بالل» :واهلل يابن فار�س لقد ر�أيتُ عج ًبا اليوم� ،أي
ع
عجب ،لقد ر�أيتُ ر�سوال اليوم ..خرج «�صهيب» من رتابة حياته و�س�أل وهناك
ص
ر�سول يا «بالل»؟ قال «بالل» :نعم ر�سول و نبي... غ َر�ض يف نف�سه :هل قلت ً
ال ري
وحكى ل�صهيب ،فانفتحت ل�صهيب يف ذهنه كلمات حكاها له «�سلمان» ،عن
نبي �أظلنا زمانه ..لكن «�سلمان» كان يقول �أن الرجل النبي �سيكون مهاجره
ت ك
�إىل مدينة يكرث النخيل بها ،والآن «بالل» يقول �أنه ر�آه يف مكة ،ظ َّل «�صهيب»
ب
�ساهما ،حتى �س�أله «بالل» :ما بك يا «�صهيب»؟ قال� :أريد �أن �أرى النبي ..قال
ش
«�صهيب» �أمره.
و ر
وانطلق من فوره �إىل �سفح جبل ال�صفا ،عنده دار الأرقم ،فوجد رجلني
الت
واقفني على الباب فظن �أنهما حار�سني ،كان �أحدهما ً
و
ً
عري�ضا �أزرق طويل
ز
العينني ،كان هذا «عمار» «-عمار بن يا�سر» ،-وكان الآخر م�ست�ضع ًفا يف مظهره
يع
وا�سمه «خباب»«- ،خباب بن الأرت» ،-قال له «عمار» ذو العيون الزرق :ماذا
تريد؟ قال «�صهيب» :بل �أنت ماذا تريد؟ قال «عمار»� :أردتُ �أن �أدخل على حممد
و�أ�سمع كالمه ..رفع «�صهيب» حاجبيه وقال :و�أنا �أريد ذلك ،لكن ملاذا تقف مع
�صاحبك باخلارج؟ قال له «خباب»� :إن حممد لي�س هنا ،قد خرج و�صاحبه �إىل
غار يعتزالن ولقد اقرتب �أ َوان عودتهما ..فوقف «�صهيب» معهما ،ثالثة كانوا من
امل�ست�ضعفني� ،صهيب عبد ،وعمار ذو العني الزرقاء موىل ،واملوايل م�ست�ضعفني،
والعرب ت�سمي كل �أجنبي يعي�ش يف بالدهم موىل ..وكان «عمار» من الي َمن� ،أما
«خباب» فكان حلي ًفا ،واحلليف هو الذي ال �أ�صل له لكنه دخل حتت حماية قبيلة
معينة ،وه�ؤالء يكونون م�ست�ضعفني � ً
أي�ضا.
�أما الر�سول و�صاحبه فقد نزال من ذلك الغار بعد �أن �أنه َيا ُعزلتهما ..وم�شيا
نحيل جدً ا يكاد يبني منه تفا�صيل �سارحا بغنماته ،كان فتى ً
ليجدا راع ًيا �آخر ً
عظمه ،له �شعر جميل يجعله �إىل اخللف ندي رطب ك�أمنا و�ضع عليه ً
ع�سل،
كان ذاك «عبد اهلل»«-،عبد اهلل بن م�سعود» ،-وهو حليف ..ناداه ر�سول اهلل
287
فقال له :يا غالم ،هل من لنب؟ قال «ابن م�سعود» :نعم ،ولكني م�ؤ َمتن ..فقال
له ر�سول اهلل :فهل من �شا ٍة مل َي ْن ُز عليها الفحل؟ يعني مل ُيل ِّقحها ،وتلك ال يكون
يف �ضرعها لنب ..قال له «ابن م�سعود» :نعم ..ف�أتاه ب�شا ٍة عذراء ،فم�سح ر�سول
اهلل بيده على �ضرعها ثم حل َبها يف �إناء ،و«ابن م�سعود» واقف حائر يف ده�شته!،
فقل�ص ال�ضرع �إىل �سابق عهده! .مل يتمالك «ابن ثم قال النبي لل�ضرع :ا ْق ِل ْ�صَ ،
م�سعود» نف�سه فقال :ع ِّلمني من هذا القول ..فم�سح ر�سول اهلل ر� َأ�سه وقال له:
ع
يرحمك اهلل� ،إنك غالم معلم ..وح َّدثه النبي عن ربه ،وحدثه عن الإ�سالم ،وتال
ص
عليه القر�آن ،و«ابن م�سعود» يف عامل �آخر ..قال له يا ر�سول اهلل علمني من هذا
ال ري
القر�آن ..فتال عليه النبي وتال ،حتى ارتوى بن م�سعود ،مل ي ُكن الكالم القر�آين
ف�صيحا منغ ًما يخاطب الروح ،فكان «ابن م�سعود»
ً معتادًا على � ُأذن العرب ،وكان
ت ك
يرتن ،ومل يرتك ر�سول اهلل يف ي�ستزيد منه وكلما ي�ستزيد ي�ستنري ،وكلما يت�سمع َّ
ب
يومه هذا �إال وقد �أخذ من فمه ال�شريف �سبعني �سورة ،هي كل ما نزل من القران
ش
وعاد ر�سول اهلل و�أبو بكر وم َّرا بدار الأرقم فوجدا ثالثة ينتظرون ..ثالثة
و ر
كانوا ينظرون �إىل نور «حممد» ملا �أقبل عليهم ،كان النبي ذا طول وفخامة،
و الت
دوما الفتا �أميا كان يرتدي ،وله تب�سم يل َقى بهبعيد ما بني املنكبني ،فيظهر ً
يع ز
النا�س ،ف�إذا تب�سم ظهر ك�أنه �أكحل العينني ولي�س ب�أكحل ،فلم ين�شب الثالثة �إال
�أن �أ�سلموا ،و�أ�سلم قبلهم «بالل» و«ابن م�سعود» ،فزاد اخلم�سة على ال�سابقني
فقارب امل�سلمون �سبعني ،يتع َّلمون يف بيت الأرقم ويبت�سمون وترتاح �أرواحهم،
لكن القدر كان يخبئ لهم �أياما مل يدركوا خطرها� ،أيام من الأمل.
z
288
جبال عاليات ُي�س ِّميها الأهايل من الإن�س ال�ساكنني عندها جبال حمكمة اجلوداكيوالٌ ،
ال�شيطان ،قابعة وراء غابة كثيفة ،جبال طوال �أ�سند لها الأهايل �أ�ساطري و�أ�ساطري ،يف قارة
ع
�سموها الأر�ض التي وراء بحر بعيدة عظيمة يف غرب الأر�ض �أول من �أبحر �إليها العربُّ ،
ريص
الظلمات ،ثم �سماها الأغراب �أمريكا ،عند �ساحل تلك الأر�ض ال�رشقي تقع تلك اجلبال ،جبال
ال
حمكمة ال�شيطان ،اجلوداكيوال ،جمرد ذكر ا�سمها ُيرهب و ُيرعب.
ك
ن�سكن يف كل مكان بعيد عن �سفاهتكم ،نفو�سنا تعافكم وتنفِر نحن وجن�سنا العايل ُ
ت
منكم ،كما تبتعدون �أنتم يف م�ساكنكم عن م�ساكن ال�ضباع ،لنا مدائننا و�أم�صارنا وبالدنا.
ش
ن�ستعمرها وهي ثلث الياب�سة يف الكوكب ،وعليك احل�ساب...
و ر
الت
َ
دعك من هذا� ،إن لدي �شيئًا لك.
و
ل�سكرت �أب�صار الإن�س، َ
أخربتك �أننا ال نُرى ،ولن نُرى ،ولو ر�ؤينا ور�ؤي عاملنا ُ كنت �
يع ز
فئات و�أزياء وبنيان ودروب ،وتزاوج وتناحر وحتزُّ ب ورئا�سات ،مثل عاملكم �أو �أ�شد ..يكفي
�أن تعرف �أن هناك من القرناء فقط �أتباع «لو�سيفر» ما يكفي لكل ب�رشي على الأر�ض ،و�إن
ولد فيكم يف كل يوم مائة �ألف ،وبقية اجلن �أ�ضعاف �أ�ضعاف القرناء ،لذلك ن�سكن �أكرث
كنت من �أ�شد ال�سحار ً
فتكا. ول�ست ترى ولن ترى من هذا �شيئًا ،و�إن َ
َ م�ساحات الأر�ض،
ولعلك �سائل نف�سك ..كيف يتعامل ال�سحرة مع توابعهم من اجلن وهم �أ�صال ال يرونهم!،
تكرر ق�صري الطبقة ال يعرفه �إال ال�سحار،
جميع التعامل يكون بالقر يف الأذن ،والقر �صوت ُم ِّ
نلقيه يف �أذن الكاهن ،لكنا ال نلقيه �إال �إذا دخل الكاهن يف حالة اال�سرتواح.
�ساحرا �أو كاهنا ،ال يوجد
ً �أذن الإن�س ال ت�سمعنا وعني الإن�س ال ترانا� ،أميا كان هذا الإن�س،
�إن�سي ي�ستطيع �أن ُي ِّغي تراكيب خلقة �أذنه وعينه ،فاحلل يف اال�سرتواح.
هي تلك احلالة بني اليقظة والنوم ،مبا�رشة قبل �أن تدخل �إىل النوم ،وقطع من عامل اليقظة
خروجا طفي ًفا من اجل�سد ،لي�س
ً تخرج الروح
الزالت ترتاءى لك وحت�س بها ،هذه احلالة حيث ُ
289
كخروجها �أثناء النوم ،هذه احلالة هي رفاهتنا و�سلطاننا ،لأن �ألعابنا يف روحه تتحول �أمامه
�إىل �صور و�أ�صوات تختلِط يف واقعه ،فت�ؤ ِّثر عليه � ًأثرا ً
عظيما ،لي�س كت�أثري النوم الذي يعرف
�أنه نوم.
خلوة ال�ساحر الطويلة يف الظلمة وجوعه ال�شديد يجعل روحه ت�صفو وت َّتقِد ،ويتع َّلم
ويخرج منها �إذا
ُ وحده مبا�رشة كيف ُيدخل نف�سه يف تلك احلالة-اال�سرتواح -ويطيل ُم َّدتها
ع
�أراد ،وفيها ي�سمع �صوتنا ونته َّي�أ له بهيئات وهيئات.
ص
حتدث
أحدا يقول �أنه يرى اجلن �أو ي�سمع اجلن واعلم �أنه كاذب؛ احلكاية كلها ُ
ُ�صدق � ً
فال ت ِّ
ال ري
يف اال�سرتواح ،ولكن..
بع�ض بني الإن�سان تكون لهم �أرواح مت� ِّأججة �صافية لدرجة �أن �أطرافها تربز خارج
ت ك
�أج�سادهم ،وهم كذلك يف حالة اليقظة ..ه�ؤالء �إذا �ألقينا �شيئًا �إىل �أرواحهم تلك ،جتد �أرواحهم
ش ن
�أو يرى �شكل كذا ،وكلها هلو�سات نحن ن�صنعها يف روحه التي تظهر �أمامنا طيلة الوقت،
ر
هذا قد يقول لك �أنه يرى اجلن وي�سمع اجلن ،هذا يكون قد كالمه بالن�سبة لنف�سه �صدق
الت و
ولكن �سماعه ور�ؤياه كذب ،نحن ال ترانا وال ت�سمعنا �إال بع�ض فئات احليوانات ،هكذا ُخلقت
و
�آذانهم وعيونهم.
يع ز
�أ ُفق عني الإن�سان يختلف عن �أ ُفق عني احليوانات ..و�إن �صنع الإن�سان عد�سات ومناظري
�صورا غري مرئية
لريانا فلن يرانا ،لأن تلك العد�سات ال�صماء التي ال عقل لها يف النهاية ترى ً
ً
خطوطا ودوائر تراها عينه هو ،البد تُرتجمها �إىل �صور تراها عني ذلك الإن�سان ،ف�ستظهر له
حتى ترانا �أن تكون عينك �أنت املخلوق الواعي خملوقة على �أفق ر�ؤيتنا.
علمت العلم فال يخدعن ََّك �ساحِ ر وال �شيطان ،وال كاهِ ن وال �إن�سان.
الآن قد َ
z
290
ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
رش
الت و
ز و
يع
292
()12
ع
ينطق عن الهوى وما قر�آ ًنا� ،أو يعر�ضها عليه «جربيل» فيخربها و ُيب ِّلغها ،ما كان ِ
ص
كانوا يرتكون من حديثه حر ًفا �إال تل ُّقوه بالوعي الأكمل� ،صحابة كانوا �سابقني،
ال ري
رجل �أو يزيدون حفل بهم دار الأرقم فملأوا جميع جوانبه ،كثري منهم ثمانني ً
مو�ضع لهم ،نظر «�أبو بكر» �إىل اجتماعهم وتفانيهم جلو�س وكثري منهم قيام ال ِ
ت ك
ف� َّألح على النبي يف الظهور� ،أن يظهروا دعوتهم نف�سها ،و�إن قري�ش مل تكن تهتم
ب
�أن يفعل احلنفاء يف اجلاهلية ما يريدون� ،أن ي�سجدوا كما يريدوا ويع ُبدوا ربهم
ش
«زيد بن عمرو» بن نفيل يف بداية �سريته ،لكن امل�شكلة تبد�أ �إذا حتول الأمر
ر
النتقاد دين قري�ش و�أ�صنام قري�ش والتنق�ص منها ،هنا تثور قري�ش وتطرد «زيد
الت و
بن عمرو» وتقتله ،و�إن «�أبا بكر» كان ُيلح على النبي �أن يظهروا دعوتهم للنا�س
و
عالن َية وينتقدوا جاهلية القوم و�أوثانهم عالنية.
يع ز
حتى هذه احلظة كانت قري�ش تعلم بحنيفيتهم و�إ�سالمهم ونبيهم و�سجودهم
واجتماعهم يف دار الأرقم ..لكنهم كانوا حالهم حال �أنف�سهم ال ينتقدون دين
غريهم وال ينتقد �أحد دينهم ،و�إن دعوا دعوا املقربني و�أ�س ُّروا لهم بالدعوة..
�أما الآن ف�إن «�أبو بكر» يلح يف اجلهر والنقد ..قال له ر�سول اهلل :يا �أبا بكر �إنا
قليل ..ف� َّألح و�أ�ش َّد «�أبو بكر» يف ذلك ومل ي ُكن لدى النبي من الوحي ما مي َنعه،
وتوجهوا جمي ًعا
فوافق النبي ،وخرج «�أبو بكر» ،وخرج النبي ،وخرج امل�سلمونَّ ،
�إىل �صحن الكعبة.
يف تلك الباكرة �شهد ال�صحن احلرام م�شهد رجال قد �أتوا ويف قلوبهم رغبة
منحوتة و�أ�صنام ،ومل اهلل وجل�سوا يف و�سط م�سجد اهلل بكل ما فيه من وجوه ُ
جلو�سا ع�شوائ ًيا؛ بل �أتى كل واحد منهم بع�ش َريته حتميه ،وقام الرجل يجل�سوا ً
�صاحب التخطيط «�أبو بكر» ،قام يف و�سط امل�سجد خطي ًبا و�صدح بخط َبة فيها
ما فيها من اعرتا�ض ،يف و�سط معقل قري�ش �صات �صوت من قري�ش �ضد عقيدة
قري�ش ،العقيدة التي يبنون عليها �أموالهم وحجهم ومقامهم بني القبائل،
297
وجتمع النا�س وا�ستثريت حميتهم ،وجت َّهمت وجوههم وقلوبهم ،ونظروا �إىل كل
رجل حممي يف ع�ش َريته ،و«�أبو بكر» واقف يخطب وينكر على القوم وي�شري �إىل
وجوه الأ�صنام ثم ي�شري �إىل ر�سول اهلل ،ثم ي�شري �إىل امل�سلمني ،كان «�أبو بكر»
ُيد ِّلل �أن هذه مل ت ُعد ب�ص َرية رجل واحد �أو اثنني ،بل هي عقيدة لها يف كل بطن
ورجلني ،و�صار يدعو جه ًرا �إىل دين اهلل و�إىل ر�سول رجل ُ من بطون قري�ش ً
اهلل واالن�صراف عن هاته التماثيل ال�شائخة التي ُتذبح لها القرابني من الرقيق
ع
والب�شر تق ُّر ًبا و ُتو�أد لها البنات تزل ًفا ،ويتحاكم �إليها الرجال باال�ست�سقام فتقتل
ص
من ت�شاء وتع ُفو عمن ت�شاء ،وهي بعد كل هذا ُظلل و�صور يف اخليال ال ُ
ت�ضر وال
ال ري
تنفع ..وتوتَّر احلرم وز ّوار احلرم و�أتى من مل يكن باجلوار لينظر ،حتى حدث
�شيء واحد ك�س َر زمام الغا�ضبني!
ت ك
رجل من وجهاء مكة دنا من «�أبو بكر» يف احتداد« ،عتبة بن ربيعة» ،بكل طو ِله
ل ب
وهامته وفرو�س َّيته اقرتب يف عداء وفجور وبدون بادرة وال �شاردة هجم على
ن ل
«�أبو بكر» فج�أ ًة يف فج�أة من اجلميع وخ َلع نع َليه و�أخذ ي�ضربه �ضرب قتل ولي�س
ش
وهب امل�سلمون لإنقاذ
�ضر ًبا عاد ًيا ،فكانت تتناثر دماء «�أبو بكر» مع كل �ضربة!َّ ،
و ر
�أبي بكر فهب الغا�ضبون حول امل�شهد ل�ضرب امل�سلمني انت�صا ًرا لأ�صنامهم ومل
الت
َّ
و
واكتظ امل�سلمون حول ر�سول اهلل ُيبعدونه يعب�أوا �أن كل رجل قد �أتى بع�شريته،
يع ز
عن امل�شهد حتى اطم�أنوا عليه وتركوه عند ال�صفا ،ثم عادوا لين�صروا «�أبا بكر»
�سقط بني دمائه التي ع َلت وجهه و�سكنت حركته ً
متاما فلم ي ُعد الذي كان قد َ
يعرف �أم ِّيت هو �أم حي! ،وكان هرج وكان مرج ،وجاءت بنو تيم ،ع�شرية «�أبو
عجل وكان جميئهم فار ًقا جدً ا ف�أبعدوا املُحت�شدين حول «�أبي بكر» بكر» على َ
ثوب وهو ال يبني �أنفه من وجهه من غمرة الدماء ،وقالت وحملوا «�أبا بكر» يف ٍ
بنو تيم واهلل لئن مات «�أبو بكر» لنق ُتلنَّ «عتبة بن ربيعة».
وعند ال�صفا ..كان يقف رج ٌل من نوع �آخر ،نوع م�ؤذ ،نحيل اجل�سم حاد
الوجه ال حل َية له وال �شارب� ،سيد من �سادات قري�ش�« ،أبو احلكم بن ه�شام»،
اعرت�ض طريق النبي «حممد» ويف عينه �أطوار من الأذى والبغ�ضاء ،ومل ي ُكن
ف�سب الرجل املاجن ر�سول اهلل ،و�شتم الرجل البذيء ر�سول اهلل �أحد حولهماَّ ،
وعاب عليه وا�ستنق�ص منه ومن دين اهلل ،و�آذى الرجل اخلبيث ر�سول اهلل وبلغ
عمل ب�أمر ربه �أن يعر�ضمنه كل ما يكره ،ومل يكلمه ر�سول اهلل ومل ي ُرد عليه ً
عمن يجهل عليه ..وعاد «�أبو احلكم» اخلبيث �إىل �صحن الكعبة وكان احل�شد قد
298
تنظر بد�أ ينف�ض وعاد كل ف�صيل �إىل ف�صيله ،وكانت هناك امر�أة يف نافذة بيتها ُ
�إىل ما نال ال�سفيه من «حممد».
وكان بنو تيم يف م�صيبة ..ف�إن «�أبا بكر» ال ينطق ،وك�أن ل�سانه قد �شل مع
ال�ضرب ،وظ َّل �أبوه و�أمه يربتان عليه ويط ِّببانه حتى �أفاق ،فكانت �أول كلمة
فعل ر�سول اهلل؟ فقاموا عليه ي�ستخرجون منه احلديث وهو ال يقول قالها :ما َ
حلت عليه بقلبها ..فقال ما �إال قول ًة واحدة :ما فعل ر�سول اهلل؟ فخ َلت به �أمه و�أ َّ
ع
فعل ر�سول اهلل؟ قا َلت :واهلل مايل ِعلم ب�صاحبك ..قال لها :فاذهبي �إىل فاطمة َ
ريص
ف�س ِليها عنه ..فخرجت الأم حتى �أتت بنت اخلطاب زوجة �سعيد بن زيد بن نفيل َ
ال
ألك عن حممد ..وخافت «فاطمة بنت اخلطاب» فقا َلت :يا فاطمة �إن �أبا بكر ي�س� ِ
خب عن ر�سول اهلل بعد هذا الهرج ..فقا َلت :ما �أعرف �أبا بكر وال فاطمة �أن ُت ِ
ت ك
وجدت فم�ضت معها حتى َ معك �إىل ابنكَ .. أحببت �س�أم�ضي ِ حممد ..لكن �إن � ِ
ب
َّ ً
ل
قوما «�أبا بكر» �صريعا ُمتهالكا ،فت�أثرت و�أعلنت بال�صياح وقالت له :واهلل �إن ً
ن ل
منك لأهل ِف�سق و ُكفر ،و�إين لأرجو �أن ينت ِقم اهلل لك ..قال لها :ما َ
فعل نا ُلوا َ
ش
عليك منها ،ف�أين هو؟ ر�سول اهلل؟ قا َلت له� :إن هذه �أمك ت�س َمع ..قال :فال عني ِ
و ر
طعاما �أو �أ�شربعلي �أال �أذوق ً قالت :هو يف دار الأرقم ..قال «�أبو بكر» :ف�إن هلل َّ
و الت
�شرا ًبا حتى �آتي ر�سول اهلل.
يع ز
هد�أ النا�س و�سكنوا ثم خرجتا به وهو يتكيء على �أمه حتى فتم َّهلوا حتى َ
أكب
أكب عليه النبي الر�ؤوف و� َّ �أدخلته على ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف� َّ
أنت و�أمي، عليه امل�سلمون ،ورق له ر�سول اهلل رقة �شديدة ..قال «�أبو بكر» :ب�أبي � َ
لي�س بي ب�أ�س� ،إال ما نال الفا�سق من وجهي ،وهذه �أمي برة بوالديها ،و�أنت
مبارك فادعها �إىل اهلل عز وجل وادع لها ع�سى �أن ي�ستنقذها بك من النار..
فدعا لها ر�سول اهلل ودعاها �إىل ربه ف�أ�سل َمت.
متو�شحا
ً وجاءت امر�أ ٌة �إىل الأ�سد «حمزة بن عبد املطلب» ..وكان ً
مقبل
قو�سه عائدً ا من رحلة قن�ص من رحالته ،وكانت عادته �إذا عاد من قن�صه �أال
ناد من يعود �إىل �أهله حتى يطوف بالكعبة ،وكان �إذا فعل ذلك ال ُمير على ٍ
قري�ش �إال و َقف و�س َّلم وحت َّدث معهم ،وكان �أعز فتى يف قري�ش و�أقواهم �شكيمة،
أيت وكان خاف ًيا �إ�سالمه حماي ًة لر�سول اهلل ..فقالت له املر�أة :يا �أبا عمارة لو ر� َ
لقي ابن �أخيك حممد �آن ًفا من �أبي احلكم بن ه�شام ،وجده هاهنا ف�آذاه ما َ
و�س َّبه وبل َغ منه ما يكره ...فخرج «حمزة» �سري ًعا ي�سعى ال يقف على �أحد ،ودخل
299
�صحن الكعبة ونظ َر �إىل «�أبي احلكم» جال�سا يف القوم ف�أم�س َكه ورف َعه بيد واحدة
ف�شجت ر�أ�س «�أبو احلكم»..و�ضربه على ر�أ�سه بالقو�س بكل عنفوان «حمزة» َّ
وقال له� :أت�شتمه و�أنا على دينه �أقول ما يقول؟ فقام له الرجال حول «�أبو
احلكم» لين�صروه وقالوا :يا حمزة ما نراك �إال قد �صب�أت ..فقال :وما مينعني
حلقوقد ا�ستبان يل �أنه ر�سول اهلل ،و�أنا �أ�شهد �أنه ر�سول اهلل و�أن ما يقول َ
فامنعوين �إن كنتُم �صادقني ..قال «�أبو احلكم» من بني الدماء التي ت�سيل على
ع
قبيحا ..بعدها عر َفت قري�ش وجهه :دعوا �أبا عمارة ،فلقد �سببتُ ابن �أخيه �س ًّبا ً
صري ال z
ب�إ�سالم «حمزة» ،وعلمت �أن هناك �أ�سدً ا يحمي حممدً ا� ،أ�سد قنا�ص ..لكن بقية
امل�سلمني ،مل ي ُكن مينعهم �أحد ،ف�أ َرتهم الأيام التالية وج ًها ُمتل ًفا ،وجه ِ
ب�شع!
ت ك
�إن «عمرو بن جابر» بال�سوط �شيء و«عمرو بن جابر» بدونه �شيء �آخر ..ففي
ش
تنظر �
و ت
ي ز
ي�سرية قطعت ال�سوط يف
ع
حدث يحتاج لقوة بدنية ثانية واحدة! ،وات�سعت عني «عمرو بن جابر» ،هذا الذي
خطته تتغري، عالية جدً ا ..وبد�أ ينظر �إىل «�سيدوك» نظرة خمتلفة جدً ا ،وبد�أت
وتوجه بها �إىل اجتاه غري متوقع، فانطلق �إىل «ما�سا» والتقطتها ك�أنها ِطفلةَّ ،
توجه بها �إىل الأعلى.
مبحاذاة اجلدار ال�صلب الطويل كان «عمرو» يرتفع ارتفاع اجلن ً
حامل
معه «ما�سا» التي مل تكن تقدر على الطريان ،ارتفع باغ ًيا �أن ي�صل �إىل �أعلى
اجلدار ..ع ِل َم «عمرو» �أن مواجهة «�سيدوك» هي �شيء م�ستحيل ،و�أن احلل
الوحيد هو الهرب؛ فلو �أن «�سيدوك» هذا �ضربه مر ًة واحدة بتلك القب�ضة
التي ميلكها لته َّدمت عظام «عمرو» كلها ،لذا مل ُي ِ�ضع «عمرو» وقتًا ،فقط زاد
من �سرعة ارتفاعه ،ثم ت�ضاعف ات�ساع عينيه وت�سارعت �ضربات قلبه تخفق
فارعا مديدً ا ،لكن ،هذا اجلدار يتح َّرك �إىل باخلوف ،هذا اجلدارً ،
طويل كان ً
الأعلى كلما ارتفع «عمرو» ،مهما كانت �سرعة ارتفاعه! ،نظر «عمرو» �أ�سفل منه
300
ليجد «�سيدوك» بكل جهامته وب�أ�سه يرتفع الح ًقا به يبغيه ،ومل يكن «عمرو»
ليجاري ُ�سرعة مارد.
يف ثانية كان «�سيدوك» قد و�صل �إىل ارتفاع «عمرو» ..ثم اندفع �إليه ً
قاب�ضا
قب�ضته ،وفج�أ ًة ترك «عمرو» «ما�سا» ،تركها من يده ت�سقط �إىل الأ�سفل على َ
وابتعد هو ب�أ�شد ُ�سرعة ميلكها ج�سده عن قب�ضة «�سيدوك» ،وجنح ،جنح يف
التفادي ،و�ضربة «�سيدوك» وا�صلت طريقها من �سرعتها وقوتها حتى �صدمت
ع
قب�ضته احلائط ال�صلب ..و�سمع «عمرو» لل�صدمة دو ًّيا لو كان �أ�صابه لهلك،
ريص
�سبحان الذي �أعطى القوة لأولئك املردة ،ويف جزء من الثانية اختفى «عمرو»
ال
من املو�ضع الذي كان فيه ونزل ليلتقط «ما�سا» ال�ساقطة من عل ،لكنه الحظ
جلل!� ،إن يف مو�ضع �ضربة «�سيدوك» يف اجلدار �أث ًرا ً
ملحظا ً بطرف عينه
ت ك
ب�سيطا يف البناء ،لكن مل يكن هذا هو امللحظ ،امللحظ �أن اجلدار تناق�صت ً
ل ب
�سرعة ارتفاعه ،ويف فور وعزم اندفع «عمرو» كالطلقة �إىل الأعلى قا�صدً ا نهاية
ن ل
اجلدار ،ولقد ر�أى نهايته بعينيه ،لكن وجه «�سيدوك» كان يتبعه ك�أنه له ظل!،
ش
ولقد كاد �أن ي�سبقه.
و ر
الت
وطيء «عمرو» بقدميه ثنتيهما وجه «�سيدوك» ،وجعله نقطة يندفع منها �إىل
و
الأعلى اندفاع ًة �أخرية ،وجنح ووطيء واندفع واعتلى �إىل �أعلى طرف اجلدار،
يع ز
لكن يف بغتة ومبادهة�ُ ،سحبت منه «ما�سا» �سح َب ًة �شديدة �إىل �أ�سفل�ُ ،سحبت
بقوة ت�ضاهي قوة اندفاع «عمرو»�ُ ،سحبت �سحبة مارد! .نظر «عمرو» وعينه
مت�سعة �إىل «ما�سا» التي تهاوت ويد «�سيدوك» جتذبها ب�شرا�سة ..واعتلى «عمرو»
على اجلدار ،ووم�ضت يف قلبه فكرة �أن يعود �إىل «ما�سا» ،لكن مل يكن الأمر
�صحيحا �أن يفعله ،فلم يجد نف�سه �إال واث ًبا من �أعلى اجلدار �إىل خارج ذلكً
املكان� ،إىل خارج اجلوداكيوال كلها.
z
حتت جنح الليل كان يقف ب�سواد جلده ومل يكن يبني منه �إال ملعة عيناه« ،بالل
ً
و�شمال فلم ي َر بن رباح» ،وقف بني كرثة من �أ�صنام الكعبة ،نظر حوله ميي ًنا
�أحدً ا ،ثم فج�أة �أخذ يب�صق على الأ�صنام ب�ص ًقا كارهً ا وهو يقول :خاب وخ�سر
يفطن لوجودهم فر�أوه ،ف�صدر منهم عبدكن ..لكن رجاال كانوا وراءه ومل ِ
من َ
ما يدُل على وجودهم فهرب «بالل» ،هرب وهو نادم على �أنه مل ي�سمع لكلمة
ر�سول اهلل ملا �أمره �أن ُيخفي �إ�سالمه ،هرب �إىل بيت �سيده واختفى فيه ،وجاء
301
الرجال �إىل بيت �سيده «عبد اهلل بن جدعان» ،وكان بينهم رجل خبيث نحيل،
«�أبو احلكم بن ه�شام».
خرج «عبد اهلل بن جدعان» ليلقى الرجال الثالثة ..ور�أى «�أبا احلكم بن
تعجب ،ثم قال �أبو احلكم� :إين �أرى غنمكم قد َمنت ه�شام» ُ
ينظر �إىل الغ َنم يف ُّ
وكرث لبنها وما كنا نعرف ذلك منها� ،إن عبدكم الأ�س َود الذي يرعاها قد �أتاه
ابن �أبي كب�شة ال�ساحر� ،سحرها مثلما �سحر تلك ال�شاة يف الوليمة التي دعا
ع
�إليها بنو ها�شم ..وكان الف�س َقة ُيل ِّقبون النبي البهي بابن �أبي كب�شة ت�شبيها له
ريص
برجل قدمي هو �أول من دعا قري�ش لهجر �أ�صنامها وعبادة جنم ال�شعرى يف
ال
ال�سماء ..قال «عبد اهلل بن جدعان» :هذه الأغنام قد �سم َنت من خ ِرينا ..قال
«�أبو احلكم» :يابن جدعان ما بك؟ �أ�صب�أتَ �أنت الآخر؟
ت ك
غ�ضب «عبد اهلل بن جدعان» وقال� :أومث ِلي ُيقال له هذا؟ ف�إن علي نحر مائة
ش ن
وب�صق عليها وذكر كالما من كالم «حممد» ثم هرب ملا ر�آنا.. الآلهة املق َّد�سة َ
ر
ً ً
فدعا بن جدعان ببالل ،وكان خمتف ًيا يف البيت لي�س خوفا منهم لكن خوفا من
الت و
مع�صية �أمر ر�سول اهلل ،حتى وجده �أحد العبيد ف�أتى له �إىل «ابن جدعان»،
و
قليل ثم قالف�أتى «بالل» وقالها يف وجوههم ومل يكذب! ،انده�ش «ابن جدعان» ً
يع ز
للرجال ،هو �ش�أنكما فهو لكما هذا العبد فافعال له ما �أحببتُما ،فلم ي�أخذه �أبو
احلكم ،بل �أخذه رجل من الثالثة يدعى «�أمية بن خلف» ،وكان فيه م َر�ض يف
روحه ،مر�ض نف�سي.
فتوج�س منه ..قال له «�أمية» :ال
نظر له «بالل» و�إىل طريقته يف احلديث َّ
ق�سم بالالت والعزى لت�صطفقن ت� ِأت حممدا ،ف�إن �أتيتَه وعلمتُ ذلك منك ف�أُ ِ
�ساعتها عليك امل�آمت ..جتاهل «بالل» هذا الكالم ويف م�ساء نف�س اليوم ذهب �إىل
احلبيب «حممد» ُمتف ًيا ،ومل يدر �أن «�أمية» قد �ألزم لبالل رقي ًبا عليه يرقبه
خفية ،ف�أتاه الرقيب باخلرب ،فانتظر «�أمية» يف ق�صره وكان من �أثرياء مكة،
جال�سا يف �إيوانه ينتظره ..قال له «�أمية» :ما هذا حتى جاء «بالل» ،فوجد «�أمية» ً
اختليت مبحمد؟ قال له «بالل» بثقةَ الذي بل َغني عنك �أيها العبد احلب�شي� ،أح ًقا
مل يتو َّقعها �أبدً ا� :أما و�أنه قد بل َغك �أمري وعلمت ب�إ�سالمي ف�إين ال �أخفي عليك
وقف «�أمية» وق َفة ِّ
املتكب �أين �آمنتُ باهلل وبر�سول اهلل و�إين ُجندي من جنودهَ ..
302
أمرك �شي ًئا ،واهلل لآتينك من
ل�ست �إال عبدً ا مملو ًكا �أ�سودًا ال مت ِلك من � َ
وقال لهَ :
�صنوف العذاب �ألوان ،ولنعلم �أي ُج ٍند �سي�ؤوونك يا جندي ال�شر.
فخرج املري�ض ووراءه «بالل» ُيكبله عبيد ..خرج به �إىل ال�صحراء ،يف فراغ
من النا�س و�سعري من ال�شم�س وتلهب يف الرمال فخلعوا لبالل ما عليه من
ال�سرتة ودفعوه ب�أقدامهم دف ًعا لينحني وكان ال يقدر �أن ي�ضع يده على الأر�ض،
مل�س جلد بطنه حمي ف�أم�سكوه وك َّبلوه تكبيال بالأغالل ثم دا�سوه ب�أقدامهم حتى َ
ع
ف�صرخ وتل َّوى يحاول القيام لكن ذلك ا�ستحال عليه ف�إن �أقدامهم كانت َ الرمال
ريص
على ظهره ور�أ�سه ،فاحرتق منه وجهه و�صدره ثم قل ُبوه على ظهره فنابه اللهيب
ال
فانتف�ض فدا�سوا على رقبته و�صدره ،وحتدرت دموع عينه من غري بكاء ونظر
من بني الأنني ليجد وجه «�أمية بن خلف» و�سمعه يقول :اك ُفر مبحمد يا عبدُ ،قل
ت ك
أنت عبد؟ ف ُيتم ِتم «بالل»أفتب�صق على �آلهتنا و� َ
�آمنت بالالت والعزى يا حب�شيُ � ،
ل ب
ب�شفتيه كالما ال يدريه «�أمية» ،فينزل بجذعه �إىل ناحية «بالل» لي�سمع ،ويركز،
ن ل
أن�صت «�أمية» ف�إذا ببالل يعلو �صوته ويقول: ف�إذا «بالل» يقول� :أحاد �أحااد ..ف� َ
ش
�أحد �أحد� ،أحد �أحد ...كان ُير ِّتلها لهم ً
ترتيل.
و ر
الت
فوغرت يف �صدر «�أمية» و�أغ�ضبته؛ ف�أم َر ب�صخرة كبرية من �صخور
و
ال�صحراء ،و�أمر بها �أن ُتربط على بطن «بالل» ليلت�صق ظهره يف الوهيج ،ف�أتى
يع ز
الرجال ب�صخرة يحملونها جميعهم وي�ضطربون يف حملها من ثقلها وال تدري
كيف طاوعه العبيد وو�ضعوها على �صدر «بالل» وربطوها وك َّبلوه بها ً
تكبيل ..قال
له «�أمية»� :إنك ال تزال هكذا حتى تك ُفر مبحمد وتع ُبد �سيداتك الالت والعزى..
و«بالل» ُ
ينظر له بعيون احم َّرت من ال َأل واللهبان ،وه َّز له ر� َأ�سه ورتَّلها يف وجهه
فقال� :أحد �أحد� ،أحد �أحد� ،أحد �أحد.
ودخل يف تلك ال�ساعة من تلك ال�صحراء ُم�سافر من مكان بعيد ..حالته
ووعثاءه ال عالقه لهما بال�سفر ،فمثله ال ُي�سافر كالب�شر ،كان ذاك «عمرو بن
جابر» قد �أتى ويف وجهه ا�شتياق �إىل النبي و�أ�صحاب النبي ،فر�أى ذاك امل�شهد
يف وجهه ،م�شهد «بالل» ،فتح َّول جميع �شوقه �إىل ق َلق ورعب ،مل ي ُكن يدري ما
يوم
«بالل» ،ف�آخر عهده ب�أ�صحاب النبي هم الت�سعة الذين �أتى بهم «�أبو بكر» يف ٍ
واحد ،لكنه كان يعرف «�أمية» ،ومن ذا الذي يعي�ش يف مكة ل�سنوات وال يعرف
رجل غن ًيا معتل النف�س وكان يقوم على خدمة الأ�صنام، «�أمية بن خلف» ،كان ً
و�إن جميع النذور التي ينذرها احلجيج للأ�صنام تكون من ن�صيب القائمني على
303
خدمة الأ�صنام �أو �سدنتها ،وكان «�أمية» واحدً ا منهم ،فالأ�صنام بالن�سبة له
حياة ،و�إن ذلك املعتل كان �ساعتها ي�أ ُمر العبيد �أن ُيزيلوا ال�صخ َرة عن �صدر
«بالل» ،لي�س تخ ِفي ًفا ،بل ٍ
لغر�ض �آخر.
�أم َرهم �أن يربطوه من رق َبته يف َح ٍبل ويداه ُمك َّبلتان ومي�شوا به يف طرقات
املدينة والولدان من حوله يلعبون به وي�ضربونه ،ولي�س على ل�سانه �سوى كلمة
عال للجميعب�صوت ٍ
ٍ واحدة يقولها رهقا� :أح ٌد �أحد� ،أح ٌد �أحد ..و�أعلنَ «�أمية»
ع
ب�صق على الآلهة ،فنظر النا�س �إليه و�إىل ال�صبيان يلعبون به �أن ذلك العبد َ
ريص
وهو يقول تلك الكلمة ال غريها ،فت�ضاحك النا�س على «بالل» ،وعلى كلمات
ال
«بالل» ،وعني «بالل» تطالع النا�س وفيهم امل�شدوه وال�ضاحك حتى ت�أ َّلقت عينه
وتب�سم ف�أ�ضاء ثغره
فه�ش «بالل» َّ و�سط كل هذا ،فلقد ر�آه ،ر�أى ر�سول اهللَّ ..
ت ك
وجهه ،واقرتب «بالل» يف �سريه باحلبل من ر�سول اهلل ،فقال له �سيد املر�سلني:
ل ب
يا«بالل»� ،س ُينجيك �أحد �أحد.
ر
النا�س ينظرون له ويعجبون ،وذهب النبي الهادي �إىل «�أبي بكر» وقال له :لو
الت و
بالل ..فهرع «�أبو بكر» لي�ستنقذ «بالل» ،وعند «بالل» كان عندنا �شيء البتعنا ً
و
كان قد جاء �أ�صحاب «�أمية بن خلف» وفيهم اللئيم «�أبو احلكم بن ه�شام» الذي
يع ز
بالل و يتنق�ص منه ،لكن «�أبو بكر» اقتحم كل امل�شهد م�سارع اخلطى جعل ي�ؤذي ً
وكلمة ر�سول اهلل عنده �أم ٌر واجب النفاذ.
قال لهما :ماذا تريدان بهذا امل�سكني؟ واهلل ال تبلغان به ث�أ ًرا ..نظر «�أمية»
�إىل �أ�صحابه هاز ًئا وقال� ،س�أل َعب لكم ب�أبي بكر لعبة ما لعبها �أحد فا�سمعوا..
وت�ضاحك والتفت �إىل «�أبي بكر» وقال� :أنت �أف�سدتَه فهيا ف�أنقذه� ،ألي�س على َ
دينك� ،أت�شرتيه منا؟ قال «�أبو بكر» :نعم �أ�شرتيه ..قال له «�أمية»� :أعطني عبدكَ
ً
ف�سطاطا احلداد ..قال «�أبو بكر» :و�إن فعلتُ تف َعل؟ قال :نعم.
فت�ضاحك وقال لأبي بكر :ال واهلل حتى ُتعطيني معه امر�أة ف�سطاط احلداد.. َ
فلك ذلك. قال «�أبو بكر» :و�إن فعلتُ تف َعل؟ قال :نعم ..قال «�أبو بكر»َ :
ثم ت�ضاحك «�أمية» الثالثة وقال :ال واهلل حتى تعطيني ابنه مع امر�أته ..قال
«�أبو بكر» :و�إن فعلتُ تف َعل؟ قال :نعم ..قال «�أبو بكر» :قد فعلت.
فت�ضاحك الرابعة وقال :ال واهلل حتى تزيدين مائتي دينار ..فقال له «�أبو َ
304
بكر»� :أنت رجل ال ت�ستحي من الكذب ..قال «�أمية» :ال واهلل لئن �أعطيتني لأفعل..
فقال له «�أبو بكر» :هي لك ..ف�أمر «�أمية» ال�صبيان �أن يبتعدوا ،و�أمر العبيد �أن
طلبت يف هذا
تفك رقبة «بالل» ،ودفعه دف ًعا �إىل «�أبي بكر» وهو يقول :واهلل لو َ
أبيت �إال
أيت �إن � َ
العبد دينا ًرا واحدا لبعتك ،هذا مقامه ..قال له «�أبو بكر»� :أر� َ
�ألف دينار لأخذ ُته منك ..و�أم�سك ببالل واحت�ض َنه و�أعت َقه ،فنظر لهما «�أمية»
وتعجب؛ كيف يد َفع فيه كل هذا ثم يع ِتقه! ،وقال� :إمنا �أعتقتَه يا
ويف قلبه ِنقمة ُّ
ع
جلميل كان له عندك ..ف�أنزلت من بيت العزة �آيات يف «�أبي ٍ ل�صنيع �أو
ٍ �أبا بكر
ص
بكر»..
ال ري
ِّ ْ َ ُ ْ َ ٰ َّ َ َ ََ ﴿و َس ُي َج َّن ُب َها ْالَ ْت َق * َّالِي يُ ْؤت َم َالُ َي َ َ
ت َّ ٰ
ى * إِلك * َوما ِلح ٍد عِندهُ مِن نعم ٍة تز ِ
َ
ْ َ َ َ ْ َ ِّ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َٰ
ع * ولسوف يرض﴾ . ابتِغاء وج ِه رب ِه ال ٰ
z
ت ك
ن ل ل ب
م�شى «عمرو بن جابر» يف ال�شعاب وهو مهموم ومتكدر« ..بالل» كان م�شهده
ش
�صع ًبا خا�صة م�شهد ت�شوه �صدره وظهره باحلرق ،وتلك الكلمة التي كان يقولها
ر
همه حتى بثبات� ،أحد �أحد ،بلهجته الأجنبية كان يقولها ،ظ َّل «عمرو» على ِّ
الت و
جاءت به خطواته �إىل ال�سوق ،وهناك ا�صطدم بكارثة �أخرى! ،كان �سيد قبيلة
و
بني �سهم مي�شي يف ال�سوق وحوله �أذنابه من الرجال ،وكان ا�سمه «العا�ص بن
يع ز
وائل» ،وكان من عينة �شيوخ القبائل الذين يظنون �أنهم قد بلغوا اجلبال ً
طول،
دخل «العا�ص» �إىل متجر لل�سيوف ،يعمل فيه الرجل امل�سكني احلليف امل�سلم
«خباب بن الأرت» �صانع �سيوف ،و�س ِّيدته معه يف املتجر ،وهي امر�أة يف وجهها
الع�سر والتع�سري ،وا�سمها «�أم �أمنار» ،فلما ر�أت �سيد بني �سهم قد �أتى �إىل
والحظت �أن «العا�ص بن وائل» ُ
ينظر �إىل «خباب» منذ َ متجرها ه�شت به وب�شت،
ب�شر بخري ،وكان «العا�ص» قد ا�شرتى �سيو ًفا منذ �شهر من �أن دخل نظرات ال ُت ِّ
املتجر و� َّأج َل دفع ثمنها ،ويبدو �أنه قد �أتى اليوم ليدفع.
عليك كذا وكذا ..قال له العا�ص :ال � َ
أعطيك حتى تك ُفر قال له «خباب»� :إن َ
مبحمد ..قال «خباب» :واهلل ال �أك ُفر حتى ُييتك اهلل ثم ُتبعث ..توترت «�أم
َ
متالك وقال :مه �أمنار» وانده�ش «العا�ص» يف و�سط �أذنابه الذين وراءه لكنه
و�إين مل ِّيت ثم مبعوث؟ قال «خباب» :بلى ..ف�ضحك وقال :دعني حتى �أموت
مال وولدً ا ،حينها �أق�ضيك دينك ،فماذا ترى يا «خباب»؟ و�أبعث ثم لأوتني ً
ح�سن الرد.
ف�سكت «خباب» ومل ُي ِ َ
305
أ�صحابه ﴿ ر�سول اهلل َ يت ُلَّو بني � آن ..فجعل
َ َ َ ْ
َ و� َ
أنزل اهلل يف ذلك َال�ش َ� ُأن قر�
ٰ ً
َ َ َّ َ َ َ ً َّ َ َ ْ َ ِ َ َ َ َّ ْ َ َ ْ ً َّ َ ََ َ َ ََ ْ َ
الرح ِن عهدا أف َرأيت الِي كف َر بِآيات ِنا َوقال لوتي مال وولا *أطلع الغيب أم ات ْذ عِند
َ ُ ْ َ ْ َ َّ
* كل ۚ َس َنك ُت ُب َما َي ُق ُول َو َن ُم ُّد لُ م َِن ال َع َذ ِاب َم ًّدا * َونَ ِرث ُه َما َي ُق ُول َويَأت َِينا ف ْر ًدا﴾ ف�أنزل
رجل ا�سمه «العا�ص بن وائل» ،فكان اخلتم الثاين على رجل �أنه من �أهل النارُ ،
له من ا�سمه ن�صيب.
الت َفت «العا�ص» �إىل «�أم �أمنار» وقال لها� :إن ابني ه�شام قد �صب�أ مثل
ع
غالمك هذا ،و�إين لأجلده كل يوم جلدً ا ،فال تدعي �أولئك الف�س َقة يهينون
ريص
�آلهتنا ..وان�صرف «العا�ص» ومل يدفع دينا ًرا واحدً ا ..وبقي «خباب» ُيواجه «�أم
ال
عب�ست وحلفت بكل الآلهة لرتين «خباب» كيف يكون املوت والبعث �أمنار» التي َ
واحل�ساب.
وانقب�ض قلب «عمرو» مما ر�أى من قتامة روح تلك املر�أة� ..شتمت «خباب»
ت ك َ
ن
و�أزا َلت عنه رداءه الأعلى وكان يف نف�سها ِعلة ت�شابه علة «�أمية بن خلف»� ،إال
ر ش
�أنها ت�أ َّثرت بكالم «العا�ص بن وائل» و�أرادت �أن تتق َّرب �إليه لأنه من �أح�سن
الت و
املُ�شرتين ،لكنها متادت� ،أ�شعلت نا ًرا م�ستعرة لها لهيب ،ثم �أمرت الذين عندها
و
من العبيد �أن مي�سكوه وي�ضجعوه بظهره عليها ثم ي�سحبوه عليها �سح ًبا حتى
يع ز
تنطفيء ،وكانوا يفعلون هذا يف «خباب» و�أحدهم وا�ضع رجله على �صدره ي�سلقه
يف النار �سل ًقا حتى �سمع �صوت ظهره وهو يطفيء النار! ،جت َّمرت عيون «عمرو
بن جابر» بلون اجلمر وهو يذكر م�شاهد من نار و�أج�ساد حترتق يف حفرة يف
اليمن ،ف�أعر�ض بوجهه والنار يف عينه حترت ،وخرج «عمرو» من عند «خباب»
و�صوت «خباب» ي�ص ُرخ ويطرق يف �أذنه وقد ذهب جلد ظهره من احلرق ،و�صوت
النمرة «�أم �أمنار» ت�صيح فيه و ُت ِهينه.
فلما �أطل َقته يف �آخر اليوم انطلق جمهدً ا �إىل ر�سول اهلل ي�شتكي ..فدعا له
ان�صر خبا ًبا ..وعاد بها «خباب» مطمئ ًنا �صاب ًرا ،وظ َّلت نبي الرحمة وقال :اللهم ُ
النمرة ُتقيم عليه العذاب وت�أمره �أن يعود �إىل احلجارة بعد �أن عرف النور ،ف�أبى
ويحت�سب.
ِ و�أبى ،و�أ�شدت عليه يف العذاب فكان يت�أ َّوه
هات كانت ُتطارد «عمرو بن جابر» وبدا ل�سمعه �أنها تند ِلع من �أماكن ت�أ ُّو ٍ
عدة ..فكان مي�شي ويكتم �سمعه لئال ي�سمع لكن �سماع اجلن يلتقط كل �شيء،
وتوجه �إىل ناحية ال�صوت، �سمع �أ َّنات من رجال و�سمع �صرخة امر�أة ،فقلق َّ
306
فوجد جماعة من الكافرين قد �أم�سكوا بعمار بن يا�سر ذو العيون الزرق ،املوىل
اليماين الذي لي�ست له قبيله ،و�أم�سكوا معه �أمه «�سمية» و�أبوه «يا�سر» وكانا قد
�شاخا و�ضعفا ،ويف الكافرين كان النحيل اخلبيث «�أبو احلكم بن ه�شام» واق ًفا،
ومعه رفقة له ،وقد علم «�أبو احلكم» ب�إ�سالم «عمار» و�أبيه و�أمه ،وعلم �أن لي�س
لديهم �أحد يدفع عنهم ،فجعل يتلهى بهم؛ ف�أمر العبيد �أن يوثقوهم باحلبال،
و�سح َبهم معه �سح ًبا مهي ًنا �أطاح بكرامتهم ،و�أطاح باتزان ووقار ال�شيخ
ع
وال�شيخة و�صارا يتعرثان وي�سقطان وترتدى وجوههم يف الرتاب ،وظ َّل الف�سقة
ص
ي�سحبونهم حتى انتهوا بهم �إىل �صحراء رم�ضاء يف كبد الظهرية ،و�ألقوهم على
ال ري
رمال حام َية الفحة ،وتركوهم يف �سعار ال�صحراء ،بال طعام وال �شراب ،فقط
تركوهم والعبيد عليهم حار�سون ،على �أن يرجعوا �إىل دين احلجارة.
ت ك
وكانوا يعودون �إليهم كل حني ،تارة �ساخرين وتارة غا�ضبني ..حتى تفتقت
ب
�أذهان ال�شر عن مزيد من الإيالم ،فعمدوا �إليهم وهم يت َل ُّوونَ يف ال�صحراء غري
دروعا من حديدألب�سوهم ً
ن ل ل
قادرين على الوقوف ب�أرجلهم احلافية على الرمال ،ف� ُ
ش
يك «عمار» أ�سخنتها ال�شم�س بعد حني فك َوت لهم �أجنابهم و�صدورهم ،ومل ُ � َ
و ر
يكرتث ب�أي �شيء �إال ب�ضعف �أمه و�أبيه الذين �سكنت حركتهما و�ضعفت �آهاتهما،
و الت
وكان ال يعرف حياتهما �إال من حركات ي�سرية يلحظها كل حني! ،وتهالك «عمار»
ز
َ ووهن ،حتى ر�أى ر�سول اهلل ُم ً
يع
فا�ستب�شر ،ور�آه ال�شيخ وال�شيخة، قبل مكانه َ
فتح َّر َكت حركتهما الواهنة ،فجاءهما ر�سول اهلل وهو �إىل حالهم ناظر ،فقال:
يا�سر� ،ص ًربا �آل يا�سر ،ف�إن موعد ُكم اجلنة.
�ص ًربا � َآل ِ
مت�ض �ساعات من فرحوا بها و�سعدوا ،وملحت يف وجوههم ب�سمة منهكة ..ومل ِ
�آخر ذلك النهار حتى عجز ج�سد ال�شيخ �أن يتح َّمل ،فغادر الدنيا �إىل حيث وعد
�شهيد يف الإ�سالم ،و�أول من ر�أى اجلنة من �أمة «حممد»، ر�سول اهلل ،فكان �أول ٍ
«يا�سر» ،الرجل الذي �أ َبى مع كل �شيء �أن ُيعطيهم كلم ًة واحدة مما �أرادوا..
ينظر �إىل الرجل الذي مات ،والأم نفر من �أ�صحابه ُ وجاء «�أبو احلكم» يف ٍ
التي كادت ،و«عمار» الذي يبكي ..و�أعا َد عليهم العر�ض؛ �أن عو َدا �إىل جناب
الآلهة حتى ال تلحقا بال�شيخ ..فما وجد منهما �إال مزيدً ا من الإباء ،فغ�ضب
ب�سم َّية العجوز الرقيقة ،و�سقط قلب «عمار» من الفجعة الفا�سق وجهل و�أم�سك ُ
حما
قيده وجالديه ،والتقط «�أبو احلكم» ُر ً و�أ�ستنزف قوته كاملة يف اخلال�ص من ِ
َ
من �أحد العبيد ،وبدون كلمة �أو حديث �أو ذ َّر ٍة من تع ُّقل ،طعنها بالرمح من �أ�سفل
307
منها يف مو�ضع العفة ،و�سقطت الكرمية ال�شهيدة الأبية العفيفة �إىل الأر�ض وقد
حلقت زوجها �إىل ع ِّليني؛ فكانت �أول �شهيدة يف الإ�سالم و�أول من ر�أَت اجلنة من
وحتجرت دموع الدم يف عني ابنها «عمار» فما �صارت زرقة ن�ساء �أمة «حممد»َّ ،
عينه ترى ،وتراخت ر�أ�سه �إىل الوراء وقد انك�سر فيه كل �شيء ،لكن اجلهول مل
يتو َّقف ،و�أمر بنار ،فجا�ؤوا له مب�ش َعل كبري �أوقدت به نار ت�ضطرم �أمام عينيه،
ثم �أمر اجلاهل العبيد �أن ُيديروا عما ًرا وينزعوا ثيابه ليبني ظهره ،فلما فعلوا
ع
ر�أى الرجل الأجهل �آثار ل�سع الرمال على ظهر «عمار» ف�أتى بخنجر وقطع يف
ريص
طويل غائ ًرا ف�صرخ عمار بن يا�سر �صرخ ًة حاول �أن يكتمها لكنه ظهره قط ًعا ً
ال
م�صروعا بعد �أن و�ضع اجلاهل امل�شعل على ظهره فحرقه ً مل�سوعا
ً فج�أ ًة �صرخ
بالنار.
ت ك
وبل َغ النبي ما بل َغه عنه فجاءه النبي بعد �أن تركه �أ�ساودة القلب ..وم�سح
ش
كنت على �إبراهيم ..فلم حترقه من بعدها نار وال لفحته �شم�س على عمار كما ِ
ر
وال ل�س َعته رمال ،و�أطلق النبي على «�أبو احلكم» ا�سما ُينا�سب ما فعله ،ا�سم «�أبو
الت و
جهل».
ز و
ومل َيدع «�أبو جهل» «عمار» بل َ
يع
جعل الأمر حياة �أو موتًا� ..إما �أن ترتُك هذا
الدين �أو متوت! ،وملا الحظ �أن احلرق ال ُيجدي معه �شيئا� ،أخذه ف�سحبه من
�شعره و�أغط�س ر� َأ�سه يف حو�ض مملوء ماء حتى ي�ش ُعر بقرب انهيار «عمار»
فريفعه ويقول له :ا�شتُم حممدً ا ..ثم ُيغط�سه تارة �أخرى ...وظ َّل يفعل به هذا
كالما �سي ًئا يف ر�سول اهلل ،فرفع «�أبو
حتى قالها «عمار» من بني دموعه؛ قال ً
أهذه �إلهتك من دونجهل» يف يده ُخ ْنف�ساء وو�ضعها �أمام وجه «عمار» ،وقال لهِ � :
رب حممد؟ فيقول :نعم هذه �ألهتي ..فرتكه «�أبو جهل» مي�ضي ،ف�أخذ «عمار»
يبكي ويبكي ،وال يدري ماذا يبكي� ،أبوه و�أمه �أم قولته يف ر�سول اهلل ..وانطلق
م�سح عن عينه دموعه ،وقال له «عمار» �إىل ر�سول اهلل فلما ر�آه النبي يبكي َ
ُم�شفقا� :أخذك الكفار وغطوك يف املاء؟ ف�أوم�أ بر�أ�سه وقال :واهلل ما تركوين
منك وذكرتُ �آلهتهم بخري ..قال له ر�سول اهلل :كيف جتد قل َبك؟ قال: حتى نلتُ َ
ُمطمئن بالإميان ..فقال له النبي :ف�إن عادوا ف ُعد و ُقل لهم ذاك.
z
308
وبكى «عمرو بن جابر» ..بكى وابت َّلت �صخور قلبه ف�أ�صبح مي�شي على غري
هدى ،تبزغ له عن اليمني وعن ال�شمال كمثل العواميد يف كل عمود �صرخة رجل
عذب يف دين اهلل ،فكان ال يدري �أين يذهب ،مل يقت�صر العذاب على �أو امر�أة ُي َّ
املوايل والعبيد ،بل امتد �إىل �أبناء القبائل من قبائلهم ،م�ضى «عمرو» ليجل�س
عند الكعبة لع َّله يجد فيها �سلوى ،فر�أى «عبد اهلل بن م�سعود» ،ذلك الراعي
بعزم �إىل ركن الكعبة عند مو�ضع يعج بالأ�صنام ثم �شديد النحول ،كان مي�ضي ٍ
ع
يعلوْ ،ثم �صاح :ب�سم ي�ستدير �إىل قري�ش و ُي�صدر حركة ُت ِنذر ب�أن �صوته �سوف
ص
َّ ْ ُ َّ ْ َٰ ُ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ َ َ َ
النسان * علمه اليان * الشمس اهلل الرحمن الرحيم﴿ ،الرحن * علم القرآن * خلق ِ
ري
َ َْ َُ ُ ْ َ
ال
َ َّ ْ ُ َ َّ
الش َج ُر ي َ ْس ُج َد ِان﴾ ...كان يبدو �أن «ابن م�سعود» قد غار ان * وانلجم و
والقمر ِبسب ٍ
من تعذيب قري�ش لأقرانه من املوايل ،ولي�س املرء يدري ما الذي �أحدثه ر�سول
ت ك
اهلل يف نفو�س ه�ؤالء القوم بال�ضبط ..قال الكافرون لبع�ضهم ملا ر�أوه :ماذا يقول
ابن �أم عبد؟ وكانت كنية له ،قالوا� :إنه ليت ُلو بع�ض ما جاء به حممد ..فقام �إليه
ش
ال�ضربة يف كل مرة ،وهو واقف يقر�أ حتى ظهر منه الأثر والدم ،ثم ان�صرف �إىل
ر
بيت الأرقم فتل َّقاه امل�سلمون وقالوا :يابن م�سعود هذا الذي خ�شينا عليك ..قال:
الت و
علي منهم الآن ،ولئن �شئتُم لأغادينهم مبثلها غدً ا.. ما كان �أعداء اهلل �أه َون َّ
و
قالوا :ال ال ح�س ُبك ،لقد �أ�سمعتَهم ما يكرهون.
عذب يف
يع ز
وتن َّكد «عمرو» وح َّدثته نف�سه بنف�س ذات الغرية ..فك�أنه متنى �أن ُي َّ
اهلل ،وبينا هو يفكر �إذ وجد �أحد عواميد ال َأل البارزة يف الهواء يقرتب ،فنظر
ب�ضيق ف�إذا هما رجالن مو َّثقان باحلبال ،وجمع من النا�س وراءهما يتبعهما،
وامر�أة عجوز ت�صيح وت�ضرب �أحدهما على ر�أ�سه وت�سبه ،نظرة �أخرى من
«عمرو» كانت كافية �أن يعرفهما؛ «�أبو بكر» و«طلحة بن عبيد اهلل» ،وهما ابني
ت�سبه وتل َعنه ،وراءها جماعة من بنو تيم ،والذي عم ،والعجوز هي «�أم طلحة» ُ
ويج ّرهما هو رجل طويل عظيم الهامة �ضخم مفتول الع�ضالت، يوثقهما باحلبال ُ
من �أقوى ع�شرة فر�سان يف قري�ش« ،نوفل بن خويلد»� ،أخو «خديجة» زوجة النبي
رجل �شر�سا ُتل ِّقبه قري�ش باحلوت من �ضخامته ،ويبدو �أن «�أم وخال �أوالده ،كان ً
طلحة» هي التي ا�ستدعته لينت�صر للآلهة ملا وجدتهما يذكرانها ب�سوء ..كان
احلوت ي�سحبهما وراءه ك�سحبة املا�شية لي�سخر منهما �صبيان املدينة.
أمر جعله يتلظى بالغ�ضب.. وفج�أ ًة �أ�س َّر �أحد ال�سائرين يف �أذن احلوت ب� ٍ
رجال من بني تيم وابن أتعذب ً
ولي�س من احلكمة �أن يغ�ضب مثل هذا ،قالوا لهِّ � :
309
�أخوك قد حذا حذوهما؟ قال من هو؟ قالوا� :أخوك العوام ،ابنه كفر ..تو َّقدت
عني احلوت« ،الزبري بن العوام» كفر بالآلهة ،العوام الفار�س املغوار ،الذي
مات يف حرب الفجار ،ابنه كفر ،و«الزبري» كان �أبوه هو «العوام بن خويلد» �أخو
«خديجة» واحلوت ،و�أمه «�صفية» عمة النبي ،فقرابته للنبي من اجلهتني ،لكن
امل�شكلة كانت �أن احلوت «نوفل بن خويلد» كان عمه ،فرتك «نوفل» «�أبا بكر»
إجراما عظي ًما ،ف�أم�س َكه ول َّفه
و«طلحة» وتوجه �إىل «الزبري» ،و�أجرم يف «الزبري» � ً
ع
يف ح�صري و�ألقاه يف ُحجرة و�أ�ض َرم النار عند بابها وتركه ُمق َّيدً ا ،ودخان النار
ص
ي�سرق منه حياته ،حتى �إذا ا�شت َّد �سعاله و�صراخه �أطف�أ النار عليه ،لكن «الزبري»
ال ري
كان �شديدً ا ب�شدة �أمه عليه ،و�شديدً ا بنور «حممد» ،فلم ي�أخذ احلوت منه �شي ًئا،
بل �إن عينه كانت تت�ألق حتدِّ ًيا وت�صدِّ ًيا ،فت�أ َّثرت نف�س نوفل بهذا الثبات وتركه،
ت ك
كان يظنه فتى خان ًعا مت�صاب ًيا ،لكنه علم �أن لو �أ�شعل هاته النار يف جوفه ما هو
ب
زحزحه عن «حممد». ُمب ِ
ش
�إىل بيوت قريبة يريد �أم ًرا بعينه ،امر�أة جارية ر�آها يف �أول اليوم يعذبونها على
و ر
جتد لها �سام ًعا ون�ص ًريا ،لكن «�أبا بكر» كان الإ�سالم ،امر�أة ب َكت وبكت ومل ِ
و الت
هنالك ،بعد كل الذلة والتهالك �أتى «�أبو بكر» ،وتفاو�ض مع املجرمني على �أن
يع ز
ي�شرتيها ،ف�أحبوا ما عر�ض من مال فباعوها له فا�شرتاها ،وكانت امر�أة رومية
�أجنبية ُتدعي «زنرية» ،وكانت تبكي لأيام وال ت�ستطيع ن�ص ًرا لنف�سها �إال �أنها
تبكي ،فلما �أعتقها «�أبو بكر» �أ�صابتها �صدمة من الوجد فقامت وال تدري �أين
تنظر الطريق ك�أنها عم َيت وذهب ب�صرها ،وكان حالها ت�ست�صعبه النف�س وهي ُ
�أمامها وحولها غري مدركة لأي �شيء! ،قال من كانوا �أ�سيادها وهم يت�ضاحكون:
ما �أذهب ب�صرها �إال الالت والعزى ..فتوقفت املر�أة عن امل�سري ،ورمقت �إىل
ت�ضر الالت والعزى وما ناحيتهم بجانب من عينها وقالت :كذبتُم وبيت اهلل ما ُ
تنفعان ،ما تدري الالت والعزى من يع ُبدهن ،ال يذهب وي ُرد الب�صر �إال رب
ا�ستعجاب ورهبة ،ولقد
ٍ الب�صر ..فكانت قوتها يف حديثها بعد �ضعف وبكاء مثا َر
ر َّد اهلل �إليها ب�ص َرها ومل ي ُكن ِذهابه �إال �صدمة.
لرجل م�شرف يف القوم �أميا �شرف ..ومل ور�أى «عمرو» � َألا يطلع يف ال�سماء ُ
ممنوعا من الطعام ً ذهب �إليه فوجده مو َّث ًقا باحلبال
ُي�صدِّ ق «عمرو» حتى َ
وال�شراب« ،عثمان بن عفان» ،الغني الزكي� ،أوثقه عمه برباط وقال له� :أترغب
عن ملة �آبائك �إىل دين حمدث ،واهلل ال �أحلك �أبدً ا حتى تدع ما �أنت عليه من
310
يوما
هذا الدين ..وكان «عثمان» ي�أبى ،و�أ�صبح ينظر �إىل نف�سه ،كنت تت�ساءل ً
يا عثمان ما حاجتك مبحمد بعد �أن تزوجت رقية من عتبة بن �أبي لهب ،واليوم
تقول ما حاجتك بالدنيا كلها بعد �أن عرفت حممدً ا ،ويثبت ويبقى على ثباته
حتى يحار عمه يف �أمره.
ونف�سه قد حدثته �أن يعود �إىل وبني �آالمهم و�أوجاعهم كان مي�شيُ ..
اجلوداكيوال ليعذبه امل�سترتون يف الظالل حتى يقطعوا �أع�ضاءه كلها يف �سبيل
ع
اهلل ،لكنه تع َّلم من م�سريه بني امل�سلمني �أن العذابات مل ت ُكن فقط ج�سدية ،بل
ريص
كان بع�ضها نف�س ًيا ،فذاك الفتى ال�صغري الأ�سمر �صانع ال�سهام «�سعد بن �أبي
ال
وقا�ص» ،كانت تنتظره يف بيته ِمنة� ،أمه كانت بنت �أبو �سفيان ،ا�سمها «حمنة»،
عنيدة معاندة كانت ،قالت :يا �سعد �إين قد بل َغني �أنك �ص َبوت ،فواهلل ال يظلني
ت ك
�سقف وال �آكل وال �أ�شرب حتى تك ُفر مبحمد وترجع �إىل ما كنت عليه ..قال لها :ال
ل ب
جمهدة وقالت :يا َ تفعلي يا �أمه ف�إين ال �أدع ديني �أبدً ا ..فم�ضى يوم وليلة ،و�أتته
ن ل
بني ما هذا الدين الذي �أحدثت ،لتدعنَّ دينك هذا �أو �أظل على هذا حتى �أموت
ش
عريك النا�س بي ..وجعلت نف�سه تت� َّأل لأملها و�صفرة وجهها ،فم َّر يو ٌم �آخر، ف ُي َ
و ر
وج َّفت روحها من الأمل ،ف�شكا «�سعد» �إىل ر�سول اهلل ،فنزل يف �ش�أنها قر�آن.
الت
ُّ ْ َ ْ ََ ُ َُْ َ َ َ َ َ َ َٰ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ
و
َ َُْ
ادلنيا شك ِب ما ليس لك ب ِ ِه عِل ٌم فل ت ِطعهما ۖ َوصاحِبهما ِف
﴿وإِن جاهداك ع أن ت ِ
ز
ً
يع
َم ْع ُروفا﴾ۖ ،فرجع �إىل �أمه وحالها ي�ؤلِ ه ،وجاء اليوم الثالث و�أغ�شي عليها ،فلما
نف�سا ،ما
نف�سا ً
قامت ابتدرها وقال :واهلل لو كانت لك �ألف نف�س ،فخرجت ً
�شئت ف ُكلي و�إن ِ
�شئت فال ت�أكلي ..فلما ر�أتَ منه هذا تركتُ ديني هذا ل�شيء ،ف�إن ِ
�أذع َنت وانقادت �إىل واقع يعلو حتى على �أمومتها ف�أك َلت و�شربت.
وماثلتها «�أم م�صعب بن عمري» ..امر�أة حازمة �صارمة رغم تدليلها البنها
الذي كان يبدو مثل الأمري ،لكنه �إذ نور قلبه الإ�سالم �أخفاه خو ًفا منها ،لكن
كيف تخفي و�أنت تذهب �إىل جمال النبي يف دار الأرقم كل يوم ،فانك�شف الأمر
حب�سته فيها وعزمت على �أال ُتخرجه منها ف�أخذته �أمه ورمته يف ُغرفة �صغرية َ
�أبدً ا ،و�أنفذت عزمها فبقي فيها وقلبه يذوب من الأمل ،يود �أن ي�صاحب ر�سول
اهلل ،فالنور الذي كان عليه �أ�ضاء يف قلوبهم وتل َّمع فلم يعودوا ي�صطربوا على
�أال يكونوا حوله� ،أال تراهم عينه وهو ر�سول اهلل الذي �أر�سله خالق ال�سماوات
والأر�ض ،يعينونه وي�ؤازروه فري�ضى عنهم اهلل وير�ضوا عنه.
z
311
�أ�صلع الر�أ�س طويل القامة مفتول البنيان� ،أ�سمر اللون ذو حلية كبرية
مهيبة ،عجيب �شباب قري�ش ،ما ي�صارعه �أحدهم �إال غلبه ،وال ي�سابقه �أحدهم
�إال �سب َقه ،من �أح�سن ع�شرة فوار�س يف قري�ش مثله مثل حمزة واحلوت ،لكن هذا
وحدة يف ال�شخ�صية وحدة يف التفكري ،كان نائ ًما حتت كانت فيه ِحدة يف املالمح ِ
�أقدام الآلهة يف جانب من احلرم ،نائم وم�ستغرق يف النوم ،وعادته �أن ينام يف
�أي مكان �آم ًنا على نف�سه ،اجلميع يهابونه ،عزيزً ا كان وا�سع الكتفني ،م َّر بجواره
ع
رجا ٌل من قري�ش ومعهم ِعجل كبري �آتني به يذبحونه ،فا�ستي َقظ وفتح عينيه،
ص
انقلب بها حال مكة و�سادات مكة وم�ساكني مكة �صارمة ،نظرة ََ وكان ذا نظر ٍة
ال ري
بعد هذا ب�أيام وانكف�أ الر�أ�س على العقب ،نظرة «عمر»«- ،عمر بن اخلطاب».-
ت ك
z
ن ل ل ب
ر ش
الت و
ز و
يع
312
عبدت احلجر �صار قلبها مثل احلجر ..هذا �شيء ال ُي�ستغرب لأنهم يذبحون كل �أمة َ
الب�ش لأجل احلجر ويقتُلون لأجل احلجر ،وقري�ش كانت فقط واحدة من �أمم كانت قبلها َ
ع
وحتجرت قلوبها و�أفهامها ،ه�ؤالء الأمم جمي ًعا ال تكون يف قلوبهم رحمة ،خا�صة
عبدت احلجر َّ
ريص
أ�شد من غريهم يف الزمان ،و�إن
�إذا كانوا �أبناء �صحراء مثل العرب ،فكانت حجارة قلوبهم � ّ
ال
«حممد» و�أ�صحابه قد �أُحيط بهم و�سط كل هذا الكم من احلجارة.
ك
وذكرنا برجل قدمي يف الزمان خرج علينا «حممد» �أثار اجلن و�أثارنا مبا لديه من العلمَّ ..
ت
يكن ك�أي رجل منكم ادعى مر ًة ففج�أ �ألبابنا و�أفهامنا ،رجل قال عن نف�سه �أنه نبي ومل ُ
ش
جو�ستار ،فج�أة وجد جيل كامل من اجلن �أنهم ظاهرون ،ب�أجنحتهم وقدراتهم و�إ�رساعهم
ر
وم�ساكنهم ظاهرون ،يراهم كل النا�س ،رجل واحد �آمن له كل ذلك اجليل من اجلن عن
الت و
بكرة �أبيهم ،رجل ا�سمه «�سليمان» ،ومملكته كانت من النيل �إىل الفرات يف �أعظم ات�ساع َ
ز و
بال�سخرة والت�سخري والأجر ،نعمل له الق�صور والتماثيل
ململكة يهود ،وكنا نعمل عنده ُ
يع
ون�ستخ ِرج له كنوز البحر ،وكان ً
رجل خ ًريا ي�أمرنا �أن ن�صنع له قدورا عظيمة �ضخمة
تط ُبخ فيها الن�ساء وموائد �ضخمة ُيطعم بها الفقراء وامل�ساكني يف كل يوم ويف كل بلدة من
بالد مملكته.
كان يخبئ عن اجلميع كنوزه وعلومه فلم يد ِر �أحد من �إن�س �أو جن كيف ح�صل عليها!،
وكان يدعو ربه كل حني �أن تخفى كنوزه وعلومه فال تنبغي لأحد من بعده ،كان يقول
�أنه نبي لكنا ال ن�ؤمن �أن من الب�رش �أنبياء ،هم يقولون �أنهم �أنبياء لأنهم يريدون ال�سلطان� ،أو
يريدون االهتمام ،ي�ستخدمون الدعوة �إىل اهلل والدعوة �إىل الف�ضيلة لتحقيق غر�ضهم ،هذه
عقيدتنا فيهم.
البحر بع�صاه ف�أعجزنا
َ لكن جتري على �أيديهم �أمور �أعجزَ تنا عن فهمها« ..مو�سى» �شقَّ
وخرق الطبيعة�« ،سليمان» �أظهرنا جمي ًعا وكانت معجزته امللك« ،عي�سى» كان ُيحيي
املوتى وكانت معجزته مل تُ�سبق ولن تُ�س َبق ،و«حممد» معجزته العلم ،كان يعلم الغيب
من �أمر اجلن ويعلم �أمر الأمم ال�سابقة وعقائدهم و�أين بدلوا فيها وزاغوا ،ومعجزته �أنه يرانا
313
وي�سمعنا ،بل يقول �أنه �أُر�سِ ل للجن والإن�س ،ومل يكن يرانا يف هيئتنا اجلنية قبله من الإن�س
�صدق كثري من اجلن �أن حممدا نبي ،و�صدق كثري من اجلن �أن من �أحد ،حتى �أنبياء الإن�س ،نعم َّ
�سبقه كانوا �أنبياء ،لأن هذه �أمور ومعجزات ال يت�أتى بع�ضها لأحد ،حتى لنبينا «لو�سيفر»،
لكن املخل�صني للو�سيفر �أمثالنا يعلمون �أن ه�ؤالء �أنبياء زائفون ،لأنهم يذكرون «لو�سيفر»
ذكر ال�رش ،وهو البهي الأمري اخلالد املخ َّلد ِ
العال بكل �شيء يف الزمان.
ع
حممدا كان ال يزال يف البداية ..و�إن ما �أحدثه «حممد» فيما بعد مل ُ
يكن �شيئًا واهيا، لكن ً
ص
بل قد ُكتب يف الزمان ،وح َّول د َّف َة الزمان.
ال z
ري
ت ك
ب نل
ل
شر
وال وت
زيع
314
ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
رش
الت و
ز و
يع
316
()13
أكسيوم
حب
�شاهد برهان ..له َ�ص ٌ بلد كان ا�سمها يف الكتاب فاران ..خرج فيها نبي ِ
كرام كالل�ؤل�ؤ واملرجان ..عدا عليهم قو ُمهم بالعنف والعنفوان ..فكانوا بني
ع
وجعان و�صربان ..و�أظلم الدهر عليهم بعد منة الرحمن ..فما عادوا يرون �إال
ص
ُظلمة ونكران ..ويف و�ض�أة من الزمان ..يف يوم من �أيام فاران� ..سمعوا �أن الليلة
ال ري
ُيقام عر�س ال�شريفان ..البنت بنت النبي �صاحب الإح�سان ..رقية الأمرية زينة
الأزيان ..والزوج رجل عفيف «عثمان» ..الن�سب واحل�سب واملال والب�ستان ..وما
ت ك
ر�آهما يف تلك الليلة �إن�س وال جان� ..إال ر َّدد �أن �أح�سن زوج ر�آه �إن�سان ..رقية
ب
وزوجها عثمان.
ش
تنكيد �أهله الكافرين ،وتنكيد عمه ،و�أتاه الفرج يف قولة قالها النبي لأ�صحابه،
و ر
قالها لهم وهو خري من يعلم حالهم ،جم َعهم وقال� :إن ب�أر�ض احلب�شة مل ًكا ال
و الت
فرجا مما �أنتم فيه.
يظلم عنده �أحد؛ فاحلقوا ببالده ،حتى يجعل اهلل لكم ً
يع ز
ويف غفلة من النا�س ..خرج «عثمان بن عفان» ومعه بنت ر�سول اهلل الأمرية،
يف طريق جهيم ،تار ًكا وراءه �آماله وجتارته وب�ساتينه ،يركبان على دابة ،ولي�س
معهما �إال ما ين�شئ لهما حياة جديدة يف �أر�ض جديدة خ�ضراء ال يعلمان عنها
�شي ًئا ،وعلى �ساحل بحر القرم� ،صعدا م ًعا على �سفينة كبرية م�سافرة بني
متوجهة �إىل مملكة �أك�سيوم ،مملكة كبرية قدمية م�سيحية ،بكل القارتنيِّ ،
ق�صورها وكنائ�سها و�أنهارها و�أ�شجارها ،بكل �إدها�ش الطبيعة فيها وكل وح�شةَ
زوجه الراقية «رقية» بينما تنطلق ال ُغربة فيها ،ويف تلك ال�سفينة �ضم «عثمان» َ
يف البحر ،ولفح وجوههما هواء غريب على �شعورهما ،هواء الغربة.
z
ن�سيم من هواء البحر كان يحرك خ�صالت �شعره ..وهو ُ
ينظر يف الأفق
املمتد وي�ستذكر الأيام ،كان مظهره كم�سافر �أجنبي على ظهر �سفينة ،وما �سافر
فيها �إال ليطمئن على «رقية» ،عيناه ال تفارقها كل حني« ،عمرو بن جابر» ،كان
ي�سمع ر�سول اهلل يقول� ،إن «عثمان» و«رقية» �أول من هاجر يف �سبيل اهلل بعد
321
«�إبراهيم» و«لوط» ..لقد كان النبي يحكي �أمو ًرا عن الأنبياء يف القر�آن مل ِترد يف
التوراة ،تفا�صيل وتفا�صيل� ...سمع �صوتًا من ورائه يقول له« :عمرو بن جابر»؟
رجل مل َّث ًما ال يبني من وجهه �إال عينه وحولها جتعيداتينظر فوجد ً التفت ُ
َ
َّ
كثرية ..ات�سعت عني «عمرو بن جابر»! ،وك�شف امللثم عن لثامه ،وبنظرة يعرفها
عرب الزمان تطلع �إليه ،قال له وب�سمة وا�سعة متط �شفتاه مطا :لقد �سمعت
كالمك مع «ما�سا هارينا» يا بن جابر ..نظر له «عمرو» يف ك َمد ،كان ذاك
ع
«�إزب»�«- ،إزب بن �أزيب».-
ريصحب�س «عمرو» َ
ال
غيظه ونظر �سريعا �إىل «رقية» و«عثمان» ك�أنه يت�أكد �أنهما يف
مكانهما ،ثم تطلع �إىل «�إزب» وقال :يا وجه ال�شيطان ،لقد ظننتُ �أنهم �سرييحون
ك
ملل بدوين �ألي�س كذلك العامل من وجهك ..قال له «�إزب» :العامل �سيكون �أكرث ً
ت
يابن جابر؟ قال «عمرو» :كيف خرجت من اجلوداكيوال؟ نظر «�إزب» �إىل الأر�ض
ن
نظر «عمرو» �إىل وجهه وهو يقول كلمة بري ًئا ثم �أعر�ض عنه ت�ضج ًرا ،كان يود �أن
ر ش
ي�س�أله عن «ما�سا» لكنه �أط َرق ،البد �أن املجرمني قد نالوا منها.
الت و
قال «�إزب»� :أردت �شك َرك على �إداليل �إىل ذلك النبي ،لوال حديثك عنه مع
و
تلك ال�صارخة املجنونة ما كنتُ �س�أعرف ..قال له «عمرو» :وهل �أخربتَ �سفيه
يع ز
آجل ..قال «عمرو» �ساخ ًرا :عج ًبا عاجل �أو � ً
النور؟ قال «�إزب»� :سيعرف بنف�سه ً
�أال تريد املجد؟ نورت عيون «�إزب» يف هيئته الإن�سية وقال بطريقة فيها عتو:
ال جمد �إال جمد �إزب ..ثم �صار وجهه ك�أنه متثيل للخبث وهو يقول :ال تفرح
بهجرتهما �إىل احلب�شة ،ف�إن الذين وراءهما من املهاجرين لن ي�صلوا حتى �إىل
امليناء! .نظر له «عمرو» بقلق ،قال «�إزب» :لقد �أعلمتُ �أهلهم بهجرتهم ..قال
له «عمرو» :ليتمن اهلل هذا الأمر رغما عن �أنفك ..قال له «�إزب» :ف�إن فعلوها
أق�سم مبجد بن �أزيب ،لأرجع َّنهم منها �إىل بلدهم ،لي�ستكمل وهاجروا ،ف�إين � ِ
القر�شيون وط�أهم� ..أعر�ض «عمرو» بوجهه وهو ينظر �إىل رقية و«عثمان» ،ثم
نظر �إىل «�إزب» ،فلم ي ُكن �أحد هنالك.
z
كان النبي يف حل َقة من �أ�صحابه ،ويف روحه قلق ،فقد ت� َّأخر عليه خرب و�صول
«عثمان» و«رقية» �إىل احلب�شة ،ثم قدمت امر�أة وا�ست�أذ َنت وقالت لر�سول اهلل:
لقد ر�أيتهما يا ر�سول اهلل ..فرح النبي وقال :على �أي حال ر�أيتيهما؟ قالت:
322
ر�أيتُه قد حمل امر�أته على حمار وهو ي�سوقها ..قال النبي� :صحبهما اهلل ..ونبع
كالم من اجلال�سني عن ال�سفر واللحاق بهما ،واخلروج من هذا ال�شر الذي
ت�صعده قري�ش يوما بعد يوم ،كان ع�شرة من الرجال قد اختاروا واتفقوا �س ًّرا
�أن يهاجروا بعد «رقية» و«عثمان» ،ومنهم «�أبو بكر» ..وكان «عمرو بن جابر»
يح�ضر جمعهم هذا من نافذة �صغرية يف الدار ،وكان حزي ًنا على غدر الزمان
أنا�سا يهاجرون تاركني بيوتهم و�أرا�ضيهم ،وخائ ًفا عليهم من كالم الذي يجعل � ً
ع
«�إزب» الذي البد �أنه �أبلغ �أهلهم ،وحزين على نفر من رجال كانوا يعذبون يف
ص
اهلل لكنهم اختاروا البقاء وعدم الهجرة« ،عمار بن يا�سر» و«خباب» و«طلحة بن
ال ري
عبيد اهلل» وكثري �آخرين ..ثم فج�أة دعا النبي دعوة ،قال :اللهم � ِأعز الإ�سالم
بعمر بن اخلطاب ،اللهم �أعز الإ�سالم بعمر بن اخلطاب.
ت ك
التقط «عمرو بن جابر» هذه الدعوة والتفت وانطلق ،ليبحث عن «عمر»..
ل ب
ف�صيتُه ذائع يف قري�ش وخارج قري�ش ،هو فار�س وهو وكان يعرف من هو «عمر»ِ ،
ن ل
�سفري لقري�ش يف مفاخراتها بني القبائل يف احلروب �إذا �أرادت �أن تفاخر قبيلة
ش
قتال �أو يف كالم ،كان «ابن جابر» بالكالم ،فما كان �أحد يغلب «عمر» �أبدً ا يف ٍ
و ر
يعرف �شدة «عمر» ،لكنه �أخذ على نف�سه عهدً ا �أن يفعل �شي ًئا� ،أي �شيء ،ميكن �أن
و الت
ينهي به هذا الأذى ،رغم �أنف اجلميع ورغم �أنف «�إزب» ،لو كان «عمر» هذا �أ�شد
يع ز
�أهل الأر�ض ،ليكونن �سب ًبا يف �إ�سالمه ،ولن ي�سبقه �إىل ذلك �أحد من امل�سلمني.
«عمر بن اخلطاب» ..فوجده نائ ًما «عمرو» بج�سده وطار وفتَّ�ش عن ُ ور�شق َ
عجل ف�أيقظوه من نومته و�أ�صبح عند جانب من الكعبة وحوله رجال يذبحون ً
ينظر �إليهم وهم مي�سكون العجل ويحنون ر�أ�سه ثم ميررون ال�سكني على الرقبة ُ
ويفور منه الدم ويفور على �أ�صنام قريبة ك�أنهم ي�سقونها بالدماء! ،وهنا فعل
«عمرو بن جابر» �شي ًئا عجي ًبا ،ال يعرفه �إال اجلن ،فكما �أن �صورة اجلن ال تراها
عيون الإن�س وعيون بع�ض احليوانات تراهم ،كذلك �أ�صوات اجلن ال ت�سمعها
�آذان الإن�س و�آذان بع�ض احليوانات ت�سمعهم ،وال ميكن للجن وهو يف �صورته
اجلنية �أن ُي�سمع �صوته للإن�س �إال بحيلة واحدة ،انطلق «عمرو بن جابر» وفعلها.
�إذا ُذبح العجل و�ش َّقت رقبته� ،أمكن للجن �أن ي�أتي �إىل تلك الر�أ�س امللقاة
على الأر�ض وحتديدً ا �إىل � ُأذن العجل املفطورة على �سماع �أ�صوات اجلن،
م�سموعا ،ك�أنها البوق ،ومل ُي ِ�ضع «عمرو»
ً في�ستعملها اجلن عك�س ًيا ليجعل �صوته
323
توجه من فوره �إليها و�صرخ وقال قولة وقتًا ،والر�أ�س رط َبة وحوا�سها مل تذبلَّ ،
ا�شتهرت بعد ذاك ،قال:
يا جليح� ،أمر جنيح ،نبي ف�صيح ،يقول ال �إله �إال اهلل.
جليحا يعني �أ�صل ًعا ،فنظر «عمر» حوله وعينه «عمر بن اخلطاب» ً وكان ُ
مت�سعة �صارمة ،ووثب القوم وتركوا العجل وجعلوا ينظرون حولهم ،و«عمرو بن
ع
ب�صوت �أعلى:
ٍ جابر» ينحني على الر�أ�س ويقولها
ص
يا جليح� ،أمر جنيح ،نبي ف�صيح ،يقول ال �إله �إال اهلل.
«عمر» باخلوارق� ،أ�صبح النا�س يتباعدون
ينظر
ال ري
«عمرو» يريد �أن يك�سر �شدة ُ
عن العجل وهم ينظرون �إىل «عمر» ،فلي�س هناك جليح غريه ،و«عمر» ُ
كان َ
ت ك
حوله يف �شدة وتهديد لي�س فيه خوف ،ثم قال :ال �أبرح حتى �أعلم ما وراء هذا،
ب
وان�صرف من املكان ،لكن امل�شهد ترك يف نف�سه �شي ًئا� ،إنه يعرف ب�أمر النبي
ش
�أ�صحابه ،و�أ�صبح «عمر» ُيف ِّكر ،و«عمرو بن جابر»وراءه ير ُقبه.
و ر
الت
انطلق «عمر بن اخلطاب» �إىل جمل�س يجتمع فيه رجال من قري�ش اعتاد �أن
و
يجل�س معهم ..فلما �أتى جمل�سهم مل يجد منهم �أحدا ،فلم يدر �أين يذهب ،ثم
يع ز
قال يف نف�سه :لو �أين جئتُ الكعبة فطفتُ بها ثم �أغادر �إىل م�سكني ..فجاء �إىل
الكعبة والليل قد �أ�سدل �ستائره ،ف�إذا ر�سول اهلل قائم ي�صلي ،وكان �إذا �صلى
عند الكعبة ا�ستقبل جهة بيت املقد�س ،ولكن من حبه للكعبة كان يجعل الكعبة
بينه وبني بيت املقد�س ،فجعل «عمر» يت�أ َّمله ويت�أمل ما يفعل من ركوع و�سجود
ودعاء ،ف َر َّق لهذا البهاء �شيء يف قلبه ،وترك «عمر» املكان وعاد �إىل م�سكنه.
ف�أقبل «عمر» �إىل داره فوجد جا َرته «ليلى» راكبة على دابة عند الدار
ووراءها رحالها ك�أنها تريد ال�سفر ..وكان زوجها «عامر» قد انطلق لبع�ض
حاجتها ،وكانت هي وزوجها م�سلمني ،لكن امل�شكلة �أن زوجها «عامر» كان حلي ًفا
للخطاب بن نفيل والد عمر ،و«اخلطاب بن نفيل» هو نف�سه الرجل الذي كان
كالما �ضد الآلهة ،و�أغوى به علم ب�أنه يتك َّلم ً طرد «زيد بن عمرو بن نفيل» ملا َ
ال�سفهاء لي�ضربوه ،وبالطبع كان «اخلطاب» ي�سوم حليفه «عامر» �أ�شد الأذى ملا
علم �أنه �أ�سلم ،وكان «عمر بن اخلطاب» كذلك �شديدً ا يف تعامله معهم ملا علم
ب�إ�سالمهم ،فقل َقت «ليلى» ملا ر�أته ُم ً
قبل.
324
قال «عمر» جلارته ليلى� :إنه لالنطالق يا �أم عبد اهلل؟ قا َلت :نعم واهلل
خمرجا ..ف�أطرقً ُ
وقهرتونا ،حتى يجعل اهلل لنخ ُرجنَّ يف �أر�ض اهلل� ،آذيتمونا
«عمر» بر�أ�سه وكان ُيف ِّكر ومالمح وجهه بعيدة عن احلدة ،فقال لها� :صحبكم
ودخل �إىل بيته ،فر�أت «ليلى» له ر َّق ًة مل تكن تراها ،لقد ظهر يف كالم اهللَ ..
«عمر» حزنه على خروجهم! ،فجاء «عامر» زوجها بحاجته تلك ،فقالت له :يا �أبا
أطمعت يف �إ�سالمه؟
وحزنه علينا ..قال لهاِ � : عبد اهلل ،لو ر�أيت عمر �آنفا ور َّقته ُ
ع
فمط �شفتيه وقال :واهلل ال ي�س َلم حتى ي�سلم حمار اخلطاب ..و�أ�شار قالت :نعمَّ ..
ص
�إىل حمار مربوط يف زاوية من م�سكن اخلطاب ..فلم ت ُرد عليه ،وكتمت �أمانيها
ال ري
يف قلبها.
راقب «عمر» خروجهما من نافذة بيته ..وكانت الأفكار متوج يف عقله وت�أتي،
ت ك
ينفك عنه ،قال له :اذهب واقتُل حممدً ا ف�إن كان نب ًيا وح�ضر قرين «عمر» ومل َّ
ب
لن ُت�س َّلط عليه و�إن كان غري ذلك َ
ل
نلت ال�شرف ،وما من رجل يف قري�ش يجر�ؤ �أن
ن ل
يقرتب من «حممد» بوجود حمزة الأ�سد ،فح�سم «عمر» �أمره وخرج من البيت
ش
مبا�شرة يريد �أن ي�أتي ر�سول اهلل ،يريد �أن يقتله.
منهم قد دفع ن�صف دينار ،ن�صف دينار تنقلك من عامل �إىل عامل ،ع
متناثرين �إىل ذلك توجهني �إىل ذات الطريق �إىل احلب�شة ،وو�صلوا
ما لهمُ ،م ِّ
امليناء ،فوجدوا �سفينتني كبريتني تتجهزان للإبحار ،ف�صعدوا
كان فيهم
رجال من بيوتات املكانة يف قري�ش وكان منهم م�ست�ضعفني ،كان فيهم «عبد
الرحمن بن عوف» التاجر الرثي ،و«م�صعب بن عمري» الفتى الريان الذي مل
يعد ريا ًنا ،بعد �أن حب�سته �أمه يف غرفة ،ومل ين�شب �أن هرب منها َ
ونفذ بجلده
�إىل احلب�شة ،وفيهم «الزبري بن العوام» الذي خرج هار ًبا من احلوت الذي كان
يكتمه بالدخان ،وفيهم «�أبو �سلمة» وزوجته «�أم �سلمة» ،وفيهم الراعي النحيل
«عبد اهلل بن م�سعود» ،وفيهم غريهم ...وحانت منهم نظرة �إىل بالدهم ملا
حت َّركت ال�سفن ،نظر ًة ال تدري متى تعود ،وفج�أ ًة ملحت عيونهم غربة قادمة
تبي لهم ،كانوا ً
رجال �سريعة كالرمح ،غربة ال يدرون ما بداخلها ،فلما انق�شعت َّ
من قري�ش واقفني على ال�ساحل ،و�سالحهم يف �أيديهم ينظرون �إليهم يف غل ،فلو
كانوا ت�أخروا يف امل�سري دقيقة واحدة ،لكان قومهم قد �أم�سكوهم و�سل�س ُلوهم،
325
لكن قدر اهلل ن َفذ ،وحتركت ال�سفن �إىل داخل البحر ،وحتولت �أنظارهم عن
�أر�ضهم �إىل منظر البحر ،واملوج الذي يتهادى ويحملهم �إىل �أر�ض غري الأر�ض،
و�سماء غري ال�سماء ،وهواء غري الهواء.
توجهت ال�سفن يف دروب البحر حتى نزلت يف جزيرة تدعى جزيرة جنو ًبا َّ
أياما ثم انطلقت ال�سفن تارة �أخرى حتى نزلت �إىل ميناء الريح ،ارتاحت فيها � ً
�أدوني�س ،يف قلب مملكة �أك�سوم ،احلب�شة.
ص ع
وما كان معهم ال�صديق «�أبو بكر» ..بل كان مي�ضي وحيدً ا ُم�ساف ًرا يف طريق
ال ري
�آخر ي�صل للحب�شة عن طريق اليمن ،فلم يكن يحب البحر ،وال�سفر من ذلك
امليناء يعني �شهو ًرا طويلة بداخل البحر ،لكنه ق َّرر �أن يذهب �إىل حدود اليمن ثم
ك
وحرقة، يجاوز البحر يف �أيام معدودات �إىل احلب�شة ،كان �أ�شد املهاجرين ُحز ًنا ُ
ت
لبعده عن الرحمة املهداة «حممد» ،لكن احلياة يف مكة مل ت ُعد ممكنة بالن�سبة
ش ن
و�سار يف طريق �ساحلي طويل والبحر يجانبه حتى بلغ برك الغماد يف �أق�صى
ر
رجل يف الطريق اجلنوب على حدود اليمن ،وكلما ابتعد كلما اغتم ،حتى لق َيه ُ
الت و
أخرجنييعرفه« ،ابن الدغنة» �سيد قبائل القارة ،قال� :أين تريد يا �أبا بكر؟ قالَ � :
و
قومي ف�أنا �أريد �أن �أ�سيح يف الأر�ض و�أن �أع ُبد ربي ..قال له «ابن الدغنة»� :إن
يع ز
وت�صل الرحم وحتمِ ل الكل وتقري ك�سب املعدوم ِ مثلك ال يخ ُرج وال ُيخرج ،ف�إنك ُت ِ
فادخل يف جواري ..وكانت ال�ضيف وتعني على نوائب احلق ،فتعال فارجع معي ُ
عادة يف العرب �أنه �إذا دخل �إن�سان يف جوار �إن�سان من �أ�سياد القوم ،ف�إن �أذ َّيته
تعترب �أذية ال�سيد ال�شريف الذي �أجاره؛ وهذه قد تقام فيها حروب ..فعاد «�أبو
بكر» �إىل مكة� ،إىل حبيبه وطبيبه ر�سول اهلل.
z
رج ًل من بني بينما «عمر بن اخلطاب» يف طريقه �إىل َقتل «حممد» َ
قابل ُ
زهرة ،كان من �أ�شد النا�س ِعل ًما بالأخبار ً
ونقل للأخبار ،قال له� :أين تريد يابن
اخلطاب؟ قال «عمر»� :أريد �أن �أقتُل حممدً ا ..قال الرجلُ � :
أتظن �أن بني ها�شم
تاركيك بفعلتك هذه؟ فغ�ضبت مالمح «عمر» ،قال الرجل ب�أ�سلوب مزعج :اذهب
يا عمر ف�أقم �أهل بيتك� ،أختك قد �أ�سل َمت هي وزوجها واتبعا حممدً ا ..نظر له
«عمر» نظر ًة ُميفة ،مل يكن «عمر» يعلم �أن �أخته �أ�سل َمت! ،ف�شاط غ�ضبه غ�ض ًبا
على غ�ضب ،وان�صرف من عند الرجل �إىل بيت �أخته.
326
ب�صوت قا�س :عمر بن ٍ قرعا �شديدً ا ،فقا َلت :من هذا؟ قال
قرع الباب ً
اخلطاب ..وكانت هي مع زوجها بالداخل ،هي «فاطمة بنت اخلطاب» ،وزوجها
هو «�سعيد بن زيد عمرو بن نفيل» ،ابن الرجل الأنور الذي طرده و�شرده والد
«عمر» قد ًميا ،وكان معهما «خباب بن الأرت» امل�ست�ضعف ُيع ِّلمهما القر�آن ،فلما
�سمع «خباب» �صوت «عمر» توارى يف املنزل ،وقامت «فاطمة» وفتحت الباب،
طويل ج�سي ًما جدً ا ،ي�ضيف فوجدت «عمر» واق ًفا ويف عينه ال�شر ،كان «عمر» ً
ع
�إليه الغ�ضب م�سحة خميفة ،قال «عمر» :ما هذه الهينمة التي �سمعتُها عندكم؟
ص
قالت :رمبا هو حديثٌ حت َّدثنا به ..قال لها ب�شدة :فلعلكما قد �صب� ُأتا؟ فوقف
ال ري
زوجها «�سعيد بن زيد» �أمام «عمر» وقف َة ُ
رجل ال يهاب ،وقال له بتحدٍّ :و�إن قلتُ
لك يا عمر �أن احلق يف غري دينك؟ َ
ت ك
فوثب «عمر» على «�سعيد» فوطئه وط ًئا �شديدً ا ..فجاءت «فاطمة» لتدفع َ
ل ب
أ�صبوت يا عدوة نف�سها؟ لكن يد عن زوجها ،ف�أبعدها «عمر» بيده ،وقالِ � :
ن ل
أفقدتها توا ُزنها و�أ�سقطتها فنزل الدم «عمر» املفتولة التي ح َّركها لتبعد �أخته � َ
ش
أح�ست من جانب فمها ،فتو َّقف «عمر» ملا ر�أى دماء �أخته وا�ستحى من �ش َّدتهَّ � ،
و ر
«فاطمة» الدماء على وجهها فقالت لعمر :قد كان ذلك على رغم �أنفك يا عمر،
الت
كنت ً
و
فاعل فينا فافعل. وما َ
يع ز
�أطرق «عمر» بر�أ�سه وهو قد تن َّكد من مر�أى الدماء على �أخته ،فلمح �صحيف ًة
فتوجه �إليها يريد �أن يرى ما فيها، من ِجلد مو�ضوعة على مثل مائدة قريبةَّ ،
وكان عمر قار ًئا وكات ًبا ،ف�صاحت فيه �أخته «فاطمة»� :إنك جن�س ،وهذا ال مي�سه
�إال املطهرون ..وكان يف ال�صحيفة قر�آن مما كان يكتبه ال�صحابة وراء ر�سول
اهلل ،فتجاهل قو َلها ورفع ال�صحيفة يقر�أها ،فوجد فيها:
َّ َ ْ َ ً ِّ َ َ ْ َ ٰ َ ً ِّ َّ ْ َ َ َ َ َ َ َْ َ َْ َ ُْ ْ َ ْ
ش * تزنِيل ممن خلق ق * إِل تذك ِرة لمن ي آن ل ِتَش َ ٰ ﴿طه * ما أنزلا عليك القر
ْ َْ َّ َ َ َ َ ْ ََ ٰ َُ َ ْ َّ ْ َٰ ُ َ َ ْ َ ُْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َ
ات وما ِف الر ِض ات العل * الرحن ع العر ِش استوى * ل ما ِف السماو ِ الرض والسماو ِ
ُ َ َٰ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َّ َ ٰ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َّ ُ َ ْ َ ُ ِّ َّ َ ْ َ
الل َّ ل إِلَ إِل ه َو ۖ الس َوأخف * وما بينهما وما تت الثى * وإِن تهر بِالقو ِل فإِنه يعلم
َ
ن﴾. اء ْ ُ
ال ْس َ ٰ َلُ ْال ْس َم ُ
خاطر يف نف�س «عمر» ..ما �أح�سن هذا الكالم ،و�أكرمه ،عن عظمة خط َر ِ
قلب ال�صحيف َة فوجد مكتو ًبا فيما ورائها قر�آن..
الرحمن ،ثم َ
327
َْ يز ْ َ ُ َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ اوات َو ْالَ ْر ِض َو ُه َو الْ َعز َُّ َ َ َ َ َّ َ
ات َوال ْر ِض ۖالكِيم * ل ملك السماو ِ ِ ﴿سبح هلل ما ِف السم ِ
ُ ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ َ ٰ ُ ِّ َ ْ َ ٌ ُ َ ْ َ َّ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ َ ُ
ك ِّل َ ْ
ش ٍء ِير َ* هو الول و َالخِر والظاهِر والاطِن وهو ب ِ ي ِي وي ِميت وهو ع ك ش ٍء قد
َْ َُ َ َ ُ ْ َّ َّ ُ َّ ْ َ َ ٰ َ َ ْ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ْ َ َ ٌ ُ َّ
ات والرض ِف ِست ِة أيامٍ ثم استوى ع العر ِش ۚ يعلم ما يلِج ِ ِيم * ه َو الِي خلق السماو عل
َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ُ
نتم ْۚ ْ َْ
زنل مِن السماءِ وما يعرج فِيها ۖ وهو معكم أين ما ك ِف الر ِض وما يرج مِنها وما ي ِ
َ ََْ ُ َ
ون بَ ِص ٌ
ري﴾. َواهلل بِما تعمل
ع
فقا َلها «عمر» :ما �أح�سن الكالم ،و�أكرم هذا الكالم ..وهنا خرج «خباب بن
ص
الأرت» من داخل الدار ،ففج�أ عمر ،لكن «خباب» قال� :أب�شر يابن اخلطاب ،ف�إن
ال ري
ر�سول اهلل دعا يوم االثنني وقال (اللهم �أعز الإ�سالم بعمر بن اخلطاب) ..فوقع
يف قلب «عمر» مزيدً ا من الوجد والت�أ ُّثر ،قالِ :دلوين على ر�سول اهلل ..قالوا:
ت ك
ف�إنه يف دار الأرقم ب�أ�سفل ال�صفا ..فخرج «عمر بن اخلطاب» وقد انعك�س كل
ما كان يف نف�سه ،ومل يد ِر �أن وراءه كائن ممنت ،كائن فرح ،كائن جني ،كائن
للن ب
يدعى «عمرو»« ،عمرو بن جابر».
ش
z
وال ر
احلب�شة و�ألوان احلب�شة ،كل �شيء مل َّون ،جلود النا�س �سوداء ،ومالب�سهم
و ت
مل َّونة ب�ألوان زاهية ،وبيوتهم ملونة ،زرقاء و�صفراء وبرتقالية� ...أنهار �صافية
زي
زرقاء وخ�ضرة و�أ�شجار ت ُع ّم اجلبال ،نزل امل�سلمون و�سط هذا الكون اجلديد
ع
يتلم�سون لهم بيوتًا ورز ًقا ،قلة م�ست�ضعفني كانوا ،هاربني بدينهم من �ش�أفة
قومهم ،لكن �شيئا يف تلك البالد مل يكن بخري ،لي�س يف البالد نف�سها ولكن يف
نا�سها ،هناك �أمر ج َلل ،هناك من�شقون قد جي�شوا اجليو�ش و�أ�شعلوا انقالبا على
خروجا عظي ًما ،وكانت املعركة دائرة، ً «النجا�شي» ملك احلب�شة ،وخرجوا عليه
امللك ،امل ِلك الذي ال ُيظ َلم عنده �أحد ،اليوم هو يف حرب وا�ضح من عيون النا�س
وقلقهم �أنها �ستزيله وتزيل ملكه ،ومل يكن هذا خ ًربا ح�س ًنا �أبدً ا.
طار «عمرو بن جابر» على الفور �إىل مكان املعركة الذي مل ي ُكن بعيدا
عن امل�سلمني ،فقط بينهم وبينه نهر ،وهناك تو َّقف «عمرو» يف الهواء! ،لقد
وق�س َمه ليعيدنهم منها
كانت حر ًبا ،حرب حقيقية ،وتذكر «عمرو» كالم «�إزب» َ
خا�سرين.
جيو�ش ُم َّي�شة �سوداء كلها من اجلهتني ..نظر لها «عمرو» فتذ َّكر جيو�ش
�أبرهة ،ثم نف�ض عن نف�سه هذا اخلاطر ،جيو�ش و�أح�صنة عليها �أ�سرجة و�أفيال
328
عليها تيجان وجنود ب�أزياء عليها �ألوان و�ألوان ،ورماح طوال تنتهي كلها ب�شفرات
دروعا ،و�صليب مر�سوم كالهالل املقلوب ،ودروع يف �أيادي اجلنود ومنور ترتدي ً
على الأزياء والأ�سلحة ...حرب َ�ضرو�س كما يجب �أن تكون احلرب.
�شخ�صا ي�سبح يف عزم وقوة يف النهر يريد ً وفج�أ ًة الحظ «عمرو بن جابر»
�أن يب ُلغ مكان احلرب ..نظر له «عمرو» فعرفه� ،إنه «الزبري بن العوام»؛ ال�صبي
العفي الذي �صن َعت منه �أمه �صالبة ال تن�شق ،وكان له من ا�سمه ن�صيب ،كان
ع
عوما ً
ع�ضل �سري ًعا ،حتى و�صل �إىل �أر�ض املعركة ،كان امل�سلمون قد قالوا يعوم ً
ريص
ُ
لبع�ضهم :من يخ ُرج فيح�ضر الوقعة فينظر على من تكون؟ فقال «الزبري»� :أنا..
ال
جلند بفتى �أ�س َمر متني �سابحا من جانبه �إىل جانبه ،وفوجئ ا ُ
وقفز يف النهر ً
القوام قد خرج من البحر ولي�س عليه �أزار فبدت ع�ضالته ال�شابة ،وانطلق على
ت ك
َ
وا�شرتك يف احلرب. �سالحا من جندي �ساقط
الفور والتقط ً
ش ن
وحمى ُملكه ..ورجع «الزبري بن العوام» وهو يعوم منت�ص ًرا ،وملا ر�أوه �آتيا على
ر
غلب خما�صميه، فرحا ،فعرفوا �أن «النجا�شي» قد َ ال�ساحل �أخذ ُيل ِّوح لهم بردائه ً
م�شى «عمر بن اخلطاب» م�ش َيته التي فيها �إباء حتى بلغ تدارو الأرقم ..وقر َع
z
زيمع ر�سول
ف�سكت �صوت
َ ع قرعته التي فيها �شدة ،وكان جمع من ال�صحابة يف الداخل الباب َ
اهلل ،و«بالل» على الباب فقال :من هذا؟ قال :عمر بن اخلطاب..
«بالل» هنة ثم قال :حتى �أ�ست� ِأذن لك ر�سول اهلل ..وكان يف البيت «حمزة»،
الفار�س الأ�سد ،فقال :وما عمر؟ �إن �أرا َد خ ًريا بذلناه له ،و�إن �أراد �ش ًّرا قتلناه
ب�سيفه ..فذهب «بالل» للنبي وقال :يا ر�سول اهلل ،عمر بن اخلطاب بالباب..
فقال النبي� :إن ُيرد اهلل بعمر خ ًريا �أدخ َله يف الدين ،افتَح له ..ففتح له «بالل»،
ف�أم�سك «حمزة» بعمر م�س َكة �شديدة و�أم�سك به رجل �آخر من امل�سلمني ،و�أدخلوه
�إىل ر�سول اهلل ،فقال لهم النبي :خلوا عنه ..ثم قام له النبي و�أخذ مبجامع
قمي�صه وجذبه �إليه ونظر يف عينه مبا�شرة وقال له :ما الذي تريد؟ وما الذي
جئت ،فواهلل ما �أرى �أن تنتهي يا عمر حتى ينزل اهلل بك قارعة ..قال «عمر»: َ
فكب كل الذين كانوا يف الدار، �أ�شهد �أال �إله �إال اهلل ،و�أ�شهد �أنك ر�سول اهللَّ ..
و�ضرب النبي �صد َر «عمر» وقال :اللهم �أخرج ما يف �صدره من غل وداء و� ِأبدله
�إميا ًنا..
329
فا�صطف امل�سلمون يف الدار �ص ًّفا ،و�صلى بهم ر�سول َّ وح�ضرت ال�صالة..
اهلل ،فلما فرغوا ،قال له «عمر» :يا ر�سول اهلل� ،أل�سنا على ِّ
احلق �إن متنا و�إن
حيينا؟ قال :بلى والذي نف�سي بيده �إن ُكم على احلق �إن متم و�إن حييتم ..قال
بعثك باحلق لتخرجن ففيم االختفاء؟ مل ال ُن�صلي عند الكعبة؟ والذي َ «عمر»َ :
أخرجهم يف �ص َّفني من الدار ،وقف «عمر» على ر�أ�س َ�صف ،و«حمزة» الآن ..ف� َ
ً
يف ر�أ�س ال�صف الآخر ،وكان عددهم �أكرث من ثمانني رجل ،ور�سول اهلل يف
ع
املنت�صف يف مقدمتهم ،وكان م�شهدً ا مهي ًبا فاخ ًرا ي�شع بالقوة ،وبخا�صة ملا
ص
دخلوا احل َرم ووقفوا و�صلُّوا �صالتهم الأوىل اجلماعية عند الكعبة وحولهم
ال ري
�أ�صنام ال ح َّد لكرثتها ،ومل يج ُر�ؤ �أحد من قري�ش �أن يع ِرت�ض.
وتب�سم «عمرو بن جابر» ..لقد �أع َّز اهلل امل�سلمني ب ُع َمر ،بدعوة النبي الهادي،
َّ
ت ك
وحفظ اهلل املهاجرين يف احلب�شة ،بدعوة النبي الهادي ،و�أ�صابت الكافرين
ب
ك�آبة عظيمة ملا ر�أوا ذلك امل�شهد ،وكان «�إزب» ُ
ل
ينظر ب ِغل ،و«عمرو بن جابر»
ن ل
ير ُقبه يف ظفر.
ر ش
ولكن «عمر بن اخلطاب» مل ي�س ُكت عند هذا ..بل ذهب مبا�شرة �إىل «�أبي
الت و
جهل» يف بيته ،وكان «�أبو جهل» خاله ،فقرع «عمر» الباب ب�شدة ،فخرج «�أبو
و
أعلمت �أين
مرح ًبا بابن �أختي ،ما الذي جاء بك؟ قال له «عمر»َ � : جهل» وقالَ :
يع ز
قد �أ�سلمتُ هلل ولر�سول اهلل؟ قال «�أبو جهل»� :أوفعلت؟ قال «عمر» :نعم ..فدخل
جئت به.
حك اهلل وق َّبح ما َ «�أبو جهل» و�ضرب الباب يف وجه «عمر» وهو يقول ق َّب َ
لكن «عمر» مل ي�س ُكت عند هذا ،بل ذهب �إىل ذلك الرجل الذي من بني
زهرة ،ذاك الذي كان ينقل الأخبار ،وقال له� :إين قد �أ�سلمت ،ف�أنبئ �أهل مكة
الرجل وكانكلهم ،ولينتهوا عما يفعلوا بامل�ست�ضعفني من امل�سلمني ..فانطلق ُ
يبدو �أن هذا هو �أهم خرب يف حياته ينقله ،فم�شى يف �شعاب مكة وهو ي�صيح:
يا �أهل مكة ،لقد �ص َب�أ ُعمر بن اخلطاب ،لقد �صب�أ ُعمر ..والنا�س يخرجون
ما�ش وراءه ويقول :كذب ،بل �أ�سلمتُ وكفرتُ من �أبوابهم ينظرون �إليه ،و«عمر» ٍ
ب�أحجاركم ..وو�صل اخلرب �إىل �أعايل القوم ،فجاء الأخوان الرثيان اخلبيثان،
«�شيبة بن ربيعة» و«عتبة بن ربيعة» ،التو�أمان ،تو�أمان من عل َية القوم وتو�أمان
وت�شجع بقية
رج ٍل واحد!َّ ، من �أ�سو�أ القوم ،فوثبا على «عمر بن اخلطاب» وث َبة ُ
الرجال فهجموا على «عمر» هجم ًة همجية كهمجية عرب ال�صحراء.
330
تخ َّل�ص «عمر» ممن ن�شب فيه وقفزَ على «عتبة بن ربيعة» وجعل ي�ضربه
�ضر ًبا �شديدً ا ،ثم �أدخل ا�صبعه يف عني «عتبة» � ً
إدخال �أدمى له عينه و�أف�سدها،
و�أخذ «عتبة» مي�سك عينه وي�صيح ،فانتقم «عمر» من «عتبة» مما فع َله ب�أبي
وي�ضربهم «عمر» ...لكن كرثتهم ِ بكر �ساب ًقا ،وبقى النا�س ي�ضربون «عمر»
بد�أت تغلبه ،وقاموا على ر�أ�سه حتى كادوا يقت ُلوه ،حتى �أقبل عليهم �شيخ من
فتنحى النا�س عنه ،قال لهم :ما �ش�أن ُكم بعمر؟ قالوا:
قري�ش عليه حلة ثمينةَّ ،
ع
قد �صب�أ ..قال :ومه؟ رجل اختار لنف�سه �أم ًرا فماذا تريدون؟ �أترون قبيلته بني
ص
عدي �س ُي�سلمونه لكم هكذا؟
ال ري
كان هذا هو خال «عمر» الثاين ..رفع يده وقال� :أال �إين �أجرتُ ابن �أختي
فتك�ش ُفوا عنه ..وكان الرجل �شري ًفا يف القوم ،فتنحى النا�س عن «عمر» ،فنظر َّ
ت ك
جوارك عليك رد ،فقل ما �شئت ..و�أم�سك «عمر» ب�أقرب َ �إليه «عمر» وقال له:
ل ب
و�شج له ر�أ�سه فتعاون عليه النا�س ف�ضربوه و�ضربوه حتى �أدموه و�أ�سقطوه رجل له َّ
ن ل
على الأر�ض زاحفا يف دمائه ،وانطلق القوم ُيح�ضرون �سيوفهم ليقطعوا ر�أ�س
ش
«عمر» ،و�أبقوا بع�ضهم عنده يحر�سونه ،وقام «عمر» فج�أة كاملارد ف�ش َّد قدم �أول
و ر
رجل بجواره ف�أوقعه ،ثم قام مي�سح دماءه و�ضرب النا�س من حوله ثم رك�ض
و الت
�إىل ناحية بيته ،فدخله ومكث فيه وقد �أ�صابه �شيء من اخلوف ،فالقوم �آتني
ز
عليه متكاثرين ب�أ�سيافهم ..ثم ُطرق الباب طرق ًة خفيفة ،ففتح «عمر» ،ف�إذا
يع
رجل غني من �أ�سياد القوم؛ «العا�ص بن وائل» �سيد بني �سهم ،ذلك الذي دخل
قمي�صا
ً على «خباب» يف متجره وتخا�صم معه �أمام «�أم �أمنار» ،كان يرتدي
يك «عمر» يدري ب�أمره مع «خباب» وال بتعذيبه البنه ه�شام مكفو ًفا بحرير ،مل ُ
بن العا�ص ،نظر له «العا�ص بن وائل» وهو غارق يف دمائه وقال له :ما بالك يا
فار�س قري�ش؟ وكان ُمعج ًبا بعمر وبفرو�سية «عمر» ،قال «عمر» :زعم َ
قومك
�أنهم �سيقتلوين ..قال «العا�ص بن وائل» :ال �سبيل �إليك ..فخرج العا�ص من
منزل «عمر» ونظر �إىل َجمع غفري من النا�س قد �أتوا ب�أ�سيافهم حتى ملأوا
الوادي ،قال لهم :ماذا تريدون؟ قالوا :نريد هذا ابن اخلطاب الذي �ص َب�أ..
قال :ال �سبيل �إليه ،قد �أجر ُته ..وكان «العا�ص بن وائل» �شري ًفا م�شر ًفا يف القوم
له �صيت وجاه ،ف�أنزل القوم �أ�سيافهم وان�صرفوا عنه ،و�أ�صبح «عمر» يف جوار
«العا�ص بن وائل».
z
331
«�إزب بن �أزيب»� ،أ�صابته �سكتَة الكمد ..ال يزال امل�سلمون �أعزَّة منذ �أن �أ�سلم
«عمر» ،ميكنهم �أن ُي�صلُّوا �إذا �شا�ؤوا جه ًرا عند الكعبة طاملا «عمر» ي�صلي
معهم ،ويف ذات ليلة من م�ساء بهيج ،جاء امل�سلمون كلهم وقد بلغوا املائة،
ووقفوا �صفو ًفا �صفو ًفا عند الكعبة وتق َّدمهم ر�سول اهلل ،ينظرون �إىل ناحية
بيت املقد�س ويجعلون الكعبة �أمامهم كما كان ُيحب �أن يفعل ر�سول اهلل ،وفيهم
«عمر» وفيهم «حمزة» ،وحولهم الأ�صنام تنظر ،وامل�شركني ينظرون ،واملالئكة،
ع
ا�صطف وحده يف اجلوار ،ويف و�سط كل هذا رفع َّ و�إزب ...و«عمرو بن جابر»
ص
النبي يده بكلمة قالها عالية :اهلل �أكرب.
يوما لن تن�ساه مكة ،وبعد الفاحتة تال ر�سول
ترتيل وتغنى به تغن ًيا ،وكان احلبيب
�صالة جهرية جامعة ..وكان ً
ال
اهلل �آخر الذي �أنزل عليه ،ورتَّله ر�سول اهلل ًري
ت ك
بجهر ي�سمع املتجاورون للبيت ،و�إذا حت َّدث بحة� ،إذا خطب ٍ �صوت جميد له َّ ذا ٍ
ل ب
ُفتحت له امل�سامع حتى �أ�سمع العواتق يف خدورهن ،ويف تلك الليلة ،قالها ر�سول
ن ل
اهلل جاه ًرا بها:
ش
ْ َ ً َ َ ُ ُ َّ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ
اذلك ُر َولُ ال َ ٰ ال َة ال ْخ َر ٰ الل َت َوالْ ُع َّز ٰ
ر
نث * ت ِلك إِذا م ك ل أ * ى ِ اثل اة ن م و * ى ﴿أفرأيتم
َ ٰ ْ َ َّ َ ْ َ ٌ َ َّ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ ُ َ
و
ُ َْ ْ ٌَ
الت
ق ِسمة ِضزيى * إِن ِه إِل أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الل َّ بِها مِن سلط ٍ
ان﴾.
و
وتن َّبه امل�شركون وطالت �أعناقهم وتوجهت �أ�سماعهم و�أنظارهم �إىل «حممد»،
يع ز
وكل من و�أ َد مو�ؤدة نظر ،و«حممد» يت ُلو ويتلو..
ْ َ َُ َ ُْ َّ َّ َ َ ُ ْ ُ َ ْ َ َ ُ َ ُّ َ ْ َ َ َ َ َ
ْ ِكة ت ْس ِم َية ال َ ٰ
نث * َوما لهم ب ِ ِه مِن عِل ٍم ﴿إِن الِين ل يؤمِنون بِالخِرة ِ ليسمون الملئ
َ ْ َ ِّ َ ْ ً َّ َّ َ ُ ْ َ َّ ُ َ َّ َّ
ۖ إِن يتبِعون إِل الظ َّن ۖ َوإِن الظ َّن ل يغ ِن مِن الق شيئا﴾.
وامل�سلمون من ورائه يتذ َّكرون ما كان من �أفكارهم و�أ�ضاللهم ..وتال «حممد»
وتال..
َ َّ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ٰ َ ِّ َ ْ ُ َ َ ٰ َ َّ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ
ه * َوأنه ه َو أضحك َوأبك ٰى * َوأنه ه َو أمات َوأحيا﴾. ﴿وأن إِل ربك المنت
وتزاحم من مل ي ُكن هنالك مع من كان هناك ،وكان كثري ممن ح�ضر ينظر
ب�شرود �إىل ذلك امل�شهد و�صفوف «حممد» �أكتا ًفا ب�أكتاف عاقدين �أذرعهم على
�صدورهم..
َ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ ُ َ َ َّ ُ َ ْ َ َ َ ً ْ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ ُ َ َ ُّ ِّ
وح من قبل ود ف َما أ ْب َ ٰ
ق * وقوم ن ٍ ى * وأنه أهلك عدا ال ٰ
ول * وثم الش ْع َر ٰ ﴿وأنه هو رب
َّ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َٰ
ۖ إِنهم كنوا هم أظلم وأطغ﴾.
332
الوجل ،و«حممد» �صوته بها يعلو �إىل �أفئدتهم..
فوقع يف قلب بع�ضهم �شيء من َ
َ
ت ْالز َف ُة * لَيْ َس ل َ َها مِن ُدون الل َِّ َك ِش َف ٌة * أ َف ِم ْن َٰه َذا ْ َ ِّ َ ُّ ُ ْ ُ َ ٰ َ َ
ِيث
الد ِ ِ ِ ِ ف﴿من انلذ ِر الول * أ ِز
َ ُُْ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ ََ ُ ْ َ ُ َ َ ْ ُ ُ
تعجبون * وتضحكون ول تبكون * وأنتم سامِدون * فاسجدوا ِل َِّ واعبدوا ﴾.
ف�سجد امل�سلمون من فورهم �صفا �صفا ..و�سجد من ت�أ َّثر ،و�سجد من ت�أ َّثر مبن
َ
ت�أثر ،و�سجد الهينة قلوبهم ،و�سجد القا�سية قلوبهم ،و�سجد امل�شركون ،و�سجد
ع
«عمرو بن جابر» ،وبق َيت الأ�صنام واقف ًة ال تدري من �أمرها �شي ًئا ،واحم َّرت عني
صري الz
«�إزب» ف�صارت كالأجرام ،احمرت واجمرت تالبيب قلبه ،وفمه فاغر ب�أ�سنان
ك�أ�سنان القر�ش ،و�أق�سم ،و�أق�سم بعزة «ابن �أزيب» ليفعلنَّ �شيئا ُمنك ًرا.
ت ك
�سجدت �أفئدتهم ور�ؤ�سهم! ،ونظروا �إىل حتي ال�ساجدون من الكافرين كيف َ َّ
ل ب
ثقال ذرة ،بل قلوبهم عات َية ووجوههم ،لكنهم بع�ضهم ،ومل يكونوا �آمنوا حتى ِم
ن ل
ملا �سمعوه ببالغته وطالوته ،بجمال �صوت «حممد» ،وبقوة �صوت «حممد»،
ر
يقول� ،أفر�أيتم الالت والعزى ،ومناة الثالثة الأخرى ،تلكوالالغرانيق العلى ،و�إن
�ستُخرب النا�س ،فجاء لهم رج ٌل مل َّثم ،ال يعرفه �أحد،
�شفاعتهن لرتجتى ..نظ ُروا �إليه بحرية ومل يكن �أحد قد �سمع ت�شي ًئوا من هذا ،قال
�سجدتُ لأين �سمعتُ حممدً ا ح�سن ،لكن الليل كان ُيخفي هذا ،قال الرجل� :إمنا
ع
وله الأنثى..ي ز�أحدهم :ما �سمعتُ هذا من حممد� ،إمنا �سمعته يقول� :أل ُكم الذ َكر
�أ�صد َرت عيون الرجل تعب ًريا �ساخ ًرا لئي ًما ،وقال� :إن مل تقولوا هذا �أكلت ُكم
الرجل؟
العرب ،وما �أدراهم �إذا مل ي�سمعوا هنا وي�شهدوا ..قال �أحدُهم له :من ُ
نظر له املل َّثم وقال بثقة�« :إزب»�« ،إزب بن �أزيب».
الرجل وقد �ألقى �إليهم ما يكفي ..ونظر بع�ضهم �إىل بع�ض والظفر ان�صرف ُ
قد زار عقولهم ملا تفكروا يف كالم ذلك الرجل ،وتالهوا بالتناق�ش ومل يلحظوا
حتى ا�سمه وغرابته ،و�أ�صبحوا ُيرددونها من بعده ويكذبون على ر�سول اهلل،
يقولون �إمنا �سجدنا لأننا �سمعنا حممدً ا ُي ِّجد �آلهتنا ،و�إنا ظننا �أنه عاد �إىل
حلف امل�سلمون �أن قر�آنهم لي�س فيه هذا و�أن الآيات ال�سابقة ُر�شده ،ومهما َ
قري�شا �أ�صبحت تلوك �أن حممدً ا ُي ِّغي القر�آنوالتالية تنفي مثل هذا� ،إال �أن ً
على هواه.
333
�أما «�إزب» املل َّثم ،فقد كان يف حلظات بني قوم ذوي ب�شرة �سوداء وثياب
زاهيات ،يف احلب�شة ،وبني قلة من امل�سلمني املع�سرين ،وقف رجل ادعى �أنه
ُم�سا ِفر رحال ،و�أنه م َّر مبكة ور�أى امل�شركني قد �سجدوا جمي ًعا وراء رجل يدعي
فتب�شرت قلوب امل�سلمني وا�ستق�صوا وتق�صوا الأخبار من امل�سافرين، �أنه نبيَّ ،
ف�أكد لهم �أكرث من فرد� ،أن امل�شركني قد �سجدوا بالفعل ،وقالوا بع�ضهم
لبع�ض� :إن اهلل قد �أظهر نبيه ،وال حاجة بنا �أن نكون هاهنا ،فلن ُكن �إىل جوار
ع
احلبيب امل�صطفى ..وجهزوا �أمتعتهم وانطلقوا عائدين ،بعد عدة �شهور فقط
ص
من و�صولهم ،عائدين �إىل مكة ،ووراءهم وجه ي�ضحك وي�سخر ،لقد وعد �أن
ال ري
ُيعيدهم �إىل معذبيهم ،ولقد �أوفى بوعده ،وا�ستب�سم تلك الب�سمة التي �صارت
طبعا لوجهه ،ب�سمة «�إزب».
zكت
ب نل
ل
ر ش
الت و
ز و
يع
334
ول�ست تدري بعد ِ َل �أحدثك!
َ أحد َ
ثك ب�أمور يف الزمان، َ
أحدثك ب�أمر اجلن ،و� ِّ �
ع
�إنه ال يحق لأمثالك ال�س�ؤال ،و�إذا جتاوز و�س� َأل من هم �أمثالك فال يحق لهم �أن يعرفوا
ص
الإجابة ،حتى ن�شاء نحن!..
ال ري
�أنتُم عبيد ،تُ�سا ُقون وت�ؤ َمرون ،و� َ
أنت عبدي الذي بذلت من كرامتك الكثري حتى �آتيك
و�أعلمك..
ت ك
أعده و�أهيئ له الأمر؛ العبد الذي �سيكون ال�سيد على �أدمي هذه الأر�ض،
�أنت عبدي الذي � ّ
ل ب
تع َّلم يا عبدي تع َّلم..
ر
�إياها ،ت� َّأكد من كل كلمة قر�أتها ،حتقق كما يجب �أن يكون التح ُّقق ،اقر�أ ف�أنت العايل على
الت و
كل من عداك� ،أنت عبدي.
ز و
يع
نورا
أنت فيه ظال ًما �أ�سودا ،واجعل ً تريد �أن تراين فتع َلم �أنني العايل� ،أظلِم املكان الذي � َ
وانظر �إىل ظ ِّلي.
ُي�ضيء وراء ر�أ�سك ،وارفع كتابك هذا �أمام وجهكُ ،
ظام �سيدك ..ظام ح�سيبك ..ظام �إمامك ..وظام ربك...
تع َّلم كل الذي �أقوله لك ،وت�ص َّفح فقط كل ما له به �صلة.
ول�ست تدري ما هو ال�سبب! تخي ُت لك ً
قطعة واحدة من قطع الإي�ستوريجاَ ، لقد َّ
هذه القطعة الواحدة هي القطعة من الزمان التي انقل َبت فيها الدنيا على ر�ؤو�س اجلميع؛
اجلن والإن�س...
انعك�س فيها القانون ال�سحيق..
طلع فيها ن َفر من اجلن� ،أعانوا ً
نفرا من الإن�س..
حتالفوا وت�آلفوا ،وتعاهدوا واحتدوا..
335
ما كان حتالفهم حتا ُلف �سحر وال ت�سحري..
بل حتا ُلف من نو ٍع �آخر ،حتالف على املوت..
ويف ذروة انتظام الزمان� ،أخرجوا يف اجلن عقيدة ،انقلب لها وجه الزمان..
فغيوا خريطة عقائد اجلن..
�أ�سما ٌء من اجلن خرجوا َّ ُ
ع
وكفر بهم امل�ؤمن ،كل من كان كافرا بلو�سيفر �آمن بهم ،وكل من كان
َ ف�آمن بهم الكافر
ص
كفر بهم..
م�ؤمنًا بلو�سيفر َ
ال ري
فغيوا وجه تاريخنا ب�أكمله..
�أ�سماء من اجلن كانوا مالئك ،نزلوا من ن�صيبني َّ
وت�صديرا ،ف�إن نزولهم يكون يف و�إن كان كل ما قر�أته ال يزال متهيدا لهم وتعري ًفا
ك
ً
ت
القطعة التالية.
للن
z ب
ر ش
و ت وال
ع زي
336
()14
نفر من الجن
تك�سر فكه ،وت�صاعد � َأله وغله وحقده ،ما كان يقدر على الكالم وهم رابطوه َّ
ومقيدوه يف حمب�سه باجلوداكيوال بال ذنب ،حاكموه وحكموا عليه بال�سجن فيها
مدى احلياة ،قد �أق�سم وحلف يوما �أن يح�صل على املجد وحده ،لكن القدر و�ضع
«بليعال» يف وجهه ،بل و�ضع قب�ضة «بليعال» يف وجهه ،لكن «طيفون» مل ي�س ُكت،
منذ الليلة الأوىل التي دخل فيها هذا املكان الرزي كتب بيده وثيقة فيها كل ما
ر�آه وك�شفه ،عن النبي و�أ�صحاب النبي ،لكن واحدً ا من احلر�س �أخذ وثيقته تلك
ونظر �إليها با�ستهزاء ثم �أحرقها يف ثانية بلهيب �سالحه ،بل �إنهم �أخذوا منه
احلرب والقلم ،وتركوه يفور ،وملا غ�ضب وتلهب و�أفرزت عروقه النريان ك َّبلوه
بال�سال�سل غري عاملني �أن ال�سر الذي ي َو ّد �أن يقوله هو ال�سر الذي يبحث عنه
جميع م�ؤتلف اجلن يف تلك الأيام.
مدحو ًرا فيها ال يقدر حتى على الكالم ..ويف ذات ليلة، رموه م�سجو ًنا ُ
ً
ع�ضال ،م َّر عليه احلر�س يف تلك الليلة فوجدوه بعد �سنوات خم�س ،فعل �شي ًئا
ُم�ستلق ًيا على الأر�ض م�ستنز ًفا دماءه مقطوعة �سال�سله بطريقة توحي ب�أنه قطع
�إحدى يديه بال�سال�سل ،وكلمة كبرية مكتوبة بدماء اجلن على جدار زنزانته،
(مللتُ من �سال�سلكم الباردة ،لقد وجدتُ النبي ،هذا ما حاولتُ قوله ،لكن �أحدا
ال ي�سمعني ،و�إن مت هنا ف�سيموت �سري معي).
توتَّر احلر�س واهتموا ..فلقد كان جمتمع اجلن كله يتح َّدث يف �أمر ذلك
النبي الذي خرجت قوافل من اجلن تبحث عنه ومل جتده ،حتى ظنت �أنه رجل
من ثقيف يدعى «�أمية» ،لكن «�أمية» هذا مات بعد �سنني من طوفان اجلن حوله،
حتى يئ�س اجلن كلهم وعادوا �إىل مواقعهم ،ومل يكن احلر�س فقط هم من ر�أوا
الكلمة املكتوبة على جدار «طيفون» ،بل كانت «ما�سا» تقر�أها يف نف�س حلظة
كتابته لها ،ف�إن زنزانتها مقابلة له ،وعلمت �أن كلمته هذه �ستقلب الدنيا.
و�أتاه يف ذلك اليوم كبار الكبار من احلر�س ..و�أخرجوه من زنزانته ،وعاجلوا
جميع جراحه ،وو�ضعوه يف و�سط م�سرح اجلوداكيوال ،وتنزَّلت �أنوار احلكماء
وجل�سوا على مقاعدهم لي�سمعوا منه ،و�أعطوا «طيفون» ورقة وقلما ،فكتب فيها
خملوق منكم �إال �إىل �سيدي «لو�سيفر»).
ٍ بكلمة كبرية جدا( ،لن �أحت َّدث �إىل
وجنَّ جنون �أولئك اجلنون ..ونظر بع�ضهم �إىل البع�ض ،ثم عهدوا بالأمر �إىل
كربائهم ،ومن كربائهم �إىل البحر ،ومن البحر �إىل اجلزيرة ،جزيرة الأهرام،
عرين النور ،هنالك قام «لو�سيفر» من مقامه فور �أن علم اخلرب ،كان يعلم �أن
نب ًيا قد ُبعث ،لكنه مل يكن يريد �أن ُي�صدق ،وعلى قدر لهفته ملعرفة اخلرب ،على
قدر َه ِّمه وغمه ،على قدر �أن هذا يعني ا�سرتجاع جميع �أيام الكفاح والوغى.
حماطا بنوع من اجلن مل ً وانبعث الأكابر من اجلن ،ووجد «طيفون» نف�سه
أ�صل موجود ،ثم دخل عليه الأمري نف�سه ،الأمري القدمي قدم هذا ي ُكن يعلم �أنه � ً
الزمان ،الذي بلغ من جربوته �أنه �أخرج �آدم وحواء من اجلنة ،و�أف�سد عقائد
العاملني ،وفور �أن ر�آه «طيفون» ،بوجهه الذي يتحدث عن عراقته وعن ذكائه
وعن و�سامته الغريبة ،ارتعدت �أوا�صل «طيفون» وم َّد يده الراجفة �إىل الورق،
ون�سب النبي ،وبيت النبي وكتب «طيفون» بناره وخوفه كل �شيء؛ كتب عن النبي َ
و�أ�صحاب النبي ،ونظر �إىل عني «لو�سيفر» وهي تقر�أ ف�إذا هي قد ا�ستحالت
بي�ضاء كلها ،بي�ضاء تت�ألق بالكراهية ،و�أ�صدر عندها كثريا من الأوامر.
�أمر �أن يعود اجتماع وفد ن�صيبني كلهم وينزلوا �أجمعني ،ومعهم «طيفون» ذو
الفك املك�سور يدلهم على الطريق ،ومعهم تلك امل�سجونة من كا�شياري« ،ما�سا
هارينا» ،في�ستوثقوا من ذلك اخلرب ،ف�إن علموا النبي ور�أوه وت�أ َّكدوا من عالماته،
ف�إن عليهم �أال يفعلوا �أي �شيء ،و�إال قت َلهم مكانهم ..ال يحاولوا االحتكاك به �أو
ب�أت َباعه وال ي�ؤلبوا عليه �أحدً ا وال يغ ُووا �أحدً ا ،ف�أمثال ه�ؤالء الأنبياء الذين مي�شون
يف النا�س بالكذب ،ال يكافئهم �أحد من اجلن ،بكل الأ�سحار التي ي�صنعونها وكل
مهارة الل�سان التي تكون لديهم ،ال يكافئهم �إال نبي ر�سول �أمري حق ،ال يكافئهم
�إال «لو�سيفر» ،ولقد عمل حتى �أف�سد على كل الأنبياء ر�ساالتهم� ،أما هذا الذي
ظهر يف هذا الزمن ،فلينزلن له بنف�سه «لو�سيفر» ،فلي�شعلن الدنيا فوق ر�أ�سه
حتى يقتله ،ويقتل معه ر�سالته الكاذبة ،و�إن جنا فلن ينجو �أتباعه.
و�أُخرجت «ما�سا» من �سجنها ،و�أُخرج «طيفون» ..وح�ضر «الأرقم» و«�إنيان»،
وجاء «�سيدوك» ب�سواد وجهه ،و«بليعال» بكل غموم روحه ،وكان قائدهم
«ميتاترون» ،كبري وزراء «لو�سيفر» ،لكنهم كانوا قد ت�أخروا كث ًريا جدً ا ،خم�س
�سنوات م�ضت منذ �إ�سالم «عمر بن اخلطاب» ،خم�س �سنوات كاملة بكل �أحداثها
وخطوبها.
مت�ض غم�ضات عني حتى كانوا عند جبل النور يف �شمايل مكة ..ما�شني ومل ِ
َّ
�إىل �أبطح مكة �سبعة متجاورين ت�ضيء عيونهم حتى حطت �أقدامهم يف بكة،
وهي الأر�ض من مكة التي بني عليها البيت العتيق ،وعلى تلك الأر�ض املباركة،
�صرخت «ما�سا»� ،أم�سكت ر�أ�سها بكلتا يديها و�صرخت ،فتج َّمد ل�صرختها كل
َ
ف�صرخت من كان يف نطاقها من اجلن والهوام ،ونظر �إليها �أ�صحابها يف تر ُّقب،
مرة �أخرى .
ع
z
ريص
ال
ملحات كانت ت�أتيها كوم�ضات و م�شاهد ..حتكي ما حدث منذ خم�س �سنوات،
ر�أت الكعبة والأ�صنام حولها ،و�صحيفة ُمع َّلقة يف داخلها بعناية ،ت�شو�شت
ك
امل�شاهد ثم عاد �صفا�ؤها و�شاهدت من خاللها كلمات ال�صحيفة ك�أنها توم�ض..
ب ت
(با�سمك اللهم ،هذا عهد من جميع قبائل مكة على �أنف�سها �أن تقاطع
ش
يكلموهم �أو يدخلوا بيوتهم ،حتى ي�سلموا لهم حممدا ليقتلوه).
و ر
الت
وم�ضة �أخرى �أخذتها �إىل ر�ؤية مكان �شديد الفقر؛ لي�س لفقر �ساكنيه بل لأن
و
كل القبائل قد قاطعته ،ثالث �سنوات كاملة ،ال ي�سمح لأهله ب�شراء �أي طعام �أو
يع ز
ملب�س ،مكان ا�سمه �شعب بني ها�شم ،منطقة �أمالك وبيوتات بني ها�شم.
هكذا ق َّررت قري�ش ..بعد �أن ف�شلت كل الأذية والتعذيب مع امل�سلمني ف�شال
ذري ًعا ،فما عذبوا م�سل ًما واحدً ا ورجع عن دينه� ،شري ًفا كان �أم م�ست�ضع ًفا ،بل
تزايد عدد امل�سلمني كل يوم ب�شكل خطر ،حتى بد�أ �أبناء كبار قري�ش يدخلون
الإ�سالم؛ مثل «�أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة» و«�أم حبيبة بنت �أبي �سفيان» ..بد�أ
الإ�سالم يغزُو بيوتاتهم!؛ فاتخذت قري�ش قرا ًرا بالإجماع ،مقاطعة بني ها�شم
مال ًّيا ومعنو ًيا وجتار ًيا حتى جتف منابعهم و ُي�سلموا حممدا للقتل.
أنا�سا ُيه ِّربون الطعام تهري ًبا حتت ذراعهم �إىل
�شاهدت «ما�سا» يف ر�ؤياها � ً
داخل ذلك املكان الذي قاطعته القبائل� ،شعب بني ها�شم ،ثم �أخذتها الر�ؤيا
�إىل م�شهد خارجي لل�شعب ،وبكاء الأطفال ُي�سمع من داخله ،قد كاد يقتلهم
رجل يركع �إىل ك�سرة ُخبز قدمية على الأر�ض فيح ُثو الرتاب من اجلوع! ،ور�أت ً
عليها وي�أ ُكلها ،وكانت �صيحات الأمل والفقر تدوي من جنبات كل �شيء.
343
تبحث عن ر�سول اهلل يف كل مكان قبل �أن دخلت «ما�سا» �إىل ال�شعب وهي َ
تغتم الر�ؤيا وت�أخذها �إىل مكان �آخر ..بحثت وبحثت حتى دخلت �إىل بيت «�أبي
ً
م�ستيقظا مي�شي طالب» من بابه املفتوح ،وكان الليل يف �آخره ،فر�أت «�أبا طالب»
بهدوء �إىل غرفة يف البيت والظالم حالك ،فيدخل �إىل غرفة ابنه «علي بن �أبي
طالب» فيوقظه ،ثم مي�شي معه ،حتى ي�صل �إىل غرفة �أخرى ..نب�ضت الأجواء
نب�ضا �شديدً ا ملا و�صل «�أبو طالب» وابنه لتلك الغرفة ،ف�إن فيها حول «ما�سا» ً
ع
ر�سول اهلل ،دخل «�أبو طالب» و�أوقظ النبي و�أخرجه من الغرفة ،وجعل «�أبو
ص
طالب» ابنه «علي» ينام مكان النبي ،حتى �إذا كان �أحد ير ُقب حممدً ا ليقتله،
ال ري
ال يظفر به �أبدً ا بل يظفر بابنه «علي بن �أبي طالب» ،كان هذا باالتفاق بني «�أبو
طالب» و«علي» الكرمي املكرم حلماية ر�سول اهلل ،حاولت «ما�سا» �شو ًقا وتو ًقا �أن
ت ك
ترى ر�سول اهلل لكنها مل ت�ستطع �أبدً ا ،لإظالم ذلك املكان.
ل ب
�أ�صاب ال�صداع �صدغ «ما�سا» ،و�أخرجتها الر�ؤيا من ذلك البيت ،ف�أ�صبحت
ن ل
قوافل منمت�سك بر�أ�سها وهي مت�شي بال َوعي ناحية الكعبة ،ثم فج�أة ر�أت ً
ش
النمل الأبي�ض ت�ضيء يف الر�ؤيا فتتب َعتها بعينها حتى وجدتها قد دخلت �إىل
و ر
بطن الكعبة وبد�أت ت�أ ُكل �أجزاء تلك ال�صحيفة ومل ترتك منها �إال جز ًءا واحدً ا،
و الت
الكلمة الأوىل ..با�سمك اللهم.
يع ز
وقفزَ امل�شهد بها فج�أة �إىل القوم مي�سكون بال�صحيفة امل�أكولة وينظرون �إليها
يف حرية ..واحت َّد فيها نقا�شهم� ،إنا يا قومنا قد �أ�س�أنا �إىل بطن من بطون قري�ش
يف �سابقة ما فعلتها العرب من قبلنا ،ف�إنا ن�أكل وال ي�أكلون ،حتى جعلناهم ي�أكلوا
�أوراق ال�شجر ويربطوا احلجر على بطونهم ،و�إنا نرى �أن نرفع هذا احل�صار..
وتزايدت �صيحات املوافقة وتناق�صت �صيحات االعرتا�ض ،ومل يل َبث �أن اتفقوا
على �أن ُينهوا ذلك احل�صار الذي دام ثالث �سنوات من الأمل ،وانتهت وم�ضات
ينظر لها يف «ما�سا» بهزَّات يد مت�سك بكتفها يف قوة ،كان يد «الأرقم» الذي ُ
ت�سا�ؤل و�شعره الأحمر ين�سدل خلف ر�أ�سه .
وجهت ر�أ�سها ناحية جبل من اجلبال القريبة نظرت �إليه من وراء ذهولها ثم َّ
وقالت:
�إنه هناك ،الر�سول هناك ،حتت جبل �أبي قبي�س ،يف ِ�شعب بني ها�شم،
يف بيت عمه �أبو طالب.
344
وم�شت وم�شى اجلن وراءها ..وت�شكلوا على هيئات ب�شرية وتطوفوا ببيت َ
«�أبي طالب» فلم يجدوا ملحمد �أث ًرا ..ثم م�شوا يف ِ�شعب بني ها�شم ينظرون
يف وجوه النا�س� ،أين «حممد» من وجوهكم� ،أم�سكت «ما�سا» بر�أ�سها وجاءها
نذير ال�صرخة ،فو�ضعت يدها على فمها وكتمت �صرختها حتى ال يتج َّمع حولها
النا�س الذين �صاروا يرونها ويعجبون ،وانتقلت �إىل عامل املرائي فر�أت لقطات،
حدثت منذ �سنتني فقط ،الح فيها ظهر رجل ال يتبني لها وجهه ،عري�ض املنكبني
ع
طويل ال�شعر ،ورجل �آخر يكلمه من حكماء القوم ويقول له:
ريص
علمت من املنزلة يف الع�شرية واملكان يف يا بن �أخي� ،إنك ِمنا حيث قد َ
ال
أتيت قومك ب�أمر عظيم ،ف َّرقت به جماعتهم و�س َّفهت به الن�سب� ،إنك قد � َ
�أحالمهم وعبت به �آلهتهم ودينهم ،وكفرت به من م�ضى من �آبائهم ..يا
ت ك
مال،بن �أخي يا «حممد»� ،إن كنت �إمنا تريد مبا جئت به من هذا الأمر ً
ب
جمعنا لك من �أموالنا حتى تكون �أكرثنا ً
ل
مال ..و�إن كنت تريد به �شر ًفا
ن ل
َ�س َّو ْد َناك علينا حتى ال نقطع �أم ًرا دونك ،و�إن كنت تريد به ُم ْل ًكا م َّلكناك
ش
علينا ،و�إن كان هذا الذي ي�أتيك رِئ ًيا من اجلن ال ت�ستطيع رده عن نف�سك
و ر
طلبنا لك الطب وبذلنا فيه �أموالنا حتى ُن َ
ربئك منه.
و الت
و�سمعت «ما�سا» حممدً ا يقول له بهدوء :
يع ز
فرغت يا �أبا الوليد؟
�أقد َ
قال الرجل :نعم ..فقال له «حممد» بثبات :
فا�سمع مني .
ثم ت�ش َّو�شت الر�ؤيا يف عني «ما�سا» وجاهدت لرتى وجهه �أو ت�سمع لقوله ،لكن
الر�ؤيا قد ذهبت ثم عادت ت�أخذها لذلك الرجل الذي كان ُيك ِّلم «حممد» ،وهو
مفزوعا �إىل قومه بعد الذي �سمعه من ً من عل َية القوم� ،شاهدته «ما�سا» يهرع
«حممد»! ،فلما ر�أوا وجهه قال بع�ضهم :نحلف باهلل لقد جاءكم عتبة بن ربيعة
بغري الوجه الذي ذهب به ..قالوا :ما وراءك يا عتبة؟ قال :ورائي �أين �سمعت
قول واهلل ما �سمعت مثله قط؛ واهلل ما هو بال�شعر وال بال�سحر وال بالكهانة ،يا ً
مع�شر قري�ش خلوا ،خلوا بني هذا الرجل وبني ما هو فيه ،ف�إن ُت�صبه العرب فقد
كفيتموه بغريكم ،و�إن يظهر على العرب ف ُملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم �أ�سعد
النا�س به ..قالوا� :سح َر َك واهلل يا عتبة يا بن ربيعة بل�سانه.
345
و�أفاقت «ما�سا» واجلن من حولها ينظرون �إليها ..فنظرت �إليهم بنظرة
تائهة فرتكوها وانطلقوا ي�س�ألون النا�س عن «حممد» ،وكانت جوابات النا�س
كلهم �أنهم ال يدرون �أين هو ،وظ َّل اجلن يوما كامال ي�س�ألون عنه يف بيته و�شعبه
ويف �شعاب مكة كلها وال يجدونه.
�أما «ما�سا» فكانت مت�شي ناحية بيت معني وعينها �شاخ�صة �إىل الال�شيء؛
ً
تداخل عجي ًبا مع ما بيت «�أبو طالب» ،كانت ترى فيما تراه يف ر�ؤيا تداخلت
ع
تراه عينها يف احلقيقة ،كانت احلقيقة �أنها تتجه �إىل بيت «�أبي طالب» وال �أحد
ريص
حوله ،لكن ر�ؤياها �أظهرت لها رهطا من �أكابر قري�ش دخلوا «على �أبي طالب»
ال
مري�ضا مر�ض املوت ،دخلوا عليه حتى ملأوا غرفته فلم يجعلوا الذي كان راقدً ا ً
لقدم ،فبا�شروه بقولهم : فيها مو�ض ًعا َ
ت ك
يا �أبا طالب ،لقد ح�ض َرك ما ترى من املر�ض ،ولقد علمت الذي بيننا
ن
فادعه لي ُكف عنا ون ُكف عنه
ش
وعمر ،ف�أ�صبح ُيعلن بالكلمة وال ي�سر بهاُ ،
ر
وندعه ودينه . وليدعنا وديننا ََ
الت و
فبعث «�أبو طالب» البن �أخيه «حممد» فجاء فلم يجد مو�ضعا لقدم يف الغرفة
و
فوقف عند الباب ،فنظ َرت «ما�سا» يف ر�ؤياها �إىل حيث يقف فلم يتبني لها من
يع ز
وجهه �شيء! ،مل ترى �إال زحام الأج�ساد! ،لكنها �سم َعت «�أبا طالب» يقول له:
يابن �أخي ه�ؤالء �أ�شراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وي�أخذوا منك.
فقال له «حممد»:
�أي َعم� ،أوال �أدعوهم �إىل خري لهم منها؟
نظر الكل له وهو ُيكمل :
كلمة ت َِدينُ لهم بها العرب وميلكون بها العجم.
قال �أحدهم وكان «�أبو جهل»:
عطي َك َّنها وع�شرا �أمثالها.
ما هي و�أبيك؟ ل ُن ِ
قال لهم «حممد»:
�أن تقولوا ال �إله �إال اهلل.
346
فنفروا وقالوا :عج ًبا لك �أجتعل الآلهة �إل ًها واحدً ا؟ �إن هذا ل�شي ٌء عجاب..
فتفرقوا وقاموا وهم ينف�ضون ثيابهم غ�ضبى .
�أيقظ «ما�سا» من �سباتها �سماعها للجن يتحدثون قري ًبا منها ..وقد كانوا
على هيئاتهم الب�شرية يبدون كقوم من الأغراب ،يلب�سون عمائم العرب وتظهر
من حتتها �شعورهم ،ف�أحدهم �أحمر ال�شعر والثاين �أ�صفره ،ولرمبا ظنهم �أهل
مكة جتا ًرا �آتني من بالد بعيدة لأجل �سوق عكاظ الذي قد اقرتب �أوانه ..قال
ع
«�إنيان» الذي كانت هيئته الب�شرية ذات �شعر �أ�صفر مرفوع جميل :
ريص
ال
�إن بع�ض جوابات القوم عن «حممد» تختلف عن البع�ض الآخر ،وك�أنهم
يخفون �أمره ،ما هو يف بيته عند زوجته وال هو يف بيت عمه.
ت ك
قالت «ما�سا»:
ل ب
�إين ر�أيتُ قبيلته بني ها�شم حم�صورين يف هذا ال�شعب ثالث �سنوات وقد
ن ل
ُمنع عنهم كل طعام و�شراب وجتارة ،حتى �أكلوا �أوراق ال�شجر ،برغم �أن
ش
قبيلته مل تكن ت�ؤمن به كلها ،لكنهم حا�صروا اجلميع .
و ر
الت
قال «الأرقم»:
و
ال يبدو �أن هذا م�ستمر الآن ،ف�إين �أرى حالهم اليوم قد حت�سن.
يع ز
�إن ذلك احل�صار قد مت رفعه منذ �أمد قريب ،ف�إين �سمعت ب�أذن اجلن
قال «�إنيان»:
القوم يذكرون احل�صار ويتحدثون عنه ،لكن حممدً ا لي�س هنا ،هذا
وا�ضح ،برغم �أن �أ�صحابه هنا و�أهله هنا .
وهنا �أتت على «ما�سا» �صرخة مل ت�سطع كتمانها ..فانتبه لها بع�ض القوم
واجتمعوا ولكن اجلن كان حولها بهيئاتهم الآدمية طم�أنوا من �أتى وذكروا
�أن بها علة من مر�ض ..وكانت «ما�سا» ُم�ستلقية بني ذراعي «الأرقم» ا�ستلقاء
املغ�شي عليه ،و�إن عيناها كانت ترى �شي ًئا �آخر!.
z
كانت تَرى فيما يرى النائم نف�سها وهي مت�شي يف نف�س هذا ال�شعب قبل
عدة �أ�شهر فقط ،وهي يف هيئة اجلن ،والنا�س من حولها ي�أتون ويروحون يف
�أحوالهم ،حتى ر�أت بع�ض النا�س قد وقفوا �أمام بيت «�أبو طالب» وك�أن بداخله
347
خط ًبا ما ،ولأن اجلن ال يقدرون على فتح باب مغلق �أو العبور عرب جدار ،فلقد
الت�صقت بجدار �أبو طالب و�أرهفت �سمعها ،واجلن �أ�سماعهم �أقوى من الب�شر،
مكتوما من ً كانت تريد �أن ت�سمع ما يدور داخل ذلك البيت ،كانت ت�سمع بكا ًء
�أهل البيت! ،وك�أن «�أبو طالب» قد ح�ضرته الوفاة ،ولقد م َّيزت �صوت «حممد»
وهو يقول له:
يا عماهُ ،قل ال �إله �إال اهلل �أحاج لك بها عند اهلل.
ص ع
و�أرهفت �سمعها �أكرث لت�سمع ما قد يقوله «�أبو طالب» ،الذي ميزت �صوته وهو
ال ري
يقول من بني �إعيائه :
لوال �أن تعريين قري�ش ،يقولون ما حمله عليها �إال جزعه من املوت لأقررت
ت ك
عينك يا بن �أخي .
ل ب
و�سكت وظل �ساكتًا وطال �سكوته ..ولقد �أيقنت �أن روحه قد فا�ضت ملا ا�شتد
ن ل
البكاء من �أهل البيت ،و�إن �أجواء ر�ؤياها قد �أ�صبحت تنب�ض من احلزن وك�أنها
ش
تت�صدع ،فلقد عرفت من حديث اجلن �أن «�أبا طالب» كان �شديد املحاماة
و ر
واملحاجاة واملمانعة والدفاع عن «حممد» وعن �أ�صحابه ،ويف غالب الأمر �إن
و الت
مري�ضا مر�ض املوت ،لقد عا�ش ً احل�صار قد �أنهكه و�أهلكه حتى خرج منه
ز
دفاعا عن «حممد» ً
وحفظا له ،ولقد �أتاه «حممد» ُيل ِّقنه
يع
م�سل ًما و�أخفى �إ�سالمه ً
ال�شهادتني قبل �أن ميوت كما يلقن �أي م�سلم؛ قال له :قل تلك الكلمة حتى �أحاج
ربي بقولتك �إياها فيمحوا لك بها �أي ذنب يف حياتك ..لكن ذلك كان يف ح�ضور
«�أبو جهل» ،مل يفهم «�أبو جهل»! ،ظنَّ �أن حممدً ا يحاول �أن يجعل «�أبو طالب»
ي�سلم ويدخل يف دينه ،مل يفهم �أنه لو كان كما يظن ما احتاج «حممد» �أن يقول
له (�أحاج لك بها عند اهلل) ،مل يفهم �أن الكافر لو قال كلمة ال�شهادة يف �آخر
حلظة من حياته ،ال يحتاج لأن يحاج ويناق�ش له بها «حممد» عند اهلل ،بل
الكافر لو قال كلمة ال�شهادة �ستمحو له جميع كفره وذنوبه وتدخله اجلنة طاه ًرا
من ذنوبه غري حمتاج �إىل حماجاة ومناق�شة �أحد مع اهلل ،لكن م�شكلة «�أبو
طالب» وذنبه �أنه ا�ستعظم �أن يت�شهد �أمام «�أبو جهل» لئال تعريه قري�ش وتقول
ف�ضل نظرة النا�س لك يف الدنيا �أنه خائف ..وكان هذا يف الإ�سالم ذن ًبا� ،أن ُت ِّ
على �ضمان م�صريك يف الآخرة ،ولقد ا�ستحق «�أبو طالب» ب�سبب هذا الذنب
العذاب يف النار ،لكنه ب�شفاعة النبي فيه �سيكون �أخف امل�سلمني الداخلني �إىل
النار عذا ًبا.
348
بد�أت �أجواء ر�ؤيا «ما�سا» تت�صدع �أكرث ..حتى رك�ضت بعيدً ا عن ذلك البيت،
و لبثت ترك�ض بال هدى يف ذلك ال�شعب حتى �أجاءها امل�سري �إىل جدار بيت
«حممد» ،ف�سمعت �صوتًا جعل عينيها تت�سعان ،هذا ال�صوت مل تكن ت�سمعه �إال يف
ال�سـ ...توقفت �أفكارها لرتهف �سمعها ،كان ال�صوت يقول :
هذه خديجة عليك �آتية يا حممد ومعها �إناء فيه �إدام �أو طعام �أو �شراب،
ف�إذا هي �أتتك فاقر�أ عليها ال�سالم من ربها ومني ،وب�شرها ببيت يف
ع
اجلنة من ق�صب ال ق�صب فيه وال ن�صب .
ريص
ال
وا�ضح �أن ال�صوت يكلم حممدً ا عن زوجته «خديجة» ،ات�سعت عينا «ما�سا»
لأنها فهمت ماذا يعني �صاحب ال�صوت ،تلفتت حولها بال معنى ثم عادت
ك
لت�صغي ال�سمع يف قلق ،وظلت مل�صقة �أذنها اجلنية يف اجلدار مدة طويلة حتى
ت
جاءتها �صرخة باكية من الداخل ،كانت هذه «فاطمة» بنت حممد وخديجة؛
ش ن
«ما�سا» حولها لرتى جميع الألوان قد ذهبت ف�صارت الر�ؤيا �سوداء و بي�ضاء،
ر
ونب�ض الهواء نب�ضة وجاءها الأمل ف�أم�سكت ر�أ�سها وانطلقت ُتهر ِول يف الطرقات
الت و
ترمتي من جدار �إىل جدار ،وت�سمع بني ذلك وذلك من �أحاديث النا�س يف
و
الدروب عن خديجة.
يع ز
عن التي كان قلبها �أول قلب �آمن مبحمد من قلوب اخللق ،عن الغنية البهية
التي �أذهبت مالها كله عن طيب خاطر ب ًرا مبحمد ،ع َّمن �صربت حتى تعجبت
الآالم من �صربها ،فمات �أول ابن لها من «حممد» وكان ا�سمه «القا�سم»،
ثم مات ابنها الثاين من «حممد» وكان ا�سمه «عبد اهلل» � ،صغريان مل يبلغا
احلولني ..وكانت بعد ذلك ت�سمع من يرمي «حممد» بالكالم ويلمزه ب�أنه �أبرت
منقطع الولد ،عن التي حتملت ح�صا ًرا �أليما ل�سنوات �أذاقها و�أهلها و�أطفالها
اجلوع وهي التاجرة الغنية ...ومل تكمل «ما�سا» �سماع بقية الأحاديث �إذ �سقطت
على الأر�ض .
و�صحت وهي حممولة على �أكتاف اجلن وقد وقفوا ي�س�ألون حول الكعبة ،وال
�أثر ملحمد! .قالت لهم :يا مع�شر اجلن� ،إين �سمعتُ حممدً ا وك�أنه ُيحدِّ ثه واحد
من الـ ...ثم �سكتت ُمدِّ قة ناحية الكعبة ،فر�أت يف ر�ؤياها التي تتداخل مع
جال�سا ثم �سجد ،فانطلقت �إليه على الفور يف رجل كهيئة «حممد» كان ً الواقع ً
ر�ؤياها لكن ثالثة رجال فا�سقني يف الر�ؤيا كانوا قد �سبقوها �إليه ،كان الف�ساق
349
قد جتر�أوا على «حممد» بعد موت عمه «�أبو طالب» ،فانفلت �أ�شقى ه�ؤالء الرجال
الثالث على «حممد» وكان ا�سمه «عقبة بن �أبي معيط» وكان ً
رجل �شق ًيا جمنو ًنا؛
هجم على النبي وهو ي�صلي و�أخذ مبنكبه و ل َوى له ثوبه حول عنقه فخنقه خن ًقا
�شديدً ا يريد �أن يقتله! ،وا�ست�ضحك الرجلني الذين معه ب�سخرية وكانا هما
التو�أمني اخلبيثني ،عتبة و�شيبة بن ربيعة ،وتراجعت «ما�سا» �شاخ�صة بعينها
حتى �سمعت عن ميينها �صوت �أقدام ترك�ض بغ�ضب فنظرت �إىل �صاحبها ،كان
ع
رجل يرتدي رداء وا�س ًعا ،وكان طويل ال�شعر تن�سدل �ضفائره من طولها على ً
ص
كتفيه ،وثب على املعتدي ودفعه بقوة ف�أ�سقطه و�صاح فيهم :
رجل �أن يقول ربي اهلل؟
ال ري
ويح ُكم �أتقتلون ً َ
ك
عال كال�سكارى ،فقال بع�ضهم لبع�ض: ب�صوت ٍ
ٍ ابتعد الرجال وهم يته َّكمون
ت
من هذا؟ قالوا :هذا «�أبو بكر» املجنون ..فاقرتبت «ما�سا» �إىل «حممد» و»�أبو
ش ن
الزالوا ي�س�ألون والنا�س الزالوا يهزون ر�ؤو�سهم ..ثم ظهر لها يف ر�ؤياها العجيبة
ر
«حممد» �ساجدا يف مكان �آخر ونف�س الرجال يقرتبون منه ويتغامزون ،وجعل
الت و
بع�ضهم مييل على بع�ض ،ثم فج�أة �ألقوا بني كتفيه �أح�شاء �شاة مذبوحة ،وبقي
و
«حممد» �ساجدً ا كما هو ال يقوم حتى جاءت ابنته الكربى «زينب» جتري مفجوعة
يع ز
ف�أزالت الأح�شاء عن كتفيه وهي تبكي.
كانت «ما�سا» فقط تريد �أن ترى وجهه ،مت َّلكها الف�ضول لرتاه فكانت ترفع
عنقها وتخف�ضه وتتحني لذلك ،لكن زوايا ر�ؤياها مل تكن جتعلها تب�صر وجهه
�أبدً ا ،وك�أنه ال يرى وجهه �شيطان ،كانت ابنته «زينب» تبكي وتزيل عنه الأذى،
بينما «حممد» يقول لها :
�أي ُبنية ال تبكني� ،إن اهلل مانع �أباك.
وفج�أة اختفى كل هذا كال�سراب من �أمام عني «ما�سا» وانتبهت عينها �إىل
حقيقة ما يحدُث حولها ،كان النا�س كلهم ينظرون �إىل مناد � ٍآت من بعيد وهو
ي�صيح:
يا مع�شر قري�ش� ،إن حممدا لي�س بينكم� ،إن حممدً ا يدعو �إىل ما يدعو �إليه
عند �صنم الالت املقد�س ،يا مع�شر قري�ش� ،إن حممدً ا يف الطائف!
z
350
قليل وحملوا معهم «ما�سا».. نزل اجلن �إىل الطائف يف ثان َية واحدة قد تزيد ً
وقدموا �إىل الالت فوجدوها �صخرة بي�ضاء كبرية ُمر َّبعة منقو�شة يع ُبدها
النا�س ،وتوجهوا ناحية �أقرب رجل يدعو �أمام ال�صخرة ،ف�س�أله «�إنيان» بتلك
أيت ذلك الرجل الذي خرج العمة التي ي�ضعها ويظهر منها �شعره الأ�شقر :هل ر� َ
ت�ضر وال تنفع؟ نظر له فيكم يدعوكم �إىل ترك عبادة هذه ال�صخرة ب�أنها ال ُ
الرجل ُبرهة ثم قال :ال �أدري ،ومن يج ُر�ؤ على قول هذا يف حق الالت ..وفج�أة
ع
�أم�سكت به يد فوالذية من خلفه ،ورفعته كما ُيرفع الطفل ،فنظر الرجل ُمرتعبا
ص
ل�صاحب اليد ف�إذا هو «ميتاترون» ،متمثل يف هيئة رجل �ضخم اجل�سم يرتدي
ال ري
جبة تغطي ر�أ�سه ينظر �إليه بعينني وك�أنهما ُق َّدتا من �صخر ف�أهبطتا قلب الرجل
�إىل قدميه! ،و�إن هيئة «ميتاترون» الب�شرية تبدو � َأ�شد ُرع ًبا من هيئته اجلنية..
ت ك
قال له «ميتاترون»:
ل ب
لذاكر لنا من �أمر ذلك الرجل كل ما علمت �أو لألطخنَّ هذه ال�صخرة �إنك ِ
ن ل
البي�ضاء التي ال طائل منها بدمائك القذرة.
ر ش
فزع الرجل و�أ�شار �إىل ناحية بعيدة وقال :هناك ،هناك ر�أينا ً
رجل غري ًبا
الت و
ومعه غالم له وحولهما كثري من ال�ضجة ،و�أق�سم �أنني ال �أدري ما يزيد عن
و
هذا ..ترك «ميتاترون» تالبيب الرجل وانطلق ال�سبعة �إىل املكان الذي �أ�شار
يع ز
فارغا ،و�إن كانت هناك �آثار �أقدام كثرية على الأر�ض ،وبينما �إليه ،كان املكان ً
هم ينظرون يف الآثار �إذ وجدوا بينها �آثار دماء تلطخ الأر�ض وتلطخ احل�صى
واحلجر ،فلما ر�أت «ما�سا» هذا امل�شهد �صرخت �صرخات متقطعة مفجوعة
وقامت تتخبط وتدور حتى �أتاها نظرها مبناظر ال يراها غريها ،وكانت مرهفة
احل�س ففجعت مما ر�أت .
ر�أت �أن هناك رجال ون�ساء و�صبيان قد ا�صط ُّفوا �إىل �صفني وازدحموا كت ًفا
بكتف ،ور�أت حممدً ا من بينهم مي�شي وبجواره غالمه «زيد بن حارثة» ،ولأن
موقع وقوف «ما�سا» كان بال�ضبط عند موقع وقوف «حممد» و«زيد» بني ال�صفني
ف�إنها كانت ترى م�شهدا ُمرع ًبا لأنا�س ا�صطفوا �صفني من النا�س حولها،
وجوههم فيها �سفاهة و�سخرية و�أغلبهم من ال�صبيان الذين يتطاولون ،ثم �إن
وجوههم قد تبدلت مالحمها وجتر�أت عيونهم و�أيديهم وطفقوا يحملون من
حجارة الطريق ويرمونها بقوة على «حممد» و«زيد» ،وقلدت ال�صفوف بع�ضها
و�أ�صبح الكل ينحني ليلتقط حجارة ويرميها على «حممد» ويتناف�سون! .وفجعت
351
«ما�سا» من مر�أى احلجارة التي ُتقذف من كل جانب ،ونظرت �إىل «حممد»
و�صاحبه ف�إذا هما قد انحنيا و�أكمال امل�سري واحلجارة تلحق ب�أج�سادهما ،وكان
«زيد» يغطي بج�سده على «حممد» وك�أنه ال يكرتث بنف�سه على الإطالق ،وكان
يخفي وجه «حممد» عن عيون «ما�سا» التي وقفت و�سط هذا امل�شهد مفجوعة
ت�صرخ بجنون.
وتخ�ضبت �أقدام احلبيب «حممد» بالدم و�سا َلت على نعليه وهو مي�شي ثم
ع
فج�أة وقع على الأر�ض ُ
و�ش َّج ر�أ�س زيد �شجة �صارمة �أبعدته قليال عن «حممد»،
ريص
فرفع «زيد» ر�أ�سه ناحية ال�شم�س ووقع على ظهره ،واندفع من �سفهائهم اثنني
ال
�أخذا بع�ضد «حممد» و«زيد» و�أقاموهما ودفعوهما ليم�شيا ،لي�س رحمة بهما
ولكن لت�ستمر احلجارة يف رجمهما ،وتكاثرت احلجارة حتى كان «حممد» ال
ت ك
يرفع قدما وال ي�ضعها �إال على حجارة .
ش ن
�آذانهما وقلوبهما ..و�صرخت «ما�سا» من فجيعة قلبها و�أرادت �أن تخرج من
ر
الر�ؤيا ،ف�أخذت ت�شد ب�شرتها وت�ضع ر�أ�سها على الأر�ض وال ت�سمع �إال �أ�صوات
الت و
احلجارة وال�سباب وال ت�شم �إال رائحة الدماء على الأر�ض ،و�أثقلتها البلية فلم
و
تقدر على الزحف خارج هذا التجمع ،وبقت ت�سمع �إىل �صيحات �صبيان وترى
يع ز
بطرف عينها «حممد» و«زيد» يتحركان �إىل ناحية من النواحي ب�صعوبة بالغة،
وو�ضعت �أ�صابعها يف �أذنيها و�أغم�ضت عينيها بقوة حتى �أتتها �صفعة على وجهها
وانقب�ضت قب�ضة على �شعرها ورفعتها ،كان هذا «ميتاترون» قد �سئم من مر�آها
بغ�ضب وقال :
ٍ ت�ص ُرخ وتتل َّوى ،فنظر لها
الرجل؟
أنت جمنونة عدمية الفائدة� ،أين ُ ت�ص ُرخني وت�صرخني و� ِ
نظرت «ما�سا» �إىل ناحية معينة ،فر�أت كهيئة «حممد» و«زيد» من بعيد
ي�ستندان على جدار ،فخل�صت نف�سها من «ميتاترون» ورك�ضت ناحيتهما بلهفة
مل تعهدها يف نف�سها ،نظر اجلن �إليها و�إىل املكان الذي جتري ناحيته فوجدوه
فارغا ،لكنهم رك�ضوا وراءها! ،كان م�شهد «حممد» يقرتب من عني «ما�سا» وهي ً
تر ُك�ض وتنظر �إليه ،و�إن منية عينها كانت فقط �أن تراه ،ر�ؤيا �أو حقيقة ،وكانت
ال�شم�س يف وجهها حترق عينها فلم تهن�أ بر�ؤية وجهه ،لكن حاله مل تكن تخفى
وانكب على النبي
على الناظرين ،كان «زيد بن حارثة» قد ن�سي كل ما به من َّ
الزكي يبكي ومي�سح الدماء من على وجهه وج�سده حتى �أ�سنده �إىل جذع نخلة،
352
ورفع �صاحب التاج «حممد» ر�أ�سه �إىل ال�سماء وقد انك�سر ف�ؤاده ..كانت «ما�سا»
وحدها تراه يف ر�ؤياها بينما �أ�صحابها من اجلن يعاينون النخلة واجلدار
ويعاينون ما بهما من دماء ،وكانت «ما�سا» وحدها ت�سمعه ..ظ َّل «زيد» مي�سح
وجهه ويربت عليه و«حممد» ينظر �إىل ال�سماء ،ثم قال قولة مل ت�سمع «ما�سا»
مثلها يف حياتها اجلنية كاملة؛ مل ت�سمع مثل هذا من �إن�س وال من جن ..قال
«حممد» :
ع
�ضعف قوتي ،وق َّلة حيلتي ،وهواين على النا�س ،يا اللهم �إين �أ�شكو �إليك َ
ريص
�أرحم الراحمني� ،أنت رب امل�ست�ضعفني و�أنت ربي� ،إىل من ِتك ُلني؟ �إىل
ال
غ�ضب
ٌ بعيد يتجهمني؟ �أم �إىل عدو ملكته �أمري؟ �إن مل ي ُكن بك َّ
علي ٍ
فال �أبايل ،ولكن عافيتك هي �أو�سع يل� ،أعوذ بنور وجهك الذي �أ�شر َقت
ت ك
له الظلمات ،و�صلح عليه �أمر الدنيا والآخرة من �أن تنزل بي غ�ضبك،
ل ب
�أو يحل علي �سخطك ،لك العتبى حتى تر�ضى ،وال حول وال قوة �إال بك.
رب
ن ل
ظ َّلت «ما�سا» مت�سعة العينني من وقع الكلمات على �أذنيها وفهمها� ..أي ٍّ
ش
ر
جليل ُيناجي! ،نظرت �إىل ال�سماء ،ثم نظ َرت �إليه فوجدته قد ا�ستحال �سرا ًبا، ٍ
الت و
رك�ضت تنظر هنا وهناك� ،إىل �سراب �آخر قد تراه فيه ،وظلت ترك�ض حتى ُ
و
خرجت من حدود الطائف و�أ�صبحت جتري يف ال�صحراء على درب ال�سفر،
يع ز
وتعجبت �أن حممدً ا و�صاحبه قد طلعا من مكة �إىل الطائف م�ش ًيا على الأقدام، َّ
هداها فكرها ب�أنه رمبا �أراد التخفي عن �أعدائه يف مكة فال يدرون عن �سفره..
قالت لأ�صحابها� :إن حممدً ا قد �أتى �إىل هنا متخف ًيا وغالم له معه ،ولكن �أهل
هذه البلدة قد طردوهما ورج ُموهما باحلجارة حتى �سا َلت دما�ؤهما ،و�إنه
وغالمه م�ش ًَيا من هذا الطريق عائدين �إىل مكة ...ثم �صمتت فج�أة �أمامهم
و�أخذت ت�سمع يف انبهار ثم نظ َرت �إىل ال�سماء! ،بدا �أنها ت�سمع مثل ذلك
ال�صوت الذي �سمعته داخل بيت «حممد» ،بدا �أن الر�ؤيا �أتتها هذه املرة على
هيئة �أ�صوات فقط حتدثت يف هذا املكان ،كان ذلك ال�صوت يقول :يا «حممد»
خرج اهلل من �إن �شئت �أطبقتُ عليهم الأخ�شبني ..فقال له «حممد» :بل �أرجو �أن ُي ِ
�شرك به �شي ًئا .
�أ�صالبهم من يع ُبد اهلل وال ُي ِ
توقفت «ما�سا» عن امل�سري ،الأخ�شبني؟ هل يتح َّدث عن جبلني؟ يود لو
يطبقهما على القوم ،من الذي ُيحدِّ ث حممدا؟ هل ُيحدِّ ثه ربه؟ ال� ،إن «حممد»
كان يرد على ال�صوت ويتحدث عن عبادة اهلل ال �شريك له ،ثم �إن ال�صوت
353
ُمتلف عن ذلك الذي كان يحدثه يف بيته ،لكنهما من نف�س الفئة ،وهي تعرف
هذه الأ�صوات ،تعرفها من رحالتها ال�سابقة �إىل ال�سماء مع من كان ي�صعد،
هذه �أ�صوات املالئكة ،املالئكة املفرت�ض �أنها ال ي�سمع حديثها �إال اجلن ،ولو
حت َّدثت فال تتحدث �إال �إىل نبي مثل «لو�سيفر».
z
ع
كانت «ما�سا» مت�شربة يف قلبها عقيدة «لو�سيفر» عن اهلل ،وعن ر�سل اهلل من
ص
الإن�س ،ب�أنهم جمانني ،وب�أنه ال يوجد هلل ر�سول �إال «لو�سيفر» اجلني القدمي ،لكن
ال ري
كالما مل تعتَد عليه!� ،إن اجلنون لي�س هكذا ،لكنها ر�ؤياها عن «حممد» حتكي ً
نف�ضت عن ر�أ�سها هذه الأفكار بقوة ُمتذ ِّكر ًة عقيدتها التي تر َّبت عليها ،وفتحت
ك
عينها ونظرت لل�سائرين حولها ..قال «الأرقم»:
ب ت
من هناك يا �أبناء ن�صيبني� ،إن حممدً ا وغالمه ي�سرتيحان عند جدار
ش
ات�سعت عينا «ما�سا» فور �أن ذكر اال�سم ..و�أنزلت ر�ؤياها يف روعها وجهني
و ر
تذكرتهما فور �أن ر�أتهما ،هذين الذين كانا ي�ست�ضحكان و�صاحبهما يخنق حممدً ا
و الت
�سجد ،وهذين الذين رميا �أح�شاء ال�شاة عليه وهو ي�سجد� ،أهو ي�سرتيح عند ملا َ
يع ز
ب�ستان لهما!� ،أ�صابتها خفقة يف ف�ؤادها مل تفهمها وحت َّركت جتري �إىل املكان ٍ
الذي ي�شري �إليه «طيفون» ،جتري �إىل «حممد» ،لكنها مل جتده هنالك� ،أتراه قد
اغتيل؟ و�أي فر�صة لأوالد ربيعة كرباء قري�ش لقت ِله �إال الآن؛ ُمن َه ًكا ال يحميه �أحد
من �أن�سابه و�أن�صاره ،م�ساف ًرا لن يعلم �أحد مبروره هاهنا ،كانت تنتظر �شي ًئا
من الر�ؤيا ،ولقد ملحت �أن هذا جديد على نف�سها ،لطاملا كانت الر�ؤيا هم وغم
و� َأل مت�سك ر�أ�سها يف �أثنائها ،لكنها الآن تتوق لها ،نف�ضت هذه اخلواطر ملا �أتى
�أ�صحابها يتفقدون املكان يف ي�أ�س .
أبط�أ من «حممد» بخطوة واحدة ،ولقد تف َّقدوا حائط الب�ستان، دوما � َ
كانوا ً
تن�سمت �أنوفهم عنده امل�سك ،وعند ذلك نزلت «ما�سا» على ركبتيها ونزلت ولقد َّ
عليها الر�ؤيا فانف�صلت عما حولها ،وهناك ر�أته؛ فج�أة ر�أته ك�أو�ضح ما تكون
م�ستت وال ُملت ِفت وال م�ستدير ،بل قد �أنزلتها الر�ؤيا مبا�شرة الر�ؤيا ،جليا غري ِ
قبالة وجهه ،فنظرت �إليه واللهفة تقطر من كل عني ،فلما ر�أته رجفت ،كالذي
يرجف من �شيء بذل من عمره ع�شر �سنوات يبحث عنه حتى �إذا بلغ به الي�أ�س
انبلج ال�شيء �أمامه بغتة� ،أو كالذي يرجف وهو ينظر �إىل �شيء يعلم يقي ًنا �أن
354
تغيت و�أمطرت �شهبانها لأجله� ،أو كرجفة يرجفها من يتوقع �شي ًئا ال�سماء قد َّ
جليل املنظر ف�إذا نظر كان ال�شيء �أجل و�أبهى ،ولقد �شغلتها رجفاتها عن االنتباه
والنظر فتمال َكت نف�سها ثم ح َّدقت �إىل وجهه.
و�ضاءة أبي�ضا �صاف ًيا ك�أن ب�شرته ِ�صي َغت من الف�ضةَّ ،
كان ميلك وج ًها به ًياً � ،
م�شربة بها حمرة ال�صحة ،كان يجل�س عند اجلدار وي�سند ر�أ�سه عليه ،كان يف
اخلم�سني من عمره وال يبدو كذلك ،و�سيم املالمح م�ستقيم الأنف �سهل اخلدين
ع
ذو عينني وا�سعتني طويلتي الأ�شفار ،عليهما حاجبني قويني �شبه مت�صلني،
ريص
يعلوهما �شعر �أ�سود فاحم طويل يفرقه مي َن ًة وي�سرة ين�سدل من خلفه �إىل كتفيه،
ال
يف وجهه ا�ستدارة تزينها حلية ال يزيد طولها عن قب�ضة اليد ،م�سرحة معتنى
بها يخلو ال�شيب منها تقري ًبا ،و�شارب غري كثيف يف �أعالها.
ت ك
ظ َّلت متلأ عينها من عينه ووجهه وكان يقلقها �أن تخرج من ر�ؤياها ..ولكن
ش ن
�أنهم �سيقتلوه الآن عند ب�ستانهم ،اقرتب الظل حتى دخل يف جمال ر�ؤياها ف�إذا
ر
هو غالم يحمل يف يده طبقا من العنب ،ولقد حترك ناحية «حممد» يف �شيء من
الت و
الت�أ ُّدب وق َّدم له الطبق وقال له:
و
�إن ا�سمي عدا�س� ،إليك هذا العنب �أيها امل�سافر.
يع ز
نظر له «حممد» ثم م َّد يده �إىل الطبق وقال كلمات مل ت�س َمعها «ما�سا» ثم بد�أ
ي�أكل ..كانت «ما�سا» تنظر وقد ا�ستغرب منها كل �شيء ،نظرت من وراء الباب
فر�أت الأخوين عتبة و�شيبة ينظران �إىل الغالم من الداخل ويتهام�سان ،غلب
على ظن «ما�سا» �أن العنب م�سموم ،فنظرت �إىل «حممد» ف�إذا هو ال يزال بخري
حال ،كان الغالم يقول ملحمد :
واهلل �إن هذا الكالم الذي �سمعت َُك تقوله قبل �أن ت�أ ُكل ال يقوله �أهل هذه
البالد �أيها امل�سافر.
قال له «حممد»:
ِومن �أهل �أي البالد �أنت يا عدا�س؟ وما دينك؟
قال له الغالم :
�أنا ن�صراين ،من �أهل نينوى.
355
قال له «حممد» :
من قرية الرجل ال�صالح يون�س بن متى؟
بدا الغالم وك�أنه قد �أخذته املفاج�أة فقال :
وما يدريك ما يون�س بن متى؟
قال له «حممد» :
ص ع
ذاك �أخي ،كان نبيا ،و�أنا نبي .
ال ري
وكان «يون�س» من الأنبياء املذكورين يف التوراة والذين ُي�ؤمن بهم الن�صارى..
ف�أقبل الغالم على النبي «حممد» ُيق ِّبل ر�أ�سه ويديه وقدميه ،و�أخذ ُيحدثه
ك
ويحتفي به وبد�أت الر�ؤيا يف الزوال ومل ت�سمع «ما�سا» ما تال ذلك ...و�أفاقت
ت
ف�إذا �أ�صحابها من اجلن قد وقفوا عند باب الب�ستان ُيحدِّ ثون «عدا�س» وي�س�ألونه
ل ب
عن «حممد» ،وهو ي�شري �إليهم �إىل جهة درب ال�سفر وال يبدو من مالحمه
ن ل
متاما ونظروا جمي ًعاومالحمهم �أنه قد �أفادهم ب�شيء ،وعاد اجلن وقد يئ�سوا ً
ش
�إىل درب ال�سفر الذي �أ�شار له الغالم ،درب �صحراوي ال يدرون عنه �شي ًئا،
و ر
�سيتوجه� ،أهو عائد �إىل مكة بعد
َّ بلد
ولن يعرفوا �أي طريق �سي�سلك و�إىل �أي ٍ
الت
�أن عرف �أهل مكة ب�أمره� ،أم �أنه ذاهب �إىل مكان �آخر هو وغالمه ،نظروا �إىل
و
بنظرات مل�ؤها الفراغ ،وطفقَ اجلن مي�شون «ما�سا» ،فنظ َرت �إليهم هي الأخرى
ز
ٍ
يع
ور�ؤو�سهم �إىل الأر�ض يف الطريق ،ولقد كادت ال�شم�س �أن تغيب وكادت �أن تغيب
معها كل حميتهم.
�صمت وقال :
حت َّدث «الأرقم» بعد طول ٍ
ال يجب �أن ن�سري جمتمعني� ،س�أ�سري ب�أبناء ن�صيبني ناحية مكة ،وي�سري
«ميتاترون» ب�أبناء نينوى �إىل الناحية الأخرى ،ف�إنا ال ندري �أي طريق
�سلك ،رمبا عاد �إىل مكة ورمبا �أكمل طريقه بعد الطائف ليكمل دعوته،
و�إنه قد بقي لنا من رحلتنا الطويلة هذه خطوة واحدة ،و�إنا ال يجب �أن
نت� َّأخر خطوة وراءها .
قال له «ميتاترون» خمت�ص ًرا وقد بد�أ يتحرك مع «�سيدوك» و «بليعال»:
�إذن نلتقي يف مكة بعد حني .
وافرتق اجلن �إىل ناحيتني؛ ميني و �شمال ،وكان �أهل اليمني جن ن�صيبني.
z
356
حت َّولوا �إىل هيئتهم اجلنية لأن ذلك �أي�سر يف البحث عن �أثر امل�سري ..كل
الطرق كانت مت�شابهة يف ال�صحراء ويف ذلك كانت حريتهم ،يف جميع ال�سنوات
ال�سابقات كانوا ينتقلون �شيطان ًيا من مدينة �إىل مدينة �أو �إىل قرية� ،أما الآن
فهم يف و�سط �صحراء يفرت�ض �أن يبحثوا عن �شخ�ص ما فيها ،و�إن �أي �أثر على
الرمل يف ال�صحراء تذهبه الرياح ،كنت لرتى �أربعة من اجلن بينهم جنية �أنثى
مي�شون يف ال�صحراء عند مغرب ال�شم�س يبحثون عن «حممد» .
ع
واهلل �إنكم يف م�سريتكم املعوجة هذه ليبلغن حممدً ا �أفق الأر�ض و�أنتم
ريص
هاهنا ت�صطدمون يف بع�ضكم البع�ض.
ال
نظر الأربعة وراءهم بده�شة فاقت كل حد! .من ذا الذي يرى هيئتهم ويعلم
ك
ما يلتم�سون ،حتى �إذا اكتملت التفاتتهم ر�أوه ،كان متكئا بظهره �إىل تلة من
ت
التالل ،يرتدي مالب�س غريبة ويغطي فمه بلثام ،ويبدو �شعره الأ�صفر الطويل
ش ن
�صوت قوي:
وخطا ناحيتهم ..فقال له «الأرقم» يف ٍ
ر
من �أنت بال�ضبط؟
الت و
و
قال الرجل وهو ينظر له يف ثقة :
يع ز
«عمرو»« ،عمرو بن جابر».
قال له «�إنيان»:
�إِن�س �أم جان؟
قال له «عمرو» :
ويحك �أو َيرى اجلن غري اجلن؟ َ
حتي وهو ينظر �إىل «ما�سا» ثم تق َّدم منهم «عمرو» وهم ينظرون له يف ُّ
بغمزة خفية وهو يقول :
ح ًقا �إن بع�ض طوائف اجلن ت�ؤ ِّرقني حماقتها� ،إذا ائتمروا ب�أمر ينجزونه
ولو تركوا يف �سبيل ذلك كل �شيء و�أفنوا يف ذلك ال�سنون الطوال ،وقد
يكون الأمر تافها يف عينه .
قال له «الأرقم» بغ�ضب :
357
�إنها الطوائف التي �أخل�صت قلوبها للأمري «لو�سيفر» وه�ؤالء ال يفهمهم
من هم �أمثالك.
حت َّركت زاوية عيني «عمرو» باالبت�سام وهو يقول :
�أمل تعلموا من �س�ؤال النا�س �أنه قد ُو َلد و ُبعث ودعا �إىل دعوته و�آمن به من
�آمن وكفر به من كفر؟ َمل َل تعودوا �إىل �آمركم الأمري فتُخربوه� ،ألي�س قد
علمتُم العلة التي نزلت ال�شهب لأجلها ؟
ال ري
مل نره ب�أنف�سنا ،ولن نعود �إال ....
قاطعه «الأرقم» وقد ملعت عيناه بالغ�ضب وت� َّأهب للعدوان :
ت ك
هيئتك ال تبدو من كبار اجلن الذينَ علمت بكل هذا �أيها اجل�سا�س، كيف َ
ب
�أُمروا بهذا الأمر املقد�س للبحث عن النبي ،وحتى �أوالء لن يتعدوا الأر�ض
ر ش
قال له «عمرو بن جابر»:
الت و
�سمعت عن املعمرين يا �صاحب ال�شعر الأحمر؟ َ عمرين ،فهل �إنني من املُ ِّ
و
تراجع اجلن م�أخوذين ..وقد كان املعمرون طائف ًة معروفة لكنها �شديدة
يع ز
الندرة يف عامل اجلن ،قد يعي�ش الواحد منهم �ألف �سنة �أو �ألفني ،يكونون من
�أف�ضل جنود �إبلي�س ...تق َّدم «عمرو بن جابر» ناح َية «الأرقم» ووقف �أمامه يف
مغالبة و قال بلهجة �شديدة الهدوء:
و�إين �أعلم ب�أمر «حممد» من �أربعمائة عام� ،أيام كنت �أنت ذرة مل ُتو َلد
وال ُيعرف لك ا�سم .
�سكت «الأرقم» ووجل والكل ينظرون �إىل «عمرو» الذي كان يقول دون �أن َ
يلت ِفت �إليهم :
�إين �آخذكم �إىل «حممد» عند الفجر ،و�إنكم لتن�صرفوا من هنا �إذا
ر�أيتموه �أو لأعيدنَّ ر�ؤو�سكم رطبة �إىل من �أر�سلكم.
ينتظر منهم �إجابة ،بل حت َّرك مبا�شرة �إىل اجتاه معني ،وحتركوا وراءه ومل ِ
جميعا.
z
358
مو�ضع واحد فوق َ�س ْمك ال�سماء العايل ،كان هو مق�صد جميع رحالتنا لل�سماع
واال�ستماع ،مو�ضع ا�سمه بيت العزة ،تع َّلمنا من نبينا «لو�سيفر» �أن املالئكة ُمتر على ذلك
ص ع
املو�ضع ال�سماوي مرتقني ومنحدرين ،و�أن مو�ضعه يف ال�سماء فوق ذلك البيت الذي بناه �آدم
ال ري
يف الأر�ض بعد �أن خرج من اجلنة ،البيت الذي �سماه البيت احلرام ،ثم طم�سه طوفان نوح ،ثم
رفع �إبراهيم قواعده من بعده فهو قائم �إىل هذا اليوم ،البيت الذي ُي�سمونه الكعبة ،فوقه
ت ك
متا ًما يكون املو�ضع الوحيد يف ال�سماء الذي ميكننا منه �أن ن�سمع كالم املالئكة ،ولي�س �أحد
ب
يعرف لغة املالئكة.
ر ش
�شيء ،لذلك نحن نتبعه ولذلك نحن تابعوه ولو بذلنا �أرواحنا ،هو العامل الأمري املنري ل�ش�أفة
الت و
هذا الكون.
ز و
يف �أيام مع َّينة من نهر الزمان الطويل ،جند �أننا �إذا مل�سنا ال�سماء طالبني ال�صعود �إىل بيت
يع
العزة لال�ستماع ،نقابل يف �صعودنا �إليه �شيئًا يحرينا ِّ
وينكدنا وي�ؤيذنا ويقتُلنا!
كائنات طريية ُملتهبة ك�أنها خملوقة من لفائف اللهب ،جميلة املنظر طويلة الذيل
أح�ست فقط بواحد من اجلن يقرتِب حتوم حو ًما فوق ال�سحاب ومتلأ ال�سماء من كل مو�ضع� ،إن � َّ
ف�إنها تنق�ض عليه وتذهب به وتُهلِكه على الفور ،طيور �ضارية جارحة ،طيور من طيور اجلن
ن�سميها الفينيك�س ،متلأ ال�سماء كاحلر�س ال�شديد الفاتك.
ف�إذا وجدنا طريقنا وغافلنا تلك الطيور و�صعدنا �إىل مو�ضع ال�سماع�ُ ،أحيط بنا و ُقذفنا من
كل جانب بوا ِبل من ال�شهب احلارقة تلهب �صفحة ال�سماء ،ونحن �أعلم بال�سماء.
يف كل مو�ضع من موا�ضع ال�سماء يف هذه الدنيا ،توجد �شهور معينة ينزل فيها وابل من
ال�شهب ،و�شهور �أخرى تكون ال�سماء �صافية ،لكن تلك الأيام املعينة يف الزمان ،عند ذلك
بيت العزة بالتحديد ،تكرث الفينيك�س كاحلر�س ال�شداد ،ويكون هناك وابل من ال�شهب غري
م�سبوق ،وال يقدر �أحد منه ً
نفاذا � ًأبدا.
359
يدعي الأنبياء من الب�رش �أنهم
علمنا نبينا «لو�سيفر» �أن هذا �إمنا يكون يف الأوقات التي َّ
�أنبياء ،حينها يغ�ضب اهلل ويظهر غ�ضبه يف تلك ال�شهب وغمرة ذلك الطري اجلني �صفحة
ال�سماء.
حتى جاءت تلك الليلة؛ ليلة �أ�صبح نفر من اجلن ُي�ؤ ِّرخون ال�سنني بها؛
و�إن ما حدث يف تلك الليلة عجيب!
360
ص ع
ال ري
كت
ب نل
ل
()15
رش
الت و
ز و
يع
أنصتوا..
361
يف مكان اجتمعت فيه النخيل ب�أ�شجار املوز ،وجرت فيه من العيون ما ًء عذ ًبا..
دخل ن َفر من اجلن متتابعني وقد تل َّهفوا لر�ؤية الرجل الذي �أم�شاهم قطعة
ص ع
عظيمة من الأر�ض يبحثون عنه ،وكان الوقت يف الغداة قبل �شروق ال�شم�س،
ري
وهم كانوا وراء «عمرو بن جابر» مي ُّرون بني الأ�شجار ..قال لهم «عمرو» :
ال
مل ي ُعد �صاحبكم �إىل مكة بل لقد ا�سرتاح هنا يف وادي نخلة بني مكة
ت ك
والطائف.
ل ب
قالت له «ما�سا»:
ر
عملوا؟
الت و
و
رهة وك�أنها قد � َ
أوح�شته ثم قال: نظر لها «عمرو بن جابر» ُب َ
يع ز
أجالف الطائف �إىل قري�ش يف مكة يخربونهم �أن حممدً ا �أتاهم لقد � َ
أر�سل � ُ
يدعوهم �إىل دينه ،وكانت مفاج�أة لقري�ش فما كانوا يعلمون ب�سفره ،لأنه
�سافر ِخفية عنهم بعد �أن يئ�س من ا�ستجابتهم لدعوته ،وملا �أذيع اخلرب
يف مكة غ�ضب �سادتها و�أق�سموا �أال يدخلوه مكة ،وعلى الفور انطلق نفر
من �أ�صحاب «حممد» يلحقون مبحمد خ�شية �أن يناله �أحد ،واجتمع به
�أ�صحابه هنا يف وادي نخلة .
قال «الأرقم»:
و�أين هم بال�ضبط؟
قال «عمرو» :
�سيخ ُرجون الآن من منامهم لي�صلوا �صالة الفجر.
363
ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
رش
الت و
ز و
يع
364
ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
رش
الت و
ز و
يع
365
قالت «ما�سا»:
�أين هم عازمون ،هل �سيعيدونه �إىل مكة ؟
قال لها :
ف�ضل امل�صطفى املحمد �أن ينزلوا جمي ًعا بعد الفجر �إىل �سوق بل لقد َّ
ع
عكاظ لأنه قد انعقد ،فيدعون القبائل املجتمعة هناك �إىل الإ�سالم .
ص
قال «�إنيان»:
و ما هو الإ�سـ...
ال ري
ك
قاط َعه «عمرو» ب�إ�شارة من يده ،فتو َّقف الكل ونظروا �إىل ما ُ
ينظر �إليه ،ف�إذا
ب ت
ح�شد من الرجال قد وقفوا متجاورين كتفا بكتف ،مغت�سلني يقطر من جبينهم
ش
و�أحنوا ر�ؤو�سهم وخف�ضوا �أنظارهم �إىل الأر�ض بتذلل وا�ضح ،وعلى ر�أ�سهم
و ر
رجل يقودهم يقف يف �صف وحده ..نظرت �إليه «ما�سا» فعرفته على الفور،
و الت
�إنه «حممد» ،عال �صوت «حممد» وتنغم برتتيل ت�شوفت له الطيور يف خمابئها،
يع ز
وجميع ال�صفوف وراءه يقفون يف ت�أثر ،ووقف اجلن غري بعيد ي�ستمعون ،وقال
أن�صتوا ،وا�سمعوا ..ورتَّل «حممد» ب�صوت عال:
بع�ضهم لبع�ضِ � :
َ َْ ْ
ي عِل ٍم ۚ ُس ْب َحانَ ُه َو َت َع ٰ ُ َ َ َ ْ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ َُ
ال ِ غِ ب ات
ٍ ن الن وخلقهم وخرقوا ل بنِني وب ِ ﴿وجعلوا ِل َِّ شكء
َ َّ ٰ َ ُ ُ َ ُ َ َ ٌ َ َ ُ َّ َ َ ٌ َ َ َ ُ َّ َْ َ َّ َ ُ َ َ ُ َّ َ َ
ل َول ْم تكن لُ صاحِبة ۖ َوخلق ك ات َوال ْر ِض ۖ أن يكون ل و عما ي ِصفون * بدِيع السماو ِ
الب ُ َ ْ َ ُ َ ُ ِّ َ ْ َ ٌ َّ ُ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َّ ُ ْ َ
ري طيف ِ ش ٍء ۖ وهو بِكل ش ٍء علِيم * ل تد ِركه البصار وهو يد ِرك البصار ۖ وهو الل ِ
َ َ ْ َ َ َ َ ََْ َ َ ََ َ َْ ُ َّ ِّ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َْ َ َ ُ َ َ
ص فلِنف ِس ِه ۖ ومن ع ِم فعليها ۚ وما أنا عليكم اءكم بصائ ُِر مِن ربكم ۖ فمن أب * قد ج
يظ﴾. َ
ِب ِف ٍ
ثم قال اهلل �أكرب ب�صوت قوي ثم ركع الكل ،وقال اهلل �أكرب فقام الكل ،ثم
قالها ف�سجد الكل وقاموا ثم �سجدوا ،ثم قالها فقام اجلميع ينتظمون واقفني
َْ ْ ُ َّ ْ َٰ
كانتظامهم الأول ،وتال «حممد» ب�صوت مت�أثرِ﴿ :مْسِب الل َِّ الرح ِن الرح ِ
المد ِيم * َّ
ْ َ اك ن َ ْس َتع ُ
َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ْ ِّ َ َّ َّ ْ َٰ َ ِّ ْ َ َ َ
ني * اهدِنا ِ ين * إِياك نعبد وإِيِيم * مال ِِك يو ِم ادل ِ
ِل َِّ رب العال ِمني * الرح ِن الرح ِ
َ َ ْ ْ َ َ َّ ِّ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ْ ُ ِّ َ َ ْ ُ ْ َ َ
الضال َني﴾ وهنا وب علي ِهم ول ِ ض ي المغ
صاط الِين أنعمت علي ِهم غ ِ الصاط المست ِقيم * ِ
366
ب�صوت واحد زلزل قلوب اجلن�( ،آمـ ــني) ...كان اجلن ينظرون وقد ٍ �صاح الكل
وج َلت قلوبهم� ،إن املرة الأوىل التي ترى فيها هذا ال�شكل جتعل عينك ترقب
رغ ًما عنك ،وعقلك يت�ساءل رغما عنك؛ من �أوالء الذين ُي ِّرغون وجوههم يف
الرتاب ويقفون ك�أن على ر�ؤو�سهم الطري ،ولكن ما �أثار قلوب اجلن وهزها �أكرث
هو الكالم الذي ُيرتله «حممد»� ،إنه من النوع الذي يـ ...
ع
ُ َ َ ُ َ ْ َ َ ِّ َ ُ ُ َ َ ْ
الريح غد ُّوها شه ٌر َو َر َواحها
ص
َ
قاطعهم فج�أة ترتيل «حممد» وهو يقول﴿ :ول ِسليمان
ري
َ َ ْ ُْ َ ْ َ ْ ٌ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ ْ َ َ ْ ِّ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ ْ ْ ِّ
ي يدي ِه بِإِذ ِن َرب ِه ۖ َومن ي ِزغ مِنه ْم عن
ال
الن من يعمل ب شهر ۖ وأسلنا ل عي ال ِقط ِر ۖ ومِن ِ
َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ َ ُ َ َ ُ
الس ِعري * َي ْع َملون ل ما يش ُ
َ َّ َْ َ ُ ُْ ْ َ َ
اب ان كلو ِ ٍ ف ج
ِ و ِيل ث ا م ت و يبار
ِ م ِن م اء ِ اب
ِ ذ أم ِرنا نذِقه مِن ع
ك
ْ َ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ً َ َ ٌ ِّ ْ َ َ َّ ُ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ ُ َّ َ
ت
ات ۚ اعملوا آل داوود شكرا ۚ وقلِيل من عِبادِي الشكور * فلما قضينا علي ِه ور را ِسي ٍوقد ٍ
ْ ُّ َ َّ ْ َ ُ َ ْ َ
ب
َ
َّ َ َّ َ َّ َ َ َ َ
َ ُ ُ ُ َ ْ ْ ُ َ َّ َّ ال ْ َم ْو َت َما َدل ُه ْم َ ٰ َ ْ
َ َّ
ل ل
الن أن لو كنوا ت ِ ع موت ِ ِه إِل دابة الر ِض تأكل مِنسأته ۖ فلما خر تبين ِ
ن
ْ ْ َ َْ َُ َ ْ
ون ال َغ ْي َب َما لِ ُثوا ِف ال َع َذ ِاب ال ُم ِه ِني﴾.
ش
يعلم
و ر
نزلت «ما�سا» جاثي ًة على ركبتيها وقد تب َّللت ب�شرتها بالدموع ..ثم �سندت
و الت
على الأر�ض مبرفقيها راكعة ،وم َّرغت وجهها يف تراب الأر�ض ونادت� :إلهي،
يع ز
�إلهي ملك ال�سماء� ،إلهي مالك هذه الأر�ض ومالك قلبيُ ،غفرا ًنا يا ربي غفرا ًنا..
نظر لها اجلن ولي�س بالهم معها ،كان بالهم مع «حممد» و�أ�صحابه ،مل يكن ما
م�س يف قلوبهم طوفا ًنا من العقائد اخلربة ..كان «الأرقم» رتَّله ً
�سهل �أبدً ا بل قد َّ
م�سبل يديه �إىل جانبه ويذكر لقطات بعينها ،لقطات له مبنظره احلكيم يبدُو ً
ولأ�صحابه ه�ؤالء يف جوف ال�سماء وقد حا�صرتهم ال�شهب من كل مكان ،ثم
تذ َّكر «كني» كاهن ن�صيبني ،وتذكر كيف كانوا يت ُلون عليه ما تعرت�ضه �أ�سماعهم
من �أحاديث يف ال�سماء ي�سمعونها وال يرون قائليها ،ولهم يف تف�سريها مذاهب،
ويزيدون فيها مائة كذبة ثم يلقونها �إىل«كني» وي�صدقهم مبهو ًرا ،وتذكر
«الأرقم» �أحاديث اجلن يف عامله عن « �سليمان» ،مل يعلم ب�شر عن هذا الكالم،
�سخر اجلن ،وطوائف ال يهود وال ن�صارى ،الآن ي�سمعه ً
مرتل�« ،سليمان» الذي َّ
اجلن كلها تقول بل هو �سحر اجلن .
367
نظر «الأرقم» �إىل «�إنيان» فوجد عينه قد احم َّرت من البكاء ،و�إىل «طيفون»
ذو املظهر القا�سي والفك املك�سور واللهب الذي خبا ،ونظر �إىل «حممد» وهو
كب معه ويركعون وي�سجدون ،و�أفاق على َيد تهزه ،كان هذا «عمرو كب والكل ُي ِّ ُي ِّ
الرفق قال له :يا �أرقم� ،أمل يان الأوان بن جابر» ،نظر له بتحنن وب�شيء من ِ
وعدتني� ،أن تن�صرفوا �إىل من �أر�سلكم؟ قال له ودم ٌع ُيغا ِلب مقلتيه ليظهر: كما َ
ع
يا عمرو هل �أ�س َلمت؟ �أوم�أ «عمرو» بر�أ�سه �أن نعم ..خف�ض «الأرقم» عينه �إىل
ريص
الأر�ض ،قال له :يا بن جابر �إنا �سمعنا قر�آ ًنا عج ًبا ،يهدي �إىل الر�شد ،و�إنا
ال
�آمنا به يا «عمرو» ،ولن ُن ِ
�شرك بربنا �أحدً ا ،و�أنه تعاىل جد ربنا عن كل ما قيل
ك
لنا وقيل� ،سبحانه ربنا ما اتخذ �صاحب ًة وال و َلدً ا ...ثم قال بقوة �أخذت ف�ؤاد
ب ت
«عمرو»� :أما �سفيهنا الذي �أر�سلنا فلقد كان يقول عن اهلل ما فيه جور وكذب،
ر ش
ن�ش َهد �أن ال �إله �إال اهلل ،ون�شهد �أن حممدً ا ر�سول اهلل.
الت و
قال له «عمرو بن جابر» :عودُوا يا �أرقم �إىل ع�ش َريتكم ،وادعوا من ا�ستطعتُم
ز و
يع
منهم �إىل دين اهلل ،وادعوهم �أن ي�أتوا �إىل ر�سول اهلل ..نظر «الأرقم» �إىل
�أ�صحابه فوجدهم قد قاموا ونف�ضوا عن �أنف�سهم الرتاب والدموع ملا �سمعوا
مقولة «عمرو» ،وتهي�أ الكل عازمني على الرحيل ،ونظروا �إىل «حممد» و�صحبه
نظرة �أخرية ثم التفتوا �إىل وجهتهم ،ومل تكتمل التفاتتهم �إال وقد وجدوا وراءهم
تنظر لهم بق�سوة« ،ميتاترون» ،و«بليعال» ،و«�سيدوك». عيونا ُ
z
مل يكونوا ينظرون لأبناء ن�صيبني نظرات هادئة �أو معاتبة ،بل كانت نظرات
تقطر �ش ًّرا ورغبة جمنونة يف القتل ،قال لهم «�سيدوك» وكان يبدو ُمي ًفا بلونه ُ
الأ�سود و�شعره الأبي�ض:
�أتتبعون �أباطيل الب�شر يا �أرقم� ،أبعد كل ما مررنا به؟
368
قال له «الأرقم» بقوة :
َ
فطرتك يا �سيدوك ،انظر �إىل فطرتك ودع عنك ما كانوا ُ
انظر �إىل
يلقنونك �إياه ،انظر �إىل فطرتك.
قال لهم «بليعال»:
ع
ولقد ُ
قررت فيما يبدو �أن تعودوا لتُف�سدوا على قومكم طرائقهم� ،إن
ا
ابت ِعد عن طريقنا ،لوقولوا ل�سفيهكم الذي بع َثكم �أن الأر�ض وال�سماء
بغ�ضب :
ش
ر�سول اهلل ،و�أن �سفاهته مل ت ُعد حتتال
و ر
�أتقول عن عظيمنا �سفي ًها ،ما �سفه �إال وجهك .ال وت
قال له «بليعال» بثورة:
ع
وهو عند «طيفون»! ،وك�أن عيونهم مل تلتقط �سرعته .
ريص
حتفز «الأرقم» و«�إنيان» و�ش َّدا عزائمهما ..لكن يد «عمرو بن جابر» �أثنتهما
ال
عن �أي �شيء ُيفكران فيه ،وقال لهما :عودا �إىل مكة وانتظرا النبي ،ف�إذا جاء
ادعوه وا�شهدوا على يديه ب�إ�سالمكم ،و�إن الأنبياء يرون اجلن ،ف�إذا �أ�سلمتُم
ت ك
على يديه فانطلقوا �إىل ن�صيبني وبلغوا ر�ساالت ربكم ..ثم نظر �إىل «ميتاترون»
ل ب
الذي ح َّول وجهه الف�ضي �إليهم و�أكمل :ف�إنكم �إن بقيتُم هنا فلن يبلغهم من
ن ل
بعدكم �أحد ،واتركوا �أبناء ال�سفيه يل ف�إين �س�أع�صمكم منهم ..قالها وعينه ال
ش
تفارق «ميتاترون» و«�سيدوك».
و ر
الت
ومل ُيف ِّكر «الأرقم» و«�إنيان» �إال ثوان ..ثم نظرا �إىل «ما�سا» ف�إذا هي ُم َّددة
و
على الأر�ض تبكي من الوجد ،فالتقطها «الأرقم» على كتفه ونظر �إىل «طيفون»
يع ز
بحزن وانطلق ومعه «�إنيان» مبتعدين عن املكان وعن البلد؛ انط َلقوا عائدين �إىل ُ
مكة .
z
بعد �أيام ع�شرة ..عاد «حممد» �إىل مكة� ،أدخلوه بعد �أن دخل يف حلف رجل
من قري�ش ،ف�أم�ضى فيها بع�ض الليايل ثم جاءت ليلة واختفى «حممد» ،بال �أثر
خب! ،وفجع كل �أ�صحابه �إذ فقدوه بعد �أن كان معهم يف �أول الليل ،و�أخذوا وال َ
يلتم�سونه يف الأودية وال�شعاب ،كانت املرة الأوىل التي يختفي فيها من بينهم
بال �أثر ،وتناقلت �أل�سنتهم من روع قلوبهم �أنه ا�ستطري �أو اغتيل ،وخرجت
جماعة منهم تبحث يف اجلبال ويف القفار ،ف�إذا قتل لرمبا وجدوه مقتوال،
وغزت العربات �أعينهم والدمعات واحرتقت قلوبهم حنقا ،وتالوموا وجتادلوا،
�أن يختفي ر�سول اهلل من بينكم و�أنتم جلو�س ،وباتوا �شر ليلة بات بها قوم ،وما
وجد النوم �إىل عيونهم �سبيال ،فداروا يف �آخر الليل يتح ُّرونه حتى �أ�صبح ال�صبح
عليهم وقد �أنهكوا ،وفج�أة وجدوه ،جاءهم من ناحية جبل حراء ،فهرعوا �إليه،
372
كان يف خري حال ،ولقد بني لهم يف كلمات قليلة �أين كان ،ولقد ات�سعت عيونهم
ات�ساعا.
مما قال ً
قال �أنه ملا جنَّ الليل وان�سدلت �ستائره ،وخال بنف�سه �إىل نف�سه يف تلك الليلة،
ا�ست�أذن عليه رجل لي�س ك�أي رجل ،رجل مل ي�سمعه �أحد ومل ي َره �أحد ،رجل من
ائت
اجلن ،ولي�س �إال الأنبياء يرون اجلن� ،أتى الرجل للنبي ودعاه :يا ر�سول اهلل ِ
ف�إن نف ًرا من اجلن يريدون �أن ي�سلموا على يديك وي�سمعوا ما نزل من القر�آن..
ع
ف�أجاب النبي دعوة الرجل و�أتى النفر من اجلن.
ريص
ال
وكانت ليلة جل�س فيها «الأرقم» و«�إنيان» و «ما�سا» حتت جبل النور وقد
�أوقدوا نريانهم وحتلقوا حولها ..و�إذا «عمرو بن جابر» قد �أقبل ومعه ر�سول
ك
اهلل ،فتهللت قلوبهم وقاموا يتعرثون يف لهفتهم والتفوا حوله وداروا و�أحدقوا به
ت
وك�أن عيونهم لن تنظر �إىل �شيء بعده ،وقد تخ�ضبت �أ�شفارهم بالدمع وقلوبهم
ش ن
نزل من القران فيما �سبق من ال�سنني الع�شرة ،ولقد ا�ستمعوا و�أن�صتوا فوجدوه
ر
يتحدث �إىل عقولهم وفطرتهم ،ب�أن اهلل واحد وكل ما عبد النا�س من دونه زائل
الت و
ال ميلك من �أمر نف�سه �شي ًئا ،طي ًنا كان �أو حج ًرا ونا ًرا وج ًنا ،وا�ستمعوا �إىل
و
�صفات ربهم الذي ميلك كل �شيء وخلق كل �شيء .
يع ز
أبل�سه
وعرفوا ق�صة �سفيههم وكيف حقد على بني �آدم ،وكيف طرده ربه و� َ
إبلي�سا ،لأنه رف�ض ال�سجود لآدم ..وكانت ق�صة مل ترد يف التوراة، ف�صار � ً
و�أن «�إبلي�س» ال ميلك من النور �شي ًئا كما يتباهى عند قبيله ،و�أن اهلل هو نور
ً
تف�صيل�« ،آدم» و«نوح» ال�سماوات والأر�ض ،عرفوا �أقا�صي�ص جميع الأنبياء
و«�إبراهيم» و«مو�سى» و«عي�سى» و«مرمي» و�أدركوا خرب«�سليمان» والنمل وما
�سخر به �أ�سالفهم من اجلن ،ووجلت قلوبهم ملا �سمعوا ما نزل من �سورة اجلن
وقد ذكرت اجتماعهم و�سماعهم للقر�آن و�إميانهم به ،وذكرت �أمو ًرا دقيقة عن
اتخاذهم مقاعد لل�سمع يف ال�سماء ورجمهم بال�شهب ،وجلوا لأنه لي�س على
الأر�ض �إن�س يف احلا�ضرين �أو ال�سابقني تك َّلم عن هذا الأمر ،لكن اهلل ي�سمع
ويرى ،ولقد �آمنوا بالقر�آن ودخل �إىل �شغاف قلوبهم فنور منها كل مظلم وك�سر
يوما .
يف �أفقهم كل خرف وعبث �صدقوه ً
وقبل �أن ين�صرفوا ،قال «الأرقم» :يا ر�سول اهلل �إنا قوم ال نخالط الإن�س
ونعي�ش يف كل خالء على الأر�ض قد خال منهم ،ولنا يف خالئنا زادنا وطعامنا،
373
و�إنا �إذا مكثنا هاهنا �سنخالط امل�سلمني �أعواما لن�سمعهم ونتعلم منهم ،فيا
ر�سول اهلل َ�سل اهلل لنا الزاد �إذا خالطناكم ..فقال له النبي :ل ُكم كل عظم ذكر
ا�سم اهلل عليه يقع يف �أيديكم �أو َفر ما يكون حل ًما ،وكل بعرة من دوابنا تكون
ع َلفا لدوابكم .
ورجع الثالثة �إىل ن�صيبني ،يت ُلون ما ع َّلمهم ربهم ويتحدثون به ،وينورون به
قلو ًبا من اجلن ،ما ا�ستطاعوا �إليه ً
�سبيل...
z
ص ع
ال ري
و�أتى مو�سم احلج ..وهو عند العرب اجلاهلية �أ�شهر ثالثة ،يتوافدون فيها
�إىل مكة يزورون البيت احلرام ،يتع َّبدون �إىل �أ�صنامه التي حوله ،ويتذللون لهم،
ت ك
ويطوفون بالبيت عراة كما ولدتهم �أمهاتهم ..وو�سط كل هذا كان «حممد» الزال
ب
يدعو ،وك�أن قلبه قد اغت�سل من الي�أ�س �إىل الأبد ،كان يتحني �شهور احلج هذه،
ش
ويدعوهم ويجادلهم ويقر�أ عليهم القر�آن ،و«عمرو بن جابر» يتبعه كاتباع الظل،
ر
ي�سمع �إليه ويتع َّلم ،ولي�س للجن �أن يتع َّلم �إال بال�سماع ،حتى �أتى ذلك اليوم..
الت و
كان «عمرو» مي�شي قري ًبا من النبي ُمتهي�أ يف هيئة ب�شرية ،كهيئة رجل ُمل َّثم
ز و
يع
�أ�صفر ال�شعر يخفي �أكرث �شعره ،كان النبي مي�شي ويتكلم مع القبائل ووراءه رجل
م�شرق الوجه يف عينيه ح َول ينادي يف النا�س �أن «حممدً ا» �صابئ كذاب ،النبي
يقول يا بني فالن �إين ر�سول اهلل �إليكم �أدعوكم �أن تعبدوا اهلل وال ت�شركوا به
�شي ًئا و�أن ت�صدقوين ومتنعوين حتى �أنفذ عن اهلل ما بعثني به ،وملا يفرغ من
كالمه يقول الآخر من ورائه يا بني فالن هذا رجل يريد منكم �أن ت�سلخوا الالت
والعزى �إىل ما جاء به من ال�ضاللة فال ت�سمعوا له وال تتبعوه ..كان «عمرو بن
جابر» يعرف َمن هذا الرجل الو�سيم الأحول ،كان ذاك «�أبو لهب» عم النبي غري
ال�شقيق.
أح�س ب�شيء يف ال�سماء فنظر �إىل الأعلى فج�أة، وبينما «عمرو» مي�شي �إذ � َّ
ف�إذا ال�سماء قد ان�شقت �ش ًقا ي�س ًريا وخرج منها رجل �شديد ب�شاعة الوجه عليه
عباءة �سوداء وقلن�سوة �سوداء طويلة ،ي�سري فوق النا�س وينظر ،وال ينظر �إليه �إال
«عمرو بن جابر» ،وقال بده�شة وغيظ :يا �إلهي هذا «�إزب» ..كان النا�س حول
بتعجب ك�أنه جمنون ،كان النبي �ساعتها ُيكلم قبيلة بني «عمرو» ينظرون �إليه ُّ
374
عامر يدعوهم ،وهي القبيلة الوحيدة التي قبلت �أن تتناق�ش مع النبي بعد �أن
رف�ضته جميع القبائل يف ذلك احلج ،قال �أكربهم� :أر�أيت �إن نحن بايعناك على
هذا الأمر يا حممد ،ثم ن�صرك اهلل على من عاداك و�صرتَ �إمام هذه البالد،
�أتكون لنا الوالية من بعدك؟ �سكت النبي ثم قال له :الأمر �إىل اهلل ي�ضعه حيث
ي�شاء� ،إنا ال نويل هذا الأمر �أحدً ا �س�أ َله �أو حر�ص عليه .
ن�سي «عمرو» �أمر «�إزب» و�أخذت الأفكار تع�صف ب�إدراكه� ،أيرتك «حممد»
ع
فر�صة كهذه لن�صرته ولي�س من القبائل من ين�صره �إال ه�ؤالء ،فلتكن لهم الوالية
ريص
لهم من بعده ما امل�شكلة ..وان�صرف «بنو عامر» من عند «حممد» ،كانوا يريدون
ال
من الأمر ن�صي ًبا وم�صلحة لهم� ،أما «حممد» فكان يريد �أن على الذي يحمل َه َّم
الإ�سالم �أن ين�سى م�صلحة نف�سه ،احلري�ص على الوالية ال ي�أخذها ،عاد «عمرو»
ت ك
ينظر �إىل «�إزب» فوجده يبت�سم له بت�شف وقد بدت ب�شاعة �أ�سنانه ،يت�شفى �أنه ال ُ
ل ب
�أحد قد ا�ستجاب لر�سول اهلل.
ر
ولكنه �أ�صبح يدعوهم بال�سر هذه املرة ،يخرج �إليهم يف الظالم ومعه �صاحبه
الت و
«�أبو بكر» ،ومل ي�ؤمن به �أحد ..حتى انتقل �إىل جمل�س كان يجل�س فيه �ستة من
و
الرجال ،قال لهم :من �أين الرجال؟ قالوا :من يرثب ..قالِ :من حلفاء اليهود؟
يع ز
قالوا :نعم ،قال� :أفال جتل�سون �أكلمكم؟ قالوا :بلى ..فجل�س �إليهم وح َّدثهم عن
اهلل وقر�أ عليهم كالم اهلل فان�شرحت له �صدورهم وا�ستب�شروا و�أ�سلموا جمي ًعا
من فورهم ..وقالوا لبع�ضه :يا قوم ،تعلمون واهلل �إنه للنبي الذي توعدكم به
مغموما
ً يهود ،فال ي�سبقونكم �إليه ..ونظر «عمرو» �إىل «�إزب» �ساعتها فوجده
وك�أنه يف عزاء ،فا�ستب�شر «عمرو» خ ًريا ،ف�إن ال�ستة قالوا للنبي� :سنقدم على
قومنا من الأو�س واخلزرج يا ر�سول اهلل فندعوهم �إىل �أمرك ،ونعر�ض عليهم
الذي �أجبناك �إليه من هذا الدين ،و�إنا قد تركنا قومنا ه�ؤالء وال قوم بينهم
العداوة وال�شر مثل الذي بني الأو�س واخلزرج حتى كادت حروبهما �أن تفنيهما،
فع�سى اهلل �أن يجمعهم بك .
ثم م َّرت من الزمان �سنة �أخرى ..و�أتى ال�ستة وقد �أ�صبحوا اثني ع�شرة،
وجل�سوا �إىل النبي عند مكان يدعى العقبة وبايعوه جمي ًعا بيعة �أوىل ،على �أن
ي�ستم�سكوا ب�أ�صول هذا الدين� ،أال ي�شركوا باهلل و�أال يعملوا ال�سيئات وىل �أال
يع�صوا ر�سول اهلل ...وم َّرت من الزمان �سنة ثالثة و�أتى االثني ع�شرة وقد �صاروا
375
�سبعني كلهم من �أهل يرثب ،وا�ستخفوا من قومهم الذين �أتوا معهم وك�أنهم �آتني
�إىل جتارة ..وخرجوا جمي ًعا يف جنح الليل ليقابلوا ر�سول اهلل ،وحر�صوا �أ�شد
احلر�ص على �أال يراهم �أحد من �أهل مكة �أو من قومهم من الأو�س واخلزرج.
وجل�سوا كلهم �إىل ر�سول اهلل والليل يخفيهمَّ ..
وب�ش ُروه �أن الإ�سالم قد انت�شر
يف يرثب حتى كاد يبلغ كل دار ،وبايعوه البيعة الثانية ،على ال�سمع والطاعة
وعلى النفقة لإعالء هذا الدين يف الع�سر والي�سر وعلى �أن ين�صروه �إذا هاجر
ع
�إليهم ..نظر �إليهم «عمرو بن جابر» بنظرة فيها من الغرية ال�شيء الكثري،
ريص
وتذكر �أ�صحابه يف ن�صيبني� ،أتراهم قد �أ�سلم معهم �أحد؟ �أم �أن �أبناء نينوى
ال
قد ظهروا عليهم وقتلوهم؟ ..و�أفاق من غريته على �صوت �صرخة ك�أنها �أتت من
�أعماق اجلحيم� ،صرخة بدا �أن كل �أهل مكة �سمعوها ،نظر «عمرو» �إىل م�صدر
ت ك
ال�صرخة فر�أى �صاحبها ،كان ذاك «�إزب» يرفع ر�أ�سه بح�سرة و� َأل �إىل ال�سماء
ل ب
وي�صرخ ،ومل يره �أحد �سوى «عمرو بن جابر» و «حممد» ،لكن كل من يف املكان
ن ل
ب�صوت عال ينادي يف النا�س:ٍ �سمع �صوته ،ومل ينته بعد ال�صرخة ،بل �إنه قال
ر ش
مذمما -حممدً ا -وال�صبا معه قد اجتمعوا على ً يا �أهل املنازل �إن
الت و
حربكم ،يا �أهل املنازل� ،أدركوهم.
و
وانك�شف �أمر املبايعني ،وقب�ض امل�سلمون على �سيوفهم وهم يبحثون عن
يع ز
م�صدر ال�صرخة ،فقال لهم النبي :هذا «�إزب ابن �أزيب» ..ثم رفع �صوته قائال:
�أت�سمع �أي عدو اهلل لأفرغن لك.
ثم قال ملن معه :اذهبوا �إىل رحالكم ..فقام �أحدهم وقد �أخذته العزة وقال
�شئت لنميلن على �أهل هذه املنازل ب�أ�سيافنا.. للنبي :واهلل الذي بعثك باحلق �إن َ
فقال له النبي :مل ُن� َؤمر بذلك ولكن ارجعوا �إىل رحالكم ..و نظر «عمرو بن
جابر» �إىل «�إزب» فوجد �أنه قد ان�صرف وك�أنه مل يكن! ،ثم نظر �إىل النفر حول
ر�سول اهلل ين�صرفون وي�سلمون عليه ويعدونه بالن�صرة يف بلدهم يرثب ..ورفع
«عمرو» ر�أ�سه �إىل ناحية ال�شم�س م�ستغر ًقا فيما يفكر ،فالتقطت عينه م�شهدً ا ال
يدري �أهي احلقيقة �أم �أنها ال�شم�س قد �أزاغت عيناه.
z
فهناك وعلى جبل احلجون ..وقفت فئات من اجلن على �أبواب مكة يركبون
دوا ًبا ً
بي�ضا ت�شبه الأح�صنة لها قرون على ر�ؤو�سها ،و�أمامهم ثالث جياد يعلوها
376
«الأرقم» و«�إنيان» و«ما�سا» ،كانوا على ر�أ�س �ستني راحلة ،على كل راحلة نف�س
جنية من ن�صيبني �آم َنت باهلل و�أ�سل َمت لر�سول اهلل وتاقت لر�ؤيته.
وانطلق «عمرو بن جابر» من فوره �إىل «حممد» ُم ِّ
ب�ش ًرا� ،أنا قد �أتينا من
ن�صيبني ب�ستني من اجلن م�سلمني ..ففرح بهم ر�سول اهلل وخرج �إىل �أ�صحابه
م�ستب�ش ًرا ،وقال :
ع
�إن نف ًرا من اجلن ي�أتوين الليلة ف�أقر�أ عليهم القر�آن ،فمن �أحب منكم �أن
ص
يح�ضر الليلة �أمر اجلن فليفعل .
ال ري
فلم ي ُقم �أحد من �أ�صحابه �إال رجل نحيف يع�شق القر�آن يقال له «ابن
م�سعود» ..قال� :أنا �أذهب معك يا ر�سول اهلل ..فانطلق معه حتى حب�ستهما
خط له النبي برجله ً اجلبال يف �أر�ض ف�ضاء و�سطها ،هناك َّ
ك
خطا يف الأر�ض
ت
وقال :ال ت َربح حتى �أعود �إليك ..وانطلق النبي �إىل ناحية جبل احلجون و«ابن
ل ب
ينظر �إليه وقد فتح عيناه عن �آخرهما وظنَّ �أنه �سريى اجلن ،لكنه م�سعود» ُ
ن ل
ال يرى اجلن �إال نبي ،لكن النبي دعا يف هذه الليلة �أن يكون له مرافق ،والبد
ش
للمرافق من مزية لن تكون ل�سواه ،ونظرة واحدة �أخرى من «ابن م�سعود» خلعت
و ر
قلبه من مو�ضعه و�أ�سكتت �أفكاره .
و الت
ملحت عينه كيانات �سوداء �شبه ب�شرية ك�أنها الظالل تهبط اجلبل يحدرون
يع ز
احلجارة ب�أقدامهم من حول النبي ..ظالل يف بيئة ال تتكون فيها الظالل ،ظالل
و�سط ظالم من حولها وهالل باهت يف ال�سماء ال ينفذ منه �ضوء ،و�إن ملحة
لعل الب�صر قدالعني الب�شرية ل�شيء كهذا جتعل �صاحبها يرجع الب�صر مرتني َّ
�شرد ،ويف اللمحة الثانية وجد الظالل قد برزت لظهورها مثل �أجنحة والتقط
�سمعه �صوتًا ك�أن الظالل مت�شي برفرفها ،وك�أن العقل قد ا�ستنكر ما ر�أته العني
وظنها ن�سور ،ثم ات�سعت عينا «ابن م�سعود»� ،إن لبع�ض النفر من هوازن ن�سور
يربونها� ،أتراهم هوازن قد مكروا بر�سول اهلل واجتمعوا لقت ِله! ،وحدثته نف�سه
وهم بالتحرك فتذكر و�صية ر�سول �أن ي�سعى �إىل البيوت في�ستغيث بالنا�سَّ ،
اهلل له �أال يفارق ذلك اخلط ،فبقي مكانه كارهً ا ،ونظر ف�إذا الظالل قد ا�شتد
�سوادها و كرثت وغ�شيت النبي فاختفى عن النظر ،والحظ �أن لكل ظل كيا ًنا
وجناحا وكل الظالل طويلة ك�أنها الرماح وكلها تتكاتف على ر�سول اهلل ،ثم ر�أى ً
وك�أن الظالل قد ابتعدت بغتة والنبي يرفع ع�صا كانت معه ويقول :اجل�سوا..
وك�أنهم بعد مقولته �سكنوا وخف�ضوا �أجنحتهم! ،ثم افتتح النبي القر�آنَّ ،
فظل
يقر�أه حتى اقرتب ال�صبح .
377
لغطا �شديدً ا فخاف على النبي لكنه ثبت مكانه وملا فرغ �سمع «ابن م�سعود» ً
يتقطعون مثل قطع ال�سحاب ذاهبني من�صرفني حتى ان�شق ال�صبح فطفقوا َّ
أمنت يابن من حول ر�سول اهلل يتبع بع�ضهم ً
بع�ضا ،وجاءه ر�سول اهلل فقال لهَ � :
م�سعود؟ قال :ال واهلل يا ر�سول اهلل ،ولقد هممتُ مرا ًرا لأ�ستغيث بالنا�س حتى
�سمعتُك تقرعهم بع�صاك ..قال له� :أولئك جن ن�صيبني �أتوا ي�ستمعون القر�آن..
فقال له «ابن م�سعود» :وما اللغط الذي �سمعت؟ قال له النبي :اجتمعوا �إ َّ
يل يف
ع
قتيل كان بينهم فق�ضيتُ بينهم باحلق . ٍ
ريص
ولع َّل اجلن كانت ت�ست�شري النبي يف �أمر قتيلهم «طيفون» الذي ُق ِتل قبل �أن
ال
ينطق بال�شهادة بني يدي ر�سول اهلل� ،أو رمبا كان لهم قتيل �آخر ال �أحد يدري!.
لكن جن ن�صيبني عادوا �إىل بالدهم مب�شرين و ُمنذرين ،وا�ستع َّد النبي للخروج
كت
من مكة �إىل يرثب مهاجرا وا�ستع َّد امل�سلمون ليتبعوه.
ب نل
z
تدعو �إىل دين
ش ل
وافرتقت اجلن �إىل ثالث طوائف؛ طائفة عادت �إىل ن�صيبني ُ
ر
اهلل ،وطائفة هاجروا �إىل يرثب ليكونوا مع ر�سول اهلل ويتع َّلموا منه وه�ؤالء كان
الت و
معهم «ما�سا» و «�إنيان» ،والطائفة الثالثة بقيت يف مكة ت�ستطلع �أخبار قري�ش
ز و
بعد الهجرة خمافة �أن يكونوا قد �أ�ضمروا يف �أنف�سهم �ش ًرا للم�سلمني يف يرثب..
يع
وهذه الطائفة الأخرية كان معهم «الأرقم» و«عمرو بن جابر» ،ولقد حدث معهما
ما ح َّرك من م�شاعرهما ال�شيء الكثري!� ،إذ كانا عند �سفح جبل النور مي�شيان
فهم «الأرقم» �أن يرفع �سالحه ،فقال �أحد فخرج عليهما �شيطانني ماردينَّ ،
ال�شيطانني:
�أنتما من جن ن�صيبني؟
جتاوز «عمرو بن جابر» «الأرقم» وقال مبا�شرة:
من �أي اجلن �أنتما؟
قال �أحدهما :
�إن يف جزيرة العرب جنا مي�شون يف �أرجائها يذبحون كل من ا�ست�شعروا
من �سلوكه �أنه �أ�سلم لدين حممد ،و�إنا قد �أ�سلمنا هلل تعاىل.
378
بر َزت يف ذهن «الأرقم» و�صاحبه �صورة «ميتاترون» و«�سيدوك» ،ف�أكمل
اجلني قائال:
�إنا قد �أتينا نبحث عن ر�سول اهلل يف مكة فما وجدناه ،ف�إن كنتُما من
ن�صيبني ف�أعلمونا �أين ميكن �أن جنده .
قال لهما «الأرقم» :
ع
�إن حممدً ا و�صحبه قد هاجروا �إىل يرثب ف�إنهم قد وجدوا فيها �أن�صا ًرا،
ص
ولقد بنوا لهم فيها م�سجدً ا و�صارت لهم ً
موئل ،ف�أب�شروا وا�ستب�شروا،
ال ري
وال تقلقوا ف�إنكم يف حفظنا.
قلوب اجلن وابتهجت مالحمهم ،وقال �أحدهما : فرحت ُ
ت ك
مرحتل ،رفي ًقا لكاهن عربي �إن�سان ينزل هناك كل ً �إين كنتُ يف الهند
ش ن
حتى �أتت ليلة كنت �أ�سمع فعاجلني �شهاب ففررت منه وتلبدت ال�سماء
ر
بال�شهب �شه ًرا من الزمان ،ففارقت كاهني و�سحت يف الأر�ض ال �أدري
الت و
ما �أفعل حتى لقيني من �أهل ن�صيبني رجل دعاين �إىل الإ�سالم ف�أ�سلمتُ
و
قلبي هلل ور�سوله ،و�إين قد �أتيتُ كاهني �سواد بن قارب فوجدته نائ ًما
يع ز
ف�ألقيت يف منامه �أحاديث ،قلت له قم فافهم واعقل �إن كنت تعقل ،قد
ُبعث ر�سول من ل�ؤي بن غالب ،عجبت للجن و�أخبارها تهوي �إىل مكة
تبغي الهدى ،وما م�ؤمنوا اجلن ك�أرجا�سها ،فانه�ض �إىل ال�صفوة من
يك �إىل ر�أْ ِ�سها ،يا �سواد بن قارب �إن اهلل قد بعث نب ًيا
وا�س ُم ب َعي َن َ
ها�شمْ ،
فانه�ض �إليه تهتد وتر�شد ،ففزع الكاهن �سواد وقام من نومته ثم عاد
�إىل نومه ،فكان كلما يعود �أُلقي عليه مبثل هذه الأحاديث ،ثم ان�صرفتُ
عنه وفارقته.
وكان اجلني الآخر ي�سمع مت�أث ًرا من كالم �صاحبه ثم قال بعدها:
�أما �أنا ف� ٍآت من ميان ،وكان يل كاهن �أوتي ب�سطة يف اجل�سم وكان عات ًيا يف
الأر�ض ،وكان ا�سمه خنافر ،وكنت �آ ِتيه بالأخبار ثم غبت عنه فافتقدين
و�ساءه ذلك ،وكان اهلل قد هداين للإ�سالم بحكاية يطول الكالم فيها،
وبينما كان كاهني يف واديه �إذ هويت كالعقاب �أمامه فقلت له يا خنافر
لكل مدة نهاية وكل ذي �أمد �إىل غاية ،و�إين �آن�ستُ ب�أر�ض ن�صيبني نف ًرا
379
كالما لي�س بال�شعر امل�ؤلف وال ال�سجع املتكلف ف�أ�صغيت ،ثم �أتيتهم يت ُلون ً
فقلت ما هذا فقالوا هذا خطاب من امللك اجلبار فقلت وما هذا الكالم،
قالوا فرقان بني الكفر والإميان ،ر�سول من م�ضر من �أهل املدر ،ابتعث
بقول قد بهر ،فيه موعظة ملن اعترب ومعاد ملن ازدجر ،فقلت فظهر وجاء ٍ
ومن هذا املبعوث ،قالوا �أحمد خري الب�شر ،ثم تركت كاهني .
قال «الأرقم» :
ص ع
�أما وقد هداكما اهلل �إىل الإ�سالم ،فاعلما �أن ال�شهر الذي �أُ ِ
ر�س َلت فيه
ال ري
ال�ش ُهب من �سمائها� ،إمنا كان �شه ًرا يدعى رم�ضان ،واعلما �أنها �أر�سلت
يف ذلك ال�شهر لأنه نزل فيه القر�آن من عند احلكيم العليمً ،
حفظا من
ك
رجوما لهم ،و�إنا كنا �أمثالكم ن�سمع�أ�سماع ال�سماعني من اجلن ،فكانت ً
ت
من ال�سماء ما ن�سمع ،وكان لنا كاهن يدعى كني ،وكنا نلقي �إليه ما نلقي
ش ن
و�سمعوا من ورائهما حركة فالتفتوا ف�إذا هي «ما�سا» و«�إنيان» ..كانت «ما�سا»
ر
م�ستب�شرة يع ُلو حمياها ال�سرور على غري ما اعتادوا عليها ،وك�أنها بعد «حممد»
الت و
قد تفتَّحت زهرة قلبها فلم تعد ت�صرخ وال تغتم ،كانت فرحة كالطفلة وهي تقول
و
للأرقم :
يع ز �أتدري يا �أرقم� ،إنا قد ر�أينا يف املدينة عج ًبا عجا ًبا .
قال لها «الأرقم» :
وما املدينة؟
قالت له :
هي يرثب �سماها النبي املدينة .
قال لها «عمرو بن جابر»:
وماذا ر�أيتم من العجب فيها؟
قالت :
�أتدري �أن كاهنني قد �أتيا �إىل ر�سول اهلل م�سافرين من �أق�صى الأر�ض
فقط لي� ِؤمنا وي�شهدا بالإ�سالم على يديه ،وذكرا �أن رئيهما من اجلن قد
380
�أخرباهما عن النبي� ،أذكر �أن �أحدهما يدعى �سواد ،فلقد فوجئنا ونحن
مع ر�سول اهلل برجل تبدو عليه �آثار ال�سفر يرتدي مالب�س الكهان وي�ضع
مكاحلهم ،ومل نهتم به� ،إال �أن ر�سول اهلل قد التفت له وقال :مرح ًبا بك
يا �سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك ..ف�سكت �سواد م� ً
أخوذا برهة ثم
تهللت �أ�ساريره وقال :يا ر�سول اهلل قد قلتُ �شع ًرا فا�سمعه مني ..فقال:
�أتاين اجلن بعد ليل وهجعة ومل يك فيما قد بلوت بكاذب ،ثالث ليال
قوله كل ليلة �أتاك ر�سول من ل�ؤي بن غالب ،ف�أ�شهد �أن اهلل ال �شيء غريه
و�أنك م�أمون على كل غائب ،و�أنك �أدنى املر�سلني �شفاعة �إىل اهلل يابن
الأكرمني الأطايب ،وكن يل �شفي ًعا يوم ال ذو �شفاعة مبغن عن �سواد بن
أفلحت يا �سواد .
قارب ..ف�ضحك ر�سول اهلل وقال لهَ � :
تب�سم «الأرقم» ونظر �إىل �أحد اجلنيني الذين عنده وقال : َّ
قد �أفلح �سواد كاهنك و�إنه قد جاء الوقت لتُف ِلح �أنت � ً
أي�ضا بر�سول اهلل.
تخ�ضبت عيون اجلني بالدمع من ال�شوق ،فنظرت �إليه «ما�سا» معجبة َّ
و�أكملت:
�أتذكر يا �أرقم ملا كنا يف رام هرمز ونزل علينا �إنيان من اجلبل يحدثنا
ب�أمر «�سلمان» والرهبان يف ذلك الدير ،الذين عرفنا من كالمهم �أن
النبي يف تهامة .
نظر لها «الأرقم» موافقا ف�أكملت :
�إن �سلمان ذلك الفتى ال�صغري قد رمته الأيام �إىل يرثب بلد النحيل
ينتظر ر�سول اهلل ،و�إذ بر�سول اهلل ي�أتي �إىل يرثب فيهرع �إليه «�سلمان»
و ُي�س ِلم على يده ،وهم ي�سمونه «�سلمان الفار�سي».
قال «عمرو بن جابر» وقد �أخذه الوجد :
يبدو يل يا �أرقم �أن الوقت قد حان ،فال�شوق �إىل ر�سول اهلل يف قلبي قد
�أزف ،فتعال �إىل املدينة ُنال�سه حي ًنا من الزمن ،ثم نعود �إىل ما كنا
نفعل .
z
جدا ،كان كالمه و�أخباره ت�شيع كما ي�شيع نور حممدا ..كثري ً
كثري من اجلن تبعوا ً
ال�شم�س� ،رسي ًعا كثي ًفا ُيفني كل ظلمة ،ف�أ�صبحنا نحن �أنف�سنا ندور حول «حممد» ،نحاول
عب ًثا �أن ن�ستخرج �شيئا ما �ضده ،حتى كان لنا ما نريد� ،أو كاد.
من ح�سن بختنا �أن العرب يف ُلغتهم العادية ،يقولون كلمة �شيطان على كل �إن�سان ِّ
متمرد
حممدا ي�أمر �أ�صحابه �أن يقتلوا الكلب الأ�سود ذو النقطتني
�أو حيوان �ضار خبيث ،وفج�أة �سمعنا ً
لأنه �شيطان ،هو كان يق�صد �أن يقتلوه لأن هذا الأ�سود ذو النقطتني يف املدينة جارح م�سعور
وعدنا �إىل قومنا..
بفكه يف �رضاوة ،لكنا �أم�سكنا بها ُينق�ض على الإن�سان والطفل وينه�شه ِّ
انظروا �إن حممدا ُيخرب �أ�صحابه �أن الكلب الأ�سود �شيطان ،انزلوا �إىل املدينة وانظروا كيف
يقتل �أ�صحاب «حممد» الكالب ال�سود ..يا بني اجلن �إن «حممد» نبي كاذب ،فاجلن يعلمون �أنهم
ال يقدروا �أن يتمثلوا بالكالب � ً
إطالقا.
ثم دارت الأيام و�أم�سكنا ع َّلة لغوية �أخرى ..لكن تلك �أم�سكناها و�أطبقنا عليها وجعلنا
كث ًريا ممن �آمنوا يرتابوا!
العرب تقول كلمة اجلن على نوع من احل َّيات اخلبيثات ال�سامات ..وكلمة �أ�سلم عند
العرب لها ا�ستعمال م�شهور مبعنى لدغ ،فيقولون فالن �أُ�سلم يعني مت لدغه ،واحلية �أ�سلمت
يعني لدغت ،وملا كرثت تلك احليات التي ي�سمونها جنا يف املدينة ولدغت النا�س ..قال
«حممد»� :إن باملدينة جنًا قد �أ�سلموا ،ف�إن ر�أيتم �شيئًا من هذه العوامر ف�آذنوه ثال ًثا ،يعني
حذروه ثال ًثا ،ف�إن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ف�إمنا هو �شيطان ..وكم فرحنا بهذه القولة،
وكم �صعدنا بها �آفاق مدائن اجلن.
هو كان يقول �إن يف املدينة جنا (حيات) قد �أ�سلموا (لدغوا) ،ف�إذا ر�أيتم �شيئًا من هذه
العوامر ( الهوام التي تدخل البيوت) ف�آذنوه (حذروه) ثالثا ،ف�إن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه،
ف�إمنا هو �شيطان (حية خبيثة) ،وكان هذا �شيئًا عاد ًيا �أن ُ َت ِّذر احليوان فيهرب ،احليوانات تفهم
حممدا يقول
الب�رش ،ف�إذا مل يهرب احليوان ف�إنه خبيث ينوي �أن ينال منك ،لكنا �أ�شعنا يف اجلن �أن ً
بني �أ�صحابه �أن اجلن يتمثلون يف �شكل حيات ويلدغون ويقتلون النا�س.
لقد انتهت هذه ال�صحائف من الإي�ستوريجا ،وانتهى معها مبلغ علمك لهذا الوقت ،و�إنك
وعلمت �أحدا ًثا لي�س �أحد من بني �إن�سان ر�آها وال عرفها� ،إن �أول طريقة ت�سود
َ قد َ
نلت علو ًما
بها على النا�س هي �أن تكون �أع َلم منهم ،عندها ت�سبقهم وتبهرهم ،و�إن تعلمت علومنا ف�أنت
املختار.
وطاملا بلغت هذا احلد يف ال�صحائف فهذا يعني �أنك قد اخرتت الطريق� ،أو اختارك
الطريق.
�صدقها يف ذلك الزمان جن وال �إن�س ..عن
أمورا مل ُي ِّ
ال�صحائف التالية �ستكون حاكية � ً
غيت وجه الدنيا طريقة بزوغ �شيء ا�سمه الإ�سالم ،مالحم و�شدائد ،خطوب ونوازلَّ ،
قب�سا..
أمورا عظا ًما� ،س�أعطيك منها ً
كلها� ،ست�شهد ال�صحائف التالية � ً
أهول تلك الأمور و�أفخرها نزول �سيدك «ظام» �إىل نهر الأحداث...
� َ
وجتلي الأمري «لو�سيفر» يف �سمة مل تُعرف له من قبل ،وحكايته منذ خروجه من جنة
عدن ،و�إ�سالم«ميتاترون» و«�سيدوك» يف ق�صة ال ت�صدق!.
وملحمة «عمرو بن جابر» و«�إينور بنت �آمون»..
وح�سم �رصاع «عمرو» و«�إزب بن �أزيب» مبوت �أحدهما..
وح�رس احلجاب عن �إن�سان م�سيخ ،البث يف الأر�ض حمتجب ،يعرفه قبيل ال�شياطني با�سمه
العايل�« ،أنتيخري�ستو�س» ،نزل فج�أة �إىل املدينة و...
تلك �أقا�صي�ص �أخرى..
z
المرسم
األرقم
إنيان
إينور بنت آمون
طيفون
عمرو بن جابر
عمرو بن جابر2
ماسا
ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
رش
الت و
ز و
يع
393
كنا مالئك
يا بني �إبلي�س �إن النا�س قد �سجدوا لنا وركعوا طالبني املدد ..
خ�شعوا لنا يف كل عيد كافرين وكل عقل قد ف�سد ..
الغيب ن�سمعه وال�سحر نر�ضاه واليوم جئناكم بنب�أ قد وجد ..
يا قومنا �إنا علونا ال�سحاب يوما فح ّر َقنا �شهاب ثاقب للج�سد ..
فنك�صنا على �أعقابنا والنار يف �أدبارنا و�أمرينا باجلوانح قد فرد ..
ال�سخط يف مالحمه واحلقد يغ�شاه وكل جن عنده قد ح�شد ..
يا بني �شيطان �سريوا يف الأر�ض فانظروا يف كل بادية و بلد ..
تاهلل �إما ر�سول نازل يف بني الإن�سان �أو عذاب قد ر�صد ..
يا بني �آدم اعلموا �أقداركم �إنا �صحبنا الر�سول غفلة من كل �أحد ..
دعوناه يف ليلة ظلماء حالكة فغاب عن �صحبه و�أهله والولد ..
ف�ضيع النا�س الر�سول وفزعوا وباتوا يف حزن �شديد وكمد ..
ف�أتاهم من �صباحهم الر�سول وحكى لهم عنا بالوحي و املدد ..
و�أراهم ر�سولهم �آثارنا وحطبنا ونرياننا عالية بامل�سد ..
و�أنا كنا مالئك ل�سنا مالئكة وما عبدنا �إال الواحد الأحد ..
و�أن يف هذه الدنيا �أجنا�س ال ُترى ،نفو�سا تهيم بال ج�سد ...
و�أن �سريتنا قد �أنورت و �أبهرت يف كل �أ�سطورة عا�شت �إىل الأبد ..
و�أن هذا �أوانها لنحكيها ون�سردها فتبلغ كل ذي عقل و ر�شد ..
�أحمد خالد م�صطفى
ع
مشهد من مالئك نصيبين
َ
ريص
ال
الجزء الثاني:
ت ك
ب
ثوان ثمانية كانت �أعينهم ترى نخيل قاد اجلن موكبهم �إىل املدينة ..ويف ٍ
ش
وهم «عمرو» بامل�سري لكن «الأرقم» �أ�شار �إليه �أن يتو َّقف ً
متاما! ،ففي تلك النبيَّ ..
ر
اللحظة نظر اجلن �إىل م�شهد �أ�صدر يف قلوبهم الرعب .
الت و
و
كان مي�شي وعلى كتفيه عباءة ملونة بكل �ألوان الأر�ض ..ب�شعره الطويل
يع ز
ووجهه احلليق وثيابه ال�سود ونظرته احلادة ،كان هذا «لو�سيفر» وعلى جانبيه
تابعاه «ميتاترون» و«�سيدوك» ،ولقد نظر «لو�سيفر» �إىل موكب ن�صيبني نظر ًة
طالت وحملت كلمات تنقلها مالمح تبعث الرهبة ..ونظر �إليهم «ميتاترون»
بنظرات جامدة فيها �شيء من التو ُّعد ،ثم �أكمل «لو�سيفر» وتاب َعاه ،كان متوج ًها
ناحية امل�سجد النبوي ،مبا�شرة.
�أ�شار بيده لتابعيه �أن يتوقفا ..ودخل «لو�سيفر» بغ َت ًة �إىل امل�سجد ،ود َّبت
اخل�شية يف �أو�صال �أبناء ن�صيبني على ر�سول اهلل ونزلوا عن رواحلهم وانطلقوا
كقطع من الربق يلحقونه �إىل امل�سجد.
وعند باب امل�سجد نظروا ف�إذا ال�صالة قائمة والنبي ي�صلي ب�أ�صحابه..
والتف «لو�سيفر» حول امل�ص ِّلني حتى بلغ ر�سول اهلل ،ثم �إنه �أخرج يده ف�إذا فيها
َّ
وهم اجلن �أن يهتجموا عليه مثل �شهاب ُملتهب من نار وم َّدها �إىل ناحية النبيَّ ،
و�إن فقدوا حيواتهم ثم ًنا لذلك ،وفج�أة جحظت عينا «لو�سيفر» ك�أمنا حانت
قب�ض على رقبته ً
قب�ضا قيامته وتطاول اجلن لريوا ما ح َّل به ،ف�إذا «حممد» قد َ
397
�شديدً ا ورفعه ُمتع ِّل ًقا يف الهواء ،ثم �ش َّد على رقبته بقب�ضته حتى َ
�سال لعابه
و�سالت معه كربياء �آالف ال�سنني� ،سقطت وتناثرت كلها على ذراع «حممد»،
يجر عباءته وانبهرت قلوب اجلن ُبرهة حتى تركه «حممد» ف�شرد من امل�سجد ُ
ب�ألوانها .
وملا فرغ «حممد» من �صالته �س�أ َله �أ�صحابه :يا ر�سول اهلل ر�أيناك ُ
تب�سط
يدك يف ال�صالة ..فقال� :إن عدو اهلل «�إبلي�س» جاء ب�شهاب من نار ليجعله يف
ع
وجهي ف�أمكنني اهلل منه ف�أخذتُ عن َقه فخنقتُه ف�إين لأجد برد ل�سانه على كفي،
ريص
ولقد هممتُ �أن �أوثقه �إىل �سارية حتى ت�صبحوا فتنظروا �إليه ،ولوال دعوة �أخي
ال
وهب يل ُملكا ال ينبغي لأحد من بعدي) لأ�صبح مر ُب ً
وطا «�سليمان» (رب اغفر يل َ
يلعب به ولدان �أهل املدينة.
ت ك
وتب�س َمت ثغور �أبناء ن�صيبني ..وعلمت اجلن َمن املذموم املدحورَ ،ومن َّ
ش ن
ر
z
و ت وال
ع زي
398
ع
تنويه وشكر خاص
ري ص
إن�شاء و ت�صميم و برجمة لعبة فيديو على ل ا يتم العمل على �
ش ورالثاين من الرواية
بتفا�صيل �أكرث غري مذكورة يف الرواية ووا ول
ت
اللعبة اجلاري ت�صميمه الف�صلني الأول
Devilالز عي
يكون البطل يف
أبعاد على اللعبة �أ�سعد الكامل ..تكون اللعبة ثالثية
طريقة Assassin’s Creedو May Cry
يتم تطوير اللعبة من قبل �رشكة Zorkestraوهي �رشكة
�أن�ش�أها امل�ؤلف �أحمد خالد م�صطفى حديثا مع م�صمم الألعاب
التون�سي املوهوب ماهر عبد املجيد اجلويني ومقر ال�رشكة يف
تون�س
399
تم التحميل من
موقع عصير الكتب
لمزيد من الكتب الحصرية
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com