Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 400

‫مالئك نصيبين‬

‫مالئك نصيبين‬
‫!رواية?‬

‫د‪� .‬أحمد خالد م�صطفى‬


‫تم التحميل من‬
‫موقع عصير الكتب‬
‫لمزيد من الكتب الحصرية‬
‫زوروا موقعنا‬
‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫إهداء‬

‫�إىل �أبي احلبيب ‪ ..‬الذي علمني كل �شيء‪.‬‬


‫حملتني ً‬
‫طفل و�أدبتني ‪� ..‬أر�شدتني غال ًما وح�ضنتني‪..‬‬
‫�صاحبتني �شا ًبا و علمتني ‪� ..‬آزرتني ً‬
‫رجل و دعمتني ‪ ..‬و‬
‫�أغثتني ‪ ..‬وجندتني ‪ ..‬ون�رصتني ‪ ..‬و�أويتني ‪ ..‬فال�شكر‬
‫لك ‪ ..‬و احلب لك ‪ ..‬والعمر لك ‪ ..‬واخللود لك‪..‬‬
‫�إىل ميار ‪ ..‬التي رزقت حبها‬
‫حديث كنت �أحدث به نف�سي ‪ ..‬يف غمرة من الربد ‪ ..‬عن غادة‬
‫ح�سناء ت�أتيني وقد تثلجت �أطراف روحي ‪ ..‬وجتفف �شعوري و‬
‫غا�ضت عاطفتي ‪ ..‬فت�ضع يل على كل قطعة برد يف نف�سي جذوة‬
‫�أ�ستديفء بها فتتوقد منها له ًبا و هيا ًما ‪..‬‬
‫ومرت علي مقادير الزمان ومل ت�أت غادة وال ح�سناء ‪ ..‬ولفحني‬
‫الربد حتى ق�سا القلب وا�ستوح�شت النف�س وبلغت ثالثني عا ًما‬
‫�أنظر يف الوجوه والعيون ‪ ..‬ورفعت ب�رصي �إىل ال�سماء و �أيقنت �أن‬
‫لي�س يل غادة ‪..‬‬
‫فائتلق يف جو ال�سماء جِ رم كال�شهاب ‪ ..‬يف حلكة ا�سوداد الليل‬
‫� َّأج وتوهج ‪ ..‬تابعته بعيني �سارحا يف �شاغلي وم�شاغلي ثم حولت‬
‫نظري من ال�سماء �إىل الأر�ض ‪ ..‬فوجدته على الأر�ض كما كان يف‬
‫منورا الم ًعا ك�أمنا هو النجم �إذا هوى ‪ ..‬فغ�شت على ب�رصي‬
‫ال�سماء ‪ً ..‬‬
‫ده�شة اال�ستيعاب ‪ ..‬فلما �أفقت ف�إذا هو لي�س بنجم وال هوى ‪ ..‬لقد‬
‫كانت هي ‪ ..‬الغادة احل�سناء ‪.‬‬
‫عرفتها لأن روحي تعرفها ‪ ..‬منذ الأزل خلق يل ربي زوجتي‬
‫من نف�سي لأ�سكن �إليها ملا �أراها ‪ ..‬فلما ر�أيتها عرفتها بدفئها الذي‬
‫يتك�شف عند ب�سمتها ‪ ..‬عرفتها ملا حدثتني ‪ ..‬وك�أنها كانت‬
‫نورا من القول ‪� ..‬أ�رشقت له جنبات �صدري ‪ ..‬وتهللت به‬ ‫تلقي ً‬
‫ق�سمات وجهي ‪ ..‬عرفتها لأنها �أبدع يف عيني من جميع ت�صاوير‬
‫خيايل ‪ ..‬ه�شت لها مالحمي و ب�ش لها كياين ‪ ..‬وقامت روحي‬
‫تعرفهم بها فتقول ‪ ..‬تلك التي ُخل ْقت معها حتى كنت �أعرفها‬
‫قبلكم ‪ ..‬فاحفظوها يف العني و�أدخلوها �إىل القلب ‪ ..‬وال تدخلوا‬
‫أحدا بعدها كما مل تدخلوا �أحدا قبلها ‪.‬‬
‫� ً‬
‫�إىل ال�صاحب القمة ‪� ..‬أحمد يا�سني‬
‫�إن كان �شخ�ص م�س�ؤول عن قوة نف�سيتي يف كل حزن مررت‬
‫به �أو كرب ‪ ..‬فهذا ال�شخ�ص هو �أنت ‪ ..‬وال �أحد غريك‪.‬‬
‫َ‬
‫بوجهك القبيح!‬ ‫�أنا القرين َّ‬
‫املوكل‬
‫ب�شاعة ُمه َّمتي؟‬
‫هل تُدرِك مدى َ‬

‫ع‬
‫�أنت بكل غالئل نف�سك وقبائح تفا�صيلك‪� ..‬أنام معك و�أ�صحو‪...‬‬

‫ص‬
‫�أنت ال تتخ َّيل � ًأبدا �أيها اجلرذ‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫انظر �إىل �أقرب �إن�سان �إليك‪ ..‬الآن يف هذه اللحظة!‬

‫ك‬
‫جيدا وا�ش ُعر فقط �أنك قد � َ‬
‫أوكلت به طوال حياتك!‬ ‫ُ‬
‫انظر له ً‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫مت�شِ ي معه‪ ،‬تنام معه‪ ،‬تدخل اخلالء معه‪ ،‬ت ِّ‬
‫ُفكر معه‪� ...‬شيء ُمريع �ألي�س كذلك؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫اع َلم �أيها القرد �أين �أنا ال�سيد الذي فوق ر�أ�سك‪.‬‬

‫ش‬
‫ر الو‬
‫�أو عن ميينك �أو عن �شمالك‪...‬‬

‫تو‬
‫ُوجه النعجة!‬
‫أوجهك كما ت ِّ‬ ‫آمرك و� َ‬
‫أنهاك‪ِّ � ،‬‬ ‫� َ‬

‫زيع‬
‫�أقول فت�سمعني‪� ،‬أغيب فتغيب لذة حياتك‪.‬‬
‫ما الذي جا َء َ‬
‫بك ها هنا؟‬
‫ً‬
‫حكاية تُغني بها جوعك؟‬ ‫تُريد‬
‫مللل َّ‬
‫تع�ش�ش يف روحك؟‬ ‫�أم َ‬
‫جئت داف ًعا ٍ‬
‫جائع لك‪.‬‬
‫�إين �أنا الذي ٌ‬
‫َ‬
‫يتخذك للت�سل َية‪.‬‬ ‫�أنا امللول الذي‬
‫تخ َّيل لذ َة �أن تل ُهو ب�ضفدع ُ‬
‫يظن �أن الكون كله قد ُخلق لأجله!‬
‫تعدو‬ ‫هكذا الإن�سان ُ‬
‫يظن!‪ ،‬هكذا �أنت‪ ...‬لكنني جئتك اليوم لأعرفك مقا َمك حتى ال ُ‬
‫عليه‪.‬‬
‫�أنا ال�سامي الذي يع ُلو على قفاك يف هذه ال�ساعة وكل �ساعة‪� ،‬أنا الأعلى و�أنت الأدنى‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫َ‬
‫كذبت علي يا كاذب و�س َّودت روحي ور�سمتَني ب�صور من منابت خيالك‬ ‫�أنا هو الذي‬
‫العفِن‪...‬‬
‫�أنا العايل عليك وعلى قبيلتك‪� ،‬أنا الأول و�أنت بعدي �أتيت!‬
‫�أنا ال�شيطان‪� ..‬ألي�س ا�سمي له هي َبة رغم �أنفك؟ فدن ر�أ�سك �أيها الداين وتع َّلم درجتَك‪.‬‬
‫ان�س كل الذي تع َّلمتَه عني وقر�أتَه عني و�شاهدتَه عني‪ ...‬فكله هراء �أل َفه َ ٌ‬
‫ب�ش مثلك؛‬ ‫َ‬

‫ع‬
‫كله بال ا�ستثناء!‬

‫ري‬‫ص‬ ‫تعال �أنا �أُع ِّل َ‬

‫ال‬
‫مك �أول در�س‪� ،‬أنت خملوق مهني من عائلة القردة!‬
‫يف �أول الزمان َ‬
‫كنت �أنت قردا!‪ ،‬تهيم على وجهك مثل بقية حيوانات الأر�ض!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لكن �صدفت �صدفة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫جدا تلك ال�صدفة‪� ،‬صدف �أن �أ�صدرت الطبيعة فيك طفرة؛ جع َلت لك ً‬
‫عقل واع ًيا‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫�سيئة ً‬

‫ش‬
‫تعال و�شاهِ د القرد الذي �صار له عقل ماذا فعل يف العامل؟‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫وظن �أنه كل �شيء‪.‬‬ ‫�سفك الدم و�أهلك كل �شيء جميل!‪َ ،‬‬
‫وتعال على كل �شيء‪َّ ،‬‬ ‫َ‬

‫و‬
‫يح�ض‬ ‫جمراته وماليني خملوقاته قد ُخلِق ً‬
‫تهيئة له �أن ِ‬ ‫املتعجرف اعت َقد �أن الكون مباليني َّ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫و ُي� ِّرشف الأر�ض!‬

‫‪z‬‬

‫‪12‬‬
‫و�صدقتَها!‬ ‫َ‬
‫أجابتك نف�سك بكثري من الكذب‪َّ ،‬‬ ‫َ‬
‫نف�سك عني ف�‬ ‫َ‬
‫�ساءلت‬ ‫لطاملا‬
‫و� َ‬
‫إنك لت�سائل نف�سك الآن؛ ماذا يجعلني ملثلك قرين؟ ماذا يجعلني �أ�شغل �سمو نف�سي‬
‫لأجل �سفاهاتك؟ و�أنا هنا لأعلمك‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�إن كنت تظن �أنني قرينك �أنت الذي يحوم بجوارك!‪ ،‬ف�أنت ُمغ َّفل‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ارتق بعقلِك ً‬
‫قليل حتى‬ ‫ُ‬
‫فل�ست �أدري �أي عني �ستفتح �صحائف كالمي هذا وتقر�أه‪ِ ،‬‬
‫ت�ساويني ودع عنك الغباء‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫َ‬
‫قرينك الذي فوق ر�أ�سك‬ ‫�إمنا �أنا �أتلو َ‬
‫عليك حديث كل قرين‪ ،‬بنف�س احلروف التي َيود‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أن يقولها‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫أ�رشفك باحلديث و� َ‬
‫أعلمك!‬ ‫مثلك و� َ‬
‫ما الذي يجعلني �أنا البهي ال�سامي �ألتفِت �إىل مهني َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�س� َ‬
‫أجيبك رغم �أين ُ‬
‫ظننت �أن هذا معلو ًما ملن كان مثلك‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�إن �أنت َ‬
‫لقيت �صحائفي هاته و�أخرجتَها من �أكفانها ف�أنت ل�ست من العموم العامة‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أحجم عن‬
‫أنت ُم�سك �صحائفي يف يدك؛ ف�إمنا هذا يعني �أن الذي �أر�شدك �إليها قد � َ‬‫وطاملا � َ‬
‫فعهد بها �إليك �أنت!‬
‫تنفيذ ما فيها‪َ ،‬‬
‫أنت �أيها املهني �إذا قر� َأت ما فيها ثم مل جتِد يف نف�سك عليها همة؛ �أعِدها �إىل مو�ضعها‪.‬‬
‫و� َ‬
‫�شخ�صا رمبا ترى فيه على ذلك ُقدرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ودل عليها‬
‫ذبحا � َ‬
‫آتيك به من حيث ال تدري‪.‬‬ ‫ف�إن مل تف َعل فارتقِب ً‬
‫نورا ال ت�ستحقه!‬ ‫َ‬
‫نف�سك ً‬ ‫أ�سقطت عن نف�سك الذبح‪ ،‬وف َّو َّت على‬
‫َ‬ ‫أحدا عليها �‬ ‫ف�إن َ‬
‫دللت � ً‬
‫حمقورا كما هي حالك‪.‬‬
‫العلم ف�إما ت�صري به رفي ًعا �سامي الرتبة!‪� ،‬أو تبقى ملو ًما ً‬
‫جاءك ُ‬
‫�ستجد يف الردمية التي �أخرجتَها خبيئة ظل �إخبا�ؤها � ًرسا عهدت به �إىل �صفائف‬
‫ال�سحار يتوارثونه فيهم‪.‬‬
‫�صحائف‪ ،‬فيها منتهى العلم‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫�صحائف نُ�س ِّميها الإي�ستوريجا‪ ،‬املكاتيب‪.‬‬
‫تعجل على فهم ما يعني ا�سمها؛ فلي�س العلم ي�ؤتى دفقة واحدة‪ ،‬ولرمبا ا�ست�شف‬‫وال َ‬
‫عقلك من لفظها معناها‪.‬‬
‫�إن ما �أروم منك و�أبتغي يفوق حدود فهمك الآن!‪ ،‬لكن لي�س بعد �أن تنال من علم‬
‫الإي�ستوريجا ما يكفي‪.‬‬

‫ع‬
‫تدريجا � َ‬
‫أدرجك �إياه‪ ،‬وترقية �أرقيك فيها‪.‬‬ ‫هذا العلم ي�ؤتى‬

‫ص‬
‫ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ارتقيت كلما َ‬
‫فهمت الذي �أن�شده منك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فكلما‬
‫لي�س ذلك العلم �سحر‪ ،‬ولي�س ذلك العلم تنجيم‪ ...‬هذا العلم فوق ذلك كله‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫هذا العلم لو تع َّلمتَه �ست�صري به ال�سيد املخل�ص؛ تدين لك الأر�ض من �أطرافها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أول دفقة من العلم �أ�سقيك �إياها هي �أنا‪� ،‬أنا �أول العلم ومنتهى العلم‪.‬‬

‫ش‬
‫احفظ حروف ا�سمي يف حفيظة من نور بداخل عقلك‪( ،‬ظ ا م) ا�سمي «ظــام»‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫ا�سودادي وا�سوداد َ‬
‫عاملك �سواء‪ ،‬عيناي �شقيقتان لعني قط تتل َّونان يف �سودة الليل‪.‬‬

‫و‬
‫�أ ُذناي امتلأتا ب�سماعات تلقيتُها يف مقاعد لل�سمع يف جو ال�سماء!‪ ،‬فكتبتُها و�سطرتها‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ف�سموت بها فوق اجلن والإن�س‪.‬‬
‫خمتارا!‬ ‫لي�س لب�رش زري مثلك �أن َّ‬
‫يطلع على الإي�ستوريجا �إال �أن يكون ً‬
‫َ‬
‫اخرتتك فافتح روحك لكل هذا العلم‪ ،‬و�سن�ؤتيك املزيد‪.‬‬ ‫و�أنا‬
‫مبتد�أ هذا العلم كله يف ذلك املجلد من ال�صحائف املحزومة بالرباط الأحمر‪.‬‬
‫�أخ ِرجها من مرقدها وانفخ الغربة التي تكتمها‪.‬‬
‫ذلك هو املجلد الأول؛ �أخ ِرجه ودع املج َّلدين الآخرين‪.‬‬
‫واقر�أ ال�صحائف برتتيب تن�سيقها‪.‬‬
‫أعجل‪.‬‬ ‫و�إن كنت ً‬
‫عجول بالقراءة ف�س�أعجل بقتلك!‪ ،‬فال جتعلني � ِّ‬
‫‪z‬‬
‫‪15‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ملك‬
‫ِ‬
‫وساحر‬
‫وشيطان‬
‫قبل �أل َفني من ال�سنني �إال مائتني‪ ،‬تعاظ َمت مملكة �س َب�أ بني املما ِلك‪ ،‬بح�شد‬
‫مرمر‬ ‫من جنات متتد على �أر�ضها وتزين جبالها‪ ،‬وق�صور وبنيان وبيوت من َ‬
‫و�أحجار ورخام‪ ...‬وتبابعة يحكمونها يف �سل�سلة طويلة من الزمن‪ ،‬يرادفون يف‬

‫ع‬
‫عظمتهم قيا�ص َرة روما و�أكا�سرة فار�س‪ ...‬حتى �أتى عليها زمان؛ قبل �ألفني‬

‫ص‬
‫من ال�سنني �إال مائتني‪ ،‬حو�صر ملكها التبع احلكيم «ملكيكرب» فوق قمة جبل‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫«�أهنوم» الكبري‪ ،‬وكان يرتاجع بقدميه �إىل احلافة ناظ ًرا �إىل ُما�صريه بعيون‬
‫لي�س فيها خوف‪ ،‬بينما كانت عيونهم تناظره وت�ساقط عليه �شر ًرا ميتلئ حقدً ا‬

‫ك‬
‫و�ش ًرا و�شماتة‪ ...‬وخا�صة عيون رجل منهم يقف يف منت�صفهم؛ رجل �سي�صري‬

‫ت‬
‫مل ًكا على اليمن �إن �سقط «ملكيكرب» من هذه احلافة يف هذا اليوم‪ ،‬رجل يدعى‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫«كرب �إيل وتر»‪ ،‬و�إن كرب يف اليمن القدمي تعني ال�سيد‪ ،‬ويبدو �أن «كرب �إيل وتر»‬

‫ن‬
‫بدرع كان معه �ضرب ًة �أطا َرت‬

‫ش‬
‫مل ي�صرب ثانية �أخرى �إذ هجم على امللك و�ضربه ٍ‬

‫ر‬
‫ج�سده جتاه الهاوية!‬
‫قدمي امللك من مكانهما و�أطارت َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�شاخ�ص بب�صره �إىل من �أ�سقطوه!‪ ،‬وبدت عيونهم‬ ‫ظ َّل ج�سد امللك يهوي وهو ِ‬

‫و‬
‫من مكانه ك�أنها تلمع ُمنت�صر ًة و ُمت�ش ِّفية‪ ،‬ثم �أغم�ض عينيه وه َوى‪ ...‬وم�ضت‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�سراعا قبل �أن ميوت؛ ذكريات زوجته اجلميلة «فارعة» وابنه‬ ‫على باله ذكريات ً‬
‫امل�شاغب «�أ�سعد» الذي كان ي�أمل �أن يخلفه من بعده وي�صري تب ًعا عظي ًما‪ ..‬لكن‬
‫َ‬
‫ال�سقطة لن يكون ابنه تب ًعا‪ ،‬بل �إن م�صريه �سيكون املوت؛ ف�إن «كرب �إيل‬ ‫بعد هذه‬
‫وتر» لن يرتُك �أحدً ا من ُ�ساللة امللك ُينازعه مل َكه بعد ح ٍني من الزمن‪ ..‬انفط َر‬
‫ف�ؤاده ملا �أتاه هذا اخلاطر‪ ،‬وا�ست�سلم ل�صدمة ج�سده يف �صخرة يف �سفح اجلبل‪،‬‬
‫خطا دمو ًيا ُي ِنذر بانتهاء حكم �ساللة‬ ‫ودماءه التي �سا َلت على احلجر را�سم ًة ًّ‬
‫«ملكيكرب» �إىل الأبد‪.‬‬
‫واجب النفاذ؛‬ ‫وبعد دقيقة واحدة نظر امللك اجلديد �إىل زبان َيته و�أ�صدر �أم ًرا َ‬
‫�أن الطفل �أ�سعد ابن «ملكيكرب» يجب �أن يل َقى حت َفه الليلة!‪ ،‬و�أن يتم ذلك يف‬
‫غف َلة من النا�س ويف غفل ٍة من �أهله‪ ،‬وبطريقة تبدو بها ميتَته طبيعية ال �ش َي َة‬
‫فيها‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪19‬‬
‫ق�صر ت�سيل املياه من �شعابه �أنهارا ُتز ِّينه من فخامته‪ ،‬عرف يف التاريخ‬ ‫يف ٍ‬
‫بق�صر خمر‪ ،‬كان يعي�ش الطفل �أ�سعد و �أمه «فارعة» وج ّده «موهبيل»‪ ...‬ولقد‬
‫نزل عليهم خرب وفاة امللك ك�أنه زلزال ق َّو�ض �أركان ق�صرهم؛ قيل لهم �أنه‬ ‫َ‬
‫مر�ضا �شديدً ا ثم مات‪ ،‬لكن «فارعة» كانت تعرف‪� ،‬إن زوجها قد قتل هذا‬ ‫مر�ض ً‬ ‫َ‬
‫خوف وتر ُّقب‪،‬‬
‫م�ؤكد‪ ،‬ولقد بكت حتى نفذ الدمع منها‪ ،‬ونظرت �إىل ابنها نظر َة ٍ‬
‫خم�سا وال يدري من �أمره �شي ًئا‪ ،‬وكيف �ستقول‬‫ابنها الذي مل يب ُلغ من ال�سنوات ً‬

‫ع‬
‫له خرب موت والده!‪� ،‬أعياها التفكري فار َمتت على �ساعد �أبوها العجوز «موهبيل»‬

‫ص‬
‫الذي كانت ت�أتيه �أفكار كثرية يف تلك اللحظة عن ذلك الطفل «�أ�سعد» وكيف‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يحميه‪.‬‬
‫ويف ذات ليل ٍة‪ ..‬ويف غف َلة من اجلميع‪ ،‬خرج الطفل «�أ�سعد» من الق�صر‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لقدره!‪ ،‬كان يبحث عن اللعب‬ ‫ومل َعت خلروجه عيون كانت ترقبه‪ ،‬خرج ك�أنه خرج َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫وال�صحبة؛ فلي�س يف ق�صر خمر لعب وال �صحبة‪ ،‬لي�ست فيه �إال نوافري ومياه‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫أعي حتى‬ ‫جتري �أنها ًرا و�أحزان تلف الأركان وتهزها!‪ ،‬خرج �أ�سعد وراقبته ال ُ‬

‫ش‬
‫ً‬
‫ان�سالل‬ ‫ان�سل‬
‫دخل ال�سوق‪ ،‬ولقد �شكرت تلك الأعني حظها‪ ،‬ف�إن ذلك الطفل قد َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫من الق�صر يف غف َلة حتى من احلر�س �أنف�سهم‪ ،‬ولقد كانت العيون التي ُ‬
‫تر�صد‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�أ�سعد وتتَّبعه هما امر�أتني؛ مر�سالت من عند امللك اجلديد‪ ،‬امر�أتان قاتلتان‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وفج�أة �أم�س َكت بكتف الطفل يد �أنثوية‪ ،‬فنظر وراءه ف�إذا امر�أتني ُمبت�سمتني‬
‫ناظرتَني �إليه بو ّد!‪ ،‬قالت �إحداهما‪:‬‬
‫مر�سالت من عند ج ّدك «موهبيل»‪� ،‬أمل ي ُقل لك �أال تخ ُرج‬‫ �أيها الطفل �إنا َ‬
‫نعيدك الآن‪.‬‬
‫من الق�صر بدون علمه‪� ،‬إنه يجب علينا �أن َ‬
‫ت�أ َّفف الطف ُل ال�صغري وقال‪:‬‬
‫بعد حني‪.‬‬
‫أعيداين َ‬ ‫ �إين �أريد اللعب‪ ..‬دعاين �أل َعب ً‬
‫قليل ثم � َ‬
‫قا َلت املر�أ ُة الأخرى‪:‬‬
‫واحة يل َعب فيها ال�صبيان ثم نعيدك‬ ‫فتعال �أد ّلك على َ‬
‫كنت تريد اللعب َ‬ ‫ �إن َ‬
‫�إىل �أمك‪.‬‬
‫ته َّل َلت �أ�سارير «�أ�سعد» وم�شى معهما وكل امر�أ ٍة منهما ُت ِ�سك بيد‪ ،‬وم�شيا‬
‫حتى انتهيا به �إىل جبل �أهنوم‪ ،‬ثم �أخذتا ت�صعدان به �صخور اجلبل حتى وقفتَا‬
‫و�سط اجلبل ونظرتا منها �إىل الأ�سفل حتى اطم�أنتا �أن ال ُبعد‬ ‫عند حاف ٍة يف َ‬
‫‪20‬‬
‫عال وهو ي�ص ُرخ‬ ‫َ‬
‫و�سقط من ٍ‬ ‫منا�سب‪ ،‬ثم �ضر َبت �إحداهن «�أ�سعد» بقدمها َّ‬
‫فتعث‬
‫حتى غاب يف الظالم‪ ...‬وا�ستدارت املر�أتان وعادتا من حيث �أتيتا‪ ،‬وظ َّلت‬
‫�صخور جبل �أهنوم �صامت ًة وك�أنها يف ٍ‬
‫حداد على ملك وابن ملك قد نزفا هاهُ نا‬
‫يف يومني!‬
‫‪z‬‬
‫ع‬
‫لمات تك َّو َمت حتت �سفح اجلبل‪ ،‬كان ير ُقد ج�سد طفل �صغري‪ ،‬تها�ضمت‬ ‫يف ُظ ٍ‬

‫ص‬
‫�سيف�شل!‪،‬‬‫وا�ضحا �أنه َ‬
‫ً‬ ‫روحه حية‪ ،‬وكان‬ ‫وتق�صفت!‪ ،‬وبدا �أنه ُينازع ل ُيبقي َ‬‫عظامه َّ‬

‫ري‬
‫وطالعت عينه طي ًفا �آت ًيا عليه من بعيد‪ ،‬وظ َّل الطيف يق ِرتب حتى ظن �أنه �سيتب َّي َنه‬

‫ال‬
‫لكنه اختفى ك�أن مل ي ُكن!‪ ،‬هال ِو�س رمبا خلقها ف�ؤاده ثم �أخفاها‪ ،‬كان الطيف قد‬

‫ك‬
‫ينظر �إىل الطفل بعينني ُم�شفقتني‬ ‫م�ضى ليختفي وراء حجر قريب‪ ،‬وظ َّل الطيف ُ‬

‫ت‬
‫ترتقرق فيهما الدموع!‪ ،‬ثم ذهب الطيف من املكان ك�أن مل ي ُكن له وجود!‪،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وبقي الطفل ي ِئن من ال َأل‪ ،‬و ُتكا ِفح عيونه لرتى ما تبقى له من احلياة‪ ..‬ثم �أتى‬

‫ن‬
‫ُ‬

‫ش‬
‫وا�ضحا‪ ،‬واقرتب حتى وقف عند ر�أ�س‬ ‫ً‬ ‫الطيف يتهادى �إليه‪ ،‬لكنه كان هذه املرة‬

‫ر‬
‫الطفل وانحنى‪ ،‬ونظر �إليه الطف ُل ب� َأل‪ ،‬ف�إذا هي امر�أة تنحني عليه ومت ّد َيدها‬

‫الت‬ ‫و‬
‫لتلم�سه!‪� ،‬شيء ما يف نظراتها �أ�سك َنه!‪ ،‬كانت لها عينان ك�أنهن الد ّر الأز َرق‪،‬‬

‫و‬
‫طف‪ ،‬ثم غاب الطفل عن الوعي‪.‬‬ ‫و�ضعت يدها على عينه ف�أغلقت ُهما ب ُل ٍ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫آالما‬
‫آالما �شتى قد زالت و� ً‬ ‫تراءت له الدنيا من بني عينني منهكتني‪� ،‬شع َر �أن � ً‬
‫�أخرى قد خ َّفت وط�أَتها‪ ،‬و�أ�صبح قاد ًرا على حتريك عظامه‪ ،‬فارتفع عن مرقده‬
‫ونظر �إىل �أجمل ب�سمة قد تكون ر�أتها عينه ال�صغرية من قبل‪ ،‬كانت رقيق ًة‬
‫فيهن زرقة عجيبة‪ ،‬كانت قد عاجلت �آالمه و�أناته حتى ال‬ ‫بي�ضاء ذات عينني ِ‬
‫ُ‬
‫يكاد ي�شعر ب�شيء‪ ،‬قالت له �أن ا�سمها «�إينور»‪ ،‬و�أنها ت�سكن باجلوار‪ ،‬قال لها‬
‫�أنه «�أ�سعد» ابن امللك «ملكيكرب»‪ ،‬و�أن �أباه قد ذهب يف رحل ٍة طويلة‪ ،‬و�أنه رمبا‬
‫�سيعود قريبا و‪...‬‬
‫أباك لن يعود من �أي مكان �أيها الطفل!‪� ،‬إن �أباك امللك قد‬ ‫ هراء‪� ..‬إن � َ‬
‫مات‪.‬‬
‫مكان ما خلف الفتاة «�إينور»‪ ،‬فنظ َر الطف ُل‬ ‫كان هذا �صوتًا اعرتا�ض ًيا �أتى من ٍ‬
‫ري من الغرابة‪ ...‬كان �أ�ش َقر ال�شعر‬ ‫رجل يف هيئته كثري من البهاء وكث ٌ‬ ‫فر�أى ً‬
‫املن�سدل على كتفيه‪ ،‬وذو مالب�س مل يعتَد الطفل على ر�ؤيتها!‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫الكثيف الناعم‬
‫تق َّدم الأ�شقر ناح َية «�أ�سعد» وقال له‪:‬‬
‫‪21‬‬
‫مت قبل يومني‪ ،‬ولقد �أعلنوا خ َرب موتك يف كافة �أنحاء‬ ‫أنت �أي�ضا قد َّ‬
‫ و� َ‬
‫مدينة خمر!‪ ،‬قالوا �أن ال�ضباع قد �أك َلتك‪.‬‬
‫كان «�أ�سعد» م�شدوهً ا يرتقرق يف عينه كثري من الدمع‪ ،‬وحكى لهما عن‬
‫خروجه من ق�صر خمر‪ ،‬وعن املر�أتني‪ ،‬والواحة التي يلعب فيها ال�صبيان‪...‬‬
‫نظر الأ�شقر �إىل «�أ�سعد» بعينني ال تعرف املحاباة‪:‬‬

‫ع‬
‫أب�شع من ال�ضباع‪ ،‬وال تظن �أننا من ُكم‪� ،‬إمنا نحن من الـ‪...‬‬ ‫جن�سكم � َ‬
‫ �إن َ‬

‫ص‬
‫الرجل‪...‬‬
‫ُ�سكت ُ‬‫�صاحت «�إينور» �صيح ًة لت ِ‬
‫َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وظ َّلت عني «�أ�سعد» تتن َّقل بني الرجل واملر�أة وتتح َّرك تلقائ ًيا لتلحظ املكان‬
‫من حوله!‪ ،‬و�إن تفا�صيل �شديدة الغرابة التقطتها عيناه ال�صغريتان‪...‬‬
‫‪z‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫�صحته �أف�ضل مما كانت‪ ،‬و�أتت �ساعة قالت له «�إينور»‬ ‫م�ضت حتى عادت َّ‬ ‫�أيا ٌم َ‬

‫ش‬
‫بر َّق ٍة �أن �أوان رحيله قد حان!‪ ،‬و�أنه يجب �أن َ‬
‫يذهب مع الأ�ش َقر ل ُيعيده �إىل ق�صر‬

‫ر‬
‫حلزن �أن ُيهلكهما‪ ،‬ولقد هرع الطفل �إىل «�إينور»‬ ‫خمر عند �أمه وجده فلقد كاد ا ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫وقت ي�شاء؛‬
‫بحنان وقالت �أنه ُي ِكنه �أن ي�أتي ليزورها يف �أي ٍ‬‫يحت�ضنها‪ ،‬نظ َرت له ٍ‬

‫و‬
‫ف�إنها تعي�ش يف هذه الأنحاء‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أم�سك الرج ُل بيد الطفل و�سح َبه معه ما�ش ًيا‪ ،‬نظر «�أ�سعد» �إىل الرجل‪ ،‬كان‬
‫بهي املنظر هو الآخر بهذا ال�شعر الأ�صفر الطويل املم َّيز الذي ميلكه‪ ،‬عرف �أن‬
‫ا�سمه «عمرو بن جابر»‪ ،‬و�أنه زوج اجلميلة «�إينور»‪ ،‬وكان «عمرو بن جابر» ذا‬
‫طبع حاد‪ ،‬لكن املرء ي�ش ُعر بالأمان وهو يجاوره بطول قامته وبهائه وقوة عينيه‪.‬‬
‫هندامه �أكرث طبيعية‪،‬‬
‫َ‬ ‫الحظ «�أ�سعد» �أن «عمرو بن جابر» قد تل َّثم وجعل‬ ‫َ‬
‫تتح�س�سه من بني طوائف‬ ‫وتوج َه به مبا�شرة �إىل ق�صر خمر‪ ،‬هنالك ه َّبت �أ ُّمه َّ‬ ‫َّ‬
‫�أحزانها‪ ،‬ونظر «عمرو» �إىل ج ّد «�أ�سعد» وقال له‪:‬‬
‫�ستجده غدً ا ُمر ًقا!‪،‬‬
‫إنك ِ‬ ‫ �إن عرف فر ٌد واحد غ َرينا �أن هذا الطفل َحي ف� َ‬
‫جتد �أحدً ا ي�أتيك به‪ ،‬و�إنه لي�س لك �إال �أن ُتخرجه من‬ ‫و�ساعتها لن ِ‬
‫ر�سله ليعي�ش يف مدينة ظفار‪ ،‬على �أال يعرفه �أحد من‬ ‫ق�صرك هذا و ُت ِ‬
‫نا�صح‪ ،‬ف�إن يف ظفار رجل �صالح ُيدعى «�شافع»‪ ،‬ي�أتيه‬ ‫النا�س‪ ...‬و�إين لك ِ‬

‫‪22‬‬
‫ال�صبيان ليتع َّلموا كنوز العلوم‪ ،‬فلتذهب بطفلك هذا �إليه‪ ،‬ف�إنه �س ُيع ِّلمه‬
‫ويكتُم عنه‪.‬‬
‫نظر اجلد «موهبيل» �إىل «عمرو بن جابر» وهو يتح َّدث‪� ،‬س�أ َله ‪:‬‬
‫ من �أنت!‪..‬‬
‫وبدت يف �شفتيه كهيئة ابت�سامة!‪ ،‬ثم نظ َر �إىل‬ ‫فنظر «عمرو» �إىل الطفل َ‬

‫ع‬
‫تغيت مالحمه �إىل اجلد يف ثانية‪:‬‬ ‫«موهبيل» وقال وقد َّ‬
‫حفيدك هذا من بني‬ ‫يعنيك هو �أنني �أعدتُ لك َ‬
‫ري‬‫ص‬
‫يعنيك من �أنا‪ ،‬ما َ‬ ‫ لي�س َ‬

‫ال‬
‫�ضباع اجلبل‪.‬‬

‫ك‬
‫حدث‬ ‫وا�ستدار «عمرو» وان�ص َرف‪ ...‬و�أخذ اجل ّد والأم ي�س�أالن الطفل عما َ‬

‫ت‬
‫الذعر‬ ‫معه‪ ،‬والطفل يروي‪ ،‬وعالمات اال�ستغراب ُتراود العيون‪ ،‬لكن عالمات ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كانت مطبوعة على وجوه حرا�س ق�صر خمر!‪ ،‬فهناك‪ ،‬وعند بوابتهم التي‬

‫ش‬
‫أقفال من حديد قبل قليل بعد �أن �أدخلوا منها الطفل‬ ‫يحر�سونها والتي �أغل ُقوها ب� ٍ‬
‫ُ‬

‫ر‬
‫والرجل الأ�ش َقر املل َّثم الذي كان يرافقه‪ ،‬عند تلك البوابة التي لي�س لق�صر خمر‬ ‫ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫مدخل �سواها‪ ،‬وجدوا الرجل الأ�شقر واق ًفا بينهم خارج البوابة ناظ ًرا‬ ‫خم َرج وال َ‬

‫و‬
‫لهم بع ٍني من فوالذ‪ ...‬وقال لهم‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ �أتعجبونَ �أن يخ ُرج من بوابتكم هذه رجل كامل ُمير من حتت �أنو ِفكم!‪،‬‬
‫طفل يخ ُرج منها بكل الإزعاج‬ ‫تلحظ ً‬ ‫ولقد عجزَ ت عيونكم من قبل �أن َ‬
‫الذي ي�س ِّببه!‬
‫با�ستغراب و�شعور بالإها َنة‪� ،‬إن فيها فرجات‬ ‫ٍ‬ ‫نظر الرجال �إىل البوابة‬
‫رجل كهذا فم�ستحيل!‪ ..‬نظروا �إىل‬ ‫تنجح يف مترير طفل‪� ،‬أما ُ‬ ‫�صغريات رمبا َ‬
‫خرج من الأر�ض ثم عاد‬ ‫الرجل ثاني ًة ُبذعر فلم يجدوا مكانه �إال هواء!‪ ،‬وك�أنه َ‬
‫�إليها‪ ،‬تل َّفتوا حولهم و�إىل َمد ب�صرهم بح ًثا عن «عمرو»‪ ،‬لكنهم مل يجدوا �إال‬
‫اللحظة نف�سها ي�سري‬ ‫تنظر �إىل بع�ضها يف ُذعر!‪ ،‬وكان «عمرو» يف تلك َ‬ ‫وجوههم ُ‬
‫عند جبل �أهنوم‪ ،‬وك�أنه كان �شيطا ًنا‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ودروب َ‬
‫وب�شر‪ ...‬هذا ما كانت تراه عني الطفل «�أ�سعد»‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫�أ�سوا ٌق و�ضجي ٌج‬
‫ي�سحبه من يده معه داخل مدينة ظفار‪ ،‬وكان‬
‫كان ي�ستدير هنا وهناك وج ّده َ‬
‫‪23‬‬
‫�أمامهما رجل ُمل َّثم ذو �شعر �أ�ص َفر ُيدعى «عمرو بن جابر»‪ ،‬حتى �إذا انقط َعت‬
‫رجل �أب َي�ض‬
‫�صومعة �أو دير‪ ،‬وفيه ُ‬‫عنهم كرثة امل�ساكن‪� ،‬إذ و�صلوا �إىل ما بدا ك�أ َّنه َ‬
‫ينظر �إىل الدير و�إىل الرجل‬ ‫الثياب واللحية وال�شعر‪ ...‬كان اجلد «موهبيل» ُ‬
‫با�ستغراب!‪ ،‬فلم يعتَد �أن تكون �أديرة الن�صارى هكذا وال زِيهم‪ ،‬يف تلك اللحظة‬
‫ينظر �إىل‬‫كالما ثم ُ‬
‫كان «عمرو بن جابر» مييل على � ُأذن الرجل و ُيلقي �إليه ً‬
‫أح�سن الكالم واحتفى‬ ‫«�أ�سعد»‪ ،‬ا�ستب�ش َر وج ُه الرجل ذو الرداء الأبي�ض وتك َّلم ف� َ‬

‫ع‬
‫وفتحه ف�إذا وراءه جمع‬‫باب كبري َ‬ ‫باجلد وو َّقر االبن‪ ،‬وقام ف�أخذ الكل معه �إىل ٍ‬

‫ص‬
‫مال «عمرو» على اجلد‬ ‫من ُحدثاء ال�سن والأطفال يتذاكرونَ كت ًبا و�سطو ًرا‪َ ...‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫«موهبيل» وقال له‪:‬‬
‫ �إن ه�ؤالء �إما يتامى �أو م�ساكني‪ ..‬و�إنه ُيع ِّلمهم كل �شيء‪ ،‬الأ َدب ِ‬
‫وال�شعر‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫والف َلك واحل�ساب‪ ...‬تذ َّكر ا�سمه جيدً ا‪�« ..‬شافع بن كليب ال�صديف»‪،‬‬

‫ب‬
‫لأنك �ست�ش ُكره �إذا ب َلغ ولدك ون َبغ‪� ...‬إن ولدك هنا لن يدري عنه �أحد‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫و�سيكرب ويتع َّلم ب�أف�ضل مما ترت ِقب‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�أعجب اجلد باملكان واطم�أن‪ ،‬وملا م�ضى كل رجل �إىل حاله وتركوا «�أ�سعد»‬

‫الت‬ ‫و‬
‫أجل�سه و�سط قرنائه الأطفال‪ ،‬وظ َّل بينهم �سنني‬ ‫وحيدً ا �أخذه الراهب «�شافع» و� َ‬

‫و‬
‫خم�س؛ يقر�أ ما يقر�ؤون‪ ،‬ويح َفظ ما يحفظون‪ ...‬وك َّلما م َّرت �سن ٌة بلغ عقله من‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الفهم مبل ًغا عظي ًما‪ ،‬تع َّل َم �أن هناك ثور عظيم يع ُبده �أهل اليمن ا�سمه «املقه»‪،‬‬
‫و�أن هذا حمق و�أباطيل‪ ،‬و�أنه ال �إله �إال من �سمى نف�سه «رحمنن»‪ ،‬وكانوا ي�سمونه‬
‫«ذي �سماوي»؛ يعني الرحمن �سيد ال�سماء‪ ،‬وتع ّلم �صالة فيها ركوع و�سجود‪ ،‬ومل‬
‫يكن يقطع �أمه «فارعة»‪ ،‬ومل يكن يقطع «�إينور» �ساكنة اجلبل‪ ،‬ومل يكن «عمرو‬
‫بن جابر» يقطعه بل كان ي�أتيه كل حني فج�أة‪ ،‬ك�أمنا يظهر من الالمكان!‪ ،‬ولقد‬
‫كان «�أ�سعد» ُيحاول دائ ًما �أن ي�س�أل الراهب «�شافع» عن «�إينور» وعن زوجها‬
‫الغريب «عمرو بن جابر»‪ ،‬لكن الراهب كان ُيهله حتى يكرب‪.‬‬
‫حتى بلغ من ال�سنني ع�ش ًرا‪ ..‬حينها قال له الراهب‪:‬‬
‫أقواما يرو َننا وال نراهم‪ ،‬وي�سمعوننا وال‬ ‫ �أعلم يا «�أ�سعد» �أن هناك � ً‬
‫ن�سمعهم‪ ،‬ي�سكنون �سفوح اجلبال والوديان‪� ...‬إ�سراعهم يف الأر�ض‬
‫�أ�سرع من ملح الب�صر‪ ،‬لهم زوجات و�أبناء وقبائل‪ ،‬ال ُيخالطوننا وال‬
‫ُنخا ِلطهم‪� ...‬إال �أنهم �إذا �أرادوا منا �أم ًرا مت َّث ُلوا يف هيئة ُت�شبه هيئتنا‬
‫فرناهم و ُنحدِّ ثهم‪ ،‬ف�إذا انتهى غر�ضهم منا ذابوا يف ط َّيات الهواء ك�أن‬
‫‪24‬‬
‫مل يكونوا‪ُ ،‬ن�س ِّميهم اجلن لأنهم جنوا وخفوا عن �أب�صارنا‪ ،‬و�إن منهم‬
‫م�شيت فيه على‬
‫�صاحلني ومنهم �شياطني يكرهونك ويكرهون اليوم الذي َ‬
‫هذه الأر�ض!‬
‫اتَّ�سعت عيون «�أ�سعد» وجعل يل َمح يف ذاكرته مالمح مما ر�آه عند «�إينور»‬
‫وزوجها‪ ...‬وا�ستغرقته خواطره حتى انت َبه �إىل كيان يجل�س بجانبه!‪ ،‬فنظر‬
‫ن�سدل وعيناه‬‫و�شعره املُ ِ‬
‫مبالمه الو�سي َمة َ‬‫ِ‬ ‫�إليه ف�إذا هو «عمرو بن جابر»!‪،‬‬

‫ع‬
‫ال�صريحتان‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫انتف�ض «�أ�سعد» من مكانه ك�أن عق َر ًبا ل�س َعته ثم �أهد�أ نف�سه واطم�أن ملا ر�أى‬ ‫َ‬
‫ب�س َم َة «عمرو» التي مل يكن يراها كث ًريا‪ ...‬قال «�أ�سعد»‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أنت �شيطان؟‬ ‫ هل � َ‬

‫ب‬
‫�ضح َكت عني «عمرو» وقال له‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ش‬
‫أنت �شيطان؟‬ ‫ وهل � َ‬

‫ر‬
‫بغ�ضب طفويل‪:‬‬‫ٍ‬ ‫قال «�أ�سعد»‬

‫الت‬ ‫و‬ ‫ �أنا َ‬

‫و‬
‫ب�شر‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قال له «عمرو»‪:‬‬
‫أ�صحبت ولدً ا �سي ًئا ُمتمردًا قلنا َ‬
‫عليك �شيطان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أنت �إذا �‬
‫ � َ‬
‫قال «�أ�سعد»‪:‬‬
‫ ولكنك تـ ‪...‬‬
‫قال له «عمرو»‪:‬‬
‫ ال�شيطان �ص َفة لكل ُمتم ِّرد‪ ،‬ونحن مثلكم‪ ،‬منا ال�صاحلون ِومنا ال�شياطني‪.‬‬
‫قال «�أ�سعد»‪:‬‬
‫ وملاذا ت�سكنون اجلبال وال�صحراوات؟‬
‫قال له «عمرو» ُمبت�س ًما‪:‬‬
‫ لأنكم تزعجوننا‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫بدا على «�أ�سعد» �أنه ال يف َهم جيدً ا!‪ ،‬فف َّكر «عمرو» ثم قال له‪:‬‬
‫مكان لتنام‬
‫وافر�شها يف ٍ‬ ‫لك اذهب ِ‬ ‫ �إذا �أعطيتُك هذه احل�صرية الآن وقلت َ‬
‫لتفر�شها و�سط املوا�شي َ‬
‫والقطط؟‬ ‫�ستذهب ِ‬‫فيه ويكون لك م�سك ًنا‪ ...‬هل َ‬
‫قال له «�أ�سعد»‪:‬‬
‫أفر�شها فيه بعيدً ا عن الإزعاج‪ ،‬و�سـ‪...‬‬ ‫ ال‪� ..‬س� ِأجد مكا ًنا ُم ً‬
‫ريحا � ِ‬

‫ع‬
‫�سكت «�أ�س َعد» ُبره ًة ثم فهم ما ُيريد �أن يقوله «عمرو»‪ ،‬ثم قال بغ�ضب‪:‬‬

‫ص‬
‫َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ �إذن هل �أنتُم تعتربوننا مثل املوا�شي والقطط؟‬
‫�ضحك «عمرو بن جابر» وقام «�أ�سعد» ُيحاول مناك�شته والتعلُّق به والرك�ض‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫خل َفه‪ ،‬ولعب «عمرو» معه حتى خرجا �إىل خارج الدير وهما يت�ضاحكان‪ ...‬ثم‬
‫الحظ «عمرو» �شي ًئا ف�أو َقف «�أ�سعد» َ‬

‫ب‬
‫بحزم!‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫كان من بعيد ي�أتي �آتيان وحولهما جم َهرة من النا�س؛ �أحدهما �شاب طويل‬

‫ش‬
‫�أ�س َمر اللون �أ�سود ال�شعر‪ ،‬ينزل �شعره �أمام كتفيه يف َ�ضفريتني كبريتني‪ ،‬له‬

‫و‬ ‫ر‬
‫رجل عجوز �صحيح البدن يرتدي ثيا ًبا ُمتهدِّ لة و�شيء يف‬ ‫مالمح ال متزح‪ ،‬والآخر ُ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�سميه النا�س «ذو‬‫مريحا‪ ،‬كان الأ�سمر الطويل �شا ًبا من الأعيان ُي ِّ‬ ‫هيئته ال يبدو ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫نوا�س» ب�سبب ال�ضفريتني‪ ،‬والعجوز الذي ُيرافقه �أينما ذهب هو ال�ساحر «هريا»‪،‬‬
‫وكل من وراءهما من النا�س من ُمريديهما يطلبون بر َكتهما‪ ...‬الحظ «�أ�سعد»‬
‫تالم َذته ُيعاينون ال�ضجة‪.‬‬‫خروج الراهب «�شافع» وبع�ض ِ‬
‫�أم�سك «عمرو بن جابر» يد «�أ�سعد» م�سك ًة حازم ًة وقال‪:‬‬
‫ الآن هذا هو ال�شيطان!‬
‫الت�صق بعمرو بن جابر لي�ست�ش ِعر‬ ‫متاما‪� ،‬إال �أنه َ‬ ‫جتف «�أ�سعد» ومل يف َهم ً‬ ‫ار َ‬
‫ق�سطا من الأمان‪ ،‬اقرتب ال�شاب الأ�سمر «ذو نوا�س» وال�ساحر «هريا»‬ ‫يف قوته ً‬
‫من الدير‪ ،‬وكادا مي�ضيان يف طريقهما �إال �أن ال�ساحر تو َّقف فج�أ ًة ونظر �إىل‬
‫«عمرو بن جابر» نظر ًة مل يفهم �سببها �أحد من الواقفني!‪ ،‬مل يكن «عمرو» ُ‬
‫ينظر‬
‫أي�ضا مل يفهمها �أحد من‬ ‫ينظر فوق ر�أ�س ال�ساحر بنظر ٍة � ً‬ ‫�إىل ال�ساحر‪ ،‬بل كان ُ‬
‫ينظر �إىل رفيقه ال�ساحر‪:‬‬ ‫الواقفني‪ ،‬قال الأ�سمر «ذو نوا�س» وهو ُ‬
‫ هل ُي�ضايقك هذا الأ�ش َقر ف�أ�س ِّودَنَّ له خلقته هذه؟‬
‫‪26‬‬
‫ينظر �إىل ما فوق ال�ساحر «هريا»؛ فهناك‪،‬‬ ‫عال �آخر ُ‬ ‫كان «عمرو» وك�أنه يف َ‬
‫وفوق كتف ال�ساحر بقليل كان ي ِقف �شيطان!‬
‫تنزل من فوق ر�أ�سه �إىل قدميه‪ ،‬وال يكاد‬ ‫�شيطان يط ُفو يف عباء ٍة �سوداء ِ‬
‫أب�شع وجه على الأر�ض ُخ ِلق‪ ،‬كان «عمرو»‬ ‫يظ َهر منه �إال وجهه!‪ ،‬ولقد بدا وك�أنه � َ‬
‫ُيتم ِتم بكالم مل ي�س َمعه �سوى «�أ�سعد» الذي �سمعه وهو يقول‪:‬‬

‫ع‬
‫ يا �إلهي‪ ..‬هذا «�إزب»‪.‬‬

‫ص‬
‫هم الأ�سمر ذو ال�ضفائر بالهجوم على «عمرو بن جابر»!‪ ،‬وتق َّدم ما�ش ًيا �إليه‬ ‫َّ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫موجهة له‪ ،‬بل‬ ‫َ‬
‫بالفعل‪ ،‬لكن كل َمة من ال�ساحر �أوقفته!‪ ،‬مل تكن كلمة ال�ساحر َّ‬
‫وجهة للراهب «�شافع»‪ ...‬قال له‪:‬‬ ‫كانت ُم َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ديرك هذا وفقرك؟ �أمل ي�أ ِتك ربك «رحمنن» ببع�ض املال طوال‬ ‫أالزلت يف َ‬
‫ � َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫عاما؟ �إين ال �أراك �إال تزداد فق ًرا و�شحو ًبا‪.‬‬
‫ع�شرين ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب�صوت قوي‪:‬‬


‫ٍ‬ ‫قال الراهب «�شافع»‬

‫ر‬
‫ت�سجد �إال‬
‫ ل�ستُ �صاغ ًرا من �أعطاين املال �سجدتُ له‪ ..‬هذه اجلب َهة ال ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫مثلك من جيوب املغ َّفلني الذين‬ ‫للذي خل َقها‪ ،‬تركنا املال ليجبيه خبيثٌ َ‬

‫و‬
‫من حوله‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�سرى بني اجلمع �إنذا ٌر بالعراك!‪� ،‬إال �أن �إ�شار ًة من ال�ساحر �أوق َفتهم‪ ،‬وبدون‬
‫كلمة �أخرى نظر ال�ساحر «هريا» مط َّوال �إىل «عمرو بن جابر»‪ ،‬ثم حت َّرك ُمغاد ًرا‬
‫والتفت ال�شيطانُ ذو العباءة‬‫َ‬ ‫املكان وتبعه الأ�سمر ال�شاب ك�أنهما الظل و�صاحبه‪..‬‬
‫ينظر �إىل «عمرو بن جابر» �أي�ضا‪ ،‬ثم ك َّونت �أ�سنانه ما‬ ‫ال�سوداء من فوق ال�ساحر ُ‬
‫بدا �أنه ابت�سامة‪ ،‬لكنها كانت ابت�سامة �شديدة الدمامة‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫كان ذو نوا�س و�ساحره «هريا» ميتلكان قلوب كثري من النا�س خو ًفا وط ًمعا‪،‬‬
‫ظل مي�شيان يف ذلك الطريق حتى �أتَت عليهما خيل بفر�سانها‪ ،‬وتو َّق َفت‬ ‫ولقد ّ‬
‫عندهما‪ ..‬قال لهما �أح ُد الفر�سان من فوق خيله‪:‬‬
‫فو�صفك بجدائلك هذه ال‬ ‫َ‬ ‫أنت‬
‫ �أنت «يو�سف ذو نوا�س»؟ نعم يبدو �أنه � َ‬
‫ر�سل من عند امللك «كرب �إيل وتار»‪� ،‬إنه ُيريدك يف‬‫ُيخطئك‪ ،‬جئنا لك ً‬
‫ق�صره‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫وتفلتَت بع�ض ال�ضحكات من باقي الفر�سان مل يتم َّكنوا من كتمانها‪ ،‬نظر‬
‫اكرتاث ثم َّول وج َهه َّ‬
‫وهم ب�إكمال امل�شي �إال �أن �صوت �إخراج‬ ‫ٍ‬ ‫«ذو نوا�س» لهم بال‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ال�سيوف من �أغمادها �أوقفه قليل‪ ،‬عندها مال عليه ال�ساحر «هريا» و�أ�س َّر �إليه‬
‫بكلمات مل َعت لها عني «ذو نوا�س»‪ ،‬ملعتا ملع ًة َبدت ُميف ًة لبع�ض الفر�سان‪ ،‬ثم‬ ‫ٍ‬
‫نظ َر �إليهم وقال مبا�شرة‪:‬‬
‫ � َإذن هيا بنا �إليه‪.‬‬

‫ع‬
‫ق�صر تتم َّدد اجلنان من حوله‪ ..‬كان ين َعم «كرب �إيل وتر» ُمب ٍلك عظيم‪،‬‬ ‫ويف ٍ‬

‫ري‬‫ص‬
‫َ‬
‫وكان وقت الليل قد دخل و�أ�ضيئت امل�شاعل يف جنبات الق�صر و�أ�ضاءت النجوم‬

‫ال‬
‫ال�سماء‪ ...‬ودخل «ذو نوا�س» و�سط كل هذا واحلرا�س ينظرون �إليه نظر ًة فيها‬
‫ال�سخرية ال�شيء الكثري‪ ،‬وبع�ضهم عمل بيده خف َية �ساخ ًرا �شكل اجلدائل‬ ‫من ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ً‬
‫الطويلة‪ ،‬ف�ضحك �أ�صحابة �ضحكة مكتُومة‪ ،‬ثم �أدخلوه �إىل غرفة كبرية فيها‬

‫ب‬
‫والتحف ما فيها‪ ،‬وفيها حر�س واقفون ك�أنهم الأوتاد ووجوههم �إىل‬ ‫من الزينة َ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ً‬
‫احلائط يف م�شهد �أخذ ب�صر «ذو نوا�س» قليل وهو الذي ال يكرتث ب�شيءٍ عادة!‪،‬‬

‫ش‬
‫تك�شف �أطرافه‪ ،‬وقال يف لهج ٍة غري‬ ‫ثم دخل عليه «كرب �إيل وتر» يف ح َّلة حمراء ِ‬

‫ر‬
‫ُمريحة‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫أنت اليوم �ضيف امل ِلك يا «ذو نوا�س»‪� ،‬ضيف م ِلك �س َب�أ‪ ،‬و�إنني قد �سمعتُ‬ ‫ � َ‬

‫و‬
‫و�شهرتك‪ ...‬فاليوم هو يومك‪.‬‬ ‫عنك وعن و�سامتك ُ‬ ‫َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫كان «كرب �إيل وتر» بعد �أن �أ�سقط «ملكيكرب» من فوق اجلبل و�أر�سل‬
‫املر�أتني لقتل الطفل «�أ�سعد» بد�أ يتخذ طريق ًة خ�سي�سة يف �إق�صاء �شباب عائلة‬
‫«ملكيكرب» من احتمال القفز على احلكم؛ طريقة هي � َأخ�س ما و�ص َلت �إليه‬
‫يوما‪ ،‬كان ي�ستدعي �أبناء العائلة حتى �أ�صحاب‬ ‫ُم ّيلة ملك ح َكم هذه الأر�ض ً‬
‫القرابة البعيدة‪ ،‬ويفعل بهم الفاح�شة!‪ ،‬في�شاع بني النا�س �أن هذا ال�شاب من‬
‫مو�سوما بها بقية حياته‪ ،‬فال يجعله النا�س م ِل ًكا‬
‫ً‬ ‫العائلة مفعول فيه كذا‪ ،‬في�صري‬
‫يوما �أبدً ا!‪ ..‬قال له «ذو نوا�س»‪:‬‬ ‫عليهم ً‬
‫أكرهك و�أكره‬‫أي�ضا �أنني � َ‬
‫ �إذن فقد �أخربوك عني كل �شيء‪� ،‬أفلم ُيخربوك � ً‬
‫ا�سمك �إذا ُذ ِكر �أمامي‪.‬‬
‫احلر�س الواقفني �سيو َفهم ن�صف �إخراج وهم ال‬ ‫ُ‬ ‫ويف حلظ ٍة واحدة �أخ َرج‬
‫زالت وجوههم �إىل احلائط!‪ ،‬نظر لهم «ذو نوا�س» ثم قال بلهجة َمن َ‬
‫خ�ضع‪:‬‬
‫ يبدو �أنك �ستجربين �أن �أفعل ما تريد �أيها امللك‪� ،‬أين ميكنني �أن �أخ َلع‬
‫حذائي؟‬
‫‪28‬‬
‫�أ�شا َر له «كرب �إيل وتر» �أن يخلعه يف �أي مكان‪ ،‬وانحنى «ذو نوا�س» ليخ َلع‬
‫احلذاء‪ ،‬ف�أخ َرج من حتت حذائيه خنجرين ما�ضيني كان يخفيهما‪ ،‬ثم ا�ستدار‬
‫ؤو�سهم بحركة‬ ‫وانق�ض كعا�صفة فاج َعة على كل الذين يولونه ظهورهم فقطع ر� َ‬ ‫َّ‬
‫ح�سنها �سوى فار�س �شديد املهارة‪ ،‬ثم ا�ستدار �إىل ذو الرداء الأحمر فوثب‬ ‫لي�س ُي ِ‬
‫عليه يقطعه حتى اختلطت دما�ؤه بردائه الأحمر ثم ح َّز ر� َأ�سه حزًّا ك�أنه بعري‪.‬‬
‫وكان «كرب �إيل وتر» �إذا انتهى من فع َلته ال�سيئة يف �أي �شاب يظهر ر�أ�سه من‬

‫ع‬
‫�شباك الغرفة وهو ي�ضع م�سوا ًكا يف فمه!‪ ،‬فيفهم احلر�س ملا يرون ر�أ�س «كرب‬

‫ري‬‫ص‬
‫�إيل وتر» �أنه قد فر َغ مما كان يفعل‪ ،‬يف تلك اللحظة كان احلر�س ينظرون �إىل‬

‫ال‬
‫�شباك الغرفة كل حني حتى ظهرت لهم ر�أ�س «كرب �إيل وتر» ويف فمه م�سواك‪،‬‬
‫ينظر‬‫خارجا ومل ُ‬‫فت�ضاحكوا بينهم‪ ،‬ثم نزَ ل «ذو نوا�س» من الق�صر‪ ،‬وحت َّرك ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫حتى �إليهم!‪ ،‬قالوا له وهم يتغامزون‪:‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ ما فعل بك امل ِلك؟‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ابت�سم ابت�سام ًة وقال دون �أن ُ‬


‫ينظر �إليهم‪:‬‬ ‫َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ ا�س�ألوا الر�أ�س‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫بع�ض ونظروا �إىل ر�أ�س ذو نوا�س‬ ‫بع�ضهم �إىل ٍ‬ ‫ثم م�ضى يف طريقه‪ ..‬ونظر ُ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فدخل �إىل الق�صر‪.‬‬ ‫الظاهرة من ال�شباك‪ ،‬ثم �أ�صا َبت �أحدهم بع�ض الري َبة َ‬
‫بكلمات غري مفهومة حتى‬ ‫ٍ‬ ‫كان «ذو نوا�س» مي�شي وهو ُيعدِّ ل هندامه و ُيتم ِتم‬
‫توقفت خطواته �أمام �صيحة احلر�س من ورائه‪� ..‬أيها ال�شاب‪ ...‬قب�ض «ذو‬
‫نوا�س» يده على خناجره‪ ،‬لكن احلر�س كان لهم حديث �آخر!‪ ..‬قالوا له �أن لي�س‬
‫ج�سور مثلك‪ ،‬رجل من‬ ‫من رجل يجدر �أن يكون م ِل ًكا مكان ذلك اخلبيث �إال رجل ُ‬
‫القذر بفواح�شه‪.‬‬ ‫بني «ملكيكرب»‪ ،‬فلقد �أت َعبنا ذلك ِ‬
‫و�شهدت �سب�أ بزوغ ملك جديد عليها؛ ملك تناقل �سريته القا�صي والداين‪،‬‬
‫«ذو نوا�س»‪ ،‬ذو الغديرتني‪ ،‬كان �أول �شيء فعله «ذو نوا�س» ملا دخل �إىل الق�صر‬
‫ي�سري مما كان يخبئ ل�صفحة الزمان‪� ،‬أم َر ب�أولئك احلر�س الذين‬ ‫هو �شيء ِ‬
‫ون�ص ُبوه مل ًكا‪ ،‬فلما �أتَوه ومث ُلوا �أمامه قت َلهم كلهم!‪ ،‬لأنهم هز�ؤُوا به ذات‬ ‫تبعوه َّ‬
‫يوم؛ هز�ؤوا بامل ِلك‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪29‬‬
‫وح َكم «ذو نوا�س» الي َمن‪ ..‬وحت َّو َلت حم َّبة النا�س له واجتماعهم حو َله طم ًعا‬
‫خوف �شديد منه‪ ،‬فهو امللك الوحيد الذي ُيرافقه �ساحر‪،‬‬ ‫يف حتقيق رغباتهم �إىل ٍ‬
‫و َمنت كلماتٌ يف البيوت �أن «ذو نوا�س» يرا ُكم وي�سمع ُكم بتوابعه و�شياطينه!‪« ،‬ذو‬
‫نوا�س» يعرف كل �شيء ويرى كل �شيء‪ ...‬ومنت الإ�شاعات التي ُيخرجها النا�س‬
‫ويقدر على‬ ‫�صيه بع�ضهم �إلها يع َلم كل �شيء‪ِ ،‬‬ ‫عنه وعن ِ�سحره و ُقدرته حتى َّ‬
‫كل �شيء‪ ...‬وطغى «ذو نوا�س» ف�صار يفعل �أمو ًرا مل ي ُكن يفعلها امللوك قب َله‪،‬‬

‫ع‬
‫وا�ضحا �أنه يحقر جميع الأديان!‪ ،‬ويكفي �أن تقول �أمامه �أن دينك كذا �أو‬ ‫ً‬ ‫و�أ�صبح‬

‫ص‬
‫كذا فرمبا ينزلك �إىل �أ�سافل الأر�ض!‪ ،‬ومل يكن هذا غريب ورفيقه هو ال�ساحر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ال�سحر �إال حتقري من �ش�أن الأديان‪ ،‬وتعظيم من �ش�أن ال�شيطان‪...‬‬ ‫«هريا»‪ ،‬ولي�س ِ‬
‫أمره ح َمالت تهجم على كنائ�س الن�صارى فتهدمها عن بك َرة‬ ‫فكانت تخ ُرج ب� ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أبيها‪ ،‬خم�س �سنوات م َّرت من حكم «ذو نوا�س»‪ ،‬ومل يكن �أحد يج ُر�ؤ على ُم َّرد‬

‫ب‬
‫الوقوف �ض ّده‪ ،‬حتى �أتى ذلك اليوم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫�شع َر ال�ساحر «هريا» بد ُنو � َأجله‪ ..‬فقال‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ال�سحر مني فتم ِلك البالد من بعدي �سنني طوال‪.‬‬ ‫ يا «ذو نوا�س» تع َّلم ِ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ولقد كان ال�ساحر «هريا» ُيراوده بذلك حتى قبل �أن ي�صري «ذو نوا�س» م ِل ًكا‪،‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫وما‪ ،‬ما كان ير�ضى �أن يكون تاب ًعا لأحد‪ِ ،‬ج ًنا كان‬ ‫لكن «ذو نوا�س» كان ير ُف�ض َد ً‬

‫يع‬
‫خادما‪� ،‬أما هو فال ُير�ضيه �إال �أن‬‫ال�سحر �إال �أن تكون لل�شيطان ً‬ ‫ن�سا‪ ...‬ولي�س ِ‬ ‫�أم ِ�إ ً‬
‫يخدم �أحدً ا وال ي�سرت�ضي �أحدً ا‪ ،‬بل الكل يخدمه‬ ‫يكون الأعلى‪ ،‬ال ِآمر الناهي‪ ،‬ال ِ‬
‫رجل‬ ‫وي�سرت�ضيه‪ ،‬فلما م َّل ال�ساحر من �إقناعه �أ�شار عليه �أن يختار من �شعبه ً‬
‫رجل ال�سح َر‬ ‫ال�سحر‪ ،‬فر َف�ض «ذو نوا�س»‪ ،‬ف�إنه لو تع َّلم ُ‬
‫ي�أتي �إليه كل يوم يتع َّلم منه ِ‬
‫يوما �آخر ب ُقوة ذلك ال�سحر‪ ،‬ف�أ�شار عليه ال�ساحر �أن‬ ‫يوما �سينق ِلب على احلكم ً‬ ‫ً‬
‫عقل �أ َملعي‪ ،‬يتع َّلم ال�سحر و�أ�صوله ويكون‬‫غالما �صغ ًريا‪ ،‬يكون ذا ٍ‬ ‫يختار �ص ِب ًّيا ً‬
‫ُم�ض َغة يف �أ�سنان امل ِلك ُيك ِّيفه كيف ي�شاء‪ ...‬فوافقَ «ذو نوا�س»‪.‬‬
‫واختار فتى من �أق�صى املدينة ُيقال له «عا�صف»‪ ،‬مل ي ُكن ذا �ش�أن كبري‬
‫لكنه كان ذو ِفطنة ال �شك فيها‪ ،‬وا�شتهر يف املدينة �أمر «عا�صف» الذي �سيتع َّلم‬
‫ال�سحر من �ساحر امللك‪ ،‬و�صار الكل يهابه بعد �أن مل ي ُكن ذا بال‪ ،‬مي�شي يف‬
‫فيتهام�س النا�س واقفني بعيدً ا عنه‪ ،‬ولو كنت ذا عني ترى اجلن لوجدتَ‬ ‫َ‬ ‫املدينة‬
‫تغي حاله و�صار تلميذ‬ ‫«عا�صف» ما�ش ًيا يف ذلك اليوم وقد زارته خيالء بعد �أن َّ‬
‫‪30‬‬
‫امللك‪ ،‬و ُيح ِّلق وراءه يف الهواء «عمرو بن جابر» بهيئته اجلنية التي مل ت ُكن تخت ِلف‬
‫عن هيئته ال َب�شر ّية ال�شقراء التي يتم َّثل بها عادة‪.‬‬
‫وتابعه «عمرو بن جابر» ِخفي ًة حتى دخل على ال�ساحر يف ق�صر امللك‪،‬‬
‫ب�صوت عال‪ ...‬وبد�أ الغالم يق َر�أ‬ ‫ٍ‬ ‫ف�أمره ال�ساحر �أن يفتح كتا ًبا ويقر�أ ما فيه‬
‫وق�شعرير ٌة ظه َرت يف �صوته الفتي!‪ ،‬لكنه مل يف َهم ماذا كان يقر�أ‪ ،‬ف�إنه و�إن كان‬
‫يتعث الل�سان عن‬ ‫مكتو ًبا بحروف �آرامية يعرفها لكنها منطو َق ًة ب ُلغة �أخرى‪ ،‬لغة َّ‬

‫ع‬
‫كيان �آخر من وراءه!‪،‬‬ ‫ينظر ثم �شع َر بح�ضور ٍ‬ ‫�إجادتها‪ ،‬كان «عمرو بن جابر» ُ‬

‫ري‬‫ص‬
‫فالتفت فر�آه‪ ...‬كان ذلك ال�شيطان نف�سه الذي ر�آه �ساب ًقا حائ ًما فوق ال�ساحر‪،‬‬ ‫َ‬

‫ال‬
‫بنف�س خل َقته الب�ش َعة‪ ،‬وطاقة روح َّية عال َية تنبعث منه ال يعرف تقديرها �إال‬
‫فانق�ض على ال�شيطان‪.‬‬‫َّ‬ ‫اجلن‪ ،‬لكن «عمرو بن جابر» مل ي ُكن �صبو ًرا‪،‬‬
‫ينظر‬ ‫ثبت و�صار ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الغالم ك�أن ع�ص ًفا يجري يف الأجواء‪ ،‬لكن ف�ؤاده َ‬ ‫ُ‬ ‫�شع َر‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ينظر �إىل ما حوله يف‬ ‫�إىل ال�ساحر كل حني‪ ،‬وهنا قلق‪ ،‬فقد بدا ال�ساحر الواثق ُ‬

‫ن‬
‫ا�ستغراب نظر َة الذي ي�ش ُعر‬

‫ش‬
‫بخطب وال يراه‪ ...‬ف�صرخ ال�ساح ُر يف الغالم �أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ر‬
‫ً‬
‫ين�صرف‪ ،‬فقام الغالم فان�ص َرف‪ ،‬ومل ي َر ال�ساحر �شيئا مما دار هنالك‪ ،‬ف�إن‬ ‫ِ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫غطاء قد ُخ ِلق على عني الإن�سان فال يرى �أبدً ا ِج ًّنا وال �شيطا ًنا‪� ...‬سواء كان هذا‬

‫و‬
‫خارجا ِوذهنه ُيف ِّكر يف �أمور تفوقه‪،‬‬ ‫�ساحر‪ ،‬م�شى الغالم ً‬ ‫الإن�سان �ساح ًرا �أو غري ِ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫مل يكن ب�إمكان �أحد �أن يتخ َّيل الذي دار حينها‪ ،‬لكن ما دار مل ي ُكن �شي ًئا �سا ًّرا‪،‬‬
‫فهناك‪ ،‬وعلى ُبعد �أمتار من �سور الق�صر‪ ،‬كان ير ُقد «عمرو بن جابر» م�ضرج يف‬
‫حدث معه لي�س‬ ‫دمائه‪ ،‬ي ِئن ويدمى وهو جني‪ ،‬كان ُيكا ِفح فقط لين َه�ض‪ ،‬و�إن ما َ‬
‫مما حكاه‪ ،‬ومل يعرفه �أحد �أبدً ا‪.‬‬
‫ �أين تفلت خمك يا «عمرو»!‪� ،‬أتن َق�ض على مارِد يف َ‬
‫�صومعته؟‬
‫وحرق يف الفم والذقن‪.‬‬ ‫ لي�س بي َب�أ�س يا «�إينور»‪� ،‬إمنا هو �شق َ‬
‫غطت ف َمه بلثامة‪ ،‬وابت�س َمت‬ ‫نظ َرت «�إينور» �إىل وجهه الو�سيم يف ُحزن‪ ،‬ثم َّ‬
‫وقالت له‪:‬‬
‫ ال ت� َأ�س على هذا‪� ،‬ست َرب�أ بعد حني‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ذهب فيه «عمرو‬
‫وم َّرت �أيا ٌم وتنا�سى «عمرو بن جابر» الأمر‪ ..‬وجاء يو ٌم َ‬
‫الكاهن «�شافع» لالطمئنان على حال «�أ�سعد»‪ ...‬دخل «عمرو بن‬
‫بن جابر» �إىل ِ‬
‫‪31‬‬
‫جابر» ُمتم ِّثال يف هيئته الب�شر َّية‪ ،‬فت�س َّم َرت قدماه فج�أ ًة على الأر�ض‪ ،‬فقد وجد‬
‫اخلام�سة ع�شر من ُعمره الآن ي ِقف بجوار الغالم «عا�صف»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫«�أ�سعد» الذي �صار يف‬
‫ويقف �أمامهما الكاهن «�شافع» ُيع ِّلمهما �أم ًرا ما‪ ،‬ات�س َعت عينا «عمرو»!‪� ،‬ألي�س‬
‫يذهب يوم ًيا لتعلُّم ال�سحر عند ال�ساحر«هريا»؟ ما الذي �أتى‬ ‫هذا الغالم الذي َ‬
‫به �إىل هنا عند الراهب!‪ ..‬اقرتب «عمرو بن جابر» منهما‪ ،‬وكان الكاهن «�شافع»‬
‫يقول لهما يف قوة‪:‬‬

‫ع‬
‫ واع َلم �أن ال�سحر يا «عا�صف» هو �أن ُي�س ِّلط ال�ساحر �شيطا ًنا على واحد‬

‫ري‬‫ص‬
‫من الإن�س‪ ،‬في�أتي ال�شيطان �إىل ذلك الإن�سي فال يقدر منه على �شيء‬

‫ال‬
‫�أبدً ا �إال �أن ُيو�س ِو�س له ب�أن يفعل �أم ًرا �سي ًئا ُيريده ال�ساحر‪ ،‬وال يقدر‬
‫إن�سي �إما َ‬
‫ير�ضخ �إىل و�س َو�سة هذا‬ ‫ال�شيطان على �أكرث من هذا!‪ ..‬وال ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ال�شيطان �أو ير ُف�ضها‪ ،‬فال ُقد َرة لل�شياطني �أن ترغم �أحدً ا على �شيء‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�إمنا هم ُيو�س ِو ُ�سون‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وفور �أن ر�أى «�أ�سعد» «عمرو بن جابر» �إذ َه َّب عليه يحت�ضنه ويقول للغالم‬

‫ر‬
‫«عا�صف»‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫انظر يا «عا�صف»‪ ..‬هذا ِجني‪.‬‬ ‫  ُ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫�ش َّد «عمرو بن جابر» على َيد «�أ�سعد» لي�س ُكت‪ ،‬ونظ َر �إىل «عا�صف» وقال‬

‫يع‬
‫ُمتجاوزا الأمر‪:‬‬
‫�صومعته كل يوم يا «عا�صف» له �شيطان مارِد‬ ‫تذهب �إىل َ‬ ‫ ال�ساحر الذي َ‬
‫ا�سمه «�إزب بن �أزيب»‪ ..‬وهو من عتاة اجلن‪ ،‬لكن حتى عتاة اجلن ه�ؤالء ال‬
‫يقدرون من النا�س �إال على الو�س َو�سة‪ ،‬لكن هناك �شيئا �أهم من الو�سو�سة‬
‫يفعله ال�شيطان لل�ساحر!‪� ،‬شيء ميت ِلك به ال�ساحر عقول النا�س وقلوبهم‪.‬‬
‫قال «عا�صف»‪:‬‬
‫ وما ذاك؟‬
‫قال «عمرو»‪:‬‬
‫التج�س�س‪ ..‬خفاء اجلن عن عيون الإن�س يجعلهم ي�ضربون �أنظارهم‬ ‫  ُّ‬
‫و�أ�سماعهم يف �ش�ؤون الإن�س كما ي�شا�ؤون!‪ ،‬فتجد ال�ساحر يعرف عن‬
‫يظن الرجل �أنه �أجاد �إخفاءها‪.‬‬ ‫الرجل �أمو ًرا كان ُ‬
‫‪32‬‬
‫�صوت �صادق‪:‬‬
‫ثم قال له «عمرو» يف ٍ‬
‫ واع َلم �إن لهذا الكون خا ِل ًقا‪ ،‬و�أن ا�سمه «رحمنن»‪ ،‬و�أنه خلق الإن�س وخلق‬
‫ب�شر �إال فاز‪،‬‬ ‫وي�سجد له الإن�س واجلن‪ ،‬و�أنه ما جل�أ �إىل الرحمن َ‬ ‫اجلن‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫وما جل�أ �إىل ال�شيطان َ‬
‫ب�شر �إال خ�سر‪.‬‬
‫تجا‪:‬‬‫قال «عا�صف» ُم ًّ‬

‫ع‬
‫ لكنهم يف الق�صر والعز و�أنتم هنا يف دير ُمنهكون‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫با َد َره «�أ�سعد» وقال له بطريق ٍة فيها �شيء من احل َّدة‪:‬‬

‫ال‬
‫التج�س�س!‪� ،‬إن كان فيهم عزة ما احتاجوا‬ ‫ُّ‬ ‫ �أي ِعز؟ �إنهم ال يقدرون �إال على‬

‫ك‬
‫�أن يتج�س�سوا على النا�س‪� ،‬إن كان فيهم ِعزَّة ما عملوا من وراء ال�ستار‬

‫ت‬
‫كاجلبناء وا�ستخ ُّفوا عقول الب�شر‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫بعيون قد �أبه َرتها كلماته‪ ..‬ودارت يف‬
‫ب‬
‫نظ َر «عمرو بن جابر» �إىل «�أ�سعد» ٍ‬

‫ش‬
‫خياالته كثري من الأمنيات لأ�س َعد �سليل امللوك‪� ،‬أما «عا�صف» ف�سمع نف�س‬

‫ر‬
‫الكلمات من «�أ�سعد» الذي كان ُيقاربه يف ال�سن‪ ،‬و�أ َّث َرت فيه ال�شيء القليل‪ ،‬لكن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫يع�صف بنف�سه ويراوده كل حني‪.‬‬ ‫�شك كان ِ‬ ‫ال�شك كان �أقوى من كل �شيء‪ٌّ ،‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫و�ساحر‬
‫ان�صرف عنهم «عا�صف» وم�ضى مي�شي يف طريقه ناح َية بيته‪ ،‬م ِلك ِ‬
‫و�شيطان ميلكون ال�شعب وال يجر�ؤ �أحد �أن ي ِقف �أمامهم‪ ،‬وراهب فقري يدعو ربه‬
‫رحمنن‪� ،‬ض َّيقَ «عا�صف» عينه يف تفكري‪ ،‬طوال حياته مل يع ِرتف ب�إله قومه‪ ،‬هذا‬
‫الذي ُيق ِّربون له القرابني‪ ،‬ذلك الثور الذي ُي�س ُّمونه «املقه»‪ ،‬ثم يف الأيام الأخرية‬
‫خبه‬ ‫عرف �أن هناك ُقوى �أخرى!‪ ،‬قوى خف َّية حقيقية‪ ،‬هي عند ال�ساحر «هريا» ُت ِ‬
‫كث ًريا من الأمور‪ ،‬قوى �شيطانية يتق َّرب لها بطقو�س البد �أن يحت ِقر فيها كت ًبا‬
‫تب هذا؟ �أن يحت ِقر‬ ‫ومق َّد�سات �إبراهيمية م�سيحية �أو يهودية!‪ ،‬هل هذه القوى ُ ِ‬
‫ال�ساحر املقد�سات الإبراهيمية فرت�ضى عنه ال�شياطني وتخدمه!‪ ..‬وماذا عن‬
‫رحمنن؟ يقول الراهب «�شافع» �أن رحمنن خ َلق كل �شيء‪ ،‬خ َلق ال�ساحر وخلق‬
‫توجه عقله �إىل‬ ‫يخدم َ‬
‫الب�شر � ً‬
‫أي�ضا؟ َّ‬ ‫ال ُقوى التي ت�ساعده‪ ...‬لكن هل رحمنن ِ‬
‫ناحية واحدة فقط‪� ،‬إن كانت القوى ال�شيطانية هذه هي الآلهة احلقيقية‪ ،‬ملاذا‬
‫ُتب احتقار املقد�سات؟ �أن حتت ِقر �شي ًئا بهذه الطريقة ال يعني �أنك �إله‪� ،‬ألي�س‬
‫أ�صل لت�ؤ ِّثر‬
‫املفرت�ض عن الإله �أنه غني عن �أن يحتقر الأ�شياء‪ ،‬ما هي الأ�شياء � ً‬
‫يف عظ َمته فيحتقرها‪� ،‬إن رحمنن هو الأقرب �أن يكون الإله العظيم‪ ،‬الغني عن‬
‫‪33‬‬
‫كل �شيء‪ ...‬لكن هل ُي�ساعد رحمنن خل َقه �إذا طلبوا منه كما ي�ساعد ال�شياطني‬
‫�أولياءهم؟ كان «عا�صف» �شديد الذكاء‪ ،‬وكان �إذا ف َّكر يف � ٍ‬
‫أمر ي�سرح ومي�شي بال‬
‫هدى‪ ،‬لكن �شي ًئا ما �أخرجه فج�أ ًة مما كان فيه‪� ،‬صوت خ َلع ف�ؤا َده‪� ،‬صوت كان‬
‫الب�شع!‬
‫الزجمرة والعواء وال�ضحك ِ‬
‫َ‬ ‫مزيجا من‬
‫ً‬
‫‪z‬‬
‫ع‬
‫ج�سد رمادي كبري فيه خطوط �سوداء‪�َ ،‬شعر انت َف�ش على كامل الظهر‪ ،‬عيون‬ ‫َ‬

‫ص‬
‫ت�ضيء يف وجهه ال�ساخر ك�أنه وجه �شيطان ُمف ِرت�س‪ ،‬كان �ضب ًعا عظي ًما من‬

‫ري‬
‫ً‬

‫ال‬
‫و�شمال يف �شهوة ناظ ًرا‬ ‫�ضباع ال�صحاري‪ ،‬يت�ساقط لعابه منه وهو مي�ضي ميي ًنا‬
‫�إىل �أربعة من الب�شر بينهم امر�أة‪ ،‬يرتاجعون �إىل �صخرة وراءهم وقد حب�سهم‬

‫ك‬
‫زجمر‬‫رك�ض عليهم وان َق�ض‪ ،‬و�إن هم بقوا مكانهم �س ُي ِ‬ ‫اخلوف‪ ،‬ف�إن هم رك�ضوا َ‬

‫ت‬
‫أعي ال�ضبع‬ ‫ب�ضع ثوان ثم �سينق�ض عليهم!‪ ،‬وكان موقع «عا�صف» بعيدً ا عن � ُ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫امل�ضيئة يف ن�ش َوة‪ ،‬بد�أ �أحد الرجال يرفع ع�صا هزيلة �إىل ال�ضبع وك�أنه ال يدري‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫خاطر عجيب يف ذهن «عا�صف»‬ ‫ماذا يفعل �سوى هذا‪ ،‬وو�سط كل هذا خطر ِ‬

‫ر‬
‫أم�سك «عا�صف» حج ًرا كب ًريا كان بجواره‪ ،‬ورفع ر� َأ�سه‬ ‫ينظر �إىل امل�شهد؛ � َ‬ ‫وهو ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�إىل ال�سماء ومتتَم وك�أنه ُيك ِّلم ال�سماء‪ ...‬يا رحمنن‪ ،‬يا ذي �سماوي‪ ،‬يا رب هذه‬

‫و‬
‫ال�سماء �أينما كنت‪� ...‬إن كان �أمر الراهب «�شافع» هو الأحب �إليك فاقتُل هذا‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ال�ضبع بهذا احلجر حتى مي�ضي ه�ؤالء النا�س �إىل رحالهم‪ ...‬فرمى احلجر‬
‫رم َي ًة �سريعة باجتاه ال�ضبع الذي كان يتح َّرك ميي ًنا ثم ا�ستدار فج�أة ليتحرك‬
‫بط�ش به ودما ٌء نز َلت من ر�أ�سه‪ ،‬ولقد تنازع روحه وانتف�ض‬ ‫ي�سا ًرا ففاج�أه حجر َ‬
‫و�سقط �إىل الأر�ض فتطا َير حول �سقطته الرتاب‪ ،‬وانزاح الهم عن‬ ‫َ‬ ‫ثم انطوى‬
‫قلوب املحبو�سني وقاموا عن �صخرتهم �إىل «عا�صف» الذي كان يف �ش� ٍأن �آخر؛ مل‬
‫ينظر �إليهم!‪ ،‬كان ُ‬
‫ينظر �إىل ال�سماء‪.‬‬ ‫ي ُكن ُ‬
‫فاج�أته حما�سته �إىل دير الراهب «�شافع»‪ ،‬ودخل ُم�ستب�ش ًرا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ يا «�شافع» �إن الرحمن قد �سم َعني اليوم!‬
‫فتب�س َمت �أ�سارير الراهب و�سمع حكاية «عا�صف» كلها ثم قال له‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ �أي ُبني‪� ..‬إنك اليوم �أف�ضل مني‪ ،‬و�إنك �ستُبتلى يف �إميانك هذا‪ ،‬ف�إن‬
‫ابتُليت يا بني فال تدل علي وعلى هذا الدير‪ ،‬فلو ق�ضوا علينا لن يعود‬
‫لهذا الدين وجود!‪ ،‬حتى ي�أتي املخل�ص‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫بغمو�ض غري راغب يف‬ ‫ٍ‬ ‫نظ َر «عا�صف» �إىل الراهب الذي �أنهى كالمه‬
‫التف�صيل‪ ،‬وظ َّلت عني «عا�صف» ت�س َرح هُ نا وهناك حتاول �أن تف َهم‪َ ،‬‬
‫ن�صحه‬
‫الراهب �أن يذهب يوم ًيا �إىل ال�ساحر وك�أن �شي ًئا مل ي ُكن!‪ ،‬ويظل ي�سمع منه‪ ،‬و�أن‬
‫ويتظاهر �أنه ُي�صدِّ قه‪ ...‬وظ َّل «عا�صف» �شهو ًرا يزور ال�ساحر‬
‫َ‬ ‫ُيهادنه يف ما يقول‬
‫ال�سحر‪ ،‬ويزور الراهب يتع َّلم �أمور الدين‪ ...‬لكن «عا�صف» �أ�صبح‬ ‫يتع َّلم �أمور ِ‬
‫ال�ساحر‪ ،‬وعجيبة على م�سامع الراهب!‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يفعل �أمو ًرا كانت عجيبة على م�سامع‬

‫ع‬
‫�أمور ال ُت�ص َّدق‪.‬‬

‫ص‬
‫تب َّدلت ِم�شيته بني النا�س من اخليالء �إىل التوا�ضع‪ ..‬وهو الذي قد ا�شتهر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫خبه؛ فهو ال�صبي الذي اختاره امللك ليتعلم ال�سحر‪ ،‬وكان النا�س يجتمعون‬ ‫وذاع َ‬
‫حوله ي�شكون له �أدواءهم و�أوجاعهم‪ ،‬فكان ي�شفي منهم من كان �أعمى �أو �أبر�ص‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أو فيه �أي داء‪ ...‬ولقد ات�سعت عني ال�ساحر من العجب!‪ ،‬ف�إنه لي�س �إن�س وال جن‬
‫خ�ص‬
‫وتعجب الراهب من الأمر‪� ،‬آهلل َّ‬ ‫الب�صر!‪َّ ،‬‬ ‫يقدر على �أن ُيعيد من ذهب عنه َ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مبد ٍد من عنده!‪� ،‬أم ما هي حكايته بال�ضبط‪ ...‬مل ي ُعد يدري‪.‬‬ ‫هذا الغالم َ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ويف ذات ليلة يف ذلك الدير امل�سترت‪� ..‬أتى «عا�صف» ُمتخ ِّف ًيا يف ُظلمة الليل‬

‫ر‬
‫فوجد «�أ�سعد» ُيو ِقد بع�ض ال�شموع يف الدير ولي�س �أحد غريه م�ستيقظ‪ ..‬قال‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ يا «�أ�سعد» �إين ر�أيتُ الليلة يف منامي �أنني �أُذبح!‪ ،‬و�أن دمائي ت�صعد �إىل‬

‫و‬
‫ال�سماء فتمطر على النا�س‪ ...‬و�إين �أريد �أن ُتو ِقظ الراهب «�شافع»‪ ،‬فلي�س‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫غريه يعرب ر�ؤياي‪.‬‬
‫ا�ستدار «�أ�سعد» ليذهب و ُيوقظ الراهب فناداه «عا�صف» وقال‪:‬‬
‫ يا «�أ�سعد»‪...‬‬
‫ينظر له نظر ًة ُمتلفة ويقول‪:‬‬ ‫وقف «�أ�سعد» والت َفت �إىل «عا�صف» الذي كان ُ‬
‫أنت الذي �س ُيخرج ديننا‬ ‫ �إين �أريد �أن �أقول لك �أمرا يا «�أ�سعد»‪ ...‬اعلم �إمنا � َ‬
‫هذا من هذا بني جدران هذا الدير فتبلغ به م�شارق الأر�ض ومغاربها‪ ،‬يا‬
‫نف�سك‪ ،‬ف�إن لك موعدً ا يا �سليل‬ ‫«�أ�سعد» �إن نحن انتهينا فلتح َفظ عليك َ‬
‫امللوك‪ ،‬و�ستم ِلك هذه البالد ومتلأها ح ًقا ً‬
‫وعدل‪.‬‬
‫وف�سر لعا�صف ر�ؤياه‪ ...‬و�إن تف�سريها قد جلب �إىل نف�سه‬ ‫ثم �أتى الراهب َّ‬
‫الق َلق مما هو �آت‪ ،‬وجاء �صباح تال‪ ،‬وم�شى «عا�صف» �إىل ال�ساحر مثلما كان‬
‫يفعل كل يوم‪ ،‬لكن هذا اليوم كان خمتل ًفا!‬
‫‪z‬‬
‫‪35‬‬
‫رجل واق ًفا يعطيه ظهره‪ ..‬وملا ا�ستدار له الرجل‬ ‫وجد «عا�صف» عند ال�ساحر ً‬
‫تراجع «عا�صف» ب�ضع خطوات!‪ ،‬فقد كان للرجل عينان مم�سوحتان كليهما‬ ‫َ‬
‫يخلعان قلب من يراهما �أول مرة‪ ،‬وكان �أعمى‪ ،‬عرفه «عا�صف» مبا�شر ًة ملا ر�آه‪،‬‬
‫كان هذا «حيان» الأعمى جلي�س امللك‪.‬‬
‫ابت�سم جلي�س امللك وابت�سمت عينه العمياء‪ ..‬قال ال�ساحر «هريا» لعا�صف‪:‬‬
‫ �إن جلي�س امللك قد �سمع ب�أمرك يا «عا�صف» و�أَمر �سحرك العظيم الذي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يرد الأب�صار �إىل العيون امليتة‪ ...‬و�إن جلي�س امللك قد جمع لك من الهدايا‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫أنت �شفيتَه من العمى‪.‬‬ ‫والعطايا ويقول �أنه �سيهبها كلها لك �إن � َ‬
‫فابت�سم «عا�صف» ب�سم ًة �صفراء لل�ساحر وه َّز ر� َأ�سه ُموافقا‪ ...‬و�أخذ جلي�س‬ ‫َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يل بنور قلبك‪� ،‬إين‬ ‫امللك «حيان» �إىل غرفة منفردة‪ ،‬قال له يا حيان‪ُ ،‬‬
‫انظر �إ َّ‬

‫ب‬
‫آمنت‬
‫أنت � َ‬‫ال �أ�ش ِفي �أحدً ا يا «حيان»‪� ،‬إمنا ي�شفيهم الرحمن ربي وربك‪ ،‬ف�إن � َ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫م�ست‬ ‫بالرحمن دعوتُ لك الرحمن ف�شفاك‪ ...‬و�إن �شي ًئا يف كلمات «عا�صف» َّ‬

‫ش‬
‫�أوتا ًرا عديدة يف قلب «حيان»‪ ،‬ف�آمن حيان بالرحمن‪ ،‬فدعا له «عا�صف»‪ ،‬فر َّد‬

‫ر‬
‫الرحمنُ �إليه ب�ص َره‪ ،‬ونظر فر�أى الدنيا تظ َهر �أمامه على �صورتها ور�أى وجه‬

‫الت‬ ‫و‬
‫يبت�سم له‪ ،‬قال له «عا�صف»‪:‬‬ ‫«عا�صف» الو�سيم ِ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫يقدر على حتريك �شعرة من مكانها‪ ،‬و�إن الرحمن‬ ‫ �إن ال�سحر يا «حيان» ال ِ‬
‫هو الذي مي ِلك كل �شيء وخلقَ كل �شيء‪ ...‬فال جت َعل له ِندًّا من َثور �أو‬
‫فيل‪ ،‬ف�إمنا هذا من مر�ض القلوب‪.‬‬
‫ودخل جلي�س امللك على امللك «ذو نوا�س» الذي �أفجره ملكه ف�صار عال ًيا يف‬
‫نظر نف�سه ال يعلو عليه �شيء!‪ ،‬فنظر «ذو نوا�س» �إىل جلي�سه ف�إذا هو مي�شي على‬
‫ويتح�س�س الطريق‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫َّ‬ ‫وب�صر بعد �أن كان مي�شي‬‫هدى َ‬
‫ يا «حيان» ما الذي ر َّد � َ‬
‫إليك ب�صرك؟‬
‫ �إمنا رده يل ربي‪.‬‬
‫ولك رب غريي؟‬‫  َ‬
‫ومل يد ِر «حيان» كيف جت َّر�أ وقا َلها!‪ ،‬وهو الذي عا�ش طي َلة عمره تاب ًعا ُمنحن ًيا‪،‬‬
‫ثقيل كجبال �أهنوم‪ ،‬فوجد نف�سه‬ ‫�إال �أن معجزة رد ب�صره �أدخ َلت يف قلبه �إميا ًنا ً‬
‫يقول للملك‪:‬‬
‫‪36‬‬
‫  ربي وربك الرحمن �أيها امللك‪.‬‬
‫وكانت كل َمته طا ّمة عليه‪� ،‬إذ �أخذه امللك فجع َله ُمع َّلقا و�أذاقه من �صنوف‬
‫العذاب حتى �أخرب امللك عن �سر الغالم «عا�صف»‪ ...‬ف�أوقدت عيون امللك �شر ًرا‪.‬‬
‫مت�ض �ساعات �إال و�شعب ظفار يرى الغالم «عا�صف» وجنود امللك يج ُّرونه‬ ‫ومل ِ‬
‫ج ًّرا ال ُي ِنذر بخري‪ ،‬وح�ضر «عا�صف» �أمام «ذو نوا�س»‪ ،‬فقام له «ذو نوا�س» بكل‬

‫ع‬
‫ِكرب و�ص َلت �إليه روحه!‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ص‬
‫مناك ال�سحر والكنوز وكنت حمقو ًرا ال �ش�أنَ لك ف�صرتَ‬ ‫بك فع َّل َ‬‫ �أتينا َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ُتربئ الأك َمه والأب َر�ص وتف َعل وتفعل و‪...‬‬
‫بجر�أ ٍة مل يج ُر�ؤ عليها �أحد قب َله وقال‪:‬‬‫قاطعه «عا�صف» ُ‬
‫واهن‪ ،‬و�إين‬‫و�ساحرك هو �شيء هزيل ِ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫أنت‬
‫ �إين وجدتُ ال�سحر الذي ت�أتيه � َ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�ضي ًعا مل ي�أ ِته من النبالء �أح ٌد َقط!؛ ما ي�أتيه �إال من كان‬ ‫وجدته �شي ًئا ِ‬

‫ن‬
‫أراذل اخللق‪ ،‬ووجد ُته ال ي�شفي وال يُ�سمِ ن وال ُيغني‪� ،‬أما �أنا فما �شفيتُ‬

‫ش‬
‫من � ِ‬

‫ر‬
‫نا�ص َية كل داب ٍة تدب على‬ ‫�أحدً ا‪� ،‬إمنا �شفاهم ربك الرحمن‪ ،‬الذي بيده ِ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�أر�ضه‪.‬‬

‫و‬
‫�ساحة الق�صر يف ذلك الأوان‪ ..‬و�صارت عني امللك تتح َّرك‬ ‫ونزل ال�صمتُ يف َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫َ‬
‫هنا وهناك وك�أنها تود الإفالت من ُمقلتيهما من �شدة الغ�ضب‪ ،‬ثم رفع �أم ًرا‬
‫نكال و�ضر ًبا حتى‬‫غا�ض ًبا �إىل جالديه ف�أم�سكوا بالغالم «عا�صف» و�أنزلوا عليه ً‬
‫دل على الراهب «�شافع»‪.‬‬ ‫تف َّك َكت عظامه ولبثوا يج ِلدونه حتى َّ‬
‫دير ُمتها ِلك قريب �أحاطه اجلند من كل زواياه‪ ..‬كان الراهب «�شافع»‬ ‫ويف ٍ‬
‫مم�سو ًكا ي ُغلُّون له يديه ورجليه والغلمان من حوله يبكون‪ ...‬عندها و�صل «�أ�سعد»‬
‫فانتف�ض واند َفع بج�سده‬
‫َ‬ ‫لدى الباب‪ ،‬ور�أى ُمع ِّلمه ي�سحبونه وحل َيته على الأر�ض‪،‬‬
‫عاما �إىل �أربعة جنود ُم�س َّلحني فلطموه لطم ًة �أ�سا َلت دماءه‬ ‫ذو اخلم�سة ع�شر ً‬
‫وه َوى «�أ�سعد» على ظهره‪ ،‬ثم قام فلطموه �أخرى‪ ،‬ثم �س� َأل �أحدهم‪:‬‬
‫  َمن هذا الفتى؟‬
‫الراهب ا�صب َعه خف َية لـ «�أ�س َعد» �إ�شارة �أن ي�س ُكت‪ ...‬و�ش َّد اجلنو ُد‬ ‫ُ‬ ‫فر َفع‬
‫الراهب و�أخذوه �إىل �إيوان امللك‪.‬‬
‫َ‬
‫‪z‬‬
‫‪37‬‬
‫دين �آخر يف‬
‫تدعو �إىل ٍ‬‫مقبول �أن ُ‬‫دفعوه حتى �ساووا بجبهته الأر�ض‪ ..‬مل ي ُكن ً‬
‫العال بكل �شيء‪� ...‬أف ُكل فئة منكم تتحزَّب‬ ‫عهدي؛ �أنا �أنا الرب و�أنا امل ِلك و�أنا ِ‬
‫على نف�سها وتدعو نف�سها دينا‪...‬‬
‫العظمة يف نف�س «ذو نوا�س»‪ ،‬و�أم َر ِمبن�شا ٍر عظيم‪،‬‬ ‫هكذا تط َّرفت خواطر َ‬
‫ورمى الراهب على الأر�ض ُمق َّيدً ا وبجواره جلي�س امللك‪ ،‬وتقار َبت ر�ؤو�سهما على‬
‫الأر�ض‪ ،‬فقال الراهب جللي�س امللك‪:‬‬
‫روحك ويبعثك �إىل‬ ‫لك موعدً ا عند الرحمن‪ ،‬و�إنه �س ُريد َ‬
‫عليك َ‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ اث َبت ف�إنَّ َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫نعيم ُمقيم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ولكن الرجل كان يبكي ويُغمِ �ض عينيه‪ ،‬فنادى امللك‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أدعك تخ ُرج قطع ًة واحدة؟‬ ‫أترجع عن دينك هذا و� َ‬ ‫الراهب‪ِ � ..‬‬
‫ �أيها ِ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قال الراهب‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ وعزَّة ذي �سماوي‪� ،‬أنني خارج من هُ نا �إىل الرحمن‪ ،‬و� َ‬
‫إنك لتُ�س ِعد قلبي‬

‫ر‬
‫مبا تف َعل‪.‬‬

‫الت‬
‫َ‬
‫و‬ ‫ف�أ�شار امللك فن�ش َره ُ‬

‫و‬
‫افرتق قط َعتني على الأر�ض‬ ‫رجال امللك باملن�شار حتى‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وتناث َرت دما�ؤه على ثياب جلي�س امللك الذي كانت عيونه حائرة من اخلوف‪،‬‬
‫يتح�س�س دماء الراهب على �صدره‪ ،‬ثم ُيغم�ض‬ ‫تقطعة‪ ...‬و�أخذ َّ‬ ‫ودموعه ت�سيل ُم ِّ‬
‫عينه ويرفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء‪ ...‬فنادى ُ‬
‫امللك‪:‬‬
‫ترجع �إىل ِجواري بني الدراهم‬ ‫ينك هذا ِ‬ ‫عنك ِد َ‬‫ يا «حيان»‪ ..‬دع َ‬
‫واجلواري‪...‬‬
‫وبكى «حيان» وتع َّر َق جبينه وه َّز ر� َأ�سه بالنفي وهو يبكي‪ ..‬وك�أنَّ طائ ًفا من‬
‫الإميان قد انغر َز يف قلبه فلم ي ُعد يق َبل �أن ُيخرجه �أبدً ا‪ ،‬ومل ي�ش ُعر بنف�سه �إال‬
‫قطعه يف مفرق ر�أ�سه هو الآخر‪.‬‬ ‫واملن�شار ُي ِّ‬
‫ناظر دماء قد تب َّللت بها �أر�ض الق�صر‪ ،‬وقال‬ ‫وجيء بالغالم «عا�صف» ل ُي ِ‬
‫امللك‪:‬‬
‫ يا �أيها الغالم‪ ..‬ارجع عما ُت� ِؤمن‪� ،‬أو تكون ُم َّددًا يف دمائك مثل‬
‫�صاحبيك!‬
‫‪38‬‬
‫قال «عا�صف»‪:‬‬
‫إنك ال مت�سني حتى ي� َأذن الرحمن ربي لك‪.‬‬ ‫ � َ‬
‫توهجت عني «ذو نوا�س» بالبغ�ضاء‪ ..‬وقال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫لك مي َت ًة �سيتح َّدث عنها �أهل �سب�أ‪ ..‬خذوه �إىل جبل �أهنوم‪،‬‬ ‫أنت ف�إن َ‬ ‫ �أما � َ‬
‫فانتهوا به �إىل قمة اجلبل ثم �أل ُقوه من هناك‪ ،‬ثم ائتوين بعظامه ال�صغرية‬

‫ع‬
‫احلقرية‪� ...‬أف�أ�صبح ال�صغار ال�سفهاء يتطا َولونَ هنا يف �ساحة امللك؟‬

‫ري‬‫ص‬
‫قال له «عا�صف»‪:‬‬

‫ال‬
‫أنت بقا ِتل بعو�ض ًة حتى ي� َأذن اهلل لك بها‪.‬‬ ‫ ما � َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فلما جنَّ اللي ُل �أ�صبحت ترى فواني�س مت�شي وراء بع�ضها ت�ص َعد اجلبل‪..‬‬

‫ب‬
‫بعا�صف �إىل ق َّمة جبل �أهنوم‪ ،‬وملح «عمرو بن‬ ‫كان �أولئك جنود امل ِلك ي�صعدون ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫فواني�سهم‪ ،‬ف َه َّم باللحاق بهم‪ ،‬لكن يدً ا رقيق ًة �أم�س َكته!؛ كانت هذه «�إينور»‬ ‫َ‬ ‫جابر»‬

‫ش‬
‫زوجته‪ ،‬قا َلت له‪:‬‬ ‫َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ب�ش ًرا عد ًوا �سي�سقطونك‬ ‫تذهب يا «عمرو» فيقتلوك‪ ،‬ف� َ‬
‫إنك لو مت َّث َلت لهم َ‬ ‫ ال َ‬

‫الت‬
‫ُ‬

‫و‬
‫ان�س هذا يا «عمرو» ولو �أردتَ ن�صرة هذا الدين فاع ِنت بـ «�أ�سعد»؛‬ ‫وراءه‪َ ،‬‬

‫ز‬
‫فال � َ‬

‫يع‬
‫أمل لهذا الدين �سواه‪.‬‬
‫�أع َر َ�ض عنها «عمرو بن جابر» وقال‪:‬‬
‫أنك‬
‫ �أخط� ِأت يا «�إينور»‪ ..‬فالرحمن ُم ِتم نو َره �سواء ب�أ�س َعد �أو بدونه‪� ،‬أم � ِ‬
‫ن�سيت �أمر املخل�ص؟‬ ‫ِ‬
‫نظ َرت «�إينور» �إليه ومل تعرف لكالمه ردًّا‪ ..‬ثم �سمع اجلمي ُع �صوت كار َثة‬
‫ك�أنها ت�ص َعد من باطن الأر�ض‪ ،‬وفج�أ ًة حت َّرك كل �شيء‪.‬‬
‫زلزلت الأر�ض من حت ِتهم وحت َّرك اجلب ُل ب�أ�صحابه و�سقط �أ�صحاب امل�شاعل‬
‫كلهم وانطف�أت �أنوارهم يف عدة ثوان‪ ..‬ثم عاد كل �شيء �إىل هدوءٍ ُم�ستقر‪،‬‬
‫بيده مقاليد اجلبال وي�سمع من‬ ‫ات�سعت عينا «عمرو بن جابر»‪� ،‬سبحان الذي ِ‬
‫ينتظر ُجنده‪،‬‬
‫امللك بني جدرانه ِ‬ ‫هو فوق الأر�ض ومن هُ م حتت الأر�ض‪ ...‬وظل ُ‬
‫هب ُ‬
‫امللك منهما‬ ‫وهم�س للم ِلك بكلمتني َّ‬
‫َ‬ ‫لكن �أحدً ا منهم مل ي�أ ِته!‪� ،‬إال واحدً ا �أتى‬
‫�صحته‪ ،‬وكاد «ذو نوا�س» �أن ي�شد‬ ‫داخل عليه بكامل َّ‬ ‫واق ًفا!‪ ،‬ونظر ف�إذا «عا�صف» ِ‬
‫�ضفريتيه من الغيظ‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫‪39‬‬
‫ �أين جندي يا غالم ال�شر؟‬
‫قال الغالم‪:‬‬
‫ كفانيهم الرحمن‪.‬‬
‫فقال امل ِلك‪:‬‬
‫ يا جنودًا كاجلرذان �أتعج ُزونَ عنه؟ واهلل لأ�سقي َّن َك الرعب �سقيا ًنا حتى‬

‫ع‬
‫جئت فيه �إىل هذه الدنيا‪...‬‬ ‫تل َعن اليوم الذي َ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫حجر‬
‫غياهب البحر فريبطوه يف َ‬ ‫و�أم َر جنودًا �آخرين لي�أخذوا «عا�صف» �إىل ِ‬
‫كبري و ُيل ُقونه يف ظالم البحر ومل ي ُعد يريد له ُج َّثة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وتو�سطوا به البحر‪ ..‬ف�أغارت عليهم الرياح والأمواج‬ ‫فانطلقَ اجلنود َّ‬
‫فانكف�أوا جمي ًعا وغرقوا!‪ ..‬وعاد الفتى مغرور ًقا مباء البحر‪َ ،‬‬

‫ب‬
‫ودخل ق�صر امللك‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ك�أنه يتح َّدى‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ش‬
‫لك �إن ربي الرحمن مل ي� َأذن لك؟‬ ‫ �أمل �أ ُقل َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫قال «ذو نوا�س»‪:‬‬

‫و‬
‫�شيطان �أنت؟‬
‫ٍ‬ ‫أنت بال�ضبط؟ �أي‬‫ ما � َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫تنجذب �إال �إىل الأجنا�س‪.‬‬
‫قال له «عا�صف»‪:‬‬
‫ ال�شياطني ال تق ِرتب مني؛ ال�شياطني ال ِ‬
‫فانفعل امل ِلك؛ َ‬
‫انفعل «ذو نوا�س»‬ ‫َ‬ ‫و�أ�شا َر ب�إ�صبعه بطريقة �أنه يق�صد امللك‪..‬‬
‫وتقدم ليذبح الغالم بنف�سه‪ ..‬لوال �صوت ال�ساحر‬ ‫أخرج خنجريه من ِغمدهما َّ‬ ‫و� َ‬
‫«هريا» احلازم الذي �أو َقف امل ِلك‪ ،‬وانط َلق يهمِ �س له‪:‬‬
‫ يا «ذو نوا�س»‪� ..‬إن هذا قد يكون له �شيطان مثلما َ‬
‫لك �شيطان؛ ال تق ِرتب‬
‫منه بنف�سك‪ُ ،‬مر �أحدً ا من ا ُ‬
‫جلند �أن‪...‬‬
‫قاطع «عا�صف» حديثهما وقال‪:‬‬
‫ل�ست بقاتلي �أبدً ا �أيها امل ِلك حتى تفعل ما �أقوله لك؛ حي َنها تقدر‬ ‫ �إنك َ‬
‫على قتلي‪.‬‬
‫نظ َر له امل ِلك والغيظ يقطر منه وقال‪:‬‬
‫‪40‬‬
‫ �أي �شيء هذا؟‬
‫قال «عا�صف»‪:‬‬
‫عنك هذا العجوز اخلرف وا�سمع يل جيدً ا �إن �أردتَ �أن تقتُلني و�أن‬ ‫ دع َ‬
‫�صعيد واحد‪ ،‬وا�ص ُلبني على‬‫يتح َّدث النا�س عن قتلي‪ ،‬فاجمع النا�س يف ٍ‬
‫جذع‪ ،‬ثم ُخذ �سه ًما من كنانتي‪ ،‬ثم �ضع ال�سهم يف كبد القو�س وقل با�سم‬

‫ع‬
‫ارم بال�سهم �إىل ر�أ�سي‪ ،‬ف�إنك‬ ‫ب�صوت عال‪ ،‬ثم ِ‬
‫ٍ‬ ‫الرحمن رب الغالم‪ُ ،‬قلها‬

‫ص‬
‫فعلت هذا قتلتَني مبا�شر ًة‪ ...‬ولن ُت�س َّلط َّ‬
‫علي بغري هذه �أبدً ا‪.‬‬ ‫�إن َ‬

‫ريأناعا�ص ًفا �سوف ُي�ص َلب على م�ش َهد من اجلميع؛ جزاء‬
‫‪z‬‬
‫له على خيا َنته للملك ال ل‬
‫و�سمعت البلد ُة كلها �‬

‫ك‬
‫عا�صف يف املرتني �إىل امللك ُمتحدِّ ًي تا‪ ...‬وت�ش َّعبت �أقوالهم فتح َّدث ُ‬
‫أعظم‪ ،‬ملك �سب�أ العريقة‪ ..‬وعرفت البلدة كلها �أن امللك‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫وتناقلوا ق�صة زلزال اجلبل وعلو البحر وعودة‬ ‫مل يقدر على َقتل «عا�صف»‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بع�ضهم �أن‬

‫شي�شفيهم �إال �أن يقولوا �آم ّنا‬


‫امللك!‪ ،‬لكن ظهر كالم الذين �شفاهم‬ ‫عا�ص ًفا هذا �ساحر قد غلب ب�سحره �سحر‬

‫بالرحمن‪ ،‬فتح َّدث ه�ؤالء وقالوا �أن الرحمن هو الذير َ‬


‫و‬
‫«عا�صف» من �أ�سقامهم وكانوا كثريين‪ ،‬وكان ال‬
‫�سي�صل ُابلونه اليوم‪ ،‬فانطلقَ‬
‫ت‬
‫أنا�س كلهم مي�شون �إىلو�ساحة الق�صر‪،‬‬
‫غلب ِ�سحر امل ِلك‪ ،‬و�أنا �آمنا‬

‫زيحتى �أ�صبح‬
‫بالرحمن رب الغالم‪ ..‬و�سمع «�أ�سعد» �أن «عا�صف»‬

‫ع‬
‫ير ُك�ض يف ُطرقات املدينة التي ازدح َمت ب� ٍ‬
‫وجد ازدحام النا�س قد ا�شت َّد وظل ي�شتد‬ ‫وكلما اقرتب من الق�صر َ‬
‫النا�س ُمتال�صقني يتطاولون لريوا م�شهد ال�صلب!‪ ،‬ور�أى «�أ�سعد» بعينه �أن رفيقه‬
‫«عا�صف» ُير َفع على خ�شبة عالية‪ ،‬ثم يتم تثبيته جيدا عليها‪ ...‬نادا ُه «�أ�س َعد»‪:‬‬
‫ �أيا عا�صف‪.‬‬
‫بغ�ض ٍب وظ َّل يقرتب وهو �شاعر‬ ‫فلم ي�س َمعه!‪ ،‬فاخرتَق «�أ�سعد» �صفوف النا�س َ‬
‫ينظر فيها �إىل «عا�صف» املُع َّلق‪ ،‬وحت َّو َلت غ�صته �إىل‬‫بغ�صة تتزايد يف كل مرة ُ‬ ‫َّ‬
‫وفا�ضت عيناه من الدمع‬ ‫�صرخات ي�صرخها وهو يق ِرتب ويخرتق ال�صفوف!‪َ ،‬‬
‫وا�شت َّدت قوته يف االخرتاق حتى اقرتب‪ ،‬قال ب�أعلى �صوته‪:‬‬
‫ يا عا�صف‪� ،‬إن ُمع ِّلمنا � َ‬
‫أخربك �أن‪...‬‬
‫وفج�أ ًة �أم�سكت ي ٌد قوي ٌة برق َبة «�أ�سعد» ف�سح َبته �إىل اخللف ور َّدته �إىل الأر�ض‬
‫أم�سك مبن �سحبه م�سك ًة قوي ًة‬ ‫الغ�ضب نف�س «�أ�سعد» و� َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فا�شتعل‬ ‫و�سط الزحام!‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫لكن نظر ًة واحدة �إىل وجهه جعلتَه ي�س ُكن!؛ لقد كان هذا «عمرو بن جابر»‪ ،‬كان‬
‫ب�صوت حازم خفي�ض‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫غا�ض ًبا حازم املالمح‪ ...‬قال له‬
‫أخذوك بجواره معه و ُيع ِّلقوك؟‬
‫نت �أيها الغالم‪� ..‬أتريد �أن ي� َ‬ ‫ � ُأج ِن َ‬
‫قال «�أ�سعد»‪:‬‬
‫ فلي�أخذوين ً‬
‫بدل منه‪.‬‬

‫ع‬
‫قال له «عمرو»‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ �إن كل ه�ؤالء املتج ِّمعني حمتاجني � َ‬

‫ال‬
‫إليك يف يوم ما يا «�أ�سعد»‪ ،‬و�إين متـ‪...‬‬
‫مل ي�سمع «�أ�سعد»‪ ،‬ومت َّل َ�ص من يد «عمرو بن جابر» وانطلقَ و�سط الزحام‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ينظر �إىل امللك الذي ي�سحب‬ ‫ُينادي‪ ..‬يا عا�صف‪ ،‬وكان عا�صف يف ذلك الوقت ُ‬

‫ب‬
‫واحدً ا من ال�سهام من الكنانة‪ ،‬ثم ُي�ص ِّوب ال�سهم جيدً ا‪� ..‬أ�شار له «عا�صف»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ب�صوت عال‪ ،‬نظر ُ‬
‫امللك �إىل ال�ساحر الذي � َأوم�أ له بر�أ�سه �أن ُقلها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ليقول الكل َمة‬

‫ش‬
‫عال‪:‬‬
‫ب�صوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ف�صاح امل ِل ُك‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ با�سم الرحمن رب الغالم‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ال�سهم مبا�شر ًة‬
‫ُ‬ ‫أخذته املفاج�أة ومل يفهم �شي ًئا‪ ...‬وانطلقَ‬
‫تو َّقف «�أ�سعد» وقد � َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ينظر �إىل ال�سماء يف ر�ضا وك�أنه يف عامل ثان‪ ،‬ثم‬ ‫�إىل وجه «عا�صف» الذي كان ُ‬
‫�صدغه‪ ،‬وتناثرت دما�ؤه‪ ،‬وتناثرت لها دموع ال�شعب‪� ،‬إمنا الرحمن‬ ‫ال�سهم َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اخرتق‬
‫غلب �سحر امللك؛ امللك الذي تنا َقلتُم �أ�ساطريه وك�أنه العامل بكل �شيء‬ ‫هو الذي َ‬
‫يقدر �أن يف َعل �شيئا �إال ب�إذن الرحمن وبا�سم‬ ‫واملط ِلع على كل �شيء‪ ...‬اليوم ال ِ‬ ‫َّ‬
‫وت�صاعد �صوتُ النا�س با�سم الرحمن هنا وهناك‪ ،‬قالوا �آمنا برب‬ ‫َ‬ ‫الرحمن‪...‬‬
‫الغالم‪� ،‬آمنا برب الغالم‪� ،‬آمنا برب الغالم‪ ،‬وظلوا يقولونها عال َية وهم ينظرون‬
‫�إىل ال�سهم امل�ستقر يف �صدغ «عا�صف»‪ ،‬ومل يلب ُثوا �إال وجنود امل ِلك قد توافدوا‬
‫وحدث هرج كثري‪ ،‬وهرب كل من مل‬ ‫َ‬ ‫مكان ف�ضربوهم و�أوقعوهم � ً‬
‫أر�ضا‪،‬‬ ‫من كل ٍ‬
‫أم�سك اجلنود بالآخرين‪ ،‬وو�سط كل هذا رك�ض «�أ�سعد» ناح َي َة‬ ‫ُي� ِؤمن بالرحمن‪ ،‬و� َ‬
‫امل ِلك‪.‬‬
‫ب�صوت ي�سمعه كل �أحد‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ي�صيح‬ ‫كان امللك ِ‬
‫ �أال فاحفروا لهم الأخاديد يف �أفواه ال�س َكك‪ ،‬و�أوقدوا عليهم فيها نا ًرا‪،‬‬
‫فليعلمنَّ الرحمن و�أهله َمن امل ِلك يف هذه البلدة‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫بغ�ضب؛ كان هذا‬
‫ٍ‬ ‫غالما ُيجاهد بني الزحام ويتَّجه ناح َيته‬
‫امللك ً‬ ‫عندها ر�أى ُ‬
‫�شديد و�أ�صد َر �أم ًرا ما للجنود‪ ،‬لكن الزحام‬
‫بغ�ضب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫«�أ�سعد»‪ ،‬فنظر ُ‬
‫امللك �إليه‬
‫ا�صطدم ب�أحد الهاربني يف طريقه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫واله َرج حال بينه وبني ُر�ؤ َية «�أ�سعد» الذي‬
‫فوق َع «�أ�سعد»‪ ،‬وو َثب «عمرو بن جابر» فوقه‪ ،‬ولكن قو ًة كقوة الثور كانت قد‬
‫أفلت من «عمرو» وانطلقَ ُيريد ر� َأ�س امل ِلك!‪ ،‬ثم‬ ‫ت�صاعدت من قلب «�أ�سعد» ف� َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫�أظ َلم ب�صره فج�أ ًة ووقع على الأر�ض‪ ،‬و�أ�صبح ينظر من بني �آالمه �إىل قدم جندي‬

‫ع‬
‫يبدو �أنه �ضر َبه على ر�أ�سه ومت َّكن منه‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ي�سحبه اجلندي و�سط الفو�ضى‪ ،‬اتَّ�س َعت عينا «عمرو بن جابر»‬ ‫وها هو الآن َ‬

‫ال‬
‫ثم هد�أتا‪ ،‬فقد ر�أى �أف�ضل ما ُي ِكن �أن يرى يف ذلك املوقف‪ ،‬كان هذا «موهبيل»‬
‫َج ّد «�أ�سعد» ومعه ُجنديني من ق�صر خمر قد �أتوا ليلحقوا ب�أ�سعد‪ ،‬ولقد حلقوا به‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫و�سحبوه �إىل ق�صر خمر‪ ...‬واختفى «عمرو بن جابر» من املكان ك�أن مل ي ُكن‪ ،‬ومت‬

‫ب‬‫ل‬
‫حب�سا حقيق ًيا يف ق�صر خمر عند �أمه «فارعة» وجده «موهبيل»‪،‬‬ ‫حب�س «�أ�سعد» ً‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ومل يد ِر بالكار َثة التي كانت تدور يف ظفار؛ الكارثة التي تناق َلتها الكتُب ً‬
‫جيل‬

‫َ ش‬
‫بعد جيل؛ كارثة الأخدود‪.‬‬

‫ر‬ ‫‪z‬‬
‫كانت �أعدادهم كبرية‪� ،‬آالف‪ ..‬ولقد �سحلهم جنو ُد امل ِلكووق َّيدوهم بال�سال�سل‬
‫جمموعني �إىل بع�ضهم البع�ض ومدفوعني �إىل ِقدر حارِق‪،‬التوملاو ر�أوا الأخاديد‬
‫ع‬ ‫ز‬
‫بعدي �أن �أراهم‬ ‫ت� َّأج َجت بالنريان تراجعت �أقدامهم وزلزلت قلوبهم‪ ،‬وقال امل ِلك‬
‫العذاب‪:‬‬
‫ من رج َع من ُكم عن دينه ف�سنرتُكه‪.‬‬
‫�ضجة بني امل�سل�س ِلني ثم �صاح �أحدهم‪:‬‬‫و�صا َرت َّ‬
‫ �آمنا بالرحمن رب الغالم‪.‬‬
‫فقال ُ‬
‫امللك‪:‬‬
‫ ائتوين به‪.‬‬
‫ف�أتوا به ي�سح ُبونه على الأر�ض‪ ،‬فقال امل ِلك‪:‬‬
‫ �أ َّما هذا ِّ‬
‫فم�شطوا له ر� َأ�سه ب�أم�شاط احلديد فتخرتق ما دون عظمه من‬
‫وع�صب‪ ،‬وانظروا ماذا �سيقول حي َنها‪.‬‬ ‫حلم َ‬
‫‪43‬‬
‫يف�صلونه عن الباقني وي�ضعون‬ ‫الرجل الذي مل يهتَز واجلنود ِ‬ ‫النا�س �إىل ُ‬
‫نظ َر ُ‬
‫�ستخدم يف التعذيب و�إدماء الر�أ�س!‪،‬‬ ‫ً‬
‫يف ر�أ�سه م�شطا فار�س ًّيا حديد ًّيا حادًا ُي َ‬
‫الرجل حتى كا َدت روحه �أن تفي�ض‪ ،‬فلم ي�صرفه ذلك عن‬ ‫ف�صرخ ُ‬‫َ‬ ‫فو�ضعو ُه له‪،‬‬
‫وندم‬ ‫اختلط فيها كل �شيء؛ خوف َ‬ ‫َ‬ ‫�سال�سلهم مب�شاعر‬
‫ِ‬ ‫النا�س يف‬
‫و�ضج ُ‬‫دينه!‪َّ .‬‬
‫وثبات وعزمية‪ ...‬و�إن اجلنود ظلُّوا يدفعونهم �إىل �أخاديد خ َّدت لهم يف الأر�ض‬
‫لتهب!‪ ،‬فت�ساقطوا كلهم على ركبهم غري قادرين‬ ‫وا�شتع َلت نا ًرا ذات وقود ُم ِ‬

‫ع‬
‫ري منهم‬ ‫وجوههم النار‪ ،‬ولقد نزل بينهم اجلدل فارت َّد كث ٌ‬ ‫على امل�سري‪ ،‬تل َفح َ‬

‫ص‬
‫عن الرحمن وقال �آمنتُ بامللك �إنه ربي‪� ،‬آمنتُ بذي نوا�س‪ ..‬وبقي جم ٌع من ُهم‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�صابرون‪ ،‬ثبتُوا ب�إميانهم يف وجه كل زلز َل ٍة تزلز َلت بها قلوبهم‪ ،‬وكل ل�س َع ٍة‬
‫لفحتها النار يف وجوههم‪ ،‬وقالوا �آمنا بربنا الرحمن ذي �سماوي؛ الذي له ملك‬ ‫َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ال�سماوات والأر�ض‪ ،‬و�إنا له راجعون فيجزينا وهو العزيز احلميد‪ ...‬فدفعهم‬
‫اجلنو ُد دف ًعا بالع�صي والأقدام!‪ ،‬فكانت كلما َ‬

‫ب‬
‫�سقطت منهم جمموعة يف النار‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�سح َبت جمموعة �أخرى لأن �أقدام الكل مربوطة �إىل بع�ضها بال�سال�سل‪.‬‬

‫ش‬
‫وجاءت امر�أ ٌة حتمِ ل اب ًنا �صغ ًريا وقد و�ضعوها يف ال�سال�سل ودفعوها‪..‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫جلندي‪:‬‬ ‫تدخل يف النار‪ ،‬فقال لها ا ُ‬
‫فتقاع�ست �أن ُ‬ ‫فنظ َرت �إىل �صغريها ُم�شفق ًة‬

‫الت‬
‫َ‬

‫و‬
‫رجعت عن دينك؟‬ ‫ حت ِّركي يا امر�أة‪ ..‬هل ِ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قدما و ُت� ِّؤخر �أخرى‪ ..‬و�إن �سماع �صرخات املُحرتقني ُيزلزل‬ ‫فكانت ُتقدِّ م ً‬
‫جلندي‬ ‫�إميانها‪ ،‬هل �أ�ضاع �أولئك حياتَهم هباء‪ ،‬هل جزاهم الرحمن!‪ ..‬ودفعها ا ُ‬
‫بالع�صا‪ ،‬ونظ َرت �إىل �صغريها ُم�شفقة‪ ،‬وهنا انخ َلع قلبها و�سا َلت من عيونها‬
‫وجدت �صغريها الذي مل يب ُلغ‬ ‫دموع ال تدري �أي نوع من �أنواع الدموع هي!‪ ،‬فلقد َ‬
‫ينظر لها نظر ًة ال عالقة لها بنظرات ال�صغار املحمولني على الأيادي‪،‬‬ ‫�سنتني ُ‬
‫الرجل دفع ًة �أخرى‪:‬‬ ‫لتهب‪ ،‬ودفعها ُ‬ ‫ف�ساء َلت نف�سها عما �أ�صا َبه و�سط هذا اللفح املُ ِ‬
‫ هيا يا امر�أة‪ ،‬عودي �إىل دين امللك واحفظي هذا ال�صغري‪.‬‬
‫نظ َرت �إىل اجلندي و�إىل النار‪ ..‬ثم نظ َرت �إىل ال�صغري النظرة الثالثة وهنا‬
‫ت�ستطع حملها؛ لأنها مل ُت�صدِّ ق و�إن كانت قد �سم َعت ب�أذنها‬ ‫خا َرت قدماها ومل ِ‬
‫ور�أت بعينها نظرة �صغريها اجلادة و�شفتي �صغريها تتح َّركان باحلديث‪ ،‬قال‬
‫لها‪:‬‬
‫إنك على احلق‪.‬‬ ‫ يا �أماه ا�صربي ف� ِ‬
‫‪44‬‬
‫وجاء ُجندي �آخر ورك َلها ور�ضيعها �إىل الأخدود‪ ..‬وكانت حم َرق ًة ظ َّلت‬
‫الأجيال تتناقلها طويال عن «ذو نوا�س» ‪ -‬حمرقة �أ�صحاب الأخدود ‪ -‬وا�صف َّرت‬
‫النار بحرق الأج�ساد امل�ؤمنة وت�صاعدت �أرواحهم �إىل الرحمن‪ ،‬وهرب النا�س‬
‫�إىل بيوتهم وقد علموا �أنهم لي�سوا يف حكم رجل عادي من تبابعة اليمن؛ بل‬
‫يف حكم �شيطان‪ ،‬طاغية‪ ..‬ظ َّل مع جنوده و�ساحره قعودًا على النار يتمتَّعون‬
‫يتب�سم حتى ظه َر‬ ‫ب�أجيجها!‪ ،‬و�إن من خلفهم من بني الأدخنة كان �شيطان مارد ِ‬

‫ع‬
‫ب�شع وظالم‪ ،‬هكذا كان حال �سب�أ!‬ ‫�س ّنه‪� ،‬شيطان وطاغية‪ ،‬ووجه ِ‬

‫ري‬‫ص‬
‫حمبو�سا يف ُغرفة يف ق�صر‬ ‫ً‬ ‫وكان غالم مل يُكمِ ل من عمره �ست ع�شرة �سنة‬

‫ال‬
‫ينظر �إىل النافذة بع ٍني بر َقت فيها كثري من املعاين‪ ،‬وكثري من الذكريات؛‬ ‫خمر‪ُ ،‬‬
‫يبت�سم بلح َيته البي�ضاء‬‫ذكريات كلما نظ َر �إىل ال�سماء ر�آها‪ ...‬الراهب �شافع ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫املهذبة‪ ،‬والغالم عا�صف بعقله الأملعي‪«َ ،‬من لهذا الدين من بعدكم!‪ »..‬ثم يخ ُبو‬ ‫َّ‬

‫ب‬
‫يف عينه بريق الذكريات وي�شتعل ً‬

‫ل‬
‫بدل عنه لهيب الغ�ضب‪ ،‬وتذ َّكر حديث عا�صف‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫له عند تلك ال�شموع‪�( ،‬إين �أريد �أن �أقول لك �أم ًرا يا «�أ�سعد»‪ ..‬اع َلم �إمنا �أنت‬

‫ش‬
‫الذي �سيخرج ديننا‪ ،‬هذا الدين من هذا‪ ،‬بني جدران هذا الدير فيب ُلغ به م�شارق‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الأر�ض ومغاربها‪ ..‬يا «�أ�سعد» �إن نحن انتهينا فلتح َفظ عليك نف�سك‪ ،‬ف�إنَّ لك‬

‫و‬ ‫الت‬
‫موعدً ا يا �سليل امللوك)‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أق�سم‬
‫أق�سم وهو �صبي �صغري هكذا‪َ � ،‬‬ ‫أق�سم «�أ�سعد»‪�« ..‬أ�سعد بن ملكيكرب»؛ � َ‬ ‫و� َ‬
‫نب الأر�ض على ر�ؤو�س اجلميع‪ ،‬بنوا�سهم و�ساحرهم و�شيطانهم‪...‬‬ ‫ليق ِل َّ‬

‫‪z‬‬

‫‪46‬‬
‫َ‬
‫واخ�ضع‪.‬‬ ‫فا�سمع‬ ‫عدت � َ‬
‫إليك بعلمي وبهائي‪َ ..‬‬ ‫ُ‬
‫«�شافع بن كليب ال�صديف»‪ ،‬راهب ن�ساه التاريخ‪� ،‬أو حذفنَاه نحن من �أ�ساطري التاريخ‪،‬‬
‫قدر ا�ستطاعتنا!‬
‫ندعو �إليه‪ ،‬يفي�ض على تالميذه من كتاب‬
‫علما هو النقي�ض التام ملا ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان ُيع ِّلم النا�س ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫بقي كتابه هذا‬
‫قدمي عنده مكتوب على جلود احليوانات ُي�س ِّميه ُ�صحف �إبراهيم‪ -‬وللأ�سف َ‬
‫موجودا حتى اليوم‪!-‬‬‫ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وحرفناه‪� ...‬صار ا�سمه الفيدا ‪ -‬وهو الكتاب املقد�س للهندو�س‪.-‬‬
‫لكننا ذ َّوبناه ذوبانًا َّ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫هم يقولون �أن كاتِبه هو براهما‪ ..‬وال يدرون وال يدري �أحد �أن براهما هو نف�سه‬

‫ن‬
‫املحر َفة قدر ا�ستطاعتنا من ُ�صحف �إبراهيم‪.‬‬ ‫َ‬
‫الن�سخة َّ‬ ‫�إبراهيم!‪ ،‬و�أن الفيدا هي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫لكن «�شافع» كانت لديه نُ�سخة �أ�صلية من تلك ال�صحف‪ ،‬وكان يجب �أن منحوها ومنحو‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�أثر «�شافع» نف�سه من التاريخ‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫قال «�شافع» لل�صبي �أن ال�شياطني تكرهك وتكره اليوم الذي ُو َ‬
‫لدت فيه‪ -‬وكالمه‬
‫�صحيح‪.-‬‬
‫َ‬
‫جلن�سك البهيم!‪� ،‬أتدري‬ ‫ر�ضي جن�سنا اجلني ال�شامخ �أن يكون قرينًا‬ ‫وبرغم هذا ُ‬
‫الكره‪َ ..‬‬
‫ملاذا يا بهيم؟‬
‫َ‬
‫ن�سمعك تُر ِّددها كل حني‪� ،‬أن باليني اجلن موكولون‬ ‫غبا�ؤك قد ُي�ص ِّور لك ت�صاوير‪،‬‬
‫ُ‬
‫وندخل وراءك‪ ...‬تبالغ � َ‬
‫أنت يف تخ ُّيل �أهم َّيتك!‪،‬‬ ‫َ‬
‫�سيادتك النار‬ ‫ب�إ�ضالل َِك من �أجل �أن نُدخِ ل‬
‫وتبالغ يف حتقري ذكائنا‪.‬‬
‫أمرنا �أن نكون قرناء لك!‪ ،‬لو كان اهلل �أمرنا بذلك فلماذا‬‫�أو مثل قولك �أن اهلل هو الذي � َ‬
‫أنت يجِ ب �أن ُ‬
‫تدخل النار لغبائك فقط!‬ ‫�س ُيحا�سِ بنا و ُيدخِ لنا النار بذلك!‪� ،‬أتع َلم � ً‬
‫أمرا؟ � َ‬
‫قردا وانت�ش َلك من بني �أوحال البهائم‪ ،‬وهداك‬
‫نت ً‬ ‫الرب بعد �أن ُك َ‬ ‫َ‬
‫أكرمك ُّ‬ ‫ذات يوم‪� ..‬‬
‫�إىل جنة على هذه الأر�ض فيها من كل �شيء‪ ،‬جنة كانت �أجمل بقعة يف الأر�ض؛ بني دجلة‬
‫والفرات‪ ،‬جنة كان و�صفها �أنها جنة َع ْدن يعني ُم�ستوية‪ ،‬جنة ُ‬
‫كنت �أنا فيها‪� ،‬أنا ال�شيطان‬
‫‪47‬‬
‫كنت فيها‪ ،‬فوجدت َُك فج�أ ًة �آت ًيا � َ‬
‫أنت وزوجك‪...‬‬ ‫ال�سامي ُ‬
‫َ‬
‫وجعلتك تع�صي ربك‬ ‫نف�سك البهيمية غل َبت َ‬
‫عليك‬ ‫َ‬ ‫ماذا َ‬
‫فعلت يف تلك اجلنة �أيها الإن�سان؟‬
‫َ‬
‫فليخرجك ربك منها ويريحنَا منك‪...‬‬ ‫يف �شيءٍ تافِه!‪ ،‬لي�ست هذه هي امل�شكلة‪..‬‬
‫كذبت َ‬
‫وقلت �أنني �أغويتُك‪ ،‬و�أ�شهدت على ذلك زوجتك!‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دناءتك‬ ‫َ‬
‫كذبت‪ ..‬بكل‬ ‫َ‬
‫لكنك‬
‫أخرجني ربي معك‪� ،‬أخرجني َ‬
‫معك �أيها ال�سافِل‪.‬‬ ‫ف� َ‬

‫ع‬
‫َ‬
‫وق�ضى علينا �أن ن�سيح يف الأر�ض ونُ�صلِح فيها‪ ،‬ف�إن ف َعلنا �أدخ َلنا ً‬
‫جنة �أعلى و�أ�سمى‬

‫ري‬‫ص‬
‫لي�ست على هذه الأر�ض‪ ،‬جنة تعلو على ال�سماوات‪.‬‬ ‫و�أعظم‪ ،‬جنة َ‬

‫ال‬
‫َ‬
‫وطبيعتك احليوانية‬ ‫دخلت ً‬
‫جنة �أينما كانت‪ ،‬ف�إنك بكل ُل�ؤمِك‬ ‫َ‬ ‫جيدا‪� ..‬إذا‬ ‫و�أنا � َ‬
‫أعرفك ً‬

‫كت‬
‫�ستُف�سِ دها وتُخ ِرجنا منها!‪ ،‬كما �أخرجتَنا من التي قبلها‪.‬‬

‫ب نل‬
‫ُلدغ من ُجح ٍر مرتني‪.‬‬
‫ونحن ال ن َ‬
‫كذبت عليه و�أخرجتَه وقبيلته‬ ‫َ‬
‫ل‬
‫فعهد �إلينا نبينا لو�سيفر ‪-‬النبي الأمري البهي‪ -‬الذي‬

‫ش‬
‫َ‬

‫ر‬
‫طريق ونغويك لئال تكون‬ ‫ٍ‬ ‫نتبعك �أينما ذهَ بت‪ ،‬و�أن ن� َ‬
‫أتيك من كل‬ ‫َ‬ ‫عهد �إلينا �أن‬
‫من اجلنة‪َ ...‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�صا ًحلا؛ حتى نح َفظ اجلنة من �أمثالك‪ ،‬لئال يدخلنَّها يف ذلك اليوم علينا �إن�سان‪� ،‬إال �أن يكون‬

‫و‬
‫�سام ًيا مثلنا‪ ،‬وهم قليل يف بني الإن�سان‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫نر�صدهم ونزلهم ونُز ِّين لهم‬
‫�أما بهيميو النف�س والروح وهم الكرثة الكاثرة فنحنُ ُ‬
‫حتى ي�ستجيبوا‪ ،‬ف�إن ا�ستجابوا ف�إن نفو�سهم اخلبي َثة قد َّ‬
‫تك�ش َفت وافت�ضحت؛ فريمون يف نار‬
‫هُ م �أهل لها‪.‬‬
‫ك�شفنا البهائم �أنهم بهائم‪ ،‬و� َأبرزنا ال�رشفاء �أنهم �رشفاء‪.‬‬‫�أما نحن‪ ..‬فلنا ثواب �أنا َ‬
‫قرينك‪ ،‬لهذا �أنا حولك‪� ،‬أحوم‪ ،‬حتى �أُخ ِّل�ص الدنيا من‬ ‫َ‬ ‫هذا �أنا‪ ،‬وهذا �أنت‪ ..‬لهذا �أنا‬
‫َ‬
‫أ�سقطك يف � ِّرش �أعمالك‪.‬‬ ‫�رشك‪� ،‬‬
‫أ�سمعك وال ت�سمعني‪ُ � ،‬‬
‫أمتلك قدر َة �أن � َّ‬
‫أحتدث �إىل‬ ‫ولأنني بهي �سام‪ ..‬ف�إين � َ‬
‫أراك وال تراين‪َ � ،‬‬
‫عليك وعلى من حواليك‪.‬‬ ‫أبث فيها ما �أريد‪ ،‬هكذا وهكذا فقط �أ�ستطيع �أن �أ�ؤ ِّثر َ‬
‫روحك‪ُّ � ،‬‬
‫فيك وتن َّبه لها‪ ،‬وال يخدعن ََّك كالم املتك ِّلمني َ‬
‫الب�ش‪.‬‬ ‫عقيدتي َ‬
‫فتع َّلم َ‬

‫‪z‬‬
‫‪48‬‬
‫(‪)2‬‬

‫عيون‬
‫ٌ‬
‫تست ِعر‬
‫َ‬
‫بالغضب‬
‫َ‬
‫وت�صاعد دخن من ف ّوهاتها‪ ،‬دخن �أ�س َود كثيف‬ ‫َ‬ ‫�أخاديد ج َّفت نريانها‪،‬‬
‫ي�صنع �أ�شباهً ا لأرواح �أح َرقها‪ ،‬ومالمح َّ‬

‫ع‬
‫تفحمت جنباتها‪ ،‬و�سال‬ ‫عذ َبها‪� ،‬أخاديد َّ‬

‫ص‬
‫القيح يف عروقها وفرجاتها‪ ...‬وظ َّل هو على حاله؛ �ساعات طوال وهو ماكث‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫على ُركبتيه يلفح الدخان وجهه‪ ،‬ولوال �أن الهواء ُيح ِّرك مالب�سه و�شعره الأ�شقر‬
‫الطويل لظننته �صن ًما!‪ ،‬كانت �أذناه التزال تلتقط ذكرى �صخبهم و�صراخهم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يرت َّدد بني الدخان ومن الدخان‪ ،‬واحم َّرت عيناه اجلنية من البكاء‪ ،‬ولقد م�ضى‬

‫ب‬
‫يبك حتى ق�سا وت�ص َّلب وظنَّ �أنه قادر على التمالك‪،‬‬ ‫زمان على ذلك القلب مل ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫يتما�سك‪ ،‬لكن نظرات حا َنت منه‬ ‫لك يا «عمرو بن جابر» �أن تبكي!‪ ،‬كان َ‬ ‫�أمل ي� ِأن َ‬

‫ش‬
‫�إىل الأخدود بع َثت له �صورة ن َفر من بني الإن�سان‪ ،‬م�ؤمنني وم�ؤمنات‪ ،‬ثبتوا يف‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫إن�س وال جان‪ ،‬وقد ال تدري الب�شر َّية عنهم �أي �شيء‪،‬‬‫م�شهد مل يثبت فيه قبلهم � ٌ‬ ‫ٍ‬

‫و‬
‫غطت على كل �ألوانه‬ ‫لكنه يدري‪ ،‬وقام بج�سده الطويل مي�شي و�سط غيوم �سود َّ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫خارجا‪ ،‬وعيون حمر من غ�ضب ومن حزن‪،‬‬ ‫فلم ي َر منه �إال ظل �أ�سود يتحرك ً‬
‫ت�شع منه‬‫كتمل‪ ...‬كانت ُنذر اخلطر ِ‬ ‫وبدت �ألوانه تظهر يف خروجه حتى ُر� َؤي ُم ً‬
‫م�ضة غا�ضبة عازمة على الق�صا�ص!‬ ‫إ�شعاعا‪ ،‬ثم تال�شى ك َو َ‬
‫� ً‬
‫و�أمام واجهة ق�صر خمر كان هناك حدث �آخر‪� ..‬صبي قد �أتى يجر قدمه‬
‫ج ًّرا ومي�سك يف يده �شيء ما ي�ض ّمه �إىل �صدره �ض ًما �شديدً ا ويقرتب ما�ش ًيا من‬
‫الق�صر وينادي (يا «�أ�سعد»‪)...‬‬
‫ر�صدته عني «�أ�سعد» الواقف يف نافذته فتح َّرك ً‬
‫نازل �إليه‪� ،‬أم�سك‬ ‫وقد َ‬
‫اجلنود احلار�سون بال�صبي فتدافع معهم فدفعوه ب�أرجلهم حتى وقع على ظهره‬
‫وتبي ال�شيء الذي مي�سك به؛ كان كتا ًبا يبدو على �صحائفه �آثار القدم‪� ،‬سمع‬ ‫َّ‬
‫�ضج ًة عند باب الق�صر الذي انفتح وبرز منه «�أ�سعد» ووراءه ج ّده و�أمه‬ ‫اجلميع َّ‬
‫ي�صرخون فيه ويحاولون منعه من اخلروج‪ ،‬وانطلق جندي حار�س �إىل «�أ�سعد»‬
‫ووقف يف طريقه و� َ‬
‫أم�سك به‪ ،‬نادى ال�صبي (يا «�أ�سعد»‪ ..‬لقد قتلونا يا «�أ�سعد»‪،‬‬ ‫َ‬
‫‪55‬‬
‫دخلوا �إىل ديرنا ف�أ�سالوا الدماء و�أزهقوا الأرواح وك َّوموا �أج�سادنا ك�أج�ساد‬
‫املوا�شي املذبوحة‪ ،‬مل ي ُعد �أحد باق ًيا يا «�أ�سعد»‪ ،‬مل ي ُعد �أحد باق ًيا‪)...‬‬
‫تو َّقف الكل ينظرون �إىل ال�صبي وهو ي ِئن ب� َأل كتب عليه �أن يراه يف هذا‬
‫ال�سن‪ ..‬نظر �إليه «�أ�سعد» بعيون تهتز من الثورة‪ ،‬وم�شى �إليه يحت�ضنه‪ ،‬كان‬
‫يعرفه جيدً ا‪ ،‬كان �صب ًيا ناب ًغا يف الدير ا�سمه «يزن»‪ ...‬نظر «�أ�سعد» �إىل الكتاب‬
‫ونظر �إىل «يزن» ب� َأل نظر ًة ُمت�سائلة ك�أمنا ي�س�أله (�أهذا هو ؟)‪� ..‬أوم�أَ له «يزن»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بنظرة حزينة �أن (نعم)‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أم�سك «�أ�سعد» الكتاب و�ض َّمه‪ ..‬كان هذا كتاب الراهب «�شافع» والذي فيه‬
‫تعاليم الدين التوحيدي‪ ،‬والذي كان ُيع ِّلمهم منه يف الدير وهم �صغار‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وبرز «عمرو بن جابر» ك�أمنا �أتى من ال مكان!‪ ،‬ونظر �إىل «�أ�سعد»‪ ،‬والت َقت‬

‫ب‬
‫عيو ٌن غا�ضبة ب�أخرى‪ ،‬وتو َّت َرت جوانب امل�شهد ُبرهة حتى حت َّرك اجلندي الواقف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�أمام «�أ�سعد» ليقب�ض على يده‪ ،‬وفج�أة الت َّفت يد «�أ�سعد» على يد اجلندي ول َوتها‬

‫ش‬
‫وراءه وح�شت قدم «�أ�سعد» قدمه ف�سقط على وجهه‪� ..‬صاح اجلد «موهبيل» يف‬

‫و‬ ‫ر‬
‫جنوده‪:‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ ال تدعوا «�أ�سعد» يخ ُرج‪� ..‬أم�سكوا به يف احلال‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وقف «�أ�سعد» مكانه و�أق�سم قائال‪:‬‬
‫حب�سني �أحدكم �ساعة �أخرى لأق ُتلنَّ نف�سي دون �أن تهتز يف يدي‬ ‫ لئن َ‬
‫�شع َرة‪.‬‬
‫كانت الأم «فارعة» تبكي وتنادي با�سم «�أ�سعد» وال يلت ِفت لها‪ ...‬وتق َّدم‬
‫عازما على اخلروج وهو حمت�ضن ال�صبي «يزن» ب�إحدى يديه‬ ‫«�أ�سعد» من الباب ً‬
‫ومم�س ًكا بالكتاب يف اليد الأخرى‪ ،‬فنظر حرا�س الباب �إىل «موهبيل» ينتظرون‬
‫الأمر‪ ،‬ف�أ�شار لهم باالبتعاد عن الطريق‪ ،‬وملا و�صل «�أ�سعد» �إىل جوار «عمرو‬
‫التفت «عمرو» �إىل اجلد‬ ‫وهم اجلميع باملغاد َرة‪ ،‬ثم َ‬ ‫بن جابر» ا�ستدار «عمرو» َّ‬
‫«موهبيل» وقال‪:‬‬
‫ كيف حت ُلم �أن يح ُكم حفيدك هذه البالد ثم حت ِب�سه بني �أربعة جدران يا‬
‫موهبيل؟‬
‫قال له «موهبيل»‪:‬‬
‫‪56‬‬
‫ �سي�أتي يوم ميوت فيه «ذو نوا�س» يا «عمرو»‪ ...‬عندها ُن ِ‬
‫خرج ولدنا �إىل‬
‫احلكم‪.‬‬
‫قال «عمرو بن جابر»‪:‬‬
‫ ال تدري لعل ذلك اليوم يكون قريبا يا موهبيل‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫َ‬
‫تو�صلك �إىل‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ هذه العيون التي ت�ست ِعر َ‬
‫بالغ�ضب يا «�أ�سعد»‪ ..‬هذه العيون قد‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫َ‬
‫تو�صلك �إىل القرب!‬ ‫الآفاق‪ ،‬وقد‬
‫نف�س م�ؤمنة �أزه َقها‪.‬‬ ‫ لقد �أباد اجلميع‪ ،‬ولأجعل َّنه ي�ص ُرخ �صرخ ًة عن كل ٍ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أنت واحد‪� ،‬أما هو فجنود اململكة كلها يلت ُّفون حوله‬ ‫ لن ت�سلط عليه‪َ � ..‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫كالطوق‪� ،‬إىل جانب مهارته القتالية العالية التي ُت ِّكنه من تقطيع‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫اقرتبت منه �ش ًربا‪.‬‬


‫َ‬ ‫�أو�صالك لو‬

‫ر‬
‫أقطع لك‬ ‫ �أنا �أي�ضا تع َّلمتُ القتال عند الراهب «�شافع»‪ ..‬هل تريد �أن � ِّ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ر� َأ�سك لرتى بنف�سك؟‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫دعك من هذا يا «�أ�سعد»‪� ..‬أنت لن حتتاج �إىل هذا‪� ،‬إن الطغاة يف عاملنا‬ ‫  َ‬
‫ي�سقطون بطريق ٍة �أخرى‪ ،‬فا�سمع مني جيدً ا‪ ،‬ولتجعل َّنه يدور حول نف�سه‬
‫حتى تتم َّكن منه يف النهاية وت�ضع ر�أ�سه على ر�أ�س �سيفك هذا‪.‬‬
‫لي�ست ك�أي عقول؛ عقو ٌل �أ َملعية!‬
‫و�أدرك «�أ�سعد» �أن اجلن لهم عقو ٌل َ‬
‫‪z‬‬
‫ر�سل �أ�ضوا ًء مرتاق�صة على حوائط ُمز َّينة بعناية‪ ،‬ورجل ذو حل َي ٍة‬ ‫�شمو ٌع ُت ِ‬
‫ويتلحف بها‪ ..‬يفتح كتا ًبا ُ‬
‫ينظر فيه ويُغمِ �ض‬ ‫طويلة و�شعر طويل وعباءة يلب�سها َّ‬
‫كالما خف ًّيا ال ي�سمعه �أحد غريه!‪ ،‬كان‬
‫عينه ويبدو من تعبريات وجهه �أنه ي�سمع ً‬
‫هذا هو ال�ساحر «هريا» يف �أحد جنبات ق�صر بلقي�س‪ ...‬قام «هريا» عن الكتاب‬
‫وا�ستدار ليذهب �إىل مكان ما‪ ،‬لكنه توقف وقد �ضرب قلبه الرعب مما ظهر‬
‫ينظر له بجر�أة!‪ ،‬تراجع ال�ساحر‬ ‫رجل ُمل َّثما واق ًفا كالطود ُ‬
‫�أمام عينه!‪ ،‬ر�أى ً‬
‫بكلمات ونظ َر حوله‪ ...‬قال له امللثم بحزم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ومتتم‬
‫‪57‬‬
‫ت�سلني كيف دخلتُ �إىل �صومعتك وكيف جتاوزتُ‬ ‫ ال تق َلق يا «هريا» وال َ‬
‫أنت تعلم �أن هناك �أمو ًرا يف هذا العامل تكون‬ ‫حر�سا كث ًريا ودهاليز‪ ...‬ف� َ‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫أمر يخ�ص امل ِلك‪.‬‬ ‫َ‬
‫عجيبة‪ ،‬لكن � ِأعرين �سم َعك ف�إين �أود �أن �أ�س ّر لك ب� ٍ‬
‫ومال املُل َّثم عليه وقال له خف َية‪:‬‬
‫�شديد‪َ ..‬‬‫اقرتب ال�ساحر «هريا» بحذ ٍر ٍ‬
‫ �إن ابن «ملكيكرب» مل ُميت‪ ..‬ولقد كرب اليوم و�سيبد�أ بعمل ثورة على‬

‫ع‬
‫حكم «ذو نوا�س»‪ ،‬و�أنت تعلم �أن �آل «ملكيكرب» هم �أقرب �إىل قلوب‬

‫ص‬
‫النا�س و�أقرب �إىل احلكم‪ ،‬ولو ُو ِ�ض َع «ذو نوا�س» بكل ُظلمه ل�شعبه �إىل‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫جوار ابن «ملكيكرب» �أمام النا�س ف�إن النا�س �ستكون مع �آل «ملكيكرب»‪.‬‬
‫ب�صوت �أكرث‬
‫ٍ‬ ‫ثم مال عليه وك�أ َّنه ُيخربه ب�أمر �أ�شد �أهمية من هذا كله؛ قال له‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ً‬
‫انخفا�ضا‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ و�إنني �أنا الوحيد الذي يدري �أين هو ابن «ملكيكرب»‪.‬‬

‫ش‬
‫ثم ه َم�س له‪:‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫ وال حتى �شيطانك «�إزب بن �أزيب» يع َلم‪.‬‬

‫و‬
‫هنا ات�س َعت عني ال�ساحر ح ًقا‪� ..‬إنه ال يدري �أح ٌد على َظهر الأر�ض با�سم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�شيطانه!‪ ،‬ثم �إن �أمر ابن «ملكيكرب» هذا لي�س �أم ًرا هي ًنا‪ ...‬قال له امللثم‪:‬‬
‫آتيك بخرب كل �شيء‬ ‫ اتبعني �إىل وادي هانون �إذا غا َبت ال�شم�س‪ ..‬و�س� َ‬
‫ً‬
‫تف�صيل‪.‬‬
‫وبقي ال�ساحر‬
‫ثم ا�ستدار امللثم وفتح الباب ك�أمنا يفتح باب بيته وان�ص َرف‪َ ..‬‬
‫«هريا» تتخ َّبطه الأفكار‪.‬‬
‫وفور غياب �شم�س وادي هانون‪� ..‬أتى ال�ساحر «هريا» بعباءته ووقف على‬
‫ر�أ�س الوادي ُ‬
‫ينظر‪ ،‬ثم برز له املُل َّثم على جواد له‪ ،‬فنزل عن جواده ثم م�شى �إليه‬
‫بهدوء‪ ،‬ووقف �أمامه وقال له‪:‬‬
‫ هل �أح�ضرتَ �شيطانك َ‬
‫معك يا «هريا»؟‬
‫لهجة‬
‫نظر له «هريا» بجب ٍني ُمقطب ومل ي ُرد �شاع ًرا ب�شبه ن َربة ا�ستخفاف يف َ‬
‫امللثم‪ ..‬قال امللثم‪:‬‬
‫‪58‬‬
‫العال‬
‫خربك �شيطانك من �أنا؟ �ألي�س هو ال�شيطان املارد ِ‬ ‫ «هريا»‪� ..‬أمل ُي َ‬
‫بكل �شيء؟‬
‫نوع ما!‪ ،‬ثم‬
‫مكيدة من ٍ‬‫نظر ال�ساحر «هريا» حوله وقد بد�أ يتي َّقن �أن الأمر فيه َ‬
‫�سمع �صوت ا�ستالل ال�سيف فنظر ف�إذا امللثم قد ا�ست َّل �سي َفه فج�أة‪ ،‬و�أزال اللثامة‬
‫عن وجهه فظهرت مالحمه اليمنية الو�سيمة ال�شابة‪ ،‬نظر له ال�ساحر ُم ً‬
‫اول‬

‫ع‬
‫فهم ما يجري‪ ،‬لكن امللثم قال له‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫خن�س من ر�ؤيتي؟‬ ‫َ‬
‫�شيطانك �أم �أنه َ‬ ‫ ها قد �أزلتُ اللثامة‪� ..‬أومل يعرفني‬
‫نف�سه �ألف مرة‬
‫ال‬
‫توتَّرت �أقدام ال�ساحر و�أ�سقط يف يده ومل يد ِر ما يفعل‪ ..‬ولعنَ َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫على الإتيان هنا‪ ،‬قال له امللثم الذي مل ي ُعد ُملث ًما‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ربك عن �ش�أن ابن «ملكيكرب»؛‬ ‫بوعودي �أيها ال�ساحر‪ ..‬و�إين ُم َ‬ ‫ �أنا � ِأف ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫�سيي ُكم‬‫�أال �إن ابن «ملكيكرب» هذا ا�سمه «�أ�سعد»‪� ،‬أال �إن «�أ�سعد» هذا ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�سوءاتكم ويقطعها لكم‪� ،‬أال �أنه ي�س ُكن قرب هذا الوادي؛ �أال �إن ابن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫«ملكيكرب» هو �أنا!‬

‫و‬
‫للرتاجع وال تقوى قدماه على‬ ‫ُ‬ ‫ج�سد ال�ساحر وهو يتج َّهز‬ ‫رع�ش ٌة يف َ‬
‫�س َرت َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫حمله‪ ..‬و َثب «�أ�سعد» �إىل اجلواد وانطلق كال�سهم ناحية ال�ساحر الذي َّ َ‬
‫تعثت‬
‫قب�ضة «�أ�سعد» �أم�س َكت به‬
‫�ساقطا �إىل الوراء‪ ،‬لكن َ‬ ‫ً‬ ‫الرتاجع ومال‬
‫ُ‬ ‫قدمه من‬
‫ورفعته �إىل اجلواد وك�أنها قب�ضة من حديد و�أركبته على اجلواد �أمام «�أ�سعد»!‪،‬‬
‫�شع َر ال�ساحر بخنجر يلم�س ظهره حتذي ًرا وتخوي ًفا‪ ،‬و�ضعه «�أ�سعد» و�ش َّد به‬
‫وتوعده �أن مي�ضيه يف ج�سده عند �أول بادرة‬ ‫على ظهره حتى �أدماه‪ ،‬ثم �أرخاه َّ‬
‫بكف يده على وجهه �صفع ًة موج َعة مهينة‬ ‫للمقاومة‪ ،‬ثم �ضرب «�أ�سعد» ال�ساحر ِّ‬
‫�أتبعها ب�صفعة �أخرى‪ ،‬ومع كل �صفعة يكاد ال�ساحر يقع من فوق اجلواد لكن‬
‫«�أ�سعد» مي�سك به ويعيده‪ ،‬ثم �سحب «�أ�سعد» عباءة ال�ساحر ورماها يف الهواء‬
‫و�ضرب فيها ال�سيف ف�ش َّقها ن�صفني!‪ ،‬فظهرت مالب�س ال�ساحر ر َّثة من حتت‬
‫العباءة‪ ،‬فنكز «�أ�سعد» اجلواد نكز ًة حازمة وانطلق اجلواد ب�سرعة ناحية �سوق‬
‫مدينة ظفار‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪59‬‬
‫عا�صفة من الغربة والرتاب �شهدها النا�س يف �سوق ظفار �آت َية عليهم‪..‬‬
‫فار�سا ينطلق بجواده ب�سرعة جنونية ومي�سك �أمامه على اجلواد‬ ‫وتب َّينوا وراءها ً‬
‫رجل ذو حلية طويلة‪ ،‬كان هذا «�أ�سعد» الذي تو َّقف بجواده يف و�سط ال�سوق‬
‫و�صاح ب�أعلى �صوت ميلكه‪:‬‬
‫أحتكم �إلي ُكم يف هذا الرجل هاهُ نا؛‬
‫ يا مع�شر ظفار‪ ..‬يا �أهل �سب�أ‪� ..‬إين � ِ‬
‫فاحكموا يل يف �أمره‪.‬‬
‫عجب وت�سا�ؤل‪ ..‬ف�صفع «�أ�سعد»‬ ‫النا�س يف ال�سوق ينظرونه يف َ‬
‫ص‬ ‫ع‬‫جت َّمع �إليه ُ‬

‫ري‬
‫ال�ساحر �صفع ًة � َ‬

‫ال‬
‫أ�سقطته من على اجلواد‪ ،‬ف�صاح بع�ض النا�س ُمعرت�ضني على‬
‫�أن يفعل هذا برجل عجوز!‪ ،‬قال لهم «�أ�سعد»‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ رجل مثل هذا رث تت�صاعد من ج�سده رائحة العفن؛ هل ي�ستحق �أن‬
‫ُن ِّ‬

‫ب‬
‫عظمه فينا؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫نظر بع�ض النا�س �إىل ال�ساحر وقد ُ�ش ِّبه لهم �أنهم ر�أوه يف مكان ما!‪ ،‬قال‬

‫ش‬
‫«�أ�سعد»‪:‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫ا�ستخف كث ًريا من النا�س وا�ستهانَ بعقولهم و�أخربهم �أنه‬‫َّ‬ ‫ رجل مثل هذا‬

‫و‬
‫عظمه فينا؟‬ ‫يعلم كل �شيء‪ ...‬هل ي�ستحق �أن ُن ِّ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�صاح بع�ض الرجال وقد عرف الأمر‪:‬‬
‫ �إن هذا هو �ساحر امللك‪.‬‬
‫و�سرت اجلملة بني اجلمع ي�سوقونها بع�ضهم �إىل بع�ض‪� ..‬س�أله «�أ�سعد» يف‬
‫�صرامة‪:‬‬
‫ هل تع َلم كل �شيء �أيها ال�ساحر؟ هل بلغ َ‬
‫علمك �أنك ت�سمع النا�س يف‬
‫العال بكل �شيء؟‬
‫لك وراء ظهري �أيها ِ‬ ‫بيوتاتهم؟ هل تع َلم ما الذي �أُخ ِّبئه َ‬
‫و�أخفى «�أ�سعد» يده خلف ظهره‪ ..‬و�أعاد �س�ؤاله لل�ساحر‪:‬‬
‫ هل تع َلم ما الذي �أُخفيه خلف ظهري؟‬
‫بل َع ال�ساحر ُلعا َبه ونظر �إىل وجوه النا�س وعيونهم الناظرة له يف تعبريات‬
‫كثرية متداخلة ال ميكن للبيان �أن ي�صفها؛ عن ع�شر �سنوات من اخلوف‬
‫بوجل يف قلوبهم‪ ،‬عن «هريا» �ساحر‬ ‫والتفادي‪ ،‬عن ا�سمه الذي �إذا ُذ ِكر ي�شعرون َ‬
‫‪60‬‬
‫امللك الذي يبدو يف �أر َد�أ حاالته اليوم يف �ساحة �سوق ظفار‪ ...‬و«�أ�سعد» ُيك ِّرر‬
‫خرج «�أ�سعد» يده من وراء ظهره‬ ‫ب�صوت �أعلى‪ ..‬وال ي ُرد ال�ساحر ف ُي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫عليه ال�س�ؤال‬
‫ويهوي بها بلط َمة على وجه ال�ساحر ويقول‪:‬‬
‫لك �أيها املنافق الأ َّفاك القذر‪.‬‬ ‫ هذا هو ما �أخ ِّبئه َ‬
‫ثم ُيخفي يده مرة �أخرى وي�صيح ً‬
‫�سائل‪:‬‬

‫ع‬
‫ ما الذي �أُخ ِّبئه فيها؟‬

‫ري‬‫ص‬
‫ثم ُيخرجها ويهوي بها على وجه ال�ساحر الذي نز َلت الدماء من وجهه‬

‫ال‬
‫الذل الذي مل يكن يكفي �سنني املهانة‬ ‫و�سقط على ركبتيه وذاقت عيونه معاين ُ‬
‫التي �أذاقها للبالد والعباد‪.‬‬

‫ت‬
‫�سقطت �أ�سطورة‪ ..‬وبد�أ ال�صبيان يت�ضاحكون عليه‬
‫ك‬ ‫ويف ب�ضع دقائق َ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وي�صفعونه ويته َّكمون به‪ ...‬ثم �صاح «�أ�سعد» يف و�سط النا�س‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ �أيها النا�س‪� ..‬إين �أنا ابن امل ِلك‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ا�ستغراب وا�ستنكار‪ ،‬ف� َ‬
‫أكمل «�أ�سعد»‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫النا�س �إىل بع�ضهم يف‬
‫نظر ُ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ ابن امللك العظيم «ملكيكرب»‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بع�ضهم ته َّل َل وجهه‪ ،‬وبع�ضهم حتا�شى االنفعال‪ ،‬وبع�ضهم ا�ستن َكر‪ ...‬وفار‬
‫وا�ضحا‪ ..‬ويف جانب من جوانب‬ ‫ً‬ ‫ال�ضجيج يف و�سط ال�سوق فلم ت ُعد ت�سمع ً‬
‫قول‬
‫َ‬
‫فتطاول النا�س فر�أوا ثالثة �أتوا على �أح�صنة‬ ‫ال�سوق ع َلت ال�ضجة عن بقية ال�سوق‬
‫لهم؛ اجلد «موهبيل» والأم «فارعة» و «عمرو بن جابر»‪.‬‬
‫�سار الثالث ُة حتى �أتوا �إىل جوار «�أ�سعد»‪ ،‬وقال اجلد «موهبيل»‪:‬‬
‫َ‬
‫اختطف من بني �أيادينا �صب ًّيا‬ ‫ �إمنا هذا هو «�أ�سعد بن ملكيكرب»‪ ،‬و�إنه قد‬
‫حفظه و�أعاده �إلينا فر َّبيناه و�أخفيناه ممن‬ ‫ِبن َّية القتل!‪ ،‬لكن ربه قد َ‬
‫حاولوا قتله‪.‬‬
‫ازداد عدد املُه ِّللني يف ال�سوق‪ ..‬ورفع «�أ�سعد» قب�ضته عال ًيا‪ ،‬ثم هوى بها على‬
‫وجه ال�ساحر فهوى على الأر�ض يبت ِلع الدماء‪ ،‬وقال «�أ�سعد»‪:‬‬
‫ �أال �إن ال�سحر ي�سقط اليوم على هذا ال�ساعد‪.‬‬
‫ورف َع ب�ساعده بحركة تدُل على القوة‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫ثم خ َبت �أكرث الأ�صوات وخفتَت‪ ،‬و�سكنت �أكرث احلركات‪ ،‬وحت َّركت النظرات‬
‫�إىل جهة واحدة من اجلهات؛ جهة كان يقف فيها جواد ملكي وعليه رجل ينظر‬
‫يف ب�أ�س و�سلطان و�صمت وترهيب!‪ ،‬كان ذاك «ذو نوا�س» قد �أتى وخلفه جن ٌد‬
‫وبدت �ضفائره يف ذلك اليوم �أكرث ً‬
‫طول عن ذي قبل!‪ ،‬و�أكرث ُرع ًبا‪.‬‬ ‫جم َّندون َ‬
‫‪z‬‬
‫ع‬
‫تف َّرق النا�س حتى عملوا مم ًّرا وا�س ًعا بينهم‪ ..‬م�شى فيه «ذو نوا�س» وحوله‬

‫ص‬
‫جنوده يتبعونه‪ ،‬وتباعد النا�س وتراجعوا فات�سعت الدائرة التي ُي�ش ِّكلونها حول‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫امل�شهد‪ ،‬نظر «ذو نوا�س» بال كالم �إىل «�أ�سعد»‪ ،‬فقط نظر وك�أنه ال يريد �أن‬
‫مينحه �شرف التح ُّدث �إليه!‪ ،‬و�أ�شار بيده فتح َّرك اجلنود‪ ...‬قال «�أ�سعد» لذو‬

‫ك‬
‫نوا�س م�ش ًريا �إىل ال�ساحر‪:‬‬
‫أ�صبحت ُت�شري‬
‫َ‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫أنك مل تتع َّلم �شي ًئا من ب�أ�س الرجال‪� ..‬‬
‫ �أيها امللك يبدو � َ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫رهب بها ه�ؤالء هي‬ ‫َ‬
‫ب�ضاعتك اخل�سيئة التي ُت ِ‬ ‫للرجال لأن ُيقاتلوا عنك‪،‬‬

‫ش‬
‫ال�سحر‪ ،‬ويبدو �أن ال�سحر الذي تتماجد به ُملقى ها هنا حتت قدمي‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫تعجب �أو‬‫نظ َر «ذو نوا�س» �إىل ال�ساحر نظر ًة طويل ًة ال تدري �أهي نظرة ُّ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�صدمة!‪ ،‬قال «ذو نوا�س» لأ�سعد‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أنت يا َ‬
‫طويل الل�سان؟‬ ‫ ومن � َ‬
‫قال له «�أ�سعد» بعزَّة‪:‬‬
‫ح�سن‬‫ �أنا ابن «ملكيكرب»‪ ..‬كيف وجدتَ عر�ش والدي؟ هل �أبقيتَه َ‬
‫َ‬
‫برائحتك القذرة؟‬ ‫الرائحة؟ �أم �أجن�ستَه‬
‫ثم قفز «�أ�سعد» فج�أ ًة بال ُمقدِّ مات على فر�سه وانطلق �إىل «ذو نوا�س»‪..‬‬
‫حتديدً ا �إىل ر�أ�س «ذو نوا�س»‪ ،‬ورفع «�أ�سعد» �سي َفه و�أهبطه يف �ضربة قو َّية على‬
‫ر�أ�س «ذو نوا�س» الذي تراجع بب�ساطة املقاتلني ور َّد �ضر َبة «�أ�سعد» ب�سي ِفه!‪،‬‬
‫فتالقى ن�ص َلي �سيفيهما يف م�شهد مل يعتَد ال�شعب �أن يراه من قبل؛ فلم ي َر‬
‫�أحدهم من قبل �سي ًفا ُير َفع على «ذو نوا�س»!‬

‫‪z‬‬
‫‪64‬‬
‫م�شى احل�صانني مبقاتليهما يف �ساحة ال�سوق يدوران حول بع�ضهما‪ ..‬ثم‬
‫بد�أ «ذو نوا�س» احلراك‪ ،‬فم َّد يده �إىل �ساقه فا�ست َّل خنج ًرا من خناجره ورماها‬
‫لي�صطك اخلنجر‬‫َ‬ ‫موجهة �سريعة ناحية «�أ�سعد» الذي رفع �سيفه �سري ًعا �أمامه‬
‫يف َن�صل ال�سيف وي�سقط‪ ...‬ف�أخذ ن�صل �سيف «�أ�سعد» يهتز ك�أمنا ُفوجئ بحرك ٍة‬
‫غري ُمعتادة!‪ ،‬ابت�سم «ذو نوا�س» وعمل �شي ًئا ات�سعت له عني «�أ�سعد» لثانية؛‬
‫فقد قفزَ من على فر�سه وا�ست َّل خنجرين من �ساق ومن �ساق ورمى اخلنجرين‬

‫ع‬
‫مبا�شرة �إىل «�أ�سعد» الذي ر َّد واحدً ا منهم ب�سيفه‪ ،‬لكن الثاين انغر َز يف كتفه‬

‫ري‬‫ص‬
‫و�ضجت النا�س‪.‬‬
‫و�سقط على ظهره على الأر�ض‪َّ ...‬‬ ‫َ‬ ‫و�أطاره من فوق فر�سه‬

‫ال‬
‫ينظر يف وجوه النا�س‬ ‫غطى �ضجيج النا�س على كل الأ�صوات‪ ..‬و «ذو نوا�س» ُ‬

‫ك‬
‫ينظر يف وجوه النا�س‪ ،‬مالمح ال تدري‬ ‫يف عجب واختيال‪ ،‬وكان «�أ�سعد» �أي�ضا ُ‬
‫�ضج بالثورة!‪ ،‬وبني الوجوه‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫�ضج بالظلم �أم ممن َّ‬ ‫أهي م َعك �أم �ضدك‪� ،‬أهي ممن َّ‬ ‫� َ‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫�أ�ش َرف له وجهها‪ ،‬ببهائها وو�ضاءتها وعيونها التي مثل البحر‪ ،‬كانت ُ‬

‫ن‬
‫تنظر له‬

‫ش‬
‫يف �شف َقة وت�شجيع؛ «�إينور» بجمال روحها وجمال عينها‪ ،‬لكن «ذو نوا�س» مل يكن‬

‫ر‬
‫ُي�ض ِّيع وقتًا‪ ..‬كان قد ا�ست َّل �سي َفه وتق َّدم من «�أ�سعد» يريد �إنهاء حياته‪ ،‬وكان‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�سيف «�أ�سعد» واق ًعا بعيدً ا عنه‪ ،‬ونزل «ذو نوا�س» بال�سيف بحرف َّية على ر�أ�س‬

‫ز‬ ‫و‬
‫«�أ�سعد» ب�ضربة حادة‪.‬‬

‫يع‬
‫بدل من �صوت الدماء!‪ .‬كان «�أ�سعد» قد انتز َع اخلنجر‬ ‫�صليل ً‬
‫و�سمع النا�س ً‬
‫ويح�صل على �سيفه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من كتفه ور َّد به �ضربة ال�سيف‪ ،‬ثم ا�ستغ َّل املفاج�أة ليبتعد‬
‫ثم �ص َّفر «�أ�سعد» حل�صانه ف�أتاه فاعتاله‪ ،‬وذهب «ذو نوا�س» واعتلى فر�سه‬
‫أي�ضا‪ ،‬وعاد كل �شيء �إىل حال اللحظة الأوىل‪ ،‬وانطلق احل�صانان يف مواجهة‬ ‫� ً‬
‫ثانية �أ�ش ّد �ضرا َو ًة من الأوىل‪ ،‬ارتفع فيها رنني ال�سيوف وقرعها بع�ضها على‬
‫هجم بفر�سه بزاوية معينة‬‫بع�ض‪ ،‬لكن هذه املرة فعل «�أ�سعد» �شي ًئا عجي ًبا؛ فلقد َ‬
‫�سمحت له �أن يتجا َوز فر�س «ذو نوا�س»‪ ،‬ثم م َّد «�أ�سعد» يده وراء ظهره وقب�ض‬ ‫َ‬
‫على �ضف َريتي «ذو نوا�س» وهما تطريان يف الهواء‪ ،‬قب�ض عليهما قب�ضة مفاجئة‬
‫فاختل توازن «ذو نوا�س» من على فر�سه و� َآل لل�سقوط فنزل «�أ�سعد» بال�سيف‬ ‫َّ‬
‫انقلب على‬
‫فقطع ال�ضفريتني ب�ضربة واحدة‪ ،‬و�سقط «ذو نوا�س» على ظهره ثم َ‬
‫و�ضجت‬
‫ينظر �إىل �ضفائره املرمية على الأر�ض يف ذهول‪َّ ،‬‬ ‫وجهه ورفع ر�أ�سه ُ‬
‫�ضجوا بال�ضحك‪.‬‬‫النا�س‪ ،‬لكن هذه املرة ُّ‬
‫‪65‬‬
‫كانت بقايا �ضفريتي «ذو نوا�س» تبدو مثل قرنني فوق ر�أ�سه‪ ..‬ا�ستغ َّل «�أ�سعد»‬
‫ده�شة «ذو نوا�س» و�ضر َبه �ضرب ًة مبقب�ض ال�سيف على �أم ر�أ�سه فرت َّدى على‬ ‫َ‬
‫الأر�ض‪ ،‬و�أم�سك «�أ�سعد» بتالبيبه و�سح َبه حتى و�ضعه مرم ًيا �إىل جوار ال�ساحر‪،‬‬
‫ورفع �سيفه ور�أ�سه ونظر �إىل النا�س؛ ال�شعب الذي ما ذاق طعم احلرية منذ‬
‫عقدين من الزمان‪ ،‬وانحنى اجلنود كلهم وو�ضع ك ٌّل منهم ر�أ�س �سيفه على‬
‫الأر�ض‪ ،‬كان ذو نوا�س و�ساحره يف دوار �شديد يحاوالن القيام من على الأر�ض‬

‫ع‬
‫بال جدوى!‪ ..‬التقط «�أ�سعد» اخلنجرين الذين رماهما ذو نوا�س �ساب ًقا‪ ،‬ونظر‬

‫ص‬
‫�إليهما ً‬
‫قليل ثم فج�أ ًة رمى �أحدهما رم َي ًة خاطف ًة فانغر َز يف رقبة ال�ساحر‪ ،‬ثم‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫رمى الآخر رمية �أ�شد و�أعتى من الأوىل لت�ستقر يف و�سط ر�أ�س ذو نوا�س وتنفجر‬
‫ابي�ضت عينا ال�ساحر يف ميل �إىل املوت‪ ،‬ور�أى من بني‬ ‫لها كثري من دمائه‪َّ ...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أب�شع من جمامع‬ ‫�أج�ساد النا�س كيا ًنا يرتدي عباء ًة على ر�أ�سه ويبدو وجهه � َ‬

‫ب‬
‫الب�شاعة كلها يتب�سم يف ُ�سخرية ويتق َّدم منه!‪ ،‬كان ذلك «�إزب بن �أزيب»‪ ..‬وكان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫إن�سان �ض َّل و�أ�ض َّل عقدين من الزمن‪ ،‬و�إنه ملردود �إىل �سوء‬
‫قد �أتى يت�ش َّفى ب� ٍ‬

‫ش‬
‫وظ وقرنني فوق ر�أ�سه‬ ‫جح ٍ‬‫امل�صري‪� ،‬أما «ذو نوا�س» فكان وجهه يطالع ال�سماء يف ُ‬

‫ر‬
‫وخنجر مغروز يف جبهته!‪..‬‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫وملك «�أ�سعد» ابن «ملكيكرب» عر�ش �سب�أ‪ ..‬وبد�أت و‬
‫‪z‬‬
‫تنق�شع؛ ف�أمنَ النا�سوبعد خوف‪ ،‬وهنئوا‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫الغيمة ال�سوداء التي كانت‬

‫بعد ب�ؤ�س‪ ،‬وا�ستغنوا بعد فقر‪ ،‬و�أ�صبحوا �أحرا ًرا يف دينهم ميار�سون ماع يريدون‪...‬‬
‫قد �أع�ش�شت يف كل ناحية يف البالد �أن ِ‬

‫نظمة من امللك قد نز َلت يف البالد تدعو �إىل الإله الواحد؛ رحمن‬ ‫�إال �أن دعو ًة ُم َّ‬
‫ذي �سماوي‪ ،‬مليك الأر�ض وال�سماوات‪ ،‬قب َلها من قبل ور َّدها من رد‪ ..‬واكتملت‬
‫الدولة فلم يكن يعيبها �أو ينق�صها �شيء‪ ..‬وجت َّندت اجلنود وجت َّهزت اجليو�ش‬
‫و ُردت كل االعتداءات على الدولة ال�سبئية ممن كان حولها من الدول‪ ،‬فل َّقب‬
‫النا�س «�أ�سعد» بالكامل‪ ،‬ف�صار «�أ�سعد الكامل»‪ ،‬وعرفه النا�س بهذا اال�سم ف�صار‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫يوما‪ ،‬و�صارت كلمة «تبع» ملا ُتذكر وحدها ف�إنها‬
‫�أعظم و�أ�سمى «تبع» ملك اليمن ً‬
‫ُت�شري يف التاريخ �إىل «�أ�سعد» الكامل وحده‪ ،‬لكن ا�سم الكامل هذا مل ي�أت من‬
‫كمال دولته فقط‪ ،‬لقد �أتى من �شيء �آخر؛ �شيء جعل ا�سمه هذا يط ُرق الآفاق‪...‬‬
‫فلقد عزم «�أ�سعد الكامل» بعد �أن ملك عر�ش �سب�أ �أن يخ ُرج بدين الرحمن ذي‬
‫�سماوي من �سب�أ فيب ُلغ به م�شارق الأر�ض ومغاربها‪ ،‬لكن م�شارق ومغارب الأر�ض‬
‫‪66‬‬
‫بالن�سبة لأ�سعد يف ذلك احلني كانت حت ُكمها امرباطوريات عظمى؛ الفار�سية‬
‫ال�سا�سانية والرومانية‪ ...‬ومل تكن حت ًما �ست�س َعد بدينه اجلديد‪.‬‬
‫ح�سن �إثارة احلما�سة يف قلوب الرجال‪ ..‬ولقد �سقى‬ ‫لكن «�أ�سعد» كان خطي ًبا ُي ِ‬
‫أ�صبحت‪ ،‬وجت َّر�أت‬
‫النا�س �سقاية مبدى عظمة مملكة �سب�أ وكيف كانت وكيف � َ‬
‫عليها املما ِلك يف خم�س وع�شرين �سنة حتى مل ي ُعد ُيقيم لها �أحد وز ًنا‪ ..‬وكان‬
‫ف�صيحا ُيت ِقن ال�شعر ويقوله يف كل منا�سبة‪ ،‬ومكثَ يف النا�س ُي�ش ِعل نياط قلوبهم‬ ‫ً‬

‫ع‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وي�شد على عزائمهم و ُيجندهم و ُي�سلحهم حتى كون جي�شا مل ي َر �أهل �سب�أ مثله‬

‫ري‬‫ص‬
‫من قبل!‪� ،‬أربعون �أل ًفا من الرجال انطلقَ بهم من �سب�أ �إىل ما حولها‪ ،‬فخ�ضعت‬

‫ال‬
‫وعدن وعمان وكل ما يجاورهم)‪ ،‬ف�صار امللك التبع‬ ‫هامة َ‬ ‫له يف ع�شر �سنني ( ُت َ‬
‫الوحيد الذي ُل ِّق َب بلقب ُمر َّكب طويل جدً ا‪« ..‬ملك �سب�أ وذي ريدان وح�ضرموت‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يدخله‪ ،‬وظل‬ ‫وميانت و�أعرابهم طود وتهامت»‪ ،‬وكان ُيج ِّند النا�س يف كل �إقليم ُ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫طلب فيه من اجليو�ش التي ج َّهزها كلها لتجتمِ ع‬ ‫يف َعل ذلك حتى جاء اليوم الذي َ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫يف وادي «ما�سل اجلمح» و�سط اجلزيرة العربية‪ ،‬وهناك ر�أى عزَّته احلقيقية‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ثمانني �أل ًفا �أو يزيدون من الفر�سان �أتخموا ذلك الوادي‪ ..‬وفوق �أحد � ِأل�سنة‬

‫الت‬ ‫و‬
‫اجلبل كان يقف «�أ�سعد الكامل» يف ُح َّلة حربية ملكية‪ ،‬وبجواره «عمرو بن جابر»‬

‫و‬
‫يف هيئته الب�شرية‪ ...‬قال له «�أ�سعد»‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ هل ر�أيتَها يا «عمرو» بعي ِنك؟‬
‫ نعم ر�أيتُها‪.‬‬
‫ وما ا�سمها؟‬
‫ «فاران»‪.‬‬
‫الب�شر فيها يا «عمرو»؟‬ ‫ وكيف يعي�ش َ‬
‫ هُ م قوم ُب َ�سطاء‪.‬‬
‫�صف يف ُكتب الراهب التوحيدي «�شافع»؟‬ ‫ �أفيها ح ًقا البيت الذي ُو َ‬
‫ نعم هو فيها‪ ..‬و�أهلها ُيقدِّ �سونه‪.‬‬
‫بيت ُو�ض َع للنا�س على هذه الأر�ض؟‬ ‫ �ألي�س ذلك البيت هو �أ َّول ٍ‬
‫ بلى هو كذلك‪ ..‬ولقد رفع �إبراهيم قواعده بعد �أن �أخفاه الطوفان‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫ وكيف �سيكون م�سرينا �إليها؟‬
‫ ع�شر �أيام ن�س ُريها حثي ًثا �أو خم�سة ع�شر يف م�س ٍري ُم ِّ‬
‫تو�سط‪.‬‬
‫أقد�س‬ ‫وحت َّرك ثمانون �ألفا �أو يزيدون �إىل مدينة فاران‪ ..‬املدينة التي فيها � َ‬
‫�شيء ي�ؤمن به «�أ�سعد» يف دين ذي �سماوي؛ فيها البيت املح َّرم الذي هو �أول ُمتع َّبد‬
‫للرحمن على هذه الأر�ض‪ ،‬بناه «�آدم» وردمه طوفان «نوح» ثم رفع «�إبراهيم»‬

‫ع‬
‫وم َّرم‬ ‫مبناه مر ًة �أخرى‪ ...‬ف�صار بيتًا ُمق َّد ً�سا يطوف النا�س عنده للرحمن‪ُ ،‬‬

‫صري ال ‪z‬‬
‫على النا�س القتال عنده‪ ،‬يف مدينة كان ا�سمها (فاران)‪ ،‬ثم �صار ا�سمها عند‬
‫العرب ذلك اال�سم الذي بل َغ امل�شارق واملغارب من ُ�شهرته‪� ،‬صار ا�سمها (مكة)‪.‬‬

‫كا�سمه «�أ�سعد» تقدم ب�سالحه ناح َية البيت ثم‬


‫ت‬
‫م�شهد مل ي َر �أهل فاران مثله �أبدً ا‪..‬‬
‫وعند البيت جت َّمعت حوافل اجليو�ش يف ٍ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ورجل على ر�أ�س اجليو�ش كان‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫انحنى ورمى �سالحه!‪ ،‬ورمى كل اجلنود يف جي�شه �أ�سلحتَهم يف �صوت جلجلة‬

‫ش‬
‫ال�صغري الذي يتو�سط مدينتهم‪ -‬تنحني‬ ‫هزَّت م�شاعر �أهل فاران‪ -‬ذلك البيت‬

‫ر‬
‫ملك يفنى �سوى ملكوالربي‪ ..‬فله ملكنا حميدً ا‬
‫وخيولهم‪ ...‬الكل ينحني‪ ،‬ويذرف قائده‬ ‫له ُجند جمندة ب�أ�سلحتهم وعتادهم‬

‫ت‬
‫دموعا �سا َلت من ال�شوق‪ ،‬ويخلع القائد خوذته‬

‫جميدً ا‪ ..‬خلق اخللق فاج ًرا وتق ًيا‪ ..‬و�شق ًيا ب�سعيه و�سعيدً ا‪..‬وقاه ًرا قاد ًرا مييت‬
‫ويتقدم من ذلك البيت احلجري‬ ‫ً‬

‫زي‬
‫و ُيق ِّبله‪ ،‬وقال يف �شعر �شهري‪ ..‬كل ٍ‬

‫ع‬ ‫ويحيي‪ ..‬خلق اخللق مبد ًئا ومعيدً ا‪.‬‬


‫ثم قام ودعا كرباء جي�شه �إليه‪� ..‬أن انحروا لأهل هذه البلدة �سبعني �أل ًفا‬
‫من ال�شاء والغنم‪ ،‬و�أن اك�سوا هذا البيت بالأنطاع املذهبة اليمانية والربود‬
‫اليعافرية‪ ...‬ومكث يف فاران �سب ًعا من الأيام ينحر للنا�س وي�سقيهم الع�سل‪،‬‬
‫وتزين بيت الرحمن ف�صار ذا ك�سوة �سوداء فاخرة �سميكة عليها نقو�ش ذهبية‪،‬‬
‫ومفتاحا‪ ،‬فلم يكن يف جزيرة العرب بيتًا �أفخر منه و�أكرم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وجعل له با ًبا مذه ًبا‬
‫وم�ضى «�أ�سعد» �إىل ال�شرق يف فتوح وفر�سان وجيو�ش‪ ..‬ي�أتي البالد ويهزم‬
‫�شرق فيهما‬ ‫أر�ض �أظ َلمت عليه الدنيا يومني كاملني مل ُت ِ‬ ‫امللوك‪ ،‬حتى نزل يف � ٍ‬
‫�شم�س!‪ ،‬وظن �أنه بلغ م�شرق ال�شم�س و�أن الأر�ض مل ي ُعد فيها م�سري �إىل �أب َعد من‬
‫هذا!‪ ،‬وقال ل�صاحبه «عمرو بن جابر»‪:‬‬
‫مزيد من الأ�صقاع �آتيها بدين ربي؟‬ ‫ �أيف الأر�ض ِ‬
‫‪68‬‬
‫قال «عمرو»‪:‬‬
‫إنك مل ت� ِأت منها �إال �شي ًئا ي�س ًريا!‬
‫ �إن فيها مزيدً ا و� َ‬
‫ ف�أين ال�شم�س يا «عمرو»؟‬
‫ �إنك يف �أر�ض يقال لها داما‪ ،‬و�إن ال�شم�س موجودة لكن �شيء من الريح‬
‫النظر‪ ،‬و�إنها �ستُ�شرق بعد �أيام ال نع َلم عددها‪.‬‬ ‫ُيخفيها عن َ‬

‫ع‬
‫ف�أمر «�أ�سعد» �أن توقد ال�شماع املنرية ف�أوقدت‪ ..‬وم�ضى اجلي�ش بها يف �أر�ض‬

‫ري‬‫ص‬
‫الظلمات‪ ،‬ثم تو َّقف اجلميع!‪ ،‬توقفوا على َ‬
‫خب �ضج به امللك «�أ�سعد» وثار!‪ ،‬قالوا‪:‬‬

‫ال‬
‫ يا �أيها امللك‪� ..‬إن وزي ًرا لك اليوم قد ُق ِتل‪ ،‬يف بلد من البلدان التي‬

‫ك‬
‫�أخ�ضعتَها ل�سلطانك‪...‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫فعب�س فلم ُير من قبل يف مثل هذا الغ�ضب‪ ..‬وقال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫أهدمنَّ عليهم �صوامعهم ولأ�ست�أ�صل َّنهم منها و�أقطعن لهم‬ ‫ لآتي َّنهم فل ِ‬

‫ش‬
‫بلد ٍة تلك التي قت َلت وزيري؟‬ ‫ر�ؤو�س النخيل فيت�شردون يف الأر�ض‪� ...‬أي َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫بلدة قريبة من فاران‪ ،‬و�إنها ُتدعى ي ِرثب‪.‬‬ ‫قالوا �إنها َ‬

‫و‬
‫نزل عليها اخلراب‪.‬‬ ‫ �أب ِلغوا يرثب �أين هادمها و ُم ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وجاءها بت�سعني �أل ًفا من اجلنود‪ ..‬حتى �إذا وقف على �أعتابها وبانَ له‬
‫نخيلها‪ ،‬خرج له منها رجلني من �أحبار اليهود؛ �أحدهما يدعى كعب والآخر‬
‫�شامول‪ ،‬قال له كعب‪:‬‬
‫ يا داعي الرحمن كيف ت�أتي خلراب بلدة هي مهاجر نبي يخرج من هذا‬
‫احلرم يف �آخر الزمان تكون داره وقراره‪ ..‬و�إنا نحن اليهود ما �أتينا �إليها‬
‫وتركنا كل بلدة �إال لأنا علمنا �أن ُم�ستق َّره يكون فيها‪.‬‬
‫فوقف «�أ�سعد» وك�أنَّ على ر�أ�سه الطري‪ ..‬وذهب عن وجهه العبو�س وتب َّدل‬
‫مبالمح �أقرب �إىل الوجد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �أهي كذلك؟‬
‫وين�صره �أهلها‪ ..‬و�إن ا�سمه يف كتبنا‬ ‫ نعم ي�أتيها ف ُينري منها كل �شيء‪ُ ،‬‬
‫«�أحمد»‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫ولقد كفى هذا «�أ�سعد» ليحني ر�أ�سه ويرفع خوذته عن ر�أ�سه‪ ..‬قال «�أ�سعد»‪:‬‬
‫ ما لهذا البلد من �سبيل‪ ..‬وما كان خرابها ليكون على يد �أي �أحد من‬
‫العاملني‪ ،‬و�إين بالرحمن داع ولنبي الرحمن داع‪� ...‬شهدتُ على «�أحمد»‬
‫�أنه ر�سو ٌل من الرحمن باري الن�سم‪ ،‬فلو م َّد عمري �إىل عمره لكنتُ وزي ًرا‬
‫له وابن عم‪ ،‬وجلاهدتُ بال�سيف �أعدائه‪ ،‬وف َّرجتُ عن �صدره كل َهم‪.‬‬

‫ع‬
‫أغدق عليهم ورفع من �شانهم‪ ..‬و�أقام لديهم يف‬ ‫و�أكرم «�أ�سعد» �أهل يرثب و� َ‬

‫ص‬
‫وادي قباء �سب ًعا من الأيام‪ ،‬وحف َر لهم بئرا الزالوا ي�سمونه بئر امللك‪ ،‬و�أ�ص َّر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أن ي� ُأخذ معه احلربين كعب و�شامول �إىل اليمن ف ُيكرمهما ويهديهما يف ق�صرا‬
‫ب�ش َراه بالنبي الأحمد‪...‬‬‫يعي�شان فيه مبا َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وعاد «�أ�سعد» �إىل �سب�أ ف�أقام فيها ما �شاء اهلل له �أن ُيقيم �إىل �أن جاء ذلك‬

‫ب‬
‫اليوم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�أتى بعد ثالثة ع�شر �سنة‪� ..‬أتى وح�ض َر �شبح ال ُيغادر �صغ ًريا وال كب ًريا على‬

‫ش‬
‫اجل�سد و�ضعفت الروح‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هذه الدنيا �إال �أتاه‪� ،‬أتى �شبح املوت على امللك‪ ،‬وهنَ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ح�سب‪ ،‬وغزا املر�ض اخلاليا‪ ،‬كان قد تزوج‬ ‫ف�صار ال يقيمه �إذا انحنى مال وال َ‬

‫الت‬
‫و� َ‬

‫و‬
‫«ح�سان» و«�شرحبيل» و«ملي�س»‪ ،‬وكانت «ملي�س» عند قدمه ال ُتغادره‬ ‫أجنب ثالثة‪َّ ،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ولديه «ح�سان» و«�شرحبيل» قال‪( ..‬يا بني ال تخت ِلفوا بعدي‬ ‫�أبدً ا‪ ،‬ف�أر�سل �إىل َ‬
‫لك �سي�أتي كل واحد منكم‪ ،‬وليبد�أ بها «ح�سان» لأنه‬ ‫فتذهب عزَّتكم‪ ..‬و�إن املُ َ‬ ‫َ‬
‫الأكرب وليخلفه �أخوه من بعده‪ )...‬ثم غاب عن الوعي‪.‬‬
‫فلما � َ‬
‫أفاق قال‪:‬‬
‫ ائتوين ب�سكان اجلبل‪ ..‬ائتوين بعمرو بن جابر‪ ،‬وائتوين ب�إينور‪ ،‬ائتوين‬
‫ب�إينور‪.‬‬
‫فظنَّ �أهله �أنه يهذي‪ ..‬لكنه ظ َّل ُيك ِّررها وي�صف مكا ًنا يف اجلبل ي�س ُكن فيه‬
‫«عمرو بن جابر» وت�س ُكن فيه «�إينور»!‪ ،‬وكان يغيب عن الوعي فيذ ُكر �أيام لعبه‬
‫مع «عمرو بن جابر» يف الدير‪ ،‬ويغيب فريى «�إينور» وهي ت�أتيه مت�شي و ُتن ِقذه‬
‫�سقطة كادت �أن تق�ضي عليه‪ ،‬ويغيب ويرى الكعبة وك�سوتها‪ ،‬ثم يفيق ويغيب‬ ‫من َ‬
‫فريى نخيل يرثب‪ ،‬وي�سمع الأحبار ينطقون با�سم «�أحمد»‪ ،‬ثم يفيق فريى �أمامه‬
‫وجها هو �أح�سن وجه‪ ،‬وعني هي �أجمل عني؛ زرقاء ُيحاكي �صفا�ؤها البحر‪ ،‬كانت‬
‫تنظر له بنظرة تذ َّكر �أين ر�آها �أول مرة‪ ،‬نظرة فيها من‬ ‫«�إينور» قد �أتت له ُ‬
‫‪70‬‬
‫ينظر له‬‫ال�شف َقة واحلنان ما ال ميلكه بني الإن�سان‪ ،‬و«عمرو بن جابر» بجوارها ُ‬
‫بوجهه احل�سن الذي ال ت�شيبه ال�سنني �أبدً ا‪ ،‬وك�أنَّ ه�ؤالء اجلن ال يهرمون!‬
‫تب�سم «�أ�سعد» ملر�آهما و�أدم َعت عيناه وقال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ يا «عمرو»‪ ..‬وددتُ لو �أن يل مزيدً ا من ال�سنني يف هذه احلياة باق َية‪،‬‬
‫فكانت عيني هذه لتدمع من جمال ر�ؤياه يا «عمرو»‪.‬‬

‫ع‬
‫فابت�سم «�أ�سعد» ونظر �إىل الأعلى‬‫حماول �أن يفهم‪َ ..‬‬ ‫ً‬ ‫نظر له «عمرو بن جابر»‬

‫ص‬
‫يف �شيء ُي�شبه الر�ضا‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ �إن ا�سمه «�أحمد» يا «عمرو»‪� ،‬أحمد‪...‬‬

‫ك‬
‫�أوم�أ «عمرو» بر�أ�سه ُمواف ًقا‪ ..‬فقال «�أ�سعد»‪:‬‬
‫الن�سم‪ ..‬فلو كان م ّد‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ �شهدتُ على «�أحمد» �أنه‪ ..‬ر�سو ٌل من الرحمن باري َ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫عمري �إىل عمره‪ ..‬لكنتُ وزي ًرا له وابن عم‪ ..‬و�ألزمت طاعته كل من‪..‬‬

‫ش‬
‫عجم‪ ..‬وجلعلتُ نف�سي له جنة‪ ..‬وف َّرجتُ عن‬ ‫عرب ومن َ‬ ‫على الأر�ض من ٍ‬

‫ر‬
‫�صدره كل َغم‪ ..‬نبي وجدناه يف كتُبنا‪ ..‬به الهدى وبه املعت�صم‪ ..‬ومنا‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قبائل ي�ؤ ُوو َنه‪� ..‬إذا ح َّل يف احلل بعد احل َرم‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫ونظر �إىل �إينور وقال‪:‬‬
‫زمانك زمانه �أن‬
‫ِ‬ ‫أ�شهدك بالرحمن يا ذات احل�سن والنور‪� ..‬إذا بل َغ‬ ‫ � ِ‬
‫وهن مني‬ ‫تقرئيه مني ال�سالم‪ ،‬وقويل له �أن الوجد بحبه قد نالني حتى َ‬
‫باجل�سد ف�أعياها‪ ..‬و�إنها‬
‫َ‬ ‫العظم وا�شتعل الر�أ�س �شي ًبا‪ ..‬وثق َلت الروح‬
‫ملغادرة �إىل روح ربها و�سلطانه‪.‬‬
‫ونظ َر �إىل «ح�سان» فقال له‪:‬‬
‫فانظر لنف�سك فالزمان زمان‪ ..‬فلرمبا‬ ‫ ح�ضرتَ وفاة �أبيك يا «ح�سان»‪ُ ..‬‬
‫ذل العزيز ورمبا‪ ..‬ع َّز الذليل وهكذا الإن�سان‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أغم�ض عينيه با�ست�سالم‪ ..‬ثم فتحها فج�أ ًة ك�أمنا تذ َّكر �أم ًرا‪ ،‬ونظر بع ٍني‬ ‫و� َ‬
‫واه َنة �إىل «عمرو»‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫الكتاب يا «عمرو»‪.‬‬‫َ‬ ‫ يا «عمرو»‪..‬‬
‫ف�سكت حلظ ًة ثم قال‪:‬‬‫َ‬ ‫ً‬
‫مت�سائل‪..‬‬ ‫نظ َر له «عمرو»‬
‫‪71‬‬
‫ كتاب الراهب «�شافع»‪� ..‬إين �أحفظه حتت عر�ش امللك‪ ،‬فال ي�ضيعن من‬
‫بعدي يا «عمرو»‪.‬‬
‫هم «عمرو» �أن يتك َّلم‪ ..‬لكن قطع احلديث فج�أ ًة �صوت «�إينور»؛ قا َلت‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ ال ينبغي ملثله من كتاب �أن يكون حتت العر�ش‪ ..‬وال ينبغي له �أن يكون يف‬
‫تتغي‬
‫الق�صر‪ ،‬ف�إن املمالك مهما طال عهدها ت�سقط‪ ،‬و�إن نفو�س امللوك َّ‬
‫القدر‪� ،‬إمنا ينبغي للكتاب �أن يعود �إىل‬ ‫يا «�أ�سعد»‪ ،‬فال جتعله يف براثن َ‬

‫ع‬
‫ِّ‬
‫دير الراهب «�شافع»‪ ،‬فيتع َّلم منه املُتعلمون ا�سم الرحمن ِ‬
‫وينت�شر‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫نظر «�أ�سعد» �إليها بحنان‪ ،‬ثم نظ َر �إىل ابنه «ح�سان» وقال له‪:‬‬
‫ اع َهد بالكتاب �إىل «يزن»‪ ..‬ف�إنه �أح َفظ له من كل �أحد‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ثم نظ َر �إىل «�إينور» وقال‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫تك يا «�إينور»‪ ..‬فال ي�ضي َعنَّ من بعدي‪.‬‬ ‫ �إن هذا الكتاب يف ذ َّم ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ترقرقت عيني «�إينور» بكثري من الدموع والكالم‪ ..‬ونظر يف عينها وتذ َّكر‬

‫ش‬
‫ر‬
‫تلك العيون الآمنات التي �آم َنته يوما يف العتمة‪ ،‬و�إنها لت�أمنه اليوم‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫خرجت‬ ‫وم َّرت دقائق من احلزن حتى �أذن اهلل لروحه �أن تفي�ض‪ ..‬فنازع حتى َ‬

‫و‬
‫قيم له م� َأت ح�ضرته الأقيال والأذواء وكثري من جموع �سب�أ‬ ‫منه �إىل بارئها‪ ،‬و�أُ َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وما حولها‪ ،‬ون َّفذ �أهله و�ص ّي ًة عجيب ًة له؛ فلقد �أو�صى �أن ُيد َفن قائ ًما!‪ ،‬ولقد تعب‬
‫النا�س يف ُماولة حتقيق ذلك حتى �أجنزوه‪ ،‬فكان الوحيد الذي ُد ِفنَ قائ ًما يف‬
‫التاريخ كله!‬
‫ونزل الليل على �سب�أ ولي�س فيها «�أ�سعد الكامل»‪ ..‬ولزم النا�س بيوتهم من‬
‫رجل مي�شي حمني الظهر‬ ‫الكرب فلم ُي َر يف �شوارع ظفار ما�ش ًيا وال راك ًبا‪� ،‬إال ً‬
‫يتلحف بها من فوق ر�أ�سه‪ ،‬ثم �أح�سر عباءته عن ر�أ�سه حتى بانت مالحمه‬ ‫بعباءة َّ‬
‫خارجا من‬‫الكريهة‪ ،‬لقد كان ذلك «�إزب»‪�« ...‬إزب بن �أزيب»‪ ،‬كان ال ًّما عباءته ً‬
‫مكان �آخر‪ ،‬وفتن ٍة �أخرى!‬
‫توج ًها �إىل ٍ‬ ‫ظفار ُم ِّ‬

‫‪z‬‬
‫تمت‬
‫َّ‬
‫‪z‬‬
‫‪72‬‬
‫ع‬
‫�إين زعي� � ٌم بق�ص ��ة عج ��ب‬

‫ص‬
‫عن ��دي مل ��ن ي�س ��تزيدها اخل�ب�ر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يك ��ون يف الأ�س ��ر م ��ر ًة‬

‫ك‬
‫خطر‬ ‫رج�ل لي��س ل�ه يف ملوكه�م َ‬

‫ت‬
‫ُ‬

‫ب‬
‫مول ��ده يف ق ��رى ظواه ��ر‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫هم ��دان الت ��ي ا�س ��مها خم ��ر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫يقه�ر �أ�صحاب�ه عل�ى ح�دث‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫�س ��نه ويخف ��ى فيه ��م ويحتق ��ر‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫حت ��ى �إذا �أمكنت ��ه �صولت ��ه‬
‫ولي� ��س ي ��دري ب�ش� ��أنه َ‬
‫الب�ش ��ر‬
‫وج ��ل‬‫�أ�صب ��ح يف هن ��وم عل ��ى َ‬
‫و�أهل ��ه غافل ��ون م ��ا �ش ��عروا‬
‫ر�أوا غالما بالأم�س عندهم‬
‫�أزرى لديه�م جهلا ب�ه ال�صغ�ر‬
‫فار�ش�د فلا ت�س�كن يف خم�ر‬
‫ورد ظف ��ار ف�إنه ��ا الظف ��ر‬
‫نح�ن م�ن اجل�ن ي�ا �أب�ا ك�رب‬
‫ياتب ��ع اخل�ي�ر هاجن ��ا الذع ��ر‬
‫‪73‬‬
‫ف�س�ار عنه�م م�ن بع�د تا�س�عة‬
‫�إىل ظف ��ار و�ش ��انه الفك ��ر‬
‫فح�ل فيه�ا والده�ر يرفع�ه‬
‫يف عظ ��م ال�ش� ��أن وه ��و ي�ش ��تهر‬

‫ع‬
‫فعب� ��أ اجلي� ��ش ث ��م �س ��ار ب ��ه‬

‫ص‬
‫مث ��ل الدب ��ا يف الب�ل�اد ينت�ش ��ر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫قد ملأ اخلافقني ع�سكره‬

‫ك‬
‫ك�أن ��ه اللي ��ل ح�ي�ن يعتك ��ر‬

‫ب‬ ‫ت‬‫تقه ��ر �أع ��داءه كتائب ��ه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫فلي� ��س تبق ��ى منه ��م وال ت ��ذر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫�إن ��ا وجدن ��ا ه ��ذا يك ��ون مع ��ا‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫يف علمن ��ا وامللي ��ك ُمقت ��دِ ر‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫واحلم ��د هلل والبق ��اء ل ��ه‬
‫كل �إىل ذي اجل�ل�ال مفتق ��ر‬

‫�أ�سعد الكامل‬

‫‪74‬‬
‫«عمرو بن جابر بن طارق»‪« ،‬و�إينور بنت �آمون»‪ ..‬كثري من اجلن يعتربونهما من ذوي‬
‫الذكر الرفيع‪ ،‬وكث ٌري �آخرون يعتربونهما من ذوي الذكر املحتقر!‪ ،‬لكن الأكيد‪ -‬كما‬
‫�سيظهر الح ًقا يف الإي�ستوريجا‪� -‬أن وجودهما عالمة ً‬
‫فارقة يف تاريخ اجلن‪.‬‬
‫الإي�ستوريجا هي علم الزمان‪.‬‬
‫وفرق وطرائق تكون ب�سبب اختالفهم فيما‬
‫كل اختالفات النا�س يف هذه احلياة �إىل �أديان َ‬
‫كان يف الزمان‪.‬‬
‫َ‬
‫حدث كذا‪ ،‬والبع�ض الآخر يقول بل حدث كذا؛ فيفرتقوا �إىل عقائد‬ ‫يقول بع�ضهم‬
‫ويختلفوا‪ ،‬ويتحاربوا‪.‬‬
‫�أما الإي�ستوريجا فهي احلديث احلق‪ ..‬ما َ‬
‫حدث كيفما حدث‪.‬‬
‫حدث دون حتريف‬
‫موكول بها فرق من اجلن ت�شاهد كل �شيء‪ ،‬وتكتُب كل �شيء كما َ‬
‫وت�أويل‪.‬‬
‫ب�أمر لو�سيفر‪ ..‬يكتبون وال ُيغادرون حد ًثا يف تاريخ الإن�س‪.‬‬
‫تع َّلمنا �أن التغيري والتبديل يف الإي�ستوريجا هو املفتاح ملن �أراد َ‬
‫للب�ش �أن ي�رضبوا رقاب‬
‫منكم يهتَم بتدوين التاريخ بد َّقة يف زمانه‪ ،‬نحن نن�سيكم هذا‪،‬‬ ‫بع�ضهم البع�ض‪ ..‬فال �أحد ُ‬
‫فتتعار�ض كتبكم يف التاريخ‪ ،‬وتتواىل الأجيال ويختلف الإن�س ويتناحرون‪ ،‬ويتحاربون‬
‫بع�ضا‪ ،‬لأن جن�سكم ُيزعجنا‪ ،‬متا ًما كما‬
‫ويفنون‪ ،‬هذا هو الهدف؛ �أن ت�سفكوا دماء بع�ضكم ً‬
‫ُيزعج الذباب وجوهكم‪ ،‬و�إبادتكم بالن�سبة لنا راحة مثل �أن �إبادة الذباب لكم راحة‪.‬‬
‫تن�سها كما تن�سى ال�ضباع!‪،‬‬‫�ضع هذه الكلمات يف جانِب من ذهنك بينما من�ضي‪ ..‬وال َ‬
‫و�إن ال�ضباع �ستُخ ِّيم على �أر�ضكم‪ ،‬بعد �أن �أ�شعل «�أ�سعد» الكامل جذو ًة من نور؛ �ستُخ ِّيم‬
‫ال�ضباع من بعده حتى تبتلعكم جمي ًعا‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫(‪)3‬‬

‫في سبع‬
‫قطع من‬
‫الزمان‬
‫رب تناقل يف العرب البائدين‪� ..‬أن امر�أ ًة كانت كالنجم يف الن�ساء الأولني‪،‬‬ ‫خ ٌ‬
‫زرقاء كانوا ي�س ُّمونها ولي�س ا�سمها زرقاء؛ زرقاء كانت عيونها‪ ،‬وكل زرقاء عني‬
‫يف العرب ُيل ِّقبونها زرقاء‪ ،‬وكل زرقاء عني عندهم �ش�ؤم لوالدها وتعا�سة‪ ،‬يئدها‬

‫ع‬
‫وجع م�ستمر‪ ،‬يوجعها حديثه وتوجعها‬ ‫يف الرتاب �إن كان له قلب �أو حتيا يف َ‬

‫ص‬
‫عيونه‪ ،‬تع َّلم العرب �أن الزرقة من العجم‪ ،‬ف�إن �أتتهم الزرقاء ظنوا بوالدها‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫الظنون‪.‬‬
‫رب تناقل يف العرب البائدين‪� ..‬أن امر�أة زرقاء مل ت ُكن ك�أي زرقاء‪َّ ،‬‬
‫ق�ص‬ ‫خ ٌ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫العرب وح َّدثوا عنها حتى �صار العربي ي�أمل ويبتغي �أن ت�أتيه ابنة زرقاء!؛ �ساحر‬
‫وجهها ن�ضرة مالحمها‪ ،‬ك�أن وجهها يف وجوه القوم قمر ت�سامى فوق كل ال ُ‬

‫ب‬
‫أجنم‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫عينان و�ضاءتان يف وجهها‪ ،‬ترى ماال يرى‪ ،‬ك�أمنا يخ ُرج من عينها نو ًرا ي�ضيء‬

‫ش‬
‫تنظر بها �إىل �أبعد مما ينظر الب�شر‪ ،‬يف‬ ‫لها كل �شيء!‪ ،‬يف ب�صرها ح َّدة �شديدة ُ‬

‫ر‬
‫ر�أ�سها عقل ك�أمنا نزل من ال�سماء وحده ثم نزلت عقول القوم بعده‪ ،‬وحولها‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ميامة برية ال تفارقها‪ ،‬حتط على كتفها كال�صقر تارة وعلى كفها تارة �أخرى‪،‬‬

‫و‬
‫ف�أعطاها القوم نعتًا غري ًبا لكنه يليق بها‪� ..‬س ُّموها «زرقاء»؛ (زرقاء اليمامة)‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬ ‫يوما وقالوا‪:‬‬


‫�أتاها قو ُمها ً‬
‫ يا زرقاء �إنا جمعنا لك جم ًعا‪ ..‬حمائم قد عرفنا عددها‪ ..‬ف�إذا �أطلقناها‬
‫وتف َّرقت يف ال�سماء فانظري �إليها نظرة واحدة‪ ،‬ثم �أنبئينا بعددها‪.‬‬
‫نظ َرت �إىل القوم وقد خ َّب�أت لهم يف نف�سها خب ًئا‪ ..‬و�أطلقوا حمائمهم فطر َفت‬
‫عينها لهم طرفة ثم �أطرقت بر�أ�سها‪ ...‬قالت‪:‬‬
‫ هذا احلمام ون�صفه معه وميامتي هذه يكون مائة‪.‬‬
‫لي�ست من عيون الإن�س‪ ..‬ف�إن حمائمهم كانت �ستة و�ستني‬ ‫فعرفوا �أن عيونها َ‬
‫حمامة‪.‬‬
‫كان �سكناها يف قطعة من �أر�ض جزيرة العرب ناحية ال�شرق ا�سمها «جو»‪..‬‬
‫و�إن قومها يف «جو» �أ�سموها الكاهنة‪ -‬والعرب ُت�سمي الطبيب كاه ًنا وكل من له‬
‫ِعلم �أو ُقدرة لي�ست عند غريه‪ -‬وكان لها َت َّلة ُمرتفعة حتب �أن مت�ضي �إليها كل‬
‫‪81‬‬
‫م�س قلبها ال�ش َغف بالطري و�سلوك الطري واحليوانات‬ ‫ميامتها‪ ،‬ولقد َّ‬
‫حني ومعها َ‬
‫وحتى احل�شرات؛ فكانت تف َهم �سلوكهم؛ ف�إن �أتى الغزاة �إىل �أر�ضها ا�ستد َّلت‬
‫مب�سلك الطري عليهم قبل �إتيانهم بثالثة �أيام!‪ ،‬ف�إذا اقرتبوا حلظتهم بعينها‬
‫يدخل �أر�ض «جو» من حيث ال يدري‬ ‫وحذرت قومها‪ ،‬فلم ي ُكن جي�ش ي�ستطيع �أن ُ‬ ‫َّ‬
‫�أهلها‪.‬‬
‫وعال �ش�أنها و�ش�أن جمالها وعيونها وتناف�س اخلاطبني عليها‪ ..‬حتى دخل �إىل‬

‫ع‬
‫يق�ص على النا�س الق�ص�ص‬ ‫�شاب رحا َلة حلو الل�سان جعد ال�شعر‪ّ ...‬‬ ‫يوما ٌ‬ ‫بالدها ً‬

‫ري‬‫ص‬
‫ويحكيها‪ ،‬وكان ا�سمه «خرافة»‪ ،‬خرافة العذري‪ ،‬وكانت كلما م َّرت عند �سوق‬

‫ال‬
‫وجدت حوله جمهرة من النا�س ي�ستمعون �إليه!‪ ،‬فاقرت َبت مرة بكل بهائها‬ ‫املدينة َ‬
‫ت�سمع ما يقول‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أمر و�إين ورب القمر املنري ل�صادق‪� ..‬إين قد �أ�س َرين‬ ‫قال يا قوم �إين ُمدِّ ثكم ب� ٍ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يوما ف�أخذوين �إىل واد ا�سمه عبقر‪ ،‬فر�أيت فيه من عجائبهم ما‬ ‫ثالثة من اجلن ً‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�شابت به �شعرات �شابة من ر�أ�سي‪ ،‬عجيبة كانت هيئاتهم و�شعورهم‪ ،‬فبينما �أنا‬

‫ر‬
‫معهم �إذ اختلفوا ما يفعلون بي‪ ،‬فم َّر عليهم رجل من اجلن فقال ما َل ُكم؟‪ ،‬قالوا‬

‫الت‬ ‫و‬
‫أنت ال تكافئنا‪..‬‬‫اختلفنا يف �أمر هذا الإن�سان‪ ،‬قال لهم ف�أ�شركوين معكم‪ ..‬قالوا � َ‬

‫و‬
‫قال �س�أحكي لكم حكاي ًة حد َثت معي و�ستعلمون ما هو قدري‪� ،‬إين عط�شتُ ذات‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يوم فنزلتُ لأ�شرب من بئر قريب ف�إذا �صيحة عالية ُميفة �صمت �أذين فهربت!‪،‬‬
‫علي �صاحب‬ ‫لكن العط�ش �أعادين مر ًة �أخرى �إىل البئر فنزلتُ و�شربت‪ ،‬فدعا َّ‬
‫رجل فحوله امر�أة‪ ..‬و�إن كانت‬ ‫ال�صرخة اجلني فقال (اللهم �إن كان ال�شارب ً‬
‫امر�أة حولها �إىل رجل)!‪ ،‬فنظرتُ ف�إذا �أنا قد حت ّولتُ �إىل امر�أة!‪ ،‬وم�ضيتُ �إىل‬
‫رجل و�أجنبتُ منه‪ ،‬وم َّرت ال�سنني وعدتُ �إىل البئر و�شربتُ ‪...‬‬ ‫املدينة وتز َّوجتُ ً‬
‫رج ًل!‪ ،‬وتز َّوجتُ‬
‫فدعا جني البئر بنف�س دع َوته‪ ،‬فنظرتُ ف�إذا �أنا قد ُعدتُ ُ‬
‫و�أجنبت!‪ ،‬ف�إن يل ابنان من بطني‪ ،‬وابنان من ظهري‪...‬‬
‫ق�صتك عجيبة‪ ،‬و�إنا �س ُن�شركك معنا يف م�صري ذلك‬ ‫َ‬ ‫قال له اجلن واهلل �إن‬
‫الرجل الإن�سان‪ ..‬و�أ�شركوه معهم‪ ،‬وتك َّلموا كث ًريا حتى انتهوا �إىل �أن يرتكوين‬
‫�أم�ضي �إىل حال �سبيلي‪ ،‬كان عامل اجلن عجي ًبا جدً ا ومليئا بالغرائب‪ ،‬و�إن عندي‬
‫كثري من احلكايا عنه‪.‬‬
‫كان النا�س يتج َّمعون حول خرافة وي�سمعون له غري ُم�صدِّ قني‪ ،‬لكنهم ُيح ُّبون‬
‫طريقته وطرافة حكاياته ومل ُي�ص ِّرحوا بعدم ت�صديقهم‪ ...‬وبرز بني املجتمعني‬
‫‪82‬‬
‫يتلحف بعباءة �سوداء‬ ‫رج ٌل م�ألوف‪ ،‬بدا �أن احلديث عن اجلن قد �أعج َبه؛ رجل َّ‬
‫وعلى وجهه الدميم ب�سمة �أ ِلفناها‪�« ،‬إزب بن �أزيب»‪ ..‬و�إن وجوده يف حا�ضرة من‬
‫ينظر �إىل «خرافة» وهو يتح َّدث عن اجلن‬ ‫احلوا�ضر ال يتبعه �إال الباليا!‪ ،‬كان ُ‬
‫وعيونه ال�شيطانية تلمع من ال�سخرية‪ ،‬لكنه �صمت وا�ستمع مع ال�صامتني الغري‬
‫يجد النفاق �إليه ً‬
‫�سبيل‪ ..‬كان‬ ‫ُم�صدِّ قني‪ ،‬ثم برز من بني ال�صمت وجه بهي مل ِ‬
‫وجه زرقاء اليمامة‪.‬‬

‫ع‬
‫برزت خلرافة من بني وجوه النا�س وقا َلت له‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫لكاذب يا هذا‪ ،‬كاذب وذا عقل خمتل �أحمق‪.‬‬ ‫ واهلل �إنك ِ‬
‫نظر لها «خرافة»‪� ..‬إن املالئكة بنات اهلل �إذا نز َلت لن يكن �أجمل من هذه‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫و�صمت ومل يتك َّلم!‪ .‬فنظرت �إىل عينيه وارتباكه وخجله؛ كان‬‫َ‬ ‫الغادة ال�صبوحة!‪،‬‬

‫ب‬
‫يف عينه براءة طفول َّية �أح َّبتها؛ براءة مل تل َم�سها يف بني الإن�سان‪ ،‬رمبا مل�ستها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫يف الطيور!‪ ،‬و�أعر�ضت الزرقاء عن اجلمهرة و�أعر�ضت عن �أفكارها وا�ستدارت‬

‫ش‬
‫بنظره مب ُهوتا!‬
‫وم�ضت �إىل طريقها‪ ،‬وتابعها هو ِ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫خطب اليمامة‪ ،‬وكان حد ًثا يف‬ ‫مت�ض �شهور ي�سرية �إال و«خرافة» قد‬ ‫ومل ِ‬

‫الت‬
‫َ‬
‫َ‬

‫و‬
‫البالد عظيم‪ ..‬ثم نزلت على �أهل البالد م�صيبة جعلت تدور فيها ر�ؤو�سهم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وت�سيل فيها دما�ؤهم؛ م�صيبة عظمى جاءتهم من حيث ال ي�ستطيعون لها ردًا‪،‬‬
‫جاءتهم من فوقهم‪ ،‬من م ِلك ظامل كان على بالدهم ُيدعى «عمليق»‪ ،‬جبار من‬
‫فحكم فيهم ُحك ًما مل يح ُكمه‬
‫جبابرة العرب البائدين‪ ..‬غ�ضب عليهم ذات يوم َ‬
‫قبله طاغوت على بالده وال �شيطان!‪ ،‬وظهرت بوادر نفثات �إزب‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫كانوا قبي َلتني يف «جو»؛ ط�سم وجدي�س‪ ..‬امر�أة من جدي�س �أغ�ض َبت امللك‬
‫حكم �أال تتز َّوج امر�أة من جدي�س �إال‬
‫فغ�ضب امل ِلك وحكم؛ َ‬‫َ‬ ‫ب�ش ٍعر قا�س‪،‬‬
‫وهجته ِ‬
‫َ‬
‫ويدخل هُ و عليها قبل زوجها!‪ ،‬و�إذا رف�ضت ُتقتَل و ُيقتَل زوجها!‪ ،‬و�إذا َ‬
‫انف�صل‬
‫حلكم ُيقتل الزوج وت�ؤخذ الفتاة جار َية عند‬ ‫خطيبني قبل زواجهما تفاد ًيا لهذا ا ُ‬
‫امل ِلك!‪ ،‬ولقد كانت اليمامة �أ�شهر خمطوبة يف ذلك الوقت‪ ،‬وكانت من جدي�س‪.‬‬
‫كل يوم ُمير على جدي�س كان يوم عار‪ ..‬ت�أتي جنود امللك لت� ُأخذ فتاة ا�شتُهر‬
‫بني النا�س �أنها خمطوبة‪ ،‬وال تقدر هي وال زوجها وال �أهلها على الع�صيان‬
‫جلند على بيتها‬‫ونزل ا ُ‬
‫وال�سالح مي�س رقبتها‪ ...‬حتى �أتى يوم زرقاء اليمامة‪َ ،‬‬
‫‪83‬‬
‫و�ساقوها‪.‬‬
‫ابدي بعمليق وقومي واركبي‬
‫وبادري ال�صبح لأمر ُمعجب‬
‫ف�سوف تلقني الذي مل تط ُلبي‬

‫ع‬
‫وم ��ا لبك ��ر عن ��ده م ��ن مه� � َرب‬

‫ص‬
‫وفج�أ ًة بر َز «خرافة» للجنود بع�صا يحمِ لها ُيدافع بها عن التي اختارها قلبه‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وحتى يف دفاعه كان بري ًئا؛ فخرج ي�صيح ويرفع الع�صا ولي�س ُيح�سن ً‬
‫قتال وال‬
‫مح انغر َز يف ظهره و�أدماه و�سالت دما�ؤه وقب َلها‬ ‫خطة!‪ ،‬فرماه �أحد اجلنود ب ُر ٍ‬

‫ك‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫ت‬
‫دموعه التي ر�أتها الزرقاء يف عينه قبل �أن ميوت‪ ...‬و�أخذت الزرقاء �إىل ق�صر‬
‫امللك العمليق‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وملا غابت �شم�س ذلك اليوم خرجت اليمامة من الق�صر‪ ..‬دام َية من كل‬

‫ش‬
‫�أرجائها‪ ،‬يهتز ج�سدها من �أثر معركة يبدو �أنها انت َهت بانتهاك �شرفها‪،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫وارجتفت مالحمها تود البكاء لكن عزمية بداخلها �أم�س َكت نف�سها‪ ،‬وم�شت حتى‬

‫الت‬
‫�أتت نادي قومها بني جدي�س‪ ،‬ف�سكتوا عن كل حديث ملا ر�أوها‪ ،‬دامي ًة مالب�سها‬

‫ز‬ ‫و‬
‫وعيونها دامية‪ ،‬مل ت ُعد ترى زرقة العني من حمرة القهر‪ ...‬قال يا جدي�س �إنكم‬

‫يع‬
‫لأذل �أهل الأر�ض يف الأر�ض‪ ،‬و�إنه لي�س يف العرب قوم �أذل منكم‪� ،‬أ ُت�ؤتَى ن�سا�ؤكم‬
‫و�أنتم رجال هاهنا تقعدون؛ رجا ٌل كح َّبات الرمل ال �ش�أن لهم وال َوزن؟ � ّ‬
‫أتزف‬
‫العرو�س يف نهارها وتنت َهك يف ليلها!‪ ،‬ولو �أننا كنا رجاال وكنتم ن�سا ًء لكان �أكرم‬
‫ك�شف!‪ ،‬واهلل �إن‬ ‫لكم‪ ،‬مت�شون تختالون كم�شية الرجال ودماء ن�س َوتكم ت�ؤتَى و ُت َ‬
‫جدي�س لأذل �أهل الأر�ض‪ ..‬واهلل �إن جدي�س لأذل �أهل الأر�ض‪.‬‬
‫ف�إن �أن ُتم مل تغ�ضبوا بعد هذه‬
‫فكونوا ن�سا ًء ال تغب عن الكحل‬
‫ودون ُك ��م طي ��ب العرو� ��س ف�إمن ��ا‬
‫ُخلق ُتم لأثواب العرو�س وال ُغ�سل‬
‫فل ��و �أنن ��ا كن ��ا رج � ً�ال و�أنت ��م‬
‫ن�س ��ا ًء ل ُك َّن ��ا ال ُنقي ��م عل ��ى ال ��ذل‬
‫‪84‬‬
‫و�س ��ح ًقا لل ��ذي لي� ��س داف ًع ��ا‬ ‫ف ُبع ��دا ُ‬
‫ويختالمي�شيبيننام�ش َيةالفحل‬
‫فموت ��وا كِرا ًم ��ا �أو �أميت ��وا عد َّو ُك ��م‬
‫وادنوالناراحلربباحلطباجلزل‬
‫النا�س وحمي الرجال وتدافعوا �إىل ال�سالح‪ ..‬وقال �أعقلهم يا بني‬ ‫ُ‬ ‫فثار‬

‫ع‬
‫جدي�س �إنكم �إذا ُقمتم اليوم �إىل عمليق لتقاتلوه ف�إنه واهلل قاتل ُكم و ُمبيدكم‬

‫ري‬‫ص‬
‫بجنده و�سالحه‪ ،‬ف�أقيموا ولي َم ًة فادعوه لها وادعوا لها كرباء ط�سم‪ ،‬ثم اقتلوهم‬

‫ال‬
‫غيل ًة واقطعوا ر�ؤو�سهم‪ ،‬ويكون لكم الأمر من بعدهم‪ ...‬وفك َّرت جدي�س وق َّدرت‪،‬‬
‫وق َّر َرت‪ ،‬وكانت مذبحة‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫َق�صر بلقي�س‪ ..‬مملكة �سب�أ العظمى‪ ،‬ومليكها ح�سان بن �أ�سعد الكامل‪ ..‬قالوا‬

‫ش‬
‫رجل �أ�ش َعث من وعثاء ال�سفر جاء يريدك ويقول �أنه من‬ ‫له يا م ِلك �إن على الباب ُ‬

‫ر‬
‫ط�سم‪ ،‬ومعه كلب يعرج عرجة �شديدة‪ ...‬قال ائتوين به‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫فلما �أتاه الرجل قال‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ يا م ِلك‪� ..‬أغثنا ف�إن �إخوتنا من جدي�س قد �أغاروا علينا فذبحوا كرباءنا‬
‫وذبحوا امللك ب�ضربة واحدة‪ ،‬ولقد �سطوا على حكم البالد‪...‬‬
‫قال امللك لأقياله و�أذوائه‪:‬‬
‫ �أفتوين يف �أمر ط�سم وجدي�س‪.‬‬
‫قالوا له‪:‬‬
‫ يا �أيها امللك‪ ،‬ما َلنا بهم‪ ..‬فليغريوا على �أنف�سهم‪ ،‬ما �أبعدهم عنا‪.‬‬
‫قال الرجل من ط�سم‪:‬‬
‫وانظر �إىل عرجة كلبي هذا؛ ف�إن كنا بعيدً ا ما‬ ‫ بل نحن قريب يا م ِلك‪ُ ..‬‬
‫كان قد َر على املجيء معي بهذه العرجة!‬
‫امللك عن كالم �أقياله و�ص َّدق كالم الرجل‪ ..‬وعزم �أن َّ‬
‫يتدخل وينتقم‬ ‫�أعر�ض ُ‬
‫تب�س َم الرج ُل من ط�سم ب�سم ًة‬
‫لط�سم هذه؛ ف�إنه ال ي ُرد �أحدً ا ا�ستغاث به �أبدً ا‪َّ ..‬‬
‫‪85‬‬
‫يدخل �إىل‬‫خفية‪ ،‬ونظر �إىل عرجة كلبه‪ ،‬ف�إنه قد ك�سر قدم هذا الكلب قبل �أن ُ‬
‫لي�ست بعيدة‪.‬‬ ‫امللك؛ لرييه �أن البالد َ‬
‫امللك بنف�سه على ر�أ�س جي�ش كبري �إىل «جو»‪ ..‬ويف الطريق قال له‬ ‫وم�شى ُ‬
‫ذلك الرجل من ط�سم‪:‬‬
‫بجي�ش على بالدنا عرفنا مبجيئه قبل‬‫ �أيها امللك‪� ..‬إنا كنا �إذا جاءنا غاز ٍ‬

‫ع‬
‫باغتناه و�أحلقنا به الهزمية‪ ،‬فلم تقدر‬ ‫�أن ي�أتي بثالثة �أيام‪ ،‬ف�إذا جاء َ‬

‫ص‬
‫امللوك على دخول بالدنا �أبدا‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫قال امل ِلك‪:‬‬
‫ وكيف تعلمون قبل ثالثة �أيام؟‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ لدينا امر�أة كاهنة زرقاء من بني جدي�س‪ ..‬لها عني ك�أنها عني الآلهة!‪،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ترى ما وراء اجلبال‪ ،‬وترى الراكب قبل �أن ي�صل ب�أيام‪ ...‬و�إنها اليوم‬

‫ن‬
‫�سرتانا من على َت َّلتها و�ستُب ِّلغ قومها‪ ،‬و�سريهقوننا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫تب�سم امل ِلك «ح�سان» وقال وهو ُيخفي �أمرا‪:‬‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫الت‬ ‫و‬ ‫ُ‬

‫و‬
‫كاهنتك‬ ‫�سندخل على جدي�س بكل رجالنا وعدتنا هذه ولن ترانا‬ ‫ بل‬

‫ز‬
‫الزرقاء ولو اتخذت �س َّلما يف ال�سماء‪.‬‬

‫يع‬
‫امللك خدع ًة عجيبة‪� ..‬أمر الرجال �أن يقطعوا ال�شجر ال�صغري من‬ ‫ن َّف َذ ُ‬
‫جذوره‪ ،‬ثم يربطوا ال�شجر على بطون اجلياد‪ ،‬و�أن مت�شي اجلياد ب�أ�شجارها‬
‫ُمتال�صقة يف اجلي�ش!‪ ،‬فيبدو للرائي من بعيد �أن هذا لي�س ً‬
‫جي�شا؛ و�إمنا هو‬
‫جمموعة من الأ�شجار!‪ ..‬وملا اقرتب اجلي�ش‪� ،‬أمرهم امللك �أن مي�شوا ب ُبطءٍ‬
‫�شديد حتى ال يلحظ الرائي حر َكتهم فريى غابة من الأ�شجار وال يفطن �أنها‬
‫تتح َّرك ببطء وتقرتب منه!‬
‫فعل اجلنود �أوامر امللك‪ ..‬وكانت الطيور تطري فوق �أ�شجار اجلنود وحتط‬
‫تنظر �إىل الأفق يف‬‫عليها بال خوف‪ ،‬وكانت زرقاء اليمامة جال�سة مع ميامتها ُ‬
‫فقدت من عر�ض‪ ،‬وتذكر «خرافة» وم�شهده الأخري‪ ...‬ونزلت‬ ‫ُحزن‪ ،‬تذ ُكر ما َ‬
‫تكث فيها الأ�شجار‪ ،‬اقرتب حتى‬ ‫من عينها الدموع‪ ..‬واقرتب اجلي�ش من جهة ُ‬
‫�أ�صبح يف مرمى عيون اليمامة‪ ،‬لكنها مل تنت ِبه‪ ،‬ثم فطن عقلها من طول جل�ستها‬
‫‪86‬‬
‫ل�شيء غريب!‪ ،‬وقفت الزرقاء على التل وم�سحت دموعها و�ض َّي َقت عينها؛ هذه‬
‫الأ�شجار‪� ،‬إنها تتح َّرك‪ ،‬هذه الأ�شجار �آت َية �إلينا‪.‬‬
‫وم�ضت �إىل قومها يف عجالة‪ ..‬وقالت يا قوم �إين ر�أيتُ الأ�شجار ت�أتي �إلينا‪..‬‬ ‫َ‬
‫نظر قومها �إليها يف ُ�سخري ٍة وجتاهلوا قولها‪ ،‬ثم ذهبت يف اليوم التايل و�صعدت‬
‫التلة ونظرت فر�أت �شيئا �أعجب‪ ،‬فهرعت �إىل قومها وقالت �أنها ترى الأ�شجار‬
‫ب�شر‪ ..‬ف�سخ َر قو ُمها منها ُ�سخري ًة �أ�شد من �سخريتهم الأوىل‪ ،‬ومل يلبثوا‬ ‫خلفها َ‬

‫ع‬
‫فحطمهم وقتل‬ ‫بجنده و�سالحه َّ‬ ‫من ليلتهم هذه �ساعة �إال دخل عليهم «ح�سان» ُ‬

‫ري‬‫ص‬
‫كرباءهم‪.‬‬

‫ال‬
‫خ ��ذوا حِ ذرك ��م ي ��ا ق ��وم ينفعك ��م‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فلي�س ما �أرى بالأم�س يحتقر‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�إين �أرى �شج ًرا من خلفها َ‬
‫ب�شر‬
‫َ‬
‫والب�شر‬
‫ش‬ ‫ن‬
‫وكيف جتتمع الأ�شجار‬

‫ر‬
‫‪z‬‬
‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫يف خيم ٍة على �أعتاب «جو»‪ ..‬فيها امللك «ح�سان بن �أ�سعد الكامل»‪ ،‬دخل‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫جلند عليه بامر�أة زرقاء‪ ،‬فنظر ف�إذا هي اجلمال ُم َّ�سدً ا يف امر�أة‪ ،‬والقهر يف‬ ‫ا ُ‬
‫عينها واحلزن �أهل َكها!‪ ،‬قال لها‪:‬‬
‫وعينك يا زرقاء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ قد �أتينا برغم �أن َف ِك‬
‫قالت له‪:‬‬
‫وحذرتُ قومي لكنهم �صموا �آذانهم‬ ‫ �إين ر�أيتُكم ت�أتون حتملون الأ�شجار َّ‬
‫حلزن �أ�ضعف عيني‪.‬‬ ‫وقالوا �أن ا ُ‬
‫و�سن�ستخدمك يف بالدنا‪� ،‬أما بالدك هذه فلن‬
‫ِ‬ ‫ �أما نحن ف�إنا �س ُن ِ‬
‫كرمك‬
‫يكون ا�سمها «جو» بل �سيكون ا�سمها اليمامة‪ ،‬على ا�سمك‪.‬‬
‫مزقنَّ عيني هذه‬‫لديك جار َية!‪ ،‬واهلل �إين لأُ ِّ‬
‫وتظن �أين َ‬ ‫قتلت كرباء �أهلي ُ‬ ‫  َ‬
‫لئال ي�ستخدمني قا ِتل قومي‪.‬‬
‫غ�ضب امللك «ح�سان» وقال‪:‬‬
‫‪87‬‬
‫جلند خذوا طوي َلة الل�سان فاذهبوا بها �إىل خي َمة «مزيقياء» �أمري‬ ‫ �أيها ا ُ‬
‫فلي�ستخدم ب�صرها يف مراقبة ال�سد والعناية‬ ‫ِ‬ ‫م�أرب فتكون جار َي ًة عنده‬
‫ولتنظرنَّ لنا من �أتانا و�أراد بنا �ش ًّرا‪.‬‬‫به‪ ،‬ولت ِق َفنَّ على �أعايل ال�سد ُ‬
‫ودخلوا بها �إىل «مزيقياء» ُمكفه َّرة الوجه‪ ..‬و«مزيقياء» �شيخ كبري َ�س ْمح‬
‫ب�صوت خفي�ض‪ ،‬وظ َّل َّ‬
‫يتحدث‬ ‫ٍ‬ ‫تب�س َم ملا ر�آها‪ ،‬ثم دعاها وحت َّدث لها‬ ‫الوجه‪َّ ...‬‬
‫�إليها حتى �ضح َكت‪ ،‬مل يعرف احلرا�س مل �ضح َكت هذه الفتاة العنيدة بعد‬

‫ع‬
‫جل�س ٍة واحدة مع «مزيقياء»!‪ ،‬قال لها‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ يا زرقاء‪� ،‬إنا ما َد َرينا بالأمر ال�شنيع الذي فعله العمليق في ُكم‪ ..‬قد‬

‫ال‬
‫�أتانا من عند ط�سم رجل يتباكى عند امل ِلك‪ ،‬ومل ُن ِقر امللك على ما فعل‪،‬‬

‫ك‬
‫و�إنه ل�شاب فيه َطي�ش‪ ،‬لي�س مثل �أبوه �أ�سعد الكامل العظيم‪ ،‬لكن �أخوه‬

‫ت‬
‫عقل‪ ،‬و�إنك لت�سمعني غدً ا خ َرب قتل‬ ‫«�شرحبيل» �أق َرب لوالده و�أكمل ً‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫عط ّي َة ُ�صلح من اجلد‬ ‫«ح�سان» هذا على يد �أخيه؛ فال حتزين واعتربيها ِ‬

‫ن‬
‫فل�ست جاري ًة لأحد‪ ،‬كوين‬

‫ش‬
‫أنت ِ‬ ‫«مزيقياء» لأجل من مات من �أهلك‪� ،‬أما � ِ‬

‫ر‬
‫م�سموعة الر�أي؛ فلقد �سمعنا عن ب�صريتك‬ ‫َ‬ ‫معي و�ستكونني فينا عظيم ًة‬

‫الت‬ ‫و‬
‫وفطنتك‪ ...‬ثم قال لها‪:‬‬

‫و‬
‫ ما ا�سمك يا زرقاء؟‬

‫يع‬ ‫ز‬ ‫حت َّرجت من الإجابة‪ ،‬ثم �أجا َبت فقالتك‬


‫وجدين �أهلي زرقاء فت�شاءموا مني و�س ُّموين عنز‬ ‫ �إنني حني مولدي َ‬
‫‪-‬غ�ضبا ع َل َّي‪ -‬ثم ملا كربتُ مل ي ُكن لأحد ابنة �أجمل مني؛ ف�س َّماين �أهلي‬
‫ال�شمو�س‪.‬‬
‫يك ا�س ًما �آخر‪� ..‬سن�سميك ظري َفة؛ لأن براعة وذكاء‬ ‫ �أما �أنا ف�إين �س�أ�س ِّم ِ‬
‫قلبك ال ُيو�صفان‪.‬‬
‫ف�ضح َكت زرقاء اليمامة‪ ..‬كان هذا هو «مزيقياء بن ماء ال�سماء» �أمري م�أرب‪.‬‬
‫أقيال �إىل «�شرحبيل» وقالوا له‪:‬‬ ‫وجاء ال ُ‬
‫ �إنا قد �أره َقنا «ح�سان» �أخوك‪ ..‬مئات الأميال من�شيها ون�سفك دماء‬
‫النا�س بال طائل‪ ،‬وال ي�سمع ر�أي الأقيال والأذواء يف �أي �شيء‪ ،‬ونحن‬
‫الذين مل ي� ِأت م ِلك �إال �أخذ م�شورتنا!‪ ،‬حتى امللكة العظيمة بلقي�س مل ت ُكن‬
‫‪88‬‬
‫َ‬
‫تقطع �أم ًرا حتى ن�شهد‪ ،‬وامللوك بعدها على هذا‪� ..‬إال «ح�سان» �أخوك!‪،‬‬
‫حلكم �أن يخ ُرج من �آل «ملكيكرب»؛ فاقتُل «ح�سان» ونكون‬‫و�إنا ال نريد ا ُ‬
‫نحن حتت طاعتك‪...‬‬
‫بكالم كثري حتى قتَل �أخوه‪ ..‬و�أ�صبح ملك �سب�أ وتهامة واحلجاز‬
‫وملئوا ر� َأ�سه ٍ‬
‫وال�شام‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫تخطو عند �سد م�أرب واجلنان من حولها واملاء من‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫أيت زرقاء اليمامة ُ‬ ‫�إذا ر� َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫حتتها يجري ملُ�ستق ٍّر له والثمار من فوقها دان َي ًة على الأ�شجار‪ُ ...‬‬
‫�ستظنّ �أنك‬
‫مكان واحد!‪ ،‬لكنها مل ت ُكن‬
‫ُت�شاهد لوح ًة تعمد را�س ُمها �أن يح�شد كل اجلمال يف ٍ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لوحة؛ لقد كانت �سب�أ‪ ،‬لي�ست جن ًة واحدة‪ ،‬بل جنتني عن ميني و�شمال‪� ...‬صنع‬ ‫َ‬
‫�أه ُلها هذا ال�سد الهائل قبل �أكرث من �ألفي عام‪ ،‬و�أجروا له قنوات كالأنهار جتري‬
‫م�شيت‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫فرت ِوي‪ ،‬ف�صارت جنتني عظيمتني يف �سب�أ فيهما من كل �شيء‪ ،‬حتى �إذا‬

‫ش‬
‫ت�ساقط عليك من ثمارها الأ�شجار!‪ ..‬وجاءت �سب�أ مغامن كثرية‬ ‫َ‬ ‫وعلى ر�أ�سك �س َّلة‬

‫ر‬
‫من فتوحاتهم يف بالد اجلزيرة‪ ..‬ف�صار الأمر �إىل غنى بال فقر وثمار حلوم‬

‫الت‬ ‫و‬
‫وتتعجب‪ ،‬انتهى عجبها ب�سحر‬ ‫وطيور ال نهاية لها‪ ،‬وكانت زرقاء اليمامة مت�شي َّ‬

‫و‬
‫تعجب ممن ي�سكنون فيها؛ فلقد ا�ست�ش َرت فيهم رغبة فا�سدة‬ ‫أ�صبحت َ‬ ‫البالد و� َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أثارت حنق اليمامة!‬
‫جتا ُرهم و�أقيالهم و�أذوائهم �أن جتارتهم تبور دائ ًما‪ ..‬ف�إن‬ ‫وجد كربا�ؤهم و َّ‬
‫ط ُرق التجارة بني اليمن وال�شام �آمنة وعامرة بالقرى اخل�ضراء امل�سكونة‪،‬‬
‫وتي�سر‬ ‫واخلو�ض يف طريق التجارة �سهل لكل من يريد‪ ،‬وكلما َ‬
‫�سهل �أمر الطريق َّ‬
‫نق�صت �أثمان الب�ضائع التي يبيعها التجار؛ فا�ست�شرى‬ ‫وكرث عدد التجار‪ ،‬كلما َ‬
‫متباعدة وغري‬
‫بني التجار وعلية القوم �أمنية عجيبة‪ ،‬متنوا �أن تكون طرقهم ِ‬
‫�آمنة!‪ ،‬فال يخو�ض فيها �إال كبار التجار؛ فيزيدون يف �سعر ب�ضائعهم طم ًعا من‬
‫عند �أنف�سهم وج�ش ًعا‪ ...‬كانت اليمامة ال تفهم كيف ُيف ِّكر بع�ض بني الإن�سان‪،‬‬
‫�أيريد �أحد �أن يبدل هذه اجلنات الن�ضرة!‪ ،‬ثم توقفت اليمامة فج�أ ًة عن امل�سري!‪،‬‬
‫َ‬
‫وانده�شت‪.‬‬ ‫ونظرت �أمامها‬
‫ر�أت جمموعة من الريابيع واقفني على �أرجلهم منت�صبني ي�ضعون �أياديهم‬
‫على �أعينهم كل حني!‪ .‬والريبوع حيوان ُي�ش ِبه الف�أر بذيل طويل‪ ،‬فتو َّق َفت ُ‬
‫تنظر‬
‫م�شت فر�أت �سلحفاة ُمنقل َبة على ظهرها ال تقدر على االعتدال فتحثو‬ ‫�إليهم‪ ،‬ثم َ‬
‫‪89‬‬
‫وتقذف بالبول من مثانتها!‪ ،‬ونظرت فر�أت �أ�صنا ًفا‬ ‫الرتاب على بطنها وجنبها ِ‬
‫من احليوانات ُتغادر �أماكنها يف غري موعدها!‪ ،‬وهي التي تفهم احليوان �أكرث‬
‫من فهمها للب�شر‪ ،‬ثم ات�سعت عينا اليمامة اجلميلتني يف ُرعب!؛ �إن هذا ال يعني‬
‫�إال �شي ًئا واحدً ا؛ هذه احليوانات‪� ،‬إنها ُتغادر ه َر ًبا من كارثة!‪ ،‬ال�سلحفاة ال تنق ِلب‬
‫على ظهرها وتبول على نف�سها �إال ُرع ًبا من �شيء‪ ،‬والريبوع ال ي�ضع يده على عينيه‬
‫ريح ك�أنها قد لب�سها �شيطان!‪ ،‬ونظرت‬ ‫�إال ُرع ًبا‪ ...‬ثم ر�أت الأ�شجار تهتز من غري ٍ‬

‫ع‬
‫اليمامة حولها وفه َمت كل �شيء‪ ،‬ثم انطلقت كال�سهم �إىل الأمري «مزيقياء»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫وكان عند ال�سد رجل وزوجته ينظران �إىل ال�سد والدواب التي ت ِفر‪ ..‬وكان‬

‫ال‬
‫ن�صيب وا ِفر من الو�سامة؛ «عمرو بن جابر» وزوجته «�إينور»‪ ...‬نظر «عمرو»‬ ‫ٌ‬ ‫لهما‬
‫�إىل زرقة عيني زوجته وقال لها‪� :‬أفهمت ِكما فه َمت اليمامة يا «�إينور»؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫قالت‪ :‬بلى‪...‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫نظ َر «عمرو» �إىل ال�سماء وقال‪� :‬إين يا «�إينور» كلما نظرتُ �إىل ال�سماء �أ�س�أله‬

‫ش‬
‫متى!‬

‫و‬ ‫ر‬
‫قالت له‪ :‬متى ماذا؟‬

‫و‬ ‫الت‬
‫نظ َر �إىل ال�سماء ومل ي ُرد!‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وكان «مزيقياء» يف ج َّنته التي بجوار ال�سد‪ ..‬فدخ َلت اليمام ُة عليه وقا َلت‪:‬‬
‫ والنور والظلماء‪ ..‬والأر�ض وال�سماء‪� ..‬إن ال�شجر لتالف‪ ..‬و�سيعود املاء ملا‬
‫كان يف الدهر ال�سا ِلف‪.‬‬
‫تعجب ف�أكم َلت‪:‬‬‫نظ َر لها يف ُّ‬
‫ داهية ركي َمة‪ ..‬وم�صا ِئب عظي َمة لأمور ج�سي َمة‪.‬‬
‫قال لها‪� :‬أو�ضحي يا ظري َفة‪.‬‬
‫قالت‪� :‬إن بيننا وبني هالك هذا ال�سد �أ َوان ي�سري‪.‬‬
‫انده�شت عيناه وقال لها‪:‬‬
‫ ما تقولني؟ �إن هذا �س ٌّد قائم ال يهتز منذ �ألفي �سنة‪.‬‬
‫فانتظر هالكه يف �سبع قطع من الزمان تن ُق�ص �أو تزيد!‬ ‫  ِ‬
‫‪90‬‬
‫ يا زرقاء �إن التبع «�شرحبيل» قد �أمر رجاله منذ �شهور بال�سد يعنون به؛‬
‫فهم قائمون عليه بكرة و� ً‬
‫أ�صيل‪.‬‬
‫ �إين �أعلم ما ترى عيني‪ ..‬و�إن بناءكم هذا لها ِلك‪ ،‬و�إن كل جنة يف �سب�أ‬
‫�إىل زوال!‬
‫دارت الدنيا حول «مزيقياء»‪ ..‬وهو �أمري م�أرب ومالك اجلنان حول ال�سد‬

‫ع‬
‫والأرا�ضي‪� ...‬أت�صدق زرقاء العيون �أن بناء ُم�ش َّيدً ا كهذا ي�سقط وينهار!‪،‬‬

‫ص‬
‫وح�سم «مزيقياء» �أمره فلم ُمتر عليه لي َلة �إال وقد �صدرت �أوامره �إىل بنيه‬

‫ري‬
‫و�أحفاده و�إخوته وع�شريته �أين راح ٌل من �سب�أ؛ فاجمعوا رحالكم وبيعوا �أر�ضكم‬

‫ال‬
‫بع�ضهم وبقوا‪ ،‬ونزل معه كثري‪ ،‬فكان ممن نزل معه ولده‬ ‫وجناتكم‪ ...‬فعار�ضه ُ‬

‫ك‬
‫و�أبناءهم ون�ساءهم‪ ،‬ونزلت معه الزرقاء‪ ،‬وهي حتمل على ذراعها اثنني من‬

‫ت‬
‫�أحفاده‪�« ،‬أو�س» و«خزرج»‪ ،‬وكانا �صغا ًرا يف ا َملهد‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫نظر «عمرو بن جابر» �إىل �سد م�أرب العظيم ال�ضخم وقال لزوجته‪� :‬إن‬

‫ش‬
‫الرحمن قد ارتفع ذكره يف هذه الدولة يا «�إينور»‪ ..‬ودول الأر�ض كلها يرفعون‬

‫ر‬
‫و�صلبانهم‪ ،‬و�إن الرحمن �سيد ُُّك هذه الدولة د ًّكا!‪ ،‬ثم �شرد ب�صره يف‬ ‫�أ�صنامهم ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ال�سماء وقال‪ :‬متى‪ ..‬متى ي�أتي �أحمد يا «�إينور»‪ ،‬متى ي�أتي املُخ ِّل�ص‪ ،‬من �أي ٍ‬
‫بلد‬

‫و‬
‫يخ ُرج‪ ،‬قد علمنا �أن يرثب مهاجر له بعد حني‪ ،‬لكن من �أين يخ ُرج؟ ومتى؟ متى‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يا رحمن!‪ ،‬الإميان يف ميان‪� ..‬أفهو خارج من اليمن؟ ثم ا�ستدار وقال لإينور‪� :‬إنا‬
‫راحلون يا «�إينور»‪ ..‬ف�إن فا�ض هذا املاء ف�إنه يغ�شى م�ساكننا وم�ساكن اجلن‪.‬‬
‫مت�سائل!‪ ،‬قالت له‪ :‬هل ن�سيت الكتاب‬ ‫ً‬ ‫مل ت ُرد عليه «�إينور»!‪ ،‬فنظر لها‬
‫يا «عمرو»؟ ماذا �إن هل َكت هذه القرية وتف َّرق �أهلها وهاجروا كما هاجر بنو‬
‫«مزيقياء»؟ �إين واهلل ال �أخرج من هنا مادام ذلك الكتاب هنا‪.‬‬
‫قال لها «عمرو»‪ :‬يا «�إينور» يا ذات احل�سن‪� ..‬إن ذلك الكتاب مع بني يزن‪،‬‬
‫و�إنهم له حافظون‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ف�إين مع بني يزن قائمة ال �أبارحهم‪.‬‬
‫الحق بركب «مزيقياء»؛ ف�إين وجدتُ فيهم �إميا ًنا‬ ‫قال «عمرو»‪� :‬أما �أنا ف�إين ِ‬
‫مل �أجده يف �سواهم‪ ،‬وموعدنا بعد ح ٍني يا «�إينور»‪...‬‬
‫ومال عليها ف�ض َّمها �إليه‪ ..‬ثم نظر �إىل جمالها نظر ًة �أخري ًة‪ ،‬ثم دار على‬ ‫َ‬
‫عقبيه وح َّلق بعيدا الح ًقا بركب بني «مزيقياء»‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫وبعد �ستة �أيام �سمع النا�س �ضجيج الأر�ض‪َّ ..‬‬
‫فكذبوا �آذانهم‪ ،‬ثم �أ�س َمعتهم‬
‫النا�س فزعى‬
‫أر�ض مزيدً ا من �ضجيجها واهتزَّت من حتت �أقدامهم‪ ،‬وخرج ُ‬ ‫ال ُ‬
‫وت�ش َّققت عليهم بيوتهم‪ ،‬ثم ت�ش َّقق ال�سد‪ ،‬وح�ضرت نذر الكارثة‪ ،‬و�أثقل املاء‬
‫على جدار ال�سد وت�س َّلق يريد اخلروج‪ ،‬وهرب النا�س والدواب والأر�ض توقعهم‬
‫�إليها‪ ...‬حتى دكت �أ�صول ال�سد د ًّكا وانهدمت من كل مكان ك�أن مل ي ِع�ش ع�شر‬
‫�سنني!‪ ،‬و�أغار املاء على �سب�أ و�أهل �سب�أ مبا كفروا ب�أن ُعم ربهم؛ جنات من‬

‫ع‬
‫فوقهم و�أنهار حتتها جتري‪ ،‬رغبوا بها ً‬

‫ص‬
‫بدل كف ًرا من عند �أنف�سهم!‪ ،‬ف�أبدلهم‬

‫ري‬
‫أكل َخ ٍ‬
‫مط و� ٍأثل و�شيء من ِ�سد ٍر قليل‪ ...‬و�سقطت‬ ‫ربهم جنتيهم بجنتني ذواتي � ٍ‬

‫ال‬
‫مملكتهم وا�ستق َّلت عنها كل �أقطار اجلزيرة‪ ،‬ومتزَّقوا يف الأر�ض وهاجروا منها‬

‫ك‬
‫و�ساحوا هنا وهناك!‪ ،‬وكانوا هم العرب الذين يعرفهم التاريخ با�سم العرب‪،‬‬

‫ت‬
‫�أقام كل فريق منهم يف �أر�ض من �أرا�ضي اجلزيرة‪ ،‬ولقد هلك من كان قبلهم‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫من العرب البائدة الذين �أبادتهم الظروف ك�أمثال عاد وثمود وط�سم وجدي�س‬

‫ن‬
‫�إال ً‬

‫ش‬
‫قليل!‬

‫ر‬
‫‪z‬‬
‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫رحلة طويلة �شاقة ملحم َّية‪ ..‬بد�أت من م�أرب اليمن �إىل مكان جمهول‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫«مزيقياء» وبنيه وما معهم من الأموال والأنعام واجلنود والعز الذي انهدم‬
‫مع انهدام ال�سد وبقي يف قلوبهم وعيونهم‪ ،‬ثالثمائة �إن�سان �أو يزيدون ومعهم‬
‫زرقاء اليمامة ي�ستد ُّلون من ب�صريتها على �أر�ض يقيمون بها‪ ...‬وكانوا ك َّلما‬
‫أر�ض هادنهم �أهلها ثم اختلفوا واقتتلوا معهم فينت�صر بنو «مزيقياء» ثم‬
‫نزلوا ب� ٍ‬
‫يكرهون املكوث بالأر�ض فينتقلون منها �إىل غريها‪ ،‬وقبل ذهابهم من كل �أر�ض‬
‫كان يتخ َّلف منهم فريق يعي�ش وي�ستقر يف تلك الأر�ض ويعلو �ش�أنه فيها‪ ،‬فمن عك‬
‫�إىل همدان �إىل عمان �إىل مكة ثم �إىل ال�شام‪ ...‬ومات «مزيقياء» يف عك فخلفه‬
‫بنوه واحدا تلو الآخر‪ ،‬ويف ال�شام اقتتلوا مع الروم ً‬
‫قتال عظي ًما �أ�شد من كل ما‬
‫كان قبله!‪ ،‬وبقي منهم فريق يقاتل يف ال�شام وهاجر الباقني منهم �إىل ذات‬
‫النخيل؛ هاجروا �إىل يرثب‪.‬‬
‫وقبل يرثب َ‬
‫�سقطت زرقاء اليمامة‪� ..‬سقطت ويف عينها بحر من الذكرى ُمي ُّر‬
‫عليها ك�أنه قد كان بالأم�س كله قد حدث‪ ،‬وحولها بنو مزيقياء ينظرون �إليها‪،‬‬
‫قوما �شدادًا ال ي�أتي عليهم �أحد �إال انتقموا منه!‪ ،‬ونظرت بعينها تبحث عن‬
‫كانوا ً‬
‫‪92‬‬
‫ال�صبيني‪ ،‬ثم ظهرا لها من بني الزحام «�أو�س» و«خزرج»‪ ،‬ت�أ َّملت فيهما ً‬
‫قليل ثم‬
‫�أخذتها �سكرات املوت فماتت يف حملها وهي ناظرة �إليهما‪.‬‬
‫الركب الكبري �إىل البلدة التي كانت منتهى الرحلة الطويلة يرثب‪..‬‬‫ُ‬ ‫وانطلق‬
‫وكان فيها يهود من كل �صنف وقبيلة‪ ،‬ومل يتح َّمل بنو مزيقياء معا�شرة اليهود‬
‫فا�شتعل بينهم وبينهم القتال‪ ،‬وا�ستعان اليهود باليهود‪ ،‬ف�أتت جحافل يهودية‬
‫من ال�شام ومن خيرب‪ ،‬وانهزم بنو مزيقياء وبعثوا �إىل اليهود يطلبون ال�صلح‬

‫ع‬
‫طرف من �أطراف �أر�ض يرثب‪.‬‬‫على �أن ُيقيموا على ٍ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫وم َّر الده ُر ً‬

‫ال‬
‫ثقيل على نفو�س بنو مزيقياء؛ ف�إن اليهود كانوا يفر�ضون عليهم‬
‫� ً‬
‫أموال و ُي�ض ِّيقون عليهم يف املاء ويف كل �شيء!‪ ،‬وكرب «�أو�س» و«خزرج» و�صار لهم‬

‫ك‬
‫بنني وقبيلة‪ ،‬وعا�ش الأو�س واخلزرج يف م�ش َّق ٍة من العي�ش وتوا َلت �أجيالهم يف‬

‫ت‬
‫يرثب‪ ،‬وم َّل «عمرو بن جابر» من متابعتهم؛ خا�صة �أن كث ًريا منهم قد انقل َبت‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وعبد البع�ض الآخرين الأ�صنام!‪ ،‬وبقي قليل منهم على‬ ‫عقائدهم وته َّود بع�ضهم َ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫عازما على مكان �آخر قد يجد فيه بذور �إميان‬ ‫دين الرحمن‪ ،‬فا�ستدار «عمرو» ً‬

‫ر‬
‫َّ‬
‫�أف�ضل من هذه‪ ،‬لكن «عمرو» تو َّقف حمله!‪ ،‬فلقد ر�أى ما جمد قدمه وذكره مبا‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قبيحا يف عباءة قامتة‪ ،‬مي�شي يف الدروب قا�صدً ا مو�ض ًعا‬‫رجل ً‬ ‫ال يحب‪ ،‬ر�أى ً‬

‫و‬
‫معي ًنا؛ �إزب القميء ال�شيطان‪ ،‬و�إن ر�ؤيته تعني �أن كارثة حد َثت �أو �ستحدُث‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫ب�شكل ما!؛ فبقي «عمرو» يف يرثب‪.‬‬

‫خرج املنادي يف يرثب‪ ...‬يا بني �إ�سرائيل �إنَّ املُلك اليوم �صارعللفطيون‬
‫‪z‬‬
‫عظيم بني ثعلبة‪ ،‬وكان «الفطيون» هذا راهب �سوء‪ ،‬ح َكم يف اليهود ُحك ًما (�أال‬
‫فتح�صل لها بذلك بركة‬ ‫ُ‬ ‫تتز َّوج امر�أة يف يرثب �إال ُ‬
‫يدخل بها هو قبل زوجها‪،‬‬
‫الراهب)‪ ،‬ومال الأو�س واخلزرج على بع�ضهم‪� ،‬أتذكرون اليمامة الزرقاء‪ ،‬لقد‬
‫أوقدت حر ًبا �أبيدت فيها ر�ؤو�س كبار قومها‪« ،‬ط�سم» و«جدي�س»‪ ...‬لكن �أولئك‬ ‫� َ‬
‫كان عمليق متج ًربا عليهم طاغ ًيا‪� ،‬أما ه�ؤالء اليهود ف�إنهم يقدمون حلاكمهم‬
‫العذارى طواعية‪ ،‬بئ�س اجلوار جوارهم‪.‬‬
‫حكم «الفطيون» �أن قراره‬ ‫يف اليوم التايل �أتى اخلرب الذي �أ�ش َعل كل �شيء‪َ ..‬‬
‫ي�سري على كل من ي�س ُكن يرثب؛ والأو�س واخلزرج ي�سكنونها!‪ ،‬فبنات الأو�س‬
‫يدخل بهن قبل �أزواجهن‪ ،‬و�إن �أعر�ضوا ف�إن «الفطيون»‬ ‫واخلزرج ِح ّل للفطيون ُ‬
‫اقتالعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بجنود ال َ‬
‫قبل لهم بها فيقتلعهم من يرثب‬ ‫ٍ‬ ‫ي�أتيهم‬
‫‪93‬‬
‫زواج �شديد‬‫بيوم واحد قد �أعلنوا عن ٍ‬ ‫امل�شكلة �أن اخلزرج كانوا قبل هذا ٍ‬
‫الأهمية؛ زواج �أخت كبريهم «مالك بن العجالن»‪.‬‬
‫واختلف كبار الأو�س واخلزرج‪� ..‬أن ُنحارب اليهود مبا فينا من �ضعف‪� ،‬أم‬
‫نرتُك لهم الديار!‪ ،‬ومل يبقَ �سوى �أيام على موعد الزواج املُع َلن‪.‬‬
‫ �إن هذا الزواج �سي ِتم‪ ،‬لكننا �سن� ِّؤخره �شه ًرا واحدً ا‪ ،‬و�سندعو له كرباء‬

‫ع‬
‫اليهود � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬

‫ص‬
‫كان هذا «مالك بن العجالن» يتك َّلم عن زواج �أخته‪ ...‬و�سكت اجلميع ونظروا‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫له يف َح َنق!‪ ،‬ظهر على وجهه كهيئة ابت�سامة‪ ،‬ثم �أخربهم ب�أمو ٍر �أعج َبتهم‪� ،‬أمور‬
‫رمبا ُت ِّغي كل �شيء‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫و�أقيم حفل الزواج بعد �شهر‪ ..‬وح�ضره كبار الأو�س واخلزرج وكبار اليهود‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫وتز َّينت يرثب بزينة الفرح‪ ،‬وز َّفت الن�ساء �أخت مالك العجالن �إىل بيت‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫«الفطيون»‪ ،‬وانفتح باب بيت «الفطيون» الكبري‪ ،‬ودخلت الن�س َوة مع العرو�س‬

‫ش‬
‫ولوعة‪ ،‬حتى �أن بع�ض جواري «الفطيون»‬ ‫ُيهدِّ ئن من روعها؛ فقد كانت يف انهيا ٍر َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�شاركنَ يف تهدئتها‪ ،‬ثم ظهر «الفطيون»‪ ،‬رجل يف ج�سده �ضخامة ويف حل َيته‬

‫الت‬
‫طول بال تهذيب‪ ،‬و ُكح ٌل كثيف حول عينه جعله �أ�شبه بال�شيطان‪ ...‬كان ِ‬

‫و‬
‫يبت�سم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يف �إذالل للعرو�س‪ ،‬ويقرتب منها يف طمع‪ ،‬ثم م َّد يده لي�ضعها على كتفها فارت َّدت‬
‫�إىل الوراء مذعورة‪ ،‬فات�س َعت عيناه �إرعا ًبا‪ ،‬وتق َّدم لي�ضع يده عليها يهدئها‪،‬‬
‫والتقطت �أذناه �صوت ًا غري ًبا‪.‬‬
‫مل يجد وقتًا ملعرفة ال�صوت‪ ..‬فقد طارت رقبته وتدحرجت ر�أ�سه على‬
‫الأر�ض ك�أنها قلن�سوة!‪ ،‬ونظرت اجلواري ف�إذا هناك �سيف قد ا�ستل‪ ،‬ومن �س َّلته‬
‫هي واحدة من الن�ساء الالتي دخلنَ مع العرو�س!‪ ،‬وكانت تغطي ر�أ�سها ُمنتقب ًة‪،‬‬
‫ثم رفعت غطاء ر�أ�سها‪ ،‬مل ت ُكن �أنثى!‪ ،‬بل كان «مالك بن العجالن» نف�سه؛ �أخو‬
‫العرو�س‪.‬‬
‫هاج اليهو ُد يف يرثب وق َّرروا �أن ي�ست� ِأ�صلوا الأو�س واخلزرج عن بك َرة �أبيهم‬ ‫َ‬
‫ولي�ستعينن يف ذلك بيهود خيرب ويهود ال�شام‪ ..‬لكن فج�أ ًة نزل على اليهود ٌ‬
‫جيو�ش‬
‫من كل �صوب!‪ ،‬ما يدرون ما ه�ؤالء‪ ،‬نزلوا ب�أ�سلحتهم وخيولهم فقتلوا يف اليهود‬
‫قتل عظي ًما‪ ،‬كان ه�ؤالء هم الأو�س واخلزرج الذين كانوا يف ال�شام‪ ،‬انطلق‬ ‫ً‬
‫متاما يف‬‫«مالك بن عجالن» �إليهم قبل �شهر‪ ،‬و�أعل َمهم مبا ُيريد‪ ،‬ثم دخلوا ً‬
‫‪94‬‬
‫الوقت الذي ُق ِتل فيه «الفطيون»‪ ،‬و�صارت الأو�س واخلزرج قو ًة يف يرثب‪ ،‬ونزح‬
‫ري ممن كان يف ال�شام من الأو�س واخلزرج �إىل يرثب وا�ستق ُّروا فيها‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫كث ٌ‬
‫اليهود فيها م�ست�ضعفني‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫أالزلت ت�ضع هذه اللثامة يا «عمرو بن جابر»؟ �أالزا َلت الندبة ظاه َرة‬ ‫ � َ‬

‫ع‬
‫فيك؟‬

‫ص‬
‫بك �إىل هذه البلدة يا «�إزب»؟‬ ‫ ما الذي جاء َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫أنظر يف �صدور النا�س‪.‬‬ ‫ جئتُ � ُ‬

‫ك‬
‫تنظر يا «�إزب»؟‬‫ عن �أي �شيء ُ‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫أنظر فيهم عما يرديهم‪.‬‬ ‫ � ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫نزلت فيهم؟‬


‫ وملاذا هُ م بالذات َ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ لأنهم ُذر َّيته‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫  ُذر َّية َمن؟‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫امل�شاهد كانت‬
‫ِ‬ ‫احم َّرت عيناه ب�صور ٍة �شيطانية ومل ي ُرد‪ ...‬لكن كث ًريا من‬
‫ُتراود ذاكرته؛ م�شاهد لـ«�أ�سعد الكامل» وهو ينزل بفر�سه يف ال�سوق يلطم‬
‫يف ر�أ�س ال�ساحر هريا َين ًة و َي�س َر ًة ويقول ِمبلء فيه‪� ..‬أين �شيطانك يا هريا‪..‬‬
‫و«�إزب» ال�شيطان واقف هناك يف عباءته ال يقدر على �شيء!‪ ،‬ويرفع «�أ�سعد» يده‬
‫وعينه تنطق بالتحدي واجلذل‪ ،‬وال يقدر «�إزب» له ردًا‪ ..‬ثم قال «�إزب»‪:‬‬
‫ �إين �س�آتيهم من بني �أيديهم ومن خلفهم وعن �أميانهم وعن �شمائلهم‪،‬‬
‫ولآمر َّنهم فلي�ضرب بع�ضهم رقاب بع�ض حتى ال تبقى لهم باقية‪.‬‬
‫مت�ض غداة على يرثب �إال ونزل فيهم رجل غريب يذكر �أنه من جند‪..‬‬ ‫ومل ِ‬
‫ِّ‬
‫«�إزب بن �أزيب»‪ ،‬نزل ُمتنك ًرا يف �سوق اليهود‪� -‬سوق بني قينقاع‪ -‬وقد كان �سو ًقا‬
‫�شه ًريا؛ فيه الأقوام تتفاخر وال�شعراء‪ ،‬نزل «�إزب» ومعه جواد عربي �أ�شهب‪،‬‬
‫خيل يف اجلياد ال�صافنات‪ ،‬قال يا‬ ‫خالط بيا�ضه �سواد �شعره‪ ،‬مل ير �أح�سن منه ً‬
‫قوم �إين �أهب هذا اجلواد لأعز �أهل يرثب‪ ،‬ف َمن هو �أعز �أهل يرثب؟ �أيف اليهود‬
‫هو �أم يف الأو�س واخلزرج؟‬
‫‪95‬‬
‫قيل له‪ :‬واهلل �إن العز َة اليوم للأو�س واخلزرج؛ فقد ظهروا على اليهود‪.‬‬ ‫َ‬
‫بر َز يهودي كان يتابع امل�شهد وقال‪� :‬أنا �أ�شهد �أن العز َة مل ت ُعد فينا‪.‬‬
‫قال «�إزب»‪ :‬فمن الأعز يف الأو�س واخلزرج؟‬
‫ت�صايح النا�س وذكروا �أ�سما ًء‪ ..‬ثم �صاح اليهودي وقد بدا للجميع ذا‬ ‫َ‬
‫�صوت م�سموع بعد �أن اعرتف ب�ضعف قومه‪ :‬واهلل �إن �أع ّز �أهل يرثب «مالك بن‬ ‫ٍ‬

‫ع‬
‫العجالن»‪ ،‬و�إين جا ٌر له وحليف‪ ،‬وقد ر�أيتُ فيه من العزة مثل كل بني اخلزرج‪..‬‬

‫ص‬
‫�أما الأو�س فلي�س فيهم َخري وال كرامة‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وجت َّمع الأو�س واخلزرج يت�صايحون يف ال�سوق‪ ،‬وكان فيهم «مالك بن‬
‫العجالن» وفيهم من ذكرت �أ�سماءهم من الأو�س‪...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قال «�إزب»‪� :‬إين وهبتُ فر�سي هذه لأعز �أهل يرثب كلهم؛ «مالك بن العجالن‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫اخلزرجي»‪ .‬فقال اليهودي ب�صوت عال‪� :‬أمل �أقل ل ُكم �أن «ما ِلك بن العجالن»‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫جاري وحليفي هو �أعز �أهل يرثب كلها‪.‬‬

‫ر‬
‫فقتل اليهودي!‪ ،‬وت�صايح النا�س وع َلت �أ�صواتهم‬ ‫فقفزَ فج�أ ًة رج ٌل من الأو�س َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫يف ال�سوق‪ ،‬وظهر �شبح ابت�سام ٍة على زاوية فم «�إزب بن �أزيب»‪ ،‬وان�صرف من‬

‫و‬
‫ال�سوق تار ًكا الأ�صوات تتعاىل من ورائه‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قتال بني الأو�س واخلزرج‪ ..‬وحت َّول القتال �إىل حرب‪،‬‬ ‫وانطلقت �شرار ُة ٍ‬
‫وحت َّولت احلرب �إىل حروب‪ ،‬حروب بني الأو�س واخلزرج ا�ستم َّرت مائة عام �أو‬
‫و�سبب خمت ِلف‪ ،‬وكان بع�ض اليهود‬ ‫يزيد!‪ ،‬ويف كل مر ٍة تكون لها �شرارة خمتلفة‪ٌ ،‬‬
‫ُيحالفون الأو�س‪ ،‬وبع�ضهم يحالفون اخلزرج‪ ،‬ال يحالفونهم بالرجال يف احلرب‬
‫و�إمنا بال�سالح!‪ ،‬يرمون �إليهم بال�سالح وي�شاهدون دماءهم تفور وت�سيل على‬
‫�أر�ض يرثب‪...‬‬
‫‪z‬‬
‫«�شافع الكاهن»‪« ،‬عا�صف الغالم»‪ ،‬ثم «�أ�سعد الكامل»‪ ...‬وفكرة توحيدية‬
‫على دين �إبراهيم‪ ..‬بر َزت ذات ليلة‪ ،‬وخ َبت ذات ليلة فلم ي ُعد لها وجود!‪ ،‬ك�أنها‬
‫وجني‬‫�شهاب تن َّو َرت به �صفحة الليل‪ ،‬ثم خبا وتوارى ك�أن مل َي ْ�سطع بالأم�س‪ِ ،‬‬
‫وقف و�سط كل هذا وقد �أ�صابه الي�أ�س‪ ،‬وت�ص َّور له �أ�صحاب الأخدود ي�صرخون‪،‬‬ ‫َ‬
‫ثم ت�ص َّورت له جيو�ش «�أ�سعد الكامل» امل�ؤمنني يف م�أ�سل اجلمح‪ ،‬ثم ت�ص َّور له‬
‫‪96‬‬
‫الأو�س واخلزرج واليهود يتقاذفونهم‪ ،‬ثم ت�ص َّورت له الكعبة بك�س َوتها ال�سوداء‪،‬‬
‫وهنتُ ‪،‬‬
‫رب �إين قد َ‬ ‫رب �إين �أ َو ّد لو َت ُد َّلني �إىل الطريق‪� ،‬أو على �صاحب الطريق‪ِّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫أر�سلت ال�شياطني‬
‫رب �إنك قد � َ‬ ‫أظلم ف�ؤادي‪ِّ ..‬‬‫وخ َبت يف عروقي �أنوار الأمل؛ ف� َ‬
‫عليهم ت�ؤ ُّزهم �أ ًّزا؛ فلم ترتك ال�شياطني يف نفو�سهم جذو ًة من �إميان �إال �أطف�أتها‪،‬‬
‫وال رجل يقول يا رحمن �إال كادت له ال َكيد‪ ،‬ومل ي ُعد على الأر�ض �إال بيتك املح َّرم‪.‬‬
‫يف احت�ضنَ ظهره‪ ..‬فعر َفه‪ ،‬بل عرفها‪ ،‬كانت «�إينور» قد‬ ‫و�أتى من ورائه َط ٌ‬

‫ع‬
‫�أتت له من �أر�ض �سب�أ‪ ..‬قالت‪ :‬يا «عمرو» �إن كان بنو «مزيقياء» قد �ضلوا؛ ف�إن‬

‫ري‬‫ص‬
‫بني يزن با ُقونَ على العهد‪.‬‬

‫ال‬
‫إنك لذات احل�سن‪ ،‬و�إنك احل�سن‬ ‫َ‬
‫وا�ستب�شر بقدومها وقال‪ :‬واهلل � ِ‬ ‫فا�ستدار لها‬

‫ك‬
‫يف هذه احلياة الدنيا‪.‬‬
‫ي�س ُّرك‪.‬‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫َ‬


‫وراءك ماال ُ‬ ‫قالت له «�إينور»‪ :‬يا «عمرو» �إن‬
‫لفحت �أنفا�سه‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫فنظ َر وراءه ف�إذا وجه «�إزب»؛ قبي ٌح �شيطاين يق ِرتب منه حتى َ‬

‫ش‬
‫ينظر له يف جذل‪ ...‬قال‪� :‬أما ذلك البيت املح َّرم فارتقب ف�إن‬ ‫وج َهه‪ ،‬كان ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�أيامه معدودات!‪ ،‬وارتقب �أر�ض ال�سود‪ ،‬ي�أتيه منها اجلنود ال�سود؛ ينزلون عليه‬

‫الت‬
‫ركاما‪ ،‬وال ُير َفع لإلهك الرحمن يف هذه الأر�ض مبنى وال ته ُفو �إليه‬

‫و‬
‫فيجعلونه ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫نف�س‪ ،‬وال‪...‬‬
‫انتف�ض «عمرو بن جابر» فج�أ ًة وانطلق ناح َية «�إزب»‪ ،‬وات�سعت عينا «�إزب»‬ ‫َ‬
‫من املفاج�أة‪ ،‬مل يد ِر �إال و براثن «عمرو» مغروز ًة يف نحره وانح�سرت عباءته‬
‫عن ر�أ�سه‪ ،‬ف�شاهدت «�إينور» �شعره اجلعد الطويل وقد �أ�ضاف �إىل مالحمه‬
‫ب�شاعتني‪ ،‬وانبعث منه عوي ٌل ك�أمنا ثعبان يخت ِنق!‪ ،‬ور�أت «�إينور» زوجها يرميه‬
‫بذراع من حديد‪.‬‬
‫من تالبيب عنقه �إىل الأر�ض ٍ‬
‫ثم نظر «عمرو» �إىل زوجته وقال‪ :‬تعايل يا «�إينور»‪� ..‬إن هذه البلد َة بلدة �شر!‪،‬‬
‫و�إنهم قد رجعوا كفا ًرا ي�ضرب بع�ضهم رقاب بع�ض‪ ،‬تعايل �إىل �أهنوم يف �سب�أ؛‬
‫حيث م�سكننا‪ ،‬حتى يق�ضي الرحمن �أم ًرا كان ً‬
‫مفعول‪.‬‬
‫رفع «�إزب» ر�أ�سه من بني الرتاب ونظر ُمته ِّكما‪ :‬ما َ‬
‫نلت مني �إال بالفج�أة يا بن‬
‫أدعك حتى �أرى احل�سر َة يف عينك‬ ‫ل�ست عندي ب�شيء‪ ،‬لكني �س� َ‬ ‫جابر‪ ،‬وتع َلم �أنك َ‬
‫بعد �سبع قطع من الزمان‪ ،‬فارتقب البداية يف �سب�أ‪ ،‬والنهاية عند َ‬
‫بيتك الأ�س َود‪،‬‬
‫حجر على حجر‪...‬‬ ‫فال يبق َّني منه َ‬
‫‪97‬‬
‫تر َكه «عمرو بن جابر» وم�ضى كلم َعة الربق �إىل جبل �أهنوم‪ ..‬وكل كلم ٍة تف َّوه‬
‫بها «�إزب» ت�صول يف ر�أ�سه و ُ‬
‫جتول‪ ،‬ومل ي ُعد له �إال �أن يرت ِقب‪.‬‬
‫ويف �سب�أ اجلدباء بعد �سيل العرم‪ ..‬كانت ال�صحاري قد �أك َلت كل نبات‪ ،‬وعال‬
‫ً‬
‫متخاذل بعد ع ّز ٍة؛ يح ُكم‬ ‫تبحث يف الأر�ض‪ ،‬وبدا ق�صر بلقي�س‬ ‫�صوت غربانها َ‬
‫فيه تبع من التبباعة يف �أيام اجلفاف؛ جفاف �س َب�أ وما حولها‪ ،‬ولقد حت َّققت‬
‫كلمات «�إزب»‪ ،‬وكانت البداية من �سب�أ‪ ،‬حتديدً ا من عند م�شهد �أمام ق�صر التبع‪.‬‬
‫رج َلني �إىل الق�صر‪ ..‬ي�سوقونهما بكث ٍري من االرتعاب؛‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫جنود امللك ي�سوقون ُ‬

‫ري‬
‫ارتعاب يف عيون اجلنود ومالحمهم‪ ،‬ف�إن �شي ًئا يف وجوه ُ‬
‫الرج َلني مل ي ُكن‬

‫ال‬
‫طبيع ًيا!‪ ،‬كانت وجوههما ُميفة �شديدة الت�ش ُّوه!‪� ،‬أحدهما غزا الت�ش ُّوه ن�صف‬

‫ك‬
‫وجهه‪ ،‬والثاين غزا الت�ش ُّوه وجهه كله حتى ق َّل بروز مالحمه!‪ ،‬ومل تكن هذه هي‬

‫ت‬
‫ِع َّلة ارتعاب اجلنود فح�سب؛ بل �إن الرعب كان ين ُبع من �شيء �آخر؛ �أن هذين‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الرج َلني كانا من ال�سح َرة‪ ،‬بل �أكرب �سحرة يف جزيرة العرب كلها‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر‬
‫‪z‬‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪98‬‬
‫و�س و�س و�س و�س و�س‬
‫أحمق ُم َّدعي للعِلم‬
‫ُ�صدق �أي � َ‬
‫هكذا نذِ ل الرجال ونُ�شعِل قلوب الن�ساء؛ بالو�سو�سة‪ ..‬ال ت ِّ‬
‫ُيخربك �أن اجلن ت�ستطيع �أن ت�ؤذي �أو جترح �أو ُت ِر�ض �أو تقتُل‪� ...‬أو هم �أغوال ُ‬
‫تخرج للنا�س‬

‫ع‬
‫الب�ش نحب �أن نل ُهو بهم‪ ،‬ونُو�س ِو�س لهم مبزي ٍد من‬‫يف الطريق لت�أكلهم!‪ ،‬هذه العينات من َ‬

‫ص‬
‫التخويف هم وتفكريهم ال�سقيم‪ ،‬لقد جعلهم خوفهم منا يع ُبدوننا يف كث ٍري من البلدان‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وهذا ُير�ضينا‪ ...‬تَخ َّيل �أن مت�شي يف مكان ونا�س املكان يخافون منك ويرتعبون هكذا و� َ‬
‫أنت ال‬
‫أنت مل ُت ِّرب هذا‪.‬‬ ‫َ‬
‫حول لك وال قو َة عليهم!‪ ،‬هذا ُمتِع‪َ � ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن�صل بالرجل �إىل �أن ميوت �أو مير�ض �أو تُد َّمر حياته!‪.‬‬ ‫لكن بهذه الو�سو�سة ميكننا �أن ِ‬

‫ب‬
‫أمورا ت�ؤدِي به �إىل الهالك �أو املر�ض �أو الف�شل‪ ...‬وكل قري ٍن منا يكون‬
‫فنجعل الرجل يفعل � ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫يعدو قرين �إن�سان ف ُيو�س ِو�س لإن�سا ٍن �آخر‪،‬‬
‫ب�شخ�ص واحد فقط‪ ،‬وال ت�سمح �آدابنا �أن ُ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫موكل‬

‫ش‬
‫يتعاون قرينني �أو �أكرث لإغواء �صديقني �أو زوجني �أو جمموعة من الأخالء!‪،‬‬
‫لكن قد َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫فرق بني املرء‬ ‫القرين الذي يجعل الإن�سان يقتُل ُيحبه «لو�سيفر»‪ ،‬والقرين الذي ُي ِّ‬

‫الت‬
‫و�سو�ستنا �إلقاء نُلقِيه يف ال�صدور؛ لأن ال�صدر هو البيت الذي‬ ‫وزوجه ُيحبه «لو�سيفر»‪َ ،‬‬

‫و‬
‫ُ‬

‫ز‬
‫ت�سكن فيه الروح‪ ،‬جنثم عليه جثو ًما!‪� ،‬أنت ال ترى جثومنا‪ ،‬ولو ر�أيتَه الت�س َعت عيناك!‪،‬‬

‫يع‬
‫ينقلب الواحد منا يف الهواء فتكون ر�أ�س ال�شيطان عند �صدرِك وقدماه بارجتَان يف الهواء‪،‬‬
‫ذكرت ر َّب َك خن ََ�س ال�شيطان وتوارى وحزن �أن مل يقدر‬ ‫َ‬ ‫ويداه كاملخلبني يف تالبيبِك!‪ ..‬ف�إذا‬
‫قلبك انقلب ال�شيطان يف الهواء و�أم�سك مبجامع �صدرك‬ ‫غفل َ‬
‫على غوايتك يف تلك امل�س�ألة‪ ،‬ف�إذا َ‬
‫�صدرك!‪ ،‬ثم ُيو�س ِو�س‪ ،‬فتت�ش َّبع روحك‬ ‫َ‬ ‫وجهه من �صدرك ك�أمنا يريد �أن ُيك ِّلم‬ ‫وقر َب َ‬ ‫َّ‬
‫تطرده خارجها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫نه‬ ‫ت�ستح�سِ‬ ‫وقد‬ ‫بالكالم‬ ‫ة‬ ‫َ‬
‫الراب�ض‬
‫موك ًل �أو قرينًا ل َأحد‪ ..‬فهذا ُيكنه �أن ُيو�س ِو�س لأي �إن�سان يف‬
‫�أما اجلِن العادي الذي ال يكون َ‬
‫ُ‬
‫الطريق!‪ ،‬لكنه ال يف َعل هذا لأنه ال يحوز �شيئا يف املقا ِبل فال ُي�ض ِّيع وقتَه يف تفاهات الب�رش‪،‬‬
‫أنت ال تُ�ض ِّيع وقتَك يف �أذ َّية ق َِّطة ما�شية على قارعة الطريق‪� ،‬إال �إذا‪...‬‬
‫مثلما � َ‬
‫�إال �إذا كان هُ ناك �ساحِ ر‪ ..‬وكان هناك �شيطان‪ ..‬وكان هناك ت�سليط‪ ..‬لكن تلك حكاية‬
‫رج َلني �ساحرين فعال‬
‫�أخرى‪ ،‬وعلى ذكر ال�سحر وال�سحار‪ ،‬ف�إن املكاتيب �ستحكي عج ًبا عن ُ‬
‫أتيك البيان‪.‬‬ ‫ً‬
‫م�ستحيل يف عامل الإن�س!‪ ،‬و�سي� َ‬ ‫�شيئًا يكاد يكون‬
‫‪z‬‬
‫‪99‬‬
‫(‪)4‬‬

‫وحش الفال‬
‫عن كل اخلالئق تر َّفعوا وارتفعوا‪ ..‬عن كل الكيانات �س َمت �أج�سادهم‪ ،‬وع َلت‬
‫�سدلني �أيديهم‬‫�أفهامهم و�أ�سماعهم فوق ال�سماعات‪� ،‬سبعة كانوا �صاعدين‪ُ ،‬م ِ‬

‫ع‬
‫رافعي ر�ؤو�سهم طالعني �إىل جو ال�سماء‪ ،‬جامد ًة وجوههم ال يكادون يطرفون مي َن ًة‬

‫ص‬
‫وال ي�س َر ًة‪� ،‬سبعة كانوا �شياطني‪ ..‬تبا َينت هيئاتهم وقلوبهم جمموعة �إىل مق�صد‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وحده لل�صعود!‪� ،‬سبعة‬‫أجنحة ال يخفقون بها وك�أن اندفاعهم يكفي َ‬ ‫واحد‪ ،‬لهم � َ‬
‫كانوا يت�س َّلقون اجلو يف حلق ٍة �ش َّكلوها ب�أج�سادهم‪ ،‬ولهم بغ َية واحدة انتظموا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لها‪ ،‬وت�صاعدوا حتى بلغوا الغمام املركوم على بع�ضه ك�أكوام اجلبال‪� ..‬سبعة‬
‫كانوا يرتقون يف مغرب ال�شم�س‪ ،‬حتى ع َلت �أقدامهم �سطح ال�سحاب الف�سيح‬
‫أجنحتهم فوق �صفحة الغمام‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ك�أنه جلج البحر‪� ..‬سبعة كانوا من اجلن فردُوا � َ‬

‫ش‬
‫وتو َّقفوا عن ال�صعود وقد بلغوا مب َلغهم الذي �أرادوا‪ ،‬و�أم�سكوا بع�ضهم ك ًّفا بكف‬

‫ر‬
‫و�ضربوا ب�أجنحتهم خافقني‪ ،‬حتى َطفوا يف ال�سماء ثابتني على ارتفاعهم‪ ،‬ثم‬

‫الت‬ ‫و‬
‫انفك من ت�شكيلهم واحد منهم ارتقى فوقهم فم ُّدوا �أياديهم ُي�سكونه حتى تع َّلق‬ ‫َّ‬

‫و‬
‫ج�سده ومالحمه‪ ،‬كان ميلك مالمح‬ ‫يف الهواء!‪ ،‬ورفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء‪ ،‬و�سكنَ َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الب�شاعة وال�شدة ال�شيء الكثري‪ ...‬وغر َبت ال�شم�س وهم على حالهم‬ ‫َ‬ ‫فيها من‬
‫وهو على حاله؛ �سبعة كانوا �شياطني‪ ،‬ويف و�سطهم �شيطان يع ُلوهم ا�سمه «�إزب»‪.‬‬
‫تعرفه من مالحمه و ب�شاعتها‪ ..‬برغم ال�سكون الذي غزاها فوق الغمام؛‬
‫هام�س ال ت�سمعه �آذان‬ ‫ح�س ِ‬ ‫ً‬
‫مغم�ضا عينيه ُمن�صتا �إىل ٍّ‬ ‫�إال �أنها ب�شعة!‪ ،‬كان‬
‫املخلوقات!‪ِ ،‬ح�س يتح َّدث ب�صوت انحد َرت موجاته عن مدى م�سامع �أهل‬
‫الأر�ض‪ ،‬ال ت�سمعه �إال �آذان اجلن‪ ،‬و�شو�شة تناثرت يف غمام ال�سماء‪ ،‬وح َّل الليل‬
‫واخلافقني ب�أجنحتهم يخفقون بها‪ ،‬يحملون الذي ي�سمع‪ ،‬وم�ضى من الوقت‬
‫الثقيل ما م�ضى‪ ،‬وت�صاعدت ت�شكيالت �أخرى من اجلن وال�شيطان‪ ،‬يتح َّلقون‬
‫املقاعد يف ال�سماء‪ ،‬وال ُيعلم لأي �شيء‬ ‫ويف و�سطهم �شيطان‪ ،‬وقعدوا لل�سمع ِ‬
‫ي�سمعون‪.‬‬
‫�أ�صوات ي�سمعونها ب�آذان اجلن فيها حديث عن �أهل الأر�ض‪ ،‬ب ُلغة �أهل‬
‫�سينزل ب�أهل الأر�ض‪ ،‬تعلموا �أن هذا من حديث‬ ‫الأر�ض‪ ..‬حديث ُينبئ مبا ِ‬
‫املالئكة؛ تتح َّدث بالوحي الذي �س ُينزله اهلل على عظيم اجلن‪� ،‬أمري النور‬
‫‪105‬‬
‫الكائن اخلالد الذي ال ميوت‪ ،‬ومتوت كل نف�س �سواه‪� ،‬أمري النور «لو�سيفر»‪..‬‬
‫ولي�س يرى املالئكة �أحد �سواه ‪-‬عظيم اجلن واخلالئق كلهم‪ -‬فكانوا يتحينون‬
‫الليل ويتَّخذون مقاعد يف ال�سماء‪ ،‬ي�سمعون لأهل ال�سماء فيتع َّلمون ما يكون‬
‫على الأر�ض‪ ...‬وكان «�إزب» ُمغل ًقا عينه ي�ستق�صي و�ش َو َ�شة ال�صوت‪ ،‬ثم فج�أ ًة‬
‫فتح «�إزب» عينه و�صاحبت ب�شاعتها مل َع َة الذي ح�صل على ما يريد!‪ ،‬ف�ألقى ما‬
‫�سمع �إىل الذين يحملونه‪ ،‬فك َّفت �أجنحتهم عن اخلفقان‪ ،‬وانقلبوا ب�أج�سادهم‬

‫ع‬
‫ُّ‬
‫وانف�ضوا كل �إىل وج َهة يعرفها‪...‬‬ ‫يت�ساقطون �إىل الأر�ض!‪،‬‬

‫ص له يف كل ق�صة �ش�أن‪ ..‬من �سب�أ العظيمة التي �أبدلها ربها كل‬


‫‪z‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ق�صر كان‬‫من ٍ‬

‫كتر�ؤيا ها َلتني فاجمعوا �إيل من كان �ساح ًرا �أو‬


‫التبابعة حاكمني عليها يف ثبات‪ ..‬من ق�صر بلقي�س العظيم‪،‬‬ ‫�أخ�ضر بياب�س‪ ،‬وبقي‬
‫فرا�شه وقد ارتعدت فرائ�صه‪ ،‬وجم َع �إليه �أقياله و�أذواءه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫انتف�ض التبع من ِ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫فجمعوا له كل عارف وكاهن َّودجال‪ ،‬ل‬
‫يا خا�صة بالد اليمان‪� ،‬أين ر�أيتُ‬

‫ن‬
‫كاه ًنا �أو ُم ِّ‬

‫قالوا‪ُ :‬اق�ص�صها علينا ُنخربك بت�أويلها‪ .‬ش‬


‫نج ًما يف �سب�أ‪.‬‬

‫ر‬
‫فقال‪� :‬إين ر�أيتُ ر�ؤيا فزعت بها‪...‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ففيكمت َّ‬ ‫ُقال‪ :‬لو �أخربت ُكم مبا ر�أيتُ لن �أطمئن لت�أويلكم؛ و‬
‫خب بها ها �أحدً ا �أبدً ا‪ ،‬و�إنه لن ي�أتيني بت�أويلها �أحد �وأبدً ا‪� ،‬إال رجل ي�أتيني‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫دجالون ومنافقون‪...‬‬

‫منامك �أنكذا� ِأحكوكذا‪،‬يه‪.‬و�إن ت�أويل ع‬


‫�إين لن �أ ِ‬
‫الذي ر�أيتَه هو‬ ‫َ‬ ‫أيت يف‬ ‫أنت قد ر� َ‬‫فيقول يل �أيها امللك � َ‬
‫كذا وكذا‪ ،‬ف ُيخربين ما ر�أيتُ يف منامي دون‬
‫نظ َر بع�ضهم �إىل بع�ض‪ ..‬من ذا الذي يعرف �أن يرى ر�ؤيا ر�آها �إن�سان يف‬
‫منامه وكتمها ومل ُيخرب بها �أحدً ا!‪ ..‬ثم قال �أحدُهم‪� :‬إن كان امل ِلك يريد هذا‬
‫ف�إنه لي�س يف �أر�ض العرب من يع َلم هذا العلم �إال �شق و�سطيح‪.‬‬
‫�ضج املكان بال�صوت املجتمع بعد �أن ذكر اال�سمني‪ ،‬فقام امللك واق ًفا وقال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫وما �شق و�سطيح ه�ؤالء؟‬
‫وانق�ضى من الأيام ما انق�ضى وفتح باب ق�صر بلقي�س‪ ،‬ور�أى ُ‬
‫امللك جنوده‬
‫يتباعدون عن الداخلني‪ ،‬ودخل اثنني من الرجال يف عباءات تغطي ر�ؤو�سهم‪،‬‬
‫وانحنوا للملك و�أح�سروا عباءتهم‪ ،‬فانتف�ض ُ‬
‫امللك من داخله؛ ف�إن �أحدهما كان‬
‫متاما تداخلت مالحمه و َق َّل بروز �أنفه!‪ .‬كان مرع ًبا بكل ما تعنيه‬
‫ذا وجه ُم�ش َّوه ً‬
‫‪106‬‬
‫الكلمة من معنى‪ ،‬ولأن مالحمه لي�ست لها بروز �س َّماه النا�س «�سطيح»!‪� ،‬أما الآخر‬
‫متاما ون�صفه الآخر ق�سيم و�سيم؛ ف�سماه النا�س‬ ‫فقد كان ن�صف وجهه م�ش َّوهً ا ً‬
‫و�سمعتهما ك�أكرب �ساحرين يف‬ ‫«�شق»‪ ،‬وكان لكل منهما هيبة �صن َعتها هيئاتهما ُ‬
‫اجلزيرة العربية كلها‪.‬‬
‫نف�سه وقال لهما‪� :‬أتعرفان ما ر�أيتُه يف منامي؟‬ ‫متالك ُ‬
‫امللك َ‬ ‫َ‬

‫ع‬
‫نظرا �إليه نظرات �أزا َلت ف�ؤا َده من مكانه؛ �إن لهما عينان كال�صقر‪ ...‬قال له‬

‫ص‬
‫�سطيح‪ :‬ونع َلم ما ُتخفي يف �صدرك وما حاك فيه‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫أنظر هل تتفقان �أو‬ ‫علي ُفرادى‪ ،‬ف� ُ‬
‫علي م ًعا‪ ،‬بل ادخال َّ‬ ‫قال لهما‪ :‬ال ُ‬
‫تدخال َّ‬
‫تختلفان‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�سخ َرت مالحمهما من �أحاديثه ومل يتك َّلما‪ ،‬ف�أدخل عليه ذو الوجه ال�سطيح‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫قال له ف�أخربين ماذا ر�أيتُ يف منامي؟‬
‫َ‬
‫جاءتك ر�ؤياك ب�شيء‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بعيون ال�صقر مل ًّيا ثم قال‪ :‬لقد‬ ‫نظر له «�سطيح» ِ‬

‫ر‬
‫خرجت من ُظل َمة‪ ،‬فوق َعت ب�أر�ض تهامة‪ ،‬ف�أك َلت منها‬ ‫أيت فيها حم ًما‪َ ،‬‬‫عظيم‪ ..‬ر� َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫كل ذات جمجمة!‪..‬‬

‫و‬
‫إعجاب وقال له‪ :‬فما َ‬
‫عندك يف ت�أويلها يا «�سطيح»؟‬ ‫اتَّ�س َعت عينا امللك يف � ٍ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أر�ضكم احلب�ش‪ ،‬فليملكن‬ ‫قال‪� :‬أح ِلف مبا بني احل َّرتني من حن�ش‪ ..‬لتهبطنَّ � َ‬
‫ما بني �أبني �إىل جر�ش!‬
‫�صدمة‪ ..‬ح َب�ش ينزلون وميلكون �أر�ض �سب�أ؟ قال له‬ ‫حت َّول �إعجاب امل ِلك �إىل َ‬
‫امللك‪ :‬ومتى هو كائن‪� ..‬أيف زماين �أم بعده؟‬
‫َ‬
‫زمانك بح ٍني من الزمان‪.‬‬ ‫قال «�سطيح»‪ :‬بل بعد‬
‫ينقطع؟‬
‫قال‪� :‬أف َيدُوم ملك احلب�ش يف �أر�ضنا �أم ِ‬
‫ينقطع!‪ ،‬و�س ُيقتلون ويخرجون منها هاربني‪.‬‬ ‫قال «�سطيح»‪ :‬ال‪ ..‬بل ِ‬
‫خرجهم؟‬ ‫قال‪ :‬ومن ُي ِ‬
‫قال‪ :‬فتى يخ ُرج من بيت ذي يزن‪ ،‬يخ ُرج عليهم من عدن‪ ،‬فال يرتك منهم‬
‫�أحدً ا باليمن!‬
‫فقال امل ِلك‪ :‬وهل يدوم ملك ذلك الفتى وذريته؟‬
‫ينقطع؛ يقطعه نبي زكي‪ ،‬ي�أتيه الوحي من قبل العلي‪...‬‬ ‫قال‪ :‬بل ِ‬
‫‪107‬‬
‫بيت هو ذلك النبي؟‬ ‫اعتدل ُ‬
‫امللك وقال‪ :‬ومن �أي ٍ‬
‫قال‪ :‬من و َلد غالب بن فهر بن مالك بن الن�ضر‪.‬‬
‫ني مل َعت بلمع ٍة مل تلمع مثلها‬
‫ني كانت ترى وت�سمع كل �شيء‪ ..‬ع ٌ‬ ‫هنا مل َعت ع ٌ‬
‫قبلها؛ عني «عمرو بن جابر»‪.‬‬
‫م�ضت عليه وهو يبحث وينتظر‪ ..‬حتى ي� َأ�س من كل �شيء‪ ،‬وراودته‬ ‫عهو ٌد قد َ‬

‫ع‬
‫نف�سه اجلنية �أنه ال � َأمل‪ ،‬و�أنه ال نب َّو َة يف �آخر الزمان‪ ،‬والآن قد خفقَ قلبه وهو‬

‫ص‬
‫مف�ص ًل �أن النبي‬
‫ي�سمع؛ لقد �سمع ال�شياطني اخلرب من �أحاديث ال�سماء‪� ،‬سمعوه َّ‬

‫ري‬
‫يكون من العرب من و َلد غالب‪َّ ،‬‬

‫ال‬
‫ظل «عمرو بن جابر» ي�س ِرتق ال�سمع‪ ،‬وقد خرج‬
‫�سطيح ودخل �شق على امللك‪.‬‬

‫ك‬
‫وج ٌه ت�ش َّوه ن�صفه وبقي ن�صفه!‪ ،‬ومل تت�أ َّثر نظ َرته‪ ..‬قال «�شق» للملك‪ :‬لقد‬

‫ت‬
‫خرجت من ظ ُلمة‪ ،‬فوقعت بني رو�ضة‬ ‫ر�أيتُ �أيها امللك يف ذلك املنام ح َم ًما‪َ ،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�أكمة‪ ،‬ف�أك َلت منها كل ذات ن�سمة‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫امللك عينه وقال له‪ :‬وما َ‬
‫عندك يف ت�أوي ِلها يا «�شق»؟‬ ‫�ض َّيقَ ُ‬

‫ر‬
‫قال‪� :‬أح ِلف مبا بني احلرتني من �إن�سان‪ ،‬لينزلنَّ �أر�ضكم ال�سودان‪ ،‬فليملكنَّ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ما بني �أبني �إىل جنران‪.‬‬

‫و‬
‫قال ُ‬

‫ز‬
‫امللك‪� :‬أهو كائن يف زماين هذا �أم بعده؟‬

‫يع‬
‫قال‪ :‬بل يكون بعدك بزمان‪ ..‬ثم ي�ستن ِقذكم منهم عظي ٌم ذو �ش�أن‪ُ ،‬يذيقهم‬
‫�أ�ش َّد الهوان‪...‬‬
‫قال امل ِلك‪ :‬ومن هو عظيم ال�ش�أن هذا؟‬
‫قال‪ :‬غال ٌم من بيت ذي يزن‪ ،‬يخ ُرج عليهم من عدن‪ ،‬فال يرتُك �أحدً ا منهم‬
‫باليمن‪.‬‬
‫قال امل ِلك‪ :‬ومن مي ِلك بعده؟‬
‫ر�سل‪ ،‬ي�أتي باحلق والعدل‪ ،‬من �أهل الدين والف�ضل‪ ،‬يكون املُلك‬ ‫قال‪ :‬ر�سول ُم َ‬
‫يف قومه �إىل يوم الف�صل‪.‬‬
‫وكالربق الطالع‪ ..‬انطلق «عمرو بن جابر» �إىل حيث �أوالد «غالب بن فهر بن‬
‫مالك»؛‬
‫انطلقَ �إىل تهامة‪...‬‬
‫‪z‬‬
‫‪108‬‬
‫املغرب؛‬
‫بج ٍند ُ�سود ُمتكتِّلني يف دروع �سود‪� ..‬آتني من قبل ِ‬ ‫ثم �أتى الزمان ُ‬
‫جيو�ش و�سالح و�أفيال و�صليب يرفعونه‪ ،‬وطبول ي�ضربون عليها‪ ،‬وفر�صة‬
‫أجيال لينزلوا �إىل بالد �إذا ملكتها ملكت جزيرة العرب؛ بالد اليمن‪،‬‬ ‫يتحينونها � ً‬
‫نزلوا واليمن قد �أ�ضرم فيها اجلفاف نا ًرا بني �أهلها‪ ،‬فانف�صلت عنهم البالد‬
‫وحت َّز َبت قبائلهم �إىل �أحزاب‪ ،‬نزلوا وملك يف اليمن ُيقال له «يو�سف»‪ ،‬ينادي يف‬
‫النا�س بكلمة التبابعة‪ ،‬يا �آل �سب�أ �إنكم �إذا تباينتُم مال علي ُكم عدوكم‪ ،‬فيبيدكم‬

‫ع‬
‫من عند �آخركم‪ ...‬و�سم َع له قوم وجتاه َله �آخرون!‪ ،‬حتى نزل احلب�ش �إىل بالده‬

‫ص‬
‫َ‬
‫ا�ستب�سل يف وجه بنو‬ ‫أرتال ي�سدون ر�سمة الأفق‪« ،‬يو�سف بن �أ�س�أر» التبع الأخري‪..‬‬ ‫� ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫احلب�ش وحرق ما يب ُنونه من بنيان‪ ،‬ودخلت قبائل من �سب�أ يف القتال‪ ،‬دخلت �إىل‬
‫جوار الأحبا�ش على امللك يو�سف‪ ،‬و�سقط عر�ش �سب�أ‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وانطلق «يو�سف بن �أ�س�أر» بفر�سه ناحي َة البحر ومعه رهط من �أن�صاره من‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫بني يزن‪ ..‬وانطلق الأحبا�ش وراءهم يريدون ر�ؤو�سهم‪ ،‬فدخل امل ِلك «يو�سف»‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫جلند وفيهم �أمري اجلي�ش «�أرياط» وقائد‬ ‫ومن معه �إىل غابة بجوار البحر‪ ،‬و�أتى ا ُ‬

‫ش‬
‫اجلند «�أبرهة»‪ ،‬وحامت الفر�سان حول الغاب يحر�سون خمارجها‪ ،‬وم َّر ٌ‬
‫طيف‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ذو رداءٍ �أب َي�ض فوق الغاب ناظرا �إىل ما يحدُث بق َلق!؛ كان طيف «�إينور»‪� ،‬إن‬

‫الت‬
‫«بني يزن» حرا�س الكتاب اليوم يف ح َرج‪ ..‬هذا ما يه ّمها‪ ،‬م َّدت ب�صرها فر�أَت‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫امل ِلك «يو�سف» قد ثنا ركبتيه على الأر�ض يف الغاب خامدً ا ُملق ًيا �سالحه ويف‬
‫عينيه ذل وحوله �أبناء يزن ي�ش ُّدون من �أزرِه‪.‬‬
‫امللك «يو�سف» ر� َأ�سه �إىل ال�سماء وقال‪ :‬يا رحمن ذي �سماوي‪ ،‬يا مليك‬ ‫رفع ُ‬
‫ال�سماوات والأر�ض‪� ،‬إنا قد قاتَلنا ورابطنا على هذه الأر�ض و�أهلكنا منهم �ألو ًفا؛‬
‫رجال يطردون كل ُمعتَد‪ ،‬ليتق َّدم ا�سمك الرحمن‬ ‫فلتبعث يا رحمن من بعدي ً‬
‫الذي له احلمد‪.‬‬
‫ثم نظ َر �إىل «بني يزن» وقال لهم‪ :‬يا بنو يزن‪� ،‬إين خارِج من تلك الناح َية‬
‫و�سيخرجون ورائي و�سيظفرون بر�أ�سي‪� ،‬أما �أنتُم فانتهزوا خروجي وعودوا‬
‫وحت�ص ُنوا يف ح�صونكم يف اجلنوب‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أنت للي َمن من بعدي يا «ذو‬ ‫ونظر �إىل قائدهم الأمري «ذي يزن» وقال له‪َ � :‬‬
‫يزن»‪ ،‬فال ُت�س ِّلمها للغربان احلب�ش‪.‬‬
‫فر�سه وخرج من بني الأدغال‪ ،‬فا�ستدار له الأحبا�ش‪،‬‬ ‫ثم انتف�ض فج�أ ًة وركب َ‬
‫فاخرتق من بينهم بفر�سه كال�سهم ُمنطل ًقا �إىل البحر‪ ،‬وم�ضى فيه بفر�سه‬ ‫َ‬
‫‪109‬‬
‫بحر قد غ�ضب‪ ،‬ك�أنه‬
‫والرجال ي�شاهدونه حتى غلبت عليه الأمواج وغرق يف ٍ‬
‫غ�ضب من �سقوط �سب�أ‪.‬‬
‫َ‬
‫ونظر «�أبرهة» ويف عينيه مقت �ساخر وهو ُ‬
‫ينظر �إىل «بني يزن» ين�سحبون‬
‫من الناحية الأخرى‪ ،‬وا�ست َّل �سي َفه‪ ،‬وا�ستدار �إىل �أمري اجلي�ش «�أرياط» وهوى‬
‫فقطع ر� َأ�سه!‪ ،‬ومل ُيح ِّرك اجلند �ساك ًنا‪ ،‬بل ظه َرت على وجوههم‬ ‫بال�سيف عليه َ‬
‫ملحة ته ُّكم مبن مات!‪ ،‬ومنا�صر ًة ملن ُق ِتل‪ ،‬وكي ٌد ب َّيتُوه منذ َ‬
‫زمن‪ ،‬وعال «�أبرهة»‬ ‫َ‬

‫ع‬
‫َ‬
‫عر�ش �سب�أ‪.‬‬
‫‪z‬‬ ‫ص‬
‫«�أبرهة» �أ�صولهريمن �سب�أ‪َ ،‬لونه ك َلون �أهل �سب�أ‪ ..‬لكن وال َءه للحب�شة وم ِلك‬
‫احلب�شة‪ ،‬وملك احلب�شةال وال�ؤه مللك الروم‪ ،‬وم ِلك الروم هو الذي �أم َر الأحبا�ش‬
‫ت‬ ‫اليوم قد َ�سقطت يف قب�ضةك‬
‫ب‬
‫بنزول اليمن و�أم َّدهم بالرجال والعتاد‪ ،‬والروم لطاملا �أرادوا احتالل �سب�أ‪ ،‬و�سب�أ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫احلب�ش �إال �شو َك ًة وق َفت يف حلوقهم ا�سمها «ذي‬

‫ش‬
‫فهم مذاق الويل مبا وه َبه الرحمن من‬ ‫حت�صنَ لهم يف اجلنوب وع َّر‬
‫يزن»؛ فقد َّ‬

‫ر الأحبا�ش اليمن و�أ�سقطوا‬


‫حكم التبابعة‪ ،‬ثم خرج رج ٌل من بيت «ذي يزن»‪ ،‬و‬
‫حي َلة ورجال ي�أك ُلون الأر�ض‪ ،‬وكان «عمرو بن جابر» و«�إينور» ينظرون �إىل كلمات‬

‫وهاهوالُيحارب من عدن‪ ،‬ومل‬


‫ت‬
‫قتال وك ٍّر وف ٍّر و ٍ‬
‫نبو َءة «�شق» و«�سطيح» وهي تتح َّقق حرف ًيا!‪ ..‬دخل‬

‫ز‬
‫�أمر فجائي ًمن م ِلك احلب�شة باال�ست�سالم َووقف القتال يف ً ي‬
‫اجلنوب‪،‬عواالعرتاف‬
‫و�سيل للدماء �صد َر‬ ‫يبقَ يف النبوءة �إال الن�صر‪ ،‬ولكن بعد طول ٍ‬

‫بذي يزن ملكا على جنوب اليمن‪ ،‬على �أن يظل «�أبرهة» م ِلكا على �شمالها‪ ،‬بل‬
‫أر�سل هدايا ُ�صلح و�سالم �إىل «ذي يزن»؛ هدايا مملوءة‬ ‫�إن ملك احلب�شة هذا � َ‬
‫وديباجا وذه ًبا وف�ضة وجار َية من �سمر الأحبا�ش يفوق جمالها‬ ‫ً‬ ‫ِم�س ًكا َ ً‬
‫وعنبا‬
‫ن�ساء �سب�أ كافة!‪ ،‬وكان ا�سمها «ريحانة»‪ ،‬هدية �أر�س َلتها بالد احلب�ش ومعها يف‬
‫فرغه يف �شراب امللك ليموت يف احلال من غري‬ ‫ذوائب �شعرها ً‬
‫مثقال من ال�سم ُت ِ‬
‫حرب وال قتال‪...‬‬
‫ٍ‬
‫�سمراء ُتع ِّلم البي�ضاوات �أ�صول الفتنة‪� ..‬أقب َلت على امل ِلك «ذي يزن» ونز َلت‬
‫ين�سدل كاحلرير وق َّب َلت الأر�ض بني قدمي امللك‪ ،‬وق َب َل ُ‬
‫امللك‬ ‫و�شعرها الأ�س َود ِ‬
‫ال�صلح‪ ،‬و�أثار هذا نفو�س بني‬‫وقبل ُ‬ ‫منزل كر ًميا َ‬ ‫الهدية واجلار َية و�أنزلها ً‬
‫يزن‪ ،‬كانوا يريدون حترير الأر�ض‪ ...‬قال لهم ذو يزن ا�صربوا‪ ..‬ف�إن الأحبا�ش‬
‫‪110‬‬
‫�أ�ضعاف �أعدادنا‪ ،‬و�إننا �إن هلكنا يف هذه ال�سنون فلن تقوم لليمن قائمة‪ ،‬و�إن‬
‫لدي حيلة فا�ستمعوا لها‪...‬‬ ‫َّ‬
‫ترت لها نفو�سهم الثائرة!‪ ،‬و�إمنا �سكتوا طاع ًة للملك‪،‬‬ ‫فل َّما �أنب�أهم بها مل َ‬
‫لكن هناك �أذ ًنا كانت ت�ستمع مع ال�سامعني‪� ،‬أذن حتفزت ملا �سمعت؛ �أذن ل�سمراء‬
‫فاتنة‪ ،‬كانت مر�سل ًة لل َقتل!‪ ،‬واليوم بعد �سماعها اخلرب كان يجب �أن تتح َّرك‬
‫ُحذر قومها �أن ذو يزن ُير ِّتب حي َلة‪.‬‬ ‫لت ِّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وانطلقَ «ذو يزن» يف خف َي ٍة من الليل يف رحلة طويلة جدً ا لتنفيذ حي َلته‪..‬‬

‫ري‬
‫انطلق ومعه ن َفر قليلون �إىل بالد فار�س ليط ُلب الن�ص َرة واجلند من «ك�سرى»‪،‬‬

‫ال‬
‫تار ًكا وراءه بنو يزن ُيخفون �أمر �سفره‪ ،‬وال�سمراء يف و�سطهم ُتخبئ لهم‬

‫ك‬
‫اخلديعة‪ ...‬وقالت للغالم اجلا�سو�س اذهب ف�أنبئ القوم �أن «ذو يزن» قد َّ‬
‫ان�سل‬

‫ت‬
‫من البالد طال ًبا الن�صرة من فار�س‪ ...‬ف�أتاها الغالم وقال يقولون �أبلغينا‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫فتج�س�ست و�أبل َغتهم‪ ،‬وركب القوم الأحبا�ش على‬ ‫بع َّدتهم وحر�سهم ومكانهم‪َّ ...‬‬

‫ن‬
‫وانق�ضوا على بني يزن يف غف َل ٍة من الأمر‪...‬‬

‫ش‬
‫ُّ‬ ‫ظهور الأفيال‪ ،‬وحملوا الرماح‬

‫ر‬
‫حت�صن بنو يزن‪ ..‬و�سال‬ ‫وكان معرت ًكا ملي ًئا بالدم يف ح�صن الغراب حيث َّ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫الدم على جدران احل�صن وك�سرت �أبوابه الأفيال‪ ،‬ودخل الغربان ح�صن‬

‫ز‬ ‫و‬
‫الغراب‪ ،‬وكان على ر�أ�سهم «�أبرهة»‪ ،‬وبينما كان الرجال يتنازعون بال�سيف‬

‫يع‬
‫والن�ساء تهرع �إىل البوابات للفرار من هذا اجلحيم‪ ،‬كانت هناك امر�أة واحدة‬
‫تخ ِرتق ال�صفوف داخ َل ًة �إىل ُعمق احل�صن؛ كانت تلك هي «�إينور» وقد ته َّي�أت يف‬
‫ج�سار ٍة َبدت لكل من ر�آها جنو ًنا‬‫الب�شر‪ ،‬ودخلت بني الأج�ساد املتناحرة يف َ‬ ‫هيئة َ‬
‫مل يفهم له �أحد �سب ًَبا؛ كانت تبحث عن مكان الكتاب‪ ،‬وك�أن الكتاب هو احلياة‬
‫كلها‪ ،‬فلو ُذبح بنو يزن اليوم يف دمائهم ف�إن عليها �أن تنتزع الكتاب قبل �أن ُيذبح‬
‫رجل هو من‬ ‫وجدت ً‬ ‫معهم‪ ..‬و�أ�ص َّرت على بغيتها حتى �أدر َكت مكانها‪ ،‬فلما �أتتها َ‬
‫خا�صة امللك قد �أخرج الكتاب من �صندوقه و�أخفاه يف رحا ِله وانطلقَ به ً‬
‫خارجا‬
‫تنظر بعينني زرقاوين قل َقتني �إىل كتابه‪ ،‬فخطا‬ ‫يتخ َّفى!‪ ،‬ور�أى «�إينور» مقبل ًة �إليه ُ‬
‫�إىل الوراء يف خوف‪ ،‬لكن «�إينور» رفعت يدها وتراجعت و�أ�شارت له بالعبور!‪،‬‬
‫الده�شة ثم م�ضى �إىل حاله‪ ...‬كان هذا «يرثب»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فنظر لها نظر ًة �أخري ًة متل�ؤها‬
‫م�ست�شار امللك «ذي يزن»‪ ،‬وكان ذلك الكتاب حمفو ًرا يف �صدره �سط ًرا �سط ًرا‪،‬‬
‫حتى �سمى نف�سه «يرثب» تي ُّم ًنا مبهاجر النبي املخل�ص الذي يتن َّب�أ به الكتاب‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫و�شج كتفها‪ ..‬وكان اجلن‬ ‫و�سيف قد �شقَّ ن�صله الهواء َّ‬ ‫ومل تدر «�إينور» �إال َ‬
‫َ‬
‫املُتم ِّثلون يت�أ ُّذون �إذا �أذيت �صورتَهم التي ت�ص ّوروا �إليها‪ ،‬فت� َّأذت «�إينور» و�سقطت‬
‫أبرهة» الذي رمقها بنظرة املقت التي كانت تبدو‬ ‫على الأر�ض‪ ،‬كان ذلك �سيف «� َ‬
‫وك�أنها مطبوعة يف عينيه‪ ،‬لكن فج�أ ًة �سمع �صوتًا من وراءه فالت َفت غا�ض ًبا فلم‬
‫التفت �إىل «�إينور» فلم يراها يف مو�ضعها‪ ،‬بل مل يراها يف �أي‬ ‫يجد �أحدً ا!‪ ،‬ثم َ‬ ‫ِ‬
‫مو�ضع حو َله‪ ،‬ومل يكن لذلك املكان خم َرج‪ ،‬فاتَّ�س َعت عينه يف ارتعاب ق َلق‪ ،‬ثم‬ ‫ٍ‬

‫ع‬
‫ا�ستدا َر وانطلق �إىل موا�ضع اجلند‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫كان «عمرو بن جابر» يحت�ضن «�إينور» وقد انتقال �إىل �صورتهما اجلن َّية بعد‬

‫ال‬
‫�أن �ألهى «�أبرهة» بذلك ال�صوت فالتهى‪ ..‬وكان كتف «�إينور» قد ت� َّأذى كث ًريا‪،‬‬
‫فحم َلها «عمرو» وانطلق بها طائ ًرا من املكان‪ ،‬لكنها �أجل�أته �إىل �أن يلحق بالرجل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫خرج من احل�صن ُمتخ ِّف ًيا �إىل‬‫ال�صالح «يرثب» لرتى ماذا ح َّل به‪ ،‬فوجداه قد َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫الأحرا�ش‪ ،‬ونظر وراءه �إىل نريان قد اندل َعت يف احل�صن و�صرخات قد خ َبت!؛‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫لقد هزم الأحبا�ش اليمن‪ ،‬لقد انتهت ح�ضارة �آالف ال�سنني‪ ...‬ونظرت «�إينور»‬

‫ش‬
‫ليهزم الأحبا�ش؟‬
‫�إىل «عمرو» وقالت‪ :‬يا «عمرو» �أين ذو يزن؟ �أه َو � ٍآت ِ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫�أطرق «عمرو» بر�أ�سه �إىل الأر�ض وقال‪ :‬لقد رف�ض «ك�سرى» معاون َة «ذو يزن»‬

‫و‬
‫ب�أي �شيء‪ ،‬وعاد خائ ًبا ومات يف فار�س‪ ،‬رمبا مات ح�سر ًة‪ ،‬ترقر َقت عينها بالدمع‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وقالت‪ :‬يا «عمرو» لقد كذ َبت النبوءة؛ لقد انهزم بنو يزن!‬
‫مل ي ُرد عليها «عمرو»؛ فقد كان يف نف�سه نريان ت�ضرب بع�ضها‪ ،‬ومل ي ُعد‬
‫يفهم �شي ًئا من الأمر‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ور�ضي عنه ملك احلب�شة‪ ،‬ور�ضي عنه قي�صر‬ ‫َ‬ ‫وجتب‪..‬‬
‫�أما «�أبرهة» فقد عال َّ‬
‫الروم‪ ،‬وبد�أت الأفكار جتري يف ُلب القي�صر؛ �أفكا ٌر عن �سب�أ التي كانت عرو�س‬
‫املمالك بذلك ال�سد الذي انهدم‪ ،‬ف�إن كان قد انهدم ف�إن الروم قادرون �أن يبنوا‬
‫�سدً ا خ ًريا منه؛ فاخلري يف �سب�أ ويف �أر�ض �سب�أ‪.‬‬
‫وبال�سخرة والت�سخري‪ ،‬وبال�سوط امل�س َّلط على ظهورهم عمل العاملون من‬
‫�أهل �سب�أ �سدًّا جديدً ا كب ًريا يحمل امل�سحة الرومانية يف البناء‪ ،‬لكن يبدو �أن‬
‫لع َن َة اهلل التي نز َلت من ال�سماء قد �أجد َبت تلك الأر�ض حتى حني!‪ ،‬فما �أغنى‬
‫خرج لهم �أر�ض �سب�أ ما كانت ُتخرجه لبلقي�س‬ ‫عن الرومان �س ّدهم �شي ًئا‪ ،‬ومل ُت ِ‬
‫‪112‬‬
‫كامل يف بناء ذلك ال�سد‪ ،‬و�أنفقَ عليه � ً‬
‫أموال‬ ‫عاما ً‬
‫ومن بعدها!‪ ..‬و�أ�ضاع «�أبرهة» ً‬
‫طائل ًة ومل ي ُكن له طائل ُيذ َكر‪.‬‬
‫�أما «ريحانة ال�سمراء» فقد تز َّو َجت من «�أبرهة»‪ ،‬و�صارت �أمرية اليمن‪..‬‬
‫تتح�س�س حم َلها‪ ،‬فلما و�ض َعته كان ذك ًرا‬ ‫وكانت ت�ضع يدها على بطنها كل حني َّ‬
‫ورث عنها جمالها‪ ،‬لكن �شيئا يف عينها كان قل ًقا‪ ،‬مل تكن يف عينها فرحة‬ ‫جميل َ‬‫ً‬
‫�صافية؛ ف�إن هذا الذكر اجلميل مل ي ُكن ابن �أبرهة!‪� ،‬إمنا هو ابن «ذو يزن»‪،‬‬

‫ع‬
‫ولقد حارت كيف ُتخفي هذا عن «�أبرهة»‪ ،‬ثم ح�س َمت �أم َرها و�أخ َربته‪ ،‬قا َلت يا‬

‫ري‬‫ص‬
‫فاعل فيه‪.‬‬ ‫فانظر ما �أنت ِ‬ ‫«�أبرهة» �إن هذا ابن «ذي يزن» ولي�س ولدك‪ُ ،‬‬

‫ال‬
‫إنك �ستقتُل َني ذلك‬ ‫ظهرت البغ�ضاء على وجه «�أبرهة» والغ�ضب‪ ،‬فقال‪ِ � :‬‬

‫ك‬
‫تده�س عظامك‪.‬‬ ‫الرجيم بيدك وترمينه �إىل القفار �أو لأجعلنَّ الأفيال َ‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫أخرجت خنج ًرا وقب�ضت على مقب�ضه بيدها‪ ..‬واقرتبت من‬ ‫فلما جنَّ الليل � َ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫تقدر على قتله وهي �أمه‪ ،‬وكانت بجوارها جاري ًة‬ ‫الطفل اجلميل ال�ضاحك فلم ِ‬

‫ش‬
‫ذنب فع َله هذا الغالم حتى ُتذيقيه‬ ‫لها‪ ،‬قالت‪ :‬يا �سمو الأمرية ال�سعيدة‪� ..‬أي ٍ‬

‫ر‬
‫الآالم وت�سقيه ك�أ�س احلمام‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬ ‫قالت‪ :‬فماذا �أنا فاع َلة �إن نف�سي ال ُتطيعني‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫هالك هذا الغالم‬ ‫قال اجلارية‪ :‬يا ذات العقل الر�شيد‪� ،‬إن كان البد من ِ‬
‫ف�أر�سليه مع �أحد اخلدام فريميه يف الرباري والآكام ويكون بعيدً ا عن هذه‬
‫الأوطان‪ ،‬ف�إن عا�ش عا�ش لأمله‪ ،‬و�إن مات مات لأجله‪...‬‬
‫فلما �سمعت «ريحانة» هذا الكالم �أخذها الفرح واالبت�سام و�أعجبها هذا‬
‫جواد‬
‫اخلادم احلب�شي يف �آخر الليل على ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كمخرج مما هي فيه‪ ..‬وانطلق‬ ‫ٍ‬ ‫الأمر‬
‫من خري اجلياد ومعه الطفل‪ ،‬وم�ضى به بعيدً ا �إىل ناح َية بحر اليمن‪ ،‬وعند فال ٍة‬
‫َ‬
‫وارحتل بعيدً ا من حيث‬ ‫ب�ساط من الديباج‪ ،‬ثم هج َره‬
‫موح�ش ٍة و�ض َع الوليد على ٍ‬
‫�أتى‪.‬‬
‫وحجبت ال�شم�س عن ال�صحاري بال�سحاب‪ ،‬رحمة من الرحمن‪ ..‬والطفل يف‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫و�سطها ي�ضرب بالأيادي والأقدام‪ ،‬وعيون اجلن قد التفت حوله تنظر �إليه يف‬
‫عجب‪ ،‬ولي�س ي�س ُكن يف ال�صحاري غري اجلن واحل َّيات‪ ...‬واقرتبت من الوليد‬
‫تتح�س�سه‪ ،‬ثم فارت الدماء من ج�سدها‬ ‫الوحيد غزالة‪ ،‬ما َلت عليه بر�أ�سها َّ‬
‫ب�سهم‬
‫وانقل َبت على الأر�ض‪ ،‬ونظر اجلن وراءها ف�إذا رجل �صياد قد رماها ٍ‬
‫‪113‬‬
‫ده�شة‪ ،‬طفل ذكر رقيق‬ ‫ينظر �إىل ما حتتها يف َ‬ ‫ف�أرداها!‪ ،‬وهو من بعد هذا ُ‬
‫وا�سع العينني يتح َّرك يف ظرافة‪ ،‬فانحنى �إليه وحم َله ونظر �إىل لبا�سه الفاخر‬
‫والديباج الذي حتته‪ ،‬ولعبت بح�سبته الظنون‪...‬‬
‫انف�صل منهم فريق مي�شون وراء اخلادم احلب�شي ليع َلموا من‬ ‫�أما اجلن فقد َ‬
‫يعث عليه وي�أخذه‬ ‫�أين �أتى الطفل‪ ،‬وفريق بقوا عند الطفل و�شاهدوا ال�صياد ُ‬
‫ويرحل‪ ...‬وتعلمت جوا�سي�س اجلن �أن الطفل هو ابن «ذي يزن»‪ ،‬و�أن «�أبرهة» قد‬

‫ع‬
‫رماه لوحو�ش ال�صحاري‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ولع َبت الأقدار لع َبتها ورجع ال�صياد �إىل زوجته و�أنب�أها بخرب الطفل وهي‬
‫حتمله وتالعبه وجماله قد �أ�س َر ُل َّبها‪ ..‬قا َلت‪ :‬وحق زحل �إن هذا الطفل من �أوالد‬

‫ك‬
‫امللوك؛ ف�إن �أطفال النا�س ال يلب�سون هكذا‪.‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫�صباحا و�أهديه �إىل �أمري البلدة؛ ع َّل ُه يعطينا نفح ًة من‬
‫ً‬ ‫قال‪ :‬ف�إين �أذهب به‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫مال‪.‬‬

‫ش‬
‫ويدخل ال�صياد على �أمري �شمال �سب�أ‪ ،‬وكان‬ ‫ومت�ضي الأقدار يف ذات اللعبة ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫من الأمراء الأحبا�ش الذين يح ُكمون املناطق حتت حكم «�أبرهة»‪ ،‬وكان ا�سمه‬

‫و‬ ‫الت‬
‫فرحا وطارت به زوجته‪ ،‬وعزما ُلي ِّبيانه‬ ‫«�أفراح»‪ ،‬فلما ر�أى الطفل طا َر بجماله ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يف الق�صر ول ُيك ِّرمانه‪ ،‬و�س ُّموه ا�س ًما حب�ش ًيا حرب ًيا‪( ،‬وح�ش الفال)‪ -،‬لأنهم‬
‫ال�شرفات‪ ،‬كان فيهم اجلن‬ ‫وجدوه يف الفال‪ ،-‬كان بع�ض اجلن ينظرون من ُ‬
‫بع�ضهم لبع�ض‪� :‬إنا �سمعنا امر�أ ًة من‬ ‫الذين تبعوا الطفل وعلموا �أم َره‪ ...‬قال ُ‬
‫وتهب حياتها للذب عنهم‪� ،‬أفال ُنن ِبئها ب�أمر هذا الطفل‬ ‫قومنا تذ ُكر بني يزن ِ‬
‫ال�شريد؟‬
‫قالوا‪ :‬هل تق�صدون «�إينور» ذات احل�سن والنور؟ قالوا بلى‪ ..‬وانطلقوا‬
‫ُ‬
‫كال�شهب املتعاقبة �إىل «�إينور»‪.‬‬
‫وجاءت «�إينور» ونور عينيها الذي كان خبا من الي�أ�س قد �شرع يف اللمعان‪،‬‬
‫والدمع يف �أحداقها نازِل كماء الل�ؤل�ؤ‪ ،‬ف�أتته وجارية يف الق�صر ُتل ِب�سه لبا�سا‬
‫فتب�سمت «�إينور» و�أ�شر َقت بعد �أن غزَ ت الظل َم ُة‬
‫العبه‪َّ ...‬‬ ‫هدهده و ُت ِ‬
‫فاخرا و ُت ِ‬
‫رب الأقدار �أن ابن ذي يزن ‪�-‬أو وح�ش الفال كما كانوا ُي�س ُّمونه‪-‬‬ ‫روحها‪ ،‬و�شاء ُّ‬
‫َ‬
‫ِّ‬
‫ين�ش�أ عند �أم ٍري حب�شي حربي النزعة‪ ،‬فلم يرتكه للدعة والك�سل؛ �إمنا كان ُيعلمه‬
‫الفرو�س َّية وال�شجاعة واحلرب والطعان وقوى الرباعة وال�صد والرد‪ ...‬حتى‬
‫‪114‬‬
‫خلد وا�شتهر يف عدن‪ ،‬وعزَ فوا‬ ‫ا�شت َّد عود الفتى الو�سيم اجلميل ذو ال�شامة على ا َ‬
‫عن ت�سمِ يته وح�ش الفال‪ ،‬و�أ�صبحوا ُي�س ُّمو َنه «�سيف» لِ ا ر�أوا منه من قوة وبهاء‪،‬‬
‫و�إن الأقدار كانت ُتخبئ له ما تخبئ‪...‬‬
‫‪z‬‬
‫د َّقت الطبول و�أُوقدت امل�شاعل‪ ،‬و�أتى الأحبا�ش من كل ٍ‬
‫حدب يف �أل ِب َ�سة‬

‫ع‬
‫حلوة و�أثواب ُمل َّونة؛ ف�إن ملك احلب�شة اليوم يف �سب�أ قد نزل‪ ،‬ينظر �إىل الأر�ض‬

‫ص‬
‫اجلديدة التي ا�ستملكها ولطاملا مت َّناها �أ�سالفه‪ ،‬و�إن �أمراء املناطق كلهم قد‬

‫ري‬
‫ن�سا بالغ َل َبة والن�صر‪ ...‬وكان‬‫حفل كبري �أُ ً‬

‫ال‬
‫�أتوا و�أبناءهم ملالقاة امللك الكبري يف ٍ‬
‫«�أبرهة» ملك �سب�أ مي�شي يختال زهوا و«ريحانة اجلذابة» يف كامل زينتها بجواره‪،‬‬

‫ك‬
‫وخلفهما ابنيهما «اك�سوم» و«م�سروق»‪ ،‬وجاء الأمري «�أفراح» ومعه �أبنا�ؤه وفيهم‬

‫ت‬
‫وح�ش الفال «�سيف»‪ ،‬ومل يكن يف احلفل �أجمل منه �إن�سان‪.‬‬
‫جمل�س‬
‫ٍ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ور�سم �إله ال�سماء خطة القدر‪ ..‬واجتمع ال�شباب �أبناء امللوك يف‬

‫ش‬
‫يت�سامرون‪ ،‬وجاءهم وح�ش الفال ُي�سامرهم والبهاء يف طل َعته يغيظ قلوبهم‪..‬‬ ‫َ‬

‫ر‬
‫قال له «�أك�سوم»‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬ ‫أل�ست الفتى الذي وجدوه يف الفال؟ ما الذي � َ‬

‫و‬
‫ألب�سك لبا�س امللوك؟‬ ‫ � َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قال له وح�ش الفال بهدوء‪:‬‬
‫ �أما دريت؟ لقد وجدوا حتتي الديباج‪.‬‬
‫َ‬
‫�ضحك «م�سروق» وكان �أكرثهم مك ًرا وقال‪:‬‬
‫دريت �أنت‪� ..‬إنه لي�س يوجد يف الفال ِطفل طريح �إال �أن يكون ابن زنا‪.‬‬ ‫ �أما َ‬
‫فتقطب جبني وح�ش الفال وانتف�ش ج�سده واندفع �إىل تالبيب الفتى و�أم�سك‬
‫بذراع من حديد يف و�سط احلفل‪ ..‬قال‪:‬‬ ‫بها و�سحبه ٍ‬
‫أخرجتني واحدة من �أمهاتكم‪.‬‬ ‫ �إن كنتُ ابن زنا ف�إن من ز َنت و� َ‬
‫قتال يف ناحية �أبناء امللوك وقف له ال�شهود‪ ..‬وامر�أة واحدة كانت قد‬ ‫وكان ً‬
‫طفل حم َلته يف بطنها ثم‬ ‫�سم َعت حديث �أبناء امللوك وانتف�ض قلبها‪ ،‬وتذ َّكرت ً‬
‫رمته �إىل الوحو�ش‪ ...‬امر�أة كانت ُت�س َّمى «ريحانة»‪،‬‬ ‫م َّدت يدها عليه لتقتُله ثم َ‬
‫وو�سامته وعيناه اللتان ترجتفان غ�ضبا‬ ‫َ‬ ‫نظرت �إىل وح�ش الفال «�سيف» بقوته‬
‫وحري ًة‪ ،‬وامللأ ينظرون �إليه ويحتقرونه‪ ،‬ومل يكن غريها يدري �أن هذا الذي‬
‫‪115‬‬
‫ي�ستهينونه ب�أفواههم �إمنا هو «�سيف» ‪�-‬سيف بن ذي يزن‪ -‬ابن ملك �سب�أ‪ ،‬و�أنهم‬
‫جمي ًعا غربان ُمتلني‪ ،‬و�أن هذا الق�صر الذي يجتمعون فيه �إمنا هو ق�صر‬
‫والده!‪..‬‬
‫وعاد «�سيف بن ذي يزن» �إىل حجر زوجة امللك «�أفراح»؛ وهي التي ر َّبته‬
‫�صغ ًريا‪ ..‬قال لها‪:‬‬
‫ يا �أُ ّمه‪ ..‬هل كانت �أمي بغ ًّيا‪� ،‬أكانت �أمي زانية؟ ف�إن مل ت ُكن ف ِل َم َ‬
‫ع‬
‫رمتني‬

‫ص‬
‫�إىل الفال؟‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫نظ َرت له زوجة امللك واحلنان من عينها ي�سيل‪ ..‬قالت‪:‬‬
‫وجدك‪.‬‬
‫ يا بني �إمنا �أتى بك �إلينا �صياد فقري‪ ،‬و�إنا ال ندري �أين َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قال‪ :‬فد ُّلوين �إليه‪ ،‬و�إين ال �أبرحه حتى يهديني �إىل املكان‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫م�ضت‪ ..‬و�أتى ال�صياد و�سيف يجاوره‪ ،‬وال�صياد‬
‫ب‬ ‫يو ٌم م�ضى و�أيام بعده قد َ‬

‫ش‬
‫مو�ضع بعيد يف الفال‪ ،‬ثم تركه وتوىل‪ ،‬و�سار وح�ش الفال‬ ‫ٍ‬ ‫ُيحدِّ ثه و ُي�شري له �إىل‬

‫ر‬
‫يف ذلك العراء‪ ،‬وال �شيء يلي الب�صر‪ ،‬ال �شيء �إال كثبان و�آكام وعيو ٌن من اجلن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫انكتم‬
‫طفل!‪ ،‬واليوم َ‬ ‫تنظره وال تدري �أنه هو الذي كان ي�صرخ يف هذا اخلالء ً‬ ‫ُ‬

‫و‬
‫�صوته وترقرقت عيناه بدمع احلرية‪.‬‬
‫التفت‬
‫يع‬ ‫ز‬
‫الظل َمة وغزَ اه الي�أ�س‪َ ،‬‬ ‫فلما م َّرت عليه مقادير الوقت وح َّلت عليه ُ‬
‫خارجا من تلك الأر�ض‪� ،‬إنها املرة الأوىل التي ي�ش ُعر فيها ب�أن له من لق ِبه ن�صيب‬
‫‪-‬وح�ش الفال‪ -‬مي�شي ولي�س من حوله �إال الفال‪ ،‬ولي�س يف قلبه �إال الفال‪ ...‬حتى‬
‫ً‬
‫وجف الدمع يف املُق َلتني‪� ،‬إذا �أ�ستار الليل تتهادى‪،‬‬ ‫�إذا بلغ القنوط يف عت َمة الليل َّ‬
‫وتخ ُرج من خلفها غادة ذات قوام ح�سن ووجه ح�سن وقلب حريري‪ ...‬مل ت ُكن‬
‫لترت َكه وحده «�إينور»‪ ،‬وهي التي ُتتا ِبعه مذ كان ً‬
‫طفل‪.‬‬
‫ �أنت �صاحب الأر�ض يا بن «ذي يزن»‪� ..‬أنت مليك الأر�ض‪ ،‬و�إن الأحبا�ش‬
‫ل�ست وح�ش الفال؛‬ ‫أر�ضك وعر�ضك‪� ...‬أنت َ‬ ‫قد غزوا �أه َلك واغت�صبوا � َ‬
‫�أنت �أمري الفال وال�سهل واجلبل‪� ،‬أمري �سب�أ‪.‬‬
‫فا�ستعجب من قولها وا�ستح�سنته ِفطرته‪ ..‬قال‪:‬‬ ‫َ‬
‫بقي من قومي �أحد؟‬
‫ وهل َ‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪116‬‬
‫رج ٍل منهم يقال له «يرثب»؛ فقد كان �صاحب ِ�سر‬
‫ هم قليل‪ ..‬فاذهب �إىل ُ‬
‫�أبيك‪.‬‬
‫ وهل قتلوا �أبي؟‬
‫ بل ذهب �إىل ك�سرى الفر�س يط ُلب الن�صرة‪ ،‬وخذله «ك�سرى» ومات يف‬
‫طريق العودة‪.‬‬

‫ع‬
‫بقلب غري القلب الذي دخلها به‪،‬‬
‫وخرج «�سيف بن ذي يزن» من تلك الفال ٍ‬

‫ص‬
‫وبعيون يطري منها ال�ش َرر‪.‬‬
‫ٍ‬

‫ورجع «�سيف بن ذياليزن» �إىل بنو يزن‪ ..‬القلة املت�شرذمني املتكتلني‬


‫‪z‬‬
‫ري‬
‫كأباهت يف كل مل َمح من مالمح وجهه‪ ،‬ف�أ�ضاءت‬
‫امل�ست�ضعفني يف عدن‪ ،‬فدخل عليهم وهم يف دير لهم ي�سمعون من كالم‬

‫طرف �لإىلن الآخر‪ ،‬ومل�س يف قلوبهم الي�أ�س‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫«يرثب»‪ ،‬فالتفتوا �إليه وكان ي�شابه �‬

‫شلأحبا�ش‪ ،‬وطريقة يف خياله‬


‫بحاج ٍة لإثبات ن�سبه فيهم‪ ،‬وكانت ليلة‬ ‫وجوههم لر�ؤياه وا�ستغربت‪ ،‬ومل يكن‬

‫ر‬
‫عامرة باحلكايا والأحزان ُيل ِقيها كل ٍ‬

‫و‬
‫وقفتككلهاهذه‪،‬من الوقالبعده‪.‬وت‬
‫واحلرية‪ ،‬ومل�سوا يف قلبه الثورة واالنتها�ض و ُكره ا‬
‫ؤو�سهم‪...‬‬ ‫ير�سمها للثورة؛ طريقة ملا �سمعوها �أطرقوا بر�‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫ف�سكت «�سيف» ومل ي ُرد‪ ..‬وبقي معهم �سنوات يتع َّلم دين �آبائهعو�أجداده‬
‫َ‬
‫مقالتك‬ ‫فينا مثل‬ ‫َ‬ ‫وقف فينا كمثل‬ ‫ يا «�سيف» �إن َ‬
‫والدك َ‬
‫وطريقتك‪ ،‬ولقد َ‬
‫ف�شل و�أف�ش َلنا و�أف�شل �سب�أ‬

‫وتعاليمهم حتى كمل عقله وعال ِعلمه وفهمه‪.‬‬


‫ويف قطع ٍة �أخرى من الأر�ض‪ ..‬عامرة ب�أ�صناف البنيان والألوان وا ُ‬
‫جلند‬
‫املج َّندة‪ ،‬كانت تعي�ش ح�ضارة رمبا هي �أقوى ح�ضار ًة �شهدتها ب�سطة الأر�ض؛‬
‫يدعوهم التاريخ «االمرباطورية الفار�سية»؛‬ ‫ح�ضارة «بنو �سا�سان»‪� ،‬أو كما ُ‬
‫ق�صور ُم�ش َّيدة وم�ساكنٌ ازدانت الأر�ض بها وجيو�ش كحبات الأرز ال ُت ِ�صي لها‬
‫عددا وم ِلك حاكم على مقادير كل هذا ي�سمى «ك�سرى»‪ ،‬بلغ به من تبجيل نف�سه‬
‫�أال ي�س َمح للأب�صار �أن تراه‪� ،‬إال مر ًة واحد ًة ال تعاد �إال بعد �شهور!‪ ،‬وك�أن ر�ؤيته‬
‫ويدخل عليه رجل مميز َ‬
‫املنظر‬ ‫بيوم قد �أتى ُ‬ ‫�ش َرف ال ت�ستحقه الكائنات‪ ...‬و�إذا ٍ‬
‫ب�شعره الأحمر والنم�ش على خ َّديه‪« ،‬النعمان بن املنذر» م ِلك العراق و�صاحب‬
‫‪117‬‬
‫�شرق الطلعة و�سيم املالمح ذو‬ ‫رجل ُم ِ‬ ‫الزهور ال�شهرية �شقائق النعمان ومعه ُ‬
‫ب� ٍأ�س �شديد ُي�سمى «�سيف»‪�« ،‬سيف بن ذي يزن»‪.‬‬
‫وهم ال ُنعمان بالكالم �إال �أن «�سيف» �أ�سكتَه ب�إ�شار ٍة واحدة من يده‪ ..‬وتك َّلم‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫«�سيف» و«ك�سرى» ينظر وقد لفتَت نظره حركة الفتى‪ ،‬قال‪:‬‬
‫لتن�صره ووعدتَه ثم‬
‫أتاك ُ‬ ‫ يا عظيم فار�س �إين �أنا ابن ال�شيخ الكبري الذي � َ‬

‫ع‬
‫�أخ َلفته حتى عاد ومات بح�س َرته على قارعة الطريق‪� ،‬أنا ابن امللك «ذي‬

‫ص‬
‫يزن»‪ ،‬ملك بالد �سب�أ التي عدا عليها احلب�ش فما تركوا فيها مغن ًما �إال‬

‫ري‬
‫َ‬

‫ال‬
‫وينالك‬ ‫لتن�صرين ف�أطرد الأغربة عن بالدي‬ ‫�سلبوه‪ ،‬و�إين �أتيتُك اليوم ُ‬
‫منا َف ْيئ و ِفري يف كل عام‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قال «ك�سرى» من وراء الزبرجد واللآيلء التي ُتيط به‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ بعدت بالدك عن بالدي ولي�س فيها غري ال�شاء والبعري‪ ..‬وما كنتُ لأو ِّرط‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫جي�شا من فار�س ب�أر�ض العرب‪.‬‬ ‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ثم �أعطاه «ك�سرى» ع�شرة �آالف درهم ذهبي فار�سي‪ ،‬وقال له‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫مال بعد هذه العطية‪.‬‬‫بقومك ف�إنك ال تزال �أكرث �أهلك ً‬ ‫احلق ِ‬ ‫  َ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫َ‬

‫يع‬
‫ان�صرف‬ ‫احلر�س الرجلني‪ ...‬وان�صرف «�سيف» كما‬ ‫ُ‬ ‫خرج‬ ‫و�أ�شار بيده ل ُي ِ‬
‫أغ�شت مالحمه‪ ،‬ومل يد ِر �أن �أر�ض �سب�أ يف �أيام �سفره هذه كانت‬ ‫والده؛ بح�سر ٍة � َ‬
‫تهتز؛ تهتز بالغ�ضب وك�أن الزمان ي�أ َبى �إال �أن ُيعيد الهزة يف �أر�ض �سب�أ كلما‬
‫�سافر «ذو يزن»!‪ ،‬لكن اله َّز َة يف عهد �سيف كانت �أ�شد و�أنكى‪ ،‬وانهارت لها نفو�س‬
‫بني يزن �أكرث من انهيارهم الأول‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫يتعجب من �شيء ُيالحظ‬ ‫حدث �أن «�أبرهة» يف طوال �سنني ُحكمِ ه لليمن كان َّ‬ ‫َ‬
‫�أن العرب يفعلونه ويحر�صون عليه بكافة طوائفهم وبلدانهم‪ ..‬كانوا يروحون يف‬
‫يحجون فيها‬‫عام يف جموع وقوا ِفل م�سافرين من �أق�صى الأر�ض �إىل م َّكة ُّ‬ ‫كل ٍ‬
‫تاجرون‪ ...‬ولي�س يف مكة هذه �إال جبال وواد غري ذي زرع وقوم �أجالف ال دينَ‬ ‫و ُي ِ‬
‫فيهم وال ح�ضارة‪.‬‬
‫فوجه «�أبرهة» �س� ًؤال �إىل �أحالفه العرب من قبائل �سب�أ‪:‬‬
‫َّ‬
‫ ما الذي ته ُفو �إليه القلوب يف تلك الأر�ض؟‬
‫‪118‬‬
‫حجر ال يزيد حجمه عن حجم ُغر َفة يف ق�صرك يا م ِلك‪.‬‬ ‫ بيتًا من َ‬
‫بيت كهذا ته ُفو �إليه القلوب؟‬ ‫ وما بال ٍ‬
‫ �إنهم يذ ُكرون �أن �إبراهيم النبي قد بناه وابنه �إ�سماعيل‪.‬‬
‫فظه َر م�سحة غا�ضبة على وجه «�أبرهة» وكان م�سيح ًيا ُمت�شدِّ دًا‪ ..‬قال‪:‬‬
‫ �أي هراءٍ هذا؟ ما الذي �سي�أتي ب�إبراهيم النبي �أبو ال�صاحلني �إىل تلك‬

‫ع‬
‫الأر�ض اجلدباء‪ ،‬واهلل �إن �أفكارهم وقلوبهم ُتاثل طبائعهم جالفة‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قالوا‪:‬‬
‫أ�صناما‪ ..‬كل �أ�صنام العرب و�آلهتهم‬ ‫ و�إنهم قد ن�صبوا حول ذلك البيت � ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫حتج �إىل ذلك البيت تتق َّرب كل‬ ‫من�صوبة هناك‪ ،‬حتى �إذا �أتت القبائل ّ‬

‫ب‬
‫قبيل ٍة لأ�صنامها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫حتج القبائل �إليهم؟‬ ‫ ومل ّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ لأن كل القبائل العربية يف اجلزيرة تعرف �أن ذلك البيت ُمق َّد�س‪ ،‬و�أن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫«�إبراهيم» هو الذي بناه‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫�سكت «�أبرهة»‪ ،‬وب َّي َت �ش ًّرا يف دواخل نف�سه‪.‬‬
‫وبال�سوط املُ�س َّلط على ظهورهم‪� ..‬أمر «�أبرهة» ب َن�صب‬ ‫ِ‬ ‫وبال�سخرة والت�سخري‪،‬‬
‫كع َبة يف �سب�أ‪ ،‬تكون هي اجلمال ُم َّ�سدً ا يف ِبناء‪ ،‬وتعا�ضدت �سواعد من �سب�أ‬
‫ونظ َمت �أحجا ًرا على �أحجار وم�سامري من ذهب وف�ضة‪ ...‬فانت�ص َبت على �أر�ض‬ ‫َّ‬
‫املرمر املُ َّلون تع ُلوها ق َّبة ُم�ش َّي َدة‬
‫�سب�أ كع َبة دائرية لها باب ذهبي وبالط من َ‬
‫وجعلت على ت َّلة ُمرتفعة زينة للناظرين‪ ،‬وبعث «�أبرهة»‬ ‫من الف�سيف�ساء‪ُ ...‬‬
‫مبعوثني �إىل القبائل يدعونهم للحج �إىل كعبة �سب�أ‪ ،‬و�س َّماها القلي�س‪ ،‬وقطب‬
‫ومطوا �شفاههم واتخذوها �سخر ًيا!‪ ،‬لكن الداعني �إىل القلي�س‬ ‫العرب جباههم ُّ‬
‫فحدثت املناو�شات م ّر ًة‬ ‫قد زادوا وكانوا من ع َرب �سب�أ املتحالفني مع احلب�ش‪َ ،‬‬
‫عرب نزلوا على كعبة‬ ‫أوقدت منها نار القلوب‪ٌ ،‬‬ ‫بعد مرة‪ ،‬ثم مل َعت ال�شرارة التي � َ‬
‫�سب�أ و�سعروا فيها نا ًرا‪ ،‬ف�سعرت النار يف قلوب الأحبا�ش!‬
‫وقف ناظ ًرا �إىل النار‪ ،‬واحلب�ش من حولها ي�صيحون بلغامت‪ ..‬و«�أبرهة»‬
‫غا�ضب ما‪ ،‬وقف ي�سمع كالم «�أبرهة» الذي يقوله لوزرائه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ي�صيح يف ُجنده ب�أمر‬
‫‪119‬‬
‫كان ُي�صدر �أمره �أن جي�شوا اجلي�ش والأخيال والأفيال واقرعوا الطبل؛ ف�إن‬
‫ترحم‪ ،‬وال تقف �إال عند كعبة‬ ‫جموع تغزو وال َ‬ ‫احلب�ش نازلون �إىل العرب يف ٍ‬
‫ينظر �إىل حرقتهم وحريقهم واللهب‬ ‫العرب فال تدعها �إال حطاما‪ ،‬وقف �ساه ًما ُ‬
‫ينظر �إىل‬‫ينعك�س على �شعره الأ�صفر الذي اعتدنا عليه‪« ،‬عمرو بن جابر» كان ُ‬
‫عيون حمر قد وق َفت على جانب من النار ‪-‬عيون �شيطان‪ -‬قال له هل تذ َّكرتَ يا‬
‫يوما‪ ،‬كانت ُ�شعلة ولد منها‬‫«عمرو»؟ �أن نا ًرا قد �أُ ِّج َجت من �أخاديد هذه الأر�ض ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رجل غا�ضب ي�سمى «�أ�سعد» رفع كلمة الرحمن من �سب�أ �إىل الكعبة ليك�سوها‪..‬‬
‫واليوم نار قد �أُججت يف هذه الأر�ض‪ ،‬كانت ُ�شع َلة خرج منها رجل غا�ضب ي�سمى‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫«�أبرهة»‪ ،‬نازل بجنده من �سب�أ �إىل الكعبة ليهدمها‪� ..‬ألي�س َ‬
‫النظر يف القدر ُم ِتع‬

‫ك‬
‫ألي�ست هذه الكعبة هي �آخر ما ميلك الرحمن على هذه الأر�ض؟ حتى‬ ‫و�ساخر؟ � َ‬

‫ت‬
‫يجد معبدً ا يع ُبد الرحمن عنده‪...‬‬‫�أن ُمل�صه �إذا �أتى لن ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ثم �ضحك وعيناه ُمتَّ�سعتان جذال وقال‪ :‬يبدو �أن النبوء َة التي �ألقيناها ِ‬
‫لكاهننا‬

‫ش‬
‫نكذب يف النبوءات‪.‬‬‫«�سطيح» كانت نبوء ًة زائف ًة يا بن جابر!‪� ،‬أال تدري �أننا ِ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ثم َّ‬

‫‪ z‬الت‬
‫تول وهو ي�صدح بال�شماتة وهو يقول‪ :‬نحن نكذب يف النبوءات يا بن‬

‫و‬
‫جابر‪ ..‬نحن نكذب يف النبوءات‪...‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫لي�س من ح َكى عن اجلي�ش كمن ر�أى اجلي�ش‪ ،‬قبائل و�أفيال ورومان وح َب�ش‪...‬‬
‫ع�شرات الآالف تتبع بع�ضها وك�أنه ال نهاي َة لها!‪ ،‬و�إن �أكرب حرب بني العرب مل ِيزد‬
‫أ�سلح ٍة يرفعونها‬
‫املتقاتلون فيها عن �ألفني‪� ،‬أما وقد �أتتهم اليوم ع�شرات الألوف ب� َ‬
‫و�أفيال يج ُّرونها وغ�ضب ا�ستق َّر يف عيونهم‪ ،‬ف�إن العرب اليوم يف ح َرج‪ ...‬كان‬
‫«عمرو» يتبعهم وعيونه اجلنية ال ترى �آخرهم‪ ،‬وخاطر يجول بذهنه؛ ح ًقا �إن‬
‫يكذبون يف النبوءات!‪ ،‬فلم تذ ُكر النبوءة �أن احل َب�ش �سينزلون �إىل‬ ‫ال�شياطني ِ‬
‫مكة‪� ،‬إمنا قالت �أنهم �سيحكمون �إىل جنران‪ ،‬لعنهم اهلل ال�شياطني قد �أوقدوا‬
‫يوما‪.‬‬
‫يف قلبه الأمل ً‬
‫جيو�ش العرب ُتدا ِفع عن �أر�ضها‪ ..‬فخرج �أول من خ َرج �أ�شراف‬ ‫ُ‬ ‫وخرجت‬
‫ُ‬
‫اليمن‪ ،‬فانهزموا و�أبيدوا عن بك َرة �أبيهم‪ ،‬ثم خرجت قبائل �شهران وناه�س‪،‬‬
‫فانهزموا ومل تبقَ منهم باق َية‪ ،‬خرجوا ً‬
‫رجال على ق َّلتهم ِّ‬
‫بكل ب�سا َلة العرب‬
‫‪120‬‬
‫وج�سارتها‪ ،‬لكن اجلي�ش مل يكن عاد ًيا‪ ،‬وعلم بقية العرب �أنهم لو حاربوا هذا‬
‫اجلي�ش واجتمعوا له كلهم‪� ،‬ستنزل عليهم جحافل الروم فتطبق عليهم عن‬
‫�آخرهم؛ فاحل َب�ش والروم فريق واحد‪.‬‬
‫فكانت جحافل الأحبا�ش مت�شي وتتحا�شاها القبائل حتى و�صلوا �إىل �أر�ض‬
‫لينق�ض على مكة وي�ستبيحها‬‫َّ‬ ‫املغم�س على �أعتاب مكة‪ ..‬فتو َّقف جي�شهم وت� َّأهب‬
‫ويد ُّك حرامها وحاللها‪ ...‬لكن فر�سا ًنا ثالثة قد انطلقوا من مكة وعلى‬

‫ع‬
‫مالحمهم �ألوان من الغ�ضب‪ ،‬حتى �أتوا على خيمة «�أبرهة» وم�شوا بني اجلي�ش‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال ينظرون حتى �إىل عتاده وجهازه!‪ ،‬قيل لأبرهة �إن ه�ؤالء �أ�سياد مكة وقد �أتوا‬

‫ال‬
‫جال�سا فدخل عليه ثالثة فر�سان‬ ‫للتحادُث‪ ..‬قال ف�أدخلوهم‪ ،‬وكان على عر�ش له ً‬
‫رجل هو الهيبة كلها واجلالل كله‪ ،‬طول وربعة يف اجل�سد وو�سامة‬ ‫يتق َّدمهم ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يف الوجه وجالل‪ ،‬و�شعر �أ�س َود تتخ َّلله خ�صلة بي�ضاء �أ�ضافت �إىل هيبته مهابة‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ورزانة‪ ،‬وكان ا�سمه «عبد املطلب»‪� ،‬سيد مكة و�صاحب بئرها‪ ..‬فلما ر�آه «�أبرهة»‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫قام واق ًفا‪ ،‬ثم انتبه �إىل وقفته التي وقفها على غري عادته‪ ،‬وا�ستكرب �أن يج ِل�س‬

‫ش‬
‫إجالل‪ ،‬فم�شى با�ستكبا ٍر ثم َ‬
‫جل�س‬ ‫على عر�شه بعد �أن وقف لئال ُيقال �أنه وقف � ً‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ب�ساط ملكي للزائرين‪ ،‬و�أ�شار للثالثة �أن يجل�سوا‪.‬‬ ‫على ٍ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫و�أ�شار «�أبرهة» للرتجمان �أن ي�س�أل الرجال عن حاجتهم‪ ..‬فتك َّلم �سيد بني‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بكر‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫تعر�ض عليه ُثلث �أموالها على �أن‬ ‫  ُقل ملليكك يا ترجمان �أن «بني بكر» ِ‬
‫ين�صرف عن مكة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ثم تك َّلم �سيد «هذيل» وقال مثل قول �صاحبه‪ ...‬ف�سمع «�أبرهة» ترجمة‬
‫كالمهم فقال‪:‬‬
‫حاج َة يل ب�أموالهم‪ ،‬و�إن �أرادوا ال�سلم فليخلوا بيننا وبني ذلك البيت‬ ‫ ال َ‬
‫فند ّكه د ًّكا ب�أفيالنا‪.‬‬
‫ثم �أ�شار «�أبرهة» �إىل ترجمانه لي�س�أل الرجل ذو اخل�ص َلة البي�ضاء عن‬
‫حاجته‪ ...‬ف�س�أله الرتجمان‪ ،‬فتك َّلم «عبد املطلب» قال‪:‬‬
‫  ُقل ملليكك الأ�ش َرم �أنه قد اعتدى يف طري ِقه �إىل هنا على �إ ِبل يل‪ ..‬مائتني‬
‫من الإبل‪ ،‬ف ُقل له �أن ي ُر َّدها يل‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫العجب والغ�ضب‪ ...‬قال‪:‬‬ ‫فرتجم الرتجمان‪ ..‬فظهرت على «�أبرهة» عالمات َ‬
‫ �أ ُتك ِّلمني يف مائتي بعري �أ�صبتُها لك!‪ ،‬وترتُك بيتًا هو دين �آبائك و�أجدادك‬
‫قد جئتُ لأهدمه على ر�ؤو�سكم فال تكلمني فيه؟ لقد كنتُ �أعجبتَني حني‬
‫ر�أيتك ثم زهدتُ َ‬
‫فيك حني ك َّلمتني‪.‬‬
‫قال عبد املطلب بحزم‪:‬‬

‫ع‬
‫هدمه‬
‫رب يحميه‪ ،‬وما �أنت على ِ‬ ‫ �أما هذه الإبل ف�أنا ربها‪ ..‬و�أما البيت فله ٌّ‬

‫ص‬
‫بقادر‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وملا �سمع «�أبرهة» الرتجمان اتَّ�س َعت عيناه مقتا وقال‪:‬‬

‫كت‬
‫ �أما ذلك الرجل ذو اخل�صلة البي�ضاء فر ُّدوا �إليه �إ ِبله‪� ..‬أما البيت ف�إين‬
‫�س�أزيله و�أزيل من يع ِرت�ض طريقي �إليه‪.‬‬

‫ب نل‬
‫‪z‬‬
‫ش‬ ‫ل‬
‫رمال �صفر امت َّدت �إىل حافة الب�صر‪ ،‬تراها قد متاثلت �صورتها يف كل ناحية‪،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ولو ملكت عني ال�صقر لن ترى غريها‪� ..‬صحراء فاقعة �أكلت �أر�ض اجلزيرة كلها‬

‫الت‬
‫�إال ً‬

‫و‬
‫قليل‪ ،‬وهي حول مكة �أ�شد‪ ،‬و«عمرو بن جابر» واقف على �أعتاب مكة ناظر‬

‫ز‬
‫�إىل ال�صحراء ير ُقب �شي ًئا �شقَّ �صفحة الأفق!؛ ظالل �سود �أبرز الأفق الطويل‬

‫يع‬
‫ر�ؤو�سها تربج من كل حافة‪ ،‬م�صفوفة على طول ال�شفق‪ ،‬ر�ؤو�س ترتدي خوذات‬
‫تغطت ر�ؤو�سها بالدروع‪ ،‬ورجال حب�شان على ظهور الأفيال‬ ‫حربية‪ ،‬ور�ؤو�س �أفيال َّ‬
‫يد ُّقون الطبل‪ ...‬وتقدموا راجلني وراكبني وعجز الب�صر �أن يرى منتهاهم!‪،‬‬
‫و�صعد «عمرو» يف الهواء لريى فعجز �أن يرى منتهاهم‪ ،‬وارجتفت عينه املتَّ�س َعة‪،‬‬
‫امل�سري لقادر على �أكل اجلبال �إذا �أراد‪ ،‬واقرتب منهم طائ ًرا‬ ‫واهلل �إن هذا ِ‬
‫بجناحيه‪ ،‬فرمقت عينه حرك ًة يف مقدم اجلي�ش ك�س َرت انتظام امل�سري‪ ،‬حتديدً ا‬
‫عند الأفيال التي يف طليعة اجلي�ش‪.‬‬
‫أح�ست �شي ًئا!‪ .‬و�صارت ُت�ض َرب بال�سياط فتم�شي يف كل‬
‫توقفت الأفيال ك�أمنا � َّ‬
‫جهة �إال جهة امل�سري‪ ،‬وتوقفت الطبول عن الدق‪ ،‬وتعاىل �صياح الرجال‪ ،‬ثم انتقل‬
‫ال�صياح �إىل م� ِّؤخرة اجلي�ش!‪ ،‬فنظر «عمرو بن جابر» ف�إذا اجلنود يف اخللف‬
‫رافعوا ر�ؤو�سهم �إىل ال�سماء من خلفهم وي�صيحون‪ ...‬وانتق َلت عني «عمرو» �إىل‬
‫ال�سماء‪ ،‬وارجتف‪ُ ،‬‬
‫وانظر �إىل اجلن ملا يرجتف ماذا يرى!‬
‫‪122‬‬
‫وهدت من بعيد‪ ..‬تتقارب فتكون ك�أنها ب�ساط‬ ‫�سرب من الذرات ال�سود ُ�ش ِ‬
‫مديد من الذر الأ�سود!‪ ،‬وتتباعد فتكون ك�أنها ُكرة‪ ،‬وتظل تتقارب وتتباعد‬
‫كال�شياطني يف ال�سماء و ُت�ش ِّكل الأ�شكال‪ ...‬واقرتبت �أ�سراب الذر من بعيد فر�أت‬
‫تفا�صيلها العيون؛ فلم ت ُكن ذرات‪ ،‬ومل ت ُكن �سوداء!‬
‫كانت طيور‪ ..‬طيو ٌر من ف�صائل مل تعرفها بالد العرب!‪ ،‬لكن بالد احلب�ش‬

‫ع‬
‫تتو�سع يف‬
‫تعرفها‪ ،‬ويدعونها (الزرازير اجلواثم) وبد�أ اجلي�ش يتف َّرق‪ ،‬والطيور َّ‬

‫ص‬
‫وتعث الرجال ه َر ًبا‪ ،‬ونزل الطري‬ ‫�سربها حتى ما خال منها مو�ضع يف ال�سماء‪َّ ،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كله �إىل �أ�سفل مما كان فر�ؤ َيت �ألوانه و�أ�شكاله و�أعداده‪� ...‬أزرق الأج�ساد �أحمر‬
‫العيون والأجنحة‪� ،‬أعدادهم ال ُت ِ�صيها حتى عني زرقاء اليمامة‪ ،‬كان مائتي‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�ألف طري �أو يزيدون‪ ،‬ي�صدرون �أ�صوات طريية عالية‪ ،‬غا�ضبة ثائرة‪ ،‬وكان يف‬
‫اجلي�ش عرب �ضلُّوا ال�سبيل فلم يفقهوا من الأمر �شيء‪ ،‬و�إن مل يعرفوا الطري �إال‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أن الرعب �أُلقي يف قلوبهم مما يخوف الأحبا�ش‪ ،‬ف�أ�صبح الواحد منهم يهرب‬
‫ن‬
‫ش‬
‫ك�أن الغيالن ُتطارده!‪ ،‬وت�صادمت اخليول ودارت الأفيال حول نف�سها‪ ،‬وعني‬

‫ر‬
‫نظمة‪ ،‬والآن ال تعرف طليعته من‬ ‫جلي�ش كان � ً‬
‫أرتال ُم َّ‬ ‫تنظر ٍ‬ ‫«عمرو» يف ال�سماء ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قفاه‪ ،‬يخافون من طري ُيح ِّلق يف جو ال�سماء له نعيق و�صرير!‪ ،‬كانت املرة الأوىل‬

‫و‬
‫رحا َلة‪ ،‬مل ي ُكن يدري �أن‬

‫ز‬
‫التي يرى فيها «عمرو بن جابر» هذا الطري رغم �أنه َّ‬

‫يع‬
‫�أر�ض �أفريقية مملوءة ب�أمثاله‪ ،‬ال ميرون بقرية �إال �أهلكوا حم�صو َلها ونزل بني‬
‫�شعبها امل َر�ض‪ ...‬كان اجلي�ش يحاول التف ُّرق والطري فوقهم �صافات‪ ،‬ثم فعلت‬
‫الطيور �شي ًئا جعل الأحبا�ش ي�صرخون على �صراخهم �ألف �صراخ!‬
‫حتجرت يف جو ال�سماء ونزلت‬ ‫مائتي �ألف طري �أل َقت من بطونها عذرات َّ‬
‫كالوابل املُنهمِ ر‪ ..‬وكان احل َب�ش يعلمون معنى هذا‪ ،‬نزلت عذرات الطيور وتف َّتتَت‬
‫على الأر�ض والأج�ساد‪ ،‬و�أعادت الطيور ت�شكيل �سربها ب�أ�شكال و�أ�شكال!‪ ،‬ثم‬
‫جي�شا مفر ًقا �شتيتًا تغمرهم‬‫حت َّركت بعيدً ا �إىل العرين الذي �أتت منه تاركة ً‬
‫احل�سرات‪ ،‬حتى غابت عليهم ال�شم�س ونزلت �ستارة الليل وف�شا بينهم اجلدال‪،‬‬
‫قالوا �إن تلك الطيور ال ُمتر �إال واملر�ض تابعها‪ ،‬ولقد �أل َقت علينا العذرات‬
‫كعهدها ك َّلما م َّرت يف مكان‪ ،‬فما لنا �إال العود �إىل احلب�شة‪ ...‬فغ�ضب «�أبرهة»‬
‫وقال‪ :‬ما بال الرجال �أ�صحاب الدروع وال�سيوف يخافون من مرميات الطيور!‪،‬‬
‫واهلل ال نرجع حتى ند ُّك ذلك احلجر‪ ،‬وما بيننا وبني مكة �إال ميل �أو اثنني‪...‬‬
‫‪123‬‬
‫فنظ ُموا‬‫وتوج�س‪ ،‬حتى �أتى ال�صباح َّ‬
‫وبقوا �ساعات الليل يعدونها عدا‪ ..‬بني حرية ُّ‬
‫تنظيمهم‪ ،‬وحملوا �سالحهم‪ ،‬وم�شوا يف تهيب وجبانة ملأت قلوبهم‪ ،‬ثم نزل بهم‬
‫ما كانوا يحذرون‪.‬‬
‫ف�شت يف جثمانهم ا ُ‬
‫حل ّمى وتو َّلدت ال�سموم يف بطونهم‪ ..‬فمر�ضوا وتق َّي�أوا‪،‬‬ ‫َ‬
‫و�سع َلت ح ُلوقهم‪ ...‬وتو َّقف امل�سري و�أعياهم امل َر�ض‪ ،‬وعزموا على العود‪،‬‬

‫ع‬
‫َ‬
‫احلب�شة مي�شون م�ش َية املر�ض‪ ،‬وبقت �أفيالهم‬ ‫فا�ستداروا وم�ضوا �إىل ناح َية‬

‫ص‬
‫أياما بغري عائقة‪ ،‬ثم اندفع البرث على‬ ‫وخيولهم مل مي�س�سها �ضر‪ ،‬فم�شت بهم � ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وجحظت عيونهم‬ ‫َ‬ ‫وجوههم و�أعناقهم وغزا �أيديهم و�أرجلهم‪ ،‬وانتفخت �أ�شكالهم‬
‫من الرعب‪ ،‬واهتاجت �أبدانهم و�شاعت فيهم حكة ُيطفئون بها ما ثار عليهم‪،‬‬

‫ك‬
‫ف�صاروا يفركون البثور ب�أظفارهم فتخلف وراءها حف ًرا!‪ ،‬وتباي َنت جلودهم بني‬

‫ت‬
‫ُمنت ِفخ وحمفور‪ ،‬و�سقط ثلث منهم �صرعى �شاخ�صني ب�أب�صارهم �إىل ال�سماء‬

‫ب‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫وقد انطف�أت فيهم احلياة‪ ،‬وبقي الآخرون �أحياء يحثون على الرتاب مر�ضى‬

‫ش‬
‫نبت َ‬
‫نه�شته‬ ‫بني �أمواتهم‪ ،‬وجلودهم م�أكو َلة مم َّددين على الرمال ك�أنهم �أ�صناف ٍ‬

‫ر‬
‫ودا�ست عليه احلوافر‪.‬‬
‫قطعان البعري َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫وم�شى «�إزب» بينهم وب�شاعة البغ�ضاء طالعة على وجهه‪ ..‬ترمي الرياح‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫عباءته �إىل ي�ساره‪ ،‬ثم رفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء و�صرخ‪ ،‬وما كان ال�شيطان لينعى‬
‫املوتى و�إمنا كان ينعى انهزامه!‪ ،‬ونزل من تلك ال�سماء «عمرو بن جابر» كاملالك‬
‫الأمري‪ ،‬وكان يف عينيه َن�صر وغل َبة‪ ،‬فلما ر�آه «�إزب» �سحب عباءته ورحل مغا�ض ًبا‪،‬‬
‫الحقه ك�أنه له ظل‪.‬‬ ‫َ‬
‫كالوم�ضة وابن جابر ُي ِ‬ ‫وانتقل من املكان‬
‫‪z‬‬
‫يف �سوق من �أكرب �أ�سواق بالد فار�س‪ ..‬وقف «�سيف بن ذي يزن» على �أعلى‬
‫مو�ضع ميكن �أن يقف فيه‪ ،‬و�أخرج الدراهم الفار�سية الذهبية التي �أعطاه �إياها‬
‫ينثها على النا�س ويتح َّدث ب ُلغته التي مل يكن يفهمهما �أحد من‬ ‫ك�سرى‪ ،‬وبد�أ ُ‬
‫�أهل ال�سوق‪ ،‬لكنهم اجتمعوا كاملحمومني على الدراهم يتل ُّقونها من الأر�ض‪َ � ،‬‬
‫أنت‬
‫ينث الذهب يف ال�سوق كل يوم‪ ،‬وبلغ الأمر «ك�سرى»‪ ،‬فقال ائتوين‬ ‫ال ترى جمنو ًنا ُ‬
‫يدخل فيها �أحد على «ك�سرى» يف‬ ‫بهذا الفتى اليماين‪ ،‬وكانت املرة الأوىل التي ُ‬
‫يومني ُمتتاليني!‪ ،‬فلما �أتاه قال‪:‬‬
‫‪124‬‬
‫تنث �أموايل التي �أعطيتُك على ر�ؤو�س النا�س؟‬ ‫دعاك �إىل �أن ُ‬
‫ ما َ‬
‫ هل ترى هذا الذهب الذي و�ضعتَه يل يف كي�س ورميتَه �إيل‪ ،‬ف�إن جبال‬
‫بالدي ذهب وف�ضة‪ ،‬و�إين �أتيت َُك ل َ‬
‫أعطيك �أنا الأموال �إذا مددتَني‬
‫جلند‪� ،‬أما � َ‬
‫أموالك �أنت فال حاج َة يل بها‪.‬‬ ‫با ُ‬
‫وعلى جراءته �إال �أنه �أعجب «ك�سرى»‪ ..‬ونظر �إىل حا�ش َيته يف تفكري‪ ،‬قال له‬

‫ع‬
‫املوبذان وهو قا�ضي الق�ضاة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ُخرج له «وهرز» ومن معه‪ ،‬ف�إن ماتوا ف�إنا ُنريد‬ ‫ يا عظيم البالد‪ ..‬فلت ِ‬
‫خراجا‪.‬‬
‫هالكهم‪ ،‬و�إن ن�ص ُروه ف�سي�أتينا من بالده ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫رتجم �إىل «�سيف» وهو متفاجيء من حديث «ك�سرى» واملوبذان‪..‬‬ ‫نظر املُ ِ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ت�سائل‪ ،‬قال له املرتجم‪:‬‬‫ونظر له «�سيف» ُم ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫معك «وهرز» ومن معه‪.‬‬ ‫ �س ُيخرجون َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫بي له املرتجم الأمر‪ ،‬ات�س َعت عني «�سيف»‬ ‫نظر له «�سيف» بعدم فهم‪ ..‬وملا َّ َ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫تبي �أن من �سيخ ُرجون معه لن يخرجوا من مع�سكرات‬ ‫ً‬
‫اندها�شا؛ فلقد َّ‬ ‫الو�سيمة‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫جنود فار�س‪� ،‬إمنا �سيخرجون من ال�سجون‪� ،‬أعتى املجرمني ال ُفر�س املحكوم‬
‫عليهم بالإعدام‪« ،‬وهرز الأعور»‪ ،‬وثمامنائة ُمرم من �سف َلة بالد فار�س‪.‬‬
‫وهبطت �س ُفن ثمانية على خليج عدن‪ ..‬وانترث منها رجال �أتوا من فار�س‬
‫يف عدة و�سالح‪ ،‬وقمع انكتم بداخل نفو�سهم يف ال�سجون وقد �آن �أوان �إخراجه‪،‬‬
‫باحلقد على احلب�ش وحتى على �أمه احلب�شية!‪،‬‬ ‫ير�أ�سهم رجل ميتلئ حتى �آخره ِ‬
‫و�أق�سم ل ُيخرج َّنهم منها �أجمعني‪ ،‬و�إن ُمه َّمته كادت �أن تكون م�ستحيلة بثمامنائة‬
‫رجل؛ فجي�ش «�أبرهة» و�إن كان الذي خرج منه �إىل بالد العرب قد �صاروا‬
‫�سيطر على بالد اليمن‪ ،‬مائة‬ ‫�صف م�أكول �إال �أن بق َّية جي�ش الأحبا�ش كان ُي ِ‬ ‫ك َع ٍ‬
‫ألف من الرجال يف �أح�سن التقادير‪ ،‬يحكم عليهم «م�سروق ابن �أبرهة» �صاحب‬ ‫� ٍ‬
‫يكتف مبجرمي الفر�س الذين معه بل كان‬ ‫الل�سان البذيء‪ ،‬لكن «ذي يزن» مل ِ‬
‫ُمير على القبائل و ُي�ش ِعل نريان الغ َرية يف نفو�سهم على الأر�ض‪ ،‬حتى جمع ما‬
‫جمع من العرب الرجال‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫واندل َعت حرب �أخرية ملحم َّية‪ ..‬جنح فيها «وهرز» �أن يقتُل «م�سروق بن‬
‫�أبرهة» بطعن ٍة بني عينيه‪ ،‬وانته�ضت قبائل اليمن الأخرى وانق�ضوا على الأحبا�ش‬
‫من �شرق ومن غرب‪ ،‬وانطلقت كل غرائز الوح�ش َّية يف املجرمني اخلارجني من‬
‫ً‬
‫و�شمال!‪ ،‬وبرز «�إزب» يف ال�سماء‬ ‫�سجون فار�س؛ فكانوا ي�ضربون الر�ؤو�س ميي ًنا‬ ‫ُ‬
‫يظهر يف مو�ضع ويختفي ليظهر يف مو�ضع �آخر ك�أنه اخليال ووراءه «عمرو ابن‬
‫جيده وخن َقه ب َي ٍد واحدة من فوالذ‪ ،‬لكن «�إزب»‬
‫جابر»‪ ،‬حتى �أم�سك به «عمرو» من ِ‬

‫ع‬
‫انتف�ض وتخ َّلى عن عباءته التي كان مي�سك بها «عمرو»‪ ،‬فبانت مالمح ج�سده‬

‫ص‬
‫الرمادي ور�أ�سه اخلايل من ال�شعر ومالحمه ال�شيطانية‪ ...‬و�صرخ �صرخ ًة ك�أنه‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ينظر �إىل «�إزب» الذي �صرخ ثاني ًة‬ ‫�صرخها بج�سده كله!‪ ،‬وتراجع «عمرو» وهو ُ‬
‫ك�أنه ي�ص ُرخ لل�سماء‪ ،‬ونظر «�إزب» �إىل «عمرو» بنظ َرة مقت‪ ،‬ثم اندفع كال�شهاب‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫زجت به �إىل الأر�ض و�أحر َقت وجه «عمرو» من �أ�سفله‪.‬‬ ‫ف�صدمه �صدم ًة َّ‬
‫َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أما «�إينور» فقد بق َيت ل�سيف بن ذي يزن تتع َّقبه‪ ..‬حتى انت�صر ُ‬
‫جي�شه يف تلك‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫وا�ستعبدهم وطرد �أكرثهم‪ ،‬وعاد «وهرز» ومن معه‬ ‫َ‬ ‫احلرب‪ ،‬وهزم الأحبا�ش‬

‫ش‬
‫انب�سطت يف �أنحاء اجلزيرة كلها‪� ،‬أهل‬‫َ‬ ‫�إىل بالد فار�س �أحرا ًرا‪ ،‬وكانت فرحة‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�سب�أ يحتفلون بطرد الأحبا�ش وا�ستعادة التبابعة ُحكم البالد‪ ،‬وقري�ش حتتفل‬

‫الت‬
‫جي�شا ً‬ ‫بق�صوف الطري الأبابيل التي �أهل َكت ً‬

‫و‬
‫مهول جاء لهدم كعبتهم‪ ،‬و�أتت وفود‬

‫ز‬
‫العرب من كل �صوب ُتهنئ امللك «�سيف بن ذي يزن»‪ ،‬و«�إينور» ُ‬

‫يع‬
‫تنظر �إليه و�إىل‬
‫جواره �صاحب العلم «يرثب»‪ ،‬وعينها ترتق َرق بالدمع؛ �إن النبوءة حت َّققت كما‬
‫قيلت‪ ،‬ورفعت ر� َأ�سها لل�سماء امتنا ًنا للإله الرحمن ذي �سماوي‪.‬‬
‫و�شاهدت من الوفود وفد قري�ش قد �أتى وفيهم �أ�سياد مكة و�أ�شرافها‪« ..‬خويلد‬
‫رجل مهيب‬ ‫بن �أ�سد» و«عبد املطلب بن ها�شم» وغريهم‪ ...‬وكان «عبد املطلب» ُ‬
‫املنظر يف �شعره خ�صلة بي�ضاء‪ ،‬مل تكن تعرفه لكن مر�آه �أ�س َّر عينها عمن �سواه‪،‬‬
‫ينظر �إىل �سواه!‪ ،‬فتك َّلم «عبد املطلب» وقال‬‫لفت نظر «�سيف» �أي�ضا فكان ال ُ‬ ‫ولقد َ‬
‫مقال ًة بليغ ًة يف تهنئة امللك‪ ،‬فزاد �إعجاب «�سيف» به ف�س�أله‪:‬‬
‫ من �أنت؟‬
‫ �أنا عبد املطلب بن ها�شم‪.‬‬
‫ا�ستب�ش َر «�سيف» خ ًريا وته َّل َلت �أ�ساريره وهو يقوم من مكانه ويقول‪:‬‬
‫ ابن �أخ ِتنا اليمانية اخلزرجية البا�س َلة «�سلمى»؟‬
‫‪127‬‬
‫قال له عبد املطلب‪ :‬نعم‪...‬‬
‫فرحا وا�ستب�شا ًرا و�أك َرم �سيف وفادة عبد املطلب‬ ‫نظر «�سيف بن ذي يزن» ً‬
‫با�سل يف حروب‬ ‫وكل من كان معه‪ ،‬و«�سلمى �أم عبد املطلب» كان لها مو ِقف ِ‬
‫العرب مو ِقفها حتى ا�شته َرت‪ ...‬والأو�س واخلزرج �إمنا‬ ‫الأو�س واخلزرج وتناقلت ُ‬
‫هم من �أهل اليمن‪ ،‬ثم ان�صرف الوفد القر�شي من عند «�سيف»‪ ،‬لكن «�سيف»‬

‫ع‬
‫ليدخل عليه‪ ،‬و�سمعته «�إينور» وهو يقول ليرثب‪:‬‬ ‫وحده ُ‬ ‫ا�ستدعى «عبد املطلب» َ‬

‫ص‬
‫رجل غريه‪ ،‬فلي�أتوين‬ ‫ب�س ٍّر ال ميكن �أن �أف�ضيه �إىل ُ‬
‫مف�ض �إىل ابن �أخ ِتنا ِ‬
‫ �إين ٍ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫به وحده‪.‬‬
‫ف�أتاه «عبد املطلب» وحده‪ ..‬و«�إينور» تتح َّرق �شو ًقا لت�سمع ماذا يريد �أن يقول‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫له‪ ،‬لكن «�سيف» �أدخل «عبد املطلب» يف �سرادق خا�ص و�أغلق الباب‪ ،‬و«�إينور»‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫جتد فو�ضعت �أذنها على اجلدار‬ ‫متور يف ع�صبية باحثة عن مو�ضع للدخول‪ ،‬فلم ِ‬

‫ن‬
‫وا�ضحا جدً ا‪...‬‬ ‫لت�سمع ما يقال‪ ،‬فلم ي�أ ِتها الكالم‬

‫ش‬
‫ً‬

‫ر‬
‫كان «�سيف» يقول لعبد املطلب‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫أطلعك على طليعة‪ ،‬فاجعلها عندك مطو َّي ًة‬ ‫ يا عبد املطلب‪� ..‬إين �س� َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫حتى ي�أذن اهلل‪ ،‬ف�إن اهلل با ِلغ �أمره‪� ..‬إين �أجد يف الكتاب املكنون والعلم‬
‫املخزون الذي اخرتناه لأنف�سنا وحفظناه دون غرينا خ ًربا عظي ًما فيه‬
‫ولرهط َك خا�صة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�ش َرف للنا�س عامة‬
‫قال «عبد املطلب»‪:‬‬
‫ فدا� َؤك �أيها امللك‪ ..‬و�أنت �صاحب ال�سر والرب‪.‬‬
‫قال له «�سيف»‪:‬‬
‫ �إذا ُو َلد غال ٌم لدي ُكم بتهامة‪ ،‬به عالمة‪ ،‬بني كت َفيه �شامة‪ ،‬كانت له النب َّو َة‬
‫والإمامة‪ ،‬ول ُكم به الزعامة‪.‬‬
‫قال له «عبد املطلب»‪:‬‬
‫أمره‪.‬‬
‫فزدين من � ِ‬ ‫ب�ش َر َك اهلل �أيها امللك‪ِ ..‬‬
‫  َّ‬
‫قال «�سيف»‪:‬‬
‫‪128‬‬
‫ هذا حينه الذي ُيو َلد فيه‪ ..‬يبعثه الرحمن وهو يع ُبد الرحمن‪ِ ،‬‬
‫واحدً ا‬
‫�أحدً ا ال ُت�شاركه �أوثان‪.‬‬
‫قال «عبد املطلب»‪:‬‬
‫فزدين �أيها امل ِلك‪.‬‬‫املوحدين يف �أر�ض تهامة قليل‪ ،‬و�أنا ِمنهم‪ِ ..‬‬‫ �إن ِّ‬
‫قال له «�سيف»‪:‬‬

‫ع‬
‫أنت �س ِّيد من �أ�سياد العرب‪ ..‬ف�إن وجدته‬ ‫انظر يف القوم يا عبد املطلب و� َ‬ ‫  ُ‬

‫ري‬‫ص‬
‫واحذر عليه النا�س‪ ،‬واط ِو �أم َره عن كل �أحد‪ ،‬ف�إين ل�ستُ � َآمن‬ ‫فاحفظه َ‬

‫ال‬
‫النفا�سة من �أن تكون له الريا�سة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عليه �إن عر َفه النا�س �أن ُ‬
‫تدخل لهم‬
‫فيطلبون له الغوائل وين�ص ُبون له احلبا ِئل‪ ،‬ولوال �أين �أع َلم �أن املوت‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ُمتاحي قبل مب َعثه‪ ،‬ل�سرتُ بخيلي ورجلي حتى �أنتظره بيرثب دار‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫مملكته ومهاجره‪ ،‬ف�إين � ِأجد يف الكتاب الناطق والعلم ال�سابق �أن بيرثب‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ا�ستحكام �أمره و�أهل ن�ص َرته‪ ،‬ولوال �أين �أ ِقيه الآفات و�أحذر عليه العاهات‬

‫ش‬
‫احلول‬ ‫لأعلنتُ على حداثة �سنه �أمره‪ ،‬فاذهب يا عبد املطلب‪ ،‬و�إذا حال َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�سمعت عن‬‫َ‬ ‫جتد �أحدً ا �أو‬
‫كنت قد وجدتَه‪ ،‬لكن هل ِ‬ ‫فائتني و�أع ِلمني �إن َ‬

‫الت‬
‫موحد ُو ِلد له و َلد فيه تلك العالمة بني كتفيه؟‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫قال «عبد املطلب»‪:‬‬
‫ �أيها امللك‪ ..‬كان‪ ،‬لـ‪...‬‬
‫يعت�صر كبدها!‪ ،‬ثم تن َّب َهت �أن‬ ‫ومل ُتكمِ ل «�إينور» ال�سماع!‪ .‬فقد �شع َرت ب� َأل ِ‬
‫جتد‬ ‫�سالحا ما�ض ًيا قد انغر َز فيها من وراء ظهرها ف�سا َلت منها الدماء‪ ،‬ومل ِ‬ ‫ً‬
‫وقتًا لتت� َّأل‪ ،‬ف�إن الذي طع َنها �أدار ال�سالح ليزيد من وط�أة القتل‪ ،‬ثم تركها‬
‫ف�سقطت على الأر�ض م�ضرجة يف دمائها‪ ،‬وعينها تفي�ض دم ًعا‪ ...‬ونظرت‬ ‫َ‬
‫ينظر لها يف‬ ‫بطرف عينها وراءها فر�أته يف عباءته املقيتة‪�« ،‬إزب بن �أزيب»‪ ،‬كان ُ‬ ‫ِ‬
‫أخذتنا مغالبة الإن�س وتركنا اجلن ي�صب�أون حتى غ َّرهم ِحل ُمنا‪،‬‬ ‫مقت ويقول‪ ،‬قد � َ‬
‫لك بعد حني‪ ،‬و�إين قد �ضللتُه فال‬ ‫الح ٌق ِ‬
‫انتظري زوجك يف �أر�ض اجلحيم‪ ،‬ف�إنه ِ‬
‫�أظنه يدري �أين �أنا‪.‬‬
‫وانطف�أ نور عني «�إينور» فغ�شا عينها الظالم الأ�س َود‪ ..‬ومل ينق�ص من جمالها‬
‫ق�ضت �أكرب قطعة‬ ‫�شيء‪ ،‬وا�ستل َقت بجوار �سرادق «�سيف بن ذي يزن»‪ ،‬بعد �أن َ‬
‫‪129‬‬
‫املوحدين‪ ،‬وقد بذ َلت حياتها لأجل هذه الغاية وحدها‪،‬‬ ‫من عمرها ُتن ِّور طريق ِّ‬
‫تذ َّكرت «�أ�سعد» وجبل �أهنوم‪ ،‬وتذكرت «يزن» ال�صغري متعهد الكتاب‪ ،‬وتذ َّكرت‬
‫مالحقتها للكتاب و�ضر َبة «�أبرهة» لها بال�سيف‪ ،‬ثم تذ َّكرت «�سيف»‪َّ ...‬‬
‫فتب�س َمت‬
‫مالحمها‪ ،‬وخرج «�سيف» من ال�سرادق ومعه «عبد املطلب» ُيح ِّييه و ُي َب ِّييه‪ ،‬ومل‬
‫فا�ضت روحها حتت قدميه‪.‬‬ ‫يوما جلادة احلق قد َ‬ ‫يد ِر �أن الغادة التي د َّلته ً‬

‫ع‬
‫العدم‪ ..‬وتل َّف َت باح ًثا عن «�إزب‬ ‫ثوان وظه َر «عمرو بن جابر» ك�أمنا بر َز من َ‬ ‫ٍ‬

‫ص‬
‫بن �أزيب»‪ ،‬ثم وجد «�إينور» على الأر�ض‪ ،‬وال�سواد املُظ ِلم قد غزَ ا عيونها!‪ ،‬فتو َّقف‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫مكانه وات�سعت عيناه وارجتف حاجباه‪�« ،‬إينور» يا �صاحبة النور‪� ،‬أين النور الذي‬
‫كان منك ي�شع‪ ،‬وهوى «عمرو» على ركبتيه!‪ ،‬ثم هوى على مرفقيه وك�أن ج�سده‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ي�أبى االنتها�ض‪ ،‬وبكى حتى غطى الدمع على ما يرى فلم ي ُعد يرى �إال لقطات‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫جتيء على خياله جتمعه ب�إينور!‪ ،‬ويداه ممت َّدة ما�سك ًة بيدها وهي ُم�ستلق َية على‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫الأر�ض جث ًة ال روح فيها وال نور‪.‬‬

‫ر‬
‫ثوان فكان عند جبل �أهنوم‪ ..‬و�أقربها‬ ‫وحمل «عمرو» «�إينور» وانطلقَ بها يف ٍ‬

‫الت‬
‫وتنتحب‪ ،‬ثم نظر والعني قد‬
‫و‬ ‫يف دارها والعني ت�سيل بالعربات والروح ت�ستدمع ِ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫ظهر العزم على ر�س َمتها‪ ،‬وانطلق يبحث عن اخلبيث‪ ،‬ولي�س يف الدنيا �شيء‬
‫ُيهدئ مرارة الروح �إال ر�أ�س اخلبيث‪ ،‬وظ َّل ينتقل يف الظلمات بني دور ال�سحرة‬
‫كالنجم يهوي ويرحتل‪ ...‬حتى عرث عليه بعباءته اخل�سي�سة‪.‬‬
‫مو�ضع ن�ش�أته ووالدته‪ ،‬يط ُفو فوق بيت ُمتها ِلك‪،‬‬ ‫كان «�إزب» يف طور �سيناء‪ِ ..‬‬
‫ثم نزل فيه من فتح ٍة يف �سق ِفه‪ ،‬وتبعه «عمرو» بال تفكري‪ ،‬يف داخل البيت كان‬
‫حظي به ابن �آدم‪ ،‬م�سطحة مالحمه مغم�ضة‬ ‫رجل ُم�ست ٍَلق يف �إعياء‪ ،‬له �أب�شع وجه َ‬ ‫ُ‬
‫عيناه‪ ،‬كان ذلك «�سطيح»؛ �ساحر العرب الأ�شهر‪ ،‬متمدِّ د َمت ُّدد املر�ض الأخري‪،‬‬
‫أمر‬
‫وجل�س ال�شيطان عند ر�أ�سه‪ ،‬وك�أن بينه وبينه حديث‪ ،‬كان ال�شيطان ُيخربه ب� ٍ‬
‫غم�ضا عينه ك�أنه �ص َنم‪ ،‬ثم‬ ‫من �أمور ال�سماء‪ ،‬و«�سطيح» ذو الوجه ال�سطيح ُم ً‬
‫فج�أ ًة فتح عينيه املغم�ضتني يف ِجد ملا �سم َع ما قاله ال�شيطان‪ ،‬ويف نف�س الوقت‬
‫بخلده‬‫ارجتف «عمرو بن جابر» �إذ �سم َع الكلمة‪ ،‬ارجتف حتى ن�سي كل ما كان ُ‬
‫يدور من ث�أر وق�صا�ص‪ ...‬ف�إن ال�شيطان كان ُيل ِقي بكلمة نز َلت من عنان ال�سماء!‪،‬‬
‫‪130‬‬
‫بخ ٍرب من �أخبار ال�سماء‪ ،‬فخ�شعت منها املالمح وامل�سامع‪ ،‬كلمة تنزَّلت وتناقلت‬
‫أبلجت و�أ�شرقت‪ ،‬و�أبر َقت كائناتها و� َ‬
‫أوم�ضت‪،‬‬ ‫يف اخلافقني‪� ،‬أن تهامة اليوم قد � َ‬
‫وت�أ َّلقت درة الأرحام فيها و�أولدت‪ ،‬نو ًرا م�صطفى من بيت فهر وز َّي َنت‪ ،‬والدته‬
‫�صفح َة الأر�ض و�أ َملعت‪ ،‬مبولده ال�سماء و�أنو َرت‪ ،‬ملولده املالئك وال�صور‪ ،‬يا مع�شر‬
‫ومتتم والروح‬
‫املنتظر‪ ،‬وخ َبت عيون كاهن العرب ال�سطيح‪َ ،‬‬ ‫الإن�سان ُو َلد النبي َ‬
‫تخ ُرج من بني �أ�ضلعه‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ل َعمري مل ت ُعد ال�شام بعد اليوم ل�سطيح يا «�إزب»!‪ ،‬ومل ت ُعد الرافدين لك�سرى‬

‫ري‬
‫فا�ضت روحه‪.‬‬ ‫بعد اليوم رافدين‪ ،‬وكل ما هو � ٍآت �آت‪ ،‬كل ما هو � ٍآت �آت‪ ،‬ثم َ‬

‫ال‪z‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫شر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪131‬‬
‫ماتت «�إينور»‪ ..‬ومات معها احلر�ص على الكِ تاب‪ ،‬وانطلق «عمرو بن جابر» يبحث عن‬
‫النبي وترك الكتاب‪ ،‬و�صار الكتاب يف براثن القدر‪ ،‬وكنا نحن يف ت�صاريف القدر‪ ،‬فو�سو�سنا‬
‫بدلوا فيه مع‬
‫أوعزنا �إليهم �أن ُي ِّ‬
‫�إىل من جاءوا بعد «�سيف بن ذي يزن» �أن يزيدوا يف الكتاب‪ ،‬ثم � َ‬

‫ع‬
‫فبدلوا وكتبوا وانتهى �إىل ما انتهت �إليه الفيدا من قبله‪.‬‬
‫تبدل الزمان‪َّ ،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫نف�سك‪ ،‬كيف‬ ‫ومات «�سطيح» ذو الوجه ال�سطيح‪ ..‬وبقي «�شق» من بعده‪ ،‬ولع َّل َك ٌ‬
‫�سائل َ‬

‫ال‬
‫عبدا‪ ،‬لأن � َ‬
‫إرادتك تهرب‬ ‫بخب ر�ؤيا ر�آها �شخ�ص يف نومه!‪� ،‬أنت عند النوم تكون لنا ً‬ ‫علِمنا َ‬
‫تخرج منك فتكون �صاف َية متقدة �أمامنا نُو�س ِو�س لها كيف ن�شاء‪ ،‬بال حاجة‬‫منك وروحك ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ُقرب وجوهنا من �صدرك العفِن‪ ،‬ف�إذا و�سو�سنا لها ب�شيء وهي يف ذلك ال�صفاء طافية‬ ‫لأن ن ِّ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�سو�سنا‬
‫خارجك‪ ،‬ترتجم و�سو�ساتنا هذه لأحالم �أنت حتلم بها‪ ،‬ف�إذا �أردناك �أن ترى ثعبانًا َ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫لروحك ب�أمر ثعبان‪ ،‬وت�أتيك ال�صورة يف �أحالمك كيفما ت�أتيك!‪ ،‬والذي يفعل هذا و ُيو�س ِو�س‬

‫ر‬
‫لروحك عند النوم هو القرين‪ ،‬و�إنه لي�ستمتِع بر�ؤيتك ترجف والعرق ينحدر على جبهتك‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫لكن قرين امللك مل ُ‬
‫يكن هو الذي ت�س َّبب له يف تلك الر�ؤيا اخلا�صة بغزو احلب�شة‪ ..‬فال‬

‫و‬
‫حدث به نف�سه‬ ‫�سمع ما كان امللك ُي ِّ‬
‫عالقة للقرين بهذه الأمور امل�ستقبلية‪ ،‬لكن القرين َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ب�صوت عال �إذا خال �إىل نف�سه‪ ،‬و�إن توابع «�شق» و«�سطيح» من اجلن �س�أ َلت قرين امللك َ‬
‫وعلمت‬ ‫ٍ‬
‫منه �أو�صاف ر�ؤيا امللك‪.‬‬
‫نف�سك عن ال�سحر وال�سحار‪ ..‬ول�ست �أدري ما هي درجتك يف ال�سحر‪،‬‬ ‫ولع َّل َك �سائل َ‬
‫أحد َ‬
‫ثك ب�أمو ٍر هي �أعلى ما ميكن �أن ت�صل �إليه يف علم ال�سحر‪،‬‬ ‫ورمبا يكون لك توابع‪ ،‬لكني �س� ِّ‬
‫عنك كل ما يكذب عليك به توابعك من اجلن‪� ،‬أو َمن تعرفه من‬ ‫ودع َ‬ ‫�س�أحدثك باخلال�صة؛ َ‬
‫ال�سحار‪ ،‬فكله هراء!‪ ..‬الكل ُيحب �أن ُيبالِغ‪ ،‬والكل يحب �أن يكذب‪ ،‬يقولون �أن ال�سحر يقتُل‪،‬‬
‫ؤذونك لو تركتَهم‪ ،‬يقولون كل ما يقولون لك ُ‬
‫لتظن �أنك تف َعل �شيئا ُميتا!‪،‬‬ ‫يقولون �أنهم �سي� َ‬
‫َ‬
‫أحدثك بخال�صة احلق‪ ،‬لأين �أريد لك �أن تكون‪ ..‬املـ‪...‬‬ ‫لكن كل هذا هراء فارغ‪� ،‬أما �أنا ف�س�‬
‫لن � َ‬
‫أخربك الآن عما �أريده منك‪ ..‬لكنني �س� َ‬
‫أعلمك خال�صة هذا الأمر‪.‬‬
‫�ساحرا هكذا من عنديات نف�سه‪ ،‬البد من �ساحر �أن ُيع ِّلمه‬ ‫ً‬ ‫إن�سان �أن ي�صري‬
‫ال يقدِ ر � ٌ‬
‫َ‬
‫بنف�سك من‬ ‫متوارث منذ �آالف ال�سنني‪ ،‬منذ زمن النمرود‪� ،‬أو �أن تتع َّلم‬
‫الطريقة‪ ،‬هذا الأمر َ‬
‫كتاب �سِ حر حقيقي‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫عليك �أن‬ ‫كافرا باهلل!‪ .‬ولإثبات هذا َ‬ ‫ً‬ ‫تدور حول �أن ت�صري‬ ‫�ساحرا كلها ُ‬ ‫ً‬ ‫طرق �أن ت�صري‬
‫ُ‬
‫مك‬ ‫أ�صل‪� ،‬ستجِ د ال�ساحر الذي ُيع ِّل َ‬ ‫رت‪ ،‬حتى يلتف َِت �إليك ال�شيطان � ً‬ ‫تُثبِت لل�شيطان �أنك ك َف َ‬
‫إجنيل كان �أو‬ ‫هك �إىل �شيء تدن�س فيه الهالة املقد�سة التي تعتقد �أنت �أنها دين اهلل‪ً � ،‬‬ ‫وج َ‬‫قد َّ‬
‫دينك الذي ُت�ؤمِن به‪� ،‬إما تُلقِي بكتابك‬ ‫تورا ًة �أو �صلي ًبا �أو قر�آنًا‪ ،‬هذا يختلِف ح�سب اختالف َ‬
‫املقد�س يف املزا ِبل‪� ،‬أو تكتُب �آياته بدم احلي�ض‪� ،‬أو بالرجز �أو تتب َّول عليه‪ ...‬البد �أن تف َعل �شيئًا‬
‫خلوة تزيد عن ال�شهر‪ ،‬ال ت� ُأكل‬ ‫ُم�شينًا‪ ..‬لي�س فقط هذا‪ ،‬بل يجب �أن تختلِي بنف�سك يف َ‬

‫ع‬
‫فيها �إال القليل اجلاف!‪ ،‬هكذا َّ‬

‫ص‬
‫تتعذب من �أجل ال�شيطان‪ ،‬هكذا ت�صوم لأجل ال�شيطان‪ ،‬هكذا‬

‫ري‬
‫تتقرب لل�شيطان ويلتفِت لك ال�شيطان‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ويتقرب لها؛ ف�إنهم �إن نالوا هذا‪ ،‬نالوا عند‬ ‫َّ‬
‫ال‬
‫و�إن ال�شياطني تتمنَّى �أن يك ُفر �إن�سان بر ِّبه‬

‫ك‬
‫مكانة ً‬‫ً‬

‫ت‬
‫عالية؛ لأنهم قد �أن�ش�أوا �إن�سِ ًّيا‬ ‫«لو�سيفر» منزلة خا�صة خا�ص اخلوا�ص‪ ،‬ونالوا عند اهلل‬

‫ب‬
‫جدا ممن هم حوله‪ ،‬فتجد ال�شياطني يتج َّم ُعون حول الكافر الذي بد�أ‬ ‫كافرا‪� ،‬سي�ضل كث ًريا ً‬ ‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫اخلطوة التالية؛ الدم‪...‬‬
‫مي�شي طريق ال�سحر وينتظرون منه َ‬

‫ش‬
‫تقر ًبا لل�شيطان‪ ،‬هنا البد �أن‬ ‫أو�صافه‪ ،‬تذبحه ُّ‬ ‫البد �أن تذ َبح �شيئًا‪ُ ..‬يعطيك ال�شيطان � َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫عرفه ب�أ�سمائهم ال�ساحر الذي ع َّلمه ال�سحر‪،‬‬ ‫يذكر الكافر ا�سم �شيطا ٍن ُم َّعي �أو �أكرث‪ُ ،‬ي ِّ‬

‫و‬
‫فيتقرب بالذبح لذلك ال�شيطان‪ ،‬هذا نفعله ك�شياطني لأن الذبح ال يفرت�ض �أن يكون �إال هلل‬ ‫َّ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫تقر ًبا لل�شيطان وعِباد ًة لل�شيطان‪ ،‬ويف كل خدم ٍة ي�ؤديها لك‬ ‫جنعلك تذبحه ُّ‬ ‫الذي خ َلق‪ ،‬لكنا َ‬
‫ال�شيطان البد �أن تذ َبح �شيئًا!‪ ،‬لذلك ترى ال�سحار يطلبون من النا�س بع�ض احليوانات الغريبة‬
‫الأو�صاف مقابل �أن يخدموهم‪.‬‬
‫ثم ي�صري للإن�سان ال�ساحر تاب ًعا �أو توابع من اجلن‪ ..‬يخدمونه ويخدمون من ي�أتِيه‪ ،‬ال‬
‫يراهُ م بعينه � ًأبدا على هيئاتهم اجلنية؛ فعني الإن�سان ال ت�ستطيع ذلك‪� ،‬إمنا يراهم �إذا مت َّث ُلوا‬‫َ‬
‫دخل يف حالة اال�سرتواح؛ وتلك حكاية �أخرى من الأ�رسار‬ ‫بهيئات �إن�سِ َّية‪� ،‬أو يراهم �إذا َ‬
‫العالية‪َ � ،‬‬
‫آتيك بها يف وقتها‪.‬‬

‫‪z‬‬

‫‪133‬‬
‫(‪)5‬‬

‫مالئك نصيبين‬
‫أرعدت فيها غمائم ن�صيبني‪ ،‬فخ َرج كل‬ ‫لي َل ٌة ا�ستَرت منها قمر ن�صيبني‪ ..‬و� َ‬
‫�شاخ�صة �أب�صارهم �إىل‬ ‫َ‬ ‫من فيها من �إن�سان ودابة‪ُ ،‬منت�شرين من ديارهم‬

‫ع‬
‫ال�سماء‪ ،‬ال يكادون ينظرون �إىل �شيء غريها‪ ،‬تعرف يف وجوههم �صب َغة الكارثة‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫يف كل م َّر ٍة ي�شق الرعد وجه ال�سماء تن�شق معه نياط قلوبهم!‪ ،‬كانت ال�شهب‬

‫ال‬
‫ت�ستنري وتل َمع ويرمى بها هنا وهناك ك�أنها زخات ل َهب ُمنهمِ ر!‪ ،‬حتى غلب على‬
‫ظنهم �أن النجوم تزول عن موا�ضعها‪ ،‬وكلما برقت �صفحة الأفق خ ُّروا ُ�س َّجدً ا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ُم َّرغي ر�ؤو�سهم يف تراب ن�صيبني‪ ،‬خا�ضعني لأ�صنام ن�صيبني‪ ،‬الأ�صنام التي‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫تنظر بعيونها احلجرية �إىل �أبواب ال�سماء‪ ،‬وال �شيء �إال احل َرية يع ُلو‬ ‫َبدت وك�أنها ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫مالحمها‪.‬‬

‫ر‬
‫الزمن يف اجلاهلية واملكان بن�صيبني‪ ..‬مدينة ترت َّبع ب�أ�شجارها بني دجلة‬

‫الت‬ ‫و‬
‫والفرات‪ ،‬ووابل من ال�ش ُهب املتتابعة يل َفح ظهر الأر�ض منذ �شهر كامل‪ ،‬وحا َلة‬

‫و‬
‫خ�صو�صا ل�شدة‬‫ً‬ ‫من الفزع احلقيقي زلز َلت �أفئدة �أهل الأر�ض جمي ًعا‪ ،‬والعرب‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أعي مل�ؤها الرعب ليعرفوا �إن كانت هذه‬ ‫جهلهم‪ ،‬كانوا ينظرون �إىل ال�سماء ب� ُ‬
‫النجوم التي يرمى بها يف ال�سماء فتختفي من �أماكنها هي جنومهم التي‬
‫يعرفونها ويهتدُون بها �أم �أنها جنوم �أخرى جمهولة!‪ ،‬ولقد �سجدوا كثريا وذبحوا‬
‫لأ�صنامهم كثريا‪ ،‬وط َّي ُبوها كثريا وز َّي ُنوها كث ًريا ومل يتوقف وا ِبلهم بل زادت‬
‫ح َّدته!‬
‫وقام �أهل ن�صيبني يح ُثون الرتاب من على وجوههم من �أثر ال�سجود‪ ،‬ونظر‬
‫نازل �إليهم من جبل «�إيزال» �شمال‬ ‫بع�ضهم �إىل بع�ض يف َي ْ�أ�س‪ ،‬ف�سمعوا ُمناد ًيا ً‬
‫ن�صيبني؛ كان ي�صيح بكالم مل يتب َّي ُنوه جيدً ا حتى اقرتَب‪ ،‬فلما اقرتب عرفوه‪،‬‬
‫�إنه الق�س «جون داليما»‪ ،‬كان يقول لهم‪:‬‬
‫يا �أهل ن�صيبني‪� ..‬أع ِتقوا من ا�ستطعتم من عبيدكم و�سيبوا ما ا�ستطعتم من‬
‫موا�شيكم ت�سرح يف الأر�ض‪ ،‬وافعلوا ذلك هلل وحده‪ ،‬لع َّل اهلل ير�ضى‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ولو كانوا يف �أيامهم العادية ما كانوا �سمعوا للق�س‪ ..‬فهم و َث ِن ُّيون‪ ،‬لكن �شي ًئا‬
‫ما يف كالمه جع َلهم ال ينامون من لي َلتهم هذه �إال وقد �أعتقَ كثري منهم عبيدهم‬
‫و�س َّي ُبوا موا�شيهم‪ ...‬وم َّرت الليلة والليلتان والثالثة وال�ش ُهب ترمي م�ستعرة‪،‬‬
‫ونزلت عواميد الرعد من ال�سماء ت�ضرب كل ما يقابلها من نخيل با�سقات‪،‬‬
‫فتفجرت وتطاير منها ال�سعف واجلريد‪ ،‬فت�صايحوا بينهم �أن الآلهة �ستُه ِلككم‬ ‫َّ‬
‫من ليلتكم هذه مبا �سمعتم لذلك الق�س املخرف‪ ،‬وكان بينهم َ�شيخ كبري ف�ص َرخ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فيهم �أال تَال َوموا ف�إن الوقت قد �أزف‪ ،‬و�أن ام�ضوا بنا �إىل ذلك الكاهن يف بطن‬

‫ري‬
‫اجلبل‪ ،‬فان له رئ ًيا من اجلن‪ ،‬ولقد كان يعلمنا بجنيه من �أمور الغيب الكثري‪...‬‬

‫ال‬
‫بع�ض يف قلق!‪ ،‬وقال رج ٌل منهم ‪:‬‬
‫فنظر بع�ضهم �إىل ٍ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ �أتق�صد «كني» �صاحب اجلدائل؟‬

‫ب‬
‫َّول ال�شيخُ وج َهه ناح َية اجلبل وقال ‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ نعم‪ ،‬يقولون �أن توابعه من اجلن َتتَّبعه كما تتبع الظالل �أندادها‪ ،‬وما‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫نراه �إال يعظم �آلهتنا‪ ،‬ولن يكون بها علينا غ�ضب‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫كان ي ِقف على حافة اجلبل �ساه ًما‪ُ ..‬يحدِّ ق يف و‬
‫‪z‬‬
‫ال�سماء‪،‬ت ت� ُأخذ الرياح بردائه‬
‫وك�أنها �ستُوقعه‪ ،‬رعد و َبرق و�ش ُهب‪ ...‬لكن كل هذا مل ي ُكن يع ِنويه‪ ،‬فقد �سما ب�صره‬
‫ع‬
‫النجوم كيفما‬‫فوق �أب�صار الب�شر‪ ،‬و�سما فهمه كذلك‪ ،‬فلتغ�ضب الأنواء وتهويزي‬
‫ت�شاء‪ ،‬ف�إمنا هي �أج َرا ٌم حترقها ال�سماء‪ ،‬لكن ما يع�صف َ‬
‫بقلبك هو �أن يغيب من‬
‫وهبت له كل �شيء‪ ،‬نا�صيتَك وكرامتك وروحك ذاتها‪ ،‬ثم غاب ومل ي ُعد‪ ،‬ثالثون‬ ‫َ‬
‫منك الذين عبدتَهم؟‬ ‫يوما‪ ،‬انقطع �صوته‪ ،‬بل �صوتهم‪ ،‬هل �س ِئموا منك؟ هل م َّل َ‬ ‫ً‬
‫منك اجلن؟ �أم �أنهم تواروا من ع�صف‬ ‫�ضج َ‬ ‫وعبدهم كل ذو حك َمة و�س ُمو‪ ،‬هل َّ‬ ‫َ‬
‫هذه ال�سماء‪ ..‬لكن مثلهم ال يتوارى‪� ،‬أم �أنهم هل ُكوا؟ وكيف للأرباب �أن ته َلك! ‪.‬‬
‫كان واقفا بج�سده الهزيل و �شعره الذي يربطه يف جديلتني ‪ ..‬و مل ير �أو يح�س‬
‫بوجود ح�شد من الب�شر يقفون وراءه غري بعيد ‪ ..‬ينادون با�سمه ب�صوت عال ‪..‬‬
‫وك�أن �سمعه قد احتجب ‪ ..‬ثم �إن بع�ضهم اقرتب منه بحذر وهو واقف بثبات‬
‫على احلافة ال يهتز و ال مييل ‪ ..‬مد �أحدهم يده لي�صل �إليه ‪ ..‬لكن الرجل ذو‬
‫‪140‬‬
‫اجلديلتني كان قد رفع يديه �إىل جانبيه ‪ ..‬وتخلى عن ثباته و ترك نف�سه يهوي‬
‫منت�ص ًبا من احلافة ‪ ..‬هرع كل من كان واق ًفا لينظر من احلافة‪ ،‬قال �أحدهم‪:‬‬
‫�ضي علينا‪.‬‬ ‫فتك ذو اجلدائل بنف�سه‪ ،‬لقد ُق َ‬ ‫هلك «كني»‪ ..‬لقد َ‬ ‫ لقد َ‬
‫كان «كني» يهوي ك�أنه �صخرة ُمنت�صبة‪� ..‬أول ثوان من �سقوطه كان يف وعي‬
‫يائ�سا ال مبال ًيا‪ ،‬ثم تب َّدل حاله‪ ،‬لي�س خما َفة املوت فلقد جتاوز هذه‬ ‫كامل وكان ً‬

‫ع‬
‫ب�صر �أمو ًرا مل ي ُكن ليب�صرها‪ ،‬وي�سمع �أ�صواتًا جملجلة‬ ‫املرحلة؛ �إمنا لأنه �صار ُي ِ‬

‫ري‬‫ص‬
‫بو�ضوح �شديد‪ ،‬وك�أن ب�صره �صار � َأح ّد من ال�سيف و�سمعه‪ ،‬وك�أنه ي�سمع �ضحكات‬

‫ال‬
‫تنظر يف كل مكان اتقاء �أ�صحاب‬ ‫جحظت عيناه‪ ،‬و�أ�صبحت ُ‬ ‫�شياطني وهو يهوي‪َ ،‬‬

‫ك‬
‫لي�ست هي ال�سرعة الطبيعية لأي �شيء‬ ‫ال�ضحكات‪ ،‬ثم الحظ �أن �سرعة وقوعه َ‬

‫ت‬
‫يهوي‪ ،‬بل �شعر �أنه كالري�شة التي تتهادى نازل ًة ب ُبطء �إىل الهاوية‪ ،‬ثم فطنَ �إىل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ب�صر‬ ‫احلقيقة‪� ،‬إنه مل ي ُعد يف ج�سده‪ ،‬بل �إن ج�سده الزال يهوي‪ ،‬لكنه ي�سمع و ُي ِ‬

‫ش‬
‫بو�ضوح مل يع َهده‪ ،‬ثم �سمع �صوت ج�سده ي�ضرب �أر�ض الهاوية البعيدة بقوة‬

‫ر‬
‫�ضجيجا عال ًيا‬ ‫ُم ِد ًثا بع�ض ال�ضجيج‪� ،‬إن �سم َعه الذي �صار حادًا جعله ي�سمع‬

‫و‬
‫ً‬

‫الت‬
‫جدً ا لوقوع ج�سده على �أر�ض لي�ست بقريبة ‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫يتخطفه وهو يهوي‪ ..‬بل �أ�شياء؛ �أ�شياء لها كيان‬ ‫َّ‬ ‫حلظات و�شعر ب�شيء‬
‫ووجوه وعيون‪ ،‬تدور حوله‪ ،‬كانت تهزَ �أ به وت�ش َمت‪ ،‬و�إذ به فج�أ ًة يفهم كل �شيء‪،‬‬
‫فاتَّ�س َعت عينا روحه هذه التي تهوي‪ ،‬لقد عا�ش حياته يتق َّرب �إليهم‪ ،‬ع َّلموه كل‬
‫ما يعقله وما ال يعقله الب�شر‪ ،‬كان يراهم كظالل وي�سمع �أ�صواتهم �إذا ح َّدثوه‪،‬‬
‫كانوا يطلبون منه فيفعل ويطلب فيفعلون‪ ،‬وكانوا ي�أتونه بالغيب‪ ...‬و�ض َع ر� َأ�سه‬
‫يف الرتاب �إر�ضا ًء لهم‪� ،‬صار طاغوتًا يفعل كل ما ت�ست�شنعه الفطرة‪ ،‬د َّن َ�س كل‬
‫�شيء ُيقدِّ �سه �أهل الأديان من �أجلهم‪� ،‬آمنَ بهم وتوالهم وهابهم‪ ،‬وبعد هذا ها‬
‫لينظر لهم م ِل ًّيا لأن‬ ‫هم يلت ُّفونَ حو َله ويهز�ؤون‪ ،‬ملاذا يفعلون هذا!‪ ،‬مل يجد الوقت ُ‬
‫�شخ�ص الب�صر �إىل‬ ‫َ‬ ‫ب�ص َره قد �صار فج�أ ًة يتح َّرك رغ ًما عنه‪ ،‬ويف ثان َي ٍة واحدة‬
‫النظر �إىل تلك الناحية‪ ،‬و�صار‬ ‫�شلل قد �أ�صاب روحه و�أجربه على َ‬ ‫الأفق‪ ،‬وك�أن ً‬
‫ح�ض َره املوت‪ ،‬ومل ي َر «كني» �أمو ًرا جيدة �أبدً ا‪.‬‬‫يرى الأمور التي يراها من َ‬
‫‪z‬‬
‫‪141‬‬
‫ يا«كني»‪ ..‬كيف ت ِثق يف َقول من تك َّلم عن اهلل ومل ي َر اهلل!‪ ،‬كيف ت ِثق يا‬
‫ب�شر!‪� ،‬أمل ت َر �إىل حياتهم كيف د َّمرتها �شرائعهم!‪،‬‬ ‫«كني» يف �شرائع و�ض َعها َ‬
‫انظر �إىل �أعالك يا«كني»‪� ،‬إن اهلل لي�س هذا الذي ُيحدِّ َ‬
‫ثونك عنه ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كان واق ًفا عند ذلك الدير امل�سيحي‪ُ ..‬يلقي فيه كل ما ا�ستقذر‪ ،‬ويرمي دماء‬
‫رمز ن�صب فيه‪.‬‬‫الكالب على كل ٍ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ �أما نحن يا«كني» ففي ع ِّليني‪ ..‬نرا ُكم و�أقذاركم وال ت َروننا �أبدً ا‪ ،‬و�إنا‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�سنجعلك م�سموعا يف‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جاعلوك ت�س ُمو �إلينا‪ ،‬وكلما �سموتَ ر�أيت �أكرث!‪،‬‬
‫قومك مبا ُنخربك من الغيب ‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫كان يتذ َّكر �أقوالهم‪ ..‬ويتذ َّكر �أفعا َله‪ ،‬مل يكن ُي�صدِّ قهم‪ ،‬لكنهم كانوا ُيل ُّبون‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�شهواته‪ ،‬و ُي�شبعون ف�ضو َله‪ ،‬لو كانوا يف ع ِّليني ما حت َّي ُنوا غواية �أمثاله‪ ،‬و�إن‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أ�صحاب عليني اليوم من املالئكة مي�سكون بجنبات روحه املُتَّ�سخة وي�صعدون‬

‫ر‬
‫بها �إىل �أعلى‪ ،‬ال يدري �أين يذهبون بها‪ ،‬ظلُّوا به ي�صعدون‪ ...‬حتى �إذا بلغ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫الغمام ر�أى ما �أثار ا�ستغراب روحه!‪ ،‬و�أي �شيء ُيكن �أن ُيثري ا�ستغرابه بعد �أن‬

‫ز‬ ‫و‬ ‫ُك ِ�شف عن ب�صره غطاءه ‪.‬‬

‫يع‬
‫�أج�ساد موتى تت�ساقط من ال�سماء‪ ..‬ت�شتعل منها ر�ؤو�سها‪ ،‬كثرية ُمتف ِّرقة يف‬
‫الأنحاء من حوله تهوي �إىل الأر�ض‪ ،‬بينما هو �صاعد و�سطها‪ ،‬ثم �أتَته �صرخات‬
‫من جهات كثرية‪ ،‬يع ُلو �صوتها كلما ي�صعد‪ ،‬وو�سط الأج�ساد املحرتقة ر�آهم؛‬
‫وجوه مفزوعة ته ِبط هارب ًة �إىل �أ�سفل ما ت�ستطيع تتبعها عواميد من نار‪ ،‬كانوا‬
‫يهربون وي�صرخون!‪ ،‬وكان حماله ي�صعدون به ب�سرعة ثابتة و�سط كل هذا وك�أنه‬
‫كامل قبل �أن ميوت‪،‬‬ ‫ال يعنيهم‪ ،‬والآن تذ َّكر ال�شيء الذي كان ي�ش َغل باله �شه ًرا ً‬
‫وا ِبل ال�ش ُهب الذي ا�ستع َمر ال�سماء‪ ،‬نظر نظر ًة بعيون ُمتَّ�س َعة‪ ،‬مل يفهم من الذي‬
‫يهربون وت�شتعل ر�ؤو�سهم!‪ ،‬ثم نظر نظر ًة بعيون ُمد ّققة يف الوجوه التي تهرب‬
‫أرجل وعيون ومالمح‪� ...‬أج�ساد �سريعة‬ ‫من حوله‪� ،‬إنها �أج�ساد كاملة لها �أياد و� ُ‬
‫جدً ا لكن ال�شهب �أ�سرع منها‪� ،‬أج�ساد يبدو �أنهم لي�سوا بخري‪ ،‬و�أنه قد �أملَّت بهم‬
‫بع�ضا منها قبل املوت تهزَ �أ به‪ ،‬لقد عرف من ه�ؤ‪...‬‬‫مذبحة‪ ،‬وجوه ر�أى ً‬
‫‪142‬‬
‫فج�أ ًة تركه املالئكة الذين كانوا يحملونه‪ ..‬تركوه بعد �أن بلغوا به مبل ًغا بعيدً ا‬
‫يف ال�صعود!‪ ،‬تركوه يهوي وحده‪ ،‬ثم ان�صرفوا عنه‪ ،‬ومل ت ُكن �سرعة هبوطه‬
‫يلحظ م�شهد امللحمة النارية من‬ ‫ك�سرعة �صعوده معهم‪ ،‬بل كانت �أبط�أ!‪ ،‬و�أ�صبح َ‬
‫روحه‬ ‫حوله وقد ظن �أنه �صار جز ًءا منها‪ ،‬و�أن �شها ًبا �سي َقع عليه بعد حني ويث ُقب َ‬
‫ينظر حوله وقد‬ ‫املنتنة التي ي�شم رائحتها منذ �أن �أخرجوها من ج�سده‪ ،‬كان ُ‬

‫ع‬
‫ات�ضح له �شيء من الأمر؛ �إن ه�ؤالء �شياطني‪ ،‬ويبدو �أنهم ملا ر�أوا من �أمر ال�شهب‬

‫ص‬
‫املُنهمِ رة عل ًوا ب�أج�سادهم لينظروا الأمر‪ ،‬ويبدو �أنهم قد �أحيط بهم!‬
‫بحذر‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫هوى «كني» حتى م َّر بن َفر قد ا�ستم�سكوا ببع�ضهم ُمرتعبني‪ ..‬يهبطون َ‬

‫ك‬
‫و�سط �أجواء تبدُو هادئة ال نريان فيها‪ ،‬وملا تراءى لهم «كني» نظروا �إليه‪ ،‬ونظ َر‬

‫ت‬
‫�إليهم‪ ،‬فعرفهم وعرفوه‪ ،‬هم اجلن الذين كانوا يرتاءون له يف حياته كظالل‪،‬‬

‫ب‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫مطبوعة يف ذهنه!‪ ،‬فكان ُيف ِّرق بني ِظل كل واحد منهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لكن كياناتهم كانت‬

‫ش‬
‫�شهاب‬
‫ٌ‬ ‫والآن تراءوا له يف مماته‪ ،‬ر�أى مالحمهم و�أج�سامهم و�أ�شكالهم‪ ،‬ثم بر َز‬

‫و‬ ‫ر‬
‫من الفراغ ك�أنه انبثقَ وانطلق �إىل اجتماعهم فتف َّر ُقوا عنه وم َّر بينهم وظلوا‬

‫و‬ ‫الت‬
‫بحذر وينظرون �إىل «كني» نظرات خاو َية بني الفينة والأخرى‪� ،‬أفلهذا‬ ‫يهبطون َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ِغبتُم �أيها املردة‪� ،‬أومل تكونوا من قبل تتكربون يف عيوننا حتى ا�ست�صغرنا �إىل‬
‫و�صرت ك�أنكم جرذان!‪ ،‬وظ َّل «كني» يه ِبط ويه ِبط‬ ‫جانبكم كل �شيء!‪ ،‬والآن قد ُح ُ‬
‫حتى نز َلت روحه �إىل مو�ضع ج�سده من الأر�ض ‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫أهرام ُم َّر َدة يع ُلوها ال َبحر من كل جانب‪ ..‬ك�أن من م َّردها ال ت�سريه‬
‫يف � ٍ‬
‫قوانني البناء‪ ،‬اجتمعت �أنفار من ع�شرية الرجل حول الرجل‪ ،‬ينظرون �إىل‬
‫�سابحا يف خواطره راف ًعا ب�ص َره �إىل ال�سماء‪،‬‬
‫الرجل �صامتني ك�أنهم قبور!‪ ،‬كان ً‬
‫مل يكن ُيف ِّكر بقدر ما كان يتذكر‪ُ ،‬ي�ض ِّيق عينيه ويتذكر‪ ،‬ع�شريته ُيحرقون‬
‫ويت�ساقطون اليوم من ال�سماء ك�أنهم الذباب امل�صروع‪ُ ،‬يذ ِّكره هذا مب�شاهد‬
‫خارجه وا�شتعل‬
‫ومذابح �شتى يف املا�ضي ال�سحيق‪ ...‬وكلما �أتته الذكرى نبذها َ‬
‫فكره يف هذه الطا َّمة التي �أملَّت به‪ ،‬كان من حوله ينظرون �إليه يف رهبة!‪ ،‬فلم ُير‬
‫‪143‬‬
‫غا�ض ًبا منذ عهد طويل‪ ،‬كان دائ ًما هاد ًئا �ساخ ًرا ال�س ًعا كالأفعى‪ ،‬لكن م�شاعره‬
‫�صا َرت الآن مك�شوفة وال حتمل �إال الغ�ضب‪ ،‬كان يرتدي عباءة مل َّونة ك�أن فيها من‬
‫طويل كان جميل الكيان‪ ،‬خميف املالمح حاد العيون‪،‬‬ ‫كل لون وجد على الأر�ض‪ً ،‬‬
‫ني ر�أَت كل �شيء‪ ،‬ر�أت تقلُّب ال�سماء يف الع�صور‬ ‫حتمل عينه نظرة كال�شفرة!‪ ،‬ع ٌ‬

‫ع‬
‫تنظر عند خلق الإن�سان‪ ،‬وقبل ذلك‬ ‫وحفظت جنومها و�شهبها‪ ،‬عني كانت هناك ُ‬ ‫َ‬

‫ص‬
‫اخلطر‪ ،‬يولد الإن�س واجلن ويهرمون وميوتون وتظل‬ ‫ني �شديدة َ‬ ‫وبعد ذلك‪ ...‬ع ٌ‬
‫�شيطان رجيم ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ني‬
‫ري‬
‫له يف كل لغ ٍة ا�سم‪ ،‬ال‬
‫هي باق َية ُ‬
‫تنظر وترقب؛ ع ُ‬

‫ت‬ ‫عند �أ�صحاب زراد�شت‪ ،‬وهوك‬


‫ويف كل ح�ضار ٍة ر�سم‪ ..‬هو �ست عند �آل فرعون‪ ،‬و�أهرميان‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لو�سيفر‪� ،‬أمري النور‪ ،‬بني عينيه ِكرب وتعال‪ ،‬مل ي َره‬

‫ش ثم َ‬
‫وقف اليوم �أمام �صرحه وعر�شه‪ ،‬ينظر‬
‫يف النجوم التي تهوي‪ ،‬و�إىل ع�ش َريته التي ن‬
‫�أحد ولكن الكل يع َلم �أنه موجود‪ ،‬وقد‬

‫ر و�وألقت ظالال على الأر�ضية‬


‫ا‬
‫التفت �إىل خا�صته يريد �أن‬ ‫تفنى‪،‬‬

‫طوابريومن اجلن‪ ،‬يدخلون‬


‫ل‬
‫ت�شي مبا خلفها‪ ،‬فا�ستدار الكل �إليها‪ ،‬فوجدوا عندها ت‬
‫يقول �شي ًئا غا�ض ًبا!‪ ،‬لكن بوابة كانت وراءهم َ‬
‫انفتحت‬

‫زض�آي َلةع اختالفات‬


‫منها مي�شون الهوينى ك�أنهم فيا ِلق!‪ ،‬تعرف �إذا ر�أيتهم مدى �‬
‫ومعا�شر وفئات‪ ...‬نظر �إليهم �أمري‬
‫ِ‬ ‫بني الإن�سان‪� ،‬إنهم هنا ف�صائل وطوا ِئف‪،‬‬
‫ابي�ضت من الغل‪ ،‬وقال ُجم َلة واحدة ‪:‬‬
‫النور بعيون َّ‬
‫ �إن يف الأر�ض حد ًثا قد و َقع‪ ،‬تل َّب َدت به الغيوم وترامت له ال�شهب!‬
‫خ َّيم ال�صمتُ على ال ِأل�سنة والأفهام‪ ...‬فقال‪:‬‬
‫بلدة وال‬
‫فجا وال َ‬
‫ و�إنكم �ست�ضربونَ م�شارِق الأر�ض ومغاربها‪ ،‬ولن ترتكوا ًّ‬
‫أتون باليقني‪.‬‬
‫حا�ضرة �إال ونزلتُم فيها‪ ،‬حتى ت� ِ‬

‫‪144‬‬
‫وخرجوا من عنده يتف َّرقون يف الأر�ض بدوابهم ورواحلهم‪ ،‬يبحثون يف الأر�ض‬
‫خيط واحد يد ّلهم �إىل ال�صواب‪ ،‬كانت‬ ‫عما �أغاظ ال�سماء‪ ،‬كانوا يبحثون عن ٍ‬
‫لعذاب‬
‫معا�شر اجلن تتناقل بينها �أن ال�سماء ال ترمي هكذا �إال لأحد �أم َرين؛ �إما ٍ‬
‫ر�سله �إليهم‪ ...‬وبرغم �أن ال�سماء‬
‫ُي ِنزله اهلل على �أهل الأر�ض‪� ،‬أو لنبي يب َعثه و ُي ِ‬
‫قد هد�أَت بعد �شهر كامل وعا َدت �إىل طبيعتها الوديعة �إال �أنهم مل تكن يعنيهم‬

‫ع‬
‫هدوءها‪ ،‬كان ما يعنيهم هو �سبب ثورتها يف ذلك ال�شهر‪ ،‬ولقد دخلوا �إىل كل‬

‫ص‬
‫مدينة وقرية وباد َية وجنع على ظهر الأر�ض‪ ،‬وبني هذه الأفواج اجلنية كلها‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫فوج واحد هو الذي عرف احلقيقة و �أتى باخلرب اليقني‪ ،‬فوج كانوا من �أعايل‬
‫و�أ�شراف جن ن�صيبني‪ ،‬من تلك الطائفة التي ُيعرفون بني باقي اجلن با�سم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫املالئك‪ ،‬وكان عددهم �سبعة‪ ،‬وكانت طوائف من الإن�س يف تلك البالد تع ُبدهم‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و ُتقدِّ �سهم وتتق َّرب لهم‪ ،‬غري عاملني ب�أن مالئك ن�صيبني قد غابوا و�ساحوا يف‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫الأر�ض‪ ،‬و�أنهم نزلوا من ن�صيبني يبحثون يف بالد ما بني النهرين ويف ال�شام‬

‫ر‬
‫�سطرتها مكاتيب‬‫واجلزيرة العربية‪ ،‬و�أنهم دخلوا كل القرى‪ ،‬و�أن حكايتهم قد َّ‬

‫و‬
‫‪ z‬الت‬
‫اجلن َ‬

‫و‬
‫وحفظتها القرون ‪.‬‬

‫ع‬ ‫ز‬
‫ارتف َعت عقائرهم بالغناء‪ ..‬وكان للهيب نريانهم �صوت‪ ،‬يوكانوا يدُورون‬
‫َ‬
‫بع�ضا منهم‬ ‫حولها كاملحمومني‪ ،‬ثم حدثت خلخلة يف تناغم حركتهم وتبني �أن ً‬
‫قد ان�شغلوا بعمل �شيء ما يف منت�صف الدائرة‪ ،‬ثم خرج بع�ضهم من الدائرة‬
‫ور�شوه مباء الورد‪،‬‬‫غطوه برداء �أحمر فاخر ُّ‬ ‫جل �أ�س َود وقد ُّ‬
‫وهم ي�سحبون ِع ً‬
‫ثم اندفعت بع�ض الأيادي ُتثبت رق َبة العجل و� ٍ‬
‫أياد �أخرى تذ َبحه‪ ،‬و�أياد ترفع‬
‫ر�أ�سه وتلوح به �إىل ُظلمة الوادي الذي نزلوا فيه يف ن�صيبني‪ ،‬لقد ذبحوه تق ُّر ًبا‬
‫للمالئك‪ ،‬يا �سادة ن�صيبني ك ُّفوا عنا �شروركم و�شرور هذا العامل‪ ،‬نعوذ بكم من‬
‫�سوء ما ُتقدِّ ره لنا الدنيا ‪.‬‬
‫كانوا ينظرون �إىل الوادي وال يرون �شي ًئا!‪ .‬ال ي�سمعون �إال �صوت العزيف‪،‬‬
‫ويقولون �أنه �صوت اجلن‪ ،‬ينظرون �إىل الوادي ويعرفون �أن اجلن ي�سكنون فيه‪،‬‬
‫‪146‬‬
‫وال يدرون كيف هي هذه ال�سكنى‪ ،‬هل لهم بيوت �أم ق�صور �أم �أنهم ي�سكنون بني‬
‫ثنايا التجاويف‪ ،‬يعبدون اجلن خما َف ًة منهم ال ُح ًّبا‪ ،‬يذبحون لهم يف كل عام‬
‫مرة‪ ،‬يف ليلة ينطلقون فيها �إىل �أكرب واد من �أود َيتهم‪ ،‬ويختارون �أو َفر عجولهم‬
‫حل ًما ويذبحونه وال ي�أكلونه بل يرمون ج َّثتَه �إىل ُظلمة الوادي‪ ،‬حتى تر�ضى عنهم‬
‫املالئك‪ ،‬و�إن املالئك عاد ًة ت�شهد هذه الليلة‪ ،‬وينظرون �إىل هذا النج�س الفكري‬

‫ع‬
‫ويتكبون ‪.‬‬
‫الإن�ساين ويتعاظمون يف �أنف�سهم ّ‬

‫ري‬‫ص‬
‫كان ثالثة من مالئك ن�صيبني حا�ضرين يف تلك الليلة بهيئاتهم ال�شيطانية‬

‫ال‬
‫احلقيقية التي ال تراها �أعني الإن�س‪ ..‬ولي�ست الهيئات اجلنية ال�شيطانية ُمي َفة‬

‫ك‬
‫جتد بع�ضهم �أكرث مها َب ًة من‬ ‫يف حقيقتها بل هي مثل جميع خلق اهلل املرئي‪ِ ،‬‬
‫أعي الب�شر ال تراهم �إال‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫بع�ض‪ ،‬وبع�ضهم �أكرث غرا َب ًة من بع�ض‪ ،‬وبرغم �أن � ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫أعي العجل‬ ‫متاما بالن�سبة لبع�ض احليوانات والطيور‪ ،‬ولقد كانت � ُ‬ ‫�أنهم مرئيني ً‬

‫ش‬
‫تراهم قبل �أن يذبح‪ ،‬كان الثالثة واقفني يف الهواء بثبات ك�أنهم الطري اخلافق‪،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫و�إن كان حلركتهم يف الهواء �إذا م�ضوا فيه �صوت ُم َّيز ك�أنه الع�صف �أو الن�سيم‬

‫و‬
‫ال ت�سمعه �آذان الب�شر ‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫كان �أحدهم عظيم اجل�سم‪ُ ،‬ب ِّني الب�ش َرة �أحمر ال�شعر طويله‪َ ،‬كثّ اللح َية‬
‫مر طويل‬ ‫احلمراء‪ ،‬له مالمح حف َر فيها الزمان كثريا من احلفر مما يدل على ُع ٍ‬
‫وحكمة‪ ،‬كان ا�سمه «الأرقم»‪ ،‬ويبدو �أعالهم �ش�أ ًنا‪ ،‬نظر �إىل الراق�صني ب�شيءٍ‬
‫ال�سخرية الرا�ضية وقال لرفيقيه‪:‬‬ ‫من ُ‬
‫ هل تريان ما �أرى؟ �إن الكائنات الب�شرية �أكرث غبا ًء من العجول التي‬
‫يذبحونها ‪.‬‬
‫ر َّد عليه الذي على ميينه وكان ا�سمه «�إنيان» وكان �شا ًبا و�سيم املالمح ذا‬
‫ب�صوت هاديء‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫�شعر �أ�ش َقر مرتفع ورداء بهي فتَّان‪ ...‬قال‬
‫ �إن هذه طوائف جاهل َّية بدو َّية‪ ،‬ل ُر َّبا كان �أ�صحاب احل�ضارة �أكرث حظا‬
‫من العقل عن ه�ؤالء‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫قال الأرقم‪:‬‬
‫ ما ر�أيت �أ�صحاب احل�ضارة �إال يفعلون كما يفعل �أ�صحاب اجلاهلية‪،‬‬
‫بل �إنهم يزيدون ويب ُنون ال�صروح ملن يتق َّربون لهم‪� ،‬أمل ت َر من ه�ؤالء يا‬
‫«طيفون»؟‬

‫ع‬
‫نظرا �إىل �صاحبهما الثالث «طيفون» طل ًبا لر�أيه‪ ،‬وبرغم �أن هيئة «طيفون»‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫من بينهم كانت هي املرعبة بكيانه الذي يحيطه اللهب الأزرق وعينيه اللتان‬
‫عب‬ ‫كحفرتني �سوادوتني‪� ،‬إال �أن «طيفون» كان ُ‬
‫ينظر �إىل ال�سماء ب ُر ٍ‬ ‫تبدوان ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ارت�سم يف �شكل عينيه‪ ،‬فنظرا �إىل ما ُ‬
‫ينظر‪ ،‬ف�إذا ُ�ش ُهب تت�ساقط من كل‬ ‫حقيقي َ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مكان‪ ،‬كانت هي الليلة التي غزَ ت فيها ال�شهب �سماء الأر�ض‪ ،‬وانتقل الرعب �إىل‬

‫ش‬
‫نفو�س ثالثتهم‪ ،‬لأنه ومن بني ال�شهب املت�ساقطة‪ ،‬برزت �أج�ساد من اجلن ت�سقط‬

‫و‬ ‫ر‬
‫والحظ الإن�س ا�ضطراب ال�سماء بعد �أن ذبحوا ا ول‬
‫جريحة وجثث من اجلن ت�سقط ميتة! ‪.‬‬

‫زيلهم وتق ّربهم‪،‬‬


‫عجلهم فهاجوا وماجوا‬ ‫ت‬
‫انتباههم عن‬‫فان�شغل الإن�س باجلن‪ ،‬وان�شغل اجلن بال�سماء‪ ،‬حتى حدث ما ح َّو َل ع‬
‫تو�س‬
‫وخروا على ذقونهم وظنوا �أن اجلن قد غ�ضب‪ ..‬و�أكرثوا يف ّ‬

‫ال�سماء وجعلهم ينظرون ناح َية َ‬


‫الب�شر‪.‬‬
‫حدث �أن كل الطيور يف املنطقة قد طارت فج�أة بعيدً ا عن َ‬
‫الب�شر املجتمعني‬
‫حول النار!‪ ،‬وهربت �أح�صنتهم و�أنعامهم بعيدً ا عنهم وغادرهم كل حيوان يدب‬
‫على الأر�ض كان قري ًبا منهم‪ ،‬ثم انطف�أت نارهم‪ ،‬ووقعت قلوبهم �إىل �أ�سفلهم‪،‬‬
‫ونظر �إليهم الثالثة من اجلن يف ا�ستغراب‪ ،‬حتى تب َّي ُنوا الأمر‪ ،‬ف�صاح «�إنيان»‪:‬‬
‫ ت َّبت �أيادينا‪� ..‬ألي�س هذا‪...‬‬

‫‪148‬‬
‫قاط َعه «الأرقم» ُمي ًبا‪:‬‬
‫ ميتاترون‪.‬‬
‫الب�شر قد بد�أوا يج ُرون هنا وهناك هاربني من املجهول الذي هر َبت‬ ‫كان َ‬
‫منه حيواناتهم‪ ..‬ومن بني �أج�سادهم التي تتف َّرق هنا وهناك ظه َرت ثالثة‬

‫ع‬
‫كيانات �شيطانية مت�شي ببطء‪ ،‬يتو�سطهم �أعالهم منزل ًة‪ ،‬ويبدو �أنه هو‬

‫ص‬
‫أح�ست به‪« ،‬ميتاترون»‪� ،‬شيطا ٌن مارد ُمنب ِعث من‬ ‫�سبب هروب احليوانات ملا � َّ‬

‫ال‬
‫اجل�سد ذه ِب ّي ال�شعر كبري اجلناحني‪ ،‬يرافقه ما ِر َدين؛‬
‫ري‬
‫عند «لو�سيفر»‪ِ ،‬ف ّ�ضي َ‬
‫«بيليعال»و«�سيدوك»‪ ،‬واملر َدة �أ�شد اجلن قوة‪ ،‬يليهم العفاريت ثم املالئك ثم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الأرواح‪ ،‬ويف جبال ن�صيبني يف تلك الليلة‪ ،‬التقى ثالث ٌة من املر َدة مع ثالثة من‬
‫انزلوا من ن�صيبني �إىل جزيرة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫املالئك‪ ،‬وبلغ املردة ر�ساالت «لو�سيفر»‪� ..‬أن ِ‬

‫ش‬
‫خرج فيها‬ ‫نزل بها عذاب �أو َ‬‫العرب‪ ،‬فانظروا يف �أحوال �ساكنيها‪� ،‬إن كان قد َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫نبي‪ ،‬و�إنا معكم نازلون‪.‬‬

‫و‬
‫قال «�سيدوك» وكان �شيطا ًنا �أ�سودًا ُمي ًفا ِ ً‬
‫كالا له �شعر �أبي�ض طويل‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ لكن بل َغنا �أن يف ن�صيبني ج ِّني ًة يقال لها «ما�سا»‪ ..‬ولقد �سمعنا عنها‬
‫�سماعات ونحن نازلون �إلي ُكم فيها من العجب ما جعلنا نعمل النظر يف‬
‫اال�ستعانة بها قبل �أن ننزل‪.‬‬
‫قال له«�إنيان»‪:‬‬
‫ هي يف جبال كا�شياري �شمال ن�صيبني عند َنهر ُي�س ِّميه الأهايل با�سمها؛‬
‫نهر ما�سا‪.‬‬
‫قال «�سيدوك» بحزم ‪:‬‬
‫ �ستكون هي �سابعتنا ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫«ما�سا» جنية من طائفة الأرواح‪ ،‬فاتنة املالمح‪ ،‬ك�أن ح�سنها ي�ضيء يف الليل‪،‬‬
‫طويل ين�سدل خلفها ك�سال�سل احلرير‪ ،‬و�صفها الأهايل‬ ‫مت ِلك �شع ًرا �أ�سودًا ً‬
‫أو�صاف �شتى و�أنها �إذا ظهرت لأحدهم ف�أن هذا يعني �أن �أحدً ا من �أهله‬ ‫ب� ٍ‬
‫�سيموت‪ ،‬ويف هذا حمق و�سخف �شديد‪� ...‬إن �أ�سماء اجلن وال�شياطني وحكاياتهم‬
‫عاد ًة ما تت�س َّرب �إىل النا�س من �أبناء الكهنة وخا�صتهم‪� ،‬أو من الكهنة �أنف�سهم‪،‬‬
‫وعادة ما يزيدون يف الق�ص�ص مل�سات ب�شرية ركيكة‪« ،‬ما�سا» ال تظهر لأحد‪ ،‬لكن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فيها موهبة جعلت ا�سمها ي�شتهر بني اجلن يف ن�صيبني وما حولها‪ ،‬كان ميكنها‬

‫ري‬
‫�أن ترى ملحات من ما�ضي مكان �إذا م َّرت بذلك املكان‪ ،‬ت�أتيها اللمحات بال ط َلب‬

‫ال‬
‫منها‪ ،‬ت�أتيها كنو َبة �شديدة مت�سك فيها ر�أ�سها وتغم�ض عينها وترى م�شاهد مما‬

‫ك‬
‫حدث كما حدث‪.‬‬
‫ن�سد ًل‬
‫ت‬
‫كانت واقفة هناك عند نهر ا�سمه مكدونيو�س‪ ،‬وال�شعر كالليل ُم ِ‬

‫ب‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ما�ض �سحيق‪� ،‬أيام كانت طفلة ت ِقف نف�س الوقفة على‬ ‫وراءها‪ ،‬ت�أتيها ر�ؤى من ٍ‬

‫ش‬
‫ال�شيب ر� َأ�سه يقف بجوارها ومي�سك بيدها بعناية‪ ،‬كانت‬ ‫ُ‬ ‫نف�س النهر‪ ،‬ورجل غزا‬

‫ر‬
‫تنظر �إىل فت َية يلعبون عند النهر يرمون املاء العذب على بع�ضهم البع�ض‪...‬‬ ‫ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ب�شر على عينهم‬ ‫قالت له يا �أبت ما بال ه�ؤالء ال�صبية ال يروننا؟ قال‪ :‬لأنهم َ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫غطاء يا بنيتي‪ ..‬قالت يا �أبت ومن و�ضع عليها الغطاء؟ قال‪ :‬اهلل‪ ..‬قالت‪ :‬وما‬

‫يع‬
‫اهلل؟ قال‪ :‬اهلل الذي خل َقنا من نا ٍر �سامية وخلق ه�ؤالء من طني مهني‪ ..‬قالت‬
‫�إذن �أين اهلل؟ قال‪ :‬اهلل يف ال�سماء ‪.‬‬
‫كان الفتية قد �أتى �آبا�ؤهم ل ُيخرجوهم من النهر‪ ..‬نظ َرت �إليهم وت�أ َّم َلت ثم‬
‫قالت‪ ،‬وهل ه�ؤالء يعرفون اهلل؟ قال‪ :‬كل ما يعرفونه عن اهلل كذب يخدعهم بها‬
‫�أنبيا�ؤهم‪ ..‬قالت ومن �أنبيا�ؤهم؟ قال هم قوم منهم يكون بهم لوثة يف عقولهم‬
‫يتح َّدثون عن اهلل ومل يروه‪ ..‬قالت‪ :‬وهل ر�أينا نحن اهلل؟ قال‪� :‬إن اهلل مل ي َره من‬
‫اجلن والإن�س �إال واحد‪ ،‬هو اخلالد املخ َّلد �أمري النور «لو�سيفر»‪ ،‬هو وحده اخلالد‬
‫والب�شر يفنون‪ ،‬هو وحده عرف اهلل وح َّدثه‬ ‫وكل من عداه يفنى‪ ،‬فنحن نفنى َ‬
‫و َر�آه‪ ،‬فهو وحده الذي حديثه �صدق عن اهلل‪ ،‬وكل من عداه يكذبون ويهرفون مبا‬
‫ال يعرفون‪ ،‬من ذا الذي يف عق ِله ج َّنة ل ُي�صدِّ ق ً‬
‫رجل فان ًيا يتح َّدث عن اهلل‪� ،‬إمنا‬
‫ُن�صدِّ ق من هو خالد ال ميوت‪ ،‬خلق يف �أول الزمان وبقي وتعاقبت عليه الأجيال‬
‫ور�أى كل �شيء ر� َأي العني‪� ،‬إمنا نحن ُن�صدِّ ق «لو�سيفر»‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫كانت واق َف ًة هناك عند نهر مكدونيو�س و�ستة �شياطني يقرتبون منها يف‬
‫عزم‪ ..‬ويف وجود �شياطني مثل «ميتاترون» و«بيليعال» كان احلديث مع اجلميلة‬
‫كارهة‬
‫تخذا �صفة الإجبار �أكرث من الإقناع‪ ،‬ولقد احتدت معهم وهي َ‬ ‫«ما�سا» ُم ً‬
‫لهم وما يعزمون‪ ،‬ونزل ال�سبعة من جبال كا�شياري �إىل اجلنوب‪ ،‬كانوا ينزلون‬
‫يوما‪ ،‬ينزلون‬
‫و�سط القرى بهيئات ب�شر َّية كم�سافرين‪ ،‬يقيمون يف كل بلدة �أربعني ً‬
‫على النا�س �ضيو ًفا وي�س�ألونهم‪ ،‬يح�ضرون �أ�سواقهم و�أفراحهم‪ ،‬ولقد كان‬

‫ع‬
‫جميل‪ ،‬لأن مه َّمتهم تبغي �أن يت�شكلوا يف الهيئة الب�شرية فرتات طويلة‬ ‫�صربهم ً‬

‫ص‬
‫من الزمن‪ ..‬واجلن �إذا ت�ش َّكل يف �أي هيئة مادية ف�إنه ي� ُأخذ �صفات هذه الهيئة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫املادية ويف ِقد كل خوا�صه اجلنية‪ ،‬والهيئة اجلنية ال ت�ص ُلح ل�س�ؤال النا�س لأنها‬
‫والتج�س�س‪...‬‬
‫ُّ‬ ‫خمفية عن عيون الب�شر وعن �أ�سماعهم‪ ،‬ال ت�صلح �إال لال�ستماع‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ولقد كانوا ي�ستخدمونها �إذا �أرغمتهم الأحوال‪.‬‬

‫ب‬
‫ن�صب وال ك َلل‪ ،‬كانوا‬

‫ل‬
‫انق�ضت �شهورها يف الرتحال‪ ..‬ومل ُي ِ�صبهم َ‬ ‫�سنواتٌ َ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ينامون كما ينام اجلن حتى تغرب ال�شم�س‪ ،‬ف�إذا غربت خرجوا‪ ،‬ف�إذا طلعت‬

‫ش‬
‫رجعوا �إىل م�ساكنهم!‪ ،‬كان �أول نزولهم �إىل الأنا�ضول‪ ،‬موئل الروم‪ ،‬وكان هرقل‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ان�صرمت وهم يدورون يف بالد الروم يعي�شون‬ ‫عظيمها‪ ،‬ثالث من ال�سنوات‬

‫الت‬
‫َ‬
‫و�سط املُزارعني يف �أكواخهم‪ ،‬وحول الأغنياء يف ق�صورهم‪ ،‬خابت م�ساعيهم‪،‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫ترميهم قرية �إىل قرية‪ ،‬مل ميروا بقرية �إال وهي يف �أح�سن حال‪ ،‬لي�س فيها‬
‫خ�سف �أو مر�ض �أو لعنة‪� ،‬أو نبي ‪.‬‬
‫عقائد النا�س م�سيحية كلها‪ ،‬ال �أحد يتحدث �إال عن الفر�س وخطر الفر�س‬
‫الذين �سيقتحمون البالد ويذيقونهم �صنوف الويل‪ ،‬ثم نزلوا �إىل ال�شام ثم �إىل‬
‫العراق‪ ،‬وكانت كلها داخل امرباطورية الروم املتباعدة‪ ،‬وكان حظهم يف �شامها‬
‫احلول ودخل الفر�س على الروم و�أذاقوا الروم‬ ‫وعراقها �أ�سو�أ مما كان‪ ،‬وم َّر َ‬
‫�صنوف الويل وغلبوهم �شر غل َبة‪ ،‬وا�ستمر الفر�س يزحفون على �أر�ض الروم‬
‫ي�أكلون الأرا�ضي حتى م َّرت من ال�شهور �سبعة‪ ،‬وهبط ال�سبعة من الروم �إىل‬
‫فار�س‪ ،‬وبقوا يدورون ويجولون فيها‪ ،‬حتى كاد حولهم �أن يرتخي‪ ،‬وكاد جهدهم‬
‫�أن ين�ضب‪.‬‬
‫مكان �آخر من �أر�ض هذه الدنيا‪ ،‬جني‬ ‫حظا‪ ..‬يف ٍ‬ ‫لكن ج ِّن ًيا واحدً ا كان �أكرث ً‬
‫واحد كان يبحث وحده‪ ،‬ما هو من املالئك وما هو من الأجناد‪� ،‬أ�صفر ال�شعر‬
‫رمته اخلطوب من بالد اليمن �إىل تهامة‪،‬‬ ‫الم َعه طويل الأهداب و�سيم املالمح‪َ ،‬‬
‫‪152‬‬
‫ينظر �إىل مرامي النار يف ال�سماء واجلن‬ ‫جني ا�سمه «عمرو بن جابر»‪ ،‬وقف ُ‬
‫ي�سقطون منها حوله كالفرا�ش املح ِرتق‪ ،‬وم�شى و�سط اللهب املنهمر ناظ ًرا �إىل‬
‫قبة ال�سماء ي�ساءل نف�سه‪ ،‬احلرية �أحارت قلبه‪ ،‬فت�صاعد طائ ًرا بني النريان‬
‫ينظر هنا وهناك �إىل كارثة �أر َدت �ألو ًفا من بني ال�شيطان‪ ،‬وحتادث اجلن �أن‬
‫يف الأر�ض �أفواج من اجلند واملالئك‪ ،‬نزلوا ليتب َّي ُنوا ويبحثوا‪ ،‬ف�إن لهذا الأمر‬
‫�ش�أن‪ ،‬وجمامع حكماء اجلن يجودون الر�أي الذي يقول �أنه نبي من الب�شر‬

‫ع‬
‫خرج ليتح َّدث عن اهلل‪ ،‬ورب ال�سماء يغ�ضب �إذا حتدث الب�شري املحدود عن‬

‫ص‬
‫اهلل‪ ،‬فلي�س يف الأر�ض نبي يتكلم عن اهلل �إال لو�سيفر اجلني القدمي الأبدي‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫َ‬
‫فانتف�ض قلبه ملا‬ ‫الذي ال ميوت‪� ،‬أما الب�شر ف ِبئ�س الكائنات هم‪� ،‬أما «عمرو»‬
‫�سمع تف�سريهم‪ ،‬و�أ�سقط منه كل الكالم �إال كلمة واحدة‪( ،‬نبي)‪ ،‬لقد �آن َ‬
‫لقلبك‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يبتهج‪ ،‬حتى ه�ؤالء قد عرفوا خروج النبي الأحمد‪ ،‬وكل‬ ‫املحزون يا «عمرو» �أن ِ‬
‫ما َ‬

‫ب‬
‫عرفت البقعة التي �سيخرج فيها‪،‬‬
‫َ‬ ‫ت�صل �إليه قبلهم‪ ،‬ولقد‬
‫عليك فعله هو �أن ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫(تهامة)‪� ،‬أما ه�ؤالء الأجناد فال يعرفون بعد‪.‬‬

‫ش‬
‫‪z‬‬
‫‪z‬ر الو‬
‫مالئك نصيبين‬

‫و‬ ‫ت‬
‫ع‬ ‫زي‬
‫أوقدت م�شاعل عيد الكافرين ورفعت بها املعا�صم والأيادي لل�سماء‪ ..‬و�أنزلت‬
‫ال�سماء من فوقهم �أ�ستا ًرا للغروب خم�ضبة بحمرة ال�شفق‪ ،‬واجتمع الأ�صاغر‬
‫والأكابر عند كعبة الرب لينظروا �إىل الرب‪ ،‬يف �أح�سن ثيابهم وعطورهم‪،‬‬
‫� َ‬

‫ف�إن الرب اجلليل �صاحب القداح خارج عليهم اليوم من �أعلى الكعبة‪ ،‬وتع َّلقت‬
‫الأنظار وهفت القلوب وخ�ضعت الوجوه‪ ،‬ثم ارتفعت امل�شاعل فج�أة كلها و�أ�شرف‬
‫عليهم الرب �صاعدً ا من جوف الكعبة‪� ،‬أحمر مهيب العار�ضني ذو حلية عليه‬
‫وتاج‪ ،‬فتعاظم قدره يف القلوب من ُح�س ِنه ودقة تكوينه‪ ،‬وعلت �أ�صوات الكافرين‬
‫تقول لبيك اللهم لبيك‪ ،‬لبيك ال �شريك لك لبيك‪� ،‬إال �شري ًكا هو لك‪ ،‬متلكه‬
‫برتنيم يوحي‬
‫ٍ‬ ‫اعل هبل‪ ،‬اع ُل هبل‪ ..‬وقالوها‬
‫وما ملك‪ ...‬ثم هتفوا‪ :‬اع ُل هُ َبل‪ُ ،‬‬
‫بالعظ َمة ‪.‬‬
‫حلزنني �أبكى‪،‬‬ ‫وم�شى و�سطهم واحلزن يف �صدره �أثقال‪ ..‬لي�س يدري �أي ا ُ‬
‫فقدها‪� ،‬أم �صنم من عقيق �أحمر قد ت�ص َّدر فوق �سطح الكعبة‪ ،‬وكانت‬ ‫زوجة قد َ‬
‫لثامة قد ل َّفها على وجهه تخفي كل هذا وهو مي�شي بني امل�شاعل متج�سدً ا يف‬
‫‪153‬‬
‫هيئة بني �آدم‪ ،‬مل تنجح اللثامة يف �إخفاء ُ�ش ْق َرة �شعره وحاجبيه‪« ،‬عمرو بن‬
‫جابر»‪ ،‬الغريب الوحيد؛ ُغر َبة الأهل وغربة الدين‪ ،‬ولي�س يعنيه يف هذا البلد �إال‬
‫�أن فيه فت َية من �أوالد «غالب بن فهر بن مالك»‪ ،‬ع�شرون �سنة ق�ضاها يتبعهم يف‬
‫تهامة من �أعالها �إىل �أ�سفلها‪ ،‬من عند ما �سال من احلرتني �إىل �أ�سياف البحر‬
‫حتى �أطراف اليمن‪ ،‬حتى �أتى �إىل �آخر بقعة يف تهامة‪( ،‬مكة)‪ ،‬ولقد تناثر فيها‬
‫كثري من �أوالد غالب‪ ،‬كثري جدا‪ ،‬فبني �أمية كلهم من �أوالد غالب‪ ،‬وبني عدي‪،‬‬

‫ع‬
‫وبني ها�شم‪ ،‬وبنو تيم‪ ،‬وبنو زهرة‪ ،‬وبني خمزوم‪ ،‬و�أغلب بطون قري�ش‪ ،‬ف�أ�صبح‬

‫ص‬
‫ينظر �أحوالهم وما يعبدون وما يقومون عليه وما يت�أ َّملون‪،‬‬ ‫يجول فيهم ويطوف‪ُ ،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫َ‬
‫ف�إن «�أحمد» من بني �أ�صالبهم قد طلع جنمه و�أق َمر‪ ،‬وتخطو �أقدامه على هذه‬
‫الأر�ض اليوم‪ ،‬ولو �أن جبال تهامة كلها قد �أثقلت �شو ًقا‪ ،‬ما بلغ ذلك �شيء مما‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يف قلب «عمرو» �إىل ر�ؤ َيته‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫بطن من بطون تهامة‬ ‫اال�سم «�أحمد» ولي�ست العرب ت�سمي �أحمد‪ ،‬وال يف �أي ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫واليمن ‪..‬فلي�س هذا ا�سمه‪� ،‬إمنا هي �ص َفته و ُكنيته‪ ،‬والأحمد هو من حت َّلى‬

‫ش‬
‫ينظر �إىل‬‫النا�س من َحمده‪ ،‬فلم يكن «عمرو بن جابر» ُ‬ ‫ب�أف�ضل ال�صفات ف�أك َرث ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�أ�سماء الرجال‪ ،‬بل كان ينظر �إىل الأكرمني منهم‪ ،‬ولي�س �أي كرمي من الأكرمني‪،‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫بل �إىل نبي زكي‪ ،‬بهي ال�صورة والكالم‪ ،‬ال يع ُبد �صن ًما وال يتق َّرب له‪ ،‬بل يع ُبد‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الرحمن حتى قبل �أن ي�صطفيه الرحمن بالنبوة‪ ،‬ع�شرون �سنة ينزل يف تهامة‬
‫ويرتل‪ ،‬يبحث يف القائمني والقاعدين‪ ،‬لعله يراه‪ ،‬فلم ي َر �إال ما يظلم الوجه‪،‬‬ ‫َِ‬
‫وجن يعبدون يف الأودية‪ ...‬حتى �أتى ذلك العيد‬ ‫جنوم و�أنواء و�أ�صنام وكواكب ِ‬
‫ً‬
‫يف مكة بعد ع�شرين �سنة‪ ،‬وحتت ر�أ�س هبل‪� ،‬سمع ب�أذنه اجلنية حديثا مل ي�سمعه‬
‫ينظر بعينه‬ ‫وقف مبهوتًا بني امل�شاعل ُ‬ ‫�سحيق!‪ ،‬حتى َ‬ ‫أمد ِ‬ ‫من بني الإن�سان منذ � ٍ‬
‫�إىل م�صدر احلديث‪.‬‬
‫كانوا �أربعة‪ ،‬والنور من عقولهم يغلو على �ضوء امل�شاعل‪ ،‬ودار بينهم حوار‬
‫�أملعي و�سط كل هذا اجلهل‪...‬‬
‫قوما قد ت�صاغ َرت عقولهم‪� ،‬أ َّمن خلق ال�سماوات والأر�ض وخلقكم‪،‬‬ ‫  �أيا ً‬
‫أفتد ُعونه وتعبدون ما خلقتُم ب�أيديكم؟‬ ‫� َ‬
‫ينظرون �إىل حجا َرة ال�صنم يف عبادتهم‪� ،‬إمنا‬ ‫علمت �أن القوم ال ُ‬ ‫ �أما َ‬
‫يكون احلجر رمزًا لإله قد تعاىل يف ال�سماء وا�ستفحل‪.‬‬
‫  �إمنا هي �أ�صنا ٌم ُتك َّنى ب�أ�سماء �آلهة ت�ضارع اهلل يف ال�سماء ‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫ ومن خلقَ هذه الآلهة؟ �ألي�س هو اهلل؟ �أيخ ُلقها ب َيده ثم ُت�ضارعه وتغالبه؟‬
‫�أفال يعقلون؟‬
‫لي�ست خملوقات‪،‬‬ ‫ لي�س اهلل الذي خل َقها يف نامو�سهم؛ �إمنا هي �آلهة َ‬
‫ت�ساوي اهلل و ُتغا ِلبه‪.‬‬
‫ هي ال تغالب اهلل بل ت�شاركه؛ فاهلل تز َّوج ال ُعزى ف�صا َرت �صاح َبة اهلل‬

‫ع‬
‫وملكة ال�سماء‪ ،‬و�أجنبا بنات اهلل الالت ومناة‪ ،‬فمن تق َّرب لأي منهم فقد‬

‫ص‬
‫تق َّرب هلل‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ وهلل بناتٌ �أخ َريات‪ ،‬فهو قد تز َّوج �سروات اجلن ‪�-‬أف�ضل ن�ساء اجلن‪-‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬فمن عبد اجلن واملالئكة فقد‬ ‫و�أجنب املالئكة فهُنَّ بنات اهلل � ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫تق َّرب هلل ‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫قومنا‬
‫أف�شهد �أوالء على ربهم �أم كانت لهم مقاعد يف ال�سماء؟ واهلل �إن َ‬ ‫ � َ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫قد زاغوا وتاهوا!‪ ،‬و�إنا واهلل �إن بقينا هاهُ نا �إنا ل�ضالون‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫الدين يف البالد‪.‬‬ ‫ ف�إنا خارجون منها نلتمِ �س لأنف�سنا ِ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫وتوافقوا عليه‪ ..‬ف�أتاهم �صوتٌ من ورائهم يقول يف ن َربة هادئة‪ :‬ف�إن كنتم‬

‫و‬
‫رجل ً‬
‫طويل ُمل َّث ًما �أ�ش َقر‬ ‫خارجني ف�إين معكم خارج‪ ...‬نظروا وراءهم فر�أوا ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ال�شعر واق ًفا يف ثبات‪ ...‬قالوا له َ‪:‬من الرجل؟ قال لهم وهو يفك لثامته‪ :‬عمرو‬
‫بن جابر‪ ،‬من �أهل �سب�أ‪.‬‬
‫قوم يعبدون ثو ًرا الم ًعا‬ ‫خربك يا بن جابر؟ قال‪ :‬جئتُ من عند ٍ‬ ‫َ‬ ‫قالوا‪ :‬وما‬
‫هدتني ب�ص َريتي �أن �آتي �إىل‬ ‫يوما معهم‪ ،‬و�إين قد َ‬ ‫ي�سمونه املقه!‪ ،‬و�إين مل �أع ُبده ً‬
‫دار الكعبة �ألتمِ �س الدين احلق‪.‬‬
‫فابت�سم «عمرو بن جابر» وقال‪ :‬فلما �أتيتُها‬ ‫َ‬ ‫بع�ضهم �إىل بع�ض يف تهاز�ؤ!‪،‬‬ ‫نظر ُ‬
‫مل �أكد �أراها مما �صنع قو ُمكم بها؛ وجد ُتها قائمة متوارية يف ك�س َوتها وحولها‬
‫ثالثمائة �ص َنم �أو يزيدون!‪ ،‬ووجدت ثور املقه من�صو ًبا بينهم ها هناك بقر َنيه‬
‫ينظر يل يف �شماتة!‪..‬‬ ‫ُ‬
‫تب�سم بع�ضهم ونظروا �إىل ثور من�صوب يف زاوية قريبة وحوله �أ�صنام و�أوثان‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫ال ح َّد لكرثتها‪ ..‬قال «عمرو»‪:‬‬
‫  ف�إن كنتم خارجني لهذا الأمر ف�أخرجوين معكم و�س�أكون لكم عو ًنا‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫كنت كما تقول فواهلل �إنا ال َ‬
‫نردك �أبدً ا‪...‬‬ ‫�أ�ضاءت له وجوههم وقالوا‪ :‬ف�إن َ‬
‫بعيون عرف فيها كث ًريا من الذكاء‪ ،‬وكث ًريا من احلرية‪ ،‬كان الأربعة‬
‫ونظروا له ٍ‬
‫و�ضاءون من خرية قومهم‪ ،‬ما عبدوا يف حياتهم‬ ‫من �أوالد غالب بن فهر‪ ،‬يافعون َّ‬
‫�صن ًما وال تق َّربوا له‪ ..‬ملأ بن جابر عي َنه من مالحمهم‪ ،‬وا�ستب�شرت نف�سه‬
‫وا�ست�ضاءت ب�ضيائهم‪ ،‬واهلل �إن �أحدهم لهو النبي الزكي‪ ،‬واهلل �إن �أحدهم لهو‬
‫الب�شري املنتظر‪ ،‬و�إن الرحمن لي�صطفيه من بينهم ا�صطفاء‪ ،‬و�إن ذلك اليوم‬

‫ع‬
‫لقريب‪ ،‬وانطلق معهم �إىل حيثما انطلقوا‪.‬‬

‫ص‬
‫‪z‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫لأول مرة منذ �سبع دورات عجاف يف بالد فار�س‪ ..‬مل َعت عيون اجلن املالئك‪،‬‬
‫ل�صدف ٍة وجدوها هناك اجتالتهم عن طريقهم الذي كانوا قد هي�أوه لأنف�سهم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�إىل طريق �آخر‪ ،‬كان قد �أتى من الليل �آخره‪ ،‬يف بلدة تدعى (رام هرمز) يف‬

‫ب‬
‫قلب فار�س‪ ،‬وقد افرتق اجلن �إىل �سبعة طرق؛ واحدة منهم هي طريق ق�صر‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫امللك‪ ،‬وفيها كان ي�سعى «�إنيان» اجلني ذو ال�شعر الأ�صفر‪ ،‬طائ ًرا كان يلف حول‬

‫ش‬
‫يتق�صى اخلرب‪ ،‬وطالت عليه ال�ساعات ومل يجد من اخلرب �شيء!‪ ،‬حتى‬ ‫الق�صر َّ‬

‫ر‬
‫حذر وخرج‬ ‫ُ‬
‫�إذا �أتى �آخر الليل تو َّقف لينظر �إىل باب الق�صر وقد انفتح ببطء ِ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫خروجه من‬
‫َ‬ ‫منه فتى ُمل َّثم عرفه «�إنيان» فور �أن ر�آه؛ �إنه ابن ملك البلدة‪ ،‬و�إن‬

‫و‬
‫الق�صر ملثما هكذا لهو �شيء يثري طوفا ًنا من الأ�سئلة‪ ،‬كان امللثم مي�شي ب�سرعة‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وينظر ناح َية الق�صر كل حني‪ ،‬وقد م�شى وراءه اجلني «�إنيان»‪ ،‬كان‬ ‫متو�سطة ُ‬
‫يفكر يف الـ‪..‬‬
‫إنك �إذا �أردتَ �أن تتخ َّفى‪ ،‬فال تتخفى مني‪.‬‬ ‫ �أما � َ‬
‫ليجد فتى‬ ‫انخ َلع قلب «�إنيان» وظنَّ �أن ال�صيحة عليه!‪ .‬فنظر خلفه يف ُرعب ِ‬
‫وجه حديثه �إىل امللثم‪ ،‬فالتفت له امللثم مبالمح الذي‬ ‫مراه ًقا يبدو غا�ض ًبا وهو ُي ِّ‬
‫ي�ستعد لتربير �شيء ما‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ يا �سلمان �أنت �صغري ال�سن ولو �أخرب ُت َك عما �أفعله �آخر الليل �ستخرب �أبي‪،‬‬
‫و�إذا �أخربتَ �أبي �سيكون غ�ضبه هال ًكا ‪.‬‬
‫قال «�سلمان»‪:‬‬
‫ني على �س ِّر َك يا �صاحبي‪ ،‬ف�أخربين عما تف َعل‪ ،‬ف�إين ر�أيتك تخ ُرج‬ ‫ �إين �أم ٌ‬
‫من الق�صر يف مثل هذا الوقت من كل ليلة‪ ،‬و�إنه قد ا�شتعل القلق يف‬
‫نف�سي عليك‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫نظ َر املل َّثم ل�سلمان نظر ًة طويل ًة ثم �أ�شار �إليه ليتَّبعه‪ ..‬وانطلقا ناح َية‬
‫وظل ي�صعدان اجلبل حتى �أتوا �إىل قوم قد‬ ‫اجلبل‪ ،‬وانطلق «�إنيان» خلفهما‪َّ ،‬‬
‫ب ُنوا لأنف�سهم دي ًرا يتع َّبدون فيه‪ ،‬كانوا �ستة تبدو �أج�سادهم وك�أن �أرواحهم قد‬
‫خرجت منها من العبادة‪ ،‬لكنهم ملا ر�أوا امللثم قد �أح�ضر معه «�سلمان»‪ ،‬نظروا‬
‫مت�سائلني بق َلق‪ ،‬فقال لهم امللثم ُمطم ِئ ًنا‪:‬‬
‫ هو �صاحبي‪ ،‬وهو �أمني يح َفظ ال�سر‪.‬‬
‫بحديث كان غري ًبا على م�سامع‬ ‫ٍ‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫فرح ُبوا به و�أح�سنوا فيه القول‪ ..‬ثم حت َّدثوا‬ ‫َّ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫قوم يعبدون النار والأوثان‪� ،‬أما ه�ؤالء فقد كانوا يتح َّدثون‬ ‫«�سلمان»؛ فهو من ٍ‬
‫عن اهلل الواحد‪ ،‬الذي خلقَ النار وخلق اجلبال‪ ،‬وحمدوه و�أثنوا عليه كث ًريا‪ ،‬ثم‬

‫ك‬
‫لك معادًا‪ ،‬و�إن بني َ‬ ‫لك ر ًبا‪ ،‬و�إن َ‬
‫نظروا ناح َية «�سلمان» وقالوا ‪:‬يا غالم �إن َ‬

‫ت‬
‫يديك‬

‫ب‬
‫جنة ونا ًرا �إليهما ت�صري‪ ،‬و�إن ه�ؤالء القوم الذين يعبدون النريان �أهل �ضاللة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ال ير�ضى اهلل عما ي�صنعون‪ ...‬ثم ح َّولوا �أنظارهم عن «�سلمان» وم�ضوا يف‬

‫ش‬
‫الر�سل والأنبياء حتى خل�صوا �إىل ذكر «عي�سى‬ ‫حديثهم‪ ،‬فذكروا من م�ضى من ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫كالما مل يعتَد «�سلمان» �أن ي�سمعه من ن�صارى قومه‪ ،‬قالوا‬ ‫بن مرمي» وقالوا فيه ً‬

‫الت‬
‫و�سخر له ما كان‬‫ر�سول �إىل بني �إ�سرائيل َّ‬ ‫لقد بعث اهلل «عي�سى» عليه ال�سالم ً‬

‫و‬
‫يفعل‪ ،‬فكان يحيي املوتى ويخ ُلق من الطني كهيئة الطري‪ ،‬فين ُفخ فيه فيكون ط ًريا‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫و�أنه كان ُيربيء الأك َمه والأبر�ص والأعمى‪ ،‬فك َفر به قوم وتبعه قوم‪ ،‬و�إمنا كان‬
‫عبد اهلل ور�سوله‪ ،‬و�إن اهلل �سوف يبعث من بعده نبي ا�سمه «�أحمد» يخ ُرج من‬
‫جبال تهامة و�إن هذا هو زمانه قد تقارب ف�إن �أدركتموه فاتبعوه و�إنه لـ‪...‬‬
‫�ضجة ت�أتي من خارج الدير!‪ .‬ثم اقتحم عليهم �أ�صحاب ال�ضجة‬ ‫�سمع اجلمي ُع َّ‬
‫ينظر �إليهم وينظر �إىل‬ ‫الدير‪ ،‬كان امللك مع جنوده‪ ،‬ولقد كان �شديد الغ�ضب ُ‬
‫ابنه الذي يجل�س يف ح�ضرتهم‪ ..‬قال امل ِلك‪:‬‬
‫ُ‬
‫فعمدت‬ ‫ يا ه�ؤالء‪ ..‬قد جاورمتوين ف�أح�سنتُ جوا َركم ومل تروا مني �سوءا‪،‬‬
‫�إىل ابني ف�أف�سد ُمتوه ع َل َّي ‪.‬‬
‫متالك بع�ضا من نف�سه وقال ‪:‬‬ ‫ثم َ‬
‫ �إين قد �أجلت ُكم ثال ًثا‪ ،‬ف�إن قدرتُ عليكم بعد ثالث �أحرقتُ عليكم ديركم‬
‫هذا‪ ،‬فاحلقوا ببالدكم ف�إين �أكره �أن يكون مني �إليكم ال�سوء‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫نازل من اجلبل‪،‬‬ ‫مل ي�ستمع «�إنيان» �إىل باقي احلديث‪ ،‬فقد هرع من فوره ً‬
‫ولقد نادى �أ�صحابه من اجلن‪ ،‬و�أخربهم مبا �سمع‪ :‬يا �أيها اجلن �إن �صاحبكم‬
‫بتهامة‪ ،‬و�إن ا�سمه �أحمد‪.‬‬
‫ومل يلبثوا يف ديرتهم هذه �إال �ساعة ارحتلوا بعدها �إىل ناح َية الغرب‪� ،‬إىل‬
‫جبال تهامة‪،‬‬

‫ع‬
‫�إن �سرعة ج�سم د�أب على م�سابقة ال�شهب جتعله يقطع �ألفي ميل يف دقيقة‬

‫ص‬
‫واحدة‪ ،‬ولقد قطعت �أج�سام اجلن ما بني فار�س وتهامة يف �أربعني ثانية!‪ ،‬ثم‬

‫ري‬
‫هبطوا تهامة من �أ�سفلها ناحية اليمن‪ ،‬و�أعادوا الت�ش ُّكل يف هيئة الب�شر ونزلوا يف‬

‫ال‬
‫ت�صحرت الأر�ض‬ ‫قرى العرب‪ ،‬مل ت ُعد هناك �صروح م�ش َّيدة و�أن�سام باردة‪� ،‬إمنا َّ‬

‫ك‬
‫واحت َّدت ال�شم�س وطغت البادية على احلا�ضرة‪ ،‬وكانت جاهلية العرب �أ�شد من‬

‫ت‬
‫غريها‪ ،‬فلم تنزل اجلن يف قرية �إال وهي �أجهل من التي قبلها‪� ،‬أوثان و�أ�صنام‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ويتم�سحون بها عند ال�سفر‪،‬‬‫َّ‬ ‫ُت�ص َنع من حجارة �أو خ�شب‪ُ ،‬يع ِّلقون عليها النذور‬

‫ن‬
‫ُمطرهم‪� ،‬أو هكذا ف َّكرت عقولهم!‪ ،‬ال‬

‫ش‬
‫ي�ستن�صرونها فتن�صرهم وي�ستمطرونها فت ِ‬

‫ر‬
‫يدرون �شي ًئا عن احل�ضارة والعلم والفل�سفة‪...‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫خرج فيكم من نبي �أو �أتاكم‬ ‫ولقد نزل ه�ؤالء ي�سائلونهم وي�ستنطقونهم؛ هل َ‬

‫و‬
‫من نذير‪ ،‬هل �سمعتُم عن رجل يدعو �إىل غري ما دين‪ ...‬حتى �أنهم �أتوا العرافني‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫و الكهان‪ ،‬هل جاءكم رئيكم من اجلن قبل ليايل ال�شهب امل�ش�ؤومة بنبوء ٍة �أو‬
‫غيب عن رجل يخرج يف هذه الأنحاء يتحدث عن اهلل بغري ما يتحدث به قومه‪...‬‬
‫وم َّر ال�شهر وال�شهرين والثالثة ومل ي�أتوا بجواب عن �س�ؤاالتهم‪ ،‬حتى �أتوا �أر�ض‬
‫احلجاز‪ ،‬فا�ست�ضاءت وجوههم بعد طول ال�سواد‪ ،‬ولقد ر�أوا الذي مل يره نف ٌر من‬
‫اجلن فيمن كان قبلهم‪ ،‬ومل يره نفر ممن كان بعدهم‪ ،‬وحت َّدثت بهذا �أجيالهم‬
‫و�أن�سالهم‪ ،‬وكتبوا يف هذا املكاتيب‪.‬‬

‫‪z‬‬

‫‪158‬‬
‫عهودا‪ ،‬على حمبة «لو�سيفر»‪ ،‬و�أمر «لو�سيفر»‪..‬‬
‫تعاهد قومي على هذا الأمر ً‬

‫ع‬
‫كيف ال وهو الكائن الوحيد الذي ال ُميوت‪ ،‬الكائن اخلالد الوحيد‪ ،‬الذي ر�أى كل �شيء‬

‫ص‬
‫منذ �أن انخلق هذا الكون‪ ،‬املخلوق الوحيد الأ�سمى والأعلى الذي ك َّلم اهلل‪ ،‬وعرف اهلل‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وحتدث عن اهلل‪ ،‬وكالمه �صدق‪ ،‬لأنه خالد �أمري‪ ،‬انبعث بعده من اجلن �أنبياء كذبة كثريون‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ب�ش الكالم‪ ،‬لكنهم فانون‪ ،‬مثلنا‪ ،‬كيف‬ ‫ويذكرون «لو�سيفر» َ‬ ‫ُ‬ ‫يحومون على عوايل اجلن‬

‫ك‬
‫ُ�صدق من كان فانيا ون ِّ‬
‫ُكذب اخلالد املخلد الأمري!‪..‬‬ ‫ن ِّ‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ال ميكنك �أن تقتُل «لو�سيفر»‪ ،‬وال ت�ؤذيه!‪ .‬ولقد حاول �أنفار من اجلن بكل ما �أوتوا‪ ،‬لكنه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫دائما يبقى‪� ،‬أم ًريا للنور‪ ،‬وباع ًثا للنور‪ُ ،‬ين ّ ِور لنا طريقنا و ُيع ِّلمنا ونحن له خمل�صون‪.‬‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�أما �أنت‪ ،‬يا قرد ال�رش‪ ..‬ف�إنه قد ظهر يف قومك �أنبياء كذبة ال ح�رص لهم‪ ،‬وهذا ُم�ضحك‪،‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ك�أنك تقول �أن يف القطط �أنبياء‪� ،‬أنت قرد يا عزيزي‪ ،‬قرد‪ ،‬كيف يخرج يف جن�سك �أنبياء؟‬

‫و‬
‫أعلمتنا �أنهم كذبوا‪ ،‬نظر ًة �إىل كالمهم عن اجلن‪،‬‬
‫نظرة واحدة يف كتبهم املوروثة عنهم � َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫من يقول �أنا �أوالد زنا �آدم مع �شيطانة ا�سمها ليليث‪ ،‬ومن يقول �أنا مالئكة �ساقطة متمردة‪،‬‬
‫ومن يقول �أننا ندخل يف اخلنازير‪ ...‬مهازل‪.‬‬
‫َ‬
‫دعك من هذا وا�سمع يل‪..‬‬
‫� َ‬
‫آتيناك من ق�ص�ص الأولني �شيئًا كث ًريا‪ ،‬لكن يف �صحيفتني تاليتني‪ ،‬البد �أن تتع َّلم �شيئًا‬
‫�آخر‪.‬‬
‫�شيء ما هو بالعلم اخلفي‪ ،‬لكنه ُمتعِب �إذا � َ‬
‫أردت جمع جمامعه‪� ،‬ستجِ د اخت�صاره يف‬
‫�صحيفتيي الإي�ستوريجا التاليتني؛ �شيء يتع َّلق بالعقائد‪ ،‬و�إنه لي�س َ‬
‫لب�ش عادي �أن يطلع‬
‫على الإي�ستوريجا‪ ،‬لكني �أريد لك �أن تطلع �أنت‪.‬‬
‫ولقد حان الوقت لكي �أن ِّبئك الذي �أريده منك‪.‬‬
‫ق�ضت حكمتنا‪� ،‬أنه �إذا قر�أت علومنا‪ ،‬تكون �أنت ا ُملخ ِّل�ص الذي ارت�ضاه النبي‬
‫�إنه قد َ‬
‫«لو�سيفر»‪ ،‬املخل�ص من الإن�سان لبني الإن�سان‪ ،‬املخل�ص الذي �س ُيعطيه نبينا �أمري النور هدية‬
‫‪159‬‬
‫�إىل اليهود‪ ،‬لأنهم ي�ؤمنون �أن «لو�سيفر» مالك كرمي‪� ،‬أعظم من �أعظم املالئكة‪� ،‬أم �أنك ظننت �أن‬
‫�سيخرج لهم من بني‬
‫ُ‬ ‫املخل�ص الذي يرتقبه اليهود يف التوراة �سينزل لهم من ال�سماء‪ ،‬بل هو‬
‫�أظهر النا�س‪ ،‬نحن ن�صنعه ون�ؤتيه العلم �أثقال‪� ،‬سحره يكون فوق كل الأ�سحار‪ ،‬وعلمه فوق‬
‫كل العلوم‪...‬‬
‫و�سجدت روحك ل�سيدك «ظام»‪ ،‬ف�ستكون �أنت‪� ،‬أنت �أنت‪ ،‬وال �أحد‬
‫َ‬ ‫ف�إذا �صفا ذهنك يل‪،‬‬

‫ع‬
‫�سيكون غريك‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫‪z‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪160‬‬
‫(‪) 6‬‬

‫ألباب األحبار‬
‫كانوا �أرب َعة رجال وجني‪ ،‬ح�سن ٌة وجوههم وعقولهم وخيولهم‪ ،‬نزلوا‬
‫يلت َّم�سون الدين يف يرثب‪ ..‬وذهن «عمرو بن جابر» يف نخيلها �شارد‪ ،‬يذكر منها‬
‫كل مو�ضع‪�« ،‬أ�سعد» وجنوده و ُب�شراهم ب�أحمد‪� ،‬أو�س وخزرج ويهود وحروب‪...‬‬

‫ع‬
‫ا�ستفاق من َ�سه ِوه على جل َبة و�صخب‪ ،‬رجال ون�ساء يهود و�أطفال احت�شدوا يف‬

‫ص‬
‫ربج‪ ،‬والب�سمة يف وجوههم تع ُلو‪ ،‬مي�شون الهوينى يرفعون ً‬
‫متثال رديء‬ ‫زينة وت ُّ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ال�صنع‪ ،‬يتمتمون بكالم من التوراة‪ ،‬ثم تو َّقفوا مكانهم و�أبرزوا التمثال و�أ�شعلوا‬
‫حتي!‪،‬‬‫وتب�سموا و�شربوا اخلمر‪ ،‬واخلم�سة ينظرون لهم يف ُّ‬ ‫فيه النار وته َّللوا َّ‬

‫ك‬
‫و�أفراد من الأو�س واخلزرج واقفني على الأطراف ينظرون ‪.‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫نزل اخلم�سة عن رحالهم وم�شوا بني اجلموع ووجوههم مغربة من �أثر ال�سفر‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫واليهود ينظرون لهم يف عدم ارتياح‪ ،‬حتى اقرتبوا من الكني�س اليهودي فنهاهم‬

‫ش‬
‫النا�س فتو َّقفوا‪ ،‬حتى خرج من الكني�س رهبان يف �سواد م�سدل على �أكتافهم‪،‬‬

‫ر‬
‫أمر فنظر الراهب له يف‬ ‫تق َّدم �أحد اخلم�سة من الرهبان ومال عليه و�أ�س َّر له ب� ٍ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ده�شة وريبة! ثم ا�ست�شار �أقرانه الرهبان ثم �أ�شار للخم�سة �أن يدخلوا معه �إىل‬

‫و‬
‫الكني�س ‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫دخل «عمرو» والأربعة الأنوار من بني «غالب بن فهر» �إىل الكني�س اليهودي‬
‫يلت َّم�سون لأنف�سهم الدين‪ ،‬فجل�سوا على مثل الأرائك ينظرون حولهم �إىل‬
‫حوائط مزينة و�ستائر حمر‪ ،‬وجل�س الرهبان على دكة متجاورين ينظرون‪...‬‬
‫قال �أحدهم‪َ :‬من الرجال؟‬
‫فع َّر َف الرجال اخلم�سة الأزهار عن �أنف�سهم‪ ،‬ثم �س�ألوا الرهبان فقالوا لهم‪:‬‬
‫ومن الرجال؟‬
‫قالوا هذا احل�صني من بني قينقاع‪ ،‬وهذا يامني من بني الن�ضري‪ ،‬وذاك‬
‫أي�ضا‪ ،‬من �أعاظم �أحبار يرثب‪ ..‬فما بال ُكم �آذيتمونا يف‬ ‫خمرييق بني الن�ضري � ً‬
‫عيدنا!‪ ،‬قالوا‪ :‬ف�إنا تعاهدنا �أن نن�صرف عن دين قومنا وما يعبدون من خبال‬
‫عظيم‪ ،‬ففررنا بعقولنا عنهم نلتم�س لأنف�سنا الدين احلق ف�أتيناكم لعلنا جند‬
‫أحلدنا بكل �شيء �سوى ما تق َبله‬ ‫ذلك عندكم‪ ،‬فع ِّلمونا يا بني �إ�سرائيل‪ ،‬ف�إنا � َ‬
‫عقولنا ‪.‬‬
‫‪167‬‬
‫قال احل�صني وكان يبدو �أنه �أعالهم‪ :‬اعلموا �إنه لي�س �إله لهذه الدنيا �سوى‬
‫�إله واحد‪ ،‬ال �إله �إال هو‪ ،‬خ َلقَ ال�شم�س والأر�ض والكواكب‪ ،‬وخلق اجلبال والبحار‪،‬‬
‫وخلق ُكم وخلق �أنعامكم‪� ،‬إله غري حمدود ال ُتدركه الأب�صار والأفهام وال تقدروا‬
‫�أن تت�صوره‪ ...‬قالوا‪ :‬فما ا�سمه و�أين هو؟‬
‫قال‪ :‬ا�سمه يه َوه‪ ..‬وال ي�صح �أن يكون له مكان لأنه خلق املكان‪.‬‬

‫ع‬
‫كان «عمرو بن جابر» ي�سمع و ُيف ِّكر يف ربه رحمنن ذي �سماوي‪ ..‬قال واح ٌد‬

‫ص‬
‫من الأربعة‪ :‬فكيف بالذي ال ُي َرى وال ُيد َرك وال ُيل َم�س �أن يخ ُلق �أ�شياء ُتد َرك و‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ُتل َم�س و ُترى؟‬
‫قال احلرب «يامني»‪� :‬إن ربنا اهلل الأزيل الالنهائي كان وحده ومل ي ُكن �شيء‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫غريه‪ ،‬فلما �أراد خلقَ هذا العامل �صد َرت منه �أربعة انبثاقات عظيمة ُن�س ِّميها‬

‫ب‬
‫الفيو�ضات الإلهية الأربعة‪ ،‬يف كل في�ض تد َّفقت عدة تلأل�ؤات �صد َرت عن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫بع�ضها البع�ض‪ ..‬هي ال�صفات التي �سيتعامل بها اهلل مع هذا العامل الذي يريد‬

‫ش‬
‫�أن يخلقه‪� ،‬أحد هذه الفيو�ضات الأربعة هو ال ُعزير‪ ،‬ويعني التكوين‪ ،‬وهو الفي�ض‬

‫ر‬
‫الذي خلق اهلل به هذا العامل‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫قال له «عمرو»‪ :‬وهل ر�أى �أحد اهلل قبل ذلك؟ قال «يامني»‪ :‬نعم ر�آه اليهود‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أكرث من مرة‪ ..‬حتديدً ا ر�أوا �أحد تلأل�ؤات اهلل؛ وهو تلأل�ؤ ال�سكينة‪� ،‬أقرب �صفة‬
‫من �صفات اهلل للعامل‪ ،‬وهي �سكنى الرب يف هذا العامل‪.‬‬
‫انتبه اجلميع و �س�ألوه‪� :‬أين ر�أوها وكيف؟ قال‪ :‬ر�آها بنو �إ�سرائيل على هيئة‬
‫�سحابة كبرية كانت ُتر�شدهم للطريق ملا خرجوا من م�صر وتاهوا يف الربية‪،‬‬
‫وهي نف�سها التي تكلم اهلل بها مع مو�سى وتك َّلم اهلل بها مع كرباء بني �إ�سرائيل‬
‫ذات مرة‪ ،‬ولقد و�صفوها �أنها كانت كالعقيق الأزرق ال�شفاف الفاخر‪� ...‬سكت‬
‫اجلميع وك�أنهم كانوا ي�ستوعبون ما يقول ‪.‬‬
‫قال �أحدهم‪ :‬كيف عرفتم كل هذا؟ قال «خمرييق»‪ِ :‬من التوراة والتلمود‬
‫والكاباال‪ .‬قالوا‪ :‬وما التوراة؟ قال‪ :‬هي الكتاب الذي نزل على مو�سى‪ ،‬والتلمود‬
‫التعاليم ال�شفهية التي تلقاها مو�سى من ربه وعلمها لكرباء بني �إ�سرائيل‪،‬‬
‫والكاباال هي العلم الباطني الذي �أوحاه اهلل �إىل كرباء بني �إ�سرائيل من بعد‬
‫مو�سى‪ ...‬قالوا‪ :‬وما مو�سى؟ قال‪� :‬أول نبي بعثه اهلل‪ ..‬قالوا‪ :‬وما النبي؟ قال‪:‬‬
‫رجل يهودي يختاره اهلل و ُيوحي �إليه ُلي ِ�شد و ُي�ص ِلح بني �إ�سرائيل‪ ..‬قالوا‪ :‬فقط‬
‫‪169‬‬
‫بني �إ�سرائيل؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬قالوا‪ :‬وماذا عن باقي ال�شعوب؟ قال خمرييق‪ :‬ال نبي‬
‫�إال من اليهود‪ ،‬وال نبي �إال و ُيب َعث لإ�صالح بني �إ�سرائيل‪.‬‬
‫ثم قال خمرييق‪ :‬لكن عهد الأنبياء انق�ضى منذ قرون طويلة جدا‪ ،‬ومل‬
‫ب�ش َرتنا به التوراة‪ ...‬تن َّبه «عمرو بن جابر» وانحلت �أ�ساريره‬ ‫يبق �إال نبي واحد َّ‬
‫نبي هذا؟‬
‫و�س�أله‪� :‬أي ٍ‬

‫ع‬
‫خرج احلق للأمم‪ ..‬ت�ش َّنفت �آذان «عمرو‬ ‫قال احل�صني‪ :‬نبي خمتار هادي‪ُ ،‬ي ِ‬

‫ص‬
‫بن جابر» و�أهد�أ نف�سه لي�سمع‪ ..‬قالوا‪ :‬ومتى يظهر ذلك النبي؟ قال‪ :‬يظهر يف‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫هذا الزمان الذي نعي�شه الآن‪ ..‬قالوا‪ :‬وهل له عالمات؟ قال‪ :‬هو لي�س ب�صخاب‬
‫وال ي�صيح وال ُي�س َمع يف ال�شارع �صوته‪ ،‬ال يكل وال ينك�سر حتى ي�ضع احلق يف‬

‫ك‬
‫الأر�ض‪ ،‬يحفظه اهلل ويجعله عهدا لل�شعب ونو ًرا للأمم‪ ،‬يفتح به عيون العمي‬

‫ت‬
‫ويخرج من احلب�س امل�أ�سورين يف الظلمات‪ ،‬فلرتفع تلك الربية ومدنها �صوتها‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫َّ‬
‫فليرتن �سكان جبل �سلع‬ ‫فخ ًرا به‪ ،‬تلك الديار التي �سكنها قيدار بالد العرب‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ويهتفوا من ر�ؤو�س اجلبال فخ ًرا به‪ ،‬ليعطوا الرب جمدً ا ويخربوا بت�سبيحه يف‬

‫ر‬
‫البالد‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫تفتَّحت �أزهار قلوبهم ملا �سمعوا احلديث وقالوا‪� :‬أن ِب ٌّي من بالد العرب؟ قال‬

‫و‬
‫«يامني»‪ :‬نعم عربي لكنه من بني �إ�سرائيل‪ ،‬وي�أتي هنا عند �سكان جبل �سلع يف‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يرثب‪ ،‬ملاذا تظنون �أنا قد �أتينا �إىل يرثب قبل قرون!؟ �ضاقت عينا «عمرو بن‬
‫جابر» و�أوم�ضت يف حافظته م�شاهد من زمن قدمي‪ ،‬خرج فيه يهود يرثب �إىل‬
‫جي�ش يقوده «�أ�سعد» فقالوا له يا «�أ�سعد» حدك هنا‪� ،‬إن هذا ملهاجر نبي زكي‪،‬‬
‫ألي�ست تقول‬‫فخ�ضع «�أ�سعد» وخ�ضعت جيو�شه ‪...‬لكن‪ ،‬نبي من بني �إ�سرائيل؟ � َ‬
‫الب�شا َرة �أنه من ولد «غالب بن فهر» من قري�ش‪ ...‬ودارت ر�أ�س «عمرو» يف �أفكا ٍر‬
‫ال تنتهي!‬
‫قال �أحد الرجال‪ :‬وما �إبراهيم؟ �ألي�س نب ًيا عرب ًيا � ً‬
‫أي�ضا؟ قال احلرب‪� :‬أبونا‬
‫رجل يعي�ش يف مدينة �أور‬ ‫احلبيب �إبراهيم مل ي ُكن عرب ًيا ومل يكن نب ًيا؛ بل كان ً‬
‫ت�ضر وال تنفع‪ ،‬و�أن قومه كلهم على‬ ‫هدته ب�صريته ب�أن هذه الأ�صنام ال ُ‬ ‫البابلية‪َ ،‬‬
‫رب عظيم �أعلى و�أرقى من كل تلك ال�صور‪ ،‬ودعا قومه‬ ‫�ضالل‪ ،‬و�أن لهذه الدنيا ٌّ‬
‫لهذه الفكرة بكل الطرق‪ ،‬حتى �أنه ك�سر �أ�صنامهم فقب�ضوا عليه و�ألقوه يف النار‬
‫َّ‬
‫وجناه اهلل مبعجزة‪...‬‬
‫‪170‬‬
‫قال �أحد الرجال‪ :‬واهلل �إنه لأبيكم �إبراهيم يا رجال الذي بنى كع َبتكم‪،‬‬
‫و�إن ت�أمالته مثل ت�أمالتكم‪ ...‬حت َّفظ الأحبا ُر ونظروا �إىل بع�ضهم ومل ي ُردوا!‪،‬‬
‫ثم �س�ألوه‪ :‬وابنه �إ�سماعيل �أبو العرب ماذا عنه؟ قال احلرب‪ :‬كان لإبراهيم‬
‫حلا وهو �أبو اجلن�س اليهودي كله‪،‬‬ ‫ولدين؛ �إ�سماعيل و�إ�سحق‪� ،‬إ�سحق كان �صا ً‬ ‫َ‬
‫ل�صا يقطع الطريق وي�سرق‬ ‫لكن �إ�سماعيل كان همج ًيا يعي�ش يف الربية وكان ً‬
‫امل�سافرين‪...‬‬

‫ع‬
‫قام «عمرو بن جابر» وقد �أخذه الغ�ضب و�أم�سك بتالبيب «خمرييق» يرفعه‬

‫ري‬‫ص‬
‫فتناه�ض الرجال عليه‪� ،‬صرخ «عمرو»‪� :‬أل�ستُم عر ًبا يا هذا‪� ،‬أت�ؤمنون بالتوراة‬

‫ال‬
‫وهي تل َعن �أبوكم �إ�سماعيل؟ قال له «يامني»‪ :‬بل نحن عرب من بني �إ�سرائيل من‬
‫َن�سل �إ�سحق ول�سنا من ن�سل �إ�سماعيل‪ ،‬ون�ؤمن بالتوراة لأنها كلمة اهلل‪ ...‬وفج�أ ًة‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫هجم الأحبا ُر على «عمرو» ف�أم�سكوا به وقالوا‪ :‬تاهلل ما �أنتم بخارجني من حينا‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�إال هالكني‪ ..‬وقام الأربعة الأنوار لتهدئة الغ�ضب‪ ،‬قال �أحدهم للحرب «خمرييق»‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫�آذيتَنا بلعن �أبينا �إ�سماعيل‪ ،‬و�أنت تعلم �أن َفة العرب‪ ،‬و�إنا قد �أتينا هاهنا ال نريد‬

‫ش‬
‫�إال �أن نكون يهودًا �أمثالكم‪ ..‬لكن اجلو كان قد توتَّر ومل يهد�أ �أحد من الأحبار �إال‬

‫و‬ ‫ر‬
‫بعد �أن مت ُطرد «عمرو بن جابر» خارج الدير‪.‬‬

‫�سبعة جنون من ن�صيبني تنزلوا يف احلجاز‪ ..‬ف�أجل�أهما ول‬


‫ت‬
‫‪z‬‬
‫زيوالفوار�س‪،‬‬
‫والغاديات من الن�ساء والعاديات من اخليل‪ ،‬و�سبعة من عوايل اجلانعينظرون‬
‫الطريق �إىل خيام‬
‫كالقباب من�صوبة متجاورة‪ ،‬والنا�س فيها يجولون يف �أح�سن املالب�س‬

‫متاما على املكان‪� ،‬شعر �أحمر و�آخر �أ�صفر‬


‫�إىل كل هذا يف هيئات بدت �أجنبية ً‬
‫وعيون مل َّونة ومالمح رومية‪ ،‬عرفوا بعد حني �أن هذا الذي هم فيه هو �سوق‬
‫عكاظ ‪�-‬أكرب �أ�سواق العرب الذي يجتمعون فيه وهم يف طريقهم �إىل احلج‪-‬‬
‫وكانت فر�صتهم لي�سائلوا العرب الآتيني من كل مكان‪ ،‬فال �شيء حادث حدث‬
‫ميكن �أن يخفى يف �سوق عكاظ‪ ..‬م�شوا و�سط اجلموع حتى ر�أوا خيمة هي �أكرب‬
‫من كل خيمة؛ حمراء من جلد فاخر والنا�س حولها يتزاحمون يف اهتمام ‪.‬‬
‫اقرتبوا لينظروا بدورهم‪ ..‬كانت تلك خيمة «النابغة الذبياين» ر�أ�س‬
‫ال�شعراء العرب‪ ،‬ي�أتيه ال�شعراء يف كل مو�سم يعر�ضون عليه �أ�شعارهم‪ ،‬وكانت‬
‫�أمامه امر�أة يف غاية اجلمال ق�سيمة يف القوم ا�سمها اخلن�ساء‪ ،‬واقفة يف ثبات‬
‫و�صوتها ي�شدو بقطعة من �شعرها‪ ،‬كانت تقول‪:‬‬
‫‪171‬‬
‫ك�أن عيني لذكراه �إذا خطرت‬
‫في�ض ي�سيل على اخلدين مدرار‬
‫تبكي ل�صخر هي العربى وقد ولهت‬
‫ودونه من جديد الرتب �أ�ستار‬
‫كانت ترثي �أخيها �صخرا الذي مات يف املعارك‪ ..‬والنا�س ي�سمعون لها يف‬

‫ع‬
‫ت�أ ُّثر و َوجد‪ ،‬واجلن ينظرون مي َن ًة وي�س َرة وال�صوت ي�صدح‪.‬‬

‫ص‬
‫مت الهداة به‬ ‫و�إن �صخرا لت�أ ّ‬
‫ك�أن ��ه عل ��م يف ر�أ�س ��ه ن ��ار‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ك‬
‫جلد جميل املحيا كامل ورع‬

‫ب‬
‫وللحروب غداة والروع م�سعار‬
‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫وظ َّلت ت�شدو حتى تو َّقفت والعربات يف القوم قد ظه َرت‪ ..‬فوقف النابغ ُة وقال‬

‫ش‬
‫أنك �أ�شعر النا�س يا خن�ساء‪ ،‬واهلل �إنك‬ ‫أن�شدين قب َلك لقلتُ � ِ‬
‫لها‪ :‬لوال �أن الأع�شى � َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�أ�شعر من كل امر�أة‪ ...‬هنا ارتفع �صوتٌ بني اجلموع يقول‪ :‬واهلل �إين �أنا �أ�ش َعر‬

‫و‬ ‫الت‬
‫منها ومنك!‪ .‬التفت اجلميع �إىل م�صدر ال�صوت يف اندها�ش‪ ،‬كان ذلك «ح�سان‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بن ثابت» �شاعر اخلزرج واقفا يف �سمو ‪.‬‬
‫بتحدٍّ ‪ :‬ما �أج َود بيت يف ق�صيدتك يا ح�سان؟‬ ‫قالت له «اخلن�ساء» َ‬
‫قال‪:‬‬
‫لنا اجلفنات الغر يل َمعن بال�ضحى‬
‫و�أ�سيافنا يقطرن من جن َد ٍة دما‬
‫افتخارك هذا يف موا�ضع عدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫�سكتت «اخلن�ساء» ثم قالت‪ :‬واهلل لقد �ضعف‬
‫�أنت تقول اجلفنات وهي �أوعية الطعام التي ُتق َّدم لل�ضيوف داللة على الكرم‪،‬‬
‫فلما تقول جفنات فهذا يدل على ال ِق َّلة!‪ ،‬وكان يجب �أن تقول اجلفان‪ ،‬لأن يف‬
‫هذا كرثة و�أن�سب لالفتخار‪ ...‬قام «النابغة الذبياين» وقال‪ :‬كذلك ُق َلت �أ�سيافنا‬
‫وهي تدل على القلة‪ ،‬ولو كنت تريد الكرثة لكنت قلت �سيوف‪ ..‬كان «ح�سان» قد‬
‫ج َّهز نف�سه للرد حني �شعر اجلميع ب�شيء يتحرك عند باب اخليمة!‪ ،‬كان النا�س‬
‫‪172‬‬
‫معظم‪ ،‬داخل على جمل �أحمر‪ ،‬والنا�س يتهام�سون عليه‪،‬‬ ‫يو�سعون لرجل مهيب َّ‬
‫كان ذلك «ق�س بن �ساعدة»‪� ،‬أحكم حكماء العرب و�أف�صحهم على الإطالق‪،‬‬
‫كان خطيب العرب الذي �إذا قال ي�سمعون و�إذا حت َّدث ُيق ِّلدون‪ ..‬نظر «ق�س»‬
‫�إىل «اخلن�ساء» وقال‪� :‬أما اجلفنات فقد قال �أنها اجلفنات الغر يعني امل�شهورة‪،‬‬
‫دما‪ ،‬ولو قال ال�سيوف‬ ‫ف�إمنا �أراد ُ�شه َرتها ولي�س كرثتها‪ ،‬وقال الأ�سياف يقطرن ً‬

‫ع‬
‫لتكثريها لكان افتخا ًرا بكرثة القتل‪ ،‬و�إمنا �أراد االفتخار بال�شجاعة‪� ...‬سكت‬

‫ص‬
‫اجلميع ينظرون �إليه يف مهابة‪ ،‬ثم �ش َّد جلام جمله الأحمر يجوده ونظر للنا�س‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫نظر ًة لها معنى ثم قال قول ًة عجيبة‪:‬‬
‫عا�ش مات‪ ،‬ومن‬ ‫�أيها النا�س‪ ،‬ا�سمعوا وعوا‪ ..‬و�إذا وعيتُم فانتفعوا‪ ،‬فانه من َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مات فات‪ ،‬وكل ما هو � ٍآت �آت‪� ،‬إن يف ال�سماء خلربا و�إن يف الأر�ض لعربا‪� ،‬أق�سم‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ق�س ًما حقا ال حان ًثا فيه وال �آث ًما‪� ،‬إن هلل دي ًنا هو �أحب �إليه من دينكم الذي �أنتُم‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫عليه‪ ،‬ونب ًيا قد حان حينه‪ ،‬و�أظ َّل ُكم زمانه‪ ،‬و�أدرك ُكم �إبانه‪ ،‬فطوبى ملن �آمنَ به‬

‫ش‬
‫ر‬
‫فهداه‪ ،‬ووي ٌل ملن خا َلفه وع�صاه‪ ،‬ت ًّبا لأرباب الغف َلة من القرون اخلالية‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫يا مع�شر �إياد �أين الآباء والأجداد و�أين الفراعنة ال�شداد‪� ،‬أين من بنى و�ش َّيد‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫وزخرف وج َّدد‪ ،‬وغره املال والولد‪� ،‬أين من طغى وبغى وجمع ف�أوعى‪ ،‬وقال �أنا‬
‫آمال و�أطول منكم � ً‬
‫آجال‪،‬‬ ‫أموال و�أبعد منكم � ً‬
‫ربكم الأعلى‪� ،‬أمل يكونوا �أكرث منكم � ً‬
‫طحنهم الرثى بكلك ِله ومزقهم بتطاوله‪ ،‬ف�صارت عظامهم بال َية وبيوتهم خال َية‬
‫ع َّمرتها الذياب العادية‪ ،‬يف الذاهبني الأولني من القرون لنا ب�صائر‪ ،‬ملا ر�أيت‬
‫موارد للموت لي�س لها م�صادر‪ ،‬ور�أيت قومي نحوها مت�ضي الأ�صاغر والأكابر‪،‬‬
‫�أيقنتُ �أين ال حمالة حيث �صار القوم �صائر‪.‬‬
‫نظر الناظرون وقد �أ�ص َّمتهم الكلمات‪ ،‬وجتولت عيون اجلن بني املالمح‬
‫فب�شرهم‬ ‫وتف َّر�ست يف «ق�س بن �ساعدة»‪ ،‬بعد �سنني التجوال �ضحك الزمان لهم َّ‬
‫مبا كانوا يظنون‪ ،‬و�أجمعوا �أنف�سهم وانطلقوا �إىل «ق�س بن �ساعدة» الذي حت َّرك‬
‫بجمله يريد الرحيل‪ ..‬قالوا له يا ذا الهيبة �إنا قد �أتينا من �أق�صى الأر�ض نبحث‬
‫أ�سهبت لنا يف �أمره؟ قال «ق�س»‪ :‬ال �أزيد‬
‫عن ذلك النبي الذي تن َّب�أتَ به‪ ،‬فهال � َ‬
‫عما قلت حر ًفا‪ ،‬لكن ابحثوا عنه يف تهامة‪ ،‬و�إن �أعيان تهامة ليجتمعون يف رحلة‬
‫‪173‬‬
‫ال�صيف امل�سافرة �إىل ال�شام للتجارة‪ ،‬فاحلقوا بها‪ ،‬فرمبا يخ ُرج معهم‪ ..‬قالوا‬
‫أنت‪ ،‬يهودي �أم ن�صراين؟ قال‪ :‬بل �أنا على احلنيفية‪ ..‬قالوا‪ :‬وما احلنيفية‬ ‫له‪ :‬ما � َ‬
‫هل هو دينٌ جديد؟ قال‪ :‬بل هو دين �إبراهيم‪� ،‬أع ُبد اهلل واحدً ا ال �شريك له‪ ،‬و�إن‬
‫باطل‪ ..‬نظر اجلن بع�ضهم �إىل بع�ض‪ ،‬وقالوا‪ :‬موعدكم‬ ‫كل ما خال دين �إبراهيم ِ‬
‫ال�صيف‪ ،‬ولي�س ال�صيف بقريب‪ ،‬فلتمكثوا ولرتتقبوا‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫م�ضى «عمرو بن جابر» هائ ًما على وجهه بعد �أن طرد من الدير‪ ..‬ثم تو َّقف‬

‫ال‬
‫فج�أة وت�س َّمر مكانه‪ ،‬ا�ستدعته حا�سته اجلنية �أن يتوقف!‪� ،‬شيء ما ميلأ الأجواء‪،‬‬
‫�شيء ما له ح�ضور كثيف‪ ،‬و�ضع «عمرو» يده على ر�أ�سه‪ ،‬ثم �سمع �شي ًئا ما ك�أنه مير‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يف جواره‪ ،‬انتف�ض «عمرو» وا�شتعلت مواقد احلذر يف نف�سه‪ ،‬و�صار ي�سمع �أ�شياء‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ك�أن نف�سه ُتدِّ ثه بها فينف�ضها عن ر�أ�سه‪� ،‬أال يزال يف القلب �شك يا بن جابر!‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫أب�شر من حلم ودم ال يرون �إال موا�ضع خطوتهم �سيتك َّلمون با�سم الرحمن‪،‬‬ ‫� َ‬

‫ر‬
‫أب�شر يكون منهم �أنبياء مثل اجلن يا بن جابر‪ ،‬هل ترى بني القرود �أنبياء؟ �إمنا‬ ‫� َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ميزهم الرحمن ب�شيء من الوعي يف عقولهم ف�أتلفوا به �سطح الربية اخل�ضراء‪،‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫والر�سل؟ �أال تراهم يتحدثون با�سم الرب‬ ‫�أف�أمثال ه�ؤالء يكون بينهم الأنبياء‬

‫يع‬
‫ُ‬
‫في�سفكون به الدماء ويحرقون به النخيل‪� ،‬أم �صرت متيل لهم يا بن جابر؟ رجال‬
‫�أربعة تتبعهم كاملفتون وهم ال يدرون ما ربهم و�أين ربهم‪� ،‬أفيكون منهم �أنبياء!‪..‬‬
‫�أم�سك «عمرو بن جابر» ر�أ�سه وا�شتعلت عينه ك�شيطان للحظة ثم خ َبت و�ألقى‬
‫عن خياله كل ما ُتدِّ ثه به نف�سه‪ ،‬ونظر حوله‪� ،‬إنه يح�س ب�شيء ما‪� ،‬أو بكيان‬
‫ما!‪..‬‬
‫يا بن جابر لقد تناهى علم �أهل الكتاب �أنه �إن كان نبي ف�سيكون يهوديا‪،‬‬
‫أي�ضا ي�ؤمنون بالتوراة‬ ‫ولو ارحتلتُم �إىل الن�صارى �سيذكرون لكم هذا‪ ،‬فهم � ً‬
‫ويعتربونها ن�صف كتابهم املقد�س‪� ،‬أت�صدق نبوات ال�شياطني �أن نب ًيا من بني‬
‫غالب بن فهر وترتك حديث �أهل الكتاب؟ �ألي�س يفرت�ض �أن يكون �أهل الكتاب‬
‫أ�ضعت‬
‫�أعلم باهلل من غريهم من الب�شر‪ ،‬لقد �أ�ضعت حياتك يف هذه الأوهام و� َ‬
‫أل�ست تذ ُكرها وتذكر روحها يا بن جابر‪� ،‬أل�ست تذ ُكر نظراتها‬ ‫امر�أتَك «�إينور»‪َ � ،‬‬
‫‪174‬‬
‫لك!‪ ،‬نز َلت دموع «عمرو بن جابر» حارة وهو يذكر‪ ،‬ثم نف�ض عن ر�أ�سه الأفكار‬
‫بقلة حيلة‪ ،‬الإن�سان فان واجلن فان‪ ،‬ولي�س يف هذه الدنيا �إال خالد واحد‪،‬‬
‫ذلك الذي كفرت به يا بن جابر‪ ،‬املالك املنري املتوج‪ ،‬اعتدلت عيون «عمرو»‬
‫من احلرية �إىل العزم‪ ،‬ونف�ض عن نف�سه كل الو�ساو�س و�أرهف �سمعه برهة ثم‬
‫ا�ستدار بلمح الب�صر �إىل ورائه ونظر فر�آه‪.‬‬

‫ع‬
‫كان يطفو يف علو من الأر�ض وعينه بارقة‪ ،‬وب�سمة من الأذى تع ُلو حمياه‪..‬‬

‫ص‬
‫كان هو ذلك اجلن املارد «�إزب بن �أزيب»‪ ،‬كان ُيو�س ِو�س له منذ البداية‪ ،‬ا�ستعر‬
‫تنحى «�إزب» كالطيف ثم قال‪� :‬أنت عار‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وجه «عمرو» بالغ�ضب وحت َّرك �إليه‪َّ ..‬‬
‫على م�ؤتلف اجلن يا بن جابر‪ ،‬كان من الأجدر �أن يخلقك اهلل حيوا ًنا مثل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أخذتك �أوهامك �أنك تقدر �أن مت�سني بج�سدك‬ ‫�أولئك الذين حتن �إليهم‪� ،‬أم قد � َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫انظر �إىل نف�سك و�أنت ت�ستمع خلف هذا اجلدار �إىل لغو‬ ‫الب�شري املحقور هذا!‪ُ ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بني الإن�سان وقد طردك بنو الإن�سان‪ ،‬لقد كانت تلك النبوءة التي �ألقيتُها �أنا يف‬

‫ش‬
‫ر‬
‫� ُأذن الكاهن �سطيح كذ ًبا يا بن جابر‪� ،‬إمنا نحن نزيدهم يف الغي‪� ،‬إن كان نبي يف‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�أولئك املحقورين فلن يكون �إال من بني �إ�سرائيل‪ ...‬قال له «عمرو»‪:‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫يقدر‬
‫ �إن كان كذ ًبا فلم �ألقيتَه يف �سطيح وهو يلفظ �أنفا�سه الأخرية ولي�س ِ‬
‫�أن يغوي به �أحدً ا؟‬
‫مل ي ُرد «�إزب»‪ ..‬ثم اجنت «عمرو بن جابر» من املكان ك�أن مل ي ُكن فيه‪ ،‬ثم‬
‫برز يف هيئته اجلنية عال ًيا فوق «�إزب»‪ ،‬ثم �أقدم على «�إزب» ويف عينيه غ�ض َبة‬
‫يغ�ضب مثلها من قبل‪ ،‬غ�ضبة تذكر فيها «�إينور» ومت ُّددها على الأر�ض عند‬ ‫مل َ‬
‫عباءة ذلك ال�شيطان‪ ،‬لكن «عمرو» ال يتع َّلم من ما�ضيه‪ ،‬مل يذ ُكر كلمات «�إينور»‬
‫وهي ُتعا ِتبه �أن يجابه ماردًا‪ ،‬م َّد ذلك املارد يده فانغرزت يف �صدر «عمرو» ك�أنها‬
‫�إىل جوفه ما�ضية‪ ،‬وتك َّورت قب�ضته بداخل ال�صدر لتفتك مبهجة «عمرو بن‬
‫جابر» الذي تق َّو�س ج�سده للوراء وملحت عينه �شي ًئا ما باجلوار‪.‬‬
‫ عن �أي نبي تتح َّدثان يا �إزب؟‬

‫‪175‬‬
‫التفت «�أزب» بعني م�صدومة‪ ..‬و�سقط «عمرو بن جابر» كاجلثة‪ ،‬ر�أى «�إزب»‬
‫ظل‪ ،‬بل‬ ‫جال�سا على عقبيه وركبتاه مثنيتان‪ ،‬ثم تن َّبه �إىل �أنه لي�س ً‬
‫ظال م�ستو ًرا ً‬
‫كان ج�سدً ا‪� ،‬أ�س َود حالك يحموم‪ ،‬له �شعر �أبي�ض يفرقه من منت�صفه‪ ،‬ومالمح‬
‫ال تتبينها لكنها كاحلية ال�ضارية‪ ،‬كان ذلك هو «�سيدوك»‪ ،‬من مردة «لو�سيفر»‬
‫الثالثة‪ ،‬والرجل الثاين يف وفد ن�صيبني‪ ،‬كان يجل�س يراقب كالقدر وقد �س�أل‬
‫ب�صوت ال ي�ستطيع املرء �أن يكذب �أمامه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ال�س�ؤال‬

‫ع‬
‫تناه�ض «عمرو بن جابر» من الأر�ض وهو مي�سك �صدره يف � َأل ونظر �إىل‬

‫ري‬‫ص‬
‫حيث يجل�س «�سيدوك» فات�سعت عيناه‪� ،‬إن مثل هذا ال ينزل يف �سهول الأر�ض �إال‬

‫ال‬
‫و الأمر �أمر ع�ضال‪ ،‬لقد �أنزلتهم من موا�ضعهم بخربك يا «�أحمد»‪ ،‬واهلل لئن‬
‫ر�أتك عيني لأن�صرنك‪ ..‬قال «�إزب»‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ �إمنا هي �أخبا ٌر �سمعناها من عجيج الغمام البد �أنها تناهت �إىل م�سامع‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�سيدنا املقد�سة‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫قال «�سيدوك»‪� :‬أي �أخبار هذه؟ قال «�إزب»‪� :‬سمعنا �أن نب ًيا يف هذه الأر�ض قد‬

‫ر‬
‫ُو ِلد‪ ،‬من بني غالب بن فهر‪ ،‬من �أ�شراف قري�ش‪ .‬قال «�سيدوك» وقد تب َّدل لون‬

‫الت‬ ‫و‬
‫أيت هذه الر�ؤيا يا �إزب؟ ظهر التوتُّر على وجه «�إزب» الب�شع وهو‬ ‫عينيه‪ :‬متى ر� َ‬

‫و‬
‫فعلت يف‬
‫يقول بخفوت‪ :‬قبل �أربعني �سنة تزيد �أو تنق�ص‪ ..‬قال �سيدوك‪ :‬وماذا َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أربعني �سنة؟ قال «�إزب»‪ :‬كنتُ �أبحث عنه يف كل درب‪ ..‬نظر له «�سيدوك» نظر ًة‬
‫حادة وقال‪ :‬وهل وجدتَه يا �أزب؟ قال «�إزب»‪ :‬خ�سئت �أن �أع َلمه قبل �أن يع َلمه‬
‫ر�سل �سيدي‪.‬‬
‫ُ‬
‫نظر «�سيدوك» �إىل «عمرو بن جابر» الذي قام واق ًفا‪ ..‬قال «عمرو» هاز ًئا‪:‬‬
‫ر�سلكم لتبحثوا عن‬ ‫عج ًبا من �أمر �سيدكم‪� ،‬أت�أتيه املالئكة الكرام باخلرب و ُي ِ‬
‫�صحة اخلرب‪ ،‬ف�إما العوار يف قلوبكم �أو العوار يف �سيدكم!‬
‫نظر «�سيدوك» بعني ك�أنها عني ثعبان وقال‪ :‬من هذا الكائن؟ قال له «عمرو»‪:‬‬
‫�أنا الكافر بالهراء الذي �أنتُم عليه‪ ..‬نظر «�سيدوك» �إىل «�أزب» وقال له‪ :‬انط ِلق‬
‫التفت �إىل «عمرو» بع ٍني م�شقوقة وقال‬‫يا �إزب �إىل الهرم ف�أب ِلغ عما ر�أيت‪ ..‬ثم َ‬
‫كنت ت�سمع وراء ذلك اجلدار؟ خ�شي «عمرو» �أن ُيحدِّ ث ب�شيء يدُل‬ ‫له‪� :‬إالم َ‬
‫على الأربعة الأنوار‪ ،‬فتما�سك وقال‪ :‬دخلتُ لأ�س�أل اليهود عن دينهم وعن النبي‬
‫خارجا‪ ..‬قال «�سيدوك» وقد ات�س َعت عيناه كاملجنون‪:‬‬ ‫الذي ينتظرون‪ ،‬فطردوين ً‬
‫كذبت‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫طار الطري من على ر�ؤو�س ال�شجر ونظر «عمرو» راج ًفا �إليهم ثم نظ َر �إىل‬
‫«�سيدوك» الذي مل ي ُعد يف مكانه‪ ..‬تل َّفت «عمرو» ثم وقف ُمتج ِّمدً ا ك�أنه م�شلول!‪،‬‬
‫ويده جتري على رقبة «عمرو» ب ُبطء‪ ،‬و�صار‬ ‫كان «�سيدوك» واق ًفا وراء «عمرو» َ‬
‫«عمرو» ينزف و�سقط على الأر�ض يف � َأل‪ ..‬قال له «�سيدوك»‪� :‬ستكون عيني‬
‫وبال‪ ،‬و�ستذ ُكر ا�سمي كلما قب�ضك ال�سم‬ ‫عليك ً‬
‫وراءك يا �أ�ش َقر‪ ،‬و�سيكون ُكفرك َ‬
‫بقلبك قب�ضة‪ ،‬حتى يق�ضي عليك‪.‬‬

‫ع‬
‫نظر «عمرو» �إىل «�سيدوك» الذي اجنت من املكان ك�أن مل يكن فيه‪ ..‬ودفع‬

‫ري‬‫ص‬
‫«عمرو» ج�سده حتى ا�ستند على حائط الدير‪ ،‬و�أ�سند ر�أ�سه وو�ضع يده على رقبته‬

‫ال‬
‫يتح�س�سها‪ ،‬فر�أى يف يده من �أثر ال�سم �شيء‪ ،‬وعرف �أن لي�س قد بقي له يف عمره‬
‫الطويل �إال نزر �ضئيل‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫جلو�سا يعتذرون �آ�سفني عما بدر من «عمرو بن جابر»‪..‬‬ ‫بقى الرجال الأربعة ً‬

‫ش‬
‫قال «احلرب يامني»‪� :‬صاحبكم الأ�شقر قد �آذانا‪ ،‬ويظن �أننا من العرب‪� ،‬إمنا‬

‫ر‬
‫نحن يهود من بني �إ�سرائيل‪ ،‬و�إنه قد كانت لنا �أر�ض مقد�سة نعي�ش فيها‪ ،‬لكنا مل‬

‫الت‬ ‫و‬
‫نحفظ عهد اهلل وعبدنا �آلهة �أخرى‪ ،‬فغ�ضب علينا ف�س َّلط علينا الأمم ف�أخرجتنا‬

‫و‬
‫من �أر�ضنا‪ ،‬فت�ش َّردنا يف الأر�ض‪ ،‬ولن نعود �إلها حتى يبعث اهلل فينا امل�سيح‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫املخل�ص‪ ،‬الذي �سيجمع اليهود كلهم يف الأر�ض املوعودة ويبني الهيكل الثالث‬
‫ويهزم لهم �أعدا�ؤهم ‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ومتى ينزل هذا امل�سيح املُخ ِّل�ص؟ قال احلرب‪ :‬ينزل يف �آخر الزمان‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬وهل قبله عالمات؟ قال‪ :‬ينزل قبله النبي �إيليا من ال�سماء ُي ِّ‬
‫ب�شر النا�س‬
‫باقرتاب نزول امل�سيح املخل�ص‪ ..‬قالوا ومتى ينزل �إيليا؟ قال يف �آخر الزمان‪..‬‬
‫قالوا وهل قبله من عالمات؟ قال‪ :‬يظهر قبله النبي املختار نبي �آخر الزمان‬
‫الذي �سيخ ُرج يف �أر�ض العرب‪.‬‬
‫�سكت الرجال قليال ثم قال «يامني»‪ :‬لذلك ملا جا َءنا يف �أيام �ضعفنا واحتالل‬
‫أنت‬
‫أنت؟ هل � َ‬‫الرومان رجل ا�سمه يحيى يعظ النا�س و يدعوهم للتوبة �س�أل َناه من � َ‬
‫امل�سيح؟ قال ال‪ ،‬قلنا هل �أنت �إيليا؟ قال ال‪ ،‬قلنا هل �أنت النبي؟ قال ال‪ ،‬ثم قال‬
‫أب�شركم و�أنذركم‪ ،‬لقد خرج فيكم امل�سيح املخل�ص‪ ،‬و�إنه‬ ‫لنا يا بني �إ�سرائيل �إين � ِّ‬
‫لعي�سى بن مرمي‪ ،‬و�إين ر�أيتُ روح اهلل ينزل عليه كما احلمامة‪ ،‬فقابلنا عي�سى‬
‫ب�سيطا لي�س به قوة جتعله امل�سيح الذي وعدنا به الكتاب‪،‬‬ ‫رجل ً‬ ‫هذا فوجدناه ً‬
‫‪178‬‬
‫فال هو من الالويني وال هو من الكهنة وال من الر�ؤ�ساء‪.. .‬بل كان َّ‬
‫جنا ًرا‪ ،‬مل ن َر‬
‫فيه �أنه �سيحررنا من الأمم التي ا�ستعبدتنا‪ ،‬بل �إنا وجدناه يتكلم �ضد كرباء‬
‫دمر اهلل لهم‬ ‫حذرهم �إن هُ م بقوا على ف�سادهم ف�س ُي ِّ‬ ‫اليهود وينتقد �أفكارهم و ُي ِّ‬
‫الهيكل‪ ،‬جماهري كثرية اتَّبعته‪ ،‬والحظ الرومان حدوث فرقة بني اليهود وخ�شوا‬
‫�أن حتدُث ثورة‪ ،‬ف�أوعزنا للرومان �أن ي�صلبوه لأنه كافر و�ضال وم�ضل‪ ،‬وكان يف‬
‫نف�سونا �أننا نفعل هذا امتحا ًنا‪ ،‬ف�إن مات فلي�س هو امل�سيح املنتظر!‪ ،‬وبالفعل‬

‫ع‬
‫�أم�سك به الرومان و�صلبوه ومات‪ ،‬فعرفنا يقي ًنا �أنه لي�س امل�سيح ‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫�سكت الرجال وخرجوا ولي�ست قلوبهم مرتاحة‪ ..‬فلقيهم «عمرو بن جابر» يف‬ ‫َ‬

‫ال‬
‫اخلارج وهو واق ًفا بهيئته العجيبة‪ ..‬قال �أو�سطهم‪ :‬واهلل �إن ه�ؤالء القوم قد �أكلوا‬
‫عقولنا‪ ،‬قوم ال يجوزون الأنبياء �إال منهم وك�أن اهلل تارك �شعوب العامل هائمون‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫على وجوههم ال يدرون عنه �شي ًئا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قال بع�ضهم لبع�ض‪ :‬فال�شام ال�شام يا بني غالب‪ ،‬ف�إن فيها ن�صارى‪ ،‬و�إن‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫فيهم ودًا ولينا‪ ،‬و�إن لديهم الدين والدنيا‪ ،‬و�إنهم ليبنون لدينهم املدائن‬

‫ر‬
‫والق�صور‪ ،‬ولقد �أ�صبح لدينهم �أ ُلوف م�ؤ َّلفة من الأجناد والأن�صار؛ ف�إن مل ي ُكن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫يف دينهم ح ًقا ف�أين �سيكون!‪ ،‬و�إن رحلة ال�صيف �إىل ال�شام قد اقرت َبت‪ ،‬فلنخ ُرج‬

‫و‬
‫مع اخلارجني‪ ..‬وانتظروا حتى �أتى ال�صيف‪ ،‬وانطلق �أربعة من بني غالب ومعهم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫جني �إىل بالد ال�شام يف رحلة ال�صيف‪ ،‬غري عاملني �أن ت�سعة من جنون ن�صيبني‬
‫نزلوا �إىل نف�س الرحلة‪ ،‬والكل يبحث عن نبي!‬
‫‪z‬‬
‫نف وب�ضاعة‪،‬‬ ‫نياق تتابعت خطواتها م�صفوفة يف �صفوف‪ ،‬عليها من كل َ�ص ٍ‬
‫م�سافرة يف قافلة طويلة تلقي بظاللها على اجلبال‪ ،‬تبغي ربوع ال�شام للتجارة‬
‫والربح‪ ..‬كان «عمرو بن جابر» قد اختلط ببني الإن�سان العرب حتى �صار بع�ضهم‬
‫يعرفه باال�سم‪ ،‬و�إمعا ًنا يف ادعاء الب�شرية فقد جعل «عمرو» لنف�سه جتارة ُي�سافر‬
‫بها �إىل بالد ال�شام‪ ،‬ولقد كان �صفه و�صف �أ�صحابه الأربعة مقر ًبا وجماو ًرا‬
‫لأبو �سفيان بن حرب‪� ،‬سيد قبائل قري�ش كلها وكنانة‪ ،‬وكانت جماورتهم له لأن‬
‫واحدً ا من الأربعة الأنوار له معه قرابة‪ ،‬كان «عمرو بن جابر» الفتًا بذلك ال�شعر‬
‫الذهبي الذي ميلكه‪ ،‬كان ي�ضاحك �أ�صحابه وهو يعدل ال�سرج على ناقته‪ ،‬وحانت‬
‫منه نظرة �إىل الأمام فتغريت كل مالحمه‪ ..‬فهناك ويف مو�ضع غري بعيد عنه‪،‬‬
‫ر�آهم فعرفهم‪ ،‬مبالحمهم و�شعورهم‪ ،‬واجلن يعرف اجلن و�إن مت َّثل كالب�شر‪،‬‬
‫‪179‬‬
‫ويتلطفون النا�س‪ ،‬وعيونهم تربق �إذا تباعدت عنها الأنظار‪ ،‬كور‬ ‫كانوا مي�شون َّ‬
‫«عمرو» عمامته فوق ر�أ�سه وو�ضع اللثامة ليخفي منظره‪ ،‬واطم�أن لبعد مو�ضعه‬
‫عنهم ولأنه ال مي�شي يف عري �أبو �سفيان �إال من كان مقر ًبا منه‪ ..‬كان يت�ساءل‬
‫تبي �أن‬ ‫كيف و�صل اجلن بهذه ال�سرعة!‪ ،‬كان يالحظ انت�شارهم بطرف عينه‪َّ ..‬‬
‫كل واحدً ا منهم قد و�ضع نف�سه عند جماعة من جماعات الركب‪ ،‬ومل ي َر �أحدً ا‬
‫منهم قد �أتى لدى عري �أبي �سفيان‪ ،‬فتن َّهد و�أكمل جتهيز ناقته‪.‬‬

‫ع‬
‫ مل �أد ِر �أن اجلن �إذا �أرادوا �إخفاء �أنف�سهم يكونون بهذا الغباء‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫انت َف�ض قلبه وت�صاعد التوتر فيه وعرف �أن �أمره قد انك�شف‪ ..‬ثم كظم غيظه‬
‫تنظر‬ ‫للإهانة وا�ستدار ونظر من وراء لثامته‪ ،‬فر�أى «ما�سا» ‪-‬اجلنية احل�سناء‪ُ -‬‬

‫ك‬
‫له يف ثبات‪ ،‬قال لها بحزم‪ :‬اكتمي عني عند �أ�صحابك و�س�أنبئك ب�أمري بعد‬

‫ت‬
‫حني‪ ..‬نظ َرت �إىل و�سامته وقالت‪ :‬فلي ُكن كما تريد �أيها الو�سيم‪ ..‬ثم �أتاها �صوت‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أنت يا امر�أة؟ نظرت ف�إذا هو «�أبو �سفيان» ي�س�ألها‪،‬‬ ‫من ورائها يقول‪ :‬من �أي ع ٍري � ِ‬

‫ن‬
‫مل يبد �أن مالمح «ما�سا» �أجنبية‪ ،‬فلها �شعر �أ�س َود ومالمح �سه َلة‪ ،‬لكن لهجتها‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ف�ضحتها‪ ..‬قالت له‪� :‬إين من عري وراءكم‪ ،‬و�إين قد �أتيتُ لأ�سائلك عن �أمر‪...‬‬ ‫َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قال لها‪ :‬ت�س�ألينني �أنا؟ قالت‪ :‬نعم‪� ،‬إنا �أتينا من ن�صيبني �إىل بالدكم وقد تن َّب�أ‬

‫و‬
‫رجل نب ًيا مر�سل من رب ال�سماء‪ ،‬فهل �أتاكم مثل هذا �أو‬ ‫لنا كاهننا �أن فيكم ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قريب منه يا �سيد قري�ش؟ قال «�أبو �سفيان»‪� :‬إن الـ‪....‬‬
‫قاط َعه �صوتٌ هادئ من جواره يقول‪:‬‬
‫ �إين �أنا ن ِبي هذه الأمة‪.‬‬
‫بده�ش ٍة ونظر «عمرو بن جابر» بعيون �أتع َبها ال�شوق �إىل �صاحب ذلك‬ ‫نظ َرت َ‬
‫رجل بهي ال�صورة �أبي�ض الوجه‪ ،‬كان الأربعة الأنوار‬ ‫ال�صوت الوا ِثق؛ فوجداه ً‬
‫ُيتابعون امل�شهد وبع�ض ال�سائرين القريبني‪� ..‬س�أله «عمرو بن جابر» مبا�شرة‪:‬‬
‫قليل؛ فقد كان يريد‬ ‫ما ا�سمك؟ قال الرجل‪� :‬أدعى �أبا القا�سم‪ ..‬توتَّر «عمرو» ً‬
‫رجل‬ ‫�أن يعرف ن�س َبه‪ ،‬ف�س�أل �أحد الرجال حوله‪ ،‬قال له الرجل‪� :‬إن �أبا القا�سم ُ‬
‫�صالح عذب الل�سان وحلو الكالم‪ ،‬نحن ن�سافر للتجارة وهو ُي�سافر يحمل الكتب‬
‫املقد�سة يقر�أها ويحفظها‪ ..‬قال له «عمرو»‪� :‬أي ُك ٍتب مقد�سة؟ قال الرجل‪ :‬كتُب‬
‫اليهود والن�صارى‪� ..‬س�ألت «ما�سا» «�أبا القا�سم» فقا َلت له‪ :‬ماذا ترى يف الدين‬
‫يا �أبا القا�سم؟ قال‪� :‬أرى اهلل وال �أرى �سواه‪ ..‬ثم قال‪:‬‬
‫‪180‬‬
‫لك احلمد والنعماء وامللك ربنا‬ ‫َ‬
‫أجمد‬
‫منك جدا و� َ‬ ‫فال �شيء �أعلى َ‬
‫مليك على عر�ش ال�سماء مهيمن‬

‫ع‬
‫لعزت ��ه تعن ��و الوج ��وه وت�س � ُ�جد‬

‫ص‬
‫علي ��ه حج ��اب الن ��ور والن ��ور حول ��ه‬
‫و�أنه ��ار ن ��ور حول ��ه تتو َّق ��د‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ك‬
‫و�أنى يكون اخللق كاخلالق الذي‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ي ��دوم ويبق ��ى واخلليق ��ة تنف ��ذ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫هو اهلل باري اخللق واخللق كلهم‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�إم ��اء ل ��ه طوع ��ا جميع ��ا و�أعب ��د‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫‪z‬‬

‫‪181‬‬
‫«عمرو بن جابر» ذهَ ب‪« ..‬عمرو بن جابر» جاء‪ ..‬طردوه من الدير‪� ،‬س َّم ُموه‪ ،‬و�إنه قد‬
‫�أتى احلني الذي �أخربك فيه بال�شيء الذي مل ُيخربك به الأولون‪ ،‬ولن يخربك به الآخِ رون‪،‬‬

‫ع‬
‫بكرة �أبيهم‪� ،‬س�أخربك يا عبدي‬ ‫فهما خاطئًا‪ ،‬كلهم عن َ‬
‫ال�شيء الذي فهمه كل بني جن�سك ً‬

‫ري‬‫ص‬
‫عن التمثل‪.‬‬

‫ال‬
‫�إن بنو جن�سك ب�أفهامهم ال�سقيمة الب�رشية و�ألبابهم‪ ،‬يظنون �أنا نحن اجلن ميكنهم التم ُّثل‬

‫ك‬
‫ب�أي �شيء وب�أي �صورة؛ يعني ميكننا التم ُّثل ب�صورة �أبيك و�أمك‪� ،‬أو �أخوك‪� ،‬أو �أح�سن �شيخ‬

‫ت‬
‫أمورا على ل�سانه ت�ضلكم وت�ضل جن�سكم كله!‪ ،‬يا ليتنا نقدر‬ ‫ُخب النا�س � ً‬
‫فا�ضل يف البلدة فن ِ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫على مثل هذا‪ُ ..‬‬

‫ن‬
‫لكنا لعبنا بكم �ألعا ًبا وغررنا بقبيلكم كله وجعلناكم مالهي وتالهي‪...‬‬

‫ش‬
‫ملخلوق يف هذه الأر�ض �أن يتح َّول عن خلقته التي خلقه‬
‫ٍ‬ ‫لكننا ال نقدر على مثل هذا‪ ،‬ولي�س‬

‫ر‬
‫�سحرة عوايل‪ ،‬ماهرين بالتخييل نُ�س ِّميهم‬
‫اهلل عليها �إىل خلقة �أخرى‪ ..‬ولكن‪ ،‬لنا يف جِ ن�سنا َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ال�سعايل‪ ،‬ينرث اجلني ال�ساحر منهم على ج�سده ووجهه وفجواته ومالب�سه اجلو�ستار‪ ،‬وهو‬

‫و‬
‫جدا �إذا نرثناه يلزب بذراته على �أج�سادنا و�ألبا�سنا فن�ستبني لعيون الإن�سان‪،‬‬ ‫عن�رص ثمني ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فيتك�شف اجلني للأب�صار‪ ،‬بنف�س مالمح اجلني ومالب�س اجلني‪ ،‬وج�سد اجلني‪ ،‬و�إن �أج�سادنا‬
‫ومالحمنا ال تختلِف عن مالحمكم و�أج�سادكم يف �أي �شيء‪ ،‬لي�ست لنا مالمح مريعة وقرون‬
‫و�أنياب كما حت�سب خواطركم ال�سفيهة يا �سفهاء الأر�ض‪� ،‬إمنا نحن �أمثالكم‪ ،‬منا اجلميل‬
‫الأجمل منكم ومنا القبيح الأقبح منكم‪� ،‬إال �أن فئة منا تكون لهم �أجنحة ك�أجنحة الطري‬
‫العظيم‪ ،‬وفئة لي�س لديهم �أجنحة‪ ،‬هذه الأجنحة ال تكون ملغالبة الريح والتطاير فيها‪،‬‬
‫ف�إن �إ�رساعنا يف الأر�ض يجعلنا ننقل من مدينة �إىل �أخرى قبل �أن يخفق طائر من طيوركم‬
‫خفقة واحدة يف الريح‪� ،‬إمنا �أجنحتنا تكون ملغالبة جلج من الأثري لي�ست بعيونكم‬ ‫ً‬ ‫جناحه‬
‫تُرى‪ ،‬و�أجنحة كهذه ال يلزب عليها اجلو�ستار � ًأبدا؛ لأنها �أجزاءها دائمة النب�ض فال يقدر‬
‫جني �أن ُيظهرها بني الب�رش‪.‬‬
‫جميع ال�سحرة ال�سعايل العارفني للتمثل هم من �أتباع الأمري «لو�سيفر»‪ ..‬هذا مفهوم‬
‫منطقا لأن التمثل هو �ش�أن يخ�ص التعامل مع الإن�س‪ ،‬وهو تعامل ال يعتني به �سوى �أتباع الأمري‬
‫«لو�سيفر»‪ ،‬لكن عامة اجلن لي�س لديهم �أي اهتمام ملثل هذا‪ ،‬وال ميلك اجلو�ستار �إال «لو�سيفر»‬
‫‪182‬‬
‫و�شيعته‪ ،‬وال يحوزه غريهم‪ ،‬التم ُّثل بالن�سبة لل�سحرة ال�سعايل هو �أحد طرق الإ�ضالل‪،‬‬
‫فيتحدث لهم بالكذب‬‫َّ‬ ‫يتم َّثل �أحدهم وي�أتي النا�س يف �صورة �شخ�ص مل يروه من قبل‪،‬‬
‫والإ�ضالل وال يحتاج ال�سعايل لفعل هذا �إال يف حوادث تعجز الو�سو�سة على التغيري فيها‪.‬‬
‫جميع الذين تدعونهم مالئك ن�صيبني �إمنا هم �سعايل ن�صيبني‪ ..‬كلهم من رهط‬
‫«لو�سيفر»‪ ،‬حتى «عمرو بن جابر» وزوجته «�إينور»‪� ،‬إال �أن هذين انتف�ضا وع�ص َيا وخانا‬

‫ع‬
‫يتحدث عنها القا�صي والداين‪ ،‬كيف كانا من �أ�رش�س و�أخل�ص‬‫العهد وكان لهم ق�صة يف اجلن َّ‬

‫ص‬
‫�أن�صار الأمري‪ ،‬وكيف تقابال يف حكاية ملحم َّية وكيف حتا َّبا وكيف ع�ص َيا‪ ،‬حكاية �ستجدها‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف املجلد الثاين من ال�صحائف‪.‬‬
‫م�شكلة التم ُّثل الوحيدة �أن اجلو�ستار �إذا �أبلجنا و�أظهرنا يف هيئة مرئية‪ ،‬حتجمت جميع‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ً‬
‫حركة م�ست�صعبة‪،‬‬ ‫فنتحرك‬
‫َّ‬ ‫خوا�صنا اجلنية‪ ،‬بل هو يثقل على ذراتنا اجلنية حتريكه‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫جدا‪� ،‬إن �أم�سكت ذلك الإن�سان ال يقدر �أن ُي�ؤذيك وال �أن يعمل‬ ‫فنكون ك�أننا �إن�سان �ضعيف ً‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫فيك �أي �شيء ي�رضك‪ ،‬و�إذا قطعتنا ب�أداة �أو �رضبتنا بع�صا ف�إنا نت�أذى يف هيئتنا اجلنية بقدر‬

‫ش‬
‫�رضبتك �أو قطعتك للهيئة املرئية‪ ،‬لكن ال تكون لنا دماء!‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫كل حكاياتكم امل�سطورة واملنقولة عن اجلن�س بني اجلن والإن�س �إمنا هي خ َبال‪� ..‬إال لو‬

‫و‬
‫وفعلتك هذه ال ينتُج عنها �أي حمل؛ لأن‬ ‫َ‬ ‫مت َّث َلت �إحدانا و�أم�سكت بها بالقوة واغت�صبتَها‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫اجلو�ستار �إمنا ُيظ ِهر الأجزاء اخلارجية من اجل�سد والفجوات الظاهرة‪ ،‬لكن الأح�شاء الداخلية‬
‫املغت�صب �سيهبط يف وعاء فارغ من اجلو�ستار ولن يكون هناك رحِ م‬ ‫ِ‬ ‫ال ي�صل لها جو�ستار‪ ،‬فماء‬
‫ال�ستقباله‪ ،‬و�إن حدث هذا وا�ستظهرت �إحداهن رحمها باجلو�ستار مبعجز ٍة ما‪ ،‬ف�إن احلمل ال‬
‫يقع‪ ،‬مثلما ال يقع احلمل بينكم وبني القرود �إذا نكحتُم القرود‪ ،‬وال يقدر اجلن الرجل �أن ميار�س‬
‫جن�سا مع �أحد؛ لأن �أع�ضاءه اجلن�سية حتتاج لأح�شاء داخلية تثري فيها احلركة‪ ،‬واجلو�ستار ال‬ ‫ً‬
‫يغطي �إال اجلزء اخلارجي من �أع�ضائه‪.‬‬
‫اجلو�ستار فيه خا�صية االنت�شار الذاتي‪ ..‬فال يقدر جني �أن ي�ضعه على �أجزاء من ج�سده‬
‫دون �أجزاء‪ ،‬وال يقدر جني �أن يختفي من �أمامك فج�أة كما قد تظن �ألبابكم اجلاهلة‪ ،‬بل �إن‬
‫اجلو�ستار هي طبقة يحتاج �إىل �أن يخلعها اجلني قبل �أن يخفى �إىل عامله امل�ستجن‪ ،‬وخلعها عنه‬
‫يحتاج �إىل ب�ضع دقائق �أو ثوان ح�سب مهارته‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪183‬‬
‫(‪)7‬‬

‫اآلب‬
‫االبن‬
‫الروح القدس‬
‫م�ضت يف عروق اجلميع ملا �سمعوا حديث الرجل‪�« ..‬أبو القا�سم» قال‬ ‫رع�ش ٌة َ‬
‫لهم‪ :‬مل يبعثني ربي لكن بعثي قريب‪ ..‬ط َّلت �أعينهم �إىل هيئته وثقته‪ ،‬وت�سابقت‬

‫ع‬
‫أنت يهودي �أم‬‫�آذانهم ل�سماع قوله و�أعجبتهم حالوته‪ ...‬قال له �أحدُهم‪� :‬أف� َ‬

‫ص‬
‫ن�صراين؟ قال‪ :‬ل�ستُ هذا �أو ذاك‪ ،‬ولقد دار�ست �أحبار اليهود يف ك ُت ِبهم حتى‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أهدُوين جميع �أ�سفارهم وتلمودهم‪ ،‬ودار�ست رهبان الن�صارى و�إن يل فيهم ودا‬
‫و�صحبة‪ ...‬قال �أحد الأربعة‪ :‬واهلل �إننا ما خرجنا يف هذا الركب �إال لنبتغي دين‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫التع�سف واجلور‪ ..‬قال‪:‬‬
‫الن�صارى؛ فقد جال�سنا يهود يرثب ووجدنا يف دينهم ُّ‬

‫ب‬
‫�إين كذلك قد م�ضيتُ فيما مر بكم ومال قلبي �إىل دين الن�صارى‪ ،‬لكني مل � ُ‬
‫أدخل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫فيه‪ ..‬قال �أحد الأربعة‪ :‬فلتُعلمنا منه يا �أبا القا�سم فن�صطرب على حر الطريق‪،‬‬

‫ش‬
‫ف�إن َ‬
‫بعثك اهلل ف�إنا لك تابعون‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫قال «�أبو القا�سم»‪ :‬يذكرون �أن اهلل الواحد له ثالثة كيانات مت�ساوية يف‬

‫و‬ ‫الت‬
‫القدر والعظمة‪( ،‬الآب واالبن والروح القد�س)‪ ،‬كل واحد منها لوحده هو اهلل‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫والثالثة كيانات معا هي اهلل‪ ،‬فالآب هو اهلل الالنهائي الغري حمدود والغري‬
‫منظور‪ ،‬واالبن هو اهلل املنظور‪ ،‬والروح القد�س هو روح اهلل وهو اهلل‪ ..‬ورغم‬
‫�أنها ثالثة كيانات متماثلة �إال �أنها كلها كيان واحد هو اهلل‪ ،‬وهذه الثالثة كيانات‬
‫موجودة يف العامل يف نف�س الوقت‪.‬‬
‫ثم قال «�أبو القا�سم»‪ :‬كيان االبن املنظور هو كيان �صادر منذ الأزل من كيان‬
‫الآب الالنهائي الغري منظور‪ ،‬بينما كيان الروح القد�س انبثق منهما‪ ،‬كيان االبن‬
‫هو الذي خلق العامل‪ ،‬وكيان الروح القد�س هو الذي �أعطى املخلوقات احلياة‪،‬‬
‫جت�سد فيه الكيان االبن الذي هو اهلل يف هيئة ب�شرية‬‫ثم �أتى حني من الزمان‪َّ ،‬‬
‫ونزل �إىل الدنيا فر�آه النا�س‪ ،‬وهذا الكيان االبن هو امل�سيح عي�سى‪ ،‬ولأن كيان‬
‫ل�سبب ُم َّعي‪..‬‬
‫جت�سد يف �صورة �إن�سان ٍ‬‫االبن هو اهلل‪ ،‬ف�إن امل�سيح هو اهلل‪ ،‬ولقد َّ‬
‫قالت «ما�سا»‪ :‬ما هو هذا ال�سبب؟‬
‫�ضحي بنف�سه وميوت ُقربا ًنا لأجل خطايا العامل التي‬
‫قال «�أبو القا�سم»‪� :‬أن ُي ِّ‬
‫بلغت حدً ا عظي ًما متعاظ ًما ال يقدر على غفرانها �أي قربان‪ ،‬فق�ضى اهلل �أن‬
‫‪187‬‬
‫فتج�سد كيان االبن يف هيئة ب�شرية‬ ‫يرحم هذا العامل رغم خطيئته املتعاظمة‪َّ ،‬‬
‫هي امل�سيح عي�سى‪ ،‬و�سمح للإن�سان �أن يقتُله وي�صلبه‪ ،‬وما فعل ذلك �إال ليبذل‬
‫نف�سه قربا ًنا لريحم العامل كله رحم ًة �أبدية ويغفر خطايا الإن�سان املتعاظمة‪.‬‬
‫قال �أحدهم‪� :‬أي خطي ٍة ُمتعاظمة؟ �ألي�س اليهود كانوا يعبدون اهلل وحده‬
‫و�سط �أُ َم كثرية رف�ضته؟ قال «�أبو القا�سم»‪ :‬العامل كله كان قد غرق يف اخلطية‬
‫حتى طفا‪ ،‬الأمم الغري يهودية غا�صت يف اخلطية وعبادة الأ�صنام‪ ،‬واليهود‬

‫ع‬
‫بعد �أن ح َّررهم الرومان من ال�سبي و�أرجعوهم �إىل الأر�ض املقد�سة وبنوا املعبد‬

‫ري‬‫ص‬
‫الثاين‪ ،‬ا�ستمر�أوا اخلطية وتركوا التوراة ومار�سوا الربا على �أبواب املعبد‪،‬‬

‫ال‬
‫كانت الأر�ض �سابحة يف اخلطيئة‪ ،‬لكن لي�ست هذه هي اخلطيئة التي جعلت اهلل‬
‫ي�ضحي بنف�سه قربا ًنا لريحم العامل‪ ،‬هذه جزء فقط من اخلطية‪ ،‬هناك جزء‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�آخر �أكرث �أهمية‪ ...‬قال الرجل‪� :‬أي جزء؟ قال «�أبو القا�سم»‪ :‬اخلطيئة املتوارثة‬

‫ب‬
‫التي ورثها كل �إن�سان من جده �آدم‪ ،‬هذه موجودة مع الإن�سان يو َلد بها وهو ُم�ش َّبع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫طفل‪ ،‬فلم يكتف العامل‬ ‫بها‪ ،‬هذه موجودة لدى كل �أحد منذ خروجه �إىل العامل ً‬

‫ش‬
‫بهذه اخلطية الأ�صلية التي ورثوها من �أبوهم �آدم‪� ،‬إمنا �أخط�أوا خطايا �أخرى‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ا�ستوحلوا بها يف وحل اخلطية �أكرث‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫رجل‪ ،‬خطية �آدم قبل �آالف ال�سنني؟ ما عالقة‬ ‫قال «عمرو بن جابر»‪ :‬يا ُ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ذريته بها؟ قال «�أبو القا�سم»‪� :‬آدم ملا �أكل من ال�شجرة �أ�صبحت نف�سه خاطئة‬
‫وت َّواقة للخطية بعد �أن كان بري ًئا‪ ،‬هذه النف�س اخلاطئة التواقة للخطية �أورثها‬
‫�آدم لكل ذريته‪ ،‬ولقد ق�ضى اهلل يف الأزل �أن العا�صي يخ ُرج من رحمة اهلل‪ ،‬ف�آدم‬
‫ملا ع�صى خرج من رحمة اهلل وخرج من اجلنة‪ ،‬وذرية �آدم كلها بالتايل خاطئة‬
‫تب�س َمت «ما�سا» وقالت‪ :‬ما احلل �إذن؟ ماذا يفعل‬ ‫وخارجة من رحمة اهلل‪َّ ...‬‬
‫�ضحى بنف�سه‬ ‫تب�سم «�أبو القا�سم» وقال‪ :‬احلل هو امل�سيح‪ ،‬فلما َّ‬ ‫بني الإن�سان؟ َّ‬
‫وبذل دمه‪ ،‬رفعت خطيئة �آدم الأ�صلية �أثقالها عن بني الب�شر‪ ،‬ورفعت كل خطايا‬
‫الب�شر الأخرى‪.‬‬
‫قال «عمرو»‪� :‬إذن اهلل غفر للعامل كله خطيئاتهم بعد �أن ُ�ص ِلب امل�سيح؟ قال‬
‫«�أبو القا�سم»‪ :‬ال‪ ،‬فقط الذي ي�ؤمن �أن امل�سيح �ضحى بنف�سه لأجله هو الذي ترتفع‬
‫خطيئته‪� ،‬أما الذي ال ي�ؤمن بذلك ف�إن خطيئته باقية مل ترتفع‪.‬‬
‫قال «عمرو»‪� :‬إذن يكفي �أن �أ�ؤمن بت�ضحية امل�سيح حتى تغفر يل جميع‬
‫أدخل اجلنة؟ قال «�أبو القا�سم»‪ :‬نعم‪ ..‬قال الرجل‪ :‬وماذا �إن ع�صيتُ‬ ‫خطاياي و� ُ‬
‫‪188‬‬
‫فزنيت �أو قتلتُ ‪ ..‬قال «�أبو القا�سم»‪ :‬كل خطاياك هذه مغفورة بت�ضحية امل�سيح‬
‫طاملا �أنت م�ؤمن به‪.‬‬
‫الحظ «عمرو» �أن اجلميع ُيف ِّكر يف الأمر ب�شكل جدي‪ ..‬مل تكن وجوههم‬
‫ممتع�ضة كما كانت �أثناء �سماعهم لكالم اليهود‪ ،‬ثم تن َّبه «عمرو» �إىل نقطة‬
‫وقال‪ :‬ماذا عن اليهود وكتب اليهود وعقيدتهم‪ ،‬ماذا يقول الن�صارى فيها؟ قال‬
‫«�أبو القا�سم»‪ :‬الن�صارى ي�ؤمنون بكل ما جاء يف التوراة اليهودية‪ ،‬كله كما هو‬

‫ع‬
‫بل ويقولون �أنه هو كلمة اهلل املقد�سة كما يقول عنه اليهود‪ ...‬ولكنهم ال ي�ؤمنون‬

‫ري‬‫ص‬
‫بالتلمود‪ ..‬قال «عمرو»‪ :‬فما االختالف �إذن؟ قال‪ :‬االختالف هو يف عي�سى؛‬

‫ال‬
‫اليهود ال يعتربونه �شي ًئا على الإطالق والن�صارى يعتربونه هو اهلل نف�سه‪ ،‬اهلل‬
‫املثلث الكيانات �أنزل ابنه الوحيد يف هيئة ب�شرية ليبذل دمه على ال�صليب لرفع‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫خطيئة العامل‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قال رجل من الأربعة الأنوار‪� :‬سمعنا من �أفواه اليهود �أنهم ينتظرون نب ًيا‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫من �أر�ض العرب يخ ُرج يف زماننا هذا‪ ،‬وينتظرون بعده نزول النبي �إيليا الذي‬

‫ر‬
‫�سيب�شر بنزول امل�سيح املخل�ص‪ ..‬قال «�أبو القا�سم» وقد �شردت عينه‪ :‬بالن�سبة‬

‫الت‬ ‫و‬
‫للن�صارى فامل�سيح املخل�ص الذي ينتظره اليهود قد نزل لليهود بالفعل واليهود‬

‫و‬
‫كذبوه و�صلبوه‪ ،‬وهو امل�سيح عي�سى‪ ،‬وهو من ن�سل النبي داوود‪ ،‬يعني من الن�سل‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫املق َّد�س كما كان ينتظر اليهود‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬لكنه مل ُيح ِّرر اليهود من اال�ستعباد ومل ُي ِعد لهم الأر�ض املقد�سة‬
‫املحتلة من الرومان‪ ..‬قال له «�أبو القا�سم»‪ :‬كانت ُمه َّمته هو تنبيههم �إىل‬
‫خطاياهم والت�ضحية بنف�سه لغفران خطايا العامل‪ ،‬وبالن�سبة للأر�ض املقد�سة‬
‫فلم يكونوا ي�ستحقونها‪ ،‬لأن اهلل وعد الأر�ض املقد�سة لليهود الذين يحافظون‬
‫على العهد‪ ،‬وهم يف زمن عي�سى كانوا قد تركوا التوراة وظلموا وعملوا اخلطايا‪،‬‬
‫بل �إن عي�سى تب َّن�أ لهم �أن معبدهم الثاين هذا �سيتم هدمه ب�سبب �أعمالهم‪،‬‬
‫وحت َّققت نبوءته بالفعل؛ وته َّدم املعبد الثاين بالفعل حني غزا الرومان الأر�ض‬
‫غزو ًة غا�شمة طردوا اليهود من الأر�ض �إىل الأبد‪ ،‬لكنه �سيعود يف �آخر الزمان‬
‫ليحقق النبوءة‪.‬‬
‫�أما النبي الذي ينتظره اليهود‪ ،‬فلأن الن�صارى ي�ؤمنون بالتوراة فمن‬
‫ب�شر‬‫أي�ضا‪ ،‬لكن اعلموا �أن ذلك النبي لو �أتى �س ُي ِّ‬
‫الطبيعي �أن يكونوا ينتظرونه � ً‬
‫ب�إتيان امل�سيح عي�سى يف �آخر الزمان ل ُيح ِّقق النبوءة‪ ،‬ولذلك لن ُي� ِؤمن به اليهود‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫نزل اجلميع منزال يف الطريق لي�سرتيحوا فيه‪ ..‬ومت َّددت العظام ومتطت‬
‫الأج�ساد ونزلت ال�شم�س تود الغروب‪ ،‬والأربعة الزالوا ي�شكون وي�س�ألون �أبا‬
‫القا�سم‪ ..‬قالوا له‪ :‬وكيف يريد الن�صارى �أن ي�ؤمن اليهود �أن عي�سى هو امل�سيح‬
‫املنتظر وهو مل ينزل قبله �إيليا كما تقول النبوءة يف التوراة؟ قال «�أبو القا�سم»‪:‬‬
‫ب�شر بامل�سيح‪ ..‬قال‬‫بل نزل �إيليا وح َّل يف روح يحيى‪ ،‬ويحيى هذا هو الذي كان ُي ِّ‬
‫له «عمرو بن جابر»‪ :‬هذا من الـ‪...‬‬

‫ع‬
‫فج�أ ًة فجع القائمون والقاعدون ب�صرخة �أنثوية ُمت� ِّألة بق�سوة!‪ ،‬فنظر‬

‫ري‬‫ص‬
‫الناظرون لها ف�إذا هي «ما�سا» ت�ص ُرخ ومت�سك بر�أ�سها يف � َأل وتبي�ض عيناها‬

‫ال‬
‫اجلميلتان‪ ..‬فهرع لها قومها من اجلن وان�سحب «عمرو بن جابر» وتخفى عن‬
‫النظر‪ ،‬و�أهد�أ اجلن املتمثلون النا�س وقالوا �أنها ُت�ص َرع‪ ..‬والنا�س من حولهم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يعجبون من غرابة مالحمهم وغرابة فتاتهم‪� ..‬أما «ما�سا» فلم تكن ُت�ص َرع؛ �إمنا‬

‫ب‬
‫كانت يف تلك اللحظة ترى من ذكرى املكان �أحدا ًثا عج ًبا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫كابدة يف و�سط نال�سماء تذرف لها اجلباه‪ ..‬و«ما�سا»‬
‫‪z‬‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ب�شم�س َ‬
‫ٍ‬ ‫تنامى اللهيب‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫ا�ستفاقت و�أفرجت عينيها وقامت‬ ‫جمندلة على ظهرها فوق �سطح دير‪ ،‬فلما‬

‫و‬
‫الذي نز َلت فيه قافلتها منذ‬ ‫تعتدل‪ ،‬ر�أت �أنها على دير ُ‬
‫ينظر �إىل نف�س املو�ضع‬

‫زيالذكرى التي‬
‫ع‬
‫ذلك امل�سرتاح‪ ،‬قافلة‬ ‫ثوان‪ ،‬فتطاولت فر�أت قافلة قد توقفوا يحطون رحالهم يف‬
‫لي�ست هي قافلتها و�إن كانت تقف يف نف�س املكان‪ ..‬واحلقيقة �أن‬
‫وقافلة يف زمن‬ ‫�سنوات طويلة جدً ا‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫غ�شيتها قد �أخذتها �إىل نف�س املو�ضع قبل‬
‫قدمي كانت متر يف املكان‪ ،‬فنظرت عينيها اجلميلتني �إىل تلك القافلة القدمية‪،‬‬
‫وا�ضحا‬
‫ً‬ ‫كانت القافلة حتط الرحال على ُبعد خطوتني من الدير ويبدو منظرهم‬
‫رجل يقف معها على ال�سطح!‪ ،‬فجعت‬ ‫وقري ًبا من مكانها‪ ،‬فج�أة تن َّبهت �إىل وجود ُ‬
‫�شيخا يرتدي زي رهبان الن�صارى‪ ،‬لكن وجودها‬ ‫«ما�سا» من وجوده‪ ،‬كان راه ًبا ً‬
‫الروحي كان مينع �أي �شخ�ص يف امل�شهد �أن يراها �أو يح�س بها‪ ،‬بدا بال الرجل‬
‫ً‬
‫م�شغول ونظره مرك ًزا على القافلة‪ ،‬حتديدً ا عند نقطة واحدة من القافلة‪ ،‬وعينه‬
‫تنب�ض مرجفة ك�أمنا يرى م�شهدً ا مل حتتمله عينه!‪ ،‬ورغ ًما عنها حولت «ما�سا»‬
‫ت�ستوعب ما الذي يلفت نظره‪ ،‬ثم �ضيقت‬
‫ِ‬ ‫�أنظارها لرتى ما يرى‪ ،‬يف البداية مل‬
‫عينها يف ا�ستغراب‪ ،‬فقد كان ما تراه عجي ًبا!‬

‫‪190‬‬
‫غالم زكي كان من �أمره عج ًبا‪ ..‬كانت رحال القافلة تو�ضع و ُتفر�ش والغالم‬
‫مي�شي ُمتج ِّو ًل �أمام القافلة‪ ،‬كانت القافلة قد نزلت و�سط مدينة ب�صرى‪ ،‬وكان‬
‫م�سرتاحها و�سط كثري من البنيان وال�شجر‪ ،‬وكل بناية و�شجرة ُتل ِقي بظلها �أمام‬
‫ذاتها‪ ،‬وبني الظالل م�ساحات م�شم�سة‪ ،‬وال�صبي مي�شي هنالك‪ ،‬وهنا �ضيقت‬
‫م�شم�سا �أمام‬
‫ً‬ ‫ما�سا عينها‪ ،‬فقد بدا �أن ظالل الأ�شياء تتحرك فال تدع مو�ض ًعا‬
‫قدم ال�صبي �إال ظ َّللته!‪ ،‬كان هذا عجي ًبا للوهلة الأوىل ك�أن ال�شجر واحلجر‬

‫ع‬
‫يخ�ضع لل�صبي‪ ،‬ثم نظر الرجل �إىل ال�سماء ففطن �إىل الأمر‪ ،‬كانت هناك غمامة‬

‫ص‬
‫بعيدة تتح َّرك و�سط الغمام تلقي بظاللها يف ذلك املو�ضع وتوافقت حركتها مع‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫حركة ال�صبي‪ ..‬تن َّهد ال�شيخ الراهب ُمتف ِّهما‪ ،‬ثم حاد ال�صبي عن جوار البنيان‬
‫وال�شجر وحت َّرك �إىل ناحية �ساحة م�شم�سة كبرية‪ ،‬حترك �إىل غري اجتاه حركة‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الغمامة‪ ،‬وهنا انتف�ض قلب الراهب‪ ،‬والتب�س الأمر على «ما�سا» فلم تعد تفهم‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫حت َّركت الغمامة من بني �أخواتها ك�أمنا لها ح�س‪ ..‬حت َّركت لتالحق حركة‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ال�صبي‪ ،‬كان هذا م�شهدً ا يرجف القلوب �إرجا ًفا!‪ ،‬فهرع الرجل ينادي على‬

‫ش‬
‫�أ�صحابه «زريرا» و«ثماما» و«دري�سما»‪ ..‬ف�أتوا �إليه يف اندها�ش‪ ،‬قالوا ما بالك‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�شهدت عيوين عج ًبا ما كنت �أعلمه �إال م�سط ًرا يف‬‫يا «بحريا»؟ قال �إين قد َ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫املكاتيب‪� ،‬أن اجلماد �إذا خطا يف جواره نبي‪ ،‬ت�شوق اجلماد �إىل حفاوته‪ ،‬و�إن‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الغمام ال يتح َّرك �إال لأجل نبي‪� ،‬أفال تذكرون الغمامة التي تابعت مو�سى وقومه‬
‫يف الربية؟ �أو تلك الغمامة التي ظللت امل�سيح على جبل التجلي؟ كان الرجال‬
‫وك�أمنا �سكرت �أب�صارهم ينظرون‪ ..‬قالوا له‪ :‬يا بحريا‪ ،‬ما من نبي �إال من بني‬
‫دعك من هذا‪ ..‬قال «بحريا»‪ :‬ال واهلل حتى‬ ‫�إ�سرائيل وهذه قافلة من قري�ش‪َ ،‬‬
‫أنظر يف �أمره‪.‬‬‫� ُ‬
‫ونزل ونزلت «ما�سا» وراءه‪ ..‬فتخلل القوم ما�ش ًيا بينهم‪ ،‬قال‪ :‬يا قوم‬
‫طعاما و�أحب �أن حت�ضروا كلكم �صغريكم وكبريكم وعبدكم‬ ‫�إين �صنعتُ لكم ً‬
‫كنت ت�صنع هذا بنا وكنا ُمن ُّر َ‬
‫عليك‬ ‫بالك يا بحريا؟ ما َ‬ ‫وح ّركم‪ ..‬قالوا له‪ :‬ما َ‬
‫أنك اليوم؟ قال‪� :‬صدقت قد كان ما تقول‪ ،‬لكنكم �ضيف وقد‬ ‫كث ًريا!‪ ،‬فما �ش� َ‬
‫�أحببتُ �أن �أكرمكم‪ ..‬فرجع ف�صنع لهم طعاما ف�أتوه معجبني مما ي�صنع‪ ..‬نظر‬
‫«بحريا» بينهم يبحث عن ال�صبي وقد كان يعرفه من مالب�سه التي ر�آها وا�ضحة‬
‫من فوق الدير‪ ..‬فقال لهم وهو ُ‬
‫ينظر ويتطا َول‪ :‬يا مع�شر قري�ش ال يتخ َّلف �أحدكم‬
‫ً‬
‫وداخل �إىل الدير‪،‬‬ ‫رجل ُمت�ض ًنا ً‬
‫غالما‬ ‫عن طعامي‪ ..‬ثم مل يلبث �إال �أن ر�أى ً‬
‫‪191‬‬
‫تك‬ ‫فارتاحت �أ�سارير «بحريا»‪ ،‬كان هو ذلك الغالم نف�سه‪ ،‬و�إن «ما�سا» مل ُ‬
‫ت�ستطيع الو�صول �إىل الغالم بب�صرها من كرثة الرجال‪ ،‬لكنها �شاهدت الراهب‬
‫الط ًفا‪� :‬أ�س�ألك بحق الالت‬ ‫فتب�سم له و�س�أ َله ُم ِ‬
‫يتخ َّلل النا�س حتى و�صل �إليه‪َّ ،‬‬
‫ألك عنه‪ ..‬ويف مفاج�أ ٍة للراهب قال له الغالم‪ :‬ال‬ ‫والعزى �إال ما �أخربتَني عما �أ�س� َ‬
‫الراهب‬
‫ُ‬ ‫ت�س�ألني بالالت والعزى �شي ًئا‪ ،‬فواهلل ما �أ ُب ِغ�ض �شيئا قط بغ�ضهما‪ ..‬نظر‬
‫يتب�سمون؛ فالغالم الزال يف التا�سعة‬ ‫�إىل وجوه الرجال يتنحنحون لكنهم كانوا ِ‬

‫ع‬
‫من العمر‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫�صار الراهب ُي�ساءل الغالم �أ�سئل ًة والغالم ُيجيب و«ما�سا» ال ت�س َمع جيدً ا‪..‬‬

‫ال‬
‫وينظر �أ�سفل كتفه‪ ،‬فات�سعت عينا‬ ‫ثم �شاهدت الراهب يك�شف ك ِتف الغالم ُ‬
‫الراهب‪ ،‬وظهرت املهابة على وجهه‪ ،‬ثم رفع الراهب يد الغالم وقال‪ :‬هذا �سيد‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ت�ستطع‬
‫العاملني‪ ،‬هذا ر�سول رب العاملني‪ ..‬ارجتفت �أ�سارير «ما�سا» لكنها مل ِ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫التح ُّرك �أكرث‪ ،‬ف�إن ج�سدها الروحي ال يخرتق الأ�شياء‪ ..‬ثم قال النا�س للراهب‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫أعلمك بهذا؟ قال الراهب‪� :‬إنكم حني �أ�شرفتُم من هذه الثنية مل يبقَ حجر‬ ‫ما � َ‬

‫ش‬
‫�شجر �إال تذلل له‪ ،‬و�إين �أعرفه بهذه ال�شامة بني كتفيه‪ ..‬نظر له الأ�شياخ يف‬ ‫وال َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫تعجب وعدم قبول لأي �شيء مما قال‪ ،‬ثم �س�ألهم ال�س�ؤال َ‬
‫املنتظر‪ :‬يا �أ�شياخ‬

‫الت‬
‫ُّ‬

‫و‬
‫قري�ش هل هذا الغالم من قري�ش؟ َمن وا ِلد هذا الغالم؟ قال رجل من القوم‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أنا �أبوه‪ ..‬قال الراهب‪ :‬ال واهلل ما ينبغي �أن يكون له �أب‪ ..‬قال الرجل‪� :‬صدقت‪،‬‬
‫الراهب للغالم‪ ،‬مل‬
‫ُ‬ ‫و�إين ملا قلتُ �أبوه فهي قد تعني يف لغة العرب عمه‪ ...‬نظ َر‬
‫يكن الغالم من بني �إ�سرائيل‪ ،‬بل كان من قري�ش‪ ،‬لكن الراهب «بحريا» كان‬
‫جازما �أن هذا الغالم نبي‪ ،‬ولقد عرفه بعالماته التي تك َّلمت عنها كتب اليهود‬ ‫ً‬
‫الإ�سينيني‪ ،‬وهم طائفة من اليهود الزاهدين العابدين ال�ساكنني قرب قمران‪،‬‬
‫تك َّلمت كتبهم عن املختار الذي �ستكون لديه �شامة‪ ،‬ويكون يتيما يف ِقد �أبوه ويفقد‬
‫�أوالده‪ ،‬و�سيكون حكي ًما ت�صل حكمته للعاملني‪ ،‬و�سيكون حك ًما وباحلق خري حكم‪،‬‬
‫و�إن خطته لتنجح لأنه خمتار من اهلل‪ ،‬و�ستك�شف له الأنوار و�سيقد�س املالئكة‪،‬‬
‫ممجدً ا يف منطقته‪ ،‬و�سيمتلئ كالمه حكمة عظيمة‪ ،‬و�سيكتب كلمات اهلل‬ ‫�سيكون َّ‬
‫يف كتاب حمفوظ ال يف�سد‪.‬‬
‫نظر الراهب «بحريا» �إىل عم الغالم وقال له‪ :‬ال ُت�سا ِفر بهذا الغالم �إىل‬
‫ال�شام؛ ف�إن اليهود �إذا عرفوه �سرييدون به ال�شر‪ ،‬ف�أي نبي من غري بني �إ�سرائيل‬
‫هو عندهم دجال‪ ..‬ثم دخل الرهبان �أ�صحاب «بحريا» ووجوههم ال حتمِ ل‬
‫‪192‬‬
‫اخلري‪ ،‬فانتحوا ببحريا جانبا وحت َّد ُثوا له‪ ،‬فانطلقت «ما�سا» لت�سمع حديثهم‪..‬‬
‫زعمت �أنه خارج مع �أهل هذا املو�سم؟‬ ‫قالوا له‪ :‬ماذا وجدتَ يف هذا النبي الذي َ‬
‫قال‪ :‬لي�س الغالم يهود ًيا‪ ..‬قالوا‪� :‬أما واهلل �إن هذا الغالم لي�س بنبي‪ ،‬بل �إنه قد‬
‫دجال من الدجاجلة‪ ..‬قال لهم «بحريا»‪ :‬يا‬ ‫يكون �ساح ًرا �أو به جنة �أو �سيكون ً‬
‫حذرنا يا بحريا‬ ‫قوم �أال تفقهون‪� ،‬أ�ساحر يتح َّرك له الغمام؟ قالوا‪� :‬إن كتابنا ُي ِّ‬
‫من الأنبياء الكذبة‪ ،‬ويقول �أنهم �سيكونون م�ؤ َّيدين باملعجزات‪� ،‬إنا �سنغافل‬

‫ع‬
‫تظن ف�إن ربه‬ ‫القوم ون� ُأخذ الغالم ونبط�ش به‪ ،‬ف�إن كان من�صو ًرا من ربه كما ُ‬

‫ص‬
‫�س ُينجيه‪ ...‬قال لهم‪ :‬ما بال ُكم �أطم�ست عليكم عقولكم‪� ،‬أفر�أيتُم �أم ًرا �أراد اهلل‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫دعوه ف�إن‬
‫�أن يق�ضيه‪ ،‬هل ي�ستطيع �أحد من النا�س رده؟ قالوا‪ :‬ال‪ ..‬قال‪� :‬إذن ُ‬
‫ي�شاء اهلل �أظهره و�إن ي�شاء �أهلكه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ف�س َّلم الرهبانُ له بالر�أي ونظروا �إىل الغالم‪ ..‬وكان قوم الغالم خارجني‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�إىل ظل �شجرة قريبة يجل�سون حتتها‪ ،‬فجل�سوا يف جميع موا�ضع الظل �أ�سفلها‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ومل تبقَ �إال موا�ضع تتخللها ال�شم�س و�سط �أغ�صان الظل‪ ،‬ثم تبع الغالم القوم‬

‫ش‬
‫�إىل ال�شجرة وجل�س يف ذلك املو�ضع امل�شم�س املتخلل ب�أغ�صان الظل‪ ،‬والرهبان‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫م�ستحيل‪،‬‬ ‫تنظر‪ ...‬وال�شجرة تفعل �أم ًرا‬ ‫ينظر و«ما�سا» ُ‬‫ينظرون و«بحريا» ُ‬

‫الت‬
‫تها�صرت �أغ�صانها واقرتبت من بع�ضها لتُظ ِّلل جميع موا�ضع ال�شم�س �أ�سفلها‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫عند جمل�س الغالم!‪ ،‬وو�سط ده�شة الرهبان انطلقت «ما�سا» مت�شي �إىل حيث‬
‫الغالم لرتى وجهه‪ ،‬لكن �شي ًئا ك�أمنا كان ي�سحبها من الأجواء كلها‪ ..‬ثم ا�ستفاقت‬
‫ينظر لها يف قلق ملول‪ ،‬فنظرت �إليه ونظرت‬ ‫فج�أ ًة لرتى �شعر الأرقم الأحمر وهو ُ‬
‫حولها‪ ،‬فوجدت �أن القافلة قد نزلت يف نف�س مو�ضع دير الراهب «بحريا» الذي‬
‫وق�صت لهم ما‬ ‫يظهر بقبابه الثمانية ها هناك‪ ،‬وحت َّدثت �إىل �إخوانها من اجلن َّ‬
‫ر�أَت‪ ،‬ف�س�ألوها عن ا�سم عم الغالم‪ ،‬فقالت �أنها مل ت�س َمع اال�سم ُيذ َكر يف ر�ؤياها‪،‬‬
‫جتد‬
‫جتده ومل ِ‬ ‫ثم نظ َرت حولها لتبحث عن ذلك اجلني الذهبي ال�شعر فلم ِ‬
‫جتده‪.‬‬‫الو�ضاء الذي قال �أنه �سيكون نبيا مل ِ‬ ‫�أ�صحابه الأربعة‪ ،‬حتى ذلك الرجل َّ‬
‫‪z‬‬
‫يف كني�سة عظيمة البنيان مزخرفة جدرانها بنقو�ش و�صلبان‪ ..‬دخل �أربعة‬
‫من �أنوار قري�ش ومعهم رجل ميني ذو �شعر �أ�صفر‪ ،‬ورجل ُيل َّقب ب�أبي القا�سم له‬
‫معرفة برهبان الكني�سة الذين �أخذوا يحتفون به احتفاء عظي ًما‪ ،‬كان ق�سي�س‬
‫رجل ذو مالمح مميزة‪ ،‬وكان ا�سمه متيم‪« ،‬متيم الداري»‪ ،‬كان الأربعة‬ ‫الكني�سة ً‬
‫‪193‬‬
‫ينظرون �إىل ح�سن البناء واحل�ضارة ويقارنونه يف عقولهم بذلك الدير اليهودي‬
‫الذي كانوا فيه‪ ،‬كان الفارق �ضخما‪� ،‬إن كل �صورة وقبة هنا توحي بعظمة هذا‬
‫الدين امل�سيحي‪ ..‬وكانت جتول يف �ألبابهم �أ�سئلة كثرية بعد حديث �أبي القا�سم‬
‫لهم يف الطريق‪ ،‬ولقد وجدوا من الق�ساو�سة يف هذه الكني�سة ترحي ًبا بهم‬
‫وب�شا�شة عك�س الذي وجدوه عند اليهود‪ ،‬خا�صة ملا عرف الق�ساو�سة �أن ه�ؤالء‬ ‫َ‬
‫خ�صهم باحلفاوة والرتحيب‪،‬‬ ‫يلتم�سون لأنف�سهم الدين‪ ،‬و«متيم الداري» هذا قد َّ‬

‫ع‬
‫فابتدره «عمرو بن جابر» بال�س�ؤال‪ ،‬قال له‪ :‬باهلل عليك يا ق�س �أف�أنتم تقولون �أن‬

‫ص‬
‫اهلل له ثالثة ذوات؟ قال «متيم»‪ :‬نعم‪ ..‬قال «عمرو»‪ :‬وتقولون �أنها كلها واحد؟‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫تب�سم‬
‫قال «متيم» نعم‪ ..‬قال‪ :‬فكيف يكون الثالثة واحدً ا‪ ،‬ويكون الواحد ثالثة؟ َّ‬
‫«متيم» وقال له‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أنت ُ‬
‫تظن �أن اهلل هو مثل هذه املاديات التي يف الدنيا‪� ..‬إن اهلل ال يد َرك‬ ‫ �أف� َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫بالعقل‪ ،‬فكيف تريد �أن جتعله يخ�ضع لقوانني املاديات‪ ،‬فتقول كيف يكون‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ثالثة ويكون واحد‪ ،‬املاديات قوانينها تر ُف�ض هذا‪ِ � ،‬أمن احلق �أن جتري‬

‫ش‬
‫قوانني املادة على اهلل؟‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫قال له «عمرو»‪ :‬ال لي�س اهلل ُيقارن باملاديات‪ ،‬لكن ملاذا ال يكون اهلل واحدا‬

‫و‬
‫له ذات واحدة‪ ،‬ملاذا ثالثة ذوات؟ قال له «متيم»‪ :‬حتى يخ ُلق هذا العامل‪ ،‬كيف‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫هلل الغري مادي والغري منظور والالنهائي �أن يخ ُلق هذا العامل املادي؟ البد �إذن‬
‫�أن يكون له ذات منظورة منذ الأزل‪ ،‬قادرة على خلق العامل املادي‪ ،‬هذه الذات‬
‫بع�ض الرجال قو َله‪ ،‬ثم �س�أله �أحدهم‪ :‬وما حكاية‬ ‫هي كيان االبن‪ ...‬ا�ستح�سن ُ‬
‫�أنه فقط �إذا �آمنا بت�ضحية امل�سيح من �أجلنا ف�إن كل خطايانا ال�سابقة والالحقة‬
‫مغفورة؟ قال «متيم»‪ :‬من قال لكم هذا؟ نظ ُروا �إىل «�أبو القا�سم» الذي نظ َر‬
‫لتميم ُم ً‬
‫ت�سائل!‪.‬‬
‫�صحيحا هكذا على عواهنه‪ ،‬و�إال‬ ‫ً‬ ‫مط «متيم الداري» �شفتيه وقال‪ :‬لي�س هذا‬ ‫َّ‬
‫ملاذا نحن نعمد النا�س يف الكني�سة يعني نغمرهم باملاء املق َّد�س حتى ُنن ِّقيهم‬
‫من خطاياهم؟ كان يكفيهم الإميان بامل�سيح‪ ،‬وملاذا نحن ن�أ ُمر النا�س �أن ي�أتوا‬
‫للكني�سة ويعرتفوا بخطاياهم للق�س‪� ،‬ألي�ست خطاياهم مغفورة فقط بالإميان‬
‫بت�ضحية امل�سيح؟ ملاذا ي�أتي امل�سيح يف يوم الدينونة و ُيحا�سب امل�ؤمنني به على‬
‫خطاياهم‪� ،‬ألي�س يفرت�ض �أن تكون مغفورة لهم ملا �آمنوا به يف املرة الأوىل؟‬
‫فالأمر لي�س كما َ‬
‫قيل لكم‪ ..‬قال له «عمرو»‪ :‬وكيف الأم ُر �إذن؟‬
‫‪194‬‬
‫قال «متيم»‪� :‬إن امل�سيح ملا ُ�صلب و�ضحى بنف�سه‪ ،‬مل يفعل ذلك ليغفر خطايا‬
‫ال�سابقني والالحقني؛ �إمنا فعل ذلك لي�سمح خلطايا ال�سابقني والالحقني �أن‬
‫ُتغفر؛ يعني هو ك�أنه ملا �ضحى بنف�سه �إمنا �شفع �شفاعة عظيمة للعاملني‪� ،‬شفع‬
‫أ�صل‪ ...‬قال له «عمرو»‪:‬‬ ‫لهم عند اهلل حتى يقبل اهلل �أن يغفر خطاياهم � ً‬
‫أولي�س الآب هو اهلل؟‬ ‫�ألي�س امل�سيح هو اهلل؟ قال «متيم»‪ :‬نعم‪ ..‬قال «عمرو»‪َ � :‬‬
‫�ضحي بنف�سه لي�شفع عند‬ ‫قال «متيم»‪ :‬نعم‪ ..‬قال له «عمرو»‪ :‬وملاذا يحتاج �أن ُي ِّ‬

‫ع‬
‫كنت تريده �أن يفعل؟ قال «عمرو»‪ :‬عند اليهود اهلل‬ ‫نف�سه؟ قال «متيم»‪ :‬وماذا َ‬

‫ص‬
‫يغفر اخلطايا مبج َّرد �أن يتوب ال�شخ�ص يف نف�سه‪ ،‬اهلل ميلك �سلطان غفران‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫اخلطايا‪ ،‬ملاذا يحتاج �إىل فداء؟‬
‫قال «متيم»‪ :‬كيف ُتريد �أن ُتخطيء ثم ُتغمِ �ض عينك ب�ضع ثوان ت�ستغ ِفر‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ف َيغ ِفر اهلل لك؟ هل امل ِلك لو �أخط�أ �شخ�ص يف ح ِّقه ثم �أتاه يقول له �أن يغفر له‪،‬‬

‫ب‬
‫فيغفر هكذا بدون �شيء؟ بال وا�سطة وال فداء تفدي به نف�سك؟ اع َلم �أنه البد هلل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫من وا�سطة بينك وبينه حتى يغفر لك خطيتك؛ هذه الوا�سطة كانت عند اليهود‬

‫ش‬
‫ذبائح يذبحونها للرب يحرقونها كلها هلل ليغفر لهم �أو يذبحونها لي�أكل منها‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الكهنة‪� ،‬أما عندنا فال توجد ذبائح؛ لأن اهلل َعفانا من هذا فق َّدم ابنه ذبيح ًة‬

‫و‬ ‫الت‬
‫نهائية‪ ،‬فال ميكن �أن ت�صل �إىل غفران اهلل �إال بالوا�سطة‪ ،‬والوا�سطة هي هذه‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الذبيحة النهائية‪ ،‬الوا�سطة هي امل�سيح‪.‬‬
‫وغفرت لك خطاياك ال�سابقة كلها‪ ،‬ف�إنك �ستحتاج‬ ‫آمنت بامل�سيح ُ‬
‫وحتى لو � َ‬
‫�أن ت�أتي لالعرتاف يف الكني�سة لأن امل�سيح قد �أعطى تالمذته ومن بعدهم �سلطة‬
‫غفران اخلطايا؛ فه�ؤالء الرجال ال�صاحلون �سيكونون الوا�سطة بينك و بني اهلل‪،‬‬
‫�إن غفروا لك يغفر لك اهلل‪.‬‬
‫ثم ختم «عمرو» ب�س�ؤال �أخري قال‪ :‬ماذا عن ذلك النبي الذي ينتظره بنو‬
‫�إ�سرائيل‪ ،‬النبي الذي من بالد العرب؟ نظر الكل �إىل «متيم» ير ُقبون قو َله‪..‬‬
‫قال «متيم»‪:‬‬
‫ب�شر بنزول �إيليا ونزول‬ ‫حكاية �أن اليهود ينتظرون نب ًيا ي�أتي يف �آخر الزمان ُي ِّ‬
‫امل�سيح املخل�ص فنحن ال ن� ِؤمن بهذا‪ ،‬وحتى لو جاء نبي ح ًقا ف�سيكون ِّ‬
‫ممجدا‬
‫للم�سيح و�سيخا�صم اليهود لأنهم رف�ضوا امل�سيح‪ ،‬وبالتايل �سيك ُفر به اليهود‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪195‬‬
‫هنا تك َّلم «�أبو القا�سم»‪ ،‬قال‪ :‬يا «متيم» �أتنكر �أن امل�سيح عي�سى بنف�سه‬
‫ب�شر بالنبي الذي �سي�أتي من بعده؟ قال «متيم»‪� :‬أين قيل هذا؟ قال «�أبو‬ ‫كان ُي ِّ‬
‫القا�سم»‪ :‬يف كتابكم الإجنيل �أو كما ت�صفونه بالعهد اجلديد‪ ..‬قال «متيم»‪ :‬نعم‬
‫� ِأنكر هذا‪� ،‬أين وجدت هذا يف كتابنا؟ قال «�أبو القا�سم»‪:‬‬
‫يف الأ�سبوع الأخري من حياة امل�سيح‪ ،‬قبل �ساعات من �صلبه‪ ،‬علم �أن �ساعته‬
‫قد جاءت‪ ،‬حينها قال لتالميذه �أنه ذاهب �إىل حيث ال ميكن �أن يتبعه �أحد‪،‬‬

‫ع‬
‫�أي �أنه �سيغادر هذه الدنيا‪ ،‬وكان هذا يعار�ض ما ُو�صف به امل�سيح املخل�ص يف‬

‫ري‬‫ص‬
‫التوراة �أنه �سيملك �أور�شليم و�س ُيح ِّرر اليهود ويعيد �أر�ض امليعاد لهم‪ ...‬فقال‬

‫ال‬
‫ذاهب لأعد لكم مكانا‬‫«امل�سيح» لتالميذه امل�ؤمنني به‪ :‬ال تخافوا وثقوا بي ف�إين ٌ‬
‫عند الآب‪ ،‬ف�إن ذهبت و�أعددتُ املكان �س�آتي و�آخذكم �إيل‪ ،‬واحفظوا و�صاياي‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ر�سل لكم «مناحما» �آخر‪ ،‬ر�سول من عنده مي ُكث معكم‬ ‫و�س�أط ُلب من الآب �أن ُي ِ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�إىل الأبد‪ ،‬ر�سول هو روح احلق‪ ،‬العامل ال ي�ستطيع �أن يقبله لأنهم ال يرونه وال‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫يعرفونه‪ ،‬لكنكم تعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم‪ ،‬و�أنا بعد قليل ال يراين‬

‫ش‬
‫العامل � ً‬
‫أي�ضا‪� ،‬أما �أنتم فرتونني �أين �أنا حي ف�أنتم بهذا �ستحيون‪ ،‬لكني ال �أترككم‬

‫و‬ ‫ر‬
‫يتامى‪� ،‬إين �آتي �إليكم‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫أظهر‬
‫فالذي يحفظ و�صاياي هو الذي يحبني والذي ُيحبني يحبه �أبي و�س� ِ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ُظهر ذاتك لنا نحن ولي�س للعامل‬ ‫له ذاتي‪ ..‬فقال له �أحد التالميذ‪ :‬ملاذا �ست ِ‬
‫كم�سيح ُمل�ص ملك على �أور�شليم مثل نبوءة التوراة؟ و�أراد امل�سيح �أن يعلمهم‬
‫عدم النظر �إىل ملك الدنيا و�أر�ض موعودة فان َية يف الدنيا ويرغبهم يف النظر‬
‫�إىل ملكوت الآخرة‪ ..‬فقال له «امل�سيح»‪� :‬إن الذي ُيحبني �سيحفظ كالمي‬
‫وو�صاياي و�سيحبه �أبي و�إليه �سن�أتي م ًعا ون�صنع عنده منزال يف ملكوت الآخرة‪،‬‬
‫�سي�سله الآب با�سمي فهو ُيع ِّلمكم كل �شيء‬ ‫و�أما املناحما‪ ،‬الروح القد�س‪ ،‬الذي ُ‬
‫و ُيذ ِّكركم بكل ما قلته لكم‪ ،‬فال ت�ضطرب قلوبكم وال ترهب‪� ،‬أخربتكم �أين �أذهب‬
‫ثم �آتي �إليكم‪ ،‬لو كنتم حتبوين �ستفرحون �أين قلت �أين �أم�ضي �إىل �أبي‪ ،‬لأن �أبي‬
‫�أعظم مني‪.‬‬
‫�إن كان العامل ُيب ِغ�ضكم فاعلموا �أنه قد �أبغ�ضني قبلكم‪� ،‬إن كانوا قد‬
‫ا�ضطهدوين ف�سي�ضطهدونكم‪� ،‬س ُيخرجونكم من املجامع و�ست�أتي �ساعة يظن‬
‫فيها كل من يقتلكم �أنه ُيقدِّ م خدم ًة هلل‪ ،‬و�سيفعلون بكم هذا من �أجل ا�سمي‬
‫لأنهم ال يعرفون الذي �أر�سلني‪ ،‬لو مل �أكن قد عملت بينهم � ً‬
‫أعمال مل يعملها‬
‫‪196‬‬
‫�أحد غريي‪ ،‬مل تكن لهم خطية‪ ،‬لكن لي�س الآن وقد ر�أوا �أعمايل و�أبغ�ضوين �أنا‬
‫و�أبي‪ ،‬ومتى جاء املناحما الذي �س�أر�سله �أنا �إليكم من الآب‪ ،‬هو روح احلق الذي‬
‫من عند الآب ينبثق‪ ،‬فهو ي�شهد يل‪ ،‬و�أنتم �أي�ضا ت�شهدون يل لأنكم معي من‬
‫بر�سول يدعى «مناحما»‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أنت ُت� ِؤمن �أن امل�سيح َّ‬
‫ب�شر‬ ‫االبتداء‪� ...‬إذن يا «متيم» � َ‬
‫وهو ر�سول غري مرئي و�أنه هو الروح القد�س �سري�سله امل�سيح من عند اهلل ليمكث‬
‫مع امل�ؤمنني بامل�سيح �إىل الأبد‪.‬‬

‫ع‬
‫وبالفعل بعد �صلب امل�سيح و�إيداعه يف قربه بثالثة �أيام‪ ،‬وجد التالميذ قربه‬

‫ري‬‫ص‬
‫فارغا‪ ،‬ثم فج�أ ًة ر�أى التالميذ «امل�سيح» ظهر �أمامهم بلحمه و دمه‪ ..‬وقال‪� :‬سالم‬ ‫ً‬

‫ال‬
‫لكم‪ ،‬كما �أر�سلني الآب �أر�سلكم �أنا‪ ..‬ثم ن َفخ بفمه ال�شريف عليهم وقال‪ :‬اقبلوا‬
‫الروح القد�س‪ ..‬فهي�أهم وهي�أ �أج�سادهم �أن تقبل وعد اهلل بنزول الروح القد�س‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫غفرت خطاياه ُتغ َفر له ومن �أم�سكتُم خطاياه �أم�سكت‪..‬‬ ‫عليهم‪ ،‬ثم قال لهم‪ :‬من ُ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ثم �أمرهم �أال يربحوا �أور�شليم و�أن ينتظروا موعد اهلل‪ ،‬لأنهم �سيتعمدون بالروح‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫القد�س‪ ،‬لي�س بعد هذه الأيام بكثري‪ ..‬وقال �ستكونون يل �شهودا بقوة الروح‬

‫ش‬
‫القد�س يف �أور�شليم ويف كل اليهودية وال�سامرة و�إىل �أق�صى الأر�ض‪ ..‬فهنا هو‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�أعطى للتالميذ �سلطان مغفرة اخلطايا متى حتقق وعد اهلل ونزل عليهم الروح‬

‫و‬ ‫الت‬
‫القد�س‪ ،‬و�أعطاهم مهمة تب�شري العامل‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ثم �صعد «امل�سيح» �إىل ال�سماء‪ ..‬وبعد �صعوده بع�شرة �أيام‪ ،‬كان التالميذ‬
‫ُمتمعني م ًعا ف�سمعوا �صوت ريح عا�صفة من ال�سماء‪ ،‬وظهرت لهم �أل�سنة‬
‫منق�سمة من نار ا�ستق َّرت على كل واحد منهم فامتلأ اجلميع من الروح القد�س‪،‬‬
‫وفج�أة وجدوا �أنف�سهم قادرين على التح ُّدث بلغات �أخرى وكانت معجزة‪،‬‬
‫فذهبوا ليب�شروا وي�شهدوا للم�سيح يف البلدان‪ ،‬ثم �أن �أربعة منهم كتبوا الأناجيل‬
‫الأربعة مبعاونة الروح القد�س‪ ،‬فتح َّققت فيهم النبوءة �أن الروح القد�س ُيع ِّلمهم‬
‫�سجل فيه حياة‬ ‫ويذكرهم بكل ما قاله امل�سيح‪ ..‬فكتب كل واحد منهم � ً‬
‫إجنيل َّ‬
‫امل�سيح و�أقواله‪ ،‬و�أ�صبحوا �شهودًا للم�سيح بقوة الروح القد�س‪.‬‬
‫ثم �أنهم قد �أورثوا قوة الروح القد�س �إىل خلفائهم من الأ�ساقفة �إىل الأبد‪..‬‬
‫فتحققت نبوءة امل�سيح عن الروح القد�س‪ ،‬الر�سول املناحما الغري مرئي الذي‬
‫مي ُكث معهم �إىل الأبد‪ ،‬وهذا مثل الذي ح�صل ملا ذهب �سبعني من كرباء بني‬
‫�إ�سرائيل مع «مو�سى» ليكلمهم اهلل‪ ،‬فر�أوا ال�سحابة‪ ،‬عندها تقول التوراة �أن اهلل‬
‫�أخذ من روحه و�أح َّل عليهم منها ف�صاروا كهنة‪ ،‬فه�ؤالء �أي�ضا قد جعلهم اهلل‬
‫‪197‬‬
‫كهنة بقوة حلول الروح القد�س‪.‬‬
‫قال له «متيم الداري»‪:‬‬
‫ ح�سنا‪ ،‬ما امل�شكل َة لديك‪ ،‬مل �أفهم؟‬
‫قال «�أبو القا�سم»‪ :‬امل�شكلة هو �أن امل�سيح قال يف هذه الب�شارة يف �أولها‪،‬‬
‫ب�شر به‪ ..‬قال «متيم»‪ :‬مناحما‬ ‫أي�ضا ُم َّ‬
‫«مناحما �آخر»‪� ،‬أي �أن هناك مناحما غريه � ً‬

‫ع‬
‫تق�صد؟‬
‫غريه؟ من ِ‬

‫ري‬‫ص‬
‫قال «�أبو القا�سم»‪ :‬قبل �أن يخ ُرج امل�سيح �إىل وادي قدرون الذي قب�ض عليه‬

‫ال‬
‫ما�ض �إىل الذي �أر�سلني ولي�س �أحد‬ ‫فيه الرومان‪ ،‬قال للتالميذ‪� ،‬أما الآن ف�أنا ٍ‬
‫منكم ي�س�ألني �أين مت�ضي‪ ،‬لكن لأين قلتُ لكم هذا قد ملأ احلزن قلوبكم‪ ،‬لكني‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أقول لكم احلق‪� ،‬إنه خري لكم �أن �أنطلق‪ ،‬لأنه �إن مل �أنطلق ال ي�أتيكم املناحما‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ولكن �إن ذهبت �أر�سله �إليكم‪ ،‬ومتى جاء ذاك �سيحاج العامل على خطية وعلى‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بر وعلى دينونة‪� ،‬أما اخلطية ف�سيحاج العامل ب�أنهم مل ي�ؤمنوا بي‪ ،‬و�أما على بر‬

‫ش‬
‫أي�ضا‪� ،‬أما على دينونة فلأن ال�شيطان رئي�س هذا‬ ‫فلأين ذاهب �إىل �أبي وال تروين � ً‬

‫و‬ ‫ر‬
‫العامل قد انهزم (يعني �سيحاجهم ب�أن الرب هو يف الإميان بي ولي�س يف �إنكاري‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�سيحرمهم من اخلال�ص يف يوم الدينونة)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫و�سيحاجهم ب�أن اتباع ال�شيطان‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�إن يل �أمو ًرا كثرية لأقول لكم‪ ..‬ولكن ال ت�ستطيعون �أن حتتملوا الآن‪ ،‬و�أما متى‬
‫جاء ذاك روح احلق فهو ُير�شدكم �إىل جميع احلق‪ ،‬لأنه ال يتكلم من نف�سه‪ ،‬بل‬
‫كل ما ي�سمع يتكلم به‪ ،‬ويخربكم ب�أمور �آتية‪ ،‬ذاك ُيجدين‪ ،‬لأنه ي�أخذ مما يل‬
‫و ُيخربكم وكل ما للآب هو يل‪ ،‬لهذا قلتُ �أنه ي�أخذ مما يل ويخربكم‪.‬‬
‫ب�شر مبناحما ثان �أو�صافه غري �أو�صاف‬ ‫هكذا ترى يا «متيم» �أن امل�سيح كان ُي ِّ‬
‫الروح القد�س‪ ،‬وال تنطبق على الروح القد�س الذي هو روح غري مرئي‪ ..‬لكن‬
‫هذا املناحما الثاين ي�أتي من بعد امل�سيح ميجد امل�سيح وير�شد �إىل جميع احلق‬
‫ويخرب ب�أمو ٍر �آتية‪ ،‬ثم �إنه يحاج العامل كله على رف�ض امل�سيح و ُيعلمهم �أن الرب‬
‫حذرهم من اتباع ال�شيطان‪ ،‬وال يتك َّلم من عند نف�سه‪ ،‬بل‬ ‫يف الإميان بامل�سيح و ُي ِّ‬
‫كل ما ي�سمع يتكلم به‪ ،‬هذا هو املناحما الثاين‪ ،‬وهو نف�سه النبي الذي ينتظره‬
‫اليهود من �أر�ض العرب‪.‬‬
‫قليل ثم قال‪ :‬ومل تالحظ يا قا�سم �أنه يقول ير�شدكم‬ ‫�سكت «متيم الداري» ً‬
‫�إىل جميع احلق ويخربكم ب�أمور �آتية‪ ،‬يعني ير�شد التالميذ ويخرب التالميذ‪،‬‬
‫‪198‬‬
‫يعني هو �سينزل للتالميذ فقط‪ ..‬قال «�أبو القا�سم»‪ :‬بل امل�سيح مل يكن ُيحدِّ ث‬
‫التالميذ فقط‪� ،‬أمل تره منذ �أن بد�أ احلديث معهم يف �أول ب�شارة قال لهم �أنه‬
‫ذاهب لي ِعد لهم مكانا عند الآب ثم �سي�أتي �إليهم‪ ،‬وهو منذ �أن �صعد �إىل الآب مل‬
‫ي�أت للتالميذ مرة �أخرى ولن ي�أتي �إال يف جميئه الثاين يف �آخر الزمان؛ فكالمه‬
‫مل ي ُكن موج ًها للتالميذ فقط‪ ،‬بل كان موج ًها لكل امل�ؤمنني به عرب الأجيال‪،‬‬
‫يب�شرهم ب�أنه �سيذهب �إىل ربه ثم �سي�أتي لهم يف �آخر الزمان ولن يرتكهم‬

‫ع‬
‫يتامى‪ ،‬ثم الأهم من هذا‪ ،‬ما حكاية �أن املناحما يحاج العامل كله على �إنكارهم‬

‫ص‬
‫حذرهم من اتباع ال�شيطان‪ ،‬و�أنه ال يتك َّلم �إال مبا ي�سمع‪ ،‬كل هذا ال‬
‫للم�سيح‪ ..‬و ُي ِّ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ينطبق على الروح القد�س �أبدً ا‪ ،‬كيف يقوم بهذه الأ�شياء روح غري مرئي مثل‬
‫الروح القد�س‪ ،‬هذا مناحما غري الروح القد�س‪ ،‬لذلك ملا َّ‬
‫ب�شر امل�سيح بالروح‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫القد�س‪ ،‬قال عنه �أنه مناحما (�آخر)‪ ،‬فهناك مناحمني‪.‬‬

‫ب‬
‫قال «متيم»‪ :‬اع َلم يا �أبا القا�سم �أنه لو كان نبي من �أر�ض العرب �سي�أتي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ليحاج العامل على عدم �إميانهم بامل�سيح‪ ،‬ف�سيك ُفر به اليهود لأنهم يكرهون‬

‫ش‬
‫امل�سيح‪ ،‬و�سي�ؤمن به امل�سيحيون لأنه يدعو للم�سيح‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫تدخل «عمرو بن جابر» وقال لتميم وهو ي�شري لأبي القا�سم‪� :‬إن هذا الرجل‬ ‫هنا َّ‬

‫و‬
‫يا «متيم» قد �أخربنا �أنه �سيكون هو النبي املنتظر‪ ..‬ات�سعت عينا «متيم الداري»‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ونظر �إىل «�أبو القا�سم» وقال له‪ :‬يا �أبا القا�سم‪� ،‬إنه ال يكون نبي �إال �أن يكون من‬
‫بني �إ�سرائيل‪ ،‬فحتى لو كان عرب ًيا فالبد �أن يكون من بني �إ�سرائيل‪ ،‬هذا ثابت‬
‫ن�ؤمن به من التوراة‪ ..‬قال «�أبو القا�سم»‪ :‬هذا �شيء يتع�سف به اليهود جلن�سهم‬
‫و�أنا �أعجب كيف توافقونهم عليه‪� ،‬أفيرتك اهلل الأمم الأخرى بال �أنبياء؟ �أم‬
‫�أنه خلقهم فقط ليقتلهم بني �إ�سرائيل وي�أخذوا �أر�ضهم!‪ ،‬ثم �أن هناك نبوءة‬
‫يتناقلها الكهان �أن نب ًيا من �أر�ض العرب من غالب بن فهر �سي�أتي ولي�س من بني‬
‫�إ�سرائيل‪ ،‬يعني من قري�ش‪ ،‬و�أنا والدتي من قري�ش‪ ،‬ويتناقل الكهان يف و�صفه‬
‫�أنه �أحمد يعني حممود بني القوم‪ ،‬و�أنا عليم باللغات‪ ،‬كلمة مناحما الواردة يف‬
‫�إجنيلكم �آرامية تعني الأحمد املحمود‪ ،‬بهذا تطابقت النبوءات‪ ،‬نبوءة الكهنة‬
‫ونبوءة الإجنيل ونبوءة التوراة‪ ...‬نظر له «متيم» بعني �آ�سية وقال له‪ :‬يا عزيزي‬
‫حتى لو �صدقت نبوءة الكهنة ف�إن الن�سب يف النبوات ال يكون من جهة الأم‪ ،‬بل‬
‫يكون من جهة الأب‪ ،‬يعني البد �أن تكون من غالب بن فهر من جهة الأب‪ ،‬يعني‬
‫تكون من قري�ش من جهة الأب‪ ..‬بان عدم الر�ضا يف عني «�أبو القا�سم»‪ ،‬ومال‬
‫‪199‬‬
‫«عمرو بن جابر» على واحد من الرجال الأربعة و�س�أله مبا�شر ًة‪ :‬ما ا�سم «�أبو‬
‫ون�سبه؟‬
‫القا�سم» َ‬
‫مال الرجل على «عمرو بن جابر» وقال له‪ :‬ا�سمه �أم َّية بن �أبي ال�صلت‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬
‫من ثقيف يف الطائف ولي�س من قري�ش‪ ..‬ات�سعت عني «عمرو بن جابر»‪ ،‬و�شرد‬
‫ذهنه يف م�شاهد و�أمور‪ ،‬ومل ي�ست ِفق �إال على كلمة �أحد الرجال الأربعة وهو يقول‪:‬‬

‫ع‬
‫ �أيها الق�س الكرمي‪� ،‬إين �أريد �أن �أتن�صر‪.‬‬

‫ص‬
‫بعيون ملئها املعاين �إىل ذلك الذي‬ ‫انتف�ض كيان «عمرو بن جابر» ونظر ٍ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫تكلم‪ ..‬كان واحدً ا من الرجال الأربعة ويبدو �أكربهم �سنا‪ ،‬فا�ستب�شر به‬
‫فرحا �شديدً ا‪ ،‬وهنا قام رج ٌل �آخر من الرجال الأربعة وقال‪:‬‬ ‫الق�سي�سون وفرحوا ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أي�ضا �أريد �أن �أتن�صر‪ ..‬ثم قام رج ٌل ثالث من الرجال الأربعة‬ ‫و�أنا مع ابن عمي‪ً � ،‬‬

‫ب‬
‫وكان هو قريب �أبو �سفيان وقال‪ :‬و�أنا معكم‪� ...‬سقطت روح «عمرو بن جابر»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�إىل �أ�سفل قدميه‪ ،‬حتى كاد ينهار عن �صورته الإن�سية‪ ،‬وارجتف وهو ُ‬
‫ينظر �إىل‬

‫ش‬
‫جال�سا ثابتًا مل يتزحزح مثل �أ�صحابه‪ ...‬نظر «عمرو» �إىل‬‫الرجل الرابع الذي كان ً‬

‫ر‬
‫الرجال الثالثة الذين كان الق�سي�سني يحتفون بهم وي�سوقونهم ليعمدوهم باملاء‬

‫الت‬ ‫و‬
‫املقد�س‪ ،‬وقال يف دواخله‪� ،‬إن النبي لي�س من املعقول �أن يتن�صر‪ ،‬هذا م�ستحيل‪،‬‬

‫و‬
‫على الأقل لن يتن�صر على منهج الن�صارى يف الإميان بكتاب اليهود الذي فيه ما‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فيه من الفظائع عن الأنبياء و�سفك الدم ب�أمر اهلل‪ ،‬حتى امل�سيح رغم �أنه كان‬
‫يهود ًيا �إال �أنه كان يعار�ض اليهود ويغا ِلطهم يف ت�صرفاتهم و�أفكارهم‪.‬‬
‫و�شطب «عمرو بن جابر» من ذهنه �أ�سماء ثالثة من الرجال الأربعة‪« ..‬ورقة‬
‫تن�صر منهم‪ ،‬والذي تبعه هو ابن عمه‪« ،‬عثمان بن احلويرث»‪،‬‬ ‫بن نوفل» �أول من َّ‬
‫رجل‬‫ثم الذي تبعهما «عبيد اهلل بن جح�ش» زوج بنت �أبو �سفيان‪ ،‬ومل يتبقَّ �إال ُ‬
‫واحد‪ ،‬رف�ض �أن يتن�صر ورف�ض قبل ذلك �أن يته َّود‪ ،‬بل قام وقال للن�صارى‪:‬‬
‫ �أما �أنا فال �أتبعكم �أبدً ا‪� ،‬إنني من لعنة اهلل �أفر‪ ،‬ثم �آتيكم لتخربوين �أن‬
‫كل �إن�سان مولود باخلطيئة‪ ،‬حتى الطفل الر�ضيع‪ ،‬فلو �س�ألتُكم ما خطية‬
‫الطفل الر�ضيع‪ ،‬تقولون خطيئة �آدم‪ ،‬فالعامل كله خاطيء بالفطرة‪ ،‬وربنا‬
‫�ضحى بابنه الوحيد فقط لي�سمح لنف�سه �أن يغفر خطيئة العامل‪،‬‬ ‫العظيم َّ‬
‫�أولي�س ربكم بقا ِدر على �أن يغفر دون �أن ي�ضحي بابنه؟ �آهلل �أعطاكم‬
‫ككهنة �سلطان مغفرة اخلطايا‪� ،‬أفيعطيكم اهلل �سلطان مغفرة اخلطايا‬
‫وال يعطيه لنف�سه!؟‬
‫‪200‬‬
‫ثم قام وقال‪ :‬وت�ؤمنون بتوراة اليهود بكل ما فيها من �أمور م�ست�شنعة‬
‫وت�س ُّمونها العهد القدمي‪ ،‬واليهود هم الذين رف�ضوا امل�سيح وح َّر�ضوا على قت ِله‪،‬‬
‫�أفت�ؤمنون بكل �شنائعهم على الأنبياء ثم تكفرون بقولهم يف امل�سيح؟ ثم نظر �إىل‬
‫�أ�صحابه وقال‪ :‬من �أراد �أن يتن�صر فليتن�صر‪ ،‬ف�إمنا نحن نبتغي لأنف�سنا الدين‪،‬‬
‫�أما �أنا فل�ستُ معكم‪ ،‬ونظر �إىل «عمرو بن جابر» وقال‪ :‬وماذا َ‬
‫عنك يا �أخا الي َمن؟‬
‫ينظر �إليه نظر ًة لو ترجمت مللأت �أ�سفا ًرا‪ ،‬نظرة‬ ‫�ساعتها كان «عمرو بن جابر» ُ‬

‫ع‬
‫فقد كل � َأمل �إال فيك‪ ،‬رجل حار مئات ال�سنني وبحث حتى وقف هاهنا‪ ،‬مل‬ ‫رجل َ‬

‫ص‬
‫يرتك قري ًة وال جن ًعا �إال حت َّرى فيها‪ ،‬ومل ي ُعد باق ًيا �إال �أنت‪ ،‬نظرة �ساهمة �آملة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�شخ�صا �آخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫�إىل رجل ال ُي ِكن �إال �أن يكون هو النبي املنتظر‪ ،‬ال ميكن �أن يكون‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫‪z‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪201‬‬
‫�إننا ن�ؤز‪ ،‬ون�ؤز‪ ،‬ثم ن�ؤز �أ ًّزا �أنت ال تدريه‪ ،‬حتى نُخرج كل من ي�ؤمِن ب�شيء م�ستقيم �إىل‬
‫الإميان ب�شيء فيه من ال�شناعة ما فيه‪ ،‬كيف تريدنا �أن ننقذ اجلنة من �أمثالكم‪..‬‬
‫رمل‬
‫�أن ت�ؤمن �أن اهلل نف�سه قد نزل بنف�سه ليم�شي على هذه الأر�ض‪ ،‬وهي من هي‪ ،‬حبة ٍ‬

‫ع‬
‫ه ِّينة و�سط كون عارم ك�أنه ال�صحراء فيها رمال ورمال‪ ،‬هذا اعتقاد كبري‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫نظن يف جني من الأنبياء �أنه‬ ‫�إن لدينا �أنبياء مثلما ُ‬
‫لديكم‪ ،‬ومنا طوائف وطرائق‪ ،‬لكنا مل ُ‬
‫هو اهلل نف�سه‪� ،‬إال «لو�سيفر»‪ ،‬ظنه بع�ض اجلن �أنه اهلل‪ ،‬وهذا طبيعي لأنه الأول؛ فهو �أبو اجلن‬

‫ك‬
‫كلهم‪ ،‬وهو الآخر‪ ،‬يعني ال ميوت‪ ،‬خملوق من بداية الزمان وم�ستمر �إىل نها َيته‪ ،‬ظنوه �أنه الرب‬

‫ت‬
‫رغم �أنه ال يقول هذا عن نف�سه � ًأبدا‪ ،‬وكيف يقدر �أن يقول هذا وهو نف�سه يف �أول الأمر كان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يدعو �أبناءه لعبادة اهلل الواحد‪ ،‬حتى كرث قبيله‪ ،‬وظل هو عليهم حاكم يبث فيهم عقيدة‬

‫ش‬
‫اهلل وحب اهلل‪ ،‬كانت �سكناه مع قبيله من اجلن يف جنة عظيمة بني دجلة والفرات‪ ...‬لكن اجلن‬

‫ر‬
‫كانوا ي�سيحون يف بقية الأر�ض كل حني ينظرون �إىل حيواناتها ونباتها و�أنهارها وبحارها‪،‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫وبالفعل مل ُ‬
‫تكن يف الأر�ض ُبقعة �أجمل من جنة «لو�سيفر»‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫القردة من حيوانات الأر�ض �إىل قردة �أذكياء‪ ..‬وبنوا م�ساكن لأنف�سهم‬
‫حتى حت َّول بع�ض َ‬
‫وا�ستعمروا كث ًريا من الأر�ض وتخريوا �أح�سن املوا�ضع فيها‪ ..‬وحكى لنا نبينا «لو�سيفر» عن‬
‫واحدا من الأذكياء �أدخله اهلل �إىل جنتنا‪ ،‬فيها من كل حيوان �أني�س وجميل‪ ،‬ومل يكن فيها‬
‫�أن ً‬
‫�ضواري‪ ،‬لكن اهلل �سمح فج�أة لذلك القرد الذي كان ا�سمه �آدم �أن يدخل‪ ،‬هو وزوجه حواء‪،‬‬
‫ومن بعدها مل نرى اخلري‪ ..‬يقول «لو�سيفر» �أن �آدم هذا �أحدث خطيئة عظيمة ف�أخرجنا اهلل‬
‫منها جمي ًعا‪.‬‬
‫وا�ستعمر بنو �آدم الأر�ض وكرث ن�سلهم وناكدونا فيها‪ ،‬و�إنا اعتدنا �أال ُ‬
‫ن�سكن بجوار‬
‫م�ساكن احليوانات‪ ،‬كنا ن�سكن ال�سهول واملوا�ضع اجلميلة الوا�سعة‪ ،‬لكن بنو �آدم كانوا يبنون‬
‫القرى حول الواحات والأنهار و�أجمل البقاع‪ ،‬مل يكونوا يختبئون يف اجلحور كاحليوانات‪ ،‬بل‬
‫كانوا ي�ستعمرون الأر�ض بالبناء ويقطعون كث ًريا من الأ�شجار‪.‬‬
‫و�أمر «لو�سيفر» قبي َله �أن يتبعوا ه�ؤالء الأوادم وي�ضلوهم ويرجعوهم �إىل حيوانيتهم‬
‫و�شهواتهم‪ ،‬وال يرتقون بروحهم و�أفكارهم �إىل ربهم‪ ،‬حتى ال يف�سدون علينا �آخرتنا كما‬

‫‪202‬‬
‫�أف�سدوا يف الدنيا‪ ..‬وقد كان‪ ،‬و�سنعيدك �إىل بهيميتك �أيها البهيم كلما �أتيحت لنا لذلك‬
‫بادرة‪.‬‬
‫الآن قد عرفت ما يجب �أن تعرف من �صحائف الدين‪ ..‬الزال اليهود ينتظرونك‪� ،‬أن تكون‬
‫من ن�سل داوود‪ ،‬و�أن تعيدهم �إىل الأر�ض املقد�سة‪ ،‬ال تغتم فلقد تاهت الأن�سال الآن وميكن �أن‬
‫ت�صنع لنف�سك ً‬
‫ن�سل �إىل داوود‪ ،‬لن ينظر �أحد بدقة �شديدة �إىل ن�سلك �إذا � َ‬
‫أعدت اليهود �إىل‬

‫ع‬
‫�أر�ض امليعاد‪ ،‬و�إن لأر�ض امليعاد حديث �آخر‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫‪z‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪203‬‬
‫(‪)8‬‬

‫نبي بهي‬
‫قد تسامى وظهر‬
‫لي ٌل بهيم �أ�س َود‪ ،‬ورجل بقلب بهيمي �أ�سود‪ ،‬وراءه امر�أة تكاد حتثو الرتاب على‬
‫ر�أ�سها من الأ�سى‪ ..‬تقول له يا �أبا فالن ارحم وليدتنا‪ ..‬وهو مي�ضي ً‬
‫حامل طفلة‬

‫ع‬
‫ر�ضيعة يف غاللة �سوداء‪ ،‬بكحل �أ�سود على عينيه ك�أن مداده من �سواد قلبه‪،‬‬

‫ص‬
‫جبل �أ�سودًا ال يبني من �سواد الليل‪ ،‬كان الرجل يريد �أن يئد الر�ضيعة‬ ‫حتى �أتيا ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف حفرة حتت اجلبل‪ ،‬جبل دالمة امللعون الأ�سود الذي تئد عنده العرب بناتها‪،‬‬
‫لوحة امناعت �ألوانها ف�صارت �أ�سودًا‪ ،‬وال �شيء �إال الأ�سود‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أعطى الرجل َ‬
‫فلذة كبده �إىل �أمها و�ش َّمر عن �ساعديه وبد�أ يح ُفر يف الأر�ض‪..‬‬

‫ب‬
‫والأم �إىل ر�ضيعتها ُ‬

‫ل‬
‫تنظر يف فجع!‪ ،‬والر�ضيعة ال تكاد تفتح عينها‪ ،‬ال تدري �أنها‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫�سواد �آخر ُيحفر لها باجلوار‪ ..‬تو َّقف الرجل‬
‫خرجت من �سواد الرحم لتعود �إىل ٍ‬

‫ش‬
‫وم�سح عن جبينه ذرات عرق تركت بعد م�سحها �سوادًا على جبهته‪ ،‬ثم رفع‬

‫و‬ ‫ر‬
‫لينظر �إىل وجوههما يف‬‫ر�أ�سه‪ ،‬ف�إذا ب�أقدام غريبة واقفة يف حزم‪ ،‬رفع مق َلتيه ُ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫يتبي �إال �أن �أحدهما �أ�شقر عجيب والآخر فيه من �أح�سن مالمح‬ ‫هذا ال�سواد فلم َّ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫العرب‪.‬‬
‫مت�سك‬
‫كان هذان هما «عمرو بن جابر» والرجل الأنور الوحيد الذي َّ‬
‫باحلنيفية‪ ..‬كانا عائدان من رحل ٍة طويلة من ال�شام ومتددا لي�سرتيحا عند جبل‬
‫أمرك بهذا يا �صاحب‬‫دالمة �إذ واجههما هذا امل�شهد‪ ..‬قال الرجل الأن َور‪� :‬آهلل � َ‬
‫ويحك‪� ،‬إن البنات من عند اهلل‪� ،‬أما الذكران فمن‬ ‫اجلبني الأ�سود؟ قال الرجل‪َ :‬‬
‫َ‬
‫عند الآلهة املقد�سة‪� ،‬إمنا �أنا �أعيدها ملن �أر�سلها‪� ،‬إىل اهلل‪ ،‬فال حاجة يل بها‪..‬‬
‫أمرك بهذا يا �صاحب القلب البهيم؟‬ ‫ملعت عني الرجل الأنور غ�ض ًبا وقال‪� :‬آهلل � َ‬
‫جند قوت يومنا‪ ..‬قال له‬ ‫قال الرجل‪ :‬ذرين وما �أنا فيه‪� ،‬إمنا نحن فقراء‪ ،‬ال ِ‬
‫الرجل الأنور‪� :‬أنا �أكفيك م�ؤونتها‪ ..‬و�أخذ منه الطفلة ُيالعبها و ُي�ضاحكها ور�آها‬
‫«عمرو» بعينه النافذة ك�أن �شفتاها قد انفرجتا بب�سمة �ضاحكة يف هذا الظالم‪...‬‬
‫يوم يت�أ َّكد لعمرو بن جابر �أن هذا الرجل الأنور لهو النبي امل�صطفى؛‬ ‫يف كل ٍ‬
‫كل كالمه وحديثه وب�شا�شته يف جتارته وحمبة النا�س له وثباته على تقدي�س ربه‬
‫و�أنبياء ربه عن كل منق�صة‪ ...‬كان «عمرو» مي�شي مع الرجل ومعهما الر�ضيعة‬
‫‪207‬‬
‫�إىل ناحية مكة‪ ،‬ثم توقف «عمرو» فج�أ ًة بال �سبب!‪ ،‬وطافت يف عينه الدنيا‬
‫ودرات‪ ،‬ك�أن ل�سعة من نار �أ�صابته يف الف�ؤاد‪ ،‬ومال «عمرو» �إىل الأمام ثم اتزن‬
‫واعتدل‪ ،‬تنامت الل�سعة �إىل � َأل حارق �سعى يف ن�صفه الأعلى حتى رفع رقبته‬
‫ور�أ�سه �إىل ال�سماء من الأمل‪ ،‬ثم هوى على ركبتيه وتذ َّكر‪ ،‬ذلك ال�سم‪ ،‬كان وجه‬
‫ال�شيطان «�سيدوك» يجول يف ذاكرته‪ ،‬لكن هذه الآالم مل تكن يف �صالح �صورته‬
‫متاما من ال َأل وهو ُ‬
‫ينظر‬ ‫الإن�سية التي ت�ص َّور بها‪ ،‬لأن عيناه كانت قد ابي�ضتا ً‬

‫ع‬
‫�إىل ال�سماء‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫نظر �إليه الرجل الأنور وقد تنامى الرعب يف �صدره‪ ،‬وم َّد يده حتى يلم�سه‪،‬‬

‫ال‬
‫بحدة‪ ،‬ونظر �إليه بعني �صافية البيا�ض فانتف�ض الرجل‬ ‫أبعد يده ِ‬
‫لكن «عمرو» � َ‬
‫الأنور مرتاج ًعا والر�ضيعة يف يده‪ ،‬دقائق وهد�أت �آالم «عمرو» و�أم�سك برقبته‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وحركها ك�أمنا يود اخلروج من ج�سده‪ ،‬ثم ا�ستقر «عمرو» وقال للرجل �أال ي�شغل‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫باله‪ ،‬ف�إنها نوبات �ص َرع ت�أتيه من ح ٍني لآخر‪ ..‬لكن نظ َرة الرجل الأنور له مل‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ت ُكن مرتاحة‪ ،‬ومل تكن ُت�صدِّ ق‪ ..‬وبد�أ مي�شي قل ًقا بجوار «عمرو» يف الطريق‪،‬‬

‫ش‬
‫أنت يا بن‬
‫و�أ�صبحت �أ�سئلته موجهة ناحية �شخ�ص «عمرو»‪ ،‬قال له‪ :‬من �أي قبيل ٍة � َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫جابر؟ نظر له «عمرو» وملحات من احلرية تغزُو مالحمه‪ ،‬ثم قال له �أنه يتيم‪،‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ال �أب له وال �أم‪ ،‬وال يدري لنف�سه قبيلة‪ ..‬ف�سكت الرجل الأنور‪ ،‬وت�شاغل بالتفكري‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أمر �آخر رغم �أن �شكه مل يخبو‪ ،‬وبد�أ ينظر �إىل «عمرو» نظر ًة خمتلفة‪ ،‬فلم‬‫يف � ٍ‬
‫يكن ما ر�آه جمرد ابي�ضا�ض عني فقط‪ ،‬كان قد ر�أى �أمو ًرا �أخرى‪ ،‬لكنه كتمها‬
‫يف نف�سه‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫نزل الرجلني �إىل مكة وافرتقا فيها‪� ..‬أما «عمرو بن جابر» فقد هرع �إىل‬
‫وادي عبقر‪ ،‬ف�إن فيه من اجلن حكماء‪ ،‬لينظر يف �أمر ال�سم املبيد الذي �أ�صبح‬
‫ي�أتيه بالأمل �ساعة و�ساعة‪� ،‬أما جن ن�صيبني فقد ت�شاغلوا باحلوم حوايل «�أمية‬
‫خب كل من يعرفه �أنه نبي هذه الأمة‪.‬‬ ‫بن �أبي ال�صلت»‪ ،‬فلم يعرفوا ً‬
‫رجل غريه ُي ِ‬
‫�أما الرجل الأنور فقد و�ضع على نف�سه عهدً ا ب�أن يكلم كل من يعرفه ب�سفاهة‬
‫هذا الدين الذي يتبعون‪ ،‬و�سفاهة هذه الأ�صنام التي يعبدون‪ ..‬بد�أ ُيحدِّ ث النا�س‬
‫كلما ن َّورت له فر�صة‪ ،‬كان يحاول بالعقل �أن ُيع ِّلمهم وباحلجة‪ ،‬ويدعوهم �إىل �أن‬
‫وحده ال �شريك له‪ ،‬و�أ�صبح ال ي�أ ُكل‬
‫يعودوا �إىل دين �أبيهم �إبراهيم‪ ،‬ويعبدوا اهلل َ‬
‫مما يذبحون لآلهتهم؛ يقول لهم‪ :‬ال�شاة خلقها اهلل و�أنزل لها من ال�سماء ماء‬
‫و�أنبت لها من الأر�ض‪� ،‬أف�أنتُم تذبحونها على غري ا�سم اهلل؟ لكن الأمر مل يكن‬
‫‪208‬‬
‫بالن�سبة لقري�ش دي ًنا‪ ،‬بل كان جتارة‪ ،‬كل تلك الأ�صنام حول الكعبة �إمنا و�ضعوها‬
‫لت�أتي قبائل العرب حتج �إليهم‪ ،‬واحلج يعني التجارة واملكانة والأمان‪ ،‬من ذا‬
‫الذي يج ُر�ؤ �أن ُيهاجم بلدهم املق َّد�س وفيها البيت احلرام ولكل فئة من فئات‬
‫العرب فيها �أ�صنام مقد�سة‪ ،‬التخلي عن كل هذا هو �أمر م�ستحيل‪.‬‬
‫أ�سند ظهره �إىل جدار الكعبة و�صاح فيهم ذات‬ ‫ف�ضج بهم الرجل الأنور‪ ..‬و� َ‬ ‫َّ‬
‫يوم‪ :‬يا مع�شر قري�ش‪ ،‬والذي نف�سي بيده ما �أ�صبح �أحدكم على دين �إبراهيم‬

‫ع‬
‫غريي‪ ..‬ثم قال ب�صوت خفي�ض ناظ ًرا �إىل ال�سماء‪ :‬اللهم �إين لو �أعلم �أحب‬

‫ري‬‫ص‬
‫الوجوه �إليك عبد ُت َك به‪ ،‬لكني ال �أعلم‪ ..‬وعمل حرك ًة عجيبة �أثناء دعائه‪َ ،‬‬
‫�سجد‬

‫ال‬
‫متوج ًها �إىل الكعبة‪ ،‬ثم قام ونظر �إىل ال�سماء وهو يقول ب�صوت عال‪:‬‬ ‫على راحته ِّ‬
‫�إلهي �إله �إبراهيم‪ ،‬وديني دين �إبراهيم‪ ..‬ثم عال �صوته �أكرث وقال‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫�أ�سلمتُ وجهي ملن �أ�سل َمت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫له الأر�ض حتمل �صخ ًرا ثقاال‪.‬‬

‫ش‬
‫دحاه ��ا فلم ��ا ر�آه ��ا ا�س ��ت َوت‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫على املاء �أر�سى عليها اجلباال‬

‫و‬
‫و�أ�سلمت وجهي ملن �أ�سلمت‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ل ��ه امل ��زن حتم ��ل عذب ��ا زالال‬
‫بد�أ النا�س يتج َّمعون حوله‪ ،‬فنظر �إىل الأ�صنام املوتودة ك�أوتاد الغزاة هنا‬
‫وهناك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أرب واح� � ٌد �أم �أل ��ف رب‬ ‫� ٌّ‬
‫�أدي ��ن �إذا تق�س ��مت الأم ��ور‬
‫عزلت الالت والعزى جمي ًعا‬
‫كذل ��ك يفع ��ل اجلل ��د ال�صب ��ور‬
‫فال العزى �أدين وال ابنتيها‬
‫وال �صنم ��ي بن ��ي عم ��ر �أزور‬
‫ولكني �أعبد الرحمن ربي‬
‫ليغف ��ر ذنب ��ي ال ��رب الغف ��ور‬
‫‪209‬‬
‫غليظا‪ ،‬قال له‪ :‬ما مقالة‬ ‫رجل ً‬ ‫وتوجه �إىل بيته فوجد عمه عند الباب‪ ،‬وكان ً‬
‫َّ‬
‫عقلك‬‫بل َغتني عنك؟ �أنك ُت�س ِّفه من �آلهتنا املقد�سة عند كل من حتادث‪� ،‬أغاب َ‬
‫�أم تريد �أن ت�أتينا قري�ش مبا نكره؟ �أل�ست عندهم حممودًا طوال عمرك؟ قال له‪:‬‬
‫يا عم‪� ،‬إمنا يفعلون ال�شر ويذبحون لأخ�شاب وي�سجدون لأحجار ويقتلون �أوالدهم‬
‫وبناتهم‪� ،‬إن كان هناك عقل قد ذهب فهي عقولهم وعقلك معهم‪ ...‬وكانت‬
‫م�شادة بني الرجل وعمه‪ ،‬وع َلت الأ�صوات‪ ،‬وجتم َهر بع�ض ال�ساكنني يف اجلوار‪،‬‬

‫ع‬
‫وكانت بينهم عني رجل جني كان للتو �آت ًيا من وادي عبقر‪ ،‬وقع يف نف�سه ملا ر�أى‬

‫ص‬
‫امل�شهد �أن نب ًيا يف هذه الأرجاء �سيت�صدى لأيام �صعاب و�أنا�س �صعاب‪ ،‬ويبدو �أنه‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يرى النبي الآن وهو يبد�أ بذور دعوته‪ ،‬م�ضى الرجل الأنور ما�ش ًيا بعيدً ا‪ ،‬وحيدً ا‬
‫غري ًبا كغربة عقيدته‪ ،‬وبقى «عمرو بن جابر» بهيئته اجلنية يرقبه من َعل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مهموما على غري هدى‪ ..‬فناداه‬ ‫ً‬ ‫أر�ض ف�ضاء مي�شي فيها‬
‫خرج الرجل �إىل � ٍ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫فالتفت لها‪ ،‬ف�إذا بهم فتية من حدثاء قومه‪ ،‬ومل يكن‬ ‫َ‬ ‫�صوتٌ بل نادته �أ�صوات‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫يف وجههم خري‪ ،‬يف �أعينهم نظرات مراهقة جذلة‪ ،‬ثم فاج�أوه ووثبوا عليه وثب َة‬

‫ش‬
‫رج ٍل واحد‪ ،‬فجالت �أياديهم يف وجهه وج�سده حتى مل يبق فيه مو�ضع �سامل‪ ..‬ثم‬ ‫ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫م�ضرجا يف دمائه‪ ،‬وقد نقلوا له ر�سالة من‬ ‫مطروحا على الأر�ض وحيدً ا‬ ‫تركوه‬

‫الت‬
‫ً‬ ‫ً‬

‫و‬
‫فل�ست‬
‫وارحل من هذا البلد‪َ ،‬‬ ‫عمه‪� ،‬أن قد �آذناك ثالثة �أيام‪ ،‬ثم اجمع رحالك َ‬

‫ز‬
‫ِح ًل لهذا البلد‪.‬‬

‫يع‬
‫فقام الرجل ومل ي ُعد يدري ما الذي يجول بفكره‪ ،‬تالطمت �أفكاره كما‬
‫تالطمت عظامه‪ ،‬ورجع �إىل بيته وزوجه‪ ،‬وارمتى على فرا�شه‪...‬‬
‫يوم �آخر خرج من بيته وركب ناقتَه �إىل وادي بلدح قرب جبل حراء‪،‬‬ ‫ويف ٍ‬
‫وتو�سطت ال�شم�س �صفحة ال�سماء حار ًة ملتهبة‪ ،‬والرجل الأنور مي�شى بناقته‬
‫والأفكار يف وجدانه تخطر‪ ،‬حتى �إذا نزل يف �أ�سفل الوادي لق َيه رجل من قري�ش‬
‫ق�سيم و�سيم ك�أنه القمر‪ ،‬كان راك ًبا على ناقة له‪ ،‬فح َّياه الرجل الأنور فقال‬
‫وتب�س َم له وقال‪ :‬مايل �أرى قومك قد‬ ‫�صباحا‪ ،‬فرد له الرجل التحية َّ‬‫ً‬ ‫له حييت‬
‫�شنفوك؟ فقال له الرجل الأنور وقد بلغ منه الهم مبلغه‪� :‬أما واهلل �إن ذلك لغري‬
‫ثائرة كانت مني فيهم‪ ،‬لكني �أراهم على �ضالل‪� ،‬إين خرجتُ �أبتغي هذا الدين‬
‫ف�أتيتُ �إىل �أحبار يرثب اليهود فوجد ُتهم يعبدون اهلل وي�شركون به‪ ،‬فقلتُ ما‬
‫هذا بالدين الذي �أبتغي‪ ،‬فخرجتُ حتى �أقدمتُ على �أحبار ال�شام الن�صارى‬
‫فوجد ُتهم يعبدون اهلل وي�شركون به‪ ،‬فقال يل حرب من �أحبار ال�شام �إنك لت�س�أل‬
‫‪210‬‬
‫�شيخا يف اجلزيرة‪ ،‬فخرجتُ فقدمت عليه‬ ‫عن دين ما نعلم �أحدً ا يعبد اهلل به �إال ً‬
‫ف�أخربته بالذي خرجتُ له‪ ،‬فقال يل �إن كل من ر�أيت يف �ضاللة‪� ،‬إنك ت�س�أل عن‬
‫دين هو دين اهلل ودين مالئكته‪ ،‬فمن �أنت؟ قلت �أنا من �أهل بيت اهلل ومن �أهل‬
‫خرج جنمه‪ ،‬فارجع‬ ‫ال�شوك والقرظ‪ ...‬فقال يل‪� :‬إنه خارج يف بلدك نبي �أو قد َ‬
‫واتبعه و� ِآمن به‪ ،‬فرجعتُ ومل �أح�س �شي ًئا بعد‪.‬‬
‫ف�أنزل الرجل الق�سيم الو�سيم ناقتَه و�أتى له خادمه‪ ..‬كان يبدو �أن ذلك‬

‫ع‬
‫اخلادم قد فرغ لتوه من عمل �شاق‪ ،‬فلما تك َّلم اخلادم ات�ضح الأمر‪ ،‬دعا اخلادم‬

‫ري‬‫ص‬
‫الرجلني �إىل �سفرة‪� ،‬شاة ذبحها لت ِّوه وح�ضرها يف مائدة‪ ،‬ف�أبى الرجل الق�سيم‬ ‫ُ‬

‫ال‬
‫الو�سيم �أن ي�أ ُكل من ال�سفرة!‪ ،‬ف�س�أل الرجل الأنور اخلادم وقال‪ :‬ما هذه‬
‫ال�سفرة؟ قال اخلادم‪ :‬هذه �شاة ذبحناها لن�صب من الأن�صاب‪ ..‬قال الرجل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الأنور‪ :‬ما �آكل �شي ًئا ُذ ِبح لغري اهلل‪ ..‬وقام الرجل الأنور وفارقهم‪ ،‬وم�ضى يف‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫تعجب «عمرو بن‬ ‫طريقه‪ ،‬فال �أكل الرجل الأنور‪ ،‬وال �أكل الرجل الو�سيم الأقمر‪َّ ..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫جابر» من هذا‪ ،‬لكن كان همه مع الرجل الأنور املهموم الذي بد�أ يجهز رحاله‬

‫ش‬
‫لي�سافر �أو ليهاجر هجرة نهائية‪ ،‬فال �أحد من قومه يحتمله‪ ،‬و�إن �أفكاره لت�ضع‬

‫و‬ ‫ر‬
‫قبيلته يف م�أزق ال يحتملونه مع قري�ش‪ ..‬وبالفعل غادر الرجل الغريب‪ ،‬غادر مكة‬

‫و‬ ‫الت‬
‫وهاجر �إىل حيثما هاجر‪ ،‬مل يدر «عمرو بن جابر» ما يفعل‪ ،‬لإن كان نب ًيا فلماذا‬

‫ز‬
‫أح�س «عمرو» ببدء و�ساو�س مثل التي �أتته َّ‬

‫يع‬
‫و�شك يف كل‬ ‫يرتُك البلد ويهاجر!‪ ،‬و� َّ‬
‫يجد حوله �شيطان‪ ،‬فعلم �أنها و�ساو�س من نف�سه التي‬ ‫ما يعت ِقد‪ ،‬فنظر حوله فلم ِ‬
‫بني جنبيه‪ ،‬و�ساو�س ملحدة‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫حوافر عاديات على كثيب ال�صحراء عليها رجل �أنور من �أح�سن �أن�ساب‬
‫نبذه قومه فخرج برحاله �إىل العراء م�ساف ًرا �إىل وجهة بعيدة‪ ،‬كان‬ ‫قري�ش‪َ ،‬‬
‫يلتفت حواليه كل حني وك�أمنا يح�س �شي ًئا ما!‪ ،‬وبالفعل كان هناك �شيء يطوف‬
‫به وك�أمنا يج�س �أمره‪ ،‬كان ذاك «عمرو بن جابر» يطري وقد طار عنه كثري من‬
‫ً‬
‫حمتفظا ب�أمل �أخري يف ذلك‬ ‫ح�سن �إميانه‪ ،‬وراودته �أفكار و�أفكار‪ ،‬لكنه كان‬
‫الرجل على �أي حال‪.‬‬
‫وفج�أة �سمع الرجل �صوت حوافر لها دوي عال يف ال�صحراء مما ي�شري �إىل‬
‫كرثتها‪ ..‬كانت �آت َية من خلفه‪ ،‬نظر الرجل �إىل اجتاه ال�صوت فر�أى ال�صورة‪،‬‬
‫رجال �شدادًا من قبيلة خلم يتجهون �إىل ناحيته وي�شدون على خيلهم‬ ‫كانوا ً‬
‫‪211‬‬
‫لتعجل يف العدو‪ ،‬ويف ثوان كان الرجال يعدون حول الرجل بخيولهم وينظرون‬
‫�إليه نظرات مل يفهمها‪ ،‬ثم حاد بع�ضهم وجعلوا �أنف�سهم يعدون �أمامه‪ ،‬ف�أحاطوا‬
‫به‪ ،‬فعلم �أنهم يطلبونه‪ ،‬ف�أبط�أ ناقتَه حتى �أوقفها‪ ،‬لكن الرجال مل يتوقفوا‪ ،‬ظلوا‬
‫بالتدخل بطريقة ما لكنه توقف‪� ،‬أوقفته‬ ‫ُّ‬ ‫هم «عمرو بن جابر»‬‫يحومون حوله؛ َّ‬
‫�أفكاره التي تطوف يف قلبه‪ ،‬ونظر‪ ،‬ثم ترقب وانتظر‪ ،‬فريى ماذا ي�صنع القدر‬
‫بذلك الرجل الأنور‪.‬‬

‫ع‬
‫لقد قر�أها «عمرو بن جابر» يف عيون الرجال‪ ،‬كانوا ُمر�سلني للقتل‪� ،‬أخرجوا‬

‫ري‬‫ص‬
‫�سيوفهم من �أغمادها وكانوا �أكرث من ع�شرة‪ ،‬والرجل الأنور وحده ال �أحد معه‪،‬‬

‫ال‬
‫ف�أخرج �سي ًفا كان معه جمه ًزا ليحمي نف�سه يف الطريق‪� ،‬أخرجه ويف عينه حرية‬
‫وحزن‪ ،‬ومل يكن يف عينه خوف‪ ،‬فقاتله الرجال وقاتلهم حتى �أردوه عن ناقته‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�إىل رمال ال�صحراء احلارة‪ ،‬ونزلوا عن جيادهم وتهازءوا به‪� ،‬أيهم يقطع ر�أ�سه‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫فهوت عليه �ضربات حاول �أن يتفاداها لكنها �أ�صابته يف موا�ضع خطرة‪ ،‬وبني‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫زحمة الرجال وال�سيوف‪ ،‬ر�أى الرجل الأنور طيف «عمرو بن جابر» واق ًفا خلف‬

‫ش‬
‫الرجال ينظر ويف عيونه كلمات مل يفهمها الرجل الأنور‪ ،‬م َّد الرجل الأنور يده‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�إىل «عمرو بن جابر» وك�أنه ي�شري له �أن يبتعد ويحذر‪ ،‬لكن «عمرو» كان مي�شي‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�إليه بثبات ال يح�س ب�شيء‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ور�أى الرجل الأنور بعينه �أن �أج�ساد الرجال تخرتق ج�سد «عمرو» ك�أنه طيف‪،‬‬
‫و�أنهم ال يح�سون به‪ ،‬ثم توقف «عمرو» ونظر �إىل الرجل الأنور‪ ،‬كان يزحف‬
‫والدماء تفور من �أطرافه‪ ،‬و�ضربات ال�سيوف و�ضحكات الرجال املجرمني ت�صم‬
‫الأذن‪ ،‬و«عمرو» واقف ينظر �إليه ويف عينه برود قا�س‪ ،‬فرفع الرجل وجهه �إىل‬
‫رب ال�سماء وقال‪ ،‬اللهم �إن كنت حرمتني �صحبة نبيك‪ ،‬فال حترم منها ابني‬
‫�سعيدً ا‪ ،‬ارجتفت جنبات «عمرو» من كلمات الرجل‪ ،‬ثم عاد له لبا�س الق�سوة‪،‬‬
‫و�أعر�ض وجهه عن الرجل‪ ،‬وم�شى مبتعدً ا‪ ،‬وهو ي�سمع الرجال ي�ضربونه ُوي ِّثلون‬
‫به وي�ضحكون ك�ضباع ال�صحاري‪ ،‬ولي�س من كلمة على وجه الأر�ض ميكنها �أن‬
‫ت�صف امل�شاعر التي كان يح�س بها «عمرو بن جابر» وهو مي�شي مبتعدً ا عن ذلك‬
‫امل�شهد‪ ،‬عن ذلك الأمل الأخري الذي مات �أمام عينيه‪ ،‬ته َّدمت �أ�سوار �إميانه‬
‫وت�صديقه بالق�ضية كلها‪ ،‬و�شطب ا�سم الرجل الأخري الذي كان وا�ض ًعا فيه �أمله‪،‬‬
‫�شطب ا�سم «زيد»‪« ،‬زيد بن عمرو بن نفيل»‪ ،‬ومل يبقَ بعده �أحد‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫�إىل اهلل �أهدي مدحي وثنائيا‬
‫وقوال را�ضيا ال يني الدهر باقيا‬
‫�إىل امللك الأعلى الذي لي�س فوقه‬
‫�إل ��ه وال رب يك ��ون مداني ��ا‬
‫حناني ��ك �إن اجل ��ن كان ��ت رجاءه ��م‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�أن ��ت �إله ��ي ربن ��ا ورجائي ��ا‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ر�ضي ��ت ب ��ك الله ��م رب ��ا فل ��ن �أرى‬
‫�أدي ��ن �إله ��ا غ�ي�رك اهلل ثاني ��ا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫و�إين ل ��و �س ��بحت با�س ��مك ربن ��ا‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫لأُك�ث ِ�ر �إال م ��ا غف ��رت خطائي ��ا‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ف ��رب العب ��اد �أل ��ق �س ��يبا ورحم ��ة‬

‫و‬ ‫ر‬
‫عل � ّ�ي وب ��ارِك يف بن ��ي ومالي ��ا‬

‫و‬ ‫الت‬
‫«زيد بن عمرو بن نفيل»‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫�س ِّيد املوحدين يف اجلاهلية‪.‬‬

‫�إىل مكة كانت عودته �ساهما يف �سري الأمور‪ ..‬تذكر ملا دخلها مرة معع«�أ�سعد»‬
‫‪z‬‬
‫حتا يف جيو�ش‪ ،‬وو�ضعوا على البيت ك�س َوته‪ ،‬كان ا�سمها فاران‪ ،‬وتذكر‬ ‫الكامل فا ً‬
‫الطري الأبابيل‪ ،‬وتذكر وجه «�إزب» و«�سيدوك»‪� ،‬إن كل هذا َوهم‪� ،‬إنه �أكرث خملوق‬
‫رمته اخلطوب وال�سنني الطوال يتتبع هذا الأمر‪� ،‬أربعمائة �سنني �أو �أكرث وهو‬
‫ينتقل من ق�صة �إىل ق�صة ومن �أر�ض �إىل �أر�ض‪ ،‬خ�سر حياته وزوجه و�شبابه‪،‬‬
‫وال �شيء يف النهاية �إال نبوءات �شياطني وكالم يف كتب �أهل الكتاب بكل عجائب‬
‫الأ�شياء التي و�ضعوها يف الكتاب‪.‬‬
‫ألي�ست لك جماعة �أيها الو�سيم؟‬ ‫ � َ‬
‫تنظر له يف لوم م�شوب باملرح‪..‬‬‫نظ َر �إىل م�صدر ال�صوت فر�أى فتا ًة ح�سناء ُ‬
‫نظر لها وفو ًرا تذ َّكر «�إينور»‪ ،‬لكنها مل تكن «�إينور»‪ ،‬ف�أطرق بر�أ�سه �إىل الأر�ض‬
‫‪213‬‬
‫لي�ست يل جماعة‪� ،‬إالم و�صلتم؟ كان تلك هي «ما�سا»‪ ،‬من‬ ‫يف ُحزن وقال‪َ :‬‬
‫وفد جن ن�صيبني‪ ..‬ح َكت له «ما�سا» تفا�صيل ر�ؤياها التي ر�أتها عن الراهب‬
‫«بحريا» والغالم الذي يتح َّرك له الغمام‪ ،‬وعرفته بقدرتها التي ا�شتهرت بها‬
‫يف ن�صيبني‪� ...‬أنها ترى املا�ضي بكل تفا�صيله‪ ،‬و«عمرو» ي�سمع لها وعروق عيونه‬
‫ترجتف!‪ ،‬قالت له‪ :‬ما بك يا هذا؟ قال لها‪� :‬أف�أنتم ت�ؤمنون �أن يف هذه البالد‬
‫يخ ُرج نبي ح ًقا؟ �إين كعمرو بن جابر مل � ُأعد �أ�ؤمن بهذا‪� ،‬أف�أ�صدق ر�ؤيا ت�أتيك‬

‫ع‬
‫�أنت ملا تنامني عن راهب يف دير يف ال�شام؟‬

‫ري‬‫ص‬
‫تنظر �إليه وعينها بارقة بطريقة عجيبة‪ ..‬وك�أنها قد انف�صلت‬ ‫كانت «ما�سا» ُ‬

‫ال‬
‫عن هذه الأر�ض كلها‪ ،‬ثم �أغم�ضت عينها وعملت بالحمها ما يوحي ب�أنها تت� َّأل‪،‬‬
‫«رب �إين �أود لو تد ّلني �إىل الطريق‪� ،‬أو على‬
‫ثم فتحت عينها ونظرت له وقالت‪ِّ :‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�صاحب الطريق‪ ،‬رب �إين قد وهنت‪ ،‬وخبت يف عروقي �أنوار الأمل‪ ،‬ف�أظلم‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫أر�سلت ال�شياطني عليهم ت�ؤزهم �أزا‪ ،‬فلم ترتك ال�شياطني‬ ‫ف�ؤادي‪ ،‬رب �إنك قد � َ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫يف نفو�سهم جذوة من �إميان �إال �أطف�أتها‪ ،‬وال رجل يقول يا رحمن �إال كادت له‬

‫ش‬
‫الكيد‪ ،‬ومل يعد على الأر�ض �إال بيتك املحرم»‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫كان «عمرو» ي�سمع وعينه مت�سعة؛ لقد كانت هذه كلماته‪ ،‬هذا ما دعا به ربه‬

‫و‬
‫على �أعتاب مكة قبل �سنني طوال عند هذا املو�ضع �أو حوله‪ ،‬ات�سعت عني «عمرو»‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫هذه الفتاة التي �أمامه ترى املا�ضي بتفا�صيل ال يقدر عليها �سواها‪ ..‬هذا الدعاء‬
‫ب�صوت خفي�ض‪ ،‬و�ساحت نف�س «عمرو بن جابر»‪ ،‬هذه الفتاة‬ ‫ٍ‬ ‫قاله منذ زمن‬
‫ً‬
‫�صادقة‪ ،‬ور�ؤياها �صادقة‪ ،‬وتذ َّكر «عا�صف»‪ ،‬الذي مات مربوطا على خ�شبة؛ مات‬
‫لأجل دين اهلل‪ ،‬وتذكر «�أ�سعد» الكامل وب�سمته حني موته وهو يقول‪� :‬شهدت على‬
‫�أحمد �أنه‪ ،‬ر�سول من اهلل باري الن�سم‪ ..‬ثم تذكر الرجل الأنور «زيد بن عمرو‬
‫بن نفيل» وطيبته وخلقه اجلميل ثم �سجوده لربه يف و�سط ثالثمائة �ص َنم ثم‬
‫أح�س باحلياء من نف�سه‪ ،‬وترقرقت عيناه‬ ‫موته املفزع الدامي‪ ...‬تذكر كل هذا و� َّ‬
‫بالدمع حا ًرا على الوجنتني‪ ،‬هذه الفتاة‪ ..‬لقد ر�أت ر�ؤيا ل�صبي من تلك الديار‬
‫يتحرك الغمام ملوا�ضع قدميه‪ ،‬هذه الفتاة‪ ،‬لقد ر�أت «�أحمد»‪� ،‬أخفى دموعه عنها‬
‫و�أعر�ض بوجهه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬و�أين و�صلتُم بعد هذه الر�ؤيا؟‬
‫قالت له وقد التقطت ما يفعل وما يخفي‪ :‬نحن الزلنا نتبع �أمية بن �أبي‬
‫ال�صلت‪ ،‬والزال يخرب اجلميع �أنه �سيكون نب ًيا‪ ...‬مل ي�ش�أ «عمرو» �أن يخربها �أن‬
‫«�أمية» هذا موهوم‪ ،‬و�أنه لي�س هو من يبحث عنه اجلميع‪ ،‬ف�سكت «عمرو»‪.‬‬
‫‪214‬‬
‫قالت له‪ :‬يا «عمرو» ماذا عنك‪� ،‬أت�ؤمن �أن نب ًيا من بني الإن�سان �سيدعو �إىل‬
‫اهلل ح ًقا؟ �أعر�ض عنها وقال‪ :‬مل � ُأعد �أدري ماذا �أ�ؤمن‪.‬‬
‫وافرتقا‪ ...‬فعادت «ما�سا» �إىل �أ�صحابها‪� ،‬أما «عمرو» فذهب �إىل رجل واحد‬
‫كان البد �أن ُيخربه ب�أمر «بحريا» الراهب‪ ،‬رجل تن�صر من الأربعة الأنوار‪� ،‬أو من‬
‫الأربعة الذين كانوا �أنوا ًرا‪ ،‬ذهب �إىل «ورقة»‪- ،‬ورقة بن نوفل‪.-‬‬
‫‪z‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫كان «ورقة» ً‬
‫رجل �ساه ًما كثري النظر يف النجوم‪ ،‬كثري همه َمة ال�صدر‪ ،‬وكان‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫له �صوان خارج بيته يجل�س فيه ينظر �إىل ال�سماء‪ ،‬وكان «عمرو» �إليه �آتيا يف‬
‫هيئته الب�شرية‪ ،‬لكنه ملا اقرتب �سمع �صوت �شخ�ص عند «ورقة»!‪ ،‬فتوقف «عمرو»‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وتنحى عن الدرب والتقطت �أذنه حدي ًثا يدور بني ورقة وبني من عنده‪ ،‬لكن‬

‫ب‬
‫«عمرو» مل يحتمل‪ ،‬فزال من املكان بهيئة الب�شر وانتقل �إىل هيئة اجلن وحل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫رجل ً‬
‫جميل‬ ‫متاما عند «ورقة» ومن عنده‪ ،‬فوجد عند «ورقة» ً‬ ‫يف املكان كجني‪ً ،‬‬

‫ش‬
‫جال�سا بفناء‬
‫طويل ال�شعر �أ�سوده‪ ،‬كان الرجل يقول لورقة‪ :‬يا ورقة �إين كنت ً‬

‫ر‬
‫الكعبة‪ ،‬وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدا‪ ،‬فم َّر به �أمية بن �أبي ال�صلت‪ ،‬فقال‬

‫الت‬ ‫و‬
‫كيف �أ�صبحت يا زيد‪ ،‬قال بخري‪ ،‬قال له �أمية‪ ،‬هل وجدت النبي الذي تبحث عنه‬

‫و‬
‫يا زيد؟ قال زيد‪ ،‬ال يا �أمية‪ ،‬مل �أجد من ذلك �شيء‪� ،‬أما �إن هذا النبي املنتظر‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�سيكون منا �أو منكم �أو �سيكون من �أهل فل�سطني‪ ،‬ف�سكت �أمية و رحل عن زيد‪.‬‬
‫ثم قال الرجل اجلميل لورقة‪� :‬إين مل �أ�سمع قبل هذا بنبي ينتظر �أو يبعث‪،‬‬
‫�أفهذا الأمر حق يا ورقة؟ قال له «ورقة»‪ :‬نعم واهلل �إنه حلق‪� ،‬إن هذا النبي‬
‫املنتظر �سيكون من �أو�سط العرب ن�س ًبا‪ ،‬و�إن يل ِعلم بالن�سب‪ ،‬وقومك �أو�سط‬
‫العرب ن�س ًبا‪ ،‬و�إن النبي �إذا خرج �سيكون منكم‪ ..‬قال الرجل اجلميل‪ :‬وما يقول‬
‫هذا النبي �إذا خرج؟ قال «ورقة»‪ :‬يقول ما قيل له من عند اهلل‪ ،‬ال يزيد على هذا‬
‫وال ينق�ص‪.‬‬
‫ثم ان�صرف الرجل اجلميل املحيا من عند ورقة‪ ..‬وعلى الفور ت�صور «عمرو»‬
‫يف �صورة الب�شر ودخل على «ورقة بن نوفل» فا�ستب�شر به «ورقة» وح َّياه و�أكرم‬
‫وفادته‪ ،‬قال كيف حالك يا بن اليمن‪ ،‬مكث «عمرو» عنده ي�سائله ويتذاكران‬
‫رحلتهما ويتذاكران «زيد»‪ ،‬ويتذاكرا «�أمية بن �أبي ال�صلت» ووهمه يف الن�سب‬
‫والنبوة‪ ،‬وعلم «عمرو» �أن «عثمان بن احلويرث» الرجل الثالث يف الأربعة الأنوار‬
‫‪215‬‬
‫قد ُقتل يف ال�شام‪ ،‬وحكى له «عمرو» حكاية «بحريا» الراهب‪ ،‬فخ�شع قلب ورقة‬
‫للحكاية ومل يكن يعلمها‪ ..‬قال «عمرو»‪َ :‬من هذا الرجل ذو الوجه احل�سن الذي‬
‫خرج من عندك لت ِّوه يا ورقة؟‬‫َ‬
‫قال «ورقة»‪� :‬إنه رجل حممود يف قومه ي�سميه قومه بال�صادق من عظم‬
‫�صدقه فيهم‪ ..‬ا�ستب�شر قلب «عمرو»‪ ،‬لكن «ورقة» قال له‪ :‬يا عمرو �أعلم ما ُتف ِّكر‬
‫فيه‪ ،‬لكن يا عمرو‪ ،‬اع َلم �أن النبي ال يكون ينتظر النبي �أو يبحث عن النبي‪� ،‬إن‬

‫ع‬
‫النبي يعلم �أنه نبي‪ ..‬ات�سعت عني «عمرو» وقال‪ :‬كيف يعلم �أنه نبي يا ورقة؟ قال‬

‫ري‬‫ص‬
‫«ورقة»‪ :‬هذا ما هداين �إليه نظري يا «عمرو»‪ ،‬ولي�س لدينا �إال االنتظار‪ ..‬لكن‬

‫ال‬
‫عار�ضه ب�شدة ومل ُيوافقه على هذا النظر‪.‬‬‫«عمرو» َ‬

‫ك‬
‫وان�صرف من عنده وهو ُيف ِّكر يف حكاية �أخرى‪� ..‬إن «ورقة» يظن مبا عنده‬

‫ت‬
‫من العلم �أن النبي �سيكون من �أوا�سط العرب ن�س ًبا‪ ،‬من بني مرة بن كعب بن‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ل�ؤي بن غالب بن فهر‪ ،‬فم�ضى «عمرو» وقد ا�ستعادت عروقه �إك�سري الن�شاط‪،‬‬

‫ن‬
‫لقد �ضاقت الدائرة ً‬

‫ش‬
‫قليل ف�صارت من بني مرة بن كعب بن ل�ؤي‪ ..‬هذا يلغي‬

‫ر‬
‫ن�صف بطون قري�ش على الأقل‪ ،‬ومل ُي�ضع «عمرو» وقتًا‪ ،‬و�إمنا انطلق �إىل ذلك‬

‫الت‬ ‫و‬
‫الرجل اجلميل الذي كان عند «ورقة» لينظر يف �أمره‪ ،‬وقبل �أن يتح َّرك خطوة‬

‫و‬
‫من بيت «ورقة»‪ ،‬وجدها �أمامه؛ احل�سناء من طائفة الأرواح‪« ،‬ما�سا»‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أنت ت�ضللنا يا عمرو؟ �إين قد �سمعتُ حديثك مع ورقة‪ ،‬وقولكما‬ ‫قالت له‪� :‬أف� َ‬
‫�أن �أمية بن �أبي ال�صلت موهوم‪� ،‬أتخاف علينا من نبيك �إذا خرج يا عمرو؟ �أال‬
‫تدري �أنه �إذا خرج وكان نب ًيا من ربه فلن نقدر على �أن ن�ؤذيه؟ مل يدر «عمرو» ما‬
‫هم «عمرو» بالكالم ف�سب َقته وقالت‪:‬‬ ‫يجيبها‪ ،‬وكان يف �س�ؤالها كثري من املنطق‪َّ ،‬‬
‫واهلل �إين لأرى من �أمر هذا النبي عج ًبا عجا ًبا‪ ،‬و�إين ل�ست كل ما �أراه �أحدث به‬
‫�أ�صحابي‪ ..‬انتف�ض «عمرو» وقال لها‪ :‬ما هذا الذي ترينه وال ُتدِّ ثني به يا هذه؟‬
‫عرفت من هو �أحمد؟‬ ‫هل ِ‬
‫�أطرقت بر�أ�سها وقالت‪ :‬ليتني �أعلمه‪ ،‬لكني ر�أيت من حياته عجبا‪ ..‬قال‪� :‬أمل‬
‫ت�ستديل عليه؟ قالت‪� :‬إين ل�ست �أخرب �أحدً ا ب�شيء حتى �أريد �أن �أخرب‪ ..‬نظر لها‬
‫�شوق وقال‪� :‬أرجوك يا �صاحبة الأرواح �أن تنبئيني مبا ر�أيت‪ ..‬قالت‬ ‫بعني كلها ٍ‬
‫«ما�سا»‪� :‬إين ال �أفعل ذلك �أبدا‪ ،‬لكن اعلم �أين قد �أتيتُ مع وفد ن�صبني �إىل هاهنا‬
‫ُمربة‪ ،‬و�إنك �إن �أردتَ �أن ُت�ضللهم لن جتد �أف�ضل مني‪ ،‬ف�إين بينهم ذات ثقة‪..‬‬
‫نظر لها «عمرو» وهو ُيف ِّكر وقال‪ :‬ملاذا تفعلني هذا وت�ضلليهم؟ ظه َرت يف عينها‬
‫‪216‬‬
‫�أ�شباح الدمع وهي تتذكر مرائيها ومل ترد!‪ ،‬ثم فج�أ ًة �أم�سكها من �ساعدها‬
‫و�سحبها معه بقوة‪ ،‬وقال‪� :‬إذن تعايل معي‪ ..‬وانطلق «عمرو» بها �إىل حيث كان‬
‫يريد �أن ينطلق‪� ،‬إىل ذلك الرجل اجلميل ال�صادق من بني مرة بن كعب بن ل�ؤي‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫وق َفا �أمام بيته‪ ..‬و«ما�سا» مت�سك ب�صدغها وك�أنها تتهي�أ لرتى �أمو ًرا‪ ،‬ثم‬
‫فج�أة تق َّو�س ظهرها ونظرت �إىل ال�سماء وات�سعت عينها و�صرخت‪ ،‬و�أُخذت �إىل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عامل من ال�صور‪ ،‬عامل من املا�ضي‪ ،‬عند نف�س هذا البيت‪ ،‬حيث خرج من البيت‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫رجل ومعه غالمه املراهق الذي ناهز احللم‪ ،‬كان هذا هو �صاحب الوجه اجلميل‬
‫ملا كان غالما‪ ،‬وكان معه �أبوه‪ ،‬فانطلق �أبوه به �إىل خمدع الأ�صنام‪ ،‬وقال له‪ :‬يا‬

‫ك‬
‫بني‪ ،‬هذه �آلهتك ال�شم العوايل فتع َّبد لها‪ ..‬ثم ذهب الرجل وترك ابنه يف خمدع‬

‫ت‬
‫الأ�صنام وحده‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫قامته كلها‪ ،‬وذهب �إىل �صنم منهم وقال‬
‫ب‬‫نظر الفتى �إىل الأ�صنام التي تع ُلو َ‬

‫ش‬
‫له‪� :‬أيها املُ�ش َّيد من احلجارة‪� ،‬إين جائع ف�أط ِعمني‪� ،‬إين عط�شان فا�س ِقني‪ ،‬ومل‬

‫ر‬
‫ي ُرد ال�صنم بل ظل ناظ ًرا بال هدى‪ ...‬ثم ذهب ال�صبي �إىل �صنم �آخر عليه‬

‫الت‬ ‫و‬
‫هيبة‪ ،‬قال له‪ :‬يا ذا الهيبة �إين عا ٍر فاك�سني‪ ،‬ظل ال�صنم ينظر و�أنفه �أمامه‪،‬‬

‫و‬
‫ف�أم�سك ال�صبي حج ًرا من الأر�ض وقال‪� :‬إين راميك بحجر يا هذا فادفع عن‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫نف�سك‪ ،‬فلما مل يجد ردًا رمى احلجر ف�ضرب مقدمة ال�صنم فخ َّر على وجهه‬
‫وانك�سر‪ ..‬ونظر له ال�صبي بع ٍني حانقة‪ ،‬ومل ترى ما�سا بقية احلدث فا�ستفاقت‬
‫و�أم�سكت ر� َأ�سها من � َأل �شديد‪ ،‬وحكت لعمرو كل ما ر�أته‪ ،‬فتل َّهف قلب «عمرو»‬
‫�صاحب ذلك الرجل‪ ،‬و‪...‬‬
‫�أن ينتقل �إىل هيئة ب�شرية و ُي ِ‬
‫لي�س هو‪.‬‬
‫  َ‬
‫نظرا م ًعا �إىل ما وراءهما‪ ..‬كان يجل�س جل�سته القرف�صاء املعهودة ويكتئب‬
‫اجلو ملر�آه‪�« ،‬سيدوك» ‪�-‬شيطان ال�سم‪ -‬نظر �إىل «ما�سا» نظر ًة لن تن�ساها وقال‬
‫لها‪ :‬مل �أكن �أدري �أن يف بعثتنا املقد�سة رجل مياين؟ قا َلت له ب�سرعة دون �أن‬
‫ترتبك‪� :‬إمنا هو قد علم يف رحلته ما مل نعلمه وكنت �أ�ستزيده من اخلرب‪ ..‬رفع‬
‫«�سيدوك» حاجبه وقال‪ :‬وما الذي يع َلمه هذا الكائن وال نعلمه نحن؟ قالت‪ :‬لقد‬
‫كان يف رحلة مع �أربعة يظن �أن واحدا فيهم النبي‪ ،‬وكان معهم �أمية بن �أبي‬
‫ال�صلت‪ ،‬وكان �أمية يعلمهم الدين‪ ،‬وهو‪...‬‬
‫‪217‬‬
‫ظهر �شيء على ر َقبة «ما�سا» جعلها تهرع بيدها لتم�سك رقبتها!‪ ،‬كان‬
‫كالطوق القاب�ض الذي قب�ض عليها فت�ساقطت والدنيا بها تدور‪ ،‬حتى �سكنت‬
‫حركتها على الأر�ض!‪ ،‬الحظ «عمرو» طو ًقا م�شاب ًها قد ُر�سم على رقبته فرتاجع‬
‫و�سقط من الرتاجع‪ ..‬قال له «�سيدوك»‪� :‬إن الذي تقف �أمام بيته لي�س هو الرجل‬
‫غي نربة �صوته �إىل ما ك�أنه ثعبان �ساخر وهو يقول‪� :‬أمل ي ُقل‬
‫تنتظر‪ ،‬ثم َّ‬
‫الذي ِ‬
‫ً‬
‫تو�سعت عني «عمرو» وهو يطرد �شيئا ال يفهمه‬ ‫لك ورقة �أن النبي يعرف �أنه نبي‪َّ ..‬‬

‫ع‬
‫عن رقبته‪ ..‬و«�سيدوك» يقول له وهو ي�شري �إىل عينه ال�سوداء‪ :‬لقد قلت �أن عيني‬

‫ص‬
‫�ستكون وراءك يا بن جابر‪ ..‬ثم �أغلق عينيه ومل ي ُعد هنالك‪ ،‬ومل ت ُعد «ما�سا»‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يتح�س�س ما بقى فيها‬
‫�أي�ضا هنالك‪ ،‬وانفك الطوق من على رقبة «عمرو»‪ ،‬وبقى َّ‬
‫من � َأل‪ ،‬وح�سرة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫توجهوا �إىل بقعة واحدة‬‫رفع «عمرو» ر� َأ�سه لريى النا�س كلهم يف الدرب قد َّ‬

‫ب‬
‫وهم يتك َّلمون ب�شيء غري معتاد‪ ،‬فتناه�ض «عمرو» من بني �آالمه وانطلق �إىل حيث‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ما انطلقوا‪ ،‬كانوا ينطلقون �إىل حيث الكعبة‪ ،‬ويف جزء من اللحظة كان «عمرو»‬

‫ش‬
‫عند الكعبة ينظر‪ ،‬وهناك جت َّمد «عمرو»!‪ ،‬جتمد وارجتفت يده و�سقط على‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ركبتيه‪ ،‬لقد كانت الكعبة منهدمة على �أركانها‪ ،‬وقري�ش كانت حولها يهدمونها‬

‫و‬ ‫‪ z‬الت‬
‫مبعاولهم‪ ،‬ومل يكن هذا كل �شيء‪ ،‬بل كان هناك �شيء �آخر‪� ،‬شيء خميف!‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قري�شا تهدم الكعبة‪ ،‬رغم �أنها هي �شرفهم وحرزهم‬ ‫كانت حقيقة‪� ..‬إن ً‬
‫ومنعتهم من النا�س‪ ،‬لكن من �أحاديث القوم تبني �أن الأمر على غري ظاهره‪،‬‬
‫�إمنا كانوا يخافون عليها من ال�سيل الذي نزل مبكة ف�أرادوا رفعها و�أرادوا‬
‫ت�سقيفها بخ�شب لئال يدخلها ماء‪ ،‬مل تكن هذه هي امل�شكلة‪ ،‬امل�شكلة �أن كل من‬
‫معول حول الكعبة قد تراجع من اخلوف‪ ،‬فلما هدمت قري�ش الكعبة‪،‬‬ ‫كان يحمل ً‬
‫و�أخرجت ما بداخلها من الأ�صنام ظهرت لهم من جوف الكعبة حية �ضخمة‬
‫ج�سيمة ملت َّفة حول نف�سها راب�ضة على الأر�ض‪ ،‬وكلما اقرتبوا منها رفعت ر�أ�سها‬
‫وفتحت فاهً ا وكان مو�ضعها يف قعر الكعبة‪ ،‬فهابوا‬
‫وك�شت يف وجوههم واحز�ألت َ‬
‫منها و�شعروا �أن اهلل غا�ضب عليهم لأنهم هدموا الكعبة‪ ،‬وظنوا �أنهم هالكون‪.‬‬
‫دخلو يف بنيانها من ك�سبكم �إال طيبا‪ ،‬ال‬ ‫ف�أ�شار عليهم كبري منهم �أال ُت ِ‬
‫تدخلو فيها بيع ربا وال مظلمة لأحد من النا�س‪ ..‬فتعاهدوا عليه‪ ،‬و�أمروا بحربة‬
‫لريمونها على احلية‪ ،‬فتحركت احلية امللتفة على نف�سها وخرجت وان�س َّلت من‬
‫‪218‬‬
‫بني �أحجار الكعبة وغابت بعيدً ا فج�أة‪ ،‬فعلموا �أن اهلل قد ر�ضي على تعاهدهم‪،‬‬
‫فمكثوا ي�ضعون احلجر على احلجر وي�ضعون اخل�شب على ال�سطح حتى �أعادوا‬
‫بناء الكعبة كلها لتكون �أح�سن و�أعلى مما كانت عليه‪ ،‬حتى بلغوا مو�ضع الركن‬
‫واحلجر الأ�سود‪ ،‬فتناظروا بينهم‪� ،‬أيكم ي�ضع احلجر الأقد�س‪ ،‬وت�صايحت‬
‫القبائل واختلفت وعلت الأ�صوات وتنابزوا بالألقاب وكانت العرب ميكن �أن‬
‫ما�ض‬
‫تقيم حر ًبا على �أمور �أقل من هذه �أهمية!‪ ،‬وبدا من �أحاديثهم �أن الأمر ٍ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وتناحر‪.‬‬
‫�إىل فرقة ُ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وحتالف بع�ضهم على بع�ضهم يف وقفتهم هذه بل �أعدوا للقتال‪ ،‬بل �إن «بني‬
‫عبد الدار» �أخرجوا قربة مملوءة بالدم فو�ضع كل املتحالفني معهم �أ�صابعهم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فيها‪ ،‬فكان حتالف على الدم واملوت‪ ،‬و�إن ما �أ�صعد الأمر لهذه الدرجة هو‬
‫التنابز بني القبائل‪ ،‬فذكرت كل قبيلة معايب الأخرى‪ ،‬ويف وجود �أ�سياد القبائل‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ا�شتعلت النعرة يف القلوب‪.‬‬

‫ش‬
‫ثم خرج منهم رج ٌل ر�شيد واحد‪ ،‬قال لهم‪ :‬يا قري�ش اجعلوا بينكم حكما فيما‬

‫و‬ ‫ر‬
‫اختلفتم فيه‪ ،‬واجعلوه �أول رجل ُ‬

‫الت‬
‫يدخل علينا من باب هذا احلرم‪ ..‬فنظروا �إىل‬

‫و‬
‫بع�ضهم وتخافتوا بينهم ينظرون يف الأمر‪ ،‬وبينما هم يتخافتون‪� ،‬إذ دخل عليهم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫من تلك الناحية من احلرم رجل‪ ،‬وانقلب بدخوله كل �شيء ر� ًأ�سا على ع ِقب!‬
‫نظر له الرجال وهو � ٍآت وابتهجوا وان�شرحت �صدورهم وتراخت مالحمهم‬
‫بعد عبو�س ووجوم‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬ر�ضينا‪ ،‬هذا الأمني‪ ،‬قد ر�ضينا به واهلل‪ ،‬هذا حممد‪ ..‬والتفت «عمرو‬
‫بن جابر» وقد كان ً‬
‫قبل يلتفت بر�أ�سه �أما الآن فقد التفت كله‪ ،‬التفت ونظر �إىل‬
‫حممد‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫دخل عليهم يف تلك ال�ساعة رج ٌل بهي‪ ،‬ك�أن وجهه قطعة قمر‪� ،‬أب َي�ض مهيب‬
‫وا�سع املنكبني‪ ،‬له مالمح و�سيمة ك�أمنا �أن�شئت لوحدها �إن�شاء دونا عن جميع‬
‫مالمح قومه‪ ،‬يتباهى يف ر�سمها البيا�ض الأقمر مع ال�سواد الفاحم‪ ،‬اخلد‬
‫�سهل �سوي �أزهر‪ُ ،‬تفاخر بيا�ضه حل َية �سوداء عليه جتمله‪ ،‬خاف�ض الطرف‬
‫والعني حورى طويلة �أرما�شها‪� ،‬سوداء و�أحداقها �سوداء‪ ،‬يعلوها حاجبان قويان‬
‫‪219‬‬
‫ر�سل طويل نازل على كتفني عري�ضني‪،‬‬ ‫مت�صالن و�شعر �أ�سود فاحم م�ص َّفف ُم َ‬
‫�إذا ر�أيته �أكربته وال تطيل فيه النظر مهابة‪.‬‬
‫كان هو ذلك الرجل الأقمر الذي قابله «زيد بن عمرو بن نفيل» قبل �أن يهاجر‪،‬‬
‫ذاك الذي ُقدمت له ال�سفرة املذبوحة على الأن�صاب ورف�ض �أن ي�أكل منها‪..‬‬
‫ا�ستب�شر كل الرجال بقدومه‪ ،‬كان مي�شي م�ش َية جادة فيها �شيء من �سرعة‪ ،‬وملا‬
‫بثوب و�أمر �أن يو�ضع عليه احلجر الأ�سود‪ ،‬وجعل‬ ‫عرف اختالف الرجال �أمر ٍ‬

‫ع‬
‫رئي�س كل قبيلة مي�سك بطرف من الثوب ورفعوه جمي ًعا‪ ،‬ثم �أم�سك هو باحلجر‬

‫ري‬‫ص‬
‫الأ�سود وو�ضعه يف ركن الكعبة‪.‬‬

‫ال‬
‫ينظر �إىل «حممد»‪ ،‬فقط �إىل‬ ‫ينظر �إىل امل�شهد ولكن كان ُ‬ ‫مل يكن «عمرو» ُ‬

‫ك‬
‫يلحظ تواجده‪� ،‬إنه مل ي�أكل من تلك ال�سفرة ملا ُقدِّ مت �إليه‪،‬‬ ‫«حممد»!‪ ،‬كيف مل َ‬

‫ت‬
‫و�إنه من «غالب بن فهر»‪ ،‬بل هو من «مرة بن كعب بن ل�ؤي بن غالب بن فهر»‪،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بل هو من �أ�شرف العرب ن�س ًبا و�أو�سطها‪ ،‬من «عبد املطلب بن ها�شم بن املغرية‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫بن ق�صي بن حكيم بن مرة بن كعب بن ل�ؤي بن غالب بن فهر»‪ ،‬ال يناديه قومه‬

‫ر‬
‫�إال بال�صادق الأمني‪ ،‬وا�سمه «حممد»‪ ،‬ارجتف قلب «ابن جابر» و�سقط يف قدميه‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ينظر‪� ،‬أهو «�أحمد»‪ ،‬بل لي�س هناك يف القوم �أحمد منه عندهم‪ ،‬كان كل‬ ‫وهو ُ‬

‫و‬
‫�شيء يف «عمرو» يهتز حتى مل ي�سمع ما يقال وال ماذا حدث‪ ،‬لكنه فقط كان‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ينظر �إىل الأر�ض ومي�سك‬ ‫ينظر �إىل «حممد» وتتوارد الأفكار عليه كال�سيل‪ ،‬ثم ُ‬
‫ينظر �إىل حممد‪ ،‬ويذ ُكر كل ما م َّر به‪ ،‬وترجتف عيناه‬ ‫بر�أ�سه ويجف حلقه‪ ،‬ثم ُ‬
‫ينظر �إىل «حممد»‪ ،‬والبهاء والنور الذي على «حممد» كاد‬ ‫ك�أنها تود البكاء‪ ،‬ثم ُ‬
‫�أن يحلل ذرات ج�سد «عمرو بن جابر» من االرجتاف‪.‬‬
‫ف َّكر حلظة يف ذلك الرجل اجلميل الذي ذهب �إىل «ورقة بن نوفل» والذي‬
‫ر�أت «ما�سا» من طفولته �أنه يكره الأ�صنام‪� ،‬إن ا�سمه �أبو بكر‪ ،‬و ُيل ِّقبه النا�س‬
‫بال�صديق‪ ،‬ثم تذ َّكر كلمة «�سيدوك» ب�أنه لي�س هو‪� ،‬أيعلم ذاك اخلبيث «�سيدوك»‬
‫�شي ًئا ال يعلمه!‪� ،‬أيعرف «حممدً ا»؟ نظر «عمرو» حواليه‪ ،‬وح َّول نظره عن «حممد»‬
‫لأول مرة منذ �أتى‪ ،‬فجعل ينظر حوله ليبحث عن �أحد من جن ن�صيبني يف‬
‫اجلوار‪ ،‬ثم تذ َّكر �أن «�أمية بن �أبي ال�صلت» قد ارحتل �إىل اليمن ورمبا يكونوا‬
‫قد ارحتلوا معه‪ ،‬ثم تذ َّكر «ما�سا» ونظر �إىل الأر�ض وهو ال يدري ماذا ح َّل بها‪،‬‬
‫ثم عاود النظر �إىل «حممد»‪ ،‬والقوم حول «حممد»‪ ،‬ومل ت ِغب عينه عنه فيما �أتى‬
‫من الأيام طرفة عني‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫كان يتيما مات �أبوه و�أمه ور َّباه ج ُّده «عبد املطلب»‪ ..‬تذ َّكر «عمرو» الر�ؤيا التي‬
‫ح َكتها «ما�سا» وكالم الراهب «بحريا»‪ ،‬عن الغالم الذي يتح َّرك الغمام ملو�ضع‬
‫وذكر يف كتب اليهود �أنه يتيم‪ ،‬ثم �أن «حممدً ا»‬ ‫قدمه‪ ،‬كان ذلك الغالم يتي ًما ُ‬
‫مات عنه جده بعد ذلك فر َّباه عمه �أبو طالب‪ ،‬فكان «�أبو طالب» له خري �أب‪،‬‬
‫ُيحبه �أكرث من �أبنائه جمي ًعا‪ ،‬وكانت زوجة �أبو طالب له خري �أم‪« ،‬فاطمة بنت‬
‫�أ�سد»‪ ،‬كان ال يناديها �إال �أمي‪ ،‬فكانت �أمه بعد �أمه‪ ،‬وملا حكى لها «�أبو طالب» عما‬

‫ع‬
‫كان من �أمر الراهب «بحريا» وهو يقول �أن هذا الغالم هو ر�سول رب العاملني‪..‬‬

‫ص‬
‫غالما‪ ،‬فكانت جتوع‬ ‫ا�ستب�شرت «فاطمة» بذلك و�ص َّدقت به و�آمنت وهو ال يزال ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫نف�سها وت�شبعه وتعرى لتك�سوه ومتنع نف�سها طيبها و ُتطعمه‪ ...‬ال تريد بذلك �إال‬
‫وجه اهلل والدار الآخرة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ويف ر�ؤيا الراهب «بحريا» التي ح َكتها «ما�سا»‪ ..‬ذلك الغالم ال�صغري الذي‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫يتبعه الغمام كان معه رجل قال �أنه عمه‪ ،‬كان ذاك �إذا هو «�أبو طالب»‪ ،‬وملا‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫أجنب منها‬
‫كرب «حممد» ز َّو َجه «�أبو طالب» من امر�أة فا�ضلة ا�سمها «خديجة» و� َ‬

‫ش‬
‫ولدين و�أربعة بنات‪ ،‬تذكر «عمرو» كالم الراهب «بحريا» �أن النبي‬ ‫«حممد» َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ميوت عنه �أوالده‪ ،‬فاغتم «عمرو» لذلك‪ ،‬لكنه طرد هذا اخلاطر عن ر�أ�سه وجعل‬

‫و‬ ‫الت‬
‫يتابع «حممد»‪ ،‬ويف كل �ساعة ي�ستنري قلبه مبحمد نو ًرا‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ويف �ساعة من ال�صباح‪ ..‬كان «حممد» مي�شي ومعه خادمه‪ ،‬ذاك اخلادم‬
‫نف�سه الذي ق َّدم ال�سفرة ملحمد ولزيد بن عمرو بن نفيل ف�أبيا �أن ياكال منها‪،‬‬
‫كانا مي�شيان عند �صحن الكعبة يطوفان بها و«عمرو» ينظر �إليهما يف اهتمام‪،‬‬
‫حتى م َّرا ب�صنمني كبريين من نحا�س ا�سمهما �إ�ساف ونائلة‪ ،‬ي�ؤمن العرب �أنهما‬
‫�إن�سانني زنيا عند الكعبة فم�سخهما اهلل �صنمني‪ ،‬وكان الذين يطوفون عادة‬
‫ومت�سح بهما‪ ،‬فنهاه‬
‫يتم�سحون بهما لنيل الربكة‪ ،‬فتوجه اخلادم �إليهما َّ‬ ‫بالبيت َّ‬
‫مت�سح بهما ف�إنهما رج�س‪ ..‬فرتكهما‬ ‫مت�سهما وال َ‬
‫«حممد» عن ذلك وقال له‪ :‬ال َّ‬
‫وي�ستب�شر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ينظر‬‫اخلادم‪ ،‬و«عمرو بن جابر» ُ‬
‫حتى �أتى ذلك اليوم‪..‬‬
‫غا ٌر معزول يف بطن اجلبل‪ ،‬فجوة ظلماء ال تكاد تبني يف جوف الليل‪ ،‬ورجل‬
‫حممد قد انتبذ قومه فيها وتنحى‪ ،‬وتوحد بنف�سه فيها وتخلى‪ ،‬كان ي�أتيها‬
‫يف كل عام �شه ًرا‪ ،‬ثم حبب �إليه اخلالء فيها فانعزل �شهورا‪ ،‬كانت مثل هذه‬
‫الأماكن املعزولة خميفة جدً ا لأهل مكة والعرب ملا �شاع بينهم من ق�ص�ص اجلن‬
‫‪221‬‬
‫والأغوال‪� ،‬أما ذلك الرجل املحمد فكان يذهب �إليها كل يوم‪ ،‬ل�شهور عدة‪...‬‬
‫و«عمرو بن جابر» وراءه يحوم‪ ،‬حتى �أتى يوم من الأيام الدابرة‪..‬‬
‫يف ظلماء الليل وع�سع�سة النجوم‪ ،‬وكل غافل يف امل�ساكن منك�سف‪� ،‬إذ ق�ضى‬
‫اهلل الأمر الذي كان منتظر‪ ،‬وق�ضى «عمرو» كل �صرب معترب‪ ،‬ور�أت عيون «عمرو»‬
‫يف هاته العتمة �أم ًرا خارج �سلطان الب�شر‪� ،‬أمر تنزل من فوق �سبع �سماوات‬
‫بقدر‪ ،‬فلما ر�آه خ َّر على رجليه واكتوى كل جن واندحر‪ ،‬وتهللت النجوم وانق�شعت‬

‫ع‬
‫ري من �ألف �شهر‪ ،‬على نبي‬
‫الغيوم حتى خ�شع اجلبل‪ ،‬تنزَّل الأمر يف ليل ٍة هي خ ٌ‬

‫ري‬‫ص‬
‫بهي يف �آخر الزمان قد ت�سامى وظهر‪ ،‬ب�ش ًريا نذي ًرا لقوم غافلني من الأعراب‬

‫ال‬
‫والعجم‪.‬‬

‫‪z‬‬‫ك‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪222‬‬
‫�أر�أيت ملا ابي�ضت عني «عمرو» وقال �أنه ُي�رصع‪� ،‬أر�أيت خوف الرجل الأنور منه وذعره‬
‫وهو رجل بكامل رجولته‪ ..‬ذاك ب�سبب �أ�سطورة تناقلتها �أجيالكم‪� ،‬أ�سطورة بد�أت من‬
‫روحا �رشيرة كانت ُ‬
‫تدخل فيه وت�ؤذيه‪،‬‬ ‫التوراة‪ ،‬تقول �أن اهلل �أر�سل على امللك �شاول ً‬

‫ع‬
‫عزفا رائ ًعا على القيثارة‪ ،‬فليعزف لك حتى تخرج‬ ‫فن�صحه خا�صته �أن املقاتل داوود يعزف ً‬

‫ص‬
‫تلك الروح‪ ،‬فا�ستدعى داوود وعزف له وخرجت منه الروح ال�رشيرة‪ ،‬ويف مكاتيب يهود‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫قمران وجدت تفا�صيل مف�صلة عن كيفية �إخراج الأرواح ال�رشيرة التي ت�سبب املر�ض‬
‫يطرد الأرواح ال�رشيرة التي متر�ض النا�س‪ ،‬لكن‪ ،‬كل‬ ‫للنا�س‪ ،‬ويف الإجنيل �أن «عي�سى» كان ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫هذا قد ُفهم خط�أ‪ ،‬وت�سبب يف �أ�سطورة عظيمة تناقلتها احل�ضارات‪� ،‬أن هناك �أرواحا �رشيرة‪،‬‬

‫ب‬
‫وهذه الأرواح هي ال�شياطني‪ ،‬وهذه ال�شياطني ُ‬

‫ل‬
‫تدخل يف النا�س وتتل َّب�س فيهم وت�رصعهم‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫وتتحدث على ل�سانهم ومتر�ضهم ورمبا تقتلهم!‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫نحن نحب هذا الت�صور‪ ،‬لأنه ميل�ؤكم منا رع ًبا‪ ،‬وكم يجعلنا هذا نتعاظم يف �أنف�سنا‪ ،‬نحن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ُفكرون بها بال�ضبط؟‬‫ندخل �إىل جتاويف �أج�سادكم العفنة؟ �أي دما ٍغ عفنَة ت ِّ‬ ‫العالون الراقون‪ُ ،‬‬

‫و‬
‫نحن ال نقدر �أن نفتح با ًبا مغل ًقا‪ ،‬وال نقدر �أن منر من حتته وال من خالله وال من جتاويفه‪� ،‬أفنقدر‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أن منر من جتاويفكم ال�صغرية برائحتكم الكريهة احليوانية؟‬
‫نحن لنا كيان خملوق من نف�س املادة التي ت َُكون النار‪ ،‬لي�ست مادة �سائلة �أو �صلبة �أو‬
‫غازية‪ ،‬بل هي حالة رابعة فوق غازية‪ ،‬وهي حالة مثلها مثل كل حاالت املادة‪ ،‬لي�س لها‬
‫القدرة على التخلل خالل الأ�شياء‪ ،‬فالنار ال قدرة لها �أن متر عرب جدار‪ ،‬وال قدرة لها �أن حتل‬
‫يف الأ�شياء‪ ،‬بل لها كيان م�ستقل خا�ص‪ ،‬وكل �شيء يف هذه الدنيا له كيان م�ستقل خا�ص‪.‬‬
‫لهذا ترى �أن الو�ضع الأن�سب بالن�سبة لنا يف الو�سو�سة �أن نطري مقلوبني ر�أ�سا على عقب‪،‬‬
‫فن�ضع ر�ؤو�سنا عند �صدوركم و�أرجلنا يف الهواء‪ ،‬لأنه لو م�شينا �أو طرنا ب�شكل معتدل‬
‫�ستزاحمنا �أج�سادكم املا�شية و�أ�شيائكم التي ت�ضعونها على الأر�ض‪ ،‬لكن الطريان يجعلنا‬
‫نقتن�ص �صدوركم يف الو�سو�سة بحرية‪.‬‬
‫أ�صوات خميفة ليظن النا�س‬
‫حتدث ب� ٍ‬
‫جميع الأ�شياء الغريبة التي يفعلها بع�ض الإن�س من ُّ‬
‫�أنهم يلب�سهم �شيطان �إمنا يكون هذا من مر�ض يف نفو�سهم‪ ،‬مر�ض نف�سي يجعلهم يبتكرون‬
‫�شخ�صيات تعي�ش فيهم‪� ،‬شخ�صيات كاملة لها �أ�صوات و طريقة يف الكالم وطموحات‪،‬‬
‫‪223‬‬
‫�شخ�صيات ت�ستخدم اجل�سد‪ ،‬وبع�ضهم تبتكر نف�سه بداخله �شخ�صية �شيطان يتحدث‬
‫ب�صوت ب�شع‪ ،‬من يف اجلحيم قال لكم �أن �أ�صواتنا تكون هكذا ك�أ�صوات ال�ضواري؟ �إذا ر�أيت‬
‫ويزعم �أنه �شيطان اع َلم �أن هذا قد ابتكر �شخ�صية �شيطان‬ ‫ب�صوت كهذا ُ‬
‫ٍ‬ ‫يتحدث‬
‫َّ‬ ‫�شخ�صا‬
‫ً‬
‫يتحدث هكذا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يف خياله‪ ،‬فهو يظن �أن ال�شيطان‬
‫أ�صوات غريبة بلغات‬
‫يتحدثون ب� ٍ‬ ‫َّ‬ ‫يرون �أنا�سا طبيعيني‬
‫لكن النا�س الأقدمني‪ ،‬ملا كانوا َ‬

‫ع‬
‫غريبة ويقومون بحركات غريبة‪ ،‬يقولون هذا قد �أ�صيب بروح �رشيرة‪ ،‬لكن الأمر كله‬

‫ص‬
‫يرجع �إىل مر�ض نف�سي‪ ..‬كان «داوود» و«عي�سى» يعاجلون النا�س من �أمرا�ضهم النف�سية‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫التي ا�صطلح النا�س على ت�سميتها روح �شيطانية‪ ،‬لكن عدوى الروح ال�رشيرة هذه قد‬
‫تنامت بني النا�س َّ‬
‫وتف�شت‪ ،‬وفرحنا نحن بها‪ ،‬فهي تُهلِككم يف �أوهامكم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�إن عقولكم ُم�ص َّممة بحيث حتفظ كل �صورة وكل كلمة ُمتر عليها‪ ،‬حتى لو كانت تلك‬

‫ب‬
‫الكلمة ب ُل َغ ٍة خمتلفة‪ ،‬حتى لو كانت ذاكرتكم ال تذكرها فهي حمفوظة يف دواخل عقولكم‪،‬‬
‫وحتدث بلغة غريبة‪ ،‬نحن ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫فلما جند �أحدكم قد ا�ستحدث �شخ�صية غريبة يف نف�سه َّ‬

‫ش‬
‫ن�ستغرب‪ ،‬لأن عقله الباطني ي�ستخدم كل الكلمات املحفوظة بداخله والتي �سمعتها الأ ُذن‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫يو ًما‪ ،‬فيخرجها على هيئة كالم منطوق‪ ،‬هذه �أمور �شديدة الدقة داخل نفو�س وعقول‬

‫و‬
‫الب�رش‪ ،‬وكثري من الب�رش �إمنا تكون ع َّلتهم يف هذه الأمور‪ ،‬ويظنون ويظن النا�س �أننا قد تل َّب�سنا‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بهم!‬
‫ُّ‬
‫التحكم بهم فعال‪ ،‬جلعلنا حياتكم جحيما‪،‬‬ ‫و�إنا لو كنا نتلب�س بالنا�س‪ ،‬ونقدر على‬
‫كناكم مثل الدمى و�أجربناكم على فعل ما نريد‪ ،‬ولأمر�ضناكم ولآذيناكم‪ ،‬لكن‬ ‫وحلر ُ‬
‫َّ‬
‫اهلل مل يجعل لنا عليكم �سلطانًا �إال �أن ندعوكم بالو�سو�سة فت�ستجيبون لدعوتنا وتنجرفون‬
‫�إىل �شهواتكم‪.‬‬
‫وال يوجد حاكم عادل �سيجرمنا مبا نفعل‪ ..‬كالذي وقع يف حفرة من الوحل وا�شتكى‬
‫عند القا�ضي‪ ،‬فلما �س�أله من �أوق َعك‪ ،‬قال �إن هذا ال�شيطان قال يل �أن �أقفِز يف حفرة الوحل‬
‫�سيحكم َ‬
‫عليك ب�أنك غبي‪ ،‬ويالكرثة‬ ‫ُ‬ ‫يحكم القا�ضي على ال�شيطان بل‬ ‫فقفزت!‪ ،‬هنا لن ُ‬
‫الأوحال التي دعوناكم �أن تقفِزوا فيها فقفزمت‪.‬‬

‫‪z‬‬
‫‪224‬‬
‫(‪)9‬‬

‫بين ثنيات الجبل‬


‫غ�س ٍق من الليل‪ ،‬بني ثنيات اجلبل‪ ،‬يف عت َم ٍة على الأر�ض وتلأل�ؤ يف ال�سماء‪،‬‬
‫يف َ‬
‫عند جتاويف اجلبل؛ جبل بهيئة ك�أنها �سنام اجلمل‪ ،‬من حيث ناحيته تخرج‬
‫ال�شم�س على مكة كلها ومن حيث ناحيته يبني القمر‪ ،‬جبل لطاملا كان مرادفا‬

‫ع‬
‫للنور ف�سمي جبل النور‪.‬‬

‫ص‬
‫يف �سودة من الليل‪ ،‬بني تفا�صيل اجلبل‪ ..‬كان يجل�س مربع اليدين والرجلني‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف هيئة جنية كاملة‪ ،‬يرى كل �شيء‪ ،‬وال يراه �شيء‪ ،‬ب�شعره املميز ومالحمه التي‬
‫مل يدع فيها الزمن �أث ًرا �إال ر�سمه‪« ،‬عمرو بن جابر» اجلني القدمي‪ ،‬قبل مئات‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫من ال�سنني كانت تقوده فك َرة‪ ،‬و َّدع من �أجلها كل �شيء‪� ،‬أهله وبنيه وزوجه‪ ..‬حتى‬

‫ب‬
‫جال�سا على �صخرة بارزة يف جبل من جبال الب�شر‪� ،‬صخرة قاعد‬ ‫�أتى �إىل هنا‪ً ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫عليها قرب غار طويل م�شقوق يف و�سط اجلبل‪ ،‬غار يتن�سك فيه رجل هو �أجمل‬

‫ش‬
‫رجل ميكن �أن تراه العني‪ ،‬ال يخرج منه �إال ليتزود مبا جف من الطعام والزاد‪،‬‬

‫ر‬
‫كان ي�أتيه يف كل �سنة �شه ًرا واحدً ا‪ ،‬و«عمرو» يتابعه على هذا خم�س �سنني‪ ..‬ثم‬

‫الت‬ ‫و‬
‫تغي هذا فج�أة و�أ�صبح الرجل ماك ًثا يف الغار �شهورا متوا�صلة ال تنقطع‪.‬‬ ‫َّ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫ينظر �إليه كل يوم‪ ،‬لكنه ال ُ‬ ‫�أ�صبح «عمرو» ُ‬

‫يع‬
‫يدخل عليه يف خل َوته وال يقتحمها‬
‫واحرتاما‪ ،‬قد يكون نظر �إليه يف الغار مرة �أو مرتني‪ ،‬هذا‬‫ً‬ ‫بب�صره‪ً � ،‬‬
‫إجالل له‬
‫الرجل ال يبحث عن ربه مثل �أحناف قري�ش‪ ،‬هذا الرجل عرف ربه بالفعل‪ ،‬كل‬
‫ت�صرفاته تدل على هذا‪� ،‬إن له �ستة �أ�شهر يذ ُكر �أنه ال يرى ر�ؤيا �إال جاءت كفلق‬
‫ال�صبح‪ ،‬وله �ستة �أ�شهر منقطع يف ذلك الغار‪� ،‬أتراه يعلم �أنه نبي؟ ف�إن كان يعلم‬
‫فلماذا ينقطع النا�س؟ �أيكون مت�ش ِّو ًقا ال�صطفاء ربه؟ ف�إن كان ال يعلم �أنه نبي‪،‬‬
‫عاما؟ بل هو‬
‫�ضج مبفا�سد النا�س بعد �أن بلغ �أربعني ً‬ ‫فلماذا ينقطع النا�س؟ هل َّ‬
‫واهلل مت�شوق ال�صطفاء ربه فيما يبدو‪.‬‬
‫كان ذلك ال�شق الطويل يف اجلبل ُي ِطل مبا�شرة على �صفحة ال�سماء‪ ،‬بكل‬
‫جنومها وكواكبها‪ ،‬ويف داخله كوة ت�صنعها ال�صخور تطل على مكة كلها وترى‬
‫الكعبة بو�ضوح‪ ،‬ورجل بداخل كل هذا قد تزهد النا�س ا�سمه «حممد»‪.‬‬
‫يف قطعة من الليل‪ ،‬بني بروزات اجلبل‪ ..‬كان «عمرو» م�ستغر ًقا يف �أفكاره‬
‫تلك‪� ،‬إذ �أح�س ب�شيء من ناحية الغار فالتفت بحدة‪ ،‬وات�سعت عينه كما مل تت�سع‬
‫‪231‬‬
‫من قبل‪ ،‬وانتف�ض قلبه وانقب�ض وانقب�ضت �أطرافه املرتبعة حتى كاد �أن يف ِقد‬
‫توازنه‪ ،‬وتعدل وانزوى وراء �صخرة واختب�أ كمثل اختباء اجلن‪ ،‬ونظر �إىل �شيء‬
‫مل ي َره قبله �إن�س وال جان‪� ،‬شيء كان يحدُث هناك‪ ،‬قرب ذلك الغار‪...‬‬
‫نظر «عمرو» �إىل مثل ذرات تتك َّون �أو هيئة تت�صور وتت�شكل‪ ،‬ك�أمنا تنبعث من‬
‫العدم؛ ذرات ك�أمنا توم�ض يف الفراغ لتنحت �صورة تت�صور �أمام عني «عمرو»‪،‬‬
‫كان «عمرو» جني يعرف الت�شكل و طرائقه‪ ،‬لكن ما يراه �أمام عينه مل ي ُكن ميت‬

‫ع‬
‫ب�صلة لأي �شيء ر�آه يف حياته!‪ ،‬ف�إن كان ج ًنا فلماذا ال يراه يف هيئته اجلنية‪ ،‬ثم‬

‫ري‬‫ص‬
‫ا�ضطربت �أو�صال «عمرو» ملا �أتته فكرة يف عقله عما ميكن �أن يكون يحدث الآن‬

‫ال‬
‫�أمام عينيه‪ ،‬يا ويلتا يا «عمرو»‪ ،‬ما ذلك الذي ترى؟ كانت الذرات الزالت تتكون‬
‫حتى متثلت ب�ش ًرا �سو ًيا‪ ،‬وكاد قلب «عمرو» �أن يتو َّقف حمله‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب�ش ًرا كان بهي ال�صورة بهي الوجه بهي امللب�س الأبي�ض‪ ،‬ك�أمنا انبعث من‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وجف َحلق «عمرو» وارتعدت فرائ�صه من �أ�سفله �إىل �أعاله‪� ،‬أما الب�شر‬ ‫نور‪َّ ..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫توجه يف هيبة و�سمو �إىل ذلك الغار مبا�شرة‪،‬‬ ‫الذي انبعث من الالمكان فقد َّ‬

‫ر‬
‫توجه �إىل «حممد»‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫انحدر «عمرو» عن مو�ضعه وجر قدمه ج ًرا وراءه وهو ال يدري �أيخ�شى على‬

‫و‬
‫«حممد» �أم يخ�شى على نف�سه!‪ ،‬ومل ي�ستطع �أال ينظر يف الغار‪ ،‬فاكت َمن بني �أكوام‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ال�صخور ونظر؛ نظر �إىل م�شهد جمد �أركانه ف�صارت ك�أركان ال�صخر الذي‬
‫ي�سترت وراءه‪.‬‬
‫كان الرجل املنبعث من نور قد دخل على «حممد» ففج�أه فج�أ ًة عظيمة‪ ..‬كان‬
‫الرجل مي�سك يف يده ب�شيء ما‪ ،‬فم َّده ب ُبطء �إىل «حممد» وقال له‪:‬‬
‫ �إقر�أ‪.‬‬
‫نظ َر «حممد» �إىل ما يف يد الرجل ف�إذا هو ديباج فاخر من قطيفة مل َّونة‬
‫وحرير‪ ،‬مكتوب عليه كالم‪ ..‬قال له «حممد»‪:‬‬
‫ ما �أنا بقارئ‪.‬‬
‫وهنا م َّد الرج ُل يده الأخرى التي ال مت�سك بالديباج وجذب «حممد» جذب ًة‬
‫َ‬
‫و�ضغطه‬ ‫لف يده الأوىل التي مت�سك بالديباج حول «حممد» و�ضمه بها‪،‬‬ ‫�شديد ًة ثم َّ‬
‫�ضغط ًة �شديدة جدً ا حتى بلغ به اجلهد‪ ،‬ثم �أفلتَه‪ ..‬وم َّد يده �إليه بالديباج الفاخر‬
‫وقال له بحزم‪:‬‬
‫‪232‬‬
‫ �إقر�أ‪.‬‬
‫وكان «حممد» �أم ًّيا ال يعرف القراءة‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫ ما �أنا بقارئ‪.‬‬
‫ف�أخذه فغطه غطة �شديدة �أخرى حتى �أجهده‪ ،‬و«عمرو بن جابر» مند�س بني‬
‫ال�صخور ال يبني منه �إال ارجتاف عينيه‪ ،‬ثم �أر�سل الرجل حممدا وقال له بقوة‪:‬‬

‫ع‬
‫ �إقر�أ‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫كان هذا منذر ب�شيء ما‪ ،‬ال تدري الكائنات ما هو‪ ،‬قال له «حممد» للمرة‬
‫الثالثة‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ ما �أنا بقارئ‪.‬‬

‫ب‬
‫فجذبه و�ضمه �ضم ًة ثالثة‪ ..‬ثم قال له‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ اقر�أ با�سم ربك الذي خ َلق‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ خلق الإن�سان من ع َلق‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫ اقر�أ وربك الأكرم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ الذي ع َّلم بالقلم‬
‫ علم الإن�سان ما مل يعلم‬
‫وجف كل عرق يف عروق‬‫فارجتفت بوادر «حممد»‪ ،‬وذهب الرجل من �أمامه‪َّ ،‬‬
‫«عمرو بن جابر» الذي �شل تفكريه كما �شلت �أطرافه وبردت وحتجرت‪ ،‬ونزل‬
‫ينظر هنا وهناك‪ ،‬ومل يكن ثمة‬‫«حممد» برجفته من اجلبل‪ ،‬ونزل «عمرو» وراءه ُ‬
‫�أثر لذلك الرجل املنبعث من نور‪ ،‬وعاد «حممد» �إىل بيته و�أغلق الباب‪ ...‬ومل‬
‫ت ُعد الدنيا بعد هذا كما كانت قبلها‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫وانق�ضت فرتَة من الزمان انقطع فيها ذلك الرجل املتنور البهي ك�أمنا كان‬
‫جميل‪� ،‬سطع ذات ليلة‪ ،‬و�أفل ذات ليلة‪ ،‬وجاءت ليلة نزل فيها «حممد»‬ ‫خيال ً‬‫ً‬
‫�إىل بطن ذلك الوادي نف�سه‪ ،‬وم�شى فيه يتلفت كل حني ك�أمنا ي�سمع �شي ًئا!‪ ،‬لكن‬
‫«عمرو» مل يكن ي�سمع‪� ،‬أما «حممد» فقد كان يف �ش� ٍأن �آخر‪ ،‬كان ي�سمع �أحدً ا‬
‫‪233‬‬
‫فينظر �أمامه وخلفه وعن ميينه وعن �شماله فال يرى �أحدً ا‪ ،‬ثم‬ ‫ُيناديه با�سمه ُ‬
‫�سمعه ُيناديه با�سمه تار ًة �أخرى‪ ،‬فنظ َر فلم ير �أحدً ا‪ ،‬ثم نودي الثالثة‪ ،‬فرفع‬
‫ر�أ�سه ف�إذا الرجل املنور الذي جاءه يف الغار‪ ،‬مل يكن على الأر�ض بل كان يف‬
‫ال�سماء‪ ،‬مهي ًبا كان يف و�سط فراغ �أ�سود يخالطه ذر �أبي�ض تذروه الرياح‪،‬‬
‫جال�سا على كر�سي بني ال�سماء والأر�ض‪� ،‬سادا عظم خلقه ما بينهما من الأفق‬ ‫ً‬
‫رعدة �شديدة ظهرت جلية على وجهه الكرمي‪ ،‬حتى‬ ‫أخذت حممدً ا َ‬ ‫الأعلى‪ ...‬ف� َ‬

‫ع‬
‫�أنه هوى على الأر�ض‪ ،‬ومل يفهم «عمرو» �سبب هذه االنفعاالت كلها!‪ ،‬فلم يكن‬

‫ص‬
‫«عمرو» يرى ما يرى «حممد»‪ ،‬وال ي�سمع ما ي�سمع «حممد»‪ ،‬لكنه ر�أى حممدً ا‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ُي�سرع يف اخلطا مرجت ًفا حتى دخل بيته عند زوجته‪ ،‬ومل ي�سمع «عمرو» �إال قوله‬
‫زم ُلوين َز ِّملوين‪ ،‬د ِّثروين د ِّثروين‪ ...‬وظ َّل «عمرو» يطوف باخلارج‬ ‫وهو داخل‪ِّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ويحاول اال�ستماع‪ ،‬لكنه مل ي�س َمع �شي ًئا �أبدً ا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫يف داخل البيت الكرمي‪ ..‬دخل الكرمي ذو اخللق الكرمي والروع اليزال يف‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫زملوين؛ فز َّم ُلوه حتى ذهب عنه الروع‪ ،‬وحكى‬ ‫نف�سه‪� ،‬إىل زوجته وبنيه يقول ِّ‬

‫ش‬
‫لزوجه «خديجة» اخلرب‪ ،‬وقال �أي «خديجة»‪ ،‬مايل‪ ،‬لقد خ�شيتُ على نف�سي‪� ،‬إين‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�إذا خلوتُ وحدي �سمعتُ نداء خلفي‪ ،‬يا «حممد» يا «حممد»‪ ،‬فقا َلت له الكرمية‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ذات النف�س الأمرية‪� :‬أب�شر فواهلل ال ُيخزيك اهلل �أبدً ا‪� ،‬إنك لت�صل الرحم‬

‫ز‬
‫وت�صدق احلديث َوتمِ ل ال َك َّل وتك�سب املعدوم وتقري ال�ضيف وتعني على نوائب‬

‫يع‬
‫مت�ض �ساعة �إال وقد �أتى رجل جميل عند الباب عرفه «عمرو بن‬ ‫احلق‪ ...‬ومل ِ‬
‫جابر» فور �أن ر�آه‪ ،‬هذا «�أبو بكر»‪ ،‬ال�صديق‪ ،‬ما الذي �أتى به ها هنا؟ مل يكن‬
‫«عمرو» يدري �أن «�أبو بكر» �صاحب «حممد» منذ �سنوات‪� ..‬أدخلت «خديجة» «�أبا‬
‫بكر» وذك َرت له ما حدث ملحمد وقالت له‪ :‬يا �أبا بكر‪ ،‬اذهب مع حممد �إىل ورقة‬
‫بن نوفل‪ ..‬فانطلق «�أبو بكر» مع �صاحبه الكرمي املحمد‪� ،‬إىل «ورقة بن نوفل»‬
‫الرجل ال�ساهم املنتظر‪.‬‬
‫ق�ص عليه‬‫فلما �أتيا �إىل «ورقة» الذي ا�ستحال �شيخا كبريا قد عم َيت عيناه‪َّ ..‬‬
‫اخلب‪ ،‬فته َّلل «ورقة» وتي َّمن وا�ستب�شر وظهر هذا على وجهه امل�سن‬ ‫«�أبو بكر» َ‬
‫الذي كانت م�سحت عليه اخلطوب م�سحة الي�أ�س‪� ،‬سمع ما �سمع توارت فم�سحة‬
‫اخلطوب جميعها واختلجت جميع الأ�سارير‪ ،‬قال «حممد»‪� :‬إين �إذا خلوتُ وحدي‬
‫َ‬
‫متالك‬ ‫�سمعتُ ندا ًء خلفي يا «حممد» يا «حممد»‪ ،‬ف�أنط ِلق هاربا يف الأر�ض‪...‬‬
‫«ورقة» نف�سه من الفرحة وقال‪ :‬ال تفعل‪� ،‬إذا �أتاك فاثبت حتى ت�سمع ما يقول ثم‬
‫أخبين‪.‬‬‫ائتني ف� ِ‬
‫‪234‬‬
‫فخرج «حممد» من يومه هذا حتى خال بنف�سه‪ ..‬فناداه ذلك الذي ناداه‪،‬‬
‫فثبت مكانه ومل ُيويل‪ ،‬فقال له ذاك الذي كان يناديه‪ُ :‬قل ب�سم اهلل الرحم‬ ‫َ‬
‫الرحيم‪ ،‬احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬مالك يوم الدين‪� ،‬إياك نعبد‬
‫و�إياك ن�ستعني‪ ،‬اهدنا ال�صراط امل�ستقيم‪� ،‬صراط الذين �أنعمت عليهم‪ ،‬غري‬
‫املغ�ضوب عليهم وال ال�ضالني‪.‬‬
‫فجاء �إىل «خديجة» والروع يف قلبه قد برد‪ ..‬فانطل َقت هي بنف�سها به �إىل‬

‫ع‬
‫«ورقة بن نوفل»‪ ،‬قا َلت له‪ :‬يا ورقة‪ ،‬ا�سمع من ابن �أخيك‪ ..‬ف�أخ َربه «حممد» خرب‬

‫ري‬‫ص‬
‫ما �سمع من النداء‪ ،‬فنظر «ورقة» �إىل النجوم‪ ،‬تلك التي مل ي ُعد يراها‪ ،‬بل نظر‬

‫ال‬
‫�إىل رب النجوم‪ ،‬والوجد يف قلبه قد بدا وجت َّلى‪ ،‬وتلألأت ق�سمات وجهه حتى‬
‫نزل على مو�سى‪ ..‬ثم ظهرت‬ ‫ظهر اهتزازها‪ ،‬وقال‪ :‬هذا واهلل النامو�س الذي َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫بدموع لي�ست ُترى‪� ،‬أفلم يكن للعني �أن ت�صطرب‬ ‫ٍ‬ ‫همهمة �صدره وبكت دواخله‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫فال تعمى حتى ترى «�أحمد»‪ ،‬فقال والأ�سى يف حمياه قد بدى‪ :‬يا ليتني فيها‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫رج َّي‬ ‫جذعا‪ ،‬ياليتَني �أكون حيا حني ُيخرجك قومك‪ ،‬فقال له «�أحمد»‪ُ � :‬‬
‫أوم ِ‬ ‫ً‬

‫ش‬
‫جئت به �إال عودي‪ ،‬و�إن يدركني‬ ‫هُ م؟ قال «ورقة»‪ :‬نعم‪ ،‬مل ي� ِأت رجل قط مبا َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫َ‬
‫أن�صرك ن�ص ًرا م�ؤز ًرا‪ ،‬وواهلل ال يحزنك اهلل �أبدً ا‪.‬‬ ‫يومك �‬

‫و‬ ‫الت‬
‫وم َّر اليوم واليومني‪ ..‬ومل ين�شب «ورقة» �أن توفاه اهلل �إليه‪ ،‬ولقد �أهدى ربه‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�إليه بع�ض الذي كان ينتظر‪ ...‬فت�شنفت �أذنه ب�سماع �صوت ر�سول اهلل‪ ،‬فبكى وبكى‬
‫من يومه ذاك حتى اخ�ضلت روحه بدموعه‪� ،‬أما «عمرو بن جابر» ف�إن الدنيا مل‬
‫تكن ت�سعه يف ذلك احلني‪� ،‬إنه ما قر�أ يف التوراة �أو الإجنيل عن و�سيط يكون بني‬
‫يتج�سد يف هيئة ب�شرية �إال واحد‪ ،‬مالك من �أعظم مالئكة اهلل يف‬ ‫اهلل و�أنبيائه َّ‬
‫التوراة والإجنيل‪« ،‬جربيل»‪ ،‬ي�ؤمن اليهود �أنه املالك الذي �أتى �إىل «�إبراهيم» مع‬
‫اثنني من املالكة يب�شره ب�إ�سحق‪ ،‬وهو امللك الذي جاء للنبي «دانيال» �أيام ال�سبي‬
‫البابلي يب�شره بامل�سيح املنتظر بعد �أربعمائة وت�سعني �سنة‪ ،‬ورغم هذه الب�شارة‬
‫الوا�ضحة العددية مل ي�ؤمن اليهود بامل�سيح ملا جاء بعد �أربعمائة وت�سعني �سنة‪،‬‬
‫ب�شرها بامل�سيح «عي�سى»‪� ،‬إذن‬ ‫و«جربيل» يف الإجنيل هو املالك الذي جاء ملرمي ُي ِّ‬
‫فذلك الرجل املنري الذي �أتى فدخل على «حممد» ال ينبغي �أن يكون �إال واحد‪،‬‬
‫املالك «جربيل» نف�سه‪.‬‬
‫خ�شوعا وخو ًفا‪ ..‬فرقا وارتقى حتى بلغ ال�سحاب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجل قلب «عمرو بن جابر»‬ ‫َ‬
‫ر�سل الر�سل‪ ،‬ويا �سامع الإن�س واجلان‪ ،‬يا‬ ‫ورفع ر� َأ�سه ويده‪ ،‬وقال يا اهلل يا ُم ِ‬
‫‪235‬‬
‫مليك الأر�ض وال�سماوات وعظيمهما‪� ،‬إين تبتُ �إليك مما تعلم‪ ،‬و�إين �آمنتُ بك‬
‫وبدينك الذي ارت�ضيت وبنبيك الذي �أر�سلت‪ ...‬ثم تذ َّكر ما قاله «ورقة بن نوفل»‬
‫من �أن القوم �س ُيخرجون «حممد» فتن َّكد لذلك‪ ،‬وعلم ملاذا قال ورقة هذا‪ ،‬فما‬
‫حدث لزيد بن عمرو بن نفيل مل يربد من الذاكرة‪ ،‬و�إن نب ًيا يخ ُرج و�سط ه�ؤالء‬
‫القوم من بني �أ�صنامهم التي �سدت بجثمانها وجه الكعبة لهو خارج �إىل الهاوية‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫�أر�ض مكورة �سابحة يف ظالم ل�ست تدري ما بها‪ ،‬من �أمور و�أمور‪ ،‬وبحار‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وافرات وجبال‪ ،‬وعرو�ش تغالبها عرو�ش‪ ،‬و�إن�س فيها يعمرها يظن يف كل حني‬
‫�أنه قد قدر عليها‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أر�ض مكورة �سابحة‪ ..‬ثالثة بني ت�سع كواكب جدباء ما فيها نف�س يتن َّف�س‪،‬‬
‫وك ٌّل يف ِ‬

‫ب‬
‫�شم�س واحدة‪ ،‬تنور لهم من نواحيهم وتدفئ‬ ‫فلكه ي�سبح‪ ،‬يطوفون حول ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫لهم �أرجاءهم‪ ،‬جمموعة مت�سقة مت�آلفة ال يعدو بع�ضهم على بع�ض‪ ،‬يحيط بهم‬

‫ش‬
‫�سياج من �سحاب يف�صلهم عما يجاورهم‪ ،‬جمموعة كلها تعتني بالأر�ض التي‬

‫ر‬
‫ت�سبح بينهم‪ ،‬جمموعة تعتني باحلياة‪ ،‬وحتافظ على احلياة‪ ،‬جمموعة من‬

‫الت‬ ‫و‬
‫كواكب ي�شاهدها ال�سائر على الأر�ض كدرر ك�أنها الل�ؤل�ؤ تنور يف ال�سماء‪ ،‬و�شم�س‬

‫و‬
‫يراها كل �صبح‪ ،‬وقمر يراه كل ليل‪ ،‬جمموعة ت�سمى ال�سماء الدنيا‪.‬‬
‫طيف من‬
‫يع‬ ‫ز‬
‫جتاورها ومتاثلها جمموعات من كواكب و�شمو�س �سابحات يف ٍ‬
‫الف�ضاء ك�أنها الذر ت�سمى ال�سماء الثانية‪ ،‬فتجتمع الأطياف من املجموعات‬
‫لت�سبح يف جم َّرة هادرة ج�سيمة ك�أنها القر�ص هي ال�سماء الثالثة‪ ،‬جتاورها‬
‫جمرات المعات ك�أنها املرجان يجتمعون يف طيف واحد هو ال�سماء الرابعة‪،‬‬
‫فت�ستوي �أطياف املجرات لت�صنع عنقودًا ملو ًنا م�ضي ًئا هو ال�سماء اخلام�سة‪،‬‬
‫طيف هو ال�سماء ال�ساد�سة‪ ،‬ثم‬ ‫جتاوره عناقيد وعناقيد كالياقوت يجتمعون يف ٍ‬
‫وح ُبك هي ال�سماء ال�سابعة‪� ،‬سماوات‬ ‫تخيط �أطياف العناقيد كلها يف خيوط ُ‬
‫�سبعة طبا ًقا‪ ،‬فيها باليني املجموعات الكوكبية‪ ،‬وباليني الكواكب التي يعي�ش‬
‫عليها �أنا�س و�أنا�س مثل الأر�ض‪ ،‬كون كبري عظيم ُمت َقن له رب واحد واجد‪ ،‬حكم‬
‫عدل‪ ،‬جميل ال يخلق �إال اجلمال‪.‬‬
‫يوم فر�أى �شيئا �آخر؛‬
‫رجل على هذه الأر�ض نظر �إىل ال�سماء يف ذات ٍ‬ ‫لكن ً‬
‫�شيء �سد �أفق‪� ،‬شيء كبري‪ ،‬ال هو ب�شم�س وال بقمر وال بنجم؛ �شيء �أكرب‪� ،‬شيء‬
‫مهيب‪ ،‬بل ملك مهيب‪ ،‬ا�سمه «جربيل»‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫كيان من نور تبدى له يف خلقته احلقيقية‪ ..‬ورغم �أنه كان �أبهى مما ر�أت‬
‫عني على وجه الأر�ض �إال �أن الرجل املحمد ر�آه فارجتف و�سقط وهرع �إىل بيته‪،‬‬
‫فاملالك اجلليل كان ح ًقا به ًّيا وح ًقا باه ًرا‪ ،‬عليه �أجنحة كثرية جدً ا لها مظهر‬
‫رفيع ماجد‪� ،‬ستمائة جناح‪ ،‬ثالثمائة عن اليمني و ثالثمائة عن ال�شمال‪ ،‬كل‬
‫ثالثمائة يخرجون يف ثالث جمموعات‪ ،‬كل جناح ظاهر يكون وراءه جناحني‬
‫يعززانه‪ ،‬قوي متني كث الأجنحة‪ ،‬ينترث منه �إذا حترك اجلناح تهاويل متلألئة‬

‫ع‬
‫كالدر الأبي�ض والياقوت الأحمر‪َ � ،‬أغر خالب جميل ال تقدر احلروف على خلق‬

‫ري‬‫ص‬ ‫بهائه يف اخليال‪.‬‬

‫ال‬
‫قبل �سنوات من زمان الأر�ض �أراد اهلل �أن يتك َّلم بوحي �سيوحي به �إىل �أهل‬

‫ك‬
‫الأر�ض املوكل بها هذا املالك اجلربيل‪ ،‬فرجفت ال�سماوات كلها رجف ًة عظيمة‪،‬‬

‫ت‬
‫و�سمعت مالئكة ال�سماوات �صل�صلة ك�صل�صلة ال�سال�سل على ال�صخر الأمل�س!‪،‬‬

‫ب‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ف�أخذتهم رِعدة �شديدة من خوف اهلل ف�صعقوا وخروا ُ�س َّجدً ا �أجمعني‪ ،‬فكان �أول‬

‫ش‬
‫من رفع ر�أ�سه منهم «جربيل»‪ ،‬فك َّلمه اهلل من وح ِيه مبا �أراد‪ ،‬فنزل به «جربيل»‬

‫ر‬
‫�شديد القوى من عند اهلل فك َّلما م َّر يف �سماء وجد مالئكتها ُ�سجدً ا يغ�شاهم‬

‫الت‬ ‫و‬
‫اخلوف‪ ،‬يظنون �أن �أمر ال�ساعة قد وقع‪ ،‬ف�إذا ر�أوه قالوا‪ :‬يا جربيل ماذا قال‬

‫ز‬ ‫و‬
‫ربنا؟ فيقول لهم‪ :‬قال احلق وهو العلي الكبري‪ ،‬حتى نزل �إىل ال�سماء الدنيا‪ ،‬تلك‬

‫يع‬
‫املجموعة الكوكبية ال�صغرية التي فيها تدور الأر�ض‪ ،‬فم�ضى �إىل مو�ضع يعرفه‬
‫فوق جو الأر�ض‪ ،‬مو�ض ٌع َ�سمِ ٌّي كرمي‪ ،‬م�شرف مفخم كائن فوق كل �أر�ض يعي�ش‬
‫عليها مكلفون‪� ،‬صرح جميد هو‪ ،‬للمالئكة مثوى وم�ست ِقر‪ُ ،‬مير عليه من يعرج‬
‫منهم �إىل ال�سماء ومن ينزل منهم �إىل الأر�ض‪ ،‬بيت مكرم ا�سمه بيت العزة‪.‬‬
‫�إىل بيت العزة ق�صد‪ ،‬ويف بيت العزة دخل‪ ،‬ف�أم َلى ما لديه من الوحي على‬
‫مالئك ٍة �سف َرة‪ ،‬كرام ب َررة‪ ،‬كتبوه يف ُ�ص ُح ٍف مكرمة‪ ،‬مرفوعة مط َّهرة‪ ،‬فكان‬
‫ميلي لهم ويقول‪� ،‬ضعوا �آية كذا يف مو�ضع كذا‪ ،‬فكتبوه �آيات و�س َور‪ ،‬حتى �أمتوه‬
‫كتا ًبا واف ًيا‪ ،‬فيه ذكر �أمور �سابقات‪ ،‬وذكر �أمور تاليات مل حتدُث على الأر�ض‪،‬‬
‫�أمور يف حياة الذي ا�صطفى اهلل ليكون نب ًيا خا ًمتا من بني املا�شني على الأر�ض‪،‬‬
‫�صحف �ش َّكلت كتا ًبا‪ ،‬كتاب مكنون‪ ،‬من نور كرمي‪ ،‬ا�سمه (القر�آن الكرمي)‪.‬‬
‫�آيات ق ّدر لها ربها �أن تتنزَّل على عدد النجوم البائنة يف ال�سماء‪ ،‬لتكون هُ دى‬
‫الظلمة كما �أن النجوم هدى‪ ،‬قدر لها �أن تتنزل يف كل مرة �آية �أو‬ ‫لل�سائرين يف ُ‬
‫‪237‬‬
‫تنزيل من رب العاملني‪ ،‬لتوافق الأحداث‬ ‫خم�سا‪ً ،‬‬ ‫�آيتني‪� ،‬أو ثالث �آيات‪� ،‬أو �أرب ًعا �أو ً‬
‫التي متر بالنبي القا�سم‪ ،‬يتنزل بها عليه «جربيل» من بيت العزة‪.‬‬
‫وحي قر�آن �أماله «جربيل» لل�سف َرة الكرام الربرة ووحي مل ميليه لهم‪ ،‬لأنه‬
‫(ال�س َّنة)‪ ،‬وهي وحي م�أمور �أن يبلغه املالك‬ ‫مل يكن من القر�آن‪ ،‬وحي ا�سمه ُ‬
‫«جربيل» للنبي تبلي ًغا باملعنى‪ ،‬يبلغه ب�أمور من عند اهلل‪ ،‬وعلوم من عند اهلل‬
‫وفيو�ض‪ ..‬افعل كذا وكذا‪ ،‬حقيقة ذلك الأمر كذا وكذا‪ ،‬اعلم �أمنا �سيحدث كذا‬

‫ع‬
‫ال�سنة وحي ال يتلوه النبي على النا�س تالوة‬ ‫وكذا‪� ،‬أو قد حدث كذا و كذا‪ ...‬لكن ُ‬

‫ري‬‫ص‬
‫القر�آن؛ �إمنا يجعله يف �صدره‪ ،‬ويتك َّلم به للنا�س ب�أ�سلوبه ال�شخ�صي النبوي‪،‬‬

‫ال‬
‫افعلوا كذا �أو ال تفعلوا كذا‪ ،‬اعتنوا بكذا‪ ،‬قال يل ربي كذا‪� ،‬سيحدُث كذا وكذا‪...‬‬
‫ف�آتاه اهلل القر�آن ومثله معه من ال�سنة‪ ،‬و�آتاه من �أجل ال�سنة موهبة جوامع الكلم‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فكانت اجلمل التي ينطق بها ب�أ�سلوبه ي�سرية كلماتها عظيمة‪ ،‬ليبلغ ال�سنة بخري‬

‫ب‬
‫الكلمات‪ ،‬فكان ال يتحدث وال ينطق �إال مبا بلغه به ربه‪� ،‬إما يتلوه قر�آ ًنا على‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫النا�س يتعبدون بتالوته‪� ،‬أو يقوله للنا�س ويكون �سنة لهم مبا �آتاه اهلل من ح�سن‬

‫ش‬
‫يوحي‪.‬‬
‫وحي َ‬ ‫البيان؛ فكان ال ينطق عن الهوى‪� ،‬إن هو �إال ٌ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫ويف تلك الليلة‪ ..‬كان يف منزله يقول د ِّثروين دثروين من هول ما ر�أى‪ ،‬وهناك‬

‫و‬
‫كان البد �أن تتنزَّل عليه �آيات بينات‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫هناك و�سط ما يدثرونه به �سمع ذلك ال�صوت فتن َّبه له و�سكت وظن �أن نف�سه‬
‫تقب�ض‪� ،‬صوت ك�أنه �صل�صلة اجلر�س‪� ،‬أو ك�صوت �سل�سلة متر على �صخر �أمل�س‪،‬‬
‫كان ي�سمع و يرتبد وجهه ك�أنه يركز يف �أمر جلل‪ ،‬ثم بد�أت �أنفا�سه تت�سارع و ُت�سمع‬
‫ب�صوت عال‪ ،‬ووجد بردا يف ثناياه وحتدرت منه حبات من ندى ك�أنها الل�ؤل�ؤ‬
‫واجلمان‪ ..‬ثم فج�أة‪ُ ،‬نفث الكالم يف روعه نفثا‪ ،‬فجاءته �آيات كرميات‪..‬‬
‫َ‬
‫وثيابك فط ِّهر‪ ،‬والرجزَ ُ‬
‫فاهجر‪...‬‬ ‫فكب‪،‬‬‫يا �أيها املد ِّثر‪ ،‬قم ف� ِأنذر‪ ،‬وربك ِّ‬
‫‪z‬‬
‫قر�آن كرمي‪� ..‬أ�صدر له الأمر‪ ،‬فقام املدثر‪ ،‬و� َأنذر �سبعة كانوا يف بيته هم �أول‬
‫من نزل يف قلبهم النور‪ ،‬زوجته‪ ،‬وبناته الأربع ال�شابات‪« ،‬زينب» و«رقية» و«�أم‬
‫كلثوم» و«فاطمة»‪ ،‬وولد باهر جميل وا�سع العينني �أ�سودهما‪ ،‬يف العا�شرة من‬
‫عمره‪ ،‬لي�س ابنه و�إمنا ابن عمه‪ ،‬وا�سمه علي‪«-‬علي بن �أبي طالب»‪� -‬أبوه �سيد‬
‫بني ها�شم‪� ،‬أبو طالب بن عبد املطلب‪ ،‬عم «حممد» الذي ربى حممدً ا �صغ ًريا‬
‫‪238‬‬
‫ورعاه و كف َله وز َّوجه‪ ،‬لكنه كان �ضيق احلال كثري العيال‪ ،‬فلما تزوج «حممد»‬
‫وتي�سر يف املال‪ ،‬دعا �أبا طالب �إىل �أن ي�أخذ منه واحدً ا من بنيه لريبيه عنده‪،‬‬
‫فيخفف عنه‪ ،‬ف�أخذ منه الطفل العلي‪« ،‬علي بن �أبي طالب»‪ ،‬ور َّباه يف بيته‪ ،‬فكما‬
‫مالزما ملحمد �أينما‬
‫ً‬ ‫ربى �أبو طالب حممدً ا‪ ،‬ربي حمم ٌد عليا‪ ،‬وكان الطفل العلي‬
‫ذهب‪ ،‬حتى كان يطلع معه �إىل غار حراء يف �شيء من الأوقات‪.‬‬
‫و�سابع من يف البيت كان رجل‪ ،‬ا�شرتته خديجة من �سوق عكاظ‪ ،‬ا�سمه «زيد‬

‫ع‬
‫بن حارثة»‪ ،‬كان �سنه قريب من �سن «حممد»‪ ،‬فلما تز َّوجت خديجة مبحمد‬

‫ري‬‫ص‬
‫وه َبته ملحمد‪ ،‬فكان «حممد» يعامله معاملة مل ي َر مثلها �أحد‪ ،‬حتى �أن �أهل «زيد»‬

‫ال‬
‫قد �أتوا بعد �سنني طوال ليفتدوا ابنهم وي�أخذوه من «حممد»‪ ،‬قبل بعثة «حممد»‬
‫عليك �أحدً ا‪� ،‬أنت مني مبنزلة الأب‬ ‫بكثري‪ ،‬فقال زيد ملحمد‪ :‬ما �أنا بالذي �أختار َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ويحك يا زيد �أتختار العبودية على احلرية وعلى �أبيك‬ ‫والأم‪ ...‬قال له �أهله‪َ :‬‬

‫ب‬
‫ً‬

‫ل‬
‫وعمك و�أهل بيتك؟ فقال‪ :‬نعم �إين ر�أيتُ من هذا الرجل �شيئا ما �أنا بالذي �أختار‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫عليه �أحدً ا �أبدً ا‪ ...‬فلما ر�أى «حممد» ذلك خرج به �إىل الكعبة ذات يوم و نادى‬

‫ش‬
‫وقال‪ :‬يا من ح�ضر ا�شهدوا‪� ،‬أن زيدا ابني يرثه ويرثني‪ ...‬فتب َّناه ف�صار اب ًنا له‬

‫و‬ ‫ر‬
‫وهو يف مثل �سنه‪ ..‬وكان «زيد» هو نف�سه الرجل اخلادم الذي قدم ملحمد ولزيد‬

‫و‬ ‫الت‬
‫بن عمرو بن نفيل ال�سفرة لي�أكال منها ف�أبيا �أن ي�أكال‪ ،‬وهو الذي كان يت َّربك‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ب�إ�ساف ونائلة فمنعه «حممد»‪.‬‬
‫�أنذر �سبعة ف�آمن �سبعة‪ ،‬وكان ثامنهم «�أبو بكر»‪� ،‬صاحبه الكرمي النبيل‪ ،‬ثم‬
‫انطلق النبي �إىل �أمه و�أبيه‪� ،‬أمه بعد �أمه و�أبوه بعد �أبوه‪ ،‬الذين ربياه وكانا له‬
‫كل �شيء‪ ،‬عمه «�أبو طالب» وزوجته الطيبة «فاطمة بنت �أ�سد»‪ ،‬التي ر َّبته وهي‬
‫به م�ؤمنة‪ ،‬فلما علمت «فاطمة» �أن اهلل قد بعثه نب ًيا فرحت روحها وا�ستب�شرت‬
‫و�أ�سلمت هلل كما كانت قد �أ�سلمت من قبل‪� ..‬أما «�أبو طالب» فقد كان ً‬
‫مري�ضا‬
‫يومئذ منه ًكا‪ ،‬فدخل عليه ر�سول اهلل فعاده‪ ،‬فقال له «�أبو طالب»‪ :‬يا بن �أخي‪،‬‬
‫ادع �إلهك الذي تع ُبد �أن يعافيني‪ ..‬فدعا النبي الزكي وقال اللهم ا�شف عمي‪..‬‬
‫فوجد «�أبو طالب» نف�سه قد قام ك�أمنا ن�شط من عقال‪ ،‬وقال‪ :‬يا بن �أخي‪� ،‬إن‬
‫أطعت اهلل ليطيعنك‪.‬‬ ‫�إلهك الذي تع ُبد ليطيعك‪ ..‬قال النبي‪ :‬و�أنت يا عماه لئن � َ‬
‫كان «�أبو طالب» على ِم َّلة �أبيه «عبد املطلب»‪ ،‬وملة «عبد املطلب» هي‬
‫احلنيفية؛ عبادة اهلل ال �شريك له ملة «�إبراهيم»‪ ،‬التي عليها �أجداد النبي كلهم‬
‫�إىل «�إبراهيم»‪ ،‬ومن «�إبراهيم» �إىل «�آدم»‪ ...‬ولقد كان عبد املطلب يعلم علم‬
‫‪239‬‬
‫اليقني �أن حفيده «حممد» نبي‪ ،‬ملا �أنب�أه «�سيف بن ذي يزن» عن �أو�صافه وقال‬
‫له �أن بني كتفيه �شامة و�ستكون له النبوة والإمامة‪ ،‬كان «حممد» �ساعتها يعي�ش‬
‫يف كنفه‪ ،‬بعد �أن مات �أبوه و�أمه و�صار يتي ًما يف الثامنة من عمره‪ ..‬هنالك عرف‬
‫«عبد املطلب» النبي و�آمن به‪ ،‬لكنه كتم الأمر لئال ي�ؤذيه النا�س ح�سدً ا من عند‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬وكذا �أو�صاه «�سيف بن ذي يزن»‪� ،‬أن يحفظه ويحذر عليه النا�س‪.‬‬
‫فلما ح�ضرت «عبد املطلب» الوفاة‪ ،‬عهد مبحمد �إىل «�أبي طالب»‪ ،‬و�أنب�أه‬

‫ع‬
‫بنبوته و�أو�صاه �أن يحفظه و�أن يحذر عليه النا�س‪ ...‬وكان «�أبو طالب» هو الأخ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال�شقيق الوحيد لعبد اهلل والد النبي‪ ،‬ولقد ر�أى «�أبو طالب» بعينه على «حممد»‬

‫ال‬
‫معجزات ال جتوز على ب�شر؛ كتتبع الغمام له وتها�صر ال�شجرة لأجله‪ ،‬و�آيات‬
‫�أخرى معجبة‪ ..‬ف�ص َّدق به و�آمن و�أح َّبه �أكرث من جميع �أوالده والنبي ال يزال‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫دون البلوغ‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫والآن ملا حان املوعد وبعث اهلل النبي و�أتاه ليدعوه‪ ..‬كان من املتوقع �أن‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ي�ؤمن «�أبو طالب» �ساعتها وي�صدح ب�إميانه وهو �سيد بني ها�شم فيدعو بقية‬

‫ر‬
‫بني ها�شم‪ ،‬لكن هذا مل يحدث؛ بل اختار «�أبو طالب» �أن يعمل �شيئا �آخر؛ اختار‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�أن يكتم �إميانه وال ي�صدح به‪ ،‬ف�إنه �إن ي�صدح �سيد بني ها�شم ب�إميانه �ستن�شق‬

‫و‬
‫بني ها�شم على بقية القبائل و�ستعاديها القبائل كلها وتكون عداوة قبلية‪ ،‬وقد‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يتجر�أوا على �أذية النبي �أو قت ِله بعداوتهم لبني ها�شم‪� ،‬أما �إن كتم �إ�سالمه‪،‬‬
‫ف�إن النبي �سيدعو كما �شاء ولن يجر�ؤ �أحد �أن ي�ؤذيه بل �سيحميه �سيد بني‬
‫ها�شم وقبيلة بني ها�شم كلها وين�صروه بدعوى القبلية لأنه يف كنف بني ها�شم‬
‫املتحالفة �أ�صال مع بقية القبائل‪.‬‬
‫فرح «�أبو طالب» وزوجته «فاطمة» ب�إ�سالم ابنهما «علي»‪ ،‬ودعيا ابنهما‬
‫الثاين «جعفر» ‪-‬جعفر بن �أبي طالب‪ -‬وهو �أ�سن من «علي» بع�شر �سنوات‪،‬‬
‫يعني يف الثالثة والع�شرين‪ ،‬وكان �أ�شبه النا�س بر�سول اهلل‪ ،‬بذلك الوجه املت�ألق‬
‫وذلك ال�شعر الفاحم الأ�سود‪ ،‬فا�ستنار قلبه بكالم ر�سول اهلل كما ا�ستنار وجهه‬
‫مب�شابهته‪ ،‬ف�أ�سلم و�أ�سلمت معه زوجته «�أ�سماء بنت عمي�س»‪.‬‬
‫وم�ضى النبي �إىل عمه الثاين‪« ،‬العبا�س بن عبد املطلب»‪ ،‬ابن عبد املطلب‬
‫من زوجة ثانية‪� ،‬سيد يف بني ها�شم وله عمارة البيت احلرام و ال�سقاية‪� ،‬أ�سن‬
‫حاجا من احلجاج ُي�سب �أو ُيظلم �أو يجوع‪،‬‬
‫من النبي بثالث �سنوات‪ ،‬كان ال يدع ً‬
‫فا�ضل من �أح�سن الرجال �صورة و �أبهاهم‪ ،‬فجاءه‬ ‫ً‬ ‫وكان ً‬
‫رجل ج�سي ًما �ضخ ًما‬
‫‪240‬‬
‫النبي ف�أخربه �أن رب ال�سماوات قد �أمره بهذا الدين‪ ،‬و�أنه �ستُفتح لهذا الدين‬
‫كتم‬
‫يوما كنوز ك�سرى وقي�صر‪ ،‬ف�آمن العبا�س لكنه فعل كما فعل «�أبو طالب»؛ َ‬
‫�إ�سالمه حماية للنبي‪ ،‬و�أ�سلمت معه زوجته «�أم الف�ضل»‪� ،‬أخت «�أ�سماء بنت‬
‫عمي�س» زوجة «جعفر»‪.‬‬
‫ثم ذهب النبي �إىل عمه الثالث‪ ،‬وهو ابن عبد املطلب من زوجة ثالثة‪،‬‬
‫وهو الفار�س البا�سل‪ ،‬الأ�سد �صياد الأ�سود‪« ،‬حمزة بن عبد املطلب»‪� ،‬أخوه من‬

‫ع‬
‫الر�ضاعة و�صاحبه الذي تربى معه‪ ..‬كان ذلك املغوار �أ�سن من النبي ب�سنتني‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ومل يكن يف �أيام العرب وحروبها من هو �أ�شهر منه فرو�سية‪� ،‬صاحب حلية‬

‫ال‬
‫طويلة ناعمة ومالمح قوية جدً ا‪� ،‬أقرب �أعمام النبي �إليه وهو الذي خطب له‬
‫وب�شره‪ ،‬ف�ألقى اهلل يف نف�سه الإميان مبا‬ ‫«خديجة»‪ ...‬ف�أقبل عليه النبي فعرفه َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أظهر‬‫قال له ر�سول اهلل‪ ،‬فقال له «حمزة»‪� :‬أ�شهد �أنك ل�صادق �شهادة ال�صدق‪ ،‬ف� ِ‬

‫ب‬
‫يا بن �أخي دينك‪ ،‬فواهلل ما �أُحب �أن يل ما �أظلته ال�سماء و�أنا على ديني الأول‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ف�أ�س َل َم الأ�سد احلمزة‪ ،‬و�أ�سلمت زوجته «�سلمى بنت عمي�س»‪ ،‬وهي �أخت «�أ�سماء»‬

‫ش‬
‫و«�أم الف�ضل»‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫�أما عمه الرابع فهو الذي �أتى بنف�سه �إىل الكرمي «حممد»‪ ،‬وهو من زوجة‬

‫و‬
‫رابعة‪ ،‬كان ذهبي ال�شعر واللحية واحلاجبني‪ ،‬ين�سدل �شعره على كتفيه‪ ،‬و�سيم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ك�أن وجهه الذهب‪ ،‬وا�سمه «�أبو لهب»‪ ،‬وهو الذي خطب النبي ابنتيه البنيه‪..‬‬
‫قال له‪ :‬ماذا �أُعطى �إذا �آمنتُ بك يا «حممد»؟ قال له النبي‪ُ :‬تعطى كما ُيعطى‬
‫فتم�ص�ص «�أبو لهب»‬
‫امل�سلمون‪ ..‬قال‪ :‬مايل عليهم من ف�ضل؟ قال النبي‪ :‬ال‪َّ ..‬‬
‫َ‬
‫ان�صرف‬ ‫�شفتيه وه َّز ر� َأ�سه وقال‪ :‬ت ًّبا لهذا من دين‪� ،‬أن �أكون �أنا وه�ؤالء �سواء؟ ثم‬
‫مغا�ض ًبا‪.‬‬
‫وبغ�ض النظر عن �أبي لهب‪ ،‬ولهيب �أبي لهب‪ ،‬فقد زاد ثمانية م�سلمني على‬
‫الثمانية الأولني ف�أ�صبحوا �ستة ع�شر‪ ،‬ع�شرة من بيت ر�سول اهلل يزيد عليهم‬
‫�أربعة من زوجاتهم ثم «�أبو بكر» ال�صاحب البار و«زيد» ابن «حممد» بالتبني‪،‬‬
‫ثم �أ�سلمت «�أم رومان» زوجة «�أبو بكر»‪ ،‬ف�صاروا �سبعة ع�شر‪.‬‬
‫قليل‪ ،‬نزل فيها قر�آن كثري‪..‬‬ ‫وظ َّلوا �سبعة ع�شر �سنة‪� ،‬أو تزيد ً‬
‫ثم انقطع «جربيل» فرت ًة من الزمن فلم يره «عمرو بن جابر» ي�أتي على تلك‬
‫ال�صورة البهية �إياها �أبدً ا‪ ،‬و�أحزن ذلك «ر�سول اهلل»‪ ،‬وحزنت «خديجة» الأمرية‬
‫حلزنه‪ ،‬وعرف ُخطابهن اخلرب‪ ،‬عتبة وعتيبة ابني �أبي لهب‪ ،‬ف�ضحكت‬ ‫وبناتها ُ‬
‫‪241‬‬
‫�أمهما العوراء وهزئت‪ ،‬فياملنظر عيونها العوراء يف ُ�سخريتها من نبي!‪ ،‬كانت‬
‫تلك هي �أم جميل العوراء‪� ،‬أخت «�أبو �سفيان» �سيد قري�ش وزوجة «�أبو لهب»‪،‬‬
‫حاطبة حتطب الكالم وتنقله ملزا من هنا �إىل هنا‪ ،‬فلم حتتمل نف�سها �أن تكتم‬
‫يف نف�سها‪ ،‬فلما ر�أت ر�سول اهلل ذات بارحة قالت‪ :‬ما بالك يا «حممد»‪ ،‬ما �أرى‬
‫�شيطانك �إال قد قالك وودعك‪ ..‬فزاد بكلمتها حزن النبي اخلامت‪.‬‬
‫مي�ض حني من الأوان‪� ،‬إذ ظهر اجلليل «جربيل»‪ ،‬وهذه املرة كان لديه‬‫ومل ِ‬

‫ع‬
‫�شيء �آخر‪� ،‬شيء عظيم‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ري‬ ‫كان «عمرو بنص‬
‫جابر» يتبع حممدً ا وهو حلزنه حزين حتى و�صل «حممد» �إىل‬
‫ل‬ ‫�أعلى مكة‪ ..‬وهناك ا‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫جتلى الأمني املجيد «جربيل»‪ ،‬على تلك الهيئة الب�شرية التي‬
‫َ ُّ‬
‫الض َ ٰ‬ ‫�أتاه فيها �أول مرة‪ ،‬بهي املر�أى و�ضاء املنظر‪ ،‬فب َّلغه ب�سورة من ربه‪،‬‬

‫ب لاملجيب‪ ،‬فرحة ر�ؤية العني لقرة العني‪.‬‬


‫ح*‬ ‫«و‬
‫َ َّ ْ َ َ َ ٰ َ َ َّ َ َ َ ُّ َ َ َ َ َ ٰ َ َ ْ َ ُ َ ْ ٌ َّ َ َ ْ ُ َ ٰ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ‬

‫ل‬
‫ورقب «عمرو» ذلك امل�شهد يف �أعلى ن‬
‫واللي ِل إِذا سج * ما ودعك ربك وما قل * وللخِرة خي لك مِن الول * ولسوف يع ِطيك‬
‫ك َف َ ْ‬
‫ت َ ٰ‬

‫مكة‪،‬شثم ر�أى «جربيل» ي�ضرب بكعبه‬


‫َ ُّ َ‬
‫‪ ،‬ففرح النبي بر�أفة القريب‬ ‫ض»‬ ‫رب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫و‬ ‫ت‬
‫وتفجرت منه عني‪ ،‬فنزل «جربيل»‬ ‫يف الأر�ض فت�شققت الأر�ض ناحية الوادي‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫ثم �أذنيه وقدماه‪ ،‬وفعل‬ ‫ناحية املاء ف�أندى به يداه ووجهه ثم مرفقاه و�شعره‪،‬‬

‫ع‬
‫ناظرين �إىل الأر�ض‬ ‫«حممد» كما فعل «جربيل»‪ ،‬ثم وقف االثنان وقفة �ساكنة‬
‫وجل�سوا و�سلموا‪،‬‬ ‫التي �أمامهم‪ ،‬خا�شعة �أب�صارهم وقلوبهم‪ ،‬وركعوا و�سجدوا‪،‬‬
‫كان «جربيل» يفعل وقمر بني ها�شم «حممد» يتابعه ال يخطئه‪ ،‬ثم قام «جربيل»‬
‫عنه وان�صرف‪.‬‬
‫وع َّلمها «حممد» خلديجة وع َّلمها لبناته وع َّلمها لعلي ال�صغري البهي و�أخوه‬
‫جعفر القمر‪ ،‬ثم علمها لأبو بكر وع َّلمها لزيد‪ ،‬علمهم �أن تلك النداوة باملاء هي‬
‫الو�ضوء‪ ،‬وذلك الوقوف بالركوع وال�سجود وال�سالم هي ال�صالة‪ ..‬وكان يخرج‬
‫�إىل �شعاب مكة مع الطفل اخللوق «علي»‪ ،‬في�صليها معه يف ال�شعاب‪ ،‬فعلمه‬
‫ال�صالة وعلمه التنزيل‪ ،‬فكان تربية النبي وتعليم النبي‪.‬‬
‫وتعلمها «عمرو بن جابر» ملا ر�آها‪ ،‬و�صار يركع وي�سجد‪ ،‬وي�ضع جبهته يف‬
‫الأر�ض‪ ،‬و�شعرت روحه �أنها �صالة‪� ،‬صلة بني الكائن وربه‪ ،‬وما �سميت �صالة �إال‬
‫لأنها �صلة‪ ،‬وكانت نف�س «عمرو بن جابر» تتوق �إىل النبي «حممد»‪ ،‬تتوق �أن يعلمه‬
‫‪242‬‬
‫النبي «حممد»‪ ،‬تت�شوق �أن تراه عني النبي «حممد»‪ ،‬يود لو �أنه يقول له يا نبي‪،‬‬
‫�إين مكثت يف �شوق يا نبي‪ ،‬ومكثت يف كد يا نبي‪ ،‬لكنه يعلم �أنه لي�س له �أن يفعل‬
‫هذا‪ ،‬حتى ي�أذن اهلل لنبيه �أن يجهر للجميع‪ ،‬وبقي «عمرو» وحده يركع وي�سجد‬
‫ويناجي ربه وحده‪.‬‬
‫ويف ذات مرة يف ال�شعاب‪ ،‬حتديدً ا عند �شعب �أجياد‪ ..‬كان النبي ي�صلي‬
‫ع�ص ًرا م�ستخف ًيا بها عن القوم‪ ،‬وفتى وراءه ينظر �إليه وهو ي�صلي‪ ،‬فتى يف‬

‫ع‬
‫ال�سابعة ع�شرة من عمره‪ ،‬ق�صري �أ�سمر الوجه خم�ضب جلده بال�سواد يف موا�ضع‬

‫ري‬‫ص‬
‫عدة‪ ،‬جعد ال�شعر �أفط�س الأنف‪ ،‬حاد الب�صر‪ ،‬فتى كان ا�سمه «�سعد»‪�«-‬سعد بن‬

‫ال‬
‫�أبي وقا�ص»‪ -‬كان ينظر �إىل ال�صالة وقد �شدت حركاتها عينه‪ ،‬فما درى �إال‬
‫و�صوت رجل من ورائه!‪ ،‬فالت َفت ف�إذا هو «�أبو بكر»‪ ،‬فتح َّدث معه ي�س ًريا فقط‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫نف�سه هلل وك�أنه كان ينتظرها‪ ،‬ف�صار‬ ‫و�أنب�أه بالنبي اجللي‪ ..‬ف�أ�س َلم «�سعد» َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫الإ�سالم ثمانية ع�شر‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫قري�ش قد متددت على �أر�ض �صحراء يف طريقش‬
‫ر عائدين من ال�شام بني‬
‫وهد�أة ال�سماء‪ ..‬كانت �أج�ساد من‬ ‫يف خ�شوع الليل‪ ،‬و�إطراق ال�شجر واحلجر‪،‬‬

‫ل‬ ‫وغطوا يف و ٍ‬
‫ا‬
‫كان ي�ستند �إىل جذع �شجرة يحدق يف ال�سماء‪ ،‬كان مميزًا يف ت‬
‫ال�سفر‬

‫و‬
‫معان والزرقاء‪ ،‬وقد تغطى كل منهم بغطاء ُّ‬

‫ز‬
‫�سبات عظيم‪� ،‬إال واحدً ا‬

‫ع‬ ‫ي‬
‫القوم بهيئته‪� ،‬شعر‬
‫أ�صفر‪ ،‬ومن�ش‬ ‫مموج �أ�سود �إىل الكتفني وحلية عظيمة جدً ا يخ�ضبها باللون ال‬
‫على اخلدين وق�سامة يف الثغر ملا يبت�سم‪ ،‬عظيم اجلاه يف قري�ش يحبونه ح ًبا‬
‫وح�س ِبه وجاهه وعذوبة كلماته و�شدة حيائه ورقة طباعه وع َّفته‪...‬‬ ‫ج ًما ملاله َ‬
‫وكان ا�سمه «عثمان» ‪«-‬عثمان بن عفان»‪ -‬كان �ساه ًما يف �أمور �شتى والليل ال‬
‫يزال يف منت�صفه‪ ،‬والقمر باد حا�ضر ك�أعظم ما يكون القمر‪ ،‬وحديث نف�سه يف‬
‫نف�سه ك�أعظم ما يكون احلديث‪ ،‬حتدثه نف�سه �أن يتزوج‪ ،‬وكالم الن�سوة يف قومه‬
‫يف �أذنه يرتدد‪ ،‬عن فالنة وفالنة‪ ،‬لكن نف�سه ت�أبى كلما تذكر ا�س ًما لفالنة �أو‬
‫فالنة‪ ،‬لأن ا�س ًما واحدً ا كان كلما يرت�سم �أمامه ميحو جميع الأ�سماء من حوله‪،‬‬
‫ا�سم ل�شريفة من �أ�شراف بني ها�شم‪« ،‬رقية» ‪«-‬رقية بنت حممد»‪ -‬فعزم �أنه �إذا‬
‫رجع �أن يتزوجها‪ ،‬ولو نظر «عثمان» يف كتاب الزمن املدون يف �صفحة ال�سماء‬
‫لعلم �أن تلك الرقية نورها هو القمر و�أن اختياره لهو االختيار الأوفى‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫التقطت �أذنه �صوت �إن�سان ينادي �آت من بعيد يعابث �سكون الليل‪ ..‬فتن َّبه‬
‫وتن�صت‪ ،‬كان ال�صوت يقرتب حتى عال وات�ضح وخرق كل ال�سكون وبد�أ النائمون‬
‫يتململون‪ ،‬مل يكن قري ًبا من «عثمان» مبا ي�سمح له �أن مييزه‪ ،‬فقام «عثمان»‬
‫واقرتب‪ ،‬ف�إذا هو رجل يف ُجبة طويلة كالتي يرتديها ال�سحرة الكهان!‪ ،‬كان‬
‫مي�شي وك�أنه قد خبل‪ ،‬وكان ينادي‪:‬‬
‫ �أيها النيام هبوا‪.‬‬
‫ب�ضيق �إىل ذلك الرجل املنادي وتد َّثر البع�ض‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫�صحا بع�ض النائمني ونظروا ٍ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫أحلفته حتى ال ي�سمع‪ ،‬و�أكمل الرجل ينادي‪:‬‬
‫الآخر ب� ِ‬
‫ �أيها النيام هبوا‪� ،‬إن �أحمد قد خرج مبكة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫رمى كثري من النائمني �أغطيتهم على ر�ؤو�سهم وظنوا �أنه رجل يهذي يف‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫جوف الليل‪ ..‬وجاء «عثمان» ينظر �إىل الرجل الذي كان يف �صوته خليط عجيب‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بني الأ�سى والطرب‪ ..‬قال رجل من القوم من وراء «عثمان»‪ :‬يا عثمان �إن وراء‬

‫ش‬
‫ه�ؤالء ما وراءهم‪ ،‬ما �أبعد ما فات وما �أقرب ما �سي�أتي‪ ..‬نظر «عثمان» �إىل‬

‫و‬ ‫ر‬
‫مربوعا �إىل الق�صر �أقرب‪،‬‬ ‫الرجل وراءه ف�إذا هو رجل �أبي�ض ي�ضرب �إىل احلمرة‬

‫الت‬
‫ً‬

‫و‬
‫كان هذا «طلحة بن عبيد اهلل»‪� ،‬أ�سد قري�ش التاجر القوي البنية‪ ..‬قال «طلحة»‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫لقد ر�أيت مثل هذا ملا كنا يف �سوق ب�صرى‪ ،‬وال�شم�س تهبط �إىل مغربها‪ ،‬والتجار‬
‫العرب يجمعون حوائجهم ويرحلون‪ ،‬بقيت �أنا يف زاوية من ال�سوق �أحادث جتا ًرا‬
‫قد �أتوا من بالد ال�شام جميعها‪ ،‬وكنا نتحدث يف �أمور ال�سوق‪� ،‬إذ خرج علينا‬
‫رجل مثل هذا‪ ،‬كاه ًنا كان �أو منج ًما ل�ست �أدري‪ ،‬ف�س�ألنا يف جدية‪� ،‬سلوا �أهل‬
‫هذا املو�سم �أفيهم �أحد من �أهل احلرم؟ فقلت له نعم �أنا من �أهل احلرم‪...‬‬
‫حتيتُ من طريقته وقلتُ له‪:‬‬ ‫ف�أم�سك بي من ردائي وقال‪ :‬هل ظهر �أحمد بعد؟ َّ‬
‫ومن �أحمد؟ مل ي ُرد علي وقال يل‪ :‬هذا �شهره الذي يخرج فيه‪ ،‬نبي من الأنبياء‬
‫هو‪ ،‬ف�إياك �أن ي�سبقوك �إليه‪ ..‬فوقع يف قلبي ما قال‪ ،‬ورجع «عثمان» و«طلحة» من‬
‫�سفرهم هذا وا�سم «�أحمد» يف وجدانهم يرتدد‪ ،‬بال هوية‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫فلما نزل «عثمان» مبكة تناهت �إىل �سمعه �أخبار �أظلمت ف�ؤاده وانكدر‪..‬‬
‫�أن رقية بنت «حممد» قد خطبها «عتيبة بن �أبي لهب»‪ ،‬وهو ابن عم «حممد»‪،‬‬
‫َ‬
‫يحزنك يا عثمان؟ قال‪� :‬إين ت�أ�سفتُ �أين مل �أكن �أنا‬ ‫مهموما‪ :‬ما‬
‫ً‬ ‫فدخل على �أمه‬
‫‪244‬‬
‫أب�شر‪ ..‬فنظر ف�إذا هي‬ ‫الذي تزوجها‪ ..‬ف�سمع من ورائه �صوت امر�أة تقول له‪ِ � :‬‬
‫خالته الكاهنة «�سعدى بنت كريز» التي تعمل ال�سحر‪ ،‬فتهيب منها‪ ،‬قالت له‪:‬‬
‫�أب�شر وحييت ثال ًثا ترتًا‪ ،‬ثم ثال ًثا وثال ًثا �أخرى‪ ،‬ثم ب�أخرى كي تتم ع�ش ًرا‪� ،‬أتاك‬
‫ووقيت �ش ًرا‪� ،‬أنكحت واهلل زهرا و�أنت بكر ولقيت بكرا‪ ،‬وافيتها بنت عظيم‬ ‫خري‪َ ،‬‬
‫قد ًرا‪ ،‬بنيت �أمرا قد �أ�شاد ذك ًرا‪ ..‬فتعجب منها «عثمان» وقال لها‪ :‬يا خالة!‪،‬‬
‫ماذا تقولني �أتب�شريني بامر�أة قد تز َّوجت بغريي؟ قالت‪ :‬عثمان لك اجلمال‪،‬‬

‫ع‬
‫ولك الل�سان‪ ،‬هذا النبي معه الربهان‪� ،‬أر�سله بحق الديان‪ ،‬وجاءه التنزيل‬

‫ص‬
‫والفرقان‪ ،‬فاتبعه وال تغتالك الأوثان‪ ..‬قطب «عثمان» جبينه عج ًبا‪ ،‬وتذكر �أمر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫الكاهن املنادي وكالمه عن النبي!‪ ،‬لكنه مل يدر ما العالقة بني هذا وبني «رقية»‪،‬‬
‫يبدو �أن كل الكهان يذكرون �أمر هذا النبي‪ ..‬قال لها‪ :‬يا خالة �أنت تذكرين �أم ًرا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ما وقع ببلدنا؟‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫قالت له‪ :‬حممد بن عبد اهلل‪ ،‬ر�سول من عند اهلل‪ ،‬جاء بتنزيل اهلل‪ ،‬يدعو‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫به �إىل اهلل‪ ،‬م�صباحه م�صباح‪ ،‬ودينه فالح‪ ،‬و�أمره جناح‪ ،‬وقرنه نطاح‪ ،‬ذلت له‬

‫ش‬
‫البطاح‪ ،‬ما ينفع ال�صياح لو وقع الذباح‪ ،‬و�سلت ال�صفاح ومدت الرماح‪...‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫فانطلق «عثمان» من عندهم مفك ًرا‪ ..‬الكهان يذكرون «�أحمد»‪ ،‬وخالته‬

‫و‬
‫تذكر «حممد»‪� ،‬أفتكون «رقية» �أبوها «حممد» نبي؟ وهل بهاء «رقية» �إال من بهاء‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫«حممد»‪� ،‬إنه لي�س يف القوم من هو �أ�صدق منه و�أجمل منه‪ ،‬لكن «رقية» الآن‬
‫تزوجت‪ ،‬فما حاجته مبحمد‪ ،‬ثم فكر تارة �أخرى وتفكر‪ ،‬لي�س �أحد يف القوم‬
‫قابله منذ �أن خرج من عند خالته ف�س�أله هل خرج نبي يف بلدنا �إال قابل �س�ؤاله‬
‫والتعجب‪ ،‬كيف يقول كهان ال�شام وكهان العرب �أنه نبي‪ ،‬وهو نف�سه ال‬ ‫ُّ‬ ‫بالعجب‬
‫يقول هذا عن نف�سه‪� ،‬أف�إن كان نب ًيا �أو مل يكن‪� ،‬ألك به حاجة بعد رقية يا عثمان؟‬
‫ي�سجد ل�صنم قط‪ ،‬كان‬ ‫تقلب الأمر يف ر�أ�سه‪ ..‬كان «عثمان» منذ �صغره مل ُ‬
‫يكره هذا من قومه‪ ،‬ب�أي عقل ي�صنع الرجل �شي ًئا بيده ثم ي�سجد له‪ ،‬هذا هراء‬
‫وحمق‪ ،‬واهلل لئن كان ذلك البهي نب ًيا لي�صدقن به‪ ..‬ومازال «عثمان» مي�شي على‬
‫عماء حتى لقيه «�أبو بكر» وكان �صاح ًبا له‪ ،‬ف�أخربه «عثمان» باخلرب كله‪ ..‬قال له‬
‫«�أبو بكر»‪ :‬ويحك يا عثمان‪� ،‬إنك لرجل حازم ما يخفى عليك احلق من الباطل‪،‬‬
‫ما هذه الأ�صنام التي يع ُبدها قومنا؟ �ألي�ست من حجارة �صم ال ت�سمع وال تب�صر‬
‫وال ت�ضر وال تنفع؟ قال «عثمان»‪ :‬بلى واهلل �إنها لكذلك‪ ..‬قال «�أبو بكر»‪ :‬واهلل‬
‫لقد �صدقتك خالتك‪ ،‬هذا ر�سول اهلل «حممد بن عبد اهلل» قد بعثه اهلل �إىل‬
‫‪245‬‬
‫خلقه بر�سالته‪ ،‬فهل لك �أن ت�أتيه؟ فوافق «عثمان»‪ ..‬ولق َيا يف طريقهما «طلحة‬
‫بن عبيد اهلل»‪ ،‬فحكى «عثمان» لأبي بكر ما حدثه به «طلحة» يف ال�شام من �أمر‬
‫فتوجه «�أبو‬
‫«�أحمد»‪ ،‬ف�س َّر «�أبو بكر» باخلرب‪ ،‬وكان «طلحة» ابن عم «�أبو بكر»‪َّ ،‬‬
‫بكر» �إىل «طلحة» مبا�شرة و�سمع منه و�أ�سمعه من الإ�سالم ف�أحبه قلبه‪ ،‬فانطلق‬
‫«�أبو بكر» بعثمان» وطلحة‪� ،‬إىل النور ذاته‪� ،‬إىل «حممد»‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫وحدها جتال�س نف�سها‪ ،‬وطوق على عنقها يطوق روحها‪« ،‬ما�سا» التي كانت‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف جبال ن�صيبني‪ ،‬والذكرى تالزمها‪ ،‬ذكرى مر�سومة يف وجدانها بكل خطوطها‬
‫كما حدثت يف واقع الأمر‪ ،‬ر�أته يف خيالها م َّرات ومرات‪ ،‬ذلك النبي الأحمد‪ ،‬بني‬

‫ك‬
‫طفولة و�شباب‪ ،‬يف �شعاب مكة‪ ،‬وبرغم عديد الذكريات التي م َّرت على خاطرها‬

‫ت‬
‫يف حياتها‪� ،‬إال �أن ذكراه كانت وحدها ت�ضيء يف عقلها وال تنفك تراودها منذ �أن‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ر�أتها وك�أنها مل ت َر غريها‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫كانت يف عامل غري العامل‪ ..‬و�صروح غري التي تراها عني الب�شر‪ ،‬م�أ�سورة‬

‫ر‬
‫من عنقها مطوقة من �أطرافها‪ ،‬م�أخوذة �إىل مو�ضع ال ي�ؤخذ �إليه �إال ذو قلة‬

‫الت‬ ‫و‬
‫يف احلظ‪ ،‬م�أخوذة �إىل بيت التحقيق الأعلى‪� ،‬أو كما ي�سمونه «اجلوداكيوال»‪،‬‬

‫و‬
‫مو�ضع يحاكم فيه اخلطائون من �أتباع «لو�سيفر»‪ ،‬وال يخرج الداخلون �إليه �إال‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بحكم احلتف والإفناء‪� ،‬إال �إذا حدثت معجزة‪ ..‬كانت «ما�سا» مغلولة حمبو�سة‬
‫يف حجرة متماثلة اجلدران البي�ضاء‪ ،‬وهي جال�سة فيها �ضامة ركبتيها‪ ،‬ال تدري‬
‫ما �س ُيفعل بها‪..‬‬
‫أل�ست �صغرية على اجلوداكيوال يا غانية؟‬
‫ � ِ‬
‫تن َّبهت من رقدتها‪ ،‬ك�أن ال�صوت قادم من ي�سارها‪ ..‬فقامت ونظرت من بني‬
‫فرجات حمب�سها‪ ،‬فر�أت املتكلم؛ كان ذا وجه �شديد الب�شاعة تبدو منه البغ�ضاء‬
‫واملقت!‪ ،‬كان يتب�سم بب�شاعة‪ ،‬وكان ا�سمه «�إزب» ‪�«-‬إزب بن �أزيب»‪ -‬وكان‬
‫حمبو�سا مثلها يف اجلوداكيوال‪ ..‬قال لها‪:‬‬
‫ يبدو �أن كل من يقرتب من ذلك اليماين الأ�شقر ينتهي هاهنا‪ ،‬ال �أدري‬
‫مل ال ي�أخذوه معنا‪.‬‬
‫قالت له «ما�سا»‪ :‬هل تعرفه يا هذا؟ �ض َّيق «�إزب» عينيه وك�أن نقمة الكون قد‬
‫بدت له ملا تذكر‪ ،‬وتكلم «�إزب» �إليها وذكر لها كل الذي م َّر به مع ذلك الأ�شقر‬
‫‪246‬‬
‫«عمرو بن جابر»‪ ...‬وكانت هي ت�سمعه وتت�أثر‪ ،‬ملحمة م�ضت من �سب�أ �إىل‬
‫الزرقاء �إىل تهامة �إىل ال�شام‪ ،‬وكل هذا لأجل عقيدة واحدة ي�ؤمن بها‪ ..‬حتى‬
‫قال لها «�إزب»‪ :‬وقد كان له زوجة ح�سناء متاثله عنادًا وتك ًربا يف هذا الأمر‪،‬‬
‫و�سقطت بني قدمي‪ ،‬على بعد قليل من �أن تعرف‬ ‫حتى �أتيتها من ورائها فاغتَلتُها َ‬
‫احلقيقة التي كانت تبحث عنها‪ ،‬وكان ا�سمها «�إينور»‪.‬‬
‫ت�أ َّثرت عيون «ما�سا» وكانت رقيقة‪ ..‬وعلمت �أ�سباب تهدج مالمح «عمرو» ملا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان ي�سمع منها �أمر النبي‪ ،‬ثم نظرت �إىل �سقف حجرتها وتفكرت‪� ..‬أتراه وجد‬

‫ري‬
‫ذلك النبي؟‬

‫ال‬
‫قطع �أفكارها دخول مر َدة من اجلن يفتحون عليها حمب�سها‪ ،‬وي�أخذونها‬

‫ك‬
‫للمحاكمة!‪ ،‬وكان هذا يعني �أنها ما�ض َية �إىل حكم املوت‪ ،‬قال لها «�إزب» وب�شاعة‬

‫ت‬
‫أراك يف اجلحيم‪.‬‬‫ب�سمته تزيدها وجال‪ :‬يا هذه‪ِ � ،‬‬

‫للن‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫‪z‬‬
‫وال‬ ‫ر‬
‫و‬ ‫ت‬
‫ع‬ ‫زي‬

‫‪247‬‬
‫«حممد» و�أي �شيء فعله بنا «حممد»‪..‬‬

‫ع‬
‫�إن قطع الزمان كثرية‪..‬‬

‫ص‬
‫ُ‬
‫تخريت لك القطعة من الزمان التي انقلب عاملكم فيها ر� ًأ�سا على عقب‪..‬‬ ‫لكني‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ن�سختها لك من الإي�ستوريجا‪ ،‬و�أخرجتها لك‪ ،‬ق�صة انقالب عاملكم‪..‬‬

‫ك‬
‫مل تكن لت�صبح هذه مع�ضلة‪ ،‬فلتحرتقوا جمي ًعا يف يوم واحد‪..‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫لكن البلوى �أن ما قلب عاملكم‪ ،‬قلب عاملنا بدوره كمثل انقالب عاملكم �أو �أ�شد‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫«حممد»‪..‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫�أتى يف غف َلة من الزمان‪..‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫�أتى بعد ب�ضع قرون انقطع من دنيانا كل الأنبياء الكذبة‪ ،‬لو يعودوا يخرجون كما‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫كانوا‪ ،‬انقطعوا من اجلان‪ ،‬ومن بني الإن�سان‪...‬‬
‫ثم خرج‪..‬‬
‫خرج يف بني الب�رش �إن�سان‪ ،‬مل يكن ك�أي �إن�سان‪..‬‬
‫�إن�سان «حممد»‪..‬‬
‫زلزل بخروجه عقائد اجلن‪ ،‬وعقائد الإن�س‪..‬‬
‫ذ َّلت له �أعلى وجوه يف مع�رش اجلن قاطبة‪..‬‬
‫وحكى عن اجلن ما هو العجب العجاب‪ ،‬وفجع من ذلك العوايل والأقا�صي‪� ،‬أن كيف ي�ؤتى‬
‫ذلك العلم �إن�سان!‪.‬‬
‫مل يكن مثل «�سليمان»‪ ،‬ذلك ال�ساحر الذي غلب �سحره على �أ�شداء اجلن‪..‬‬
‫بل كان �أقرب �إىل نبي‪..‬‬

‫‪248‬‬
‫حممدا كان وا�سمه حممد‪..‬‬
‫«حممد» الأخالق‪« ،‬حممد» ال�صفات‪ً ،‬‬
‫عقيدة واحدة �أخرجها‪..‬‬
‫َ‬
‫و�صل زلزالها امل�شارق واملغارب حتى زلزلت ب�شدتها عر�ش نبي النور‪« ،‬لو�سيفر»‪..‬‬
‫عقيدة الإ�سالم‪..‬‬

‫ع‬
‫وا �أملاه ملا �أتذكر‪ ،‬وا �أنيناه‪..‬‬

‫ص‬
‫وا عذاباه يا بني �شيطان‪ ،‬وا حزناه‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ك�أن ما كنا فيه وعِ�شنا لن�صنعه قد ُر َّد �إىل وجوهنا ف�صف َعنا‪..‬‬

‫كت‬
‫� َأف َل � َ‬
‫أفل‪ ،‬كل جن ٍم وكوكب‪..‬‬

‫ب ل نل‬
‫قمر واحد؛ قمر بني ها�شم‪..‬‬
‫وطلع ٌ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫‪z‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫وال‬


‫ع‬ ‫زي‬

‫‪249‬‬
‫(‪)10‬‬

‫اعتقلوا‬
‫الجني القديم‬
‫لو يعلم «�أمية بن �أبي ال�صلت» عدد اجلن الذين كانوا حوله يف اليمن‬
‫ال�ستخفى يف بيته‪ ،‬ولو يعلم �أقدارهم يف اجلن َ‬
‫لقتل نف�سه ُرع ًبا!‪ ،‬كانوا ال ينفكون‬
‫يتابعون خطواته حتى ملُّوا منه‪ ،‬ر�أوه يف ذلك اليوم يتحادث مع قافلة �آتية من‬

‫ع‬
‫مكة يف رحلة ال�شتاء‪ ،‬ي�ستعلم �أخبار قري�ش‪ ،‬كان يتح َّدث بحالوة منطقه املعتادة‬

‫ص‬
‫وحوله قد ا�ستكرث النا�س‪ ،‬حتى ر�أى امر�أة راكبة على بعري‪ ،‬والبعري يرفع ر�أ�سه‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�إىل املر�أة ويرغو‪ ،‬فنظر «�أمية» �إىل املر�أة وقال لها‪ :‬يا امر�أة �إن البعري يقول لك‬
‫�أن الهو َدج الذي تركبني عليه مغروز يف �أ�سفل بطنه‪ ..‬فا�ستعجب النا�س كيف‬

‫ك‬
‫فهم البعري!‪ ،‬ونزلت املر�أة وك�شفوا عن الهودج ف�إذا فيه حديدة مغروزة يف بطن‬

‫ت‬
‫وبدت وجوه اجلن مت�سائلة‪.‬‬ ‫البعري‪ ،‬وعلت وجوه النا�س نظرات الإعجاب‪َ ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وظلوا وراءه يتبعونه ويتبعون �أخباره حتى ق َّرروا قرا ًرا �أخ ًريا‪ ،‬هذا الرجل‬

‫ش‬
‫ال ُيخرب �أحدً ا �أنه نبي‪� ،‬إمنا يذ ُكر �أنه �سيكون هو النبي‪ ،‬وال يقول هذا غال ًبا �إال‬

‫ر‬
‫للن�ساء الالتي يخرج معهن ويغدو ويروح‪ ،‬وبد�أت نظرة اجلن له تتغري‪ ،‬حتى‬

‫الت‬ ‫و‬
‫رجل‬‫توافقوا �أن يقتلوه‪ ،‬ف�إن كان نب ًيا فقد قتلوه‪ ،‬و�إن كان غري ذلك فقد قتلوا ً‬

‫و‬
‫�أ�ضاع كث ًريا من وقتهم‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وال �سلطان للجن على الإن�س بالقتل �أو بالأذى‪� ،‬إمنا �سلطانهم بالو�سو�سة‬
‫والفتنة‪ ..‬وهذا ما عملوه‪ ،‬حاموا على رجال من العرب ي�ؤزونهم �أ ًّزا حتى ا�ستل‬
‫الرجال �سيو َفهم وعدوا على «�أمية بن �أبي ال�صلت» ورجل كان معه هو حرب‬ ‫ُ‬
‫والد �أبو �سفيان‪ ،‬وكانت مفاج�أة عظيمة للرجلني‪ ،‬لكن القدر كان قد كتب �أن‬
‫«�أمية» �سيخرج من هذا بال خد�ش واحد‪ ،‬فخرج منها ومل مي�سه �سيف!‪ ،‬لكن‬
‫ً‬
‫معزول‬ ‫مات يف هذه العدوة والد �أبو �سفيان‪ ،‬وكان قربه يف املكان الذي مات فيه‪،‬‬
‫بعيدً ا عن قبيلته‪ ،‬وزعمت العرب �أن اجلن قد قالت فيه �شع ًرا قد ا�شتهر‪..‬‬
‫وق�ب ُ�ر ح ��ربٍ مب ��كان قف� � ٍر‬
‫ولي� ��س ُق ��رب َق�ب�ر ح ��رب ق�ب�ر‬
‫�أما اجلن فكانوا يف �ش� ٍأن �آخر؛ اختلطت م�شاعرهم يف «�أمية بن �أبي ال�صلت»‪،‬‬
‫وبد�أ بع�ضهم ُي�صدِّ ق �أن الرجل حقا ُمت ِلف‪ ،‬ف�إن كان نبي يف القوم ف�سيكون‬
‫هذا‪.‬‬
‫‪253‬‬
‫وظلُّوا على �ش�أنهم يدورون يف ال�ضالل حتى �أتى ذلك اليوم‪� ،‬إذ تنبه واحد‬
‫منهم �إىل ما مل يتن َّبه �إليه �أي منهم‪..‬‬
‫كان ذاك «طيفون»‪� ،‬أ�شد مارد فت ًكا يف �أ�ساطري اليونان‪ ،‬قالوا عنه من‬
‫�أوهامهم ما قالوا‪ ،‬قالوا هو املجنون الذي حتدى زيو�س وغالبه على حكم الكون‪،‬‬
‫وهزمه زيو�س ودفنه يف احلمم حتت اجلبال‪ ،‬فل َّقبوه بعدو الآلهة‪ ،‬و�أ�صبح من‬

‫ع‬
‫منبوذا يف حمم الأر�ض‪ ،‬و�أ�صبح هو �سبب كل بركان‬ ‫ً‬ ‫�ساعتها «طيفون» مدفو ًنا‬

‫ص‬
‫�أو زلزال‪ ،‬فلما يغ�ضب تهتز لغ�ضبته الأر�ض‪ ،‬و�إن الإن�سان ليغلو يف خياله‪ ،‬لقد‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كان طيفون فقط ماردًا جن ًيا متمردًا‪ ،‬ولقد �سكن ن�صيبني وما حولها‪ ،‬وخرج يف‬
‫رمته‬
‫وفد ن�صيبني حتى انتهى معهم �إىل «�أمية بن �أبي ال�صلت»‪ ،‬لكن «طيفون» َ‬

‫كت‬
‫ال�صدفة �إىل احلقيقة‪ ،‬رمته هو وحده‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫قدمت من مكة �إىل‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫حدثت ال�صدفة �سري ًعا‪ ..‬يف تلك القافلة القر�ش َّية التي َ‬
‫وح�سن‪ ،‬له‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫اليمن يف رحلة ال�شتاء‪ ،‬جاء فيها �شاب طويل �أبي�ض يف وجهه حمره ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�سمة يف وجهه �أن لديه �شي ًئا ي�س ًريا من الطول يف النابني الأعليني من ثغره‪،‬‬

‫و‬
‫ولديه حدبة ي�سرية يف ظهره‪ ،‬كان ثر ًيا جدً ا يحب التجارة والك�سب‪ ،‬وكان ا�سمه‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫«عبد الرحمن» ‪«-‬عبد الرحمن بن عوف»‪ -‬ولقد �أذهبت به ال�صدفة �إىل �أن‬
‫�ساحر من �سحار اليمن؛ �شيخ قد كرب وبلغ �أرذل العمر‬ ‫�شيخ كبري ِ‬
‫ينزل يف بيت ٍ‬
‫حتى �صار �أ�شبه بالفرخ‪ ،‬وكان ا�سمه ع�سكالن‪.‬‬
‫كان ع�سكالن �شادًا ع�صابة على عينيه‪ ..‬فر�أى «عبد الرحمن» ب�صعوب ٍة‬
‫فقال له‪ :‬انت�سب يا �أخا قري�ش‪ ..‬قال‪� :‬أنا عبد الرحمن بن عوف بن احلارث‬
‫أب�شرك بب�شارة وهي خري لك من التجارة؟‬ ‫بن زهرة‪ ..‬قال ال�شيخ‪ :‬ح�س ُبك‪� ،‬أال � َ‬
‫قال عبد الرحمن‪ :‬بلى‪ ..‬قال‪� :‬أتيتك با َملعجبة و�أب�شرك با َملرغبة‪� ،‬إن اهلل قد بعث‬
‫يف ال�شهر الأول من قومك نب ًيا ارت�ضاه �صف ًيا‪ ،‬و�أنزل عليه كتا ًبا وف ًيا‪ ،‬ينهى عن‬
‫الأ�صنام و يدعو �إىل الإ�سالم‪ ،‬ي�أمر احلق و يفعله‪ ،‬وينهى عن الباطل ويبطله‪،‬‬
‫و�إنه من بني ها�شم‪ ،‬و�إن قومك لأخواله‪ ،‬يا عبد الرحمن وازره و�صدقه‪.‬‬
‫كان رئي اجلن الذي ي�أتي ذلك ال�شيخ قد �أتى له باخلرب قبل �أن ي�سمع به‬
‫اجلن املوفدون من ن�صيبني‪ ،‬وكذا �سحرة ال�شام �سمعوا وعلموا اخلرب‪ ،‬وكذا‬
‫‪254‬‬
‫اخلالة «�سعدى»‪ ،‬ف�آمن �أولئك اجلن و�آمن ب�إميانهم �سحرتهم‪ ،‬وكل هذا ووفد‬
‫ن�صيبني ال يدري من الأمر �شي ًئا‪ ..‬لكن يف تلك ال�ساعة عند ذلك ال�شيخ‬
‫الع�سكالن‪ ،‬كان املارد «طيفون» من �أبناء ن�صيبني مي�شي باجلوار‪ ،‬ور�أى امل�شهد‬
‫كامل‪ ،‬وعرف اخلرب‪ ،‬عرف �أن احلق لي�س ها هنا‪ ،‬بل �إن احلق هناك‪ ،‬يف مكة‪.‬‬ ‫ً‬
‫وكان «طيفون» ماردًا يحب املجد؛ يحب �أن يناله وحده دون غريه‪ ،‬ف�أخفى‬
‫اخلرب عن �أبناء ن�صيبني كلهم‪ ،‬ويف غفل ٍة من اجلميع انطلق وراء «عبد الرحمن‬

‫ع‬
‫بن عوف» �إىل مكة‪ ،‬يريد �أن يعرف �أمر ذلك النبي‪� ،‬أما «عبد الرحمن» فكان‬

‫ري‬‫ص‬
‫الأمر �شاغله طوال طريق ال�سفر‪ ،‬لطاملا �شعر �أن �شي ًئا ما خط�أ فيما يفعله النا�س‬

‫ال‬
‫يف الأر�ض‪ ،‬لكن املال �ألهاه عن النظر يف هذه الأمور‪ ،‬فلما نزل �إىل مكة لقيه «�أبو‬
‫خليل له‪ ،‬وكان مع «�أبو بكر» «عثمان» و«طلحة»‪،‬‬ ‫بكر»‪ ،‬ال�صديق العتيق‪ ،‬وكان ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�آخذا بيدهما �إىل ر�سول اهلل‪ ،‬فقال «عبد الرحمن»‪ :‬يا �أبا بكر‪ ،‬ذرين � َ‬
‫أحدثك‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫أمر لدي عجيب‪ ...‬وحكى له من �أمر ع�سكالن‪ ،‬فقال «�أبو بكر»‪ :‬يا بن عوف‪،‬‬ ‫ب� ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ر�سول‪ ،‬و�إنا ما�ضون �إليه ِ‬
‫فام�ض‬ ‫هذا حممد بن عبد اهلل‪ ،‬بعثه اهلل �إىل خلقه ً‬

‫ش‬
‫معنا‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫طويل جدً ا كثيف ال�شعر مل ُيجاوز‬‫فبينا هم على طريقهم �إذ ر�أوا فتى �أ�سمر ً‬

‫و‬
‫أي�ضا مل يجاوز الثالثني‪ ،‬ومعهما‬ ‫ال�سابعة ع�شرة‪ ،‬ومعه �شاب يافع كثري ال�شعر � ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫َكهل يف مالحمه �سمت بني ها�شم‪ ،‬قال «�أبو بكر»‪ :‬ه�ؤالء �أبناء عمات ر�سول‬
‫اهلل‪ ..‬كان الأ�سمر ال�صغري ال�سن هو «الزبري» ‪«-‬الزبري بن العوام»‪ -‬فتى ا�شتُهر‬
‫بق�س َوة �أمه عليه‪�« ،‬صفية بنت عبد املطلب» عمة النبي‪ ،‬كانت ت�ضربه �ضر ًبا‬
‫مدلل‪ ،‬وقد كان لها ما �أرادت‪ ،‬فكان «الزبري» �شديدً ا‬ ‫ُم�ؤذ ًيا حتى ال يكون ناع ًما ً‬
‫قو ًيا على �صغره‪ ،‬والأو�سط الكثري ال�شعر هو «عبد اهلل بن جح�ش»‪ ،‬ابن �أميمة‬
‫بنت عبد املطلب عمة النبي‪ ،‬والكبري الذي ي�شبه الها�شميني هو «�أبو �سلمة»‪ ،‬ابن‬
‫العمة الثالثة لر�سول اهلل «ب ّرة بنت عبد املطلب»‪ ،‬وكان �أخو النبي من الر�ضاعة‪،‬‬
‫أوقدت يف نف�س «الزبري» و«عبد اهلل» و«�أبو‬ ‫وكلمتني من «�أبي بكر» مل يزيدهما � َ‬
‫اهتماما عجي ًبا فا�ستمعوا �إىل بقية الكالم وا�ستح�سنوه‪ ..‬وك�أنَّ «�أبا بكر»‬
‫ً‬ ‫�سلمة»‬
‫كان يقول �سح ًرا �أو ك�أن نفو�س �أولئك كانت خمتارة من عند ربها!‬
‫وم�ضى �ستة رجال مع ال�صديق‪ ،‬لكنه فج�أة توقف‪ ،‬ونظر �إىل ناحية معينة‬
‫وثبت عينيه!‪ ،‬كان هناك يقف ابن الرجل الأنور‪ ،‬ابن زيد بن عمرو بن نفيل‪،‬‬
‫«�سعيد» ‪�«-‬سعيد بن زيد»‪ ،-‬ذاك الذي دعا له �أبوه املنا�ضل ملا كان ميوت وحده‬
‫‪255‬‬
‫كنت حرمتني ُ�صحبة نبيك فال حترم منها ابني‬ ‫يف ال�صحراء‪� ،‬إذ قال‪ :‬رب �إن َ‬
‫�سعيدً ا‪ ..‬وكان «�سعيد» ُي�شبه �أبوه‪ ،‬كان واق ًفا مع اثنني من �أترابه يتحادثون‪،‬‬
‫وكلهم يف نهاية الع�شرين من العمر‪� ،‬شباب يافعون‪� ،‬أحدهم كان مميزً ا جدً ا‪،‬‬
‫ريان و�سيم عليه ثياب ك�أنها من حرير‪ ،‬يقف ب�شعر مرجل وعطر فائع‪ ،‬كان‬
‫ذاك الفتى املنعم الواقف مع «�سعيد» هو حديث ح�سناوات مكة ول�ؤل�ؤة ندواتها‬

‫ع‬
‫و جمال�سها‪« ،‬م�صعب» ‪«-‬م�صعب بن عمري»‪ ،-‬وثالثهم كان فتى نحي ًفا خفيف‬

‫ص‬
‫اللحية �صاب ًغا �شعره باحلناء وله عقي�صتني م�ضفرتني يقو�سهما خلف �أذنيه‪ ،‬وله‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يد عروقها ظاهرة من عمله يف حفر القبور‪ ،‬كان ذاك «�أبو عبيدة» ‪�«-‬أبو عبيدة‬
‫بن اجلراح»‪.-‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وبخط َو ٍة ال ترتدد‪ ..‬حترك «�أبو بكر» �إىل «�سعيد بن زيد» ومن معه‪ ،‬فذ َّكر‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�سعيدً ا بوالده‪ ،‬وكالم والده‪ ،‬وح َّدثه ومن معه عن النبي الأمني‪ ،‬و�إن �أبا بكر �إذا‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫حت َّدث عن النبي يكون ك�أن قلبه هو الذي يتحدث‪ ،‬فيلفت ب�صائر القلوب �إليه‪..‬‬

‫ش‬
‫ر‬
‫كان «�سعيد» �أول من ت�أ َّثر لأن والده كان قد رباه على النبي املنتظر‪ ،‬و«م�صعب‬

‫الت‬ ‫و‬
‫بن عمري» الذي كان ُمن َّع ًما يف ثياب ورغد �أ�صبحت عينيه اجلميلتني تبديان‬

‫و‬
‫اهتماما ب�أمر مل ي� ِأت على خاطره من قبل‪ ..‬و«�أبو عبيدة بن اجلراح» ال�شاب‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫مي�ض من الوقت �شيء حتى �ضم‬ ‫العفي بدا ُمنتب ًها �إىل �أبي بكر بكل كيانه‪ ،‬ومل ِ‬
‫«�أبو بكر» ثالثة �آخرين‪ ،‬وك�أنه يف ذلك اليوم كان مي�شي يف طريق دانية عليها‬
‫قطوف من اجلنة فجعل يقطفها واحدة واحدة‪.‬‬
‫وانطلق «�أبو بكر» بت�سعة من زينة الرجال �إىل النور املحمد‪ ،‬كانوا مي�شون‬
‫ووراءهم عني تنظر ومتني نف�سها باملجد‪ ،‬عني جني‪« ،‬طيفون» الذي �سمع كل‬
‫هذا ور�أى‪ ،‬وعلم �أنه قد وقع على الكنز املخبوء الذي نزلت لأجله عوايل اجلن‬
‫تقطعت كالكلهم‪ ،‬فانطلق «طيفون» وراء «�أبي بكر»‬ ‫من ن�صيبني يبحثون حتى َّ‬
‫و�صحبه �إىل حيثما انطلقوا‪.‬‬
‫و�أتوا عند الهادي مينون �أنف�سهم بر�ؤيته‪ ،‬فلما ر�أوه كان بها�ؤه �أجمل مما‬
‫ارت�سم يف خيالهم‪ ،‬و�أجمل مما يذكرون من ر�ؤيته يف ال�سابق‪ ،‬فعر�ض عليهم‬
‫الإ�سالم وقر�أ عليهم القر�آن‪ ،‬ومل يره «طيفون» حتى خرج من بيته ال�شريف‪،‬‬
‫‪256‬‬
‫هنالك ر�آه وملأ عينيه منه ومل�سه يف قلبه �شيء لكنه كتمه‪ ،‬بهي جميل املحيا‬
‫ق�سي ًما يف اجل�سم كان «حممد»‪ ،‬وك�أنه قد خلق كما ي�شاء‪ ،‬فحتى مارد اجلن‬
‫العتيد توقف برهة يف قلبه ينظر‪ ،‬ما هكذا اعتاد �أن يكون الب�شر!‪..‬‬
‫وملا �أ�سلم الت�سعة �أ�سلم نفر من قرابة الت�سعة‪� ،‬أ�سلمت عمات النبي ب�إ�سالم‬
‫�أبنائهن‪ ،‬ف�أ�سلمت «�صفية» القوية ال�شديدة �أم «الزبري بن العوام» و�أخت «حمزة»‪،‬‬

‫ع‬
‫و�أ�سلمت «�أميمة» الف�صيحة �أم «عبد اهلل بن جح�ش»‪� ،‬أ�سل َمت هي وابنتها «زينب‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫بنت جح�ش»‪ ،‬و�أ�سلمت «�أروى» ال�شاعرة املجيدة �أخت «عبد اهلل» وا ِلد النبي‪،‬‬

‫ثم �أ�سلمت الزوجات‪ ..‬ا«ل�أم �سلمة» زوجة «�أبو �سلمة»‪« ،‬فاطمة بنت اخلطاب»‬
‫وكانت العمة الأخرية «برة» والدة �أبو �سلمة متوفاة‪.‬‬

‫كأخت «�سعيد بن زيد بن نفيل»‪« ،‬عاتكة بنت‬


‫ب‬ ‫ت‬
‫على الثمانية ع�شر الأولني فكانوا �أربعة ل‬
‫زوجة «�سعيد بن زيد بن نفيل»‪ ،‬ثم �‬

‫ل‬
‫وثالثنينم�سل ًما يف �أيام معدودة‪.‬‬
‫�سبعة على الت�سعة ف�أ�صبحوا �ستة ع�شر‪ ،‬زادوا‬ ‫زيد بن نفيل» الرجل الأنور‪ ،‬فزاد‬

‫�أما «طيفون» املارد فقد نظر �إىل الت�سعة يومهاشثمروىل بعيدً ا‪ ،‬باجتاه اليمن‪،‬‬
‫وال وت‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫ل ُيخرب عن «حممد»‪.‬‬

‫بغ�ضب كما ع‬
‫يلتفت املردة‬ ‫ٍ‬ ‫فالتفت‬
‫َ‬
‫ �إىل �أين �أنت ذاهب يا �أ�صلع؟‬
‫ب�صوت حازم من وراء «طيفون»!‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫قيل هذا‬
‫فنظر ف�إذا جني واقف �أمامه وقفة الغ�ضب‪ ،‬كان ذاك «عمرو بن جابر»‪ ،‬واق ًفا‬
‫له ك�أمنا مينعه من املرور‪ ..‬قال «عمرو»‪:‬‬
‫ُخب اللئام‬
‫ �إىل �أين امل�سري يا �أ�صلع؟ �إىل �أتباع الأمري ال�سفيه الإبلي�س؟ فت ِ‬
‫أمر مل ي�أذن اهلل له �أن ُيع َلن؟‬
‫ب� ٍ‬
‫كان «عمرو» يعرف �أنه يقف �أمام مارد من نار‪ ،‬و�أنه لي�س كف�ؤا له وال حتى‬
‫ن�صف كف�ؤ‪ ،‬لكن قلبه وروحه كان فدا ر�سول اهلل و�أمر اهلل‪ ،‬وعزم �ألن مير ذلك‬
‫الأ�صلع العارم من هنا �إال على جثته‪ ،‬وكانت جمابهة غري عادلة‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪257‬‬
‫مقاعد م�صفوفة بعناية على �شبه م�سرح دائري‪ ،‬خافية يف ظالم فال ترى‬
‫اجلال�سني عليها‪ ،‬ومن�صة يف منت�صفها ك�أنها من�صة م�سرح‪ ،‬تقف عليها وحدها‬
‫وال�ضوء متوجه �إليها؛ «ما�سا» �صاحبة الروح الرقيقة‪� ،‬إن �شر الأعمال اخليانة‪،‬‬
‫و�أ�شر ال�شر �أن تخون الأمري‪� ،‬أمري النور‪ ،‬فلت ُكن من الكفار به كما �شئت‪ ،‬لكن‬
‫ال تدخل يف نعيمه ورفاهته وتتبعه وتق�سم على الطاعة ثم تخرج على كل هذا‬

‫ع‬
‫وتتمرد بل تع�صى وتخون‪ ،‬ف�إن فعلت ف�سيكون هذا مو�ضعك‪ ،‬و�سط �شخو�ص‬

‫ص‬
‫جلو�س على مقاعد ملتفة يف ال�سواد ال تبدو منهم �سوى عيونهم‪ ،‬هم يعلمون‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫و�أنت تعلم �أنهم �سيكونون �آخر ما ترى من هذه الدنيا‪ ،‬اجلوداكيوال‪ ،‬املحكمة‪،‬‬
‫بل املقتلة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لكن العيون املتوارية يف طرف الظالم � َّأج َلت احلكم على «ما�سا»‪ ،‬وق�ضوا ب�أن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الأ�شقر اليماين الذي ُو ِجد بجوارها قد �أدين مبثل الذي �أدينت به‪ ،‬وقالوا ائتوا‬

‫ش‬
‫به للتجرمي والت�أثيم‪ ،‬فهو الغرمي اخل�صيم للنور ولأبناء النور‪ ،‬اعتقلوا اجلني‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫القدمي‪ ،‬اعتقلوا «عمرو بن جابر»‪ ،‬ولتُ�سندوا الأمر �إىل فوج ن�صيبني‪ ،‬ف ُهم �إليه‬

‫و‬
‫�أقرب‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فحط بني زمرة اجلن املجتمعني يف‬ ‫ونزل مبعوث اجلن من اجلوداكيوال‪َّ ،‬‬
‫�ضاللهم حول «�أمية بن �أبي ال�صلت»‪ ..‬قال‪ :‬يا �أبناء ن�صيبني‪� ،‬إن الأمر قد‬
‫رجل له عزم‪ ،‬لي�أت �إلينا بعمرو اليماين بن جابر‪،‬‬ ‫�صدر‪� ،‬أن �أر�سلوا من بينكم ً‬
‫ف�إن حكم احلتف ب�ش�أنه قد ح�صل‪ ..‬ظهرت ب�سمة وا�سعة على وجه «�سيدوك»‪،‬‬
‫وقال‪ :‬دعوا يل هذا الأمر‪ ..‬لكن«ميتاترون» �أوق َفه بنظرة‪ ،‬ثم نظر«ميتاترون»‬
‫�إىل �أحد اجلن‪ ،‬و�أ�شار له بدون كلمة �أن ينطلق؛ �أ�شار«ميتاترون» �إىل الإثم‬
‫املتج�سد‪� ،‬أ�شار �إىل «بليعال»!‬
‫�شيطان قدمي دميم‪ ،‬تع َّدى على وجدان بني �إ�سرائيل حتى كتبوه يف �سبعة‬
‫وع�شرين مو�ض ًعا من التوراة‪ ..‬كتبوا �أنه ال�شر والأذى‪ ،‬وال�ضالل والتلف‪،‬‬
‫و�سطروا له ال�سطور يف �صحف قمران‪ ،‬قالوا ذاك الذي كان يخدمه �سحرة‬
‫فرعون‪ ،‬و�أن امل�سيح املنتظر �سيدمره يف �آخر الزمان‪� ،‬شيطان ا�سمه «بليعال»‪،‬‬
‫‪258‬‬
‫حتى قدامى الن�صارى ذكروه فقالوا هذا الذي يف �أ�صل اجلحيم‪ ،‬منظور فيها‬
‫مع ‪� 666‬شيطان‪ ،‬وله يف مكاتيب ال�سحرة ِذكر ومكان‪ ،‬ف�إن الكتاب الثالث يف‬
‫�إجنيل ال�شيطان هو كتاب بليعال‪ ،‬ولقد نزل «بليعال» اليوم يف مكة؛ نزل كما‬
‫تتنزل ال�شياطني‪.‬‬
‫‪z‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نزل الأثيم �إىل مكة وطاف بها طوفة واحدة من �أعالها فر�آه‪ ،‬بل ر�آهما‪،‬‬

‫ري‬
‫التفت‬
‫«عمرو بن جابر» و«طيفون» يقفان متواجهني‪ ،‬فلما اقرتب من مكانهما َ‬

‫ال‬
‫�إليه كليهما وكان حل�ضوره طاقة زعزعت ذرات الهواء‪ ،‬فنزل نزلة غا�ضبة‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ك‬
‫َ‬

‫ت‬
‫أخرجك عن ال�سرب؟ قب�ض «عمرو بن جابر»‬ ‫ما �ش�أنك هنا يا «طيفون»‪ ،‬ماذا �‬

‫ب‬
‫أح�س بهول الورطة التي َ‬
‫�سقط فيها‪ ،‬كان يف البدء �أمام مارد‪� ،‬أما االن‬ ‫َ‬
‫قب�ضته و� َّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫فهو �أمام مارد وعفريت من �أ�صل اجلحيم‪ ..‬لكن «عمرو» �أرخى قب�ضته حلظة‪،‬‬

‫ش‬
‫ف�إن «طيفون» كان قد حترك من مكانه وتهجم على «بليعال»‪ ،‬هجم ًة مفاجئة مل‬

‫و‬ ‫ر‬
‫كان «طيفون» ي�شتعل نا ًرا من دواخله حتى بدت يف ا‬
‫عروقهل وت‬
‫تكن يف ح�سبان «بليعال» فراغ منها وتفاداها‪ ،‬وت�صارع اجلحيم مع اجلحيم‪،‬‬
‫توقف «عمرو» حمله وهو ال يدري ما الذي يفعله «طيفون» بال�ضبط وملاذا!‬

‫�أن ينفرد باملجد‪ ،‬لو ع ِلم «بليعال» باخلرب ف�سي�شاركه املجد ‪-‬جمدزيع‬
‫وثناياه‪ ،‬كان يريد‬
‫«لو�سيفر»‪،-‬‬
‫وا�ضحا‪ ..‬وتع َّرق‬
‫ً‬ ‫وال يوجد �أعظم من جمد «لو�سيفر»‪ ،‬لكن فارق القدرة كان‬
‫«عمرو بن جابر» وهو ُ‬
‫ينظر �إىل ما فعله «بليعال» يف «طيفون»‪ ،‬كان «بليعال» هو‬
‫املتج�سد‪ ،‬وكان يبدو �أن نريان «طيفون» تلتهب فت�أكل ج�سده‪ ،‬ثم امتدت‬
‫ِّ‬ ‫الأذى‬
‫يد «بليعال» الي�سرى ك�أنها الوتد ف�أم�سكت بفك «طيفون» حتى اختل اتزان املارد‬
‫وارجتف‪ ،‬ثم دفع «بليعال» بيده دفعة ثانية �أ�شد من الأوىل فدخلت يف فك‬
‫«طيفون» وانغر�ست كمثل غر�س الرمح فت�ضاءلت نريان «طيفون» وبدت عليه‬
‫عالمات االنك�سار‪ ،‬و�أحنى ر�أ�سه �إىل الوراء فبدت مدحورة وهي داخلة فيها يد‬
‫«بليعال» الواحدة املمدودة‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫تك�سرت لها جنبات فك «طيفون» وفقد الوعي‪ ..‬ثم التفت‬ ‫كانت تلك غر�سة ٍيد َّ‬
‫«بليعال» �إىل «عمرو بن جابر» الذي تراجع تراج ًعا غريز ًيا‪ ،‬قال «بليعال»‪ :‬يبدو‬
‫�أنك يا �أ�شقر �ست�ضيف واحدً ا �آخر �إىل قائمة امل�سجونني ب�سببك يف اجلوداكيوال‪،‬‬
‫نظر «عمرو» �إىل «طيفون» ال�ساقط على الأر�ض ومل يتك َّلم‪ ..‬فقال «بليعال»‪:‬‬
‫أي�ضا �ستجتمع معهم‪ ..‬كان كل ما ي�شغل «عمرو» هو �أن وقوفهما‬ ‫ويبدو �أنك �أنت � ً‬
‫يف هذا املكان هو على بعد خطوة واحدة من بيت النبوة‪ ،‬كان يخاف �أن يرى‬

‫ع‬
‫«بليعال» �شيئا‪ ،‬ثم هد�أت نف�س «عمرو» �إذ تذكر �أن اهلل �إن �أراد �أن يخفي �أم ًرا‬

‫ص‬
‫�سيخفيه‪ ،‬و�إن �أراد �أن يك�شفه �سيك�شفه‪ ..‬قال «بليعال»‪� :‬إن جنيئة طائفة الأرواح‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫«ما�سا هارينا»‪ ،‬حتاكم يف اجلوداكيوال بتهمة اخلديعة‪ ،‬و�أنت قد �صدر الق�ضاء‬
‫ب�ش�أنك �أنك ل�شريعتنا عدو مبني‪ ،‬وقد جاء الأمر بت�سليمك �إىل اجلوداكيوال‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مل ُيع ِّلق «عمرو» و�إن كان ت�أ َّثر مب�صري «ما�سا» وغ�ضب غ�ضب ًة خفية ل�شعوره‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أن هذا ب�سببه‪ ،‬لكنه ت�صنع االنهزام وم�شى مع «بليعال» �شيطان الأذى الذي كان‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫يجر وراءه املارد «طيفون» ج َّر الذل‪ ،‬كل ما كان يهم «عمرو» �أن يبعد «بليعال» عن‬

‫ش‬
‫هذا املكان‪ ،‬بل عن هذه البلدة كلها‪ ،‬و �إن كان الثمن �إعدامه يف اجلوداكيوال‪..‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫وبرغم كل الذي ي�سمعه عن اجلوداكيوال �إال �أن نف�سه مل ترجف رجفة واحدة‪.‬‬

‫ت‬ ‫وعلى �أعتاب مكة نزل رجل ظاه َرة عليه وع َثاء ال‬
‫ال�سفر‪..‬وتراخى على راحلته‬
‫‪z‬‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫م َّر معه يف رحلته و يذكر ما �أخرجه من مكة‪ ،‬كان ذاك هو الرجل ع‬
‫كان يذكر كل ما‬
‫احلي الوحيد‬
‫من التعب ملا دخل الديار‪ ،‬وكان ُيع ِّلق على �صدره �صلي ًبا فاخ ًرا‪،‬‬

‫الباقي من الأربعة الأنوار «عبيد اهلل بن جح�ش»‪ ،‬ولقد ارت�ضى الن�صرانية دينا‪،‬‬
‫ولقد بلغه موت �أ�صحابه الثالثة الذين كانوا معه يف الرحلة‪« ،‬ورقة» و«زيد»‬
‫و«عثمان بن احلويرث»‪ ..‬فكان يتذكرهم ويتذكر �سريتهم‪.‬‬
‫كان «عبيد اهلل بن جح�ش» هو زوج «�أم حبيبة بنت �أبو �سفيان»‪ ،‬وكان «عبيد‬
‫اهلل بن جح�ش» يف نف�س الوقت ابن عمة ر�سول اهلل‪�« ،‬أميمة بنت عبد املطلب»‪،‬‬
‫وما كان يدري �أن «�أحمد» قد ُبعث‪ ،‬وما كان يدري �أنه هو ابن عمته‪ ،‬لكنه علم‬
‫اخلرب فو ًرا ملا دخل بيته‪ ،‬ف�أمه «�أميمة» �أ�سل َمت و�أخوه «عبد اهلل» و�أخته «زينب‬
‫بنت جح�ش»‪ ،‬نظر له �أخوه «عبد اهلل» و�إىل ال�صليب الذي ُيع ِّلقه على �صدره‪،‬‬
‫وقال له‪ :‬واهلل يا عبيد �إن ذلك الذي كنت عنه تبحث وتتح َّدث يف �أيامك القدمية‬
‫‪262‬‬
‫قد بعثه اهلل من بيننا‪ ،‬من بيتنا‪ ،‬و�إنه ملحمد بن عبد اهلل‪ ،‬ابن عمتك‪ ،‬ولقد‬
‫�آمنتُ به �أنا و�أمك �أميمة و�أختك زينب‪.‬‬
‫ينظر ويقارن بني هذا الأمر وبني‬ ‫تو َّقف «عبيد اهلل» ومل يحر جوا ًبا‪ ..‬حتى ُ‬
‫ما حتت يديه من دين وما على رقبته من �صليب‪ ،‬ف�أتى �إىل ر�سول اهلل الب�شري‬
‫املحمد‪ ،‬فوجد النبوة وك�أنها تفي�ض من بني عينيه‪ ،‬النبي املناحما املعزي‬
‫الأحمد‪ ،‬بل �إن ا�سمه املحمد‪ ،‬لكنه لي�س من بني �إ�سرائيل‪� ،‬أفيكون اليهود ح ًقا‬

‫ع‬
‫متع�سفون يف احتكار النبوة لأنف�سهم دو ًنا عن جميع الأمم؟ �إن تع�سفهم هذا ال‬

‫ري‬‫ص‬
‫يتفق مع عدالة اهلل‪ ،‬كان يح�س بهذا لكنه يخفيه‪ ،‬املناحما الثاين الذي َب َّ�شر به‬

‫ال‬
‫ميجد «امل�سيح» ِّ‬
‫ويب�شر‬ ‫الإجنيل قد نزل اليوم ليحاج العامل على اخلطية‪ ،‬نزل ِّ‬
‫متاما كما جاءت ب�شارة الإجنيل‪...‬‬ ‫بنزول «امل�سيح»‪ ،‬نزل وال يتكلم �إال مبا ي�سمع‪ً ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫نظر «عبيد اهلل بن جح�ش» وهو يفكر يف كل هذا �إىل مالمح «حممد»‪ ،‬والنور‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ينور �صدره رويدً ا رويدً ا‪.‬‬
‫خرج احلق‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫النبي الذي تنتظره اليهود‪ ،‬وب�شرت به التوراة‪ ..‬قالوا هو الذي ُي ِ‬

‫ر‬
‫للأمم‪ ،‬قالوا لي�س ب�صخاب وال ي�صيح وال ي�سمع يف ال�شارع �صوته‪ ،‬ال يكل وال‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ينك�سر حتى ي�ضع احلق يف الأر�ض‪ ،‬قالوا هو الذي يحفظه اهلل ويجعله نورا‬

‫و‬
‫للأمم‪ ،‬يفتح به عيون العمي ويخرج من احلب�س امل�أ�سورين يف الظلمات‪ ،‬قالوا‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ب�شرت به مكاتيب اليهود يف‬ ‫هو الذي ي�سكن قيدار �أر�ض العرب‪ ،‬هو النبي الذي َّ‬
‫قمران‪ ..‬فكتبوا �أنه يتيم‪ ،‬و�أن بني كتفيه �شامة‪ ..‬نظر «عبيد اهلل بن جح�ش» وهو‬
‫ُيف ِّكر يف هذا �إىل مالمح «حممد»‪ ،‬و�إىل �شامة «حممد»‪ ،‬وال�سنا من نوره قد غزا‬
‫قلبه وا�ستحوذ‪.‬‬
‫و�شردت عيونه وهو ينظر‪� ..‬أفت�صدق يف ابن عمتي نبوات الكهنة؟ �أهو من‬
‫غالب بن فهر من جهة الأم مثل �أمية بن �أبي ال�صلت‪ ،‬ال بل كان حممد من غالب‬
‫بن فهر من جهة الأب ومن جهة الأم �أي�ضا‪.‬‬
‫ثم ا�ستمع «عبيد اهلل» �إىل ما نزل من القر�آن الكرمي‪ ..‬وك�أنه نزل فغ�سل‬
‫ما علق ب�صدره من كدر‪ ،‬ال توجد ذوات ت�صدر من اهلل لتخلق العامل‪ ،‬ال يوجد‬
‫عوامل �أربعة متلألئة فيها عزير يخلق العامل‪ ،‬ال يوجد ذات امل�سيح ال�صادرة التي‬
‫تخلق العامل‪ ،‬بل يوجد ذات اهلل الأحد‪ ،‬اهلل ال�صمد‪ ،‬مل ي ِلد منه ذات ومل ُيولد‬
‫من ذات‪ ،‬ومل يكن له كف ًوا �أحد‪� ،‬إمنا �أمره �إذا �أراد �أن يخلق �أن يقول كن فيكون‬
‫ما �أراد‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫كان قد نزل حتى ذلك الوقت كثري من القر�آن يف�صح عن عقيدة الإ�سالم‬
‫ويحكي ق�ص�ص الأنبياء‪ ،‬ولعمري لقد و�ضع «عبيد اهلل» يده على جبينه من‬
‫ح�سرته على �سوء و�شناعة ما كان ي�سمع من ق�ص�صهم يف التوراة‪ ،‬الآن �سمع‬
‫الق�ص�ص وهي لفطرته دانية‪ ،‬ال توجد خطايا للأنبياء‪ ،‬بل �إنهم بريئون من هذا‬
‫ب�شر عاديون‬‫ال�شر براءة ال�شم�س من اللم�س‪ ،‬لي�س لأنهم فوق الب�شر‪ ،‬بل هم َ‬
‫لهم �شهوات كبقية الب�شر لكنهم بلغوا درجة من ال�صالح والتقوى ورقي الروح‬

‫ع‬
‫واخلوف من اهلل وحب اهلل ما مينعهم عن اخلط�أ‪ ،‬لهذا ا�صطفاهم اهلل من‬

‫ص‬
‫بني الب�شر فجعلهم �أنبياءه‪ ..‬فهم مع�صومون باجتهادهم الب�شري لي�س بطاقة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫خارقة �أعطاها اهلل لهم فميزهم بها عن الب�شر‪.‬‬
‫«�آدم» نبي �أخط�أ خط�أ ب�سيطا وا�ستغ َفر اهلل فغفر له ومل يورث خطيئته لأحد‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�ضاجع احليوانات كما يقول التلمود‪...‬‬
‫كما يف الإجنيل ومل ُي ِ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و«نوح» نبي مل ي�سكره حفيده كنعان ومل يعريه ومل يلعن اهلل على ل�سانه ن�سل‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫حفيده «كنعان» الذي فيه كل الأمم التي �سكنت ال�شام كما قيل يف التوراة بل �إن‬

‫ر‬
‫كل الأن�سال عند اهلل �سوا�سية‪ ،‬وقد �أر�سل اهلل الطوفان على قوم «نوح» وحدهم‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ولي�س على العامل كله كما يف التوراة؛ �أر�سله عليهم ملا كذبوا بعد �ألف �سنة من‬

‫و‬
‫حماوالت «نوح» لدعوتهم لي�س ب�سبب �أن اهلل غ�ضب على العامل من خطيئة‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ال�صاحلني مع الن�ساء كما يف التوراة‪...‬‬
‫و«�إبراهيم» نبي هو �أ ّمة وحده‪ ،‬و«�إ�سماعيل» ابنه نبي �صالح �صادق الوعد‬
‫رجل همج ًيا يحاول قتل �أخيه «�إ�سحق» ومل يعبد‬ ‫ي�أمر �أهله بال�صالح ولي�س ً‬
‫الأ�صنام يوما كما قيل يف التلمود‪ ،‬و�أخوه «�إ�سحق» هو �أي�ضا نبي‪ ،‬و«لوط» نبي‬
‫يزن ببناته ومل ت�سكره بناته ومل ي�ضاجعنه واحدة‬ ‫كرمي �آتاه اهلل حك ًما وعل ًما ومل ِ‬
‫ن�سل كما يف التوراة‪ ،‬ومل يكن ديو ًثا كما يف التلمود‪،‬‬ ‫تلو الأخرى ليقمن منه ً‬
‫ليح�صل على البكورية من �أخوه الهمجي‬ ‫ُ‬ ‫يخدع �أبوه‬
‫و«يعقوب» نبي �صالح مل َ‬
‫«عي�سيو» والد الأدوميون �أعداء بني �إ�سرائيل كما يف التوراة‪.‬‬
‫ال توجد �أن�سال ملعونة يف ن�سبها زنا وفح�ش‪ ،‬ال توجد دياثة وزنا حمارم‪ ،‬ال‬
‫توجد ق�ص�ص جن�سية‪...‬‬
‫يزن ب�سرية‬
‫�أبناء «يعقوب» مل يرتكبوا زنا حمارم‪« ،‬راوبني ابن يعقوب» مل ِ‬
‫يزن مع «ثامارا» زوجة ابنه التي‬‫�أبيه بلهة كما يف التوراة‪« ،‬يهوذا ابن يعقوب» مل ِ‬
‫‪264‬‬
‫تن َّكرت له يف �شكل موم�س لت�صحح له ن�سله لأنه كان يتزوج كنعانيات كما تقول‬
‫التوراة ‪.‬‬
‫ال يوجد قتل ن�ساء ارتكبه «مو�سى» ب�سبب زنا اليهود معهن‪ ،‬وال قتل «مو�سى»‬
‫ف�صيحا‬
‫ً‬ ‫الرجال والن�ساء والأطفال من الكنعانيني ب�أمر اهلل‪ ،‬و«هارون» كان نب ًيا‬
‫ومل ي�ص َنع العجل لقومه يف غياب «مو�سى» �إمنا �صنعه لهم «ال�سامري»‪ ،‬و«ي�شوع»‬

‫ع‬
‫خليفة «مو�سى» مل يقتُل ‪� 13‬شعبا واحدا وراء الآخر بكل من فيه من ن�ساء و�أطفال‬

‫ص �أوا ًبا‪ ،‬مل ِ‬


‫ري‬
‫َّ‬
‫ور�ضع و�شيوخ وحيوانات ب�أمر اهلل كما يف التوراة‪.‬‬
‫يزن بامر�أة قائده �أوريا‪ ،‬ومل يقتُل �شعبه ب�سبب‬
‫خطيئة �إعجابه بكرثة ال‬
‫و«داوود» كان نب ًيا‬

‫ك‬
‫�شعبه ورغبته يف �إح�صائهم كما ُن ِ�سب له يف التوراة‪..‬‬

‫و�سخر له اجلن والريح ومل يتو َّدد تب�صناعة معابد الأ�صنام لن�ساء املمالك‬
‫ب نل‬
‫و«�سليمان» كان نب ًيا �أوا ًبا مثل �أبيه �آتاه اهلل احلكم والعلم وعلمه منطق الطري‬

‫شيغت�صب �سراري �أبيه �أمام‬


‫آخرين مل يزنوا زنا حمارم‪« ،‬امنون‬ ‫ل‬ ‫املجاورة كما يف التوراة‪ ..‬و�أبناء «داوود» ال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫يزن ب�أخته‪�« ،‬أب�شالوم بن داوود» مل‬ ‫بن داوود» مل ِ‬

‫تلك التوراة التي ي�ؤمن بها اليهود وي�ؤمن بها الن�صارىتووي�سمونها العهد‬
‫�شعب �إ�سرائيل كما يف التوراة‪.‬‬

‫ع‬
‫«حممد»‪...‬‬‫القدمي بكل ما فيها من هذه ال�شنائع‪ ،‬ال يوجد �شيء من هذا عندزي‬
‫كذلك «يحيى» نبي ولي�س جمرد واعظ كما يف الإجنيل‪ ،‬و«عي�سى» نبي وجيه‬
‫هو امل�سيح املنتظر‪ ،‬وهو كلمة اهلل وروح منه‪ ،‬يعني خملوق بكلمة اهلل بدون �أب‪،‬‬
‫وهو روح من اهلل ت�شري ًفا له على كل روح‪ ،‬م�ؤيد بالروح القد�س‪ ..‬والروح القد�س‬
‫هو املالك «جربيل» ولي�س �أحد ذوات اهلل وال ينبغي له؛ بل هو مالك �أ َّيد اهلل به‬
‫خا�صا؛ فكان «عي�سى» بهذا الت�أييد ُيك ِّلم النا�س يف املهد ويخلق‬
‫«عي�سى» ت�أييدً ا ً‬
‫من الطني كهيئة الطري فينفخ فيها فتكون ط ًريا ويحيي املوتى وبربيء الأك َمه‬
‫والأبر�ص ب�إذن اهلل‪ ،‬لكنه لي�س ذاتًا من ذوات اهلل ولي�س �صاد ًرا منه ومل يخلق‬
‫العامل ومل يتج�سد اهلل به‪ ،‬ومل يقتله النا�س على ال�صليب و�إمنا ُ�ش ِّبه لهم‪ ،‬بل‬
‫رفعه اهلل �إليه و�سينزل يف �آخر الزمان ليحقق نبوءة اهلل يف امل�سيح املنتظر‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫ال توجد خطية و َّرثها «�آدم» لكل ذريته امل�ساكني الذين ال ذنب لهم فيها‪..‬‬
‫ال توجد كهنة و�سيطة تعرتف لهم بخطيتك ف�إذا غفروا لك غفر لك اهلل‪� ،‬إمنا‬
‫�أنت ُتدِّ ث اهلل يف �أي وقت وت�شتكي له يف �أي وقت‪ ،‬ويغفر لك يف �أي وقت فور �أن‬
‫يح�صل يف قلبك الندم‪ ..‬اهلل كرمي عظيم قريب جميب‪.‬‬
‫ال توجد ذبائح حترق كاملة حتى تتفحم لأجل اهلل كما يف التوراة‪ ..‬وال ذبائح‬
‫تذبح لي�أكل منها الكهنة وحدهم‪ ..‬وال ذبائح خم�صو�صة بالرهبان ال يجوز �أن‬

‫ع‬
‫يذبحها غريهم‪� ..‬إمنا الذبائح يذبحها �أي �أحد بطريقة رحيمة غري موجعة‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫تذبح ليت�ص َّدق بلحمها على الفقراء وامل�ساكني‪ ،‬فال ينال اهلل من حلومها �إمنا‬

‫ال‬
‫يناله التقوى ممن ذبحها‪.‬‬

‫ك‬
‫غ�سيل �شامل كامل لكل �شائبة قيلت ب�ش�أن اهلل �أو ب�ش�أن �أنبيائه‪ ،‬غ�سيل‬

‫ت‬
‫وتطهر من كل ما ت�ست�شنع النف�س �أو ي�ستغرب العقل �أو ت�ستقبح الروح‪ ..‬فقال‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الرجل �أ�شهد �أال �إله �إال اهلل‪ ،‬و�أ�شهد �أن حممدا ر�سول اهلل؛ ف�أ�صبح الإ�سالم‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ب�إ�سالمه خم�سة وثالثني نف�سا‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫و‬ ‫ر‬
‫و‬ ‫الت‬
‫بني حواري مكة‪ ،‬كان ال�صبي الأ�سمر «�سعد بن �أبي وقا�ص» الذي ال يتجاوز‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫جال�سا يف حمل عمله يربي ال�سهام كما اعتاد‪ ،‬كان يربي و ُيف ِّكر‬
‫عاما ً‬‫�ست ع�شرة ً‬
‫يف م�شهد «�أبي بكر» وهو داخل على النبي بت�سعة رجال يف يوم واحد‪ ،‬ويذكر‬
‫ا�ستب�شار النبي بهم وفرحته‪ ،‬ونظر �إىل املارة هنا وهناك؛ �إن ه�ؤالء ال يدرون‬
‫�أن نب ًيا قد خرج بينهم‪ ،‬مي�شون يعاي�شون حياتهم‪ ،‬لكن اهلل مل ي�أذن بالإعالن‪،‬‬
‫كان ي َو ّد لو �أن يفعل �شيئا هو الآخر‪ ،‬ثم ح�سم �أمره وقام بحزم ورمى ما كان يف‬
‫خارجا‪� ،‬إىل �سفح جبل ال�صفا‪ ،‬وبني عينيه مهمة واحدة‪.‬‬ ‫يده من �أ�سهم‪ ،‬وتوجه ً‬
‫قليل عن بقية البيوت‪،‬‬ ‫عند �سفح ذلك اجلبل كان هناك بيت متجنب ً‬
‫ي�سكنه فتى واحد يتيم‪ ،‬لي�س له ذكر يف القوم وال �أهمية‪� ،‬إال �أنه �أرقم‪ ،‬والأراقم‬
‫هم �أ�صحاب العيون املل َّونة ال�ضيقة‪ ،‬فتى من رقمته يقال له الأرقم‪ ،‬مل يجاوز‬
‫ال�سابعة ع�شرة‪ ،‬وحيدً ا يعي�ش يف بيت كامل ُمنزَ ٍو حتت جبل ال�صفا‪ ،‬وال �صاحب‬
‫له يف القوم �إال فتى من �سنه ُيدعى «�سعد بن �أبي وقا�ص»‪ ،‬ولقد ر�آه يف ذلك اليوم‬
‫� ٍآت عليه ويف عينيه حديث كثري‪.‬‬
‫‪266‬‬
‫�أتاه «�سعد» ف�أخرجه من بيته وك َّلمه وكلمه عن اهلل ور�سول اهلل و�سفاهة ما‬
‫ي�صنع القوم‪ ،‬فان�شرح �صدر الفتى‪ ،‬ف�أتى �إىل النبي امل�صطفى ف�أ�س َلم‪ ،‬وخرج‬
‫به «�سعد» مي�شي معه �إىل ذلك ال�شعب الذي كان «�سعد» يحبه‪� ،‬شعب �أجياد‪،‬‬
‫�أول مكان وقعت فيه عينه على ر�سول اهلل‪ ،‬فوجدا رجاال ي�صلون‪ ..‬قال «�سعد»‪:‬‬
‫يا �أرقم ه�ؤالء �أ�صحاب ر�سول اهلل‪ ،‬ف�صلوا معهم و�أ َن�سوا بهم‪ ..‬لكن �صوتًا‬

‫ع‬
‫�أتى على �آذانهم وهم ي�صلون‪� ،‬صوت ِ�صبية �أجالف‪ ،‬ي�ضحكون ويت�ضاحكون‪،‬‬

‫ص‬
‫دخلوا على ال�شعب فوجدوا �ص ًفا من ال�ساجدين‪ ،‬ف�سكتت �ضحكاتهم حلظة‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ثم �ضجوا وا�ست�ضحكوا وت�ساقطوا على الأر�ض ثم تك َّلموا وملزوا وتهكموا‪ ،‬عن‬
‫�صف الدافنني ر�ؤو�سهم يف �أدمي الأر�ض‪ ،‬فلما فرغت ال�صالة قام «�سعد» ووجهه‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫تفجر من الغ�ضب‪ ،‬وتهاو�ش مع ال�صبية و�أم�سك بهم و�أم�سكوا به ومل يجد �أحد‬ ‫ُم ِّ‬

‫ب‬
‫وقتًا لف�ض العداء‪ ،‬ف�إن �سعدً ا قد انحنى على الأر�ض فرفع عظام فك ملقاة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫يف الرتاب و�ضرب بها ر�أ�س �أحد ال�صبية ف�شج له ر�أ�سه‪ ،‬فهرب ال�صبي وهرب‬

‫ش‬
‫�أ�صحابه‪ ،‬وكان هذا من �أعظم اخلطر على تلك الفئة امل�سلمة القليلة التي تن�ش�أ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫يف جمتمع قري�ش‪ ،‬خطر الدم‪.‬‬

‫و‬
‫وعادوا مبا فعلوا �إىل ر�سول اهلل‪ ،‬وحتدثوا وتفكروا‪ ..‬لكن الأرقم ذو ال�سنني‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ال�سبعة ع�شر عر�ض له يف خاطره �أمر‪� ،‬أن تعالوا �إىل بيتي جميعا �إذا �أردمت �أن‬
‫جنتمع بر�سول اهلل‪ ،‬ولنجتمع كل يوم �أ َّنى ِ�شئتُم لأي مدة �شئتم‪ ،‬و�إن بيتي خري‬
‫لكم‪ ،‬ف�إنه متنح عن بقية البيوت عند �سفح اجلبل‪ ،‬ولئن �شوهدمت ما�ضني �إليه‬
‫وعائدين من عنده فلن ي�أبه بكم �أحد‪ ،‬فك�أنكم ذاهبون �إىل ال�صفا‪ ،‬ولي�س يف‬
‫بيتي ن�سوة وال عيال‪ ...‬وظ َّل ُيحدثهم حتى ا�ستح�سنوا ر�أيه و�أقره النبي املجتبى‪،‬‬
‫فكانت تلك الدار يف �سفح اجلبل هي جمتمعهم وم�ؤتلفهم‪ ،‬ويف و�سطهم ر�سول‬
‫اهلل‪ ،‬يجل�سون �إليه وعيونهم ال ترتفع وظهورهم ال تتكيء‪ ،‬ي�سمعون �إىل الهدى‪،‬‬
‫ف�إذا حتدث مدت �أعناقهم وتبادرت �آذانهم‪ ،‬و�إذا �سكت �أطرقوا‪ ..‬يتلوا عليهم‬
‫�آيات بينات ت�صفو لها نفو�سهم وت�سموا لها �أفكارهم‪ ،‬ف�إذا خرجوا وجدوا قومهم‬
‫يف التالهي‪ ،‬تت�سافل �أفكارهم وذقونهم حتت ال�صنم واحلجر‪ ،‬ف�إذا عادوا �إىل‬
‫ر�سول اهلل تن َّورت نفو�سهم وقلوبهم‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫وك�أن تلك الدار بعثت نو ًرا‪ ،‬ف�أ�سلم فيها �ضعف الذين �أ�سلموا قبلها‪..‬‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬ي�أتي كل يوم �إىل جمتمعهم م�ؤمن جديد‪ ،‬حتى‬ ‫وظلوا يزدادون ً‬
‫امتلأت بهم �أركان بيت الأرقم وبلغوا ال�ستني رجال وامر�أة‪ ،‬وظلوا يزدادون حتى‬
‫نزل الأمر لر�سوله من فوق �سبع �سماوات‪ ،‬الأمر املنتظر‪ ،‬بعد ثالث م�ضني من‬
‫ال�سنني على نزول «جربيل» عليه يف الغار‪ ،‬وبعد �سنة �أو تزيد من دخوله دار‬
‫َ‬
‫ع�شريتك الأقربني‪ ..‬وكان هذا يعني البداية؛‬ ‫الأرقم‪ ،‬نزل �أمر اهلل؛ �أن � ِأنذر‬

‫ع‬
‫بداية الر�سالة‪ ،‬واملواجهة‪.‬‬

‫صري ال ‪z‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫شر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪268‬‬
‫َ‬
‫ورقدت على ذلك الفرا�ش الذي لك‪،‬‬ ‫أعتمت من حولك كل نور‪،‬‬ ‫َ‬
‫خلوت �إىل نف�سك‪ ،‬و� َ‬ ‫�إذا‬
‫فاذكر �أنني هنالك‪� ،‬أر ُقد على نف�س الفرا�ش‪� ،‬أدور يف نف�س احلجرة‪ُ � ،‬‬
‫أنظر �إليك‪� ،‬أحتني تلك‬ ‫ُ‬

‫ع‬
‫ال�سهوة التي ت�أتيك‪ ،‬لأنق�ض على جمامع �صدرك‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ظن الإن�س �أنا نقدر على قراءة �أفكارهم بينما يفكرون بها‪ ،‬ظن الإن�س �أنا نطلع على‬
‫خواطرهم العفنة‪ ،‬و�إن الإن�س يف حمق وخبال عظيم‪� ،‬إن �شيئًا بداخل فكرك وعقلك ال‬

‫ك‬
‫كبدا على‬
‫لتي�س لنا �أن جنعل حياتك ً‬
‫يقدر جني على �أن ي�ستظهره‪� ،‬إن كنا نقدر على هذا َّ‬

‫ت‬
‫كبد‪ ،‬وملا هن�أت بفكرة �إال �أتيتك بنقي�ضها‪ ،‬لكن هذا َوهم‪� ،‬إنا فقط نراقبك ونحلل تعابريك‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�أعمالك حني تعملها‪ ،‬ثم نلقي �إىل روحك الراب�ضة يف �صدرك ر�سائل ونفثات رمبا تتقبلها‬

‫ش‬
‫وتنفذها ورمبا تتجاهلها‪ ،‬دع عنك كل خمبول يظن فينا غري هذا الظن‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ثكم عنا �أحاديث و�أحاديث‪ ..‬حدثكم عن تفا�صيل يف حياتنا حتريت‬ ‫فحد ُ‬
‫جاءكم «حممد» َّ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫اجلن كيف ا�ستعلمها‪ ،‬كثري من اجلن �إذا كان ي�سمع ويرى «حممد»‪ ،‬ف�إنه ُي�سلِم من فوره‪ ،‬بل‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ويهرع �إىل عبده ال�ساحر الذي تلوثت حليته بالنجا�سة لأجله‪ ،‬فيخربه عن «حممد»‪ ،‬ف ُي�سلم‬
‫حممدا كان ُيخرب عن اجلن مبا‬
‫ال�ساحر بدوره‪ ...‬هكذا كانوا‪ ،‬عتاة من �أبال�ستنا مل يتحملوا‪ ،‬لأن ً‬
‫ي�ستحيل �أن يعرفه �أحد �إن�سي �إال �أن يكون نب ًيا‪.‬‬
‫حتدث و�أمر النا�س �أن يكفوا �صبيانهم و�أن يدخلوهم للبيوت بعد الغروب‪ ..‬ف�إذا ذهبت‬
‫�ساعة من الليل فيخلوهم‪ ،‬لأن ال�شيطان ينت�رش �ساعة الغروب‪ ،‬هكذا قال بالن�ص‪ ،‬من املمكن‬
‫�أن يظن كل �أحد �أنا خملوقات مرعبة ت�ستفيق يف الظالم‪ ،‬لكن �أن يحدد �ساعة واحدة بعد‬
‫الغروب‪ ،‬فهو �أمر �شديد اال�ستحالة‪ ،‬كيف عرف �أهمية تلك ال�ساعة‪ ،‬نحن ننام طاملا كان‬
‫يف الدنيا نور من ال�صباح‪ ،‬ف�إذا نزلت ال�شم�س وحدث الغروب‪ُ ،‬قمنا من مراقدنا وانت�رشنا‬
‫يف الأر�ض‪ ،‬مثلما تنت�رشون �أنتم يف ال�صباح �إىل معا�شكم‪ ،‬اجلن ينت�رشون يف مدائن اجلن‪ ،‬لكن‬
‫حتديدا يف تلك‬
‫ً‬ ‫ال�شياطني �أمثالنا املوكلون ب�إ�ضاللكم‪ ،‬ف�إنهم ينت�رشون يف مدائن الإن�س‪،‬‬
‫ال�ساعة‪ ،‬حتى ي�ستقر كل �شيطان �إىل وجهته وهدفه‪.‬‬
‫أفواجا من جند الأمري‬
‫وال�صبيان الذين جاوزوا احللم جميعهم ال قرناء لهم‪ ..‬و�إن منا � ً‬

‫‪269‬‬
‫تنزل �إىل املدائن يف كل يوم تبحث عن �إن�سي من ال�صبيان تكون له قرين‪ ،‬ورغم �أن هذه‬
‫مهمة مقد�سة يتطوع كثري منا لعملها‪� ،‬إال �أن كث ًريا منا �إمنا يفعل هذا ملا يح�صل عليه من رغد‬
‫من الأمري و�سمات‪ ،‬وهبات ل�ست تدريها وم�آثر وحباء‪ ،‬وكثري منا يفعل هذا لأجل املال‪ ..‬و�إن‬
‫فيها ثروة ل�ست تدريها‪ ،‬نتحني ال�صبيان فيتخذ الواحد منا لنف�سه �صب ًيا‪ ،‬يلزمه ال يفارقه‪،‬‬
‫�سنوات طوال حتى ميوت الإن�سي‪.‬‬

‫ع‬
‫نو�سو�س له ومن�سه حتى ن�ستميله �إىل طريق اخلباثة‪ ،‬ف�إذا ا�ستلم ذلك الطريق و�سار‬

‫ص‬
‫فيه حثي ًثا‪ ،‬تروح الواحد منا وغاب عنه وتنعمنا مبالنا وثرواتنا وعطياتنا من الأمري‪ ،‬وننظر‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�إىل قريننا كل حني‪ ،‬ف�إذا ر�أيناه قد تاب عدنا له ومكثنا عنده حتى نرديه �إىل طريق الردى‪،‬‬
‫وهكذا مت�ضي حياتنا!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ينهى �أ�صحابه �أن ُي�ص ُّلوا �ساعة ال�رشوق و�ساعة الغروب‪ ..‬يقول �إن ال�شم�س‬
‫«حممد» كان َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫تغرب بني قرين �شيطان‪،‬‬‫يف ال�رشوق تطلع بني قرين �شيطان‪ ،‬وي�صلي لها الكفار‪ ،‬ويف الغروب ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫وي�صلي لها الكفار‪ ..‬هذا �شيء جعلني �أنا نف�سي �أ�رضب ك ًفا بكف!‪ ،‬القرن يف العرب يعني‬

‫ش‬
‫الأمة‪ ،‬يقول «حممد» �أن ال�شم�س ملا ت�رشق يف مكة وما حافها من مدن اجلزيرة ف�إنها ت�رشق بني‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫�أمتي �شيطان‪ ،‬و�إذا غربت ف�إنها تغرب بني �أمتي �شيطان‪ ،‬وهو �شيء حمري‪ ،‬ففي نف�س �ساعة طلوع‬

‫و‬
‫ال�شم�س على مكة‪ ،‬فهي تطلع على �أمتني ي�سكنون �شمال جزيرة العرب؛ الأمة الأوىل القوط‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وهم �شعب منت�رشين يف امرباطورية الروم يعبدون الإله دازبوك �إله ال�شم�س‪ ،‬يعبدونه منذ‬
‫عهود قدمية‪ ،‬وملا �أتت امل�سيحية �أ�صبحت تقول على دازبوك �أنه �شيطان من �أقوى �شياطني‬
‫اجلحيم‪ ،‬ودازبوك حقا �شيطان له حلية عظيمة ويرتدي الفراء‪ ،‬فالقوط هم قرن ال�شيطان‬
‫الأول‪.‬‬
‫الأمة الثانية هي الفر�س‪ ..‬يعبدون �إله ال�شم�س هافارا‪ ،‬وهو نف�سه دازبوك �شيطان القوط‬
‫ا�سما �آخر‪ ،‬ملثل هذا �أ�سلم ملحمد من اجلن كثري‪ ..‬كان من امل�ستحيل‬
‫�سموه ً‬‫لكن الفر�س ُّ‬
‫�أن يذكر �أ�شياء مثل هذه وكل خربته يف الرتحال رحلة واحدة �إىل ال�شام وعمره فيها ال‬
‫يتجاوز ال�سنوات ال�سبع‪.‬‬
‫خب النا�س ب�أمور و�أمور‪ ..‬يكفي �أن �أخربك ب�أن قرين «حممد» نف�سه قد‬
‫ر�أينا «حممد» ُي ِ‬
‫�أ�سلم‪ ،‬كل هذا ومل يكن �شياطني الأمري قد تو�صلوا ملحمد‪ ،‬حتى حان ذلك احلني‪..‬‬
‫‪z‬‬
‫‪270‬‬
‫(‪)11‬‬

‫انقذوا‬
‫أنفسكم‬
‫من النار‬
‫يف ناحية من الأر�ض لي�ست ُترى‪ ..‬وقف ُمك َّب ًل ب�سال�سل من �ضياء‪ ،‬وفوقه‬
‫قباب وقباب‪ ،‬وكل فكره وروحه عند ر�سول اهلل‪ ،‬فلم ي�ستوعب كل هذا‪ ،‬مي�شون‬
‫به بني ال�صرح والبنيان‪ ،‬يف حمل هو ذعر لكل جن‪ ،‬حتى انتهوا به �إىل من�صة‬

‫ع‬
‫دوارة‪ ،‬حولها درجات ودرجات‪ ،‬عليها مقاعد خالية‪ ،‬ثم تركوه وحده وان�صرفوا‪..‬‬

‫ص‬
‫فم�ضى بعينه حواليه بال اكرتاث‪ ،‬حتى �شهد نزولهم‪� ،‬أنوار تنزلت يف الظالم‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫حتى حط كل نور منهم على مقعد‪ ،‬ور�أى عيونهم فعرفهم‪� ،‬إنهم الق�ضاة‪ ،‬القهرة‬
‫الزبانية‪ ،‬ودارت به املن�صة وك�أنها ت�ستعر�ضه �أمام وجوههم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قال قائل منهم‪ :‬عمرو بن جابر بن طارق‪ ،‬من �أجنان �سب�أ‪� ،‬أمل ت ُكن منا‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ن�سيت يابن جابر؟ م�ضت على ذاكرة «عمرو»‬ ‫فردًا من خري �أجنادنا؟ �أم �أنك َ‬

‫ن‬
‫خطوب و�أحداث كانت يف �شبابه‪� ،‬أيام كان يرتدي لبا�سهم‪ ،‬وا�ستذكر ما كان‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫يج ُّب ما‬
‫فتخ�شب وجهه من الكدر‪ ،‬ثم تذكر �أن الإ�سالم ُ‬ ‫يفعل من �إثم وخطيئة‪َّ ،‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قبله‪ ،‬فوقف ثابتًا �أمامهم‪ ،‬ثم خطر عليه ما كدره‪ ،‬لقد متنى �أن يراه ر�سول اهلل‪،‬‬

‫و‬
‫�إن كان �إعدامه هاهنا ف�إن هذا لن يكون له ولن ينال هذا ال�شرف‪ ،‬لكنه كتمها‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يف نف�سه ووقف بثبات‪ ..‬ثم تكلم املتكلم وقال‪ :‬ق�ضى ق�ضا�ؤنا �أن حتفك هاهنا‬
‫يكون‪ ،‬و‪...‬‬
‫قاطع «عمرو بن جابر» املتك ِّلم‪ ،‬لقد �شع َر �أنه يجب عليه �أن يفعلها‪ ،‬طاملا هو‬
‫�إىل نهايته ما�ض‪.‬‬
‫ويف و�سط اجلوداكيوال‪ ،‬بني الق�ضاة والزبانية‪ ..‬رفع «عمرو» �صوته و�صاح‪:‬‬
‫يا بني �إبلي�س �إن الوقت قد �أزف‪ ،‬و�إين قائلها فا�سمعوا‪� ،‬أل�ستم ملا �صعدمت �إىل‬
‫را�ض‬
‫�أعايل ال�سماء ت�سمعون اخلرب‪� ،‬أتاكم حظكم من ال�شهاب الثاقب‪� ،‬آهلل ٍ‬
‫عنكم يا بني �إبلي�س؟ ف�إن كان را�ض ًيا فلماذا ُيعذبكم‪� ،‬ألي�س �سفيهكم �إبلي�س‬
‫يق�ضي �سنونه منذ ذلك احلني وهو ال يدري ما اخلرب وال �أين النبي‪� ،‬آهلل را�ض‬
‫عنك يا �إبلي�س؟ �أومل تتفتق �أذهانكم عن فكرة واحدة تزيل من على عيونكم‬
‫عماها‪� ،‬أفيخلق اهلل ب�شرا ثم يرتكهم هكذا بال �أنبياء وال ر�سل‪� ،‬آهلل ظامل �أم‬
‫عادل؟ �أم �أنه عدل عليكم وظ ُلوم عليهم؟‬
‫‪273‬‬
‫مل ي�سمع ردًا وك�أنه ال �أحد معه‪ ،‬فنظر �إىل عيونهم‪ ،‬ومل يهتد منها �إىل �أي‬
‫تعبري‪ ،‬ثم فج�أة برزت على ج�سد «عمرو» خيوط طلعت من الأر�ض وت�س َّلقت على‬
‫ج�سده حتى ك َّبلته‪ ،‬ثم قب�ضت عليه ف�صرخ و�سقط على ظهره‪ ،‬لقد كان يعرف‪،‬‬
‫يعرف �أنها النهاية‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ع‬
‫كانت ليلة يف بيت الهادي‪ ..‬ليلة �أذن له ربه �أن يجهر ويقولها عالنية‪ ،‬ويبد�أ‬

‫ص‬
‫الرحلة‪ ،‬رحلة ختام النبوات كلها؛ فدعا الكرمي ذو اخللق الكرمي «حممد» ابن‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫عمه العلي ذو الذكر العلي‪« ،‬علي بن �أبي طالب»‪ ،‬ويومذاك ما كان قد �أمت الرابعة‬
‫ع�شرة‪ ،‬قال له‪ :‬يا علي‪ ،‬ا�صنع رجل �شاة ب�صاع من طعام واجمع يل بني ها�شم‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫رجل وامر�أة‪ ،‬دعاهم‬ ‫فعمل البهي العلي ذلك ودعا بني ها�شم وهم يومئذ �أربعني ً‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫على رجل �شاة واحدة ال تكاد تكفي خم�سة نفر‪ ،‬كان هذا �شيء عجاب‪ ،‬لكن عل ًيا‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ِفعل كما �أمر النبي الهادي‪ ..‬وح�ضر ثالثون ً‬
‫رجل �إىل البيت ويف ح�سبانهم �أنها‬

‫ش‬
‫م�أدبة‪ ،‬فلما قعدوا قدمت لهم �سفرة تبدو كطعام ي�سري‪ ،‬فجالت فيها عيونهم ثم‬

‫و‬ ‫ر‬
‫نظروا �إىل بع�ضهم‪ ،‬ودعاهم �أهل البيت بثقة �إىل بدء الطعام ك�أن ما يف ال�سفرة‬

‫الت‬
‫يكفي‪ ،‬فم َّد القوم �أيديهم يف ُّ‬
‫حت�شم لي�أكلوا‪ ،‬وك�أن بع�ضهم �شعر باالنتقا�ص‪� ،‬أن‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يدعى �إىل مثل هذا وك�أن هذا قدره وحجمه‪ ،‬ومل يكن هذا حممودًا عند العرب‪،‬‬

‫يع‬
‫لكن �أياديهم ملا مدت �إىل الطعام اختلف كل �شيء‪.‬‬
‫كان الرجل منهم ي�أخذ من اللحم والإدام في�أ ُكل كيفما ا�شتهى ثم ُ‬
‫ينظر �إىل‬
‫فتب�سموا بتعجب ومدوا �أيديهم‬‫ما �أمامه من طعام ف�إذا هو كما بد�أه �أول مرة‪َّ ،‬‬
‫ومدوا و�أكلوا وتنبهوا لعل عيونهم تخدعهم‪ ،‬حتى بلغوا ال�شبع‪ ..‬قال «�أبو لهب»‪:‬‬
‫َ‬
‫ك�سحرك هذا الذي �أريتَنا يا«حممد»‪ ..‬مل ي ُرد عليه النبي‪ ،‬فلما‬ ‫ما ر�أينا �سح ًرا‬
‫فرغ احلا�ضرون من طعامهم دعا النبي «علي بن �أبي طالب» �أن ي�أتي ب�أقداح‪،‬‬
‫ف�أتى بها علي فو�ضعها �أمامهم و�صب لهم فيها اللنب ف�شربوا حتى ارتووا‪ ،‬والقدح‬
‫الكبري يف يد «علي» مل ينق�ص منه �شيء‪ ،‬فنظر بع�ضهم �إىل بع�ض‪ ،‬فقال «�أبو‬
‫لهب»‪ :‬ما ر�أينا كهذا ال�سحر‪ ..‬ثم جل�س �إليهم ر�سول اهلل وقبل �أن يتك َّلم بكلمة‬
‫قال «�أبو لهب»‪:‬‬
‫ ه�ؤالء عمومتك وبنو عمك فتك َّلم مبا تريد ودع ال�صباة‪ ،‬واعلم �أنه لي�ست‬
‫لقومك بالعرب قاطبة طاقة‪ ،‬و�إن �أحق من �أخذك فحب�سك �أ�سرتك وبنو‬
‫‪274‬‬
‫�أبيك �إن �أقمت على �أمرك هذا‪ ،‬ف�إنه واهلل �أي�سر من �أن تثب بك بطون‬
‫قري�ش ومتدها العرب‪.‬‬
‫ف�سكت النبي الهادي ومل يتكلم‪ ،‬لكنه �أعاد عليهم الدعوة �أن ي�أتوه بعد �أيام‬
‫رجل‪ ..‬فابتد َرهم وقال‪:‬‬ ‫ف�أتوه كلهم بل زادوا فكانوا خم�سة و�أربعني ً‬
‫ يا بني عبد املطلب‪� ،‬إين واهلل ال �أعلم �شا ًبا من العرب جاء قومه ب�أف�ضل‬

‫ع‬
‫مما جئتكم به‪� ،‬إين قد جئتكم بخري الدنيا والآخرة‪ ،‬و�إن الرائد ال يكذب‬

‫ص‬
‫�أهله‪ ،‬واهلل الذي ال �إله �إال هو‪� ،‬إين لر�سول اهلل �إليكم خا�صة و�إىل النا�س‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫بعامة‪ ،‬ولقد ر�أيتم من هذه الآية ما ر�أيتم‪ ،‬واهلل لتموتن كما تنامون‬
‫ولتبعثنَّ كما ت�ستيقظون ولتحا�سنب مبا تعملون‪ ،‬ولتجزون بالإح�سان‬

‫ك‬
‫�إح�سا ًنا وبال�سوء �سو ًءا‪ ،‬و�إنها للجنة �أبدً ا والنار �أبدً ا‪ ،‬و�أنتم لأول من �أنذر‪،‬‬

‫ت‬
‫ف�أيكم يبايعني على �أن يكون �أخي و�صاحبي؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مل يكن القوم قد ا�ستفاقوا من مفاج�أة الطعام‪� ..‬إذ �أتاهم �صاحب املقام‬

‫ش‬
‫املحمود «حممد» مبفاج�أة �أعظم‪ ،‬ولقد �أراهم من بني �أيديهم �آي ًة جلية وا�ضحة‪،‬‬

‫ر‬
‫وما كانوا قد جربوا عليه �سح ًرا �أو َله ًوا من قبل وهو فيهم م�صدق حممود‪،‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫لكن �أحدً ا منهم مل ُيجبه‪� ،‬إال واحدً ا فقط قال ب�صوت واثق‪� :‬أنا يا ر�سول اهلل‪..‬‬

‫و‬
‫فنظروا ف�إذا هو «علي بن �أبي طالب»‪ ،‬قال له ر�سول اهلل‪ :‬اجل�س‪ ..‬ثم حت َّول‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�إليهم النبي وقال‪:‬‬
‫ من ي�ض َمن عني ذمتي ومواعيدي وهو معي يف اجلنة؟‬
‫قال عمه «�أبو طالب»‪:‬‬
‫ ما �أحب �إلينا معاونتك ومرافدتك و�أقبلنا لن�صيحتك و�أ�شد ت�صديقنا‬
‫حلديثك‪ ،‬وه�ؤالء بنو �أبيك جمتمعون و�إمنا �أنا �أحدهم‪ ،‬غري �أين �أ�سرعهم‬
‫فام�ض ملا �أُمرتَ به‪ ،‬فواهلل ال �أزال �أحوطك و�أمنعك‪.‬‬ ‫�إىل ما حتب ِ‬
‫ثم حت َّول النبي �إليهم وقال‪:‬‬
‫ �أيكم يق�ضي عني حملي ويكون خليفتي يف �أهلي؟‬
‫ف�سكت القوم كلهم �أجمعني‪ ،‬وقال «علي بن �أبي طالب»‪� :‬أنا يا ر�سول اهلل‪..‬‬ ‫َ‬
‫فقام له ر�سول اهلل و�ضرب بيده على يده وقال له‪:‬‬
‫أنت يا علي‪� ،‬أنت يا علي‪.‬‬ ‫ � َ‬
‫‪275‬‬
‫بنف�س ذات لهب‪:‬‬
‫فقال «�أبو لهب» ٍ‬
‫ هذه واهلل ال�سو�أة‪ ،‬يا بني عبد املطلب خذوا على يديه قبل �أن ي�أخذ على‬
‫يده غريكم‪ ،‬ف�إن �أ�سلمتموه حينئذ ذللتُم‪ ،‬و�إن منعتموه قتلتم‪.‬‬
‫فاحتد عليه «�أبو طالب» وقال‪:‬‬
‫ واهلل لنمنعنه ما بقينا‪.‬‬

‫ع‬
‫فقال �أبو «لهب» هازئا‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ �إن كان كالم ابن �أخي ح ًقا ف�إين �أفتدي نف�سي يوم القيامة من العذاب‬
‫مبايل وولدي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ثم قام القوم وان�صرفوا‪ ..‬فلما طلع ال�صباح انطلق ر�سول اهلل �إىل ر�ضمة من‬

‫ب‬
‫جبل ال�صفا‪ ،‬فعال �أعالها حج ًرا ثم فعل �أم ًرا هو حذافري الآية‪� ،‬أنذر ع�شريتك‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫الأقربني‪ ،‬فبعد �أن مل ُيجبه من بني ها�شم �أحد �إال من �أخفى �إ�سالمه منهم‬

‫ش‬
‫و�سع من دائرة القرابة‪ ،‬الأقرب فالأقرب‪ ،‬فو�ضع النبي‬ ‫حماية له‪ ،‬كان البد �أن ُي ِّ‬

‫ر‬
‫يده على �أذنه ونادى وقال‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫ يا بني عبد مناف‪ ،‬يا بني مرة بن كعب‪ ،‬يا بني عدي بن كعب‪ ،‬يا بني‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫كعب بن ل�ؤي‪ ،‬يا بني فهر بن مالك‪...‬‬
‫وظ َّل ُيعدِّ د بطون ن�سبه ال�شريف كلها‪ ..‬من عبد مناف بن ق�صي بن كالب بن‬
‫مرة بن كعب بن ل�ؤي بن غالب بن فهر بن مالك‪ ،‬يعني الأقربني فالأقربني من‬
‫الع�شرية‪ ..‬فر�آه النا�س فقالوا من هذا الذي يهتف‪ ،‬قالوا هذا «حممد»‪ ..‬فاجتمع‬
‫�إليه رهط كثري من قرابته وع�شريته الأقربني ومن كان غائبا �أر�سل من ينوب عنه‬
‫لي�سمع من «حممد»‪ ،‬حتى امتلأ �سفح جبل ال�صفا بالنا�س‪ ..‬فوقف البهي املنري‬
‫العري�ض املنكبني «حممد» على ر�ضمة اجلبل يف ذلك اليوم وع�شريته ينظرون‬
‫�إليه وي�ستنظرون منه القول ومل يكونوا قد اعتادوا على هذا من «حممد»‪ ..‬فوقف‬
‫لهم ال�صادق الأمني والنور من طلعته قد غ�شى كل نور‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬
‫ يا �صباحاه‪.‬‬
‫وال�صبح ما �أ�سفر على خري من «حممد»‪ ،‬فر ُّدوا عليه حت َّيتَه‪ ..‬فقال لهم‪:‬‬
‫خيل تخ ُرج من �سفح هذا اجلبل تريد �أن تغري‬ ‫ �أر�أيتُم �إن �أخرب ُتكم �أن ً‬
‫عليكم‪� ،‬أكنتم م�صدقي؟‬
‫‪276‬‬
‫قالوا‪ :‬ما ج َّربنا عليك كذبا قط‪ ..‬فقال‪:‬‬
‫ فيا مع�شر النا�س‪� ..‬إين نذير‪� ،‬إمنا َم َث ِلي َو َم َث ُل ُك ْم َك َم َث ِل رجل ر�أى ا ْل َع ُد ّو َ‪،‬‬
‫فانطلق َي ْر َب�أُ �أَ ْه َلهُ‪ ،‬فخ�شي �أن َي ْ�س ِب ُقو ُه‪ ،‬فجعل يهتف َيا َ�ص َب َاحا ُه‪ ،‬يا مع�شر‬
‫النا�س‪� ،‬أال �إين نذير لكم‪� ،‬أال �إين نذير لكم‪...‬‬
‫بع�ض ثم نظروا �إليه فقال‪:‬‬ ‫بع�ضهم �إىل ٍ‬‫فنظ َر ُ‬

‫ع‬
‫ �إين قد جئتكم ب ِع ِّز الدنيا و�ش َرف الآخرة‪� ،‬أيها النا�س‪� ،‬إين ر�سول اهلل‬

‫ص‬
‫�إليكم‪ ،‬و�إين نذي ٌر لكم بني يدي عذاب �شديد‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫فا�ستعجبوا وانده�شوا!‪ .‬ثم نظر �إليهم يف موا�ضعهم مو�ض ًعا مو�ض ًعا وقال‪:‬‬

‫ك‬
‫ يا بني كعب بن ل�ؤي‪� ،‬أنقذوا �أنف�سكم من النار‪ ..‬يا بني مرة بن كعب‪،‬‬

‫ت‬
‫�أنقذوا �أنف�سكم من النار‪ ..‬يا بني عبد �شم�س‪� ،‬أنقذوا �أنف�سكم من النار‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ثم نظر �إىل من هم �أقرب فقال‪:‬‬

‫ش‬
‫ يا بني عبد مناف‪� ،‬أنقذوا �أنف�سكم من النار‪ ..‬يا بني ها�شم‪� ،‬أنقذوا‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�أنف�سكم من اهلل‪ ..‬يا بني عبد املطلب‪� ،‬أنقذوا �أنف�سكم من النار‪ ..‬ف�إين‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ال �أم ِلك لكم �ض ًرا وال نف ًعا‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ثم نظر �إىل �أهله وقال‪:‬‬
‫نف�سك من النار‪ ،‬ال �أغني عنك من اهلل �شي ًئا‪ ..‬يا عبا�س‬ ‫ يا فاطمة‪� ،‬أنقذي ِ‬
‫بن عبد املطلب‪ ،‬ال �أغني عنك من اهلل �شي ًئا‪ ..‬يا �صفية عمة حممد‪ ،‬ال‬
‫�أغني عنك من اهلل �شي ًئا‪ ،‬غري �أن لكم رحما �س�أبلها بباللها‪.‬‬
‫ثم تك َّلم «�أبو لهب» ونف�ض يديه وقال ب�صوت عال وقال‪:‬‬
‫لك �سائر اليوم‪� ،‬أما جمعتنا �إال لهذا؟‬ ‫ ت ًّبا َ‬
‫ثم قام وان�صرف‪ ..‬وان�صرف النا�س الن�صرافه من �أمام ر�سول اهلل‪ ،‬فقد‬
‫كان من �سادة بني ها�شم‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ْ َُُ‬ ‫َ َ ْ َٰ َ ً َ َ َ َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ٰ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ‬
‫ب * َوام َرأته‬
‫ل نارا ذات له ٍ‬ ‫ن عنه مالُ َوما كس َب * سيص‬ ‫ب وتب * ما أغ‬ ‫﴿تبْت يدا أ ِب له ٍ‬
‫َ َ ْ ٌ ِّ َّ َ‬
‫ال َط ِب * ِف ِجيدِها حبل من مس ٍد﴾ نزلت من فوق �سماوات �سبع على ر�أ�س رجل‬ ‫حالَ َة َ‬
‫َ َّ‬

‫وامر�أة‪ ،‬مل تنزل كيدً ا وال ردًا لتب؛ �إمنا نزلت �إعال ًنا و�إعجا ًزا �أن هذا الرجل‬
‫‪277‬‬
‫واملر�أة �سيعي�شان وميوتان ولن ي�ؤمنا ولو �آمن كل من يف الأر�ض‪ ،‬وملا بلغهما ما‬
‫�أنزل اهلل وهما يف بيتهما وابنيهما �أمامهما‪ ،‬قالت �أم جميل العوراء البنها‪ :‬ط ِّلقا‬
‫بنات حممد ف�إنهما �صابئتني ولآتينه بعد حني‪ ..‬و�أبدى ال�شابني بع�ض �إ�شارات‬
‫االعرتا�ض فهدر «�أبو لهب» ب�صوته وقال‪ :‬ر�أ�سي من ر� َأ�سيكما حرام �إن مل ُتط ِّلقا‬
‫ابنتيه‪.‬‬
‫وتلففت العوراء بردائها وخرجت وحم َلت يف يدها حج ًرا �صل ًبا‪ ،‬فجاءت �إىل‬

‫ع‬
‫النبي وهو جال�س عند الكعبة ومعه «�أبو بكر»‪ ،‬قال له «�أبو بكر»‪ :‬يا ر�سول اهلل‬

‫ري‬‫ص‬
‫�إنها امر�أة بذيئة و�أخاف �أن ُت�ؤذيك فلو قمت‪ ..‬قال له النبي‪� :‬إنها لن تراين!‪.‬‬

‫ال‬
‫فا�ستعجب «�أبو بكر» و�سكت‪.‬‬

‫ك‬
‫فت�سارعت‬
‫َ‬ ‫تنظر هنا وهناك حتى ر�أت «�أبو بكر»‬ ‫ف�أقب َلت يف �صحن الكعبة ُ‬

‫ت‬
‫تنظر �إليه وتنظر حواليه‪ ،‬قالت له‪ :‬يا �أبا بكر ف�أين‬ ‫ينظر لها‪ ،‬فر�آها ُ‬
‫�إليه وهو ُ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�صاحبك؟ قال لها‪ :‬ال�ساعة كان هاهنا‪ ..‬قالت‪ :‬لقد بل َغني �أنه هجاين‪ ..‬قال‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫لها «�أبو بكر»‪ :‬ال �إنه مل يهجوك‪ ..‬قالت‪� :‬أنت عندي ُم�ص َّدق‪ ..‬ثم ا�ستدارت‬

‫ر‬
‫ُمن�صرفة‪ ،‬لكنها التفتَت �إليه وقالت‪ :‬و�أمي اهلل �إين ل�شاعرة و�إن زوجي ل�شاعر‪،‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ف�سقطت‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فتعثت يف ردائها‬ ‫ولقد علمت قري�ش �أين بنت �سيدها‪ ..‬ثم ا�ستدارت َّ‬

‫و‬
‫مذمما �أبينا ودينه‬‫ً‬ ‫مذم‪،‬‬
‫فتربمت وقالت‪ :‬تع�س مذمم‪ ،‬ما هو مبحمد و�إمنا َّ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قلينا و�أمره ع�صينا‪ ...‬وان�صرفت بعوار قلبها‪.‬‬
‫ويف ظهرية اليوم انطلق «عتيبة بن �أبي لهب» �إىل ر�سول اهلل وكان فتى غن ًيا‬
‫رائ ًقا‪ ،‬فط َّلق «�أم كلثوم» بنت ر�سول اهلل‪ ،‬ويف امل�ساء �أتى «عتيبة بن �أبي لهب»‪،‬‬
‫فاح�شا‪ ،‬فدخل على ر�سول اهلل بعلو ال�صوت‪ ،‬وكان القر�آن ذو البيان‬ ‫وكان فتى ً‬
‫ينطق عن‬ ‫يتلى فيقال‪ ..‬والنجم �إذا هوى‪ ،‬ما �ضل �صاحب ُكم وما غوى‪ ،‬وما ِ‬
‫وحي يوحى‪ ،‬ع َّلمه �شديد القوى‪ ،‬ذو ِم َّر ٍة فا�ستوى‪ ،‬وهو بالأفق‬‫الهوى‪� ،‬إن هو �إال ٌ‬
‫الأعلى‪ ،‬ثم دنا َّ‬
‫فتدل‪ ،‬فكان قاب قو�سني �أو �أدنى‪...‬‬
‫حكاية عن �شديد القوى «جربيل» الذي علم الوحي‪ ،‬ودنا فتدىل واقرتب وبلغ‬
‫أم�سك النبي من‬ ‫الكالم �إىل احلبيب املحمد‪ ..‬لكن «عتيبة» دخل و�سط كل هذا ف� َ‬
‫فتدل‪ ،‬و�إن‬‫قمي�صه و�ش َّده حتى ان�شق بع�ضه‪ ،‬وقال له‪� :‬إين كفرتُ بهذا الذي دنا َّ‬
‫احذر ال ي�أكلك كلب اهلل‪ ..‬فوجم «عتيبة» َ‬
‫وتفل‬ ‫ابنتك طا ِلق‪ ..‬فقال له النبي‪َ :‬‬
‫تفل ًة وانطلق‪.‬‬
‫‪278‬‬
‫ومت ُّر �أيام اهلل‪ ..‬ويخ ٌرج «عتيبة» يف جتارة �إىل اليمن يف نفر من �أ�صحابه‪،‬‬
‫ففر�شوا وناموا يف قطعة من الطريق‪ ،‬ويخرج ليث ك�أنه ان�شق من بطانة‬
‫الأر�ض‪ ،‬فجعل ي�ستن�شق ر�ؤ�سهم حتى �سحب «عتيبة» من خباءته ف�صرخ و�صرخ‪،‬‬
‫فا�ستيقظ ال�شباب النيام وفزعوا وهربوا وبقى «عتيبة» بني �أ�سنان �شيء ال يدري‬
‫� َ‬
‫أتنه�ش فيه من ُج ٍوع �أم من نقم‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ثالثة زنازين متقابلة مقامة بهند�سة ب�أبعاد �أخرى‪ ..‬و�إن للزنازين �صدى‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫و�إن كانت لدى اجلن‪ ،‬ي�سكنها ثالثة ممن تداول اجلن �س َريتهم فكانت ً‬
‫تاريخا‪،‬‬
‫«عمرو بن جابر» و«�إزب بن �أزيب»‪ ،‬و«ما�سا هارينا»‪ ،‬كان «�إزب» ير ُقد يف ٍ‬
‫�سبات‬

‫ك‬
‫بني ظالل ت�صدرها �أ�ضواء زنزانته‪ ،‬فقام «عمرو» ً‬
‫ناه�ضا‪ ،‬ف�أ�صدر �إ�شارة «ملا�سا»‬

‫ت‬
‫فقامت من مرقدها وي�أ�سها فنظرت له فانفرجت �أ�سارير جمالها‪ ..‬هم�س لها‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�إين ر�أيتُ حممدً ا‪ ،‬و�إنه واهلل ملحمد‪ ،‬وجهه حممد وكل �أَ ِ‬
‫ل‬
‫مره حممد‪ ،‬و�إن �ضياءه‬

‫ن‬
‫بالغ �أقمار الإن�س واجلن‪ ..‬ا�ضطربت �أ�ساريرها حلظ ًة ثم ر َّقت عيناها‪ ،‬ونظرت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ناح َية زنزانة «�إزب» فوجدته راقدً ا غري �سامع‪ ..‬قالت‪ :‬وهل بعثه اهلل ح ًقا؟ قال‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫نعم بعثه اهلل‪ ،‬و�إنه لأح�سن من كل الب�شارات التي �سمعنا بها‪ ،‬ب�ضعة �سطور كنا‬

‫و‬
‫نتجرعها ال ت�سمن وال تغنى من جوع‪� ،‬أما َمر�آه فهو �أمر ال ت�صوغه الكلمات‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫كانت «ما�سا» ال تدري مل هذا ال�شوق الذي يف نف�سها �إىل «حممد»!‪� ،‬أفمن‬
‫م�شاهد ر�أتها؟ ماذا �إن ر�أته ر�أي العني؟ امل�ستعجب �أن عقلها الزال على‬ ‫ب�ضع ِ‬
‫عقيدة اجلن ور�سالة «�إبلي�س»‪ ،‬لكن فيها �شوق ال يدريه �إال من ي�س ُكن فيه‪ ،‬ثم‬
‫تذ َّكرت �أنها هنا يف هذا املكان البارد‪ ،‬فلن ترى �شي ًئا‪ ..‬قال لها «عمرو»‪ :‬هلم‬
‫يا غادة ن�صيبني‪� ،‬إنا خارجون من هنا‪ ..‬نظ َرت �إليه بي� ٍأ�س وقالت‪ :‬لي�س لنا من‬
‫تب�سم بوجهه الو�سيم الواثق وقال لها‪ :‬بل �إن اخلروج ي�سري‪ ،‬وال‬ ‫هاهنا خروج‪َّ ..‬‬
‫أنت‪.‬‬
‫بك � ِ‬
‫يكون �إال ِ‬
‫ب�صوت خفي�ض‬‫ٍ‬ ‫لفت حديثه نظرها فانتبهت �إليه؛ كان يتح َّدث وي�شرح‬ ‫َ‬
‫تنظر له وتنظر ُمف ِّكرة �إىل ناحية من النواحي‪،‬‬ ‫وكلمات �سريعة واثقة‪ ،‬وهي ُ‬
‫حتى �أ�سرتها خطته وختم ً‬
‫قائل‪ :‬واهلل ال يكون ر�سول اهلل يف مكان و�أنا ُملقى يف‬
‫غياهب هذا املكان‪.‬‬
‫فا�ستع َّدت وجت َّهزت حتى ا�ستحكمت من �أمر نف�سها ثم قررت فنفذت‪..‬‬
‫و�صرخت �صرخ ًة �أليمة �صحا لها جنون اجلوداكيوال كلهم �أجمعني هم ومن‬
‫‪279‬‬
‫أهل للفزع‪ ،‬فجاء لها من جاء من اجلن‬ ‫فزعا ولي�س � ً‬ ‫وراءهم!‪ ،‬و�صحا «�إزب» ً‬
‫للح َك َمة بكل �شيء‪ ،‬وكان‬
‫واملردة ي�س�ألونها عن اخلرب‪ ،‬قالت �إين �أريد �أن �أعرتف َ‬
‫ويبت�سم ب�سمة خف َّية‪.‬‬
‫«عمرو» ينظر لها ِ‬
‫‪z‬‬
‫حياك ودًا‪ ،‬حياك ودًا‪ ،‬حياك ودًا ف�إنه ال يحل لنا‪ ،‬لهو الن�ساء �إن الدين قد‬

‫ع‬
‫عزما‬
‫ً‬

‫ص‬
‫يج ّرون‬‫ترتيل‪ ،‬مي�شون بها يف الربية‪ ،‬رجال حماربني من قبيلة كلب‪ُ ،‬‬ ‫رتلوها ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وراءهم �سبيهم من حربهم الأخرية‪ ،‬رجال ون�ساء مغلولني غال‪ ،‬م�أ�سورين من‬
‫غارة �أغارها جمرمو بني كلب على م�ساكنهم‪ ،‬ومل تكن م�ساكن عادية‪ ،‬بل كانت‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ق�صو ًرا‪ ،‬وبع�ضهم ا�شرتتهم كلب من جمرمني �آخرون‪ ،‬وم�شت كلب يف الرباري‬

‫ب‬
‫وعبيدهم وراءهم والأ�سارى‪ ،‬بينهم �شاب ذو وجه م�ألوف‪ ،‬خم�ضو�ضر العني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�شفافها �أ�سود ال�شعر مرفوعه‪� ،‬آت من رام هرمز‪ ،‬وكان ا�سمه «�سلمان»‪ ،‬القوم‬

‫ش‬
‫ين�شدون حوله للإله ود‪ ،‬وهو يذ ُكر �أمو ًرا �سمعها من رهبان اجلبل‪ ،‬عن �إله �آخر‪،‬‬

‫ر‬
‫واحد خالق لي�س كمثله �شيء‪ ،‬وعن نبي زاهر يخ ُرج يف غفلة من الأر�ض‪� ...‬أمور‬

‫الت‬ ‫و‬
‫جعلته ين�أى بروحه عن عبادة النار �إىل عبادة خالق النار‪ ،‬ثم �أغم�ض عينيه‬

‫و‬
‫وتذ َّكر ما م َّر معه من م�شاهد قبل �أن ي�أتي �إىل هنا‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫م�أ�سور بجواره �شاب قريب من عمره‪� ..‬أحمر ال�شعر حاد الق�سمات‪ ،‬ا�سمه‬
‫«�صهيب»‪ ،‬له ق�صة �أ�شد من ق�صة «�سلمان»‪ ،‬وكانت الطريق طويلة‪ ،‬فكلب‬
‫م�سافرة عائدة �إىل �أر�ضها عرب ال�صحاري بعد عدة حمالت غازية‪ ،‬فطر�أت‬
‫رفقة بني «�سلمان» و«�صهيب» ذو ال�شعر الأحمر‪ ،‬وكان «�صهيب» �صاحب عجمة‬
‫يف ل�سانة يتحدث العربية بلك َنة �أجنبية‪ ،‬وكذلك كانت يف «�سلمان» عجمة ل�سان‬
‫فار�سية‪ ..‬قال «�سلمان»‪ :‬ماذا رمى بك �إىل كلب يا رفيق؟ قال «�صهيب»‪� :‬إين‬
‫ابن �أمري يف بالد فار�س‪ ،‬كنت �أعي�ش يف ق�صر والدي بقرية على �شط الفرات‪،‬‬
‫عدا علينا الروم وغزو �أر�ضنا وم�ساكننا و�أخذوين من ق�صري وقتلوا �أبي‬ ‫ثم َ‬
‫و�أمي و�أ�سروين �أ�سرا �إىل بالد الروم‪ ،‬كنت �صغ ًريا يتي ًما �أو�ضع حيث ي�ضعوين‪،‬‬
‫فجعلني الروم عبدً ا �أباع و�أ�شرتى‪ ،‬و�أعمل يف منازلهم وق�صورهم‪ ،‬حتى باعني‬
‫�أحدهم يف ال�شام �إىل رجل من قبيلة كلب‪ ..‬رفع «�سلمان» حاجبه وقال‪� :‬إذن �أنت‬
‫فار�سي مثلي‪ ..‬قال له «�صهيب»‪ :‬بل �أنا عربي من قبيلة النمر‪ ،‬و�إن �أبي كان �أم ًريا‬
‫لك�سرى يف ناحية من بالد العراق‪.‬‬
‫‪280‬‬
‫قال «�سلمان»‪� :‬أما �أنا ف�إين فار�سي من �أبناء الفر�سان يف بالد فار�س‪ ،‬و�إن‬
‫يل ق�صة عج ًبا‪ ..‬اعتدل له «�صهيب» وبد�أ ي�س َمع منه ما كان من �أمر رام هرمز‪،‬‬
‫و�صعوده مع ابن الأمري �إىل رهبان اجلبل‪ ،‬وحديث رهبان اجلبل‪ ،‬وانتهى به‬
‫�إىل حيث فج�أ الأمري رهبان اجلبل واقتحم عليهم الدير ورماهم ب�إف�ساد ابنه‬
‫و�أنذرهم ثال ًثا �أن يرحلوا و�إال �أحرق عليهم الدير‪ ..‬هنالك قال «�سلمان»‪:‬‬

‫ع‬
‫�أخذ ذلك الأمري ابنه الذي كان �صديقي وحب�سه يف الق�صر‪ ،‬وجمع الرهبان‬

‫ص‬
‫رحالهم لريحلوا فن�شبت �أنا لهم فقلت واهلل ال �أفارقكم �أبدً ا‪� ،‬إين قد �أحببتُ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كالمكم ومنطقكم وكرهت قومي وما يفعلون‪ ،‬بل �إن فكري قد هداين �إىل �أن‬
‫احلق لي�س يف عقيدة هذه البالد‪ ،‬بل �إن لهذه البالد والعباد خال ًقا واحدً ا‪ ،‬ف�إين‬

‫ك‬
‫واهلل ال �أفارقكم حتى �أتع َّلم منكم هذا الأمر‪ ،‬وطاملا �أخرجكم قومي وال مكث‬

‫ت‬
‫لكم عندنا ف�إين راح ٌل معكم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لكن رهبان اجلبل قالوا يل يا �سلمان �أنت غالم ولن ت�ستطيع �أن ت�صنع ما‬

‫ش‬
‫ن�صنع‪ ،‬ف� ِآمن باهلل وادعه وابقَ يف بيتك‪ ،‬واحذر عباد النار من قومك ف�إنهم ال‬

‫ر‬
‫يعرفون اهلل وال يذكرونه‪ ،‬وال يخدع َّن َك �أحد منهم عن دينك‪ ..‬فقلت‪ :‬واهلل ال‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�أفارقكم‪ ..‬و�أ�صررتُ عليهم حتى �أخذوين معهم وهاجرت وتركتُ �أهلي وداري‬

‫و‬
‫حتى انتهيتُ معهم �إىل بلدة ا�سمها املو�صل‪ ،‬وهناك كان رئي�س دينهم الذي‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫يدينون به‪ ،‬كانوا حنفاء يعبدون اهلل وال ي�شركون به‪ ،‬فن�شبت لرئي�س دينهم ذاك‬
‫وقلت له واهلل ال �أفارقك حتى ُتع ِّلمني كل �شيء‪ ..‬قال‪� :‬إين �أعتزل يف كهف يف‬
‫اجلبل �أع ُبد ربي وال �أحمل معي �إال قليل من الزاد‪ ،‬و�إنك لن تطيق‪ ..‬قلت له واهلل‬
‫ال �أفارقك‪ ..‬فلزمتُه حتى انتهى بي �إىل بيت املقد�س‪ ،‬وهناك دا َر بيننا كالم‪.‬‬
‫قال يل‪� :‬أي ُبني‪ ،‬واهلل ما �أعلم �أحدً ا بقي على ديننا هذا �إال قليل‪ ،‬ولقد‬
‫�أظلنا زمان نبي يبعث من تهامة‪ ،‬مهاجره بني ح َّرتني �إىل �أر�ض �سبخة مليئة‬
‫بالنخيل‪ ،‬و�إنَّ فيه عالمات ال تخفى؛ بني كت َفيه �شامة هي خامت النبوة‪ ،‬ي�أكل‬
‫ا�ستطعت �أن تخل�ص �إىل تلك البالد فافعل ف�إنه‬
‫َ‬ ‫ال�صدقة‪ ،‬ف�إن‬
‫َ‬ ‫الهدية وال ي�أكل‬
‫قد �أظلك زمانه‪ ..‬قلت له‪� :‬أف�إن وجد ُته َّ‬
‫فعلي �أن �أتبعه؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬قلت له‪ :‬و�إن‬
‫أنت عليه؟ قال‪ :‬نعم ات ُركه‪ ،‬ف�إن احلق فيما ي�أ ُمر ور�ضى‬ ‫�أم َرين برتك دينك وما � َ‬
‫الرحمن فيما قال‪ ..‬وهنا فارقتُه وعزمتُ �أن �أنط ِلق �إىل تهامة‪ ،‬فلقيت نف ًرا من‬
‫بني كلب‪ ،‬ف�س�ألتُهم �أن يحملوين �إىل تهامة‪ ،‬فغد ُروا بي و�أ�س ُروين كما ترى‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫كان «�صهيب» ي�سمع ور�أ�سه الأحمر قد ا�شتعل بالفكر‪ ..‬لقد �أ�سفرته حياته‬
‫لينظر �إىل �أهله العرب الذين يعبدون الأحجار‪ ،‬وكان �أحالف �أهله من الفر�س‬
‫ي�أتون �إىل البالد وميار�سون ما كانت عينه ت�ستغربه من �إيقاد للنار وحر�ص على‬
‫�أال تنطفيء‪ ،‬يتع َّبدون لها ويتذللون‪ ،‬وكان ي�سائل نف�سه‪ ،‬كيف يع ُبد الإن�سان �شي ًئا‬
‫ي�صنعه بيده �أو ُي�شعله بيده!‪ ،‬واهلل �إن قومي و�أحالف قومي يف �ضالل‪ ..‬ثم ملا‬
‫�أ�سره الروم وم�ضوا به �إىل بالدهم وكنائ�سهم وبنيانهم انبهر ونظر ووجدهم‬

‫ع‬
‫ير�سمون وينحتون «عي�سى» يف كل مو�ضع ويدعونه ويبكون عنده‪ ،‬وكان ي�سائل‬

‫ص‬
‫رجل!‪ .‬لذلك �أثارت ق�صة «�سلمان» يف نف�س «�صهيب»‬ ‫نف�سه‪ ،‬كيف لرجل �أن يع ُبد ً‬

‫ري‬
‫كثري من اخلواطر‪ ،‬وكث ًريا من االنتباه‪.‬‬
‫الركب �إىل بالد كلب‪ ،‬وفيها قلعة كبرية لهم تدعى‬
‫ال‬
‫وظال يتح َّدثان حتى و�صل ُ‬

‫ك‬
‫عبيدهم و�إمائهم‪ ،‬كان بداخل القلعة‬ ‫قلعة مارد‪ ،‬فدخلوا �إليها يحتفلون و�أدخلوا َ‬

‫ت‬
‫متثال عظيم يف و�سط معبد مزين‪ ،‬متثال رجل ح�سن الوجه والثياب متقلد �سيفا‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قو�سا‪ ،‬كان ذاك �صنمهم ود‪ ..‬التف حوله الرجال ين�شدون ن�شيدهم‬ ‫ومتنكب ً‬

‫ن‬
‫و�أتوا ب�إناءٍ من َلب وظلوا ي�ص ُّبون على ال�صنم �ص ًّبا ك�أنهم ي�س ُقونه‪ ،‬و«�سلمان»‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫و«�صهيب» يف زاوي ٍة ينظران‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و�أتت قبائل من العرب املجاورة حتتفل بكلب ومبغامن كلب‪ ..‬فان�ضموا �إليهم‬

‫و‬
‫تاجر‬‫يف ناديهم‪ ،‬وعر�ضت كلب ما لديها من عبيد وجواري للبيع‪ ،‬فابتغى كل ِ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫عربي لنف�سه عبدً ا �أو اثنني‪ ..‬فجاء �أحد التجار �إىل «�سلمان» و�س�أل عنه‪ ،‬فقال‬
‫له �سيده الكلبي‪� :‬إن هذا من بالد فار�س‪ ،‬و�إين �أطلب فيه كذا وكذ‪ ..‬فوافق‬
‫تعج ًبا‬
‫الرجل‪ ..‬ف�س�أله «�سلمان» مبا�شرة‪ :‬هل �أنت من تهامة؟ نظر له الرجل ُم ِّ‬
‫وقال نحن من �شمال تهامة‪ ،‬من يرثب بلد النخيل‪ ..‬فا�ستب�شر «�سلمان» و�ضحك‬
‫و�س ِعد‪ ،‬و�س ِعد «�صهيب» ل�سعادته‪ ،‬ف�إن الفتى الفار�سي الذي �ضرب الأر�ض باح ًثا‬
‫عن النور وخدعته الدنيا وجعلته عبدً ا �أ�س ًريا‪ ،‬قد �أ�شر َقت له اليوم بني �إظالمها‬
‫فوجهته �إىل وجهة كان يبغيها؛ وجهة ذكرها له ذلك الكاهن �أنها يف تهامة و�أن‬ ‫َّ‬
‫فابت�سم له «�صهيب» و�س َّلم عليه واحت�ضنه‪ ،‬وم�ضى «�سلمان» مع‬ ‫َ‬ ‫نخيل‪،‬‬ ‫فيها‬
‫�سيده اجلديد‪ ،‬وكان يف الرجال �سيد من �سادات قري�ش‪ ،‬فر�أى �صهي ًبا ب�شعره‬
‫الأحمر ف�سحبه �إليه وطلب �أن ي�شرتيه‪ ،‬فباعه �سيده مبا�شرة‪ ،‬كان ذاك رجل من‬
‫رجاالت مكة ا�سمه «عبد اهلل بن جدعان»‪ ،‬ف�أخذ �صهي ًبا �إىل مكة‪ ،‬وكذا افرتق‬
‫الأعجمان‪ ،‬فم�ضى «�سلمان الفار�سي» �إىل يرثب‪ ،‬وم�ضى «�صهيب الرومي» �إىل‬
‫مكة‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪282‬‬
‫جلند من حولها �أرتال‪ ،‬قالت لهم‪� :‬أخرجوا معي هذا الرجل‬ ‫كانت «ما�سا» وا ُ‬
‫ف�إن العرتايف �ش�أ ٌن به‪ ..‬ف ُفتح �سجن «عمرو بن جابر» الذي كان ينظر هادئا‬
‫هدوء العا�صفة قبل �أن تثور‪ ،‬ف�ساقوه و�ساقوا «ما�سا» �إىل م�سرح املحاكمة‪..‬‬
‫كان «عمرو» مي�شي وعينه ت�س َرح يف �أيام �سابقات‪ ،‬كان قائدً ا على مثل ه�ؤالء‪،‬‬
‫ي�أ ُمرهم وينهاهم و ُيدربهم‪ ،‬ثم فج�أ ًة توقفت «ما�سا» ك�أمنا �أ�صابها �شلل!‪،‬‬

‫ع‬
‫وتق َّو�س ج�سدها للوراء و�صدرت منها هنات من الأمل‪ ،‬ثم فتحت عينها و�صرخت‬

‫ص‬
‫تقطعة ق�صرية‪ ،‬ووقف اجلند ال يدرون ما يفعلون‪ ،‬و«عمرو» ي�ضيق‬ ‫�صرخات ُم ِّ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫عينه ويرقب‪ ،‬ثم �صرخت «ما�سا» �صرخ ًة من �صرخاتها الهائلة حتى و�ضع‬
‫البع�ض �أيديهم على �آذانهم‪ ..‬هنا تفتحت عني «عمرو بن جابر» تفتح الظفر‪،‬‬

‫ك‬
‫كانت «ما�سا» قد �أُخذت بوعيها من هذا العامل �إىل عامل �آخر؛ عامل الزال يبني‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫فيه اجلن هذه اجلوداكيوال‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫هنا حت َّرك «عمرو بن جابر»‪ ،‬وع�صف يف وجه اجلميع‪ ،‬فكان كاملارد الع�ضال‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�سوطا لعمرو بن جابر يف قتال‪ ،‬كانت‬ ‫�سوطا من واحد منهم‪ ،‬وال تعطي ً‬ ‫التقط ً‬

‫الت‬ ‫و‬
‫جل بداعته وحذاقته يف ال�سوط‪ ،‬ف�صرع �أقدامهم وجندل قاماتهم‪ ،‬كانوا ع�شرة‬

‫و‬
‫�أو يزيدون‪ ،‬وهو ُي ِوم�ض من هنا ويلمح من هناك‪ ،‬و�صورته فيهم مبظهره وهو‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بيد واحدة وانط َلق مي�ضي يف‬ ‫يرديهم جمي ًعا �صورة �أ�سطورية‪ ،‬ثم �أم�سك مبا�سا ٍ‬
‫دروب تعلوها ال�ضياء‪ ،‬لي�س يدري �إىل �أين ميكن �أن ُت�ؤدِّي‪ ،‬ف�إذا واجهه ميني �أو‬
‫دخل �إىل اليمني‪ ،‬و�إذا واجهه حائط ارتد‪ ،‬وكان ُ‬
‫ينظر �إىل «ما�سا» كل‬ ‫�شمال َ‬
‫حني وينتظر �أن ت�صحو‪� ،‬أما هي فقد كانت يف عامل من البنائني امل�شيدين‪،‬‬
‫فنظرت �إىل كل خمرج ودلفت �إىل كل منفذ‪ ،‬جنية كال�صورة ال يراها �أحد من‬
‫�أهل ال�صورة‪� ..‬أما «عمرو» فلم يكن لديه وقت‪ ،‬كان ين�صرف �إىل كل من�صرف‬
‫�أمامه‪ ،‬وبلغ النداء القا�صي والداين يف اجلوادكيوال‪ ،‬وطلع اجلن �أمامه من كل‬
‫تو�سعت‬
‫وظل مي�ضى حتى َّ‬ ‫جانب‪ ،‬فكان ُيهديهم ال�سوط‪ ،‬وال �شيء غري ال�سوط‪َّ ،‬‬
‫الدروب فلم ت ُعد �ض ِّيقة‪ ،‬وتناق�صت �شعابها فلم ت ُعد تتفرع كث ًريا‪ ،‬وبلغ منه‬
‫وظل مي�شي ويغالب حتى انتهى �إىل �شيء مل يجد منه فكاكا‪� ،‬شيء‬ ‫اجلهد مبلغه‪َّ ،‬‬
‫من اجلحيم!‬

‫‪283‬‬
‫الالفا ماجنا‪ ..‬حمم من الفا الرباكني يتخللها �صخر من املاجنا‪ ،‬وكان هذا‬
‫�شيء قار�س؛ فاملاجنا �صخور جاذبة �ساحبة ال ميكن جلن �أن يطري فوقها‪ ،‬والالفا‬
‫ت�أ ُكل كل �شيء مي�سها‪ ،‬تكاثر الكاثرون على «عمرو» واحت�شدوا‪ ،‬وهو يرتاجع �إىل‬
‫ينظر �إىل �أ�سفل الهاوية ويلمح حم ًما‪ ،‬كان ي�سمع عن وجود‬ ‫هاوية املاجنا‪ ،‬كان ُ‬
‫هذه الأ�شياء لكنه مل ي َر مثلها �إال الآن‪ ،‬وحا�صروه حتى وقف على العتبة‪ ،‬وفج�أة‬
‫ا�ستيقظت «ما�سا» كمن ي�شهق من غرق‪ ،‬ونظرت �إىل امل�شهد فا�ستوعبت الأمر‪،‬‬

‫ع‬
‫و«عمرو» ال يزال مي�سك بها بقوة‪ ،‬واجلند يقرتبون‪ ،‬ولكن «ما�سا» فع َلت �أم ًرا‬

‫ص‬
‫ال ُيكن �أن ُي�ص َّدق‪ ،‬وات�سعت عني «عمرو بن جابر» وقد �أحيط به‪ ،‬لقد دفعته‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫«ما�سا» دفعة قوية �إىل الهاوية‪ ،‬ف�سقط وكبا‪ ،‬و�أ�سقطت نف�سها وراءه‪ ،‬ومل تقدر‬
‫ع�ضالته الطائرة �أن ترتفع و�سحبته املاجنا‪ ،‬فهوى وتردى ب�سرعة �إىل �أفواه‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫احلمم‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ارتفعت يداه تتحا�شى وارتفع ر�أ�سه و�أغم�ضت عينه وانغم�س يف وجه احلمم‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫وانكم�شت �أ�ضالعه وغاب‪ ،‬ونظر اجلن من على الهاوية وا�ستداروا وان�صرفوا‪،‬‬

‫ش‬
‫وبانت ر�أ�س «عمرو» طافية من بني احلمم‪ ،‬ثم بانت ر�أ�س «ما�سا»‪ ،‬وانطوت‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�صفحتهما‪� ،‬أو كادت‪ ،‬فلقد كانت «ما�سا» تتح َّرك ومت ّد َيدها �إىل «عمرو»‬

‫و‬ ‫الت‬
‫وت�سحبه‪� ،‬أو ت�ستفيقه‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فتح «عمرو» عينه على �آخرها من هولة الرعب!‪ .‬ونظر حوله �إىل ما بدا له‬
‫�أنه اجلحيم‪ ،‬قالت له «ما�سا» و�سط متايل التيار‪ :‬لقد نظرت �إىل هذا املكان‬
‫خ�ضبوها ب َلون‬‫وهُ م عليه ماكثني يبنونه‪� ،‬إمنا هذه مياه من مياه البحر‪ ،‬ولقد َّ‬
‫احلمم‪ ،‬ترهي ًبا وتخوي ًفا!‪ .‬نظر «عمرو» حوله و� َآلته اخلدعة وقال‪ :‬قد كنتُ �أتفكر‬
‫ِ‬
‫حو�ضا من احلمم‪� ،‬إنه حتى‬ ‫كيف ميكن لبنيان �أيا ما كان نوعه �أن يحوي بداخله ً‬
‫معمار الإن�س ال يقدر على هذا‪ ..‬ثم �سبحا ب�صعوب ٍة بالغة وال�صخر يجذبهم‪،‬‬
‫وكان جميع االعتماد على قوة «عمرو بن جابر» الذي خرج من ذلك احلو�ض �إىل‬
‫�ساحة خالء‪ ،‬وارمتى بج�سده على الأر�ض من التعب‪.‬‬
‫تنظر �إىل �ساحة ف�ضاء لي�س فيها �شيء‪ ..‬وتوالت ثوان معدودات‬ ‫كانت «ما�سا» ُ‬
‫ثم قام «عمرو بن جابر»‪ ،‬واملاء من ج�سده يقطر وم�شى مع «ما�سا» ينظران �إىل‬
‫املكان‪ ،‬حتى انتهيا �إىل جدار مل ير «عمرو» يف حياته �أعظم منه جدار‪ ،‬عال‬
‫و�شمال‪� ،‬صلب قا�س ال تدري كيف‬ ‫ً‬ ‫متعال ال ترى �آخره‪ ،‬وا�سع يبلغ الأفق ميي ًنا‬
‫�صنعه �أحد‪� ،‬شعر «عمرو» بحركة من «ما�سا» فنظر لها ف�إذا هي ت�ضع يديها على‬
‫‪285‬‬
‫رقبتها وك�أنها متنع �شي ًئا!‪ ،‬وعلى الفور نظر «عمرو» �إىل ناحية من الي�سار‪ ،‬فر�آه‪،‬‬
‫مل يكن يجل�س القرف�صاء‪ ،‬ومل يكن يتل َّون كالثعبان‪ ،‬بل كان واقفا كالعفارتة‬
‫الطوال‪ ،‬يداه مقبو�ضتان �إىل جواره‪ ،‬وعينه تنظر يف �أحيح‪ ،‬كان ذاك «�سيدوك»‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫كان راع ًيا يرعى غنمه يف �سفح اجلبل‪� ،‬أ�سود الب�شرة زجن ًيا �شا ًبا‪ً ،‬‬
‫طويل‬
‫نحيل كثيف ال�شعر‪ ،‬يختلط �سواد �شعره ببيا�ض �شعر وراثي‪ ،‬يف وجهه َ�سمت‬ ‫ً‬
‫حمبب‪ ،‬وكان ا�سمه «بالل» ‪«-‬بالل بن رباح»‪ ،-‬كان حب�ش ًيا من مواليد مكة‪،‬‬
‫َعبد ل�سيد من �سادات مكة هو «عبد اهلل بن جدعان»‪ ،‬يرعى له غنمه‪ ،‬وكانت‬
‫تلك ظهرية هي �أجمل ظهرية م َّرت على «بالل» يف حياته‪ ،‬فلقد حدثت له ق�صة‬
‫منها العجب‪ ،‬قد كان يف تلك الظهرية مي�شي يقطب وجهه حلر ال�شم�س �إذ ر�أى‬
‫ك�أن وج ًها كالقمر يطل عليه من فوهة غار يف اجلبل‪ ،‬وجه ك�أنه وجه �أمري‪ ،‬ب�شعر‬
‫�أمري وبهاء �أمري‪ ،‬ومعه �صاحب له ح�سن املالمح‪ ،‬كان الأمري هو ر�سول اهلل‬
‫الرحمة املهداة ومعه �صاحبه «�أبو بكر» وكانا معتزالن يف غار‪ ..‬قال له الأمري‬
‫الر�سول‪ :‬يا راعي‪ ،‬هل من َلب؟‬
‫قال له «بالل»‪ :‬مايل �إال �ساة منها قوتي‪ ،‬ف�إن �سئتما �آثرتكما بلبنها اليوم‪..‬‬
‫ائت بها‪ ..‬فتحرك «بالل»‬ ‫ينطق ال�شني �سي ًنا‪ ،‬فقال له الر�سول‪ِ :‬‬ ‫وكان بالل ِ‬
‫�صاعدً ا �إىل الغار ومعه �شاة �صغرية جعلها له �سيده ي�شرب لبنها كل يوم على‬
‫�أال مي�س بقية ال�شياة‪ ،‬فجاء ر�سول اهلل بقعب فو�ضع يده امل�شرفة على ال�شاة‬
‫وحلبها حتى امتلأ القعب‪ ،‬ف�شرب النبي حتى روى‪ ،‬ثم حل َبها مرة �أخرى حتى‬
‫امتلأ بلبنها القعب‪ ،‬ثم �سقى «�أبا بكر» حتى روي‪ ،‬ثم حلبها مرة ثالثة وامتلأ‬
‫بالل‪ ،‬ثم ترك ال�شاة و�ضرعها يبني �أنه �أكرث امتالء مما‬ ‫القعب بلبنها‪ ،‬ف�سقى ً‬
‫راع‬
‫كان حالها ملا �صعد بها «بالل»‪ ،‬كان «بالل» �صامتًا ينظر وقد ُ�ص ِدم‪� ،‬إنه ٍ‬
‫منذ �سنوات ويعلم �أن هذا م�ستحيل‪� ،‬أن حتلب �شاة كهذه ثالث مرات وترتكها‬
‫و�ضرعها ممتلئ عن �آخره!‪� ،‬إنه كان ي�شرب منها كفا ًفا‪ ..‬قال له ر�سول اهلل‪ :‬يا‬
‫غالم‪ ،‬هل لك يف الإ�سالم؟ فحكى له ر�سول اهلل من �ش�أن الدين‪ ..‬ور َّقت عني‬
‫«بالل» وراقت مالحمه وان�شرح مبر�أى ر�سول اهلل �صدره وقلبه وروحه ذاتها‪،‬‬
‫وب�صحبته ت�ش َّرف‪ ..‬قال له النبي‪ :‬يا «بالل»‪ ،‬اكتُم �إ�سالمك‪ ..‬فقد كان‬
‫به َ�س ِع َد ُ‬
‫النبي يعلم �أنه �إن كان كل من �أ�سلم حتى الآن يحتمي بقبيلته من �أذى �سادات‬
‫فلي�س له �أحد يحميه‪ ..‬وان�صرف «بالل» وهو عن‬ ‫قري�ش‪ ،‬ف�إن من هو مثل «بالل» َ‬
‫را�ض‪ ،‬بل وهو عن الأر�ض كلها را�ض‪.‬‬ ‫حياته ٍ‬
‫وعاد «بالل» �إىل �أمالك �سيده «عبد اهلل بن جدعان»‪ ،‬الذي له يف مكة �آبار‬
‫ومزارع وعبيد يب ُلغ عددهم مائة عبد‪ ،‬وكان منهم عبد ذو �شعر �أحمر‪ ،‬هو ابن‬
‫�أمري يف بالد فار�س‪ ،‬ولقد رمته النوائب واملحن �إىل «عبد اهلل بن جدعان»‪،‬‬
‫«�صهيب الرومي» �صاحب «�سلمان»‪ ،‬يف تلك الظهرية ر�أى «�صهيب» ً‬
‫بالل عائدً ا‬
‫أفرحنا‬‫وال�سعادة يف قلبه باد َية على وجهه‪� ،‬س�أله «�صهيب» بلهجته الأجنبية‪ِ � :‬‬
‫معك يا «بالل»‪� ..‬أجا َبه «بالل»‪ :‬واهلل يابن فار�س لقد ر�أيتُ عج ًبا اليوم‪� ،‬أي‬

‫ع‬
‫عجب‪ ،‬لقد ر�أيتُ ر�سوال اليوم‪ ..‬خرج «�صهيب» من رتابة حياته و�س�أل وهناك‬

‫ص‬
‫ر�سول يا «بالل»؟ قال «بالل»‪ :‬نعم ر�سول و نبي‪...‬‬ ‫غ َر�ض يف نف�سه‪ :‬هل قلت ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وحكى ل�صهيب‪ ،‬فانفتحت ل�صهيب يف ذهنه كلمات حكاها له «�سلمان»‪ ،‬عن‬
‫نبي �أظلنا زمانه‪ ..‬لكن «�سلمان» كان يقول �أن الرجل النبي �سيكون مهاجره‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�إىل مدينة يكرث النخيل بها‪ ،‬والآن «بالل» يقول �أنه ر�آه يف مكة‪ ،‬ظ َّل «�صهيب»‬

‫ب‬
‫�ساهما‪ ،‬حتى �س�أله «بالل»‪ :‬ما بك يا «�صهيب»؟ قال‪� :‬أريد �أن �أرى النبي‪ ..‬قال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫له «بالل»‪ :‬قد علمتُ �أنه يجتمع ب�أ�صحابه يف دار الأرقم‪ ،‬فانط ِلق �إليها‪ ..‬وحزم‬

‫ش‬
‫«�صهيب» �أمره‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫وانطلق من فوره �إىل �سفح جبل ال�صفا‪ ،‬عنده دار الأرقم‪ ،‬فوجد رجلني‬

‫الت‬
‫واقفني على الباب فظن �أنهما حار�سني‪ ،‬كان �أحدهما ً‬

‫و‬
‫ً‬
‫عري�ضا �أزرق‬ ‫طويل‬

‫ز‬
‫العينني‪ ،‬كان هذا «عمار» ‪«-‬عمار بن يا�سر»‪ ،-‬وكان الآخر م�ست�ضع ًفا يف مظهره‬

‫يع‬
‫وا�سمه «خباب»‪«- ،‬خباب بن الأرت»‪ ،-‬قال له «عمار» ذو العيون الزرق‪ :‬ماذا‬
‫تريد؟ قال «�صهيب»‪ :‬بل �أنت ماذا تريد؟ قال «عمار»‪� :‬أردتُ �أن �أدخل على حممد‬
‫و�أ�سمع كالمه‪ ..‬رفع «�صهيب» حاجبيه وقال‪ :‬و�أنا �أريد ذلك‪ ،‬لكن ملاذا تقف مع‬
‫�صاحبك باخلارج؟ قال له «خباب»‪� :‬إن حممد لي�س هنا‪ ،‬قد خرج و�صاحبه �إىل‬
‫غار يعتزالن ولقد اقرتب �أ َوان عودتهما‪ ..‬فوقف «�صهيب» معهما‪ ،‬ثالثة كانوا من‬
‫امل�ست�ضعفني‪� ،‬صهيب عبد‪ ،‬وعمار ذو العني الزرقاء موىل‪ ،‬واملوايل م�ست�ضعفني‪،‬‬
‫والعرب ت�سمي كل �أجنبي يعي�ش يف بالدهم موىل‪ ..‬وكان «عمار» من الي َمن‪� ،‬أما‬
‫«خباب» فكان حلي ًفا‪ ،‬واحلليف هو الذي ال �أ�صل له لكنه دخل حتت حماية قبيلة‬
‫معينة‪ ،‬وه�ؤالء يكونون م�ست�ضعفني � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫�أما الر�سول و�صاحبه فقد نزال من ذلك الغار بعد �أن �أنه َيا ُعزلتهما‪ ..‬وم�شيا‬
‫نحيل جدً ا يكاد يبني منه تفا�صيل‬ ‫�سارحا بغنماته‪ ،‬كان فتى ً‬
‫ليجدا راع ًيا �آخر ً‬
‫عظمه‪ ،‬له �شعر جميل يجعله �إىل اخللف ندي رطب ك�أمنا و�ضع عليه ً‬
‫ع�سل‪،‬‬
‫كان ذاك «عبد اهلل»‪«-،‬عبد اهلل بن م�سعود»‪ ،-‬وهو حليف‪ ..‬ناداه ر�سول اهلل‬
‫‪287‬‬
‫فقال له‪ :‬يا غالم‪ ،‬هل من لنب؟ قال «ابن م�سعود»‪ :‬نعم‪ ،‬ولكني م�ؤ َمتن‪ ..‬فقال‬
‫له ر�سول اهلل‪ :‬فهل من �شا ٍة مل َي ْن ُز عليها الفحل؟ يعني مل ُيل ِّقحها‪ ،‬وتلك ال يكون‬
‫يف �ضرعها لنب‪ ..‬قال له «ابن م�سعود»‪ :‬نعم‪ ..‬ف�أتاه ب�شا ٍة عذراء‪ ،‬فم�سح ر�سول‬
‫اهلل بيده على �ضرعها ثم حل َبها يف �إناء‪ ،‬و«ابن م�سعود» واقف حائر يف ده�شته!‪،‬‬
‫فقل�ص ال�ضرع �إىل �سابق عهده!‪ .‬مل يتمالك «ابن‬ ‫ثم قال النبي لل�ضرع‪ :‬ا ْق ِل ْ�ص‪َ ،‬‬
‫م�سعود» نف�سه فقال‪ :‬ع ِّلمني من هذا القول‪ ..‬فم�سح ر�سول اهلل ر� َأ�سه وقال له‪:‬‬

‫ع‬
‫يرحمك اهلل‪� ،‬إنك غالم معلم‪ ..‬وح َّدثه النبي عن ربه‪ ،‬وحدثه عن الإ�سالم‪ ،‬وتال‬

‫ص‬
‫عليه القر�آن‪ ،‬و«ابن م�سعود» يف عامل �آخر‪ ..‬قال له يا ر�سول اهلل علمني من هذا‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫القر�آن‪ ..‬فتال عليه النبي وتال‪ ،‬حتى ارتوى بن م�سعود‪ ،‬مل ي ُكن الكالم القر�آين‬
‫ف�صيحا منغ ًما يخاطب الروح‪ ،‬فكان «ابن م�سعود»‬
‫ً‬ ‫معتادًا على � ُأذن العرب‪ ،‬وكان‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يرتن‪ ،‬ومل يرتك ر�سول اهلل يف‬ ‫ي�ستزيد منه وكلما ي�ستزيد ي�ستنري‪ ،‬وكلما يت�سمع َّ‬

‫ب‬
‫يومه هذا �إال وقد �أخذ من فمه ال�شريف �سبعني �سورة‪ ،‬هي كل ما نزل من القران‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫حتى تلك اللحظة‪.‬‬

‫ش‬
‫وعاد ر�سول اهلل و�أبو بكر وم َّرا بدار الأرقم فوجدا ثالثة ينتظرون‪ ..‬ثالثة‬

‫و‬ ‫ر‬
‫كانوا ينظرون �إىل نور «حممد» ملا �أقبل عليهم‪ ،‬كان النبي ذا طول وفخامة‪،‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫دوما الفتا �أميا كان يرتدي‪ ،‬وله تب�سم يل َقى به‬‫بعيد ما بني املنكبني‪ ،‬فيظهر ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫النا�س‪ ،‬ف�إذا تب�سم ظهر ك�أنه �أكحل العينني ولي�س ب�أكحل‪ ،‬فلم ين�شب الثالثة �إال‬
‫�أن �أ�سلموا‪ ،‬و�أ�سلم قبلهم «بالل» و«ابن م�سعود»‪ ،‬فزاد اخلم�سة على ال�سابقني‬
‫فقارب امل�سلمون �سبعني‪ ،‬يتع َّلمون يف بيت الأرقم ويبت�سمون وترتاح �أرواحهم‪،‬‬
‫لكن القدر كان يخبئ لهم �أياما مل يدركوا خطرها‪� ،‬أيام من الأمل‪.‬‬

‫‪z‬‬

‫‪288‬‬
‫جبال عاليات ُي�س ِّميها الأهايل من الإن�س ال�ساكنني عندها جبال حمكمة‬ ‫اجلوداكيوال‪ٌ ،‬‬
‫ال�شيطان‪ ،‬قابعة وراء غابة كثيفة‪ ،‬جبال طوال �أ�سند لها الأهايل �أ�ساطري و�أ�ساطري‪ ،‬يف قارة‬

‫ع‬
‫�سموها الأر�ض التي وراء بحر‬ ‫بعيدة عظيمة يف غرب الأر�ض �أول من �أبحر �إليها العرب‪ُّ ،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫الظلمات‪ ،‬ثم �سماها الأغراب �أمريكا‪ ،‬عند �ساحل تلك الأر�ض ال�رشقي تقع تلك اجلبال‪ ،‬جبال‬

‫ال‬
‫حمكمة ال�شيطان‪ ،‬اجلوداكيوال‪ ،‬جمرد ذكر ا�سمها ُيرهب و ُيرعب‪.‬‬

‫ك‬
‫ن�سكن يف كل مكان بعيد عن �سفاهتكم‪ ،‬نفو�سنا تعافكم وتنفِر‬ ‫نحن وجن�سنا العايل ُ‬

‫ت‬
‫منكم‪ ،‬كما تبتعدون �أنتم يف م�ساكنكم عن م�ساكن ال�ضباع‪ ،‬لنا مدائننا و�أم�صارنا وبالدنا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ن�ستعمر من الأر�ض �أكرث مما ت�ستعمرون‪ ،‬البحر ن�ستعمره وهو ثلثي الكوكب‪ ،‬ال�صحراء‬

‫ش‬
‫ن�ستعمرها وهي ثلث الياب�سة يف الكوكب‪ ،‬وعليك احل�ساب‪...‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫َ‬
‫دعك من هذا‪� ،‬إن لدي �شيئًا لك‪.‬‬

‫و‬
‫ل�سكرت �أب�صار الإن�س‪،‬‬ ‫َ‬
‫أخربتك �أننا ال نُرى‪ ،‬ولن نُرى‪ ،‬ولو ر�ؤينا ور�ؤي عاملنا ُ‬ ‫كنت �‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فئات و�أزياء وبنيان ودروب‪ ،‬وتزاوج وتناحر وحتزُّ ب ورئا�سات‪ ،‬مثل عاملكم �أو �أ�شد‪ ..‬يكفي‬
‫�أن تعرف �أن هناك من القرناء فقط �أتباع «لو�سيفر» ما يكفي لكل ب�رشي على الأر�ض‪ ،‬و�إن‬
‫ولد فيكم يف كل يوم مائة �ألف‪ ،‬وبقية اجلن �أ�ضعاف �أ�ضعاف القرناء‪ ،‬لذلك ن�سكن �أكرث‬
‫كنت من �أ�شد ال�سحار ً‬
‫فتكا‪.‬‬ ‫ول�ست ترى ولن ترى من هذا �شيئًا‪ ،‬و�إن َ‬
‫َ‬ ‫م�ساحات الأر�ض‪،‬‬
‫ولعلك �سائل نف�سك‪ ..‬كيف يتعامل ال�سحرة مع توابعهم من اجلن وهم �أ�صال ال يرونهم!‪،‬‬
‫تكرر ق�صري الطبقة ال يعرفه �إال ال�سحار‪،‬‬
‫جميع التعامل يكون بالقر يف الأذن‪ ،‬والقر �صوت ُم ِّ‬
‫نلقيه يف �أذن الكاهن‪ ،‬لكنا ال نلقيه �إال �إذا دخل الكاهن يف حالة اال�سرتواح‪.‬‬
‫�ساحرا �أو كاهنا‪ ،‬ال يوجد‬
‫ً‬ ‫�أذن الإن�س ال ت�سمعنا وعني الإن�س ال ترانا‪� ،‬أميا كان هذا الإن�س‪،‬‬
‫�إن�سي ي�ستطيع �أن ُي ِّغي تراكيب خلقة �أذنه وعينه‪ ،‬فاحلل يف اال�سرتواح‪.‬‬
‫هي تلك احلالة بني اليقظة والنوم‪ ،‬مبا�رشة قبل �أن تدخل �إىل النوم‪ ،‬وقطع من عامل اليقظة‬
‫خروجا طفي ًفا من اجل�سد‪ ،‬لي�س‬
‫ً‬ ‫تخرج الروح‬
‫الزالت ترتاءى لك وحت�س بها‪ ،‬هذه احلالة حيث ُ‬

‫‪289‬‬
‫كخروجها �أثناء النوم‪ ،‬هذه احلالة هي رفاهتنا و�سلطاننا‪ ،‬لأن �ألعابنا يف روحه تتحول �أمامه‬
‫�إىل �صور و�أ�صوات تختلِط يف واقعه‪ ،‬فت�ؤ ِّثر عليه � ًأثرا ً‬
‫عظيما‪ ،‬لي�س كت�أثري النوم الذي يعرف‬
‫�أنه نوم‪.‬‬
‫خلوة ال�ساحر الطويلة يف الظلمة وجوعه ال�شديد يجعل روحه ت�صفو وت َّتقِد‪ ،‬ويتع َّلم‬
‫ويخرج منها �إذا‬
‫ُ‬ ‫وحده مبا�رشة كيف ُيدخل نف�سه يف تلك احلالة‪-‬اال�سرتواح‪ -‬ويطيل ُم َّدتها‬

‫ع‬
‫�أراد‪ ،‬وفيها ي�سمع �صوتنا ونته َّي�أ له بهيئات وهيئات‪.‬‬

‫ص‬
‫حتدث‬
‫أحدا يقول �أنه يرى اجلن �أو ي�سمع اجلن واعلم �أنه كاذب؛ احلكاية كلها ُ‬
‫ُ�صدق � ً‬
‫فال ت ِّ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف اال�سرتواح‪ ،‬ولكن‪..‬‬
‫بع�ض بني الإن�سان تكون لهم �أرواح مت� ِّأججة �صافية لدرجة �أن �أطرافها تربز خارج‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أج�سادهم‪ ،‬وهم كذلك يف حالة اليقظة‪ ..‬ه�ؤالء �إذا �ألقينا �شيئًا �إىل �أرواحهم تلك‪ ،‬جتد �أرواحهم‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يظن �أنه ي�سمع �صوت كذا‬ ‫ترجمت �أي �شيء نُلقيه �إىل �أ�صوات و�أ�شكال‪ ،‬فتجد �أحدهم ُ‬ ‫َ‬ ‫قد‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�أو يرى �شكل كذا‪ ،‬وكلها هلو�سات نحن ن�صنعها يف روحه التي تظهر �أمامنا طيلة الوقت‪،‬‬

‫ر‬
‫هذا قد يقول لك �أنه يرى اجلن وي�سمع اجلن‪ ،‬هذا يكون قد كالمه بالن�سبة لنف�سه �صدق‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ولكن �سماعه ور�ؤياه كذب‪ ،‬نحن ال ترانا وال ت�سمعنا �إال بع�ض فئات احليوانات‪ ،‬هكذا ُخلقت‬

‫و‬
‫�آذانهم وعيونهم‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أ ُفق عني الإن�سان يختلف عن �أ ُفق عني احليوانات‪ ..‬و�إن �صنع الإن�سان عد�سات ومناظري‬
‫�صورا غري مرئية‬
‫لريانا فلن يرانا‪ ،‬لأن تلك العد�سات ال�صماء التي ال عقل لها يف النهاية ترى ً‬
‫ً‬
‫خطوطا ودوائر تراها عينه هو‪ ،‬البد‬ ‫تُرتجمها �إىل �صور تراها عني ذلك الإن�سان‪ ،‬ف�ستظهر له‬
‫حتى ترانا �أن تكون عينك �أنت املخلوق الواعي خملوقة على �أفق ر�ؤيتنا‪.‬‬
‫علمت العلم فال يخدعن ََّك �ساحِ ر وال �شيطان‪ ،‬وال كاهِ ن وال �إن�سان‪.‬‬
‫الآن قد َ‬

‫‪z‬‬

‫‪290‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪292‬‬
‫(‪)12‬‬

‫وجه األيام البشع‬


‫يوم في�ستبقون �إليها‪ ..‬قطع من نور‬ ‫ِقطع من نور النبي كانت تتنزَّل كل ٍ‬
‫«حممد»‪� ،‬أنوار كانت تتنزَّل من بيت العزة‪ ،‬من عند الكرام الربرة فيتلوها‬

‫ع‬
‫ينطق عن الهوى وما‬ ‫قر�آ ًنا‪� ،‬أو يعر�ضها عليه «جربيل» فيخربها و ُيب ِّلغها‪ ،‬ما كان ِ‬

‫ص‬
‫كانوا يرتكون من حديثه حر ًفا �إال تل ُّقوه بالوعي الأكمل‪� ،‬صحابة كانوا �سابقني‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫رجل �أو يزيدون حفل بهم دار الأرقم فملأوا جميع جوانبه‪ ،‬كثري منهم‬ ‫ثمانني ً‬
‫مو�ضع لهم‪ ،‬نظر «�أبو بكر» �إىل اجتماعهم وتفانيهم‬ ‫جلو�س وكثري منهم قيام ال ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ف� َّألح على النبي يف الظهور‪� ،‬أن يظهروا دعوتهم نف�سها‪ ،‬و�إن قري�ش مل تكن تهتم‬

‫ب‬
‫�أن يفعل احلنفاء يف اجلاهلية ما يريدون‪� ،‬أن ي�سجدوا كما يريدوا ويع ُبدوا ربهم‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫كما يريدوا‪ ،‬فما كانوا يعب�أون بكالم «�أمية بن �أبي ال�صلت» يف التوحيد وال كالم‬

‫ش‬
‫«زيد بن عمرو» بن نفيل يف بداية �سريته‪ ،‬لكن امل�شكلة تبد�أ �إذا حتول الأمر‬

‫ر‬
‫النتقاد دين قري�ش و�أ�صنام قري�ش والتنق�ص منها‪ ،‬هنا تثور قري�ش وتطرد «زيد‬

‫الت‬ ‫و‬
‫بن عمرو» وتقتله‪ ،‬و�إن «�أبا بكر» كان ُيلح على النبي �أن يظهروا دعوتهم للنا�س‬

‫و‬
‫عالن َية وينتقدوا جاهلية القوم و�أوثانهم عالنية‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫حتى هذه احلظة كانت قري�ش تعلم بحنيفيتهم و�إ�سالمهم ونبيهم و�سجودهم‬
‫واجتماعهم يف دار الأرقم‪ ..‬لكنهم كانوا حالهم حال �أنف�سهم ال ينتقدون دين‬
‫غريهم وال ينتقد �أحد دينهم‪ ،‬و�إن دعوا دعوا املقربني و�أ�س ُّروا لهم بالدعوة‪..‬‬
‫�أما الآن ف�إن «�أبو بكر» يلح يف اجلهر والنقد‪ ..‬قال له ر�سول اهلل‪ :‬يا �أبا بكر �إنا‬
‫قليل‪ ..‬ف� َّألح و�أ�ش َّد «�أبو بكر» يف ذلك ومل ي ُكن لدى النبي من الوحي ما مي َنعه‪،‬‬
‫وتوجهوا جمي ًعا‬
‫فوافق النبي‪ ،‬وخرج «�أبو بكر»‪ ،‬وخرج النبي‪ ،‬وخرج امل�سلمون‪َّ ،‬‬
‫�إىل �صحن الكعبة‪.‬‬
‫يف تلك الباكرة �شهد ال�صحن احلرام م�شهد رجال قد �أتوا ويف قلوبهم رغبة‬
‫منحوتة و�أ�صنام‪ ،‬ومل‬ ‫اهلل وجل�سوا يف و�سط م�سجد اهلل بكل ما فيه من وجوه ُ‬
‫جلو�سا ع�شوائ ًيا؛ بل �أتى كل واحد منهم بع�ش َريته حتميه‪ ،‬وقام الرجل‬ ‫يجل�سوا ً‬
‫�صاحب التخطيط «�أبو بكر»‪ ،‬قام يف و�سط امل�سجد خطي ًبا و�صدح بخط َبة فيها‬
‫ما فيها من اعرتا�ض‪ ،‬يف و�سط معقل قري�ش �صات �صوت من قري�ش �ضد عقيدة‬
‫قري�ش‪ ،‬العقيدة التي يبنون عليها �أموالهم وحجهم ومقامهم بني القبائل‪،‬‬
‫‪297‬‬
‫وجتمع النا�س وا�ستثريت حميتهم‪ ،‬وجت َّهمت وجوههم وقلوبهم‪ ،‬ونظروا �إىل كل‬
‫رجل حممي يف ع�ش َريته‪ ،‬و«�أبو بكر» واقف يخطب وينكر على القوم وي�شري �إىل‬
‫وجوه الأ�صنام ثم ي�شري �إىل ر�سول اهلل‪ ،‬ثم ي�شري �إىل امل�سلمني‪ ،‬كان «�أبو بكر»‬
‫ُيد ِّلل �أن هذه مل ت ُعد ب�ص َرية رجل واحد �أو اثنني‪ ،‬بل هي عقيدة لها يف كل بطن‬
‫ورجلني‪ ،‬و�صار يدعو جه ًرا �إىل دين اهلل و�إىل ر�سول‬ ‫رجل ُ‬ ‫من بطون قري�ش ً‬
‫اهلل واالن�صراف عن هاته التماثيل ال�شائخة التي ُتذبح لها القرابني من الرقيق‬

‫ع‬
‫والب�شر تق ُّر ًبا و ُتو�أد لها البنات تزل ًفا‪ ،‬ويتحاكم �إليها الرجال باال�ست�سقام فتقتل‬

‫ص‬
‫من ت�شاء وتع ُفو عمن ت�شاء‪ ،‬وهي بعد كل هذا ُظلل و�صور يف اخليال ال ُ‬
‫ت�ضر وال‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫تنفع‪ ..‬وتوتَّر احلرم وز ّوار احلرم و�أتى من مل يكن باجلوار لينظر‪ ،‬حتى حدث‬
‫�شيء واحد ك�س َر زمام الغا�ضبني!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫رجل من وجهاء مكة دنا من «�أبو بكر» يف احتداد‪« ،‬عتبة بن ربيعة»‪ ،‬بكل طو ِله‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫وهامته وفرو�س َّيته اقرتب يف عداء وفجور وبدون بادرة وال �شاردة هجم على‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫«�أبو بكر» فج�أ ًة يف فج�أة من اجلميع وخ َلع نع َليه و�أخذ ي�ضربه �ضرب قتل ولي�س‬

‫ش‬
‫وهب امل�سلمون لإنقاذ‬
‫�ضر ًبا عاد ًيا‪ ،‬فكانت تتناثر دماء «�أبو بكر» مع كل �ضربة!‪َّ ،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�أبي بكر فهب الغا�ضبون حول امل�شهد ل�ضرب امل�سلمني انت�صا ًرا لأ�صنامهم ومل‬

‫الت‬
‫َّ‬

‫و‬
‫واكتظ امل�سلمون حول ر�سول اهلل ُيبعدونه‬ ‫يعب�أوا �أن كل رجل قد �أتى بع�شريته‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫عن امل�شهد حتى اطم�أنوا عليه وتركوه عند ال�صفا‪ ،‬ثم عادوا لين�صروا «�أبا بكر»‬
‫�سقط بني دمائه التي ع َلت وجهه و�سكنت حركته ً‬
‫متاما فلم ي ُعد‬ ‫الذي كان قد َ‬
‫يعرف �أم ِّيت هو �أم حي!‪ ،‬وكان هرج وكان مرج‪ ،‬وجاءت بنو تيم‪ ،‬ع�شرية «�أبو‬
‫عجل وكان جميئهم فار ًقا جدً ا ف�أبعدوا املُحت�شدين حول «�أبي بكر»‬ ‫بكر» على َ‬
‫ثوب وهو ال يبني �أنفه من وجهه من غمرة الدماء‪ ،‬وقالت‬ ‫وحملوا «�أبا بكر» يف ٍ‬
‫بنو تيم واهلل لئن مات «�أبو بكر» لنق ُتلنَّ «عتبة بن ربيعة»‪.‬‬
‫وعند ال�صفا‪ ..‬كان يقف رج ٌل من نوع �آخر‪ ،‬نوع م�ؤذ‪ ،‬نحيل اجل�سم حاد‬
‫الوجه ال حل َية له وال �شارب‪� ،‬سيد من �سادات قري�ش‪�« ،‬أبو احلكم بن ه�شام»‪،‬‬
‫اعرت�ض طريق النبي «حممد» ويف عينه �أطوار من الأذى والبغ�ضاء‪ ،‬ومل ي ُكن‬
‫ف�سب الرجل املاجن ر�سول اهلل‪ ،‬و�شتم الرجل البذيء ر�سول اهلل‬ ‫�أحد حولهما‪َّ ،‬‬
‫وعاب عليه وا�ستنق�ص منه ومن دين اهلل‪ ،‬و�آذى الرجل اخلبيث ر�سول اهلل وبلغ‬
‫عمل ب�أمر ربه �أن يعر�ض‬‫منه كل ما يكره‪ ،‬ومل يكلمه ر�سول اهلل ومل ي ُرد عليه ً‬
‫عمن يجهل عليه‪ ..‬وعاد «�أبو احلكم» اخلبيث �إىل �صحن الكعبة وكان احل�شد قد‬
‫‪298‬‬
‫تنظر‬ ‫بد�أ ينف�ض وعاد كل ف�صيل �إىل ف�صيله‪ ،‬وكانت هناك امر�أة يف نافذة بيتها ُ‬
‫�إىل ما نال ال�سفيه من «حممد»‪.‬‬
‫وكان بنو تيم يف م�صيبة‪ ..‬ف�إن «�أبا بكر» ال ينطق‪ ،‬وك�أن ل�سانه قد �شل مع‬
‫ال�ضرب‪ ،‬وظ َّل �أبوه و�أمه يربتان عليه ويط ِّببانه حتى �أفاق‪ ،‬فكانت �أول كلمة‬
‫فعل ر�سول اهلل؟ فقاموا عليه ي�ستخرجون منه احلديث وهو ال يقول‬ ‫قالها‪ :‬ما َ‬
‫حلت عليه بقلبها‪ ..‬فقال ما‬ ‫�إال قول ًة واحدة‪ :‬ما فعل ر�سول اهلل؟ فخ َلت به �أمه و�أ َّ‬

‫ع‬
‫فعل ر�سول اهلل؟ قا َلت‪ :‬واهلل مايل ِعلم ب�صاحبك‪ ..‬قال لها‪ :‬فاذهبي �إىل فاطمة‬ ‫َ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ف�س ِليها عنه‪ ..‬فخرجت الأم حتى �أتت‬ ‫بنت اخلطاب زوجة �سعيد بن زيد بن نفيل َ‬

‫ال‬
‫ألك عن حممد‪ ..‬وخافت‬ ‫«فاطمة بنت اخلطاب» فقا َلت‪ :‬يا فاطمة �إن �أبا بكر ي�س� ِ‬
‫خب عن ر�سول اهلل بعد هذا الهرج‪ ..‬فقا َلت‪ :‬ما �أعرف �أبا بكر وال‬ ‫فاطمة �أن ُت ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وجدت‬ ‫فم�ضت معها حتى َ‬ ‫معك �إىل ابنك‪َ ..‬‬ ‫أحببت �س�أم�ضي ِ‬ ‫حممد‪ ..‬لكن �إن � ِ‬

‫ب‬
‫َّ‬ ‫ً‬

‫ل‬
‫قوما‬ ‫«�أبا بكر» �صريعا ُمتهالكا‪ ،‬فت�أثرت و�أعلنت بال�صياح وقالت له‪ :‬واهلل �إن ً‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫منك لأهل ِف�سق و ُكفر‪ ،‬و�إين لأرجو �أن ينت ِقم اهلل لك‪ ..‬قال لها‪ :‬ما َ‬
‫فعل‬ ‫نا ُلوا َ‬

‫ش‬
‫عليك منها‪ ،‬ف�أين هو؟‬ ‫ر�سول اهلل؟ قا َلت له‪� :‬إن هذه �أمك ت�س َمع‪ ..‬قال‪ :‬فال عني ِ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫طعاما �أو �أ�شرب‬‫علي �أال �أذوق ً‬ ‫قالت‪ :‬هو يف دار الأرقم‪ ..‬قال «�أبو بكر»‪ :‬ف�إن هلل َّ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�شرا ًبا حتى �آتي ر�سول اهلل‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫هد�أ النا�س و�سكنوا ثم خرجتا به وهو يتكيء على �أمه حتى‬ ‫فتم َّهلوا حتى َ‬
‫أكب‬
‫أكب عليه النبي الر�ؤوف و� َّ‬ ‫�أدخلته على ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف� َّ‬
‫أنت و�أمي‪،‬‬ ‫عليه امل�سلمون‪ ،‬ورق له ر�سول اهلل رقة �شديدة‪ ..‬قال «�أبو بكر»‪ :‬ب�أبي � َ‬
‫لي�س بي ب�أ�س‪� ،‬إال ما نال الفا�سق من وجهي‪ ،‬وهذه �أمي برة بوالديها‪ ،‬و�أنت‬
‫مبارك فادعها �إىل اهلل عز وجل وادع لها ع�سى �أن ي�ستنقذها بك من النار‪..‬‬
‫فدعا لها ر�سول اهلل ودعاها �إىل ربه ف�أ�سل َمت‪.‬‬
‫متو�شحا‬
‫ً‬ ‫وجاءت امر�أ ٌة �إىل الأ�سد «حمزة بن عبد املطلب»‪ ..‬وكان ً‬
‫مقبل‬
‫قو�سه عائدً ا من رحلة قن�ص من رحالته‪ ،‬وكانت عادته �إذا عاد من قن�صه �أال‬
‫ناد من‬ ‫يعود �إىل �أهله حتى يطوف بالكعبة‪ ،‬وكان �إذا فعل ذلك ال ُمير على ٍ‬
‫قري�ش �إال و َقف و�س َّلم وحت َّدث معهم‪ ،‬وكان �أعز فتى يف قري�ش و�أقواهم �شكيمة‪،‬‬
‫أيت‬ ‫وكان خاف ًيا �إ�سالمه حماي ًة لر�سول اهلل‪ ..‬فقالت له املر�أة‪ :‬يا �أبا عمارة لو ر� َ‬
‫لقي ابن �أخيك حممد �آن ًفا من �أبي احلكم بن ه�شام‪ ،‬وجده هاهنا ف�آذاه‬ ‫ما َ‬
‫و�س َّبه وبل َغ منه ما يكره‪ ...‬فخرج «حمزة» �سري ًعا ي�سعى ال يقف على �أحد‪ ،‬ودخل‬
‫‪299‬‬
‫�صحن الكعبة ونظ َر �إىل «�أبي احلكم» جال�سا يف القوم ف�أم�س َكه ورف َعه بيد واحدة‬
‫ف�شجت ر�أ�س «�أبو احلكم»‪..‬‬‫و�ضربه على ر�أ�سه بالقو�س بكل عنفوان «حمزة» َّ‬
‫وقال له‪� :‬أت�شتمه و�أنا على دينه �أقول ما يقول؟ فقام له الرجال حول «�أبو‬
‫احلكم» لين�صروه وقالوا‪ :‬يا حمزة ما نراك �إال قد �صب�أت‪ ..‬فقال‪ :‬وما مينعني‬
‫حلق‬‫وقد ا�ستبان يل �أنه ر�سول اهلل‪ ،‬و�أنا �أ�شهد �أنه ر�سول اهلل و�أن ما يقول َ‬
‫فامنعوين �إن كنتُم �صادقني‪ ..‬قال «�أبو احلكم» من بني الدماء التي ت�سيل على‬

‫ع‬
‫قبيحا‪ ..‬بعدها عر َفت قري�ش‬ ‫وجهه‪ :‬دعوا �أبا عمارة‪ ،‬فلقد �سببتُ ابن �أخيه �س ًّبا ً‬

‫صري ال ‪z‬‬
‫ب�إ�سالم «حمزة»‪ ،‬وعلمت �أن هناك �أ�سدً ا يحمي حممدً ا‪� ،‬أ�سد قنا�ص‪ ..‬لكن بقية‬
‫امل�سلمني‪ ،‬مل ي ُكن مينعهم �أحد‪ ،‬ف�أ َرتهم الأيام التالية وج ًها ُمتل ًفا‪ ،‬وجه ِ‬
‫ب�شع!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�إن «عمرو بن جابر» بال�سوط �شيء و«عمرو بن جابر» بدونه �شيء �آخر‪ ..‬ففي‬

‫بإىل الالمكان وال يظهر فيهما �إال الغليل‬


‫والكراهية‪ ،‬مل يتك َّلم كل َمة لكنه م�شى � لإىللن«ما�سا» م�شية ال�شر ك�أن «عمرو» ال‬
‫مارد �أ�س َود مليء بالبغ�ضاء‪ ،‬لكن الغرمي الدام�س‬ ‫تل ُكم ال�ساعة رفع ال�سوط على‬
‫«�سيدوك» كان واق ًفا وك�أن عينه ُ‬

‫ش‬
‫تنظر �‬

‫«�سيدوك» حلظة واحدة ثم �أكمل خطواته‪ ،‬فرمىر«عمرو» بال�سوط �إىل رقبته‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫ف�أم�سك الأ�سود بر�أ�س ال�سوط وح َّرك قب�ضته حرك ًة و‬
‫بال�سوط �ضربة يف الهواء‪ ،‬فتوقف‬ ‫وجود له!‪ ،‬فاعرت�ض «عمرو» طري َقه و�ضرب‬

‫و‬ ‫ت‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫ي�سرية قطعت ال�سوط يف‬

‫ع‬
‫حدث يحتاج لقوة بدنية‬ ‫ثانية واحدة!‪ ،‬وات�سعت عني «عمرو بن جابر»‪ ،‬هذا الذي‬
‫خطته تتغري‪،‬‬ ‫عالية جدً ا‪ ..‬وبد�أ ينظر �إىل «�سيدوك» نظرة خمتلفة جدً ا‪ ،‬وبد�أت‬
‫وتوجه بها �إىل اجتاه غري متوقع‪،‬‬ ‫فانطلق �إىل «ما�سا» والتقطتها ك�أنها ِطفلة‪َّ ،‬‬
‫توجه بها �إىل الأعلى‪.‬‬
‫مبحاذاة اجلدار ال�صلب الطويل كان «عمرو» يرتفع ارتفاع اجلن ً‬
‫حامل‬
‫معه «ما�سا» التي مل تكن تقدر على الطريان‪ ،‬ارتفع باغ ًيا �أن ي�صل �إىل �أعلى‬
‫اجلدار‪ ..‬ع ِل َم «عمرو» �أن مواجهة «�سيدوك» هي �شيء م�ستحيل‪ ،‬و�أن احلل‬
‫الوحيد هو الهرب؛ فلو �أن «�سيدوك» هذا �ضربه مر ًة واحدة بتلك القب�ضة‬
‫التي ميلكها لته َّدمت عظام «عمرو» كلها‪ ،‬لذا مل ُي ِ�ضع «عمرو» وقتًا‪ ،‬فقط زاد‬
‫من �سرعة ارتفاعه‪ ،‬ثم ت�ضاعف ات�ساع عينيه وت�سارعت �ضربات قلبه تخفق‬
‫فارعا مديدً ا‪ ،‬لكن‪ ،‬هذا اجلدار يتح َّرك �إىل‬ ‫باخلوف‪ ،‬هذا اجلدار‪ً ،‬‬
‫طويل كان ً‬
‫الأعلى كلما ارتفع «عمرو»‪ ،‬مهما كانت �سرعة ارتفاعه!‪ ،‬نظر «عمرو» �أ�سفل منه‬
‫‪300‬‬
‫ليجد «�سيدوك» بكل جهامته وب�أ�سه يرتفع الح ًقا به يبغيه‪ ،‬ومل يكن «عمرو»‬
‫ليجاري ُ�سرعة مارد‪.‬‬
‫يف ثانية كان «�سيدوك» قد و�صل �إىل ارتفاع «عمرو»‪ ..‬ثم اندفع �إليه ً‬
‫قاب�ضا‬
‫قب�ضته‪ ،‬وفج�أ ًة ترك «عمرو» «ما�سا»‪ ،‬تركها من يده ت�سقط �إىل الأ�سفل‬ ‫على َ‬
‫وابتعد هو ب�أ�شد ُ�سرعة ميلكها ج�سده عن قب�ضة «�سيدوك»‪ ،‬وجنح‪ ،‬جنح يف‬
‫التفادي‪ ،‬و�ضربة «�سيدوك» وا�صلت طريقها من �سرعتها وقوتها حتى �صدمت‬

‫ع‬
‫قب�ضته احلائط ال�صلب‪ ..‬و�سمع «عمرو» لل�صدمة دو ًّيا لو كان �أ�صابه لهلك‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫�سبحان الذي �أعطى القوة لأولئك املردة‪ ،‬ويف جزء من الثانية اختفى «عمرو»‬

‫ال‬
‫من املو�ضع الذي كان فيه ونزل ليلتقط «ما�سا» ال�ساقطة من عل‪ ،‬لكنه الحظ‬
‫جلل!‪� ،‬إن يف مو�ضع �ضربة «�سيدوك» يف اجلدار �أث ًرا‬ ‫ً‬
‫ملحظا ً‬ ‫بطرف عينه‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب�سيطا يف البناء‪ ،‬لكن مل يكن هذا هو امللحظ‪ ،‬امللحظ �أن اجلدار تناق�صت‬ ‫ً‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�سرعة ارتفاعه‪ ،‬ويف فور وعزم اندفع «عمرو» كالطلقة �إىل الأعلى قا�صدً ا نهاية‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫اجلدار‪ ،‬ولقد ر�أى نهايته بعينيه‪ ،‬لكن وجه «�سيدوك» كان يتبعه ك�أنه له ظل!‪،‬‬

‫ش‬
‫ولقد كاد �أن ي�سبقه‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫وطيء «عمرو» بقدميه ثنتيهما وجه «�سيدوك»‪ ،‬وجعله نقطة يندفع منها �إىل‬

‫و‬
‫الأعلى اندفاع ًة �أخرية‪ ،‬وجنح ووطيء واندفع واعتلى �إىل �أعلى طرف اجلدار‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫لكن يف بغتة ومبادهة‪�ُ ،‬سحبت منه «ما�سا» �سح َب ًة �شديدة �إىل �أ�سفل‪�ُ ،‬سحبت‬
‫بقوة ت�ضاهي قوة اندفاع «عمرو»‪�ُ ،‬سحبت �سحبة مارد!‪ .‬نظر «عمرو» وعينه‬
‫مت�سعة �إىل «ما�سا» التي تهاوت ويد «�سيدوك» جتذبها ب�شرا�سة‪ ..‬واعتلى «عمرو»‬
‫على اجلدار‪ ،‬ووم�ضت يف قلبه فكرة �أن يعود �إىل «ما�سا»‪ ،‬لكن مل يكن الأمر‬
‫�صحيحا �أن يفعله‪ ،‬فلم يجد نف�سه �إال واث ًبا من �أعلى اجلدار �إىل خارج ذلك‬‫ً‬
‫املكان‪� ،‬إىل خارج اجلوداكيوال كلها‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫حتت جنح الليل كان يقف ب�سواد جلده ومل يكن يبني منه �إال ملعة عيناه‪« ،‬بالل‬
‫ً‬
‫و�شمال فلم ي َر‬ ‫بن رباح»‪ ،‬وقف بني كرثة من �أ�صنام الكعبة‪ ،‬نظر حوله ميي ًنا‬
‫�أحدً ا‪ ،‬ثم فج�أة �أخذ يب�صق على الأ�صنام ب�ص ًقا كارهً ا وهو يقول‪ :‬خاب وخ�سر‬
‫يفطن لوجودهم فر�أوه‪ ،‬ف�صدر منهم‬ ‫عبدكن‪ ..‬لكن رجاال كانوا وراءه ومل ِ‬
‫من َ‬
‫ما يدُل على وجودهم فهرب «بالل»‪ ،‬هرب وهو نادم على �أنه مل ي�سمع لكلمة‬
‫ر�سول اهلل ملا �أمره �أن ُيخفي �إ�سالمه‪ ،‬هرب �إىل بيت �سيده واختفى فيه‪ ،‬وجاء‬
‫‪301‬‬
‫الرجال �إىل بيت �سيده «عبد اهلل بن جدعان»‪ ،‬وكان بينهم رجل خبيث نحيل‪،‬‬
‫«�أبو احلكم بن ه�شام»‪.‬‬
‫خرج «عبد اهلل بن جدعان» ليلقى الرجال الثالثة‪ ..‬ور�أى «�أبا احلكم بن‬
‫تعجب‪ ،‬ثم قال �أبو احلكم‪� :‬إين �أرى غنمكم قد َمنت‬ ‫ه�شام» ُ‬
‫ينظر �إىل الغ َنم يف ُّ‬
‫وكرث لبنها وما كنا نعرف ذلك منها‪� ،‬إن عبدكم الأ�س َود الذي يرعاها قد �أتاه‬
‫ابن �أبي كب�شة ال�ساحر‪� ،‬سحرها مثلما �سحر تلك ال�شاة يف الوليمة التي دعا‬

‫ع‬
‫�إليها بنو ها�شم‪ ..‬وكان الف�س َقة ُيل ِّقبون النبي البهي بابن �أبي كب�شة ت�شبيها له‬

‫ري‬‫ص‬
‫برجل قدمي هو �أول من دعا قري�ش لهجر �أ�صنامها وعبادة جنم ال�شعرى يف‬

‫ال‬
‫ال�سماء‪ ..‬قال «عبد اهلل بن جدعان»‪ :‬هذه الأغنام قد �سم َنت من خ ِرينا‪ ..‬قال‬
‫«�أبو احلكم»‪ :‬يابن جدعان ما بك؟ �أ�صب�أتَ �أنت الآخر؟‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫غ�ضب «عبد اهلل بن جدعان» وقال‪� :‬أومث ِلي ُيقال له هذا؟ ف�إن علي نحر مائة‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ناقة لالت والعزى يف هذا اليوم‪ ..‬قالوا له‪� :‬إن عبدك الأ�سود قد وقف اليوم �أمام‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫وب�صق عليها وذكر كالما من كالم «حممد» ثم هرب ملا ر�آنا‪..‬‬ ‫الآلهة املق َّد�سة َ‬

‫ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فدعا بن جدعان ببالل‪ ،‬وكان خمتف ًيا يف البيت لي�س خوفا منهم لكن خوفا من‬

‫الت‬ ‫و‬
‫مع�صية �أمر ر�سول اهلل‪ ،‬حتى وجده �أحد العبيد ف�أتى له �إىل «ابن جدعان»‪،‬‬

‫و‬
‫قليل ثم قال‬‫ف�أتى «بالل» وقالها يف وجوههم ومل يكذب!‪ ،‬انده�ش «ابن جدعان» ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫للرجال‪ ،‬هو �ش�أنكما فهو لكما هذا العبد فافعال له ما �أحببتُما‪ ،‬فلم ي�أخذه �أبو‬
‫احلكم‪ ،‬بل �أخذه رجل من الثالثة يدعى «�أمية بن خلف»‪ ،‬وكان فيه م َر�ض يف‬
‫روحه‪ ،‬مر�ض نف�سي‪.‬‬
‫فتوج�س منه‪ ..‬قال له «�أمية»‪ :‬ال‬
‫نظر له «بالل» و�إىل طريقته يف احلديث َّ‬
‫ق�سم بالالت والعزى لت�صطفقن‬ ‫ت� ِأت حممدا‪ ،‬ف�إن �أتيتَه وعلمتُ ذلك منك ف�أُ ِ‬
‫�ساعتها عليك امل�آمت‪ ..‬جتاهل «بالل» هذا الكالم ويف م�ساء نف�س اليوم ذهب �إىل‬
‫احلبيب «حممد» ُمتف ًيا‪ ،‬ومل يدر �أن «�أمية» قد �ألزم لبالل رقي ًبا عليه يرقبه‬
‫خفية‪ ،‬ف�أتاه الرقيب باخلرب‪ ،‬فانتظر «�أمية» يف ق�صره وكان من �أثرياء مكة‪،‬‬
‫جال�سا يف �إيوانه ينتظره‪ ..‬قال له «�أمية»‪ :‬ما هذا‬ ‫حتى جاء «بالل»‪ ،‬فوجد «�أمية» ً‬
‫اختليت مبحمد؟ قال له «بالل» بثقة‬‫َ‬ ‫الذي بل َغني عنك �أيها العبد احلب�شي‪� ،‬أح ًقا‬
‫مل يتو َّقعها �أبدً ا‪� :‬أما و�أنه قد بل َغك �أمري وعلمت ب�إ�سالمي ف�إين ال �أخفي عليك‬
‫وقف «�أمية» وق َفة ِّ‬
‫املتكب‬ ‫�أين �آمنتُ باهلل وبر�سول اهلل و�إين ُجندي من جنوده‪َ ..‬‬
‫‪302‬‬
‫أمرك �شي ًئا‪ ،‬واهلل لآتينك من‬
‫ل�ست �إال عبدً ا مملو ًكا �أ�سودًا ال مت ِلك من � َ‬
‫وقال له‪َ :‬‬
‫�صنوف العذاب �ألوان‪ ،‬ولنعلم �أي ُج ٍند �سي�ؤوونك يا جندي ال�شر‪.‬‬
‫فخرج املري�ض ووراءه «بالل» ُيكبله عبيد‪ ..‬خرج به �إىل ال�صحراء‪ ،‬يف فراغ‬
‫من النا�س و�سعري من ال�شم�س وتلهب يف الرمال فخلعوا لبالل ما عليه من‬
‫ال�سرتة ودفعوه ب�أقدامهم دف ًعا لينحني وكان ال يقدر �أن ي�ضع يده على الأر�ض‪،‬‬
‫مل�س جلد بطنه حمي‬ ‫ف�أم�سكوه وك َّبلوه تكبيال بالأغالل ثم دا�سوه ب�أقدامهم حتى َ‬

‫ع‬
‫ف�صرخ وتل َّوى يحاول القيام لكن ذلك ا�ستحال عليه ف�إن �أقدامهم كانت‬ ‫َ‬ ‫الرمال‬

‫ري‬‫ص‬
‫على ظهره ور�أ�سه‪ ،‬فاحرتق منه وجهه و�صدره ثم قل ُبوه على ظهره فنابه اللهيب‬

‫ال‬
‫فانتف�ض فدا�سوا على رقبته و�صدره‪ ،‬وحتدرت دموع عينه من غري بكاء ونظر‬
‫من بني الأنني ليجد وجه «�أمية بن خلف» و�سمعه يقول‪ :‬اك ُفر مبحمد يا عبد‪ُ ،‬قل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أنت عبد؟ ف ُيتم ِتم «بالل»‬‫أفتب�صق على �آلهتنا و� َ‬
‫�آمنت بالالت والعزى يا حب�شي‪ُ � ،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ب�شفتيه كالما ال يدريه «�أمية»‪ ،‬فينزل بجذعه �إىل ناحية «بالل» لي�سمع‪ ،‬ويركز‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫أن�صت «�أمية» ف�إذا ببالل يعلو �صوته ويقول‪:‬‬ ‫ف�إذا «بالل» يقول‪� :‬أحاد �أحااد‪ ..‬ف� َ‬

‫ش‬
‫�أحد �أحد‪� ،‬أحد �أحد‪ ...‬كان ُير ِّتلها لهم ً‬
‫ترتيل‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫فوغرت يف �صدر «�أمية» و�أغ�ضبته؛ ف�أم َر ب�صخرة كبرية من �صخور‬

‫و‬
‫ال�صحراء‪ ،‬و�أمر بها �أن ُتربط على بطن «بالل» ليلت�صق ظهره يف الوهيج‪ ،‬ف�أتى‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الرجال ب�صخرة يحملونها جميعهم وي�ضطربون يف حملها من ثقلها وال تدري‬
‫كيف طاوعه العبيد وو�ضعوها على �صدر «بالل» وربطوها وك َّبلوه بها ً‬
‫تكبيل‪ ..‬قال‬
‫له «�أمية»‪� :‬إنك ال تزال هكذا حتى تك ُفر مبحمد وتع ُبد �سيداتك الالت والعزى‪..‬‬
‫و«بالل» ُ‬
‫ينظر له بعيون احم َّرت من ال َأل واللهبان‪ ،‬وه َّز له ر� َأ�سه ورتَّلها يف وجهه‬
‫فقال‪� :‬أحد �أحد‪� ،‬أحد �أحد‪� ،‬أحد �أحد‪.‬‬
‫ودخل يف تلك ال�ساعة من تلك ال�صحراء ُم�سافر من مكان بعيد‪ ..‬حالته‬
‫ووعثاءه ال عالقه لهما بال�سفر‪ ،‬فمثله ال ُي�سافر كالب�شر‪ ،‬كان ذاك «عمرو بن‬
‫جابر» قد �أتى ويف وجهه ا�شتياق �إىل النبي و�أ�صحاب النبي‪ ،‬فر�أى ذاك امل�شهد‬
‫يف وجهه‪ ،‬م�شهد «بالل»‪ ،‬فتح َّول جميع �شوقه �إىل ق َلق ورعب‪ ،‬مل ي ُكن يدري ما‬
‫يوم‬
‫«بالل»‪ ،‬ف�آخر عهده ب�أ�صحاب النبي هم الت�سعة الذين �أتى بهم «�أبو بكر» يف ٍ‬
‫واحد‪ ،‬لكنه كان يعرف «�أمية»‪ ،‬ومن ذا الذي يعي�ش يف مكة ل�سنوات وال يعرف‬
‫رجل غن ًيا معتل النف�س وكان يقوم على خدمة الأ�صنام‪،‬‬ ‫«�أمية بن خلف»‪ ،‬كان ً‬
‫و�إن جميع النذور التي ينذرها احلجيج للأ�صنام تكون من ن�صيب القائمني على‬
‫‪303‬‬
‫خدمة الأ�صنام �أو �سدنتها‪ ،‬وكان «�أمية» واحدً ا منهم‪ ،‬فالأ�صنام بالن�سبة له‬
‫حياة‪ ،‬و�إن ذلك املعتل كان �ساعتها ي�أ ُمر العبيد �أن ُيزيلوا ال�صخ َرة عن �صدر‬
‫«بالل»‪ ،‬لي�س تخ ِفي ًفا‪ ،‬بل ٍ‬
‫لغر�ض �آخر‪.‬‬
‫�أم َرهم �أن يربطوه من رق َبته يف َح ٍبل ويداه ُمك َّبلتان ومي�شوا به يف طرقات‬
‫املدينة والولدان من حوله يلعبون به وي�ضربونه‪ ،‬ولي�س على ل�سانه �سوى كلمة‬
‫عال للجميع‬‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫واحدة يقولها رهقا‪� :‬أح ٌد �أحد‪� ،‬أح ٌد �أحد‪ ..‬و�أعلنَ «�أمية»‬

‫ع‬
‫ب�صق على الآلهة‪ ،‬فنظر النا�س �إليه و�إىل ال�صبيان يلعبون به‬ ‫�أن ذلك العبد َ‬

‫ري‬‫ص‬
‫وهو يقول تلك الكلمة ال غريها‪ ،‬فت�ضاحك النا�س على «بالل»‪ ،‬وعلى كلمات‬

‫ال‬
‫«بالل»‪ ،‬وعني «بالل» تطالع النا�س وفيهم امل�شدوه وال�ضاحك حتى ت�أ َّلقت عينه‬
‫وتب�سم ف�أ�ضاء ثغره‬
‫فه�ش «بالل» َّ‬ ‫و�سط كل هذا‪ ،‬فلقد ر�آه‪ ،‬ر�أى ر�سول اهلل‪َّ ..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وجهه‪ ،‬واقرتب «بالل» يف �سريه باحلبل من ر�سول اهلل‪ ،‬فقال له �سيد املر�سلني‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫يا«بالل»‪� ،‬س ُينجيك �أحد �أحد‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وا�ست�ضحك و�سط العرق املتحدر على جبينه‪ ..‬وجعل‬ ‫َ‬ ‫فتن َّور وجه «بالل»‬

‫ر‬
‫النا�س ينظرون له ويعجبون‪ ،‬وذهب النبي الهادي �إىل «�أبي بكر» وقال له‪ :‬لو‬

‫الت‬ ‫و‬
‫بالل‪ ..‬فهرع «�أبو بكر» لي�ستنقذ «بالل»‪ ،‬وعند «بالل»‬ ‫كان عندنا �شيء البتعنا ً‬

‫و‬
‫كان قد جاء �أ�صحاب «�أمية بن خلف» وفيهم اللئيم «�أبو احلكم بن ه�شام» الذي‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بالل و يتنق�ص منه‪ ،‬لكن «�أبو بكر» اقتحم كل امل�شهد م�سارع اخلطى‬ ‫جعل ي�ؤذي ً‬
‫وكلمة ر�سول اهلل عنده �أم ٌر واجب النفاذ‪.‬‬
‫قال لهما‪ :‬ماذا تريدان بهذا امل�سكني؟ واهلل ال تبلغان به ث�أ ًرا‪ ..‬نظر «�أمية»‬
‫�إىل �أ�صحابه هاز ًئا وقال‪� ،‬س�أل َعب لكم ب�أبي بكر لعبة ما لعبها �أحد فا�سمعوا‪..‬‬
‫وت�ضاحك والتفت �إىل «�أبي بكر» وقال‪� :‬أنت �أف�سدتَه فهيا ف�أنقذه‪� ،‬ألي�س على‬ ‫َ‬
‫دينك‪� ،‬أت�شرتيه منا؟ قال «�أبو بكر»‪ :‬نعم �أ�شرتيه‪ ..‬قال له «�أمية»‪� :‬أعطني عبدكَ‬
‫ً‬
‫ف�سطاطا احلداد‪ ..‬قال «�أبو بكر»‪ :‬و�إن فعلتُ تف َعل؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فت�ضاحك وقال لأبي بكر‪ :‬ال واهلل حتى ُتعطيني معه امر�أة ف�سطاط احلداد‪..‬‬ ‫َ‬
‫فلك ذلك‪.‬‬ ‫قال «�أبو بكر»‪ :‬و�إن فعلتُ تف َعل؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬قال «�أبو بكر»‪َ :‬‬
‫ثم ت�ضاحك «�أمية» الثالثة وقال‪ :‬ال واهلل حتى تعطيني ابنه مع امر�أته‪ ..‬قال‬
‫«�أبو بكر»‪ :‬و�إن فعلتُ تف َعل؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬قال «�أبو بكر»‪ :‬قد فعلت‪.‬‬
‫فت�ضاحك الرابعة وقال‪ :‬ال واهلل حتى تزيدين مائتي دينار‪ ..‬فقال له «�أبو‬ ‫َ‬
‫‪304‬‬
‫بكر»‪� :‬أنت رجل ال ت�ستحي من الكذب‪ ..‬قال «�أمية»‪ :‬ال واهلل لئن �أعطيتني لأفعل‪..‬‬
‫فقال له «�أبو بكر»‪ :‬هي لك‪ ..‬ف�أمر «�أمية» ال�صبيان �أن يبتعدوا‪ ،‬و�أمر العبيد �أن‬
‫طلبت يف هذا‬
‫تفك رقبة «بالل»‪ ،‬ودفعه دف ًعا �إىل «�أبي بكر» وهو يقول‪ :‬واهلل لو َ‬
‫أبيت �إال‬
‫أيت �إن � َ‬
‫العبد دينا ًرا واحدا لبعتك‪ ،‬هذا مقامه‪ ..‬قال له «�أبو بكر»‪� :‬أر� َ‬
‫�ألف دينار لأخذ ُته منك‪ ..‬و�أم�سك ببالل واحت�ض َنه و�أعت َقه‪ ،‬فنظر لهما «�أمية»‬
‫وتعجب؛ كيف يد َفع فيه كل هذا ثم يع ِتقه!‪ ،‬وقال‪� :‬إمنا �أعتقتَه يا‬
‫ويف قلبه ِنقمة ُّ‬

‫ع‬
‫جلميل كان له عندك‪ ..‬ف�أنزلت من بيت العزة �آيات يف «�أبي‬ ‫ٍ‬ ‫ل�صنيع �أو‬
‫ٍ‬ ‫�أبا بكر‬

‫ص‬
‫بكر»‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ِّ ْ َ ُ ْ َ ٰ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬ ‫﴿و َس ُي َج َّن ُب َها ْالَ ْت َق * َّالِي يُ ْؤت َم َالُ َي َ َ‬
‫ت َّ ٰ‬
‫ى * إِل‬‫ك * َوما ِلح ٍد عِندهُ مِن نعم ٍة تز‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ْ َ َ َ ْ َ ِّ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َٰ‬
‫ع * ولسوف يرض﴾ ‪.‬‬ ‫ابتِغاء وج ِه رب ِه ال ٰ‬

‫‪z‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫م�شى «عمرو بن جابر» يف ال�شعاب وهو مهموم ومتكدر‪« ..‬بالل» كان م�شهده‬

‫ش‬
‫�صع ًبا خا�صة م�شهد ت�شوه �صدره وظهره باحلرق‪ ،‬وتلك الكلمة التي كان يقولها‬

‫ر‬
‫همه حتى‬ ‫بثبات‪� ،‬أحد �أحد‪ ،‬بلهجته الأجنبية كان يقولها‪ ،‬ظ َّل «عمرو» على ِّ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫جاءت به خطواته �إىل ال�سوق‪ ،‬وهناك ا�صطدم بكارثة �أخرى!‪ ،‬كان �سيد قبيلة‬

‫و‬
‫بني �سهم مي�شي يف ال�سوق وحوله �أذنابه من الرجال‪ ،‬وكان ا�سمه «العا�ص بن‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وائل»‪ ،‬وكان من عينة �شيوخ القبائل الذين يظنون �أنهم قد بلغوا اجلبال ً‬
‫طول‪،‬‬
‫دخل «العا�ص» �إىل متجر لل�سيوف‪ ،‬يعمل فيه الرجل امل�سكني احلليف امل�سلم‬
‫«خباب بن الأرت» �صانع �سيوف‪ ،‬و�س ِّيدته معه يف املتجر‪ ،‬وهي امر�أة يف وجهها‬
‫الع�سر والتع�سري‪ ،‬وا�سمها «�أم �أمنار»‪ ،‬فلما ر�أت �سيد بني �سهم قد �أتى �إىل‬
‫والحظت �أن «العا�ص بن وائل» ُ‬
‫ينظر �إىل «خباب» منذ‬ ‫َ‬ ‫متجرها ه�شت به وب�شت‪،‬‬
‫ب�شر بخري‪ ،‬وكان «العا�ص» قد ا�شرتى �سيو ًفا منذ �شهر من‬ ‫�أن دخل نظرات ال ُت ِّ‬
‫املتجر و� َّأج َل دفع ثمنها‪ ،‬ويبدو �أنه قد �أتى اليوم ليدفع‪.‬‬
‫عليك كذا وكذا‪ ..‬قال له العا�ص‪ :‬ال � َ‬
‫أعطيك حتى تك ُفر‬ ‫قال له «خباب»‪� :‬إن َ‬
‫مبحمد‪ ..‬قال «خباب»‪ :‬واهلل ال �أك ُفر حتى ُييتك اهلل ثم ُتبعث‪ ..‬توترت «�أم‬
‫َ‬
‫متالك وقال‪ :‬مه‬ ‫�أمنار» وانده�ش «العا�ص» يف و�سط �أذنابه الذين وراءه لكنه‬
‫و�إين مل ِّيت ثم مبعوث؟ قال «خباب»‪ :‬بلى‪ ..‬ف�ضحك وقال‪ :‬دعني حتى �أموت‬
‫مال وولدً ا‪ ،‬حينها �أق�ضيك دينك‪ ،‬فماذا ترى يا «خباب»؟‬ ‫و�أبعث ثم لأوتني ً‬
‫ح�سن الرد‪.‬‬
‫ف�سكت «خباب» ومل ُي ِ‬ ‫َ‬
‫‪305‬‬
‫أ�صحابه ﴿‬ ‫ر�سول اهلل َ يت ُلَّو بني �‬ ‫آن‪ ..‬فجعل‬
‫َ َ َ ْ‬
‫َ و� َ‬
‫أنزل اهلل يف ذلك َال�ش َ� ُأن قر�‬
‫ٰ‬ ‫ً‬
‫َ َ َّ َ َ َ ً َّ َ َ ْ َ ِ َ َ َ َّ ْ َ َ ْ ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫الرح ِن عهدا‬ ‫أف َرأيت الِي كف َر بِآيات ِنا َوقال لوتي مال وولا *أطلع الغيب أم ات ْذ عِند‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬
‫* كل ۚ َس َنك ُت ُب َما َي ُق ُول َو َن ُم ُّد لُ م َِن ال َع َذ ِاب َم ًّدا * َونَ ِرث ُه َما َي ُق ُول َويَأت َِينا ف ْر ًدا﴾ ف�أنزل‬
‫رجل ا�سمه «العا�ص بن وائل»‪ ،‬فكان‬ ‫اخلتم الثاين على رجل �أنه من �أهل النار‪ُ ،‬‬
‫له من ا�سمه ن�صيب‪.‬‬
‫الت َفت «العا�ص» �إىل «�أم �أمنار» وقال لها‪� :‬إن ابني ه�شام قد �صب�أ مثل‬

‫ع‬
‫غالمك هذا‪ ،‬و�إين لأجلده كل يوم جلدً ا‪ ،‬فال تدعي �أولئك الف�س َقة يهينون‬

‫ري‬‫ص‬
‫�آلهتنا‪ ..‬وان�صرف «العا�ص» ومل يدفع دينا ًرا واحدً ا‪ ..‬وبقي «خباب» ُيواجه «�أم‬

‫ال‬
‫عب�ست وحلفت بكل الآلهة لرتين «خباب» كيف يكون املوت والبعث‬ ‫�أمنار» التي َ‬
‫واحل�ساب‪.‬‬
‫وانقب�ض قلب «عمرو» مما ر�أى من قتامة روح تلك املر�أة‪� ..‬شتمت «خباب»‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫َ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كرامته ومل يكن له ن�صري يف القوم كلهم‪ ،‬ف�أخذته «�أم �أمنار»‬ ‫ودف َعته و�أهدرت َ‬

‫ن‬
‫و�أزا َلت عنه رداءه الأعلى وكان يف نف�سها ِعلة ت�شابه علة «�أمية بن خلف»‪� ،‬إال‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�أنها ت�أ َّثرت بكالم «العا�ص بن وائل» و�أرادت �أن تتق َّرب �إليه لأنه من �أح�سن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫املُ�شرتين‪ ،‬لكنها متادت‪� ،‬أ�شعلت نا ًرا م�ستعرة لها لهيب‪ ،‬ثم �أمرت الذين عندها‬

‫و‬
‫من العبيد �أن مي�سكوه وي�ضجعوه بظهره عليها ثم ي�سحبوه عليها �سح ًبا حتى‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫تنطفيء‪ ،‬وكانوا يفعلون هذا يف «خباب» و�أحدهم وا�ضع رجله على �صدره ي�سلقه‬
‫يف النار �سل ًقا حتى �سمع �صوت ظهره وهو يطفيء النار!‪ ،‬جت َّمرت عيون «عمرو‬
‫بن جابر» بلون اجلمر وهو يذكر م�شاهد من نار و�أج�ساد حترتق يف حفرة يف‬
‫اليمن‪ ،‬ف�أعر�ض بوجهه والنار يف عينه حترت‪ ،‬وخرج «عمرو» من عند «خباب»‬
‫و�صوت «خباب» ي�ص ُرخ ويطرق يف �أذنه وقد ذهب جلد ظهره من احلرق‪ ،‬و�صوت‬
‫النمرة «�أم �أمنار» ت�صيح فيه و ُت ِهينه‪.‬‬
‫فلما �أطل َقته يف �آخر اليوم انطلق جمهدً ا �إىل ر�سول اهلل ي�شتكي‪ ..‬فدعا له‬
‫ان�صر خبا ًبا‪ ..‬وعاد بها «خباب» مطمئ ًنا �صاب ًرا‪ ،‬وظ َّلت‬ ‫نبي الرحمة وقال‪ :‬اللهم ُ‬
‫النمرة ُتقيم عليه العذاب وت�أمره �أن يعود �إىل احلجارة بعد �أن عرف النور‪ ،‬ف�أبى‬
‫ويحت�سب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و�أبى‪ ،‬و�أ�شدت عليه يف العذاب فكان يت�أ َّوه‬
‫هات كانت ُتطارد «عمرو بن جابر» وبدا ل�سمعه �أنها تند ِلع من �أماكن‬ ‫ت�أ ُّو ٍ‬
‫عدة‪ ..‬فكان مي�شي ويكتم �سمعه لئال ي�سمع لكن �سماع اجلن يلتقط كل �شيء‪،‬‬
‫وتوجه �إىل ناحية ال�صوت‪،‬‬ ‫�سمع �أ َّنات من رجال و�سمع �صرخة امر�أة‪ ،‬فقلق َّ‬
‫‪306‬‬
‫فوجد جماعة من الكافرين قد �أم�سكوا بعمار بن يا�سر ذو العيون الزرق‪ ،‬املوىل‬
‫اليماين الذي لي�ست له قبيله‪ ،‬و�أم�سكوا معه �أمه «�سمية» و�أبوه «يا�سر» وكانا قد‬
‫�شاخا و�ضعفا‪ ،‬ويف الكافرين كان النحيل اخلبيث «�أبو احلكم بن ه�شام» واق ًفا‪،‬‬
‫ومعه رفقة له‪ ،‬وقد علم «�أبو احلكم» ب�إ�سالم «عمار» و�أبيه و�أمه‪ ،‬وعلم �أن لي�س‬
‫لديهم �أحد يدفع عنهم‪ ،‬فجعل يتلهى بهم؛ ف�أمر العبيد �أن يوثقوهم باحلبال‪،‬‬
‫و�سح َبهم معه �سح ًبا مهي ًنا �أطاح بكرامتهم‪ ،‬و�أطاح باتزان ووقار ال�شيخ‬

‫ع‬
‫وال�شيخة و�صارا يتعرثان وي�سقطان وترتدى وجوههم يف الرتاب‪ ،‬وظ َّل الف�سقة‬

‫ص‬
‫ي�سحبونهم حتى انتهوا بهم �إىل �صحراء رم�ضاء يف كبد الظهرية‪ ،‬و�ألقوهم على‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫رمال حام َية الفحة‪ ،‬وتركوهم يف �سعار ال�صحراء‪ ،‬بال طعام وال �شراب‪ ،‬فقط‬
‫تركوهم والعبيد عليهم حار�سون‪ ،‬على �أن يرجعوا �إىل دين احلجارة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وكانوا يعودون �إليهم كل حني‪ ،‬تارة �ساخرين وتارة غا�ضبني‪ ..‬حتى تفتقت‬

‫ب‬
‫�أذهان ال�شر عن مزيد من الإيالم‪ ،‬فعمدوا �إليهم وهم يت َل ُّوونَ يف ال�صحراء غري‬
‫دروعا من حديد‬‫ألب�سوهم ً‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫قادرين على الوقوف ب�أرجلهم احلافية على الرمال‪ ،‬ف� ُ‬

‫ش‬
‫يك «عمار»‬ ‫أ�سخنتها ال�شم�س بعد حني فك َوت لهم �أجنابهم و�صدورهم‪ ،‬ومل ُ‬ ‫� َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫يكرتث ب�أي �شيء �إال ب�ضعف �أمه و�أبيه الذين �سكنت حركتهما و�ضعفت �آهاتهما‪،‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫وكان ال يعرف حياتهما �إال من حركات ي�سرية يلحظها كل حني!‪ ،‬وتهالك «عمار»‬

‫ز‬
‫َ‬ ‫ووهن‪ ،‬حتى ر�أى ر�سول اهلل ُم ً‬

‫يع‬
‫فا�ستب�شر‪ ،‬ور�آه ال�شيخ وال�شيخة‪،‬‬ ‫قبل‬ ‫مكانه َ‬
‫فتح َّر َكت حركتهما الواهنة‪ ،‬فجاءهما ر�سول اهلل وهو �إىل حالهم ناظر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا�سر‪� ،‬ص ًربا �آل يا�سر‪ ،‬ف�إن موعد ُكم اجلنة‪.‬‬
‫�ص ًربا � َآل ِ‬
‫مت�ض �ساعات من‬ ‫فرحوا بها و�سعدوا‪ ،‬وملحت يف وجوههم ب�سمة منهكة‪ ..‬ومل ِ‬
‫�آخر ذلك النهار حتى عجز ج�سد ال�شيخ �أن يتح َّمل‪ ،‬فغادر الدنيا �إىل حيث وعد‬
‫�شهيد يف الإ�سالم‪ ،‬و�أول من ر�أى اجلنة من �أمة «حممد»‪،‬‬ ‫ر�سول اهلل‪ ،‬فكان �أول ٍ‬
‫«يا�سر»‪ ،‬الرجل الذي �أ َبى مع كل �شيء �أن ُيعطيهم كلم ًة واحدة مما �أرادوا‪..‬‬
‫ينظر �إىل الرجل الذي مات‪ ،‬والأم‬ ‫نفر من �أ�صحابه ُ‬ ‫وجاء «�أبو احلكم» يف ٍ‬
‫التي كادت‪ ،‬و«عمار» الذي يبكي‪ ..‬و�أعا َد عليهم العر�ض؛ �أن عو َدا �إىل جناب‬
‫الآلهة حتى ال تلحقا بال�شيخ‪ ..‬فما وجد منهما �إال مزيدً ا من الإباء‪ ،‬فغ�ضب‬
‫ب�سم َّية العجوز الرقيقة‪ ،‬و�سقط قلب «عمار» من الفجعة‬ ‫الفا�سق وجهل و�أم�سك ُ‬
‫حما‬
‫قيده وجالديه‪ ،‬والتقط «�أبو احلكم» ُر ً‬ ‫و�أ�ستنزف قوته كاملة يف اخلال�ص من ِ‬
‫َ‬
‫من �أحد العبيد‪ ،‬وبدون كلمة �أو حديث �أو ذ َّر ٍة من تع ُّقل‪ ،‬طعنها بالرمح من �أ�سفل‬
‫‪307‬‬
‫منها يف مو�ضع العفة‪ ،‬و�سقطت الكرمية ال�شهيدة الأبية العفيفة �إىل الأر�ض وقد‬
‫حلقت زوجها �إىل ع ِّليني؛ فكانت �أول �شهيدة يف الإ�سالم و�أول من ر�أَت اجلنة من‬
‫وحتجرت دموع الدم يف عني ابنها «عمار» فما �صارت زرقة‬ ‫ن�ساء �أمة «حممد»‪َّ ،‬‬
‫عينه ترى‪ ،‬وتراخت ر�أ�سه �إىل الوراء وقد انك�سر فيه كل �شيء‪ ،‬لكن اجلهول مل‬
‫يتو َّقف‪ ،‬و�أمر بنار‪ ،‬فجا�ؤوا له مب�ش َعل كبري �أوقدت به نار ت�ضطرم �أمام عينيه‪،‬‬
‫ثم �أمر اجلاهل العبيد �أن ُيديروا عما ًرا وينزعوا ثيابه ليبني ظهره‪ ،‬فلما فعلوا‬

‫ع‬
‫ر�أى الرجل الأجهل �آثار ل�سع الرمال على ظهر «عمار» ف�أتى بخنجر وقطع يف‬

‫ري‬‫ص‬
‫طويل غائ ًرا ف�صرخ عمار بن يا�سر �صرخ ًة حاول �أن يكتمها لكنه‬ ‫ظهره قط ًعا ً‬

‫ال‬
‫م�صروعا بعد �أن و�ضع اجلاهل امل�شعل على ظهره فحرقه‬ ‫ً‬ ‫مل�سوعا‬
‫ً‬ ‫فج�أ ًة �صرخ‬
‫بالنار‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وبل َغ النبي ما بل َغه عنه فجاءه النبي بعد �أن تركه �أ�ساودة القلب‪ ..‬وم�سح‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�سالما‬
‫ً‬ ‫على ر�أ�سه و�شكا له «عمار» النار‪ ،‬فدعا النبي وقال‪ :‬يا نار كوين بردًا‬

‫ش‬
‫كنت على �إبراهيم‪ ..‬فلم حترقه من بعدها نار وال لفحته �شم�س‬ ‫على عمار كما ِ‬

‫ر‬
‫وال ل�س َعته رمال‪ ،‬و�أطلق النبي على «�أبو احلكم» ا�سما ُينا�سب ما فعله‪ ،‬ا�سم «�أبو‬

‫الت‬ ‫و‬
‫جهل»‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫ومل َيدع «�أبو جهل» «عمار» بل َ‬

‫يع‬
‫جعل الأمر حياة �أو موتًا‪� ..‬إما �أن ترتُك هذا‬
‫الدين �أو متوت!‪ ،‬وملا الحظ �أن احلرق ال ُيجدي معه �شيئا‪� ،‬أخذه ف�سحبه من‬
‫�شعره و�أغط�س ر� َأ�سه يف حو�ض مملوء ماء حتى ي�ش ُعر بقرب انهيار «عمار»‬
‫فريفعه ويقول له‪ :‬ا�شتُم حممدً ا‪ ..‬ثم ُيغط�سه تارة �أخرى‪ ...‬وظ َّل يفعل به هذا‬
‫كالما �سي ًئا يف ر�سول اهلل‪ ،‬فرفع «�أبو‬
‫حتى قالها «عمار» من بني دموعه؛ قال ً‬
‫أهذه �إلهتك من دون‬‫جهل» يف يده ُخ ْنف�ساء وو�ضعها �أمام وجه «عمار»‪ ،‬وقال له‪ِ � :‬‬
‫رب حممد؟ فيقول‪ :‬نعم هذه �ألهتي‪ ..‬فرتكه «�أبو جهل» مي�ضي‪ ،‬ف�أخذ «عمار»‬
‫يبكي ويبكي‪ ،‬وال يدري ماذا يبكي‪� ،‬أبوه و�أمه �أم قولته يف ر�سول اهلل‪ ..‬وانطلق‬
‫م�سح عن عينه دموعه‪ ،‬وقال له‬ ‫«عمار» �إىل ر�سول اهلل فلما ر�آه النبي يبكي َ‬
‫ُم�شفقا‪� :‬أخذك الكفار وغطوك يف املاء؟ ف�أوم�أ بر�أ�سه وقال‪ :‬واهلل ما تركوين‬
‫منك وذكرتُ �آلهتهم بخري‪ ..‬قال له ر�سول اهلل‪ :‬كيف جتد قل َبك؟ قال‪:‬‬ ‫حتى نلتُ َ‬
‫ُمطمئن بالإميان‪ ..‬فقال له النبي‪ :‬ف�إن عادوا ف ُعد و ُقل لهم ذاك‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪308‬‬
‫وبكى «عمرو بن جابر»‪ ..‬بكى وابت َّلت �صخور قلبه ف�أ�صبح مي�شي على غري‬
‫هدى‪ ،‬تبزغ له عن اليمني وعن ال�شمال كمثل العواميد يف كل عمود �صرخة رجل‬
‫عذب يف دين اهلل‪ ،‬فكان ال يدري �أين يذهب‪ ،‬مل يقت�صر العذاب على‬ ‫�أو امر�أة ُي َّ‬
‫املوايل والعبيد‪ ،‬بل امتد �إىل �أبناء القبائل من قبائلهم‪ ،‬م�ضى «عمرو» ليجل�س‬
‫عند الكعبة لع َّله يجد فيها �سلوى‪ ،‬فر�أى «عبد اهلل بن م�سعود»‪ ،‬ذلك الراعي‬
‫بعزم �إىل ركن الكعبة عند مو�ضع يعج بالأ�صنام ثم‬ ‫�شديد النحول‪ ،‬كان مي�ضي ٍ‬

‫ع‬
‫يعلو‪ْ ،‬ثم �صاح‪ :‬ب�سم‬ ‫ي�ستدير �إىل قري�ش و ُي�صدر حركة ُت ِنذر ب�أن �صوته �سوف‬

‫ص‬
‫َّ ْ ُ‬ ‫َّ ْ َٰ ُ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ َ َ َ‬
‫النسان * علمه اليان * الشمس‬ ‫اهلل الرحمن الرحيم‪﴿ ،‬الرحن * علم القرآن * خلق ِ‬

‫ري‬
‫َ َْ َُ ُ ْ َ‬

‫ال‬
‫َ َّ ْ ُ َ َّ‬
‫الش َج ُر ي َ ْس ُج َد ِان﴾‪ ...‬كان يبدو �أن «ابن م�سعود» قد غار‬ ‫ان * وانلجم و‬
‫والقمر ِبسب ٍ‬
‫من تعذيب قري�ش لأقرانه من املوايل‪ ،‬ولي�س املرء يدري ما الذي �أحدثه ر�سول‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫اهلل يف نفو�س ه�ؤالء القوم بال�ضبط‪ ..‬قال الكافرون لبع�ضهم ملا ر�أوه‪ :‬ماذا يقول‬
‫ابن �أم عبد؟ وكانت كنية له‪ ،‬قالوا‪� :‬إنه ليت ُلو بع�ض ما جاء به حممد‪ ..‬فقام �إليه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�سفها�ؤهم ووقفوا حوله وهو يقر�أ‪ ،‬وجعلوا يتناوبون �ضربه يف وجهه ويزيدون �شدة‬

‫ش‬
‫ال�ضربة يف كل مرة‪ ،‬وهو واقف يقر�أ حتى ظهر منه الأثر والدم‪ ،‬ثم ان�صرف �إىل‬

‫ر‬
‫بيت الأرقم فتل َّقاه امل�سلمون وقالوا‪ :‬يابن م�سعود هذا الذي خ�شينا عليك‪ ..‬قال‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫علي منهم الآن‪ ،‬ولئن �شئتُم لأغادينهم مبثلها غدً ا‪..‬‬ ‫ما كان �أعداء اهلل �أه َون َّ‬

‫و‬
‫قالوا‪ :‬ال ال ح�س ُبك‪ ،‬لقد �أ�سمعتَهم ما يكرهون‪.‬‬
‫عذب يف‬
‫يع‬ ‫ز‬
‫وتن َّكد «عمرو» وح َّدثته نف�سه بنف�س ذات الغرية‪ ..‬فك�أنه متنى �أن ُي َّ‬
‫اهلل‪ ،‬وبينا هو يفكر �إذ وجد �أحد عواميد ال َأل البارزة يف الهواء يقرتب‪ ،‬فنظر‬
‫ب�ضيق ف�إذا هما رجالن مو َّثقان باحلبال‪ ،‬وجمع من النا�س وراءهما يتبعهما‪،‬‬
‫وامر�أة عجوز ت�صيح وت�ضرب �أحدهما على ر�أ�سه وت�سبه‪ ،‬نظرة �أخرى من‬
‫«عمرو» كانت كافية �أن يعرفهما؛ «�أبو بكر» و«طلحة بن عبيد اهلل»‪ ،‬وهما ابني‬
‫ت�سبه وتل َعنه‪ ،‬وراءها جماعة من بنو تيم‪ ،‬والذي‬ ‫عم‪ ،‬والعجوز هي «�أم طلحة» ُ‬
‫ويج ّرهما هو رجل طويل عظيم الهامة �ضخم مفتول الع�ضالت‪،‬‬ ‫يوثقهما باحلبال ُ‬
‫من �أقوى ع�شرة فر�سان يف قري�ش‪« ،‬نوفل بن خويلد»‪� ،‬أخو «خديجة» زوجة النبي‬
‫رجل �شر�سا ُتل ِّقبه قري�ش باحلوت من �ضخامته‪ ،‬ويبدو �أن «�أم‬ ‫وخال �أوالده‪ ،‬كان ً‬
‫طلحة» هي التي ا�ستدعته لينت�صر للآلهة ملا وجدتهما يذكرانها ب�سوء‪ ..‬كان‬
‫احلوت ي�سحبهما وراءه ك�سحبة املا�شية لي�سخر منهما �صبيان املدينة‪.‬‬
‫أمر جعله يتلظى بالغ�ضب‪..‬‬ ‫وفج�أ ًة �أ�س َّر �أحد ال�سائرين يف �أذن احلوت ب� ٍ‬
‫رجال من بني تيم وابن‬ ‫أتعذب ً‬
‫ولي�س من احلكمة �أن يغ�ضب مثل هذا‪ ،‬قالوا له‪ِّ � :‬‬
‫‪309‬‬
‫�أخوك قد حذا حذوهما؟ قال من هو؟ قالوا‪� :‬أخوك العوام‪ ،‬ابنه كفر‪ ..‬تو َّقدت‬
‫عني احلوت‪« ،‬الزبري بن العوام» كفر بالآلهة‪ ،‬العوام الفار�س املغوار‪ ،‬الذي‬
‫مات يف حرب الفجار‪ ،‬ابنه كفر‪ ،‬و«الزبري» كان �أبوه هو «العوام بن خويلد» �أخو‬
‫«خديجة» واحلوت‪ ،‬و�أمه «�صفية» عمة النبي‪ ،‬فقرابته للنبي من اجلهتني‪ ،‬لكن‬
‫امل�شكلة كانت �أن احلوت «نوفل بن خويلد» كان عمه‪ ،‬فرتك «نوفل» «�أبا بكر»‬
‫إجراما عظي ًما‪ ،‬ف�أم�س َكه ول َّفه‬
‫و«طلحة» وتوجه �إىل «الزبري»‪ ،‬و�أجرم يف «الزبري» � ً‬

‫ع‬
‫يف ح�صري و�ألقاه يف ُحجرة و�أ�ض َرم النار عند بابها وتركه ُمق َّيدً ا‪ ،‬ودخان النار‬

‫ص‬
‫ي�سرق منه حياته‪ ،‬حتى �إذا ا�شت َّد �سعاله و�صراخه �أطف�أ النار عليه‪ ،‬لكن «الزبري»‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كان �شديدً ا ب�شدة �أمه عليه‪ ،‬و�شديدً ا بنور «حممد»‪ ،‬فلم ي�أخذ احلوت منه �شي ًئا‪،‬‬
‫بل �إن عينه كانت تت�ألق حتدِّ ًيا وت�صدِّ ًيا‪ ،‬فت�أ َّثرت نف�س نوفل بهذا الثبات وتركه‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫كان يظنه فتى خان ًعا مت�صاب ًيا‪ ،‬لكنه علم �أن لو �أ�شعل هاته النار يف جوفه ما هو‬

‫ب‬
‫زحزحه عن «حممد»‪.‬‬ ‫ُمب ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�أما «�أبو بكر» ف�إنه فور ما تركه «نوفل»‪ ..‬نف�ض ما عليه من غربة وانطلق‬

‫ش‬
‫�إىل بيوت قريبة يريد �أم ًرا بعينه‪ ،‬امر�أة جارية ر�آها يف �أول اليوم يعذبونها على‬

‫و‬ ‫ر‬
‫جتد لها �سام ًعا ون�ص ًريا‪ ،‬لكن «�أبا بكر» كان‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬امر�أة ب َكت وبكت ومل ِ‬

‫و‬ ‫الت‬
‫هنالك‪ ،‬بعد كل الذلة والتهالك �أتى «�أبو بكر»‪ ،‬وتفاو�ض مع املجرمني على �أن‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ي�شرتيها‪ ،‬ف�أحبوا ما عر�ض من مال فباعوها له فا�شرتاها‪ ،‬وكانت امر�أة رومية‬
‫�أجنبية ُتدعي «زنرية»‪ ،‬وكانت تبكي لأيام وال ت�ستطيع ن�ص ًرا لنف�سها �إال �أنها‬
‫تبكي‪ ،‬فلما �أعتقها «�أبو بكر» �أ�صابتها �صدمة من الوجد فقامت وال تدري �أين‬
‫تنظر‬ ‫الطريق ك�أنها عم َيت وذهب ب�صرها‪ ،‬وكان حالها ت�ست�صعبه النف�س وهي ُ‬
‫�أمامها وحولها غري مدركة لأي �شيء!‪ ،‬قال من كانوا �أ�سيادها وهم يت�ضاحكون‪:‬‬
‫ما �أذهب ب�صرها �إال الالت والعزى‪ ..‬فتوقفت املر�أة عن امل�سري‪ ،‬ورمقت �إىل‬
‫ت�ضر الالت والعزى وما‬ ‫ناحيتهم بجانب من عينها وقالت‪ :‬كذبتُم وبيت اهلل ما ُ‬
‫تنفعان‪ ،‬ما تدري الالت والعزى من يع ُبدهن‪ ،‬ال يذهب وي ُرد الب�صر �إال رب‬
‫ا�ستعجاب ورهبة‪ ،‬ولقد‬
‫ٍ‬ ‫الب�صر‪ ..‬فكانت قوتها يف حديثها بعد �ضعف وبكاء مثا َر‬
‫ر َّد اهلل �إليها ب�ص َرها ومل ي ُكن ِذهابه �إال �صدمة‪.‬‬
‫لرجل م�شرف يف القوم �أميا �شرف‪ ..‬ومل‬ ‫ور�أى «عمرو» � َألا يطلع يف ال�سماء ُ‬
‫ممنوعا من الطعام‬ ‫ً‬ ‫ذهب �إليه فوجده مو َّث ًقا باحلبال‬
‫ُي�صدِّ ق «عمرو» حتى َ‬
‫وال�شراب‪« ،‬عثمان بن عفان»‪ ،‬الغني الزكي‪� ،‬أوثقه عمه برباط وقال له‪� :‬أترغب‬
‫عن ملة �آبائك �إىل دين حمدث‪ ،‬واهلل ال �أحلك �أبدً ا حتى تدع ما �أنت عليه من‬
‫‪310‬‬
‫يوما‬
‫هذا الدين‪ ..‬وكان «عثمان» ي�أبى‪ ،‬و�أ�صبح ينظر �إىل نف�سه‪ ،‬كنت تت�ساءل ً‬
‫يا عثمان ما حاجتك مبحمد بعد �أن تزوجت رقية من عتبة بن �أبي لهب‪ ،‬واليوم‬
‫تقول ما حاجتك بالدنيا كلها بعد �أن عرفت حممدً ا‪ ،‬ويثبت ويبقى على ثباته‬
‫حتى يحار عمه يف �أمره‪.‬‬
‫ونف�سه قد حدثته �أن يعود �إىل‬ ‫وبني �آالمهم و�أوجاعهم كان مي�شي‪ُ ..‬‬
‫اجلوداكيوال ليعذبه امل�سترتون يف الظالل حتى يقطعوا �أع�ضاءه كلها يف �سبيل‬

‫ع‬
‫اهلل‪ ،‬لكنه تع َّلم من م�سريه بني امل�سلمني �أن العذابات مل ت ُكن فقط ج�سدية‪ ،‬بل‬

‫ري‬‫ص‬
‫كان بع�ضها نف�س ًيا‪ ،‬فذاك الفتى ال�صغري الأ�سمر �صانع ال�سهام «�سعد بن �أبي‬

‫ال‬
‫وقا�ص»‪ ،‬كانت تنتظره يف بيته ِمنة‪� ،‬أمه كانت بنت �أبو �سفيان‪ ،‬ا�سمها «حمنة»‪،‬‬
‫عنيدة معاندة كانت‪ ،‬قالت‪ :‬يا �سعد �إين قد بل َغني �أنك �ص َبوت‪ ،‬فواهلل ال يظلني‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�سقف وال �آكل وال �أ�شرب حتى تك ُفر مبحمد وترجع �إىل ما كنت عليه‪ ..‬قال لها‪ :‬ال‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫جمهدة وقالت‪ :‬يا‬ ‫َ‬ ‫تفعلي يا �أمه ف�إين ال �أدع ديني �أبدً ا‪ ..‬فم�ضى يوم وليلة‪ ،‬و�أتته‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بني ما هذا الدين الذي �أحدثت‪ ،‬لتدعنَّ دينك هذا �أو �أظل على هذا حتى �أموت‬

‫ش‬
‫عريك النا�س بي‪ ..‬وجعلت نف�سه تت� َّأل لأملها و�صفرة وجهها‪ ،‬فم َّر يو ٌم �آخر‪،‬‬ ‫ف ُي َ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫وج َّفت روحها من الأمل‪ ،‬ف�شكا «�سعد» �إىل ر�سول اهلل‪ ،‬فنزل يف �ش�أنها قر�آن‪.‬‬

‫الت‬
‫ُّ ْ َ‬ ‫ْ ََ ُ َُْ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َٰ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ‬

‫و‬
‫َ َُْ‬
‫ادلنيا‬ ‫شك ِب ما ليس لك ب ِ ِه عِل ٌم فل ت ِطعهما ۖ َوصاحِبهما ِف‬
‫﴿وإِن جاهداك ع أن ت ِ‬

‫ز‬
‫ً‬

‫يع‬
‫َم ْع ُروفا﴾ۖ ‪ ،‬فرجع �إىل �أمه وحالها ي�ؤلِ ه‪ ،‬وجاء اليوم الثالث و�أغ�شي عليها‪ ،‬فلما‬
‫نف�سا‪ ،‬ما‬
‫نف�سا ً‬
‫قامت ابتدرها وقال‪ :‬واهلل لو كانت لك �ألف نف�س‪ ،‬فخرجت ً‬
‫�شئت ف ُكلي و�إن ِ‬
‫�شئت فال ت�أكلي‪ ..‬فلما ر�أتَ منه هذا‬ ‫تركتُ ديني هذا ل�شيء‪ ،‬ف�إن ِ‬
‫�أذع َنت وانقادت �إىل واقع يعلو حتى على �أمومتها ف�أك َلت و�شربت‪.‬‬
‫وماثلتها «�أم م�صعب بن عمري»‪ ..‬امر�أة حازمة �صارمة رغم تدليلها البنها‬
‫الذي كان يبدو مثل الأمري‪ ،‬لكنه �إذ نور قلبه الإ�سالم �أخفاه خو ًفا منها‪ ،‬لكن‬
‫كيف تخفي و�أنت تذهب �إىل جمال النبي يف دار الأرقم كل يوم‪ ،‬فانك�شف الأمر‬
‫حب�سته فيها وعزمت على �أال ُتخرجه منها‬ ‫ف�أخذته �أمه ورمته يف ُغرفة �صغرية َ‬
‫�أبدً ا‪ ،‬و�أنفذت عزمها فبقي فيها وقلبه يذوب من الأمل‪ ،‬يود �أن ي�صاحب ر�سول‬
‫اهلل‪ ،‬فالنور الذي كان عليه �أ�ضاء يف قلوبهم وتل َّمع فلم يعودوا ي�صطربوا على‬
‫�أال يكونوا حوله‪� ،‬أال تراهم عينه وهو ر�سول اهلل الذي �أر�سله خالق ال�سماوات‬
‫والأر�ض‪ ،‬يعينونه وي�ؤازروه فري�ضى عنهم اهلل وير�ضوا عنه‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪311‬‬
‫�أ�صلع الر�أ�س طويل القامة مفتول البنيان‪� ،‬أ�سمر اللون ذو حلية كبرية‬
‫مهيبة‪ ،‬عجيب �شباب قري�ش‪ ،‬ما ي�صارعه �أحدهم �إال غلبه‪ ،‬وال ي�سابقه �أحدهم‬
‫�إال �سب َقه‪ ،‬من �أح�سن ع�شرة فوار�س يف قري�ش مثله مثل حمزة واحلوت‪ ،‬لكن هذا‬
‫وحدة يف ال�شخ�صية وحدة يف التفكري‪ ،‬كان نائ ًما حتت‬ ‫كانت فيه ِحدة يف املالمح ِ‬
‫�أقدام الآلهة يف جانب من احلرم‪ ،‬نائم وم�ستغرق يف النوم‪ ،‬وعادته �أن ينام يف‬
‫�أي مكان �آم ًنا على نف�سه‪ ،‬اجلميع يهابونه‪ ،‬عزيزً ا كان وا�سع الكتفني‪ ،‬م َّر بجواره‬

‫ع‬
‫رجا ٌل من قري�ش ومعهم ِعجل كبري �آتني به يذبحونه‪ ،‬فا�ستي َقظ وفتح عينيه‪،‬‬

‫ص‬
‫انقلب بها حال مكة و�سادات مكة وم�ساكني مكة‬ ‫�صارمة‪ ،‬نظرة َ‬‫َ‬ ‫وكان ذا نظر ٍة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫بعد هذا ب�أيام وانكف�أ الر�أ�س على العقب‪ ،‬نظرة «عمر»‪«- ،‬عمر بن اخلطاب»‪.-‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫‪z‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪312‬‬
‫عبدت احلجر �صار قلبها مثل احلجر‪ ..‬هذا �شيء ال ُي�ستغرب لأنهم يذبحون‬ ‫كل �أمة َ‬
‫الب�ش لأجل احلجر ويقتُلون لأجل احلجر‪ ،‬وقري�ش كانت فقط واحدة من �أمم كانت قبلها‬ ‫َ‬

‫ع‬
‫وحتجرت قلوبها و�أفهامها‪ ،‬ه�ؤالء الأمم جمي ًعا ال تكون يف قلوبهم رحمة‪ ،‬خا�صة‬
‫عبدت احلجر َّ‬

‫ري‬‫ص‬
‫أ�شد من غريهم يف الزمان‪ ،‬و�إن‬
‫�إذا كانوا �أبناء �صحراء مثل العرب‪ ،‬فكانت حجارة قلوبهم � ّ‬

‫ال‬
‫«حممد» و�أ�صحابه قد �أُحيط بهم و�سط كل هذا الكم من احلجارة‪.‬‬

‫ك‬
‫وذكرنا برجل قدمي يف الزمان خرج علينا‬ ‫«حممد» �أثار اجلن و�أثارنا مبا لديه من العلم‪َّ ..‬‬

‫ت‬
‫يكن ك�أي رجل منكم ادعى‬ ‫مر ًة ففج�أ �ألبابنا و�أفهامنا‪ ،‬رجل قال عن نف�سه �أنه نبي ومل ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫النبوة‪ ،‬هذا رجل قدر بعلم ال ندريه �أن ي�ستظهرنا من خبائنا واجتناننا بدون �سحر وال‬

‫ش‬
‫جو�ستار‪ ،‬فج�أة وجد جيل كامل من اجلن �أنهم ظاهرون‪ ،‬ب�أجنحتهم وقدراتهم و�إ�رساعهم‬

‫ر‬
‫وم�ساكنهم ظاهرون‪ ،‬يراهم كل النا�س‪ ،‬رجل واحد �آمن له كل ذلك اجليل من اجلن عن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫بكرة �أبيهم‪ ،‬رجل ا�سمه «�سليمان»‪ ،‬ومملكته كانت من النيل �إىل الفرات يف �أعظم ات�ساع‬ ‫َ‬

‫ز‬ ‫و‬
‫بال�سخرة والت�سخري والأجر‪ ،‬نعمل له الق�صور والتماثيل‬
‫ململكة يهود‪ ،‬وكنا نعمل عنده ُ‬

‫يع‬
‫ون�ستخ ِرج له كنوز البحر‪ ،‬وكان ً‬
‫رجل خ ًريا ي�أمرنا �أن ن�صنع له قدورا عظيمة �ضخمة‬
‫تط ُبخ فيها الن�ساء وموائد �ضخمة ُيطعم بها الفقراء وامل�ساكني يف كل يوم ويف كل بلدة من‬
‫بالد مملكته‪.‬‬
‫كان يخبئ عن اجلميع كنوزه وعلومه فلم يد ِر �أحد من �إن�س �أو جن كيف ح�صل عليها!‪،‬‬
‫وكان يدعو ربه كل حني �أن تخفى كنوزه وعلومه فال تنبغي لأحد من بعده‪ ،‬كان يقول‬
‫�أنه نبي لكنا ال ن�ؤمن �أن من الب�رش �أنبياء‪ ،‬هم يقولون �أنهم �أنبياء لأنهم يريدون ال�سلطان‪� ،‬أو‬
‫يريدون االهتمام‪ ،‬ي�ستخدمون الدعوة �إىل اهلل والدعوة �إىل الف�ضيلة لتحقيق غر�ضهم‪ ،‬هذه‬
‫عقيدتنا فيهم‪.‬‬
‫البحر بع�صاه ف�أعجزنا‬
‫َ‬ ‫لكن جتري على �أيديهم �أمور �أعجزَ تنا عن فهمها‪« ..‬مو�سى» �شقَّ‬
‫وخرق الطبيعة‪�« ،‬سليمان» �أظهرنا جمي ًعا وكانت معجزته امللك‪« ،‬عي�سى» كان ُيحيي‬
‫املوتى وكانت معجزته مل تُ�سبق ولن تُ�س َبق‪ ،‬و«حممد» معجزته العلم‪ ،‬كان يعلم الغيب‬
‫من �أمر اجلن ويعلم �أمر الأمم ال�سابقة وعقائدهم و�أين بدلوا فيها وزاغوا‪ ،‬ومعجزته �أنه يرانا‬
‫‪313‬‬
‫وي�سمعنا‪ ،‬بل يقول �أنه �أُر�سِ ل للجن والإن�س‪ ،‬ومل يكن يرانا يف هيئتنا اجلنية قبله من الإن�س‬
‫�صدق كثري من اجلن �أن حممدا نبي‪ ،‬و�صدق كثري من اجلن �أن من‬ ‫�أحد‪ ،‬حتى �أنبياء الإن�س‪ ،‬نعم َّ‬
‫�سبقه كانوا �أنبياء‪ ،‬لأن هذه �أمور ومعجزات ال يت�أتى بع�ضها لأحد‪ ،‬حتى لنبينا «لو�سيفر»‪،‬‬
‫لكن املخل�صني للو�سيفر �أمثالنا يعلمون �أن ه�ؤالء �أنبياء زائفون‪ ،‬لأنهم يذكرون «لو�سيفر»‬
‫ذكر ال�رش‪ ،‬وهو البهي الأمري اخلالد املخ َّلد ِ‬
‫العال بكل �شيء يف الزمان‪.‬‬

‫ع‬
‫حممدا كان ال يزال يف البداية‪ ..‬و�إن ما �أحدثه «حممد» فيما بعد مل ُ‬
‫يكن �شيئًا واهيا‪،‬‬ ‫لكن ً‬

‫ص‬
‫بل قد ُكتب يف الزمان‪ ،‬وح َّول د َّف َة الزمان‪.‬‬

‫ال ‪z‬‬
‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫شر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪314‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪316‬‬
‫(‪)13‬‬

‫أكسيوم‬
‫حب‬
‫�شاهد برهان‪ ..‬له َ�ص ٌ‬ ‫بلد كان ا�سمها يف الكتاب فاران‪ ..‬خرج فيها نبي ِ‬
‫كرام كالل�ؤل�ؤ واملرجان‪ ..‬عدا عليهم قو ُمهم بالعنف والعنفوان‪ ..‬فكانوا بني‬

‫ع‬
‫وجعان و�صربان‪ ..‬و�أظلم الدهر عليهم بعد منة الرحمن‪ ..‬فما عادوا يرون �إال‬

‫ص‬
‫ُظلمة ونكران‪ ..‬ويف و�ض�أة من الزمان‪ ..‬يف يوم من �أيام فاران‪� ..‬سمعوا �أن الليلة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ُيقام عر�س ال�شريفان‪ ..‬البنت بنت النبي �صاحب الإح�سان‪ ..‬رقية الأمرية زينة‬
‫الأزيان‪ ..‬والزوج رجل عفيف «عثمان»‪ ..‬الن�سب واحل�سب واملال والب�ستان‪ ..‬وما‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ر�آهما يف تلك الليلة �إن�س وال جان‪� ..‬إال ر َّدد �أن �أح�سن زوج ر�آه �إن�سان‪ ..‬رقية‬

‫ب‬
‫وزوجها عثمان‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�آجره اهلل على �صربه بالتي مال �إليها قلبه‪ ..‬ف�آتاها كل قلبه‪ ،‬ولكنه خاف من‬

‫ش‬
‫تنكيد �أهله الكافرين‪ ،‬وتنكيد عمه‪ ،‬و�أتاه الفرج يف قولة قالها النبي لأ�صحابه‪،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫قالها لهم وهو خري من يعلم حالهم‪ ،‬جم َعهم وقال‪� :‬إن ب�أر�ض احلب�شة مل ًكا ال‬

‫و‬ ‫الت‬
‫فرجا مما �أنتم فيه‪.‬‬
‫يظلم عنده �أحد؛ فاحلقوا ببالده‪ ،‬حتى يجعل اهلل لكم ً‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ويف غفلة من النا�س‪ ..‬خرج «عثمان بن عفان» ومعه بنت ر�سول اهلل الأمرية‪،‬‬
‫يف طريق جهيم‪ ،‬تار ًكا وراءه �آماله وجتارته وب�ساتينه‪ ،‬يركبان على دابة‪ ،‬ولي�س‬
‫معهما �إال ما ين�شئ لهما حياة جديدة يف �أر�ض جديدة خ�ضراء ال يعلمان عنها‬
‫�شي ًئا‪ ،‬وعلى �ساحل بحر القرم‪� ،‬صعدا م ًعا على �سفينة كبرية م�سافرة بني‬
‫متوجهة �إىل مملكة �أك�سيوم‪ ،‬مملكة كبرية قدمية م�سيحية‪ ،‬بكل‬ ‫القارتني‪ِّ ،‬‬
‫ق�صورها وكنائ�سها و�أنهارها و�أ�شجارها‪ ،‬بكل �إدها�ش الطبيعة فيها وكل وح�شةَ‬
‫زوجه الراقية «رقية» بينما تنطلق‬ ‫ال ُغربة فيها‪ ،‬ويف تلك ال�سفينة �ضم «عثمان» َ‬
‫يف البحر‪ ،‬ولفح وجوههما هواء غريب على �شعورهما‪ ،‬هواء الغربة‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ن�سيم من هواء البحر كان يحرك خ�صالت �شعره‪ ..‬وهو ُ‬
‫ينظر يف الأفق‬
‫املمتد وي�ستذكر الأيام‪ ،‬كان مظهره كم�سافر �أجنبي على ظهر �سفينة‪ ،‬وما �سافر‬
‫فيها �إال ليطمئن على «رقية»‪ ،‬عيناه ال تفارقها كل حني‪« ،‬عمرو بن جابر»‪ ،‬كان‬
‫ي�سمع ر�سول اهلل يقول‪� ،‬إن «عثمان» و«رقية» �أول من هاجر يف �سبيل اهلل بعد‬
‫‪321‬‬
‫«�إبراهيم» و«لوط»‪ ..‬لقد كان النبي يحكي �أمو ًرا عن الأنبياء يف القر�آن مل ِترد يف‬
‫التوراة‪ ،‬تفا�صيل وتفا�صيل‪� ...‬سمع �صوتًا من ورائه يقول له‪« :‬عمرو بن جابر»؟‬
‫رجل مل َّث ًما ال يبني من وجهه �إال عينه وحولها جتعيدات‬‫ينظر فوجد ً‬ ‫التفت ُ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫كثرية‪ ..‬ات�سعت عني «عمرو بن جابر»!‪ ،‬وك�شف امللثم عن لثامه‪ ،‬وبنظرة يعرفها‬
‫عرب الزمان تطلع �إليه‪ ،‬قال له وب�سمة وا�سعة متط �شفتاه مطا‪ :‬لقد �سمعت‬
‫كالمك مع «ما�سا هارينا» يا بن جابر‪ ..‬نظر له «عمرو» يف ك َمد‪ ،‬كان ذاك‬

‫ع‬
‫«�إزب»‪�«- ،‬إزب بن �أزيب»‪.-‬‬

‫ري‬‫ص‬‫حب�س «عمرو» َ‬

‫ال‬
‫غيظه ونظر �سريعا �إىل «رقية» و«عثمان» ك�أنه يت�أكد �أنهما يف‬
‫مكانهما‪ ،‬ثم تطلع �إىل «�إزب» وقال‪ :‬يا وجه ال�شيطان‪ ،‬لقد ظننتُ �أنهم �سرييحون‬

‫ك‬
‫ملل بدوين �ألي�س كذلك‬ ‫العامل من وجهك‪ ..‬قال له «�إزب»‪ :‬العامل �سيكون �أكرث ً‬

‫ت‬
‫يابن جابر؟ قال «عمرو»‪ :‬كيف خرجت من اجلوداكيوال؟ نظر «�إزب» �إىل الأر�ض‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قدمي هاتني‪ ،‬ل�ستُ بهلوا ًنا مثلك‪ ،‬حاكموين ووجدوين بري ًئا‪..‬‬ ‫وقال َمبكر‪ :‬على َّ‬

‫ن‬
‫نظر «عمرو» �إىل وجهه وهو يقول كلمة بري ًئا ثم �أعر�ض عنه ت�ضج ًرا‪ ،‬كان يود �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ي�س�أله عن «ما�سا» لكنه �أط َرق‪ ،‬البد �أن املجرمني قد نالوا منها‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قال «�إزب»‪� :‬أردت �شك َرك على �إداليل �إىل ذلك النبي‪ ،‬لوال حديثك عنه مع‬

‫و‬
‫تلك ال�صارخة املجنونة ما كنتُ �س�أعرف‪ ..‬قال له «عمرو»‪ :‬وهل �أخربتَ �سفيه‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫آجل‪ ..‬قال «عمرو» �ساخ ًرا‪ :‬عج ًبا‬ ‫عاجل �أو � ً‬
‫النور؟ قال «�إزب»‪� :‬سيعرف بنف�سه ً‬
‫�أال تريد املجد؟ نورت عيون «�إزب» يف هيئته الإن�سية وقال بطريقة فيها عتو‪:‬‬
‫ال جمد �إال جمد �إزب‪ ..‬ثم �صار وجهه ك�أنه متثيل للخبث وهو يقول‪ :‬ال تفرح‬
‫بهجرتهما �إىل احلب�شة‪ ،‬ف�إن الذين وراءهما من املهاجرين لن ي�صلوا حتى �إىل‬
‫امليناء!‪ .‬نظر له «عمرو» بقلق‪ ،‬قال «�إزب»‪ :‬لقد �أعلمتُ �أهلهم بهجرتهم‪ ..‬قال‬
‫له «عمرو»‪ :‬ليتمن اهلل هذا الأمر رغما عن �أنفك‪ ..‬قال له «�إزب»‪ :‬ف�إن فعلوها‬
‫أق�سم مبجد بن �أزيب‪ ،‬لأرجع َّنهم منها �إىل بلدهم‪ ،‬لي�ستكمل‬ ‫وهاجروا‪ ،‬ف�إين � ِ‬
‫القر�شيون وط�أهم‪� ..‬أعر�ض «عمرو» بوجهه وهو ينظر �إىل رقية و«عثمان»‪ ،‬ثم‬
‫نظر �إىل «�إزب»‪ ،‬فلم ي ُكن �أحد هنالك‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫كان النبي يف حل َقة من �أ�صحابه‪ ،‬ويف روحه قلق‪ ،‬فقد ت� َّأخر عليه خرب و�صول‬
‫«عثمان» و«رقية» �إىل احلب�شة‪ ،‬ثم قدمت امر�أة وا�ست�أذ َنت وقالت لر�سول اهلل‪:‬‬
‫لقد ر�أيتهما يا ر�سول اهلل‪ ..‬فرح النبي وقال‪ :‬على �أي حال ر�أيتيهما؟ قالت‪:‬‬
‫‪322‬‬
‫ر�أيتُه قد حمل امر�أته على حمار وهو ي�سوقها‪ ..‬قال النبي‪� :‬صحبهما اهلل‪ ..‬ونبع‬
‫كالم من اجلال�سني عن ال�سفر واللحاق بهما‪ ،‬واخلروج من هذا ال�شر الذي‬
‫ت�صعده قري�ش يوما بعد يوم‪ ،‬كان ع�شرة من الرجال قد اختاروا واتفقوا �س ًّرا‬
‫�أن يهاجروا بعد «رقية» و«عثمان» ‪ ،‬ومنهم «�أبو بكر»‪ ..‬وكان «عمرو بن جابر»‬
‫يح�ضر جمعهم هذا من نافذة �صغرية يف الدار‪ ،‬وكان حزي ًنا على غدر الزمان‬
‫أنا�سا يهاجرون تاركني بيوتهم و�أرا�ضيهم‪ ،‬وخائ ًفا عليهم من كالم‬ ‫الذي يجعل � ً‬

‫ع‬
‫«�إزب» الذي البد �أنه �أبلغ �أهلهم‪ ،‬وحزين على نفر من رجال كانوا يعذبون يف‬

‫ص‬
‫اهلل لكنهم اختاروا البقاء وعدم الهجرة‪« ،‬عمار بن يا�سر» و«خباب» و«طلحة بن‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫عبيد اهلل» وكثري �آخرين‪ ..‬ثم فج�أة دعا النبي دعوة‪ ،‬قال‪ :‬اللهم � ِأعز الإ�سالم‬
‫بعمر بن اخلطاب‪ ،‬اللهم �أعز الإ�سالم بعمر بن اخلطاب‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫التقط «عمرو بن جابر» هذه الدعوة والتفت وانطلق‪ ،‬ليبحث عن «عمر»‪..‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ف�صيتُه ذائع يف قري�ش وخارج قري�ش‪ ،‬هو فار�س وهو‬ ‫وكان يعرف من هو «عمر»‪ِ ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫�سفري لقري�ش يف مفاخراتها بني القبائل يف احلروب �إذا �أرادت �أن تفاخر قبيلة‬

‫ش‬
‫قتال �أو يف كالم‪ ،‬كان «ابن جابر»‬ ‫بالكالم‪ ،‬فما كان �أحد يغلب «عمر» �أبدً ا يف ٍ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫يعرف �شدة «عمر»‪ ،‬لكنه �أخذ على نف�سه عهدً ا �أن يفعل �شي ًئا‪� ،‬أي �شيء‪ ،‬ميكن �أن‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ينهي به هذا الأذى‪ ،‬رغم �أنف اجلميع ورغم �أنف «�إزب»‪ ،‬لو كان «عمر» هذا �أ�شد‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أهل الأر�ض‪ ،‬ليكونن �سب ًبا يف �إ�سالمه‪ ،‬ولن ي�سبقه �إىل ذلك �أحد من امل�سلمني‪.‬‬
‫«عمر بن اخلطاب»‪ ..‬فوجده نائ ًما‬ ‫«عمرو» بج�سده وطار وفتَّ�ش عن ُ‬ ‫ور�شق َ‬
‫عجل ف�أيقظوه من نومته و�أ�صبح‬ ‫عند جانب من الكعبة وحوله رجال يذبحون ً‬
‫ينظر �إليهم وهم مي�سكون العجل ويحنون ر�أ�سه ثم ميررون ال�سكني على الرقبة‬ ‫ُ‬
‫ويفور منه الدم ويفور على �أ�صنام قريبة ك�أنهم ي�سقونها بالدماء!‪ ،‬وهنا فعل‬
‫«عمرو بن جابر» �شي ًئا عجي ًبا‪ ،‬ال يعرفه �إال اجلن‪ ،‬فكما �أن �صورة اجلن ال تراها‬
‫عيون الإن�س وعيون بع�ض احليوانات تراهم‪ ،‬كذلك �أ�صوات اجلن ال ت�سمعها‬
‫�آذان الإن�س و�آذان بع�ض احليوانات ت�سمعهم‪ ،‬وال ميكن للجن وهو يف �صورته‬
‫اجلنية �أن ُي�سمع �صوته للإن�س �إال بحيلة واحدة‪ ،‬انطلق «عمرو بن جابر» وفعلها‪.‬‬
‫�إذا ُذبح العجل و�ش َّقت رقبته‪� ،‬أمكن للجن �أن ي�أتي �إىل تلك الر�أ�س امللقاة‬
‫على الأر�ض وحتديدً ا �إىل � ُأذن العجل املفطورة على �سماع �أ�صوات اجلن‪،‬‬
‫م�سموعا‪ ،‬ك�أنها البوق‪ ،‬ومل ُي ِ�ضع «عمرو»‬
‫ً‬ ‫في�ستعملها اجلن عك�س ًيا ليجعل �صوته‬
‫‪323‬‬
‫توجه من فوره �إليها و�صرخ وقال قولة‬ ‫وقتًا‪ ،‬والر�أ�س رط َبة وحوا�سها مل تذبل‪َّ ،‬‬
‫ا�شتهرت بعد ذاك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ يا جليح‪� ،‬أمر جنيح‪ ،‬نبي ف�صيح‪ ،‬يقول ال �إله �إال اهلل‪.‬‬
‫جليحا يعني �أ�صل ًعا‪ ،‬فنظر «عمر» حوله وعينه‬ ‫«عمر بن اخلطاب» ً‬ ‫وكان ُ‬
‫مت�سعة �صارمة‪ ،‬ووثب القوم وتركوا العجل وجعلوا ينظرون حولهم‪ ،‬و«عمرو بن‬

‫ع‬
‫ب�صوت �أعلى‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫جابر» ينحني على الر�أ�س ويقولها‬

‫ص‬
‫ يا جليح‪� ،‬أمر جنيح‪ ،‬نبي ف�صيح‪ ،‬يقول ال �إله �إال اهلل‪.‬‬
‫«عمر» باخلوارق‪� ،‬أ�صبح النا�س يتباعدون‬
‫ينظر‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫«عمرو» يريد �أن يك�سر �شدة ُ‬
‫عن العجل وهم ينظرون �إىل «عمر»‪ ،‬فلي�س هناك جليح غريه‪ ،‬و«عمر» ُ‬
‫كان َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫حوله يف �شدة وتهديد لي�س فيه خوف‪ ،‬ثم قال‪ :‬ال �أبرح حتى �أعلم ما وراء هذا‪،‬‬

‫ب‬
‫وان�صرف من املكان‪ ،‬لكن امل�شهد ترك يف نف�سه �شي ًئا‪� ،‬إنه يعرف ب�أمر النبي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫الف�صيح الذي خرج يقول ال �إله �إال اهلل؛ ذاك «حممد»‪ ،‬ويعرف ب�أمر ما يلقاه‬

‫ش‬
‫�أ�صحابه‪ ،‬و�أ�صبح «عمر» ُيف ِّكر‪ ،‬و«عمرو بن جابر»وراءه ير ُقبه‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫انطلق «عمر بن اخلطاب» �إىل جمل�س يجتمع فيه رجال من قري�ش اعتاد �أن‬

‫و‬
‫يجل�س معهم‪ ..‬فلما �أتى جمل�سهم مل يجد منهم �أحدا‪ ،‬فلم يدر �أين يذهب‪ ،‬ثم‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قال يف نف�سه‪ :‬لو �أين جئتُ الكعبة فطفتُ بها ثم �أغادر �إىل م�سكني‪ ..‬فجاء �إىل‬
‫الكعبة والليل قد �أ�سدل �ستائره‪ ،‬ف�إذا ر�سول اهلل قائم ي�صلي‪ ،‬وكان �إذا �صلى‬
‫عند الكعبة ا�ستقبل جهة بيت املقد�س‪ ،‬ولكن من حبه للكعبة كان يجعل الكعبة‬
‫بينه وبني بيت املقد�س‪ ،‬فجعل «عمر» يت�أ َّمله ويت�أمل ما يفعل من ركوع و�سجود‬
‫ودعاء‪ ،‬ف َر َّق لهذا البهاء �شيء يف قلبه‪ ،‬وترك «عمر» املكان وعاد �إىل م�سكنه‪.‬‬
‫ف�أقبل «عمر» �إىل داره فوجد جا َرته «ليلى» راكبة على دابة عند الدار‬
‫ووراءها رحالها ك�أنها تريد ال�سفر‪ ..‬وكان زوجها «عامر» قد انطلق لبع�ض‬
‫حاجتها‪ ،‬وكانت هي وزوجها م�سلمني‪ ،‬لكن امل�شكلة �أن زوجها «عامر» كان حلي ًفا‬
‫للخطاب بن نفيل والد عمر‪ ،‬و«اخلطاب بن نفيل» هو نف�سه الرجل الذي كان‬
‫كالما �ضد الآلهة‪ ،‬و�أغوى به‬ ‫علم ب�أنه يتك َّلم ً‬ ‫طرد «زيد بن عمرو بن نفيل» ملا َ‬
‫ال�سفهاء لي�ضربوه‪ ،‬وبالطبع كان «اخلطاب» ي�سوم حليفه «عامر» �أ�شد الأذى ملا‬
‫علم �أنه �أ�سلم‪ ،‬وكان «عمر بن اخلطاب» كذلك �شديدً ا يف تعامله معهم ملا علم‬
‫ب�إ�سالمهم‪ ،‬فقل َقت «ليلى» ملا ر�أته ُم ً‬
‫قبل‪.‬‬
‫‪324‬‬
‫قال «عمر» جلارته ليلى‪� :‬إنه لالنطالق يا �أم عبد اهلل؟ قا َلت‪ :‬نعم واهلل‬
‫خمرجا‪ ..‬ف�أطرق‬‫ً‬ ‫ُ‬
‫وقهرتونا‪ ،‬حتى يجعل اهلل‬ ‫لنخ ُرجنَّ يف �أر�ض اهلل‪� ،‬آذيتمونا‬
‫«عمر» بر�أ�سه وكان ُيف ِّكر ومالمح وجهه بعيدة عن احلدة‪ ،‬فقال لها‪� :‬صحبكم‬
‫ودخل �إىل بيته‪ ،‬فر�أت «ليلى» له ر َّق ًة مل تكن تراها‪ ،‬لقد ظهر يف كالم‬ ‫اهلل‪َ ..‬‬
‫«عمر» حزنه على خروجهم!‪ ،‬فجاء «عامر» زوجها بحاجته تلك‪ ،‬فقالت له‪ :‬يا �أبا‬
‫أطمعت يف �إ�سالمه؟‬
‫وحزنه علينا‪ ..‬قال لها‪ِ � :‬‬ ‫عبد اهلل‪ ،‬لو ر�أيت عمر �آنفا ور َّقته ُ‬

‫ع‬
‫فمط �شفتيه وقال‪ :‬واهلل ال ي�س َلم حتى ي�سلم حمار اخلطاب‪ ..‬و�أ�شار‬ ‫قالت‪ :‬نعم‪َّ ..‬‬

‫ص‬
‫�إىل حمار مربوط يف زاوية من م�سكن اخلطاب‪ ..‬فلم ت ُرد عليه‪ ،‬وكتمت �أمانيها‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف قلبها‪.‬‬
‫راقب «عمر» خروجهما من نافذة بيته‪ ..‬وكانت الأفكار متوج يف عقله وت�أتي‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ينفك عنه‪ ،‬قال له‪ :‬اذهب واقتُل حممدً ا ف�إن كان نب ًيا‬ ‫وح�ضر قرين «عمر» ومل َّ‬

‫ب‬
‫لن ُت�س َّلط عليه و�إن كان غري ذلك َ‬

‫ل‬
‫نلت ال�شرف‪ ،‬وما من رجل يف قري�ش يجر�ؤ �أن‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫يقرتب من «حممد» بوجود حمزة الأ�سد‪ ،‬فح�سم «عمر» �أمره وخرج من البيت‬

‫ش‬
‫مبا�شرة يريد �أن ي�أتي ر�سول اهلل‪ ،‬يريد �أن يقتله‪.‬‬

‫و دوابهم‪ ،‬تاركني كل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫‪z‬‬
‫زي�إليها وكل‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫ويف جناح ليل تال‪ ..‬ا�سترت رجال من مكة ون�ساء‪ ،‬على‬

‫منهم قد دفع ن�صف دينار‪ ،‬ن�صف دينار تنقلك من عامل �إىل عامل‪ ،‬ع‬
‫متناثرين �إىل ذلك‬ ‫توجهني �إىل ذات الطريق �إىل احلب�شة‪ ،‬وو�صلوا‬
‫ما لهم‪ُ ،‬م ِّ‬
‫امليناء‪ ،‬فوجدوا �سفينتني كبريتني تتجهزان للإبحار‪ ،‬ف�صعدوا‬
‫كان فيهم‬
‫رجال من بيوتات املكانة يف قري�ش وكان منهم م�ست�ضعفني‪ ،‬كان فيهم «عبد‬
‫الرحمن بن عوف» التاجر الرثي‪ ،‬و«م�صعب بن عمري» الفتى الريان الذي مل‬
‫يعد ريا ًنا‪ ،‬بعد �أن حب�سته �أمه يف غرفة‪ ،‬ومل ين�شب �أن هرب منها َ‬
‫ونفذ بجلده‬
‫�إىل احلب�شة‪ ،‬وفيهم «الزبري بن العوام» الذي خرج هار ًبا من احلوت الذي كان‬
‫يكتمه بالدخان‪ ،‬وفيهم «�أبو �سلمة» وزوجته «�أم �سلمة»‪ ،‬وفيهم الراعي النحيل‬
‫«عبد اهلل بن م�سعود»‪ ،‬وفيهم غريهم‪ ...‬وحانت منهم نظرة �إىل بالدهم ملا‬
‫حت َّركت ال�سفن‪ ،‬نظر ًة ال تدري متى تعود‪ ،‬وفج�أ ًة ملحت عيونهم غربة قادمة‬
‫تبي لهم‪ ،‬كانوا ً‬
‫رجال‬ ‫�سريعة كالرمح‪ ،‬غربة ال يدرون ما بداخلها‪ ،‬فلما انق�شعت َّ‬
‫من قري�ش واقفني على ال�ساحل‪ ،‬و�سالحهم يف �أيديهم ينظرون �إليهم يف غل‪ ،‬فلو‬
‫كانوا ت�أخروا يف امل�سري دقيقة واحدة‪ ،‬لكان قومهم قد �أم�سكوهم و�سل�س ُلوهم‪،‬‬
‫‪325‬‬
‫لكن قدر اهلل ن َفذ‪ ،‬وحتركت ال�سفن �إىل داخل البحر‪ ،‬وحتولت �أنظارهم عن‬
‫�أر�ضهم �إىل منظر البحر‪ ،‬واملوج الذي يتهادى ويحملهم �إىل �أر�ض غري الأر�ض‪،‬‬
‫و�سماء غري ال�سماء‪ ،‬وهواء غري الهواء‪.‬‬
‫توجهت ال�سفن يف دروب البحر حتى نزلت يف جزيرة تدعى جزيرة‬ ‫جنو ًبا َّ‬
‫أياما ثم انطلقت ال�سفن تارة �أخرى حتى نزلت �إىل ميناء‬ ‫الريح‪ ،‬ارتاحت فيها � ً‬
‫�أدوني�س‪ ،‬يف قلب مملكة �أك�سوم‪ ،‬احلب�شة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وما كان معهم ال�صديق «�أبو بكر»‪ ..‬بل كان مي�ضي وحيدً ا ُم�ساف ًرا يف طريق‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�آخر ي�صل للحب�شة عن طريق اليمن‪ ،‬فلم يكن يحب البحر‪ ،‬وال�سفر من ذلك‬
‫امليناء يعني �شهو ًرا طويلة بداخل البحر‪ ،‬لكنه ق َّرر �أن يذهب �إىل حدود اليمن ثم‬

‫ك‬
‫وحرقة‪،‬‬ ‫يجاوز البحر يف �أيام معدودات �إىل احلب�شة‪ ،‬كان �أ�شد املهاجرين ُحز ًنا ُ‬

‫ت‬
‫لبعده عن الرحمة املهداة «حممد»‪ ،‬لكن احلياة يف مكة مل ت ُعد ممكنة بالن�سبة‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫له؛ �أذية و�إهانة‪ ...‬وقومه بنو تيم ال مينعونه وال يحمونه‪ ،‬ف�سافر منها وارحتل‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫و�سار يف طريق �ساحلي طويل والبحر يجانبه حتى بلغ برك الغماد يف �أق�صى‬

‫ر‬
‫رجل يف الطريق‬ ‫اجلنوب على حدود اليمن‪ ،‬وكلما ابتعد كلما اغتم‪ ،‬حتى لق َيه ُ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫أخرجني‬‫يعرفه‪« ،‬ابن الدغنة» �سيد قبائل القارة‪ ،‬قال‪� :‬أين تريد يا �أبا بكر؟ قال‪َ � :‬‬

‫و‬
‫قومي ف�أنا �أريد �أن �أ�سيح يف الأر�ض و�أن �أع ُبد ربي‪ ..‬قال له «ابن الدغنة»‪� :‬إن‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وت�صل الرحم وحتمِ ل الكل وتقري‬ ‫ك�سب املعدوم ِ‬ ‫مثلك ال يخ ُرج وال ُيخرج‪ ،‬ف�إنك ُت ِ‬
‫فادخل يف جواري‪ ..‬وكانت‬ ‫ال�ضيف وتعني على نوائب احلق‪ ،‬فتعال فارجع معي ُ‬
‫عادة يف العرب �أنه �إذا دخل �إن�سان يف جوار �إن�سان من �أ�سياد القوم‪ ،‬ف�إن �أذ َّيته‬
‫تعترب �أذية ال�سيد ال�شريف الذي �أجاره؛ وهذه قد تقام فيها حروب‪ ..‬فعاد «�أبو‬
‫بكر» �إىل مكة‪� ،‬إىل حبيبه وطبيبه ر�سول اهلل‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫رج ًل من بني‬ ‫بينما «عمر بن اخلطاب» يف طريقه �إىل َقتل «حممد» َ‬
‫قابل ُ‬
‫زهرة‪ ،‬كان من �أ�شد النا�س ِعل ًما بالأخبار ً‬
‫ونقل للأخبار‪ ،‬قال له‪� :‬أين تريد يابن‬
‫اخلطاب؟ قال «عمر»‪� :‬أريد �أن �أقتُل حممدً ا‪ ..‬قال الرجل‪ُ � :‬‬
‫أتظن �أن بني ها�شم‬
‫تاركيك بفعلتك هذه؟ فغ�ضبت مالمح «عمر»‪ ،‬قال الرجل ب�أ�سلوب مزعج‪ :‬اذهب‬
‫يا عمر ف�أقم �أهل بيتك‪� ،‬أختك قد �أ�سل َمت هي وزوجها واتبعا حممدً ا‪ ..‬نظر له‬
‫«عمر» نظر ًة ُميفة‪ ،‬مل يكن «عمر» يعلم �أن �أخته �أ�سل َمت!‪ ،‬ف�شاط غ�ضبه غ�ض ًبا‬
‫على غ�ضب‪ ،‬وان�صرف من عند الرجل �إىل بيت �أخته‪.‬‬
‫‪326‬‬
‫ب�صوت قا�س‪ :‬عمر بن‬ ‫ٍ‬ ‫قرعا �شديدً ا‪ ،‬فقا َلت‪ :‬من هذا؟ قال‬
‫قرع الباب ً‬
‫اخلطاب‪ ..‬وكانت هي مع زوجها بالداخل‪ ،‬هي «فاطمة بنت اخلطاب»‪ ،‬وزوجها‬
‫هو «�سعيد بن زيد عمرو بن نفيل»‪ ،‬ابن الرجل الأنور الذي طرده و�شرده والد‬
‫«عمر» قد ًميا‪ ،‬وكان معهما «خباب بن الأرت» امل�ست�ضعف ُيع ِّلمهما القر�آن‪ ،‬فلما‬
‫�سمع «خباب» �صوت «عمر» توارى يف املنزل‪ ،‬وقامت «فاطمة» وفتحت الباب‪،‬‬
‫طويل ج�سي ًما جدً ا‪ ،‬ي�ضيف‬ ‫فوجدت «عمر» واق ًفا ويف عينه ال�شر‪ ،‬كان «عمر» ً‬

‫ع‬
‫�إليه الغ�ضب م�سحة خميفة‪ ،‬قال «عمر»‪ :‬ما هذه الهينمة التي �سمعتُها عندكم؟‬

‫ص‬
‫قالت‪ :‬رمبا هو حديثٌ حت َّدثنا به‪ ..‬قال لها ب�شدة‪ :‬فلعلكما قد �صب� ُأتا؟ فوقف‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫زوجها «�سعيد بن زيد» �أمام «عمر» وقف َة ُ‬
‫رجل ال يهاب‪ ،‬وقال له بتحدٍّ ‪ :‬و�إن قلتُ‬
‫لك يا عمر �أن احلق يف غري دينك؟‬ ‫َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فوثب «عمر» على «�سعيد» فوطئه وط ًئا �شديدً ا‪ ..‬فجاءت «فاطمة» لتدفع‬ ‫َ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫أ�صبوت يا عدوة نف�سها؟ لكن يد‬ ‫عن زوجها‪ ،‬ف�أبعدها «عمر» بيده‪ ،‬وقال‪ِ � :‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫أفقدتها توا ُزنها و�أ�سقطتها فنزل الدم‬ ‫«عمر» املفتولة التي ح َّركها لتبعد �أخته � َ‬

‫ش‬
‫أح�ست‬ ‫من جانب فمها‪ ،‬فتو َّقف «عمر» ملا ر�أى دماء �أخته وا�ستحى من �ش َّدته‪َّ � ،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫«فاطمة» الدماء على وجهها فقالت لعمر‪ :‬قد كان ذلك على رغم �أنفك يا عمر‪،‬‬

‫الت‬
‫كنت ً‬

‫و‬
‫فاعل فينا فافعل‪.‬‬ ‫وما َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أطرق «عمر» بر�أ�سه وهو قد تن َّكد من مر�أى الدماء على �أخته‪ ،‬فلمح �صحيف ًة‬
‫فتوجه �إليها يريد �أن يرى ما فيها‪،‬‬ ‫من ِجلد مو�ضوعة على مثل مائدة قريبة‪َّ ،‬‬
‫وكان عمر قار ًئا وكات ًبا‪ ،‬ف�صاحت فيه �أخته «فاطمة»‪� :‬إنك جن�س‪ ،‬وهذا ال مي�سه‬
‫�إال املطهرون‪ ..‬وكان يف ال�صحيفة قر�آن مما كان يكتبه ال�صحابة وراء ر�سول‬
‫اهلل‪ ،‬فتجاهل قو َلها ورفع ال�صحيفة يقر�أها‪ ،‬فوجد فيها‪:‬‬
‫َّ َ ْ َ ً ِّ َ َ ْ َ ٰ َ ً ِّ َّ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ َ َْ َ َْ َ ُْ ْ َ ْ‬
‫ش * تزنِيل ممن خلق‬ ‫ق * إِل تذك ِرة لمن ي‬ ‫آن ل ِتَش َ ٰ‬ ‫﴿طه * ما أنزلا عليك القر‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫ْ ََ ٰ َُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ْ َٰ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َّ َ َ‬
‫ات وما ِف الر ِض‬ ‫ات العل * الرحن ع العر ِش استوى * ل ما ِف السماو ِ‬ ‫الرض والسماو ِ‬
‫ُ َ َٰ َّ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َّ َ ٰ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َّ ُ َ ْ َ ُ ِّ َّ َ ْ َ‬
‫الل َّ ل إِلَ إِل ه َو ۖ‬ ‫الس َوأخف *‬ ‫وما بينهما وما تت الثى * وإِن تهر بِالقو ِل فإِنه يعلم‬
‫َ‬
‫ن﴾‪.‬‬ ‫اء ْ ُ‬
‫ال ْس َ ٰ‬ ‫َلُ ْال ْس َم ُ‬

‫خاطر يف نف�س «عمر»‪ ..‬ما �أح�سن هذا الكالم‪ ،‬و�أكرمه‪ ،‬عن عظمة‬ ‫خط َر ِ‬
‫قلب ال�صحيف َة فوجد مكتو ًبا فيما ورائها قر�آن‪..‬‬
‫الرحمن‪ ،‬ثم َ‬
‫‪327‬‬
‫َْ‬ ‫يز ْ َ ُ َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ‬ ‫اوات َو ْالَ ْر ِض َو ُه َو الْ َعز ُ‬‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات َوال ْر ِض ۖ‬‫الكِيم * ل ملك السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿سبح هلل ما ِف السم ِ‬
‫ُ ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ َ ٰ ُ ِّ َ ْ َ ٌ ُ َ ْ َ َّ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ َ ُ‬
‫ك ِّل َ ْ‬
‫ش ٍء‬ ‫ِير َ* هو الول و َالخِر والظاهِر والاطِن وهو ب ِ‬ ‫ي ِي وي ِميت وهو ع ك ش ٍء قد‬
‫َْ َُ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َّ ُ َّ ْ َ َ ٰ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ ٌ ُ َّ‬
‫ات والرض ِف ِست ِة أيامٍ ثم استوى ع العر ِش ۚ يعلم ما يلِج‬ ‫ِ‬ ‫ِيم * ه َو الِي خلق السماو‬ ‫عل‬
‫َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ُ‬
‫نتم ْۚ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫زنل مِن السماءِ وما يعرج فِيها ۖ وهو معكم أين ما ك‬ ‫ِف الر ِض وما يرج مِنها وما ي ِ‬
‫َ ََْ ُ َ‬
‫ون بَ ِص ٌ‬
‫ري﴾‪.‬‬ ‫َواهلل بِما تعمل‬

‫ع‬
‫فقا َلها «عمر»‪ :‬ما �أح�سن الكالم‪ ،‬و�أكرم هذا الكالم‪ ..‬وهنا خرج «خباب بن‬

‫ص‬
‫الأرت» من داخل الدار‪ ،‬ففج�أ عمر‪ ،‬لكن «خباب» قال‪� :‬أب�شر يابن اخلطاب‪ ،‬ف�إن‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ر�سول اهلل دعا يوم االثنني وقال (اللهم �أعز الإ�سالم بعمر بن اخلطاب)‪ ..‬فوقع‬
‫يف قلب «عمر» مزيدً ا من الوجد والت�أ ُّثر‪ ،‬قال‪ِ :‬دلوين على ر�سول اهلل‪ ..‬قالوا‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ف�إنه يف دار الأرقم ب�أ�سفل ال�صفا‪ ..‬فخرج «عمر بن اخلطاب» وقد انعك�س كل‬
‫ما كان يف نف�سه‪ ،‬ومل يد ِر �أن وراءه كائن ممنت‪ ،‬كائن فرح‪ ،‬كائن جني‪ ،‬كائن‬

‫للن‬ ‫ب‬
‫يدعى «عمرو»‪« ،‬عمرو بن جابر»‪.‬‬

‫ش‬
‫‪z‬‬
‫وال‬ ‫ر‬
‫احلب�شة و�ألوان احلب�شة‪ ،‬كل �شيء مل َّون‪ ،‬جلود النا�س �سوداء‪ ،‬ومالب�سهم‬

‫و‬ ‫ت‬
‫مل َّونة ب�ألوان زاهية‪ ،‬وبيوتهم ملونة‪ ،‬زرقاء و�صفراء وبرتقالية‪� ...‬أنهار �صافية‬

‫زي‬
‫زرقاء وخ�ضرة و�أ�شجار ت ُع ّم اجلبال‪ ،‬نزل امل�سلمون و�سط هذا الكون اجلديد‬

‫ع‬
‫يتلم�سون لهم بيوتًا ورز ًقا‪ ،‬قلة م�ست�ضعفني كانوا‪ ،‬هاربني بدينهم من �ش�أفة‬
‫قومهم‪ ،‬لكن �شيئا يف تلك البالد مل يكن بخري‪ ،‬لي�س يف البالد نف�سها ولكن يف‬
‫نا�سها‪ ،‬هناك �أمر ج َلل‪ ،‬هناك من�شقون قد جي�شوا اجليو�ش و�أ�شعلوا انقالبا على‬
‫خروجا عظي ًما‪ ،‬وكانت املعركة دائرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫«النجا�شي» ملك احلب�شة‪ ،‬وخرجوا عليه‬
‫امللك‪ ،‬امل ِلك الذي ال ُيظ َلم عنده �أحد‪ ،‬اليوم هو يف حرب وا�ضح من عيون النا�س‬
‫وقلقهم �أنها �ستزيله وتزيل ملكه‪ ،‬ومل يكن هذا خ ًربا ح�س ًنا �أبدً ا‪.‬‬
‫طار «عمرو بن جابر» على الفور �إىل مكان املعركة الذي مل ي ُكن بعيدا‬
‫عن امل�سلمني‪ ،‬فقط بينهم وبينه نهر‪ ،‬وهناك تو َّقف «عمرو» يف الهواء!‪ ،‬لقد‬
‫وق�س َمه ليعيدنهم منها‬
‫كانت حر ًبا‪ ،‬حرب حقيقية‪ ،‬وتذكر «عمرو» كالم «�إزب» َ‬
‫خا�سرين‪.‬‬
‫جيو�ش ُم َّي�شة �سوداء كلها من اجلهتني‪ ..‬نظر لها «عمرو» فتذ َّكر جيو�ش‬
‫�أبرهة‪ ،‬ثم نف�ض عن نف�سه هذا اخلاطر‪ ،‬جيو�ش و�أح�صنة عليها �أ�سرجة و�أفيال‬
‫‪328‬‬
‫عليها تيجان وجنود ب�أزياء عليها �ألوان و�ألوان‪ ،‬ورماح طوال تنتهي كلها ب�شفرات‬
‫دروعا‪ ،‬و�صليب مر�سوم‬ ‫كالهالل املقلوب‪ ،‬ودروع يف �أيادي اجلنود ومنور ترتدي ً‬
‫على الأزياء والأ�سلحة‪ ...‬حرب َ�ضرو�س كما يجب �أن تكون احلرب‪.‬‬
‫�شخ�صا ي�سبح يف عزم وقوة يف النهر يريد‬ ‫ً‬ ‫وفج�أ ًة الحظ «عمرو بن جابر»‬
‫�أن يب ُلغ مكان احلرب‪ ..‬نظر له «عمرو» فعرفه‪� ،‬إنه «الزبري بن العوام»؛ ال�صبي‬
‫العفي الذي �صن َعت منه �أمه �صالبة ال تن�شق‪ ،‬وكان له من ا�سمه ن�صيب‪ ،‬كان‬

‫ع‬
‫عوما ً‬
‫ع�ضل �سري ًعا‪ ،‬حتى و�صل �إىل �أر�ض املعركة‪ ،‬كان امل�سلمون قد قالوا‬ ‫يعوم ً‬

‫ري‬‫ص‬
‫ُ‬
‫لبع�ضهم‪ :‬من يخ ُرج فيح�ضر الوقعة فينظر على من تكون؟ فقال «الزبري»‪� :‬أنا‪..‬‬

‫ال‬
‫جلند بفتى �أ�س َمر متني‬ ‫�سابحا من جانبه �إىل جانبه‪ ،‬وفوجئ ا ُ‬
‫وقفز يف النهر ً‬
‫القوام قد خرج من البحر ولي�س عليه �أزار فبدت ع�ضالته ال�شابة‪ ،‬وانطلق على‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫َ‬
‫وا�شرتك يف احلرب‪.‬‬ ‫�سالحا من جندي �ساقط‬
‫الفور والتقط ً‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫والتهبت احلرب التها ًبا �شديدً ا حتى غلب «النجا�شي» خ�صومه وانت�صر‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫وحمى ُملكه‪ ..‬ورجع «الزبري بن العوام» وهو يعوم منت�ص ًرا‪ ،‬وملا ر�أوه �آتيا على‬

‫ر‬
‫غلب خما�صميه‪،‬‬ ‫فرحا‪ ،‬فعرفوا �أن «النجا�شي» قد َ‬ ‫ال�ساحل �أخذ ُيل ِّوح لهم بردائه ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫وعا�ش امل�سلمون يف احلب�شة يف ك َنف حكم «النجا�شي»‪ ،‬يف خري دا ٍر وخري جوار‪.‬‬

‫م�شى «عمر بن اخلطاب» م�ش َيته التي فيها �إباء حتى بلغ تدارو الأرقم‪ ..‬وقر َع‬
‫‪z‬‬
‫زيمع ر�سول‬
‫ف�سكت �صوت‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫قرعته التي فيها �شدة‪ ،‬وكان جمع من ال�صحابة يف الداخل‬ ‫الباب َ‬
‫اهلل‪ ،‬و«بالل» على الباب فقال‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬عمر بن اخلطاب‪..‬‬
‫«بالل» هنة ثم قال‪ :‬حتى �أ�ست� ِأذن لك ر�سول اهلل‪ ..‬وكان يف البيت «حمزة»‪،‬‬
‫الفار�س الأ�سد‪ ،‬فقال‪ :‬وما عمر؟ �إن �أرا َد خ ًريا بذلناه له‪ ،‬و�إن �أراد �ش ًّرا قتلناه‬
‫ب�سيفه‪ ..‬فذهب «بالل» للنبي وقال‪ :‬يا ر�سول اهلل‪ ،‬عمر بن اخلطاب بالباب‪..‬‬
‫فقال النبي‪� :‬إن ُيرد اهلل بعمر خ ًريا �أدخ َله يف الدين‪ ،‬افتَح له‪ ..‬ففتح له «بالل»‪،‬‬
‫ف�أم�سك «حمزة» بعمر م�س َكة �شديدة و�أم�سك به رجل �آخر من امل�سلمني‪ ،‬و�أدخلوه‬
‫�إىل ر�سول اهلل‪ ،‬فقال لهم النبي‪ :‬خلوا عنه‪ ..‬ثم قام له النبي و�أخذ مبجامع‬
‫قمي�صه وجذبه �إليه ونظر يف عينه مبا�شرة وقال له‪ :‬ما الذي تريد؟ وما الذي‬
‫جئت‪ ،‬فواهلل ما �أرى �أن تنتهي يا عمر حتى ينزل اهلل بك قارعة‪ ..‬قال «عمر»‪:‬‬ ‫َ‬
‫فكب كل الذين كانوا يف الدار‪،‬‬ ‫�أ�شهد �أال �إله �إال اهلل‪ ،‬و�أ�شهد �أنك ر�سول اهلل‪َّ ..‬‬
‫و�ضرب النبي �صد َر «عمر» وقال‪ :‬اللهم �أخرج ما يف �صدره من غل وداء و� ِأبدله‬
‫�إميا ًنا‪..‬‬
‫‪329‬‬
‫فا�صطف امل�سلمون يف الدار �ص ًّفا‪ ،‬و�صلى بهم ر�سول‬ ‫َّ‬ ‫وح�ضرت ال�صالة‪..‬‬
‫اهلل‪ ،‬فلما فرغوا‪ ،‬قال له «عمر»‪ :‬يا ر�سول اهلل‪� ،‬أل�سنا على ِّ‬
‫احلق �إن متنا و�إن‬
‫حيينا؟ قال‪ :‬بلى والذي نف�سي بيده �إن ُكم على احلق �إن متم و�إن حييتم‪ ..‬قال‬
‫بعثك باحلق لتخرجن‬ ‫ففيم االختفاء؟ مل ال ُن�صلي عند الكعبة؟ والذي َ‬ ‫«عمر»‪َ :‬‬
‫أخرجهم يف �ص َّفني من الدار‪ ،‬وقف «عمر» على ر�أ�س َ�صف‪ ،‬و«حمزة»‬ ‫الآن‪ ..‬ف� َ‬
‫ً‬
‫يف ر�أ�س ال�صف الآخر‪ ،‬وكان عددهم �أكرث من ثمانني رجل‪ ،‬ور�سول اهلل يف‬

‫ع‬
‫املنت�صف يف مقدمتهم‪ ،‬وكان م�شهدً ا مهي ًبا فاخ ًرا ي�شع بالقوة‪ ،‬وبخا�صة ملا‬

‫ص‬
‫دخلوا احل َرم ووقفوا و�صلُّوا �صالتهم الأوىل اجلماعية عند الكعبة وحولهم‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أ�صنام ال ح َّد لكرثتها‪ ،‬ومل يج ُر�ؤ �أحد من قري�ش �أن يع ِرت�ض‪.‬‬
‫وتب�سم «عمرو بن جابر»‪ ..‬لقد �أع َّز اهلل امل�سلمني ب ُع َمر‪ ،‬بدعوة النبي الهادي‪،‬‬
‫َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وحفظ اهلل املهاجرين يف احلب�شة‪ ،‬بدعوة النبي الهادي‪ ،‬و�أ�صابت الكافرين‬

‫ب‬
‫ك�آبة عظيمة ملا ر�أوا ذلك امل�شهد‪ ،‬وكان «�إزب» ُ‬

‫ل‬
‫ينظر ب ِغل‪ ،‬و«عمرو بن جابر»‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ير ُقبه يف ظفر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ولكن «عمر بن اخلطاب» مل ي�س ُكت عند هذا‪ ..‬بل ذهب مبا�شرة �إىل «�أبي‬

‫الت‬ ‫و‬
‫جهل» يف بيته‪ ،‬وكان «�أبو جهل» خاله‪ ،‬فقرع «عمر» الباب ب�شدة‪ ،‬فخرج «�أبو‬

‫و‬
‫أعلمت �أين‬
‫مرح ًبا بابن �أختي‪ ،‬ما الذي جاء بك؟ قال له «عمر»‪َ � :‬‬ ‫جهل» وقال‪َ :‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قد �أ�سلمتُ هلل ولر�سول اهلل؟ قال «�أبو جهل»‪� :‬أوفعلت؟ قال «عمر»‪ :‬نعم‪ ..‬فدخل‬
‫جئت به‪.‬‬
‫حك اهلل وق َّبح ما َ‬ ‫«�أبو جهل» و�ضرب الباب يف وجه «عمر» وهو يقول ق َّب َ‬
‫لكن «عمر» مل ي�س ُكت عند هذا‪ ،‬بل ذهب �إىل ذلك الرجل الذي من بني‬
‫زهرة‪ ،‬ذاك الذي كان ينقل الأخبار‪ ،‬وقال له‪� :‬إين قد �أ�سلمت‪ ،‬ف�أنبئ �أهل مكة‬
‫الرجل وكان‬‫كلهم‪ ،‬ولينتهوا عما يفعلوا بامل�ست�ضعفني من امل�سلمني‪ ..‬فانطلق ُ‬
‫يبدو �أن هذا هو �أهم خرب يف حياته ينقله‪ ،‬فم�شى يف �شعاب مكة وهو ي�صيح‪:‬‬
‫يا �أهل مكة‪ ،‬لقد �ص َب�أ ُعمر بن اخلطاب‪ ،‬لقد �صب�أ ُعمر‪ ..‬والنا�س يخرجون‬
‫ما�ش وراءه ويقول‪ :‬كذب‪ ،‬بل �أ�سلمتُ وكفرتُ‬ ‫من �أبوابهم ينظرون �إليه‪ ،‬و«عمر» ٍ‬
‫ب�أحجاركم‪ ..‬وو�صل اخلرب �إىل �أعايل القوم‪ ،‬فجاء الأخوان الرثيان اخلبيثان‪،‬‬
‫«�شيبة بن ربيعة» و«عتبة بن ربيعة»‪ ،‬التو�أمان‪ ،‬تو�أمان من عل َية القوم وتو�أمان‬
‫وت�شجع بقية‬
‫رج ٍل واحد!‪َّ ،‬‬ ‫من �أ�سو�أ القوم‪ ،‬فوثبا على «عمر بن اخلطاب» وث َبة ُ‬
‫الرجال فهجموا على «عمر» هجم ًة همجية كهمجية عرب ال�صحراء‪.‬‬
‫‪330‬‬
‫تخ َّل�ص «عمر» ممن ن�شب فيه وقفزَ على «عتبة بن ربيعة» وجعل ي�ضربه‬
‫�ضر ًبا �شديدً ا‪ ،‬ثم �أدخل ا�صبعه يف عني «عتبة» � ً‬
‫إدخال �أدمى له عينه و�أف�سدها‪،‬‬
‫و�أخذ «عتبة» مي�سك عينه وي�صيح‪ ،‬فانتقم «عمر» من «عتبة» مما فع َله ب�أبي‬
‫وي�ضربهم «عمر»‪ ...‬لكن كرثتهم‬ ‫ِ‬ ‫بكر �ساب ًقا‪ ،‬وبقى النا�س ي�ضربون «عمر»‬
‫بد�أت تغلبه‪ ،‬وقاموا على ر�أ�سه حتى كادوا يقت ُلوه‪ ،‬حتى �أقبل عليهم �شيخ من‬
‫فتنحى النا�س عنه‪ ،‬قال لهم‪ :‬ما �ش�أن ُكم بعمر؟ قالوا‪:‬‬
‫قري�ش عليه حلة ثمينة‪َّ ،‬‬

‫ع‬
‫قد �صب�أ‪ ..‬قال‪ :‬ومه؟ رجل اختار لنف�سه �أم ًرا فماذا تريدون؟ �أترون قبيلته بني‬

‫ص‬
‫عدي �س ُي�سلمونه لكم هكذا؟‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كان هذا هو خال «عمر» الثاين‪ ..‬رفع يده وقال‪� :‬أال �إين �أجرتُ ابن �أختي‬
‫فتك�ش ُفوا عنه‪ ..‬وكان الرجل �شري ًفا يف القوم‪ ،‬فتنحى النا�س عن «عمر»‪ ،‬فنظر‬ ‫َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫جوارك عليك رد‪ ،‬فقل ما �شئت‪ ..‬و�أم�سك «عمر» ب�أقرب‬ ‫َ‬ ‫�إليه «عمر» وقال له‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫و�شج له ر�أ�سه فتعاون عليه النا�س ف�ضربوه و�ضربوه حتى �أدموه و�أ�سقطوه‬ ‫رجل له َّ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫على الأر�ض زاحفا يف دمائه‪ ،‬وانطلق القوم ُيح�ضرون �سيوفهم ليقطعوا ر�أ�س‬

‫ش‬
‫«عمر»‪ ،‬و�أبقوا بع�ضهم عنده يحر�سونه‪ ،‬وقام «عمر» فج�أة كاملارد ف�ش َّد قدم �أول‬

‫و‬ ‫ر‬
‫رجل بجواره ف�أوقعه‪ ،‬ثم قام مي�سح دماءه و�ضرب النا�س من حوله ثم رك�ض‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�إىل ناحية بيته‪ ،‬فدخله ومكث فيه وقد �أ�صابه �شيء من اخلوف‪ ،‬فالقوم �آتني‬

‫ز‬
‫عليه متكاثرين ب�أ�سيافهم‪ ..‬ثم ُطرق الباب طرق ًة خفيفة‪ ،‬ففتح «عمر»‪ ،‬ف�إذا‬

‫يع‬
‫رجل غني من �أ�سياد القوم؛ «العا�ص بن وائل» �سيد بني �سهم‪ ،‬ذلك الذي دخل‬
‫قمي�صا‬
‫ً‬ ‫على «خباب» يف متجره وتخا�صم معه �أمام «�أم �أمنار»‪ ،‬كان يرتدي‬
‫يك «عمر» يدري ب�أمره مع «خباب» وال بتعذيبه البنه ه�شام‬ ‫مكفو ًفا بحرير‪ ،‬مل ُ‬
‫بن العا�ص‪ ،‬نظر له «العا�ص بن وائل» وهو غارق يف دمائه وقال له‪ :‬ما بالك يا‬
‫فار�س قري�ش؟ وكان ُمعج ًبا بعمر وبفرو�سية «عمر»‪ ،‬قال «عمر»‪ :‬زعم َ‬
‫قومك‬
‫�أنهم �سيقتلوين‪ ..‬قال «العا�ص بن وائل»‪ :‬ال �سبيل �إليك‪ ..‬فخرج العا�ص من‬
‫منزل «عمر» ونظر �إىل َجمع غفري من النا�س قد �أتوا ب�أ�سيافهم حتى ملأوا‬
‫الوادي‪ ،‬قال لهم‪ :‬ماذا تريدون؟ قالوا‪ :‬نريد هذا ابن اخلطاب الذي �ص َب�أ‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال �سبيل �إليه‪ ،‬قد �أجر ُته‪ ..‬وكان «العا�ص بن وائل» �شري ًفا م�شر ًفا يف القوم‬
‫له �صيت وجاه‪ ،‬ف�أنزل القوم �أ�سيافهم وان�صرفوا عنه‪ ،‬و�أ�صبح «عمر» يف جوار‬
‫«العا�ص بن وائل»‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪331‬‬
‫«�إزب بن �أزيب»‪� ،‬أ�صابته �سكتَة الكمد‪ ..‬ال يزال امل�سلمون �أعزَّة منذ �أن �أ�سلم‬
‫«عمر»‪ ،‬ميكنهم �أن ُي�صلُّوا �إذا �شا�ؤوا جه ًرا عند الكعبة طاملا «عمر» ي�صلي‬
‫معهم‪ ،‬ويف ذات ليلة من م�ساء بهيج‪ ،‬جاء امل�سلمون كلهم وقد بلغوا املائة‪،‬‬
‫ووقفوا �صفو ًفا �صفو ًفا عند الكعبة وتق َّدمهم ر�سول اهلل‪ ،‬ينظرون �إىل ناحية‬
‫بيت املقد�س ويجعلون الكعبة �أمامهم كما كان ُيحب �أن يفعل ر�سول اهلل‪ ،‬وفيهم‬
‫«عمر» وفيهم «حمزة»‪ ،‬وحولهم الأ�صنام تنظر‪ ،‬وامل�شركني ينظرون‪ ،‬واملالئكة‪،‬‬

‫ع‬
‫ا�صطف وحده يف اجلوار‪ ،‬ويف و�سط كل هذا رفع‬ ‫َّ‬ ‫و�إزب‪ ...‬و«عمرو بن جابر»‬

‫ص‬
‫النبي يده بكلمة قالها عالية‪ :‬اهلل �أكرب‪.‬‬
‫يوما لن تن�ساه مكة‪ ،‬وبعد الفاحتة تال ر�سول‬
‫ترتيل وتغنى به تغن ًيا‪ ،‬وكان احلبيب‬
‫�صالة جهرية جامعة‪ ..‬وكان ً‬
‫ال‬
‫اهلل �آخر الذي �أنزل عليه‪ ،‬ورتَّله ر�سول اهلل ً‬‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫بجهر ي�سمع املتجاورون للبيت‪ ،‬و�إذا حت َّدث‬ ‫بحة‪� ،‬إذا خطب ٍ‬ ‫�صوت جميد له َّ‬ ‫ذا ٍ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ُفتحت له امل�سامع حتى �أ�سمع العواتق يف خدورهن‪ ،‬ويف تلك الليلة‪ ،‬قالها ر�سول‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫اهلل جاه ًرا بها‪:‬‬

‫ش‬
‫ْ َ ً‬ ‫َ َ ُ ُ َّ َ َ ْ ُ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ ْ ُ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ‬
‫اذلك ُر َولُ ال َ ٰ‬ ‫ال َة ال ْخ َر ٰ‬ ‫الل َت َوالْ ُع َّز ٰ‬

‫ر‬
‫نث * ت ِلك إِذا‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫*‬ ‫ى‬ ‫ِ‬ ‫اثل‬ ‫اة‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫*‬ ‫ى‬ ‫﴿أفرأيتم‬
‫َ ٰ ْ َ َّ َ ْ َ ٌ َ َّ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َّ َ َ َ ُ َ‬

‫و‬
‫ُ َْ‬ ‫ْ ٌَ‬

‫الت‬
‫ق ِسمة ِضزيى * إِن ِه إِل أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الل َّ بِها مِن سلط ٍ‬
‫ان﴾‪.‬‬

‫و‬
‫وتن َّبه امل�شركون وطالت �أعناقهم وتوجهت �أ�سماعهم و�أنظارهم �إىل «حممد»‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وكل من و�أ َد مو�ؤدة نظر‪ ،‬و«حممد» يت ُلو ويتلو‪..‬‬
‫ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ ْ ُ َ ْ َ َ ُ َ ُّ َ ْ َ َ َ َ َ‬
‫ْ‬ ‫ِكة ت ْس ِم َية ال َ ٰ‬
‫نث * َوما لهم ب ِ ِه مِن عِل ٍم‬ ‫﴿إِن الِين ل يؤمِنون بِالخِرة ِ ليسمون الملئ‬
‫َ ْ َ ِّ َ ْ ً‬ ‫َّ َّ َ ُ ْ‬ ‫َ َّ ُ َ َّ َّ‬
‫ۖ إِن يتبِعون إِل الظ َّن ۖ َوإِن الظ َّن ل يغ ِن مِن الق شيئا﴾‪.‬‬
‫وامل�سلمون من ورائه يتذ َّكرون ما كان من �أفكارهم و�أ�ضاللهم‪ ..‬وتال «حممد»‬
‫وتال‪..‬‬
‫َ َّ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ َّ َ ٰ َ ِّ َ ْ ُ َ َ ٰ َ َّ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫ه * َوأنه ه َو أضحك َوأبك ٰى * َوأنه ه َو أمات َوأحيا﴾‪.‬‬ ‫﴿وأن إِل ربك المنت‬
‫وتزاحم من مل ي ُكن هنالك مع من كان هناك‪ ،‬وكان كثري ممن ح�ضر ينظر‬
‫ب�شرود �إىل ذلك امل�شهد و�صفوف «حممد» �أكتا ًفا ب�أكتاف عاقدين �أذرعهم على‬
‫�صدورهم‪..‬‬
‫َ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ ُ‬ ‫َ َ َّ ُ َ ْ َ َ َ ً ْ ُ َ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫َ َ َّ ُ ُ َ َ ُّ ِّ‬
‫وح من قبل‬ ‫ود ف َما أ ْب َ ٰ‬
‫ق * وقوم ن ٍ‬ ‫ى * وأنه أهلك عدا ال ٰ‬
‫ول * وثم‬ ‫الش ْع َر ٰ‬ ‫﴿وأنه هو رب‬
‫َّ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َٰ‬
‫ۖ إِنهم كنوا هم أظلم وأطغ﴾‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫الوجل‪ ،‬و«حممد» �صوته بها يعلو �إىل �أفئدتهم‪..‬‬
‫فوقع يف قلب بع�ضهم �شيء من َ‬
‫َ‬
‫ت ْالز َف ُة * لَيْ َس ل َ َها مِن ُدون الل َِّ َك ِش َف ٌة * أ َف ِم ْن َٰه َذا ْ َ‬ ‫ِّ َ ُّ ُ ْ ُ َ ٰ َ َ‬
‫ِيث‬
‫الد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬‫﴿من انلذ ِر الول * أ ِز‬
‫َ ُُْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ ََ ُ ْ َ ُ َ َ ْ ُ ُ‬
‫تعجبون * وتضحكون ول تبكون * وأنتم سامِدون * فاسجدوا ِل َِّ واعبدوا ﴾‪.‬‬
‫ف�سجد امل�سلمون من فورهم �صفا �صفا‪ ..‬و�سجد من ت�أ َّثر‪ ،‬و�سجد من ت�أ َّثر مبن‬
‫َ‬
‫ت�أثر‪ ،‬و�سجد الهينة قلوبهم‪ ،‬و�سجد القا�سية قلوبهم‪ ،‬و�سجد امل�شركون‪ ،‬و�سجد‬

‫ع‬
‫«عمرو بن جابر»‪ ،‬وبق َيت الأ�صنام واقف ًة ال تدري من �أمرها �شي ًئا‪ ،‬واحم َّرت عني‬

‫صري ال‪z‬‬
‫«�إزب» ف�صارت كالأجرام‪ ،‬احمرت واجمرت تالبيب قلبه‪ ،‬وفمه فاغر ب�أ�سنان‬
‫ك�أ�سنان القر�ش‪ ،‬و�أق�سم‪ ،‬و�أق�سم بعزة «ابن �أزيب» ليفعلنَّ �شيئا ُمنك ًرا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�سجدت �أفئدتهم ور�ؤ�سهم!‪ ،‬ونظروا �إىل‬ ‫حتي ال�ساجدون من الكافرين كيف َ‬ ‫َّ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ثقال ذرة‪ ،‬بل قلوبهم عات َية ووجوههم‪ ،‬لكنهم‬ ‫بع�ضهم‪ ،‬ومل يكونوا �آمنوا حتى ِم‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ملا �سمعوه ببالغته وطالوته‪ ،‬بجمال �صوت «حممد»‪ ،‬وبقوة �صوت «حممد»‪،‬‬

‫شومل تكن عيونه ت�شي مبظهر‬


‫وحتادثوا‪� ،‬أن النا�س قد ر�أت و�أن النا�س‬ ‫نزلوا على وجوههم �ساجدين‪ ،‬وتالوموا‬

‫ر‬
‫يقول‪� ،‬أفر�أيتم الالت والعزى‪ ،‬ومناة الثالثة الأخرى‪ ،‬تلكوالالغرانيق العلى‪ ،‬و�إن‬
‫�ستُخرب النا�س‪ ،‬فجاء لهم رج ٌل مل َّثم‪ ،‬ال يعرفه �أحد‪،‬‬

‫�شفاعتهن لرتجتى‪ ..‬نظ ُروا �إليه بحرية ومل يكن �أحد قد �سمع ت�شي ًئوا من هذا‪ ،‬قال‬
‫�سجدتُ لأين �سمعتُ حممدً ا‬ ‫ح�سن‪ ،‬لكن الليل كان ُيخفي هذا‪ ،‬قال الرجل‪� :‬إمنا‬

‫ع‬
‫وله الأنثى‪..‬‬‫ي‬ ‫ز‬‫�أحدهم‪ :‬ما �سمعتُ هذا من حممد‪� ،‬إمنا �سمعته يقول‪� :‬أل ُكم الذ َكر‬
‫�أ�صد َرت عيون الرجل تعب ًريا �ساخ ًرا لئي ًما‪ ،‬وقال‪� :‬إن مل تقولوا هذا �أكلت ُكم‬
‫الرجل؟‬
‫العرب‪ ،‬وما �أدراهم �إذا مل ي�سمعوا هنا وي�شهدوا‪ ..‬قال �أحدُهم له‪ :‬من ُ‬
‫نظر له املل َّثم وقال بثقة‪�« :‬إزب»‪�« ،‬إزب بن �أزيب»‪.‬‬
‫الرجل وقد �ألقى �إليهم ما يكفي‪ ..‬ونظر بع�ضهم �إىل بع�ض والظفر‬ ‫ان�صرف ُ‬
‫قد زار عقولهم ملا تفكروا يف كالم ذلك الرجل‪ ،‬وتالهوا بالتناق�ش ومل يلحظوا‬
‫حتى ا�سمه وغرابته‪ ،‬و�أ�صبحوا ُيرددونها من بعده ويكذبون على ر�سول اهلل‪،‬‬
‫يقولون �إمنا �سجدنا لأننا �سمعنا حممدً ا ُي ِّجد �آلهتنا‪ ،‬و�إنا ظننا �أنه عاد �إىل‬
‫حلف امل�سلمون �أن قر�آنهم لي�س فيه هذا و�أن الآيات ال�سابقة‬ ‫ُر�شده‪ ،‬ومهما َ‬
‫قري�شا �أ�صبحت تلوك �أن حممدً ا ُي ِّغي القر�آن‬‫والتالية تنفي مثل هذا‪� ،‬إال �أن ً‬
‫على هواه‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫�أما «�إزب» املل َّثم‪ ،‬فقد كان يف حلظات بني قوم ذوي ب�شرة �سوداء وثياب‬
‫زاهيات‪ ،‬يف احلب�شة‪ ،‬وبني قلة من امل�سلمني املع�سرين‪ ،‬وقف رجل ادعى �أنه‬
‫ُم�سا ِفر رحال‪ ،‬و�أنه م َّر مبكة ور�أى امل�شركني قد �سجدوا جمي ًعا وراء رجل يدعي‬
‫فتب�شرت قلوب امل�سلمني وا�ستق�صوا وتق�صوا الأخبار من امل�سافرين‪،‬‬ ‫�أنه نبي‪َّ ،‬‬
‫ف�أكد لهم �أكرث من فرد‪� ،‬أن امل�شركني قد �سجدوا بالفعل‪ ،‬وقالوا بع�ضهم‬
‫لبع�ض‪� :‬إن اهلل قد �أظهر نبيه‪ ،‬وال حاجة بنا �أن نكون هاهنا‪ ،‬فلن ُكن �إىل جوار‬

‫ع‬
‫احلبيب امل�صطفى‪ ..‬وجهزوا �أمتعتهم وانطلقوا عائدين‪ ،‬بعد عدة �شهور فقط‬

‫ص‬
‫من و�صولهم‪ ،‬عائدين �إىل مكة‪ ،‬ووراءهم وجه ي�ضحك وي�سخر‪ ،‬لقد وعد �أن‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ُيعيدهم �إىل معذبيهم‪ ،‬ولقد �أوفى بوعده‪ ،‬وا�ستب�سم تلك الب�سمة التي �صارت‬
‫طبعا لوجهه‪ ،‬ب�سمة «�إزب»‪.‬‬

‫‪z‬‬‫كت‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪334‬‬
‫ول�ست تدري بعد ِ َل �أحدثك!‬
‫َ‬ ‫أحد َ‬
‫ثك ب�أمور يف الزمان‪،‬‬ ‫َ‬
‫أحدثك ب�أمر اجلن‪ ،‬و� ِّ‬ ‫�‬

‫ع‬
‫�إنه ال يحق لأمثالك ال�س�ؤال‪ ،‬و�إذا جتاوز و�س� َأل من هم �أمثالك فال يحق لهم �أن يعرفوا‬

‫ص‬
‫الإجابة‪ ،‬حتى ن�شاء نحن!‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أنتُم عبيد‪ ،‬تُ�سا ُقون وت�ؤ َمرون‪ ،‬و� َ‬
‫أنت عبدي الذي بذلت من كرامتك الكثري حتى �آتيك‬
‫و�أعلمك‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أعده و�أهيئ له الأمر؛ العبد الذي �سيكون ال�سيد على �أدمي هذه الأر�ض‪،‬‬
‫�أنت عبدي الذي � ّ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫تع َّلم يا عبدي تع َّلم‪..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫اقر�أ الذي �أقوله لك و�إن كنت يف �شك منه‪ ،‬فا�س�أل وحت َّقق وتي َّقن من كل كلمة حدثتُك‬

‫ر‬
‫�إياها‪ ،‬ت� َّأكد من كل كلمة قر�أتها‪ ،‬حتقق كما يجب �أن يكون التح ُّقق‪ ،‬اقر�أ ف�أنت العايل على‬

‫الت‬ ‫و‬
‫كل من عداك‪� ،‬أنت عبدي‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫نورا‬
‫أنت فيه ظال ًما �أ�سودا‪ ،‬واجعل ً‬ ‫تريد �أن تراين فتع َلم �أنني العايل‪� ،‬أظلِم املكان الذي � َ‬
‫وانظر �إىل ظ ِّلي‪.‬‬
‫ُي�ضيء وراء ر�أ�سك‪ ،‬وارفع كتابك هذا �أمام وجهك‪ُ ،‬‬
‫ظام �سيدك‪ ..‬ظام ح�سيبك‪ ..‬ظام �إمامك‪ ..‬وظام ربك‪...‬‬
‫تع َّلم كل الذي �أقوله لك‪ ،‬وت�ص َّفح فقط كل ما له به �صلة‪.‬‬
‫ول�ست تدري ما هو ال�سبب!‬ ‫تخي ُت لك ً‬
‫قطعة واحدة من قطع الإي�ستوريجا‪َ ،‬‬ ‫لقد َّ‬
‫هذه القطعة الواحدة هي القطعة من الزمان التي انقل َبت فيها الدنيا على ر�ؤو�س اجلميع؛‬
‫اجلن والإن�س‪...‬‬
‫انعك�س فيها القانون ال�سحيق‪..‬‬
‫طلع فيها ن َفر من اجلن‪� ،‬أعانوا ً‬
‫نفرا من الإن�س‪..‬‬
‫حتالفوا وت�آلفوا‪ ،‬وتعاهدوا واحتدوا‪..‬‬

‫‪335‬‬
‫ما كان حتالفهم حتا ُلف �سحر وال ت�سحري‪..‬‬
‫بل حتا ُلف من نو ٍع �آخر‪ ،‬حتالف على املوت‪..‬‬
‫ويف ذروة انتظام الزمان‪� ،‬أخرجوا يف اجلن عقيدة‪ ،‬انقلب لها وجه الزمان‪..‬‬
‫فغيوا خريطة عقائد اجلن‪..‬‬
‫�أ�سما ٌء من اجلن خرجوا َّ ُ‬

‫ع‬
‫وكفر بهم امل�ؤمن‪ ،‬كل من كان كافرا بلو�سيفر �آمن بهم‪ ،‬وكل من كان‬
‫َ‬ ‫ف�آمن بهم الكافر‬

‫ص‬
‫كفر بهم‪..‬‬
‫م�ؤمنًا بلو�سيفر َ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫فغيوا وجه تاريخنا ب�أكمله‪..‬‬
‫�أ�سماء من اجلن كانوا مالئك‪ ،‬نزلوا من ن�صيبني َّ‬
‫وت�صديرا‪ ،‬ف�إن نزولهم يكون يف‬ ‫و�إن كان كل ما قر�أته ال يزال متهيدا لهم وتعري ًفا‬

‫ك‬
‫ً‬

‫ت‬
‫القطعة التالية‪.‬‬

‫للن‬
‫‪z‬‬ ‫ب‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫وال‬
‫ع‬ ‫زي‬

‫‪336‬‬
‫(‪)14‬‬

‫نفر من الجن‬
‫تك�سر فكه‪ ،‬وت�صاعد � َأله وغله وحقده‪ ،‬ما كان يقدر على الكالم وهم رابطوه‬ ‫َّ‬
‫ومقيدوه يف حمب�سه باجلوداكيوال بال ذنب‪ ،‬حاكموه وحكموا عليه بال�سجن فيها‬
‫مدى احلياة‪ ،‬قد �أق�سم وحلف يوما �أن يح�صل على املجد وحده‪ ،‬لكن القدر و�ضع‬
‫«بليعال» يف وجهه‪ ،‬بل و�ضع قب�ضة «بليعال» يف وجهه‪ ،‬لكن «طيفون» مل ي�س ُكت‪،‬‬
‫منذ الليلة الأوىل التي دخل فيها هذا املكان الرزي كتب بيده وثيقة فيها كل ما‬
‫ر�آه وك�شفه‪ ،‬عن النبي و�أ�صحاب النبي‪ ،‬لكن واحدً ا من احلر�س �أخذ وثيقته تلك‬
‫ونظر �إليها با�ستهزاء ثم �أحرقها يف ثانية بلهيب �سالحه‪ ،‬بل �إنهم �أخذوا منه‬
‫احلرب والقلم‪ ،‬وتركوه يفور‪ ،‬وملا غ�ضب وتلهب و�أفرزت عروقه النريان ك َّبلوه‬
‫بال�سال�سل غري عاملني �أن ال�سر الذي ي َو ّد �أن يقوله هو ال�سر الذي يبحث عنه‬
‫جميع م�ؤتلف اجلن يف تلك الأيام‪.‬‬
‫مدحو ًرا فيها ال يقدر حتى على الكالم‪ ..‬ويف ذات ليلة‪،‬‬ ‫رموه م�سجو ًنا ُ‬
‫ً‬
‫ع�ضال‪ ،‬م َّر عليه احلر�س يف تلك الليلة فوجدوه‬ ‫بعد �سنوات خم�س‪ ،‬فعل �شي ًئا‬
‫ُم�ستلق ًيا على الأر�ض م�ستنز ًفا دماءه مقطوعة �سال�سله بطريقة توحي ب�أنه قطع‬
‫�إحدى يديه بال�سال�سل‪ ،‬وكلمة كبرية مكتوبة بدماء اجلن على جدار زنزانته‪،‬‬
‫(مللتُ من �سال�سلكم الباردة‪ ،‬لقد وجدتُ النبي‪ ،‬هذا ما حاولتُ قوله‪ ،‬لكن �أحدا‬
‫ال ي�سمعني‪ ،‬و�إن مت هنا ف�سيموت �سري معي)‪.‬‬
‫توتَّر احلر�س واهتموا‪ ..‬فلقد كان جمتمع اجلن كله يتح َّدث يف �أمر ذلك‬
‫النبي الذي خرجت قوافل من اجلن تبحث عنه ومل جتده‪ ،‬حتى ظنت �أنه رجل‬
‫من ثقيف يدعى «�أمية»‪ ،‬لكن «�أمية» هذا مات بعد �سنني من طوفان اجلن حوله‪،‬‬
‫حتى يئ�س اجلن كلهم وعادوا �إىل مواقعهم‪ ،‬ومل يكن احلر�س فقط هم من ر�أوا‬
‫الكلمة املكتوبة على جدار «طيفون»‪ ،‬بل كانت «ما�سا» تقر�أها يف نف�س حلظة‬
‫كتابته لها‪ ،‬ف�إن زنزانتها مقابلة له‪ ،‬وعلمت �أن كلمته هذه �ستقلب الدنيا‪.‬‬
‫و�أتاه يف ذلك اليوم كبار الكبار من احلر�س‪ ..‬و�أخرجوه من زنزانته‪ ،‬وعاجلوا‬
‫جميع جراحه‪ ،‬وو�ضعوه يف و�سط م�سرح اجلوداكيوال‪ ،‬وتنزَّلت �أنوار احلكماء‬
‫وجل�سوا على مقاعدهم لي�سمعوا منه‪ ،‬و�أعطوا «طيفون» ورقة وقلما‪ ،‬فكتب فيها‬
‫خملوق منكم �إال �إىل �سيدي «لو�سيفر»)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بكلمة كبرية جدا‪( ،‬لن �أحت َّدث �إىل‬
‫وجنَّ جنون �أولئك اجلنون‪ ..‬ونظر بع�ضهم �إىل البع�ض‪ ،‬ثم عهدوا بالأمر �إىل‬
‫كربائهم‪ ،‬ومن كربائهم �إىل البحر‪ ،‬ومن البحر �إىل اجلزيرة‪ ،‬جزيرة الأهرام‪،‬‬
‫عرين النور‪ ،‬هنالك قام «لو�سيفر» من مقامه فور �أن علم اخلرب‪ ،‬كان يعلم �أن‬
‫نب ًيا قد ُبعث‪ ،‬لكنه مل يكن يريد �أن ُي�صدق‪ ،‬وعلى قدر لهفته ملعرفة اخلرب‪ ،‬على‬
‫قدر َه ِّمه وغمه‪ ،‬على قدر �أن هذا يعني ا�سرتجاع جميع �أيام الكفاح والوغى‪.‬‬
‫حماطا بنوع من اجلن مل‬ ‫ً‬ ‫وانبعث الأكابر من اجلن‪ ،‬ووجد «طيفون» نف�سه‬
‫أ�صل موجود‪ ،‬ثم دخل عليه الأمري نف�سه‪ ،‬الأمري القدمي قدم هذا‬ ‫ي ُكن يعلم �أنه � ً‬
‫الزمان‪ ،‬الذي بلغ من جربوته �أنه �أخرج �آدم وحواء من اجلنة‪ ،‬و�أف�سد عقائد‬
‫العاملني‪ ،‬وفور �أن ر�آه «طيفون»‪ ،‬بوجهه الذي يتحدث عن عراقته وعن ذكائه‬
‫وعن و�سامته الغريبة‪ ،‬ارتعدت �أوا�صل «طيفون» وم َّد يده الراجفة �إىل الورق‪،‬‬
‫ون�سب النبي‪ ،‬وبيت النبي‬ ‫وكتب «طيفون» بناره وخوفه كل �شيء؛ كتب عن النبي َ‬
‫و�أ�صحاب النبي‪ ،‬ونظر �إىل عني «لو�سيفر» وهي تقر�أ ف�إذا هي قد ا�ستحالت‬
‫بي�ضاء كلها‪ ،‬بي�ضاء تت�ألق بالكراهية‪ ،‬و�أ�صدر عندها كثريا من الأوامر‪.‬‬
‫�أمر �أن يعود اجتماع وفد ن�صيبني كلهم وينزلوا �أجمعني‪ ،‬ومعهم «طيفون» ذو‬
‫الفك املك�سور يدلهم على الطريق‪ ،‬ومعهم تلك امل�سجونة من كا�شياري‪« ،‬ما�سا‬
‫هارينا»‪ ،‬في�ستوثقوا من ذلك اخلرب‪ ،‬ف�إن علموا النبي ور�أوه وت�أ َّكدوا من عالماته‪،‬‬
‫ف�إن عليهم �أال يفعلوا �أي �شيء‪ ،‬و�إال قت َلهم مكانهم‪ ..‬ال يحاولوا االحتكاك به �أو‬
‫ب�أت َباعه وال ي�ؤلبوا عليه �أحدً ا وال يغ ُووا �أحدً ا‪ ،‬ف�أمثال ه�ؤالء الأنبياء الذين مي�شون‬
‫يف النا�س بالكذب‪ ،‬ال يكافئهم �أحد من اجلن‪ ،‬بكل الأ�سحار التي ي�صنعونها وكل‬
‫مهارة الل�سان التي تكون لديهم‪ ،‬ال يكافئهم �إال نبي ر�سول �أمري حق‪ ،‬ال يكافئهم‬
‫�إال «لو�سيفر»‪ ،‬ولقد عمل حتى �أف�سد على كل الأنبياء ر�ساالتهم‪� ،‬أما هذا الذي‬
‫ظهر يف هذا الزمن‪ ،‬فلينزلن له بنف�سه «لو�سيفر»‪ ،‬فلي�شعلن الدنيا فوق ر�أ�سه‬
‫حتى يقتله‪ ،‬ويقتل معه ر�سالته الكاذبة‪ ،‬و�إن جنا فلن ينجو �أتباعه‪.‬‬
‫و�أُخرجت «ما�سا» من �سجنها‪ ،‬و�أُخرج «طيفون»‪ ..‬وح�ضر «الأرقم» و«�إنيان»‪،‬‬
‫وجاء «�سيدوك» ب�سواد وجهه‪ ،‬و«بليعال» بكل غموم روحه‪ ،‬وكان قائدهم‬
‫«ميتاترون»‪ ،‬كبري وزراء «لو�سيفر»‪ ،‬لكنهم كانوا قد ت�أخروا كث ًريا جدً ا‪ ،‬خم�س‬
‫�سنوات م�ضت منذ �إ�سالم «عمر بن اخلطاب»‪ ،‬خم�س �سنوات كاملة بكل �أحداثها‬
‫وخطوبها‪.‬‬
‫مت�ض غم�ضات عني حتى كانوا عند جبل النور يف �شمايل مكة‪ ..‬ما�شني‬ ‫ومل ِ‬
‫َّ‬
‫�إىل �أبطح مكة �سبعة متجاورين ت�ضيء عيونهم حتى حطت �أقدامهم يف بكة‪،‬‬
‫وهي الأر�ض من مكة التي بني عليها البيت العتيق‪ ،‬وعلى تلك الأر�ض املباركة‪،‬‬
‫�صرخت «ما�سا»‪� ،‬أم�سكت ر�أ�سها بكلتا يديها و�صرخت‪ ،‬فتج َّمد ل�صرختها كل‬
‫َ‬
‫ف�صرخت‬ ‫من كان يف نطاقها من اجلن والهوام‪ ،‬ونظر �إليها �أ�صحابها يف تر ُّقب‪،‬‬
‫مرة �أخرى ‪.‬‬

‫ع‬
‫‪z‬‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ملحات كانت ت�أتيها كوم�ضات و م�شاهد ‪..‬حتكي ما حدث منذ خم�س �سنوات‪،‬‬
‫ر�أت الكعبة والأ�صنام حولها‪ ،‬و�صحيفة ُمع َّلقة يف داخلها بعناية‪ ،‬ت�شو�شت‬

‫ك‬
‫امل�شاهد ثم عاد �صفا�ؤها و�شاهدت من خاللها كلمات ال�صحيفة ك�أنها توم�ض‪..‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫(با�سمك اللهم‪ ،‬هذا عهد من جميع قبائل مكة على �أنف�سها �أن تقاطع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫بني ها�شم‪ ،‬فال ُيز ِّوجونهم وال يتزوجوا منهم‪ ،‬ال يبيعون لهم وال ي�شرتون‪ ،‬وال‬

‫ش‬
‫يكلموهم �أو يدخلوا بيوتهم‪ ،‬حتى ي�سلموا لهم حممدا ليقتلوه)‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫وم�ضة �أخرى �أخذتها �إىل ر�ؤية مكان �شديد الفقر؛ لي�س لفقر �ساكنيه بل لأن‬

‫و‬
‫كل القبائل قد قاطعته‪ ،‬ثالث �سنوات كاملة‪ ،‬ال ي�سمح لأهله ب�شراء �أي طعام �أو‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ملب�س‪ ،‬مكان ا�سمه �شعب بني ها�شم‪ ،‬منطقة �أمالك وبيوتات بني ها�شم‪.‬‬
‫هكذا ق َّررت قري�ش‪ ..‬بعد �أن ف�شلت كل الأذية والتعذيب مع امل�سلمني ف�شال‬
‫ذري ًعا‪ ،‬فما عذبوا م�سل ًما واحدً ا ورجع عن دينه‪� ،‬شري ًفا كان �أم م�ست�ضع ًفا‪ ،‬بل‬
‫تزايد عدد امل�سلمني كل يوم ب�شكل خطر‪ ،‬حتى بد�أ �أبناء كبار قري�ش يدخلون‬
‫الإ�سالم؛ مثل «�أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة» و«�أم حبيبة بنت �أبي �سفيان»‪ ..‬بد�أ‬
‫الإ�سالم يغزُو بيوتاتهم!؛ فاتخذت قري�ش قرا ًرا بالإجماع‪ ،‬مقاطعة بني ها�شم‬
‫مال ًّيا ومعنو ًيا وجتار ًيا حتى جتف منابعهم و ُي�سلموا حممدا للقتل‪.‬‬
‫أنا�سا ُيه ِّربون الطعام تهري ًبا حتت ذراعهم �إىل‬
‫�شاهدت «ما�سا» يف ر�ؤياها � ً‬
‫داخل ذلك املكان الذي قاطعته القبائل‪� ،‬شعب بني ها�شم‪ ،‬ثم �أخذتها الر�ؤيا‬
‫�إىل م�شهد خارجي لل�شعب‪ ،‬وبكاء الأطفال ُي�سمع من داخله‪ ،‬قد كاد يقتلهم‬
‫رجل يركع �إىل ك�سرة ُخبز قدمية على الأر�ض فيح ُثو الرتاب من‬ ‫اجلوع!‪ ،‬ور�أت ً‬
‫عليها وي�أ ُكلها‪ ،‬وكانت �صيحات الأمل والفقر تدوي من جنبات كل �شيء‪.‬‬
‫‪343‬‬
‫تبحث عن ر�سول اهلل يف كل مكان قبل �أن‬ ‫دخلت «ما�سا» �إىل ال�شعب وهي َ‬
‫تغتم الر�ؤيا وت�أخذها �إىل مكان �آخر‪ ..‬بحثت وبحثت حتى دخلت �إىل بيت «�أبي‬
‫ً‬
‫م�ستيقظا مي�شي‬ ‫طالب» من بابه املفتوح‪ ،‬وكان الليل يف �آخره‪ ،‬فر�أت «�أبا طالب»‬
‫بهدوء �إىل غرفة يف البيت والظالم حالك‪ ،‬فيدخل �إىل غرفة ابنه «علي بن �أبي‬
‫طالب» فيوقظه‪ ،‬ثم مي�شي معه‪ ،‬حتى ي�صل �إىل غرفة �أخرى‪ ..‬نب�ضت الأجواء‬
‫نب�ضا �شديدً ا ملا و�صل «�أبو طالب» وابنه لتلك الغرفة‪ ،‬ف�إن فيها‬ ‫حول «ما�سا» ً‬

‫ع‬
‫ر�سول اهلل‪ ،‬دخل «�أبو طالب» و�أوقظ النبي و�أخرجه من الغرفة‪ ،‬وجعل «�أبو‬

‫ص‬
‫طالب» ابنه «علي» ينام مكان النبي‪ ،‬حتى �إذا كان �أحد ير ُقب حممدً ا ليقتله‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ال يظفر به �أبدً ا بل يظفر بابنه «علي بن �أبي طالب»‪ ،‬كان هذا باالتفاق بني «�أبو‬
‫طالب» و«علي» الكرمي املكرم حلماية ر�سول اهلل‪ ،‬حاولت «ما�سا» �شو ًقا وتو ًقا �أن‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ترى ر�سول اهلل لكنها مل ت�ستطع �أبدً ا‪ ،‬لإظالم ذلك املكان‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أ�صاب ال�صداع �صدغ «ما�سا»‪ ،‬و�أخرجتها الر�ؤيا من ذلك البيت‪ ،‬ف�أ�صبحت‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫قوافل من‬‫مت�سك بر�أ�سها وهي مت�شي بال َوعي ناحية الكعبة‪ ،‬ثم فج�أة ر�أت ً‬

‫ش‬
‫النمل الأبي�ض ت�ضيء يف الر�ؤيا فتتب َعتها بعينها حتى وجدتها قد دخلت �إىل‬

‫و‬ ‫ر‬
‫بطن الكعبة وبد�أت ت�أ ُكل �أجزاء تلك ال�صحيفة ومل ترتك منها �إال جز ًءا واحدً ا‪،‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫الكلمة الأوىل‪ ..‬با�سمك اللهم‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وقفزَ امل�شهد بها فج�أة �إىل القوم مي�سكون بال�صحيفة امل�أكولة وينظرون �إليها‬
‫يف حرية‪ ..‬واحت َّد فيها نقا�شهم‪� ،‬إنا يا قومنا قد �أ�س�أنا �إىل بطن من بطون قري�ش‬
‫يف �سابقة ما فعلتها العرب من قبلنا‪ ،‬ف�إنا ن�أكل وال ي�أكلون‪ ،‬حتى جعلناهم ي�أكلوا‬
‫�أوراق ال�شجر ويربطوا احلجر على بطونهم‪ ،‬و�إنا نرى �أن نرفع هذا احل�صار‪..‬‬
‫وتزايدت �صيحات املوافقة وتناق�صت �صيحات االعرتا�ض‪ ،‬ومل يل َبث �أن اتفقوا‬
‫على �أن ُينهوا ذلك احل�صار الذي دام ثالث �سنوات من الأمل‪ ،‬وانتهت وم�ضات‬
‫ينظر لها يف‬ ‫«ما�سا» بهزَّات يد مت�سك بكتفها يف قوة‪ ،‬كان يد «الأرقم» الذي ُ‬
‫ت�سا�ؤل و�شعره الأحمر ين�سدل خلف ر�أ�سه ‪.‬‬
‫وجهت ر�أ�سها ناحية جبل من اجلبال القريبة‬ ‫نظرت �إليه من وراء ذهولها ثم َّ‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ �إنه هناك‪ ،‬الر�سول هناك‪ ،‬حتت جبل �أبي قبي�س‪ ،‬يف ِ�شعب بني ها�شم‪،‬‬
‫يف بيت عمه �أبو طالب‪.‬‬
‫‪344‬‬
‫وم�شت وم�شى اجلن وراءها‪ ..‬وت�شكلوا على هيئات ب�شرية وتطوفوا ببيت‬ ‫َ‬
‫«�أبي طالب» فلم يجدوا ملحمد �أث ًرا‪ ..‬ثم م�شوا يف ِ�شعب بني ها�شم ينظرون‬
‫يف وجوه النا�س‪� ،‬أين «حممد» من وجوهكم‪� ،‬أم�سكت «ما�سا» بر�أ�سها وجاءها‬
‫نذير ال�صرخة‪ ،‬فو�ضعت يدها على فمها وكتمت �صرختها حتى ال يتج َّمع حولها‬
‫النا�س الذين �صاروا يرونها ويعجبون‪ ،‬وانتقلت �إىل عامل املرائي فر�أت لقطات‪،‬‬
‫حدثت منذ �سنتني فقط‪ ،‬الح فيها ظهر رجل ال يتبني لها وجهه‪ ،‬عري�ض املنكبني‬

‫ع‬
‫طويل ال�شعر‪ ،‬ورجل �آخر يكلمه من حكماء القوم ويقول له‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫علمت من املنزلة يف الع�شرية واملكان يف‬ ‫ يا بن �أخي‪� ،‬إنك ِمنا حيث قد َ‬

‫ال‬
‫أتيت قومك ب�أمر عظيم‪ ،‬ف َّرقت به جماعتهم و�س َّفهت به‬ ‫الن�سب‪� ،‬إنك قد � َ‬
‫�أحالمهم وعبت به �آلهتهم ودينهم‪ ،‬وكفرت به من م�ضى من �آبائهم‪ ..‬يا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مال‪،‬‬‫بن �أخي يا «حممد»‪� ،‬إن كنت �إمنا تريد مبا جئت به من هذا الأمر ً‬

‫ب‬
‫جمعنا لك من �أموالنا حتى تكون �أكرثنا ً‬

‫ل‬
‫مال‪ ..‬و�إن كنت تريد به �شر ًفا‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫َ�س َّو ْد َناك علينا حتى ال نقطع �أم ًرا دونك‪ ،‬و�إن كنت تريد به ُم ْل ًكا م َّلكناك‬

‫ش‬
‫علينا‪ ،‬و�إن كان هذا الذي ي�أتيك رِئ ًيا من اجلن ال ت�ستطيع رده عن نف�سك‬

‫و‬ ‫ر‬
‫طلبنا لك الطب وبذلنا فيه �أموالنا حتى ُن َ‬
‫ربئك منه‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫و�سمعت «ما�سا» حممدً ا يقول له بهدوء ‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فرغت يا �أبا الوليد؟‬
‫ �أقد َ‬
‫قال الرجل‪ :‬نعم‪ ..‬فقال له «حممد» بثبات ‪:‬‬
‫ فا�سمع مني ‪.‬‬
‫ثم ت�ش َّو�شت الر�ؤيا يف عني «ما�سا» وجاهدت لرتى وجهه �أو ت�سمع لقوله‪ ،‬لكن‬
‫الر�ؤيا قد ذهبت ثم عادت ت�أخذها لذلك الرجل الذي كان ُيك ِّلم «حممد»‪ ،‬وهو‬
‫مفزوعا �إىل قومه بعد الذي �سمعه من‬ ‫ً‬ ‫من عل َية القوم‪� ،‬شاهدته «ما�سا» يهرع‬
‫«حممد»!‪ ،‬فلما ر�أوا وجهه قال بع�ضهم‪ :‬نحلف باهلل لقد جاءكم عتبة بن ربيعة‬
‫بغري الوجه الذي ذهب به‪ ..‬قالوا‪ :‬ما وراءك يا عتبة؟ قال‪ :‬ورائي �أين �سمعت‬
‫قول واهلل ما �سمعت مثله قط؛ واهلل ما هو بال�شعر وال بال�سحر وال بالكهانة‪ ،‬يا‬ ‫ً‬
‫مع�شر قري�ش خلوا‪ ،‬خلوا بني هذا الرجل وبني ما هو فيه‪ ،‬ف�إن ُت�صبه العرب فقد‬
‫كفيتموه بغريكم‪ ،‬و�إن يظهر على العرب ف ُملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم �أ�سعد‬
‫النا�س به‪ ..‬قالوا‪� :‬سح َر َك واهلل يا عتبة يا بن ربيعة بل�سانه‪.‬‬
‫‪345‬‬
‫و�أفاقت «ما�سا» واجلن من حولها ينظرون �إليها‪ ..‬فنظرت �إليهم بنظرة‬
‫تائهة فرتكوها وانطلقوا ي�س�ألون النا�س عن «حممد»‪ ،‬وكانت جوابات النا�س‬
‫كلهم �أنهم ال يدرون �أين هو‪ ،‬وظ َّل اجلن يوما كامال ي�س�ألون عنه يف بيته و�شعبه‬
‫ويف �شعاب مكة كلها وال يجدونه‪.‬‬
‫�أما «ما�سا» فكانت مت�شي ناحية بيت معني وعينها �شاخ�صة �إىل الال�شيء؛‬
‫ً‬
‫تداخل عجي ًبا مع ما‬ ‫بيت «�أبو طالب»‪ ،‬كانت ترى فيما تراه يف ر�ؤيا تداخلت‬

‫ع‬
‫تراه عينها يف احلقيقة‪ ،‬كانت احلقيقة �أنها تتجه �إىل بيت «�أبي طالب» وال �أحد‬

‫ري‬‫ص‬
‫حوله‪ ،‬لكن ر�ؤياها �أظهرت لها رهطا من �أكابر قري�ش دخلوا «على �أبي طالب»‬

‫ال‬
‫مري�ضا مر�ض املوت‪ ،‬دخلوا عليه حتى ملأوا غرفته فلم يجعلوا‬ ‫الذي كان راقدً ا ً‬
‫لقدم‪ ،‬فبا�شروه بقولهم ‪:‬‬ ‫فيها مو�ض ًعا َ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ يا �أبا طالب‪ ،‬لقد ح�ض َرك ما ترى من املر�ض‪ ،‬ولقد علمت الذي بيننا‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وبني ابن �أخيك‪ ،‬ولقد ف�شا �أمره بني القبائل كلها‪ ،‬ولقد �أ�سلم له حمزة‬

‫ن‬
‫فادعه لي ُكف عنا ون ُكف عنه‬

‫ش‬
‫وعمر‪ ،‬ف�أ�صبح ُيعلن بالكلمة وال ي�سر بها‪ُ ،‬‬

‫ر‬
‫وندعه ودينه ‪.‬‬ ‫وليدعنا وديننا َ‬‫َ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫فبعث «�أبو طالب» البن �أخيه «حممد» فجاء فلم يجد مو�ضعا لقدم يف الغرفة‬

‫و‬
‫فوقف عند الباب‪ ،‬فنظ َرت «ما�سا» يف ر�ؤياها �إىل حيث يقف فلم يتبني لها من‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وجهه �شيء!‪ ،‬مل ترى �إال زحام الأج�ساد!‪ ،‬لكنها �سم َعت «�أبا طالب» يقول له‪:‬‬
‫ يابن �أخي ه�ؤالء �أ�شراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وي�أخذوا منك‪.‬‬
‫فقال له «حممد»‪:‬‬
‫ �أي َعم‪� ،‬أوال �أدعوهم �إىل خري لهم منها؟‬
‫نظر الكل له وهو ُيكمل ‪:‬‬
‫ كلمة ت َِدينُ لهم بها العرب وميلكون بها العجم‪.‬‬
‫قال �أحدهم وكان «�أبو جهل»‪:‬‬
‫عطي َك َّنها وع�شرا �أمثالها‪.‬‬
‫ ما هي و�أبيك؟ ل ُن ِ‬
‫قال لهم «حممد»‪:‬‬
‫ �أن تقولوا ال �إله �إال اهلل‪.‬‬
‫‪346‬‬
‫فنفروا وقالوا‪ :‬عج ًبا لك �أجتعل الآلهة �إل ًها واحدً ا؟ �إن هذا ل�شي ٌء عجاب‪..‬‬
‫فتفرقوا وقاموا وهم ينف�ضون ثيابهم غ�ضبى ‪.‬‬
‫�أيقظ «ما�سا» من �سباتها �سماعها للجن يتحدثون قري ًبا منها‪ ..‬وقد كانوا‬
‫على هيئاتهم الب�شرية يبدون كقوم من الأغراب‪ ،‬يلب�سون عمائم العرب وتظهر‬
‫من حتتها �شعورهم‪ ،‬ف�أحدهم �أحمر ال�شعر والثاين �أ�صفره‪ ،‬ولرمبا ظنهم �أهل‬
‫مكة جتا ًرا �آتني من بالد بعيدة لأجل �سوق عكاظ الذي قد اقرتب �أوانه‪ ..‬قال‬

‫ع‬
‫«�إنيان» الذي كانت هيئته الب�شرية ذات �شعر �أ�صفر مرفوع جميل ‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ �إن بع�ض جوابات القوم عن «حممد» تختلف عن البع�ض الآخر‪ ،‬وك�أنهم‬
‫يخفون �أمره‪ ،‬ما هو يف بيته عند زوجته وال هو يف بيت عمه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قالت «ما�سا»‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ �إين ر�أيتُ قبيلته بني ها�شم حم�صورين يف هذا ال�شعب ثالث �سنوات وقد‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ُمنع عنهم كل طعام و�شراب وجتارة‪ ،‬حتى �أكلوا �أوراق ال�شجر‪ ،‬برغم �أن‬

‫ش‬
‫قبيلته مل تكن ت�ؤمن به كلها‪ ،‬لكنهم حا�صروا اجلميع ‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫قال «الأرقم»‪:‬‬

‫و‬
‫ ال يبدو �أن هذا م�ستمر الآن‪ ،‬ف�إين �أرى حالهم اليوم قد حت�سن‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ �إن ذلك احل�صار قد مت رفعه منذ �أمد قريب‪ ،‬ف�إين �سمعت ب�أذن اجلن‬
‫قال «�إنيان»‪:‬‬

‫القوم يذكرون احل�صار ويتحدثون عنه‪ ،‬لكن حممدً ا لي�س هنا‪ ،‬هذا‬
‫وا�ضح‪ ،‬برغم �أن �أ�صحابه هنا و�أهله هنا ‪.‬‬
‫وهنا �أتت على «ما�سا» �صرخة مل ت�سطع كتمانها‪ ..‬فانتبه لها بع�ض القوم‬
‫واجتمعوا ولكن اجلن كان حولها بهيئاتهم الآدمية طم�أنوا من �أتى وذكروا‬
‫�أن بها علة من مر�ض‪ ..‬وكانت «ما�سا» ُم�ستلقية بني ذراعي «الأرقم» ا�ستلقاء‬
‫املغ�شي عليه‪ ،‬و�إن عيناها كانت ترى �شي ًئا �آخر‪!.‬‬
‫‪z‬‬
‫كانت تَرى فيما يرى النائم نف�سها وهي مت�شي يف نف�س هذا ال�شعب قبل‬
‫عدة �أ�شهر فقط‪ ،‬وهي يف هيئة اجلن‪ ،‬والنا�س من حولها ي�أتون ويروحون يف‬
‫�أحوالهم‪ ،‬حتى ر�أت بع�ض النا�س قد وقفوا �أمام بيت «�أبو طالب» وك�أن بداخله‬
‫‪347‬‬
‫خط ًبا ما‪ ،‬ولأن اجلن ال يقدرون على فتح باب مغلق �أو العبور عرب جدار‪ ،‬فلقد‬
‫الت�صقت بجدار �أبو طالب و�أرهفت �سمعها‪ ،‬واجلن �أ�سماعهم �أقوى من الب�شر‪،‬‬
‫مكتوما من‬ ‫ً‬ ‫كانت تريد �أن ت�سمع ما يدور داخل ذلك البيت‪ ،‬كانت ت�سمع بكا ًء‬
‫�أهل البيت!‪ ،‬وك�أن «�أبو طالب» قد ح�ضرته الوفاة‪ ،‬ولقد م َّيزت �صوت «حممد»‬
‫وهو يقول له‪:‬‬
‫ يا عماه‪ُ ،‬قل ال �إله �إال اهلل �أحاج لك بها عند اهلل‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�أرهفت �سمعها �أكرث لت�سمع ما قد يقوله «�أبو طالب»‪ ،‬الذي ميزت �صوته وهو‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يقول من بني �إعيائه ‪:‬‬
‫ لوال �أن تعريين قري�ش‪ ،‬يقولون ما حمله عليها �إال جزعه من املوت لأقررت‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫عينك يا بن �أخي ‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫و�سكت وظل �ساكتًا وطال �سكوته‪ ..‬ولقد �أيقنت �أن روحه قد فا�ضت ملا ا�شتد‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫البكاء من �أهل البيت‪ ،‬و�إن �أجواء ر�ؤياها قد �أ�صبحت تنب�ض من احلزن وك�أنها‬

‫ش‬
‫تت�صدع‪ ،‬فلقد عرفت من حديث اجلن �أن «�أبا طالب» كان �شديد املحاماة‬

‫و‬ ‫ر‬
‫واملحاجاة واملمانعة والدفاع عن «حممد» وعن �أ�صحابه‪ ،‬ويف غالب الأمر �إن‬

‫و‬ ‫الت‬
‫مري�ضا مر�ض املوت‪ ،‬لقد عا�ش‬ ‫ً‬ ‫احل�صار قد �أنهكه و�أهلكه حتى خرج منه‬

‫ز‬
‫دفاعا عن «حممد» ً‬
‫وحفظا له‪ ،‬ولقد �أتاه «حممد» ُيل ِّقنه‬

‫يع‬
‫م�سل ًما و�أخفى �إ�سالمه ً‬
‫ال�شهادتني قبل �أن ميوت كما يلقن �أي م�سلم؛ قال له‪ :‬قل تلك الكلمة حتى �أحاج‬
‫ربي بقولتك �إياها فيمحوا لك بها �أي ذنب يف حياتك‪ ..‬لكن ذلك كان يف ح�ضور‬
‫«�أبو جهل»‪ ،‬مل يفهم «�أبو جهل»!‪ ،‬ظنَّ �أن حممدً ا يحاول �أن يجعل «�أبو طالب»‬
‫ي�سلم ويدخل يف دينه‪ ،‬مل يفهم �أنه لو كان كما يظن ما احتاج «حممد» �أن يقول‬
‫له (�أحاج لك بها عند اهلل)‪ ،‬مل يفهم �أن الكافر لو قال كلمة ال�شهادة يف �آخر‬
‫حلظة من حياته‪ ،‬ال يحتاج لأن يحاج ويناق�ش له بها «حممد» عند اهلل‪ ،‬بل‬
‫الكافر لو قال كلمة ال�شهادة �ستمحو له جميع كفره وذنوبه وتدخله اجلنة طاه ًرا‬
‫من ذنوبه غري حمتاج �إىل حماجاة ومناق�شة �أحد مع اهلل‪ ،‬لكن م�شكلة «�أبو‬
‫طالب» وذنبه �أنه ا�ستعظم �أن يت�شهد �أمام «�أبو جهل» لئال تعريه قري�ش وتقول‬
‫ف�ضل نظرة النا�س لك يف الدنيا‬ ‫�أنه خائف‪ ..‬وكان هذا يف الإ�سالم ذن ًبا‪� ،‬أن ُت ِّ‬
‫على �ضمان م�صريك يف الآخرة‪ ،‬ولقد ا�ستحق «�أبو طالب» ب�سبب هذا الذنب‬
‫العذاب يف النار‪ ،‬لكنه ب�شفاعة النبي فيه �سيكون �أخف امل�سلمني الداخلني �إىل‬
‫النار عذا ًبا‪.‬‬
‫‪348‬‬
‫بد�أت �أجواء ر�ؤيا «ما�سا» تت�صدع �أكرث‪ ..‬حتى رك�ضت بعيدً ا عن ذلك البيت‪،‬‬
‫و لبثت ترك�ض بال هدى يف ذلك ال�شعب حتى �أجاءها امل�سري �إىل جدار بيت‬
‫«حممد»‪ ،‬ف�سمعت �صوتًا جعل عينيها تت�سعان‪ ،‬هذا ال�صوت مل تكن ت�سمعه �إال يف‬
‫ال�سـ‪ ...‬توقفت �أفكارها لرتهف �سمعها‪ ،‬كان ال�صوت يقول ‪:‬‬
‫ هذه خديجة عليك �آتية يا حممد ومعها �إناء فيه �إدام �أو طعام �أو �شراب‪،‬‬
‫ف�إذا هي �أتتك فاقر�أ عليها ال�سالم من ربها ومني‪ ،‬وب�شرها ببيت يف‬

‫ع‬
‫اجلنة من ق�صب ال ق�صب فيه وال ن�صب ‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وا�ضح �أن ال�صوت يكلم حممدً ا عن زوجته «خديجة»‪ ،‬ات�سعت عينا «ما�سا»‬
‫لأنها فهمت ماذا يعني �صاحب ال�صوت‪ ،‬تلفتت حولها بال معنى ثم عادت‬

‫ك‬
‫لت�صغي ال�سمع يف قلق‪ ،‬وظلت مل�صقة �أذنها اجلنية يف اجلدار مدة طويلة حتى‬

‫ت‬
‫جاءتها �صرخة باكية من الداخل‪ ،‬كانت هذه «فاطمة» بنت حممد وخديجة؛‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫تبكي على «خديجة» التي يبدُو من �صياح «فاطمة» عليها �أنها ماتت‪ ،‬و�أب�صرت‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫«ما�سا» حولها لرتى جميع الألوان قد ذهبت ف�صارت الر�ؤيا �سوداء و بي�ضاء‪،‬‬

‫ر‬
‫ونب�ض الهواء نب�ضة وجاءها الأمل ف�أم�سكت ر�أ�سها وانطلقت ُتهر ِول يف الطرقات‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ترمتي من جدار �إىل جدار‪ ،‬وت�سمع بني ذلك وذلك من �أحاديث النا�س يف‬

‫و‬
‫الدروب عن خديجة‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫عن التي كان قلبها �أول قلب �آمن مبحمد من قلوب اخللق‪ ،‬عن الغنية البهية‬
‫التي �أذهبت مالها كله عن طيب خاطر ب ًرا مبحمد‪ ،‬ع َّمن �صربت حتى تعجبت‬
‫الآالم من �صربها‪ ،‬فمات �أول ابن لها من «حممد» وكان ا�سمه «القا�سم»‪،‬‬
‫ثم مات ابنها الثاين من «حممد» وكان ا�سمه «عبد اهلل» ‪� ،‬صغريان مل يبلغا‬
‫احلولني‪ ..‬وكانت بعد ذلك ت�سمع من يرمي «حممد» بالكالم ويلمزه ب�أنه �أبرت‬
‫منقطع الولد‪ ،‬عن التي حتملت ح�صا ًرا �أليما ل�سنوات �أذاقها و�أهلها و�أطفالها‬
‫اجلوع وهي التاجرة الغنية‪ ...‬ومل تكمل «ما�سا» �سماع بقية الأحاديث �إذ �سقطت‬
‫على الأر�ض ‪.‬‬
‫و�صحت وهي حممولة على �أكتاف اجلن وقد وقفوا ي�س�ألون حول الكعبة‪ ،‬وال‬
‫�أثر ملحمد!‪ .‬قالت لهم‪ :‬يا مع�شر اجلن‪� ،‬إين �سمعتُ حممدً ا وك�أنه ُيحدِّ ثه واحد‬
‫من الـ‪ ...‬ثم �سكتت ُمدِّ قة ناحية الكعبة‪ ،‬فر�أت يف ر�ؤياها التي تتداخل مع‬
‫جال�سا ثم �سجد‪ ،‬فانطلقت �إليه على الفور يف‬ ‫رجل كهيئة «حممد» كان ً‬ ‫الواقع ً‬
‫ر�ؤياها لكن ثالثة رجال فا�سقني يف الر�ؤيا كانوا قد �سبقوها �إليه‪ ،‬كان الف�ساق‬
‫‪349‬‬
‫قد جتر�أوا على «حممد» بعد موت عمه «�أبو طالب»‪ ،‬فانفلت �أ�شقى ه�ؤالء الرجال‬
‫الثالث على «حممد» وكان ا�سمه «عقبة بن �أبي معيط» وكان ً‬
‫رجل �شق ًيا جمنو ًنا؛‬
‫هجم على النبي وهو ي�صلي و�أخذ مبنكبه و ل َوى له ثوبه حول عنقه فخنقه خن ًقا‬
‫�شديدً ا يريد �أن يقتله!‪ ،‬وا�ست�ضحك الرجلني الذين معه ب�سخرية وكانا هما‬
‫التو�أمني اخلبيثني‪ ،‬عتبة و�شيبة بن ربيعة‪ ،‬وتراجعت «ما�سا» �شاخ�صة بعينها‬
‫حتى �سمعت عن ميينها �صوت �أقدام ترك�ض بغ�ضب فنظرت �إىل �صاحبها‪ ،‬كان‬

‫ع‬
‫رجل يرتدي رداء وا�س ًعا‪ ،‬وكان طويل ال�شعر تن�سدل �ضفائره من طولها على‬ ‫ً‬

‫ص‬
‫كتفيه‪ ،‬وثب على املعتدي ودفعه بقوة ف�أ�سقطه و�صاح فيهم ‪:‬‬
‫رجل �أن يقول ربي اهلل؟‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ويح ُكم �أتقتلون ً‬‫  َ‬

‫ك‬
‫عال كال�سكارى‪ ،‬فقال بع�ضهم لبع�ض‪:‬‬ ‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ابتعد الرجال وهم يته َّكمون‬

‫ت‬
‫من هذا؟ قالوا‪ :‬هذا «�أبو بكر» املجنون‪ ..‬فاقرتبت «ما�سا» �إىل «حممد» و»�أبو‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بكر» حتى �إذا �أتتهما وجدتهما �سرا ًبا ك�أن مل يكونا!‪ ،‬ونظرت حولها لتجد اجلن‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫الزالوا ي�س�ألون والنا�س الزالوا يهزون ر�ؤو�سهم‪ ..‬ثم ظهر لها يف ر�ؤياها العجيبة‬

‫ر‬
‫«حممد» �ساجدا يف مكان �آخر ونف�س الرجال يقرتبون منه ويتغامزون‪ ،‬وجعل‬

‫الت‬ ‫و‬
‫بع�ضهم مييل على بع�ض‪ ،‬ثم فج�أة �ألقوا بني كتفيه �أح�شاء �شاة مذبوحة‪ ،‬وبقي‬

‫و‬
‫«حممد» �ساجدً ا كما هو ال يقوم حتى جاءت ابنته الكربى «زينب» جتري مفجوعة‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ف�أزالت الأح�شاء عن كتفيه وهي تبكي‪.‬‬
‫كانت «ما�سا» فقط تريد �أن ترى وجهه‪ ،‬مت َّلكها الف�ضول لرتاه فكانت ترفع‬
‫عنقها وتخف�ضه وتتحني لذلك‪ ،‬لكن زوايا ر�ؤياها مل تكن جتعلها تب�صر وجهه‬
‫�أبدً ا‪ ،‬وك�أنه ال يرى وجهه �شيطان‪ ،‬كانت ابنته «زينب» تبكي وتزيل عنه الأذى‪،‬‬
‫بينما «حممد» يقول لها ‪:‬‬
‫ �أي ُبنية ال تبكني‪� ،‬إن اهلل مانع �أباك‪.‬‬
‫وفج�أة اختفى كل هذا كال�سراب من �أمام عني «ما�سا» وانتبهت عينها �إىل‬
‫حقيقة ما يحدُث حولها‪ ،‬كان النا�س كلهم ينظرون �إىل مناد � ٍآت من بعيد وهو‬
‫ي�صيح‪:‬‬
‫يا مع�شر قري�ش‪� ،‬إن حممدا لي�س بينكم‪� ،‬إن حممدً ا يدعو �إىل ما يدعو �إليه‬
‫عند �صنم الالت املقد�س‪ ،‬يا مع�شر قري�ش‪� ،‬إن حممدً ا يف الطائف!‬
‫‪z‬‬
‫‪350‬‬
‫قليل وحملوا معهم «ما�سا»‪..‬‬ ‫نزل اجلن �إىل الطائف يف ثان َية واحدة قد تزيد ً‬
‫وقدموا �إىل الالت فوجدوها �صخرة بي�ضاء كبرية ُمر َّبعة منقو�شة يع ُبدها‬
‫النا�س‪ ،‬وتوجهوا ناحية �أقرب رجل يدعو �أمام ال�صخرة‪ ،‬ف�س�أله «�إنيان» بتلك‬
‫أيت ذلك الرجل الذي خرج‬ ‫العمة التي ي�ضعها ويظهر منها �شعره الأ�شقر‪ :‬هل ر� َ‬
‫ت�ضر وال تنفع؟ نظر له‬ ‫فيكم يدعوكم �إىل ترك عبادة هذه ال�صخرة ب�أنها ال ُ‬
‫الرجل ُبرهة ثم قال‪ :‬ال �أدري‪ ،‬ومن يج ُر�ؤ على قول هذا يف حق الالت‪ ..‬وفج�أة‬

‫ع‬
‫�أم�سكت به يد فوالذية من خلفه‪ ،‬ورفعته كما ُيرفع الطفل‪ ،‬فنظر الرجل ُمرتعبا‬

‫ص‬
‫ل�صاحب اليد ف�إذا هو «ميتاترون»‪ ،‬متمثل يف هيئة رجل �ضخم اجل�سم يرتدي‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫جبة تغطي ر�أ�سه ينظر �إليه بعينني وك�أنهما ُق َّدتا من �صخر ف�أهبطتا قلب الرجل‬
‫�إىل قدميه!‪ ،‬و�إن هيئة «ميتاترون» الب�شرية تبدو � َأ�شد ُرع ًبا من هيئته اجلنية‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قال له «ميتاترون»‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫لذاكر لنا من �أمر ذلك الرجل كل ما علمت �أو لألطخنَّ هذه ال�صخرة‬ ‫ �إنك ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫البي�ضاء التي ال طائل منها بدمائك القذرة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫فزع الرجل و�أ�شار �إىل ناحية بعيدة وقال‪ :‬هناك‪ ،‬هناك ر�أينا ً‬
‫رجل غري ًبا‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ومعه غالم له وحولهما كثري من ال�ضجة‪ ،‬و�أق�سم �أنني ال �أدري ما يزيد عن‬

‫و‬
‫هذا‪ ..‬ترك «ميتاترون» تالبيب الرجل وانطلق ال�سبعة �إىل املكان الذي �أ�شار‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫فارغا‪ ،‬و�إن كانت هناك �آثار �أقدام كثرية على الأر�ض‪ ،‬وبينما‬ ‫�إليه‪ ،‬كان املكان ً‬
‫هم ينظرون يف الآثار �إذ وجدوا بينها �آثار دماء تلطخ الأر�ض وتلطخ احل�صى‬
‫واحلجر‪ ،‬فلما ر�أت «ما�سا» هذا امل�شهد �صرخت �صرخات متقطعة مفجوعة‬
‫وقامت تتخبط وتدور حتى �أتاها نظرها مبناظر ال يراها غريها‪ ،‬وكانت مرهفة‬
‫احل�س ففجعت مما ر�أت ‪.‬‬
‫ر�أت �أن هناك رجال ون�ساء و�صبيان قد ا�صط ُّفوا �إىل �صفني وازدحموا كت ًفا‬
‫بكتف‪ ،‬ور�أت حممدً ا من بينهم مي�شي وبجواره غالمه «زيد بن حارثة»‪ ،‬ولأن‬
‫موقع وقوف «ما�سا» كان بال�ضبط عند موقع وقوف «حممد» و«زيد» بني ال�صفني‬
‫ف�إنها كانت ترى م�شهدا ُمرع ًبا لأنا�س ا�صطفوا �صفني من النا�س حولها‪،‬‬
‫وجوههم فيها �سفاهة و�سخرية و�أغلبهم من ال�صبيان الذين يتطاولون‪ ،‬ثم �إن‬
‫وجوههم قد تبدلت مالحمها وجتر�أت عيونهم و�أيديهم وطفقوا يحملون من‬
‫حجارة الطريق ويرمونها بقوة على «حممد» و«زيد»‪ ،‬وقلدت ال�صفوف بع�ضها‬
‫و�أ�صبح الكل ينحني ليلتقط حجارة ويرميها على «حممد» ويتناف�سون!‪ .‬وفجعت‬
‫‪351‬‬
‫«ما�سا» من مر�أى احلجارة التي ُتقذف من كل جانب‪ ،‬ونظرت �إىل «حممد»‬
‫و�صاحبه ف�إذا هما قد انحنيا و�أكمال امل�سري واحلجارة تلحق ب�أج�سادهما‪ ،‬وكان‬
‫«زيد» يغطي بج�سده على «حممد» وك�أنه ال يكرتث بنف�سه على الإطالق‪ ،‬وكان‬
‫يخفي وجه «حممد» عن عيون «ما�سا» التي وقفت و�سط هذا امل�شهد مفجوعة‬
‫ت�صرخ بجنون‪.‬‬
‫وتخ�ضبت �أقدام احلبيب «حممد» بالدم و�سا َلت على نعليه وهو مي�شي ثم‬

‫ع‬
‫فج�أة وقع على الأر�ض ُ‬
‫و�ش َّج ر�أ�س زيد �شجة �صارمة �أبعدته قليال عن «حممد»‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫فرفع «زيد» ر�أ�سه ناحية ال�شم�س ووقع على ظهره‪ ،‬واندفع من �سفهائهم اثنني‬

‫ال‬
‫�أخذا بع�ضد «حممد» و«زيد» و�أقاموهما ودفعوهما ليم�شيا‪ ،‬لي�س رحمة بهما‬
‫ولكن لت�ستمر احلجارة يف رجمهما‪ ،‬وتكاثرت احلجارة حتى كان «حممد» ال‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يرفع قدما وال ي�ضعها �إال على حجارة ‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�سمعت «ما�سا» �سبا ًبا و�شت ًما و�سخرية ت�أتي من بني ال�صفوف ترجم‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�آذانهما وقلوبهما‪ ..‬و�صرخت «ما�سا» من فجيعة قلبها و�أرادت �أن تخرج من‬

‫ر‬
‫الر�ؤيا‪ ،‬ف�أخذت ت�شد ب�شرتها وت�ضع ر�أ�سها على الأر�ض وال ت�سمع �إال �أ�صوات‬

‫الت‬ ‫و‬
‫احلجارة وال�سباب وال ت�شم �إال رائحة الدماء على الأر�ض‪ ،‬و�أثقلتها البلية فلم‬

‫و‬
‫تقدر على الزحف خارج هذا التجمع‪ ،‬وبقت ت�سمع �إىل �صيحات �صبيان وترى‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بطرف عينها «حممد» و«زيد» يتحركان �إىل ناحية من النواحي ب�صعوبة بالغة‪،‬‬
‫وو�ضعت �أ�صابعها يف �أذنيها و�أغم�ضت عينيها بقوة حتى �أتتها �صفعة على وجهها‬
‫وانقب�ضت قب�ضة على �شعرها ورفعتها‪ ،‬كان هذا «ميتاترون» قد �سئم من مر�آها‬
‫بغ�ضب وقال ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ت�ص ُرخ وتتل َّوى‪ ،‬فنظر لها‬
‫الرجل؟‬
‫أنت جمنونة عدمية الفائدة‪� ،‬أين ُ‬ ‫ ت�ص ُرخني وت�صرخني و� ِ‬
‫نظرت «ما�سا» �إىل ناحية معينة‪ ،‬فر�أت كهيئة «حممد» و«زيد» من بعيد‬
‫ي�ستندان على جدار‪ ،‬فخل�صت نف�سها من «ميتاترون» ورك�ضت ناحيتهما بلهفة‬
‫مل تعهدها يف نف�سها‪ ،‬نظر اجلن �إليها و�إىل املكان الذي جتري ناحيته فوجدوه‬
‫فارغا‪ ،‬لكنهم رك�ضوا وراءها!‪ ،‬كان م�شهد «حممد» يقرتب من عني «ما�سا» وهي‬ ‫ً‬
‫تر ُك�ض وتنظر �إليه‪ ،‬و�إن منية عينها كانت فقط �أن تراه‪ ،‬ر�ؤيا �أو حقيقة‪ ،‬وكانت‬
‫ال�شم�س يف وجهها حترق عينها فلم تهن�أ بر�ؤية وجهه‪ ،‬لكن حاله مل تكن تخفى‬
‫وانكب على النبي‬
‫على الناظرين‪ ،‬كان «زيد بن حارثة» قد ن�سي كل ما به من َّ‬
‫الزكي يبكي ومي�سح الدماء من على وجهه وج�سده حتى �أ�سنده �إىل جذع نخلة‪،‬‬
‫‪352‬‬
‫ورفع �صاحب التاج «حممد» ر�أ�سه �إىل ال�سماء وقد انك�سر ف�ؤاده‪ ..‬كانت «ما�سا»‬
‫وحدها تراه يف ر�ؤياها بينما �أ�صحابها من اجلن يعاينون النخلة واجلدار‬
‫ويعاينون ما بهما من دماء‪ ،‬وكانت «ما�سا» وحدها ت�سمعه‪ ..‬ظ َّل «زيد» مي�سح‬
‫وجهه ويربت عليه و«حممد» ينظر �إىل ال�سماء‪ ،‬ثم قال قولة مل ت�سمع «ما�سا»‬
‫مثلها يف حياتها اجلنية كاملة؛ مل ت�سمع مثل هذا من �إن�س وال من جن‪ ..‬قال‬
‫«حممد» ‪:‬‬

‫ع‬
‫�ضعف قوتي‪ ،‬وق َّلة حيلتي‪ ،‬وهواين على النا�س‪ ،‬يا‬ ‫ اللهم �إين �أ�شكو �إليك َ‬

‫ري‬‫ص‬
‫�أرحم الراحمني‪� ،‬أنت رب امل�ست�ضعفني و�أنت ربي‪� ،‬إىل من ِتك ُلني؟ �إىل‬

‫ال‬
‫غ�ضب‬
‫ٌ‬ ‫بعيد يتجهمني؟ �أم �إىل عدو ملكته �أمري؟ �إن مل ي ُكن بك َّ‬
‫علي‬ ‫ٍ‬
‫فال �أبايل‪ ،‬ولكن عافيتك هي �أو�سع يل‪� ،‬أعوذ بنور وجهك الذي �أ�شر َقت‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫له الظلمات‪ ،‬و�صلح عليه �أمر الدنيا والآخرة من �أن تنزل بي غ�ضبك‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أو يحل علي �سخطك‪ ،‬لك العتبى حتى تر�ضى‪ ،‬وال حول وال قوة �إال بك‪.‬‬
‫رب‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫ظ َّلت «ما�سا» مت�سعة العينني من وقع الكلمات على �أذنيها وفهمها‪� ..‬أي ٍّ‬

‫ش‬
‫ر‬
‫جليل ُيناجي!‪ ،‬نظرت �إىل ال�سماء‪ ،‬ثم نظ َرت �إليه فوجدته قد ا�ستحال �سرا ًبا‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫الت‬ ‫و‬
‫رك�ضت تنظر هنا وهناك‪� ،‬إىل �سراب �آخر قد تراه فيه‪ ،‬وظلت ترك�ض حتى‬ ‫ُ‬

‫و‬
‫خرجت من حدود الطائف و�أ�صبحت جتري يف ال�صحراء على درب ال�سفر‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وتعجبت �أن حممدً ا و�صاحبه قد طلعا من مكة �إىل الطائف م�ش ًيا على الأقدام‪،‬‬ ‫َّ‬
‫هداها فكرها ب�أنه رمبا �أراد التخفي عن �أعدائه يف مكة فال يدرون عن �سفره‪..‬‬
‫قالت لأ�صحابها‪� :‬إن حممدً ا قد �أتى �إىل هنا متخف ًيا وغالم له معه‪ ،‬ولكن �أهل‬
‫هذه البلدة قد طردوهما ورج ُموهما باحلجارة حتى �سا َلت دما�ؤهما‪ ،‬و�إنه‬
‫وغالمه م�ش ًَيا من هذا الطريق عائدين �إىل مكة‪ ...‬ثم �صمتت فج�أة �أمامهم‬
‫و�أخذت ت�سمع يف انبهار ثم نظ َرت �إىل ال�سماء!‪ ،‬بدا �أنها ت�سمع مثل ذلك‬
‫ال�صوت الذي �سمعته داخل بيت «حممد»‪ ،‬بدا �أن الر�ؤيا �أتتها هذه املرة على‬
‫هيئة �أ�صوات فقط حتدثت يف هذا املكان‪ ،‬كان ذلك ال�صوت يقول‪ :‬يا «حممد»‬
‫خرج اهلل من‬ ‫�إن �شئت �أطبقتُ عليهم الأخ�شبني‪ ..‬فقال له «حممد»‪ :‬بل �أرجو �أن ُي ِ‬
‫�شرك به �شي ًئا ‪.‬‬
‫�أ�صالبهم من يع ُبد اهلل وال ُي ِ‬
‫توقفت «ما�سا» عن امل�سري‪ ،‬الأخ�شبني؟ هل يتح َّدث عن جبلني؟ يود لو‬
‫يطبقهما على القوم‪ ،‬من الذي ُيحدِّ ث حممدا؟ هل ُيحدِّ ثه ربه؟ ال‪� ،‬إن «حممد»‬
‫كان يرد على ال�صوت ويتحدث عن عبادة اهلل ال �شريك له‪ ،‬ثم �إن ال�صوت‬
‫‪353‬‬
‫ُمتلف عن ذلك الذي كان يحدثه يف بيته‪ ،‬لكنهما من نف�س الفئة‪ ،‬وهي تعرف‬
‫هذه الأ�صوات‪ ،‬تعرفها من رحالتها ال�سابقة �إىل ال�سماء مع من كان ي�صعد‪،‬‬
‫هذه �أ�صوات املالئكة‪ ،‬املالئكة املفرت�ض �أنها ال ي�سمع حديثها �إال اجلن‪ ،‬ولو‬
‫حت َّدثت فال تتحدث �إال �إىل نبي مثل «لو�سيفر»‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫ع‬
‫كانت «ما�سا» مت�شربة يف قلبها عقيدة «لو�سيفر» عن اهلل‪ ،‬وعن ر�سل اهلل من‬

‫ص‬
‫الإن�س‪ ،‬ب�أنهم جمانني‪ ،‬وب�أنه ال يوجد هلل ر�سول �إال «لو�سيفر» اجلني القدمي‪ ،‬لكن‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كالما مل تعتَد عليه!‪� ،‬إن اجلنون لي�س هكذا‪ ،‬لكنها‬ ‫ر�ؤياها عن «حممد» حتكي ً‬
‫نف�ضت عن ر�أ�سها هذه الأفكار بقوة ُمتذ ِّكر ًة عقيدتها التي تر َّبت عليها‪ ،‬وفتحت‬

‫ك‬
‫عينها ونظرت لل�سائرين حولها‪ ..‬قال «الأرقم»‪:‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ من هناك يا �أبناء ن�صيبني‪� ،‬إن حممدً ا وغالمه ي�سرتيحان عند جدار‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫لب�ستان قرب الطائف‪ ،‬ب�ستان لعتبة و�شيبة بن ربيعة‪.‬‬

‫ش‬
‫ات�سعت عينا «ما�سا» فور �أن ذكر اال�سم‪ ..‬و�أنزلت ر�ؤياها يف روعها وجهني‬

‫و‬ ‫ر‬
‫تذكرتهما فور �أن ر�أتهما‪ ،‬هذين الذين كانا ي�ست�ضحكان و�صاحبهما يخنق حممدً ا‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�سجد‪ ،‬وهذين الذين رميا �أح�شاء ال�شاة عليه وهو ي�سجد‪� ،‬أهو ي�سرتيح عند‬ ‫ملا َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ب�ستان لهما!‪� ،‬أ�صابتها خفقة يف ف�ؤادها مل تفهمها وحت َّركت جتري �إىل املكان‬ ‫ٍ‬
‫الذي ي�شري �إليه «طيفون»‪ ،‬جتري �إىل «حممد»‪ ،‬لكنها مل جتده هنالك‪� ،‬أتراه قد‬
‫اغتيل؟ و�أي فر�صة لأوالد ربيعة كرباء قري�ش لقت ِله �إال الآن؛ ُمن َه ًكا ال يحميه �أحد‬
‫من �أن�سابه و�أن�صاره‪ ،‬م�ساف ًرا لن يعلم �أحد مبروره هاهنا‪ ،‬كانت تنتظر �شي ًئا‬
‫من الر�ؤيا‪ ،‬ولقد ملحت �أن هذا جديد على نف�سها‪ ،‬لطاملا كانت الر�ؤيا هم وغم‬
‫و� َأل مت�سك ر�أ�سها يف �أثنائها‪ ،‬لكنها الآن تتوق لها‪ ،‬نف�ضت هذه اخلواطر ملا �أتى‬
‫�أ�صحابها يتفقدون املكان يف ي�أ�س ‪.‬‬
‫أبط�أ من «حممد» بخطوة واحدة‪ ،‬ولقد تف َّقدوا حائط الب�ستان‪،‬‬ ‫دوما � َ‬
‫كانوا ً‬
‫تن�سمت �أنوفهم عنده امل�سك‪ ،‬وعند ذلك نزلت «ما�سا» على ركبتيها ونزلت‬ ‫ولقد َّ‬
‫عليها الر�ؤيا فانف�صلت عما حولها‪ ،‬وهناك ر�أته؛ فج�أة ر�أته ك�أو�ضح ما تكون‬
‫م�ستت وال ُملت ِفت وال م�ستدير‪ ،‬بل قد �أنزلتها الر�ؤيا مبا�شرة‬ ‫الر�ؤيا‪ ،‬جليا غري ِ‬
‫قبالة وجهه‪ ،‬فنظرت �إليه واللهفة تقطر من كل عني‪ ،‬فلما ر�أته رجفت‪ ،‬كالذي‬
‫يرجف من �شيء بذل من عمره ع�شر �سنوات يبحث عنه حتى �إذا بلغ به الي�أ�س‬
‫انبلج ال�شيء �أمامه بغتة‪� ،‬أو كالذي يرجف وهو ينظر �إىل �شيء يعلم يقي ًنا �أن‬
‫‪354‬‬
‫تغيت و�أمطرت �شهبانها لأجله‪� ،‬أو كرجفة يرجفها من يتوقع �شي ًئا‬ ‫ال�سماء قد َّ‬
‫جليل املنظر ف�إذا نظر كان ال�شيء �أجل و�أبهى‪ ،‬ولقد �شغلتها رجفاتها عن االنتباه‬
‫والنظر فتمال َكت نف�سها ثم ح َّدقت �إىل وجهه‪.‬‬
‫و�ضاءة‬ ‫أبي�ضا �صاف ًيا ك�أن ب�شرته ِ�صي َغت من الف�ضة‪َّ ،‬‬
‫كان ميلك وج ًها به ًيا‪ً � ،‬‬
‫م�شربة بها حمرة ال�صحة‪ ،‬كان يجل�س عند اجلدار وي�سند ر�أ�سه عليه‪ ،‬كان يف‬
‫اخلم�سني من عمره وال يبدو كذلك‪ ،‬و�سيم املالمح م�ستقيم الأنف �سهل اخلدين‬

‫ع‬
‫ذو عينني وا�سعتني طويلتي الأ�شفار‪ ،‬عليهما حاجبني قويني �شبه مت�صلني‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫يعلوهما �شعر �أ�سود فاحم طويل يفرقه مي َن ًة وي�سرة ين�سدل من خلفه �إىل كتفيه‪،‬‬

‫ال‬
‫يف وجهه ا�ستدارة تزينها حلية ال يزيد طولها عن قب�ضة اليد‪ ،‬م�سرحة معتنى‬
‫بها يخلو ال�شيب منها تقري ًبا‪ ،‬و�شارب غري كثيف يف �أعالها‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ظ َّلت متلأ عينها من عينه ووجهه وكان يقلقها �أن تخرج من ر�ؤياها‪ ..‬ولكن‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الر�ؤيا ا�ستم َّرت وانفتح باب الب�ستان ور�أت ظل رجل يخرج منه!‪ ،‬ففزعت‪ ،‬يبدو‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�أنهم �سيقتلوه الآن عند ب�ستانهم‪ ،‬اقرتب الظل حتى دخل يف جمال ر�ؤياها ف�إذا‬

‫ر‬
‫هو غالم يحمل يف يده طبقا من العنب‪ ،‬ولقد حترك ناحية «حممد» يف �شيء من‬

‫الت‬ ‫و‬
‫الت�أ ُّدب وق َّدم له الطبق وقال له‪:‬‬

‫و‬
‫ �إن ا�سمي عدا�س‪� ،‬إليك هذا العنب �أيها امل�سافر‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫نظر له «حممد» ثم م َّد يده �إىل الطبق وقال كلمات مل ت�س َمعها «ما�سا» ثم بد�أ‬
‫ي�أكل‪ ..‬كانت «ما�سا» تنظر وقد ا�ستغرب منها كل �شيء‪ ،‬نظرت من وراء الباب‬
‫فر�أت الأخوين عتبة و�شيبة ينظران �إىل الغالم من الداخل ويتهام�سان‪ ،‬غلب‬
‫على ظن «ما�سا» �أن العنب م�سموم‪ ،‬فنظرت �إىل «حممد» ف�إذا هو ال يزال بخري‬
‫حال‪ ،‬كان الغالم يقول ملحمد ‪:‬‬
‫ واهلل �إن هذا الكالم الذي �سمعت َُك تقوله قبل �أن ت�أ ُكل ال يقوله �أهل هذه‬
‫البالد �أيها امل�سافر‪.‬‬
‫قال له «حممد»‪:‬‬
‫  ِومن �أهل �أي البالد �أنت يا عدا�س؟ وما دينك؟‬
‫قال له الغالم ‪:‬‬
‫ �أنا ن�صراين‪ ،‬من �أهل نينوى‪.‬‬
‫‪355‬‬
‫قال له «حممد» ‪:‬‬
‫ من قرية الرجل ال�صالح يون�س بن متى؟‬
‫بدا الغالم وك�أنه قد �أخذته املفاج�أة فقال ‪:‬‬
‫ وما يدريك ما يون�س بن متى؟‬
‫قال له «حممد» ‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ ذاك �أخي‪ ،‬كان نبيا‪ ،‬و�أنا نبي ‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وكان «يون�س» من الأنبياء املذكورين يف التوراة والذين ُي�ؤمن بهم الن�صارى‪..‬‬
‫ف�أقبل الغالم على النبي «حممد» ُيق ِّبل ر�أ�سه ويديه وقدميه‪ ،‬و�أخذ ُيحدثه‬

‫ك‬
‫ويحتفي به وبد�أت الر�ؤيا يف الزوال ومل ت�سمع «ما�سا» ما تال ذلك‪ ...‬و�أفاقت‬

‫ت‬
‫ف�إذا �أ�صحابها من اجلن قد وقفوا عند باب الب�ستان ُيحدِّ ثون «عدا�س» وي�س�ألونه‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫عن «حممد»‪ ،‬وهو ي�شري �إليهم �إىل جهة درب ال�سفر وال يبدو من مالحمه‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫متاما ونظروا جمي ًعا‬‫ومالحمهم �أنه قد �أفادهم ب�شيء‪ ،‬وعاد اجلن وقد يئ�سوا ً‬

‫ش‬
‫�إىل درب ال�سفر الذي �أ�شار له الغالم‪ ،‬درب �صحراوي ال يدرون عنه �شي ًئا‪،‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫�سيتوجه‪� ،‬أهو عائد �إىل مكة بعد‬
‫َّ‬ ‫بلد‬
‫ولن يعرفوا �أي طريق �سي�سلك و�إىل �أي ٍ‬

‫الت‬
‫�أن عرف �أهل مكة ب�أمره‪� ،‬أم �أنه ذاهب �إىل مكان �آخر هو وغالمه‪ ،‬نظروا �إىل‬

‫و‬
‫بنظرات مل�ؤها الفراغ‪ ،‬وطفقَ اجلن مي�شون‬ ‫«ما�سا»‪ ،‬فنظ َرت �إليهم هي الأخرى‬

‫ز‬
‫ٍ‬

‫يع‬
‫ور�ؤو�سهم �إىل الأر�ض يف الطريق‪ ،‬ولقد كادت ال�شم�س �أن تغيب وكادت �أن تغيب‬
‫معها كل حميتهم‪.‬‬
‫�صمت وقال ‪:‬‬
‫حت َّدث «الأرقم» بعد طول ٍ‬
‫ ال يجب �أن ن�سري جمتمعني‪� ،‬س�أ�سري ب�أبناء ن�صيبني ناحية مكة‪ ،‬وي�سري‬
‫«ميتاترون» ب�أبناء نينوى �إىل الناحية الأخرى‪ ،‬ف�إنا ال ندري �أي طريق‬
‫�سلك‪ ،‬رمبا عاد �إىل مكة ورمبا �أكمل طريقه بعد الطائف ليكمل دعوته‪،‬‬
‫و�إنه قد بقي لنا من رحلتنا الطويلة هذه خطوة واحدة‪ ،‬و�إنا ال يجب �أن‬
‫نت� َّأخر خطوة وراءها ‪.‬‬
‫قال له «ميتاترون» خمت�ص ًرا وقد بد�أ يتحرك مع «�سيدوك» و «بليعال»‪:‬‬
‫ �إذن نلتقي يف مكة بعد حني ‪.‬‬
‫وافرتق اجلن �إىل ناحيتني؛ ميني و �شمال‪ ،‬وكان �أهل اليمني جن ن�صيبني‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪356‬‬
‫حت َّولوا �إىل هيئتهم اجلنية لأن ذلك �أي�سر يف البحث عن �أثر امل�سري‪ ..‬كل‬
‫الطرق كانت مت�شابهة يف ال�صحراء ويف ذلك كانت حريتهم‪ ،‬يف جميع ال�سنوات‬
‫ال�سابقات كانوا ينتقلون �شيطان ًيا من مدينة �إىل مدينة �أو �إىل قرية‪� ،‬أما الآن‬
‫فهم يف و�سط �صحراء يفرت�ض �أن يبحثوا عن �شخ�ص ما فيها‪ ،‬و�إن �أي �أثر على‬
‫الرمل يف ال�صحراء تذهبه الرياح‪ ،‬كنت لرتى �أربعة من اجلن بينهم جنية �أنثى‬
‫مي�شون يف ال�صحراء عند مغرب ال�شم�س يبحثون عن «حممد» ‪.‬‬

‫ع‬
‫ واهلل �إنكم يف م�سريتكم املعوجة هذه ليبلغن حممدً ا �أفق الأر�ض و�أنتم‬

‫ري‬‫ص‬
‫هاهنا ت�صطدمون يف بع�ضكم البع�ض‪.‬‬

‫ال‬
‫نظر الأربعة وراءهم بده�شة فاقت كل حد!‪ .‬من ذا الذي يرى هيئتهم ويعلم‬

‫ك‬
‫ما يلتم�سون‪ ،‬حتى �إذا اكتملت التفاتتهم ر�أوه‪ ،‬كان متكئا بظهره �إىل تلة من‬

‫ت‬
‫التالل‪ ،‬يرتدي مالب�س غريبة ويغطي فمه بلثام‪ ،‬ويبدو �شعره الأ�صفر الطويل‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫موح ًيا يف غروب ال�شم�س‪ ،‬وقبل �أن يفرغوا من ده�شتهم فرغ هو من اتكاءته‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�صوت قوي‪:‬‬
‫وخطا ناحيتهم‪ ..‬فقال له «الأرقم» يف ٍ‬

‫ر‬
‫ من �أنت بال�ضبط؟‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫قال الرجل وهو ينظر له يف ثقة ‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ «عمرو»‪« ،‬عمرو بن جابر»‪.‬‬
‫قال له «�إنيان»‪:‬‬
‫ �إِن�س �أم جان؟‬
‫قال له «عمرو» ‪:‬‬
‫ويحك �أو َيرى اجلن غري اجلن؟‬ ‫  َ‬
‫حتي وهو ينظر �إىل «ما�سا»‬ ‫ثم تق َّدم منهم «عمرو» وهم ينظرون له يف ُّ‬
‫بغمزة خفية وهو يقول ‪:‬‬
‫ ح ًقا �إن بع�ض طوائف اجلن ت�ؤ ِّرقني حماقتها‪� ،‬إذا ائتمروا ب�أمر ينجزونه‬
‫ولو تركوا يف �سبيل ذلك كل �شيء و�أفنوا يف ذلك ال�سنون الطوال‪ ،‬وقد‬
‫يكون الأمر تافها يف عينه ‪.‬‬
‫قال له «الأرقم» بغ�ضب ‪:‬‬
‫‪357‬‬
‫ �إنها الطوائف التي �أخل�صت قلوبها للأمري «لو�سيفر» وه�ؤالء ال يفهمهم‬
‫من هم �أمثالك‪.‬‬
‫حت َّركت زاوية عيني «عمرو» باالبت�سام وهو يقول ‪:‬‬
‫ �أمل تعلموا من �س�ؤال النا�س �أنه قد ُو َلد و ُبعث ودعا �إىل دعوته و�آمن به من‬
‫�آمن وكفر به من كفر؟ َمل َل تعودوا �إىل �آمركم الأمري فتُخربوه‪� ،‬ألي�س قد‬
‫علمتُم العلة التي نزلت ال�شهب لأجلها ؟‬

‫ص‬ ‫ع‬ ‫قال «�إنيان»‪:‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ مل نره ب�أنف�سنا‪ ،‬ولن نعود �إال ‪....‬‬
‫قاطعه «الأرقم» وقد ملعت عيناه بالغ�ضب وت� َّأهب للعدوان ‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫هيئتك ال تبدو من كبار اجلن الذين‬‫َ‬ ‫علمت بكل هذا �أيها اجل�سا�س‪،‬‬ ‫ كيف َ‬

‫ب‬
‫�أُمروا بهذا الأمر املقد�س للبحث عن النبي‪ ،‬وحتى �أوالء لن يتعدوا الأر�ض‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫التي يبحثون فيها �إىل �أر�ضنا التي كلفنا بها ‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫قال له «عمرو بن جابر»‪:‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫�سمعت عن املعمرين يا �صاحب ال�شعر الأحمر؟‬ ‫َ‬ ‫عمرين‪ ،‬فهل‬ ‫ �إنني من املُ ِّ‬

‫و‬
‫تراجع اجلن م�أخوذين‪ ..‬وقد كان املعمرون طائف ًة معروفة لكنها �شديدة‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫الندرة يف عامل اجلن‪ ،‬قد يعي�ش الواحد منهم �ألف �سنة �أو �ألفني‪ ،‬يكونون من‬
‫�أف�ضل جنود �إبلي�س‪ ...‬تق َّدم «عمرو بن جابر» ناح َية «الأرقم» ووقف �أمامه يف‬
‫مغالبة و قال بلهجة �شديدة الهدوء‪:‬‬
‫ و�إين �أعلم ب�أمر «حممد» من �أربعمائة عام‪� ،‬أيام كنت �أنت ذرة مل ُتو َلد‬
‫وال ُيعرف لك ا�سم ‪.‬‬
‫�سكت «الأرقم» ووجل والكل ينظرون �إىل «عمرو» الذي كان يقول دون �أن‬ ‫َ‬
‫يلت ِفت �إليهم ‪:‬‬
‫ �إين �آخذكم �إىل «حممد» عند الفجر‪ ،‬و�إنكم لتن�صرفوا من هنا �إذا‬
‫ر�أيتموه �أو لأعيدنَّ ر�ؤو�سكم رطبة �إىل من �أر�سلكم‪.‬‬
‫ينتظر منهم �إجابة‪ ،‬بل حت َّرك مبا�شرة �إىل اجتاه معني‪ ،‬وحتركوا وراءه‬ ‫ومل ِ‬
‫جميعا‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫‪358‬‬
‫مو�ضع واحد فوق َ�س ْمك ال�سماء العايل‪ ،‬كان هو مق�صد جميع رحالتنا لل�سماع‬
‫واال�ستماع‪ ،‬مو�ضع ا�سمه بيت العزة‪ ،‬تع َّلمنا من نبينا «لو�سيفر» �أن املالئكة ُمتر على ذلك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫املو�ضع ال�سماوي مرتقني ومنحدرين‪ ،‬و�أن مو�ضعه يف ال�سماء فوق ذلك البيت الذي بناه �آدم‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف الأر�ض بعد �أن خرج من اجلنة‪ ،‬البيت الذي �سماه البيت احلرام‪ ،‬ثم طم�سه طوفان نوح‪ ،‬ثم‬
‫رفع �إبراهيم قواعده من بعده فهو قائم �إىل هذا اليوم‪ ،‬البيت الذي ُي�سمونه الكعبة‪ ،‬فوقه‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫متا ًما يكون املو�ضع الوحيد يف ال�سماء الذي ميكننا منه �أن ن�سمع كالم املالئكة‪ ،‬ولي�س �أحد‬

‫ب‬
‫يعرف لغة املالئكة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫لكن «لو�سيفر» ع َّلمنا �إياها‪ ،‬فكنا ن�سمع ونعرف ما يقال‪� ،‬إن «لو�سيفر» يعرف كل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�شيء‪ ،‬لذلك نحن نتبعه ولذلك نحن تابعوه ولو بذلنا �أرواحنا‪ ،‬هو العامل الأمري املنري ل�ش�أفة‬

‫الت‬ ‫و‬
‫هذا الكون‪.‬‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يف �أيام مع َّينة من نهر الزمان الطويل‪ ،‬جند �أننا �إذا مل�سنا ال�سماء طالبني ال�صعود �إىل بيت‬

‫يع‬
‫العزة لال�ستماع‪ ،‬نقابل يف �صعودنا �إليه �شيئًا يحرينا ِّ‬
‫وينكدنا وي�ؤيذنا ويقتُلنا!‬
‫كائنات طريية ُملتهبة ك�أنها خملوقة من لفائف اللهب‪ ،‬جميلة املنظر طويلة الذيل‬
‫أح�ست فقط بواحد من اجلن يقرتِب‬ ‫حتوم حو ًما فوق ال�سحاب ومتلأ ال�سماء من كل مو�ضع‪� ،‬إن � َّ‬
‫ف�إنها تنق�ض عليه وتذهب به وتُهلِكه على الفور‪ ،‬طيور �ضارية جارحة‪ ،‬طيور من طيور اجلن‬
‫ن�سميها الفينيك�س‪ ،‬متلأ ال�سماء كاحلر�س ال�شديد الفاتك‪.‬‬
‫ف�إذا وجدنا طريقنا وغافلنا تلك الطيور و�صعدنا �إىل مو�ضع ال�سماع‪�ُ ،‬أحيط بنا و ُقذفنا من‬
‫كل جانب بوا ِبل من ال�شهب احلارقة تلهب �صفحة ال�سماء‪ ،‬ونحن �أعلم بال�سماء‪.‬‬
‫يف كل مو�ضع من موا�ضع ال�سماء يف هذه الدنيا‪ ،‬توجد �شهور معينة ينزل فيها وابل من‬
‫ال�شهب‪ ،‬و�شهور �أخرى تكون ال�سماء �صافية‪ ،‬لكن تلك الأيام املعينة يف الزمان‪ ،‬عند ذلك‬
‫بيت العزة بالتحديد‪ ،‬تكرث الفينيك�س كاحلر�س ال�شداد‪ ،‬ويكون هناك وابل من ال�شهب غري‬
‫م�سبوق‪ ،‬وال يقدر �أحد منه ً‬
‫نفاذا � ًأبدا‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫يدعي الأنبياء من الب�رش �أنهم‬
‫علمنا نبينا «لو�سيفر» �أن هذا �إمنا يكون يف الأوقات التي َّ‬
‫�أنبياء‪ ،‬حينها يغ�ضب اهلل ويظهر غ�ضبه يف تلك ال�شهب وغمرة ذلك الطري اجلني �صفحة‬
‫ال�سماء‪.‬‬
‫حتى جاءت تلك الليلة؛ ليلة �أ�صبح نفر من اجلن ُي�ؤ ِّرخون ال�سنني بها؛‬
‫و�إن ما حدث يف تلك الليلة عجيب!‬

‫صري ‪z‬‬ ‫ع‬


‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫شر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪360‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫كت‬
‫ب نل‬
‫ل‬
‫(‪)15‬‬

‫ر‬‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫أنصتوا‪..‬‬

‫‪361‬‬
‫يف مكان اجتمعت فيه النخيل ب�أ�شجار املوز‪ ،‬وجرت فيه من العيون ما ًء عذ ًبا‪..‬‬
‫دخل ن َفر من اجلن متتابعني وقد تل َّهفوا لر�ؤية الرجل الذي �أم�شاهم قطعة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عظيمة من الأر�ض يبحثون عنه‪ ،‬وكان الوقت يف الغداة قبل �شروق ال�شم�س‪،‬‬

‫ري‬
‫وهم كانوا وراء «عمرو بن جابر» مي ُّرون بني الأ�شجار‪ ..‬قال لهم «عمرو» ‪:‬‬

‫ال‬
‫ مل ي ُعد �صاحبكم �إىل مكة بل لقد ا�سرتاح هنا يف وادي نخلة بني مكة‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫والطائف‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫قالت له «ما�سا»‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ وملاذا مل ي ُعد �إىل مكة �إىل �أ�صحابه بعد �أن عمل فيه �أهل الطائف ما‬

‫ر‬
‫عملوا؟‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫رهة وك�أنها قد � َ‬
‫أوح�شته ثم قال‪:‬‬ ‫نظر لها «عمرو بن جابر» ُب َ‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أجالف الطائف �إىل قري�ش يف مكة يخربونهم �أن حممدً ا �أتاهم‬ ‫ لقد � َ‬
‫أر�سل � ُ‬
‫يدعوهم �إىل دينه‪ ،‬وكانت مفاج�أة لقري�ش فما كانوا يعلمون ب�سفره‪ ،‬لأنه‬
‫�سافر ِخفية عنهم بعد �أن يئ�س من ا�ستجابتهم لدعوته‪ ،‬وملا �أذيع اخلرب‬
‫يف مكة غ�ضب �سادتها و�أق�سموا �أال يدخلوه مكة‪ ،‬وعلى الفور انطلق نفر‬
‫من �أ�صحاب «حممد» يلحقون مبحمد خ�شية �أن يناله �أحد‪ ،‬واجتمع به‬
‫�أ�صحابه هنا يف وادي نخلة ‪.‬‬
‫قال «الأرقم»‪:‬‬
‫ و�أين هم بال�ضبط؟‬
‫قال «عمرو» ‪:‬‬
‫ �سيخ ُرجون الآن من منامهم لي�صلوا �صالة الفجر‪.‬‬

‫‪363‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪364‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪365‬‬
‫قالت «ما�سا»‪:‬‬
‫ �أين هم عازمون‪ ،‬هل �سيعيدونه �إىل مكة ؟‬
‫قال لها ‪:‬‬
‫ف�ضل امل�صطفى املحمد �أن ينزلوا جمي ًعا بعد الفجر �إىل �سوق‬ ‫ بل لقد َّ‬

‫ع‬
‫عكاظ لأنه قد انعقد‪ ،‬فيدعون القبائل املجتمعة هناك �إىل الإ�سالم ‪.‬‬

‫ص‬
‫قال «�إنيان»‪:‬‬
‫و ما هو الإ�سـ‪...‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ك‬
‫قاط َعه «عمرو» ب�إ�شارة من يده‪ ،‬فتو َّقف الكل ونظروا �إىل ما ُ‬
‫ينظر �إليه‪ ،‬ف�إذا‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ح�شد من الرجال قد وقفوا متجاورين كتفا بكتف‪ ،‬مغت�سلني يقطر من جبينهم‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ماء‪ ،‬يجتمعون �إىل ثالث �صفوف‪ ،‬وجميعهم تكتفت �أيديهم على �صدورهم‬

‫ش‬
‫و�أحنوا ر�ؤو�سهم وخف�ضوا �أنظارهم �إىل الأر�ض بتذلل وا�ضح‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم‬

‫و‬ ‫ر‬
‫رجل يقودهم يقف يف �صف وحده‪ ..‬نظرت �إليه «ما�سا» فعرفته على الفور‪،‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫�إنه «حممد»‪ ،‬عال �صوت «حممد» وتنغم برتتيل ت�شوفت له الطيور يف خمابئها‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫وجميع ال�صفوف وراءه يقفون يف ت�أثر‪ ،‬ووقف اجلن غري بعيد ي�ستمعون‪ ،‬وقال‬
‫أن�صتوا‪ ،‬وا�سمعوا‪ ..‬ورتَّل «حممد» ب�صوت عال‪:‬‬
‫بع�ضهم لبع�ض‪ِ � :‬‬
‫َ‬ ‫َْ ْ‬
‫ي عِل ٍم ۚ ُس ْب َحانَ ُه َو َت َع ٰ‬ ‫ُ َ َ َ ْ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َُ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫غ‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ات‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫الن وخلقهم وخرقوا ل بنِني وب‬ ‫ِ‬ ‫﴿وجعلوا ِل َِّ شكء‬
‫َ َّ ٰ َ ُ ُ َ ُ َ َ ٌ َ َ ُ َّ َ َ ٌ َ َ َ ُ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ َّ َ ُ َ َ ُ َّ َ َ‬
‫ل َول ْم تكن لُ صاحِبة ۖ َوخلق ك‬ ‫ات َوال ْر ِض ۖ أن يكون ل و‬ ‫عما ي ِصفون * بدِيع السماو ِ‬
‫الب ُ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ُ ِّ َ ْ َ ٌ َّ ُ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َّ ُ ْ َ‬
‫ري‬ ‫طيف ِ‬ ‫ش ٍء ۖ وهو بِكل ش ٍء علِيم * ل تد ِركه البصار وهو يد ِرك البصار ۖ وهو الل ِ‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ ََْ َ َ ََ َ َْ ُ‬ ‫َّ ِّ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫َْ َ َ ُ َ َ‬
‫ص فلِنف ِس ِه ۖ ومن ع ِم فعليها ۚ وما أنا عليكم‬ ‫اءكم بصائ ُِر مِن ربكم ۖ فمن أب‬ ‫* قد ج‬
‫يظ﴾‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِب ِف ٍ‬
‫ثم قال اهلل �أكرب ب�صوت قوي ثم ركع الكل‪ ،‬وقال اهلل �أكرب فقام الكل‪ ،‬ثم‬
‫قالها ف�سجد الكل وقاموا ثم �سجدوا‪ ،‬ثم قالها فقام اجلميع ينتظمون واقفني‬
‫َْ ْ ُ‬ ‫َّ ْ َٰ‬
‫كانتظامهم الأول‪ ،‬وتال «حممد» ب�صوت مت�أثر‪ِ﴿ :‬مْسِب الل َِّ الرح ِن الرح ِ‬
‫المد‬ ‫ِيم *‬ ‫َّ‬
‫ْ َ‬ ‫اك ن َ ْس َتع ُ‬
‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ‬ ‫َ ْ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ َٰ‬ ‫َ ِّ ْ َ َ َ‬
‫ني * اهدِنا‬ ‫ِ‬ ‫ين * إِياك نعبد وإِي‬‫ِيم * مال ِِك يو ِم ادل ِ‬
‫ِل َِّ رب العال ِمني * الرح ِن الرح ِ‬
‫َ َ ْ ْ َ َ َّ ِّ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ْ ُ‬ ‫ِّ َ َ ْ ُ ْ َ َ‬
‫الضال َني﴾ وهنا‬ ‫وب علي ِهم ول‬ ‫ِ‬ ‫ض‬ ‫ي المغ‬
‫صاط الِين أنعمت علي ِهم غ ِ‬ ‫الصاط المست ِقيم * ِ‬
‫‪366‬‬
‫ب�صوت واحد زلزل قلوب اجلن‪�( ،‬آمـ ــني) ‪ ...‬كان اجلن ينظرون وقد‬ ‫ٍ‬ ‫�صاح الكل‬
‫وج َلت قلوبهم‪� ،‬إن املرة الأوىل التي ترى فيها هذا ال�شكل جتعل عينك ترقب‬
‫رغ ًما عنك‪ ،‬وعقلك يت�ساءل رغما عنك؛ من �أوالء الذين ُي ِّرغون وجوههم يف‬
‫الرتاب ويقفون ك�أن على ر�ؤو�سهم الطري‪ ،‬ولكن ما �أثار قلوب اجلن وهزها �أكرث‬
‫هو الكالم الذي ُيرتله «حممد»‪� ،‬إنه من النوع الذي يـ ‪...‬‬

‫ع‬
‫ُ َ‬ ‫َ ُ َ ْ َ َ ِّ َ ُ ُ َ َ ْ‬
‫الريح غد ُّوها شه ٌر َو َر َواحها‬

‫ص‬
‫َ‬
‫قاطعهم فج�أة ترتيل «حممد» وهو يقول‪﴿ :‬ول ِسليمان‬

‫ري‬
‫َ َ ْ ُْ َ ْ‬ ‫َ ْ ٌ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ ْ َ َ ْ ِّ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ ْ ْ ِّ‬
‫ي يدي ِه بِإِذ ِن َرب ِه ۖ َومن ي ِزغ مِنه ْم عن‬

‫ال‬
‫الن من يعمل ب‬ ‫شهر ۖ وأسلنا ل عي ال ِقط ِر ۖ ومِن ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الس ِعري * َي ْع َملون ل ما يش ُ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ َ ُ ُْ ْ َ َ‬
‫اب‬ ‫ان كلو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِيل‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫يب‬‫ار‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫اء‬ ‫ِ‬ ‫اب‬
‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫أم ِرنا نذِقه مِن ع‬

‫ك‬
‫ْ َ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ً َ َ ٌ ِّ ْ َ َ َّ ُ ُ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ‬ ‫َ ُ ُ َّ َ‬

‫ت‬
‫ات ۚ اعملوا آل داوود شكرا ۚ وقلِيل من عِبادِي الشكور * فلما قضينا علي ِه‬ ‫ور را ِسي ٍ‬‫وقد ٍ‬
‫ْ ُّ َ َّ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫ب‬
‫َ‬
‫َّ َ َّ َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ال ْ َم ْو َت َما َدل ُه ْم َ ٰ َ ْ‬
‫َ‬ ‫َّ‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫الن أن لو كنوا‬ ‫ت ِ‬ ‫ع موت ِ ِه إِل دابة الر ِض تأكل مِنسأته ۖ فلما خر تبين ِ‬

‫ن‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َُ َ ْ‬
‫ون ال َغ ْي َب َما لِ ُثوا ِف ال َع َذ ِاب ال ُم ِه ِني﴾‪.‬‬

‫ش‬
‫يعلم‬

‫و‬ ‫ر‬
‫نزلت «ما�سا» جاثي ًة على ركبتيها وقد تب َّللت ب�شرتها بالدموع‪ ..‬ثم �سندت‬

‫و‬ ‫الت‬
‫على الأر�ض مبرفقيها راكعة‪ ،‬وم َّرغت وجهها يف تراب الأر�ض ونادت‪� :‬إلهي‪،‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�إلهي ملك ال�سماء‪� ،‬إلهي مالك هذه الأر�ض ومالك قلبي‪ُ ،‬غفرا ًنا يا ربي غفرا ًنا‪..‬‬
‫نظر لها اجلن ولي�س بالهم معها‪ ،‬كان بالهم مع «حممد» و�أ�صحابه‪ ،‬مل يكن ما‬
‫م�س يف قلوبهم طوفا ًنا من العقائد اخلربة‪ ..‬كان «الأرقم»‬ ‫رتَّله ً‬
‫�سهل �أبدً ا بل قد َّ‬
‫م�سبل يديه �إىل جانبه ويذكر لقطات بعينها‪ ،‬لقطات له‬ ‫مبنظره احلكيم يبدُو ً‬
‫ولأ�صحابه ه�ؤالء يف جوف ال�سماء وقد حا�صرتهم ال�شهب من كل مكان‪ ،‬ثم‬
‫تذ َّكر «كني» كاهن ن�صيبني‪ ،‬وتذكر كيف كانوا يت ُلون عليه ما تعرت�ضه �أ�سماعهم‬
‫من �أحاديث يف ال�سماء ي�سمعونها وال يرون قائليها‪ ،‬ولهم يف تف�سريها مذاهب‪،‬‬
‫ويزيدون فيها مائة كذبة ثم يلقونها �إىل«كني» وي�صدقهم مبهو ًرا‪ ،‬وتذكر‬
‫«الأرقم» �أحاديث اجلن يف عامله عن « �سليمان»‪ ،‬مل يعلم ب�شر عن هذا الكالم‪،‬‬
‫�سخر اجلن‪ ،‬وطوائف‬ ‫ال يهود وال ن�صارى‪ ،‬الآن ي�سمعه ً‬
‫مرتل‪�« ،‬سليمان» الذي َّ‬
‫اجلن كلها تقول بل هو �سحر اجلن ‪.‬‬
‫‪367‬‬
‫نظر «الأرقم» �إىل «�إنيان» فوجد عينه قد احم َّرت من البكاء‪ ،‬و�إىل «طيفون»‬
‫ذو املظهر القا�سي والفك املك�سور واللهب الذي خبا‪ ،‬ونظر �إىل «حممد» وهو‬
‫كب معه ويركعون وي�سجدون‪ ،‬و�أفاق على َيد تهزه‪ ،‬كان هذا «عمرو‬ ‫كب والكل ُي ِّ‬ ‫ُي ِّ‬
‫الرفق قال له‪ :‬يا �أرقم‪� ،‬أمل يان الأوان‬ ‫بن جابر»‪ ،‬نظر له بتحنن وب�شيء من ِ‬
‫وعدتني‪� ،‬أن تن�صرفوا �إىل من �أر�سلكم؟ قال له ودم ٌع ُيغا ِلب مقلتيه ليظهر‪:‬‬ ‫كما َ‬

‫ع‬
‫يا عمرو هل �أ�س َلمت؟ �أوم�أ «عمرو» بر�أ�سه �أن نعم‪ ..‬خف�ض «الأرقم» عينه �إىل‬

‫ري‬‫ص‬
‫الأر�ض‪ ،‬قال له‪ :‬يا بن جابر �إنا �سمعنا قر�آ ًنا عج ًبا‪ ،‬يهدي �إىل الر�شد‪ ،‬و�إنا‬

‫ال‬
‫�آمنا به يا «عمرو»‪ ،‬ولن ُن ِ‬
‫�شرك بربنا �أحدً ا‪ ،‬و�أنه تعاىل جد ربنا عن كل ما قيل‬

‫ك‬
‫لنا وقيل‪� ،‬سبحانه ربنا ما اتخذ �صاحب ًة وال و َلدً ا‪ ...‬ثم قال بقوة �أخذت ف�ؤاد‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫«عمرو»‪� :‬أما �سفيهنا الذي �أر�سلنا فلقد كان يقول عن اهلل ما فيه جور وكذب‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫و�أنا ملا �سمعنا الإن�س يقولون عن اهلل كما يقول‪ ،‬مل نظن �أن الكل يكذب‪ ،‬و�أنا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ن�ش َهد �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬ون�شهد �أن حممدً ا ر�سول اهلل‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قال له «عمرو بن جابر»‪ :‬عودُوا يا �أرقم �إىل ع�ش َريتكم‪ ،‬وادعوا من ا�ستطعتُم‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫منهم �إىل دين اهلل‪ ،‬وادعوهم �أن ي�أتوا �إىل ر�سول اهلل‪ ..‬نظر «الأرقم» �إىل‬
‫�أ�صحابه فوجدهم قد قاموا ونف�ضوا عن �أنف�سهم الرتاب والدموع ملا �سمعوا‬
‫مقولة «عمرو»‪ ،‬وتهي�أ الكل عازمني على الرحيل‪ ،‬ونظروا �إىل «حممد» و�صحبه‬
‫نظرة �أخرية ثم التفتوا �إىل وجهتهم‪ ،‬ومل تكتمل التفاتتهم �إال وقد وجدوا وراءهم‬
‫تنظر لهم بق�سوة‪« ،‬ميتاترون»‪ ،‬و«بليعال»‪ ،‬و«�سيدوك»‪.‬‬ ‫عيونا ُ‬
‫‪z‬‬
‫مل يكونوا ينظرون لأبناء ن�صيبني نظرات هادئة �أو معاتبة‪ ،‬بل كانت نظرات‬
‫تقطر �ش ًّرا ورغبة جمنونة يف القتل‪ ،‬قال لهم «�سيدوك» وكان يبدو ُمي ًفا بلونه‬ ‫ُ‬
‫الأ�سود و�شعره الأبي�ض‪:‬‬
‫ �أتتبعون �أباطيل الب�شر يا �أرقم‪� ،‬أبعد كل ما مررنا به؟‬

‫‪368‬‬
‫قال له «الأرقم» بقوة ‪:‬‬
‫َ‬
‫فطرتك يا �سيدوك‪ ،‬انظر �إىل فطرتك ودع عنك ما كانوا‬ ‫  ُ‬
‫انظر �إىل‬
‫يلقنونك �إياه‪ ،‬انظر �إىل فطرتك‪.‬‬
‫قال لهم «بليعال»‪:‬‬

‫ع‬
‫ ولقد ُ‬
‫قررت فيما يبدو �أن تعودوا لتُف�سدوا على قومكم طرائقهم‪� ،‬إن‬

‫ري‬ ‫قال له «�إنيان»ص‬


‫قولتكم هذه وحدها متيتكم هنا حتت قدمي ‪.‬‬

‫ا‬
‫ ابت ِعد عن طريقنا‪ ،‬لوقولوا ل�سفيهكم الذي بع َثكم �أن الأر�ض وال�سماء‬
‫بغ�ضب ‪:‬‬

‫كتلي�س نبي هذا الرب كما يدعي‪ ،‬و�أننا قد‬


‫�أ�س َلعلينا‪.‬منا وجوهنا �إىل ربنا و�إىل ب لنل‬
‫فيهما رب واحد عادل‪ ،‬و�أنه‬

‫ش‬
‫ر�سول اهلل‪ ،‬و�أن �سفاهته مل ت ُعد حتتال‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ �أتقول عن عظيمنا �سفي ًها‪ ،‬ما �سفه �إال وجهك‪ .‬ال وت‬
‫قال له «بليعال» بثورة‪:‬‬

‫يتوهج له ًبا‪ ،‬وفكه يتوهج له ًبا‪ ،‬وعيونهزي َّ‬


‫تتوهعج نقمة‪،‬‬ ‫�أما «طيفون» فقد كان َّ‬
‫وقلبه يتوهج �إميا ًنا‪ ،‬ويف تلك اللحظة مل يكن ينظر من الدنيا �إال �إىل «بليعال»‪،‬‬
‫وما فعله فيه «بليعال»‪ ،‬وبدت مالحمه �شديدة الغ�ضب والبغ�ضاء‪ ،‬ولقد �أ�ست َوت‬
‫ب�صوت نا ِقم‪ ،‬وتب َّدلت مالحمه �إىل الغيظ واندفع‬
‫ٍ‬ ‫قدميه على الأر�ض و�صار يزوم‬
‫َ‬
‫ثائ ًرا �إىل «بليعال» وتوهجت قب�ضته باللهب‪ ،‬ولوح بها ثم مل يرتكها حتى نزلت‬
‫�إىل قلب «بليعال» الذي ات�سعت عيناه من احلرق والفج�أة!‪ ،‬ونظر �إىل «طيفون»‬
‫م�شدوهً ا وتراجع الكل من �أثر اللهيب‪ ،‬ثم �أخرجها «طيفون» من قلبه وتركه يكب‬
‫على ر�أ�سه وجعل ج�سده يذوب ذوبا ًنا‪ ،‬وزادت ثورة «طيفون» وت�ساقط من عينيه‬
‫ال�شرر ونظر ب�شرره �إىل «ميتاترون» الذي كان يتابع ما حدث بهدوء مثري‪.‬‬
‫‪369‬‬
‫وا�ست َوت قدمي «طيفون» �إىل الأر�ض مرة ثانية وك�أنه ُي�شعل نف�سه له ًبا وته َّي أ�‬
‫ليندفع اندفاعة �أقوى من اندفاعته الأوىل‪ ،‬لكنه فج�أة تو َّقف وكل ملحة يف‬
‫مالحمه قد خ َبت وانده�شت‪ ،‬و�شوهد «ميتاترون» ُمير بجواره مرو ًرا متهاد ًيا وال‬
‫وتقطعت �أجزا�ؤه ك�أنها قد‬ ‫يتح َّرك له طرف‪ ،‬وخ َّر «طيفون» على الأر�ض جاث ًيا‪َّ ،‬‬
‫ت�صدعت ب�ألف �سيف!‪ ،‬وخبا لهيبه وهوى يف الرتاب‪ ،‬وجحظت عيون كل من كان‬
‫يرى‪ ،‬فلم ير �أحدهم «ميتاترون» حتى ُيحرك يدً ا‪ ،‬ومل يلحظوه يفارق مو�ضعه �إال‬

‫ع‬
‫وهو عند «طيفون»!‪ ،‬وك�أن عيونهم مل تلتقط �سرعته ‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫حتفز «الأرقم» و«�إنيان» و�ش َّدا عزائمهما‪ ..‬لكن يد «عمرو بن جابر» �أثنتهما‬

‫ال‬
‫عن �أي �شيء ُيفكران فيه‪ ،‬وقال لهما‪ :‬عودا �إىل مكة وانتظرا النبي‪ ،‬ف�إذا جاء‬
‫ادعوه وا�شهدوا على يديه ب�إ�سالمكم‪ ،‬و�إن الأنبياء يرون اجلن‪ ،‬ف�إذا �أ�سلمتُم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫على يديه فانطلقوا �إىل ن�صيبني وبلغوا ر�ساالت ربكم‪ ..‬ثم نظر �إىل «ميتاترون»‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫الذي ح َّول وجهه الف�ضي �إليهم و�أكمل‪ :‬ف�إنكم �إن بقيتُم هنا فلن يبلغهم من‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بعدكم �أحد‪ ،‬واتركوا �أبناء ال�سفيه يل ف�إين �س�أع�صمكم منهم‪ ..‬قالها وعينه ال‬

‫ش‬
‫تفارق «ميتاترون» و«�سيدوك»‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫ومل ُيف ِّكر «الأرقم» و«�إنيان» �إال ثوان‪ ..‬ثم نظرا �إىل «ما�سا» ف�إذا هي ُم َّددة‬

‫و‬
‫على الأر�ض تبكي من الوجد‪ ،‬فالتقطها «الأرقم» على كتفه ونظر �إىل «طيفون»‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫بحزن وانطلق ومعه «�إنيان» مبتعدين عن املكان وعن البلد؛ انط َلقوا عائدين �إىل‬ ‫ُ‬
‫مكة ‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫بعد �أيام ع�شرة‪ ..‬عاد «حممد» �إىل مكة‪� ،‬أدخلوه بعد �أن دخل يف حلف رجل‬
‫من قري�ش‪ ،‬ف�أم�ضى فيها بع�ض الليايل ثم جاءت ليلة واختفى «حممد»‪ ،‬بال �أثر‬
‫خب!‪ ،‬وفجع كل �أ�صحابه �إذ فقدوه بعد �أن كان معهم يف �أول الليل‪ ،‬و�أخذوا‬ ‫وال َ‬
‫يلتم�سونه يف الأودية وال�شعاب‪ ،‬كانت املرة الأوىل التي يختفي فيها من بينهم‬
‫بال �أثر‪ ،‬وتناقلت �أل�سنتهم من روع قلوبهم �أنه ا�ستطري �أو اغتيل‪ ،‬وخرجت‬
‫جماعة منهم تبحث يف اجلبال ويف القفار‪ ،‬ف�إذا قتل لرمبا وجدوه مقتوال‪،‬‬
‫وغزت العربات �أعينهم والدمعات واحرتقت قلوبهم حنقا‪ ،‬وتالوموا وجتادلوا‪،‬‬
‫�أن يختفي ر�سول اهلل من بينكم و�أنتم جلو�س‪ ،‬وباتوا �شر ليلة بات بها قوم‪ ،‬وما‬
‫وجد النوم �إىل عيونهم �سبيال‪ ،‬فداروا يف �آخر الليل يتح ُّرونه حتى �أ�صبح ال�صبح‬
‫عليهم وقد �أنهكوا‪ ،‬وفج�أة وجدوه‪ ،‬جاءهم من ناحية جبل حراء‪ ،‬فهرعوا �إليه‪،‬‬
‫‪372‬‬
‫كان يف خري حال‪ ،‬ولقد بني لهم يف كلمات قليلة �أين كان‪ ،‬ولقد ات�سعت عيونهم‬
‫ات�ساعا‪.‬‬
‫مما قال ً‬
‫قال �أنه ملا جنَّ الليل وان�سدلت �ستائره‪ ،‬وخال بنف�سه �إىل نف�سه يف تلك الليلة‪،‬‬
‫ا�ست�أذن عليه رجل لي�س ك�أي رجل‪ ،‬رجل مل ي�سمعه �أحد ومل ي َره �أحد‪ ،‬رجل من‬
‫ائت‬
‫اجلن‪ ،‬ولي�س �إال الأنبياء يرون اجلن‪� ،‬أتى الرجل للنبي ودعاه‪ :‬يا ر�سول اهلل ِ‬
‫ف�إن نف ًرا من اجلن يريدون �أن ي�سلموا على يديك وي�سمعوا ما نزل من القر�آن‪..‬‬

‫ع‬
‫ف�أجاب النبي دعوة الرجل و�أتى النفر من اجلن‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وكانت ليلة جل�س فيها «الأرقم» و«�إنيان» و «ما�سا» حتت جبل النور وقد‬
‫�أوقدوا نريانهم وحتلقوا حولها‪ ..‬و�إذا «عمرو بن جابر» قد �أقبل ومعه ر�سول‬

‫ك‬
‫اهلل‪ ،‬فتهللت قلوبهم وقاموا يتعرثون يف لهفتهم والتفوا حوله وداروا و�أحدقوا به‬

‫ت‬
‫وك�أن عيونهم لن تنظر �إىل �شيء بعده‪ ،‬وقد تخ�ضبت �أ�شفارهم بالدمع وقلوبهم‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بالوجد‪ ،‬فقالوا له ما قالوا وقال لهم ما قال وع َّلمهم وتعلموا وقر�أ عليهم كل ما‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫نزل من القران فيما �سبق من ال�سنني الع�شرة‪ ،‬ولقد ا�ستمعوا و�أن�صتوا فوجدوه‬

‫ر‬
‫يتحدث �إىل عقولهم وفطرتهم‪ ،‬ب�أن اهلل واحد وكل ما عبد النا�س من دونه زائل‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ال ميلك من �أمر نف�سه �شي ًئا‪ ،‬طي ًنا كان �أو حج ًرا ونا ًرا وج ًنا‪ ،‬وا�ستمعوا �إىل‬

‫و‬
‫�صفات ربهم الذي ميلك كل �شيء وخلق كل �شيء ‪.‬‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫أبل�سه‬
‫وعرفوا ق�صة �سفيههم وكيف حقد على بني �آدم‪ ،‬وكيف طرده ربه و� َ‬
‫إبلي�سا‪ ،‬لأنه رف�ض ال�سجود لآدم‪ ..‬وكانت ق�صة مل ترد يف التوراة‪،‬‬ ‫ف�صار � ً‬
‫و�أن «�إبلي�س» ال ميلك من النور �شي ًئا كما يتباهى عند قبيله‪ ،‬و�أن اهلل هو نور‬
‫ً‬
‫تف�صيل‪�« ،‬آدم» و«نوح»‬ ‫ال�سماوات والأر�ض‪ ،‬عرفوا �أقا�صي�ص جميع الأنبياء‬
‫و«�إبراهيم» و«مو�سى» و«عي�سى» و«مرمي» و�أدركوا خرب«�سليمان» والنمل وما‬
‫�سخر به �أ�سالفهم من اجلن‪ ،‬ووجلت قلوبهم ملا �سمعوا ما نزل من �سورة اجلن‬
‫وقد ذكرت اجتماعهم و�سماعهم للقر�آن و�إميانهم به‪ ،‬وذكرت �أمو ًرا دقيقة عن‬
‫اتخاذهم مقاعد لل�سمع يف ال�سماء ورجمهم بال�شهب‪ ،‬وجلوا لأنه لي�س على‬
‫الأر�ض �إن�س يف احلا�ضرين �أو ال�سابقني تك َّلم عن هذا الأمر‪ ،‬لكن اهلل ي�سمع‬
‫ويرى‪ ،‬ولقد �آمنوا بالقر�آن ودخل �إىل �شغاف قلوبهم فنور منها كل مظلم وك�سر‬
‫يوما ‪.‬‬
‫يف �أفقهم كل خرف وعبث �صدقوه ً‬
‫وقبل �أن ين�صرفوا‪ ،‬قال «الأرقم»‪ :‬يا ر�سول اهلل �إنا قوم ال نخالط الإن�س‬
‫ونعي�ش يف كل خالء على الأر�ض قد خال منهم‪ ،‬ولنا يف خالئنا زادنا وطعامنا‪،‬‬
‫‪373‬‬
‫و�إنا �إذا مكثنا هاهنا �سنخالط امل�سلمني �أعواما لن�سمعهم ونتعلم منهم‪ ،‬فيا‬
‫ر�سول اهلل َ�سل اهلل لنا الزاد �إذا خالطناكم‪ ..‬فقال له النبي‪ :‬ل ُكم كل عظم ذكر‬
‫ا�سم اهلل عليه يقع يف �أيديكم �أو َفر ما يكون حل ًما‪ ،‬وكل بعرة من دوابنا تكون‬
‫ع َلفا لدوابكم ‪.‬‬
‫ورجع الثالثة �إىل ن�صيبني‪ ،‬يت ُلون ما ع َّلمهم ربهم ويتحدثون به‪ ،‬وينورون به‬
‫قلو ًبا من اجلن‪ ،‬ما ا�ستطاعوا �إليه ً‬
‫�سبيل‪...‬‬
‫‪z‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫و�أتى مو�سم احلج‪ ..‬وهو عند العرب اجلاهلية �أ�شهر ثالثة‪ ،‬يتوافدون فيها‬
‫�إىل مكة يزورون البيت احلرام‪ ،‬يتع َّبدون �إىل �أ�صنامه التي حوله‪ ،‬ويتذللون لهم‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ويطوفون بالبيت عراة كما ولدتهم �أمهاتهم‪ ..‬وو�سط كل هذا كان «حممد» الزال‬

‫ب‬
‫يدعو‪ ،‬وك�أن قلبه قد اغت�سل من الي�أ�س �إىل الأبد‪ ،‬كان يتحني �شهور احلج هذه‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫فمن جميع بقعات اجلزيرة العربية ت�أتي القبائل‪ ،‬كان ي�أتيهم �إىل منازلهم‬

‫ش‬
‫ويدعوهم ويجادلهم ويقر�أ عليهم القر�آن‪ ،‬و«عمرو بن جابر» يتبعه كاتباع الظل‪،‬‬

‫ر‬
‫ي�سمع �إليه ويتع َّلم‪ ،‬ولي�س للجن �أن يتع َّلم �إال بال�سماع‪ ،‬حتى �أتى ذلك اليوم‪..‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫كان «عمرو» مي�شي قري ًبا من النبي ُمتهي�أ يف هيئة ب�شرية‪ ،‬كهيئة رجل ُمل َّثم‬

‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬
‫�أ�صفر ال�شعر يخفي �أكرث �شعره‪ ،‬كان النبي مي�شي ويتكلم مع القبائل ووراءه رجل‬
‫م�شرق الوجه يف عينيه ح َول ينادي يف النا�س �أن «حممدً ا» �صابئ كذاب‪ ،‬النبي‬
‫يقول يا بني فالن �إين ر�سول اهلل �إليكم �أدعوكم �أن تعبدوا اهلل وال ت�شركوا به‬
‫�شي ًئا و�أن ت�صدقوين ومتنعوين حتى �أنفذ عن اهلل ما بعثني به‪ ،‬وملا يفرغ من‬
‫كالمه يقول الآخر من ورائه يا بني فالن هذا رجل يريد منكم �أن ت�سلخوا الالت‬
‫والعزى �إىل ما جاء به من ال�ضاللة فال ت�سمعوا له وال تتبعوه‪ ..‬كان «عمرو بن‬
‫جابر» يعرف َمن هذا الرجل الو�سيم الأحول‪ ،‬كان ذاك «�أبو لهب» عم النبي غري‬
‫ال�شقيق‪.‬‬
‫أح�س ب�شيء يف ال�سماء فنظر �إىل الأعلى فج�أة‪،‬‬ ‫وبينما «عمرو» مي�شي �إذ � َّ‬
‫ف�إذا ال�سماء قد ان�شقت �ش ًقا ي�س ًريا وخرج منها رجل �شديد ب�شاعة الوجه عليه‬
‫عباءة �سوداء وقلن�سوة �سوداء طويلة‪ ،‬ي�سري فوق النا�س وينظر‪ ،‬وال ينظر �إليه �إال‬
‫«عمرو بن جابر»‪ ،‬وقال بده�شة وغيظ‪ :‬يا �إلهي هذا «�إزب»‪ ..‬كان النا�س حول‬
‫بتعجب ك�أنه جمنون‪ ،‬كان النبي �ساعتها ُيكلم قبيلة بني‬ ‫«عمرو» ينظرون �إليه ُّ‬
‫‪374‬‬
‫عامر يدعوهم‪ ،‬وهي القبيلة الوحيدة التي قبلت �أن تتناق�ش مع النبي بعد �أن‬
‫رف�ضته جميع القبائل يف ذلك احلج‪ ،‬قال �أكربهم‪� :‬أر�أيت �إن نحن بايعناك على‬
‫هذا الأمر يا حممد‪ ،‬ثم ن�صرك اهلل على من عاداك و�صرتَ �إمام هذه البالد‪،‬‬
‫�أتكون لنا الوالية من بعدك؟ �سكت النبي ثم قال له‪ :‬الأمر �إىل اهلل ي�ضعه حيث‬
‫ي�شاء‪� ،‬إنا ال نويل هذا الأمر �أحدً ا �س�أ َله �أو حر�ص عليه ‪.‬‬
‫ن�سي «عمرو» �أمر «�إزب» و�أخذت الأفكار تع�صف ب�إدراكه‪� ،‬أيرتك «حممد»‬

‫ع‬
‫فر�صة كهذه لن�صرته ولي�س من القبائل من ين�صره �إال ه�ؤالء‪ ،‬فلتكن لهم الوالية‬

‫ري‬‫ص‬
‫لهم من بعده ما امل�شكلة‪ ..‬وان�صرف «بنو عامر» من عند «حممد»‪ ،‬كانوا يريدون‬

‫ال‬
‫من الأمر ن�صي ًبا وم�صلحة لهم‪� ،‬أما «حممد» فكان يريد �أن على الذي يحمل َه َّم‬
‫الإ�سالم �أن ين�سى م�صلحة نف�سه‪ ،‬احلري�ص على الوالية ال ي�أخذها‪ ،‬عاد «عمرو»‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ينظر �إىل «�إزب» فوجده يبت�سم له بت�شف وقد بدت ب�شاعة �أ�سنانه‪ ،‬يت�شفى �أنه ال‬ ‫ُ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أحد قد ا�ستجاب لر�سول اهلل‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وم َّرت من الزمان �سنة‪ ..‬وعادت الوفود �إىل احلج‪ ،‬وعاد النبي �إىل دعوتهم‪،‬‬

‫ر‬
‫ولكنه �أ�صبح يدعوهم بال�سر هذه املرة‪ ،‬يخرج �إليهم يف الظالم ومعه �صاحبه‬

‫الت‬ ‫و‬
‫«�أبو بكر»‪ ،‬ومل ي�ؤمن به �أحد‪ ..‬حتى انتقل �إىل جمل�س كان يجل�س فيه �ستة من‬

‫و‬
‫الرجال‪ ،‬قال لهم‪ :‬من �أين الرجال؟ قالوا‪ :‬من يرثب‪ ..‬قال‪ِ :‬من حلفاء اليهود؟‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫قالوا ‪:‬نعم‪ ،‬قال‪� :‬أفال جتل�سون �أكلمكم؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬فجل�س �إليهم وح َّدثهم عن‬
‫اهلل وقر�أ عليهم كالم اهلل فان�شرحت له �صدورهم وا�ستب�شروا و�أ�سلموا جمي ًعا‬
‫من فورهم‪ ..‬وقالوا لبع�ضه‪ :‬يا قوم‪ ،‬تعلمون واهلل �إنه للنبي الذي توعدكم به‬
‫مغموما‬
‫ً‬ ‫يهود‪ ،‬فال ي�سبقونكم �إليه‪ ..‬ونظر «عمرو» �إىل «�إزب» �ساعتها فوجده‬
‫وك�أنه يف عزاء‪ ،‬فا�ستب�شر «عمرو» خ ًريا‪ ،‬ف�إن ال�ستة قالوا للنبي‪� :‬سنقدم على‬
‫قومنا من الأو�س واخلزرج يا ر�سول اهلل فندعوهم �إىل �أمرك‪ ،‬ونعر�ض عليهم‬
‫الذي �أجبناك �إليه من هذا الدين‪ ،‬و�إنا قد تركنا قومنا ه�ؤالء وال قوم بينهم‬
‫العداوة وال�شر مثل الذي بني الأو�س واخلزرج حتى كادت حروبهما �أن تفنيهما‪،‬‬
‫فع�سى اهلل �أن يجمعهم بك ‪.‬‬
‫ثم م َّرت من الزمان �سنة �أخرى‪ ..‬و�أتى ال�ستة وقد �أ�صبحوا اثني ع�شرة‪،‬‬
‫وجل�سوا �إىل النبي عند مكان يدعى العقبة وبايعوه جمي ًعا بيعة �أوىل‪ ،‬على �أن‬
‫ي�ستم�سكوا ب�أ�صول هذا الدين‪� ،‬أال ي�شركوا باهلل و�أال يعملوا ال�سيئات وىل �أال‬
‫يع�صوا ر�سول اهلل‪ ...‬وم َّرت من الزمان �سنة ثالثة و�أتى االثني ع�شرة وقد �صاروا‬
‫‪375‬‬
‫�سبعني كلهم من �أهل يرثب‪ ،‬وا�ستخفوا من قومهم الذين �أتوا معهم وك�أنهم �آتني‬
‫�إىل جتارة‪ ..‬وخرجوا جمي ًعا يف جنح الليل ليقابلوا ر�سول اهلل‪ ،‬وحر�صوا �أ�شد‬
‫احلر�ص على �أال يراهم �أحد من �أهل مكة �أو من قومهم من الأو�س واخلزرج‪.‬‬
‫وجل�سوا كلهم �إىل ر�سول اهلل والليل يخفيهم‪َّ ..‬‬
‫وب�ش ُروه �أن الإ�سالم قد انت�شر‬
‫يف يرثب حتى كاد يبلغ كل دار‪ ،‬وبايعوه البيعة الثانية‪ ،‬على ال�سمع والطاعة‬
‫وعلى النفقة لإعالء هذا الدين يف الع�سر والي�سر وعلى �أن ين�صروه �إذا هاجر‬

‫ع‬
‫�إليهم‪ ..‬نظر �إليهم «عمرو بن جابر» بنظرة فيها من الغرية ال�شيء الكثري‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫وتذكر �أ�صحابه يف ن�صيبني‪� ،‬أتراهم قد �أ�سلم معهم �أحد؟ �أم �أن �أبناء نينوى‬

‫ال‬
‫قد ظهروا عليهم وقتلوهم؟‪ ..‬و�أفاق من غريته على �صوت �صرخة ك�أنها �أتت من‬
‫�أعماق اجلحيم‪� ،‬صرخة بدا �أن كل �أهل مكة �سمعوها‪ ،‬نظر «عمرو» �إىل م�صدر‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ال�صرخة فر�أى �صاحبها‪ ،‬كان ذاك «�إزب» يرفع ر�أ�سه بح�سرة و� َأل �إىل ال�سماء‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫وي�صرخ‪ ،‬ومل يره �أحد �سوى «عمرو بن جابر» و «حممد»‪ ،‬لكن كل من يف املكان‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ب�صوت عال ينادي يف النا�س‪:‬‬‫ٍ‬ ‫�سمع �صوته‪ ،‬ومل ينته بعد ال�صرخة‪ ،‬بل �إنه قال‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫مذمما ‪-‬حممدً ا‪ -‬وال�صبا معه قد اجتمعوا على‬ ‫ً‬ ‫ يا �أهل املنازل �إن‬

‫الت‬ ‫و‬
‫حربكم‪ ،‬يا �أهل املنازل‪� ،‬أدركوهم‪.‬‬

‫و‬
‫وانك�شف �أمر املبايعني‪ ،‬وقب�ض امل�سلمون على �سيوفهم وهم يبحثون عن‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫م�صدر ال�صرخة‪ ،‬فقال لهم النبي‪ :‬هذا «�إزب ابن �أزيب»‪ ..‬ثم رفع �صوته قائال‪:‬‬
‫�أت�سمع �أي عدو اهلل لأفرغن لك‪.‬‬
‫ثم قال ملن معه‪ :‬اذهبوا �إىل رحالكم‪ ..‬فقام �أحدهم وقد �أخذته العزة وقال‬
‫�شئت لنميلن على �أهل هذه املنازل ب�أ�سيافنا‪..‬‬ ‫للنبي‪ :‬واهلل الذي بعثك باحلق �إن َ‬
‫فقال له النبي‪ :‬مل ُن� َؤمر بذلك ولكن ارجعوا �إىل رحالكم‪ ..‬و نظر «عمرو بن‬
‫جابر» �إىل «�إزب» فوجد �أنه قد ان�صرف وك�أنه مل يكن!‪ ،‬ثم نظر �إىل النفر حول‬
‫ر�سول اهلل ين�صرفون وي�سلمون عليه ويعدونه بالن�صرة يف بلدهم يرثب‪ ..‬ورفع‬
‫«عمرو» ر�أ�سه �إىل ناحية ال�شم�س م�ستغر ًقا فيما يفكر‪ ،‬فالتقطت عينه م�شهدً ا ال‬
‫يدري �أهي احلقيقة �أم �أنها ال�شم�س قد �أزاغت عيناه‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫فهناك وعلى جبل احلجون‪ ..‬وقفت فئات من اجلن على �أبواب مكة يركبون‬
‫دوا ًبا ً‬
‫بي�ضا ت�شبه الأح�صنة لها قرون على ر�ؤو�سها‪ ،‬و�أمامهم ثالث جياد يعلوها‬
‫‪376‬‬
‫«الأرقم» و«�إنيان» و«ما�سا»‪ ،‬كانوا على ر�أ�س �ستني راحلة‪ ،‬على كل راحلة نف�س‬
‫جنية من ن�صيبني �آم َنت باهلل و�أ�سل َمت لر�سول اهلل وتاقت لر�ؤيته‪.‬‬
‫وانطلق «عمرو بن جابر» من فوره �إىل «حممد» ُم ِّ‬
‫ب�ش ًرا‪� ،‬أنا قد �أتينا من‬
‫ن�صيبني ب�ستني من اجلن م�سلمني‪ ..‬ففرح بهم ر�سول اهلل وخرج �إىل �أ�صحابه‬
‫م�ستب�ش ًرا‪ ،‬وقال ‪:‬‬

‫ع‬
‫ �إن نف ًرا من اجلن ي�أتوين الليلة ف�أقر�أ عليهم القر�آن‪ ،‬فمن �أحب منكم �أن‬

‫ص‬
‫يح�ضر الليلة �أمر اجلن فليفعل ‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫فلم ي ُقم �أحد من �أ�صحابه �إال رجل نحيف يع�شق القر�آن يقال له «ابن‬
‫م�سعود»‪ ..‬قال‪� :‬أنا �أذهب معك يا ر�سول اهلل‪ ..‬فانطلق معه حتى حب�ستهما‬
‫خط له النبي برجله ً‬ ‫اجلبال يف �أر�ض ف�ضاء و�سطها‪ ،‬هناك َّ‬

‫ك‬
‫خطا يف الأر�ض‬

‫ت‬
‫وقال‪ :‬ال ت َربح حتى �أعود �إليك‪ ..‬وانطلق النبي �إىل ناحية جبل احلجون و«ابن‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ينظر �إليه وقد فتح عيناه عن �آخرهما وظنَّ �أنه �سريى اجلن‪ ،‬لكنه‬ ‫م�سعود» ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ال يرى اجلن �إال نبي‪ ،‬لكن النبي دعا يف هذه الليلة �أن يكون له مرافق‪ ،‬والبد‬

‫ش‬
‫للمرافق من مزية لن تكون ل�سواه‪ ،‬ونظرة واحدة �أخرى من «ابن م�سعود» خلعت‬

‫و‬ ‫ر‬
‫قلبه من مو�ضعه و�أ�سكتت �أفكاره ‪.‬‬

‫و‬ ‫الت‬
‫ملحت عينه كيانات �سوداء �شبه ب�شرية ك�أنها الظالل تهبط اجلبل يحدرون‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫احلجارة ب�أقدامهم من حول النبي‪ ..‬ظالل يف بيئة ال تتكون فيها الظالل‪ ،‬ظالل‬
‫و�سط ظالم من حولها وهالل باهت يف ال�سماء ال ينفذ منه �ضوء‪ ،‬و�إن ملحة‬
‫لعل الب�صر قد‬‫العني الب�شرية ل�شيء كهذا جتعل �صاحبها يرجع الب�صر مرتني َّ‬
‫�شرد‪ ،‬ويف اللمحة الثانية وجد الظالل قد برزت لظهورها مثل �أجنحة والتقط‬
‫�سمعه �صوتًا ك�أن الظالل مت�شي برفرفها‪ ،‬وك�أن العقل قد ا�ستنكر ما ر�أته العني‬
‫وظنها ن�سور‪ ،‬ثم ات�سعت عينا «ابن م�سعود»‪� ،‬إن لبع�ض النفر من هوازن ن�سور‬
‫يربونها‪� ،‬أتراهم هوازن قد مكروا بر�سول اهلل واجتمعوا لقت ِله!‪ ،‬وحدثته نف�سه‬
‫وهم بالتحرك فتذكر و�صية ر�سول‬ ‫�أن ي�سعى �إىل البيوت في�ستغيث بالنا�س‪َّ ،‬‬
‫اهلل له �أال يفارق ذلك اخلط‪ ،‬فبقي مكانه كارهً ا‪ ،‬ونظر ف�إذا الظالل قد ا�شتد‬
‫�سوادها و كرثت وغ�شيت النبي فاختفى عن النظر‪ ،‬والحظ �أن لكل ظل كيا ًنا‬
‫وجناحا وكل الظالل طويلة ك�أنها الرماح وكلها تتكاتف على ر�سول اهلل‪ ،‬ثم ر�أى‬ ‫ً‬
‫وك�أن الظالل قد ابتعدت بغتة والنبي يرفع ع�صا كانت معه ويقول‪ :‬اجل�سوا‪..‬‬
‫وك�أنهم بعد مقولته �سكنوا وخف�ضوا �أجنحتهم!‪ ،‬ثم افتتح النبي القر�آن‪َّ ،‬‬
‫فظل‬
‫يقر�أه حتى اقرتب ال�صبح ‪.‬‬
‫‪377‬‬
‫لغطا �شديدً ا فخاف على النبي لكنه ثبت مكانه‬ ‫وملا فرغ �سمع «ابن م�سعود» ً‬
‫يتقطعون مثل قطع ال�سحاب ذاهبني من�صرفني‬ ‫حتى ان�شق ال�صبح فطفقوا َّ‬
‫أمنت يابن‬ ‫من حول ر�سول اهلل يتبع بع�ضهم ً‬
‫بع�ضا‪ ،‬وجاءه ر�سول اهلل فقال له‪َ � :‬‬
‫م�سعود؟ قال‪ :‬ال واهلل يا ر�سول اهلل‪ ،‬ولقد هممتُ مرا ًرا لأ�ستغيث بالنا�س حتى‬
‫�سمعتُك تقرعهم بع�صاك‪ ..‬قال له‪� :‬أولئك جن ن�صيبني �أتوا ي�ستمعون القر�آن‪..‬‬
‫فقال له «ابن م�سعود»‪ :‬وما اللغط الذي �سمعت؟ قال له النبي‪ :‬اجتمعوا �إ َّ‬
‫يل يف‬

‫ع‬
‫قتيل كان بينهم فق�ضيتُ بينهم باحلق ‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ولع َّل اجلن كانت ت�ست�شري النبي يف �أمر قتيلهم «طيفون» الذي ُق ِتل قبل �أن‬

‫ال‬
‫ينطق بال�شهادة بني يدي ر�سول اهلل‪� ،‬أو رمبا كان لهم قتيل �آخر ال �أحد يدري!‪.‬‬
‫لكن جن ن�صيبني عادوا �إىل بالدهم مب�شرين و ُمنذرين‪ ،‬وا�ستع َّد النبي للخروج‬

‫كت‬
‫من مكة �إىل يرثب مهاجرا وا�ستع َّد امل�سلمون ليتبعوه‪.‬‬

‫ب نل‬
‫‪z‬‬
‫تدعو �إىل دين‬
‫ش‬ ‫ل‬
‫وافرتقت اجلن �إىل ثالث طوائف؛ طائفة عادت �إىل ن�صيبني ُ‬

‫ر‬
‫اهلل‪ ،‬وطائفة هاجروا �إىل يرثب ليكونوا مع ر�سول اهلل ويتع َّلموا منه وه�ؤالء كان‬

‫الت‬ ‫و‬
‫معهم «ما�سا» و «�إنيان»‪ ،‬والطائفة الثالثة بقيت يف مكة ت�ستطلع �أخبار قري�ش‬

‫ز‬ ‫و‬
‫بعد الهجرة خمافة �أن يكونوا قد �أ�ضمروا يف �أنف�سهم �ش ًرا للم�سلمني يف يرثب‪..‬‬

‫يع‬
‫وهذه الطائفة الأخرية كان معهم «الأرقم» و«عمرو بن جابر»‪ ،‬ولقد حدث معهما‬
‫ما ح َّرك من م�شاعرهما ال�شيء الكثري!‪� ،‬إذ كانا عند �سفح جبل النور مي�شيان‬
‫فهم «الأرقم» �أن يرفع �سالحه‪ ،‬فقال �أحد‬ ‫فخرج عليهما �شيطانني ماردين‪َّ ،‬‬
‫ال�شيطانني‪:‬‬
‫ �أنتما من جن ن�صيبني؟‬
‫جتاوز «عمرو بن جابر» «الأرقم» وقال مبا�شرة‪:‬‬
‫ من �أي اجلن �أنتما؟‬
‫قال �أحدهما ‪:‬‬
‫ �إن يف جزيرة العرب جنا مي�شون يف �أرجائها يذبحون كل من ا�ست�شعروا‬
‫من �سلوكه �أنه �أ�سلم لدين حممد‪ ،‬و�إنا قد �أ�سلمنا هلل تعاىل‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫بر َزت يف ذهن «الأرقم» و�صاحبه �صورة «ميتاترون» و«�سيدوك»‪ ،‬ف�أكمل‬
‫اجلني قائال‪:‬‬
‫ �إنا قد �أتينا نبحث عن ر�سول اهلل يف مكة فما وجدناه‪ ،‬ف�إن كنتُما من‬
‫ن�صيبني ف�أعلمونا �أين ميكن �أن جنده ‪.‬‬
‫قال لهما «الأرقم» ‪:‬‬

‫ع‬
‫ �إن حممدً ا و�صحبه قد هاجروا �إىل يرثب ف�إنهم قد وجدوا فيها �أن�صا ًرا‪،‬‬

‫ص‬
‫ولقد بنوا لهم فيها م�سجدً ا و�صارت لهم ً‬
‫موئل‪ ،‬ف�أب�شروا وا�ستب�شروا‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وال تقلقوا ف�إنكم يف حفظنا‪.‬‬
‫قلوب اجلن وابتهجت مالحمهم‪ ،‬وقال �أحدهما ‪:‬‬ ‫فرحت ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مرحتل‪ ،‬رفي ًقا لكاهن عربي �إن�سان ينزل هناك كل‬ ‫ً‬ ‫ �إين كنتُ يف الهند‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫حني‪ ،‬كان ا�سمه �سواد بن قارب‪ ،‬وكنت �أ�سمع من خرب ال�سماء و�آتيه به‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫حتى �أتت ليلة كنت �أ�سمع فعاجلني �شهاب ففررت منه وتلبدت ال�سماء‬

‫ر‬
‫بال�شهب �شه ًرا من الزمان‪ ،‬ففارقت كاهني و�سحت يف الأر�ض ال �أدري‬

‫الت‬ ‫و‬
‫ما �أفعل حتى لقيني من �أهل ن�صيبني رجل دعاين �إىل الإ�سالم ف�أ�سلمتُ‬

‫و‬
‫قلبي هلل ور�سوله‪ ،‬و�إين قد �أتيتُ كاهني �سواد بن قارب فوجدته نائ ًما‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ف�ألقيت يف منامه �أحاديث‪ ،‬قلت له قم فافهم واعقل �إن كنت تعقل‪ ،‬قد‬
‫ُبعث ر�سول من ل�ؤي بن غالب‪ ،‬عجبت للجن و�أخبارها تهوي �إىل مكة‬
‫تبغي الهدى‪ ،‬وما م�ؤمنوا اجلن ك�أرجا�سها‪ ،‬فانه�ض �إىل ال�صفوة من‬
‫يك �إىل ر�أْ ِ�سها‪ ،‬يا �سواد بن قارب �إن اهلل قد بعث نب ًيا‬
‫وا�س ُم ب َعي َن َ‬
‫ها�شم‪ْ ،‬‬
‫فانه�ض �إليه تهتد وتر�شد‪ ،‬ففزع الكاهن �سواد وقام من نومته ثم عاد‬
‫�إىل نومه‪ ،‬فكان كلما يعود �أُلقي عليه مبثل هذه الأحاديث‪ ،‬ثم ان�صرفتُ‬
‫عنه وفارقته‪.‬‬
‫وكان اجلني الآخر ي�سمع مت�أث ًرا من كالم �صاحبه ثم قال بعدها‪:‬‬
‫ �أما �أنا ف� ٍآت من ميان‪ ،‬وكان يل كاهن �أوتي ب�سطة يف اجل�سم وكان عات ًيا يف‬
‫الأر�ض‪ ،‬وكان ا�سمه خنافر‪ ،‬وكنت �آ ِتيه بالأخبار ثم غبت عنه فافتقدين‬
‫و�ساءه ذلك‪ ،‬وكان اهلل قد هداين للإ�سالم بحكاية يطول الكالم فيها‪،‬‬
‫وبينما كان كاهني يف واديه �إذ هويت كالعقاب �أمامه فقلت له يا خنافر‬
‫لكل مدة نهاية وكل ذي �أمد �إىل غاية‪ ،‬و�إين �آن�ستُ ب�أر�ض ن�صيبني نف ًرا‬
‫‪379‬‬
‫كالما لي�س بال�شعر امل�ؤلف وال ال�سجع املتكلف ف�أ�صغيت‪ ،‬ثم �أتيتهم‬ ‫يت ُلون ً‬
‫فقلت ما هذا فقالوا هذا خطاب من امللك اجلبار فقلت وما هذا الكالم‪،‬‬
‫قالوا فرقان بني الكفر والإميان‪ ،‬ر�سول من م�ضر من �أهل املدر‪ ،‬ابتعث‬
‫بقول قد بهر‪ ،‬فيه موعظة ملن اعترب ومعاد ملن ازدجر‪ ،‬فقلت‬ ‫فظهر وجاء ٍ‬
‫ومن هذا املبعوث‪ ،‬قالوا �أحمد خري الب�شر‪ ،‬ثم تركت كاهني ‪.‬‬
‫قال «الأرقم» ‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ �أما وقد هداكما اهلل �إىل الإ�سالم‪ ،‬فاعلما �أن ال�شهر الذي �أُ ِ‬
‫ر�س َلت فيه‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ال�ش ُهب من �سمائها‪� ،‬إمنا كان �شه ًرا يدعى رم�ضان‪ ،‬واعلما �أنها �أر�سلت‬
‫يف ذلك ال�شهر لأنه نزل فيه القر�آن من عند احلكيم العليم‪ً ،‬‬
‫حفظا من‬

‫ك‬
‫رجوما لهم‪ ،‬و�إنا كنا �أمثالكم ن�سمع‬‫�أ�سماع ال�سماعني من اجلن‪ ،‬فكانت ً‬

‫ت‬
‫من ال�سماء ما ن�سمع‪ ،‬وكان لنا كاهن يدعى كني‪ ،‬وكنا نلقي �إليه ما نلقي‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫حتى هدانا اهلل ‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫و�سمعوا من ورائهما حركة فالتفتوا ف�إذا هي «ما�سا» و«�إنيان»‪ ..‬كانت «ما�سا»‬

‫ر‬
‫م�ستب�شرة يع ُلو حمياها ال�سرور على غري ما اعتادوا عليها‪ ،‬وك�أنها بعد «حممد»‬

‫الت‬ ‫و‬
‫قد تفتَّحت زهرة قلبها فلم تعد ت�صرخ وال تغتم‪ ،‬كانت فرحة كالطفلة وهي تقول‬

‫و‬
‫للأرقم ‪:‬‬

‫يع‬ ‫ز‬ ‫ �أتدري يا �أرقم‪� ،‬إنا قد ر�أينا يف املدينة عج ًبا عجا ًبا ‪.‬‬
‫قال لها «الأرقم» ‪:‬‬
‫ وما املدينة؟‬
‫قالت له ‪:‬‬
‫ هي يرثب �سماها النبي املدينة ‪.‬‬
‫قال لها «عمرو بن جابر»‪:‬‬
‫ وماذا ر�أيتم من العجب فيها؟‬
‫قالت ‪:‬‬
‫ �أتدري �أن كاهنني قد �أتيا �إىل ر�سول اهلل م�سافرين من �أق�صى الأر�ض‬
‫فقط لي� ِؤمنا وي�شهدا بالإ�سالم على يديه‪ ،‬وذكرا �أن رئيهما من اجلن قد‬
‫‪380‬‬
‫�أخرباهما عن النبي‪� ،‬أذكر �أن �أحدهما يدعى �سواد‪ ،‬فلقد فوجئنا ونحن‬
‫مع ر�سول اهلل برجل تبدو عليه �آثار ال�سفر يرتدي مالب�س الكهان وي�ضع‬
‫مكاحلهم‪ ،‬ومل نهتم به‪� ،‬إال �أن ر�سول اهلل قد التفت له وقال‪ :‬مرح ًبا بك‬
‫يا �سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك‪ ..‬ف�سكت �سواد م� ً‬
‫أخوذا برهة ثم‬
‫تهللت �أ�ساريره وقال‪ :‬يا ر�سول اهلل قد قلتُ �شع ًرا فا�سمعه مني‪ ..‬فقال‪:‬‬
‫�أتاين اجلن بعد ليل وهجعة ومل يك فيما قد بلوت بكاذب‪ ،‬ثالث ليال‬
‫قوله كل ليلة �أتاك ر�سول من ل�ؤي بن غالب‪ ،‬ف�أ�شهد �أن اهلل ال �شيء غريه‬
‫و�أنك م�أمون على كل غائب‪ ،‬و�أنك �أدنى املر�سلني �شفاعة �إىل اهلل يابن‬
‫الأكرمني الأطايب‪ ،‬وكن يل �شفي ًعا يوم ال ذو �شفاعة مبغن عن �سواد بن‬
‫أفلحت يا �سواد ‪.‬‬
‫قارب‪ ..‬ف�ضحك ر�سول اهلل وقال له‪َ � :‬‬
‫تب�سم «الأرقم» ونظر �إىل �أحد اجلنيني الذين عنده وقال ‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ قد �أفلح �سواد كاهنك و�إنه قد جاء الوقت لتُف ِلح �أنت � ً‬
‫أي�ضا بر�سول اهلل‪.‬‬
‫تخ�ضبت عيون اجلني بالدمع من ال�شوق‪ ،‬فنظرت �إليه «ما�سا» معجبة‬ ‫َّ‬
‫و�أكملت‪:‬‬
‫ �أتذكر يا �أرقم ملا كنا يف رام هرمز ونزل علينا �إنيان من اجلبل يحدثنا‬
‫ب�أمر «�سلمان» والرهبان يف ذلك الدير‪ ،‬الذين عرفنا من كالمهم �أن‬
‫النبي يف تهامة ‪.‬‬
‫نظر لها «الأرقم» موافقا ف�أكملت ‪:‬‬
‫ �إن �سلمان ذلك الفتى ال�صغري قد رمته الأيام �إىل يرثب بلد النحيل‬
‫ينتظر ر�سول اهلل‪ ،‬و�إذ بر�سول اهلل ي�أتي �إىل يرثب فيهرع �إليه «�سلمان»‬
‫و ُي�س ِلم على يده‪ ،‬وهم ي�سمونه «�سلمان الفار�سي»‪.‬‬
‫قال «عمرو بن جابر» وقد �أخذه الوجد ‪:‬‬
‫ يبدو يل يا �أرقم �أن الوقت قد حان‪ ،‬فال�شوق �إىل ر�سول اهلل يف قلبي قد‬
‫�أزف‪ ،‬فتعال �إىل املدينة ُنال�سه حي ًنا من الزمن‪ ،‬ثم نعود �إىل ما كنا‬
‫نفعل ‪.‬‬
‫‪z‬‬
‫جدا‪ ،‬كان كالمه و�أخباره ت�شيع كما ي�شيع نور‬ ‫حممدا‪ ..‬كثري ً‬
‫كثري من اجلن تبعوا ً‬
‫ال�شم�س‪� ،‬رسي ًعا كثي ًفا ُيفني كل ظلمة‪ ،‬ف�أ�صبحنا نحن �أنف�سنا ندور حول «حممد»‪ ،‬نحاول‬
‫عب ًثا �أن ن�ستخرج �شيئا ما �ضده‪ ،‬حتى كان لنا ما نريد‪� ،‬أو كاد‪.‬‬
‫من ح�سن بختنا �أن العرب يف ُلغتهم العادية‪ ،‬يقولون كلمة �شيطان على كل �إن�سان ِّ‬
‫متمرد‬
‫حممدا ي�أمر �أ�صحابه �أن يقتلوا الكلب الأ�سود ذو النقطتني‬
‫�أو حيوان �ضار خبيث‪ ،‬وفج�أة �سمعنا ً‬
‫لأنه �شيطان‪ ،‬هو كان يق�صد �أن يقتلوه لأن هذا الأ�سود ذو النقطتني يف املدينة جارح م�سعور‬
‫وعدنا �إىل قومنا‪..‬‬
‫بفكه يف �رضاوة‪ ،‬لكنا �أم�سكنا بها ُ‬‫ينق�ض على الإن�سان والطفل وينه�شه ِّ‬
‫انظروا �إن حممدا ُيخرب �أ�صحابه �أن الكلب الأ�سود �شيطان‪ ،‬انزلوا �إىل املدينة وانظروا كيف‬
‫يقتل �أ�صحاب «حممد» الكالب ال�سود‪ ..‬يا بني اجلن �إن «حممد» نبي كاذب‪ ،‬فاجلن يعلمون �أنهم‬
‫ال يقدروا �أن يتمثلوا بالكالب � ً‬
‫إطالقا‪.‬‬
‫ثم دارت الأيام و�أم�سكنا ع َّلة لغوية �أخرى‪ ..‬لكن تلك �أم�سكناها و�أطبقنا عليها وجعلنا‬
‫كث ًريا ممن �آمنوا يرتابوا!‬
‫العرب تقول كلمة اجلن على نوع من احل َّيات اخلبيثات ال�سامات‪ ..‬وكلمة �أ�سلم عند‬
‫العرب لها ا�ستعمال م�شهور مبعنى لدغ‪ ،‬فيقولون فالن �أُ�سلم يعني مت لدغه‪ ،‬واحلية �أ�سلمت‬
‫يعني لدغت‪ ،‬وملا كرثت تلك احليات التي ي�سمونها جنا يف املدينة ولدغت النا�س‪ ..‬قال‬
‫«حممد»‪� :‬إن باملدينة جنًا قد �أ�سلموا‪ ،‬ف�إن ر�أيتم �شيئًا من هذه العوامر ف�آذنوه ثال ًثا‪ ،‬يعني‬
‫حذروه ثال ًثا‪ ،‬ف�إن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ف�إمنا هو �شيطان‪ ..‬وكم فرحنا بهذه القولة‪،‬‬
‫وكم �صعدنا بها �آفاق مدائن اجلن‪.‬‬
‫هو كان يقول �إن يف املدينة جنا (حيات) قد �أ�سلموا (لدغوا)‪ ،‬ف�إذا ر�أيتم �شيئًا من هذه‬
‫العوامر ( الهوام التي تدخل البيوت) ف�آذنوه (حذروه) ثالثا‪ ،‬ف�إن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه‪،‬‬
‫ف�إمنا هو �شيطان (حية خبيثة)‪ ،‬وكان هذا �شيئًا عاد ًيا �أن ُ َت ِّذر احليوان فيهرب‪ ،‬احليوانات تفهم‬
‫حممدا يقول‬
‫الب�رش‪ ،‬ف�إذا مل يهرب احليوان ف�إنه خبيث ينوي �أن ينال منك‪ ،‬لكنا �أ�شعنا يف اجلن �أن ً‬
‫بني �أ�صحابه �أن اجلن يتمثلون يف �شكل حيات ويلدغون ويقتلون النا�س‪.‬‬
‫لقد انتهت هذه ال�صحائف من الإي�ستوريجا‪ ،‬وانتهى معها مبلغ علمك لهذا الوقت‪ ،‬و�إنك‬
‫وعلمت �أحدا ًثا لي�س �أحد من بني �إن�سان ر�آها وال عرفها‪� ،‬إن �أول طريقة ت�سود‬
‫َ‬ ‫قد َ‬
‫نلت علو ًما‬
‫بها على النا�س هي �أن تكون �أع َلم منهم‪ ،‬عندها ت�سبقهم وتبهرهم‪ ،‬و�إن تعلمت علومنا ف�أنت‬
‫املختار‪.‬‬
‫وطاملا بلغت هذا احلد يف ال�صحائف فهذا يعني �أنك قد اخرتت الطريق‪� ،‬أو اختارك‬
‫الطريق‪.‬‬
‫�صدقها يف ذلك الزمان جن وال �إن�س‪ ..‬عن‬
‫أمورا مل ُي ِّ‬
‫ال�صحائف التالية �ستكون حاكية � ً‬
‫غيت وجه الدنيا‬ ‫طريقة بزوغ �شيء ا�سمه الإ�سالم‪ ،‬مالحم و�شدائد‪ ،‬خطوب ونوازل‪َّ ،‬‬
‫قب�سا‪..‬‬
‫أمورا عظا ًما‪� ،‬س�أعطيك منها ً‬
‫كلها‪� ،‬ست�شهد ال�صحائف التالية � ً‬
‫أهول تلك الأمور و�أفخرها نزول �سيدك «ظام» �إىل نهر الأحداث‪...‬‬
‫� َ‬
‫وجتلي الأمري «لو�سيفر» يف �سمة مل تُعرف له من قبل‪ ،‬وحكايته منذ خروجه من جنة‬
‫عدن‪ ،‬و�إ�سالم«ميتاترون» و«�سيدوك» يف ق�صة ال ت�صدق!‪.‬‬
‫وملحمة «عمرو بن جابر» و«�إينور بنت �آمون»‪..‬‬
‫وح�سم �رصاع «عمرو» و«�إزب بن �أزيب» مبوت �أحدهما‪..‬‬
‫وح�رس احلجاب عن �إن�سان م�سيخ‪ ،‬البث يف الأر�ض حمتجب‪ ،‬يعرفه قبيل ال�شياطني با�سمه‬
‫العايل‪�« ،‬أنتيخري�ستو�س»‪ ،‬نزل فج�أة �إىل املدينة و‪...‬‬
‫تلك �أقا�صي�ص �أخرى‪..‬‬

‫‪z‬‬
‫المرسم‬
‫األرقم‬
‫إنيان‬
‫إينور بنت آمون‬
‫طيفون‬
‫عمرو بن جابر‬
‫عمرو بن جابر‪2‬‬
‫ماسا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ر‬‫ش‬
‫الت‬ ‫و‬
‫ز‬ ‫و‬
‫يع‬

‫‪393‬‬
‫كنا مالئك‬
‫يا بني �إبلي�س �إن النا�س قد �سجدوا لنا وركعوا طالبني املدد ‪..‬‬
‫خ�شعوا لنا يف كل عيد كافرين وكل عقل قد ف�سد ‪..‬‬
‫الغيب ن�سمعه وال�سحر نر�ضاه واليوم جئناكم بنب�أ قد وجد ‪..‬‬
‫يا قومنا �إنا علونا ال�سحاب يوما فح ّر َقنا �شهاب ثاقب للج�سد ‪..‬‬
‫فنك�صنا على �أعقابنا والنار يف �أدبارنا و�أمرينا باجلوانح قد فرد ‪..‬‬
‫ال�سخط يف مالحمه واحلقد يغ�شاه وكل جن عنده قد ح�شد ‪..‬‬
‫يا بني �شيطان �سريوا يف الأر�ض فانظروا يف كل بادية و بلد ‪..‬‬
‫تاهلل �إما ر�سول نازل يف بني الإن�سان �أو عذاب قد ر�صد ‪..‬‬
‫يا بني �آدم اعلموا �أقداركم �إنا �صحبنا الر�سول غفلة من كل �أحد ‪..‬‬
‫دعوناه يف ليلة ظلماء حالكة فغاب عن �صحبه و�أهله والولد ‪..‬‬
‫ف�ضيع النا�س الر�سول وفزعوا وباتوا يف حزن �شديد وكمد ‪..‬‬
‫ف�أتاهم من �صباحهم الر�سول وحكى لهم عنا بالوحي و املدد ‪..‬‬
‫و�أراهم ر�سولهم �آثارنا وحطبنا ونرياننا عالية بامل�سد ‪..‬‬
‫و�أنا كنا مالئك ل�سنا مالئكة وما عبدنا �إال الواحد الأحد ‪..‬‬
‫و�أن يف هذه الدنيا �أجنا�س ال ُترى ‪ ،‬نفو�سا تهيم بال ج�سد ‪...‬‬
‫و�أن �سريتنا قد �أنورت و �أبهرت يف كل �أ�سطورة عا�شت �إىل الأبد ‪..‬‬
‫و�أن هذا �أوانها لنحكيها ون�سردها فتبلغ كل ذي عقل و ر�شد ‪..‬‬
‫�أحمد خالد م�صطفى‬ ‫ ‬
‫ع‬
‫مشهد من مالئك نصيبين‬
‫َ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫الجزء الثاني‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ثوان ثمانية كانت �أعينهم ترى نخيل‬ ‫قاد اجلن موكبهم �إىل املدينة‪ ..‬ويف ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫املدينة الذي على �أعتابها‪ ،‬كانوا م�صفوفني على خيولهم ال�ست قرب م�سجد‬

‫ش‬
‫وهم «عمرو» بامل�سري لكن «الأرقم» �أ�شار �إليه �أن يتو َّقف ً‬
‫متاما!‪ ،‬ففي تلك‬ ‫النبي‪َّ ..‬‬

‫ر‬
‫اللحظة نظر اجلن �إىل م�شهد �أ�صدر يف قلوبهم الرعب ‪.‬‬

‫الت‬ ‫و‬
‫و‬
‫كان مي�شي وعلى كتفيه عباءة ملونة بكل �ألوان الأر�ض‪ ..‬ب�شعره الطويل‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫ووجهه احلليق وثيابه ال�سود ونظرته احلادة‪ ،‬كان هذا «لو�سيفر» وعلى جانبيه‬
‫تابعاه «ميتاترون» و«�سيدوك»‪ ،‬ولقد نظر «لو�سيفر» �إىل موكب ن�صيبني نظر ًة‬
‫طالت وحملت كلمات تنقلها مالمح تبعث الرهبة‪ ..‬ونظر �إليهم «ميتاترون»‬
‫بنظرات جامدة فيها �شيء من التو ُّعد‪ ،‬ثم �أكمل «لو�سيفر» وتاب َعاه‪ ،‬كان متوج ًها‬
‫ناحية امل�سجد النبوي‪ ،‬مبا�شرة‪.‬‬
‫�أ�شار بيده لتابعيه �أن يتوقفا‪ ..‬ودخل «لو�سيفر» بغ َت ًة �إىل امل�سجد‪ ،‬ود َّبت‬
‫اخل�شية يف �أو�صال �أبناء ن�صيبني على ر�سول اهلل ونزلوا عن رواحلهم وانطلقوا‬
‫كقطع من الربق يلحقونه �إىل امل�سجد‪.‬‬
‫وعند باب امل�سجد نظروا ف�إذا ال�صالة قائمة والنبي ي�صلي ب�أ�صحابه‪..‬‬
‫والتف «لو�سيفر» حول امل�ص ِّلني حتى بلغ ر�سول اهلل‪ ،‬ثم �إنه �أخرج يده ف�إذا فيها‬
‫َّ‬
‫وهم اجلن �أن يهتجموا عليه‬ ‫مثل �شهاب ُملتهب من نار وم َّدها �إىل ناحية النبي‪َّ ،‬‬
‫و�إن فقدوا حيواتهم ثم ًنا لذلك‪ ،‬وفج�أة جحظت عينا «لو�سيفر» ك�أمنا حانت‬
‫قب�ض على رقبته ً‬
‫قب�ضا‬ ‫قيامته وتطاول اجلن لريوا ما ح َّل به‪ ،‬ف�إذا «حممد» قد َ‬
‫‪397‬‬
‫�شديدً ا ورفعه ُمتع ِّل ًقا يف الهواء‪ ،‬ثم �ش َّد على رقبته بقب�ضته حتى َ‬
‫�سال لعابه‬
‫و�سالت معه كربياء �آالف ال�سنني‪� ،‬سقطت وتناثرت كلها على ذراع «حممد»‪،‬‬
‫يجر عباءته‬ ‫وانبهرت قلوب اجلن ُبرهة حتى تركه «حممد» ف�شرد من امل�سجد ُ‬
‫ب�ألوانها ‪.‬‬
‫وملا فرغ «حممد» من �صالته �س�أ َله �أ�صحابه ‪:‬يا ر�سول اهلل ر�أيناك ُ‬
‫تب�سط‬
‫يدك يف ال�صالة‪ ..‬فقال‪� :‬إن عدو اهلل «�إبلي�س» جاء ب�شهاب من نار ليجعله يف‬

‫ع‬
‫وجهي ف�أمكنني اهلل منه ف�أخذتُ عن َقه فخنقتُه ف�إين لأجد برد ل�سانه على كفي‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ولقد هممتُ �أن �أوثقه �إىل �سارية حتى ت�صبحوا فتنظروا �إليه‪ ،‬ولوال دعوة �أخي‬

‫ال‬
‫وهب يل ُملكا ال ينبغي لأحد من بعدي) لأ�صبح مر ُب ً‬
‫وطا‬ ‫«�سليمان» (رب اغفر يل َ‬
‫يلعب به ولدان �أهل املدينة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وتب�س َمت ثغور �أبناء ن�صيبني‪ ..‬وعلمت اجلن َمن املذموم املدحور‪َ ،‬ومن‬ ‫َّ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ال�شريف املكرم‪...‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر‬
‫‪z‬‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫وال‬
‫ع‬ ‫زي‬

‫‪398‬‬
‫ع‬
‫تنويه وشكر خاص‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫إن�شاء و ت�صميم و برجمة لعبة فيديو على‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يتم العمل على �‬

‫ت‬ ‫‪ Angels of Nasibeen‬وك‬


‫الكمبيوتر و البالي �ستي�شن لرواية مالئك ن�صيبني با�سم‬
‫ب‬
‫بنف�س اال�سم لنف�س الرواية ‪ ..‬للنيحكي اجلزء الأول من‬
‫�ستكون اجلزء الأول من �سل�سلة �ألعاب‬

‫ش ورالثاين من الرواية‬
‫بتفا�صيل �أكرث غري مذكورة يف الرواية ووا ول‬
‫ت‬
‫اللعبة اجلاري ت�صميمه الف�صلني الأول‬

‫‪Devil‬الز عي‬
‫يكون البطل يف‬
‫أبعاد على‬ ‫اللعبة �أ�سعد الكامل ‪ ..‬تكون اللعبة ثالثية‬
‫طريقة ‪ Assassin’s Creed‬و ‪May Cry‬‬
‫يتم تطوير اللعبة من قبل �رشكة ‪ Zorkestra‬وهي �رشكة‬
‫�أن�ش�أها امل�ؤلف �أحمد خالد م�صطفى حديثا مع م�صمم الألعاب‬
‫التون�سي املوهوب ماهر عبد املجيد اجلويني ومقر ال�رشكة يف‬
‫تون�س‬

‫‪399‬‬
‫تم التحميل من‬
‫موقع عصير الكتب‬
‫لمزيد من الكتب الحصرية‬
‫زوروا موقعنا‬
‫‪www.booksjuice.com‬‬

You might also like