Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 513

‫مروج الذهب‪ ،‬ومعادن الجوهر‬

‫أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي‬


‫(‪ 346‬ه‍ ‪ 957‬م)‬
‫الرحيم‬
‫الر ْحمن ّ‬
‫بسم هللا ّ‬
‫ْ‬

‫وصلى هّللا على سيدنا محمد خاتم‬


‫ِ‬ ‫هلل أهل الحمد‪ ،‬و ُم ْس َتوجب الثناء والمجد‪،‬‬
‫الحمد ّ‬
‫وس َل َم تسليما ً إلى يوم الدين‪.‬‬
‫النبيين‪ ،‬وعلى آله الطاهرين‪َ ،‬‬
‫صفحة ‪1 :‬‬
‫‪ 1-‬باب ذكر جوامع أغراض هذا الكتاب‬

‫ص ّنف َنا كتابنا في أخبار الزمان‪ ،‬وقدمنا الق??ول في??ه في هيئ??ة األرض‪،‬‬ ‫أما بعد‪ ،‬فإنا َ‬
‫وأغ َواره??ا‪ ،‬وجباله??ا‪ ،‬وأنهاره??ا‪ ،‬وب??دائع معادنه??ا‪،‬‬ ‫ومدُنها‪ ،‬وعجائبه??ا‪ ،‬وبحاره??ا‪ْ ،‬‬
‫?رات الص??غار‪ ،‬وأخب??ار‬ ‫وأصناف َم َناهلها‪ ،‬وأخبار ِغ َياضِ ها ‪ ،‬وجزائر البحار‪ ،‬وال ُب َح ْي? َ‬
‫?رفة‪ ،‬وذك??ر ش??أن المب??دأ‪ ،‬وأص??ل ال ّن ْس?ل‪ ،‬و َت َب??اين‬ ‫األبنية ال ُم َع ّظمة‪ ،‬والمس??اكن المش? َّ‬
‫?را فص??ار‬ ‫األوطان‪ ،‬وما كان نهراً فصار بحراً‪ ،‬وما كان بحراً فصار َب ًّرا‪ ،‬وما ك??ان َب? ًّ‬
‫بحراً‪ ،‬على م?رور? األي??ام‪ ،‬و ُم? ُرور? ال?دهور‪ ،‬وعل?ة ذل?ك‪ ،‬وس?ببه الفلكي والط?بيعي‪،‬‬
‫وانقسام األقاليم بخواص الك?واكب‪ ،‬ومع?اطف األوت?اد‪ ،‬ومق?ادير الن?واحي واألف?اق‪،‬‬
‫وتباين الناس في التاريخ القديم‪ ،‬واختالفهم في َبدْ ئِه وأوليته‪ ،‬من الهند‪.‬‬
‫وأصناف الملحدين‪ ،‬وما ورد في ذلك عن الشرعيين‪ ،‬وم??ا نطقت ب??ه الكتب وورد‬
‫على ال??دينيين?‪ .‬ثم أتبعن??ا ذل??ك بأخب??ار المل??وك الغ??ابرة‪ ،‬واألمم ال ? َّداث َِرة‪َ ،‬وا ْلقُ?? ُرون‬
‫الخالية‪ ،‬والظوائف البائحة على َم ّر سيرهم‪ ،‬في تغير أوقاتهم وتض??يف? أعاص??رهم‪،‬‬
‫من الملوك والفراعنة العادية واألكاس??رة واليوناني??ة‪ ،‬وم?ا ظه??ر من حكمهم ومق??ال‬
‫ض?اعِيف ذل??ك من أخب??ار‬ ‫فالسفتهم وأخبار ملوكهم‪ ،‬وأخب??ار العناص??ر‪ ،‬إلى م??ا في َت َ‬
‫ش ّرف برسالته محم??داً نبي ?ه?‬ ‫هللا بكرامته? و َ‬ ‫أفضى ّ‬
‫األنبياء والرسل واألتقياء‪ ،‬إلى أن َ‬
‫از َي??ه‪،‬‬ ‫ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬ف??ذ َك ْر َنا مول??ده‪ ،‬ومنش??أه‪ ،‬وبعث??ه‪ ،‬وهجرت??ه‪ ،‬و َم َغ ِ‬
‫ساق المملك??ة ب??زمن زمن‪َ ،‬و َم َقا ِت??ل‬ ‫ان وفاته‪ ،‬واتصال الخالفة‪َ ،‬وا ِّت َ‬ ‫س َراياه‪ ،‬إلى َأو ِ‬ ‫و َ‬
‫َمنْ ظه??ر من الط??البين‪ ،‬إلى ال??وقت ال??ذي ش??رعنا في??ه في تص??نيف? كتابن??ا ه??ذا من‬
‫خالفة المتقي هّلل أمير المؤمنين‪ ?،‬وهي سنة اثنتين وثالثين وثالثمائة‪.‬‬

‫للمؤلف كتابان اختصرهما في هذا الكتاب‬

‫ثم أتبعناه بكتابنا األوسط في األخبار على التاريخ وما اندرج في السنين الماضية‪?،‬‬
‫من ل??دن ال َب??دء إلى ال??وقت ال??ذي عن??ده انتهى كتابن??ا األعظم وم??ا تاله من الكت??اب‬
‫األوسط‪ .‬ورأينا إيجاز ما بس??طناه واختص?ار م??ا وس??طناه‪ ،‬في كت?اب لطي??ف ُنو ِد ُع?ه‬
‫ض َّم َّناهُما‪ ،‬وغير ذل??ك من أن??واع العل??وم‪ ،‬وأخب??ار األمم‬ ‫لُ َمع ما في ذي الكتابين مما َ‬
‫الماضية‪ ?،‬واألعصار الخالية‪ ،‬مما لم يتقدم ذكره فيهما‪.‬‬
‫اب‬
‫ش? َ‬ ‫?رض لم ق??د َ‬ ‫?ال إنْ َع? َ‬ ‫ص?ل? من إغف? ٍ‬ ‫?ير إنْ ك??ان‪َ ،‬و َن َت َن ّ‬
‫على أن??ا نعت??نر? من تقص? ٍ‬
‫َخ َواطِ َر َنا‪َ ،‬و َغ َم َر قلوبنا‪ ،‬من َت َقا ُذف األسفار‪ ،‬و َق ْط? ع ا ْلقِف??ار‪ ،‬ت??ارة على َم ْتن البح??ر‪،‬‬
‫?واص األق??اليم‬
‫ّ‬ ‫وتارة على ظهر البر‪ُ ،‬م ْس َت ْع ِملِينَ بدائع األمم بالمش??اهدة‪ ،‬ع??ارفين خ?‬
‫سند والزنج والصنف والص??ين وال??زابج‪َ ،‬و َت َق ُّحمن??ا َّ‬
‫الش? ْر َق‬ ‫بال ُم َعا َي َنة‪ ?،‬ك َق ْطعنا ِباَل دَ ال ِّ‬
‫بأقص??ى ُخ َراس??ان‪ ،‬وت??ارة بوس??ائط أرمينية? وأذربيج??ان وال??ران‬ ‫ِ‬ ‫والغ??رب‪ ،‬فت??ار ًة‬
‫س? َرى الش??مس في‬ ‫يري في اآلف??اق‪ُ ،‬‬ ‫والبلقان‪ ،‬وطوراَ بالعراق‪ ،‬وطوراً بالش??ام‪َ .‬‬
‫فس? ِ‬
‫اإلشراق‪ .‬كما قال بعضهم‪:‬‬
‫ش ْرقِ َها األ ْقصى َو َط ْوراً إ َلى ا ْل َغ ْر ِ‬
‫ب‬ ‫ار ا ْل ِباَل دِة فتارة لدى َ‬ ‫َت َي َّم َم أَ ْق َط َ‬
‫ـــالـــركـــب ق??ال‬
‫َّ‬ ‫ـــصـــ ُر ِب‬‫ـاء ُي َق ِّ‬
‫ش ْمس‪ ،‬اَل َي ْنف ُّك َت ْقذِف ُه ال َّن َوى إ َلـى أفق َن ٍ‬ ‫س َرى ال َّ‬ ‫ُ‬
‫المصنف‪ :‬ثم مفاوضتنا أصناف الملوكِ على تغاير أخالقهم‪،‬‬
‫صفحة ‪2 :‬‬

‫وأخ ُذ َنا بمسلك مسلك من مواقفهم‪ ،‬على أن العلم‬ ‫وتباين هممهم‪ ،‬وتباعد ديارهم‪ْ ،‬‬
‫ثر فيه العناء‪ ،‬وقل ّ ا ْلفهماء ة فال ُت َعاين إال ُم َم ّوها ً‬‫قد بادت آثاره‪ ،‬وطمس مناره‪ ،‬و َك َ‬
‫?ر االش??تغال به??ذا‬ ‫ِي عن اليقين‪ ،‬لم َن? َ‬‫جاهالً‪ ،‬ومتعاطيا ً ناقصاً‪ ،‬قد قنع بالظنون‪ ،‬و َعم َ‬
‫الض ْرب من العل?وم والتف?رغ له?ذا الفن من اآلداب‪ ،‬ح?تى ص?نفنا كتبن?ا من ض?روب‬ ‫َّ‬
‫المقاالت‪ ،‬وأنواع الديانات‪ ،‬ككت??اب اإلِبان??ة عن أص??ول الديان??ة وكت??اب المق??االت في‬
‫أصول الديانات وكتاب سر الحياة وكتاب نظم األدل?ة‪ ،‬في أص??ول المل?ة وم??ا اش??تمل‬
‫عليه من أصول الف ْت َوى وقوانين األحك??ام‪ :‬ك??تيقن القي??اس‪ ،‬واالجته??اد في األحك??ام‪،‬‬
‫وقع الرأي واالستحسان‪ ،‬ومعرفة الناسخ من المنسوخ‪ ،‬وكيفية اإلجماع و ماهيته‪?،‬‬
‫والح ْظ? ر واإِل باح??ة‪ ،‬وم??ا أتت ب??ه‬ ‫َ‬ ‫ومعرف??ة الخ??اص والع??ام‪ ،‬واألوام??ر والن??وا هي‪،‬‬
‫األخبار من االستفاضة واآلحاد‪ ،‬وأفعال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وما ألحق بذلك‬
‫من أصول الف ْت َوى‪ ،‬ومناظرة أنباء الخصوم فيما نازعونا في??ه‪ ،‬م??وافقتهم في ش??يء‬
‫من??ه‪ ،‬وكت??اب االستبص??ار في اإلمام??ة ووص??ف قاوي??ل الن??اس في ذل??ك من أص??حاب‬
‫النص واالختيار‪ ،‬وحِجاج كل فريق منهم‪ ،‬وكتاب الص??فوة في اإلمام??ة وم??ا احت??واه‬
‫ذلك‪ ،‬مع س??ائر نتبن??ا في ض??روب علم الظ??واهر والب??واطن والجلي والخفي وال??دائر‬
‫الوافر‪ ،‬وإيقاظنا على ما يرتقب??ه المرتقب??ون‪ ،‬ويتو َّقع??ه المح??دثون‪ ،‬وم??ا ذك??روه من‬
‫نور يلمع في األرض وينبسط في الجدب والخصب‪ ،‬وم??ا في عقب ال َمالَح َم الكائن??ة‪،‬‬
‫الظاهر أنباؤها المتجلِّي أوائلُه?ا‪ ،‬إلى س?ائر كتبن??ا في السياس??ة‪ ،‬كالسياس?ة المدني??ة‬
‫وأجزاء المدينة‪ ،‬ومثلها الطبيعية‪ ?،‬انقسام أجزاء الملة‪ ،‬واإِل بانة عن المواد‪ ،‬وكيفية‬
‫تركيب العوالم‪ ،‬األجسام السماوية‪ ،‬وما هو محسوس وغير محسوس‪ ،‬من الك??ثيف‬
‫اللطيف‪ ،‬وما قال أهل ال ِّن ْحلة في ذلك‪.‬‬

‫الباعث له على التأليف‬


‫وكان ما دعاني إلى تأليف كت?ابي ه?ذا في الت??اريخ‪ ،‬وأخب?ار الع?الم‪ ،‬م??ا مض?ى في‬
‫أكناف الزمان من أخب??ار األنبي??اء والمل??وك وس??يرها واألمم مس??اكنها َم َح َّب َة احت??ذاء‬
‫صدَ ها العلماء‪َ ،‬و َقفاها الحكماء‪ ،‬أن يبقى للعالم ذكراً محموداً‪ ،‬وعلما ً‬ ‫الشاكلة التي َق َ‬
‫ص??راً‪َ ،‬و ُم ْس?? ِهبا ً‬‫ص?? َنفي كتب في ذل??ك ُمجي??داً َو ُم َق ِّ‬ ‫منظوم??ا ً عتي??داً؛ فإن??ا وج??دنا ُم َ‬
‫حادثة مع حدوث األزمان‪ ،‬وربم??ا‬ ‫ً‬ ‫ومختصرا ووجدنا األخبار زائدة مع زيادة األيام‪،‬‬
‫ٌ‬
‫غاب البارع منها على فطِ ِن الذكي‪ ،‬ولكل واحد ق ِْسط يخص??ه بمق??دار عنايت??ه‪ ?،‬ولك??ل‬
‫ِي‬ ‫?ة وطن??ه وقن??ع بم??ا ُنم َ‬ ‫إقليم عجائب يقتصر? على علمها أهْ ل??ه‪ ،‬وليس من َل? ِ?ز َم جه? َ‬
‫وو ّز َع أيام?ه بين‬ ‫قس?م عم??ره على َق ْط? ع األقط?ار‪َ ،‬‬ ‫إليه من األخبار عن إقليم?ه كمن ّ‬
‫َت َقا ُذف األسفار‪ ،‬واستخراج كل دقيق من َم ْعدِنه‪ ،‬وإثارة كل نفيس من َم ْك َمنه‪.‬‬
‫صفحة ‪3 :‬‬

‫اس ُكتب?ا ً في الت?اريخ واألخب?ار ِم ِّمنْ ش? َلف َوخ َل?ف‪ ،‬فأص?اب البعض‬ ‫وق?د ألَّف ال َّن ُ‬
‫?وهْ ب‬ ‫وأخطأ البعض‪ ،‬وكل قد اجتهد بغاية إمكانه‪ ،‬وأظه?ر مكن?ون ج?وهر ْ‬
‫فط َنت?ه‪َ ?:‬ك َ‬
‫بن ُم َنب??ه‪ ،‬وأبي م ِْخ َن??ف ل??وط بن يحمى الع??امري‪ ،‬ومحم??د بن إس??حاق‪ ،‬والواق??دي‪،‬‬
‫وابن الكل??بي‪ ،‬وأبي ُع َب ْي??دَ ة َم ْعم??ر بن المث??نى‪ ،‬وأبي العب??اس الهم??داني‪ ،‬وا ْل َه ْي َثم بن‬
‫وس ? ْهل بن‬ ‫وح َم??اد الراوي??ة‪ ،‬واألص??معي‪َ ،‬‬ ‫قي بن القُ َط? امي‪َ ،‬‬ ‫والش ? ْر ّ‬‫ّ‬ ‫ع??دي الط??ائي‪،‬‬
‫ه??ا ُرون‪ ،‬وعب??د هّللا بن المقف??ع‪ ،‬واليزي??دي‪ ،‬ومحم??د بن عب??د هّللا ا ْل ُع ْت ِبي‪ ،‬واألم??وي‪،‬‬
‫ش َميل‪ ?،‬وعبد هللا بن عائشة‪ ،‬وأبي‬ ‫ضر? بن ُ‬ ‫وأبي زيد سعيد بن أوس األنصاري‪ ،‬وال ّن ْ‬
‫مس ?ألَم‪ ،‬وعلي بن محم??د الم??دائني‪ ،‬ود َم??اذ بن رفي??ع بن س??لمة‪،‬‬ ‫ُع َبي ? ٍد القاس??م بن َ‬
‫ومحمد بن سالم ا ْل ُج َمحِي‪ ،‬وأبي عثمان َع ْمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬وأبي زيد عم??ر بن‬
‫قيئ األنصاري‪ ،‬وأبي السائب المخزومي‪ ،‬وعلي بن محم??د بن‬ ‫والز َر َ‬ ‫ش َّبة النميري‪ّ ?،‬‬ ‫َ‬
‫والرياش?ي‪ ،‬وابن عاب??د‪ ،‬وعم??ارة بن‬ ‫ِ‬ ‫سليمان النوفلي‪ ،‬وال ُز َب??ير بن َب َّكار‪ ،‬اإِل نجيلي‪،‬‬
‫?وار ْزمي‪ ،‬وأبي‬ ‫وس??يمة المص??ري‪ ،‬وأبي حس??ان الزي??ادي‪ ،‬ومحم??د بن موس??ى ا ْل ُخ? َ‬
‫جعفر محمد بن أبي لسري‪ ،‬ومحمد بن الهيثم بن ش??بابة الخراس??اني ص??احب كت??اب‬
‫ص?لي ص??احب كت??اب األغ??اني وغ??يره من الكتب‪،‬‬ ‫الدول??ة‪ ،‬إس??حاق بن إب??راهيم ا ْل َم ْو ِ‬
‫والخلي??ل بن الهيثم اله??ر َتمي ص??احب كت??اب الحي??ل والمكاي??د في الح??روب غ??يره‪،‬‬
‫المبر ِد األزدي‪ ،‬ومحم??د بن س??ليمان المنق??ري الج??وهري‪ ،‬ومحم??د‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ومحمد بن يزيد‬
‫البي المصري المصنف للكت??اب الم??ترجم كت??اب األج??واد وغ??يره‪ ،‬وابن‬ ‫بن زكريا ا ْل َغ ِّ‬
‫باهلل‪ ،‬وأحم??د بن محم??د الخ??زاعي المع??روف بالخاق??اني‬ ‫أبي ال??دنيا م??ؤدب المكتفي ّ‬
‫ي األنصاري صاحب أبي يزي??د عم??ارة‬ ‫هللا بن محمد بن حفوظ ال َب َل ِو ّ‬ ‫األنطاكي‪ ،‬وعبد ّ‬
‫بن زيد المديني‪ ،‬أحمد بن محمد بن خالد البرقي الكاتب صاحب التبي??ان‪ ،‬وأحم??د بن‬
‫ش?اء‪ ،‬علي بن‬ ‫الو َّ‬
‫أبي طاهر صأحب الكتاب المع??روف بأخب??ار بغ??داد وغ??يره‪ ،‬وابن َ‬
‫مجاهد ص??احب الكت??اب المع??روف بأخب??ار األم??ويين وغ??يره‪ ،‬ومحم??د بن ص??الح بن‬
‫النطاح صاحب كتاب الدولة العباسية وغ??يره‪ ،‬ويوس?ف? بن إب??راهيم ص??احب أخب??ار‬
‫إبراهيم بن المهدي وغيرها‪ ،‬ومحمد بن الحارث الثعلبي ص??احب الكت??اب المع??روف‬
‫بأخالق الملوك المؤلف للفتح بن َخا َقان وغيره‪ ،‬وأبي سعيد السكري ص??احب كت??اب‬
‫أبي??ات الع??رب‪ ،‬وعبي??د هّللا بن عب??د هللا بن خرداذب??ة؛ فإن??ه ك??ان إمام ?ا ً في الت??أليف‬
‫متبرعا ً في َماَل حة التصنيف‪ ،‬أت َب َعه من ُي ْع َتمد‪ ،‬وأخذ من??ه‪ ،‬ووطئ على عقب??ه‪ ،‬و َقف??ا‬
‫أثره‪ ،‬وإذا أردت أن تعلم صحة ذلك فانظر إلى كتابه الكبير في الت??اريخ فإن??ه اجم??ع‬
‫وأح? َوى ألخب??ار األمم ومل??وكهم‬ ‫ه??ذه الكتب ج??داً‪ ،‬وأبرعه??ا نظم?اً‪ ،‬وأكثره??ا علم?اً‪ْ ،‬‬
‫وس??يرها من األع??اجم وغيره??ا‪ ،‬ومن كتب??ه النفيس??ة كتاب??ه في المس??الك والممال??ك‬
‫وغير ذلك مما إذا طلبته وجدته‪ ،‬وإذا تفقدته حمدته‪ ،‬وكتاب التاريخ من المولد إلى‬
‫الوفاة‪ ،‬ومن كان بعد النبي صلى هللا علي??ه وس??لم من الخلف??اء والمل??وك إلى خالف??ة‬
‫المعتضد باهّلل ‪ ،‬وما كان من األجداث والكوائن في أي??امهم وأخب??ارهم‪ ،‬ت??أليف محم??د‬
‫?اريخ? ألحم??د بن يحمى ا ْل َبالَ ُذري‪،‬‬ ‫ي‪ ?،‬وكت??اب الت? ِ‬ ‫بن علي الحس??يني العل??وي ال??دِّ َي َن ِ‬
‫ور ِّ‬
‫?و ًة من هج??رة الن??بي ص??لى هللا علي??ه‬ ‫ص? ْلحا َ َو َع ْن? َ‬ ‫وكتابه أيضا ً في البلدان وفتوحه??ا ُ‬
‫وسلم وم??ا فتح في أيام??ه وعلى ي??د الخلف?اء بع??ده‪ ،‬وم??ا ك??ان من األخب??ار في ذل?ك‪،‬‬
‫ووصف البلدان في الشرق والغرب والشمال والجنوب‪ ،‬وال نعلم في فتوح البلدان‬
‫صفحة ‪4 :‬‬

‫أحسن منه‪ ،‬وكت??اب داود بن الج??راح في الت??اريخ الج??امع لكث??ير من أخب??ار الف??رس‬
‫وغيرها من األمم‪ ،‬وه??و ج??د ال??وزير علي بن عيس??ى بن داود بن الج??راح‪ ،‬وكت??اب‬
‫التاريخ الجامع لفنون من األخبار والكوائن في األعصار قبل اإِل سالم وبعده‪ ،‬ت??أليف‬
‫أبي عبد هّللا محم??د بن الحس??ين ابن س??وار المع??روف ب??ابن أخت عيس??ى بن المنجم‬
‫على ما أنبأت به الت??وراة وغ??ير ذل??ك من أخب??ار األنبي??اء والمل??وك و ُك َّتاب الت??اريخ‪،‬‬
‫وأخبار األمويين ومناقبهم‪ ،‬وذكر فضائلهم‪ ،‬وما أ َت ْوا ب??ه عن غ??يرهم‪ ،‬وم??ا أح??دثوه‬
‫من الس??ير في أي??امهم‪ ،‬ت??أليف أبي عب??د ال??رحمن خال??د بن هش??ام األم??وي‪ ،‬وكت??اب‬
‫الدوالب ِّي في التاريخ‪ ،‬والكتاب الشريف تأليف أبي بك??ر محم??د بن‬ ‫ِ‬ ‫القاضي أبي بشر‬
‫خل?ف بن وكي?ع القاض?ي في الت?اريخ وغ?يره من األخب?ار‪ ،‬وكت?اب الس?ير واألخب?ار‬
‫لمحم??د بن خال??د الهاش??مي‪ ،‬وكت??اب الت??اريخ والس??ير ألبي إس??حاق بن س??ليمان‬
‫الهاشمي‪ ،‬وكتاب سير الخلفاء ألبي بكر‬

‫هللا‬
‫محمد بن زكريا الرازي صاحب كتاب المنصوري? في الطب وغيره‪ ،‬فأما عبد ّ‬
‫بن مسلم بن قتيبة? ال??دينوري? فممن ك??ثرت كتب??ه واتس??ع تص??نيفه‪ ?،‬ككتاب??ه الم??ترجم‬
‫بكتاب المعارف وغيره من مصنفاته‪.‬د بن زكريا الرازي ص??احب كت?اب المنص?وري?‬
‫هللا بن مس??لم بن قتيب ?ة? ال??دينوري? فممن ك??ثرت كتب??ه‬
‫في الطب وغ??يره‪ ،‬فأم??ا عب??د ّ‬
‫واتسع تصنيفه‪ ،‬ككتابه المترجم بكتاب المعارف وغيره من مصنفاته?‪.‬‬

‫ثناؤه على ابن جرير الطبري‬


‫وأما تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري الزاهي على المؤلفات‪ ،‬والزائد على‬
‫وح? َوى فن??ون اآلث??ار‪ ،‬واش??تمل? على‬ ‫الكتب المص??نفات‪ ،‬فق??د جم??ع أن??واع األخب??ار‪َ ،‬‬
‫صنوف? العلم‪ ،‬وهو كتاب تكثر فائدته‪ ،‬وتنفع عائدته‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك‪ .‬ومؤلفه‬
‫وح َم َل??ة الس??نن‬
‫وناس ? ُك ده??ره‪ ،‬إلي??ه انتهت عل??وم فقه??اء األمص??ار‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫فقي??ه عص??ره‪،‬‬
‫?ة الواس?طي النح??وي‬ ‫واآلثار‪ ،‬وكذلك تاريخ أبي عبد هّللا إب?راهيم بن محم??د بن َع َرف? َ‬
‫الملقب بنف َط َو ْي ِه فمحشؤٌ من َمالَحة كتب الخاصة‪ ،‬مملوء من فوائد الس??ادة‪ ،‬وك??ان‪،‬‬
‫ولي‬ ‫أَحسن أهل عصره تأليفاً‪ ،‬وأملحهم تصنيفاً‪ ،‬وكذلك س??لك محم??د بن يحمى ُّ‬
‫الص ? ُّ‬
‫في كتابه المترجم بكتاب األوراق في أخب??ار الخلف??اء من ب??ني العب??اس وب??ني? أمي??ة‪،‬‬
‫وش??عرائهم‪َ ،‬ووزرائهم‪ ،‬فإن??ه ذك??ر غ??رائب لم تق??ع لغ??يره‪ ،‬وأش??ياء تف??رد به??ا ألن??ه‬
‫ش???اهدها بنفس???ه‪ ،‬وك??ان محظوظ??ا ً من العلم‪ ،‬ممح ??وداً من المعرف ??ة مرزوق???ا ً من‬
‫التصنيف وحسن الت??أليف‪ ،‬وك??ذلك كت??اب ال??وزراء وأخب??ارهم ألبي الحس??ن علي بن‬
‫باهلل‪.‬‬
‫الراضى ّ‬
‫ِ‬ ‫الحسن المعروف بابن الماشطة‪ ،‬فإنه بلغ في تصنيفه? إلى آخر أيام‬

‫ثناؤه على قدامة بن جعفر‬


‫وكذلك أبو الفرج ُق َدأمة بن جعفر الكاتب؛ فإنه كان حسن التأليف‪ ،‬بارع التصنيف‪،‬‬
‫موجزاً لأللفاظ‪ُ ،‬مقربا ً للمعاني‪ ،‬وإذا أردت علم ذلك فانظر في كتابه في األخبار‬
‫صفحة ‪5 :‬‬

‫المعروف بكتاب زهر الربي??ع‪ ،‬وأش??رف على كتاب??ه الم??ترجم بكت??اب الخ??راج؛ فإن??ك‬
‫تشاهد بهما حقيقة ما قد ذكرنا‪ ،‬وصِ دْ َق ما وصفنا‪ ،‬وما صنفه? أبو القاسم جعف??ر بن‬
‫محمد بن حمدان الموص??لي الفقي??ه في كتاب??ه في األخب??ار ال??ذي يع??ارض في??ه كت??اب‬
‫الروضة للمبرد ولقبه بالباهر‪ ،‬وكتاب إب?راهيم بن ماهوي?ه الفارس?ي ال?ذي ع?ارض‬
‫فيه المبرد في كتابه الملقب بالكامل‪ ،‬وكت??اب إب??راهيم بن موس??ى الواس??طي الك??اتب‬
‫في أخبار الوزراء الذي عارض فيه كتاب محم??د بن داود بن ا ْل َج? راح في ال??وزراء‪،‬‬
‫وكتاب علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوق في أخبار عدة من وزراء المقت??در‬
‫باهّلل ‪ ،‬وكتاب زهرة العيون وجالء القلوب ت??أليف المص??ري‪ ،‬وكت??اب الت??اريخ ت??أليف‬
‫عب??د ال??رحمن بن عب??د ال??رازق المع??روف با ْل َج ْو َز َج? اني الس??عدي‪ ،‬وكت??اب الت??اريخ‬
‫وأخبار الموصل تأليف أبي ذكره الموصلي‪ ،‬وكتاب التاريخ تأليف أحم??د بن يعق??وب‬
‫المصري في أخبار العباسيين وغيرهم‪ ،‬وكتاب التاريخ في أخب??ار الخلف??اء من ب??ني‬
‫هللا بن الحس??ين بن س??عد الك??اتب‪ ،‬وكت??اب محم??د بن مزي??د بن‬ ‫العباس وغيرهم لعبد ّ‬
‫أبي األزهر في التاريخ وغيره‪ ،‬وكتابه المترجم بكتاب الهرج واألحداث‪.‬‬

‫نقد المؤلف لثابت بن قرة‬

‫ورأيت ِس?? َنانَ بن ث??ابت بن ق??رة ا ْل َح?? راني حين انتح??ل م??ا ليس من ص??ناعته‪،‬‬
‫واس??تنهج? م??ا ليس من طريقت??ه ق??د ألَّف كتاب ?ا ً جعل??ه رس??الة إلى بعض إخوان??ه من‬
‫الكت???اب‪ ،‬واس???تفتحه بجوام???ع من الكالم في أخالق النفس وأقس???امها من الناطق???ة‬
‫والغضبية? والشهوانية‪ ،‬وذكر لُ َمع?ا ً من السياس??ات المدني??ة مم??ا ذك??ره أفالط??ون في‬
‫كتاب??ه في السياس??ة المدني??ة‪ ،‬وه??و عش??ر مق??االت‪ ،‬ولمع ?ا ً مم??ا يجب على المل??وك‬
‫أخبار يزعم أنها ص??حت عن??ده ولم يش??اهدها‪ ،‬ووص??ل ذل??ك‬ ‫ٍ‬ ‫والوزراء‪ ،‬ثم خرج إلى‬
‫بأخبار المعتضد باهّلل ‪ ،‬وذكر صحبته إياه‪ ،‬وأيامه الس??الفة مع??ه ثم ت??رقى إلى خليف??ة‬
‫خليف??ة في التص??نيف‪ ،‬مض??ادة لرس??م اإلخب??ار والت??واريخ? وخروج?ا ً عن جمل??ة أه??ل‬
‫التأليف‪ ،‬وهو وإن أحسن فيه‪ ،‬ولم يخرجه عن معاني??ه‪ ،‬فإنم?ا عيب?ه أن?ه خ??رج عن‬
‫مركز صناعته‪ ،‬وتكلف ما ليس من مهنته‪ ?،‬ولو أقبل على علمه الذي انف??رد ب??ه من‬
‫علم إقلي??دس والمقطع??ات وال َم َج ْس?? َطى والمح??ورات‪ ،‬ول??و اس??تفتح آراء س??قراط‬
‫وأفالطون وأرسطاطاليس‪ ،‬فأخبر عن األشياء الفلكية‪ ،‬واآلثار العلوية‪ ،‬والمزاج??ات‬
‫الطبيعية‪ ?،‬والنسب والتأليفات‪ ،‬والنتائج والمقدمات‪ ،‬والص??نائع المركب??ات‪ ،‬ومعرف??ة‬
‫الطبيعيات‪ :‬من اإِل لهي??ات‪ ،‬والج??واهر والهي??آت‪ ،‬ومق??ادير األش??كال‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من‬
‫أنواع الفلسفة لكان قد سلم مما تكلَّفه‪ ،‬وأتى بما ه??و ألي??ق بص??نعته‪ ?،‬ولكن الع??ارف‬
‫بقدره ُم ْع ِوز‪ ،‬والعالم بمواضع الخلة مفقود‪ ،‬وقد قال عبد هّللا بن المقفع‪َ :‬منْ وض??ع‬
‫كتابا ً فق??د اس??تهدف‪ ،‬ف??إن أج??اد فق??د استش??رف‪ ،‬وإن أس??اء فق??د اس??تقذف ‪.‬ق??ال أب??و‬
‫ب التواريخ واألخبار‬ ‫الحسن علي بن الحسين بن علي المسعوعي‪ :‬ولم نذكر من كت ِ‬
‫والسير واآلثار إال ما اشتهر مص??نفوها‪ ،‬وع??رف مؤلفوه??ا ولم نتع??رض ل??ذكر كتب‬
‫تواريخ? أصحاب األحاديث في معرفة أسماء الرجال وأعصارهم وطبقاتهم ؛ إذ كان‬
‫صفحة ‪6 :‬‬

‫ذلك كله أكثر من أن ن??أتي على ذك??ره في ه??ذا الكت??اب‪ ،‬إذ كن??ا ق??د أتين??ا على جمي??ع‬
‫تسمية أهل األعصار من حمله اآلث?ار‪ ،‬ونقل?ة الس?ير واألخب?ار‪ ،‬وطبق?ات أه?ل العلم‬
‫من عص??ر الص??حابة‪ ،‬ثم َمنْ تالهم من الت??ابعين‪ ،‬وأه??ل ك??ل عص??ر على اختالف‬
‫أن???واعهم‪ ،‬وتن???ازعهم في آرائهم‪ :‬من فقه???اء األمص???ار وغ ??يرهم من أه ??ل اآلراء‬
‫والنحل والمذاهب والجدل‪ ،‬إلى سنة اثن??تين وثالثين وثالثمائ??ة‪ ،‬في كتابن??ا الم??ترجم‬
‫بكتاب أخبار الزمان‪ ،‬وفي الكتاب األوسط‪.‬‬

‫المؤلف يذكر أنه أودع كتابه أجزل الفوائد‬


‫وقد وسمت كتابي هذا بكتاب مروج الذهب‪ ،‬ومع??ادن الج??وهر‪ .‬لنفاس??ة م??ا َح? واه‪،‬‬
‫وعظم خط??ر م??ا اس??تولى علي??ه‪ :‬من طوال??ع ب??وارع م??ا تض??منته كتبن??ا الس??الفة في‬
‫معن??اه‪ ،‬وغ??رر مؤلفاتن??ا في مغ??زاه‪ ،‬وجعلت??ه تحف??ة لألش??راف من المل??وك وأه??ل‬
‫الدرايات لما قد ضمنته من جمل ما تدعو الحاجة إليه‪ ،‬و ُت َن??ازع النف??وس إلى علم??ه‬
‫?بر في الزم??ان‪ ،‬وجعلت??ه ُم َن ِّبه?ا ً على أغ??راض م??ا س??لف من‬ ‫من دراية ما س??لف َ‬
‫وغ? َ‬
‫كتبنا‪ ،‬ومشتمالً على جوام ِِع يحسن ب??األديب العاق??ل معرفته??ا‪ ،‬وال ُيع??ذر في التغاف??ل‬
‫عنها‪ ،‬ولم نترك نوع?ا َ من العل??وم‪ ،‬وال فن?ا ً من األخب??ار‪ ،‬وال طريق??ة من اآلث??ار‪ ،‬إال‬
‫أوردن??اه في ه??ذا الكت??اب مفص??الً‪ ،‬أو ذكرن??اه مجمالً‪ ،‬أو أش??رنا إلي??ه بض??رب من‬
‫اإِل شارات‪ ،‬أو ّلوحنا إليه بفحوى من العبارات‪.‬‬

‫المؤلف ينهي عن التصرف في الكتاب ويخوف من ذلك‬


‫فمن َح َّرف شيئا ً من معناه‪ ،‬أو أزال ركنا ً من مبناه‪ ،‬أو طمس واضحة من معالمه‪،‬‬
‫س شاهدة من تراجمه‪ ،‬أو غ??يره‪ ،‬أو َبدَّ ل??ه‪ ،‬أو بش??أنه‪ ،‬أو اختص??ره‪ ،‬أو نس??به‬ ‫أو ل َّب َ‬
‫هللا وسرعة نقمه? وفوادح بالياه‬‫إلى غيرنا‪ ،‬أو أضافه إلى سوانا‪ ،‬فوافاه من غضب ّ‬
‫ما َي ْع َج ُز عنه صبره‪ ،‬و َي َحار له فكره‪ ،‬وجعله هّللا ُم ْث َل ًة للعالمين‪ ،‬وعبرة للمعت??برين‪،‬‬
‫هللا ما أعطاه‪ ،‬وحال بينه وبين ما أنعم به علي??ه‪ :‬من ق??و ٍة‬ ‫وسمين‪ ،‬وسلبه ّ‬ ‫واية لل ُم َت ِّ‬
‫ونعم ٍة ُمبد ُع الس??ماوات واألرض‪ ،‬من أي المل??ك ك??ان واآلراء‪ ،‬إن??ه على ك??ل ش??يء‬
‫قدير‪ .‬وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي ه??ذا وآخ??ره‪ ،‬ليك??ون رادع المن ميل??ه‬
‫هللا ربه‪ ،‬وليحافر ُم ْنقلب ُه‪ ،‬فالمدة يس??يرة‪ ،‬والمس??افة‬
‫هوى‪ ،‬أو غلبه شقاء‪ ،‬فليراقب ّ‬
‫هللا المص??ير‪ ?.‬وه??ذا حين نب??دأ بجم??ل م??ا اس??تودعناه ه?ذا الكت?اب من‬ ‫قص??يرة‪ ،‬وإلى ّ‬
‫وباهلل التوفيق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األبواب‪ ،‬وماحوى كل باب منها من أنواع األخبار‪،‬‬
‫صفحة ‪7 :‬‬

‫اب الثاني‬
‫ال َب ُ‬

‫كر ما اشتمل عليه الكتاب من األبواب‬

‫مباحث الكتاب‬

‫قدم َنا فيما سلف من هذا الكتاب ذكرنا ألغراضه‪ ،‬فلن??ذكر اآلن ُج َمالً من كمي??ة‬ ‫قد ْ‬
‫أبوابه على حسب مراتبها فيه‪ ،‬واستحِقاقها منه‪ ،‬لكي يقرب تناولها على مريدها‪.‬‬
‫فأول ذلك ذك??ر المب??دأ‪ ،‬وش??أن الخليق??ة‪َ ،‬‬
‫وذ ْرء ال َب ِر َّي ِة من آدم إلى إب??راهيم عليهم??ا‬
‫الص??الة والس??الم‪ .‬ذك??ر قص??ة إب??راهيم علي??ه الس??الم‪ ،‬ومن َتالَ عص??ره من األنبي??اء‬
‫والملوك من بني إسرائيل‪.‬‬
‫ذكر ملك أرخبعم بن س?ليمان بن داود‪ ،‬ومن َتال عص?ره من مل?وك ب?ني إس?رائيل‪،‬‬
‫وجمل من أخبار األنبياء والملوك من بني إسرائيل‪.‬‬
‫الفتر ِة ممن كان بين المسيح ومحمد صلى هللا عليه وسلم ذك??ر جم??ل من‬ ‫َ‬ ‫ذكر أهل‬
‫أخبار الهند وأربابها‪ ،‬ومدد ممالكها‪ ،‬وسيرها وآرائها في عبادتها‪.‬‬
‫ذكر األرض والبحار‪ ،‬ومبادئ األنهار والجب?ال‪ ،‬واألق?اليم الس?بعة وم?ا وااله?ا من‬
‫الكواكب وغير ذلك‪.‬‬
‫ذكر جمل من األخب??ار عن انتق??ال البح??ار‪ ،‬وجم??ل من أخب??ار األنه??ار الكب??ار ‪.‬ذك??ر‬
‫األخبار عن البحر الحبشي‪ ،‬وما قيل في مقداره وتشعبه? و ُخ ْل َجانه‪.‬‬
‫ذكر تنازع الناس في ال َمدِّ َوا ْل َجزر‪ ،‬وجوامع ما قيل في ذلك‪.‬‬
‫ذكر البحر الرومي‪ ،‬ووصف ما قيل في طوله وعرضه وابتدائه وانتهائه?‪.‬‬
‫ذكر بحر نيطس‪ ،‬وبحر مايطس‪ ،‬وخليج القسطنطينية?‪.‬‬
‫ذكر بحر الباب واألبواب وا ْل َخ َز ِر و ُخ ْر َجان‪ ،‬وجملة من األخب??ار عن ت??رتيب? جمي??ع‬
‫البحار‪.‬‬
‫ذكر ملوك الصين والترك‪ ،‬وتفرق ولد عامور‪ ،‬وأخبار الصين وملوكهم‪ ،‬وجوام??ع‬
‫من سيرهم وسياساتهم وغير ذلك‪.‬‬
‫ذك??ر جم??ل من األخب??ار عن البح??ار‪ ،‬وم??ا فيه??ا وم??ا حوله??ا من العج??ائب واألمم‪،‬‬
‫ومراتب الملوك‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ذك??ر جب??ل القبج‪ ،‬وأخب??ار األمم من الالن والس??رير والخ??زر‪ ،‬وأن??واع من ال??ترك‬
‫وال َب ْلغر‪ ،‬وأخبار الباب واألبواب‪ ،‬ومن حولهم من الملوك واألمم‪.‬‬
‫ذكر ملوك السريانيين‪.‬‬
‫ذكر ملوك الموصل ويي َن َوى‪ ?،‬وهم الصوريون‪.‬‬
‫ذكر ملوك بابل من ال َّن َبطِ وغيرهم‪ ،‬وهم الكلدانيون‪.‬‬
‫ذكر ملوك الفرس األولى وسيرها‪ ،‬وجوامح من أخبارها‪.‬‬
‫ذكر ملوك الطوائف األشعانيين‪ ،‬وهم بين الفرس األولى والثانية?‪.‬‬
‫ذكر أنساب فارس‪ ،‬وما قاله الناس في ذلك‪.‬‬
‫صفحة ‪8 :‬‬

‫ذكر ملوك الساسانية‪ ،‬وهم الفرس الثانية‪ ،‬وسيرهم‪ ،‬وجوامع من أ أخبارهم‪.‬‬


‫الناس في َبدء أنسابهم‪.‬‬‫ُ‬ ‫ذكر ملوك اليونانيين وأخبارهم‪ ،‬وما قال‬
‫ذكر جوامع من أخبار حرب اإلسكندر بأرض الهند‪.‬‬
‫ذكر ملوك اليونانيين بعد اإِل سكندر‪.‬‬
‫ذكر الروم وما للناس في َبدْ ء أنسابهم‪ ،‬وأحد مل??وكهم‪ ،‬وت?اريخ? ِس?ني ِه ْم‪ ،‬وجوام?ع‬
‫من سيرهم‪.‬‬
‫ذك??ر مل??وك ال??روم المتنص??رة‪ ،‬وهم مل??وك القس??طنطينية‪ ?،‬ولم??ع مم??ا ك??ان في‬
‫أعصارهم‪.‬‬
‫ذكر ملوك الروم بعد ظهور اإِل سالم‪ ،‬إلى أرمين??وس‪ ?،‬وه??و المل??ك في س??نة اثن??تين‬
‫وثالثين وثالثمائة?‪.‬‬
‫ذكر مصر‪ ،‬ونيلها‪ ،‬وأخبارها‪ ،‬وبنائها‪ ،‬وعجائبها‪ ،‬وأخبار ملوكها‪.‬‬
‫ذكر أخبار اإِل سكندرية‪ ?،‬وبنائها‪ ،‬وملوكها وعجائبها‪ ،‬وما لحق بهذا الباب‪.‬‬
‫ذك??ر الس??ودان‪ ،‬وأنس??ابهم واختالف أجناس??هم وأن??واعهم‪ ،‬وتب??اينهم في دي??ارهم‪،‬‬
‫وأخبار ملوكهم‪.‬‬
‫الص َقالبة‪ ،‬ومساكنهم‪ ،‬وأخبار ملوكهم‪ ،‬وتفرق أجناسهم‪.‬‬ ‫ذكر َّ‬
‫ذكر اإِل فرنجة والجاللقة وملوكهما‪ ،‬وجوام??ع من أخبارهم??ا وس??يرهما وحروبهم??ا‬
‫مع أهل األندلس‪.‬‬
‫ذكر الن??و ك??برد وملوكه??ا‪ ،‬واألخب??ار عن مس??اكنها ذك??ر ع??اد وملوكه??ا‪ ،‬ولُ َم??ع من‬
‫أخبارها‪ ،‬وما قيل في طول أ عما رهم‪.‬‬
‫ذكر ثمود وملوكها‪ ،‬وصالح نبيها عليه السالم‪ ،‬ولمع من أخبارها‪.‬‬
‫ذكر مكة وأخبارها‪ ،‬وبناء البيت‪ ،‬ومن تداوله من ُجرهُم وغيرهم‪ ،‬وما لحق به??ذا‬
‫الباب‪.‬‬
‫ذكر جوامع من األخبار في وصف األرض والبلدان‪ ،‬وحنين النفوس إلى األوطان‪.‬‬
‫ذك??ر تن??ازع الن??اس في المع??نى ال?ذي من أجل??ه س??مي اليمن يمن?اً‪ ،‬والش??ام ش??اماً‪،‬‬
‫العراق‪ ،‬والحجاز‪.‬‬
‫ذكر اليمن وأنسابها‪ ،‬وما قاله الناس في ذلك‪.‬‬
‫ذكر اليمن وملوكها من ال َّت َب ِابعة وغيرها‪ ،‬وسيرها‪ ،‬ومقادير سنيها‪.‬‬
‫ِير ِة من اليمن وغيرهم‪ ،‬وأخبارهم‪.‬‬ ‫ذكر ملوك الح َ‬
‫ذكر ملوك الشام من اليمن من غسان وغير ِه ْم‪ ،‬وما كان من أخبارهم‪.‬‬
‫سكناها البدو‪ ،‬وأك??راد الجب??ال‪،‬‬ ‫ذكر البوادي من العرب‪ ،‬وغيرهم من األمم‪ ،‬و ِع َل ُة ُ‬
‫وأنسابهم‪ ،‬و ُج َمل من أخبارهم‪ ،‬وغير ذلك مما اتصل بهذا الباب‪.‬‬
‫ذكر ديان??ات الع??رب‪ ،‬وآرائه??ا في الجاهلي??ة‪ ،‬وتفرقه??ا في البالد‪ ،‬وأخب??ار أص??حاب‬
‫الذيل‪ ،‬وأمر األحابيش‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وعبد المطلب‪ ،‬وغير ذلك مما يلحق بهذا الباب‪.‬‬
‫صفحة ‪9 :‬‬

‫صفر‪ ،‬وأخبارها في ذلك‪.‬‬ ‫العرب في النفوس وال َهام وال َّ‬ ‫ُ‬ ‫ذكر ما ذهب إليه‬
‫ذكر أقاويل العرب في ال ّت َغؤُ ل والغيالن‪ ،‬وما قاله غيرهم من الناس في ذلك‪ ،‬وغير‬
‫ذلك مما لحق بهذا الباب واتصل بهذه المعاني‪.‬‬
‫ذكر أقاويل الناس في ال َه َواتِف والجانَ ‪ ،‬من العرب وغيرهم ممن أثبت ذلك ونفاه‪.‬‬
‫ذكر ما ذهب إليه الع??رب من القِ َياف??ة وال ِع َياف??ة َّ‬
‫والز ْج? ر والس??انح والب??ارح‪ ،‬وغ??ير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ذكر ال َك َهانة وصفتها‪ ،‬وما قاله الناس في ذلك من أخبارها‪َ ،‬‬
‫وح ِّد الناطقة وغيره??ا‬
‫من النفوس‪ ،‬وما قيل فيما يراه النائم‪ ،‬وما اتصل بهذا الباب‪.‬‬
‫?رم ب?أرض س?بأ وم??أرب‪ ،‬وتف??رق ْ‬
‫األز ِد في‬ ‫ذكر جمل من أخبار الكهان‪ ،‬وس??يل ا ْل َع ِ‬
‫البلدان وسكناهم في البالد‪.‬‬
‫ذكرسِ ِني? العرب والعجم‪ ،‬وشهورها‪ ،‬وما اتفق منها وما اختلف‪.‬‬
‫ذكر شهور القبط والسريانيين‪ ،‬والخالف في أسمائها‪ ،‬وجمل من الت??اريخ‪ ،‬وغ??ير‬
‫ذلك مما اتصل بهذا المعنى‪.‬‬
‫ووص??ف موافقته??ا لش??هور ال??روم‪ ،‬وع??دد أي??ام الس??نة‪،‬‬ ‫ذك??ر ش??هور الس??ريانيين‪َ ،‬‬
‫ومعرفة األنواء‪.‬‬
‫ذكر شهور الفرس‪ ،‬وما اتصل بذلك‪.‬‬
‫ذكر أيام الفرس‪ ،‬وما اتصل بذلك‪.‬‬
‫ب وشهورها وتسمية أيامها و َل َياليها‪.‬‬ ‫ذكر سِ نِي العر ِ‬
‫ذكر قول العرب في ليالي الشهور القمرية‪ ،‬وغير ذلك مما اتصل بهذا المعنى‪.‬‬
‫ذكر القول في تأثير النيرين في هذا العالم‪ ،‬وجمل مما قيل في ذلك مما ا َتصل بهذا‬
‫الباب‪.‬‬
‫ذكر أرباع العالم والطبائع واألهْ ِو َيةِ‪ ،‬وم??ا خص ب??ه ك??ل ج??زء من??ه‪ ،‬من?ه? الش??رقي‬
‫والغربي واليمني? والجنوبي‪ ،‬وغير ذلك من سلطان الكواكب‪.‬‬
‫ذكر ال??بيوت المعظم??ة‪ ،‬والهياك??ل المش??رفة‪ ،‬وبي??وت ال ِّن ِ‬
‫يران واألص??نام‪ ،‬وعب??ادات‬
‫الهند‪ ،‬وذكر الكواكب‪ ،‬وغير ذلك من عجائب العالم‪.‬‬
‫ذكر البيوت المعظمة عند اليونانيين‪َ ،‬ووصفها‪.‬‬
‫الص َقالبة‪َ ،‬ووصفها‪.‬‬ ‫ذكر البيوت المعظمة عند َّ‬
‫ووصفها‪.‬‬ ‫ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الروم‪َ ،‬‬
‫الحرانيين‪ ،‬وغيره??ا‪،‬وم??ا فيه??ا من‬ ‫ذكر بيوت معظمة وهياكل مشرفة للصابئة من َ‬
‫العجائب واألخبار وغيرها‪.‬‬
‫يران‪ ،‬وكيفية? بنائها‪ ،‬وأخب??ار المج??وس فيه??ا‪،‬وم??ا لح??ق‬ ‫ذكر األخبار عن بيوت ال َن ِ‬
‫ببنائها‪.‬‬
‫ذكر جامع تاريخ العالم من بدئه إلى مولد النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وم??ا اتص??ل‬
‫بهذا الباب من العلوم‪.‬‬
‫ذكر مولد النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ونسبه‪ ?،‬وغيرذلك مما لحق بهذا الباب‪.‬‬
‫ذكر مبعثه? عليه الصالة والس??الم‪ ،‬وم??ا ك??ان في ذل??ك إلى هجرت??ه ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫صفحة ‪10 :‬‬

‫ذكر هجرته‪ ،‬وجوامع مما كان في أيامه إلى وفاته صلى هللا عليه وسلم ذكر‬
‫أمور وأحو ال ً ك??انت من مول??ده إلى حين وفات??ه ص??لى هللا علي??ه وس??لم‬ ‫ٍ‬ ‫األخبار عن‬
‫ذكر ما بدىء به عليه الصالة والس?الم من الكالم‪ ،‬مم??ا لم يحف??ظ قبل?ه عن أح?د من‬
‫األنام ‪.‬‬
‫هّللا‬
‫ذكر خالفة أبي بكر الصديق رضي عنه‪ ،‬ونسبه‪ ،‬ولمع من أخباره وسيره‪.‬‬
‫هللا عنه‪ ،‬ونسبه‪ ،‬ولمع من أخباره وسيره‪.‬‬ ‫ذكر خالفة عمر بن الخطاب رضي ّ‬
‫ذكر خالفة عثمان بن عفان رضي هّللا عنه‪ ،‬ونسبه‪ ?،‬ولمع من أخباره وسيره‪.‬‬
‫ذكر خالفة علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه‪ ،‬ونسبه‪ ?،‬ولم??ع من أخب??اره وس??يره‪.‬‬
‫ونسب إخوته وأخواته‪.‬‬
‫ذكر األخبار عن يوم الجمل وبدئه‪ ،‬وما كان فيه من الحروب‪ ،‬وغيرذلك‪.‬‬
‫ذكر جوامع مما كان بين أهل العراق وأهل الشام ِبصِ فينَ ‪.‬‬
‫ذكر الحكمين‪ ،‬وبدء التحكيم‪.‬‬
‫ش َراة‪ ،‬ومالحق بهذا الباب‪.‬‬ ‫هروان‪ ،‬وهم ال ّ‬ ‫ذكر حروبه رضي هّللا عنه مع أهل ال َن َ‬
‫ذكرمقتل علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ذكر لمع من كالمه‪ ،‬وزهده‪ ،‬وما لحق بهذا المعنى من أخباره‪.‬‬
‫ذكرخالفة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه‪ ،‬ولمع من أخباره وسيره‪.‬‬
‫ذك??ر أي??ام معاوي??ة بن أبي س??فيان‪ ،‬ولم??ع من أخب??اره وس??يره‪َ ،‬و َن? َ?وادر من بعض‬
‫أخباره‪.‬‬
‫ذكر جمل من أخالق معاوية وسياسته‪ ،‬وطرف من عيون أخباره‪.‬‬
‫فضلهم‪.‬‬‫ذكر الصحابة و َمدْ حهم‪ ،‬وعلي بن أبي طالب والعباس رضي هللا كنهم‪َ ،‬و ْ‬
‫ذكر أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان‪.‬‬
‫ذكر مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي هللا عنهما‪َ ،‬و َمنْ قتل من أهل بيته?‬
‫وشيعته‪ .‬ذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ذكر لمع من أخبار يزيد بن معاوي?ة وس?يره‪ ،‬ون?وادر من بعض أفعال?ه‪ ،‬وم?ا ك?ان‬
‫الح َّرة وغيرها‪.‬‬
‫منه? في َ‬
‫ذكر أيام معاوية بن يزيد‪ ،‬وم??روان بن الحكم‪ ،‬والمخت??ار بن أبي ُع َب ْي? دٍ‪ ،‬وعب??د هّللا‬
‫بن الزبير‪ ،‬ولمع من أخبارهم وسيرهم‪ ،‬وبعض ما كان في أيامهم‪.‬‬

‫ذكر أيام عبد الملك بن مروان ‪ 4‬ولمع من أخباره وسيره‪ ،‬والحجاج بن يوسف‪?،‬‬
‫وأفعاله‪ ،‬ونوادر من أخباره‪.‬‬
‫ذكر لمع من أخبار الحجاج بن يوسف و ُخ َطبه‪ ،‬وما كان منه في بعض أفعاله‪.‬‬
‫ذكر أيام الوليد بن عبد الملك‪ ،‬ولمع من أخباره وسيره وم??ا ك??ان من الحج??اج في‬
‫أيامه‪.‬‬
‫ذكر أيام سليمان بن عبد الملك‪ ،‬ولمع من أخباره وسيره‬

‫صفحة ‪11 :‬‬


‫الح َكم رض??ي هّللا عن??ه‪.‬ولم??ع من‬ ‫ذكر خالف??ة عم??ر بن عب??د العزي??ز بن م??روان بن َ‬
‫وش? ّب ق??اينُ ولم يكن بينهماتـبـا ُينُ وذك??ر أه??ل‬‫?ب هابي?ل ُ َ‬
‫أخباره وسيره ُزهْ ِد فشس? َّ‬
‫وأخص قاين لهابي??ل‪ ،‬وف??رق في النك??اح بين‬ ‫َ‬ ‫الكتاب أن آدم َز َّوج أخت هابيل لقاين‪،‬‬
‫س ّن َة آدم عليه الس??الم احتياط?ا ً ألقص??ى م??ا يمكن??ه في المح??ارم‬ ‫البطنين‪ ،‬وهن كانت ُ‬
‫لموضع االضطرار وعجز النسل عن التباين واالغ??تراب‪ .‬وق??د زعمت المج??وس أن‬
‫آدم لم يخ??الف في النك??اح بين البط??ون ولم ي َت َح? َّر المخالف??ة‪ ،‬ولهم في ه??ذا المع??نى‬
‫سري َّدعون فيه الفضل في صالح الحال بتزويج األخ من أخته واألم من إبنه??ا‪ ،‬وق??د‬
‫?ع عش??ر من كتابن??ا الموس??وم بأخب??ار الزم??ان‪ ،‬و َمنْ أب??اده‬ ‫أتين??ا ب??ه في الفن الراب? َ‬
‫الحدثان‪ ،‬من األمم الماضية‪ ?،‬واألجيال الخالية‪ ،‬والمماليك الداثرة وإن هابيل وق??اين‬
‫َق ّربا قربانا ً َف َت َحرى هابيل أجود غنمه وأجود طعامه فقربه‪ ?،‬وتحرى ق?اين ش?ر مال?ه‬
‫وقربه‪ ،‬فكان من أمرهما ما قد حكاه هللا تعالى في كتابه العزيز من قتل قاين هابيل‪،‬‬
‫ويقال‪ :‬إنه اغتاله في برية? قاع‪ ،‬و ُيقال‪ :‬إن ذلك كان ببالد دمش??ق من أرض الش??ام‪،‬‬
‫شدْ خا ً بحجر‪ ،‬فيقال‪ :‬إن الوحوش هنالك استوحشت من الالنسان‪ ،‬وذل??ك‬ ‫وكان قتله َ‬
‫أنه بدأ فبلغ الغرض بالشر والقتل‪ ،‬فلما قتله تح??ير في َت ْو ِريت??ه‪ ?،‬وحمل??ه يط??وف ب??ه‬
‫األرض‪ ،‬فبعث هّللا غراب ?ا ً إلى غ??راب فقتل??ه ودفن??ه‪ ،‬فأس??ف ق??اين ثم ق??ال م??ا حك??اه‬
‫الق?رآن عن?ه‪ :‬ي?ا ويلت?ا أعج?زت أن أك?ون مث?ل ه?ذا الغ?راب ف?أواري س?وءة أخي‬
‫فدفنه عند ذلك‪ ،‬فلما علم اثم بذلك حزن وجزع وارتاع وهلع‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬وقد استفاض في الناس شعر َي ْع ُزونه إلى آدم‪ ،‬أنه قال حين حزن‬
‫على ولده وأسف على فقده‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫األرض ُم ْغ َب ٌّر قبـيح‬
‫فج ُه ْ‬‫ْ‬ ‫ت البالد َُو َمنْ علـيهـا‬ ‫َت َغ َّي َر ِ‬
‫شة الوج ُه الصبي ُح‬ ‫وقل بشا َ‬ ‫وطـعـم‬
‫ْ‬ ‫تغيركل ذِي لون‬
‫ت مِنَ الفرعوس فِيح‬ ‫اً بجنا ٍ‬ ‫و ُبدِّ ل أهْ لُها َخ ْمطـا وأ ْثـل‬
‫َلعِينٌ اليموت فنسـتـريح?‬ ‫سـى‬ ‫وجاو َر َناعموليس َي ْنـ َ‬
‫َ‬
‫فا أسفاعلى الوجه الملـيح‬ ‫و َق َتل َ قاينٌ هابيل َ ظـلـمـا‬
‫وهابيل تضمنه? الضـريح‬ ‫أجودبس ْكب دمـع‬ ‫َ‬ ‫فمالي ال‬
‫وما أنا من حياتي مستريح ووجدت‬ ‫علي غما‬ ‫أرى طول الحياة َّ‬

‫في عحة من كتب التواريخ والسير واألنساب أن آدم لما نطق بهذا الشعر أجابه‬
‫إبليس من حيث يسمع صوته? وال يرى شخصه‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫ضاق ِبك ال َفسِ ي ُح‬ ‫األرض َ‬ ‫َف َقد ْفي ْ‬ ‫سـاكـنـي َهـا‬ ‫نح َع ِن الـبـاَل ِد و َ‬‫َت َّ‬
‫ح‬
‫أذى الـدُّنـ َيا مـري ُ?‬ ‫َ‬ ‫أآدم مِـنْ‬ ‫وز ْوج َك ا ْل َحـوا ُء فـي َهـا‬ ‫وكنت َ‬‫َ‬
‫إلي أنْ َفا َت َك الثـمـنُ الـربـيح?‬ ‫ومـكـري‬‫ِ‬ ‫فما زا َل ْت مكايدتـي‬
‫ِب َك َفك مِنْ ِج َن ِ‬
‫ـان ا ْلـ ُخـلـد ِِري ُح‬ ‫ـحـت‬ ‫أض َ‬ ‫مـن ْ‬
‫الر ْح ِ‬‫الر ْح َم ُة َّ‬‫َف َل ْو َ‬
‫مفردا‬
‫ً‬ ‫ووجدت أن آدم عليه السالم سمع صو َتا َ وال يرى شخصا ً وهو يقول بيتا ً آخر‬
‫عون ما ذكرنا من هذا الشعر‪ ،‬وهو هذا البيت‪:‬‬
‫وصارا ْل َح ُّي بالم ْيت الذبيح‬‫َ‬ ‫هابيل َ َقدْ قتالَ جميعـا ً‬
‫أبا ِ‬
‫حواء تحمل بشيث‬
‫صفحة ‪12:‬‬
‫وج َزع?ا ً على الماض??ي والب??اقي‪ ،‬وعلم أن القات??ل‬ ‫فلما سمع آدم ذل??ك ازداد حزن?ا ً َ‬
‫مقت??ول‪ ?.‬ف??أوحى هّللا إلي??ه إني مخ??رج من??ك ن??وري ال??ذي ب??ه الس??لوك في ال َق َن? َ?وات‬
‫الطاهرة واألرومات الشريفة‪ ،‬وأباهي به األنوار‪ ،‬وأجعله خاتم األنبياء‪ ،‬وأجعل آل??ه‬
‫خيار األئم?ة الخلف?اء‪ ،‬وأختم الزم?ان بم?دتهم‪ ،‬وأغص األرض ب?دعوتهم‪ ،‬وأنش?رها‬
‫ش َزوجت ? َك على طه??ارة منه??ا‪ ،‬ف??إن‬ ‫?بح‪ْ ،‬‬
‫واغ َ‬ ‫بشيعتهم‪ ،‬فش ِّمز وتط َهر‪ ،‬و َق ِّدس‪ ،‬وس? ْ‬
‫وديع??تى تنتق??ل منكم??ا إلى الول??د الك??ائن منكم??ا‪ ،‬ف??اقع آدم َح? َّوا َء‪ ،‬فحملت لوقته??ا‪،‬‬
‫?تى إذا انتهى‬ ‫وأش??رق جبينه??ا‪ ،‬وتألأل الن??ور في َم َخايله??ا‪ ،‬ولم??ع من محاجره??ا‪ ،‬ح? ِ‬
‫الذ ْك َران‪ ،‬وأتمهم وقاراَ‪ ،‬وأحسنهم ص??ورة‪،‬‬ ‫س َم ًة كأسر ما يكون من ّ‬ ‫حملها وضعت َن َ‬
‫وأع? دَ لهم َخ ْلق?اً‪ ،‬مجلّاًل ب??النور والهيب??ة‪ ?،‬موش??حا ً بالجالل??ة واألبه??ة‪،‬‬‫وأكملهم هيئة‪ْ ،‬‬
‫?رة طلعت??ه‪،‬‬ ‫س?ق في غ? َّ‬ ‫فانتقل النور من ح??واء إلي??ه ح??تى لم??ع في أس??اريرجبهته و َب َ‬
‫?ع وكم??ل واستبص??ر‬ ‫هللا‪ ،‬ح??تى إذا ترع??رع وأيف? َ‬‫فسما ه آدم شيثاً‪ ،‬وقي??ل ش??يث هب??ة ّ‬
‫وعرف?ه مح??ل م??ا اس??تودعه‪ ،‬وأعلم?ه أن??ه حج??ة هّللا بع??ده‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ص?ي َّته‪?،‬‬ ‫ْأو َ‬
‫عز إلي?ه آدم َو ِ‬
‫وخليفت??ه في األرض‪ ،‬والم??ؤدِي ح??ق هّللا إلى ْأو ِ‬
‫ص?? َيائه‪ ،‬وأن??ه ث??اني انتق??الى ال ِّن ِّر‬
‫الطاهرة‪ ،‬وال ُج ْرثومة? الزاهرة‪.‬‬

‫وصية آدم لشيث ثم وفاته‬


‫اح َت َق َب َها‪ ،‬واحتفظ بمكنونها‪ ،‬وأتت وف??اة آدم‬‫ثم إن آدم حين أدى الوصية إلى شيث ْ‬
‫عليه السالم‪ ،‬وقرب انتقاله‪ ،‬فتوفي يوم الجمعة لست َخ َل ْون من نيسان‪ ،‬في الساعة‬
‫التي كان فيها َخ ْلقُه‪ ،‬وكان عمره عليه السالم تسعمائة? سنة? وثالثين سنة‪ ،‬وكان قد‬
‫وصى ابنه شيثا ً عليه الس??الم على ول??ده‪ ،‬ويق??ال‪ :‬إن آدم م??ات عن أربعين ألف?ا ً من‬
‫?نى في مس??جد‬ ‫ولده وولد ولده‪.‬وتنازع الن??اس في ق??بره فمنهم من زعم أن ق??بره ِبم? ً‬
‫ف‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه في كه??ف في جب??ل أبي قُ َب ْيس‪ ،‬وقي??ل غ??يرذ ل??ك‪ ،‬وهّللا‬ ‫الخ ْي? ِ‬
‫أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬

‫حكم شيث بن آدم‬


‫وإن شيثا ً حكم في الناس‪ ،‬واستشرع صحف أبيه وما أن??زل علي??ه في خاص??ته من‬
‫األسفار واألشراع‪ ،‬وإن شيثا ً واقع امرأته فحملت بأنوش فانتقل النور إليه??ا‪ ،‬ح??تى‬
‫ص?ا َة أوع??ز إلي?ه ش??يث في ش??أن الوديع?ة‬ ‫الو َ‬
‫الح النور عليه‪ ،‬فلم?ا بل?غ َ‬
‫إذا وضعته َ‬
‫وعرفه شأنها وأنها ش??رفهم وك??رمهم وأوع??ز إلي??ه أن ين ِّبه? ولل??ده على حقيق??ة ه?ذا‬
‫الشرف وكبر محله‪ ،‬وأن ينبهوا أوالدهم عليه‪ ،‬ويجعل ذلك فيهم وص??ية? منتقل??ة م??ا‬
‫دام النسل‪.‬فكانت الوصية? جارية تنتقل من َق ْرن إلي َق ْرن‪ ،‬إلى أن أ َدى هللا النور إلى‬
‫عب??د المطلب وول?ده عب?د هّللا أبي رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وه??ذا موض??ع‬
‫تنازع بين الناس من أهل الملة‪ ،‬ممن قال ب??النص وغ??يرهم من أص??حاب االختي??ار‪،‬‬
‫س القائلون بالنص هم اإِل باضية أهل اإِل مأمة من شيعة علي بن أبي ط??الب رض??تي?‬
‫هللا عنه والطاهرين من ولده الذين زعموا أن هّللا لم ُي ْخ? ل عص??راً ش األعص??ار من‬ ‫ّ‬
‫قائم بحق هّللا ‪ :‬إما أنبياء وإما أوصياء منصوص? على أسمائهم وأعيانهم من هّللا‬

‫صفحة ‪13 :‬‬


‫?حاب االختي??ار هم فقه??اء األمص??ار المعتزل??ة وف??رق من الخ??وارج‬
‫ورس??وله‪ ،‬وأص? ُ‬
‫الزيدِية ف??زعم ه??ؤالء أن هّللا‬
‫والمرجئة وكثير من أصحاب الحديث والعوام فرق من َّ‬
‫ورس??وله َف َ‬
‫??ؤض إلى األم??ة أن تخت??ار جاًل منه??ا فتنص??به? له??ا إمام??اً‪ ،‬وأن بعض‬
‫األعصار قد يخلو من حجة هّللا ‪ ،‬هو اإِل مام المعصوم عند الشيعة‪ ،‬وسنذكر فيما ي??رد‬
‫من هذا الكتاب لُمعا ً من يضاح ما وصفنا من أقاويل المتنازعين وتباين المختلفين‪.‬‬

‫انوش بن شيث ولود‬

‫وإن أنوش قد لبث في األرض يعمرها‪ ،‬وقد قيل وهللا أعلم إن شي َثا َ أص??ل النس??ل‬
‫من آدم عون سائر ولده‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬وكانت وفاة شيث قد مض??ت ل??ه تس??عمائة‬
‫س??نة واثنت??ا عش??رة س??نة وفي زمن أن??وش قُ ِت ?ل َ ق??اينُ ابنُ آدم قات ?ل ُ أخي??ه هابي??ل‪،‬‬
‫ولمقتله خبر عجيب قد أوردناه في أخبار الزمان في الكتاب األوس??ط‪ ،‬وك??انت وف??اة‬
‫أنوش لثالث خل??ون من تش??رين األول‪ ،‬ك??انت مدت??ه تس??عمائة س??نة وس??تيم‪ ?،.‬س??نة‪،‬‬
‫وكان قد ولد له قينان‪،‬والح النور في جبينه‪ ?،‬وأخ??ذ علي??ه العه? َد‪ ،‬فعم??ر البالد ح??تى‬
‫مات‪ ،‬فكانت مدت تسعمائة سنة? وعشرين سنة‪ ،‬وقد قي??ل‪ :‬إن موت?ه? ك??ان في تم??وز‬
‫بعدما ولد لى مهالئيل‪ ،‬فكانت مدة مهالئيل ثمانمائة? سنة‪ ،‬وقد ولد له ل??ود‪ ،‬والن??ور‬
‫مت??وارث‪ ،‬والعه??د م??أخوذ‪ ،‬والح??ق ق??ائم‪ ،‬ويق??ال‪ :‬إن كث??يراً من المالهي أح??دثت في‬
‫أيامه‪ ،‬أحدثها ولد قاين قاتل أخيه‪ ،‬ولولد قاين مع ولد لو حروب وقصص ق??د أتين??ا‬
‫على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان ووقع التحارب بين ولد ش??يث وبين غ??يرهم من‬
‫ولد قاين‪ ،‬فنوع من الهند ممن يقر ب??آدم‪ ،‬ينتس??وبن إلى ه??ذا الش??عب من ول??د ق??اين‬
‫وأكثر هذا النوع بأرض قمار مز أرض الهند‪ ،‬وإلى بلدهم أضيف الع??ود القم??اري ة‬
‫فكانت حياة لود سبعمائأ سنة? واثنتين وثالثين سنة‪ ،‬وكانت وفاته في آذار‪.‬‬

‫أخنوخ‬

‫خ‪ ،‬وهو إدريس النبي صلى هّللا عليه وسلم‪ ،‬والص??ابئة ت??زعم‬ ‫أخ ُنو ُ‬
‫وقام بعحه ولم ْ‬
‫أنه هو هرمس‪ ،‬ومعنى هرمس عطارد‪ ،‬وهو الذي أخبر هّللا عزوجل في كتاب??ه أن??ه‬
‫رفعه مكانا ً عليا ً وكانت حياته في األرض ثالثمائأ سنة‪ ?،‬وقي??ل أك??ثر من ذل??ك‪ ،‬وه??و‬
‫در َز الدروز‪ ،‬وخاط باإِل برة‪ ،‬وأنزل عليه ثالثون صحيفة‪ ،‬وكان قد نزل قبل‬ ‫أول من َ‬
‫ذلك على آدم إحدى وعشرون صحيفة‪ ،‬وأنزل على ش?يث تس??ع وعش?رون ص??حيفة‬
‫فيها تهليل وتسبيح?‪.‬‬

‫متوشلح‬
‫ً‬
‫وقام بعده َم ّتوشلح بن أخنوخ‪ ،‬فعمر البالد والنو ُر في جبينه‪ ،‬وول??د ال أوالد‪ ،‬وق??د‬
‫تكلم الناس في كثير من ول??ده‪ ،‬وإق البلغ??ر وال??روس والص??قالبة من ول??ده‪ ،‬وك??انت‬
‫حياته تسعمائة سنة وستين سنة‪ ،‬ومات في أيلول‪.‬‬
‫صفحة ‪14 :‬‬
‫لمك‬
‫وقام بعده لمك‪ ،‬وكان في أيامه كوائن واختالط في النس??ل‪ ،‬وت??وفي‪،‬وك??انت حيات??ه‬
‫سبعمائة سنة وتسعين سنة?‪.‬‬

‫نوح عليه السالم‬


‫شت َذ ْت َد َيا ِجي‬‫وقام بعدهنوح بن لمك عليه السالم‪ ،‬وقد كثبر الفساد في األرض ة فا ْ‬
‫الظلم‪ ،‬فق??ام في األرض داعي?ا ً إلى هّللا ‪ ،‬ف??أ َب? ْ?وا إال طغيان?ا ً وكف??رأ‪ ،‬ف??دعا هّللا عليهم‪،‬‬
‫فأوحى هّللا إليه أن اصنع الفلك‪ ،‬فلما ف??رغ من الس??فينة أت??اه جبرائي??ل علي??ه الس??الم‬
‫بتابوت آدم فيه ر ّمته وكان ركوبهم في السفينة يوم الجمعة لتسع عشرة ليل??ة خلت‬
‫من آذار‪ ،‬فأقام نوح ومن معه في السفينة على ظهر الماء وقد غرق جمي ُع األرض‬
‫أشهر‪ ،‬ثم أمر هّللا تعالى األرض أن تبتلع الماء والسماء أن ُت ْقلِ??ع‪ ،‬واس??توت‬ ‫ٍ‬ ‫س َة‬
‫َخ ْم َ‬
‫?ودي‪ ،‬والج??ودي‪ :‬جب??ل ببالد باس??ورى‪ ،‬وجزي??رة ابن عم??ر ببالد‬ ‫الس??فينة على ا ْل ُج? ِّ‬
‫الموصل‪ ،‬وبينه? وبين دجلة ثمانية? فراسخ‪ ،‬وموضع ُجنوح الس?فينة على رأس ه?ذا‬
‫الجبل إلى هذه الغاية‪.‬‬
‫إلى َب ْلع الم??اء‪ ،‬ومنه??ا م??ا أس??رع إلى َب ْل ِع??ه عن??دما‬
‫وذكر أن بعض األرض لم ُي ْس ِرع ِ‬
‫أمرت‪ ،‬فما أطاع كان ماؤه عذبا َ إذا احتفر‪ ،‬وما ت??أخر عن القب??ول أعقبه??ا هّللا بم??اء‬
‫?باخ و َمالح??ات‪ ،‬ورم??ال‪ ،‬وم??ا تخل??ف من الم??اء ال??ذي امتنعت‬ ‫ِم ْل ٍح إذا احتف??ر‪ ،‬وس? ٍ‬
‫األرض من َب ْلعه انححر إلى قعور مواضع من األرض‪ ،‬فمن ذلك البحار‪ ،‬وهي بقي??ة‬
‫ضه أهلك ب??ه أمم‪ ،‬وس??نذكر بع??د ه??ذا الموض??ع من كتابن??ا ه??ذا‬ ‫الماء الذي عصت أر ُ‬
‫أخبار البحار ووصفها‪.‬‬

‫أوالد نوح عليهم السالم‬


‫ونزل نوح من السفيتة ومع??ه أوالده الثالث??ة‪ ،‬وهم‪ :‬س??ام‪ ،‬وح??ام‪ ،‬وي??افث‪ ،‬و ًك ّنات??ه‬
‫الثالث أزواج أوالثه‪ ،‬وأربع??ون رجاَل َ‪ ،‬وأربع??ون ام??رأة‪ ،‬وص??اروا إلى س??فح الجب??ل‬
‫فاب َت َن ْوا هنالك مدينة? وسموها ثمانين‪ ،‬وهو اسمهاإلى وقتنا ه??ذا‪ ،‬وه?و س?نة? اثن??تين‬
‫وثالثين وثالثمائة‪ ?،‬و َدثر عقب هؤالء الثم??انين نفس ?اً‪ ،‬وجع??ل هّللا نس??ل الخليق??ة من‬
‫نوح من الثالثة من ولم‪ ،‬وقد أخبر هّللا عز وج??ل ب??ذلك بقول??ه‪ :‬وجعلن??ا ذريت??ه هم‬
‫الباقين وهّللا أعلم بهذا التأوبل‪.‬‬
‫والمتخلف عنه من ولمه الذي قال له‪ :‬يا بني اركب معنا هويام‪.‬‬
‫ح األرض بين أوالثه أقساماً‪ ،‬وخص كل واحد بموض??ع‪،‬ودع??ا على ول??ده‬ ‫وقسم نو ٌ‬
‫حام ألمر كان منه مع أبيه قد اشتهر‪ ،‬فقال ة ملعون حام‪ ،‬عبد عنيد يكون إلِخوت??ه‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬مبارك سام‪ ،‬ويكثر هّللا يافث‪ ،‬ويحل يافث في مسكن سام‪.‬‬

‫صفحة ‪15 :‬‬


‫ووجدت في التوراة أن نوحا ً عاش بعد الطوف?ان ثالثمائ?ة? س?نة وخمس?ين س?نة‪،‬‬
‫فجميع عمرنوح تسعمائة وخمسون سنة وقد قيل غيرذلك‪.‬‬

‫مساكن حام بن نوح‬


‫فانطلق حام وأتبعه ولده‪ ،‬فنزلوا مساكنهم في البر والبح??ر على حس??ب م??ا ن??ذكره‬
‫بعد هذا الموضع من هذا الكتاب‪ ،‬وسنذكر تفرق النسل في األرض ومس??اكنهم فيه??ا‬
‫من ولد يافث وسام وحام‪.‬‬

‫مساكن سام‬
‫فأما سام فسكن وسط األرض من بالد الحرم إلى حضرموت إلى عمان إلى عالج‪،‬‬
‫فمن ولده إرم بن سام‪ ،‬وإرفخشذ بن سام بن نوح‪.‬‬

‫إرم بن سام‬
‫ومن ولد إرم بن سام عاذ بن عوص بن إرم بن سام وكانوا ينزلون األحق??اف من‬
‫الرمل‪ ،‬فأرسِ ل َ إليهم هوذ‪..‬‬

‫ثمود من ولد سام‬


‫وثم??ود بن ع??ابر بن إرم بن س??ام‪ ،‬وك??انوا ي??نزلون الح ِْج? َر بين الش??ام والحج??از‪،‬‬
‫فأرسل هللا إليهم أخاهم ص??الحاً‪ ،‬وك??ان من أم??رهم م??ع ص??الح م??ا ق??د اتض??ح أم??ره‪،‬‬
‫واشتهر خبره‪ ،‬وسنذكر بغد ه??ذا الوض??ع من ه??ذا الكت??اب لمع?ا ً من أخب??اره وأخب??ار‬
‫غيره من األنبياء عليهم السالم‪.‬‬

‫طسم وجديسر وعمليق‬


‫وجديس ابنا الوذ إرم‪ ،‬وكانوا ينزلون اليمأمة والبحرين‪ ،‬وأخوهما عملي??ق‬ ‫َ‬
‫وط ْس ٌم َ‬
‫بن الوذ بن إرم‪ ،‬نزل بعضهم الحرم‪ ،‬وبعضهم الش?ام‪ ،‬ومنهم العم?اليق‪ ،‬تفرق?وا في‬
‫البالد‪ ،‬وأخوهم أميم بن الوذ نزل أرض فارس‪ ،‬وسنذكر في باب تن??ازع الن??اس في‬
‫أنساب الفرس من هذا الكتاب من ألحق كيومرت بأميم‪ ،‬وقيل‪ :‬إن أميما ً ن??زل أرض‬
‫ار وهي التي غلبت عليها الجن على ما زعم األخباريون من العرب‪.‬‬ ‫َو َب ِ‬
‫ونزل بنو عبيل بن عوص أخي عاد بن عوص مدينة? الرسول عليه السالم‪.‬‬

‫ماش بن إرم وأواللده‬


‫وولد سام بن ن??وح م?اش بن إرم بن س?ام‪ ،‬ون??زل باب??ل على ش??اطىء الف??رات فل?د‬
‫س? َر ِج ْس?راً بباب??ل على ش??اطىء‬
‫وج َّ‬
‫ض ْر َح بباب??ل‪َ ،‬‬
‫نمروذ بن ماش‪ ،‬وهو الذي بنى ال َ‬
‫الفرات‪ ،‬وملك خمسمائة سنة‪ ،‬وهو ملك ال َّنبطِ ‪ ،‬وفي زمانه فرق هّللا األلسن ‪ :‬فجعل‬
‫عشر لساناً‪ ،‬وفي ول??د ح?ام س??بعة عش??ر لس?اناً‪ ،‬وفي ول??د ي??افث‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تسعة‬ ‫في ولد سام‬
‫ستة وثالثين لساناً‪ ،‬وتشعبت بع??د ذل??ك اللغ??ات وتف??رقت األلس??ن‪ ،‬وس??نذكر ه??ذا في‬
‫موضعه الذي يوجد في كتابنا هذا‪ ،‬وتفرق الناس في البالد‪ ،‬وما قالوا في ذلك‬
‫صفحة ‪16 :‬‬
‫من األش??عار عن??د تف??رقهم في البالد ب??أرض باب??ل‪ ،‬ويق??ال‪ :‬إن ف??الغ ه??و ال??ذي قس??م‬
‫األرض بين األمم‪ ،‬ولذلك سمي فالغ‪ ،‬وهو فالح‪ :‬أي قاسم‪.‬‬

‫فالغ بن سالخ وأوالده‬


‫وولد إرفخشذ بن سام بن نوح شالخ‪ ،‬فلد شالخ فالغ بن شالخ ال??ذي قس??م األرض‬
‫وهو جد إب?راهيم علي?ه الس?الم‪ ،‬وع?ابر بن ش?الخ‪ ،‬وابن?ه قحط?ان بن ع?ابر‪ ،‬وابن?ه‬
‫َي ْع ُرب بن قحط?ان‪ ،‬وه?و أول من حي?اه ول?ده تحي?ة المل?ك آ ْن ِع ْم َ‬
‫ص?باحا ً وأ َب ْي َت ْ‬
‫اللعنَ‬
‫وقيل‪ :‬إن غيره ُح ٍّي بهذه التحية من مل??وك الج??يرة‪ ،‬و َت ْحط??ان أب??و اليمن كله??ا على‬
‫حسب ما نذكربن ش??اء هّللا تع??الى في ب??اب تن??ازع الن??اس في أنس??اب اليمن من ه??ذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وهو أول من تكلم بالعربية إِل عرابه من المع??اني وإبانت ?ه? عنه??ا‪ ،‬ويقطن بن‬
‫عابر بن شالخ هو أبو جرهم وجرهم بنو عم يعرب‪ ،‬وكانت ُج ْر ُه ُم ممن سكن اليمن‬
‫وتكلموا بالعربية‪ ،‬ثم نزلوا بمكة فك??انوا به??ا‪ ،‬على حس??ب م??ا ن??وردهُ من أخب??ارهم‪،‬‬
‫ورا بنو عم لهم‪ ،‬ثم أسكنها هللا إس??ماعيل علي??ه الس??الم‪ ،‬ونكح في ج??رهم؛ فهم‬ ‫و َق ُط َ‬
‫أخوال ولده‪.‬‬
‫وذكر أهل الكتاب أن لمك بن سام بن ن?وح حي‪ ،‬ألن هّللا عزوج?ل أوحى إلى س?ام‪:‬‬
‫إن الذي وكلته بجسد اعم أبقيته إلى آخر األبد‪ ،‬وذلك أن س??ام بن ن??وح َد َفنَ ت??ابوت‬
‫آدَ َم في وسط األرض‪ ،‬و َّكل لمكا ً بق??بره‪ ،‬وك??انت وف??اة س??ام ي??وم الجمع??ة؛ وذل??ك في‬
‫أيلول‪ ،‬وكان عمره إلى أن قبضه هللا عزوجل ستماَئة سنة‪.‬‬

‫إرفخشذ بن سام‬
‫وك?ان القيم بع?د س?ام في األرض ولح??ه إرفخش?ذ‪ ،‬وك?ان عم?ره إلى أن قبض?ه هّللا‬
‫عزوجل ّ أربعمائة سنة وخمسا ً وستين سنة‪ ،‬وكانت وفاته في نيسان‪.‬‬

‫شالخ بن إرفخشذ‬
‫ولم?ا قبض هّللا إرفخش??ذ ق?ام بع??ده ول?ده ش??الخ بن إرفخش?ذ‪ ،‬وك?ان عم?ره إلى أن‬
‫هللا عز وجل أربعمائة سنة وثالثين سنة‪.‬‬ ‫قبضه ّ‬

‫عابر بن شالخ‬
‫ولما قبض هّللا شالخ قام بع?ده ول?ده ع?ابر؛ فعم?ر البالد‪ ،‬وك?انت في أيام?ه ك?وائن‬
‫وتن??ازع في مواض??ع من األرض‪ ،‬وك??ان عم??ره إلى أن قبض??ه هّللا ع??ز وج??ل إلي??ه‬
‫ثالثمائة سنة وأربعين سنة‪.‬‬

‫صفحة ‪17 :‬‬


‫فالغ بن عابر‬
‫ولما قبض هّللا عابر قام بعده وللى فالغ علىنهج منْ َ‬
‫س َل َ‬
‫ف من آبائه‪ ،‬وك??ان عم??ره‬
‫إلى أن قبضه هّللا عزوجل مائتي سنة وثالثين سنة‪ ،‬وقد قدمنا ذكره في هذا الكت??اب‬
‫فيما سلف‪ ،‬وما كان بأرض بابل عند َت َب ْل ُبلى األلسن‪.‬‬

‫رعو بن فالغ‬
‫هّللا‬
‫ولما قبض فالغ قام بعده ولده رعوبن ف??الغ‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن في زمن?ه? ‪0‬ك??ان مول??د‬
‫خمروذ الجبار‪ ،‬وكان عمره إلى أن قبضه هّللا مائتي? سنة‪ ،‬وكانت وفاته في نيسان‪.‬‬

‫ساروغ بن رعو‬
‫ولما قبض هّللا رعو قام بعدهساروغ بن رعو‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه في أيامه ظه??رت عب??ادة‬
‫ص َور‪ ،‬لضروب من العلل أح??دثت في األرض وش??به? ذل??ك‪ ،‬وك??ان عم??ره‬ ‫األصنام وال ُّ‬
‫إلى أن قبضه هّللا إليه مائتي سنة وثالثين سنة‪.‬‬

‫ناحور بن ساروغ‬
‫ولما قبض هّللا ساروغ قام بع??ده ن?احور بن س??اروغ مقت?ديا ً بمن س??لف من آبائ?ه‪،‬‬
‫ف وزالزل لم تعه?د فيم?ا س?لف من األي?ام قبل?ه‪ ،‬وأح?دثت في‬ ‫رج? ٌ‬
‫وح?دث في أيام?ه ْ‬
‫أيامه ضروب من المهن واالالت‪ ،‬وك??انت في أيام??ه ح??روب وتح??زيب األح??زاب من‬
‫الهند وغيرها‪ ،‬وكان عمره إلى أن قبضه هّللا إليه مائة سنة وستا ً وأربعين سنة‪.‬‬

‫تارح بن ناحور‬
‫ولما قبض هّللا ناحور قام بع??ده ول??ده ت??ارح‪ ،‬وه??و آزر أب??و إب??راهيم الخلي??ل‪ ،‬وفي‬
‫عصره كان نم??روذ بن كنع??ان‪ ،‬وفي أي??ام نم??روذ? ح??دثت في األرض عب??ادة الن??يران‬
‫واألنوار‪ ،‬وجعل لها مراتب في العبادات‪ ،‬وكان في األرض ه??رج عظيم من ح??روب‬
‫وإح??داث ك??ور وممال??ك بالش??رق والغ??رب‪،‬وغ??ير ذل??ك‪ ،‬وظه??ر الق??ول بأحك?ام نج??وم‬
‫وص??ورت األفالك‪ ،‬وعملت له??ا الآلالت‪ ،‬وقُ? ِّ‬
‫?ر َب فهم ذل??ك إلى قل??وب الن??اس‪ ،‬فنظ??ر‬
‫أصحاب النجوم إلى طالع السنة التي ولد فيها إبراهيم علي??ه الس??الم وم??اذا ي??وجب‪،‬‬
‫س? ّفه أحالمهم‪ ،‬ويزي?ل? عب?ادتهم‪ ،‬ف?أمر النم?روذ‬ ‫فأخبروا النمروذ أن مول?وداً يول?د ُي َ‬
‫الو لدان‪ ،‬وأخفي إبراهيم عليه السالم في مغارة‪ ،‬ومات آزر‪ ،‬وهو تارح‪ ،‬وكان‬ ‫بقتل ِ‬
‫هّللا‬
‫عمره إلى أن قبضه عزوجل مائتين وستين سنة‪ ،‬و الموفق للصواب‪.‬‬ ‫هّللا‬

‫صفحة ‪18 :‬‬

‫ذكر قصة إبراهيم ومن تأل عصره من األنبياء‬


‫والملوك من بني إسرائيل وغيرهم‬
‫ولما نشأ إبراهيم عليه الس??الم‪ ،‬وخ??رج من المغ??ارة ال??تي ك??ان به??ا‪ ،‬وتأم??ل آف??اق‬
‫األرض والعالم‪ ،‬وما فيه دالئل الحدوث والتأثير‪ ،‬نظر إلى الزه??رة وإش??راقها فق??ال‪:‬‬
‫?ر مم?ا‬‫هذا ربي‪ ،‬فلما رأى القمر أنور منه?ا ق?ال‪ :‬ه?ذا ربي‪ ،‬فلم?ا رأى الش?مس أ ْب َه َ‬
‫رأى قال‪ :‬هذا ربي هذا أكبر‪ ،‬وقد تن??ازع الن??اس في ق??ول إب??راهيم ه??ذا ربي‪ ،‬فمنهم‬
‫َمنْ رأى أن ذل??ك ك??ان من?ه? على طري??ق االس??تدالل واالس??تخبار‪ ،‬ومنهم َمنْ رأى أن‬
‫ومنهم َمنْ رأى غ??ير ذل?ك‪ ،‬فأت??اه جبرائي??ل‬‫ِ‬ ‫ذلك منه كان قبل البلوغ وحال التكلي??ف‪،‬‬
‫ش? َده من قب??ل‪ ،‬ومن أوتي‬ ‫فعلمه دينه‪ ?،‬واص??طفاه هللا نب ّي? ا ً وخليالَ‪ ،‬وك??ان ق?د أوبي ُر ْ‬
‫رشده فقد عصم من الخطأ والزلل وعبادة غير الواحد الصمد‪ ،‬فع?اب إب??راهيم علي??ه‬
‫المج ّو َف??ا ِ‬
‫ت آله??ة لهم‪ ،‬فلم??ا ك??ثر‬ ‫َ‬ ‫السالم على قومه م??ا رأى من عب??ادتهم واتخ??اذهم‬
‫عليهم ذم إبراهيم اللهتهم‪ ،‬واس??تفاض ذل?ك فيهم اتخ?ذ النم?روذ الن?ار وألق?اه فيه??ا‪،‬‬
‫سالَماً‪ ،‬وخمدت النار في سائر بقاع األرض في ذلك اليوم‪.‬‬ ‫فجعلها هّللا َب ْرداً َو َ‬

‫مولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السالم‬


‫وول??د إلِب??راهيم إس??ماعيل ُ عليهم??ا الس??الم‪ ،‬وذل??ك بع??د أن مض??ى من عم??ره س??ت‬
‫?اجر جاري??ة ك?انت‬ ‫وثمانمون سنة أو سبع وثمانون سنة وقيل‪ :‬تس??عون س??نة من َه? َ‬
‫ارةُ أول من آمن ب??إبراهيم علي??ه الس??الم‪ ،‬وهي ابن??ة بتواي ?ل? بن‬ ‫ار َة‪ ،‬وك??انت َ‬
‫س? َ‬ ‫ل َِس ? َ‬
‫ناحور‪ ،‬وهي ابنة عم إبراهيم‪ ،‬وقد قيل غير هذا مم??ا س??نورور بع??د ه??ذا الموض??ع‪،‬‬
‫وأ َمنَ به لوط بن هاران بن تارح بن ناحور‪ ،‬وهو ابن أخي إبراهيم عليه السالم‪.‬‬

‫أصحاب المؤتفكة‬
‫وأرس???ل هللا لوط???ا ً إلى الم???دائن الخس???من‪ ،‬وهي‪ :‬س???دوم‪ ،‬وعم???ورا‪ ،‬وأدموت???ا‪،‬‬
‫وصاعورا‪ ،‬وصابورا‪ ،‬وإن قوم لوط هم أصحاب المؤتفكة‪ ،‬وهذا االس??م مش??تق? من‬
‫اإِل ف??ك‪ ،‬وه??و الك??ذب على رأي من ذهب إلى االش??تقاق‪ ،‬وق??د ذك??رهم هّللا في كتاب??ه‬
‫?ة أهْ? َوى وه??ذه بالد بين ُت ُخ??وم الش??ام والحج??از مم??ا يلي األردن‬‫بقوله‪َ :‬وا ْل ُم ْؤ َتف َك? َ‬
‫وبالد فلسطين‪ ،‬إال أن ذلك في ح?يز الش?ام‪ ،‬وهي ُم َبق?اة إلى وقتن?ا ه?ذا‪ ،‬وه?و س?نة‬
‫سو َمة? موجودة فيها يراه??ا‬ ‫اثنتين وثالثين وثالثمائة خرابا ً ال أحد بها‪ ،‬والحجارة ال ُم َ‬
‫برا َق ًة‪ ،‬فأقام فيهم لوط بضعا ً وعش?رين س?نة ي?دعوهم إلى هّللا‬ ‫سوداء َّ‬ ‫س َّفار َ‬ ‫الناس ال ُّ‬
‫هّللا‬
‫فلم يؤمنوا‪ ،‬فأخذهم العذاب على حسب ما أخبر من شأنهم‪.‬‬

‫صفحة ‪19 :‬‬

‫ولما ول??د إس??ماعيل إِل ب??راهيم من ه??اجر َغ? َ‬


‫ار ْت س??ارة فحم??ل إب??راهيم إس??ماعيل‬
‫َاج َر إلى مكة فأسكنها بها‪ ،‬وذلك قول??ه ع??ز وج??ل يخ??بر عن إب??راهيم‪ :‬رب إني‬ ‫وه َ‬
‫أسكنت من فريتي بوا ٍد غير في زرع عن د بيت ك المح رم فأج اب هّللا دعوت ه‪ ،‬وآنس‬
‫بج ْره ٍ ٍََُم والعماليق‪ ،‬وجعل أفئِدةً من الناس تَ ْه ِوي إليهم‪.‬‬
‫وحشتهم‪ُ ،‬‬
‫وأهلك هللا قوم لوط في عهد إبراهيم لما كان من فعلهم واتضح من خ برهم ثم أم ر‬
‫هّللا إبراهيم عليه السالم ب ذبح ول ده‪ ،‬فب ادر إلى طاع ة رب ه‪َ ،‬وتلَّهُ للج بين‪ .‬فَف داه هّللا‬
‫ذبح عظيم‪ ،‬ورفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل‪.‬‬ ‫بِ ٍ‬

‫مولد إسحاق‬
‫ُ‬
‫إسحاق عليه السالم‪ ،‬وذلك بعد مض??ي عش??رين ومائ??ة‬ ‫ثم ولد إلِبراهيم من سارة‬
‫سنة من عمره‪.‬‬

‫الذبيح من ولد إبراهيم‬


‫وقد تنازع الناس في الذبيح‪ ،‬فمنهم من ذهب إلى أنه إسحاق‪ ،‬ومنهم من رأى أنه‬
‫إسماعيل‪ ،‬فإن كان األم??ر وق??ع بال?ذبح بالحج?از فال?ذبيح? إس??ماعيل‪ ،‬ألن إس??حاق لم‬
‫يدخل الحجاز‪ ،‬هان كان األمر بالذبح وقع بالشام فالذبيح إس??حاق‪ ،‬ألن إس??ماعيل لم‬
‫يدخل الشام بعد أن حمل منه‪ .‬وتوفيت سارة وت??زوج? إب??راهيم بع??د ذل??ك بقنط??وراء‪،‬‬
‫فلد منها ستة ذكور‪ ،‬وهم‪ :‬مرق‪ ،‬ونفس‪ ،‬ومدن‪ ،‬ومد ين‪ ،‬وسنان‪ ،‬وسرح‪ ،‬وت??وفي‬
‫إبراهيم بالشام‪ ،‬وكان عمره إلى أن قبضه هّللا عزوجل مائة س??نة وخمس ?ا ً وتس??عين‬
‫هللا عليه عشراً من الصحف‪.‬‬‫سنة‪ ،‬وأنزل ّ‬

‫أوالد إسحاق بن إبراهيم الخليل‬


‫وتزوج إسحاق بعد إبراهيم برفقا ابنة بتوايل ؛ فلدت له العيص ويعق??وب في بطن‬
‫واحد‪ ،‬وكان البادىء منهما إلى ال َفصل عيص‪ ،‬ثم يعقوب‪ ،‬وك??ان إِل س??حاق في وقت‬
‫ص? َر إس??حاق‪ ،‬ف??دعا ليعق??وب بالرياس??ة على إخوت??ه‬
‫مولدهما س??تون س??نة‪ ?،‬وذهب َب َ‬
‫والنبوة في ولده‪ ،‬ودعا لعيص يالملك في ولده‪ ،‬وك??ان عم??ر إس??حاق إلى أن قبض??ه‬
‫هّللا مائة وخمسا ً وثمانين سنة‪ ،‬ودفن مع أبيه الخليل‪ ،‬ومواضع قب??ورهم مش??هورة‪،‬‬
‫وذل??ك على ثماني ?ة? عش??ر ميالً من بيت المق??دس في مس??جد هن??اك يع??رف بمس??جد‬
‫إبراهيم ومراعيه‪.‬‬

‫يعقوب بن إسحاق وأخوه العيص‬


‫شره ب??النبوة ونب??وة‬‫وقد كان إسحاق أمر ولده يعقوب بالمسير? إلى أرض الشام و َب َّ‬
‫أوالده االثني عشر‪ ،‬وهم‪ :‬الوى‪ ،‬ويهوذا‪ ،‬ويساخر‪ ،‬وزبولون‪ ،‬ويوسف‪ ،‬وبنيامين‪،‬‬
‫ودان‪ ،‬ونفتالى‪ ،‬وكان‪ ،‬وإشا ر‪ ،‬وشمعون‪ ،‬وروبي??ل‪ ?،‬ه??ؤالء األس??باط االثن??ا عش??ر‪،‬‬
‫والنب???وة والمل???ك في عقب أربع???ة منهم‪ :‬الوى‪ ،‬ويه???وذا‪ ،‬ويوس???ف‪ ،‬وبني???امين‪،‬‬
‫وكثرجزع يعقوب من أخيه العيص ‪ ،‬فأمنه هّللا من ذلك‪ ،‬وكان ليعقوب خمس??ة آالف‬
‫وخمسمائة? من الغنم؛ فأعطى يعقوث ألخيه العيص العشرمن غنمه‬
‫صفحة ‪20 :‬‬

‫س ْط َوته‪ ،‬من بعد أن آمن?ه? هّللا عزوج??ل من خوف??ه‪ ،‬وأن ال‬


‫استكفاء للشر وخوقا ً من َ‬
‫سبيل? ل?ه عليال‪ ،‬فعاقب?ه هللا في وللى لمخالفت?ه لوع?ده‪ ،‬ف?أوحى هّللا تع?الى إلي?ه‪ :‬ألم‬
‫تطمئن إلى ق?ولي‪ .‬فألجعلن ول?د العيص يملك?ون ول?دك خمس?مائة وخمس?ين عام?اً‪،‬‬
‫ت الروم بيت المقدس‪ ،‬واس??تعبدت ب??ني إس??راثيل إلى أن فتح‬ ‫وكانت المدة منذ ْ‬
‫أخ َر َب ِ‬
‫هللا عنه بيت المقدس‪.‬‬
‫عمر بن الخطاب رضي ّ‬
‫وكان أحب ولد يعقوب إليه يوسف؛ فحسده إخوته على ذلك‪ ،‬وك??ان من أم??ره م??ع‬
‫ص هللا عزوجل في كتابه‪ ،‬وأخبر به على لسان نبي??ه‪ ?،‬واش??تهر ذل??ك في‬ ‫إخوته ما َق َّ‬
‫أمته‪.‬‬

‫وفاة يعقوب ويوسف‬

‫وقبض هّللا ع??ز وج??ل يعق??وب ببالد مص??ر‪ ،‬وه??و ابن مائ??ة وأربعين س??نة‪ ،‬فحمل??ه‬
‫يوسف فدفنه ببالد فلسطين‪ ،‬عند تربة? إبراهيم وإسحاق‪ ،‬وقبض هّللا يوسف بمص??ر?‬
‫وله مائة وعشرون س??نة‪ ،‬وجع??ل في ت??ابوت من الرخ??ام‪ ،‬وس??د بالرص??اص‪ ،‬وطلى‬
‫األطلية الدافع??ة لله??واء والم??اء‪ ،‬وط??رح في ني??ل مص??ر نح??و مدين?ة? َم ْن? َ‬
‫?ف‪ ،‬وهن??اك‬
‫مسجده وقيل‪ :‬إت يوسف ْأوصى أن يحمل فيدفن عن??د ق??بر أبي??ه ي َعق??وب في مس??جد‬
‫إبراهيم عليه السالم‬

‫أيوب النبي‬

‫وكان في عصره أيوب النبي صلى هّللا عليه وسلم‪ ،‬وهوأيوب بن موص بن زراح‬
‫بن رعوايل بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السالم‪،‬وذلك في بالد الش??ام من‬
‫ورانَ والبثنية? من بالد األردن من بين دمشق والجابي??ة‪ ?،‬وك?ان كث??ير الم??ال‬ ‫أرض ُح َ‬
‫فص ? َبر‪ ،‬ورد هّللا علي??ه ذل??ك‪ ،‬وأقال??ه‬
‫والول??د‪ ،‬ف??ابتاله هّللا في نفس??ه ومال??ه وول??ده‪َ ،‬‬
‫ثرت??ه‪ ?،‬واقتص م??ا اقتص من أخب??اره في كتاب??ه على لس??ان نبي ?ه? ص??لى هللا علي??ه‬ ‫َع َ‬
‫وسلم‪ ،‬ومسجده والعينُ التي اغتسِ ل مئها في وقتنا هذا‪ ،‬وهو س??نة اثن??تين وثالثين‬
‫نوى والج??والن فيم??ا بين لمح دمش??ق وطبري??ة من بالد‬ ‫وثالئمائة‪ ?،‬مشهوران ببالد َ‬
‫األردن‪ ،‬وه??ذا المس??جد والعين على ثالث??ة أمي??ال من مدين ?ة? َن? َ?وى‪ ،‬أو نح??و ذل??ك‪،‬‬
‫وا ْل َح َج ُر الذي كان يأوي إلي??ه في ح??ال َبال ِئ??ه ه??و وزوجت??ه واس??مها رحم??ةفي ذل??ك‬
‫المسجد إلى هذا الوقت وذكر أهل الت??وراة والكتب األولى أن موس??ى بن ميش??اء بن‬
‫يوسف بن يعقوب نبي قبل موسى بن عمران‪ ،‬وأنه هو الذي طلب الخضربن ملكان‬
‫ابن فالغ بن عابوربن شالخ بن إرفخشد بن سام بن نوح‪ ،‬وذكر بعض أه??ل الكت??اب‬
‫أن الخضر هو خضرون بن عميائيل بن النف??ر بن العيص بن إس??حاق ابن إب??راهيم‪،‬‬
‫وأنه أرسل إلى قومه فاستجابوا له‪.‬‬

‫صفحة ‪21 :‬‬

‫موسى بن عمران‬
‫فكان موس??ى بن عم??ران بن ق??اهث بن الوى بن يعق??وب بمص??ر في زمن فرع??ون‬
‫الجبار‪ ،‬وهو الوليد بن مص??عب بن معاوي??ة بن أبي نم??ير بن أبي الهل??واس بن ليث‬
‫بن هران بن عمرو بن عمالق‪ ،‬وهو الرابع من فراعنة مصر‪ ،‬وقد كان طال عم??ره‬
‫وعظم جسمه‪ ،‬وكان بن??و إس??رائيل ق??د اس??ترقُوا بع??د مض??ي يوس??ف‪ ?،‬واش??تد عليهم‬
‫والنجوم والسحر فرعون أن مولودأ سيولد ويزيل ملك??ه‬ ‫ٍ‬ ‫البالء‪ ،‬وأخبر أهل ال َك َهانة‬
‫ويحدث ببالد مصر? أموراً عظيمة‪ ،‬فجزع لذلك فرعون‪ ،‬وأمر بذبح األطف??ال‪ ،‬وك??ان‬
‫من أمر موسى ما أوحى هّللا عزوجل إلى أ ِّم ِه في أمره‪ :‬أن اقذفيه في اليم‪ ،‬فقذفت??ه‪،‬‬
‫إلى آخر ما اقتص من خبره‪ ،‬وأوضحه على لسان نبيه? صلى هللا عليه وس??لم وك??ان‬
‫ش َع ْيب عليه السالم‪ ،‬وه??و ش??عيب بن ن??ويت بن رعواي??ل بن م??ر بن‬ ‫في ذلك الزمان ُ‬
‫عنقاء بن مدين بن إبراهيم‪ ،‬وكان لسانه عرب ّياً‪ ،‬وكان مبعوثا ً إلى أهل َم??دْ َينَ ‪ ،‬ولم??ا‬
‫خرج موسى عليه السالم هاربا ً من فرعون مر بشعيب الن??بي علي??ه الس??الم‪ ،‬وك??ان‬
‫من أمره معه وتزويجه? ابنته? ما قد ذكره هّللا عزوجل‪.‬‬

‫هارون أخو موسى وبعثهما إلى فرعون‬

‫ض ?ده بأخي??ه ه??ارون‪ ،‬وبعثهم??ا إلى فرع??ون‪،‬‬ ‫وكلم هّللا موس??ى تكليم ?اً‪ ،‬وش??دَ َع ُ‬
‫فخالفهم??ا‪ ،‬ف??أغرق هّللا ع??ز وج??ل فرع??ون‪ ،‬وأم??ره هّللا ع??ز وج??ل ب??الخروج بب??ني?‬
‫إسرائيل إلى ال َّتي??ه‪ ،‬وك??ان ع??ددهم س??تمائة? أل??ف ب??الغ دون من ليس بب??الغ‪ ،‬وك??انت‬
‫األلواح التي أنزله??ا هّللا على موس??ى بن عم??ران على جب??ل ط??ور س??يناء من زم??رد‬
‫أخض??ر فيه??ا كتاب??ة بال??ذهب‪ ،‬فلم??ا ن??زل من الجب??ل رأى قوم?ا ً من ب??ني إس??رائيل ق?د‬
‫اعتكفا على عبادة عجل لهم‪ ،‬فارتعد‪ ،‬فسقطت األلواح من ي??ده‪ ،‬فتكس??رت‪ ،‬فجمعه??ا‬
‫وأودعها تابوت السكينة مع غيرها وجعله في الهيك??ل‪ ،‬وك?ان ه??ارون كاهن?اً؛ وه??و‬
‫قيم الهيكل وأتم هللا عزوجل نزول التوراة على موس??ى بن عم??ران وه??و في ال ّتي??ه‪،‬‬
‫ت من نح??و جب??ل الش??راة مم??ا يلي‬ ‫وقبض هللا هارون في ال ّتيه فدفن في جب??ل و َم? َ‬
‫?وا ٍ‬
‫الطور‪ ،‬وقبره مشهور في مغارة عادية يسمع? منها في بعض اللي??الي ع??وق ٌي عظيم‬
‫يجزع منه كل فيى روح‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه غير مدفن‪ ،‬بل ه??و موض??وع في تل??ك المغ??ارة‪،‬‬
‫ولهذا الموضع خبر عجيب قد ذكرن??اه في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان عن األمم الماض??ية‬
‫والممالك الداثرة ومن وصل إلى هذا الموضع علم ما وصفنا‪ ،‬وكان ذل??ك قب??ل وف??اة‬
‫موس??ى بس??بعة? أش??هر‪ ،‬وقبض هّللا ه??ارون وه??و ابن مائ??ة وثالث وعش??رين س??نة‪?،‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه قبض وهو ابق مائة وعشرين‪ ،‬وقيل‪ :‬إن موسى قبض بعد وفاة ه??ارون‬
‫بثالث سنين‪ ،‬وإنه خرج إلى الشام وكان له بها ح??روب من س??رايا ك??انوا يس??رونها‬
‫?يرهم ممن ك?انوا بالش??ام وغ??يرهم‬ ‫من البر إلى العماليق والقربانيين والمدنيين وغي? ٍ‬
‫من الطوائ??ف على حس??ب م??افي الت??وراة‪ ،‬وأن??زل هّللا ع??ز وج??ل على موس??ى عش??ر‬
‫صحف‪ ،‬فاس??تتم مائ??ة ص??حيفة‪ ،‬ثم أن??زل هّللا علي??ه الت??وراة بالعبراني??ة وفيه??ا األم??ر‬
‫سفر‬‫والنهي والتحريم والتح ْليل والسنن واألحكام‪ ،‬وذنك في خمسة أسفار‪ ،‬وال ً‬
‫صفحة ‪22 :‬‬

‫يريدون به الصحيفة‪ ،‬وكان موسى قد ضرب التابوت الذي فيه الس??كينة من ال??ذهب‬
‫من ستماتة ألف مثقال وسبعمائة? وخمسين مثقاالً‪ ،‬فصار الكاهن بعد هارون يوش ? ُع‬
‫هللا موس??ى وه??و ابن عش??رين ومائ??ة س??نة‪ ?،‬ولم‬ ‫بن نون بن س??بط يوس??ف‪ ،‬وقبض ّ‬
‫قبض‬
‫َ‬ ‫يحدث لموسى وال لهارون شيء من الشيب‪ ،‬وال حاال عن صفة الشباب ولما‬
‫هّللا عز وجل موسى بن عمران سار يوشع بن نون بب??ني? إس??رائيل إلى بالد الش??ام‪،‬‬
‫وقد كان غلب عليها الجبابرة من ملوك العماليق وغيرهم من ملوك الشام‪ ،‬فأس??رى‬
‫إليهم يوشع بن نون سرايا‪ ،‬وكانت له معهم وقائع‪ ،‬فافتتح بالد أريح??اء وزغ??ر من‬
‫أرض الغ??ور‪ ،‬وهي أرض البح??يرة المنتن??ة ال??تي ال تقب??ل الغ??رقى‪ ،‬وال يتك??ون فيه??ا‬
‫روح من سمك وال ْع? يزه‪ ،‬وق?د ذكره?ا ص?احب المنط?ق وغ?يره من الفالس? ْفة و َمنْ‬
‫تقدم وتأخر من عصره‪ ،‬وإليها ينتهي? ماء بحيرة طبري??ة‪ ،‬وه??و األردن‪ ،‬وب??دء م??اء‬
‫صب نهر‬ ‫بحيرة طبرية? من بحيرة كفرلى والقرعون من أرض دمشق‪ ،‬فإذا انتهى َم َ‬
‫األردن إلى البحيرة المنتنة? َخ َر َق َها وانتهى إلى وس??طها متم??يزاً عن مائه??ا فيغ??وص‬
‫في وسطها‪ ،‬وهو نهر عظيم‪ ،‬فال يدري أين غاص من غير أن يزيد في البحيرة وال‬
‫ينقص منها‪ ،‬ولهذه البحيرة أع??ني المنتن??ة أخب??ار عجيب??ة وأقاص??يص طويل??ة‪ ،‬وق??د‬
‫أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان عن األمم الماض??ية والمل??وك ال??داثرة وذكرن??ا‬
‫أخبار األحجار التي تخرج منه??ا على ص??ورة البطيخ على ش??كلين‪ ،‬ويع??رف الواح??د‬
‫منه??ا ب??الحجر اليه??ودي‪ ،‬وذكرت??ه الفالس??فة‪ ،‬واس??تعمله أه??ل الطب لمن ب??ه وج??ع‬
‫صاة في ال َم َثانة‪ ،‬وهو نوع??ان‪ :‬ذك??ر‪ ،‬وأن??ثى‪ ،‬فال?ذكر للرج?ال‪ ،‬واألن??ثى للنس??اء‪،‬‬
‫الح َ‬
‫َ‬
‫ومن ه??ذه البح??يرة يخ??رج الغب??ار المع??روف ب??الحمرة‪ ،‬وليس في ال??دنيا وهّللا أعلم‬
‫بحيرة ال يتكون فيها روح من سمك وغيره إال هذه البحيرة‪ ،‬وبحيرة ر ِك ْب ُته??ا ببالد‬
‫أفربيج?ان بين مدين?ة إرميني?ة? والمراغ?ة‪ ،‬وهي المعروف?ة هن?ا بكب?ودان‪ ،‬وق?د ذك?ر‬
‫الن??اس ممن تق??دم ع??ذر ع??دم تك??ون الحي??وان في البح??يرة المنتن??ة‪ ?،‬ولم يتعرض??وا‬
‫لبحيرة كبودان‪ ،‬وينبغي على قياس قولهم أفي تكون علّتهما واحدة‪.‬‬
‫وسار ملك الش?ام وه??و الس??ميدع بن ه??وبر بن مال?ك إلى يوش??ع بن ن??ون؛ فك?انت‬
‫بينهم حروب إلى أن قتله يوشع‪ ،‬واحتوى على جمي??ع ملك??ه‪ ،‬وألح??ق ب??ه غ??يره من‬
‫?ام‪ ،‬وك??انت م??دة يوش??ع بن ن??ون في‬ ‫شنَّ الغارات ب??أرض الش? ِ‬ ‫الجبابرة والعماليق‪ ،‬و َ‬
‫بني إسرائيل بعد وفاة موسى بن عمران تسعا َ وعشرين سنة‪ ،‬وهو يوشع بن ن??ون‬
‫بن إفرائيم بن يوسف? بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن يوش??ع بن ن??ون‬
‫كان بدء محاربته لملك العماليق وهو السميدع ببالد أ ْي َل َة نحو مدين‪ ،‬ففي ذلك يقول‬
‫عوف بن سعد الجرهمي‪:‬‬
‫َّ‬
‫تـمـزعـا‬ ‫بأ ْي َل َة أمسى َل ْح ُم ُه قـد‬ ‫هـوبـر‬
‫ٍ‬ ‫ألم ترأنَ ا ْل َع ْم َلقـي ابـن‬
‫ودرعـا‬ ‫ثمانين ألفـا ً حـاسـرين ً‬ ‫تداعت عليه من يهود َحـجـافـل‬
‫على األرض مشيا ً مصعدين وفُ َّزعا‬ ‫فأمست عداداً للعمـالـيق بـعـده‬
‫سـ َمـ ْيدعـا‬‫ولم َي َرراء قبل ذاك ال َّ‬ ‫كأنْ لم يكونوا بين أجـبـال مـكة‬

‫صفحة ‪23 :‬‬

‫بلعم بن بعوراء‬
‫وكان بقرية? من ق??رى البلق?اء من بالد الش??ام رج??ل يق??ال ل??ه بلعم بن ب??اعوراء بن‬
‫سنور بن وسيم بن ناب بن لوط بن هاران‪ ،‬وكان مس??تجاب ال??دعوة‪ ،‬فحمل??ه قوم??ه‬
‫يتأت له ذلك‪ ،‬وعجز عن??ه‪ ،‬فأش??ار على بعض‬ ‫َّ‬ ‫على الدعاء على يوشع بن نون‪ ،‬فلم‬
‫ملوك العماليق أن يبرزوا الحسان من النساء نحو عسكر يوش??عع بن ن??ون ففعل??وا‪،‬‬
‫فتسرعوا إلى النساء فقع فيهم الطاعون‪ ،‬فهلك منهم س??بعون ألف?اً‪ ،‬وقي??ل أك??ثر من‬
‫ذلك وبلعم هو الذي أخبر هللا عنه أنه آتاه اآليات فانسلخ منها وقيل‪ :‬إن يوشمع? بن‬
‫نون قبض وهو ابن مائة وعشرين سنة‪.‬‬

‫كالب بن يوقنا‬
‫?الب بن يوقن??ا بن ب??ارض بن يه??وذا‪،‬‬ ‫وقام في بني إسرائيل بع??د يوش??ع بن ن??ون ك? ُ‬
‫ويوشع وكالب الرجالن اللذان أنعم هللا عليهما‪ .‬قال المسعودي‪ :‬ووجدت في نس??خة‬
‫أن القائم في بني إسرائيل بعد وفاة يوشع بن نون كوشان الكفري‪ ،‬وأن??ه أق??ام فيهم‬
‫ثمانين سنة‪ ?،‬وهلك‪ ،‬وملك عميائيل بن قابيل من س??بط يه??وذا أربعين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬
‫كوش جبار كان في آب من أرض البلقاء‪ ،‬وإن بني? إسرائيل كف??رت بع??د ذل??ك فملً? َك‬
‫هللا عليهم كنعان عشرين س??نة‪ ،‬وهل??ك‪ ،‬فك??ان على ب??ني إس??رائيل عمالل األحب??اري‬
‫أربعين س??نة‪ ،‬ثم ق?ام ش??مويل? إلى أن وليهم ط??الوت‪ ،‬وخ??رج عليهم ج??الوت الجب??ار‬
‫ملك البربر من أرض فلسطين‪ .‬قال المسعودي‪ :‬فأما على الرواية األولى التي قمن??ا‬
‫ذكرها أن القيم بعد يوشع في بني? إسرائيل كالب بن يوقنا وأن القائم بع??ده في ب??ني‬
‫إسرائيل والمدبر لهم فنحاص بن العازر بن هارون بن عم??ران ثالئين س??نة‪ ،‬وك??ان‬
‫َع َم?? َد إلى مص??احف موس??ى بن عم??ران علي??ه الس??الم فجعله??ا في خابي??ة نح??اس‬
‫رأس َها‪ ،‬وأتى بها صخرة بيت المق??دس‪ ،‬وذل??ك قب??ل بنائ?ه? ف??انفرجت‪ ،‬ف??إذا‬‫ص َ‬ ‫ص َ‬‫ور َ‬
‫مغارة فيها صخرة ثانية‪ ،‬فضع الخابية فيها‪ ،‬وانضصت الصخرة على ذل??ك ك َك ْونه??ا‬
‫أوالَ‪ .‬ولما هلك فنحاص بن العازر دبر أمرهم كوشان األثيم ملك الجزيرة فتعبد بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وأخذهم البالء ثم??ان س??نين‪ ،‬ثم دب??رهم عنيائي??ل بن يوقن??ا أخ??و ك??الب من‬
‫سبط يهوذا أربعين س??نة‪ ،‬ثم دب??رهم أعل??ون مل??ك م??واب بجه??د ش??ديد ثم??ان عش??رة‬
‫سنة‪ ،‬ثم دبرهم أهوذ من ولد إفرايم خمس?ا ً وخمس??ين س??نة‪ ،‬ولخمس وثالثين س??نة?‬
‫خلت من أيامه ثم للع?الم أربع?ة آالف س?نة وقي?ل غ?ير ذل?ك من الت?اريخ‪ ،‬ثم دب?رهم‬
‫شاعان بن أهوذ خمسا ً وعشرين سنة‪ ،‬ثم دبرهم يابين الكنعاني ملك الشام عشرين‬
‫رجالَ من سبط‬ ‫سنة ثم دبرهم امرأة يقال لها دبورا‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها ابنته‪ ،‬وضمت إليها َ‬
‫نفتالي يقال له باراق أربعين سنة‪ ،‬ثم تداولتهم رؤوس من ب??ني? م??دين وهم ع??ريب‬
‫وربيب وبرسونا ودراع وصلنا تسع سنين وثالثة أشهر‪ ،‬ثم دب??رهم ك??دعون من آل‬
‫منشا أربعين سنة‪ ،‬وقتل ملوك مدين‪.،‬ثم ابنه أبيمالخ ثالث سنين وثالثة أش??هر‪ ،‬ثم‬
‫دب??رهم تول??ع من آل إف??راين ثالث ?ا ً وعش??رين س??نة‪ ?،‬ثم ي??امين من آل منش??ا اثن??تين‬
‫وعشرين سنة‪ ،‬ثم ملوك عمان ثماني عشرة سنة وثالثة أشهر ثم نحشون من بيت‬
‫لحم سبع سنين‪ ،‬ثم شنشون عشرين سنة‪ ،‬ثم أملج عشر سنين‪ ،‬ثم عج??ران ثم??اني‬
‫سنين‪ ،‬ثم قهرهم ملوك فلسطين أربعين سنة‪ ?،‬ثم عيالن الكاهن بعد ذلك أربعين‬
‫صفحة ‪24 :‬‬

‫سنة‪ ،‬وفي زمانه ظفر البابل ُّيون ببني إسرائيل وغنموا التابوت‪ ،‬وكان بنو إس??رائيل‬
‫يستفتحون به‪ ،‬فحملوه إلى بابل‪ ،‬وأخرجوهم من ديارهم وأبن??اءهم‪ ،‬وك??ان م??ا ك??ان‬
‫ألوف َح َن َر الموت‪ ،‬فقال لهم‬
‫ٌ‬ ‫من أمرف حزقيل‪ ،‬وهم الذين أخرجوا من ديارهم وهم‬
‫هللا موتوا ثم أحياهم‪ ،‬وكان قد أصابهم الطاعون‪ ،‬فبقي منهم ثلث??ةز أس??باط‪ ،‬فلحقت‬
‫فرقة بالرمل‪ ،‬وفرقة بشواهق الجبال‪ ،‬وفرقة بجزيرة من جزائ??ر البح??ر‪ ،‬وك??ان لهم‬
‫خبر طويل ح??تى رجع??وا إلى دي??ارهم‪ ،‬فق?الوا لحزقي?ل‪ :‬ه??ل رأيت قوم?ا ً أص?ابهم م?ا‬
‫أصابنا‪ .‬قال‪ :‬ال‪ ،‬وال سمعت بقوم ف??روا من هّللا ف??راركم‪ ،‬فس??لط هّللا عليهم الط??اعون‬
‫سبعة أيام‪ ،‬فماتوا عن آخرهم‪ ،‬ودب??ر ب??ني? إس??رائيل بع??د عيالن الك??اهن ش??مويل ُ بن‬
‫بروحان ابن ناحورا‪ ،‬ونبىء فمكث فيهم عشرين سنة‪.‬‬

‫طالوت وجالوت‬

‫ووض??ع هّللا ع??ز وج??ل عنهم القت??ال‪ ،‬وص??لح أم??رهم‪ ،‬فخلط??وا بع??د ذل??ك‪ ،‬فق??الوا‬
‫لشمويل‪ ?:‬ابعث لنا ملكا ً يقاتل معنا في سبيل هّللا ‪ ،‬فأمر بتملي??ك ط??الوت‪ ،‬وه??و س??اود‬
‫بن بشر بن إينال بن ط?رون بن بح?رون بن أفيح بن س??ميداح بن ف?الح بن بني??امين‬
‫بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السالم‪ ،‬فملكه هّللا عليهم‪ ،‬ولم يجمعهم قبل‬
‫ذلك مثل طالوت‪ ،‬وكان بين خروج موسى عليه السالم ببني? إسرائيل من مصر إلى‬
‫?رائيل ط?الوت خمس??مائة س??نة واثنت??ان وس??بعون س??نة وثالث??ة‬ ‫ِ‬ ‫أن ملك على بني إس?‬
‫أشهر‪ ،‬وكان طالوت َد َّباغا َ يعم??ل األد َم ف??أخبرهم ن??بيهم ش??مويل أن ّ‬
‫هللا ق??د ب??دث لكم‬
‫طالوت ملكاً‪ ،‬فقالوا فيه ما أخبر هّللا عزوجل في كتابه‪ :‬وأنى يكون له الملك علين??ا‬
‫س ? َع ًة من الم??ال‪ .‬ق??ال‪ :‬إن هّللا اص??طفاه عليكم‪،‬‬‫ونحن أح??ق بالمل??ك من??ه‪ ،‬ولم ي??ؤت َ‬
‫وزاعه بسطة في العلم والجسم وأخبرهم نبيهم أن وآية ملك??ه أن ي??أتيكم الت??ابوت‬
‫فيه سكينة‪ ?،‬من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله المالئك??ة وك??ان‬
‫مدة ما مكث التابوت ببابل عشر سنين‪ ،‬فسمعوا عند الفج??ر حفي??ف المالئك??ة تحم??ل‬
‫الت??ابوت‪ ،‬واش??تد س??لطان ج??الوت‪ ،‬وك??ثرت عس??اكره وقُ? َّ?واو ُر‪ ،‬وبلغ??ه انقي??اد ب??ني‬
‫إسرائيل إلى طالوت‪ ،‬فسار جالوت من فلسطين بأجناس من ال??بربروهو ج??الوت بن‬
‫بايول بن لاير بن حطان بن فارس فنزل بساحة بني إسرائيل‪ ،‬فأمر شمويل? ط??الوت‬
‫بالمسير ببني إلبمرائيل إلى حرب جالوت‪ ،‬فابتالهم هّللا ع??ز وج??ل بنه??ر بين األردن‬
‫هللا ذئ??ك في كتاب??ه‪ ،‬وم??روا كي??ف‬ ‫وفنس??طين‪ ،‬وس??لط هّللا عليهم العطش‪ ،‬وق??د قص ّ‬
‫يشربون من النهر‪ ،‬فلغه أهل الريب??ة ول??وغ الكالب‪ ،‬فقتلهم ط??الوت عن آخ??رهم‪ ،‬ثم‬
‫ضل من خيارهم ثالثمائة? وثالثة عشر رجالً فيهم إخ??وة داود علي??ه الس??الم ولح??ق‬ ‫ف َ‬
‫داود بإخوته‪ ،‬فتوافؤ الجيشان جميعاً‪ ،‬وكافت الحروب بينهما سِ َجاالً‪ ،‬وندب ط??الؤت‬
‫الناس‪ ،‬وجعل لمن يخ??رج إلى ج??الوت ثلث ملك??ه وي??تزوج? ابنت??ه‪ ?،‬ف??برز داود فقتل??ه‬
‫بحجر كان في مِخالَ ِتهِ‪ ،‬رماه بمقالع فخر جالوت ميتاً‪ ،‬وقد أخبر هّللا عزوج??ل ب??ذلك‬
‫في كتاِبه بقوله‪ :‬وقتل داود جالوت وقد ذكر أن الحج??ر ال?ذي ك?ان في مخالة داود‬
‫كان ثالثة أحجار‪ ،‬فاجتمعت وصارت حجراً واحداً‪ ،‬وله??ا أخب??ار ق??دمت ذكره??ا فيم??ا‬
‫سلف من كتبنا‪ ،‬وهي التي قتل بها جالوت‪ ،‬وإن القوم الذين ولغوا في الماء وخالفا‬
‫صفحة ‪25 :‬‬

‫ما أمروا به كان القاتل لهم طالوت‪ .‬وقد أتين??ا على خ??بر ال??درع ال??تي ك??ان أخ??برهم‬
‫نبيهم أنه ال يقتل جالوت إال من صلحت عليه تلك ال??درع إذا لبس??ها‪ ،‬وأنه??ا ص??لحت‬
‫ش على رأس??ه‪ ،‬وخ??بر‬ ‫على داود‪ ،‬وما كان من هذه الح??روب‪ ،‬وخ??بر النه??ر ال??ذي َن َّ‬
‫تملك طالوت‪ ،‬وأخبار البربر وبدء شأنهم في كتابنا في أخبار الزمان‪ ،‬وسنورد بع??د‬
‫ه??ذا ُج َمالً من أخب??ار ال??بربروتفرقهم في البالد في الموض??ع الالئ??ق به??ا من ه??ذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫داود‬
‫وأخ َمل ذكر طالوت‪ ،‬وأبى طالوت أن يفي لداود بم??ا تق??دم من‬ ‫ورفع هّللا ذكر داود‪ْ ،‬‬
‫ش??رطه‪ ،‬فلم??ا رأى مي??ل الن??اس إلي??ه َز َّوج??ه ابنت??ه‪َ ?،‬‬
‫وس?لم إلي??ه ثلث الجباي??ة‪ ،‬وثلث‬
‫الحكم‪ ،‬وثلث الناس‪ .‬ثم حسه بعد ذلك وأراد اغتياله‪ ،‬فمنع??ه هللا عزوج??ل من ذل??ك‪،‬‬
‫فأبى داود أن ينافسه في ملكه‪ ،‬ونما أمر داود‪ ،‬فبات طالوت على سرير ملكه فمات‬
‫من ليلته كمداً‪ ،‬وانقاذث بنوإسرائيل إلى داود عليه السالم‪ ،‬وكانت مدة ملك ط??الوت‬
‫عشرين سنة‪ ،‬وذكر أن الموضع الذي قتل فيه جالوت كان ببيسان من أرض الغ??ور‬
‫خر ل??ه‬
‫وس? َ‬
‫هللا عز وجل لداود الحدي??د فعم??ل من??ه الح??روع‪َ ،‬‬ ‫من بالد األردن‪َ ،‬وأاَل َنه ّ‬
‫س ِّب ْحنَ معه‪ ،‬وحارب داود أهل مواب من أرض البلقاء‪،‬‬ ‫الجبال والطير ُي َ‬

‫ور بالعبرانية خمسين ومائة س??ورة‪ ،‬وجعل??ه ثالث??ة‬ ‫وأنزل هّللا عز وجل عليه َّ‬
‫الز ُب َ‬
‫نضر‪ .‬وما يكون من أم??ره في المس??تقبل‪ ?،‬وثلث م??ا‬‫َ‬ ‫أثالث‪ :‬فثلث ما يلقون من ُب ْخت‬
‫يلقون من أهل أثور‪ ،‬وثلث موعظة وترغيب وتمجيد وترهيب‪ ،‬وليس في??ه أم??ر وال‬
‫نهي وال تحليل وال تحريم‪ ،‬واس??تقامت األم??ور ل??داود‪ ،‬ولحقت الخ??وارج من الكف??ار‬
‫بأطراف األرض لهيبة? داود‪ ،‬وبنى داود بيتا ً للعبادة بأورشليم‪ ،‬وه??و بيت المق??دس‪،‬‬
‫وهو البيت الباقي لوقتنا هذا‪ ،‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثالثمائة‪ ،‬ويدعى بمح??راب‬
‫داود عليه السالم‪ ،‬وليس في بيت المقدس بناء هو أعلى منه في ه??ذا ال??وقت‪ ،‬وق??د‬
‫يرى في أعاله البحيرة المنتنة? ونهر األردن المقدم ذك??ره‪ ،‬وك??ان من أم??ر داود م??ع‬
‫الخصمين ما قص هّللا عزوجل في كتابه من خ??بره‪ ،‬وقول??ه ألح??دهما قب??ل اس??تماعه‬
‫من االخر‪َ :‬ل َقدْ َظ َل َمك اآلية‪ ،‬وقذ تنازع الناس في خطيئة داود‪ :‬فمنهم من رأى م??ا‬
‫وصفنا ونفى عن األنبياء المعاصي وتعمد الفسق وأنهم معصومون فكانت الخطيئة‬
‫ما ذكرنا‪ ،‬وذلك قوله عز وجل‪ :‬يا داود إنا جعلن??اك خليف??ة في األرض‪ ،‬ف??احكم بين‬
‫الناس بالحق ومنهم من رأى أن ذلك كان من قصة أروياء بن حي??ان ومقتل??ه على‬
‫ما ذكرنا في كتاب المبت??دأ وغ??يره‪ ،‬وت??اب هّللا عزوج??ل على داود بع??د أربعين يوم?ا ً‬
‫كان فيها صائما ً باكياً‪ ،‬وتزوج? داود عليه السالم مائة امرأة‪.‬‬

‫نشأة سليمان بن داود‬


‫ضائه‪،‬فآتاه هللاّ َف ْ‬
‫ص ?ل َ‬ ‫اخل َ أباه في َق َ‬
‫ونشأ سليمان بن داود عليه السالم‪ ،‬وبرع‪ ،‬ودَ َ‬
‫هللا عزوج??ل عنهم??ا بقول??ه‪ :‬وكالآتين??ا حكماوعلم??ا‬ ‫الخطاب والحكم‪ ،‬على م??ا أخ??بر ّ‬
‫ولما حضرت داود الوفاة أوصى إلى ولده سليمان‪ ،‬وقبض‪ ،‬فكان ملكه أربعين سنة‬
‫صفحة ‪26 :‬‬

‫?رداً‬
‫?رداً ُم? ْ‬
‫على فلس??طين واألردن‪ ،‬وك??ان عس??كره س??تين ألف ?ا ً أص??حاب س??يوف ُج? ْ‬
‫أصحاب بأس ونجدة‪.‬‬

‫لقمان الحكيم‬
‫وكان ببالد َمدْ ين وأ ْي َلة في عصر داود عليه السالم لُ ْق َم??ان الحكيم‪،‬وه??و لقم??ان بن‬
‫عنقاء بن مرب??د بنم ص??اوون‪ ،‬وك?ان نوبي??ا م??ولى لل َق ْين بن جس??ر‪ ،‬ول??د على عش??ر‬
‫س??نين من مل??ك داود علي??ه الس??الم‪ ،‬وك??ان عب??داَ ص??الحا ً َف َمنَّ هّللا عزوج??ل علي??ه‬
‫بالحكمة‪ ،‬ولم يزل باقيا ً في األرض ُمظهراً للحكم??ة والزه??د في ه?ذا الع?الم إلى أب?ام‬
‫يونس بن َم َّتى حين أرسل إلى أرض نِي َن َوى من بالد الموصل‪.‬‬

‫ملك سليمان‬
‫ولما قبض هّللا داود عليه السالم ق??ام بع??ده ول??ده س??ليمان ب??النبوة والحكم‪ ،‬وغم??ر‬
‫عدلُه رعيته‪ ،‬واستقامت له األمور‪ ،‬وانق??ادت ل??ه الجي??وش‪ ،‬وابت??دأ س??ليمان ببني??ان‬
‫بيت المقدس‪ ،‬وهو المسجد األقصى الذي بارك هّللا عزوجل َح ْو َله‪ ،‬فلما استتم بناءه‬
‫ب??نى لنفس??ه بيت?اً‪ ،‬وه??و الموض??ع ال??ذي يس??مىفي وقتن??ا ه??ذا كنيس??ة القيأم??ة‪ ،‬وهي‬
‫الكنيسة? العظمى ببيت المقدس عن??د النص??ارى‪ ،‬ولهم كن??ائس غيره??ا معظم??ة ب??بيت‬
‫ص ْه ُيون‪ ،‬وقد ذكرها داود عليه الس??الم‪ ،‬والكنيس?ة? المعروف??ة‬ ‫المقدس‪ ،‬منها كنيسة َ‬
‫هّللا‬
‫بالجسمانية? ويزعمون أن فيها قبر داود عليه السالم‪ ،‬وأعطى عزوجل لسليمان‬
‫علي??ه الس??الم من المل??ك م??ا لم ُي ْعطِ?? ِه ألح??د من َخ ْلقِ??ه‪َ ،‬‬
‫وس?? َّخر ل??ه الجن واإِل نس‬
‫والطيروالريح على‪ .‬حسب ما ذك??ر هّللا عزوج??ل في كتاب??ه‪ ،‬وك??ان مل??ك س??ليمان بن‬
‫ض وهو ابن اثن??تين وخمس??ين س??نة‪ ،‬وهللا‬ ‫داود على بني? إسرائيل أربعين سنة‪َ ،‬وقُ ِب َ‬
‫ولي التوفيق‪.‬‬

‫ذكر ملك أرخبم بن سليمان بن داود عليهما السالم‬


‫ومن تاله من ملوك بني إسرائيل‪ ،‬وجمل من أخبار األنبياء‬
‫ملوك بني إسرائيل بعد وفاة سليمان‬

‫وملك على بني إس??رائيل بع??د وف??اة س??ليمان بن داود عليهم??ا الس??الم أرخبعم بن‬
‫سليمان‪ ،‬واجتمعت عليه األسباط‪ ،‬ثم افترقوا عنه‪ ،‬إال سبط يه??وذا وس??بط بني??امين‪،‬‬
‫وكان ملك?ه إلى أن هل?ك س?بع عش?رة س?نة‪ ،‬ومل?ك على العش?رة األس?باط ب?وريعم‪،‬‬
‫وكانت ل??ه ك??وائن وح??روب‪ ،‬واتخ??ذ ل??ه ِع ْجالً من ال??ذهب والج??وهر‪ ،‬واعتك??ف على‬
‫عبادته‪ .‬فأهلكه هّللا عز وجل‪ ،‬فكان ملك??ه عش??رين س??نة‪ ،‬ومل??ك بع??دهأبيابن أرخبعم‬
‫بن سليمان ثالث سنين‪ ،‬ثم ملك بعده أحاب أربعين سنة وملك بع??ده ي??ورام‪ ،‬ف??أظهر‬
‫عباثة األصنام والتماثيل? والصور‪ ،‬وكان ملكه سنة‪ ?،‬ثم ملكت بع??ده ام??رأة يق??ال له??ا‬
‫عيالن؛ فضعت السيف في ولد داود علي??ه الس??الم‪ ،‬فلم َي ْن ُج منهم إال غالم‪ ،‬ف??أنكرت‬
‫بنو إسرائيل ذلك من فعله?ا‪ ،‬فقتلوه?ا‪ ،‬وك?ان ملكه?ا س??بع س??نين‪ ،‬وقي?ل غ??ير ذل?ك‪،‬‬
‫وملكوا عليهم الغالم الذي بقي من نسل داود‪ ،‬فملك وله سبع سنين‪ ،‬فأقام ملكا ً‬
‫صفحة ‪27 :‬‬

‫أربعين سنة‪ ،‬وقيل دون ذلك‪ ،‬وملك بعده مليصا‪ ،‬وكان ملكه اثنتين وخمسين س??نة‪،‬‬
‫وكان في عصره شعيب النبي‪ ،‬ولشعيب معه أخبار‪ ،‬وكانت له حروب قد أتين??ا على‬
‫ذكرها في كتاب أخبار الزم??ان ومل??ك بع??ده نوق??ا بن ع??دل عشرس??نين‪ ،‬وقي??ل‪ :‬س??ت‬
‫عشرة سنة‪ ،‬وم َل َك بعده أجام‪ ،‬فأظهر عبادة األص??نام‪ ،‬وطغى وأظه??ر ال َب ْغ َي‪ ،‬فص??ار‬
‫إليه بعض ملوك بابل‪ ،‬وكان يقال له فلعيعس‪ ،‬وكان من عظماء مل?وك باب?ل‪ ،‬وك?ان‬
‫وخ? ّرب م??دن األس??باط ومس??اكنهم‪،‬‬ ‫سرائيلي مع??ه ح??روب إلى أن أس??ره الب??ابلي‪َ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لإل‬
‫ِ‬
‫وكان في أيامه تنازع بين اليهود في الديان??ة‪ ،‬فش??ذ منهم األس??امرة‪ ،‬وأنك??روا نب??وة‬
‫داود عليه السالم ومن تاله من األنبياء‪ ،‬وأبوا أن يكون بع??د موس??ى ن??بي‪ ،‬وجعل??وا‬
‫رؤساءهم من ولد هارون بن عمران‪ ،‬واألسامرة في وقتن??ا ه??ذا وه??و س??نة? اثن??تين‬
‫وثالثين وثالثمائة? ببالد فلسطين واألردن‪ ،‬وفي قرى متفرقة? مثل القري??ة المعروف??ة‬
‫بعارا‪ ،‬وهي بين الرملة وطبرية‪ ?،‬وغيره??ا من الق??رى إلى مدين??ة ن??ابلس‪ ،‬وأك??ثرهم‬
‫في هذه المدينة? أعني نابلس ولهم جبل يقال له طوريك‪ ،‬ولألس??امرة علي??ه ص??لوات‬
‫في أوقاته??ا‪ ،‬ولهم بوق??ات من فض??ة ُي ْن َفخ فيه??ا عن??د أوق??ات الص??الة‪ ،‬وهم ال??ذين‬
‫اس ويزعمون أن نابلس هي بيت المقدس‪ ،‬وهي مدينة يعقوب النبي‬ ‫س َ‬ ‫يقولون ال ِم َ‬
‫عليه السالم‪ ،‬وهناك َم ْر َعاه وهما ص??نفان متباين??ان كتب??اينهم لس?ائر اليه??ود‪ ،‬وأح??د‬
‫?ان‬
‫الصنفين يقال له الكوسان‪ ،‬واآلخر الدروس??ان‪ ،‬أح??د الص??نفين يق??ول الع??الم ومع? ٍ‬
‫غير ذلك أعرضنا عن ذكرها مخا َف َة التطويل‪ ،‬وأن كتابنا هذا كتاب خبرالكت??اب آراء‬
‫ون َِحل ً‪.‬‬
‫البابلي سبع عشرة سنة‪ ،‬ولماأسر الملك أج??ام‬ ‫ُّ‬ ‫وكان ملك أجام إلى أن أسره الملك‬
‫ملك ولد له يقال له حزقيل بن أجام‪ ،‬فأظهر عباثة الرحمن‪ ،‬وأم??ر بتكس??ير? التماثي??ل‬
‫واألصنام‪ ،‬وفي ملكه سار سنجارب ملك بابل إلى بيت المقدس‪ ،‬وك??انت ل??ه ح??روب‬
‫كثيرة مع بني إسرائيل‪ ،‬وقتل من أصحابه خلق كثيرون‪ ،‬وس??بى من األس??باط ع??دداً‬
‫كثيراً‪ ،‬وكان ملك حزقيل إلى أن هلك سبعا ً وعشرين سنة‪.‬ثم ملك بعد حزقيل ولد له‬
‫فغمرش ? ُّره س??ائرمملكته‪،‬وه ?و? ال??ذي قت??ل ش??عيبا ً الن??بي‪ ،‬فبعث هّللا‬
‫َ‬ ‫يق??ال ل??ه ميش??ا؛‬
‫قسطنطين ملك الروم فسار إليه في الجي??وش فه??زم جيش??ه وأس??ره فأق??ام في أرض‬
‫الروم عشرين سنة‪ ،‬وأقلع عما كان عليه‪ ،‬وعاد إلى ملكه‪ ،‬فكان ملك??ه إلى أن هل??ك‬
‫خمسا ً وعشرين سنة‪ ?،‬وقي?ل‪ :‬ثالثين س?نة‪.‬ثم مل?ك بع?ده ول?د ل?ه يق??ال ل??ه أم??ور بن‬
‫ميشا‪ ،‬فأظهر الطغيان‪ ،‬وكفر بالرحمن‪ ،‬وعبد التماثي?ل واألص??نام‪ ،‬ولم?ا اش?تد بغي??ه‬
‫سار إلي??ه فرع??ون األع??رج من بالد مص??ر في الجي?وش‪ ،‬ف?أمعن في القت??ل‪ ،‬وأس?ره‬
‫ومضئ? به إلى مصر‪ ،‬فمات هناك‪ ،‬وكان ملكه خمس سنين‪ ،‬وقيل غيرذلك‪.‬‬
‫وملك بعده أخ له يقال له نوفين‪ ،‬وهو أب?و داني??ال علي??ه الس?الم‪ ،‬وفي عص?ر ه?ذا‬
‫صر‪ ،‬وهو َم ْر ُزبان العراق والع?رب من قب?ل مل?ك ف?ارس‪ ،‬وك?ان‬ ‫الملك سار البخت َن ّ‬
‫ض ? ُر في القت??ل لب??ني إس??رائيل‬ ‫يومئ??ذ ب َب ْل َخ‪ ،‬وك??انت َق َ‬
‫ص ?بة? المل??ك‪ ،‬ف??أمعن البخت َن َ‬
‫واألسر‪ ،‬وحملهم إلى أرض العراق‪ ،‬وأخذ التوراة وما ك?ان في هيك??ل بيت المق?دس‬
‫من كتب الملوك و َط َرحه في بئر‪ ،‬وعمد إلى تابوت السكينة فأودعه بعض المواضع‬
‫من األرض فيقال‪ :‬إنه كان ِع ّمدةُ منْ سبى من ب??ني إس??رائيل ثماني?ة? عش??رألفاً‪.‬وفي‬
‫هذا العصر كان أرميا النبي عليه السالم‪ ،‬وسار بخت َن َّ‬
‫ص ُر إلى‬
‫صفحة ‪28 :‬‬

‫مصر ة فقتل فرعون األعرج‪ ،‬وكان يومئذ? ملك مصر‪ ،‬وسار نحو المغ??رب فقت??ل‬
‫بها ملوكاً‪ ،‬وافتتح مدائن ‪.‬وكان ملك فارس تزوج جاري?ة من س?بايا ب?ني? إس?رائيل‪،‬‬
‫فرذ بني? إسرائيل إلى ديارهم‪ ،‬وكان ذلك بعد سنين‪.‬‬ ‫فأولدهاولداً‪َ ،‬‬
‫ولما رجعت بنو إسرائيل إلى بالدهم ملكت عليها زريايل بن سلسان‪،‬فابتنى مدين??ة‬
‫بيت المق??دس‪ ،‬و َع َّم َر م??ا ك??ان خ??رب‪ ،‬وأخ??رجت بن??و إس??رائيل الت??وراة من الب??ئر‪،‬‬
‫واستقامت لهم األمور‪ ،‬فأق??ام ه??ذا المل??ك على عم??ارة أرض??هم س??تا ً وأربعين س??نة‪،‬‬
‫وشرع لهم الص??لوات وغيره??ا من الش??رائع مم??ا ك??ان تل??ف منهم في ح??ال الس??بي‪،‬‬
‫واألسامرة تزعم أن التوراة التي في يد اليهود ليست التوراة ال??تي أورده??ا موس??ى‬
‫بن عمران عليه السالم‪ ،‬وأن تلك حرفت وبدلت وغ??يرت‪ ،‬وأن ا ْل ُم ْح? د َ‬
‫ِث له??ذه ال??تي‬
‫بأيديهم هذا الملك المذكور؛ ألنه جمعها ممن ك??ان يحفظه??ا من ب??ني إس??رائيل‪ ،‬وأن‬
‫التوراة الصحيحة هي التي في أيدي األسامرة دون غيرهم‪ ،‬وك??ان مل??ك ه??ذا المل??ك‬
‫ستا ً وأربعين س??نة‪ ،‬ووج??دت في نس??خة أخ??رى أن الم??تزوج في ب??ني إس??رائيل ه??و‬
‫بخت نصرنفسه‪ ?،‬وهوالذي َردهم‪ ،‬ومنَ عليهم وفيه نظر‪.‬‬

‫إسماعيل بن إبراهيم وأوالود‬


‫أم َر البيت بعد إبراهيم عليه السالم‪ ،‬و َنبأةهللا عز وجل‪،‬‬
‫ود َّب َر إسماعيل بن إبراهيم ْ‬
‫وأرسله إلى العماليق وقبائل اليمن‪ ،‬فنهاهم عن عب?ادة األوث??ان‪ ،‬ق?آمن طائف?ة منهم‬
‫وكفر أكثرهم‪ ،‬وولد إلِسماعيل اثنا عشر ذكراً‪ .‬وهم‪ :‬فائث‪ ،‬وقي??دار‪ ،‬وأرب??ل‪ ،‬وميم‪،‬‬
‫ومسمع‪ ?،‬ودوما‪ ،‬ودوام‪ ،‬وميشا‪ ،‬وح??داد‪ ،‬وحيم‪ ،‬وقط??ورا‪ ،‬وم??اس‪ ،‬وك??انت وص??ية?‬
‫صى إسماعيل إلى أخيه إسحاق عليهم??ا‬ ‫إبراهيم إلى ابنه إسماعيل عليه السالم‪ ،‬وو ً‬
‫ض ?ه‬‫السالم‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إلى ولده قيذار بن إسماعيل‪ ،‬وكان عمر إس??ماعيل إلى أن َق َب َ‬
‫هللا مائة سنة وسبعا ً وثالثين سنة‪ ،‬ودفن بالمس??جد الح??رام في الموض??ع ال??ذي ك??ان‬
‫الح َج ًر األسود‪.‬‬
‫فيه َ‬

‫أنبياء بين سليمان والمسيح?‬


‫ودب??ر أم??ر ال??بيت بعح??ه ف??ائث بن إس??ماعيل علي??ه الس??الم‪ ،‬على منهج إس??ماعيل‬
‫وصي أبيه إسماعيل عليه السالم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وملًته‪ ،‬وقيل أيضأ‪ :‬إنه كان‬
‫وكان بين سليمان بن داود وبين المسيح عليهما السالم أنبي?اء وعب?اد وص?الحون‬
‫منهم‪ :‬أرمينيا‪ ،‬ودانيال‪ ،‬و ُع َز ْير‪ ،‬وقد تن??ازع الن??اس في نبوت??ه‪ ?،‬وأي??وب‪ ،‬وأش??عياء‪،‬‬
‫وحزقيل‪ ،‬وا لياس‪ ،‬وا ليسع‪ ،‬ويونس‪ ،‬وفالكفل‪ ،‬والخض??ر‪ ،‬وروى عن ابن إس?حاق‬
‫أنه أرمينيا‪ ،‬وقيل‪ :‬بل كان عبداًصالحآَ‪ ،‬وزكري??ا وه??و زكري??ا بن أدق وه??و من ول??د‬
‫داود من سبط يهوذا‪ ،‬وك??ان ت??زوج أش??باع بنت عم??ران أخت م??ريم بنت عم??ران أم‬
‫المسيح عليهم??ا الس??الم‪ ،‬وه??و عم??ران بن مات??ان بن يع??اميم‪ ،‬من ول??د داود أيض??ا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫واسم أ ّم أشباع ومريم حنة‪ ،‬وولدت لزكريا يح??يى‪ ،‬وك??ان يح??يى ابن خال??ة المس??يح‬
‫عليهم السالم‪ ،‬وك?ان زكري?ا نج?اراً‪ ،‬فأش?اعت اليه?ود أن?ه ركب من م?ريم الفاحش?ة‬
‫فقتلوه‪ ،‬وكان لما أحس بهم ج??اء إلى ش??جرة ف??دخل في جوفه??ا ف??دلَّهم علي??ه إبليس‬
‫لعنه هّللا عزوجل‪ ،‬فنشروا الشجرة وهو فيها‪ ،‬فقطعوه وقطعوها‪ ،‬ولما ولدت من‬
‫صفحة ‪29 :‬‬

‫بعض الملوك إلى مصر‪ ،‬فلما صار رجالً بعثه هّللا عزوج??ل إلى ب??ني إس??رائيل‪ ،‬فق??ام‬
‫فيهم بأمر هللا عزوجل ونهيه فقتلوه‪ ،‬وكثرت األح??داث في ب??ني إس??رائيل‪ ،‬فبعث هّللا‬
‫عليهم ملك?ا ً من ناحي??ة المش??رق يق??ال ل??ه ح??ردوس‪ ،‬فقت??ل منهم على دم يح??يى بن‬
‫زكريا ألوفا ً من الناس وهو يفر إلى أن هدأ الدم بعد َخ ْطب طويل‪.‬‬
‫ُ‬
‫أخت مري َم أ ِّم المسيح يحيى بن زكريا عليهما السالم هربت به‬ ‫أشبا ُع ُ‬
‫ابنة عمران‬

‫مولد عيسى بن مريم عليه السالم‬


‫ولما بلغت مريم ابنة عمران سبع عشرة س?نة بعث هللا عزوج?ل إليه?ا جبرائي?ل‪،‬‬
‫فنفخ فيها الروح‪ ،‬فحملت بالسيد المس??يح عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم‪ ،‬وول??دت‬
‫بقرية? يقال لها بيت لحم على أميال من بيت المقدس‪ ،‬ولدته في يوم األربعاء ألرب??ع‬
‫وعش??رين ليل??ة خلت من ك??انون األولى‪ ،‬وك??ان من أم??ره م??ا ذك??ره هللا عزوج??ل في‬
‫كتابه‪ ،‬واتضح على لسان نبيه? محمد صلى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وق??د زعمت النص??ارى‬
‫أن أشيوع الناصري أقام على دين َمنْ سلف من قومه يقرأ التوراة والكتب السالفة‬
‫اس ثالثين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬ ‫في مدينة طبرية من بالد األردن في كنيسة يقال لها ال ِم??دْ َر ُ‬
‫ْ‬
‫سفرأش? ِع َياء إذ نظ??ر في‬ ‫تسعا ً وعشرين س??نة‪ ،‬وأن??ه في بعض األي??ام ك??ان يق??رأ في‬
‫الس ?فر‬
‫السفر إلى كتاب من نور فيه أنت نبي‪ ،‬وخالصتي‪ ،‬اصطفيتك لنفسي ف??أطبق َ‬
‫ودفع??ه إلى‪ .‬خ??ادم الكنيس??ة‪ ?،‬وخ??رج وه??و يق??ول‪ :‬اآلن تمت المش??يئة? هّلل في ابن‬
‫البشر‪ .،‬وقد قي??ل‪ :‬إن المس??يح علي??ه الس??الم ك??ان بقرب??ه يق??ال له??ا ناص??رة من بالد‬
‫اللجون من أعمال األرعن‪ ،‬وبذلك سميت النصرانية‪ ?،‬ورأيت في هذه القرية كنيس ?ة?‬
‫تعظمها النصارى وفيها ت??وابيت من حج??ارة فيه??ا عظ??ام الم??وتى يس??يل منهال زيت‬
‫كالر ِّب تتبرك به النصارى‪ ،‬وأن المسيح مر ببحيرة طبرية وعليها أن??اس من‬ ‫ثخين ُّ‬
‫الصيادين وهم بنو زبدا‪ ،‬واثنا عشر من القصارين‪ ،‬فدعاهم إلى هللا وقال‪ :‬اتبع??وني?‬
‫تص??يدوا البش??ر‪ ،‬فاتبع??ه ثالث??ة من الص??يادين‪ ،‬وهم بن??و زب??دا واثن??ا عش??ر من‬
‫القصارين‪ ،‬وقد ذك?ر أن ميروحن??ا وش??معون وب?ولس ولوق?اهم الحواري??ون األربع?ة‬
‫الذين تلقوا اإِل نجيل‪ ،‬فألفا خبر عيسى عليه السالم‪ ،‬وما كان من أمره‪ ،‬وخبرمولده‪،‬‬
‫وكيف َعم َدهُ يحيى بن زكريا‪ ،‬وهو يحمى المعمداني‪ ،‬في بحيرة طبري??ة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬في‬
‫بحر األردن الذي يخرج من بحيرة طبري?ة? ويج??ري إلى البح??يرة المنتن??ة‪ ?،‬وم?ا فع??ل‬
‫من األعاجيب وأتى من المعجزات‪ ،‬وما قالت اليهود إلى أن رفعه هّللا عزوجل إلي??ه‪،‬‬
‫وه??و ابن ثاللث وثالثين س??نة‪.‬وفي? اإِل نجي??ل خطب طوي??ل في أم??ر المس??يح? وم??ريم‬
‫عليها السالم ويوسف النجار‪ ،‬أعرضنا عن ذل??ك‪ ،‬ألن هّللا عزوج??ل لم يخ??بر بش??يء‬
‫من ذلك في كتابه‪ ،‬وال أخبر به محمد نبيه صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫ذكر أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد‬


‫صلى هّللا عليهما وسلم‬
‫وقد كان بين المسيح? ومحمد ص??لى هّللا عليهم??ا وس??لم في الف??ترة جما َع? ةمن أه??ل‬
‫التوحي??د‪ ،‬ممن ُيقِ??ر ب??البعث‪ ،‬وق??د اختل??ف الن??اس فيهم‪ :‬فمن الن??اس من رأى أنهم‬
‫أنبياء‪ ،‬ومنهم من رأى غير ذلك‪.‬‬
‫صفحة ‪30 :‬‬

‫حنظلة بن صفان‬
‫فممن ذكر أنه نبي َح ْن َظلة بن صفان‪ ،‬وكان من ول??د إس??ماعيل بن إب??راهيم‪ ،‬ص?لّى‬
‫س‪ ،‬وكانوا من ي??د إس??ماعيل بن إب??راهيم‬ ‫الر ِّ‬
‫هللا عليهما وسلم‪ ،‬وأرسل إلى أصحاب َّ‬ ‫ّ‬
‫وهم قبيلتان يقال إِل حداهما أدمان‪ ،‬ولألخ??رى ي??امن‪ ،‬وقي??ل‪ :‬رعوي??ل وذل??ك ب??اليمن‪،‬‬
‫هللا عزوج??ل فقتل??وه‪ ،‬ف??أوحى هّللا إلى ن??بي? من أنبي??اء ب??ني‬ ‫فق??ام فيهم حنظل??ة ب??أمر ّ‬
‫ص? َر ب??أن يس??ير? إليهم‪ ،‬فس??ار إليهم‪ ،‬ف??أتى‬ ‫إسرائيل من سبط يه??وذا أن ي??أمر بخت َن َ‬
‫عليهم‪ ،‬ف??ذلك قول??ه ع??ز وج??ل‪ :‬فلم??ا أحس??وا بأس??نا إلى قول??ه‪ :‬حص??يداَ خام??دين‬ ‫ِ‬
‫شعرائهم في مرثية له‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫وقيل‪:‬إ ن القوم كانوا من ح ِْمير‪ ?،‬وقد ذكر ذلك بعض ُ‬
‫َر ْعـويل وقـدمـان‬ ‫ب َك ْت عيني ألهل َّ‬
‫الرس‬
‫نكال ا ْل َح ِّي َق ْحطـان‬ ‫َوأس َل َم من أبـي َز ْرع‬

‫ذو القرنين‬
‫وقد حكي عن وهب بن منبه? أن ذا القرنين وهو اإِل سكندر كان بع??د المس??يح علي??ه‬
‫الس??الم في ال َف ْت??رة‪ ،‬وأن??ه ك??ان حلم حلم?ا ً رأى في??ه أن??ه دَ َن??ا من الش??مس ح??تى أخ??ذ‬
‫بقرنيه??ا في ش??رقيها وغربيه??ا‪ ،‬فقص رؤي??اه على قوم??ه‪ ،‬س??موه ب??ني الق??رنين‪،‬‬
‫وللناس في في القرنين تنازع كبيز وقد أتينا على ذلك في كتاب أخبار الزم??ان وفي‬
‫الكتاب األوسط‪ ،‬وسنذكر لمعا ً من خبره عند ذكرنا لملوك اليونانيين الروم‪.‬‬

‫أهل الكهف‬
‫وكذلك تنازع الن?اس في أص?حاب الكه?ف في أي األعص?ار ك?انوا؛ فمنهم من زعم‬
‫?برهم في‬
‫أنهم كانوا في زمن الفترة‪ ،‬ومنهم من رأى غيرذلك‪ ،‬وسنأتي? بلم??ع من خ? ِ‬
‫ذكرنا ملو َك الروم في هذا الكتاب‪ ،‬وإن كنا ق??د أتين??ا على ذل??ك في الكت??اب األوس??ط‪،‬‬
‫فيما سلف قبله من كتاب أخبار ا لزمان‪.‬‬

‫جرجيس‬
‫وممن كان في الف??ترة بع??د المس??يح? علي??ه الس??الم‪ :‬ج??رجيس‪ ،‬وق??د أدرك بعض‬
‫الح??واريين فأرس??له إلى بعض مل??وك الموص??ل‪ ،‬ف??دعاه إلى هّللا ع??ز وج??ل‪ ،‬فقتل??ه‪،‬‬
‫فأحياه هّللا وبعثه إليه ثانية‪ ،‬فقتله‪ ،‬فأحياه هّللا ‪ ،‬فأمر بنشره ثالث??ة وإحراق??ه وإذرائ??ه‬
‫?ع أه??ل مملكت??ه ممن اتبع??ه‪ ،‬على‬ ‫في دجلة‪ ،‬فأهل??ك هّللا ع??ز وج??ل ذل??ك المل? َك وجمي? َ‬
‫حس??ب م??ا وردت ب??ه األخب??ار عن أه??ل الكت??اب ممن آمن‪ ،‬وذل??ك موج??ود في كت??اب‬
‫المبتدأ والسير لوهب بن ُم َن ِّبه وغيره‪.‬‬

‫حبيب النجار‬
‫وممن كان في الفترة‪ :‬حبيب النجار‪ ،‬وكان يسكن أنطاكي??ة من أرض الش??ام وك??ان‬
‫فدعواه‬
‫َ‬ ‫ص َور‪ ،‬فسار إليه إثنان من تالمذة المسيح‪،‬‬
‫بها ملك متجبر يعبد التماثيل وال ُّ‬
‫إلى هّللا عز وجل‪ ،‬فحبسهما وضربهما‪ ،‬فعززهما بثالث‪ ،‬وقد تنوزع فيه؛فذهب‬
‫هّللا‬
‫صفحة ‪31 :‬‬

‫كثير من الناس إلى أنه بطرس‪ ،‬وه?ذا اس?مه بالرومي?ة‪ ?،‬واس?مه بالعربي?ة س?معان‪،‬‬
‫وبالسريانية? شمعون وهو شمعون الصفاء‪ ،‬وذكر كثير من الناس وإليه ذهب س??ائر‬
‫?ز َز ب??ه ه??و ب??ولس‪ ،‬وأن االث??نين المت َق??دمين الل??ذين‬
‫فرق النص??رانية? أن الث??الث المع? َّ‬
‫أودع??ا الحبس توم??اوبطرس‪ ،‬فك??ان لهم م??ع ذل??ك المل??ك خطب عظيم طوي??ل فيم??ا‬
‫أظهروا من اإلعجاز واألعاجيب وال??براهين‪ :‬من إب??راء األكم??ة واألب??رص‪ ،‬وإحي??اء‬
‫الميت‪ ،‬وحيلة بولس عليه بمداخلته إياه وتلطفه له‪ ،‬واستنفاذ صاحبيه? من الحبس‪،‬‬
‫فجاء حبيب النجار فصدقهم‪ ،‬لما رأى من آيات هللا عزوجل‪ ،‬وقد أخ??بر هّللا عزوج??ل‬
‫ب??ذلك في كتاب??ه بقول??ه‪ :‬إذا أرس??لنا إليهم اث??نين فكنبوهم??ا إلى قول??ه‪ :‬وج??اء من‬
‫وص ?لِبا منكس??ين‪،‬‬‫أقصى المدينة رجل َي ْس َعى وقتل بولس وبطرس بمدينة? رومي??ة‪ُ ،‬‬
‫وكان لهم?ا فيه?ا خبرطوي?ل م?ع المل?ك‪ ،‬وم?ع س?يما الس?احر‪ ،‬ثم جعال بع?د ذل?ك في‬
‫خزانة من البلور‪ ،‬وذلك بعد ظهور دين النصرانية‪ ?،‬وحرمهم??ا في كنيس??ة هت??اك ق??د‬
‫ذكرناها في الكتاب األوسط عند ذكرنا العجائب رومية‪ ?،‬وأخبار تالميذ المسيح عليه‬
‫السالم‪ ،‬وتفرقهم في البالد‪ ،‬وسنورد في هذا الكتاب لمعا ً من أخبارهم‪ ،‬إِن ش??اء هللا‬
‫تعالى‪.‬‬

‫أصحاب األخدود‬
‫فأما أصحاب األخ??دود ف??إنهم ك??انوا في الف??ترة في مدين?ة? نج??ران ب??اليمن‪،‬في ُم ْل??كِ‬
‫ش َناتر‪ ،‬وكان على دين اليهودي??ة‪ ،‬فبل??غ ذا ُن? َ?واس أن قوم?ا ً‬ ‫ي ُن َواس‪ ،‬وهو القاتل لذي َ‬
‫بنج َران على دين المسيح عليه السالم‪ .‬فسار إليهم بنفسه‪ ?،‬واحتف??ر لهم أخادي??د في‬ ‫ْ‬
‫وأض َرمها ناراً‪ ،‬ثم عرضهم على اليهودية؛ فمن تبعه تركه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫األرض‪ ،‬ومألها َج ْمراً‪،‬‬
‫ومن أبى َق َذفه في النار‪ ،‬فأ َتى بامرأة معها طفلها ابن سبعة أش??هر‪ ،‬ف?أبت أن تتخلى‬
‫أمه ا ْمض‬ ‫فأدنيت من النار‪ ،‬فجزعت‪ ،‬فأنطق هللا عزوجل الطفل فقال‪ :‬يا ْ‬ ‫ْ‬ ‫عن دينها‪،‬‬
‫موحدين‪ ،‬ال على رأي‬ ‫َ‬ ‫على دينك فال نار بعد هذه‪ ،‬فألقاها في النار‪ ،‬وكانوا مؤمنين‬
‫النص??رانية في ه??ذا ال??وقت‪ ،‬فمض??ى رج??ل منهم يق??ال ل??ه ف ثعلب??ان إلى قيص??رملك‬
‫الروم يستنجده‪ ،‬فكتب له إلى النجاش??ي ألن??ه ك??ان أق??رب إليهم داراً ا فك?ان من أم??ر‬
‫ف في‬ ‫س ? ْي ٍ‬
‫الحبشة وعب??ورهم إلى أرض اليمن ؤتغلبهم عليه??ا إلى أن ك??ان من أم??ر َ‬
‫يزن واستنجاده الملوك إلى أن أنجده أنو شروان ما ق??د أتين??ا على ذك??ره في كتابن??ا‬
‫أخبار الزمان‪ ،‬وفي الكتاب األوسط‪ ،‬وسنذكر لُمعا ً من ذلك فيما يرد من هذا الكت??اب‬
‫قصة أصحاب‬ ‫َ‬ ‫عند ذكرنا ألخبار األفاء وملوك اليمن‪ ،‬وقد ذكر هّللا عزوجل في كتابه‬
‫األخدود بقوله عزوجل‪ :‬قتل أص??حاب األخ??دود إلى قول??ه‪ :‬وم??ا َن َق ُم??وا مئهم إال أن‬
‫يؤمنوا? باهّلل العزج الحميد‬

‫خالد بن سنان العبسي‬


‫وممن كان في الفترة‪ :‬خالد بن سنان العبسي‪ ،‬وهو خالد بر سنان بن غيث بن‬
‫أضاعه قومه وذلك أن‬ ‫عبس‪ ،،‬وقد ذكره النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪:‬ذلك نبي َ‬
‫س وتغلب‬ ‫تتمج ُ‬ ‫َّ‬ ‫ناراً ظهرت في العرب‪ ،‬فافتنوا به??ا‪ ،‬وك??انت تنتق??ل‪ ،‬وك??ادت الع??رب‬
‫عليها المجوسية‪ ?،‬فأخذ خالد بن سنان هراوة وشد عليها وهو يقول‪ :‬بدا َب َدا‪ُ ،‬كل ُّ‬
‫صفحة ‪32 :‬‬
‫وألخ? ُر َجنّ منه??ا وثي?ابي? تتن? َذى‪?،‬‬
‫ْ‬ ‫هدى‪ ،‬مؤ ٍّد إلى هّللا األعلى‪ ،‬ألدخلته??ا وهي تتلظى‪،‬‬
‫فأطفأها‪ ،‬فلما حضرت خالد بن سنان الوفاة قال إلِخوته‪ :‬إذا أنا دفنت فإنه س??تجيء‬
‫عانة من حمير َي ْقد ُمها َع ْيرأب??تر‪ ?،‬فيض??رب ق??بري بح??افره ة ف??إذا رأيتم ذل?ك فانبش??وا‬
‫عني فإني سأخرج إليكم فأخبركم بجميع ما هو كائن‪ ،‬فلما مات ودفنوه رأوا ما قال‬
‫فأرادُوا أن يخرجوه‪ ،‬فكره ذلك بعضهم وقالوا‪ :‬نخ??اف أن تنس??بنا الع??رب إلى ن ْبش??نا‬
‫عن ميت لنا‪ ،‬وأتت ابنته? إلى رسول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم فس??معته يق??رأ‪ :‬ق??ل‬
‫هوهللا أح??د‪ ،‬هّللا الص??مد فق??الت‪ :‬ك??ان أبي يق??ول ه??ذا‪ ،‬وس??نورد? فيم??ا ي??رد من ه??ذا‬
‫الكتاب لمعا ً من أخباره مما تدعو الحاجة إلى ذكره‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫رئاب الشني أحد بني عبد القيس‬


‫ش ِّن ُئ‪ ،‬وكان من عبد القيس‪ ،‬ثم من‬ ‫قال المسعودي‪ :‬وممن كان في الفترة‪ :‬رئاب ال َّ‬
‫شن‪ ،‬وكان على دين المسيح عيسى بن مريم عليه سالم قبل مبعث النبي ص??لى هللا‬ ‫َ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فسمعوا مناد َي? ا َ ين??ادِي من الس??ماء قب??ل مبعث ن??بي‪ ?:‬خ??ير أه??ل األرض‬
‫ثالثة‪ :‬رئاب الشني‪ ،‬وبحير َة‪ .‬ال??راهب‪ ،‬رج??ل آخ??ر لم ي??أت بع??د‪ ،‬يع??ني الن??بي علي??ه‬
‫السالم وكان ال يموت أحد من ولد رئاب فيدفن إال رأوا واسطا ً على قبره‪.‬‬

‫أسعد أبوكرب الحميري‬


‫ومنهم أسعد أبو كرب الحميري‪ ?،‬وكان مؤمناً‪ ،‬وأمن بالنبي صلى هللا علي??ه وس??لم‬
‫قبل أن يبعث بسبعمائة سنة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫باري ال َنـ َ‬
‫سـ ْم‬ ‫هَّللا‬ ‫سول ٌ من‬ ‫َر ُ‬ ‫ت عـلـى أحـمـ ٍد أنـه‬ ‫شهح ُ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ت وزيراً لـه وابـن عـم‬ ‫لك ْن ً‬ ‫َف َل ْو ُمدَّ ُع ْم ِـري إلـى عـمـره‬
‫على األرض من غ ُرب أو عجم‬ ‫طـاعـ َتـ ُه كـل ً مـنْ‬
‫َ‬ ‫وأ ْل ِز ُم‬
‫و أول من كسا الكعبة األنطاع وال ُب ُرودَ‬
‫لذلك يقول بعض ح ِْم َير?‪:‬‬
‫قضبا ً َو ُب ُرودا‬ ‫هَّللا‬
‫س ْو َنا الب ْي َت ا َئنِي عظم ُ ُمالَ ًء ُم َ‬ ‫و َك َ‬

‫قس بن ساعدة اإِل يادي‬


‫ومنهم‪ :‬قس بن ساعدة اإليادي من إياد بن أد بن معد‪ ،‬وكان حكيم الع??رب‪ ،‬وك??ان‬
‫مقراً بالبعث‪ ،‬وهو الذي يقول‪ :‬من عاش مات‪ ،‬ومن مات فات‪ ،‬وكل ما ه??وآت آت‪،‬‬
‫وقد ضرب العرب بحكمته وعقله األمثال‪ ،‬قال األعشى‪:‬‬
‫وأج َرا من الـذِي ِبذِي الغي??ل مِنْ َخ َّفانَ ْ‬
‫أص? َب َح َخ? اد َِرا وق??دم على‬ ‫س‪ْ ،‬‬ ‫وأح َك ُم مِنْ قُ ٍّ‬
‫ْ‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم َوفد من إياد‪ ،‬فسألهم عن?ه‪ ،‬فق?الوا‪ :‬هل?ك‪ ،‬فق?ال‪ :‬رحم??ه‬
‫كأننى أنظر إليه بسوق ُع َكاظ على جمل ل??ه أحم?ر‪ ،‬وه??و يق??ول‪ :‬أيه??ا الن??اس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫هّللا ة‬
‫اجتمعوا واسمعوا َو ُعوا‪َ ،‬منْ عاش مات‪ ،‬و َمزن مات فات‪ ،‬وكل ما ه??وآت ات‪ ،‬أم??ا‬
‫بع??د ف??إن في الس??ماء لخ??براً‪ ،‬وإن في األرض لع??براً‪ ،‬نج??وم تم??ور‪ ،‬وبح??ار تغ??ور‪،‬‬
‫س ْقف مرفع‪ ،‬ومهاد موضوع‪ ،‬أقسم قس باهّلل قسما ً ال حانث?ا ً في??ه وال آثم?اً‪ ،‬إن هّللا‬ ‫و َ‬
‫ض ?وا‬ ‫أر ُ‬
‫ل??دينا ه??و أرض??ى من دين أنتم علي??ه‪ ،‬م??الي أراهم ي??ذهبون وال يرجع??ون‪َ ،‬‬
‫بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا‪ .‬سبيل مؤتلف‪ ،‬وعمل مختلف‪ .‬وقال أبياتا ً ال‬
‫صفحة ‪33 :‬‬

‫هللا عنه فقال‪ :‬أنا أحفظها ي??ا رس??ول هللا‪ ،‬فق??ال ‪:‬هاتتا‪،‬‬
‫أحفظها‪ ،‬فقام أبو بكر رضي ّ‬
‫فقال‪:‬‬
‫صائ ِْر‬ ‫ن مِنَ ا ْلقُ ُر ِ‬
‫ون َل َنا َب َ‬ ‫األولـي‬
‫ِـبـينَ َّ‬‫الذاه ِ‬ ‫في َّ‬
‫ادر‬
‫ص ْ‬ ‫س َلها َم َ‬ ‫ت َل ْي َ‬‫ْلل َم ْو ِ‬ ‫ـــو ِارداً‬
‫ت َم َ‬ ‫لمـا َرأ ْي ُ‬
‫األوا ِئل ُ َو َ‬
‫األواخ ِْر‬ ‫ت ْمضِ ي? َ‬ ‫ت َق ْومي َن ْح َـوهـا‬ ‫ورأ ْي ُ‬‫َ‬
‫َي ْب َقى مِنَ ا ْل َباقِينَ َغ ِ‬
‫ـاب ْـر‬ ‫اَل َي ْر ِج ُع المـاضـي‪ ،‬واَل‬
‫صار ا ْل َق ْو ُم صائ ِْر‬‫ث َ‬ ‫َح ْي ُ‬ ‫ـت أنـي اَل مـحـالة‬ ‫أ ْي َق ْن ُ‬

‫فقال رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬رحم هّللا قسا‪ ،‬إني ألرج??و أن يبعث??ه هللا أم??ة‬
‫بص?ر? في الطب الزج?ر‬ ‫وحده‪.‬قال المسعودي‪ :‬ولقس أش??عار كث?يرة و ِح َك ٌم‪ ،‬وأخب?ار ُت ِّ‬
‫ْ‬
‫والفأل وأنواع الحكم‪ ،‬وقد ذكرنا ذلك في كتاب أخبار الزمان وفي الكتاب األوسط‪.‬‬

‫زيد بن عمرو بن نفيل‬

‫وممن كان في الفترة‪ :‬زيد بن عمرو بن ُن َف ْيل‪ ،‬أب??و س??عيد بن زي??د أح??د ال َع َ‬
‫ش? َرة‪،‬‬
‫وهو ابن عم عمر بن الخطاب َل ّحاً‪ ،‬وكان زي?د ي??رغب عن عب?ادة األص?نام‪ ،‬وعابه?ا‬
‫الخط?اب س? َفهاء مك?ة‪ ،‬وس?لطهم علي?ه‪ ،‬فآف? ُه‪ ،‬فس?كن كهف?ا ً بح??راء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فأولع به َع ُّمه‬
‫وكان يدخل مكة سراً‪ ،‬وسار إلى الشام يبحث عن الدين‪ ،‬فس??مته? النص??ارى‪ ،‬وم??ات‬
‫بالشام‪ ،‬وله خبر طويل مع الملك الترجمان‪ ،‬ومع بعض ملوك غسان بدمشق‪ ،‬وق??د‬
‫أتينا عليه فيما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫أمية بن أبي الصلت الثقفي‬


‫ت الثقفي‪ ،‬وكان شاعراً عاقالً‪ ،‬وك??ان ي َّت ِج??ر إلى الش??ام‪،‬‬ ‫الص ْل ِ‬
‫ومنهم‪ :‬أمية بن أبي َّ‬
‫فتلقاه أهل الكنائسي من اليهود والنصارى‪ ،‬وقرأ الكتب‪ ،‬وكان قد علم أن نب ّيا ً يبعث‬
‫من العرب‪ ،‬وكان يقول أشعاراً على آراء أهل الديانة صف فيها السماوات واألرض‬
‫والشمس والقمر والمالئكة‪ ،‬وذكر األنبي??اء البعث والنش??ور والجن??ة والن??ار‪ ،‬ويعظم‬
‫هّللا عز وجل ويوحده‪ ،‬من ذلك قوله‪:‬‬
‫س? ُه َظ َلم??ا ووص??ف أه??ل الجن??ة في بعض‬ ‫ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ‪ ،‬اَل َ‬
‫ش ِري َك َلـه منْ َل ْم َيقُ ْله??ا َف َن ْف َ‬
‫كلماته فقال‪:‬‬
‫َفال َل ْغ ٌو ولتأثيم فيها وما هُو ِبه َل ُه ُم ُمقي ُم ولما بلغه ظهور النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم اغتاظ لذلك وتأسف‪ ،‬وجاء المدينة ليس?لم ف?رده الحس?د‪ ،‬فرج?ع إلى الط?ائف‪،‬‬
‫فنع َب ثالثة أص??واب وط??ار‪ ،‬فق??ال‬ ‫فبينما هو ذات يوم في فتية يشرب إذ وقع غراب َ‬
‫أمية‪ :‬أتدرون م??ا ق??ال‪ .‬ق??الوا‪ :‬ال‪ ،‬ق??ال‪ :‬فإن??ه يق??ول لكم‪ :‬إن أمي??ة ال يش??رب الك??أس‬
‫س ْوها‪ ،‬فلما‬ ‫سوا كأسكم‪َ ،‬ف َح َ‬‫أح ُ‬‫الثالثة حتى يموت‪ ،‬فقال القوم‪ :‬لت َك ِّذ َبنَّ قوله‪ :‬ثم قال‪ْ :‬‬
‫انتهت النوبة إليه أغمي عليه‪ ،‬فسكت طوياًل ثم أفاق وهو يقول‪:‬‬
‫أليكما ليبكما ها أنا َذا َلد ْي ُكما أنا من حفت به النعمة‪ ،‬والحمد والشكر‪.‬‬

‫صفحة ‪34 :‬‬

‫وأي ع ْب? ٍد َل??ك اَل أ َل َّمـا أو ق??ال‪ :‬أن??ا من حفت ب??ه النعم??ة‬
‫إنْ َت ْغفِ??ر اللهم َت ْغفِ??ر َْج ّم??ا ُّ‬
‫والحمد ولم يجهد في الشكر‪ ،‬ثم أنشأ يقول‪:‬‬
‫صغير َي ْومـا ً َط ِ‬
‫ـوياَل‬ ‫اب فيه ال ً‬ ‫ش َ‬‫َ‬ ‫سـاب َي ْوم عـظـي ٌم‬ ‫إنَ َي ْو َم ا ْلحـ َ‬
‫فِي ُرؤوس ا ْل ِجبال ْأر َعى ا ْل ُو ُعوالَ‬ ‫ت َق ْبل َ مـا قـد َبـدَالِـي‬
‫َل ْي َتنِي ُك ْن ُ‬
‫ـارى أيامــه أنْ ي ُزوالَ ثم‬ ‫َفقُـ َ‬
‫ص َ‬ ‫ـاول َ حـينـا‬
‫ـط َ‬‫ش َوإنْ َت َ‬ ‫ُكل ّ َع ْي ٍ‬
‫شهق شهقة ة فكانت فيها نفسه‪.‬‬ ‫َ‬

‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكر جماعة من أهل المعرفة بأيام الناس‪ ،‬وأخبار َمنْ سلف‬
‫كابن دأب‪ ،‬والهيثم بن عدي‪ ،‬وأبي م ِْخ َنف لوط بن يحيى‪ ،‬ومحمد بن السائب الكلبي‬
‫أن السبب في كتابة قريش‪ ،‬واستفتاحها في أوائل كتبها باس??مك اللهم ه??و أن أمي??ة‬
‫ِير لهم‪ ،‬فلما‬ ‫الشام في نفر من ثقيف وقريش في ع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الص ْلت الثقفي خرج إلى‬
‫بن أبي َّ‬
‫لعش?ائهم ؛ إذ أقبلت حي??ة ص??غيرة ح??تى دَ َنت‬ ‫قفلوا راجعين نزلوا م??نزال‪ ،‬واجتمع??وا َ‬
‫ش ?دوا‬‫شدُواسفرتهم ثم قاموا َف َ‬ ‫ص َب َها بعضهم بشيء في وجهها‪ ،‬فرجعت‪َ ،‬ف َ‬ ‫منهم‪َ ،‬ف َح َ‬
‫على إبلهم وارتحلوا من منزلهم‪ ،‬فلما برزوا عن الم??نزل أش??رفت عليهم عج??وزمن‬
‫كثيب رمل متوكئة? على َعصا ً له??ا‪ ،‬فق??الت‪ :‬م??ا منعكم أن تطعم??وا رحيم??ة‪ ?،‬الجاري??ة‬
‫ت منذ أع??وام‪،‬‬ ‫اليتيمة‪ ?،‬التي جاءتكم عشية‪ .‬قالوا‪ :‬ومن أ ْنتِ‪ .‬قالت‪ :‬أم العوام‪ ،‬أوت ْم ُ‬
‫أما ورب العباد‪ ،‬لتفترقُنَّ في البالد‪ ،‬ثم ضربت بعصاها األرض‪ ،‬فأثارت بها الرم??ل‪،‬‬
‫ذر َوة ك??ل بع??ير منه??ا‬ ‫إيابهم‪ ،‬وأ ْنف ِِري ركابهم‪ ،‬فثبت اإِل بل فك??أن على ْ‬ ‫ِ‬ ‫وقالت‪ :‬أطيلي‬
‫شيطاناَ‪ ،‬ما نملك منها شيئاً‪ ،‬حتى اف??ترقت في الب??وادي‪ ،‬فجمعناه??ا من آخ??ر النه??ار‬
‫إلى غد‪ ،‬ولم نكد‪ ،‬فلما أنخناها لنرحلها طلعت علينا العج??وز فع??ادت بالعص??ا كفعله??ا‬
‫أوالً‪ ،‬وعادت إلى مقالته??ا األولى‪ :‬م??ا منعكم أن تطعم??وا رحيم??ة‪ ،‬الجاري??ة اليتيم??ة‪.‬‬
‫أطيلي إيابهم وأ ْنف ِِري ركابهم‪ ،‬فخرجت اإِل بل ما نملك منها شي َئاَ‪ ،‬فجمعناها من آخ??ر‬
‫النهار إلى غ??د‪ ،‬ولم نك??د‪ ،‬فلم??ا أنخناه?ا لنرحله??ا طلعت علين??ا العج??وز‪ ،‬ففعلت مث??ل‬
‫?رة‪ ،‬وق??د يئس??نا من‬ ‫فعلته??ا األولى والثاني??ة‪ ،‬فتف??رقت اإلب??ل وأمس??ينا في ليل??ة ُم ْق ِم? َ‬
‫فتوج َه إلى‬
‫َّ‬ ‫الص ْلتِ‪ :‬أين ما كنت تخبرنا ب??ه عن نفس??ك‪.‬‬ ‫ظهورنا‪ ،‬فقلنا ألمية? بن أبي َّ‬
‫ذلك الكثيب الذي كانت تأتي منه العجوز‪ ،‬حتى َه َب َط من ناحية أخرى‪ ،‬ثم صعد كثيبا ً‬
‫آخر حتى هبط منه‪ ،‬ثم رفعت له كنيسة فيها قناديل‪ ،‬وإذا رجل جالس أبيض الرأس‬
‫واللحية‪ ،‬قال أمية‪ :‬فلما وقفت عليه رفع رأسه إلي وقال‪ :‬إنك لمتب??وع‪ ،‬قلت‪ :‬أج??ل‪،‬‬
‫قال‪ :‬فمن أين يأتي?ك ص?احبك‪ .‬قلت‪ :‬من أذني اليس??رى‪ ،‬ق?ال‪ :‬فب?أي الثي?اب ي?أمرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بالسواد‪ ،‬قال‪ :‬هذا َخ ْطب الجن‪ ،‬كدت ولم تفعل‪ ،‬ولكن صاحب ه??ذا األمريكلم??ه‬
‫البياض‪ ،‬فما جاء بك‪ .‬وما حاجتك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وأحب الثياب إليه‬
‫في أذنه اليمنى‪َ ،‬‬
‫ص?دَ ق ْت‪ ،‬وليس?ت بص??ادقة‪ ،‬هي ام??رأة يهودي?ة? هل?ك‬ ‫َ‬ ‫فحدثته حديث العج??وز‪ ،‬ق?ال‪َ :‬‬
‫زوجها منذ أعوام‪ ،‬وإنها ال ت??زال تص??نع? بكم ذل??ك ح??تى تهلككم إن اس??تطا َع ْت‪ ،‬ق??ال‬
‫وركم فإذا جاءتكم ففعلت ماكانت تفعل فقولوالها‪:‬‬ ‫أمية‪ :‬فما الحيلة‪ .‬قال‪ :‬اجمعوا ُظ ُه َ‬
‫س?بعا ً من ف?ق‪ ،‬وس?بعأمن أس?فل‪ ،‬باس?مك اللهم‪ ،‬فإنه?ا ال تض?ركم‪ ،‬فرج?ع أمي?ة إلى‬
‫أصحابه‪ ،‬فأخبرهم بما قيل له‪ ،‬فجاءتهم‪ ،‬ففعلت كما ك?انت تفع?ل‪ ،‬فق?الوا‪ :‬س??بعا ً من‬
‫فق‪ ،‬وسبعأ من أسفل‪ ،‬باسمك اللهم‪ ،‬فلم تضرهم‪ ،‬فلما رأت اإلبل لم تتحرك قالت‪:‬‬
‫صفحة ‪35 :‬‬

‫عرفت صاحبكم‪َ ،‬ل َي ْب َيضن أعاله‪ ،‬ويسودن أسفله‪ ،‬وسِ ْر َنا‪َ ،‬فلما أدركنا الصبح نظرنا‬
‫ص في عذاري??ة ورقبت??ه وص??دره‪ ،‬واس??ودّ أس??فله‪ ،‬فلم??ا ق??دموا‬
‫??ر َ‬ ‫إلى أمي??ة ق??د َب ِ‬
‫مك??ةذكروا ه??ذا الح??ديث‪.‬وك??ان أمي??ة أول من كتب باس??مك اللهم إلى أن ج??اء هللا‬
‫عزوجل باإلسالم فرفع ذلك وكتب‪ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬وله أخبار غير ه??ذه‬
‫قد أتينا عليها وعلى ذكرها في أخبار الزمان وغيره مما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫ورقة بن نوفل‬
‫ومنهم‪ :‬ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد ال ُعزى بن قصي‪ ،‬وهو ابن عم خديجة بنت‬
‫ُخويل??د زوج الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم َل ًح? اً‪ ،‬وك??ان ق??د ق??رأ الكتب وطلب العلم‪،‬‬
‫عن عبادة األصنام‪ ،‬وبشر خديج?ة ب??النبي ص?لى هللا علي?ه وس?لم وأن??ه ن??بي‬ ‫ورغب ِ‬
‫?ذب‪ ،‬ولقي الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬فق?ال‪ :‬ي??ابن‬ ‫هذه األمة‪ ،‬وأنه س??يؤذى ويك? ُ‬
‫أخي‪ ،‬ا ْث ُب ْت على م??ا أنت علي??ه‪ ،.‬فال??ذي نفس ورق??ة بي??ده إن??ك لن??بي ه??ذه األم??ة‪،‬‬
‫ولتؤذ َين ولتكذبن ولتخرجن ولتقاتلن‪ ،‬ولئن أدركت يومك ألنصرن هللا نصراً يعلمه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ظهور النبي صلى هللا‬ ‫َ‬ ‫وقد اختلف فيه‪ :‬فمنهم من زعم أنه مات نصرانياً‪ ،‬ولم يدرك‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ولم يتيسر له أمره‪ ،‬ومنهم من رأى أنه مات مس??لما ً وأن??ه م??دخ الن??يي‬
‫صلى هللا عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫ض ِ‬
‫ب‬ ‫َو َي ْكظِ ُم ا ْل َغ ْي َظ ِع ْن َدالش ْتم َوا ْل َغ َ‬ ‫سـ ِّيئ ٍ?ة‬ ‫ص َف ُ?‬
‫ح اَل َي ْج ِـزي ِبـ َ‬ ‫فو َي ْ‬
‫َي ْع َ‬

‫عداس مولى عتبة بن ربيعة‬


‫ومنهم‪َ :‬عدَّاس مولى ُع ْت َب َ?ة بن ربيعة‪ ،‬وكان من أهل نِي َن َوى‪ ?،‬ولقي النبي ص??لى‬
‫هللا عليه وسلم بالطائف حين خرج ي??دعوهم إلى هللا عزوج??ل‪ ،‬وك??ان ل??ه م??ع الن??بي‬
‫صلى هللا عليه وسلم َخ ْطب في الحديقة‪ ،‬وقتل يوم بدر على الئصرانية‪ ،‬وك??ان ممن‬
‫يبشربالنبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫أبو قيس صرمة بن أبي أنس‬


‫ومنهم‪ :‬أبو قيس صِ ْر َمة? بن أبي أنس من األنصار من ب?ني? النج?ار‪،‬وك?ان ت?ره َ‬
‫َّب‪،‬‬
‫ولبس المسوح‪ ،‬وهجر األوث??ان‪ ،‬ودخ??ل بيت??أ‪ ،‬واتخ??ذهُ مس??جداً ال تدخل??ه ط??امث وال‬
‫ُج ُنب‪ ،‬وقال‪ :‬أعبد َرب إبراهيم‪ ،‬فلما قدم النبي ص?لى هللا علي?ه وس?لم أس?لم وحس?ن‬
‫إسالمه‪ ،‬وفيه نزلت آية السحور‪ :‬وكل??وا واش??ربوا ح??تى يت??بين لكم الخي??ط األبيض‬
‫من الخيط األسود من الفجر وهو القائل في رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫ِب َم َك َة اَل َي ْل َقى َ‬
‫صدِيقـأ ُم َـؤاتِـيا‬ ‫ش َر َة َح َّج ًة‬ ‫َث َوى في قُ َر ْيش ِب ْ‬
‫ض َع َع ْ‬
‫أبو عامر األوسي‬
‫ص? ْيفِي بن النعم??ان‪،‬من ب??ني‬ ‫ومنهم‪ :‬أب??و ع??امر األوس??ي واس??مه عب??د عم??رو بن َ‬
‫عمروبن عوف‪ ،‬من األوس وهوأبوحنظلة َغسِ يل المالئك??ة‪ ،‬وك??ان س??يدا ق??د ت??ره َ‬
‫َّب‬
‫ولبس المسوح‪ ،‬فلما قدم النبي صلى هللا عليه وسلم المدين??ة ك??ان ل??ه‬ ‫في الجاهلية‪ِ ،‬‬
‫معه خطب طويل‪ ،‬فخرج في خمسين غالماً‪ ،‬فمات علىالنصرانية? بالشام‪.‬‬
‫صفحة ‪36 :‬‬
‫عبد هّللا بن جحش األسدي‬
‫ومنهم‪ :‬عبد هللاّ بن َج ْحش األسدي من بني أسد بن ُخ َزيمة‪ ،‬وكانت عندهُ أم حبيبة?‬
‫بنت أبي سفيان بن حرب‪ ،‬قبل أن يتزوجها رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم‪ ،‬وك??ان‬
‫قد قرأ الكتب فمال إلى النصرانية‪ ?،‬فلما بعث رسول هللا صلى هللا عليه وس??لم ه??اجر‬
‫إلى أرض الحبش??ة فيمن ه??اجر من المس??لمين ومع??ه زوجت??ه أم حبيب??ة بنت أبي‬
‫سفيان بن حرب‪ ،‬ثم إنه ار َتدَّ عن اإلِس??الم هنال??ك وتنص??ر‪ ?،‬وم??ات ب??أرض الحبش??ة‪،‬‬
‫وكان يقول للمسلمين‪ :‬إنا َف َق ْحنا َ وصأصاتم‪ ،‬يري??د أبص??رنا وأنتم تلتمس??ون البص??ر‪،‬‬
‫وهذا َم َثل ضربه لهم‪ ،‬وذلك أنه يقال للكلب إذا فتح عينيه? بعدما يول??د‪ ،‬وه??و َج? ْرو‪:‬‬
‫قح‪ ،‬وإذا كان يريد أن يفتحهما ولم يفتحهما بع ُد قي??ل‪ :‬صأص??أ‪ ،‬ولم??ا م??ات عب??د‬ ‫قد َف َ‬
‫هّللا بن َج ْحش ت??زوج رس??ور هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم أم حبيب??ة بنت أبي س??فيان‪،‬‬
‫َز ّو َجها إياه النجاشي‪ ،‬وأمهرها عنه أربعمائة دينار‪.‬‬
‫بحيرا الراهب‬
‫?يرا ال??راهب‪ ،‬وك??ان مؤمن ?ا ً على دين المس??يح عيس??ى بن م??ريم علي??ه‬ ‫ومنهم‪َ :‬ب ِح? َ‬
‫?يرا في النص??ارى س??رجس‪ ،‬وك??ان من عب??د القيس‪ ،‬ولم??ا خ??رج‬ ‫الس??الم‪ ،‬واس??م َب ِح? َ‬
‫رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم مع عمه أبي ط?الب إلى الش?ام في تج?ارة وه?و ابن‬
‫ص? ْومعته‪ ،‬فع??رف‬ ‫عشر َة سنة? ومعهما أبو بكر وبالل‪ ،‬مروا ب َب ِح??يرا وه??و في َ‬ ‫َ‬ ‫اث َن ْ?‬
‫تي‬
‫رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم بصفته? ودالئله وما كان يجمه في كتاب??ه ونظ??ر إلى‬
‫ِيرا‪ ،‬وأك??رمهم‪ ،‬واص??طنع لهم طعام?اً‪ ،‬ون??زل‬ ‫الغمام تظله حيث ما جلس‪ ،‬فأنزلهم َبح َ‬
‫من صومعته حتى نظر إلى خاتم النبوة بين كتفي رسول هّللا صلى هللا علي??ه وس??لم‪،‬‬
‫ووضع يده على موضعه‪ ،‬وآمن بالنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأعلم أب??ا بك??ر وبالالً‬
‫وح? َّذرهم‬‫بقصته‪ ?،‬وما يكون من أمره‪ ،‬وسأل أبا طالب أن يرجع به من وجهه ذلك‪َ ،‬‬
‫عليه من أهل الكتاب‪ ،‬وأخبر عمه أبا طالب بذلك‪ ،‬فرجع ب??ه‪ ،‬فلم??ا رج??ع من س??فره‬
‫ذلك‪ ،‬كان بدْ ء قصته مع خديجة وما أظهر هّللا لها من دالئل نبوته‪ ،‬وما أخ??برت ب??ه‬
‫مما كان منه في طريقه‪ .......‬ق??ال المس??عودي‪ :‬فه?ذه جم??ل مب??دأ الخليق??ة إلى حيث‬
‫انتهينا من هذا الموضع ولم ُ‬
‫نش? ْب ُ?ه بش??يء غيرم??ا ج??اءت ب??ه الش??رائع‪ ،‬ونطقت ب??ه‬
‫الكتب‪ ،‬وأوضحت عنه الرسل عليهم الصالة والسالم‪.‬ولنذكر االن بدء ممالك الهند‪،‬‬
‫ولمعا ً من آرائها‪ ،‬و ُن ْتبع ذلك بذكر سائر الممالك‪ ،‬إذ كنا ق??دمنا جمالً من ذك??ر مل??وك‬
‫اإِل سرإئيليين على حسب ما وجدنا في كتب الشرعيين‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر جمل من أخبار الهند‬


‫وآرائها و َبدء ممالكها وملوكها‬
‫ذ َك َر جماعة من أهل العلم والنظر والبحث الذين وصلوا الغاي??ة بتأم??ل ش??أن ه??ذا‬
‫العالم وبدئه أن الهند كانت في ق??ديم الزم??ان الفرق??ة ال??تي فيه??ا الص??الح والحكم??ة؛‬
‫فإن??ه لم??ا تجيلت األجي??ال‪ ،‬وتح??زبت األح??زاب‪ ،‬ح??اولت الهن??د أن تض??م المملك??ة‪،‬‬
‫الح ْوزة‪ ،‬وتكون الرياسة فيهم‪ ،‬فقال كبراؤهم‪ :‬نحن كن??ا أه??ل الب??دء‪،‬‬ ‫وتستولي? على َ‬
‫وفينا التناهي‪ ،‬ولن??ا الغاي??ة والص??در وال انته??اء‪ ،‬ومن??ا س??رى األب إلى األرض‪ ،‬فال‬
‫ندع أحداً شاققنا وال عاندنا وأراد بنا اإِل غماض إال أتينا عليه وأ َب??دْ َناه أو يرج??ع إلى‬
‫طاعتنا‪.‬‬
‫صفحة ‪37 :‬‬

‫البرهمن‬
‫ْ‬
‫فأز َم َع ْت على ذلك‪ ،‬ونصبت? لها ملكاً‪ ،‬وهؤ البرهمن األكبر‪ ،‬والملك األعظم‪ ،‬اإلمام‬
‫فيها المقدم‪ ،‬وظهرت في أيامه الحكمة‪ ،‬وتق?دمت العلم?اء‪ ،‬واس?تخرجوا الحدي?د من‬
‫ض ِر َب ْ?ت في أيام??ه الس??يوف والخن??اجر‪ ،‬وكث??ير من أن??واع المقات??ل‪ ،‬وش??يد‬ ‫المعدن‪ ،‬و ُ‬
‫?وؤر فيه??ا األفالك وال??بروج‬ ‫الهياك??ل‪ ،‬ورص??عها ب??الجواهر المش??رقة المن??يرة‪ ،‬وص? َ‬
‫االثنى عشر والكواكب‪ ،‬وبين بالصورة كيفي??ة الع??الم‪ ،‬وأرى بالص??ورة أيض ?ا ً أفع??ال‬
‫الكواكب في هذا العالم وأحداثها لألشخاص الحيواني??ة‪ ?:‬من الناطق??ة وغيره??ا‪ ،‬وبين‬
‫حال المدبر األعظم الذي هو الشمس‪ ،‬وأثبت في كتابه ب??راهين جمي??ع ذل??ك‪ ،‬و َق? َّ‬
‫?ر َب‬
‫إلى عقول العوام َف ْه َم ذلك‪ ،‬وغرس في نفس الخواص دراية ما هو أعلى من ذل??ك‪،‬‬
‫وأشار إلى المبدأ األول المعطى سائر الموجودات وجو َد َه??ا الف??ائض عليه??ا بج??وده‪،‬‬
‫وانقاد ل??ه الهن??د‪ ،‬وأخص??بت بالده??ا‪ ،‬وأراهم وج??ه مص??الح ال??دنيا‪ ،‬وجم??ع الحكم??اء‬
‫فأحدثوا في أيامه كتاب السند هند وتفسيره دهر الدهور‪ ،‬ومنه فرغت الكتب ككتاب‬
‫األرجيه???د والمجس???طى‪ ،‬وف???رع من األرجيه???د األركن???د‪ ،‬ومن المجس???طى كت???اب‬
‫بطليموس‪ ،‬ثم عمل منهما بع??د ذل??ك الزيج??ات‪ ،‬وأح??دثوا التس??عة األح??رف المحيط??ة‬
‫بالحساب الهندي‪ ،‬وكان أول من تكلم في أوج الشمس‪ ،‬وذكر أنه يقيم في ك??ل ب??رج‬
‫ثالثة آالف سنة‪ ،‬ويقطع الفلك في س??تة وثالثين أل??ف س??نة‪ ،‬واألوج اآلن على رأي‬
‫?رج الث?ور وأن?ه إذا‬ ‫البرهمن في وقتنا هذاوهو سنة اثن?تين وثالثين وثالثمائ??ة في ب? ِ‬
‫انتقل إلى البروج الجنوبية انتقلت العمارة‪ ،‬فصار العامر خراب ?اَ‪ ،‬والخ??ارب ع??امراً‪،‬‬
‫والش???مال جنوب???اً‪ ،‬والجن???وب ش???مأالً‪ ،‬ور َّت َب في بيت ال???ذهب حس???اب ال???دوراألول‬
‫والتاريخ األق??دم ال?ذي علي??ه عملت الهن??د في ت??واريخ? الب??دءة‪ ،‬وظهوره??ا في أرض‬
‫الهن??د دون س??ائر الممال??ك‪ ،‬ولهم في الب??دء َخ ْطب طوي??ل أعرض??ناعن ذك??ره إذ ك?ان‬
‫كتابن?ا كت?اب خ?بر‪ ،‬ال كت?اب بحث ونظ?ر‪ ،‬وق?د أتين?ا على جم?ل من ذل?ك في الكت?اب‬
‫األوسط‪ ،‬ومن الهند من يذكر أن ابتداء العالم في كل س??بعين أل??ف س??نة ه??ازروان‪،‬‬
‫وأن العالم إذا قطع هذه المدة عاد الك??ون؛ فظه??ر النس??ل‪،‬وم??رحت? البه??ائم‪ ،‬وتغلغ??ل‬
‫ب‪ ،‬وخ??رق النس??يم اله??واء‪ ،‬فأم??ا أك??ثر أه??ل الهن??د‬ ‫ش ُ‬‫ودب الحيوان‪ ،‬و َب َقل َ الغ ْ‬
‫َّ‬ ‫الماء‪،‬‬
‫فإنهم قالوا بكرور منصوبات على دوائر تبتدىء القوى متالشية ش??بيهة الش??خص‪،‬‬
‫موجوعة القوة‪ ،‬منتصبة الذات‪ ،‬وحدوا لذلك أجاًل ضربوه‪ ،‬ووقتا ً نص??بوه‪ ،‬وجعل??وا‬
‫الدائرة العظمى والحادثة الكبرى‪ ،‬وس??موا ذل??ك بعم??ر الع??الم‪ ،‬وجعل??وا المس??افة بين‬
‫البدء واإلِنتهاء مدة ست وثالثين ألف سنة مكررة في اثني عش??ر أل??ف ع??ام‪ ،‬وه??ذا‬
‫عندهم الهازوران الضابط لقوى األشياء والمدبر له?ا‪ ،‬وأن الح??وائر تقبض وتبس?ط?‬
‫جميع المعاني التي تستودعها‪ ،‬وأن األعمار تطول في أول الك??ر النفس??اخ ال??دوائر‪،‬‬
‫صر األعمار في آخر الكر لضيق ال?دوائر‪ ،‬وك??ثرة م??ا‬ ‫وتمكن القوى من المجال‪ ،‬و َت ْق ُ‬
‫ص?فها في أول‬ ‫يعرض فيها من األكدار الباترة لألعم??ار‪ ،‬وذل??ك أن ق??وى األجس??ام َو َ‬
‫الكر تظهر وتسرح‪ ،‬وأن الصف سابق الكدر‪ ،‬والشافي يبادر الثفل‪ ،‬واألعمار تطول‬
‫بحسب صفاء المزاج‪ ،‬وتكامل الق??وى الم??دبرة لعناص??ره أخالط الكائن??ات الفاس??دات‬
‫المستحيالت البائ?دات‪ ،‬وأن آخ??ر الك??ر األعظم وغاي?ة ال َب?دء األك?بر تظه??ر الص??ورة‬
‫متشوهة‪ ،‬والنفس ضعيفة‪ ،‬واألمزجة مختلطة‪ ،‬وتناقض القوى‪ ،‬وتبيد المواسك‪،‬‬
‫صفحة ‪38 :‬‬

‫وترد المواد في الحوائر منعكسة مزدحمة‪ ،‬فال يحظى فو األعص??ار بتم??ام األعم??ار‪،‬‬
‫وللهند فيما ذكرناه علل وبراهين في المبادى األول‪ ،‬وفيما بسطناه من تفريعهم في‬
‫الدوائر والهازروانات‪ ،‬ورموز وأسرار في النفس في اتصالها بم??ا عال من الع??والم‬
‫وكيفي??ة َب??دْ ئها من أعلى إلى أس??فل‪ ،‬وغ??ير ذل??ك مم??ا رتب لهم ال??برهمن في ب??دء‬
‫الزمان‪ ،‬وكان ملك البرهمن إلى أن هلك ثالثمائة سنة وستين سنة‬

‫البراهمة‬

‫وولده يعرفن بالبراهمة إلى وقتنا‪ ،‬والهند تعظمهم‪ ،‬وهم أعلى أجناسهم وأشرفهم‪،‬‬
‫وال يغتفن بش??يء من الحي??وان‪ ،‬وفي رق??اب الرج??ل والنس??اء منهم خي??وط ُص?? ْفر‬
‫يتقلدون بها كحمائل السيوف‪ ،‬فرقا ً بينهم وبين غيرهم من أنواع الهند‪.‬‬
‫وق??د ك??ان اجتم??ع منهم في ق??ديم الزم??ان في مل??ك ال??برهمن س??بعة من حكم??ائهم‬
‫المنظور إليهم في بيت الذهب فقال بعضهم لبعض‪ :‬اجلسوا حتى نتناظر ة فننظر ما‬
‫قصة العالم‪ .‬وما سره‪ .‬ومن أين أقبلنا‪ .‬وإلى أين نم?ر‪ .‬وه?ل خرو ُجن?ا من ع?دم إلى‬
‫حكم?ة أو ض?د ذل?ك‪ .‬وه?ل خالقن?ا المخ?ترع لن?ا والمنش?ىء ألجس?امنا يجتلب‬ ‫ٌ‬ ‫وجود‬
‫بخلقنا منفعة‪ ،‬أم هل ي??دفع ب َف َنائن??ا عن ه??ذه ال??دار عن نفس??ه مض??رة‪ ،‬أم ه??ل ي??دخل‬
‫عليه من الحاجة والنقص ما يدخل علينا‪ .‬أم هل ه??و غ??ني من ك??ل وج??ه فم??ا وج??ه‬
‫إفنائه إيانا وإعدامنا بعد موجودنا وآالمنا ومالذنا‪ .‬فقال الحكيم المنظور إلي??ه منهم‪:‬‬
‫أترى أحداً من الناس أدرك األشياء الحاض??رة والغائب??ة على حقيق??ة اإِل دراك؛ فظف??ر‬
‫بالبغية واستراح إلى الثقة‪ .‬قال الحكيم الثاني‪ :‬ل??و تن??اهت حكم??ة الب??ارىء عزوج??ل‬
‫في أح??د العق??ول ك??ان ذل??ك نقص ?ا ً من حكمت??ه‪ ،‬و َك??ان الغ??رض غ??ير م??درك‪ ،‬و َك??ان‬
‫التقصير مانعا ً من اإلِدراك‪ ،‬ق?ال الحكيم الث?الث‪ :‬ال?واجب علين?ا أن نبت?دىء بمعرف?ة‬
‫أنفس??نا ال??تي هي أق??رب األش??ياء من??ا ونحن أولى به??ا وهي أولى بن??ا‪ ،‬من قب??ل أن‬
‫نتفرغ إلى علم ما بعد منا قال الحكيم الرابع‪ :‬لقد ساء وقوع من وقع موقع?ا ً احت??اج‬
‫في??ه إلى معرف??ة نفس??ه‪ ?،‬ق??ال الحكيم الخ??امس‪ :‬من ههن??ا وجب االتص??ال ُ بالعلم??اء‬
‫الممدودين بالحكمة‪ ،‬قال انحكيم السادس‪ :‬الواجب علر المرء المحب لسعادة نفس??ه‬
‫أن ال يغفل عن ذلك‪ ،‬السيما إذا كان المقام في ه??ذه ال??دنيا ممتنع?اً‪ ،‬والخ??روج منه??ا‬
‫واجباً‪ ،‬قال الحكيم السابع‪ :‬أنا ال أدري ما تقولون‪ ،‬غ??ير أني ْ‬
‫أخ? ِر ْج ُ‬
‫ت إلىه??ذه ال??دنيا‬
‫أخرج منها مكرها ً‪.‬‬ ‫مضطراً‪ ،‬وعشت فيها حائرأ‪َ ،‬و ْ‬
‫فاختلف الهند ممن سلف وخلف في آراء هؤالء السبعة‪ ،‬وكل قد اقتدى بهم‪ ،‬ويمم‬
‫مذهبهم‪ ،‬ثم تفرعوا بعد ذلك في مذاهبهم‪ ،‬وتنازعوا في آرائهم‪ ،‬وال??ذي وق??ع علي??ه‬
‫الحصرمن طوائفهم سبعون فرقة‪.‬‬
‫خي ذك??ر في كت??اب عي??ون المس??ائل‬ ‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وق??د رأيت أب??ا القاس??م ال َب ْل َّ‬
‫والجواب??ات وك??ذلك الحس??ن بن موس??ى الن??و َبختِي في كتاب??ه الم??ترجم بكت??اب اآلراء‬
‫ِب الهن??د وآراءهم‪ ،‬والعل??ة ال??تي من أجله??ا أحرق??وا أنفس??هم في‬ ‫وال??ديانات م??ذاه َ‬
‫النيران‪ ،‬وقطع??وا أجس??امهم ب??أنواع الع??ذاب‪ ،‬فم?ا تعرض??ا لش??يءمماذكرنا‪ ،‬وال َيمم??ا‬
‫نحوما وصفنا‪.‬‬
‫صفحة ‪39 :‬‬
‫حقيقة البرهمن‬
‫وقد تنوزع في ال??برهمن‪ :‬فمنهم من زعم أن??ه أدم علي??ه الس??الم‪ ،‬وأن??ه رس??ول هللا‬
‫عزوجل إلى الهن??د‪ ،‬ومنهم من يق??ول‪ :‬إن??ه ك??ان ملك?ا ً على حس??ب م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وه??ذا‬
‫أشهر‪.‬‬
‫الباهبود بن البرهمن‬
‫صب ملك عليها‬ ‫ولما هلك البرهمن جزعت عليه الهند جزعأ شديدأً‪ ،‬وفزعت إلى َن ْ‬
‫من أكبرولده؛ فك??ان ولي عه??ده الموص??ى ل??ه من ول??ده ابن??ه الم??اهبود‪ ،‬فس??ار فيهم‬
‫س??يرة أبي??ه‪ ،‬وأحس??ن النظ??ر إليهم‪،‬زاد في بن??اء الهياك??ل‪ ،‬و َق??دم الحكم??اء‪ ،‬وزاد في‬
‫وحثهم على تعليم الناس الحكمة‪ ،‬و َب َع َثهم على طلبها‪ ،‬فك??ان ملك??ه إلى أن‬ ‫مراتبهم‪َ ،‬‬
‫هلك مائة سنة‪.‬‬

‫صنع النرد وحكمته‬


‫النردُ‪ ،‬وأحدث اللعب بها‪ ،‬وجعل ذلك مثاالً للمكاسب‪ ،‬وأنها ال ُت َنال‬ ‫وفي أيامه عمل ْ‬
‫يس وال بالخيل فى هذه الدنيا‪ ،‬وأن الرزق ال يت?أتى فيه?ا بالح?ذق‪ ،‬وق?د ذك?ر أن‬ ‫بال َك ْ‬
‫أردش???ير ين باب???ك أول من ص???نع ال???نرد‪ ،‬ولعب به???ا‪ ،‬وأرى تقلب ال???دنيا بأهله???ا‪،‬‬
‫واختالف أمورها‪ ،‬وجعل بيوتها اثني عشر بيتأ بعدد الشهور‪ ،‬وجعل كالبه??ا ثالئين‬
‫كلبا ً بعدد أيام الشهر‪ ،‬وجعل الفصين مثالً لل َق ِ‬
‫در‪ ،‬وتقلُّب?ه بأه?ل ال?دنيا‪ ،‬وأن اإلِنس?ان‬
‫يلعب بها فيبلغ بإسعاد القحر إياه في مراده باللعب بها ما يريد‪ ،‬وأن الح??ازم الفطن‬
‫ال يتأتى ل??ه م??ا ت??أتي لغ??يره‪ ،‬إال إذا أس?عده الق?در‪ ،‬وأن األرزاق والحظ??وظ في ه?ذه‬
‫الدنيا ال ُت َنال إال بالجدود‪.‬‬

‫زامان بعد الباهبود‬


‫ثم ملك زامان بعد الباهبود‪ ،‬فكان ملكه نح??واً من خمس??ين ومائ??ة س??نة‪ ،‬ولزام??ان‬
‫سيز وأخبار وحروب مع ملوك فارس وملوك الصين قد أتين??ا على ال ُغ َر ِرمنه??ا فيم??ا‬
‫سلف من كتبنا‪.‬‬

‫ملك فر‬
‫َ‬
‫ثم ملك فر‪ ،‬وهو الذي واق َع ُه اإلسكندر‪ ،‬فقتله اإلسكندر مبارزة‪،‬وكان مل??ك ف??ر إلى‬
‫أن هلك أربعين ومائة سنة‪.‬‬

‫ملك دبشليم‬

‫شلِي ُم‪ ،‬وهو الواضع لكتاب كليلة ودمنة? ال?نى ينس?ب البن المقف?ع‪،‬‬ ‫ثم ملك بعده َد ْب َ‬
‫وقد ص?نف? س?هل بن ه?ارون الك?اتب ألم?ير المؤم?نين الم?أمون كتاب?ا َ ترجم?ه? ثعل?ة‬
‫وعفرة يعارض ب?ه كت?اب كيل?ة ودمن?ة? في أبواب?ه وأ ْم َثالِ?هِ‪ ،‬ويزي?د علي?ه في حس?ن‬
‫نظمه‪ ،‬وكان ملكه مائة وعشرين سنة‪ ?،‬وقيل غيرذلك‪.‬‬

‫صفحة ‪40 :‬‬


‫ملك بلهيت وصنع الشطرنج‬
‫ثم ملك بعمه بلهيت‪ ،‬وصنعت في أيامه الشطرنج‪ .‬فقضى بلعبه??اعلى ال??نرد‪ ،‬و َب َّينَ‬
‫الظفر الذي يناله الحازم‪ ،‬والبلية التي تلحق الجاهل‪ ،‬وحسب حس??ابها‪ ،‬ور َّت َب ل??ذلك‬
‫كتاب????ا ً للهن????د يع????رف بط????رق جنك????ا يتداولون????ه بينهم‪ ،‬ولعب بالش????طرنج م????ع‬
‫حكمائه‪،‬وجعلها مصور ًة تماثيل مشكلة على ص?ور الن?اطقين وغ?يرهم من الحي?وان‬
‫مما ليس بناطق‪ ،‬وجعلهم درجات ومراتب‪ ،‬وم َّثل َ الشاة بالمد ِّب ِر الرئيس‪ ،‬وكذلك م??ا‬
‫يليه من القطع‪ ،‬وأقام ذلك مثاالً لألجس??اد العلوي??ة ال??تي هي األجس??ام الس??ماوية من‬
‫السبعة واالثني? عشر‪ ،‬وأفرد كل قطعة منها بكوكب‪ ،‬وجعلها ضابطة للمملك??ة‪ ،‬وإذا‬
‫ك??ان ع??دو من أعدائ??ه‪ ،‬فقعت من??ه حيل??ة في الح??روب نظ??روا من أين يؤ َت? ْ?ونَ ‪ ،‬في‬
‫عاج???ل وآج???ل‪ ،‬وللهن???د في لعب الش???طرنج سريس???رونه في تض???اعيف حس???ابها‪،‬‬
‫ويتغلغل??ون ب??ذلك إلى م??ا َعالَ من األفالك‪ ،‬وم??ا إلي??ه منتهى العل??ة األولى‪ ،‬وأع??داد‬
‫أضعاف الشطرنج? ثمانية? عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف وأربهمائ??ة أل??ف وس??تة‬
‫وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف وسبعمائة وأربعون أل??ف أل??ف أل??ف أل??ف‪ ،‬وثالث??ة‬
‫وسبعون ألف ألف ألف‪ ،‬وسبعمائة أل?ف أل??ف‪ ،‬وس?بعة آالف أل?ف وخمس?مائة? أل?ف‬
‫وأحد وخمسون ألف وستمائة وخمسة عشر‪ ،‬ومراتب ه??ذه األل??وف الس??تة األولى‪،‬‬
‫ثم الخمسة التي هي أل??ف أل??ف خمس م??رات‪ ،‬ثم األرب??ع‪ ،‬ثم الثالث‪ ،‬ثم االث??نين‪ ،‬ثم‬
‫معان‪ ،‬ي??ذكرونها في ال??دهور واألعص??ار‪ ،‬وم??ا تقتض??يه? س??ائر‬‫ٍ‬ ‫الواحدة ة لها عندهم‬
‫المؤثرات العلوية في هذا العالم‪ .‬الرتب??اط نفس الن??اطقين به??ا‪ ،‬ولليون??انيين وال??روم‬
‫وغ???يرهم من األمم في الش???طرنج كالم ون???وع من اللعب به???ذه‪ .‬وق???د ذك???ر ذل???ك‬
‫الشطرنجيون في كتبهم‪ ،‬ممن تقدم منهم إلى الصولي والعدلي‪ ،‬وإليهما كان انته??اء‬
‫اللعب بالشطرنج? في هذا العصر‪.‬وك??ان ًم ْل? ُك بلهيت مل??ك الهن??د إلى أن هل??ك ثم??انين‬
‫سنة‪ ،‬وفي بعض النسخ أنه ملك ثالثين ومائة سنة‪.‬‬

‫ملك كورش‬
‫ثم مل??ك بع??ده ك??ورش‪ ،‬ف??احمث للهن??د آراء في ال??ديانات‪ ،‬على حس??ب م??ارأى من‬
‫س ? َل َ‬
‫ف‪،‬‬ ‫العصر‪ ،‬وخرج عن م??ذاهب من َ‬ ‫ِ‬ ‫صالخ الوقت‪ ،‬وما يحتمله من التكليف أهل‬
‫وكان في مملكته وعصره سندباد‪ ،‬دونَ ل??ه كت??اب ال??وزراء الس??بعة والمعلم والغالم‬
‫وامرأة الملك‪ ،‬وهو الكتاب المترجم بالسندباد وعم??ل في خزان??ة ه??ذا المل??ك الكت??اب‬
‫األعظم في معرفة العلل واأللدواء والعالجات‪ ،‬وشكلت الحشائش‪ ،‬وصورت‪ ،‬وك??ان‬
‫مدة ملك الهند هذا إلى أن مات عشرين ومائة سنة‪.‬‬

‫اختالف أهل الهند وتعدد ملوكهم‬


‫ت األحزاب‪ ،‬وتجيلت األجي??ال‪،‬‬ ‫ولما هلك هذا الملك اختلفت الهند في آرائها‪ ،‬فتحز َب ِ‬
‫وانفرد كل رئيس بناحية‪ ،‬فمل??ك على أرض الس??ند مل??ك‪ ،‬ومل??ك على أرض القن??وج‬
‫مل??ك‪ ،‬وتمل??ك على األرض قش??ميرملك وتمل??ك على مدين??ة الم??انكير وهي الح??وزة‬
‫الكبرىملك يسمى ب??البلهري وه??ذا أول مل??ك س??مي من مل??وكهم ب??البلهري‪ .‬فص??ارت‬
‫سِ َم ًة لمن طرأ بعد من الملوك لهذه َ‬
‫الح ْو َزة إلى وقتنا هذا‪ ،‬وهوسنة? اثن??تين وثالثين‬
‫وثالثمائة?‪.‬‬
‫صفحة ‪41 :‬‬

‫صفة أرض الهند‬


‫وأرض الهند أرض واسعة في البر والبحر والجبال‪ ،‬وملكهم متصل? بملك ال??زابج‪،‬‬
‫وهي دار مملك??ة المه??راج مل??ك الجزائ??ر‪ ،‬وه??ذه الم َملك??ة ق??در بين مملك??ة الهن??د‬
‫والص??ين‪ ،‬وتض??اف إلى الهن??د‪ ،‬والهن??د متص??لة مم??ا يلي الجب??ال ب??أرض خراس??ان‬
‫والس??ند إلى أرض التبت‪ ،‬وبين ه??ذه الممال??ك تب??اين وح??روب‪ ،‬ولغ??اتهم مختلف??ة‪،‬‬
‫وآراؤهم غير متفق??ة واألك?ثر منهم يق??ول بالتناس??خ‪َ ،‬و َت َن ُّقل? األرواح على حس??ب م??ا‬
‫قدمناه آنفاً‪ ،‬والهند في عق?ولهم وسياس?اتهم وحكمتهم وأل?وانهم وص?فاتهم وص?حة‬
‫أمزجتهم وصفاء أذهانهم ودقة نظرهم بخالف س??ائر الس??ودان من ال??ر ْنج وال??دمادم‬
‫وسائر األجناس‪.‬‬
‫األس َو ِد عشرخصال اجتمعت فيه‪ ،‬ولم توجد في غيره‪ :‬تفلفل‬ ‫ذكرجالينوس في ْ‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫الشعر‪ ،‬وخف??ة الح?اجبين‪ ،‬وانتش??ار المنخ??رين‪ ،‬وغل?ظ الش??فتين‪ ،‬وتحدي??د األس??نان‪،‬‬
‫ونتن الجلد‪ ،‬وسواد الحق‪ ،‬وتشقق اليدين والرجلين‪ ،‬وطول الذكر‪ ،‬وك??ثرة الط??رب‪،‬‬
‫سا ِد دماغه‪ ،‬فضعف لذلك عقله‪.‬‬ ‫قال جالينوس‪ :‬وإنما غلب على األسود الطرف ل َف َ‬

‫وقد ذكر غيرجالينوس في ط??رب الس??ودان‪ ،‬وغلب??ة الف??رح عليهم‪ ،‬وم??اخص ب??ه‬
‫الزنج من ذلك دون س??ائر الس??ودان في أكث??ار من الط??رب أم??وراً ق??د ذكرناه??ا فيم??ا‬
‫?احب عب??د هللا بن عب?اس ال يأك??ل من‬ ‫سلف من كتبنا‪.‬ولق??د ك?ان ط??اوس اليم??اني ص? ُ‬
‫شوه الخلقة‪.‬‬ ‫ذبيحة الزنجي‪ ،‬ويقول‪ :‬إنه عبد ُم َ‬
‫وبلغنا أن أبا العباس الراضي باهلل ابن المقتدر باهلل كان ال يتناول? ش?يئامن أس?ود‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬إنه عبد مش??وه خلق??ه‪ .‬فلس??ت أدري أقل??دَ طاوس?ا ً في مذهب??ه أم لض??رب من‬
‫اآلراء والنحل‪.‬وقد صنف عمرو بن بحر الجاحظ كتابا ً في فخر السودان ومناظرتهم‬
‫مع البيضان ‪.‬‬

‫من عادات الهنود‬


‫والهند ال تمل ُك الملك عليها ح?تى يبل??غ من عم??ره أربعين س?نة‪ ،‬وال تك?اد مل??وكهم‬
‫تظهر لع??وامهم إال في ك??ل بره??ة من الزم??ان معلوم??ة‪ ،‬ويك??ون ظهوره??ا للنظ??ر في‬
‫أم??ور الرعي??ة‪ .‬ألن في نظ??ر الع??وام عن??دها إلى ملوكه?ا َخ ْرق??أ لهيبته??ا‪ ،‬واس??تخفافا ً‬
‫بحقها‪ ،‬والرياسات عند هؤالء ال تجوز إال بالتخير‪ ،‬ووض??ع األش??ياء مواض??عها من‬
‫مراتب السياسة‪.‬قال المس??عودي‪ :‬ورأيت في بالد س??رنديب وهي جزي??رة من جزائ?ر‬
‫ص? ِّير على عجل??ة قريب??ة من األرض ص??غيرة‬ ‫البحر أن المل??ك من مل??وكهم إذا م??ات ُ‬
‫وش? ْع ُره ينج?ر على األرض‪ ،‬وام?رأة بي?دها مكنس?ة? تحث?و‬ ‫البكرة ُمعد ٍة لهذا المعنى‪َ ،‬‬
‫التراب على رأسه‪ :‬وتنادي‪ :‬أيها الن??اس‪ ،‬ه??ذا ملككم ب??األمس ق??د ملككم وج??از فيكم‬
‫ض روح?ه َم َل? ُك الم?وت‪،‬‬ ‫?رون من ت?رك ال?دنيا‪ ،‬و َق َب َ‬ ‫حكمه‪ ،‬وقد صار أم?ره إلى م?ا َت َ‬
‫والحي القديم الذي ال يموت‪ ،‬فال َت ْغ َتروا بالحياة بعده‪ ،‬وتق??ول كالم?ا ً ه??ذا معن??اه من‬
‫الترهيب والتزهيد في هذا العالم‪ ،‬ويط??اف ب??ه ك?ذلك في جمي??ع ش??وارع المدين??ة‪ ،‬ثم‬
‫يفصل أرب??ع قط??ع‪ ،‬وق??د ه??يىء ل??ه الص??ندل والك?افر وس??ائر أن??واع الطيب‪ ،‬فيح??رق‬
‫بالنار‪ ،‬و ُي َن ُّر رماده في الرياح‪ ،‬وكذا ف ِْعل ُ أكثر أهل الهند بملوكهم وخواصهم لغرض‬
‫صفحة ‪42 :‬‬

‫يذكرونه‪ ،‬ونهج يتيممونه? في المستقل من الزمان‪ ،‬والمل??ك مقص??ور على أه??ل بي ٍ‬


‫ت‬
‫ال ينتقل عنهم إلى غيرهم‪ ،‬وك??ذلك بيت ال??وزراء والقض??اة وس??ائر أه??ل الم??راتب ال‬
‫تغ??ير وال تب??دل‪.‬والهن??د تمن ?ع? من ش??رب الش??رإب‪ ،‬ويع َنفن ش??اربه‪ ?،‬ال على طري??ق‬
‫التد ُّي ِن‪ ،‬ولكن تنزها ً عن أن يوردوا على عقولهم ما يغشيها‪ ،‬ويزيلها عما ضعت له‬
‫لع عن ملكه‪ .‬إذ ك??ان‬ ‫فيهم‪ ،‬وإذا صح عندهم عن ملك من ملوكهم شربه استحق َ‬
‫الخ َ‬
‫ال يت??أتى ل??ه الت??دبير والسياس??ة م??ع االختالط‪ ،‬وربم??ا يس??معون الس??ماع والمالهي‪،‬‬
‫ولهم ض??روب من اآلالت مطرب??ة تفع??ل في الن??اس أفع??االً مرتب??ة من ض??حك وبك??اء‬
‫فيطر ْبنَ بحضرتهم‪ ?،‬فتطرب الرجال لطرب الجواري‪.‬وللهن?د‬ ‫َ‬ ‫وربما يسقون الجواري‬
‫سياسات كثيرة قد أتينا على ذكر كثير منها ومن أخبارهم وسيرهم في كتابنا أخب??ار‬
‫الزمان وفي الكتاب األوسط‪ ،‬وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعا ً‪.‬‬
‫وأعظم ملوك الهند في وقتن??ا ه??ذا البله??ري ص??احب مدين?ة? الم??انكير‪ ،‬وأك??ثرملوك‬
‫الهن??د تتوخ? ُه في ص??لواتها نح??وه‪ ،‬وتص??لي لرس??له إذا وردوا عليهم‪ ،‬وتلي مملك??ة‬
‫البلهري ممالك كثيرة للهند‪ .‬ومنهم ملوك في الجبال ال بحر لهم مثل الراي ص??احب‬
‫القشمير? وملك الطافن وغير ذلك من ملوكهم أعني ملوك الهند ومنهم من بملكه بر‬
‫وبحر فأما البلهري فإن بين ديار ملكه وبين البحر مس??يرة ثم??انين فرس? َ‬
‫?خا َ س??ندية‪،‬‬
‫والفرسخ ثمانية? أميال‪ ،‬وله جيوش وفِ َي َلة ال تمرك كثرته?ا‪ ،‬وأك?ثر جيوش?ه َر َّجال?ة‪.‬‬
‫ألن دار ملكه بين الجبال‪ ،‬ويساويه من ملوك الهند ممن ال بحر ل??ه ب??ؤورة ص??احب‬
‫سمة لكل ملك يلي هذه المملكة‪ ،‬وله جيوش مرتب?ة? على‬ ‫ٌ‬ ‫مدينة? القنوج‪ ،‬وهذا االسم‬
‫الشمال والجنوب والص? َبا وال??دَّ ُبور ألن??ه في ك??ل وج?ه من ه?ذه الوج??وه يلقى ملك?ا ً‬
‫محاربأ له‪.‬‬
‫وسنذكر جمالً من أخبار ملوك السند والهند وغيرهم من مل??وك األرض فيم??ا ي??رد‬
‫من هذا الكتاب‪ ،‬عند ذكرنا البحار وما فيها وما حولها من العجائب واألمم وم??راتب‬
‫الملوك وغير ذلك‪ ،‬وإن كنا قد أسلفنا ذلك فيما تقدم من كتبنا‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر األرض والبحار ومبادىء األنهار والجبال‬


‫واألقاليم السبعة وما واالها من الكواكب وترتيب? األفالك‪ ،‬وغير ذلك‬

‫وصف األرض‬

‫َقسمت الحكماء األرض جهة المشرق والمغرب والشمال والجنوب‪،‬و َقس ُموا ذل??ك‬
‫إلى قسمين‪ :‬مس?كون‪ ،‬وغ?ير مس??كون‪ ،‬وع?امر‪ ،‬وغ?ير ع?امر‪ ،‬وذك?روا أن األرض‬
‫مستديرة‪ ?،‬ومركزها في وسط الفلك‪ ،‬والهواء محيط بها من كل الجهات‪ ،‬وأنها عند‬
‫فلك البروج بمنزلة? النقطة قلة‪ ،‬وأخفا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر‬
‫أوقيانوس الغربي‪ ،‬وهي ستة أجزاء عامرة إلى أقصى عمران الصين‪ ،‬فج??دوا ذل??ك‬
‫اثني عشر ساعة فعلموا أن الشمس إذا غابت في أقصى الصين ك?ان طلوعه??ا على‬
‫الجزائر الع??امرة الم??ذكورة ال??تي في بح??ر أوقي??انوس الغ??ربي‪ ،‬واذا غ??ابت في ه??ذه‬
‫الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين‪ ،‬وذلك نصف دائرة األرض‪ ،‬وهو طول‬
‫صفحة ‪43 :‬‬

‫العمران الذي ذك??روا أنهم وقف??ا علي??ه ومق??داره من األمي??ال ثالث??ة عش??ر أل??ف مي??ل‬
‫وخمسمائة? ميل من األميال التي عمل??وا عليه??ا في مس??احة دور األرض‪ ،‬ثم نظ??روا‬
‫إلى العروض‪ .‬فجدوا العمران من موض??ع خ??ط االس??تواء إلى ناحي??ة الش??مال ينتهي?‬
‫إلى جزي??رة ت??ولى ال??تي في بريطاني??ا حيث يك??ون النه??ار األط??ول عش??رين س??اعة‪،‬‬
‫وذكروا أن موضع خط االستواء من األرض يقطع فيما بين المش??رق والمغ??رب في‬
‫جزيرة بين الهند والحبش من ناحية الجنوب‪ ،‬فيعرض ما بين الشمال والجنوب في‬
‫النصف مما بين الجزائر العامرة وأقصى عمران الصين وهو قبة األرض المعروفة‬
‫بما ذكرنا‪ ،‬ويكون العرض من خط االستواء إلى جزيرة تولى قريبأ من ستين ج??زأ‪،‬‬
‫وذلك سدس دائ??رة األرض‪،‬وإذا ض??رب ه??ذا الس??دس ال??ذي ه??و مق??دار الع??رض في‬
‫النصف الذي هو مقدار الطول كان مقدار ما يظهر من العم??ران من ناحي??ة الش??مال‬
‫مقدار نصف سدس دائرة األرض‪.‬‬

‫األقاليم السبعة‬
‫وأما األقاليم السبعة فأولها أرض بابل من?ه? خراس??ان وف??ارس‪:‬األه??واز والموص??ل‬
‫الح َم? ل ُ وال َق? ْ?وس‪ ،‬ومن األنجم الس??بعة ال ُم ْ‬
‫ش? َت ِري‬ ‫وأرض الجبال ة ول??ه من ال??بروج َ‬
‫دي‪ ،‬ومن األنجم‬ ‫واالقليم الث??اني الهن??د والس??ند والس??ودان‪ ،‬ول?? َه من ال??بروج ا ْل َج?? ُ‬
‫السبعة ُزحلُ‪ ،‬واإِل قليم الثالث مكة والمدين??ة واليمن والط??ائف والحج??از وم??ا بينه??ا‪،‬‬
‫وله من ال??بروج العق??رب‪ ،‬ومن األنجم الس??بعة ال ُزهْ? َرة‪ ،‬وهي س??عد الفل??ك‪ ،‬واإِل قليم‬
‫الرابع مصر وإفريقية? والبربر? واألندلس وما بينها‪ ،‬ل?ه من ال?بروج الج?وزاء‪ ،‬ومن‬
‫األنجم السبعة ُع َطارد‪ ،‬واإِل قليم الخ?امس الش?ام وال?روم والجزي?رة‪ ،‬ل?ه من ال??بروج‬
‫ال???دَّ ْلو‪ ،‬ومن األنجم الس???بعة القم???ر‪ ،‬واإِل قليم الس???ادس ال???ترك والخ???زر وال???ديلم‬
‫?ري ُخ‪ ،‬واإِل قليم الس??ابع‬ ‫س َر َطان‪ ،‬ومن األنجم الس??بعة ال َم? ِّ‬
‫والصقالبة‪ ،‬له من البروج ال َّ‬
‫الديبل والصين‪ ،‬له من البروج الم??يزان‪ ،‬ومن األنجم الس??بعة الش??مس‪.‬ذك??ر حس??ين‬
‫الزيج في النجوم‪ ،‬عن خال??د بن عب??د المل??ك الم??روزي وغ??يره‬ ‫المنجم صاحب كتاب ِّ‬
‫صدوا الشمس ألمير المؤمنين المأمون في َب ِّرئ ?ة? س??نجار من بالد دي??ار‬ ‫وقد كانوا َر َ‬
‫ربيعة أن مقدار درجة واحدة من وجه األرض ستة وخمسون ميالً‪ .‬فضربوا مق??دار‬
‫والبح? ر‬
‫َ‬ ‫دَو َر ك??رة األرض المحيط??ة ب??البر‬ ‫درجة واحدة في ثالثمائة وس??تين فج??دوا ْ‬
‫عشرين أل??ف مي??ل ومائ??ة وس??تين مياَل َ‪ ،‬ثم ض??ربوا دور األرض في س??بعة ف??اجتمع‬
‫مائة ألف ميل وأحد وأربعون أل??ف مي??ل ومائ??ة وعش??رون ميالً‪ .‬فقس??موا ذل??ك على‬
‫اث??نين وعش??رين ميالً وخ??رج للقس??م ال??ذي ه??و مق??دار ُق ْط?? ر األرض س??تة آالف‬
‫وأربعمائة وأربعة عشرميالً ونصفا ً ونصف? عشر ميل بالتقريب‪ ،‬ونصف قطر ثالثة‬
‫آالف ميل ومائتا ميل وسبعة أميال وست عشرة دقيقة وثلثا ثانية‪ ،‬يكون رب??ع مي??ل‬
‫ربع عشر ميل‪ ،‬والميل أربعة آالف ذراع باألسود‪ ،‬وهي الذراع ال?تي وض?عها أم?ير‬
‫المؤمنين المأمون َلذ ْرع الثي??اب ومس??احة البن??اء‪ ،‬وقس??مة المن??ازل‪ ،‬وال??ذراع مائ??ة‬
‫وعشرون إصبعا ً‪.‬‬

‫صفحة ‪44 :‬‬

‫جغرافية بطليموس‬

‫بجغرافياص? َف َة األرض‬
‫ِ‬ ‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكر بطليموس في الكت??اب المع??روف‬
‫ف الم?دن‬ ‫ص? َ‬
‫وو َ‬‫و ُم ُد َن َها وجبالها وما فيه?ا من البح?ار والجزائ?ر واألنه?ار والعي?ون َ‬
‫المسكونة والمواضع العامرة‪ ،‬وأن عددها أربع??ة آالف مدين?ة? وخمس??مائة? وثالئ??ون‬
‫مدينة? في عصره‪ ،‬وسماها مدينة مدينة? في إقليم إقليم‪ ،‬وذكر في هذا الكت??اب أل??وان‬
‫من الحم??رة والص??فرة والخض??رة وغ??ير ذل??ك من األل??وان‪ ،‬وأن ع??ددها‬ ‫جبال ال??دنيا ِ‬
‫مائت??ا جب??ل وني??ف‪ ،‬وذك??ر مق??دارها وم??ا فيه??ا من المع??ادن والج??واهر‪.‬وذك??ر ه??ذا‬
‫الفيلسوفأن عدد البحار المحيطة باألرض خمسة أبحر‪،‬وذكر م??ا فيه??ا من الجزائ??ر‪،‬‬
‫والعامر منها وغير العامر‪ ،‬وما اش??تهر من الجزائ??ر دون م??ا لم يش??تهر‪ ?،‬وذك??ر أن‬
‫في البحر الحبشي جزائر متصلة نحواً من ألف جزي??رة يق??ال له??ا ال??دبيحات ع??امرة‬
‫كله?ا من الجزي??رة إلى الجزي??رة الميالن والثالث?ة وأك??ثر من ذل?ك‪ ،‬دون م?ا في ه??ذا‬
‫البحر من الجزائر‪.‬وذكر بطليموس في جغرافيا أن ابتداء بحر مص??ر من ال??روم إلى‬
‫بحر األصنام النحاس‪ ،‬وأن جميع العي??ون الكب??ار ال??تي تنب??ع من األرض مائت??ا عين‬
‫وثالثون عين?اً‪ ،‬دون م??ا ع??داها من الص??غار‪ ،‬وأن ع??دد األنه??ار الكب??ار الجاري??ة في‬
‫األقاليم السبعة على دوام األوقات مائتان وتس??عون نه??راً‪ ،‬وأن األق??اليم على حس??ب‬
‫م??ا ق??دمناه فى ع??دة األق??اليم‪ ،‬وك??ل إقليم س??عته تس??عمائة فرس??خ في مثله??ا‪ ،‬وفي‬
‫البحارما ه??و معم??ور ب??الحيوان‪ ،‬ومنه??ا م??ا ليس بمعم??ور‪ ،‬وه??و أوقي??انوس البح??ر‬
‫المحي??ط‪ ،‬وس??نأتي فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب على ذك??ر جم??ل في تفص??يل? البح??ار‬
‫ووصفها‪ ،‬وهذه البحار كلها بصورة في كتاب جغرافيا ً بأنواع من األص??باغ مختلف??ة‬
‫المق??ادير في الص??ورة‪ ،‬فمنه??ا م??ا ه??و على ص??ورة الطيلس??ان‪ ،‬ومنه??ا م??ا ه??و على‬
‫ص??ورة الش??ابورة‪ ،‬ومنه??ا مص??راني الش??كل ومنه??ا مح??ور ومنه??ا مثلث‪ ،‬إالّ أن‬
‫أسماءها في هذا الكت??اب باليوناني?ة? متع??ذر فهمه??ا‪ ،‬وأن قط??ر األرض ألف??ان ومائ??ة‬
‫فرسخ يكون ذلك على الصحيح ستة آالف وستمائة? فرس??خ تق??دير ك??ل فرس??خ س??تة?‬
‫عشر ألف ذراع‪ ،‬والذي يحيط بأسفل دائرة النجوم وهو فلك القمرمائة أل??ف فرس??خ‬
‫وخمسة وعش??رون أل َف?ا َ وس??تمائة? وس??تون فرس??خأ‪ ،‬وأن قط??ر الفل??ك من ح??د رأس‬
‫الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ بتقدير هنه الفراس?خ‪ ،‬وع?دد‪ .‬ه?ذه‬
‫ارد‪،‬‬‫األفالك تسعة فأوله??ا وه??و أص??غرها وأقربه??ا إلى األرض للقم??ر‪ ،‬والث??اني ل ُع َط? ِ‬
‫للزهْ ? رة‪ ،‬وال??را ب??ع للش??مس‪ ،‬والخ??امس للم??ريخ‪ ،‬والس??ادس للمش??تري‪،‬‬ ‫والث??الث ُّ‬
‫والسابع ل ُز َحل‪ ،‬والثامن للكواكب الثابتة‪ ،‬والتاسع للبروج‪ ،‬وهيئة? هذه األفالك هيئة‬
‫األ َكر بعضها في ج??وف بعض ففل??ك ال??بروج يس??مى الفل??ك الكلي‪ ،‬وب??ه يك??ون اللي??ل‬
‫والنهار ألنه يدير الشمس والقمر وسائر الكواكب من المشرق إلى المغ??رب في ك??ل‬
‫?ةدو َرة واح??دة‪ ،‬على قط??بين ث??ابتين‪ :‬أح??دهما مم??ا يلي الش??مال وه??و قطب‬ ‫يوم وليل? ْ‬
‫س َه ْيل‪ ،‬وليس ال??بروج غ??ير الفل? َك‪،‬‬ ‫بنات َن ْعش‪ ،‬واألخر مما يلي الجنوب وهو قطب ُ‬
‫وإنما هي مواض?ع لقبت به?ذه األس?ماء لتع?رف مواض?ع الك?واكب من الفل?ك الكلي‪.‬‬
‫فيجب أن تكون البروج تضيق من ناحية القُ ْطبين وتتس ?ع? في وس??ط الك??رة‪ ،‬والخ??ط‬
‫القاطع للكرة نصفين اآلخذ من المشرق إلى المغرب يسمى دائرة ُم َعدل النهار‪ ،‬ألن‬
‫صفحة ‪45 :‬‬

‫?ع البل??دان‪ ،‬فم??ا ك??ان من‬


‫الشمس إذا ص??ارت عليه??ا اس??توى اللي??ل والنه??ار في جمي? ِ‬
‫الع ْرض‪ ،‬وم??ا ك??ان أخ??ذاً من الش??رق إلى‬
‫الفلك آخذاً من الجنوب إلى الشمال يسمى َ‬
‫الغ??رب يس??مى الط??ول‪ ،‬واألفالك مس??تديرة محيط??ة بالع??الم‪ ،‬وهي ت??دور على مرك??ز‬
‫األرض‪ ،‬واألرض في وس??طها مث??ل النقط??ة في وس??ط ال??دائرة‪ ،‬وهي تس??عة أفالك ة‬
‫فأقربها من األرض فلك القمر‪ ،‬وفقه فلك ُع َط? ارد‪ ،‬وف??ق ذل??ك فل??ك ُّ‬
‫الزهْ? رة‪ ،‬ثم فل??ك‬
‫الش??مس‪ ،‬والش??مس متوس??طة األفالك الس??بعة‪ ،‬وفقه??ا فل??ك الم??ريخ وفق??ه فل??ك‬
‫ش َت ِري‪ ،‬وفق ذلك فلك ُز َحل‪ ،‬وفي كل فل??ك من هن??ه األفالك الس??بعة ك??وكب واح??د‬ ‫ال ُم ْ‬
‫فقط‪ ،‬وفق فلك ُز َحل الفلك الثامن الذي فيه البروج االثنا عشر‪ ،‬وسائر الك??واكب في‬
‫الفلك الثامن‪ ،‬والفلك التاس??ع وه??و أرف??ع وأعظم جس??ماً‪ ،‬وه??و الفل??ك األعظم يحي??ط‬
‫باألفالك ال??تي دون??ه مم??ا س??مينا‪ ،‬وبالطب??ائع األرب??ع‪ ،‬وبجمي??ع الخليق??ة‪ ،‬وليس في??ه‬
‫ودو ُره من المش??رق إلى المغ??رب في ك??ل ي??وم دورة واح??دة تأم??ة‪ ،‬وي??دير‬ ‫ك??وكب‪ْ ،‬‬
‫صفُها‪ ،‬وأما األفالك السبعة التي قدمنا ذكرها‬ ‫بدورانه ما تحته من األفالك المتقدم َو ْ‬
‫فإنها تدور من المغرب إلى المشرق‪ ،‬ولألوائل فيما ذكرنا حجج يطول الخطب به??ا‪،‬‬
‫والكواكب المرئية التي نشاهدها وساثر الكواكب في الفلك الثامن‪ ،‬وهو يدور‬

‫?وا أن ال?دليل على أن‬ ‫على قطبين غير قطبي الفلك األعظم المتق??دم ذك??ره‪ ،‬وزعم? ِ‬
‫ش َر يتلو بعضها بعضا ً‬ ‫االثني ع َ‬
‫ْ‬ ‫حركة هذه البروج غير حركة األفالك هو أن البروج‬
‫في مسيرها‪ ،‬وال تنتقل عن أماكنها‪ ،‬وال تتغير حركتها في طلوعه??ا وغروبه??ا‪ ،‬وأن‬
‫الك??واكب الس??بعة لك??ل واح??د منه??ا حرك??ة خالف حرك??ة ص??احبه‪ ،‬وله??ا تف??اوت في‬
‫حركاتهاث فربما أسرع الكوكب في حركته ومسيره‪ ?،‬وربما أخذ في الجنوب‪ ،‬وربما‬
‫وح ُّد الفلك عندهم أنه نهاية لما تصير? إلي??ه الطب??ائع عل??واً وس??فالً‪،‬‬
‫أخذ في الشمال‪َ ،‬‬
‫َو حده من جهة الطبائع أنه شكل مستدير‪ ،‬وهو أوسع األشكال‪ ،‬وهو يحيط باألشكال‬
‫كلها‪ ،‬وأن مقادير حركة هذه الكواكب في أفالكها مختلفة فمقام القم??ر في ك??ل ب??رج‬
‫يومان ونصف‪ ،‬ويقطع الفلك في شهر‪ ،‬ومقام الش??مس في ك??ل ب??رج ش??هر‪ ،‬ومق??ام‬
‫الزهْ رة في كل برج خمس??ة وعش??رون‬ ‫ُع َطارد في كل برج خمسة عشريوماً‪ ،‬ومقام ُّ‬
‫يوماً‪ ،‬ومقام المريخ في كل ب??رج خمس??ة وأربع?ون يوم?اً‪ ،‬ومق??ام المش??تري في ك?ل‬
‫برج سنة‪ ،‬ومقام ُز َحل في كل برج ثالثون شهراً‪.‬وقد زعم بطليموس صاحب كت??اب‬
‫المجسطي أن استدارة األرض كلها جبالها وبحارها أربعة وعشرون ألف مي??ل وأن‬
‫قطرهاوهو عرضها وعمقها سبعة آلف وستمائة? وس??تة وثالث??ون ميالً‪ ،‬وأنهم إنم??ا‬
‫استدركوا ذلك بأنهم أخنوا ارتفاع القطب انشمالي في مدينتين وهما على خط واحد‬
‫ومثل مدينة‬
‫ِ‬ ‫من خط االستواء‪ ،‬مثل مدينة َتد ُمر التي في البرية بين العراق والشام‪،‬‬
‫الرقة فجدوا ارتف??اع القطب في مدين?ة? الرق??ة خمس??ة وثالثين ج??زءاَ وثل َث? ا َ ووج??دوا‬
‫ارتفاع القطب في مدينة َتدْ ُمر أربعة وثالثين جزءاً‪ ،‬بينهما زيادة ج??زءوثلث ج??زء‪،‬‬
‫س ُحواما بين الرقة فجدوه سبعة وستين ميالً؛ فالظاهر من الفل??ك س??بعة وس??تون‬ ‫و َم َ‬
‫ميالً من ألرض‪ ،‬والفلك ثلثمائة وستون جزءأ لعل ذكروه??ا يبع??د علين??ا إيراده??ا في‬
‫هذا الموضع‪ ،‬وهذه قسمة صحيحة عندهم ألنهم وجدوا الفلك ق??د اقتس??مته? ال??بروج‬
‫االثنا عشر‪ ،‬وأن الشمس تقطع كل برج في شهر‪ ،‬وتقطع البروج كلها في ثلثمائة‬
‫صفحة ‪46 :‬‬

‫وستين يومأ‪ ،‬وأن الفلك مستدير? يدور بمحورين أو قطبين‪ ،‬وأنهما بمنزلة محوري‬
‫ِص?اع وغيره??ا من اآلالت الخش??ب‪ ،‬وأن من‬ ‫?ر والق َ‬‫النجار والخراط الذيِ يخ?رط األ َك َ‬
‫ُ‬
‫?اعات ليل??ه ونه??اره س??ائر‬
‫كل مسكنة وسط األرض وعند خ??ط االس??تواء اس??توت س?‬
‫الدهور‪ ،‬ورأى هذين المحورين أعني القطب الش َمالي والقطب الجنور جميعاً‪ ،‬فأم??ا‬
‫ش‪،‬‬ ‫أهل البلدان التي مالت إلى ناحية السمال فإنهم يرون القطب الشمالي وبن??ات َن ْع ٍ‬
‫وال يرون القطب الجنوبي وال الكواكب التي هي قريبة منه‪ ،‬وكذلك ال يرى الك??وكب‬
‫س َه ْي ٍل بناحيةخراسان‪ ،‬ويرى في العراق في الس??نة أيام ?اً‪ ،‬وال تق??ع عين‬ ‫المعروف ب ُ‬
‫?اس من العل??ة في‬ ‫جمل من الجمال عليه إال هلك‪ ،‬على حسب ما ذكرناه وما ذكر الن? ُ‬
‫?رى في‬ ‫ذلك في موت هذا النوع من الحيوان خاصة‪ ،‬وأما البل??دان الجنوبي??ة فإن??ه ُي? َ‬
‫?وا أن ال??دليل‬ ‫السنة كلها‪.‬ى قطبين غ??ير قط??بي الفل??ك األعظم المتق??دم ذك??ره‪ ،‬وزعم? ِ‬
‫عش? َر يتل??و‬ ‫?ني َ‬ ‫على أن حركة هذه ال??بروج غ??ير حرك??ة األفالك ه??و أن ال??بروج االث? ْ‬
‫بعضها بعضا ً في مسيرها‪ ،‬وال تنتق??ل عن أماكنه??ا‪ ،‬وال تتغ??ير حركته??ا في طلوعه??ا‬
‫وغروبها‪ ،‬وأن الكواكب السبعة لكل واحد منها حرك??ة خالف حرك??ة ص??احبه‪ ،‬وله??ا‬
‫تفاوت في حركاته??اث فربم??ا أس??رع الك??وكب في حركت??ه ومس??يره‪ ?،‬وربم??ا أخ??ذ في‬
‫وح ُّد الفلك عندهم أنه نهاية لما تصير إليه الطبائع‬ ‫الجنوب‪ ،‬وربما أخذ في الشمال‪َ ،‬‬
‫علواً وسفالً‪َ ،‬وحده من جهة الطبائع أنه شكل مستدير‪ ،‬وهو أوس?ع األش?كال‪ ،‬وه?و‬
‫يحيط باألشكال كله??ا‪ ،‬وأن مق??ادير حرك??ة ه??ذه الك??واكب في أفالكه??ا مختلف??ة فمق??ام‬
‫القمر في كل برج يومان ونصف‪ ،‬ويقطع الفل??ك في ش??هر‪ ،‬ومق??ام الش??مس في ك??ل‬
‫الزهْ رة في كل ب??رج‬ ‫برج شهر‪ ،‬ومقام ُع َطارد في كل برج خمسة عشريوماً‪ ،‬ومقام ُّ‬
‫خمسة وعشرون يوماً‪ ،‬ومقام المريخ في ك?ل ب??رج خمس??ة وأربع??ون يوم?اً‪ ،‬ومق??ام‬
‫المش??تري في ك??ل ب??رج س??نة‪ ،‬ومق??ام ُز َح? ل في ك??ل ب??رج ثالث??ون ش??هراً‪.‬وق??د زعم‬
‫بطليموس صاحب كتاب المجسطي أن استدارة األرض كلها جبالها وبحاره??ا أربع??ة‬
‫وعشرون ألف ميل وأن قطرهاوهو عرض??ها وعمقه??ا س??بعة آلف وس??تمائة? وس??تة‬
‫وثالثون ميالً‪ ،‬وأنهم إنما اس??تدركوا ذل??ك ب??أنهم أخن??وا ارتف??اع القطب انش??مالي في‬
‫مدينتين وهما على خط واحد من خط االستواء‪ ،‬مث??ل مدين??ة َت??د ُمر ال??تي في البري?ة?‬
‫ومثل مدينة? الرقة فجدوا ارتفاع القطب في مدينة? الرقة خمسة‬ ‫ِ‬ ‫بين العراق والشام‪،‬‬
‫وثالثين جزءاَ وثل َثا َ ووجدوا ارتف??اع القطب في مدين?ة? َت??دْ ُمر أربع??ة وثالثين ج??زءاً‪،‬‬
‫س? ُحواما بين الرق?ة فج?دوه س?بعة وس??تين ميالً؛‬ ‫بينهما زي??ادة ج?زءوثلث ج?زء‪ ،‬و َم َ‬
‫فالظاهر من الفلك سبعة وستون ميالً من ألرض‪ ،‬والفلك ثلثمائة وستون جزءأ لعل‬
‫ذكروها يبعد علينا إيراده??ا في ه??ذا الموض??ع‪ ،‬وه??ذه قس??مة ص??حيحة عن??دهم ألنهم‬
‫وجدوا الفلك قد اقتسمته البروج االثنا عشر‪ ،‬وأن الشمس تقطع كل برج في شهر‪،‬‬
‫وتقطع البروج كلها في ثلثمائة? وستين يومأ‪ ،‬وأن الفلك مستدير? يدور بمحورين أو‬
‫صاع وغيرها‬ ‫قطبين‪ ،‬وأنهما بمنزلة? محوري النجار والخراط الذيِ يخرط األ َك َر والقِ َ‬
‫من اآلالت الخشب‪ ،‬وأن من كل مسكنة وسط األرض وعن??د خ??ط االس??تواء اس??توت‬
‫ساعات ليله ونهاره سائر ال??دهور‪ ،‬ورأى ه??ذين المح??ورين أع??ني القطب الش? َمالي‬ ‫ُ‬
‫والقطب الجنور جميعاً‪ ،‬فأما أهل البلدان التي مالت إلى ناحية الس?مال ف?إنهم ي?رون‬
‫ش‪ ،‬وال يرون القطب الجنوبي وال الكواكب التي هي‬ ‫القطب الشمالي وبنات َن ْع ٍ‬
‫صفحة ‪47 :‬‬

‫بس? َه ْي ٍل بناحيةخراس?ان‪ ،‬وي??رى في‬


‫قريبة? من?ه‪ ?،‬وك?ذلك ال ي??رى الك?وكب المع?روف ُ‬
‫العراق في السنة أياماً‪ ،‬وال تقع عين جمل من الجمال عليه إال هلك‪ ،‬على حسب ما‬
‫الناس من العلة في ذلك في موت ه?ذا الن?وع من الحي?وان خاص?ة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذكرناه وما ذكر‬
‫وأما البلدان الجنوبية? فإنه ُي َرى في السنة كلها‪.‬‬
‫وقد تنازع طوائف الفلكيين وأصحاب النجوم في هذين المحورين اللذين يعتمد‬
‫عليهما الفلك في دوره‪ :‬أس??اكنان هم??ا أم متحرك??ان‪ .‬ف??ذهب األك??ثر منهم إلى أنهم??ا‬
‫غيرمتحركين وقد أتينا على ما يلزم كل فريق منهم في بيان هذين المح??ورين‪ :‬أمن‬
‫جنس األفالك هما أم من غير ذلك فيما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫شكل البحار‬
‫وق??د تن??وزع في ش??كل البح??ار‪ ،‬ف??ذهب األك??ثر من الفالس??فة المتق??دمين من الهن??د‬
‫وحكماء اليونانيين إال من خالفهم وذهب إلى قول الشرعيين أن البحر مستدير? على‬
‫مواضع األرض‪ ،‬واستدلوا على صحة ذلك بدالئل كث??يرة‪ ،‬منه??ا أن??ك إذا لججت في??ه‬
‫غابت عنك األرض والجبال شيئا ً بعد شيء حتى تغيب ذلك كله‪ ،‬وال ت??رى ش??يئأ من‬
‫ش َوامخ الجبال‪ ،‬وإذا أقبلت أيضا ً نحو الساحل ظهرت تلك الجب??ال ش??يئا ً بع??د ش??يء‪،‬‬ ‫َ‬
‫وإذا قربت من الساحل ظهرت األشجار واألرض‪.‬وهذا جب??ل ُد ْن َب َاو ْن? َد بين بالد ال??ري‬
‫وطبرس??تان ي??رى من مائ??ة فرس??خ لعل??وه وذهاب??ه في الج??و‪ ،‬ويرتف??ع في أعالي??ه‬
‫الدخان‪ ،‬والثلوج مترادفة عليه غير خالية من أعاليه‪ ،‬ويخ??رج من أس?فله نهركث??ير‬
‫الماء أصفركبريتي? ذهبي اللون‪ ،‬مسافة الصعود إلي??ه في نح??و ثالث??ة أي??ام بلياليه??ا‪،‬‬
‫وإن َمنْ َعاَل ه وصار في قُلَّته وجد مساحة رأس نحوألف فراع في مث??ل ذل??ك‪ ،‬وهي‬
‫ت??رى في رأي العين من أس??فل نح??و القب??ة المنخرط??ة‪ ،‬وإن في ه??ذه المس??احة في‬
‫أعاليه رماًل أحمرتغوص فيه األقدام‪ ،‬وإن ه??ذه القب??ة ال يلحقه??ا ش??يء من ال??وحش‬
‫وال من الطير‪،‬لشدة الرياح وسموها في الهواء‪ ،‬وشدة البرد‪ ،‬وإن في أعاليه نح??واً‬
‫من ثالثين ثقب ?ا ً يخ??رج منه??ا ال??دخان الكبري??تي? العظيم‪ ،‬ويخ??رج م??ع ذل??ك من ه??ذه‬
‫ب‬ ‫الر ْع? دِ‪ ،‬وذل??ك ص??وت تله ِ‬ ‫المخ??ارق م??ع ال??دخان دوي عظيم كأش??د م??ا يك??ون من َّ‬
‫غرر بنفسه وصعد إلى أعاليه من أفاه هذه الثقوب كبريتا ً‬ ‫النيران‪ ،‬وربما يحمل من َّ‬
‫أصفر كأنه الذهب يقع في أنواع الصنعة والكيمياء وغير ذلك من الوجوه‪ ،‬وإن َمنْ‬
‫َعاَل ه يرى ما حوله من الجبال الشامخة كأنها َر َواب وتاَل ل لعلوه عليه??ا‪ ،‬وبين ه??ذا‬
‫الجبل وبحر طبرستان في المسافة نحو من عشرين فرسخاً‪ ،‬والمراكب إذا َل َّجت في‬
‫هذا البحر غاب عنها جبل ُد ْن َب َاو ْندَ فلم ير ُه أحد‪ ،‬فإذا صاروا في هذا البحر على نحو‬
‫من مائة فرسخ‪ ،‬ودَ َن ْوا من جبال طبرستان رأوا اليسير من أعالي هذا الجبل‪ ،‬فكلما‬
‫قرب??وا من ه?ذا الس?احل ظه??ر لهم‪ ،‬وه?ذا دلي??ل على م?ا ذهب??وا إلي?ه من كري?ة م??اء‬
‫البحر‪ ،‬وأنه مستدير الشكل‪.‬وكذلك َمن يكون في بح??ر ال??روم ال??ذي ه??و بح??ر الش??ام‬
‫?ال ال يح??رك عل??وه‪ُ ،‬مطِ? ل على بالد أنطاكي??ة‬ ‫ومصريرى الجبل األقرع‪ ،‬وهو جبل ع? ٍ‬
‫والالذقية وطرابلس وجزيرة قبرص وغيرها في بالد الروم‪ ،‬فيغيب عن أبص??ار َمنْ‬
‫في المراكب النخفاضهم في المسير في البحر عن المواضع التي ُيرى منها‪.‬‬
‫صفحة ‪48 :‬‬

‫وسنذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جب??ل دُن َب َاو ْن? َد وم??ا ق??ال الف??رس في ذل??ك‪ ،‬وأن‬
‫الضحاك ذا األفاه ُمو َثق في أعاليه بالحديد‪ ،‬وهذه القبة ال??تي في أع??الي ه??ذا الجب??ل‬
‫أ ُط ٌم عظيمة من آطام األرض وعجائبها‪.‬‬
‫مساحة األرض والكواكب‬

‫وقد تكلم الناس في بعد األرض فذكر األك??ثر أن من مرك??ز األرض إلى م??ا ينتهي?‬
‫إليه الهواء والنار مائة ألف وثمانية? عشر ألف ميل‪ ،‬وأما القمر ف??إن األرض أعظم‬
‫من??ه بتس??ع وثالثين م??رة‪ ،‬واألرض أعظم من ُع َط? ارد بثالث وعش??رين أل??ف م??رة‪،‬‬
‫واألرض أعظم من الزهرة بأربع وعشرين ألف م??رة‪ ،‬والش??مس أعظيم من األرض‬
‫بمائة وسبعين مرة وربع وثمن‪ ،‬وأعظم من القم?ر ب?ألف وس?تمائة? وأرب?ع وأربعين‬
‫م??رة‪ ،‬واألرض كله??ا نص??ف عش??ر ثمن ج??زء من الش??مس‪ ،‬وقُ ْط? ر الش??مس اثن??ان‬
‫وأربعون ألف ميل‪ ،‬والمريخ? مثل األرض زيادة ثالثة وس??تين م??رة‪ ،‬وقط??ره ثماني??ة‬
‫آالف وس??بعمائة مي??ل ونص??ف مي??ل‪ ،‬والمش??تري مث??ل األرض إح??دى وثم??انين م??رة‬
‫ونصف? وربع‪ ،‬وقطره ثالثة وثالثون ألف ميل وس??تة عش??ر ميالً‪ ،‬و ُز َح? ل ُ أعظم من‬
‫األرض تس??عا ً وتس??عين م?رة ونص??فاً‪ ،‬وقط??ره اثن??ان وثالث?ون أل??ف مي??ل وس??بعمائة‬
‫وس??تة وثالث??ون ميالً‪ ،‬وأم??ا أج??رام الك??واكب الثابت??ة ال??تي في المش??رق األول وهي‬
‫خمسة عشر كوكبا ً فكل كوكب منها أعظم من األرض بأربع وتس??عين م??رة ونص ?ف?‬
‫مرة‪ ،‬وأما بعدها من األرض فإن أقرب بعد القمر منها مائة ألف وثمانية وعشرون‬
‫ألف ميل‪ ،‬وأبعد بعده من األرض مائة ألف وأربعة وعشرون ألف مي?ل‪ ،‬وأبع?د بع??د‬
‫ًع َطارد من األرض سبعمائة ألف ألف وسبعمائة? وثالثة وثالث??ون أل??ف مي??ل‪ ،‬وأبع??د‬
‫بعد الزهرة من األرض أربعة آالف وتسعة عشر ألف ميل وستمائة? ميل‪ ،‬وأبعد بعد‬
‫الشمس من األرض أربعة آالف ألف أل??ف وثمانمائ?ة? أل??ف وعش??رون ألف??أ ونص??ف‬
‫ميل‪ ،‬وأبعد بعد المريخ من األرض ثالثة وثالثون ألف ألف ميل وستمائة? أل??ف مي??ل‬
‫وشيء‪ ،‬وأبع??د بع??د المش??تري من األرض أربع??ة وخمس??ون أل??ف أل??ف ومائ??ة أل??ف‬
‫وستة? وستون ألف ميل إال شي َئاَ‪ ،‬وأبعد بعد ُز َح? ل من األرض س??بعة وس??بعون أل??ف‬
‫ألف ميل إال شيئاً‪ ،‬وأبعد الكواكب الثابت??ة من مرك??ز األرض نحوذل??ك‪ .‬وفيم??ا ذكرن??ا‬
‫من القسمة واألج??زاء والمق??اييس اس??تدرك الق??وم علم الس??اعات والكس??وفات وبه??ا‬
‫استخرجوا اآلالت واإِل سطرالبات‪ ،‬وعليها صنفا كتبهم كله?ا‪ ،‬وه??ذا ب??اب إن ش??رعنا‬
‫في إيراد البعض منه كثر‪ ،‬واتسع الكالم فيه‪ ،‬وإنما ذكرنا لمعا ً من هذه الفنون لندل‬
‫به??ا على م??ا لم ن??ورده‪ .‬وق??د رتبت الص??ابئة? من الحران??يين وهم ع??وام اليون??انيين‬
‫وح ْ‬
‫ش ِوية? الفالسفة المتق??دمين الكهن??ة في هياكله??ا م??راتب على ت??رتيب? ه??ذه األفالك‬ ‫َ‬
‫الس??بعة‪ ،‬ف??أعلى كه??انهم يس??مى رأس كم??رى‪ ،‬ثم وردت بع??دهم النص??ارى ف??رتبت‬
‫الكهنة في َك َهانتها‪ ،‬على ما تقدمت فيه الصابئة في مذهبها‪.‬وس??مت النص??ارى ه??ذه‬
‫المراتب العظات‪ :‬فأولها السلط‪ ،‬والثاني اعنسط‪ ،‬والثالث يودنا‪ ،‬والرا ب??ع ش??ماس‪،‬‬
‫والخامس قسيس‪ ،‬والسادس ي?ودوط‪ ،‬والس?ابع ح?ور الغينطس‪ ،‬وه?و ال?ذي يخل?ف‬
‫األسقف‪ ،‬والثامن أسقف‪ ،‬والتاسع ُم ْط َران‪ ،‬وتفسير? مطران رئيس المدينة‪ ،‬والذي‬
‫صفحة ‪49 :‬‬

‫ف??ق ه??ؤالء كلهم في المرتب?ه? ل َب ْط? رك‪ ،‬وتفس??يره? أب??و اآلب??اء‪ ،‬فمن تق??دم ذك??رهم من‬
‫أصحاب المراتب وغيرهم من األداني وعوامهم‪ ،‬ه??ذا عن??د خ??واص النص??ارى‪،‬فأم??ا‬
‫العوام منهم في??ذكرونَ في ه??ذه الم??راتب غ??ير م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وه??و أن َم َلك?ا ً ظه??ر لهم‪،‬‬
‫وأظهر أموراً يذكرونها ال حاجة بنا إلى وصفها‪ ،‬وه??ذا ت??رتيب الملكي??ة‪ ?.،‬وهم ُع ُم? ُد‬
‫النصراينة وقُ ْطبها‪ .‬ألن ص المشارقة وهم العباد والملقبون بال ًن ْس ُطورية واليعاقب??ة‬
‫عن هؤالء تفرعوا‪ ،‬ومنهم تبددوا‪ ،‬وإنم??ا أخ??ذت النص??ارى جمالً من ه??ذه الم??راتب‬
‫على ما ذكرنا من الصابئة‪ ?،‬وأم??ا القس??يس والش??ماس وغ??ير ذل??ك فعن ال َمانِي??ة‪ ،‬إال‬
‫التصدوس والسماع‪ ،‬وإن كان ماني َح َدث بعد مضي الس??يد عيس??ى بن م??ريم علي??ه‬
‫ص?ان ومرقي?ون‪ ،‬وإلى م?اني أض?يفت الماني?ة‪ ?،‬وإلى مرقي?ون‬ ‫السالم‪ ،‬وكذلك ابن َد ْي َ‬
‫أض??يفت المرقيوني??ة‪ ،‬وإلى ابن ديص??ان أض??يفت الديص??انية‪ ،‬ثم تف??رعت بع??د ذل??ك‬
‫المزدَ قية وغيرها ممن سلك طريقة صاحب األثنين‪.‬وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان‬ ‫ْ‬
‫وفي الكتاب األوس??ط على ُج َم??ل من نوادره??ذه الم??ذاهب‪ ،‬وم??ا أورده من الخراف??ات‬
‫ش َبه الموضوعة‪ ،‬وما ذكرناه من مذاهبهم في كتابنا في المق??االت في‬ ‫المزخرفة‪ ،‬وال ُ‬
‫أص??ول ال??ديانات وم??ا ذكرن??اه في كس??ر ه??ذه اآلراء وه??دم ه??ذه الم??ذاهب في كتابن??ا‬
‫المترجم بكتاب اإلِبانة في أص??ول الديان??ة وإنم??ا ن??ذكر في ه?ذه األب??واب م??ا يتش??عب‬
‫الكالم إليه‪ ،‬ويتغلغل الوصف نحوه‪ ،‬فن??ورد من?ه? لمع?ا ً على طري??ق الخ??بر والحكاي??ة‬
‫للمذهب‪ ،‬ال على طريق النظر والجدل‪ .‬لئال يخلو كتابنا ه??ذا مم??ا ت??دعو الحاج??ة إلى‬
‫ذكره‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬‬

‫ذكراألخبارعن انتقال البحار‬


‫وجمل من أخبار األنهار الكبار‬
‫ذكر صاحب المنطق أن البحار تنتقل? على مرور السنين وطويل الدهر‪ ،‬حتى تصير‬
‫في مواضع مختلفة‪ ،‬وأن جملة البحار متحركة‪ ،‬إال أن تلك الحرك??ة إذا أض??يفت إلى‬
‫س َعة سطوحها و ُب ْع ِد قُ ُعورها صارت كأنه??ا س??اكنة‪ ،‬وليس??ت مواض??ع‬ ‫جملة مياهها و َ‬
‫األرض الرطبة أب?داً رطب??ة‪ ،‬وال مواض?ع األرض اليابس??ة أب??داً يابس?ة‪ ?،‬لكنه??ا تتغ??ير‬
‫لصب األنهار إليها‪ ،‬وانقطاعها عنها‪ ،‬ولهذه العلة يستحيل موضِ ع البحر‬ ‫ّ‬ ‫وتستحيل‪?،‬‬
‫موضع البحر أبداَ بحراً‪ ،‬بل قد يك??ون‬ ‫ِ‬ ‫وموضع البر‪ ،‬فليس موضع البر أبداً براً‪ ،‬وال‬
‫ب??راً حيث ك??ان م??رة بح??راً‪ ،‬ويك??ون بح??راَ حيث ك??ان م??رة ب??راً‪ ،‬وعل??ة ذل??ك األنه??ار‬
‫ش?وراً‪ ،‬كم??ا‬‫ش?ئا ً و ُن ُ‬
‫وبدؤها؛ فإن لمواضع األنهار ش??بابا ً وه ََرم?اً‪ ،‬وحي??اة وموت?اً‪ ،‬و َن ْ‬
‫يكون ذل?ك في الحي?وان والنب?ات‪ ،‬غ??ير أن الش??باب والك??بر في الحي??وان والنب??ات ال‬
‫يكون جزأ بعد جزء‪ ،‬لكنها تشب وتكبر أجزاؤها كلها معاً‪ ،‬وكذلك تهرم وتم??وت في‬
‫وقت واحد‪ ،‬فأما األرض فإنها تهرم وتكبرجزأ بعد جزء‪ ،‬وذلك بدوران الشمس‪.‬وقد‬
‫اختلف الناس في األنهار واألعين من أين بدؤها‪.‬فذهبت طائفة إلى أن مجراها كلها‬
‫أع??ني البح??ار واح??د‪ ،‬وه??والبحر األعظم‪ ،‬وأن ذل??ك بح??ر ع??ذب ليس ه??و بح??ر‬
‫أقيانوس‪.‬زعمت طائفة أن البحار في األرضين كالعروق في البدن‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬ح?ق الم?اء أن يك?ون على س?طح‪ ،‬فلم?ا اختلفت األرض فك?ان منه?ا‬
‫العالي والهابط أنحاز الماء إلى أعماق األرض‪ ،‬فإذا انحصرت المياه في أعماق‬
‫صفحة ‪50 :‬‬

‫س حينئ??ذ‪ ،‬لغل??ظ األرض وض??غطتها إياه??ا من أس??فل‪،‬‬‫األرض وقُ ُعوره??ا طلبت التن ُّف َ‬
‫فتنبثق? من ذلك العيون واألنهار‪ ،‬ربما تتولد في باطن األرض??ين من اله??واء الك??ائن‬
‫هناك‪ ،‬وأن الم??اء ل??يى بأس??طقس‪ ،‬وإنم??ا ه??و متول??د من ُعفن??ات األرض وبخاره??ا‪،‬‬
‫وقالوا في فلك كالما ً كثيراً أعرضنا ذكره طلبا ً لإليجاز وميالً لالختصار‪ ،‬وقد بس??طنا‬
‫ذلك في غير هذا الكتاب من كتبنا‪.‬أما مبادىء األنهار الكب?ار‪ ،‬ومطارحه?ا‪ ،‬ومق?ادير‬
‫جريانه??ا على وج??ه األرض كالني??ل والف??رات والدجل??ة ونه??ر بلخ‪ ،‬وه??و جيح??ون‪،‬‬
‫ومهران الس??ند وجنجس‪ ،‬وه??و نه??ر عظيم ب??أرض الهن??د‪ ،‬ونه??ر س??ابط وه??و نه??ر‬
‫عظيم‪ ،‬ونهر طنابس الذي يصب إلى بحر نيطس‪ ،‬وغيرها مما كبر من األنهار فق??د‬
‫تكلم الناس في مقدار جريانها على وجه األرض‪.‬‬

‫النيل‬
‫ف??رأيت في جغرافي??ا الني??ل مص??وراً ظ??اهراً من تحت جب??ل القم??ر‪ ،‬ومنبع??ه ومب??دأ‬
‫ظهوره من اثنتي? عشرة عين?اً‪ ،‬فتص?ب تل?ك المي?اه إلى بح?رين هن?اك كالبط?ائح‪ ،‬ثم‬
‫يجتمع الماء جاريا ً فيمر برمال هناك وجبال‪ ،‬ويخترق أرض السودان مم??ا يلي بالد‬
‫وهى‬
‫ِ‬ ‫ال??زنج‪ .‬فيتش??عب من ?ه? خليج ينص ?ب? إلى بح??ر ال??زنج‪ ،‬و بح??ر جزي??رة قنبل??و‪،‬‬
‫جزي??رة ع??امرة فيه??ا ق??وم من المس??لمين‪ ،‬إال أن لغتهم زنجي??ة‪ :‬غلب??وا على ه??ذه‬
‫س َب ْوا َمنْ كان فيها من الزنج‪ . ،‬كغلبة المس??لمين على جزي??رة إق??ريطش‬ ‫الجزيرة‪ ،‬و َ‬
‫إلى‬
‫ض?ي األموي??ة‪ ?،‬ومنه??ا ِ‬ ‫في البحر ال??رومي‪ ،‬وذل??ك في مب??دأ الدول??ة العباس??ية و َت َق ِّ‬
‫عم??ان في البح??ر نح??و م??ز خمس??مائة فرس??خ على م??ا يق??ول البحر ُّيونَ َح? ْزراَ منهم‬
‫لذلك‪ ،‬ال علر طريق التحصيل والمساحة‪ ،‬وذكر جماعة من َن َواخ??ذة ه??ذا البح??ر م??و‬
‫السيرافيين والعمانيين وهم أرباب المراكب أنهم يشاهدون في هذا البحر في الوقت‬
‫الذي تكثر فيه زيادة النيل بمصر‪ ،‬أو قبل األوان بمدة يسيرةماء يخترق ه??ذا البح??ر‬
‫ويشقه? من شدة جريانه‪ ،‬يخرج من جبال الزنج‪ ،‬عرضه ك??ثر من مي??ل ع??ذبا ً حل??وا‪،‬‬
‫يتكدر في إبان الزيادة بمصر وصعيدها‪ ،‬فيها الشوهمان‪ ،‬وهو التمس??اح الك??ائن في‬
‫نيل مصر‪ ،‬ويسمى أيضا ً الورل‪.‬‬

‫بعض أوهام الجاحظ‬

‫وقد زعم عمرو بن بحز الجاحظ أن نه??ر مه??ران ال??ذي ه??و نه??ر الس??ند من ني??ل‬
‫مصر‪ ،‬ويستدل على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه‪ ،‬فلست أدري كيف و ّق??ع ل??ه‬
‫هذا ال?دليل‪ ،‬وذك?ر ذل?ك في كتاب?ه الم?ترجم بكت?اب األمص?اروعجائب البل?دان‪ ،‬وه?و‬
‫كتاب في نهاي??ة ال َغ َثاث??ة ألن الرج??ل لم يس??لك البح??ار‪ ،‬وال ك??ثر األس??فار‪ ،‬وال َت َق??رى‬
‫المسالك واألمصار وإنما كان حاطب ليل‪ ،‬ينقل من كتب الوراقين أولم يعلم أن نه??ر‬
‫أعين مشهورة من أع?الي بالد الس??ند من أرض القن??وج من‬ ‫مهران السنديخرج من َ‬
‫مملكة بؤورة وأرض قشمير والقفندار والطافر حتى ينتهي إلى بالد المولتان‪ ،‬وك??ل‬
‫هناك يسمى مهران ال??ذهب‪ ،‬وتفس??ير? المولت??ان ف??رج ال??ذهب‪ ،‬وص??احب مملك? َ‬
‫?ة بل??د‬
‫سأمة بن لؤي بن غالب‪ ،‬والقوافل من إلى‬ ‫المولتان رجل من قريش من ولد َ‬
‫صفحة ‪51 :‬‬

‫خراسان متصلة‪ ،‬وكذلك صاحب مملكة المنصورة رجل من قريش من ولد َه َّبار بن‬
‫األسود‪ ،‬والملك في هؤالء وملك صاحب المولتان متوارثان قديما ً من صدراإِل سالم‪،‬‬
‫ثم ينتهي? نهر مهران إلى بالد المنصورة وبص??ب نح??و بالد ال??ديبل في بح??ر الهن??د‪،‬‬
‫والتماسيح كثيرة في أجواف هذا البحر‪ .،‬وفي خليج مي??دايون من مملك??ة ي??اغر من‬
‫أرض الهند وخلجان الزابج من بحر مملك??ة المه??راج وك??ذلك في خلج??ان األغي??اب‪،‬‬
‫وهي أغياب تلي جزيرة سرنديب‪ ،‬واألغلب على التماسيح كونها في الم??اء الع??ذب‪،‬‬
‫ب من أمواهه??ا أن تك??ون عذب??ة لص??ب مي??اه‬‫?األغ َل ُ‬
‫وم??ا ذكرن??ا من خلجان??ات الهن??د ف? ْ‬
‫األمطار إليها‪.‬‬

‫عودة إلى ذكر النيل‬


‫فلنرجع اآلن إلى األخبار عن نيل مصر‪ ،‬فنقرل‪ :‬إِن الذي ذكرته الحكماء أنه يجري‬
‫على وجه األرض تسعمائة? فرسخ‪ ،‬وقيل‪ :‬ألف فرسخ‪ ،‬في عامر وغير عامر‪ ،‬ح?تى‬
‫يأتي أسوان من صعيد مصر‪ ،‬وإلى هذا الموضع تصعد المراكب من فُ ْس َطاط مص??ر‪?،‬‬
‫وعلى أمي??ال من أس??وان جب??ال وأحج??ار يج??ري الني??ل في وس??طها‪ ،‬وال س??بيل إلى‬
‫جريان السفن فيه هناك‪ ،‬وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع س??فن الحبش??ة‬
‫في النيل وبين سفن المسلمين‪ ،‬ويعرف هذا الموضع من النيل بالجنادل والصخور‪،‬‬
‫الفس َطاط وقد قطع الصعيد ومر بجب??ل الطيلم??ون وحج??ر الاله??ون من‬ ‫ْ‬ ‫ثم يأتي النيل‬
‫بالد الفيوم‪ ،‬وهو الموضع المعروف بالجزيرة التي أتخذها يوس??ف الن??بي ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم وطناًفيقطعه‪ ،‬وسنذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب أخب??ار مص??ر والفي??وم‬
‫وضياعها وكيفية فعل ِيوس?ف? علي??ه الص??الة والس??الم في مائه??ا‪ ،‬ثم يمض?ي? جاري??أ‬
‫يس ودمياط ورشيد واإِل س??كندرية‪ ?،‬ك??ل يص??ب في البح??ر‬ ‫ت لى بالد َت ِّن َ‬‫فينقسم خلجانا ٍ‬
‫ال??رومي‪،‬وقدأح??دث في??ه بح??يرات فى ه??ذا المواض??م‪ ،‬وق??د ك??ان الني??ل انقط??ع‪،‬عن‬
‫بالداإلِسكندرية قبل هنه الزيادة التي زادها في هذه السنة وهي سنة اثنتين وثالثين‬
‫وثلثماثة? ونمي إلي وأنا بمدينة? أنطاكية والثغر الشامي أن النيل زاد في هذه الس??نة‬
‫ثمانية? عشر ذراعا ً فلست أدري أفي هذه الزيادة دخل خليج??ا اإِل س??كنرية? أم ال‪ ،‬وق??د‬
‫ك??ان اإلِس??كندر بن فيلبس الم ْق? دُوني ب??نى اإلِس??كندرية? على ه??ذا الخليج من الني??ل‪،‬‬
‫وكان يتفجر إليه معظم ماء النيل‪ ،‬ويسقي بالد اإلسكندرية? وبالد َم ْر ُيوط‪ ،‬وكان بالد‬
‫?ة من بالد المغ??رب‪،‬‬ ‫مري??وط ه??ذا في نهاي??ة العم??ارة‪ ،‬والج َن??ان متص??لة ب??أرض َب ْر َق? َ‬
‫وكانت السفن تجري في النيل فتتصل بأسواق اإلِسكندرية‪ ?،‬وقد بلط أرض نيلها في‬
‫المدينة بالرخام والمرمر‪ ،‬فانقطع الماء عنها لعوارض سدت ُخ ْل َجانها ومنعت الماء‬
‫من دخوله‪ ،‬وقيل‪ :‬لِ ِع َلل غيرذلك منعت من تنفسه? وردت الماء إلى كنانه‪ ،‬ال يحملها‬
‫كتابنا هذا الستعمالنا في??ه االختص??ار‪ ،‬فص??ار ش??ربهم من االب??ار‪ ،‬وص??ار الني??ل على‬
‫نحو يوم منهم‪ ،‬وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب في باب ذكرنا ألخب??ار اإلِس??كندرية?‬
‫جمالً من أخبارها وأخبار بنائها‪ ،‬وما ذكرت من الماء الجاري إلى بحر الزنج فإنم??ا‬
‫ه??وخليج آخ??ذ من أع??الي مص??ب ال??زنج‪ ،‬وف??ارق بين بالد ال??زنج وبين أقاص??ي بالد‬
‫أجناس األحابيش‪ ،‬ولوال ذلك الخليج ومفاوز من رمال ودهاس لم يكن للحبش??ة في‬
‫ديارهم من أنواع الزنج لكثرتها وبطشها‪.‬‬
‫صفحة ‪52 :‬‬
‫جيحون نهر بلخ‬

‫وأما نهر َب ْل َخ الذي يسمى َج ْي ُح??ون فإن??ه يخ??رج من عي??ون تج??ري حتىت??أتي بالد‬
‫ار ْز َم‪ ،‬وقد اجتاز قبل ذلك ببالد الترمذ وإسفرائين وغيرها من بالد خراسان فإذا‬ ‫ُخ َو َ‬
‫ورد إلى بالد خوارزم تفرق في مواضع هن??اك‪ ،‬ويمض?ي? باقي??ه فيص??ب في البح??يرة‬
‫?الجر َجاني??ة أس??فل خ??وارزم‪ ،‬وليس في ذل??ك الص??قع‬ ‫التي عليها القرية المعروف??ة ب? ْ‬
‫أك??بر من ه??ذه البح??يرة‪ ،‬و ُيق??ال‪ :‬إن??ه ليس في العم??ران بح??يرة أكبرمنه??األن طوله??ا‬
‫مس??يرة? ش??هر في نحوذل??ك من الع??رض‪ ،‬تج??ري فيه??ا الس??فن‪ ،‬وإليه??ا يص??ب نه??ر‬
‫فر َغ انة والشاش ويمر ببالد الفاراب في مدينة جديس‪ ،‬وتجري فيه السفن إلى هذه‬ ‫ْ‬
‫البحيرة‪ ،‬وعليها لمدينة للترك يقال لها المدينة الجديدة‪ ،‬وفيها المسلمون‪ ،‬واألغلب‬
‫ض?ر‪ ،‬وه??ذا الجنس من األت??راك‬ ‫من األتراك في هذا الموضع ال ُغزي??ة‪ ،‬وهم َب? َ?وا ٍد َ‬
‫وح َ‬
‫األسافل‪ ،‬واألعالي‪ ،‬واألواسط‪ ،‬وهم أشد الترك بأس ?ا ً وأقص??رهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫هم أصناف ثالثة‪:‬‬
‫صاحب المنط??ق‬ ‫ُ‬ ‫أع ُيناَ‪ ،‬وفي الترك َمنْ هو أصغر من هؤالء على ما ذكر‬ ‫وأصغرهم ْ‬
‫في كت??اب الحي??وان في المقال??ة الرابع??ة عش??رة والثامن ?ة? عش??رة حين ذك??ر الط??ير‬
‫بالغ َرانيق‪ ،‬وسنذكر لمعا ً من أخبار أجناس الترك فيما يرد من هذا الكتاب‬ ‫المعروف َ‬
‫مجتمعا ً ومفتر َقاَ‪ ،‬وبمدينة? بلخ رباط يقال له األخش??ان على نح??و من عش??رين يوم?ا ً‬
‫منها‪ ،‬وهوآخر أعمالها‪ ،‬وبإزائهم أن??واع من الكف??ار ُيق??ال لهم أوخ??ان وتبت‪ ،‬وعلى‬
‫اليمين من هؤالء جنس آخر يقال لهم إيغان‪ ،‬ويخ??رج من هنال?ك نه??ر عظيم يع?رف‬
‫بنهر? إيغان‪ ،‬وزعم ق??وم من أه??ل الخ??برة أن??ه مبت??دأ نه??ر جيح??ون‪ ،‬وه??و نه??ر َب ْل َخ‪،‬‬
‫ومقدار جريانه على وج??ه األرض نح??و من خمس??ين ومائ??ة فرس??خ‪ ،‬من مب??دأ نه??ر‬
‫الترك‪ ،‬وهو إيغان‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعمائ??ة فرس??خ‪ ،‬وق??د غل??ط ق??وم من مص??نفي? الكتب في‬
‫?ران الس??ند‪ ،‬يم ي??ذكروا نه??ر‬‫هذا المع??نى‪ ،‬وزعم??وا أن جيح??ون يص??ب إلى نه??ر ُم ْه? َ‬
‫رست األسود‪ ،‬وال نهر رست األبيض الذي تكون علي??ه مملك??ة كيم??اك بيغ??ور‪ ،‬وهم‬
‫جنس من ال??ترك وراء نه??ر بلخ‪ ،‬وهوجيح??ون‪ ،‬جملى ه??ذين النه??رين الغوري??ة من‬
‫?ط مق??دار مس??افتهما على وج??ه األرض فن??ذكر‬ ‫الترك‪ ،‬ولهذين النهرين أخب??ار لم نح? ْ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫نهر جنجس بالهند‬


‫وكذلك جنجس نهر الهند‪ ،‬فمبدؤه في جبل من أقاصي أرض الهند مما يلي الصين‬
‫من نحو بالد الطغرغر من الترك‪ ،‬ومقدار جريانه إلى أن يصب في البح??ر الحبش??ي‬
‫مما يلي ساحل الهند أربعمائة فرسخ‪.‬‬

‫نهر الفرات‬
‫وأما الفرات فمبدؤه من بالد َقالِيقال‪ ،‬ومق?دار جريان?ه من بالد ال?روم إلى أن ي?أتي‬
‫بالد ملطية مائة فرسخ‪ ،‬وأخبرني? بعض إخواننا من المسلمين ممن ك??ان أس??يراً في‬
‫أرض بالد النصرانية أن الفرات إذا توسط أرض الروم تحلبت إليه مياه كثيرة منها‬
‫نهريخرج? مما يلي بحيرة الماذرمون‪ ،‬وليس في أرض??ي ال??روم بح??يرة أك??بر منه??ا‪،‬‬
‫وهي نحومن شهر‪ ،‬وقيل‪ :‬أكثرمن ذلك طواَل َ وعرضاً‪ ،‬تجري فيها السفن‪ ،‬وينتهي‬
‫صفحة ‪53 :‬‬

‫الف??رات إلى جس??ر َم ْنبج‪ ،‬وق??د اجت??از تحت قلع??ة ُ‬


‫س َم ْيس??اط‪ ،‬وهي قلع??ة الطين‪ ،‬ثم‬
‫ينتهي إلى بالس ويمر? ِبصِ فينَ موضع حرب أهل العراق وأهل الشام‪ ،‬ثم ينتهي إلى‬
‫الرقة وإلى الرحبة و َه ْي َت األنبار‪ ،‬ويأخذ منه هناك أنهار مثل نه??ر عيس??ى وغ??يره‪،‬‬
‫مم?ا ينتهي? إلى مدين?ة? الس?الم‪ ،‬فيص?ب في دجل?ة‪ ،‬وينتهي? الف?رات إلى بالد س?ورى‬
‫وقص??ر ابن ُه َب??يرة والكوف??ة والج??امعين وأحم??د أب??اد والف??رس والطف??ف‪ ،‬ثم تنتهي‬
‫طيح? ة ال??تي بين البص??رة وواس??ط‪ ،‬فيك??ون مق??دار جريان??ه على وج??ه‬ ‫غايت??ه إلى ال َب َ‬
‫األرض نحواً من خمسمائة? فرسخ‪ ،‬وقد قيل أكثر من ذلك‪ ،‬وقد ك??ان الف? ُ‬
‫?رات األك??ثر‬
‫من مائة ينتهي? إلى بالد ال ِح??ير ِة ونهره??ا بين إلى ه??ذا ال??وقت وه??ويعرف ب??العتيق‪،‬‬
‫وعليه كانت وقع??ة المس??لمين م??ع ُر ْس?تم‪ ،‬وهي وقع??ة القادس??ية‪ ،‬فيص??ب في البح??ر‬
‫الحبشي‪ ،‬وكان البحر حينئذ في الموضع المعروف بال َّن َجف في هذا ال??وقت‪ ،‬وك??انت‬
‫تقدم هناك سفن الصين والهند ترد إلى ملوك الحيرة‪ ،‬وقد ذكر ما قلنا عبد المس??يح?‬
‫بن عمروبن بقيل??ة الغس??اني حين خ??اطب خال??د بن الولي??د في أي??ام أبي بك??ر بن أبي‬
‫رضى هّللا عنه حين قال له‪ :‬ما تذكر‪ .‬قال‪ :‬أذكر سفن الصين وراء هذه‬ ‫ِ‬ ‫قحافة‬
‫الحصون‪ ،‬فلما انقطع الماء عن مصبه فى ذلك الموضع انتقل البحر براً‪ .‬فصار بين‬
‫?ف وأش??رف‬ ‫الحيرة وبين البحر في هذا ال? ْ?وقت مس??يرة أي??ام كث??يرة‪ ،‬و َمنْ رأى ال َنج? َ‬
‫عليه تبين له ما وصفنا‪ ،‬وكتنقل الدجلة العوراء فصار بينه??ا وبين الدجل??ة في ه??ذا‬
‫الوقت مسافة بعيدة‪ ،‬وصارت تدعى ببطن جوخى‪ ،‬وذلك من جهة مدينة ف??ارس من‬
‫أعمال واسط إلى دنوقاء إلى نحو بالد السوس‪ ،‬وكذلك ما حدث في الجانب الشرقي‬
‫ببغداد من الموضع المع??روف برق??ة الشماس??ية وم??ا نق??ل الم??اء بتي??اره من الج??انب‬
‫الغربي من الضياع التي كانت بين ُق ْط ُربل ومدينة? السالم‪ ،‬كالقرية المعروف??ة ب??القب‬
‫والموضع المعروف بالبشرى والموض??ع المع??روف ب??العين‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من ض??ياع‬
‫قُ ْط ُربل‪ ،‬وقد كان ألهلها مطالبات مع أهل الجانب الشرقي ممن ملك رق??ة الشماس??ي ِة‬
‫في أيام المقتدر‪ ،‬بحضرة الوزير أبي الحس??ن علي بن عيس??ى‪ ،‬وم??ا أج??اب ب??ه أه??ل‬
‫العلم في ذلك‪ ،‬وما ذكرناه مشهور? بمدينة? السالم‪ ،‬فإذا كان الماء في نحومن ثالثين‬
‫سنة قد ذهب بنحو من سبع ميل‪ ،‬فإنه يسير ميالً في ق?در م?ائتي س?نة‪ ،‬ف?إذا تباع??د‬
‫النهر أربعة آالف ذراع من موض??عه األول خ??ربت ب??ذلك الس??بب مواض??ع وعم??رت‪،‬‬
‫منخفضا َ وانصبابا َ وسع بالحركة وشدة ا ْل َج ْر َية لنفسه‪ ،‬فاقتلع‬
‫َ‬ ‫وإذا وجد الماء سبيالً‬
‫المواضع من األرض من أبعد غايتها‪ ،‬وكلما وج??د موض??عا ً متس??عا ً من الوه??اد مأله‬
‫في طريقه من شدة َج ْريته حتى يعمل بحيرات وبطائح ومس??تنقعات‪ ،‬وتخ??رب ب??ذلك‬
‫بالد‪ ،‬وتعمر بذلك بالد‪ ،‬وال يغيب فهم ما وصفنا على َمنْ له أدنى فك??ر‪.‬ولنب??دأ ب??ذكر‬
‫دجلة ومبدأ جريانها ومصبها‪ ،‬فنقول‪ :‬دجلة تخرج من بالد آم َد من ديار بكر‪ ،‬وهي‬
‫أعين ببالد خالط منأرمينية‪ ?،‬ويصب إليه??ا نه??ر اس??ريط وس??اتيد م??ا يخ??رج من بالد‬
‫أرزن و َم َّيف??ارقين وغيرهم??ا من األفه??ار كنه??ر دوش??ا والخ??ابور الخ??ارج من بالد‬
‫أرميني??ة‪ ?،‬ومص??به? في دجل??ة بين مدين ?ة? باس??ورين وق??بر س??ابور‪ ،‬من بالد بق??ردى‬
‫وبازبدى وباهمداء من بالد الموص??ل‪،‬وه??ذه ال??ديار دي??ار ب??ني حم??داد‪ ،‬وفي بق??ردي‬
‫وبازبدي يقول الشاعر‪:‬‬

‫صفحة ‪54 :‬‬

‫ب يحاكي السلسبيل? َب ُرود‬ ‫و َع ْذ ٌ‬ ‫بقردي وبازبدي مصيف ومربع‬


‫فجمر‪ ،‬وأ َما َح ُّرها فـشـديد وليس‬ ‫وبغداد‪ ،‬ما بغداد أما ترابـهـا‬
‫هذا الخابور خابرو النهر الذي يخرج من مدينة رأس العين من أعينه??ا ويص??ب في‬
‫ويص?ب إليه?ا نه?ر‬
‫ُّ‬ ‫الف?رات مدين?ة َق ْرقِيس?ياء‪ ،‬ثم تم?ر دجل?ة بمدين??ة بالد الموص?ل‪،‬‬
‫الزاب‪ ،‬وهو من بالد أرمينية وهو الزاب األكبر بعد الموصل‪ ،‬وف??ق الح??ديث مدين ?ة?‬
‫الموص???ل‪ ،‬ثم يص???ب فيه???ا زاب آخ???ر ف???ق مدين???ة الس???ن ي???أتي من بالد أرميني???ة‬
‫س ّر َمنْ رأى ومدينة? السالم‪ ،‬فيصب إليه??ا‬ ‫وأذربيجان‪ ،‬ثم ينتهي? إلى مدينة? َت ْك ِريت و ُ‬
‫الخن??دق والص??راة ونه??ر عيس??ى‪ ،‬وهي األنه??ار ال??تي ذكرن??ا أنه??ا تأخ??ذ من الف??رات‬
‫وتصب في دجلة‪ ،‬ثم تخرج دجلة من مدينة? السالم فيصب فيه??ا أنه??ار كث??يرة‪ ،‬مث??ل‬
‫النهر المعروف بدالي ونهر بين ونهر الروان مما يلي بالد َج ْر َج َرايا والس??يب وتلي‬
‫النعماني??ة‪ ?،‬ف??إذا خ??رجت دجل??ة من مدين??ة واس??ط تف??رقت في أنه??ار هن??اك أخ??ر إلى‬
‫َبطيحة البصرة‪ ،‬مثل ب??ردود اليه??ودي ومس??امي والمص??ب ال??ذي ينتهي إلى القط??ر‪،‬‬
‫وفيه تجري أكثر سفن البصرة وبغ?داد وواس?ط‪ ،‬فمق?دار مس?افة جري?ان دجل?ة على‬
‫وجه األرض نحو من ثلثمائة فرسخ‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعمائ?ة‪.‬وق?د أعرض?نا عن ذك?ر كث?ير‬
‫من األنهار إال ما كبر واشتهر؛ إذ كن??ا ق??د أتين??ا على ذك??ر ذل??ك اإِل ش??باع في الكت??اب‬
‫المترجم بأخبار الزمان‪ ،‬وكذلك في الكتاب األوسط‪ ،‬ونذكر في هذا الكتاب لمع?ا ً مم??ا‬
‫س َمه?‪.‬‬‫سميناه من األنهار‪ ،‬ومما‪ .‬لم ُن َ‬
‫وللبصرة أنها ركبار‪ :‬مثل نهر شيرين‪ ،‬ونهر الرس‪ ،‬ونهر ابن عمر‪ ،‬وكذلك ببالد‬
‫األهواز فيم?ا بينه?ا وبين بالد البص?رة‪ ،‬أعرض?نا عن ذك?ر ذل?ك‪ ،‬إذ كن?ا ق?د َت َق َّ‬
‫ص? ْي َنا‬
‫األخب?ار عنه??ا وأخب??ار منتهى بح??ر ف?ارس ألى بالد البص??رةواألبلة وخ??بر الموض??ع‬
‫المعروف بالجرارة وهي دجلة من البحر إلى البر تق??رب من نح??و بالد األبل??ة‪ ،‬ومن‬
‫أجلها ملح األكثر من أنهار البصرة وله??ذه الج??رارة اتخ?ذت الخش??بات في فم البح??ر‬
‫مم??ا يلي األبل??ة و َع َب??ادَ ان‪ ،‬عليه??ا ان??اس يوق??دون الن??ار باللي??ل على خش??بات ثالث‬
‫كالكرسي في جوف الليل خوفا ً على المراكب الواردة من عم??ان وس??يراف وغيره??ا‬
‫أن تقع في تلك الج??رارة وغيره?ا‪ ،‬فتعطب‪ ،‬فال يك??ون له?ا خالص‪ ،‬وق?د ذكرن??ا ذل?ك‬
‫فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وهذه الديار عجيبة في مص??بات مياهه??ا واتص??ال البح??ر به??ا‪،‬‬
‫وهّللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر جمل من األخبار عن البحر الحبشي‬

‫وما قيل في فلك من مقداره وسعة خ ْلجانه‬


‫َقد ُروا بحر الهند‪ ،‬وهو الحبشي‪ ?.،‬وأنه يمت? ُذ طول??ه من المغ??رب إلى المش??رق من‬
‫أقصى الحبش إلى أقص الهند والصين‪ ،‬ثمانية? آالف ميل‪ ،‬وعرضه ألفان وسبعمائة‬
‫ميل‪ ،‬وعرضه? في موضع آخر ألف وتسعمائة? ميل‪ ،‬وقد يتقارب في قلة العرض في‬
‫موضع دون موضع‪ ،‬ويكثركذلك‪ ،‬وق??د قي??ل في طول??ه وعرض?ه? غ??ير ماوص??فنا من‬
‫الكثرة‪ ،‬وأعرضنا عن ذكره لعدم قيام الداللة على صحته عن??د أه??ل ه??ذه الص??ناعة‪،‬‬
‫وليس في المعمور أعظم من هذا البحر‪ ،‬وله خليج متصل? بأرض الحبشةيمتد? إلى‬
‫صفحة ‪55 :‬‬

‫ناحية بربري? من بالد الزنج والحبشة‪ ،‬ويس??مى الخليج ال??بربري‪ ،‬طول??ه خمس??مائة‬
‫ميل‪ ،‬وعرض طرفيه مائة ميل‪ ،‬وليست هذه بربرى التي ينسب إليها البرابرة الذي‬
‫ببالد المغ??رب من أرض إفريقي??ة ألن ه?ذا موض??ع اخ??ر ي??دعى به??ذا االس??م‪ ،‬وأه??ل‪.‬‬
‫المراكب من العمانيين يقطعون هذا الخليج إلى جزيرة قنبل??و من بح??ر ال??زنج‪ ،‬وفي‬
‫هنه المدين??ة مس??لمون بين الكف??ار من ال??زنج‪ ،‬والعم??انيون ال?ذين ذكرن??ا من أرب??اب‬
‫المراكب يزعمون أن ه??ذا الخليج المع??روف ب??البربري? وهم يعرفن??ه ببح??ر برب??ري‪?،‬‬
‫وبالد جفني أكثر مس??افة مم??ا ذكرن??ا‪ ،‬وموج??ه عظيم كالجب??ال الش??واهق فإن??ه م??وج‬
‫أعمى‪ ،‬يريدون بذلك أنه يرتف??ع كارتف??اع الجب??ال‪ ،‬وينخفض ك??أخفض م??ا يك??ون من‬
‫األودِية‪ ،‬ال ينكس??ر موج??ه‪ ،‬وال يظه??ر من ذل??ك ز َب? دٌ‪ ،‬كتكس??ر أم??واج س??ائر البح??ار‪،‬‬
‫ْ‬
‫ويزعمون أنه موج مجنون‪ ،‬وهؤالء القوم الذين يركبون هذا البحر من أهل عم??ان‬
‫ب من األزد‪ ،‬فإذا توسطوا هذا البحر ودخلوا بين ما ذكرناه من األمواج ت??رفعهم‬ ‫َع َر ٌ‬
‫وتخفضهم فيرتجزون ويقولون‪:‬‬
‫َو َم ْوخ َك ا ْل َم ْج ُنون‬ ‫بربري? وجفنـي‬
‫َو َم ْو ُج َهاكم??????اترى‬ ‫جف??????ني وبربـري‬
‫وينتهي ه??ؤالء في بح??ر ال??زنج إلى جزي??رة قنبل??و على م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وإلىبالد س??فالة‬
‫وال??واق واق من أقاص??ي أرض ال??زنج‪ ،‬واألس??افل من بح??رهم‪ ،‬ويقط??ع ه??ذا البح??ر‬
‫السيرافيون‪ ،‬وقد ركبت أنا هذا البح??ر من مدين??ة س??نجار‪ ،‬من بالد عم??ان وس??نجار‬
‫قصبة بالد عمان م??ع جماع??ة من َن َواخ??ذة الس??يرافيين‪ ،‬وهم أرب??اب الم??راكب‪ ،‬مث??ل‬
‫محمد بن الريدوم السيرافي‪ ،‬وجوهربن أحمد‪ ،‬وهو المعروف بابن سيرة‪ ،‬وفي هذا‬
‫ِف ومن كان معه في مركبه‪ ،‬وآخر مرة ركبت فيه في س??نة أرب??ع وثلثمائ?ة?‬ ‫البحر َتل َ‬
‫من جزيرة قنبلو إلى مدينة عمان‪ ،‬وذلك في مركب أحمد وعبد الص??مد أخ??وي عب??د‬
‫الرحيم بن‪ .‬جعفر السيرافي‪ ،‬بميكان وهي محلة من سيراف وفيه غرقا في مركبهم‬
‫وجميع َمنْ كان معهما‪ ،‬وكان ركوبي فيه أخيراً واألمي ُر على عم??ان أحم ? ُد بن هالل‬
‫بن أخت القيتال‪ ،‬وقد ركبت عدة من البحار كبحر الص??ين وال??روم والخ??زر والقل??زم‬
‫واليمن‪ ،‬وأصابني فيها من األهوال ما ال أحص??يه ك??ثر ًة‪ ،‬فلم أش??اهد أه??ول من بح??ر‬
‫ال??زنج ال??ذي ق??دمنا ذك??ره‪ ،‬وفي??ه الس??مك المع??روف باف??ال ط??ول الس??مكة نح??و من‬
‫أربعمائ??ة ذراع إلى خمس??مائة? ذراع العمري??ة‪ ،‬وهي ذراع ذل?ك البح??ر‪ ،‬واألغلب من‬
‫هذا السمك طوله مائ??ة ذراع‪ ،‬وربم??ا يه??ز البح??ر فيظه??ر ش??يئا ً من جناح??ه‪ ،‬فيك??ون‬
‫الص ? َعدَاء بالم??اء في??ذهب‬ ‫ك??القلع العظيم‪ ،‬وه??و َ‬
‫الش ? َراع‪ ،‬وربمايظهررأس??ه‪ ،‬وينفخ? ُّ‬
‫الماء في الجوأكثرمن ممر السهم‪ ،‬والمراكب تفزع منه? في الليل والنهار‪ ،‬وتض??رب‬
‫له بالدبادب والخشب لينفر من ذلك‪ ،‬ويحشر بأجنحته وذنبه الس??مك إلى فم??ه‪ ،‬وق??د‬
‫َف َغ َرفاهُ‪ ،‬وذلك السمك يهوي إلى َج ْوفه جرياً‪ ،.‬فإذا بغت هذه السمكة بعث هللا عليه??ا‬
‫سمكة نحو الذراع تدعى ال َلش??ك فتلص??ق بأص??ل أذنه??ا فال يك??ون له??ا منه??ا خالص‪،‬‬
‫فتطلب قعرالبح??ر‪ ،‬وتض??رب بنفس??ها ح??تى تم??وت‪ ،‬فتطفف??ق الم??اء‪ ،‬فتك??ون كالجب??ل‬
‫العظيم‪ ،‬وربما تلتصق هذه السمكة المعروفة باللشك ب??المركب فال ي??دنو األف??ال م??ع‬
‫عظمتها من المركب‪ ،‬ويهرب إذا رأى السمكة الصغيرة‪ ،‬إذ كانت آفة له وقاتلته‪.‬‬

‫صفحة ‪56 :‬‬

‫آفة التمساح‬

‫?ل وجزائ??ره‪ ،‬وذل??ك أن‬‫وك??ذلك التمس??اح يم??وت من دويب??ة تك??ون في س??احل الني? ِ‬
‫التمساح ال دبر له وما يأكله يتكون في بطن??ه دوداَ‪ ،‬وإذا آذاه ذل??ك ال??دود خ??رج إلى‬
‫ص هّللا إلي??ه ط??ير الم??اء ك??الطيطوى‬‫ال??بر فاس??تلقى على َق َف??اه ف??اغراً ف??اه‪ ،‬ف ُيق ِّي ُ‬
‫والحصافي وغير ذلك من أنواع الطي??ور وق??د اعت??ادوا ذل??ك من??ه‪ ،‬فيأك??ل م??اظهرفي‬
‫جوفه من ذلك الدود‪ ،‬وتكون تل??ك الدويب?ة? ق??د كمنت في الرم??ل تراعي??ه‪ ،‬فت??دب إلى‬
‫حلقه‪ ،‬وتص??ير في جوف??ه‪ ،‬فيخب??ط بنفس??ه في األرض فيطلب قع??ر الني??ل ح??تى ت??أتي‬
‫ش َو ة جوفه ثم تخرق جوفه وتخرج‪ ،‬وربما يقتل نفسه قبل أن تخرج‬ ‫الدويبة? على ُخ ْ‬
‫فتخرج بعد موته‪ ،‬وهذه الدويبة تكون نحواً من ذراع على صورة ابن ُع ْرس‪ ،‬ولها‬
‫ق??وائم ش??تى و َم َخ? الب‪.‬وفي بح??ر ال??زنج أن??واع من الس??مك بص??ور? ش??تى‪ ،‬ول??وال أن‬
‫النفس تنكر ما لم تعرفه وتدفع ما لم تألفه‪ ،‬ألخبرنا عن عج??ائب ه??ذه البح??ار‪ ،‬وم??ا‬
‫فيهامن الحيتان والدواب‪ ،‬وغير ذلك من عجائب المياه والجماد‪.‬‬

‫عود إلى البحر الحبشي‬


‫فلنرجع اآلن إلى ذكر تشعب مياه هذا البحر و ُخ ْل َجانه‪ ،‬ودخوله في البح??ر ودخ??ول‬
‫الحبش?ي فينتهي? إلى مدين?ة‬‫ِّ‬ ‫البز في?ه‪ ،‬فنق?ول‪ :‬إن خليج?ا ً آخ?ر يمت?ذ من ه?ذا البح?ر‬
‫القُ ْل ُزم من أعمال مصر‪ ،‬وبينها وبين فُ ْس َطاط مصر ثالث??ة أي??ام‪ ،‬وعلي??ه مدين??ة أ ْي َل? َ‬
‫?ة‬
‫والحجاز و ُج َدة واليمن‪ ،‬وطوله ألف وأربعمائ??ة مي??ل‪ ،‬وع??رض طرفي??ه مائت??ا مي??ل‪،‬‬
‫وهو أقرب المواضع من عرض??ه‪ ،‬وعرض??ه في الوس??ط س??بعمائة? مي??ل‪ ،‬وه??و أك??ثر‬
‫العرض فيه‪ ،‬ويالقي ما ذكرناه من الحجاز وبالد أ ْي َل َة من غربيه من الساحل اآلخ??ر‬
‫من هذا الخليج بالد العالقي وبالد العيذاب من أرض مصر وأرض البج??ة‪ ،‬ثم أرض‬
‫الحبشة واألحابش والس??ودان إلى أن يتص??ل ذل??ك بأقاص??ي أرض ال??زنج وأس??افلها‪،‬‬
‫فيتصل إلى بالد سفالة من أرض الزنج‪ ،‬ويتشعب من ه??ذا البح??ر خليج آخ??ر‪ ،‬وه??و‬
‫بح???ر ف???ارس‪ ،‬وينتهي? إلى بالد األبل???ة والخش???بات وعب???ادان من أرض البص???رة‪،‬‬
‫وعرضه في األصل خمسمائة ميل‪ ،‬وطول هذا الخليج ألف وأربعمائ??ة مي??ل‪ ،‬وربم??ا‬
‫يص??ير? ع??رض طرفي??ه مائ??ة وخمس??ين ميالً‪ ،‬وه??ذا الخليج مثلث الش??كل ينتهي أح??د‬
‫زواي??اه إلى بالد األبل??ة‪ ،‬وعلي??ه مم??ا يلي المش??رق س??احل ف??ارس من بالد دورق‬
‫الفرس وماهر بان ومدينة حسان‪ ،‬وإليها تضاف الثياب الحس??انية ومدين??ة نج??يرهم‬
‫ببالد سيراف‪ ،‬ثم بالد ابن عمارة‪ ،‬ثم س??احل كرم??ان‪ ،‬وهي بالد هرم??وز‪ ،‬وهرم??وز?‬
‫مقابلة لمدينة سنجار من بالد عمان‪ ،‬ثم يلي ساحل كرمان ويتص??ل ب??ه على س??احل‬
‫الش? َراة‪ ،‬وه??ذه كله??ا أرض نخ??ل‪ ،‬ثم‬ ‫هذا البح??ر بالد مك??ران‪ ،‬وهي أرض الخ??وارج ُ‬
‫ساحل السند‪ ،‬وفيه مصب نهر مهران‪ ،‬وهناك مدينة الديبل‪ ،‬ثم يك??ون م??اراً متص?الً‬
‫بساحل الهند إلى بالد بروض‪ ،‬وإليها يضاف ال َق َنا البروضي‪ ?،‬براً متص ?الً إلى أرض‬
‫الصين ساحاًل واحداً‪ ،‬ويقابل ما ذكرنا من مبدأ ساحل فارس ومكران والسند بالد‬

‫صفحة ‪57 :‬‬

‫البحرين وجزائ??ر قط??ر وش??ط ب??ني جذيم??ة وبالد عم??ان وأرض مه??رة إلى رأس‬
‫ش ْحر واألحقاف‪ ،‬وفيه جزائر كثيرة مثل جزي??رة خ??ارك‪ ،‬وهي‬ ‫الجمجمة إلى أرض ال ِّ‬
‫بالذ جنابة ةألن خارك مضافة إلى جنابة‪ ،‬وبينها وبين ال??بر فراس??خ وفيه??ا َم َغ? ُ‬
‫اص‬
‫اللؤلؤ المعروف بالخاركي‪ ،‬وجزيرة أوال فيها بنو َم ْعن وبنو مسمار وخالئق كثيرة‬
‫من العرب بينها وبين مدن ساحل البح??رين نح??و ي??وم‪ ،‬ب??ل أق??ل من ذل??ك‪ ،‬وفي ذل??ك‬
‫الساحل مدينة الزارة والعقل والقطيف من ساحل هجر‪ ،‬ثم بع??د جزي??رة أوال جزائ??ر‬
‫كثيرة‪ ،‬منها جزيرة الفت‪ ،‬وتدعى جزيرة بني كاوان‪ ،‬وق??د ك??ان افتتحه??ا عم??رو بن‬
‫?رى وعم??ارة‬‫الع??اص‪ ،‬وفيه??ا فس??جده إلى ه??ذه الغاي??ة‪ ،‬وفيه??ا خل??ق من الن??اس وق? ً‬
‫متصلة‪ ،‬وتقرب هذه الجزيرة إلى جزيرة هنج??ام‪ ،‬ومنه??ا يستس??قي? أرب??اب الم??راكب‬
‫الم??اء‪ ،‬ثم الجب??ال المعروف??ة بكس??ير وع??وير وث??الث ليس في??ه خ??ير‪ ،‬ثم ال??دردور‬
‫المعروف بدردور مسندم‪ ،‬ويكنيه البحريون بأبي جهرة‪ ،‬وهذه مواض??ع من البح??ر‪،‬‬
‫وجبال سود ذاهبة في الهواء ال نبات عليها وال حيوان‪ ،‬يحيط به??ا مي??اه من البح??ر‬
‫عظيم قعرها وأمواج متالطمة تجزع منها النفس إذا أشرفت عليها‪ ،‬وهذه المواضع‬
‫من بالد عمان وس??يراف ال ب??د للم??راكب من الج??واز عليه??ا وال??دخول في وس??طها‪،‬‬
‫فتخطىء وتصيب‪ ،‬وهذا البحر هو خليج فارس ويعرف بالبحر الفارس??ي‪ ،‬علي??ه م??ا‬
‫وصفنا من البحرين وفارس والبص??رة وكرم??ان وعم??ان إلى رأس الجمجم??ة‪ ،‬وبين‬
‫هذا الخليج وخليج القلزم أيلة والحجاز واليمن‪ ،‬ويك??ون بين الخليجين من المس??افة‬
‫ألف وخمسمائة? ميل‪ ،‬وهي داخل??ة من ال??بر في البح??ر‪ ،‬والبحريطي?ف? به??ا من أك??ثر‬
‫جهاتها على ما وصفنا‪.‬فهذا بحر الصين والهند وفارس وعمان والبصرة والبحرين‬
‫واليمن والحبشة والحجاز والقُ ْلزم والزنج والس??ند و َمنْ في جزائ??ره و َمنْ ق??د أح??اط‬
‫به من االمم الكثيرة التي ال يعلم وصفهم وال عددهم إال َمنْ خلقهم سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫ولكل قطعة منه اسم ُي ْف ِردها من غيرها‪ ،‬والماء واحد متصل? غير منفصل‪.‬‬
‫وفي ه??ذا البح??ر مغاص??ات ال??در واللؤل??ؤ‪ ،‬وفي??ه العقي??ق والب??ادبيج‪ ?،‬وهون??وع من‬
‫البجادي‪ ،‬وأنواع الياقوت والماس والسنباذج‪ ،‬وفي??ه مع?ادن ذهب وفض?ة نح?و بالد‬
‫كلة وسريرة‪ ?،‬وحول?ه مع?ادن حدي?د مم?ا يلي بالد كرم?ان‪ ،‬ونح?اس ب?أرض عم?ان‪،‬‬
‫وفيه أنواع الطيب واألفاويه والعن??بر وأن??واع األدوي??ة والعق?اقير والس??اج والخش??ب‬
‫المعروف بالد ارزنجي والق َنا والخيزران‪ ،‬وسنذكر بعد هذا الوضع تفص??يل مواض??ع‬
‫وح ْو َل??ه‪ ،‬وس??ائر م??ا‬
‫فيه أدركناها‪ ،‬وكل ما ذكرنا من الجواهر والطيب والنيات ففيه َ‬
‫ذكرنا من هذا البحر يدعى بالبحر الحبشي‪ ،‬ورياح ما وصفنا من قطعه ال??تي ت??دعى‬
‫ك??ل واح??دة منه??ا بح??راً كقولن??ا‪ :‬بح??ر ف??ارس‪ ،‬وبح??ر اليمن‪ ،‬وبح??ر القل??زم‪ ،‬وبح??ر‬
‫الحبش‪ ،‬وبحر الزنج‪ ،‬وبحر السند‪ ،‬وبحر الهند‪ ،‬وبحر كل??ة‪ ،‬وبح??ر ال??زانج‪ ،‬وبح??ر‬
‫الصين‪ -‬فمختلفة‪ ،‬فمنها ماريحه من قعر البحر يظه??ر فتغلي??ه ويعظم موج??ه كالق??در‬
‫تف??ر مم??ا يلحقه??ا من م??واد ح??رارة الن??ار‪ ،‬ومنه??ا م??ا ريح??ه واآلف??ة في??ه من قع??ره‬
‫والنسيم‪ ،‬ومنها ما يكون مه ُّبة من النسيم ع??ون م??ا يظه??رمن قع??ره‪ ،‬وم??ا وص??فناه‬
‫مم??ا يظه??ر من قع??ره من الري??اح ف??ذلك تنفس??ات من األرض تظه??ر إلى قع??ره ثم‬
‫عزوجل ّ أعلم بكيفية ذل??ك‪ ،‬ولك??ل من ي??ركب ه??ذه البح??ار من‬ ‫تظهرفي سطحه‪ ،‬وهّللا ّ‬
‫الناس رياح يعرفنها في أوقات تكون منها َم َهابها‪ ،‬قد علم ذلك بالعادات وطول‬
‫صفحة ‪58 :‬‬

‫التجارب‪ ،‬يتوارثون علم ذلك قوالً وعمالً‪ ،‬ولهم فيه??ا دالئ??ل وعالم??ات يعمل??ون به??ا‬
‫إ َباّنَ َه َي َجانه وأحوال ركوده وثورانه‪ ،‬هذا فيما س??مينا من البح??ر الحبش??ي وال??روم‪،‬‬
‫والمسافرون في البحر الرومي سبيلُهم كذلك‪ ،‬وكذلك من يركب بحر الخزر إلى بالد‬
‫جرجان وطبرستان والديلم‪ ،‬وسنأتي بعد هذا الموض??ع على ُج َم??ل وفص??ول من علم‬
‫معرنة هنه البحار‪ ،‬وعجائب أوصافها وأخبارها‪ ،‬إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬

‫ذكر تنازع الناس في المد والجزر‬

‫وجوامع مما قيل في ذلك‬


‫س ْيحته? وسنن جريت?ه‪ ?،‬والج??زر‪ :‬رج?وع الم?اء على‬ ‫مضي الماء في َف ْيحته و َ‬
‫ُّ‬ ‫المد‪:‬‬
‫ضد سنن ُمصِ َّيه وانكشاف ما مضى عليه في َه ْيجه‪ ،‬وذلك كبح??ر الحبش ال??ذي ه??و‬
‫الصيني والهندي وبحر البصرة وفارس المقدم ذكره قبل هذا الباب وذلك أن البحار‬
‫على ثالثة أنواع‪ :‬منها ما يتأتى فيه الجزر والمد ويظهرظه??وراً بين?اً‪ ،‬ومنه??ا م??ا ال‬
‫يتبين? فيه الجزر والمد ويكون خفيفا ً مستتراً‪ ?،‬ومنها ماال يجزر وال يمد‪.‬‬

‫فالبحار التي ال يكون فيها الجزر والمد امتنع منها الجزر والمد لعلل ثالث‪ ،‬وهي‬
‫على ثالثة أصناف‪ :‬فأولها ما يقف الماء فيه زمانا ً فيغلظ و َت ْق َوى ُملوحته‪ ،‬وتتكي??ف?‬
‫في??ه األري??اح‪ ،‬ألن??ه ربم??ا ص??ار الم??اء إلى بعض المواض??ع ببعض األس??باب فيص??ير?‬
‫ينص?ب في?ه‬
‫ُّ‬ ‫كالبحيرة وينقص في الصيف ويزيد في الشتاء‪ ،‬ويت?بين في?ه زي?ادة م?ا‬
‫من األنهار والعيون‪ ،‬والصنف الثاني البحار ال??تي تبع??د عن م??دار القم??ر ومس??افاته‬
‫بعداً كثيراً‪ ،‬فيمتنع? منه المد والجزر‪ ،‬والصنف الثالث المياه التي يكون الغ??الب على‬
‫أرض??ها التخلخ??ل‪ ،‬ألن??ه إذا ك??انت أرض??ها مخلخل??ة نف??ذ الم??اء منه??ا إلى غيره??ا من‬
‫البح??ار وتخلخ??ل؛ وأنش??بت الري??اح الكائن??ة في أرض??ها أوالً ف??أوالً‪ ،‬وغلبت الري??اح‬
‫عليها‪ ،‬وأكثر ما يكون هذا في ساحل البحار والجزائر‪.‬‬
‫وقد تنازع الناس في علة المد والجزر؛ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك من القمر ألنه‬
‫مجانس للماء‪ ،‬وهو يسخنه‪ ،‬فينبسط‪ ،‬وشبهوا ذلك بالنار إذا أس??خنت م??ا في الق??در‬
‫وأغ َل ْته‪ ،‬وإن الماء يكون فيها على قمر النصف أو الثل??ثين‪ ،‬ف??إذا غال الم??اء انبس??ط‬ ‫ْ‬
‫في القدر وارتفع وتدافع حتى يفر فتتضاعف كميت??ه في الحس‪ ،‬وينقص في ال??وزن‬
‫ة ألن من شرط الحرارة أن تبسط األجسام‪ ،‬ومن ش??رط ال??برودة أن تض??مها‪ ،‬وذل??ك‬
‫أن قعور البحار تحمي فتتولّد في أرضها عفبة وتس??تحيل? وتحمى كم??ا يع??رض ذل??ك‬
‫في البالليع واالبار‪ ،‬فإذا حمي ذلك الماء انبس??ط‪ ،‬وإذا أنبس??ط زاد‪ ،‬وإذا زاد ارتف??ع‪،‬‬
‫فدفع كل جزء منه صاحبه‪َ ،‬ف َط َفا على سطحه وبان عن قعره‪ ،‬فاحتاج إلى أك??ثر من‬
‫وهدته‪ ،‬وإن القمر إذا أمتأل حمي الج?و حمي?ا ً ش?ديداً فظه??رت زي??ادة الم?اء‪ ،‬فس??مي‬
‫ذلك المد الش??هري‪ ،‬وإن ه??ذا البح??ر تحت مع??دل النهارأخ??ذاً من جه??ة المش??رق إلى‬
‫المغرب ودور الكواكب المتحيرة عليه مع ما يساميه من الك??واكب الثابت??ة إذا ك??انت‬
‫المتحيرة في القدر مثل الميل على تجاوزه‪ ،‬وإذا زالت عنه كانت منه قريب??ة فاعل??ة‬
‫فيه من أوله إلى آخره في كل يوم وليلة‪ ،‬وهي مع ذلك في الموضع المقابل‬
‫صفحة ‪59 :‬‬

‫الحمي‪ ،‬فقليل مايعرض فيه من الزيادة ويكون في النهر الذي يعرض فيه المد بين??ا‬
‫من أطرافه وما يصب إليه من سائر المياه‪.‬‬
‫وقالت طائفة اخرى‪ :‬لو كان الجزر والمد بمنزلة النار إذا أسخنت الم??اء ال??ذي في‬
‫القِدْ ر وبسطته فيطلب أوسع منها فيفيض ح??تى إذا خال قع??ره من الم??اء طلب الم??اء‬
‫بعد خروجه منه? عمق األرض بطبعه فيرجع اضطراراً بمنزل??ة رج??وع م??ا يغلي من‬
‫الماء في الم?رج والقمقم إذا ف?اض وتت?ابعت أج?زاء الن?ار علي?ه ب?الحمي‪ ،‬لك?ان في‬
‫الشمس أشد سخونة‪ ،.‬ولوكانت الشمس علة َمدةلكان يمدمع ب??دء طل??وع الش??مس‪،‬‬
‫ويجزرمع? غيبتها فزعم ه??ؤالء أن عل??ة الج??زر والم??د في األبحرتتول??د من األبخ??رة‬
‫التي تتولد من بطن األرض؛ فإنها ال تزال تتولد حتى تكثف وتكثر فتدفع حينئذ م??اء‬
‫ه??ذا البح??ر لكثافته??ا فال ت??زال ك??ذلك ح??تى تنقص مواده??ا من أس??فل‪ ،‬ف??إذا انقطعت‬
‫موادها تراجع الماء حينئذ إلى قعر البح??ر‪ ،‬وك??ان الج??زر من أج??ل ذل??ك‪ ،‬والم??د ليالً‬
‫ونهاراً‪ ،‬وشتاء وص??يفاً‪ ،‬وفي غيب??ة القم??روفي طلوع??ه‪ ،‬وك??ذلك في غيب??ة الش??مس‬
‫درك بالحس‪ ،‬ألنه ليس يستكمل? الجزرآخره ح??تى يب??دأ أول‬ ‫وطلوعها‪ ،‬قالوا‪ :‬وهذا ُي َ‬
‫الم??د‪ ،‬وال ينقض??ي آخ??ر الم??د ح??تى يبت??دىء أول الج??زر ألن??ه ال يتغ??ير توال??د تل??ك‬
‫البخارات‪ ،‬حتى إذا خرجت تول َد غيره??ا مكانه??ا‪ ،‬وذل??ك أن البح??ر إذا غ??ارت مياه??ه‬
‫ورجعت إلى قع??ره تول??دت تل??ك األبخ??رة لمك??ان م??ا يتص?ل? منه??ا من األرض بمائ??ة‪،‬‬
‫وكلما عاد تولدت‪ ،‬وكلما فاض نقصت‪.‬وذهب آخرون من أهل الديانات أن كل م??ا لم‬
‫يعرف له من الطبيعة مج??رى وال يوج??د ل??ه فيه?ا قي??اس فه??و فع??ل اإلِل??ه‪ ،‬ي??دل على‬
‫عز وجل وحكمته؛? فليس للمد والجزرعلة في الطبيعة البتة‪ ،‬وال قياس ‪.‬‬ ‫توحيد هّللا ّ‬

‫وقال آخرون‪ :‬ما َه َي َجان ماء البحر إال كهيجان بعض الطبائع ة فإنك ترى صاحب‬
‫الدم وصاحب الصفراء وغيرهما تهتاج طبيعته ثم تسكن‪ ،‬وكذلك م??واد تم??دها ح??االً‬
‫بعد حال‪ ،‬فإذا قويت هاجت‪ ،،‬ثم تسكن قلياَل َ قلياًل ح??تى تع??ود‪ .‬وذهبت طائف??ة أخ??رى‬
‫إلى إبطال سائر ما وصفنا من القول‪ ،‬وزعموا أن الهواء المطل على البحريس?تحيل?‬
‫دائماً‪ ،‬فإذا استحال عظم ماء البحر وفاض عند ذل??ك‪ ،‬وإذا ف??اض البح??ر فه??و الم??د‪،‬‬
‫فعند ذل?ك يس?تحيل م?اؤه ويتنفس فيس?تحيل ه?واء فيع?ود إلى م?ا ك?ان علي?ه‪ ،‬وه?و‬
‫الج??زر‪ ،‬وه??و دائم ال َي ْف??تر‪ ،‬متص??ل م??ترادف متع??اقب‪ .‬ألن الم??اء يس??تحيل? ه??واء‪،‬‬
‫والهواء يستحيل? ماء‪ ،‬قالوا‪ :‬وقد يجوز أن يكون ذل??ك عن??د امتالء القم??ر أك??ثر؛ألن‬
‫القمر إذا امئأل استحال الهواء أكثر مما كان يستحيل‪ ،‬وإنما القمر علة لك??ثرة الم??د‪،‬‬
‫ال للمد نفسه‪ ،‬ألنه قد يكون والقمر في محاقه‪ ،‬والمد والجزر في بحرفارس يكونان‬
‫على مطالع الفج??ر في األغلب من األوق?ات‪.‬وق??د ذهب كث??ير من نواخ?ذة ه?ذا البح??ر‬
‫وهم أرباب المراكب‪ ،‬من السيرافيين والعمانيين ممن يقطعون ه??ذا البح??ر ويختلفن‬
‫إلى عم??ائره من األمم ال??تي في جزائ??ره وحول??ه إلى أن الم??د والج??زر ال يك??ون في‬
‫معظم هذ البحر إال مرتين في السنة‪ :‬م??رة يم??د في ش??هور الص??يف ش??رقا ً بالش??مال‬
‫ستة أشهر‪ ،‬فإذا ك??ان ذل??ك طغ??ا الم??اء في مش??ارق األرض وبالص??ين بالص??ين وم??ا‬
‫وراء ذلك الصقع وانحسر بالصين من مغارب البحر‪ ،‬ومرة يمد في ش??هور الش??تاء‬
‫غربا ً بالجنوب ستة أشهر‪ ،‬فإذا كان الصيف طغا الماء في مغارب البحر وانحسر‬
‫صفحة ‪60 :‬‬

‫بالص??ين‪ ،‬وق??د يتح??رك البح??ر بتح??رك الري??اح‪ ،‬وإن الش??مس إذ ك??انت في الجه??ة‬
‫الشمالية تحرك الهواء إلى الجهة الجنوبية لعلل ذكروها فيسيل م??اء البح??ر بحرك??ة‬
‫اله??واء إلى الجه??ة الجنوبي??ة‪ ?،‬فك??ذلك تك??ون البح??ار في جه??ة الجن??وب في الص??يف‬
‫لهبوب الش??مال طامي?ة عالي?ة‪ ،‬وتق?ل ُّ المي??اه في جه??ة البح?ار الش??مالية‪ ،‬وك??ذلك إذا‬
‫كانت الشمس في الجنوب وسال الهواء من الجنوب إلى جهة الشمال سال معه ماء‬
‫ت المي??اه في الجه??ة الجنوبي??ة‬ ‫البحر من الجه?ة الجنوبي??ة إلى الجه??ة الش?مالية‪ ،‬فقلَّ ِ‬
‫منه‪ ?،‬وينتقل ماء البحر في هذين الميلين أعني في جهتي الشمال والجنوب فيس??مى‬
‫جزا ومداً‪ ،‬وذلك أن َمدّ الجنوب َج ْز ُر الشمال ومد الشمال جزر الجنوب‪ ،‬فإن واف??ق‬
‫القمر بعض الك?واكب الس?يارة في أح?د الميلين تزاي?د الفعالن وق?وي الحمي واش?تد‬
‫لذلك سيالن الهواء فاشتد لذلك انقالب ماء البحر إلى الجه?ة المخالف?ة للجه?ة ال?تي‬
‫ليس فيها الشمس‪.‬قال المسعودي‪ :‬فهذا رأي يعقوب بن إسحاق الكن??دي وأحم??د بن‬
‫السرخسِ ي فيما حكاه عنه‪ :‬أن البحر يتحرك بالرياح‪َ ،‬ورأيت مث??ل ذل??ك ببالد‬ ‫ْ‬ ‫الطيب‬
‫كنباية من أرض الهند‪ ،‬وهي المدينة ال??تي تض??اف إليه??ا النع??ال الكنبائي?ة? الص??رارة‬
‫وفيها تعمل َوفيما يليها مثل مدينة? سندارة وس??ريارة‪،‬وك??ان دخ??ولي إليه??ا في س??نة‬
‫ثالث وثلثمائ??ة‪ ،‬والمل??ك يومئ??ذ باني??ا‪ ،‬وك??ان برهماني??ا من قب??ل البله??ري ص??احب‬
‫الم??انكير‪ ،‬وك??ان لبني??ا ه??ذا عناي??ة بالمن??اظرة م??ع َمنْ ي??رد إلى بالد من المس??لمين‬
‫وغيرهم من أهل الملل‪ ،‬وهذه المدين??ة على خ??ور من أخ??وار البح??ر‪ ،‬وه??و الخليج‪،‬‬
‫أع??رض من الني??ل أو دجل??ة أو الف??رات‪ ،‬علي??ه الم??دن والض??ياع والعم??ائر والج َن??انُ‬
‫والنخل والنارجيل والطواويس والببغاء وغير ذلك من أنواع طيور الهند‪ ،‬بين تل??ك‬
‫الجنان والمياه‪ ،‬وبين مدينة كنباية بين البحر الذي يأخذ منه هذا الخليج يومان‪ ،‬أو‬
‫أقل من ذلك فيجزر الماء عن هذا الخليج ح??تى يبم??و الرم??ل في قع??ر الخليج ويبقى‬
‫?ب عن??ه الم??اء‬‫في وسطه قلي??ل من الم??اء ف??رأيت الكلب على ه??ذا الرم??ل ال??ذي ينص? ُّ‬
‫الح ْل َب??ة‪،‬‬
‫وقعر خليج قد صار كالصحراء‪ ،‬وقد أقبل المد من نهاية الخور كالخي??ل في َ‬
‫فربما أحس الكلب بذلك فأقبل ُيحضِ ُر ما استطاع َخ ْوفا ً من الماء‪ ،‬طلب البر الذيى ال‬
‫يص??ل إلي??ه الم??اء‪ ،‬فيلحق??ه الم??اء بس??رعته? فيغرق??ه‪ ،‬وك??ذلك الم??د َي??ر ُد بين البص??رة‬
‫واألهواز في الموضع المعروف بالباس??يان وبالد القن??در‪ ،‬ويس??مى هن??اك ال??ذئب ل??ه‬
‫ضجيج ود َِوي وغليان عظيم َي ْف َزع من?ه أص?حاب الس?فن وه?ذا الموض?ع يعرف?ه من‬
‫يسلك هنالك إلى بالد مورق من أرض فارس‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر بحر الروم‬

‫ووصف ما قيل في طوله وعرضه وابتدائه وانتهائه‬

‫أما بحر الروم وطرسوس وأذنة والمصيصة? وأنطاكية والالذقية وطرابلس صيدا‬
‫وصور وغ?ير ذل?ك من س?احل الش?ام ومص?ر وا إِل س?كندرية? وس?احل مغ?رب‪ ،‬ف?ذ َك َر‬
‫جماعة من أصحاب الزيجات في كتبهم‪ ،.‬منهم محمد بن جابر النس??ائي وغ??يره‪ ،‬أن‬
‫طوله خمسة آالف ميل‪ ،‬وعرضه مختلف‪ :‬فمنه ثمانمائة ميل‪ ،‬ومنه سبعمائة ميل‪،‬‬
‫صفحة ‪61 :‬‬

‫ومنه? ستمائة? ميل‪ ،‬وأقل من ذلك‪ ،‬على حسب مضايقة البر والبحر للبر‪ ،‬ومبدأ ه??ذا‬
‫البحر من خليج يخرج جاري??أ من بح??ر أقي??انوس‪ ،‬وأض??يق موض??ع من ه??ذا الخليج‬
‫بين س??احل طنج??ة وس??بتة? من بالد الغ??رب وبين س??احل األن??دلس‪ ،‬وه??ذا الموض??ع‬
‫المع??روف بس??يطاء‪ ،‬وعرض??ه فيم??ا بين الس??احلين نح??و من عش??رة أمي??ال‪ ،‬وه??ذا‬
‫الموض??ع ه??وا ْل َم ْع َب? ُر لمن أراد العب??ور من الغ??رب إلى األن??دلس ومن األن??دلس إلى‬
‫الغرب ويعرف بالزقاق‪ ،‬وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب في أخب??ار مص??ر القنط??رة‬
‫التي كانت بين هذين الساحلين‪ ،‬وما ركبها من ماء ه??ذا البح??ر‪ ،‬والطري??ق المتص??ل‬
‫بين جزيرة قبرص وأرض العريش وسلوك القواف??ل إي??اه وعلى الح??د بين البح??رين‬
‫النح?اس‪ ،‬والحج?ارة ال?تي بناه?ا ه َِر ْق? ل ُ‬
‫ُ‬ ‫أعني بحر الروم وبح??ر أوقي??انوس المن??ارةُ‬
‫الجبار‪ ،‬على أعاله??ا الكتاب??ة والتماثي??ل مش??يرة بأي??ديها أن ال طري??ق ورائي لجمي??ع‬
‫الداخلين إلى ذلك البحر بحر ال?روم؛ إذ ك?ان بح??ر ال تج??ري في??ه جاري??ة وال عم??ارة‬
‫?درى غايت??ه‪ ،‬وال يعلم‬ ‫في??ه‪ ،‬وال حي??وان ن??اطق يس??كنه‪ ،‬وال يح??اط بمق??داره‪ ،‬وال ُتح? َ‬
‫منتهاه‪ ،‬وهو بحر الظلمات واألخضر والمحيط وق??د قي??ل إن المن??ارة على غ??ير ه??ذا‬
‫ال ُز َقاق‪ ،‬بل في جزير من جزائر بحر أوقي??انوس المحي??ط وس??واحله‪.‬وق??د ذهب ق??وم‬
‫إلى أن هذا البحر أصل ماء سائر البحار‪ ،‬وله أخبار عجيبة قد أتينا على ذكره??ا في‬
‫رر وخاطر بنفس??ه في ركوب??ه‪ ،‬ومن نج??ا منهم‪،‬‬ ‫كتابنا أخبار الزمان في أخبار من َغ َ‬
‫ِف‪ ،‬وما شاهدوا منه‪ ،‬وما َر ْأوا‪ ،‬وأن منهم رجالً من أه??ل األن??دلس ُيق??ال ل??ه‬ ‫ومن َتل َ‬
‫وأحدَ اثها فجمع جماعة من أحد اثه??ا‪ ،‬وركب بهم‬ ‫خشخاش‪ ،‬وكان من فتيان قرطبة ْ‬
‫مراكب استعدها في هذا البح??ر المحي??ط‪ ،‬فغ??اب في??ه مح??ة ثم انث??نى بغن??ائم واس??عة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وخ َب? ُره مش??هور عن??د أه??ل األن??دلس وبين ه??ذه المن??ارة المنص??وبة‪ ،‬وبين موض??ع‬
‫األحجار مسافة طويلة في طول مصب هذا الخليج وجريان??ه‪ ،‬وذل??ك أن م??اء يج??ري‬
‫من بحر أوقيانوس إلى البحر الرومي يحس بجريان?ه? ويعلم بحركت??ه‪ ،‬ويتش??عب من‬
‫بح?ر ال?روم والش?ام ومص?ر‪ ،‬خليج من نح?و خمس?مائة? مي?ل يتص?ل? بمدين??ة رومي?ة‬
‫س? ْب َتة‪،‬‬ ‫تسمى بالرومية? أدرس وعلى هذا الخليج من جانب المغرب قري??ة ُيق??ال له??ا َ‬
‫س?? ْب َتة? ه??ذه من ناحي??ة األن??دلس الجب??ل‬ ‫وهي وطنج??ة من س??احل واح??د‪ ،‬ويقاب??ل َ‬
‫س? ْب َتة? إلى س??احل‬ ‫ص ْير‪َ ?،‬و َي ْع ُب? ُر الن??اس من َ‬‫المعروف بجبل طارق َم ْو َلى موسى بن ُن َ‬
‫األن??دلس من غم??وة إلى الظه??ر‪ ،‬وفي ه??ذا الخليج َم? ْ?وج عظيم‪ ،‬والم??اء من هن??اك‬
‫?ب إلى البح??ر ال??رومي‪ ،‬وفي ه??ذا الخليج مواض??ع‬ ‫يخرج من بحر أوقي??انوس‪ ،‬ويص? ُّ‬
‫تعلو أمواجها‪ ،‬ويعلو الماء من غيرريح‪ ?،‬وه??ذا الخليج يس??ميه? أه??ل المغ??رب وأه??ل‬
‫األندلس ال ُز َقاق ؛إذ كان على هيئة ذلك‪ ،‬وفي بحر الروم جزائر كثيرة منه??ا جزي??رة‬
‫قبرص بين ساحل الشام والروم‪ ،‬وجزيرة رودس في مقابلة اإِل س??كندرية‪ ?،‬وجزي??رة‬
‫إقريطش‪ ،‬وجزي??رة ص??قلية‪ ،‬وس??نذكر ص??قلية بع??د ه??ذا الموض??ع عن??د ذكرن??ا لجب??ل‬
‫البركان الذي تظهر من??ه الن??ار‪ ،‬وفيه??ا أجس??ام وجثث وعظ??ام‪.‬وق??د ذك??ر يعق??وب أن‬
‫إسحاق الكندي‪ ،‬وتلميذه أحمد بن الطيب السرخس?ي في ط?ول ه?ذا البح?ر وعرض?ه‬
‫غير ما ذكرنا‪.‬‬
‫وسنذكر بعد هذا الموضع فيما يرد من هذا الكتاب هذه البحار علىنظم من التأليف‪،‬‬
‫وترتيب? من التصنيف‪ ?،‬إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬
‫صفحة ‪62 :‬‬

‫ذكر بحر نيطش وبحر مانطش‬

‫وخليج القسطنطينية‬
‫فأما نيطش فإنه يمت?دّ من بالد الذق?ة إلى القس?طنطينية وطول?ه أل?ف ومائ?ةميل‪،‬‬
‫وعرضه في األصل ثلثمائة? ميل‪ ،‬وفيه يصب النهر العظيم المعروف بأطنابس‪ ،‬وق??د‬
‫قدمنا ذك??ره‪ ،‬ومب??دأ ه??ذا البح??ر من الش??مال‪ ،‬وعلي??ه كث??ير من ول??د ي??افث بن ن??وح‪،‬‬
‫أع ُي ٍن وجب?ال‪ ،‬ويك?ون مق?دار جريان?ه‬ ‫وخروجه من بح?يرة عظيم?ة في الش?مال من ْ‬
‫على وج??ه األرض نح??و ثلثمائ??ة فرس??خ عم??ائر متص??لة? لول??د ي??افث‪ ،‬ويس??ير? بح??ر‬
‫مانطش فيما زعم ق??وم من أه??ل العناي??ة به??ذا الش??أن ح??تى يص??ب في بح??ر نيطش‪،‬‬
‫وهذا البحرعظيم فيه أنواع من األحجار والحش??ائش والعق?اقير‪ ،‬وق?د ذك??ره جماع?ة‬
‫ممن تقدم من الفالسفة‪ ،‬ومن الناس من يسمى بحرم??انطش بح??يرة‪ ،‬ويجع??ل طول??ه‬
‫ثلثمائة ميل‪،‬وعرضه? مائ??ة مي??ل‪ ،‬ومن?ه? ينفج??رخليج القس??طنطينية ال??ذي يص??ب إلى‬
‫بح???ر ال???روم‪ ،‬وطول???ه ثلثمائ???ة مي???ل‪ ،‬وعرض???ه نح???و من خمس???ين ميالً‪ ،‬وعلي???ه‬
‫القسطنطينية والعمائر من أول??ه إلى آخ??ره‪ ،‬والقس??طنطينية من الج?انب الغ??ربي من‬
‫ه??ذا الخليج‪ ،‬متص??لة ب??بر? رومي ?ة? واألن??دلس وغيرهم??ا فيجب وهّللا أعلم على ق??ول‬
‫المنجمين من أص??حاب الزيج??ات وغ??يرهم ممن تق??دم‪ ،‬أن بح??ر البلغ??ر وال??روس‪،‬‬
‫وبجنى وبجناك وبغرد‪ ،‬وهم ثالثة أنواع الترك هو بحر نيطش‪ ،‬وسيأتي ذكر هؤالء‬
‫األمم فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء هّللا تعالى على حسب استحقاقهم في ذك??رهم‪،‬‬
‫واتصال عمائرهم‪ ،‬ومن يركب هذا البحر منهم ومن ال يركبه‪ ?،‬وهّللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر بحر الباب واألبواب والخزر وجرجان‬


‫وجمل من األخبارعلي ترتيب? البحار‬

‫بحر األعاجم‬
‫فأما بحر األعاجبم الذي علي??ه دو ُر َه??ا ومس??اكنها فه??و معم??ور بالن??اس من جمي??ع‬
‫جهاته‪ ،‬وه??و المع??روف ببح??ر الب??اب واألب??واب والخ??زر والجي??ل وال??ديلم وجرج??ان‬
‫ار ْزم‪،‬‬ ‫وطبرستان‪ ،‬وعليه أنواع من الترك‪ ،‬وينتهي? في إحدى جهات??ه نح??و بالد ُخ? َ‬
‫?و َ‬
‫ميل‪ ،‬وهو مدور الشكل إلى الطول‪ ،‬وسنذكر‬ ‫وطوله ثمانمائة ميل‪ ،‬وعرضه ستمائة? ِ‬
‫فيما يرد من هذا الكتاب جمالَ من ذكراألمم المحيطة به?ذه البح?ار المعم??ورة‪ ،‬وه?ذا‬
‫البحر الذي هو بحر األعاجم كثير ال ّت َنانين‪ ،‬وكذلك بحر الروم فالتنان فيهم??ا كث??يرة‪،‬‬
‫وكثيراً ما تكون مما يلي بالد طرابلس والالذقية والجبل األقرع من أعمال أنطاكية‪،‬‬
‫وتحت هذا الجبل معظم ماء البحر وأكثره‪ ،‬ويسمى عجز البحر‪ ،‬وغايته إلى س??احل‬
‫أنطاكية ورشيد واإِل س??كندرية وحص??ن المثقب وذل??ك في س??فح جب??ل اللك??ام وس??احل‬
‫المصيصة‪ ?،‬وفيه مصب نهر جيحان‪ ،‬وساحل أذن??ة‪ ،‬وفي??ه مص??ب س??يحان‪ ،‬وس??احل‬
‫طرس??وس‪ ،‬وفي??ه مص??ب نه??ر ب??ردان‪،‬وه??و نه??ر طرس??وس‪،‬ثم البل??د الخ??الي من‬
‫العمارات الخراب بين الروم والمسلمين مما يلي مدينة قلمية إلى قبرص وقريطس‬
‫صفحة ‪63 :‬‬

‫وقراسيا‪ ،‬ثم بالد س??لوقية َونهره??ا العظيم ال??ذي يص??ب في ه??ذا البح??ر‪ ،‬ثم حص??ون‬
‫الروم إلى خليج القس??طنطينية‪ .‬وق??د أعرض??نا عن ذك??ر أنه??ار كث??يرة ب??أرض ال??روم‬
‫ومما يصب إلى هذاالبحر كنهر البارد ونهر العسل وغيرهما من األنهار‪.‬‬
‫َوالعمارةُ على هذا البحر من المضيق الذي قدمنا ذك??ره‪ ،‬وه??و الخليج ال??ذي علي??ه‬
‫ٌ‬
‫متص???لة بس???احل المغ???رب وبالد إفريقي???ة والس ??وس وط ??رابلس المغ???رب‬ ‫طنج???ة‪،‬‬
‫والقيروان وساحل َب ْر َقة والرفادة وبالد اإِل سكندرية? ورشيد وتنيس ودمياط وس??احل‬
‫الشام وساحل الثغور الشامية ثم ساحل الروم م??اراً متص ?الً إلى بالد رومي??ة إلى أن‬
‫يتصل? بساحل األندلس‪ ،‬إلى أن ينتهي? إلى ساحل الخليج الضيق المقابل ل َط ْن َج? ة طى‬
‫ما ذكرنا ال تنقطع من هذا البركل??ه ألعم??ائر ال??تي وص??فناها من اإِل س??الم وال??روم إال‬
‫األنهار الجارية إلى البحر وخليج القسطنطينية‪ ،‬وعرضه نحو من مي??ل‪ ،‬وخلجان??ات‬
‫اخر داخلة في البرال منفذ لها؛ فجميع م??ا ذكرن??ا على ش??اطىء ه??ذا البح??ر ال??رومي‬
‫متصلو الديار غير منفصلين بما يقطعهم أو يمنعهم إال ما ذكرنا من األنه??ار وخليج‬
‫القسطنطينية‪ ،‬ومثال هذا البحر الرومي‪ ،‬ومثال ما ذكرن??ا من العم??ائر علي??ه إلى أن‬
‫ينتهي إلى مبدأ الخليج الضيق اآلخ??ذ من أوقي??انوس ال??ذي علي??ه المن??ارة النح??اس‪،‬‬
‫ويلي األعلى من َط ْن َج??? ة‪ ،‬وس???احل األن???دلس‪ :‬مث???ل الك???رنيب‪ ،‬في قبض???ة الخليج‪،‬‬
‫والكرنيب على ضفة البحر‪ ،‬إال أنه ليس بمدور الشكل‪ ،‬لما ذكرن??ا من طول??ه‪.‬وليس‬
‫تع??رف التن??انين في البحرالحبش??ي‪ ،‬وال في ش??يء من خلجان??ه من حيث وص??فنا في‬
‫نهاياته‪ ،‬وأكثرها يظهر مما يلي بحر أوقيانوس‪.‬‬

‫التنين وآراء الناس فيه‬

‫وقد اختل??ف الن??اس في الت??نين‪ :‬فمنهم من رأى أن??ه ريح س??وداء تك??ون في قع??ر‬
‫البحر فتظهر إلى النسيم‪ ،‬وه??و الج??و‪ ،‬فتحل??ق الس??حب كالزوبع??ة‪ ،‬ف??إذا ص??ارت من‬
‫الص? َعداء‬
‫?ة ُّ‬ ‫?ار ثم اس??تطالت في اله??واء ذاهب? ً‬‫األرض واس??تدارت وأث??ارت معه??ا الغب? ِ‬
‫الناس أنها حيات سود قد ظهرت من البحر لسواد الس??حاب‪ ،‬وذه??اب الض??وء‬ ‫ُ‬ ‫َت َوهَّم‬
‫دواب تتك??ون في قع??ر البح??ر‪ ،‬فتعظم وت??ؤذي‬ ‫وترادف الري??اح‪.‬ومنهم من رأى أنه??ا َ‬
‫دواب البحر‪ ،‬فيبعث هّللا عليها السحاب والمالئكة فيخرجونها من بينها‪ ،‬وأنه??ا على‬
‫صورة الحية السوداء لها بريق وبص?يص‪ ?،‬ال تم?ر بمدين?ة? إال أتت على م?ا ال يق?در‬
‫عليه من بناء عظيم أوشجرأوجبل‪ ،‬وربم??ا تتنفس فتح??رق الش??جرة الكب??يرة فيلقي??ه‬
‫الس??حاب في بل??د ي??أجوج وم??أجوج‪ ،‬ويمط??ر الس??حاب عليهم‪ ،‬فيقت??ل الت??نين‪ ،‬فمن??ه‬
‫يتغذى يأجوج ومأجوج‪ ،‬وهذا القول ُي ْع َزى إلى ابن عباس‪.‬وقد ذكر ق??وم في الت??نين‬
‫غير ما ذكرنا‪ ،‬وكذلك حكى ق??وم من أه??ل الس??ير وأص??حاب القص??ص أم??ورأ في م??ا‬
‫ذكرن??ا أعرض??نا عن ذكره??ا‪ ،‬منه??ا خ??بر عم??ران بن ج??ابر ال??ذي ص??عد في الني??ل‪،‬‬
‫فألمحرك غايته‪ ،‬وعبر البح?ر على ظهرداب?ة تعل?ق بش?عرها وهي داب?ة ينج?ر منه?ا‬
‫على األرض ش??بر من قوائمه??ا ُت َغ? ادي ق??رن الش??مس من مب??دأ طلوعه??ا إلى ح??ال‬
‫?رعلى وص??فنا من تعلق??ه‬ ‫الشمس ف َع َب? َ‬
‫َ‬ ‫غروبها فاغرة فاها نحوها لتبتلع عند نفسها‪-‬‬
‫بشعرها البحر‪ ،‬ودار بدورانها طلبا ً لعين الشمس‪ ،‬حتى صار إلى ذلك الجانب‪،‬‬
‫صفحة ‪64 :‬‬

‫فرأى النيل منح??دراً من قص?ور ال?ذهب من‪ ،‬الجن?ة‪ ،‬وأعط?اه ال َم َل? ُك العنق??ود العنب‪،‬‬
‫وص?وله إلى مب??دأ‬
‫وأنه أتى الرجل الذي رآه في ذهابه‪ ،‬ووصف ل??ه كي??ف يفع??ل في ُ‬
‫ش??وية‬‫النيل‪ ،‬فجم ميتاً‪ ،‬وخبر إبليس معه والعنقود العنب‪ ،‬وغير ذلك من خرافات َح ْ‬
‫فى وس??ط‬‫عن أصحاب الحديث‪ ،‬ومنها ما روي أن قبة من ال??ذهب وأن??واع الج??وهر ِ‬
‫البحر األخضر على أربعة أركان من الي?اقوت األحم??ر ينح??در من ك??ل ركن من ه??ذه‬
‫األركان ماء عظيم من رشحه فقسم إلى جهات أرب??ع في ذل??ك البح??ر األخض??ر غ??ير‬
‫متماس ب??ه‪ ،‬ثم ينتهي? إلى جه??ات من ال??بر من س??واحل ذل??ك البح??ر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مخالط له‪ ،‬وال‬
‫أحدها النيل‪ ،‬والثاني سيحان‪ ،‬والث??الث جيح??ان‪ ،‬والراب??ع الف??رات‪ ،‬ومنه??ا أن المل??ك‬
‫الموكك بالبحار يضع عقبه في أقص??ى بح??ر الص??ين فيف??ر من?ه? البح??ر‪ ،‬فيك??ون من??ه‬
‫الم??د‪ ،‬ثم يرف??ع عقب??ه من البحرف??يرجع الم??اء إلى مرك??زه‪ ،‬ويطلب قع??ره‪ ،‬فيك??ون‬
‫الج?زر‪ ،‬ومثل?وا ذل?ك بإن?اء في?ه م?اء في مق?دار النص?ف من?ه‪ ?،‬فيض?ع اإلِنس?ان ي?ده‬
‫أورجل??ه فيمأل الم??اء اإِل ن??اء‪ ،‬ف??إذا رفعه??ا رج??ع الم??اء إل ح??ده‪ ،‬وانتهى إلى غايت??ه‪،‬‬
‫ومنهم من رأىأن الملك يضع إبهامه من كفه اليمنى في البحر فيكون من??ه الم??د‪ ،‬ثم‬
‫فى ح??يز‬ ‫يرفعها فيكون الجزر وما ذكرنا فغير ممتنع كو ُنه‪ ،‬وال واجب‪ ،‬وه??و داخ??ل ِ‬
‫?ورد الت??واتر‬ ‫الممكن والجائزألن طريقه في النقل طريق األفراد واآلحاد‪ ،‬ولم ي??رد َم? ِ‬
‫واالستفاضة كاألخبار الموجبة للعم‪ ،‬والعل??ل القاطع??ة للع??ذر في النق??ل‪ ،‬ف??إن قارنه??ا‬
‫عز وج ?ل ّ علين??ا‬ ‫دالئل توجب صحتها وجب التسليم لها‪ ،‬واالنقياد إلى ما أوجب اللة ّ‬
‫?ز وج?ل ّ وم??ا آت??اكم الرس??ول فخن??وه‪ ،‬وم??ا‬ ‫من أخبار الشريعة والعمل بها؛ لقوله ع? ّ‬
‫نهاكم عنه فانتهوا ‪ ،‬وإن لم يصح ما ذكرنا فقد وصفنا آنفا ً ما قال الناس في ذل??ك‪،‬‬
‫وإنما ذكرنا هذا ليعلم من قرأ هذا الكتاب أنا قد اجتهدنا فيما أوردناه في هذا الكتاب‬
‫وغ??يره من كتبن??ا‪ ،‬ولم َي ْع? ُر ْب عن??ا فهم م??ا قال??ه الن??اس في س??ائر م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وباهّلل‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫جملة البحار‬

‫فهذه جمل البحار‪ ،‬وعند أكثر الناس أنها أربعة في المعم?ور من األرض‪ ،‬ومنهم‬
‫من يع??دها خمس??ة‪ ،‬ومنهم من يجعله??ا س??تة‪ ،‬ومنهم من ي??رى أنه??ا س??بعة منفص??لة‬
‫غيرمتصلة‪ ?،‬وعلى أنها ستة فأولها البح??ر الحبش??ي‪ ،‬ثم ال??رومي‪ ،‬ثم نيطش‪ ،‬ثم م??ا‬
‫نطش‪ ،‬ثم الخزري‪ ،‬ثم أوقيانوس الذي ال يعلم أك?ثر نهايات?ه‪ ،‬وه?و األخض?ر المظلم‬
‫المحيط‪ ،‬وبحر نيطش متصل? ببحر ما نطش‪ ،‬ومنه خليج القسطنطينية ال??ذي يص??ب‬
‫إلى بحر الروم ويتصل? به‪ ،‬على حسب ما ذكرنا‪ ،‬والرومي بدؤه من بحر أوقيانوس‬
‫األخضر؛ فيجب على هذا القياس أن يكون ما وصفنا بحراً واح??داً التص??ال مياهه??ا‪،‬‬
‫وليست هذه المياه وال شيء منها وهّللا أعلم متصله بشيء من بح??ر الحبش‪ ،‬فبح??ر‬
‫نيطش وبح??ر م??انطش يجب أن يكون??ا أيض ?ا ً بح??راً واح??داً‪ ،‬وإن تض??ايق البح??ر في‬
‫بعض المواضع يبنهما‪ ،‬أو صار بين الماءين كالخليج‪ ،‬وليست تسمية ما اتسع منه?‬
‫وكثرماؤه بمانطش‪ ،‬وما ضاق منه وق??ل م??اؤه ب??نيطش‪ ،‬يمن??ع من أن تجمعهم??ا في‬
‫اسم مانطش أو نيطش‪ ،‬فإذا عبرنا بعد هذا الموضع في مبسوط هذا الكتاب فقلنا ما‬
‫صفحة ‪65 :‬‬

‫نطش أو نيطش‪ ،‬فإنم??ا نري??د ب??ه ه??ذا المع??نى فيم??ا اتس??ع من البح??ر وض??اق‪.‬ق??ال‬
‫المسعودي‪ :‬وقد غلط قوم زعموا أن البحر الخزري يتص??ل ببح??ر م??ا يطس‪ ،‬ولم أر‬
‫فيمن دخ??ل بالد الخ??زر من التج??ار ومن ركب منهم في بح??ر م??ايطس ونيطس إلى‬
‫بالد ال??روس والبلغ??ر أح??داً ي??زعم أن بح??ر الخ??زر يتص??ل ببح??ر من ه??ذه البح??ار أو‬
‫بشيء من مائها أومن خلجانها إال من نهر الخزر‪ ،‬وسنذكر ذل??ك عن??د ذكرن??ا لجب??ل‬
‫القبق ومدينة? الباب واألبواب ومملكة الخزر وكي??ف دخ??ل ال??روس في الم??راكب إلى‬
‫بحر الخزر‪ ،‬وذلك بعد الثلثمائة‪ ،‬ورأيت أكثر من تعرض لوص??ف البح??ار ممن تق??دم‬
‫وت??أخر ي??ذكرون في كتبهم أن خليج القس??طنطينية? اآلخ??ذ من نيطش يتص??ل ببح??ر‬
‫الخزر‪ ،‬ولست أدري كيف ذلك‪ ،‬ومن أين ق??الوه‪ .‬أمن طري??ق الح??دس أم من طري??ق‬
‫االستدالل والقياس‪ .‬أو توهموا أن الروس ومن جاورهم على هذا البحر هو الخ??زر‬
‫وقد ركبت فيه من أبسكون‪ ،‬وهو ساحل جرجان‪ ،‬إلى بالد طبرستان‪ ،‬وغيره??ا‪ ،‬ولم‬
‫أت??رك ممن ش??اهدت من التج??ار ممن ل??ه أدب وفهم ومن ال فهم عن??ده من أرب??اب‬
‫المراكب إال سألته عن ذلك‪ ،‬وكل ٌّ يخبرني أن ال طريق ل??ه إليه??ا إال من بح??ر الخ??زر‬
‫حيث دخلت إليه مراكب الروس‪ ،‬ون َفر من أهل أذر بيجان والباب واألبواب وبردعة‬
‫والديلم والجبل وجرجان وطبرستان إليه??ا ألنهم لم يعه??دوا ع??دواً يط??رأ عليهم‪ ،‬وال‬
‫ع??رف ذل??ك فيم??ا س??لف‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا فمش??هور فيم??ا س??مينا من األمص??ار واألمم‬
‫والبل???دان‪ ،‬س???الك مس???لك االستفاض???ة فيهم‪.‬ورأيت في بعض الكتب المض???افة إلى‬
‫الكن??دي وتلمي??ذه وه??و أحم??دابن الطيب السرخس??ي‪ ،‬ص??احب المعتض??د باهّلل أن في‬
‫طرف العمارة من الش?مال بح?يرة عظيم?ة بعض?ها تحت قطب الش?مال‪ ،‬وأن بقربه?ا‬
‫مدين??ة ليس بع??دها عم??ارة‪ ،‬يق??ال له??ا تولي??ة‪ ،‬ولق??د رأيت لب??ني المنجم في بعض‬
‫رسائلهم ذكر هذه البحيرة‪ ،‬وقد ذكر أحمد بن الطيب في رسالته في البح?ار والمي?اه‬
‫والجبال عن الكندي أن بحر الروم طوله س??تة آالف مي??ل من بالد ص??ور وط??رابلس‬
‫وأنطاكية والالذقية والمثقب وساحل المصيصة وطرس??وس وقلمي?ة? إلىمن??ار هرق??ل‪،‬‬
‫ض موضع فيه أربعمائة ميل‪ ،‬هذا قول الكندي وابن الطيب‪.‬وقد أتينا ع??يى‬ ‫أع َر َ‬
‫وأنا ْ‬
‫ق?ول الف?ريقين جميع?ا ً وم?ا بينهم?ا من الخالف في ذل?ك من أص?حاب الزيج?ات وم?ا‬
‫وجدناه في كتبهم وسمعناه من أتباعهم‪ ،‬ولم نذكر ما ذك??روه من ال??براهين المؤي??دة‬
‫لما وصفا ة الشتراطنا في هذا الكتاب على أنفسنا االختصار واإِل يجاز‪.‬‬

‫مبادىء تكوين البحار‬


‫وأم??ا م??ا تن??ازع في??ه المتق??دمون من أوائ??ل اليون??انيين والحكم??اء المتق??دمين في‬
‫مبادىء كون البحار وعلله??ا فق??د أتين??ا على مبس??وطه? في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان في‬
‫الفن الثاني من جملة الثالثين فناً‪ ،‬وقد ذكرنا قول كل فريق منهم َو َع َز ْو َن??ا ك??ل ق??ول‬
‫من ذلك إلى قائله‪ ،‬ولم ُن ْخل هذا الكتاب من إيراد لمع من قولهم‪.‬وذهب طائفة منهم‬
‫ف أكثره??ا ج??وهر الن??ار‪ ،‬وم??ا بقي‬ ‫إلى أن البحر بقي??ة من الرطوب??ة األولى ال??تي ج َّف َ‬
‫منها إستحال الحتراقه‪.‬ومنهم من ق?ال‪ :‬إن الرطوب??ة األولى المجتمع?ة لم?ا اح??ترقت‬
‫ضف منها إستحال الباقي إلى ملوحة ومرارة ومنهم من‬ ‫بدوران الشمس وانعصر ال َ‬
‫رأى أن البحار َع َر ٌق تعرقه األرض لما ينالها من احتراق الشمس التصال دورها‪.‬‬
‫صفحة ‪66 :‬‬

‫ومنهم من رأى أن البحر هو ما بقي مما ص َّف ْت ُه األرض من الرطوبة المائية لغلظ‬
‫جسمها‪ ،‬كما يع?رض في الم?اء الع?ذب إذا م?زج بالرم??اد‪ ،‬فإن??ه إذا ص?فا من الرم??اد‬
‫وجد مالحا ً بعد أن كان َع ْذبا ً‪.‬‬
‫وذهب آخرون أن الماء عذبه ومالحه كانا ممتزجين‪ ،‬فالشمس ترفع لطيفه َو َع ْذبه‬
‫لخفته‪.‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬ترفعه الشمس لتغتذي به‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل يع??ود باالس??تحالة م??اء‬
‫إذا صار بارتفاعه إلى الموضع الذي يحصره البرد فيه‪ ،‬ويكيف?ه‪.‬ومنهم من ذك?ر أن‬
‫الماء الذي هو أس ُطقُس‪ :‬ما كان منه عن الهواء وما يع??رض من??ه من ال??برد يك??ون‬
‫حلواً‪ ،‬وما كان منه? في األرض لم??ا ينال??ه من االح??تراق والح??رارة يك??ون م??راً‪.‬ومن‬
‫أهل البحث من قال‪ :‬إن جمع الماء الذي يفيض إلى البح?رمن جمي?ع ظه?ور األرض‬
‫ض?اض‪ ،‬واألرض‬ ‫ض?اض من ُم َ‬ ‫وبطونها إذا ص?ار إلى تل?ك الحف??رة العظيم??ة فه??و ُم َ‬
‫تقذف إليه ما فيها من الملوحة‪ ،‬والني في الماء من أجزاء الن??ار ال??تي تخ??رج إلي??ه‬
‫من بطون األرض ومن أجزاء النيران المختلطة يرفع??ان لط??ائف الم??اء بارتفاعهم??ا‬
‫وتبخرهما ‪ 4‬ف??إذا رفع??ا اللط??ائف ص??ار منه??ا م??ا يش??به? المط??ر‪ ،‬وك??ان ذل??ك دأبهم??ا‬
‫وعادتهما‪ ،‬ثم يعود ذلك الماء مالحاًألن األرض إذا كانت تعطيه الملوح??ة‪ ،‬والن??يران‬
‫تخرج منها العفبة واللطافة‪ ،‬ك??ان واجب?ا ً أن يع??ود إلى الملوح??ة وك??ذلك يك??ون م??اء‬
‫البحر على كيل واحد ووزن واحد ة ألن الحرير يرفع اللطيف فيصير طاّل ً وم??اء‪ ،‬ثم‬
‫تعود تلك األندية سيوالً‪ ،‬وتطلب الحدور وال َق َرار‪ ،‬وتج?ري في أعم?اق األرض ح?تى‬
‫يض?يع من ذل?ك الم?اء ش?يء‪ ،‬وال يبط?ل من?ه ش?يء‪،‬‬ ‫يصير? إلى ذل?ك اله?ور‪ ،‬فليس ِ‬
‫ف من نه??ر وص??ب إلى حف??رة تفيض إلى ذل??ك النه??ر‪،‬‬ ‫غر َ‬
‫واألعيان قائمة كمنجنون َ‬
‫وقد شبه? ذلك قوم بأعضاء الحيوان إذا اغتذت وعملت الحرارة في غذائه فاجت??ذبت‬
‫منه? ماء ع ُذ َب إلى األعضاء المغتذية به‪،‬وخلفت ما ثق??ل من??ه‪ ،‬وه??و الم??الح والم??ر‪،‬‬
‫فمن ذلك البول والعرق‪ ،‬وهذا فضول األغذية فيها‪ ،‬ولما ك??انت عن رطوب??ات عذب??ة‬
‫إلى الم??رارة والملوح??ة‪ ،‬وإن الح?رارة ل??و زادت أك?ثر من مق??دارها‬ ‫أحالتها الحرارة ِ‬
‫لصار الفضل مراَ زائداً على م??ا يوج??د من الع??رق والب??ول ث لوجودن??ا ك??ل مح??ترق‬
‫مراً‪.‬هذا قول جماعة ممن تقدم‪ ،‬وأما ما يوجد بالعيان وإيقاع المحنة عند المباش??رة‬
‫ف??إن ك??ل الرطوب??ات ف??ات الطع??وم إذا ص??عدت ب??القرع واألن??ابيق بقيت روائحه??ا‬
‫وطعومها فيما يرتفع منها كالخل والنبيذ والورود والزعفران والقرنفل‪ ،‬إال المالحة‬
‫فإنها تختلف طعومها وروائحه??ا‪ ،‬وال س??يما إن ص??عدت م??رتين وأس??خنت م??رة بع??د‬
‫أخرى‪.‬وقد ذكر ص?احب المنط?ق في ه?ذا المع?نى كالم?ا ً كث?يراً ا‪ :‬من ذل?ك أن الم?اء‬
‫المالح أ ْث َقل ُ من الماء العذب‪ ،‬وجع??ل الدالل??ة على ذل??ك أن الم??اء الم??الح َك??در غلي??ظ‬
‫ف رقيق‪ ،‬وأنه إذا أخ?ذ ش??يء من الش?مع فعم?ل من?ه? إن?اء ثم س??د‬ ‫صا ٍ‬
‫والماء العذب َ‬
‫رأسه وصيرني ماء م?الح وج?د ذل?ك الم?اء ال?ذي وص?ل إلى داخ?ل اإِل ن?اء ع?ذبا ً في‬
‫الطعم خفيفا ً في الوزن‪ ،‬ووجد الماء المحيط به على خالف ذل??ك‪ ،‬وك??ل م??اء يج??ري‬
‫فهونهر‪ ،‬وحيث َين َبع? فهوعين‪ ،‬وحيث يكون معظم الماء فهوبحر‪.‬‬

‫صفحة ‪67 :‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬وقد تكلم الن?اس في المي?اه وأس??بابها‪ ،‬وأك??ثروا‪ ،‬وق??د ذكرن?ا في‬
‫كتابناأخبار الزمان في الفن الث??اني من جمل??ة الثالثين فن?ا ً م??ا أوردوه من ال??براهين‬
‫في مساحة البحار ومقاديرها‪ ،‬والمنفعة في ملوحة مائه??ا‪ ،‬واتص??ال بعض??ها ببعض‬
‫وانفصالها‪ ،‬وعدم بي??ان الزي??ادة فيهاوالنقص??ان‪ ،‬وألي??ة عل??ة ك??ان الج??زر والم??د في‬
‫البحر الحبشي أظهر من لمحون سائر البحار‪ ،‬ووجدت َن َواخذة بحر الص??ين والهن??د‬
‫والسند والزنج واليمن والقلزم والحبش??ة من الس??يرافيين والعم??انيين يخ??برون عن‬
‫البحر الحبشي في أغلب األمور على خالف ما ذكرته الفالسفة وغيرهم ممن حكينا‬
‫عنهم المق??ادير والمس??احة‪ ،‬وإن ذل??ك ال غاي??ة ل??ه‪ ،‬وفي مواض??ع من??ه? ش??اهدت‬
‫أربابالمراكب في البحر الرومي من الحربية والعمالة وهم النواتي وأصحاب الرح??ل‬
‫والرؤساء ومن يلي تدبير المراكب والحرب فيهم‪ ،‬مث??ل الوي المك??نى ب??أبي الح??رب‬
‫غالم زراقة صاحب طرابلس الشام من ساحل دمشق‪ ،‬وذلك بعد الثلثمائ??ة ُي َع ِّظم??ون‬
‫هللا‬
‫طول البحر الرومي وعرضه‪ ،‬وكثرة خلجان??ه وتش??عبه‪ ?،‬وعلى ه??ذا وج??دت عب??د ّ‬
‫بن وزير صاحب مدينة? جبلة من س??احل حمص من أرض الش??ام‪ ،‬ولم يب??ق في ه??ذا‬
‫ص? ُر من??ه في البح??ر ال??رومي‪ ،‬وال أس??نُّ‬
‫الوقت وهو سنة? اثنتين وثالثين وثلثمائة? أ ْب َ‬
‫منه‪ ?،‬وليس فيمن يركبه من أصحاب المراكب من الحربية والعمال??ة إال وه??و منق??اد‬
‫إلى قوله‪ ،‬و ُيقِر له بالبصر وال ِح ْن??ق‪ ،‬م??ع م??ا ه??و علي??ه من الديان??ة والجه??اد الق??ديم‬
‫فيها‪ ،‬وقد ذكرنا عجائب هذه البحار وما س??معناه ممن ذكرن??ا من أخباره??ا وآفاته??ا‪،‬‬
‫وم??ا ش??اهدوا فيه??ا فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪ ،‬وس??نورد بع??د ه??ذا الموض??مع جمالً من‬
‫أخبارها‪.‬‬

‫عالمات لمعرفة وجود المياه‬


‫وقد ذهب قوم في عالمات المياه ومستقرها من األرض مذهباً‪ ،‬وسيم ه?وأن ي?رى‬
‫والحلف??اء واللين من الحش??يش‪.‬‬ ‫َ‬ ‫?ابت ال َق َ‬
‫ص ?ب‬ ‫في المواضع التي يكون فيها الماء من? ُ‬
‫فذلك داللة على قرب الماء لمن أراد الحفر‪ ،‬وأن م??ا ع??دا ذل??ك فعلى البع??د‪.‬ووج??دت‬
‫في كت??اب الفالح??ة أن َمنْ أراد أن يعلم ق??رب الم??اء و ُب ْع? ده فليحف??ر في األرض ق??در‬
‫?ة خ??زف‪ ،‬في??دهنها بالش??حم‬ ‫ثالثة أفرع أو أربعة‪ ،‬ثم يأخذ قِحدراً من نح??اس أو إجا َن? َ‬
‫من داخله??ا مس??تو َياَ‪ ،‬ولتكن الق??در واس??عة الفم‪ ،‬ف??إذا غ??ابت الش??مس فخ??ذ ص??وفة‬
‫فلف ذلك الصوف عليه مثل الك??رة‪،‬‬ ‫بيضاء منفشة? مغسولة‪ ،‬وخذ حجراً قدر بيضة‪َّ ،‬‬
‫أطل جانب الكرة بموم م َذاب وألصقها في أسفل ذلك القِدْ ر الذي قد دهنت??ه ب??دهن‬ ‫ثم ْ‬
‫أو ش??حم ثم ألقه??ا في أس??فل الحف??يرة ف??إن الص??وف يص??ير? معلق?ا ً والم??وم يمس??كه‪،‬‬
‫ث على اإلِن??اء ال??تراب ق??در ذراعين أو ذراع‪،‬‬ ‫اح ُ‬
‫ويصير? إلى مكان الحجر معلق?اً‪ ،‬ثم ْ‬
‫و َد ْعه ليلتك كلها‪ ،‬فإذا كان الغ??د قب??ل طل??وع الش??مس ف??اكنس ال??تراب عن??ه‪ ،‬وارف??ع‬
‫اإلِناء‪ ،‬فإن رأيت الماء ملزقا ً باإلِناء من داخل قط??راً كث??يراً بعض??ه ق??ريب من بعض‬
‫والصوفة ممتلئة فإن في ذلك المكان ماء‪ ،‬وه??و ق??ريب‪ ،‬وإن ك??ان القط??ر متفرق?ا ً ال‬
‫بالمجتمع وال بالمتقارب والصوفة ماؤها وسط فإن الماء ليس بالبعيد وال بالقريب‪،‬‬
‫وإن ك??ان القط??ر ملتزق?ا ً متباع??داً بعض??ه عن بعض والم??اء في الص??وفة قلي??ل‪ ،‬ف??إنّ‬
‫الماءبعيد‪ ،‬وإن لم َت َرعلى اإلِناء قطراً قلياًل وال كثيراً وال على الصوفة ماء فإنه‬
‫صفحة ‪68 :‬‬

‫ليس في ذلك الموضع ماء‪ ،‬فال َت َت َعنّ في َح ْفره‪.‬ووجدت في بعض النس??خ من كت??اب‬
‫الفالحة في هذا المعنى أن َمن أراد علم ذلك فلينظر إلى قرى النمل‪ ،‬فإن وجد النمل‬
‫غالظا ً سي اً ثقيل??ة المش??ي فلينظ??ر فعلى ق??درثقل مش??يهن الم??ا ُء ق??ريب منهن‪ ،‬وإن‬
‫يلح? ق فالم??اء على أربعين ذراع?اً‪ ،‬والم??اء األول‬
‫?ريع المش??ي ال يك??اد َ‬
‫وجد النمل س? ِ‬
‫يكون عذبا َ طيبا ً والثاني يكون ثق َياَل مالحاً‪.‬فهذه جملة عالم??ات لمن يري??د إس??تخراج‬
‫الماء‪ ،‬وقد أتينا على مبسوط ما ذكرن??ا في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان أل وإنم??ا ن??ذكر في‬
‫هذا الكتاب ما تدعو الحاجة إلى ذكره باإلِش??ارة إلي??ه دون َب ْس?طه وإيض??احه‪.‬وإذ ق??د‬
‫ذكرن??ا جماًل من أخب??ار البح??ار وغيره??ا‪ ،‬فلنق??ل في أخب??ار مل??وك الص??ين وغيره??ا‬
‫وأهلها‪ ،‬وغيرذلك مما لحق به‪ ،‬إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬

‫دكر ملوك الصين والترك وتفرق ولد عابور‬


‫وأخبار الصين وغير ذلك مما لحق بهذا الباب‬

‫القول في أنساب الصين‬

‫قد تنازع الناس في أنساب أهل الصين وبدئهم‪ :‬فذكر كثير منهم أن ولد عابوربن‬
‫األرض‬
‫َ‬ ‫س ٍم فالغ بن عابربن إرفخشذ بن سام بن نوح‬ ‫سوبيل? بن ياقث بن نوح لما َق ّ‬
‫س ? ْمت‬
‫بين ولد نوح ساروا يسرة في الشرق‪ ،‬فسار ق??وم منهم من ول??د أرع??و على َ‬
‫الش???مال‪ ،‬وانتش???روا في األرض فص???اروا ع???دة ممال???ك‪ :‬منهم ال??? َد ْي َلم‪ ،‬والجي???ل‪،‬‬
‫والطيلسان‪ ،‬والت??تر‪ ،‬وفرغ??ان فأه??ل جب??ل القب??ق من أن??واع اللك??ز ثم الالن والخ??زر‬
‫واألنجاد والس??رير وكش??ك‪ ،‬وس??ائر تل?ك األمم‪ .‬المنتش?رة? في ذل?ك الص??قع‪ ،‬إلى بالد‬
‫طوابريدة إلى بحر م?انطش ونيطش وبح?ر الخ?زر إلى ال?برغو ومن اتص?ل بهم من‬
‫وع َب??ر ول??د ع??ابور نه??ر بلخ‪ ،‬وي ّمم بالد الص??ين األك??ثر منهم‪ ،‬وتفرق??وا ع??دة‬
‫األمم‪َ ،‬‬
‫ممالك في تل??ك البالد وانتش??روا في تل??ك ال??ديار‪ ،‬فمنهم الجي??ل‪ ،‬وهم س??كان جيالن‪،‬‬
‫واألش???ر وس???نة والص???غد‪ ،‬وهم بين بخ???ارى وس???مرقند‪ ،‬ثم الفراغن???ة والش???اش‬
‫واس??تيجاب رأه??ل بالد الف??اراب؛ فبن??وا الم??دن والض??ياع‪ ،‬وانف??رد منهم أن??اس غ??ير‬
‫هؤالء فسكنوا البوادي‪ :‬فمنهم الترك والخ??زلج والطغرغ??ر‪ ،‬ومنهم أص??حاب مدين??ة‬
‫كوش???ان‪ ،‬وهي مملك???ة بين خراس???ان وبالد الص???ين‪ ،‬وليس في أجن???اس ال???ترك‬
‫وأنواعهم في وقتن?ا ه?ذا وه?و س?نة اثن?تين وثالثين وثلثمائ?ة أش?د منهم بأس?اً‪ ،‬وال‬
‫أكثر منهم شوكة‪ ،‬وال أضبط ملكاً‪ ،‬وملكهم أيرخان‪ ،‬ومذهبهم مذهب المانية‪ ،‬وليس‬
‫في الترك من يعتقد هذا المذهب غيرهم‪ ،‬ومن الترك الكيماكية والبرسخانية والبدية‬
‫والجعري??ة‪ ،‬وأش??دهم بأس??أ الغزي??ة‪ ،‬وأحس??نهم ص??ورة‪ ،‬وأط??ولهم قأم??ة‪ ،‬وأص??بحهم‬
‫وجوهاً‪ :‬الخزلجي??ة‪ ،‬وهم أه??ل بالد فرغان??ة والش?اش وم??ا يلي ذل??ك الص??قع‪ ،‬وفيهم‬
‫كان ال ُم ْل ُك‪ ،‬ومنهم خاف الخواقين‪ ،‬وكان يجم??ع ملك??ه س??ائر ممال??ك ال??ترك‪ ،‬وتنق??اد‬
‫إ‪.‬ليه ملوكها‪ ،‬ومن هؤالء الخواقين كان فراسياب التركي الغ??الب على بالد ف??ارس‪،‬‬
‫ومنهم س??انة‪ ،‬ولخاق??ان ال??ترك في وقتن??ا ه??ذا تنق??اد مل??وك ال??ترك كلهم من??ذ خ??ربت‬
‫المدينة المعروفة بعمات‪ ،‬وهي في مفاوز سمرقند‪ ،‬وقد ذكرنا انتقال الملك عن هذه‬
‫صفحة ‪69 :‬‬

‫المدينة‪ ،‬والسبب في ذلك في كتابنا المترجم بالكتاب األوسط‪ ،‬ولحق فري??ق من ول??د‬
‫عابور بتخوم الهند‪ ،‬فأثرت فيهم تلك البقاع فصارت أل??وانهم بخالف أل??وان ال??ترك‪،‬‬
‫?ر َو َب??وادٍ‪ ،‬وس??كن فري??ق منهم ببالد التبت‪ ،‬وملك??وا‬
‫ولحقوا بألوان الهند‪ ،‬ولهم َحض? َ‬
‫وس?مى‬‫عليهم ملكا ً وكان ينقادإلى ملك خاقان‪ ،‬فلما زال ملك خاقان على م??ا ق??دمنا‪َ ،‬‬
‫أهل التبت ملكهم بخاقان تشبيهأ بمن تقدم من ملوك الترك وخاقان الخواقين‪.‬وس??ار‬
‫الجمهور من ولد عابور على ساحل البحر حتى انتهواإلى أقاصيه من بالد الص??ين‪،‬‬
‫ومص ?روا األمص??ار‬
‫َّ‬ ‫فتفرقوا في تلك البقاع والبالد‪ ،‬وقطنوا ال??ديار و ًك??وروا ال ُك? َ?و َر‪،‬‬
‫و ًمذنوا المدن‪ ،‬واتخفا لمملكتهم مد عظيم??ة‪ ،‬وس ? َّم ّوها انم??وا‪ ،‬وبينه??ا وبين س??احل‬
‫البحر الحبشي وهو بحر الصين مسافة ثالثة أشهر مدن وعمائر متصلة‪.‬‬

‫ملك نسطرطاس‬
‫وكان أول ملك تملك عليهم في ه??ذه ال??ديار وهي انم??وا نس??طرطاس بن ب??اعوربن‬
‫مدتج بن عابور بن يافث بن نوح‪ ،‬فكان ملكه ثلثمائة س??نة ونيف?اً‪ ،‬وف??رق أهل??ه في‬
‫ش ًقق األنهار‪ ،‬وقت السباع‪ ،‬وغرس األشجار وأطعم الثمار‪ ،‬وهلك‪.‬‬ ‫تلك الديار‪ ،‬و َ‬

‫ملك عوون‬
‫فملك ولد له ُيقال له عوون فجعل جس??د أبي??ه في تمث??ال من ال?ذهب ألحم??ر جزع?ا ً‬
‫صع ب??الجواهر وجع??ل‬ ‫عليه‪ ،‬وتعظيما ً له‪ ،‬وأجلسه على سرير من الذهب األحمر َ‬
‫مر َّ‬
‫مجلسه دونه‪ ،‬وأقبل يسجد ألبيه وهو في جوف تل??ك الص??ورة‪ ،‬ه??و وأه??ل مملكت??ه‪،‬‬
‫في طرفي النهار إجالالً له‪ ،‬وعاش بعد أبيه‪،‬مائتي? سنة وخمسين سنة‪ ،‬وهلك‪.‬‬

‫ملك عيثدون‬
‫فمل?ك ول?د ل?ه يق?ال ل?ه عيث??دون فجع?ل جس?د أبي??ه مخزون?ا ً في تمث??ال من ال?ذهب‬
‫رص? َع ُه ب??أنواع الج??واهر‬
‫األحمر‪ ،‬وجعله دون مرتبة ج??ده على س??رير من ال??ذهب َو َّ‬
‫س?نَ‬
‫وأح َ‬
‫وكان يسجد ل??ه‪ ،‬ويب??دأ بج??ده األول ثم بأبي??ه‪ ،‬وأه??ل مملكت??ه يس??جدون ل??ه ْ‬
‫السياس??ة للرعي??ة‪ ،‬وس? َّ?واهم في جمي??ع أم??ورهم‪ ،‬وش??ملهم‪ ،‬بالع??دل‪ ،‬فك??ثر النس??ل‬
‫وأخصبت األرض فكان ملكه إلى أن هلك نحواً من مائتي سنة‪.‬‬

‫ملك غيثنان‬
‫ثم ملك بعدهولده غيثنان فجعل أباه في تمثال من الذهب األحمر جرى فيه على ما‬
‫سلف من أفعالهم من السجود والتعظيم‪ ،‬وطال ملكه واتصلت بالده ببالد ال??ترك من‬
‫بني عمه‪ ،‬فعاش أربعمائ??ة س??نة‪ ،‬واتخ??ذ في أيام??ه كث??يراً من المهن مم??ا لط??ف في‬
‫الدور من الصنائع‪.‬‬

‫صفحة ‪70 :‬‬

‫ملك حراتان‬

‫وملك بعمه ولده حراتان فأحدث الفلك وحم??ل فيه??ا الرج??ال‪ ،‬وحم??ل لط??ائف بالد‬
‫الصين‪ ،‬وصيرها نحو الس??ند والهن??د إلى إقليم باب??ل وإلى س?ائر الممال??ك مم??ا ق??رب‬
‫منها َو ُبعدَ في البحر‪ ،‬وأهدى الهدايا العجيبة والرغائب النفيسة إلى الملوك وأمرهم‬
‫أن يجلبوا إليه ما في كل بلد من الطرائف والتحف من المآكل والمشارب والمالبس‬
‫وسائر الفُ ُرش‪ ،‬وأن يعرفا سياسة كل ملك وك??ل أم??ة وش??ريعتها و َن ْهجه??ا ال??ذي هي‬
‫يرغبوا الناس فيما في بلدانهم من الجواهر والطيب والآلالت ة فتف??رقت‬ ‫عليه‪ ،‬وأن ِّ‬
‫المراكب في البالد‪ ،‬ووردوا الممالك لما أم??روا ب??ه‪ ،‬فلم ي??ردوا على أه??ل مملك??ة إال‬
‫وأعجب??وا بهم‪ ،‬واس??تطرفا م??ا أوردوه من أرض??هم‪ ،‬فبنت المل??وك المطيف??ة بالبح??ار‬
‫ِب‪ ،‬وجهزت نحوهم السفن‪ ،‬وحمل??وا إليهم م??ا ليس عن??دهم‪ ،‬وك??اتبوا ملكهم‪،‬‬ ‫المراك َ‬
‫وكافأوه على ما كان من هداياه إليهم‪ ،‬فعمرت بالد الصين‪ ،‬واس??تقامت ل??ه األم??ور‪،‬‬
‫فكان عمره نحواً من مائتي? سنة فهلك‪ ،‬فج?زع علي?ه أه?ل مملكت?ه وأق?اموا النياح?ة‬
‫عليه شهراً‪.‬‬

‫ملك توتال‬
‫ثم فزعوا إلى األكبر من أوالده فصيروه عليهم ملكاً‪ ،‬فجع??ل جس??د أبي??ه في تمث??ال‬
‫طريق َمنْ كان قبله في فعلهم مقتديا ً بمن مضى من آبائه‪ ،‬وك?ان‬ ‫َ‬ ‫من الذهب‪ ،‬وسلك‬
‫اسم هذا الملك توتال فاستقامت له االمور وأحدث من السنن المحمودة ما لم يحدثه‬
‫أحد ممن س??لف من مل??وكهم وزعم أن المل??ك ال يثبت إال بالع??دل ف??إن الع??دل م??يزان‬
‫الرب‪ ،‬وإن من العدل الزيادة في اإلِحسان مع الزيادة في العم??ل وحص??ن‪ ،‬وش??رف‪،‬‬
‫ووقفهم على طرائقهم‪ ،‬وخ??رج يرت??اد موض??عا ً ليب??ني‬
‫ِ‬ ‫وتوج ورتب الناس في رتبهم‬
‫فيه هيكالً‪ ،‬فافى موضعا ً عامراَ بالنبات حسن االعتمام ب?الزهر تخترق?ه المي?اه فح?ط‬
‫الهيكل‪ ،‬وجلبت له أنواع األحجار المختلفة األلوان فشيد الهيك??ل وجع??ل على عل??وه‬
‫قب??ة‪ ،‬وجع??ل له??ا مخ??ارج لله??واء متس??اوية‪ ?،‬ونص??ب فيه??ا بيوت ?ا ً لمن أراد التف??رد‬
‫بالعبادة فلما فرغ منها نصب في أعالها تل?ك التماثي??ل ال?تي فيه?ا أجس?ام من س?لف‬
‫من آبائه‪ ،‬وأمر بتعظيمها‪ ،‬وجمع الخواص من أهل مملكت??ه وأخ??برهم أن من رأي??ه‬
‫ضم الناس إلى ديانة يرجعون إليها لجمع‬

‫الشمل وتساوي النظام‪ ،‬فإن??ه م??تى ع?دم المل??ك الش??ريعة لم ي??ؤمن علي??ه الخل??ل‪،‬‬
‫ودخول الفساد والزلل‪ ،‬فرتب لهم سياس??ة ش??رعية‪ ،‬وف??رائض عقلي??ة‪ ،‬وجعله??ا لهم‬
‫صاصا ً في األنفس واألعضاء‪ ،‬ومس??تحالت من??اكح يس??تباح? به??ا‬ ‫ِر َباطاً‪ ،‬ورتب لهم قِ َ‬
‫النسوان‪ ،‬وتصح بها األنساب‪ ،‬وجعله?ا م?راتب فمنه?ا ل?وازم موجب?ة َي ْح َر ُج?ون من‬
‫ت لخالقهم تقربا ً لمعب??ودهم‪:‬‬‫تركها‪ ،‬ومنها نوافل يتنفلون بها‪ ،‬وأوجب عليهم صلوا ِ‬
‫منها إيماء ال ركوع فيه??ا وال س??جود في أوق??ات من اللي??ل والنه??ار معلوم??ة‪،‬ومنه??ا‬
‫من السنة والشهور محدودة‪ ،‬ورس??م لهم أعي??اداً‪ ،‬وجع??ل‬ ‫بركوع وسجود في أوقات ِ‬
‫على الز َناة منهم حداَ‪ ،‬وعلى من أراد من نسائهم البغاء جزية مفروضة‪ ?،‬وأن ال‬
‫صفحة ‪71 :‬‬

‫يس??جن النك??اح إال في وقت من األوق??ات‪ ،‬وإن أقلعن عم??ا كن علي??ه تك??ف الجزي??ة‬
‫عنهن‪ ،‬وما يكون من أوالدهن ذكوراً يك??ون للمل??ك عبي??داً و ُج ْن??داً‪ ،‬وم??ا يك??ون محن‬
‫?رهم بق??رابين للهياك??ل ودخن‪،‬‬ ‫أوالدهن إناث ?اً‪ ،‬مألمه??اتهنّ ‪ ،‬ويلحقن بص??نعتهن‪ ،‬وأم? ِ‬
‫وأبخرة للكواكب‪ ،‬وجعل لك?ل ك?وكب منه?ا وقت?ا َ بتق?رب إلي?ه في?ه ب?دخن معل?وم من‬
‫أنواع الطيب والعقاقير‪ ،‬وأحكم لهم جميع األم?ور‪ ،‬فاس?تقامت أيام?ه‪ ،‬وك?ثر النس?ل‪،‬‬
‫فكانت حياته نحواً من مائة وخمس??ين س??نة‪ ،‬وهل??ك‪ ،‬فجزع??وا علي??ه جزع?ا ً ش??ديداً‪،‬‬
‫ص?عوه ب??أنواع الج??واهر‪ ،‬وبن??وا ل??ه هيكالً‬ ‫ور َّ‬
‫فجعلوه في تمث??ال من ال??ذهب األحم??ر َ‬
‫عظيماً‪ ،‬وجعلوا س??قفه س??بعة أل??وان من الج??وهر على أن??واع الك??واكب الس??بعة من‬
‫النيرين والخمسة بألوانها وأشكالها‪ ،‬وجعلوا يوم وفات??ه ص??لوات وعي??داً يجتمع??ون‬
‫فيه كلند ذلك الهيكل‪ ،‬وصوروا صورته على أبواب المدينة وعلى ال??دنانير الفل??وس‬
‫الفلوس الصفر والنحاس‪ ،‬فاستقرت هذه المدينة? ب??دار‬ ‫ُ‬ ‫وعلى الثياب‪ ،‬وأكثر أموالهم‬
‫ملك الصين‪ ،‬وهي مدينة? انموا‪ ،‬وبينها وبين البحر نحومن ثالث??ة أش??هر وأك??ثر من‬
‫ذلك على حسب ما قدمنا آنفاً‪ ،‬ولهم مدينة? عظيمة نح??و م??ا يلي من أرض??هم مغ??رب‬
‫التبت‪ ،‬والحرب بين بالد التبت وأه??ل الم??د ِس ? َجال‬ ‫َ‬ ‫الشمس‪ُ ،‬يقال لها مد‪ ،‬وتلي بالد‬
‫ٌ‪.‬فلم تزل الملوك ممن ط??رأ بع??د ه??ذا المل??ك أم??ورهم منتظم??ة وأح??والهم مس??تقيمة‪،‬‬
‫والخصب والعدل لهم شامل‪ ،‬والجور في بالدهم معدوم‪ ،‬يقتدون بم??ا نص?به? لهم من‬
‫الش??رع َمنْ ق??دمنا ذك??رهم‪ ،‬وح??روبهم على ع??دوهم قائم??ة‪ ،‬وثغ??ورهم مش??حونة‪?،‬‬
‫دار‪ ،‬والتجار يختلفن إليهم في البر والبحر من كل بل??د ب??أنواع‬ ‫والرزق على الجنود ُّ‬
‫الجه??از‪ ،‬ودينهم دين َمنْ س??لف‪ ،‬وهي مل??ة ت??دعى الس??منية‪ ?،‬عب??اداتهم نح??و من‬
‫عبادات قريش قبل مجيء اإلِسالم‪ :‬يعبدون الصور‪ ،‬ويتوجهون نحوها بالص??لوات‪،‬‬
‫واللّ??بيب منهم يقص??د بص??الته الخ??الق‪ ،‬ويقيم التماثي??ل من األص??نام والص??ور مق??ام‬
‫قِ ْب َل??ة‪ ،‬والجاه??ل منهم و َمنْ ال علم ل??ه يش??رك األص??نام بإلهي??ة الخ??الق‪ ،‬ويعتق??دهما‬
‫جميعاً‪ ،‬وأن عبادتهم األصنام تقربهم إلى هّللا ُز ْل َفى‪ ،‬وأن منزلتهم في العب??ادة تنقص‬
‫عن عبادة البارىء لجاللته وعظمته? وسلطانه‪ ،‬وأن عب??ادتهم له??ذه األص??نام طاع??ة‬
‫له ووسيلة إليه‪ ،‬وهذا الدين كان ب??دء ظه??وره في خواص??هم من الهن??د لمج??اورتهم‬
‫إياهم‪ ،‬وهو رأي الهند في الع??الم والجاه??ل على حس??ب م??ا ذكرن??ا في أه??ل الص??ين‪،‬‬
‫ولهم آراء ونحل حدثت عن مذاهب الثنوية? وأهل الدهر‪ ،‬فتغيرت أحوالهم‪ ،‬وبحثوا‪،‬‬
‫وتن??اظروا‪ ،‬إال أنهم ينق??ادون في جمي??ع أحك??امهم إلى م??ا نص??ب لهم من الش??رائع‬
‫المقدمة‪ ،‬ومن حيث إن ُم ْلكهم متصل? بمل??ك الطغرغ??ر على حس??ب م??ا تق??دم ص??اروا‬
‫على آرائهم من اعتقادهم مذاهب المانية والقول بالنور والظلمة‪ ،‬وقد كانوا جاهلية‬
‫سبيلُهم في االعتق??اد س??بيل ُ ال??ترك‪ ،‬إلى أن وق??ع لهم ش??يطان من ش??ياطين الماني??ة‪?،‬‬
‫فزخرف لهم كالما ً يريهم في?ه تض??اد م??ا في ه?ذا الع?الم وتباين??ه‪ ?:‬من م?وت وحي?اة‪،‬‬
‫وصحة وسقم‪ ،‬وضياء وظالم‪ ،‬وغنى وفقر‪ ،‬واجتماع وافتراق‪ ،‬وإتصال وانفص??ال‪،‬‬
‫وشروق وغروب‪ ،‬ووجود وعدم‪ ،‬وليل ونه??ار‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من س??ائر المتض??ادات‪،‬‬
‫وذكر لهم أنواع اآلالم المعترضة ألجناس الحيوان من الناطقين وغ??يرهم مم??ا ليس‬
‫والمجانين‪ ،‬وأن الب??ارىء ج??ل وع? ّ‬
‫?ز‬ ‫ِ‬ ‫بناطق من البهائم‪ ،‬وما يعرض لألطفال وال ُب ْله‬
‫غني عن إيالمهم‪ ،‬وأراهم أن هناك ضداً شديداَ دَ َخل َ على الخير‬
‫صفحة ‪72 :‬‬

‫ش َب ِه عق??و َلهم‪،‬‬ ‫الفاضل في فعله‪ ،‬وهو هّللا ّ‬


‫عزوجلّ‪ ،‬فاجتذب بما وصفنا وغيره من ال ّ‬
‫فدنوا بما وصفنا‪ ،‬فإن كان مل??ك الص??ين ينتمي لم??ذهب ذبح الحي??وان ك??انت الح??رب‬
‫بينه? وبين صاحب الترك أيرخان سِ َجاالً‪ ،‬وإذا كان ملك الصين متنافي الم??ذهب ك??ان‬
‫شاعاً‪ ،‬وملوك الص?ين فو آراء ونح?ل‪ ،‬إِال أنهم م?ع اختالف‬ ‫األمر بينهم في الملك ُم َ‬
‫صب القُ َ‬
‫ض ?اة والحك??ام‪ ،‬وانقي??اد‬ ‫أديانهم غير خارجين عن قضية العقل والحق‪ ،‬في َن ْ‬
‫الخواص والعوام إلى ذلك‪ .‬ونح??ل‪ ،‬إِال أنهم م??ع اختالف أدي??انهم غ??ير خ??ارجين عن‬
‫ضاة والحكام‪ ،‬وانقياد الخواص والعوام إلى ذلك‪.‬‬ ‫صب القُ َ‬
‫قضية العقل والحق‪ ،‬في َن ْ‬

‫بعض عادات الصين‬


‫ش ُعوب وقبائل‪ ،‬كقبائل العرب وأفخاذها وتش??عبها في أنس??ابها‪ ،‬ولهم‬ ‫وأهل الصين ُ‬
‫مراعاة لذلك‪ ،‬وحفظ له‪ ،‬وينسب الرجل منهم إلى خمسين أ َبا َ إلى أن يتص ?ل? بع??ابور‬
‫وأكثر من ذلك وأقل‪ ،‬وال يتزوج? أهل كل فخذ من فخذهبم مثال ذلك أن يكون الرج??ل‬
‫ض??? َر في???تزوج? في ربيع???ة‪ ?،‬أو من ربيع???ة في???تزوج? من مض???ر‪ ?،‬أو من َك ْهالَن‬ ‫من ُم َ‬
‫فيتزوج? في ِح ْم َير‪ ،‬أو من حمير في??تزوج من كهالن‪ ،‬ويزعم??ون أن في ذل??ك ص??حة‬
‫النسل وق??وام البني??ة‪ ،‬وأن??ه أص??ح للبق??اء‪ ،‬وأتم للعم??ر‪ ،‬وأس??با َبا َ ي??ذكرونها نح??و م??ا‬
‫ذكرنا‪.‬فلم تزل أمور الصين مستقيمة في العدل على حسب ما جرى ب??ه األمر فيم??ا‬
‫سلف من ملوكهم إلى سنة? أربع وستين ومائتين؛ فإنه حدث في الملك أم??ر زال ب??ه‬
‫النظام‪ ،‬وانقضت به األحكام والشرائع ومنِع من الجهاد إلى وقتن??ا ه??ذا‪ ،‬وه??و س??نة‬
‫اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ،‬وهوأن نابغا َ نبغ فيهم من غ??ير بيت المل??ك ك??ان في بعض‬
‫مدائن الصين ُيقال له يانشو‪ ،‬وكان شريراً يطلب الفتنة‪ ?،‬ويجتمع إليه أه??ل ال??دعارة‬
‫غفلة عنه‪ ،‬لخمول ذكره‪ ،‬وأنه ممن ال ُيالى به‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأرباب التدبير‬
‫َ‬ ‫والشر‪ ،‬فلحق الملِ َك‬
‫عتوه‪ ،‬وقويت ش??وكته‪ ،‬وقط??ع أه??ل الش??ر المس??افات‬ ‫فاشتد أمره‪ ،‬ونما ذكره‪ ،‬وكثر ُّ‬
‫ش?نَّ الغ?ارات على العم?ائر ح?تى ن??زل‬ ‫نح??وه‪ ،‬وعظم جيش?ه‪ ،‬فس?ار من موض?عه‪َ ?،‬و َ‬
‫مدينة? خانقوا‪ ،‬وهي مدينة عظيمة على نه??ر عظيم أك??بر من دجل??ة يص??ب إلى بح??ر‬
‫الصين‪ ،‬وبين هذه المدينة وبين البحر مسيرة? ستة أيام أو سبعة‪ ،‬ت??دخل ه??ذا النه??ر‬
‫سفن التجار الواردة من بالد البصرة وسيراف وعمان ومدن الهند وجزائ??ر ال??زابج‬
‫والصنف وغيرها من الممالك باألمتعة والجهاز‪ ،‬وتقرب إلى مدين?ة? خ??انقوا‪ ،‬وفيه??ا‬
‫خالئق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس‪ ،‬وغير ذل??ك من أه??ل الص??ين‬
‫فقصد هذا العدو إلى هذه المدينة فحاصرها‪ ،‬وأتته جيوش الملك فهزمها‪ ،‬واس??تباح‬
‫?وة‪ ،‬وقت??ل من أهله??ا خلق ?ا ً ال‬ ‫م??ا فيه??ا‪ ،‬فك??ثرت جن??وده‪ ،‬وافتتح? مدين??ة خ??انقوا َع ْن? َ‬
‫ص ْونَ ك??ثر ًة‪ ،‬وأحص??ى من المس??لمين والنص??ارى واليه??ود والمج??وس ممن قت??ك‬ ‫ُي ْح َ‬
‫وغرق خوف السيف فكان مائتي ألف‪ ،‬وإنما أحص?ى م?ا ذكرن?اه من ه?ذا الع?دد ألن‬
‫مل??وك الص??ين تحص??ي َمنْ في مملكته??ا من رعيته??ا‪ ،‬وك??ذا َمنْ جاوره??ا من األمم‬
‫ب ق??د و ِّكل??وا بإحص??اء ذل??ك لم??ا يراع??ون من‬ ‫ليصير ذم??ة له??ا في دواوين له??ا‪ ،‬ب ُك َّتا ِ‬
‫هذا الع??دو م??ا ك??ان ح??ول مدين??ة خ??انقوا من غاب??ات‬ ‫حياطة َمنْ شمِلد ملكهم‪ ،‬و َق َطع َ‬
‫شجر التوت إذ كان يحتفظ به لما يكون من ورقه‪ ،‬وما يطعم منه لدود القز الذي‬
‫صفحة ‪73 :‬‬

‫ينتج? منه? الحرير‪ ،‬فكان ذهاب الش??جر داعي?ا ً إلى انقط??اع الحري??ر الص??يني وجه??ازه‬
‫إلى ديار اإلِسالم‪.‬وسار يانشو بجيوشه? إلى بلد بلد فافتتح??ه‪ ،‬وانض??اف إلي??ه أمم من‬
‫الن??اس ممن يطلب الش??ر والنهب وغ??يرهم ممن يخ??اف على نفس??ه‪ ،‬وقص??د مدين??ة‬
‫أنم??وا‪ ،‬وهي دار المل?ك‪ ،‬فخ?رج إلي?ه المل?ك في نح??و مائ??ة أل?ف ممن بقي مع??ه من‬
‫خواصه والتقى ه??و ويانش??و وك??انت الح??رب بينهم? س??جاالً نح??واً من ش??هر‪ ،‬وص??بر‬
‫الفريق??ان جميع??اً‪ ،‬ثم ك??انت على المل??ك فلَّى منهزم??اً‪ ،‬وأمعن الخ??ارجي في طلب??ه‪،‬‬
‫الح? ْو َزة‪،‬‬
‫فانح??از المل??ك إلى مدين??ة في أط??راف أرض??ه‪ ،‬واس??تولى الخ??ارجي على َ‬
‫واحتوى على ديار الملك‪ ،‬وملك خزائن الملوك السالفة‪ ،‬وما أعحوه للنوائب‪ ،‬وشن‬
‫الغ??ارات في س??ائر العم??ارات‪ ،‬وافتتح الم??دن‪ ،‬وعلم أن ال ق??وام ل??ه بالمل?ك؛ إذ ك??ان‬
‫وس? ْفك ال??دماء‪ ،‬وك??اتب‬
‫ليس من أهله‪ ،‬فأمعن في خراب البالد واس??تباحة األم??وال‪َ ،‬‬
‫مل? ُك الص??ين من المدين??ة ال??تي انح??از إليه??ا ال ًم َتاخم??ة لبالد التبت‪ ،‬وهي مدين?ة? م??د‬
‫المتقدم ذكرها‪َ ،‬ملِ َك الترك ابن خاقان فاستنجده‪ ،‬وأعلم??ه م??ا ن??زل ب??ه‪ ،‬وأعلم??ه م??ا‬
‫يلزم الملوك من الواجبات إذا استنجدها إخوانها من الملوك‪ ،‬وأن ذل??ك من ف??رائض‬
‫الملك وواجباته‪ ،‬فأنجده ابن خاقان بولد له بنحو من أربعمائة أل??ف ف??ارس ورج??ل‪،‬‬
‫وقد استفحل أمر يانشو‪ ،‬فالتقى الفريقان جميعاً‪ ،‬فكانت الح??رب بينهم س??جاالً نح??واً‬
‫من سنة‪ ،‬وتفانى من الفريقين خلق كثير‪ ،‬ففقد يانشو‪ ،‬فقي?ل‪ :‬إن?ه قت??ل‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن?ه‬
‫أحرق‪ ،‬وأس??ر ول??ده والخ??واص من أص??حابه‪ ،‬وس??ار مل??ك الص??ين إلى دار المملك??ة‬
‫وعاد إلى ملكه والعأمة تسمية يعبور‪ ،‬وتفسير ذل??ك ابن الس??ماء تعظيم?ا ً ل??ه‪ ،‬وه??و‬
‫االس??م األخص لمل??وك الص??ين‪ ،‬وال??ذي يخ??اطبون ب??ه جميع?ا ً جح??ان‪ ،‬وال يخ??اطبون‬
‫بيعبور‪ ?،‬وتغلَّ َب ك??ل ص??احب ناحي??ة من عمل??ه على ناحيت??ه‪ ،‬كتغلب مل??وك الطوائ??ف‬
‫حين َق َتل َ اإلِسكندر بن فيلبوس المقدوني دارا بن دارا ملك فارس‪ ،‬وكنح??و م??ا نحن‬
‫بسبيله? في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪-‬فرضي مل??ك الص??ين منهم‬
‫يتأت له المس??ير إلى س??ائر أعمال??ه‪ ،‬وال محارب??ة‬ ‫ّ‬ ‫بالطاعة له‪ ،‬ومكاتبته بالملك‪ ،‬ولم‬
‫من تغلب على بالده‪ ،‬وقن?ع بم?ا وص?فنا‪ ،‬وامتن?ع َمنْ ذكرن?ا من حم?ل األم?وال إلي?ه‬
‫فتاركهم مسالما ً لهم‪ ،‬وعدا كل فريق منهم على م??ا يلي??ه على حس??ب قوت??ه وتمكن??ه‬
‫فعدم انتظام الملك واستقامته? على حسب ما سلف من ملوكهم‪.‬وق??د ك??ان لمن س??لف‬
‫من ملوكهم س??ير وسياس??ات للمل??ك‪ ،‬وانقي??اد للع??دل‪ ،‬على حس??ب م??ا توجب??ه قض??ية‬
‫العقل‪.‬وحكي أن رجالً من التجار من أهل مدين??ة س??مر قن??د من بالد خراس??ان خ??رج‬
‫من بالده‪ ،‬ومعه متاع كثير‪ ،‬حتى انتهى إلى الع??راق‪ ،‬فحم??ل من جه??ازه‪ ،‬وانح??در‬
‫إلى البص??رة‪ ،‬وركب البح??ر ح??تى أتى إلى بالد عم??ان‪ ،‬وركب إلى بالد كل??ة‪ ،‬وهي‬
‫النص??ف من طري??ق الص??ين أو نح??و ذل??ك‪ ،‬وإليه??ا تنتهي م??راكب أه??ل اإلِس??الم من‬
‫السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت فيجتمعون م??ع من ي??رد من أرض الص??ين في‬
‫مراكبهم‪ ،‬وقد كانوا في بدء الزمان بخالف ذلك‪ ،‬وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي‬
‫بالد عمان وسيراف وساحل فارس وساحل البحرين واألبلة والبصرة وك??ذلك ك??انت‬
‫ع?دم الع?دل وفس?دت‬ ‫ٍ‬ ‫المراكب تختلف من المواضع التي ذكرن?ا إلى م?ا هن?اك‪ ،‬ولم?ا‬
‫النيات وكان من أمر الصين ما وص??فنا التقى الفريق??ان جميع??ا في ه??ذا النص??ف‪ ،‬ثم‬
‫ركب هذا التاجر من مدينة? كلة في مراكب الصينيين إلى مدينة خانقوا‪َ ،‬وهي‬
‫صفحة ‪74 :‬‬

‫مرسى المراكب على حسب ما ذكرنا آنفاً‪ ،‬وبلغ ملك الصين خبر المراكب وما فيه??ا‬
‫من الجهاز واألمتع??ة فس??رح خص??يا من خ??واص خحم??ه ممن يث??ق ب??ه في أس??بابه‪،‬‬
‫وذل??ك أن أه??ل الص??ين يس??تعملون الخص??يان من الخ??دم في الخ??راج وغ??يره من‬
‫العماالت والمهمات وفيهم من يخصي ولحه طلب?ا ً للرياس??ة واعتق??اد النعم??ة؛ فس??ار‬
‫الخص??ي ح??تى أتى مدين??ة خ??انقوا‪ ،‬وأحض??ر التج??ار ومعهم الت??اجر الخراس??اني‪،‬‬
‫فعرضوا عليه ما احتاج إليه من المتاع وما يصلح له‪ ،‬فسأل الخراساني أن يحض??ر‬
‫متاع??ه فأحض??ره‪ ،‬وج??رت بينهم? محادث??ة‪ ،‬ودار األم??ر في التثمين للمت??اع‪ ،‬ف??أمر‬
‫الخص??ي بس??جن الخراس??اني وإكراه??ه‪ ،‬وذل??ك أن??ه زاده ثق??ة من??ه بع??دل المل??ك‪،‬‬
‫فمضىالخراساني من َق ْوره حتى أتى إلى مدينة? أنموا‪ ،‬وهي دار الملك‪ ،‬فقف موق??ف‬
‫المتظلم‪ ،‬وذل???ك أن المتظلم إذا أتى من البل???د الشاس ??ع أو غ???يره تقمص نوع???ا ً من‬
‫للظألم??ة‪ ،‬وق??درتب بعض مل??وك الن??واحي‬ ‫الحرير األحمر‪ ،‬ووقف موض??عا ً ق??د رس??م ّ‬
‫للقبض على من يرد من المتظلمين‪ ،‬ويقف ذلك الموقف‪ ،‬فيحم??ل مس??يرة ش??هر من‬
‫أرضهم على البريد‪ ،‬ففعل ذلك بالت??اجر الخراس??اني‪ ،‬ووق??ف بين ي??دي ص??احب تل??ك‬
‫الناحية المرتب لما ذكرناه‪ ،‬فأقبل عليه‪ ،‬وقال‪ :‬أيها الرجل لقد تعرضت ألمر عظيم‪،‬‬
‫وخاطرت بنفسك‪ ،‬أنظر إن كنت صادقا ً فيم??ا تخ??بر ب??ه‪ ،‬وإال فإن??ا نقيل??ك ون??ردُّك من‬
‫حيث جئت‪ ،‬وكان هذا خطابه لمن يتظلم‪ ،‬فإن رآه قد جزع وضرع في القول ض??ربه?‬
‫مائة خشبة ورده من حيث جاء‪ ،‬وإن هو صبرعلى م?ا ه??و علي?ه حم??ل إلى حض?رة‬
‫الملك‪ ،‬وأوقف بين يديه‪ ،‬وسمع كالم?ه‪ ،‬فص?مم الخراس?اني في المطالب?ة وال ُّظألم?ة‬
‫ص حديث??ه‬ ‫ض ِرع وال متلجلج‪ ،‬فحم??ل إلى المل?ك‪ ،‬فق??ف بين يدي??ه و َق َّ‬ ‫فرآه محقا ً غير َ‬
‫على الملك‪ ،‬فلم??ا أن أس الترجم??ان إلي??ه م??ا قال??ه وفهم ظالمت??ه أم??ر ب??ه إلى بعض‬
‫المواضع‪ ،‬وأحسن إليه‪ ،‬وأحضر الوزير وصاحب الميمنة? وصاحب القلب وص??احب‬
‫الميسرة‪ ،‬وهم أناس قد رتبوا لذلك عند الملمات وحين الحروب قد عرف ك??ل واح??د‬
‫منهم مرتبته? والمراد منه‪ ،‬ف?أمرهم أن يكتب ك?ل واح?د منهم إلى ص?احبه بالناحي?ة‪،‬‬
‫ولكل واحد منهم خليفة في كل ناحية‪ ،‬فكتبوا إلى أصحابهم بخانقوا أن يكتب??وا إليهم‬
‫بما كان من خبر التاجر والخادم‪ ،‬وكتب الملك خليفته بالناحية بمثل? ذل?ك‪ ،‬وق?د ك?ان‬
‫خبر الخادم والتاجر اشتهر واستفاض‪ ،‬فردت الكتب على بغال البري??د بتص??حيح م??ا‬
‫قاله التاجر‪ ،‬وذاك أن ملوك الصين له??ا في س??ائر الط??رق من أعماله??ا بغ?ال للبري??د‬
‫ُم ْس َرجة محفة األالت لألخبار والخرائط‪ ،‬فبعث الملك فاستحضر الخادم‪ ،‬فلم??ا وق??ف‬
‫بين يديهى العراق‪ ،‬فحمل من جهازه‪ ،‬وانحدر إلى البصرة‪ ،‬وركب البح??ر ح??تى أتى‬
‫إلى بالد عمان‪ ،‬وركب إلى بالد كلة‪ ،‬وهي النصف من طريق الصين أو نح??و ذل??ك‪،‬‬
‫وإليه??ا تنتهي? م??راكب أه??ل اإلِس??الم من الس??يرافيين والعم??انيين في ه??ذا ال??وقت‬
‫فيجتمعون مع من يرد من أرض الص??ين في م??راكبهم‪ ،‬وق??د ك??انوا في ب??دء الزم??ان‬
‫بخالف ذلك‪ ،‬وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي بالد عمان وسيراف وساحل فارس‬
‫وساحل البحرين واألبلة والبصرة وكذلك كانت المراكب تختل?ف من المواض?ع ال?تي‬
‫عدم العدل وفسدت النيات وكان من أمر الصين ما وص?فنا‬ ‫ذكرنا إلى ما هناك‪ ،‬ولما ٍ‬
‫التقى الفريق??ان جميع??ا في ه??ذا النص??ف‪ ،‬ثم ركب ه??ذا الت??اجر من مدين ?ة? كل??ة في‬
‫مراكب الصينيين إلى مدينة? خانقوا‪َ ،‬وهي مرسى المراكب على حسب ما ذكرنا‬
‫صفحة ‪75 :‬‬

‫آنفاً‪ ،‬وبلغ ملك الصين خبر المراكب وما فيه??ا من الجه??از واألمتع??ة فس??رح خص??يا‬
‫من خ??واص خحم??ه ممن يث??ق ب??ه في أس??بابه‪ ،‬وذل??ك أن أه??ل الص??ين يس??تعملون‬
‫الخصيان من الخدم في الخراج وغ??يره من العم??االت والمهم??ات وفيهم من يخص??ي‬
‫ولحه طلبا ً للرياسة واعتقاد النعمة؛ فسار الخصي حتى أتى مدينة? خانقوا‪ ،‬وأحض??ر‬
‫التجار ومعهم الت??اجر الخراس??اني‪ ،‬فعرض??وا علي??ه م??ا احت??اج إلي??ه من المت??اع وم??ا‬
‫يصلح ل??ه‪ ،‬فس??أل الخراس??اني أن يحض??ر متاع??ه فأحض??ره‪ ،‬وج??رت بينهم محادث??ة‪،‬‬
‫ودار األمر في التثمين للمتاع‪ ،‬فأمر الخصي بسجن الخراساني وإكراهه‪ ،‬وذلك أن??ه‬
‫زاده ثقة منه? بعدل المل??ك‪ ،‬فمضىالخراس??اني من َق? ْ?وره ح??تى أتى إلى مدين?ة? أنم??وا‪،‬‬
‫وهي دار الملك‪ ،‬فقف موقف المتظلم‪ ،‬وذلك أن المتظلم إذا أتى من البلد الشاسع أو‬
‫غيره تقمص نوعا ً من الحرير األحمر‪ ،‬ووقف موضعا ً ق??د رس??م لل ّظألم??ة‪ ،‬وق??درتب‬
‫بعض مل??وك الن??واحي للقبض على من ي??رد من المتظلمين‪ ،‬ويق??ف ذل??ك الموق??ف‪،‬‬
‫فيحمل مسيرة شهر من أرضهم على البريد‪ ،‬ففعل ذلك بالتاجر الخراس??اني‪ ،‬ووق??ف‬
‫بين يدي صاحب تلك الناحية المرتب لما ذكرناه‪ ،‬فأقبل عليه‪ ،‬وقال‪ :‬أيها الرجل لقد‬
‫تعرضت ألمر عظيم‪ ،‬وخاطرت بنفسك‪ ،‬أنظر إن كنت صادقا ً فيما تخبر به‪ ،‬وإال فإنا‬
‫نقيلك ونر ُّد ك من حيث جئت‪ ،‬وكان هذا خطابه لمن يتظلم‪ ،‬فإن رآه قد جزع وضرع‬
‫في القول ضربه مائة خشبة ورده من حيث جاء‪ ،‬وإن ه??و ص??برعلى م??ا ه??و علي??ه‬
‫حمل إلى حض?رة المل?ك‪ ،‬وأوق?ف بين يدي?ه‪ ،‬وس?مع كالم?ه‪ ،‬فص?مم الخراس?اني في‬
‫ض? ِرع وال متلجلج‪ ،‬فحم??ل إلى المل??ك‪ ،‬فق??ف بين‬ ‫المطالبة وال ُّظألمة فرآه محقا ً غير َ‬
‫ص حديثه على الملك‪ ،‬فلما أن أس الترجمان إليه ما قاله وفهم ظالمته أمر‬ ‫يديه و َق َّ‬
‫به إلى بعض المواضع‪ ،‬وأحسن إليه‪ ،‬وأحض??ر ال?وزير وص??احب الميمن?ة? وص??احب‬
‫القلب وصاحب الميسرة‪ ،‬وهم أناس قد رتبوا لذلك عند الملمات وحين الح??روب ق??د‬
‫عرف ك??ل واح?د منهم مرتبت??ه والم??راد من??ه‪ ،‬ف??أمرهم أن يكتب ك??ل واح?د منهم إلى‬
‫ص??احبه بالناحي??ة‪ ،‬ولك??ل واح??د منهم خليف??ة في ك??ل ناحي??ة‪ ،‬فكتب??وا إلى أص??حابهم‬
‫بخ??انقوا أن يكتب??وا إليهم بم??ا ك??ان من خ??بر الت??اجر والخ??ادم‪ ،‬وكتب المل??ك خليفت??ه‬
‫بالناحية بمثل ذلك‪ ،‬وقد كان خبر الخادم والت??اجر اش??تهر واس??تفاض‪ ،‬ف??ردت الكتب‬
‫على بغال البري??د بتص??حيح? م??ا قال??ه الت??اجر‪ ،‬وذاك أن مل??وك الص??ين له??ا في س??ائر‬
‫الط??رق من أعماله??ا بغ??ال للبري??د ُم ْس ? َرجة محف??ة األالت لألخب??ار والخرائ??ط‪ ،‬فبعث‬
‫س َلبه ما ك??ان أنعم ب??ه علي??ه‪ ،‬ثم ق??ال‬
‫الملك فاستحضر الخادم‪ ،‬فلما وقف بين يديه َ‬
‫له‪ :‬عمدت إلى رجل تاجر قد خرج من بلد شاسع‪ ،‬وقطع مسالك‪ ،‬واجتاز بملوك في‬
‫بر وبحر‪ ،‬فلم يتعرض له‪ ،‬يؤمل الوصول إلى مملكتي ثقة منه بعدلي‪ ،‬ففعلت به م??ا‬
‫فعلت‪ ،‬وكان ينصرف? عن ملكي‪ ،‬ويقبح? األحدوثة عن سيرتي‪ ?،‬أما لوال قديم حرمتك‬
‫بنا لقتلتك‪ ،‬لكن أعاقبك بعقوبة إن عقلت فإنها أكبر من القتل‪ ،‬وهو أن أوليك مق??ابر‬
‫الموتى من الملوك السالفة‪ ،‬أن عجزت عن تدبير األحي??اء والقي??ام بم??ا إلي??ه ن??دبت‪،‬‬
‫وأحسن الملك إلى التاجر‪ ،‬وحمله إلى خانقوا‪ ،‬وقال له‪ :‬إن س??محت نفس??ك أن ت??بيع‬
‫منا م??ا اخت??ير لن??ا من متاع??ك ب??الثمن الجزي??ل‪ ،‬وإال ف??أنت المح َّكم في مال??ك‪ ،‬أقم إذا‬
‫وص ? َرف الخ??ادم إلى مق??ابر‬‫ش??ئت‪ ،‬وب??ع كي??ف ش??ئت‪ ،‬وانص??ر راش??داً حيث ش??ئت‪َ ،‬‬
‫الملوك‪.‬قال المسعودي‪ :‬ومن طرائف أخبار ملوك الصين أن رجالً من قريش من‬
‫صفحة ‪76 :‬‬

‫ولد َه َّباربن األسود لما كان من أمر صاحب الزنج بالبصرة ما كان واش??تهر‪ ?،‬خ??رج‬
‫هذا الرجل من مدينة? س??يراف‪ ،‬وك??ان من أرب??اب البص??يرة وأرب??اب النعم به??ا‪ ،‬وفي‬
‫األحوال الحس??نة‪ ?،‬ثم ركب منه??ا في بعض م??راكب بالد الهن??د‪ ،‬ولم ي??زل يتح??ول من‬
‫مركب إلى مركب‪ ،‬ومن بل??د إلى بل??د‪ ،‬يخ??ترق ممال??ك الهن??د‪ ،‬إلى أن انتهى إلى بالد‬
‫الصين فصار إلى مدينة خانقوا‪ ،‬ثم دعته همته إلى أن ص??ار إلى دار مل??ك الص??ين‪،‬‬
‫وكان المل?ك يومئ?ذ بمدين??ة حم?دان‪ ،‬وهي من كب?ار م?دنهم‪ ،‬ومن عظيم أمص?ارهم‪،‬‬
‫فأقام بباب الملك مدة طويلة يرفع الرقاع ويذكرأنه من أهل بيت نبوة الع??رب‪ ،‬ف??أمر‬
‫الملك بعد هذه المدة الطويل??ة بإنزال?ه في بعض المس??اكن وإزاح?ة العل?ة من أم??وره‬
‫وجميع ما يحتاج إليه‪ ،‬وكتب إلى الملك المقيم بخانقوا يأمره بالبحث عنه‪ ،‬ومس??ألة‬
‫التجار عما يدعيه الرجل من قرابة نبي العرب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فكتب ص??احب‬
‫خانقوا بصحة نسبه‪ ،‬فأذن له في الوصول إليه‪ ،‬ووص??له بم??ال واس??ع‪ ،‬وأع??اده إلى‬
‫العراق‪ ،‬وكان شيخا ً فهم?اً‪ ،‬أخ??بر أن??ه لم??ا وص??ل إلي??ه‪ ،‬وس??أله عن الع??رب‪ ،‬وكي??ف‬
‫باهلل عز وجل‪ ،‬وما كانت العجم عليه من عبادة النيران‬ ‫أزالوا ملك العجم‪ ،‬ف ّمال له‪ّ :‬‬
‫والسجود للشمس والقمر من دون هللا عز وج??ل‪ ،‬فق??ال ل??ه‪ :‬لق??د غلبت الع??رب على‬
‫أجل ِّ الممالك‪ ،‬وأنفسها‪ ،‬وأوسعها َريعاً‪ ،‬وأكثره??ا أم??واالً‪ ،‬وأعقله??ا رج??االً‪ ،‬وأه??داها‬
‫َ‬
‫بهم علم‪ ،‬فق?ال‬ ‫صوتاً‪ ،‬ثم ق?ال ل?ه‪ :‬فم?ا منزل?ة س?ائر المل?وك عن?دكم‪ .‬فق?ال‪ :‬م?ا لي ِ‬
‫للترجمان قل له‪ :‬إنا نع ُّد الملوك خمسة‪ ،‬فأوسعهم ملكا َ الذي يملك العراق‪ ،‬ألن??ه في‬
‫وسط الدنيا‪ ،‬والملوك ُم ْح ِد َقة به‪ ،‬ونجد اسمه ملك الملوك‪ ،‬وبعده ملكنا هذا‪ ،‬ونج??ده‬
‫عندنا ملك الناس‪ ،‬ألنه ال أحد من الملوك أسوس منا‪ ،‬وال أضبط لملك??ه من ض??بطنا‬
‫لملكنا‪ ،‬وال رعية من الرعايا أط??وع لملكه??ا من رعيتن??ا‪ ،‬فنحن مل??وك الن??اس‪ ،‬ومن‬
‫بعده ملك السباع‪ ،‬وهو ملك الترك ال??ذي يلين??ا‪ ،‬وهم س??با ُع اإِل ْنس‪ ،‬ومن بع??ده مل??ك‬
‫الذي َلةِ‪ ،‬وهو ملك الهند‪ ،‬ونج??ده عن??دنا مل??ك الحكم??ة أيض?اً‪ ،‬ألن أص??لها منهم‪ ،‬ومن‬
‫بع??ده مل??ك ال??روم‪ ،‬وه??و عن??دنا مل??ك الرج??ال‪ ،‬ألن??ه ليس في األرض أتم خلق ?ا ً من‬
‫رجاله‪ ،‬وال أحسن وجوها ً منهم‪ ،‬فه??ؤالء أعي??ان المل??وك‪ ،‬والب??اقون دونهم‪ ،‬ثم ق??ال‬
‫للترجمان‪ :‬قل له‪ :‬أتعرف صاحبك إن رأيته‪ ?.‬يعني رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم‪،‬‬
‫ع?ز وج?لّ‪ .‬فق?ال‪ :‬لم أرد ه?ذا‪ ،‬وإنم?ا‬ ‫ّ‬ ‫قال القرشي‪ :‬وكيف لي برؤيته وه??و عن?د هّللا‬
‫بس َفطٍ فأخرج فضع بين يديه‪ ،‬فتن??اول من??ه درج?اً‪،‬‬ ‫أردت صورته‪ ،‬فقلت‪ :‬أجل‪ ،‬فأمر َ‬
‫?فتي‬
‫?ركت ش? َّ‬‫وق??ال للترجم??ان‪ :‬أره ص??احبه‪ ،‬ف??رأيت في ال??درج ص??ور األنبي??اء‪ ،‬فح? ُ‬
‫س? ْله عن تحريك??ه‬ ‫بالصالة عليهم‪ ،‬ولم يكن عن??دهم أني أع??رفهم‪ ،‬فق??ال للترجم??ان‪َ :‬‬
‫ص? ِّو َر‬
‫لشفتيه‪ ،‬فسألني‪ ،‬فقلت‪ :‬أصلي على األنبي??اء‪ :‬ومن أين ع??رفتهم‪ .‬فقلت‪ :‬بم??ا ُ‬
‫عزوج??ل ّ‬ ‫من أمورهم‪ ،‬هذا نوح عليه السالم في السفينة ينجو بمن معه لما أمر هّللا ّ‬
‫الماء فع َّم الماء األرض كلها بمن فيها وسلمه َو َمنْ مع??ه‪ ،‬فق?ال‪ :‬أم??ا ن??وح فص??دقت‬
‫في تس??ميته‪ ?،‬وأم??ا غ??رق األرض كله??ا فال نعرف??ه‪ ،‬وإنم??ا أخ??ذ الطوف??ان قطع??ة من‬
‫األرض ولم يص??ل إلى أرض??نا‪ ،‬وإن ك??ان خ??بركم ص??حيحا ً فعن ه??ذه القطع??ة‪ ،‬ونحن‬
‫معاشر أهل الصين والهند والسند وغيرنا من الطوائف واألمم ال نعرف م??ا ذك??رتم‪،‬‬
‫وال َن َقل َ إلين??ا أس??الفنا م??ا وص??فتم‪ ،‬وم??ا ذك??رت من رك??وب الم??اء األرض كله??ا فعن‬
‫الكوائن العظام التي ُتفزع النفس إلى حفظة وتتداوله األمم ناقلة له‪ ،‬قال القرشي‪:‬‬
‫صفحة ‪77 :‬‬

‫ت الرد عليه وإقأمة الحجة؛ لعلمي بدَ ْف ِع ِه ذلك‪ ،‬ثم قلت‪ :‬وه??ذا موس??ى ص??لى هللا‬‫َف ِه ْب ُ‬
‫عليه وسلم وبنو إسرائيل‪ ،‬فقال‪ :‬نعم على قل??ة البل??د ال??ذي ك??ان ب??ه وفس??اد قوم??ه‬
‫علي??ه‪ ،‬ثم قلت‪ :‬ه??ذا عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم على حم??اره الحوار ُّيونَ مع??ه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬لقد كان قليل المدة‪ ،‬إنما كان أ َمده يزيد على ثالثين شهراً ش?يئا ً يس?يراً‪ ،‬وعال‬
‫من سائر األنبياء وأخبارهم ما اقتصرت على ذكر بعضه‪ ،‬ويزعم هذا القرشي وه??و‬
‫دون فيه??ا ذك??ر‬ ‫المع??روف ب??ابن هب??ار أن??ه رأى ف??ق ك??ل ص??ورة كتاب??ة طويل??ة ق??د ِّ‬
‫أسمائهم‪ ،‬ومواضع بلدانهم‪ ،‬ومقادير اعمارهم‪ ،‬وأسباب نب??واتهم وس??يرهم‪ ،‬وق??ال‪:‬‬
‫ثم رأيت صورة نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم على جمل وأص??حابه ُم ْح? دِقون ب??ه‬
‫في أرجلهم نع??ال عربي??ة من جل??ود اإِل ب??ل‪ ،‬وفي أوس??اطهم الحب??ال‪ ،‬ق??د علق??وا فيه??ا‬
‫المساويك‪ ،‬فبكيت‪ ،‬فقال للترجمان‪ :‬سله عن بكائ??ه‪ ،‬فقلت‪ :‬ه??ذا نبين??ا وس??يدنا وابن‬
‫عمنا محمد بن عبد هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فق??ال‪ :‬ص??دقت‪ ،‬لق??د مل??ك َقوم??ه َ‬
‫أج? ل ّ‬
‫الممالك‪ ،‬إال أنه لم يعاين من الملك شيئاً‪ ،‬إنما عاينه من بعده ومن تولى األمر على‬
‫أمت??ه من خلفائ??ه‪ ،‬ورأيت ص??ور أنبي??اء كث??يرة منهم من ق??د أش??ار بي??ده جامع?ا ً بين‬
‫س َّبابته? وإبهامه كالحلقة‪ ،‬كأن يص??ف أن الخليق??ة في مق??داو الحلق??ة‪ ،‬ومنهم من ق??د‬
‫ب للخليق??ة بم??ا ف??ق‪ ،‬وغ??ير ذل??ك‪ ،‬ثم س??ألني عن‬ ‫أشار بسبابته نحو السماء ك??ال ُم ْر ِه ِ‬
‫الخلفاء وز ّيهم وكثير? من الشرالى فأجبته? على قدر ما أعلم منها‪ ،‬ثم ق??ال‪ :‬كم عم??ر‬
‫الدنيا عن??دكم‪ .‬فقلت‪ :‬فق??د تن??وزع في ذل??ك‪ ،‬فبعض يق??ول‪ :‬س??تة? آالف س??نة‪ ،‬وبعض‬
‫يقول‪ .‬دونها‪ ،‬وبعض يقول‪ :‬أك?ثر منه?ا‪ ،‬فق?ال‪:‬ذل?ك عن ن?بيكم‪ .‬فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬فض?حك‬
‫ضحكا ً كثيراً ووزيره أيضاً‪ ،‬وهو واقف َذ على إنكار ذل?ك‪ ،‬وق?ال‪ :‬م?ا حس?بت ن?بيكم‬
‫ق??ال ه??ذا‪ ،‬ف??زللت فقلت‪ :‬بلى ه??و ق??ال ذل??ك‪ ،‬ف??رأيت اإِل نك??ار في وجه??ه‪ ،‬ثم ق??ال‬
‫للترجمان‪ :‬قل له ميز كالم??ك ف??إن المل??وك ال تكلم إال عن تحص??يل‪ ،‬أم??ا زعمت أنكم‬
‫تختلفن في ذلك‪ ،‬فإنكم اختلفتم في قول نبيكم‪ ،‬وما قالت األنبي??اء ال يجب أن يختل??ف‬
‫فيه‪ ،‬بل هو مسلم لها‪ ،‬فاحذر هذا وشبهه? أن حكيه‪ ،‬وذكر أشياء كثيرة ذهبت ع??نيِ‬
‫لطول المدة‪ ،‬ثم قال لي‪ :‬لم عدلت عن ملكك وهو أقرب إليك داراَ ونس??باً‪ ?.‬قلت‪ :‬بم??ا‬
‫حدث على البصرة‪ ،‬ووقوعي إلى سيراف‪ ،‬ونزعت بي همتي إلى ملكك أيها المل??ك‪،‬‬
‫لما بلغ??ني من اس??تقأمة ملك??ك‪ ،‬وحس??ن س??يرتك‪ ،‬وك??ثرة جنوث??ك وش??مول سياس??تك‬
‫لسائر رعيتك فأحببت الوقوع إلى هذه المملك??ة ومش??اهدتها‪ ،‬وأن??ا راج??ع عنه??ا إلى‬
‫بالدي‪ ،‬وملك ابن عمي‪ ،‬ومخبر بما شاهدت من جاللة هذا الملك‪ ،‬وسعة هذه البالد‬
‫ش? َيمِك أيه?ا المل?ك المحم??ود‪ ،‬وس?أقول بك?ل ق?ول حس?ن‬ ‫وعموم هذا العدل‪ ،‬وحسن َ‬
‫فس َّرهُ ذلك‪ ،‬وأمرلي بج??ائزة س??نية‪ ،‬وخل??ع ش??ريفة‪ ،‬وأم??ر بحملي‬ ‫وأثني بكل جميل‪َ ،‬‬
‫على البري??د إلى مدين ?ة? خ??انقوا‪ ،‬وكتب إلى ملكه??ا ب??إكرامي وتق??ديمي? على من في‬
‫ناحيته من سائر خواص الناس‪ ،‬وإقأمة ال ُن ُزل إلى وقت خ??روجي عن??ه‪ ،‬فكنت عنلى‬
‫في أخصب عيش وأنهمه‪ ?،‬إلى أن خرجت من بالد الصين‪.‬ائيل‪ ،‬فقال‪ :‬نعم على قل??ة‬
‫البلد الذي كان به وفساد قومه عليه‪ ،‬ثم قلت‪ :‬ه??ذا عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم‬
‫على حماره الحوار ُّيونَ معه‪ ،‬فقال‪ :‬لقد كان قلي??ل الم??دة‪ ،‬إنم?ا ك?ان أ َم??ده يزي??د على‬
‫ثالثين شهراً شيئا ً يسيراً‪ ،‬وعال من سائر األنبياء وأخبارهم ما اقتص??رت على ذك??ر‬
‫بعضه‪ ،‬ويزعم هذا القرشي وهو المعروف بابن هبار أنه رأى فق كل صورة كتابة‬
‫صفحة ‪78 :‬‬

‫دون فيها ذكر أسمائهم‪ ،‬ومواضع بل??دانهم‪ ،‬ومق??ادير اعم??ارهم‪ ،‬وأس??باب‬ ‫طويلة قد ِّ‬
‫نبواتهم وس?يرهم‪ ،‬وق?ال‪ :‬ثم رأيت ص??ورة نبين??ا محم?د ص??لى هللا علي?ه وس??لم على‬
‫جمل وأصحابه ُم ْحدِقون به في أرجلهم نعال عربية من جلود اإِل بل‪ ،‬وفي أوس??اطهم‬
‫الحبال‪ ،‬قد علقوا فيها المساويك‪ ،‬فبكيت‪ ،‬فق??ال للترجم??ان‪ :‬س??له عن بكائ??ه‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫هذا نبينا وسيدنا وابن عمنا محمد بن عبد هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬ص??دقت‪،‬‬
‫لقد ملك َقومه َ‬
‫أجل ّ الممالك‪ ،‬إال أنه لم يعاين من المل??ك ش??يئاً‪ ،‬إنم??ا عاين??ه من بع??ده‬
‫ومن تولى األمر على أمته من خلفائه‪ ،‬ورأيت صور أنبياء كثيرة منهم من قد أشار‬
‫بيده جامعا ً بين س َّبابته? وإبهامه كالحلقة‪ ،‬كأن يصف أن الخليق?ة في مق?داو الحلق?ة‪،‬‬
‫ب للخليقة بما ف??ق‪ ،‬وغ??ير ذل??ك‪ ،‬ثم‬ ‫ومنهم من قد أشار بسبابته نحو السماء كال ُم ْر ِه ِ‬
‫سألني عن الخلفاء وز ّيهم وكث?ير من الش?رالى فأجبت?ه? على ق?در م?ا أعلم منه?ا‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬كم عمر ال??دنيا عن??دكم‪ .‬فقلت‪ :‬فق??د تن??وزع في ذل??ك‪ ،‬فبعض يق??ول‪ :‬س??تة آالف‬
‫سنة‪ ،‬وبعض يقول‪ .‬دونها‪ ،‬وبعض يقول‪ :‬أكثر منه??ا‪ ،‬فق??ال‪:‬ذل??ك عن ن??بيكم‪ .‬فقلت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فضحك ضحكا ً كثيراً ووزيره أيضاً‪ ،‬وهو واق??ف َذ على إنك??ار ذل??ك‪ ،‬وق??ال‪ :‬م??ا‬
‫حسبت نبيكم قال هذا‪ ،‬فزللت فقلت‪ :‬بلى هو قال ذلك‪ ،‬فرأيت اإِل نك??ار في وجه??ه‪ ،‬ثم‬
‫قال للترجمان‪ :‬قل له م??يز كالم??ك ف??إن المل??وك ال تكلم إال عن تحص??يل‪ ?،‬أم??ا زعمت‬
‫أنكم تختلفن في ذلك‪ ،‬ف??إنكم اختلفتم في ق??ول ن??بيكم‪ ،‬وم??ا ق??الت األنبي??اء ال يجب أن‬
‫يختلف فيه‪ ،‬بل هو مسلم له??ا‪ ،‬فاح??ذر ه??ذا وش??بهه أن حكي??ه‪ ،‬وذك??ر أش??ياء كث??يرة‬
‫ذهبت ع??نيِ لط??ول الم??دة‪ ،‬ثم ق??ال لي‪ :‬لم ع??دلت عن ملك??ك وه??و أق??رب إلي??ك داراَ‬
‫ونسباً‪ ?.‬قلت‪ :‬بما حدث على البصرة‪ ،‬ووقوعي إلى سيراف‪ ،‬ونزعت بي هم??تي إلى‬
‫ملكك أيها المل??ك‪ ،‬لم??ا بلغ??ني من اس??تقأمة ملك??ك‪ ،‬وحس??ن س??يرتك‪ ،‬وك??ثرة جنوث??ك‬
‫وشمول? سياستك لسائر رعيتك فأحببت الوقوع إلى هذه المملكة ومش??اهدتها‪ ،‬وأن??ا‬
‫راجع عنها إلى بالدي‪ ،‬وملك ابن عمي‪ ،‬ومخبر بما شاهدت من جالل??ة ه??ذا المل??ك‪،‬‬
‫ش َيمِك أيه??ا المل??ك المحم??ود‪ ،‬وس??أقول‬ ‫وسعة هذه البالد وعموم هذا العدل‪ ،‬وحسن َ‬
‫فس َّر ُه ذلك‪ ،‬وأمرلي بجائزة سنية‪ ?،‬وخلع ش??ريفة‪?،‬‬ ‫بكل قول حسن وأثني? بكل جميل‪َ ،‬‬
‫وأمر بحملي على البريد إلى مدينة خانقوا‪ ،‬وكتب إلى ملكها بإكرامي وتقديمي على‬
‫من في ناحيت?ه? من س??ائر خ??واص الن??اس‪ ،‬وإقأم??ة ال ُن? ُزل إلى وقت خ??روجي عن??ه‪،‬‬
‫فكنت عنلى في أخصب عيش وأنهمه‪ ،‬إلى أن خرجت من بالد الصين‪.‬‬

‫وصف مدينة حمدان‬


‫قال المسعودي‪ :‬وأخبرني أب??و زي??د الحس??ن بن يزي??د الس??يرافي بالبص??رةوكان ق??د‬
‫قطنها وانتقل عن سيراف‪ ،‬وذل?ك في س??نة? ثالث وثلثمائ??ة‪ ?،‬وأب??و زي??د ه??ذا ه??و ابن‬
‫عمر بن زيد بن محمد بن م??زد بن ساس??ياد الس??يرافي‪ ،‬وك??ان الحس??ن بن يزي??د من‬
‫أهل التحصيل والتمييزأنه سأل ابن هبار هذا القرش??ي عن مدين?ة? حم??دان ال??تي به??ا‬
‫الملك وصفتها‪ ،‬ف??ذكر س??عتها‪ ،‬وك??ثرة أهله??ا‪ ،‬وأنه??ا مقس??ومة? على قس??مين يفص??ل‬
‫بينهم??ا ش??ارع عظيم طوي??ل ع??ريض‪ ،‬فالمل??ك ووزي??ره وقاض??ي القض??اة وجن??وده‬
‫وخصيانه‪ ،‬وجميع أسبابه في الشق األيمن منه مم??ا يلي المش??رق ال يخ??الطهم أح??د‬
‫من العأمة‪ ،‬وليس فيه شيء من األسواق‪ ،‬بل أنهار في سككهم مطردة‪ ،‬وأشجار‬
‫صفحة ‪79 :‬‬

‫عليه??ا منتظم??ة‪ ?،‬ومن??ازل فس??يحة‪ ،‬وفي الش??ق األيس??ر مم??ا يلي المغ??رب الرعي??ة‬
‫والتجار والميرة واألسواق ف??إذا وض??ح النه??ار رأيت فيه??ا َق َهارم??ة المل??ك وغلمان??ه‬
‫وغلم??ان وزرائ ?ه? ووكالئهم م??ا بين راكب وراج??ل ق??د دخل??وا إلى الش??ق ال??ذي في??ه‬
‫العأمة والتجار‪ ،‬فأخف??ا بض??ائعهم وح??وائجهم‪ ،‬ثم انص??رفا فال يع??ود واح??د منهم إلى‬
‫ض?ة حس?نة‪،‬‬ ‫هذا الشق إال في الي?وم الث?اني‪ ،‬وأن ه?ذه البل?دان فيه?ا ك?ل نزه?ة َ‬
‫وغ ْي َ‬
‫وأنها ُم َّطردة إال النخل فإنه معدوم عندهم‪.‬‬

‫مهارة أهل الصين‬


‫هللا ك َفا َ بنقش وصنعة وكل عمل ال يتق??دمهم في??ه‬
‫أح َن ِق خلق ّ‬‫وأما أهل الصين فمن ْ‬
‫أحد من سائر األمم‪ ،‬والرجل منهم يصنع? بيده ما يقدرأن غيره يعج??ز عن??ه؛ فيقص??د‬
‫به باب الملك يلتمس الجزاء على لطيف ما ابت??دع‪ ،‬في??أمر المل??ك بنص??به على باب??ه‬
‫من وقته ذلك إلى سنة‪ ?،‬فإن لم يخرج أحد فيه غي َبا َ أجاز ص??انعه وأدخل??ه في جمل??ة‬
‫صناعه‪ ،‬وإن أخرج أح??د في??ه عيب?ا ً طرح??ه ولم يج? ْ?زه‪ ،‬وأن رجاَل َ منهم صورس??نبلة‬
‫سقط عليها عصفرفي ث?وب حري?ر‪ ،‬ال يش?ك الن?اظر إليه?ا أنه?ا س?نبلة س?قط عليه?ا‬
‫ب‪ ،‬فعاب العمل‪ ،‬فأدخل إلى الملك‬ ‫أحدَ ُ‬
‫عصفر‪ ،‬فبقي الثوب مدة‪ ،‬وأنه اجتاز به رجل ْ‬
‫وأحضر صاحب العمل‪ ،‬فسأل األحدب عن العيب‪ ،‬فقال‪ :‬المتعارف عند الناس جميعا ً‬
‫وص َور هذا المصورالسنبلة? فنصبها قائم??ة‬ ‫أنه ال يقع عصفر على سنبلة إال أمالها‪َ ،‬‬
‫ال َم ْيل َ فيها‪ ،‬وأثبت العصفر فقها منتصباً‪ ،‬فأخطأ‪ ،‬فصدق األحدب‪ ،‬ولم يثب ص??احبها‬
‫صدُهم بهذاوشبهه? الرياضة لمن يعمل هذه األش??ياء‪ .‬ليض??طرهم ذل??ك إلى‬ ‫بشيء‪ ،‬و َق ْ‬
‫شدة االحتراز والحذر وإعمال الفكرفيما يصنعه كل واحد منهم بي??ده‪.‬وأله??ل الص??ين‬
‫أخبار عظيمة عجيبة‪ ،‬ولبالدهم أخبار ظريفة سنورد فيم??ايرد من ه??ذا الكت??اب جمالً‬
‫منها وإن كنا قد أتينا على سائر األخبار من ذلك في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان في األمم‬
‫الماضية? والممالك الدائرة وذكرنا في الكت??اب األوس??ط جمالً لم نتع??رض ل??ذكرها في‬
‫كتاب أخبار الزمان وربما ذكرنا في هذا الكتاب ما لم يتقدم ذكره في ذينك الكتابين‪،‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫ّ‬

‫ذكر جمل من األخبار عن البحار‬

‫وما فيها وما حولها من العجائب واألمم‪ ،‬ومراتب الملوك وأخبار األندلس ومعادن‬
‫الطيب وأصوله وعد د أنواعه وغير ذلك‬
‫قد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب جمآلَ من ترتيب? البح?ار المتص??لة والمنفص?لة‪،‬‬
‫فلنذكر االن في هذا الباب جمالً من أخبار ما اتصل بنا من البحر الحبشي والممال??ك‬
‫والملوك‪ ،‬وجمالً من ترتيبها‪ ،‬وغير ذلك من أنواع العجائب‪.‬‬

‫صفحة ‪80 :‬‬

‫اضطراب بحر فارس وبحر الهند وهدوئهما‬

‫فنقول‪ :‬إن بحر الصين والهند وفارس واليمن متصلة ميا ُه َهاغير منفصلة‪ ،‬على‬
‫ما ذكرنا‪ ،‬اال أن هيجانها وركودها مختل??ف الختالف مه??اب رياحه??ا وآث??ار ثورانه??ا‬
‫وغ??ير ذل??ك‪ ،‬فبح??ر ف??ارس تك??ثر أمواج??ه‪ ،‬ويص??عب ركوب??ه‪ ،‬عن??د لين بح??ر الهن??د‬
‫واستقامه ركوبه وقلة أمواجه‪ ،‬ويلين بحر فارس‪ ،‬وتقل ُّ أمواج??ه‪ ،‬ويس??هل? ركوب??ه‪،‬‬
‫عند ارتجاج بحر الهن??د‪ ،‬واض??طراب أمواج?ه وظلمت??ه‪ ،‬وص?عوبة مركب?ه‪ ،‬ف?أول م??ا‬
‫تبتدىء? صعوبة بحر فارس عند دخول الشمس السنبلة وقرب االس??تواء الخ??ريفي‪،‬‬
‫وال يزال في كل يوم تكثر أمواجه إلى أن تصير الشمس إلى برج الحوت‪ ،‬فأش? ً?دّ م??ا‬
‫يكون ذلك في آخ??ر الخري??ف عن??د ك??ون الش??مس في الق??وس‪ ،‬ثم يلين إلى أن تع??ود‬
‫الشمس إلى السنبلة‪ ،‬وآخر ما يكون ذلك في آخر ما يكون ذلك في آخر الربيع عن??د‬
‫كون الشمس في الج??وزاء‪ ،‬وبح??ر الهن??د ال ي??زال ك??ذلك إلى أن تص??ير? الش??مس إلى‬
‫ب حينئذ‪ ،‬وأهدأ ما يكون عند كون الشمس في الق??وس‪ ،‬وبح??ر ف??ارس‬ ‫السنبلة فير َك ُ‬
‫ب في س??ائر الس??نة من ُع َم??ان إلى س??يراف‪ ،‬وه??و س??تون ومائ??ة فرس??خ‪ ،‬ومن‬ ‫ي??ر َك ُ‬
‫سيراف إلى البصرة وه??و أربع??ون ومائ??ة فرس??خ‪ ،‬وال يتج??اوز في ركوب??ه غ??ير م??ا‬
‫ذكرن??ا من ه??ذين الموض??عين ونحوهم??ا‪ ،‬وق??د حكى أب??و معش??ر المنجم في كتاب??ه‬
‫الم??ترجم بالم??دخل الكب??ير إلى عل??وم النج??وم م??ا ذكرن??ا من اض??طراب ه??ذه البح??ار‬
‫وهدوئها عند كون الش??مس فيم??ا ذكرن??ا من ال??بروج‪ ،‬وليس يك??اد يقط??ع من ُع َم??ان‬
‫نحو الهند في انتهائ??ه إال م??ركب مع??زز‪ ،‬وحمولت??ه يس??يرة‪ ?،‬وتس??مى ه??ذه الم??راكب‬
‫بعمان إذا َق َط َع ْت أرض الهند في هذا الوقت التيرماهية‪ ?،‬وذل??ك أن بالد الهن??د وبح??ر‬
‫الهند يكون فيه اليس??ارة وه??و الش??تاء ودوام األمط??ار في ك??انون‪ ،‬وك??انون وش??باط‬
‫عندنا صيف‪ ?،‬وعن??دهم الش??تاء‪ ،‬كم??ا يك??ون عن??دنا الح??ر في حزي??ران وتم??وز وآب‪،‬‬
‫فشتاؤنا صيفهم‪ ،‬وصيفهم شتاؤنا‪ ،‬وكذلك سائر مدن السند والهند وما اتص??ل ب??ذلك‬
‫يس? َر ب??أرض‬ ‫ش َّتى في صيفنا ب??أرض الهن??د قي??ل‪ :‬فالن َّ‬
‫إلى أقاصي هذا البحر‪ ،‬ومن َ‬
‫الهند‪ ،‬أي شتى هناك‪ ،‬وذلك لقرب الشمس وبعدها‪.‬‬

‫الغوص على اللؤلؤ‬


‫وال َغ ْوص على اللؤلؤ في بحر فارس‪ ،‬وإنما يكون في أول نيسان إلى آخ?ر أيل?ول‪،‬‬
‫وما عدا ذلك من شهور السنة فال َغ ْوص َفيها‪ ،‬وقد أتينا فيما س??لف من كتبن??ا على‬
‫الغ ْوص في هذا البحر؛ إذ كان ما عداه من البحار ال لؤلؤ في??ه‪ ،‬وه??و‬ ‫سائر مواضع َ‬
‫خاص بالبحر الحبشي من بالد خارك وقطر وعم??ان يس??رنديب وغ??ير ذل??ك من ه??ذا‬
‫البحر‪ ،‬وقد ذكرنا كيفية تكون اللؤلؤ‪ ،‬وتنازع لناس في تكونه‪ ?،‬ومن ذهب منهم إلى‬
‫أن ذل??ك من المط??ر‪ ،‬ومن ذهب مهم إلى أن ذل??ك من غ??ير المط??ر‪ ،‬وص??فة ص??دف‬
‫اللؤلؤ العتيق منه? والحديث لفي يسمى بالمح??ار‪ ،‬والمع??روف بالبلب??ل‪ ،‬واللحم ال??ذي‬
‫في الص??دف الش??حم‪ ،‬وه??و حي??وان يف??زع على م??ا في??ه من اللؤلؤوال??در خوف ?ا ً من‬
‫اص? َة‬ ‫اصةِ‪ ،‬كخوف المرأة على ولدها‪ ،‬وقد أتينا على ذكر كيفي??ة الغ??وص‪ ،‬إن َ‬
‫الغ َ‬ ‫َ‬
‫الغ َ‬
‫ال يكادون يتناولون شيئا ً من اللحمان إال السمك والتمر‪ ،‬وغيرهما من األقوات‪،‬‬
‫صفحة ‪81 :‬‬

‫وما يلحقهم‪ ،‬وذكر شق أصول آذانهم لخروج النفس من هناك ب??دالً عن المنخ??رين‪،‬‬
‫ألن المنخرين يجعل عليهما شيء من الدبل هو ظهور السالحف البحرية التي تتخذ‬
‫منه??ا األمش??اط أو من الق??رن يض??مهما كالمش??قاص المن الخش??ب‪ ،‬وم??ا يجع??ل في‬
‫آذانهم من القطن فيه شيء من الدهن‪ ،‬فيعصرمن ذل??ك ال??دهن اليس??يرفي الم??اء في‬
‫قعره‪ ،‬فيضيء لهم ذلك في البحر ضياء بينا‪ ،‬وما يطلون به أقدامهم َوأس? َ?واقهم من‬
‫السواد حوفا ً من َبلع دواب البحر إي??اهم ولنفره??ا من الس??واد‪ ،‬وص??ياح الغاص??ة في‬
‫?واص‬ ‫قعر البحركالكالب‪ ،‬وخ??رق الص?وت الم?اء فيس?مع بعض?هم ص?ياح بعض‪ ،‬لل َغ َ‬
‫واللؤلؤ وحيوانه أخبار عجيبة وقد أتين?ا على جمي?ع أوص?اف ذل?ك وص?فات اللؤل?ؤ‬
‫وعالماته وأثمانه ومقادير أوزانه فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪.‬ف??أول ه??ذا البح??ر مم??ا يلي‬
‫البصرة واألبلة والبحرين من خشبات البصرة‪ ،‬ثم بحر ال روى وعليه بالد ص??يمور?‬
‫وسوبارة وتاب??ة وس??ندان وكنباية وغيره??ا من الس??ند والهن??د‪ ،‬ثم بحرهركن??د‪ ،‬ثم‬
‫بحركاله‪ ،‬وهوبحركلة والجزائ??ر‪ ،‬ثم بح??ر ك??ردنج‪ ،‬ثم بح??ر الص??نف‪ ،‬وإلي??ه يض??اف‬
‫العود الصنفي وإلى بالده‪ ،‬ثم بحر الصين وهو بحر صنجي ليس بع??ده بح??ر‪ ،‬ف??أول‬
‫بح??ار ف??ارس على م??ا ذكرن??ا خش??بات البص??رة والموض??ع المع??روف ب??الكفالء وهي‬
‫عالمات منصوبة? من خشب في البحر مغروسة عالمات للمراكب إلى عمان مس??افة‬
‫ثالثمائ??ة فرس??خ‪ ،‬وعلى ذل??ك س??احل ف??ارس وبالد البح??رين‪ ،‬ومن عم??ان وقص??بتها‬
‫تس??مى س??نجار‪ ،‬والف??رس يس??مونها م??زون إلى المس??قط‪ ،‬وهي قري??ة منه??ا يس??تقي‬
‫أرباب المراكب الماء من آبار هناك عذبة خمسون فرسخاً‪ ،‬ومن المس??قط إلى رأس‬
‫الجمجمة خمسون فرسخاً‪ ،‬وهذا آخ??ر بح??ر ف??ارس‪ ،‬وطول??ه أربعمائ??ة فرس??خ‪ ،‬ه??ذا‬
‫تحديد النواتية وأرباب المراكب‪ ،‬ورأس الجمجمة جبل متصل ببالد اليمن من أرض‬
‫ش ْحر واألحقاف‪ ،‬والرم??ل من?ه? تحت البح??ر‪ ،‬ال ي??دري أين تنتهي? غايت??ه في الم??اء‬ ‫ال َ‬
‫أعني الجبل المعروف برأس الجمجمة‪ ،‬وإذا كان ما وصفنا من الجبل في البر ومنه?‬
‫تحت البحر سمي في البحر الرومي سفالة‪ ،‬من تلك السفالة في الموضع المع??روف‬
‫بساحل سلوقيا من أرض ال??روم‪ ،‬واتص?الها تحت البح?ر بنح??و من جزي??رة ق?برص‪،‬‬
‫ب أك??ثر م??راكب ال??روم وهالكه??ا‪ ،‬وإنم??ا نع??بر بلغ??ة أه??ل ك??ل بحروم??ا‬ ‫وعليه??ا َ‬
‫عط ُ‬
‫يستعملونه في خطابهم فيما يتعارفنه بينهم‪ ،‬فمن هناك تنطل??ق الم??راكب إلى البح??ر‬
‫الثاني وه??و المع??روف بال روي وال ُي??دْ رى عمق??ه وال يحص??ر طول??ه وعرض??ه عن??د‬
‫البحريين‪ ،‬وربما يقطع في الشهرين والثالثة وفي الش??هر‪ ،‬على ق??در مه??اب ال??ريح‬
‫والسألمة‪ ،‬وليس في هذه البحار أعني مااحتوى عليه البحر الحبشي أك??بر من ه??ذا‬
‫البحر بحر الروى‪ ،‬وال أشد‪ ،‬وفي عرضه بح??ر ال??زنج وبالدهم‪ ،‬وعن??بر ه??ذا البح??ر‬
‫الش? ْحر من أرض الع??رب‪،‬‬ ‫قليل‪ ،‬وذلك أن العنبرأك??ثره يق??ع إلى بالد ال??زنج وس??احل َ‬
‫وأهل الشحر أناس من قضاعة وغيرهم من العرب‪ ،‬وهم َم ْهرة‪ ،‬ولغتهم بخالف لغة‬
‫العرب‪ ،‬وذلك أنهم يجعلون الشين ب??دالً من الك??اف‪ ،‬مث??ال ذل??ك أن يقول??وا‪ :‬ه??ل َلش‬
‫فيما قُ ْلت َلش‪ ،‬وقلت لي‪ :‬أن تجعلي الذي معي في ال??ذي َم َعش‪ ،‬يري??د ه??ل ل??ك فيم??ا‬
‫قلت ل??ك‪ ،‬وقلت لي أن تجعلي ال??ذي معي في ال??ذي مع??ك‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من خط??ابهم‬
‫ون??وادر كالمهم‪ ،‬وهم ف??و فق??ر وفاق??ة‪ ،‬ولهم ُن ُجب يركبونه??ا باللي??ل تع??رف ب??النجب‬
‫ال َم ْه ِر َّية تشبه في السرعة بالنجب البجاوية‪ ،‬بل عند جماعة أنها أسرع منها‪،‬‬
‫صفحة ‪82 :‬‬

‫أحس ْت هذه النجب ب??العنبر ق??د قذف??ه البح??ر‬


‫َّ‬ ‫يسيرون عليها على ساحل بحرهم‪ ،‬فإذا‬
‫يض ْت لذلك واعتادته‪ ،‬فيتناوله الراكب‪ ،‬وأجود العنبر م??ا وق??ع في‬‫بركت عليه‪ ،‬قد ِر َ‬
‫هذه الناحية وإلى جزائر الزنج‪ ،‬وساحله‪ ،‬وهو المدور األزرق النادر ك??بيض النع??ام‬
‫أو دون ذلك‪ ،‬ومنه ما يبلعه الحوت المعروف باألوال المقدم ذكره‪ ،‬وذل??ك أن البح??ر‬
‫إذا أشتد قذف من قعره العنبر كقطع الجبال وأصغر‪ ،‬على ما وصفنا‪ ،‬فإذا ابتلع هذا‬
‫الحوت العنبر قتله فيطف فق الماء‪ ،‬ولذلك اناس يرصدونه? في الق??وارب من ال??زنج‬
‫وغيرهم‪ ،‬فيطرحون فيه الكالليب والحبال‪ ،‬فيشقون عن بطنه ويس??تخرجون العن??بر‬
‫س ِهكاً‪ ،‬ويعرف??ه العط??ارون ب??العراق وف??ارس بالن??د‪،‬‬ ‫منه‪ ?،‬فما يخرج من بطنه يكون َ‬
‫وما بقي على ظهر الحوت منه كان نقي?ا ً جي??داً‪ ،‬على حس??ب لبث??ه في بطن الح??وت‪،‬‬
‫وبين البحر الثالث وهو هركن??د والبح??ر الث??اني وه??و الروى على م??ا ذكرن??ا جزائ??ر‬
‫كثيرة‪ ،‬وهي فرز بين هذين البحرين‪ ،‬و ُيقال‪ :‬إنها نحو من ألفي جزي??رة‪ ،‬وفي ق??ول‬
‫المحق ألف وتسعمائة جزيرة كلها عامر بالناس‪ ،‬وملكة هذه الجزائ??ر كله??ا ام??رأة‪،‬‬
‫وب??ذلك ج??رت ع??ادتهم من ق??ديم الزم??ان ال يملكهم رج??ل‪ ،‬والعن??بر يوج??د في ه??ذه‬
‫الجزائر أيضاً‪ ،‬يقذفه البحر‪ ،‬ويوجد في بحرها‪ ،‬ك?أكبر م??ا يك??ون من قط?ع الص??خر‪،‬‬
‫وأخبرني غير واحد من َن َواخذة السيرافيين والعمانيين بعمان وسيراف وغيرها من‬
‫التجار ممن كان يختلف إلى هذه الجزائر أن العنبرينبت? في قعر هذا البحر‪ ،‬ويتكون‬
‫??ر‬
‫كتك??ون أن??واع الفط??ر‪ :‬من األبيض‪ ،‬واألس??ي‪ ،‬والكم??أة والمغاري??د‪ ،‬وبن??ات ْأو َب َ‬
‫ونحوها‪ ،‬فإذا هاج البحر وأشتد قذف من قع??ره الص??خور واألحج??ار وقط??ع العن??بر‪،‬‬
‫وأه??ل ه??ذه الجزائ??ر متفق??ون‪ ،‬وكلمتهم واح??دة‪ ،‬وال يحص??رهم الع??د لك??ثرتهم‪ ،‬وال‬
‫تحصى جيوش هذه الملك?ة عليهم‪ ،‬وبين الجزي?رة والجزي?رة نح?و المي?ل والفرس?خ‬
‫والفرسخين والثالث??ه‪ ،‬ونخلهم ش??جر النارجي??ل‪ ،‬ال يفق??د من النخل??ة إال التم??ر‪ ،‬وق??د‬
‫زعم أن??اس ممن ع??نى بتوال??دات الحي??وان وتطعيم األش??جار أن النارجي??ل ه??و نخ??ل‬
‫المقل‪ ،‬وإنما أثرت فيه تربة الهن??د حين غ??رس فيه??ا فص??ار ن??ارجيالً‪ ،‬وإنم??ا ه??و‬
‫نخل المقل‪ ،‬وقد ذكرنا في كتابنا المترجم بالقضايا والتجارب ما تؤ َثره كل بقع??ة من‬
‫بق??اع األرض وهوائه??ا في حيوانه??ا من الن??اطقين وغ??يرهم‪ ،‬وم??ا ي??ؤثر? البق??اع في‬
‫الن??امي من النب??ات‪ ،‬وفيم??ا ليس بن??ام‪ ،‬كت??أثير أرض ال??ترك في وج??وههم وص??غر‬
‫أعينهم‪ ،‬ح??تى أث??ر ذل??ك في ِج َم??الهم‪ ،‬فقص??رت قوائمه??ا‪ ،‬وغلظت رقابه??ا‪ ،‬وأبيض‬
‫َو َبرها؛ وأرض يأجوج ومأجوج في صورهم‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما إذا تبينه? فو المعرف??ة‬
‫في سكان األرض من المشرق والمغ??رب وج??دوه على م??ا ذكرن??اه‪،‬وليس يوج??د في‬
‫جزائ??رارجيالً‪ ،‬وإنم??ا ه??و نخ??ل المق??ل‪ ،‬وق??د ذكرن??ا في كتابن??ا الم??ترجم بالقض??ايا‬
‫والتجارب ما تؤ َثره كل بقع??ة من بق??اع األرض وهوائه??ا في حيوانه??ا من الن??اطقين‬
‫وغيرهم‪ ،‬وما ي??ؤثر البق?اع في الن?امي من النب??ات‪ ،‬وفيم?ا ليس بن??ام‪ ،‬كت?أثير أرض‬
‫الترك في وجوههم وصغر أعينهم‪ ،‬ح??تى أث??ر ذل??ك في ِج َم??الهم‪ ،‬فقص??رت قوائمه??ا‪،‬‬
‫وغلظت رقابها‪ ،‬وأبيض َو َبرها؛ وأرض يأجوج ومأجوج في صورهم‪ ،‬وغ??ير ذل??ك‪،‬‬
‫مما إذا تبينه? فو المعرفة في سكان األرض من المشرق والمغ??رب وج??دوه على م??ا‬
‫ذكرناه‪،‬وليس يوجد في جزائر البحر ألطف صنعة من أه??ل ه??ذه الجزائ??ر في س??ائر‬
‫المهن والصنائع‪ ،‬في الثياب واآلالت وغير ذلك‪ ،‬وبيوت أموال هذه الملكة الودع‪،‬‬
‫صفحة ‪83 :‬‬

‫وذلك أن هذا الودع فيه نوع من الحيوان‪ ،‬وإذا قل ماله??ا أم??رت أه??ل ه??ذه الجزائ??ر‬
‫أنيقطعوا من سعف نخل النارجيل بخوصه‪ ،‬ويطرحون?ه? على وج??ه الم?اء‪ ،‬في?تراكب‬
‫عليه ذلك الحيوان‪ ،‬فيجمع ويطرح على رمل الساحل‪ ،‬فتحرق الش??مس م??ا في??ه من‬
‫الحيوان‪ ،‬ويبقى ال?ودع خالي?ا ً مم?ا ك?ان في?ه‪ ،‬فتمأل من ذل?ك بي?وت األم??وال‪ ،‬وه?ذه‬
‫الجزائر تعرف جميعها بالدبيحات ومنها يحمل أكثر ال?زانج‪ ،‬وه?و النارجي?ل‪ ،‬وآخ?ر‬
‫ه??ذه الجزائ?ر جزي??رة س?رنديب‪ ،‬ويلي جزي?رة س??رنديب جزائ?ر أخ?ر نح?و من أل??ف‬
‫فرسخ تعرف بالرامين معمورة وفيها ملوك وفيه??ا مع??ادن من ذهب كق??يرة‪ ،‬ويليه??ا‬
‫بالد قنصور وإليها يضاف الكافر القنصوري‪ ،‬والسنة التي تك??ون كث??يرة الص??واعق‬
‫والر ْجف والقذف والزالزل يكثر فيها الكافر‪ ،‬وإذا قل ذلك ك??ان نقص??انا ً في‬ ‫والبروق َّ‬
‫وجوده‪ ،‬وأكثر ما ذكرنا من الجزائ??ر غ??ذاؤهم النارجي??ل‪ ،‬ويحم??ل من ه??ذه الجزائ??ر‬
‫خش??ب ال َب َقم والخ??يزران وال??ذهب‪ ،‬وفيلته??ا كث??يرة‪ ،‬ومنه??ا م??ا يأك??ل لح??وم الن??اس‪،‬‬
‫وتتصل? هذه الجزائر بجزائر النجمالوس‪ ،‬وهي أمم عجيبة الص??ور ع??راة يخرج??ون‬
‫في الق??وارب عن??د اجتي??از الم??راكب بهم‪ ،‬معهم العن??بر والنارجي??ل‪ ،‬فيتعاوض??ون‬
‫بالحرير وشيء من الثياب‪ ،‬وال يبيعون ذلك بال??دراهم وال بال??دنانير‪ ،‬وتليهم جزائ??ر‬
‫ُيقال لها أندامان‪ ،‬فيها اناس س??ود عجيب??و الص??ورة والمنظ??ر مفلفل??و الش??عور َق??دَ ُم‬
‫الواحد منهم أكبر من الذراع‪ ،‬ألمراكب لهم‪ ،‬فإذا وقع الغري??ق إليهم مم??ا ق??د انكس??ر‬
‫في البح??ر أكل??وه‪ ،‬وك??ذلك فعلهم ب??المراكب إذا وقعت إليهم‪ ،‬وذك??ر لي جماع??ة من‬
‫النواخذة أنهم ربما رأوا في هذا البحر سحابا ً أبيض قطعا ً صغاراً يخرج من ?ه? لس??ان‬
‫أبيض طويل حتى يتصل? بماء البحر‪ ،‬فإذا اتصل به َغاَل البح??ر ل??ذلك‪ ،‬وارتفعت من??ه‬
‫زوابع عظيمة‪ ،‬ال تمر? زوبعة منها بش??يء إال أتلفت??ه‪ ،‬و ُي ْم َط? رون عقيب ذل??ك مط??راً‬
‫س ِهكا ً فيه أنواع من قذى البحر‪.‬‬

‫بحر كلة‬
‫وأما البحر الرابع فهو كالهبار‪ ،‬على حسب ما ذكرنا‪ ،‬وتفسير? ذلك بحر كلة‪ ،‬وهو‬
‫بحر قليل الماء‪ ،‬وإذا قل ماء البحر كان أكثر آفات وأشد خب َث? اَ‪ ،‬وه??و كث??ير الجزائ??ر‬
‫والصراوي‪ ،‬واح?دها ص?رو‪ ،‬وذل?ك أن أه?ل الم?راكب يس?مون م?ا بين الخليجين إذا‬
‫كان طريقهم فيه الصرو‪ ،‬وبهذا البح??ر أن??واع من الجزائ??ر والجب??ال عجيب??ة‪ ،‬وإنم??ا‬
‫غرضنا التلويح بلمع من األخبار عنها‪ ،‬ال البسط‪.،‬‬

‫بحر كردبح‬
‫وكذلك البحر الخامس المعروف بكردبح‪ ،‬فإنه كثير الجبال والجزائر‪ ،‬وفيه الكافر‪،‬‬
‫وهو قليل الماء كثير المطر‪ ،‬ال يكاد يخلو من??ه‪ ?،‬وفي??ه أجن?اس من األمم منهم جنس‬
‫ُيق??ال ل??ه الفنجب‪ :‬ش??عورهم مفلفل??ة وص??ورهم ومن??اظرهم عجيب??ة‪ ،‬يتعرض??ون في‬
‫قوارب لهم لطاف للمراكب إذا اجتازت بهم‪ ،‬ويرمون بن??وع من الس??هام عجيب??ة ق??د‬
‫سقِيت السم‪ ،‬وبين هذه األمة وبين بالد كلة جبال معادن الرص??اص األبيض وجب??ال‬ ‫ُ‬
‫صاص ال يكاد يتميز? منه‪.‬‬ ‫من الفضة‪ ،‬وفيها أيضا ً معادن من الذهب‪َ ،‬‬
‫ور َ‬

‫صفحة ‪84 :‬‬

‫بحرالصنف‬

‫ثم يليه بحر الصنف على ما رتبن??اه آنف?اً‪ ،‬وفي??ه مملك??ة المه??راج مل??ك الجزائ??ر‪،‬‬
‫وملكه ال يضبط كثرة‪ ،‬وال تحصى جنوده‪ ،‬وال يستطيع أحد من الناس في أسرع م??ا‬
‫يكون من المراكب أن يمر بجزائ??ره في س??نين‪ ،‬وق??د ح??از ه??ذا المل??ك أن??واع الطيب‬
‫واألفاوية‪ ،‬وليس ألحد من الملوك مال??ه‪ ،‬ومم??ا يحم??ل من بالده ويجه??ز من أرض??ه‬
‫والص ْندَ ل والجوز والبسباسة والقاقل??ة والكباب??ه وغ??ير ذل??ك‬
‫َ‬ ‫الكافر والعود والقرنفل‬
‫مما لم نذكره‪ ،‬وجزائره تتصل ببحر ال تدرك غايته‪ ،‬وال يعرف منتهاه مما يلي بحر‬
‫الصين‪ ،‬وفي أطراف جزائره جبال فيها أمم كثيرة بيض‪ ،‬آذانهم مخرمة ووج??وههم‬
‫يجزون شعورهم كم?ا يج?ز الش?عر من ال?زق م?درجاً‪ ،‬تظه?ر‬ ‫كقطع التراس ُم ْط َرقة‪ُّ ،‬‬
‫من جب??الهم الن??ار باللي??ل والنه??ار‪ ،‬فنهاره??ا حم??راء وباللي??ل تس??ود‪ ،‬وتلح??ق بعن??ان‬
‫الس??ماء لعلوه??ا وذهابه??ا في الج??و‪ ،‬تق??ذف بأش??د م??ا يك??ون من ص??وت الرع??د‬
‫والصواعق‪ ،‬وربما يظهر منها صوت عجيب مفزع ينذر بموت ملكهم‪ ،‬وربما يكون‬
‫أخفض من ذلك فين??ذر بم??وت بعض رؤس??ائهم‪ ،‬ق?د ع?رف م??ا ين??ذر من ذل?ك يط??ول‬
‫الع??ادات والتج??ارب على ط??ول الس??نين‪ ،‬وأن ذل??ك غ??ير مختل??ف‪ ،‬وه??ذه أح??د آط??ام‬
‫األرض الكب??ار ‪ 4‬وتليه??ا الجزي??رة ال??تي يس??مع منه??ا على دوام األوق??ات أص??وات‬
‫الطبول والس??رنايات والعي??دان وس??ائر أن??واع المالهي المطرب??ة المس??تلذة‪ ،‬ويس??مع‬
‫إيقاع الرقص والتصفيق‪ ،‬ومن يسمع ذلك يم?يز بين ك?ل ن?وع من أص?وات المالهي‬
‫وغيره‪ ،‬والبحريون ممن اجتاز بتلك الديار يزعمون أن الدجال بتل??ك الجزي??رة‪.‬وفي‬
‫مملك??ة المه??راج جزي??رة س??ريرة‪ ?،‬ومس??افتها في البح??ر نح??ومن أربعمائ??ة فرس??خ‪،‬‬
‫عمائر متصلة‪ ،‬وبه جزيرة الزانج والرامني? وغير ذلك مما ال ي??ؤتى على ذك??ره من‬
‫جزائره وملكه‪ ،‬وهو صاحب البحر السادس‪ ،‬وهو بحرالصنف‪.‬‬

‫بحر الصين‬
‫ثم البحر السابع وهو بحر الصين على ما رتبناه آنفاً‪ ،‬ويعرف ببحر ص??نجى وه??و‬
‫بحر خ??بيث كث??ير الم??وج والخب‪ ،‬وتفس??ير? الخب الش??دة العظيم?ة? في البح??ر‪ ،‬وإنم??ا‬
‫نخبر عن عبارة أهل كل بحر وما يستعملونه? في خطابهم‪ ،‬وفي??ه جب??ال كث??يرة ال ب??د‬
‫للمراكب من النفذ بينها‪ ،‬وذلك أن البحر إذا عظم خبه وكثر موجه ظهرت أش??خاص‬
‫س??ود ط??ول الواح??د منهم نح??و الخمس??ة أش??بار أو األربع??ة ك??أنهم أوالد األح??ابيش‬
‫الصغار‪ ،‬شكالً واحداً‪ ،‬وقداً واحداً‪ ،‬فيص?عدون على الم?راكب‪ ،‬ويك??ثر منهم الص?عود‬
‫من غير ضرر ة فإذا شاهد الناس ذل??ك تيقن??وا الش??دة ف??إن ظه??ورهم عألم??ة للخب‪،‬‬
‫فيستعدون لذلك‪ :‬فمع?افى‪ ،‬ومبتلى‪ ،‬ف?إذا ك?ان ك?ذلك‪ .‬ربم?ا ش??اهد المع?اقى منهم في‬
‫أعلى ال?دقل ويس??ميه? أرب??اب الم??راكب في بح??ر الص??ين وغ??يره من البح??ر الحبش??ي‬
‫الدولي‪ ،‬ويسميه? الرجال في البحر الرومي الصاري شيئا ً على صورة الطائر يتوق??د‬
‫نوراً ال يستطيع? الناظرمنهم على ملء بصره منه‪ ،‬وال إداركه كيف هو‪ ،‬فإذا أس??تقل‬
‫على أعلى ال?دقل ي??رون البح?ر يه?دأ‪ ،‬واألم?واج تص??غر‪ ،‬والخب يس??كن‪ ،‬ثم إن ذل?ك‬
‫النور يفقد؛ فال يدرى كيف أقبل‪ ،‬وال كيف ذهب‪ ،‬فذلك عألمة الخالص‪ ،‬ودليل‬
‫صفحة ‪85 :‬‬

‫النج??اة‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا فال تن??اكر في??ه عن??د أه??ل الم??راكب والتج??ار من أه??ل البص??رة‬
‫وس??يراف وعم?ان وغ??يرهم ممن قط?ع ه?ذا البح??ر‪ ،‬وم?ا ذكرن??اه عنهم فممكن غ?ير‬
‫ممتن??ع وال واجب؛ إذا ك??ان ج??ائزاً في مق??دور الب??اري َج? ل ّ وع??ز خالص عب??اده من‬
‫الهالك واستنقاذهم من البالد‪.‬وفي هذا البحر ن??وع من الس??راطين يخ??رج من البح??ر‬
‫كالذراع والشبر وأصغر من ذلك وأكبر‪ ،‬فإذا ب??ان عن الم??اء بس??رعة حرك??ة وص??ار‬
‫على البر صار حجارة وزالت عنه الحيوانية‪ ،‬وتدخل تلك الحجارة في أكح??ال العين‬
‫وأدويتها‪ ،‬وأمره مستفيض أيضا ً‪.‬‬
‫أيضا َ وهو السابع المعروف بصنجى أخب??ار عجيب??ة‪،‬وق??د أتين??ا على‬ ‫ولبحر الصين َ‬
‫جمل من أخباره وأخبار ما اتصل به من البح?ار فيم?ا س?مينا من كتبن?ا وأس?لفنا من‬
‫تصنيفنا في هذا المعنى‪ ،‬ونحن ذاكروان فيما يرد من هذا الكتاب من أخبار المل??وك‬
‫جوام??ع وجمالً من ذل??ك‪.‬وليس بع??د بالد الص??ين مم??ا يلي البح??ر ممال??ك تع??رف وال‬
‫توصف‪ ?،‬إالبالد السيلى وجزائرها‪ ،‬ولم يصل إليها من الغرباء أح??د من الع??راق وال‬
‫غيره‪ ،‬فخرج منها ة لصحة هوائه??ا‪ ،‬ورق??ة مائه??ا‪ ،‬وج??ودة ترتبه??ا‪ ،‬وك??ثرة خيره??ا‬
‫وصفاء جواهرها إال الن??ادر من الن??اس‪ ،‬وأهله??ا مه??ادنون أله??ل الص??ين وملوكه??ا‪،‬‬
‫والهدايا بينهم ال تكاد تنقطع‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنهم تشعبوا من ولد عامو‪ ،‬وسكنوا هن??اك‪،‬‬
‫على حسب ما ذكرنا من سكنى أه??ل الص??ين في بالدهم‪ ،‬وللص??ين أنه??ار كب??ار مث??ل‬
‫الدجلة والفرات‪ ،‬تج??ري من بالد ال??ترك والتبت والص??غد‪ ،‬وهي بين بخ??ارى وس??مر‬
‫قند‪.‬‬

‫جبال النوشادر‬
‫وهناك جبال النوشادر‪ ،‬فإذا كان في الصيف رؤيت في الليل نيران ق??د ارتفعت من‬
‫تلك الجبال من نحو مائة فرسخ بالنهار يظه??ر منه??ا ال??دخان لغلب??ة ش??عاع الش??مس‬
‫وضوء النهار‪ ،‬ومن هناك يحمل النوشادر‪ ،‬ف??إذا ك??ان في أول الش??تاء فمن أراد من‬
‫بالد خراس??ان أن يس??لك إلى بالد الص?ين ص?ار إلى م??ا هنال?ك وهنال?ك واد بين تل?ك‬
‫الجب??ال طول??ه أربع??ون ميالً أو خمس??ون في??أتي إلى أن??اس هنال??ك على فم ال??وادي‬
‫ف??يرغبهم في األج??رة النفيس??ة فيحمل??ون م??ا مع??ه على أكت??افهم‪ ،‬وبأي??ديهم العص??ي‬
‫?رب ال??واعي َوه َْول??ه‪ ،‬ح??تى‬‫يض??ربون جنبي??ه خوف ?ا ً أن يبلح أو يق??ف فيم??وت من َك? ْ‬
‫يخرجوا إلى ذلك الرأس من الوادي‪ ،‬وهنالك غابات ومس??تنقعات للم??اء‪ ،‬فيطرح??ون‬
‫أنفسهم في ذلك الماء‪ ،‬لما قد نالهم من شدة الكرب وحر النوشادر‪ ،‬وال يس??لك ذل??ك‬
‫الطري??ق ش??يء من البه??ائم‪ ،‬ألن النوش??ادريلتهب ن??اراً في الص??يف‪ ،‬فال يس??لك ذل??ك‬
‫ال??وادي داع وال مجيب‪ ،‬ف??إذا ك??ان الش??تاء وك??ثرت الثل??وج واألن??داء وق??ع في ذل??ك‬
‫الموضع فأطفأ حر النوشادر ولهيبه‪ ،‬فسلك الناس حينئ??ذ ذل??ك ال??وادي‪ ،‬والبه??ائم ال‬
‫ص??بر له??ا على م??ا ذكرن??اه من ح??ره‪ ،‬وك??ذلك َمنْ ورد من بالد الص??ين فُ ِع??ل ب??ه من‬
‫الضرب ما فعل بالمار‪ ،‬والمسافة من بالد خراسان على الموضع ال??ذي ذكرن??اه إلى‬
‫بالد الصين نحو من أربعين يوما ً بين عامروغير عامر ودم??اس ورم??ل‪ ،‬وفي غ??ير‬
‫هذه الطريق مما يسلكه البهائم نحو من أربعة أشهر‪ ،‬إال أن ذلك في خفارات أنواع‬
‫من الترك‪.‬‬
‫صفحة ‪86 :‬‬

‫وصف بالد التبت‬


‫وقد رأيت بمدينة بلخ شيخا ً جميالً ذا رأي وفهم وقد دخل الصين مراراً كث?يرة ولم‬
‫ي??ركب البح??ر ق??ط‪ ،‬ورأيت ع??دة من الن??اس ممن س??لك من بالد الص??غد على جب??ال‬
‫النوشادر إلى ارض التبت والصين ببالد خراسان وبالد الهند متصل ببالد خراس??ان‬
‫والس???ند مم???ا يلي بالد المنص???ورة والمولت???ان‪ ،‬والقواف???ل متص???لة من الس???ند إلى‬
‫خراس?ان‪ ،‬وك?ذلك إلى الهن?د‪ ،‬إلى أن تتص?ل? ه?ذه ال?ديار ببالد زابلس??تان‪ ،‬وهي بالد‬
‫واسعة تعرف بمملكة فيروز بن كبك‪ ،‬وفيها قالع عجيبة ممتنع??ة‪ ?،‬ولغ??ات مختلف??ة‪،‬‬
‫وامم كثيرة‪ ،‬وقد تنازع الناس في أنسابهم‪ :‬فمنهم من ألحقهم بولد ي??افث بن ن??وح‪،‬‬
‫ومنهم من ألحقهم بالفرس األولى في نسب طوي??ل‪ ،‬وبالد التبت مملك??ة متم??يزة? من‬
‫بالد الصين‪ ،‬والغالب عليهم ِح ْم َير‪ ،‬وفيهم بعض التبابعة على حس??ب م??ا ذكرن??ا من‬
‫اليمن فيما يرد من هذا الكتاب‪ ،‬وذلك موجود في أخب??ار التبابع??ة‪ ،‬ولهم‬ ‫ِ‬ ‫أخبار ملوك‬
‫َحض ٌر َو َب ْحو‪ ،‬وبواديهم ترك ال تدرك ك??ثرة‪ ،‬وال يق??اومهم أح??د من ب??وادي األت??راك‪،‬‬
‫وهم معظمون في سائر أجناس الترك ة ألن الملك كان منهم في قديم الزمان‪ ،‬وعند‬
‫س??ائر أجن??اس ال??ترك أن المل??ك س??يعود إليهم ويرج??ع فيهم ولبالد التبت خ??واص‬
‫عجيبة في هوائها وسهلها ومائها وجبلها‪ ،‬وال يزال اإِل نسان أبداً ضاحكا ً بها فرح??ا ً‬
‫مسروراً‪ ،‬ال تعرض له األحزان وال الغموم وال األفكار‪ ،‬وال تحصى عج??ائب ثماره??ا‬
‫وزهره??ا ‪ .‬ومروجه??ا وهوائه??ا وأنهاره??ا‪ ،‬وهي بالد تق??وى فيه??ا طبيع??ة ال??دم على‬
‫?رى في ه??ذا البل??د ش??يخ ح??زين وال عج??وز‪ ،‬ب??ل‬ ‫الحيوان الناطق وغيره‪ ،‬وال يك??اد ُي? َ‬
‫الطرب في الشيوخ والكهول والشباب واألحداث عام‪ ،‬وفي أهلها رقة طبع وبشاشة‬
‫وأريحية تبعث على كثرة استعمال المالهي والمعاقرة وأنواع إيق??اع ال??رقص‪ ،‬ح??تى‬
‫إن الميت إذا مات ال يكاد يداخل أهله عليه كثير من الح??زن مم??ا يلح??ق غ??يرهم من‬
‫س??ائر الن??اس عن??د فق??د محب??وب أو فت مطل??وب‪ ،‬ولهم تحنن كث??يرمن بعض??هم على‬
‫بعض‪ ،‬والتتيم فيهم عام‪ ،‬وك??ذلك يظه??ر في س??ائر بالدهم‪ ،‬وه??ذه البالد تس??مى بمن‬
‫ثبت فيها ورتب من رجالى حمير فقيل تبت لثبوتهم فيها‪ ،‬وقيل‪ :‬لمعاني غ??ير ذل??ك‪،‬‬
‫واألشهر ما وص??فنا‪ ،‬وق??د افتخ??ر دعب??ل بن علي الخ??زاعي ب??ذلك في قص??يدته ال??تي‬
‫يناقض فيها الكميت ويفخر بقحطان على نزار‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وباب الصين كانوا الكاتبينا‬ ‫وهم َك َت ُبوا الكتاب بباب َم ْر ٍو‬
‫وهم غرسواهناك التبتينـا‬ ‫وهم سموا السهام بسمرقند‬

‫وسنذكر في باب أخبار مل??وك اليمن طرف?ا ً من أخب??ار مل??وكهم‪ ،‬ومن ط??اف منهم‬
‫التبت متاخمة لبالد الصين وأرضها من إح??دى جهات??ه‪ ،‬وألرض الهن??د‬ ‫َ‬ ‫البالد‪ ،‬وبالد‬
‫وخراسان ولمفاوز الترك‪ ،‬ولهم مدن وعمائر كثيرة فات َم َن َعة وقوة‪ ،‬وقد ك??انوا في‬
‫قديم الزمان يسمون ملوكهم ُتبعا ً ا ِّتباعا ً السم تب??ع مل??ك اليمن‪ ،‬ثم إن ال??دهر ض??رب‬
‫ضرباته‪ ?،‬فتغيرت لغ??اتهم عن الحميري??ة‪ ?،‬وج??الت إلى لغ??ة تل??ك البالد ممن ج??اورهم‬
‫من األمم فسموا ملوكهم بخاقان‪.‬‬

‫صفحة ‪87 :‬‬

‫ظباء المسك‬
‫وفي بالدهم األرض ال??تي به??ا ظب??اء المس??ك التب??تي ال??ذي يفض??ل على الص??ينين‬
‫بجهتين‪ :‬إحداهما أن ظباء التبت ترعى سنبل? الطيب وأنواع األفاويه وظباء الصين‬
‫ت??رعى الحش??يش دون م??ا ذكرن??ا من أن??واع حش??ائش الطيب ال??تي ترع??اه التبتي??ة‪?،‬‬
‫والجهة األخرى أن أهل التبت ال يتعرضون إلِخ??راج المس??ك من َن َوافج??ه ويتركون??ه‬
‫على ما هو به وأهل الص??ين يخرجون??ه من الن??وافج ويلحقون??ه الغش بال??دم وغ??يره‬
‫من أنواع الغش‪ ،‬وأن الصيني أيضا ً يقطع به ما وص??فنا من مس??افة البح??ار وك??ثرة‬
‫األنداء واختالف األهوية‪ ،‬وإنْ ُعدِم من أهل الصين الغش في مسكهم وأودع براني?‬
‫الزج??اج وأحكم ِعفاص??ها ووكاؤه??ا‪ ،‬وأورد إلى بالد االس??الم من عم??ان وف??ارس‬
‫والعراق وغيرها من األمصار‪ ،‬كان ك??التبتي‪ ،‬وأج??ود المس??ك وأطيب??ه م??ا خ??رج من‬
‫الظباء بع??د بلوغ??ه النهاي??ة في النض??ج‪ ،‬وذل??ك أن??ه ال ف??رق بين غزالنن??ا ه??ذه وبين‬
‫غزالن المسك في الصورة والشكل والل??ون والق??رن‪ ،‬وإنم??ا تت??بين تل??ك بأني??اب له??ا‬
‫كأنياب الفي َلة‪ ،‬لكل ظبي ناب?ان خارج?ان من الفكين قائم??ان منتص??بان أبيض?ان نح?و‬
‫الشبر وأقل وأكثر‪ ،‬فتنصب لها في بالد التبت والصين الحبائ??ل واألش??راك َو ِّ‬
‫الش? َباك‬
‫فيصطادونها‪ ،‬وربما رموها بالسهام فيصرعونها فيقطعون عنها نوافجها والدم في‬
‫وطري لم يدرك‪ ،‬فيكون لريحت??ه س??هوكة‪ ،‬فيبقى زمان ?ا ً ح??تى‬ ‫سررها حار لم ينضج َ‬
‫تزول منه تلك الرائحة السهكة الكريهة‪ ،‬ويستحيل? بمواد من الهواء فيصير مس??كاً‪،‬‬
‫وسبيل? ذلك سبيل الثم??ار إذا أبينت عن األش??جار وقطعت قب??ل اس??تحكام نض??جها في‬
‫ش??جرها واس??تحكمام مواده??ا في??ه‪ ،‬وخ??ير المس??ك م??ا نض??ج في وعائ??ه‪ ،‬وأدرك في‬
‫سرته‪ ?،‬واستحكم في حيوانه‪ ،‬وتمام مواده‪ ،‬وذل??ك أن الطبيع??ة ت??دفع م??واد ال??دم إلى‬
‫السرة‪ ،‬فإذا استحكم كون الدم فيها ونض??ج آذاه ذل??ك َو ًحك? ُه فيف??زع حينئ??ذ إلى أح??د‬
‫الصخور واألحجار الحارة من حر الشمس فيحتك به??ا مس??تلذاً ب??ذلك فينفج??ر حينئ??ذ‬
‫?راج وال??د َمل إذا نض??ج م??ا في??ه عن??د ت??رادف‬ ‫ويسيل? على تلك األحج??ار كانفج??ار ا ْلخ? َّ‬
‫المواد عليه فيجد لخروجه لدة‪ ،‬ف?إذا ف?رغ م?ا في نافجت?ه ان?دمل حينئ?ذ‪ ،‬ثم ان?دفعت‬
‫إلي??ه م??واد من ال??دم‪ ،‬ويجتم??ع ثاني??ة ككونه??ا َب??دءاً‪ ،‬فتخ??رج رج??ال التبت يقص??مون‬
‫مراعيه??ا بين تل??ك األحج??ار والجب??ال‪ ،‬فيجح??ون المم ق??د ج??ف على تل??ك الص??خور‬
‫واألحجار‪ ،‬وقد أحكمته المواد‪ ،‬وأنضجته الطبيع??ة في حيوان??ه‪َ .،‬و َج َّف َفت??ه الش??مس‪،‬‬
‫وأثر فيه الهواء‪ ،‬فيأخنونه‪ ?،‬فذلك أفضل المسك‪ ،‬فيودعون??ه ن??وافج معهم ق?د أخفه??ا‬
‫من غزالن قد أصطادوها مستعحة معهم‪ .‬ف??ذلك ال??ذي تس??تعمله مل??وكهم ويتهادون??ه‬
‫بينهم‪ ،‬ويحمله التجار في النادر من بالدهم‪ ،‬والتبت ف مدن كثيرة‪ ،‬فيض??اف مس??ك‬
‫كل ناحية إليها‪.‬قال المس??عودي‪ :‬وق??د أق??رت مل??وك الص??ين وال??ترك والهن??د وال??زنج‬
‫وسائر ملوك العالم لملك بابل بالتعظيم‪ ،‬وأنه أول ملوك العالم‪ ،‬وأن منزلت??ه فيهم‬
‫كمنزلته فيهم كمنزلة القم??ر في الك??واكب؛ ألن إقليم?ه? أش??رف األق??اليم‪ ،‬وألن??ه أك??ثر‬
‫الملوك ماالً‪ ،‬وأحسنهم طبعاً‪ ،‬وأكثرهم سياسة‪ ،‬وأثبتهم قحم??أ‪ ،‬وه??ذا وص??ف مل??وك‬
‫ه??ذا اإِل قليم فيم??ا مض??ى‪ ،‬ال في ه??ذا ال??وقت‪ ،‬وه??و س??نة اثنت??يز? وثالثين وثلثمائ??ة‪?،‬‬
‫وك??انوا يلقب??ون ه??ذا المل??ك شاهنش??اه‪ ،‬وتفس??يره مل??ك المل??وك‪ ،‬ومنزلت??ه في الع??الم‬
‫منزلة القلب من جسد اإِل نسان والواسطة من القالدة‪ ،‬ثم يتلوه ملك الهند‪ ،‬وهومل??ك‬
‫الحكمة‪،‬‬
‫صفحة ‪88 :‬‬

‫وملك الفي َلة‪ .‬ألن عند المل??وك األكاس??رة أن الحكم??ة من الهن??د ب??دؤها‪ ،‬ثم يتل??وه في‬
‫المرتبة ملك الصين‪ ،‬وهو ملك الرعاية والسياسة وإتقان الصنعة‪ ،‬وليس في ملوك‬
‫العالم أكئررعاية وتفقداً من ملك الصين لرعيته من جنده وعوام??ه‪ ،‬وه??و ف ب??أس‬
‫شذيد‪ ،‬وقوة َو َم َن َع??ة‪ ،‬ل??ه من الجن??ود المس??تعمة‪ ،‬والك??راع والس??الح‪،‬وي??رزق? جنم??ه‬
‫كفعل ملوك بابل‪ ،‬ثم يتلو ملك الصين ملك من ملوك الترك ص??احب مدين??ة كوش??ان‪،‬‬
‫وهو ملك الطغزغز من الترك‪ ،‬ويدعى ملك السباع وملك الخي??ل؛ إذ ليس في مل??وك‬
‫العالم أشد بأسا ً من رجاله‪ ،‬وال أشد استئساداً منه على سفك الدماء‪ ،‬وال أك??ثر خيالً‬
‫من??ه‪ ،‬ومملكت??ه ف??رز بين بالد الص??ين ومفاص??ز خراس??ان‪ ،‬وي??دعى باالس??م األعم‬
‫أيرخان‪ ،‬وللترك ملو ٌك كثيرة‪ ،‬وأجناص‪ ،‬مختلفة‪ ،‬وال تنق?اد إلى ملك?ه‪ ،‬إال أن?ه ليس‬
‫منهم من ُيدَ انِي ملكه‪ ،‬ثم يتلوه ملك الروم‪ ،‬وي??دعى مل??ك الرج??ال‪ ،‬وليس في مل??وك‬
‫العالم أصبح وجوها ً من رجاله‪ ،‬ثم إن مل??وك الع??الم تتف??اوت مراتبه??ا وال تتس??اوى‪،‬‬
‫وقد قال ف عناية بأخبار العالم وملركهم في شعر له يصف جمالً من م??راتب الع?الم‬
‫وممالكهم وأسمائهم‪:‬‬
‫وا لملك ُم ْل َكان‪ :‬ساسان‪ ،‬وقحطان‬ ‫الد ار داران‪ :‬أيوان‪ ،‬وغـمـد ان‪،‬‬
‫واإلسالم مكة‪ ،‬والدنيا خـراسـان‬ ‫واألرض فارس واإلقلـيم بـابـل‪،‬‬
‫منها بخارى وبلخ الشـاهـدا ران‬ ‫والجانبان العليان اللـذا حـسـنـا‬
‫والري شروانها‪ ،‬والجيل جـيالن‬ ‫والبيلقان وطبرسـتـان فـارزهـا‬
‫فمرزبان‪ ،‬وبطريق‪ ،‬وطـرخـان‬ ‫قد رتب الناس فيها في مراتبـهـم‬
‫حبش النجاشي ُئ‪ ،‬واألتراك خاقـان‬ ‫للفرس كسرى وللروم القياصر وال‬

‫وصاحب صقلية وإفريقية? من بالد المغرب قبل ظهور اإلِسالم كان يدعى جرجير‬
‫وصاحب األندلس كان يدعى لذريق‪ ،‬وهذا كان اسم سائر ملوك األندلس‪ ،‬وقد قي??ل‪:‬‬
‫إنهم كانوا من األشبان‪ ،‬وهم أمة من ول??د ي??افث بن ن??وح‪ ،‬دث??رت هنال??ك‪ ،‬واألش??هر‬
‫عند من سكن األندلس من المسلمين أن ل??ذريق ك??ان من مل??وك األن??دلس الجاللق??ة‪،‬‬
‫وهم نوع من اإلفرنجة‪ ،‬وآخر لذريق الذي كان باألندلس قتله ط??ارق م??ولى موس??ى‬
‫بن نصير حين افتتح بالد األندلس ودخل إلى مدينة? طليطلة وكانت قصبة األن??دلس‪،‬‬
‫ودار مملكتهم‪ ،‬ويشقها نهر عظيم يدعى تاجة يخ??رج من بالد الجاللق??ة والوش??كند‪،‬‬
‫وهي أمة عظيمة لهم ملوك‪ ،‬وهم َح ْرب ألهل األندلس كالجاللقة واإلِفرنجة‪ ،‬وبصب‬
‫هذا النهر في البحر الرومي‪ ،‬وهو موصوف بأنه من أنهار العالم‪ ،‬وعليه على بع??د‬
‫من طليطلة مدينة? طلب??يرة‪ ،‬ثم قنط??رة عظيم??ة ت??دعى قنط??رة الس??يف بنته??ا المل??وك‬
‫السالفة‪ ،‬وهي من البنيان المذكور الموصوف وإنها أعجب عقوداً من قنطرة سنجة‬
‫من الثغر الخ??زري مم??ا يلي سميس??اط من بالد س??رجة‪ ،‬ومدين??ة طليطل??ة ذات منع??ة‬
‫عص? ْوا على‬
‫عليها أسوار منيعة‪ ?،‬وأهلها بعد أن فتحت وصارت لبني أمية قد ك??انوا َ‬
‫األمويين‪ ،‬فأقامت مدة سنين ممتنعة‪ ?،‬السبيل لألمويين إليها‪ ،‬فلما ك??ان بع??د الخمس‬
‫عشرة وثلثمائة فتحها عبد الرحمن بن محمد بن عبد هللا بن عبد الرحمن بن الحكم‬
‫بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن م??روان ابن الحكم‬
‫األموي وعبد الرحمن هذا هو صاحب األندلس في هذا الوقت‪ ،‬وهو سنة اثنتين‬
‫صفحة ‪89 :‬‬

‫ير كثيراً من بنيان هذه المدينة حين افتتحها‪ ،‬وصارت‬ ‫وثالثين وثلثمائة‪ ،‬وقد كان َغ َ‬
‫دار مملكة األندلس قرطبة إلى هذا الوقت‪ ،‬ومن قرطبة إلى مدينة? طليطل??ة نح??و من‬
‫سبع مراحل‪ ،‬ومن قرطب??ة إلى البح??ر مس??يرة نح??و من ثالث??ة أي??ام‪ ،‬ولهم على ي??وم‬
‫ساحل البحر مدينة? ُيقال لها إشبيلية‪ ?،‬وبالد األندلس يكون مسيرة عمائره?ا وم?دنها‬
‫نح??واً من ش??هرين‪ ،‬ولهم من الم??دن الموص??وفة نح??و من أربعين مدين??ة‪ ،‬وت??دعى‬
‫بنوأمية بها ببني? الخالئف‪ ،‬وال يخاطبون بالخلفاء؛ألن الخالف??ة ال يس??تحقها عن??دهم‬
‫إال من كان مالكأ للحرمين‪ ،‬غير أنه يخاطب بأمير المؤمنين‪.‬‬

‫بنو أمية باألندلس‬

‫وقد كان عبد ال??رحمن بن معاوي??ة بن هش??ام بن عب??د المل??ك بن م??روان س??ارإلى‬
‫األندلس في سنة? تسع وثالثين ومائ??ة فملكه??ا ثالث?ا ً وثالثين س??نة وأربعةأش??هر‪ ،‬ثم‬
‫هلك‪ ،‬فملكها ابنه هشام بن عبد الرحمن سبع سنين‪ ،‬ثم ملكها ابنه الحكم بن هش??ام‬
‫نحواً من عشرين س??نة‪ ،‬وو َل??ده ُوال ُت َه??ا إلى الي??وم على م??ا ذكرن??ا أن ص??احبها عب??د‬
‫وولي عهد عبد الرحمن في هذا الوقت فت??اه الحكم أحس??ن الن??اس‬ ‫ُّ‬ ‫الرحن بن محمد‪،‬‬
‫سيرة‪ ،‬وأجملهم عداًل ‪ ،‬وقد كان عبد الرحمن صاحب األندلس في هذا الوقت المق??دم‬
‫ذكره غزا سنة سبع وعشرين وثلثمائة في أزي?د من مائ??ة أل?ف ف?ارس من الن?اس‪،‬‬
‫فنزل على دار مملكة الجاللقة‪ ،‬وهي مدينة? ُيقال لها س??مورة‪ ،‬عليه??ا س??بعة أس??وار‬
‫من عجيب البنيان قد أحكمتها الملوك السالفة‪ ،‬بين األسوار فصالن وخنادق ومي??اه‬
‫واس??عة‪ ،‬ف?افتتح منهم??ا س??ورين‪ ،‬ثم إن أهلهم??ا ث??اروا على المس??لمين فقتل??وا منهم‬
‫ف أربعين ألفاً‪ ،‬وقيل‪ :‬خمسين ألفاً‪ ،‬وكانت للجاللق??ة‬ ‫ممن أدرك اإلِحصاء وممن ُع ِر َ‬
‫والوش??كند على المس??لمين‪ ،‬وآخ??ر م??ا ك??ان بأي??دي المس??لمين من م??دن األن??دلس‬
‫وثغورها مما يلي اإلِفرانجة مدينة? أربونة‪ ?،‬خرجت من أيدي المس??لمين س??نة? ثالثين‬
‫وثالثمائة? مع غيرها مما كان في إيديهم من المدن والحصون‪ ،‬وبقي ثغر المسلمين‬
‫في هذا الوقت وهو سنة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة من ش??رقي األن??دلس َط ْرطوش??ة‪،‬‬
‫وعلى س??احل بح??ر ال??روم مم??ا يلي طرطوش??ة آخ??ذاً في الش??مال أفراغ??ة على نه??ر‬
‫عظيم‪ ،‬ثم الردة‪ ،‬ثم بلغ??ني عن ه??ذه الثغ??ور أنه??ا تالقي اإِل فرانج??ة‪ ،‬وهي أض??يق‬
‫مواضع األندلس‪ ،‬وقد كان قبل الثلثمائ??ة ورد إلى األن??دلس م??راكب في البح??ر فيه??ا‬
‫أغارت على سواحلهم‪ ،‬زعم أهل األندلس أنهم ناس من المج??وس‬ ‫ألوف من الناس ْ‬
‫تطرأ إليهم في هذا البحر في كل مائتين من الس??نين‪ ،‬وأن وص??ولهم إلى بالدهم من‬
‫خليج يع??ترض من بح??ر أوقي??انوس‪ ،‬وليس ب??الخليج ال??ذي علي??ه المن??ارة النح??اس‪،‬‬
‫وأرىوهللا أعلم أن ه???ذا الخليج متص???ل ببح???ر م???ايطس ونيطس وأن ه ??ذه أم???ة هم‬
‫الروس الذين قدمنا ذكرهم فيما سلف من هذا الكت??اب إذ ك??ان ال يقط??ع ه??ذه البح??ار‬
‫المتصلة ببحر أوقيانوس غيرهم‪ ،‬وق?د أص?يب في البح?ر ال?رومي فيم?ا بين جزي?رة‬
‫أقريطش أل??واح الم??راكب الس??اج المثقب??ة المخيط??ة بلي??ف النارجي??ل من م??راكب ق??د‬
‫عطبت تقاذفت بها األمواج في مي??اه البح??ار‪ ،‬وه??ذا ال يك??ون إال في البح??ر الحبش??ي‬
‫ألن مراكب البحر لرومي والعرب كلها فات مسامير‪ ،‬ومراكب البحر الحبشي ال‬
‫صفحة ‪90 :‬‬

‫يثبت فيها الحديد ألن ماء البحريذيب الحدي??د ف??ترق المس??امير في البح??ر وتض??عف‪،‬‬
‫فاتخذ أهلها الخياطة بالليف ب??دالً منه??ا‪ ،‬و ُطلِ َي ْت بالش??حوم والن??ورة‪ ،‬فه??ذا ي??دل وهّللا‬
‫أعلم على إتصال البحار‪ ،‬وأن البحر مم??ا يلي الص??ين وبالدالس??يلى يح??ور على بالد‬
‫الترك‪ ،‬و ُي ْفضِ ي إلى بح??ار المغ??رب من بعض خلج??ان أوقي??انوس المحي??ط‪.‬وق??د ك??ان‬
‫في البح??ر ال??رومي‬
‫وجد بساحل بالد الشام عنبر قذف به البحر‪ ،‬وهذا من المستئكر َ‬
‫الذي لم يعهد فيه من قديم الزمان مثل ذلك‪ ،‬يمكن أن يكون سبيل وقوع العن??بر إلى‬
‫هذا البحر سبيل? ما ذكرناه من ألواح مراكب البحر الص??يني‪ ،‬وهللا أعلم بكيفي??ة ذل??ك‬
‫وعلمه‪.‬ولبحر المغرب وما قرب من?ه? من عم??ائر الس??ودان وأقاص??ي أرض المغ??رب‬
‫أخبار عجيبة‪.‬‬

‫بالد الحبشة والسودان‬

‫وقد ذكر فو العناية بأخبار العالم أن أرض الحبشة وسائر السودان كله?ا مس?يرة‬
‫سبع س??نين‪ ،‬وأن أرض مص??رجزء واح??د من س??تين ج??زءاً من ض الس??ودان‪ ،‬وأن‬
‫أرض السودان ج??زء وأح??د من األرض كله??ا‪ ،‬وأن األرض كله??ا مس??يرة خمس??مائة‬
‫وثلث بحار‪ ،‬وتتصل‬‫ٌ‬ ‫وثلث براري غير مسكون‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫سنة‪ ?:‬ثلث عمران مسكون مأهول‪،‬‬
‫أقاصي السودان العراة بآخر بالد ولدإدريس بن إدريس بن عب??د هللا بن الحس??ن بن‬
‫الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السالم من أرض المغرب‪ ،‬وهي بالد تلمس??ان‬
‫وتاهرت وبالد فاس ثم الس??وس األدنى‪ ،‬وبين??ه وبين بالد الق??يروان نح??و ألفي مي??ل‬
‫وثلثمائ??ة? مي??ل‪ ،‬وبين الس??وس األدنى والس??وس األقص??ى من المس??افة نح??و من‬
‫عشرين يوماًعمائر متصلة إلى أن تتصل? بوادي الرمل والقص??ر األس??ود‪ ،‬ثم يتص ?ل?‬
‫ذلك بمفاوز الرمل ال?تي فيه?ا المدين?ة المعروف?ة بم?دين النح?اس وقب?اب الرص?اص‬
‫التي سار إليها موسى بن نصير? في أيام عبد الملك بن م??روان ورأى فيه??ا م??ا رأى‬
‫من العجائب‪ ،‬وقد ذكر ذلك في كتاب يتداوله الن??اس‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن ذل??ك في مف??اوز‬
‫تتصل? ببالد األندلس‪ ،‬وهي األرض الكب?يرة‪ ،‬وق?د ك?ان ميم?ون بن عب?د الوه?اب بن‬
‫عبد الرحمن بن رستم الفارسي وهو إِباضِ ُّي المذهب‪ ،‬وهو الذي أنشأ في ذلك البل??د‬
‫م??ذهب الخ??وارج‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إنهم من بقاي??ا األش??بان ع َّم َر تل??ك ال??ديار‪ ،‬وك??انت ل??ه‬
‫حروب مع الطالبيين‪ ،‬وقد ذكرنا فيما يرد من هذا الكتاب تنازع الناس في األشبان‪،‬‬
‫ومن قال‪ :‬إنهم من الفرس ناقلة من بالد أصبهان‪.‬‬

‫بالد المغرب‬
‫الص? ْف ِرية الخ??وارج‪،‬لهم م??دن مم??دودة‬
‫وفي هذا الصقع من بالد المغرب خل??ق من ُّ‬
‫مثل مدينة ثرغية‪ ،‬وفيها معدن كبيرمن الفضة‪ ،‬وهو مما يلي الجنوب ويتصل? ببالد‬
‫الحبشة‪ ،‬والحرب بينهم? سِ َجالٌ‪ ،‬وق??د ذكرن??ا في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان خ??بر المغ??رب‬
‫والض? ْف ِرية‪ ،‬ومن س??كن المغ??رب من‬
‫ُ‬ ‫وم??دنها‪ ،‬ومن س??كنها من الخ??وارج اإِل باض??ية‬
‫المعتزلة‪ ،‬وما بينهم وبين الخوارج من الح??روب‪ ،‬وذكرن??ا خ??بر ابن األغلب التم??يي‬
‫وتوليه المنصور? له على المغرب‪ ،‬ومقامه ببالد إفريقية وغيرها من أرض المغرب‬
‫صفحة ‪91 :‬‬

‫وم??ا ك??ان من أم??ره في أي??ام الرش??يد‪ ،‬وت??داول ول??ده ببالد إفريقي?ة? وغيره??ا إلى أن‬
‫انتهى األمر إلى أبي نصر زيادة هّللا بن عبد هّللا بن إب??راهيم بن أحم??د بن محم??د بن‬
‫األغلب بن إبراهيم بن محمد بن األغلب بن إب??راهيم بن س??الم بن س??وادة‪ ،‬فأخرج??ه‬
‫عنها أبو عبد هّللا المحتسب الصوفي الداعية لصاحب المهدية حين ظه??ر في كتأم??ة‬
‫وغيرها من أجيال البربر‪ ،‬وذلك في سنة سبع وتس??عين وم??ائتين في أي??ام المقت??در‪،‬‬
‫ومسيره? إلى الرافقة‪ ،‬وكان هذا المخسب من مدينة رامهرمز? من كور األهواز‪.‬‬

‫سق ما بقي من الممالك على البحر‬‫ملوك العالم‪ :‬ونعود إلى ذكر مراتب الملوك َو َن َ‬
‫الحبشي الذي شرعنا في وصفه َو َمنْ عليه‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫ملك الزنج وفليمي‪ ،‬مل??ك الالن كركن??داج‪ ،‬مل??ك الح??يرة من ب??ني? نص??ر النعماني??ة‬
‫والمناذرة‪ ،‬ملك جبال طبرستان كان يدعىقارن والجبل معروف ب??ه وبول??ده في ه??ذا‬
‫الوقت‪ ،‬ملك الهند البلهرا‪ ،‬ملك القنوج من ملوك السند ب??ؤورة وه??ذا اس?م ك?ل س??ك‬
‫يلي القنوج‪ ،‬وهنا مدينة ُيقال لها بؤورة باسم ملوكهم‪ ،‬وقد ص??ارت الي??وم في ح??يز‬
‫اإلِسالم‪ ،‬وهي من أعمال المولتان‪ ،‬ومن هذه المدين??ة يخ??رج أح??د األنه??ار ال??تي إذا‬
‫اجتمعت كانت نهرمهران السند الذي زعم الجاحظ أن??ه من الني??ل‪ ،‬وزعم غ??يره أن??ه‬
‫من جيحون خراسان‪ ،‬وبؤورة هذا الذي هو ملك القنوج هو ضد البلهرا ملك الهند‪،‬‬
‫وملك القندهار من ملوك السند وجبالها‪ ،‬يدعى ححج‪ ،‬وه??و اس??م األعم‪ ،‬ومن بالده‬
‫يخرج النهر المعروف برائ?د وه?و أح?د األنه?ار الخمس?ة ال?تي منه?ا مه?ران الس?ند‬
‫والقندهار يعرف ببالد الرهبوط‪ ،‬ونهر من الخمس??ة يخ??رج من بالد الس??ند وجباله??ا‬
‫يعرف ببهاطل ويجتاز بالد الرهبوط وهي بالد القن??دهار‪ ،‬والنه??ر الراب??ع يخ??رج من‬
‫بالد كابل وجبالها وهي تخوم السند مما يلي بسط وغزنين وزرعون والرخج وبالد‬
‫الدوار مم??ا يلي بالد سجس??تان‪ ،‬ونه??ر من الخمس??ة يخ??رج من بالد قش??مير‪ ،‬ومل??ك‬
‫قشميريعرف ب??الراني‪ ،‬ه??ذا االس??م األعم لس??ائر مل??وكهم‪ ،‬وقش??مير? ه??ذه من ممال??ك‬
‫السند وجبالها هملكة عظيمة حصينة? يحتوي ملكها على مدن وضياع على نح??ومن‬
‫?اس على بل??ده إال من وج??ه واح??د‪،‬‬ ‫ستين ألفا ً إلى سبعين ألفاً‪ ،‬ال سبيل ألح??د من الن? َِ‬
‫واح َد‪ ِ،‬أِل ن ذلك في جبال شوامخ منيع??ة? ال‬ ‫و ُيغ َلق على جميع ما ذكره من ملكه باب َ‬
‫س??بيل? للرج??ال أن يتس ? َلقوا علي َه??ا‪ ،‬وال لل??وحش أن يلح??ق بعلوه??ا‪ ،‬وال يلحقه??ا إال‬
‫الطير‪ ،‬وما ال جبل فيه فأودية َو ْع َرة وأشجار وغياض وأنه??ار ذات َم َن َع? ة من ش??دة‬
‫األنصباب والجريان‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من منع??ة ذل?ك البل??د فمش??هور في أرض خراس??ان‬
‫وغيرها من البالد‪ ،‬وذلك أحد عجائب الدنيا‪.‬‬

‫القنوج‬
‫فأما ملك بؤورة وهو مل?ك القن??وج ف?إن مس?افة مملكت??ه تك?ون نح?واً من عش?رين‬
‫ومائة فرسخ في مثلها فراسخ سندية الفرسخ ثمانية أميال بهذا الميل‪ ،‬وه?و المل?ك‬
‫مهاب الرياح األربع‪ ،‬كل‬
‫ِّ‬ ‫الذي قدمنا ذكره فيما سلف أن له من الجيوش أربعة على‬
‫جيش منها سبعمائة ألف‪ ،‬وقيل‪ :‬تسعمائة ألف وقيل‪ :‬تسعة آالف ألف فيحارب‬
‫صفحة ‪92 :‬‬

‫بجيش الشمال صاحب المولتان ومن معه في تلك الثغ??ور من المس??لمين‪ ،‬ويح??ارب‬
‫بجيش الجنوب البلهرا ملك المانكير‪ ،‬وبالجيوش الباقية من يلق??اه في ك??ل وج??ه من‬
‫الملوك‪ ،‬ويقال‪ :‬إن ملكه يحيط في مقدار ما ذكرناه من المسافة من الم??دن والق??رى‬
‫والضياع مما يدركه اإلِحص??اء وال َع? د ُد ب??ألف أل??ف وثمانمائ?ة? أل??ف قري??ة بين أنه??ار‬
‫وشجر وجبال ومروج‪ ،‬وهو قليل الفيلة من بين المل??وك‪ ،‬ورس??مه لحرب??ه ألف?ا ً في? ٍ‬
‫?ل‬
‫حربية? تقاتل‪ ،‬وذلك أن الفيل إذا كان فارها ً ممارسا ً شجاعا ً وكان راكبه فارس ?ا ً وفي‬
‫بالزر ِد والحدي??د‪ ،‬وعلي??ه‬
‫َ‬ ‫شى‬‫خرطومه القرطل وهو نوع من السيوف وخرطومه مغ َّ‬
‫تجافيف قد أحاطت سائر جسده من الق??رن والحدي??د‪ ،‬وك??ان حول??ه خمس??مائة راج??ل‬
‫يمنعونه ويحرزونه من ورائه‪ ،‬حارب ستة? آالف فارس‪ ،‬وقام بها‪ ،‬وأدناها إذا ك??ان‬
‫معه خمس?مائة راج?ل‪ ،‬ك?ر على خمس?ة آالف ف?ارس‪ ،‬ودخ?ل وخ?رج وص?ال عليه?ا‬
‫كالرجال علىال َف َرس‪ ،‬وهذا رسم فيلتها في سائر حروبها‪.‬‬

‫المولتان‬
‫سأمة بن لؤي بن غالب‪ ،‬وه??وف‬ ‫فأما صاحب المولتان فقد قلنا‪ :‬إن الملك في ولد َ‬
‫جي??وش و َم َن َع? ة‪ ،‬وه??و ثغ??ر من ثغ??ور المس??لمين الكب??ار‪ ،‬وح??ول ثغ??ر المولت??ان من‬
‫ضياعه وقراه عشرون ومائة ألف قرية مما يقع عليه اإِل حص??اء والع??د‪ ،‬وفي??ه على‬
‫ما ذكرنا الصنم المعروف بالمولتان‪ ،‬يقصده السند والهند من أقاصي بالدهم ب??النفر‬
‫واألموال والجواهر والعود وأن??واع الطيب‪ ،‬ويحج إلي??ه األل??وف من الن??اس‪ ،‬وأك??ثر‬
‫ي الخ??الص ال??ذي‬ ‫ار ِّ‬
‫أموال صاحب المولتان مما يحمل إلى هذا الصنم من العود الق َم ِ‬
‫يبلغ ثمن األوقية منه مائة دينار‪ ،‬وإذا ختم بالخاتم أث??ر في??ه كم??ا ي??ؤثر في الش??مع‪،‬‬
‫وغير ذلك من العجائب التي تحمل إليه‪ ،‬وإذا نزلت الملوك من الكفار على المولتان‬
‫وعجز المسلمون عن حربهم هددوهم بكسرهذا الص??نم وتع??ويره‪ ،‬فترح??ل الجي??وش‬
‫عنهم عند ذل??ك‪ ،‬وك?ان دخ??ولي إلى بالد المولت??ان بع??د الثالثمائ??ة‪ ،‬والمل??ك به??ا أب??و‬
‫اللهاب المنبه? بن أسد القرشي‪.‬‬

‫المنصورة‬

‫وكذلك كان دخولي إلى بالد المنصورة في هذا الوقت‪ ،‬والملك عليها أب??و المن??ذر‬
‫عمر بن عبد هللا‪ ،‬ورأيت بها وزيره رباحا وابني?ه? محم??داً وعلي?اً‪ ،‬ورأيت به??ا رجالً‬
‫سيداً من العرب وملكا ً من ملوكهم وهو المعروف بحمزة‪ ،‬وبها خل??ق من ول??د علي‬
‫بن أبي طالب رضي هللا عنه‪ ،‬ثم من ولد عم??ربن علي وول??د محم??د بن علي‪ ،‬وبين‬
‫ملوك المنصورة وآل أبي الشوارب القاضي قراب?ة وص??لة ونس?ب‪ ،‬وذل?ك أن مل??وك‬
‫المنصورة الذين فيهم الملك في وقتن??ا ه??ذا من ول??د ًه ّبار بن ألس??ود‪ ،‬ويع??رفن بب??ني?‬
‫عمر بن عبد العزيز القرشي‪ ،‬وليس هوعمر بن عبد العزيز بن مروان األموي‪.‬‬
‫ف??إذا اجت??از جمي??ع م??ا ذكرن??ا من األنه??ار ببالد م??رج بيت ال??ذهب وه??و المولت??ان‬
‫اجتمعت بع??د المولت??ان بثالث??ة أي??ام فيم??ا بين المولت??ان والمنص??ورة? في الموض??ع‬
‫المعروف بدوسات‪ ،‬فإذا انتهى جميع ذلك إلى مدينة الروذ من غربيها‪ ،‬وهي من‬
‫صفحة ‪93 :‬‬

‫س ِّمي‪.‬هنالك مهران‪ ،‬ثم ينقسم قسمين‪ ،‬ويصب ك??ل من القس??مين‬ ‫أعمال المنصورة‪ُ ،‬‬
‫من ه??ذا الم??اء العظيم المع???روف بمه???ران الس??ند في مدين??ة? ش??اكرة من أعم???ال‬
‫المنصورة في البحر الهندي‪ ،‬وذلك على مقدار يومين من مدينة? الديبل‪.‬‬
‫والمس??افة من المولت??ان إلى المنص??ورة خمس??ة وس??بعون فرس??خا ً س??نديةعلى م??ا‬
‫ذكرن??ا‪ ،‬والفرس??خ ثماني??ة أمي??ال‪ ،‬وجمي??ع م??ا للمنص??ورة من الض??ياع والق??رى مم??ا‬
‫يضاف إليها ثلثمائة ألف قرية ذات زروع وأش??جار وعم??ائر متص??لة‪ ?،‬وفيه??احروب‬
‫كثيرة من جنس يقال لهم المي??د‪ ،‬وهم ن??وع من الس??ند وغ??يرهم من األجن??اس‪ ،‬وهم‬
‫ثغ??ر الس??ند‪ ،‬وك??ذلك المولت??ان من ثغ??ور الس??ند ومم??ا أض??يف إليه??ا من العم??ائر‬
‫والم??دن‪.‬وس??ميت المنص??ورة باس??م منص??ور بن جمه??ور عام??ل ب??ني أمي??ة‪ ،‬ولمل??ك‬
‫المنصورة فيل?ة حربي?ة‪ ،‬وهي ثم?انون فيالً رس? ُم ك?ل في?ل أن يك?ون حول?ه على م?ا‬
‫ذكرنا خمسمائة? راجل وأنه يحارب ألوفا ً من الخيك على ما ذكرنا‪ ،‬ورأيت ل??ه فيلين‬
‫عظيمين كانا موصوفين عند ملوك السند والهند لما كانا علي??ه من الب??أس والنج??دة‬
‫واإلِقدام على فل ّ الجيوش‪ ،‬وكان اسم أحدهما منف??رقلس واآلخرحي??درة ولمنف??رقلس‬
‫هذا أخبار عجيبة‪ ،‬وأفعال حسنة‪ ،‬وهي مشهورة في تلك البالد وغيره??ا‪ :‬منه??ا أن??ه‬
‫س َّواسه‪ ،‬فمكث أياما ً ال يطعم وال يشرب‪ُ ،‬ي ْبدي الح??نين‪ ،‬ويظه??ر األنين‪،‬‬ ‫بعض ُ‬
‫ُ‬ ‫مات‬
‫كالرجل الحزين‪ ،‬ودموعه تجري من عينيه ال تنقطع‪ ،‬ومنها أنه خرج ذات ي??وم من‬
‫ح??ائرهِ‪ ،‬وهي دار الفيل??ة‪ ،‬وحي??درة وراءه‪ ،‬وب??اقي الثم??انين تب??ع لهم??ا‪ ،‬ف??انتهى‬
‫منف??رقلس في س??يره إلى ش??ارع قلي??ل الع??رض من ش??وارع المنص??ورة‪ ،‬ففاج??أ في‬
‫مسيره? امرأة على حين غفلة منها‪ ،‬فلما بصرت به دهشت واستلقت على قفاها من‬
‫الجزع‪ ،‬وانكشفت عنها أطمارها في وسط الطريق‪ ،‬فلما رأى ذل??ك منف??رقلس وق??ف‬
‫بعرض الشارع مستقبالً بجنبه األيمن م?ا وراءه من الفيل?ة مانع?ا ً لهم من النف?ذ من‬
‫أجل المرأة‪ ،‬وأقبل يشير? إليها بخرطومه بالقيام‪،‬ويجمع عليها أثوابها‪ ،‬وششر منها‬
‫ما ب??دا‪ ،‬إلى أن انتقلت الم??رأة وتزح??زحت عن الطري??ق بع??د أن ع??اد إليه??ا روحه??ا‪،‬‬
‫فاستقام افيل في طريقه‪ ،‬واتبعه الفيلة‪.‬وللفيلة أخبار عجيبة الحربية منها وال َعمال??ة‬
‫الع َجل َ وتحمل عليه األثق??ال وشش??عمل في ِد َي??اس األرز‬ ‫ألن منها ما ال يحارب فيجر َ‬
‫وغيره من األقوات كد َْوس البقرفي ا ْل َب ْيدَ ر‪ ،‬وسنذكر فيما يرد من هذا الكت??اب أخب??ار‬
‫ال??زنج والفيل??ة‪ ،‬وكونه??ا في بالده??ا‪ ،‬وليس في س??ائر الممال??ك أك??ثر منه??ا في بالد‬
‫الزنج‪ ،‬وهي وحشية هنالك كلها‪.‬‬

‫فهذه جمل من أخبار ملوك السند والهند‪ ،‬ولغة السند خالف لغ??ة الهن??د‪ ،‬والس??ند‬
‫مم??ا يلي اإلِس??الم‪ ،‬ثم الهن??د‪ ،‬ولغ??ة أه??ل الم??انكير وهي دار مملك??ة البله??را كيري??ة‬
‫مضافة إلى الصقع‪ ،‬وهي كيرة‪ ،‬ولغة ساحله مث??ل ص??يمور وس??ويارة وتان??ة وغ??ير‬
‫ذلك من مدن الس??احل ال ري??ة‪ ،‬وبل??دهم مض??افة إلى البح??ر ال??ذي هم علي??ه‪ ،‬وه??و ال‬
‫روى‪ ،‬وقد تقدم ذكره فيما سلف من هذا الكتاب‪ ،‬ولهذا السالح أنهار عظيمة تجري‬
‫من الجنوب‪ ،‬بالضد من أنهار العالم‪ ،‬وليس في أنهار العالم ما يج??ري من الجن??وب‬
‫إلى الشمال إال نيل مصر ومهران السند ويسير من األنهار‪ ،‬وما عدا ذلك من أنهار‬
‫العالم يجري من الشمال إلى الجنوب‪ ،‬وقد ذكرنا وجه العلة في ذلك وما قاله الناس‬
‫صفحة ‪94 :‬‬

‫في ه??ذا المع??نى في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وق??د ذكرن??ا م??ا انخفض من األرض وم??ا‬
‫ارتف??ع‪.‬وليس في مل??وك الس??ند والهن??د من يع??ز المس??لمين في ملك??ه إال البله??را‪،‬‬
‫صون‪ ،‬ولهم مساجد مبنية‪ ،‬وجوام?ع معم?ورة بالص?لوات‬ ‫فاإلِسالم في ملكه عزير َم ُ‬
‫للمسلمين‪ ،‬ويملك الملك منهم األربعين سنة والخمسين سنة فصاعداً‪ ،‬وأهل مملكته‬
‫يزعمون أنه إنما طالت أعمار مل??وكهم لس??نة الع??دل وإك??رام المس??لمين‪ ،‬وه??و مل??ك‬
‫ي?رزق الجن?ود من بيت مال?ه كفع?ل المس?لمين بجن?ودهم‪ ،‬ول?ه دراهم طاهري?ة وزن‬
‫الدرهم منها وزن درهم ونصف‪،‬س َك ُته بدء تاريخ ملكهم‪ ،‬وفيلته الحربية ال تحص??ى‬
‫ك??ثرة‪ ،‬وت??دعى بالده أيض?ا ً بالد الكمك??ر‪ ،‬ويح??اربهم مل??ك الخ??زر من إح??دى جه??ات‬
‫مملكته‪ ،‬وهو ملك كثير الخيول واإلِبل والجنود ة ويزعم أن??ه ليس في مل??وك الع??الم‬
‫أجل منه? إال صاحب إقليم بابل‪ ،‬وه??و اإلِقليم الراب??ع‪ ،‬وذل??ك أن ه??ذا المل??ك ف نخ??وة‬
‫وصولة على س??ائر المل??وك‪ ،‬وه??و م??ع ذل??ك مبغض للمس??لمين‪ ،‬وه??و كث??ير الفيل??ة‪،‬‬
‫وملك??ه على لس??ان من األرض‪ ،‬وفي أرض??ه مع??ادن ال??ذهب والفض??ة‪ ،‬ومب??ايعتهم‬
‫بهم??ا‪.‬ثم يلي ه??ذا المل??ك مل??ك الط??افن ُم? َ?وادع لمن حول??ه من المل??وك‪ ،‬وه??و مك??رم‬
‫للمسلمين‪ ،‬وليست جيوش??ه كجي??وش َمنْ ذكرن??ا من مل??وك‪ ،‬وليس في نس??اء الهن??د‬
‫أحس??ن من نس??ائهم‪ ،‬والَ أك??ثر منهن جم??االً وبياض??اً‪ ،‬وهن موص??وفات الخل??وات‪،‬‬
‫مذكورات في كتب الباه‪ ،‬وأهل البحر يتنافسون في شرائهن يعرفن بالطافنيات‪.‬‬

‫رهمى‬
‫?مائهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ثم يلي هذا الملك مملكة رهمى‪ ،‬وه??ذه س??مة لمل??وكهم‪ ،‬وه??و األعم من أس?‬
‫ويقاتل??ه ال ُج??زر‪ ،‬وملك??ه مت??اخم لملكهم‪ ،‬ورهمى يح??ارب البله??را أيض ?ا َ من إح??دى‬
‫جهات مملكته‪ ،‬وهو أكثر جيوشا ً وفيلة وخي??والً من البله??را ومن مل??ك الج??زر ومن‬
‫مل?ك الط?افن‪ ،‬وإذا خ??رج في حروب?ه فرس?مه أن يك?ون في خمس?ين أل?ف في?ل‪ ،‬وال‬
‫يكون حربه إال في الشتاء لقلة ص??بر الفيل??ة على العطش وقل??ة لبثه??ا‪ ،‬والمك??ثر من‬
‫الناس يغلو في القول في كثرة جنوده‪ ،‬فيزعمون أن عدد القصارين والغس??الين في‬
‫وح??رب َمنْ ذكرن??ا من المل??وك‬
‫ُ‬ ‫عس??كره من عش??رة آالف إلى خمس??ة عش??ر ألف??اً‪،‬‬
‫كراديس‪ ،‬كل ُّ كردوس عشرون ألف?اً‪ ،‬أربع??ة أوج??ه ك??ل وج??ه من الك??ردوس خمس??ة‬
‫االف‪ ،‬ومملكة رهمى تع??املهم ب??الودع‪ ،‬وه??و م??ال البل??د‪ ،‬وفي بل??ده الع??ود وال??ذهب‬
‫والفضةوالثياب ال?تي ليس??ت لغ?يره رق?ة ودق?ة‪ ،‬ومن بل?ده يحم??ل الش?عر المع?روف‬
‫ب العاج والفضة يق??وم به??ا الخ??دم على رؤوس‬ ‫بالضمر الذي تتخذ منه ا ْل َم َذاب ب ُن ُ‬
‫ص ِ‬
‫الملوك في مجالسها‪.‬‬

‫وصف الكركدن‬

‫وفي بلده الحيوان المعروف بالنشان المعلم‪ ،‬وهو الذي تسميه الع??وام الكرك??دن‪،‬‬
‫وله في مقدم جبهته قرن واحد‪ ،‬وهو دون الفي??ل في الخلق??ة وأك??بر من الج??اموس‪،‬‬
‫?تر كم??ا تج??تر البق??ر وغيره??ا مم??ا يج??تر من الحي??وان‪،‬‬
‫إلى السواد ما هو‪ ،‬وه??و يج? ُّ‬
‫والفيلة تهرب منه‪ ?،‬وليس في أنواع الحيوان وهّللا أعلم أشد منه‪ ،‬وذلك أن أكثر‬
‫صفحة ‪95 :‬‬

‫عظامه أص??م‪ ،‬وال مفص??ل في قوائم?ه? وال ي??برك في ني??ام‪ ،‬وإنم??ا يك??ون بين الش?جر‬
‫واآلج??ام يس??تند إليه??ا عن??د نوم??ه‪ ?،‬والهن??د تأك??ل لحم??ه‪ ،‬وك??ذلك َمنْ في بالدهم من‬
‫المسلمين‪ .‬ألنه نوع من البقر‪ ،‬والجواميس بأرض السند والهند كثيرة‪ ،‬وهذا النوع‬
‫من الحيوان وه??و النش??ان يك??ون في أك??ثر غاب??ات الهن??د‪ ،‬إال أن??ه في مملك??ة رهمى‬
‫أكثر‪ ،‬وقرونه أصفى وأحسن‪ ،‬وذلك أن قرنه أبيض‪ ،‬وفي وسطه صورة سوداء في‬
‫ذل?ك البي??اض أم?ا ص??ورة إنس??ان أو ص??ورة ط?اووس بتخطيط??ه وش??كله أو ص??ورة‬
‫سمكة أو صورته في نفسه أو صورة نوع من الحيوان مم??ا يوج??د في تل??ك ال?ديار‪،‬‬
‫فينش??ر ه??ذا الق??رن وتتخ??ذ من??ه المن??اطق والس??يور على ص??ورة الحلي??ة من ال??ذهب‬
‫والفضة فتلبسها مل??وك الص??ين‪ ،‬وخواص??ها تتن??افس في لبس??ها وتب??الغ في أثمانه??ا‬
‫فتبلغ المنطق?ة ألفي دين?ار إلى أربع?ة آالف‪ ،‬فيه?ا مع?اليق ال?ذهب‪ ،‬وذل?ك في نهاي?ة‬
‫الحسن واإلتقان‪ ،‬وربما تقمع بأنواع من الجواهر على قضبان الذهب‪ ،‬ووجوه تل??ك‬
‫الصور ُم َك َتبة? بسواد في بياض‪ ،‬وربما يوجد في قرونه بياض في سواد‪ ،‬وليس في‬
‫ك??ل بل??د يوج??د في ق??رون النش??ان م??ا ذكرن??ا من الص??ور‪.‬وق??د زعم عم??رو بن بح??ر‬
‫الجاحظ أن الكركدن يحمل في بطن أمه سبع سنين‪ ،‬وأنه يخرج رأسه من بطن أمه‬
‫فيرعى ثم يدخل رأسه في بطنها‪ ،‬وهذا القول أورده في كتاب الحي??وان على طوي??ق‬
‫الحكاية والتعجب‪ ،‬فبعثني هذا الوصف على مس??ألة َمن س??لك تل??ك ال??ديار من أ‪.‬ه??ل‬
‫س??يراف وعم??ان ومن رأيت ب??أرض الهن??د من التج??ار‪ ،‬فك??ل يتعجب من قول??ه إذا‬
‫أخبرت??ه بم??ا عن??دي من ه??ذا وس??ألته عن??ه‪ ،‬ويخبرون??ني أن حمل??ه وفص??اله ك??البقر‬
‫والجواميس‪ ،‬ولس?ت أدري كي?ف وقعت ه?ذه الحكي?اة للجاح?ظ‪ :‬أمن كت?اب نقله?ا أو‬
‫مخبر أخبره بها‪..‬‬

‫الكامن‬
‫ولرهمى في ملكه بروبحر‪ ،‬ويلي ملكه ملك ال بحرله يقال ل?ه مل?ك الك?امن‪ ،‬وأه??ل‬
‫مملكت??ه بيض مخرمم??ا اآلذان‪ ،‬لهم فيل??ة وإب??ل وخي??ول‪ ،‬وحس??ن وجم??ال للرج??ال‬
‫والنساء‪ ،‬ثم بعد هؤالء ملك اإِل فرنج‪ ،‬وله بر وبح??ر‪ ،‬وه??و على لس??ان من ال??بر في‬
‫البحر‪ ،‬يقع إلى بلده عنبر كثير‪ ،‬وفي بلده فلفل يسير‪ ،‬وهو ف فيلة كثيرة‪ ،‬وهو ذو‬
‫بأس بين الملوك وزهو وفخر‪َ ،‬‬
‫وزهْ ُوة أك??ثر من قوت??ه‪ ،‬وفخ??ره أك??ثر من بأس??ه‪ ،‬ثم‬
‫يلي هذا الملك ملك الموجه أهل??ه بيض ف??و حس??ن وجم??ال غ??يرخرومي اآلذان‪ ،‬لهم‬
‫خي??ل كث??يرة‪ ،‬وع??دد منيع??ة‪ ،‬والمس??ك في بالدهم كث??ير على م??ا ق??دمنا من غ??زالنهم‬
‫ووصف ظب?ائهم فيم?ا س?لف من ه?ذا الكت?اب‪ ،‬وه?ذه األم?ة تش?به بأه?ل الص?ين في‬
‫لباسهم‪ ،‬وجبالهم منيعة شواهق بيض‪ ،‬ال ُي ْع َلم بأرض السند والهند وال فيم??ا ذكرن??ا‬
‫من هذه الممالك جبال أطول منها وال أمنع‪ ،،‬ومسكهم موصوف? مض??اف إلى بل??دهم‬
‫يتعارف??ه البحري??ون‪ ،‬ممن ع??ني بحم??ل ذل??ك وتجه??يزه‪ ،‬ره??و المس??ك المع??روف‬
‫بالموجهي‪.‬‬

‫الماند‬
‫ثم يلى الموجه مملكة الماند‪ ،‬ولهم مدن كثيرة وعمائر واسعة وجنودعظيمة‪?،‬‬
‫صفحة ‪96 :‬‬

‫ومل??وكهم تس??تعمل? الخ??دم والخص??يان في عم??االت بل??دانهم من المع??ادن وجباي??ات‬


‫األموال والواليات وغيرها كفعل ملوك الصين على حسب ما وص??فنا من أخب??ارهم‪،‬‬
‫والمان??د مج??اورون لمملك??ة الص??ين‪ ،‬والرس??ل تختل??ف بينهم باله??دايا‪ ،‬وبينهم جب??ال‬
‫منيعة? وعقب?ات ص?عبة‪ ،‬وللمان?د الب?أس العظيم والبطش الش?ديد والق?وة‪ ،‬وإذا دخ?ل‬
‫رسل مل?ك المان?د مملك?ة الص?ين و ِّكل َ مل?ك الص?ين بهم‪ ،‬ولم ي?تركهم ينتش?رون في‬
‫بالدهم خوفا ً أن يقفا على طرقهم وعورات بالدهم‪ ،‬لكبرة الماند في نفسهم‪.‬‬

‫بعض عوائد الهند والصين‬

‫ولمن ذكرن??ا من الهن??د والص??ين في بالدهم ولغ??يرهم من األمم أخالق وش??يم في‬
‫الماكل والمشارب والمناكح والمالبس والعالفي واألدوية والكي بالنار وغيره‪ ،‬وق??د‬
‫ذك??ر عن جماع??ة من مل??وكهم أنهم ال ي??رون حبس ال??ريح في أج??وافهم ألن??ه دا ٌء‬
‫يؤذي‪ ،‬وال يحتشمون في إظهارها في سائر أحوالهم‪ ،‬وكذلك فعل حكمائهم‪ ،‬ورأيهم‬
‫أن حبسها داء يؤذي‪ ،‬وأن إرسالها شفاء ينجي‪ ،‬وأن في ذل??ك العالفي األك??بر‪ ،‬وأن‬
‫في??ه راح??ة لص??احب الق??ولنج والمحص??ور‪ ،‬وأن في??ه داء للس??قيم المطح??ول‪ ،‬وال‬
‫يحتشمون من الضرطة‪ ،‬وال يحصرون الفسوة‪ ،‬وال يرون ذلك عيباً‪ ،‬وللهن??د التق??دم‬
‫في ص??ناعة الطب‪ ،‬ولهم في??ه اللطاف??ة والح??ذق‪ ،‬وذك??ر ه??ذا المخ??بر عن الهن??د أن‬
‫س???اء‪ ،‬وأن ص???وت‬ ‫ش???اء في وزن الفُ َ‬
‫الس??? َعال عن???دهم أقبح من الض???راط‪ ،‬وأن ا ْل ُج َ‬
‫الضرطة دباغها والمذهب عنها ريحها‪ ،‬واستشهد? هذا المخبر على صحة م??ا حك??اه‬
‫عن الهند باستفاضة القول في ذلك في كثير من الناس عنهم‪ ،‬حتى ذك??ر ذل??ك عنهم‬
‫في السير واألخبار والنوادر واألشعار؛ فمن ذلك م??ا ذك??ر أب??ان بن عب??د الحمي??د في‬
‫األرجوزة المعروفة بذات الحلل‪.‬‬
‫وأن الريح واححة فيِ الج??وف‪ ،‬وإنم??ا تختل??ف أس??مائها ب??اختالف مخارجه??ا‪ ،‬فم??ا‬
‫شاء‪ ،‬وما يذهب سفالً يسمى فساء‪ ،‬وال فرق بين ال??ريحين إال‬ ‫ص ُعداَ يسمى ُج َ‬
‫يذهب ُ‬
‫باختالف المخرجين‪ ،‬كما ُيقال الصفعة واللطمة‪ ،‬إال أن اللطمة في الوج??ه والص??فعة‬
‫مؤخر الرأس والقفا‪ ،‬والجنس واح??د‪ ،‬وإنم??ا اختلفت اس??ماؤها الختالف الموض??عين‬
‫وتباين المكانين‪ ،‬وأن الحيوان الناطق إنما كثرت علله‪ ،‬وترادفت أد َواؤه‪ ،‬واتصلت‬
‫أمراضه ك?القولنج وأوج?اع المع?دة وغيره?ا من الع??وارض بحبس ال?داء في جوف?ه‬
‫وترك إظهاره في حال هيجانه وتفرغ الطبيعه لدفعه وإخراجه‪ ،‬وأن س??ائر الحي??وان‬
‫غ??ير الن??اطق إنم??ا َب ُع??د عم??ا ذكرن??ا من اآلف??ات والمعترض??ات من العاه??ات لس??رعة‬
‫خروج ما يعرض ويثور? من األدواء في أجوافها وعدم احتباس??ها في وعائه??ا‪ ،‬وأن‬
‫الفالسفة والمتقدمين من الحكماء اليونانيين ك??ديموقرطيس وفيث??اغورس وس??قراط‬
‫وديوجانس وغيرهم من حكماء األمم لم يكونوا يرون حبس ش??يء من ذل??ك لعلمهم‬
‫بما يتول??د من آفات??ه‪ ،‬وي??ؤول إلي??ه من متعقبات??ه‪ ،‬وأن ذل??ك يج??ده في نفس??ه ك??ل في‬
‫حس‪ ،‬وأن ذلك يعلم بالطبيعة‪ ،‬ويدرك بضرورة? العقل‪ ،‬وإنما استقبح ذلك ان??اس من‬
‫أ صحاب الشرائع والكتب لما ورد ت به الشرائع ومنعت منه المل??ل‪ ،‬ولم يج??ر ذل??ك‬
‫في عاداتهم‪.‬قال االمسعودي‪ :‬وقد أتينا على أخبارهم وما أحكمنا من ذكر شِ َيمِهم‬
‫صفحة ‪97 :‬‬

‫وعجائب سيرهم ومتصرفاتهم في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب األوسط‪ ،‬وك??ذلك‬
‫أتينا على ذكر أخبار المهراج ملك الجزائر والطيب واألفاوية م??ع س??ائرملوك الهن??د‬
‫ومع القنجب وغيره من ملوك الجبال مما قاب??ل ه??ذه الجزائ??ر ك??الزابج وغيره??ا من‬
‫بالد الصين‪ ،‬وأخبار ملوك الص??ين ومل??ك س??رنديب م??ع مل??ك من??دورفين‪ ،‬وهي بالد‬
‫مقابلة لجزيرة س??رنديب كمقابل??ة بالد قم??ار لجزائ??ر المه??راج من ال??زانج وغيره??ا‪،‬‬
‫وكل ملك تمل??ك بالد من??دورفين يس??مى المقاي??دي‪ ،‬وس??نأتي بجم??ل من أخب??ار مل??وك‬
‫الشرق والغرب واليمن والحيرة فيما يرد من ه??ذا الكت??اب ومن أخب??ار مل??وك اليمن‬
‫والفرس والروم واليونانيين والمغرب وأنواع األحابيش والسودان ومل??وك الص??ين‬
‫ولد يافث‪ ،‬وغير ذلك من أخبار العالم وعجائب األمم‪.‬‬

‫ذكر جبل القبخ وأخبار األمم‬

‫من االن والسرير والخزر وأنواع الترك والبرغز وغيرهم وأخبار الباب واألبواب‬
‫و َمنْ حولهم من الملوك واألمم‪.‬‬

‫جبل القبخ‬

‫أما جب?ل القبخ فهوجب??ل عظيم‪ ،‬وص?قعه ص??قع جلي?ل‪ ،‬ق?د أش?تمل على كث?ير من‬
‫الممال?ك واألمم‪ ،‬وفي ه?ذا الجب?ل اثنت?ان وس?بعون أم?ة‪ ،‬ك?ل أم?ة له?ا مل?ك ولس?ان‬
‫بخالف لغة غيرها‪ ،‬وه??ذا الجب??ل ذو ش??عاب وأودي??ة‪ ،‬ومدين?ة? الب?اب واألب??واب على‬
‫شعب من شعابه‪َ ،‬ب َناها كسرى أنو شروان وجعلها بين ?ه? وبين بح??ر الخ??زر‪ ،‬وجع??ل‬
‫إلى البح??ر‪ ،‬ثم على جب??ل القبح‬‫هذا السور من جوف البحرعلى مقدار ميل منه ماداً ِ‬
‫ماداً في أعاليه ومشخفضاته وشعابه نح??واَ من أربعين فرس??خاً‪ ،‬إلى أن ينتهي? ذل??ك‬
‫إلى قلعة ُيقال لها طبرستان‪ ،‬وجعل على كل ثالثة أمي??ال من ه??ذا الس??ور أو أق??ل أو‬
‫أكثر على حسب الطريق الذي جعل الباب من أجله بابا ً من حديد‪ ،‬وأس??كن في??ه على‬
‫كل باب من داخله أمة تراعي ذلك الباب وما يلي??ه من الس??ور‪ ،‬ك??ل ذل??ك لي??دفع أذى‬
‫وأنواع ال??ترك والس??رير وغ??يرهم من‬ ‫ِ‬ ‫األمم المتصلة بذلك الجبل‪ .‬من الخزر َوالالن‬
‫أن??واع الكف??ار‪ ،‬وجب??ل القبخ يك??ون في المس??افة عل??واَ وط??والً وعرض ?ا ً نح??واً من‬
‫شهرين‪ ،‬بل وأكثر‪ ،‬وحوله أمم ال يحصيهبم إال الخالق عز وج??ل‪ ،‬أح??د ش??عابه على‬
‫بح??ر الخ??زر مم??ا يلي الب??اب واألب??واب على م??ا ذكرن??ا‪ ،‬ومن ش??عابه مم??ا يلي بح??ر‬
‫مايطس المقدم ذكره فيما سلف من هذا الكالم الذي ينتهي إليه خليج القسطنطينية‪?،‬‬
‫وعلى بحر طرابزندة‪ ،‬وهي مدينة? على ش??اطىء ه??ذا البح??ر له?ا أس??واق في الس??نة‬
‫يأتي إليها كثير من األمم للتجارة من المس??لمين وال??روم واألرمن وغ??يرهم من بالد‬
‫أنوشروان هذه المدينة المعروفة بالباب واألبواب والس??ور في ال??بر‬‫َ‬ ‫كشك ولما بني‬
‫والبحر والجبل أسكن هناك أمما ً من الناس وملوكاً‪ ،‬وجعل لهم مراتب َرتب ُه ْم عليه??ا‬
‫ووسم كل أمة منهم بسمة? معلومة‪َ ،‬وحدَّ له حداً معلوما ً على حسب فعل أردشير بن‬
‫أنوشروان من الملوك في بعض‬ ‫َ‬ ‫بابك حين رتب ملوك خراسان‪ ،‬فممن رتب منهم‬
‫صفحة ‪98 :‬‬

‫ه??ذه البق??اع والمواض??ع مم??ا يلي اإِل س??الم من بالد بردع??ة مل??ك يق??ال ل??ه ش??روان‪،‬‬
‫ومملكته مضافة إلى اسمه فيقال له شروان شاه‪ ،‬وكل ملك يلي هذا الصقع يقال ل??ه‬
‫شروان‪ ،‬وتكون مملكته في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة نح??واً من‬
‫شهر ألنه كان تغ َل َب على مواضع لم يكن رسمها له أنوشروان فانضافت إلى ملكه‪،‬‬
‫والملك في هذا الوقت المؤرخ وهّللا أعلم مس??لم ُيق??ال ل??ه محم??د بن يزي??د‪ ،‬وه??و من‬
‫ولد بهرام جور‪ ،‬الخالف في نسبه‪ ،‬وكذلك ملك السرير من ولد بهرام جور‪ ،‬وكذلك‬
‫صاحب خراسان في هذا الوقت المؤرخ من ولد إسماعيل بن أحمد‪ ،‬وإس??ماعيل من‬
‫ولد بهرام جور‪ ،‬الخالف فيما ذكرنا من شهرة أنساب من ذكرنا‪ ،‬وق??د تمل??ك محم??د‬
‫بن يزيد هذا وهو شروان على مدينة? الب??اب واألب??واب‪ ،‬وذل??ك بع??د م??وت ص??هر ل??ه‬
‫ُيق??ال ل??ه عب??د المل??ك بن هش??ام‪ ،‬وك??ان رجاًل من األنص??ار‪ ،‬وك??ان في??ه إم??رة الب??اب‬
‫واألبواب‪ ،‬وقد كانوا قطنوا تلك الديار منذ دخلها َم ْس َلمة? بن عب??د المل??ك وغ??يره من‬
‫أمراء اإلسالم في صدر الزمان‪.‬‬

‫إيران‬
‫وتلى مملكة شروان مملكة اخرى من جبل القبخ يقال لها اإِل يران‪ ،‬وملكه??ا ي??دعى‬
‫اإِل ي??ران ش??اه‪ ،‬وق??د غلب على ه??ذه المملك??ة في ه??ذا ال??وقت ش??روان أيض ?اً‪ ،‬وعلى‬
‫مملكة اخرى ُيق?ال له?ا مملك?ة الموقاني?ة‪ ،‬والمع?ول في مملكت?ه على مملك?ة اللك?ز‪،‬‬
‫وهي أمة ال تحصى كثرة ساكنة في أعالي هذا الجبل‪ ،‬ومنهم كف??ار ال ينق??اعون إلى‬
‫ملك شروان ُيقال لهم الدودانية? جاهلية ال يرجعون إلى ملك‪ ،‬ولهم أخبار طريفة في‬
‫المن??اكح والمع??امالت‪ ،‬وه??ذا الجب??ل فأودي??ة وش??عاب وفج??اج‪ ،‬وفي??ه أمم ال يع??رف‬
‫بعض??هم بعض ?ا ً لخش??ونة? ه??ذا الجب??ل وامتناع??ه وذهاب??ه في الج??و وك??ثرة غياض??ه‬
‫وأشجاره وتسلسل المي??اه من أعاله وعظم ص??خوره وأحج??اره‪ ،‬وغلب ه??ذه الرج??ل‬
‫سمها كس??رى أنوش??روان‬ ‫المعروف بشروان على ممالك كثيرة من هذا الجبل كان َر َ‬
‫لغ??يره ممن رتب هن??اك‪ ،‬فأض??افها محم??د بن يزي??د إلى ملك??ه‪ :‬منه??ا خراس??ان ش??اه‬
‫وزادان شاه‪ ،‬وسنذكر بعد هذا الموض?ع تغلب?ه على مملك?ه ش?روان‪ ،‬وق?د ك?ان قب?ل‬
‫ذلك على اإِل يران هو وأبوه من قبل‪ ،‬ثم على سائر الممالك‪.‬‬

‫طبرستان‬
‫وتلي مملكة شروان في جبل القبخ مملكة طبرستان‪ ،‬وملكها في هذا الوقت مسلم‪،‬‬
‫وهو ابن أخت عبد الملك الذي كان أمير الباب واألب??واب‪ ،‬وهي أول االمم ال ُم َّتص??لة‬
‫بالباب واألبواب‪.‬‬

‫صفحة ‪99 :‬‬

‫جيدان‬

‫ويبادي أهل الباب واألبواب مملكة ُيقال لها جيدان‪ ،‬وه??ذه األمةداخل??ة في جمل??ة‬
‫ملوك الخزر‪ ،‬وقد كانت دار مملكتها مدينة على ثماني??ة أي??ام من مدين??ة الب??اب يق??ال‬
‫لها سمندر‪ ،‬وهي اليوم يسكنها خلق من الخزر‪ ،‬وذلك أنها افتتحت في بدء الزمان‪،‬‬
‫افتتحها سليمان بن ربيعة الب??اهلي رض??ي هللا تع??الى عن??ه‪ ،‬فانتق??ل المل??ك عنه??ا إلى‬
‫مدينة? آمل‪ ،‬وبينها وبين األولى سبعة أيام‪ ،‬وآمل التي يسكنها مل??ك الخ??زر في ه??ذا‬
‫الوقت ثالث قطع يقسمها نهرعظيم يرد من أعالي بالد ال??ترك ويتش??عب مت??ه ش??عبة‬
‫نحوبالد البرغز وتصب في بح?ر م?ايطس‪ ،‬وه?ذه المدين?ة جانب?ان‪ ،‬وفي وس?ط ه?ذا‬
‫النهر جزيرة فيها دار الملك‪ ،‬وقصر الملك في وسط هذه الجزيرة‪ ،‬وبه??ا جس??ر إلى‬
‫أحد الجانبين من سفن‪ ،‬وفي هذه المدينة? خل??ق من المس??لمين والنص??ارى واليه??ود‬
‫تهودَ ملك الخزر‬‫والجاهلية؛ فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه‪ ،‬وكان َّ‬
‫في خالفة هرون الرشيد‪ ،‬وقد انضاف إليه خلق من اليه??ود َو َردُوا علي??ه من س??ائر‬
‫أمصار المسلمين ومن بالد الروم‪ ،‬وذلك أن ملك ال??روم في وقتن??ا ه??ذا‪ ،‬وه??و س??نة‬
‫اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ،‬وهم أرمنوس َن َق?ل َ من ك??ان في ملك??ه من اليه??ود إلى دين‬
‫النصرانية وأكرههم‪ ،‬وسنذكر فيما يرد من هذا الكت??اب كيفي??ة أخب??ار مل??وك ال??روم‪،‬‬
‫ش?اركه في ملك?ه في ه?ذا ال?وقت الم?ؤرخ‪،‬‬ ‫وأعدادهم‪ ،‬وأخب?ار ه?ذا المل?ك ومن ق?د َ‬
‫فتهار َب خلق من اليهود من أرض الروم إلى أرضه على م??ا وص??فنا‪ ،‬وك?اذ لليه??ود‬ ‫َ‬
‫مع ملك الخزرخبر ليس هذا موضع ذكره‪.‬‬

‫عادة حرق الموتى وسائر حوائجهم‬


‫وقد ذكرناه فيما سلف من كتبن??ا‪ .‬وأم??ا َمنْ في بالده من الجاهلي??ه فأجن??اس‪ :‬منهم‬
‫الصقالبة‪ ،‬والروس‪ ،‬وهم في أحد ج??انبي ه??ذه المدين??ة‪ ،‬ويحرق??ون موت??اهم ودواب‬
‫ميتهم وآالته والحلى‪ ،‬وإذا مات الرج??ل أح??رقت مع??ه امرأت??ه وهي في الحي??اة‪ .‬وإن‬
‫م??اتت الم??رأة لم يح??رق الرج??ل‪ ،‬وإذا م??ات منهم أع??زب زوج بع??د وفات??ه والنس??اء‬
‫يرغبن في تحريق أنفسهن لدخولهن عند أنفسهن الجنة‪ ،‬وهذا فعل من أفعال الهن??د‬
‫على حسب ما ذكرنا آنفاً‪ ،‬إال أن الهند ليس من شأنها أن تحرق المرأة م??ع زوجه??ا‬
‫إال أنْ ترى ذل?ك الم??رأة والغ??الب في ه??ذا البل??د المس??لمون؛ ألنهم جن??د المل??ك‪ ،‬وهم‬
‫يعرفن في هذا البلد بالالرسية‪ ?،‬وهم ناقلة من نحو ُخ َو ْ‬
‫ارز َم‪ ،‬وكان في ق??ديم الزم??ان‬
‫بعد ظهور اإِل سالم وقع في بالدهم جدب‪ ،‬ووباء‪ ،‬فانتقلوا إلى ملك الخ??زر‪ ،‬وهم ف??و‬
‫بأس وشدة‪ ،‬وعليهم يع??ول مل?ك الخ??زر في حروب??ه‪ ،‬وأق??اموا في بللى على ش??روط‬
‫بينهم‪ ،‬أحدها إظهار الدين والمساجد واألذان‪ ،‬وثانيها أن تكون وزارة المل??ك فيهم‪،‬‬
‫والوزير في وقتنا هذا منهم هو أحمد بن كويه‪ ،‬وثالثها أنه م??تى ك??ان لمل??ك الخ??زر‬
‫حرب مع المسلمين وقفا في عسكره منفردين عن غ?يرهم ال يح?اربون أه?ل ملتهم‪،‬‬
‫ويحاربون جهل ملتهم‪ ،‬ويحاربون معه سائر الن??اس من الكف??ار‪ ،‬وي??ركب منهم م??ع‬
‫الملك في هذا الوقت شخوص منهم سبعة آالف ناشب بالجواشن وال??دروع والخ??وذ‬
‫ومنهم رامحة أيضا ً على حسب ما في المسلمين من آالت السالح‪ ،‬ولهم قضاة‬
‫صفحة ‪100 :‬‬

‫ور ْس?? ُم دار مملك??ة الخ??زر أن يك??ون فيه??ا قض??اة س??بعة‪ :‬اثن??ان منهم‬
‫مس??لمون‪َ ،‬‬
‫للمس?لمين‪ ،‬واثن?ان للخ?زر يحكم?ان بحكم الت?وراة‪ ،‬وائن?ان لمن به?ا من النص?رانية?‬
‫يحكم??ان بحكم النص??رانية‪ ،‬وواح??د منهم للص??قالبة وال??روس وس??ائرالجاهلية يحكم‬
‫بأحكام الجاهلية وهي قضايا عقلية؛ فإذا ورد عليهم م??ا ال علم لهم ب??ه من الن??وازل‬
‫العظام اجتمعوا إلى قضاة المسلمين فتحاكموا إليهم انق??ادوا إلى م??ا توجب??ه ش??ريعة‬
‫اإِل س??الم‪ ،‬وليس في مل??وك الش??رق في ه??ذا لص??قع من ل??ه جن??د مرتزق??ة غ??ير مل??ك‬
‫الخزر‪ ،‬وكل مسلم من تلك الديار مرف بأس??ماء ه??ؤالء الق??وم الالرس??ية‪ ?،‬وال??روس‬
‫والصقالبة ال??ذين ذكرن??ا أنهم جاهلي??ة هم جن??د المل??ك وعبي??ده‪ ،‬وفي بالده خل??ق من‬
‫المس??لمين تجاروص??ناع غ??ير الالرس??ية? ف??روا إلى بالده لعدل??ه وأمن??ه‪ ،‬ولهم مس??جد‬
‫جامع‪ ،‬والمنارة تشرف على قصر الملك‪ ،‬ولهم مساجد أخ??رى فيه??ا المك??اتب لتعليم‬
‫الص??بيان الق??رآن‪ ،‬ف??إذا اتف??ق المس??لمون ومن به??ا من النص??ارى لم يكن للم??ك بهم‬
‫طاقة‪.‬‬

‫مراسم خاقان‬

‫قال المسعودي‪ :‬وليس إخبارنا عن ملك الخزر نريد به خاق?ان‪ ،‬وذل?ك أن للخ?زر‬
‫ملكا ً ُيقال له خاقان‪ ،‬ورسمه? أن يكون في ي??دي مل??ك آخ??ر ه??و وغ??يره‪ ،‬فخاق??ان في‬
‫ج??وف قص??ر ال يع??رف الرك??وب وال الظه??ور للخاص??ة وال للعأم??ة‪ ،‬وال الخ??روج من‬
‫مس??كنه‪ ،‬مع??ه حرم??ه‪ ،‬وال ي??أمر وال ينهى‪ ،‬وال ي??دبر من أم??ر المملك??ة ش??يئاً‪ ،‬وال‬
‫تس??تقيم مملك??ة الخ??زر لملكهم إال بخاق??ان يك??ون عن??ده في دار مملكت??ه‪ ،‬ومع??ه في‬
‫ح??يزه‪ ،‬ف?إذا أج?د بت أرض الخ??زر أو ن?ابت بل?دهم نائب??ة‪ ،‬أو ت?وجهت عليهم ح?رب‬
‫لغ??يرهم من األمم‪ ،‬أو فاج??أهم أم??ر من األم??ور‪ ،‬نف??رت الخاص??ة والعأم??ة إلى مل??ك‬
‫الخزر‪ ،‬فقالوا له‪ :‬قد تطيرنا بهذا الخاقان وأيامه‪ ،‬وقد تشاء منابه‪ ،‬فاقتله أو س??لمه‬
‫إلينا نقتله‪ ،‬فربما سلَّمه إليهم فقتلوه‪ ،‬وربما ت??ولَّى ه??و قتل??ه‪ ،‬وربم??ا َر َّق ل??ه ف??دافع‬
‫عنه ألنقتله بال جرم استحقه وال ذنب أتاه ه??ذا رس??م الخ??زر في ه??ذا ال??وقت فلس??ت‬
‫أدري‪ :‬أفي قديم الزمان كان ذلك أم حدث‪ ،‬وإنم??ا منص??ب خاق??ان ه??ذا من أه??ل بي ٍ‬
‫ت‬
‫بأعياِنهم أرى أن الملك كان فيهم قديماً‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫نهر برطاس‬
‫وللخزر زوارق يركب فيها الركاب التجار في نه??ر ف??ق المدين??ة يص??ب إلى نهره??ا‬
‫من أعاليها‪ُ ،‬يقالى له برطاس‪ ،‬عليه أمم من الترك حاضرة داخلة في جمل??ة ممال??ك‬
‫الخزر‪ ،‬وعمائرهم متصلة بين مملكة الخزر والبرغز‪ ،‬يرد هذا النه??ر من نح??و بالد‬
‫البرغز‪ ،‬والسفن تختلف فيه من البرغز والخزر‪.‬‬

‫صفحة ‪101 :‬‬

‫أمة برطاس‬
‫وبرطاس أمة من الترك على ما ذكرنا على هذا النه??ر المع??روف بهم‪،‬ومن بالدهم‬
‫تحمل جلود الثعالب السود‪ ،‬والحمر التي تعرف بالبرطاسية‪ ?،‬يبلغ الجل??د منه??ا مائ??ة‬
‫دينار‪ ،‬وأكثر من ذلك‪ ،‬وذلك من السود‪ ،‬والحمر أخفض ثمن ?ا ً منه??ا‪ ،‬وتلبس الس??ود‬
‫منه??ا مل??وك الع??رب والعجم‪ ،‬وتتن??افس في لبس??ه‪ ،‬وه??و أغلى عن??دهم من الس??مور‬
‫والفنك وما شاكل ذلك‪ ،‬وتتخذ الملوك منه القالنس والخفاف والحواويج ويتعذر في‬
‫المل??وك من ليس ل??ه خف??ان ودواج مبطن من ه??ذه الثع??الب البرطاس??ية الس??ود‪.‬وفي‬
‫أعالي نهر الخزرمصب متصل? بخليج من بحر نيطس‪ ،‬وهو بحر ال??روس ال يس??لكه‬
‫غيرهم‪ ،‬وهم على ساحل من سواحله‪ ،‬وهي أم??ة عظيم??ة جاهلي??ة التنق??اد إلى مل??ك‬
‫وال إلى شريعة‪ ،‬وفيهم تجار يختلفن إلى مل??ك ال??برغز ولل??روس في أرض??هم مع??دن‬
‫الفضة كثير نحو معدن الفضة الذي بجبل بنجهير من أرض خراسان‪.‬‬

‫البرغز‬
‫ومدينة? البرغز على ساحل بح??ر م??ايطس‪ ،‬وأرى أنهم في اإلِقليم الس??ابع‪ ،‬وهم‬
‫نوع من ال??ترك‪ ،‬والقواف??ل متص??لة بهم من بالد خ??وارزم من أرض خراس??ان‪ ،‬ومن‬
‫خوارزم إليهم‪ ،‬إال أن ذل??ك بين ب??وادي غ??يرهم من ال??ترك‪ ،‬والقواف??ل مخف??رة منهم‪.‬‬
‫وملك البرغز في وقتنا هذا وهوسنة اثنتين وثالنين وثلثمائة مس??لم‪ ،‬أس??لم في أي??ام‬
‫المقتدر باهلل‪ ،‬وذلك بعد العشر والثلثمائة‪ ?،‬وذلك لرؤيا رآهأ‪ ،‬وقد ك??ان ل??ه ول??د ًح ّج‪،‬‬
‫جامع‪ ،‬وهذا المل??ك‬‫ِ‬ ‫وورد مدينة? السالم‪ ،‬وحمل معه لمقتدر لواء و ُب ُنودأ وماالً ولهم‬
‫غزا بالد القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداَ ويشن الغ??ارات حوله??ا‬
‫إلى بالد رومي???ة? واألن???دلس وأرض برج???ان والجاللق???ة واإِل فرانج???ة‪ ،‬ومنهم إلى‪.‬‬
‫القسطنطينية نحو من شهرين متصلين عم??ائر ومف??اوز‪ ،‬وق??د ك??ان المس??لمون حين‬
‫غزوا من بالد طرسوس من الثغر الشامي مع أم??ير الثغ??ور ثم??ل الخ??ادم المع??روف‬
‫بالزلفى ومن كان معه من مراكب الشاميين والبصريين سنة? اثنتي عشرة وثلثمائ??ة‬
‫قطعوا فم خليج القسطنطينية وفم خليج آخرمن البحر الرومي ال منف??ذ ل?ه‪ ،‬وانته??وا‬
‫إلى بالد فندب??ة‪ ،‬وأت??اهم في البح??ر جماع??ة من ال??برغز ينج??دونهم‪ ،‬وأخ??بروهم أن‬
‫ملكهم بالقرب‪ ،‬وهذا يدل على ما وصفنا أن البرغز تتصل سراياها إلى ساحل بح??ر‬
‫ال???روم‪ ،‬وك???ان نف???ر منهم ركب???وا في م???راكب الطرسوس???يين‪ ،‬ف???أتوا بهم إلى بالد‬
‫طرسوس‪ ،‬والبرغز أمة عظيمة منيعة? ش?ديدة الب?أس‪ ،‬ينق?اد إليه?ا من جاوره?ا من‬
‫األمم‪ ،‬والفارس ممن قد أسلم مع ذل?ك المل?ك يقات?ل المائ?ة من الفرس?ان والم?ائتين‬
‫من الكفار‪ ،‬وال يمتنع? أهل القسطنطينية منه في هذا الوقت إال بسورها‪ ،‬وك??ذلك ك??ل‬
‫من ك??ان في ه??ذا الص??قع ال يعتص??م منهم إال بالحص??ون والج??دران‪ ،‬واللي??ل في بالد‬
‫البرغز في نهاية من القصر في بعض السنة‪ ،‬ومنهم من زعم أن أحدهم ال يستطيع?‬
‫أن يفرغ من طبخ قدره حتى يأتي الصباح‪ ،‬وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا علة ذلك‬
‫من الوجه ال َفلكي‪ ،‬وعلة الموضع الذي يكون الليل فيه ستة أش??هر متص??لة ال نه??ار‬
‫فيه‪ ،‬والنهار ستة? أشهر متصلة ال ليل فيه‪ ،‬وذل?ك نح?و الج?دي‪ ،‬وق?د ذك?ر أص?حاب‬
‫النجوم في الزيجات علة ذلك من الوجه الفلكي‪.‬‬
‫صفحة ‪102 :‬‬

‫الروس وأجناسهم‬

‫والروس‪ :‬أمم كثيرة وأنواع شتى‪ ،‬ومنهم من ُيقال لهم اللوذعانة‪،‬وهم األكثرون‪،‬‬
‫يختلفن بالتج??ارة إلى بالد األن??دلس ورومي??ة وقس??طنطينية والخ??زر وق??د ك??ان بع??د‬
‫الثالثمائة? ورد عليهم نحو من خمسمائة مركب‪ ،‬في كل م??ركب مائ??ة نفس‪ ،‬ف??دخلوا‬
‫خليج نيطس المتصل ببحر الخزر‪ ،‬وهنالك رجال ملك الخزر مرتبين بالع??دد القوي??ة‬
‫يصدّ ون من يرد من ذلك البحر‪،‬ومن يرد من ذل??ك الوج??ه من ال??بر ال??ذي ش??عبه من‬
‫ش َتي?‬
‫بحر الخزر تتصل ببحر نيطس‪ ،‬وذلك أن َب َوادي الترك الغز ترد إلى ذلك البرو ُت َ‬
‫هنالك‪ ،‬فربما يجمد هذا الماء المتصل من نهر الخزر إلى خليج نيطس‪ ،‬فتع??بر الغ??ز‬
‫عليه بخيولها‪ ،‬وهوماء عظيم‪ ،‬فالينخسف من تحتهم لشدة اس?تحجاره‪ ،‬فتغ?ير على‬
‫بالد الخزر‪ ،‬وربما يخرج إليهم ملك الخزر إذا عجز َمنْ هنالك من رجال??ه المرت??بين‬
‫عن دفعهم َو َم َن َعهم العبور على ذلك ا ْل َج َم? دِ‪ ،‬وأم??ا في الص??يف فال س??بيل لل??ترك إلى‬
‫العب??ور‪ ،‬فلم??ا وردت م??راكب ال??روس إلى رج??ال الخ??زر المرت??بين على فم الخليج‬
‫راسلوا ملك الخزر في أ ان يجتازوا البالد وينحدروا في نهره في??دخلوا نه??ر الخ??زر‬
‫ويتصلوا ببحر الخزر الذي هو بحر جرنجان وطبرستان وغيرهما من بالد األعاجم‬
‫على ما ذكرنا‪ ،‬ويجعلوا لملك الخزر النصف مما يغنمون ممن هن??اك من األمم على‬
‫ذل??ك البح??ر‪ ،‬فأب??احهم ذل??ك‪ ،‬ف??دخلوا الخليج واتص??لوا بمص??ب النه??ر في??ه‪ ،‬وس??اروا‬
‫ص ِع دين في تلك الشعبة من الماء‪ ،‬حتى وصلوا إلى نهر الخزر‪ ،‬وانحدروا فيه إلى‬ ‫ُم ْ‬
‫مدينة? آمل واجتازوا به??ا وانته??وا إلى فم النه??ر ومص??به إلى البح??ر الخ??زري‪ ،‬ومن‬
‫مصب النهر إلى مدينة? آمل وهو نهر عظيم وماء كثير فانتشرت مراكب الروس في‬
‫هذا البحر‪ ،‬وطرحت س??راياها إلى الجي??ل وال??ديلم وبالد طبرس??تان وآبس??كون‪ ،‬وهي‬
‫بالد على س??احل جرج??ان وبالد النفاط??ة‪ ،‬ونح??و بالد أذر بيج??ان‪ ،‬وذل??ك أن من بالد‬
‫أردبي??ل من بالد أذر بيج??ان إلى ه??ذا البح??ر نح??و من نالث??ة أي??ام‪ ،‬فس??فكت ال??روس‬
‫الدماء‪ ،‬واستباحت النسوان والولدان‪ ،‬وغنمت األموال‪ ،‬وشنت الغارات‪ ،‬وأخ??ربت‪،‬‬
‫وأخرقت‪ ،‬فضج َمنْ حول هذا البح??ر من الألمم‪ ،‬ألنهم لم يكون??وا يعه??دون في ق??ديم‬
‫الزمان عدواً يط??رقهم في??ه‪ ،‬إنم??ا تختل??ف في??ه م??راكب التج??ار والص??يد‪ ،‬وك??انت لهم‬
‫حروب كثيرة مع الجيل والديلم مع قائد البن أبي الساج‪ ،‬فانتهوا إلى ساحل النفاطة‬
‫من مملكة شروان المعروفة بباكة‪ ،‬وكانت الروس تأوي عند رجوعها من غاراته??ا‬
‫الى جزائر تقرب من النفاط?ة على أمي?ال منه?ا‪ ،‬وك?ان مل?ك ش?روان يومئ?ذعلي بن‬
‫الهيثم‪ ،‬فاستعد الناس‪ ،‬وركب??وا في الق??وارب‪ ،‬وم??راكب التج??ار‪ ،‬وس??اروا نح??و تل??ك‬
‫الجزائر‪ ،‬فمالت عليهم الروس‪ ،‬فقت??ل من المس??لمين وغ??رق أل??وف‪ ،‬وأق??ام ال??روس‬
‫شهوراً كثيرة في هذا البحر على ما وصفنا ال سبيل? ألحد ممن جاور هذا البح??ر من‬
‫األمم أليهم‪ ،‬والناس مهتابون لهم‪ ،‬ح??ذرون منهم‪ .‬ألن??ه بح??ر غ??امر لمن حول??ه من‬
‫األمم‪ ،‬فلما غنموا وسئموا ما هم فيه ساروا إلى فم نه??ر الخ??زر ومص??به‪ ،‬فراس??لوا‬
‫ملك الخزر وحملوا إلي?ه األم?وال والغن?ائم على م?ا اش?ترط عليهم‪ ،‬ومل?ك الخ?زر ال‬
‫م??راكب ل??ه‪ ،‬وليس لرجال??ه به??ا ع??ادة‪ ،‬ول??وال ذل??ك لك??ان على المس??لمين منهم آف??ة‬
‫عظيمة‪ ،‬وعلم بشأنهم الالرسية? ومن في البالد الخزر من المسلمين‪ ،‬فقالوا لملك‬
‫صفحة ‪103 :‬‬

‫الخ??زر‪َ :‬خلِّ َن??ا وه??ؤالء الق??وم فق??د أغ??اروا على بالد إخوانن??ا المس??لمين‪ ،‬وس??فكوا‬
‫ال??دماء‪ ،‬وس???بوا النس???اء وال???ذراري‪ ،‬فلم يمكن المل ??ك منعهم‪ ،‬وبعث إلى ال??روس‬
‫فأعلمهم بما قد عزم عليه المس??لمون من ح??ربهم‪ ،‬وعس??كروا‪ ،‬وخرج??وا يطلب??ونهم‬
‫منح??درين م??ع الم??اء‪ ،‬فلم??ا وقعت العين على العين خ??رجت ال??روس عن مراكبه??ا‬
‫وصافا المسلمين‪ ،‬وكان مع المسلمين خلق من النصارى من المقيمين بمدين?ة? آم??ل‬
‫سلمون في نحو خمسة عشر ألفا ً بالخيل والعدد‪ ،‬فأقام الح?رب بينهم ثالث?ة‬ ‫وكان الم َ‬
‫أيام‪ ،‬ونصر هّللا المسلمين عليهم‪ ،‬وأخذهم السيف‪ :‬فمن قتيل‪ ،‬وغريق‪ ،‬ونج??ا منهم‬
‫نحو خمسة آالف‪ ،‬فركبوا في المراكب إلى ذلك ذلك الجانب مم??ا يلي بالد برط??اس‪،‬‬
‫وتركوا مراكبهم وتعلق??وا ب??البر فمنهم من قتل??ه أه??ل برط??اس‪ ،‬ومنهم من وق??ع إلى‬
‫بالد ال??برغز إلى المس??لمين فقتل??وهم‪ ،‬وك??ان من وق??ع علي??ه اإِل حص??اء ممن قتل??ه‬
‫المسلمون على شاطىء نهر الخزر نحواً من ثالثين ألفاً‪ ،‬ولم يكن لل??روس من تل??ك‬
‫السنة عودة إلى ما ذكرنا‪.‬‬

‫ق?ال المس?عودي‪ :‬وإنم?ا ذكرن?ا ه?ذه القص?ة دفع?ا ً لق?ول من زعم أن بح?ر الخ?زر‬
‫متصل‪ ?،‬ببحر مايطس وخليح القسطنطينية من جهة بحر م??ايطس ونيطس ولوك??ان‬
‫له??ذا البح??ر اتص??ال بخليج القس??طنطينية من جه??ة بح??ر م??ايطس أو نيطس لك??انت‬
‫الروس قد خرجت فيه‪ ،‬إذ كان ذلك بحرها على ما ذكرنا‪ ،‬وال خالف بين من ذكرن??ا‬
‫ممن تجاوز هذا البحر من األمم في أن بحر األعاجم ال خليج له متص??ل‪ ،‬بغ??يره من‬
‫البحار ة ألنه بحر صغيريحاط بعلمه‪ ،‬وما ذكرنا من مراكب ال??روس فمس??تفيض في‬
‫تلك البالد عند سائر األمم‪ ،‬والسنة معروفة‪ ،‬و َكانت بعد الثالثمائة‪ ?.‬وق??د غ?اب ع?ني‬
‫تاريخها‪ ،‬ولعل من ذك??ر أن بح??ر الخ??زر متص??ل بخليج القس??طنطينية يري??د أن بح??ر‬
‫وهللا أعلم بكيفي?ة?‬
‫ّ‬ ‫الخزر هو بحر مايطس ونيطس الذي هو بحر ال??برغز وال??روس‪،‬‬
‫ذلك‪ .‬وساحل طبرستان على هذا البحر‪ ،‬وهنالك مدين??ة ُيق??ال له??ا الهم‪،‬وهي فرض??ة‬
‫قريبة? من الساحل‪ ،‬وبينها وبين مدينة? آمل ساعة من النهار‪ ،‬وعلى ساحل جرجان‪،‬‬
‫مما يلي هذا البحر‪ ،‬مدينة ُيقال لها آبسكون‪ ،‬على نحو من ثالثة أي??ام من جرج??ان‪،‬‬
‫وعلى هذا البحر الجيل والديلم‪ ،‬وتختلف الم??راكب بالتج??ارات في??ه إلى مدين??ة آم??ل‪،‬‬
‫فيدخل في نهر الخزر إليها وتختل??ف‪ ،‬الم??راكب في??ه بالتج??ارات من المواض??ع ال??تي‬
‫سمينا من ساحله إلى باكة‪ ،‬وهي معدن النفط األبيض وغ??يره‪ ،‬وليس في الدنياوهللا‬
‫أعلم نفط أبيض إال في هذا الموض??ع‪ ،‬وهي على س??احل مملك??ة ش??روان‪ ،‬وفي ه??ذه‬
‫النفاط??ة أط َم??ة‪ ،‬وهي عين من عي??ون الن??ار ال ته??دأ على س??ائر األوق??ات َت َت َّ‬
‫ض??ر ُم‬
‫الصعداء‪.‬‬

‫حديث عن آطام النيران‬


‫ويقابل فذا الساحل في البحر جزائر‪ :‬منها جزيرة على نحو ثالثة أيام من الس??احل‬
‫فيها أطمة عظيمة تزفر في أوقات من فصول السنة فتظهر منها نار عظيمة ت??ذهب‬
‫في الهواء كأشمخ م??ا يك??ون من الجب??ال العالي??ة فتض??يء األك??ثر ‪ .‬من ه??ذا البح??ر‪،‬‬
‫ويرى ذلك من نحو مائة فرسخ من البر‪ ،‬وهذه األطمة تشبه? أطمة جبل البركان من‬
‫صفحة ‪104 :‬‬

‫بالد ص???قلية من أرض اإِل فرنج???ة ومن بالد إفريقي???ةمن? أرض المغ???رب‪ ،‬وليس في‬
‫آطام األرض أشد صوتا ً وال أسود دخانا ً وال كثر تلهب ?ا ً من األطم??ة ال??تي في أعم??ال‬
‫المه??راج‪ ،‬وبع??دها أطم??ة وادي بره??وت‪ ،‬وهي نح??وبالد س??بأ وحض??رموت من بالد‬
‫ش ْحر‪ ،‬وذلك بين بالد اليمن وبالد ُع َمان‪ ،‬وصوتها يسمع كالرعد من أمي??ال كث??يرة‬ ‫ال ِّ‬
‫تقذف من قعرها بجمركالجبال وقطع من الصخورسود حتى يرتف??ع ذل??ك في اله??واء‬
‫در ُك حسا ً من أميال كث??يرة ثم ينعكس س ?فاًل فيهوي إلى قعره??ا وحوله??ا‪ ،‬والجم??ر‬
‫َو ُي َ‬
‫الذي يظهر منها حجارة قد أحمرت مما قد أحالها من مواد حرارة الن??ار‪ ،‬وق??د أتين??ا‬
‫على عل??ة تك??ون عي??ون الن??يران في األرض‪ ،‬وم??ا س??بب مواده??ا‪ ،‬في كتابناأخب??ار‬
‫الزمان‪.‬‬

‫حديث عن البزاة‬
‫وفي هذا البحر جزائر أخرى مقابلة لساحل جرج?ان‪ ،‬يص?اد منه?ا ن??وع من ال ُب? َ‬
‫?زاة‬
‫أسرع الضواري إجاب??ة‪ ،‬وأقله??ا معاش??رة‪ ،‬إال أن في‬ ‫البيض‪ ،‬وهذا النوع من ال ُب َزاة ِ‬
‫ه??ذا الن??وع من ال ُب? ْ?زاة ش??يئا َ من الض??عف‪ ،‬ألن الص??ائد يص??طادها من ه??ذه الجزائ??ر‬
‫فيغذي َها بالسمك‪ ،‬فإذا اختلف عليها الغذاء عرض لها الض??عف‪ ،‬وق??د ق??ال الجمه??ور‬
‫من أهل المعرفة بالضواري وأن??واع الج??وارح من الف??رس وال??ترك وال??روم والهن??د‬
‫?زاة وأحس?نها‬ ‫والعرب‪ :‬إن الب?ازي إذا ك?ان إلى البي??اض في الل?ون؛ فإن??ه أس?رع ال ُب? َ‬
‫?بزاة على‬ ‫وأنبلها أجس??اماً‪ ،‬وأجرؤه??ا قلو َب? اَ‪ ،‬وأسهلهارياض??ة وإن??ه أق??وى جمي??ع ال? َ‬
‫السمو في الجو‪ ،‬وأذهبها الصعداء وأبع??دها غاي??ة في اله??واء؛ ألن فيه??ا من ح??رف‬
‫?زاة‪ ،‬وإن اختالف‬ ‫الح??رارة وج??راءة القلب م?ا ليس في غيره?ا من جمي??ع أن?واع ال ُب َ‬
‫ألوانه??ا الختالف مواض??عها‪ ،‬وإن من أج??ل ذل??ك خلص??ت ال??بيض لك??ثرة الثلج في‬
‫أرمينية وأرض الخزر وجرجان وما واالها من بالد الترك‪.‬‬
‫وقد حكي عن حكيم من خواقين الترك وهم الملوك المنقادة إلىملكهم جمي??ع مل??وك‬
‫?زاة أرض?نا إذا أس?قطت أنفس فراخه?ا من الوع?اء إلى الفض?اء‬ ‫الترك أنه قال‪ :‬إن ُب َ‬
‫سمت في آخر الجو إلى الهواء البارد الكثيف ف??أنزلت ع??واب تس??كن هن??اك فتغ??ذيها‬
‫به??ا‪ ،‬فال تلبث أن تق??وى وتنهض إِل س??راع الغ??ذاء فيه??ا‪ ،‬وأنهم ربم??ا وج??دوا في‬
‫أوكارها من تلك الدواب أشالء‪.‬وقد قاك جالينوس ‪ :‬إن اله??واء ح??ار رطب‪ ،‬وال??برد‬
‫يعرض فيه لقوة الرياح المرتفعة وال يخلوالجومن نشاء فيه وساكن‪.‬‬
‫وعن بليناس أنه قال‪ :‬واجب إذا كان لهذين االسطقصين يعني األرض والماء خلق‬
‫وساكن أن يكون لالسطقصين األعليين يعني الهواء والنار خلق وساكن‪.‬‬

‫القول بأن الهواء مسكون‬

‫َو َو َجدت في بعض أخبار ه??ارون الرش??يد أن الرش??يد خ??رج ذات ي??وم إلى الص??يد‬
‫فلم ي??زل يحل??ق‬
‫ببالد الموصل‪ ،‬وعلى يده بازأبيض ث فاضطرب على يده فأرسله ة ِ‬
‫حتى غاب في الهواء ثم طلع بعد اإِل ياس منه? وقد علق شيئا َ فهوى به يش??به الحي??ة‬
‫أو السمكة وله ريش كأجنحة السمك فأمر الرشيد فضع في طست ؛فلما عاد من‬
‫صفحة ‪105 :‬‬

‫َق َنصِ ِه أحضر العلم??اء فس??ألهم‪ :‬ه??ل تعلم??ون لله??واء س??اكناً‪ .‬فق??ال مقات??ل‪ :‬ي??ا أم??ير‬
‫المؤم??نين‪ ،‬روين??ا عن ج??دك عب??د هّللا بن عب??اس أن اله??واء معم??ور‪ ،‬ب??أمم مختلف??ة‬
‫دواب ت??بيض في اله??واء تف??رخ في??ه‪ ،‬يرفعه??ا اله??واء‬ ‫الخلق‪ ،‬فيها سكان أقربها منا َ‬
‫ت أو السمك‪ ،‬لها أجنحة ليست ب??ذات ريش‬ ‫الغليظ َويربيها حتى تنشأ في هيئة الح َّيا ِ‬
‫?زاة بيض تك??ون بأرميني??ة‪ ?،‬ف??أخرج الطس??ت إليهم‪ ،‬ف??أراهم الداب??ة‪ ،‬وأج??از‬ ‫تأخذها ُب? َ‬
‫مقاتاًل يومئذ‪.‬‬
‫و قدأخبرني غير‪ ،‬واحد من أهال التحص??يل بمص??روغيرهامن البالد أنهم ش??اهدوا‬
‫ت تس َعى كأسرع ما يك??ون من ال??برق بيض‪ ،‬وأنه??ا تق??ع على الحي??وان‬ ‫في الجو َح َّيا ٍ‬
‫في األرض فتقتل??ه‪ ،‬وربم??ا يس??مع? لطيرانه??ا في اللي??ل وحركته??ا في اله??واء ص??وت‬
‫كنشرثوب جديد‪ ،‬وربما يقول من ال علم له وغيره من البش??ر‪ :‬ه??ذا ص??وت س??احرة‬
‫لّطير‪ ،‬ذات أجنحة من قصب‪.‬وللناس كالم كث??ير فيم??ا ذكرن??ا‪ ،‬واس??تداللهم على ه??ذا‬
‫إنما هو بما يحدث في أسطقص الماء من الحيوان‪ ،‬وأنه يجب على ه??ذه القص??ة أن‬
‫يحدث ذلك بين العنصرين الخفيفين وهما الهواء والنار نشو وحي??وان كحدوث??ه بين‬
‫الثقيلين وهما األرض والماء‪.‬‬

‫وصف البزاة‬
‫?زا َة‪ ،‬وأغ?ربت في الوص?ف‪،‬‬ ‫ق?ال المس?عوعي‪ :‬وق?د وص?فت الحكم?اء والمل?وك ال ُب َ‬
‫وأطنبت في المدح‪ ،‬فقال خاقان ملك الترك‪ :‬البازي ش??جاع مري??د وق??ال كس??رى أن??و‬
‫شروان‪ :‬البازي رفيق يحسن اإِل ش?ارة وال ي?ؤخر الف?رص إذا أمكنت‪ ،‬وق?ال قيص?ر‪:‬‬
‫البازي ملك كريم إن احت??اج أخ??ذ وإن اس??تغنى ت??رك‪ ،‬وق??الت الفالس??فة‪ :‬حس??بك من‬
‫البازي سرعة في الطلب وقوة على الرزق وفي السمو إذا ط??الت قوادم??ه و َب ُع??دَ م??ا‬
‫بين منكبيه? ف??ذلك أبع??د لغايت??ه وأخ??ف لس??رعته‪ ،‬أال ت??رى إلى الص??قور ال ت??زداد في‬
‫غاياته??ا إال بع??داً وس??رعة وق??وة على التك??رار‪ ،‬وذل??ك لط??ول قوادمه??ا م??ع كثاف??ة‬
‫أجسامها‪ ،‬وإنما قصرت غاية البازي لقص?ر جناحي?ه ورق?ة جس?مه‪ ،‬ف?إذا ط?الت ب?ه‬
‫الغاية أخره ذلك حتى تشتد نفسه‪ ،‬وال ُت ْؤ َتى الجوارح إال من قصر القوادم‪ ،‬أال ترى‬
‫أن ال??دراج والس??ما ن والحج??ل واش??باهها حين قص??رت قوادمه??ا‪ ،‬كي??ف قص??رت‬
‫غاياتها‪ .‬وقال أرستجانس‪ :‬البازي طير عاري الحجاب‪ ،‬وما يفته في كسوره يزي??ده‬
‫في أخمصه ورجليه‪ ،‬وهو أضعف الطير جسماً‪ ،‬وأقواهاقلبا ً وأشجعها وذلك لفض??له‬
‫على سائر الطير بالجزء الذي فيه من الحرارة التي ليست في شيء منها‪َ ،‬و َوج??دنا‬
‫ص??دورها منس??وجة بالعص??ب ال لحم عليه??ا وق??ال ج??الينوس مؤي??دأ لم??ا ذهب إلي??ه‬
‫أرستجانس‪ :‬إن البازي ال يتخذ وكراً إال في ش??جرة َل َف??اء مش??تبكة? بالش??وك مختلف??ة‬
‫شجرعسى طلبأ للكن ودفعا ً أللم الحر وال??برد‪ ،‬ف??إذا أراد أن يف??رخ ب??نى‬
‫ِ‬ ‫الحجوم بين‬
‫لنفسه بيتا َ وسقفه تسقيفا ً ال يصل إليه منه مطروال ثلج إشفاقا ً على نفس??ه وفراخ??ه‬
‫من البرد والضر‪.‬‬

‫صفحة ‪106 :‬‬

‫أول من لعب بالصقور‬


‫وذك??ر أدهم بن مح??رز أن أول من لعب بالص??قور الح??ارث بن معاوي??ة بن ث??ور‬
‫?انقض‬
‫َّ‬ ‫الكندي‪ ،‬وهو أبوكندة‪ ،‬وأنه وقف يوما ً لقانص وقد نصب ِح َبال??ة للعص??افير ف?‬
‫ْأك? د ُر على عص??فر منه??ا ق??د عل??ق‪ ،‬فعلق??ه األك??در وه??و الص??قرومن اس??مائه أيض?ا ً‬
‫األجدل‪ ،‬فجعل يأكل العصفر وقد علق‪ ،‬فعجب المل??ك ف??أتى ب??ه وه??و يأك??ل العص??فر‪،‬‬
‫فرمى به في كِسر البيت‪ ،‬فرآه ق??د دجن ولم ي??برح? مكان??ه ولم ينف??ر‪ ،‬وإذا رمى إلي??ه‬
‫طعاما ً أكله‪ ،‬وإذا رأى لحما ً نهض إلى ي??د ص??احبه ثم دعى فأج??اب فطعم على الي??د‪،‬‬
‫وكانوا يتباهون بحمله‪ ،‬إذ رأى يوما ً حمأمة فطار إليها من يد حامله فعلقه??ا‪ ،‬ف??أمر‬
‫الملك بإتخاذها والتصيد بها‪ ،‬فبينما الملك يس??ير? يوم?ا ً إذ نفجت أرنب فط??ار الص??قر‬
‫إليها فأخذها‪ ،‬فطلب بها الطير واألرانب فقتلها‪ ،‬واتخذها العرب بعده‪ ،‬ثم استفاضت‬
‫في أيدي الناس‪.‬‬

‫أول من أتخذ الشواهين‬


‫فأما الشواهين فإن أرستجانس الحكيم ذكر في كتاب كان وجه به إلى المهدي‬
‫حمل إليه من أرض الروم أهداه إليه الملك أن ملكا َ من ملوك الروم ُيقالى له فسيان‬
‫نظريوما ً إلى شاهين َي ْه ِوي منحدراً على ط??ير الم?اء فيض??ربه ثم يس??مو? مرتفع?ا ً في‬
‫ار َت ُدلُّنا قوة انحداره على الطير في‬ ‫ض ٍ‬ ‫الهواء‪ ،‬حتى فعل ذلك مراراً‪ ،‬فقال‪ :‬هذا طير َ‬
‫أبي أل?وف‪،‬‬ ‫ضار‪ ،‬وتدلنا س?رعة ارتفاع?ه في ج?و الس?ماء على أن?ة ط?ير ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫الماء أنه‬
‫فلما رأى إلى حسن تكراره أعجبه‪ ،‬فكان أول من أتخذ الشواهين‪.‬وقد ذكر سعيد بن‬
‫عبيس عن هاشم بن خديج ق??ال‪ :‬خ??رج قس??طنطين مل??ك عموري??ة متص??يداً ب??البزاة‪،‬‬
‫?رج بين الخليج‬ ‫ح??تى انتهى إلى خليج نيطس الج??اري إلى بح??ر ال??روم فع??بر إلى َم? ْ‬
‫والبحر فسيح مديد‪ ،‬فنظر إلى شاهين يتكفأ على ط??ير الم??ات‪ ،‬فأعجب??ه م??ا رأى من‬
‫ض? ّراه‪ ،‬وك??ان‬ ‫سرعته وضراوته‪ ،‬ولم يدر الحيلة في ص??يده‪ ،‬ف??أمر أن يص??طاد ل??ه َف َ‬
‫قسطنطين أول من لعب بالشواهين‪ ،‬ونظر إلى ذلك المرج البس??اط مفروش ?ا ً ب??ألوان‬
‫الزهر‪ ،‬فقال‪ :‬هذا موضع حصين بين نهر وبحر‪ ،‬وله سعة وامتداد يصلح أن يكون‬
‫فيه مدينة‪ ?،‬فبنى فيه مدينة القس??طنطينية‪ ?،‬وس??نذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب عن??د‬
‫ذكرنا لملوك الروم قسطنطين بن هالين هذا‪ ،‬وما كان من خبره‪ ،‬وهو المظهر لدين‬
‫النصرانية‪ ،‬وهذا الوجه أحد ما ذكر من السبب الداعي لبناء القسطنطينية‪ .‬وقد ذكر‬
‫ابن غفير عن أبي زيد الفهري أن??ه ك??ان من رتب?ة? مل??وك األن??دلس اللَّ َذارق??ة أن??ه إذا‬
‫ركب الملك منهم صارت الشواهين في الهواء مظلة لعسكره‪ ،‬مخيم ?ة? على موكب??ه‪،‬‬
‫تنحدر عليه مرة وترتف??ع أخ??رى‪ ،‬معلم??ة ل??ذلك‪ ،‬فال ت??زال على م??ا وص??فنا في ح??ال‬
‫منهم ُيقال ل??ه أزرق وص??ارت‬ ‫ِ‬ ‫مسيره? حتى ينزل فتقع حوله‪ ،‬إلى أن ركب يوما ً ملك‬
‫الش??واهين مع??ه على م??ا وص??فنا‪ ،‬فاس??تثارت ط??ائراً ف??انقض علي??ه ش??اهين فأخ??ذه‪،‬‬
‫ض َّراها على الصيد؛ فكان أول من تص??يد به??ا ب??المغرب وبالد‬ ‫فأعجب بذلك الملك‪َ ،‬و َ‬
‫األندلس‪.‬قال المسعودي‪ :‬وكذلك ذكر جماعة من أهل العلم بهذا الشأن أنه ك??ان أول‬
‫أس ? ِرهَا وإف??راط‬
‫من لعب بالعقب??ان من أه??ل المغ??رب‪ ،‬فلم??ا نظ??رت ال??روم إلى ش??دة ْ‬
‫سالحها قال حكماؤهم‪ :‬هذه التي ال يقوم خيرها بشرها‪.‬‬
‫صفحة ‪107 :‬‬

‫وذكر أن قيصر أهدى إلى كسرى ُعقابا ً وكتب إليه ُي ْعلِمه أنها تعم??ل أك??ثر من عم??ل‬
‫الصقر الذي أعجبه صيده‪ ،‬فأمر بها كسرى فأرس??لت على ظ??بى ع??رض ل??ه فدقت??ه‪،‬‬
‫فأعجبه ما رأى منها‪ ،‬فانصرف مسروراً‪ ،‬فجوعها ليصيد بها‪ ،‬فثبت على صبي ل??ه‬
‫فقتلته‪ ،‬فقال كسرى‪َ :‬و َت َر َنا قيص??رفي أوالدن??ا بغ??ير جيش‪ ،‬ثم إن كس??رى أهْ? دى إلى‬
‫قيصر نمراً‪ ،‬وكتب إلي??ه أن??ه يقت??ل الظب??اء وأمثاله??ا من ال??وحش‪ ،‬وكتب م??ا ص??نعت‬
‫ال ُع َقاب‪ ،‬فأعجب قيصر حسن النمر‪ ،‬وطابق صفته بوصف من الفه??د‪ ،‬وغف??ل عن??ه‪،‬‬
‫فافترس بعضى فتيانه‪ ،‬فقال‪ :‬صادنا كسرى‪ ،‬فإن كنا قد صدناه فال ب??أس‪.‬ه??ذا‪ ،‬وق??د‬
‫تغلغل بنا الكالم عند ذكرنا لبح??ر جرج??ان وجزائ??ره إلى الكالم في أن??واع الج??وارح‪،‬‬
‫وسنذكر لُ َمعا ً من أخبار البزاة وأعداد أجناس الجوارح وأشكالها عند ذكرن??ا لمل??وك‬
‫اليونانيين‪ ،‬فلنرجع االن إلى ذكر الباب واألب??واب ومن يلي الس??ور من األمم وجب??ل‬
‫القبخ‪ ،‬وقد قلنا إن شر الملوك ممن جاورها من األمم مملكة جي??دان‪ ،‬وملكهم رج??ل‬
‫مسلم يزعم أنه من العرب من قحطان ويعرف بس??لفان في ه??ذا ال??وقت‪ ،‬وه??و س??نة‬
‫اثن?تين وثالثين وثلثمائ?ة‪ ،‬وليس في مملكت?ه مس?لم غ?يره وول?ده وأهل?ه‪ ،‬وأرى أن‬
‫ه??ذه الس??مة يس??مى به??ا ك??ل مل??ك له??ذا الص??قع‪ ،‬وبين مملك??ة جي??دان وبين الب??اب‬
‫واألبواب أناس من المسلمين عرب ال يحس??نون ش??يئا ً من اللغ?ات غ??ير العربي??ة في‬
‫آجام هناك و ِغ َياض وأودية وأنهار كبار من قرى قد سكنوها‪ ،‬وقطن??وا ذل??ك الص??قع‬
‫منذ ال??وقت ال??ذي افتتحت في??ه تل??ك ال??ديار ممن ط??رأ من ب??وأدي الع??رب إليه??ا‪ ،‬فهم‬
‫مجاورون لمملكة جيدان‪ ،‬إال أنهم ممتنعون بتلك األشجار واألنهار‪ ،‬وهم على نح??و‬
‫ثالثة أميال من مدينة الباب واألبواب‪ ،‬وأهل الب??اب يح??ذرونهم‪.‬ويلي مملك??ة جي??دان‬
‫مما يلي جبل القبخ والسرير ملك يقال له برزبان مسلم‪ ،‬ويعرف بلده ب??الكرج‪ ،‬وهم‬
‫أصحاب األعمدة‪ ،‬وكل ملك يلي هذه المملكة يدعى برزبان‪.‬‬

‫مملكة غميق‬
‫ثم يلي مملكة برزبان مملكة ُيقال لها غميق‪ ،‬وأهلها أناس نصارى ال ينقادون إلى‬
‫ملك‪ ،‬ولهم رؤساء‪ ،‬وهم مهادنون لمملكة الالن‪.‬‬

‫مملكة زريكران‬

‫ثم يليهم مما يلي السرير والجبل مملكة ُيق??ال له??ا زريك??ران‪ ،‬وتفس??يرذلك عم??ال‬
‫ال??زرد‪ ،‬ألن أك??ثرهم يعم??ل ال??زرد وال َي َل َب واللجم والس??يوف وغ??ير ذل??ك من أن??واع‬
‫الحديد‪ ،‬وهم فو ديانات مختلفة‪ :‬مسلمون‪ ،‬ويهود‪ ،‬ونصارى‪ ،‬وبلدهم بلد خشن‪ ،‬قد‬
‫امتنعوا بخشونته على ما جاورهم من األمم‪.‬‬

‫مملكة فيالن شاه‬


‫ثم يلي هؤالء مملكة السرير‪ ،‬وملكها يدعي فيالن شاه‪ ،‬يدين بدين النصرانية‪ ?،‬وقد‬
‫ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب أنه من ول?د به?رام ج?ور‪ ،‬وس?مي ص?احب الس?رير‬
‫ألن يزدجرد وهو اآلخر من ملوك ساسان حين ولى منهزما ً قدم سريره الذهب‬
‫صفحة ‪108 :‬‬

‫وخزائنه وأمواله مع رجل من ولد َب ْه َرام جور ليسير بها إلى هذه المملكة فيحرزها‬
‫هناك إلى وقت موافاته‪ ،‬ومضى يزدجرد إلى خراسان فقتل هناك‪ ،‬وذل??ك في خالف??ة‬
‫عمر رض??ي هللا عن??ه على م??ا ذكرن??ا في ه??ذا الكت??اب وغ??يره من كتبن??ا‪ ،‬فقطن ذل?ك‬
‫الرجل في هذه المملكة‪ ،‬واس??تولى عليه??ا‪ ،‬وص??ار المل??ك في عقب??ه فس??مي ص??احب‬
‫السرير‪ ،‬ودار مملكت??ه تع??رف بحم??رج‪ ،‬ول??ه أثن??ا عش??رألف قري??ة يس??تعبد? منهم من‬
‫شاء‪ ،‬وبلده بلد خشن م?نيع? لخش?ونته‪ ?،‬وه??و ش??عب من‪ .‬جب?ل القبخ‪ ،‬وهويغ?يرعلى‬
‫الخزر مستظهرأعليهم ألنهم في سهل وهوفي جبل‪.‬‬

‫مملكة الالن‬
‫ثم تلي هذه المملكة مملكة الالن وملكها ُيقال له كركنداج‪ ،‬وهذا االسم األعم لسائر‬
‫ملوكهم‪ ،‬وكذلك فيالن شاه‪ ،‬فهو االسم األعم لسائر ملوك السرير‪ ،‬ودار مملكة ملك‬
‫الالن يقال لها معص‪ ،‬وتفسير ذل??ك الديان??ة‪ ،‬ول??ه قص??ور ومنتزه??ات في غ??ير ه??ذه‬
‫المدين??ة ينتق ?ل? في الس??كنى إليه??ا‪ ،‬وبين ?ه? وبين ص??احب الس??رير مص??اهرة في ه??ذا‬
‫الوقت‪ ،‬وقد تزوج كل واحد منهما بأخت اآلخر‪ ،‬وقد ك?انت مل??وك الالت بع?د ظه?ور‬
‫اإلسالم في الدولة العباسية اعتقدوا دين النصرانية‪ ?.‬وكانوا قبل ذل??ك جاهلي??ة‪ ،‬فلم??ا‬
‫كان بعد العشرين والثلثمائة رجع??وا عم??ا ك??انوا علي??ه من النص??رانية‪ ،‬وط??ردوا َمنْ‬
‫كان قبلهم من األساقفة والقسيسين‪ ،‬وقد كالط أنفذهم إليهم ملك الروم‪.‬‬
‫وبين مملكة الالن وجبل القبخ قلعة وقنطرة على واد عظيم يقال لهذه القلعة قلع??ة‬
‫ب??اب الالن‪ ،‬ب??نى ه??ذه القلع??ة مل??ك في ق??ديم الزم??ان من الف??رس األوائ??ل يق??ال ل??ه‬
‫اسبنديار بن يستاسف بن بهراسب ورتب في هذه القلع??ة رج??االً يمنع??ون الالن عن‬
‫الوصول إلى جبل القبخ‪ ،‬وال طريق لهم إال على هذه القنطرة من تحت هذه القلع??ة‪،‬‬
‫والقلعة على صخرة صماء ال سبيل? إلى فتحها والوص??ول إليه??ا إال ب??إذن َمنْ فيه??ا؛‬
‫وله??ذه القلع??ة المبني??ة على أعلى ه??ذه الص??خرة عين من الم??اء عذب??ة تظه??ر في‬
‫وسطها من أعلى هذه الصخرة‪ ،‬وهذه القلعة إحور قالع العالم الموصوفة بال َم َن َع??ة‪،‬‬
‫وق??د ذكرته??ا الف??رس في اش??عارها‪ ،‬وم??ا ك??ان الس??بنديار بن يستاس??ف في بنائه??ا‪،‬‬
‫وإِل سبنديار في الشرف حروب كث??يرة م?ع أص??ناف من األمم‪ ،‬وه?و الس?ائر إلى بالد‬
‫الترك‪ ،‬فخرب مدينة? الصقر‪ ،‬وكانت من المنعة بالموضع العظيم الذي ال ُي َرام‪ ،‬وبها‬
‫تضرب الفرس األمثال‪ ،‬وما كان من أفعال إسبنديار وما وصفنا فمذكور في الكت??اب‬
‫المعروف بكتاب البنكش‪ ،‬نقله ابن المقف??ع إلى لس?ان الع??رب‪ ،‬وق?د ك?ان َم ْس?لمة بن‬
‫عبد الملك بن مروان حين وصل إلى هذا الصقع ووطىء أهله أسكن في هذه القلعة‬
‫أناسا ً من العرب إلى هذه الغاية يحرصون هذا الموضع‪ ،‬وربما يحم??ل إليهم ال??رزق‬
‫وأقوات من ال??بر من ثغ??ر تفليس‪ ،‬وبين تفليس وه??ذه القلع??ة مس??يرة? خمس??ة أي??ام‪،‬‬
‫ولوك??ان رج??ل واح??د في ه??ذه القلع??ة لمن??ع س??ائر المل??وك الكف??ار أن يجت??ازوا به??ذا‬
‫الموضع؛ لتعلقها بالجو وإشرافها على الطريق والقنطرة وال??وادي‪ ،‬وص??احب الالن‬
‫يركب في ثالئين ألف فارس‪ ،‬وهو ذو َم َن َعة وبأس ش?ديد وف سياس?ة بين المل?وك‪،‬‬
‫ومملكته عمائرها متصلة‪ ،‬غ??ير منفص??لة‪ ،‬إذا تص??ايحت ال??ديوك تج??اوبت في س??ائر‬
‫مملكته الشتباك العمائر واتصالها‪.‬‬
‫صفحة ‪109 :‬‬
‫أمة كشك‬
‫ثم يلي مملة الالن أمة ُي َقال لها كشك‪ ،‬وهم بين جبل القبخ وبحر الروم‪ ،‬وهي‬
‫أمة مطيعة منقادة إلى دين المجوسية‪ ?،‬وليس فيمن ذكرنا من األمم في ه??ذا الص??قع‬
‫أنقى أبشاراً‪ ،‬وال أصفى ألوانأ وال أحس رج??االً وال أص??بح نس??اء‪ ،‬وال أق??وم ق??دودأ‪،‬‬
‫وال أدق أخص??اراً‪ ،‬وال أظه??ر أكف??االً وأرداف??اً‪ ،‬وال أحس??ن ش??كأل من ه??ذه األم??ة‪،‬‬
‫ونس???اؤهم موص???وفات بل???ذة الخل???وات‪ ،‬ولباس???هم البي???اض وال???ديباج ال???رومي‬
‫والسقالطوني وغير ذلك من أن??واع ال??ديباج الم??ذهب‪ ،‬وبأرض??هم أن??واع من الثي??اب‬
‫يصنع? من القنب‪ ،‬فيها نوع يقال له الطلى أرق من ال?دبيقي على ال َك? ِّد‪ ،‬يبل?غ الث?وب‬
‫عش??رة‪:‬دن??انير‪ ،‬ويحم??ل إلى م??ا يليهم من اإلِس??الم‪ ،‬وق??د تحم??ل ه??ذه الثي??اب ممن‬
‫ج???اورهم من األمم‪ ،‬إال أن الموص???وف منه???ا م???ا يحم???ل من قب???ل ه???ؤالء‪.‬والالن‬
‫مستظهرة على هذه األمة‪ ،‬ال تنتصف هذه األم??ة من الالن‪،‬إال أنه??ا تمتن?ع? من الالن‬
‫بقالع لها على ساحل البحر‪ ،‬وقد ُتنوزع في البحر ال?ذي هم علي?ه‪ :‬فمن الن?اس من‬
‫يرى أنه بحر الروم‪ ،‬ومنهم من ي??رى أن??ه بح??ر نيطس‪ ،‬إال أنهم يقرب??ون في البح??ر‬
‫من بالد طرابزن??دة‪ ،‬والتج??ارة تتص??ل? بهم منه??ا في الم??راكب‪ ،‬وتتجه??ز من قبلهم‬
‫أيض?اً‪ ،‬والعل?ة في ض?عفهم عن الالن ت?ركهم أن يملِّك??وا عليهم ملك?ا ً يجم?ع كلمتهم‪،‬‬
‫ولو اجتمعت كلمتهم لم ُيطِ ْقهم الالن وال غيرها من األمم‪ ،‬وتفسير هذا االس??م وه??و‬
‫ف‪ ،‬وذلك أن الف??رس إذا ك??ان اإِل نس??ان تائه??ا ص??لفا ً‬ ‫ص َل ُ‬
‫فارسي إلى العربية ال َتيه وال َ‬
‫قالوا‪ :‬كشك‪.‬وتلي هذه األمة ال??تي على ه??ذا البحرأم??ة أخ??رى ُيق??ال لبالدهم‪ :‬الس??بع‬
‫بلدان‪ ،‬وهي أمة كبيرة ممتنعة بعيحة ال??دار ال أعلم ملته??ا‪ ،‬وال نمي إلي خ ُبر َه??ا في‬
‫دينها‪.‬‬
‫ارم ذات العم??اد‪ :‬وتليه??ا أم??ة عظيم??ة بينه??ا وبين بالد كش??ك نه??ر عظيم ك??الفرات‬
‫يصب إلى حر الروم‪ ،‬وقيل‪ :‬إلى بحر نيطس‪ ،‬ويقال ل??دار مملك??ة ه??ذه ا‪ .‬م??ة إرم ت‬
‫ات العم??اد‪ ،‬وهم ف??و خل??ق عجيب‪ ،‬وآراؤه??ا جافلي??ة‪ ،‬وله??ذا البل??د على م??ذا البح??ر‬
‫خ?برظريف‪ ،‬وذاك أن س?مكة عظيم?ة ت?أتيهم في ك?ل س?نة فيتن?اولن ش?ها‪ ،‬ئم تع?ود‬
‫ثانية فتتوجه نحوهم من الشق االخر فيتناولن منه??ا‪ ،‬وق??د ع??اد للحم على الموض??ع‬
‫الذي أخذ منه أواًل ‪ ،‬وخبرهن ا‪ .‬مة مستفيض في لك الديار من الكفار‪.‬‬
‫ويلي هذه ا مة أمة بين جبال أربعة كل جبل منه??ا ممتن??ع ذاهب في اله??واء وبين‬
‫ه??ذه الجب??ال األربع??ة من المس??افة نح??و من مائ??ة مي??ل ص??حراء‪ ،‬في وس??ط تل??ك‬
‫الص?حراء دارة مق?ورة كأنه?ا ق?د خطت ببيك?ار‪ ،‬وش?كل دائرته?ا خس?فة مجوف?ة في‬
‫ص ْلد منخسف كما تححر الدائرة‪ ،‬استدارة تلك الخسفة نحوخمس??ين ميالً قط??ع‬ ‫َح َجر َ‬
‫قائم يهوي سفاًل كحائ??ط مب??ني? من س??فل إلى عل??و يك??ون قع??ره على نح??و ميلين‪ ،‬ال‬
‫سبيل? إلى الوصولى إلى مستوى? تل??ك ال??دارة‪ ،‬وي??رى فيه??ا باللي??ل ن??يران كث??يرة في‬
‫مواضع مختلفة‪ ،‬وبالنهار يرى قرى وعمائر وأنهارحتجري بين تلك الق??رى ون??اس‬
‫وبهائم‪ ،‬إال أنهم يرون لطاف األجسام لبع??د قع??ر الموض??ع‪ ،‬وال يح??رى من أي االمم‬
‫هم‪ ،‬وال س??بيل? لهم إلى الص??عود إلى جه???ة من الجه??ات‪ ،‬وال س??بيل? لمن ف??ق إلى‬
‫النزولى إليهم بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫وف نوع من القرلة‪ :‬ووراء تلك الجبال األربعة على س??احل البح??ر خس??فة اخ??رى‬
‫قريبة? القعم‬
‫صفحة ‪110 :‬‬

‫فيه??ا آج??ام وغي??اض فيه??ا ن??وع من الق??رود منتص??بة? القام??ات مس??تديرة الوج??و‬
‫واألغلب عليها صور الن??اس وأش??كالهم‪ ،‬إال أنهم ف??و ش??عر‪ ،‬وربم??ا وق??ع في الن??اثر‬
‫الق??رد منه??ا إذا احتي?ل في اص??طياعه‪ .‬فيك??ون في نهاي??ة الفهم والحراي??ة‪ ،‬إال أن??ه ال‬
‫لسان له فيعبر بالنطق ة ويفهم كل ما يخاطب به باإِل شارة‪ ،‬ورب حمل الواحد منه??ا‬
‫?ذاب على موائ??دها لم??ا في‬‫إلى ملوك األمم من هناك فتعلِّمه القيام على رؤوس بالم? ِّ‬
‫الق??ود من الخاص??ة بمعرف??ة الس??موم من المأك??ل والمش??رب ويلقي المل??ك ل??ه من‬
‫طعامه‪ :‬فإن أكله أكل الملك منه‪ ،‬وإذ اجتنبه علم أنه مسموم فحفر منه‪ ?،‬وكذلك فعل‬
‫األكثر من مل??وك الس??نأل والهن??د في القرث??ة‪ ،‬وق??د ذكرن??ا في ه??ذا الكت??اب خ??بر وف??د‬
‫المهحي‪ ،‬وما ذكروا له مما في القرد من منافع ملوكهم ب??ه‬ ‫ِّ‬ ‫الصين حين وفحو على‬
‫عند الطعام وذكرنا خبر القرود باليمن‪ ،‬واللوح الحديد الذي كتب??ه س??ليمان بن ث??اود‬
‫عهد للقرود باليمن‪ ،‬وما كان من أمرهم مع عامل معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬وما كتب‬
‫به في أمرهم‪ ،‬ووصف القرد العظيم الذي ك?ان في رقبت??ه الل??وح الحدي??د‪ ،‬وليس في‬
‫ق??رود الع??الم أفطن من ه??ذا الن??وع‪ ،‬وال أخبث‪ ،‬وذل??ك أن القرع??ة تك??ون في بق??اع‬
‫األرض الحارة‪ :‬فمنها بأرض النوب??ة وأعلى بالد األح??ابيش مم??ا يلي أع??الي مص??ب‬
‫النيل وهي القرود المعروفة بالنوبية‪ ،‬وهي صغيرة القد صغيرة الوج?وه ذات س?واد‬
‫غير حالك كأنه ني وهو الذي يكون م??ع ال َق??رادين‪ ،‬ويص??عد على رمح فيص??ير على‬
‫أعاله‪ ،‬ومنها ما يك?ون في ناحي?ة الش?مال في اج?ام وغي?اض نح?و أرض الص?قالبة‬
‫وغيرها ممن هناك من االمم‪ ،‬كنحو م??ا وص??فنا من ه??ذا الن??وع من الق??رود‪ ،‬وق??رب‬
‫ش??كله من ص??ورة اإِل نس??ان ومنه??ا بخلجان??ات بالد ال??زابج في الص??ين وفي مملك??ة‬
‫المهراج ملك الجزائر‪ ،‬وقد قممنا فيما سلف من ه??ذا الكت??اب أن ملك??ه ي??وازي مل??ك‬
‫الص??ين‪ ،‬وه??و بين مملك??ة البله??را ومل??ك الص??ين‪ ،‬وه??ذه الق??رود مش??هورة? في ه??ذا‬
‫الصقع معروفة بالكثرة في هذه الخلجانات‪ ،‬وهي ذات ص?ور تأم??ة‪ ،‬وق?د ك?ان حم??ل‬
‫إلى المقتمر منها‪ ،‬وجاءت في سالسل عظام‪ ،‬وكان في القرود فو لحى وسبال كبار‬
‫وشيوخ? وشبان مع أنواع من الهدايا من عجائب البح??ر‪ ،‬حم??ل ذل??ك أحم??د بن هالل‬
‫أمير عمان يومئ??ذ‪ ،‬وهن??ه الق??رود أمره??ا مش??تهر? عن??د البح??ريين من أه??ل س??يراف‬
‫وعمان ممن يختلف إلى بالد كلة والزانج‪ ،‬وكيف تأتي بالحيلة لص??يد التماس??يح من‬
‫جوف الماء‪ ،‬على أن الجاحظ ق??د ذك??ر أن التماس??يح? ال تك??ون إال بني?ل? مص??ر ونه??ر‬
‫مهوان السند وقد ذكرنا فيما سلف من ه??ذا الكت??اب م??ا قي??ل في ذل??ك‪ ،‬وأخبرن??ا عن‬
‫مواضع التماسيح? فأما اليمن فال تناكر بين َمنْ دخله في أن القرود منه في مواضع‬
‫الج َن? ِد وبالد‬
‫كثيرة ال يحصرها عحد لكثرتها‪ :‬فمنها في واعي نخل??ة‪ ،‬وهي بين بالد َ‬
‫زبيد التي أميرها في هذا الوقت‪ -‬وه??و س??نة? اثن??تين وثاللين وثلثمائ??ة‪ ?-‬إب??راهيم بن‬
‫الج َن? ِد ي??وم أو‬
‫زياد صاحب الحرملي‪ ،‬وبين هذا الواثي وبين زبيد يوم‪ ،‬وبين??ه وبين َ‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬وهذا الواس كثير العمائر‪ ،‬ومصاد المياه إليه كثيمة‪ ،‬وش??جر الم??وز‬
‫فيه كثير‪ ،‬والق?رود في?ه كث??يرة‪ ،‬وه?و بين جبلين‪ ،‬والق??رود قطع?ان ك?ل قطي?ع منه??ا‬
‫يسوقه هرز‪ ،‬والهرز‪ :‬الذكر العظيم كالفحل العظيم المق َّمم فيها‪ ،‬وقد تلد القرع??ة في‬
‫بطن واححة عمة من القرود نحو العشرة واألثني عشر‪ ،‬كما تلد الخنزيرة خنانيص‬
‫كثيرة‪ ،‬وتحمل القردة البعض من أوالدها كحمل المرأة ولدها‪ ،‬ويحمل الذكر‬
‫صفحة ‪111 :‬‬

‫ب???اقيهن‪ ،‬ولهن أندي???ة ومج???الس يجتم???ع فيه???ا خل???ق منهن فيس???مع لهن ح???ديث‬
‫ومخاطبات وهمهمة‪ ?،‬واإِل ن??اث كالنس??اء متح??يزات عن ال??ذكور‪ ،‬ف??إذا س??مع الس??امع‬
‫محادثتهن وهو ال يرى أشخاصهن بين تلك الجبال وأشجار الموز‪ ،‬وذلك باللي??ل‪ ،‬لم‬
‫يشك أنهم اناس لكثرتهم بالليل والنه??ار‪ ،‬وليس في جمي??ع البق?اع ال?تي تك??ون فيه?ا‬
‫الق??رود أحس??ن وال أخبث وال أس??رع قب??واًل للتعليم من قرع??ة اليمن‪ ،‬وأه??ل اليمن‬
‫كأس? َو ِد م??ا‬
‫يسمون القرد الرباح‪ ،‬ولهم ُج َمم للذكور واإلِناث قد سرحت ومنها س??ود ْ‬
‫يكون من الشعر‪ ،‬وإذا جلسوا يجلسون مراتب عون مرلبة الرئيس‪ ،‬ويتشبهون في‬
‫س??ائر أعم??الهم بالن??اس‪ ،‬ومن القرث ?ة? ب??اليمن ببالد م??أرب بين بالد ص??نعاء وقلع??ة‬
‫ار وجب??ال هن??اك كأنه??ا الس??حب في تل??ك ال??براري والجب??ال‬ ‫?ر ٍ‬
‫كهالن م??ا يك??ون في ب? َ‬
‫لكثرتها‪ ،‬وكهالن هنه قلع?ة من مخ?اليف اليمن فيه?ا أس?عد بن يعف?ر مل?ك اليمن في‬
‫هذا الوقت ُم ْح َتجب عن الناس إال عن خواصه‪ ،‬وهوبق َّية من مل??وك حم??ير‪ ،‬وحول??ه‬
‫من الجنود من الخيل والرجال نحو خمس??ين ألف?ا ً مرتزق??ة يقبض??ون ال??رزق في ك??ل‬
‫شهر‪ ،‬ويدعي وقت القبض البركة‪ ،‬فيجتمعون هناك ويتحفرون وينحمرون من تلك‬
‫المخاليف‪ ،‬والمخاليف‪ :‬القالع‪ ،‬وقد كانت لهذا الرجل حروب ب??اليمن م??ع القرامط??ة‬
‫وصاحب المذيحرة‪ ،‬وهو علي بن الفضل‪ ،‬وذلك بعد الس??بعين والم??ائتين‪ ،‬وق??د ك??ان‬
‫لعلي باليمن ش??أن عظيم ح??تى قت??ل‪ ،‬وتوط??أت اليمن له??ذا الرج??ل‪ ،‬وب??اليمن للق??رود‬
‫مواضع كثيرة‪ ،‬وكذلك في بقاع من األرض أعرضنا عن ذرها‪ ،‬إذ كنا ق??د أتين??ا على‬
‫علة تكونها في بعض البقاع لمحون بعض من األرض وأخب??ار النس??ناس في كتابن??ا‬
‫أخبار الزمان ثا وكذلك األخبار عن العرابيد‪ ،‬وهو ن??وع كالحي??ات تك??ون ببالد حج??ر‬
‫اليمأمة فيما زجمموا‪ ،‬واحدها عربد‪ ،‬وقد كان المتوكل في بل خالفته سأل حنين بن‬
‫إسحاق أن يتأتى له في حم??ل أش??خاص من النس??ناس والعرب??د‪ ،‬فلم َي ْس? َلم منهم إلى‬
‫ّ‬
‫تت??أت ل??ه الحيل??ة في حم??ل العرب??د من‬ ‫س?? َّر َمنْ رأى إال اثن??ان من النس??ناس‪ ،‬ولم‬‫ُ‬
‫اليمأمة‪ ،‬وذلك أن العربد هذا إذا خرج عن اليمأمة وصار إلى موضع منها مع??روف‬
‫المسافة عدم من الوعاء الذي حمل فيه‪ ،‬وأه??ل اليمأم??ة ينتفع??ون ب??ه لمن??ع الحي??ات‬
‫والعقارب وسائر الهوام‪ ،‬كمنفعة أهل سجستان بالقنافذ‪ ،‬ول??ذلك ك??ان في عه??د أه??ل‬
‫سجستان القديم أال يقتل قنفذ ببل??دهم‪ ،‬ألن??ه بل??د كث??ير الرم??الى بن??اه ذو الق??رنين في‬
‫َم َطافه‪ ،‬وحوله جبال كثيرة من الرم??ل ق??د س??كرت بالخش??ب والقص??ب‪ ،‬والبل??د كث??ير‬
‫األفاعي والحيات جداً‪ ،‬فلوال كثرة القناف??ذ لتل??ف من هن??اك من الن??اس‪ ،‬وك??ذلك أه??ل‬
‫مصر في صعيدها وغيره‪ ،‬لهم عويبة يقال لها العرانس أكبر من الجرذ وأصغر من‬
‫ابن عرس حمراء بيضاء البطن‪ ،‬لوال هذه الحويبة لغلب على أهل مص??ر الثع??ابين‪،‬‬
‫?ف به??ا‬ ‫وهي ن??وع من الحي??ات عظيم??ة‪ ،‬فينط??وي الثعب??ان على ه??ذه الدويب??ة ويلت? ُّ‬
‫ف??ترخي علي??ه ال??ريح فينقط??ع الثعب??ان من ريحه??ا‪ ،‬ه??ذه خاص??ية ه??ذه الداب??ة‪ ،‬وفي‬
‫الشرق أن?واع من الخ?واص في ب?ره وبح?ره وحيوان?ه ونبات?ه وجم?اده‪ ،‬وك?ذلك في‬
‫الغرب واليمن وهو الجنوب‪ ،‬والجدي وهو الشمال‪ ،‬وق??د ذكرن??ا طب??ع ك??ل واح??د من‬
‫ه???ذه األرب???اع؛ ففي ذكره???ا في ه???ذا الب???اب خ???روج عن الغ???رض ال???ذي يممن???ا‬
‫نحوه‪.‬فل??نرجع اآلن إلى م??ا كن??ا في??ه آنف?ا ً من ذك??ر األمم المخيط??ة بالب??اب واألب??واب‬
‫والسور وجبل القبخ وبالد الخزر والالن‪ ،‬فنقول‪:‬إنه يلي الخزر والالن فيما بينهم‬
‫صفحة ‪112 :‬‬

‫ض ?ر وب??دو‪ ،‬ذو‬
‫وبين المغرب أمم أربع‪ :‬ترك ترجعإلى أب واحد في بدء أنسابهم‪َ ،‬ح َ‬
‫َم َن َعة وبأس شديد‪ ،‬لكل أمة منها ملك‪ ،‬مسافة مملكته أيام‪ ،‬متصلة ممالكهم بعض??ها‬
‫ببحر نيطس‪ ،‬وتتصل عماراتها بمدينة رومي??ة‪ ?،‬وم??ا يلي بالد األن??دلس‪ ،‬مس??تظهرة‬
‫على سائر ما هنالك من األمم‪ ،‬وبينهم وبين ملك الخزر مهادنة‪ ،‬وكذلك مع ص??احب‬
‫الالن‪ ،‬وديارهم تتصل? ببالد الخزر‪ ،‬فالجيل األول منهم ُيقال له يجنى‪ ،‬ثم تليه??ا أم??ة‬
‫ثانية ُيقال لها بجغرد‪ ،‬ثم تليها أمة ُيق?ال له?ا بجن??اك‪ ،‬وهي أش?د ه??ذه األمم األربع??ة‬
‫بأساً‪ ،‬ثم تليها أمة ثانية ُيقال لها نوكرده وملوكهم َبدْ و‪ ،‬وكان لهم حروب مع الروم‬
‫بعد العشرين والثالثمائة‪ ،‬أو يها‪،‬‬

‫وقد كان للروم في تخوم أرض??هم يم??ا يلي من ذكرن??ا من ه??ذه األجن??اس األربع??ة‬
‫مدين??ة عظيم??ة يوناني??ة يق??ال له??ا ولن??در‪ ،‬يه??ا خل??ق من الن??اس و َم َن َع? ة بين الجب??ال‬
‫والبحر‪ ،‬كل من فيها م??انع لمن ذكرن??ا من األمم‪ ،‬ولم يكن له??ؤالء ال??ترك س??بيل إلى‬
‫أرض الروم لمنع الجب??ال والبح??ر إي??اهم‪ ،‬ومن في ه??ذه المدين??ة‪ ،‬وك??ان بين ه??ؤالء‬
‫األجناس حروب لخالف وقع بينهم على رأس رجل مس??لم ت??اجر من أرض أردبي??ل‪:‬‬
‫كان نازالً على أرض بعضهم‪ ،‬استض??افه ن?اس من الجب?ل االخ??ر‪ ،‬ف?اختلفت الكلم?ة‪،‬‬
‫على دي?ارهم وهم عنه??ا ُخلُ??وف‪َ ،‬‬
‫فس? َب ْوا كث??يراً من‬ ‫ِ‬ ‫وأغار من في ولن??در من ال??روم‬
‫الذري??ة‪ ،‬وس??اقوا كث??يراَ من األم??وال‪ ،‬ونمى ذل??ك إليهم وهم مش??اغيل في ح??ربهم‪،‬‬
‫اجتمعت كلمتهم‪ ،‬وتواهبوا ما كان بينهم من‪ ،‬الدماء‪ ،‬عمد القوم جميعا ً نح??و مدين?ة?‬
‫ولن??در‪ ،‬فس??اروا إليه??ا في نح??و من س??تين أل??ف ف??ارس‪ ،‬وذل??ك علىغ??ير احتف??ال وال‬
‫تج ُّمع‪ ،‬ولو كان ذل??ك لك??انوا في نح??و من مائ??ة أل??ف ف??ارس‪ ،‬فلم??ا نمى خ??برهم إلى‬
‫س?ير إليهم‬ ‫أرمنوس ملك الروم في هذا الوقت وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة َ‬
‫اثني عشر ألف فارس من المتنصرة على الخيول بالرماح في زي العرب‪ ،‬وأض??اف‬
‫إليهم خمسين ألفا ً من الروم‪،‬فوصلوا إلى مدينة? ولن??در في ثماني ?ة? أي??ام‪ ،‬وعس??كروا‬
‫وراءه??ا‪ ،‬ون??ازلوا الق??وم‪ ،‬وق??د ك??انت ال??ترك قتلت من أه??ل ولن??در خلق ?ا ً كث??يراً من‬
‫الناس‪ ،‬وامتن??ع أهله??ا بس??ورهم إلى أن أت??اهم ه??ذا الم??دد‪ ،‬ولم??ا ص??ح عن??د المل??وك‬
‫األربعة من سار إليهم من المنتصرة? والروم بعثوا إلى بالدهم جمعوا من كان قبلهم‬
‫من تج??ار المس??لمين ممن يط??رأ إلى بالدهم من نح??و بالد الخ??زر والب??اب والالن‬
‫وغيرهم‪ ،‬وفي ه??ؤالء األجن??اس األربع??ة من ق??د أس??لم‪ ،‬وهم غ??ير مخ??الطين لهم إال‬
‫عند حروب الكفار‪ ،‬لما تصاف القوم وبرزت المنتصرة أم??ام ال??روم خ??رج إليهم من‬
‫كان قِ َبل َ الترك من التجار المسلمين فدعوهم إلى ملة اإلِس??الم‪ ،‬وأنهم إن دخل??وا في‬
‫?ف الفريق??ان‬‫أمان الترك أخرجوهم من بالدهم إلى أرض اإِل سالم‪ ،‬فأبوا ذل??ك‪ ،‬وتواق? َ‬
‫والروم على الترك ألنهم ك??انوا في الك??ثرة أض??عاف‬ ‫ِ‬ ‫في ذلك الوقت‪ ،‬كانت للمنتصرة‬
‫صافهم‪ ،‬وتش??اور مل??وك ال??ترك األربع??ة ق??ال لهم مل??ك بجن??اك‪:‬‬ ‫الترك‪ ،‬وباتوا على ّم َ‬
‫قلدوني التدبير في غداة غد‪ ،‬أنعم?وا ل?ه ب?ذلك‪ ،‬لم?ا أص?بح جع?ل في جن?اح الميمن??ة‬
‫كراديس كثيرة كل كردوس منها ألف؛وكذلك فٍي جناح الميسرة‪ ،‬فلما تص??اف الق??وم‬
‫خرجت الكراديس من ناحية الميمنة فرشقت في قلب ال?روم فص?ارت إلى الميس?رة‪،‬‬
‫وخرجت كراديس الميسرة فرشقت في قلب الروم فصارت إلى موضع َمنْ خرج‬
‫صفحة ‪113 :‬‬

‫ال?رم ُي‪ ،‬واتص?لت الك?راديس ك?الرحى‪ ،‬والقلب والميمن?ة?‬


‫ْ‬ ‫من جناح الميمنة‪ ،‬واتصل‬
‫والميسرة للترك ثابتة‪ ،‬والكراديس تعمل عليها في اللفي??ق‪ ،‬وذل??ك أن من خ??رج من‬
‫ك??راديس ال??ترك من جن??اح ميمنتهم ك??ان يبت??دىء ف??يرمي في جن??اح ميس??رة ال??روم‬
‫ويم??ربميمنتهم ف??يرمي وينتهي? إلى القلب‪ ،‬وم??ا يخ??رج من كراديس??هم من جن??اح‬
‫الميسرة فيرمي في جناح ميمنة? ال??روم‪ ،‬وينتهي? إلى الميس??رة ف??يرمي‪ ،‬وينتهي? إلى‬
‫القلب فيرمي‪ ،‬يك??ون ملتقى الك??راديس في القلب دائ??راً على م??ا وص??نا‪ ،‬لم??ا نظ??رت‬
‫ش? ُّوش ص?وهم وت?واتر ال?رمي عليهم حمل?وا‬ ‫المتنصرة وال?روم إلى م?ا لحقهم من َت َ‬
‫على الق??وم مشوش??ين في مص??ادفهم فص??ادوا ص??فوف ال??ترك ثابت??ة أخ??رجت لهم‬
‫الكراديس‪ ،‬فرشقتهم الترك كلها رشقا ً واحداً‪ ،‬كان ذلك الرشق سبب هزيمة? ال??روم‪،‬‬
‫وعقبهم الترك بعد الرشق بالحملة على ص??فوفهم وهم غ??ير متشوش??ين عم?ا ك??انوا‬
‫عليه من التعبئ??ة‪ ،‬وركض??ت الك??راديس من اليمين والش??مال‪ ،‬وأخ??ذ الق??وم الس??يف‪،‬‬
‫وأسود الفأق‪ ،‬وكثر صياح الخيل‪ ،‬فقتل من الروم والمتنصرة? نح??و من س??تين أل??ف‬
‫حتى كان يصعد إلى سور المدينة? على جثثهم‪ ،‬فافتتحت المدينة‪ ?،‬وأقام السيف يعمل‬
‫يها أياماً‪ ،‬وسبى أهلها‪ ،‬وخرج عنها الترك بعد ثالثة أيام يؤم??ون القس??طنطينية‪ ،‬ثم‬
‫توس??طوا العم??ائر والم??روج? والض??ياع قتالً وأس??را وس??بيا‪ ،‬ح??تى نزل??وا على س??ور‬
‫القسطنطينية‪ ،‬فأقاموا عليها نح??واً من أربعين يوم?ا ً ي??بيعون الم??رأة والص??بي منهم‬
‫والحرير‪ ،‬وبذلوا السيف في الرجال فلم يبقوا على أحد‬ ‫َ‬ ‫بالخرقة والثوب من الديباج‬
‫ً‬
‫وش ? ّنوا الغ??ارات في تل??ك ال??ديار‪ ،‬فأتص??لت‬
‫منهم‪ ،‬وربم??ا قتل??وا النس??اء والول??دان‪َ ،‬‬
‫?و ِبالد‬
‫غاراتهم بأرض الصقالبة ورومية‪ ،‬ثم اتصلت غاراتهم في هذا الوقت إلى نح? ِ‬
‫األن??دلس واإِل فرنج??ة والجاللق??ة‪ ،‬فغ??ارات من ذكرن??ا من ال??ترك متص??لة? إلى أرض‬
‫القسطنطينية وما ذكرنا من الممالك إلى هذه الغاي?ة‪ .‬ك?ان لل?روم في تخ?وم أرض?هم‬
‫يما يلي من ذكرنا من هذه األجناس األربعة مدينة عظيمة يونانية? يقال له??ا ولن??در‪،‬‬
‫يها خلق من الناس و َم َن َع? ة بين الجب?ال والبح?ر‪ ،‬ك?ل من فيه?ا م?انع لمن ذكرن?ا من‬
‫األمم‪ ،‬ولم يكن لهؤالء ال??ترك س??بيل إلى أرض ال??روم لمن??ع الجب??ال والبح??ر إي??اهم‪،‬‬
‫ومن في هذه المدين??ة‪ ،‬وك??ان بين ه??ؤالء األجن??اس ح??روب لخالف وق??ع بينهم على‬
‫رأس رجل مسلم تاجر من أرض أردبيل‪ ?:‬كان ن??ازالً على أرض بعض??هم‪ ،‬استض??افه‬
‫على ديارهم‬‫ِ‬ ‫ناس من الجبل االخر‪ ،‬فاختلفت الكلمة‪ ،‬وأغار من في ولندر من الروم‬
‫وهم عنها ُخلُوف‪َ ،‬‬
‫فس َب ْوا كثيراً من الذرية‪ ،‬وس??اقوا كث??يراَ من األم??وال‪ ،‬ونمى ذل??ك‬
‫إليهم وهم مش???اغيل في ح???ربهم‪ ،‬اجتمعت كلمتهم‪ ،‬وتواهب???وا م???ا ك???ان بينهم من‪،‬‬
‫الدماء‪ ،‬عمد القوم جميعا ً نحو مدينة? ولندر‪ ،‬فساروا إليه?ا في نح??و من س??تين أل??ف‬
‫فارس‪ ،‬وذلك علىغير احتفال وال تج ُّمع‪ ،‬ولو كان ذلك لكانوا في نحو من مائ??ة أل??ف‬
‫فارس‪ ،‬فلما نمى خبرهم إلى أرمنوس ملك الروم في هذا ال??وقت وه??و س??نة اثن??تين‬
‫س?ير إليهم اث??ني عش??ر أل??ف ف??ارس من المتنص??رة? على الخي??ول‬ ‫وثالثين وثلثمائ??ة َ‬
‫بالرماح في زي العرب‪ ،‬وأضاف إليهم خمسين ألف?ا ً من ال??روم‪،‬فوص??لوا إلى مدين??ة‬
‫ولندر في ثمانية? أيام‪ ،‬وعسكروا وراءها‪ ،‬ونازلوا القوم‪ ،‬وقد كانت الترك قتلت من‬
‫أهل ولندر خلقا ً كثيراً من الناس‪ ،‬وامتنع أهله?ا بس??ورهم إلى أن أت?اهم ه?ذا الم?دد‪،‬‬
‫ولما صح عند الملوك األربعة من سار إليهم من المنتصرة? والروم بعثوا إلى‬
‫صفحة ‪114 :‬‬

‫بالدهم جمع??وا من ك??ان قبلهم من تج??ار المس??لمين ممن يط??رأ إلى بالدهم من نح??و‬
‫بالد الخزر والباب والالن وغيرهم‪ ،‬وفي هؤالء األجناس األربعة من قد أسلم‪ ،‬وهم‬
‫غير مخالطين لهم إال عند حروب الكفار‪ ،‬لما تصاف القوم وب??رزت المنتص??رة أم??ام‬
‫ال??روم خ??رج إليهم من ك??ان قِ َب?? ل َ ال??ترك من التج??ار المس??لمين ف??دعوهم إلى مل??ة‬
‫اإلِسالم‪ ،‬وأنهم إن دخلوا في أمان ال??ترك أخرج??وهم من بالدهم إلى أرض اإِل س??الم‪،‬‬
‫?روم على ال??ترك‬ ‫وتواقف الفريقان في ذلك ال??وقت‪ ،‬ك??انت للمنتص??رة وال? ِ‬‫َ‬ ‫فأبوا ذلك‪،‬‬
‫ص?افهم‪ ،‬وتش??اور مل??وك ال??ترك‬ ‫ألنهم كانوا في الكثرة أضعاف الترك‪ ،‬وباتوا على ّم َ‬
‫األربعة قال لهم ملك بجن??اك‪ :‬قل??دوني الت??دبير في غ??داة غ??د‪ ،‬أنعم??وا ل??ه ب??ذلك‪ ،‬لم??ا‬
‫أصبح جعل في جن??اح الميمن?ة? ك??راديس كث??يرة ك??ل ك??ردوس منه??ا أل??ف؛وك??ذلك فٍي‬
‫جناح الميسرة‪ ،‬فلما تصاف القوم خرجت الكراديس من ناحية الميمن??ة فرش??قت في‬
‫قلب الروم فصارت إلى الميسرة‪ ،‬وخرجت كراديس الميسرة فرشقت في قلب الروم‬
‫فص??ارت إلى موض???ع َمنْ خ??رج من جن??اح الميمن??ة‪ ?،‬واتص ??ل ال??ر ْم ُي‪ ،‬واتص???لت‬
‫الك??راديس ك??الرحى‪ ،‬والقلب والميمن??ة والميس??رة لل??ترك ثابت??ة‪ ،‬والك??راديس تعم??ل‬
‫عليها في اللفي?ق‪ ،‬وذل?ك أن من خ??رج من ك?راديس ال??ترك من جن??اح ميمنتهم ك?ان‬
‫يبتدىء? فيرمي في جن??اح ميس??رة? ال??روم ويم??ربميمنتهم ف??يرمي وينتهي إلى القلب‪،‬‬
‫وما يخرج من كراديسهم من جناح الميسرة فيرمي في جناح ميمنة الروم‪ ،‬وينتهي‬
‫إلى الميسرة ف??يرمي‪ ،‬وينتهي إلى القلب ف??يرمي‪ ?،‬يك??ون ملتقى الك??راديس في القلب‬
‫ش ُّوش ص??وهم‬ ‫دائراً على ما وصنا‪ ،‬لما نظرت المتنصرة والروم إلى ما لحقهم من َت َ‬
‫وتواتر الرمي عليهم حمل??وا على الق??وم مشوش??ين في مص??ادفهم فص??ادوا ص??فوف‬
‫الترك ثابتة أخرجت لهم الكراديس‪ ،‬فرش??قتهم ال??ترك كله??ا رش??قا ً واح??داً‪ ،‬ك??ان ذل??ك‬
‫الرشق سبب هزيمة الروم‪ ،‬وعقبهم الترك بعد الرشق بالحمل??ة على ص??فوفهم وهم‬
‫غ??ير متشوش??ين عم??ا ك??انوا علي??ه من التعبئ??ة‪ ،‬وركض??ت الك??راديس من اليمين‬
‫والشمال‪ ،‬وأخذ القوم السيف‪ ،‬وأسود الفأق‪ ،‬وك??ثر ص??ياح الخي??ل‪ ،‬فقت??ل من ال??روم‬
‫والمتنصرة نح??و من س??تين أل??ف ح??تى ك??ان يص??عد إلى س??ور المدين??ة على جثثهم‪،‬‬
‫فافتتحت المدينة‪ ،‬وأقام السيف يعمل يها أياماً‪ ،‬وس??بى أهله??ا‪ ،‬وخ??رج عنه??ا ال??ترك‬
‫بعد ثالثة أيام يؤم??ون القس??طنطينية‪ ?،‬ثم توس??طوا العم??ائر والم??روج والض??ياع قتالً‬
‫وأسرا وسبيا‪ ،‬حتى نزلوا على سور القسطنطينية‪ ،‬فأقاموا عليه??ا نح??واً من أربعين‬
‫?ر‪ ،‬وب??ذلوا‬ ‫يوما ً يبيعون المرأة والصبي? منهم بالخرق??ة والث??وب من ال??ديباج والحري? َ‬
‫وش? ًّنوا‬
‫السيف في الرجال فلم يبقوا على أحد منهم‪ ،‬وربما قتلوا النس??اء والول??دان‪َ ،‬‬
‫الغارات في تل??ك ال??ديار‪ ،‬فأتص??لت غ??اراتهم ب??أرض الص??قالبة ورومي??ة‪ ?،‬ثم اتص??لت‬
‫?و ِبالد األن??دلس واإِل فرنج??ة والجاللق??ة‪ ،‬فغ??ارات من‬‫غاراتهم في هذا ال??وقت إلى نح? ِ‬
‫ذكرنا من ال??ترك متص??لة إلى أرض القس??طنطينية? وم??ا ذكرن??ا من الممال??ك إلى ه??ذه‬
‫الغاية‪.‬‬

‫صفحة ‪115 :‬‬

‫األبخاز‬
‫فلنر ِجع اآلن إلى ذكر جبل القبخ والسور والباب واألبواب؛إذ كنا قدذكرنا جمالَ من‬
‫أخب??ار األمم القاطن??ة في ه??ذا الص??قع‪ ،‬فمن ذل??ك أن أم??ة تلي بالد الالن يق??ال له??ا‬
‫األبخاز منقادة إلى دين النصرانية‪ ،‬ولها ملك في هذا ال??وقت ومل??ك الالن مس??تظهر?‬
‫عليهم‪ ،‬وهم متص??لون بجب?ل القبخ‪ ،‬ثم يلي مل?ك األبخ?از مل?ك الجوري??ة‪ ،‬وهي أم??ة‬
‫عظيمة منقادة إلى دين النصرانية تدعى خزران‪ ،‬ولها ملك في هذا الوقت يق??ال ل??ه‬
‫الط??بيعي‪ ،‬وفي مملك??ة ه??ذا الط??بيعي موض??ع يع??رف بمس??جد ذي الق??رنين‪ ،‬وك??انت‬
‫األبخاز والخزرية? ت??ؤدي الجزي??ة إلى ص??احب ثغ??ر تفليس من??ذ تحت تليس وس??كنها‬
‫المسلمون في أيام المتوكل فإنه كان بها رجل ُيقال له إس?حاق بن إس?ماعيل‪ ،‬وك?ان‬
‫مس??تظهراً بمن مع??ه من المس??لمين على من حول??ه من األمم‪ ،‬وهم منق??اعون إلى‬
‫طاعته وأداء الجزية إليه‪ ،‬وعال أمر َمن هناك من األمم حتى بعث المتوكل بعثا ً نزل‬
‫على ثغ??ر تفليس‪ ،‬وأق??ام عليه??ا محارب?ا ً ح??تى افتتحه??ا بالس??يف‪ ،‬وقت??ل إس??حاق بن‬
‫إسماعيل؛ ألن إسحاق بن إسماعيل كان متغلبا ً على الناحية‪ ،‬وكانت له أخبار يطول‬
‫وغيرهم ممن عني بأخبار الع??الم‪ ،‬وأراه‬
‫ِ‬ ‫ذكرها‪ ،‬وهي مشهورة في أهل ذلك الصقع‬
‫رجاًل من قريش من بني أُمية أو م??ولى الحق?اَ‪ ،‬ف??انخرقت هيب?ة? المس??لمين من ثغ??ر‬
‫تفليس من ذلك الوقت إلى هذه الغاية‪ ،‬فامتنع من جاورهم من الممالك من اإلِذع??ان‬
‫لهم بالطاعة‪ ،‬واقتطعوا األكثر من ضياع تفليس‪ ،‬وانقطع الوصول من بالد اإِل س??الم‬
‫إلى ثغر تفليس بين هؤالء األمم من الكف??ار؛ إذ ك??انت محيط??ة ب??ذلك الثغ??ر‪ ،‬وأهله??ا‬
‫ذوو قوة وبأس شديد‪ ،‬وإن كان ما ذكرنا من الممالك محيطا ً بهم‪.‬‬

‫مملكة الصنارية‬
‫ثم يلي مملكة خزران مملكة ُيقال لها الصمص??خي‪ ،‬نص??ارى وفيهم جاهلي??ة المل??ك‬
‫لهم‪ ،‬ثم تلي مملك??ة ه??ؤالء الصمص??خية بين ثغ??رتفليس وقلع??ة ب??اب الالن المق??دَّ م‬
‫ذكره?ا مملك?ة يق?ال له?ا الص?نارية‪ ،‬وملكهم يق?ال ل?ه كرس?كوس‪ ،‬ه?ذا االس?م األعم‬
‫لسائر ملوكهم‪ ،‬وينقادون إلى دين النصرانية‪ ?،‬وهؤالء النصرانية? يزعمون أنهم من‬
‫العرب من نزار بن معد‪ ،‬من مضر‪ ،‬وأنهم فخ??ذ من عقي??ل‪ ،‬س??كنوا هنال??ك من ق??ديم‬
‫الزمان‪ ،‬وهم هناك مستظهرون على كث??ير من األمم‪ ،‬ورأيت ببالد م??أرب من أرض‬
‫اليمن أناساًمن عقيل محالفه لمذحج‪ ،‬ال فرق بينهم وبين أخالفهم الستقامه كلمتهم‪،‬‬
‫فيهم خيل كثيرة َو َم َن َعة‪ ?،‬وليس في اليمن كلها قوم من ن??زاربن مع??د غيره??ذا الفخ??ذ‬
‫من عقيل‪ ،‬إال ما ذكر من ولد أنمار بن نزار بن معد‪ ،‬ودخولهم في اليمن حس??ب م??ا‬
‫البجلي م??ع الن??بي ص??لى هللا‬‫َ‬ ‫ورد به الخبر‪ ،‬وهو ما كان من خبر جري??ربن عب??د هّللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وما كان من خبر بجيل??ة‪ ،‬والص??نارية يزعم??ون أنهم اف??ترقوا في ق??ديم‬
‫س َّمينا من عقيل ببالد مأرب في خبر طويل‪.‬‬ ‫الزمان هم ومن َ‬

‫صفحة ‪116 :‬‬

‫مملكة شكين‬
‫ثم يلي مملكة الصنارية مملكة شكين وهم نصارى‪ ،‬وفيهم خلق من المسلمين من‬
‫التج?اروغيرهم من ذوي المهن‪ ،‬و ُيق?الى لملكهم في ه?ذا ال?وقت الم?ؤرخ ب?ه كتابن?ا‬
‫آزر بن نبيه بن مهاجر‪.‬‬
‫مملكة قيلة‪ ،‬مملكة الموقان‬
‫ثم تليهم مملك??ة قيل??ة وم??احوت المدين??ة منه??ا مس??لمون‪ ،‬وماحوله??ا من العم??ائر‬
‫والض??ياع نص??ارى‪ ،‬ويق??ال لملكهم في ه??ذا ال??وقت الم??ؤرخ ب??ه كتابن??ا ه??ذا عنبس??ة‬
‫األعور‪ ،‬وه??و م??أوى اللص??وص والص??عاليك وال??د َّعار‪ .‬ثم تلي ه?ذه المملك??ة مملك??ة‬
‫الموقان‪ ،‬وهي التي ق??دمنا ذكره??ا‪ ،‬وأنه??ا متغلب عليه??ا‪ ،‬وأنه??ا مض??افة إلى مملك??ة‬
‫شروان شاه‪ ،‬وليس هذا البلد المعروف بالموقانية هو الملك الذي على ساحل بح??ر‬
‫الخزر‪ ،‬وقد كان محمد بن يزيد المعروف بشروان شاه في هذا الوقت مل??ك اإِل ي??ران‬
‫علي بن الهيثم‪ ،‬فلم??ا هل??ك‬‫شاه هو ومن سلف من آبائه‪ ،‬وك??ان مل??ك ش??روان ش??اه ّ‬
‫علي تغلب محمد على شروان شاه على حسب ما ذكرنا آنفاً‪ ،‬بعد أن قتل عمومة له‬
‫واحتوى على ما ذكرنا من الممالك‪ ،‬وله قلعة ال ي??ذكر في قالع الع??الم أحس??ن منه??ا‬
‫في جبل القبخ‪.‬‬
‫وللباب أخبار كثيرة من أخبار األبنية? العجيبة التي بناه??ا كس??رى بن قب??اذا بن‬
‫فيرور وهو أبو كس??رى أن??و ش??روان في الموض??ع المع??روف بالمس??قط من المدين?ة?‬
‫بالحجارة والحيطان التي بناها ببالد شروان المعروف بسور الطين وسور الحجارة‬
‫المعروف بالبرمكي وما يتصل ببالد برذعة أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتين??ا على‬
‫ذل??ك فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪.‬وأم??ا نه??ر الك??ر فيبت??دىء من بالد خ??زران من مملك??ة‬
‫جرجين‪ ،‬ويمر? ببالد أبخ?ازحتى ي??أتي ثغ??ر تفليس‪ ،‬ويش??ق في وس??طه‪ ،‬ويج??ري في‬
‫بالد السياوردية حتى ينتهي على ثمانية? أميال من بردع??ة‪ ،‬ويج??ري إلى ب??رداج من‬
‫أعمال برذعة ثم يصب فيه مما يلي الصنارة نه??ر ال??رس‪ ،‬ويظه??ر من أقاص??ي بالد‬
‫الروم من نحو مدينة? طرابزنده ح?تى يجيء إلى الك?ر‪ ،‬وق?د ص??ار في?ه نه??ر ال??رس‪،‬‬
‫الخ? ّرمي من‬ ‫يصب في بحر الخزر‪ ،‬ويجري ال??رس بين بالد الب??دين وهي بالد باب??ك َ‬
‫أرض أذر بيجان وجبل أبي موسى من بالد الران‪ ،‬ويم?ر? ببالد ورث??ان‪ ،‬وينتهي? إلى‬
‫حيث وص???فنا‪ ،‬وق???د أتين???ا على وص???ف ه???ذه األنه???ار أيض???اً‪ ،‬والنه???ر المع???روف‬
‫بأس??بيذروج وتفس??ير? ذل??ك النه??ر األبيض على التق??ديم والت??أخير بين اللغ??تين وهي‬
‫الفارسية والعربية‪ ،‬ومم??ره وجريان??ه في أرض ال??ديلم نح??و قلع??ة س??الر‪ ،‬وه??و ابن‬
‫أسوار الديلمي بعض ملوك الديلم وقد ظهر في هذا الوقت الم??ؤرخ ب??ه كتابن??ا تغلب‬
‫بالد أربيجان ثم يمر هذا النهر من الديلم إلى الجيل‪ ،‬ويصب في??ه نه??ر آخ??ر في بالد‬
‫الديلم‪ُ ،‬يق??ال ل??ه‪ :‬ش??اهان روذ‪ ،‬فينتهي? مص??ب الجمي??ع إلى بح??ر الجي??ل‪ ،‬وه??و بح??ر‬
‫ال??ديلم والخ??زر وغ??يرهم ممن ذكرن??ا من األمم المحيط??ة به??ذا البح??ر‪ ،‬وعلى ه??ذه‬
‫األنهار أكثر هؤالء الديم والجيل الذين قد ظهروا وتغلبوا على كثير من األرض‪.‬ف??إذ‬
‫ق??د ق??دمنا من أخب??ار بالد جب??ل القبخ وم??ا في??ه وم??ا حول??ه من األمم وأخب??ار الب??اب‬
‫واألبواب وبحر الخزر‪.‬‬
‫صفحة ‪117 :‬‬

‫ملوك العالم‬
‫فلن???دكر اآلن مل???وك الس???ريان‪ ،‬وهم أول من يع??? ّد في كتب الزيج???ات والنج???وم‬
‫والتواريخ القديمة? من ملوك العالم‪ ،‬ثم ملوك الموصل ونينوى‪ ،‬ثم مل??وك باب??ل وهم‬
‫الذين عمروا األرض‪ ،‬وشقوا األنهار‪ ،‬وغرسوا األشجار‪ ،‬وطعموا الثم??ار‪ ،‬ومه??دوا‬
‫الوعر‪ ،‬وسهلوا الطريق‪ ،‬ثم نتبع ذلك بالفرس األولى‪ ،‬وهم المعروف??ون بالخ??ذاهان‬
‫إلى مل??ك أفري??دون‪ ،‬ثم اإلِس??كان إلى دارا وه??و داري??وس بن دارا وهم الس??كنون ثم‬
‫مل?وك الط?وائ‪ ،‬ثم الف?رس الثاني?ة‪ ،‬ثم اليون?انين‪ ،‬ثم ال?روم ون?ذكر من يتل?وهم من‬
‫ملوك العرب واألمم والسودان ومصر? واإِل سكندرية و غير ذلك من بقاع األرض إن‬
‫شاء هّللا تعالى‪.‬‬

‫ذكر ملوك السريانيين‬

‫ولمع من أخبارهم‬
‫?ر أهلى العناي??ة بأخب??ار مل??وك الع??الم أن أول المل??وك مل??وك الس??ريانيين بع??د‬ ‫ذ َك? َ‬
‫الطوف??ان‪ ،‬وق??د تن??وزع فيهم و في ال َّن َب??ط‪ :‬فمن الن??اس من رأى أن الس??ريانيين هم‬
‫النبط‪ ،‬ومنهم من رأى أنهم إخوة لودماش بن نبيط‪ ،‬ومنهم من رأى غيرذلك و كان‬
‫أول من ملك منهم رجل ُيقال له إشوسان وكان أول من وضع التاج على رأس??ه في‬
‫تاريخ السريانيين وال َّن َبط‪ ،‬وانقادت له ملوك األرض‪ ،‬وكان ملكه س??ت عش??رة س??نة‬
‫باغيا ً في األرض‪ ،‬مفسداً للبالد‪ ،‬سفاكا ً للدماء‪.‬ثم ملك ول?د ل?ه يق?ال ل?ه برب?ر وك?ان‬
‫ملكه إلى أن هلك عشرين سنة‪ .‬ثم ملك سماسير بن آوت‪ ،‬سبع سنين‪.‬ثم ملك بع??ده‬
‫وك?و َر ْأل ُك َ?ور‪ ،‬وج? َّد في أم?ره‪ ،‬وإتق?ان ملك?ه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫هريمون عش?ر س?نين‪ ،‬خ?ط الخط?ط‪،‬‬
‫وعمارة أرضه‪ ،‬فلما استقامت له األحوال وانتظم له الملك بلغ بعض ملوك الهند ما‬
‫عليه ملوك السريانيين من القوة وشدة العمارة‪ ،‬وأنهم يحاولون الممالك‪ ،‬وقد ك??ان‬
‫ه??ذا المل??ك من مل??وك الهن??د غالب?ا ً على م??ا حول??ه من ممال??ك الهن??د‪ ،‬وانق??ادت إلى‬
‫سلطانه‪ ،‬ودخلت في أحكامه‪ ،‬وقيل‪:‬إن مكله كان مما يلي بالد السند والهن??د‪ ،‬فس??ار‬
‫نحو بالد بسط وغ??زنين ولعس وبالد ال??داور على النه??ر المع??روف بنه??ر الهرمن??د‪،‬‬
‫وهو نهر سجستان ينتهي جريانه على أربع فراسخ منه??ا‪ ،‬وه??ذا النه??ر علي??ه أه??ل‬
‫سجستان وضياعهم ونخلهم وجبالهم ومنتزهاتهم في هذا الوقت‪ ،‬وهو سنة اثن??تين‬
‫وثالثين وثلثمائة‪ ?،‬وهذا النهريعرف بنه??ر بس??ط‪ ،‬وتج??ري ي??ه الس??فن من هن??اك إلى‬
‫سجستان فيها األقوات وغير ذلك ومن بس??ط إلى سجس??تان نح??و من مائ??ة فرس??خ‪،‬‬
‫وبالد سجستان هي بالد الرياح والرمال‪ ،‬وهو البلد الموصوف بأن ال?ريح ب??ه ت??دير‬
‫األر ِح َية وتس??قي الم??اء من اآلب??ار وتس??قي? ال ِج َن??انَ ‪ ،‬وليس في ال??دنيا بل??د وهّللا آعلم‬
‫ْ‬
‫أكثر منه اتسعماالً للرياح‪.‬‬

‫صفحة ‪118 :‬‬

‫نهر الهرمند‬

‫وقد تنوزع في مبدأ هذا النهر المعروف بنهر الهرمنده فمن الناس من رأى أن??ه‬
‫من عيون بجبال السند والهند‪ ،‬ومنهم زآى أن مبدأه ص??ت مب??دأ نه??ر الكن??ك‪ ،‬وهو‬
‫نهر الهند‪ ،‬ويمر بكثير من جبال السند‪ ،‬وهو نهر ح??اد االنص??باب والجري??ان‪ ،‬علي??ه‬
‫يعذب أكتر الهند أنفس??ها بالحدي??د وتغوقه??ا زه??داً في ه??ذا الع??الم ورغب??ة في النقل??ة‬
‫عنه‪ ،‬وذلك أنهم يقصدون موضعا ً في أعالى هذا النهر المعروف بالكنك‪ ،‬وهو جبال‬
‫عالية‪ ،‬وأشجار عادية‪ ،‬ورجال جلوس‪ ،‬وحدائد وسيوف? منصوبة على ذلك الشجر‪،‬‬
‫وقطع من الخشب فت??أتيهم الهن??د من الممال??ك النائي??ة والبل??دان القاص??ية فيس??معون‬
‫كالم أولئك الرجال المرتبين على هذا النهر وما يقولون من تزهيدهم في هذا العالم‬
‫والترغيب فيما سواه‪ ،‬فيطرحون أنفس??هم من أع??الي تل??ك الجب??ال العالي??ة على تل??ك‬
‫أألشجار العادية والسيوف والحدائد المصوبة‪ ?،‬فيتقطعون قطعاً‪ ،‬ويصيرون إلى ه??ذا‬
‫النهر أجزاء‪ ،‬وما ذكرنا فموصوف عنهم وما يفعلون على هذا النهر كدْ لك‪.‬‬

‫وصف نوع من الشجر‬


‫وهن??اك ش??جر من إح??دى عج??ائب الع??الم ون??وادره والغ??رائب من نبات??ه‪،‬يظه?ر? من‬
‫األرض أغصان مشتبكة من أحسن ما يكون من الشجر والورق‪ ،‬فتستقيم في الج??و‬
‫كأبعد ما يكون من طوال النخ??ل‪ ،‬ثم ينح??ني? جمي??ع ذل??ك منعكس??أ فيع??ود في الألرض‬
‫ص ُعداً‪ ،‬حتى‬‫مندساً‪ ،‬ويهوي في قعرها سفالً على المقدار الذي أرتفع به في الهواء ُ‬
‫يغيب عن األبصار‪ ،‬ثم تظهر أغصان يادئة على حسب ما وص??فنا في األول فت??دْ هب‬
‫ص ُعداً‪ ،‬ثم تنقطر منعكسة‪ ،‬والفرق بين المقدار الذي يذهب منها في الهواء ويتس??ع?‬ ‫ُ‬
‫في افلضاء وبين ما يغيب سه تحت األرض ويت??وارى تحت ال??ثرى‪ ،‬فل??وال أن الهن??د‬
‫قد وكلت بقطعة من يراعي?ه من أم??ره ألمريذكرون??ه‪ ،‬وخط??ر قي المس?قبل يص??فونه?‬
‫لطبق على تلك البالد ولغش??ي تل??ك األرض‪ ،‬وله??ذا الن??وع من الش??جر أخب??ار يط??ول‬
‫ذكرها‪ ،‬يعرفها من طرأ إلى تلك البالد ورآها‪ ،‬أُو ئمي إليه خبرها‪.‬‬

‫أنواع من تعذيب الهند أنفسهم‬


‫والهند تعذب أنفسها على ما وصفنا بأنواع العذأب من دون األمم وقد تيقنت أنْ ما‬
‫ي ْنالها من النعيم في المستقبل? مؤجاَل َ ال يكون بغيرما أسلفته من تع?ذيب أنفس?ها في‬
‫هذه الدار معجالً‪ ،‬ومنهم من يصير إلى باب الملك يستأذن في إحراقه نقسه‪ ،‬فيدور‬
‫أج َجت له النار العظيمة وعليها من قد وكل بإيقادها‪ ،‬ثم يس??ير في‬‫في األسواق وقد ِّ‬
‫األسواق وقدامه الطبول والصنوج‪ ?،‬و على بدنه أنواع من خرق الحرير ق??د مزقه??ا‬
‫على نفسه‪ ?،‬وحوله أهله وقرابته‪ ،‬وعلى رأسه إكليل من الريحان‪ ،‬وق??د قش??ر جل??ده‬
‫عن رأسه‪ ،‬وعليها الجمر وعليه??ا الك??بريت والس??ندروس‪ ،‬فيس??ير? وهامت??ه تخ??ترق‬
‫رروائح دماغه تفوح وهو يمضغ ورقي التنبول وحب الفوفل‪ ،‬والتنب??ول? في بالدهم‬
‫ورق ينبت كأصغر ما يكون من ورق األترج يمضغ? هذا الورق بالنورة المبلولة مع‬
‫الفوفل‪ ،‬وهو الذي غلب على أهل مكة وغيرهم من بقية أهل الحجاز واليمن في‬
‫صفحة ‪119 :‬‬

‫هذا الوقت مضغه بداَل َ من الطين‪ ،‬ويكون عند الصنادلة للورم وغير ذلك‪ ،‬وه??ذا إذا‬
‫ش?دَّ اللِّ َث? َ‬
‫?ة‪ ،‬وبعث على الب??اه‪ ،‬وحم??ر األس??نان‬ ‫مضغ على ما ذكرنا بالورق والن??ورة َ‬
‫حتى تكون ك??أحمر م??ا يك??ون من حب الرم??ان‪ ،‬وأح??دث في النفس طرب?ا ً وأريحي??ة‪?،‬‬
‫وق??وي الب??دن‪ ،‬وأث??ار من النكه??ة روائح طيب??ة خم??رة‪ ،‬والهن??د خواص??ها وعوامه??ا‬
‫تستقبح َمنْ أسنانه بيض‪ ،‬وتجتنب? من ال يمضغ ما وصفنا‪ ،‬فإذا طاف ه??ذا المع??ذب‬
‫لنفسه بالنار في األس??واق وانتهى إلى تل??ك الن??ار وه??و غ??ير مك?ترث وال متغ?ير في‬
‫مشيته وال متهيب في خطوته‪ ،‬ففيهم من إذا أش??رف على الن??ار وق??د ص??ارت جم??راً‬
‫كالت??ل العظيم يتن?اول بي?ده خنج?راً وي?دعى الج??ريء عن?دهم فيض?عه في لبت?ه‪ ،‬وق?د‬
‫حضرت ببالد ص??يمور من بالد الهن??د من أرض الالزمن مملك??ة البله??را‪ ،‬وذل??ك في‬
‫سنة أربع وثلثمائة‪ ،‬والملك يومئذ على صيمور المع??روف بح??اج‪ ،‬وبه??ا يومئ??ذ من‬
‫المسلمين نحو من عش??رة االف ق??اطنين بياس??رة وس??يرافيين وعم??انيين وبص??ريين‬
‫وبغداديين وغيرهم من س??ائر األمص??ار ممن ق??د تأه??ل وقطن في تل??ك البالد‪ ،‬وفيهم‬
‫خلق من وجوه التجارمثل موسى بن إسحاق الصندالوني وعلى الهزمة يومئ ?ذ? أب??و‬
‫سعيد معروف بن زكريا‪ ،‬وتفسير? الهزم?ة ي?راد ب?ه رآس?ة المس?لمين يتواله?ا رج?ل‬
‫منهم عظيم من رؤسائهم تكون أحكامهم مصروفة إليه‪ ،‬ومعنى قولنا البياسرة يراد‬
‫ب??ه من ول??دوا من المس??لمين ب??أرض الهن??د‪ُ ،‬ي??دْ َع ْون به??ذا االس??م‪ ،‬واح??دهم بيس??ر‪،‬‬
‫فرأيت بعض فتيانهم وقد طاف على ما وصفنا في أسواقهم‪ ،‬فلم??ا‬ ‫ُ‬ ‫وجمعهم بياسرة‪،‬‬
‫دنا من النار أخذ الخنجر فوض??عه على ف??ؤاده فش? َقه‪ ،‬ثم أدخ??ل يم??ه الش??مال فقبض‬
‫على كبده فجذب منها قطعة وهو يتكلم فقطعها بالخنجر‪ ،‬ف??دفعها إلى بعض إخوان??ه‬
‫تهاونا ً بالموت ولذة بالنقلة‪ ،‬ثم هوى بنفسه? في النار‪ ،‬وإذا مات المل??ك من مل??وكهم‬
‫أو قت??ل نفس??ه َح? َّر َق خل?ق من الن?اس أنفس??هم لموت??ه‪ ،‬ي??دعون ه??ؤالء البالنجري??ة‪،‬‬
‫واح??دهم بالنج??ري‪ ،‬وتفس??يرذلك المص??ادق لمن يم??وت فيم??وت بموت??ه‪ ?،‬ويحي??ا‬
‫بحياته‪.‬وللهند أخبار عجيبة تج??زع من س??ماعها النفس‪ :‬من أن??واع اآلالم والمقات??ل‬
‫ال??تي ت??ألم عن??د ذكره??ا األب??دان‪ ،‬وتقش??عر منه??ا األبش??ار‪ ،‬وق??د أتين??ا على كث??ير من‬
‫عجائب أخبارهم فيِ كتابنا أخبار الزمان‪.‬فلنرجع اآلن إلى خبر مل??ك الهن??د ومس??يره‬
‫إلى بالد سجستان‪ ،‬وقصده مملكة السريانيين‪ ،‬ونعدل عما احتذينا من أخبار الهن??د‪،‬‬
‫فنقول‪:‬كان هذا الملك من ملوك الهند ُيقال ل??ه زنبي??ل‪ ،‬وك??ل مل??ك يلي ه??ذا البل??د من‬
‫أرض الهن??د يس??مى به??ذا االس??م زنبي??ل إلى ه??ذا ال??وقت‪ ،‬وهوس??نة اثن??تين وثالثين‬
‫وثلثمائة‪ ?،‬وكان بين الهند وملوك السريانيين حروب عظام نحو من سنة‪ ،‬فقتل ملك‬
‫السريانيين‪ ،‬واحتوى ملك الهند على الصقع‪ ،‬وملك جميع ما فيه‪ ،‬فسار إلي??ه بعض‬
‫ملوك العرب‪ ،‬فأتى عليه وملك الع?راق‪ ،‬ورد مل?ك الس?ريانيين‪ ،‬فملك?وا عليهم رجاًل‬
‫منهم ُيقال له‪:‬تستر وكان ولد المقتول‪ ،‬فكان ملكه إلى أن هلك ثمان سنين‪.‬‬
‫أهريمون هوريا ما روب‬
‫ثم ملك بعده أهريمون وكان ملكه اثنتي عشرة سنة ثم ملك بعد ابن ُيقال له هوريا‬
‫فزاد في العمارة‪ ،‬وأحسن في الرعاية‪ ،‬وغرس األش??جار‪ ،‬وك??ان ملك??ه إلى أن هل??ك‬
‫اثنتين وعشرين سنة‪.‬ثم ملك بع??ده م??اروب واس??تولى على المل? َك وك??ان ملك??ه م??دة‬
‫خمس عشرة سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬ثالثة وعشرين سنة‪.‬‬
‫صفحة ‪120 :‬‬

‫أزور وخلنجاس وأول من شرب الخمر‬

‫ثم ملك بعد أزور و خلنجاس ُويقال‪ :‬إنهما كانا أخوين؛ فأحسنا السيرة‪ ،‬وتعاضدا‬
‫على الملك‪ ،‬و ُيق??ال‪ :‬إن أح??د ه??ذين الملكين ك??ان جالس?ا ً ذات ي??وم إذ نظ??ر في أعلى‬
‫قصره إلى طائر قد أفرخ هناك‪ ،‬وإذا هو يضرب بجناحيه ويصيح‪ ?،‬فتأمل الملك ذلك‬
‫فنظر إلى حية تنس??اب إلى ال??وكر ص??اعدة ألك??ل ف??راخ الط??ائر‪ ،‬ف??دَ َعا المل??ك بق??وس‬
‫فرمى به الحية فصرعها‪ ،‬وسلمت ف??راخ الط??ائر‪ ،‬فج??اء الط??ائر بع??د هنيه?ة? يص??فق‬
‫بجناحيه وفي منقاره حبة وفي مخاليبه حبتان‪ ،‬وجاء إلى المل??ك وألقى م??ا ك??ان في‬
‫منقاره ومخاليبه‪ ،‬والملك يرمقه‪ ،‬فوقع الحب بين يدي الملك فتأمله‪ ،‬وقال‪ :‬ألمر ما‬
‫ألقى هذا الطائر ما ألقى‪ ،‬ال شك أنه أراد مكافأتنا على فعلن??ا ب??ه‪ ،‬فأخ??ذ لحب وجع??ل‬
‫يتأمله فلم يعرف مِثله في إقليمه‪ ?،‬فقال جليس مِنْ ُجلسائه حكيم وقد نظر إلى ح??يرة‬
‫الملك في الحب‪ :‬أيها الملك‪ ،‬ينبغي أن يودع لنبات أرحام األرض فإنه??ا تخ??رج ُك ْن? َه‬
‫ما فيه‪ ،‬فنقف على الغاية ِم ْنه‪ ،‬إداء َما في مخزونه و َمكنونه‪ ?،‬فدعا باأل َك َر ِة وأ َم َرهُم‬
‫بزرع الحب و ُمراعاته‪ ،‬وما يكون منه‪ ،‬فزرع‪ ،‬فنبت وأقبل يلتف بالشجر ثم حصرم‬
‫وأعنب‪ ،‬وهم َي ْر ُمقُون??ه‪ ،‬والمل?ك يراعي??ه‪ ،‬إلى أن انتهى في البل??وغ وهم ال ُي ْق??دمون‬
‫على ذوقه خوف?ا ً أن يك?ون متلف?اً‪ ،‬ف?أمر المل?ك بعص?ر مائ?ه‪ ،‬وأن ي?ودع في أواني‪،‬‬
‫وإفراد ُح ٍّب منه وتركه على حالته‪ ،‬فلما صار في اآلنية عصيراً َهد ََر وق??ذف بالزب??د‬
‫فان فأتي به‪ ،‬فلدد له من ذلك‬ ‫بشيخ كبير ٍ‬
‫ِ‬ ‫علي‬
‫َ‬ ‫وفاحت له روائح عبقة‪ ،‬فقال الملك‪:‬‬
‫في إناء فرآه لونا ً عجيب?اً‪ ،‬ومنظ?راَ ك?اماًل ‪ ،‬ولون?ا ً ياقوت َي? ا َ أحم?ر‪ ،‬وش?عاعا ً ن?يراً‪ ،‬ثم‬
‫سقوا الشيخ فما شرب ثالثا ً ح??تى م??ال‪ ،‬وأرخى من م??آزره الفض??ول وص??فق بيدي??ه‬
‫وح??رك رأس??ه‪ ،‬ووق??ع برجلي??ه على األرض‪ ،‬فط??رب‪ ،‬ورف??ع عقيرت ?ه? يتغ َّنى‪ ،‬فق??ال‬
‫الملك‪ :‬هذا شراب يذهب بالعقل‪ ،‬وأخاف أن يكون قا َتاَل ‪ ،‬أال ت??رى إلى الش??يخ كيفم??ا‬
‫عاد في ح??ال الص??با وس??لطان ال??دم وق??وة الش??باب‪ .‬ثم أم??ر المل??ك ب??ه فزي??د‪ ،‬فس??كر‬
‫الش??يخ‪ ،‬فن??ام‪ ،‬فق??ال المل??ك‪ :‬هل??ك‪ ،‬ثم إن الش??يخ أف??اق وطلب الزي??ادة من الش??راب‪،‬‬
‫وقال‪ :‬لقد شربته فكشف عني الغم?وم‪ ،‬وأزال عن س?احتي األح??زان والهم?وم‪ ،‬وم??ا‬
‫أراد الطائر إال مكافأتكم بهذا الشراب الشريف‪ ،‬فقال الملك‪ .‬هذا أشرف ش??راب أه??ل‬
‫األرض‪ ،‬وذل?ك أن?ه رأى ش?يخا ً ق?د حس?ن لون?ه‪ ،‬وق?وي حيل?ه‪ ،‬وانبس?ط في نفس?ه‪،‬‬
‫وطرب في حال طبيعة الحزن وسلطان البلغم‪ ،‬وجاد هض??مه‪ ،‬وج?اءه الن??وم‪ ،‬وص??فا‬
‫لونه‪ ،‬واعترته أريحية‪ ،‬فأمر الملك أن يكثر من َغ ْرس ال َك ْرم‪ ،‬فكثر الغ??رس للك??رم‪،‬‬
‫وأمر أن يمنع العامة من ذلك‪ ،‬وقال‪:‬هذا شراب الملوك‪ ،‬وأنا السبب فيه‪ ،‬فال يشرب‬
‫غيري‪ ،‬فاستعمله الملك بقية أيامه‪ ،‬ثم نما في أيدي الن??اس واس??تعملوه‪ ،‬وق??د قي??ل‪:‬‬
‫إن نوحا ً أول من زرعها‪ ،‬وقد ذكرنا الخبر حين س??رقها إبليس من ?ه? حين خ??رج من‬
‫السفينة واستولى على الجودي في كتاب المبدأ وغيره من الكتب‪.‬‬

‫صفحة ‪121 :‬‬

‫ذكر ملوك الموصل ونينوى وهم األثوريون‬


‫ولمع من أخبارهم وسيرهم‬

‫مدينة نينوى‬
‫نينوى‪ ?:‬هي مقابلة الموصل‪ ،‬وبينهما دجلة‪ ،‬وهي بين قردى وم??ا زن??دى من ك??ور‬
‫الموصل‪ ،‬ونينوى? في َو ْقتنا هذا وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة مدين?ة? خ??راب‬
‫فيها قرى ومزارع ألهلها‪ ،‬وإلى أهلها أرسل هّللا يونس بن َم َّتى‪ ،‬وآثار الصور فيها‬
‫بينة? واضحة وأصنام من حجارة مكتوبة? على وجوهه??ا‪ ،‬وظ??اهر المدين??ة ت??ل علي??ه‬
‫مسجد‪ ،‬وهناك عين تعرف بعين ي??ونس الن??بي علي??ه الص??الة والس??الم‪ ،‬وي??أوي إلى‬
‫ساك والعباد والزهاد‪.‬‬ ‫هذا المسجد ال ُّن ّ‬

‫بسوس وسميرم واألرسيس‬


‫س ّور س??ورها‪ :‬مل??ك عظيم ق??د دانت ل??ه المل??وك‬ ‫وكان أول ملك َب َنى هذه المدينة‪ ?،‬و ً‬
‫ودانت له البالد‪ ،‬و ُيقال له بسوس بن ب??الوس‪ ،‬فك??انت م??دة ملك??ه اثن??تين وخمس??ين‬
‫سنة‪.‬‬
‫وكان بالموص??ل مل??ك آخ??ر مح?ارب له?ذا المل?ك‪ ،‬وك??انت بينهم??ا ح??روب ووق?ائع‪،‬‬
‫ويقال‪ :‬إن ملك الموصل كان في ذلك العصر سابق بن مالك رجل من اليمن‪.‬ثم مل??ك‬
‫أهل نينوى عليهم بعده امرأة‪ ،‬يقال لها سميرم فأق??امت عليهم أربعين س??نة تح??ارب‬
‫ملوك الموصل‪ ،‬وملكها من شاطىء دجلة إلى بالد أرمينية ومن بالد أذربيج??ان إلى‬
‫والجودي‪ ،‬وجبل التيتل? إلى بالد الزوزان‪ ،‬وغيرها من أرميني??ة‪ ،‬وك??ان‬ ‫َ‬ ‫حد الجزيرة‬
‫أهل نينوى ممن سمينا نبيطا ً وسريانيين‪ ،‬والجنس واحد‪ ،‬واللغة واحدة‪ ،‬وإنما ب??ان‬
‫النبط عنهم ب??أحرف يس??يرة? في لغتهم‪ ،‬والمقال??ة واح??دة‪.‬ثم َم َل? َك بع??د ه??ذه الم??رأة‬
‫األرسيس و ُيقال‪ :‬إنه كان ابنه?ا‪ ،‬وك?ان ملك?ه نح?وإً من أربعين س?نة‪ ،‬ورجعت إلي?ه‬
‫األرمن‪ ،‬وقد كانت الحروب بينهم سجاالً في ملكه‪ ،‬ثم غلبوا على أهل نينوى? فكانت‬
‫الحروب بين أهل أرمينية وبين ملوك الموص??ل‪ .‬ويق??ال‪ :‬إن ه??ذا المل??ك آخ??ر ُمل??وك‬
‫نين??وى‪ ،‬وقي?ل‪ :‬إن??ه َم َل? َك بع??ده عش?رون وك?ان ي?ؤدي الض?ريبة? إلى َملِ?ك أرميني??ة‪،‬‬
‫ولهؤالء الملوك أخبار وسير وحروب قد أتينا على جميعها في كتابنا أخبار الزم??ان‬
‫وفي الكتاب األوسط‪.‬‬

‫ذكر ملوك بابل وهم ملوك النبط وغيرهم‬

‫المعروفين بالكلدنيين‬
‫ذ َك َر جماعة من أهل التبص??ر والبحث‪ ،‬ومن ذوي العناي??ة بأخب??ار مل??وك الع??الم أن‬
‫ملوك باب هم أول م َلوك الع??الم ال??ذين َم َّهدُوا األرض بالعم??ارة‪ ،‬وأن الف??رس األولى‬
‫إنما أخذت الملك من هؤالء‪ ،‬كما أخذت الروم الملك من اليونانيين‪.‬‬

‫صفحة ‪122 :‬‬

‫نمروذ الجبار‬
‫وكان أولهم نمروذ الجبار‪ ،‬وكان ملك??ه نح??واً من س??تين س??نة‪ ?،‬وه??و ال??ذي احتف??ر‬
‫الفرات فيق?ال‪ :‬إن من ذل?ك نه??ر ك?وثى يطري??ق من ط??رق‬ ‫أنهاراً بالعراق‪ ،‬آخذة من َ‬
‫الكوفة‪ ،‬وهو بين قصر ابن هبيرة وبغداد‪ ،‬الخف??اء لخ??بره وش??هرته‪ ?،‬وس??نذكر فيم??ا‬
‫ي??رد من ه??ذا الكت??اب كث??يراً من أنه??ار الع??راق‪ ،‬عن??د ذكرن??ا لمل??وك الف??رس األولى‬
‫والثانية‪ ،‬وغيرهم من ملوك الطوائف‪ ،‬وإنما الغرض في هذا الكتاب التلويح بتاريخ?‬
‫ملوك العالم‪ ،‬والتنبيه? على ما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫بقية ملوك بابل‬


‫وملك بعده بولوس نحواً من سبعين سنة‪ ،‬وكان عظيم البطش متجبراً في األرض‬
‫وكانت في أيامه حروب‪ ،‬ثم ملك بع??ده فيومن??وس‪ ،‬نح??واً من مائ??ة س??نة‪ ،‬باغي?ا ً في‬
‫األرض على أهلها‪ ،‬ثم ملك بع??ده سوس??وس نح??واً من تس??عين س??نة‪ ?،‬ثم مل??ك بع??ده‬
‫كورش نحواَ من خمسين سنة‪ ?،‬ثم ملك بعده أذفر نح??واً من عش??رين س??نة‪ ?،‬ثم مل??ك‬
‫بعد سمال نحواً من أربعين سنة‪ ،‬وقيل أكثرمن ذلك‪ ،‬ثم لك بعده بوس??ميس نح??و من‬
‫سبعين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده‪ ،‬أني??وس نح??واً من ثالثين س??نة‪ ?،‬ثم مل??ك بع??ده أفالوس‪،‬‬
‫خمس عش??رة س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده الحل??وس نح??واً من أربعين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده‬
‫أومرنوس نحو ثالثين سنة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده كل??وس نح??و ثالثين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده‬
‫سيبفروس? نحو أربعين سنة‪ ?.‬وقد قيل دون ذلك وهلك‪ ،‬ثم ملك بعده مارنوس نح??و‬
‫ثالثين سنة ثم ملك بعده وسطاليم أربعين سنة‪ ?،‬ثم ملك بعده أمنوطوس نحو س??تين‬
‫سنة‪ ،‬ثم ملك بعده تباوليوس نح??واً من خمس??ين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده الع??داس نح??و‬
‫ثالثين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده أطيروس نحو ستين سنة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده ساوس??اس نح??و‬
‫عشرين سنة‪ ،‬ثم مل?ك بع?ده ف?اربنوس نح?و خمس?ين س?نة‪ ،‬وقي?ل‪ :‬خمس?ا ً وأربعين‬
‫سنة‪ ،‬ثم ملك بعه سوسا أدرينوس? نحو أربعين سنة‪ ،‬فغراهم ملك من ملوك فارس‪،‬‬
‫من عقب دارا‪ ،‬ثم ملك بعده مسروس‪ ،‬نحو خمسين سنة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده طاط??ايوس‬
‫نحو ثالثين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده طاط??اوس نح??و أربعين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده أف??روس‬
‫نحو أربعين‪ ،‬ثم ملك بع??ده الوس??يس نح??و خمس??ين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬خمس?ا ً وأربعين‬
‫ثم ملك بعده أفريقوس نح??و ثالثين س??نة ثم مل??ك بع??ده منط??وروس نح??واَ من‬ ‫سنة‪ِ ،‬‬
‫عشرين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده قوال قسما نحواً من ستين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده هنقلس‪،‬‬
‫خمسا ً وثالثين سنة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬خمس?ين س??ن ٌه‪ ،‬وك?انت ل?ه ح?روب م?ع مل?ك من مل?وك‬
‫الصابئة‪ ?،‬وكذلك ذكر في كتاب التاريخ القديم‪ ،‬ثم ملك بعده مرجد نحو ثالثين س??نة‪،‬‬
‫ثم مل?ك بع??ده م?ردوج أربعين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أق??ل من ذل?ك‪ ،‬ثم مل?ك بع?ده س??نجاريب‬
‫ثالثين سنة‪ ،‬وهو الذي أتى بيت المقدس‪ ،‬ثم ملك بعده نش??وه منوش??ا ثالثين س??نة‪?،‬‬
‫وقيل‪ :‬أقل من ذلك‪ ،‬ثم ملك بعده بختنصر الجبار خمسا ً وأربعين سنة‪ ?،‬ثم ملك بع??ده‬
‫فرمودوج نحو سنة‪ ?،‬ثم ملك بعده بنطسفر? نحو ستين سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬أقل من ذلك‪ ،‬ثم‬
‫ملك بعده منس??وس? نح??و ثم??ان س??نين‪ ،‬وقي??ل‪ :‬عش??راً‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده معوس??ا س??نة‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬أقل من ذلك‪ ،‬ثم ملك بعده داونوس إحدى وثالثين سنة‪ ،‬وقيل أكثر من ذل??ك‪،‬‬
‫ثم ملك بعده كسرجوس عشرين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده مرطياسة تسعة أشهر وقتل‪ ،‬ثم‬
‫صفحة ‪123 :‬‬

‫ملك بعده فنحست إحدى وأربعين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده أحرس??ت ثالث س??نين‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬
‫سنتين وشهرين‪ ،‬ثم ملك بعده ش??عرياس س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬تس??عة أش??هر‪ ،‬ثم مل?ك بع?ده‬
‫داري??وس عش??رين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪:‬تس ?ع? عش??رة س??نة‪ ?،‬ثم مل??ك بع??ده أطحس??ت تس??عا ً‬
‫وعشرين سنة ثم ملك بعده داروا اليسع خمس عشرة سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬عشر سنين‪.‬‬
‫أعمال ملوك بابل‬

‫ق??ال المس??عودي‪ :‬فه??ؤالء المل??وك ال??ذين أتين??ا على ذك??رهم‪ ،‬وأس??مائهم‪،‬وم??دة‬


‫مملكتهم‪ ،‬وقد رسمت أسماؤهم هكذا في كتب التواريخ السالفة‪ ،‬وهم ال??ذين ش??يدوا‬
‫البني??ان‪ ،‬وم??دنوا الم??دن‪ ،‬وك??وروا الك??ور‪ ،‬وحف??روا األنه??ار‪ ،‬وغرس??وا األش??جار‪،‬‬
‫واستنبطوا المياه‪ ،‬وأثاروا األرضين‪ ،‬واس??تخرجوا المع??ادن من الحدي??د والرص??اص‬
‫والنحاس وغير ذلك‪ ،‬وطبعوا السيوف‪ ،‬واتخذوا عدة الحرب‪ ،‬وغير ذلك من الحي??ل‬
‫والمكايد‪ ،‬ونصبوا قوانين الح??رب ب??القلب والميمن??ة والميس??رة واألجنح??ة‪ ،‬وجعل??وا‬
‫ذلك مث??االً ألعض??اء جس??د اإِل نس??ان‪ ،‬ورتب??وا لك??ل ج??زء نوع?ا ً من األم??ة ال يوازيه??ا‬
‫غيره???ا فجعل???وا أعالم القلب على ص???ورة الفي???ل والت???نين وم???ا عظم من أجن???اس‬
‫حس?ب عظمه??ا‬ ‫الحيوان‪ ،‬وجعلوا أعالم الميمنة? والميسرة على صورة الس??باع على َ‬
‫واختالفه??ا في أنواعه??ا‪ ،‬وجعل??وا في األجنح??ة ص??ور م??ا لط??ف من الس??باع ك??النمر‬
‫والذئب‪ ،‬وجعلوا صور أعالم الكمناء‪ ،‬على صور الحيات والعقارب‪ ،‬وما خفي فعله‬
‫من ه??وام األرض‪ ،‬وجعل??وا أل??وان ك??ل ن??وع منه??ا من الس??واد وغ??يره من األل??وان‬
‫الستة‪ ،‬وهي‪ :‬السواد والبياض‪ ،‬والصفرة والحمرة والخضرة‪ ،‬ولون السماء‪.‬‬

‫بحث في األلوان‬
‫وقد ذكر ق??وم أن األل??وان ثماني??ة على حس??ب الموض??ع المس??تحق له?ا‪،‬ومنع??وا أن‬
‫تكون الحمرة تشوب شيئا ً من ذلك إال ما لط??ف من أجزائه??ا داخالً في جمل??ة األك??ثر‬
‫من أشباه الحيوان من تلك األعالم‪ ،‬وعموا أن قضية القياس توجب أن تكون س??ائر‬
‫أعالم الح??رب حم??راء؛ إذ ك??انت ألي??ق وأش??كل بل??ون ال??دم‪ ،‬وأك??ثر مالءم??ة‪ ،‬إذ ك??ان‬
‫لونهم??ا واح??داً‪ ،‬لكن من??ع من ذل??ك اس??تعمالها في خ??ال الزين??ة والط??رب وأوق??ات‬
‫السرور‪ ،‬واستعمال النساء والصبيان لها‪ ،‬وفرح النف??وس به??ا‪ ،‬وأوجب ت??رك ذل??ك‪،‬‬
‫وإن حس البصر مشاكل للون الحمرة‪ ،‬إذا كان من شأنه أنه إذا أدركها انبسط نوره‬
‫في إدراكه??ا‪ ،‬وإذا وق??ع البص??ر على الل??ون األس??ود ن??وره ولم ينبس ?ط? في إدراك??ه‬
‫انبس??اطه في الحم??رة‪ ،‬وأن النس??بة? الواقع??ة بين بص??ر الن??اظر وبين ل??ون الحم??رة‬
‫االشتراك‪ ،‬والمباينة الضدية بين نور البصر ول??ون الس??واد‪.‬وتكلم ه??ؤالء الق??وم في‬
‫مراتب األلوان من الحمرة والسواد والبياض وغيرها‪ ،‬ومراتب األن??وار‪ ،‬وم??ا وج??ه‬
‫ِس البصر وبين لون الحم??رة‬ ‫ذلك من أسرار الطبيعة‪ ،‬والحد المشترك بين نورية ح ِّ‬
‫والبي?اض‪ ،‬والض??د المب?اين بين الس??واد وبين ن?ور البص?ر‪ ،‬دون س?ائر األل??وان من‬
‫الحمرة والخضرة والصفرة والبياض‪ ،‬وتغلغ??ل الق??وم في ه??ذه المع??اني إلى م??ا عال‬
‫من األجسام السماوية من النيرين والخمسة‪ ،‬واختالفها في ألوانها‪ ،‬وإلى غير ذلك‬
‫صفحة ‪124 :‬‬

‫من األشخاص العلوية‪.‬وقد أتينا على ما قالوه من ذلك فيما س??لف من كتبن??ا‪ ،‬وأتين??ا‬
‫على سير هؤالء الملوك وأخبارهم واختالفهم في كتابنا أخبار الزمان‪ ،‬وفي الكت??اب‬
‫األوسط‪.‬وقد ذهبت طائفة من الناس إلى أن هؤالء الملوك كانوا من النب??ط وغ??يرهم‬
‫من األمم‪ ،‬وأنه كان يرأس بعضهم غ?يره من مل?وك الف?رس ممن ك?ان مقيم?ا ً ب َب ْل َخ‪،‬‬
‫ْ‬
‫واألش ? َه ُر م??ا ق??دمناه‪ ،‬وس??نورد فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب لمع ?ا ً من أخب??ار النب??ط‬
‫وأنسابهم‪.‬‬

‫ذكر ملوك الفرس األولى‬

‫وجمل َمن سيرهم وأخبارهم‬

‫أصل الفرس‬
‫الفرس تخبر م??ع اختالف آرائه?ا وبع?د أوطانه?ا وتباينه?ا في دياره?ا وم?ا ألزمت??ه‬
‫?اض‪ ،‬وص??غير عن كب??ير أن أول‬ ‫?اق عن م? ٍ‬‫أنفس??ها من حف??ظ أنس??ابها‪ ،‬ينق??ل ذل??ك ب? ٍ‬
‫من زعم أن??ه ابن آدم‪ ،‬واألك??بر من ول??ده‪،‬‬ ‫ملوكهم كي??ومرث ثم تن??ازعوا في??ه فمنهم ِ‬
‫?رء‪ ،‬وق??د ذهبت‬ ‫ومنهم من زعم وهم األقل??ون ع??دداَ‪ -‬أن??ه أص??ل النس??ل وينب??وع ال َن? ْ‬
‫طائفة منهم إلى أن كيومرث هو أميم بن الوذ بن إرم بن س??ام بن ن??وح‪ ،‬ألن أميم ?ا ً‬
‫أول من َحل َّ بفارس من ولد نوح‪ ،‬وكان كيومرث ينزل بف??ارس‪ ،‬والف??رس ال تع??رف‬
‫?وح‪ ،‬والق??وم ال??ذين ك??انوا بين آدم ون??وح? عليهم??ا الس??الم ك??ان لس??انهم‬ ‫طوف??ان ن? ِ‬
‫سريانياَ‪ ?.،‬ولم يكن عليهم ملك‪ ،‬بل بهانوا في مسكن واحد‪ ،‬وهللا أعلم بذلك‪.‬‬

‫كيومرث أول الملوك‬

‫وكان كيومرث أكبر أهْ ل عصره‪ ،‬والمقدم فيهم وكان أول ملك نص??ب في األرض‬
‫فيما يزعم?ون‪ ،‬وك?ان الس?بب ال?ذي دع?ا أه?ل ذل?ك العص?ر إلى أقأم?ة مل?ك ونص?ب‬
‫رئيس أنهم رأؤا أكثر الناس قد ُج ِبلوا على التب??اغض والتحاس??د والظلم والع??دوان‪،‬‬
‫ورأوا أن الشرير منهم ال يصلحه إال الرهب??ة‪ ،‬ثم ت??أملوا أح??وال الخليق??ة‪ ،‬وتص??رف‬
‫شأن الجسم‪ ،‬وصورة اإِل نسان الحساس الدراك‪ ،‬فرأوا الجس??م في بنيت??ه وكون??ه ق??د‬
‫رتب بخواص تؤدي إلى معنى ه?و غيره?ا يورده??ا ويص??درها ويميزه??ا بم?ا ت??ورده‬
‫إليه من أخالقها في مداركها‪ ،‬وهو مع??نى في القلب ف??رأوا ص??الخ الجس??م بت??دبيره‪?،‬‬
‫وأنه متى فسد تدبيره فسد سائره‪ ،‬ولم تظهر أفعاله المتقنة المحكمة‪ ،‬فلما رأوا هذا‬
‫العالم الصغير الذي هو جسد اإِل نسان المرئي ال تستقيم أموره وال تنتظم أحوال??ه إال‬
‫باستقامة الرئيس الذي قدمنا ذكره علموا أن الناس ال يستقيمون إال بملك ينصفهم‪،‬‬
‫ويوج??ه الع??دل عليهم‪ ،‬وينف??ذ األحك??ام على م??ا يوجب??ه العق??ل بينهم‪ ،‬فس??اروا إلى‬
‫وع َّرفوه حاجتهم إلى ملك وقيم‪ ،‬وق?الوا‪ :‬أنت أفض??لنا‪ ،‬وأش?رفنا‪،‬‬ ‫كيومرث بن الوذ‪َ ،‬‬
‫وأكبرنا‪ ،‬وبقية أبينا‪ ،‬وليس في العص??ر من يوازي??ك‪ ،‬ف? ُر َذ أمرن??ا إلي??ك‪ ،‬وكن الق??ائم‬
‫فينا؛ فإنا تحت سمعك وطاغتك‪ ،‬والقائلون بما تراه‪ ،‬فأجابهم ما دعوه إليه‪،‬‬
‫صفحة ‪125 :‬‬

‫واستوثق منهم بأكيد العهود والمواثيق على السمع والطاعة وت??رك الخالف علي??ه‪،‬‬
‫فلما وضع التاج على رأسه‪ ،‬وكان أول من ركب التاج على رأسه من أهل األرض‪،‬‬
‫قام خطيبا ً وق??ال‪ :‬إن النعم ال ت??دوم إال بالش??كر وإن??ا نحم??د هّللا على أيادي??ه ونش??كره‬
‫على نعمه‪ ،‬ونرغب إليه في مزي??ده‪ ،‬ونس??أله المعون?ة على م?ا دفعن?ا إلي??ه‪ ،‬وجس??ن‬
‫الهداي??ة إلى الع??دل ال??ذي ب??ه يجتم??ع الش??مل ويص??فو العيش‪ ،‬فثق??وا بالع??دل من??ا‪،‬‬
‫وأنصفونا من أنفسكم نوردكم إلى أفض??ل م??ا في هممكم والس?الم فلم ي?زل كي??ومرث‬
‫قائما َ باألمر‪ ،‬حسن السيرة في الناس‪ ،‬والحال آمنة‪ ،‬واألمة س??اكنة ط??ول مدت??ه إلى‬
‫أن مات‪.‬ولهم في وضع التاج على الرأس أسرار ي??ذكرونها أعرض??نا عن ذكره??ا إذ‬
‫كن??ا ق??د أتين??ا على ذل??ك في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وفي الكت??اب األوس??ط‪.‬وذك??روا أن‬
‫كيومرث أول من أمر بالسكوت عند الطعام‪ .‬لتأخ?ذ الطبيع?ة بقس?طها فيص?لح الب?دن‬
‫بم??ا ي??رد إلي??ه من الغ??ذاء‪ ،‬وتس??كن النفس عن??د ذل??ك‪ ،‬ف ُت?دَبركل عض??ومن األعض??اء‬
‫تدبيراً يؤدي إلى ما فيه صالحه من أخذ صفو الطع??ام‪ ،‬فيك??ون ال?ذي ي??رد إلى الكب??د‬
‫وغيره من األعضاء القابلة للغذاء م??ا يناس??بها‪ ،‬وم??ا في??ه ص??الحها ة ف??إن اإِل نس??ان‬
‫متى شغل عن طعام??ه بض??رب من الض??روب انص??رف قس??ط من الت??دبير وج??زء من‬
‫التقدير إلى حيث انصباب الهمة ووقوع االش??تراك‪ ،‬فأض??ر ذل??ك ب??األنفس الحيواني?ة?‬
‫والق??وى اإلٍ نس??انية‪ ?،‬وإذا ك??ان ذل??ك أدى إلى مفارق??ة النفس الناطق??ة له??ذا الجس??د‬
‫الم??رئي‪ ،‬وفي ذل??ك ت??رك للحكم??ة‪ ،‬وخ??روج عن الص??واب‪.‬ولهم في ه??ذا الب??اب س??ر‬
‫لطيف من أسرار السبب الذي بين النفس والجسم ليس هذا موضعه‪ ،‬وقد أتينا على‬
‫ذكره في الكتاب المترجم بسر الحياة وفي كت??اب الزل??ف عن??د ذكرن??ا النفس الناطق??ة‬
‫والنفس العالمة والنفس الحسية والمخيلة والنزاعية‪ ،‬وما قال الناس في ذل??ك ممن‬
‫تقدم وتأخر من الفالسفة وغيرهم‪.‬وق??د تن??وزع في مق??دار عم??ر كي??ومرث ه??ذا فمن‬
‫الناس من رأى أن عمره ألف سنة‪ ،‬دون ذل?ك‪ ،‬وللمج?وس في كي?ومرث ه?ذا خطب‬
‫طويل في أنه مبدأ النسل‪ ،‬وأنه نبت من نبات األرض‪ ،‬وهو الريباس‪ ،‬هو وزوجته‪،‬‬
‫وهما شابة ومنشابة? وغير ذلك مما يفحش إيراده‪ ،‬وما ك??ان من خ??بره م??ع إبليس‪،‬‬
‫إص َط ْخ َر فارس‪ ،‬وكانت مدة ملك??ه أربعين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أق??ل‬ ‫وقتله إياه‪ ،‬وكان ينزل ْ‬
‫من‪ .‬ذلك‪.‬‬

‫أوشهنج طهمورث أول الصابئة‬

‫ثم ملك بعده أوشهنج بن فروال بن سيامك بن يزنيق بن كيومرث المل??ك‪ ،‬وك??ان‬
‫أوشهنج ينزل الهند‪ ،‬وك?ان ملك?ه أربعين س?نة‪ ،‬وقي?ل‪ :‬أك?ثر من ذل?ك‪ ،‬وق?د تن?وزع‬
‫في???ه‪،‬فمنهم من رأى أن???ه أخ لكي???ومرث بن آدم‪ ،‬ومنهم من رأى أن???ه ول???د المل???ك‬
‫الماضي‪.‬ثم? ملك بعده طهمورث بن نوبجهان بن أرفخشذ بن أوش??هنج‪ ?،‬وك??ان ي??نزل?‬
‫سابور‪ ،‬وظهر في سنة من ملكه رج?ل ُيق?ال ل?ه بوداس?ف أح?دث م?ذاهب الص?ابئة‪?،‬‬
‫وقال‪ :‬إن معالي الشرف الكامل‪ ،‬والصالخ الشامل‪ ،‬ومعدن الحياة‪ ،‬في ه??ذا الس??قف‬
‫المرفوع‪ ،‬وإن الكواكب هي المدبرات والواردات والصادرات‪ ،‬وهي ال??تي بمروره??ا‬
‫في أفالكها وقظعها مسافاتها واتصالها بنقطة وانفصالها عن نقطة يتم ما يكون في‬
‫صفحة ‪126 :‬‬

‫العالم من اآلثار‪ :‬من امتداد األعمار وقصرها‪ ،‬وترك البسائط‪ ،‬وانبس??اط المركب??ات‪،‬‬
‫وتتميم الصور‪ ،‬وظهور المياه َ‬
‫وغ ْيضها‪ ،‬وفي النجوم السيارة وفي أفالكه??ا الت??دبير‬
‫األك??بر‪ ،‬وغ??ير ذل??ك مم??ا يخ??رج وص??فه عن ح??د االختص??ار واإلِيج??از‪ ،‬واحت??ذى ب??ه‬
‫جماع??ة من ذوي الص??عف في اآلراء‪.‬؛فيق??ال‪ :‬إن ه??ذا الرج??ل أول من أظه??ر آراء‬
‫الصابئة? من الحرانيين والكيماريين‪ ،‬وه??ذا الن??وع من الص??ابئة? مب??اينون للحران??يين‬
‫في ن ِْح َلتهم‪ ،‬ودي??ارهم بين بالد واس??ط والبص??رة من أرض الع??راق نح??و البط??ائح‬
‫واآلجام‪ ،‬فكان ملك طهمورث إلى أن هلك ثالثين سنة‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬

‫جمشيد‬
‫ثم ملك بعده أخوه جمشيد‪ ،‬وكان ينزل بفارس‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه ك?ان في زمن??ه طوف??ان‪،‬‬
‫وذهب كثير من الناس إلى أن النيروز في أيامه أحدث وفي ملكه رسم‪ ،‬على حس??ب‬
‫ما نورده فيما يرد من هذا الكتاب‪ ،‬كذلك ذكر أبو عبيدة َم ْع َم?ر بن المث?نى عن عم?ر‬
‫المعروف بكسرى‪ ،‬وكان هذا الرجل ممن أشتهر بعلم ف??ارس وأخب??ار ملوكه??ا ح??تى‬
‫لقب بعمر كسرى‪ ،‬وكان مل??ك جمش??يد إلى أن هل??ك س??تمائة س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬تس??عمائة‬
‫س??نة وس??تة أش??هر‪ ،‬وأح??دث في األرض أنواع??ا ً من الص??ناعات واألبني??ة والمهن‬
‫وادعى اإِل لهية‪.‬‬

‫بيوراسب‬
‫ثم ملك بعده بيوراسب بن أروادسب بن رستوان بن ني??اداس بن ط??اع ابن ق??روال‬
‫بن ساهر فرس بن كيومرث‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬وقد عربت أسماؤه جميعا ً فسماه ق??وم من‬
‫العرب اِلضحاك‪ ،‬وسماه قوم بهراسب وليس هو كذلك‪ ،‬وإنما اسمه على ما وص??فنا‬
‫بيوراسب‪ ،‬وقتل جمشيد الملك‪ ،‬وق??د تن??وزع في??ه‪ :‬أمن الف??رس ك??ان أم من الع??رب‪.‬‬
‫فزعمت الفرس أنه منها‪ ،‬وأنه كان ساحراً‪ ،‬وأن??ه مل??ك األق??اليم الس??بعة‪ ،‬وأن ملك??ه‬
‫كان ألف سنة‪ ،‬وبغى في األرض وتمرد‪ ،‬وللفرس فيه خطب طويل‪ ،‬وأنه مقيد مغلل‬
‫في جبل دباوند بين الري وطبرستان‪ ،‬وقد ذكرته? شعراء العرب ممن تق??دم وت??أخر‪،‬‬
‫وقد افتخر أبو نواس به‪ ،‬وزعم أنه من اليمن‪ .‬ألن أبا نواس م??ولى لس??عد العش??يرة‬
‫الض ّحا ُك َت ْع ُبده الجامل والوحش في مساربها‬
‫من اليمن‪ ،‬فقال‪ :‬وكان ِم ِّنا َ‬

‫ملك فريدون المهرجان‬


‫ثم ملك بعده إفريحون بن أثقابان بن جمشيد ملك األقاليم السبعة‪،‬فأخذ بيوارس??ب‪،‬‬
‫فقيده في جبل دباوند على حسب ما ذكرن??ا‪ ،‬وق??د ذك??ر كث??ير من الف??رس ومن ع??ني‬
‫بأخب??ارهم مث??ل عم??ر كس??رى وغ??يره أن أفري??دون جع??ل ه??ذا الي??وم ال??ذي قي??د في??ه‬
‫الضحاك عيداً له‪ ،‬وسماه المهرجان‪ ،‬على حس??ب م??ا ن??ورده بع??د ه??ذا الموض??ع من‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬وما قيل في ذلك‪ ،‬وكانت دار مملكة أفري??دون باب??ل وه??ذا اإِل قليم يس??مى‬
‫باسم قري?ة من ق?راه ُيق?ال له?ا باب?ل‪ ،‬على ش?اطىء نه?ر من أنه?ار الف?رات ب?أرض‬
‫العراق‪ ،‬على ساعة من المدينة المعروفة بجسر بابل‪ ،‬ونهر النرس‪ ،‬وإلي??ه تض??اف‬
‫الثياب النرسية‪ ،‬وفي هذه القرية بجب يعرف بجب دانيال النبي عليه السالم‪،‬‬
‫صفحة ‪127 :‬‬

‫تقصده النصارى واليهود في أوق?ات من الس?نة في أعي?ادهم‪ ،‬وإذا أش?رف اإِل نس?ان‬
‫على هذه القرية تبين فيها آثاراً عظيمة من ردم وهدم وبنيان قد صارت ك??الروابي‪،‬‬
‫وذهب كثير من الناس إلى أن بها هاروت وم?اروت‪ ،‬وهم?ا الملك?ان الم?ذكوران في‬
‫الق??رآن على حس??ب م??ا قص هّللا تع??الى من تس??مية ه??ذه القري??ة بباب??ل‪ ?.‬وك??ان ُمل??ك‬
‫أفريدون خمسمائة? سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬أقل من ذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬أك??ثر‪ ،‬وقس??م األرض بين ول??ده‬
‫الثالثة‪ ،‬وقد قال في ذلك بعض الشعراء ممن سلف‪ :‬من أبناء الف??رس بع??د اإِل س??الم‬
‫يذكر ولد أفريدون الثالثة‪:‬‬
‫ضـ ْم‬
‫ظـهـرو َ‬
‫َ‬ ‫اللَّ ْحـم عـلـى‬ ‫سمناملكنافي دهرنـا قـسـمة‬ ‫َو َق َ‬
‫مغرب الشمس إلى الغطريف سلم‬ ‫وجعلنـا الـشـام والـروم إلـى‬
‫فبالدالترك يحـويهـا ابـن عـم‬ ‫وأطـوج جـعـل الـتـرك لـه‬
‫وإِل يران جعلنا عـنـوة فارس الملك وفزنابالنعم وللناس فيما ذكرن?ا خطب طوي?ل‪،‬‬
‫وأن بالد بابل أضيفت إلى ولد أفريدون وهو إيراج‪ ،‬و َق َتله أخوه في حياة أفري??دون‪،‬‬
‫وهلك‪ ،‬ولم يخلص له الملك فيعدَّ في ملوك‪.‬وسنذكر? فيما يرد من هذا الكت??اب كيفي??ة‬
‫إضافة هذا اإِل قليم إلى إي??راج وإس??قاطهم الجيم‪ ،‬وجعلهم الن??ون ب??دالً منه??ا‪ ،‬فق??الوا‪:‬‬
‫إيران شهر‪ ،‬والشهر‪ :‬الملك‪.‬‬

‫ملك منوجهرملك سهم‬


‫ثم مل??ك بع??د أفري??دون من??وجهر بن إي??ران بن أفري??دون‪ ،‬على حس??ب ماذكرن??ا من‬
‫التنازع في نسبه وإلحاق??ه ب??إيران بن أفري??دون‪ ،‬وك??ان ملك??ه عش??رين س??نة‪ ،‬وك??ان‬
‫ي??نزل? بباب??ل‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن??ه في زمان??ه ك??ان موس??ى بن عم??ران‪ ،‬ويوش??ع بن ن??ون‬
‫عليهما السالم‪ ،‬وك??ان لمن??وجهر ح??روب م??ع عمي??ه الل??ذين قتال أب??اه‪ ،‬وهم??ا أط??وج‬
‫وسلم‪ ،‬وقد أتينا على ذكر حروبهم فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫ثم ملك بعد من?وجهر س?هم بن أب?ان بن أثقب?ان بن ي?ود بن من?وجهر‪ ،‬ف?نزل باب?ل‪،‬‬
‫سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬أكثر من ذلك‪ ،‬وكانت ل??ه ح??روب كث??يرة وس??ير? وسياس??ات‬ ‫وملك ستين َ‬
‫كثيرة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان‪.‬‬

‫ملك فراسياب‬
‫ثم مل??ك بع??ده فراس??ياب بن أط??وج بن ياس??ر بن رامي بن آرس بن ب??ورك ابن‬
‫ساساس??ب بن زسس??ت بن ن??وح بن دوم بن س??رور بن أط??وج بن أفري??دون المل??ك‪،‬‬
‫وك???ان مول???د فراس???ياب ببل???د ال???ترك؛ فل???ذلك غل???ط من غل???ط من أص???حاب الكتب‬
‫والتصنيفات في التاريخ وغيره فزعم أنه ت??ركي‪ ،‬وك??ان تملك??ه على م??ا غلب علي??ه‬
‫من البالد اثنتي عشرة سنة‪ ،‬وعم??ره عن??د كث??يرمن الن??اس أربعمائ??ة س??نة‪.‬والثن??تي?‬
‫عشرة س??نة خلت من ملك??ه ظه??ر علي??ه زوبن بهاس??ت بن كمجه??ورابن عداس??ة بن‬
‫راي??ريج? بن ماس??ربن ي??ود بن من??وجهر المل??ك‪ ،‬فهزم??ه وقت??ل أص??حابه بع??د ح??روب‬
‫وع َّمر ما َخ َّربه براسياب‪.‬وقد تنوزع في المقدار الذي مل??ك في??ه‪ :‬فقي??ل ثالث‬ ‫كثيرة‪َ ،‬‬
‫سنين‪ ،‬وقيل أكثر من ذلك‪ ،‬وكان مسكنه ببابل‪ ،‬وللفرس كالم طويل في قتل‬
‫صفحة ‪128 :‬‬

‫فراس??يان‪ ،‬وكيفي??ة قتل??ه وحروب??ه‪ ،‬وم??ا ك??ان بين الف??رس وال??ترك من الح??روب‬
‫والغارات‪ ،‬وما ك??ان قت??ل س??ياوخس وخبررس??تم بن دس??تان‪ ،‬ه??ذا كل??ه مش??روح? في‬
‫الكت??اب الم??ترجم بكت??اب الس??كيكين ترجم??ة? ابن المقف??ع من الفارس??ية األولى إلى‬
‫العربية‪ ?،‬وخبر اسفنديار بن كشتاشب بن بهراسب وقتل رستم بن دس??تان ل??ه‪ ،‬وم??ا‬
‫ك??ان من قت??ل بهمن بن إس??فنديار لرس??تم‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من عج??ائب الف??رس األولى‬
‫وأخبارها‪ ،‬وه?ذا الكت?اب تعظم?ة الف?رس‪ .‬لم?ا ق?د تض??من من خ??بر أس?الفهم وس?ير‬
‫ملوكهم‪ ،‬وقد أتينا بحمد هّللا على كثير من أخبارهم فيما س??لف من كتبن??ا‪.‬وق??د قي??ل‪:‬‬
‫إن أول من نزل من الملوك ب َب ْل َخ وانتقل عن العراق كيكاووس وق?د ك?ان س?ار نح??و‬
‫اليمن بعد أن كان له بالعراق َت َمرد على هّللا ‪ ،‬وبنيان بناه لحرب الس??ماء وك??ان مل??ك‬
‫اليمن الذي سار إليه كيكاووس في ذلك الوقت ش??مر بن ف??ريقس فخ??رج إلي??ه ش??مر‬
‫فأسره وحبسه في أضيق محبس‪ ،‬ف َه ِو َي ْت ُ?ه ابنه لشمريقال له??ا س??عدى ك??انت تحس??ن‬
‫إليه في خِف َية من أبيها‪ ،‬وإلى من كان معه من أص??حابه‪ ،،‬ومكث في محبس??ه أرب??ع‬
‫سنين‪ ،‬حتى أس??رى رس??تم بن دس??تان من بالد سجس??تان س??رية? فيه??ا أربع??ة االف‪،‬‬
‫ورده إلى ملك??ه‪ ،‬وس??عدى‬ ‫فقت??ل مل??ك اليمن ش??مر بن ف??ريقس واس??تنقذ كيك??اووس‪َ ،‬‬
‫تلت عليه‪ ،‬وأغرت??ه بول??ده س??ياوخش‪ ،‬ح??تى ك??ان من أم??ره م??ع فراس??ياب‬ ‫معه‪ ،‬فا َع ْ‬
‫التركي ما قد شهر من استئمانه إلي?ه وتزوج?ه بابنت??ه ح?تى حملت من?ه بكيخس?رو‪،‬‬
‫وم??ا ك??ان من قت??ل فراس??ياب لس??ياوخش بن كيك??اووس‪ ،‬وقت??ل رس??تم بن دس??تان‬
‫لسعدى‪ ،‬وأخذه بطائلة سياوخش‪ ،‬فقتل من‪ ،‬قتله وجوه ال??ترك‪ ،‬وعن??د الف??رس على‬
‫ما في كتاب السكيكين أن كيخسرو كان قبله على الملك ج??ده ألبي??ه‪ ،‬وهوكيك??اووس‬
‫ولم يعلم ممن هو ولم يكن لكيخسرو عقب؛فجعل الملك في بهراسف‪ ،‬وهؤالء القوم‬
‫كانوا يسكنون بلخ‪ ،‬وكانت دار مملكتهم‪ ،‬وكان يدعي نهر بلخ وهو جيح??ون بلغتهم‬
‫كالف‪ ،‬وكذلك يسميه? كثير من أعاجم خراسان في هذا الوقت بهذا االسم‪.‬فلم يزال??وا‬
‫ك???ذلك إلى أن ص???ار المل???ك إلىح???اي ابن???ة بهمن بن إس???فنديار ابن يستاس???ف بن‬
‫بهراسف‪ ،‬فانتقلت إلى العراق‪ ،‬وسكنت نحو المد ائن ‪.‬‬

‫لهراسب‬
‫ثم كان بعد كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس الملك إلى لهراس??ب بن قن??وج بن‬
‫كيمس بن كيناس??س بن كيناس??ة بن كيقب??اذ المل??ك‪ ،‬فعم??ر البالد‪ ،‬وأحس??ن الس??يرة‬
‫لر َعيته‪ ،‬وشملهم عدله‪.‬‬

‫ش َتتهم في البالد‪ ،‬وكانت له‬ ‫ولسنين خلت من ملكه نال بني إسرائيل منه م َِحنٌ ‪َ ،‬و َ‬
‫معهم أقاصيص يطول ذكرها‪.‬وذكر في بعض الرواي??ات من أخب??ار الف??رس أن??ه ب??نى‬
‫بلخ الحسناء لما فيها من المياه والشجر والمروج‪.‬وكان ملكه مائة وعشرين سنة‪،‬‬
‫وقد ذكر خبر مقتله مع الترك وما كان منهم في حصاره َو َمنْ أخ??ذ بث??أره بع??د قتل??ه‬
‫في كتب قدماء الفرس‪.‬‬

‫صفحة ‪129 :‬‬

‫بخنتصر‬
‫وقد ذكر كثير ممن ُعني بأخبار الفرس أن بختنصر? َم ْر ُزبان العراق والمغرب كان‬
‫من ِق َب??ل ه??ذا المل??ك‪ ،‬وه??و ال??ذي وطىء الش??ام‪ ،‬وفتح بيت المق??دس‪ ،‬وس??بى ب??ني?‬
‫إسرائيل‪ ،‬وكان من أم??ره بالش??ام والمغ??رب م??ا ق??د اش??تهر‪ ،‬والعام??ة تس??ميه? البخت‬
‫ص ?اص يغ??الون في أخب??اره‪ ،‬ويب??الغون في وص??فه‪،‬‬ ‫ناص??ر‪ ،‬وأك??ثر اإِل خب??اريين والقُ َّ‬
‫والمنجمون في زيجاتهم وأهل التواريخ في كتبهم يجعلونه ملكا ً برأسه‪ ،‬وإنما ك??ان‬
‫َم ْر ُزبابا ً على ما وصفنا للملوك ممن ذكرنا‪ ،‬وتفسير مرزبان ي??راد ب??ه ص??احب ُر ْب??ع‬
‫مات المملكة وقائد عسكر ووزير وصاحب ناحية من الن?واحي‪ ،‬وواليه?ا‪ ،‬وق?د ك?ان‬
‫حمل سبايا بني إسرائيل إلى الشرق‪ ،‬وتزوج منهن امرأة يق??ال له??ا دين??ارد‪ ،‬فك??انت‬
‫س??بب َر َد ب??ني إس??رائيل إلى بيت المق??دس‪.‬وقي??ل‪ ?:‬إن دين??ارد أول??دها َ لهراس??ب بن‬
‫كشتاس??ب‪ ،‬وقي??ل غ??ير ذل??ك من الوج??وه‪ ،‬وإن حماي??ة من نس??ل ب??ني إس??رائيل من‬
‫أمها‪.‬وقيل‪ :‬إن بهراسف قد كان أ ْنف َذ سنجاريب وكان خليفته على العراق إلى حرب‬
‫بني إسرائيل فلم يصنع شيئاً‪ ،‬فعقب بعده بالبخت نصر‪ ،‬وقيل في البحث نص??ر غ??ير‬
‫م??ا ذكرن??ا مم??ا س??نورده بع??د ه??ذا الموض??ع في ذك??ر مل??ك بهمن بن إس??فنديار بن‬
‫يستاسف? بن بهراسف‪.‬وقد أرخ بطليموس صاحب كتاب المجسطي تاريخ كتابه من‬
‫وأر َخ ثاون صاحب كتاب الق?انون في النج??وم من‬ ‫عهد بخت نصر َم ْر ُزبان المغرب‪َّ ،‬‬
‫مملكة اإلِسكندر بن فيلبس المقدوني‪.‬‬

‫زرادشت المجوسي‬

‫ثم ملك بعده ابنه يستأسف‪ ،‬وكان منزله بلخ‪ ،‬ولثالثين سنة? خلت من ملك??ه أت??اه‬
‫زرادشت بن أسبيمان‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه زرادشت بن بورشف? بن فذراس??ف بن أريكدس??ف‬
‫بن هجدسف بن ححيش بن باتير بن أرح??دس بن ه??ردار بن أس??بيمان بن واندس??ت‬
‫بن ه??ايزم بن أرج بن دورش??رين بن منوش??هر? المل??ك‪ ،‬وك??ان من أه??ل أذربيج??ان‪،‬‬
‫واألش??هر من نس??به أن??ه زرادش??ت بن أس??بيمان‪ ،‬وه??و ن??بي المج??وس ال??ذي أت??اهم‬
‫بالكتاب المعروف بالزمزمة عند عوام الن??اس‪ ،‬واس??مه عن??د المج??وس بس??تاه وأتى‬
‫زرادشت عندهم بالمعجزات الباهرات للعقول‪ ،‬وأخبر عن الكائنات من المغيبات قبل‬
‫حدوثها من الكلي??ات والجزئي??ات‪ ،‬والكلي??ات‪ :‬هي األش??ياء العام??ة‪ ،‬والجزئي??ات‪ :‬هي‬
‫األشياء الخاصة‪ ،‬مثل زيد يموت يوم كذا‪ ،‬ويمرض فالن في وقت كذا‪ ،‬ويولد لفالن‬
‫في وقت كذا‪ ،‬وأشباه ذلك‪ ،‬ومعجم ه??ذا الكت??اب ي??دور على س??تين حرف?ا ً من أح??رف‬
‫المعجم‪ ،‬وليس في سائر اللغ?ات أك??ثر حروف?ا ً من ه?ذا‪ ،‬ولهم خطب طوي?ل ق?د أتين?ا‬
‫على ذكره في كتابينا أخبار الزمان والكت??اب األوس??ط‪ ،‬وأتى زرادش??ت بكت??ابهم ه??ذا‬
‫بلغة يعجزون عن إيراد مثلها‪ ،‬وال يدركون كنه مرادها‪ ،‬وسنذكر بعد ه??ذا الموض??ع‬
‫من هذا الكتاب ما أتى ب??ه زرادش??ت‪ ،‬وم??ا جع??ل ل??ه من التفس??ير وتفس??ير? التفس??ير‪،‬‬
‫وكتب هذا الكتاب في أثني عشر ألف مجلد بالذهب‪ ،‬فيه وعد ووعيد‪ ،‬وأم??ر ونهي‪،‬‬
‫وغير ذلك من الشرائع والعبادات فلم تزل الملوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد‬
‫اإِل سكندر وما كان من قتله لدارا بن دارا‪ ،‬فأحرق اإِل سكندر بعض هذا الكتاب‪.‬ثم‬
‫صفحة ‪130 :‬‬

‫صار الملك بعد الطوائف إلى أردشير بن بابك‪ ،‬فجمع الفرس على قراءة سورة منه?‬
‫يقال لها إسناد؛ فالفرس والمجوس إلى هذا الوقت ال يقرؤن غيرها‪ ،‬والكتاب األول‬
‫يسمى بثناه‪.‬ثم عمل زرادشت تفسيراً عند عجزهم عن فهمه‪ ،‬وس َموا التفسير زنداً‪،‬‬
‫عمل للتفسير تفسيراً‪ ،‬وسماه بازند‪ ،‬ثم عمل علماؤهم بعد وفاة زرادشت تفسيراَ‬‫ِ‬ ‫ثم‬
‫لتفسير التفسير وشرحا ً لسائر ما ذكرنا‪ ،‬وسموا هذا التفسير ب??ارده ف??المجوس إلى‬
‫هذا الوقت يعجزون عن حفظ كتابهم المنزل‪ ،‬فص??ار علم??اؤهم َو َم َواب??ذتهم يأخ??ذون‬
‫كثيراً منهم بحفظ أسباع من هذا الكتاب وأرباع وأثالث‪ ،‬فيبتدء كل واح??د بم??ا حف??ظ‬
‫من جزئه فيتلوه‪،‬ويبتدء الثاني منهم فيتلو ج??زأ آخ??ر‪ ،‬والث??الث ك??ذلك‪ ،‬إلى أن ي??أتي‬
‫الجميع على قراءة سائر الكت??اب لعج??ز الواح??د منهم عن حفظ??ه على الكم??ال‪ ،‬وق??د‬
‫كانوا يقولون‪ :‬إن رجالً منهم بسجستان بعد الثالثمائة مس??تظهر بحف??ظ ه?ذا الكت?اب‬
‫على الكمال‪.‬وكان ملك يستاسف إلى أن تمجس ثم هلك عشرين ومائة سنة‪ ?،‬وكانت‬
‫مدة نبوة زرادشت فيهم خمسا ً وثالثين سنة‪ ،‬وهلك وهو ابن سبع وسبعين سنة‪..‬‬

‫خاناس خليفة زرادشت‬


‫ولما هلك زرادشت ولي مكانه خاناس العالم‪ ،‬وكان من أه??ل أذربيج??ان وه??ذا أول‬
‫موبذ قام فيهم بعد زرادشت‪ ،‬نصبه? لهم يستاسف الملك‪.‬‬

‫ملك بهمن بن اسفنديار‬


‫ثم ملك بعده بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف‪ ،‬وكان له حروب كثيرة‬
‫مع رستم صاحب سجس??تان إلى أن قت??ل رس??تم ووال??ده دس??تان‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن أم بهمن‬
‫ك??انت من ب??ني إس??رائيل من ول??د ط??الوت المل??ك‪ ،‬وإن??ه ه??و ال??ذي بعث بالبختنص?ر?‬
‫مرزبان العراق إلى بني إسرائيل‪ ،‬فكان من أمرهم ما وصفنا‪ ،‬وكان مل??ك بهمن إلى‬
‫أن هلك مائة واثنتي عشرة س??نة‪ ?،‬وقي??ل‪ :‬إن??ه في ملك??ه َر ّد بقاي??ا ب??ني أش??رائيل إلى‬
‫بيت المقدس‪ ،‬فك??ان ُم َق??امهم بباب??ل إلى أن رجع??وا إلى بيت المق??دس س??بعين س??نة‪،‬‬
‫وذلك في أيام كورش الفارس??ي الممل??ك على الع??راق من قب??ل بهمن‪ ،‬وبهمن يومئ??ذ‬
‫ببلخ‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن أم كورش كانت من بني إس??رائيل‪ ،‬وك??ان داني??ال األص??غر خال??ه‪،‬‬
‫وك??انت م??دة مل??ك ك??ورش ثال َث? ا َ وعش??رين س??نة‪ ،‬وفي وج??ه آخ??ر من الرواي??ات أن‬
‫كورش ?ا ً ك??ان ملك ?ا ً برأس??ه ال من قب??ل لهمن‪ ،‬وذل??ك بع??د إنقض??اء مل??ك بهمن‪ ،‬وأن‬
‫كورش??ا ً من مل??وك الف??رس األولى‪ ،‬وليس ه??ذا عام??ا ً في كتب الت??واريخ القديم??ة‪،‬‬
‫ودانيال األكبر كان بين نوح وإبراهيم الخليل عليهما الس??الم‪ ،‬وه??و ال??ذي اس??تخرج‬
‫العلم وما يحدث في األزمان إلى أن تنقضي األرض و َمنْ عليها وعلوم ملوك الع??الم‬
‫وما يحدث في السنين والشهور واأليام من الحوادث‪ ،‬ودالئل ذلك في األفالك وإلي??ه‬
‫ينسب كتاب الجفر‪ ،‬ولما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المق??دس اس??تخرجوا الت??وراة‬
‫وغيرها من المواضع التي ُخ ِّبئت فيها من األرض على ما قدمنا‪.‬‬

‫صفحة ‪131 :‬‬


‫حماية ودارا‬
‫ثم ملكت حماية‪ ،‬بنت بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف وكانت تعرف‬
‫بأمها شهرزاد‪ ،‬ولهذه الملكة سير وحروب م?ع ال?روم وغ?يرهم من مل?وك األرض‪،‬‬
‫وكانت حسنة السياس?ة أله?ل مملكته?ا‪ ،‬وك?ان ملكه?ا بع?د أبيه?ا بهمن ثالثين س?نة‪،‬‬
‫وقيل غيرذلك‪.‬ثم ملك بعدها أخ لها ُيقال له دارا بن بهمن بن إسفنديار‪ ،‬وكان ملك??ه‬
‫اثنتي? عشرة سنة? وكان ينزل? بباب‪.‬‬
‫دارا بن دارا‬
‫ثم مل??ك دارا بن دارا بن بهمن بن إس??فنديار بن يستاس?ف? بن بهراس??ف والف??رس‬
‫تسمى دارا هذا باللغ??ة األولى من لغ??اتهم داري??وس‪ ،‬وه??و ال??ذي قتل??ه اإلِس??كندر بن‬
‫فليبس المقدوني‪ ،‬وكان ملك??ه إلى أن قت??ل ثالثين س??نة‪.‬وق??د ذك??ر أن منوش??هر? حين‬
‫ضنَ ب??ه‪ ،‬ثم ث??اب بع??د‬ ‫انهزم من حرب فراسياب التركي سار إلى جبل طبرستان فتح َ‬
‫ذلك ومعه خيل‪ ،‬فحارب فراسياب التركي‪ ،‬وقد وطىء العراق‪ ،‬وغلب على األق??اليم‪،‬‬
‫فهرب إلى أرض الترك‪ ،‬وأن الملك صار بعد منوشهر? إلى أخ??وين‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ب??ل كان??ا‬
‫ش ِريكين في الملك متظافرين متع??اونين على عم??ارة األرض وم??ا َخ َّرب??ه فراس??ياب‪:‬‬ ‫َ‬
‫أح???دهما بهماس???ف بن كنجه???ر بن ورزق بن هوس???ف بن واحدس???ك بن دوس بن‬
‫منوشهر‪ ،‬واآلخر كرشاسف بن يمار بن طماهسف بن آشك بن فرس??ين بن أرج بن‬
‫منوش??هر‪ ?،‬وك??ان كرشاس??ف محارب ?ا ً لفراس??ياب‪ ،‬ومن??ازالً ل??ه‪ ،‬واآلخ??ر وه??و زاب‬
‫بالعراق‪ :‬يعمر ما خربه فراسياب من األرض‪ ،‬واحتفر النهرين المعروفين ب??الزابين‬
‫?ارج ْي ِن من بالد‬
‫الص??غير والكب??ير‪ ،‬على م??ا ق??دمنا من ذكرهم??ا في ه??ذا الكت??اب‪ ،‬الخ? َ‬
‫?ل والحديث??ة‪ ،‬واالخ??ر ببالد الس??ن‬ ‫أرميني??ة الص??ا َّب ْي ِن في دجل??ة‪ :‬األك??بر بين الموص? ِ‬
‫وسماهما باسمه‪ ،‬وحفر بسواد العراق نهراَ آخره وسماه ب??الزاب‪ ،‬وجع??ل على ه??ذا‬
‫النهر بالعراق ثالث طساسيج من الضياع والعم??ائر وأس??ماها ال??زوابي‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا‬
‫فهو باق إلى هذه الغاية‪ ،‬وأن مملكتهما ك??انت ثالث س??نين‪ ،‬وأن كيخس??رو لم??ا قت??ل‬
‫جده ببالد الس??رو وال??ران من بالد أذربيج??ان وه??و فراس??ياب بن بش??نك بن نبت بن‬
‫نشمربن ترك‪ ،‬وترك هذا جد سائر الترك عن??د طائف??ة من الن??اس مِنْ ول??د يس??ب بن‬
‫طوح بن أفريدن‪ ،‬وقد قدمنا وجها ً من الرواية في نسبة? فيما سلف من هذا الكت??اب‪،‬‬
‫وسار كيخس??رو في البالد‪ ،‬ووطىء الممال??ك‪ ،‬وانتهى إلى بالد الص??ين‪ ،‬فب??نى هن??اك‬
‫مدينة? عظيمة‪ ،‬وسماها كنكدر‪ ،‬وق?د نزله?ا خل?ق من مل?وك الص?ين ك?نزولهم أنم?وا‬
‫وغيرها من مدنهم‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن كنك??در هي أنم??وا بعينه??ا‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن كيق??اوس‬
‫بنى مدينة? قشمير المقدم ذكرها ب??أرض الس??ند‪ ،‬وإن س??ياوخس ب??نى في حي??اة أبي??ه‬
‫كيقوس مدينة القندهار من أرض السند المقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬ولمن ذكرنا من هؤالء الملوك أخبار وسير ق??د أتين??اعلى ش??رحها‬
‫فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وإنما نذكر في هذا الكتاب جوامع‪ُ ،‬م َن ِّبهين بها على م??ا س??لف‬
‫من مبس??وطها‪ ،‬وم??ا ن??ذكره من الوج??وه فال ختالف الرواي??ات وتب??اين الن??اس في‬
‫المصنفات من كتبهم فيما ذكرناه من أخبارهم ليعلم من قرأ كتابنا ه??ذا أن??ا ق??د ب??ذلنا‬
‫المجهود من أنفسنا‪ ،‬وذكرنا س?ائر م??ا ق?الوه فيم??ا وص??فناه‪ ،‬وباهلل التوفي??ق‪ ،‬ومن?ه?‬
‫اإِل عانة‪.‬‬
‫صفحة ‪132 :‬‬
‫ذكر ملوك الطوائف‬
‫وهم بين الفرس األولى والثانية‬

‫أصل ملوك الطوائف‬


‫قال المسعودي‪ :‬وقد تنازع الن?اس في مل?وك الطوائ??ف‪ :‬أمن الف??رس ك?انوا أم من‬
‫النبيط أم من العرب‪ .‬فحكى جماعة من األخباريين ممن عني بأخب??ار الماض??ين أن??ه‬
‫لم??ا َق َت?? ل َ اإِل س??كندر بن فليبس دارا بن دارا ت َغلَّ َب ك??ل رئيس ناحي??ة على ناحيت??ه‪،‬‬
‫فرس ونبيط وعرب‪ ،‬وكان مراد اإِل سكندر من ذلك تشتيت?‬ ‫وكاتبهم اإِل سكندر‪ ،‬فمنهم ْ‬
‫كلمتهم وتحزيبهم‪ ،‬وغلبة كل رئيس منهم على الصقع ال??ذي ه??و ب??ه‪ ،‬فينع??دم نظ??ام‬
‫الملك‪ ،‬واإِل نقياد إلى ملك واحد يجمع كلمتهم ليرجع إليه األمر‪ ،‬إاّل َ أن أكثرهم ك??انوا‬
‫ينق??ادون إلى األش??غانيين‪ ،‬وهم مل??وك الجب??ال منَ بالد ال??دينور ونهاون??د وهم??دان‬
‫وماسبدان وأذربيج??ان‪ ،‬وك??ان ك??ل مل??ك منهم يلي ه??ذا الص??قع يس??مى باالس??م األعم‬
‫أش??غان‪ ،‬فقي??ل لس??ائر مل??وك الطوائ??ف األش??غانيون إض??افة إلى مل??ك ه??ذا الص??قع‬
‫النقيادهم إليه‪.‬وقدحكى محم?دبن هش?ام الكل?بي عن أبي?ه وغ?يره من علم?اء الع?رب‬
‫أنهم ق??الوا‪ :‬أول مل??وك ال??دنيا األس??كيان‪ ،‬وهم من س??مينا من مل??وك من س??لف من‬
‫الفرس األولى إلى دارا بن دارا ثم األردوان‪ ،‬وهم ملوك ال َن ِبيط‪ ،‬وك??انوا من مل??وك‬
‫سقي الفرات والجامعين‬ ‫الطوائف‪ ،‬وكانوا بأرض العراق مما يلي قصر ابن هبيرة َو َ‬
‫وسورا وأحمد آباد والنرس إلى ِح ْن َبا وتل فحار والفوف وسائر ذلك الصقع‪ ،‬وكانت‬
‫مل??وك الع??رب من مض??ر بن ن??زار بن مع??د وربيع??ة بن ن??زار وأنم??ار بن ن??زار‪،‬‬
‫والنصرية? من بني? نصر من اليمن وغيرهم من َق ْح َطان لهم ملوك‪ ،‬وق??د نص??بت ك??ل‬
‫طائفة لها ملكا ً لعدم ملك يجمع كلمتهم‪ ،‬وذلك أن اإلِسكندر أشار علي??ه ُم َعلِّم??ه وه??و‬
‫وزيره أرسطاطاليس‪ ،‬في بعض رسائله إليه بذاك‪ ،‬وكاتب اإلِسكندر ملك كل ناحية‪،‬‬
‫وتؤ َجه َو َح َباه‪ ،‬فاستبد كل واحد منهم بناحية‪ ،‬فص??ار ملك??ه من‬ ‫و َملَّكه على ناحيته‪َ ،‬‬
‫بعده في عقبه‪ ،‬ممانعا ً عما في يده‪ ،‬وطالبا ً لالزدياد من غيره‪.‬‬
‫وكان ملك الطوائ??ف عن?د كث?ير من الن?اس ممن ُع??ني بأخب??ار الماض?ين‪ ،‬ومعرف?ة‬
‫سنيهم‪ ،‬خمسمائة سنة? وسبع عش??رة س??نة‪ ،‬وذل??ك من مل??ك اإلِس??كندر إلى أن ظه??ر‬
‫أردش???يربن باب???ك بن ساس???ان فغلب على مل???وك الطوائ???ف‪ ،‬وقت???ل أردوان المل???ك‬
‫بالعراق‪ ،‬ووضع تاج أردوان على رأس??ه وك??ان ق??د قتل??ه في مب??ارزة على ش??اطىء‬
‫دجلة فهذا أول يوم يع ُد منه? مل??ك أردوش??ير الس??تيالئه على س??ائر مل??وك الطوائ??ف‪،‬‬
‫وتمهدت له البالد‪ ،‬واستقامت دعائمها بملكه‪ ،‬فمن ملوك الطوائف َمنْ قت َل ُه أردشير‬
‫بن بابك‪ ،‬ومنهم َمنْ انق?اد إلى ملك??ه وأج?اب دعوت??ه‪.‬ومل??وك الطوائ??ف بين الف??رس‬
‫األولى ممن سمينا‪ ،‬وبين الفرس الثانية‪،‬وهم الساسانية‪.‬‬

‫عدة ملوك الطوائف‬


‫وقد ذكرأبوعبيدة معمربن المثنى ال??تيمي عن عمركس?رى في كت?اب ل??ه في أخب??ار‬
‫الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن س??لف وخل??ف‪،‬وأخب??ارهم‪ ،‬وخطبهم وتش??عب‬
‫أنسابهم‪ ،‬ووصف ما َب َن ْوه من المدن‪ ،‬وكوروه من الكور‪ ،‬واحتفروه من األنهار‪،‬‬

‫صفحة ‪133 :‬‬

‫وأهل البيوتات منهم‪ ،‬وما وس?م ب?ه ك?ل فري?ق منهم‪ ،‬من‪ ،‬الش?هارجة وغ?يرهم‪ :‬أن‬
‫أول ملك من ملوك الطوائف أشك بن أشك بن أردوان بن أشغان بن آس الجب??ار بن‬
‫سياوش بن كيقاوس الملك عشرين سنة‪ ،‬ثم ملك بعد أش??ك س??ابور بن أش??ك المل??ك‬
‫ستين سنة?‪.‬‬

‫ظهور المسيح‬
‫وفي إح??در وأربعين من مملكت??ه ك??ان ظه??ور الس??يد المس??يح علي??ه الس??الم ببالد‬
‫فلسطين بإيليا‪ ،‬ثم ملك جودرز بن أشك بن أردوان بن أشغان عشر سنين‪ ،‬ثم مل??ك‬
‫نيزر? بن سابور الملك بن أشك الملك إح??دى وعش??رين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن??ه في أيام??ه‬
‫?أربعين‬
‫ِ‬ ‫سار توس بن أسفانيوس ملك رومية إلى إيليا‪ ،‬وذلك بعد ارتف??اع المس??يح ب?‬
‫سنة ف َق َتل َ وأسر وسبى وخرب ثم ملك بع??د ن??يزر بن س??ابور ابن??ه ج??ودرز بن ن??يزر?‬
‫تسع عشرة سنة‪ ،‬ثم ملك بعد جودرز نرس بن نيزر أربعين سنة ثم ملك بعده أخوه‬
‫هرمز بن نيزر عشرين سنة‪ ?،‬ثم ملك أردوان بن هرمزبن نيزرخمس عش??رة س??نة‪،‬‬
‫ثم ملك بعد أردوان ابنه كسرى بن أردوان أربعين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??د كس??رى ابن??ه‬
‫وعش?رين س??نة‪ ،‬ثم مل?ك بع?د بالس ابن??ه أردوان بن بالس‬ ‫َ‬ ‫بالس بن كس??رى أربع?ا ً‬
‫ثالث عشرة سنة‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬فهذا وجه آخر غير ما قدمنا ذكره‪ ،‬وقد قيل في تاريخ سني ملوك‬
‫الطوائف غير ما وصفنا‪ ،‬وإن مدتهم كانت أق?ل مم?ا وص?فنا‪ ،‬واألول أش?هر وأض?ح‬
‫في مقدار ما ملكوا من السنين‪ ،‬مع تباين التواريخ واختالفها وتضاد ما فيها‪ ،‬غ??ير‬
‫س? َلف‬ ‫أن الذي حكيناه ما أخذناه من علماء الف??رس‪ ،‬وهم يراع??ون من ت??واريخ من َ‬
‫ما ال يراعيه غيرهم ألن الفرس تدين بما وصفنا ق??والً وعمالً‪ ،‬وغ??يرهم من الن??اس‬
‫يقول ذلك قوالً وال ينقاد إليه عمالً لتباين أه??ل الش??رائع‪ ،‬وق??د أتين??ا فيم??ا س??لف من‬
‫كتبنا على الغرر من أخبار الطوائف وسيرهم وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫ذكر أنساب فارس وما قاله الناس في ذلك‬

‫اختالف العلماء في أنسابهم‬


‫تنازع الناس في الفرس وأنسابهم‪ :‬فمنهم من رأى أن ف??ارس ابن ياس??وربن س??ام‬
‫بن نوح‪ ،‬وكذلك النبط من ولد نبيط بن ياسوربن سام بن نوح‪ ،‬وهذا قول هشام بن‬
‫محمد فيما حكاه عن أبيه وغيره من علماء الع??رب ة فف??ارس ونبي??ط أخ??وان وهم??ا‬
‫ابنا ياسور‪ ،‬ومنهم من َز َع َم أنه من ولد يوسف بن يعق??وب بن إس??حاق بن إب??راهيم‬
‫الخليل صلوات هللا عليهم‪ ،‬ومنهم من ذكر أنه من ولد إرم بن إرفخش??ذ بن س??ام بن‬
‫ن??وح‪ ،‬وأن??ه ول??د ل??ه بض??عة عش??ر رجاَل َ كلهم ك??ان فارس?ا ً ش??جاعا ً فس??موا الف??رس‬
‫بالفروسية‪ ،‬وفي ذلك يقول حطان بن المعلى الفارسي‪:‬‬
‫ـان‬
‫س ِ‬ ‫ب ا ْل ْ‬
‫فـر َ‬ ‫ناً‪َ ،‬و َم ّنا َم َنا ِج ُ‬ ‫سـا‬ ‫فـر َ‬
‫س ْ‬‫فو ِار ُ‬ ‫س ِّم َي ا ْل َ‬
‫َو ِب َنا ُ‬
‫ت َي ْو َم ال ِّط َع ٍ‬
‫ـان‬ ‫َك ِم ْثل ال ُك َرا ِ‬ ‫َو ُك ُهول ٌ َط َوا ُه ُم الر ْكفق َوال َكر‬
‫صفحة ‪134 :‬‬

‫وق??د زعم ق??و َم أن الف??رس من ول??د ل??وط من ابنتي??ه‪ُ ?،‬زهَى َو َر ْع? وى‪ ،‬وألص??حاب‬
‫التوراة في هذا خبر طويل‪ ،‬وذكر آخرون أنهم من ول??د َب? َ?وان بن إي??ران بن األس??ود‬
‫ب َبوان من بالد فارس‪ ،‬وه??و‬ ‫بن سام بن نوح‪َ ،‬وبوان هذا هو الذي ينسب إليه شِ ْع ُ‬
‫وتدفق المياه‪ ،‬وك??ثرة‬
‫ِ‬ ‫أحد المواضع المشهورة في العالم بالحسن‪ ،‬وكثرة األشجار‪،‬‬
‫أنواع األشجار‪ ،‬وقد ذكره بعض الشعراء فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫فث َّم ُن ْلقي ْأر ُح??? ل َ النجـائب‬ ‫ف???وادي ال???راهب‬
‫ب???وان َ‬
‫فش???عب َّ‬
‫ومنهم من رأى أن الفرس من ول??د إي??ران بن أفري??دون‪ ،‬وق??د ق??دمنا في ص??در ه??ذا‬
‫الكتاب أخبار ولد أفريدون حين قسم األرض بينهم‪ ،‬وم??ا قال??ه الش??اعر في ذل??ك من‬
‫قوله‪:‬‬
‫ف????ارس المل????ك وفزناب????النعم‬ ‫وإلِي????ران جعلن????ا عـنـوة‬
‫الفرس أي??رج إذا عرف??وا اس??مه‪ ،‬وال تن??اكر‬
‫ُ‬ ‫فأضيف الفرس إلى ذلك‪ ،‬وإيران تسمية‬
‫بين الفرس جميع?ا ً في أنه?ا من ول?د أي??رج جميع?اً‪ ،‬وأي?رج ه??و إي?ران بن أفري?دون‬
‫ه??ذاهو المس??تفيض بينهم‪ ?،‬واألغلب عليهم‪ :‬أنهم من آلي أي??رج‪ ،‬ومن الن??اس من‬
‫ذهب إلى أن سائر أجناس الفرس وأهل كور األهواز من ولد عيالم‪ ،‬وال خالف بين‬
‫الفرس في أن الجميع منهم من ولد كيومرث وهذا هو األشهر‪ ،‬وكيومرث ه??و قب??ل‬
‫أيرج بن أفريدون‪ ،‬وأيرج بن أفريدون هو الذي ترجع إليه فارس من ولد كي??ومرث‬
‫ومن الن??اس من ذهب إلى أن الف??رس الثاني??ة وهم الساس??انية? دون من س??لف من‬
‫الفرس األولى هم من ولد منوش??هربن أي??رج بن أفري??دون‪ ،‬ومنهم من ذهب إلى أن‬
‫منوشهر هو ابن مشجر بن ويرك‪ ،‬وويرك ه?و إس?حاق بن إب?راهيم الخلي?ل‪ ،‬وس?ار‬
‫مش??جر إلى أرض ف??ارس‪ ،‬وك??ان به??ا ام??رأة متملك??ة ُيق??ال له??ا ك??ورك ابن??ة أي??رج‪،‬‬
‫فتزوجها‪ ،‬فولدت له منوشهر الملك‪ ،‬وك??ثر ول??ده‪ ،‬فملك??وا األرض‪ ،‬وغلب??وا عليه??ا‪،‬‬
‫وه??ابتهم المل??وك لم??ا هم علي??ه من الش??جاعة والفروس??ية‪ ?،‬ودث??رت الف??رس األولى‬
‫كدثور األمم الماضية والعرب العاربة‪.‬‬
‫قال المسعودي ‪ :‬وأكثر حكماء العرب من نزار بن معد يقول هذا‪ ،‬ويعمل علي??ه في‬
‫َبدء النسب‪ ،‬وينقاد إليه كثيرمن الفرس‪ ،‬وال ينكرون??ه‪ ،‬وق??د ذكرت??ه ش??عراء الع??رب‬
‫من نزار بن معد‪ ،‬وافتخرت على اليمن من قحطان بالفرس‪ ،‬وأنها من ولد إس??حاق‬
‫?دوي ع??دي‬ ‫بن إبراهيم الخليل عليهما الس??الم‪ ،‬فق??ال في ذل??ك إس??حاق بن س??ويد الع? ّ‬
‫قريش‪:‬‬
‫وأسـودا‬ ‫أتى فخرنا أعلى عليهـا ْ‬ ‫إذا افتخرت َق ْحطان يوما ً بـسـؤد ٍد‬
‫الدهرأع ُب َدا‬
‫ْ‬ ‫وصاروا لنا غرما ً على‬ ‫ملكناهم َب ْلداً بإسـحـاق عـمـنـا‬
‫فأمالكهم كانـوا ألمـالكـنـا يدا‬ ‫فإن كان منهم ُت َّبـع وابـن تـبـع‬
‫أب ال يبالي بعـده مـن تـفـردا‬ ‫ٌ‬ ‫ـرأبـنـاء سـارة‬ ‫ويجمعنا والـ ُغ َّ‬
‫وهم منح??وهم بعـد ذلـك سـؤددا‬ ‫هم َملّكوا شرقا ً وغرب?ا ً ملوكـهـم‬
‫الخطفي التميمي يفخ??ر على قحط??ان ب??أن الف??رس‬ ‫َ‬ ‫وفي ذل??ك أيض ?ا ً يق??ول جري??ربن‬
‫والروم من أوالد إسحاق‪ ،‬واألنبياء من ول??د يعق??وب بن إس??حاق بن إب??راهيم عليهم‬
‫السالم‪ ،‬من كلمة طويلة يقول فيها‪:‬‬

‫صفحة ‪135 :‬‬

‫الـسـنـو َرا‬
‫َّ‬ ‫حمائل موت البسين‬ ‫وأبناء إسحاق اللـيوث إذا ار َت ْ‬
‫ـدوا‬
‫وكسرى و َعدوا الهر ُم َزانَ وقيصرا‬ ‫إذا افتخروا عحوا الصبهبذ منـهـ ُم‬
‫ـرا‬‫إص َط ْخ َر الملوك َو ُت ْس َت َ‬
‫وكانوا ِب ْ‬ ‫وكان كتاب ال ّلـه فـيهـم ونـوره‬
‫فأعطِ َي بنيانا وملـكـا ً مـقـدراً‬ ‫ْ‬ ‫النبـي الـذي دعـا‬
‫ُّ‬ ‫ومنه ْم سليمان‬
‫أب كان مهد ّيا ً نبـيا ً مـطـهـرا‬ ‫ٌ‬ ‫أبونا أبوإسحاق‪ ،‬يجمـع بـينـنـا‬
‫فأورثنا عزاً وملكـا ً مـعـمـرا‬ ‫بني قِ ْب َلة هّللا التي ُي ْهـ َتـدى بـهـا‬
‫وأ ْن َب َت زرعا دمع عينيه أخضـرا‬ ‫وموسى وعيسى والني خرساجـداً‬
‫وكان ابن يعقوب نبياًمـطـهـرا‬ ‫ويعقوب منهم‪ ،‬زاده هّللا حـكـمة‬
‫أب ال يبالي بعـده مـن تـأخـرا‬ ‫والـغـرأبـنـاء فـارس‬
‫َّ‬ ‫ويجمعنا‬
‫رضينا بما أعطى اإِل لـ ُه وقـدرا‬ ‫أبونا خليل اللّـه‪ ،‬والـلـه ربـنـا‬

‫وفي ذلك يقول بشار بن برد‪:‬‬


‫قُ َر ْي ٌ‬
‫ش وقومي قر ْيش العجم‬ ‫نمتني الكرام بـنـوفـارس‬

‫وقال أحد شعراء الفرس يذكر أنه من ولد إسحاق‪ ،‬وأن إسحاق هو المسمى ويرك‪،‬‬
‫على حسب ما قدمنا قبل‪ ،‬من كلمة له‪:‬‬

‫إذا فخر ال ُمفاخِر بالـوالده‬ ‫أسـامِـي‬


‫أبونا ويرك‪ ،‬وبه َ‬
‫له شرف الرسالة َّ‬
‫والزهَاده‬ ‫سـول‬‫أبونا ويرك َعـبـ ٌد َر ُ‬
‫وبي??تي مث ?ل ُ واس??طة القِالد ْه‬ ‫فمن مثلي إذا افتخ??رت ق??رون‬
‫ومن الفرس من يزعم أن ويرك هو ابن أيرك بن بورك بن س??بع نس??وة تول??دن من‬
‫غير ذك??ر إلى أن يلحقن في نس??بهن ب??أيرج بن أفري??دون‪ ،‬وه??ذا مم??ا يدفع??ه العق??ل‪،‬‬
‫ويأباه الحس‪ ،‬ويخرج عن العادة‪ ،‬و َت ْن ُبو? عنه المشاهدة‪ ،‬إال م??ا خص هّللا تع??الى ب??ه‬
‫السيد المسيح? عيسِ ى بن مريم عليه السالم ليرى آياته ودالئله الخارجة عن العادة‪،‬‬
‫وعمِ???ا ذكرن???ا من المش???اهدات‪ .‬وللف???رس ههن???ا منازع???ات في نس???ب منوش???هر‪،‬‬
‫واضطراب في كيفية إلحاقه بأفريمون وفي وطء أفريدون لبنت أي??رج‪ ،‬ووطئ??ه بنت‬
‫البنت إلى الس??بع منهن وق??د ك??ان بين مل??ك منوش??هر على م??ا ذكرن??ا وبين مل??ك‬
‫مدةخ َل ْت من الدهر‪ ،‬وعدة من الملوك؛ لتخرب كان بإقليم باب??ل‪ ،‬وع??دم ذي‬ ‫َ‬ ‫أفريدون‬
‫همة تنقاد إليه المملكة ويستقيم له الملك‪ ،‬وتجتمع علي?ه الكلم?ة‪ ،‬فانتق?ل المل?ك من‬
‫ولد أفريدون إلى ولد إسحاق‪.‬فإن كان كل ما ذكرنا هو المع??ول علي??ه من ق??ول ه??ذه‬
‫على ما يوجب??ه الحس??اب أن من كي??ومرث إلى انتق??ال المل??ك إلى ول??د‬ ‫ِ‬ ‫الطائفة فيجب‬
‫إسحاق ألفا َ وتسعمائة واثنتين وعشرين س?نة‪ ،‬ك?ذلك وج?دت في كتب ت?واريخ ه?ذه‬
‫الطائفة بأرض فارس وبالد كرمان‪.‬‬

‫صفحة ‪136 :‬‬

‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وق??د افتخ??ر بعض أبن??اء الف? ْ?رس بع??د التس??عين والم??ائتين بج??ده‬
‫إس??حاق بن إب??راهيم الخلي??ل‪ ،‬على ول??د إس??ماعيل‪ ،‬ب??أن ال??ذبيح? ك??ان إس??حاق دون‬
‫إسماعيل‪ ،‬فقال من كلمة له‪:‬‬
‫ما هذه الكبرياء والعظمة‬ ‫قلْ لبني هاجرأ َب ْن ُ‬
‫ـت لـكـم‬
‫ألمنا سارة الجـمـال أ َمـ ْه‬ ‫ألم تكن في القـديم أمـكـم‬
‫توجدُوا َظلمهْ‬
‫إن ُت ْنك ِِروا ذاك َ‬ ‫وال ُم ْل ُك فينا واألنبـياء لـنـا‬
‫إسحاق كان الذبيح‪ ،‬قد أجمع الناس عليه إال ادع??اء لم??ه ح??تى إذا م??ا محم??د أظه??ر‬
‫الدين وجلى بنوره الظلمه قلتم‪:‬‬
‫أصل لنا‪ ،‬إن كنتم بـنـيه فـ َمـه‬ ‫قريش األحـسـاب مـفـخــرة‬
‫أسكنـه الـلـه آمـتـاًحـرمـه‬ ‫أمابنويعـرب فـلـيسـواكـمـن‬
‫األج َم ْه‬
‫في األرض مثل األسودفي َ‬ ‫وال كـأبـنـاء فـارس‪ ،‬وهُــ ْم‬

‫وهي قصيدة طويلة‪ ،‬ذكر فيها كالما ً كثيراً لم يس??عنا ذك??ره‪ ،‬وق??د أجاب??ه عب??د هّللا بن‬
‫المعتز‪ .‬وكان قائل هذه القصيدة في عصره‪ ،‬و ُع ِّمر إلى أن مضت الثلثمائة‪ ،‬يناقضه‬
‫في أبيات منها فمن ذلك قوله‪:‬‬
‫من ذا الشقي الذي أباح د َم ْه‬ ‫أسمع صوتا ً وال أرى أحـداً‬
‫أباً‪ ،‬وإن كنتم بنـيه فـ َم ْ‬
‫ـه‬ ‫حاشا إلِسحاق أن يكون لكـم‬
‫ق??دفغرالليث للف??راس فمـه‬ ‫ق??والًلكلب ي??رى لبطـشـتـه‬
‫والفرس ال تنقاد إلى القوك بأن ال ُم ْل َك كان فيها ألحد غ??ير ول??د أفري??دون في عص??ر‬
‫من األعصار فيما سلف وخل??ف إلى أن زال عنهم المل ? ُك‪ ،‬إال أن يك??ون دخ??ل عليهم‬
‫داخل على طريق الغصب بغير حق‪.‬‬

‫الفرس يحجون البيت‬


‫وقد كانت أسالف الفرس تقص??د ال??بيت الح??رام‪ ،‬وتط??وف ب??ه‪ ،‬تعظيماًل??ه‪ ،‬ولج? َدها‬
‫إبراهيم عليه السالم‪ ،‬وتمس??كا ً بهدي??ه‪ ،‬وحفظ?ا ً ألنس??ابها‪ ،‬وك??ان آخ??ر من حج منهم‬
‫ساسان بن بابك وهو جد أردشير بن بابك‪ ،‬وه??و أول مل??وك ساس??ان وأب??وهم ال??ذي‬
‫يرجع??ون إلي??ه كرج??وع المرواني??ة? إلى م??روان بن الحكم‪ ،‬وخلف??اء العباس??يين إلى‬
‫العباس بن عبد المطلب‪ ،‬ولم يل الف??رس الثاني??ة أح??د إال من ول??د أردش??ير بن باب??ك‬
‫هذا‪ ،‬فكان ساسان إذا أتى البيت ط?اف ب??ه وزم??زم على ب??ئر إس??ماعيل‪ ،‬فقي??ل‪ :‬إنم??ا‬
‫سميت زمزم لزمزمته عليها‪ ،‬هو وغيره من ف?ارس‪ ،‬وه??ذا ي??دل على ت?رادف ك?ثرة‬
‫هذا الفعل منهم على هذه البئر‪ ،‬وفي ذلك يقول الشاعر في قديم الزمان‪:‬‬
‫?زم وذاك من سالِفهـا األقـدم وق??د أفتخ??ر بعض ش??عراء‬ ‫الفرس على َز ْم? َ‬
‫ت ْ‬ ‫َز ْم َز َم ِ‬
‫الفرس يعد ظهور اإلِسالم بذلك‪ ،‬فقال من كلمة‪:‬‬
‫و ُن ْل َقي باألباطح آمـنـينـا‬ ‫ومازلنانح ُج البـيت قِـدمـا ً‬
‫أتى البيت العتيق يطوف دينا‬ ‫وساسان بن بابك سارحتـى‬
‫إلِسماعيل ُت ْر ِوي الشاربينـا‬ ‫فطاف به‪ ،‬وزمزم عند بـئر‬
‫صفحة ‪137 :‬‬

‫وكانت الف??رس ته??دي إلى الكعب??ة أم??واالً في ص??در الزم??ان‪ ،‬وج??واهر‪،‬وق??د ك??ان‬
‫ساسان بن بابك هذا أهدى غزا َل ْي ِن من ذهب وج??وهراً وس??يوفا ً وذهب?ا ً كث??يراً فقذف??ه‬
‫في زمزم وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذل??ك‬
‫كان لجرهم حين كانت بمكة‪ ،‬وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذل??ك إليه??ا‪ ،‬ويحتم ?ل?‬
‫أن يكون لغيرها‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب ما ك??ان من فع??ل عب??د‬
‫المطلب بهذه األسياف وغيرها مما أودع في زمزم‪.‬‬
‫وللناس في ه?ذه األنس?اب تن?ازع في َب?دْ ئها وتش?عبها‪ ،‬وق?د ذكرن?ا من ذل?ك جمالً‪،‬‬
‫وأوردنا منه جوامع يكتفي ذوالمعرفة باإِل شراف عليها عن كثير من مبسوطها‪.‬‬

‫ذكر ملوك الساسانية‬


‫وهم الفرس الثانية? وأخبارهم‬

‫أردشير بن بابك‬
‫ك?ان أول من نس?ب إلي?ه مل?وكهم على حس?ب م?ا ق?دمنا في الب?اب ال?ذي قب?ل ه?ذا‬
‫أردشير بن بابك شاه بن ساسان بن بابك بن ساسن بن بهاوند بن دارا بن ساس??ان‬
‫بن بهمن بن إس??فنديار بن يستاس?ف? بن بهراس??ف على حس??ب م??ا ق??دمنا من نس??ب‬
‫بهراسف‪ ،‬وقيل‪ :‬إن?ه أردش?ير بن باب?ك بن ساس?ان ألص?غربن باب?ك بن ساس?ان بن‬
‫بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن بن إسفنديار بن يستاس??ف بن بهراس??ف وال‬
‫خالف بينهم في أن أردشير من ولد منوشهر‪ ،‬وكان مم??ا حف??ظ من قول??ه ي??وم َم َل? َك‬
‫وقتل أردوان وفرغ من ملوك طوائف ووضع الت??اج على رأس??ه أن ق??ال‪ :‬الحم??د هلل‬
‫ضنا بنعمه‪ ?،‬شملنا بفوائده وقسمه‪ ،‬ومهد لنا البالد‪ ،‬وقاد إلى طاعتن??ا العب??اد‬ ‫الذي خ َ‬
‫نحمده حمد من عرف فضل ما آتاه‪ ،‬ونشكره شكر الداري بما منح??ه واص??طفاه‪ ،‬أال‬
‫وإناساعون في إقامة منازل العدل‪ ،‬وإدرار الفضل‪ ،‬وتش??ييد? الم??آثر‪،‬وعم??ارة البالد‪،‬‬
‫وردِّ ما انخرم في س??ائر األي??ام منه??ا‪ ،‬فليس??كن‬ ‫والرأفة بالعباد‪َ ،‬و َرم أقطار المملكة‪َ ،‬‬
‫?وي والض??عيف‪ ،‬وال??دنيء والش??ريف‪?،‬‬ ‫ط??ائركم‪ ،‬أيه??ا الن??اس‪ ،‬ف??إني أ ُع ُّم بالع??دل الق? ّ‬
‫وأجع??ل الع??دل س??نة? محم??ودة‪ ،‬وش??ريعة مقص??ودة‪ ،‬وس??تردون في س??يرتنا إلى م??ا‬
‫تحمدوننا عليه‪ ،‬وتصدق أفعالنا أقوالنا‪ ،‬إن شاء هّللا تعالى‪ ،‬والسالم‪.‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬وأردشير بن بابك المتقدم في ترتيب? طبقات القدماء‪ ،‬وبه اقتدى‬
‫المت??أخرون من المل??وك والخلف??اء‪ ،‬وك??ان ي??رى أن ذل??ك من السياس??ة‪ ،‬ومم??ا ي??دعم‬
‫عمود الرياسة؛ فكانت طبقات خاصته ثالثاً‪ :‬األولى األساورة وأبناء المل??وك‪ ،‬وك??ان‬
‫مجلس هذه الطبقة عن يمين الملك‪ ،‬على نحو من عش??رة أذ ُر ٍع‪ ،‬وهم بطان??ة المل??ك‬
‫وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم‪ ،‬وكانت الطبقة الثانية على مقدار عش??رة‬
‫أذرع من األولى‪ ،‬وهم وج?وه ا ْل َم َرازب?ة? ومل??وك الك??ورا والمقيم??ون بب??اب أردش?ير‪،‬‬
‫والمرازبة وهم اإِل صبهبذية ممن كانت مملكة الكور في أيامه‪ ،‬والطبقة الثالثة كانت‬
‫رتبتها على قدر عشرة أذرع من حد مرتبة? الطبقة الثانية‪ ?،‬وأهل هذه الطبقة‬

‫صفحة ‪138 :‬‬

‫المضحكون وأهل البطالة والهزل‪ ،‬غير أنه لم يكن في هذه الطبق??ة الثالث??ة خس??يس‬
‫األصل‪ ،‬وال وضيع الق?در‪ ،‬وال ن?اقص الج?وارح‪ ،‬وال ف?احش الط?ول أو القص?ر‪ ،‬وال‬
‫َمؤُ ف‪ ،‬وال مرمي بأبن??ة‪ ،‬وال ابن في ص??ناعة دنيئ??ة ك??ابن حائ??ك أو َح َّجام‪ ،‬ولوك??ان‬
‫يعلم الغيب أوحوى كل العلوم مثالًوك??ان أردش??ير يق??ول‪ :‬م??ا ش??يء أض??ر على نفس‬
‫ملكٍ أو رئيس أوذي معرفة صحيحة من معاشرة س??خيف أو مخالط??ة وض??يع‪ .‬ألن??ه‬
‫كما أن النفس تصلح على مخالطة الشريف األريب الحسيب‪ ،‬ك??ذلك تفس??د بمعاش??رة‬
‫الخسيس‪ ،‬حتى يقدح ذلك فيها‪ ،‬ويزيلها عن فضيلتها‪ ،‬ويثنيها عن محم??ود ش??ريف‬
‫أخالقها‪ ،‬وكما أن الريح إذا مرت بالطيب حملت طيبا ً تحيا ب?ه النف?وس وتتق?وى? ب?ه‬
‫جوارحها‪ ،‬كذلك إذا مرت بالنتن فحملته ألمت ب??ه النفس‪ ،‬وأض??ر بأخالقه??ا إض??راراً‬
‫تاماً‪ ،‬والفساد أسرع إليها من الصالح‪ .‬إذ كان الهدم أس??رع من البن??اء‪ ،‬وقديج??د ذو‬
‫المعرفة في نفس?ه عن?د معاش?رة الس?فلة الوض?عاء ش?هراً فس?ا َد عقِلِ?ه ده?راً‪.‬وك?ان‬
‫أردشير يقول‪ :‬يجب على الملك أن يكون فائض العدل‪ ،‬فإن في العدل جماع الخ??ير‪،‬‬
‫وتخرم?ه‪ ?،‬إن أول مخاي?ل اإِل دب?ار في المل?ك‬
‫ِ‬ ‫وهو الحصن الحص?ين من زوال المل?ك‬
‫ذهاب العدل منه‪ ،‬وأنه متى خف َقت رايات الجور في ديار قوم كافحتها عق??اب الع??دل‬
‫فردته??ا على العقب‪ ،‬ييس أح??د ممن يص??حب المل??وك ويخ??الطهم أولى باس??تجماع‬
‫محاسن األخالق و فضائل اآلداب وظرائف الملح وغ??رائب النت??ف من الن??ديم‪ ،‬ح??تى‬
‫ساك مجون‬ ‫ليحتاج أن يكون له مع شرف الملوك تواضع العبيد‪ ،‬ومع عفاف ال ُّن ّ‬ ‫إنه ْ‬
‫الفتاك‪ ،‬ومع وقار الشيوخ مزاح األحداث‪ ،‬وكل واحدة من ه??ذه الخالل ه??و مض??طر‬
‫إليها في حال ال يحسن أن يجلب غيرها وإلى أن يجتمع له من قوة الخاطر ما يفهم‬
‫به ضمير الرئيس الذي ينادمه‪ ،‬على حسب ما يبل?وه من خالئق?ه‪ ،‬وبعلم من مع?اني‬
‫لحظه وإشاراته ما يعينه? على شهوته‪،‬ال يكون نديمأ حتى يكون له جمال وم??روءة؛‬
‫فأما جماله فنظافة ثوبه‪ ،‬طيب رائحته‪ ،‬وفصاحة لسانه‪ ،‬وأما مروءته فكثرة حيائ ? ِه‬
‫في أنبساطه إلى الجميل‪ ،‬ووقاره في مجلسه‪ ،‬مع طالقة وجه??ه في غيرس??خف‪ ،‬وال‬
‫يستكمل? المروءة حتى يسلوعن اللذة‪.‬‬

‫مراتب رجال الدولة‬

‫ورتب أردشير المراتب فجعلها سبعة أفواج‪ :‬فأولها الوزراء‪ ،‬ثم الموب??ذان وه??و‬
‫القائم ب??أمور ال??دين‪ ،‬وه??و قاض??ي القض??اة‪ ،‬وه??و رئيس المواب??ذة‪ ،‬ومعناه??ا القُ? َّ?وام‬
‫بأمور الدين في سائر المملكة‪ ،‬والقضاة المنصوبون لألحكام‪ ،‬وجع??ل اإِل ص??بهبذيين‬
‫أربع??ة‪ :‬األول بخراس??ان‪ ،‬والث??اني ب??المغرب‪ ،‬والث??الث ببالد الجن??وب‪ ،‬والراب??ع ببالد‬
‫الشمال ؛ فهؤالء األربعة هم أصحاب تدبير? الملك‪ ،‬ك??ل واح??د منهم ق??د أف??رد بت??دبير?‬
‫جزء من أجزاء المملكة‪ ،‬فكل واحد منهم صاحب ربع منها‪ ،‬ولكل واح??د من ه??ؤالء‬
‫َم ْر ُز َبان‪ ،‬وهم خلفاء هؤالء األربع??ة‪ ،‬ورتب أردش??ير الطبق??ات األربع??ة من أص??حاب‬
‫التدبير و َمنْ إليهم ِأز ّم ُة الملك وحض??ور المش??ورة في إي??راد األم??ور وإص??دارها‪ ،‬ثم‬
‫رتب طبقات المغنين وسائر المطربين وذوي الصنعة بالموسيقى‪.‬فلم يزل على ذل??ك‬
‫َمنْ طرأ بعده من ملوك آل ساسان إلى بهرام جور فإنه قرر مراتب األشراف‬
‫صفحة ‪139 :‬‬

‫س?دَنة بي??وت الن??يران والنس??اك والزه??اد وطبق??ات العلم??اء بالديان??ة‬


‫وأبناء الملوك َو َ‬
‫وأنواع المهن الفلسفية على حالها‪َ ،‬‬
‫وغ ًيرطبق??ات المغ??نين‪ ،‬فرف??ع َمنْ ك??ان بالطبق??ة‬
‫الوس??طى إلى الطبق??ة العلي??ا‪ ،‬والطبق??ة الدنيئ ?ة? إلى الوس??طى‪َ ،‬وغ??ير الم??راتب على‬
‫حس??ب إعجاب??ه ب??المطرب ل??ه منهم‪ ،‬وإفس??د مارتب??ه? أردش??يربن باب??ك في طبق??ات‬
‫ور َد بع??ده من مل??وكهم ه??ذا المس??لك‪ ،‬ح??تى ورد كس??رى أن??و‬ ‫الملهين‪ ،‬فس??لك َمنْ َ‬
‫شروان فردّ مراتب المغنين إلى ما كانت عليه في عهد أردش??يربن باب??ك‪.‬وق??د ك??انت‬
‫ملوك األعاجم كلها من عه??د أردش??ير تحتجب عن الن??دماء‪،‬وك??ان يك??ون بين المل??ك‬
‫وبين أول الطبقات عشرون ذراع?اً‪ ،‬ألن الس??تارة ال?تي على المل?ك تك?ون من??ه على‬
‫عشرة أذرع‪ ،‬ومن الطبقة األولى على عش??رة أذرع‪ ،‬وك??ان الموك??ل بالس??تارة رجاًل‬
‫من أبناء األساورة ُيقال له خرام باشن‪،‬فإذا غاب هذا الرجل وكل بها آخر من أبن??اء‬
‫األساورة وذوي التحصيل‪ ،‬وسمي بهذا االسم‪ ،‬وهذا االس??م ع??ام لمن ر َتب في ه??ذه‬
‫الرتبة ووقف هذا الموقف‪ ،‬وتفسير? ذلك كن فرحا ً مس??روراً‪ ،‬وك??ان خ??رم ب??اش ه??ذا‬
‫إذا جلس المل??ك ل ُندمائ??ه و ُمعاقري ?ه? أم??ر رجاَل َ أن يرتف??ع على أرف??ع مك??ان في دار‬
‫الملك‪ ،‬فيرفع عقيرته? و ُي َغرد بصوت رفيع يس??معه ك??ل من حض??ر فيق??ول‪ :‬ي??ا لس??ان‬
‫احفظ رأسك‪ ،‬فإنك تجالس في هذا اليوم الملك‪ ،‬ثم ينزل‪ ،‬وك??ان ذل??ك فعلهم في ي??وم‬
‫?ة أص??وا ُتها‪ ،‬غيرمش??يرة‬ ‫جلوس الملك للهوه وطربه‪ ،‬فيأخ??ذ الن??دماء م??راتبهم خافت? ً‬
‫بشيء من َج َوارحها‪ ،‬ح??تى يطل??ع الموك??ل بالس??تارة‪ ،‬فيق??ول‪َ :‬غنِّ أنت ي??ا فالن ك??ذا‬
‫وكذا‪ ،‬واضرب أنت يا فالن كذا وكذا‪ ،‬من طريقة كذا وكذا‪ ،‬من طرائ??ق الموس??يقى‪،‬‬
‫وقد كانت األوائل من بني امية ال تظهر للندماء‪ ،‬وكذلك األوائل من بني العباس‪.‬‬

‫زهد أردشير‬

‫و َك َو َر أردشير بن بابك ُك َوراً‪َ ،‬و َمدَّ نَ ُم ُد َناَ‪ ،‬وله عهد في أيدي الناس‪.‬ولما خال من‬
‫ملكه أربع عشرة سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬خمس عشرة سنة‪ ،‬واستقامت له األرض‪ ،‬ومه??دها‪،‬‬
‫وصال على الملوك فانقادت إلى طاعته‪ ،‬زهد في الدنيا‪ ،‬وتبين له َع َوارها‪ ،‬وما هي‬
‫عليه من الغرور والعناء‪ ،‬وقلة المكث‪ ،‬وسرعة الغِيلة منه??ا إلى َمنْ أمنه??ا‪ ،‬ووث??ق‬
‫اع? َذ َ‬
‫وذب‬ ‫ضرارة خاتلة زائلة بائ??دة‪ ،‬وم??ا ْ‬ ‫غرارة و َ‬‫بها‪ ،‬واطمأنَّ إليها‪ ،‬وبان له أنها ّ‬
‫تمرر منها عليه ج?انب َو ْأوبى ورأى أن َمنْ ب?نى قبل?ه‬ ‫َ‬ ‫منها جانب المرىء َو َحالَ إال‬
‫صن الحصون وساق الجموع وكان أعظم جيشا ً وأشد جنوداً وأتم عديدأ‬ ‫وح ّ‬
‫المدائن ً‬
‫قد صار رميما ً هشيماً‪ ،‬وتحت التراب مقيما ً فآثر التف??رد عن المملك??ة‪ ،‬وال َّت ْرك له??ا‪،‬‬
‫واللحاق ببيوت النيران‪ ،‬واالنفراد بعب??ادة ال??رحمن‪ ،‬واألنس بالوح??دة‪ ،‬فنص??ب ابن??ه‬
‫سابور لمملكت?ه‪َ ،‬و َت ًو َج? ه بتاج?ه‪ ،‬وذل?ك أن?ه رآه أرجح ول?ده حلم?اً‪ ،‬وأكملهم علم?اً‪،‬‬
‫وأشدهم بأس?اً‪ ،‬وأج??زلهم مراس?اً‪ ،‬فع??اش بع??د ذل??ك في ح??ال تزه??ده‪ ،‬وخل??وه برب??ه‪،‬‬
‫وكونه في بيوت النيران سنة‪ ،‬وقيل شهراً‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أك??ثر مم??ا ذكرن??ا‪.‬وأق??ام أردش??ير‬
‫اثنتي? عشرة سنة? يحارب ملوك الطوائف‪ .‬فمنهم من يكاتبه? فينق??اد إلى ملك??ه رهب ?ة?‬
‫ص ْو لته‪ ،‬ومنهم من يمتنع عليه فيسير إلى داره ويأتي عليه‪ ،‬وكان آخر من قتل‬ ‫من َ‬
‫منهم ملكا ً للنبط بناحية سواد العراق اسمه بابا بن بردينا صاحب قصر ابن هبيرة‪،‬‬
‫صفحة ‪140 :‬‬

‫ثم أردوان المل??ك‪ ،‬وفي ه??ذ الي??وم س??مي شاهنش??اه‪ ،‬وهومل??ك المل??وك‪.‬وأ ُّم ساس??ان‬
‫األكبر من سبايا بني إسرائيل‪ ،‬وهي بنت سانال‪ ،‬وألردشيرابن بابك أخب??ار في ب??دء‬
‫ملك َه مع زاهد من زهادهم وأبناء ملوكهم ُيقال ل??ه بيش?ر? وك??ان أفالط??وني الم??ذهب‬
‫على رأي سقراط وأفالطون‪ ،‬أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتينا على جميع ذل??ك في‬
‫كتابنا أخبار الزم?ان وفي الكت?اب األوس?ط‪ ،‬م?ع ذك?ر س?يره وفتوح?ه‪ ،‬وم?ا ك?ان من‬
‫أمره‪ ،‬وألردشير بز بابك كت?اب يع??رف بكت??اب الكرن??امج في??ه ذك??ر أخب??اره وحروب??ه‬
‫ومسيره? في األرض وسيره‪.‬‬
‫من وصايا أردشير وكتبه‬
‫وكان مما حفظ من وصية أردشير البنه? سابور عند نصبه? إياه للملك أن قال له‪ :‬يا‬
‫بني‪ ،‬إن ال??دين والمل??ك أخ??وان‪ ،‬وال غ??نى لواح??د منهم??ا عن ص??احبه ة فال??دين أس‬
‫حارس ?ه‪ ،‬وم??ا لم يكن ل??ه أس??ر فمه??دوم‪ ،‬وم??ا لم يكن ل??ه ح??ارس‬ ‫ُ‬ ‫المل??ك‪ ،‬والمل??ك‬
‫?واص من أن??واع رعيت??ه‬ ‫َ‬ ‫فضائع‪.‬وكان مما حف?ظ من مكاتبات??ه أع?ني أردش?ير إلى خ?‬
‫وعماله‪ :‬من أردشير بن بهمن ملك الملوك‪ ،‬إلى الكت??اب ال?ذين بهم ت??دبير المملك??ة‪،‬‬
‫?راث‬‫والفقهاء الذين هم عماد الدين‪ ،‬واألس??اورة ال??ذين هم ُح ْم? اة الح??رب‪ ،‬وإلى الح? َّ‬
‫الذين هم َع َم َرة البالد‪ ،‬سالم عليكم‪ ،‬نحن بحمد هّللا صالحون‪ ،‬وقد رفعنا إتاوتنا عن‬
‫رعيتنا بفضل رأفتنا ورحمتنا‪ ،‬ونحن كاتبون إليكم بوصية فاحفظوه??ا ال تستش??عروا‬
‫الحق??د فيكم في??دهمكم الع??دو‪ ،‬وال تح ُّبوا االحتك??ار فيش??ملكم القح??ط‪ ،‬وكون??وا ألبن??اء‬
‫س للرحم وأق??رب‬ ‫السبيل مأوى ترووا غداً في المعاد‪ ،‬وتزوجوا في األقارب فإنه أ َم ُّ‬
‫للنسب‪ ،‬وال تركنوا للدنيا فإنها ال تدوم ألحد‪ ،‬وال تهتموا لها فلن يك?ون إال م?ا ش?اء‬
‫هّللا ‪ ،‬وال ترفض??وها م??ع ذل??ك ف??إن اآلخ??رة ال تن??ال إال به??ا‪.‬وكتب أردش??ير إلى بعض‬
‫عمال??ه‪ :‬بلغ??ني أت??ك ت??ؤثر اللين على الغلظ??ة‪ ،‬والم??ودة على الهيب??ة‪ ،‬والجبن على‬
‫الج??راءة‪ ،‬فليش??تد َّأولُ??ك‪ ،‬وليلن آخ??رك‪ ،‬وال تخلين قلب ?ا ً من هيب??ة‪ ،‬وال تعطلن??ه من‬
‫مودة‪ ،‬وال يبعد عليك ما أقول لك فإنهما يتجاوران‪.‬‬

‫سابور بن أرلحشير وماني الثنوي‬


‫ثم ملك بعد أردشير ابنه سابور‪ ،‬وكان ملكه ثالثا ً وثالثين سنة‪ ،‬وكانت له ح??روب‬
‫صر مدنا ً نسبت إليه‪ ،‬كما نسب من الك??ور‬ ‫مع كثير من ملوك العالم‪ ،‬وبنى ُك َوراً‪َ ،‬و ًم ّ‬
‫والم??دن إلى آبائ??ه‪ ،‬والع??رب تلقب??ه س??ابور الجن??د‪ ،‬وفي أيام??ه ظه??ر م??اني‪ ،‬وق??ال‬
‫باالثنين‪ ،‬فرجع سابور عن المجوسية? إلى مذهب ماني والقول بالنور وال??براءة من‬
‫الظلمة‪ ،‬ثم عاد بعد ذل??ك إلى دين المجوس??ية‪ ?،‬ولح??ق م??اني ب??أرض الهن??د‪ .‬ألس??باب‬
‫أوجبت ذلك قد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫بين قيصر وسابور‬


‫وكتب مل ُك الروم إلى سابوربن أردشير‪ :‬أما بعد‪ ،‬فقد بلغني من سياس??تك لجن??دك‪،‬‬
‫وض??بطك م??ا تحت ي??دك‪ ،‬وس??المة أه??ل مملكت??ك بت??دبيرك م??ا أحببت أن أس??لك في??ه‬
‫طريقتك‪ ،‬وأركب مناهجك‪.‬‬
‫صفحة ‪141 :‬‬

‫فكتب إليه س??ابور‪ِ :‬ن ْل ُ‬


‫ت ذل??ك بثم??ان خص??ال‪ :‬لم أه??زل في أم??ر والنهي ق??ط‪ ،‬ولم‬
‫أخلف وعداً وال وعيداً قط‪ ،‬وحاربت للغني ال للهوى‪ ،‬واجتلبت قلوب الناس ثقة بال‬
‫س?? ْم ُ‬
‫ت‬ ‫ك??ره‪ ،‬وخوف??ا ً بال مقت‪ ،‬وع??اقبت لل??ذنب ال للغض??ب‪ ،‬وعممت ب??القوت‪َ ،‬‬
‫وح َ‬
‫الفضول‪.‬‬

‫من سابور إلى بعض عماله‬


‫فأس? ِن رزق??ه‪َ ،‬و ُ‬
‫ش? َّد‬ ‫ْ‬ ‫و ُيقال‪ :‬إن س??ابور كتب إلى بعض عمال??ه‪ :‬إذا اس??تكتبت رجاًل‬
‫بصالح األع??وان عض??ده‪ ،‬وأطل??ق بالتدبيري?ده ففي إس??ناء رزق?ه حس?م طمع??ه‪ ،‬وفي‬
‫تقويت??ه ب??األعوان ثق??ل وطأت??ه على أه??ل الع??دوان‪ ،‬وفي إطالق??ه بالت??دبير م??ا أخاف??ه‬
‫عواقب األمور‪ ،‬ثم قِف ُه من أمره على ماله قدمته ليمثله إماما ً ويحفظ??ه كالم?اً‪ ،‬ف??إن‬
‫فأولِ? ِه غرض??ك‪ ،‬وأوجب زيادت??ه علي?ك‪ ،‬وإن َح? ا َد عن أم?رك‬ ‫أمره بم??ا رس??مت ْ‬
‫وقع َ‬
‫وأطلقت بالعقوب??ة علي??ه َي??د َك‪ ،‬والس??الم‪.‬وعه??د س??ابور إلى ول??ده‬
‫َ‬ ‫علقت??ه حجت??ك‪،‬‬
‫هرم??زو َمنْ تاله من المل??وك بع??ده‪ ،‬فق??ال‪ :‬اجعل??وا عل??و أخالقكم كعل??و أخط??اركم‪،‬‬
‫َ‬
‫وارتفاع كرمكم كارتفاع هممكم‪ ،‬وفضل سعيكم كفضل َج ِّدكم‪.‬وقي?ل‪ :‬إن مل?ك س?ابور‬
‫كان إحدى وثالثين سنة ونصفا ً وثمانية عشريوما ً‪.‬‬

‫هرمز وبهرام‬
‫ثم ملك بعد سابور ابنه هرمز بن سابور الملقب بالبطل‪ ،‬وكان ملكه س??نة‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬
‫اثنين وعش??رين ش??هراً‪ ،‬وب??ني مدين??ة رامهرم?ز? من ُك? َ?ور األه??واز‪.‬وكتب إلى بعض‬
‫عماله‪ :‬ال يصلح لسد الثغور و َق ْود الجيوش وإبرام االمور وت??دبير? األق??اليم إال رج??ل‬
‫تكاملت فيه خمس خصال‪ :‬ح??زم ي??تيقن ب??ه عن??د م??وارد األم??ور حق??ائق مص??ادرها‪،‬‬
‫التهور في المشكالت إال عند تجلي فرصتها‪ ،‬وشجاعة ال تنقصها‬ ‫ُ‬ ‫وعلم يحجبه عن‬
‫الملمات بتواتر جوائحها‪ ،‬وص??دق في الوع??د والوعي??د يو َث??ق بوفائ??ه بهم??ا‪ ،‬وج??ود‬
‫يهون علي?ه بت?دبير األم??وال في حقه?ا‪.‬ثم مل?ك بع?ده به?رام بن هرم??ز ثالث س??نين‪،‬‬
‫وكانت له حروب مع ملوك الشرق‪.‬‬

‫الزنادقة‬
‫الثنوي??ة‬
‫َ‬ ‫وقد ذكرنا أن بهرام أتاه ماني بن يزيد تلميذ قاردون فعرض عليه مذاهب‬
‫فأجاب??ه احتي??االً من??ه علي??ه إلى أن أحض??ر دعات??ه المتف??رقين في البالد من أص??حابه‬
‫الذين َيدْ ُعون الناس إلى مذاهب الثنوي??ة فقتل??ه‪ ،‬وقت??ل الرؤس??اء من أص??حابه‪ ،‬وفي‬
‫أيام ماني هذا ظهر اسم الزندقة الذي إليه أض??يف الزنادق??ة‪ ،‬وذل??ك أن الف??رس حين‬
‫أتاهم َز َر ادشت بن أسبيمان على حسب ما قدمنا من نسبهفيما سلف من هذا الكتاب‬
‫بكتابهم المعروف بالبس?تاه باللغ?ة األولى من الفارس??ية‪ ،‬وعم??ل ل?ه التفس??ير‪ ،‬وه??و‬
‫وعمل لهذا التفسير شرحا ً سماه البازند‪ ،‬على حسب م??ا ق??دمنا‪ ،‬وك??ان الزن??د‬ ‫ِ‬ ‫الزند‪،‬‬
‫بيانا َ لتأويل المتقدم المنزل‪ ،‬وكان َمنْ أورد في شريعتهم شيئا ً بخالف المنزل ال??ذي‬
‫وعدَ ل إلى التأوي??ل ال??ذي ه??و الزن??د‪ ،‬ق??الوا‪ :‬ه??ذا زن??دي‪ ،‬فأض??افوه إلى‬
‫هو البستاه‪َ ،‬‬
‫تأويل هو بخالف التنزيل‪ ?،‬فلما‬
‫ٍ‬ ‫التأويل‪ ،‬وأنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى‬
‫صفحة ‪142 :‬‬

‫أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس‪ ،‬وقالوا‪ :‬زنديق‪ ،‬و ًعربوه‪ ،‬والثنوي??ة?‬
‫هم الزنادقة‪ ،‬ولحق بهؤالء سائر من اعتقد القدم‪ ،‬وأبى حدوث العالم‪.‬‬

‫بهرام بن بهرام‬

‫ثم ملك بعده بهرام‪ ،‬بن بهرام‪ ،‬وكان ملكه س??بع عش??رة س??نة‪ ،‬وقي??ل غ??ير ذل??ك‪،‬‬
‫صف واللذات والصيد والنزه??ة‪ ،‬ال يفك??ر في ملك??ه‪ ،‬وال‬ ‫وأقبل في أول ملكه على ال َق ْ‬
‫ينظرفي أمور رعيت??ه‪ ?،‬وأ ْق َط? ع الض??ياع لخواص??ه و َمنْ الذب??ه منْ َخدم??ه وحاش??يته‪،‬‬
‫فخربت الضياع‪ ،‬وخلت من ُع َّمارها‪ ،‬وس??كنوا الض??ياع المتع??ززة‪ ،‬فقلت العم??ارة إال‬
‫ما أقطع من الضياع‪ ،‬وس??قطت عنهم المطالب??ة ب??الخراج بممايل??ة ال??وزراء َخ? َواص‬
‫مفوضا َ إلى وزرائه فخربت البالد‪ ،‬وقلت العم??ارة وق??ل م??ا‬ ‫َ‬ ‫الملك‪ ،‬وكان تدبير الملك‬
‫القوي من الجنود‪ ،‬وهل??ك الض??عيف منهم‪ ،‬فلم??ا ك??ان في‬ ‫ُ‬ ‫في بيوت األموال‪ ،‬فضعف‬
‫بعض األيام ركب الملك إلى بعض منتزهاته وص?يده‪ ،‬فجن?ه اللي??ل وه?و يس?ير? نح??و‬
‫المدائن‪ ،‬وكانت ليلة َق ْمراء‪ ،‬فدعا بالموب??ذان ألم??ر خط??ر ببال??ه فلح??ق ب??ه وس??ايره‪،‬‬
‫وأقبل على محادثته‪ ،‬مستخبراً له عن سير أسالفه‪ ،‬فتوسطوا في مس??يرهم خرب??ات‬
‫كانت من أمهات الضياع قد خ??ربت في مملكت??ه‪ ،‬وال أنيس به??ا إال الب??وم‪ ،‬وإذا ب??وم‬
‫يصيح? وآخر يجاوبه من بعض تلك الخربات‪ ،‬فقال الملك للموبذان ‪ :‬أترى أح??داً من‬
‫الن??اس أعطى ف ْه َم منط??ق ه??ذا الط??ير المص??وت في ه??ذا اللي??ل اله??ادىء فق??ال ل??ه‬
‫الموبذان‪ :‬أنا أيها الملك ممن قد خص??ه هّللا بفهم ذل??ك‪ ،‬فاس??تفهمه المل??ك عم??ا ق??ال‪،‬‬
‫فأعلمه أن قوله صحيح‪ ،‬فقال له‪ :‬فما يقول هذا الطائر‪ .‬وما الذي يقول الآلخر‪ .‬قال‬
‫الموبذان هذا بوم ذكر يخاطب بومة‪ ?،‬ويق??ول له?ا‪ :‬أمتعي??ني من نفس??ك ح??تى يخ?رج‬
‫هللا‪ ،‬ويبقى لنا في هذا العالم َعقِب يكثرون ذكرنا وال??ترحم علين??ا‬ ‫منا أوالد يسبحون ّ‬
‫فأجابت??ه البوم??ة‪ :‬إن ال??ذي دعوت??ني? إلي??ه ه??و الح??ظ األك??بر‪ ،‬والنص??يب األوف??ر‪ ،‬في‬
‫العاج??ل واآلج??ل‪ ،‬إال أني أش??ترط علي??ك خص??اال إن أنت أعطيتنيه??ا أجبت??ك إلى م??ا‬
‫دعوتني إليه‪ ،‬فقال لها الذكر‪ :‬وما تلك الخصال‪ .‬ق??الت‪ :‬أوله??ا إن أن??ا أبحت??ك نفس??ي‬
‫وص??رت إلى م??ا إلي??ه دعوت??ني تض??من لي أن تعطي??ني من خرب??ات أمه??ات الض??ياع‬
‫عشرين قرية مما قد خرب في أيام هذا الملك السعيد‪ ،‬فقال له الملك‪ :‬فما الذي ق??ال‬
‫لها الذكر‪ .‬قال الموبذان‪ :‬كان من قوله له?ا‪ :‬إن دامت أي?ا ُم ه?ذا المل?ك الس?عيد ج?ده‬
‫أعطيتك مما يخرب من الضياع ألف قرية‪ ،‬فم??ا تص??نعين به??ا‪ .‬ق??الت‪ :‬في اجتماعن??ا‬
‫ظهور النسل‪ ،‬وكثرة الولد‪ ،‬ف ُن ْقطِ ع كل واحد من أوالدنا قرية من هذه الخربات‪ ،‬قال‬
‫لها الذكر‪ :‬هذا أسهل أمر س??ألتنيه‪ ?،‬وأيس??رأمرطلبته? م??ني‪ ?،‬وق??دمت ل??ك الوع??د وأن??ا‬
‫مليء بذلك‪ ،‬فهاتي ما بعد ذلك فلما س??مع المل??ك ه??ذا الكالم من الموب??ذان عم??ل في‬
‫وتر َّجل َ للناس‪،‬‬
‫نفسه‪ ،‬واستيقظ من نومه‪ ?،‬وفكر فيما خوطب به‪ ،‬فنزل من ساعته‪َ ،‬‬
‫أغف َله‬
‫وخال بالموبذان فقال له‪ .:‬إيها القيم بالدين‪ ،‬والناصح للملك‪ ،‬والمنبه? على ما ْ‬
‫من أمور ملكه‪ ،‬وأضاعه من أمر بالده ورعيته‪ ?،‬ما ه??ذا الكالم ال??ذي خ??اطبتني? ب??ه‪?.‬‬
‫فقد حركت مني ما كان ساكناً‪ ،‬وبعثني? على علم ما كنت عنه غائباً‪ ،‬قال الموب??ذان‪:‬‬
‫وقت سع ٍد للعباد والبالد‪ ،‬فجعلت الكالم مثاًل وموقظا ً‬
‫َ‬ ‫صادفت من الملك السعيد ً‬
‫جدّ ه‬
‫صفحة ‪143 :‬‬

‫على لس??ان الط??ائر عن??د طلب المل??ك م??ني ج??واب م??ا س??أل‪ ،‬ثم ق??ال ل??ه المل??ك‪:‬أيه??ا‬
‫الناصح‪ ،‬ا ْكشِ ف لي عن هذا الغرض الذي إليه رميت‪ ،‬والمعنى الذي له قصدت‪ ،‬م??ا‬
‫منه? و إلى ماذا يؤول‪ .‬قال الموبذان‪ :‬أيها المل?ك الس?عيد ج?ده إن المل?ك ال يتم ع?زه‬
‫إال بالش??ريعة والقي??ام هّلل تع??الى بطاعت??ه‪ ،‬والتص??رف تحت أم??ره ونهي??ه‪ ،‬وال ق??وام‬
‫للش??ريعة إال بالمل??ك‪ ،‬وال ع??ز للمل??ك إال بالرج??ال‪ ،‬وال ق??وام للرج??ال إال بالم??ال‪ ،‬وال‬
‫س???بيل إلى الم??ال إال بالعم??ارة‪ ،‬وال س???بيل للعم??ارة إال بالع??دل‪ ،‬والع??دل الم???يزان‬
‫المنصوب بين الخليقة‪ ،‬نصبه الرب وجعل له قيما‪ ،‬وهو الملِك‪ ،‬قال المل??ك‪ :‬أم??ا م??ا‬
‫فأبنْ لي عما تقصد‪ ،‬وأوضح لي في البيان‪ ،‬ق??ال الموب??ذان‪ :‬نعم أيه??ا‬ ‫وصفت فحق‪ِ ،‬‬
‫المل?ك‪ ،‬عم?دت إلى الض?ياع فانتزعته?ا من أربابه?ا و ُع َّماره?ا‪ ،‬وهم أرب?اب الخ?راج‬
‫َو َمنْ تؤخذ منهم األموال‪ ،‬فأقطِ عتها الحاشية والخدم وأهل البطالة وغيرهم‪ ،‬فعمدوا‬
‫إلى ما تعجل من غرتها‪ ،‬واستعجلوا المنفعة‪ ،‬وتركوا العم??ارة والنظ??ر في الع??واقب‬
‫وما يصلح الضياع‪ ،‬وس??ومحوا في الخ??راج لق??ربهم من المل??ك‪ ،‬ووق??ع ا ْل َح ْي??ف على‬
‫من بقي من أرب??اب الخ??راج وعم??ار الض??ياع‪ ،‬ف??انجلوا عن ض??ياعهم‪ ،‬ورحل??وا عن‬
‫دياره َم‪ ،‬وآووا إلى ما تعزز من الض??ياع بأرباب??ه فس??كنوه‪ ،‬فقلت العم??ارة‪ ،‬وخ??ربت‬
‫الضياع‪ ،‬وقلت األموال‪ ،‬فهلكت الجن??د والرعي?ة‪ ،‬وطم??ع في مل?ك ف?ارس َمنْ أط?اف‬
‫بها من الملوك واألمم لعلمهم بانقطاع المواد التي بها تستقيم دعائم المل??ك‪ ،‬فلم??ا‬
‫سمع الملك هذا الكالم من الموبذان أقام في موض??عه ذل??ك ثالث?اً‪ ،‬وأحض??ر ال??وزراء‬
‫والكتاب وأرباب الدواوين‪ ،‬وأحضرت الجرائد فانتزعت الض??ياع من أي??دي الخاص??ة‬
‫جر ْوا على رسومهم السالفة‪ ،‬وأخذوا في العم??ارة‪،‬‬ ‫والحاشية‪ ،‬و ُر َدت إلى أربابها‪َ ،‬و َ‬
‫وق??وي من ض??عف منهم‪ ،‬فعم??رت األرض‪ ،‬وأخص??بت البالد‪ ،‬وك??ثرت األم??وال عن??د‬
‫جباية الخراج‪ .‬وقويت الجنود‪ ،‬وقطعت مواد األعداء‪ ،‬وشحنت الثغور‪ ،‬وأقبل الملك‬
‫يباش??ر األم??ر بنفس?ه? في ك??ل وقت من الزم??ان‪ ،‬وينظ??ر فى أم??ر خواص??ه وعوام??ه‪،‬‬
‫فحسنت أيامه‪ ،‬وانتظم ملك??ه‪ ،‬ح??تى ك??انت ت??دعى أيام??ه أعي??اداً؛ لم??ا عم الن??اس من‬
‫الخصب واإلفضال وشملهم من العدل‪.‬قيم دعائم الملك‪ ،‬فلما سمع المل??ك ه??ذا الكالم‬
‫من الموب??ذان أق??ام في موض??عه ذل??ك ثالث??اً‪ ،‬وأحض??ر ال??وزراء والكت??اب وأرب??اب‬
‫الدواوين‪ ،‬وأحضرت الجرائد فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة والحاش??ية‪ ،‬و ُر َدت‬
‫جر ْوا على رسومهم السالفة‪ ،‬وأخذوا في العمارة‪ ،‬وق??وي من ض??عف‬ ‫إلى أربابها‪َ ،‬و َ‬
‫منهم‪ ،‬فعمرت األرض‪ ،‬وأخصبت البالد‪ ،‬وكثرت األموال عند جباية الخراج‪ .‬وقويت‬
‫الجنود‪ ،‬وقطعت مواد األعداء‪ ،‬وشحنت الثغور‪ ،‬وأقب??ل المل??ك يباش??ر األم??ر بنفس?ه?‬
‫في كل وقت من الزمان‪ ،‬وينظر فى أمر خواص??ه وعوام??ه‪ ،‬فحس??نت أيام??ه‪ ،‬وانتظم‬
‫ملكه‪ ،‬حتى كانت تدعى أيامه أعياداً؛ لما عم الناس من الخصب واإلفضال وش??ملهم‬
‫من العدل‪.‬‬

‫جماعة من ملوك الفرس‬


‫ثم ملك بعده بهرام بن الملك بهرام بن بهرام فكان ملكه إلى أن هلك أرب??ع س??نين‪،‬‬
‫وأربعة أشهر ثم ملك بعده نرس?ي? بن به??رام المل??ك ابن به??رام البط??ل‪ ،‬وك??ان ملك??ه‬
‫سبع سنين وقيل ونصفا ً ثم ملك بعده هرمزبن نرسي? بن بهرام‪ ،‬على ما ذكرنا من‬
‫صفحة ‪144 :‬‬

‫النسب‪ ،‬وكان ملكه سبع سنين وخمس??ة أش??هر‪ .‬وذك??ر أب??و عبي??دة معم??ر بن المث َنى‬
‫عن عمر كسرى أن كل من ذكرنا من ملوك آل ساسان إلى ه??ذا المل??ك وه??و هرم??ز‬
‫بن نرسي كانوا ينزلون جند يسابور? من بالد خوزستان‪ ،‬وقد كان يعق??وب بن الليث‬
‫الصفار أراد سكنى جند يسابور متشبها ً بمن مضى من ملوك ساسان‪ ،‬إلى أن م??ات‬
‫بها‪ .‬وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب أخبار المعتمد حين سكناه إياها ووفاته فيها‪.‬‬

‫سابور ذو االكتاف‬
‫ثم ملك بعد هرمزبن نرسي ابنه سابوربن هرمز‪ ،‬وهو س??ابورذو األكت??اف‪ ،‬وك??ان‬
‫ملكه إلى أن هلك اثنتين وسبعين سنة‪ .‬وخلفه والده َح ْمالً‪ ،‬فغلبت العرب على سواد‬
‫العراق‪ ،‬وقام الوزراء بأمر التدبير‪ ،‬وك?انت جمه??رة الع?رب ممن غلب على الع??راق‬
‫ولد إياد بن نزار‪ ،‬وكان ُيقال لها طبق إلطباقها على البالد‪ ،‬وملكه??ا يومئ??ذ الح??ارث‬
‫بن األغ??ر اإلِي??ادي‪ ،‬فلم??ا بل??غ س??ابور من الس??ن س??ت عش??رة س??نة أع ? َد أس??اورت ُ?ه‬
‫بالخروج إليهم واإِل يقاع بهم‪ ،‬وكانت إياد تصيف ب??الجزيرة وتش??تو ب??العراق‪ ،‬وك??ان‬
‫في حبس سابور رجل منهم ُيقال له لقيط‪ ،‬فكتب إلى إياد شعراً ينذرهم به‪ ،‬ويعلمهم‬
‫خبرمن يقصدهم‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫على من في الجزيرة من إياد‬ ‫سالم في الصحيفة من لقـيط‬
‫فال يحسبكم شوك الـ َقـ َتـاد‬ ‫بأن الـلـيث يأتـيكـم دالق‬
‫َي ُجرون الكتائب كالـجـراد‬ ‫أتاكم منه ُم سبـعـون ألـفـا ً‬
‫أوانُ هالككم كهـالك عـاد‬ ‫على خي??ل ستأتـيكـم فـهـذا‬
‫فلم يعبؤا بكتابه‪ ،‬وسراياه تكر نحو العراق و ُت ِغ??ير على الس??واد‪ ،‬فلم??ا تجه??ز الق??وم‬
‫وتحش?دوا لهم‪ ،‬وأنهم‬ ‫َ‬ ‫نحوهم أعاد إليهم كتابا ً يخبرهم في??ه أن الق??وم ق??د عس??كروا‪،‬‬
‫سائرون إليهم‪ ،‬وكتب لهم شعراً أوله‪.‬‬

‫ت لي الهم واألحزان والوجعـا‬ ‫َه ًي ْج ِ‬ ‫يا دار َع ْم َر َة من تذكارها الجـرعـا‬


‫ص قدنصعا‬ ‫أع َ‬
‫أني أرى الرأي إن لم ْ‬ ‫أبلغ إياداً وحلـل فـي سـراتـهـم‬
‫سـ ُرعـا‬ ‫َم َ‬
‫ش ْوا إليكم كأمثال الدَّبـى ُ‬ ‫أال تخافـون قـومـا ً ال أبـا لـكـم‬
‫ش َم الشماريخ من َث ْمالَن ال نصدعـا‬ ‫ُ‬ ‫لو أن جمعه ُم رامـوا بـهـدتـ َهـم‬
‫َر ْح َب الذراع بأمرالحرب مضطلعا‬ ‫فقـلِّـدوا أمـركـم لـلـه دركــم‬
‫فأوقع بهم‪ ،‬فعمهم القتل‪ ،‬فما أف َل َت منهم إال نفر لحقوا بأرض الروم‪ ،‬وخلع بعد ذلك‬
‫أكتاف العرب‪ ،‬فسمي بعد ذلك س?ابوو ذا األكت?اف‪.‬وق?د ك?ان معاوي?ة بن أبي س?فيان‬
‫راسل َ َمنْ بالعراق من تميم ليثبوا بعلي ابن أبي طالب رضي هللا عنه فبلغ ذلك عليا ً‬ ‫َ‬
‫رضوان هللا عليه‪ ،‬فقال قي بعض مقاماته في كالم له طويل‪:‬‬

‫أو يرى الغي في األموررشادا‬ ‫إن َح ّيا ً يرى الصالح فـسـاداً‬


‫أهلك سابو ُر بـالـسـواد أيادا‬ ‫لقريب من الـهـالك كـمـا‬

‫صفحة ‪145 :‬‬

‫وق??د ك??ان س??ابور في مس??يره في البالد أتى على بالد البح??رين‪ ،‬وفيه??ا يومئ ?ذ?‬
‫بنوتميم‪ ،‬فأمعن في قتلهم‪ ،‬وفرت بنوتميم‪ ،‬وش??يخها يومئ??ذ عم??روبن تميم بن م??ر‪،‬‬
‫وله يومئذ ثلثمائة? سنة‪ ،‬وكان يعلق في عمود البيت في قفة قد اتخذت ل??ه‪ ،‬ف??أرادوا‬
‫حمله‪ ،‬فأبى عليهم إال أن يتركوه في ديارهم‪ ،‬وقال‪ :‬أنا هال?ك الي??وم أو غ?داً‪ ،‬وم??اذا‬
‫ص? ْولة ه??ذا المل??ك المس??لط على‬ ‫بقي لي من فسحة العمر‪ .‬ولع??ل هّللا ينجيكم بي من َ‬
‫فص? َّبحت خي??ل س??ابور ال??ديار‪،‬‬
‫الع??رب‪ ،‬فخل??وا عن??ه‪ ،‬وترك??وه على م??ا ك??ان علي??ه‪َ ،‬‬
‫فنظروا إلى أهلها وقد ارتحلوا‪ ،‬ونظروا إلى قف??ة معلق??ة في ش??جرة‪ ،‬وس??مع عم??رو‬
‫صهيل الخيل ووقعه??ا‪ ،‬وهمهم??ة الرج??ال‪ ،‬فأقب??ل يص??يح? بص??وت ض??عيف‪ ،‬فأخ??ذوه‪،‬‬
‫?رم وم??رور األي??ام‬‫وض?ع بين يدي??ه نظ??ر إلى دالئ??ل اله? َ‬
‫وجاءوا به إلى سابور‪ ،‬فلما ُ‬
‫عليه ظاهرة‪ ،‬فقال له سابور‪َ :‬منْ أنت أيها الش?يخ الف?اني‪ .‬ق?ال‪ :‬أن?ا عم?روبن تميم‬
‫بن مر‪ ،‬وقد بلغت من العم??ر م??ا ت??رى‪ ،‬وق??د ه??رب الن??اس من??ك إلِس??رافك في القت??ل‬
‫وآثرت الفناء على يديك ليبقى َمنْ مضى من قومي‪ ،‬ولعل هّللا‬ ‫ُ‬ ‫وشدة عقوبتك إياهم‪،‬‬
‫ملك السماوات واألرض ُيجري على يديك ف??رجهم‪ ،‬ويص??رفك عم??ا أنت بس??بيله? من‬
‫قتلهم‪ ،‬وأنا سائلك عن أمر إن أذ ْن َت لي فيه‪ ،‬فقال له سابور‪ :‬قل ُي ْس?مع من??ك‪ ،‬فق??ال‬
‫له عمرو‪ :‬ما الذي يحملك على قتل رعيتك ورجال العرب‪ .‬فقال س??ابور‪ :‬أقتلهم لم??ا‬
‫أرتكبوا من أخذ بالدي وأهل مملكتي‪ ،‬فقال عم??رو‪ :‬فعل??وا ذل??ك ولس??ت عليهم بقيم‪،‬‬
‫فلما بلغت وقفوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك‪ ،‬قال سابور‪ :‬أقتلهم ألنا مل??و َك‬
‫الفرس نجد في مخزون علمنا وما سلف من أخبار أوائلنا أن العرب س ? ُتدال علين??ا‪،‬‬
‫وتك??ون لهم الغلب??ة على ملكن??ا‪ ،‬فق?ال عم??رو‪ :‬ه??ذا أم??ر تتحقق??ه أم تظن??ه‪ ،‬ق??ال‪ :‬ب??ل‬
‫اتحقق??ه وال ب??د أن يك??ون ذل??ك‪ ،‬ق??ال ل??ه عم??رو‪ :‬ف??إن كنت تعلم ذل??ك فلم تس??يء إلى‬
‫العرب‪ .‬وهّللا ألن ُت ْبقِي على العرب جميعا ً وتحسنَ إليهم فيكافئون عند إدال??ة الدول??ة‬
‫لهم قو َم? َك بإحس??انك‪ ،‬وإن أنت ط??الت ب??ك الم??دة كاف??أوك عن??د مص??ير المل??ك إليهم‪،‬‬
‫فيبقون عليك وعلى قومك‪ ،‬وإن ك??ان األم??ر حق?ا ً كم??ا تق??ول فه??و أح??زم في ال??رأي‪،‬‬
‫وأنف??ع في العاقب??ة‪ ،‬وإن ك??ان ب??اطاًل فلم تتعج??ل اإِل ثم وتس??فك دم??اء رعيت??ك‪ .‬فق??ال‬
‫?دقت في الق??ول‪،‬‬‫قلت‪ ،‬ولق?د ص? َ‬ ‫سابور‪ :‬األمر ص??حيح‪ ،‬وه??و ك??ائن لكم‪ ،‬وال??رأي م??ا َ‬
‫ونصحت في الخطاب‪ ،‬فنادى منادي س??ابور بأم??ان الن??اس‪ ،‬ورف??ع الس??يف‪ ،‬والك??ف‬
‫عن قتلهم‪ ،‬ويقال‪ :‬إن عمراً بقي في هذا العالم بعد هذا الوقت ثم??انين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬
‫أقل من ذلك‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬وسار سابور نحو بالد الشام‪ ،‬ف?افتتح الم??دن‪ ،‬وقت??ل خالئ??ق‬
‫نفس ?ه بال??دخول إلى أرض ال??روم متنك??راً ليع??رف أخب??ارهم‬ ‫من ال??روم‪ ،‬ثم طالبت??ه ُ‬
‫وسيرهم‪ ،‬فتنكر‪ ،‬وسار إلى القسطنطينية‪ ،‬فص??ادف وليم??ة لقيص??ر ق??د اجتم??ع فيه??ا‬
‫الخ??اص والع??ام منهم‪ ،‬ف??دخل في جملتهم‪ ،‬وجلس جملى بعض موائ??دهم‪ ،‬وق??د ك??ان‬
‫فصوره له‪ ،‬فلما جاء قيصر بالصورة أمر بها‬ ‫َّ‬ ‫قيصر أمر مصوراً أتى عسكر سابور‬
‫فصورت على آنية? الش??راب من ال??ذهب والفض??ة‪ ،‬وأتى من ك??ان على المائ??دة ال??تي‬
‫عليها س??ابور بك??أس‪ ،‬فنظ??ر بعض الخ??دم إلى الص??ورة ال??تي على الك??أس وس??ابور‬
‫مقابل له على المائح??ة‪ ،‬فعجب من اتف??اق الص??ورتين‪ ،‬وتق??ارب الش??كلين‪ ،‬فق??ام إلى‬
‫المللك‪ ،‬فأخبرة‪ ،‬فأمر به‪ ،‬فمثل بين يديه غ فسأله عن خبره‪ ،‬فقال‪ :‬أنا من أس??اورة‬
‫سابور استحققت العقوبة ألمر كان م ِّني‪ ،‬فدعاني ذلك إلى الدخول إلى أرضكم‪ ،‬فلم‬
‫صفحة ‪146 :‬‬

‫يقبل ذلك منه‪َ ،‬وقُئدم إلى السيف فأ َق َّر‪ ،‬فجعله في جلد بقرة‪ ،‬وسارقيصر في جن??ود ِه‬
‫ض? َد النخ?ل‪ ،‬وانتهى إلى‬ ‫حتى توس?ط الع?راق‪ ،‬وافتتح? الم?دائن‪َ ،‬و َ‬
‫ش?نَّ الغ?ارات‪َ ،‬و َع َ‬
‫مدينة? جندي يسابور‪ ،‬وقد تحصن بها وجوه فارس‪ ،‬ف??نزل عليه??ا وحض??ر عي??د لهم‬
‫في تلك الليلة التي أشرفوا على فتح المدين?ة? في ص??بيحتها‪ ،‬فأغف??ل الموكل??ون أم??ر‬
‫الشراب منهم‪ ،‬وكان بالقرب من سابور جماعة من أس??اري الف??رس‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سابور‪ ،‬وأخذ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫?ج َعهم‪ ،‬وأم??رهم أن يص??بوا علي??ه ِزقاق?ا َ من‬ ‫فخ??اطبهم أن يح??ل بعض??هم بعض?اً‪ ،‬وش? َّ‬
‫الزيت كانت هناك ففعلوا‪ ،‬فاَل نَ عليه الجلد وتخلص‪ ،‬وأتى المدينة وهم يتحارس??ون‬
‫على سورها فخاطبهم‪ ،‬فعرفوه ورفعوه بالحبال إليهم‪ ،‬ففتح أبواب خزائن الس??الح‪،‬‬
‫وخ??رج بهم فف??رقهم ح?ول مواض?ع من الجيش‪ ،‬وال?روم غ?ارونَ مطمئن?ون‪ ،‬فكبس‬
‫الجيش عند ضرب النواقيس‪ ،‬فأتوه بقيص??ر أس??يراً‪ ،‬فاس??تحياه وأبقى علي??ه‪ ،‬وض? ِ?م‬
‫إليه من أف َل َت من القتل من رجاله‪ ،‬فغرس قيصر بالعراق الزيتون بدالَ مم??ا عض??ده‬
‫من النخل فيها‪ ،.‬ولم يكن ُيعهد بالعراق الزيتون قبل ذلك‪ ،‬وب?نى ش??اذروان مدين?ة?‬
‫تس??تر لنهره??ا‪ ،‬والش??اذروان ه??و المس??ناة العظيم??ة‪ ،‬والك??رمن الحج??ر والحدي??د‬
‫أخ? َرب‪ ،‬في أخب??ار يط??ول ذكره??ا‪ ،‬وانص??رف? قيص??ر نح??و‬ ‫والرص??اص‪ ،‬وعم??ر م??ا ْ‬
‫الروم‪.‬وقد ذكر في بعض األخبار أن سابور َر َب َق قيص??ر‪ ،‬وقط??ع أعص??اب عقبي?ه? أو‬
‫رقمه??ا‪ ،‬وأن ال??روم ال ترب??ق دوابه??ا‪ ،‬وال تلبس الخف??اف المعقب??ة‪،‬وفي? ذل??ك يق??ول‬
‫الحارث بن جندة المعروف بالهرمزان‪ :‬الزيت??ون قب??ل ذل??ك‪ ،‬وب??نى ش??اذروان مدين?ة?‬
‫تس??تر لنهره??ا‪ ،‬والش??اذروان ه??و المس??ناة العظيم??ة‪ ،‬والك??رمن الحج??ر والحدي??د‬
‫أخ? َرب‪ ،‬في أخب??ار يط??ول ذكره??ا‪ ،‬وانص??رف? قيص??ر نح??و‬ ‫والرص??اص‪ ،‬وعم??ر م??ا ْ‬
‫الروم‪.‬وقد ذكر في بعض األخبار أن سابور َر َب َق قيص??ر‪ ،‬وقط??ع أعص??اب عقبي?ه? أو‬
‫رقمه??ا‪ ،‬وأن ال??روم ال ترب??ق دوابه??ا‪ ،‬وال تلبس الخف??اف المعقب??ة‪،‬وفي? ذل??ك يق??ول‬
‫الحارث بن جندة المعروف بالهرمزان‪:‬‬
‫وهم َر َبقوا هر ْقالً بالسواد‬ ‫ه ُم ملكوا جميع الناس طرا‬
‫وهم أخفوا البسيطة من إياد‬ ‫وهم قتلوا أبا قابوس غصبا ً‬

‫وفي فعل سابور وتغريره بنفسه? في دخوله إلى أرض ع??دوه متجسس??ا يق??ول بعض‬
‫المتقدمين من شعراء أبناء فارس‪:‬‬
‫تيرعنها فأضحى غيرمخـتـار‬ ‫ْ‬
‫أخ َ‬ ‫صفواً في أرومـتـه‬ ‫وكان سابور َ‬
‫َح ْزم المنية? من في كيد مـكـار‬ ‫إِذكان بالروم جاسوسأ يجـول بـه‬
‫وزلة سبقت مـن غـير َعـ َّثـار‬ ‫فاستأسروه وكانت كبوة عـجـبـا ً‬
‫أرض العراق على هول وأخطار‬ ‫فأصبح الملِ ُك الرومي معتـرضـا‬
‫كما تجاوب أسد الغاب في الغـار‬ ‫َ‬
‫فراطنَ الفرس باألبواب فافترقـوا‬
‫هّلل لحرك مـن َطـالَّب أوتـار‬ ‫فجذ بالسيف أمرالروم فامتحـقـوا‬
‫من النخيل وما حفوا بمـنـشـار‬ ‫ضـدوا‬ ‫إِذيغرسون من الزيتون ما َع َ‬

‫صفحة ‪147 :‬‬

‫إِيوان كسرى‬
‫وغزا سابور بعد ذلك بالد الجزيرة وامد وغيره??ا من بالد ال??روم‪ ،‬ونق??ل خلق??أ من‬
‫أهله??ا‪ ،‬وأس??كنهم بالد الس??وس وتس??تر? وغيره??ا من م??دن ك??ور األه??واز‪ ،‬فتناس??لوأ‬
‫و َق َطنوا تلك الديار‪ ،‬فمن ذلك الوقت صار الديباج التستري وغيره من أنواع الحرير‬
‫يعمل بتستر‪ ،‬والخ??ز بالس??وس‪ ،‬والس??تور والف??رش ببالد نص??يبين‪ ،‬ومكث إلى ه??ذه‬
‫الغاية‪ ،‬وقد كان َمنْ قبله من ملوك الساسانية? وكث??ير ممن س??لف من ف??ارس األولى‬
‫يسكن بطيسون‪ ،‬وذلك بغربي المدائن من أرض العراق‪ ،‬فسكن س??ابور في الج??انب‬
‫الشرقي من المدائن‪ ،‬وبنى هناك اإليوان المعروف بإيوان كس??رى إلى ه??ذه الغاي??ة‪،‬‬
‫وقد كان أبرويزبن هرمز أتم مواضع من بناء هذا اإلِيوان‪ ،‬وق??د ك??ان الرش??يد ن??ازاَل َ‬
‫على دجلة بالقرب من اإليوان‪ ،‬فسمع بعض الخدم من وراء السرادق يق??ول آلخ??ر‪:‬‬
‫هذا الذي بنى هذا البناء ابن كذا وكذا أراد أن يصعد عليه إلى السماء‪ ،‬فأمر الرشيد‬
‫بعض األس??تاذين من الخ??دم أن ض??ربه مائ??ة َعص ?اً‪ ،‬وق??ال لمن حض??ره‪ :‬إن المل??ك‬
‫نسبة‪ ?،‬والملوك به إخوة‪ ،‬وإن الغيرة بعثتني على أدب??ة لص??يانة المل??ك‪ ،‬وم??ا يلح??ق‬
‫الملوك للملوك‪.‬وذكر عن الرشيد بع?د القبض على البرامك??ة أن?ه بعث إلى يح?يى بن‬
‫خالد بن برمك‪ ،‬وهو في اعتقال??ه‪ ،‬يش??اوره في َه??دْ م اإِل ي??وان‪ ،‬فبعث إلي??ه‪ :‬ال تفع??ل‪،‬‬
‫فقال الرشيد لمن حض??ره‪ :‬في نفس??ه لمجوس??ية‪ ،‬والحن??و عليه??ا‪ ،‬والمن??ع من إزال??ة‬
‫آثاره?ا‪ ،‬فش?رع في هدم?ه‪ ،‬ثم نظ?ر ف?إذا يلزم?ه في هدم?ه أم?وال عظيم?ة ال تض?بط‬
‫كثرة‪ ،‬فأمسك عن ذلك‪ ،‬وكتب إلى يحيى يعلمه ذلك‪ ،‬فأجابه بأن ينفق في هدم??ه م??ا‬
‫بل??غ من األم??وال‪ ،‬ويح??رص على فعل??ه‪ ،‬فعجب الرش??يد من تن??افي كالم??ه في أول??ه‬
‫?رت ب??ه في األول ف??إني‬ ‫وآخره‪ ،‬فبعث إلي??ه يس??أله عن ذل??ك‪ ،‬فق??ال‪ :‬نعم‪ ،‬أم??ا م??ا أش? ُ‬
‫أردت بقاء الذكرألمة اإِل سالم و ُب ْعدَ الصيت‪ ،‬وأن يكون من ير ُد في األعص??ار ويط??رأ‬
‫من األمم في األزم??ان ي??رى مث??ل ه??ذا البني??ان العظيم فيق??ول‪ :‬إن أم??ة ه??ذا بنيانه??ا‬
‫فأزالت رس??ومها واحت??وت على ملكه??ا‪،‬ألم??ة عظيم??ة ش??ديحة منيع??ة‪ ،‬وأم??ا ج??وابي‬
‫الثاني فأخبرت أنه قد ش??رع في هَدم??ه ثم عج??ز عن??ه‪ ،‬ف??أردت نفي العج??ز عن أم??ة‬
‫اإِل سالم‪ .‬لئال يقول من وصفت ممن يرد في األعصار‪:‬إن هذه األمة عجزت عن هدم‬
‫ما ب َن ْته فارس‪ ،‬فلما بلغ الرشيد ذلك من كالمه قال‪ :‬قاتله هللا تعالى فما سمعته? ق??ال‬
‫صدق فيه‪ ،‬وأعرض عن هدمه‪ ،‬وسابور هو الذي بنى مدين ?ة? نيس??ابور‬ ‫شيئا ً قط إال َ‬
‫ببالد خراسان وغيرها بفارس والعراق‪.‬‬

‫أردشير‬

‫ثم ملك بعد سابور بن هرمز أخ??وه أردش??يربن هرم??ز‪ ،‬وك??ان ملك??ه إلى أن خل??ع‬
‫أربعين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده سابور بن س??ابور‪ ،‬خمس س??نين وقي??ل‪ :‬وأربع??ة أش??هر‪،‬‬
‫وكانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب وفيه يقول شاعر إياد‪:‬‬
‫قباب إيا ٍد حولها الخيل والنـ َعـ ْم‬
‫ُ‬ ‫على رغم سابور بن سابورأصبحت‬

‫صفحة ‪148 :‬‬

‫ويقال‪ :‬إن هذا الشعر قال??ه نف??ر ق??د لحق??وا ب??أرض ال??روم حين أوق??ع بهم س??ابورذو‬
‫األك َت اف على ما ذكرنا ثم تراجعوا إلى ديارهم‪ ،‬وانضافوا إلى ربيعة من ولد بك??ربن‬ ‫ْ‬
‫وش ? َّن ْت الغ??ارات في مل??ك س??ابور بن‬
‫كانت قد غلبت على السواد‪َ ،‬‬‫َ‬ ‫وائل‪ ،‬وإن ربيعة‬
‫سابور‪ ،‬فقال شاعر إياد في ذلك م??ا وص??فنا‪ ،‬وهم داخل??ون في جمل??ة ربيع??ة‪ ،‬وقي??ل‬
‫غير ذلك‪ ،‬وهللا أعلم بالصحيح منه‪.‬‬

‫بهرام ويزدجرد‬
‫ثم ملك بعده بهرام بن سابور‪ ،‬وكان ملكه عشرسنين‪ ،‬وقيل‪ :‬إحدى عشرة سنة‪.‬ثم?‬
‫ملك بع??ده يزدج??رد بن س??ابور‪ ،‬المع??روف ب??األثيم‪ ،‬وك??ان ملك??ه إلى أن هل??ك إح??دى‬
‫وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية? عشر يوماً‪ ،‬وقيل‪ :‬اثنتين وعشرين سنة غير‬
‫شهرين‪.‬‬

‫بهرام جور‬
‫ثم ملك بعده بهرام بن يزدجرد وهو بهرام جور‪ ،‬فكان ملكه ثالث?ا ً وعش??رين س??نة?‬
‫وقيل‪ :‬تسع عش??رة س??نة َو َم َل? َك وه??و ابن عش??رين س??نة‪ ،‬وغ??اص ه??و وفرس??ه في‬
‫حومة حمأة في بعض أيام صيده‪ ،‬فجزعت عليه فارس‪ ،‬لما ك??ان َع َّم َه??ا من عدل??ه‪،‬‬
‫وشملها من إحسانه ورأفته برعيته‪ ،‬واستقأمة األمور في أيامه‪ ،‬وقد كان خرج في‬
‫أيامه خاقان ملك الترك إلى الصغد‪ ،‬وشن الغارات في بالده‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه أتى إلى بالد‬
‫الري‪ ،‬وإن بهرام كتب أجناده وتنكب الطريق في اليس?ير من جري?دة أص?حابه ح?تى‬
‫أنى على خاق??ان في جن??وده‪ ،‬وس??ار نح??و الع??راق برأس??ه‪ ،‬فهابت??ه مل??وك األرض‪،‬‬
‫وهادنه قيصر‪ ،‬وحمل إليه األموال‪ ،‬وقد كان بهرام قب??ل ذل??ك دخ??ل إلى أرض الهن??د‬
‫متعرفاَ‪ ،‬واتصل بشبرمة ملك من مل??وك الهن??د‪ ،‬ف??أبلى بين يدي??ه‬‫َ‬ ‫متنكراً‪ ،‬وألخبارهم‬
‫فزوج??ه ابنت??ه على أن??ه بعض أس??اورة‬ ‫في ح??رب من حروب??ه‪ ،‬وأمكن??ه من ع??دوه‪ً ،‬‬
‫فارس‪ ،‬وكان نشؤه مع العرب بالحيرة‪ ،‬وكان يق??رل الش??عر بالعربي??ة ويتكلم بس??ائر‬
‫اللغات‪ ،‬وكان خاتمه مكتوب‪ :‬باألفعال تعظم األخبار‪ .‬وله أخبار في أخذه المل??ك بع??د‬
‫بعين وأخبار غ??ير ذل?ك‪ .‬وس??ير يط??ول‬ ‫س َ‬
‫أبيه وتناوله التاج والراية‪ .‬وقد وضعا بين َ‬
‫بالنش?اب في أيام??ه‪ ?.‬رمن‬‫ِ‬ ‫ذكرها‪ .‬وألية علة سمي بهرام جور‪.‬وما أحدث من الرمي‬
‫النظم في داخل القوس وخارجها‪ .‬وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزم??ان‬
‫والكتاب األوس?ط‪ .‬وم?ا ق?الت الف?رس وال?ترك في بني?ة? الق?وس‪ ،‬وأنه?ا مركب?ة على‬
‫الطبائع األربع كطبائع اإِل نسان‪ ،‬وما ذهب??وا إلي??ه من أن??واع ال??رمي وكيفيت??ه‪ ?،‬ومم??ا‬
‫حفظ من شعربهرام جورق قولُه يوم ظفره بخاقان وقتله له‪:‬‬

‫هرام‬
‫كأنك لم تسمع بصوالت َب َ‬ ‫أقول له لما فضضت جموعه‬
‫وماخير ُم ْلكٍ اليكون له حام‬ ‫فإ ِّن َي حامي ُم ْلكِ فارس كلهـا‬

‫صفحة ‪149 :‬‬

‫وقوله أيضاً‪.‬‬
‫بأ َن ُه ُم َقد اضحوا لي عبـيدا‬ ‫لقد علم األنام بـكـل ِّ أرض‬
‫المسو َد والمسـودا‬
‫َّ‬ ‫عزيزهم‬ ‫ملكت ملوكهم‪ ،‬وقهرت منهم‬
‫مخافتي الورودَا‬
‫َ‬ ‫وترهب من‬ ‫فتلك أسودهم ُتقعِي حـذاري‬
‫عبأت له الكتائب والجنـودا‬ ‫وكنت إذا تشاوس ملك أرض‬
‫ب??ه يش??كو السالس??ل والقـيودا‬ ‫فيعطي??ني ال َم َقـاد َة أو أوافـي‬
‫وله أشعار كثيرة بالعربي??ة والفارس??ية? أعرض??نا عن ذكره??ا في ه??ذا الموض??ع طل َب? ا َ‬
‫لإِل يجاز‪.‬‬
‫يزدجرد‬

‫ثم ملك بعده يزدجردبن بهرام‪ ،‬وكان ملكه تسع عشرة سنة‪ .‬وقيل‪:‬ثم??ان عش??رة‬
‫ِبن والطين بناحي??ة‬ ‫سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما ً وقد ك??ان ب??نى حائط?ا ً ب??الل ِ‬
‫الباب واألبواب على حسب م??ا قممن??ا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب في ذكرن??ا للب??اب‬
‫واألبواب وجبل القبخ‪ ،‬وأحضر يزدجرد بن بهرام رجالً من حكماء عص??ره ك??ان في‬
‫أقاصي مملكته آخذاً من أخالقهم ومقتبس الرأي منه يس??وس ب??ه رعيت??ه‪ ،‬فق??ال ل??ه‬
‫ص?اَل ح المل?ك‪ .‬فق?ال‪ :‬الرف?ق‬ ‫يزدجرد وقد مث?ل بين يدي?ه‪ ?:‬أيه?ا الحكيم الفاض?ل‪ ،‬م?ا َ‬
‫بالرعية‪ ،‬وأخ??ذ الح??ق منهم من غ??ير مش??قة‪ ،‬والت??ودد إليهم بالع??دل‪ ،‬وأمن الس??بل‪،‬‬
‫وإنصاف المظلوم من الظالم‪ ،‬قال‪ َ:‬فما ص??الح أم??ر المل??ك‪ .‬فق??ال‪ :‬وزراؤه وأعوان??ه‬
‫فإنهم إن صلحوا صلح‪ ،‬وإن فسحوا فسد‪ ،‬وقال ل??ه يزدج??رد‪ :‬إن الن??اس ق??د أك??ثروا‬
‫شبها وينش??ئها‪ ،‬وم??ا ال??ذي يس??كنها وي??دفنها‪،‬‬ ‫في أسباب الفتن‪ ،‬فصف لي ما الذي َي ُ‬
‫شبها ضغائن وينشئها جرأة عامة ولدها اس?تخفاف بخاص?ة‪ ،‬وأك?دها انبس?اط‬ ‫قال‪َ :‬ي ُ‬
‫األلس??ن بض??مائر القل??وب‪ ،‬وإش??فاق موس??ر‪ ،‬وأم??ل ُم ْع ِس ?ر‪ ،‬وغفل??ة ملت??ذ‪ ،‬ويقظ??ه‬
‫محروم‪ ،‬والذي يس?كنها أخ?ذ ال ُع?دَ ة لم?ا ُي َخ? اف قب?ل حلول?ه‪ ،‬وإيث?ار الج?د حين يلت?ذ‬
‫الهزل‪ ،‬والعمل بالحزم في الغضب والرضا‪.‬ثم ملك بعده هرمز بن يزدجرد‪ ،‬فنازع??ه‬
‫وولي المل??ك‪ ،‬وه??و ف??يروز بن يزدج??رد بن به??رام‪ ،‬وك??ان مل?ك‬ ‫َ‬ ‫أخوه فيروز‪ ،‬فقتل??ه‬
‫إلى أن هلك على يدي ملك الهياطلة أخشنواز بمرو ال??روذ من بالد حراس??ان‬ ‫فيروز ِ‬
‫س??بعا َ وعش??رين س??نة‪ ?،‬والهياطل??ة هم الص??غد‪ ،‬وهم بين بخ??ارى وس??مرقند‪.‬ثم مل??ك‬
‫بالس بن فيروز الملك‪ ،‬وكان ملكه أربع سنين‪.‬‬
‫ثم ملك قباذ بن فيروز‪ ،‬وفي أيامه ظهر مزدك الزن??ديق‪ ،‬وإلي??ه تض??اف المزدكي??ه‪،‬‬
‫ول??ه أخب??ار م??ع قب??اذ‪ ،‬وم??ا أحدث??ه في العام??ة من الن??واميس والحي??ل إلى أن قتل??ه‬
‫أنوشروان في ملكه‪ ،‬وكان ملك قباذ إلى أن هلك ثالثا ً وأربعين سنة?‪.‬‬

‫أنو شروان‬
‫ثم ملك بعده ولده أنوشروان بن قباذ بن فيروز ثمانيا ً وأربعين سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬س??بعا ً‬
‫وأربعين سنة وثمانية أشهر‪ ،‬وقد كان قياذ خلع من ملكه وأجلس بدل?ه أخ ل?ه يق?ال‬
‫له جاماسب نحواً من سنتين‪ ،‬ألمر كان من َم ْزدك وأصحابه‪ ،‬فظاهر أنوشروان‬
‫صفحة ‪150 :‬‬

‫بزرجمهر? بن سرحو حتى أعيد قباذ إلى ملكه في خبر طويل‪ ،‬ولما مل??ك أنوش??روان‬
‫قتل مزدك وأتبعه بثمانين ألفا ً من أص?حابه‪ ،‬وذل?ك بين ح?ادر والنه??روان من أرض‬
‫العراق‪ ،‬فسمي من ذلك اليوم أنوشروان‪ ،‬وتفسير ذل??ك جدي??د المل??وك‪ ،‬وجم??ع أه??ل‬
‫مملكت??ه على دين المجوس??ية‪ ?،‬ومنعهم النظ??ر والخالف والحج??اج في المل??ل‪ ،‬وس??ار‬
‫نحو الباب واألبواب وجب??ل القبخ لم??ا ك??ان من غ??ارات من هنال??ك من المل??وك على‬
‫بالده‪ ،‬فب???نى الس???ور في البح???ر على أزق??اق البق ??ر المنفوخ ??ة بالص ??خر والحدي???د‬
‫والرصاص‪ ،‬فكلما ارتفع البناء نزلت تلك األزقاق إلى أن استقرت في َق? َ‬
‫?رار البح??ر‪،‬‬
‫وقد ارتفع السور على الماء‪ ،‬وغاصت الرجال حينئذ بالخناجر والس??كاكين إلى تل??ك‬
‫باق إلى وقتنا‬‫األزقاق فشقتها‪ ،‬وتمكن السور على وجه الماء في قرار البحر‪ ،‬وهو ٍ‬
‫هذا‪ ،‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ،‬ويسمى هذا الموضع من السور في البح??ر‬
‫الصد مانعا ً للمراكب في البحر إن وردت من بعض األعداء‪ ،‬ثم م??د الس??ور في ال??بر‬
‫ما بين جبل القبخ والبحر‪ ،‬وجعل في??ه األب??واب مم??ا يلي الكف??ار‪ ،‬ثم م??د الس??ورعلى‬
‫جب??ل القبخ على ما ق??دمنا فيم??ا س??لف من الكت??اب عن??د ذكرن??ا ألخب??ار جب??ل القبخ‬
‫والباب‪ ،‬وكان ألنوشروان خبر مع ملوك الخزر إلى أن تأتى له ه??ذا البن??اء‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬
‫إن??ه ب??نر ذل??ك بالرهب ?ة? وإذع??ان من هن??اك من األمم ل??ه‪.‬وانص??رف? أنوش??روان إلى‬
‫العراق‪ ،‬ووفدت عليه رسل الملوك وهداياها والوفود من الممالك‪ ،‬وكان فيمن وف??د‬
‫إليه رسول لملك الروم قيص??ر به??دايا وألط??اف‪ ،‬فنظ??ر الرس??ول إلى إيوان??ه وحس??ن‬
‫بنيانه? واعوجاج في ميدانه‪ ?.‬فقال‪ :‬كان يحتاج ه??ذا الص??حن أن يك??ون مربع?اً‪ ،‬فقي??ل‬
‫له‪ :‬إن عجوز لها م??نزل? من ج??انب األعوج??اج من??ه‪ ،‬وإن المل??ك أراده?ا على بيع??ه‪.‬‬
‫وأرغبها‪ ،‬ف??أ َب ْت‪ ،‬فلم يكره??ا المل??ك‪ ،‬وبقي االعوج??اج من ذل??ك على م??ا ت??رى‪ ،‬فق??ال‬
‫الرومي‪ :‬هذا االعوجاج االن أحسن من االستواء‪.‬وسار أنوش??روان في بالده‪ ،‬ودار‬
‫مملكت??ه‪ ،‬ف??أحكم البني??ان‪ ،‬وش??يد القالع والحص??ون‪ ،‬ورتب الرج??ال وغ??در بقيص??ر‪?،‬‬
‫فسار نحو الجزيرة‪ ،‬فافتتح ما هنالك من المدن‪ ،‬وانتهى إلى الفرات فعبر إلى الشام‬
‫فافتتح? بها المدن‪ ،‬وكان مما افتتح? بالد حلب َوقِ َّن ْس ? ِرين وحمص وفامي??ة‪ ?،‬وهي بين‬
‫ت لقيص??ر فافتتحه??ا‪،‬‬ ‫أنطاكية وحمص‪ ،‬وسار إلى أنطاكية وحاصرها‪ ،‬وفيه??ا ابن أ ِخ ِ‬
‫وافتتح مدين ?ة? عظيم??ة كث??يرة العم??ران عجيب??ة البني??ان ك??انت في س??احل أنطاكي??ة‬
‫س?لُوقية‪ ،‬وأقب?ل يفتتح? الم?دائن‬ ‫رسومها بينة إلى هذه الغاي??ة‪ ،‬وأثره?ا ق?ائم‪ ،‬ت??دعى َ‬
‫??ذل الس??يف‪ ،‬وبث‬ ‫بالش??ام وأرض ال??روم‪ ،‬ويغنم الغن??ائم والج??واهر واألم??وال َو َب َ‬
‫عساكره وسراياه‪ ،‬فهادن?ه قيص?ر‪ ،‬وحم?ل إلي?ه الخ?راج والجزي?ة‪ ،‬فقب?ل ذل?ك من?ه‪،‬‬
‫ونقل من الشام المرمر والرخ??ام وأن??واع الفسيفس??اء واألحج??ار‪ ،‬والفسيفس??اء‪ :‬هي‬
‫شيء يطبخ من الزجاج واألحجار ذو بهج??ة وأل??وان ي??دخل فيم??ا ف??رش من األرض‬
‫والبنيان كالفصوص‪ ،‬ومنه على هيئة الجامات شاف‪ ،‬وحمل ذلك إلى العراق‪ ،‬فبنى‬
‫داخل َ سورها بما ذكرن??ا من‬ ‫مدينة? نحو المدائن وسماها برومية‪ ?،‬وجعل ببيانها وما َ‬
‫أنواع األحجار‪ ،‬يحكي بذلك أنطاكي??ة وغيره??ا من الم??دن في الش??ام‪ ،‬وه??ذه المدين?ة?‬
‫زوجه خاق??ان‬ ‫وباق يعرف بما ذكرنا‪َ ،‬و َ‬ ‫ٍ‬ ‫سورها من طين قائم إلى هذا الوقت خراب‪،‬‬
‫ملك ال??ترك بابنت?ه? وابن??ة أخي??ه‪ ،‬وهادنت??ه مل??وك الس??ند والهن??د والش??مال والجن??وب‬
‫وسائر الممالك‪ ،‬وحملت إليه الهدايا‪ ،‬ووفدت إليه الوفود خوفا ً من صولته وكثرة‬
‫صفحة ‪151 :‬‬

‫جنوده وعظم مملكته‪ ،‬ولم??ا ظه??رمن فعل??ه بالممال??ك‪ ،‬وقتل??ه المل??وك‪ ،‬وانقي??اده إلى‬
‫العدل‪ ،‬وكتب إليه ملك الصين‪ :‬من فغفور ملك الصين صاحب قصر الدر والج??وهر‪،‬‬
‫ال?ذي يج?ري في قص?ره نه?ران يس?قيان الع?ود والك?افور ال?ذي توج?د رائحت?ه على‬
‫فرسخين‪ ،‬والذي تخدمه بنات ألف ملك‪ ،‬والذي في مربطه? ألف فيل أبيض إلى أخبه‬
‫كسرى أنو شروان‪ ،‬وأهدى إليه فرس?ا ً من در منض??داً‪ ،‬عين??ا الف?ارس والف??رس من‬
‫ياقوت أحمر‪ ،‬وقائم سيفه من زمرد منضد بالجوهر‪ ،‬وثوب حرير ص??يني عس??جدي‬
‫في??ه ص??ورة المل??ك جالس?ا ً في أيوان??ه‪ ،‬وعلي??ه حليت??ه وتاج??ه‪ ،‬وعلى رأس??ه الخ??دم‪،‬‬
‫المذاب‪ ،‬والصورة منسوجة? بالذهب‪ ،‬وأرض الثوب الزورد‪ ،‬في س??فط من‬ ‫ُّ‬ ‫وبأيديهم‬
‫ذهب‪ ،‬تحمله جارية تغيب في شعرها‪ ،‬تتألأل جمااَل َ‪ ،‬وغير ما ذكرن??ا من عج??ائب م??ا‬
‫يحمل من أرض الصين وتهديه? الملوك إلى ْأكفائها‪ ،‬وكتب إليه ملك الهند‪ :‬من مل??ك‬
‫الهند‪ ،‬وعظيم أراكنه المشرق وصاحب قص??ر ال??ذهب وأب??واب الي??اقوت وال??در‪ .‬إلى‬
‫أخيه ملك فارس وصاحب التاج والراية كسرى أنو ش?روان‪ ،‬وأه?دى إلي?ه أل?ف َمنً‬
‫يختم على الش??مع فت??بين‬‫ِ‬ ‫من عود هندي يذوب في النار كالش??مع‪ ،‬ويختم علي??ه كم??ا‬
‫في?ه الكتاب?ة‪ ،‬وجام?ا من الي?اقوت األحم?ر فتح?ه ش?بر ممل?وءاَ دراً‪ ،‬وعش?رة أمن?ان‬
‫كافور كالفستق وأكبر من ذلك‪ ،‬وجارية طوله?ا س?بعة أذرع تض?رب أش?فار عينيه?ا‬
‫خدها‪ ،‬وكأن بين أجفانها لمع??ان ال??رق من بي??اض مقلتيه??ا م??ع ص??فاء لونه??ا ودق??ة‬
‫تخطيطها وإتقان تشكيلها مقرون?ة? الح?اجبين له?ا ض?فائر تجره?ا وفرش?ا ً من جل?ود‬
‫شي‪ ،‬وكان كتابه في لحاء الشجر المعروف‬ ‫الو ْ‬
‫الحيات ألين من الحرير وأحسن من َ‬
‫بالكاذي‪ ،‬مكتوب بالذهب األحمر‪ ،‬وهذا الشجر يك??ون ب??أرض الهن??د والص??ين‪ ،‬وه??و‬
‫نوع من النبات عجيب ذو لون حسن وريح? طيب‪ ،‬لحاؤهُ أرق من ال??ورق الص??يني‪،‬‬
‫تتكاتب فيه ملوك الصين والهند‪.‬وورد? عليه وهو في عسكره محاربا ً لبعض أعدائ??ه‬
‫كتاب ملك التبت‪:‬من خاقان ملك تبت ومشارق األرض المتاخمة للصين والهن??د إلى‬
‫أخيه المحمود في السيرة والقدر‪ ،‬ملك المملكة المتوسطة لألقاليم الس??بعة‪ .‬وأه??دى‬
‫إليه أنواعا ً من العجائب التي تحمل من أرض تبت منها مائة جوش?ن تبتي??ة‪ ،‬ومائ?ة‬
‫قطعة تجافيف‪ ،‬ومائة ترس تبتية مذهبة‪ ،‬وأربع??ة آالف منٍّ من المس??ك الخزائ??ني‬
‫في ن??وافج غزالن??ه‪.‬وق??د ك??ان أن??و ش??روان س??ار إلى م??اوراء نه??ر َب ْل َخ‪ ،‬وانتهى إلى‬
‫ختالن‪ ،‬وقت??ل أخش??نواز مل??ك الهياطل??ة بج??ده ف??يروز‪ ،‬ومل??ك مملكت??ه فأض??افها إلى‬
‫ُم ْلكه‪.‬مذهبة‪ ?،‬وأربعة آالف منٍّ من المسك الخزائني? في نوافج غزالنه‪.‬وقد ك??ان أن??و‬
‫ش???روان س???ار إلى م???اوراء نه???ر َب ْل َخ‪ ،‬وانتهى إلى ختالن‪ ،‬وقت???ل أخش???نواز مل???ك‬
‫الهياطلة بجده فيروز‪ ،‬وملك مملكته فأضافها إلى ُم ْلكه‪.‬‬
‫وقد كان نق??ل إلي??ه من الهن??د كت??اب كليل??ة وثمن??ة والش??طرنج‪ ،‬والخض??اب األس??ود‬
‫المعروف بالهندي‪ ،‬وهو الخضاب الذي يلم?ع س?واده فيم?ا يظه?رمن أص?ول الش?عر‬
‫سنة كاملة بصبغة سوداء‪ ،‬وال ينصل? منه ش??يء‪ .‬ويحكي أن هش??ام بن عب??د المل??ك‬
‫بن مروان كان يخضب بهذا الخضاب‪.‬‬
‫وكان ألنو ش??روان مائ??دة من ال??ذهب عظيم??ة عليه??ا أن??واع من الج??واهر مكت??وب‬
‫عليها من جوانبه??ا‪ :‬ليهن??ه طعام??ه َمنْ أكل??ه من ِحلِّه‪ ،‬وع??اد على ذوي الحاج??ة من‬
‫فضله‪ ،‬ما أكلته وأنت تشتهيه? فقد أكلته‪ ،‬وما أكلته وأنت ال تشتهيه? فقد أكلك‪ ،‬وكان‬
‫صفحة ‪152 :‬‬

‫له خواتم أربعة‪ :‬خاتم للخراج فصه من العقيق ونقشه العدل‪ ،‬وخاتم للض??ياع فص??ه‬
‫فيروزج ن ْقشه العم??ارة‪ ،‬وخ??اتم للمعون??ة فص??ه ي??اقوت كحلي نقش??ه الت??أني‪ ،‬وخ??اتم‬
‫للبريد فصه ياقوت أحمر يتقد كالنار نقشه الرجاء‪َ ،‬و َوضع أنو شروان على العراق‬
‫وضائع الخراج فألزم كل ج??ريب من الس??واد من م??زارع الحنط??ة والش??عير درهم?اً‪،‬‬
‫واألرز نصفا ً وثلثاً‪ ،‬ولكل أربع نخالت فارسية ثرهماً‪ ،‬وكل ست نخالت دقل درهماً‪،‬‬
‫وكل ست أصول زيتون درهماً‪ ،‬والكرم ثمانية? دراهم‪ ،‬والرطب س??بعة دراهم‪ ،‬فه??ذه‬
‫سبعة أنواع من الغالت‪ ،‬وترك ما عداها إذ كانت لقضم الناس والبه??ائم‪ ،‬وك??ان أن??و‬
‫شروان يدعى كسرى الخير‪ ،‬وقد ذكرته الشعراء في أشعارها‪ ،‬ففي ذلك يقول عدي‬
‫بن زيد العبادي من كلمة‪:‬‬
‫ان‪ .‬أم أين قــبـــلـــه ســـابـــور‬ ‫أين كـسـرى خـير الـمـلـوك أنــوشـــرو‬
‫فولّى الملك عنه‪ ،‬فبابه مهجور‬ ‫لم َي َه ْبه ريب المنون‬
‫فأ ْل َو ْت به الصبا والدبور‬ ‫حين ولِّ ْوا كأنهم ورق جف‬
‫وجلس أنوشروان يوما ً للحكماء ليأخذ من آدابهم فقال لهم وق??د أخ??ذوا م??راتبهم‬
‫في مجلسه‪ُ :‬دلُّوني على حكمة فيها منفعة لخاصة نفسي وعأمة رعي??تي‪ ،‬فتكلم ك??ل‬
‫ضره من الرأي‪ ،‬وأنو شروان مطرق يتفكر في أق??اويلهم‪ ،‬ف??انتهى‬ ‫واحد منهم بما َح َ‬
‫القول إلى بزرجمه?ر? بن البختك??ان‪ ،‬فق??ال أيه??ا المل??ك أن??ا ج??امع ل??ك ذل??ك في اثن??تي‬
‫عشرة كلم??ة‪ ،‬فق?ال‪ :‬ه??ات‪ ،‬فق?ال‪ :‬أولهن تق??وى هللا في الش??هوة والرغب??ة والرهب??ة‬
‫والغضب والهوى‪ ،‬فاجعل ما عرض من ذلك كله هّلل ال للناس‪ ،‬والثاني??ة الص??دق في‬
‫ش?ورة‬ ‫ت والش??روط والعه??ود والمواثي??ق‪ ،‬والثالث??ة َم ُ‬ ‫الق??ول والعم??ل والوف??اء بال ِع? َدا ِ‬
‫العلماء فيما يح??دث من األم??ور‪ ،‬والرابع??ة إك??رام العلم??اء واألش??راف وأه??ل الثغ??ور‬
‫ض?اة والفحص عن‬ ‫والق?واد وال ُك َّتاب والخ??ول بق?در من??ازلهم‪ ،‬والخامس??ة التعه?د للقُ َ‬
‫العمال محاسبة عادلة‪ ،‬ومج?ازاة المحس?ن منهم بإحس?انه والمس?يء على إس?اءته‪،‬‬
‫ؤالسادسة تعهد أهل السجون بال َع ْرض لهم في األيام لتستوثق من المسيء وتطل??ق‬
‫البريء‪ ،‬والس??ابعة تع ُّهد س??بيل? الن??اس وأس??واقهم وأس??عارهم وتج??ارتهم‪ ،‬والثامن??ة‬
‫حسن تأديب الرعية على الجرائم وإقأمة الحدود‪ ،‬والتاس??عة إع??داد الس??الح وجمي??ع‬
‫آالت الحرب‪ ،‬والعاشرة إكرام الولد واألهل واألقارب وتفقد م??ا يص??لحهم‪ ،‬والحادي??ة‬
‫عشرة إذك?اء العي??ون في الثغ?ور ليعلم م??ا يتخ??وف فيؤخ??ذ ل?ه أهبت?ه قب?ل هجوم?ه‪،‬‬
‫والثانية عشرة تفقد الوزراء والخ??ول واالس??تبدال ب??ذي الغش والعج??ز عنهم‪ ،‬ف??أمر‬
‫أنوش???روان أن يكتب ه???ذا الكالم بال???ذهب‪ ،‬وق???ال‪ :‬ه???ذا كالم في???ه جوام???ع أن???واع‬
‫السياسات الملوكية‪.‬وكان مما حفظ من كالم أنوشروان وحكمته أنه سثل‪ :‬م??ا أعظم‬
‫الكنوز قدراً‪ ،‬وأنفعه??ا عن??د االحتي??اج إليه??ا‪ .‬فق??ال‪:‬مع??روف أودعت??ه األح??رار‪ ،‬وعلم‬
‫تورثه? األعقاب‪.‬وقيل ألنو ش??روان‪َ :‬منْ أط??ول الن??اس عم??راً‪ .‬فق??ال‪ :‬من ك??ثر علم??ه‬ ‫ِ‬
‫فتأدب به من بعده أومعروفه فيشرف ب??ه عقب?ه‪.‬وأن??و ش?روان ال?ذي يق?ول‪ :‬اإِل نع?ام‬
‫ح‪ ،‬والش??كر والدة‪ ،‬والمنعم ه??و الجاع??ل‪ .‬للش??اكر إلى ش??كره س??بيالً‪.‬وه?و? ال??ذي‬ ‫لِ َق??ا ٌ‬
‫يقول‪ :‬ال تع??دنَّ الحرص??اء في األمن??اء‪ ،‬وال الك??ذابين في األح??را ر‪.‬وق??ال أنوش??روان‬
‫يوما ً لبزرجمهر‪َ :‬منْ يصلح من ولدي للملك فأظهر ترشيحه واإليماء إليه‪ ،‬فقال‪:‬ال‬
‫صفحة ‪153 :‬‬

‫أعرف ولدك‪ ،‬ولكني أصف لك من يصلح للملك‪ :‬أسماهم للمع??الي‪ ،‬وأطلبهم لألدب‪،‬‬
‫وأنجزعهم من العامة‪ ،‬وأرأفهم بالرعية‪ ،‬وأوصلهم للرحم‪ ،‬وأبع??دهم من الظلم فمن‬
‫كانت هذه صفته فهوحقيق بالمل??ك‪.‬ق??ال االمس??عودي‪ :‬وق??د ذكرن??ا في كت??اب الزل??ف‪،‬‬
‫الخصال َ التي يس??تحق به??ا ال ُم ْل? َك َمنْ وج??دت في??ه‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا عن حكم??اء الف??رس‬
‫وأسالفها في ذلك وغيره??ا من حكم??اء اليون??انيين ك??أفالطون‪ ،‬وم??ا ذك??ره في كت??اب‬
‫السياسة المدنية? وغيره ممن تأخرعن عصره‪.‬وذكر عن بزرجمه ?ر? أن??ه ق??ال‪ :‬رأيت‬
‫من أنو شروان خصلتين متباينتين لم أر مثلهما منه‪ .‬جلس يوما ً للناس فدخل رج??ل‬
‫من خاصة أهله ف َن ّحاه وزيره‪ ،‬فأمر به أن يق??ام ويحجب عن??ه س??نة لتعدي??ه المرتب?ة?‬
‫التي رسمت له‪ ،‬وازدياده فيها عن مرتبة? غيره في المجلس‪ ،‬ثم رأيت??ه يوم ?ا ً ونحن‬
‫عن??ده في س??ر من ت??دبير? ش??يء من المملك??ة‪َ ،‬و َخد ُم??ه خل??ف فراش??ه وس??ريرملكه‬
‫يتحدثون‪ ،‬فارتفعت أصواتهم حتى شغلونا عن بعض ما كنا فيه‪ ،‬فقلت ل??ه وأخبرت??ه‬
‫بتفاوت ما بين الحالتين‪ ،‬فقال لي‪ :‬ال تعجب فنحن ملوك على رعيتنا‪ ،‬وخدمنا ملوك‬
‫على أرواحنا ينالون منا في َخلوتنا م?اال حيل?ة لن?ا مع?ه في الح?رز منهم وك?ان أن?و‬
‫شروان يقول‪ :‬الملك بالجند‪ ،‬والجند بالم??ال‪ ،‬والم??ال ب??الخراج‪ ،‬والخ??راج بالعم??ارة‪،‬‬
‫والعم??ارة بالع??دل‪ ،‬والع??دل بإص??الح العم??ال‪ ،‬وإص??الح العم??ال باس??تقامة ال??وزراء‪،‬‬
‫أم???ور نفس???ه واقت???داره على تأديبه???ا ح???تى يملكه???ا وال‬
‫َ‬ ‫ورأس الك???ل تف ُّقد المل???ك‬
‫ص ُر من كثرة الجنود‪ ،‬وعدل الملك أنفع من‬ ‫تملكه‪.‬وكان يقول‪ :‬صالح أمر الرعية أ ْن َ‬
‫خصب الزمان‪.‬وك??ان يق??ول‪ :‬أي??ام الس??رور كلمح البص??ر‪ ،‬وأي??ام الح??زن تك??اد تك??ون‬
‫شهوراً‪.‬قال االمسعودي‪ :‬وألنو شروان س??ير وأخب??ار حس??ان‪ ،‬ق??د أتين??ا على ذكره??ا‬
‫فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وما كان منه في مسيره? في سائر أسفاره‪ ،‬وما بني? من المدن‬
‫والحصون‪ ،‬ورتب من ال َمقاتلة في الثغور‪.‬‬

‫ملك هرمز‬

‫ثم ملك بعده هرمز بن أنوشروان بن قب??اذ‪ ،‬وأم??ه ف??اقم بنت خاق??ان مل??ك ال??ترك‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬بل ملك ملوك الخزر مما يلي الباب واألبواب‪ ،‬فكان ملكه اثنتي عشرة س??نة‪،‬‬
‫وكان متحاماًل على خواص الناس‪ ،‬مائالً إلى عوامهم مقويا ً لهم‪ .‬مؤثراً للروبصية‪?،‬‬
‫وتوابع العوام‪ ،‬مغريا ً لهم بخواص الناس‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه قتل في مدة ملكه من خ??واص‬
‫فارس ثالثة عش??ر أل??ف رج??ل م??ذكور والثن??تي عش??رة س??نة من ملك??ه َت َخ? رم علي??ه‬
‫الملك‪ ،‬وتداعت أركانه‪،‬وزحفت إليه األعداء‪ ،‬وكثرت عليه الخوارج‪ ،‬وقد ك??ان أزال‬
‫أحكام الموابذان‪ .‬فخربت بذلك السنة المحمودة والشريعة المعهودة‪ ،‬وغير األحكام‪،‬‬
‫وأزال الرس??وم‪ ،‬وك??ان ممن س??ار إلي??ه س??ابة بن ش??ب عظيم من مل??وك ال??ترك في‬
‫أربعمائة ألف‪ ،‬فنزل نحو بالد ه ََراة وب??دغيس وبوش?نج من أرض خراس?ان‪ ،‬وس??ار‬
‫إليه من أط?ارف أرض?ه طراخن?ة من الخ?زر في جيش عظيم‪ ،‬فش?نوا الغ?ارات فيم?ا‬
‫بين ذلك الصقع بخيل أوقعت‪ ،‬وملوك تهادنت‪ ،‬وتواهبت م??ا ك??ان بينه??ا من الحم??اء‬
‫مما يلي جبل القبخ‪ ،‬وسار َب ْطريق لقيصر في ثمانين ألفا َ مم??ا يلي الجزي??رة‪ ،‬وس??ار‬
‫مما يلي اليمن جيش عظيم للعرب من قحطان ومعد‪ ،‬وعليهم العباس المعروف‬
‫صفحة ‪154 :‬‬

‫باألحول وعمرو األفوه‪ ،‬فاضطرب على هرمز أمره وأحضر الموابذة وذوي الرأي‬
‫وشاو َرهم‪ ،‬فكان من نتيجة? رأيهم موادعة الوجوه الثالث??ة‬ ‫َ‬ ‫منهم من بعد إخماله لهم‬
‫وإرض??اؤهم واإلِقب??ال على ش??ابة بن ش??اب‪ ،‬فانت??دب لحرب??ه به??رام ج??وبين مرزب??ان‬
‫الري‪ ،‬وكان بهرام هذا من ولد ج??وبين بن ميالد من نس??ل أن??وش المع??روف ب??الرام‬
‫فسار في اثني عش??ر ألف?اً‪ ،‬وش??ابة في أربعمائ??ة أل??ف‪ ،‬فك??انت لبه??رام مع??ه خط??وب‬
‫ومراسالت من ترغيب وت??رهيب? وحي??ل في الح??رب‪ ،‬إلى أن قتل??ه به??رام‪ ،‬واس??تباح‬
‫عسكره‪ ،‬واستولى على خزانته وأمواله‪ ،‬وبعث إلى هرمز برأسه‪ ،‬وقد كان برمودة‬
‫بن شابة ولده تحصن في بعض القالع من بهرام‪ ،‬فنزل عليه بهرام‪ ،‬ف??نزل برم??ودة‬
‫على حكم هرمز‪ ،‬وسار إليه‪ ،‬وحمل بهرام حماًل من الغنائم وما كان أخذه من شابة‬
‫مما ك?ان مع?ه من ترك?ات المل?وك‪ ،‬مث?ل م?ا ك?ان في خ?زائن فراس?ياب من األم?وال‬
‫الجواهر التي كان أخذها من سياوخش‪ ،‬وما كان بأيدي الترك من تركات بهراس??ف‬
‫ملك الترك مما أخذه من خزائن يستاسف من مدينة بلخ وغيره??ا من ذخ??ائر مل??وك‬
‫الترك السالفة‪ ،‬فلما انتهى ما وصفنا من األموال والج??واهر وغ??ير ذل?ك من الغن??ائم‬
‫من قبل بهرام حسده وزير هرمز أريخسيس الخوري‪ ،‬وقد نظر إلى إعج??اب هرم??ز‬
‫بما حمل إليه بهرام وسروره به‪ ،‬فق?ال‪ :‬أعظم ه?ذه زلت??ه‪ ،‬وع?رض لهرم?ز بخيان?ة‬
‫بهرام‪ ،‬واستبداده بأكثر الجواهر واألموال والغنائم‪ ،‬وأغراه ب??ه‪ ،‬فعص??اه به??رام‪ ،‬ثم‬
‫س أناس?ا ً من التج??ار‬‫احت??ال به??رام ب??دراهم ض??رب عليه??ا اس??م كس??رى أبروي??ز‪ ،‬و َد َّ‬
‫فأنفقوها بباب هرمز‪ ،‬فتعامل بها الناس‪ ،‬وكثرت في أيديهم‪ ،‬وعلم به??ا هرم??ز‪ ،‬فلم‬
‫يشك في أن أبروي??ز ض??ربها طلب?ا ً للمل??ك‪ ،‬فه َّم ب??ه هرم??ز وه??وال يش??ك أن ذل??ك من‬
‫فعله‪ ،‬ولم يعلم أن الحيلة في ذلك من بهرام‪ ،‬فهرب أبروي??ز من أبي?ه لتغ??يره علي?ه‪،‬‬
‫ولح??ق ببالد أذربيج??ان وأرميني ?ة? وال??ران والبيلق??ان‪ ،‬وحبس هرم??ز خ??الي أبروي??ز‬
‫بس??طام وبندوي??ه‪ ،‬ف?أعمال الحيل??ة في محبس??هما وخرج?ا فانض?اف إليهم?ا خل?ق من‬
‫سماَل عينيه? وأعمي??اه‪ .،‬فلم??ا نمي ذل??ك إلى أبروي??ز س??ار‬ ‫الجيش فدخال على هرمز ف َ‬
‫إلى أبيه فدخل عليه وأخبره أنه ال ذنب له في ذل??ك‪ ،‬وإنم??ا ه??رب خوف?ا ً على نفس??ه‬
‫من??ه‪ ،‬ف َت َّوج??ه هرم??ز وس ?لَّم المل??ك إلي??ه‪ ،‬ونمي ذل??ك إلى به??رام ج??وبين فس??ار في‬
‫عساكره يؤم الباب ودار الملك‪ ،‬فخرج إليه أبرويز‪ ،‬فالت َق َيا على شاطىء النه??روان‪،‬‬
‫والنهر بينهما‪ ،‬فتواقعا‪ ،‬وكان لهما خطب طويل من تقاذف وتشاتم‪ ،‬ثم كانت بينهما‬
‫حروب انكشف فيه??ا أبروي??ز لتخل??ف أص??حاب عن??ه وميلهم إلى به??رام‪ ،‬فق??ام تحت??ه‬
‫فرسه المعروف بشبدار وهو المصور في الجب??ل‪ ،‬وه??و ببالد قرماس??ين من أعم??ال‬
‫الدينور? من ماء الكوف??ة ه??و وأبروي?ز? وغ??ير ذل??ك من الص??ور‪ ،‬وه??ذا الموض??ع من‬
‫إحور عجائب العالم‪ ،‬وغ??رائب م??ا في??ه من الص??ور العجيب??ة المنق??ورة في الص??خر‪،‬‬
‫س المع??روف بش??بدار‪ ،‬وق??د‬ ‫الفر َ‬
‫س تذكر في أشعارها وغيرها من العرب هذا َ‬ ‫والفر ُ‬
‫ْ‬
‫ك??ان أبروي?ز? على ش??بدار في بعض األي??ام ف??انقطع ِع َنا ُن??ه‪ ،‬ف??دعا بص??احب س??روجه‬
‫ولجمه‪ ،‬فأراد ضرب عنق??ه لم??ا لم يتعه??د ال ِع َن??انَ ‪ ،‬فق?ال‪ :‬أيه??ا المل??ك‪ ،‬م??ا بقي س??ير‬
‫يحي??د ب?ه مل?ك اإِل نس ومل?ك الخي?ل‪ ،‬فأطلق??ه‪ ،‬وأج?ازه‪ ،‬ولم?ا بلح ه?ذا الف?رس تحت‬
‫أبروي??ز وقص??ر طلب إلى النعم??ان في المعرك??ة أن يمن علي??ه بفرس??ه? المع??روف‬
‫باليحموم‪ ،‬فأبى عليه‪ ،‬ونجا عليه بنفسه‪ ?،‬ونظر حسان بن حنظلة بن حية الطائي‬
‫صفحة ‪155 :‬‬

‫إلى أبروي??ز وق??د خانت??ه الرج??ال وأش??رف على الهالك‪ ،‬فأعط??اه فرس??ه المع??روف‬
‫بالصبيب‪ ،‬وقال له‪ :‬أيها الملك‪ ،‬انج على فرسي فإن حياتك للناس خير من حي??اتي‪،‬‬
‫وأعطاه أبرويز فرسه شبدار فنجا عليه في جملة الناس‪ ،‬ومضى أبروي??ز إلى أبي??ه‪?.‬‬
‫ففي ذلك يقول حسان بن حنظلة الطائي‪:‬‬
‫ألتركه في الخيل يعثـرراجـال‬ ‫وأعطيت كسرى ما أراد‪ ،‬ولم أكن‬
‫س َّومة? من خـيل تـرك ووائل‬ ‫ُم َ‬ ‫ت له ظهر الصبيب وقد بـدت‬ ‫بذ ْل ُ‬
‫فكافأه أبرويز بعد ذلك‪ ،‬وعرف له ما صنع‪ ،‬ولما سار أبرويز من الهزيمة? إلى أبي??ه‬
‫هرمز أشار عليه أن يلحق بقيصر ويستنجده فإن الملوك إذا اس ُت ْن ِجدت في مثل هذه‬
‫الحالة أنجدت‪ ،‬في خطب طويل جرى بينه? وبين أبيه‪ ،‬فمض??ى أبروي??ز وتبع??ه غ??يره‬
‫?ر دجل??ة‪ ،‬وقط??ع الجس??ر خوف?ا ً من خي??ل‬ ‫وع َب َ‬
‫من الخواص‪،‬وخااله بسطام وبندوي??ه‪َ ،‬‬
‫بهرام‪ ،‬ونظرفي مسيره ذلك اليوم إلى خا َل ْيهِ‪ ،‬وقد تأخرا عنه‪ ،‬فاستراب بهم??ا وبمن‬
‫أنضاف إليهما ممن كان معهم‪ ،‬فسألهما عن السبب‪ ،‬فق??اال‪ :‬لس??نا ب??آمنين أن ي??دخل‬
‫بهرام إلى أبيك هرمز فيضع تاج المملكة على رأسه‪ ،‬وإن كان أعمى‪ ،‬ويص??ير ه??و‬
‫الهرم??زان‪ ،‬وتفس??ير? ذل??ك أم??ير األم??راء‪ ،‬وال??روم تس??مي? ص??احب ه??ذه الموتب??ة?‬
‫الدمس??تق‪ ،‬فيكتب به??رام عن أبي??ك هرم??ز إلى قيص??ر‪ :‬إن اب??ني أبروي??ز وجماع??ة‬
‫انضافوا إلي??ه وثب??وا بي وس??ملوا عي??ني‪ ،‬فاحمل??ه إلي‪ ،‬فيحملن??ا قيص??ر إلي??ه‪ ،‬في??أتي‬
‫علينا بهرام‪ ،‬وال بد لنا من الرجوع إلى أبيك وقتل??ه‪ ،‬فناش??دهماهللا أن ال يفعال ذل??ك‪،‬‬
‫?رع معهم??ا‬ ‫وأظهر فيما ذكر عنه‪ ،‬البراءة من فعلهما‪ ،‬فرجعا من فورهم??ا‪َ ،‬و َمنْ تس? َّ‬
‫إلى المدائن وقد صاروا على أميال منها فدخال على هرمز فخنقناه‪ ،‬ولحقا بأبرويز‪?،‬‬
‫ولحقتهم خي??ل به?رام‪ ،‬وك?انت بينهم حمل??ة في بعض ال?ديارات إلى أن تخلص?وا من‬
‫تلك الخيل‪ ،‬وسار أبرويز ففي هرمز يقول ورقة بن نوفل ‪:‬‬
‫والخلد قد حاولت عا ٌد فما َخ َلدوا‬ ‫لم يغن هرمز شيء من خزائنه?‬
‫والجن واإلِنس تجري بينها ال ُبرد‬ ‫وال سليمان إذ تجري الرياح لـه‬

‫وأسرع بهرام جوبين إلى المدائن من النهروان‪ ،‬حين بلغ?ه قت?ل هرم?ز ف?احتوى‬
‫على الملك‪ ،‬ولحق أبرويز? بالرها فنزلها‪ ،‬وكاتب ملك الروم‪ ،‬و م??وريقس م??ع خال??ه‬
‫بسطام وجماعة ممن كانوا معه‪ ،‬يسأله النصرة علىع??دوه‪ ،‬ويض??من ل??ه الوف??اء بم??ا‬
‫ينفقه من أمواله‪ ،‬واإِل حسان إلى جنده‪ ،‬وأنه يؤدي إليه دي?ات َمنْ يقت?ل من رجال?ه‪،‬‬
‫وغير ذلك من الشروط‪ ،‬وأهدى إليه هدايا كثيرة‪ :‬منها مائة غالم من أبن??اء أراكن??ة‬
‫الترك في نهاية الحسه والجم??ال واس?تقامة الص??ور‪ ،‬في آذانهم أق??راط ال?ذهب فيه??ا‬
‫ال??در واللؤل??ؤ ومائ??دة من العن??بر ف ْت َحه??ا ثالث??ة أذرع على ثالث ق??وائم من ال??ذهب‬
‫ِ?ل بظلف?ة‬‫مفصلة بأنواع الجواهر أح?د األرج?ل س?اعد وك?ف أس?د واآلخ?ر س?اق َوع ٍ‬
‫والثالث كف عقاب بمخلبه‪ ،‬وفي وسطها جام جزع يماني فاخر ف ْتحته ش??بر ممل??وء‬
‫حجارة ياقوت أحمر‪ ،‬وسفط من ذهب في??ه مائ??ة درة وزنُ ك??ل درة مثق??ال أرف??ع م??ا‬
‫يكون‪ ،‬فحمل إليه موريقس? ملك الروم ألف دينار‪ ،‬ومائة ألف ف??ارس‪ ،‬بعث بهم م??ع‬
‫هديت??ه‪ ،‬وأل??ف ث??وب من ال??ديباج الخزائ??ني المنس??وج بال??ذهب األحم??ر وغ??يره من‬
‫األلوان‪ ،‬وعشرين ومائة جارية من بنات ملوك برجان والجاللقة والصقالبة‬
‫صفحة ‪156 :‬‬

‫والوس??كنس وغ??يرهم من األجن??اس المج??اورة لمل??ك ال??روم على رؤوس??هن أكالي??ل‬


‫َ‬
‫الجوهر‪،‬وز َّوجه بابنته مارية وحملها إليه مع أخي??ه تن??دوس‪ ،‬واش??ترط مل??ك ال??روم‬
‫على أبرويز? شروطا ً كث??يرة‪ :‬منه??ا ال??نزول عن الش??ام ومص??ر مم??ا ك??ان غلب علي??ه‬
‫أنوشروان‪ ،‬وترك التعرض ذلك‪ ،‬فأجابه إلى ذلك‪ ،‬وقد ك??انت مل??وك الف??رس ت??تزوج?‬
‫إلى سائر َمنْ جاورها من مل??وك األمم وال تزوجه??ا ألنهم أح??رار وأنج??اد‪ ،‬وللف??رس‬
‫في هذا خطب طويل كفعل قريش وتركها السنن وتحمسها‪ .‬فكانوا يقف??ون بمزدلف??ة‪،‬‬
‫س‪ ،‬وقد قالى النبي صلى هللا عليه وس??لم‬ ‫هو يوم الحج األكبر‪ ،‬ويقولون‪ :‬نحن ا ْل ُح ْم ُ‬
‫أح َمسِ ٌّي ولما اجتمع ألبرويز م??ا وص??فنا س??ار إلى بالد أذر بيج??ان‪،‬‬
‫لألنصارأنا رجل ْ‬
‫فاجتمع إليه هناك من كان من العساكر بها‪ ،‬وانضاف إلي?ه كث?يرمن الجن?ود واألمم‪،‬‬
‫وبلغ بهرام جوبين ما قد عزم عليه فسار إليه فيمن كان معه من عس??اكره‪ ،‬ف??التقى‬
‫الجيشان جميعاً‪ ،‬فتوجهت على بهرام‪ ،‬فانكش??ف في نف??ر من أص??حابه‪ ،‬وانتهى إلى‬
‫أطراف خراسان‪ ،‬وكاتب خاقان ملك الترك فأمنه وسار إلى ملكه هو ومن َخف معه‬
‫من أصحابه وأخته كردي??ة‪ ،‬وك??انت في الش??جاعة والفروس??ية? نح??وه‪ ،‬وعليه??ا ك??ان‬
‫يعول في كثير من حروب??ه‪ ،‬ومض??ى كس??رى أبروي??ز إلى دار مملكت??ه‪ ،‬وأم??ر لجن??ود‬
‫موريقس باألموال والمراكب والكس?اوي‪ ،‬وكاف?أهم على م?ا ك?ان منهم في معونت?ه‪،‬‬
‫جم??ل إلي??ه ألفي دين??ار؛ َو َق َ‬
‫?رنَ ذل?ك به??دايا كث??يرة وأم??وال عظيم??ة من آالت ال?ذهب‬
‫والفضة‪ ،‬ووفى له بك??ل م??ا وع??ده‪ ،‬وخ??رج من ك??ل م??ا أوجب??ه على نفس??ه‪ ،‬واحت??ال‬
‫أبرويز في قتل بهرام في أرض الترك‪ ،‬فقتل هناك غِي َل ًة‪ ،‬في ذكز أن رأسه حمل بعد‬
‫أن احتيل عليه وأخرجه من الناووس الذي كان خاقان ملك الترك دفنه فيه‪ ،‬وحمله‬
‫إليه رجل تاجرفارسي فنصب على باب أبروي??ز في رحب??ة قص??ره‪ ،‬وخ??رجت كردي??ة‬
‫فيمن كان معها من أصحاب بهرام من أرض الترك‪ ،‬وقد كان لها أخبار في الطريق‬
‫مع ابن خاقان‪ ،‬وكاتبها أبرويز في قتل خاله بسطام‪ ،‬وكان مرزبان الديلم وخراسان‬
‫فقتله‪ ،‬وقتل خاله اآلخر بأبيه هرمز‪ ،‬ثم صارت كردية إليه فتزوجها‪.‬وللفرس كت??اب‬
‫مفرد في أخبار يه?رام ج?وبين‪ ،‬وم?ا ك?ان من مكاي?ده ببالد ال?ترك حين س?ار إليه?ا‪،‬‬
‫واس?تنقافه البن?ه مل?ك ال?ترك من حي?وان اس?مه الس?مع نح?و الع?نز الكب?ير ك?ان ق?د‬
‫احتملها من بين جواريها وعالبها وقد خرجت لبعض متنزهاتها‪ ،‬وما ك?ان من َب?دء‬
‫حاله إلى مقتله ونسبه?‪.‬‬

‫بين أبرويز وبزرجمهر?‬

‫وكان وزير أبرويز‪ ،‬والغالب علي??ه‪ ،‬والم??دبر ألم??ره حكي ٌم من حكم?اء الف??رس وه??و‬
‫بزرجمه??ر بن البختك??ان‪ ،‬فلم??ا خال من ملك??ه ثالث عش??رة س??نة? اتهم??ه بالمي??ل إلى‬
‫بعضر الزنادقة من ال َّث َن ِوية‪ ?،‬فأمر بحبسه‪ ?،‬وكتب إليه‪ :‬كان من ثمرة علم??ك ونتيج??ة‬
‫مِا أداك إليه عقلك‪ ،‬أن صرت أهاًل للقتل‪ .‬وموضعا ً للعقوب??ة‪ ،‬فكتب إلي??ه بزرجمه??ر‪?:‬‬
‫أما إذ كان معي الجد فقد كنت أنتفع بثم??رة عقلي‪ ،‬ف??الآلن إذ ال َج? َّد معي فق??د أنتف??ع‬
‫بثمرة? الصبر‪ ،‬وإذ قد فقدت كثير الخير فق??د اس??ترحت من كث??ير من الش??ر‪ ،‬وأغ??رى‬
‫أبرويز ببزرجمهر‪ ?،‬فدعا به‪ ،‬وأمر بكسر أنفه وفمه‪ ،‬فقال بزرجمهر‪ :‬فمي ألهل لما‬
‫صفحة ‪157 :‬‬

‫هو شر من ه??ذا‪ ،‬فق??ال أبروي??ز‪ ?:‬ولم ي??ا ع??دو هّللا المخ??الف‪ .‬فق??ال ألني كنت ِ‬
‫أص?ف َك‬
‫لخواص الناس وعوامهم بما ليس في??ك‪ ،‬وأقرب??ك م??ل قل??وبهم‪ ،‬وأرف??ع من محاس??ن‬
‫أمورك ما لم تكن عليه‪ ،‬اسمع مني يا ش??ر المل??وك نفس?اً‪ ،‬وأخبثهم فعاًل ‪ ،‬وأس??وأهم‬
‫عشرة‪ ،‬أتقتلني بالشك وترفع به اليقين الذي قد علمته مني من التمسك بالش??ريعة‪?.‬‬
‫من ذا الذيى يرجوعدلك يثق بقولك ويطمئن إليك‪ .‬فغضب أبرويز‪ ،‬وأمر به فض??رب‬
‫عنقه‪ ،‬ول??بزرجمهر في أي??دي الن??اس قض??ايا وحكم ومواع??ظ وكالم كث??ير في الزه??د‬
‫غيره‪ ،‬وندم أبرويز على قتل??ه‪ ،‬وتأس??ف‪ ،‬ودع??ا بخ??ير اريس ال??وزير الث??اني‪ ،‬ك??انت‬
‫مرتبته? دون مرتبة? بزرجمه??ر‪ ،‬فلم??ا رأى بزرجمه??ر ق??تيالً أس??ف علي??ه‪ ،‬علم أن??ه ال‬
‫ينجو‪ ،‬فأغلظ ألبرويز في الكالم‪ ،‬فأمر به فقتل وأغ??رق في دجل??ة‪ ،‬فلم?ا ع?دم ه?ذين‬
‫ال??رجلين وم??ا ك??ان علي??ه من الكفاي??ة وت??دبير? المل??ك اس??توحش من ش??ريعة الع??دل‬
‫وواضحة الحق فعدل إلى الجور وال َع ْسف بخواص رعيت??ه وعوامه??ا‪ ،‬وحمله??ا على‬
‫ما لم تكن تعهد‪ ،‬وأوردهم إلى ما لم يكون??وا يعرفون??ه من الظلم‪ ،‬ف??وثب بطري??ق من‬
‫بطارقة الروم يقال له فوقاس فيمن اتبع?ه على م?وريقس? مل?ك ال?روم َحمِي أبروي?ز?‬
‫ومنجده فقتلوه‪ ،‬و َملَّكوا فوقاس‪ ،‬ونمى ذلك إلى أبرويز فغض??ب لحمي??ه‪ ،‬وس??ير? إلى‬
‫ال??روم الجي??وش ك??انت ل??ه في ذل??ك أخب??ار يط??ول ذكره??ا‪ ،‬وس??ير? ش??هريار مرزب??ان‬
‫المغ??رب إلى ح??رب ال??روم‪ ،‬ف??نزل أنطاكي??ة‪ ،‬فك??انت ل??ه م??ع ال??روم وأبروي??ز أخب??ار‬
‫ومكاتب??ات حي??ل إلى أن خ??رج مل??ك ال??روم إلى ح??رب ش??هريار‪ ،‬وق??دم خزائن??ه في‬
‫البحر‪،‬ألف مركب‪ ،‬فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكي??ة‪ ،‬فغنمه??ا ش??هريار‪ ،‬حمله??ا إلى‬
‫أبروي??ز‪ ،‬فس??ميت خ??زائن ال??ريح‪ ،‬ثم فس??دت الح??ال بين أبروي ?ز? وش??هريار‪ ،‬وماي??ل‬
‫ش??هريار مل??ك ال??روم‪ ،‬فس??يره ش??هريار نح??و الع??راق إلى أن انتهى إلى النه??روان‪،‬‬
‫فاحتال أبرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفة النصرانية ممن كان في ذمت??ه ح??تى‬
‫رده إلى القسطنطينية? وأفسد الحال بينه بين شهريار‪ ،‬وغير ذلك مما ق??د أتين??ا على‬
‫ذكره في الكتاب األوسط ‪.‬‬

‫يوم ذي قار‬
‫وفي ملك أبرويز كانت ح?روب ذي ق?ار‪ ،‬وه?و الي?وم ال?ذي ق?ال فيه?النبي ص?لى هللا‬
‫عليه وسلم هذا َأول ي??وم انتص??فت في??ه الع??رب من العجم‪ ،‬و ُن ِ‬
‫ص? َر ْت عليهم‪ ،‬وك??انت‬
‫وقعة ذي قار لتم??ام أربعين س??نة? من مول??د رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم وه??و‬
‫بمكة بعد أن بعث‪ ،‬وقيل‪ :‬بعد أن هاجر‪ ،‬وفي رواية أخرى أنها كانت بعد وقعة بحر‬
‫بأشهر‪ ،‬ورسول هّللا صلى هللا عليه وسلم بالمدينة‪ ?،‬وكانت هذه الوقع??ة بين بك??ر بن‬
‫وائل والهرمزان صاحب كسرى أبرويز‪ ،‬وق??د أتين??ا على ه??ذه األخب??ار على الش??رح‬
‫واإِل يضاح في الكتاب األوسط‪ ،‬فأغنى ذلك عن إيراده في هذا الموضع‪.‬‬

‫صفحة ‪158 :‬‬

‫إرهاصات النبوة ببالد فارس‬

‫وفي أيام أبرويز كانت حوادث تن??ذر ب??النبوة وتبش?ر? بالرس??الة‪ ،‬وأنف??ذ أبروي??ز عب??د‬
‫المسيح بن بقيل?ة الغس?اني إلى س?طيح الك?اهن‪ ،‬ف?أخبره برؤي?ا الموب?ذان وارتج?اج‬
‫اإِل يوان‪ ،‬وغير ذلك من أخبار فيض‪ ،‬وادي السماوة وما كان من بحيرة ساوة‪.‬وكان‬
‫صه ياقوت أحمر نقشه‬ ‫ألبرويز? تسعة خواتم تمور? في أمر الملك‪ :‬منها خاتم فضة ف ُّ‬
‫صورة الملك وحوله مكتوب صفة الملك وحلقته ماس ُت ْختم به الرسائل والسجالت‪،‬‬
‫والخاتم الثاني فصه عقيق نقشه خراسان ح??رة وحلقت??ه ذهب تختم ب??ه !الت??ذكرات‪،‬‬
‫صه جزع نقش??ه ف??ارس ي??ركض وحلقت??ه ذهب منق??وش في??ه ا ْل َو َح? ا‬ ‫والخاتم الثالث ف ُّ‬
‫ش?ه بالم??ال ين??ال الف??رح‬‫يختم به أجوبة البريد‪ ،‬والخاتم الرابع فصه ياقوت مورد َن ْق ُ‬
‫وحلقته ذهب يختم به البراوات والكتب في التجاوز عن العصاة والمذنبين‪ ?،‬والخاتم‬
‫الخ??امس فص??ه ي??اقوت بهرم??ان‪ ،‬وه??و أحس??ن م??ا يك??ون من الحم??رة وأص??فاها‬
‫وأشرفها‪ ،‬نقشه حره وخرم أي بهجة وسعادة حافتاه لؤلؤ وماس‪ ،‬يختم به خ??زائن‬
‫الجوهر وبيت مال الخاصة وخزانة الكسوة وخزانة الحلي‪ ،‬والخاتم السادس نقش??ه‬
‫عقاب يختم به كتب الملوك إلى اآلفاق وفصه حديد حبش??ي‪ ،‬والخ??اتم الس??ابع نقش??ه‬
‫ذباب يختم به األدوية واألطعمة والطيب فصه بادزهر‪ ،‬والخاتم الثامن فص??ه ُج َم??ان‬
‫نقشه رأس خنزير يختم به أعناق من يؤمر? بقتل??ه وم??ا ينف??ذ من الكتب في ال??دماء‪،‬‬
‫والخاتم التاسع حديد يلبسه? عند دخول الحمام وفص??ه اب??زن ع?دد أبرويزوك??ان على‬
‫مربطه? خمسون ألف دابة وسروج ذهب مكلّلة بالدر والجوهر على عدد م??ا لركاب??ه‬
‫ضا َ من الثلج‪ ،‬ومنها ما‬ ‫من الخيل‪ ،‬وكان على مربطه ألف فيل‪ ،‬منها أشهب أشد بيا َ‬
‫ارتفاعه اثتا عشر ذراعاً‪ ،‬وفي النادر ما يوجد من الفيلة الحربي??ة م??ا ارتفاع??ه ه??ذا‬
‫القدر‪ ،‬وأكثر م??ا يوج??د من ارتف??اع الفيل??ة من التس??عة األذرع إلى العش??رة‪ ،‬ومل??وك‬
‫الهن??د تب??الغ في أثم??ان م??ا عظم من الفيل??ة‪ ،‬وارتف??ع من األرض‪ ،‬وق??د يك??ون من‬
‫الوحشية? في أرض الزنج من الفيل?ة م?ا ه?وأعظم س?مكا ً مم?ا وص?فنا ب?أفرع كث?يرة‬
‫على حسب ما تحم??ل من قرونه??ا المس??ماة باألني??اب م??ا وزن الن??اب منه??ا خمس??ون‬
‫ومائة َمنٍّ إلى المائتين‪ ،‬والمن رطالن بالبغدادي‪ ،‬وعلى قدر عظم الناب عظم جس??د‬
‫الفيل‪.‬‬

‫تدريب الفيلة‬
‫وقد كان أبرويز خرج في بعض األعياد وقد وص??فت ل??ه الجي??وش والع??دد والس??الخ‬
‫وفيما وصف له ألف فيل‪ ،‬وقد أحدقت به خمسون أل??ف ف??ارس دون الرجال??ة‪ ،‬فلم??ا‬
‫نظرت ?ه? الفيل??ة س??جدت ل??ه فم??ا رفعت رؤوس??ها َو َب ْس ?طها لخراطيمه??ا ح??تى ج??ذبت‬
‫بالمحاجن‪ ،‬وراطنها الفيالون بالهندية‪ ،‬فلما بصر بذلك أبرويز تأسف على ما خص‬
‫به أهل الهند من فضيلة الفيل??ة‪ ،‬وق??ال‪ :‬ليت أن الفي??ل لم يكن هن??ديا ً وك??ان فارس??ياً‪،‬‬
‫انظروا إليها وإلى سائر الدواب وفضلوها بقدر ما ترون من معرفتها وأدبه??ا‪ ،‬وق??د‬
‫افتخ??رت الهن??د بالفيل??ة وعظم أجس??امها‪ ،‬وحس??ن طاعته??ا‪ ،‬وقبوله??ا الرياض??ات‪،‬‬
‫وفهمها المزادات‪ ،‬وتمييزها بين الملك وغيره‪ ،‬وأن غيرها من الدواب ال يفهم‬
‫صفحة ‪159 :‬‬

‫شيئا ً من ذلك وال يفصل بين ش??يئين‪ ،‬وس??نورد فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جمالَ من‬
‫الفصول في أخبار الفيلة وم??ا قالت??ه الهن??د وغ??يرهم في ذل??ك وتفض??يلها على س??ائر‬
‫الدواب‪.‬‬

‫شيرويه بن أبرويز‬
‫فكانت مدة ملك أبرويز? إلى أن خلع وسملت عيناه وقتل ثمان َيا َ وثالثين سنة? ثم مل??ك‬
‫بعده ولده قباذ المعروف بشيرويه? القابض على أبيه‪ ،‬والج??اني علي??ه‪ ،‬والقات??ل ل??ه‪،‬‬
‫والفرس تسميه المشؤوم‪ ،‬وفي أيامه كان الطاعون ب??العراق وغيره??ا من األق??اليم‪،‬‬
‫فهلك مائتا ألف من الناس‪ ،‬فالمكثر يقول‪ :‬هلك نصف الناس‪ ،‬والمقل يق?ول‪ :‬الثلث‪،‬‬
‫وكان ملك شيرويه? إلى أن هلك س??نة وس??تة أش??هر‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أق??ل من ذل??ك‪.‬ولكس??رى‬
‫أبرويز والبنه شيرويه? أخبار عجيبة? ومراسالت قد أتينا على ذكرها فيما س??لف من‬
‫كتبنا‪.‬‬

‫أردشير‬
‫ثم ملك بعد شيرويه? ولده أردشير ولي عهد الملك‪ ،‬وهو ابن سبع سنين‪ ،‬فسار إليه‬
‫من أنطاكية من بالد الشام شهريار مرزبان المغرب المقدم ذكره م??ع أبروي??ز ومل?ك‬
‫الروم فقتله‪ ،‬فكان ملكه خمسة أشهر‪.‬‬

‫شهريار‬
‫ثم ملك شهريار نحوا من عشرين يوماً‪ ،‬وقيل‪ :‬شهرين‪ ،‬وقيل غ??ير ذل??ك‪ ،‬واغتالت??ه‬
‫ابنة لكسرى أبرويز يقال لها أرزمي دخت فقتلته‪?.‬‬

‫كسرى‬
‫ثم ملك كسرى بن قباذ بن أبرويز‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن??ه ابن ألبروي??ز‪ ?،‬وك??ان بناحي??ة ال??ترك‪،‬‬
‫فسار يريد دار الملك‪ ،‬فقتل فى الطرلِق بعد ملكه ثالثة أشهر‪.‬‬

‫بوران‬

‫ثم ملكت بعده بوران بنت كسرى أبرويز‪ ?،‬فك??ان ملكه??ا س??نة ونص??فا‪ .‬ثم مل??ك رج??ل‬
‫من أهل بيت الملك من ولد سابوربن يزدجرد األثيم‪ .‬يقال له فيروز خشنش??ده فك??ان‬
‫ملكه شهرين‪.‬ثم ملكت ابنة لكسرى أبرويز ئقال! لها أرزمي دخت فكان ملكها س??نة‬
‫وأربعة أشهر‪.‬ثم ملك فرحاد خسرو بن كسرى أبروبز‪ ،‬وهو طفل‪ ،‬فكانت مدة ملك??ه‬
‫شهراً‪ ،‬وقيل أشهراً‪.‬‬

‫صفحة ‪160 :‬‬

‫يزدجرد‬
‫ثم ملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز? بن هرمز بن أنوش??روان بن قب??اذ بن‬
‫فيروز بن به??رام بن يزدج??ر بن س??ابور بن هرم??ز بن س?ابور بن أردش??ير بن باب??ك‬
‫بنساسان‪ .‬وهو أخر ملوك الساسانية فكان ملكه إلى أن قتل بمرو من بالد خراسان‬
‫عشرين سنة وذلك لسبع سنين ونصف خلت من خالفة عثمان بن عفان رض??ي هّللا‬
‫عنه‪ .‬وهي سنة? إحدى وثالثين من الهجرة‪ ،‬وقيل غيرذلك مقدار ملكه وخبر مقتله‪.‬‬

‫إحصاء بعدة ملوك الفرس‬


‫قال المسعودي‪ :‬وذهب األكثر من الناس ممن عني بأخبار الف??رس وأي??امهم إلى أن‬
‫جمي??ع من مل??ك من آل ساس??ان من أردش??ير بن باب??ك إلى يزدج??رد بن ش??هريار من‬
‫الرجال والنساء ثالثون ملكاً‪ :‬امرأتان‪ ،‬وثمانية? وعشرون رجالً‪ .‬ووج??دت في بعض‬
‫التواريخ أن عمد ملوك الساسانية اثنان وثالث?ون ملك?اً‪ ،‬وعم?د المل?وك األولى وهم‬
‫األول من ك??يرمرث إلى دارا بن دارا تس??عة عش??ر ملك ?اً‪ ،‬منهم ام??رأة وهي‬ ‫الف??رس َ‬
‫حماية بنت بهمن‪ ،‬وفراسياب التركي‪ ،‬وس??بعة عش??ر رجاًل ‪ ،‬وع??دد مل??وك الطوائ??ف‬
‫النين قدمنا ذكرهم من مقتل دارا إلى أن ظهر أردشير بن بابك أحد عشر ملكاً‪ .‬وهم‬
‫مل??وك الش??يز وال??ران‪ .‬ومن أجلهم س??مي س??ائر مل??وك الطوائ??ف األش??غان‪ .‬فجمي??ع‬
‫عندهم‪ ،‬على ما ذكرت الف??رس‬ ‫ِ‬ ‫الملوك من كيومرث بن آدم وهو أول ملوك بني أدم‬
‫إلى يزدجرد بن شهريار بن كسرى ستون ملكاَ‪ :‬منهم ثالث نسوة‪ ?.‬وم??دة م??ا ملك??وا‬
‫من السنين أربعة آالف سنة وأربعمائة سنة? وخمسون سنة‪ .‬وقيل‪ :‬إن عدة المل??وك‬
‫من كيومرث إلى يزدجرد ثمانون ملكاً‪.‬‬
‫رأيت جماعة من األخباريين وأصحاب السير وأرباب الكتب المص??نفة في الت??واريخ‬
‫وغيره???ا ي???ذهبون إلى أن س???ني الف???رس إلى الهج??رة ثالث آالف س??نة? وس??تمائة‬
‫وتسعون سنة‪ :‬منها كيومرث إلى انتقال الملك إلى منوشهر? ألف وتسعمائة واثنتان‬
‫وعش??رون س??نة‪ .‬ومن منوش??هر إلى زرادشس??ت خمس??مائة وثالث وثم??انون س??نة‪?.‬‬
‫زرادشت إلى اإِل سكندر مائتان وثمان وخمسون س??نة‪ ،‬ومل??ك اإلس??كندر خمس‬ ‫ومن ِ‬
‫سنين‪ .‬ومن اإِل سكندر إلى مل??ك أردش??ير خمس??مائة س??نة وس??بع عش??رة س??نة‪ ?.‬ومن‬
‫ِ‬
‫أردشير إلى الهجرة أربعمائة سنة? وأربع سنين‪.‬وس??نذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب‬
‫جماًل من تاريخ العالم واألنبياء والملوك في باب نفرده لذلك في الموضع المستحق‬
‫له من هذا الكتاب‪ ،‬دون ذكر الهجرة وخالفة أبي بكر و َمنْ تال عصره من الخلف??اء‬
‫ومن ملوك بني أمية وبني العباس ث ألنا قد أفردنا لما ذكرنا باب?ا ً آخري??رد من ه??ذا‬
‫الكتاب بعد إنقضاء أخبار األمويين والعباسيين ترجمناه بذكر التاريخ الثاني‪.‬‬

‫أجناس الفرس‪:‬‬

‫وكانت الفرس من بدء الدهر أربعة أجناس إلى أن جاء هّللا تعالى باإِل سالم فالصنف‬
‫األول ُيقال له الخداهان وهم األرباب‪ ،‬كما ُيقال‪ :‬رب المت??اع‪ ،‬ورب ال??دار وذل??ك من‬
‫كيومرث إلى أفريدون‪ ،‬ثم الكيان من أفريدون إلى دارا بن دارا‪.‬‬
‫صفحة ‪161 :‬‬

‫ثم األشغان‪ ،‬وهم ملوك الطوائف بعد اإِل س??كندر على م??ا ذكرن??ا في ب??اب ذك??ر مل??وك‬
‫الطوائف‪ ،‬ثم الساسانية? وهم الفرس الثانية‪ ،‬وقد ذك?ر أب?و عبي?دة معم?ر بن المث?نى‬
‫في كتابه في أخب?ار الف??رس ال??ذي رواه عن عم??ر كس??رى أن الف??رس طبق??ات أرب??ع‬
‫ممن سلف وخلف‪ :‬فالطبقة األولى من كيومرث إلى كرساسب‪ ،‬والطبقة الثاني??ة من‬
‫كيان بن كيقباذ إلى اإِل سكندر وآخ??رهم دارا‪ ،‬والطبق??ة الثالث??ة وهم األش??غانية مل??وك‬
‫الطوائف‪ ،‬والطبقة الرابعة سماهم مل?وك االجتم?اع‪ ،‬وهم الساس?انية? أولهم أردش?ير‬
‫بن باب?ك‪ ،‬ثم س?ابور بن أردش?ير‪ ،‬هرم?ز بن س?ابور‪ ،‬به?رام بن س?ابور‪ ،‬به?رام بن‬
‫بهرام‪ ،‬نرسي بن سابور‪ ،‬هرمز بن نرس??ي‪ ?،‬س??ابور بن هرم??ز‪ ،‬أرش??ير بن هرم??ز‪،‬‬
‫سابور بن أردشير‪ ،‬سابور بن سابور‪ ،‬بهرام بن سابور‪ ،‬يزدجرد بن بهرام‪ ،‬به??رام‬
‫بن يزدجرد‪ ،‬فيروز بن يزدجرد‪ ،‬بالس بن يزدجرد‪ ،‬فب??اذ بن ف??يروز‪ ،‬أن??و ش??روان‪،‬‬
‫هرمز أبرويز ش??يرويه? أردش??ير ش??هريار ب??وران كس??رى بن قب??اذ ف??يروز خشنش??ده‬
‫أرزمي دخت فرحاد خسرو يزدجرد‪.‬وإنما ذكرن??ا ه??ؤالء بع??د أن ق??دمنا ذك??رهم فيم??ا‬
‫س??لف من ه??ذا الب??اب للخالف الواق??ع وتب??اين الرواي??ات والت??واريخ? في أع??دادهم‬
‫وأسمائهم‪ ،‬فأوردنا م??ا قال??ه المتن??ازعون من األخب??اريين‪ .‬وق??د أتين??ا على أخب??ارهم‬
‫وسيرهم ووصاياهم وعهودهم ومكاتباتهم وتوقيع??اتهم وكالمهم عن??د عق??د التيج??ان‬
‫على رؤوسهم ورسائلهم وسائر ما ك??ان من الح??وادث في أعص??ارهم‪ ،‬وم??ا ك??وروه‬
‫من الكور‪ ،‬وأحدثوه من المدن‪ ،‬وغير ذلك من أحوالهم‪ ،‬فيما سلف من كتبن??ا‪.‬وإنم??ا‬
‫نذكر في هذا الكتاب جوامع من تاريخم وأعداد ملوكهم ولمعا ً من أخب??ارهم‪ ،‬وك??ذلك‬
‫ذكرنا في كتابنا في أخبار الزمان خطب الطبقات األربع‪ ،‬وما حفر كل ملك منهم من‬
‫األنهار وانفرد ببنائه? من المدن‪ .‬وآراء الملوك وأحكامه??ا‪ ،‬وكث??يراً من قض??اياها في‬
‫خواصها وعوامها‪ ،‬وأنساب أصحاب خيل الملك‪ ،‬ومن كان على خيل كل مل??ك منهم‬
‫في الحروب‪ ،‬وأنساب حكمائهم وز َّهادهم ممن اشتهر بذلك في أعصارهم‪ ،‬وأنس??اب‬
‫المرازبة‪ ،‬وذكر أوالد الطبقات األربع ممن تقدم ذكرهم‪ ،‬وتش??عب أنس??ابهم‪ ،‬وتف??رق‬
‫أعقابهم‪ ،‬ووصفنا األبيات الثالثة التي شرفها كسرى على سائر َمنْ بس??واد الع??راق‬
‫وهم مشهورون في أهل السواد إلى وقتنا هذا‪ ،‬وأشراف السواد بعد األبيات الثالث??ة‬
‫من الشهارجة الذين ش??رفهم أي??رج وجعلهم أش??راف الس??واد ثم الطبق??ة الثاني??ة بع??د‬
‫الش??هارجة وهم ال??دهاقين وهم ول??د وهك??رت بن ف??ردال بن س??يامك بن نرس ?ي? بن‬
‫كيومرث الملك‪ .‬وكان لولد وهكرت عشر بنين‪ ،‬فأبناء هؤالء العشرة هم ال??دهاقين‪،‬‬
‫وك??ان وهك??رت أول من َت??دَ هقن‪ .‬وال??دهاقين تتف??رع على م??راتب خمس ومن ذكرن??ا‬
‫كانت مالبس?هم تختل?ف على ق?در م?راتبهم‪ ?.‬وقت?ل يزدج?رد االخ?ر من مل?وكهم على‬
‫حسب ما ذكرنا‪ .‬وله خمس وثالثون سنة‪ ?.‬وخلف من الولد‪ :‬به??رام‪ ،‬وف??يروز‪ ،‬ومن‬
‫النساء أدرك‪ .‬وشاهين‪ ،‬ومرداون?د‪ .‬وأك?ثر عقب?ه بم?رو‪ ،‬واألك?ثر من أبن?اء المل?وك‬
‫وأعق??اب الطبق??ات األرب??ع بس??واد الع??راق إلى اآلن يتدارس??ون أنس??ابهم ويحفظ??ون‬
‫أحس??ابهم كحف??ظ الع??رب من قحط??ان ون??زار‪ ،‬وال خالف فيم??ا ذكرن??ا عن??د الدراي??ة‬
‫بماوصفنا‪.‬قال المسعوعي‪ :‬فإذ قد ذكرنا جوامع من أخبار الفرس وطبق?اتهم فلن??ذكر‬
‫االن مل??وك اليون??انيين ولمع?ا ً من أخب??ارهم وتن??ازع الن??اس في ب??دء أنس??ابهم‪ ،‬على‬
‫االختصار واإليجاز‪ ،‬وهّللا ولي التوفيق‪ ،‬برحمته? ورضوانه‪.‬‬
‫صفحة ‪162 :‬‬

‫ذكر ملوك اليونانيين ولمع من أخبارهم‬


‫وما قاله الناس في بدء أنساب‬
‫اختالف الناس في أصلهم‬

‫قال المسعودى‪ :‬تنازع الناس في فرق اليونانيين؛ فذهب طائفة من الن??اس إلى أنهم‬
‫ينتمون إلى الروم‪ ،‬ويضافون إلى ولد إسحاق‪ ،‬وقالت طائفة اخ??رى‪ :‬إن يون?ان ه?و‬
‫ابن يافث بن ينوح‪ ،‬وذهب قوم إلى أنهم من ولد آراش بن ناوان بن يافث بن نوح‪،‬‬
‫وذهب قوم إلى أنهم قبيل متقدم في الزمان األول‪ ،‬وإنما وهم من وهم أن اليون??انين‬
‫ينس??بون إلى حيث تنس??ب ال??روم‪ ،‬و ينتم??ون إلى ج??دهم إب??راهيم ألن ال??ديار ك??انت‬
‫مشتركة? والمقاطن والم??واطن ك??انت متس??اوية‪ ،‬وك??ان الق??وم ق??د ش??اركوا الق??وم في‬
‫السجية والمذهب؛ فلذلك غلط من غلط في النسب‪ ،‬وجعل األب واحداً‪ ،‬وهذا طري??ق‬
‫فت في لغاته??ا‬ ‫الص??واب عن??د المفتش??ين‪ ،‬وس??بيل البحث عن??د الب??احثين‪ ،‬وال??روم َق ْ‬
‫ووض??ع كتبه??ا اليون??انيين فلم يص??لوا إلى كن??ه فص??احتهم وطالق??ة ألس??نتهم وال??روم‬
‫أنقص في اللس???ان من اليون???انيين‪ ،‬وأض???عف في ت???رتيب? الكالم ال???ذي علي???ه نهج‬
‫س َننُ خطابهم‪.‬‬
‫تعبيرهم و َ‬
‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكر ذوو العناية بأخبار المتقدمين أن يونان أخو قحطان‪ ،‬وأنه‬
‫من ولد عابر بن شالخ‪ ،‬وأن أمره في األنفصال عن دار أخيه ك??ان س??بب الش??ك في‬
‫الشركة في النسب‪ ،‬وأن??ه خ??رج عن أرض اليمن في جماع??ة من ول??ده وأهل??ه َو َمنْ‬
‫س?ل َ في تل??ك‬ ‫انضاف إلى جملته حتى وافى أقاص??ي بالد المغ??رب‪ ،‬فأق??ام هنال??ك‪َ ،‬وأ ْن َ‬
‫الديار‪ ،‬واستعجم لسانه‪َ ،‬و َوازى من ك??ان هنال??ك في اللغ??ة األعجمي??ة من اإلِفرنج??ة‬
‫رالروم‪ ،‬فزالت نسبته‪ ?،‬وانقطع سببه‪ ،‬وص??ار منس??يا ً في دي??ار اليمن غ??ير مع??روف‬
‫س?نَ العق??ل‬ ‫النسابين منهم وكان يونان جباراً عظيماً‪ ،‬وس??يما ً جس??يماً‪ ،‬وك??ان َح َ‬‫ِ‬ ‫عند‬
‫والخلق َج ْزل الرأي‪ ،‬كثير الهمة‪ ،‬عظيم القدر‪.‬وقد ك??ان يعق??وب بن إس??حاق الكن??دي‬
‫خ لقحطان‪ ،‬ويحتج لذلك بأخبار يذكرها‬ ‫يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا من أنه أ ٌ‬
‫في ب?دء األنس??اب‪ ،‬ويورده?ا من ح?ديث اآلح?اد واألف?راد‪ ،‬ال من ح?ديث االستفاض??ة‬
‫والكثرة‪.‬‬
‫وقد َر َد عليه أبو العباس عبد هّللا بن محمد الناش??ىء في قص??يدة ل??ه طويل??ة‪ ،‬وذك??ر‬
‫َخ ْلطه نسب يونان بقحطان‪ ،‬على حسب ما ذكرنا آنف?ا ً في ص??در ه??ذا الب??اب‪ ،‬فق??ال‪:‬‬
‫ص َّح منك والعقدا‬ ‫َع َلى ْ‬
‫الفحص َرايا ً َ‬ ‫سف‪ ،‬إني نظـرت فـلـم أجـد‬ ‫أبائو ُ‬
‫إذا امـرؤ َبالَ ُه ْم جميعا ً لم يجد عندهم عـنـدا‬ ‫وصرت حكيما ً عند قـوم‬
‫أخـا كـنـده إدا‬ ‫لقد جئت شـيئا ً يا َ‬ ‫أ َت ْق ِرنُ إلـحـاداً بـدين مـحـمـد‬
‫لقد َبا َعدْ َت بينـهـمـاجـدا‬ ‫ـلة لعمري‬‫ض ً‬‫و َلخلط يونانـأبـقـحـطـان َ‬

‫صفحة ‪163 :‬‬

‫مساكن يونان‬
‫ولما نشأ ولديونان وك?ثرخرج يس?يرفي? األرض يطلب موض??عا ً يس??كنه‪ ،‬ف?انتهى إلى‬
‫موضع من الغ??رب‪ ،‬ف??نزل بمدين?ة? أثين??ا‪ ،‬وهي المعروف??ة بمدين?ة? الحكم??اء في دي??ار‬
‫المغرب في صدر الزمان‪ ،‬وأقام بها هو ومن معه من ولده‪ ،‬فك??ثر نس??له به??ا وب??نى‬
‫به??ا البني??ان العظيم‪ ،‬إلى أن أدركت??ه الوف??اة‪ ،‬فجع??ل وص??يته? إلى األك??بر من ول??ده‪،‬‬
‫?ربص من ا ْل َح ْتم‬
‫َ‬ ‫واس??مه حربي??وس‪ ،‬فق??ال ل??ه‪ :‬ي??ا ب??ني‪ ،‬إني ق??د وافيت األج??ل‪ ،‬وق?‬
‫ال??واجب‪ ،‬وإني راح??ل عن??ك ومفارق??ك‪ ،‬ومف??ارق إخوات??ك وأه??ل بيت??ك‪ ،‬وق??د ك??انت‬
‫أحوالكم حسنة النظام بي‪ ،‬وكنت لكم َك ْهفا ً في الشدائد‪ ،‬وعون ?ا ً على المحن‪َ ،‬وم َِج ّن? ا ً‬
‫من الزمان فعليك بالجود فإنه قطب الملك‪ ،‬ومفتاح السياس??ة‪ ،‬وب??اب الس??يادة‪ ،‬وكن‬
‫حريص??أ على اقتن??اء الرج??ال باإِل نع??ام عليهم تكن س??يداً رش??يداً‪ ،‬وإي??اك َوا ْل َح َي??دَ عن‬
‫?ورط‬
‫الطريق المثلى التي عليها بني العقل‪ ،‬ف?إن من ت??رك رأي اللب وثم??رة العق??ل ت? ّ‬
‫في المهالك‪ ،‬ووقع في مقابض المتالف‪.‬‬

‫حربيوس‬
‫ثم مات يونان‪ ،‬واستولى ولده حربي??وس على مك??ان أبي??ه‪ ،‬وض??م إلي??ه أهل??ه ووللى‬
‫وعم??ل بم??ا أم??ره ونم??ا خ??برهم‪ ،‬وك??ثر نس??لهم‪ ،‬فغلب??وا على دي??ار المغ??رب من بالد‬
‫اإِل فرنجة والنوكبرد‪ ،‬وأجناس األمم من الصقالبة وغيرهم‪.‬‬

‫فيلبس‬
‫وكان أول ملوكهم ممن سماه بطليموس في كتابه‪ :‬فيلبس‪ ،‬وتفسيره محب الفرس‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬إن اسمه يابس‪ ،‬وقيل‪ :‬فيلقوس‪ ،‬وكانت مدة ملكه س?بع س?نين‪.‬وق?د قي?ل‪ :‬إن‬
‫اليونانيين لما أن سار البخت نصر من ديار المشرق نح??و الش??ام ومص??ر والمغ??رب‬
‫?راج إلى ف??ارس‪ ،‬وك??ان خ??راجهم‬‫وبذل السيف كانوا ي??ؤدون الطاع??ة ويحمل??ون الخ? ِ‬
‫بيضا ً من ذهب عدداً معلوما ً ووزنا ً مفهوم?ا َ وض??ريبة محص??ورة‪ ،‬فلم??ا أن ك??ان من‬
‫أمر اإِل سكندر بن فيلبس وهو الملك الماضي النيى هو أول ملوك اليونانيين على ما‬
‫ذكره بطليموس ما كان من ظهوره وهمت??ه بعث إلي??ه داري??وس مل??ك ف??ارس‪ ،‬وه??و‬
‫دارا بن دارا‪ ،‬يطالبه بما جرى من الرسم‪ ،‬فبعث إليه اإِل س??كندر‪ :‬إني ق??د ذبحت تل??ك‬
‫الدجاج??ة ال??تي ك??انت ت??بيض? بيض ال??ذهب‪ ،‬وأكلته??ا‪ ،‬فك??ان من ح??روبهم م??ا دع??ا‬
‫اإِل سكندر إلى الخروج إلى أرض الشام والعراق‪ ،‬فاصطلم من كان به??ا من المل??وك‪،‬‬
‫وقتل دارا بن دارا ملك الفرس‪ ،‬وقد أتينا على خ??بر مقتل??ه ومقت?ل? غ??يره من مل??وك‬
‫الهند‪ ،‬ومن لحق بهم من ملوك الشرق في الكت??اب األوس??ط‪ .‬ونس??ب ق??وم اإِل س??كندر‬
‫أنه اإِل س??كندربن فيلبس بن مص??ريم? بن ه??رمس بن ه??ردوس بن ميط??ون بن رومي‬
‫بن نويط بن نوفيل بن رومي بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح‪ ،‬ونسبه? قوم أن??ه‬
‫من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه اإلِس??كندر بن يون??ه بن‬
‫س??رحون بن رومي بن قرم??ط بن نوفي??ل بن رومي? بن األص??فر بن اليغ??زبن العيص‬
‫بن إسحاق بن إ برا هيم‪.‬‬

‫صفحة ‪164 :‬‬


‫اإِل سكندر وذوالقرنين‬
‫وقد تنازع الناس فيه فمنهم من رأى أنه ذو القرنين‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه غ??يره‪،‬‬
‫وتنازعوا أيض?ا ً في ذي الق??رنين‪ :‬فمنهم من رأى أن??ه س??مي ب??ذي الق??رنين لبلوغ??ه‬
‫أطراف األرض وأن الملك الموكل بجبل قاف سماه بهذا االسم‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه‬
‫من المالئكة‪ .‬وهذا قول ُي ْع َزى إلى عمر بن الخط?اب رض?ي هللا عن?ه‪ ،‬والق?ول األول‬
‫البن عباس في تسمية? المل??ك إي??اه‪ .‬ومنهم من رأى أن??ه ك??ان ب??ذؤابتين من ال??ذهب‪.‬‬
‫وهذا قول ُي ْع َزى إلى علي بن أي طالب رض??ي هللا عن??ه‪ .‬وق??د قي??ل غ??ير ذل??ك وإنم??ا‬
‫نذكر تنازع الشرعيين من أهل الكتب‪ .‬وقد ذك??ره تئ??ع في ش??عره وافتخ??ر ب??ه‪ ،‬وأن??ه‬
‫من قحطان‪ .‬ؤقيل‪ :‬إن بعض التبابعة غ?زا مدين??ة رومي?ة? وأس?كنها خلق?ا ً من اليمن‪،‬‬
‫وإن ذا القرنين الذي هو اإلِسكندر من أولئك العرب المتخلفين بها‪ .‬وهللا أعلم‪.‬وسار‬
‫اإلسكندر بعد أن ملك بالد فارس‪ .‬فاحتوى على ملوكه??ا‪ ،‬وت??زوج? بابن??ة ملكه??ا دارا‬
‫بعد أن قتله‪ ،‬ثم سار إلى أرض السند والهند‪ ،‬ووطىء ملوكها‪ ،‬وحملت إليه اله??دايا‬
‫والخراج‪ ،‬وحاربه? ملكه??ا ف??ور‪ ،‬وك??ان أعظم مل??وك الهن??د‪ ،‬وك??ان ل??ه مع??ه ح??روب‪،‬‬
‫وقتله اإلِسكندر مبارزة‪.‬‬
‫ثم سار اإلِسكندر نحو بالد الص??ين والتبت ف??دانت ل??ه المل??وك‪ ،‬وحملت إلي??ه اله??دايا‬
‫والضرائب‪ ،‬وسار في مف?اوز ال?ترك ُي ِري??د خراس?ان من بع?د أن َذ َل??ل ملوكه?ا ورتب‬
‫الرجال والقواد فيم?ا افتتح? من الممال?ك‪ ،‬ورتب ببالد التبت خلق?أ من رجال??ه وك??ذلك‬
‫ببالد الصين‪ ،‬و ًكور بخراس??ان ك??وراً‪ ،‬وب??نى م??دنا ً في س??ائر أس??فاره‪ ،‬وك??ان معلم??ه‬
‫أرسطاطاليس حكيم اليونانيين‪ ،‬وهو صاحب كتاب المنطق وما بعد الطبيع??ة وتلمي??ذ‬
‫أفالطون‪ ،‬وأفالطون تلميذ سقراط‪ ،‬وصرف هؤالء ِه َم َم ُه ْم إلى تقييد عل??وم األش??ياء‬
‫الطبيعية? والنفسية‪ ?،‬وغير ذلك من علوم الفلسفة واتص??الها باإِل لهي??ات‪ ،‬وأب??انوا عن‬
‫األشياء‪ ،‬وأقاموا البرهان على صحتها وأوضحوها لمن استعجم عليه تناولها‪.‬‬
‫وس??ار اإلِس??كندر راجع?ا ً من س??فره ي??ؤ ُم المغ??رب‪ ،‬فلم??ا ص??ار إلى مدين?ة? ش??هرزور‬
‫اش??تدت علت??ه‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ببالد نص??يبين من دي??ار ربيع??ة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ب??العراق‪ ،‬فعه??د إلى‬
‫صاحب جيشه وخليفته على عسكره بطليموس‪.‬‬

‫الحكماء على جدث اإلسكندر‬


‫فلما مات اإلسكندرطافت به الحكماء ممن كان معه من حكم??اء اليون??انيين والف??رس‬
‫والهند وغيرهم من علماء األمم‪ ،‬وك??ان يجمعهم‪ ،‬ويس??تريح إلى كالمهم وال يص??در‬
‫األمور إال عن رأيهم‪ ،‬و ُج ِعل َ بعد أن مات في تابوت من الذهب ورصع بالجوهر بعد‬
‫أن طلي جسمه باألطلية الماسكة ألجزائه‪ ،‬فقال عظيم الحكماء والمقدم فيهم‪ :‬ليتكلم‬
‫كل واحد منكم بكالم يكون للخاصة ُمعزي?ا ً وللعأم??ة واعظ?اً‪ ،‬وق?ام فوض??ع يم??ه على‬
‫التابوت‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫أصبح آسر األسراء أسيراً‪ ،‬ثم قام حكيم ثان فق?ال‪ :‬ه?دا اإلِس?كندر ال?ذي ك?ان يخب?ؤ‬
‫الذهب فصار الذهب يخبؤه‪ ،‬وقال الحكيم الث?الث‪ :‬م?ا أزه??د الن?اس في ه??ذا الجس??د‪،‬‬
‫وأرغبهم في هذا التابوت وقال الحكيم الرابع‪:‬من أعجب العجب أن القوي قد ُغلِب‪،‬‬

‫صفحة ‪165 :‬‬


‫مغترون‪ ،‬وقال الخامس‪ :‬ياذاالذي جعل أجله ضماناً‪ ،‬وجع??ل أمل??ه‬ ‫ُّ‬ ‫والضعفاء الهون‬
‫عياناً‪ ،‬هال باعدت من أجلك‪ ،‬لتبلغ بعض أمل??ك‪ ،‬هال حققت من أمل??ك باالمتن??اع عن‬
‫فوت أجلك وقال السادس‪ :‬أيها الس??اعي المنتص??ب جمعت م??ا خ??ذلك عن االحتي??اج‪،‬‬
‫فغودرت عليك أوزاره وفارقتك أيامه‪ ،‬فمغناه لغيرك‪ ،‬ووباله عليك وقال السابع‪ :‬قد‬
‫كنت لنا واعظا ً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك‪ ،‬فمن كان له عقل فليعق??ل‪ ،‬ومن‬
‫كان معتبراً فليعتبر‪ ،‬وقال الثامن‪ُ :‬ر ّب هائب لك كان يغتابك من ورائك‪ ،‬وه??و الي??وم‬
‫بحضرتك ال يخاف??ك‪ ،‬وق??الى التاس??ع‪ :‬رب ح??ريص على س??كوتك إذ ال تس??كت‪ ،‬وه??و‬
‫الي??وم ح??ريص على كالم??ك اذ ال تتكلم‪ ،‬وق??ال العِاش??ر‪ :‬كم أم? ْ‬
‫?اتت ه??ذه النفس لئال‬
‫تموت‪ ،‬وقد ماتت‪ ،‬وقال الحادي عشر‪ ،‬وكان صاحب خزان??ة كتب الحكم??ة‪ :‬ق??د كنت‬
‫تأمرني? أن الأبعد عنك‪ ،‬فاليوم ال أقدر على الدنو منك‪ ،‬وقال الثاني عشر‪ :‬هذا اليوم‬
‫عظيم العبر‪ ،‬أقبل من شره ما كان مدبراً‪ ،‬وأدب??ر من خ??ير م??ا ك?ان مقباًل ‪ .‬فمن ك??ان‬
‫باكي ?ا ً على َمنْ زال ملك??ه فليب??ك‪ ،‬وق??ال الث??الث عش??ر‪ :‬ي??ا عظيم الس??لطان ْ‬
‫اض ? َم ًحل ّ‬
‫فت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب‪ ،‬وق??ال‬ ‫وع ْ‬
‫سلطانك كما اضمحل ظل السحاب‪َ ،‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬يا مر ضاقت عليه األرض طوالً وعرضاً‪ ،‬ليت شعري كيف حالك فيما‬
‫احتوى عليك منها‪ .‬وقال الخامس عشر‪ :‬أعجب لمن كانت هذه سبيله كيف ش??رهت‬
‫نفسه بجم??ع الحط??ام البائ??د والهش??يم الهام??د‪ ،‬وقم?ال الس?ادس عش??ر أيهم??ا الجم??ع‬
‫الحافل والملتقى الفاضل‪ ،‬ال ترغبوا فيما ال يدوم سروره وتنقطع لذته فق??د ب??ان لكم‬
‫الصالح والرشاد من الغي والفساد‪ ،‬وقال السابع عشر‪ :‬أنظروا إلى حلم النائم كيف‬
‫انقضى‪.‬وظل الغمام كيف انجازها وقال الثامن عشر‪ :‬وكان من حكماء الهند‪ :‬يا من‬
‫كان غضبه الم??وت على غض??بت على الم??وت‪ ،‬وق?ال التاس??ع عش??ر‪ :‬ق?د رأيتم أيه??ا‬
‫الجمع هذا الملك الماضي فليتعظ به االن ه??ذا المل??ك الب??اقي‪ ،‬وق??ال العش??رون‪ :‬ه??ذا‬
‫الذي دار كثيراً واآلن يقر طويالً‪ ،‬وقال الح??ادي والعش??رون‪ :‬إن ال??ذي ك??انت اآلذان‬
‫ت ْنصِ ت له قد سكت‪ ،‬فليتكلم اآلن كل س??اكت‪ ،‬وق?ال الث?اني والعش?رون‪ :‬س??يلحق ب??ك‬
‫س َّره مو ُتك كما لحقت بمن سرك موته‪ ?،‬وق??ال الث?الث والعش??رون‪ :‬مال?ك ال ُتقِ?ل ُّ‬ ‫َمنْ َ‬
‫عضواً من أعضائك‪ ،‬وقد كنت تستقل ملك األرض‪ .‬بل ما ل??ك ال ت??رغب بنفس??ك عن‬
‫ض??يق المك??ان ال??ذي أنت ب??ه‪ ،‬وق??د كنت ت??رغب به??ا عن رحب البالد‪ .‬وق??ال الراب??ع‬
‫ساك الهن??د وحكمائه??ا‪ :‬إن دني??ا يك??ون هك??ذا آخره??ا فالزه??د‬ ‫والعشرون‪ ،‬وكان من ن ّ‬
‫أولى أن يك??ون في أوله??ا‪ ،‬وق??ال الخ??امس والعش??رون‪ ،‬وك??ان ص??احب مائدت??ه‪ :‬ق??د‬
‫فرشت النمارق‪ ،‬ونضدت الوسائد وه??يئت الموائ??د‪ ،‬وال أرى عمي??د المجلس‪ ،‬وق??ال‬ ‫ِ‬
‫السادس والعشرون‪ ،‬وكان صاحب بيت ماله‪ :‬ق??د كنت ت??أمرني ب??الجمع‪ ،‬و اإِل دخ??ار‬
‫فإلى من أدفع ذخائرك وقال السابع والعشرون وكان خازنا ً من خزانه‪ :‬هذه مف??اتيح‬
‫خِزائنك‪ ،‬فمن يقبضها قبل أن أوخذ بما لم آخذ منها‪ .‬وقال الثامن والعش??رون‪ :‬ه??ذه‬
‫يت منه??ا في س??بعة أش??بار ول??و كنت ب??ذلك موقن?ا ً لم‬ ‫الدنيا الطويلة العريضة قد ُط? ِ‬
‫?و َ‬
‫تحمل على نفسك في الطلب‪ ،‬القول لتاسع والعشرن قول زوجت??ه روش??نك بنت دارا‬
‫بن دارا ملك فارس‪ :‬ما كنت حسب أن غالب دارا الملك يغلب‪ ،‬وإن ك??ان ه??ذا الكالم‬
‫الذي سمعت منكم معاشر الحكم??اء في??ه ش??ماتة فق??د خل??ف الك??أس ال??ذي تش??رب ب??ه‬
‫الجماعة‪ ،‬القول الثالثون ما يحكى عن امه أنها قالت حين جاءها نعيه‪ ?:‬لئن فقد من‬
‫ابني أمره‪ ،‬فما فقدت من قبلي ذكره‪.‬‬
‫صفحة ‪166 :‬‬

‫مأتم اإِل سكندر ودفنه‬


‫وقبض اإلِسكندر وهو ابن ست وثالثين سنة‪ ،‬وكان ملكه تسع سنين قبل قتله ل?دارا‬
‫بن دارا‪ ،‬وس??ت س??نين بع??د قتل??ه ل??دارا بن دارا وتملك??ه على س??ائر مل??وك األرض‪،‬‬
‫وملك وهو ابن إحدى وعشرين سنة‪ ،‬وذلك بمقدونية‪ ?،‬وهي مصر‪ ،‬وعه??د إلى ولي‬
‫عهده بطليم??وس بن أريت أن يحم??ل تابوت?ه? إلى والدت??ه باإِل س??كندرية‪ ،‬وأوص??اه آن‬
‫يكتب إليها إذا أتاها نعي?ه أن تتخ??ذ وليم??ة وتن?ادي في مملكته??ا أن ال يتخل??ف عنه?ا‬
‫أحد‪ ،‬وأن ال يجيب دعوتها من قد ف َقدَ محبوبا ً ْأو م?ات ل?ه خلي?ل وليك?ون ذل?ك م?أتم‬
‫اإِل س??كندر بالس??رور‪ ،‬خالف م??أتم الن??اس ب??الحزن‪ ،‬فلم??ا ورد نعي??ه إليه??ا‪ ،‬ووض??ع‬
‫التابوت بين يديها‪ ،‬نادت في أهل مملكتها على ما به أمرها‪ ،‬فلم يجب أحد دعوتها‪،‬‬
‫وال بادر إلى ندائها‪ ،‬فقالت لحشمها ‪ :‬ما بال الناس لم يجيبوا دع??وتي‪ .‬فق??الوا له??ا‪:‬‬
‫قيل لها‪ :‬أمرت أن ال يجيب??ك من فق??د محبوب ?اً‪،‬‬ ‫أنت منعتيهم من ذلك‪ ،‬قالت‪ :‬وكيف‪ِ .‬‬
‫أو ع ? َدم خليالً‪ ،‬أوف??ارق حبيب ?اَ‪ ،‬وليس فيهم أح??د إال وق??د أص??ابه بعض ذل??ك‪ ،‬فلم??ا‬
‫سمعت ذلك استيقظت وعلمت ما به سئلت‪ ،‬وقالت‪ :‬لقد َع َّزانِي ولده أحسن الع??زاء‪،‬‬
‫وق??الت‪ :‬ي??ا إس??كندر م??ا أش??به أواخ??رك بأوائل??ك‪ ،‬وأم??رت ب??ه فجع??ل في ت??ابوت من‬
‫المرم??ر‪ ،‬وطلي باألطلي??ة الماس??كة ألجزائ??ه‪ ،‬وأخرجت??ه عن ال??ذهب‪ .‬لعلمه??ا أنُ منَ‬
‫يطرأ بعدها من الملوك واألمم ال يتركونه في ذل??ك ال??ذهب‪ ،‬وجع??ل الت??ابوت المرم??ر‬
‫على أحج??ار ُنص ? َب ْت‪ ،‬وص??خور نص??بت‪ ،‬من الرخ??ام والمرم??ر ق??د رص??فت‪ ،‬وه??ذا‬
‫?اق ببالد اإلِس??كندرية من أرض مص??ر يع??رف بق??بر‬ ‫الموضع من الرخ??ام والمرم?ر? ب? ً‬
‫اإِل سكندر إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ،‬وس??نذكر فيم??ا ي??رد من‬
‫هذا الكتاب جوامع من أخبار اإِل سكندرية وعجائبه?ا‪ ،‬ومص?ر? وأخباره?ا ونيله?ا‪ ،‬في‬
‫الموضع المستحق له من ذلك في كتابنا‪ ،‬إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬

‫ذكر جوامع من حروب االسكندر بأرض الهند‬

‫قال االمسعودي‪ :‬لما َق َتل اإلِس??كندر ف??ور ص??احب مدين?ة? الم??انكير من مل??وك الهن??د‪،‬‬
‫وانقاد إليه جميع ملوك الهند‪ ،‬على حسب ما ذكرناه من حمل األموال والخراج إليه‬
‫فبلغ??ه أن في أقاص??ي أرض الهن??د ملك ?ا ً من مل??وكهم ذا حكم??ة‪ ،‬وسياس??ة وديان??ة‪،‬‬
‫وإنصاف للرعية‪ ،‬وأنه قد أتى عليه من عمره مئون من السنين وأن??ه ليس ب??أرض‬
‫الهند من فالسفتهم وحكمائهم مثله‪ُ ،‬يقال له كند‪ ،‬وكان قاهراً لنفسه‪ ،‬مميتا ً لصفاته‬
‫من الشهوية والغضبية وغيرها‪ ،‬حامالً لها على خلق كريم‪ ،‬وأدب زائن‪ :‬فكتب إليه‬
‫كتابا ً يقول فيه‪ :‬أما بع?د‪ ،‬ف?إذا أت?اك كت?ابي ِه??ذا ف?إن كنت قائم?ا ً فال تقع??د‪ ،‬وإن كنت‬
‫ت ملكك‪ ،‬ولحقتك بمن مضى من مل??وك الهن??د‪ ،‬فلم??ا ورد‬ ‫ماشيا ً فال تلتفت‪ ،‬وإال مز ْق ُ‬
‫عليه الكتاب أجاب اإِل سكندر أحسن جواب‪ ،‬وخاطبه بمل??ك المل??وك‪ ،‬وأعلم?ه أن?ه ق?د‬
‫اجتمع له قبله‪ ،‬أشياء ال يجتمع عند غيره مثلها إال من صارت إلي??ه عن??ه فمن ذل??ك‬
‫ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن صورة منها‪ ،‬وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن‬
‫تسأله لحِدة مزاجه‪ ،‬وحسن قريحته‪ ،‬واعتدال بنيته‪ ?،‬واتساعه في علمه‪ ،‬وط??بيب ال‬
‫تخشى معه داء‪ ،‬وال شيئا ً من العوارض‪ ،‬إال ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع‬
‫صفحة ‪167 :‬‬

‫الجسم الحس??ي‪ ،‬وإن‬‫ِ‬ ‫بهذه البنية‪ ?،‬وحل العقدة التي عقدها المبدع لها المخترع لهذا‬
‫ك??انت بني ?ة? اإلس??نان وهيكل??ه ق??د نص??بت في ه??ذا الع??الم غرض ?ا َ لألف??ات والحت??وف‬
‫والباليا‪ ،‬و َق َدح عندي إذا أنا مألته شرب منه عسكرك بجمعه وال ينقص منه شيء‪،‬‬
‫وال يزيده الوارد عليه إال دهاقاً‪ ،‬وأنا ُم ْنف ٌذ جميع ذلك إلى الملك‪ ،‬وصائر إلي??ه‪ ،‬فلم??ا‬
‫قرأ اإلِسكندر هذا الكتاب ووقف على ما فيه قال‪ :‬تكون هذه األشياء األربعة عندي‪،‬‬
‫ونج??اة ه??ذا الحكيم من ص??ولتي أحب من أن ال تك??ون عن??دي ويهل??ك‪ ،‬فأنف??ذ إلي??ه‬
‫اإِل سكندر جماعة من حكماء اليونانيين والروم‪ .‬في عدة من الرج??ال‪ ،‬وتق??دم إليهم‪:‬‬
‫إن ك??ان ص??ادقا ً فيم??ا كتب ب??ه ف??احملوا ذل??ك إلي‪ ،‬ودع??وا الرج??ل في موض??عه‪ ،‬وإن‬
‫تبينتم أن األمر بخالف ذلك وأنه أخبر عن الشيء على خالف ما هو ب??ه فق??د خ??رج‬
‫عن حد الحكمة فأشخصوه إلي‪ ،‬فمضى القوم حتى انتهوا إلى الملك فتلقاهم بأحسن‬
‫لقاء‪ ،‬وأن?زلهم أحس?ن م?نزل‪ ،‬فلم?ا ك?ان في الي?وم الث?الث جلس لهم مجلس?ا ً خاص?ا ً‬
‫للحكم??اء منهم دون من ك??ان معهم من المقاتل??ة‪ ،‬فق??ال بعض الحكم??اء لبعض‪ :‬إن‬
‫ص??دقنا في األولى ص??دقنا فيم??ا بع??دها مم??ا ذك??ر‪ ،‬فلم??ا أخ??ذت الحكم??اء مراتبه??ا‪،‬‬
‫واس??تقرت به??ا مجالس??ها‪ ،‬أقب??ل عليهم مباحث ?ا ً لهم في أص??ول الفلس??فة والكالم في‬
‫الطبيعيات وما فوقه??ا من اإلِلهي??ات‪ ،‬وعلى ش??ماله جماع??ة من حكمائ??ه وفالس??فته‪،‬‬
‫وتش??اح الق??وم‪ ،‬ونظ??روا في موض??وعات العلم??اء‬ ‫ّ‬ ‫فط??ال الخطب في المب??دأ األول‪،‬‬
‫وترتيبات الحكماء على غير مراء وتناهى بهم الكال ُم إلى غاية كان إليها ص??دورهم‬
‫من العلويات‪ ،‬ثم أخرج الجارية فلم??ا ظه??رت ألبص??ارهم َر َمقُوه??ا ب??أعينهم فلم يق??ع‬
‫طرف واحد منهم على عضو من أعضائها مما ظهر فأمكن??ه أن يتع??دى ببص??ره? إلى‬
‫غيره‪ ،‬وشغله تأمل ذلك وحسنه? وحسن شكلها وإتقان صورتها‪ ،‬فخ??اف الق??وم على‬
‫عق??ولهم لم??ا ورد عليهم عن??د النظ??ر إليه??ا‪ ،‬ثم إن ك??ل واح??د منهم رج??ع إلى نفس??ه‬
‫وفهمه وقهر س??لطان ه??واه دواعي طبع??ه‪ ،‬ثم أراهم بع??د ذل??ك م??ا تق??دم الوع??د ب??ه‪،‬‬
‫وسيرهم وسير الفيلسوف والط??بيب والجاري??ة والق??دح معهم‪ ،‬وش??يعهم مس??افة من‬
‫أرض??ه‪ ،‬فلم??ا وردوا على اإلِس??كندر أم??ر ب??إنزال الط??بيب والفيلس??وف‪ ،‬ونظ??ر إلى‬
‫الجارية‪ ،‬فحار عند مشاهدتها‪ ،‬وبهرت عقله‪ ،‬وأمر َقي َمة جواريه بالقيام عليه??ا‪ ،‬ثم‬
‫صرف همته إلى الفيلسوف وإلى علم ما عنده‪ ،‬وإلى علم الطبيب ومحله من صنعة‬
‫الطب وحفظ الص??حة‪ ،‬وقص الحكم??اء علي??ه م??ا ج??رى لهم من المباحث??ة م??ع المل??ك‬
‫الهندي‪ ،‬ومن أحضره من فالسفته وحكمائه‪ ،‬فأعجب??ه ذل?ك‪ ،‬وتأم??ل أغ??راض الق??وم‬
‫ومقاصدهم والغاية ال??تي إليه??ا ك??ان أص??درهم‪ ،‬وأقب??ل ينظ??ر إلى مط??اردة الهن??د في‬
‫عللها ومعلوالتها وما يصفه اليونانيون من عللها وصحة قياسها على ما قدمنا من‬
‫أوضاعها‪ ،‬ثم أراد محنة الفيلسوف على حسب ما أخبر عنه‪ ،‬وأج??ال فك??ره‪ ،‬فس??نح‬
‫له سانح من الفكر بإيقاع معنى يخت??بره ب??ه‪ ،‬ف??دعا بق??دح فمأله س??منا ً وأدهق??ه‪ ،‬ولم‬
‫يجعل للزيادة عليه سبيالً‪ ،‬ودفعه إلى رسول له‪ ،‬وقال له‪ :‬امض به إلى الفيلسوف‪،‬‬
‫وال تخبره بشيء‪ ،‬فلما ورد الرسول بالقدح ودفعه إلى الفيلسوف قال بصحة فهم??ه‬
‫وتبينه? لألم??ور المتقن??ة المحكم??ة في نفس??ه‪ ?:‬ألم? ٍ?ر م??ا بعث ه??ذا المل??ك الحكيم به??ذا‬
‫س َبر المراد به‪ ،‬ثم دعا بنح??و أل??ف إب??رة فغ??رز أطرافه??ا‬ ‫السمن إلي‪ ،‬وأجال فكره‪ ،‬و َ‬
‫في السمن‪ ،‬وأنفذها إلى اإِل سكندر‪ ،‬فأمر اإِل سكندر بسبكها كرة مدورة ململمة‬
‫صفحة ‪168 :‬‬

‫متساوية? األجزاء‪ ،‬وأمر بردها إلى الفيلسوف‪ ،‬فلما نظر إليها الفيلسوف وتأمل فعل‬
‫اإلسكندر فيها أمر ببسطها‪ ،‬وبأن يتخ??ذ منه??ا م??رآة بحض??رته‪ ?.،‬وص? َق َلها‪ ،‬فص??ارت‬
‫جسما ً صقيالً ت??ر ُّد ص??ورة َمنْ قابله??ا من األش??خاص لش??دة ص??فائها‪ ،‬وزوال ال??درن‬
‫عنها‪ ،‬وأمر بردها إلى اإِل سكندر‪ ،‬فلما نظر إليها‪ ،‬وتأمل حس??ن ص??ورته فيه??ا‪ ،‬دع??ا‬
‫بطست فجعل المرآة فيه‪ ،‬وأمر بإراقة الماء فيه عليها حتى رسبت فيه‪ ،‬وأمر بحمل‬
‫ذلك إلى الفيلسوف‪ ،‬فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك أم??ر ب??المرآة فجع??ل منه??ا مش??ربة‬
‫ك??الطر جه??ارة‪ ،‬وجعله??ا في الطس??ت ف??وق الم??اء‪ ،‬فطفت فوق??ه‪ ،‬وأم??ر برده??ا إلى‬
‫اإِل سكندر‪ ،‬فلم??ا نظ??ر اإِل س??كندر إلى ذل??ك أم??ر ب??تراب ن??اعم فملئت من??ه‪ ،‬ورده?ا إلى‬
‫الفيلسوف‪ ،‬فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك تغيرلونه وحال‪ ،‬وج??زع وتغ??يرت ص??فاته‪،‬‬
‫وأسبل دموعه على صحن خده‪ ،‬وكثر ش??هيقه‪ ?،‬وط??ال أنين??ه‪ ،‬وظه??ر حنين??ه‪ ،‬وأق??ام‬
‫بقية يومه غير منتفع? بنفسه‪ ،‬ثم أفاق من ذلك الح??ال‪ ،‬وزج??ر نفس??ه‪ ،‬وأقب??ل عليه??ا‬
‫الس ?دْ فة وأص??ارك إلى‬‫كالمعاتب لها وقال‪ :‬ويحك يا نفس ما الذي قذف بك في ه??ذه ُّ‬
‫ه??ذه الغم??ة‪ ،‬ووص??لك به??ذه الظلم??ة‪ ?.‬أنس??يت وأنت في النورتس??رحين وفي العل??وم‬
‫تمرحين‪ ،‬وتنظرين في الضياء الصادق‪ ،‬وتنفسحين في العالم المش??رق‪ .‬أن??زلت إلى‬
‫عالم الظلم والمعاندة‪ ،‬والغشم والمفاسدة‪ ،‬تخطفك الخواطف‪ ،‬وتنته??رك العواص??ف‪،‬‬
‫ق??د ح??رمت علم الغي??وب‪ ،‬والك??ون في الع??الم المحب??وب‪ ،‬ورميت بش??دائد الخط??وب‪،‬‬
‫ورفض??ت ك??ل مطل??وب‪ ،‬أين مص??ادرك الطبي??ة وراحت??ك القوي??ة‪ .‬حللت في األجس??اد‪،‬‬
‫فقوي عليك الكون والفساد‪ ،‬حللت يا نفس بين الس??باع القاتل??ة واألف??اعي المهلك??ة‪،‬‬
‫والمياه الحاملة والنيران المحرقة‪ ،‬والريح العاصفة‪ ،‬وصيرتك األعمار في ق??رارات‬
‫?ر ْينَ إال ج??اهالً‪ ،‬ق??د زه??د في الخ??يرات ورغب‬ ‫األجسام‪ ،‬ال تشاهدين إال غافاَل َ‪ ،‬وال َت? َ‬
‫عن الحسنات‪ ،‬ثم رفع طرفه نحو السماء فرأى النجوم تزهر‪ ،‬فق?ال ب?أعلى ص??وته‪?:‬‬
‫يال??ك من نج??وم س??ائرة‪ ،‬وأجس??ام زاه??رة‪ ،‬من ع??الم ش??ريف طلعت‪ ،‬ولش??يء م??ا‬
‫وضعت‪ ،‬إنك من عالم نفيس قد كانت النفس في أعاليه ساكنة‪ ،‬وفي أكنافه قاطن??ة‪،‬‬
‫فقد أصبحت عنه ظاعنة‪ ،‬ثم أقبل على الرس??ول ص??لى هللا علي??ه وس??لم وق??ال‪ :‬خ??ذه‬
‫ورده إلى الملك‪ ،‬يعني التراب‪ ،‬ولم يحدث فيه حادث??ة‪ ،‬فلم??ا ورد الرس??ول ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم على اإِل سكندر أخبره بجميع ما شهده‪ ،‬فتعجب اإِل سكندر من ذل??ك‪ ،‬وعلم‬
‫مرامي الفيلسوف ومقاصده وغاية مراده فيما وقع بالنفوس من النقلة مما عال من‬
‫العوالم إلى هذا العالم‪.‬ولما كان في ص??بيحة? تل??ك الليل??ة جلس ل??ه اإِل س??كندر جلوس?ا ً‬
‫خاص?اً‪،‬ودع??ا ب??ه‪ ،‬ولم يكن رآه قب??ل‪ ،‬ذل??ك‪ ،‬فلم??ا أقب??ل ونظ??ر إلى‪ ،‬ص??ورته وتأم??ل‪،‬‬
‫قامته‪ ،‬ثم دعا بنحو أل??ف إب??رة فغ??رز أطرافه??ا في الس??من‪ ،‬وأنف??ذها إلى اإِل س??كندر‪،‬‬
‫ف??أمر اإِل س??كندر بس??بكها ك??رة م??دورة ململم??ة متس??اوية األج??زاء‪ ،‬وأم??ر برده??ا إلى‬
‫الفيلسوف‪ ،‬فلما نظر إليها الفيلسوف وتأمل فعل اإلسكندر فيها أمر ببس??طها‪ ،‬وب??أن‬
‫يتخذ منها مرآة بحضرته‪ .،‬وص َق َلها‪ ،‬فصارت جسما ً ص??قيالً ت??ر ُّد ص??ورة َمنْ قابله??ا‬
‫من األشخاص لشدة صفائها‪ ،‬وزوال الدرن عنها‪ ،‬وأمر برده??ا إلى اإِل س??كندر‪ ،‬فلم??ا‬
‫نظر إليها‪ ،‬وتأمل حسن صورته? فيها‪ ،‬دعا بطست فجعل الم??رآة في??ه‪ ،‬وأم??ر بإراق??ة‬
‫الم??اء في??ه عليه??ا ح??تى رس??بت في??ه‪ ،‬وأم??ر بحم??ل ذل??ك إلى الفيلس??وف‪ ،‬فلم??ا نظ??ر‬
‫الفيلسوف إلى ذلك أمر بالمرآة فجعل منها مشربة? كالطر جهارة‪ ،‬وجعلها في‬
‫صفحة ‪169 :‬‬

‫الطست فوق الماء‪ ،‬فطفت فوقه‪ ،‬وأمر بردها إلى اإِل سكندر‪ ،‬فلما نظر اإِل سكندر إلى‬
‫ذلك أمر بتراب ناعم فملئت منه‪ ?،‬ورده??ا إلى الفيلس??وف‪ ،‬فلم??ا نظ??ر الفيلس??وف إلى‬
‫ذلك تغيرلونه وحال‪ ،‬وجزع وتغيرت صفاته‪ ،‬وأسبل دموعه على صحن خده‪ ،‬وكثر‬
‫شهيقه‪ ?،‬وطال أنينه‪ ،‬وظهر حنينه‪ ?،‬وأقام بقية? يومه غير منتفع بنفسه‪ ?،‬ثم أفاق من‬
‫ذلك الحال‪ ،‬وزجر نفسه‪ ?،‬وأقبل عليها كالمعاتب لها وقال‪ :‬ويحك ي??ا نفس م??ا ال??ذي‬
‫سدْ فة وأصارك إلى ه??ذه الغم??ة‪ ،‬ووص??لك به??ذه الظلم??ة‪ .‬أنس??يت‬ ‫قذف بك في هذه ال ُّ‬
‫وأنت في النورتس??رحين وفي العل??وم تم??رحين‪ ،‬وتنظ??رين في الض??ياء الص??ادق‪،‬‬
‫وتنفس???حين في الع???الم المش???رق‪ .‬أن???زلت إلى ع???الم الظلم والمعان???دة‪ ،‬والغش???م‬
‫والمفاس??دة‪ ،‬تخطف??ك الخواط??ف‪ ،‬وتنته??رك العواص??ف‪ ،‬ق??د ح??رمت علم الغي??وب‪،‬‬
‫والكون في العالم المحبوب‪ ،‬ورميت بش??دائد الخط??وب‪ ،‬ورفض??ت ك??ل مطل??وب‪ ،‬أين‬
‫مصادرك الطبية وراحتك القوية‪ .‬حللت في األجساد‪ ،‬فق??وي علي??ك الك??ون والفس?اد‪،‬‬
‫حللت ي??ا نفس بين الس??باع القاتل??ة واألف??اعي المهلك??ة‪ ،‬والمي??اه الحامل??ة والن??يران‬
‫المحرقة‪ ،‬والريح العاصفة‪ ،‬وصيرتك األعمار في قرارات األجس??ام‪ ،‬ال تش??اهدين إال‬
‫?ر ْينَ إال ج??اهالً‪ ،‬ق??د زه??د في الخ??يرات ورغب عن الحس??نات‪ ،‬ثم رف??ع‬ ‫غ??افاَل َ‪ ،‬وال َت? َ‬
‫طرفه نحو السماء فرأى النجوم تزهر‪ ،‬فقال بأعلى صوته‪ :‬يالك من نج??وم س??ائرة‪،‬‬
‫وأجسام زاهرة‪ ،‬من عالم شريف? طلعت‪ ،‬ولشيء م??ا وض??عت‪ ،‬إن??ك من ع??الم نفيس‬
‫قد كانت النفس في أعاليه ساكنة‪ ،‬وفي أكنافه قاطنة‪ ،‬فقد أصبحت عن??ه ظاعن??ة‪ ،‬ثم‬
‫أقبل على الرسول صلى هللا عليه وسلم وقال‪ :‬خذه ورده إلى الملك‪ ،‬يع??ني ال??تراب‪،‬‬
‫ولم يحدث فيه حادثة‪ ،‬فلما ورد الرسول صلى هللا عليه وسلم على اإِل سكندر أخ??بره‬
‫بجمي??ع م??ا ش??هده‪ ،‬فتعجب اإِل س??كندر من ذل??ك‪ ،‬وعلم م??رامي الفيلس??وف ومقاص??ده‬
‫وغاية مراده فيما وقع بالنفوس من النقلة مما عال من العوالم إلى هذا الع??الم‪.‬ولم??ا‬
‫كان في صبيحة تلك الليلة جلس له اإِل سكندر جلوسا ً خاصاً‪،‬ودع??ا ب??ه‪ ،‬ولم يكن رآه‬
‫قبل‪ ،‬ذلك‪ ،‬فلما أقبل ونظر إلى‪ ،‬صورته وتأمل‪ ،‬قامته وخلقته‪ ،‬نظر إلى رجل طويل‬
‫الجسم‪َ ،‬ر ْحب الجبين‪ ،‬معتدل البنية‪ ،‬فقال في نفسه‪ :‬هذه بني?ة? تض??اد الحكم??ة‪ ،‬ف??إذا‬
‫أوحدَ زمانه‪ ،‬ولست أشك أن ه??ذا الش??خص‬ ‫اجتمع حسن الصورة وحسن الفهم كان َ‬
‫قد اجتمع له األم?ران جميع?اً‪ ،‬ف?إن ك?ان ه?ذا الش?خص ق?د علم ك?ل م?ا راس?لته ب?ه‪،‬‬
‫وأجابني? عليه من غير مخاطبة وال موافقة وال مباحثة‪ ،‬فليس في وقته أح??د يداني??ه‬
‫في حكمته‪ ،‬وال يلحقه في علمه‪ ،‬وتأمل الفيلسوف اإلِسكندر ف??أدار أص??بعه الس??بابة‬
‫على وجهه‪ ،‬ووضعها على أرنب?ة? أنف??ه‪ ،‬وأس??رع نح??و اإلِس??كندر وه??و ج??الس على‬
‫غير سرير? ملكه‪ ،‬فحياه بتحية الملوك‪ ،‬فأشار إليه اإِل سكندر بالجلوس‪ ،‬فجلس حيث‬
‫أمره‪ ،‬فق??ال ل??ه اإلس??كندر‪ :‬م??ا بال??ك حين نظ??رت إلي‪ .‬ورميت بطرف??ك نح??وي أدرت‬
‫أصبعك حول وجهك ووض??عتها على أرنب?ة أنف?ك‪ .‬ق?ال‪ :‬تأملت??ك أيه?ا المل?ك بنوري?ة?‬
‫عقلي وصفاء مزاجي‪ ،‬فتبينت? فكرتك في‪ ،‬وتأملك لصورتي‪ ،‬وأنها قلما تجتم??ع م??ع‬
‫الحكمة‪ ،‬فإذا كان ذلك كان صاحبها أوحد أهل زمانه‪ ،‬ف??أعرت أص??بعي مص??داقا ً لم??ا‬
‫سنح لك‪ ،‬وأريتك مثاالً شاهداً‪ ،‬كما أن??ه ليس في الوج??ه إال أن??ف واح??د فك??ذلك ليس‬
‫في دار مملك??ة الهن??د غ??يري‪ ،‬وال يلح??ق أح??د من الن??اس بي في حكم??تي‪ ،‬فق??ال ل??ه‬
‫تأتى لك ما ذكرت‪ ،‬وانتظم لك بحسن الخاطر ما وصفت‪،‬‬ ‫ااِل سكندر‪ :‬ما أحسن ما َّ‬
‫صفحة ‪170 :‬‬

‫فدع عنك هذا‪ ،‬وأخبرني? ما بالك حين أنفذت إلي??ك ق??دحا ً ممل??وءاً س??منا ً غ??رزت في??ه‬
‫إلي‪ .‬قال الفيلس??وف‪ :‬علمت أيه??ا المل??ك أن??ك تق??ول‪ :‬إن قل??بي ق??د أمتأل‬‫إبراً ورددته َّ‬
‫وعلمي ق??د أنتهى ك??امتالء ه??ذا اإِل ن??اء من الس??من‪ ،‬فليس ألح??د من الحكم??اء في??ه‬
‫مستزاد‪ ،‬فأخبرت الملك أن علمي سيزيد في علمك‪ ،‬ويدخل فيه دخول هذه اإِل بر في‬
‫هذا اإِل ناء‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني? ما بالك حين عملت من اإلِبر كرة وأنفذتها إلي??ك ص??يرتها‬
‫مرآة ورددتها إلي صقيلة‪ ،‬قال‪ :‬قد علمت أيها الملك أنك تريد أن قلب??ك ق??د قس??ا من‬
‫سفك ال??دماء والش??غل بسياس?ة? ه??ذا الع??الم كقس??وة ه??ذه الك??رة‪ ،‬فال يقب??ل العلم‪ ،‬وال‬
‫ي??رغب في فهم الغاي??ات في العل??وم والحكم??ة‪ ،‬فأخبرت??ك مجيب?ا ً متمثالَ بس??بك الك??رة‬
‫والحيلة في أمرها بجعلي منها مرآة صقيلة مؤدية إلى األجسام عند المقابلة لحسن‬
‫الصفاء‪ ،‬قال له اإلِسكندر‪ :‬صدقت‪ ،‬قد أجبتني? عن مرادي‪ ،‬فأخبرني أيها الفيلسوف‬
‫حين جعلت المرآة في الطست ورسبت في الماء‪ :‬لِ َم جعلتها قدحا ً فوق الماء طافي??ة‬
‫ٍلي‪ ،‬قال الفيلسوف‪ :‬علمت أنك تريد بذلك أن األيام قد انقضت وقصرت‪،‬‬ ‫ثم رددتها ا ّ‬
‫واألجل قد قرب‪ ،‬وال يدرك العلم الكثير في المه??ل القلي??ل‪ ،‬ف??أجبت المل??ك متمثالً أني‬
‫ساعمل الحيلة في إيراد العلم الكثير في المهل القليل إلى قلب??ه وتقريب??ه من فهم??ه‪،‬‬
‫كاحتيالي للمرآة من بعد كونها راسبة في الماء حتى جعلته??ا طافي??ة علي??ه‪ ،‬ق??ال ل??ه‬
‫إلي ولم تح??دث‬ ‫االسكندر‪ :‬صدقت فأخبرني? م??ا بال??ك حين مألت اإلِن??اء تراب?ا ً رددت??ه ّ‬
‫فيه حادثة كفعلك فيما سلف‪ ،‬قال‪ :‬علمت أنك تقول‪ :‬ثم الم??وت وأن??ه ال ب??د من??ه‪ ?،‬ثم‬
‫لحوق هذه البنية بهذا العنص??ر الب??ارد الي??ابس الثقي??ل ال??ذي ه??و األرض‪ ،‬ودثوره??ا‬
‫وتف??رق أجزائه??ا ومفارق??ة النفس الناطق??ة الص??افية الش??ريفة اللطيف??ة له??ذا الجس??د‬
‫المرئي‪ ،‬قال له اإلسكندر‪ :‬صدقت‪ ،‬وألحسنن إلى الهند من أجلك‪ ،‬وأمر ل??ه بج??وائز‬
‫ُ‬
‫أحببت الم??ار لم??ا أردت العلم‪،‬‬ ‫كثيرة‪ ،‬وأقطعه قطائع واسعة‪ ،‬فقال له الفيلسوف‪ :‬لو‬
‫ولس??ت أدخ??ل على علمي م??ا يض??اده وينافي??ه‪ ،‬واعلم أيه??ا المل??ك أن القني??ة ت??وجب‬
‫الخدمة‪ ،‬ولسنا نجد عاقاًل َمنْ خدم غير ذاته‪ ،‬واستعمل غير ما يصلح نفسه‪ ،‬والذي‬
‫يصلح النفس الفلسفة‪ ،‬وهي صقالها وغذاؤها‪ ،‬وتن??اول الل??ذات الحيواني ?ة? وغيره??ا‬
‫سلم إليه‪ ،‬ومن عدم ذل?ك ع?دم‬ ‫من الموجودات ضد لها‪ ،‬والحكمة سبيل? إلى العلو‪ ،‬و ُ‬
‫القربة من بارئه‪ ،‬واعلم أيها الملك أن بالعدل ركب جميع العالم بجزئيات??ه‪ ?،‬واليق??وم‬
‫بالجور‪ ،‬والعدل ميزان البارىء جل ّ وعز‪ ،‬فكذلك حكمته? مبرأة عن ك??ل مي??ل وزل??ل‪،‬‬
‫وأشبه األشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم اإِل حسان إلى الناس‪ ،‬وق??د ملكت أيه??ا‬
‫الملك بسيفك‪ ،‬وصولة ملكك‪ ،‬وتأ ّتيك في أمورك‪ ،‬وانتظ??ام سياس??تك أجس??ام رعيت??ك‬
‫ف َت َح? َّر أن تمل?ك قل??وبهم بإحس?انك إليهم‪ ،‬وإنص?افك لهم‪ ،‬وع?دلك فيهم‪ ،‬فهي خزان??ة‬
‫سلطانك‪ ،‬فإنك إن قدرت أن تقول قدرت أن تفعل‪ ،‬فاحترز من أن تقول تأمن من أن‬
‫تفعل‪ ،‬فالملك السعيد من تمت ل??ه رياس??ة أيام??ه‪ ،‬والمل??ك الش??قي من انقطعت عن??ه‪،‬‬
‫فمن تحرى في سيرته? العدل اس??تنار قلب??ه بعذوب??ة الطه??ارة‪.‬ق??ال المس??عودي رحم??ه‬
‫هّللا ‪ :‬وخلّى اإِل س َكندر عن الفيلسوفِ إلبائه المقام معه فلحق بأرضه‪ ،‬ولاِل سكندر مع‬
‫هذا الفيلسوف مناظرات كثيرة في أنوع من العلوم‪ ،‬ومكاتب??ات‪ ،‬ومراس??الت‪ ،‬ج??رت‬
‫بين اإِل س?كندر وبين كن?د مل?ك الهن?د‪ ،‬ق?د أتين??ا على مبس?وطها والغ??رر من معانيه?ا‬
‫ح فامتحنه حين أدهقه بالماء‪،‬‬ ‫والزهْ ر من عيونها في كتابنا أخبار الزمان‪.‬وأما ال َق َد ُ‬
‫ُّ‬
‫صفحة ‪171 :‬‬

‫وأورد عليه الناس‪ ،‬فلم ينقص شربهم منه? شيئاً‪ ،‬وكان معموالً بضرب من خ??واص‬
‫الهند والروحانية? والطبائع التأمة والتوهم‪ ،‬وغير ذلك من العلم مم??ا َي َّدعي??ه الهن??د‪،‬‬
‫وق??د قي??ل‪ :‬إن??ه ك??ان آلدم أبي البش??ر علي??ه الس??الم ب??أرض س??رنديب من بالد الهن??د‬
‫مبارك ل??ه في??ه‪ ،‬ف? ُ?و ِر َث عن??ه‪ ،‬وتداولت??ه المل??وك‪ ،‬إلى أن انتهى إلى كن??د ه??ذا المل??ك‬
‫العظيم سلطانه‪ ،‬وما كان عليه من الحكمة‪ ،‬وقيل غير ذلك من الوجوه‪ ،‬مما قد أتينا‬
‫على ذكره فيما سلف من كتبنا‪.‬وللطبيب معه أخبار ظريفة‪ ،‬ومن??اظرات عجيب??ة‪ ،‬في‬
‫أوائ??ل المعرف??ة وص??نعة الطب وترقي??ه مع??ه إلى مبس??وط الص??نعة من الطبيعي??ات‬
‫وغيرها‪ ،‬أعرضنا عن ذكرها خوفا ً من اإِل طالة وميالً إلى االختصار في ه??ذا الكت??اب‬
‫لتعلق الكالم بالتوهم الذي تدعيه الهند في صنعة الطب وغيرها‪.‬وقد كان لاِل س??كندر‬
‫في أسفاره وتوسطه الممالك وقطعه األقاليم ومشاهدته األمم‪ ،‬ومالقاته الحكماء مع‬
‫تنائي ديارهم‪ ،‬وبع??د أوط??انهم‪ ،‬واختالف لغ??اتهم‪ ،‬وعج??ائب ص??ورهم‪ ،‬وتب??اينهم? في‬
‫شيمهم وأخالقهم أخب??ار كث??يرة من ح??روب ومكاي??د وحي??ل وفن??ون من الس??ير‪ ،‬وم??ا‬
‫أحدث من األبنية‪ ،‬وقد أتينا على شرح ذلك فيما سلف من كتبنا مم??ا س??مينا‪ ،‬وغ??ير‬
‫ذلك مما عن وصفه أمسكنا‪ ،‬وإنما ذكرنا اليسير من أخباره‪ ،‬لئال َي ْع? َرى كتابن??ا ه??دا‬
‫من شيء منها مع ذكرنا لمسيره ووفاته‪ ،‬وباهّلل التوفيق‪.‬‬

‫ذكر ملوك اليونانيين بعد االسكندر‬


‫بطليموس‬
‫ثم ملك بعد ااِل سكندر المل??ك خليف ُت??ه بطليم??وس وك??ان حكيم?ا ً عالم?ا ً سائس?ا ً م??دبراً‪،‬‬
‫وكان ملكه أربعين سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬بل كان ملك??ه عش??رين س??نة‪ ،‬وق??د ك??ان له??ذا المل??ك‬
‫وهو التالي لملك ااِل سكندر حروب مع بني إسرائيل وغيرهم من ملوك الشام‪.‬‬

‫اللعب بالبزاة والشواهين‬

‫?زاة ولعب‬ ‫وذكر جماعة من أهل الدرايات بأخبار ملوك العالم أن??ه أول من اقت??نى ال ُب? َ‬
‫ضراها‪ ،‬وأن??ه ركب في بعض األي??ام في طرب??ه إلى بعض متنزهات??ه فنظ??ر إلى‬ ‫بها َو َ‬
‫باز يطير‪ ،‬فرآه إذا عال صفق‪ ،‬وإذا سفل خف?ق‪ ،‬وإذا أراد أن يس?توي? ف?رق‪ ،‬فأتبع?ه‬ ‫ٍ‬
‫بص??ره ح??تى اقتحم ش??جرة ملتف??ة كث??يرة الش??وك‪ ،‬فتأمل??ه فأعجب??ه ص??فاء عيني??ه?‬
‫وصفرتها وكمال خلقه‪ ،‬فق?ال‪ :‬ه??ذا ط?ائر حس?ن‪ ،‬ول?ه س??الح وينبغي? أن ت?تزين ب?ه‬
‫الملوك في مجالسها‪ ،‬فأمر أن يجمع منها ع??دة لتك??ون في مجلس??ه زينت??ه‪ ،‬فع??رض‬
‫لباز منها أ ْي ٌم‪ ،‬وهو الحية الذكر‪ ،‬فوثب عليه الب?ازي فقتل?ه‪ ،‬فق?ال المل?ك‪ :‬ه?ذا مل?ك‬‫ٍ‬
‫يغضب مما تغضب منه الملوك‪ ،‬ثم عرض له بعد أيام ثعلب كان داجناً‪ ،‬فوثب علي??ه‬
‫البازي فما أفلت إال جريحاً‪ ،‬فقال الملك‪ :‬هذا ملك جبار ال يحتمل الض??يم‪ ،‬ثم م??ر ب??ه‬
‫طائر فوثب عليه فأكله‪ ،‬فقال الملك‪ :‬هذا ملك يمنع حماه وال يضيع أكل??ه‪ ،‬فلعب به??ا‬
‫ثم لعب بعده ملوك األمم من اليونانيين والروم والعرب والعجم وغيرهم‪ ،‬وث??ني َمنْ‬
‫بعده من ملوك الروم بلعب الشواهين واالص??طياد به??ا‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن ال َّل َذارق??ة وهم‬
‫ملوك األندلس من األشبان أول من لعب بالشواهين وصاد بها‪ ،‬وكذلك اليونانيون‬
‫صفحة ‪172 :‬‬

‫أول من ص???اد بالعقب???ان ولعب به???ا‪ ،‬وق???د ذك???ر أن مل???وك ال???روم أول من ص???اد‬
‫بالعقبان‪.‬قال المسعودي‪ :‬وق??د ق??دمنا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب عن??د ذكرن??ا لجب??ل‬
‫القبخ والباب واألبواب جمالً من أخبارها وأخبار من لعب بها‪ ،‬وق??د ك??ان من س??لف‬
‫من حكماء اليونانيين يقولون‪ :‬إن الجوارح أجناس‪ ،‬خلقها هّللا تعالى وأنش??أها على‬
‫منازلها ودرجاتها‪ ،‬وهي‪ :‬أربعة أجناس‪ ،‬وثالثة عشر شكاَل َ‪ ،‬فأما األجناس األربع??ة‬
‫فهي‪ :‬البازي‪ ،‬والشاهين‪ ،‬والصقر‪ ،‬والعق??اب‪ ،‬وق??د ذكرن??ا ه??ذه األجن??اس واألش??كال‬
‫على طري??ق الخ??بر في الكت??اب األوس??ط على مراتبه??ا من س??ائر أن??واع الحي??وان‬
‫الجوارح‪ ،‬ودالئلها‪ ،‬وما قاله الناس في ذلك‪.‬‬
‫هيفلوس‬
‫ثم ملك بع??د بطليم??وس هيفل??وس وك??ان رجاًل جب??اراً‪ ،‬وفي أيام??ه عملت ال َّط ْ‬
‫لس? َمات‬
‫لش? َبه دخلت عليهم‪ ،‬وأنه??ا وس??ائط بينهم وبين‬ ‫وظه??رت عب??ادة التماثي??ل واألص??نام ُ‬
‫خالقهم تقربهم إليه و ُتدْ نيهم منه‪ ?،‬وك??ان ملك??ه ثماني?ا ً وثالثين س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أربعين‬
‫س??نة‪ .‬وق?د قي??ل‪ :‬إن ال?ذيىتملك بع??د خليف?ة اإِل س?كندر بطليم?وس الث?اني‪،‬محب األخ‪،‬‬
‫وغ??زا ب??ني? إس??رائيل ببالد فلس??طين وإيلي??ا من أرض الش??ام‪ ،‬فس??باهم‪ ،‬وقت??ل منهم‪،‬‬
‫وطلب العلوم‪ ،‬ثم رد بني إس??رائيل إلى فلس??طين‪ ،‬وحم??ل معهم الج??واهر واألم??وال‪،‬‬
‫وآالت الذهب والفضة لهيكل بيت المقدس‪ ،‬وكان ملك الشام يومئذ أبطنجنس‪ ،‬وه??و‬
‫الذي بني مدينة? أنطاكية‪ ،‬وكانت دار ملكه‪ ،‬وجعل بناء س??ورها أح??د عج??ائب الع??الم‬
‫في البناء على السهل والجبل‪ ،‬ومس??افة الس??ور أثن?ا عش??ر ميالً‪ ،‬ع?دة األب??راج في?ه‬
‫ش ُرفاته أربعة وعشرين أل??ف ش??رفة‪ ،‬وجع??ل‬ ‫مائة وستة? وثالثون برجاً‪ ،‬وجعل عدد ُ‬
‫كل برج من األبراج ينزله بطريق برجاله وخيله‪ ،‬وجعل ك?ل ب??رج منه??ا طبق?ات إلى‬
‫أعاله‪ ،‬فمربط الخيل في أسفله‪ ،‬وأرضه‪ ،‬والرجال في طبقات?ه والبطري?ق في أعاله‪،‬‬
‫وجعل كلى برج منها كالحصن عليه أبواب حدي?د‪ ،‬وآث?ار األب?واب ومواض?ع الحدي?د‬
‫َب ِّين إلى هذا الوقت وهو سنة? اثنتين وثالئين وثلثمائة? وأظهر فيه??ا مياه ?ا ً من أعين‬
‫وغيره??ا‪ ،‬ال س??بيل إلى قطعه??ا من خارجه??ا‪ ،‬وجع??ل إليه??ا مياه ?ا ً منص??بة في ق? ٍّ‬
‫?ني‬
‫مخرقة إلى شوارعها ودورها‪ ،‬ورأيت فيها من هذه المياه ما يستحجر في مجاريها‬
‫المعمولة من الخزف لترادف التقن فيها فيتراكم طبق??ات ويمن??ع الم??اء من الجري??ان‬
‫بانسداده‪ ،‬فال يعمل الحديد في كسره‪ ،‬وقد ذكرن??ا ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بالقض??ايا‬
‫والتجارب ما شاهدناه حساً‪ ،‬ونمي إلينا خ?براً‪ ،‬مم?ا يول?ده م?اء أنطاكي?ة في أجس?اد‬
‫الحيوان الناطق وأجوافهم‪ ،‬وما يح??دث في مع??دهم‪ ،‬من الري??اح الس??وداوية الب??اردة‬
‫والقولنجية الغليظة‪ ،‬وقد أراد الرشيد سكناها فقيل له بعض ما ذكرنا من أوصافها‪،‬‬
‫وت??رادف الص??دأ على الس??الخ من الس??يوف وغيره??ا به??أ‪ ،‬وع??دم بق??اء ريح أن??واع‬
‫الطيب بها‪ ،‬واستحالته على اختالف أنواعه فامتنع من سكناها‪.‬‬

‫صفحة ‪173 :‬‬

‫جماعة من ملوك اليونانيين‬


‫ثم ملك على اليونانيين بعد هيفلوس بطليموس الصانع‪ ،‬ستا ً وعشرين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده عليهم بطليموس المعروف بمحب األب‪ ،‬تس??ع عش??رة س??نة وك?انت ل??ه‬
‫حروب مع ملوك الشام‪ ،‬وصاحب أنطاكية ااِل سكندروس وهو الذي بني مدينة فامية‬
‫بين حمص وأنطاكية‪.‬‬
‫ثم ملك بعده على اليون??انيين بطليم??وس ص??احب عل??ل علم الفل??ك والنج??وم‪ ،‬وكت??اب‬
‫المجسطي وغيره‪ ،‬أربعأ وعشرين سنة‪.‬‬
‫ثم مل??ك بع??ده بطليم??وس محب األم‪ ،‬خمس ?ا ً وثالثين س??نة ثم مل??ك بع??ده بطليم??وس‬
‫الصانع الثاني سبعا ً وعشرين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده بطليموس المخلص‪ ،‬سبع عشرة سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده بطليموس االسكندراني‪ ،‬اثنتي عشرة سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده بطليموس الجديد‪ ،‬ثمان سنين‪.‬‬
‫الج ّوال‪ ،‬ثمانيا ً وستين سنة‪ ،‬وكانت له حروب كثيرة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده بطليموس َ‬
‫ثم ملك بعده بطليموس الحديث‪ ،‬ثالثين سنة‪?.‬‬

‫كليوباترا‬

‫ثم ملكت بع??د ابنت??ه كليوب??اترا وك??ان ملكه??ا اثن??تين وعش??رين س??نة وك??انت حكيم?ة?‬
‫والر ْق َي??ة وغ??ير‬
‫متفلسفة‪ ،‬مقربة للعلماءمعظمة للحكماءولها كتب مصنفة? في الطب ُّ‬
‫ذلك من الحكمة‪ ،‬مترجمة? باسمها‪ ،‬منسوب إليه??ا‪ ،‬معروف??ة عن??د ص??نعة أه??ل الطب‬
‫?رت أي?امهم‪ ،‬وا َّم َحت‬‫وهذه الملكة آخ?ر مل?وك اليون?انيين إلى أن انقض?ى ملكهم َودَ َث َ‬
‫آثارهم‪ ،‬وزالت علومهم إال ما بقي في أيدي حكمائهم‪ ،‬وق??د ك??ان له??ذه الملك??ة خ??بر‬
‫ظريف في موتها وقتلها لنفسها‪ ،‬وقد كان لها زوج ُيقال له أنطونيوس مشارك له??ا‬
‫في ملك مقدونية‪ ،‬وهي بالد مصر من ااِل سكندرية? وغيرها‪ ،‬فس??ار إليهم الث??اني من‬
‫ملوك الروم‪ ،‬من بالد رومية‪ ،‬وه??و أغس??مطس‪ ،‬وه??و أول من س??مي قيص??ر وإلي??ه‬
‫تنسب القياصرة بعده‪ ،‬وسنذكر خبره في باب ملوك الروم بعد هذ الموضع‪ ،‬وك??انت‬
‫له حروب بالشام ومصر? مع قلبطرة الملكة ومع زوجه??ا أنطوني??وس‪ ،‬إلى أن قتل??ه‪،‬‬
‫ولم يكن لقلبطرة في دفع أغسطس ملك الروم عن ملك مصر حيلة‪ ،‬وأراد أغسطس‬
‫إعمال الحيلة فيها لعلمه بحكمتها‪ .‬وليتعلم منها إذ كانت بقي??ة الحكم??اء اليون??انيين‪،‬‬
‫ثم بعدها يقتلها‪ ،‬فراسلها‪ .‬وعلمت مراده فيه??ا وم??ا ق??د و َت َره??ا ب??ه من قت??ل زوجه??ا‬
‫وجنوده??ا‪ ،‬فطلبت الحي??ة ال??تي تك??ون بين الحج??از ومص??ر والش??ام وهي ن??وع من‬
‫الحيات‪ :‬تراعي اإِل نسان‪ ،‬حتى إذا تمكنت من النظ??ر إلى عض??و من أعض??ائه قف??زت‬
‫أذرعا ً كثيرة كالرمح فلم تخطىء ذل?ك العض??و بعين??ه‪ ?،‬ح??تى تتف??ل علي??ه س??ما ً فت?أتي‬
‫عليه‪ ،‬وال يعلم بها‪ ،‬لخموده من فوره‪ ،‬ويتوهم الناس أنه قدمات فجأة حت??ف أنف??ه‪،‬‬
‫ورأيت نوع?ا ً من ه??ذه الحي??ات بين بالد خوزس??تان من ك??ور األه??واز لمن أراد بالد‬
‫فارس من البصرة‪ ،‬وهوالموضع المع??روف بخ??ان مردوي?ة? بين مدين??ة دورق وبالد‬
‫الباسيان والفندم في الماء‪ ،‬وهي حيات شبرية‪ ?،‬وتدعى هنالك الفترية‪ ،‬ذات رأسين‬ ‫ِ‬
‫صفحة ‪174 :‬‬

‫تك??ون في الرم??ل وفي ج??وف ت??راب األرض‪ ،‬ف??إذأ أحس??ت باإِل نس??ان أو غ??يره من‬
‫الحيوان وثبت من موضعها أذرعا ً كث??يرة فض??ربت بإح??دى رأس??يها إلى أي موض??ع‬
‫من ذلك الحيوان‪ ،‬فتلحقه من ساعته ضد الحياة وعدمها لحينه‪ ،‬فبعثت قلبطرة هذه‬
‫الملكة فاحتمل لها حية من هذه المقدم ذكرها التي توجد بأطراف الحج??از‪ ،‬فلم??ا أن‬
‫كان اليوم الذي علمت أن أغسطس يدخل قص??ر ملكه??ا أم??رت بعض جواريه??ا ومن‬
‫الع?ذاب بع?دها‪ ،‬فس?متها في إنائه?ا فخم?دت من‬
‫ُ‬ ‫أح ّب ْت ف َناءها ق َلبلها‪ ،‬وأن ال يلحقه?ا‬
‫فورها‪ ،‬ثم جلست قلبطرة الملكة على س??رير? ملكه?ا‪ ،‬ووض??عت تاجه??ا على رأس??ها‪،‬‬
‫وعليها ثيابها وزينة? ملكها‪ ،‬وجعلت أنواع الرياجن والزه??ر والفاكه??ة والطيب وم??ا‬
‫يجتمع بمصر? من عجائب الرياحين وغيرها مما ذكرنا‪ ،‬مبسوطة? في مجلسها وقدَّ ام‬
‫س??ريرها‪ ،‬وعه??دت بم??ا أحت??اجت إلي??ه من أموره??ا‪ ،‬وف??رقت حش??مها من حوله??ا‪،‬‬
‫فاش??تغلوا بأنفس??هم عن ملكتهم‪ ،‬لم??ا ق??د غش??يهم من ع??دوهم ودخول??ه عليهم في‬
‫دارملكهم‪ ،‬وأدنت يدها من اإِل ناء الزجاج ال??ذي ك??انت في??ه الحي??ة‪ ،‬فق??ربت ي??دها من‬
‫فيه فتفلت عليها الحية‪ ،‬فجفت مكانها‪ ،‬وانسابت الحية وخ??رجت من اإِل ن??اء لم تج??د‬
‫ُج ْح? راً وال م??ذهبا ً ت??ذهب في??ه إِل تق??ان تل??ك المج??الس بالرخ??ام والمرم??رو? األص??باغ‪،‬‬
‫ف??دخلت في تل??ك الري??احين‪ ،‬ودخ??ل أغس??طس ح??تى انتهى إلى لمجلس‪ ،‬فنظ??ر إليه??ا‬
‫جالسة والتاج على رأسها‪ ،‬فلم يشك في أنها تنطق‪ ،‬فدنا منها فتبين له أنه??ا ميت??ة‪،‬‬
‫وأعجب بتلك الرياحين‪ ،‬فمد يده إلى كل نوع منها يلمس ?ه? ويتبين ?ه? ويعجب خ??واص‬
‫من معه به‪ ،‬ولم يدرسبب موتها وهو يتأسف على ما فاته منها فبينما هو كذلك من‬
‫تناول تلك الرياحين وشمها إذ قف?زت علي?ه تل?ك الحي?ة فرمت?ه? بس?مها‪ ،‬فيبس ش?قه‬
‫األيمن من ساعته‪ ،‬وذهب بصره األيمن وسمعه‪ ،‬فتعجب من فعله??ا وقتله??ا لنفس??ها‬
‫وإيثارها للموت على الحياة مع الذل‪ ،‬ثم ما كادته به من إلقاء الحية بين الرياحين‪،‬‬
‫فقال في ذلك شعراً بالرومية يذكر حاله وما نزل به وقصتها‪ ،‬وأقام بعد ما ن??زل ب??ه‬
‫ما ذكرنا يوما ً وهلك‪ ،‬ولوال أن الحية كانت قد أف??رغت س??مها على الجاري??ة ثم على‬
‫قلبطرة الملكة لك??ان أغس??طس ق??د هل??ك من س??اعته‪ ،‬ولم تمهل??ه ه??ذه الم??دة‪ ،‬وه??ذا‬
‫الشعر معروف عند الروم إلى هذه الغاية يذكرونه في نوحهم و َي ْر ُث? َ?ون ب??ه مل??وكهم‬
‫وموتاهم‪ ،‬وربما ذكروه في أغانيهم‪ ،‬وهو متعالم معروف عندهم‪ ،‬وق??د ذكرن??ا فيم??ا‬
‫سلف من كتبنا سير ه??ؤالء المل??وك وأخب??ارهم وح??روبهم وط??وافهم البالد‪ ،‬وأخب??ار‬
‫اآلراء والنح??ل‪ ،‬ومقائ??ل فالس??فتهم‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من‬ ‫حكم??ائهم‪ ،‬وم??ا أح??دثوه من َ‬
‫أسرارهم وعجيب أخبارهم‪.‬‬

‫عدد ملوك اليونانيين ومدة حك َمهم‬


‫والذي يعول عليه من عدد مل??وكهم‪ ،‬واتف??ق على ذل??ك أه??ل المعرف??ة بأخب??ارهم‪ ،‬أن‬
‫جميع عدد ملوك اليونانيين أربعة عشر ملكا ً آخرهم الملكة قلبطرة‪ ،‬وأن جميع عدد‬
‫سني ملوكهم ومدة أيامهم وامتداد سلطانهم ثلثمائة س??نة? وس??نة واح??دة‪ ،‬وك??ان ك??ل‬
‫ملك يمل??ك على اليون??انيين من بع??د ااِل س??كندر ابن فيلبس يس??مى بطليم??وس‪ ،‬وه??ذا‬
‫االسم األعم الشامل لملكهم‪ ،‬كتسمية مل?وك الف?رس كس?رى‪ ،‬وتس?مية? مل?وك ال?روم‬
‫قيصر‪ ،‬وتسمية? ملوك اليمن تبع‪ ،‬وتسمية? ملوك الحبشة النجاشي‪ ،‬وتسمية? ملوك‬
‫صفحة ‪175 :‬‬

‫ال??زنج فليمي‪ ،‬وق??د ذك??رت جمالً من م??راتب مل??وك الع?الم وس??ماتهم واس??مهم األعم‬
‫الش??امل لهم فيم??ا س??لف من كتابن??ا ه??ذا‪ ،‬وس??نورد بع??د ه??ذا الموض??ع في الموض??ع‬
‫المستحق له من هذا الكتاب جماًل عند ذكرنا الملوك والممالك إن شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫ذكرملوك الروم‪ ،‬وما قاله الناس في أنسابهم‬


‫وعدد ملوكهم‪ ،‬وتاريخ سنيهم‪?..‬‬
‫االختالف في نسب الروم‬
‫تنازع الناس في الروم‪ ،‬وألية علة سموا بهذا االس?م‪ ،‬فمنهم من ق?ال‪ :‬س?موا روم?ا‬
‫إِل ضافتهم إلى مدينة رومية واسمها روماس بالرومي??ة‪ ?،‬وع??رب ه??ذا االس??م فس??مي‬
‫من ك?ان به?ا روم?ا‪ ،‬وك?ذلك ال?روم في لغتهم ال يس?مون أنفس?هم وال ي?دعوهم أه?ل‬
‫الثغ???ور إال رومينس‪ ?،‬ومنهم من رأى أن ه???ذا االس???م اس???م لألب‪ ،‬وه???و روم بن‬
‫س???ماحلين بن هرب???ان بن عقال بن العيص بن إس???حاق بن إب???راهيم الخلي???ل علي???ه‬
‫السالم‪ ،‬ومنهم من رأى أنهم سموا باسم جدهم‪ ،‬وهو رومي بن ليطن بن يونان بن‬
‫يافث بن بريه بن سرحون بن رومي??ة بن مرب??ط بن نوف??ل بن روين بن األص??فر بن‬
‫النفربن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليمه السالم وقد قي??ل من الوج??وه غ??ير م??ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬وقد ذكرن??ا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب في ب??اب اليون??انيين نس??ب ااِل س??كندر‬
‫واتصاله بهذا النسب‪ ،‬على م??ا ذك??ره الن??اس في ذل??ك‪ ،‬وهللا أعلم‪ .‬وق??د ول??د للعيص‬
‫ثالثون رجالً‪ ،‬فالروم اآلخرة بنو األصفر بن النفر بن العيص بن إسحاق‪ ،‬وقد ذك??ر‬
‫جماعة ممن سلف من شعراء‪ ،‬العرب قبل ظهور اإِل سالم ذل??ك الش??تهار م??ا وص??فنا‬
‫فيهم‪ :‬منهم عدي بن زيد ال ِع َبادي حيث يقول‪ :‬وبنو? األصفر الك??رام مل??وك ال??روم لم‬
‫يبق منهم مذكور‪.‬‬
‫وقد كان العيص بن إسحاق‪ ،‬وهو عيصو‪ ،‬تزوج من بنات الكنعانيين‪ ،‬ف??أكثر أوالده‬
‫منهم‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن العماليق وهم العرب البادية الذين ك??انوا بالش??ام من ول??د النف??ار‬
‫بن عيصو‪ ،‬وكذاك رعوئيل‪ ،‬بنا عيصو وهذا ما ال ينق??اد إلي??ه علم??اء الع??رب إال في‬
‫ال??روم دون م??ا ذكرن??ا من العم??اليق وغ??يرهم‪ ،‬وه??ذه األنس??اب كله??ا تتعل??ق بم??ا في‬
‫التوراة وغيرها من كتب العبرا نيين‪.‬‬

‫أول ملوك الروم‬


‫قال المسعودي‪ :‬وغلبت الروم على ملك اليونانيين ألخبار يطول ذكره??ا ويتع??ذر في‬
‫هذا الكتاب شرحها‪ ،‬وك??ان أول من مل??ك من مل??وك ال??روم فيه??ا س??اطوخاس‪ ،‬وه??و‬
‫جاليوس األصغر بن روم بن سماحليق‪ ،‬فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة‪ ،‬وقد قيل‪:‬‬
‫إن أول من ملك من ملوك الروم قيصر‪ ،‬واسمه غالوس بن كوليوس‪ ،‬ثمان عش??رة‬
‫سنة‪ ،‬وفي نسخة أخرى أن أول من ملك من مل??وك ال??روم بع??د اليون??انيين ت??وليس‪،‬‬
‫سبع سنين ونصفاً‪ ،‬وكانت مدينة رومية بنيت قبل الروم بأربعمائة? سنة‪?.‬‬

‫صفحة ‪176 :‬‬

‫أغسطس‬
‫ثم ملك بعده أغسطس َقيصر‪ ،‬ستا ً وخمسين سنة‪ ،‬وهذا الملك هوأول من سمي من‬
‫ملوك الروم قيصر‪ ،‬وه??و الث??اني من مل??وكهم‪ ،‬وتفس??ير قيص??ر ُبقِ??ر أي ش??ق عن??ه‪،‬‬
‫وذلك أن أمه ماتت وهي حامل به فشق بطنها فكان هذا الملك يفتخر في وقت??ه ب??أن‬
‫النساء لم تلده‪ ،‬وكذلك من حدث بعده من ملوك الروم ممن كان من ولده يفتخ??رون‬
‫بهذا الفعل وما كان من أمهم‪ ،‬فصارت سِ َمة لمن ط??رأ بع??ده من مل??وك ال??روم‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬

‫مولد المسيح‬
‫وغزا هذا الملك الشام ومص??ر وااِل س??كندرية‪ ،‬وأزال من بقي من مل??وك االس??كندرية?‬
‫ومقدونية وهي مصر‪ ،‬وقد قدمنا أن كل ملك كان يلي مقدونية? واالس??كندرية يس??مى‬
‫بطليم??وس‪ ،‬واحت??وى ه??ذا المل??ك أع??ني أغس??طس على خ??زائن مل??وك ااِل س??كندرية?‬
‫ومقدونية‪ ،‬ونقلها إلى رومية‪ ،‬وكانت له حروب كث??يرة في األرض‪ ،‬وق??د أتين??ا على‬
‫وكور كوراً‬ ‫ذكرها فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وكان يعبد األوثان‪ ،‬وبنى بأرض الروم مدنا ً َّ‬
‫نس??بت تل??ك الم??دن إلي??ه‪ :‬منه??ا قيس??ارية‪ ،‬وك??ذلك بالش??ام بس??احل فلس??طين مدين??ة‬
‫قيس??ارية‪ ،‬وك??ان مول??د المس??يح عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم به??ا‪ ،‬وه??و يس??وع‬
‫الناص??ري على حس??ب م??ا ق??دمناه‪ ،‬الثن??تين وأربعين س??نة خلت من مل??ك قيص??ر‬
‫أغس??طس ه??ذا‪ ،‬فك??ان من مل??ك االس??كندر إلى مول??د المس??يح ثلثمائ??ة س??نة وتس??ع‬
‫وششون سنة‪ ،‬ورأيت في مدينة? أنطاكية في بعض تواريخ? الروم الملكية في كنيسة?‬
‫القسبان أنه كان من ملك االسكندر إلى مولد المس??يح ثالثمائ??ة س??نة وتس??ع س??نين‪،‬‬
‫وكان مولد يسوع الناصري إِل حدى وعشرين سنة خلت من ملك هيرثوس? ملك بني‬
‫إس??رائيل في ذل?ك العص??ر بإيلي?ا من بالد فلس?طين‪ ،‬وهي أورش??ليم بالعبراني??ة‪ ،‬فمن‬
‫هبوط آدم إلى مول??د المس??يح في ت??واريخ أص??حاب الش??رائع من أه??ل الكتب خمس??ة‬
‫آالف سنة وخمسمائة? سنة? وخمسون س??نة‪.‬وأق??ام أغس??طس وه??و قيص??ر ملك?ا ً بع??د‬
‫مولد المسيح أربع عشرة س??نة? ونص??فا ً وك??ان م??دة ملك??ه على ال??روم برومي??ة وفي‬
‫سائر أسفاره ستا ً وخمسين سنة‪ ،‬على حسب ما قدمنا من موت?ه? ولس??ع الحي??ة إي?اه‬
‫بمقدونية‪ ،‬وجفاف نصفه‪ ،‬وذهاب سمعه‪.‬وبصره عن??د ذكرن??ا لفع??ل قلبط??رة بنفس??ها‬
‫في الباب الذي قبل هذا الباب‪.‬‬

‫طيياريوس وقلودييس‬
‫ثم ملك الروم بعده طيباريوس وكان مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة‪ ،‬ولثالث س??نين‬
‫بقيت من ملكه رف??ع المس?يح علي??ه الس?الم‪ ،‬ولم?ا هل?ك ه?ذا المل?ك برومي??ة اختلفت‬
‫الروم وتحزبت‪ ،‬فأقاموا على اختالف الكلمة والتنازع في الملك مائتي سنة وثماني?ا ً‬
‫وتس??عين س??نة‪ ،‬ال نظ??ام لهم‪ ،‬وال مل??ك يجمعهم‪.‬ولم??ا انقض??ى‪ ،‬م??ا ذكرن??ا من الم??دة‬
‫ملكوا عليهم طباريس غ??انس بمدين??ة رومي??ة‪ ?،‬فك??ان ملك??ه أرب??ع س??نين‪ ،‬والق??وم ال‬
‫يعرفون غير عبادة التماثيل والصور‪.‬‬
‫صفحة ‪177 :‬‬

‫مقتل أتباع المسيح‬

‫ثم ملك بعد قلوديس أرب??ع عش??ر‪ ،‬س??نة‪ ،‬وذل??ك برومي??ة‪ ،‬وه??و أول مل??ك من مل??وك‬
‫الروم ش??رع في قت??ل النص??ارى واتب??اع المس??يح‪ .‬وقي??ل‪ :‬إن في أيام??ه قت??ل برومي?ة?‬
‫بطرس‪ ،‬واسمه باليونانية? شمعون‪ ،‬والعرب تسميه س??معان‪ ،‬ه??و وب??ولص‪ ،‬وص??لبا‬
‫منكس??ين‪ ،‬وم??ا ك??ان من خبرهم??ا م??ع س??يما الس??احر برومي??ة‪ ?،‬وهم??ا ممن أتى إلى‬
‫عز وجل ّ عنهما في سورة يس‪ ،‬ثم كان لهما بعد ذلك نب??أ عظيم‪،‬‬ ‫أنطاكية وأخبر هّللا ّ‬
‫أج ِر َب??ة من البل??ور‪ ،‬فهم??ا على‬
‫وذلك بعد ظهور دين النص??رانية? برومي??ة‪ ?،‬فجعال في ْ‬
‫ذلك بمدينة? رومية? في بعض الكنائس إلى هذه الغاية‪ ،‬على حسب ما قدمنا آنفا ً فيما‬
‫سلف من هذا الكتاب‪ ،‬وأكثر من عني بأخبار العالم وسير ملوكهم وتاريخهم‪ ،‬يذهب‬
‫إلى أنهما قتال برومي??ة في مل??ك الخ??امس من مل??وك ال??روم‪ ،‬وتف??رق تالمي??ذ يس??وع‬
‫الناصري في األرض‪ ،‬فس?ار م?اري إلى م?ا دَ َن?ا من الع?راق فم?ات بمدين?ة? دي?ر قُ َنى‬
‫والصافية على شاطىء دجلة بين بغداد وواسط‪ ،‬وهذا البلد بل??د علي بن عيس??ى بن‬
‫داود بن الجراح ومحمد بن داود بن الجراح وغيرهم??ا من الكت??اب فق??بره هن??اك في‬
‫كنيس??ة إلى وقتن??ا ه??ذا‪ ،‬وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثالثمائ??ة‪ ،‬يعظم??ه أه??ل دين‬
‫النصرانية‪ ،‬ومضى توما‪ ،‬وكان من االثني عشر‪ ،‬إلى بالد الهن??د داعي ?ا ً إلى ش??ريعة?‬
‫المسيح‪ ،‬فمات هناك‪ ،‬وسار آخر إلى آخر مدين?ة? بخراس?ان‪ ،‬فم?ات هنال?ك وموض?ع‬
‫ق??بره مش??هور يعظم??ه النص??ارى‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه م??ات ببالد دقوق??ا وخانيج??ار‬
‫وكرخ حدان في تخوم العراق‪ ،‬وموضعه? مشهور‪ ،‬وم??ات م??ارقس بااِل س??كندرية من‬
‫أرض مصر‪ ،‬وقبره هناك‪ ،‬وهو أحد التالميذ األربعة الذين ألفوا اإلِنجي??ل‪ ،‬وق?د ك?ان‬
‫لم??ارقس م??ع أه??ل مص??رخبرظريف في مقتل??ه‪ ،‬وق??د أتين??ا على الس??بب في ذل??ك في‬
‫تال له‪ ،‬وأتينا على قص??ته م??ع أه??ل مص??ر ووص??يته?‬ ‫كتابنا األوسط الذي‪ ،‬كتا ُب َنا هذا ٍ‬
‫لهم حين أراد المس??ير إلى المغ??رب‪ :‬إن??ه َمنْ ج??اءكم على ص??ورتي? ف??اقتلوه‪ ،‬فإن??ه‬
‫س??يرد عليكم بع??دي أُن??اس يتش??بهون بي‪ ،‬فب??ادروا إلى قتلهم‪ ،‬وال تقبل??وا منهم م??ا‬
‫يقول??ون‪ ،‬ومض??ى‪ ،‬وغ??اب عنهم بره??ة من الزم??ان‪ ،‬ولم يلح??ق بحيث أراد‪ ،‬فرج??ع‬
‫إليهم‪ ،‬فلما هموا بقتله ق??ال لهم‪ :‬ويحكم أن??ا م??ارقس‪ ،‬ق??الوا‪ :‬ال‪ ،‬وق??د أخبرن??ا أبون??ا‬
‫مارقس‪ ،‬وعهد إلينا بقتل من يتشبه به‪ ،‬قال‪ :‬فإني أنا مارقس‪ ،‬ق??الوا‪ :‬ال س??بيل? إلى‬
‫تركك‪ ،‬وال بد من قتلك‪ ،‬فقتلوه‪ ،‬وك??ان قب??ل ذل??ك س??ئل في ب??دء األم??ر عن ال??براهين‬
‫المؤيدة لقوله‪ ،‬وطلبوا منه المعجزات‪ ،‬وقال له بعضهم‪ :‬إن كنت صاد َقا َ فيم??ا أتيتن??ا‬
‫به فاعرج إلى هذه السماء‪ ،‬ونحن نراك‪ ،‬فنزع عنه زربانقته وأت??زر بم??ئزر ص??وف‬
‫على أن يصعد إلى السماء‪ ،‬فتعلق ب?ه جماع?ة من تالمذت?ه‪ ?،‬وق?الوا ل?ه‪ :‬إن مض?يت?‬
‫فمن لنا بعمك إذ كنت األب‪ .‬وكان أمره بعد ذلك على ما وصفنا‪.‬‬

‫صفحة ‪178 :‬‬

‫تالميذ المسيح‬
‫وتالميذ المسيح اثنان وسبعون تلميذاً واثنا عشر من غير االث??نين والس??بعين‪ ،‬فأم??ا‬
‫ويوح ّن??ا‪ ،‬وم??تى‪ ،‬ومنهم من االث??نين‬
‫ً‬ ‫ال??ذين نقل??وا اإِل نجي??ل فهم‪ :‬لوق??ا‪ ،‬وم??ارقس‪،‬‬
‫والسبعين لوقا َو َم َّتى‪ ،‬وقد يعد َم َتى أيضا ً في األثني عشر‪ ،‬وال ادري ما معن??اهم في‬
‫ذل???ك‪ ،‬واالثن???ان الل???ذان من األث???ني عش???ر يوحن???ا بن زب???دى‪ ،‬وم???ارقس ص???اجب‬
‫االسكندرية‪ ،‬والثالث الذي ورد أنطاكية‪ ،‬وق??د تقدم??ه بط??رس وتوم??ا‪ ،‬وه??و ب??ولس‪،‬‬
‫وهو الثالث المذكور في القرآن بقوله تعالى "فعزرنا بثالث" ق??ال‪ :‬وليس في س??ائر‬
‫رهبان النصرانية? من يأكل اللحم غير رهبان مصر؛ ألن مارقس أباح لهم ذلك‪.‬‬
‫ملك تيزون ملك طيطش وأسباسيانوس‬

‫ثم ملك الروم تيزون واستقام ملك??ه‪ ،‬ورغب في عب?ادة التماثي??ل واألص??نام‪ ،‬ويق??ال‪:‬‬
‫إنه قتل في ملكه بطرس وبولس برومية على حسب ما قدمنا ونمى دين النصرانية‬
‫إلى الروم‪ ،‬فكثرت فيهم الدعاة إليه‪ ،‬فقتل هذا الملك منهم خالئق كثيرة‪ ،‬وكان ملكه‬
‫أربع عشرة سنة? وأشهراً‪.‬‬
‫ثم ملك بعده طيطش وأسباسيانوس مش??تركين في المل??ك ثالث عش??رة س??نة‪ ،‬وذل??ك‬
‫بمدينة رومية‪ ،‬ولسنة? خلت من ملك ه??ذين الملكين س??ارا إلى الش??ام‪ ،‬وك??انت لهم??ا‬
‫مع بني إسرائيل حروب عظيمة‪ ،‬وقتل فيها من بني إس?رائيل ثلثمائ??ة أل?ف‪ ،‬وخرب?ا‬
‫بيت المقدس وأحرقا الهيك??ل بالن??ار‪ ،‬وحرث??اه ب??البقر‪ ،‬وأزاال رس??مه‪ ?،‬و َم َح? وا أث??ره‪،‬‬
‫وكانت عبادتهما لألصنام‪ .‬ووجدت في بعض كتب التواريخ أن هّللا عاقب ال??روم من‬
‫ذلك اليوم الذي خربت فيه بيت المقدس أن يسبى كل يوم منهم سبي‪ ،‬يفعل ذلك من‬
‫أطاف ببالدهم من األمم‪ ،‬فال يأتي يوم من أيام العالم إال والسبي واق??ع بهم َق??ل ذل??ك‬
‫أوأكثر‪?.‬‬

‫جماعة من ملوك الروم‬

‫ثم ملك ال?روم بع?دهما دوبطي?اس خمس عش?رة س?نة‪ ،‬عاب?داً للتماثي?ل معظم?أ له?ا‪،‬‬
‫ولتس??ع س??نين من ملك??ه نفى يوحن??ا التلمي??ذ أح??د األربع??ة من أص??حاب اإلِنجي??ل إلى‬
‫بعض جزائر البحر‪" ،‬ثم رده بعد ذلك‪.‬‬
‫ثم ملك بعده بيرنوس سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده طريانوس سبع عشرة سنة يعبد األصنام‪ ،‬ولتسع سنين خلت من ملكه‬
‫مات يوحنا التلميذ‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أدريانس إحدى عشرة سنة‪ ،‬يعبد التماثيل‪ ،‬وخ??رب س??ائر م??ا ب??نى بن??و‬
‫إسرائيل بالشام‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أبط??وليس برومي??ة ثالث?ا ً وعش??رين س??نة‪ ،‬وب??نى بيت المق??دس وس??ماه‬
‫إيليا‪ ،‬وهو أول من سماه بهذا االسم إيليا‪.‬‬
‫ثم ملك بعده غرلس سبع عشرة سنة يعبد األصنام‪.‬‬
‫صفحة ‪179 :‬‬

‫ثم ملك بعده فرموثش يعبد األوثان‪ ،‬ثالث عشرة سنة‪?.‬‬


‫ثم ملك بعده سويرس ثمان عشرة سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده ولد له ُيقال له أبطونيس يعبد التماثيل‪ ،‬سبع سنين‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أبطونيس الثاني‪ ،‬أربع سنين‪ ،‬يعبد التماثيل‪ ،‬وفي آخر ملك ه??ذا المل??ك‬
‫مات جالينوس الطبيب‪.‬‬
‫ثم ملك بعده اإلسكندر مامياس وتفسير مامياس العاجز‪ ،‬وكان يعبد التماثيل‪ ،‬وك??ان‬
‫ملكه ثالث عشرة سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده مقسمس يعبد التماثيل‪ ،‬وكان ملكه ثالث سنين‪.‬‬
‫ثم ملك بعده غردانس يعبد التماثيل‪ ،‬ست سنين‪.‬‬
‫دقيوس وأصحاب الكهف‬
‫ثم ملك بعده دقيوس يعبد األوثان‪ ،‬ستين سنة‪ ،‬وأمعن في قتل النص??رانية‪ ?،‬وطلبهم‪،‬‬
‫ومن ه??ذا المل??ك ه??رب أص??حاب الكه??ف‪ ،‬وق??د أختل??ف الن??اس في أص??حاب الكه??ف‬
‫والرقيم ‪ :‬فمنهم من رأى أن أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم‪ ،‬وزعموا أن الرقيم‬
‫هو ما رقم من أسماء أهل الكهف في لوح من حجر على باب تل??ك المغ??ارة‪ ،‬ومنهم‬
‫من رأى أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف‪ ،‬وقد ذكرنا كال الموض??عين ب??أرض‬
‫الروم‪ ،‬وقد حكى أحم??د بن الطيب بن م??روان السرخس??ي تلمي??ذ يعق??وب بن إس??حاق‬
‫س ? ّر َمنْ رأى إلى‬‫باهلل من ُ‬
‫الكندي عن محمد بن موسى المنجم‪ -‬حين أنف??ذه الواث??ق ّ‬
‫بالد ال??روم ح??تى أش??رف على أص??حاب ال??رقيم‪ ،‬وه??و الموض??ع المع??روف من بالد‬
‫الروم بحارمي‪ ،‬وقد ذكرنا في الكتاب األوس??ط قص??ة أص??حاب الكه??ف‪ ،‬وموض??عهم‪،‬‬
‫وكيفية أحوالهم‪ ،‬إلى هذه الغاية‪ ،‬وخبر أصحاب الرقيم‪ ،‬وما حكاه محمد بن موس??ى‬
‫المنجم من خبرهم‪ ،‬وقد لحقه من الموكل بهم حين أراد قتله بالس??م‪ ،‬وقت??ل من ك?ان‬
‫معه من المسلمين‪ ،‬وأخبرن??ا عن خ??بر الس??د ال??ذي بن??اه ذو الق??رنين مانع?ا ً لي??أجوج‬
‫وم??أجوج ‪ ..‬ق??ال المس??عودي ‪ :‬ووج??دت في كت??اب ص??ور األرض‪ ،‬وم??ا عليه??ا من‬
‫األبنية المعظمة والهياكل المشيدة‪ ،‬قد صور مق??دار ع??رض الس??د فيم??ا بين الجبلين‬
‫دون الطول والذهاب في الصعد تسع درج ونصف من درج الفلك‪ ،‬فمق??دار ذل??ك من‬
‫الجبل إلى الجبل خمسون ومائة فرسخ‪ ،‬وهذا عن??د جماع??ة من أه??ل النظ??ر والبحث‬
‫الفر َغاني المنجم‪ ،‬وتكلم عليه‪ ،‬وبرهن‬ ‫مستحيل? كونه‪ ،‬وقد أنكر ذلك محمد بن كثير ْ‬
‫على فساده‪ ،‬وأفرد أحمد بن الطيب الذي قتله المعتض??د باهلل لم??ا ذكرن??ا من الكه??ف‬
‫والرقيم رسائل‪ ،‬وقد أتينا على جمي??ع م??ا قي??ل في ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بالكت??اب‬
‫األوسط‪.‬‬
‫ثم ملك جالنوس ثالث سنين‪.‬‬
‫ثم ملك بعده يدنوس نحوا ًمن عشرين سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬خمس عشرة سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده فورس نحواً من عشرين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده ولد له يقال له فارس نحواً من سنتين‪.‬‬
‫ثم ملك بعده قليطانس عشر سنين‪.‬‬
‫ثم ملك بعده قسطنطين‪.‬‬
‫صفحة ‪180 :‬‬

‫عدد ملوك الروم‪ ،‬ومدة ملكهم‬


‫قال المسعودي‪ :‬والذي وجدت في األكثر من كتب التواريخ مما اتفقوا عليه أن عدة‬
‫ملوك الروم الذين ملكوا بمدين?ة? رومي??ة‪ ،‬وهم ال??ذين ق??دمنا ذك??رهم في ه??ذا الب??اب‪،‬‬
‫تسعة وأربعون ملكاً‪ ،‬وجميع عدد س??ني ملكهم من أول مل??ك ملكهم على حس??ب م??ا‬
‫ذكرن??ا من الخالف في ص??در ه??ذا الكت??اب إلى قس??طنطين ه??ذا‪ ،‬وه??و ابن هالني‪،‬‬
‫أربعمائة وسبع وثالثون سنة وسبعة أشهر وسبعة أي??ام‪ ،‬ونس?خ? كتب الت??واريخ في‬
‫ه??ذا المع??نى مختلف??ة‪ ،‬وغ??ير متفق??ة في أس??ماء مل??وكهم‪ ،‬وم??دة ملكهم‪ ،‬وأكثره??ا‬
‫بالرومية‪ ،‬فحكينا من ذلك ما تأتى لنا وص??فه‪ ،‬وله??ؤالء المل??وك أخب??ار وس??ير‪ ?،‬هي‬
‫موجودة في كتب النصارى الملكية‪ ،‬وق?د أتين?ا على مبس??وطها‪ ،‬والغ?رض منه??ا في‬
‫كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وم??ا َ‬
‫ش ?يدوا من البني??ان‪ ،‬وم??ا ك??ان لهم في ه??ذا الع??الم من‬
‫األسفار‪ ،‬وباهّلل التوفيق‪.‬‬

‫ذكر ملوك الروم المتنصرة وهم ملوك القسطنطينية?‬


‫ولمع من أخبارهم‬
‫قسطنطين وبناء القسطنطينية?‬

‫ملك قسطنطين بعد أن هلك قليطانس برومية‪ ?،‬وه??و يعب??د األوث??ان‪ ،‬وك??ان أول مل??ك‬
‫انتقل من ملوك الروم عن رومي?ة? إلى بوزنطي??ا‪ ،‬وهي مدين??ة القس??طنطينية? فبناه??ا‪،‬‬
‫وسماها باسمه إلى وقتن??ا ه??ذا‪ ،‬وك??ان ل??ه لي بناته??ا خ??بر ظري??ف م??ع بعض مل??وك‬
‫برجان‪ ،‬لخوف داخله من بعض ملوك ساسان‪ ،‬وكان خروجه من رومي??ة‪ ،‬ودخول??ه‬
‫في دين النصرانية‪ ،‬لسنة خلت من ملكه‪ ،‬ولتسع سنين خلت من ملك?ه خ?رجت أم?ه‬
‫هالني إلى أرض الشام‪ ،‬فبنت الكنائس‪ ،‬وسارت إلى بيت المقدس‪ ،‬وطلبت الخش??بة?‬
‫ال??تي ص??لب عليه??ا المس??يح عن??دهم‪ ،‬فلم??ا ص??ارت إليه??ا ًحفته??ا بال??ذهب والفض??ة‪،‬‬
‫واتخذت لوجودها عيداً‪ ،‬وهو عي??د الص??ليب‪ ،‬وه??و ألرب??ع عش??رة تخل??و من أيل??ول‪،‬‬
‫وفيه تفتح? الترع والخلجانات ببالد مصر‪ ،‬على حسب ما ن??ورده عن??د ذكرن?ا ألخب??ار‬
‫مصر من هذا الكتاب‪ ،‬وهي التي بنت كنيس??ة حمص على أربع??ة أرك??ان‪ ،‬وذل??ك من‬
‫عجائب بنيان العالم‪ ،‬واستخرجت الكنوز والدفائن بمصر? والشام‪ ،‬وصرفت ذلك إلى‬
‫بناء الكنائس‪ ،‬وتش??ييد دين النص??رانية‪ ?،‬وك??ل كنيس??ة بالش??ام ومص??ر وبالد ال??روم‪،‬‬
‫فإنه??ا بنته??ا ه??ذه الملك??ة هالني أم قس??طنطين‪ ،‬وجع??ل اس??مها م??ع الص??ليب في ك??ل‬
‫كنيسة? لها‪ ،‬وليس للروم في أحرفهم ه??اء‪ ،‬وأح??رف هالني خمس??ة أح??رف‪ ،‬ف??األول‬
‫إمالة‪ ،‬وهو بحس??اب الجم??ل خمس??ة‪ ،‬والث??اني‪ -‬وه??و الِالم‪ -‬ثالث??ون‪ ،‬والث??الث إمال??ة‬
‫أيضاً‪ ،‬وهي خمسة أيضا‪ ،‬والرابع النون وهي خمس??ون‪ ،‬والخ??امس ي??اء‪ ،‬وه??و في‬
‫حساب الجمل عشرة‪ ،‬ف??ذلك مائ??ة اختص??اراً على م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وه??ذه ص??ورة الح??رف‬
‫الذي هو مائة بالرومية‪.‬‬

‫صفحة ‪181 :‬‬

‫السنودسات االجتماعات الستة‬


‫ولتس??ع عش??رة س??نة خلت من مل??ك قس??طنطين ابن هالني اجتم??ع ثلثمائ?ة? وثماني??ة‬
‫عشر أسقفا ً بمدينة? نيقية بأرض الروم‪ ،‬فأقاموا دين النصرانية‪ ?،‬وهذا االجتماع أول‬
‫االجتماعات الستة ال?تي ي?ذكرها ال?روم في ص?لواتهم ويس?مونها الق?وانين‪ ،‬ومع?نى‬
‫هذه االجتماعات الستة بالرومية? السنودسات‪ ،‬واحدها سنورس‪ ?.‬فاألول بنيقية? على‬
‫ما ذكرنا من العدد‪ ،‬وكان االجتماع في??ه على أري??وس‪ ،‬وه??ذا اتف??اق من س??ائر أه??ل‬
‫دين النصرانية? من الملكية والمشارقة‪ ،‬وهم العب??اد ال??ذين تس??ميهم? الملكي??ة وعام??ة‬
‫الن??اس النس??طورية‪ ?،‬واتف??اق من اليعاقب??ة على ه??ذا الس??نودس أيض?اً‪ ،‬والس??نودس‬
‫الث??اني بالقس??طنطينية? على مق??دونس‪ ،‬وع??دة المجتمعين في??ه من األس??اقفة مائ??ة‬
‫وخمس??ون رجالً‪ ،‬والس??نودس الث??الث بأفس??وس وع??ددهم مائت??ا رج??ل‪ ،‬والس??نودس‬
‫الراب???ع بخلقدوني???ة‪ ،‬وع???ددهم س???تمائة وس???تون رجالً‪ ،‬والس???نودس الخ???امس‬
‫بقسطنطينية‪ ?،‬وعددهم مائ??ة وس??تة وأربع??ون رجالً‪ ،‬والس??نودس الس??ادس ك??ان في‬
‫مملكة المدائن‪ ،‬وعددهم مائتان وتسعة وثمانون رجالً‪ ،‬وسنذكر بع??د ه??ذا الموض??ع‬
‫في ت??رتيب? مل??وك ال??روم ه??ذه السنودس??ات‪ ،‬وغلب??ة دين النص??رانية‪ ?،‬وزوال عب??ادة‬
‫التماثيل والصور‪.‬‬

‫سبب تنصر? قسطنطين‬


‫وكان الس??بب في دخ??ول قس??طنطين بن هالني في دين النص??رانية والرغب??ة في??ه أن‬
‫قس??طنطين خ??رج في بعض ح??روب برج??ان‪ ،‬أو غ??يرهم من األمم‪ ،‬وك??انت الح??رب‬
‫بينهم سجاالً نحواً من سنة‪ ?،‬ثم كانت عليه في بعض األيام‪ ،‬فقتل من أص??حابه خل?ق‬
‫كثير‪ ،‬فخاف ال َب َوار‪ ،‬ف??رأى في الن??وم ك??أن رماح?ا ً ن??زلت من الس??ماء‪ ،‬فيه??ا ع??ذاب‪،‬‬
‫وأعالم ?ا ً على رؤوس??ها ص??لبان من ال??ذهب والفض??ة والحدي??د والنح??اس‪ ،‬وأن??واع‬
‫الجواهر والخشب وقيل له‪ :‬خذ هذه الرماح‪ ،‬وقاتل بها عدوك تنصر‪ ،‬فجعل يحارب‬
‫بها في الن?وم‪ ،‬ف?رأى ع?دوه منهزم?اً‪ ،‬وق?د نص?ر علي?ه‪ ،‬وواله ال?دبر‪ ،‬فاس?تيقظ من‬
‫رقدته‪ ،‬ودع??ا بالرم??اح ف??ركب عليه??ا م??ا ذكرن??ا‪ ،‬ورفعه??ا في عس??كره‪ ،‬وزح??ف إلى‬
‫عدوه‪ ،‬فولوا وأخذهم السيف‪ ،‬فرجع إلى مدينة? نيقي??ة‪ ?،‬وس??أل من أه??ل الخ??برة عن‬
‫تلك الصلبان‪ ،‬وهل يعرف??ون ذل??ك في ش??يء من اآلراء والنح??ل ‪ .‬فقي??ل ل??ه‪ :‬إن بيت‬
‫المقدس من أرض الشام َم ْجمع لهذا المذهب‪ ،‬وأخبر بما فع??ل َمنْ قبل??ه من المل??وك‬
‫من قتل النصرانية‪ ?،‬فبعث إلى الشام‪ ،‬وإلى بيت المقدس‪ ،‬فحشد له ثلثمائ??ة وثماني??ة‬
‫عشر أسقفاً‪ ،‬فأتوه وهو بنيقي??ة‪ ?،‬فقص عليهم أم??ره‪ ،‬فش??رعوا ل??ه دين النص??رانية‪?،‬‬
‫فهذا هو السنودس األول‪ ،‬وهو االجتماع على ما ذكرنا‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن أم قس??طنطين‬
‫هالني كانت قد تنصرت وأخفت ذلك عنه قبل هذه الرؤيا‪.‬‬
‫وفى وج?ه آخ?ر من الت?اريخ‬ ‫ِ‬ ‫وكان ملك قسطنطين إلى أن هلك إحدى وثالثين س?نة‪،‬‬
‫أنه ملك خمسا ً وعش??رين س??نة‪ ،‬وق??د أتين??ا على أخب?اره وحروب??ه وخروج??ه مرت??اداً‬
‫لموضع القسطنطينية‪ ،‬ووروده إلى هذا الخليج اآلخذ من بحر م??ايطس ونيطس في‬
‫كتابنا أخبار الزم??ان وفي الكت?اب األوس??ط‪ ،‬وإن خليج القس??طنطينية يأخ??ذ من ه??ذا‪-‬‬
‫البحر‪ ،‬ويجري فيه الماء جر َياَ‪ ،‬ويصب إلى بحر الشام‪ ،‬ومسافة هذا الخليج ثلثمائة‬
‫صفحة ‪182 :‬‬

‫وخمس??ون ميالً‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أق??ل من ذل??ك‪ ،‬وعرض??ه في الموض??ع ال??ذي يأخ??ذ من بح??ر‬
‫مايطس نحو من عشرة أميال‪ ،‬وهناك عمائر‪ ،‬ومدينة للروم تدعى سباه‪ ،‬تمن??ع من‬
‫ي??رد في ه??ذا البح??ر من م??راكب ال??روس‪ ،‬وغيره??ا‪ ،‬ثم يض??يق ه??ذا الخليج عن??د‬
‫القس??طنطينية‪ ?،‬فيص??ير عرض??ه‪ -‬وه??و موض??ع العب??ور من الج??انب الش??رقي إلى‬
‫الموضع الغربي الذي في??ه القس??طنطينية‪ ?-‬نح??واً من أربع??ة أمي??ال‪ ،‬وعلي??ه العم??ائر‪،‬‬
‫وينتهي في ضيقه إلى الموضع المعروف باألندلس‪ ،‬وهناك جبال وعين م??اء كث??ير‪،‬‬
‫ماؤها موصوف‪ ?،‬تعرف بعين َم ْسلمة بن عبد الملك وكان نزولها عليها حين حاصر‬
‫القس??طنطينية‪ ،‬وأتت??ه م??راكب المس??لمين‪ ،‬وفم ه??ذا الخليج مم??ا يلي بح??ر الش??ام‪،‬‬
‫ومنتهى? مصبه? مضيق‪ ،‬وهناك برج يمنع من فيه من يرد من مراكب المس??لمين في‬
‫الوقت الذي كانت للمسلمين فيه مراكب تغزو الروم‪ ،‬وأما اآلن فمراكب الروم تغزو‬
‫?دي بن أحم??د بن‬‫بالد اإِل سالم‪ ،‬وهلل األمر من قبل ومن بعد‪ ،‬وأخ??برني أب??و عم??ير ع? ُّ‬
‫عبد الباقي األزدي ‪ -‬وهو شيخ الثغور الشامية‪ .‬قديما ً وحديثا ً إلى وقتنا ه??ذأ‪ ،‬وه??و‬
‫من أهل التحصيل‪ ?-‬أنه لما عبر إلى القس?طنطينية? في ه?ذا الخليج حين دخ?ل إلقام?ة‬
‫الهدنة والفداء كان يتبين جرية ه??ذأ الم??اء وت??ردده مم??ا يلي بح??ر م??ايطس‪ ،‬وربم??ا‬
‫يتبين? في الماء الذي يلي بحر الشام فيجده فاتراً‪ ،‬وهذا يدل على ا َلصال م??اء ه??ذين‬
‫البحرين‪ ،‬وأنه قد دخل في بحر الروم إلى هذا الخليج أيضاً‪ ،‬وسمعت غير واحد من‬
‫أهل التحصيل ممن غزا غ?زاة س??لوقية م?ع غالم زراف??ة‪ -‬وق?د ك?انوا ق?د دخل??وا إلى‬
‫خليج القسطنطينية‪ ?،‬وساروا فيه مس??افة بعي??دة‪ -‬أنهم وج?دوا الم??اء فيِ ه??ذا الخليج‬
‫يقل في أوقات من الليل والنهار ويكثر كالمد والجزر‪ ،‬وعليه العمائر والم??دن‪ ،‬فلم??ا‬
‫أحسوا بنقص الماء بادروا ب??الخروج من??ه إلى البح??ر ال??رومي‪ ،‬وأن في مدخل??ه من‬
‫بحر الروم مدين?ة? تق??رب من فم الخليج‪ ،‬والخليج يطي??ف بالقس??طنطينية? من جه??تين‬
‫مما يلي الشرق ومما يلي الشمال‪ ،‬وفي الج??انب الجن??وبي? ال??بر‪ ،‬وفي??ه ب??اب ال??ذهب‬
‫مطلي على صفائح النحاس‪ ،‬وهو عدة أسوار مم??ا يلي الغ??رب‪ ،‬وفي??ه قص??ر وأعلى‬
‫أس?وارها الغريب?ة? نح?و من ثالثين فراع?اً‪ ،‬وق?د ذك?ر أن?ه أق?ل من ذل?ك‪ ،‬وأن أقص?ر‬
‫موضع فيه عشرة أفرع‪ ،‬وأعلى موضع من سورها ما كان مما يلي الجن??وب‪ ،‬فأم??ا‬
‫ما كان مم??ا يلي الخليج فس??ور واح??د‪ ،‬وفي??ه قص??ر وبواش? ِ?ير وأب??راج كث??يرة‪ ،‬وله??ا‬
‫أبواب كثيرة مما يلي البر والبحر‪ ،‬وحولها كنائس كثيرة‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن له??ا ثالثين‬
‫باب??ا‪ ،‬ومنهم من زعم أن عليه??ا مائ??ة ب??اب ص??غاراً وكب??اراً وه??و بل??د عفن مختل??ف‬
‫المهاب مرطب لألبدان لكونه بين ما وصفنا من هذه البحار‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬ولم تزل الحكم??ة باقي??ة عالي??ة زمن اليون?انيين‪ ،‬وبره?ة من مملك??ة‬
‫الروم‪ ،‬تعظم العلماء وتش??رف الحكم??اء‪ ،‬وك??انت لهم اآلراء في الطبيعي??ات والجس??م‬
‫والعقل والنفس‪ ،‬والتعاليم األربعة‪ -‬أع??ني‪ :‬اإلرتم??اطيقي‪ ،‬وه??و علم األع??داد والج??و‬
‫مط??ري َقي‪ ،‬وه??و علم المس??احة والهندس??ة‪ ،‬واالس??ترونوميا‪ ،‬وه??و علم النج??وم‪،‬‬
‫والموسيقى وهو علم تأليف اللحون‪ -‬ولم تزل العلوم قائمة السوق‪ ،‬مشرقة األقطار‬
‫قوية المعالم‪ ،‬شديدة المقاوم‪ ،‬سامية البن??اء‪ ،‬إلى أن تظ??اهرت ديان??ة النص??رانية في‬
‫الروم‪ ،‬فعفوا مع?الم الحكم?ة‪ ،‬وأزال?وا رس?مها‪ ،‬ومح?وا س?بلها‪ ،‬وطمس?وا م?ا ك?انت‬
‫اليونانية أبانته‪ ،‬وغيروا ما كانت القدماء منهم أوضحته‪.‬‬
‫صفحة ‪183 :‬‬

‫الموسيقى وشرفها‬

‫وكان من شريف ما تركته المعرفة بعلم الموسيقى ألنه غذاء للنفس‪ ،‬ومطرب له??ا‪،‬‬
‫وملهيه??ا‪ ،‬تبتهج? عن??د س??ماعه‪ ،‬وتحن إلى ت??أليف أوض??اعه‪ ،‬وق??د نطقت الحكم??اء‬
‫بشرفه‪ ،‬ونبهت على نفاس??ه محل??ه‪ ،‬فق??ال اإلس??كندر‪َ :‬منْ فهم األلح??ان اس??تغنى عن‬
‫سائر اللذات‪ ،‬وقد قالت الفالسفة‪ :‬أن النغم واألغ??اني فض??يلة ش??ريفة ك??انت تع??ذرت‬
‫عن المنط?ق ليس?ت في قدرت?ه‪ ،‬فلم يق?در على إخراجه?ا‪ ،‬فأخرجته?ا النفس ألحان?اً‪،‬‬
‫سرت بها وعشقتها وط??ربت إليه??ا‪ ،‬ورتبت الحكم??اء األوت??ار األربع??ة‬ ‫فلما أظهرتها ُ‬
‫ب??ازاء الطب?ائع األرب??ع‪ ،‬فجعل??وا الزي??ر ب??ازاء الم??رة الص??فراء‪ ،‬والمث??نى إزاء ال?دم‪،‬‬
‫والمثلث بازاء البلغم والبم بازاء المرة السوداء‪ ،‬وق?د أش?بعنا الق?ول في الموس??يقى‬
‫وأص??حاب المالهي واإليق??اع وأص??ناف ال??رقص والط??رب والنغم ونس??ب النغم وم??ا‬
‫اس????تعملته ك????ل أم????ة من األمم‪ ،‬من أص????ناف المالهي‪ ،‬من اليون????انيين وال????روم‬
‫والسريانيين والنب??ط والس??ند والهن??د والف??رس وغ??يرهم من األمم‪ ،‬وذكرن??ا مناس??بة‬
‫النغم لألوت??ار‪ ،‬وممازج??ة النفس واأللح??ان وكيفي??ة تول??د الط??رب وأن??واع الس??رور‬
‫وذه??اب الغم وزوال الح??زن‪ ،‬وعل?ل ً ذل??ك الطبيعي??ة والنفس??ية‪ ?،‬وم??ا أح??اط ب??ذلك من‬
‫جميع الوجوه‪ ،‬في كتابنا المترجم بكتاب الزلف وأتينا على ظريف أخبارهم وأن??واع‬
‫له??وهم ومالهيهم في كت??اب أخب??ار الزم??ان وفي الكت??اب األوس??ط ف??أغنى ذل??ك عن‬
‫إعادته ههنا‪ .‬إذ هذا الكتاب في غاية اإليجاز‪ ،‬وإن س??نح لن??ا س??انح ذكرن??ا لمع??ا من‬
‫هذه الجوامع فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء هللا تعالى‪ ،‬وإن تعذر ذل??ك فق??د ق??دمنا‬
‫التنبيه? على ما سلف من كتبنا‪ ،‬على الشرح واإليضاح‪.‬‬

‫قسطنطين ولليانس‬
‫ثم مل?ك ال?روم بع?د قس?طنطين بن هالني المل?ك المنتص?ر قس?طنطين بن قس?طنطين‬
‫وهو ابن الملك الماضي‪ ،‬وكان ملك??ه أربع?ا ً وعش??رين س??نة‪ ،‬وب??نى كن??ائس كث??يرة‪،‬‬
‫وشيد دين النصرانية‪.‬‬
‫ثم تملك ابن أخي قسطنطن األول لليانس فرفض دين النصرانية‪ ?،‬ورج?ع إلى عب?ادة‬
‫األوث??ان‪ ،‬وه??و للي??انس المع??روف ب??الحنيفي‪ .‬وأه??ل دين النص??رانية? لبغض??هم في??ه‬
‫لرجوعه عن النصرانية وتغييره لرسومها يس??مون للي??انس لبزط??اط وغ??زا الع??راق‬
‫في ملك سابور بن أردشير بن بابك‪ ،‬فأتاه س??ه ٌم غ? ْ?رب فذبح??ه‪ ،‬وق??د ك??ان س??ار إلى‬
‫العراق في جنود ال تحصى‪ ،‬ولم يكن لسابور حيلة في دفع??ه ولقائ??ه لمفاجأت??ه إاله‪،‬‬
‫فانصر فسابور عن اللقاء إلى الحيلة في دفعه وكان من أمره م??ا وص??فنا من س??هم‬
‫الغرب‪ .‬وكان ملكة إِلى أن هلك سنة‪ ،‬وقيل كثر من ذلك‪ ،‬وهو الملك الثالث من بع??د‬
‫ظهور دين النصرانية‪?.‬‬

‫صفحة ‪184 :‬‬

‫يونياس‬
‫ولما هلك لليانس جزع َمنْ كان معه من الملوك‪ ،‬والبطارق??ة‪ ،‬والجي??وش‪ ،‬ففزع??وا‪-‬‬
‫إلى بطريق كان معظما ً فيهم‪ ،‬يقال له يونياس‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه كان كاتب الماضي‪ ،‬ف??أبى‬
‫عليهم أن يتمل??ك إال أن يرجع??وا إلى دين النص??رانية‪ ،‬فأج??ابوه إلى ذل??ك وض??ايق‬
‫س??أبور الق??وم‪ ،‬وأح??اط بعس??كرهم‪ .‬فك??ان ليوني??اس م??ع س??أبور مراس??الت ومهادن??ة‬
‫واجتم??اع ومحادث??ة ومعاش??رة‪ ،‬ثم افترق??ا‪ ،‬وانص??رف بجي??وش النص??رانية? ُم َوادع ?ا ً‬
‫لسابور‪ ،‬وأخلف عليه ما أتلف من أرض??ه ب??أموال حمله?ا إلي??ه‪ ،‬وه??دايا من لط?ائف‬
‫ال??روم‪ ،‬وش??د هياك??ل في دين النص??رانية‪ ?،‬ورده??ا إلى م??ا ك??انت علي??ه‪ ،‬ومن??ع من‬
‫سنة‪?.‬‬
‫األصنام والتماثيل‪ ،‬وقتل على عبادتها‪ ،‬وكان ملكه َ‬
‫ثم مل??ك بعل??ه أوالس وه??و على دين النص??رانية‪ ?،‬ثم رج??ع عنه??ا‪ ،‬وهل??ك في بعض‬
‫حروبه‪ ،‬وكان ملكه إلى أن هلك أربع عشرة سنة‪?.‬‬

‫يقظة أهل الكهف‬


‫وقيل‪ :‬إِن في أيامه استيقظ أصحاب الكهف من َر ْقدَ تهم على حسب ما أخبر هللا ج??ل‬
‫بور ِه ِه ْم إلى المدينة‪ ،‬وه??ذا الموض??ع من أرض ال??روم في‬‫ثناؤه عنهم َب َع ُثوا أحدهم ِ‬
‫الش??مال‪ ،‬وللن??اس ممن ع??ني بعلم الفل??ك في ازورار الش??مس عن كهفهم في ح??ال‬
‫طلوعها وغروبها لموضعهم من الشمال كالم كثير‪ ،‬وق??د أخ??بر هللا تع??الى في كتاب??ه‬
‫عن ذلك فقال "وترى الشمس إذا طلعت َت َز َاو ُر عن كهفهم "‪ -‬اآلية وكانوا من أه??ل‬
‫مدينة? أفسيس من أرض الروم‪.‬‬

‫غراطاس وتدوسيس?‬
‫ثم ملك بع??د أوالس غراطي??اس خمس عش??رة س??نة‪ ،‬ولس??نة من ملك??ه ك??ان اجتم??اع‬
‫النصرانية‪ ،‬وهو أحد االجتماع??ات ف??أتموا الق??ول في روح الق??دس عن??دهم وأحرق??وا‬
‫مقدونس بطريق القسطنطينية‪ ?،‬وهو السنودس الثاني‪.‬‬
‫ثم مل?ك بع?ده تدوس?يس األك?بر‪ ،‬وتفس?ير ه?ذا االس?م عن?دهم عطي?ة هللا وق?ام ب?دين‬
‫وعظم منها‪ ،‬وبنى كنائس‪ ،‬ولم يكن من أهل بيت المل??ك وال من ال??روم‪،‬‬ ‫النصرانية‪َ ،‬‬
‫وإنما كان أصله من األشباب‪ ،‬وهم بعض األمم السالفة‪ ،‬وقد كانت ممن مل?ك الش?ام‬
‫ومصر? والمغرب واألندلس‪ ،‬وقد تنازع الناس فيهم‪ :‬فذكر الواقدي في كتاب??ه فت??وح‬
‫األمصار أن بدأهم من أهل أصبهان‪ ،‬وأنهم ناقلة من هنال??ك‪ ،‬وه??ذا ي??وجب أنهم من‬
‫قبل ملوك فارس األولى‪ ،‬وذكر عبيد هللا بن خرداذبة نحو ذلك وساعدهما على ذل??ك‬
‫جماعة من أهل السير واألخبار‪ ،‬واألشهر من أم?رهم أنهم من ول?د ي?افث بن ن?وح‪،‬‬
‫سهم ملوك األندلس من الل َذارقة واح?دهم ل?ذريق‪ ،‬وق?د تن?وزع في ديان?اتهم‪ :‬نمنهم‬
‫من رأى أنهم ك??انوا على دين المج??وس‪ ،‬ومنهم من رأى أنهم ك??انوا على م??ذهب‬
‫الصابئة? وغيرهم من عبدة األصنام‪ ،‬وقد قلنا‪ :‬إن األشهر من أنسابهم أنهم من ول??د‬
‫يافث بن نوح‪ ،‬فكان مدة ملك تدوسيس إلى أن هلك عشر سنين‪.‬‬

‫صفحة ‪185 :‬‬

‫جماعة من ملوكهم‬
‫ثم ملك بعده أرقاديس أربع عشرة سنة‪ ،‬وكان على دين النصرانية‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده ابنه تدوسيس األصغر‪ ،‬وذلك بمدين ?ة? أفس??يس‪ ،‬وجم??ع م??ائتي أس??قف‪،‬‬
‫وهذا االجتماع الثالث ال??ذي ق??دمنا ذك??ره آنف??ا‪ ،‬ولعن في??ه نس??طورس البط??رك‪ ،‬وق??د‬
‫ذكرن???ا في كتابن???ا أخب???ار الزم???ان الحيل???ة ال???تي وقعت على نس???طورس َب ْط??? رك‬
‫القسطنطينية من ص??احب الكرس??ي باإلس??كندرية‪ ،‬وم??ا ك??ان من نس??طورس‪ ،‬ونفي??ه‬
‫ليوحنا المعروف بالراهب‪ ،‬وما كان من يدوقيا زوجة الملك إلى أن نفي نس??طورس‬
‫من القسطنطينية? إلى إنطاكية ثم منه?ا إلى ص?عيد مص?ر‪ ،‬والمش?ارقة من النص?ارى‬
‫أض??يفوا إلى نس?طورس ألنهم اتبع?وه وق?الوا بقول?ه‪ :‬وإنم??ا وس??متهم الملكي??ة به?ذا‬
‫لتع ِّيرهم وتعيبهم ب??ذلك‪ ،‬وق??د ك??انت المش??ارقة ب??الحيرة وغيره??ا من الش??رق‬
‫االس??م َ‬
‫َت??دْ َعى بال ِع َب??اد‪ ،‬وس??ائر نص??ارى المش??رق ي??أبون ه??ذه اإلض??افة إلى نس??طورس‪،‬‬
‫ويكرهون أن يقال لهم نسطورية‪ ?،‬وقد أيد برصوما مطران نصيبين رأي المش??ارقة‬
‫في الثالوث‪ ،‬وهو الكالم في األقاليم الثالثة والجوهر الواحد وكيف??ة اتح??اد الاله??وت‬
‫القديم بالناسوت ال ًم ْح َدث‪ ،‬وكان ملك تدوسيس األصغر إلى أن هلك اثن??تين وأربعين‬
‫سنة‪?.‬‬

‫اليعاقبة‬
‫ثم ملك بعده مرقي??انوس‪ ،‬ثم مل??ك ال??روم بلخاري??ا زوج??ة مرقي??انوس‪ ،‬وك??انت ملك??ة‬
‫معه‪ ،‬وفي أيامها كان خبر اليعاقبة من النصارى‪ ،‬ووقع الخالف بينهم في الث??الوث‪.‬‬
‫فكان ملكها سبع سنين‪ ،‬وأكثر اليعاقبة ب??العراق وبالد تك??ريت والموص??ل والجزي??رة‬
‫ومصر? وأقباطها إال اليسير فإنهم ملكية‪ ،‬والنوبة? واألرمن يعاقبة‪ ،‬ومطران اليعاقبة‬
‫بتكريت بين الموص??ل وبغ??داد‪ ،‬وق??د ك??ان لهم ب??القرب من رأس العين واح??د فم??ات‪،‬‬
‫وصاحبهم اليوم بناحية حلب ببالد قنسرين والعواصم‪ ،‬وكرس??ي اليعاقب??ة رس??مه أن‬
‫يك???ون بمدين???ة إنطاكي???ة‪ ،‬وك???ذلك لهم كرس???ي بمص???ر‪ ?،‬وال أعلم لهم غ???ير ه???ذين‬
‫الكرسيين‪ ،‬وهما مصر وإنطاكية‪.‬‬
‫ثم ملك بعدهما اليون األصغر بن اليون‪ ،‬وك??ان ملك??ه س??ت عش??ر س??نة‪ ،‬وفي أيام??ه‬
‫أحرم مسعرة اليعقوبي بطرك اإلسكندرية‪ ?،‬واجتمع له من األساقفه ستمائة وثالثون‬
‫أس???قفاً‪ ،‬وفي ت???اريخ ال???روم أن ع???دة المجتمعين س???تمائة وس???تون رجالً‪ ،‬وذل???ك‬
‫بخلقدونية‪ ،‬وهذا االجتماع هو السنودس الرابع عند الملكية‪ ،‬واليعاقبة ال تعتد بهذا‬
‫السنودس‪ ،‬ولهم خبر ظريف في قصة سوار في البطرك‪ ،‬وما كان من أمره‪ ،‬وخ??بر‬
‫تلمي??ذه يعق??وب ال??براذعي‪ ،‬ودعوت??ه إلي م??ذهب س??واري‪ ،‬واليعاقب??ة أض??يفت إلى‬
‫منصب يعقوب البراذعي هذا‪ .،‬وبه عرفت‪ ،‬وكان من أهل إنطاكية يعمل البرادع‪.‬‬
‫ثم ملك بعده اليون األصغر ابن اليون‪ ،‬سنة على دين الملكية‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده زينو‪ ،‬وهو من بالد األرمينيان‪ ،‬وكان يذهب إلى رأى اليعقوبية‪ ،‬وك??ان‬
‫ملكه سبع عشرة سنة‪ ،‬وكانت ل??ه ح??روب م??ع خ??وارج علي??ه في دار المل??ك‪ ،‬فظف??ر‬
‫بهم‪.‬‬

‫صفحة ‪186 :‬‬

‫ثم ملك بع??ده نس??طاس وك??ان ي??ذهب إِلى م??ذهب اليعق??وبي‪ ،‬وب??نى مدين??ة عموري??ة‪?،‬‬
‫وأصاب كنوزاً ودفائن عظيمة‪ ،‬وكان ملكه إلى أن هلك تسعا ً وعشرين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده يوسطاناس تسع سنين‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده يوسطانياس تسعا ً وثالثين سنة‪ ،‬وقي?ل‪ :‬أربعين‪ ،‬وب?نى كن?ائس كث?يرة‪،‬‬
‫وش??يد دين النص??رانية‪ ?،‬وأظه??ر م??ذهب الملكي??ة‪ ،‬وب??نى كنيس?ة? الره??ا‪ ،‬وهي إح??دى‬
‫عج??ائب الع??الم‪ ،‬والهياك??ل الم??ذكورة‪ ،‬وق??د ك??ان في ه??ذه الكنيس ?ة? من??ديل? يعظم??ه‬
‫النصارى‪ ،‬وذلك أن يسوع الناصري‪ -‬حين أخرج من ماء المعودية‪ -‬تنشف? ب??ه‪ .‬فلم‬
‫ي??زل ه?ذا المن??ديل يت??داول إلى أن ق??رر بكنيس?ة? الره??ا‪ ،‬فلم??ا أش??تد أم??ر ال??روم على‬
‫المس??لمين وحاص??روا الره??ا في ه??ذه الس??نة‪ -‬وهي س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة‪-‬‬
‫أعطى ه??ذا المن??ديل لل??روم‪ ،‬فجنح??وا إلى الهندن??ة‪ ،‬وك??ان لل??روم عن??د تس??لمهم ه??ذا‬
‫المنديل فرح عظيم‪.‬‬
‫ثم مل?ك بع?ده ابن أخي?ه نوس?طيس ثالث عش?رة س?نة‪ ،‬على رأي الملكي?ة‪ ،.‬ثم مل?ك‬
‫بعده طباريس أربع سنين‪ ،‬وأظهر في ملكه أنواعا ً من اللباس واآلالت وآنية الذهب‬
‫والفضة وغير ذلك من االت الملوك‪.‬‬
‫ثم ملك بعده موريقس عش??رين س??نة‪ ،‬ونص??ر كس??رى أبروي??ز على به??رام ج??وبين‪،‬‬
‫فقتل غيلة‪ ،‬وبعث أبروي??ز غض??با ً ل??ه بجي??وش إلى ال??روم‪ ،‬وك?انت لهم ح??روب على‬
‫حسب ما قدمنا ‪.‬‬
‫ثم ملك بعده فوقاس ثمان سنين إلى أن قتل أيضاً‪.‬‬
‫ثم ملك بعده هرقل وكان بطريقا ً في بعض الجزائ??ر قب??ل ذل??ك‪ ،‬فعم??ر بيت المق??دس‪،‬‬
‫وذلك بعد انكشاف الفرس عن الشام‪ ،‬وبنى الكنائس‪ ،‬ولسبع سنين من ملك??ه ك??انت‬
‫ه ِجرة النبي صلى هللا عليه وسلم من مكة إلى المدينة? َ‬
‫شرفها هللا تعالى‪.‬‬

‫ذكر ملوك الروم بعد ظهور اإلسالم‬


‫ملك الروم في عهد مولد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬

‫ت في كتب الت??واريخ تنازع?ا ً في مول??د الن??بي ص??لى هللا علي??ه‬


‫قال المسعودي‪َ :‬و َج? دْ ُ‬
‫وس??لم‪ ،‬وفي عص??ر َمنْ ك??ان من مل??وك ال??روم‪ :‬فمنهم َمنْ ذهب إلى م??ا ق??دمنا من‬
‫مول??ده وهجرت??ه‪ ،‬ومنهم من رأى أن مول??ده علي??ه الص??الة والس??الم ك??ان في مل??ك‬
‫بوسطينوس? األول‪ ،‬وكان ملكه تسعا ً وعشرين سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بوسطينوس الثاني‪ ،‬وكان ملكه عشرين سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك هرقل بن بوسطينوس‪ ،‬وهو الذي ضرب الدنانير والدراهم الهرقلي??ة‪ ،‬وك??ان‬
‫ملكه خمس عشرة سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده ابنه مورق بن هرقل‪ :‬والذي في كتب الزيجات في النجوم وعليه يعمل‬
‫أهل الحساب‪ ،‬وفي تواريخ? ملوك الروم ممن سلف وخلف‪ ،‬أن مل??ك ال??روم ك??ان في‬
‫وقت ظهور اإلسالم وأيام أبى بكر وعمر هرقل وليس هذا الترتيب فيم??ا ع??داها من‬
‫كتب التواريخ وأصحاب األخبار والسير‪ ،‬إال في اليسير منها‪ ،‬وفي تواريخ أص??حاب‬
‫السير أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هاجر ومل ُك الروم قيصر بن مورق‪.‬‬
‫صفحة ‪187 :‬‬

‫في عهد خلفاء اإلسالم‬


‫ثم ملك بعده قيصر بن قيصر‪ ،‬وذلك في خالفة بكر الصديق رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ثم ملك على ال??روم هرق??ل بن قيص??ر‪ ،‬ذل??ك في خالف??ه عم??ر بن الخط??اب رض??ي هللا‬
‫عن??ه‪ ،‬وه??و ال??ذي حارب??ه أم??راء اإلس??الم ال??ذين فتح??وا الش??ام مث??ل أبي عيي??دة بن‬
‫الجراح‪ ،‬وخالد بن الوليد‪ ،‬ويزيد بن أي س??فيان وغ??يرهم من أم??راء اإلس??الم‪ ،‬حين‬
‫أخرجوه من الشام‪.‬‬
‫وكان الملك على الروم مورق بن هرقل في خالفة عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪.‬‬

‫في عهد علي ومعاوية‬


‫ثم مل??ك م??ورق بن م??ورق في خالف??ة علي بن أبي ط??الب رض??ي هللا عن??ه‪ ،‬وأي??ام‬
‫معاوية بن أبي سفيان‪.‬‬
‫ثم ملك بعده قلفط بن مورق بقية أيام معاوية‪ ،‬وك??ان بين??ه وبين معاوي??ة مراس??الت‬
‫ومهادن??ات‪ ،‬وك??ان المختل??ف بينهم??ا فن??اق ال??رومي غالم ك??ان لمعاوي??ة‪ ،‬وق??د ك??ان‬
‫معاوية هادَنَ أباه مورق بن مورق حين س?ار إلى ح?رب علي بن أبي ط?الب رض?ي‬
‫هللا عن??ه‪ ،‬وك??ان َبش??ره بالمل??ك‪ ،‬وأعلم??ه أن المس??لمين تجتم??ع كلمتهم على قت??ل‬
‫صاحبهم يعني عثمان‪ ،‬ثم يؤول الملك إلى معاري?ة‪ ،‬وق??د ك?ان معاوي? ّه يومئ??ذ أم?يراً‬
‫على الشام لعثمان في خبر طويل قد أتينا على ذكره في الكت??اب األرس??ط‪ ،‬وأن ذل??ك‬
‫من علم المالحم يتوارثه? ملوك الروم عن أسالفهم‪ ،‬وكان مل??ك قلف??ط بن م??ورق في‬
‫األخر من أيام معاوية وأيام يزيد بن معاوية وأيام معاوية بن يزيد وأيام م??روان بن‬
‫الحكم وصدراً من أيام عبد الملك بن مروان‪.‬‬

‫في عهد الدولة المروانية‬


‫ثم ملك الون بن قلفط في أيام عبد الملك بن مروان‪ ،‬وك?ان المل?ك بع?ده ج?يرون بن‬
‫رون في أيام الوليد بن عبد الملك وأيام سليمان بن عبد الملك وخالفة عمر بن عبد‬
‫العزي??ز‪ ،‬ثم اض??طرب مل??ك ال??روم لم??ا ك??ان من أم??ر َم ْس? َلمة بن عب??د المل??ك و َغ? ْ‬
‫?زو‬
‫المسلمين إياهم في البر والبحر‪ ،‬فملك??وا عليهم رجاًل من غ??ير أه??ل بيت المل??ك من‬
‫أهل مرعش‪ ،‬يقال له جرجيس‪ ،‬وكان ملكه تسع عشرة سنة‪.‬‬

‫في عهد الدولة العباسية‬

‫ولم يزل ملك الروم مضطربا ً إلى أن ملكهم قس??طنطين بن الي??ون‪ ،‬وذل??ك في خالف??ة‬
‫أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور? أخيه‪ ،‬ثم ملك بعده الي??ون بن قس??طنطين‪،‬‬
‫وذلك في أيام المهدي والهادي‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده ‪ -‬قس??طنطين بن الي??ون‪ ،‬وك??انت أم??ه‬
‫أريش ملكة معه‪ ،‬مشاركة له في الملك‪ ،‬لصغر سنه? في أيام هارون الرش??يد‪ ،‬فم??ات‬
‫قسطنطين بن اليون وسملت عينا أمه بعد ذل??ك ألخب??ار يط??ول ذكره??ا‪ ،‬ثم مل??ك على‬
‫الروم يعف??ور بن اس??دراق‪ ،‬وك??انت بين??ه وبين الرش??يد مراس??الت‪ ،‬وغ??زاه الرش??يد‪،‬‬
‫فأعطاه القود من نفسه بعد بغي كان منه? في بعض مراسالته‪ ،‬فانصرف الرشيد‬
‫صفحة ‪188 :‬‬

‫عنه‪ ،‬ثم غدر ونقض ما ك??ان أعط??اه من االنقي??اد و ُكتم عن الرش??يد أم??ره‪ ،‬لع??ارض‬
‫وح ْمل??ه األم??وال واله??دايا‬
‫علة كان وج??دها بالرق??ة‪ ،‬وفي انقي??اد يعف??ور إلى الرش??يد َ‬
‫والض????????????????ريبة إلي????????????????ه يق????????????????ول أب????????????????و العتاهي????????????????ة ‪:‬‬
‫مستمـطـر َريا‬
‫ٍ‬ ‫أص َب ْح َت تسقي كل‬ ‫َو ْ‬ ‫أص َب ْح َت بالـدين َم ْـعـنـا ً‬
‫إما َم الهدى ْ‬
‫فأنت الذي تدعـي رشـيداً ومـهـد َّيا‬ ‫ش َقا من رشاد ومـن هـدى‬ ‫لك اسمان ُ‬
‫وإن ترض شيئا ً كان في الناس مرض ّيا‬ ‫س ّخـطـا ً‬ ‫سخط َت الشيء كان ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫إذا ما‬
‫فأوسعت شرقيا ً وأوسعـت غـربـ ّيا‬ ‫بسطت لنا شرقا ً وغـربـا ً َيدَ الـعـال‬
‫فأصبح وجه األرض بالجود مغـشـيا‬ ‫شيا وجه األرض بالجود و الـنـدي‬ ‫و َغ َّ‬
‫ـطـويا‬ ‫نشرت من اإِل حسان ما كان َم ْ‬ ‫أمير المؤمنين‪ ،‬فتى الـتـقـى‬ ‫وأنت‪َ ،‬‬
‫وكان قضاء هللا في الخلق َم ْقـضـيا‬ ‫صفى لهارون ملـكـه‬ ‫قضى هّللا أن َ‬
‫وأصبح يعـفـور لـهـارون ذمـيا‬ ‫تحببت الدنيا لـهـارون بـالـرضـا‬

‫فلما عوفي الرشيد من علته دخل عليه بعض الشعراء وقد هابه الناس أن يخ??بروه‬
‫بغدْ ر يعفور‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫فعليه دائرةُ الـبـوار تـدُور‬ ‫نقض الذي أعطاكه يعـفـو ر‬
‫فت ٌح أتاك به اإِل لـ ُه كـبـي ُر‬ ‫أبشر‪ ،‬أمير المؤمنين‪ ،‬فـإنـه‬
‫بالنصر فيه ل َِواؤُ ك المنصور?‬ ‫يزيد على الفتوح‪َ ،‬يؤُ م َنـا‬ ‫ف ْتح ْ‬
‫بالغدر عنه وافـد َو َبـشِ ـير?‬ ‫الرعِ َّية أن ِ‬
‫أتـى‬ ‫ت َ‬‫ش َر ِ‬ ‫فلقد تبا َ‬
‫النفوس‪َ ،‬ن َكالُ َها مذكور‬‫َ‬ ‫تشفي‬ ‫غزو َة‬‫َو َر َج ْت ِب ُي ْم ِن َك أن ُت َع ِّجل َ‬
‫عنك اإلمام َل َجا ِهل ٌ مغـرور‬ ‫يعفور‪ ،‬إنك حين َت ْغ ِد ُر أنْ نأى‬
‫ه َِب َل ْت َك أمك‪ ،‬ما ظننت ُغ ُرور‬ ‫أظننت حين غدرت أنك ُمفل ٌ‬
‫ِت‬
‫بت دِيارك أم نأت بك عور‬ ‫َق ُر ْ‬ ‫إن اإلمام على اقتسارك قادر‬
‫عما يسوس بحـزمـه ويدير‬ ‫س اإِل مام وإن غفلنا َغافـأل‬ ‫َل ْي َ‬
‫فعدُؤُ هُ أبداً بـه مـقـهـور‬ ‫تجرد للجهاد بنـفـسـه‬ ‫ملك َ‬
‫وهللا ال َي ْخفي عليه ضمـير?‬ ‫يامن يريد رضا اإلله بسعـيه‬
‫والنصح من نصحا ِئ ِه مشكور‬ ‫ش إمامـه‬ ‫النصح ينفع من َي ُغ ُ‬
‫وألهله كفـارة وظـهـور‬ ‫ح اإِل مام على األنام فريضة‬ ‫ص ُ?‬‫ُن ْ‬

‫وهي طويل??ة‪ ،‬فلم??ا أنش??ده إياه??ا ق??ال الرش??يد‪ :‬أو ق??د ف َع? لَ‪ .‬وعلم أن ال??وزراء ق??د‬
‫احتالوا‪ ،‬فتجهز وغزاه‪ ،‬ونزل على هرقلة‪ ،‬وذلك في سنة تسعين ومائة‪?.‬‬

‫الرشيد يحاصر هرقلة‬


‫?دي بن أحم??د بن عب??د الب??اقي األزدي أن الرش??يد لم??ا أراد‬
‫وأخ??برني? أب??و عم??ير ع? ّ‬
‫النزول على حصن هرقلة‪ -‬وك??ان مع??ه أه??ل الثغ??ور‪ ،‬وفيهم ش??يخا الثغ??ور الش??امية‬
‫مخلد بن الحسين‪ ،‬وأبو إسحاق الفزاري صاحب كتاب الس??ير‪ -‬فخال الرش??يد بمخل??د‬
‫بن الحسين‪ ،‬فق??ال‪ :‬أي ش??يء تق??ول في نزولن??ا على ه??ذا الحص??ن‪ .‬فق??ال‪ :‬ه??ذا أول‬
‫لقيت من حصون الروم‪ :‬هو في نهاية المنعة والقوة فإن نزلت عليه وسهل‬ ‫َ‬ ‫حصن‬
‫صفحة ‪189 :‬‬

‫هللا فتحه لم يتعذر عليك فتح حصن بع??ده‪ ،‬ف??أمره باالنص??راف‪ ،‬ودع??ا ب??أبي إس??حاق‬
‫الفزاري فقال له مثل ما قال لمخلد‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين هذا حص??ن بنت??ه ال??روم‬
‫في َن ْحر الدروب‪ ،‬وجعلته له??ا ثغ??راً من الثغ??ور‪ ،‬وليس بااله??ل‪ ،‬ف??إن أنت فتحت??ه لم‬
‫يكن فيه ما يعم المسلمين من الغنائم‪ ،‬وإن تعذر فتحه ك??ان ذل??ك نقص?ا ً في الت??دبير‪،‬‬
‫والرأي عن??دي أن يس??ير? أم??ير المؤم??نين إلى مدين?ة? عظيم??ة من م??دن ال??روم‪ ،‬ف??إن‬
‫فتحت َع ًم ْت غنائمها المسلمين‪ ،‬وإن تع?ذر ذل?ك ق?ام الع?ذر‪ ،‬فم?ال الرش?يد إلى ق?ول‬
‫مخلد‪ ،‬فنزل على هرقلة‪ ،‬ونصب حوله??ا الح??رب تس??عة عش??ر يوم?اً‪ ،‬فأص??يب خل??ق‬
‫كث??ير من المس??لمين‪ ،‬وف??نيت األزواد والعلوف??ات‪ ،‬وض??اق ص??در الرش??يد من ذل??ك‪،‬‬
‫?رى م?ا ن?زل بالمس?لمين‪ ،‬فم?ا‬ ‫فأحضر أبا إسحاق الف?زاري‪ ،‬فق?ال‪ :‬ي?ا إب?راهيم ق?د َت َ‬
‫الرأي اآلن عندك‪ .‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ?،‬قد كنت أشفقت من هذا‪ ،‬وق??دمت الق??ول‬
‫فيه ورأيت أن يكون الجد والحرب من المسلمين على غير هذا الحص??ن‪ ،‬وأم??ا اآلن‬
‫فال سبيل إلى الرحيل عنه من بعد المباشرة‪ ،‬فيكون ذلك نقصا ً في الملك‪ .‬ووهنا ً في‬
‫الدين‪ ،‬وإطماعا ً لغيره من الحص??ون في االمتن??اع عن المس??لمين‪ ،‬والمص??ابرة لهم‪،‬‬
‫لكن الرأي ي?ا أم?ير المؤم?نين أن ت?أمر بالن?داء في الجيش أن أم?ير المؤم?نين مقيم‬
‫على هذا الحصن إلى أن يفتحه هّللا عز وجل ّ للمسلمين‪ ،‬وتأمر بقطع الخشب وجمع‬
‫األحجار وبناء مدينة? بازاء هذا الحصن إلى أن يفتحه هّللا عز وج?ل‪ ،‬وال يك??ون ه?ذا‬
‫الخبر ينمو? إلى أح??د من الجيش إال على المق??ام‪ .‬ف??إن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم‬
‫ق??ال‪ :‬الح??رب خدع??ة وه??ذه ح??رب حيل??ة ال ح??رب س??يف‪ ،‬ف?أمر الرش??يد من س??اعته‬
‫بالنداء‪ ،‬فحملت األحجار وقطع األخشاب من الشجر‪ ،‬وأخ??ذ الن?اس في البن??اء‪ ،‬فلم??ا‬
‫رأى أهل الحصن ذلك جعلوا يتسللون في الليل‪ ،‬و ُي َدلون أنفسهم بالحبال‪.‬‬
‫وفي خبر أبي عمير بن عبد الباقي زيادات‪ ،‬منها خبر الجارية ال??تي س? َباها الرش??يد‬
‫من هذا الحصن‪ ،‬وهي ابنة بطريقِهِ‪ ،‬وكانت ذات حسن وجمال‪ ،‬فزايد فيه??ا ص??احب‬
‫الرشيد في المغنم‪ ،‬وبالغ فيها ح??تى اش??تراها ل??ه‪ ،‬فبلغت من قلب??ه‪ ،‬وب??نى له??ا نح??و‬
‫الرافقة بأميال على طريق بالس حصنا ً سماه هرقلة على الفرات‪ ،‬يحاكي به حص??ن‬
‫هرقلة ببالد الروم‪ ،‬في خبر طويل قد أتينا على جميعه في كتابنا األوسط‪.‬‬
‫باق إلى هذه الغاية هنالك خراب يعرف بهرقلة‪.‬‬ ‫وهذا الحصن ٍ‬
‫وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني أبو العين??ا‪ ،‬ق??ال‪ :‬أخ??برني‬
‫?ع الرش??يد حين ن??زل على هرقل??ة وفتحه??ا‪ ،‬ف??رأيت به??ا‬ ‫شبل الترجمان‪ ،‬قال‪ :‬كنت م? ِ‬
‫حجراً منصوبا ً مكتوبا َ عليه باليونانية‪ ،‬فجعلت أترجمه والرش??يد ينظ??ر َ‬
‫إلي‪ ،‬وأن??ا ال‬
‫أعلم‪ ،‬فكانت ترجمت?ه‪ ?.‬بس?م هللا ال?رحمن ال?رحيم‪ ،‬ي?ا ابن آدم غ?افص الفرص?ة عن?د‬
‫إمكانها‪ ،‬وكِل األمور إلى وليها‪ ،‬وال يحملنك إفراط الس??رور على الم??أتم‪ ،‬وال تحم??ل‬
‫على نفسك هم يوم لم يأت‪ ،‬فإنه إن يك من أجلك وبقية عمرك يأت هللا فيه برزق??ك‪،‬‬
‫وال تكن من المغرورين بجمِع المال‪ ،‬فكم قد رأينا جامعا ً لبعل حليلت??ه‪ ،‬ومق??تراً على‬
‫نفسه‪ ،‬موفراَ لخزانة غيره وق??د ك?ان ت?اريخ ه?ذا الكت?اب في ذل?ك الي??وم زائ??داً على‬
‫الذي سنة‪.‬‬

‫صفحة ‪190 :‬‬

‫وباب هرقلة ُمطِ ل َع َلى واد وخندق يطيف به??ا‪ ،‬وذك??ر جماع??ة من أه??ل الخ??برة من‬
‫أه??ل الثغ??ور أن أه??ل هرقل??ة لم??ا اش??تد بهم الحص??ار‪ ،‬وعض??تهم الح??رب بالحج??ارة‬
‫والس??هام والن??ار فتح??وا الب??اب فاستش??رف المس??لمون ل??ذلك‪ ،-‬ف?إذا رج??ل من أهله??ا‬
‫كأجم??ل الرج??ال ق??د خ??رج في أكم??ل الس??الح‪ ،‬فن??ادى‪ :‬ي??ا معش??ر الع??رب‪ :‬ق??د ط??الت‬
‫مواقفتكم إيانا‪ ،‬فليخرج إلي منكم الرجل والعشرة إلى العشرين مب??ارزة‪ ،‬فلم يخ??رج‬
‫إليه من الناس أحد‪ ،‬ينتظرون ْإذنَ الرش??يد‪ ،‬وك??ان الرش??يد نائم?ا ً فع??اد ال??رومي إلى‬
‫حصنه‪ ،‬فلما استيقظ أخبر بذلك‪ ،‬فتأسف والم خدمه على ت?ركهم إيقا َظ? ُه‪ ،‬فقي?ل ل?ه‪:‬‬
‫يطمعه ويطغيه ويجرئه? أن يخرج في‬ ‫يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن امتناع الناس منه? اليوم ْ‬
‫غ ٍد فيطلب المبارزة ويعود لمثل قوله‪ ،‬فطالت على الرشيد ليلته‪ ،‬وأصبح ك??المنتظر‬
‫له‪ ،‬إذ فتح الباب‪ ،‬فإذا الفارس قد خ??رج‪ ،‬وع??اد إلى كالم??ه‪ ،‬فق??ال الرش??يد‪َ :‬منْ ل??ه‪.‬‬
‫ض ّج أهل الثغور والمتطوع??ة بب??اب‬ ‫فابتدره جلة القواد‪ ،‬فعزم على إخراج بعضهم‪ ،‬ف َ‬
‫المض??رب‪ ،‬ف??أذن لبعض??هم‪ ،‬وفي مجلس??ه مخل??د بن الحس??ين وإب??راهيم الف??زاري‪،‬‬
‫ف??دخلوا‪ ،‬فق??الوا‪ :‬ي??ا أم??ير المؤم??نين‪ ،‬ق??وادك مش??هورون بإلب??اس والنج??دة‪ ،‬وعل??و‬
‫الصيت ومباشرة الحرب ومتى خرج واحد منهم وقتل هذا العلج لم يك??بر ذل??ك‪ ،‬وإن‬
‫قتله العلج كانت وصمة على العسكر عظيمة‪ ،‬وثلمة ال تنسد‪ ،‬ونحن عامة ال يرتف??ع‬
‫فصو َب‬
‫َّ‬ ‫رجاَل منا يخرج إليه ف َعل‪،‬‬
‫ألحد منا صيت فإن رأى أمير المؤمنين? أن يختار َ‬
‫الرشيد رأيهم وقال مخل?د وإب?راهيم‪ :‬ص?دقوا ي?ا أم?ير المؤم?نين‪ ،‬ف?أومؤا إلى رج?ل‬
‫منهم يعرف بابن الجزري مشهور في الثغور موصوف بالنج??دة‪ ،‬فق??ال ل??ه الرش??يد‪:‬‬
‫أتخرج إلي??ه‪ .‬ق??ال‪ :‬نعم‪ ،‬وأس??تعين باهّلل علي??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬أعط??وه فرس?ا ً وس??يفا ً ورمح?ا ً‬
‫وترساً‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق‪ ،‬ورمحي في ي??دى أش??د‪ ،‬ولكن ق??د‬
‫قبلت السيف وال??ترس‪ .‬فلبس الس??الح‪ ،‬وأش??تدناه الرش??يد فودع??ه وأتبع??ه بال??دعاء‪،‬‬
‫انقض في ال??وادي ق??ال لهم العلج وه??و‬ ‫َّ‬ ‫وخرج مع??ه عش??رون من المتطوع??ة‪ ،‬فلم??ا‬
‫يعدهم واح?داً‪ :‬إنم?ا ك?ان الش?رط عش?رين‪ ،‬وق?د إزددتم رجاَل َ ولكن ال ب?أس‪ ،‬فن?اده‪:‬‬
‫ليس يخرج لك منا إال رجل واحد‪ ،‬فلما فص??ل منهم ابن الج??زري تأمل??ه العلج‪ ،‬وق??د‬
‫أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم‪ ،‬فقال له ال??رومي‪ :‬أتص??دقني عم??ا‬
‫أسألك عنه‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أنت ابن الجزري باهّلل ‪ .‬قال‪ :‬اللهم نعم‪ ،‬ف ُك??ف ل??ك‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫س?ان أن‬ ‫فتطاع َن??ا ح??تى ط??ال األم??ر بينهم??ا‪ ،‬وك??اد َ‬
‫الفر َ‬ ‫َ‬ ‫بل ُكف‪ ،‬ثم أخذا في شأنهما‪،‬‬
‫يقوم??ا تحتهم?ا‪ ،‬وليس واح??د منهم?ا خ?دَ ش ص??احبه‪ ،‬ثم رمي??ا برمحيهم?ا ه?ذا نح??و‬
‫س ? ُيوفهما وق??د اش??تد الح??ر عليهم??ا‪ ،‬وتبل??د‬‫وانتض? َيا ُ‬
‫َ‬ ‫أص??حابه وه??ذا نح??و حص??نه‪،‬‬
‫جواداهما‪ ،‬فجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يظن أن??ة ق??د ب??الغ فيه??ا‬
‫فيتقيها الرومي‪ ،‬وكانت درقته حديداً‪ ،‬فيسمع له??ا ص??وت منك??ر‪ ،‬ويض??ربه ال??رومي‬
‫فيغ??وص س??يفه ألن ت??رس ابن الج??زري ك??ان درق??ة تبتي??ة‪ ?،‬وك??ان العلج يخ??اف أن‬
‫يغوص السيف فيعطب‪ ،‬فلما يئس كل واحد منهما من صاحبه انه??زم ابن الج??زري‪،‬‬
‫فداخلت الرشيد والمسلمين من ذلك كآبة لم يصبهم مثلها‪ ،‬وعطع??ط المش??ركون من‬
‫حصنهم‪ ،‬وإنما كانت حيل??ة من ابن الج??زري‪ ،‬فاتبع??ه العلج وعال علي??ه‪ ،‬فلم??ا تمكن‬
‫وص?ل َ إلى‬‫منه? ابن الجزري رماه بوهق فاختطفه من سرجه‪ ،‬ثم عط??ف علي??ه‪ ،‬فم?ا َ‬
‫األرض جسده حتى فارقه رأسه‪ ،‬وكبر المسلمون‪ ،‬وانكسر المشركون‪ ،‬وبادروا‬
‫صفحة ‪191 :‬‬

‫الب??اب ليغلق??وه‪ ،‬واتص??ل الخ??بر بالرش??يد‪ ،‬فص??اح ب??القُؤاد أن يجعل??وا في حج??ارة‬


‫المج??انيق الن??ار‪ ،‬فليس عن??د الق??وم دف??ع بع??دما‪ ،‬وع??اجلهم المس??لمون إلى الب??اب‬
‫?و ًة أش?هر من‬ ‫فدخلوها بالسيف‪ ،‬وقي?ل‪ :‬إنهم ن?ادوا باألم?ان‪ ،‬ف?أمنوا‪ ،‬وافتتاحه?ا َع ْن َ‬
‫قول َمنْ قال‪ :.‬إنها فتحت صلحاً‪ ،‬فق??ال في ذل??ك الش?اعر الحكمي وه??و أب??و ن??واس‪:‬‬
‫جواثما ترتمي? بالنفط والنـار‬ ‫ه ََو ْت ه َِر ْق َل ُة لما رأت عجبـا‬
‫كمشعالت على أرسان قصار‬ ‫كأنَ نيرا َن َنا من جنب قلعتهـم‬
‫وهذا كالم ض?عيف ولكن ق?د عظم ق?دره في ذل?ك ال?وقت للمع?نى‪ ،‬وعظمت لص?احبه‬
‫ص َّبت األموال على ابن الجزري‪ ،‬وقؤدَ ‪ ،‬و ُخلع علي??ه‪ ،‬فلم يقب??ل ش??يئا ً من‬‫الجائزة‪ ،‬و ُ‬
‫ذلك‪ ،‬وسأل أن ُي ْعفى ويترك على ما هو عليه‪ .‬ففي هذا يقول الشاعر أبو العتاهي??ة‪:‬‬
‫من الملك ال ُم َوفق للصواب‬ ‫أال نادت ه َِر ْق َل ُة بالخـراب‬
‫ويبرق بالمذ َك َر ِة العضاب‬ ‫غدا ها ُرونُ يرعد بالمنـايا‬
‫تمر كأنها َمر السـحـاب‬ ‫ورايات يحل النصر فيهـا‬
‫وأبشر ِبالغـنـيم ِة واإِل ياب‬ ‫أمير المؤمنين ظفرت فاسلم‬ ‫َ‬
‫وللرشيد مع يعفور هذا بعد ذلك أخبار كث??يرة‪ ،‬وق??د أتين??ا على مبس??وطها في كتابن??ا‬
‫األوسط‪ ،‬وما كان من خبره في إرساله ليح??يى بن الش??خير حين أم??ره أن يتط??ارش‬
‫على يعفور‪ ،‬وما كان من يعفور وإخباره لبطارقته أن الرشيد بعث به??ذا متص??امماً‪،‬‬
‫وم??ا طالب??ه ابن الش??خير ب??دينار أو درهم علي??ه ص??ورة المل??ك حين عرض??ت علي??ه‬
‫الخزائن‪ ،‬وما كان من انقياد يعفور بعد ذل??ك إلى طاع??ة الرش??يد‪ ،‬وش??رطه علي??ه أن‬
‫يحمل إليه أينم??ا ك??ان من م??اء عين العش??يرة‪ ،‬هي عين البرب??دون‪ ،‬وهي في نهاي??ة‬
‫الصفاء والرقة‪ ،‬وغير ذلك مما عنه أمسكنا لالختصار‪.‬‬
‫ثم ملك بعد يعفور اس??تراق بن يعف??ور بن اس??تراق في أي??ام محم??د األمين‪ ،‬فلم ي??زل‬
‫ملكا ً حتى غلب على الملك قسطنطين بن قلفط‪ ،‬وكان ملك قسطنطين هذا في خالف??ة‬
‫المأمون‪.‬‬
‫ثم مل?ك بع??ده توفي??ل‪ ،‬وذل?ك في خالف??ة المعتص??م‪ ،‬وه??و ال?ذي فتح زبط??رة‪ ،‬وغ??زاه‬
‫المعتصم باهلل ففتح عموري??ة‪ ،‬وس??نورد خ??بره فيم?ا ي?رد من ه??ذا الكت?اب في أخب??ار‬
‫المعتصم‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫ثم مل??ك بع??ده ميخائي??ل بن توفي??ل وذل??ك في خالف??ة الواث??ق والمتوك??ل والمنتص??ر‬
‫والمستعين‪.‬‬
‫ثم كان بين الروم تنازع في المل?ك‪ ،‬فملك?وا عليهم توفي?ل بن ميخائ?ل ابن توفي?ل ثم‬
‫غلب على المل??ك بس??يل الص??قلبي‪ ،‬ولم يكن من أه??ل ييت المل??ك‪ ،‬وك??ان ملك??ه أي??ام‬
‫المعتز والمهتدي‪ ،‬وبعض خالفة المعتمد‪.‬‬
‫ثم ملك بعده ابنه اليون بن بسيل? بقية أيام المعتمد و صدراً من أيام المعتضد‪.‬‬
‫ثم هل??ك فملك??وا عليهم ابن?ا ً ل??ه ُيق??ال ل??ه االس??كندروس فلم يحم??دوا أم??ره‪ ،‬فخلع??وهُ‬
‫وملكوا عليه أخاه الوي بن اليون بن بسيل الصقليي وكان ملكه بق َّية أيام المعتض??د‬
‫والمكتفي و صدراً من أيام المقتدر‪.‬‬
‫ثم هلك وخلف ولداً صغيراً ُيقال له قسطنطين فملك وغلب على مشاركته في المل??ك‬
‫الصبي بابنته‪،‬‬
‫ً‬ ‫فزوج قسطنطين‬ ‫بطريق البحر وصاحب َغ ْزوه وحروبه‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أرمنوس‬
‫صفحة ‪192 :‬‬

‫وذلك في بقية أيام المقتدر وأيام القاهر والراض??ي والمتقي‪ ،‬إلى ه??ذا ال??وقت‪ -‬وه??و‬
‫سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ?-‬في خالفة أبي إسحاق المتقي هلل بن المقتدر‪.‬‬
‫وملوك الروم في هذا الوقت المؤرخ ثالثة‪ ،‬واألكبر منهم والم??دبر ألم??ور أرمن??وس‬
‫المتغلب‪ ،‬ثم الثاني وهو قسطنطين بن الوي بن اليون بن بسيل‪ ?،‬والملك الث?الث ابن‬
‫ص?احب‬
‫َ‬ ‫ب بالملك‪ ،‬واسمه اسطفنوس وجعل أرمنوس اب َنا َ ل?ه َ‬
‫آخ? َر‬ ‫ألرمنوس‪ ،‬يخا َط ُ‬
‫الكرسي بالقسطنطينية‪ ?،‬وه??و البط?رك األك?بر ال?ذي يأخ?ذون عن??ه دينهم‪ ،‬وق?د ك?ان‬
‫ّ‬
‫صاه قبل ذلك‪ ،‬وقربه إلى الكنيسة‪ ،‬وأم ُر الروم يدور في وقتنا هذا على من ذكرنا‬ ‫َخ َ‬
‫من ملوكهم‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬وإلى هذا الوقت انتهت أخبار ملوك ال?روم‪ ،‬على حس?ب م?ا ذكرن?ا‪،‬‬
‫وهللا أعلم ما يكون من أمرهم في المستقبل? من الزمان‪.‬‬

‫مدة ملك الروم‬


‫فع??دد س??ني مل??وك ال??روم المتنص??رة من قس??طنطين بن هالني‪ ،‬وه??و المظه??ر ل??دين‬
‫النصرانية على م?ا ذكرن??ا‪ ،‬إلى ه?ذا ال?وقت‪ ،‬خمس??مائة س??نة وس??بع س??نين‪ ،‬وال?ذي‬
‫أجمع عليه من عدد ملوكهم‪ -‬من قسطنطين إلى هذا الوقت المؤرخ‪ -‬أح??د وأربع??ون‬
‫ملكاً‪ ،‬ولم يعد بع ُد ابن أرمنوس‪ ،‬ووقع العدد على قسطنطين وأرمنوس? الل??ذين هم??ا‬
‫ملكا الروم في هذا ال??وقت الم??ؤرخ‪ ،‬وإن أدخلن??ا في ه??ذا العم??د ابن أرمن??وس فع??دد‬
‫ملوك الروم من بدء النصرانية‪ ?-‬وهو المل?ك قس??طنطين بن هالني‪ -‬اثن?ان وأربع?ون‬
‫ملكاً‪ ،‬في مدة هذه السنين المذكورة‪.‬‬
‫وقد ذهب جماعة ممن ُعني بأخبار العالم إلى أن مِنْ حين َه َب َط آدم عليه السالم إلى‬
‫هذا الوقت‪ ،‬وهو سنة? اثن?تين وثالثين وثالثمائ?ة‪ ?،‬س?تة آالف س?نة وم?ائتين وتس?عا ً‬
‫وخمس??ين س??نة‪ ?،‬وس??نذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جمالً من ت??اريخ س??ني الع??الم‬
‫ب نفرعه لذلك‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬ ‫واألنبياء والملوك في با ٍ‬

‫ذكر مصر? وأخبارها ونيلها وعجائبها وأخبار ملوكها‬


‫وغير ذلك مما أتصل بهذا الباب‬
‫ذكر مصر? في القرآن‬
‫قال المسعودي‪ :‬ذ َك َر هللا جل ثن??اؤه مص??ر في مواض??ع من كتاب??ه‪ ،‬فق??ال ع??ز وج??ل‪:‬‬
‫ِص? َر إنْ ش?ا َء هللا آ ِمنِينَ " وق?ال‬ ‫ِص?ر" وق?ال "أدْ ُخلُ??وا م ْ‬
‫"وق?ال ال?ذي اش?تراهُ مِنْ م ْ‬
‫تعالى‪َ " :‬و ْأو َح ْي َنا إلى ُموسى وأخيه أن َت َب َّوآ لِ َق ْو ِم ُك َما ِبمصر? ُب ُيوتا" وقال‪" :‬اهْ ب ُطوا‬
‫او ُد‬
‫??ر ِ‬ ‫سأ ْل ُت ْم" وقال تعالى‪" :‬وقال ن ِْسوةٌ في المدِي َن ِ?ة امرأةُ ا ْل َع ِز ِ‬
‫يز ُت َ‬ ‫مِصراً فإنَّ ل ُك ْم َما َ‬
‫ف َتاهَا َعنْ َنفسِ ه?"‪.‬‬

‫صفحة ‪193 :‬‬

‫وصف مصر‬
‫ووصف بعض الحكماء مصر فقال‪ :‬ثالثة أشهر لؤلؤة بيضاء‪ ،‬وثالث أش??هر مس??كة‬
‫أش? ُهر س??بيكة ذهب حم??راء فأم??ا‬ ‫س??وداء‪ ،‬وثالث??ة أش??هر زم??ردة خض??راء‪ ،‬وثالث??ة ْ‬
‫اللؤلؤة البيضاء فإن مصر في شهر أبيب‪ -‬وهو تموز‪ -‬ومِسري‪ -‬وهو آب‪ -‬وت??وت‪-‬‬
‫وهو أيلول‪ -‬يركبه?ا الم?اء ف?ترى ال?دنيا بيض?اء‪ِ ،‬‬
‫وض? َياعها على َر َاو ِب َي وتالل مث?ل‬
‫الكواكب‪ ،‬قد أحاطت المياه به??ا من ك??ل وج??ه‪ ،‬فال س??بيل? لبعض البالد إلى بعض إال‬
‫في ال??زوارق‪ ،‬وأم??ا المس??كة الس??وداء ف??أن في ش??هر باب??ه‪ -‬وه??و تش??رين األول‪-‬‬
‫وهاتور‪ -‬وهو تش??رين الث??اني‪ ،‬وكيه??ك‪ -‬وه??و ك??انون األول‪ -‬ينكش??ف الم??اء عنه??ا‪،‬‬
‫وينضب? عن أرضها فتصير أرضا ً س?وداء‪ ،‬وفيه?ا تق?ع الزراع?ات‪ ،‬ولألرض روائح‬
‫طيبة تش??به روائح المس??ك‪ ،‬وأم??ا الزم??ردة الخض??راء‪ ،‬ف??إن في ش??هر طوب??ة‪ -‬وه??و‬
‫كانون الثاني‪ -‬وأمش??ير‪ ?-‬وه??و ش??باط‪ -‬وبرمه??ات‪ -‬وه??و آذار‪ -‬تلم??ع ويك??ثر عش??بها‬
‫ونباتها‪ .‬فتصير كألزمردة الخضراء وأما السبيكة الحم?راء ف?إن في ش?هر برم?ودة‪-‬‬
‫?بيض ال??زرع‪ ،‬ويت??ورد‬
‫ُ‬ ‫وهو نيسان‪ -‬وبشنس‪ -‬وهو أ َّيا ُر‪ -‬وبؤونة‪ -‬وهو حزي??ران‪ -‬ي?‬
‫العشب‪ ،‬فهو كسبيكة الذهب منظراً ومنفعة‪.‬‬
‫ونسمى ك??ل ش??هر منه??ا بع??د‬
‫ِ‬ ‫وسنذكر هذه الشهور بالسريانية والعربية والفارسية‪?،‬‬
‫هذا الموضع من هذا الكتاب‪ ،‬وإن كنا قد أتينا على جميع ذلك في الكتاب األوسط‪.‬‬
‫آخ ُر مصر فق??ال‪ :‬نيله??ا عجب‪ ،‬وأرض??ها ذهب‪ ،‬وخيره??ا َج َلب وملكه??ا لمن‬ ‫ووصف َ‬
‫ص??? َخب‪ ،‬وط???اعتهم َرهَب‪ ،‬وس???المهم ش???غب‪،‬‬ ‫س???لب‪ ،‬وماله???ا رغب‪ ،‬وفي أهله???ا َ‬
‫وحروبهم َحرب‪ ،‬وهي لمن غلب‪.‬‬

‫نهر النيل‬
‫ونهره??ا الني??ل من س??ادات األنه??ار‪ ،‬وأش??راف البح??ار‪ .‬ألن??ه يخ??رج من الجن??ة على‬
‫حس??ب م??ا ورد ب??ه خ??بر الش??ريعة إن الني??ل وس??يحان‪ ،‬وه??و نه??ر أدب??ه من الثغ??ر‬
‫الشامي‪ ،‬ويصب إلى البحر الرومي‪ ،‬ومخرجه على ثالثة أي??ام من ملطي??ة‪ ،‬ويج??ري‬
‫في بالد الروم‪ ،‬وليس للمسلمين علي??ه إال مدين?ة? أذن??ة بين طرس??وس والمصيص??ة‪،‬‬
‫وجيح??ان‪ ،‬ومخرج??ه من عي??ون تع??رف بعي??ون جيح??ان على ثالث??ة أي??ام من مدين ?ة?‬
‫مرعش‪ ،‬ويطرح إلى البحر الرومي‪ ،‬فليس للمسلمين عليه من المدن إال المصيصة?‬
‫وكفربيا‪ ،‬ومجراه بينهما‪ ،‬والف??رات وق??د ق??دمنا األخب??ار عن??ه وعن الني??ل ومب??دئهما‬
‫ومقدار جريانهما على وجه األرض ومص??بهما‪ ،‬فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب‪ ،‬وأن??ه‬
‫يخرج من الجنة‪ ،‬وكذلك الدجلة وغيرها مما اشتهر من األنهار الكبار‪.‬‬
‫وقد قالت الع??رب في الني??ل‪ :‬إن??ه إذا زاد غاض??ت ل??ه األنه??ار واألعين واألب??ار‪ ،‬وإذا‬
‫غاض زادت‪ .‬فزياداتها من َغ ْيضه‪ ،‬وغيض ُه من زياداتها‪.‬‬
‫قال البسري ‪ :‬يغيض إن زاعت له األنهار في األرض ذات العرض والمقدار وق??الت‬
‫الهند‪ :‬زيادته ونقصانه بالسيول‪ ،‬ونحن نعرف ذلك بتوالى األنواء وك??ثرة األمط??ار‪،‬‬
‫وركود السحاب‪.‬‬
‫وقالت ال??روم‪ :‬لم ي??زد ق??ط ولم ينقص‪ ،‬وءإنم??ا زيادت??ه ونقص??انه من عي??ون ك??ثرت‬
‫واتصلت‪.‬‬
‫صفحة ‪194 :‬‬

‫وق??الت القب??ط‪ :‬زيادت??ه ونقص??انه من عي??ون في ش??اطئه‪ ،‬يراه??ا َمنْ س??افر ولح??ق‬
‫بأعاليه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬لم ي??زد ق?ط‪ ،‬وإنم?ا زيادت?ه ب?ريح? الش?مال إذا ك??ثرت واتص??لت ب??ه‪ ،‬فتحبس??ه‪،‬‬
‫فيفيض على وجه األرض‪.‬‬
‫وقد ذكرنا التنازع في الني??ل وزيادت??ه ممن س??لف وخل??ف‪ ،‬على الش??رح واإليض??اح‪،‬‬
‫وغيره من األنهار الكبار والبحار والبحيرات الص??غار‪ ،‬في كت??اب أخب??ار الزم??ان في‬
‫الفن الثاني‪ ،‬فأغنى ذلك عن إعادتها في هذا الكتاب‪.‬‬

‫وصف مصر أيضا ً‬


‫ومصر? من سادات القُ َرى‪ ،‬ورؤس??اء الم??دن‪ ،‬ق??ال هللا تع??الى‪ :‬حاكي?ا ً عن فرع??ون‪":‬‬
‫عز وج??ل‬‫أليس لي ملك مصر وهذه األنهار تجري من تحتي‪ ،‬أفال ُتبص ُرون " وقال ّ‬
‫األرض‪ ،‬إني حفي??ظ عليم "‬ ‫ِ‬ ‫حاكيا ً عن يوسف عليه السالم‪ " :‬اجعل??ني على خ??زائن‬
‫وهي مصر‪ ،‬وليس في أنهار الدنيا نه??ر يس??مى بح??راَ و َي ّم? ا ً غ??ير ني??ل مص??ر لك??بره‬
‫واستبحاره‪ ،‬وقد قدمنا فيما سلف من كتبنا الخ??بر عن جب??ل القم??ر ال??ذي َب??دْ ء الني??ل‬
‫منه‪ ?،‬وما يظهر من ت??أثير القم??ر في??ه عن??د زيادت??ه ونقص??انه من الن??ور والظالم في‬
‫البدر والمحاق ‪.‬‬
‫وقد روي عن زيد بن أسلم في قوله تعالى‪ " :‬فإن لم يصبها وابل فطل "‪ ،‬قال‪ :‬هي‬
‫مصر‪ ،‬إن لم يصبها واب??ل َز َك ْت‪ ،‬وإن أص??ابها مط??ر ض??عفت‪ ،‬وق??ال بعض الش??عراء‬
‫ومصر ش??أنها عجيب ونيله??ا تج??ري ب??ه الجن??وب وهي‬ ‫ْ‬ ‫يصف مصر ونيلها‪ :‬مصر‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬واسمها كمعناها‪ ،‬وعلى اسمها سميت األمصار‪ ،‬ومنه اشتق هذا االسم عن??د‬
‫علماء البصريين‪ ،‬وقد قال عمرو بن معد يك??رب‪ :‬م??ا ال َني??ل أص??بح زاخ??راً بـمـدوده‬
‫ص َبا فجرى لها ّع??ودْ َت كن??دة ع??ادة مـجـمـوعة فاص??بر لجاهله??ا‬ ‫وجرت له ريح ال ً‬
‫َو َر ِّوسِ َجا َلـ َهـا‬

‫زيادة النيل ونقصانه‬


‫قال االمسعودي‪ :‬ويبتدئ? نيل مصر بالتنفس والزيادة بقي??ة بؤون??ة‪ ?-‬وه??و حزي??ران‪-‬‬
‫وأبيب‪ -‬وهو تموز‪ ?-‬ومسرى‪ ?-‬وهو آب‪ -‬فإذا كان الماء زائ??داً زاد ش??هر ت??وت كل??ه‪-‬‬
‫وهو أيلول‪ -‬إلى انقض??ائه‪ ،‬ف??إذا انتهت الزي??ادة إلى س??ت عش??رة فراع?اً‪ ،‬ففي??ه تم??ام‬
‫ور ْيع للبلد عام‪ ،‬وهو ضار للبهائم لعدم الم??رعى والك??ل‪،‬‬ ‫الخراج‪ ،‬وخصب األرض‪َ ،‬‬
‫وأتم الزيادات كلها العامة النفع للبل??د كل??ه س??بع عش??رة فراع?اً‪ ،‬وفي ذل??ك كفايته??ا‪،‬‬
‫َو َرف ُي جميع أراضيها‪ ،‬وإذا زاد على السبع عشرة وبلغ ثمان عشرة فراعا ً وغلقه??ا‬
‫استبحر من أرض مصر الربع‪ ،‬وفي ذلك ضرر لبعض الضياع‪ ،‬لما ذكرنا من وج??ه‬
‫االس??تبحار وغ??ير ذل??ك‪ ،‬وإن ك??انت الزي??ادة ثم??ان عش??رة فراع ?ا ً ك??انت العاقب??ة في‬
‫انصرافه حدوث وباء بمصر‪ ،‬وأكثر الزيادات ثم??ان عش??رة فراع?اً‪ ،‬وق??د ك??ان الني??ل‬
‫بلغ في زيادته تسع عشرة فراعاً‪ ،‬وذلك سنة تسع وتسعين في خالفة عمر بز عب??د‬
‫الفراع إلى أن تبل??غ اث??ني عش??ر فراع?ا ً ثم??ان وعش??رون أص??بعاً‪،‬‬
‫ِ‬ ‫العزيز‪ ،‬ومساحة‪.‬‬
‫ومن اثني عشر فراعا َ وما فوق يصير الفراع أربعا ً وعشرين أصبعاً‪ ،‬وأقل ما يبقى‬
‫صفحة ‪195 :‬‬

‫في قاع المقي??اس من الم??اء ثالث??ة أف??رع‪ ،‬وفي مث??ل تل??ك الس??نة يك??ون الم??اء قليالً‪،‬‬
‫واألف? ُر ُع ال??تي يستس??قي? عليه??ا بمص??ر هي فراع??ان تس??ميان منك??راً ونك??يراً‪ ،‬وهي‬
‫الفراع الثالث عشر‪ ،‬والفراع الرابع عشر‪ ،‬فإذ انصرف الماء عن هاتين الفراعين‪-‬‬
‫أعني ثالث عشرة وأربع عشرة‪ -‬وزيادة نصف? ذراع من الخمس عشرة‪ ،‬استس??قى‬
‫الناس بمصر‪ ،‬وكان الضرر شامالً لكل البلدان‪ ،‬إال أن يأذن هّللا عز وج??ل في زي??ادة‬
‫الماء‪ ،‬وإذا تم خمس عشرة ودخل في س??ت عش??رة ذراع?ا ً ك??ان في??ه ص??الح لبعض‬
‫الناس‪ ،‬وال يستسقي? فيه‪ ،‬وكان ذلك نقصا ً من خراج السلطان‪ ،‬والترع التي َبغ ْيضة‬
‫مص???ر أرب???ع أمه???ات‪ .‬أس???ماؤها‪ :‬ترع???ة ذنب التمس???اح‪ ،‬وترع???ة بلقين???ة‪ ،‬وخليج‬
‫س??ردوس‪ ،‬وخليج ذات الس??احل‪ ،‬وتفتح ه??ذه ال??ترع إذا ك??ان الم??اء زائ??داً في عي??د‬
‫الصليب‪ ،‬وهو ألربع عشرة تخلو من توت وهو أيلول‪ ،‬وقد قدمنا خ??بر تس??مية ه??ذا‬
‫اليوم بعيد الصليب فيما سلف من هذا الكت??اب‪ ،‬والنبي?ذ? الش??يراري يتخ??ذ بمص??ر من‬
‫م??اء طوب??ة‪ ،‬وه??و ك??انون اآلخ??ر‪ ،‬بع??د الغط??اس‪ ،‬وه??و لعش??رة تمض??ي من طوب??ة‪،‬‬
‫وأصفى ما يكون النيل في ذلك الوقت‪ ،‬وأهل مصر يفتخرون بص??فاء الني??ل في ه??ذا‬
‫الوقت‪ ،‬وفيه تختزن المياه أهل تنيس ودمياط وبونة وسائر قرى البحيره‪.‬‬

‫ليلة الغطاس‬
‫ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها‪ ،‬ال ينام الناس‪ -‬فيها‪ ،‬وهي ليلة إح??دى‬
‫عشرة تمضي من طوبة وستة? من كانون الثاني‪.‬‬
‫ولقد حضرت سنة ثالثين وثلثمائة? ليلة الغطاس بمص??ر‪ ،‬واإلخش??يد محم??د بن ظغج‬
‫في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة الراكبة للنيل والنيل يطيف بها‪ ،‬وق??د أم??ر‬
‫فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غ??ير م??ا أس??رج أه??ل مص?ر?‬
‫من المش??اعل والش??مع‪ ،‬وق??د حض??ر الني??ل في تل?ك الليل??ة مئ??و آالف من الن??اس من‬
‫المس??لمين والنص??ارى‪ ،‬منهم في ال??زوارق‪ ،‬ومنهم في ال??دور الداني??ة? من الني??ل‪،‬‬
‫ومنهم على الشطوط‪ ،‬اليتنا كرون الحضور‪ ،‬و ُي ْحضِ رون كل ما يمكنهم إظه??اره من‬
‫المأكل والمش??ارب والمالبس وآالت ال??ذهب والفض??ة والج??واهر والمالهي والع??زف‬
‫والقصف‪ ،‬وهي أحسن ليلة تكون بمصر‪ ،‬وأشملها سروراً‪ ،‬وال تغلق فيها الدروب‪،‬‬
‫ويغطس أكثرهم في النيل‪ ،‬ويزعمون أن ذلك أمان من المرض ومبرئ للداء‪.‬‬

‫مقاييس النيل‬
‫قال االمسعودي‪ :‬وأما المقاييس الموضوعة بمص??ر لمعرف??ة زي??ادة الني??ل ونقص??انه‬
‫ف??إني س??معت جماع??ة من أه??ل الخ??برة يخ??برون أن يوس??ف الن??بي ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم‪ ،‬حين بنى األهرام‪ ،‬اتخذ مقياسا ً لمعرفة زيادة النيل ونقصانه‪ ،‬وأن ذل??ك ك??ان‬
‫بمنف‪ ?،‬ولم يكن الفسطاط يومئذ‪ ،‬وأن دلوكة الملكة العجوز وضعت مقياسا ً بأقص??ى‬
‫الصعيد‪ ،‬ووضعت أيضا ً مقياسا ً آخر ببالد إخميم‪ ،‬فه??ذه المق??اييس الموض??وعة قب??ل‬
‫مجيء اإلسالم‪ ،‬ثم ورد اإلسالم‪ ،‬وافتتحت مصر‪ ،‬وك??انوا يعرف??ون زي??ادة الني??ل بم??ا‬
‫ذكرن??ا ونقص??انه? بم??ا وص??فنا‪ ،‬إلى أن ولي عب??د العزي??ز بن م??روان‪ ،‬فاتخ??ذ مقياس?ا ً‬
‫بحلوان‪ ،‬وهو صغير الذراع‪ ،‬وحلوان فوق الفسطاط‪ ،‬ثم اتخذ اسأمه بن زيد‬
‫صفحة ‪196 :‬‬

‫التنوخي مقياسا ً ب??الجزيرة ال??تي ت??دعى جزي??رة الص??ناعة‪ ،‬وهي الجزي??رة ال??تي بين‬
‫الفسطاط والجيزة‪ ،‬وال َم ْع َب?ر عليه?ا من الفس?طاط على الجس?ر‪ ،‬ثم منه?ا على جس?ر‬
‫آخر إلى الجيزة‪ ،‬وه??و الج??انب الغ??ربي‪ ،‬ألن الفس??طاط من الج??انب الش??رقي‪ ،‬وه??ذا‬
‫المقياس الذي أتخذه اسأمه بن زيد التنوخي ه??و أكثره??ا اس??تعماال‪ ،‬واتخ??ذ ذل?ك في‬
‫أيام سليمان بن عبد الملك بن مر وأن‪ ،‬وهو المقي??اس ال??ذي يعم??ل علي??ه في وقتن??ا‬
‫هذا‪ -‬وه?و س?نة اثنتِن وثالثين وثلثمائ?ة‪ -‬بالفس?طاط‪ ،‬وق?د ك?ان َمنْ س?لف يقيس?ون‬
‫بالمقياس الذي بمنف‪ ،‬ثم ترك استعماله‪ ،‬وعملى على مقياس الجزيرة المعمول في‬
‫أي?ام س?ليمان بن عب?د المل?ك‪ ،‬وفي ه?ذه الجزي?رة مقي?اس آخ?ر ألحم?د بن طول?ون‪،‬‬
‫والعمل عليه عند كثرة الم?اء‪ ،‬وت??رادف الري??اح‪ ،‬واختالف َم َهابه?ا‪ ،‬وك?ثرة الم?وج‪،‬‬
‫ِوقد كانت أرض مصر كلها تروي من س??ت عش??رة ذراع اً عامره??ا وغامره??ا‪ ،‬لم??ا‬
‫أحكم??وا من جس??ورها‪ ،‬وبن??اء قناطره??ا‪ ،‬وتنقي??ة? خلجانه??ا‪ ،‬وك??ان بمص??ر س??بع‬
‫خلجان??ات‪ :‬فمنه??ا خليج اإلس??كندرية‪ ،‬وخليج س??خا‪ ،‬وخليج دمي??اط‪ ،‬وخليج من??ف‪،‬‬
‫وخليج الفيوم‪ ،‬وخليج سرعوس‪ ،‬وخليج المنهي‪?.‬‬
‫وكانت مصر فيما يذكر أهل الخبرة أكثر البالد جناناً‪ ،‬وذلك أن جنانها كانت متص??لة‬
‫بحافتي النيل من أوله إلى آخره‪ ،‬من حد أسوان إلى رشيد‪ ،‬وكان الم??اء إذا بل??غ في‬
‫زيادته تسعة أفرع دخل خليج المنهي وخليج الفيوم وخليج سرعوس وخليج سخا‪،‬‬
‫وكان الذي ولي حفر خليج سردوس لفرعون عدو هّللا هامان‪ ،‬فلما ابت??دأ في َحف??ره‬
‫أتاه أهل القرى يسألونه أن ُي ْج? ري الخليج إلى تحت ق??راهم‪ ،‬ويعط??وه على ذل??ك م??ا‬
‫أراد من المال‪ ،‬وكان يعمل ذلك حتى اجتمعت له أموال عظيمة‪ ،‬فحمل تل??ك األم??وال‬
‫إلى فرعون‪ ،‬فلما وضعها بين يديه سأله عنها فأخبره بما فعل‪ ،‬فق??ال فرع??ون‪ :‬إن??ه‬
‫ينبغي? للس??يد أن يعط??ف على عبي??دة‪ ،‬ويفيض عليهم معروف??ه‪ ،‬وال ي??رغب فيم??ا في‬
‫أيديهم‪ ،‬ونحن أحق َمنْ فعل هذا بعبيده‪ ،‬فاردد على أهل ك??ل قري??ة م??ا أخذت??ه منهم‪،‬‬
‫ففعل ذلك هامان‪ ،‬ورد على أه??ل ك??ل قري??ة م??ا أخ??ذ منهم‪ ،‬فليس في الخلج??ان ال??تي‬
‫بأرض مصر أكثر عطوفا ً وعزاقيل من خليج س?ردوس‪ ،‬وأم?ا خليج الفي?وم‪ ،‬وخليج‬
‫المنهي فإن الذي حفرهما يوسف بن يعقوب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وذلك أن الري??ان‬
‫بن الوليد ملك مصر لما رأى رؤياه في البقر والسنابل وع َب َرها يوسف عليه السالم‬
‫استعمله على ما كان يلي من أرض مصر‪ ،‬وقد أخبر هللا بذلك عند إخباره عن نبي?ه?‬
‫يوسف بقوله "اجعلني على خزائن األرض‪ ،‬إني حفيظ عليم " ‪.‬‬

‫معاونة المسلمين الكفار‬


‫قال المسعودي‪ :‬وقد تنازع أهل المل??ة في تص??رف المؤم??نين م??ع الفاس??قين‪ :‬فمنهم‬
‫من رأى أن الملك كان مؤمناً‪ ،‬ولوال ذلك ما وسع يوسف معاونة الكفار والتص??رف?‬
‫في أوامرهم ونواهيهم‪ ،‬ومنهم من رأى أن ذلك جائز َع َلى ما توجبه أح??وال ال??وقت‬
‫واألصلح للحال‪ ،‬وق??د ذكرن?ا ق?ول ك?ل فري?ق من ه??ؤالء في كتابن??ا في المق?االت في‬
‫أصول الديانات‪.‬‬

‫صفحة ‪197 :‬‬

‫الفيوم‬
‫وأم??ا أخب??ار الفي??وم من ص??عيد مص??ر وخلجانه??ا من المرتف??ع والمط??اطي ومط??اطي‬
‫المطاطي‪ ،‬وهذه عبارة أهل مصر يريدون بذلك المنخفض‪ ،‬وكيفية? فعل يوسف فيها‬
‫خرب??ة ومص??فاة لمي??اه الص??عيد‪ ،‬وهى جزي??رة ق??د أح??اط‬
‫وعمارته أرضها بعد كونها ِ‬
‫الم?اء حينئ??ذ ألك?ثر أقطاره?ا‪ ،‬فق?د أتيت?ا على‪ ،‬ذل?ك في الكت?اب األوس?ط ف?أغنى عن‬
‫إعادته في هذا الكتاب‪ ،‬وكذلك في تسمية الفيوم فيوماً‪ ،‬وأن ذلك ألف يوم‪ ،‬وما كان‬
‫من خبر يوسف مع الوزراء وحسدهم إياه‪.‬‬

‫وقد كانت مصر‪ ?-‬على ما زعم أهل الخبرة والعناية بأخبار ش??أن ه??ذا الع?الم‪ -‬ي??ركب‬
‫أرض? َها م??اء وينبس??ط على بالد الص??عيد إلى أس?فل األرض‪ ،‬وموض?ع الفس?طاط في‬ ‫َ‬
‫وقتنا هذا‪ ،‬وقد كان بدء ذلك من موضع يعرف بالجنادل بين أس??وان والحبش??ة وق??د‬
‫قدمنا ذكر هذا الموضع فيما سلف من هذا الكت?اب‪ ،‬إلى أن ع?رض ل?ذلك موان?ع من‬
‫انتقال الماء وجريانه‪ ،‬وم?ا ينق?ل من الترب?ة? بت َّياره من موض?ع إلى موض?ع فيص?ب‬
‫من بعض المواضع من بالد مصر على حس?ب م?ا وص?فنا عن ص??احب المنط??ق في‬
‫عمران األرض وخرابها فيما سلف من هذا الكت??اب‪ ،‬فس??كن الن??اس بالد فص??ر‪ ،‬ولم‬
‫ي??زل الم??اء ينص??ب عن أرض??ها قليالً قليالً ح??تى امتألت أرض مص??ر من الم??دن‬
‫وحفروا له الخلجانات‪ ،‬وعقدوا في وجهه المس ّناة‪ ،‬إال أن‬ ‫والعمائر‪ ،‬وطرقوا للماء‪َ ،‬‬
‫ذلك خفي على ساكنيها‪ ،‬ألن طول الزمان أذهب معرفة أول سكناهم كيف كان ذل??ك‪،‬‬
‫ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر العلة الموجبة المتناع المطر بمصر وال لكث??ير من‬
‫أخبار اإلسكندرية وكيفية? بنائه??ا‪ ،‬واألمم ال??تي ت??داولتها والمل??وك ال??تي س??كنتها من‬
‫الع??رب وغ??يرهم‪ .‬ألن??ا ق??د أتين??ا على ذل??ك في الكت??اب األوس??ط‪ ،‬وس??نذكر بع??د ه??ذا‬
‫الموضع جمالً من أخبارها‪ ،‬وجوامع من كيفية بنائها‪ ،‬وم??ا ك?ان من أم??ر اإلس??كندر‬
‫فيها‪.‬‬

‫بين ابن طولون ورجل من مصر‬


‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وق??د ك??ان أحم??د بن طول??ون بمص?ر? َب َل َغ? ه في س??نة ني??ف وس??تين‬
‫ومائتين أن رجاًل بأعالي بالد مص?ر من أرض الص?عيد ل?ه ثالث?ون ومائ?ة س?نة من‬
‫األقب??اط‪ ،‬ممن يش??ار إلي??ه ب??العلم من ل??دن حداثت??ه‪ ?،‬والنظ??ر واإِل ش??راف على اآلراء‬
‫والنحل من مذاهب المتفلسفين وغيرهم من أهل الملل‪ ،‬وأنه عالمة بمصر? وأرضها‬
‫وتوش ? َط‬
‫َ‬ ‫من برها وبحرها وأخبارها وأخبار ملوكها‪ ،‬وأن??ه ممن س??افر في األرض‪،‬‬
‫الممال??ك‪ ،‬وش??اهد األمم من أن??واع البيض??ان والس??ودان‪ ،‬وأن??ه ذو معرف??ة بهيئ??ات‬
‫األفالك والنجوم وأحكامها‪ ،‬فبعث أحم??د بن طول??ون برج??ل من ق??واده في أص??حابه‪،‬‬
‫فحمله في النيل إليه مكرماً‪ ،‬وكان قد انفرد عن الناس في بنيان اتخ??ذه‪ ،‬وس??كن في‬
‫أعاله‪ ،‬وق??د رأى الول??د الراب??ع عش??ر من ول??د ول??ده‪ ،‬فلم??ا مث??ل بحض??رة أحم??د بن‬
‫طولون نظر إلى رجل دالئل ُ اله??رم في??ه بين??ة‪ ،‬وش??واهد م??ا أتي من ال??دهر ظ??اهرة‪،‬‬
‫?واس س??ليمة? والقض??ية قائم??ة‪ ،‬والعق??ل ص??حيح‪ ،‬يفهم عن مخاطب??ة‪ ،‬ويحس??ن‬ ‫والح? ُّ‬
‫البيان والجواب عن نفسه‪ ،‬فأسكنه بعض مقاصيره‪ ،‬و َم َّهد له‪ ،‬وحمل إليه لذيذ‬
‫صفحة ‪198 :‬‬

‫المآكل والمشارب‪ ،‬فأبى أن يتواطأ على شيء‪ ،‬وأن يتغذى إال بغذاء كان حمله معه‬
‫من كعك وغيره‪ ،‬وقال‪ :‬هذه ِب ْنية? قوا ُم َها بما ترون من ه??ذا الغ??ذاء‪ ،‬وه??ذا الملبس‪،‬‬
‫س ْم ُت ُموها النقل?ة عن ه?ذه الع?ادة وتن??اول م?ا أوردتم?وه عليه?ا من المآك?ل‬‫فإن أنتم ُ‬
‫الب ْن َي??ة‪ ،‬وتفري?ق? ه??ذه الص??ورة‪،‬‬
‫والمشارب والمالبس ك??ان ذل??ك س??بب انحالل ه??ذه ِ‬
‫فترك على ما كان عليه‪ ،‬وم??ا ج??رت ب??ه عادت??ه‪ ،‬وأحض??ر ل??ه أحم??د بن طول??ون من‬
‫حض??ره من أه??ل الحراي??ة‪ ،‬وص??رف همت??ه علي??ه‪ ،‬وأخلى نفس??ه ل??ه في لي??ال وأي??ام‬
‫كثيرة‪ ،‬يسمع كالمه وإيراداته وجواباته فيما يسأل عنه‪ ،‬فكان مما سئل عن??ه الخ??بر‬
‫عن بحيرة تنيس ودمياط‪ ،‬فق??ال‪ :‬ك??انت أرض?ا ً ِلم يكن بمص??ر مثله??ا اس??تواء وطيب‬
‫?ار على‬‫تربة? وثراوة‪ ،‬وكانت جنانا ً ونخالً وكرما َ وشجراً ومزارع‪ ،‬وك??انت فيه??ا مج? ٍ‬
‫?اع من األرض وق??رى على قراره??ا‪ ،‬ولم ي??ر الن?اس بل?داً ك??ان أحس??ن من ه??ذه‬ ‫ارتف? ٍ‬
‫األرض‪ ،‬وال أحسن اتصاالً من جنانها وكرومه??ا‪ ،‬ولم يكن بمص?ر? ك??ورة يق??ال إنه??ا‬
‫تشبهها إال الفيوم وكانت أكثر خيراً من الفيوم وأخصب وأكثر فاكه??ة وري??احين من‬
‫األضناف الغريبة‪ ?،‬وكان الماء منحدراً إليها ال ينقطع عنها صيفا ً وال شتا ًء‪ ،‬يسقون‬
‫منه? جنانهم إذا شاءوا‪ ،‬وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من سائر ُخ ْل َجانه‪،‬‬
‫ومن الموض??ع المع??روف باألش??توم‪ ،‬وق??د ك??ان بين البح??ر وبين ه??ذا االرض نح??و‬
‫مسيرة? يوم قبرس تسلكه الدواب َي َبساً‪ ،‬ولم يكن فيما بين العريش وجزي??رة ق??برس‬
‫إال َم َخ اضة‪ ،‬وجزيرة قبرس اليوم بينها وبين العريش في البحر سير طويل‪ ،‬وكذلك‬
‫فيما بينها وبين أرض ال??روم‪ ،‬وق??د ك??ان بين األن??دلس وبين الموض??ع ال??ذي يس??مى‬
‫الخضراء‪ -‬وهو قريب من فاس المغرب وطنجة‪ -‬قنط??رة مبني??ة بالحج??ارة والط??وب‬
‫تمر عليها اإلِبل والدواب من ساحل المغ??رب من بالد األن??دلس إلى المغ??رب‪ ،‬وم??اء‬
‫البحر تحت تلك القنطرة متقطع خلجانات صغاراً تجري تحت قناطرها وم?ا عق?د من‬
‫ص ّم‪ ،‬وقد عقد من كل حجر إلى حجر ط??اق‪ ،‬وه??و مب??دأ‬ ‫الطاقات تحتها على صخور ُ‬
‫بحر الروم األخذ من أوقيانوس‪ ،‬وه??و البح??ر المحي??ط األك??بر‪ ،‬فلم ي??زل البح??ر يزي??د‬
‫ماؤه ويعلو أرضا ً فأرضا ً في طول ممر السنين‪ ،‬يرى زيادته أهل كل زمان‪ ،‬ويتبينه‬
‫أهل كل عصر‪ ،‬ويقفون عليه‪ ،‬حتى عال الماء الطريق الذي كان بين الع??ريش وبين‬
‫قبرس وعال القنطرة التي كانت بين األن??دلس و َب ِّرطنج??ة‪ ،‬وم??ا وص? ُ‬
‫?فت ف??بينٌ ظ??اهر‬
‫عند أهل األندلس وأهل ف??اس من بالد المغ??رب من خ??بر ه??ذه القنط??رة‪ ،‬وربم??ا ب??دا‬
‫الموضع ألهل المراكب تحت الماء‪ ،‬فيقولون‪ :‬هذه القنطرة‪ ،‬وكان طولها نحو اث??ني‬
‫عش??ر ميالً‪ ،‬في ع??رض واس??ع‪ ،‬وس??مو بين‪ ،‬فلم??ا مض??ت ل??ديقلطيانوس من ملك??ه‬
‫مائت??ان وإح??دى وخمس??ون س??نة? هجم الم??اء من البح??ر على بعض المواض??ع ال??تي‬
‫تسمى اليوم بحيرة تنيس? فأغرقه‪ ،‬وصار يزيد في كل ع?ام ح?تى أغرقه?ا بأجمعه?ا‪،‬‬
‫فما كان من القرى التي في قرارها غرق‪ ،‬وأما التي كانت على ارتف??اع من األرض‬
‫فبقيت منها بونة وسمنور? وغيم ذلك مما هي باقية إلى ه??ذا ال??وقت‪ ،‬والم??اء محي??ط‬
‫بها‪ ،‬وكان أهل القرى التي في هذه البح??يرة ينقل??ون موت??اهم إلى ت??نيس فيق??برونهم‬
‫واحداً فوق آخر‪ ،‬وهي األكوام الثالثة التي تسمى اليوم أبو الك??وم‪ ،‬وك??ان اس??تحكام‬
‫غ??رق ه??ذه األرض بأجمعه??ا وق??د مض??ى ل??ديقلطيانوس المل??ك مائت??ان و إح??دى‬
‫وخمسون سنة‪ ،‬ذلك قبل أن تفتح? مصر بمائة سنة‪ ،‬وقال‪ :‬وقد كان لملك من ملوك‬
‫صفحة ‪199 :‬‬

‫األمم كانت داره الفر ما م??ع أرك??ون من أراكن??ة البلين??ا وم??ا اتص??ل به??ا من األرض‬
‫حروب وخنادق وخلجانات فتحت من النيل إلى البح??ر‪ ،‬يمن?ع? ك??ل واح??د من اآلخ??ر‪،‬‬
‫وكان ذلك داعيا ً لتشعب الماء من النيل واستيالئه? على هذه األرض‪.‬‬
‫وسئل عن ملوك األحابش على النيل وممالكهم فقال‪ :‬لقيت من ملوكهم س??تين ملك ?ا ً‬
‫في ممالك مختلفة‪ ،‬كل ملك منهم ينازع من يليه من المل??وك‪ ،‬وبالدهم ح??ارة يابس??ة‬
‫مسودة ليبسها وحرارتها والستحكام النارية? فيها تغيرت الفضة ذهبا ً لطبخ الشمس‬
‫إياها لحرارتها ويبسها وناريتها فتحولت ذهباً‪ ،‬وقد يطبخ الذهب التي يؤتى ب??ه من‬
‫المعدن خالصا ً صفائح بالملح والزاج والطوب فيخ??رج من??ه فض??ة خالص??ة بيض??اء‪،‬‬
‫وليس يدفع هذا األمر إال منْ المعرفة له بماوصفنا‪ ،‬وال قارب شيئا ً مما ذكرنا‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬فما منتهى النيل في أعاليه‪ .‬قال‪ :‬البحيرة ال??تي ال ي??درك طوله??ا وعرض??ها‪،‬‬
‫وهى نح??و األرض ال??تي اللي??ل والنه??ار فيه??ا متس??اويان ط??ول ال??دهر‪ ،‬وهي تحت‬
‫الموضع الذي يسميه المنجمون الفلك المستقيم‪ ،‬وما ذكرت فمعروف غير منكر‪.‬‬

‫األهرام‬
‫وسئل عن بناء األهرام‪ ،‬فقال‪ :‬إنها قبور الملوك‪ ،‬وكان الملك منهم إذا م??ات وض??ع‬
‫في حوض حجارة وشمى بمصر والش?ام الج??رن وأطب?ق علي??ه‪ ،‬ثم يب??نى من اله?رم‬
‫على قدر ما يريدون من ارتفاع األساس‪ ،‬ثم يحمل الح??وض فيوض??ع وس??ط اله??رم‪،‬‬
‫ثم يقنطر عليه البنيان واألقب??اء‪ ،‬ثم يرفع??ون البن??اء على ه??ذا المق??دار ال??ذي ترون??ه‬
‫ويجعل باب اله??رم تحت اله??رم‪ ،‬ثم يحف??ر ل??ه طري??ق في األرض بعق??د أزج‪ ،‬فيك??ون‬
‫طول األزج تحت األرض مائة ذراع وكثر‪ ،‬ولكل ه??رم من ه??ذه األه??رام ب??اب ي??دْ َخل‬
‫منه? على ما وصفت‪ ،‬فقيل له‪ :‬فكيف بنيت ه??ذه األه??رام المملس??ة‪ .‬وعلى أي ش??يء‬
‫كانوا يصعدون ويبنون‪ .‬وعلى أي شيء كانوا يحملون هذه الحجارة العظيم??ة ال??تي‬
‫ال يقدر أهل زماننا هذا على أن يحرك??وا الحج??ر الواح??د إال بجه??د إن ق??دروا‪ .‬فق??ال‪:‬‬
‫كان القوم يبنون الهرم مدرجا ذا مراقي كالدرج‪ ،‬فإذا فرغ??وا م ُن?ه? نحت??وه من ف??وق‬
‫إلى أسفل‪ ،‬فهذه ك??انت حيلتهم‪ ،‬وك??انوا م??ع ه??ذا لهم ص? ْبر وق??وة وطاع??ة لمل??وكهم‬
‫ديانة‪ .‬فقيل له‪ :‬ما بال هذه الكتابة التي على األه?رام وال?برابي ال تق?رأ‪ .‬فق?ال‪َ :‬د َث َ‬
‫?ر‬
‫الحكماء وأهل العصر الذين كان هذا قلمهم‪ ،‬وت??داول أرض مص??ر األمم‪ ،‬فغلب على‬
‫أهلها القلم ال?رومي‪ ،‬وأش?كال األح?رف لل?روم‪ ،‬والقب?ط تق?رؤه على حس?ب تعارفه?ا‬
‫إياه‪ ،‬وخلطها األحرف الروم بأحرفها‪ ،‬على حسب ما ولّ ُموا من الكتابة بين الرومي‬
‫والقبطي األول‪ .‬فذهبت عنهم كتابة آبائهم‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬فمن أول من سكن مصر‪ .‬قال‪ :‬أول من نزل ه??ذه األرض مص??ر بن بيص?ر?‬
‫بن حام بن نوح‪ ،‬ومر في أنساب ولد نوح الثالثة وأوالدهم‪ ،‬وتفرقهم في األرض‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬أتعرف بمصر? مقاطع رخام‪ .‬قال‪ :‬نعم في الجانب الشرقي من الصعيد جب??ل‬
‫رخام عظيم كانت األوائل تقطع منه? العمد وغيرها‪ ،‬وكانوا َي ْجلُون ما عملوا بالرم??ل‬
‫بعد النقر‪ ،‬فأما العمد والقواعد والرؤوس التي قسميها أهل مصر األسوانية‪ ،‬ومنها‬
‫حجارة الطواحين‪ ،‬فتلك َن َق َرها األولون بع??د ح??دوث النص??رانية بم??ئين من الس??نين‪،‬‬
‫ومنها العمد التي باإلسكندرية‪ ،‬والعمود الذي بها الضخم الكبير ال يعلم بالعالم‬
‫صفحة ‪200 :‬‬

‫عمود مثله‪ ،‬وقد رأيت في جبل أسوان أخا ً لهذا العمود قد هن??دس ونق??ر ولم يفص??ل‬
‫من الجبل‪ ،‬ولم ا ُيحك ما ظهر من??ه‪ ،‬وإنم??ا ك??انوا ينتظ??رون أن يفص??ل من الجب??ل ثم‬
‫يحمل إلى حيث يريد القوم‪.‬‬
‫وسئل عن مدينة? العقاب‪ ،‬فقال‪ :‬هي غربي أهرام بوصير? الج??يزة وهي على خمس??ة‬
‫أيام بلياليها للراكب المجد‪ ،‬وق??د وع??رت طريقه??ا وعميت المس??الك إليه?ا‪ ،‬والس??مت‬
‫الذي يؤدي نحوها‪ ،‬وذكره??ا فيه??ا من عج??ائب البني??ان والج??واهر واألم??وال والعل??ة‬
‫ال??تي له??ا س??ميت مدين??ة العق??اب‪ ،‬ووص??ف مدين ?ة? أخ??رى غ??ربي أخميم من أرض‬
‫الصعيد ذات بني??ان عجيب اتخ??ذتها المل??وك الس??الفة‪ ،‬وذك??ر من ش??أن ه??ذه المدين??ة‬
‫األخرى عجائب من األخبار‪ ،‬وزعم أن بينها وبين إخميم من أرض الصعيد مس??يرة?‬
‫ستة أيام‪.‬‬
‫وس??ئل عن النوب??ة وأرض??ها‪ ،‬فق??ال‪ :‬هم أص??حاب ِإب??ل و ُب ْخت‪ ،‬وبق??ر وغنم‪ ،‬وملكهم‬
‫يس??تعد الخي??ل العت??اق‪ ،‬واألغلب من رك??وب ع??وامهم ال??براذين‪ ،‬ورميهم بالنب??ل عن‬
‫قسيئ عربية‪ ?،‬وعنهم‪ -‬أخذ ال??رمي أه??ل الحج??از واليمن وغ??يرهم من الغ??رب‪ ،‬وهم‬
‫الذين يسميهم العرب رماة الح??دق‪ ،‬ولهم النخ??ل والك??رم وال??ذرة والم??وز والحنط??ة‪،‬‬
‫وأرضهم كأنها جزء من أرض اليمن‪ ،‬وللنوبة أترج كأكبر ما يكون بأرض اإِل سالم‪،‬‬
‫وملوكهم ت??زعم أنهم من حم??ير‪ ،‬وملكهم يس??تولى على مق??را ونوب?ة? وعل??وة‪ ،‬وراء‬
‫?راة ك??الزنج‪ ،‬وأرض??هم تنبت‬ ‫عل??وة أم??ة عظيم??ة من الس??ودان ت??دعى بكن??ة وهم ُع? َ‬
‫الذهب‪ ،‬وفي مملكة ه?ذه األم??ة يف?ترق الني??ل فيتش? ّعب من??ه خليج عظيم‪ ،‬ثم يخض??ر‬
‫الخليج بعد انفصاله من النيل‪ ،‬وينحدر األكثر إلى بالد النوبة‪ ،‬وهو الني??ل ال يتغ??ير‪،‬‬
‫فلذا كان في بعض األزمنة? انفصل األكثر من الماء في ذلك الخليج‪ ،‬وابيض األك??ثر‪،‬‬
‫واخضر األقل‪ ،‬فيشق ذلك الخليج في أوديا وخلجان وأعم??اق مأنوس??ة ح??تى يخ??رج‬
‫إلى جالسق والجنوب‪ ،‬وذلك على ساحل الزنج‪ ،‬ومصبه? في بحرهم‪.‬‬

‫ثم سئل عن الفيوم والمنهى وحجر الالهون‪ ،‬فذكر كالما ً طوياًل فن أمر الفيوم‪ ،‬وأن‬
‫جاري??ة فن بن??ات ال??روم وابنه??ا نزل??وا الفي??وم‪ ،‬وك?انوا الب?دء في عمارته??ا وعم??ارة‬
‫أرضها‪ ،‬وإنما كان الماء ي?أتي الفي?وم من المنهي أي?ام َج? ْري الني?ل‪ ،‬ولم يكن حج?ر‬
‫الالهون بني‪ ،‬وإنما كان مصب الماء من المنهي من الموضع المعروف بدمونة‪ ?،‬ثم‬
‫بني الالهون على ما هو اليوم علي??ه ويق??ال‪ :‬إن يوس??ف بن يعق??وب بن إس??حاق بن‬
‫ودبر من أمر الفيوم ما هو الي??وم ق??ائم بين‬
‫َ‬ ‫إبراهيم عليهم السالم‪ ،‬بناه أيام العزيز‪،‬‬
‫من الخلج المرتفعة والمطاطية‪ ،‬وهو خليج ف??وق خليج ف??وق خليج‪ ،‬وب??نى القنط??رة‬
‫المعروف بسفونة‪ ،‬وأقام العمود الذي في وسط الفي??وم وه??ر غ??ائص في األرض ال‬
‫يدْ ركة منتهاه منها‪ ،‬وهو أحد عجائب الدنيا مرب??ع الش??كل ق??د جه??د أن??اس من األمم‬
‫ممن ورد بعد يوسف أن ينت َهوا? إلى آخره في األرض َحف??راً فلم يت??أت لهم ذل?ك‪ ،‬وال‬
‫قدروا عليه وغلبهم الماء فعجزهم‪ ،‬ورأس هذا العمود مس??او ألرض المنهي‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫وأما حجر الالهون فإن من سطح الحجر الذي في بين القبتين إلى ناحي??ة الاله??ون‪،‬‬
‫والالهون هي القرية بعينها‪ ،‬ففي ما بيم السطح إلى القرية ستون درجة وربما م??ل‬
‫بعض الدرج‪ ،‬وفي حائط الحجر فوارات بعضها اليوم‬ ‫ُ‬ ‫الماء في المنهي‪ ،‬وظهر‬
‫صفحة ‪201 :‬‬

‫يخرج منه? الماء‪ ،‬وبعض ال يرى‪ ،‬وفيما بين سطح الحج??ر ال??ذي بين القب??تين وبين‬
‫القرية شاذروان وهو من أس??فل ال?درج‪ ،‬وإنم??ا ي??دخل الم??اء الفي??وم ب??وزن الحج??ر‪،‬‬
‫وجعل??ه االس??تقالة‪ -‬وهي القن??اطر‪ -‬ليخ??رج الم??اء منه??ا‪ ،‬وال يعل??و الم??اء الحج??ر أب‬
‫سده‪ ،‬فبالتقدير ُبني حجر الالهون‪ ،‬وبق??در م??ا يكفي الفي??وم من الم??اء ي??دخل إليه??ا‪،‬‬
‫وبناء حج?ر اله?ون من أعجب األم?ور‪ ،‬ومن أحكم البني?ان‪ ،‬ومن البن?اء ال?ذي يبقى‬
‫على وجه األرض ال يتحرك وال يزول‪ ،‬بالهندسة عمل َ بالفلسفة أتقن‪ ،‬وفي الس??عود‬
‫نصب‪ ،‬وقد ذكر كثير من أهل بلدنا أن يوسف? عليه السالم عمل ذلك ب??الوحي‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ولم ت??زل مل??وك األرض‪ -‬إذا غلبت على بالدن??ا‪ ،‬واحت??وت على أرض??نا‪ ،‬ص??ارت إلى‬
‫هذا الموضع فتأملته‪ ?.‬لما ق??د نمي? إليه??ا من أخب??اره‪ ،‬وس??ار في خليق??ة من عج??ائب‬
‫بنيانه? وإتقانه‪.‬‬
‫وكان هذا الرجل من أقباط مصر‪ ،‬ممن يظهر دين النص??رانية? ورأي بعقوبي??ة‪ ،‬ف?أمر‬
‫السلطان أحمد بن طولون في بعض األيام‪ ،‬وقد أحضر جلسه بعض أه?ل النظ?ر‪ ،‬أن‬
‫يس??أله عن ال??دليل على ص??حة دين النص??رانية‪ ?،‬مآل??ه عن ذل??ك‪ ،‬فق??ال‪ :‬دليلي على‬
‫صحتها وجودي إياه??ا متناقض??ة متنافي??ة‪ ،‬ت??دفعها العق??ول‪ ،‬وتنف??رد منه??ا النف??وس‪،‬‬
‫لتباينها وتضادها‪ ،‬ال نظر يقويها‪ ،‬أ ج? َدل َ يص??ححها وال بره??ان يعض??دها من العق??ل‬
‫لفحص عنها‪ ،‬ورأيت مع ذلك أمم?ا ً كث??يرة‪ ،‬وملوك?ا ً عظيم??ة‬ ‫والحس عند التأمل لها ْ‬
‫ذوي معرفة وحسن رأي‪ ،‬قد انقادوا إليها وتدينوا بها‪ ،‬فعلمت أنهم لم يقبلوها‪ ،‬ولم‬
‫يت??دينوا به??ا‪ -‬م??ع م??ا ذك??رت من تناقض??ها في العق??ل‪ -‬إال ل??دالئل ش??اهدوها‪ ،‬وآب??ات‬
‫علموها‪ ،‬ومعجزات عرفوها‪ ،‬أوجبت انقيادهم إليها والتدين أيه??ا‪،،‬ق??ال ل??ه الس??ائل‪:‬‬
‫وما التضاد الذي فيها‪ .‬قال‪ :‬وهل يدرك أو يعلم غايته‪ .‬لما قولهم بأن الواحد ثالث??ة‪،‬‬
‫والثالثة واحد‪ ،‬ووصفهم األق?انيم والج??وهر و والث??الوث‪ ،‬وه??ل األق??انيم في أنفس??ها‬
‫قادرة عالمة أم ال‪ .‬وفي اتحاد ربهم القديم باإلنسان المح َدثِ‪ ،‬وما ج??رى في والدت??ه‬
‫ص?لب‪ ،‬و ُبص??ق في وجه??ه‪،‬‬ ‫وقتله وصلبه‪ ،‬وهل في التش??نيع أك??بر وأفحش من إل??ه ُ‬
‫ووضع على رأس??ه اإلكلي??ل من الش??وك‪ ،‬وض??رب رأس??ه بالقض??يب‪ ،‬وس??مرت ي??داه‪،‬‬
‫فس??قي الخ??ل في بطيخ الحنظ??ل ‪.‬‬ ‫ونخس باألس??نة والخش??ب َج ْنب??اه‪َ ،‬‬
‫وط َلب الم??اء ُ‬
‫فأمسكوا عن مناظرته‪ ،‬وانقطعوا عن مجادلته‪ .‬لما ق??د أعط??اهم من تن??اقض مذهب??ه‬
‫وفساده ووهْ يه ‪.‬‬

‫ببن يهودي ونصراني?‬

‫فقال طبيب البن طولون يهودي وقد حضر المجلس‪ :‬أيأذن لي األمير في مخاطبت??ه‪?.‬‬
‫قال‪ :‬شأنك‪ :‬فأقبل َع َلى القبطي مسائاًل له‪ ،‬فق?ال ل??ه القبطي‪ :‬وم??ا أنت أيه?ا الرج?ل‪.‬‬
‫وما نحلتك‪ .‬فق??ال ل??ه‪ :‬يه??ودي‪ ،‬فق??ال ل??ه‪ :‬مجوس??ي إذا!‪ .‬ق??ال ل??ه‪ :‬كي??ف ذل??ك وه??و‬
‫يهودي‪ .‬قال‪ :‬ألنهم يرون نكاح البنات في بعض الحاالت‪ ،‬إذ كان في دينهم أن األخ‬
‫يتزوج? بنت أخيه‪ ،‬وعليهم أن يتزوجوا نساء أخوتهم إذا ماتوا‪ ،‬فإذا وافق اليهودي‬
‫أن تكون امرأة أخيه ابنته لم يجد بداً من أن يتزوجها‪ ،‬وهذا من أسرارهم‪ ،‬وما‬
‫صفحة ‪202 :‬‬

‫يكتمونه وال ُي ْظهرون??ه‪ ،‬فه??ل في ا َلمجوس??ية أش??نع من ه??ذا‪ .‬ف??أنكر اليه??ودي ذل??ك‪،‬‬
‫وجحد أن يكون في دينه أو يعرفه أحد من اليهود‪ ،‬فاستخبر ابن طولون عن ص??حة‬
‫ذلك‪ ،‬فوجد ذلك الطبيب اليهودي قد تزوج امرأة أخيه‪ ،‬وكانت بنته‪ ?،‬ثم أقبل القبطي‬
‫على ابن طولون‪ ،‬فقال‪ :‬أيها األمير‪ ،‬هؤالء يزعمون‪ -‬وأش??ار إلى اليه??ودي‪ -‬أن هللا‬
‫خلق آدم على صورته‪ ?،‬وعن نبي من أنبيائهم سماه قال في كتابه‪ :‬إنه رآه في قديم‬
‫الزمان أبيض الرأس واللحية‪ ،‬وإن هللا تعالى قال‪ :‬إني أن??ا الن??ار المحرق??ة‪ ،‬والحمى‬
‫س? َق ْي َنه?‬
‫األخذة‪ ،‬وأنا الذي آخذ األبناء ب??ذنوب األب??اء‪ ،‬ثم في ت??وراتهم أن بن??ات ل??وط َ‬
‫الخم???ر ح???تى س???كر وزنى بهن‪ ،‬وحملن من???ه‪ ،‬وولحن‪ ،‬وأن موس???ى َر َد على هللا‬
‫الرسالة مرتين حتى أشتد غضب هللا عليه‪ .‬وأن هارون صنع العجل الذي عبده بنو‬
‫الس?ح َرة مثله??ا‪َ .‬ثم ق?الوا في‬
‫َ‬ ‫إسرائيل‪ ?.‬وأن موسى أظهر معج?زات لفرع?ون وفعلت‬
‫ذبائح الحيوان والتقرب إلى هللا بدمائها ولحومها وتحكمهم على العق??ل ومنعهم من‬
‫تنس?خ‪ ?،‬وال يقب??ل ق??ولي أح??د من‬
‫النظر بغير بره??ان‪ ،‬وه??و ق??ولهم‪ :‬إن ش??ريعتهم ال َ‬
‫األنبياء بعد موسى إذا انحرف عما جاء ب??ه موس??ى وال ف??رق في قض??ئة العق??ل بين‬
‫موسى وغيره من األنبياء إذا أتى ببرهان‪ ،‬وبان بحجة‪ ،‬ثم األكبر من كفرهم قولهم‬
‫في يوم عيد الكفور‪ ،‬وه??و ي??وم االس??تغفار ذل??ك لعش??ر تخل??و من تش??رين األول‪ :‬إِن‬
‫ال??رب الص??غير‪ -‬ويس??مونه? ميطط??رون‪ -‬يق??ول في ه??ذا الي??وم قائم?اً‪ ،‬وينت??ف ش??عور‬
‫رأسه‪ ،‬ويقول‪ :‬ويلي إذا خربت بيتي‪ ?،‬وأيتمت بنتي‪ ،‬قامتي منكسة? ال أرفعه??ا‪ ،‬ح??تى‬
‫آتي بنتي‪ ،‬وذكر عن اليهود أقاصيص وتخاليط كثيرة‪ ،‬ومناقضات واسعة‪.‬‬
‫وله??ذا القبطي مج??الس كث??يرة عن??د أحم??د بن طول??ون م??ع جماع??ة من الفالس??فة‬
‫والديصانية والثنوية? والص??ابئة? والمج??وس‪ ،‬وع??دة من متكلمي اإلس??الم‪ ،‬وق??د أتين??ا‬
‫على ما احتمل منها إيراده في كتابنا في أخبار الزمان وذكرنا جميع ذل??ك في كتابن??ا‬
‫المقاالت‪ ،‬في أصول الديانات وكان هذا القبطي‪ -‬على ما نمي? إلينا من خبره‪ ،‬وصح‬
‫عندنا من قوله‪ -‬يذهب إلى فس??اد النظ??ر‪ ،‬والق??ول بتك??افؤ الم??ذاهب‪ ،‬وأق??ام عن??د ابن‬
‫طول??ون نح??و س??نة‪ ،‬فأج??ازه‪ ،‬وأعط??اه‪ ،‬ف??أى قب??ول ش??يء من ذل??ك‪ ،‬ف??رده إلى بل??ده‬
‫مكرماً‪ ،‬وأقام بعد ذلك مدة من الزمان‪ ،‬ثم هلك‪ -‬وله مص??نفات ت??دل من كالم??ه على‬
‫ما ذكرنا عنه‪ ،‬وهللا أعلم بكيفية ذلك‪.‬‬
‫واليه??ود ت??أبى م??ا ذك??ره القبطي في نك??اح بنت األخ‪ ،‬وك??ثر هم يق??ر ب??التزوبج? ببنت‬
‫األخ‪.‬‬

‫يعض عجائب مصر ونيلها‬

‫قال المسعودي‪ :‬وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من أن?واع الحي??وان مم?ا في‬
‫البر والبحر‪ ،‬من ذلك السمك المع??روف بالر َغ? اد‪ ،‬وه??و نح??و ال??ذراع‪ ،‬إذا وقعت في‬
‫شبكة الص َّياد ُرعدت يداه وعض??داه‪ ،‬فيعلم بوقوعه??ا‪ ،‬فيب??ادر إلى أخ??ذها وإخراجه??ا‬
‫عن شبكته‪ ،‬ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك‪ ،‬وقد ذكره??ا ج??الينوس‪ ،‬وأنه??ا‬
‫إن جعلت على رأس َمنْ به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته‪?.‬‬
‫س الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض‬ ‫وا ْل َ‬
‫فر ُ‬
‫صفحة ‪203 :‬‬

‫المواضع من األرض علم أهل مص??ر أن الني??ل يزي??د إلى ذل??ك الموض??ع بعين??ه غ??ير‬
‫زائد عليه وال مقصر عنه‪ ،‬ال يختل??ف ذل??ك عن??دهم بط??ول الع??ادات والتج??ارب‪ ،‬وفي‬
‫ظهوره من الماء ضرر بأرباب األرض والفالحة لرعيه الزرع‪ ،‬وذلك أنه يظهر من‬
‫الماء في الليل فينتهي إلى موضع من الزرع‪ ،‬ثم يولي عائداً إلى الماء‪ ،‬فيرعى في‬
‫حال رجوع??ه من الموض??ع ال??ذي انتهى إلي??ه س??يره‪ ،‬وال ي??راعي من ذل??ك ش??يئا ً في‬
‫ممره‪ ،‬كأنه يحدد مقدار ما يرع??اه فمنه??ا م??ا إذا رعت ورعت إلى الني??ل فش??ربت ثم‬
‫تقفف ما في أجوافها في مواضع ش??تى‪ ،‬فينبت ذل??ك م??رة ثاني??ة‪ ،‬ف??إذا ك??ثر ذل??ك من‬
‫فعله واتصل ض?رره بأرب?اب الض?ياع ط?رح ل?ه ال?ترمس في الموض?ع ال?ذي يع?رف‬
‫خروجه مكاكيك كثيرة مبدَ دأ مبسوطأ‪ ،‬فيأكله‪ ،‬ثم يعود إلى الم??اء ف??يربو في جوف??ه‪،‬‬
‫ويزداد في انتفاخه فيشق جوفه‪ ،‬فيموت ويطفو على الماء‪ ،‬ويقفف به إلى الس??احل‬
‫والموضع الذي يكون فيه ال يكاد يرى فيه تمساح‪ ،‬وهو على صورة الف??رس إال أن‬
‫حوافره وذنبه بخالف ذلك‪ ،‬والجبهة أوسع‪.‬‬

‫من نزل مصر من أبناء نوح‬

‫قال المس??عودي‪ :‬وق??د ذك??ر جماع??ة من الش??رعيين أن يبص?ر? بن ح??ام بن ن??وح لم??ا‬
‫أنفصل عن أرض بابل بولده وكثير من أهل بيته? َغ ًر َب نحو مص??ر‪ ،‬وك??ان ل??ه أوالد‬
‫أربعة‪ :‬مصر بن بيص??ر‪ ،‬وف??ارق بن بيص??ر‪ ?،‬وم??اح وي??اح‪ ،‬ف??نزل بموض??ع ُيق??ال ل??ه‬
‫منف‪ ،‬وبذلك يسمى إلى وقتنا ه??ذا‪ ،‬وك??ان ع??دمهم ثالثين فس??ميت ثالثين بهم‪ ،‬كم??ا‬
‫سميت مدينة ثمانين من أرض الجزيرة وبالد الموصل من بالد بني حم??دان‪ ،‬وإنم??ا‬
‫نسبت إلى عدد ساكنيها ممن كان مع نوح في السفينة‪ ،‬وكان بيصر بن حام قد كبر‬
‫سنه‪ ،‬فأوصى إلى األكبر من ولده‪ ،‬وهو مصر‪ ،‬واجتمع الن??اس إلي??ه وانض??افوا إلى‬
‫جملتهم‪ ،‬وأخص??بت البالد‪ ،‬فتمل??ك عليهم مص??ر بن بيص??ر‪ ،‬ومل??ك من ح??د رفح من‬
‫أرض فلسطين من بالد الشام‪ ،‬وقيل‪ :‬من الع??ريش‪ ،‬وقي??ل‪ :‬من الموض??ع المع??روف‬
‫بالش??جرة‪ ،‬وه??و آخ??ر أرض مص??ر‪ ،‬والف??رق بينه??ا وبين الش??ام‪ ،‬وه??و الموض??ع‬
‫المشهور بين العريش ورفح‪ -‬إلى بالد أسوان من أرض الصعيد ط??والً‪ ،‬ومن أيل??ة‪-‬‬
‫وهي تخ??وم الحج??از‪ -‬إلى برق??ة عرض??اً‪ ،‬وك??ان لمص??ر أوالد أربع??ة‪ ،‬وهم قب??ط‪،‬‬
‫وأشمون‪ ،‬وإتريب‪ ،‬وصا‪ ،‬فقسم مصر األرض بين أولده األربعة أرباعاً‪ ،‬وعه??د إلى‬
‫األكبر من ولده‪ -‬وه??و قب??ط‪ -‬وأقب??اط مص??ر يض??افون إلى النس??ب إلى أبيهم قب??ط بن‬
‫مصر‪ ،‬وأضيفت المواضع إلى ساكنيها‪ ،‬وع??رفت بأس??مائهم‪ ،‬فمنه??ا أش??مون وقب??ط‪،‬‬
‫وصا‪ ،‬فى تريب‪ ،‬وهذه أسماء ه?ذه المواض??ع إلى ه??ذه الغاي??ة‪ ،‬واختلطت األنس??اب‪،‬‬
‫وكثر ولد قبط‪ ،‬وهم األقباط‪ ،‬فغلبوا على سائر األرض‪ ،‬ودخل غ??يرهم في أنس??ابهم‪.‬‬
‫لما ذكرنا من الكثرة‪ ،‬فقيل لكل قبط مص??ر وك??ل فري??ق منهم يع??رف نس??بة واتص??اله‬
‫بمصر? بن بيصر بن حام بن نوح إلى هذه الغاية‪.‬‬

‫صفحة ‪204 :‬‬

‫جملة من ملوك مصر‬

‫ولما هلك قبط بن مصر ملك بعده أش??مون بن مص??ر‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده ص??ا بن مص??ر‪،‬‬
‫وملك بعده إتريب بن مصر‪ ،‬ثم ملك بع??ده م??اليق بن دارس ثم مل??ك بع??ده حراي??ا بن‬
‫ماليق ثم ملك بعده كلكي بن حرايا وأقام في الملك نحواً من مائة سنة‪ ،‬ثم ملك بعده‬
‫أخ ُيقال له ماليا بن حرايا ثم ملك بعده لوطسى بن ماليا نحواً من س??بعين س??نة‪ ،‬ثم‬
‫ملكت بع??ده ابن??ة ل??ه ُيق??ال له??ا حوري??اينت ل??وطس نح??واً من ثالثين س??نة‪ ،‬ثم ملكت‬
‫بعدها امرأة أخرى ُيقال لها ماموم وكثر ولد بيصر? بن حام بأرض مصر‪ ،‬فتش??عبوا‪،‬‬
‫وملكوا النساء‪ ،‬فطمعت فيهم ملوك األرض‪ ،‬فس??ار إليهم من الش??ام مل??ك من مل??وك‬
‫العم??اليق‪ ،‬يق??ال ل??ه الولي??د بن دوم??ع‪ ،‬فك??انت ل??ه ح??روب به??ا‪ ،‬وغلب على المل??ك‪،‬‬
‫فانق??ادوا إلي??ه‪ ،‬واس??تقام ل??ه األم??ر إلى أن هل??ك‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده الري??ان بن الولي??د‬
‫العمالقي‪ ،‬وهو فرعون يوسف‪ ،‬وقد ذكر هللا تعالى خبره م??ع يوس?ف? وم??ا ك??ان من‬
‫أمرهما في كتابه العزيز‪ ،‬وقد أتينا على شرح ذلك في كتابنا األوسط‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده‬
‫دارم بن الري??ان العمالقي‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده ك??امس بن مع??دان العمالقي‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده‬
‫الوليد بن مصعب وهو فرعون موسى‪ ،‬وقد تن??وزع في??ه‪ :‬فمن الن??اس من رأى أن??ه‬
‫من العم??اليق ومنهم من رأى أن??ه من لخم من بالد الش??ام‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه من‬
‫األقباط من ولد مصر بن بيصر‪ ،‬وكان يعرف بظلما‪ ،‬وقد أتينا على ذل??ك في الكت??اب‬
‫األوس??ط‪ ،‬وهل??ك فرع??ون َغ َرق ?ا ً حين خ??رج في طلب ب??ني? إس??رائيل حين أخ??رجهم‬
‫موسى بن عمران وجعل هللا لهم طريقا ً في البح??ر َي َبس?اً‪ ،‬ولم??ا غ??رق فرع??ون ومن‬
‫كان معه من الجنود وخشي من بقي بأرض مصر من الفراري والنساء والعبي??د أن‬
‫يغزوهم ملوك الشام والمغرب فملكوا عليهم امرأة ذات رأي وحزم‪ .‬يقال لها دلوك??ة‬
‫فبنت على بالد مصر حائطا ً يحيط بجميع البالدة وجعلت عليه المحارس واألحراس‬
‫?اق إلى ه??ذا‬
‫والرجال متصلة أصواتهم بقرب بعضهم من بعض‪ ،‬وأثر ه??ذا الحائ??ط ب? ٍ‬
‫الوقت‪ ،‬وهو سنة? اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ?،‬يعرف بحائط العجوز‪ ،‬وقي??ل‪ .‬إنم??ا بنت ?ه?‬
‫خوفا ً على ولدها وكان كثير القنص‪ ،‬فخافت عليه من س??باع ال??بر والبح??ر واغتي??ال‬
‫َمنْ جاور أرضهم من المل??وك والب??وادى‪ ،‬فح? ً?وطت الحائ??ط من التماس??يح وغيره??ا‪،‬‬
‫وقد قيل في‪ ،‬لك من الوجوه غير ما ذكرنا‪ ،‬فملكتهم ثالثين سنة وقيل‪ :‬أقل من ذل??ك‬
‫‪-‬اتخذت بمصر البرابي والص??ور‪ ،‬وأحكمت آالت الس??حر‪ ،‬وجعلت في ل??برابى ص??ور‬
‫َمنْ يرد من كل ناحية‪ ،‬ودوابهم إبال كانت أو خيالً‪ ،‬وصورت م??ا ي??رد في البح??ر من‬
‫المراكب من بحر المغرب والشام‪ ،‬وجمعت في هذه لبرابي العظيمة المشيدة البنيان‬
‫أسرار الطبيعة وخواص األحجار والنب?ات الحي?وان‪ ،‬من الجاذي?ة والدافع?ة‪ ،‬وجعلت‬
‫ذلك في أوق??ات حرك??ات فلكي??ة واتص??الها ب??المؤثرات العلوي??ة وك??انوا إذا ورد إليهم‬
‫جيش من نح??و الحج??از أو اليمن ع??ورت تل??ك الص??ور ال??تي في ال??برابي من اإلِب??ل‬
‫وغيرها‪ ،‬فيتع??ور م??ا في الجيش‪ ،‬وينقط??ع عنهم ناس??ه وحيوان??ه‪ ،‬وإذا ك??ان الجيش‬
‫من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منه??ا جيش الش?ام‬
‫ما فعل بما صفنا قبله??ا فيح??دث في ذل??ك الجيش من اآلف??ات في ناس??ه وحيوان??ه م??ا‬
‫صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة وكذلك ما ورد من جيوش الغرب‪ ،‬وما رد‬
‫صفحة ‪205 :‬‬

‫في البحر من رومية? والشام وغير ذلك من الممالك‪ ،‬فهابتهم الملوك األمم‪ ،‬ومنع??وا‬
‫ناحيتهم من عدوهم‪ ،‬واتصل ملكهم بتدبير? هذه العجوز إتقانه??ا ل??زم أقط??ار المملك??ة‬
‫وإحكامها السياسة‪.‬‬
‫وقد تكلم الناس ممن سلف وخل??ف في ه??ذه الخ??واص‪ ،‬وأس??رار طبيع??ة ال??تي ك??انت‬
‫ببالد مصر‪ ،‬وهذا الخبر من فعل العجوز عند المصريين مستفيض ال يش??كون في??ه‪،‬‬
‫والبرابي بمصر? من صعيدها وغيره باقية إلى هذا وقت‪ ،‬وفيه??ا أن??واع الص??ور مم??ا‬
‫إذا صورت في بعض األشياء أحدثت أفعاالً على حسب ما رس??مت ل??ه ووض??عت من‬
‫أجله‪ ،‬على حسب قولهم في الطباع تام‪ ،‬وهللا أعلم بكيفية? ذلك‪.‬‬
‫كتابة على البرابى‬

‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وأخ??برني غ??ير واح??د من بالد أخميم من ص??عيد مص??ر‪ ،‬عن أبي‬
‫الفيض في النون بن إبراهيم المصري اإِل خميمي الزاه?د‪ ،‬وك?ان حكيم?أ‪ ،‬وك?انت ل??ه‬
‫طريق??ة يأتيه??ا ونحل??ة يعض??دها‪ ،‬وك??ان ممن يق??رأ عن أخب??ار ه??ذه ال??برابي وداره??ا‬
‫وامتحن كثيراً مما ص??ور فيه??ا ورس??م عليه??ا من الكتاب??ة والص??ور‪ ،‬ق??ال‪ :‬رأيت في‬
‫بعض البرابي كتابا ً تدبرته‪ ،‬فإذا ه??و احف??روا العبي??د المعتقين‪ ،‬واألح??داث المغ??ترين‬
‫والجند المتعبدين‪ ،‬والنبط المستعربين قال‪ :‬ورأيت في بعضها كتابأ تد َّب ْرته فإذا في??ه‬
‫يقدر المقدور والقضاء يضحك وزعم أن??ه رأى في آخ??ره كتاب??ة وتبينه??ا ب??ذلك القلم‬
‫ورب النجم يفعل ُ ما يري??د وك??انت ه??ذه‬ ‫ولمست َتدْ ري َ‬
‫َ‬ ‫األول فوجدها‪ُ :‬ت َدئر ُبالنجوم‬
‫أتخذت هذه البرابي ل ِه َجة بالنظر في أحكام النج??وم مواظب??ة على معرف??ة‬‫َ‬ ‫األمة التي‬
‫أسرار الطبيعة‪ ،‬وكان عندها مم??ا دلت علي??ه أحك??ام النج??وم أن طوفان??أ س??يكون في‬
‫األرض‪ ،‬ولم تقطع ب??أن ذل??ك الطوف?ان م??ا ه??و‪ :‬أن??ار ت??أتي على األرض فتح??رق م??ا‬
‫عليها‪ ،‬أو ماء فيغرقها‪ ،‬أو سيف يبي??د أهله?ا‪ .‬فخ?افت دث??ور العل??وم وفناءه?ا بفن??اء‬
‫أهله??ا‪ ،‬فاتخ??ذت ه??ذه ال??برابي‪ ،‬واح??دها برب??ا‪ ،‬ورس??مت فيه??ا علومه??ا من الص??ور‬
‫والتماثيل والكتابة‪ ،‬وجعلت بنيانها نوعين‪ :‬طينأ‪ ،‬وحجر أو فرزت ما يب??نى ب??الطين‬
‫مما يبنى بالحجر‪ ،‬وقالت‪ :‬إن كان ه??ذا الطوف??ان ن??اراً اس??تحجر م??ا يب??نى من الطين‬
‫وانحرق‪ ،‬وبقيت هذه العلوم‪ ،‬وإن كان الطوفان الوارد ماء أذهب ما يب??نى ب??الطين‪،‬‬
‫ويبقى ما يبنى بالحجارة‪ ،‬وإن كان الطوفان سيفا ً بقي ِكاَل الن??وعين م??ا ه??و ب??الطين‬
‫وما هو بالحجر‪ ،‬وهذا على ما قيل‪ -‬وهللا أعلم‪ -‬ك??ان قب??ل الطوف??ان‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن ذل??ك‬
‫كان بعد الطوفان لرأن الطوفان الذي كانوا يرقبونه ولم يتيقنوا أن??ار ه??و أم م??اء أم‬
‫سيف‪ ،‬كان سيفا ً أتى على جميع أهل مصر من أمة غشيتها وملك نزل عليه??ا فأب??اد‬
‫أهلها ومنهم من رأى أن ذلك الطوفان كان وبا ًء عم أهلها ومصداق ذل??ك م??ا يوج??د‬
‫ببالد تنيس من التالل المنضدة من الناس من صغير وكبير‪ ?،‬وذكر وأن??ثى‪ ،‬كالجب??ال‬
‫العظ?ام‪ ،‬وهي المعروف?ة ببالد ت?نيس من أرض مص?ر ب?أبي الك?وم وم?ا يوج?د ببالد‬
‫مص??ر وص??عيدها من الن??اس المنكس??ين بعض??هم على بعض في كه??وف وغ??ير ان‬
‫ونواوش??ى‪ ،‬ومواض??ع كث??يرة من األرض ال ي??درى من أي األمم هم‪ ،‬فال النص??ارى‬
‫تخبر عنهم أنهم من أسالفهم‪ ،‬وال اليهود تقول عنهم إنهم من أوائلهم‪ ،‬وال‬
‫صفحة ‪206 :‬‬

‫المسلمون يدرون َمنْ هم وال ت??اريخ ين??بئ? عن ح??الهم‪ ،‬عليهم أث??وابهم‪ ،‬وكث??يراً م??ا‬
‫يوجد في تلك الروابي والجبال من حليهم‪ ،‬والبرابي ببالد مصر بني??ان ق??ائم عجيب‪:‬‬
‫كالبربا المتخفة بأنصناء من صعيد مصر‪ ،‬وهو أحد الموصوفين منها‪ ،‬والبربا التي‬
‫ببالد أخميم‪ ،‬والبربا التي ببالد سمنود‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫األهرامات أيضا ً‬

‫واأله??رام وطوله?ا عظيم‪ ،‬وبنيانه??ا عجيب‪ ،‬عليه??ا أن??واع من الكتاب??ات ب??أقالم األمم‬
‫السالفة‪ ،‬والممالك الداثرة‪ ،‬ال يحرى ما تلك الكتابة وال ما المراد بها‪ ،‬وق??د ق??ال َمنْ‬
‫عنى بتقدير? ذرعها‪ :‬إن مقدار ارتفاع ذهابها في الج??و نح??و من أربعمائ?ة ذراع‪ ،‬أو‬
‫كثر‪ ،‬وكلما عال به الصعداء دق ذلك‪ ،‬والعرض نحو ما وصفنا‪ ،‬عليه??ا من الرس??وم‬
‫ما ذكرنا‪ ،‬وإن ذلك علوم وخ??واص وس??حر وأس??رار للطبيع??ة‪ ،‬وإن من تل??ك الكتاب??ة‬
‫مكتوب‪ :‬أنا بنيناها فمن يدعى موازنتنا في الملك وبلوغنا في القدرة وانتهاءن??ا من‬
‫السلطان فليهدمها‪ ،‬وليزل رسمها‪ .‬فإن الهدم أيسر من البناء‪ ،‬والتفري??ق أيس??ر من‬
‫التأليف‪ ،‬وقد ذكر أن بعض ملوك اإِل سالم شرع في ه??دم بعض??ها ف??إذا خ??راج مص??ر‬
‫وغيرها من األرض ال يفي بقلعها‪ ،‬وهي من الحج??ر والرخ??ام‪ ،‬والغ??رض في كتابن??ا‬
‫هذا اإلخبار عن ُج َمل األشياء وجوامعها‪ ،‬ال عن تفصيلها وبس??طها‪ ،‬وق??د أتين?ا على‬
‫األرض والممال? َك‪ ،‬وم??ا نمي إلين??ا خ??براً من‬
‫َ‬ ‫س??ائر م??ا ش??اهدناه حس?ا ً في مطافاتن??ا‬
‫الخواص وأسرار الطبيعة من الحيوان والنبات والجماد في عجائب البلدان واآلث??ار‬
‫والبقاع‪ ،‬في كتابنا المترجم بكتاب القضايا والتجارب‪.‬‬

‫وال تمانع بين ذوي الفهم أن في مواضع من األرض مدنا ً وق??رى ال ي??دخلها عق??رب‬
‫ص َرى? وإنطاكية‪ ،‬وق??د ك??ان ببالد إنطاكي??ة‪ ،‬إذا‬
‫وال حية‪ ،‬مثل مدينة? حمص و َم َعرة و ُب ْ‬
‫أخرج إنسان يده خارج السور وقع عليها البق‪ ،‬فإذا ج??ذبها إلى داخ??ل لم يب??ق على‬
‫يده من ذلك شيء‪ ،‬إلى أن كسر عمود من الرخام في بعض المواضع بها‪ ،‬فأص??يب‬
‫في أعاله ُح ُّق من نحاس في داخل??ه ب??ق مص??ور? من نح??اس نح??و ك??ف‪ ،‬فم?ا مض??ت‬
‫أيام‪ -‬أو على الفور من ذلك‪ -‬حتى صار البق في وقتنا ه??ذا يعم األك??ثر من ده??رهم‪،‬‬
‫وهذا حجر المغناطيس يجذب الحديد‪ ،‬ولقد رأيت بمصر? حي??ة مص??ورة من حدي??د أو‬
‫نحاس توضع على شيء و ُيدْ نى منها حجر المغن??اطيس فتح??دث فيه??ا حرك??ة تباع??د‬
‫منه‪ ?،‬وحجر المغناطيس إذا أصابته رائح??ة الث??وم بط??ل فعل??ه في الحدي??د واذا غس??ل‬
‫بشيء من الخل أو ناله شيء من عسل النحل عاد إلى فعله األول من جذب الحديد‪،‬‬
‫وللمغناطيس في الحديد خواص عجيبة غير م??ا ذكرن??ا ك??الحجر الم??اص لل??دم‪ ،‬وهللا‬
‫عز وجل قد استأثر بعلم األشياء‪ ،‬وأظهر للعباد م??ا ش??اء م??ا لهم في??ه الص??الح على‬
‫قدر الوقت وحاجتهم فيه إليه وأش??ياء اس??تأثر بعلمه??ا لم يظهره??ا لخلق??ه‪ .‬فال تق??ف‬
‫العقول َع َلى كنهها‪ ،‬وكما يجمع بين أشياء فيحدث الجتماعها معنى هو غيرها‪ ،‬كما‬
‫يحدث من م??اء العفص وال??زاج عن?د االجتم??اع من ش??دة الس??واد‪ ،‬وكح??دوث ج??وهر‬
‫الزجاج عند جمعنا بين الرمل والمغنيسيا والقلى عند الطبخ والسبك لذلك‪ ،‬وكذلك‬
‫صفحة ‪207 :‬‬

‫لو جمع بين ماء القلي وماء المرتك وهو المرداسنج خ??رج الح??ارث من مزاجيهم??ا‬
‫كالزب??د بياض?اً‪ ،‬وإذا م??زج م??اء القلي بم??اء ال??زاج خ?رج من مزاجيهم?ا ل?ون أحم?ر‬
‫كالعصفر‪ ،‬وكجمعنا في النت??اج بين الف??رس األن??ثى والحم??ار فتح??دث بغالً‪ ،‬ول??و نتج?‬
‫دابة على أتان لخرج منها بغل أفطس ذو خبث ودها يسمى الكودن‪.‬‬
‫وقد ذكرن??ا النت??اج ال??ذي ك??ان بص??عيد مص??ر مم??ا يلي‪ .‬الحبش??ة‪ ،‬وم??ا ك??ان ينتج? من‬
‫الث??يران على األتن‪ ،‬والحم??ير على البق??ر‪ ،‬وم??ا ك??ان يح??دث من ذل??ك من ال??دواب‬
‫العجيبة التي ليست بحمير? وال بقر كالبغل التي ليس بدابة وال حمار‪.‬‬
‫وق??د ذكرن??ا ض??روب التولي??دات في أن??واع الحي??وان والنب??ات من تطعيمهم الغ??ررس‬
‫واألش??جار وم??ا تول??د من الطع??وم في الم??ذاق في كتابن??ا الم??ترجم بكت??اب القض??ايا‬
‫والتجارب في أن??واع الفالح??ات وغيره??ا‪ ،‬وذكرن??ا ب??اب خ??واص األش??ياء ومعرفته??ا‬
‫والطلسمات وعجائبها‪ ،‬وهو باب كبير في ذكر بعضه نيابة عن بعض‪ ،‬والجزء منه‬
‫يوهمك الكل‪ ،‬واليسير منه يدلُّ َك على معرفة الكثير‪?.‬‬
‫ويمكن ‪-‬وهللا اعلم أن تكون هذه الخواص والطلسمات واألشياء المحدث??ة في الع??الم‬
‫للحركات مما وصفنا والدافعة والمانعة والمنف??ردة والجاذب??ة والفاعل??ة في الحي??وان‬
‫وغير ذلك مثل الطرد والجذب‪ -‬كانت داللة لبعض األنبياء في األمم الخالي??ة‪ ،‬جعله??ا‬
‫هللا كذلك لذلك النبي داللة ومعجزة ت??دل على ص??دقه وتنبيئ??ه من غ??يره لي??ؤدي عن‬
‫هللا أمره ونهيه وما فيه من الصالح لخلقه في ذلك الوقت‪ ،‬ثم رف??ع هللا ذل??ك الن??بي‪،‬‬
‫وبقيت علومه‪ ،‬وما أبانه هللا ع??ز وج??ل مم??ا ذكرن??ا‪ ،‬في أي??دي الن??اس‪ ،‬وأص??ل ذل??ك‬
‫أنهى كما وصفنا‪ ،‬إذ كان ما ذكرنا ممكنا ً غير واجب وال ممتنع في القدرة‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬فلنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار ملوك مصر‪.‬‬

‫بقية ملوك مصر‬

‫وكان الملك بع??د انقض??اء مل??ك دلوك??ة العج??وز عرك??وس بن بل??وطس ثم مل??ك بع??ده‬
‫بورس بن عركوس ثم ملك بعده فغامس بن بورس نحواً من خمسين سنة‪ ?،‬ثم ملك‬
‫بع??ده دني??ا بن ب??ورس نح??واً من عش??رين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده نم??اريس بن مرين??ا‬
‫عشرين سنة‪ ،‬ثم ملك بعده بلوطس بن ميناكيل أربعين سنة‪ ?،‬ثم مل??ك بع??ده م??الوس‬
‫بن بلوطس عشرين سنة‪ ?،‬ثم مل??ك بع??ده بل??وطس بن ميناكي??ل بن بل??وطس‪ ،‬ثم مل??ك‬
‫بعده بلونا بن ميناكيل وكانت له حروب ومسير في األرض‪ ،‬وه??و فرع??ون األع??رج‬
‫وخ? رب بيت المق??دس‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده مرين??وس وك??انت ل??ه‬ ‫الذي غزا ب??ني إس??رائيل َ‬
‫حروب كثيرة بالمغرب‪ ،‬ثم ملك بعده نقاس بن مرينوس? ثمانين سنة‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده‬
‫فوميس بن نقاس عشر س??نين‪ ،‬ثم هل??ك بع??ده كابي??ل وك??انت ل??ه ح??روب م??ع مل??وك‬
‫المغرب‪ ،‬وغزاه البخت ناصر َم ْر ُز َبان المغرب من قبل ملوك فارس‪ ،‬فخ??رب أرض??ه‬
‫وقتل رجاله‪ ،‬وس??ار البخت ناص??ر نح??و المغ??رب‪ ،‬وق??د أتين??ا على أخب??اره في كت??اب‬
‫راح??ة األرواح ألن ه??ذا الكت??اب رس??مناه بأخب??ار مس??ير? المل??وك لألرض‪ ،‬وأخب??ار‬
‫مقاتلهم‪ ،‬عون ما ذكرناه في كتابنا أخبار الزمان‪.‬‬

‫صفحة ‪208 :‬‬

‫ولما زال أمر البخت ناصر ومن معه من جنود فارس‪ ،‬ملكت ال??روم مص??ر‪ ،‬وغلبت‬
‫عليها‪ ،‬فتنصر أهلها‪ ،‬فلم يزال??وا على ذل??ك إلى أن مل??ك كس??رى أنوش??روان‪ ،‬فغلبت‬
‫جيوشه على الشام‪ ،‬وسارت نح?و مص?ر‪ ،‬فملكوه?ا‪ ،‬وغلب?وا على أهله?ا‪ ،‬نح?واً من‬
‫عش??رين س??نة وك?انت بين ال??روم وف?ارس ح?روب كث?يرة فك?ان أه??ل مص??ر ي??ؤدون‬
‫خراجين‪ :‬خراجا ً إلى فارس‪ ،‬وخراجا ً إلى الروم‪ ،‬عن بالدهم‪.‬‬
‫ثم انجلت فارس عن مص??ر والش??ام ألم??ر ح??دث في دار مملكتهم‪ ،‬فغلب ال??روم على‬
‫مصر والشام وأشهروا النصرانية‪ ،‬فش??مل ذل??ك َمنْ بالش??ام ومص??ر‪ ،‬إلى أن أتى هللا‬
‫باإِل سالم‪ ،‬وكان من أمر المقوقس صاحب القبط مع النبي صلى هللا علي??ه وس??لم من‬
‫الهدايا ما كان إلى أن افتتحها عمرو بن العاص‪ ،‬ومن كان معه في خالفة عم??ر بن‬
‫الخطاب رضي هللا عنه‪ ،‬فبنى عمرو بن العاص الفسطاط وهي قصبة مصر في هذا‬
‫الوقت‪ ،‬وكان ملك مصر‪ -‬وهو المقوقس صاحب القبط‪ -‬ينزل اإلس??كندرية? في بعض‬
‫فصول السنة‪ ،‬وفي بعضها ينزل مدينة َم ْنف‪ ،‬وفي بعضها قصر الشمع‪ ،‬وهو اليوم‬
‫يعرف بهذا االسم في وسط مدينة الفسطاط‪.‬‬
‫ولعم??رو بن الع??اص في فتح مص??ر أخب??ار‪ ،‬وم??ا ك??ان بين??ه وبين المق??وقس وفتح??ه‬
‫لقص??ر الش??مع‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من أخب??ار مص??ر واإلس??كندرية‪ ?،‬وم??ا ك??ان من ح??روب‬
‫المسلمين في ذلك‪ ،‬ودخول عمرو بن العاص إلى مصر واإلس??كندرية في الجاهلي??ة‪،‬‬
‫?رة ال?ذهب ال?تي ك?انوا يظهرونه?ا للن?اس في‬ ‫وم?ا ك?ان من خ?بره م?ع ال?راهب وال ُك َ‬
‫أعيادهم‪ ،‬ووقوعها في ح ِْجر عمرو بن العاص‪ ،‬وذل??ك قب??ل ظه??ور الن??بي ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬قد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان والكتاب األوسط‪.‬‬

‫عدة ملوك مصر‬

‫قال المسعودي‪ :‬والذي اتفقت علي?ه الت?واريخ‪ ?-‬م?ع تب??اين م?ا فيه??ا‪ -‬أن ع?دة مل??وك‬
‫مصر من الفراعن?ة وغيره?ا اثن?ان وثالث?ون فرعون?ا‪ ،‬ومن مل?وك باب?ل ممن تمل?ك‬
‫على مص??ر خمس??ة‪ ،‬ومن مل??وك باب??ل‪ -‬وهم العم??اليق ال??ذين ط??رأوا إليه??ا من بالد‬
‫الشام‪ -‬أربعة‪ ،‬ومن الروم سبعة‪ ،‬ومن اليونانيين عش??رة‪ ،‬وذل??ك قب??ل ظه??ور الس??يد‬
‫المسيح عليه السالم‪ ،‬وملكها أناس من الف??رس من قب??ل األكاس??رة‪ ،‬وك??ان م??دة من‬
‫والفرس والروم والعماليق واليونانيينَ ألف س??نة? وثلثمائ??ة‬ ‫ْ‬ ‫هلك مصر من الفراعنة‬
‫سنة‪?.‬‬
‫قال المسعودي ‪:‬وسألت جماعة من أقباط مصر بالصعيد وغ??يره من بالد مص??ر من‬
‫تحص?ل لي في‬ ‫ّ‬ ‫أهل الخ??برة عن تفس??ير فرع??ون فلم يخ??بروني? عن مع??نى ذل??ك‪ ،‬وال‬
‫لغتهم‪ ،‬فيمكن‪ -‬وهللا أعلم‪ -‬أن هذا االس??م ك??ان ِس? َم َة مل??وك تل??ك األعص??ار وأن تل??ك‬
‫اللغ???ة تغ???يرت كتغ???ير الفهلوي???ة‪ ،‬وهي الفارس???ية األولى إلى الفارس???ية الثاني???ة‪?،‬‬
‫وغير ذلك من اللغات‪.‬‬ ‫وكاليونانية? إلى الرومية‪ ،‬وتغير الحميرية‪ْ ?،‬‬

‫صفحة ‪209 :‬‬

‫دفائن أرض مصر‬


‫ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان وما يوجد في الدفائن من ذخ??ائر المل??وك‬
‫ال???تي اس???تودعوها األرض وغ???يرهم من األمم ممن س???كن تل???ك األرض‪ ،‬وت???دعى‬
‫بالمطالب إلى هذه الغاية‪ ،‬وقد أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫فمن عجيب أخبارها ما ذكره يحيى بن بكير‪ ،‬قال‪ :‬كان عبد العزيز بن مروان عاماًل‬
‫على مصر? ألخي?ه عب?د المل?ك بن م?روان فأت?اه رج?ل متنص??ح‪ ،‬فس?أله عن نص?حه‪،‬‬
‫ِص? َداق ذل??ك‪ .‬ق??ال‪ :‬ه??و أن‬
‫فقال‪ :‬بالقبة الفالنية كنز عظيم‪ ،‬قال عبد العزي??ز‪ :‬وم??ا م ْ‬
‫يظهر لنا بالط من المرمر والرخام عن??د يس??ير من الحف??ر‪ ،‬ثم ينتهي بن??ا الحف??ر إلى‬
‫على أعاله دي??ك من ال??ذهب عين??اه‬ ‫ِ‬ ‫الص ?فر‪ ،‬تحت??ه عم??ود من ال??ذهب‬
‫قل??ع ب??اب من ُّ‬
‫ياقوتتان تساويان ملك الدنيا‪ ،‬وجناح??اه ُمض??رجان بالي?اقوت والزم??رد‪َ ،‬ب َزاث ُن?ه? على‬
‫صفائح من الذهب على أعلى ذل??ك العم??ود‪ ،‬ف??أمر ل??ه عب??د العزي??ز بنفق??ه أل??وف من‬
‫الدنانير ألجرة من يحفر من الرج?ال في ذل?ك ويعم??ل في??ه‪ ،‬وك?ان هنال??ك ت??ل عظيم‪،‬‬
‫فاحتفروا حف??رة عظيم??ة في األرض‪ ،‬وال??دالئل المق??دم ذكره??ا من الرخ??ام والمرم??ر‬
‫?ع في النفق??ة‪ ،‬وك??ثر من الرج??ال‪،‬‬ ‫تظهر‪ ،‬فازداد عبد العزيز حرصا ً على ذلك‪ ،‬وأوس? َ‬
‫ثم انته??وا في حف??رهم إلى ظه??ور رأس ال??ديك‪ ،‬ف??برق عن??د ظه??وره لمع??ان عظيم‬
‫كالبرق الخاطف لما في عينيه من الي??اقوت وش??دة ن??وره ولمع??ان ض??يائه‪ ،‬ثم ب??انت‬
‫قوائمه‪ ،‬وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع من األحجار والرخام‪ ،‬وقناطر‬
‫مقنطرة‪ ،‬وطاق?ات على أب?واب معق?ودة‪ ،‬والحت منه?ا تماثي?ل? وص??ور أش?خاص من‬
‫وأج ِر َبة من األحجار قد أطبقت عليها أغطيتها وشبكت‪ ،‬وقيد‬ ‫أنواع الصور والذهب ْ‬
‫ذلك بأعمدة الذهب‪ .‬فركب عبد العزيز بن مروان حتى أشرف على الموضع‪ ،‬فنظ??ر‬
‫إلى ما ظهر من ذلك‪ ،‬فأسرع بعضهم فوضع قدم??ه على درج??ة منس??بكة? من نح??اس‬
‫تنتهي إلى ما هنالك‪ ،‬فلما استقرت قدمه على المرقاة الرابعة ظهر سيفان عظيم??ان‬
‫عاديان عن يمين المرجة وشمالها‪ ،‬فالتفتا على الرجل‪ ،.‬فلم يدْ َر ْك حتى جزآه قطع?ا ً‬
‫وهوى جس??مه س?فاًل ‪ ،‬فلم??ا اس??تقر جس??مه على بعض الم??رج اخ??تز العم??ود وص??فر‬
‫الديك تصفيراً عجيبا ً سمعه َمنْ كان بالبعد من هنال?ك‪ ،‬وح?رك جناحي?ه فظه?رت من‬
‫تحته أصوات عجيبة‪ ?،‬وقد عملت باللَّ َوالب والحرك??ات‪ ،‬إذا م??ا وق??ع على بعض تل??ك‬
‫المرج شيء أو ماسها تهافت من هنالك من الرجال إلى أسفل تل??ك الحف??يرة‪ ،‬وك??ان‬
‫ممن يحفر ويعمل وينق??ل ال?تراب ويبص?ر? ويتح??رك وي?أمر وينهى نح??و أل??ف رج??ل‪،‬‬
‫فهلكوا جميعأ‪ ،‬فجزع عبد العزيز‪ ،‬وقال‪ :‬هذا ردم عجيب األمر ممنوع ال َن ْي??ل‪ ،‬نع??وذ‬
‫باهلل منه!? وأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أخ??رج من ال??تراب على َمنْ هل??ك من‬
‫الناس‪ ،‬فكان الموضع قبراً لهم‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب‪ ،‬ومن ق??د أغ??رى بحف??ر‬
‫الحفائر وطلب الكنوز وذحائر الملوك واألمم السالفة المستودعة بطن األرض ببالد‬
‫كتاب ببعض األقالم السالفة في??ه وص??ف موض??ع ببالد مص??ر على‬ ‫ٌ‬ ‫مصر‪ ،‬وقع إليهم‬
‫أف??رع يس??يرة من بعض األه??رام المق?دم ذكره??ا‪ .،‬ب?أن في??ه مطلب??أ عجيب?اً‪ ،‬ف?أخبروا‬
‫اإلِخشيد محم??د بن ظغج ب??ذلك‪ ،‬ف?أذن لهم في َحف??ره‪ ،‬وأب??احهم اس??تعمال الحيل??ة في‬
‫إخراجه‪ ،‬فحفروا َحفرأ عظيما ً إلى أن انتهوا إلى أزج وأقباء وحجارة مجوفة في‬
‫صفحة ‪210 :‬‬

‫باألطلِي? َ‬
‫?ة‬ ‫ْ‬ ‫صخر منقور فيه تماثي??ل قائم??ة على أرجله?ا من أن??واع الخش??ب ق?د طليت‬
‫المانع??ة من س??رعة البلى وتف??رق األج??زاء‪ ،‬والص??ور مختلف??ة‪ :‬منه??ا ص??ور ش??يوخ?‬
‫وشبان ونساء وأطف?ال أعينهم من أن?واع الج?واهر كالي?اقوت والزم?رد والف?يروزج‬
‫والزبرجد‪ ،‬ومنها ما وجوهها ذهب وفض??ة‪ ،‬فكس??روا بعض تل??ك التماثي??ل‪ ،‬فوج??دوا‬
‫في أجوافها رممأ بالية‪ ،‬وأجساما ً فانية‪ ،‬وإلى جانب كل تمثال منها ن??وع من اآلني?ة?‬
‫كالبراني وغيرها من اآلالت من المرم?ر والرخ?ام‪ ،‬وفي?ه ن?وع من الطالء ال?ذي ق?د‬
‫طلي منه? ذلك الميت الموضوع في تمثال الخش??ب‪ ،‬وم??ا بقي من الطالء م??تروك في‬
‫ذلك اإلِناء‪ ،‬والطالء دواء مسحوق وأخالط معمولة ال رائح??ة له?ا‪ ،‬فجع??ل من??ه على‬
‫النار‪ ،‬ففاح منه روائح طيبة مختلفة ال تعرف في نوع من األنواع التي للطيب‪ ،‬وقد‬
‫جعل كل تمثال من الخشب على‪ ،‬صورة َمنْ في??ه من الن??اس على اختالف أس??نانهم‪،‬‬
‫ومقادير أعمارهم‪ ،‬وتباين صورهم‪ ،‬وبازاء ك??ل تمث??ال من ه??ذه التماثي??ل تمث??ال من‬
‫الحج??ر المرم??ر‪ ،‬أو من الرخ??ام األخض??ر‪َ ،‬ع َلى هيئ ?ة? الص??نم َع َلى حس??ب عب??ادتهم‬
‫للتماثيل والصور‪ ،‬وعليها أنواع من الكتابات لم يقف على استخراجها أحد من أهل‬
‫الملل‪ ،‬وزعم قوم من ذوي الدراي??ة منهم أن ل??ذلك القلم‪ ،‬من حين فق??د من األرض‪-‬‬
‫أعني أرض مص??ر‪ -‬أربع??ة آالف س??نة‪ ،‬وفيم??ا ذكرن??اه دالل??ة على أن ه??ؤالء ليس??وا‬
‫بيهود وال بنصارى‪ ،‬ولم يؤدهم ا ْل َحف ُر إال إلى ما ذكرنا من هذه التماثيل‪ ،‬وكان ذل??ك‬
‫في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة‪.‬‬
‫وقد ك??ان لمن س??لف وخل??ف من ُوالة مص??ر إلى أحم??د بن طول??ون وغ??يره إلى ه??ذا‬
‫الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬أخبار عجيبة‪ ،‬فيما استخرج في أي??امهم‬
‫من الدفائن واألموال والجواهر‪ ،‬وما أصيب في القبور من المطالب والخزائن‪ ،‬وق??د‬
‫أتينا على ذكرها فيما سلف من تأليفنا‪ ،‬وتقدم من تصنيفنا‪ ،‬و باهلل التوفيق‪.‬‬

‫ذكر أخبار اإلسكندرية وبنائها وملوكها وعجائبها‬


‫وما ألحق بهذا الباب‬
‫اختيار الموضع‬

‫ذكر جماعة من أهل العلم أن اإلس??كندر المق??دوني لم??ا اس??تقام ملك??ه في بالده س??ار‬
‫يختار أرضا ً صحيحة الهواء والترب?ة? والم??اء‪ ،‬ح??تى انتهى إلى موض??ع اإلس??كندرية‬
‫فأصاب في موضعها آثار بنيان عظيم وعمدأ كثيرة من الرخام‪ ،‬وفي وسطها عمود‬
‫عظيم عليه مكتوب بالقلم ال ُم ْس َندِ‪ -‬وهو القلم األول من أقالم حمير وملوك عاد‪ -‬أن??ا‬
‫شداد بن عاد بن شداد بن ع?اد‪ ،‬ش?ددت بس?اعدى البالد‪ ،‬وقطعت عظيم العم?اد‪ ،‬من‬
‫الجبال واألطواد‪ ،‬وأنا بنيت? إرم ذات العماد‪ ،‬التي لم يخل??ق مثله??ا في البالد‪ ،‬وأردت‬
‫أن أبني ههنا ك??إرم‪ ،‬وأنق??ل إليه??ا ك??ل في إق??دام وك??رم‪ ،‬من جمي??ع العش??ائر واألمم‪،‬‬
‫وذلك إذ ال خوف وال هرم‪ ،‬وال اهتمام وال سقم‪ ،‬فأصابني ما أعجل??ني‪ ،‬وعم??ا أردت‬
‫ش َجنِي‪ ،‬وقل نومي? وسكني‪ ،‬فارتحلت باألمس عن‬ ‫قطعني مع وقوع ما أطال همي و َ‬
‫ص? َغار‪،‬‬
‫داري ال لقهر مل??ك جب??ار‪ ،‬وال لخ??وف جيش َج? رار‪ ،‬وال عن رهب??ة وال عن َ‬
‫ولكن لتمام المقدار‪ ،‬وانقطاع األثار‪ ،‬وسلطان العزيز الجبار‪ ،‬فمن رأى أثري‪،‬‬
‫صفحة ‪211 :‬‬

‫وعرف خبري‪ ،‬وطول عمري‪ ،‬و َنفاذ بصري‪ ،‬وشدة حفري‪ ،‬فال يغتر بالدنيا بع??دي‪،‬‬
‫فإنها غرارة تأخذ منك ما تعطي‪ ،‬وتسترجع ما ُت ِولي‪ .‬وكالم كث??ير ُي? ِ?ري فن??اء ال??دنيا‬
‫ويمنع? من االغترار بها والسكون إليها‪.‬‬
‫ونزل اإلسكندر متفكراً يتدبر? هذا الكالم ويعتبره‪ ،‬ثم بعث فحشر الصناع من البالد‪.،‬‬
‫وخط األساس‪ ،‬وجعل طولها وعرضها أمياالً‪ ،‬وحش??د إليه??ا العم??د والرخ??ام‪ ،‬وأتت??ه‬
‫المراكب فيها أنواع الرخام‪ .‬وأن??واع المرم??ر واألحج??ار‪ ،‬من جزي??رة ص??قلية‪ ،‬وبالد‬
‫إفريقية‪ ،‬وإقريطش‪ ،‬وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه? من بحر أوقيانوس‪ ،‬وحمل‬
‫إليه أيضا ً من جزيرة روعس وهي جزي??رة مقابل??ة لإلس??كندرية على ليل??ة منه??ا في‬
‫البحر‪ ،‬وهي أول بالد اإِل فرنجة‪ ،‬وه??ذه الجزي??رة في وقتن??ا ه??ذا‪ ،‬وه??و ص??نة اثن??تين‬
‫وثالنين وثلثمائة‪ ?،‬دار صناعة لم لروم‪ ،‬وبها تنش??أ الم??راكب الحربي?ة‪ ?،‬وفيه?ا خل??ق‬
‫كثير من ال??روم‪ ،‬وم??راكبهم تط??رق بالد اإلس??كندرية وغيره??ا من بالد مص??ر ف ُت ِغ??ي ُر‬
‫الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أس??اس‬ ‫وتأسر وتسبي‪ .‬وأ َم َر اإلسكندر َ‬
‫سور المدينة‪ ،‬وجعل على ك?ل قطع?ة من األرض خش?بة قائم??ة‪ ،‬وجع?ل من الخش??بة‬
‫إلى الخشبة حباالً منوط?ة? بعض??ها ببعض‪ ،‬وأوص??ل جمي??ع ذل??ك بعم??ود من الرخ??ام‪،‬‬
‫وكان أمام مضربه‪ ،‬وعلق على العمود جرسا ً عظيما ً مصوتاً‪ ،‬وأمر الن??اس والقُ??ؤام‬
‫والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس وتحركت الحب??ال‬ ‫َ‬ ‫على ال َب َنائين‬
‫وقد علق على كل قطعة منها جرسا ً صغيراً حرصوا على أن يضعوا أساس المدين ?ة?‬
‫يجعل ذل??ك في وقت يخت??اره في‬ ‫ِ‬ ‫دفعة واحدة من سائر أقطارها‪ ،‬وأحب اإلسكندر أن‬
‫?وقت المحم??و َد‬ ‫نة في ح??ال ارتقاب??ه ال? َ‬‫طالع سعيد‪ ،‬فخفق اإلسكندر برأسه وأخذته سِ ٌ‬
‫المأخو َذ فيه الطال ُع‪ ،‬فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود‬
‫فحركه‪ ،‬وخرج ص?وت الج?رس وتح?ركت الحب?ال‪ ،‬وخفقت م?ا عليه?ا من األج?راس‬
‫الصغار‪ ،‬وكان ذلك معموالً بحركات فلسفية‪ ،‬وحيل حكمية‪ ،‬فلما رأى الصناع تحرك‬
‫تلك الحبال وسمعوا تلك األصوات وضعوا األساس دفع??ة واح??دة‪ ،‬وارتف??ع الض??جيج‬
‫بالتحميد والتقديس‪ ،‬فاستيقظ اإلسكندر من َر ْقدت??ه وس??أل عن الخ??بر‪ ،‬ف??أخبر ب??ذلك‪،‬‬
‫فعجب وقال‪ :‬أردت امرأَ وأراد هللا غيره‪ ،‬ويأبى هللا إال ما يريد‪ ،‬أردت طول بقائه??ا‪،‬‬
‫وأراد هللا سرعة فنائها وخرابها وتداول الملوك إياها‪.‬‬
‫وإن اإلس?كندرية لم?ا أحكم بنيانه?ا وأثبت أساس?ها وجن اللي?ل عليهم خ?رجت دواب‬
‫من البح??ر ف??أتت على جمي??ع ذل??ك البني??ان‪ ،‬فق??ال اإلس??كندر حين أص??بح‪ ?:‬ه??ذا ب??دء‬
‫الخراب في عمارتها‪ ،‬وتحقق مراد الباري في زوالها‪ ،‬وتطير من فع?ل ال?دواب‪ ،‬فلم‬
‫ي??زل البن??ا ُء ُيث َنى في ك??ل ي??وم ويحكم‪: ،‬يوك??ل ب??ه من يمن??ع ال??دواب إذا خ??رجت من‬
‫البحر‪ ،‬فيصبحون وقد أخرب البنيان‪ ،‬فقلق اإلسكندر لذلك‪ ،‬وراع??ه م??ا رأى‪ ،‬فأقب??ل‬
‫يفكر ما الذي يصنع‪ ،‬وأي حيلة تنفع في دفع األذية عن المدينة‪ ،‬فسنحت له الحيل??ة‬
‫في ليلته عند خلوته بنفسه? وإيراده األم??ور وإص??دارها‪ ،‬فلم??ا أص??بح دع??ا بالص??ناع‬
‫فاتخذوا له تابوتا ً من الخش??ب طول??ه عش??رة أذرع في ع??رض خمس‪ ،،‬وجعلت في??ه‬
‫جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها‪ ،‬وق??د أمس??ك ذل??ك بالق??ار‬
‫والزفت وغيره من األطلية الدافعة للماء‪ ،‬حذراً من دخول الم??اء إلى الت??ابوت‪ ،‬وق??د‬
‫جعل فيها مواضع للحبال‪ ،‬ودخل اإلسكندر في التابوت هو ورجالن معه من كتابه‬
‫صفحة ‪212 :‬‬

‫ممن له علم باتقان التصوير ومبالغة فيه وأمر أن تس??د عليهم األب??واب‪ ،‬وأن تطلى‬
‫بما ذكرنا من األطلية‪ ،‬وأمر فأتي بمركبين عظيمين‪ ،‬فأخرجا إلى لجة البحر‪ ،‬وعلق‬
‫على التابوت من أسفل مثقالت الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت س??فالً‬
‫إذ كان من شأنه لم?ا في??ه من اله??واء أن يطف??و ف??وق الم?اء وال يرس??ب في أس??فله‪،‬‬
‫وجع??ل الت??ابوت بين المرك??بين‪ ،‬فألص??قهما بخش??ب بينهم??ا لئال يفترق??ا‪ ،‬وش??د حب??ال‬
‫التابوت إلى المركبين و َطؤل َ حبال?ه‪ ،‬فغ?اص الت?ابوت ح?تى انتهى إلى ق?رار البح?ر‪،‬‬
‫فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزج??اج الش??فاف في ص??فاء م??اء البح??ر‪.‬‬
‫سهم على مثال رؤوس السباع‪ ،‬وفي أيدي‬ ‫فإذا هم بشياطين على مثال الناس ورؤو ُ‬
‫بعض??هم الف??ؤوس‪ ،‬وفي أي??دي بعض المناش??ير والمق??اطع‪ ،‬يح??اكون ب??ذلك ص??ناع‬
‫المدين??ة والف َعل??ة وم??ا في أي??ديهم من آالت البن??اء‪ ،‬ف??أثبت اإلس??كندر ومن مع??ه تل??ك‬
‫الصور وأحكموها بالتصوير? في الق??راطيس‪ ،‬على اختالف أنواعه??ا وتش??وه خلقتهم‬
‫وق??دودهم وأش??كالهم‪ ،‬ثم ح??رك الحب??ال‪ ،‬فلم??ا أحس ب??ذلك َمنْ في المرك??بين ج??ذبوا‬
‫الحب??ال وأخرج??وا الت??ابوت‪ ،‬فلم??ا خ??رج اإلس??كندر من الت??ابوت وس??ار إلى مدين ?ة?‬
‫اإلسكندرية أمر صناع الحديد والنحاس والحجارة فصنعوا تماثيل تل??ك ال??دواب على‬
‫ما كان صؤره اإلسكندر وص??احباء‪ ،‬فلم??ا فرغ??وا منه??ا وض??عت الص??ور على ال ُع ُم??د‬
‫بشاطئ البحر‪ ،‬ثم أم??رهم فبن??وا‪ ،‬فلم??ا جن اللي??ل ظه??رت تل??ك ال?دوالب واآلف??ات من‬
‫البحر‪ ،‬فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إِلى البحر‪ ،‬فرجعت إلى البحر ولم تعد‬
‫بعد ذلك‪.‬‬
‫ثم لم???ا ب???نيت اإلس???كندرية? وش???يدت أم???ر اإلس???كندر أن يكتب على أبوابه???ا ه???ذه‬
‫اإلس???كندرية‪ ،‬أردت أن أبنيه???ا على الفالح والنج???اح واليمن والس???عادة والس???رور‬
‫والثبات في الدهور‪ ،‬فلما يرد الباري عز وجل ملك السموات واألرض ومفني األمم‬
‫أن نبنيها كذلك‪ ،‬فبنيتها وأحكمت بنيانها‪ ،‬وشيدت سورها‪ ،‬وآتاني هّللا من كل شيء‬
‫علما ً وحكماً‪ ،‬وسهل لي وجوه األسباب‪ ،‬فلم يتعذر علي شيء في العالم مما أردته‪،‬‬
‫وال امتنع عني شرء مما طلبته‪ ،‬لطف??أ من هللا ع??ز وج??ل‪ ،‬وص??نعا ً بي‪ ،‬وص??الحا ً لي‬
‫ولعبادي من أهل عصري‪ ،‬والحمد هّلل رب العالمين‪ ،‬ال إله إال هللاّ رب كل شيء‪.‬‬
‫ورسم اإلسكندر بعد هذه الكتابة كل ما يح??دث ببل??ده من األح??داث بع??ده في مس??تقبل?‬
‫الزمان‪ :‬من اآلفات‪ ،‬والعمران‪ ،‬والخراب‪ ،‬وما يؤول إليه إلى وقت دُثور العالم‪.‬‬
‫وكان بناء اإلسكندرية طبقات‪ ،‬وتحتها قن??اطر مقنط??رة‪ ،‬عليه??ا دور المدين??ة‪ ،‬يس??ير?‬
‫تحتها الفارس وبيده رمح ال يضيق به حتى يدور جميع تل??ك األزاج والقن?اطر ال??تي‬
‫تحت المدينة‪ ،‬وقد عمل لتلك العق??ود واالزاج مخ?اريق‪ ،‬وتنفس??ات للض??ياء‪ ،‬ومناف??ذ‬
‫للهواء‪.‬‬
‫وقد كانت اإلسكندرية تضيء بالليل بغير مصباح‪ ،‬لش??دة بي??اض الرخ??ام و المرم??ر‪،‬‬
‫وأسواقها وشوارعها وأزقتها مقنطرة بها لئال يصيب أهلها ش??ي ٌء من لمط??ر‪ ،‬وق??د‬
‫كان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلف??ة ألوانه??ا‪ ،‬بينه??ا خن??ادق‪ ،‬وبين‬
‫ك??ل خن??دق وس??ور فص??الن‪ ،‬وربم??ا عل??ق على المدين??ة ش??قاق الحري??ر األخض??ر‪.‬‬
‫الختطاف بياض الرخام أبصار الناس لشدة بياضه‪.‬‬
‫صفحة ‪213 :‬‬

‫فلما أحكم بناؤها‪ ،‬وسكنها أهلها‪ ،‬كانت آفات البحر وسكانه‪ -‬على‪ ،‬زعم اإلِخباريون‬
‫من المصريين واالسكندريين‪ ?-‬تختطف بالليل أهل هذه لمدينة‪ ،‬فيص??بحون وق??د فق??د‬
‫منهم العدد الكثير‪?.‬‬

‫المال‬

‫ولما علم اإلسكندر ب??ذلك اتخ??ذ الطلس??مات على أعم??دة هن??اك ت??دعى المس??ال‪ ،‬وهي‬
‫الس? ْر َوة وط??ول ك??ل‬
‫باقية إلى هذه الغاية‪ ،‬وك??ل واح??د من ه??ذه األعم??دة على هيئ??ة َّ‬
‫واح??د منه??ا ثم??انون ذراع ?اً‪ ،‬على عم??د من نح??اس وجع??ل تحته??ا ص??ورأ وأش??كاالً‬
‫وكتابة‪ ،‬وذلك عند انخفاض درجة من درجات الفلك وقربه??ا من ه??ذا الع??الم‪ ،‬وعن??د‬
‫أصحاب الطلسمات من المنجمين والفلكيين أنه إذا ارتفع من الفلك درج??ة وانخفض‬
‫أخرى في مدة ي??ذكرونها من الس??نين نح??و س??تمائة س??نة ن??أتي في ه??ذا الع??الم فع??ل‬
‫الطلسمات النافعة المانع??ة والدافع??ة‪ ،‬وق??د ذك??ر ه??ذا جماع??ة من أص??حاب الزيج??ات‬
‫والنجوم وغيرهم من مصنفي الكتب في هذا المعنى‪ ،‬ولهم في ذل?ك س??ر من أس??رار‬
‫الفلك ليس??ى كتابن??ا ه??ذا موض??عا ً ل??ه‪ ،‬ولغ??يرهم ممن ذهب إلى أن ذل??ك للط??ف ق??وى‬
‫الطبائع التام وغير ذلك مما قال??ه الن??اس‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من ع??رج الفل??ك فموج??ود في‬
‫كتب من تأخر من‪ -‬علماء المنجمين والفلكيين‪ ،‬كأب معش??ر البلخي‪ ،‬والخ??وارزمي‪?،‬‬
‫ومحم??د بن كث??ير الفرغ??اني‪ ،‬وم??ا ش??اء هللا‪ ،‬وحبش‪ ،‬واليزي??دي‪ ،‬ومحم??د بن ج??ابر‬
‫ال ُبتاني في زيجه الكبير‪ ،‬وث??ابت بن ق??رة‪ ،‬وغ??ير ه??ؤالء ممن تكلم في عل??وم هي??أت‬
‫الفلك والنجوم‪.‬‬

‫منارة اإلسكندرية‬

‫قال المسعودي‪ :‬فأما منارة اإلسكندرية? فذهب األكثر من المصريين وااِل س??كندرانيين‬
‫‪ -‬ممن عني بأخبار بلدهم ‪ -‬إلى أن اإلس??كندر بن فيلبس المق??دوني ه??و ال??ذي بناه??ا‬
‫على حسب ما ق?دمنا في بن?اء المدين?ة‪ ،‬ومنهم من رأى أن دلوك?ة الملك?ة هي ال?تي‬
‫بنتها‪ ،‬وجعلتها مرقبا ً لمن يرد من العدو إلى بلدهم‪ ،‬ومنهم من رأى أن العاش??ر من‬
‫فراعنة مصر هو الذي بناها‪ ،‬وقد قدمنا ذكر هذا الملك فيما سلف من ه??ذا الكت??اب‪،‬‬
‫ومنهم من رأى أن ال??ذي ب??نى مدين??ة رومي??ة ه??و ال??ذي ب??نى مدين??ة اإلس??كندرية‬
‫ومنارته??ا واأله??رام بمص??ر‪ ?،‬و‪-‬إنم??ا أض??يفت اإلس??كندرية? إلى اإلس??كندر لش??هرته?‬
‫باالستيالء على األكثر من ممالك العالم فشهرت به‪ ،‬وذكروا في ذلك أخباراً كث??يرة‪،‬‬
‫يدلون بها على ما قالوا‪ ،‬واإلسكندر لم يطرقه في ه??ذا البح??ر ع??دو‪ ،‬وال ه??اب ملك?ا ً‬
‫يرد إليه في بلده ويغزوه في داره‪ ،‬فيكون هو الذي جعله?ا مرقب?اً‪ ،‬وإن ال?ذي بناه??ا‬
‫جعلها على كرسي من الزجاج على هيئ??ة الس??رطان في ج??وف البح??ر وعلى ط??رف‬
‫اللسان الذي هو داخل في البحر من ال??بر‪ ،‬وجع??ل على أعاله??ا تماثي??ل من النح??اس‬
‫وغيره‪ ،‬وفيها تمثال قد أشار بسبابته? من يده اليمنى نح?و الش??مس أينم?ا ك?انت من‬
‫الفلك‪ ،‬وإذا علت في الفلك فإصبعه مشيرة نحوها فإذا انخفضت يده سفالً‪ ،‬يدور‬
‫صفحة ‪214 :‬‬

‫معها حيث دارت‪ ،‬ومنها تمثال يشير? بيده إلى البحر إذا صار الع??دو من??ه على نح??و‬
‫من ليلة‪ ،‬فإذا دنا وجاز أن يرى بالبصر لقرب المس??افة س??مع ل??ذلك التمث??ال ص??وت‬
‫هائل يسمع من ميلين أو ثالثة‪ ،‬فيعلم أهل المدينة أن العدو قد دنا منهم‪ ،‬فيرمقون??ه?‬
‫بأبص??ارهم‪ ،‬ومنه??ا تمث?ال كلم?ا مض?ى من اللي?ل والنه??ار س??اعة س??معوا ل??ه ص??وتا ً‬
‫بخالف ما صوت في الساعة التي قبلها‪ ،‬وصوته? ُم ْط ِرب‪.‬‬

‫حيلة لهدم المنارة‬

‫وقد كان ملك الروم في مدة الوليد بن عبد الملك بن مروان أنفذ خادما ً من خ??واص‬
‫خدمه ذا رأي وده?اء س??راً‪ ،‬ؤج??اء مس??تأمنا ً إلى بعض الثغ??ور‪ ،‬ف??ورد بآل??ة حس??نة‪،‬‬
‫ومع??ه جماع??ة‪ ،‬فج??اء إلى الولي??د ف??أخبره أن??ه من خ??واص المل??ك‪ ،‬وأن??ه أراد قتل??ه‬
‫موج??دَ ٍة وح??ال بلغت??ه عن??ه لم يكن له??ا أص??ل‪ ،‬وأن??ه اس??توحش من??ه‪ ،‬ورغب في‬ ‫َل ْ‬
‫اإِل س??الم‪ ،‬فأس??لم على ي??دي الولي??د‪ ،‬وتق??رب من قلب??ه‪ ،‬وتنص??ح إلي??ه في دف??ائن‬
‫استخرجها له من بالد دمشق وغيرها من الشام بكتب كانت مع??ه فيه??ا ص??فات تل??ك‬
‫َت نفس??ه‪ ،‬واس??تحكم طمع??ه‪،‬‬ ‫الدفائن‪ ،‬فلما رأى الوليد تلك األم??وال والج??واهر َ‬
‫ش? ِره ْ‬
‫فقال له الخادم‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن ههنا أمواالً وجواهر ودفائن للمل??وك‪ ،‬فس??أله‬
‫الوليد عن الخبر‪ ،‬فقال‪ :‬تحت منارة اإلسكندرية? أم?وال األرض‪ ،‬وذل?ك أن اإلس?كندر‬
‫احتوى على األم??وال والج??واهر ال??تي ك??انت لش??داد بن ع??اد ومل??وك الع??رب بمص??ر‬
‫والشام‪ ،‬فبنى له??ا األزاج تحت األرض‪ ،‬و َق ْن َط??ر له??ا األ َق َب??اء والقن??اطر والس??راديب‪،‬‬
‫?ار َة‪،‬‬
‫والو ِرق والج??واهر وب??نى ف??وق ذل??ك ه??ذه المن? َ‬ ‫وأودعها تلك الذخائر من العين َ‬
‫وكان طولها في الهواء ألف ذراع‪ ،‬والمرآة على علوها والدبادب??ة جل??وس حوله??ا‪،‬‬
‫ف??إذا نظ??روا إلى الع??دو في البح??ر في ض??ؤ تل??ك الم??رآة ص??وتوا بمن ق??رب منهم‪،‬‬
‫ونصبوا? ونشروا أعالما ً فيراها من َب ُعدَ منهم فيحذر الن??اس وينف??ر البل??د‪ ،‬فال يك??ون‬
‫للعدو عليهم سبيل‪ ،‬فبعث الوليد مع الخادم بجيش واناس من ثقاته وخواصه فه??دَ َم‬
‫نص??ف المن??ارة من أعاله??ا‪ ،‬وأزيلت الم??رآة‪ .‬فض??ج الن??اس من أه??ل اإلس??كندرية‬
‫وغيرها‪ ،‬وعلموا أنها مكي??دة وحيل??ة في أمره??ا‪ ،‬ولم??ا علم الخ??ادم استفاض??ة ذل??ك‪،‬‬
‫وأنه سينمى? إلى الوليد‪ ،‬وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه ه??رب في اللي??ل في م??ركب ك??ان‬
‫ق?د أع?ده‪ ،‬وواط?أ قوم?أ على ذل?ك من أم?ره‪ ،‬فتمت حيلت?ه‪ ،‬وبقيت المن??ارة على م??ا‬
‫ذكرن??ا إلى ه?ذا ال??وقت‪ -‬وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة‪ -‬وك?ان ح??والي من??ارة‬
‫اص يخ??رج من??ه قط??ع من الج??واهر تتخ??ذ من?ه? فص??وص‬ ‫اإلس??كندرية في البح??ر َ‬
‫مغ? ٌ‬
‫للخواتم يشبه? أنواعا من الجواهر‪ :‬منه الس??كركهن واألدرك وأش??باد جش??م‪ ،‬ويق??ال‪:‬‬
‫إن ذل??ك من األالت ال??تي ك??ان اتخ??ذها اإلس??كندر للش??راب‪ ،‬فلم??ا م??ات كس??رتها أم??ه‬
‫المواض?ع من البح??ر‪ ،‬ومنهم من رأى أن اإلس??كندر اتخ??ذ ذل??ك‬ ‫ِ‬ ‫صر َم ْت بها في تل??ك‬
‫َ‬
‫النوع من الجوهر وغرقه حول المنارة لكيال يخلو من الناس حولها‪ ،‬ألن من ش??أن‬
‫الجوهر أن يكون مطلوبا ً أبداً في كل عصر في معدنه براً أو بحراً‪ ،‬فيكون الموض??ع‬
‫على عوام األوقات بالناس معموراً‪ ،‬واألكثر مما يستخرج? من الجوهر ح??ول من??ارة‬
‫اإلسكندرية األشباد جشم‪ ،‬وقد رأيت كثيراً من أصحاب التلويحات وممن ُعن َِي‬
‫صفحة ‪215 :‬‬

‫بأعمال الجواهر المنسوبة بالمغرب يعمل ه??ذه الج??واهر المعروف??ة باألش??باد جش??م‪،‬‬
‫ويتخذ منه? الفصوص وغيرها‪ ،‬وكذلك الفص??وص المعروف??ة بالب??اقلمون وهي ت??رى‬
‫ألوانا ً مختلف??ة من حم??رة وخض??رة وص??فرة تتل??ون في المنظ??ر ألوان?ا ً مختلف??ة على‬
‫حسب ما ق??دمنا‪ ،‬والتل??ون من ذل??ك على حس??ب الجره??ر في ص??فائه واختالف نظ??ر‬
‫البصر في إدراكه‪ ،‬وتلون هذا النوع من الجوهر‪ -‬أعني الباقلمون‪ -‬نحو تلون ريش‬
‫صدر الطواوشى ‪ .‬فإنها تلون ألوانا ً مختلفة بأذنابها وأجنحتها‪ -‬أع??ني ال??ذكور دون‬
‫اإلناث‪ -‬وقد رأيت منها بأرض الهند ألوانا ً تظهر لحس البصر عند تأملها‪ ،‬ال ت??درك‬
‫وال تحصى‪ ،‬وال تشبه بلوق من األلوان‪ .‬لما يتراثف من تموج األل??وان في ريش??ها‪،‬‬
‫لعظم خلقها وكبر أجسامها وس?عة ريش?ها‪ ?.‬ألن للط?واوس ب?أرض‬ ‫ٍ‬ ‫ويتأتى ذلك منها‬
‫الهند شأنا ً عجيبا‪ ،‬وال??ذي يحم??ل منه??ا إلى أرض اإلس??الم ويخ??رج عن أرض الهن??د‬
‫فيبيض ويف??رخ تك??ون ص??غيرة األجس??ام‪َ ،‬ك? د َِرة األل??وان‪ ،‬ال تخط??ف أن??وار األبص??ار‬
‫بإدراكها‪ ،‬وأنما تشبه? بالهندية بالشبه اليسير‪ ،‬هذا في الذكور منها دون اإلناث‪.‬‬
‫وكذلك شجر النارنج واألترج المدور‪ ،‬حم??ل من أرض الهن??د إلى أرض غيره??ا بع??د‬
‫الثلثماث??ة‪ ?،‬ف??زرع بعم??ان ثم نق??ل إلى البص??رة والع??راق والش??ام‪ ،‬ح??تى ك??ثر في دور‬
‫الناس بطرسوس وغيرها من الثغور الشامية وإنطاكية وس??واحل الش??ام وفلس??طين‬
‫ومصر‪ ?،‬وما كان يعهد وال يعرف‪ ،‬فع??دمت من??ه ال??روائح الخمري??ة الطيب??ة‪ ،‬والل??ون‬
‫الحسن الذي يوجد فيه ب?أرض الهن?د‪ .‬لع?دم ذل?ك اله?واء والترب?ة? والم?اء وخاص?ية‬
‫البلد‪.‬‬

‫سر بناء المنارة‬


‫ويقال‪ :‬إن المن??ارة إنم??ا جعلت الم??رآة في أعاله??ا‪ .‬ألن مل??وك ال??روم بع??د اإلس??كندر‬
‫كانت تحارب ملوك مصر واإلسكندرية‪ ،‬فجعل من كان باإلسكندرية من الملوك تل??ك‬
‫المرآة ُت ِري من يرد في البحر من عدوهم‪ ،‬إال أن من يدخلها يتيه? فيها إال أن يك??ون‬
‫عارف?ا ً بال??دخول والخ??روج فيه??ا لك??ثرة بيوته??ا وطبقاته??ا و َم َمارقه??ا‪ ،‬وق??د ذك??ر أن‬
‫المغاربة حين وافوا في خالفة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم‬
‫?او ته??وي إلى‬‫?ؤول إلى َم َه? ٍ‬
‫على خي??ولهم إلى المن??ارة فت??اهوا فيه??ا‪ ،‬وفيه??ا ط??رق ت? َ‬
‫سرطان الزجاج‪ ،‬وفيها مخارق إلى البحر ف َت َهؤرواً بدوابهم‪ ،‬وفقد منهم عدد كث??ير‪،‬‬
‫وعلم بهم بعد ذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬إن تهورهم كان في كرسي بها قدامها‪ ،‬وفيها مس??جد في‬
‫هذا الوقت يرابط فيه في الصيف متطوعة المصريين? وغيرهم‪.‬‬
‫ولبالد مصر واإلسكندرية? والمغرب وبالد األندلس ورومية? وم??ا في الش??رق واليمن‬
‫والمغرب أخبار كثيرة في عجائب البلدان واألبنية واآلثار وخواص البقاع وما يؤثر‬
‫في ساكنيها وقطانها أعرضنا عن ذكره?ا‪ .‬إذ كن?ا ق?د أتين?ا على األخب?ار عنه?ا فيم?ا‬
‫الع? الم وحيوان??ه وب??ره وبح??ره‪ ،‬ف??أغنى ذل??ك عن إع??ادة‬ ‫سلف من كتبنا من عج??ائب ْ‬
‫ذكره‪.‬‬
‫ولم نتع??رض فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب ل??ذكر بي??وت الن??يران والهياك??ل المعظم??ة‬
‫والبيوت المشرفة وغير ذلك مما يليق بمعناها‪ ،‬بل ن??ذكرها في الموض??ع المس??تحق‬
‫لها من هذا الكتاب‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫صفحة ‪216 :‬‬

‫ذكر السودان وأنسابهم واختالف أجناسهم وأنواعهم‬


‫وتباينهم في ديارهم وأخبار ملوكهم‬
‫ولد كوش بن كنعان ومساكنهم‬

‫قال المسعودي‪ :‬ولما تف?رق ول?د ن?وح في األرض س?ار ول?د ك?وش بن كنع?ان نح?و‬
‫المغرب حتى قطعوا نيل مصر‪ ،‬ثم افترقوا فسارت منهم طائفة ُم َي ِّمن ?ة? بين المش??رق‬
‫والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج‪ ،‬وس??ار فري??ق منهم نح??و المغ??رب وهم أن??واع‬
‫كثيرة نحو الزغاوة والكانم ومركه وكوك??و وغان??ة وغ??ير ذل??ك من أن??واع الس??ودان‬
‫والدمادم‪ ،‬ثم افترق الذين مضوا بين المشرق والمغرب‪ ،‬فصارت ال??زنج من المغ??ير‬
‫والمشكر وبربرا وغيرهم من أن??واع ال??زنج‪ ،‬وق?دمنا فيم?ا س?لف عن?د ذكرن??ا للبح??ر‬
‫الحبشي‪ ،‬الخليج البربر في وما عليه من أنواع السودان واتصالهم في دي??ارهم إلى‬
‫بالد ال??دهلك والزيل??ع وناص??ع‪ ،‬وه??ؤالء الق??وم أص??حاب جل??ود النم??ور الحم??ر وهي‬
‫لباس??هم‪ ،‬ومن أرض??هم تحم??ل إلى بالد اإلس??الم‪ ،‬وهي أك??بر م??ا يك??ون من جل??ود‬
‫النمورة وأحسنها للسروج‪ ،‬وبحر الزنج واألحابش ه??و عن يمين بح??ر الهن??د‪ ،‬وإن‬
‫كانت مياههما متصلة‪ ،‬ومن أرضهم يحمل الذبل من ظه??ور الس??الحف‪ ،‬وه??و ال??ذي‬
‫تتخذ منه األمشاط كالقرون‪ ،‬وأكثر ما تكون الدابة المعروفة بالزراف??ة في أرض??هم‪،‬‬
‫وإن كانت عامة الوجود في أرض النوبة دون سائر بالد األحابش‪.‬‬

‫الزرافة‬

‫وقد تتوزع في نتاج هذا النوع من ال??دواب المعروف??ة بالزراف??ة‪ ،‬فمنهم من رأى أن‬
‫بدء نتاجها من اإلبل‪ ،‬ومنهم من رأى أن ذلك ك??ان بجم??ع بين اإلب??ل والنم??ورة وأن‬
‫الزرافة ظه??رت من ذل?ك‪ ،‬ومنهم من زعم أن??ه ن??وع من الحي??وان ق??ائم بذات??ه كقي??ام‬
‫الخي??ل والحم??ير والبق??ر‪ ،‬وأن ليس س??بيلها كس??بيل البغ??ال المول??دة من النت??اج بين‬
‫الخيل والحمير‪ ،‬وتدعي الزرافة بالفارسية? اشتركاو‪ ،‬وقد ك??انت ته??دى إلى مل??وكهم‬
‫من أرض النوبة كما تحم??ل إلى مل??وك الع??رب ومن مض??ى من خلف??اء ب??ني العب?اس‬
‫ووالة مصر‪ ،‬وهي دابة طويلة اليدين والرقبة‪ ،‬قصيرة الرجلين‪ ،‬ال ركبتين لرجليها‬
‫وإنما الركبتان ليديها‪ ،‬وقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان عن??د ذك??ر الزراف??ة كالم?ا ً‬
‫كثيراً في نتاجها‪ ،‬وأن في أعالي بالد النوبة يجتم??ع س??باع ووح??وش ودواب كث??يرة‬
‫ارة القي?ظ إلى ش?رائع المي?اه‪ ،‬فتتس?افد هنال?ك‪ ،‬فيلقح منه?ا م?ا يلقح ويمتن?ع?‬ ‫في َح َم َ‬
‫منها ما يمتنع‪ ،‬فيجيء من ذلك خلق كث??ير مختلف??ون في الص??ور واألش??كال ؛ منه??ا‬
‫الزرافة ذات األظالف‪ ،‬وهي دابة منحنية إلى خلفها‪ ،‬منص??وبة? الظه??ر إلى مؤخره??ا‬
‫وذلك لقصر رجليها‪ ،‬وللناس في الزراف??ة كالم كث??ير على حس??ب م??ا ق??دمنا في ب??دء‬
‫نتاجها‪ ،‬وأن النمور ببالد النوبة عظيمة الخل??ق‪ ،‬وأن اإلب??ل ص??غيرة الخل??ق قص??يرة‬
‫القوائم‪ ،‬وأن ذلك كاتساع أرحام القالص العربي?ة‪ ،‬لف??والج كرم?ان وغيره??ا من إب?ل‬
‫خراسان‪ ،‬فيظهر بينهم??ا ويتول??د عنهم??ا الجم??ال البخت والجم??ازات ‪ ،‬وال ينتج? بين‬
‫بختى وبختية‪ ?،‬وإنما يصح هذا النوم من اإلبل بين فوالج اإلبل‪ ،‬وهي ذات‬
‫صفحة ‪217 :‬‬

‫الس??نامين‪ ،‬وبين قالص اإلب??ل‪ ،‬وهي الن??وق العربي??ة‪ ،‬وكنت??اج البخت بين البجاوي??ة‬
‫والمهرية‪ ،‬وللزرافة أخبار كثيرة قد ذكر ذلك ص??احب المنط??ق في كتاب??ه الكب??ير في‬
‫الحيوان ومنافع أعض?ائها وغ??ير ذل?ك من س?ائر أعض?اء الحي??وان‪ ،‬وق?د أتين?ا على‬
‫جميع ما يحتاج إليه من ذلك في كتابنا المترجم ب القضايا والتجارب‪.‬‬
‫وتوورها إلى أهلها‪ ،‬وهي كالفيلة‪ :‬منه??ا وحش?ية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫والزرافة عجيبة الفعل في إلفها‪،‬‬
‫ومنها مستأنس??ة أهلي??ة‪ ،‬م??ع من ق??دمنا ذك??ره من الزن??وج واألجن??اس من األح??ابش‬
‫الذين صاروا عن يمين النيل‪ ،‬ولحق??وا بأس??فل البح??ر الحبش??ي‪ ،‬وقطعت ال??زنج دون‬
‫يصب إلى بحر الزنج‪ ،‬فس??كنت‬ ‫ُّ‬ ‫سائر األحابش الخليج المنفصل من أعلى النيل الذي‬
‫الزنج في ذلك الصقع‪ ،‬واتصلت مساكنهم إلى بالد سفالة‪ ،‬وهي أقاصي بالد ال??زنج‪،‬‬
‫وإليها تقصد مراكب العمانيين والسيرافيين‪ ،‬وهي غاي??ة مقاص??دهم في أس?افل بح??ر‬
‫الزنج كما أن أقاصي بحر الصين متصل ببالد السيلي‪ ،‬وقد تقدم ذكره??ا فيم??ا س??لف‬
‫من هذا الكتاب‪ ،‬وك??ذلك أقاص??ي بح??ر ال??زنج ه??و بالد س??فالة‪ ،‬وأقاص??يه بالد ال??واق‬
‫واق‪ ،‬وهي أرض كثيرة الذهب‪ ،‬كثيرة العجائب‪ ،‬خصبة حارة‪.‬‬

‫وقليمي ملك الزنج‬

‫واتخذها الزنج دار مملك??ة‪ ،‬وملك??وا عليهم ملك??ا س??موه وقليمي‪ ،‬وهي س??مة لس??ائر‬
‫ملوكهم في سائر األعصار على ما قدمنا آنفا‪ ،‬وي??ركب وقليمي ‪ -‬وه??و يمل??ك مل??وك‬
‫سائر الزنوج ‪ -‬في ثلثمائة ألف فارس‪ ،‬ودوابهم البقر‪ ،‬وليس في أرض??هم خي??ل وال‬
‫بغ??ال وال إب??ل‪ ،‬وال يعرفونه??ا‪ ،‬وك??ذلك ال يعرف??ون الثلج وال??برد‪ ،‬وال غ??يرهم من‬
‫األحابش‪ ،‬ومنهم أجناس محددة األسنان يأكل بعضهم بعضاً‪.‬‬
‫ومس??اكن ال??زنج من ح??د الخليج المتش??عب من أعلى الني??ل إلى بالد س??فالة وال??واق‬
‫واق‪ ،‬ومقدار مسافة مساكنهم واتصال مقاطنهم في الطول والعرض نح??و س??بعمائة‬
‫فرسخ أودية وجبال ورمال‪.‬‬

‫صيد الفيلة‬

‫الزنج في نهاي??ة الك??ثرة‪ ،‬وحش??ية كله??ا غ??ير مستأنس??ة‪ ?،‬وال??زنج ال‬


‫ِ‬ ‫والفيلة في بالد‬
‫تستعمل? منها شيئا َ في حروب وال غيرها‪ ،‬بل تقتلها‪ ،‬وذلك أنهم يطرحون لها نوعا ً‬
‫من ورق الشجر ولحائه وأغصانه يكون بأرضهم في الماء‪ ،‬ويختفي رج??ال ال??زنج‪،‬‬
‫فترد الفيلة لشربها‪ ،‬فإذا وردت وشربت من ذلك الماء حرقها وأسكرها‪ ،‬فتق??ع‪ ،‬وال‬
‫مفاصل لقوائمها وال ركب على حسب ما ق?دمنا‪ ،‬فيخرج?ون إليه?ا ب?أعظم م?ا يك?ون‬
‫من الحراب فيقتلونها ألخذ أنيابها؛ فمن أراضيهم تجهز أني??اب الفيل??ة‪ ،‬في ك??ل ن??اب‬
‫منها خمسون ومائة َمنًّ ‪ ،‬ب?ل أك?ثر من ذل?ك واالثن?ان منه?ا ثلثمائ??ة َمنًّ ‪ ،‬وأك??ثر من‬
‫ذلك فيجهز األكثر منها من بالد عمان إلى أرض الصين والهن??د‪ ،‬وذل??ك أنه??ا تحم??ل‬
‫من بالد ال??زنج إلى عم??ان‪ ،‬ومن عم??ان إلى حيث ذكرن??ا؛ ول??وال ذل??ك لك??ان الع??اج‬
‫بأرض اإلسالم كثيراً‪ ،‬وأهل الصين يتخذ ملوكها وقوادها وأراكنتها األعمدة من‬
‫صفحة ‪218 :‬‬

‫قوادها وال أحد من خواصها على ملوكه??ا بش??يء من الحدي??د‪ ،‬ب??ل‬ ‫العاج‪ ،‬وال يدخل ِّ‬
‫بتل??ك األعم??دة المختلف??ة من الع??اج‪ ،‬ورغبتهم فيم??ا اس??تقام من أني??اب الفيل??ة ولم‬
‫يتقوس‪ ،‬التخاذ األعمدة منها على ما ذكرنا‪ ،‬ويستعمل? الع??اج في دخن بي??وت أص??ن‬
‫أمه ا وأبخرة هياكله?ا‪ ،‬كاس?تعمال النص?ارى في الكن?ائس الدخن?ة المعروف?ة بدخن?ة‬
‫مريم وغيرها من األبخرة‪ ،‬وأهل الصين ال يتخذون الفيل??ة في أرض??هم‪ ،‬ويتط??يرون‬
‫من اقتنائه??ا عن??دهم والح??رب عليه??ا؛ لخ??بر ك??ان لهم في ق??ديم الزم??ان في بعض‬
‫حروبهم‪.‬‬

‫لعب الشطرنج ومقامرة الهندبه‬


‫ص??ب الخن??اجر‪ ،‬وهي‬ ‫والهن??د كث??يرة االس??تعمال لم??ا يجه??ز إليهم من الع??اج في ُن ُ‬
‫الحراري‪ ،‬أحدها َح َري‪ ،‬وفي قوائم س??يوفها‪ ،‬وهي القراط??ل‪ ،‬وأح??دها قرط??ل‪ ،‬وهي‬
‫سيوف معوجة‪ ،‬واألغلب في استعمال الهند العاج اتخاذه??ا من??ه الش??طرنج? وال??نرد‪،‬‬
‫والشطرنج ذو صور وأشكال على صور الحيوان من الناطقين وغ?يرهم‪ ،‬ك?ل قطع?ة‬
‫الشطرنج كالشبر في عرض ذلك ب??ل أك??ثر‪ ،‬ف??إذا لعب??وا به??ا فإنم??ا يق??وم الواح??د‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫منهم قائما َ فينقلها في بيوته?ا‪ ،‬واألغلب عليهم القم?ار في لعبهم بالش?طرنج وال?نرد‬
‫على الثياب والجواهر‪ ،‬وربما أنفد الواحد منهم م??ا مع??ه فيلعب في َق ْط? ع عض??و من‬
‫أعضاء جسمه‪ ،‬وهو أن يجعلوا بحضرتهم قدرا ًمن النح?اس ص?غيرة على ن??ار فحم‬
‫فيها دهن لحم أحمر فيغلي ذلك الدهن المدمل للجراح والماس??ك لس??يالن الحم‪ ،‬ف??إذا‬
‫لعب في إصبع‪ ،‬من أصابعه وقُم َِر قطعها بذلك الخنج??ر‪ ،‬وه??و مث??ل الن??ار‪ ،‬ثم غمس‬
‫يده في ذلك الدهن‪ ،‬فكواها‪ ،‬ثم عاد إلى لعب??ه‪ ،‬ف??إذا توج??ه علي??ه اللعب أب??ان إص??بعا‬
‫ثانية‪ ،‬وربما توجه عليه اللعب في قطع األص??ابع والك??ف ثم ال??ذراع والزن??د وس??ائر‬
‫األطراف‪ ،‬وكل ذلك يستعمل فيه الكي بذلك الدهن وهو دهن عجيب يعمل من أخالط‬
‫وعقاقير بأرض الهند عجيب المعنى‪ ،‬لما ذكرنا‪ ،‬وم??ا ذكرن??اه عنهم فمس??تفيض من‬
‫فعلهم‪.‬‬

‫الفيل ببالد الهند‬

‫والهند تتخذ الفيلة في بالده??ا وتتن??اتج في أرض??ها‪ ،‬ليس فيه??ا وحش??ية‪ ?،‬وإنم??ا هي‬
‫حربية? ومس??تعملة? كاس??تعمال البق??ر واإلب??ل‪ ،‬وأكثره??ا ي??أوي إلى الم??روج والض??ياع‬
‫والغياض كالجواميس في أرض اإلسالم‪ ،‬والفيلة تهرب من المكان الذي يك??ون في??ه‬
‫الكرك?دن على حس?ب م??ا ق?دمنا‪ ،‬فال ت?رعى في موض??ع تش??م في??ه رائح?ة الكرك?دن‪،‬‬
‫ويعمر الفيل بأرض الزنج نحواً من أربعمائة سنة‪ ،‬كذلك يذكر ال??زنج؛ ألنه??ا تع??رف‬
‫في ديارها ومفاوزها‪ ،‬والفيل العظيم مما ال يتأتى لهم قتله‪ ،‬ومنها األسود واألبيض‬
‫واألبلق واألغبر‪ ،‬وفي أرض الهن??د منه??ا م?ا يعم??ر المائ??ة س??نة? والم??ائتين‪ ،‬ويض??ع‬
‫حمله في كل سبع سنين‪.‬‬

‫صفحة ‪219 :‬‬

‫حيوان الزبرق‬

‫ولها بأرض الهند آفة عظيمة نوع من الحيوان يع??رف ب?الزبرق‪ ،‬وهي داب??ة أص??غر‬
‫من الفهد أحم??ر ذو َز َغب وعي??نين براق??تين عجيب??ة س??ريع الوثب??ة‪ ،‬يبل??غ في وثبت?ه?‬
‫الثالثين واألربعين والخمسين ذراعاً‪ ،‬وأكثر من ذلك‪ ،‬فإذا أشرف على الفيل رشش‬
‫علي??ه بول??ه بذنب?ه? فيحرقه??ا‪ .‬وربم??ا لح??ق اإلنس??ان ف??أتى علي??ه‪ ،‬وفي الهن??د من إذا‬
‫أشرفت عليه هذه الدابة تعلق بأكبر ما يكون من شجر الساج‪ ،‬وهي أكبر من النخل‬
‫وأكبر من شجر الج??وز‪ ،‬تكِنّ الش??جرة منه??ا الخل??ق الكث??ير من الن?اس وغ??يرهم من‬
‫الحيوان على حسب م??ا يحم??ل إلى البص??رة والع??راق ومص??ر من خش??ب الس?اج في‬
‫طوله‪ ،‬فإذا تعلق اإلنسان بأعلى تلك الشجرة وعجز هذا الحيوان عن إدراك??ه لص??ق‬
‫باألرض ووثب إلى أعلى الشجرة‪ ،‬فإن لم يلحق اإلِنسان في وثبته? رشش من بول??ه‬
‫إلى أعلى الشجرة‪ ،‬وإال وضع رأسه في األرض وصاح صياحا ً عجيب ?اً‪ ،‬فيخ??رج من‬
‫فيه قطع دم ويموت من ساعته‪ ،‬وأي موضع من الشجرة سقط عليه بول??ه أحرق??ه‪،‬‬
‫وإن أصاب اإلنسان شيء من بوله أتلفه‪ ،‬وكذلك سائر الحيوان‪.‬‬

‫ومل??وك الهن??د تتخ??ذ في خزائنه??ا م??رارة ه??ذه الداب??ة‪ ،‬وم??ذاغيره‪ ،‬ومواض??ع من‬
‫أعضائه‪ ،‬وهو السم القاتل من ساعته‪ ،‬ومنه ما يسقى به السالح فيتلف من ف??وره‪،‬‬
‫ومذاغير هذه الدابة كمذاغير كلب الماء الذي يخرج منه الجند بادستر‪ ،‬وهذا الكلب‬
‫أم??ره مش??هور عن??د الص??يادلة وغ??يرهم‪ ،‬وه??و اس??م فارس??ي مع??رب‪ ،‬وإنم??ا هوكن??د‬
‫وتفسير? ذلك الخصية‪ ،‬فعرب فقيل جند بادستر‪.‬‬

‫والدابة المتقدم ذكرها المعروفة بالزبرق ال تأوي إلى موضع يك??ون في??ه النوش??ان‪-‬‬
‫وهو الكركدن‪ -‬وتهرب منه كما يهرب منه الفيل أيضاً‪ ،‬والفيل يهرب من الس??نانير‪?-‬‬
‫وهي القطاط‪ -‬وال يقف لها البتة إذا أبصرها‪ ،‬وقد ذكر عن ملوك الفرس أنها ك??انت‬
‫توقي الفيلة المقاتلة بالرجال??ة حوله??ا ومراع??اة حي??ل األع??داء عن??د الح??رب بتخلي??ة‬
‫السنانير عليه??ا‪ ،‬وك??ذلك أفع??ال مل??وك الس??ند والهن??د إلى ه??ذه الغاي??ة‪ ،‬وق??د ذك??ر أن‬
‫الخنازير ربما تهرب منها الفيلة‪.‬‬

‫?ل بالمولت??ان من أرض الس??ند ي??دعى ه??ارون بن موس??ى م??ولى األزد‪،‬‬ ‫وقد ك??ان رج? ِ‬
‫وك??ان ش??اعراَ ش??جاعا ً ذا رياس??ة في قوم??ه ومنع??ة ب??أرض الس??ند مم??ا يلي أرض‬
‫المولتان‪ ،‬وكان في حصن له‪ ،‬فالتقى مع بعض ملوك الهند وقد قدمت الهند أم أم??ه‬
‫ا الفيلة‪ ،‬فبرز هارون بن موسى أمام الصف وقصد لعظيم من الفيلة وق?د خب??أ تحت‬
‫ثوبه? سنورا‪ ،‬فلما دنا في حملته من الفيل خلى القط عليه‪ ،‬فو َلى الفي??ل منهزم?ا ً لم??ا‬
‫بصر بذلك الهر‪ ،‬وكان ذلك هزيمة? الجيش‪ ،‬وقتل الملك‪ ،‬وغلبة المسلمين عليهم‪،‬‬

‫صفحة ‪220 :‬‬

‫ولهارون بن موسى قصيدة يصف فيها ما ذكرناه وهي‪:‬‬


‫له فطن األسد في جرم فـيل‬ ‫أليس عجيبـا ً بـأن تـلـقـه‬
‫بحلم يجل عن الخنـشـبـيل‬ ‫وأطرف من نسـبـه زولـه‬
‫الحـويل‬
‫ِ‬ ‫غليظ الدراك لطيف‬ ‫أليس عجي َبـا َ بـأن تـلـقـه‬
‫طويل النيوب قصير النصيل‬ ‫وأرقص مختلـف خـلـقـه‬
‫فإن ناشب الهر من رأس ميل‬ ‫ويخضع لليث ليث الـعـرين‬
‫وجوف رحيب وصوت ضئيل?‬ ‫ويلقى العدو بنـاب عـظـيم‬
‫بخنزير بر وجامـوس غـيل‬ ‫وأشبـه شـيء إذا قـسـتـه‬
‫فما في األنام له مـن عـديل‬ ‫ينـازعـه كـــك ذي أريع‬
‫كما تعصف الريح بالعندبـيل‬ ‫ويعصف بال َب ْبر ِبعد النـمـور‬
‫فإن وصلوه فسيف صـقـيل‬ ‫وشخـص تـرى يده أنـفـه‬
‫بصوت شديد أمام الـرعـيل‬ ‫وأقبل كال َّط ْود هادي الخمـيس‬
‫بخطو خفيق وجـرم ثـقـيل‬ ‫فمر بسـيل كـسـيل االتـي‬
‫بشاعة أذنين في رأس غـول‬ ‫س ْم َته زاد فـي هـولـه‬ ‫فان ُ‬
‫قليل التهيب لـلـزنـدبـيك‬ ‫وقد كنت أعـددت هـراً لـه‬
‫أتانا اإلله بـفـتـح جـلـيل‬ ‫س به في الـعـجـاج‬ ‫أح َّ‬
‫فلما َ‬
‫بقلب نخيب وجسـم ثـقـيل‬ ‫وطـار وراغـ َم فـ َّيالـــه‬
‫إلـه األنـام ورب الـفـيول‬ ‫فسبحـان خـالـقـه وحـده‬

‫العندبيل‪?:‬‬
‫طائر صغير يك??ون ب??أرض الس??ند والهن??د‪ ،‬ت??ذكره الش??عراء في أش??عارها تمثال ب??ه‬
‫لصغره‬
‫والزندبيل‪:‬‬
‫هو العظيم من الفيلة والمقدم فيها‪،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن الزن??دبيل? ه??و اس?م لم?ا اش??تد في‬
‫الحرب من إناث الفيلة‪ ،‬وقد ذكر بعض الشعراء في هذا المعنى الزندبيل عن??د ذك??ره‬
‫للفيل فقال‪:‬‬
‫ذاك الذي مشفره طويل وهو من األفيال زندبيل‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫وفيلُ ُه كالطود زندبيل?‬
‫وق?د ذك?ر عم?رو بن بح?ر الجاح?ظ في كت?اب الحي?وان ه?ذه القص?يدة‪ ،‬وفس?ر بعض‬
‫أبياتها‪ ،‬وذكر في معنى الخنشبيل? وتفسيره? قول األنصاري في صفة النحل‪:‬‬
‫وفى مدر األرض عنها فضول‬ ‫تبيض العشـاء بـأذنـابـهـا‬
‫إذا عاجت الشاة والخنشـبـيل‬ ‫ويشبعها المص مص الـثـرى‬

‫قال‪ :‬وهذا غير قوله‪:‬‬


‫أني بنصل? الصيف َخ ْن َ‬
‫ش ِبيل‬ ‫قد علمت جارية ُع ْط ًبـول‬

‫صفحة ‪221 :‬‬

‫و الفيلة ال تنتج? وال تتوالد إال بأرض الزنج والهند‪ ،‬وال تعظم أنيابها ب??أرض الس??ند‬
‫والهند على حسب م??ا تعظم ب??أرض ال??زنج‪ ،‬وال??زنج تتخ??ذ من جل??ود الفيل??ة ال?دَوق‬
‫وكذلك الهند‪ ،‬وال يلحق ذلك في المنعة شيء من الدرق الصيني والتب??تي‪ ،‬واللمطي‬
‫والبجاوي‪ ،‬وال ما نقع في اللبن وغير ذلك من أنواع الدرق‪.‬‬
‫يوص??ل ُ الطع??ام والش??راب إلى َج ْوف??ه‪ ،‬وه??و ش??يء بين‬
‫َ‬ ‫وخرطوم??ه أنف??ه‪ ،‬وب??ه‬
‫إلغضروف واللحم والعصب‪ ،‬وبه يقاتل ويضرب‪ ،‬ومنه يصيح‪ ،‬وليس ص??وت الفي??ل‬
‫على مقدار عظم جسمه وكبر خلقه‪.‬‬

‫عناية المنصور بالفيلة‬


‫وقد كان المنصور ُعني بجم?ع الفيل??ة لتعظيم المل??وك الس?الفة إياه?ا واقتنائه??ا له?ا‪،‬‬
‫وإعدادها للحروب والزينة في األعياد وغيرها؛ فإنه??ا أوط??أ م??راكب المل??وك و أم??ه‬
‫دُها‪ ،‬وأخبرني بعض الكتاب ممن يرجع إلى أدب وعقل ومعرفة بأيام الناس بمدين ?ة?‬
‫الس??الم‪ ،‬أن??ه اش??ترى بغل??ة في غاي??ة ال َف َراه??ة والحس??ن‪ ،‬فك??ان يركبه??ا في مهمات?ه?‬
‫وتص??رفاته‪ ،‬وك??انت إذا رأت الجم??ال ال ُب ْخت أو الع??راب من ال َع َّمال??ة أو غيره??ا في‬
‫ش َّب ْت‪ ،‬وكان يلقي منها جهدأ جهيدأ فيصبر? على ذلك المك??روه‪ ،‬لم??ا‬ ‫الطريق نفرت َو َ‬
‫هي علي??ة من الفراه??ة والحس??ن‪ ،‬وأن??ه ال يحمل??ه غيره??ا لعظم جس??مه وك??بر بطن??ه‬
‫وسمنه قال‪ :‬فلما كان في بعض األيام اجتزت باب الط??اق‪ -‬وذل??ك في أي??ام المقت??در‪،‬‬
‫وق???د أخ???رج الفيل???ة للرياض???ة والتمهي???د وليحم???ل عليه???ا الليث بن علي الص???فار‬
‫وأص??حابه‪ ،‬وق??د ك??ان م??ؤنس المظف??ر الخ??ادم أس??ره ببالد ف??ارس حين خ??رج على‬
‫ت منهزم??ة خائف??ة من الفي??ل‪،‬‬ ‫السلطان‪ -‬ق??ال‪ :‬فأش??رفت على قط??ار من الجم??ال ال ُب ْخ ِ‬
‫تجمز في مشيتها‪ ،‬السبيل لمن عليه??ا أن يحبس??ها لم??ا ق??د لحقه??ا من الج??زع‪ ،‬فلم??ا‬
‫ش ?ئت َو َولت على عقبه??ا‪َ ،‬ورمت بي األرض ف??وقعت كجل??د ث??ور‬ ‫رأت البغل??ة ذل??ك َ‬
‫منفوخ‪ ?،‬ودخلت الجمال إلى درب ال ينف??د‪ ،‬وق??د ك??انت البغل??ة حين رمت بي ونف??رت‬
‫من الجمال دخلت ذلك الدرب‪ ،‬وجاءت الفيلة على أثر ذلك‪ ،‬فلم??ا نظ??رت البغل??ة إلى‬
‫الفيل??ة وعظم خلقه??ا لحقت بالجم??ال ودخلت بينه??ا كأنه??ا لم ت??زل معه??ا وتزل??زلت‬
‫كتزلزل الجمال‪ ،‬إذ رآني جماعة من الناس‪ ،‬فرفعوني‪ ،‬ودخل الغالم فأخرج البغل??ة‪،‬‬
‫وما استطاع إخراجها حتى مضت الفيلة‪ ،‬وأخ??رجت من وس??ط بعض الجم??ال‪ ،‬فوهّللا‬
‫ما نفرت بع?د ذل?ك من جم?ل‪ ،‬وق?د ألفت الجم?ال ح?تى كأنه?ا بعض?ها؛ الستص?غارها‬
‫صورة الجمل عن ما شاهدت من عظم صورة الفيل‪.‬‬

‫عود إلى وصف الفيل‪:‬‬


‫وكل حيوان في لسان فأصل لسانه إلى داخل‪ ،‬وطرف??ه إلى خ??ارج‪ ،‬إال الفي??ل؛ ف??إن‬
‫خارج‪ ،‬والهند تزعم أنه لوال أن لسانه مقلوب ثم‬ ‫ِ‬ ‫طرف لسانه إلى داخل وأصله إلى‬
‫ف الفيل وتفضله على سائر الحيوان‪ ،‬لم??ا اجتم??ع في??ه‬ ‫لقن الكالم لتكلم‪ ،‬والهند ُت ِّ‬
‫شر ُ‬
‫من الخصال المحمودة‪ :‬من عل??و س?مكه‪ ،‬وعظم ص??ورته‪ ،‬وب?ديع منظ?ره‪ ،‬واتص??ال‬
‫س َعة أذنه‪ ،‬وكبر غرموله‪ ،‬مع خفة وطئه‪ ،‬وطول‬ ‫ص ْه َوته‪ ?،‬وطول خرطومه‪ ،‬و َ‬ ‫َ‬
‫صفحة ‪222 :‬‬

‫عمره‪ ،‬وثقل جسمه‪ ،‬وقلة اكتراثه بما وضع على ظهره‪ ،‬وأنه‪ -‬مع كبر هذا الجس??م‬
‫وعظم ه??ذه الص??ورة‪ -‬يم?ر? باإلنس??ان فال يحس بوطئ??ه‪ ،‬وال يش??عر ب??ه ح??تى يغش??اه‬
‫لحسن خطوته واستقامة مشيه‪.‬‬

‫وقد وص??ف عم??رو بن بح?ر الجاح??ظ الفي??ل في كت?اب الحي?وان ف?أغرق في وص?فه‪،‬‬
‫وأكثر في مدحه‪ ،‬وعدد مع??اني كث??يرة في ص??فة الفي??ل وهيئت??ه‪ ?،‬وم??ا ه??و علي??ه من‬
‫عجيب التركيب وغريب التأليف‪ ،‬والمعاني الصحيحة‪ ،‬واإلحساس??ات اللطيف??ة‪ ،‬وفي‬
‫قبولها التأديب وصحة تمييزها وسرعتها إلى التلقين والتقويم‪ ،‬وما في أب??دانها من‬
‫األعضاء الكريمة‪ ،‬واألجزاء الشريفة‪ ،‬وكم مقدار منافعها‪ ،‬ومبلغ مض??ارها‪ ،‬وبتل??ك‬
‫الفض??يلة من اإلحس??اس ف??اقت تل??ك األجن??اس‪ ،‬وم??ا فيه??ا من اآلي??ات والبرهان??ات‬
‫والعالمات النيرات التي جالها هّللا لعي??ون خلق??ه‪ ،‬وف??رق بينه??ا وبين عق??ول عب??ادة‪،‬‬
‫وقيدها عليهم‪ ،‬وحفظها لهم‪ ،‬لتكثر لهم‪ ،‬وتزيد بهم إلى وضوح الحج??ة‪ ،‬وتس??خرهم‬
‫لتم??ام النعم??ة‪ ،‬وم??ا ذك??ر هّللا في الكت??اب الن??اطق والخ??بر الص??اعق‪ ،‬وفي اآلث??ار‬
‫المعروف??ة‪ ،‬واألمث??ال المض??روبة‪ ?،‬والتج??ارب الص??حيحة‪ ،‬وم??ا ق??الت الش??عراء في??ه‪،‬‬
‫ونطقت به الفصحاء‪ ،‬وميزته العلماء‪ ،‬وعجبت منه الحكماء‪ ،‬وحالها عن??د المل??وك‪،‬‬
‫وموضع نفعها عند الحروب‪ ،‬وتباينها في العلوم‪ ،‬وجاللتها في الصدور‪ ،‬وفي طول‬
‫أعماره??ا‪ ،‬وق??وة أب??دانها‪ ،‬وفي اع??تز أم??ه ا وتص??ميمها وأحقاده??ا وش??دة اكتراثه??ا‪،‬‬
‫الس??قاط واقتن??اء الس??فلة واألراذل وعن‬ ‫وطلبه??ا بطوائله??ا‪ ،‬وارتفاعه??ا عن مل??ك ُّ‬
‫ارتخاص?ها في الثمن‪ ،‬وارتباطه?ا على الخس?ف‪ ،‬وابت?ذالها‪ ،‬وإذالله?ا‪ ،‬وعن امتن?اع‬
‫طبائعها‪ ،‬وتمنع? غرائزها أن تصلح أبدانها وتنبت أنيابها وتعظم جوارحها وتتس??افد‬
‫وتتالقح إال في معادنها وبالدها ومغارس أعراقها‪ ،‬مع التماس المل??وك ذل??ك منه??ا‪،‬‬
‫وطمع الق??وم عليه??ا ب?التقرب ب?ذلك منه??ا‪ ،‬ح??تى أعج??زت الحي??ل‪ ،‬وخ?رجت عن ح?د‬
‫الطمع‪ ،‬وعن األخبار عن حملها ووضعها ومواض??ع أعض??ائها‪ ،‬وال??ذي خ??الفت في??ه‬
‫األش??كال األربع??ة ال??تي تحي??ط ب??الجميع مم??ا يس??تناخ‪ ?،‬أو يق??وم أو يمش ?ي? أو يط??ر‪،‬‬
‫وجميع ما ينتق??ل عن أولي??ة خلق??ه‪ ،‬وم??ا يبقى على الطب??ع األول من ص??ورته وعم??ا‬
‫?ع الحي??وان‪ ،‬وعن الق??ول في ش??دة‬ ‫يتنازعه من شبه الحيوان‪ ،‬وما يخ??الف في??ه جمي? ِ‬
‫َ‬
‫وأح? ُذ ظف??رأ وذرب لس??انا ً‬
‫قلبه وأسره وفي حدته على ما هو أعظم بدنا َ وأش??د قلب?ا ً َ‬
‫وهربه? مما هو أصغر جسماً‪ ،‬وأكل ُّ حداً‪ ،‬وأضعف أسراً‪ ،‬أخمل ذك??راً‪ ،‬وعن األخب??ار‬
‫عن خص?اله المذموم?ة‪ ?،‬وأم?وره المحم?ودة‪ ،‬وعن الق?ول في لون??ه وجل??ده وش??عره‬
‫ولحم??ه وش??حمه وعظم??ه وبول??ه و َن ْج? ِوه‪ ،‬وعن لس??انه وفم??ه‪ ،‬م??ع غ??ير ذل??ك من‬
‫المواعي??د الكث??يرة ال??تي تض??منت إيراده??ا‪ ،‬فلم??ا أنتهي إلى موض??ع نظمه??ا وإي??راد‬
‫وصفها وما أسلفه من الق??ول في ه??ذه المع??اني ال??تي ق?دًمها أورد جوام??ع متفرق??ة‪،‬‬
‫ولمعا ً غير متسقة في الفيلة وغيرها‪ ،‬وأعرض عن إِيراد خواص أعضائها‪ ،‬وأك??ثر‬
‫منافعها‪ ،‬وعجيب خصالها‪ ،‬وما ذك?ر من أس??رار الطبيع??ة فيه?ا‪ -‬وم??ا قالت??ه فالس?فة‬
‫الهند في بدْ ئها‪ ،‬وما أثرته عمن تقدم من حكمائه??ا في ب??دء أوليته??ا وعل??ة تكوينه??ا‬
‫في أرض الزنج والسند‪ ،‬دون سائر البقاع من األرض‪ ،‬والسبب المانع لتكونه??ا في‬
‫غيرها‪ ،‬والتضاد الذي بينها وبين الكركدن مع عظم خلقهاِ‪ ،‬وفرارها من السنور‪،‬‬
‫صفحة ‪223 :‬‬

‫مع صغر حجم جسمه ولطافة منظره‪ ،‬وعن كثرة الطرب الذي يوجد في الفي??ل دون‬
‫غيره من الحيوان‪ ،‬وقبولها الرياضة والدربة والمعرف??ة عن??د المح??اورة‪ ،‬وال??دهاء‪،‬‬
‫والخبث‪ ،‬والتمييز‪?.‬‬
‫وقد ذكر صاحب المنط?ق في كت?اب الحي?وان جمالً كث?يرة من خص?ال الفي?ل ومن?افع‬
‫أعضائه‪ ،‬وسلك طريقة لم يسلكها من تق??دم من حكم??اء الهن??د في الفي??ل‪ ،‬وم??ا ذهب‬
‫إلي??ه حكم??اء الهن??د من أن الع??الم بم??ا في??ه من األجس??ام على جه??ات ثالث‪ :‬متف??ق‪،‬‬
‫?ام‪ ،‬وإخ??راجهم عن الع??الم‪-‬‬
‫ومختل??ف‪ ،‬ومض??اد‪ ،‬وأن ذل??ك في الجمل??ة ه??و جم??اد ون? ٍ‬
‫األفالك والنجوم والبروج وغير ذلك من األجسام السماوية‪ ،‬وأنها ليست بجم??اد وال‬
‫نام‪ ،‬وأنها أحياء ناطقة‪.‬‬
‫عود إلى وصف الزنج‬
‫قال المسعودي‪ :‬فل??نرجع اآلن إلى م??ا كن??ا في??ه آنف??ا في ص??در ه??ذا الب??اب‪ ،‬من ذك??ر‬
‫ال??زنج وبالدهم وغ??يرهم من ال??زنج أو األح??أبش‪ ،‬ف??الزنج م??ع ك??ثرة اص??طيدها لم??ا‬
‫ذكرنا من الفيل?ة وجمعه?ا لعاجه?ا‪ -‬غ?ير منتفع??ة بش??يء من ذل?ك في آالته??ا‪ ،‬وإنم?ا‬
‫تتحلى الزنج بالحدي??د ب??دالً عن ال??ذهب والفض??ة‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من دوابهم أنه??ا بق??ر‪،‬‬
‫وأنهم عليه??ا يتق??اتلون ب??دالً من اإلب??ل والخي??ل‪ ،‬وهي بق??ر تج??ري كالخي??ل بس??روج?‬
‫ولُ ُجم‪ ،‬ورأيت بالري نوعا‪ ،‬من هذا البقر يبرك كما يبرك الجمل‪ ،‬ويثور بجمل??ه كم??ا‬
‫تث??ور? اإلب??ل إذا اس??تقلَّت بأحماله??ا‪ ،‬وه??ذا الن??وع من البق??ر يحم??ل علي??ه الميت??ة من‬
‫الحيوان كالخيل واإلبل والحمير والبغال‪ ،‬ومالكها نوع من المجوس ْ‬
‫مز َدقي??ة‪ ،‬ولهم‬
‫خارج الري قرية ال يسكن معهم فيها غيرهم‪ ،‬فإذا مات بالري أو َق ْز ِوين شيء مم??ا‬
‫ذكرنا من البهائم ورد الواحد منهم مع ثوره فأناخه‪ ،‬وحمل عليه تلك الجيفة وس??ار‬
‫به??ا إلى قريت??ه‪ ،‬ف??أكلُهم منه??ا‪ ،‬وبني??انهم من ع??ظ أم??ه ا‪ ،‬ويحفف??ون من لحمه??ا م??ا‬
‫يدخرونه? لشتائهم‪ ،‬فأكثر أكلهم وأكل بق?رهم من تل?ك ال ًّل ْح َم?ان رط َب? ا َ ويابس?اً‪ ،‬وه?ذا‬
‫النوع من البقر الغالب عليه حمرة الحدق‪ ،‬وسائر البقر تنفر وتهرب من هذا البقر‪،‬‬
‫والص? ْفر‪ ،‬ق?د خ?زمت فيه?ا‬ ‫ُّ‬ ‫ورأيت بأصبهان وقدم منها م??ا في أنوفه?ا حل?ق الحدي??د‬
‫الحبال‪ ،‬وخطمت بها كما يفعل بالجم?ال البخت‪ ،‬وك?ذلك ب?الري رأيت ث?وراً منه?ا ق?د‬
‫النوع‪ ،‬فلما رآه قد قصده قام فزعا ً من هذا الجنس‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عدا نحو ثور من غير هذا‬
‫وليس في سائر أنواع البقر ما يأوي المياه والجزائر والبحيرات إال البقر المعروف‬
‫الحبشية? التي تكون ببالد مصر? وأعمالها‪ ،‬وبحيرة تنيس ودمي??اط وم??ا اتص??ل بتل??ك‬
‫الع َج? ل‪ ،‬في‬
‫الديار‪ ،‬وأما الجواميس فإنه??ا ب??الثغر الش??امي تج??ر أك??بر م??ا يك??ون من َ‬
‫ص ْفر على م??ا ذكرن??ا من البق??ر‪ ،‬وك??ذلك منه??ا ببالد إنطاكي??ة‪،‬‬ ‫أنوفها حلق الحديد وال ُ‬
‫وأكثر ذلك ببالد السند والهند وطبرستان‪ ،‬و ْق??رون تل??ك البق??ر أك??بر من ق??رون ه??ذه‬
‫الجواميس التي بأرض اإلسالم‪ ،‬وطول القرن منها نحو ال??زراع وال??ذراعين وك??ذلك‬
‫الجواميس كثيرة بأرض الع??راق مم??ا يلي طف??وف الكوف??ة والبص??رة والبط??ائح وم??ا‬
‫اتصل بهذه الديار‪ ،‬والناس يذكرون عنقاء ًم ْغرب ويصورون العنقاء في الحمام??ات‬
‫وغيرها‪ ،‬ولم أجد أحدا في ه??ذه الممال??ك ممن ش??اهدته أو نمي? إلي خ??بره ذك??ر أن??ه‬
‫رآها‪ ،‬ولست أدري كيف ذلك‪ ،‬ولعله اسم ال مسمى له‪.‬‬
‫صفحة ‪224 :‬‬

‫تفسير? لقب ملك الزنج‬

‫ولنرجع اآلن إلى أخبار الزنج وأخبار ملوكها‪ :‬فأما تفسير اسم ملك الزنج‪-‬الذي هو‬
‫وقليمي‪ -‬فمعنى ذلك ابن الرب الكبير‪ ،‬ألنه اخت??ار لملكهم والع??دل فيهم‪ ،‬فم??تى ج??ار‬
‫الملك عليهم في حكمه وحاد عن الحق قتلوه وحرموا عقبه المل??ك‪ ،‬ويزعم??ون أن??ه‬
‫إذا فع??ل ذل??ك فق??د بط??ل أن يك??ون ابن ال??رب ال??ذي ه??و مل??ك الس??موات واألرض‪،‬‬
‫ويسمون الخالق عز وجل ملكنجلو‪ ،‬وتفسيره ال??رب الكب??ير‪ ،‬وال??زنج أول??و فص??احة‬
‫في ألسنتهم‪ ،‬وفيهم خطب??اء بلغتهم‪ ،‬يق??ف الرج??ل الزاه??د منهم فيخطب على الخل??ق‬
‫الكثير منهم‪ ،‬ويرغبهم في القرب من بارئهم‪ -،‬ويبعثهم على طاعت??ه‪ ،‬وي??رهبهم من‬
‫عقاب??ه وص??ولته‪ ،‬وي??ذكرهم من مض??ى من مل??وكهم وأس??الفهم‪ ،‬وليس لهم ش??ريعة‬
‫يرجعون إليها‪ ،‬بل رسوم لملوكهم‪ ،‬وأن??واع من السياس?ات يسوس?ون به?ا رعيتهم‪،‬‬
‫وأكلهم الموز‪ ،‬وهو ببالدهم كثير‪ ،‬وكذلك بأرض الهن??د‪ ،‬الغ??الب على أق??وات ال??زنج‬
‫الذرة‪ ،‬ونبت يقال له الكالري يقلع من األرض‪ :‬كالكمأة‪ ،‬والراسن‪ ،‬ومنه? كثير ببالد‬
‫ع?دن وم??ا اتص??ل به?ا من أرض اليمن‪ ،‬ويش?به? ه??ذا الكالري القلق?اس ال?ذي يك?ون‬
‫ه?وي منهم ش?يئا َ من نب?ات‬
‫َ‬ ‫بالشام ومصر‪ ،‬ومن غذائهم أيضا العس?ل واللحم‪ ،‬ومن‬
‫آو حيوان أو جماد يجده‪ ،‬وجزائرهم في البح??ر ال تحص??ي ك??ثرة‪ ،‬وفيه??ا الن??ار جي??ل‬
‫يعم أكله سائر الزنج‪ ،‬ومن بعض تلك الجزائر جزيرة بينها وبين ساحل الزنج نح??و‬
‫من يوم أو يومين‪ ،‬فيها خالئق من المسلمين يتوارثه??ا مل??وك من المس??لمين‪ ،‬يق??ال‬
‫لها قنبلو‪ ،‬على حسب ما ذكرنا من أمرها في هذا الكتاب‪.‬‬

‫مساكن النوبة‬

‫وأما النوبة فافترقت فرقتين‪ :‬فرقة في شرق الني??ل وغربي??ة‪ ?،‬وأن??اخت على ش??طيه‪،‬‬
‫فاتص?لت دياره?ا ب?ديار القب?ط من أرض مص?ر والص?عيد من بالد أس?وان وغيره?ا‪،‬‬
‫واتس??عت مس??اكن النوب??ة على ش??اطئ الني??ل مص??عدة‪ ،‬ولح?اقوا بق??ريب من أعالي??ه‪،‬‬
‫وبنوا دار مملكة‪ ،‬وهي مدينة? عظيمة تدعئ دنقلة‪ ،‬والفريق األخر من النوب??ة يق??ال‬
‫لهم علوة‪ ،‬وبنوا مدينة عظيمة وسموها سرية‪?.‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬وانتهيت? في تصنيفي إلى ه?ذا الموض??وع من كتابن??ا ه?ذا في ش?هر‬
‫ربيع األخر سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ،‬وكنت بفس??طاط مص??ر ف??أخبرت أن المل??ك‬
‫في مدينة دنقلة للنوبة كابل بن سرور‪ ،‬وهو ملك أبن ملك ابن ملك فصاعدا وملك??ه‬
‫يحتوي على ما قرة وعلوة‪ ،‬والبلد المتصل بمملكته بأرض أسوان يع??رف بم??ريس‪،‬‬
‫وإليه تضاف الريح المريس??ية‪ ?،‬وعم??ل ه??ذا المل??ك متص?ل? بأعم??ال مص??ر من ارض‬
‫الصعيد ومدينة? أسوان‪.‬‬

‫صفحة ‪225 :‬‬

‫البجة‬

‫وأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل? مص??ر‪ ،‬وتش??عبوا فرق??ا‪ ،‬وملك??وا عليهم‬
‫?رد‪ ،‬وتتص?ل? س??راياهم‬ ‫ملكا‪ ،‬وفي أرضهم معادن الذهب‪ ،‬وه??و الت??بر‪ ،‬ومع??ادن الزم? ّ‬
‫ب إلى بالد النوبة‪ ،‬فيغ??يرون وس??بون‪ ،‬وق??د ك??انت النوب??ة قب??ل‬ ‫ومناسرهم على ال ُّن ُج ِ‬
‫ذلك أش??د من البج??ة‪ ،‬إلى أن ق??وتي اإلس??الم وظه??ر‪ ،‬وس??كن جماع??ة من المس??لمين‬
‫معدن الذهب وبالد العالة وعالقي و عيذاب‪ ،‬وسكن في تلك الديار خل??ق من الع??رب‬
‫من ربيع??ه بن ن??زار بن مع??د بن ع??دنان‪ ،‬فاش??تدت ش??وكتهم‪ ،‬وتزوج??وا في البج??ة‪،‬‬
‫فق??ويت البج??ه بمن ص??اهرها من ربيع??ه‪ ?،‬وق??ويت ربيع??ه بالبج??ة على م??ا ناوأه??ا‬
‫وجاورها من قحطان وغيوهم من مضر بن نزار ممن س??كن تل??ك ال??ديار‪ ،‬وص??احب‬
‫المعدن شي وقتنا ه?ذا‪ -‬وه?و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثماث?ة‪ ?-‬أب??و م?روان بش?ر بن‬
‫إس??حاق‪ ،‬وه??و من ربيع??ه‪ ،‬ي??ركب في ثالث??ة آالف من ربيع??ه وأحالفه??ا من مض??ر‬
‫واليمن وثالثين أل????ف ح????راب على ال ُّن ُجب من البج????ة ب????الحجف البجاوي????ة‪ ،‬وهم‬
‫الحداربة‪ ،‬وهم المسلمون ممن بين سائر البجة‪ ،‬وباقي البج??ة كف?ار يعب?دون ص?نما‬
‫لهم‪.‬‬

‫الحبش‬

‫وأما الحبشة? فاسم مملكتهم كعبر وهي مدين?ة? عظيم??ة‪ ،‬وهي دار مملك??ة النجاش??ي‪،‬‬
‫وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة‪ ،‬يتصل? مل??ك النجاش??ي ب??البحر الحبش??ي‪ ،‬ولهم‬
‫ساحل لهم فيه مدن كثيرة‪ ،‬وهو مقابل لبالد اليمن‪ :‬فمن مدن الحبشة? على الس??احل‬
‫الزيل??ع وال??دهلك وناص??ع‪ ،‬وه??ذه م??دن فيه??ا خل??ق من المس??لمين إال أنهم في ذم??ة‬
‫الحبشة‪ ،‬وبين ساحل الحبشة ومدين??ة غالفق?ة‪ -‬وهي س?احل زبي?د من أرض اليمن‪-‬‬
‫ثالثة أيام عرض البح??ر بين الس??احلين‪ ،‬ومن ه??ذا الموض??ع ع??برت الحبش??ة البح??ر‬
‫حين ملكت اليمن في أي??ام في ن??واس وه??و ص??احب األخ??دود الم??ذكور في الق??رآن‪،‬‬
‫وصاحب زبيد في وقتنا هذا إبراهيم بن زياد صاحب الحرملي ومراكب??ه تختل??ف إلى‬
‫ساحل الحبشة‪ ?،‬وتركب فيه?ا التج?ار باألمتع?ة‪ ،‬وبينهم مهادن?ة‪ ،‬وه?ذا الموض?ع من‬
‫البحر بين هذين الشطين‪ -‬أعني ساحل اليمن‪ ،‬وساحل الحبش?ة‪ ?-‬أق?ل المواض?ع في?ه‬
‫عرضاً‪ ،‬وهنالك جزائر بين هذين الساحلين‪ :‬منها جزيرة العقل‪ ،‬يقال‪ :‬إن فيها م??اء‬
‫يعرف بماء العقل‪ ،‬يستسقي منه أرباب الم??راكب‪ ،‬ويفع??ل في الق??رائح وال??ذكاء فعالً‬
‫جميال‪ ،‬وقد ذكر بعض الفالسفة المتقدمين ما يفعل هذا الماء ومال??ه من الخ??واص‪،‬‬
‫وذكر علة ذلك‪ ،‬وقد أتين?ا على الخ?بر في كتابن?ا "أخب?ار أخب?ار الزم?ان عن?د ذكرن?ا‬
‫ألخبار المتطببين في تجاربهم وما كان من قضاياهم في عالج??اتهم ممن س??لف قب??ل‬
‫ظهور اإلسالم وغيرهم ممن اتصل بالملوك والخلفاء بعد ظهور الش??رع‪ ،‬وق??د غلب‬
‫ابن زياد على هذه الجزيرة‪ ،‬وله في هذا الوقت رجال مرتبون فيها من أصحابه‪.‬‬

‫صفحة ‪226 :‬‬

‫جزيرة سقرطة وسكانها‬


‫وفي هذا البح??ر مم??ا يلي بالد ع??دن جزي??رة تع??رف بس??قطرة‪ ،‬إليه??ا يض??اف الص??بر‬
‫الس??قطري‪ ،‬وال يوج??د إال فيه??ا‪ ،‬وال يحم??ل إال منه??ا‪ ،‬وق??د ك??ان أرس??طاطاليس بن‬
‫نقوماخس كتب إلى اإلسكندر بن فيلبس حين سار إلى الهند في أم??ر ه??ذه الجزي??رة‬
‫يوصيه بها‪ ،‬وأن يبعث إليها جماع??ة من اليون??انيين يس??كنهم فيه??ا من أج??ل الص??بر‬
‫السقطري الذي يقع في األيارجات وغيرها‪ ،‬فص َّير اإلسكندر إلى هذه الجزيرة خلق??ا ً‬
‫من اليون???انيين أك???ثرهم من مدين???ة ارس???طاطاليس بن نقوم???اخس‪ ،‬وهي مدين???ة‬
‫اسطاغر‪ ،‬في المراكب بأهليهم في بحر القلزم‪ ،‬فغلبوا على من ك??ان به??ا من مل??وك‬
‫الهند‪ ،‬وملكوا الجزيرة‪ ،‬وكان للهن??د به??ا ص??نم عظيم‪ ،‬فنق??ل ذل??ك الص??نم في أخب??ار‬
‫يطول ذكرها‪ ،‬وتناسل من ب?الجزيرة من اليون?انيين فيه?ا‪ ،‬ومض?ى اإلس?كندر فظه?ر‬
‫المسيح فتنصر? من كان به??ا إلى ه??ذا ال??وقت‪ ،‬وليس في ال??دنيا‪ -‬وهّللا أعلم‪ -‬موض??ع‬
‫فيه قوم من اليونانيين يحفظون أنسابهم لم ُيدَ اخلهم في أنسابهم رومي وال غ??يرهم‬
‫غير أهل هذه الجزيرة‪ ،‬وهم في هذا الوقت تأوي إليهم بوارج الهند الذين يقطع??ون‬
‫على المس??لمين في ه??ذه الب??وارج‪ -‬وهي الم??راكب‪ -‬على من أراد الص??ين والهن??د‬
‫وغيرها كما يقطع الروم في الشواني على المسلمين في البحر ال??رومي من س??احل‬
‫الشام ومصر‪ ?،‬ويحمل من جزي??رة س??قطرة الص??بر الس??قطري وغ??يره من العق??اقير‪،‬‬
‫ولهذه الجزيرة أخبار عجيبة‪ ،‬ولما فيها من خواص النبات وللعقاقير ق??د أتين??ا على‬
‫كثير من ذكرها فيما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫بقية أجناس السودان‬

‫وأم??ا غ??ير ه??ؤالء من الحبش??ة ال??ذين ق??دمنا ذك??رهم من أمعن في المغ??رب ‪ -‬مث??ل‬
‫الزغاوة والكوكو والقراقر ومديدة ومريس والمبرس والمالنة والقوم??اطي ودويل??ة‬
‫والقرمة‪ -‬ذلكل واحد من هؤالء وغيرهم من أنواع األحابش ملك‪ ،‬ودار مملكة‪.‬‬
‫وقد أتيناء على ذكر جميع أجن??اس الس??ودان وأن??واعهم ومس??اكنهم ومواض??عها من‬
‫الفل??ك‪ ،‬وألي??ة عل??ة تفلفلت ش??عورهم واس??ودت أل??وانهم‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من أخب??ارهم‬
‫وأخبار ملوكهم وعجائب سيرهم وتشعبهم في أنسابهم‪ ،‬في كتابنا أخبار الزمان في‬
‫الفن األول من جمل??ة الثالثين فن?اً‪ ،‬ثم في الكت??اب األوس??ط مم??ا لم ن??ذكره في كتابن??ا‬
‫أخبار الزمان من أخبارهم‪ ،‬وذكرنا في ه??ذا الكت?اب م??اال يس??ع ت?رك إي?راده في?ه وال‬
‫تعريته? منه‪?.‬‬

‫بين النوبة وفاتح مصر‬

‫قال المس??عودي‪ :‬وق??د ك??ان عم??ر بن الخط??اب رض??ي هّللا عن??ه لم??ا افتتح عم??رو بن‬
‫الع??اص مص??ر كتب إلي??ه بمحارب?ة? النوب??ة‪ ،‬فغ??زاهم المس??لمون‪ ،‬فوج??دوهم يرم??ون‬
‫الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم‪ ،‬حتى ص??رف عن مص??ر‪ ،‬ووليه??ا عب??د‬
‫هّللا بن سعد‪ ،‬فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة‪ ،‬مما يسبي هذا الملك‬
‫صفحة ‪227 :‬‬

‫المجاور للمسلمين من غيرهم من ممالك النوبة المقدم ذكرها فيما س??لف من ص??در‬
‫هذا الباب المدعو بملك مريس وغيرها من أرض النوبة‪ ،‬فص??ار م??ا قبض من ?ه? من‬
‫س ّن ًة جارية في كل سن ٍة إلى هذه الغاية يحمل إلى صاحب مصر وي??دعى ه??ذا‬ ‫السبي َ‬
‫السبي في العربيه? بأرض مصر والنوب??ة بالبق??ط‪ ،‬وعم??د ذل??ك ثلثمائ??ة رأس وخمس‬
‫وستون رأسا‪ ،‬وأراه رسم على عدد أي??ام الس??نة‪ ،‬ه??ذا ل??بيت م??ال المس??لمين بش??رط‬
‫بينهم وبين النوبة‪ ،‬ولألمير? بمصر غير م??ا ذكرن??ا من ع??دد الس??بي أربع??وت‬ ‫ِ‬ ‫الهدنة‬
‫رأسا‪ ،‬ولخليفته? المقيم ببالد أسوان المجاورة ألرض النوب??ة‪ ?،‬وه??و المت??ولي لقبض‬
‫هذا البقط‪ ،‬وهو السبي‪ ،‬عشرون رأسا ً غير األربعين‪ ،‬وللحاكم المقيم بأسوان ال??ذي‬
‫ض البق??ط خمس??ة رؤوس غ??ير العش??رين ال??تي يقبض??ها‬ ‫يحضر مع أم??ير أس??وان َق ْب ُ‬
‫األمير‪ ،‬والثني عشر شاهداً عدوالً من أهل أسوإن يحضرون مع الح??اكم حين قبض‬
‫جرى به الرسم في صدر اإلسالم في بل??د‬ ‫َ‬ ‫البقط اثتا عشر رأسا ً من السبي حسب ما‬
‫إيقاع الهدنة بين المسلمين النوبة‪ ،‬والموضع الذي يتسلَّم فيه ه??ذا البق??ط ويحض??ره‬
‫من سميناه وغ??يرهم من النوب?ة? من ثق??ات المل??ك يع??رف بالقص??ر‪ ،‬وه??و على س??تة‬
‫أميال من مدينة? آسوان ب??القرب من في ي??رة بالق‪ ،‬وبالق ه??ذه مدين?ة? في الموض??ع‬
‫المعروف بالجنادل من الجبال واألحجار‪ ،‬وهذه المدينة في هذه الجزي??رة يحي??ط به??ا‬
‫ماء النيل كإحاطة ماء الفرات بالمدن التي في الجزائ??ر الكائن??ة بين َر ْح َب??ة مأل?ك بن‬
‫َط ْوق و َه ْيت‪ ،‬وهي ناوسة وعانة والحديثة‪ ،‬وفي مدينة? بالق خلق كث??ير من الن??اس‬
‫وس?فُن‬
‫ومنبر? ونخل كثير في كال الشطين‪ ،‬وهذء المدينة إليه??ا تنتهي? س??فن النوب??ة ُ‬
‫المس??لمين من بالد مص??ر وأس??وان‪ ،‬ومدين??ة أس??وان يس??كنها كث??ير من الع??رب من‬
‫قحط??ان ون??زاربن مع??د من ربيع??ه ومض??ر وخل??ق من ق??ريش‪ ،‬وأك??ثرهم ناقل??ة من‬
‫الحجاز وغيره‪ ،‬والبلد كثير النخل خص??يب كث??ير الخ??ير ُت??ود ُع الن??واة األرض فتنبت‬
‫نخلة‪ ،‬ويؤكل من ثمرها بعد سنتين‪ ،‬وليست تربتهم كترب??ة البص??رة وال الكوف??ة وال‬
‫غيرهما من أرض النخل‪ ،‬ألن النخل بالبصرة ال ينبت من النوى ب??ل ينبت من الث??ال‬
‫والفسيل‪ ،‬وهو النخل الص??غير‪ ،‬وم??ا يخ??رج من الن??واة فليس يثم?ر? وال يفلح‪ ،‬ولمن‬
‫بأسوان من المسلمين ضياع كثيرة داخلة ب?أرض النوب?ة ي?ؤدًون خراجه?ا إلى مل?ك‬
‫إلنوبة‪ ،‬وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الزمان في دولة ب??ني أمي??ة وب??ني‬
‫العباس‪ ،‬وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخ??ل مص??ر على ه??ؤالء الق??وم‬
‫بوفد أوف??دهم إلى الفس??طاط‪ ،‬ذك??روا عن??ه أن ناس?ا ً من أه??ل مملكت??ه وعبي??ده ب??اعوا‬
‫ضياعا ً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان‪ ،‬وأنها ضيهاعه والق??وم عبي??دة‪،‬‬
‫وال أمالك لهم‪ ،‬وإنم??ا تملكهم على ه??ذه الض??ياع تمل??ك العبي??د العملين فيه??ا ف??رد‬
‫المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة? أسوان ومن به??ا من أه??ل العلم والش??يوخ‪ ،‬وعلم‬
‫من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها س??تنزع من أي??ديهم‪ ،‬فاحت??الوا على مل??ك‬
‫النوب??ة ب??أن تق??دموا إلى من ابت??اع منهم من أه??ل النوب??ة أنهم إذا حض??روا حض??رة‬
‫الحاكم أن ال يقروا لمليكهم بالعبوية‪ ،‬وأن يقولوا‪ :‬سبيلنا معاشر المس??لمين س??بيلكم‬
‫مع ملككم تجب علينا طاعته وترك مخالفت??ه‪ ،‬ف??إن كنتم أنتم عبي??داً لملككم وأم??والكم‬
‫له فنحن كذلك‪ ،‬فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أت??وا به??ذا الكالم للح??اكم‬
‫أو نحوه مما وقفوا عليه من هذا المعنى‪ ،‬فمضى البيع لعدم إِقرارهم بالرق لملكهم‬
‫صفحة ‪228 :‬‬

‫إلى هذا الوقت‪ ،‬وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوب?ة من بالد م??ريس‪ ،‬وص??ار‬
‫النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين‪ :‬نوع ممن وص??فنا أح??رأر غ??ير عبي??د‪ ،‬والن??وع‬
‫األخر من أهل مملكت??ه عبي??د‪ ،‬وهم من س??كن النوب??ة في غ??ير ه?ذه البألد المج??اورة‬
‫ألسوان‪ ،‬وهي بالد مريس‪?.‬‬

‫معدن الزمرد وأنواعه‬


‫ومعدن الزمرد في عمل الصعيد األعلى من أعمال مدينة قفط‪ ،‬ومنها يخرج إلى هذا‬
‫المعدن‪ ،‬والموضع الذي فيه الزمرد يعرف بالخربة مف??اوز و جب??ال‪ ،‬والبج??ة تحمي‬
‫هذا المجان المعروف بالخرب??ة‪ ،‬إليه??ا ي??ؤدي الخف??ارات من ي??رد إلى حف??ر الزم??رد‪،‬‬
‫والزمرد الذي يقتلع من هذا المكان يتنوع أربع??ة أن??واع‪ :‬الن??وع األول منه??ا يع??رف‬
‫بالمر‪ ،‬وهو أجودها وأغالها ثمنا‪ ،‬وهو شديد الخضرة كث?ير الم?اء‪ ،‬يش?به? خض?رته‬
‫بأشد ما يكون من السلق خض??رة‪ ،‬وه??ذا الل??ون غ??ير ك??در وال ض??ارب إلى الس??واد‪،‬‬
‫والنوع الثاني يدعى بالبحري‪ ،‬ومعناهم في ه??ذه التس??مية? ه??و أن مل??وك البح??ر من‬
‫الس??ند والهن??د وال??زنج والص??ين ت??رغب في ه??ذا الن??وع من الزم??رد‪ ،‬وتب??اهي في‬
‫استعماله ولباسه في تيجانها وأكاليلها وخواتيمها وأس??ورتها‪ ،‬فس??مي البح??ري لم??ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬وهو ثاني المر في الجودة وتشبه? خضرته? باألول والماء كف??راخ ورق األس‬
‫ال?ذي يظه??ر في أوائ??ل أغص??ان اآلس وأطراف??ه‪ ،‬والن??وع الث??الث يع??رف ب?المغربي‪،‬‬
‫ومعناهم في ه?ذه التس??مية وإض?افتهم إي?اه إلى المغ??رب ه??و أن مل?وك المغ?رب من‬
‫اإلفرنجة والنوكبرد واألندلس والجاللقة والوش??كند والص?قالبة وال??روس‪ ،‬وإن ك?ان‬
‫أكثر هؤالء األمم متصلين بالجدي وهو م??ا بين المش??رق والمغ??رب على حس??ب م??ا‬
‫ذكرنا من ديار ولد بافث بن نوح يتنافسون في هذا الن??وع من الزم??رد كتن??افس من‬
‫ذكرنا من ملوك الهند والص?ين في الن?وع المع?روف ب?البحري‪ ،‬والن?وع الراب?ع ه?و‬
‫المسمى باألصم‪ ،‬وهو أدنى األنواع وأقلها ثمناً؛ لقلة مائ?ه و ُخض?رته‪ ،‬وه?ذا الن?وع‬
‫يتفاوت في الل??ون من الخض??رة في القل??ة والك??ثرة‪ ،‬وجمل??ة الوص??ف له??ذه األن??واع‬
‫األربعة في الجودة والمبالغة في الثمن هو أكثره??ا م??اء وأص??فاها وأكثره??ا خض??رة‬
‫وأنقاها من السواد والصفرة‪ ،‬وغير ذل?ك من األل??وان‪ ،‬م??ع تع?ري ه??ذا الج?وهر من‬
‫غاية في الجودة ونهاي??ة في الوص??ف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫النموشة‪ ،‬فإذا سلم مما ذكرنا كان في نوعه‬
‫وفى حجارته ما يبلغ الخمس??ة المثاقي??ل من ال??وزن‪ ،‬إلى أن ينتهي? إلى ح??د العدس??ة‬
‫ِ‬
‫في المقدار‪ ،‬فيدخل ذلك في النظم من المخانق وغيرها‪.‬‬
‫وافات هذا الجوهر كثيرة‪ ،‬منها الريم‪ ،‬والحجارة‪ ،‬والعروق البيض التي تشوب هذا‬
‫الجوهر وتوجد فيه‪ ،‬وال تناكر بين ذوي الدراية به??ذا الج??وهر ومن ع??ني بمعرفت??ه‬
‫أن الحيات واألفاعي وسائر أنواع الحيات من الثعابين وغيرها إذا أبص??رت الزم??رد‬
‫الخالص سالت أحداقها‪ ،‬وأن الملسوع إذا س??قي من الزم??رد الخ??الص‪ ،‬وزن دانقين‬
‫على الف??ور أمن على نفس??ه من أن يس??ري الس??م في جس??ده‪ ،‬وال يوج??د ش??يء من‬
‫أنواع الحيات يقرب من معدن?ه وأرض?ه‪ ،‬وه?وحجر لين رخ?و‪ ،‬يتكلس إذا ورد على‬
‫الناس‪.‬‬

‫صفحة ‪229 :‬‬

‫وقد كانت مل??وك اليون??انيين ومن تالهم من مل??وك ال??روم تعظم ش??أن ه??ذا الج??وهر‪،‬‬
‫وتفض??له على غ??يره من س??ائر الج??واهر؛ لم??ا اجتم??ع في??ه من الخ??واص العجيب??ة‪،‬‬
‫والمنافع الكثيرة‪ ،‬ولخفته في الوزن دون سائر الجواهر المعدنية‪ .‬وأك??ثر م??ا يوج??د‬
‫من ه??ذه األن??واع األربع??ة الع??روق في األرض‪ ،‬وه??و الم َتن??افس في??ه‪ ،‬إذا س??لم من‬
‫االعوجاج والثقب‪ ،‬واستقام سلكه‪ ،‬واستطال ما استدار‪ ،‬وأدناه ما ينح??ل في معدن??ه‬
‫من ال??تراب ويلتق??ط من الطين‪ ،‬وق??د يوج??د على ظه??ر األرض في ه??ذا المع??دن في‬
‫وهاده وجباله وما انخفض وارتفع من أرضه نوع?ان من??ه وهم?ا المغ?ربي واألص??م‬
‫المقدم ذكرهما‪.‬‬
‫وقد يحمل من أرض الهند من بالد سندان‪ ،‬ونحو كنباية من مملكة البله??ر اص??احب‬
‫المانغير المقدم ذكره فيما سلف من هذا الكتاب نوع من الزمرد يلحق بم??ا وص??فناه‬
‫من النور والخضرة والشعاع‪ ،‬إال أنه حجر صلب مما وصفنا‪ ،‬وأثقل مما ذكرنا‪ ،‬وال‬
‫يفرق بين هذا النوم المحمول من أرض الهند وبين األنواع األربعة المق??دم ذكره??ا‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫إال ذو دراي??ة فطن أو م??اهر في??ه‪ ،‬وه??ذا الن??وع الهن??دي يعرف??ه أص??حاب الج??وهر‬
‫?الملكي‪ ،‬ألن??ه يحم??ل من أرض الهن??د إلى بالد ع??دن وغيره??ا من س??واحل اليمن‪،‬‬
‫َ‬ ‫ب?‬
‫ويؤتى به م َكة‪ ،‬فاشتهر بهذا االسم لما وصفنا‪ ،‬وبان بهذا النعت بعض ذكرنا‪.‬‬
‫وق??د أتين??ا على مبس??وط? أخب??ار الج??واهر الش??فافة وغيره??ا ووص??ف معادنه??ا على‬
‫الشرح واإليض??اح في كتبن??ا أخب??ار الزم??ان ووجت جماع??ة بص??عيد مص??ر‪،‬من ذوي‬
‫الدراية‪ -‬ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن‪ ،‬وعرف هذا النوع من الجوهر الذي هو‬
‫الزمرد‪ -‬يخبرون أن ه??ذأ الزم??رد يك??ثر ويق??ل في فص??ول من الس??نة‪ ،‬وفي ق??وة من‬
‫م??واد اله??واء‪ ،‬وهب??وب ن??وع من الري??اح األرب??ع‪ ،‬وتق??وى الخض??رة في??ه والش??عاع‬
‫النوري في أوائل الشهر و الزيادة في نور القمر‪ ،‬وكذلك وجدت في أخبار من عني‬
‫أكثر المعادن من الجوهرية وغيرها‪،‬أن الكبريت األبيض واألصفر وغيره??ا‬ ‫بمعرفة ّ‬
‫من أنواع الكبريت يكثر في معدنه في السنة ال??تي يك??ثر برقه??ا‪ ،‬وتش??تد ص??واعقها‪،‬‬
‫على حسب ما أخبرنا به فيما سلف من ه?ذا الكت?اب عن الكف?ور في بالد منص?ورة‪?،‬‬
‫من أرض الهند أنه يكثر في السنة التي تكثر فيها الصواعق و الرع??ود وأل??برق‪ ،‬و‬
‫أل أن الم َكثار كحاطب ليل‪ ،‬واإليجاز لمحة دالة‪ ،‬وح ٌي ص??رح عن ض??مير‪ ،‬والبالغ??ة‬
‫إيضاح بإيجاز ألسهبت في هذا الباب‪.‬‬

‫قوص و ْلفط من بالد مصر‬

‫وبين هذا الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن هذأ النوع من الج??وهر‪ ،‬وه??و‬
‫الزمرد‪ ،‬وبين ما اتصل به من العم??ارة وق??رب من?ه? من ال??ديار‪ ،‬مس??يرة س??بعة أي??ام‬
‫وهي قف??ط وق??وص وغيرهم??ا من ص??عيد مص??ر‪ ?،‬وق??وص راكب??ة للني??ل‪ ،‬وبين الني??ل‬
‫وقفط نحو من ميلين‪ ،‬ولمدينتي? قفط وقوص أخبار عجيب?ة? في أي??ام عمرانهم?ا وم?ا‬
‫كان في أيام األقباط من أخبارهما إال أن مدينة قفط في هذا الوقت متداعية للخراب‪،‬‬
‫وقوص أعمر‪ ،‬والناس فيها أكثر‪.‬‬

‫صفحة ‪230 :‬‬

‫َو َب َوادي البجة المالكة لهذا المعدن تتصل ديارها بالعالقي‪ ،‬وهي مع??دن ال??ذهب على‬
‫حسب ما قدمنا في هذا الباب‪ ،‬وبين العالقي والنيل خمس عشرة مرحلة‪ ،‬وماء أهل‬
‫العالقي ما ا ْن َهل َّ من الس??ماء‪ ،‬ولهم م??اء من عين يس??يل? في وس??ط العالقي‪ ،‬وأق??رب‬
‫العم??ارة إلي??ه مدين??ة أس??وان‪ ،‬ومنه??ا يس?? ّمى العالقي‪ ،‬والنوب??ة? متص??لة بتجارته??ا‬
‫وقوافلها بمدينة أسوان‪ ،‬وأهل أسوان مختلطون بالنوبة‪.‬‬

‫الواحات‬

‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وأم??ا بالد الواح??ات‪ -‬وهي بين بالد مص??ر واإلس??كندرية وص??عيد‬
‫مصر والمغرب وأرض األحابش من النوبة وغيرهم‪ -‬فقد ذكرنا جمأل من أخباره??ا‪،‬‬
‫وكيفية العمران بها‪ ،‬والخواص في أرضها‪ ،‬فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وبها أرض َ‬
‫ش? ِّبية?‬
‫وزاجية وعيون حامضة وغير ذلك من الطعوم‪ :‬وص??احب الواح??ات في وقتن??ا ه??ذا‪-‬‬
‫وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬عبد الملك بن مروان‪ ،‬وهو رجل من َل َوات??ة‪ ،‬إال‬
‫أنه مرواني المذهب‪ ،‬ويركب في ألوف من الن??اس خيالً ورجالً ونجب??ا‪ ،‬وبين?ه? وبين‬
‫األح?ابش نح?و من س?تة أي?ام‪ ،‬وك?ذلك بين??ه وبين س?ائر م?ا ذكرن?ا من العم?ائر ه?ذا‬
‫المقدار من المس?افة‪ ،‬وفي أرض??ه خ??واص وعج?ائب‪ ،‬وه?و بل?د ق?ائم بنفس??ه‪ ،‬غ?ير‬
‫متصل? بغيره‪ ،‬وال مفتق?ر إلي?ه‪ ،‬ويحم??ل من أرض??ه التم?ر وال?زبيب واألعن?اب‪ ،‬وق?د‬
‫رأيت صاحب هذا الرجل المقيم بالواحات بباب اإلِخشيد محمد بن طغج‪ ،‬وذلك س??نة?‬
‫ثالثين وثلثمائة‪ ،‬وسألته عن كثير من أخبار بلدهم‪ ،‬واحتجت أن أعلمه من خواص‬
‫أرضهم‪ ،‬وكذلك ك??ان فعلي م??ع غ??يره في س??ائر األوق??ات ممن لم أص??ل إلى بالدهم‪،‬‬
‫شب وأنواع الزاج‪ ،‬وم??ا يحم??ل من بالدهم‪،‬‬ ‫وأخبرني هذا الرجل عما بأرضهم من ال ً‬
‫وما بأرضهم من أنواع العيون الحامضة‪ ،‬وغير ذلك من المياه المختلفة الطعوم‪.‬‬
‫وق??د ذك??ر ص??احب المنط??ق أن ببعض المواض??ع عيون??ا ً حامض??ة يس??تعمل ماؤه??ا‬
‫كاستعمال الخل‪ ،‬وذكر المواضع التي تنبع منها العي??ون الم??رة‪ ،‬وأن ق??وة مائه??ا في‬
‫المرارة ال يخالط شيئا ً إال م?رره‪ ،‬وأن العل?ة في اختالف ه?ذه الطع?وم في المي?اه أن‬
‫األرضين مختلفة مثل مواضع الشب "والمواضع النارية والرمادية‪ ،‬وذكر األطعم??ة‬
‫التي ببالد صقلية المقدم ذكرها إذا خ??الطت الم??اء أفادت??ه طعوم?ا ً مختلف??ة على ق??در‬
‫اختالفها وأعداد طعومها‪.‬‬

‫أعداد الطعوم وخواصها‬


‫وأعداد الطعوم ثمانية‪ :‬فأولها العذب‪ ،‬والملح‪ ،‬والدسم‪ ،‬والحلو‪ ،‬والحامض‪ ،‬والمر‪،‬‬
‫والق??ابض‪ ،‬والح ِِّري??ف‪ ،‬وق??د تن??ازع الن??اس فيم??ا ذكرن??ا؛فمنهم من رأى أن أع??دادها‬
‫سبعة‪ ،‬ومنهم من ذهب إلى أنها ستة‪ ،‬وأكثر من قال في أعدادها هو ما ذكرن??ا آنف?ا ً‬
‫من أنها ثمانية؛ وقد ق??ال من س??لف في ق??وى المي??اه أقاوي??ل مختلف??ة‪ :‬فمن ذل??ك أن‬
‫العذب ُم َغذ وإن كان سخنا‪ ،‬فإن استعمل من داخل أو من خ??ارج بق??در الحاج??ة إلي??ه‬
‫فإن??ه ين َقي الجس??د‪ ،‬وإن اس??تعمل أك??ثر مم??ا يحت??اج إلي??ه فإن??ه ي??رخي األعض??اء‬
‫ويضعفها‪ ،‬وأن الماء البارد يش ًّد األعضاء‪ ،‬ويقطع العطش‪ ،‬وأن الزيادة منه تخدر‬
‫صفحة ‪231 :‬‬

‫الجسد وتميته‪ ?،‬وأن الماء األجاج ينفع من سدد العبد والطحال‪ ،‬وأن الماء الكبريتي?‬
‫ينفع الجراح والقروح العتيقة والحكة؛ والبورقي نافع للحكة والجرب‪ ،‬وأما القاري‬
‫فإن??ه ن??افع من أوج??اع الص??لب والعص??ب‪ ،‬وم??اء الحدي??د ن??افع من االس??ترخاء في‬
‫األحشاء وما بطن من األوعية‪ ،‬وماء النحاس نافع من الرطوبة والبل??ة الكائن??ة في‬
‫الجسد والرأس‪ ،‬وماء الجص يشنج? المعدة ويقبضها ويكرشها‪ ،‬وماء الزاج يحبس‬
‫الدم‪ ،‬وماء البحر نافع من البرص‪ ،‬وقد ذكر جماعة أن??ه ينف??ع من األخالط الفاس??دة‬
‫إذا شرب منه اليسر مع دهن اللوز‪ ،‬وله في البصر أتعاب فظي??ع‪ ،‬وأن أص??ح المي??اه‬
‫لألجس??اد األبيض ال??براق ال??ذي يخ??رج من جب??ال الطين من مش??رق الش??مس نح??و‬
‫مغربها‪ ،‬القابل بسرعة ما يرد إليه من الحر والبرد‪ ،‬وللناس فيم??ا ذكرن??ا كالم كث??ير‬
‫في أنواع المياه وأوصافها ومنافعها ومضارها‪ ،‬وليس كتابنا هذا موضعا ً له‪ ،‬وإنما‬
‫تغلغل بنا الكالم إلى ذكرها‪ ،‬وتشعب بنا القول إلى وصفها‪.‬‬

‫وصف بالد األحابش وحاصالتها‬

‫و ُكل ُّ ما ذكرنا من بالد األحابش ما ك??ان من غ??ربي اليمن وج??دة والحج??از مم??ا يلي‬
‫بح?ر القل?زم‪ ،‬فبالد قش?فة ال خ?ير في أرض?ها‪ ،‬وال ش?يء يحم?ل من س?احلها إال م?ا‬
‫وص??فنا من ال??ذبل والنم??ور? وغيرهم??ا‪ ،‬وك??ذلك م??ا علي??ه من س??احل الش??حر وبالد‬
‫األحقاف من ساحل حضر موت إلى عدن‪ ،‬فبل ٌد ال خصب ألهل??ه في??ه‪ ،‬وال يحم??ل من‬
‫أرضهم في وقتنا إال اللبان ويسمى الكن??در‪ ،‬وه??ذا البح??ر اتص??اله ب??القلزم وه??و عن‬
‫يمين بحر الهند وإن كان الماء متصالً‪ ،‬وليس في البحار‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من الخلج??ان‬
‫مما احتوى علي??ه البح??ر الحبش??ي‪ ،‬أص??عب وال أك??ثر حي??االً‪ ،‬وال أس??هك رائح??ة‪ ،‬وال‬
‫أقحط‪ ،‬وال أقل خيراً في بطنه وظهره من بحر القلزم‪ ،‬وسائر البحر الحبشي تقطعه‬
‫المراكب في إبان سيرها فيه بالليل والنهار‪ ،‬إال بحر القلزم‪ ،‬فإن المراكب تسير? فيه‬
‫بالنهار‪ ،‬فإذا َجنً الليل أرست في مواضع معروفة كالمراح??ل المش??هورة‪ ،‬والمن??ازل‬
‫المعروفة‪ ،‬لكثرة جباله وظلمته ووحشته‪ ،‬وليس هذا البحر مما اتص??ل ب??ه من بح??ر‬
‫الهند والصين وغيره في شيء‪ ،‬وهو بالضد من ذلك‪ ،‬ألن بح??ر الهن??د والص??ين في‬
‫قعره اللؤلؤ‪ ،‬وفي جباله الجواهر‪ ،‬ومعادن الذهب والفضة والرصاص القلعي‪ ،‬وفي‬
‫أف??واه دواب??ه الع?اج‪ ،‬وفي منابت??ه اآلبن??وس‪ ،‬والخ??يزران‪ ،‬وال َق َن??ا‪ ،‬وال ّبقم‪ ،‬والس??اج‪،‬‬
‫والع??ود‪ ،‬وأش??جار الك??افور‪ ،‬والج??وز‪ ،‬والقرنف??ل‪ ،‬والص??ندل‪ ،‬واألفاوي??ه‪ ،‬والطيب‪،‬‬
‫والعبر‪ ،‬وطيوره البباغي البيض والخضر‪ ،‬واحدها ببغ??ة‪ ،‬ثم الط??واويس وأنواعه??ا‬
‫في صورها واختالفها في الصغر والكبر ومنها ما يكون كالنعام??ة ك??براً‪ ،‬وحش??رات‬
‫أرض الهند الزباد كالسنانير بأرض اإلسالم كثيرة م َت َخذة كالسنور‪ ،‬وأكثر ما يخرج‬
‫من ض??روعها الطيب المع??روف بلبن الزب??اد‪ ،‬وه??و ن??وع من الطيب عجيب‪ ،‬ثم م??ا‬
‫يظهر في وقت من السنة من جباه الفيلة بأرض الهن??د ورؤوس??ها من الع??رق ال??ذي‬
‫هو كالمسك‪ ،‬والهند تراعي ظه??ور ه??ذا الطيب في الفص??ل من الزم??ان ال??ذي يك??ون‬
‫فيه‪ ،‬فتأخذه وتجعله على بعض أدهانه?ا الطيب?ة‪ ،‬فيك?ون أغلى طيبه??ا والمس?تطرف?‬
‫عندها‪ ،‬والذي تستعمله ملوكها وخواصها لضروب من المنافع منها طيب الرائحة‬
‫صفحة ‪232 :‬‬

‫والتجمر الذي قد فاق على سائر الطيب عندهم‪ ،‬وم??ا ي??ؤثر? في اإلنس??ان عن??د ش??مه‬
‫الش?? َبق من الرج??ال والنس??اء والطلب للب??اه واالغتالم‬‫إي??اه واس??تعماله من ظه??ور َّ‬
‫والطرب و‪ ،‬النشاط واألريحية‪ ،‬وكثير من فُ َّتاك الهند وشجعانهم يستعمل هذا الدهن‬
‫عند اللقاء والحرب‪ ،‬ألن ذلك عندهم مما يشجع القلب‪ ،‬ويقوي النفس‪ ،‬ببعثه??ا على‬
‫اإلقدام‪ ،‬وأكثر ما يظهر هذا الن??وع من الع??رق في جب??اه الفيل??ة في ذل??ك الفص??ل من‬
‫السنة في حال اغتل أم??ه ا وهيجانه??ا؛ وإذا ك?ان ذل??ك منه??ا ه??رب عنه?ا س??و أس??ها‬
‫و ُر َعاتها‪ ،‬وال َتفرق بين من تعرف وغيره من الن??اس‪ ،‬وإذا وج??د الفي??ل م??ا وص??فنا‬
‫سلك األودي?ة والجب?ل والغي?اض‪ ،‬و َن?د عن بل?ده‪ ،‬وغ?اب عن وطن?ه؛ ف?إذا ق?دم على‬
‫النوشان الذي هو الكركدن هرب حينئ??ذ من الفي??ل‪ ،‬وال يقيم في الموض??ع ال?ذي ه?و‬
‫فيه ألن الفيل عن??د ذل??ك بح??ال الس??كران ال يعق??ل وال يم??يز? بين الكرك??دن ال??ذي ك??ان‬
‫يخافه قبل ذلك وغيره‪ ،‬فإذا خرج عن??ه ذل??ك الفص??ل من الس??نة واس??ترجع ع??اد إلى‬
‫بلدة على مسيرة? شهر وأكثر من ذل??ك‪ ،‬وه??و في بقي? ٍة من س? َكره‪ ،‬فيبقى نح??و ذل??ك‬
‫المقدار الذي كان هيجانه فيه عليالً‪ ،‬وال يكون ذل??ك إال في الفح??ول من الفيل??ة ذوى‬
‫الجراءة منها واإلقدام‪ ،‬وما ذكرنا من ظباء المسك وغير ذلك مما عن??ه أمس??كنا من‬
‫عجائبه وخيراته وفيما ذكرنا تنبيه على غيره‪.‬‬
‫وللهن??د َخ ْطب طوي??ل في ظه??ور ه??ذا الن??وع من الطيب في ه??ذه الحال??ة من الفيل??ة‪،‬‬
‫والفرق بينه? وبين سائر أنواع الدواب وم??ا يظه??ر من الفي??ل من الج??زع عن??د ورود‬
‫صافي‪ ،‬فإنه يثيره ويكدره ويمتنع?‬ ‫ً‬ ‫المياه من الغدران واألنهار للشرب إذا كان الماء‬
‫من شربه حين صفائه‪ ،‬وإن ذلك يوجد في أكثر الخيل إذا وردت الماء وكان ص??افيا ً‬
‫ضربته بأيديها فك َّدرته فتشرب حينئذ‪ ،‬وتوافق الخي?ل الفيل?ة في المع?نى دون س?ائر‬
‫الحيوان‪ ،‬وإن ذلك لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه‪ ،‬ولعلها تقصد زول‬
‫ذلك عند كدر ما تضربه بأيديها؛ لعدم ظهور الصور فيه في ح?ال الك??در‪ ،‬وإن اإلب?ل‬
‫األغلب فنها يفعل ذلك‪ ،‬ولمعان غير ذلك مم??ا وص??فنا من أن م??ا عظم من الحي??وان‬
‫أع َج َب ْت ُه لعظمها وحسنها وما بان به من‬ ‫إذا رأى صورته منعكسة على صفاء الماء ْ‬
‫حسن الهيئة عما دونه‪ -‬من أن??واع الحي??وان‪ ،‬وليس ش??يء يفع??ل ذل??ك من الحي??وان‬
‫غير ما ذكرنا من الخيل واإلِبل والفيلة‪ ،‬وإن الفيل‪ -‬مع عظم جس??مه ولطاف??ة نفس??ه‬
‫?دوه من الن??اطقين وغ??يرهم‬ ‫وخف??ة روح??ه وحس??ن تمي??يزه والتفرق??ة بين ولي??ه وع? ُّ‬
‫وقبوله الرياض?ة‪ ?-‬يمتن?ع? من األن?ثى كم?ا تمتن?ع? الن?وق إذا لقحت‪ ،‬وليس ش?يء من‬
‫الس َفاد من اإلناث عند حملها إال الفيلة واإلبل‪ ،‬وهذا ب??اب إن نحن‬ ‫الدواب يمتنع من ِّ‬
‫َت َقص ْي َناه وذكرنا ما فيه طال ب??ه الكت?اب‪ ،‬وخ??رج عن ح?د االختص??ار واإليج?از‪ .‬وق??د‬
‫أتينا على وصف جميع ذلك في كتاب أخبار الزم??ان وغ??يره من كتبن??ا‪ ،‬فلن??ذكر اآلن‬
‫أنواعا ً من ولد يافث بن نوح ؛ إذ كان قد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب كث??يراً من‬
‫ذك?ر األمم م?ع اختالف أل?وانهم‪ ،‬وتب?اينهم في دي?ارهم‪ ،‬واختالفهم في أح?والهم‪ ،‬إن‬
‫شاء هللاّ تعالى‪.‬‬

‫صفحة ‪233 :‬‬

‫ذكر الصقالبة ومساكنها وأخبار ملوكها‬


‫وتفرق أجناسها‬
‫نسب الصقالبة وأجناسهم‬
‫الصقالبة‪:‬‬
‫من ولد مار بن يافث بن نوح‪ ،‬وإليه يرجع سائر أجناس الص??قالبة‪ ،‬وب??ه يلحق??ون‬
‫في أنسابهم‪ ،‬ه??ذا ق??ول كث??ير من أه??ل الدراي??ة ممن ع??ني به??ذا الش??أن‪ ،‬ومس??اكنهم‬
‫بالجدي إلى أن يتصلوا بالمغرب‪ ،‬وهم أجناس مختلفة وبينهم حروب‪ ،‬ولهم مل??وك‪،‬‬
‫ومنهم من ينقاد إلى دين النصرانية إلى رأي اليعقوبية‪ ?،‬ومنهم من ال كت??اب ل??ه وال‬
‫ينق??اد إلى ش??ريعة‪ ،‬وهم جاهلي??ة ال يعرف??ون ش??يئا من الش??رائع‪ ،‬وه??ؤالء أجن??اس‪:‬‬
‫فمنهم جنس كان المل??ك فيهم ق??ديما ً في ص??در الزم??ان‪ ،‬وك??ان ملكهم ي??دعي ماج??ك‪،‬‬
‫وه??ذا الجنس ي??دعى ولينان??ا‪ ،‬وك??ان يتل??و ه??ذا الجنس في الق??ديم س??ائر أجن??اس‬
‫الصقالبة‪ ،‬لكون الملك فيهم‪ ،‬وانقي??اد س??ائر مل??وكهم إلي??ه‪ ،‬ثم يتل??و ه??ذا الجنس من‬
‫أجناس الصقالبة اصطبرانة‪ ،‬وملكهم في هذا الوقت ي??دعى بص??قالئح‪ ،‬وجنس يق??ال‬
‫ل??ه دالون??ة‪ ،‬وملكهم ي??دعى وانج عالف وجنس يق??ال لهم ن??امجين‪ ،‬وملكهم ي??دعى‬
‫عزان??ة‪ ،‬وه??ذا الجنس أش??جع أجن??اس الص??قالبة وأف??رس‪ ،‬وجنس ي??دعى من??ابن‪،‬‬
‫وملكهم يدعى زنبير‪ ?،‬ثم جنس يقال له سرتين وهو جنس عند الصقالبة مهيب لعلل‬
‫يطول ذكرها وأوص??اف يك??ثر ش??رحها‪ ،‬ونف??رتهم من مل??ة ينق??ادون إليه??ا‪ ،‬ثم جنس‬
‫يقال له صاصين‪ ،‬ثم جنس يقال له جرواتيق‪ ،‬ثم جنس يقال ل??ه خش??انين‪ ،‬ثم جنس‬
‫يق??ال ل??ه برانج??ابين‪ ،‬وم??ا س??ميناه من أس??ماء بعض مل??وك ه??ذه األجن??اس فس??مة‬
‫معروفة لملوكهم‪ ،‬والجنس الذي سميناه المعروف بسرتين يحرقون أنفس??هم بالن?ار‬
‫إذا مات فيهم الملك والرئيس‪ ،‬ويحرقون دوابه‪ ،‬ولهم أفعال مثل أفع??ال الهن??د‪ ،‬وق??د‬
‫قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب طرفا ً من ذك??رهم عن??د ذكرن??ا لجب??ل القبخ والخ??زر‪،‬‬
‫وأن في بالد الخزر مع الخزر خلقا ً من الصقالبة والروس‪ ،‬وأنهم يحرقون أنفس??هم‬
‫بالنيران‪ ،‬وه??ذا الجنس من الص??قالبة وغ??يرهم متص??لون بالمش??رق‪ ،‬ويع??برون من‬
‫المغرب‪.‬‬

‫ملوك الصقالبة‬

‫فاألول من ملوك الصقالبة مل??ك ال??دير‪ ،‬ول??ه م??دن واس??عة‪ ،‬وعم??ائر كث??يرة‪ ،‬وتج??ار‬
‫المسلمين يقصدون دار ملكه بأنواع التجارات‪.‬‬
‫ثم يلي ه??ذا المل??ك من مل??وك الص??قالبة مل??ك األوانج‪ ،‬ول??ه م??دن وعم??ائر واس??عة‪،‬‬
‫وجيوش كثيرة‪ ،‬وعدد كثير‪ ،‬ويحارب الروم واإلفرنج والنوكبرد‪ ،‬وغ??ير ه??ؤالء من‬
‫األمم‪ ،‬والحرب بينهم سِ َجالٌ‪.‬‬
‫ثم يلي هذا الملك من مل??وك الص??قالبة مل??ك ال??ترك‪ ،‬وه??ذا الجنس أحس??ن الص??قالبة‬
‫صوراً‪ ،‬وأكثرهم عدداً‪ ،‬وأشدهم بأساً‪.‬‬

‫صفحة ‪234 :‬‬

‫أجناس الصقالبة‬
‫والصقالبة أجناس كثيرة‪ ،‬وأنواع واسعة‪ ،‬ال يأتي كتابنا ه??ذا على وص??ف أجناس??هم‬
‫وتفريع أنواعهم‪ ،‬وقد قدمنا األخبار عن الملك الذي كان ينقاد إليه ملوكهم في قديم‬
‫الزمان‪ ،‬وهو ماجك ملك ولينان‪ ،‬وهذا الجنس أصل من أص??ول الص??قالبة ُم َع ّظم في‬
‫أجناسهم‪ ،‬وله قدم فيهم‪.‬‬
‫?ز َبت أجناس??هم‪ ،‬ومل??ك ك??ل‬‫ثم اختلفت الكلم??ة بين أجناس??هم‪ ،‬ف??زال ن??ظ أم??ه م‪ ،‬وتح? َّ‬
‫جنس منهم ملكا ً على حسب ما ذكرنا من مل??وكهم ألم??ور يط??ول ذكره??ا‪ ،‬وق??د أتين??ا‬
‫على جم??ل من ش??رحها وكث??ير من مبس??وطها في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان من األمم‬
‫الماضية‪ ?،‬واألجيال الخالية‪ ،‬والممالك الداثرة‪.‬‬
‫ذكر اإلفرنجة والجاللقة وملوكها وما يتصل? بذلك‬
‫نسبهم وصفاتهم‬
‫اإلِفرنجة والصقالبة والنوكبرد واألشبان ويأجوج ومأجوج والترك والخزر وبرجان‬
‫والالن والجاللقة وغير ذلك ممن ذكرن??ا ممن ح??ل الج??دي‪ ،‬وه??و الش??مال‪ ،‬ال خالف‬
‫بين أهل البحث والنظر من الشرعيين أن جميع من ذكرنا من هؤالء األمم من‪ -‬ولد‬
‫يافث بن نوح وهو األصغر من ول??د ن??وح؛ فاإلفرنج??ة أش??د ه??ؤالء األجن??اس بأس?اً‪،‬‬
‫وأمنعهم هيب??ة‪ ،‬وأك??ثرهم ُع??دَ ة‪ ،‬وأوس??عهم ملك??ا‪ ،‬وأك??ثرهم م??دناً‪ .‬وأحس??نهم نظام?ا ً‬
‫وانقياداً لملوكهم‪ ،‬وأكثرهم طاعة؛ إال أن الجاللقة أش??د من اإلفرنج??ة بأس??ا‪ ،‬وأعظم‬
‫منهم نكاية‪ ،‬والرجل من الجاللقة يقاوم عدة من اإلفرنجة‪ ،‬وكلم??ة اإلفرنج??ة متفق??ة‬
‫على ملك واحد‪ ،‬ال تنازع بينهم في ذل??ك‪ ،‬وال تح??زب‪ ،‬واس??م دار مملكتهم في وقتن??ا‬
‫هذا بويرة‪ ،‬وهي مدينة? عظيمة‪ ،‬ولهم من المدن نحو من خمسين ومائة مدينة غير‬
‫العمائر والكور‪.‬‬

‫مساكنهم‬

‫وك??ان أوائ??ل بالد اإلفرنج??ة قب??ل ظه??ور اإلس??الم في البح??ر جزي??رة رودس‪ ،‬وهي‬
‫الجزيرة ال?تي ذكرن?ا أنه?ا مقابل?ة لإلس?كندرية‪ ،‬وأن فيه?ا دار ص?ناعة الم?راكب في‬
‫وقتنا هذا للروم‪ ،‬ثم جزيرة إقريطش‪ ،‬وقد كانت لإلفرنجة أيض?ا ً ففتحه??ا المس??لمون‬
‫ونزلوها إلى هذه الغاية‪ ،‬وكانت بالد إفريقية? وجزيرة صقلية لإلفرنج??ة أيض ?اً‪ ،‬وق??د‬
‫أتينا على أخبار هذه الجزائر وخبر الجزيرة المعروفة بالبركان‪ ،‬وهي األطم??ة ال??تي‬
‫يخرج منها أجسام من النار كأجساد الناس بال رؤوس فتعلو في اله??واء باللي??ل‪ ،‬ثم‬
‫تسقط في البحر فتطفو لحى الماء وهي الحجارة التي يحك بها الكتاب??ة من ال??دفاتر‪،‬‬
‫وهي خف???اف بيض على هيئ???ة? الش???هد وأك???وار الزن???ابير الص???غار‪ ،‬وهي األطم???ة‬
‫المعروف???ة بأطم???ة ص???قلية‪ ،‬وفيه???ا ق???بر فرف???وريس الحكيم ال???ذي ص???نف كت???اب‬
‫إيس??اغوجي‪ ،‬وه??و الم??دخل إلى علم المنط??ق‪ ،‬وه??ذا الكت??اب به??ذا الرج??ل يع??رف‪.،‬‬
‫وك??ذلك أتين??ا على ذك??ر آط??ام األرض‪ ،‬كأطم??ة وادي بره??وت من بالد حض??ر م??وت‬
‫ش حر‪ ،‬وأطمة بالد الزابج من بحر الصين‪ ،‬وأطمة بالد أسك‪ ،‬وهي ما بين‬ ‫وبالد ال ِّ‬
‫صفحة ‪235 :‬‬

‫بالد فارس وبالد األهواز من أعمال مدينة أرجان من بالد فارس‪ ،‬وهذه النار ت??رى‬
‫بالليل من نحو عشرين فرسخاً‪ ،‬وهي مشهورة بأرض اإلسالم‪ ،‬وتفس??ير أطم??ة هي‬
‫عين النار التي تنبع? من األرض‪.‬‬
‫ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر الحمامات الكبريتية? والزاجية‪ ،‬وال الحمامات ال??تي‬
‫تظهر من مائها النار باألطمة ال??تي ببالد ماس??بدان من أرض أريوج??ان والس??يروان‬
‫يقال لها النومان وهي أطمة تظهر من وسط مائه??ا الن?ار وهي أطم??ة عجيب??ة تمن?ع?‬
‫ورود الماء عن إطفائها‪ ،‬وتدفعه بشدة قوتها وسلطان لهبه??ا‪ ،‬وهي إح??دى عج??ائب‬
‫العالم؛ إذ كنا قد أتينا على علل جميع ذلك فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫وقد أتينا على منافع أنواع المياه بجوامع ذكرناها‪ ،‬ولمع لوحنا بها‪ ،‬فيما س??لف من‬
‫هذا الكتاب عند ذكرنا ألرض الواحات من بالد مصر‪ ،‬وإن كنا قد أتينا على مبسوط‬
‫ذلك فيما تقد َم من كتبنا‪.‬‬

‫ملوك اإلفرنجة‬
‫إلي بفس??طاط مص??ر س??نة س??ت وثالثين‬ ‫ق??ال المس??عودي‪ ،‬ووج??دت في كت??اب وق??ع َّ‬
‫وثلثمائة? أه??داه عرم??از األس??قف بمدين??ة جري??دة من م??دن اإلفرنج??ة في س??نة ثم??ان‬
‫وعشرين وثلثمائة إلى الحكم بن عب??د ال??رحمن بن محم??د بن عب?د هّللا بن محم??د بن‬
‫عب??د ال??رحمن بن الحكم بن هش??ام بن عب??د ال??رحمن بن معاوي??ة بن هش??ام بن عب??د‬
‫الملك بن مروان بن الحكم ولي عه??د أبي??ه عب??د ال??رحمن ص??احب األن??دلس في ه??ذا‬
‫الوقت في عهده‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن أول ملوك إفرنجة قلودي??ة‪ ،‬وك??ان مجوس??يا ً‬
‫فنصرت ُ?ه امرأته وكان اسمها غرطلة‪ ،‬ثم ملك بعده ابنه ل??ذريق‪ ،‬ثم ولي بع??د ل??ذريق‬ ‫َّ‬
‫ابنه دقشرت‪ ،‬ثم ولي بعده ابنه لذريق‪ ،‬ثم ولي أبع??ده قرط??ان ابن دقش??رت‪ ،‬ثم ولي‬
‫بعده ابنه قارله ثم ولي بعمه ابنه تبين ثم ولي بعده قارل??ة بن ت??بين وك??انت واليت??ه‬
‫ستا ً وعشرين سنه‪ ،‬وكان في أيام الحكم صاحب األندلس‪ ،‬وق??د ت??دافع أوالده ووق??ع‬
‫االختالف بينهم‪ ،‬ح??تى تف??انت اإلفرنج??ة بس??ببهم‪ ،‬وص??ار لفري??ق بن قارل??ة ص??احب‬
‫?نة وس??تة? أش??هر‪ ،‬وه??و ال??ذي أقب??ل إلى طرطوش??ة‬‫ملكهم‪ ،‬فملك ثمانيا ً وعش??رين س? ً‬
‫فحاصرها‪ ،‬ثم ولي بعده ابنه قارلة بن لذريق وهو الذي َت َه??ادَنَ م??ع محم??د بن عب??د‬
‫الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد المل??ك بن‬
‫م??روان‪ ،‬وك?ان محم??د يخ??اطب باإلم??ام‪ ،‬وك?انت واليت?ه تس?عا ً وثالثين س?نة‪ ،‬وس?تة‬
‫أشهر‪ ،‬ولي بع??ده ابن??ه ل??ذريق س??تة? أع??وام‪ ،‬ثم وثب علي??ه قائ??د اإلفرنج??ة المس??مى‬
‫نوسة‪ ?،‬وملك إفرنجة‪ ،‬وأقام في ملكه ثمان سنين‪ ،‬وهو الذي ص??الح المج??وس على‬
‫بلده سبع سنين بستمائة? رطل ذهب وستمائة رطل فض??ة يؤديه??ا ص??احب اإلفرنج??ة‬
‫إليهم‪ ،‬ثم ولي بعده قارلة بن تقويرة أربع س?نين‪ ،‬ثم مل?ك بع?ده قارل?ة أخ?ر‪ ،‬ومكث‬
‫إحدى وثالثين سنة وثالثة أشهر‪ ،‬ثم وليِ بعده لذريق ابن قارلة وهو مل??ك إفرنج??ة‬
‫إلى هذا‪ -‬وهو سنة? اثنتين وثالثين وثالثمائة‪ ?-‬وقد استوفى في مملكته عش??ر س??نين‬
‫إلى هذا التاريخ على حسب ما نمي إلينا من خبره‪.‬‬

‫صفحة ‪236 :‬‬

‫بين عبد الرحمن والجاللقة‬

‫قال المسعودي‪ :‬وأش??د م??ا على األن??دلس من األمم المحارب??ة لهم الجاللق??ة‪ ،‬كم??ا أن‬
‫اإلفرنجة حرب لهم‪ ،‬غير أن الجاللقة أشد بأساً‪ ،‬وق??د ك??ان لعب??د ال??رحمن بن محم??د‬
‫صاحب األندلس في هذا الوقت وزير من ولد أمية يقال له أحم??د بن إس??حاق فقبض‬
‫عليه عبد الرحمن ألمر ك??ان من??ه اس??تحق علي??ه في الش??ريعة العقوب??ة‪ ،‬فقتل??ه عب??د‬
‫الرحمن‪ ،‬وك?ان لل?وزير أخ يق?ال ل?ه أمي?ة في مدين?ة من ثغ?ور األن?دلس‪ ،‬يق?ال له?ا‬
‫ش?? ْن َت ِرين‪ ،‬فلم??ا نمي إلي??ه م??ا فع??ل بأخي??ه عص??ى على عب??د ال??رحمن؛افص??ار في‬
‫حيزرذمير? مل??ك الجاللق??ة‪ ،‬فأعان??ه على المس??لمين‪ ،‬ودل??ه على ع??وراتهم‪ ،‬ثم خ??رج‬
‫أمية في بعض األي??ام من المدين??ة يتص??يد? في بعض منتزهاته??ا‪ ،‬فغلب على المدين?ة?‬
‫بعض غلمانه ومنعوه من الدخول إليها‪ ،‬وكتبوا إلى عبد الرحمن‪ ،‬ومض??ى أمي??ة بن‬
‫إسحاق أخو الوزير المقتول إلى رذمير‪ ،‬فاصطفاه‪ ،‬واستوزره‪ ،‬وصيره في جملت??ه‪،‬‬
‫وغزا عبد الرحمن صاحب األندلس سمورة مملكة الجاللقة المتقدم??ة ص??فة بنيانه??ا‬
‫وأس??وارها في ب??اب جم??ل األخب??ار عن البح??ار وم??ا فيه??ا وم??ا حوله??ا من العج??ائب‬
‫واألمم ومراتب الملوك وأخبار األن??دلس وغ??ير ذل??ك‪ ،‬وك??ان عب??د ال??رحمن في مائ??ة‬
‫ألف أو يزيدون‪ ،‬فكانت الواقعة بينه وبين رذمير? ملك الجاللقة في شوال سنة س??بع‬
‫وعش??رين وثلثمائ??ة بع??د الكس??وف ال??ذي ك??ان في ه??ذا الش??هر بثالئ??ة أي??ام‪ ،‬وك??انت‬
‫للمس??لمين عليهم‪ ،‬ثم أن??ابوا بع??د أن حوص??روا وأولج??و إلى المدين??ة فقتل??وا من‬
‫المسلمين‪ -‬بعد عبورهم الخندق‪ -‬خمسين ألفاً‪ ،‬وقيل‪ :‬إن الذي منع رذم??ير من طلب‬
‫من نج??ا من المس??لمين أمي??ة بن إس??حاق‪ ،‬وخوف??ه الكمين‪ ،‬ورغب??ه فيم??ا ك??ان في‬
‫معس??كر المس??لمين من األم??وال والع??دد والخ??زائن‪ ،‬ول??وال ذل??ك ألتى على جمي??ع‬
‫المس??لمين‪ ،‬ثم إن أمي??ة بع??د ذل??ك اس??تأمن إلى عب??د ال??رحمن‪ ،‬وتخلّص من رذم??ير‪،‬‬
‫فقبله عبد الرحمن أحسن قبول‪ ،‬وقد ك?ان عب?د ال??رحمن ص?احب األن?دلس بع??د ه??ذه‬
‫تج َّه َز عس?اكر م?ع ع?دة من ق?واده إلى الجاللق??ة‪ ،‬وك?انت لهم معهم ح??روب‬ ‫الواقعة َ‬
‫هل??ك فيه??ا من الجاللق??ة ض??عف م??ا قت??ل من المس??لمين في الوقع??ة األولى‪ ،‬وك??انت‬
‫للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية‪ ،‬ورذمير ملك الجاللقة إلى هذا الوقت ‪ -‬وه??و س??نة?‬
‫اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬وكان قبله على الملك أردون وك??ان قب??ل أردون أذبوش??ن‪،‬‬
‫والجاللقة واإلفرنجة تدين بدين النصراني ِة على رأى الملكية‪.‬‬

‫ذكر النوكبرد وملوكها‬


‫نسبهم ومساكنهم‬
‫وقد تقدم ذكرنا للنوكبرد‪ ،‬وأنهم من ولد يافث بن ن??وح‪ ،‬وبالدهم متص??لة ب??المغرب‪،‬‬
‫ومحلهم الج??دي‪ ،‬ولهم جزائ??ر كث??يرة فيه??ا أمم من الن??اس‪ ،‬وهم ذوو ب??أس ش??ديد‬
‫ومنعة‪ ،‬ولهم مدن كثيرة يجمعهم ملك واح??د‪ ،‬وأس??ماء مل??وكهم في س??ائر األعص??ار‬
‫أدنكبس والمدين???ة? العظمى من م???دنهم ودار مملكتهم هي يس???ت‪ ،‬ويخترقه???ا نه???ر‬
‫عظيم‪ ،‬وهي جانبان‪ ،‬وهذا النهر أحد أنهار العالم الموصوفة بالكبر والعجائب يق??ال‬
‫له سايبط‪ ،‬قد ذكره جماعة ممن عني بهذا المعنى ممن تقدم‪ ،‬وكان المسلمون ممن‬
‫صفحة ‪237 :‬‬

‫جاورهم من بالد األندلس والمغرب غلبوهم على مدن كثيرة من مدنهم مث??ل مدين ?ة?‬
‫باري ومدينة? طارنيو ومدينة? شبرامة? وغيرها من مدنهم الكبار‪.‬‬
‫ثم إن النوكبرد أنابوا ورجعوا على من كان في تلك المدن من المسلمين فأخرجوهم‬
‫عنه??ا بع??د ح??رب طوي??ل‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من الم??دن في وقتن??ا ه??ذا‪ -‬وه??و س??نة اثن??تين‬
‫وثالثين وثلثمائة‪ ?-‬في أيدي النوكبرد‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬ومن ذكرنا من الجاللقة واإلفرنجة والص??قالبة والنوك??برد وغيره??ا‬
‫ب أله??ل األن??دلس‪ ،‬وص??احب األن??دلس‬ ‫من األمم فديارهم متقاربة‪ ،‬واألكثر منهم َح? ْر ٌ‬
‫في هذا الوقت ذو َم َنعة وقوة عظيمة على ما قدمنا من نسبه? وأخباره‪ ،‬وقد كان عبد‬
‫الرحمن بن معاوي??ة بن هش??ام س??ار إلى األن??دلس في أول دول??ة ب??ني العب??اس‪ ،‬ول??ه‬
‫أخبار كثيرة في كيفية وصوله إلى األن??دلس‪ ،‬ودار مملك??ة األن??دلس قرطب??ة على م??ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬ولهم مدن كثيرة وعمائر متصلة واسعة‪ ،‬وثغور في أطراف أرضهم‪ ،‬وربم??ا‬
‫يجتمع عليهم من جاورهم من األمم من ولد يافث من الجاللقة وبرج??ان واإلِفرنج??ة‬
‫صاحب األندلسى في هذا الوقت يركب في مائة ألف‪ ،‬وه?و ذو‬ ‫وغيرها من األلسن و َ‬
‫هّللا‬
‫َم َن َعة بالرجال والمال وال ُكراع والعدد‪ ،‬و أعلم‪.‬‬

‫ذكر عاد وملوكها‬


‫عاد األولى‬

‫ذ َك َر جماعة ذوي العناية بأخبار العالم أن ال ُم ْل َك ُي?ؤ َثر من بع?د ن?وح في ع?اد األولى‬
‫التي بأدت قبل سائر ممالك العرب كلها‪ ،‬ومصداق ذلك قوله ع?ز وج?ل‪ :‬وأن?ه أهل?ك‬
‫عادأ األولى فإنه ي?دل على تق?دمهم‪ ،‬وأن هن?اك ع?ادأ ثاني?ة‪ ،‬وأخ?بر هّللا عن ملكهم‪،‬‬
‫ونطق بشدة بطشهم‪ ،‬وم??ا بن??وه من األبني?ة? المش??يدة ال??تي ت??دعى على من ال??دهور‬
‫ِئة‪ ،‬وقد أخبر هّللا تع??الى عن ق??ول نبي?ه? ه??ود‪ -‬علي??ه الس?الم وخطاب??ه إي??اهم‪" :‬‬
‫العاد َ‬
‫أتبن??ون بك??ل ري??ع آي??ة تعبث??ون‪ ،‬وتتخ??ذون مص??انع لعلكم تخل??دون‪ ،‬وإذا بطش??تم‬
‫جبارين"‪.‬‬

‫عاد أول ملك بعد نوح‬

‫وعاد أول من مل??ك في األرض في ق??ول ه??ذه الطائف??ة‪ ،‬بع??د أن أهل??ك هللا ع??ز وج??ل‬
‫الكفار من قوم نوح‪ ،‬وذلك لقوله تعالى‪ :‬واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‪،‬‬
‫وزادكم في الخلق بسطة وذلك أن هؤالء القوم كانوا في هيأت النخل ط?وال‪ ،‬وك?انوا‬
‫في اتصال األعمار وطولها بحسب ذلك من القدر‪ ،‬وكانت نفوس??هم قوي??ة‪ ،‬وكب??ادهم‬
‫غليظة‪ ،‬ولم يكن في األرض أمة هي أش?د بطش?ا وك?ثر آث?ارا وأق?وى عق?وال وأك?ثر‬
‫أحالما ً من ق?وم ع?اد‪ ،‬ولم يكن الهل?ك يع?رض في أجس أم?ه م‪ ،‬لق?وة آث?ار الطبيع?ة‬
‫فيها‪ ،‬وما أوتوه من الزيادة في تمام البنية وكم?ال الهيئ?ة? على حس?ب م?ا أخ?بر هللا‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫صفحة ‪238 :‬‬

‫نسب عاد وعبادته وأوالده‬

‫وكان عاد رجال جباراً عظيم الخلقة‪ ،‬وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن ن??وح‪،‬‬
‫وكان عاد يعبد القمر‪ ،‬وذكروا أنه رأى من صلبه أربعة آالف ولد‪ ،‬وأنه تزوج أل??ف‬
‫امرأة‪ ،‬وكانت بالدة متصلة ب??اليمن‪ ،‬وهي بالد األحق??اف‪ ،‬وبالد ص??حاري هي وبالد‬
‫عمان إلى حضر موت على حسب ما قدمنا آنفا ً فيما س??لف من ه??ذا الكت??اب وغ??يره‬
‫من كتبنا‪.‬‬
‫وقد ذ َك َر جماعة من اإلخباريين‪ -‬ممن عني بأخبار العرب‪ -‬أن عادا لما توسط العمر‬
‫واجتمع له الول??د وول?د الول??د‪ ،‬ورأى البطن العاش?ر من ول?ده‪ ،‬وظه?ور الك??ثرة م??ع‬
‫?رى الض??يف‪ ،‬وأحوال??ه‬ ‫تش??ييد? المل??ك واس??تقامة األم??ر‪ ،‬غم??ر إحس??انه الن??اس‪َ ،‬و َق? َ‬
‫منتظمة‪ ،‬والدنيا عليه مقبلة‪ ،‬فعاش ألف سنة ومائتي سنة ثم مات‪.‬‬
‫وكان الملك بعده في األكبر من ولده‪ ،‬وهو شديد بن عاد وكان ش??ديد بن ع?اد ملك?ه‬
‫خمسمائة? سنة وثمانينَ سنة‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أخوه شداد بن عاد وكان ملكه تسعمائة سنة‪ ،‬و ُيقال‪ :‬إنه احت??وى على‬
‫سائر ممالك العالم‪ ،‬وهو الذي بنى مدينة? أرم ذات العماد‪ ،‬على حسب ما قدمنا فيم??ا‬
‫سلف من كتبنا عند إخبارنا عن ه??ذه المدين?ة? وتن??ازع الن??اس في كيفته??ا وماهيته??ا‬
‫وفي أي بالد هي‪.‬‬
‫وهذه عاد الثانية التي ذكرها هّللا تعالى فقال‪" :‬لم تر كي??ف فع??ل رب??ك بع??اد أرم ذات‬
‫العماد" وإلى هذه األمة انتهى البطش‪ ،‬ولشداد بن عاد مسير? في األرض‪ ،‬وط??واف‬
‫في البالد وب??أس عظيم في ممال??ك الهن??د وغيره??ا من ممال??ك الش??رق والغ??رب‪،‬‬
‫وحروب كث?يرة‪ ،‬أعرض?نا عن ذكره??ا لش?رط االختص?ار‪َ ،‬و ُم َع ّولن??ا في ذل?ك على م?ا‬
‫س ْطناه من أخبارهم في كتاب أخبار الزمان‪ :‬من األمم الماضية‪ ،‬واألجيال الخالي??ة‪،‬‬ ‫َب َ‬
‫والممالك الداثرة وسنورد فيما يود من هذا الكتاب‪ -‬عند ذكرن??ا تف??رق الن??اس بباب??ل‬
‫وتشعب األنساب‪ ،‬وما قالوا في ذلك من األشعار‪ -‬جمالً من أخبار عاد ونبيها ه??ود‪،‬‬
‫فأما تنازع الناس ممن س?لف وخل?ف في العل?ة ال?تي له?ا عظمت أجس?ادهم وط?الت‬
‫أعمارهم فقد أتينا على ذكر ذلك في كتابنا المترجم ب الكتاب ال??رؤوس الس??بعة من‬
‫السياسة الملوكية وكذلك في كتابنا المترجم ب‪ -‬كتاب الزلف‪.‬‬

‫وذكرنا العلة التي لها من أجلها عدم كون الس??باع والجم??ال ب??أرض األن??دلس‪ ،‬وم??ا‬
‫يتكون في ه??ذه األرض من الج??واهر في نباته??ا ومعادنه??ا‪ ،‬وم??ا في أرض جليقي??ة‪،‬‬
‫وإلى هذه األرض أضيفت مملكة الجاللقة المقدم ذكرها فيما سلف من ه??ذا الكت??اب‪،‬‬
‫وهم أش??د األمم على أه??ل األن??دلس‪ ،‬وأعظمهم بطش??ا ً ممن ج??اورهم‪ ،‬ثم يليهم في‬
‫الناس أمة عظيمة الملك يقال لها الوشكنش‪ ،‬على حسب ما ق??دمنا من ذك??رهم فيم??ا‬
‫سلف من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا مما تقدم تأليف هذا الكتاب‪.‬‬

‫صفحة ‪239 :‬‬

‫ذكر ثمود وملوكها وصالح نبيها عليه السالم‬


‫مساكن ثمود‬

‫قد ذكرنا فيما سلف من ذكر ثم??ود ونبيه??ا ص??الح علي??ه الس??الم لمع??ا‪ ،‬و إن كن??ا ق??د‬
‫بسطنا ذلك في غير هذا الكتاب‪ ،‬وكان ملك ثمود بن عابر بن أرم بن س??ام بن ن??وح‬
‫بين الشام والحجاز إلى ساحل البح??ر الحبش??ي‪ ،‬ودي??ارهم ِب َف َج الناق??ة‪ ،‬وبي??وتهم? إلى‬
‫وقتنا هذا أبنية منحوتة في الجبال‪ ،‬ورسمهم باقية وآثارهم بادية‪ ،‬وذلك في طري??ق‬
‫الحاج لمن َو َردَ من الشام ب?القرب من وادي الق?رى‪ ،‬وبي?وتهم منحوت?ة في الص?خر‬
‫بأبواب صغار‪ ،‬ومساكنهم على قدر مساكن أهل عص??رنا‪ ،‬وه??ذا ي??دل على أن أجس‬
‫أمه م على قمر أجسامنا‪ ،‬دون ما يخبر ب??ه القص??اص من بع??د أجس أم??ه م‪ ،‬وليس‬
‫هؤالء كعاد؛ إذ كانت آثارهم ومواضع مساكنهم وبني??انهم ب??أرض الش??حر ت??دل على‬
‫بعد أجسأمه ‪.‬‬
‫و كان ملك المل??ك األول من مل??وكهم م??ائتي س??نة‪ ،‬وه??و ع?ابر بن أرم بن ثم??ود بن‬
‫عابر بن أرم بن سام بن نوح‪.‬‬
‫ثم ملك بعده جندع بن عمروبن الذبيل بن أرم بن ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن‬
‫نوح‪ ،‬وكان ملكه إلى أن هلك مائتي سنة وتسعين س??نة‪ ،‬وهل??ك جن??دع ه??ذا بع??د أن‬
‫كان من أمر صالح النبي صلى هللا عليه وسلم ما كان على م??ا ذكرن??ا أربعين س??نة‪،‬‬
‫فجميع ما ملك هذا الملك‪ -‬وهو جندع‪ -‬ثلثمائة? وسبع وعشرون سنة‪ ،‬فهؤالء ملوك‬
‫ثمود‪?.‬‬

‫صالح رسول هللا إلى ثمود‬

‫وبعث هّللا صالحا ً نبيا ً وهو غالم َحدَ ث لثمود على حين ف??ترة ك??انت بين??ه وبين ه??ود‬
‫نحو من مائ??ة س??نة‪ ،‬ف?دعاهم إلى هللا‪ ،‬وملكهم يومئ??ذ ه?و جن?د ابن عم?رو على م??ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬فلم يجب صالحا ً من قومه إال نف??ر يس??ير‪ ،‬وك??بر ص??الح‪ ،‬ولم ي??زد قوم??ه من‬
‫اإلِيم??ان إال ُب ْع? داً‪ ،‬فلم??ا ت??واتر عليهم أع??ذاره وإن??ذاره ووع??ده س??اموه المعج??زات‪،‬‬
‫وإظهار العالمات‪ ،‬ليمنعوه من دعائهم‪ ،‬وليعجزوه عن خطابهم‪ ،‬فحض??ر عي??داً لهم‪،‬‬
‫وقد أظهروا أوثانهم‪ ،‬وكان القو ُم أص??حاب إب??ل‪ ،‬فس??اموه اآلي??ة من جنس أم??والهم‪،‬‬
‫وطالبوه بما هو مجإنس ألمالكهم‪ ،‬وذل??ك من بع??د ا َتف??اق آرائهم فق??ال ل??ه زعيم من‬
‫زعمائهم‪ :‬يا صالح‪ ،‬إن كنت صادقا ً في قولك‪ ،‬وأنك ُم َع ِّبر عن ربك‪ ،‬ف??أظهر لن??ا من‬
‫ش? َراء َن ُتوج?ا ً حالك??ة ص??افيه الل??ون ذات‬
‫هذه الصخرة ناقة‪ ،‬ولتكن َو ْب َراء س??وداء ُع َ‬
‫عرف وناصية وشعر ووبر‪ ،‬فاستغاث بربه‪ ?،‬فتحركت الصخر وتململت‪ ،‬وب??دا منه??ا‬
‫َحنِين وأنين‪ ،‬ثم انص??دعت من بع??د تمخض ش??ديد كتمخض الم??رأة حين ال??والدة‪،‬‬
‫ب له??ا نحوه??ا‬ ‫س ْق ٌ‬
‫وظهر منها ناقة على ما طلبوه من الصفة‪ ،‬ثم تالها من الصخرة َ‬
‫في الوصف‪ ،‬فأ ْم َع َنا في َر ْعي الكأل وطلب الماء والمرعى‪ ،‬فآمن خلق ممن حضره‪،‬‬
‫وزعيمهم الذي سأله وهو جندع بن عمرو‪ ،‬وأقامت الناقة يحلبون من لبنها م?ا يعم‬
‫شربه? ثموداً كلها‪ ،‬وضايقتهم في الكأل والماء‪ ،‬وكان في ثمود مرآتان َذ َوا َتا حسن‬
‫صفحة ‪240 :‬‬

‫وجم??ال‪ ،‬فزارهم??ا رجالن من ثم??ود‪ ،‬وهم??ا ق??دار بن س??الف‪ ،‬ومص??دع بن مف??رج‪،‬‬


‫والمرأتان عنيزة بنت غنم‪ ،‬وصدوف بنت المجبا‪ ،‬فق??الت ص??دوف‪ :‬ل??و ك??ان أن??ا في‬
‫هذا اليوم ماء ألسقينا كما خمراً‪ ،‬وهذا يوم الناقة وورده??ا إلى الم??اء‪ ،‬ال س??بيل? لن??ا‬
‫إلى الشرب‪ ،‬فقالت عنيزة‪ :‬بلى وهّللا لو أن لنا رجاال ل َك َف ْو َنا إياها‪ ،‬وهل هي إال بعير‬
‫من اإلبل؛ فقال قدار‪ :‬ياص??دوف‪ ،‬إن أن??ا كفيت??ك أم??ر الناق??ة فم??الي عن??دك‪.‬؛ فق??الت‪:‬‬
‫نفسي‪ ،‬وهل حائل دونها عن??ك‪ ..‬فأج??ابت األخ??رى ص??احبها بنح??و ذل??ك‪ ،‬فق??اال‪ :‬مِيالَ‬
‫علينا بالخمر‪ ،‬فشربا ح??تى توس??طا الس??كر‪ ،‬ثم خرج?ا فاس??تغويا‪ ،‬تس??عة ره??ط‪ ،‬وهم‬
‫التسعة الذين أخبر هّللا تعالى عنهم في كتابه بقوله‪ " :‬وكان في المدينة تسعة رهط‬
‫يفس??دون في األرض وال يص??لحون " وقص??حوا طري??ق‪ -‬الناق??ة في ح??ال ص??دورها‪،‬‬
‫فض??رب ق??دار عرقوبه??ا بالس??يف‪ ،‬فعرقبه??ا‪ ،‬وأتب??ع ص??احبه األخ??ر العرق??وب األخ??ر‬
‫الس? ْقب بص??خرة‬ ‫بسهمه‪ ،‬فخ??رت الناق??ة لوجهه??ا‪ ،‬ووج??ا ق??دار لب َت َه??ا فنحره??ا‪ ،‬والذ ً‬
‫فلحقه بعضهم فعقره وفرقوا لحم الناقة‪ ،‬وورد صالح فنظر إلى ما فعل??وه‪ ،‬فو َع? دَ هم‬
‫العذاب‪ ،‬و كان ذلك في يوم األربعاء‪ ،‬فقالوا له مستهزئين‪ :‬يا صالح‪ ،‬متى يكون ما‬
‫وع?دتنا ب??ه من الع?ذاب عن رب??ك؛ فق?ال‪ :‬تص?بح? وج??وهكم ي?وم م?ؤنس‪ -‬وه?و ي??وم‬
‫الخميس‪-‬مصفرة‪ ،‬ويوم العروبة محمرة‪ ،‬ويوم ش??يار مس??ودة‪ ،‬ثم يص??بحكم الع??ذاب‬
‫يوم أول‪ ،‬وس??نذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب أس??ماء الش??هور واألي??ام بلغتهم‪َ ،‬ف َهم‬
‫صالح‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن كان صادقا ً كنا قد عاجلناه قبل إذ يعاجلنا‪ ،‬وإن ك??ان‬ ‫ِ‬ ‫التسعة بقتل‬
‫كاذبا َ كنا ق?د ألحقن??اه بناقت??ه‪ ،‬ف?أتوه ليالً‪ ،‬فح??الت المالئك??ة بينهم وبين??ه‪ ،‬وأمط??رتهم‬
‫الحجارة‪ ،‬ومنعه هّللا منهم‪ ،‬فلما أصبحوا نظروا إلى وج??وههم كم??ا وع??دهم ص??فراء‬
‫الو ْرس‪ :‬قد حالت األلوان‪ ،‬وتغيرت األجسام‪ ،‬وتيقن القوم ص??دق الوعي??د وأن‬ ‫كأنها َ‬
‫ف من‬ ‫العذاب واقع بهم‪ ،‬وخرج صالح في ليلة األحد من بين ظه??را َن ْي ِه ْم م??ع من َخ? ّ‬
‫المؤمنين‪ ،‬فنزل موضع مدينة الرملة من بالد فلسطين‪ ،‬وأتاهم الع??ذاب ي??وم األح??د‪،‬‬
‫وفيهم يقول بعض من آمن بصالح عليه السالم‪:‬‬
‫كأن وجوهكم ُطلِ َي ْت ِب َو ْرس‬ ‫أراكم يارجال بنـي عـتـيد‬
‫فرة‪ ،‬وناثوا يال مـرس‬ ‫ص َ‬‫ُم َ‬ ‫مر ْت وجوه‬ ‫ويوم عروبة ْا َح َّ‬
‫من الحيين قبل طلوع شمس‬ ‫ويوم شيار فاسود ْت وجـوه‬
‫بتعـس‬‫ص ْي َحة َع ِّم ْت ْ‬‫أتتهم َ‬ ‫فلما كان أول في ضـحـاه‬

‫وفيهم يقول حباب بن عمرو‪ ،‬وكان ممن اعتزلهم من المؤمنين وبان عن ديارهم‪:‬‬

‫ار‬
‫إن ُيضام لهم في الناس مِنْ َج ِ‬ ‫عـز ومـكـرمة ما‬ ‫كانت ثمود ذوي ّ‬
‫َو ْق َع السيوف‪ ،‬وال نزعا ً بـأوتـار‬ ‫ال يرهبون من األعداء حـولـهـم‬
‫قد أنفروها وكانوا غـير أبـرار‬ ‫لـر َبـهـم‬
‫َ‬ ‫فأهلكوا ناقة كـانـت‬
‫هل للعجول وهل للسقب من ثـار‬ ‫ب بـينـهـم‬ ‫الس ْق ِ‬
‫ناعوا قداراً ولحم ِّ‬
‫وأخفروا العهد هَذبا ً أي إخفار‬ ‫لم َي ْر َع َيا صالحا ً في عقر ناقته‬
‫َفش ّدخوا روسهم شدْ خا ً بأحجار‬ ‫فصادفوا عنده من ربه َح َرسا‬

‫صفحة ‪241 :‬‬

‫وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب‪ -‬عند ذكرنا لتفرق الن??اس بباب??ل‪ -‬من أخب??ار ثم??ود‬
‫ُج َمالً‪ ،‬وما كان من أمر الن?اس ب?أرض باب?ل واف?تراق لغ?اتهم‪ ،‬وم?ا قال?ه ك?ل فري?ق‬
‫منهم من الشعر‪ ،‬على حسب ما أعطاه هّللا من اللسان‪ ،‬وان كنا قد أتين??ا على ش??رح‬
‫ذلك على الكمال فيما تقدم لنا من كتابنا أخبار الزمان و باهلل التوفيق‪.‬‬

‫ذكر مكة وأخبارها وبناء البيت‬


‫ومن تداوله من جرهم وغيرها وهذا لحق بهذا الباب‬
‫سكن إسماعيل وأمه بمكة‬

‫َ?اجر‪ ،‬واس?تودعهما خال َق? ُه على‬


‫ولما أسكن إبراهيم ولده إس?ماعيل مك?ة م?ع أم?ه ه َ‬
‫?و ٌة‬
‫زرع‪ ،‬وك?ان موض??ع ال?بيت َر ْب? َ‬ ‫هّللا‬
‫حسب ما أخبر عنه أنه أس?كنه ب??واد غ??ير في ٍ‬
‫حمراء‪ -‬أمر إبراهيم هاجر أن تتخذ عليها عريشا يكون لها مسكنأ‪ ،‬وك??ان من ظم??أ‬
‫إسماعيل وخبر هاجر ما كان إلى أن أنبع هًللا لهم??ا زم??زم‪ ،‬وأقح??ط الش??حر واليمن‪،‬‬
‫ُ‬
‫العماليق وجرهم في البالد َو َمنْ مناك من بقايا عاد‪.‬‬ ‫فتفرق‬

‫نزول العماليق معهما‬

‫فيممت العم??اليق نح??و تهام??ة يطلب??ون الم??اء والم??رعى وال??دار الخص??يبة‪ ،‬عليهم‬
‫السميدع بن هوبر بن الوى بن قيطوربن كرك??ر بن حي??دان‪ ،‬فلم??ا أمعنت بن??و كرك??ر‬
‫في المسير‪ ?-‬وقد عدمت الماء والمرعى‪ ،‬واشتد بها الجهد‪ -‬أقبل السميدع بن ه??وبر‬
‫شعر له ويشجعهم بما قد نزل بهم‪ ،‬وهو‪:‬‬‫ٍ‬ ‫يحثهم على السير في‬

‫إني أرى ذا ال َدهْ َر في فسـاد‬ ‫سيروا بني الكركر في البالد‬


‫خر ُه ُم ل َّما هَدَّ ها التـعـادي‬
‫ْ‬ ‫قد سأر من َق ْحطان في الرشاد‬
‫فنظروا‬ ‫فأشرف ُر َّو ادهم وهم المتقدمون منهم لطلب الماء على الوادي‬
‫الر ْب َوة الحم??راء‪،‬‬
‫الطير ترتفع وتنخفض‪ ،‬فهبطوا الوادي ونظروا إلى العريش على َّ‬
‫وفيها هاجر وإسماعيل‪ ،‬وقد َز َم ْت حول الماء باألحجار ومنعت??ه من الجري??ان‪ ،‬وق??د‬
‫روي أن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم ق??ال‪ :‬رح َم هّللا أمن??ا ه??اجر‪ ،‬ل??وال أنه??ا بخلت‬
‫ومنعت ماء زمزم من أن يجري بما َح? َؤ َط ْت حول??ه من األحج??ار لج??ري الم??اء على‬
‫?رؤاد عنيه??ا‪ ،‬واس??تأذنوها في ن??زولهم وش??ربهم من الم??اء‪،‬‬ ‫وج??ه األرض‪ .‬فس??لم ال? َ‬
‫ِس????? ْت إليهم‪ ،‬وأذنت لهم في ال?????نزول‪ ،‬فتلق?????وا َمنْ ك?????ان وراءهم من أهليهم‪،‬‬ ‫فأن َ‬
‫وأخبروهم خبر الماء‪ ،‬ف??نزلوا ال??وادي مطمئ??نين‪ ،‬مستبش??رين بالم??اء‪ ،‬وبم??ا أض??اء‬
‫ال??وادى من ن??ور النب??وة وموض??ع ال??بيت الح??رام‪ ،‬ف??رحين‪َ ،‬و َع َّيل إس??ماعيل‪ ،‬وتكلم‬
‫إسماعيل ُ بالعربية خالف لغة أبيه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقد ذكرنا في هذا الكتاب وغيره ما قاله الناس في ذلك من ق ْحط? ان ون??زار وت? َ‬
‫?ز ُوج‬
‫إسماعيل بالجداء بنت سع ٍد العمالقي‪.‬‬

‫صفحة ‪242 :‬‬

‫زيارة إبراهيم األولى البنه‬

‫وق??د ك??ان إب??راهيم اس??تأذن س??ارة في زي??ارة إس??ماعيل‪ ،‬ف??أذنت ل??ه‪ ،‬ف??وافى مك??ة‬
‫وإسماعيل في الصيد والرعي ومعه أمه هاجر‪ ،‬فسلم على الجداء بنت س??عد زوج??ة‬
‫إسماعيل‪ ،‬فلم تر َّد عليه السالم‪ ،‬فقال‪ :‬ه??ل من م??نزل‪ .‬فق??الت‪ :‬ال ه??ا هّللا ‪ ،‬ق??ال‪ :‬فم??ا‬
‫يفعل رب البيت؛ قالت‪ :‬هو غائب‪ ،‬فقال لها‪ :‬إذا ورد فأخبريه? أن إب??راهيم يق??ول ل??ك‬
‫بعد مسألته عنك وعن أمك‪ :‬استبدل بعتبة بيتك غيرها‪ ،‬وانصرف إبراهيم من َف ْوره‬
‫نحو الشام‪ ،‬وراح إس??ماعيل وه??اجر‪ ،‬فنظ??ر إلى ال??وادي ق??د أش??رق وأن??ار‪ ،‬والغن??ام‬
‫تتنسم? اآلثار‪ ،‬فقال لزوجته الجداء‪ :‬هل كان ل??ك بع??دي من خ??بر؛ ق??الت‪ :‬نعم‪ ،‬ش??يخ‬
‫َو َردَ علي‪ ،‬وأخبر ْت ُ?ه بالقص??ة‪ ،‬فق??ال‪ :‬ذاك أبي خلي??ل ال??رحمن‪ ،‬وق??د أم??رني بتخلي??ك‪،‬‬
‫فالحقِي بأهلك‪ ،‬فال خير فيك‪.‬‬
‫ْ‬

‫نزول جرهم مكة‬


‫وتسامعت ج??رهم بب??ني? كرك??ر ون??زولهم ال??وادي‪ ،‬وم??ا هم في??ه من الخص??ب وإدرار‬
‫ض?اض بن‬ ‫الضرع‪ ،‬وهم في حال ال َق ْحطِ ‪ ،‬فبادروا نح??و مك??ة‪ ،‬وعليهم الح??ارث بن ُم َ‬
‫ِّ‬
‫عمرو بن سعد بن الرقيب بن ظالم بن هيني بن نبت بن ُج ْرهم‪ ،‬حتى أتوا ال??واعي‪،‬‬
‫ونزلوا مكة‪ ،‬واستوطنوها مع إسماعيل ومن تقدمهم من العماليقه من ب??ني كرك??ر‪،‬‬
‫وقد قيل في بني كرك??ر‪ :‬إنهم من العم??اليق‪ ،‬وقي??ل‪ :‬انهم من ج??رهم‪ ،‬واألش??هر أنهم‬
‫من العماليق‪ ،‬وتزوج إسماعيل زوجته الثانية‪ ،‬وهي سامة بنت مهلهل بن س??عد بن‬
‫عوف بن هيني بن نبت‪.‬‬

‫زيارة إبراهيم الثانية‬


‫واس??تأذن إب?راهيم س?ارة في زي??ارة إس??ماعيل‪ ،‬فاس?تحلفته غ??يرة علي?ه أن?ه إذا أتى‬
‫الموضع ال ينزل من ركابه‪ ،‬وقد تن??ازع الن??اس على أي ش??يء ك??ان ركوب??ه‪ :‬فمنهم‬
‫ان‪ ،‬وقيل غ??ير ذل??ك من‬ ‫من قال‪ :‬إنه كان راكبا ً على ال ُب َراق‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬على أ َت ٍ‬
‫الحيوان‪ ،‬فلما أتى إبراهيم ال??وادي س??لم على زوج??ة إس??ماعيل الجرهمي??ة‪ ،‬فس??لمت‬
‫ورحبت ب?ه و َت َلقت?ه بأحس?ن لق?اء‪ ،‬وس?ألها عن إس?ماعيل وه?اجر‪ ،‬فأخبرت?ه?‬ ‫ْ‬ ‫علي?ه‪،‬‬
‫بخبرهما‪ ،‬وأنهما في َر ْعيهما‪ ،‬وعرضت عليه النزول‪ ،‬فأبى‪ ،‬وقيل‪ :‬إن هاجر ك??انت‬
‫قد ماتت ولها من السن تسعون س?نة‪ ،‬وألحت الجرهمي?ة? على إب?راهيم في ال?نزول‪،‬‬
‫فأبى‪ ،‬فقدمت إليه لبنا ً وشرائح من لحم الصيد‪ ،‬فدعا في??ه بالبرك??ة‪ ،‬وجاءت??ه بحج??ر‬
‫ك??ان في ال??بيت‪ ،‬فم??ال عن ركاب??ه‪ ،‬وجعلت??ه تحت قدم??ه اليم??نى‪ ،‬ثم َرج َل ْت ش??عره‬
‫ودهنته‪ ?،‬ثم َح? َّولت الحج??ر إلى ش??ماله‪ ،‬فوض??ع رجل??ه اليس??رى علي??ه أيض??ا‪ ،‬وم??ال‬
‫فر َّجلته ودهنته‪ ،‬فأثرت قدماه في الحجر على ما وص??فنا من ت??رتيب‬ ‫برأسه نحوها‪َ ،‬‬
‫اليمين والشمال‪ ،‬فلما رأت الجرهمية ذلك ْأك َب َر ْت ما شاهدته‪ ،‬وهذا الحجر هو مق??ام‬
‫إبراهيم‪ ،‬فقال لها إبراهيم‪ :‬ارفعيه‪ ،‬فسيكون له شأن ونبأ بعد حين‪ ،‬ثم قال له??ا‪ :‬إذا‬
‫الس?الم ويق?ول ل?ك‪ :‬احتف?ظ بعتب?ة‬‫ٍ‬ ‫جاءك إسماعيل فقولي له‪ :‬إن إبراهيم يقرأ عليك‬
‫ُ?‬
‫العتبة هي‪ ،‬وسار إبراهيم راجعا نحو الشام‪.‬‬ ‫بيتك‪ ،‬فنعم‬
‫ِ‬
‫صفحة ‪243 :‬‬

‫سر تسمية إسماعيل‬


‫?ر َب ْت من‬‫وقي??ل ‪ :‬إنم??ا س??مي إس??ماعيل ألن هّللا س??مع دع??اء ه??اجر ورحمه??ا حين َه? َ‬
‫سيدتها سارة أم إسحاق‪ ،‬وقيل‪ :‬إن هّللا سمع دعاء إبراهيم‪.‬‬
‫وقبض إسماعيل وله مائة وسبع وثالث??ون س??نة ؛ ف??دفن في المس??جد الح??رام ِح َي??ال‬
‫الموضع الذي كان فيه الحجر األسود‪.‬‬

‫أبناء إسماعيل‬
‫وول??د إلِس??ماعيل اثن??ا عش??ر ول??داً ذك??راً‪ ،‬وهم ن??ابت‪ ،‬وقي??دار‪ ،‬وأدبي??ل‪ ،‬ومبس??م‪ٍ ،‬و‬
‫مشمع‪ ،‬ودوما‪ ،‬وع??وام‪ ،‬ومس??ا‪ ،‬وح??داد‪ ،‬وثيم??ا‪ ،‬ويط??ور‪ ،‬ون??افش وك??ل ه??ؤالء ق??د‬
‫سلَ‪.‬‬‫أ ْن َ‬
‫بناء الكعبة‬
‫وقد كان إبراهيم قدم إلى مكة وإلسماعيل ثالثون س?نة‪ ?،‬حين أم?ره هّللا تع?الى ببن?اء‬
‫البيت‪ ،‬فبناه‪ ،‬وكان إسماعيل ي??أتي ب??الحجر من ع?دة جب?ال ذك??رت‪ ،‬وطول??ه ثالث??ون‬
‫ذراعا‪ ،‬والحجر فيه وهو س?بعة أف??رع‪ ،‬وعرض??ه اثن??ان وعش?رون ذراع?ا‪ ،‬وس?مكه‬
‫?ع ال??ركن موض??عه‪ ،‬وألص??ق المق??ام‬ ‫سبعة أفرع‪ ،‬وجعل ل??ه باب?اً‪ ،‬ولم يس??قف‪ ،‬ووض? ِ‬
‫ت وإس?ماعِيل"ُ‬ ‫إب?راهِي ُم ال َق َواعِ? دَ مِنَ ال َب ْي ِ‬
‫"وإِ ْذ َي ْرف? ُع َ‬
‫بالبيت‪ ،‬وذلك قوله ع?ز وج?ل‪َ :‬‬
‫اآلية‪ ،‬وأمر هّللا تعالى إبراهيم أن يؤ ِّذنَ في الناس بالحج‪.‬‬

‫والة البيت من جرهم وأبناء إسماعيل‬


‫ولما قُبض إسماعيل قام بالبيت بعده نابت بن إسماعيل‪ ،‬ثم قام من بع??ده أن??اس من‬
‫?رهم يومئ ?ذ? الح??ارث بن‬ ‫?رهم‪ ،‬لغلب??ة ج??رهم على ول??د إس??ماعيل‪ ،‬وك??ان مل??ك ُج? ْ‬ ‫ُج? ْ‬
‫ض??اض‪ ،‬وه??و أول من ولي ال??بيت‪ ،‬وك??ان ي??نزل هن??اك في الموض??ع المع??روف‬ ‫ُم َ‬
‫ش? َرها علي??ه وذل??ك في‬ ‫قعان في هذا الوقت‪ ،‬وكان ك??ل من دخ??ل مك??ة بتج??ارة َع َّ‬ ‫بقُ َع ْي َ‬
‫س َم ْيدَ ع بن ه??و بن الوى بن قبط??ور بن كرك??ر بن حي??د‬ ‫أعلى مكة‪ ،‬وملك العماليق ال َّ‬
‫ش? ُر من دخ??ل مك??ة من ناحيت??ه‪ ?،‬وك??انت‬ ‫وكان ينزل أجيادا من أسفل مك??ة‪ ،‬وك??ان ُي َع َ‬
‫ضاض ملك جرهم تتقعقع مع?ه الرم?اح وال?درق‪،‬‬ ‫بينهم حروب‪ ،‬فخرج الحارث بن ُم َ‬
‫فسمى الموضع بقعيقعان لما ذكرنا‪ ،‬وخرج السميدع ملك العماليق ومعه الجياد من‬
‫الخيل فعرف الموضع بأجياد إلى هذا ال??وقت‪ ،‬فك??انت على الجرهم??يين وافتض??حوا‪،‬‬
‫فسمى الموضع فاضحا ً إلى هذا الوقت‪ ،‬ثم اصطلحوا ونجروا ال ُج ُز َر وطبخوا فسمي‬
‫الموض??ع بط??ابخ إلى اآلن‪ ،‬وص??ارت والي??ة ال??بيت إلى العم??اليق‪ ،‬ثم ك??انت لج??رهم‬
‫عليهم‪ ،‬وأق??اموا والة ال??بيت نح??و ثلثمائ??ة س??نة‪ ،‬وك??ان آخ??ر مل??وكهم الح??ارث بن‬
‫ضاض األكبر‪ ،‬وزاعوا فيِ بناء ال??بيت‪،‬‬ ‫ضاض األصغر بن عمرو بن الحارث بن ُم َ‬ ‫ُم َ‬
‫وبغت ج?رهم في الح?رام‬ ‫ْ‬ ‫ورفعته على ما كان عليه من بناء إب?راهيم علي??ه الس?الم‪،‬‬
‫وط َغ ْت ‪ ،‬حتى فسق رجل منهم في الحرم بامرأة‪ ،‬وكان الرجل يدعى بإساف والمرأة‬ ‫َ‬
‫ص ِّيرا بعد ذلك وث??نين و ُع ِب??دَ ا تقرب??ا بهم??ا إلى‬ ‫نائلة‪ ،‬فمسخهما هّللا عز وجل حجرين ُ‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وقيل‪ :‬بل هما حجران نحتا و ُم ِّثال بمن ذكرنا وسميا بأسمائهما‪ ،‬فبعث‬
‫صفحة ‪244 :‬‬

‫الر َعاف والنمل وغير ذلك من اآلف?ات فهل??ك كث??ير منهم‪ ،‬وك??ثر ول??د‬ ‫هّللا على جرهم ُّ‬
‫إس??ماعيل وص??اروا ذوي ق??وة و َم َن َع??ة َف َغ َلب??وا على أخ??والهم ج??رهم وأخرج??وهم من‬
‫مكة‪ ،‬فلحقوا ب ُجهينة‪ ?،‬فأت??اهم في بعض اللي??الي الس??يل ف??ذهب بهم‪ ،‬وك??ان الموض??ع‬
‫الصلت الثققي في شعر له فقال‪:‬‬ ‫يعرف بإضم‪ ،‬وقد ذكر ذلك أمية بن أبي َّ‬

‫ضم‬
‫فسالت بجمعهم إ َ‬ ‫وجرهم دمنوا تهامة في الد هر‬

‫ضاض األصغر الجرهمي‪:‬‬


‫وفي ذلك يقول الحارث بن ُم َ‬

‫أنيس‪ ،‬ولم يسمر بمكة سـامـر‬ ‫الح ُجون إلى الصفا‬


‫كأنْ لم يكن بين َ‬
‫صروف الليالي والجدود العوائر‬ ‫بلى نحن كنا أهلهـا‪ ،‬فـأبـادَ َنـا‬
‫الـدوائر‬
‫ِ‬ ‫ول َّما َتد ُْر فيها علـينـا‬ ‫وكنا إلسماعيل صهـراً ووصـلة‬
‫نطوف بذاك البيت والخير ظاهر‬ ‫وكنا والة البيت من بعـد نـابـت‬
‫الذئب يعوي والعدو المحاصر‬ ‫َف َب َّد َل َنـا ربـي بـهـا دار غـربة بها‬

‫وفيما ذكرنا من أخبارهم يقول عمرو بن الحارث بن مضاض األصغر الجرهمي‪:‬‬

‫نـذرهُ كـل مـحـرم‬


‫إلـيه يؤدي َ‬ ‫وكنا والة البيت والقـاطِ ـن َالـذي‬
‫عن بني َه ْيني? بن ّ‬
‫نبت بن ُج ْرهُم‬ ‫سك َّنا بها قـبـل الـظـبـاء وراثة لها‬

‫وفي ذلك يقول‪:‬‬


‫ووالة لبيتـه والـحـجـاب‬ ‫كهفنا جرهـم‪ ،‬وأية كـهـ ٍ‬
‫ف‬
‫واستعاضوا العقاب بعد الثواب‬ ‫سقُوا في الحرام بعدد ت َقاهـم‬
‫َف َ‬

‫ثم صارت والية البيت في ولد أياد بن نزار بن معد‪ ،‬وكانت حروب كثيرة بين مضر‬
‫وأياد‪ ،‬وكانت لمضر على إياد‪ ،‬فانجلوا عن مكة إلى العراق‪.‬‬
‫وسنورد بعد هذا جمالً من أخبار مكة وولد نزار و ُخزاعة وغيرهم‪.‬‬

‫رواية أخرى في الوالة بمكة‬


‫قال المسعودي‪ :‬وق??د أتين??ا على جم??ل من األخب??ار في ه??ذا الب??اب من أخب??ار ج??رهم‬
‫وغيره??ا‪ ،‬ووج??دت في وج??ه آخ??ر من الرواي??ات أن أول من مل??ك من مل??وك ج??رهم‬
‫بمكة مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيني بن نبت بن جرهم بن قحط??ان‬
‫مائة سنة‪ ?،‬ثم ملك بعمده ابنه عمرو بن مضاض مائة وعشرين س??نة‪ ،‬ثم مل??ك بع??د‬
‫الحارث بن عمرو مائتي? س??نة‪ ،‬وقي??ل دون‪ .‬ذل??ك‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده عم??رو بن الح??ارث‬
‫مائتي سنة وقيل دون ذلك ثم ملك مضاض بن عمرو األصغر بن الحارث بن عمرو‬
‫بن مضاض بن عمرو بن سعد بن ال??رقيب بن هي??ني بن نبت بن ج??رهم بن قحط??ان‬
‫أربعين سنة‪ .‬وانقرضت العرب العاربة من عاد وثمود وعبيد وطسم وجديس‬
‫صفحة ‪245 :‬‬

‫والعم??اليق ووب??ار وج??رهم‪ ،‬ولم يب?ق من الع??رب إال من ك?ان من ع?دنان وقحط?ان‪،‬‬
‫ودخ??ل من بقي ممن ذكرن??ا من الع??رب البائ??دة في ع??دد قحط??ان وع??دنان‪ ،‬ف??انمحت‬
‫أنسابهم وزالت آثارهم‪.‬‬

‫العماليق‬
‫هّللا‬
‫وقد كانت العم??اليق َب َغ ْت في األرض‪ ،‬فس??لط عليهم مل??وك األرض فأفنته??ا‪ ،‬وق??د‬
‫ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرن??ا لل??روم وأنس??ابها َمنْ ألح??ق ول??د عمالق‬
‫وغ??يرهم‪ ،‬ممن ذكرن??ا‪ ،‬بول??د عيص??و بن إس??حاق بن إب??راهيم عليهم??ا الس??الم‪ ،‬وأن‬
‫علماء الع??رب تنس??بهم? إلى غ??ير ه??ذا النس??ب‪ ،‬وه??و األش??هر في الن??اس؛وق??د رثتهم‬
‫الشعراء‪ :‬فقال بعض من رثاهم‪:‬‬
‫والفو نخوة متـشـاوس‬ ‫مضى آل عمالق فلم يبق منهـم خطير‬
‫هذا وعده وهو سائس‬ ‫َع َت ْوا فأدال هّللا منهم‪ ،‬وحكـمـه على الناس‬

‫طسم وجديس‪-‬‬
‫وأما طسم وجديس فتفانت في نحو من سبعين سنة في البراري‪ ،‬بما كان بينهم من‬
‫ال َّ‬
‫ش ْحناء‪ ،‬وطلب الرياسة‪ ،‬فدثروا‪ ،‬ولم يبق لهم باقية‪ ،‬فض??ربت بهم الع??رب المث??ل‪،‬‬
‫وضربت بهم الشعراء المقال فمن ذلك ما قاله بعض الشعراء ممن رثاهم في قوله‪:‬‬
‫ذويلي من َج َوى هم رسيس من األول َ‬
‫لط ْس ٍم أو جديس‬
‫األح ِّم العيطمـوس‬
‫بنو عم تفانوا بالمـذاكـي وباليوم َ‬

‫أصحاب الرس‬
‫َ‬
‫الرس وأصحابه فق??د ق??دمنا ذك??رهم فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪ ،‬وهم ق??وم َح ْنظل??ة بن‬
‫ُّ‬ ‫أما‬
‫صفوان العبسي‪ ،‬بعثه هّللا إليهم فك??ذبوه‪ ،‬وق??د ذكرن??ا من خ??بره لمع??ا‪ ،‬وق??د قي??ل في‬
‫أصحاب الرس أو ُج ٌه كثيرة غير ما ذكرنا في هذا الكت??اب‪ ،‬وق??د ذك??رت ه??ذه القبائ??ل‬
‫في التوراة‪ ،‬وكل يرجع إلى ولد سام بن نوح‪ ?.‬من ب?ني أرم بن س?ام وه?و من ول?ده‬
‫عوص بن أرم‪ ،‬ومن ولده عابر بن أرم‪ ،‬ومن ولده ماش بن أرم‪.‬‬

‫البييط‬
‫فولد عوص عاد بن عوص‪ ،‬وولد عابر ثمود بن عابر‪ ،‬وولد ماش بن أرم نبيط بن‬
‫ماش؛فسائر النبط وملوكها ترجع في أنسابها إلى نبيط بن ماش‪.‬‬

‫مساكن عاد وثمود وجديس وطسم وعيالم ونبيط‬


‫فحل َّ عاد بن عوص بن أرم بن سام بن ن??وح وول??ده األحق??اف من بالد حض??رموت‪،‬‬
‫وحل ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح وولده أكناف الحجاز‪ ،‬وحل ج??ديس بن‬
‫عابر بالد ج? ٍّ?و‪ ،‬وهي بالد اليمام??ة م??ا بين البح??رين والحج??از‪ ،‬وه??ذا البل??د في ه??ذا‬
‫الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬بيد ولد األخيضر العلوي‪ ،‬وهو من ول??د‬
‫الحسن بن علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه‪ ،‬وهو مجاور للبحرين‪ ،‬ومن فيها‬
‫صفحة ‪246 :‬‬

‫طسم بن لود بن سام بن نوح وولده اليمامة مع بني? ج??ديس‪،‬‬ ‫إلى هذا الوقت‪ ،‬وحل ْ‬
‫وحل عمليق بن لود بن سام بن نوح الحجاز‪ ،‬وقد ذكرنا ول??د عيالم فيم?ا س?لف من‬
‫هذا الكتاب أنهم حلوا األهواز وفارس‪ ،‬وهو عيالم بن سام بن نوح‪ ،‬وحل نبي??ط بن‬
‫ماش بن أرم بن سام بن نوح بابل‪ ،‬فغلب?وا على الع?راق‪ ،‬وهم النب?ط‪ ،‬ومنهم مل?وك‬
‫باب??ل ال??ذين ق??دمنا ذك??رهم‪ ،‬وأنهم المل??وك ال??ذين عم??روا األرض‪ ،‬ومه??دوا البالد‪،‬‬
‫?ز‪ ،‬فص??اروا على‬ ‫وكانوا أشر ملوك األرض‪ ،‬فأدال منهم الدهر‪ ،‬وسلبهم المل??ك والع? َّ‬
‫ما هم عليه من الذل في هذا الوقت بالعراق وغيرها‪.‬‬

‫دعوى الشعوبية‬
‫وق???د زعم جماع???ه من المتكلمين‪ -‬منهم ض???رار بن عم???رو وثمام???ة? بن األش???رس‬
‫وعمرو بن بحر الجاحظ‪ -‬أن النبط خير من العرب‪،‬ألن من جع??ل هّللا تب??ارك وتع??الى‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم منهم لم َيدَ ْع أكبر شرف في الدنيا إال وقد أعط??اهم إي?اه‪،‬‬
‫و َمنْ لم يجعله منهم فلم ياع أكبر شرف في الدنيا إال وقد أعراهم منه وسلبهم إياه‪،‬‬
‫وال نعمة على من جعل هّللا تعالى النبي عليه السالم منهم أكبر من الن??بي ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وال َب ْل َوى على من لم يجعل هّللا عز وج??ل الن??بي ص?لى هللا علي??ه وس??لم‬
‫منهم أكبر من خروج النبي صلى هللا علي??ه وس??لم عنهم‪ ،‬إال أنهم م??ع ه??ذا كل??ه لهم‬
‫عند هّللا فضل ما بين النعمة والبالء‪.‬‬

‫الرد على الشعوبية?‬


‫قال المسعودي‪:‬‬
‫ولما لم يبال من قدمنا ذكره تشريف النب??ط وتفض??يلهم على ول??د قحط??ان وع??دنان‬
‫وفيهم الفض??ل والش??رف من النب??وة والمل??ك والع??زة ق??ال لهم المحتج عن قحط??ان‬
‫ونزار‪ :‬إذا كان النبط قد صاروا أفضل من العرب لما امتحن هّللا به النب??ط من َ‬
‫س ? ْلبه‬
‫النب??وة منهم وأنعم على الع??رب بك??ون الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم منهم‪ ،‬فللع??رب‬
‫أيضا ً التعلق بهذه العلة التي اعتل بها النبط‪ ،‬فتقول‪ :‬قد صرنا بع ُد أفضل من النب??ط‪،‬‬
‫لما امتح َّنا به من سلب ما جعل هّللا للنبط من الفضل في شدة امتحانهم بسلب الن??بي‬
‫صلى هللا علي??ه وس??لم عنهم‪ ،‬والنب??ط أيض?ا ً ق??د ص??اروا دون الع??رب‪ ،‬إذ للع??رب من‬
‫فضل النبي صلى هللا عليه وسلم مما جعل??ه هللا لهم بتع??ريتهم من فض??ل النب??ط على‬
‫ش?دة امتح?انهم بتعري?ة? هّللا إي?اهم من الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم م?ا ليس للنب?ط‪،‬‬
‫فتصير? العرب أيضا ً خيراً من النبط‪ ،‬وهذا ال يصح لهم إال كما يصح عليهم‪ ،‬والكالم‬
‫متوتج? ٌ?ه عليهم فيم??ا ق??الوه‪ ،‬ومك??افئ لعلتهم فيم??ا أوردوه‪ :‬من تفض??يل النب??ط على‬
‫َ‬
‫العرب‪.‬‬
‫وقد ذكرنا تنازع الناس في األنساب والفضل بها وباألعمال دون األنساب ومن ق??ال‬
‫العمل والنسب ومن قال العمل دون النسب‪ ،‬وما قالته الشعوبية وغيره??ا في كتابن??ا‬
‫المقاالت‪ ،‬في أصول الديانات‪.‬‬
‫وقد ذكر أبو الحسن أحمد بن يحيى في كتاب??ه في ال??رد على الش??عوبية عِ َلالً كث??يرة‪،‬‬
‫وذكر أن من اختصه هّللا تعالى من عباده‪ ،‬واصطفاه من خلقه‪ ،‬أ َذاك على طريق‬
‫صفحة ‪247 :‬‬

‫الثواب أم على طريق التفضيل؛ قال‪ :‬إًن زعم زاعم أن ذلك ثواب خ??رج من معق??ول‬
‫كالم العرب ومفهوم خطابه??ا؛ألن??ه ال يق??ال لمن أعطى األج??ير أجرت??ه وو ّفى العام??ل‬
‫ثوابه‪ ?:‬قد اختص فالن فالنا بعطيته‪ ،‬وإنما يقال ذلك إذا تط??وع علي??ه بالعطي??ة بغ??ير‬
‫ضل ٌ قلنا لهم‪ :‬فإذا جاز أن يص??رف?‬ ‫عمل ومنعها غيره بغير جرم‪ ،‬وإن زعموا أنه تف ُّ‬
‫هّللا ع??ز وج??ل رحمت??ه إلى بعض خلق??ه بغ??ير عم??ل اس??تحقوها ب??ه‪َ ،‬فلِ َم ال يج??وز أن‬
‫يشرفهم بأنسابهم‪ ،‬وإن لم تكن األنساب من أعمالهم‪ .‬فإن قالوا‪ :‬ليس من الع??دل أن‬
‫يشرفهم بغير أعمالهم‪ ،‬قلنا لهم‪ :‬رأيتكم إن عارض??كم ُم َع? ارض؛ف??زعم أن??ه ليس من‬
‫الع??دل أن يمن عليهم برحمت??ه دون غ??يرهم بغ??ير عم??ل ك??ان منهم‪ ،‬وبغ??ير معص??ية‬
‫كانت من غيرهم‪ ،‬ماذا يكون الفصل بينكم معاش??ر الش??عوبية وبين??ه‪ ،‬وق??د أخ??بر هّللا‬
‫عمن اصطفاه من خلقه فقال‪" :‬إن هّللا اصطفى آدم ونوحا ً وال إبراهيم وآل عم??ران‬
‫على العالمين‪ ،‬ذرية بعضها من بعض‪ ،‬وهّللا سميع عليم" ‪.‬‬
‫وال??واجب على في النس??ب الش??ريف‪ ،‬والمج??د الرفي??ع‪ ،‬أن ال يجع??ل ذل??ك س??لما ً إلى‬
‫ال??تراخي عن األعم??ال الموافق??ة لنس??به‪ ،‬واالتك??ال على آبائ??ه؛ف??إن ش??رف األنس??اب‬
‫يحضر على شرف األعمال‪ ،‬والشريف بهذا أولى؛إذ كان الشرف يدعو إلى الش??رف‬
‫وال يثبط عنه كما أن الحسن يدعو إلى الحسن ويحرك عليه وأكثر الممدوحين إنم??ا‬
‫مدحوا بأعمالهم دون أنسابهم‪ ،‬وهذا كثير في أشعار الناس ومنثور كل أمه م‪ ،‬وق??د‬
‫قال الشاعر في هاشم بن عبد من?اف وه?و إم?ام ذوي األنس?اب‪ :‬عم?ر وال?ذي ه َ‬
‫َش? َم‬
‫اف فمدحه بعمله‪ ،‬ولم يذكر نسبه‪ ?،‬وإن كان‬ ‫عِج ُ‬
‫ون َ‬‫إلثريد لقومه ورجال مكة ُم ْس ِن ُت َ?‬
‫شريفأ رفيعاً‪ ،‬وإنما ينبغي لذي األنس??اب أن يكون??وا كم??ا ق?ال أخ??وهم وش??ريكهم في‬
‫النسب عامر بن الطفيل‪:‬‬
‫والضريح? ال ُم َه َّذب‬
‫ِ‬ ‫وفي السر منها‬ ‫ت ا ْبنَ سيد عـامـر‬ ‫وإني وإن ُك ْن ُ‬
‫أسـ ُمـو بـأم وال أب‬‫هللا أن ْ‬ ‫س َّودَت ِني? عـامـر عـن وراثة أبى‬ ‫فما َ‬
‫وأرمي َمنْ رماها بمقنـب‬ ‫ولكننني أحمي حماهـا‪ ،‬وأتـقـي أذاها‬
‫وكما قال األخر‪:‬‬
‫ساب نتكل‬ ‫لسنا وإن كرمت أوائلنـا يوما ً على ْ‬
‫األح َ‬
‫نبني? كما كانت أوائلـنـا تبني‪ ،‬ونفعل كالذي فعلوا‬
‫والية خزاعة أمر البيت‬

‫قال المسعودي‪:‬‬
‫ولما خرج عمرو بن عامر وول??ده من م??أرب انخ??زع بن??و ربيع??ه‪ ،‬ف??نزلوا تهام??ة‪،‬‬
‫اعة النخزاعهم‪ ،‬ولما ثارت الحرب بين أي??اد ومض??ر اب??ني ن??زار‪ ،‬وك??انت‬ ‫فس ُموا َ‬
‫خز َ‬
‫على إي??اد قلعت الحج??ر األس??ود ودفنت??ه في بعض المواض??ع‪ ،‬ف??رأت ذل??ك ام??رأة من‬
‫ُخ َزاعة‪ ،‬فأخبرت قومها‪ ،‬فاشترطوا على مض??ر أنهم إن َرفُ??وا الحج??ر جعل??وا والي??ة‬
‫البيت فيهم‪ ،‬فوفوا لهم بذلك‪ ،‬ووليت ُخ َزاعة أم??ر ال?بيت‪ ،‬وك?ان أول من ولي?ه منهم‬
‫عمرو بن لُ َح ًي‪ ،‬واسم لحي حارثة بن عامر‪ ،‬فغير دين إبراهيم وب َّدله‪ ،‬وبعث العرب‬
‫على عبادة التماثيل؛ لخبر قد ذكرناه في هذا الكتاب وغ??يره‪ ،‬حين خ??رج إلى الش??ام‬
‫ورأى قوما ً يعبدون األصنام‪ ،‬فأعطوه منها صنمأ فنصبه على الكعبة‪ ،‬وقويت‬
‫صفحة ‪248 :‬‬

‫ُخ َزاعة‪َ ،‬و َع َّم الناس ظلم عمرو بن لحي‪ ،‬وفي ذلك يقول رجل من ُج? ْ‬
‫?رهُم ك??ان على‬
‫دين الحنيفية‪:‬‬
‫إنها َبـ َلـ ٌد حـرام‬ ‫يا عمرو ال تظلم بمكة‬
‫وكذاك ُت َخترم األنـام‬ ‫بعـا ٍد أين هُـم‬
‫سائل َ‬
‫السـوام‬
‫َ‬ ‫لهم بها كان‬ ‫بني العاملـيق الـذين‬

‫ولم??ا أك??ثر عم??رو بن لحي من َن ْ‬


‫ص??ب األص??نام ح??ول الكعب??ة وغلب على الع??رب‬
‫عبادتها‪ ،‬وانمحت الحنيفية منهم إال لمعاً‪ ،‬قال في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي‪:‬‬
‫شتى بمكة حول البيت أنصابا‬ ‫يا عمرو‪ ،‬إنك قد أحدثت الهة‬
‫فقد جعلت له في الناس أربابا‬ ‫ب واحـد أبـدا‬
‫وكان للبيت َر ٌّ‬
‫سيصطفي? دونكم للبيت حجابا‬ ‫لتعرفنَّ بأن هّللا في َمـ َهـل‬

‫وعمر عمرو بن لحي ثلثمائة سنه وخمسا ً وأربعين سنة‪.‬‬

‫خصال والية البيت ثالث خصال‬


‫??ة‪،‬‬‫وكانت والية البيت في ُخ َزاعة وفي مضر ثالث خصال‪ :‬اإلجازة بالناس من َع َر َف َ‬
‫س َّيارة‪ ،‬فدفع أبو‬ ‫واإلفاضة بالناس َغدَا َة النحر إلى منى‪ ،‬فانتهى ذلك منهما إلى أبي َ‬
‫س َّيارة من مزدلفة إلى ِم??نى أربعين س??نة على حم??ار ل??ه‪ ،‬ولم يعت??ل في ذل??ك‪ ،‬ح??تى‬ ‫َ‬
‫أص ُّح من َع ْي ِر أبي سيارة‪.‬‬
‫أدركه اإلسالم‪ ،‬فكانت العرب تتمثل? به فتقول َ‬
‫سـ َّيارة ح??تى أف??اض ُم ْح ِرم ?ا ً‬ ‫وفي أبي س??يارة يق??ول ق??ائلهم‪ :‬نحن دفعن??ا عن أبي َ‬
‫حماره‬
‫مستقبل? القبلة يدعو جاره‬

‫النسء والنسأة‬
‫النسأة في ب??ني مال??ك بن كنان??ة‪ ،‬وك??ان أولهم أب??و‬‫َ‬ ‫والنسء للشهور ال ُح ْر ُم‪ ،،‬وكانت‬
‫القلمس حذيفة بن عبد‪ ،‬ثم ولده قلع بن حذيفة وورد اإلس??الم وآخ??رهم أب??و ثمام??ة‪،‬‬
‫وذل??ك أن الع??رب ك??انت إذا ف??رغت من الحج وأرادت الص??در اجتمعت إلي??ه‪ ،‬فيق??وم‬
‫فيهم‪ ،‬فيقول‪ :‬اللهم إني ؤ أحللت أحد الض َف َر ْي ِن الصفر األول‪ ،‬وأنس??أت األخ??ر للع??ام‬
‫المقبل‪ ،‬وظهر اإلسالم وقد عادت الشهور الحرم إلى َبدْ ِئ َها على م??ا ك??انت علي??ه في‬
‫أصلها‪ ،‬وذلك قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أال إن الزمان قد استدار كهيئته ي??وم‬
‫خلق هللا الس??موات واألرض وم?ا ذك??ر علي?ه الص?الة والس??الم في ه??ذا الح?ديث إلي‬
‫آخره‪ ،‬فأخبر هللا عز وجل عنهم بذلك بقوله تعالى‪" :‬إن َما ِ‬
‫النس ?ىء ِز َي??ا َد في الكف??ر‪-‬‬
‫اآلية"‪ ،‬وقد َف َخر بذلك عمير بن قيس بن ِج ْذل الط َعان فق??ال‪ :‬ألس??نا الناس??ئين علـى‬
‫مـعـد شهور الحل نجعلها حراما‪.‬‬

‫صفحة ‪249 :‬‬

‫والية البيت تؤول إلى قصى بن كالب‬

‫وقد كان قصى بن كالب بن مرة تزوج ابنة حلي?ل‪ ،‬وحلي?ل ه?و آخ?ر من ولي ال?بيت‬
‫من ُخ َزاعة‪ ،‬وقد كان عمرو بن لحي‪ -‬حين ُع ِّمر ما ذكرنا من السنين‪ -‬مات وله من‬
‫الولد وولد الولد ألف‪ ،‬ولم??ا حض??رت حليال الوف??اة ‪ -‬وه??و آخ??ر من ولي ال??بيت من‬
‫ُخ َزاعة‪ -‬وقد كان عمرو على ما ذكرنا جعل والية ال??بيت إلى‪ -‬ابنت?ه? زوج قص??ى بن‬
‫كالب‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنه?ا ال تق?وم بفتح الب?اب َو َغ ْلقِ?هِ‪ ،‬فجع?ل والي?ة ال?بيت إليه?ا‪َ ،‬و َف ْتح‬
‫شان الخزاعي‪ ،‬فباعه أبو غبش??ان‬ ‫وغ ْلقه إلى رجل من ُخزاعة يعرف بأبي َغ ْب َ‬ ‫الباب َ‬
‫س? ُر من ص??فقة‬ ‫إلى قص??ي ببع??ير? وزق خم??رة فأرس??لت الع??رب ذل??ك مثالً‪ ،‬فق??الت ْ‬
‫أخ َ‬
‫شان وفي بيعه لوالية البيت ببعير وزق من الخمر َو َن ْقله والي??ة ال??بيت من قوم??ة‬ ‫َغ ْب َ‬
‫من ُخ َزاعة إلى قصي بن كالب‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬

‫وأظلم من بني? فِ ْه ٍر ُخ َزا َعه‬ ‫شان أظلم من قصـي‬‫أبو َغ ْب َ‬


‫َولُو ُموا شيخكم إذ َكانَ َبا َعه‬ ‫فال تلحوا قصيا في شـراه‬

‫وقال في ذلك آخر‪:‬‬

‫وجدنا َف ْخ َرهَا شرب الخمور‬ ‫إذا افتخرت ُخ َزاعة في قديم‬


‫بزق‪ ،‬بئس ُم ْف َت َخ ُر الفخور‬
‫ٍّ‬ ‫وباعت كعبة الرحمن جهراَ‬

‫وقد كانت والية البيت في خزاعة ثلثمائة? سنة‪ ،‬واس??تقام أم??ر قص??ي‪ ،‬و َع َّ‬
‫ش ?را على‬
‫َمنْ دخل مكة من غير قريش‪ ،‬وبني الكعبة‪ ،‬ورتب قريش?ا ً على منازله??ا في النس??ب‬
‫األبطحيئ من قريش‪ ،‬وهم األباطح‪ ،‬وجعل الظاهري ظاهرياً‪.‬‬
‫َ‬ ‫بمكة َو َب َّينَ‬

‫قريش البطاح‬
‫?زي بن‬ ‫وق??ريش البط??اح‪ :‬هي قبائ??ل عب??د من??اف‪ ،‬وب??ني عب??د ال??دار‪ ،‬وب??ني عب??د ال ُع? َ‬
‫وعلي‪ ،‬وهم َل َع َق??ة ال??دم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫قصي‪ ،‬و ُزهْ رة‪ ،‬ومخزوم‪ ،‬و َت ْيم بن م??رة‪ ،‬و ُج َمح‪َ ،‬‬
‫وس ? ْهم‪،.‬‬
‫وبنو عتيك بن عامر بن لُؤي‪.‬‬

‫قريش الظواهر‬
‫وقريش الظواهر‪ :‬بنو محارب‪ ،‬والحارث بن فهر‪ ،‬وبنو األعرم بن غ??الب بن فه??ر‪،‬‬
‫للض? َّحاك‬
‫وبنو هصيص بن عامر بن لؤي‪ ،‬وفي ذلك يقول ذكوان م?ولي عب?د ال?دار َ‬
‫بن قيس الفهرى‪:‬‬
‫إلى نسب في قومه متقـاصـر‬ ‫ت للضحاك حتى َر َر ْر ُتـه?‬ ‫تطاو ْل ُ‬
‫َ‬
‫قريش البطاح ال قريش الظواهر‬ ‫فلو شاهَدَ ْتني من قريش عصـابة‬
‫فقبحت من حامي فمار وناصـر‬ ‫ت شـاهـدا‬ ‫وأصبح ُ‬
‫ْ‬ ‫ولكنهم غابوا‬
‫ومنهم فريق ساكن بالمشـاعـر‬ ‫فريقان منهم سكن بطـن يثـرب‬
‫صفحة ‪250 :‬‬

‫األحالف والمطيبون‬
‫واألحالف من قريش‪ :‬بنو عبد الدار بن قصي‪ ،‬وسهم‪ ،‬و ُج َمح‪ ،‬وعلي‪ ،‬ومخزوم‪.‬‬
‫وال ُم َط ِّيبون‪ :‬بنو عبد مناف‪ ،‬وبنو أسد بن عبد ال ُع َزى‪ ،‬و ُزهْ رة‪ ،‬وتيم‪ ،‬وبنو? الحارث‬
‫بن لؤي‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعه المخزومي في امرأة‪ :‬ولها في المطيبـين جـدود‬
‫ثم نالت فوائب األحـالف‬
‫إنها بين عامر بـن لـؤي حين ُتدْ عى وبين عبد مناف‬
‫وأخ??ذت ق??ريش اإليالف من المل??وك‪ ،‬وتفس??ير ذل??ك األمن‪ ،‬و َت َقرش??ت‪ ،‬والتق??رش‪:‬‬
‫شوا ال??ذ ُنوب علينـا في ح??ديث مِنْ‬‫الجمع‪ ،‬ومنه قول ابن ِحلِّزة اليشكري‪ :‬أخوة َقر ُ‬
‫دهر َنا و قديم‬
‫ِ‬
‫رحلت ق??ريش‪ -‬حين أخ??ذ له??ا اإلِيالف من المل??وك‪ -‬إلى الش??ام والحبش??ة واليمن‬
‫والعراق‪ ،‬وفي ذلك يقول َم ْطرود الخزاعي‪ :‬يا أيها الرجل ال ُم َح َؤل َر ْحله هالَ َ‬
‫ن??ز ْل َت‬
‫بآل عبد منـاف‬
‫الع ْهدَ من آنافـنـا والرا ِحلِينَ ِب ِر ْح َلة اإليالف‬
‫اآل ِخذِينَ َ‬
‫ولقريش أخبار كثيرة‪ ،‬وكذلك لج??رهم وخزاع??ة وغيرهم??ا من مع??د‪ ،‬وق??د أتين??ا على‬
‫جميعها فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً‪.‬‬
‫تنبيها ً بها على ما سلف‪ ،‬وسنورد عند ذكرنا تفرق الناس من بابل جمالً من أخب??ار‬
‫هللا‪.‬‬
‫مكة وعبد المطلب والحبشة‪ ،‬وغير ذلك مما لحق بهذا المعنى‪ ،‬إن شاء ّ‬

‫ذكر جوامع من األخبار ووصف األرض‬


‫والبلدان وحنين النفوس لألوطان‬
‫عمر بن الخطاب يستوصف? بقاع األرض‬
‫ذك??ر ذوو الدراي??ة أن عم??ر بن الخط??اب رض??ي هّللا عن??ه‪ -‬حين فتح هّللا البالد على‬
‫المسلمين من الع??راق والش??ام ومص??ر‪ ?،‬وغ??ير ذل??ك من األرض‪ -‬كتب إلى حكيم من‬
‫حكماء العصر‪ :‬آنا أناس عرب‪ ،‬وقد فتح هّللا علين??ا البالد‪ ،‬ونري??د أن نتب??وأ األرض‪،‬‬
‫ونسكن البالد واألمصار‪ ،‬فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها‪ ،‬وم??ا ت??ؤ ِّث ُره? الترب ?ة?‬
‫واألهوية في سكانها‪.‬‬

‫تأثير البيئة? الطبيعية‬


‫فكتب إليه ذلك الحكيم‪ :‬اعلم يا أمير المؤمنين أن هّللا تعالى قد قسم األرض أقس??اماً‪:‬‬
‫شرقا ً وغربا ً وشماالً وجنوباً‪ ،‬فما تناهى في التشريق َو َلج َج في المطلع السانح منه‬
‫النور فهو مك??روه الحتراق??ه وناريت??ه و ِحدَت??ه وإحراق??ه لمن دخ??ل في??ه‪ ،‬وم??ا تن??اهي‬
‫أض?ر س??كانه‪ ،‬لموازات??ه م??ا أوغ??ل في التش??ريق‪ ،‬وهك??ذا م??ا تن??اهى في‬ ‫مغربا ً أيضا ً َ‬
‫أض ? ّر ب??برده وق??ره وثلوج??ه وآفات??ه األجس??ام فأورثه??ا اآلالم‪ ،‬وم??ا اتص??ل‬
‫الش??مال َ‬
‫بالجنوب وأوغل فيه أحرق باريته ما اتصل به من الحيوان؛ ولذلك صار المس??كون‬
‫ناس َب االعتدال‪ ،‬وأخذ بحظه من حسن القسمة‪ ،‬وسأصف‬ ‫من األرض جز ًءا يسيراً‪َ ،‬‬
‫لك‪ -‬يا أمير المؤمنين‪ -‬القطع المسكونة من األرض‪.‬‬
‫صفحة ‪251 :‬‬

‫الشام‬
‫ب وآك??ام‪ ،‬وريح وغم??ام‪ ،‬وغ??دق و ُرك??ام‪ ،‬ت??رطب األجس??ام‪ ،‬وتول??د‬ ‫فس? ُح ٌ‬
‫أم??ا الش??ام ُ‬
‫األحالم‪ ،‬وتصفي األلوان‪ ،‬ال سيما أرض ِح ْمص فإن تحسن الجسم‪ ،‬وتصفي الل??ون‪،‬‬
‫وتبلد اللهم‪ ،‬وتنزح? غوره‪ ،‬وتجفي الطبع‪ ،‬وتذهب بماء القريحة‪ ،‬وتنص??ب العق??ول‪،‬‬
‫والشام‪ -‬يا أم??ير المؤم??نين‪ ،‬وإن ك?انت على م?ا وص?فت ل?ك‪ -‬فهي َم ْس? َرح? خص??ب‪،‬‬
‫واط َردت أنه??اره‪ ،‬وغم??رت أعش??اره‪ ،‬وب??ه من??ازل‬ ‫س ? ْكب‪ ،‬ك??ثرت أش??جاره‪َّ ،‬‬
‫وواب??ل َ‬
‫األنبي??اء‪ ،‬والق??دس المجت??بى‪ ،‬وفي??ه َح?? ل َّ أش??راف خل??ق هّللا تع??الى من الص??الحين‬
‫والمتعبدين‪ ،‬وجباله مساكن المجتهدين والمنفردين‪?.‬‬

‫مصر‬
‫وأما أرض مصر فأرض َق ْو َراء َغ? ْ‬
‫?و َراء‪ ،‬دي??ار الذراعن??ة‪ ،‬ومن??ازل الجب??ابرة‪ ،‬تحم??د‬
‫بفضل نيلها‪ ،‬و َذ ّمها أكثر من حم??دها‪ ،‬هواؤه??ا راك??د‪ ،‬وحره??ا زائ??د‪ ،‬وش??رها وارد‪،‬‬
‫تك??در األل??وان‪ ،‬وتخبب الفطن وتك?ثر اإلِحن وهي مع?دن ال?ذهب والج?وهر والزم?رد‬
‫واألموال‪ ،‬ومغارس ال َغالَّت‪ ،‬غير أنها تسمن األبدان وتس??ود األبش??ار‪ ،‬وتنم??و فيه??ا‬
‫األعمار‪ ،‬وفي أهلها مكر ورياء‪ ،‬وخبث ودهاء وخديعة‪ ،‬إال أنها بل??د مكس??ب ال بل??د‬
‫مسكن؛ لترادف فتنها‪ ،‬واتصال شرورها‪.‬‬

‫اليمن‬
‫وأم??ا اليمن فيض??عف األجس??ام‪ ،‬وي??ذهب األحالم‪ ،‬وي??ذهب بالرطوب??ة‪ ،‬في أهل??ه همم‬
‫كبار‪ ،‬ولهم أحساب وأخطار‪َ ،‬م َغايضه ح ْ‬
‫ِص َبة‪ ،‬وأطرافه َجدْ ب??ة‪ ،‬وفي هوائ??ه انقالب‪،‬‬
‫وفي س???كانه اغتي???ال‪ ،‬وبهم قطع???ة من الحس???ن‪ ،‬وش???عبة من الترف???ه و فق???رة من‬
‫الفصاحة‪.‬‬

‫الحجاز‬
‫وأم??ا الحج??از فح??اجز بين الش??ام واليمن والته??ائم‪ ،‬ه??واؤه َح? رور‪ ،‬وليل??ه بهف??ور‪،‬‬
‫ينحف األجسام‪ ،‬و ُيج َفف األدمغة‪ ،‬ويشجع القلوب‪ ،‬ويبسط الهم‪ ،‬ويبعث على اإلِحن‬
‫وهو بلد َم ْحل َق ْحط َجدب َ‬
‫ض ْنك‪.‬‬

‫المغرب‬
‫قس??ي القلب‪ ،‬وي??وحش الطب??ع‪ ،‬و ُيطِ يش اللُّ َّب وي??ذهب بالرحم??ة‪،‬‬
‫وأم??ا المغ??رب ف ُي ِّ‬
‫ويكسب الشجاعة‪ ،‬ويقشع الضراعة‪ ،‬وفي أهله غ??د ْمر‪ ،‬ولهم خبث ومك??ر‪ ،‬دي??ارهم‬
‫مختلفة‪ ،‬وهممهم غير مؤتلفة‪ ،‬ولديارهم في آخر الزمان نبأ عظيم‪ ،‬وخطب جس??يم‪،‬‬
‫من أمر يظهر‪ ،‬وأحوال تبهر‪.‬‬

‫العراق‬
‫سرة األرض وقلبها‪ ،‬إليه تحادرت المياه‪ ،‬وبه اتص??لت‬ ‫وأما العراق فمنار الشرق‪ ،‬و ُ‬
‫النضارة‪ ،‬وعنده وقف االعتدال‪َ ،‬ف َ‬
‫صفت أمزجة أهله‪ ،‬ولطفت أذهانهم‪ ،‬واح َت َدت‬
‫صفحة ‪252 :‬‬

‫خ??واطرهم‪ ،‬واتص??لت مس??راتهم‪ ،‬فظه??ر منهم ال??دهاء‪ ،‬وق??ويت عق??ولهم‪ ،‬وثبتت‬


‫ب األرض العراق وهو المجتبى من قديم الزمان وهو مفتاح الشرق‪،‬‬ ‫بصائرهم‪ ،‬و َق ْل ُ‬
‫ومسلك النور ومسرح? العينين‪ ،‬ومدنه الم??دائن وم??ا وااله??ا وألهل??ه أع??دل األل??وان‪،‬‬
‫وأنقى الروائح‪ ،‬وأفضل األمزجة‪ ،‬وأطوع القرائح‪ ،‬وفيهم جوامع الفض??ائل‪ ،‬وفوائ??د‬
‫المبرات‪ ،‬وفضائله كثيرة؛لصفاء جوهره‪ ،‬وطيب نسيمه‪ ?،‬واعت??دال تربت??ه‪ ?،‬وإغ??داق‬
‫الماء عليه‪ ،‬ورفاهية العيش به‪.‬‬

‫الجبال‬
‫وأما الجب??ال فتخش??ن األجس??ام وتغلظه??ا‪ ،‬وتبل??د األفه??ام وتقطعه??ا‪ ،‬وتفس??د األحالم‪،‬‬
‫وتميت? الهمم؛لم??ا هي علي??ه من غل??ظ الترب??ة‪ ،‬ومتان??ة اله??واء‪ ،‬وتكاثف??ه‪ ،‬واختالف‬
‫َم َهابه‪ ،‬وسوء متصرفاته‪?.‬‬
‫واألخالق والصور‪ -‬يا أم??ير المؤم??نين‪ -‬تناس??ب البل??د وتحاذي??ه‪ ،‬وتقارب??ه‪ ،‬وتوافق??ه‬
‫وتضاهيه‪ ?،‬وكل بلد اعتدل هواؤه‪ ،‬وخف ماؤه‪ ،‬ولط??ف غ??ذاؤه ‪ -‬ك??انت ص??ور أهل??ه‬
‫س علي??ه بنيان?ه?‬‫أس? َ‬
‫وخالئقهم تناسب البلد وتحاذيه‪ ،‬وتشاكل ما عليه أركان??ه‪ ،‬وم??ا ِّ‬
‫وكل بلد يزول عن االعتدال‪ ،‬انتسب أهله إلى سوء الحال‪.‬‬

‫خراسان‬
‫وأما خراسان فتكبر الهام؛ وتعظم األجسام؛ وتلط??ف األحالم‪ ،‬وألهله??ا عق??ول وهمم‬
‫طامحة؛ وفيهم َغ ْوص وتفكير؛ ورأي وتقدير‪?.‬‬

‫فارس‬
‫وأما بلد فارس فخصب الفضاء‪ ،‬رقيق الهواء‪ ،‬متراكم الماء‪ُ ،‬م ْع َت ّم باألشجار‪ ،‬كث??ير‬
‫الثمار‪ ،‬وفي أهل??ه ش??ح‪ ،‬ولهم خب ؛ وغرائ??زهم س??يئة‪ ?،‬وهمهم دنيئ??ة‪ ،‬وفيهم مك??ر‬
‫وخداع‪.‬‬

‫خوزستان‬
‫وأم??ا بالد خوزس??تان فهي َك?? د َِرة األه??واء‪ ،‬تفس??د األحالم‪ ،‬وتبل??د اإلفه??ام‪ ،‬وتخبث‬
‫س ْو َق األنعم‪ ،‬وهم ال َه َم ُج ال َّط َغام‪.‬‬
‫الهمم‪ ،‬وتستأصل? الكرم‪ ،‬يساق أهله َ‬

‫الجزيرة‬
‫ج‪ ،‬وألهله?ا‬ ‫وس? ْر ٌ‬
‫وأما أرض الجزيرة فتناسب البر بالهواء اللطي?ف‪ ،‬وفيه?ا خص?ب َ‬
‫بأس ومراس‪.‬‬
‫والبر‪ -‬يا أمير المؤم??نين‪ ?-‬أفض??ل قط??ع األرض وأس??ناها‪ ،‬وأش??رفها وأعاله??ا‪ ،‬نح??و‬
‫األنج??اد والته??ائم‪ ،‬لحماي??ة اله??واء األق??ذاء عن س??كانه‪ ،‬ودفع??ه اآلف??ات عن قُ َّطان??ه‪،‬‬
‫?وى‪ ،‬وته??ذيب الم??اء‪ ،‬وص??حة ال ُم َت َنس??م‪ ،‬وارتف??اع األك??دار‪ ،‬وذه??اب‬‫وس??ماحة الم ْث? َ‬
‫األضرار‪.‬‬

‫صفحة ‪253 :‬‬

‫واعلم‪ -‬يا أمير المؤمنين‪ -‬أن هّللا تبارك وتعالى قس??م األرض أقس??اما َف َّ‬
‫ض ?ل بعض??ها‬
‫على بعض‪ ،‬فأ ْف َ‬
‫ضل ُ أقس أمه ا العراق‪ ،‬فه??و س??يد اآلف??اق‪ ،‬وق??د س??كنه أجي??ال وأمم‬
‫ذوو كمال‪.‬‬

‫الهند والصين‬
‫وأما الهند والصين وبالد الروم فال حاجة بي إلى وصفها لك‪ ،‬ألنها منازل شاس??عة‪،‬‬
‫وبلدان نائية‪ ،‬كافرة طاغية‪.‬‬
‫رت إلى علمه‪ ،‬وكل ما وصفته في ه??ذه‬ ‫ش َف َ‬
‫وفي الذي ذكرته لك ما أشفى بك إلى ما َ‬
‫البل??دان فه??و األعم من أم??ور أهله??ا‪ ،‬واألغلب على أح??والهم‪ ،‬ف??إن وج??د فيهم أح??د‬
‫بخالف ذلك فهو النادر يا أمير المؤمنين‪ ،‬والحكم في ذلك لألغلب‪.‬‬
‫كعب األحبار يصف لعمر العراق‬
‫قال المسعودي‪ :‬وذكر جماعة من أهل العلم بالس??ير واألخب??ار أن عم??ر بن الخط??اب‬
‫رض??ي هللا عن??ه لم??ا أراد الش??خوص إلى الع??راق‪ -‬حين بلغ??ه م??ا علي??ه األع??اجم من‬
‫الجمع ببالدهم‪ -‬سأل كعب األحبار عن العراق‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤم??نين‪ ،‬إن هّللا لم??ا‬
‫خلق األشياء ألحق كل شيء بشيء‪ ،‬فقال العق??ل‪ :‬أن??ا ال ح??ق ب??العراق‪ ،‬فق??ال العلم‪:‬‬
‫وأنا معك‪ ،‬فقال المال‪ :‬وأنا الحق بالشام‪ ،‬فق??الت الفتن‪ :‬وأن??ا مع??ك‪ ،‬فق??ال الخص??ب‪:‬‬
‫وأنا الحق بمصر‪ ?،‬فقال ال?ذل‪ :‬وأن?ا مع?ك‪ ،‬فق?ال الفق?ر‪ :‬وأن?ا الح?ق بالحج?از فق?الت‬
‫القناعة‪ :‬وأنا معك فقال الشقاء‪ :‬وأنا الحق بالبوادي‪ ،‬فقالت الصحة‪ :‬وأنا معك‪.‬‬

‫وصف إقليم بابل وحنين المؤلف إليه‬


‫قال المسعودي‪ :‬وأوسط األقاليم اإلقليم الذي و لدنا به‪ ،‬وإن كانت األيام أن??أت بينن??ا‬
‫?اح َق ْت مس??افتنا عن??ه‪ ،‬وول??دت في قلوبن??ا الح??نين إلي??ه‪ ،‬إذ ك??ان وطنن??ا‬
‫وبين??ه‪ ،‬وس? َ‬
‫ومسقطنا‪ ،‬وهو إقليم بابل‪ ،‬وق??د ك?ان ه?ذا اإلِقليم عن??د مل?وك الف?رس جليالً‪ ،‬وق??دره‬
‫عظيماً‪ ،‬وكانت عنايتهم إليه مصروفة‪ ?،‬وكانوا يشتون بالعراق‪ ،‬وأك??ثرهم يص??يفون‬
‫بالجبال‪ ،‬وينتقلون في الفص?ول إلى الص?رود من األرض والح?رور‪ ،‬وق??د ك?ان أه??ل‬
‫الم??روءات في اإلس??الم ك??أبي دل??ف القاس??م بن عيس??ى العجلي وغ??يره يش??تون في‬
‫الحرور‪ ،‬وهو العراق‪ ،‬ويص??يفون في الص??رود‪ ،‬وهي الجب??ال‪ ،‬وفي ذل?ك يق?ول أب??و‬
‫ش ُتو العراقا‬
‫يف الجبال َ َوأ ْ‬
‫وي الفعـال أصِ ُ‬
‫ِس َر ُّ‬
‫دلف‪ :‬وإني امرؤ ك ْ‬
‫وذلك لما خص به هذا اإلقليم من كثرة مرافقه‪ ،‬واعتدال أرض??ه‪ ،‬وغض??ارة عيش??ه‪،‬‬
‫ومادة الوافدين إليه‪ ،‬وهما دجلة والفرات‪ ،‬وعموم األمن في??ه‪ ،‬وبع??د الخ??وف عن??ه‪،‬‬
‫وتوسطه? األقاليم السبعة‪ ،‬وقد كانت األوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد؛ألن‬
‫أرضه من إقليم بابل الذي تشعبت اآلراء عن أهله بحكمة األمور كما يق??ع ذل??ك عن‬
‫ش ? ْقرة ال??روم‬
‫القلب‪ ،‬وبذلك اعتدلت ألوان أهله واقتدرت أجس أم??ه م‪ ،‬فس??لموا من ُ‬
‫والص??قالبة‪ ،‬وس??واد الحبش??ة‪ ،‬وغل??ظ ال??بربر‪ ،‬ومن َج َف??ا من األمم‪ ،‬واجتمعت فيهم‬
‫محاسن جميع األقطار‪ ،‬وكما اعتدلوا في ال ِج ِبلة وكذلك لطفوا في الفطنة‪ ،‬والتمس??ك‬
‫علي ما أصارتني إليه‬‫بمحاسن الألمور‪ ،‬وأشرف هذا اإلقليم مدينة السالم‪ ،‬ويعز َّ‬
‫صفحة ‪254 :‬‬

‫األق?دار من ف?راق ه?ذا المص?ر ال?ذي عن بقعت?ه فص?لنا‪ ،‬وفي قاعت?ه تجمعن?ا‪ ،‬لكن?ه‬
‫الزمن الذي شيمته? التشتيت‪ ،‬والدهر الذي من شروطه اإلبانة ولقد أحسن أبو دلف‬
‫العجلي حيث يقول‪:‬‬
‫س َبا في شرقها والمغارب‬ ‫أيادي َ‬ ‫نك َب َة الدهر التي َط َّو َح ْت بنـا‬
‫أيا ْ‬
‫إليها تناهت َرا ِج َعات المصائب‬ ‫قِفِي بالتي َن ْه َوى فقد طِ ْرت بالتي‬

‫الحنين إلى األوطان‬


‫وقد ذكر الحكماء‪ -‬فيما خرجنا إليه من هذا المعنى‪ -‬أن من عالمة وفاء المرء ودوا‬
‫أم عهده حنينه إلى إخوانه‪ ،‬وشوقه إلى أوطانه‪ ،‬وبكاءه على ما مضى من زمان??ه‪،‬‬
‫وأن من عالمة الرشد أن تكون النفوس إلى مول??دها مش??تاقة‪ ،‬وإلى مس??قط رأس??ها‬
‫َتؤاقة‪ ،‬ولإللف والعادة َق َطع الرجل نفسه لصلة وطنه‪?.‬‬
‫وقال ابن الزب??ير‪ :‬ليس الن??اس بش??يء من أقس أم??ه م أقن??ع منهم بأوط??انهم‪ ،‬وق??اد‬
‫بعض حكماء الع?رب‪ :‬عم?ر هللا البل?دان بحب األوط?ان‪ ،‬وق?الت الهن?د‪ :‬حرم??ة بل?دك‬
‫عليك كحرمة والديك؛ ألن غذاعك منهما‪ ،‬وغذاءهما منه‪ ،‬وقال آخ??ر‪ :‬أولى البل??دان‬
‫بصيانتك بلد رضعت ماءه‪ ،‬وطعمت غذاعه‪ ،‬وق??ال آخ??ر‪ :‬ميل??ك إلى موض??ع مول??دك‬
‫من كرم َم ْحتدِك‪ ،‬وقال بقراط‪ :‬يداوي كل عليل بعقاقير أرض??ه؛ ف??إن الطبيع??ة تتطل??ع‬
‫إلى هوائها‪ ،‬وتنزع إلى غذائها‪ ،‬وقال أفالط??ون‪ :‬غ??ذاء الطبيع??ة من أنف??ع أدويته??ا‪،‬‬
‫وقال جالينوس‪ :‬يتروح العليل بنسيم أرضه كما تنبت الحبة ببلل األرض‪.‬‬

‫وللنف??وس في عل??ة حنينه??ا إلى األوط??ان كالم ليس ه??ذا موض??عه‪ ?،‬وق??د ذكرن??اه في‬
‫كتابنا المترجم بسر الحياة وفي كتاب طب النفوس‪.‬‬

‫فضل علم األخبار‬


‫ولوال تقييد العلماء خواطرهم على الدهر لبطل أول العلم‪ ،‬وضاع آخره؛ إذ ك??ان ك??ل‬
‫علم من األخبار يستخرج وكل حكمة منها تستنبط والفق??ه منه??ا يس??تثار? والفص??احة‬
‫منها تستفاد‪ ،‬وأصحاب القياس عليها يبنون‪ ،‬وأهل المقاالت بها يحتج??ون ومعرف??ة‬
‫الناس منه?ا تؤخ?ذ‪ ،‬وأمث?ال الحكم?اء فيه?ا توج?د‪ ،‬ومك?أرم األخالق ومعاليه?ا منه?ا‬
‫تقتبس‪ ،‬وآداب سياسة الملك والحزم منها تلتمس‪ ،‬وكل غريب??ة منه??ا تع??رف‪ ،‬وك??ل‬
‫عجيبة منها تستطرف‪ ?،‬وهو علم يستمتع بسماعه العالم والجاهل‪ ،‬ويسعذب موقعه‬
‫?ى والع??امي‪ ،‬ويمي ?ل? إلى روايات??ه‬
‫الحمق والعاقل‪ ،‬ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاص? ِ‬
‫العربي والعجمي‪.‬‬

‫فضل الكتاب‬
‫وبعد؛فإنه يوصل به كل كالم‪ ،‬ويتزين? به في كل مقام‪ ،‬ويتجم??ل ب??ه في ك??ل مش??هد‪،‬‬
‫ويحتاج إليه في كل محفل‪ ،‬ففضيلة علم األخبار بينة? على كل علم‪ ،‬وش??رف منزلت??ه‬
‫ص??حيح في ك??ل فهم‪ ،‬فال يص??بر على فهم??ه وتيقن م??ا في??ه‪ ،‬وإي??راده وإص??داره إال‬
‫إنسان قد تجرد له‪ ،‬وفهم معناه‪ ،‬وذاق ثمرته‪ ?،‬واستسفر من غرره ونال من‬
‫صفحة ‪255 :‬‬

‫سروره‪ ،‬وقد قالت الحكماء‪ :‬الكتاب نعم الجليس‪ ،‬ونعم الذخر‪ ،‬إن شئت ألهتك ن??واد‬
‫ش َج ْت َك مواعظه‪ ،‬وإن شئت تعجبت من غ??رائب‬ ‫رده‪ ،‬وأضحكتك بوادره‪ ،‬وإن شئت أ ْ‬
‫فوائدة‪ ،‬وهو يجمع لك األول واألخر والغائب والحاضر والناقص وال??وافر والش??اهد‬
‫والغائب والبادي والحاضر‪ ،‬والشكل وخالفه‪ ،‬والجنس وضده‪ ،‬وهو ميت ينطق عن‬
‫وينام بنوم??ك‪ ،‬وال ينط??ق‬
‫ِ‬ ‫ش ُط بنشاطك‪،‬‬ ‫الموتى‪ ،‬ويترجم عن األحياء وهو مؤنس َي ْن َ‬
‫ف‪ ،‬وال رفيق?ا ً أط??وع‪ ،‬وال‬ ‫معك إال بم??ا ته??وى‪ ،‬وال نعلم ج??ارأ أب??ر‪ ،‬وال خليط?ا َ أ ْن َ‬
‫ص? َ‬
‫معلم?ا ً أخض??ع‪ ،‬وال ص??احبا ً اظه??ر كفاي??ة‪ ،‬وأق??ل خيان??ة‪ ،‬وال أج? َدى نفع?اً‪ ،‬وال أحم??د‬
‫أخال َق?ا َ وال أق?ل خِالف?أ وال أع?وم س?روراً‪ ،‬وال أس?كت غيب?ة‪ ،‬وال أحس?ن مواف?اة وال‬
‫أعجل مكافأة‪ ،‬وال أخف مؤنه? من??ه إن نظ??رت إلي??ه أط??ال إمتاع??ك‪ ،‬وش??حذ طباع??ك‪،‬‬
‫وأيد فهمك‪ ،‬وأكثر علمك‪ ،‬و َت ْع ِرف منه? في شهر‪ ،‬ما ال تأخ??ذه من أف??واه الرج??ال في‬
‫ده??ر‪ .،‬ويغني??ك عن ك??د الطلب‪ ،‬وعن الخض??وع لمن أنت أثبت من?ه? أص?الً‪ ،‬وأس??مح‬
‫فرعاً‪ ،‬وهو المعلم الذي ال يجفوك‪ ،‬وإن قطعت عنه المائدة‪ ،‬لم يقطع عن??ك الفائ??دة‪،‬‬
‫وهو الذي يطيع??ك ِباللي??ل طاعت??ه ل??ك بالنه??ار‪ ،‬ويطيع??ك في الس??فر كطاعت??ه ل??ك في‬
‫الحضر‪ ،‬وقد قال هللا تبارك وتعالى‪ " :‬اقرأ باسم ربك الذي خلق‪ ،‬خلق اإلنس??ان من‬
‫علق‪ ،‬اقرأ ورب??ك األك??رم‪،‬ال??ذي ًعلّ َم ب??ال َق َلم‪َ ،‬علّم اإلِنس??ان م??ا لم َي ْع َلم" فوص??ف عن‬
‫نفسه أنه علم بالقلم كإخباره عن نفسه بالكرم‪ ،‬وفي ذلك يقول بعض أهل األدب‪:‬‬

‫قدمت أحـتـجـب‬‫ُ‬ ‫َف ْوتا ً وال هربا ً‬ ‫أعـجـزهـم‬


‫ِ‬ ‫ت بأني لست‬ ‫لً ّما َعلِ ْم ُ‬
‫اَ حاوي البراءة ال شكوى وال شغب‬ ‫فصرت بالبيت مسروراً بـه جـذل‬
‫عن علم ماغاب عني من ُه ُم الكتـب‬ ‫فردا ًيحدثني ح ًّقا و ينـطـق لـي‬
‫ب‬
‫أر ُ‬
‫فليس لي في جليس غيرهِـم َ‬ ‫المؤنسون ُه ُم الالئي ُعن ُ‬
‫ِـيت بـهـم‬
‫يرتـقـب‬
‫ُ‬ ‫فذا عشيرهم للـسـوء‬ ‫هّلل در جلـيسـي اجـلـيسـهـم‬

‫وقد كان عبد هّللا بن عبد‪ -‬العزيز بن عبد هّللا بن عمر بن الخطاب ال يجالس الناس‪،‬‬
‫أر‬
‫ونزل مقبرة‪ ،‬وكان ال ُي َرى إال وفي يده كت?اب يق??رؤه‪ ،‬فس?ئل عن ذل?ك‪ ،‬فق?ال‪ :‬لم َ‬
‫واعظا ً أوعظ من قبر‪ ،‬وال ممتعا ً أمتع من كتاب‪ ،‬وال ش??ي َئا َ أس??لم من الوح??دة‪ ،‬فقي??ل‬
‫له‪ :‬قد جاء في الوحدة ما جاء‪،‬فق?ال‪ :‬م??ا أفس?دها للجاه??ل وق??د ق?ال بعض الش??عراء‬
‫فيمن يجمع الكتب وال يعلم ما فيها‪:‬‬

‫بجيدِها إال كعلـم األبـاعـر‬


‫َ‬ ‫َز َوا ِمل ُ لألسفار ال علم عنـدم‬
‫بأحمله أو راح ما في ال َغ َر ِ‬
‫ائر‬ ‫َل َع ْم ُر َك ما يمري? البعي ُر إذا غدا‬

‫ذكر تنازع الناس في المعنى‬


‫الذي من أجله سمي اليمن يمنا ً والعراق عراقا ً والشام شاما ً والحج??از حجازاًتن??ازع‬
‫الناس في اليمن وتسميته؛? فمنهم من زعم أنه إنما سمي يمنا ً ألنه عن يمين الكعبة‬
‫وهو التيمن وسمي? الشام شامأ ألنه عن شمال الكعبة‪ ،‬وسمي الحج??از حج??ازاً ألن??ه‬
‫بين اليمن والشام‪ ،‬نحو ما أخبر هّللا عز وجل عن البرزخ الذي بين بحر القلزم‬
‫صفحة ‪256 :‬‬

‫وبحر الروم بقوله ع??ز وج??ل‪َ " :‬و َج َع? ل َ بين البح??رين ح?اجزاً" وإنم??ا س??مي الع??راق‬
‫عراقأ لمصب المياه إليه كالدجلة والفرات وغيرهما من األنهار‪ ،‬وأظنه م??أخوذاً من‬
‫عراقي الدلو وعراقي القربة‪.‬‬
‫ومنهم من زعم أن اليمن يم إنما س??مي يمن?ا ً ليمن??ه‪ ،‬والش?ام ش?اما ً لش??ؤمه ة وه?ذا‬
‫قول ُيعزى إلى قُ ْطرب النحوي في آخرين من الناس‪.‬‬
‫ومنهم من رأى أنه إنما سمي اليمن يمنا ً ألن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل َت َيا َمنَ‬
‫بعضهم يمين الشمس وهو اليمن‪ ،‬وبعضهم تشاءهم فوسم له هذا االس??م‪ ،‬وس??نذكر‬
‫تفرق هذه القبائل من أرض بابل بع??د ه??ذا الموض??ع‪ ،‬وبعض م?ا ق?الوه في ذل??ك من‬
‫الشعر‪ ،‬عند مسيرهم في األرض واختيارهم البقاع‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنما س??مي الش??ام ش??اما ً لش??امات في أرض??ه بيض وس??رد‪ ،‬وذل??ك في ال??تراب‬
‫والبقاع والحجر وأنواع النبات واألشجار‪ ،‬وهذا قول الكلبي‪.‬‬
‫وقال الشرقي بن القطامي‪ :‬إنما سمي الشام شاما ً بسام بن نوح‪ ،‬ألنة أول من نزل??ه‬
‫و َق َطن فيه‪ ،‬فلما سكنته العرب تط ّيرت من أن تقول سام‪ ،‬فقالت‪ :‬شام‪.‬‬
‫سا َمرا إنما سميت بذلك إضافة إلى سام‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن َ‬
‫وقيل‪ :‬إن أول من سكنها من خلفاء بني العباس سماها به??ذا االس??م‪ ،‬وإنه??ا س??رور‬
‫لمن رآها‪.‬‬
‫وقد ذكر في أسماء هذه المعاقل و البقاع واألمصار‪ .‬وجوه غير ما ذك??رت ق??د أتين??ا‬
‫عليها فيما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫ذكر اليمن وأنسابها وما قاله الناس في ذلك‬

‫اختلف الن??اس في أنس??اب قحط??ان؛ فحكى هش??ام بن الكل??بي عن أبي??ه والش??رقي بن‬
‫القطامي أنهم?ا كان?ا ي?ذهبان إلى أن َق ْح َط? انَ بن الهميس?ع? بن نبت‪ -‬وه?و ن?ابت‪ -‬بن‬
‫إسماعيل بن إبراهيم الخليل‪ ،‬ويحتج??ان ل??ذلك بوج??وه من األخب??ار‪ .‬ومنه??ا م??ا روي‬
‫عن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وه??و م??ا رواه هش??ام عن أبي??ه عن ابن عب?اس‪،‬‬
‫ورواه الهيثم عن الكل??بي عن أبي ص??الح أن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم م??ر على‬
‫فتية من األنصار يتناضلون‪ ،‬فقال‪ .‬ارموا ي??ا ب??ني إس??ماعيل ف?إن أب?اكم ك??ان رامي??أ‪،‬‬
‫ارموا وأنا مع ابن األعرع رجل من خزاعة‪ ،‬فرمى القوم نبالهم‪ .‬وقالوا‪ :‬ي??ا رس??ول‬
‫ضل َ !! فقال ارموا وأنا معكم جميعأ‪.‬‬‫هللا‪ ،‬من كنت معه فقد َن َ‬

‫قال المسعودي‪ :‬وسائر ولد قحطان من حمير وكهالن يأبى هذا الق??ول وينك??ره وق??د‬
‫ثبت أن قحطان يقطن‪ ،‬وإنما ُعرب فقيل له‪ :‬قحطان‪.‬‬

‫وحكي ابن الكلبي‪ ،‬أن اسم يقطن في التوراة الجبار بن عابر بن ش?الخ بن إرفخش?ذ‬
‫بن سام بن ن??وح‪ ،‬والواض??ح‪ ،‬من أنس??اب اليمن‪ ،‬وم?ا ت?دين ب??ه كهالن وحم??ير ابن??ا‬
‫قحطان إلى هذا الوقت قوال وعمال‪ ،‬وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير‬
‫والذي وجدت عليه التواريخ القديمة? للعرب وغيرها من األمم‪ ،‬وعليه وجدت األكثر‬
‫صفحة ‪257 :‬‬

‫من ش??يوخ ول??د قحط??ان من حم??ير وكهالن ب??أرض اليمن والته??ائم واألنج??اد وبالد‬
‫ض َر َم? ْ?وت َو األحق?اف وبالد عم??ان وغيره??ا من األمص??ار أن الص??حيح في نس??ب‬
‫َح ْ‬
‫قحطأن أنه قحطان بن عابر بن شالخ بن سالم‪ -‬وه??و قين??ان‪ -‬ابن إرفخش??ذ بن س?ام‬
‫بن نوح‪ ،‬وقد كان لعابر ثالثة أوالد‪ :‬فالغ‪ ،‬وقحطان‪ ،‬وملكان‪ ،‬والخضر عليه السالم‬
‫من ولد ملكان في قول كثير من الناس‪ ،‬وولد لقحطان أحد وثالثون ذك??راً‪ ،‬و أم??ه م‬
‫َح ّي بنت روق بن ق??زارة بن منق??ذ بن س??ويد بن ع??وص بن أرم بن س??ام بن ن??وح‪،‬‬
‫فولد قحطان يعرب بن قحطان‪ ،‬وولد يعرب يش??جب‪ ،‬وول??د يش??جب ول??دين‪ ،‬أح??دهما‬
‫عبد‪ -‬وهو سبأ بن يشجب‪ -‬وإنما سمي سبأ لسبيه? السبايا‪ ،‬فولد سبأ حم??ير وكهالن‬
‫ابني سبأ‪ ،‬والثاني لم يعقب‪ ،‬وإنما العقب من ولد هذين‪ -‬وهم??ا حم??ير وكهالن؛فه?ذا‬
‫المتفق عليه عند أهل الخبرة بهما‪ ،‬والمتيقن لديهم‪.‬‬
‫وكان الهيثم بن عمي الطائي ينكر أيضا ً أن يكون قحطان من ول??د إس??ماعيل‪ ،‬وإنم??ا‬
‫إسماعيل تكلم بلغة جرهم؛ ألن إسماعيل كان سرياني? اللس??ان على لغ??ة أبي??ه خلي??ل‬
‫الرحمن حين أسكنه هو و أمه ه??اجر بمك??ة على م??ا ذكرن??ا‪ ،‬فص??اه ََر ج??رهم‪ ،‬ونش??أ‬
‫على لغتها‪ ،‬ونطق بكل أمه ا و َق َفا في ُم َراده خطابها‪.‬‬

‫?رهم‪ ،‬ويقول??ون‪ :‬إن هللا ع??ز وج??ل‬‫ونزار تأبى أن يكون إس??ماعيل نش??أ على لغ??ة ُج? ْ‬
‫أعطاه هذه اللغة‪ ،‬وذل??ك أن إب??راهيم خلف??ه ه??و و أم??ه ه??اجر‪ ،‬وإس??ماعيل ابن س??ت‬
‫عش??رة س??نة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ابن أرب??ع عش??رة س??نة‪ ،‬في واد غ??ير ذي زرع‪ ،‬وال أنيس‪،‬‬
‫وعلّم إسماعيل هذه اللغة العربية‪?.‬‬ ‫فحفظها هللا تعالى‪ ،‬وأتبع لها زمزم‪َ ،‬‬

‫قالوا‪ :‬ولغة جرهم غير هذه اللغة‪ ،‬ووجدنا لغة ولد قحطان بخالف لغة ولد نزار بن‬
‫معد‪ ،‬فهذا يقضي? بإبطال قول من قال‪ :‬إن إسماعيل أعرب بلغ??ة ج??رهم‪ ،‬ول??و وجب‬
‫ش ِئه? فيها لوجب أن تك??ون‬ ‫أن يكون إسماعيل إنما كان عربي اللسان ألجل جرهم و َن ْ‬
‫لغت??ه موافق??ة للغ??ة ج??رهم‪ ،‬أو لغ??ير ممن ن??زل مك??ة‪ ،‬وق??د وج??دنا قحط??ان س??رياني‬
‫اللسان‪ ،‬وولده يعرب بخالف لسانه‪ ،‬وليس منزل??ة يع??رب عن??د هّللا أعلى من منزل??ة‬
‫إسماعيل‪ ،‬وال منزل قحطان أعلى من منزلة إبراهيم خليل الرحمن فيمن??ع إس??ماعيل‬
‫فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان‪.‬‬

‫ولولد نزار وولد قحطان َخ ْطب طويل ومناظرات كثيرة ال يأتي علي كتابنا ه??ذا‪ ،‬في‬
‫التنازع والتفاخر باألنبي??اء والمل??وك‪ ،‬وغ?ير ذل?ك مم??ا ق?د أتين?ا على ذك?ر ج َم??ل من‬
‫ح َِجاجهم وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف‪ ،‬وكذلك من??اظرات الس??ودان‬
‫والبيضان والعرب والعجم ومناظرات الشعوبية? في كتابنا أخبار الزمان‪.‬‬

‫وزعم الهيثم بن ع??دي أن ج??رهم بن ع??ابر بن س??بأ بن يقطن ه??و قحط??ان وت??أول‬
‫الهيثم قول النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬حين قال للرماة من األنصار‪ ،‬ارموا يا بني‬
‫إسماعيل‪ -‬أنه عليه السالم نسبهم إلى إسماعيل من جهة ال أمه ات‪ ،‬وما نالهم من‬
‫صفحة ‪258 :‬‬

‫الوالدات من ولد إسماعيل؛ ألن النبي صلى هللا عليه وس??لم ال يزي??ل نس??با ً ق??د ثبت‪،‬‬
‫وال يثبت نسب قوم إلى غير آبائهم‪ ،‬وقد نقلوا ذلك قوال وعمال وقد روي عنه صلى‬
‫س? َبأ‪ :‬أرجال ك?ان أو ام?رأة أو وادي?ا أو‬ ‫هللا عليه وسلم أن سائال سأله مِنْ ُم َراد عن َ‬
‫جبالً‪ .‬فق??ال ل??ه‪ :‬ك??ان رجالً‪ ،‬ول??د ل??ه عش??رة فتش??اءم أربع??ة وتي??امن س??تة‪ :‬فال??ذين‬
‫سان‪ ،‬والذين تيامنوا حمير واألزد و َم? ْ?ذ َحج وكنان??ة‬ ‫تشاءموا لخم وجذام وعاملة و َغ َّ‬
‫وخ ْث َعم‪.‬‬
‫واألشعريون وأنمار الذين هم بجيلة َ‬

‫وقال أبو المنذر‪ :‬هو أنمار بن إي??اد بن عم??رو بن الغ??وث بن نبت بن مال??ك بن زي??د‬
‫بن كهالن بن سبأ‪.‬‬
‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وق??د تن??وزع في نس??ب أنم??ار؛ف??ذهب األك??ثر إلى أن أنم??اراً وإي??اداً‬
‫وربيعه? ومضر بنو نزار بن معد بن عدنان‪ ،‬وإنما دخل??وا في اليمن فأض??يفوا إليهم‪،‬‬
‫وما ذكرناه عن النبي صلى هللا عليه وسلم فيمن تيامن وتشاءم فمن أخبار اآلح??اد‪،‬‬
‫وليس مجيئه مجيء االستفاضة التي يقطع بها العذر ويثبت بها الحكم‪.‬‬

‫وللناس في هؤالء كالم كثير‪ ،‬وقد ذكر هشام عن أبيه الكلبي قال‪ :‬كان يق??ال لس??ائر‬
‫الس َبئِيون‪ ،‬ولم تكن لهم قبائل تجمعهم دون سبأ‪.‬‬
‫ولد سبأ َّ‬

‫وسنذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب خ??بر عم??رو بن ع??امر مزيقي??اء‪ ،‬وخ??بر طريف??ة‬
‫?رم والس??يل‪،‬‬
‫الكاهنة‪ ،‬وخبر عمران الكاهن‪ ،‬وهو أخو عمرو بن عامر‪ ،‬وأخب??ار ال َع? ِ‬
‫?أر َب‪ ،‬ومن‬
‫وما كان من كهانتهما في أمر السد وسيل الع??رم‪ ،‬وتف??رق القبائ??ل من م? ِ‬
‫سراة والشام وغير ذلك من بقاع األرض‪.‬‬ ‫ش ُنوءة وال ً‬
‫لحق ب ُع َمان و َ‬

‫ذكر اليمن وملوكها ومقدار سنيها‬


‫أول من ُي َع? د من مل??وك اليمن س??بأ بن َي ْ‬
‫ش? ُجب بن َي ْع? ُرب بن قحط??ان‪ ،‬واس??مه? عب??د‬
‫شمس‪ ،‬وقد أخبرنا فما سلف من هذا الكتاب وغيره من كتبنا ألي??ة عل??ة س??مي س??بأ‬
‫على ما قيل‪ ،‬وهللا أعلم‪ ،‬وكان ملكه أربعمائة سنة وأربعا ً وثمانين سنة‪?.‬‬

‫حمير‬
‫أشج َع الناس في وقته‪،‬‬
‫َ‬ ‫ثم ملك بعده ولده حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب‪ ،‬وكان‬
‫وأفرسهم‪ ،‬وأكثرهم جماالً‪ ،‬وكان ملكه خمسين سنة وقيل‪ :‬أكثر من ذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬أقل‬
‫وكان يعرف بالمتوج وكان أول من وضع على رأسه تاج الذهب من ملوك اليمن‪.‬‬

‫كهالن‬
‫ثم ملك بعده أخوه كهالن بن سبأ‪ ،‬فطال عمره‪ ،‬وك??بر س??نه واس??تقامت ل??ه األم??ور‪،‬‬
‫وكان ملكه ثلثمائة سنة‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬

‫صفحة ‪259 :‬‬

‫ثم عاد الملك بعد أن هلك كهالن إلى ولد حم??ير؛ ألخبار يط??ول ذكره??ا‪ ،‬وتن??ازع في‬
‫الملك بين ولد حمير‪ .‬وكهالن‪.‬‬

‫عمرو بن سبأ‬
‫ثم مل??ك أب??و مال??ك عم??رو بن س??بأ‪ ،‬واتص??ل ملك??ه‪ ،‬وغم??ر الن??اس عدل??ه وش??ملهم‬
‫إحسانه‪ ،‬وكان ملكه ثلثمائة? سنة‪?.‬‬

‫قول آخر‬
‫وقيل‪ :‬إن أول من ملك بعد كهالن الرائش‪ ،‬وهو الحارث بن شداد‪.‬‬
‫ثم ملك جبار بن غالب بن زيد بن كهالن‪ ،‬فكان ملكه عشرين ومائة سنه‪.‬‬
‫ثم ملك بعده الحارث بن مالك بن إفريقس بن صيفي بن يشجب بن سبأ‪ ،‬وكان ملكه‬
‫مائة سنة? ونحو أربعين سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬إن هذا الملك هو أبرهة بن ال??رائش المع??روف‬
‫بذي المنار‪.‬‬

‫جماعة من ملوك اليمن‬


‫ثم ملك بعده الرائش بن شداد بن ملظاظ‪ ،‬وكان ملكه مائة وخمسا ً وعشرين سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده أبرهة بن الرائش‪ ،‬وهو ذو المنار‪ ،‬وكان ملكه مائة وثمانين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أفريقس بن أبرهة‪ ،‬فكان ملكه مائة وأربعا ً وستين ثم مل?ك بع?ده أخ?وه‬
‫ار‪ ،‬وكان ملكه خمسا ً وعشرين سنة‪.‬‬ ‫العبد بن أبرهة‪ ،‬وهو ذو ْ‬
‫األذ َع ِ‬

‫ذو األذعار‬
‫ثم ملك بع??ده اله??داهاد بن ش??رحبيل بن عم??رو بن ال??رائش‪ ،‬وق??د تن??وزع في مق??دار‬
‫ملكه؛فمنهم من رأى أنه عاش عشر سنين‪ ،‬ومنهم من ذكر سبعاً‪ ،‬ومنهم من ق??ال‪:‬‬
‫ستا‪.‬‬

‫تبع األول‬
‫ثم مل??ك تب??ع األول‪ ،‬وك??ان ملك??ه أربعمائ??ة س??نة‪ ،‬وذك??ر كث??ير من الن??اس أن بلقيس‬
‫قتلته‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬واألشهر ما قدمنا‪.‬‬

‫بلقيس وسليمان‬
‫ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد‪ ،‬وكان لمولدها خ??بر ظري??ف ذكرت??ه ال??رواة فمي??ا‬
‫روي أنه تصور ألبيها في بعض َق َنصِ ه? َح َّي َتان سوداء وبيضاء ف?أمر بقت?ل الس??وداء‬
‫منهما‪،‬؛وما ظهر له بعد ذلك من شيخ وشاب من الجن‪ ،‬وأن الش??يخ زوج??ه بابنت??ه‪?،‬‬
‫واشترط عليه شروطا ً لها‪ ،‬فعلقت منه? ببلقيس‪ ،‬ونقض تلك الشروط المأخوذة عليه‬
‫لها‪ ،‬فغابت عنه‪ ،‬في خبر ظريف‪ ،‬وهو موجود في كتاب أخبار التبابعة‪.‬‬

‫صفحة ‪260 :‬‬

‫وإنما نحكي هذه األخبار على حسب ما وجدناه في كتب األخباريين وعلى حسب ما‬
‫توجبه الشريعة والتسليم لها‪ ،‬وليس‪ .‬قصدنا من ذلك وصف أقاويل أصحاب الق??دم‪،‬‬
‫ألنهم ينكرون هذا ويمنعونه‪ ?،‬وإنما نحكي في ه??ذا الكت?اب أقاوي??ل أص??حاب الح?ديث‬
‫المنق??ادين للش??رع والمس?لِّمين للح??ق‪ ،‬وأخب??ار الش??ياطين على حس??ب م??ا نط??ق ب??ه‬
‫الكتاب المنزل على الن?بي المرس?ل‪ ،‬وم?ا ق?ارن ذل?ك من ال?دالئل الدال?ة على ص?دقه‬
‫صلى هللا علية وس??لم‪ ،‬وإعج??از الخليق??ة أن ي??أتوا بمث??ل ه??ذا الق??رآن ال??ذي ال يأتي??ه‬
‫الباطل من بين يديه وال من خلفه‪.‬‬

‫وكان ملك بلقيس عشرين ومائة سنة‪ ،‬وكان من أمرها مع سليمان عليه السالم م??ا‬
‫ذكر هّللا عز وجل في كتابه‪ ،‬وم??ا اقتص من خ??بر الهده??د‪ ،‬وم??ا اقتص من أمرهم??ا‪،‬‬
‫فملك سليمان اليمن ثالثا ً وعشرين سنة‪?.‬‬

‫بقية ملوك اليمن‬


‫ثم عاد بعد ذلك الملك إلى حمير؛ فملكهم ناشر النعم بن عمرو بن يعفر وكان ملك??ه‬
‫خمسا ً وثالثين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده شمر بن إفريقس بن أبرهة‪ ،‬فك?ان ملك?ه ثال َث? ا َ وخمس?ين ثم مل?ك بع?ده‬
‫ُت َّبع األ ْق َرنُ بن شمر‪ ،‬فكان ملكه مائة وثالثأ وستين سنه‪?.‬‬
‫س َّي َر قومه نحو‬ ‫ثم ملك بعده كليكرب بن ت َّبع وكان ملكه مائة سنة وعشرين سنة‪َ ،‬و َ‬
‫الشرق من بالد خراسان والتبت والصين وسجستان‪.‬‬
‫ثم ملك بعده حسان بن تبئع‪ ،‬فاستقام ل??ه األم??ر‪ ،‬ثم وق??ع بع??د ذل??ك في ملك??ه تن??ازع‬
‫وخالف‪ ،‬وكان ملكه إلى أن قتل خمسا ً وعشرين سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده عمرو بن ُت َّبع‪ ،‬وهو القاتل ألخيه حس??ان المل??ك الماض??ى‪ ،‬وك??ان ملك??ه‬
‫أربعا ً وستين سنة‪ ،‬و لقال‪ :‬انه عدم النوم‪ ،‬لما كان من فعله من قتل أخيه‪.‬‬
‫ثم ملك بعده تبع بن حسان بن كليكرب‪ ،‬وهو المل??ك الس??ائر من اليمن إلى الحج??از‪،‬‬
‫وكانت له مع األوس والخزرج حروب‪ ،‬وأراد هدم الكعب??ة فمنع??ه َمنْ ك??ان مع??ه من‬
‫أخبار اليهود‪ ،‬فكساها القص??ب اليم??اني‪ ،‬وس??ار نح??و اليمن وق??د ته? َّ?و َد وغلبت على‬
‫اليمن اليهودية‪ ،‬ورجعوا عن عبادة األصنام‪ ،‬وكان ُم ْلكه نحو مائة سنة‪?.‬‬
‫ثم مل??ك عم??رو بن تب??ع بع??د تف??رق وتن??ازع ك??ان بينهم في المل??ك‪ ،‬خل??ع عن المل??ك‬
‫وملك??وا عليهم مرث??د بن عب??د كالل‪ ،‬وك??ان في اليمن تن??ازع وح??روب‪ ،‬وك??ان ملك??ه‬
‫أربعين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده وليعة بن مرثد‪ ،‬وكان تسعا ً وثالثين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أبرهة بن الصباح بن وليعة بن مرثد‪ ،‬وهو الذي ي??دعى ش??يبة الحم??د‪،‬‬
‫وكان ملكه ثالثا ً وتسعين سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬أقل من ذلك‪ ،‬وكان عالمة وله سير ُمد ََّونة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده عمرو بن ذي قيفان‪ ،‬وكان ملكه سبع عشرة سنة‪.‬‬
‫ش? َناتر‪ ،‬ولم يكن من أه??ل بيت المل??ك‪ ،‬فغ??ري باألح??داث من أبن??اء‬ ‫ثم مل??ك بع??ده ذو َ‬
‫الملوك‪ ،‬وطالبهم بما ُت َطالب به النسوان‪ ،‬وأظهر الفسق باليمن واللواط‪ ،‬وعدل م??ع‬
‫ذلك في الرعية‪ ،‬وأنصف المظلوم‪ ،‬وكان ملكه ثالثين سنة‪ ?،‬وقيل‪ :‬تسعا وعشرين‬
‫صفحة ‪261 :‬‬

‫سنة ‪ ،‬وقتله يوسف ذو نواس‪ ،‬وكان من أبناء الملوك‪ ،‬خوفا ً على نفسه‪ ،‬وأ َن َفة أن‬
‫يفسق به‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده يوسف ذو ن??واس بن زرع??ة بن تب??ع األص??غر بن حس??ان بن كليك??رب‪،‬‬
‫وقد ذكرنا خبره في غير هذا الموض??ع من كتبن??ا‪ ،‬وم??ا ك??ان من أم??ره م??ع أص??حاب‬
‫األخدود‪ ،‬وتحريقه إياهم بالنار‪ ،‬وهم الذين خبر هللا تع??الى عنهم في كتاب??ه فق??ال‪" :‬‬
‫قت?ك أص?حاب األخ?دود‪ ،‬الن?ار ذات الوق?ود" و إلي?ه ع?برت الحبش?ة من بالد ناص?ع‬
‫والزيلع‪ ،‬وهو ساحك الحبشة على حسب ما ذكرنا‪ ،‬إلى بالد غالفقة من ساحل زبيد‬
‫من أرض اليمن‪ ،‬فغرق يوسف نفسه بعد حروب طويلة خوفا ً من العار؛ وكان ملكه‬
‫مائتي سنة وستين سنة‪ ،‬وقيل أق?ل من ذل?ك‪ ،‬وذل?ك أن النجاش?ي مل?ك الحبش?ة لم?ا‬
‫بلغه فعل ذي نواس بأتباع المسيح? عليه السالم‪ ،‬وما يعذبهم ب??ه من أن??واع الع??ذاب‬
‫والتحريق بالنار بعث إليه الحبشة وعليهم أرب??اط بن أص??حمة فمل??ك اليمن عش??رين‬
‫سنة‪?.‬‬

‫أبرهة أبو يكسوم‬


‫ثم وثب عليه أبرهة األشرم أبو يكسوم فقتله ومل?ك اليمن‪ ،‬فلم?ا بل?غ ذل?ك من فعل?ه‬
‫إلى النجاشي غضب عليه‪ ،‬وحلف بالمس?يح? أن يج?زا ناص?يته‪ ?،‬ويري??ق دم??ه‪ ،‬ويط?أ‬
‫تربته‪ -‬يعني أرض اليمن‪ -‬فبلغ ذل??ك أبره??ة فج??ز ناص??يته وجعله??ا ح??ق من الع??اج‪،‬‬
‫وجع??ل من دم??ه في ق??ارورة‪ ،‬وجع??ل من ت??راب اليمن في ج??راب‪ ،‬وأنف??ذ ذل??ك إلى‬
‫النجاش??ي مل??ك الحبش??ة‪ ،‬وض??م إلى ذل??ك ه??دايا كث??يرة وألطاف?اً‪ ،‬وكتب إلي??ه يع??ترف‬
‫بالعبودية‪ ?،‬ويحلف له بدين النص??رانية أن??ه في طاعت??ه‪ ،‬وأن??ه بلغ??ه أن المل??ك حل??ف‬
‫بالمسيح أن يجز ناصيته? ويريق دمه ويطأ أرض??ه‪ ،‬وق??د أنف??ذت إلى المل??ك ناص??يتي?‬
‫فليجزها بيده‪ ،‬وبدمي في قارورة فليهرقه‪ ،‬وبجراب من تربة بالدى فليط??أ بقدمي??ه‪?،‬‬
‫وليطفئ الملك عني غضبه‪ ،‬فقد أبررت يمينه‪ ?،‬وهو على س??رير ملك??ه‪ ،‬فلم??ا وص??ل‬
‫ذلك إلى النجاشي استصوب رأيه‪ ،‬واستحسن عقله‪ ،‬وصفح عنه وكان ذلك في ملك‬
‫قباذ ملك فارس‪.‬‬
‫وأبرهة أبو يكسوم هو الذي سار بأص??حاب الفي??ل إلى مك??ة إلخ??راب الكعب??ة‪ ،‬وذل??ك‬
‫ألربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو شروان‪ ،‬فعدل إلى الطائف فبعثت معه ثقي??ف‬
‫بأبي ُر َغال ليدلَّه على الطريق السهل إلى مكة‪ ،‬فهلك أبو ُر َغال في الطريق بموضع?‬
‫يقال له ال ُم َغ َفس بين الطائف ومكة‪َ ،‬ف ُرجم قبره بعد ذل??ك والع??رب تتمث??ل ب??ذلك وفي‬
‫ذلك يقول جرير بن الخطفي في الفرزدق‪.‬‬
‫فار ُج ُموهُ كما َت ْر ُمونَ َق ْب َر أبي ُر َغال‬
‫إذا مات الفرز دق ْ‬
‫هّللا‬
‫وقال المسعودي رحمه ‪ ،‬وقيل‪ :‬إن أبا ُر َغال َّ‬
‫وج َه ُه صالح الن??بي ص??لى هللا علي??ة‬
‫وسلم على صدقات األموال‪ ،‬فخالف أمره‪ ،‬وأساء السيرة‪ ،‬فوثب عليه ثقيف ‪ -‬وهو‬
‫قتلة شنيعة? لسوء سيرته في أهل الحرم‪،‬فقال غيالن بن سلمة‬ ‫قيس بن منبه‪ -‬فقتله ً‬
‫قسي وقسا أبونا وفي ذلك يق??ول أمي??ة‬ ‫ِّ‬ ‫وذكر قسوة أبيهم ثقيف على أبي ُر َغال نحن‬
‫بن أبي الصلت الثقفي‪َ :‬ن َف ْوا عن أرضهم َعدْ َنانَ ُط ًّرا وكانوا للقبائل قـاهـرينـا وهم‬
‫قتلوا الرئيس أبا ُرغـال بمكة إذ يسوق بها الوضينا‬
‫صفحة ‪262 :‬‬

‫وفي ذلك يقول عمرو بن دراك العبدي‪:‬‬


‫ور على تـمـيم‬ ‫ُ‬
‫وخالفت ال ُم ُر َ‬ ‫تراني إن قطعت حبال َ قـيس‬
‫وأج َور ُفي الح ُكو َم ِة منْ َ‬
‫سدُوم‬ ‫ْ‬ ‫ألعظ ُم َف ْج َر ًة منَ أبي ُر َغـال‬

‫وقال مسكين الدأرمي‪:‬‬


‫َك َر ْجم الناس قبر أبي ُر َغال‬ ‫قبر ُه في كـل عـام‬
‫وأر ُج ُم َ‬
‫ْ‬

‫و سنورد فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب قص??ه الحبش??ة وورودهم الح??رم وم??ا ك??ان من‬
‫أمرهم في ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي طريق العراق إلى مكة‪ -‬وذلك بين الثعلبية والهبير نح?و البط?ان‪ -‬موض?ع‬
‫يع??رف بق??بر العب??اعي‪َ ،‬ت ْرجم??ه الم??ارة إلى ه??ذه الغاي??ة كم??ا ت??رجم ق??بر أبي ُر َغ? ال‪،‬‬
‫وللعباعي خبر ظريف قد أتينا على ذكره في كتاب أخبار الزمان وفي كت??اب ح??دائق‬
‫األذهان وفي أخبار أهل البيت رضي هّللا عنهم‪.‬‬
‫فك??ان مل??ك أبره??ة على اليمن إلى أن هل??ك بع??د أن رج??ع من الح??رم وق??د حس??قطت‬
‫أنامله وتقطعت أوصاله حين بعث هّللا عليه الطير األبابيل ثالثا ً وأربعين سنة‪?.‬‬
‫وكان قدوم أصحاب الفيل مكة يوم األحد لس??بع عش??رة ليل??ة خلت من المح??رم س??نة‬
‫ثمانمائ??ة واثن??تين وثالثين س??نة لالس??كندر وس??ت عش??رة س??نة وم??ائتين من ت??اريخ‬
‫العرب الذي أوله حجة الغدر‪.‬‬
‫وسنذكر بعد هذا في الموضع المستحق ل??ه من ه??ذا الكت??اب جمالً من ت??اريخ? الع??الم‬
‫وتاريخ األنبياء والملوك‪ ،‬في باب ُن ْفرده لذلك إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬
‫ثم ملك اليمن بعد أبرهة األشرم ولده يكسوم‪ ،‬فع ًم أذاه سائر اليمن‪ ،‬وكان ملك??ه إلى‬
‫أن هلك عشرين سنة‪?.‬‬

‫مسروق بن أبرهة‬
‫روق بن أبره??ة‪ ،‬فاش??تدت وطأت??ه على اليمن‪ ،‬وعم أذاه س??اير‬ ‫مس?? َ?‬
‫ثم مل??ك بع??ده ِ‬
‫?زن‪ ،‬وك??ان س??يف‬ ‫النأس‪ ،‬وزاد على أبيه وأخيه في الذي‪ ،‬وك??انت أم??ه من آل ذى َي? َ‬
‫بن ذي َي َزن قد ركب البحار‪ ،‬ومضى إلى قيصر يستنجلى‪ ،‬فأقام بباب??ه س??بع س??نين‪،‬‬
‫فأبى أن ُي ْن ِج??د‪ ،‬وق??ال‪ :‬أنتم يه??ود‪ ،‬والحبش?ة? نص??ارى‪ ،‬وليس في الديان??ة أن ننص??ر‬
‫المخالف على المواف??ق‪ ،‬فمض??ى إلى كس??رى أن??و ش??روان فاس??تنجده و َم َّت إلي??ه‬
‫يت به??ا إلي‪.‬؛‬ ‫بالقرابة‪ ،‬وسأله النصرة‪ ،‬فقال له كسرى‪ :‬وم??ا ه??ذه القراب??ة ال??تي أدْ َل َ‬
‫الج ِبلة وهي الجلدة البيضاء ؛إذ كنت أقرب إليك منهم‪ ،‬فوع?ده أن?و‬ ‫فقال‪ :‬أيها الملك ْ‬
‫شروان بالنصرة على السودان وشغل بحرب الروم وغيرها من األمم‪ ،‬ومات سيف‬
‫بن ذي يزن‪ ،‬فأتى يعلى معد يكرب بن سيف‪ ،‬فصاح على باب الملك‪ ،‬فلما سئل عن‬
‫ميراث‪ ،‬فوقف بين يدي أنو ش??روان‪ ،‬فس??أله عن ميراث??ه‪?،‬‬ ‫ٌ‬ ‫حاله‪ ،‬قال‪ :‬لي َق َبل الملك‬
‫فوج َه مع??ه َوهْ? ِرز‬
‫فقال‪ :‬أنا ابن الشيخ ال??ذي وع??ده المل??ك بالنص??رة على الحبش??ة‪َّ ،‬‬
‫إص ? ِب ْه ِب َذ ال??ديلم في أه??ل الس??جون‪ ،‬فق??ال " إن فتح??وا لن??ا‪ ،‬وإن هلك??وا فلن??ا‪ ،‬وكال‬
‫ْ‬
‫الوجهين َف ْت ٌح‪ ،‬فحملوا في السفن في دجلة ومعهم خيولهم‪ ،‬وعددهم وأموالهم‪،‬‬
‫صفحة ‪263 :‬‬

‫حتى أتوا أبلّة البصرة‪ -‬وهي ف??رج البح??ر‪ ،‬ولم يكن حينئ??ذ بص??رة وال كوف??ة‪ ،‬وه??ذه‬
‫م??دن إس??المية‪ ?-‬فركب??وا في س??فن البح??ر‪ ،‬وس??اروا ح??تى أت??وا س??احل حض??ر م??وت‬
‫ب‪ ،‬فخرجوا من الس??فن‪ ،‬وق??د ك??ان أص??يب بعض??هم في البح??ر‪،‬‬ ‫بموضع? يقال له َم ْث َو ُ‬
‫فأمرهم َوهْ ِرز أن يحرقوا السفن ليعلموا أنه الموت‪ ،‬وال وج??ه يؤمل??ون ال َم َف? َّ‬
‫?ر إلي??ه‬
‫?ف في‬ ‫?وب أ ْل? ٌ‬ ‫فيجهدون أنفسهم‪ ،‬وفي ذلك يقول رجل من حضر موت‪ :‬أصبح في َم ْث? َ‬
‫ال ُج َنـنْ من رهط ساسان ورهط مهرسن ليخرج??وا الس??ودان من أرض اليمن دله ُم‬
‫ذويزن في شعر له طويل‪ ،‬ونما خبرهم إلى ملك اليمن مس??روق بن‬ ‫َ‬ ‫َقصـد الـسـبـيل‬
‫أبرهة‪ ،‬فأتاهم في مائة ألف من الحبشة وغيرهم من حمير وكهالن ومن س??ائر من‬
‫وتصاف القوم‪ ،‬وكان مسروق على في?ل َ عظيم‪ ،‬فق??ال وه??رز‬ ‫َ‬ ‫سكن اليمن من الناس‬
‫لمن كان معه من الفرس‪ :‬اصدقهم الحملة‪ ،‬واستشعروا الصبر‪ ،‬ثم تأمل ملكهم وقد‬
‫نزل عن الفيل فركب جمالً‪ ،‬ثم نزل عن الجمل فركب فرساً‪ ،‬ثم أنف أن يحارب على‬
‫فرس فركب حماراً‪ ،‬استصغارأ ألصحاب السفن‪ ،‬فقال َوهْ ِر ُز " ذهب ملكم??ه‪ ،‬وتنق??ل‬
‫من كب??ير إلى ص??غير‪ ،‬وك??ان بين عي??ني مس??روق ياقوت??ة حم??راء معلق??ه في تاج??ه‬
‫وه???رز‬
‫ِ‬ ‫بمعالق من ال??ذهب تض???يء كالن???ار‪ ،‬ف???رمى َوهْ??? ِر ُز‪ ،‬ورمى الق ??وم‪ ،‬وق ??ال‬
‫ألصحابه‪:‬‬
‫قد رميت ابن الحمارة‪ ،‬فانظروا إن كان الق??وم يجتمع??ون علي??ه وال يتفرق??ون عن??ه‬
‫فهو حي‪ ،‬وإن كان أصحابه يجتمعون عليه ويتفرقون عنه فقد هل??ك‪ ،‬فنظ??روا إليهم‬
‫فرأوهم يجتمعون ويتفرقون عنه‪ ،‬فأخبروه بذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫احملوا على القوم واصدقوهم فحملوا عليهم وصدقوهم؛ فانكشفت الحبشة وأخذهم‬
‫السيف‪ ،‬ورفع رأس مسروق ورؤوس خواص الحبشة ورؤسائهم‪ ،‬فقتل منهم نحو‬
‫ثالثين ألفاً‪ ،‬وقد كان أنو شروان أتشرط على معد يكرب ش??روطأ‪ :‬منه??ا أن الف??رس‬
‫ت??تزوج? ب??اليمن وال ت??تزوج? اليمن منه??ا وفي ذل??ك يق??ول الش??اعر‪ :‬على أن ينكح??وا‬
‫النس?وان منهم وال ينكح?وا في الفارسـينـا َو َخ? َراج يحمل?ه إلي?ه ف َت?ؤ َج وه?رز مع?د‬
‫يكرب بتاج كان معه وبدن??ة من الفض??ة ألبس??ه إياه??ا‪ ،‬ورتب?ه? في ملك??ه على اليمن‪،‬‬
‫وكتب إلى أنو شروان بالفتح‪ ،‬وخلف هناك جماعة من أصحابه‪.‬‬

‫ملكت األحابش اليمن اثنتين وسبعين سنة‪ ،‬وك??ان مل??ك مس??روق بن‬ ‫َ‬ ‫وكان جميع ما‬
‫أ ْب َر َه??ة إلى أن قتل??ه َوهْ ? ِر ُز ثالث س??نين‪ ،‬وذل??ك لخمس وأربعين خلت من مل??ك أن??و‬
‫شروان‪.‬‬

‫وأتت معدي كرب الوفود من العرب تهنئه? بالملك‪ ،‬فأتاه عبد المطلب وج??د أمي??ة بن‬
‫الص ْلت‪ ،‬وقد ذكرنا خبر عبد المطلب ووفادته على ابن ذي يزن في هذا الكت??اب‬
‫أبي َ‬
‫فيما بعد‪ ،‬وما قيل من الشعر وفي مسير? الفرس إلى اليمن ونص??رتهم? على الحبش??ة‬
‫يقول بعض أوالد فارس‪:‬‬

‫صفحة ‪264 :‬‬

‫حميراً من َب َل ّي ٍة الـسـودان‬ ‫َنحن ُخضنا البحار حتىفككنا‬


‫بالـمـران‬
‫َّ‬ ‫يمنعون الحريم‬ ‫شـوس‬ ‫بليوث من آل ساسان ُ‬
‫البرق في فرى األبدان‬ ‫ِ‬ ‫س َنا‬
‫ك َ‬ ‫وببـيض بـواتـر تـتـالَالَ‬
‫لـ َّمـا أن تدا َع ْت قبائل الحبشـان‬ ‫فقتلنا مسروق إذ تاه‬
‫شابة? الفتى الساسـانـي‬ ‫ب ُن ً‬ ‫وفلقنـا ياقـوتة بـين عـينه‬
‫رابط الجأش ثابت األركان‬ ‫َوهْ ِر ُز الديلمي ُئ لـ َّمـا رآ ُه‬
‫ثم سرنا إلى فرى ُغ ْم َدان‬ ‫وحوي َنا بالد قحطان قسـراً‬
‫و َم َن َّناعلى بني قـحـطـان‬ ‫فنعمنا فيه بكل سـرور‬

‫وفي ذلك يقول البحتري يمدح أبناء العجم‪ ،‬ويذكر فض??ل الف??رس على أس??الفه ألن??ه‬
‫من قطحان‪:‬‬
‫باق عـلـى الـزمـن‬ ‫ونعمة ذ ْك ُرهَا ٍ‬ ‫فكم لكم من َي ٍد يزكو الـثـنـاء بـهـا‬
‫وال يد كـأياديكـم عـلـى الـيمـن‬ ‫إن تفعلوها فليست ِب ْك َ‬
‫ـر أنـعـمـكـم‬
‫غيابة الذل عـن سـيف بـن ذي يزن‬ ‫ـلـى أنـو شـروان جـدكــم‬ ‫أيام َج َّ‬
‫ص ْن َعا وعن َعدَن‬‫بالضرب والطعن عن َ‬ ‫إذ ال تزال خـيول الـفـرس دافـعة‬
‫بـنـو من فاز منكم بفضل ال ّط ْول والمـ َن ِ‬
‫ـن‬ ‫أنتم بنو المنعم المجمـيع وخـن‬

‫وفود العرب تهنئ معد يكرب‬


‫بع ْو ِد الملك إليه وأش??راف‬ ‫قال المسعودي‪ :‬وأتت معد يكرب الوفود من العرب تهنيه َ‬
‫الع??رب وزعماؤه??ا‪ ،‬وفيهم عب??د المطلب بن هاش??م بن عب??د من??اف وأمي??ة بن عب??د‬
‫شمس بن عبد مناف‪ ،‬وخويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأبو َز ْم َعة َج ُّد أمية‬
‫الص ْلت الثقفي‪ ،‬وقيل‪ :‬أبو الصلت أبوه‪ ،‬ف?دخلوا إلي??ه وه??و في أعلى قص??ره‬ ‫بن أبي َّ‬
‫ض? َّمخ? ب??العنبر‪ ،‬وس??واد المس??ك يل??وح على‬‫بمدينة صنعاء المعروف ب ُغ ْم َدان وه??و ُم َ‬
‫َم ْف ِر قه‪ ،‬بين يديه‪ ،‬وعلى يمينه وشماله الملوك وأبناء الملوك وأبناء ال َم َقاول‪.‬‬

‫عبد المطلب يهنى الملك‬


‫فتكلمت الخطباء‪ ،‬ونطقت الزعماء‪ ،‬وق?د تق?دمهم عب?د المطلب بن هاش?م فق?ال عب?د‬
‫المطلب‪ :‬إن هّللا جل جالله قد أحلك‪ -‬أيها الملك‪َ -‬م َحال رفيعاً‪ ،‬صعبا ً منيع ?اً‪ ،‬ش??امخاً‪،‬‬
‫سق فرع??ه‪ ،‬في أَك??رم‬ ‫وأنبتك َم ْنبتا ً طابت أرومته‪ ،‬وعزت ُج ْر ُثومته‪ ?،‬وثبت أصله َو َب َ‬
‫وربيعه??ا ال??ذي‬‫مع??دن‪ ،‬وأطيب موض??ع وم??وطن‪ ،‬ف??أنت‪ -‬أبيت اللعن‪ -‬رأس الع??رب َ‬
‫ُت ْخصِ ب به‪ ،‬وأنت‪ -‬أيها الملك‪ -‬ذروة العرب ال??ذي ل??ه تنق??اد‪ ،‬وعموده??ا ال??ذي علي??ه‬
‫س? َلفُ َك خ??ير س??لف‪ ،‬وأنت لن??ا منهم خ??ير‬‫العماد‪ ،‬و َم ْعقلها ال??ذي تلتجئ إلي??ه العب??اد‪َ ،‬‬
‫خلف‪ ،‬فلن يخمل ذك??ر من أنت س??لفه‪ ،‬ولن يهل??ك من أنت خلف??ه‪ ،‬أيه??ا المل??ك‪ ،‬نحن‬
‫ص? َنا إلي?ك ال??ذي أبهجن??ا من كش??ف الك??رب ال?ذي‬ ‫ش َخ َ‬
‫وسدَ َنة بيت??ه‪ ،‬أ ْ‬
‫أهل "حرم هللا‪َ ،‬‬
‫َف َد َح َنا‪ ،‬ونحن وفد التهنئة‪ ،‬ال وفد المرزئة فقال ل??ه المل??ك‪ :‬وأيهم أنت أيه??ا المتكلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد من??اف‪ ،‬فق??ال المل??ك مع??دي ك??رب بن س??يف‪:‬‬
‫ا ْبنُ أختنا‪.‬؛ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أدْ ُنوه مني‪ ،‬فادني‪" ،‬ثم أقبل عليه وعلى الوفد‪ ،‬فقال‬
‫صفحة ‪265 :‬‬

‫ور َحالً‪ ،‬و َمس??تناخا س??هالً‪ ،‬وملك??أ ِر َب ْحالً‪ ،‬يعطي عط??اء‬


‫لهم‪ :‬مرحب??أ وأهال‪ ،‬ونأق??ة َ‬
‫جزالً‪ ،‬قد سمع مقالتكم‪ ،‬وعرف قرابتكم‪ ،‬وقبل وس??يلتكم‪ ،‬ف??أتم أه??ل اللي??ل والنه??ار‪،‬‬
‫لكم الكرامة ما أقمتم‪ ،‬والحباء إذا ظعنتم‪.‬‬

‫أبو زمعة يهنئه?‬


‫ثم قام أبو َز ْم َعة جد أمية بن أبي الصلت الثقفي‪ ،‬فأنشأ يقول‪:‬‬
‫في لجة البحر أحـواال وأحـوال‬ ‫ليطلُب الوتر أمثال ابـن ذي يزن‬
‫تخالهم في سواد اللـيل أجـبـال‬ ‫حتئ أتنى ببني األحرار يحملـهـم‬
‫ما إن رأيت لهم في الناس أمثـال‬ ‫هلل درهم من عصـبة خـرجـوا‬
‫فقد أمسى شريده ُم في األرض فالّال‬ ‫أرسلت أسداً على سود الكالب‬
‫في رأس ُغ ْمدَان داراً منك محالالً‬ ‫فاشرب هنيئا ً عليك التاج مرتف َقـا َ‬
‫وأس ِبل اليوم في ُب ْر َد ْي َك إسـبـال‬
‫ْ‬ ‫اطل ُ بالمسك إذ شالت نعامتهـم‬ ‫ثم ْ‬
‫شِ ي َبا بماء فعـادا بـعـد أبـواال‬ ‫تلك المكأرم ال َق ْع َب ِ‬
‫ان مـن لـبـن‬

‫ولمعد يكرب بن سيف بن ذي يزن كالم كثير م??ع عب??د المطلب وك??وائن أخ??بره به??ا‬
‫وح َبا جميع الوفد‪ ،‬وانصرفوا‪ ،‬وقد‬ ‫في أمر النبي صلى هللا عليه وسلم و َبدْ ء ظهور‪َ ،‬‬
‫أتينا على ما كان من أخبارهم في كتابنا أخبار الزمان فأغنى عن إعادته ووصفه‪.‬‬

‫مقتل معد يكرب‬


‫قال المسعودي‪ :‬وأقام معد يكرب بن سيف بن ذي ي??زن ملك?ا ً على اليمن‪ ،‬واص??طنع‬
‫عبيداً من الحبشة حرابة يمشون بين يديه بالحراب‪ ،‬فركب في بعض األيام من باب‬
‫قصره المعروف ب ُغ ْمدَ ان بمدين ِّه صنعاء‪ ،‬فلما صار إلى رحبتها عطفت عليه الحرابة‬
‫من الحبشة‪ ،‬فقتلوه بحرابهم‪ ،‬وكان ملكه أرب??ع س??نين‪ ،‬وه??و آخ??ر مل??وك اليمن من‬
‫قحطان‪ ،‬فعدد ملوكهم سبعة وثالثون ملكا ً وملكوا ثالثة االف س??نة? ومائ??ة وتس??عين‬
‫سنة‪?.‬‬

‫رواية عبيد بن شرية‬


‫?ة‪ ،‬وس??أله عن‬ ‫ش ِر َّي َة الجرهمي حين وف??د على معاوي? ْ‬
‫قال المسعودي‪ :‬وأما عبيد بن َ‬
‫أخبار اليمن وملوكها وتواريخ? سنيها‪ ،‬فإنه ذكر أن أول ملوك اليمن على حسب م??ا‬
‫قدمنا في هذا الباب س??بأ بن ش??جب بن يع??رب بن قحط??ان‪ ،‬مل??ك مائ??ة س??نة وأربع?ا ً‬
‫وثمانين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده الحارث بن شداد بن ملظاط بن عمرو‪ ،‬مائة وخمسا ً وعشرين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أبرهة بن الرائش‪ ،‬وهو أبرهة ذو المنار‪ ،‬مائة وثالثا ً وثالئين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده إفريقس بن أبرهة‪ ،‬مائة وأربعا ً وستين سنة‪ ?.‬ثم ملك بعده أخ??وه العب??د‬
‫بن أبرهة‪ ،‬خمسا ً وأربعين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده الهدهاد بن شرحبيل? بن عمرو‪ ،‬وهو ذو الصرح‪ً ،‬‬
‫سنة‪?.‬‬
‫صفحة ‪266 :‬‬

‫ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد‪ ،‬سبع سنين‪.‬‬


‫ثم ملك سلمان بن داود عليهما السالم‪ ،‬ثالثا ً وعشرين س??نة‪ ،‬على حس??ب م??ا ق??دمنا‬
‫من أمر بلقيس‪.‬‬
‫ثم ملك بعده رحبعم بن سليمان‪ ،‬سنة‪.‬‬
‫ثم رجع الملك إلى حمير‪ ،‬فملك من بعد رحبعم بن س??ليمان ناش??ر النعم بن يعف??ر بن‬
‫عمرو في األذعار‪ ،‬خمسا ً وثالثين سنة‪ ،‬وقد قيل في تسميته? ذا األذع??ار خ??بر تأب??اه‬
‫العقول‪ ،‬وتنكر النفوس كون مثله في العالم‪ ،‬ويجوز كون ذلك في المقدر وأنه إنم??ا‬
‫س??من األذع??ار ألن??ه وص??ل إلى ق??وم في أقاص??ي مف??اوز اليمن وأرض حض??رموت‬
‫مشوهي? الخلقة عجيبي الصورة وجوههم في صدورهم‪ ،‬فلم??ا رأى أه??ل اليمن ذل??ك‬
‫ْأذدرهم ما شاهدوا من ذلك‪ ،‬وجزعت منه نفوسهم‪ ،‬فس??مي ذا األذع??ار‪ ،‬وقي??ل غ??ير‬
‫ذلك‪ ،‬وهللا أعلم بكيفيته‪.‬‬
‫ثم ملك بعده عمرو بن شمر بن إفريقس‪ ،‬ثالثا ً وخمسين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده تبع األقران بن عمرو‪ ،‬وه?و تب?ع األك?بر‪ ،‬مائ?ة س?نة وثالث?ا ً وخمس?ين‬
‫سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده تبع بن ملكيكرب بن تبع خمسا ً وثالثين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده تبع بن ملكيكرب بن تبع وهو تبع أبو يكرب أس??عد بن ملكيك??رب أربع??ا‬
‫وثمانين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده كالل بن مثوب‪ ،‬أربعا ً وسبعين سنة‪?.‬‬
‫ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع ثلثمائة سنة وستا ً وعشرين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده مرثد‪ ،‬سبعا ً وثالثين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده أبرهة بن الصباح‪ ،‬ثالثا ً وسبعين سنة‪?.‬‬
‫ش? َناتر بن زرع??ة‪ ،‬ويق??ال يوس??ف‪ ،‬ويق??ال‪ :‬بلى أس??مى ع??ريب بن‬ ‫ثم مل??ك بع??ده ذو َ‬
‫قطن‪ ،‬تسعا ً وثمانين سنة‪.‬‬
‫ثم ملك بعده لخنيعة‪ ،‬ويعرف بذي الشناتر‪ ،‬أربعا ً وثمانين سنة‪?.‬‬
‫فذلك ألف وتسعمائة? سنة وسبع وعشرون سنة‪ ?،‬وإنما ذكرن??ا م??ا حكين??اه عن عبي??د‬
‫شرية في ترتيب ملوكهم‪ ،‬وتباين تواريخ سنيهم‪ ،‬لن?أتي على جمي?ع م?ا قي?ل في‬ ‫َ‬ ‫بن‬
‫ذلك من التنازع‪ ،‬وهّللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫ملك فارس باليمن‬


‫ولم??ا قتلت الحبش??ة مع??د يك??رب بن س??يف بن ذي ي??زن‪ -‬على حس??ب م??ا ق??دمنا‪ -‬في‬
‫الرحبة بحرابهم كان بصنعاء خليفة لوهرز في جماعة من العجم‪ ،‬ممن كان ض??مهم‬
‫وهرز إلى معد يكرب فركب وأتى على من ك??ان هنال??ك من الحبش??ة‪ ،‬وض??بط البل??د‪،‬‬
‫وكتب ب??ذلك إلى وه??رز وه??و بب??اب أن??و ش??روان المل??ك‪ ،‬وذل??ك بالم??دائن من أرض‬
‫العراق‪ ،‬فأعلم وهرز ب??ذلك المل??ك‪ ،‬فس??يره في ال??بر في أربع??ة آالف من األس??اورة‪،‬‬
‫وأمره بإصالح اليمن‪ .‬وأن ال يبقى على أحد من بقايا الحبش??ة‪ ،‬وال على َج ْع? د َق َط? ط‬
‫قد شرك السودان في نسبه‪ ،‬فأتى وهرز اليمن‪ ،‬ون??زل ص??نعاء‪ ،‬فلم ي??ترك به??ا أح??د‬
‫من السودان وال من أنسابهم‪ ،‬وملك أنو شروان وهرز على اليمن إلى أن هلك‬
‫صفحة ‪267 :‬‬

‫بصنعاء ثم ملك بعده النوشجان بن وهرز إلى أن هل??ك به??ا ثم مل??ك بع??ده رج??ل من‬
‫فارس يقال له سبحان‪ ،‬ثم ملك بعده خرزاد س َّت َة أشهر‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده ابن س??بحان‪،‬‬
‫ثم ملك بعده المرزبان وكان من أهل بيت مملك??ة ف??ارس‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده خرخس??رو‪،‬‬
‫وكان مولده باليمن‪ ،‬ثم ملك بعده بآذان ساسان‪.‬‬

‫ملك اليمن في أبناء إبراهيم‬

‫قال المسعودي‪ :‬فهؤالء جميع من ملك اليمن من قحط??ان والحبش?ة? والف??رس‪ ،‬وق??د‬
‫رجل من ول?د إب?راهيم الخلي??ل علي??ه الس?الم‪ ،‬وه??و يع? ُد من مل??وك اليمن‬
‫ِ‬ ‫ملك اليمن‬
‫واسمه هنيبة بن أميم بن بدل بن مدين بن إب??راهيم لخلي??ل علي??ه الس?الم‪ ،‬وك??ان ل??ه‬
‫شأن عظيم في ملك اليمن؛وطالت أي أمه ‪ ،‬وذكره امرؤ القيس في شعره فقال‪:‬‬
‫على زيد أن إذ حان الزول‬ ‫هنيبة الـذي زادت قـواه‬
‫إلى زيدان أعيط ال ينـال‬ ‫تمكن قِائما وبنى طـريقـا ً‬

‫بن لسان بن إبراهيم الخليل‪.‬‬ ‫إ نِه منتبه بن أميم بن بدل‬ ‫وي َقال‪:‬‬

‫عاصمة اليمن‬
‫?ار‪ ،‬مث??ل آل ذي س??حر وآل ذي الكالع وآل‬ ‫وقد كانت مل??وك اليمن ت?نزل? بمحين??ة َظ َف ِ‬
‫ذي أصبح وآل ذي يزن‪ ،‬إال اليسير? منهم فإنهم نزلوا غيرها وك?ان على ب?اب َظ َف ِ‬
‫?ار‬
‫مكت??وب ب??القلم األول في حج??ر أس??ود‪ :‬ي??وم ش??يدت ظف??ار قي??ل‪ :‬لمن أنت‪ .‬فق??الت‪:‬‬
‫لـحـمـير األخـيار‬
‫لألح ُبـش األشـرار‬
‫ثم سيلت‪ :‬من بعد ذأك‪ .‬فقالت‪ :‬إن ملكي ْ‬
‫ثم سيلت َمنْ بعد ذاك‪ .‬فقالـت‪ :‬إن ملكي لـفـارس األحـرار‬
‫ثم سيلت‪ :‬ما بعد ذاك‪ .‬فقالـت‪ :‬إن ملكي إلى قريش التـجـار‬
‫ثم سيلت‪ :‬ما بعد ذاك‪ .‬فقالـت‪ :‬إن ملكي لحمـير وصـحـار‬
‫وقليال ما يلبث الـقـو ُم فـيهـا منذ شيدت مشيدها لـلـبـوار‬
‫من أسو ٍد يلقيه ُم البحـر فـيهـا تشعل النار في أعالي الـديار‬
‫وهذا خبر عن ملوك تداولوها‪ ،‬أخبروا عن ملكهم قبل كونه‪ ،‬فتداولتها هذه المل??وك‬
‫على حس??ب م??ا وص??فناه‪ ،‬وينتظ??ر في المس??تقبل? من الزم??ان م??ا ذكرن??ا من وق??ود‬
‫النيران في أعالي الديار‪ ،‬وعند أهل اليمن ديارهم سيغلب عليه??ا األح??ابش في آخ??ر‬
‫ِث الن??بي ص?لى هللا علي?ه وس??لم وعلى اليمن‬ ‫الزمان بعد َه َنات وكوائن وأح?داث و ُبع َ‬
‫ُع ّمال كسرى‪ ،‬ثم غلب اإلسالم فظفر بحمد هّللا ‪.‬‬
‫وق???د أتين???ا على أخب???ار من ذك???رن من المل???وك‪ ،‬وس???يرهم‪ ،‬ومطاف???اتهم في البالد‬
‫وحروبهم‪ ،‬وأبنيتهم? في سائر مطافاتهم‪ ،‬في الكتاب األوسط‪،‬فأغنى ذلك عن إعادت??ه‬
‫في هذا الباب‪.‬‬

‫صفحة ‪268 :‬‬


‫مساحة اليمن وحدوده‬
‫وبلد اليمن طويل عريض‪ :‬حده مما يلي مكة إلى الموضع المع??روف بطلح??ة المل??ك‬
‫سبع مراحل‪ ،‬ومن صنعاء إلى عدن‪ -‬وهو أخر عمل اليمن تسع مراح??ل‪ ،‬والمرحل??ة‬
‫من خمس??ة فراس??خ إلى س??تة‪ ،‬والح??د الث??اني من وأدى وح??ا إلى م??ا بين َم َف??اوز‬
‫حضرموت وعمان عشرون مرحلة‪ ،‬ويلي الوجه الث??الث بح??ر اليمن على م??ا ذكرن??ا‬
‫أن??ه بح??ر القل??زم والص??ين والهن??د‪ ،‬فجمي??ع ذل??ك عش??رون مرحل??ة في س??ت عش??رة‬
‫مرحلة‪.‬‬
‫وأس??ماء مل??وك اليمن ك??ذي ي??زن وذي ُن? َ?واس وذي من??ار وغ??ير ذل??ك مض??افه إلى‬
‫مات لهم تم??يزهم? عن‬ ‫مواضع وإلى أفعال لهم وسير وح??روب وغ??ير ذل??ك‪ ،‬وهي ِس? ٌ‬
‫غيرهم‪ ،‬وتبين كل واحد منهم عن غيره من ملوكهم‪.‬‬
‫وإ ِذ قد ذكرنا جوامع من أخبار اليمن وملوكه??ا فلن??ذكر اآلن مل??وك الح??يرة من ب??ني‬
‫نصر وغيرهم‪ ،‬للحوقهم باليمن‪ ،‬ثم نعقب ذلك بمل??وك الش??ام وغ??يرهم من ال َمل??وك‪،‬‬
‫إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬

‫ذكر ملوك الحيرة من بنى نصر وغيرهم‬


‫جذيمة ابوضاح ومقتله‬
‫الز َّباء بنت عم??رو بن ظ??رب بن حس??ان بن‬ ‫الوض??اح وأتت علي??ه َ‬ ‫ولما هل??ك َجذِيم?ة? َ‬
‫أذينة بن السميدع بن هوبر‪ ،‬وقد كان مل?ك من مش?ارق الش?ام إلى الف?رات من قب?ل‬
‫الروم‪ ،‬وك??انت داره بالموض??ع المع??روف بالمض??يق‪ ،‬بين بالد الخانوق??ة وقرقيس??يا‪،‬‬
‫وقد كانت الزباء تملكت بعد أبيها‪ ،‬وأطمعت َجذِيمة في نفسمها إلى أن قتلته‪ ،‬وأق??ام‬
‫جذيمة ملكا ً في زمن ملوك الطوائ??ف خمس?ا ً وتس??عين س??نة‪ ،‬وفي مل??ك أردش??ير بن‬
‫بابك وس??ابور الجن??ود بن أردش??ير ثالث?ا ً وعش??رين س??نة؛ فك??ان ملك??ه مائ??ة وثم??ان‬
‫س?ويد‬ ‫عشرة سنة‪ ،‬وكان يكنى بأبي مالك‪ ،‬وفيه يقول بعض شعراء الجاهلي??ة وه??و ُ‬
‫بن أبي كاه?ل اليش?كري‪ :‬أن أ ُذ ْق َح ْتفِي فقبلي ذا َقـ ُه طس?م ع?اد وج?ديس ذوالش?نع‬
‫وأبو مالكٍ الـ َقـ ْيل ُالـذي قتلته بنت عمرو بالخـدع‪.‬‬

‫ْمالك بن فهم‬
‫وكان الملك قبل جذيمة أباه‪ ،‬وهو أول من مل??ك الح??يرة‪ ،‬وهّللا أعلم‪ ،‬وك??ان يق??ال ل??ه‬
‫?وث بن نبت بن مال??ك بن زي??د بن كهالن بن‬ ‫دوس بن األزد بن َ‬
‫الغ? ْ‬ ‫مالك بن َف ْهم بن ْ‬
‫سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‪ ،‬وكان سار من اليمن مع ولد َج ْفن??ة بن عم??رو‬
‫مز ْيقياء‪ ،‬فسار بنو َج ْفنة نح??و الش??ام‪ ،‬وانفص??ل مال??ك نح??و الع??راق فمل??ك‬
‫بن عامر َ‬
‫على مضر? بن نزار اثنتي? عشرة سنة‪ ?،‬ثم ملك بعده ابنه جذيمة على ما ذكرنا‪.‬‬

‫عمرو بن عدي‬
‫ثم ملك بع??د جذيم??ة ابن أخ ِت? ِه عم??ر وبن ع??دي بن نص??ر بن ربيع??ه بن الح??ارث بن‬
‫مال??ك بن غنم بن نم??ارة بن لخم‪ ،‬وه??و أول من ن??زل من المل??وك الح??يرة واتخ??ذها‬
‫منزالً ودار مل??كٍ ‪ ،‬وإلي??ه تنس??ب المل??وك النص??رانية‪ ?،‬وهم مل??وك الح??يرة؛فك??ان مل??ك‬
‫عمرو عدي ابن أخت جذيمة مائة سنة‪?.‬‬
‫صفحة ‪269 :‬‬

‫قصة عمرة بن عدي‬

‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكر غير واحد ممن عني بأخبار العرب وأي أم??ه ا أن َجذِيم ?ة?‬
‫ض?اعة‪ ،‬وه?و جذيم?ة بن مال?ك بن َف ْهم ال َّت ُن?وخي‪ ،‬وأن?ه ق?ال ذات‬ ‫أول من ملك من قُ َ‬
‫ف وأدب‪،‬‬ ‫يوم لندمائه‪ :‬لقد ذكر لي عن غالم من لخم‪ ،‬في أخوال??ه من إي??اد‪ ،‬ل??ه َظ? ْ‬
‫?ر ٌ‬
‫بعثت إليه فولَّيته كأسي والقيام على رأسي لكان ال??رأي‪ ،‬ق??الوا‪ :‬ال??رأي م??ا رأى‬ ‫َ‬ ‫فلو‬
‫الملك‪ ،‬فليبعث إليه‪ ،‬ففعل‪ ،‬فلما قدم عليه قال‪ :‬من أنت‪ .‬قال‪ :‬أنا ع??دي بن نص??ر بن‬
‫ربيعه‪ ،‬فواله مجلسه‪ ،‬فعش??قته ق?اش ابن??ة مال??ك أخت المل?ك‪ ،‬فق?الت‪ :‬ي?ا ع?دي‪ ،‬إذا‬
‫أخ? َذ َت الخم?ر من?ه ف?اخطبني من?ه فإن?ه‬ ‫سقيت القوم فا ْم ُزج لهم‪َ ،‬وغدق للملك‪ ،‬فإذا َ‬
‫ش ِه ِد القوم إن فعل‪ ،‬ففعل الغالم ذلك وخطبها وزوجها به‪ ،‬فأش?هد علي?ه‪،‬‬ ‫يزوجك‪ ،‬فأ ْ‬
‫س بأهلك‪ ،‬ففعل‪ ،‬فلما أصبح غدا متضرجا ً‬ ‫وانصرف الغالم إليها فأنبأها‪ ،‬فقالت‪َ :‬ع ِّر ْ‬
‫بالخلُوق‪ ،‬فقال !له َجذِيمة‪ ?:‬ما هذه اآلثار يا عدي‪ ..‬ق?ال‪ :‬اث?ار الع?رس‪ ،‬وق?ال‪ :‬وأي‬
‫وأكب على األرض‪ ،‬ورفع علي جرام??يزه‪ ،‬وه??رب‬‫ّ‬ ‫عرس‪ ..‬قال‪ :‬عرس رقاش َف َن َخ َر‬
‫وأسرع جذيمة? في طلبه‪ ،‬فلم يجده‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل قتله‪ ،‬وبعث إليها يقول‪:‬‬

‫أبحر زنيت أم بهجـين‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫َحدِّثيني? َر َقاش ل اتكذبيني?‬
‫أم بدون فأنت أهل لدون‪.‬‬ ‫أم بعب ٍد فأنت أهل لعـبـد‬

‫؛ فأجابته رقاش تقول‪:‬‬

‫وأتاني النسـاء لـلـتـزيين‬ ‫ت أدري‬ ‫إ ْن َت َز ّوجتني َوما ُك ْن ُ‬


‫وتماديك في الصبا وال ُم ُجون‬ ‫ذاك من ُ‬
‫ش ْر ِبك المدامة صِ ْرفا ً‬

‫ضنها في قصره‪ ،‬فاشتملت على حمل‪ ،‬وولدت غالما ً فس??مته?‬ ‫وح َ‬


‫فنقلها َجذِيمة إليه‪َ ،‬‬
‫عمراً‪ ،‬ووشحته‪ ،‬حتى إذا ترعرع َحلَّته وعطرته وألبسته كسوة ف??اخرة‪ ،‬ثم أزارت ?ه?‬
‫خاله‪ ،‬وألقيت عليه منه محبة ومودة حتى إذا خرج الملك في سنة ُم ْكلئة قد أكمأت‪،‬‬
‫وضة‪ ،‬وخ??رج عم??رو في غلم??ة يجتن??ون الكم??أة‪ ،‬فك??انوا إذا أص??ابوا‬
‫فبسط له في َر َ‬
‫كمأة طيبة أكلوها‪ ،‬وإذا أصابها عمرو َخ َبأها‪ ،‬ثم أقبلوا يتع??ادون وعم??رو يتق??دمهم‪،‬‬
‫جان يده! إلى فيه‬
‫اي وخياره فـيه إذ كل ٍ‬‫ويقول‪ :‬هذا َج َن َ‬

‫قصة نديمي? جذيمة‬

‫وح َباه‪ ،‬ثم إن الجن استطارته‪ ،‬فضرب له جذيم??ة في االف??اق زمان??ا‪،‬‬ ‫فالتزمه? جذيمة َ‬
‫فلم يسمع له بخبر فكف عنه إذ أقبل رجالن يق??ال ألح??دهما‪ :‬مال??ك‪ ،‬ولآلخ??ر عقي??ل‪،‬‬
‫ابنا فالج‪ ،‬وهما يريدان المل??ك بهدي??ة‪ ?،‬ف??نزال على م??اء‪ ،‬ومعهم??ا َق ْين??ة يق??ال له??ا أم‬
‫عمرو‪ ،‬فنصبت لهما قدراً‪ ،‬وأصلحت لهما طعاماً‪ ،‬فبينما هم??ا ي??أكالن إذ أقب??ل رج??ل‬
‫أشعث أغبر الرأس قد طالت أظفاره وساءت حاله‪ ،‬حتى جلس َم ْز َج َر الكلب‪ ،‬وم َّد‬
‫صفحة ‪270 :‬‬

‫يده‪ ،‬فناولته القينة? طعاماً‪ ،‬فأكل‪ ،‬فلم يغن عنه شي َئاَ‪ ،‬فم َد يده‪ ،‬فقالت القينة‪ ?:‬إن تعط‬
‫العبد ُك َراعا ً طلب ذراع?اً‪ ،‬فأرس??لتها مثالً‪ ،‬ثم ن??اولت ص??احبيها من ش??رابها‪ ،‬وأوكت‬
‫ِز َّقها‪ ،‬فقال عمرو بن عدى‪:‬‬
‫س مجراها اليمينا‬‫وكان الكأْ ُ‬ ‫ع َلت الكأس عنا أم عمـرو‬
‫بصاحبك الذي التصبحينـا‬ ‫وما َ‬
‫ش ُّر الثالثة أم عمـرو‬

‫فق??ال ل??ه ال??رجالن‪ :‬من أنت‪ .‬فق??ال‪ :‬إن تنك??راني فلن تنك??را حس??بي‪ ،‬أن??ا عم??رو بن‬
‫وقص?را من لم ّت?ه‪ ،‬وألبس?اه‬ ‫َّ‬ ‫عدي؛ فقاما إليه فلثماه‪ ،‬وغسال رأسه‪ ،‬وقلم?ا أظف?اره‪،‬‬
‫من طرائف ثيابهما‪ ،‬وقاال‪ :‬ما كنا لنهدي إلى المل??ك هدي??ة هي أنفس عن??ده وال ه??و‬
‫عليها أحرص من ابن أخته‪ ،‬ق?درده هّللا إلي?ه‪ ،‬فخرج?ا ب?ه‪ ،‬ح?تى إذا وقف?ا على ب?اب‬
‫بش?راه ب?ه فس?ر ب?ه وص?رفه إلى أم?ه ‪ ،‬وق?ال لهم?ا‪ُ :‬ح ْك َمكم??ا‪ ،‬فق?اال‪ :‬حكمن?ا‬
‫الملك َ‬
‫منادمتك ما بقيت وبقينا‪ ،‬قال‪ :‬ذلك لكم?ا‪ ،‬فهم?ا َن?دْ َمانا َجذيم?ة المعروف?ان‪ ،‬وإياهم?ا‬
‫عني متمم بن نويرة اليربوعي في مرثيته? ألخيه مالك حين قتله خالد بن الولي??د بن‬
‫حـقـبة من الدهر حتى قيل‪ :‬لن يتص َّد َعا‬ ‫ً‬ ‫المغيرة يوم البطاح‪ :‬وكنا كندماني جـذيمة?‬
‫فلما تفرقنا كـأنـي ومـالـكـا لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا‬
‫وق??ال أب??و خ??راش اله??ذلي‪ :‬ألـــــــم تـــــــعـــــــلـــــــمـــــــــــــي أن قـــــــــــــــد‬
‫ـــــــــــــــفـــــــــــــــر َق قـــــــــــــــبـــــــــــــــلـــــــــــــــنـــــــــــــــا‬
‫َّ‬ ‫َت‬
‫خلـــــــــــــــيال ًصـــــــــــــــفـــــــــــــــاء مـــــــــــــــالــــــــــــــــــــــــك‬
‫وعـــــــــــــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــيل‬
‫وإنّ أم عمرو عمدت إلي??ه‪ ،‬فبعثت مع??ه َحف? َدة يقوم??ون علي??ه في الحم??ام‪ ،‬ح??تى إذا‬
‫خرج ألبسته من طرائف ثياب الملوك‪ ،‬وجعلت في عنق??ه طوق?ا َ من ذهب لن??ذر ك??ان‬
‫ش? ّب‬ ‫عليها‪ ،‬ثم أمرته? بزيارة خالة‪ ،‬فالما رأى خاله لحيته والط??وق في عنق??ه ق??ال‪َ :‬‬
‫عمرو عن الطوق‪ ،‬وأقام عمرو مع جذيمة خاله قد حمل عنه عامة أمره‪.‬‬

‫بين الزباء وجذيمة‬

‫وإن الزباء ابنة عمرو بن ظ??رب بن حس??ان بن أذين??ة بن الس??ميدع بن ه??وبر ملك??ة‬
‫الشام والجزيرة من أهل بيت عاملة من العماليق كانوا في سليح‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل‬
‫ك??انت رومي??ة‪ ?،‬وك??انت تتكلم بالعربي??ة‪ ،‬م??دائنها على ش??اطىء الف??رات من الج??انب‬
‫الشرقي والغربي‪ ،‬وهي اليوم خراب‪ ،‬وكانت‪ -‬فيما ذكر‪ -‬ق??د س??قفت الف??رات وجعلت‬
‫من فوق??ه أبني?ة? رومي??ة وجعلت??ه أنقاب??ا بين م??دائنها‪ ،‬وك??انت تغ??زو ب??الجنود قبائ??ل‬
‫ب في??ه‪ ،‬ف?إذا ش??ئت‬ ‫فخطبها جذيمة األبرش‪ ،‬فكتبت إليه‪ :‬إني فاعلة‪ ،‬ومثلك من ُي ْر َغ ُ‬
‫ص إلي‪ ،‬وكانت بكرا‪ ،‬فجمع عند ذلك جذيمة أصحابه‪ ،‬فاستش??ارهم‪ ،‬فأش??اروا‬ ‫ش َخ ْ‬‫فا ْ‬
‫بالمضي‪ ،‬وخاللهم قصير بن س??عد ت??ابع ك??ان ل??ه من َل ْخم‪ ،‬ف??أمره أن ال يفع??ل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫عليه‬
‫ويكتب إليه??ا‪ ،‬ف??إن ك??انت ص??ادقة أقبلت إلي??ك‪ ،‬وإال لم تق??ع في ِح َباله??ا‪ ،‬فعص??اه‬
‫وأطاعهم وس??ار ح??تى إذا ك?ان بب ّق??ة‪ -‬من دون َه ْي َت إلى األنب??ار‪ -‬جمعهم وش??اورهم‬
‫فأمروه بالشخوص إليها لما علموا من رأيه في ذلك‪ ،‬وقال القصير‪ ?:‬تنصرف? ود ُم َك‬
‫صفحة ‪271 :‬‬

‫قة قضي األمر‪ ،‬فأرسلها مثال‪ ،‬وقال قصير بن سعد حين‬ ‫في وجهك‪ ،،‬فقال جذيمة ب َب َ‬
‫رآه قد ع??زم‪ ،‬ال يط??اع لقص??ير أم??ر‪ ،‬فأرس??لها مثالً‪ ،‬وظعن جذيم??ة‪ ،‬ح??تى إذا ع??اين‬
‫مدينتها‪ ?-‬وهي بمكان دون الخانوقة‪ -‬ونظر إلى الكتائب من دونها‪ ،‬فهال??ه م??ا رأى‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أي قصير‪ ،‬ما الرأي‪ .‬فقال قصير‪ :‬إني تركت الرأي ببقة‪ ،‬فقال عند ذلك‪ :‬أشِ ْر‬
‫علي‪ ،‬فقال‪ :‬إن لقيتك الكتائب فحيتك بتحية الملك وانصرفوا أمامك فالمرأة صادقة‪،‬‬
‫وإن هم أخ??ذوا بجنبي??ك ووقف??وا دون??ك ف??القوم منعطف??ون علي??ك فيم??ا بينهم وبين‬
‫جنوهم‪ ،‬فاركب ال َعصا فإنها ال تحرك وال تسبق‪ ،‬يعني فرس?ا ً ك?انت جنبت مع?ه‪ ،‬ف?ط‬
‫س??تقبله الق??وم وأح??اطوا ب??ه‪ ،‬فلم ي??ري العص??ا‪ ،‬فع??دد إليه??ا قص??ير فركبه??ا وحم??ل‬
‫وانطلق‪ ،‬فالتفت جذيمة فإذا هو بالعصا عليها قصير أم??ام خيلهم ح??تى ت??وارت ب??ه‪،‬‬
‫فقال جذيمة‪ :‬ما ضل َمنْ تجري به العصا‪ ،‬فأدخل على الزباء فاستقبلته وقد كش??فت‬
‫أي متاع عروس ت??رى‪.‬‬ ‫عن َك َب ْع َثا ِت َها أي عفلها وتنظفت باستها‪ ،‬وقالت‪ :‬يا جذيمة‪ّ ،‬‬
‫?واس‪ ،‬وال‬ ‫وهللا م?ا ذاك من ع?دم َم? َ‬
‫ّ‬ ‫قال‪ :‬أرى َم َتاع ا َم ٍة غير ذات َخ َف? ٍ‬
‫?ر‪ ،‬فق?الت‪ :‬أم?ا‬
‫قل??ة أواس‪ ،‬ولكن ش??يمة م??ا أن??اس‪ ،‬ثم أجلس??ته على ن َط? ع‪ ،‬ودعت ل??ه بطس??ت من‬
‫عسجد‪ ،‬فقطعت َر َواهِش??ه واس??تنزفته‪ ?،‬ح??تى إذا ض??عفت ق??واه ض??رب بي??ده فقط??رت‬
‫قطرة من دمه على دعامة من زخام‪ ،‬وقد قيل لها‪ :‬إن??ه إن وق??ع من دم??ه قط??رة في‬
‫غير َط ْست طلب بدمه‪ ،‬فقالت‪ :‬أي جذيمة؛ال تضيعن من دمك شيئاً‪ ،‬فإني إنم??ا بعثت‬
‫إليك ألنه بلغني أن لدمك شفاء من الخبل‪ ،‬فقال جذيمة‪ :‬وما ُي ْحزن??كِ من دم أض??اعه‬
‫أهْ لُه وفي ذلك يقول البعيث‪ :‬من الدأرميين الذين دماؤهـم واستصفت دمه‪ ،‬وجعلت??ه‬
‫في برنية‪ ?،‬وقال بعضهم‪ :‬دخل عليها جذيم??ة في قص??ر له??ا ليس في??ه إال الج??واري‪،‬‬
‫وهي على سريرها‪ ،‬فقالت لإلماء‪ُ :‬خ ْذنَ بيد سيدكن‪ ،‬ثم دعت بنط??ع فأجلس??ته علي?ه‬
‫فعرف الشر وكشفت عن عورتها فإذا هي قد عقدت ش??عر اس??تها من وراء؛فق??الت‪:‬‬
‫ار عروس ترى‪ .‬فقال‪ :‬بل شوار أمه بظراء‪ ،‬فقالت‪ :‬أم??ا وهللا م??ا ذاك من ع??دم‬ ‫أ َ‬
‫ش َو َ‬
‫َم َواس‪ ،‬وال قلة أواس‪ ،‬ولكنها شيمة? ما أناس‪ ،‬ثم أم??رت ِب َر َواهش ?ة? فقطعت‪ ،‬فجع??ل‬
‫دمه يشخب في ال ِّنطع كراه??ة أن يفس??د مقع??دها‪ ،‬فق??ال جذيم??ة‪ :‬ال يحزن??ك دَ ٌم أراق??ه‬
‫أهله‪.‬‬

‫عمرو بن عدي يأخذ بثأر خاله‬


‫ونجا قصير‪ ،‬فأورد الخبر على عمرو بن عبد الجن التنوخي بالحيرة‪ ،‬فأشفق لذلك‪،‬‬
‫فقال له قصير‪ :‬اطلب بث??أر ابن عم??ك‪ ،‬وإال س? َّب ْتك الع??رب‪ ،‬فلم يحفِ??ل ب??ذلك‪ ،‬فخ??رج‬
‫قصير إلى عمرو بن عدي‪ ،‬فقال ل??ه‪ :‬ه??ل ل??ك في أن أص??رف الجن??ود إلي??ك على أن‬
‫تطلب ث??أر خال??ك‪ ..‬فض??من ل??ه ذل??ك‪ ،‬فص??رف وج??وه الجن??ود إلي??ه‪ ،‬ومن??اهم بالم??ال‬
‫والحال‪ ،‬فانصرف إليه منهم َب َ‬
‫ش ٌر كثير‪ ،‬ف??التقى ه??و والتن??وخي‪ ،‬فلم??ا خ??افوا الفن??اء‬
‫تابعه التنوخي‪ ،‬وتم األمر لعمرو بن عدى‪ ،‬فقال له قصير‪ :‬انظر ما وعدتني ب??ه في‬
‫الزباء‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬وكيف لنا بها وهي أمنع من ُع َق??اب الج??و‪.‬؛ فق??ال‪ :‬أم??ا إذ أبيت‬
‫فإني جادع أنفي وأذني ومحتال لقتلها جهدي‪ ،‬ف??أعِني َو َخالك ذم‪ ،‬فق??ال ل??ه عم??رو‪:‬‬
‫وعلئ َم ُعونتك‪ ،‬فجدَ َع أنفه‪ ،‬فقيل‪ :‬ألمر ما جدع قص??ير أنف??ه‪ ،‬ثم انطل??ق‬ ‫َ‬ ‫أنت أبصر‪،‬‬
‫حتى دخل على الزباء‪ ،‬فقالت‪ :‬من أنت‪ .‬فقال‪ :‬أنا قصير‪ ،‬ال ورب المشارق ما َكان‬
‫صفحة ‪272 :‬‬

‫شر كان أنصح لجذيمة? وال أغش لك مني‪ ،‬حتى جدع عم??رو بن‬ ‫على وجه األرض َب َ‬
‫ت أني ال أكون مع أحد هو أثقل عليه مني معك‪ ،‬فقالت‪ :‬أي‬ ‫عدي أنفي وأذني‪ ،‬فعر ْف ُ‬
‫قصير‪ ،‬نقبل منزلتك ونصرفك في بض??ائعنا‪ ،‬فأعطت??ه م??اال للتج??ارة‪ ،‬ف??أتى بيت م??ال‬
‫فاستخف ما فيه بأمر عم?رو بن ع?دي‪ ،‬وانص?رف? ب??ه إليه??ا‪ ،‬فلم?ا رأت م??ا‬ ‫َّ‬ ‫الحيرة‪،‬‬
‫جاءها به فرحت بذلك‪ ،‬وزادته ما ال إلى م?ا ج?اء ب??ه‪ ،‬وق?ال‪ :‬إن??ه ليس من مل?ك إال‬
‫وهم يتخنون في مدائنهم أنقابا تكون لهم عدداً‪ ،‬فقالت له‪ :‬أما إني قد فعلت ذلك‪ ،‬قد‬
‫س َربا ً وبنيته? من تحت س??ريري ه??ذا ح??تى أخ??رج من تحت الف??رات إلى س??رير‬ ‫نقبت َ‬
‫أختي رحيلة ففرح ب??ذلك قص??ير‪ ،‬ثم ظعن ح??تى أتى عم??راً‪ ،‬ف??ركب عم??رو في ال??ذي‬
‫?ر َة‪،‬‬
‫رجل على ألف بعير في الصناديق‪ ،‬حتى صار إليها‪ ،‬فتق??دم قص??ير وس??بق األ ْب ِع? َ‬
‫فقال لها‪ :‬اصعدي حائط مدينتك‪ .‬وانظري إلى مالك‪ ،‬وتقدمي إلى بوابك فال يتعرض‬
‫لشيء من أموالن??ا‪ ،‬ف??إني ق??د جئت بم??ال ص??امت وك??انت ق??د أمنت??ه‪ ،‬فلم تكن تخاف??ه‬
‫وصعدت وفعلت ما أمرها‪ ،‬فلمال نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت‪:‬‬

‫أج ْن َد ال يحملن أم حديدا‬ ‫َ‬ ‫ما للجمال مشيها وئيدا‬


‫ام الرجال َ ُج َّثما َ قعودا‬ ‫ص َر َفانأ بارداً شديدا‬
‫أم َ‬

‫ص ْبر الب??واب‪ ،‬فطعن بمنخس??ة‬ ‫ودخلت اإلِبل المدينة‪ ،‬حتى إذا بقي آخرها جمالً عِيل َ َ‬
‫ى خاصرة رجل فضرط‪ ،‬فقال البواب‪ :‬بشتابشتا‪ ،‬وهي بالنبطية أي‪ :‬في‬ ‫كانت في يد ِ‬
‫الجوالق شر‪ ،‬وثار الرجال من الجوالق ضربا ً بأسيافهم‪ ،‬فخرجت الزباء هارب??ة إلى‬
‫صلتا ً سيفه‪ ،‬فانصرفت راجعة‪ ،‬و َت َل َقاها عم??رو‬‫س َربها‪ ،‬فأبصرت قصيراً عند نفقها ُم ْ‬
‫َ‬
‫بن عدي‪ ،‬فضربها وقال بعضهم‪ :‬مصت خاتمه??ا‪ ،‬وك??ان في??ه س??م س??اعة‪! ،‬وق??الت‪:‬‬
‫بيدي ال بيد عمرو‪ ،‬وخربت المدينة‪ ،‬وس??بيت الف??راري‪ ،‬فق??الت الش??عراء في أمره??ا‬
‫وأمر قصير فأكثرت فمن ذلك قول المتلمس‪:‬‬

‫ورام الموت بالسيف َب ْي َهس‬ ‫َ‬


‫ماحـز أنـفـه قصير‬ ‫ومن َط َلب ْ‬
‫األو َتار‬
‫تبين في أثوابـه كـيف يلـبـس‬ ‫ص َّرع القـوم رهـطـه‬‫َن َعا َم ًة لما َ‬

‫ومن ذلك قول عدي بن زيد التميمي يصف ذلك من أمرهم‪:‬‬

‫ألـم تـسـمـع بـخــطـــب األولـــينـــا‬ ‫ـــى‬


‫الـــمـــرج ِ‬
‫َّ‬ ‫أال يأيهـا الـمـــلـــك‬
‫ـــبـــبـــ َنـــا‬ ‫ُ‬
‫جذيمة عـام ينـجـوهـم ُث ِ‬ ‫دعــا بـــالـــبـــ َقة األمـــراء يومـــا َ‬
‫ًوكان يقول لو وقع اليقينا‬ ‫وطاوع أمرهم‪ ،‬وعصا قصيرا‬
‫فـــوات غـــائلة‪ ،‬لُـــحِـــي َنـــا‬ ‫لخطبته التي غدرت وخانت وهُـنً‬

‫مع أشعار كثيرة قيلت في ذلك‪.‬‬

‫صفحة ‪273 :‬‬

‫وكانت الزباء ال تأتي حصنا ً إال ضفرت شعر استها من خلفه‪ ،‬ثم تقاعس??ت فتقلع??ه‪،‬‬
‫ح??تى فعلت ذل??ك بم??ارد‪ -‬حص??ن دُو ِم??ة الجن??دل‪ -‬وب??األبلق‪ -‬حص??ن تيم??اء‪ -‬حص??نين‬
‫منيعين‪ ،‬فقالت‪ :‬تمرد مارد وعز األبلق فذهب مثال‪ ،‬وهما الحصنان اللذان ت??ذكرهما‬
‫العرب في أشعارها كثيراً‪ ،‬قال األعشى في ذلك‪:‬‬

‫حصنٌ َحصِ ين وجار غير َغدًار‬ ‫باألبلق الفرد من تيماء منزلُـه‬

‫ِ وجذيمة الوضاح الذي يقول فيه‪:‬‬

‫ماست مودعة الحديث فمن ِج ٌد منه ْم وغائما‬


‫أنتاه إحدى ُذو رعين لنا وأحوى ذو أباعر‬
‫والملك كان لذي َن َوا س حـولـه مـن ذي بـــحـــائر‬
‫بالـسـابـغـات وبـا ْلــ َقـــ َنـــا والـبـيض تـبـرق والـمـغـافــر‬
‫أزمان عمالق وفيهم منه ُم با ٍد وحاضـر‬

‫ص‪ ،‬فك??نى عن??ه إعظام?ا ً ل??ه‬


‫?ر ٌ‬
‫وإنما سمي جذيمة األب??رش الوض??اح ألن??ه ك??ان ب??ه َب? َ‬
‫قال المسعودي‪ :‬هذا بدء خبر بني عدي‪ ،‬وقد قدمنا أن مدة ملكه كانت مائة سنة‪.‬‬

‫بقية ملوك الحيرة‬


‫وملك بعده ولده امرؤالقيس بن عمروبن عدي ستين سنة‪?.‬‬
‫وملك بعده عمر وبن أم?رىء القيس‪ ،‬وه??و مح??رق الع?رب خمس?ا ً وعش??رين س?نة‪،‬‬
‫وكانت أمه مارية البرية أخت ثعلبة بن عمرو من ملوك غسان‪.‬‬
‫ومل??ك النعم??ان بن أم??رىء القيس قات??ل الف??رس خمس?ا ً وس??تين س??نة‪ ?،‬وك??انت أم??ه‬
‫الهيجمانة بنت سلول من مراد‪ ،‬و ُيقال‪ :‬من إياد‪.‬‬
‫ومل?ك الم??نزر بن النعم?ان ابن أم??رىء القيس خمس?أ وعش??رين س?نة‪ ?،‬وك?انت أم?ه‬
‫الفراسية بنت مالك بن المنزر‪ ،‬من آل نصر‪.‬‬
‫س‬ ‫??ق و َك ْ‬
‫??ر َع َ‬ ‫الخ َو ْر َن َ‬
‫ومل??ك النعم??ان بن الم??نزر ف??ارس حليم??ة‪ ،‬وه??و ال??ذي ب??نى َ‬
‫الكراديس خمسا ً وثالثين سنة‪ ،‬وكانت أمه هند بنت زيد َم َنا َة من ال غسان‪.‬‬
‫وملك األسود بن النعمان؛ عشرين سنة‪ ،‬وك??انت أم??ه هن??د بنت الهيجمان??ة‪ ،‬من آلى‬
‫نصر‪?.‬‬
‫وملك المنزر بن األسود بن النعمان بن المنزر أربعا ً وثالثين سنة‪ ،‬وكانت أمه م??اء‬
‫السماء بنت عوف بن النم??ر بن قاس??ط بن هيت بن أفص??ى بن دعمى بن َجدِيل??ة بن‬
‫أسد بن ربيعه بن نزار‪ ،‬وإنما سميت ماء السماء لحسنها وجمالها‪.‬‬
‫ثم مل??ك بع??ده عم??رو بن الم??نزر‪ ،‬أربع ?ا ً وعش??رين س??نة‪ ،‬وك??انت أم??ه حليم??ة بنت‬
‫الحارث من آل معد يكرب‪.‬‬
‫وملك المنزر بن عمرو بن المنزر‪ ،‬ستين سنة‪ ،‬وكانت أمه أخت عم??رو بن ق??ابوس‬
‫من آل نصر‪?.‬‬
‫صفحة ‪274 :‬‬

‫ثم ملك قابوس بن المنزر ثالثين سنة‪ ،‬وكانت أمه هند بنت الحارث‪ ،‬من آل معاوية‬
‫بن معد يكرب‪.‬‬
‫وملك النعمان بن المنزر‪ ،‬وهو الذي يقال له‪ :‬أبيت اللعين! اثن??تين وعش??رين س??نة‪،‬‬
‫وكانت أمه سلمى بنت وائل بن عطية من كلب‪.‬‬

‫بين النابغة والنعمان‬

‫وذكر عدة من األخباريين أن النابغة استأذن على النعمان يوماً‪ ،‬فق??ال ل??ه الح??اجب‪:‬‬
‫ش? َرابه‪ ،‬ق??ال النابغ??ة‪ :‬فه??و وقت ال َم َل? ِ‬
‫?ق‪ ،‬تقبل??ه األفئ??دة‪ ،‬وه??و َج? ذِل‬ ‫إن المل??ك على َ‬
‫للرحيق والسماع‪ ،‬فإن تلج تلق المجد عن غرر مواهبه‪ ،‬فأنت قسيم ما أف??دت‪ ،‬ق??ال‬
‫له الحاجب‪ :‬م??ا تفي عن??ايتي ب??دون ش??كرك‪ ،‬فكي??ف أرغب فيم??ا وص??فت وع??ون م??ا‬
‫طلبت رهبة التعدي‪ ..‬فهل من سبب‪ .‬قال النابغة‪ :‬ومن عن??دي‪ .‬ق??ال الح??اجب‪ :‬خال??د‬
‫بن جعفر الكالبي ندي ُم ُه‪ ?،‬فقال النابغة‪ :‬هل لك إلى أن تؤدي إلى خالد عني م??ا أق??ول‬
‫لك‪.‬؛ قال‪ :‬وما هو‪ .‬قال‪ :‬تقول إن من قدرك وفاء الدرك بك وناحيتي من الش??كر م??ا‬
‫ق??د علمت‪ ،‬فلم??ا ص??ار خال??د إلى بعض م??ا تبعث??ه? م??وارد الش??راب علي??ه نهض‪،‬‬
‫س?ام ح??ادث النعيم‪ ،‬ق??ال‪ :‬وم??ا ذاك‪ .‬ف??أخبره‬ ‫فاعترضه? الحاجب‪ ،‬فقال‪ :‬ليهن??ك أب??ا ال َب ّ‬
‫الخبر‪ ،‬وكان خالد رفيقاً‪ ،‬يأتي األشياء بلطف وحسن بصيرة‪ ،‬ف??دخل مبتس??ماً‪ ،‬وه??و‬
‫س ْبق الجواد إذا استولى على األمد‬ ‫يقول‪ :‬إال لمثلك أو من أنـت سـابـقـه َ‬
‫والالت لكأني أنظ??ر إلى أمالك ذي ُر َع ْي ِن‪ ،‬وق??د م??دت لهم قض??بان المج??د إلى مع??الم‬
‫أحس???ابكم‪ ،‬ومن???اقب أنس???اب َكم‪ ،‬في َح ْلب???ة أنت‪ -‬أبيت اللعن!‪ُ -‬غ َّرته???ا فجئت س???ابقا‬
‫متمهأل‪ ،‬وجاءوا لم يلم لهم سعي‪ ،‬ق??ال النعم??ان‪ :‬ألنت في وص??فك أبل??غ إحس??انا ً من‬
‫النابغة في نظام قافيته‪ ،‬فقال خالد‪ :‬ما أبلغ فيك حسنأ إال وهو دون قدرك اس??تحقاقا ً‬
‫للشرف الباهر‪ ،‬ولو كان النابغة حاضرأ لقال وقلنا‪ ،‬ف??أمر النعم??ان بإدخال??ه‪ ،‬فخ??رج‬
‫إليه الحاجب‪ ،‬فقال النابغ?ة‪ :‬م?ا وراءك فق?ال‪ :‬ق?د أذنت بفتح الب?اب‪ ،‬رف?ع الحج?اب‪،‬‬
‫ادخل‪ ،‬فدخل ثم انتصب بين يديه‪ ،‬وحي??اه بتحي?ة? المل??ك‪ ،‬وق??ال‪ :‬أبيت اللعن! أتف? َ‬
‫?اخ ُر‬
‫سك أ ْيمنُ من يومه‪ ?،‬و َل َق َفا َك أحس??ن‬ ‫وأنت سائس العرب‪ ،‬وغرة الحسب‪ ،‬والال ِ‬
‫ت ألم ُ‬
‫سارك أسمع من يمينه‪ ،‬و َل َو عدُك أصلح من ِرفدِه‪ ،‬ولعبيدك أكثر من‬ ‫من وجهه‪ ،‬و َل َي َ‬
‫وألس ُمك أشهر من قدره‪ ،‬ولنفسك أكبر من جده‪ ،‬وليومك أش??رف من ده?ره‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫قومه‪،‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫الجود والبأس بين العلم والخبر‬ ‫أخالق مجدك جلت ما لها خطـر في‬
‫ض ْيغئم في صورة القمر‬ ‫الو َغى َ‬‫وفي َ‬ ‫فـوق َمـ ْف ِـرقِـ ِه‬
‫َ‬ ‫ُم َتؤج? بالمعالـي‬

‫فتهلل وجه النعمان بالسرور‪ ،‬ثم أمر فحشي فُو ُه جوهراً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫الملوك‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بمثل هذا فلتمدح‬

‫صفحة ‪275 :‬‬

‫بين النعمان وزيد بن عدي وكسرى‬


‫وقد كان النعمان َق َتل َ عدي بن زيد العباعي‪ ،‬وكان يكتب لكس??ري أبروي?ز? بالعربي??ة‪?،‬‬
‫ويترجم له إذا وف??د علي??ه زعم??اء الع??رب؛لموج??دة وج??دها علي??ه النعم??ان‪ ،‬في خ??بر‬
‫طويل الشرح‪ ،‬فلما قتل صار زي??د بن ع?دي ا ُبن??ه مك??ان أبي??ه‪ ،‬ف??ذكر ألبروي??ز جم??ال‬
‫نساء آل المنزر‪ ،‬ووص َفهن له‪ ،‬فكتب إلى النعمان يأمره أن يبعث إلي?ه بأخت?ه‪ ،‬فلم?ا‬
‫قرأ النعمان كتابه‪ ،‬قال للرسول‪ -‬وهو زي??د بن ع?دي‪ :-‬ي??ا زي??د‪ ،‬أم?ا لكس??رى في َم َه??ا‬
‫السواد كفاية حتى يتخطى إلى العربيات‪ .‬فقال زي??د‪ :‬إنم??ا أراد المل??ك إكرام??ك‪ -‬أبيت‬
‫اللعن!‪ -‬بص?هرك‪ ،‬ول?و علم أن ذل?ك يش?ق علي?ك لم?ا فعل?ه‪ ،‬وسأحس?ن ذل?ك عن?ده‪،‬‬
‫وأعذرك بما يقبله‪ ،‬فقال له النعمان‪ :‬فافعل‪ ،‬فق??د تع??رف م??ا على الع??رب في ت??زويج‬
‫العجم من الغضاض??ة والش??ناعة‪ ،‬فلم??ا انص??رف إلى كس??رى أخ??بره أن??ه رغب عن??ه‬
‫فأدى إليه قول?ه في َم َه?ا الس??واد على أقبح الوج?وه‪َ ،‬و ْأوج? َدهُ علي??ه‪ ،‬وق?ال‪ :‬المه?ا‪.‬‬
‫فقال‪ :‬البقر‪ ،‬فأخذ عليه وقال‪ :‬رب عبد قد صار في الطغيان إلى أكثر من هذا‪ ،‬فلم??ا‬
‫بلغت كلمته إلى النعمان تخوفه‪ ،‬فخرج هاربا ً حتى صار إلى طيىء‪ ،‬لصهر ك??ان ل??ه‬
‫اح? ة بن ربيع??ه بن م??ازن بن الح??ارث بن‬ ‫فيهم‪ ،‬ثم خرج من عنهم حتى أتى بني َر َو َ‬
‫?زاهم‬‫قطيعة بن عبس‪ ،‬فقالوا له‪ :‬أقم معنا فأنا م??انعوك مم??ا نمن?ع? من??ه أنفس??نا‪ ،‬فج? َ‬
‫س ْلمى‪:‬‬
‫الخير‪ ،‬ورحل عنهم يريد كسرى ليرى فيه رأيه‪ ،‬وذلك قول زهير بن أبي ُ‬

‫من الدهر لو أن امرأً َكانَ َنا ِج َيا‬ ‫تر للنعمان َكانَ ِبـ َن ْ‬
‫ـج َـوة‬ ‫ألم َ‬
‫او َيا‬‫وم واحد كان َغ ِ‬ ‫من الدهر َي ٍ‬ ‫فغير عنه ملك عشـرين حـجة‬
‫أ َقل صديقا معطيا ً أو ُم َواسِ ـ َيا‬ ‫فلم أرمسلوبا ً له مثل مـلـكـه‬
‫ـازيا‬ ‫ـخ ِ‬ ‫وكانوا أ َناسا ً َي َتقُونَ ال َم َ‬ ‫احة حافظوا‬ ‫َخالَ أن حيا ً من َر َو َ‬
‫ـار ِه ه َِجانَ المطايا و العتاق ال َم َذا ِك َيا‬ ‫يسيرون حتى َج ّيشوا عند َث ِ‬
‫وو َّدعهم توديع أنْ الَ َتـالقِـيا‬ ‫ازا ُه ُم خيرأ وأثنى علـي ِهـ ُم‬ ‫َف َج َ‬

‫ص?ص ل??ه كس??رى ثماني??ة آالف جاري??ة عليهن‬ ‫وأقب??ل النعم??ان ح??تى أتى الم??دائن‪َ ،‬ف ً‬
‫المصبغات صفين‪ ،‬فلما ص?ار النعم?ان بينهن قلن ل?ه‪ :‬أم?ا فين?ا للم?ك ِغ ًنى عن بق?ر‬
‫السواد ا؛ فعلم النعمان أنه غير ناج منه‪ ?،‬ولقي??ه زي??د بن ع??دي‪ ،‬فق??ال ل??ه النعم??ان‪:‬‬
‫أنت فعلت هذا بي‪ ،‬لئن تخلصت ألسقينك بكأس أبيك‪ ،‬فقال له زيد‪ :‬امض ُن َع ْي ُم‪ ،‬فق??د‬
‫األرنُ ‪ ،‬وأم??ر كس??رى بالنعم??ان‪ ،‬فحبس بس??اباط‬ ‫ت ل??ك أ ِخ َّي ًة ال يقطع??ا المه??ر ِ‬
‫أخ ْي ُ‬
‫المدائن‪ ،‬ثم أمر به فرمي تحت ْأر ُج??ل الفِ َي َل?ةِ‪ ،‬وق??ال بعض??هم‪ :‬ب??ل م??ات في محبس??ه‬
‫بساباط‪ ،‬وقد ذكرت ذلك الشعراء فأكثرت؛ فمن ذلك قول األعشى وأجاد‪:‬‬

‫بغبطته يعطي الصكاك ويرفـق‬ ‫وال الملك النعمان َي ْو َم لـقـيتـه‬


‫صريعون في أنهارها َوا ْل َخ َو ْر َنق‬ ‫ويجبى إليه المسلمون‪ ،‬وعـنـده‬
‫وهم ساكتون وال َم ِن َّية تـنـطـق‬ ‫ويقسم أمر النـاس َي ْومـأ ولـيلة‬
‫بساباط حتى مات وهو محزرق‬ ‫فذاك‪ ،‬وما أنجى من الموت ربه‬

‫صفحة ‪276 :‬‬

‫وقال هانىء بن مسعود الشيباني‪:‬‬


‫في الـورى رأسـه تـخـــوت الـــفـــيول‬ ‫إن ذاالـتـاج ال أبــا ً لـــك أضـــحـــى‬
‫النعمان حتى سقاه من البليل‬ ‫إن كسرى َع َد ا على الملك‬

‫ومما رثى به النعمان‪ :‬لم تبكه هند وال أختهـا خرق??اء‪ ،‬واس??تعجم ناعي??ه بين في??ول‬
‫ْ‬
‫تخبط َن ُه مختبطا ً َتدْ مى نواحـيه وقد كان النعمان حين أراد المضي إلى كسرى‬ ‫الهند‬
‫مستسلما ً مر على بني شيبان ف??أودعهم س??الحه وعيال??ه عن??د ه??انى بن مس??عود بن‬
‫هانى السيباني‪ ،‬فلما أتى كس?رى على النعم?ان بعث إلى ه?انى بن مس?عود‪ ،‬وطالب?ه‬
‫بتركته‪ ?،‬فامتنع‪ ،‬وأبى أن يخفر الذمة‪ ،‬فكان ذلك السبب الذي أه??اج ح??رب في ق??ار‪،‬‬
‫وقد أتينا على ذلك في الكتاب األوسط فأغنى عن إعادته هنا‪.‬‬
‫بنت ألنعمان عند سعد بن أبي وقاص‬
‫وقد كانت حرقة بنت النعمان بن المنزر إذا خرجت إلى ِبي َع ِت َه??ا يف??رش له??ا طريقه??ا‬
‫ب??الحرير وال??ديباج‪ ،‬مغش??ى ب??الخز والوش??ي‪ ،‬ثم تقب??ل في جواريه??ا ح??تى تص??ل إلى‬
‫بيعتها‪ ،‬ويرجع إلى منزلها‪ ،‬فلما هلك النعمان نكبها الزمان‪ ،‬فأنزلها من الرفعة إلى‬
‫اص القادسية أميراً عليها لما هزم هّللا الفرس وقتل‬ ‫الذلة‪ ،‬ولما وفد سعد بن أبي َو َق ٍ‬
‫ُر ْس ? ُتم‪ ،‬ف??أتت حرق??ة بنت النعم??ان في حف??دة من قومه??ا وجواريه??ا وهن في زيه??ا‬
‫عليهن المس??وح والمقطع??ات الس??ود‪ ،‬مترهب??ات تطلب ص??لته‪ ،‬فلم??ا وقفن بين يدي??ه‬
‫أنكرهن سعد‪ ،‬فقال‪ :‬أفيكن حرقة‪ ..‬قالت‪ :‬ها أن??ا ِذهِ‪ ،‬ق??ال‪ :‬أنت حرق??ة‪ ..‬ق??الت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫فما تكرارك في استفهامي‪ .‬ثم قالت‪ :‬إن الدنيا دار زول‪ .‬وال تدوم على ح??ال‪ ،‬تنتق ?ل?‬
‫بأهلها انتق?اال‪ ،‬و ُت ْعقِبهم بع??د ح?ال ح?االً‪ ،‬كن??ا مل?وك ه?ذا المص??ر ُي ْج َبى لن?ا خراج?ه‪،‬‬
‫ويطيعنا أهله مدى المدة زمان الدولة‪ ،‬فلما أدب??ر األم??ر وانقض??ى ص??اح بن??ا ص??ائح‬
‫ش َّتت ش??ملنا‪ ،‬وك??ذلك ال??دهر ي??ا س??عد‪ ،‬إن??ه ليس ي??أتي قوم?ا ً‬
‫الدهر‪ ،‬فصدع عصانا و َ‬
‫بمسرة? إال ويعقبهم بحسرة‪ ،‬ثم أنشأت تقول‪:‬‬

‫إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف‬ ‫فبينا نسوس الناس واألمر أمرنا‬
‫تقلب تارا ٍ‬
‫ت بنـا وتـصـرف‬ ‫فأف لدنيا ال يدوم نـعـيمـهـا‬

‫فقال سعد‪ :‬قاتله هللا عدي بن زيد‪ ،‬كأنه ينظر إليها حيث يقول‪:‬‬

‫ال تبيتنَ قد أمنت الدهـور‬ ‫إن للدهر صولة َف ْ‬


‫اح َن َر ْن َها‬
‫ولقد كان آمنا ً مسـرورإ‬ ‫افى فيرى‬ ‫قد يبيت الفتى ُم َع ً‬

‫قال‪ :‬فبين??ا هي واقف??ة بين ي??دي س??عد إذ دخ??ل عم??رو بن مص يك??رب‪ ،‬وك?ان َز َؤاراً‬
‫ألبيها في الجاهلية‪ ،‬فلما نظر إليه??ا ق??ال‪ :‬أنت حرق??ة‪ .‬ق??الت‪ :‬نعم‪ ،‬ق??ال‪ :‬فم??ا دَ َه َم??كِ‬
‫فأذهب محمودات شيمك‪ ،‬وأين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك‪ .‬فقالت‪ :‬ي?ا عم?رو‪ ،‬إن‬
‫للدهر لسطوات وعثرات وعبرات‪ ،‬تعثر بالملوك وأبنائهم‪ ،‬فتخفضهم بعد رفعة‪،‬‬
‫صفحة ‪277 :‬‬

‫وتفردهم بعد منعة‪ ،‬وت??ذلهم بع??د ع??زة‪ ،‬إن ه??ذا ألم??ر كن?ا ننتظ??ره‪ ،‬فلم?ا ح??ل بن??ا لم‬
‫ننكره‪ .‬قال‪ :‬فأكرمها سعد‪ ،‬وأحسن جائزتها‪ ،‬قلما أرادت فراق??ه ق??الت‪ :‬ح??تى أحيي??ك‬
‫بتحيه? ملوكنا بعضهم لبعض‪ ،‬ال َن َز َع هّللا من عبد صالح نعمة إال جعلك س??ببا ً لرده??ا‬
‫عليه! ثم خرجت من عنده فلقيها نساء المدينة‪ ،‬فقلن لها‪ :‬ما فعل بك األمير‪ .‬قالت‪:‬‬
‫حاط لي ذمتي‪ ،‬وأكرم وجهي‪ ،‬إنما يكرم الكري َم الكري ُم‪.‬‬
‫وسنذكر خبر هند بنت النعمان مع المغيرة بن شعبة أي??ام إمرت??ه على الكوف??ة‪ ،‬فيم??ا‬
‫يرد من هذا الكتاب‪ ،‬عند ذكرنا ألخبار معاوية بن أبي سفيان‪.‬‬
‫قال أبو الحس??ن علي بن الحس??ين المس??عودي‪ :‬فه??ؤالء مل??وك الح??يرة إلى أن ظه??ر‬
‫س َّم ْينا من ه??ؤالء المل??وك من ول??د‬ ‫اإلِسالم‪ ،‬فأظهره هللا‪ ،‬وأذل الكافرين‪ ،‬فجميع من َ‬
‫عمرو بن عدي بن أخت جذيمة? األبرش‪ ،‬على حس??ب م??ا ق??دمنا آنف?ا ً في ص??در ه??ذا‬
‫الباب‪ ،‬ثم جاء اإلسالم ومل ُك الفرس وكسرى أبرويز بن هرم??ز‪ ،‬ف ّمل ? َك على الع??رب‬
‫ض? ْت‬‫إياس بن َقبيصة الطائي‪ ،‬فكان ملكه تس??ع س??نين‪ ،‬ولثماني?ة? أش??هر‪َ ،‬م َ‬
‫َ‬ ‫بالحيرة‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم ملك الح??يرة جماع??ة‬ ‫من ملك إياس‪ ،‬كان مبعث رسول ّ‬
‫من الفرس‪ ،‬وقد كان قبل عمرو بن عدي ملوك على الحيرة على حسب م??ا ذكرن??ا‪،‬‬
‫وكان عدة الملوك بالحيرة ثالثة وعشرين ملكا ً من ب??ني نص??ر وغ??يرهم من الع??رب‬
‫والفرس؛وكان عدة ملكهم ستمائة سنة? واثنتين وعشرين سنة وثمانية? أشهر‪ ،‬وق??د‬
‫قيل‪ :‬إن ُع ْم َران الحيرة وبدوه إلى أن خرجت في وقت بناء الكوفة‪ ،‬ك??ان خمس??مائة‬
‫سنة وبضعا ً وثالثين سنة‪.‬‬

‫خراب الحيرة‬

‫قال المسعودي‪ :‬ولم يزل ُع ْمرانها يتناقص من الوقت الذي ذكرنا إلى صدر من أيام‬
‫المعتضد‪ ،‬فإنه استولى عليها الخراب‪ ،‬وق??د ك??ان جماع??ة من خلف??اء ب??ني? العب??اس‪-‬‬
‫ص ?لُون المق??ام به??ا لطيب‬ ‫كالس??فاح‪ ،‬والمنص??ور‪ ،‬والرش??يد‪ ،‬وغ??يرهم‪ -‬ينزلونه??ا َي ِ‬
‫هوائها‪ ،‬وصفاء جوهرها‪ ،‬وصحة تربته??ا‪ ،‬وص??البتها‪ ،‬وق??رب الخورن??ق‪ ،‬والنج??ف‬
‫منها‪ ،‬وقد كان فيها ديارات كثيرة فيها رهب??ان‪ ،‬فلحق??وا بغيره??ا من البالد‪ ،‬لت??داعي‬
‫الخراب إليها‪ ،‬وأقفرت من كل أنيس في هذا ال??وقت ليس به??ا إلى الص??دَ ى وال ُب??وم‪،‬‬
‫س?عدها‬ ‫وعند كثير من أهل الدراية التامة بما يح??دث في المس??تقبل من الزم??ان‪ :‬أن َ‬
‫سيعود بالعمران‪ ،‬وأن هذا النحس عنها سيزول وكذلك الكوفة‪.‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬ولمن س ّمينا من ملوك الحيرة أخبار وس??ير وح??روب ق?د أتين??ا على‬
‫ور من مبسوطها في كتابنا أخبار الزم??ان‪ ،‬وفيم??ا بع??د من ه??ذا الكت??اب‬ ‫ذكرها َوال ُغ َر ِ‬
‫فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الباب‪.‬‬

‫صفحة ‪278 :‬‬

‫ذكر ملؤك الشام من اليمن من غسان وغيرهم من الملوك‬


‫أول ملوك الشام‬
‫كان أول من ملك الشام من اليمن فالغ بن يغورثم ملك بعده يوتاب‪ ،‬وه??و أي??وب بن‬
‫وج? ل في كتاب??ه م??ا ك?ان من خ??بره على لس?ان نبي??ه‪ ،‬وم??ا‬
‫رزاح‪ ،‬وقد ذك??ر هللا ع??ز ّ‬
‫ضاعة بن‬ ‫اقتص من أمره‪ ،‬ثم غلبت الروم على ديارها‪ ،‬فتفرقوا في البالد‪ ،‬وكانت قُ َ‬
‫مالك بن حمير أول مي نزل الش??ام‪ ،‬وانض??افوا إلى مل??وك ال??روم‪ ،‬فملك??وهم بع??د أن‬
‫دخلوا في النصراينة على من حوى الشام من العرب‪.‬‬

‫تنوخ? ونسبها‬
‫وكان أول من ملك من َت ُنو َخ النعمان بن عم??رو بن مال??ك‪ ،‬ثم مل??ك بع??ده عم??رو بن‬
‫ثم ملك بعده الح??واري بن النعم??ان‪ ،‬ولم يمل??ك من َت ُن??و َخ إال من‬
‫النعمان بن عمرو‪ِ ،‬‬
‫خ بن مال??ك بن َف ْهم بن َت ْيم الالت بن األزد بن َو ْب??رة بن ثعلب??ة بن‬
‫ذكرن??ا‪ ،‬وه??و تن??و ُ‬
‫حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير‪.‬‬
‫وقد تنوزع في قضاعة‪ :‬أمن معد كان أم من قحط??ان‪ .‬فقض??اعة ت??أبى أن تك??ون من‬
‫معد‪ ،‬وتزعم أنها من َق ْح َطان‪ ،‬على ما ذكرنا‪.‬‬
‫وقد قيل في نسب قضاعة واتصالها بحمير غير ما ذكرنا من النسب‪.‬‬

‫سليح ونسبها‬
‫وخ‪ ?،‬وتنصرت فم َلكتها الروم على العرب الذين‬ ‫ثم وردت سليح الشام فغلبت على َت ُن َ‬
‫بالشام‪ ،‬وهم ولد سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قض??اعة‪ ،‬فاس??تقام مل??ك‬
‫س??ليح بالش??ام‪ ،‬وتف??رقت قبائ??ل الع??رب لم??ا ك??ان بم??ارب وقص??ة عم??رو بن ع??امر‬
‫?وث بن‬ ‫مزيقياء؛فسارت غسان إلى الشام وهم من ولد مازن‪ ،‬وذلك أن األزد بن َ‬
‫الغ? ْ‬
‫َن ْبت بن مالك بن زيد بن كهالن بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ولد م??ازن‪،‬‬
‫وإليه ترجع جميع قبائل غسان‪ ،‬وإنما غسان ماء شربوا منه? فسموا بذلك وه??و م??ا‬
‫بين زبيد ورم??ع‪ ،‬وادي األش??عريين ب??أرض اليمن وفي ذل??ك يق??ول حس??ان بن ث??ابت‬
‫ت فإ َنا معشر ُن ُجب األزد نس َب ُت َنا‪َ ،‬وال َما ُء غسان‬
‫األنصاري‪ :‬إ َما سأل ِ‬
‫?رم‪،‬‬‫وس??نذكر بع??د ه??ذا الموض??ع خ??بر عم??رو بن ع??امر مزيقي??اء‪ ،‬وخ??بر س??يل ال َع? ِ‬
‫س?ان‪ ،‬وق??د ذك??ر أن عم??رو بن ع??امر‬ ‫وتفرقهم في البالد‪ ،‬وخبر الم??اء المع??روف َ‬
‫بغ َّ‬
‫حين خ??رج من م??أرب لم ي?زل مقيم?ا ً على ه??ذا الم?اء إلى أن أدرك?ه الم?وت‪ ،‬وك?ان‬
‫سوقة‪ ،‬وأربعمائة ملكاً‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عمره ثمانمائة سنة‪ :‬أربعمائة‬

‫ملوك غسان على الشام‬


‫وغلبت غسان على من بالشام من العرب‪ ،‬فملكها الرو ُم على العرب‪ ،‬فكان أول من‬
‫ملك من ملوك غسان بالش??ام‪ :‬الح??ارث بن عم??رو بن ع??امر بن حارث??ة بن أم??رىء‬
‫القيس بن ثعلبة بن مازن‪ ،‬وهو غسان بن األزد بن الغوث‪.‬‬

‫صفحة ‪279 :‬‬

‫ثم ملك بعده الحارث بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عمرو بن عامر بن حارثة و أمه ماري??ة‬
‫القر َطين بنت أرقم بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عم??رو‪ ،‬وذك??ر أنه??ا ماري??ة بنت ظ??الم‬
‫ذات ْ‬
‫بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور وهو كندة‪ ،‬وهي التي ذكرتها الش??عراء في‬
‫أشعارها‪ ،‬وتنسب جماعة من ملوك غسان إليها‪.‬‬
‫وملك بعده النعمان بن الحارث بن َج َب َلة بن الحارث بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عمرو‪.‬‬
‫ثم ملك بعده المنزر أبو شمر بن الحارث بن َج َب َلة بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عمرو‪.‬‬
‫ثم ملك بعده عوف بن أبي شمر‪.‬‬
‫ِث رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه‬‫ثم ملك بعده الحارث بن أبي شمر فكان ملك??ه حين بع َ‬
‫وسلم‪.‬‬

‫حسان والحارث الغساني‬


‫وذكر عدة من اإلخباريين أن حسان بن ثابت األنصاري زار الحارث بن‪ ،‬أبي ش??مر‬
‫س?اميه‪ ?-‬فق??ال ل??ه‬
‫الغساني بالشام‪ -‬وكان النعم??ان بن الم??نزر اللخمي مل??ك الح??يرة ُي َ‬
‫علي‪ ،‬فق??ال‪ :‬وكي??ف أفض??له‬ ‫وهو عنده‪ :‬يابن ا ْلفُ َر ْيعة‪ ،‬لقد نبئت أنك تفضل النعم??ان َ‬
‫سنُ من وجهه‪ ،‬والمك أشرف من أبي?ه‪ ،‬وألب??وك أش??رف من‬ ‫عليك!! فوهّللا لقفاك ْ‬
‫أح َ‬
‫جميع قومه‪ ،‬و َلشِ َمالُ َك أجود من يمينه‪ ،‬ولحرمانك أنفع من َندَ اه‪ ،‬ولقليل??ك أك??ثر من‬
‫َاولُ َك أغ??ور من‬
‫أم َرع من غديره‪ ،‬ولكرسيك أرفع من سريره‪ ،‬و َل َجد ِ‬ ‫كثيره‪ ،‬ولثمادك ْ‬
‫بح??ره‪ ،‬وليوم??ك أط??ول من ش??هره‪ ،‬ولش??هدك أم??دة من حول??ه‪ ،‬ولحولُ ? َك خ??ير من‬
‫ِح َق ِبه‪،‬ولزندك أورى من زنده‪ ،‬ولجندك أع??ز من جن??ده‪ ،‬وإن??ك من غس??ان وإن??ه من‬
‫َلخم‪ ،‬فكيف أفض?له علي?ك أو أعدل?ه ب?ك فق?ال‪ :‬ي??ابن الفُ َر ْيع??ة‪ ،‬ه?ذا ال يس?مع إال في‬
‫شعر‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫يساميك للحارث األصغر‬ ‫ونبـئت أن أبـا مـنـذر‬


‫وامك خير من المنـزر‬ ‫قفاؤك أحسن من وجهـه‬
‫كيمنى يديه على المعسر‬ ‫َو ُي ْس َرى يديك على ُع ْس ِر َها‬

‫جبلة بن األيهم‬
‫ثم ملك بعده َج َب َلة بن األيهم بن َج َب َلة بن الح??ارث بن ثعلب??ة بن َج ْف َن??ة بن عم??رو بن‬
‫عامر بن حارث??ة بن أم??رىء القيس بن ثعلب??ة بن م??ازن‪ ،‬وه??و غس??ان بن األزد بن‬
‫الغوث‪ ،‬وهو الملك الذي امتدحه حس??ان بن ث??ابت األنص??اري‪ ،‬حيث يق??ول في ش??عر‬
‫ش ِه َر ْن َها فإنَ ملكك بالـشـام إلى الروم فخر كل يماني وفيه يقول أيضاً‪:‬‬ ‫طويل‪ :‬أ ْ‬

‫صـــ َّمـــان‬
‫بين أعـلـى الـيرمـوك َوالـ َّ‬ ‫لمـن الـدار أقـفــرت بـــمـــعـــان‬
‫ناسـكـا ً مـنـه بـالـقـصـور الـدوانـــي‬ ‫من قـريات مـــن ثـــالثـــين عـــدت‬
‫ينظمنَّ سراعا ً ألك َلة المرجان‬ ‫قد َد َنا الف ْ‬
‫ِص ُح والوالئد‬
‫وحـقـــا ً تـــصـــرف األزمـــان‬ ‫ذاك مغنى آلل َج ْف َنة في الد ر‬
‫دعـاء الـقـسـيس والـــرهـــبـــان‬ ‫ص َل ُ‬
‫ـوات الـمـسـيح فـي ذلـــك الـــدبر‬ ‫َ‬
‫صفحة ‪280 :‬‬

‫َ‬
‫غوطة دمشق وأعمالها بين الجوالن واليرموك‪.‬‬ ‫وهذه مواضع وقرى من‬

‫منازل غسان‬
‫وك??انت دي??ار مل??وك غس??ان ب??اليرموك والج??والن وغيرهم??ا‪ ،‬من ُغو َط??ة دمش??ق‬
‫وعمالها‪ ،‬ومنهم من نزل األردن من أرض الشام‪.‬‬
‫َو َج َب َل??ة بن األيهم هوال??ذي أس??لم وارت??د عن دين??ه خ??اف إلع??ار َوال َق? َ?و ِد من ال َّل ْط َم??ة‪،‬‬
‫واضح مشهور‪ ?،‬قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وسائر أخبار ملوك‬ ‫ِ‬ ‫وخبره‬
‫تنوخ? وسليح وغسان وغيرهم ممن ملك الشام‪ ،‬ودعاء النبي صلى هللا عليه وس??لم‬
‫الح?ارث بن أبي ش??مر الغس?اني إلى اإلس?الم وترغيب?ه? في اإليم??ان‪ ،‬وق?د أتين?ا على‬
‫خبره وما كان من أمر أسل أمه وأخباره مع النبي صلى هللا علي??ه وس??لم في كِتابن??ا‬
‫أخبار الزمان‪ ،‬وفي أبيه يقول النابغة‪:‬‬
‫مسـتـقـبـل الـخـير سـريع الــ َّتـــ َمـــام‬ ‫هذا ُغـــالم حـــســـن َو ْجـــ ُهـــــ ُه‬
‫والحارث خير األنام‬ ‫للحارث األكبر والحارث األصغر‬
‫فـي الـخــيرات مـــنـــه أمـــام‬ ‫ثم لهند ولهند‪ ،‬وقد أسـرع‬
‫ص ْـو َب الـــغـــمـــام‬ ‫َمـنْ يشـرب َ‬ ‫وخـــمـــسة آبـــاؤهـــم مـــاهـــم أكـرم‬

‫فجميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملك‪ ،‬وقد كان بالشام ملوك ببالد‬
‫مأرب من أرض البلقاء من بالد دمشق‪ ،‬وكعذلك مدائن ق??وم ل??وط من أرض األردن‬
‫وبالد فلس??طين‪ ،‬وك??انت خمس م??دن‪ ،‬وك??انت دار المملك??ة منه??ا‪ ،‬والمدين?ة? العظمى‬
‫سدُوم‪ ،‬وكانت سمة كل ملك يملكها بارعاً‪ ،‬وك?ذلك ذك?ر في الت?وراة‪ ،‬وذك?رت‬ ‫مدينة? َ‬
‫أسماء هذه المدن‪ ،‬أعرضنا عنه إذ كان فيه خروج عن شرط االختصار‪.‬‬
‫وق??د ك??ان لكن??دة وغيره??ا من الع??رب من قحط??ان َو َم َع? ٍّد مل??وك كث??يرة لم نتع??رض‬
‫لذكرها؛ إذ كان ال أس??ماء لهم تعمهم وتش??هرهم‪ ،‬كقولن??ا الخليف??ة وقيص??ر وكس??رى‬
‫والنجاشي‪ ،‬ولئال يطول الكتاب بذكرهم‪.‬‬
‫وقد أتينا على سائر ملوك العرب من معد وقحط??ان وغ??يرهم ممن وس??م بالمل??ك في‬
‫بعض الممالك في سائر األمم الخالي?ة‪ ،‬والممال?ك الباقي?ة‪ ،‬من البيض?ان والس?ودان‪،‬‬
‫ممن أمكن ذكره وتأ ّتى لنا اإلِخبار عنه‪ ،‬وإنما ذكرنا في هذا الكتاب من المل??وك من‬
‫اشتهر ملكه‪ ،‬وعرفت مملكته ميالً إلى االختصار‪ ،‬وطلبا ً ِ‬
‫لإليج??از‪ ،‬وتنبيه ?ا ً على م??ا‬
‫سلف من أخبارهم‪ .‬في كتبنا المتقدم ذكرها من تصنيفنا‪ ،‬و هّللا الموفق‪.‬‬

‫ذكر البوادي من العرب وغيرها من األمم‬


‫وعلة سكناها ا ْلبدو وجمل من أخبار العرب وغير ذلك مما اتصل بهذا المعنى‬
‫?رت من ع??اد‬ ‫ق??د تق??دم ذكرن??ا لول??د َق ْح َط? ان‪ ،‬وأن َمنْ ع??داهم من الع??رب العارب??ة َد َث? َ‬
‫وطسم وجديس وعمالق وجرهم وثمود وعبيل ووبار‪ ،‬وسائر من س??مينا‪ ،‬وأن َمنْ‬
‫بقي ممن ذكرنا دخلوا في العرب الباقية إلى ه??ذا ال??وقت‪ ،‬وهم قحط??ان‪ ،‬ومع??د‪ ،‬وال‬
‫نعلم أن قبيالً بقي ِيشار إليه في األرض من العرب األولى غير معد وقحطان‪،‬‬
‫صفحة ‪281 :‬‬

‫وذكرنا َمنْ طاف البالد من مل??وكهم‪ ،‬مث??ل التبابع??ة وال??ذواء‪ ،‬ومن َ‬


‫ش? َّيد البني??ان في‬
‫ومص َر األمصار‪ ،‬وب??نى الم??دن الكب??ار‪ ،‬ك??إفريقس بن أبره??ة‪ ،‬وم??ا‬
‫َّ‬ ‫الشرق والغرب‪،‬‬
‫?ور هنال?ك‪ ،‬وم?ا‬ ‫?ور من ال ُك َ‬
‫بنى بالمغرب من المدن كمدينة إفريقية? وصقلية‪ ،‬وم?ا َك َّ‬
‫اتخذ من العمائر‪ ،‬وكمسير? شمر إلى أرض المش?رق‪ ،‬وبنيان?ه? س?مرقند‪ ،‬ومن خل?ف‬
‫هنالك من حم?ير به?ا‪ ،‬وببالد التبت والص?ين‪ ،‬وق?د ذك?ر ذل?ك جماع?ة من ش?عرائهم‬
‫ممن سلف وخلف‪.‬‬

‫بين دعبل والكميت‬


‫وقد أفتخر د ِْع ِبل بن علي الخزاعي في قصيدته التي ي??ر ُد فيه??ا على ال ُك َم ْيت‪ ،‬وفخ??ر‬
‫د ِْع ِبل بمن س??لف من مل??وكهم ومس??يرهم في األرض‪ ،‬وأن لهم من الفض??ل م??ا ليس‬
‫لمعد بن عدنان‪ ،‬فقال في شعره‪:‬‬
‫وباب الصين كانوا الكاتبينـا‬ ‫ُه ُمو كتبوا الكتاب بباب َمـر‬
‫وهم غرسوا هناك التبتينـا‬ ‫وهم جمعوا الجموع بسمرقند?‬

‫?تى ينق??اد إلى‬ ‫وقد كان لليمن ملوك ال يدعون بالتبابع??ة‪ ،‬ممن تق??دم وت? َّ‬
‫?أخر منهم‪ ،‬ح? ِ‬
‫ش ْحر وحضرموت‪ ،‬فحينئذ يستحق أن يسمى تبعاَ‪ ،‬ومن تخلف عن ملك??ه‬ ‫مكة أهل ال ِّ‬
‫من ذكرنا سمي ملكاً‪ ،‬ولم يطلق علي??ه اس??م تب??ع‪ ،‬وق??د ق??ال هّللا ع??ز وج??ل في قص??ة‬
‫قريش وتفاخرها بقوتها وعددها‪" :‬أهم خير أم ق??وم تب??ع " اآلي??ة حين دخ??ل الح??ر َم‬
‫فبعث هللا علي??ه الظل??ة‪ ،‬وإنم??ا س??مي تبع?ا ً بمن تبع??ه‪ ،‬وك??ذلك حكي عن عب??د هّللا بن‬
‫العباس‪.‬‬

‫بين تبع وقباد ملك الطوائف‬


‫وقد كان تب?ع أب?و ك?رب س?ار في األرض‪ ،‬ووطىء الممال?ك وذلله?ا‪ ،‬ووطىء أرض‬
‫العراق في ُملك الطوائف‪ ،‬وعديد الطوائف حينئ?ذ ج?وذر بن س?ابور‪ ،‬فلقي أب??وكرب‬
‫ملكا ً من الطوائف يقال له قناد‪ ،‬وليس بقباد بن فيروز من الساسانية‪ ،‬فانهزم قب?اد‪،‬‬
‫وأتى تبع أبو كرب على ملكه‪ ،‬وملك العراق والش??ام والحج??از وكث??يراً من الش??رق‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول تبع ويذكرما صنع‪:‬‬

‫ور ُثـوهـم جـدودهــم والـــجـــدودا‬ ‫َ‬ ‫َو َرد الـمـلـك تـــبـــع وبـــنـــوه‬
‫ثم سـرنـا بـهـا مـســيراً بـــعـــيدا‬ ‫إذجـ َنـ ْبـ َنـا جـيادنـا مـن ظـــفـــار‬
‫َ‬
‫وابـن أقـلـود قـائمـا ً مـصـــفـــودا‬ ‫فاسـتـبـحـنـا بـالـخـيل مـلـك قـبــاد‬
‫ُمال ًء ُم َق َّ‬
‫صبا ً َو ُب ُرودا‬ ‫فكسونا البيت الذي حرم هًللا‬
‫وجـعـلـنـا لـبــابـــه إقـــلـــيدا‬ ‫وأقمنا به من الشهر عشرا‬
‫وسـجـدنـا عـنـد الـمـقـام سـجـــودا‬ ‫ثم طفـنـا بـالـبـيت سـبـعـا ًو سـبـعـا‬

‫صفحة ‪282 :‬‬

‫وقال أيضا ً فيه‪:‬‬

‫تر ُكض الخيل في َ‬


‫س َواد العراق‬ ‫اليمـانـيئ إن لـم‬
‫َ‬ ‫ت بال ُتبع‬
‫لس ُ‬
‫ْ‬
‫أو تعقني عـوائق الـعـواق‬ ‫الخ ْرج َق ْ‬
‫ـسـرا‬ ‫وتؤدِّ ي ربيعه? َ‬

‫وقد كانت لنزار بن معد معه وقائع وحروب كث?يرة‪ ،‬واجتمعت علي?ه مع?د بن ربيع?ه‬
‫ومضر? وإي??اد وأنم??ار‪ ،‬وت??داعت بج??دها ن??زار‪ ،‬وت??واهبت م??ا ك??ان بينه??ا من ال??دماء‬
‫والثأر‪ ،‬فكانت لهم عليه؛ ففي ذلك يقول أبو ُع َواد ا أليادي‪:‬‬

‫جياد البرود َ‬
‫وخ ْر َج الذهب‬ ‫ض َر ْب َنا على ُت َّبـع جـزية‬
‫َ‬
‫وكان جبانا ً كثيرا لرهـب‬ ‫وولي أبوكـرب هـاربـا‬
‫وكان العزيز بها َمنْ غلب‬ ‫وأتبعه َف َه َوى للـجـبـين‬

‫وقد ذكرنا في الكتاب األوسط بدء النسب من إب??راهيم علي??ه الص??الة والس??الم وول??د‬
‫إس??ماعيل وتف??رق النس??ب إلى ن??زار بن مع??د وتش??عب الن??اس من ن??زار بن مع??د بن‬
‫عدنان‪ ،‬فلنذكر اآلن في هذا الموضع خ??بر ول??د ن??زار األربع??ة م??ع األفعى بن األفعى‬
‫الجرهمي‪ ،‬ثم نعقب ذلك بم??ا إلي??ه قص??دنا في ه??ذا الب??اب من ه??ذا الكت??اب‪ ،‬من عل??ة‬
‫س??كنى الب??وادي من الع??رب الب??دو وغ??يرهم ممن س??كن الجب??ال واألودي??ة وس??ائر‬
‫البراري والقِ َفار‪.‬‬

‫أوالد نزار بن معد وقصتهم مع األفعى الجرهمي‬

‫ذ َك َر عدة من رواة أخبار العرب أن نزار بن معد ول??د أربع??ة أوالد‪ :‬إي?ادا‪ ،‬وب??ه ك?ان‬
‫ثعم من ولده على ما قيل‪ ،‬إذ كان فيم??ا ذكرن??ا تن??ازع ألن‬ ‫يكنى‪ ،‬وأنمارا‪ -‬و َب ِجيلة َ‬
‫وخ َ‬
‫من الناس من ألحقهم ب?اليمن‪ ،‬ومن الن??اس من ذك?ر فيهم م??ا وص??فنا أنهم من ول?د‬
‫ضر‪ ?،‬فلما حضرت نزاراً الوفاة دعا بني?ه? ودع??ا بجاري?ة?‬ ‫أنمار بن نزار‪ -‬وربيعه‪ ،‬و ُم َ‬
‫له َ‬
‫ش ْمطاء‪ ،‬فقال إلِياد‪:‬‬
‫ضر فأدخله قبة له حم??راء من‬ ‫هذه الجارية وما أشبهها من مالي ذلك‪ ،‬ثم أخذ بيد ُم َ‬
‫أدَ م‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫هذه القبة وما أشبهها من مالي ذلك‪ ،‬ثم أخذ بيد ربيعه َوقال له‪:‬‬
‫هذا الفرس األدْ َه ُم وال ِخ َباء األسود وما أشبهها من مالي ذلك‪ .،‬ثم أخ??ذ بي??د أنم??ار‬
‫وقال له‪:‬‬
‫هذه ال َب ْح َرة والمجلس وما أشبهها من مالي ذل??ك‪ ،‬ف??إن أش??كلت عليكم ه??ذه القس??مة‬
‫فأ ُتوا األفعى بن األفعى الجرهمي‪ -‬وك??ان مل??ك َن ْج? ران‪ -‬ح??تى يقس??م بينكم وتراض??وا‬
‫بقس??مته‪ ?،‬فلم يلبث ن??زار إال قليأل ح??تى هل??ك‪ ،‬وأش?كلت القس??مة على ول?ده‪ ،‬فركب??وا‬
‫رواحلهم ثم قص??دوا نح??و األفعى‪ ،‬ح??تى إذا ك??انوا من??ه على ي??وم وليل??ة من أرض‬
‫نجران‪ ،‬وهم في َم َفازة‪ ،‬إذا هم بأثر بعير فقال إياد‪:‬‬
‫صفحة ‪283 :‬‬

‫إن هذا البعير الذي َت َر ْونَ أثره أعور‪ ،‬فقال أنم??ار‪ :‬وإن??ه ألب?تر‪ ،‬ق?ال ربيع??ه‪ :‬وإن??ه‬
‫شرود‪ ،‬فلم ِيلبثوا أن رفع إليهم راكب ُت ِ‬
‫وض ? ُع ب??ه راحلت??ه‪،‬‬ ‫ألز َو ُر‪ ،‬قال مضر‪ :‬وإنه ل َ‬
‫ْ‬
‫فلما غشيهم قال لهم‪ :‬هل رأيتم من بعير ضال في وج?وهكم‪ ،‬ق?ال إي?اد أك?ان بع?يرك‬
‫أعور‪ .‬قال‪ :‬فإنه ألعور‪ ،‬قال أنمار‪ :‬أكان بعيرك أبتر‪ .‬ق?ال‪ :‬فإن?ه ألب?تر? ق?ال ربيع??ه‪:‬‬
‫أك?ان بع??يرك أزور‪ .‬ق??ال‪ :‬فإن??ه ألزور ق?ال مض??ر‪ ?:‬أك?ان بع??يرك ش??رودا‪ ،.‬ق?ال‪ :‬إن??ه‬
‫لشرود‪ ،‬ثم قال لهم‪ :‬فأين بعيري دلوني عليه‪ ،‬قالوا‪ :‬وهللاّ ما أحسسنا لك ببع??ير وال‬
‫رأيناه‪ ،‬قال‪ - :‬أنتم أصحاب بعيري وما أخطأ َتم من نعته ش??يئاً‪ ،‬ق??الوا‪ :‬م??ا رأين??ا ل??ك‬
‫بعيراً‪ ،‬فتبعهم حتى قدموا نج??ران‪ ،‬فلم?ا أن?اخوا بب?اب األفعى أس??تأذنوا علي??ه‪ ،‬ف?أذن‬
‫لهم‪ ،‬فدخلوا‪ ،‬وصاح الرجل من وراء الب?اب‪ :‬أيه?ا المل?ك‪ ،‬ه?ؤالء أخ?ذوا بع?يري ثم‬
‫حلفوا أنهم ما رأوه‪ ،‬فدعا به األفعى فقال‪ :‬ما تقول‪ .‬فقال‪ :‬أيها الملك‪ ،‬هؤالء ذهبوا‬
‫ببعيري? وهم أصحابه‪ ،‬فقال لهم األفعى‪ :‬ما تقولون‪ .‬قالوا‪ :‬رأينا في سفرنا هذا إليك‬
‫أ َث َر بعير‪ ،‬فقال إياد‪ :‬إنه ألعور‪ ،‬قال‪ :‬وما يمريك أنه أعور؛ قال‪ :‬رأيت??ه مجته??داً في‬
‫ف كث?ير اإللتف??اف لم يمس??ه فقلت‪:‬‬ ‫َر ْعي الكأل من شق قد لحسه والش?ق األخ??ر وارا ٍ‬
‫مص? َع ب??ه فعلمت‬ ‫إنه أعور‪ ،‬وقال أنمار‪ :‬رأيته يرمى ببعره مجتمعا ً ولو ك?ان أهلب َل َ‬
‫أنه أبتر‪ ،‬وقال ربيعه‪ ?:‬رأيت أثر إحدى يدي??ه ثابت?ا ً واألخ??ر فاس??داً فعلمت أن??ه ْأز َور‪،‬‬
‫?ف الغض‬ ‫وقال مضر‪ ?:‬رأيته يرعى الش??قة من األرض ثم يتع? ّداها فيم??ر ب??الكأل الملت? ّ‬
‫ش? ُرود‪ ،‬فق??ال‬ ‫فال ينهش منه? حتى يأتي ما ه??و أرق من??ه‪ ،‬ف??يرعى في??ه‪ ،‬فعلمت أن??ه َ‬
‫بعي??رك وليس??وا بأص??حابه‪ ،‬التمس بع??يرك ثم ق??ال‬ ‫األفعى‪ :‬ص??دقوا‪ ،‬ق??د أص??ابوا أث??ر ِ‬
‫?رح َب بهم وحي??اهم ثم ق??ال‪:‬‬ ‫األفعى للقوم‪ :‬من أنتم فأخبروه بحالهم‪ ،‬وانتسبوا إليه ف? َّ‬
‫ما خطبكم‪ .‬فقصوا عليه قصة أبيهم‪ ،‬قال األفعى‪ :‬وكيف تحتاجون إلي وأنتم على ما‬
‫أرى قالوا‪ :‬أمرنا بذلك أبونا‪ ،‬ثم أمر بهم فأنزلوا‪ ،‬وأمر خادم?ا ً ل??ه على دارالض??يافة‬
‫أن يحسن إليهم ويكرم َم ْث َوأهم وإلطافهم بأفضل ما يق??در علي??ه أم??ر وص??يفا ً ل??ه من‬
‫بعض خدمه ظريفا ً أديباً‪ ،‬فقال له‪ :‬أنظر كل كلمة تخرج من أفواهم فأ ِتنِي بها‪ ،‬فلم??ا‬
‫نزلوا بيت الضيافة أتاهم ال َق ْه َر َمانُ بقرص من شهد فأكلوا وق??الوا‪ :‬م??ا رأين??ا ش??هداً‬
‫أعذب وال أحس?ن وال أش?د حالوة من?ه‪ ?،‬فق?ال إي?اد‪ :‬ص?دقتم ل?وال أن نحل?ه ألق?ا ُه في‬
‫ش? ِوية?‬ ‫هامة جبار‪ ،‬فوعاها الغالم‪ ،‬فلما حضر غداؤهم وجيء بالش??واء ف??إذا بش??اة َم ْ‬
‫ش?ئا وال أرخص لحم?ا ً وال أس??من من??ه‪ ،‬فق??ال‬ ‫فأكلوها وقالوا‪ :‬ما رأينا شواء أج??ود َ‬
‫إنمار‪ :‬صدقتم لوال أنه غنِي بلبن كلبة‪ .‬ثم جاءهم بالش??راب فلم??ا ش??ربوا ق??الوا‪ :‬م??ا‬
‫رأينا خمراً أرق وال أعنب وال أص??فى وال أطيب رائح??ة من??ه‪ ،‬فق??ال ربيع??ه‪ ?:‬ص??دقتم‬
‫لوال أن كرمها َن َب َت على قبر‪ .‬ثم قالوا‪ :‬مارأين??ا م??نزالً أك??رم ق??رى وال أخص??ب َر ْحال‬
‫من ه??ذا المل??ك‪ .‬ق??ال مض??ر‪ :‬ص??دقتم ل??وال أن??ه لغ??ير أبي??ه‪ .‬ف??ذهب الغالم إلى األفعى‬
‫فأخبره بما كان منهم‪ ،‬فدخل األفعى على أمه ‪ ،‬فقال‪ :‬أقسمت عليك إال م??ا أخبرت??ني‬
‫من أنا ومن أبي‪ ،‬فقالت‪ :‬يا بني‪ ،‬وما دعاك إلى هذا‪ .‬أنت ابن األفعى المل??ك األك??بر‪،‬‬
‫قال‪ :‬حقا ً لتصدقني‪ ،‬فلما أل ّح عليها ق??الت‪ :‬ي??ا ب??ني إن أب??اك األفعى ال??ذي ُت??دْ َعى ل??ه‬
‫شيخا ً قد أثقل‪ ،‬فخشيت أن يخرج هذا الملك عنا أهل البيت‪ ،‬وقد كان قدم إلينا ش??ابا ً‬
‫ت بك منه‪ ،‬ثم بعث إلى القهرمان‪ ،‬فق??ال‪:‬‬ ‫من أبناء الملوك‪ ،‬فدعوته إلى نفسي‪ ،‬فعل ْق ُ‬
‫أخبرني عن الشهد الذي بعثت به إلى هؤالء النفر ما خطبه قال‪ :‬أنا أخبرنا ب َد ْير‬
‫صفحة ‪284 :‬‬

‫شو ُره‪ ،،‬فأخبروني? أنهم هجم??وا على عظ??ام نخ??رة منك??رة‬ ‫في طف فبعثت إليه من َي ُ‬
‫في ذلك الطف‪ ،‬فإذا النحل ق?د عس?لت في جمجم?ة من تل?ك العظ?ام‪ ،‬ف?أتوا بعس?ل لم‬
‫أرمثله فقدمته إلي القوم لجودته‪ ،‬ثم بعث إلى صاحب مائدت??ه فق?ال‪ :‬م??ا ه??ذه الش?اة‬
‫شويتها لهؤالء الق??وم‪ .‬ق??ال‪ :‬أنى بعثت إلى ال??راعي أن ابعث إلي بأحس??ن ش??اة‬ ‫التي َ‬
‫فبعث به??ا إلي‪ ،‬وم??ا س??ألته عنه?ا‪ ،‬فبعث إلى ال?راعي أن أعلم?ني خ?بر ه?ذه‬ ‫َ‬ ‫عندك‪،‬‬
‫الشاة‪ ،‬قال‪ :‬إنها أول م??ا ول??دت من غنمي ع??ام أول‪ ،‬فم??اتت أم??ه ا‪ ،‬فبقيت‪ ،‬وك??انت‬
‫?راء الكلب??ة‪ ،‬فك??انت ترض??ع من الكلب??ة م??ع‬ ‫الس? ْخلة ِب ِج? َ‬
‫كلبة لي ق??د وض??عت فأنس??ت َّ‬
‫ِج َرائها‪ ،‬فلم أجد في غنمي مثله??ا‪ ،‬فبعثت به??ا إِلي??ك‪ ،‬ثم بعث إلى ص??احب الش??راب‪،‬‬
‫?رم نبتت غرس??تها‬ ‫فقال‪ :‬ما هذا الخمر ال??ذي س??قيت له??ؤالء الق??وم ق?ال‪ :‬من حب??ة َك? ْ‬
‫على قبر أبيك‪ ،‬فليس في العرب مثل شرابها‪ ،‬فقال األفعى‪ :‬ما ه??ؤالء الق??وم‪ .‬إنْ هُم‬
‫قص ?تكم‪ ،‬فق??ال إي??اد‪ :‬هللا أبي‬‫صوا علي ّ‬ ‫إال شياطين‪ ،‬ثم أحضرهم فقال ‪ :‬ما خطبكم ُق ُّ‬
‫جعل لي خادمة شمطاء وما أشبهها من ماله‪ ،‬فقال‪ :‬إن أباك ترك غنما ً َب ْرشاء فهي‬
‫لك ورعاؤها مع الخادم قال أنمار‪ :‬إن أبي جعل لي بدرة ومجلسه وم??ا أش??بهها من‬
‫ماله‪ ،‬قال‪ :‬ذلك ما ترك أبوك من الر َق ِة والحرث واألرض‪ ،‬فقال ربيعه‪ :‬إن أبي جعل‬
‫لي فرسا ً أدهم وبيتأ أسود وما أش??بهها من مال??ه‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??إن أب??اك ت??رك خيال دُهْ م?ا ً‬
‫وسالحا ً فهي لك وما فيها من عبيد‪ ،‬فسمي ربيعه الفرس‪ ،‬فقال مضر‪ :‬إن أبي جعل‬
‫لي قبة حمراء من أدم وما أشبهها من ماله‪ ،‬فق??ال‪ :‬إن أب??اك ت??رك إبأل حم??راء فهي‬
‫لك وما أشبهها من ماله‪ ،‬فصارت لمض??ر اإلِب??ل والقب??ة الحم??راء‪ ،‬وال??ذهب‪ ،‬فس??مي‬
‫مضر الحمراء‪ ،‬وكانوا على ذلك م??ع أخ??والهم ج??رهم بمك??ة فأص??ابتهم س??نة? أهلكت‬
‫ص ?ل ُ أخوت??ه‪ ،‬وذهب‬ ‫الشاء وعامة اإلِبل‪ ،‬وبقيت الخيل‪ ،‬وكان ربيعه يغزو عليه??ا و َي ِ‬
‫ما كان ألنمار من شاء في تلك السنين‪ ،‬ثم ع??اود الن??اس الخص??ب والغيث‪ ،‬ف??رجعت‬
‫اإلِبل وثابت إليها أنفسها ومشت‪ ،‬فتناسلت وكثرت وقام مضر ب??أمر أخوت??ه‪ ،‬فبينم??ا‬
‫هم كذلك وقد قدم الرعا ُء بابلهم فتعش??وا ليالً وعش??وا رع??اءهم فق??ام مض??ر يوص??ي‬
‫الرعاء وفي يد أنمار عظم يت ًعرق ُه فرمى به في ظلمة الليل وهو ال يبصر? فأوت??د في‬
‫عين مضر وفقأه فتأوه مض?ر? وص?اح‪ :‬عي?ني‪ ،‬عي?ني‪ ،‬وتش?اغل ب?ه أخوت?ه‪ ،‬ف?ركب‬
‫أنم??ار بع??يراً من ك??رائم إبل??ه‪ ،‬فلح??ق ب??ديار اليمن‪ ،‬وك??ان بين أخوت??ه م??ا ذكرن??ا من‬
‫التنازع‪.‬‬
‫فهؤالء ولد نزار األربعة‪ :‬إليهم يرجع سائر ولد نزار على حسب ما ق َدمنا أن مضر‬
‫الحم??راء لم??ا ذكرن??ا من أم??ر القب??ة‪ ،‬وب??ذلك تفتخ??ر مض??رة ك??ل أم??ه ا من المنث??ور?‬
‫والمنظوم‪ ،‬وربيعه? الفرس وربيعه القشعم من الفروسية? والشجاعة والنج??دة والع??ز‬
‫وشن الغارات لما ذكرنا من أمر ال َف َرس‪ ،‬وإياد و ذكرنا ما لحق عقبه‪ ،‬وأنم??ار وق??د‬
‫بينا الخالف في تفرع نسله‪ ،‬وما قاله النسابون في عقبه‪.‬‬
‫ولكل واحد من هؤالء ومن أعقب أخبار كثيرة يط??ول ذكره??ا‪ ،‬ويتس??ع ش??رحها‪ :‬من‬
‫ذكر ما حلوا به من ال?ديار‪ ،‬وتش??عب أنس??ابهم وتسلس?لها‪ ،‬أتى الن?اس على ذكره?ا‪،‬‬
‫وقد قدمنا فيما س??لف من كتبن??ا اليس??ير مبس??وطها؛فمنعن??ا ذل?ك من إعادت??ه في ه??ذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫صفحة ‪285 :‬‬

‫فلنذكر اآلن الغرض من هذا الباب الذي به ترجم‪ ،‬وإلي??ه نس??ب‪ ،‬من س??كنى َمنْ ح??ل‬
‫والب َج ِة وال??بربر‪ ،‬ومن‬
‫البدْ َو من العرب وغيرها من األمم المتوحشة? كالترك والكرد ِ‬
‫تقطن بالبراري و َق َطنَ الجبال‪ ،‬والعلة الموجبة لذلك من فعلهم‪.‬‬

‫علة سكنى البدو‬


‫تباين الناس في السبب الموجب لما وصفنا‪ ،‬ف??ذهب كث??ير من الن??اس إلى أن الجي??ل‬
‫األول من سكن األرض مكثوا حينا ً من الزمان لم يبنوا بناء وال شيدوا ُم? دُناً‪ ،‬وك??ان‬
‫س??كناهم في ش??به األك??واخ والمظ??ال‪ ،‬ثم إن نف??راً منه??ا أخ??ذوا في أبن??اء المس??اكن‪،‬‬
‫?ف من بع??دهم خل??ف ف?ابتنوا األبني??ة‪ ?،‬وثبت فرق??ة منهم على س??جيتها؛ ولى في‬ ‫َو َخ َل? َ‬
‫ال?بيوت واإلظالل ينتجع?ون األم?اكن الرفه?ة الخص?بة‪ ?،‬وينتقل?ون عنه?ا إذا أج?دبت‪،‬‬
‫فمضت هذه الطائفة على نهج األقدمين‪.‬‬
‫?ب عنهم الطوف??ان ال??ذي أهل??ك هللا ب??ه‬
‫وذكرت طائفة أن أول ذلك أن الناس لم??ا نض? َ‬
‫األرض في زمن ن??وح على نبين??ا وعلي??ه الس??الم تف??رق من نج??ا في طلب البق??اع‬
‫الخصبة المتخيرة‪ ،‬وانفرد من انفرد بانتجاع األرض??ين وحل??ول البي??داء‪ ،‬واس??توطن‬
‫آخرون بقاعا ً تخيروها‪ ،‬كمن ابتنى إقليم بأبل من النبط‪ ،‬ومن حله من ول??د ح??ام بن‬
‫نوح عليه السالم مع نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نم??روذ? األول بن ك??وش بن‬
‫حام بن نوح‪ ،‬وذلك حين تمل??ك على إقليم باب??ل من قب??ل الض??حاك‪ ،‬وه??و بيوراس??ف‬
‫وكمن ًحل بالد مصر من ولد حام على حسب ما ذكرنا في باب مص??ر وأخباره??ا في‬
‫هذا الكتاب وكمن عمر الشام من الكنعانيين‪ ،‬وكمن َح? ل ب??وادي ال??بربر وهم ه??وارة‬
‫وزناتة وضريسة? ومغيلة وورفجومة ونفزة وكتامة ولواتة ومزانة ونفوسة? ولفظه‬
‫وصدينة? ومصمودة? وزنارة وغم??ارة وقالم??ة ووارق??ة وأتيت?ه? وباب??ه وبن??و س??بخون‬
‫وأركن??ة وهي من زنات??ة وبن??و كالن وبن??و مص??دريان وبن??و أفب??اس وزبحن وبن??و‬
‫منهوسا وصنهاجة‪ ،‬ومن سكن من أنواع األحابيش وغيرهم الغابة المعروفة بغاب??ة‬
‫العافريم سون ورعوين والعورفة ويكسوم‪ ،‬ومنهم من سكن غير الغابة واتس??ع في‬
‫هذه البالد من المغرب‪.‬‬
‫وقد ذكرنا أن أرض البربر خاصة كانت أرض فلس??طين من بالد الش??ام‪ ،‬وأن ملكهم‬
‫مة لس??ائر مل??وكهم‪ ،‬إلى أن قت??ل داود علي??ه الص??الة‬‫س? ٌ‬
‫ك??ان ج??الوت‪ ،‬وه??ذا االس??م َ‬
‫والسالم ملكهم جالوت‪ ،‬فلم يتملك عليهم بعده ملك‪ ،‬وأنهم انتهوا إلى دي??ار المغ??رب‬
‫إلى موض??ع يع??رف بلوبي??ة ومرافي??ة‪ ،‬فانتش??روا هنال??ك‪ ،‬ف??نزل منهم زنان??ة ومغيل??ة‬
‫وضريس ?ة? الجب??ال من تل??ك ال??ديار وتبطن??وا األودي??ة‪ ،‬ونزل??وا أرض َبرق??ة‪ ،‬ون??زلت‬
‫َه ؤارة بالد إياس وهي بالد طرابس المغرب أي الثالث المدن‪ ،‬وقد كانت هذه الديار‬
‫لالفرنجة والروم قانجلوا عن البربر حين أوطنوا أرضهم إلى جزائر البحر ال??رومي‬
‫فس??كن األك??ثر منهم جزي??رة ص??قلية‪ ،‬وتف??رقت ال??بربر ببالد إفريقي ?ة? وأقاص??ي بالد‬
‫المغرب نحو من مسافة الذي ميل‪ ،‬وانتهوا إلى موضع يع??رف بقبوس??ة‪ ?،‬على أك??ثر‬
‫آلفي مي??ل من بالد الق??يروان‪ ،‬وت??راجعت ال??روم واإلفرنج??ة إلى م??دنهم وعم??ائرهم‬
‫وذل?ك على موادع??ة وص??لح من ال?بربر‪ ،‬واخت??ارت ال?بربر س?كنى الجب?ال واألودي??ة‬
‫والرمال وال ِّدهَاس وأطراف البراري والقفار‪.‬‬
‫صفحة ‪286 :‬‬

‫ومن بحر إفريقية? وصقلية يخرج المرجان‪ ،‬وهو المتصل ببحر الظلم??ات المع??روف‬
‫ببح??ر أقي??انس‪ ،‬وغ??ير ه??ؤالء ممن ذكرن??ا من األمم من س??كن قط??ع األرض وابت??نى‬
‫المدائن شرقأ وغرباً‪.‬‬
‫ورأت العرب أن جوالن األرض وتخير بقاعها على األيام أش??به ب??أولى الع??ز وألي??ق‬
‫ب??ذوي األنف??ة‪ ،‬وق??الوا‪ :‬لنك??ون محكمين في األرض ونس??كن نش??اء أص??لح من غ??ير‬
‫ذلك‪ ،‬فاختاروا سكنى البدو‪ ،‬من أجل ذلك‪.‬‬
‫س?مو األخط?ار ونب?ل الهمم‬ ‫ّ‬ ‫هّللا‬
‫وذكر آخرون أن الق?دماء من الع?رب لم?ا ركبهم من‬
‫واألقدار‪ ،‬وشدة األ َن َقة‪ ،‬والحمية من المعرة‪ ،‬والهرب من الع??ار‪ ،‬ب??دأت ب??التفغير في‬
‫المن??ازل‪ ،‬والتق??دير للم??واطن‪ ،‬فت??املُوا ش??ان الم??دن واألبني??ة‪ ،‬فوج??دوا فيه??ا مع??رة‬
‫ونقص??ا‪ ،‬وق??ال ذو المعرف??ة والتمي??يز? منهم‪ :‬أن األرض??ين تم??رض كم??ا تم??رض‬
‫األجسام‪ ،‬ولحقها اآلفات‪ .‬والواجب تخير المواضع بحسب أحوالها من الص??الح‪ .‬إذا‬
‫الهواء ربما قوي فأضر بأجسام م سكانه‪ ،‬وأحال أمزج??ة ق َطان??ة‪ ،‬وق?ال ذوى اآلراء‬
‫صر عن التصرف في األرض‪ ،‬و َم ْقطعة عن الج? َ?والن‪،‬‬ ‫منهم‪ :‬إن األبنية والتحويط َح ْ‬
‫وتقييد للهمم‪ ،‬وحبس لما في الغرائز من المسابقة إلى الش??رف‪ ،‬وال خ??ير في اللبث‬
‫على هذه الحالة‪ .‬وزعم?وا أيض?ا ًً أن األبني?ة? واألطالل تحص?ر الغ?ذاء وتمن?ع اتس?اع‬
‫الهواء‪ ،‬وتسد سروحه عن المرور وق??ذاه عن الس??لوك‪ ،‬فس??كنوا ال??بر األ َفي َح ال??ذيال‬
‫يخافون فيه من حصر ومنازلة ض??ر‪ ،‬ه?ذا م??ع ارتف??اع األق?ذاء‪ ،‬وس??ماحة األه??واء‪،‬‬
‫واعتزال الوباء‪ ،‬ومع تهذيب األحالم في ه??ذه الم??واطن‪ ،‬ونق??اء الق??رائح في التنق??ل‬
‫في المساكن‪ ،‬مع صحة األمزجة‪ ،‬وقوة الفطنة‪ ،‬وصفاء األل??وان وص??يانة األجس??ام‪.‬‬
‫فإن العقول واالراء تتولد من حيث تول??د اله??واء‪ ،‬وطب??ع اله??واء الفض??اء وفي ه??ذا‬
‫?كنى الب??وادي والحل??ول‬ ‫األمن من العاهات واألسقام والعلل واآلالم‪ ،‬فآثرت العرب س? ِ‬
‫في البيداء‪ ،‬فهم أقوى الناس همماً‪ ،‬وأشدهتم أحالماَ‪ ،‬وأص??حهم أجس??اماً‪ ،‬وأع??زهم‬
‫جاراً‪ ،‬وأحماهم ذمارا‪ ،‬وأفض??لهم ج??واراً‪ ،‬وأج??ودهم فطن?اً؛لم??ا أكس??بهم إي??اه ص??فاء‬
‫الج??و ونق??اء الفض??اء‪،‬ألن األب??دان تحت??وي أجزاؤه??ا على متك??اثف األك??دار وعن??اء‬
‫األق??ذار مم??ا يرتف??ع ألي??ه‪ ،‬ويتالطم في عرص??اته وأفق??ه من جمي??ع المس??تحيالت‪،‬‬
‫والمستنقعات من المياه‪ ،‬ففي أكنافه جميع ما يتص??عد إلي??ه‪ ،‬ول??ذلك ت??راكبت األق??ذاء‬
‫واألع??واء والعاه??ات في أه??ل الم??دن‪ ،‬وت??ركبت في أجس أم??ه م‪ ،‬وتض??اعفت في‬
‫أش???عارهم وأبص???ارهم‪ ،‬ففض???لت الع???رب على س???ائر َمنْ ع???داها من ب???وادي األمم‬
‫المتفرقة لما ذكرنا من تخيرها األماكنَ وارتيادها المواطن‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬ولذلك جانبوا فظاظ??ة األك??راد وس??كان الجب??ال من األجي??ال الجافي??ة‬
‫سها‪ ،‬وذلك أن هذه األمم الساكنة ه??ذه‬ ‫وغيرهم الذين مساكنهم ُح ُزونُ األرض ودها ُ‬
‫الجبال واألودية تناسب أخالقها مساكنها في انخفاض??ها وارتفاعه??ا؛ لع??دم اس??تقامة‬
‫قطانها على ما هي عليه من الجفاء والغلظ‪.‬‬ ‫الق َ‬
‫أخ ُ‬ ‫االعتدال في أرضها‪ ،‬فلذلك ْ‬

‫صفحة ‪287 :‬‬

‫خطيب العرب عند كسرى يعلل اختيار قومه البداوة‬


‫ش َرقي بن القطامي وغيرهما من األخباريين أن??ه وف??د على‬ ‫وذكر الهيثم بن عدي وال َ‬
‫كسرى أنو شروان بعض خطباء العرب‪ ،‬فسأله كس??رى عن ش??أن الع??رب وس??كناها‬
‫ال??بر واختياره??ا الب??دو‪ ،‬فق??ال‪ :‬أيه?ا المل?ك‪ ،‬ملك??وا األرض ولم تملكهم‪ ،‬وأ ِم ُن??وا عن‬
‫التحص??ن باألس??وار‪ ،‬واعتم??دوا على المرهف??ات الب??اترة‪ ،‬والرم??اح الش??ارعة ُج َنن ?ا ً‬
‫وحص??وناً‪ ،‬فمن مل??ك قطع??ة من األرض فكأنه??ا كله??ا ل??ه‪َ ،‬ي ِر ُع??ون منه??ا خياره??ا‬
‫ويقصدون ألطافها‪ ،‬قال‪ :‬فأين حظوظهم من الفلك‪ .‬ق??ال‪ :‬من تحت الفرق??دين ورأس‬
‫البحرة وسعد الجدي مشرقين في البر بحسب ذلك‪ ،‬قال‪ :‬فم?ا رياحه?ا‪ .‬ق?ال‪ :‬أكثره?ا‬
‫والص ? َبا عن??د انقالب الش??مس‪ ،‬ق??ال‪ :‬فكم الري??اح‪ .‬ق??ال‪ :‬أرب??ع‪ ،‬ف??إذا‬
‫ِّ‬ ‫ال َّن ْكب??اء باللي??ل‬
‫س َه ْيل إلى ط??رف بي??اض الفج??ر َج ُن??وب‪،‬‬ ‫انحرفت واحدة منهن قيل‪َ :‬ن ْك َباء‪ ،‬وما بين ُ‬
‫وما بإزائهما مم??ا يس??تقبلهما من المغ??رب ش??مال‪ ،‬وم??ا ج??اء من وراء الكعب??ة فهي‬
‫ص?باً‪ ،‬ق??ال؛فم??ا أك??ثر غ?ذاءهم‪ .‬ق?ال‪ :‬اللحم واللبن‬ ‫دَ ُبور‪ ،‬وماجاء من قبل ذل?ك فهي َ‬
‫والنبي??ذ والتم??ر‪ ?،‬ق??ال‪ :‬فم??ا خالئقهم‪ .‬ق??ال‪ :‬الع??ز‪ ،‬وا لش??رف‪ ،‬والمك??أرم‪ ،‬وق??رى ا‬
‫لض???يف‪ ،‬وإذم???ام الج???ار‪ ،‬وإج???ارة الخ???ائف‪ ،‬وأداء الحم???االت ‪ ،‬وب???ذل المهج في‬
‫س? َراة‪ .‬ولي??وث الغِي??ل‪ ،‬وعم??ار ال??بر‪ ،‬وأنس القف??ر‪ ،‬ألف??وا القناع??ة‪،‬‬ ‫المكرمات‪ ،‬وهم ُ‬
‫ش? ِنفُوا الض??راعة‪ .،‬لهم األخ??ذ بالث??ار‪ ،‬واأل َن َف??ة من الع??ار‪ ،‬والحماي??ة لل??ذمار‪ ،‬ق??ال‬
‫َو َ‬
‫كسرى‪ :‬لقد وصفت عن هذا الجيل كرما ً ونبالً؛ وما أوالنا بإنجاح وفادتك فيهم‪.‬‬

‫ت ومنه??ا مص??ايف؛ فمنهم ال ُم ْن ِج??د وال ُم ْت ِهم‬ ‫فتخيرت العرب في البر إنزاال منها َم َ‬
‫ش ?ا ٍ‬
‫فالمنجد منهم هم الذين س??كنوا أرض نج??د والمتهم هم ال??ذين س??كنوا أرض تهام??ة‪،‬‬
‫ومنهم من سكن أغوار األرض كغور بيسان وغ??ور غ??زة من أرض الش??ام من بالد‬
‫فلسطين واألردن ومن سكنه من لخم و ُج َذام‪ ،‬ولجميع العرب مياه يجتمع??ون عليه??ا‬
‫ِيع? ان‬ ‫وملكية يعرجون إليها‪ ،‬كالدهناء والسماوة والتائم وأنجاد األرض والبقاع والق َ‬
‫والوهاد‪ ،‬ولست تكاد ترى قبيالً من العرب توغل من األماكن المعروفة لهم والمي??اه‬
‫المشهورة بهم‪ ،‬كماء ضارج وماء لعقيق وال َه َباءة وما أشبه ذلك من المياه‪.‬‬

‫االكراد ونسبهم ومساكنهم‬


‫وأما أجناس األكراد وأنواعهم فقد تنازع الناس في بدئهم؛ فمنهم من رأى أنهم من‬
‫ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان‪ ،‬انفردوا في ق?ديم الزم?ان‪ ،‬وانض?افوا إلى الجب?ال‬
‫واألودي??ة‪ ،‬دعتهم إلى ذل??ك األنف??ة‪ ،‬وج??اوروا من هنال??ك من االمم الس??اكنة الم??دن‬
‫?ل‬
‫والعمائر من األعاجم والفرس‪ ،‬فحالوا عن لسانهم‪ ،‬وص??ارت لغتهم أعجمي??ة‪،‬ولك? ِ‬
‫نوع من األكراد لغ??ة لهم بالكردي??ة‪ ،‬ومن الن?اس من رأى أنهم من مض?ر? بن ن??زار‪،‬‬
‫وأنهم من ولد كرد بن صعصعة بن هوازن‪ ،‬وأنهم انفردُوا في قديم الزم??ان لوق??ائع‬
‫ودم??اء ك??انت بينهم وبين غس??ان‪ ،‬ومنهم من رأى أنهم من ربيع??ه? ومض??ر‪ ?،‬وق??د‬
‫اعتصموا في الجبال طلبا ً للمياه والم??رادى فح?الوا عن اللغ??ة العربي??ة لم??ا ج??اورهم‬
‫من األمم‪.‬‬

‫صفحة ‪288 :‬‬

‫ومن الن??اس من ألحقهم بإم??اء س??ليمان بن داود عليهم??ا الس??الم حين س??لب ملك??ه‬
‫ووقع على إمائه المنافقات الشيطانُ المعروف بالجسد‪ ،‬وعص??م هللا من??ه المؤمن??ات‬
‫هللا على س??ليمان ُم ْلك??ه ووض??ع تل??ك‬‫أن يقع عليهن‪ ،‬فعلق منه المنافق??ات‪ ،‬فلم??ا َر َّد ّ‬
‫اإلماء الحوامل من الشيطان قال‪ :‬أكردوهن إلى الجبال واألودية‪ ،‬فربتهم أم??ه اتهم‪،‬‬
‫وتناكحوا‪ ،‬وتناسلوا‪ ،‬فذلك بدء نسب ا ألكرا د‪.‬‬
‫ومن الن??اس من رأى أن الض??حاك ذا األف??واه المق ? َّدم ذك??ره في ه??ذا الكت??اب ال??ذي‬
‫تنازعت فيه الفرس والعرب من أي الفريقين هو‪ ،‬أنه خرج بكتفيه َحي َت? ِ‬
‫?ان فكانت??ا ال‬
‫ُت َغ َذيان إال بألدمغة الناس‪ ،‬فأفنى خلقا ً كثيراً من فارس‪ ،‬واجتمعت إلى حربه جماعة‬
‫كاوان‪،‬‬‫كثيرة وافاه أفريدون بهم وقد شالوا راية من الجلود تسميها الفرس درفش َ‬
‫فأخ??ذ أفري??دون الض??حاك وقي??دهُ في جب??ل دنباون??د على م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وق??د ك??ان وزي??ر‬
‫الضحاك في كل يوم يذبح كبشا ً ورجالً ويخلط أدمغتهما‪ ،‬ويطعم تينك الحيتين اللتين‬
‫كانتا في كتفي الضحاك‪ ،‬ويطرد من تخلَّص إلى الجبال‪ ،‬فتوحشوا وتناسلوا في تل??ك‬
‫الجبال فهم بدء األكراد‪َ ،‬وهؤالء من نسلهم‪ ،‬وتشعبوا أفخ??ادْ اً‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من خ??بر‬
‫س اليتنا كرونه‪ ،‬وال أصحاب التواريخ القديمة وال الحديثة‪.‬‬ ‫الضحاك فالفُ ْر ُ‬
‫وللف??رس في أخب??ار الض??حاك م??ع إبليس أخب??ار عجيب??ة‪ ،‬وهي موج??ودة في كتبهم‪،‬‬
‫الفرس أن طهومرث المقدم ذك??ره في مل??وك لف??رس األولى ه??و ن??وح الن??بي‬ ‫ُ‬ ‫وتزعم‬
‫عليه السالم‪ ،‬وتفس??ير? درفيش بالفارس??ية? اللهلوي??ة‪ -‬وهي األولى‪ -‬الراي??ة والمط??رد‬
‫والعلم‪.‬‬
‫وأما الترك وأجناسها فقد قدمنا كثيرأ من أخبارها‪ ،‬وقد غلط قوم فزعموا أن ال??ترك‬
‫من ول??د ط??وح بن أفري??دون‪ ،‬وه??ذا غل??ط َب ِّين؛ألن ط??وح َوألَه أفري??دون على ال??ترك‬
‫وسلم على الروم‪ ،‬وكيف توليه عليهم وهم ولده؛ وم??ا قلن??ا ي??دل على أن ال??ترك من‬
‫غير ولد طوم بن أفريدون‪ ،‬بل لطوح في الترك عقب مشهور‪ ،‬والمعظم في أجن??اس‬
‫الترك هم التبت‪ ،‬وهم من حمير على حسب ما ذكرنا أن بعض التبابعة ربتهم هناك‪.‬‬
‫وما قلنا من األكراد فاألشهر عند الناس؛واألصح من أنسابهم؛ أنهم من ول??د ربيع??ه‬
‫بن ن??زار‪ ،‬فأم??ا ن??وع من األك??راد‪ -‬وهم الش??وهجان ببالد م??ا بين الكوف??ة والبص??رة‪،‬‬
‫وهي أرض الدينور وهمذان‪ -‬فال تناكما بينهم أنهم من ولد ربيعه بن نزار بن معد‪،‬‬
‫والماجردان‪ -‬وهم من الكنكور ببالد أذر والهلبانية? والسراة وم??ا ح??وى بالد الجب??ال‬
‫من الشادنجان والمادنجان والمزدنكان والبارسان والخالية والجابارقية والجاواني??ة‬
‫والمس??تكان ومن ًح? ل ّ بالد الش??ام من الدبابل??ة وغ??يرهم‪ -‬فالمش??هور فيهم أنهم من‬
‫مضر بن نزار‪ ،‬ومنهم اليعقوبية والجورق??ان وهم نص??ارى‪ ،‬ودي??ارهم مم??ا يلي بالد‬
‫الموصل وجبل الجودي‪.‬‬
‫وفي األكراد َمنْ رأيهم رأي الخوارج والبراءة من عثمان وعلي رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫فهذه جم??ل من أخب??ار ب??وادي الع??الم‪ ،‬وق??د أعرض??نا عن ذك??ر الغ??وز والخ??رلج وهم‬
‫أنواع من الترك نحو بالد غرش وبسطام و ُب ْست مما يلي بالد سجستان وك??ذلك من‬
‫ببالد كرمان من أرض القفص والبلوج والجت‪.‬‬

‫صفحة ‪289 :‬‬

‫بعض أيام العرب‬


‫قال المسعودي‪ :‬فأما أيام الع??رب َو َوقائعه??ا وحروبه??ا فق??د ذكرناه??أ فيم??ا س??لف من‬
‫كتبنا‪ ،‬وما كان منها في الجاهلية واإلِسالم‪ ،‬كيوم ال َه َباءة‪ ،‬وحروب ذبيان وغطفان‪،‬‬
‫وم??ا ك??ان بين عبس وس??ائر الع??رب من ن??زار واليمن‪ .‬وح??رب داحس َ‬
‫والغ ْب??راء‪،‬‬
‫ؤح??رب بك??ربن وائ??ل وتغلب‪ ،‬وهي ح??رب ال َبس??وس‪ ،‬وي??وم ال ُكالب‪ ،‬وي??وم خ??زاز‪،‬‬
‫ومقتل شاس بن زهير‪ ،‬ويوم في قار‪ ،‬ويوم شِ ْعب َج َب َل??ة‪ ،‬وم??ا ك??ان من ب??ني ع??امر‬
‫سان و َعك‪.‬‬ ‫وغيرهم‪ ،‬وحرب األوس والخزرج‪ ،‬وما كان بين َغ َّ‬
‫وسنورد بعد هذا الباب جمأل من أخبار العرب ال??داثرة وغيره??ا وتفرقه??ا في البالد‪،‬‬
‫ون???ذكر جمالً من آرائه???ا ودياناته???ا في الجاهلي???ة‪ ،‬وم???ا ذهبت إلي???ه في الغيالن‬
‫وال َه َواتف والقِ َيافة وال َك َهان??ة والتف??رس والص??دى واله??ام‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من ش??يمها‪،‬‬
‫وباهّلل التوفيق‪.‬‬
‫ذكر ديانات العرب وآرائها في الجاهلية‬
‫وتفرقها في البالد وخبر أص??حاب الفي??ل وعب??د المطلب وغ??ير ذل??ك مم??ا لح??ق به??ذا‬
‫الباب‬
‫ديانات العرب في الجاهلية‬
‫ق??ال المس??عودي‪ :‬ك??انت الع??رب في جاهليته??ا فرق ?اً‪ :‬منهم الموح??د المق??ر بخالق??ه‪،‬‬
‫المصدق بالبعث والنشور‪ ،‬موقنا ً بأن هّللا يثيب المطيع‪ ،‬ويعاقب العاصي‪ ،‬وق??د تق??دم‬
‫ذكرنا في هذا الكتاب وغيره من كتبنا َمنْ دعا إلى هّللا عزوجال ون ًب? ه? أق??و أم??ه على‬
‫الش? َن َ‬
‫يئ‪َ ،‬و َب ِح??يرا ال??راهب‪ ،‬وكان??ا‬ ‫ورئاب َ‬‫يس بن ساعدة اإلياثي ِ‬ ‫آياته في الفترة‪ ،‬كقُ ِّ‬
‫من عبد القيس‪.‬‬
‫وكان من العرب من أقر بالخالق‪ ،‬وأثبت حدوث العالم وأقر بالبعث واإلِعادة‪ ،‬وأنكر‬
‫الرسل‪ ،‬وعكف على عب??ادة األص??نام‪ ،‬وهم ال??ذين حكى هّللا ع??ز وج??ل ق??ولهم‪ " :‬م??ا‬
‫َن ْع ُب ُد ُه ْم إاّل َ لِ ُي َقر ُبو َنا إلى هّللا ِ ُز ْل َفى" اآلية وهذا الصنف هم الذين حج??وا إلى األص??نام‬
‫وقصدوها‪ ،‬ونحروا لها ال ُبدْ نَ ‪ ،‬ونسكوا لها النسائك‪ ،‬وأحلوا لها وحرموا‪.‬‬
‫ومنهم من أقر بالخالق‪ ،‬و َك َذب بالرسل والبعث‪ ،‬ومال إلى قول أهل الدهر‪ ،‬وه??ؤالء‬
‫الذين حكى هّللا تعالى إلحادهم‪َ ،‬‬
‫وخ َّب َر عن كفرهم‪،‬‬

‫نح َيا‪َ ،‬و َما ًي ْهلِ ُك َنا إال الدَّ هْ ر"‬


‫نموت َو ْ‬‫ُ‬ ‫بقوله تعالى‪ :‬وقالوا‪ ":‬ما هي إال َح َيا ُت َنا الد ْن َيا‬
‫فر َّد هّللا عليهم بقوله‪ " :‬ما لهم بذلك مِنْ عِ ْلم‪ ،‬إن ُه ْم إالَّ َي ُظ ُّنون "‪.‬‬
‫ومنهم من مال إلى اليهودية والنصرانية‪.‬‬
‫الراكب لِ َه ْج َمته‪.‬‬ ‫المار على َع ْن َج ِه َّي ِت ِ?ه َّ‬
‫ُّ‬ ‫ومنهم‬
‫هّللا‬
‫وق??د ك??ان ص??نف من الع??رب يعب??دون المالئك??ة‪ ،‬ويزعم??ون أنه??ا بن??ات ؛فك??انوا‬
‫هللا‪ ،‬وهم الذين أخبر هّللا عزوجل عنهم‬ ‫يعبدونها لتشفع لهم إلى ّ‬

‫بقوله تعالى‪ ":‬ويجعلونَ هّلل ِ ال َب َناتِ‪ ،‬سبحانه‪ ،‬ولهم ما يشتهون "‬

‫صفحة ‪290 :‬‬

‫?ر ْأ ْي ُت ُم الالَّ َت وال ُع? َّ‬


‫?زى‪َ ،‬و َم َن??ا َة الثالث??ة األخ??رى؛ ألكم ال??ذكر وله‬ ‫وقول??ه تع??الى‪ " :‬أ َف? َ‬
‫يزى"‪.‬‬ ‫األنثى؛ تلك إذاً ق ِْس َمة ضِ َ‬

‫عبد المطلب بن هاشم‬


‫فممن كان مقراً بالتوحيد‪ ،‬مئبت?ا ً للوعي?د‪ ،‬تارك?ا ً للتقلي?د‪ :‬عب? ُد المطلب بن هاش?م بن‬
‫عبد مناف‪ ،‬وقد كان حفر بئر زمزم‪ ،‬وك??انت َم ْط ِوي??ة‪ ،‬وذل??ك في مل??ك كس??رى قب??اذ‪،‬‬
‫فاستخرج منها غزالتي ذهب عليهما الدر والجوهر‪ ،‬وغير ذل??ك من الحلي‪ ،‬وس??بعة‬
‫أسياف قلعية‪ ،‬وسبعة أدرع سوابغ؛ فضرب من األسياف بابا ً للكعبة‪ ،‬وجع??ل إح??دى‬
‫الغزالتين صفائح ذهب في الباب‪ ،‬وجعل األخرى في الكعبة‪ ،‬وكان عبد المطلب أول‬
‫سقاية للحاج‪ ،‬وكان أول من سقي الماء بمكة َع ْذباً‪ ،‬؛جعل ب??اب‬ ‫من اقام الرفاعة وال ِّ‬
‫الكعبة مذهباً‪ ،‬وفي ذلك يقول عبد المطلب‪:‬‬
‫سقيا ً على رغم العدو الكاشح‬ ‫أعطى بال ُ‬
‫ش ٍّح والمشـاحـح‬
‫حليا ً لبيت هللا في المسـارح‬ ‫بعد كنوز الحلى والصفـائح‬

‫وكان قد نذر إنْ رزقه هّللا عز وج??ل عش??رة أوالد ذك??ور أن يق??رب أح??دهم هلل تع??الى‬
‫فكان أمره‪ -‬حين رزقه هّللا إياهم‪ -‬أن قرب أحبهم إليه وهو عبد هّللا أبو الن??بي ص??لى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فضرب عليه بالقِدَ اح حتى افتداه بمائة من اإلبل‪ ،‬في خبر طويل‪.‬‬

‫أصحاب الفيل‬
‫وقد كان أبرهة حين سار بالحبشة وأتى أنصاب الح??رم‪ ،‬ف??نزل بالموض??ع المع??روف‬
‫س? ِّي ُد مك??ة‪ ،‬فعظم??ه وهاب??ه‬
‫بحب المحصب‪ ،‬فأتى بعبد المطلب بن هاش??م ف??أخبر أن??ه َ‬
‫س ْلنِي يا عب??د المطلب‬‫الستدراة نور النبي صلى هللا عليه وسلم في جبينه‪ ?،‬فقال له‪َ :‬‬
‫فأبى أن يسأله إال إبال له‪ ،‬فأمر بردها عليه وقال له‪ :‬أال تسألني الرجوع؛ فقال‪ :‬أن??ا‬
‫رب ه??ذه اإلِب??ل‪ ،‬ولل??بيت رب س??يمنعه من??ك وانص??رف عب??د المطلب إلى مك??ة وه??و‬
‫يقول‪:‬‬
‫مع الفيول على أنيابها َّ‬
‫الز َرد‬ ‫يا أهل مكة قد وافا ُك ُم ملـك‬
‫مع الليوث عليها البيض تتقد‬ ‫النجاشي قد سارت كتائبه‬
‫ُّ‬ ‫هذا‬
‫كمنع تبع لما جاءها حـرد‬ ‫يريد كعبتكم‪ ،‬وهللا مانـعـه‬

‫وأمر قريشآ َ أن تلحق ببطون األودية ورؤوس الجبال من َم َع ًرة الحبشة‪ ،‬و َقلّدَ اإلِبل‬
‫النعال وخالها في الحرم ووقف بباب الكعبة وهويقول‪:‬‬

‫يارب فامنع منه ُم حماكا‬ ‫يارب ال أرجولهم سواكا‬


‫فامنعه ُم أن يخربوا قراكا‬ ‫إن َ‬
‫عدؤالبيت َمنْ عاداكـا‬

‫صفحة ‪291 :‬‬

‫ولقول‪:‬‬

‫فامنع رحالك‬‫ِ‬ ‫َر ْح َل ُه‬ ‫يا رب أن العبد يمنع‬


‫و َمحِالهم أبدا َم َِحالك‬ ‫اليغلبنَّ صليبهم‬

‫فأرس??ل هّللا عليهم الط??ير األبابي??ل‪ ،‬أش??باه اليعاس??يب‪ ،‬ت??رميهم بحج??ارة من س??جيل‪،‬‬
‫وهوطين خلط بحجارة خرجت من البحر‪ ،‬مع كل طير ثالثة أحجار فأهلكهم هّللا ع??ز‬
‫وجل‪.‬‬

‫وق??د ذكرن??ا خ??بر أبي ُر َغ? ال فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب حين دلهم على الطري??ق‪،‬‬
‫وهالكه في الطريق‪ ،‬وجعلت الحبشة? يومئذ? تسأل عن ُن َف ْيل بن حبيب الخثعمي يدلها‬
‫?ع لم??ا عمهم من‬
‫على الطري??ق‪ ،‬ونفي?ل? يس??مع? كالم الحبش??ة وس??ؤالها عن??ه وق??د ِرب? َ‬
‫البالء‪ ،‬وانفرد‪ ،‬من جملتهم يؤمل الخالص‪ ،‬وقد تاهوا‪ ،‬فأنشأ يقول‪:‬‬

‫نعمناكم مع اإلِصباح عينـا‬ ‫أال ردى ج َمـا َلـكِ يا ُردَ ْي َنـا‬


‫لوى جنب المحصب مارأينا‬ ‫فإنك لو رأيت ولـن تـريه‬

‫شان دَ ْي َنا وقد ذكرنا م?ا ك?ان منهم في هل?ك‬ ‫علي للح ْب َ‬ ‫وكل القوم يسأل عن نفيل كأن َّ‬
‫عز وج?ل ّ عن الكعب??ة أنش??أ عب??د‬ ‫ّ‬ ‫هّللا‬ ‫ص ّدهم‬
‫عديدهم فيما سلف من هذا الكتاب‪ ،‬فلما ً‬
‫ص َم ْم إن للبيت لر ّبا ً‬
‫المطلب يقول‪ :‬أيها الداعي لقدأسمعتني ثم ما بي عن ِن َداكم من َ‬
‫ص َطلم ر أمه تبع فيمن َج َن َد ْت ِح ْميروالحي من آل ق??دم ف??انثنى‬ ‫مانعا ً َمنْ ُي ِر ْع! بأثام ُي ْ‬
‫ح أمسك منه? بال َك َظ ْم قلت واألشرم ترس خيل??ه‪ :‬إن ذا األش??رم‬ ‫عنه وفي أوداجه جار ٌ‬
‫غرب??الحرم نحن آل هَّللا فيم??ا قدمض??ى لم ي??زل ذاك على عه??د َ‬
‫إل??ر َه ْم نحن َع َفرن??ا‬
‫ص? َل ُة الق?ربى وإيف?اء‪ .‬ال ِّنمم‬
‫س? َنة ِ‬
‫ثمودأع ْنوة ثم عاداً قبلها ذات األرم نعبد هللا وفينا ُ‬ ‫َ‬
‫لم تزل هَّلل فيناحجة يدفع هَّللا بهاعنا ال ِّن َق ْم‪.‬‬

‫القول بتناسخ? األرواح‬

‫قال المسعودي‪:‬‬
‫وقد اس??تدل ق?وم ممن ذهب إلى الغل??و في بعض الم??ذاهب والخ?روج عم?ا أوجبت?ه‬
‫قضية العقل وضرورات الحواس بهذا الشعر وقول عبد المطلب فيم?ا ك?ان منهم في‬
‫قديم الزم?ان‪ ،‬وأي??دوا ذل?ك الش??عر بش??عر العب?اس بن عب?د المطلب في مدح??ه الن??بي‬
‫صلى هللا عليه وس??لم وه??و م??ا ذك??ره ق??ريم بن أوس بن حارث??ة بن ألم الط??ائي أن??ه‬
‫هاجر إلى رسول هّللا فقدم عليه ُم ْن َ‬
‫ص َر َفة من َت ُبوك فأسلم‪ ،‬قال‪ :‬س??معت العب??اس بن‬
‫عبد المطلب يقول ‪ :‬يا رسول هّللا ‪ ،‬إني أريد أن أمتدحك ‪ ،‬فقال رس??ول هللا ص??لى‬
‫ضض هّللا فاك يا عدي‪ ،‬فأنشأ يقول ‪:‬‬ ‫هللا عليه وسلم ‪ :‬قل ال َي ْف ُ‬

‫صفحة ‪292 :‬‬

‫الو َرق‬
‫ف َ‬ ‫ص ُ‬‫وفي مستودع حيث ُي ْخ َ‬ ‫من قبلها طِ ْب َت في الظالل‬
‫أنت‪ ،‬والمضـغة‪ ،‬والعـلـق‬ ‫ثم هبطت الـبـالد‪ ،‬البـشـر‬
‫وقـد ألجم ْن ْسرأوأهـ َلـ ُه الـغـرق‬ ‫بل حجة تركب السفـين‪،‬‬
‫إذا مضى عالم بـدا َطـ َبـق‬ ‫تنقل من صالـب إلـى رحـم‬
‫ال أرض‪ ،‬وضاءت بنورك األفق‬ ‫وأنت لما ُولدْ ت أشـرقـت‬
‫مـن خندق علياء تحتها الـنـطـق‬ ‫حتى احتوى بيتك المهيمن‬
‫و سبل الرشاد نخـتـرق‬ ‫فنحن في ذلك الضياء وفي النور‬

‫قالوا‪:‬‬

‫وهذا الخبر قد ذكره أصحاب السير واألخب??ار والمغ??ازي‪ ،‬ونقل??وا ه??ذا الم??ديح من‬
‫قول العباس‪ ،‬وما كان من سرور النبي صلى هللا عليه وس??لم ب??ذلك واستبش??اره ب??ه‬
‫فجعلت هذه الطائفة من ال ُغالة ما ذكرن?ا من الش?عرين‪ -‬ش?عر عب?د المطلب‪ ،‬وش?عر‪-‬‬
‫العب?اس‪ -‬دالل?ة لهم على م?واطن ادعوه?ا‪ ،‬وتغلغل?وا إلى ش?به بعي?دة اس?تخرجوها‪،‬‬
‫ذك?ر ذل?ك جماع?ة من‬ ‫يمن?ع? منه?ا م?ا تق?دم من أوائ?ل العق?ول‪ ،‬وموجب?ات الفحص‪َ ،‬‬
‫مصنفي? كتبهم‪ ،‬ومن حذاق مبرزيهم‪ ،‬من ف??رق المحمدي??ة والعلباني??ة‪ ?،‬وغ??يرهم من‬
‫فرق الغالة‪ :‬منهم إسحإق بن محمد النخعي المعروف ب??األحمر في كتاب??ه المع??روف‬
‫بكت??اب الص??راط‪ ،‬وق??د ذك??ر ذل??ك الفي??اض بن علي بن محم??د بن الفي??اض في كتاب??ه‬
‫الصراط وذكره المعروف بالنهكني في نقضه‬ ‫المعروف بالقسطاس في نقضة لكتاب َ‬
‫ه??ذا الكت?اب الم?ترجم بالص??راط‪ ،‬وه??ؤالء محمدي??ة نقض?وا ه?ذا الكت??اب‪ ،‬وه??و على‬
‫مذهب العلبانية‪ ،‬وقد أتينا على ذكر هؤالء المحمدية والعلبانية والمغيرية? والقمرية?‬
‫وسائر فرق ال ُغالَة وأصحاب التذويض والوسائط‪ ،‬واستقص??ينا النقض عليهم وعلى‬
‫س??ائر من ذهب إلى الق??ول بتناس??خ األرواح في أن??واع أش??الء الحي??وان ممن ادعى‬
‫اإلس??الم وغ??يرهم ممن س??لف من اليون??انيين والهن??د والثنوي??ة والمج??وس واليه??ود‬
‫والنصارى‪ ،‬وذكرنا قول أحمد بن حائ??ط وابن ي??افوس جعف??ر القاض??ي‪ ،‬إلى َمنْ نج َم‬
‫في وقتنا ممن تقدم وتأخر إلى هذا الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬ممن‬
‫أحدث ق??والً تفريع?ا ً على م??ا س??لف من أص??ولهم وأب??ور ش??بها ً أ َّي َد به??ا م??ا تق??دم من‬
‫م??ذاهبهم‪ ،‬مث??ل الحس??ين بن منص??ور المع??روف ب??الحالج‪ ،‬وأص??حاب أبي يعق??وب‬
‫المزايلي‪ ،‬ثم أصحاب السم ومن تأخر عن??ه وف??ارقهم في أص??ولهم‪ ،‬مث??ل أبي جعف??ر‬
‫محم??د بن على الش??لمغاني المع??روف ب??ابن أبي الغرائ??ر وغ??يرهم ممن أ َّمم نهجهم‪،‬‬
‫وذكر الفرق بينهم وبين غيرهم من أصحاب الدور في ه??ذا ال??وقت ممن ي??راء وقت‬
‫الظهور‪ ،‬وأصحاب حجج الليل والنهارث إذ كان هؤالء ق??د أثبت??وا الق??ول بالتناس??خ‪،‬‬
‫وأن األرواح تنتقل? في شيء من األجسام الحيوانية‪ ?،‬وأحالوا على القديم ع??ز وج??ل‬
‫أن يجوز عليه شيء مما تقدم‪ ،‬فلنرجع اآلن إلى ما كنا ا آنفاً‪ ،‬وما تغلغل بن??ا الك??رم‬
‫عنه من ذكرعبد المطلب‪.‬‬

‫صفحة ‪293:‬‬
‫االختالف في إيمان عبد المطلب‬
‫تنازع الناس في عبد المطلب‪:‬‬
‫عزوج?لّ‪ ،‬وال أح??د من‬ ‫فمنهم من رأى أنه كان مؤمنا ً موح??داً وأن??ه لم يش??رك باهّلل ّ‬
‫آباء النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأنه نقلفياألصالب الط??اهرة‪ ،‬وأن??ه أخ??بر أن??ه ول??د‬
‫من نكاح ال من سفاح‪ ،‬ومنهم‪،‬رأى أن عب??د المطلب ك?ان مش??ركاً‪ ،‬وغ??يره من آب??اء‬
‫الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم أال من ص??ح إيمان??ه‪ ،‬وه??ذا موض??ع في??ه تن??ازع بين‬
‫اإلمامية والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغ??يرهم من الف??رق في النص واالختي??ار‪،‬‬
‫وليس كتابنا هذا موسوما ً للح َِجاج فنذكرحجاج كل فريق منهم‪.‬‬
‫وقد أتينا على قول كل فريق منهم وما أيد ب??ه قول??ه في كتابن??ا المق??االت في أص??ول‬
‫ال??ديانات وفي كت??اب االستبص??ار ووص??ف أقاوي??ل الن??اس في اإلم أم??ه وفي كت??اب‬
‫الصفوة أيضاً‪.‬‬

‫أبو طالب‬
‫األرحام‪ ،‬وإطعام الطع??ام‪ ،‬وي??رغبهم وي??رهبهم‬
‫ٍ‬ ‫وكان عبد المطلب يوصي ولده بصلة‬
‫فعل من يراعي في المتعف معادا وبعثا ً ونشوراً‪ ،‬وجعل السقاية والرفاع?ة إلى ابن?ه‬
‫عبد مناف‪ -‬وهو أبو طالب‪ -‬وأوصاه بالنبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وق??د تن??وزع في اس??م أبي ط??الب‪ :‬فمنهم من رأى أن اس??مه عب??د من??اف‪ ،‬على م??ا‬
‫وصفنا‪ ،‬ومنهم من رأس أن كنيت??ه اس??مه‪ ،‬وأن علي بن أبي ط?الب رض??ي هّللا عن??ه‬
‫كتب في كتاب النبي صلى هللا عليه وسلم ليهود خيبر بإمالء الن??بي ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم وكتب علي بن أبي طالب بإسقاط األل??ف وق??د ذك??ر عب??د المطلب في ش??عر ل??ه‬
‫وصية? أبي طالب بالنبي? ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬فق??ال‪ :‬أوص??يت َمنْ كنيت??ه بطـالـب‬
‫بابن الذي قد غاب ليس بآئب‬

‫اختالط األلسنة‬
‫َ‬
‫وقد كان أكثر العرب ممن بقي ودث َريقر? بالصانع‪ ،‬ويستدل? على الخالق وقد كان في‬
‫ملك النمروذ بن كوش بن حام بن نوح هيج?انُ ال?ريح ال?تي نس??فت ص?رح النم??روذ‬
‫بباب??ل من أرض الع??راق‪ ،‬فب??ات الن??اس ولس??انهم س??رياني‪ ،‬وأص??بحوا وق??د تف??رقت‬
‫لغاتهم على اثنين وسبعين لساناً‪ ،‬فسمى الموضع من ذل??ك ال??وقت باب??ل‪ ،‬فص??ار من‬
‫ذلك في ولد سام بن نوح تسعة عشر لسانا ً وفي ولد حام بن توح ستة عشر لس??انا ً‬
‫وفي ولد يافث بن نوح سبعة وثالث??ون لس??ا َنا َ على حس??ب م??ا ذكرن??ا في ص??در ه??ذا‬
‫الكت??اب‪ ،‬وك??ان من تكلم بالعربي??ة? يع??رب وج??رهم وع??اد وعبي??ل وج??ديس وثم??ود‬
‫وعمالق وطسم ووبار وعبد ضخم‪ ،‬فسار يعرب بن قحط??ان بن ع??ابر بن ش??الخ بن‬
‫إرفخشذ بن سام بن نوح بمن تبعه من ولده وغيرهم وهويقول‪:‬‬
‫األيمن المعرب في المـهـل‬ ‫أنا ابن قحطان الهمام األفضل‬
‫أنا ا ْلبدِي ُئ باللسان المسـهـل‬ ‫يا قوم سيروا في الرعيل األول‬
‫حثوت واالمة في تبـلـبـل‬ ‫األبين المنطق غير المشـكـل‬
‫نحو يمين الشمس في تمهـل‬ ‫يا قوم سيروا في الرعيل األول‬
‫َ‬
‫آنفا َ من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫فحل باليمين على ما وصفنا‬
‫صفحة ‪294 :‬‬

‫مسير? عاد الى األحقاف‬


‫وسار بعده عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه و يقول‪:‬‬
‫إني أنا عاد الطويل البالدي وسام جدي ابن نوح الهادى‬
‫س ْو َقه الطارف والتـالد‬
‫و َ‬ ‫فقد رأيتم يعرب الـزيادي‬

‫أرم ذات العماد‬


‫فح??ل باألحق??اف وأداني الرم??ل بين عم??ان وحض??رموت واليمن وتف??رق ه??ؤالء في‬
‫األرض‪ ،‬فانتش?ر? منهم ن??اس كث??ير‪ :‬منهم ج??يرون بن س??عدي بن ع??اد َح? ل بدمش??ق‬
‫فمصرمصرها‪ ،‬وجمع عدد الرخام والمرمر إليهأ؛ وش??يد بنيانه?ا‪ ،‬وس??ماها أرم ذات‬ ‫َ‬
‫العماد‪ ،‬وق??د روى عن كعب األحب??ار في أرم ذات العم??اد غ??ير ه??ذا‪ ،‬وه??ذا الموض??ع‬
‫بدمشق في هذا الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ?-‬سوق من أسواقها عن??د‬
‫باب المسجد الجامع‪ ،‬يعرف بجيرون‪ ،‬وج?يرون‪ :‬ه??و بني??ان عظيم‪ ،‬ك?ان قص??ر ه??ذا‬
‫الملك‪ ،‬عليه أبواب من نح??اس عجيب??ة‪ :‬بعض??ها على م??ا ك??انت علي??ه‪ ،‬والبعض من‬
‫مسجد الجامع‪ ،‬وقد ذكرنا فيما من خبر نبي هّللا هود‪.‬‬

‫نزول ثمود الحجر‬


‫وسار بعد عاد بن عوص ثمود بن ع??ابربن أرم بن س??ام بن ن??وح بول??ده ومن تبع??ه‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫يا قوم سيروا ودَ ُعوا الترديدا‬ ‫أنا الفتى الذيي دعا ثـمـودا‬
‫فنلحق البادي لنا الـعـديدا‬ ‫لعلنا أن نـدرك الـوفـودا‬
‫وعاد ما عاد الفتى الجلـيدا‬ ‫إنا أبينا اليعرب الـحـمـيدا‬

‫الح ْج َر إلى فرع‪ ،‬وقد تقدم ذكرهم فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب‪ ،‬وخ??بر‬
‫فنزلى هؤالء َ‬
‫القرف‪ ،‬بين الشام والحجاز‪.‬‬ ‫نبيهم صالح عليه السالم‪ ،‬وأنهم نحو وادي َ‬

‫مسير? جديس إلى اليمامة‬


‫وسار بعد ثم??ود ج?ديس بن ع?ابربن أرم بن س??ام بن ن??وح بول?ده‪ ،‬ومن تبع??ه وه??و‬
‫يقول‪:‬‬
‫َف َد ْت َك نفسي يا ثمود المهلـكـا‬ ‫أنا جديس والمسير? المسـلـكـا‬
‫إذ سارت العيس وأبدت شخصكا‬ ‫دعوتني? فقد قصدت نـحـوكـا‬

‫كعب األحبار‬
‫هو كعب بن مانع‪ ،‬أبو اسحاق‪ ،‬تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في‬
‫اليمن‪ ،‬وأسلم في زمن أبي بكر‪ ،‬وقدم المدينة في دولة عمر‪ .‬ت??وفي في حمص عن‬
‫مئة? وأربع سنين سنة‪?.‬‬
‫وقد قلنا فيما سلف إن هؤالء الذين نزلوا اليمامة‪?.‬‬

‫صفحة ‪295 :‬‬

‫مسير? عمالق إلى مواضع "مختلفه‬


‫وسار بعد جديس عمالق بن الوذ بن أرم بن سام بن ن??وح بول??ده ومن تبع??ه‪ :‬وه??و‬
‫يقول‪:‬‬
‫وسار منا ذواللّسان األولى‬ ‫لمارأيت الناس ذا تبلـبـل‬
‫فسرت حثا ً بالسوام المهمل‬ ‫وحدثتنا في اللحاق األولـى‬

‫فنزل هؤالء أكناف الحرم والتهائم‪ ،‬ومنهم من سار إلى بالد مصر? والمغرب‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫إن هؤالء بعض ذراعنة مصر‪ ?،‬وق?د ذكرن??ا ق??ول من الح?ق العم??اليق وغ?يرهم ممن‬
‫ذكرنا بعيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل‪ ،‬وزعم أنهم من ولد العيص على حسب‬
‫ما ذكرنا فيما تقدم‪.‬‬
‫وقد كانت للعماليق ملوك كثيرة سلفت في مواضع من األرض بالشام وغ??يره‪ ،‬وق??د‬
‫أتينا على أخبارهم وذكر مم??الكهم وح??روبهم في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان‪ ،‬وق??د ذكرن??ا‬
‫فيما سلف من هذا الكتاب قصة يوشع بن نون م??ع مل??ك العم??اليق ببالد أيل??ة‪ ،‬وه??و‬
‫الس??ميدع بن ه??وبر‪ ،‬وق??د ك??ان من بقي من العم??اليق انض??افوا إلى مل??وك ال??روم؛‬
‫فملكتهم الروم على مشارق الش??ام والغ??رب والجزي??رة من ثغ??ور الش??ام فيم??ا بينهم‬
‫وبين فارس‪.‬‬

‫أذينة بن السميدع العمالقي‬


‫فممن ملك الروم من العماليق‪ :‬أذينة بن الس??ميدع‪ ،‬ال?ذي ذك??ره األعش??ى في قول?ه‪:‬‬
‫أزال أذينة عن مـلـكـه وأخرج عن ملكه ذا يزن‬
‫وقد كان ملك بع??د العم??اليق حس??ان بن أذين?ة? بن ط??رب بن حس??از ويق??ال‪ :‬هوال??ذي‬
‫يعرف ب أمه زباء‪.‬‬
‫ثم ملك عمروبن طرب‪ ،‬ويقال‪ :‬هوال??ذي ك??ان يع??رف ب أم??ه زب??اء‪ ،‬وق??د ك??ان بين??ه‬
‫األزدِي أبي مالك حروب كثيرة‪ ،‬فقتله جذ َيم??ة على م??ا ذكرن??ا‪،‬‬ ‫وبين جذيمة األبرش ْ‬
‫وما كان من قتل الزباء لجذيمة وقول الشاعر‪:‬‬

‫ولم يكن حوله الرايات تختفـق‬ ‫كأن عمرو بن زباا لم يعش ملكا‬
‫فيها خراشف بالنيران ترتشـق‬ ‫الءم جذيمة من ضرساء مشعلة‬

‫مسير? طسم إلى البحرين‬


‫ثم سارطسم بن الوذ بن أرم بن سام بن نوح بعد عمالق بن الوذ بول??ده‪،‬ومن تبع??ه‬
‫وهويقول‪?:‬‬
‫سام بن نوح وهـو اإلِمـام‬ ‫إني أنا طسم وجـدي سـام‬
‫قلت لنفسي اا ْل َحقِي السواما‬ ‫لما رأيت األخ واألعـالمـا‬
‫يافث ال كان ولـيي حـام‬ ‫أخاك عمالقـا ً وذا اإلِقـدام‬

‫صفحة ‪296 :‬‬

‫فنزل هؤالء البحرين وقد ك??ان جمي??ع من ذكرن??ا ب??دواًً‪ ،‬وانتش??روا في األرض‪ ،‬على‬
‫حس??ب م??ا ذكرن??ا من مس??اكنهم‪ ،‬وك??ثرت ج??ديس‪ ،‬فملكت عليهااألس??ود بن غف??ار‪،‬‬
‫ش ? ِر َّي َ?ة الج??رهمي‬
‫وكثرت طسم‪ ،‬فملكت عليها عملوق بن جديس‪ ،‬وقد ذكرعبي??د بن َ‬
‫حين وفد على معاوية وأخبره أن طسم بن الوذ بن أرم بن سام بن ن??وح‪ ،‬وج??ديس‬
‫بن عابر بن سام بن نوح‪ ،‬هم العرب العاربة‪ ،‬وق??د ك?ان م?نزلمهم جميع??أ باليمام??ة‪،‬‬
‫واسمها إذ ذاك َجؤ‪.‬‬

‫عملوق الظالم ملك طسم‬


‫وكان لطسم ملك يقال له عملوق‪ ،‬وكان ظلوم?ا ً غش??وماً‪ ،‬الينه??اه ش??يء عن ه??واه‪،‬‬
‫مع إصراره وإقد أم??ه على ج?ديس‪ ،‬وتعدِّي??ه عليهم‪ ،‬وقه??ره إي?اهم‪ ،‬فلبث??وا في ذل?ك‬
‫دهراً‪ ،‬وهم أهل مظالم‪ ،‬قد غمطوا النعمة وانتهك?وا الحرم?ة‪ ،‬وبالدهم أفض?ل البالد‪،‬‬
‫وأكثره??ا خ??يراً‪ ،‬فيه??ا ص??نوف الش??جر واألعن??اب‪ ،‬وهي ح??دائق ملتف??ة‪ ،‬وقص??ور‬
‫مصطفة‪ ،‬فلم يزل على ذلك حتى أتته امرأة من جديس‪ُ ،‬يقال لها ه َُزيلة بنت م??ازن‪،‬‬
‫وزوج لها فارقها‪ ،‬يقال له ماشق‪ ،‬فأراد قبض ولده منها‪ ،‬فأبت علي??ه‪ ،‬فارتفع??ا إلى‬
‫إلى ملك عملوق ليحكم بينهما‪،‬‬
‫فقالت المرأة‪:‬‬
‫أيها الملك‪ ،‬هذا الذي حملته تسعاً‪ ،‬ووضعته دفعاً‪ ،‬وأرض?عته? ش?فعاً‪ ،‬ولم أن?ل من?ه?‬
‫نفعاً‪ ،‬ح??تى إذا تمت أوص??اله‪ ،‬واس??توفت خص??اله‪ ،‬أراد أن يأخ??ذه قس??راً‪ ،‬ويس??لبنيه?‬
‫قهراً ويتركني منه صِ ْفراً‪،‬‬
‫قال زوجها‪:‬‬
‫قد أخذت المهر كامالً‪ ،‬ولم أنل من??ه ن??ائال‪ ،‬إال ول??داً خ??امال‪ ،‬فافع??ل م??ا كنت ف??اعالً‪.‬‬
‫فأمر الملك أن يؤخذ الولد منهما ويجعل في غلمانه ‪ ،‬فقالت ه َُزيلة في ذلك‪:‬‬

‫فأبرم حكما ً في ه َُز ْي َلة ظالـمـا‬ ‫طسم ليحكـم بـينـنـا‬‫ِ‬ ‫أتينا أخا‬
‫وال َف ِهما ً عند الحكومة عالـمـا‬ ‫لعمري لقد ُح َك ْم َت ال متـورعـا‬
‫وأصبح? زوجي حائر الرأي نادما‬ ‫ندمت فلم أقدرعلى متـزحـزح‬ ‫ُ‬

‫فبلغ ال َملِ َك قول ه َُزيلة‪ ،‬فغضب‪ ،‬وأمر أن ال تتزوج? امرأة‪،‬جديس فتزف إلى زوجه??ا‬
‫حتى تحمل إلي??ه‪ ،‬فيفترعه??ا قب??ل زوجه??ا‪ ،‬فلق??وآ من ذل??ك ذالً ط??ويال‪ ،‬ولم ت??زل تل?ك‬
‫حالتهم حتى تزوجت عفيرة‪ ،‬وقيل الشموس‪ ،‬بنت غفار الجديس??ي أخت األس??ود بن‬
‫غفار‪ ،‬فلما كانت لي هَدْ ِي َها إلى زوجها انطل??ق به??ا إلى عمل??وق المل??ك ليطأه??ا على‬
‫عادته‪ ،‬ومعها ال َق ْي َنات يغنينه ويقلنا فيغنائهن‪:‬‬

‫إبدِي بعملوق َوقُومِي فاركبي‬


‫ادري الصبح بأمر معجب‬
‫َو َب ِ‬
‫َف َما ل ِِب ْك ٍر َبعد ُك ْم مِنْ مذهب‬

‫صفحة ‪297 :‬‬

‫فخر َج ْت عفيرة على قومه??ا‬


‫فلما دخلت عفيرة على عملوق افترعها وخلى سبيلها‪َ ،‬‬
‫ش ً‬
‫اقة جيبها عن قبلها ودبرها‪،‬‬ ‫في عمادها َ‬

‫وهي تقول‪:‬‬
‫ال أحد أفل منها َجدِيس أهكذا يفعل بالعروس‪.‬‬

‫وقالت أيض?ا ً تح??رض قومه??ا ج??ديس على طس??م‪ ،‬وأبت أن تمض?ي? إلى زوجه??ا من‬
‫كلمة‪:‬‬
‫وأنتم رجال فيكم عـدد الـرمـل‬ ‫صلُح ما يؤتى إلى فـتـياتـكـم‬‫أ َي ْ‬
‫صبيحة ُز َّفت في النساء إلى البعل‬ ‫صلُح تمشي? في الدما فتـياتـكـم‬ ‫أ َي ْ‬
‫فكونوا نساء ال تفروا من الكحـل‬ ‫فإن أنتم التغضبـوا بـعـد هـذه‬
‫خلقتم ألثواب العروس وللغـسـل‬ ‫طيب العـروس؛فـإنـمـا‬
‫َ‬ ‫ودونكم‬
‫ٍ‬
‫ويختال يمشي بيننا مشية? الفـحـل‬ ‫فقبحا و شيكأ للذى لـيس دافـعـا ً‬
‫نساء لكنا ال نقـر عـلـى الـذل‬ ‫فلو أننا كنا الـرجـال وكـنـتـم‬
‫بحرب َتلظى في القرام من الجزل‬ ‫فموتوا كرامأ‪ ،‬واصبروا لعـدوكـم‬
‫إنـمـا تقوم بأقوام كرام عـلـى ِر ْجـل‬ ‫والتجزعوا للحرب يا قوم‪،‬‬
‫ويسلم فيها ذو النجابة والفـضـل‬ ‫فيهلك فيها كل ن ِْـك ٍ‬
‫ـس مـواكـل‬

‫وفي ذلك يقول أخوها‪:‬‬

‫كالريح في هشهشة اليبـيس‬ ‫شى َط ْس ُم في خميس‬


‫اء ْت َت َم َّ‬
‫َج َ‬
‫َح ّقا ًلك الويل فهيسي هيسي‬ ‫يا َط ْسم مالقيت مـن جـديس‬

‫التفكر في االنتقام‬
‫قال‪:‬‬
‫فلما سمعت جديس بذلك وغيره من قولها اجتمعت غض??با ً ل??ذلك‪ ،‬فق??ال لهم األس??ود‬
‫بن غفار‪ -‬وكان فيهم سيداً مطاعاً‪ -‬يا جديس‪ ،‬أطيع??وني فيم??ا ام??ركم ب??ه‪ ،‬وأدع??وكم‬
‫إليه‪ ،‬ففي ذلك عز الدهر‪ ،‬وذهااب الذل‪،‬‬

‫قالوا‪:‬‬
‫وما ذلك؛‬

‫قال‪:‬‬
‫قد علمتم أن هؤالء‪ -‬يع??ني طس??ماً‪ -‬ليس??و ب??أعز منكم‪ ،‬ولكن ُم ْل? َك ص??احبهم عليكم‬
‫وعليهم وهو الذي ُي ْذ ِعننا إليه بالطاعة‪ ،‬ولوال ذلك ما كان له علينا من فض??ل‪ ،‬ول??و‬
‫امتنعنا منه لكان لنا النصف‪،‬‬

‫صفحة ‪298 :‬‬

‫فقالوا‪:‬‬
‫قد قبلنا قولك‪ ،‬ولكن القوم أقراننا‪ ،‬وأكثر عمداً َوعدداً ِم َنا‪ ،‬فنخاف إن ظفروا بنا أن‬
‫ال يقيلونا‪،‬‬

‫فقال‪:‬‬
‫وهّللا يا جديس لتطيعنني? فيما آمركم به وأدع??وكم إلي??ه أو ألتكئن على س??يفي فأقت??ل‬
‫به نفسي‪،‬‬

‫قالوا‪:‬‬
‫فإنا نطيعك فيما قد عزمت عليه‪،‬‬

‫قال‪:‬‬
‫إني صانع لعملوق وقومه من طسا طعاما ً وداعيهم إليه‪ ،‬فإذا جاءوا إليه متفضلين‬
‫في الحلل والنعال نهضنا إليهم بأسيافنا‪ ،‬فانفردت أنا بالملك‪ ،‬وانفرد ك??ل رج??ل منكم‬
‫برجل منهم‪،‬‬

‫قالوا له‪:‬‬
‫فافعل ما بدا لك‪ ،‬واجتمع رأيهم عليه‪ ،‬فقالت عفيرة ألخيه??ا األس??ود ال تفع??ل ه??ذا؛‬
‫فإن الغدر فيه ذلة وعار‪ ،‬ولكن كابدوا القوم في ديارهم تظفروا أو تموتوا كراماً‪،‬‬

‫قال‪:‬‬
‫أم َكنَ لن?ا من نواص??يهم‪ ،‬وأبل??غ في االنتق??ام منهم‪،‬‬
‫ال‪ ،‬ولكن نمكر بهم‪ ،‬فيك??ون ذل??ك ْ‬
‫فقالت عفيرة في ذلك أسعاراً قد ذكرناها فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫ثم إن األسود صنع طعاما ً كثيراً‪ ،‬وأمر قومه فاخترطوا سيوفهم ودفنوها في الرم??ل‬
‫حيث أ َعدُوا الطعام‪،‬‬

‫ثم قال لهم‪:‬‬


‫إذا أتاكم القوم يرفلون في حليهم فخ??ذوا أس??يافكم ثم ش??دوا عليهم قب??ل أن يأخ??ذوا‬
‫بالسفِلة‪ ،‬ولم ت ُكن بعد ذل??ك‬
‫َّ‬ ‫مجالسهم وابدوا بالرؤساء؛ فإنكم إذا قتلتموهم لم تبالوا‬
‫تكرهونها‪،‬‬‫منهم حال ْ‬

‫قالوا‪:‬‬
‫نفعل ما قلت‪.‬‬

‫ثم دعا األس??ود بعمل??وق الطس??مى ومن مع??ه من رؤس??اء طس??م باليمام??ة فأس??رعوا‬
‫إجابة دعوة األسود‪ ،‬فلما توافوا إلى ال َمدْ َعاة َو َث َب ْت جديس‪ ،‬فاستثإروا س??يوفهم من‬
‫الرمل‪ ،‬وشدوا على عملوق وأصحابه فقتلوهم حتى أفنوهم عن اخرهم‪ ،‬ومضوا‬
‫صفحة ‪299 :‬‬

‫إلى ديارهم فانتهبوها‪ ،‬وق??ال األس??ود بن غف??ار في ذل??ك أش??عاراً ي??رثي به??ا طس??ماً‪،‬‬
‫ويذكر بغيها وفعل عملوق بأخته‪ ،‬يطول بذكرها الكتاب‪ ،‬وقد تقدمت فيما س??لف من‬
‫كتبنا‪.‬‬

‫رباح الطسمي يستنجد حمير على جديس‬


‫قال‪:‬‬
‫وهرب رجل من طسم‪ ،‬وكان أسمه رب?اح بن م?رة الطس?مي‪ ،‬ف?أتى إلى حس?ان بن‬
‫تبع الحميري ملك اليمن يومئذ فاستغاث به‪ ،‬وقد كان عم??د إلى جريم?ة? نخ??ل رطب??ة‬
‫فجعل عليهاطينا ً رطباً‪ ،‬وحملها معه وأخرج معه كلبة‪ ،‬فلم??ا ورد على حس??ان كس??ر‬
‫َيدَ كلبته‪ ،‬ونزع الطين عن الجريدة فخرجت خضراء ودخل إلى حسان واستعاذ ب??ه‪،‬‬
‫وأخبره بالذي صنعت جديس بقومه‪،‬‬
‫فقال له الملك‪:‬‬
‫هلل أبوك‪ ،‬فمن أين َم ْبدَ اك‪ .‬ق??ال‪ :‬جئت??ك‪ ،‬أبيت اللعن من أرض قريب??ة وق??وم انته??ك‬
‫منهم ما لم ينتهك من أحد‪ ،‬أنا رباح بن مرة ال َّط ْسمي‪ ،‬دعتنا جديس إلى َمدْ َعاة لهم‬
‫فأجبناهم متفضلين في الحلل وقد أعدوا لنا السالح عن??د ِج َف??انهم‪ ،‬فم??ا ُذ ْق َن??ا الطع??ام‬
‫حتى صرنا ُح َطاماً‪ ،‬بال طلب دم وال ت َِر ٍة س??لفت‪ ،‬ف??دونك‪ -‬أبيت اللعن!‪ -‬قوم??أ قطع??وا‬
‫أرحامنا‪ -‬وسفكوا دماءنا‪،‬‬

‫قال الملك حسان‪:‬‬


‫أمعك خرجت هذه الجريدة وهذه الكلبة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫نعم‪،‬‬

‫فقال الملك‪:‬‬
‫إن كنت صادقا ً لقد خرجت من أرض قريبة‪َ ،‬‬
‫وو َعدده بالنصرة‪ ،‬ثم نادى في حم??ير‬
‫بالمسير‪ ،‬وأعلمهم بما فعل بطسم‪،‬‬

‫قالوا‪:‬‬
‫َمنْ فعل َ هذا أبيت اللعن‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫عبيدهم‬

‫صفحة ‪300 :‬‬

‫قالوا‪:‬‬
‫أربٍ‪ ،‬هم إخوانن??ا فال نعين بعض??نا على بعض‪ ،‬وهم عبي??دك أيه??ا‬
‫ما لنا في هذا من َ‬
‫الملك فدعهم‪،‬‬

‫فقال حسان‪:‬‬
‫ما هذا بحسن‪ ،‬أرأيتم لوك??ان ه??ذا فيكم ك??ان حس??نا ً لملككم أن يه??در دم??اءكم؛ وم??ا‬
‫علينا في الحكم إال أننا ننصف بعضنا من بعض‪.‬‬

‫زرقاء اليمامة‬

‫فقام فرسانهم فقالوا‪ :‬أبيت اللعن األمر أمرك‪ ،‬فمرنا بم??ا أحببت‪ ،‬ف??أمرهم بالمس??ير‪?،‬‬
‫فساروا وسار بهم رباح بن مرة حتى إذا ص??اروا من اليمام??ة على ثالث ق??ال رب??اح‬
‫بن مرة للملك حسان‪ :‬أبيت اللعن إن لي أختا ً متزوج ?ة? في ج??ديس ليس في األرض‬
‫أبصر منها‪ ،‬إنها تبصر الراكب على مسيرة ثالث لي??ال‪ ،‬وأن??ا أخ??اف أن تن??ذر الق??وم‬
‫بك‪ ،‬فتأمر ك??ل واح??د من أص??حابك أن يقتل??ع ش??جرة من األرض فيجعله??ا أم أم??ه ثم‬
‫يسير‪ ?،‬فأمرهم حسان بذلك‪ ،‬ففعلوا ثم ساروا‪ ،‬وكان اسم أخت رباح يمامة? بنت مرة‬
‫فأشرفت من منظرها فقالت‪ :‬يا ج??ديس‪ ،‬لق??د س??ارت أليكم الش??جر‪ ،‬ق??الوا له??ا‪ :‬وم??ا‬
‫ذاك‪ .‬قالت‪ :‬أرى أشجاراً تسير ووراءه??ا ش??يء‪ ،‬وإني ألرى رجالً من وراء ش??جرة‬
‫ينهش كتفا ً أو يخصف نعال‪ ،‬فكذبوها‪ ،‬وكان ذلك كم??ا ذك??رت فغفل??وا عن أخ??ذ أهب??ة‬
‫الحرب‪ ،‬ففي ذلك تقول اليمامة لجديس تحفذهم‪:‬‬

‫ف تجتمع األشجار والبشر‬ ‫ف َك ْي َ‬ ‫إني أرى شجراً من خلفها بشـر‬


‫فإن ذلك من ُك ْم فاعلموا َظـ َفـر‬ ‫ثو ُروا بأجمعك ْم في وجه أولهـم‬

‫ُ وأقبل الملك حسان بحمير‪ ،‬حتى إذا كان من َجؤ على مسيرة ليلة عب??أ جيش??ه ثم‬
‫ص َبح َها فاستباح أهلها من جديس قتالً‪ ،‬فأفناهم وسبى نساءهم وص??بيانهم‪ ،‬وه??رب‬
‫ً‬
‫األسود بن غفار ملكها حتى نزل بدار طيىء فأجاروه من المل??ك وغ??يره‪ -،‬من غ??ير‬
‫أن يعرفوه؛فيذكرأن نسله اليوم في طيىء مذكور‪.‬‬

‫فلما فرغ حس?ان من ج?ديس دع?ا باليمام??ة بنت م?رة‪ ،‬وك?انت ام?رأة زرق??اء‪ ،‬ف?أمر‬
‫فنزعت عيناها فإذا في داخلها عروق سود‪ ،‬فسألها عن ذل??ك‪ ،‬فق??الت‪ :‬حج??ر أس??ود‬
‫يقال ل?ه اإلثم?د كنت أكتح?ل ب?ه فنش?ب إلى بص?ري? وك?انت هي أول من أكتح?ل ب?ه‪،‬‬
‫فاتخذوه بعد ذلك كحالً‪ ،‬وأمر امل??ك باليمام??ة‪ ،‬فص??لبت على ب??اب ج??و‪ ،‬وق??ال س??موا‬
‫جواً باليمامة؛فسميت? بها إلى اليوم‪.‬‬

‫صفحة ‪301 :‬‬

‫مسير? وبار بن أميم‬


‫قال المسعودي‪ :‬ثم سار‪ -‬بعد طسم بن الوذ‪َ -‬و َبا ُر بن أميم بن الوذ ابن أرم بن س?ام‬
‫?ار ب?األرض المعروف?ة برم?ل‬ ‫بن نوح بولده ومن تبع?ه من قوم?ه‪ ،‬ف?نزل ب?أرض َو َب ِ‬
‫ع??الج‪ ،‬فأص??ابهم نقم??ة من هللا فهلك??وا لم??ا ك??ان من بغيهم في األرض‪ ،‬وق??د ق??دمنا‬
‫فص??ال من ذل??ك فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب على م??ا زعم األخب??اريون من الع??رب‪،‬‬
‫وخروجهم بذلك عن حد المعقول والمعتاد من األم??ر المفه??وم‪ ،‬ب??ذعمهم أن هّللا ع??ز‬
‫وجل حين أهلك هذه االم??ة العظيم??ة‪ ،‬المعروف??ة بوب??ار‪ ،‬كم??ا أهل??ك طس??ما ً وجديس?ا ً‬
‫وداسماً‪ ،‬وكانت ديار داسم بأرض السماوة فأهل ُكوا بالريح السوداء الحارة‪ ،‬وداس??م‬
‫وران والبثني??ة‪ ،‬وذل??ك بين‬ ‫كانت ديارهم بالجوالن وجازر من أرض نوى من بالد ُح َ‬
‫دمشق وطبرية? من أرض الشام‪ ،‬وعمالق وعاد وثمود‪ ،‬وأن الجن كانت تس?? ُكن في‬
‫صد إليها من اإلِنس‪ ،‬وأنه??ا ك??انت أخص??ب‬ ‫ديار وبار‪ ،‬وحمتها من كل من أرادها و َق َ‬
‫ونخالًَ وم??وزاً‪ ،‬وإن دن??ا أح?د‬
‫بالد هللا عز وجل وأكثرها شجراً وأطيبها ثم??راً وعنب?ا ً َ‬
‫ت الجن في وجه?ه ال?تراب‪ ،‬وس?فت‬ ‫من الن?اس إلى تل?ك البالد غالط?ا ً أو متعم?داً َح َث ِ‬
‫س ? َوافي الرم??ل‪ ،‬وأث??ارت علي??ه الزواب??ع‪ ،‬ف??إن أراد الرج??وع عنه??ا خبل??وه ‪-‬‬‫علي??ه َ‬
‫وتيهوه‪ ،‬وربما قتلوه‪ ،‬وهذا الموضع عند كثير من ذوي الحجا باطل‪ ،‬فإذا قيل لهم‪:‬‬
‫دلون??ا على جهت??ه‪ ،‬وقِفو َن??ا على ح??ده‪ ،‬زعم??وا أنه??ا من أراده??ا ألقى على قلب??ه‬
‫الص ْرفة‪ ،‬حتى كأنهم بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى في التيه فصدهم هللا تعالى‬ ‫َ‬
‫عن الخروج‪ ،‬ولم يجعل لهم سبيال إلى أن تم فيهم مراده‪ ،‬وانتهى فيهم حكمه‪ ،‬وق??د‬
‫قال في ذلك شاعرهم يخبر بمثل ما وصفنا من قولهم في هذه األرض المجهولة‬

‫من اللؤم حتى يهتدي لوبـار‬ ‫دعا جحفال ال يهتدي لمقيلـه‬


‫رجاء القرى يامسلم بن جبار‬ ‫خ سدوله‬ ‫َو َداع دعا والليل ُم ْر ٍ‬

‫وأقوالهم في مثل هذا كثيرة‪.‬‬

‫والع???رب ممن س???لف وخل???ف في الجاهلي???ة واإلس???الم يخ???برون عن ه???ذه األرض‬


‫ص َمان َوال??ده َناء والرم??ل ال??ذي بي??برين وغيره??ا من‬ ‫كإخبارهم عن وداي القُ َرى َوال َّ‬
‫األرضين التي نزلوا فيها‪ ،‬ويخيم??ون عليه??ا طل َب? ا َ للم??اء والكأل‪ ،‬وزعم??وا أن??ه ليس‬
‫بهذه األرض اليوم أحد إال الجن واإلب??ل الوحش??ية‪ ،‬وهي عن??دهم من اإلب??ل ال??تي ق?د‬
‫ض??ربت فيه??ا فح??ول الجن‪ ،‬فالوحش??ية من نس??ل إب??ل الجن‪ ،‬والعبدي??ة والعس??جدية‬
‫الو ْحشِ ية‪ ،‬وفي ذلك يقول أبو هريم‪:‬‬ ‫والعمانية قد ضربت فيها َ‬
‫لها نسب في الطير َوهْ و َظليم‬ ‫كأني َع َلى َو ْحشِ ية أو َن َـعـامة‬

‫واألشعار في ذلك كثيرة‪.‬‬


‫وفي بسطنا لجوامع أخبار العرب فيما نقلته عن أس??الفها‪ -‬مم??ا أمكن كون??ه وخ??رج‬
‫عن حد الوجوب والجواز‪ -‬خروج عن حد اإليجاز واالختصار‪ ،‬وق??د أتين??ا على ذل??ك‬
‫فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫صفحة ‪302 :‬‬

‫مسير? عبد ضخم للطائف‬


‫وسار بعد وبار بن أميم عب ُد ضجم بن أرم بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا الطائف‪،‬‬
‫فهلك هؤالء ببعض غوائل الدهر‪ ،‬فدثروا وذكرتهم الشعراء‪ ،‬وفيهم يقول ْ‬
‫األزدِي‪:‬‬

‫ابيض أهل الحي بالنسب‬


‫َّ‬ ‫وعبد ضخم إذا نسبتـهـم‬
‫فبين الخط قحة العرب‬ ‫ابتدعوا منطقا ًيجمعهـم‬

‫بدء الكتابة بالعربية?‬


‫وذكروا أن هؤالء أول من كتب بالعربية‪ ،‬ووض??ع ح??روف المعجم وهي ح??روف أب‬
‫ت ث‪ ،‬وهي التسعة والعشرون حرفاً‪ ،‬وقد قيل غير ذلك‪ ،‬على حسب تن??ازع الن??اس‬
‫في بدء الكتابة‪.‬‬
‫مسير? جرهم إلى مكة‬
‫وسار بعد عبد ض??جم بن أرم ض هُم بن قحط??ان بول??ده ومن تبع??ه‪ ،‬وط??افوا البالد‪،‬‬
‫ضاض بن عمرو الجرهمي‪:‬‬ ‫حتى أتوا مكة فنزلوها وفي ذلك يقول ُم َ‬

‫هذا سبيل? كسـبـيل يعـرب البادى القول المبين المعـرب‬


‫يا قوم سيروا عن فعال األجنب جرهم جدي وقحطـان أبـي‬

‫مسير? أميم إلى فارس‬


‫وسار أميم بن الوذ بن أرم بع??د ج??رهم بن قحط??ان فح??ل ب??أرض ف??ارس؛ ف??الفرس‪-‬‬
‫على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكت??اب‪ ،‬في ب??اب تن??ازع الن??اس في أنس??اب‬
‫فارس‪ -‬من ولد كيومرث بن أميم بن الوذ بن أرم بن سام بن نوح‪ -،‬وفي ذلك يقول‬
‫بعض َمنْ تقدم من أهل الحكمة من شعراء فارس في اإلسالم‪:‬‬

‫وفارس أرباب الملوك؛ بهم فخري‬ ‫أبونا أميم الخير من قبـل فـارس‬
‫من المجد إال ِذ ْك ُر َنا أفضل الذكـر‬ ‫وما عد قوم من حـديث وحـادث‬

‫أول امرىء بنى البيوت أميم بن الوذ‬


‫وقد ذكر جماعة من أهل السير واألخبار أن جميع من ذكرنا من هذه القبائ??ل ك??انوا‬
‫أه???ل خيم وب???دوأ مجتمعين في مس???اكنهم من األرض‪ ،‬وأن أميم???ا ً أول من ابت???نى‬
‫البنيان‪ ،‬ورفع الحيطان‪ ،‬وقطع األش??جار‪ ،‬وس??قف الس??قوف‪ ،‬واتخ??ذ الس??طوح‪ ،‬وأن‬
‫ولد حام بن نوح حلوا ببالد الجنوب‪ ،‬وأن ولد ك??وش بن كنع??ان خاص??ة هم النوب??ة‪،‬‬
‫على حسب ما قدمنا آنفا ً في باب السودان من هذا الكتاب‪ ،‬وأن فخذا من ولد كنعان‬
‫بن حام ساروا نحو بالد إفريقي??ة وطنج??ة من أرض المغ??رب‪ ،‬فنزلوه??ا‪ ،‬وزعم ه??ذا‬
‫القائل أن البربر من ولد كنعان بن حام‪.‬‬

‫صفحة ‪303 :‬‬

‫أنساب البربر‬

‫وقد تنازع الناس في بدء أنس?اب ال?بربر‪ ،‬فمنهم من رأى أنهم من غس?ان وغ?يرهم‬
‫من اليمن‪ ،‬وأنهم تفرقوا حول تلك ال?ديار حين تف?رق الن?اس من بالد م?أرب عن?دما‬
‫??رم ومنهم من رأى أنهم من قيس عيالن‪ ،‬ومنهم من رأى غ??ير‬ ‫ك??ان من س??يل ال َع ِ‬
‫ذلك‪ ،‬وقد ذكرناه فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫ونزل ولد كنعان بن حام‪ -‬وهم األغلب من ولد كنعان‪ -‬بالد الش??ام‪ ،‬فهم الكنع??انيون‪،‬‬
‫وبهم تعرف تلك الديار‪ ،‬فقيل‪ :‬بالد كنعان‪.‬‬
‫وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أخبار مصربن حام وبيصر? واأل نباط‪.‬‬

‫مسير? نوفير إلى الهند‬


‫وسار نوفير بن فوط بن حام بولده ومن تبعه إلى أرض الهند والسند‪ ،‬وبالسند اُّمم‬
‫لهم أجسام طوال‪ ،‬وهم على بالد المنص??ورة من أرض الس??ند؛ فعلى ه??ذا الق??ول أن‬
‫الهند والسند من ولد نوف?ير بن ف?وط بن ح?ام بن ن?وح‪ ،‬فول?د ح?ام في الجن?وب من‬
‫األرض األكثر منهم‪ ،‬وولد يافث في الشمال فيما بين الش??رق والمغ?رب على حس??ب‬
‫ما ذكرنا من األمم وتفرقها في الشرق وغيره مما يلي جبل القبخ والباب واألبواب‪.‬‬

‫عبادة عاد وبغيهم‬

‫و َب َغ ْت ع??اد في األرض وملكه??ا الخلج??ان بن ال??وهم؛فك??انوا يعب??دون ثالث??ة أص??نام‪،‬‬


‫حس??ب م??ا ق??دمنا‪،‬‬‫وهي‪ :‬ص??مود‪ ،‬وص??داء‪ ،‬والهب??اء‪ ،‬فبعث هللا إليهم ه??وداً على ِ‬
‫فكذبوه‪ ،‬وهو هود بن عبد هّللا بن رياح بن خال?د بن الخل??ود بن ع?اد بن ع?وص بن‬
‫أرم بن سام بن نوح‪ ،‬وقد ق??دمنا أن ق??وم ع??اد ك??انوا عش??رة قبائ??ل‪ ،‬وق??د تق??دم ذك??ر‬
‫أس?مائهم‪ ،‬ف?دعا عليهم ه?ود‪ ،‬فمنع?وا المط?رثالث س?نين‪ ،‬وأج?دبت األرض فلم ي?د ِّر‬
‫ض ْر ٌع‪.‬‬
‫عليهم َ‬

‫أصل الشرك ووفود عاد على مكة‬

‫وقد كان من ذكرنا من األمم ال يجحد الص??انع ج??ل وع??ز‪ ،‬ويعلم??ون أن نوح?ا ً علي??ه‬
‫وفي لقومه بما وعدهم من العذاب‪ ،‬إال أن القوم دخلت عليهم ُ‬
‫ش َبه‬ ‫السالم كان نبياً‪ّ ،‬‬
‫بعد ذلك لتركهم البحث واستعمال النظر‪ ،‬ومالت نفوسهم إلى ال َّد َعة‪ ،‬وما تدعو إليه‬
‫الطبائع من ال َمالَ ِّذ والتقليد‪ ،‬وكان في نفوسهم هيبة الصانع‪ ،‬والتقرب إليه بالتماثيل?‬
‫وعبادتها‪ ،‬لظنهم أنها مقرب?ة? لهم إلي??ه‪ ،‬وك??انوا م??ع ذل?ك يعظم??ون موض??ع الكعب??ة‪،‬‬
‫وكان موضع على م??ا ذكرن??ا رب??وة حم??راء‪ ،‬فوف??دت ع??اد إلى مك??ة يستس??قون لهم‪،‬‬
‫وكان بمكة يومئذ العم?اليق‪ ،‬ف?أتى الوف?د مك??ة‪ ،‬ف?أقبلوا علي الش?رب والله?و‪ ،‬ح?تى‬
‫َغنتهم الجرادتان َق ْي َن َتا معاوية بن بكر بشعر فيه َحث لهم على ما وردوا من أجله‪،‬‬
‫صفحة ‪304 :‬‬

‫وهو‪:‬‬

‫لعل ً هللا يمـطـرنـا غـمـامـا‬ ‫أال يا َق ْيل َو ْي َحـ َك قـم َفـ َهـ ْينِـم‬
‫س ْوا ال يبينون الكالما‬ ‫إنَ عادا َق َد ا ْم َ‬ ‫فيســقـــي أرض عـــادٍ‪،‬‬
‫نـرجـو به الشيخ الكبير وال الـغـالمـا‬ ‫من العطش الشديد فليس‬
‫فال تخشى لراميهـم سـهـامـا‬ ‫وإن الوحش تـأتـي أرض عـاد‬
‫نهار ُك ُم وليلـ ُكـ ُم الـتـمـامـا‬
‫َ‬ ‫وأنتم ههنا فـيمـا اشـتـهـيتـم‬
‫وال لُ ُّقوا التـحـية والـسـالمـا‬ ‫َفقبح وفـدكـم مـن وفـد قـوم‬

‫ثم إن معاوية بن بكر دعا إحدى الجرادتين فغنت‪:‬‬

‫ومن عاد بن سـام‬ ‫أال يا َق ْيل ُ من ُع ٍ‬


‫وص‬
‫من الطول الكـرام‬ ‫وعاد كالشـمـاريخ‬
‫َمعا ً َ‬
‫ص ْو َب الغمـام‬ ‫سقى هللا بني عـاد‬

‫فاستيقظ القوم من غفلتهم‪ ،‬وب??اثروا إلى االستس??قاء لق??ومهم؛ فك??ان من أم??رهم في‬
‫مجيء السحاب واختيارهم لما اخت??اروه منه??ا م??ا ق??د اتض??ح وفيهم يق??ول َم ْرث??د بن‬
‫سعد من كلمة‪:‬‬
‫َ‬
‫فأمسوا عِ طاشا ال َت ُبلّهم السـمـاء‬ ‫ص ْت عاد رسو َل ُه ُم‬ ‫َع َ‬
‫عـاد فإن قلوبهم َق ْفـ ٌر هـواء‬ ‫أال َق َب َح اإلِل ُه ُحلُـو َم‬
‫د يقابله صـداء والـهـبـاء‬ ‫لهم صنم يقال له صـمـو‬
‫فأبصرنا الهدى ونأى ال َع َماء‬ ‫صرنا النبي سبـيل رشـد‬ ‫فب َ‬
‫بأن إله هود هو الـعـالء‬ ‫وإني موقن فاستـيقـنـوه‬
‫على هللا التوكل والرجـاء‬ ‫و أن إله هود هـو إلـ ِهـي‬
‫وإخوته إذا حق المـسـاء‬ ‫وأني الحق باألمس هـوداً‬

‫مهلك عاد‬

‫فأرسل هللا عز وجل على عاد الريح العقيم‪ ،‬فخرجت الريح عليهم من وا ٍد لهم‪ ،‬فلما‬
‫رأوا ذلك قالوا‪:‬‬
‫عارض ممطرناط وتباشروا بذلك‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫" هذا‬
‫فل ّما سمع هود ذلك من قولهم قال‪:‬‬
‫" بل هو ما استعجلتم به‪ ،‬ريح فيها عذاب أليم" االية فأت َتهم الريح يوم األربع??اء‪،‬‬
‫فلم تأت األربعاء الثانية ومنهم َح ٌّي‪ ،‬فمن أجل ذلك كره الناس يوم األربعاء‪.‬‬

‫وقد بينا فيما يرد من هذا الكتاب كيفية ذلك‪ ،‬وكيف وقوعه من أيام الشهر في ب??اب‬
‫ذكر الشعور‪ ،‬فلما شاهد هود النبي صلى هللا عليه وسلم ما نال َ قومه انفرد هو‬
‫صفحة ‪305 :‬‬

‫ومن معه من المؤمنين‪ ،‬وفي ذلك يقول الهيل بن الخليل‪:‬‬

‫واتبدت طـريقة الـرشـيد‬ ‫لو أن عاداً َ‬


‫سم َِع ْت من هـود‬
‫عاداً وبالتقريب والتـبـعـيد‬ ‫وقد أتى بالوعـد والـوعـيد‬
‫ص ْر َعى على اآلناف والخدود‬ ‫َ‬ ‫ما أصبحت عاثرة الـجـدود‬
‫ماذا جنى الوفد من الوفـود‬ ‫ساقطة األجساد بـالـوصـيد‬

‫أحـــداثة فـــــــي األبـــد األبــــــيد‬


‫وقال مهد بن سعد في شعرله‪ :‬دعاهم خيفة ل َّلـه هـود فما نفع النذير وال أجابوا‬
‫العـذاب وقد كان األخر من ملوكهم الخلج??ان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فلما أن أبوا إال عـتـواً أصابه ُم ببغيهم‬
‫وقد تقدم ذكرنا في هذا الب?اب لمل?ك ع?اد وثم?ود وغ?يرهم‪ ،‬وقي?ل‪ :‬إن أول من مل?ك‬
‫عادأ من الملوك عاد بن عوص ثلثمائة سنة‪ ?،‬ثم ملك ابن عاد بن عوص‪.‬‬
‫الجحفة‬
‫قال‪ :‬ولما دثرت هذه األمم من العرب والقبائل خلت منهم الديار فسكنها غيرهم من‬
‫الناس‪ ،‬فنزل قوم من بني حنيفة اليمامة واستوطنوها وقد كانوا نزلوا بالد اا ْل ًج ْح َفة‬
‫بين مكة والمدينة? وقطنوها؛ فقال شاعرهم يدثى من كان في تلك الديار‪:‬‬

‫والعماليق في السنين الخوالى‬ ‫إن َط ْسما ً و ُج ْرهُما ً وجـديسـا‬


‫واستمرت? بهم صروف الليالي‬ ‫ولـئوا‬
‫ْ‬ ‫عمروا البيت ِح ْق َبة ثـم‬
‫غيرهم ساكنأ بتلك الخوالـى‬ ‫وأراك الزمان منهم‪ ،‬وأضحى‬
‫درهم بلقع َلمِـرالـشـمـال‬ ‫ب الزمان فأمسـوا‬ ‫ورماهم َر ْي ُ‬

‫وقد كان نزل بالد الجحفة بين مك??ة والمدين??ة عبي??ل بن ع??وص بن أرم بن س??ام بن‬
‫نوح هو وولدة ومن تبعه‪ ،‬فهلكوا بالسيل‪ ،‬فس??مي ذل??ك الم??وف با ْل ُج ْحف??ة إلجحافه??ا‬
‫عليهم‪.‬‬

‫يثرب‬
‫وكان يثرب بن قاتية بن مهليل بن أرم بن عبيل نزل بالمدينة? هو وول??ده ومن تبع??ه‬
‫فسميت به يثرب‪ ،‬فهلك هؤالء أيضا ً ببعض غوائل الدهر و افاته‪ ،‬فقال شاعرهم‪:‬‬

‫ضـهـا بـالـســـجـــام‬ ‫يرجع مـافـات َفـي ُ‬ ‫عـبـــيل وهـــل‬


‫ٍ‬ ‫َع ْينُ جـودي عـلـى‬
‫س ْفر وال صارخ وال ذو َ‬
‫س َنام‬ ‫َ‬ ‫َعم ُروا يثربا ً وليس بها‬
‫ثم حـفـوا الـــ َفـــســـيل َ ياالجـــام‬ ‫غرسوا لِي َنها بمجرى معين‬ ‫َ‬

‫وقد أخبر هللاّ جلت قدرت?ه عن?ه‪ ،‬فق?ال‪ " :‬ك?ذبت ثم??ود وع?اد بالقارع??ة‪ ،‬فأم?ا ثم?ود‬
‫رصر عاتية"‪.‬‬
‫ص ٍ‬ ‫فأهلكوا بالطاغية‪ ،‬وأما عاد فأهلكوا بريح َ‬
‫صفحة ‪306 :‬‬
‫قوم شعيب‬
‫وقد تنازع أهل الش??رائع في ق??وم ش??عيب بن نوي??ل بن رعوي??ل بن م??ربن عنق??اء بن‬
‫َمدْ ين بن إبراهيم الخليل صلى هللا عليه وسلم وكان لسانه العربي??ة‪ ?:‬فمنهم من رأى‬
‫أنهم من الع??رب ال??داثرة‪ ،‬واألمم البائ??دة‪ ،‬وبعض من ذكرن??ا من األجي??ال الخالي??ة‪،‬‬
‫ومنهم من رأى أنهم من ول??د المحض بن جن??دل بن لِعص??ب بن م??دين بن إب??راهيم‪،‬‬
‫وأن ش??عيبا ً أخ??وهم في النس??ب‪ ،‬وق??د ك??انوا ع??دة مل??وك تفرق??وا في ممال??ك متص??لة‬
‫ومنفصلة? فمنهم المسمى بأبي ج??اد وه??وز وحطي وكلمن وس??عفص وقرش??ت‪ ،‬وهم‬
‫على ما ذكرنا بنو المحض بن جنمل‪?.‬‬

‫حروف الجمل‬
‫وأحرف الجمل على أس??ماء ه??ؤالء المل??وك‪ ،‬وهي التس??عة والعش??رون‪ .‬حرف?ا ً ال??تي‬
‫يدور عليها حساب الجمل‪ ،‬وقد قيل في هذه األحرف غيرما ذكرنا من الوجوه‪ ،‬على‬
‫حس??ب م??ا ق??دمنا في ه??ذا الكت??اب‪ ،‬وليس كتابن??ا‪ ،‬موض??عا ً لم??ا قال??ه الن??اس فيه??ا‪،‬‬
‫وتنازعوا في تأويلها والم??راد به??ا‪ ،‬وك??ان أبج??د مل??ك مك??ة وم??ا يليه??ا من الحج??از‪،‬‬
‫وكان هوز و حطي ملكين ببالد َو ّج‪ ،‬وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من أرض‬
‫نجد‪ ،‬وكلمن وسعفص وقرش ملوك?ا ً ب َم??دْ َين‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ببالد مص??ر‪ ،‬وك??ان كلمن على‬
‫ملك مدين‪ ،‬ومن الناس َمنْ رأى أنه كان ملكا ً على جميع من سمينا مش??اعا ً متص??أل‬
‫على ما ذكرنا‪.‬‬

‫عذاب يوم الظلة‬


‫وإن عذاب يوم ال ُّظلة كان في ملك كلمن منهم‪ ،‬وأنَ شعيبا ً دعاهم فكذبوه‪ ،‬فوع??دهم‬
‫بعذاب يوم الظل??ة‪ ،‬ففتح عليهم ب??اب من الس??ماء من ن??ار‪ ،‬وانح??از ش??عيب بمن آمن‬
‫معه إلى الموضع المعروف باأل ْي َك??ة‪ ،‬نح??و م??دين‪ ،‬فلم??ا أحس الق??وم ب??البالء واش??تد‬
‫عليهم الحر وأيقنوا بالهالك طلبوا شعيبأ ومن آمن معه وقد أظلتهم س??حابة بيض??اء‬
‫طيبة النسيم والهواء ال يجدون فيها ألم العذاب‪ ،‬فأخرجوا شعيبا ً ومن آمن مع??ه من‬
‫عن أماكنهم وتوهموا أن ذلك ينجيهم مم??ا ن??زل بهم فجعله??ا هّللا‬ ‫موضعهم وأزالوهم ِ‬
‫عليهم ناراَ‪ ،‬فأتت عليهم فرثت حارثة بنت كلمن أباها فقال وكانت بالحجاز‪:‬‬

‫ُه ْلـكـه َو ْس َ‬
‫ـط الـمـحـلّـــ ْه‬ ‫كلـمـن هَــدَّ م ركـــنـــي‬
‫ناراً تحت ُظل ْه‬ ‫ف‬‫الح ْت ُ‬
‫سيد القوم أتاه َ‬
‫دار قـومـي مـضـمـحـلّ ْ‬
‫ــه‬ ‫كونت ناراً‪ ،‬وأضحت‬

‫وفي ذلك يقول المنتصر بن المنذر المديني‪?:‬‬

‫وح َّي بني عـمـرو‬ ‫أتيت بها عمراً َ‬ ‫أال يا شعيب قد َنـ َطـ ْق َ‬
‫ـت مـقـالة‬
‫كمثل شعاع الشمس في صورة البدر‬ ‫أوج َهـا‬
‫وهم ملكوا أرض الحجاز و َ‬
‫وه ََّوز َأرباب ال َبنـية والـحـجـر‬ ‫فص ذي الندى‬ ‫س ْع َ‬ ‫ملوك بني ُح َطي َو َ‬
‫خطوراً وساموا في المكأرم والفخر‬ ‫وهم قطنوا البيت الحـرام ور ّتـبـوا‬
‫صفحة ‪307 :‬‬

‫ولهؤالء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير‪ ،‬وكيفي??ة تغلبهم على ه??ذه الممال??ك‬
‫وتملكهم عليها‪ ،‬وإبادتهم من كان فيها وعليها قبلهم من األمم‪ ،‬قد أتينا على ذكرها‬
‫فيما تقدم من كتبنا في هذا المعنى مما كتا ُب َنا هذا منبه عليها وباعث على درسها‪.‬‬

‫حضورا وتنازع الناس في أنسابهم‬


‫وأم??ا بن??و حض??ورا وك??انت أم??ة عظيم??ة ذات بطش وش??دة‪ ،‬فغلبت على كث??ير من‬
‫األرض والممالك‪ ،‬وقد تنازع الناس فيهم‪ :‬فمنهم من ألحقهم بمن ذكرنا من الع??رب‬
‫البائدة ممن سمينا‪ ،‬ومنهم من رأى أنهم من ولد يافث بن نوح‪ ،‬وقي??ل في أنس??ابهم‬
‫غير ما ذكرنا من الوج??وه‪ ،‬وق??د ك??ان هّللا ع??ز وج??ل بعث إليهم ش??عيب بن مه??دم بن‬
‫حضورا بن عدي نبيا ً ناهيا ً عما كانوا عليه‪ ،‬وهذا غير شعيب بن نوي??ل بن رعوي??ل‬
‫بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم الخليل صاحب م??دين الم??تزوج اب َن َت??ه موس??ى‬
‫بن عم??ران المق??دم ذك??ره‪ ،‬وبينهم??ا مئ??ون من الس??نين‪ ،‬وق??د ك??ان بين موس??ى بن‬
‫ِث إلى حض??ورا‪ ،‬واش??تد كف??رهم ج? َد ن??بيهم‬ ‫عمران وبين المسيح ألف نبي‪ ،‬ولم??ا ُبع َ‬
‫وخ? َّوفهم وتوع??دهم‪ ،‬فقتل??وه من بع??د ظه??ور معج??زات‬ ‫شعيب بن مهدم في دع??ائهم َ‬
‫كانت له ودالئل أظهرها هّللا على يديه تدل على صدقة وتثبت? حجته على قومه‪ ،‬فلم‬
‫يضيع? هللا دمه‪ ،‬ولم يكذب وعيده‪ ،‬فأوحى هّللا تعالى إلى نبي كان في عص??ره‪ -‬وه??و‬
‫برخيا بن أخبيا بن زنائيل بن شالتان‪ -‬وكان من سبط يهوذا بن إسرائيل بن إسحاق‬
‫بن إبراهيم الخليل عليه السالم‪ -‬أن يأتي بختنصر‪ -‬وكان بالش??ام‪ -‬وقي??ل‪ :‬غ??يره من‬
‫أغالق‪ ،‬لبيوتهم‪ ،‬فلما أتى برخيا ذلك الملك‬ ‫الملوك‪ ،‬فيأمره أن يغزو العرب الذين ال ْ‬
‫قال له الملك‪ :‬صدقت‪ ،‬لي سب لي??ال أو َم? ُر في ن??ومي بم??ا ذك??رت‪ ،‬وأ َن??ادي بمجيئ??ك‬
‫إلي‪ ،‬وأبشر بخطابك و ُيق??ال لي م??ا أمرت??ني? ب??ه‪ ،‬وأن أنتص?ر? للن??بي المقت??ول الفدي??د‬
‫المظلوم فسار إليهم في جنوده وغشي دارهم في عس??اكره‪ ،‬وص??اح بهم ص??ائح من‬
‫السماء وقد استعدوا لحربه من حيث َع َّم الصوت جميعهم‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫وإن كايدوه كان أ ْق َوى وأكـيدا‬ ‫ب قوم غالبوا هَّللا جـهـرة‬


‫س ُي ْغ َل ُ‬
‫َ‬
‫مريضا ً َو َمنْ َوا َلى النفاق وألحدا‬ ‫كذاك يضل هللا من كان قلـبـه‬

‫فلما سمعوا ذلك علموا أن األمر قد نزل بهم‪ ،‬فانفضت جنودهم وتف??رقت جم??وعهم‪،‬‬
‫وولَّ ْت كتائبهم يتراكضون‪ ،‬وأخذهم السيف‪َ ،‬ف ُحصِ دا أجمعين‪.‬‬

‫س ?وا بأس??نا إذا هم‬ ‫وقد ذكر أن في قصة هلكهم قال هّللا عز وجل من قائل‪َ " :‬فما َ‬
‫أح ُّ‬
‫منها يركضون "‪.‬‬

‫منازل حضورا‬
‫وقد تنوزع في ديارهم والموض??ع ال??ذي ك??انوا في??ه فمن الن??اس مم رأى أنهم ك??انوا‬
‫بأرض السماوة‪ ،‬وأنها ك??انت عم??ائر متص??لة ذات جن??ان ومي??اه متدفق??ة‪ ،‬وذل??ك بين‬
‫العراق والشام إلى حد الحجاز‪ ،‬وهي اآلن ديار خراب براري وقفار‪ ،‬ومنهم من‬
‫صفحة ‪308 :‬‬

‫رأى أن دي??ارهم ك??انت بالد جن??د قنس??رين إلى ت??ل ماس??ح إلى خناص??رة إلى بالد‬
‫سورية‪ ?،‬وهذه المدن في هذا ال??وقت مض??اف إلى أعم?ال حلب من بالد قنس??رين من‬
‫أرض الشام‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬وقد أتينا على جمل من أخبار العرب الماض??يه? والباقي??ة‪ ،‬وق??د ك??ان‬
‫قبل ظهور اإلسالم للباقى منهم مذاهب وآراء في النفوس وتغول الغيالن والهواتف‬
‫والجن‪ ،‬وسنورد جمالً منها منفرعة على حسب ما يقتضيه شرط االختصار في هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وعلى حس??ب م??ا نمي? إلين??ا من أخب??ارهم‪ ،‬واتص??ل بن??ا من آث??ارهم‪ ،‬وذك??ره‬
‫الناس من آرائهم‪ ،‬عن الفاني والباقي منه‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫ذكر ما ذهب إليه العرب في النفوس والهام‬


‫والصفر وغير ذلك من مذاهب الجاهلية في النفوس والمرء‬
‫االختالف في النفس‬
‫كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس‪ ،‬وآراء ينازعون في كيفياته??ا‪ :‬فمنهم‬
‫من زعم أن النفس هي الدم ال غير وأن الروح الهواء الذئ في باطن جس??م الم??رء‬
‫ساء‪ ،‬لما يخرج منها من الدم‪ ،‬ومن أجل ذلك‬ ‫منه? نفسه‪ ?،‬ولذلك سموا المرأة منه ن َف َ‬
‫س س??ائلة إذا س??قط في الم??اء‪ :‬ه??ل ينجس??ه لم ال؛‬ ‫تنازع فقهاء األمصار فيم??ا ل??ه َن ْف ُ‬
‫وقال تأبط شرأ لخاله الشنفرى األكبر وقد سأله عن قتيل قتله‪ -‬كي??ف ك??انت قص??ته؛‬
‫فقال‪ :‬ألجمته عضبا ً فسالت نفس??ه س??كباً‪ ،‬وق??الوا‪ :‬إن الميت ال ينبعث من?ه? ال??دم وال‬
‫يوج??د في??ه‪ ،‬ب??دأ في ح??ال الحي??اة‪ ،‬وطبيعت??ه طبيع??ة الحي??اة والنم??اء م??ع الح??رارة‬
‫والرطوبة؛ألن كل حي فيه حرارة و رطوب??ة‪ ،‬ف??إذا م??ات بقي اليبس وال??برد‪ ،‬ونفيت‬
‫الحرارة‪ ،‬وقال ابن براق من كلمة‪:‬‬

‫تسيل به النفوس على الصدور‬ ‫وكم القيت ذا نـجـب شـديد‬


‫وحال‪ ،‬فذاك يوم قمـطـرير‬ ‫إذا الحرب العوان به استهامت‬

‫تزعم أنه‪ -‬النفس طائر ينبسط في جسم اإلِنسان‪ ،‬فإذا م??ات أو قت??ل لم‬ ‫ِ‬ ‫وطائفة منهم‬
‫ينزل? مطيفا َ به متصوراً إلي??ه في ص??ورة ط??ائر يص??رخ على ق??بره مستوحش?اً‪ ،‬وفي‬
‫ذلك يقول بعض الشعراء وذكر أصحاب الفي??ل‪ :‬س??لط الط??ير و المن??ون عليهم فلهم‬
‫?دَى المق??ابر َه??ام ألن ه??ذا الط??ائر يس??مونه اله??ام‪ ،‬والواح??د ِة هام??ة‪ ،‬وج??اء‬
‫في ص? َ‬
‫ص َفر"‪.‬‬
‫اإلسالم وهم على ذلك حتى قال النبي صلى هللا عليه وسلم "ال َها َ َم وال َ‬
‫ويزعمون أنَّ هذا الطائر يكون صغيراً‪ ،‬ثم يكبر حتى يصير? كضرب من الب??وم وهي‬
‫صدَ ع‪ ،‬وتوجد أبداً في ال??ديار المعطل??ة والن??واويس‪ ،‬وحيث مص??ارع‬ ‫أبداً تتوحش و َت ْ‬
‫القتلى وأجداث الموتى‪.‬‬
‫ويزعمون أن الهامة ال تزال على ذلك عند ول??د الميت في محلت??ه بفن??ائهم لتعلم م??ا‬
‫يكون بعده فتخبره به‪ ،‬حتى قال الصلت بن أمية لبنيه‪:‬‬
‫تخبرني? بما تستشعروا فتجنبوا الشنعاء والمكروها‬ ‫هامِي ِّ‬

‫صفحة ‪309 :‬‬

‫وفي ذلك يقول في اإلِسالم توبة? في ليلى األخلية‪:‬‬

‫علي ودوني جنـدل وصـفـائح‬


‫َّ‬ ‫سـ ّلـمـت‬
‫ولو أن ليلى األخيلية َ‬
‫إليها صدى من جانب القبر صائح‬ ‫سلمت تسليم البـشـاشة‪ ،‬أوزقـا‬

‫وهذا من قولهم يدل على أن الصدَ ى قد ينزل إلى قبورهم ويصعد ومن ذلك م??اروي‬
‫عن حاتم طيىء مما سنورد خبره في هذا الكتاب‪.‬‬
‫?دح ْت أم??ه اوس??نذكر ه?ذا الش??عر في أخب??ار‬
‫أتيت لصحبك تبغي القرى ل??دى ُحف??ر ص? َ‬
‫الحجاج بن يوسف مع ليلى األخيلية من هذا الكتاب‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن هذه األبيات لغ??ير‬
‫وس? ْجعهم وخطبهم‪،‬‬ ‫توبة? في غير ليلى‪ ،‬وهذا كث??ير في أش??عارهم ومنث??ور? ك??ل أم??ه َ‬
‫وغير ذلك من محاورا تهم‪.‬‬
‫تنقل األرواح‬
‫ف كالم كث??ير في تنق??ل األرواح وق??د‬‫وخ َل َ‬
‫وللعرب وغيرهم من أهل الملل ممن سلف َ‬
‫أتين??ا على مبس??وط ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بس??ر الحي??اة وكت??اب ال??دعاوى وباهلل‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫ذكر أقاويل العرب في الغيالن والتغول‬


‫وما لحق بهذا الباب‬
‫رأيهم في الغول‬
‫للعرب في الغيالن وتغولها أخبار طريفة‪.‬‬
‫العرب يزعمون أن الغول يتغول لهم فيِ الخلوات‪ ،‬ويظهر لخواصهم في أن??واع من‬
‫الصور‪ ،‬فيخاطبونها‪ ،‬وربما ض َّيفوها‪ ،‬وقد أكثروا من ذلك في أشعارهم فمنه??ا ق??ول‬
‫وأدهم قد ُج ْبت جلـبـابـه كما آجتابت الكاعب الخيعال‬ ‫تأبط شرأ‪:‬‬
‫مدبرا ًمـقـبـال‬
‫فبت لها ِ‬ ‫على إثر نار ٍ َي ُنـور بـهـا ُّ‬
‫ت والغول لي جارة فياجارتي أنت مـا أهْ َـول‬ ‫فأصبح ُ‬
‫ْ‬
‫ضع َها فالـتـوت بوجه تغول فاسـتـغـوال‬ ‫وطالبتها ُب َ‬
‫فمن كان يسأل عن َجارتـي فإن لها باللِّ َـوى مـنـزال‬

‫ويزعمون أن رجليها رجال عنز‪ ،‬وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون‬
‫ويقولون‪ :‬يارجل عنز آ ْن َهقِي نـيقـا لن نترك السبسب والطريقا‬

‫الغول تتلون وتضلل‬


‫وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوق??ات الخل??وات‪ ،‬فيتوهم??ون أنه??ا إنس??ان‬
‫فيتبعونه??ا‪ ،‬ف??تزيلهم عن الطري?ق ال?تي هم عليه?ا‪ ،‬وت??تيههم وك?ان ذل?ك ق?د اش?تهر‬
‫صد فإذا صيح بها على‬ ‫عندهم وعرفوه‪ ،‬فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من ال َق ْ‬
‫ما وصفنا شردت عنهم في بطون األودية ورؤوس الجبال‪.‬‬
‫صفحة ‪310 :‬‬

‫وقد ذكر جماعة من الص??حابة ذل??ك ‪ :‬منهم عم??ر بن الخط??اب‪ ،‬رض??ي هللا عن??ه أن??ه‬
‫شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام‪ ،‬وأن الغول كانت تتغول ل??ه‪ ،‬وأن??ه ض??ر به??ا‬
‫بسيفه‪ ?،‬وذلك قبل ظهور اإلسالم‪ ،‬وهذا مشهور عندهم في أخبارهم‪.‬‬

‫رأي الفالسفة‬
‫وقد حكي عن بعض المتفلسفين أن الغول حيوان شاذ من جنس الحي??وان ُم َ‬
‫ش? ّو ًه لم‬
‫?وحش من مس??كنه‪ ،‬فطلب‬ ‫تحكمه الطبيعة‪ ،‬وأنه لما خرج منفرداً في نفسه وهيئته ت? َ‬
‫القفار‪ ،‬وهو يناسب اإلِنس??ان والحي??وان البهيمي في الش??كل‪ ،‬وق??د ذهبت طائف??ة من‬
‫الهند إلى أن ذلك إنما يظهر من فعل ما كان غائبا ً من الكواكب عن??د طلوعه??ا‪ ،‬مث??ل‬
‫الش? ْع َرى اا ْل َع ُب??ور‪ ،‬وأن ذل?ك يح?دث داء في‬
‫الكوكب المع?روف بكلب الجب?ار‪ ،‬وهي‪َ :‬‬
‫الكالب‪ ،‬وسهيل في الحمل والذئب في الدب وحامل رأس الغول يحدث عن??د طلوع??ه‬
‫تماثي??ل وأش??خاص تظه??ر في الص??حاري‪ ،‬وغيره??ا من الع??امر والخ??رائب‪ ،‬فتس??مية?‬
‫عوام الناس غوالً‪ ،‬وهي ثمانية? وأربعون كوكباً‪ ،‬وقد ذكرها بطليموس وغيره ممن‬
‫تقدم وتأخر‪ ،‬وقد وصف ذلك أبو معشر في كتابه المعروف بالمدخل الكبير إلى علم‬
‫النجوم وذكر كيفية صورة كل كوكب عند ظهوره في أنواع مختلفة‪.‬‬
‫للس? َفار‪ ،‬ويتمث?ل? في‬
‫وزعمت طائفة من الن??اس أن الغ??ول اس??م لك??ل ش??يء يع??رض ُّ‬
‫ضروب من الصور‪ ،‬ذكراً كان أو أنثى‪ ،‬إال أن اكثر هم كل أمه م على أنه أنثى‪ ،‬وقد‬
‫قال أبو المطراب‪ ،‬عبيد بن أيوب العنبري‪:‬‬

‫وتحت عهودهن َو َبا البعـاد‬ ‫وحالفني الوحوش على الوفاء‬


‫كأن عليهما قطع النـجـاد‬ ‫وغوال قفرة ذكراً وأنـثـى‬

‫وقال آخر وهو كعب بن زهير الصحابي‪ :‬فما َت ُحو ُم على حال تكون به??ا كم??ا َتلً??ؤنُ‬
‫في أثوابها الغول ُ‬
‫وقدقدمنا ذكر ذل?ك فيم?ا س?لف من كتبن?ا في ه?ذا المع?نى‪ ،‬وأن ك?ل ك?وكب من ه?ذه‬
‫يظه??ر في ص??ورة مخالف??ة لم??ا تقدم??ه من الص??ور يح??دث في ه??ذا الع??الم نوع?ا ً من‬
‫األفعال لم ينفرد يفعله غيره من الكواكب‪.‬‬
‫وكانت الع?رب قب?ل اإلس?الم ت?زعم أن الغيالن توق?د باللي?ل الن?يران للعبث والتخي?ل‪،‬‬
‫واختالل الس?ا بل?ة‪ ،‬ق?ال أب?و المط?راب‪ :‬فللَّه در الـغـول‪ ،‬أي رفـيق ٍة لص?احب قف?ر‬
‫حوالي نيرانا تلوح وتـزهـر‬
‫ً‬ ‫حالف وهو معبرأر َن ْت بلحن بعد لحن َوأوقـدت‬

‫قولهم في السعالة‬
‫الس ْعالَة والغول‪ ،‬قال عبيد بن أيوب‪:‬‬
‫وقد فرقوا بين ِّ‬
‫وساخرة مني‪ ،‬ولـو أن عـينـهـا رأت مارأت عيني من الهول ُج َنت‬
‫أر َّنـت‬
‫الجنّ فـيه َ‬
‫إذا الليل وارى َ‬ ‫أبيت بسعـالة وغـول بـقـفـرة‬

‫صفحة ‪311 :‬‬


‫اق م َد ْم َلـجة َوجفن عين خِالف‬ ‫ِ وقد وصفها بعضهم‪ ،‬فقال‪َ :‬وح??افِ ُر الع??نز في َ‬
‫س? ٍ‬
‫اإلنس ِبالطول‬

‫قولهم في الشياطين ونحوهم‬


‫وللناس كالم كثير في‪ -‬الغيالن‪ ،‬والشياطين‪ ،‬والمردة‪ ،‬والجن‪ ،‬والقط??رب‪ ،‬والغ??دار‪،‬‬
‫وه??و ن??وع من األن??واع المتش??يطنة‪ ،‬يع??رف به??ذا االس??م‪ ،‬يظه??ر في أكن??اف اليمن‬
‫والته??ائم‪ ،‬وأع?الي ص??عيد مص??ر‪ ،‬وأن??ه ربم??ا يلح??ق اإلنس??ان فينكح??ه فيت??دود دب??ره‬
‫فيموت‪،‬وربما يتوارى لإلنسان فيذعره‪ ،‬فإذا أصاب اإلنسان ذلك منه يق??ول ل??ه أه??ل‬
‫ئس من??ه‪ ،‬وإن‬‫تلك النواحي التي س ّمينا‪ :‬أمنكوح هو أم مذعور‪ .‬فإن قالوا منك??وح ُي َ‬
‫كان مذعوراً أسكن روعه‪ ،‬وشجع مما ناله‪ ،‬وذلك أن اإلنسان إذا َع? ا َينَ ذل??ك س??قط‬
‫مغشيا ً عليه‪ ،‬ومنهم من يظهر له ذلك فال يكترث به لشهامة قلبه‪ ،‬وشجاعة نفس??ه‪،‬‬
‫وما ذكرنا مشهور في البالد ال??تي س??مينا‪ ،‬ويمكن جمي? ُع م??ا قلن??ا مم??ا حكين??اه عم??ا‬
‫ذكرنا من أهل هذه البقاع أن يكون ضربا ً من السوانح الفاسدة والخ??وأطر الرديئ??ة‪،‬‬
‫أو غير ذلك من اآلفات واألدواء المعترضة لجنس الحيوان من الن??اطقين وغ??يرهم‪،‬‬
‫وهللا أعلم بكيفية ذلك‪.‬‬
‫ولم ن??ذكر في ه??ذا الكت??اب م??ا ذك??ره أه??ل الش??رائع‪ ،‬وم??ا ذك??ره أه??ل الت??واريخ‬
‫والمص?نفون لكتب الب?دو‪ ،‬ك?وهب بن منب??ه‪ ،‬وابن إس?حاق‪ ،‬وغيرهم?ا أن هللا تع?الى‬
‫خلق الجان من نار السموم‪ ،‬وخلق منه? زوجته‪ ،‬كما خلق حواء من آدم وأن بيض ?ة?‬
‫من تل??ك ال??بيض تفلقت عن قطرب??ة‪ ،‬وهي‪ :‬أم القط??ارب‪،‬وأن القطرب??ة على ص??ورة‬
‫الهرة‪ ،‬وأن األبالس من بيضة أخرى منهم الحارث أبو مرة‪ ،‬وأن مسكنهم البح??ور‪،‬‬
‫وأن اا ْل َم??ردة من بيض ?ة? أخ??ري مس??كنهم الجزائ??ر‪ ،‬وأن الغيالن من بيض??ة أخ??ري‪،‬‬
‫مس??كنهم الخل??وات والفل??وات‪ ،‬وأن الس??عالي من بيض ?ة? أخ??ري‪ ،‬س??كنوا الحمام??ات‬
‫والمزابل‪ ،‬وأن الهوام من بيض?ة? أخ??ري‪ ،‬س??كنوا اله??واء في ص??ورة الحي??ات ذوات‬
‫أجنح??ة يط??يرون هنال??ك‪ ،‬وأن من بيض??ة أخ??رى الدواس??ق‪ ،‬وأن من بيض ?ة? أخ??رى‬
‫الحماميص‪ -‬ألنا قد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتبنا‪ ،‬وتقدم من تصنيفنا‪ ،‬وأتين??ا على‬
‫ذكر ما تشعب من أنسابهم والمشهور? من أسمائهم ومساكنهم من األرض والبحار‪،‬‬
‫وإن كان ما ذكره أهل الشرع مما وص??فنا ممكن?ا ً غ??ير ممتن??ع وال واجب‪ ،‬وإن ك??ان‬
‫أهل النظر والبحث والمس??تعملون لقض??ية العق??ل أو الفحص يمتنع??ون مم??ا ذكرن??اه‪،‬‬
‫ب ليل‪ ،‬فأوردنا ما أقاله الناس من أهل الشرائع‬ ‫ويأبون ما وصفنا‪ ،‬والمصنف? حاصِ ُ‬
‫وغيرهم؛ إذ كان الواجب على كل في تصنيف? أن يورد جميع ما قاله أهل الفرق في‬
‫معنى ما ذكرناه‪ ،‬وأتين??ا أيض?ا ً على س??ائر م??ا خبرن??ا من األش??خاص ال??تي هي غ??ير‬
‫مرئية من الجن والشياطين وما قالوه في سلوك الجن في الناس في كتابنا المترجم‬
‫بكتاب المقاالت‪ ،‬في أصول الديانات باهلل التوفيق‪.‬‬

‫ذكر قول العرب في الهواتف والجان‬


‫قال المسعودي‪ :‬فأما الهواتف فقد كانت كثرت في العرب‪ ،‬واتصلت بديارهم‪ ،‬وك??ان‬
‫كثرها أيام مولد النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وفي أولية مبعث??ه‪ ،‬ومن حكم الهوات??ف‬
‫أن تهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي‪.‬‬
‫صفحة ‪312 :‬‬

‫قولهم في الهواتف والجان‬


‫قال المسعودي‪ :‬وقد تن?ازع الن?اس في الهوات?ف والج?ان‪ :‬ف?ذكر فري?ق منهم أن م?ا‬
‫ت??ذكره الع??رب و ُت ْن??بىء ب??ه من ذل??ك إنم??ا يع??رض له??ا من قب??ل التوح??د في القف??ار‪،‬‬
‫?ر ْو َراة الموحِش??ة؛ ألن اإلنس??ان إذا‬ ‫والتفرد في األودية‪ ،‬والس??لوك في المهام??ة وال َم? َ‬
‫وتوحد تفكر‪ ،‬وإذا ه??و تفك??ر و ِج?ل َ َو َج ُبنَ ‪ ،‬وإذا ه??و جبن‬‫ً‬ ‫صار في مثل هذه األماكن‬
‫داخلت???ه الظن???ون الكاذب???ة‪ ،‬واألوه???ام المؤذي???ة‪ ،‬والس???وداوية الفاس ??دة‪ ،‬فص???ورت‬
‫األص??وات‪ ،‬ومثلت ل??ه األش??خاص‪ ،‬وأوهمت??ه المح??ال‪ ،‬بنح??و م??ا يع??رض لن??وي‬
‫وأس?ه س??وء التفغ??ير‪ ،‬وخروج??ه على غ??ير نظ??ام ق??وي‪ ،‬أو‬ ‫ب ذل??ك ُ‬ ‫الوسواس‪ ،‬وقُ ْط ُ‬
‫?ر ْو َراة مستش??عر‬
‫طري??ق مس??تقيم س??ليم؛ ألن المتف??رد في القف??ار والمتوح??د في ال َم? َ‬
‫للمخاوف‪ ،‬مت??وهم للمت??الف‪ ،‬متوق??ع لل ُح ُت??وف ؛ لق??وة الظن??ون الفاس??دة على فك??ره‪،‬‬
‫وانغراسها في نفسه‪ ،‬فيتوهم ما يحكيه من َه ْتف الهواتف به واعتراض الجان له‪.‬‬
‫بين شق وعلقمة بن صفوان‬

‫وقد كانت العرب قبل ظهور اإلسالم تقول‪:‬‬


‫إن من الجن َمنْ هو على صورة نصف اإلنسان‪ ،‬وأنه كان يظه??ر له??ا في أس??فارها‬
‫وحين خلواتها وتسمية شِ قاً‪.‬‬
‫وذكروا عن علقم??ة بن ص??فوان بن أمي??ة بن مح??رب الكن??اني ج??د م??روان بن الحكم‬
‫ألمه أنه خرج في بعض الليالي يريد ماالً له بمكة‪ ،‬ف??انتهى إلى الموض??ع المع??روف‬
‫إلى هذا الوقت بحائط حرمان؛ فإذا هو بشق ق??د ظه??ر ل??ه في أوص??اف ذكره??ا فق??ال‬
‫شق‪:‬‬
‫وإن لحمي مأكـول‬ ‫علقم إني مـقـتـول‬
‫ض ْر َب غالم مشمول‬‫َ‬ ‫أضربهم بالمسـلـول‬
‫َر ْحب ِالزراع بهلول‬
‫فقال علقمة‪:‬‬
‫ص َل ْك تقتل من ال يقتلك‬
‫شِ ق‪ ،‬مالـي ولـك اغمد عني ُم ْن ُ‬
‫فقال شق‪:‬‬
‫َع ْل َقم‪ ،‬غـنـيت لـك كيما أبيح معقـلـك فاصبر لما قد حم لك‬

‫فض??رب ك?ل منهم??ا ص??احبه‪ ،‬فخ??را مي?تين‪ ،‬وه??ذا مش?هور عن?دهم‪ ،‬وأن علقم??ة بن‬
‫صفوان قتلته الجن‪.‬‬

‫الجن تقتل حرب بن أمية‬


‫وذك??روا عن الجن بي??تين من الش??عر قالتهم??ا في ح??رب بن أمي??ة حين قتلت??ه الجن‬
‫وهما‪:‬‬
‫وليس قرب قبر حرب قبر‬ ‫وقبر بـمـكـان قـفـر‬

‫صفحة ‪313 :‬‬


‫واستدلوا على أن ه??ذا الش??عر من ق??ول الجن ب??أن أح??داً من الن??اس ال يت??أتى ل??ه أن‬
‫ينشد هذين البيتين ثالث مرات متوالي??ات ال يتتعت?ع? في إنش??ادهما؛ ألن اإلنس??ان ق??د‬
‫ينشد العشرين بيتا ً واألكثر واألقل أشد من هذا الشعر وأثقل منه? وال يتتعتع? فيه‪.‬‬

‫ممن قتلته الجن‬


‫الس ? َلمي‪ ،‬وه??و أب??و عب??اس بن م??رداس‬
‫وممن قتلت??ه الجن م??رداس بن أبي ع??امر ُّ‬
‫س َلمي‪ ،‬ومنهم الغريض المغني‪ ،‬بعد أن ظهر غناؤه وحمل عن??ه‪ ،‬وق??د ك??انت الجن‬ ‫ال ُّ‬
‫نهته? أن يغني بأبيات من الشعر‪ ،‬فغناها فقتلته‪.‬‬

‫قبر حاتم طي يقري الضيف‬


‫وحدث يحيى بن عق??اب‪ ،‬عن علي بن ح??رب‪ ،‬عن أبي عبي??دة معم??ر بن المث??نى عن‬
‫منصور? بن يزيد الطائي ثم الصامتي قال‪ :‬رأيت قبر حاتم طي ببقة‪ ،‬وهو أعلى جبل‬
‫له واد ُيقال له الخابل‪ ،‬وإذا قدْ ٌر عظيمة من بقايا ق??دور حج??ر مكف??أة في ناحي??ة من‬
‫?ع ج??وار من‬ ‫الق??بر من الق??دور ال??تي ك??ان يطعم فيه??ا الن??اس‪ ،‬وعن يمين ق??بره أرب? ِ‬
‫شعر منشور محتجرات‬ ‫حجارة‪ ،‬وعلى يساره أربع جوار من حجارة‪ ،‬كلهن صاحبة ْ‬
‫على قبره كالنائحات عليه‪ ،‬لم ير مثل بياض أجس أم??ه ن وجم??ال وج??وهن‪َ ،‬م َّثلهن‬
‫الجن على ق??بره‪ ،‬ولم يكنَ قب??ل ذل??ك‪ ،‬والج??واري بالنه??ار كم??ا وص??فنا‪ ،‬ف??إذا ه??دأت‬
‫العيون أرتفعت أصوات الجن بالنياحة عليه‪ ،‬ونحن في منازلنا نس??مع ذل??ك‪ ،‬إلى أن‬
‫يطلع الفجر فإذا طل?ع الفج?ر س?كتن وه?دأن‪ ،‬وربم?ا م?ر الم?ار ف?يراهن فيفتتن بهن‬
‫فيميل إليهن عجبا ً بهنَ ؛فإذا دنا منهن وجدهن حجارة‪.‬‬
‫وحدث يحيى بن عق??اب الج??وهري ق??ال‪ :‬ح??دثنا علي ق??ال‪ :‬أنب??أني عب??د ال??رحمن بن‬
‫يحيى المنذري‪ ،‬عن أبي المنزر هشام الكلبي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو مس??كين بن جعف??ر بن‬
‫محرز بن الولي??د‪ ،‬عن أبي??ه‪ ،‬وك??ان م??ولى ألبي هري??رة ق??ال‪ :‬س??معت محم??د بن أبي‬
‫هريرة يحدث قال‪ :‬كان رجل يك??نى أب??ا البخ??تري م??ر في نف??ر من قوم??ه بق??بر ح??اتم‬
‫أبو البختري يناديه‪ :‬يا أبا الجعد‪ ،‬أقرنا‪ ،‬فقال قوم??ه‬ ‫طييء‪ ،‬فنزلوا قريبا ً منه‪ ،‬فبات ٍ‬
‫?راه‪،‬‬ ‫له‪ :‬مهالً ما تكلم رمة? بالية‪ ?.‬قال‪ :‬إن طيئا ً تزعم أن?ه لم ي?نزل ب?ه أح?د ق?ط إال َق َ‬
‫ون??اموا‪ ،‬فلم??ا أن ك??ان في آخ??ر اللي??ل ق??ام أب??و البخ??تري م??ذعوراً فزع ?ا ً ين??ادي‪:‬‬
‫وراحلتاه‪ ،‬فقال له أصحابه‪ :‬ما ب??دا ل??ك‪ .‬ق??ال‪ :‬خ??رج ح??اتم من ق??بره بالس??يف‪ ،‬وأن??ا‬
‫أنظر‪ ،‬حتى عقر ناقتي‪ ،‬قالوا له‪ :‬ك?ذبت‪ ،‬ثم نظ?روا إلى ناقت?ه بين ن?وقهم ُم َجدَّل?ة ال‬
‫?راك‪ ،‬فظل??وا يكل??ون من لحمه??ا ش??واء وطبيخ?ا ً ح??تى‬ ‫تنبعث‪ ،‬فق??الوا ل??ه‪َ :‬ق??دْ وهللا َق? َ‬
‫بعير يعود آخر ق??د لحقهم فق??ال‪:‬‬ ‫أصبحوا‪ ،‬ثم أردفوه‪ ،‬وانطلقوا سائرين‪ ،‬فإذا راكب ٍ‬
‫آيكم أبو البختري؛ فقال أبو البختري‪ :‬أنا ذلك‪ ،‬قال‪ :‬أنا ع??دي بن ح??اتم‪ ،‬وإن حاتم?ا ً‬
‫?رى‬ ‫ش? ْتمك إي??اه‪ ،‬وأن??ه َق? َ‬‫جاءني الليلة في النوم ونحن نزول وراء هذا الجبل‪ ،‬فذكر َ‬
‫أصحابك براحلتك‪ ،‬وأنشدني يقول في شعره‪:‬‬
‫شت أمـه‬ ‫أبا البختري‪ ،‬ألنـت امـرؤ ظلو ُم العشيرة َ‬
‫صدح ْت أمه‬
‫َ‬ ‫ا أ َت ْي َت بصحبك تبغي الق َِرى لدى حفرة‬
‫وح ْول َك طي وأنع أمه‬
‫لي الذم عند المبـيت َ‬ ‫أتبغى َ‬
‫فإنا سنشبـع أضـيافـنـا ونأتي فـنـعـت أمـه‬
‫صفحة ‪314 :‬‬

‫وقد أمرني? أن أحملك على بعير مكان راحلتك‪ ،‬فدونك‪.‬‬


‫وقد ذكر هذا سالم بن زرارة الغطفاني في مدحه عدي بن حاتم حيث يقول‪:‬‬

‫ش َّب حتى مات في الخير رغبا‬ ‫لحن َ‬ ‫أبوس َفـا َنة الـخـير لـم يزل‬
‫َ‬ ‫أبوك‬
‫وكان َل ُه إذ ذاك حيا مصـاحـبـا‬ ‫به تضرب األمثال في الشعر ميتـا‬
‫ولم يقر قبر قبله ال َّدهْ ـر َراكـب‬ ‫َق َرى قبره األضياف إذ نزلـوا بـه‬

‫وحدث أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاز السجستاني‪ ،‬عن أبي عبيدة‬
‫َم ْعمر بن المثنى‪ ،‬قال‪ :‬سمعت شيخاًه العرب قد أناف على المائ??ة يق??ول‪ :‬إن??ه خ??رج‬
‫وافداً على بعض ملوك بئ أمية‪ ،‬قال‪ :‬فسرت في ليلة صِ َهاكية حالك??ة ك??أن الس??ماء‬
‫قد ب??رقعت نجومه??ا بطرائ?ق الس??حاب‪ ،‬وض?للت الطري?ق‪ ،‬فت??ولجت وادي?أ ال أعرف?ه‬
‫فأهمتني نفسي بطرحها حتى الصباح فلم آمن عزيف الجن‪ ،‬فقلت‪ :‬أعوز ب??رب ه??ذا‬
‫الوادي من شره‪ ،‬وأستجيره في طريقي هذا‪ ،‬وأسترش??ده‪ ،‬فس??معت ق??ائالً يق??ول من‬
‫بطن الوادي‪:‬‬
‫تيامن تجاهك تلق ا ْل َكال تسير وتأمن في المسلك‬
‫قال‪:‬‬
‫فتوجهت حيث أشار إلي وقد أمنت بعض األمن فإذا أنا بأقباس نار تلمع أمامي في‬
‫خللها كالوجوه على قامات كالنخيل السحيقة‪ ،‬فس??رر وأص??بحت بأوش??ال وه??و م??اء‬
‫لكلب بقرب برية? دمشق‪.‬‬
‫وقد ذكر هّللا عز وجل ذلك من فعلهم في كتابه فقال‪َ " :‬وا َن? ُه َك??ان رج??ال من اإلنس‬
‫يعوذون برجال من الجن فزاثوهم َرهَقا"‪.‬‬

‫ذكر ما ذهبت إليه العرب من الق َيافة والزجر‬


‫والعيافة والسانح والبارح وغير ذلك‬
‫الخالف في القيافة وجوازها‬
‫تن??ازع الن??اس في العياف??ة والقياف??ة وغيره??ا مم??ا ذك??ر‪ :‬ف??ذهبت طائف??ة إلى تحقي??ق‬
‫القيافة واألخذ بها؛ألن األشباه تنزع‪ ،‬وغير جائز أن يكون الولد غ?ير مش?به? ألبي??ه‪،‬‬
‫أو أحد من أهل??ه من جه??ة من الجه??ات‪ ،‬ومنهم من ذهب إلى أن في الول??د مواض??ع‬
‫تلحقها القيافة دون غيرها من األعضاء مما لم يحلها الشبه‪ ،‬وال توافق بينهما بحد‬
‫مشترك‪ ،‬وأبى آخ??رون م??ا وص??فنا؛إذ ك??ان الن?اس ق?د يتش??ابهون في ح?د اإلِنس??انية?‬
‫وغير ذلك من الحدود‪ ،‬ويفترقون في غيرها من الص??ور‪ ،‬وليس وج??ود األغلب من‬
‫األشباه مما ي??وجب إلح??اق الش??به بش??بهه‪ ،‬دون أن يخ??الف من حيث أوجبت قض??ية‬
‫العقل االختالف بالتباين‪.‬‬

‫صفحة ‪315 :‬‬

‫اختصاص العرب بذلك‬


‫وهذه المعاني من خواص ما للعرب‪ ،‬وم??ا تف??ردت ب??ه‪ ،‬دون س??ائر األمم في األغلب‬
‫منه??ا‪ ،‬وإن ك??انت الكهان??ة ق??د وج??دت في غيره??ا‪ ،‬ف??إن القياف??ة والزج??ر والتف??اؤل‬
‫والتطير ليس لغيرها في األغلب من األمور‪ ،‬وليس هو موج??ودأ في س??ائر الع??رب‪،‬‬
‫وإنم??ا ه??و للخ??اص منه??ا الفطن والمت??درب الطن ِِن‪ ،‬وإن وج??د ذل??ك في بعض األمم‪،‬‬
‫كوجود ذلك في اإلفرنجة‪ ،‬وما جانسها ممن هنال?ك من األمم‪ ،‬فيمكن أن يك?ون ذل?ك‬
‫موروث ?ا ً عن الع??رب‪ ،‬وم??أخوذاً منه??ا في س??الف ال??دهر‪ ،‬ألن الع??رب ق??د تنقلت في‬
‫البالد‪ ،‬وتغيرت لغاتها‪ ،‬فنسب ذلك إلى الجنس الذي قطنت بينهم الع??رب‪ ،‬ويمكن أن‬
‫تكون اإلفرنجة‪ ،‬ومن وجد فيه??ا ذل??ك من األمم‪ ،‬وأخ??ذوه بع??د ظه??ور اإلس??الم عمن‬
‫جاورهم من أمم العرب‪ ،‬ممن سكن بالد األندلس من األرض الكبيرة‪ ،‬وإن كان ذلك‬
‫قبل ظهور اإلِسالم فهو م??ا ذكرن??ا آنف?اً‪ ،‬ويمكن أن يك??ون هللا ع??ز وج??ل خص ب??ذلك‬
‫خارجا َ من ب??اب‬
‫َ‬ ‫أمما غير العرب كما خص العرب به؛إذ كان ذلك داخالً في اإلمكان‪،‬‬
‫الممتنع والواجب‪ ،‬فيكون الزجر والفأل ش??امالً لبعض الع??رب وغيره??ا من خ??واص‬
‫األمم كوجود النقد للبربر‪ ،‬والنظر في الكتف‪ ،‬وغير ذلك مما خص به كل جنس من‬
‫الناس‪.‬‬

‫منشأ القيافة‬
‫وقد ذهبت طائفة ممن سلف‪ ،‬من أهل البحث والتنق??ير? إلى أن القياف??ة‪ :‬اس??م مش??تق‬
‫?تداللي‪ ،‬وأص??ل ذل??ك‪ :‬أن األش??كال انفص??لت في ص??ورة‬ ‫ٌّ‬ ‫من ال َق ْف? ِ‬
‫?و‪ ،‬وه??و مع??نى اس?‬
‫أنسابها بأشياء تخص األنواع بالتشكيل وخواصم وج?دت لم?ا ب?ه ض?ربت الفواص?ل‬
‫إضرابها في وحيدات األشخاص‪ ،‬وك?ان التناس??ل على وس??اعة وق??در من الغ??ير لم?ا‬
‫توجبه الطبيعة من اتف?اق ك?ل ش?يء في حوزت?ه‪ ،‬وص?رفه إلى وجه?ه‪ ،‬كم?ا خص?ت‬
‫الطبيعة كل نوع من الجنس بفصل أبانت?ه? من أغي??اره‪ ،‬وف??رقت بين??ه وبين أش??كاله‪،‬‬
‫فكذلك أيضا ً خصت أوحد األشخاص المنفصلة في الهيئة‪ ،‬بتغ??ير? الغ??ير من أغي??اره‪.‬‬
‫وكذلك ال تكاد فنون الصور تتراءى في المرائي لغير من أغياره‪،‬وكذلك ال تكاد وإن‬
‫ضمها النوع وشملتها المادة فالقائف يقارب بين الهيات‪ ،‬فيحكم لألقرب صورة ألن‬
‫تشبيه النسل أقرب من تشبيه? النوع‪ .‬وكذلك تشبيه الش??خص إلى الن??وع أق??رب من?ه?‬
‫إلى الجنس‪،‬ألن النوع والشخص ضمهما حدان مشتركان وإنم??ا ض??م الجنس واح??د‬
‫فهو أصل القيافة عند هذه الطائفة‪ ،‬وهو ضرب من ضروب البحث‪ ،‬وإلحاق النظ??ير‬
‫في األغلب بنظ??يره‪ ،‬ومن حيث تس??اويهما من حيث ذكرن??ا في قض??ية العق??ل‪ ،‬وه??و‬
‫القياس بعينه‪ ،‬وليس هذا االس??تدالل من كالم أح??د من فقه??اء القائس??ين وال غ??يرهم‬
‫من المسلمين‪ ،‬وإنما هذا الكالم انتزعن??اه من كالم طائف??ة من الفالس??فة المتق??دمين؛‬
‫فيجب أن يكون نظر القائف على قول ه??ذه الطائف??ة إلى ال َق? َدم؛ ألنه??ا نهاي??ة الش??كل‬
‫وغاية الهيئة‪ ،‬والولد لو خالف صورة أبيه في كنه أفعاله‪ ،‬و باينه في س??ائر ش??كله‬
‫في األغلب يوافقه في الق َد َم؛ ألن النسل ال بد له من تخص??يص قوت??ه بش??يء يم??يزه‬
‫ش ُنوأة‪ ،‬ولذلك صار الجفاء‬ ‫عن غيره و ُيبينه? من سواه‪ ،‬ولذلك وجدوا الطول في أزد َ‬
‫والغلظ في الروم‪ ،‬وأصحاب األجبال‪ ،‬واألكثر من أهل الشام وأوباش مصر‪،‬‬
‫صفحة ‪316 :‬‬

‫والل??ؤم في الخ??زر وأه??ل ح??ران من بالد دي??ار بك??ر‪ ،‬والش??ح بف??ارس‪ ،‬والل??ؤم على‬
‫الطعام بأصفهان‪ ،‬وصار تفرطح الرجلين و َف َطس ! األن??وف في الس??ودان‪ ،‬والط??رب‬
‫في الزنج خاصة‪.‬‬
‫وهذا الذي وصفنا عند هذه الطائفة من أسرار الطبيعة‪ ،‬وخ??واص ت??أثير األش??خاص‬
‫العلوي??ة‪ ،‬واألجس??ام الس??ماوية‪ ،‬وق??د تقص??ينا ه??ذا الش??أن على كمال??ه في كتابن??ا في‬
‫األسرار الطبيعية وخواص تأثير? األش??خاص العلوي??ة والغ??رائب الفلس??فية? في كتابن??ا‬
‫في ال??رؤوس الس??بعية في أن??واع السياس??ات المدني??ة وملكه??ا الطبيعي??ة وفي كت??اب‬
‫االسترجاع في الكرم على من زعم أن العالم متغير جوهره إلى الظلم??ة‪ ،‬وأن الن??ور‬
‫فيه غريب مختار‪ ،‬وأن ستة? أنفس كانوا نورأ بال أجساد‪ :‬شيث بن أدم وزرادش??ت‪،‬‬
‫والمسيح‪ ،‬ويونس‪ ،‬واثنان ال يمكن ذكرهما‪ ،‬وأن النور والظلمة قديمان‪ ،‬وأنهم??ا ال‬
‫ان إال غير ممتزجين وأن األشياء ال تعمل إال في جوهرهما ثم امتزجا من تلق??اء‬ ‫ُي َر َي ِ‬
‫أنفسهما‪ ،‬من غير داخل عليهما وال مكره أكرههما‪ ،‬وهذا الخلف من الكالم والفاسد‬
‫من المقال‪ ،‬وأعجب من هذا الق??ول ق??ول زردش??ت ن??بي? المج??وس‪ :‬أن الق??ديم تع??الى‬
‫ش?ته‪ ،‬توال??د‬‫ذكره طالت َو ْح َدته فطالت فكرت??ه‪ ،‬فلم?ا أن ط??الت فكرت??ه‪ ،‬واش??تدت َو ْح َ‬
‫ال َه ُئم من??ه‪ ،‬وه??و الش??يطان‪ ،‬من تل??ك الوحش??ة ال??تي ول??دتها تل??ك الفك??رة‪ ،‬ونتجته??ا‬
‫الوحدة‪ ،‬وأن هللا عز وجل لو كان قادراً على إفناء ألهم منه لما ضرب له أجال‪ ،‬وال‬
‫أخل َ له أمراً يغوي عبادة‪ ،‬ويفسد بالده‪ .‬وهذا هو ال ُم َحال بعينه‪ ،‬والتناقض بنفس??ه‪?،‬‬
‫وعجب آخر من األراء من قول بولص‪ :‬إن المسيح عليه السالم ه??و ال??ذي أرس??له‪،‬‬
‫وإن المسيح إنسان وإله؛ ألنه إله صار إنس??اناً‪ ،‬إنس??ان ص??ار إله?اً‪ ،‬وق??د أتين??ا على‬
‫جمل من متناقضات أهل اآلراء‪ ،‬في أثناء ما تقدم من كتبنا‪ ،‬وإنما تشعب بت الكالم‬
‫إلى هذا النوع‪ ،‬وتغلغل بنا القول إلى هذا المع?نى‪ ،‬ألن?ه من جنس م?ا كن?ا في?ه‪ ،‬لكن‬
‫عند ذكرنا لما أودعناه كتاب االسترجاع واإلبانة عن غرض فيه‪.‬‬

‫الزجر‬
‫فلنرجع اآلن إلى ما كنا فيه من هذا الكتاب‪ :‬وحدث المنقري عن العتبي‪ ،‬قال‪ :‬وقف‬
‫ع َبيدْ الراعي ذات ي??وم م??ع ركب ب َف ْي َف??اء َق ْف??ر‪ ،‬وك??انوا يري??دون استقص??اد رج??ل من‬
‫ض ِرها‪ ،‬واقف??ة‬
‫تميم؛ إذ سنحت ظباء سود منكرة‪ ،‬ثم اعترضت الركب مقصرة في ُح ْ‬
‫على شأنها‪ ،‬فأنكر ذلك ُع َبيدْ الراعي‪ ،‬ولم ينتبه له أصحابه‪ ،‬فقال عبيد‪:‬‬

‫الظباء السـوانـح‬ ‫تدر ما قال‬


‫ألم ِ‬
‫والركب رائح‬ ‫أط ْفنَ أمام الركب‬
‫َ‬
‫وأيقن قـلـبـي أنـهـن نـوائح‬ ‫فكر الذي لم يعرف ً‬
‫الز ْجر َمنهـ ُم‬

‫ثم شارفوا مقصدهم‪ ،‬فأ ْل َف ُوا الرئيس قد نهشته? أفعى‪ ،‬فأتت عليه‪.‬‬

‫قال أبو عبيدة َم ْع َمر بن المثنى‪:‬‬


‫وهذا من غريب الزجر‪ ،‬وذلك أن السانح َم ْر ُجو عند العرب‪،‬‬
‫صفحة ‪317 :‬‬

‫والبارح‪:‬‬
‫هو المخوف ‪ ،‬وأظن ُع َب ْيداً إنما زجر الظب??اء في حال??ة رجوعه??ا‪ ،‬ووص??ف الح??ال‬
‫األول في شعره‪ ،‬كما أن من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي األسباب فيوضح عنها‪،‬‬
‫فهذا وجه زجر عبيد الراعي في شعره‪.‬‬

‫اختصاص بعض العرب ببعض هذه األمور‬


‫و ُيقال‪ :‬إن الكهانة لليمن‪ ،‬والزجر لبني أسد‪ ،‬والقيافة لبني ُمدْ لج وأحي??اء مض??ر بن‬
‫ن??زار بن َم َع?? ّد‪ ،‬لم??ا ك??ان من فع??ل ب??ني? ن??زار األربع??ة في مس??يرهم نح??و األفعى‬
‫الجرهمي‪ ،‬ووصفهم الجمل الشارد‪ ،‬على ما ذكرنا‪ ،‬أو ذل??ك منهم قياف??ة؛فمن هنال??ك‬
‫تفرقت القيافة من أحياء مضر على حسب ما تغلغل في العروق ونزع‪ ،‬وأهل المياه‬
‫ف‪ ،‬وب??أرض الجف??ار‪ -‬وهي بالد الرم??ل بين بالد مص??ر‬ ‫ْأك َهنُ ‪ ،‬وأهل البر الفائح أ ْق? َ?و ُ‬
‫وأرض الش??ام‪ -‬أن??اس من الع??رب في تل??ك الجف??ار يتن??اول اإلِنس??ان من تم??ر نخلهم‬
‫فيغيب عنهم السنين ولم يروه وال ش??اهدوه‪ ،‬ف??إن رأوه بع??د م??دة علم??وا أن??ه اآلخ??ذ‬
‫لتمرهم‪ ،‬وال يكادون يخطئون وهذا من فعلهم مشهور‪ ،‬وال يك??اد تخفى عليهم أق??دام‬
‫أي الناس هم‪.‬‬
‫ورأيت بهذه األرض أناسا قد ر َّتبهم ُوالة المنازل يطوفون في ه??ذا الرم??ل‪ُ ،‬يعرف??ون‬
‫ص?اص‪ ،‬يقص??ون آث??ار الن??اس وغ??يرهم‪ ،‬فيخ??برون والة المن??ازل أي الن??اس هم‬ ‫بالقُ َ‬
‫ممن طرق تلك البالد‪ ،‬وهم لم يروهم‪ ،‬بل رأوا اث??ر أق??د أم??ه م‪ ،‬وه??ذا مع??نى لطي??ف‬
‫وحس دقيق‪.‬‬

‫القيافة‬
‫وقد َق َف ْت ال َقا َف ُة بقريش حين خرج النبي صلى هللا عليه وسلم وأبو بك??ر إلى الغ??ار‪،‬‬
‫حتى أتت باب الغار على حجر صلد وصخر صم وجبال ال رم??ل عليه??ا وال طين وال‬
‫تراب تتبين عليه األقدام‪ ،‬فحجبهم هّللا تعالى عن نبيه? صلى هللا عليه وسلم بما ك??ان‬
‫س َف ْت عليه الرياح‪ ،‬وما لحق الق??ائف من الح??يرة‪ ،‬وقول??ه‪:‬‬‫من َن ْسج العنكبوت‪ ،‬وما َ‬
‫إلى هنا انتهت األقدام‪ ،‬ومعه الجماعة من قريش‪ ،‬ال يرون على الصلد ما ي??رى وال‬
‫الض? ْف َوان م??ا يش??اهد‪ ،‬وأبص??ارهم س??ليمة‪ ،‬واآلف??ات عنه??ا مرتفع??ة‪ ،‬والموان??ع‬
‫على َ‬
‫زائلة‪ ،‬ولوال أن هنالك لطيفة ال يتس??اوى الن??اس في علمه??ا‪ ،‬وال يتفق??ون باألبص??ار‬
‫إحصاء إدراكها‪َ ،‬ل َما استأثر بذلك طائفة دون أخرى‪ ،‬وأهل الجبال والقفار وال ِّدهَاس‬
‫ْأز َج ُر وأعرف‪.‬‬

‫القيافة عند أهل الشرع‬

‫وق??د ذهب ق??وم من أه??ل الش??ريعة‪ ،‬من فقه??اء األمص??ار وغ??يرهم ممن س??لف‪ ،‬إلى‬
‫الحكم بالقيافة؛ استدالالً على شرف القيافة‪ ،‬وعظم خطره??ا وك??بر محله??ا‪ ،‬وتحقي??ق‬
‫فضلها؛لتعجب النبي صلى هللا عليه وسلم منها‪ ،‬وتصديقه? ُم ْح ِرز المدْ لجي‪.‬‬

‫صفحة ‪318 :‬‬

‫وقد أنكر جماعة من فقهاء األمص??ار‪ ،‬ممن س??لف وخل??ف‪ ،‬الحكم بالقياف??ة‪ ،‬وال??دليل‬
‫الو َل? َد بأبي??ه حين ش??ك فيه‬
‫على فساد الحكم بها إلحاق النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم َ‬
‫لعدم التشابه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا رسول هّللا ‪ ،‬إن امرأتي وضعت غالما ً وإنه ألسود‬
‫فقال النبي ص?لى هللا علي??ه وس?لم مقرب?ا ً إلى فهم?ه وقص?داً من??ه لفس?اد علت??ه ال?تي‬
‫قصدها وشك من أجلها في ولده‪.‬‬
‫فهل لك من إبل‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫فما ألوانها‪.‬‬
‫قال‪ُ :‬ح ْمر‪،‬‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫فهل فيها من َأو ْرق‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬فمن أين ذلك‪ .‬لعل عرقا نزع "ا وقول??ه ص??لى هللا‬
‫س ْحماء ال إن ج??اءت ب??ه على النعت المك??روه‪ ،‬فه??و‬ ‫عليه وسلم في قصة شريك بن َ‬
‫للذي رميت به لما فلما جاءت به على النعت المكروه َو َج? َد التش??ابه بين??ه وبين من‬
‫رميت به‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وس??لم‪ " :‬ل??وال حكم هّللا لك?ان لي ول?ك ش??أن "‬
‫فألحق الولد مع عدم الشبه هنالك‪ ،‬ولم يلحق بالشبه هنا‪ ،‬ولم يجعله حكماً‪ ،‬وقض??ى‬
‫بوجود الفراش وثبوت النص على فساد الحكم بالتشابه‪.‬‬

‫وهذا باب َق َ‬
‫صدْ َنا فيه ه??ذا الكالم‪ ،‬وإنم??ا ذكرن??ا ه??ذا الفص??ل لن??ذكر الحكم بض??ده من‬
‫القيافة‪ ،‬وهذا باب يطول فيه الخطب‪ ،‬ويك??ثر في معاني??ه الش??رح؛لغموض?ه? ولُ ْطف??ه‪،‬‬
‫وق??د ذكرن??ا وج??ه الكالم في ذل??ك وم??ا ذهبت إلي??ه ك??ل فرق??ة من الن??اس ممن س??لف‬
‫وخل??ف في كتابن??ا الم??ترجم بكت??اب ال??رؤوس الس??بعة في اإلحاط??ة بسياس??ة الع??الم‬
‫وأسراره وهو كتاب مشهور مستوعب‪?.‬‬

‫ذكر الكهانة وما قيل في ذلك‬


‫وما اتصل بهذا الباب مما يراه الناس وحدّ النفس الناطقة‬
‫أصل ادعاء علم الغيب‬

‫تنازع الناس في ال َك َهانة‪:‬‬


‫فذهبت طائفة من حكماء اليونانيين والروم إلى التكهن‪ ،‬وكانوا يدعون العلوم من‬
‫ص َف ْت فهي مطلعة على أسرار الطبيعة‪،‬‬ ‫الغيوب‪ ،‬فادعى صنف منهم أن نفوسهم قد َ‬
‫وعلى ما تريد أن يكون منها؛ألن صور األشياء عن??دهم في النفس الكلي??ة‪ ،‬وص??نف?‬
‫منهم ادعى أن األرواح المنف??ردة‪ -‬وهي الجن‪ -‬تخ??برهم باألش??ياء قب??ل كونه??ا‪ ،‬وأن‬
‫ص َفت‪ ،‬حتى صارت لتلك األرواح من الجن متفقة‪?.‬‬ ‫أرواحهم كانت قد َ‬
‫صفحة ‪319 :‬‬

‫وذهب ق??وم من النص??ارى أن الس??يد المس??يح إنم??ا ك??ان يعلم الغائب??ات من األم??ور‪،‬‬
‫ويخبر عن األشياء قبل كونها؛ ألنه كانت في?ه نفس عالم?ة ب?الغيب‪ ،‬ولم ك?انت تل?ك‬
‫النفس في غيره من أشخاص الناطقين لكان يعلم الغيب‪ ،‬وال أمة خلت إال وق??د ك??ان‬
‫فيها َك َهانة‪ ،‬ولم يكن األوائل من الفالسفة إليونانية يدفعون الكهان??ات‪ُ ،‬‬
‫وش ? ِه َر فيهم‬
‫أن فيث??اغورس ك??ان يعلم علوم??أ من الغيب وض??روبا ً من ال??وحي؛لص??فاء نفس??ه‬
‫وتجردها من أدران هذا العالم‪ ،‬والصابئة تذهب إلى أن أوري??ايس األول وأوري??ايس‬
‫الثاني‪ -‬وهما‪ :‬هُرمس!‪ ،‬وأغاثيمون‪ -‬كانوا يعلمون الغيب‪ ،‬ولذلك كانوا أنبي??اء عن??د‬
‫الصابئة‪ ?،‬ومنعوا أن تكون الجن أخ?برت َمنْ ذكرن?ا بش?يء من ض?روب الغيب‪ ،‬لكن‬
‫صفت نفوسهم حتى اطلعوا على ما استتر عن غيرهم من جنسهم‪.‬‬
‫وطائفة ذهبت إلى أن التكهن سبب نفساني لطيف يتول??د من ص??فاء م??زاج الطب??اع‪،‬‬
‫وقوة النفس‪ .،‬ولطافة الحس‪.‬‬
‫وذكر كثير من الناس أن الكهانة تكون من قبل شيطان يكون مع الكاهن يخبره بم??ا‬
‫غاب عنه‪ ،‬وأن الشياطين كانت تسترق السمع وتلقيه على ألس??نة الكه??ان في??ؤدون‬
‫الناس األخبار‪ ،‬بحسب ما ي??رد إليهم‪ ،‬وق??د أخ??بر هّللا ع??ز وج??ل ب??ذلك في كتاب??ه‬‫َ‬ ‫إلى‬
‫فقال‪:‬‬
‫" وأنا لمسنا الس?ماء فوج?دناها ملئت َح َرس?ا ً ش?ديداً وش?بها " و إلى آخ?ر القص?ة‪،‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫" يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" وقوله تعالى‪ " :‬وإن الشياطين‬
‫ليوح??ون إلى أولي??ائهم ليج??ادلوكم " اآلي??ة والش??ياطين والجن ال تعلم الغيب‪ ،‬وإنم??ا‬
‫ذلك الستراقها السمع مما تس?مع من المالئك?ة بظ?اهر قول?ه ع?ز وج?ل‪ " :‬فلم?ا خر‬
‫تبينت? الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين "‪.‬‬
‫وطائف??ة ذهبت إلى أن وج??ه س??بب الكهان??ة من ال??وحي الفلكى‪ ،‬وأن ذل??ك يك??ون في‬
‫المولد عن??د ثب??وت عط??ارد على ش??رفه‪ ،‬وأم??ا م??ا ع??داه من الك??واكب الم??د َب َرات من‬
‫الن??يرين والخمس??ة إذا ك??انت في عق??د متس??اوية? وأرب??اع متكافئ??ة ومن??اظر متوازي?ة?‬
‫وجب لصاحب المولد التكهن واإلِخبار بالكائنات قبل حدوثها؛ إلِشراق هذه األشراق‬
‫الكوكبية‪ ،‬ومن هؤالء من أوجب كون ذلك في القرانات الكبار‪.‬‬
‫?أخر أن عل??ة ذل??ك عل??ل نفس??انية‪ ،‬وأن النفس إذا ق??ويت‬ ‫وذهب كث??ير ممن تق??دم وت? ِّ‬
‫وزادت قهرت الطبيعة‪ ،‬وأبانت لإلنسان كل سر لطيف‪ ،‬وخبرته بكل مع??نى ش??ريف‪،‬‬
‫وغاصت بلطافته??ا في انتخ??اب المع?اني اللطيف??ة البديع??ة فاقتنص??تها وأبرزته??ا على‬
‫الكمال‪ ،‬وكشفت هذه الطائفة وجه اعتاللها فيما ذكرنا؛ فإنهم ق??الوا‪ :‬رأين??ا اإلنس??ان‬
‫ينسب إلى قس??مين‪ ،‬وهم??ا النفس والجس??د‪ ،‬ووج??دنا الجس??د َم َوات??ا ال حرك??ة ل?ه وال‬
‫حس إال ب???النفس‪ ،‬وك???ان الميت ال يعلم ش???يئا ً وال يؤ َذي???ه؛? ف???وجب أن يك???ون العلم‬
‫للنفس‪ ،‬والنفوس طبقات‪ :‬منها الص??افي وهي النفس الناطق??ة‪ ،‬ومنه??ا الك? ِد ُر‪ ،‬وهي‬
‫النفس الحس??ية والنفس النزاعي??ة والنفس المتخيل??ة‪ ،‬ومنه??ا م??ا قوت??ه في اإلنس??ان‬
‫أزيد من قوة الجسم‪ ،‬ومنها ما ق??وة الجس?م أزي?د من?ه‪ ?،‬فلم??ا ك?انت النس?بة? النوري?ة‬
‫لإلنسان إلى النفس كانت ته??دي اإلنس??ان إلى اس??تخراج الغيب وعلم اآلتي‪ ،‬وك??انت‬
‫فطنته وظنونه? أبعث وأعم؛فإذا كانت النفس في غاية البرور ونهاية الخلوص‬
‫صفحة ‪320 :‬‬

‫وكانت تامة النور وكاملة الشعاع ك??ان تولجه??ا في دراي??ة الغ??ائب بحس??ب م??ا علي??ه‬
‫نفوس الكهنة‪ ،‬وبهذا وجد الكهان على هذه السبيل من نقصا في األجس??ام وتش??ويه?‬
‫الخل??ق‪ ،‬كم??ا اتص??ل بن??ا عن ش??ق وس??طيح وس??ملقة وزوبع??ة وس??ديف بن هوم??اس‬
‫وطريفة الكاهنة وعمران أخى ُم َزيقياء وحارثة وجهينة وكاه ُنة با ِه َل َه وأشباهه من‬
‫الكهان‪.‬‬

‫العرافة وبعض العرافين‬


‫واألج َلح الدهري‪ ،‬وعروة بن‬
‫ْ‬ ‫وأما العراف‪ -‬وهو دون الكاهن‪ -‬فمثل األبلق ْ‬
‫األزدِي‪،‬‬
‫األزدِي‪،‬ورباح بن عجلة عراف اليمامة الذي قال فيه ُع ْر َوةُ‪:‬‬
‫زيد ْ‬

‫ش َف َيانِي‬
‫وعراف نجد أنهما َ‬
‫َ‬ ‫جع ُ‬
‫لت ل َِعرافِ اليمامة حكمه‬ ‫ْ‬
‫وكهند صاحب المسننبرن وكان في نهاية التقدم في العرافة‪.‬‬

‫الكهانة في العرب‬
‫والكهانة أصلها نفسيئ؛ ألنها لطيفة باقية ومقارنة ألعجاز ب??اهرة‪ ،‬وهي تك??ون في‬
‫الع??رب على األك??ثر وفي غ??يرهم على وج??ه الن??درة؛ ألن??ه ش??يء يتول??د على ص??فاء‬
‫المزاج الطبيعي‪ ،‬وقوة مادة نور النفس‪ ،‬وإذا أنت اعتبرت أوطانه??ا رأيته??ا متعلق??ة‬
‫بعفة النفس وقمع شرها بك??ثرة الوح??دة وإدم??ان التف??رد وش??دة الوحش??ة من الن?اس‬
‫وقلة األنس بهم‪ ،‬وذلك أن النفس إذا هي تفردت فكرت‪ ،‬وإذا هي فكرت تع??دت وإذا‬
‫ب العلم النفس??ي‪ ،‬فنظ??رت ب??العين النوري??ة‪ ،‬ولحظت ب??النور‬ ‫س? ُح ُ‬ ‫تعدت ه َ‬
‫َط? ل َ عليه??ا ُ‬
‫الث??اقب‪ ،‬ومض??ت على الش??ريعة المس??توية‪ ?،‬ف??أخبرت عن األش??ياء على م??ا هي ب??ه‬
‫وعلي??ه وربم??ا ق??ويت النفس في اإلنس??ان فأش??رفت ب??ه على لراي??ة الغائب??ات قب??ل‬
‫ورودها‪.‬‬
‫وكان كبراء اليونانيين ينعت??ون ه??ذه الطائف??ة بالروحاني??ة‪ ،‬ويقول??ون‪ :‬إن النفس إذا‬
‫هي زادت وك??انت ك??بر ج??زء في اإلنس??ان ته??دت إلى اس??تخراج الب??دائع واألخب??ار‬
‫المستترات‪ ،‬واستدلوا على ذلك أن اإلنس??ان إذا ق??وي فك??ره من وذادت م??واد نفس??ه‬
‫وخأطره فكر في الطارىء قبل وروده فعلم صورته? فيكون وروثه? إلى حال على م??ا‬
‫تصوره وهكذا النفس أيضا ً إذا تهذبت ك??انت الرؤي??ا في الن??وم ص??ادقة وفي الزم??ان‬
‫موجودة‪.‬‬

‫الرؤيا وأسبابها‬
‫وقد تنازع الناس في الرؤيا‪ ،‬والسبب الموقع لها وماهيته?ا وكيفي?ة وقوعه?ا‪ ،‬فق?ال‬
‫فريق‪ :‬إن النوم هو اشتغال النفس عن األمور الظاهرة بمالقاة حوادث باطنة فيه??ا‪،‬‬
‫وذل??ك على وجهين‪ :‬أح??دهما مع??روف ب??العين‪،‬ق??ائم بالص??فة في خ??واطر تح??دث في‬
‫النفس معاني تعبرها وتفرق بينها‪ ،‬فتشغل به عن اس??تعمال الظ??اهر‪ ،‬والب??اطن في??ه‬
‫يؤعي إليه الحواس الخمس فتبطل الحواس عن اإلدراك إلى الحاس أعني الروح‬
‫صفحة ‪321 :‬‬

‫الشتغال الروح عن استعمالها‪ ،‬وإذا وجب بطالنها س??مي نوم?ا ً عرض??ياً‪ ،‬ألن??ه ليس‬
‫النوم الكلي الذي يعم األطفال والعجائز والشيوخ ال??ذين خرج??وا من موق??ع الس??رور‬
‫أو مخافة الشر‪ .‬وكذلك نوم الليل على ما وصفنا‪ ،‬والوجه األخر‪ -‬وه??و الن??وم الكلي‬
‫الذي يعم األطفال والعجائز والطبقات الحيوانية فوات الفك??ر وغيره??ا‪ -‬وهي طبيع??ة‬
‫توجبها الخلقة في وقته ضرورة كما يوجب الج??وع في وقت??ه ض??رورة؛ ألن الج??وع‬
‫عند أهل صناعة الطب علة‪ ،‬وهي الموجبة تحديد الكبد من الفراغ من األغذية‪?.‬‬

‫ومنهم من رأى أن النفس تحرك صورة األشياء على ضربين‪ :‬أحدهما حس واألخر‬
‫فكر؛ فالصورة المحسوسة ال تحركها إال في هيئتها؛ فإذا تخلص علمها عندها ك??ان‬
‫إدراكها مفرداً من طبعها؛ فيكون فكر اإلنسان م??ا لم يتم تابع?ا ً للحس‪ ،‬ح??تى إذا ن??ام‬
‫فعدمت النفس الحواس كلها كانت تلك الصورة التي أخذتها من أعيان األشياء فيها‬
‫قائمة كأنها محسوسة؛ألن الحس بها في أعيانها كان قبل استيالئها بالفكر ض??عيفاً‪،‬‬
‫ص ِّور األشياء كأنها محسوسة يخطر على ب??ال‬ ‫فلما ارتفع الحس قوي الفكر فصار ُي َ‬
‫النائم منها كما يخطر على باله إذا كان َي ْق َظان الشيء ال?ذي ق??د ك?ان أنيس?ه‪ ،‬وليس‬
‫لذلك نظام‪ ،‬وإنما هو ما اتفق؛ فلذلك يرى اإلنسان كأنه يط??ير وليس بط??ائر‪ ،‬وإنم??ا‬
‫يرى صورة الط?يران مف??ردة كم?ا يعلمه?ا إذ غ?ابت؛ ولكن فكرت?ه فيه?ا تق??وى ح?تى‬
‫كأنها معاينة له‪ ،‬فأما ما يراه النائم من األشياء التي ت??دل على م??ا يري??د فإنم??ا ذل??ك‬
‫ألن النفس عالمة بالصور‪ ،‬فإذا خلصتفى المنام من ش??وائب األجس??ام أش??رفت على‬
‫ما تريد أن ينالها‪ ،‬وهي عالمة أنها في حال اليقظ??ة ال يمكنه??ا معرف??ة ذل??ك فتتخي??ل‬
‫خياالت تدل بها على تلك األشياء التي تريد أن تكون‪ ،‬حتى إذا أنتبهت ت??ذكرت تل??ك‬
‫الخياالت وتلك األش??ياء؛ فمن ك??انت نفس??ه ص??افية لم َت َك??دْ رؤي??اه تك??ذب ومن ك??انت‬
‫نفس??ه ك??درة ك??انت تك??ذب كث??يراً‪ ،‬ثم م??ا بين الك??درة والص??افية وس??ائط على حس??ب‬
‫َم َراتبها من الصفاء والكدَ ر يكون صدق ما تخيلته وكذبه‪.‬‬

‫وقال فريق آخر‪ :‬إذا بطل اس??تعمال النفس للح??واس ظ??اهراً لم يبط??ل اس??تعمالها في‬
‫نفسها‪ ،‬ولم يبطل استعمال قواه?ا‪ ،‬فتنتق?ل في األم?اكن‪ ،‬وتش?اهد األش?خاص ب?القوة‬
‫الروحاني??ة ال??تي ليس??ت بجس??م‪ ،‬ال ب??القوة الجس??مانية? الغليظ??ة‪ ،‬وذل??ك أن الق??وة‬
‫الجسدانية ال تدرك إال بمشاركة ومالمسة األشياء‪ :‬إم?ا باتص??ال كاتص??ال الل??ون من‬
‫المل??ون وإم??ا بانفص??ال كانفص??ال الجس??م من األم??اكن‪ ،‬وال??روح تح??رك المتص??ل‬
‫والمنفصل جميعاً‪ ،‬ال بمشاركة الجسد الذي يوجب الحاجة إلى قرب المدرك‪.‬‬
‫ومنهم من رأى أن النوم هو اجتماع الدم وجريانه إلى الكبد‪.‬‬
‫ومنهم من رأى أن ذلك هو سكون النفس وهدوء الروح‪.‬‬
‫ومنهم من زعم أن م??ا يجلى اإلِنس??ان في نوم??ه? من الخ??واطر إنم??ا ه??و من عم??ل‬
‫األغذية واألطعمة والطبائع‪.‬‬
‫?يطان‪،‬واع َت? ل ّ ه??ؤالء‬
‫ْ‬ ‫ومنهم من رأى أن بعض الرؤي??ا من ال َمل??ك وبعض??ها من الش?‬
‫بقوله تعالى‪" :‬إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا"‪.‬‬

‫صفحة ‪322 :‬‬


‫ومنهم من رأى أنها جزء من إحدى وس??تين وج??زأ من النب??وة‪ ،‬وتن??ازع ه??ؤالء في‬
‫كيفية ذلك الجزء وماهيته‪.‬‬
‫ومنهم من ذهب إلى أن اإلنسان الحساس هو غير هذا الجسم الم??رئي وأن??ه يخ??رج‬
‫واعت??ل َّ‬
‫عن البدن في حال النوم فيشاهد العالم ويرى الملكوت‪ ،‬على حسب صفائه‪ْ ،‬‬
‫هؤالء وغيرهم‪ -‬ممن ذهب إلى نح??و ه??ذا المع??نى‪ -‬بقول??ه ع??ز وج?لّ‪ " :‬هّللا يت??وفى‬
‫األنفس حين موتها‪ ،‬والتي لم تمت في من أمه ا" إلى قوله‪" :‬إلى أجل مسمى"‪.‬‬
‫وذهب الجمه??ور من المتطب??بين في ذل??ك إلى آلي األحالم من األخالط‪ ،‬وت??رى بق??در‬
‫مزاج كل واحد منها وقوته‪ ،‬وذل?ك أن ال?ذين تش?تغل أجس?ادهم من الم?رة الص?فراء‬
‫َي َر ْونَ في من أمه م النيران والنواويس ودخان??أ ومص??ابيح? وبيوت?ا ً تح??ترق وم??دائن‬
‫تلتهب بالنار ونحو ذلك وما أش??بهه‪ ،‬والغ??الب على من ك??ان مزاج??ه ال َب ْل َغم أن ي??رى‬
‫بحوراً وأنهاراً وعيونا ً وأحواضا ً و ُغ ْم َرانا ً ومياهأ كثيرة وأمواجاً‪ ،‬ويرى كأنه يسبح?‬
‫أو يصيد سمكا ً ونحو ذل??ك وم??ا قارب??ه‪ ،‬والغ??الب على من ك??ان مزاج??ه الس??وداء أن‬
‫ي??رى في من أم??ه أج??داثا ً وقب??وراً وأموات ?ا ً مكف??نين بس??واد وبك??اء ونوح ?ا ً ورنين??أ‬
‫وص??راخأ وأش??ياء مفزع??ة وام??وراً مفظع??ة وفيل??ة وأس??وداً‪ ،‬والغ??الب على من ك??ان‬
‫مزاجه الدم أن يرى خمراً ونبي??ذاً وري??احين ولعب?ا ً و َق ْ‬
‫ص?فا ً و َع ْزف?ا ً وأن??واع المالهي‬
‫ص?ب َغات من الحم??رة وغيره??ا وم??ا‬ ‫والرقص والسكر والفرح والس??رور والثي??اب ال ُم َ‬
‫لحق بهذا الباب مما وصفنا من أنواع السرور‪.‬‬
‫وال خالف بين المتطب???بين في أن الض???حك واللعب‪ -‬على م???ا ذكرن???اه‪ -‬من أن???واع‬
‫السرور من ال??دم‪ ،‬وأن ك??ل ح??زن وخ??وف وإن اختلفت معاني??ه ف??إن ذل??ك من الم??رة‬
‫السوداء‪ ،‬واحتجوا بضروب من االحتجاجات؛ فهذه جملته??ا‪ ،‬وق??د أوض??حنا ه??ذا في‬
‫كتابنا الرؤيا والكمال وفي كتاب طب النفوس فال وجه إلطنابنا في هذا الموضع من‬
‫ث ونظر‪.‬‬ ‫كتابنا هذا؛ إذ كان هذا الكتاب كتاب خبر ال كتاب بح ٍ‬
‫وإنما تغلغل بنا الكالم‪ -‬لما تش??عب من م??ذاهبهم في إخبارن??ا عنهم‪ ،‬ولم نع??رض في‬
‫هذا الكتاب لما ذهبت إلي?ه الن?اس في تحدي?د النفس‪ ،‬وم?ا قال?ه أفالط?ون في تحدي?د‬
‫النفس إن النفس جوهر محرك للبدن‪ ،‬وما حده صاحب المنطق أن حد النفس كم?ال‬
‫الجس??م الط??بيعي‪ ،‬وح??دها من وج??ه اخ??ر أن??ه َح ُّي ب??القوة‪ ،‬وال للف??رق بين النفس‬
‫وال?روح؛ألن الف?رق بينهم?ا أن ال?روح جس?م والنفس ال جس?م‪ ،‬وأن ال?روح يحوي?ه?‬
‫البدن‪ ،‬وأن النفس ال يحويها البدن‪ ،‬وأن الروح إذا فارق البدن بط??ل والنفس تبط??ل‬
‫أفعالها في البدن‪ ،‬وال تبطل هي في ذاتها‪ ،‬والنفس تحرك البدن وتنيله الحس‪ ،‬وق??د‬
‫ذكر أفالطون في كتاب السياسة المدنية نهر البستان وما يلحق اإلنسان من ص??فات‬
‫النفس الداخلة على النفس الناطقة‪ ،‬وذك??ر أفالط??ون في كتاب??ه إلى طيم??اوس‪ ،‬وفي‬
‫س ْقراط الحكيم وما تكلم في ذلك في النفس والصورة‪.‬‬ ‫كتاب فاردون‪ ،‬وكيفية مقتل ُ‬
‫وق??د تكلم الن??اس في طبق??ات النف??وس وص??فاتها من أص??حاب األث??نين وغ??يرهم من‬
‫?دراك الم??أمور‬
‫الفالس??فة‪ ،‬ثم تن??ازع أه??ل اإلِس??الم في ماهي??ة اإلنس??ان الحس??اس ال? َّ‬
‫المنهى‪ ،‬وما قالته المتصوفة وأصحاب المعارف والدعاوي في طبقات النف??وس من‬
‫النفس المطمئنة‪ ،‬والنفس اللوامة‪ ،‬والنفس األمارة بالس??وء‪ ،‬وغ??ير ذل??ك مم??ا ذهب‬
‫إليه اليهود والنصارى والمجوس والصابئة‪ ،‬وغير ذلك مما ق??د أتين??ا على إيض??احه‬
‫في كتاب سر الحياة وغيره من كتبنا‪.‬‬
‫صفحة ‪323 :‬‬

‫سطيح وشق الكاهنان‬


‫سطِ ي ٌح الكاهن‪ -‬وهو ربيع بن ربيعه بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي‬ ‫وقد كان َ‬
‫بن مازن بن غسان‪ -‬يدرج سائر جسده كما ي??درج الث??وب‪ ،‬ال عظم في??ه إال جمجم??ة‬
‫الرأس‪ ،‬وكانت إذا لمست باليد يلين عظمها‪ ،‬وكان ش??ق بن مص??عب بن ش??كران بن‬
‫أترك بين قيس بن عنقر بن أنمار بن ربيعه? بن ن??زار مع??ه في عص??ر واح??د‪ ،‬وك??ان‬
‫فيهما جمرة الكهانة‪ ،‬وكذلك سملقة وزوبعة كانا في عصر واحد‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر جمل من أخبار الكهان وسيل العرم‬


‫وتفرق األزد في البلدان‬
‫السد وبانيه ومكانه‬
‫ق??ال المس??عودي‪ :‬ق??د ذكرن??ا جمأل من الكهان??ة والقياف??ة ً‬
‫والز ْج? ر والب??ارح والس??انح‬
‫فلنذكر اآلن لمعا ً من أخبار الكهان‪ ،‬وتفرق ولد سبأ في البلدان‪.‬‬
‫ولم يزل ولد قحطان في أطيب عيش إلى أن هلك سبأ‪ ،‬وكان القوم بع??د مض??ي س??بأ‬
‫ت??داولتهم األعص??ار قرن ?ا ً بع??د ق??رن إلى أن أرس??ل هللا عليهم س??يل الع??رم وذل??ك أن‬
‫الرياسة انتهت فيهم إلى عمرو بن عمرو مزيقياءو‪ -‬وهو عمرو بن ع??امر بن م??اء‬
‫الس??ماء بن حارث??ة الغطري??ف بن ثعلب??ة بن ام??رئ القيس‪ ،‬بن م??ازن بن األزد بن‬
‫الغوث بن كهالن بن س??بأ‪ -‬وذل??ك ببالد م??ازن إن أرض اليمن‪ ،‬وهي بالد س??بأ ال??تي‬
‫ذكر هللا في القران أنه أرسل على أهلها سيل العرم‪ ،‬وه??و الس?د‪ ،‬وك?ان فرس?خأ في‬
‫فرسخ‪ ،‬بناه لقمان األكبر العادي‪ -‬وه??و لقم??ان بن ع??اد بن ع??اد‪ -‬وق??د ذكرن??ا خ??بره‬
‫وخبر غيره ممن كان عمر منهم عمر النسور‪ ،‬وهذا السد هو الذي ك??ان ي??رد عنهم‬
‫السيل فيما س??لف من ال??دهر إذا ح??ان أن يغش??ى أم??والهم‪ ،‬فم??زقهم هللا ك??ل مم??زق‪،‬‬
‫وباع??د بين أس??فارهم‪ ،‬والن??اس في قص??ة هلكهم يختلف??ون‪ ،‬وفي س??ياقه أخب??ارهم‬
‫يتباينون‪.‬‬

‫وصف بالد سبأ‬


‫وذكر أصحاب التاريخ القديم أن أرض سبأ كانت من أخص??ب أرض اليمن‪ ،‬وأ ْث َراه??ا‬
‫ْ‬
‫وأغ? دَ قها‪ ،‬وأكثره??ا جنان??ا وغيطان??ا‪ ،‬وأفس??حها ُم ُروج??أ‪ ،‬م??ع بني??ان حس??ن وش??جر‬
‫مصفوف‪ ،‬ومساكب للماء متكاثفة‪ ،‬وأنهار وأزهار متفرقة‪ ،‬وكانت مسيرة? أك??ثر من‬
‫شهر للراكب المجدِّ على هذه الحالة‪ ،‬وفي الع??رض مث??ل ذل??ك‪ ،‬وأن ال??راكب والم??ار‬
‫كان يسير? في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخره??ا تواجه??ه الش??مس وال‬
‫تعارضه؛الس??تتار األرض بالعم?ارة الش??جرية‪ ،‬واس?تايالئها عليه?ا‪ ،‬وإحاطته??ا به??ا‪،‬‬
‫وأر َف ِههِ‪ ،‬وأهنأ حال‪ ،‬وأرغد قرى‪ ،‬وفي نهاية الخصب‪،‬‬ ‫وكان أهلها في أطيب عيش ْ‬
‫وطيب الهواء‪ ،‬وصفاء الفض??اء‪ ،‬وت??دفق الم??اء‪ ،‬وق??وة الش??وكة‪ ،‬واجتم??اع الكلم??ة‪،‬‬
‫ونهاية المملكة وكانت بالدهم في األرض مثالً‪ ،‬وكانوا على طريقة حسنة من أتباع‬
‫شريف? األخالق‪ ،‬وطالب األفضال على القاصد والسفر بحسب اإلمك??ان وم??ا توجب ?ه?‬
‫القدرة من الحال؛ فمكثوا على ذلك ما شاء هللا من األعصار‪ ،‬ال يعاندهم ملك إال‬
‫صفحة ‪324 :‬‬

‫صموه‪ ،‬وال يوافيهم َجئار في جيش إال كسروه‪ ،‬فذلت لهم البالد‪ْ .‬‬
‫وأذ َعنَ لط??اعتهم‬ ‫َق َ‬
‫العباد‪ ،‬فصاروا تاج األرض‪ ،‬وك??انت المي??اه ال??تي هي أك??ثر م??ا ي??رد إلى أرض س??بأ‬
‫تظهر من مخراق من الحجر الص ْلد والحديد من ذلك السد والجبال‪ ،‬ط??ول المخ??راق‬
‫فيما وصفنا فرسخ‪ ،‬وكانوراء السد والجبال أنه??ار عظ??ام‪ ،‬وك??ان في ه??ذا المخ??راق‬
‫األخذ من?ا تل?ك األنه?ار ثالث??ون نقب?ا ً مس??تديرة في‪ ،‬اس??تدارة الف??راء ط??وأل وعرض?ا ً‬
‫مدورة على أحسن هندسة وأكمل تقدير‪ ،‬وكانت المي??اه تخ??رج من تل??ك األنق??اب في‬
‫س ْقيا‪ ،‬وتعدم شرب القوم‪ ،‬وقد كانت أرض س??بأ‬ ‫مجاريها حتى تأتي الجنان فترويها َ‬
‫قبل ما وصفنا من العمارة والخصب يركبها السيل من تلك المياه‪ ،‬وكان مل?ك الق?وم‬
‫في ذلك الزم??ان يق??رب الحكم??اء‪ ،‬وي??دنيهم‪ُ ،‬وي? ْ?ؤثرهم‪ ،‬ويحس??ن إليهم‪ ،‬فجمعهم من‬
‫أقطار األرض لإللتجاء إلى رأيهم‪ ،‬واألخ??ذ من محص??ن عق??ولهم‪ ،‬فش??ارهم في دف??ع‬
‫ذلك السيل وحصره‪ ،‬وذلك أنه كان ينحدر من أعالي الجبل هابط?ا ً على رأس??ه ح??تى‬
‫يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء‪ ،‬فأجمع الق??وم رأيهم على عم??ل مص??ارف ل?ه‬
‫إلى ب??راري تق??ذف ب??ه إلى البح??ر‪ ،‬وأخ??بروا المل??ك أن الم??اء إذا حف??رت المص??ارف‬
‫الهابطة طلبه?ا‪ ،‬وانح??در فيه??ا‪ ،‬ولم ي??تراكم ح??تى يعل??و الجب??ال؛ألن في طب?اع الم?اء‬
‫طالب الخفض فحفر الملك المصارف حتى انحدر الم??اء وانص??رف وت??دافع إلى تل??ك‬
‫الجهة واتخذوا السد في الموضع الذي ك??ان في??ه ب??دء جري??ان الم??اء من الجب??ل ألى‬
‫الجبل‪ ،‬وجعلوا فيه المخراق على ما وصفنا آنف?اً‪ ،‬ثم اجت??ذبوا من تل??ك المي??اه نه??راً‬
‫إلى المخ??راق‪ ،‬ثم ينبعث الم??اء من??ه إلي‬ ‫مرسالً ومقداراً معلوم?ا ً ينتهي في جريان??ه ِ‬
‫تلك األنقاب‪ ،‬وهي الثالثون ومخرافا َ الصغار التي قلمنا ذكرها‪ ،‬وكانت البالد عامرة‬
‫على ما وصفنا آنفأ‪.‬‬

‫مبدأ التهدم‬
‫ثم إن تل?ك األمم ب?أدت وم?رت عليه?ا الس?نون‪ ،‬وض?ربها ال?دهر بض?رباته و َط َح َنه?ا‬
‫ب َك ْلكله‪ ،‬وعمل الماء في أصول ذلك المخراق‪ ،‬وأض?عفه َم َم?ر الس?نين علي?ه وت?دافع‬
‫الماء حوله‪ ،‬وقد قيل في المث??ل‪ :‬إذا أث??ر ت??واتر الم??اء طى الحج??ر الص??لد فم??ا ظن??ك‬
‫بسيل? يتدافع على حديد وحجرمصنوع فلما سكنت أبناء قحطان ما وص??فنا من ه??ذه‬
‫ال???دياروتغلبت على من ك???ان فيه???ا الس???د والبني???ان في الض???عف عن???ه على الس???د‬
‫والمخراق والبنيان‪ ،‬فقنف به َج ْريه ورمى به في تياره‪ ،‬وذل??ك إ ًب??ان زياع??ة الم??اء‪،‬‬
‫واستولى الماء على تلك الديار والجنان والعمائر والبنيان‪ ،‬حتى انقرض سكان تلك‬
‫األرض‪ ،‬وزالوا عن تلك المواطن‪ ،‬فهقه جملة من أخبار سيل العرم وبالد سبأ‪.‬‬

‫العرم‬
‫وال خالف بين ذوي الدراي??ة منهم أن الع??رم ه??و المس??ناة ال??تي ق??د أحكم??وا عمله??ا‬
‫لتك??ون ح??اجزأ بين ض??ياعهم وبين الس??يل‪ ،‬ففجرت??ه ف??أرة‪ ،‬ليك??ون ذل??ك أظه??ر في‬
‫األعجوبة‪ ،‬كما أفار هللا تعالى ماء الطوفان من جوف َتن??ور ليك??ون أثبت في الع??برة‬
‫وأو َك َد في الحجة‪ ،‬واليتنا كر أحالف قحطان من أهل تلك ال??ديار إلى ه?ذا ال??وقت م??ا‬
‫ْ‬
‫كان من العرم؛ الستفاضته فيهم‪ ،‬وشهرته? عندهم‪.‬‬
‫صفحة ‪325 :‬‬

‫مفاخرة عند السفاح بين قحطاني وعدناني‬


‫وقد فخر بعض أوالد قحطان في مجلس السفاح بمن??اقب َق ْح َط? ان من حم??ير وكهالن‬
‫على ولد نزار‪ ،‬وخالد بن صفوان وغيره من نزار بن معد منصتون هيب??ة للس??فاح؛‬
‫ألن أخوال?ه من قحط?ان‪ ،‬فق?ال الس?فاح لخال?د بن ص?فوان‪ :‬أال تنط?ق وق?د غم?رتكم‬
‫قحطان بشرفها وعلت عليكم بقديم مناقبها‪ .‬فقال خالد‪ :‬م??اذا أق??ول لق??وم ليس فيهم‬
‫إال دابغ جلد‪ ،‬أو ناسج برد‪ ،‬أو سائس قرد‪ ،‬أو راكب َع ْرد‪ ،‬أغرقتهم فأرة‪ ،‬وملكتهم‬
‫امرأة‪ ،‬ودل عليهم هدهد‪ ،‬ثم من مر في ذمهم إلى أن انتهى إلى ما كان من قص??تهم‬
‫وتملك الحبشة وما كان من استنقاذ الفرس إياهم على حسب ما قدمنا آنفاً‪.‬‬

‫العرم في شعر العرب‬


‫فى بد ذكروا في أشعارهم الع??رم‪ ،‬وم??ا ك??ان لس??بأ وأرض م??أرب‪ ،‬وأن م??أرب ِس? َمةٌ‬
‫للملك الذي كان يتملك على هذه البلدة‪ ،‬وأن هذا االسم وقع على ه?ذا البل?د فاش?تهر‬
‫به وصار سِ َم ًة له‪ ،‬وقال الشاعر‪:‬‬
‫إذ يبنون من دون سيله ال َعرما‬ ‫من سبأ الحاضرين مأرب‬

‫وقد قيل‪:‬‬
‫هذا الملك في صدر الزمن‬ ‫إن مأرب سِ َم ٌة لقصر‬

‫قال أبو الطل َم َحان في ذلك‪:‬‬


‫وما حواليه من سور وبنيان‬ ‫ص َن ُه‬
‫أح َ‬
‫ألم تروا مأربا ما كان ْ‬
‫ولم يهب َر ْي َب دهر جد ََخؤان‬ ‫ظل العبادئ يسقي فوق قلًتـه‬
‫يرقى إليه على أسباب كتـان‬ ‫حتى تناوله من بعد ما هجعوا‬

‫وقد ذكر األعشى في شعره ما وصفناه حيث يقول في كلمته‪:‬‬

‫فى عليها ا ْل َع ِـر ْم‬


‫بمأرب َع َّ‬ ‫أس َـوةٌ‬
‫ففي ذاك للمؤتسـي ْ‬
‫إذا جاء فأغنى ماؤُ هُم لم َي ِرم‬ ‫رخام بناه لـهـم حـمـير‬
‫على ساعة ماؤهم قد قسـم‬ ‫فأغنى الحروث وأغن أمـه‬
‫اب يطـم‬ ‫س َر ٌ‬
‫في فيافي َ‬ ‫فطار الفـيول ُ وفـئالـهـابها‬
‫فمال بهم جارف منـهـدم‬ ‫ً‬
‫حـقـبة‬ ‫وكانوا بـذلـ ُكـم‬
‫منه لشرب صبي فطـم‬ ‫فطاروا سراعا ً ومـا يقـدمون‬

‫طول العمر وعمر النسور‬


‫وقد ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان الملك الذي طال عمره وحسنت سيرته؛ وأنه بنى‬
‫هذا السد الذي هو المسناة‪ ،‬وأن عمره انتهى على عمر النسور‪ ،‬عند ذكرن??ا لط??ول‬
‫وبل َب? دٍ‪،‬‬
‫األعمار‪ ،‬وقد أكثرت العرب في صفه طول عمر النسر‪ ،‬وضربت به األمثال‪ِ ،‬‬
‫وبصحة بدن الغراب؛ فمن ذلك ما ذكره الخزرجي في شعره عند ذكره لطول‬
‫صفحة ‪326 :‬‬

‫عمر ُم َعاذ بن مسلم بن رجاء مولى ال َق ْع َقاع بن حكيم من قوله في??ه عن??د ذك??ره س??نة‬
‫وهرمه‪ ?،‬وهو‪:‬‬
‫ضـ ًج مــن طـــول عـــمـــره األ َبـــد‬ ‫قد َ‬ ‫إن مـعـــاذ بـــن مـــســـلـــم رجـــل‬
‫وأثواب عمره جدد‬ ‫ُ‬ ‫واختضب الحصر‬ ‫قد شاب رأس الزمان‬
‫ثـــوب الـــحـــياة يالُـــبـــد‬ ‫يانسر لقمان كم تعيش وكم تلـبـــس‬
‫الـــوتـــد‬
‫َ‬ ‫وأنـت فـــيهـــا كـــأنـــك‬ ‫ــت دار حـــمـــير َخ ِ‬
‫ـــربـــت‬ ‫أصـبـح ْ‬
‫َ‬ ‫قد‬
‫صـــدَاع والـــرمــــد‬ ‫كيف يكـــون الـــ ُ‬ ‫نسـأل غـربـانـــهـــا إذا حـــجـــلـــت‬

‫علة طول األعمار ونقصها‬


‫وقد قدمنا فيما س??لف في مواض?ع من ه?ذا الكت?اب م?ا ق?الت األوائ?ل في عل??ة ط?ول‬
‫األعمار وقصرها‪ ،‬وعظم األجسام في َب??دء األم??ر‪ ،‬وتناقض??ها على م??رور األعص??ار‬
‫َو ُمضِ يئ الدهور‪ ،‬وأن هللا تبارك وتعالى لما بدآ الخلق كانت الطبيعة التي جعلها هللا‬
‫جبلة لألجسام في تمام " الك??ثرة ونهاي?ة? الق??وة والكم??ال‪ ،‬والطبيع??ة إذا ك??انت تام??ة‬
‫القوة كانت األعمار أطول‪ ،‬واألجسام أقوى؛ألن طرق الموت الطارئ يكون ب??انحالل‬
‫قوى الطبيعة‪ ،‬فلما كانت القوة أتم كانت األعمار أَزيد‪ ،‬وك?ان الع?الم أو أولي??ة ش?أنه‬
‫تا َّم العمر‪ ،‬ثم لم يزل ينقص أوالً فأوال لنقصان المادة فتنقص األجسام واألعمار مع‬
‫نقص??ان الم??ادة ح??تى يك??ون آخ??ر مائي??ة الطبيع??ة في تن??اهي النقص في األجس??ام‬
‫واأل عمار‪.‬‬
‫وقد أبى ما ذكرنا من عظم أجسام الناطقين في صدور الزمان كث??ير من أه??ل النظ??ر‬
‫والبحث ممن ت??أخر‪ ،‬وزعم??وا أن ت??أثيرهم في بني??انهم وم??ا ظه??ر في األرض من‬
‫أعم??الهم ي??دل على ص??غر أجس أم??ه م‪ ،‬وأنه??ا ك??انت كأجس??امنا‪ ،‬لم??ا ش??اهدوه من‬
‫مساكنهم وأبوابهم وممراتهم فيما أحدثوه من البني?ان والهياك?ل وال?ديار والمس??اكن‬
‫وح ْفره??ا في الص??خر‬‫في س??ائر األرض‪ ،‬ك??ديار ثم??ود و َن ْحته??ا المس??اكن في الجب??ال َ‬
‫الصلد بيوتا ً صغاراً وأبوابأ د لطافاً‪ ،‬وكذلك أرض عاد ومصر والش??ام وس??ائر بق??اع‬
‫األرض في الشرق والغرب‪ ،‬وهذا ب??اب إن أكثرن??ا الق??ول في??ه ط??ال‪ ،‬وإن ْ‬
‫أطنبن??ا في‬
‫ص??فته ك??ثر‪ ،‬فل??نرجع اآلن إلى م??ا عن??ه َع? دَ ْل َنا ومن ص??فته خرجن??ا من ذك??ر س??بأ‬
‫ومأرب‪ ،‬وما كان من الملك في ذلك الوقت وهو عمرو بن عامر‪.‬‬

‫عود لذكر سبأ‬


‫وكان للملك عمرو بن عامر المق??دم ذك??ره في ه??ذا الب??اب أخ ك??اهن عقيم‪ ،‬يق??ال ل??ه‬
‫عمران‪ ،‬وكان لعمرو كاهنة من أهل?ه من حم?ير ُيق?ال له?ا طريف?ة الخ?ير فك?ان أول‬
‫شيء وقع بمأرب وع??رف من س??يل الع??رم أن عم??ران الك??اهن أخ??ا عم??رو رأى في‬
‫كهانته أن قومه سوف يمزقون كل ممزق ويباعد بين أس??فارهم‪ ،‬ف??ذكر ذل??ك ألخي??ه‬
‫عمرو‪ ،‬وهو الملك مزيقياء الذي كانت محنة القوم في أيام ملكه‪ ،‬وهللا أعلم بكيفي??ة?‬
‫ذلك‪.‬‬

‫صفحة ‪327 :‬‬


‫ظريفة الكاهنة‬
‫وبينا طريف??ة الكاهن??ة ذات ي??وم نائم??ة إذ رأت فيم??ا ي??رى الن??ائم أن س??حابة غش??يت‬
‫أرض??هم وأرع??دت وأب??رقت ثم ص??عقت فم??ا ح??رقت م??ا وقعت علي??ه‪ ،‬ووقعت إلى‬
‫تقع على شيء إال حرقته‪ ،‬ففزعت طريفة لذلك‪ ،‬وذعرت ذعراً ش??ديداَ‪،‬‬ ‫األرض‪ ،‬فلم ِ‬
‫وانتبهت وهي تقول‪ :‬ما رأيت مثل اليوم‪ ،‬قد أذهب ع??ني الن?وم‪ ،‬رأيت غيم?ا ً أب??رق‪،‬‬
‫وأرعد طويال ثم أصعق‪ ،‬فما وقع على شيء إال أحرق‪ ،‬فما بعد هذا إال الغرق‪ ،‬فلما‬
‫رأوا ما داخلها من الرعب خفضوها وسكنوا من جأشها حتى س??كنت‪ ،‬ثم إن عم??رو‬
‫بن عامر دخل حديقة من حدائق??ه ومع??ه جاريت??ان ل??ه فبل??غ ذل??ك طريف??ة‪ ،‬فأس??رعت‬
‫نحوه‪ ،‬وأم??رت وص??يفا ً له??ا ُيق??ال ل?ه س??نان أن يتبعه??ا‪ ،‬فلم??ا ب??رزت من ب??اب بيته??ا‬
‫عارضها ثالث َم َناجدَ منتصبات على أرجلهن واض??عات أي??ديهن على أعينهن‪ ،‬وهي‬
‫دواب تشبه? اليرابيع يكنَّ بأرض اليمن‪ ،‬فلما رأتهن طريفة وضعت يدها على عينها‬
‫وقعدت‪ ،‬وقالت لوصيفها‪ :‬إذا ذهبت هذه المناجد ع َّنا فأعلمني‪ ،‬فلما ذهبت أعلمه??ا‪،‬‬
‫فانطلقت مسرعة‪ ،‬فلما عارض??ها خليج الحديق??ة ال??تي فيه??ا عم??رو و َث َب ْت من الم??اء‬
‫س?? َل ْحفاة‪ ،‬ف??وقعت على الطري??ق على ظهره??ا وجعلت تري??د اإلنقالب فال تس??تطيع‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فتستعين بذنبها وتحثو التراب على بطنها وجنبها وتقذف بالبول‪ ،‬فلما رأتها طريفة‬
‫جلس??ت إلى األرض‪ ،‬فلم??ا ع??ادت الس??لحفاة إلى الم??اء مض??ت طريف??ة إلى أن دخلت‬
‫على عمرو الحديقة حين انتصف? النهار في ساعة شديد حره??ا‪ ،‬ف??إذا الش??جر يتكف??أ‬
‫من غير ريح‪ ،‬فنفذت حتى دخلت على عمرو ومعه جاريتان له على الف??راش‪ ،‬فلم??ا‬
‫رآها استحيا منها‪ ،‬وأمر الجاريتين فنزلتا عن الفراش‪،‬‬
‫ثم قال لها‪ :‬هلمي يا طريفة إلى الفراش فتكهنت‪،‬‬
‫وق??الت‪ :‬والنوروالظلم??اء‪ ،‬واألرض والس??ماء‪ ،‬إن الش??جر لت??الف‪،‬وس??يعود الم??اء‬
‫لما كان في الدهر السالف‪،‬‬
‫قال عمرو‪َ :‬منْ خ َّبرك بهذا؟‬
‫يقطع فيها الولد والوالد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫قالت‪ :‬أخبرني ال َم َناجد‪ ،‬بسنتين شدائد‪،‬‬
‫قال‪ :‬ما تقولين‬
‫س? َل ْح َفاً‪ ،‬تج??رف ال??تراب َج ْرف??أ‪ ،‬وتق??ذف‬
‫قالت‪ :‬أقول ق??ول الن??دْ َمان لهف?اَ‪ ،‬ق?د رأيت ُ‬
‫فدخلت الحديقة فإذا الشجر يتك َّفا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بالبول قذفأ‪،‬‬
‫قال عمرو‪ :‬وما ترين ذلك؛‬
‫قالت‪ :‬هي داهية ركيمة‪ ،‬ومصائب عظيمة‪ ،‬ألمور جسيمة‪،‬‬
‫قال‪ :‬وما هي ويلك‬
‫قالت‪ :‬أجل إن لي الويل‪ ،‬ومالك فيها من نيل‪ ،‬فلي ولك الويل‪ ،‬مما يجي به الس ْيل‪،‬‬
‫فألقى عمرو نفسه على الفراش‬
‫وقال‪ :‬ما هذا يا طريفة‬
‫قالت‪ :‬هو خطب جليل‪ ،‬وحزن طويل‪ ،‬وخل??ف قلي??ل‪ ،‬والقلي??ل خ??ير من ترك??ه‪ ،‬ق??ال‬
‫عمرو‪ :‬وما عالمة ذلك‬
‫قالت‪ :‬تذهب إلى السد فإذا رأيت ُج َرذاً يكثر بيديه? في السد الحف??ر‪ ،‬ويقلب برجلي??ه‬
‫من الجبل الصخرة فاعلم أن النقر عقر‪ ،‬وأنه وقع األمر‪،‬‬
‫قال‪ :‬وما هذا األمر الذي يقع‪.‬‬
‫صفحة ‪328 :‬‬

‫قالت‪ :‬وعد من هللا نزل‪ ،‬وباطل بطل‪ ،‬ونكال بنا نزل‪ ،‬فبغيرك يا عمرو فليكن الثكل‪،‬‬
‫فانطلق عمرو إلى السد يحرسه‪ ?،‬فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون‬
‫رجال فرجع إلى طريفة فأخبرها وهو يقول‪:‬‬

‫الس َقم‬
‫ح ّ‬ ‫وهاج لي من ه َْوله َب ْر ُ‬ ‫أبصرت أمراً عادني منـه ألـم‬
‫أو َت ْيس مرم من أفاريق ا ْل َغ َنـم‬ ‫من ُج َر ٍذ ك َف ْحل خنزير َ‬
‫األجـ ْم‬
‫مخاليب وأنـياب قـضـم‬ ‫ُ‬ ‫له‬ ‫يسحب صخراً من جالميد ال َع ِر ْم‬
‫س َلـم‬ ‫كأنما يرعى حظيرا ًمن َ‬ ‫مافاته سحال من الصخر قصـم‬

‫فقالت له طريفة‪ :‬إن من عالمة ما ذكرت لك أن تجلس في مجلسك بين الجنتين‪ ،‬ثم‬
‫تأمر بزجاجة فتوض??ع بين ي??ديك‪ ،‬فإنه??ا س??تمتلئ? بين ي??ديك من ت??راب ال َب ْطح??اء من‬
‫س ْهلة الوادي ورملة‪ ،‬وقد علمت أن الجنان ُمظلمة ما يدخلها شمس وال ريح‪،‬‬ ‫َ‬
‫فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه‪ ،‬فلم يمكث إال قليالً ح??تى امتألت من ت??راب‬
‫البطحاء‪ ،‬فذهب عمرو إلى طريفة فأخبرها بذلك‪،‬‬
‫وقال‪ :‬متى ترين هالك السد‬
‫قالت‪ :‬فيما بينك وبين السبع السنين‪،‬‬
‫قال‪ :‬ففي أيها يكون؛‬
‫قالت‪ :‬ال يعلم ذلك إال هللا تعالى‪ ،‬ولو علمه أحد لعلمته‪ ،‬وال ي??أتي علي??ك ليل??ة فيم??ا‬
‫بينك وبين السبع السنين إال ظننت هالكه في غدها أوفي تلك الليلة‪.‬‬

‫عمرو بن عامر يتحيل للخروج من بالده‬


‫ورأى عمرو في الن??وم س??يل الع??رم‪ ،‬وقي??ل ل??ه‪ :‬إن آي??ة ذل??ك أن ت??رى الحص??باء ق??د‬
‫ف النخل‪ ،‬فذهب إلى َك َرب النخل وسعفه فوج??د الحص??باء ق??د ظه??رت‬ ‫ظهرت في سع ٍ‬
‫فيها‪ ،‬فعلم أن ذلك واق??ع بهم‪ ،‬وأن بالدهم س??تخرب‪ ،‬فكتم ذل??ك وأخف??اه‪ ،‬وأجم??ع أن‬
‫يبيع? كل شيء له بأرض سبأ‪ ،‬ويخرج منها هو وولده‪ ،‬ثم خشي أن يس??تنكر الن??اس‬
‫ذلك‪ ،‬فصنع طعاما ً وأمر بإبل فنحرت‪ ،‬وبغنم فذبحت‪ ،‬وصنع طعام?ا ً واس??عاً‪ ،‬ثم بعث‬
‫ض ُروا ط??ع أم??ه ‪ ،‬ثم دع??ا ابن?ا ً ل??ه‬
‫وذكر فاح ُ‬
‫ٍ‬ ‫إلى أهل مأرب أن عمراً صنع يوم مجد‬
‫جلست أطعم الطعام الن??اس‬ ‫ُ‬ ‫ُيقال له مالك‪ ،‬و ُيقال‪ :‬بل كان يتيما ً في حجره‪ ،‬فقال‪ :‬إذا‬
‫ففجلس عندي ونازعني الحديث‪ ،‬واردده علي‪ ،‬وافعل بي مثل ما أفعل??ه ب??ك‪ ،‬وج??اء‬
‫أهل مأرب‪ ،‬فلما جلسوا أطعم الناس وجلس عنده ال??ذي أم??ره بم??ا أم??ره ب??ه‪ ،‬فجع??ل‬
‫وش? َتمه‪ ،‬فص??نع الص??بي بعم??رو‬ ‫ينازعه الحديث‪ ،‬وير ُذ عليه‪ ،‬فضرب عمرو وجه??ه َ‬
‫وج َه??ه‬
‫?رب ْ‬‫مثل ما صنع به فقام عمرو وصاح‪ :‬واذأله يوم فخر عم??رو ومج??ده يض? ُ‬
‫األزدِيى‪:‬‬‫صبي‪ ،‬وحلف ليقت َل َنه‪ ،‬فلم يزالوا بعم??رو ح??تى ترك??ه ففي ذل??ك ق??ال ح??اجز ْ‬
‫يارب لطمة َغدْ ٍر قد سخنت بـهـا بكف عمرو التي بالغمر قد غرقت‬
‫ثم قال‪ :‬وهللا ال أقيم ببل??د ص??نع ه??ذا بي في??ه‪ ،‬وألبيعن عق??اري في??ه وأم??والي‪ ،‬فق??ال‬
‫الناس بعضهم لبعض‪ :‬اغتنموا غضبة عمرو‪ ،‬واشتروا منه أمواله قبل أن يرض??ى‪،‬‬
‫فابتاع الناس منه? جميع ماله بأرض مأرب‪ ،‬وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن‬
‫صفحة ‪329 :‬‬

‫الع ِرم‪ ،‬فخرج ناس من األزد وباعوا أموالهم‪ ،‬فلم??ا أك??ثروا ال??بيع اس??تنكر ذل??ك‬ ‫سيل َ‬
‫الناس‪ ،‬فأمس??كوا بأي??ديهم عن الش??راء‪ ،‬فلم??ا اجتمعت إلى عم??رو بن ع??امر أموال??ه‬
‫أخبر الناس بشأن سيل العرم‪ ،‬فقال أخوه عمران الك??اهن‪ :‬ق??د رأيت أنكم س??تمزقون‬
‫ويباع ُد بين أسفاركم‪ ،‬وإني أصف لكم البلدان فاختاروا أيها ش??ئتم‪ ،‬فمن‬ ‫َ‬ ‫كل ُم َم َّزق‪،‬‬
‫أعجبه منكم صفة بلد فليص??ر إليه??ا‪ ،‬من ك??ان منكم ذاهَم بعي??د وجم??ل ش??ديد وم??زاد‬
‫جديد فليلحق بقصر عم??ان المش??يد‪ ،‬فك??ان ال??ذين نزل??وهُ أزد عم??ان ق??ال‪ :‬ومن ك??ان‬
‫منكم ذاهم غير بعيد‪ ،‬وجمل غير شديد ومزاد غير جديد فليلحق بالشعب من كرود‪،‬‬
‫قال‪ :‬وهي أرض همدان‪ ،‬فلحق به وادعة بن عمرو‪ ،‬فانتسبوا فيهم‪ ،‬وقال الك??اهن‪،‬‬
‫ومن كان منكم ذا حاجة ووطر وسياسة ونظر‪ ،‬وصبر على أزم??ات ال?دهر‪ ،‬فلي ْل َح? ْق‬
‫ببطن َم ًر‪ ،‬وك?ان ال?ذين س?كنوه خزاع?ة س?ميت ب?ذلك النخزاعه?ا في ذل?ك الموض?ع‬
‫عمن ك??ان معه??ا من الن??اس‪ ،‬وهم بن??و عم??رو بن َلحي‪ ،‬فتخ??زعت هنال??ك إلى ه??ذه‬
‫زع ْت خزاع??ة من??ا‬ ‫الغاية‪ ،‬وفي ذلك يقول حسان بن ثابت‪ :‬و َل ّما َه َب ْط َنا بطنَ َم??ر َت َخ? َ‬
‫شعر له طويل ومال??ك وأس??لم و َم ْلك??ان بن??و قص??ى بن حارث??ة بن‬
‫ٍ‬ ‫في ملوك كراكرفي‬
‫عمرو مزيقياء‪ ،‬وقال الكاهن‪ :‬ومن كان يري??د الراس??يات في الرح??ل‪ ،‬المطعم??ات في‬
‫ال َم ْح? ل ‪ ،‬فليلح??ق بي??ثرب? ذات النخ??ل‪ ،‬وهي المدين??ة‪ ?،‬وك??ان ال??ذين س??كنوها األوس‬
‫والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء‪ ،‬قال الكاهن‪ :‬ومن كان يري??د منكم‬
‫الخمر والخمير‪ ،‬والديباج والحرير‪ ،‬واألمر والتدبير‪ ،‬فليلحق ببصرى? وحفير‪ ،‬وهي‬
‫أرض الشام فكان الذين س??كنوها غس?ان ق?ال الك?اهن‪ :‬ومن ك?ان منكم يري??د الثي?اب‬
‫الرقاق والخيول العتاق‪ ،‬والكن??وز واألرزاق‪ ،‬فليلح??ق ب??العراق‪ ،‬وك?ان ال?ذين لحق??وا‬
‫األزدِي وول??ده‪ ،‬و َمنْ ك??ان ب??الحيرة من غس??ان‪ ،‬على‬ ‫ب??العراق منهم مال??ك بن فهم ْ‬
‫حسب ما قدمنا آنفا ً فيما سلف من هذا الكتاب‪.‬‬

‫وقال هشام بن الكلبي‪ :‬وأما أبي فكان يقول‪ :‬إنما نزل ب??الحيرة من غس??ان م??ع تب??ع‬
‫بعد هذا بزمان‪.‬‬
‫ثم خرج عمرو بن عامر مزيقي??اء وول??ده‪ ،‬من م??أرب‪ ،‬وخ??رج من ك??ان بم??أرب من‬
‫األزد يري??دون أرض??ا تجمعهم يقيم??ون به??ا‪ ،‬فف??ارقهم وادع??ة بن عم??رو بن ع??امر‬
‫ُم َزيقياء فسكنوا هم??دان‪ ،‬وتخل??ف مال??ك بن اليم??ان بن فهم بن ع??دي بن عم??رو بن‬
‫مازن بن األزد‪ ،‬وكان بعدهم بمأرب ملكا ً إلى أن كان من أمرهم ما ك??ان في الهالك‪،‬‬
‫ثم ساروا ح?تى إذا ك?انوا ب َن ْج? َران تخل?ف أب?و حارث?ة بن عم?رو بن ع?امر ُم َز ْيقي?اء‬
‫ودعبل بن كعب بن أبي حارثة فانتسبوا? في مذحج‪ ،‬قال أبو الم??نزر‪ :‬ويق??ال‪ :‬إن أب??ا‬
‫حارثة هو جد الحارث بن كعب بن أبي حذيفة الذي بنجران‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬‬

‫ثم سار عمرو بن عامر حتى إذا كان بين السراة ومك??ة أق??ام هنال??ك أن??اس من ب??ني‬
‫نصر من األزد‪ ،‬وأقام معهم عمران بن عامر الكاهن أخو عمرو بن عامر ُم َزيقياء‪،‬‬
‫وعدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء‪ ،‬وسار عمرو بن عامر وبنو مازن حتى نزل??وا‬
‫بين بالد األشعريين وع? ٍّك على م??اء ُيق??ال ل??ه غس??ان بين واديين‪ ،‬يق??ال لهم??ا زبي??د‬
‫ورمع‪ ،‬وهما مما يلي صدورهما بين صعيد ُيقال له‪ :‬صعيد الحسك‪ ،‬وبين الجبال‬
‫صفحة ‪330 :‬‬

‫التي تدفع به في زبيد ورمع‪ ،‬فأق?اموا على غس?ان‪ ،‬وش?ربوا من?ه‪ ،‬فس?موا غس?ان‪،‬‬
‫وغلب على أسمائهم‪ ،‬فال يعرفون إال به‪ ،‬قال شاعرهم‪:‬‬
‫ْ‬
‫األز ُد نسبتنا والماء غسان‬ ‫إما سألت فإنا معشرنجب‬

‫األوس والخ??زرج‪ ،‬ابن??ا حارث??ة بن ثعلب??ة بن‬


‫ُ‬ ‫وال??ذين س??موا غس??ان من ب??ني م??ازن‬
‫وج ْفن??ة بن عم??رو ُم َز ْيقي??اء‪ ،‬والح??ارث وع??وف وكعب ومال??ك بن??و‬
‫عمرو ُم َزيقي??اء‪َ ،‬‬
‫عمرو مزيقيا‪ ،‬والوم وعدي ابن??ا حارث??ة بن ثعلب??ة بن ام??رىء القيس بن م??ازن بن‬
‫األزد‪.‬‬

‫وللقوم أخبار في تف??رقهم‪ ،‬ومن دخ??ل منهم في مع??د بن ع??دنان وم??ا ك??ان بينهم من‬
‫الحروب إلى أن ظفرت بهم بنو مع??د‪ ،‬ف??أخرجتهم إلى أن لحق??وا بالس??راة‪ -‬والس??راة‬
‫جبل األزد الذي هم به يقال له السراة‪ ،‬ويقال له‪ :‬الحجاز‪ ،‬وإنم??ا س??مي الس??راة من‬
‫هذا الجبل ظهره‪ ،‬فيقال لظهره السراة كم?ا يق?ال لظه??ر الداب?ة الس??راة‪ ،‬فأق?اموا ب?ه‬
‫وكانوا في سهله وجبله وما قاربه‪ ،‬وهو جبل على تخ??وم الش??ام‪ ،‬وف??رز بين??ه وبين‬
‫الحجاز مما يلي أعمال دمشق واألردن وبالد فلسطين ويالقي جبل موسى‪.‬‬

‫عبادة أهل مارب وصنعهم مع رسلهم‬


‫س ?الً ي??دعونهم إلى هللا‪،‬‬
‫وق??د ك??ان أه??ل م??أرب يعب??دون الش??مس‪ ،‬فبعث هللا إليهم ُر ُ‬
‫ويزج????رونهم? عم????ا هم علي????ه‪ ،‬وي????ذكرونهم آالء هّللا ونعمت????ه عليهم‪ ،‬فجح????دوا‬
‫قولهم‪،‬وردوا كألمهم‪ ،‬وأن َك ُروا أن يكون هلل عليهم نعمة‪ ،‬وقالوا لهم‪ :‬إن كنتم ُر ُ‬
‫سأل‬
‫فادعوا هللا أن يسلبنا ما أنعم علينا‪ ،‬ويذهب عنا م?ا أعطان?ا‪ ،‬وفي ذل?ك تق?ول ام?رأة‬
‫منهم كافرة‪:‬‬
‫ص ِب ُح في ظالله من ربكم فلينطلق بمالـه إليه عنا وإلى عـيالـه‪،‬‬ ‫إن كان ما ُن ْ‬

‫فأجابتها امرأة مؤمنة‪ ?،‬فقالت‪:‬‬


‫س ْع عيالنا أموالنـا‬ ‫ولم َي َ‬ ‫لوال اإلل ُه لم يكن عيالنـا‬
‫ويكشف الغم إذا ما ها َل َنا‬ ‫هوالذي يجيبنا سؤا َلـ َنـا‬

‫ف??دعت عليهم الرس??ل فأرس??ل هللا عليهم س??يل الع??رم‪ ،‬فه??دم س??دهم وغش??ي الم??اء‬
‫ضراءهم‪ ،‬وأزال أموالهم وانع أمهم‪ ،‬ف??أتوا رس??لهم‬ ‫أرضهم‪ ،‬فأهلك شجرهم وأباد َخ ْ‬
‫فقالوا‪ :‬أدْ ُعوا هّللا أن يخلف علينا نعمتنا‪ ،‬و ُي ْخصِ ب بالدنا‪ ،‬ويرد علين??ا م??ا ش??رد من‬
‫أنعامنا‪ ،‬ونعطيكم َم ْوثقا أن ال نشرك باهلل شيئاً‪ ،‬فس??ألت الرس??ل ربه??ا‪ ،‬فأج??ابهم إلى‬
‫وأعطاهم ما سألوا‪ ،‬فأخصبت بالدهم‪ ،‬واتس??عت عم??ائرهم إلى أرض فلس??طين‬ ‫ذلك‪ْ ،‬‬
‫هّلل‬
‫والشام‪ :‬قُ ًرى ومنازل وأسواقاً‪ ،‬ف??أتتهم رس??لهم‪ ،‬فق??الوا‪ :‬موع??دكم أن تؤمن??وا با ‪،‬‬
‫فأبوا إال طغيانا ً وكفرأ‪ ،‬فمزقهم هّللا كل ممزق‪ ،‬وباعد بين أسفارهم‪.‬‬

‫صفحة ‪331 :‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬وإذ قد ذكرنا جمأل من أخبار السد وبالد مأرب‪ ،‬وعمرو بن ع??امر‪،‬‬
‫وغير ذلك مما تقدم ذكره في هذا الباب‪ ،‬فلنرجع اآلن إلى أخبار الكهان‪.‬‬

‫أول كهانة سطيح الغساني‬


‫وكان أول ما تكهن به َ‬
‫سطيح الغساني أنه كان نائم?ا ً في ليل??ة ُ‬
‫ص? َهاكية مظلم??ة م??ع‬
‫إخوله في لحاف‪ ،‬والحي ُخلُوف‪ ،‬إذ زع??ق من بينهم ورنَّ وت??أوه‪ ،‬وق??ال‪ :‬والض??ياء‬
‫والشفق‪ ،‬والظالم والغسق‪ ،‬ليطرقنكم ما طرق‪ ،‬قالوا‪ :‬ما طرق يا س??طيح‪ ?.‬ق??ال‪ :‬م??ا‬
‫األج َل ُح‪ ،‬حين سرى الليل البهيم األفلح‪ ،‬ووالهم بسردح‪ ،‬قالوا‪ :‬وما عالمة‬‫طرق إال ْ‬
‫ذلك يا سطيح‪ .‬قال‪ :‬أمر يسد النقرة‪ ،‬فوحبسة في الوجرة‪ .‬وحرة بعد حرة‪ ،‬في ليلة‬
‫قرة‪ ،‬فانص??رفوا عن قول??ه‪ ،‬واس??تهانوا ب??أمره‪ ،‬وتعاص??فت م??رود من أودي??ة هن??اك‪،‬‬
‫ففاجأتهم في ليلة بارعة قرة كما ذكر‪ ،‬فساقت األنعام والمواشي‪ ،‬وك??ادت أن ت??ذهب‬
‫بعامتهم‪.‬‬
‫ولسطيح الكاهن ولشق بن صعب أخبار كثيرة عجيبة‪ ?:‬منها رؤيا ت َّبع الحم??يري في‬
‫أن َج ْمرة خرجت من ظلمة‪ ،‬فوقعت بأرض ُت َه َمة‪ ،‬أكلت منها كل ذات جمجم?ة‪ ،‬وم?ا‬
‫فس َراه له في ذلك‪ ،‬وكذلك خبرسطيح‪ ،‬وعبد المسيح في رؤي??ا الموب??ذان‪ ،‬وارتج??اج‬ ‫َّ‬
‫اإليوان‪ ،‬وخبر سملقة وزوبعة‪ ،‬وما كان من أمرهما‪ ،‬وخبر شأن الظليم والش??جرة‪،‬‬
‫وما كان بين عك وغسان من الحرب في رقة اللبن وحالوته وثخنه‪ ،‬ونزول غسان‬
‫أعلى ال??وادي‪ ،‬وع??ك في أس??فله‪ ،‬وم??ا ك??ان في ذل??ك من القياف??ة بينهم في طل??وع‬
‫الشمس وغروبها على إبلهم‪ ،‬وخبر السموال بن حس??ان بن عادي??اء‪ ،‬وم??ا ك??ان من‬
‫أمره‪ ،‬وأمر خازن الكاهن‪ ،‬وما قاله حين َط َر َقه ليالً‪ ،‬وانقي??اده إلى ذمت??ه‪ ،‬وم??ا ك??ان‬
‫من الع??ير األقم??ر‪ ،‬والظليم األحم??ر‪ ،‬والف??رس األش??قر‪ ،‬والجم??ل األزور‪ ،‬والش??يخ‬
‫األحقر‪ ،‬وغير ذل??ك مم??ا ذكرن??اه فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪ ،‬في أخب??ار الزم??ان والكت??اب‬
‫األوسط‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر سني? العرب والعجم وشهورها‬


‫وما اتفق منها وما اختلف‬

‫قال المسعودي‪:‬عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر ش??هرأ فلن??ذكر اآلن‬
‫سِ نِي وشهور وأي??ام م??ا أش??تهر أهل??ه من ج??ل االمم‪ ،‬وهم الع??رب والف??رس وال??روم‬
‫والسريانيون والقبط؛ إذ كان قول اليونانيين في ذلك هو م??ا ذهبت إلي??ه ال??روم‪ ،‬ولم‬
‫نعرض لوصف قول الهند في السنين والشهور واأليام وما ذهبوا إلي??ه في ذل??ك من‬
‫حسابهم‪ ،‬ومن تبعهم على ذلك من أهل الصين وكثير من الممالك واالمم؛إذ كان في‬
‫ذلك خروج عما عليه الجمه?ور والمعه?ود بين الن?اس‪ ،‬ونجع?ل المبت?دأ ب?ذكر س?ني‬
‫وشهور القب??ط؛ لموافقته??ا الس??ريانيين ثم نعقب بع??د ذل??ك ب??ذكر ش??هور الس??ريانيين‬
‫وموافقتها لشهور الروم‪ .‬ثم نتب?ع? ذل??ك ب??ذكر س??ني الع??رب وش??هورها وأيأمه??ا‪ ،‬ثم‬
‫نعقب بعد ذلك بذكر سِ نِي الفرس وشهورها وأيأمها وألية علة استحق عندها‬
‫صفحة ‪332 :‬‬

‫تسمية كل شهر منها‪ ،‬وكل يوم‪ ،‬وم??ا قالت??ه الع??رب في تس??مية? اللي??الي‪ ،‬وجم??ل من‬
‫ذكر أفعال الشمس والقمر وتأثيرهما في هذا العالم في الجم??اد والنب??ات والحي??وان‪،‬‬
‫وغير ذلك مما يقف عليه المتأمل عند قراءت??ه‪ -‬إن ش??اء هللا تع??الى‪ -‬على م??ا يري??د‪،‬‬
‫وهللا تعالى ولي التوفيق‪.‬‬

‫ذكر شهور القبط والسريانيين‬


‫والخالف في أسمائها وجمل من التاريخ‬
‫شهور القبط ومقابلها من شهور السريان‬
‫أول شهور القبط‪ :‬ت?وت‪ ،‬وه??و أيل??ول‪ ،‬وباب??ه‪ ،‬وه??و تش?رين األول‪ ،‬وه?اتور‪ ،‬وه??و‬
‫تشرين الثاني‪ ،‬وكيهك‪ ،‬وهو كانون األول‪ ،‬وطوبه‪ ،‬وه??و ك??انون الث??اني‪ ،‬وأمش??ير‪،‬‬
‫ش َباط‪ ،‬وبرمهات‪ ،‬وهو آذار‪ ،‬وبرموعه‪ ،‬وه??و نيس??ان‪ ،‬وبش??نس‪ ،‬وه??و أ ًي??ار‪،‬‬‫وهو َ‬
‫وبؤونه‪ ،‬وهو حزيران‪ ،‬وأبيب‪ ،‬وهو تموز‪ ?،‬ومسرى‪ ،‬وهو آب‪.‬‬
‫وللقب??ط بع??د ه??ذا خمس??ة أي??ام لواح??ق‪ ،‬ت??دعى الع??دياء‪ ،‬تزي??دها على م??ا س??مينا من‬
‫شهورها‪ ،‬وهي ثلثمائة يوم وستون يوماً؛ فتص??ير الس??نة ثلثمائ??ة وخمس??ة وس??تين‬
‫يوماً‪.‬‬

‫سنة القبط‬
‫وأول يوم من السنة عند القبط ه??و الي??وم التاس??ع والعش??رون من ش??هر آب‪ ،‬وعلى‬
‫كل شهر منها ثالثون يوماً‪ ،‬وكانت أيام السنة ثلثمائة وخمس??ة وس??تين يوم ?ا ً كع??دة‬
‫أيام سنة الفرس وكانت شهور القبط فيما مضى توافق أوائلها شهور الفرس فك??ان‬
‫أول توت أول أذر ما‪ ،‬ثم كل شهر كذلك على هذا الوصف إلى آخر سنة القب??ط آخ??ر‬
‫آذر ماه‪ ،‬وهذا الحس??اب بعين?ه? موج??ود في كتب الزيج??ات في النج??وم‪ ،‬وأه??ل مص??ر‬
‫وسائر القبط في ه??ذا ال??وقت‪ -‬وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة‪ -‬يس??تعملون في‬
‫حسابهم في الشهور غيرما قدمنا‪ ،‬وذل??ك أنهم زادوا في أي??ام الس??نة رب??ع ي??وم على‬
‫م??ذهب الس??ريانيين وال??روم فص??ارت ش??هورهم مخالف??ة لش??هور الف??رس وموافق??ة‬
‫لشهور السريانيين والروم فيعدد أيام السنة‪ ،‬وتاريخ القبط في كتاب المجس??طي من‬
‫أول السنة التي ملك فيها البخت َنضر وكان أولها يوم األربعاء‪.‬‬

‫مبدأ التواريخ?‬
‫وأما تاريخ القبط في كتاب زيج? بطليموس‪ ،‬فمن أول سنة ملك فيلقوس وكان أولها‬
‫يوم األحد‪ ،‬والتباين الذي بين تاريخ البخت نص??ر وت??اريخ ي??زد ج?رد أل?ف وثلثمائ?ة‬
‫وتسع وتسعون س??نة فارس??ية? وثالث??ة أش??هر‪ ،‬وال??ذي بين ت??اريخ فليق??وس وت??اريخ?‬
‫يزدج??رد تس??عمائة وخمس وخمس??ون س??نة وثالث??ة أش??هر‪ ،‬وبين ت??اريخ اإلس??كندر‬
‫وتاريخ يزدجرد تسعمائة واثنتان وأربعون س??نة من س??ني ال??روم ومائت??ان وتس??عة‬
‫وخمس??ون يوم??اً‪ ،‬وبين ت??اريخ? يزدج??رد وت??اريخ الهج??رة من األي??ام ثالث??ة آالف‬
‫وستمائة? وأربعة وعشرون يوماً‪ ،‬فأول هذه التواريخ تاريخ البخت نصر‪ ،‬ثم ت??اريخ‬
‫فيلقوس‪ ،‬ثم تاريخ ابنه اإلسكندر‪ ،‬ثم تاريخ? الهجرة‪ ،‬ثم تاريخ يزدجرد‪.‬‬
‫صفحة ‪333 :‬‬

‫أوائل كل تاريخ‬
‫وتاريخ العرب من أول السنة التي هاجر فيها النبي صلى هللا علي??ه وس??لم من مك??ة‬
‫إلي المدينة‪ ،‬وكان أولها يوم الخميس‪.‬‬
‫وتاريخ الفرس من أول السنة التي ملك فيها يزدجرد بن شهر ياربنكسرى أبرويز‪،‬‬
‫وكان أولها يوم الثالثاء‪.‬‬
‫وت??اريخ ال??روم والس??ريانيين من أول الس??نة من مل??ك اإلس??كندر‪ ،‬وك??ان أوله??ا ي??وم‬
‫االثنين‪ ،‬وهللاُ تعالى أعلم بحقيقة ذلك‪.‬‬

‫ذكر شهور السريانيين ووصف موافقتها‬


‫لشهور العرب وعدة أيام السنة ومعرفة األنواء‬
‫شهورهم وأيام كل شهر‬
‫وربع ي??وم‪ ،‬وهي مختلف??ة في‬
‫ٍ‬ ‫فأول ذلك أن أيام السنة ثلثمائة وخمسة وستون يومأ‬
‫العدد‪ :‬فنيس?ان ثالث?ون يوم?اً‪ ،‬وأي?ار أح?د وثالث?ون يوم?ا‪ ،‬وحزي?راز ثالث?ون يوم?أ‪،‬‬
‫ولثمان عشرة ليلة منه رجوع الشمس هابط??ة من الش??مال على م??ا أوجب??ه حس??اب‬
‫الهند وهو أطول يوم في السنة وليلته أقصر ليلة‪ ،‬وتموز أحد وثالث?ون يوم?اً‪ ،‬وآب‬
‫أحد وثالثون يوماً‪ ،‬فإذا انسلخ آب ذهب الحر‪ ،‬قال محمد بن عمد الملك الزيات‪:‬‬

‫وا ْل َتذ الشـراب‬ ‫َب َر َد الماء وطال آلليل‬


‫وآب‬
‫ُ‬ ‫وتـمـو ُز‬ ‫ومضى عنك َحزيران‬
‫َ‬

‫وأيلول ثالثون يومأ‪ ،‬ولخمس منه? عيد زكريا‪ ،‬ولعشر منه تط??ع الص??رفة فينص??رف?‬
‫الحر‪ ،‬ولثالث عشرة منه? عيد الصليب‪ ،‬وهو الرابع عشر منه‪ ?،‬وفي هذا اليوم تفتح?‬
‫الترع بمصر? على حسب ما ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب‪ ،‬ولتمام عش??رين من??ه‪،‬‬
‫يستوي? الليل والنهار‪ ،‬وقال أبو ُن َواس‪:‬‬

‫وأخ َب ْت نارها الشعرى ا ْل َع ُبور‬


‫ْ‬ ‫مضى أيلول وارتفع الح ُرور‬

‫سر تسمية المهرجان‬


‫وتش???رين األول أح???د وثالث???ون يوم???اً‪ ،‬وفي???ه يك???ون المهرج???ان‪ ،‬وبين الن???يروز‬
‫والمهرجان مائة وتسعة وستون يوماً‪ ،‬وعند الفرس في معنى المهرج??ان أن??ه ك??ان‬
‫?واص الن??اس وعوأم??ه‪،‬‬
‫َ‬ ‫لهم ملك في قديم الزمان من ملوك الفرس ق??د ًعم ظلم??ه خ?‬
‫تس?مى بأس??ماء المل??وك‪ ،‬فقي??ل مهرم??اه‪ ،‬ومع??نى‬ ‫وكان يسمى مهر‪ ،‬وكانت الشهور ِ‬
‫ماه‪ :‬هو الشهر‪ ،‬وأن ذلك الملك طال عمره واش?تدت وطأت?ه؛فم?ات في النص?ف من‬
‫هذا الشهر‪ ،‬وهو مهرماه‪ ،‬فسمي ذلك اليوم الذي مات فيه مهرجان وتفس??يره نفس‬
‫مهر ذهبت؛ألن الفرس تقدم في لغتها ما تؤخره الع?رب في ك?ل أم?ه ا‪ ،‬وه?ذه اللغ?ة‬
‫اللهلوية‪ ،‬وهي الفارسية األولى‪ ،‬وأهِل الم??روآت ب??العراق وغيره??ا من م??دن العجم‬
‫يجعلون هذا اليوم أول يوم من الشتاء؛ فتغير فيه الفرش واآلالت وكثيراً من‬
‫صفحة ‪334 :‬‬

‫المالبس‪ ،‬ولخمس منه‪ ?-‬وه??و تش??رين األول‪ -‬عي??د كنيس??ة القيام??ة ب??بيت المق??دس‪،‬‬
‫وفي هذا اليوم تجتم?ع النص?ارى من س?ائر األرض‪ ،‬وت?نزل عليهم ن?أر من الس?ماء‬
‫فيس??رج هن??اك الش??مع‪ ،‬ويجتم??ع في??ه من المس??لمين خل??ق عظيم للنظ??ر إلى العي??د‪،‬‬
‫ويقتلع فيه ورق الزيتون‪ ،‬ويكون للنصارى فيه أقاصيص‪ ،‬ولهذه النار حيلة لطيفة‬
‫?ر عظيم‪ ،‬وق??د ذكرن??ا وج??ه الحيل??ة في ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بكت??اب القض??ايا‬
‫وس? ّ‬
‫والتجارب وتشرين الثاني ثالثون يوما‪ ،‬وكانون األول ثالثون يوما‪ ،‬ولتس??ع عش??رة‬
‫تس?ع س??اعات ونص??فا ً وربع?اً‪ ،‬وه??و منتهى قص??ره‪ ،‬واللي??ل أرب??ع‬ ‫منه? يكون النه??ار ِ‬
‫عش??رة س??اعة وربع ?اَ‪ ،‬وه??و منتهى طول??ه‪ ،‬وليل??ة الخ??امس والعش??رين من ?ه? ميالد‬
‫المسيح عليه السالم‪ ،‬وكانون الثاني أحد وثالثون يوم?اً‪ ،‬وأول ي??وم من??ه القلن??دس‪،‬‬
‫فيكون فيه بالشام ألهله عيد يوقدون في ليلته النيران‪ ،‬ويظهرون األفراح‪ ،‬ال سيما‬
‫بمدين?ة? إنطاكي??ة‪ ،‬وم?ا يك?ون في كنيس??ة القس??يان به??ا من الق?داس عن?دهم‪ ،‬وك??ذلك‬
‫بسائر الشام وبيت المق?دس ومص?ر وأرض النص?رانية كله?ا‪ ،‬وم?ا يظه?ر أه?ل دين‬
‫النص??رانية? بإنطاكي??ة من الف??رح والس??رور وإيق??اد الن??يران والمآك??ل والمش??ارب‪،‬‬
‫ويساعدهم على ذلك عوام الناس وكثير? من خواصهم‪ ،‬وذلك أن مدينة إنطاكية به??ا‬
‫كرسي البطرك المعظم عن??دهم في دي??انتهم‪ ،‬وأن النص??رانية? تس??مى إنطاكي??ة مدين?ة?‬
‫هللا‪ ،‬ويسمونها أيضا ً مدينة? الملك‪ ،‬وأم المدن‪ ،‬ألن بدُؤ ظهور النصرانية كان فيها‪.‬‬

‫بطارقة النصارى‬
‫والبطارق??ة عن??د النص??رانية أربع??ة‪ :‬أولهم ص??احب مدين??ة رومي??ة‪ ?،‬ثم الث??اني وه??و‬
‫صاحب مدينة? قسطنطينية‪ ?،‬وهي أقسس‪ ،‬واسمها الق??ديم بوزنطي??ا‪ ،‬ثم الث??الث وه??و‬
‫ص??احب اإلس??كندرية من أرض مص??ر‪ ،‬ثم الراب??ع وه??و ص??احب إنطاكي??ة‪ ،‬ورومي??ة‬
‫وإنطاكي??ة لبط??رس‪ ،‬فب??دءا برومي??ة ألنه??ا لبط??رس‪ ،‬ثم ختم??وا بإنطاكي??ة ألنه??ا ل??ه‪،‬‬
‫وتعظيما ً لبولس‪ ،‬وقد أحدثوا كرسيا ً ببيت المقدس‪ ،‬ولم يكن هذا متقدماً؛ وإنم?ا ه?و‬
‫محدث‪ ،‬وكان إلِيليا وهو بيت المقدس أسقف ولكورة لد من أرض فلسطين‪.‬‬

‫مشهور? كنائسهم‬
‫وبإنطاكية أيضا ً كنيسة? بولس‪ ،‬وتعرف بإنطاكية بدير البراغيث وهي مم??ا يلي ب??اب‬
‫ف??ارس‪ ،‬وبه??ا أيض?ا ً كنيس??ة أخ??رى ت??دعى أش??مونيت‪ ،‬وبه??ا عي??د عظيم للنص??رانية?‬
‫وكذلك بها كنيسة بربارا‪ ،‬وكنيس?ة? م??ريم وهي كنيس?ة? م??دورة‪ ،‬وبنيانه??ا من إح??دى‬
‫عجائب العالم في التشييد والرفعة‪ ،‬وكان الوليد بن عبد الملك بن م??روان اقتل??ع من‬
‫هذه الكنيسة? ُعمدأ عجيبة من المرمر والرخام لمسجد دمش??ق حملت في البح??ر إلى‬
‫ساحل دمشق‪ ،‬وبقي األكثر من هذه الكنيسة? إلى هذا الوقت‪.‬‬
‫وقد كان لملك من ملوك الروم مع اليهود بإنطاكية خبر عجيب في كنيسة أشمونيت?‬
‫وكانت خارج السور من إنطاكية‪ ،‬وهي في أيدي اليهود‪ ،‬فعوضت اليهود دار الملك‬
‫بإنطاكية بدالً من كنيسة أشمونيت‪ ?،‬وهذه الدار التي كانت دار الملك تعرف في ه??ذا‬
‫الوقت بدار اليهود‪ ،‬ولليهود حيلة احتالوها حين خ??رجت الكنيس ?ة? من أي??ديهم ح??تى‬
‫قتلوا من النصرانية? خلقا ً عظيما ً من نشر خشب فيها وغير ذلك‪.‬‬
‫صفحة ‪335 :‬‬

‫وق??دمنا أخب??ار بط??رس وب??ولس وم??ا ك??ان من أمرهم??ا بمدين?ة? رومي?ة? وغيره??ا من‬
‫تالميذ المسيح وتفرقهم في البالد‪ ،‬وذكرنا قص??ة المل??ك ال??ذي ب??نى مدين?ة? إنطاكي??ة‪،‬‬
‫وه??و المع??روف ب??أنطيخش‪ ،‬وتفس??ير ذل??ك مح??وط الحوائ??ط‪ ،‬وك??ان اس??م إنطاكي??ة‬
‫بالرومية على اسمه أنطيخش‪ ،‬فلما ورد المس??لمون وافتتحوه??ا ح??ذفت األح??رف إال‬
‫األلف والنون والطاء‪.‬‬
‫وفي تاريخ النصارى الملكية وغيرها من أهل دين النصرانية يكون لمول??د المس??يح‬
‫إلى وقتنا هذا‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ ?-‬وتسعمائة س??نة وأربع??ونْ س??نة‪،‬‬
‫وتكون ِس? ُنو اإلس?كندر ألف?ا ً وم?ائتين وخمس?أ وثم?انين‪ ?.،‬ويك?ون من اإلس?كندر إلى‬
‫المسيح ثلثمائة? سنة وتسع وستون‪.‬‬
‫هذا ما وجدت في تاريخ الملكية في كنيسة القسيان بمدين ?ة? إنطاكي??ة‪ ،‬وس??نذكر بع??د‬
‫هذا الموضع جمالً من التاريخ? في باب نفرده لذلك‪ ،‬إن شاء هّللا تعالى‪.‬‬
‫عود إلى الشهور وأي أمه ا وأيام العجوز‬
‫فلنرجع اآلن إلى وصف حساب الشهور‪ :‬شباط ثمانية? وعش??رون يوم??ا ورب??ع ثالث‬
‫سنين متوالية‪ ،‬والرابعة كبيسة فيكون تسعا ً وعشرين يومأ‪ ،‬وتكون الس??نة ثلثمائ??ة‬
‫وستة? وستين يوماً‪ ،‬ولسبعة منه تسقط الجمرة األولى‪ ،‬وهي الجبهة وألربع عشرة‬
‫من?ه? تس?قط الجم?رة الثاني?ة‪ ،‬وهي الزب?رة‪ ،‬وإلح?دى وعش?رين من?ه تس?قط الجم?رة‬
‫الثالثة‪ ،‬وهي الصرفة‪ ،‬وينصرف البرد‪ ،‬وثالثة أي??ام من آخ??ره أي??ام العج??وز‪ ،‬وآذار‬
‫أحد وثالثون يوماً‪ ،‬وألربعة من أوله تتم أيام العجوز‪ ،‬والعرب تس??مى ه??ذه الس??بعة‬
‫وو ْبرأ‪ ،‬وآمرا‪ ،‬ومؤتمرا‪ ،‬ومعلال‪ ،‬ومطفئ الجمر‪ ،‬ق??ال بعض‬ ‫األيام‪ :‬صِ َنا‪ ،‬وصِ ن ْبرا‪َ ،‬‬
‫العرب في أسماء أيام العجوز‪:‬‬

‫ِ صِ نٍّ وص َن ٍ?‬
‫بر وبالوبـر‬ ‫كسع الشتاء بسبعة ُغ ْبر‬
‫ومعلل‪ ،‬وبمطفئ الجمر‬ ‫وبآمر وأخيه مؤتـمـر?‬
‫أيام صادرة عن القـر‬ ‫ش ْت َوتنـا‬
‫أيام َ‬
‫فإذا انقضت ِ‬
‫وأتتك واقدة من الحـر‬ ‫كسع الشتاء ُمولياًهربـا‬

‫ولخمس عشرة من آذار يستوي الليل والنهار‪ ،‬وتحل الش?مس الحم?ل‪ ،‬وه?ذا الي?وم‬
‫تحويل سنة العالم‪ ،‬قال أبو ُن َواس‪:‬‬

‫واع َتـدَل‬
‫وطاب َو ْزنُ الزمان ْ‬ ‫ت الحمـال‬ ‫أما ترى الشمس ًحلّ ِ‬
‫واستوفت الخمر حولها َك َمـل‬ ‫و َغن ِ‬
‫ت الطير بعد ُع ْج َمـتـ َهـا‬
‫ش َي نباتا تخالـهـا ُحـ َلـل‬
‫َو ْ‬ ‫أو اكتست األرض من زخارفها‬
‫فقـد أصبح وجه الزمان مقتـبـال‬ ‫فاشرب على ِجدَ ِة الزمان‬

‫وليس بحلول الشمس الحمل تستوفي? الخم??ر س??نة‪ ،‬وإنم??ا أراد بحلوله??ا قربه??ا من‬
‫الحول والقوة‪.‬‬
‫صفحة ‪336 :‬‬

‫شهور الروم‬
‫قال المسعودي‪ :‬وأما شهور الروم فهي موافقة لشهور السريانيين في الع??دد وذل??ك‬
‫أن أول شهور الروم يواريوس وهو كانون الثاني‪ ،‬وقد ق??دمنا أن في أول ي??وم من?ه?‬
‫يك??ون القلن??دس‪ ،‬ؤش??باط ف??براريوس‪ ،‬وأزار م??ارتيوس‪ ،‬ونيس??ان إب??ريليس‪ ،‬وأي??ار‬
‫مايوس‪ ،‬وحزيران يونيوس‪ ،‬وتموز يوليوس‪ ،‬وآب أغس??طوس‪ ،‬وأيل??ول س??بطمبر‪،‬‬
‫وتشرين األول أقطوبر‪ ،‬وتشرين الثاني نوفمبر‪ ?،‬وكانون األول عشمير‪?.‬‬

‫ذكر شهور الفرس‬


‫أسماء الشهور وعدة أيامها‬
‫شهور الفرس كلها ثالثون يوماَ‪ ،‬فأولها فروردينماه‪ ،‬وأول يوم منه النيروز‪ ،‬وبينه?‬
‫وبين المهرجان مائة وأربعة وسبعون يوماً‪ ،‬والثاني أردبيهش??ت م??اه‪ ،‬وخردافم??اه‪،‬‬
‫وتيرم?اه‪ ،‬وتم?يروز? عي?د المهرج?ان‪ ،‬وم?رد افم?اه‪ ،‬وش?هريرماه‪ ،‬ومهرم?اه‪ ،‬وي?وم‬
‫السادس عشر منه المهرج??ان‪ ،‬وأبانم??اه في??ه أب??ان رزذ عي?د أب?ان ك??اه‪ ،‬وفي آخ??ره‬
‫خمسة أيام‪ :‬الفرودجان‪ ،‬وآذرماه‪ ،‬وأول يوم منه يخ??رج الكوس??ج في??ه راكب?ا ً بغال??ه‬
‫ب??العراق وأرض ف??ارس‪ ،‬وال يع??رف م??ا وص??فنا إال ب??العراق وأرض العجم‪ ،‬وأه??ل‬
‫الشام والجزيرة ومصر واليمن ال يعرفون ذلك‪ ،‬ويطعم مدة من األيام الجوز والثوم‬
‫واللحم السمين‪ ،‬وما عدا ذلك من األطعمة الحارة واألشربة المسخنة الدافعة للبرد‪،‬‬
‫فيظهر طارداً للبرد‪ ،‬فيصب عليه الماء البارد؛ فال يجد لذلك شيئا ً من ألمه‪ ،‬ويصيح?‬
‫بالفارسية? كرما ً كرمأ‪ ،‬يعني الح??ر الح??ر‪ ،‬وه??ذا وقت عي??د األع??اجم‪ :‬يطرب??ون في??ه‪،‬‬
‫ويظهرون السرور‪ ،‬وكذلك في أوق?ات كث?يرة من فص?ول الس?نة وع!ران األف?رخش‬
‫لمس ودينماه‪ ،‬وبهمناه‪ ،‬وإس??فندار مزم??اه‪ ،‬ف??ذلك ثلثمائ?ة? وخمس??ة وس??تون يوم?اً‪،‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر أيام الفرس‬


‫أسماء األيام‬
‫وهي هرمز وبهمان وأرديبهشت وش??هرير واس??فندأرمر وخ??رداذ وم??رداذ وعيب??افر‬
‫وأفر وأبان وخورماه وتيروجوش ودبر ومهر ودمل وأسروش وفروردين وبهرام‪،‬‬
‫وفيه يقول الشاعر‪:‬‬

‫ت ويوم رام‬ ‫س ْبـ ٍ‬


‫في يوم َ‬ ‫باكر بنـا لـدة الـ ُمـ َدام‬
‫َو ْق َت الضحى فاتر الكالم‬ ‫شريطتي فيه أن ترانـي‬

‫وباد وديبادين وأذر وأشتاد وأسمان وداماد ومار وسفند وأنيران‪.‬‬

‫فأما أيأمهم المعروفة بالفرودجان فهي أهندكاه أسميهاه مشركاه مشروكاه كاساه‪.‬‬
‫وكانت العرب تسمي هذه األيام الخمس?ة‪ ?:‬الهري?ر‪ ،‬والهب?ير‪ ،‬وق?الب الفه?ر‪ ،‬وحاف?ل‬
‫الضرع‪ ،‬ومدحرج البعر‪.‬‬
‫صفحة ‪337 :‬‬

‫كبس الفرس‬
‫وكانت الفرس تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهراً‪ ،‬وإنما أخروا ذل??ك إلى مائ??ة‬
‫س? ُعوداً ونحوس??أ‪ -‬فكره??وا أن يكبس?وا في ك?ل‬
‫وعشرين سنة‪ ،‬ألن أي أم?ه م ك?انت ُ‬
‫أربع سنين يومأ‪ ،‬فتنتقل بذلك أيام السعود إلى أيام النحوس‪ ،‬وال يكون النيروز أول‬
‫يوم من الشهر‪ ،‬وهّللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫ذكر سني? العرب وشهورها‬


‫وتسمية أيامها ولياليها‬
‫أسماء الشهور‬
‫المحرم‪ ،‬وأيامها ثلثمائ?ة? وأربع?ة وخمس?ون يوم?اً‪ ،‬تنقص عن‬‫ٍ‬ ‫شهور األهلة‪ :‬أولها‬
‫الس??رياني أح??د عش??ر يوم??ا ورب??ع ي??وم‪ ،‬فتف??رق في ك??ل ثالث وثالثين س??نة س??نة؛‬
‫فتنسلخ تلك السنة العربية‪ ?،‬وال يكون فيها ن??يروز‪ ،‬وق??د ك??انت الع??رب في الجاهلي??ة‬
‫تكبس في كل ثالث سنين شهراً وتس??ميه النس??يء وه??و الت??أخير وق??د ذم هّللا تب??ارك‬
‫وتعالى فعلهم بقوله‪ " :‬إنم??ا النس??يء زياع??ة في الكف??ر" ورس??مت الع??رب الش??هور‬
‫فبدأت بالمحرم؛ ألنه أول السنة‪ ،‬وإنما س??مته? المح??رم لتحريمه??ا الح??رب والغ??ارات‬
‫فيه‪ ،‬وصفر باألسواق التي كانت باليمن تس??مى الص??فرية‪ ،‬وك??انوا يمت??ارون منه??ا‪،‬‬
‫ومن تخلف عنها هل??ك جوع?اً‪ ،‬وق??ال نابغ??ة ذبي??ان‪ :‬إني نهيت ب??ني ذبي??ان عن أف??ق‬
‫وعن تر ُّفهم في كل أصفار‬
‫وقيل‪ :‬إنما سمي الصفر ألن المدن كانت تخلو فيه من أهلها بخروجهم إلى الحرب‪،‬‬
‫ت الدار منهم‪ ،‬إذا خلت‪ ،‬وربيع‪ ?،‬وربيع؛الرتباع الناس‬ ‫صف َِر ِ‬
‫وهو مأخوذ من قولهم‪َ :‬‬
‫والدواب فيهما‪ ،‬فإن قيل‪ :‬قد توجد الدواب ترتبع? في غير هذا الوقت‪ ،‬قيل‪ :‬قد يمكن‬
‫أن يكون هذا االسم لزمهما في ذلك الوقت فاستمر? لعريفهما بذلك مع انتقال الزمان‬
‫وإخالفه‪ ،‬وجماعي؛وجماعي؛ لجمود الماء فيهما في الزمان ال??ذي س??ميت ب??ه ه??ذه‬
‫الشهور؛ ألنهم لم يعلموا أن الحر والبرد يدران فتنتقل أوقات ذلك‪ ،‬ورجب؛ لخوفهم‬
‫ت الش??يء‪ ،‬إذا خفت??ه‪ ،‬وأنش??د‪ :‬فال َت َه َّي ْب َه??ا وال ترجبه??ا وش??عبان؛‬ ‫إي??اه‪ ،‬يق??ال‪َ :‬ر َج ْب ُ‬
‫ض ?اء في??ه ذل??ك‬‫لتش??عبهم إلى مي??اههم وطلب الغ??ارات‪ ،‬ورمض??ان؛ لش??دة ح??ر الر ْم َ‬
‫ال??وقت‪ ،‬والوج??ه األخ??ر أن??ه اس??م من أس??ماء هّللا تع??الى ذك??ره‪ ،‬وال يج??وز أن ُيق??ال‬
‫شول في ذل??ك ال??وقت‬ ‫رمضان‪ ،‬وإنما ُيقال‪ :‬شهر رمضان‪ ،‬وشوال؛ ألن اإلِبل كانت َت ُ‬
‫الضراب‪ ،‬تشاءمت به العرب‪ ،‬ولذلك كرهت ال??تزويج في??ه‪ ،‬وذو‬ ‫ش ْهوة ِّ‬ ‫يأذنا بها من َ‬
‫القعدة‪،‬لقعودهم فيه عن الحرب والغارات‪ ،‬وذو الحجة؛ ألن الحج فيه‪.‬‬

‫األشهر الحرم شهور الحج‬


‫واألشهر الحرم هي‪ :‬المحرم‪ ،‬ورجب‪ ،‬وذو القعدة‪ ،‬وذو الحجة‪.‬‬
‫وأش??هر الحج‪ :‬ش??وال‪ ،‬وذو القع??دة‪ ،‬وعش??ر من في الحج??ة‪ ،‬واألي??ام المعلوم??ات‬
‫?اق غ??ي ُر ج??ائز إال في الي??وم‬
‫العشر‪ ،‬واأليام المعدودات أيام التشريق‪ ،‬والتعجيل ُ باتف? ٍ‬
‫الثالث من يوم النحر‪ ،‬فدل ذلك على أن أولها ثاني يوم النحر‪ ،‬ولو كان ي??وم النح??ر‬
‫من المعدودات كان يوم التعجيل في ثالثة أيام‪ ،‬وهذا خالف القرآن؛ إلخبار هّللا *‬
‫صفحة ‪338 :‬‬

‫تعالى أن التعجيل في يومين من المعدودات وإذا كانت المع??دودات م??ا وص??فنا ص??ح‬
‫أن المعلومات منها‪ ،‬والذبح في يوم النحر ذبح في المعلومات لكونه منهاوال تم??انع‬
‫بين العرب أن يقول القائل أتيتك في الشهر‪ ،‬واإلتيان إنما كان في بعضه وجئتك في‬
‫ص?ام ي??وم النح??ر‪ ،‬وال ي??وم الفط??ر‪ ،‬وال أي??ام‬
‫اليوم والمجيء في بعض أوقات??ه‪ ،‬وال ُي َ‬
‫?رض وال تط??وع؛ لنهي الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم عن ذل??ك؛ ولم يخص‬ ‫م??نى‪ ،‬لف? ٍ‬
‫فرضا ً من تطوع بالنهي‪ ،‬فالواجب االمتناع على وصفنا‪.‬‬
‫وقد ذكر عن عقبة بن عامر أن النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم نهى عن ص??يام ثالث??ة‬
‫أيام التشريق? وفي جمي??ع م??ا ذكرن??ا من المعلوم??ات والمع??دودات والص??يام في أي??ام‬
‫التشريق خالف بين الناس‪ ،‬وأيام التشريق أولها ثاني النحر‪ ،‬وآخرها اليوم الث??الث‬
‫عشر من في الحجة إلى العصر‪.‬‬

‫تسمية أيام التشريق‬


‫قال المسعودي‪ :‬وقد اختلفت الناس في علة تسميتها أي??ام التش??ريق‪،‬وهي? أي??ا ُم ِم َنى‬
‫ولياليها‪،‬‬
‫فق??الت طائف??ة‪ :‬إنم??ا س??ميت أي??ام التش??ريق ألنهم ك??انوا َي? ْ?ذبحون ال??ذبائح بم??نى‬
‫ش ِّرقون اللحم في الشمس‪،‬‬ ‫و ُي َ‬
‫وقال آخرون‪ :‬إنما سميت أيام التشريق? ألن أهل مكة وغيرهم يتشرقون منصرفين‬
‫إلى أوطانهم‪،‬‬
‫وفيه قول آخر‪ ،‬وه?و أنه?ا إنم?ا س?ميت أي?ام التش?ريق ألنهم ك?انوا يخرج?ون بم?نى‬
‫وغيره??ا كالمزدلف??ة إلى مص??ليات لهم في فض??اء من األرض فيس??مونها المش??ارق‪،‬‬
‫واحدها مشراق‪ ،‬يسبحون ويدعون‪ ،‬فسميت بذلك أيام التشريق‪،‬‬
‫وفيه قول آخر‪ ،‬وهو أن طائفة زعمت أنه مأخوذ من ذبح البهائم‪ ،‬وهو التشريق‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن النبي صلى هللا عليه وسلم نهى عن الضحية بالمشرقة‪ ?،‬يعني المشقوقة‬
‫األذنين بالطول‪ ،‬فهي أيام التشريق‪ ،‬وللن??اس في التش??ريق من أه??ل اآلراء والنح??ل‬
‫كالم كث??ير ال يحتمل??ه كتابن??ا ه??ذا وإنم??ا ذكرن??ا م??ا أوردن??اه لتغلغ??ل الكالم بن??ا إلي??ه‬
‫واتصاله بما قدمناه‪ ،‬وإن كان كالما ً يلحق بالفقه‪.‬‬

‫األيام النحسات وأسماء األيام عند العرب قديما ً‬


‫واأليام النحسات‪ :‬كل أربعاء يوافق أربعا ً من الشهر‪ ،‬مثل أربع خلون وأربع عشرة‬
‫خلت‪ ،‬وأربع عشرة بقيت وأربع وعضرين‪ ،‬وأربع بقين‪.‬‬
‫وأم??ا أس??ماء األي??ام فأوله??ا األح??د‪ ،‬وإنم??ا س??مي ب??ذلك الن??ه أول ي??وم خلق??ه هللا من‬
‫الزمان‪ ،‬وبذلك نطقت التوراة‪ ،‬وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب ما في األيام من ب??دء‬
‫الخلق‪ ،‬واالثنين‪ ،‬وسمي ألن??ه ث??ان‪ ،‬والثالث??اء‪ ،‬وس??مي? ألن??ه ث??الث‪ ،‬واألربع?اء ألن??ه‬
‫رابع‪ ،‬والخميس ألنه خامس‪ ،‬والجمعة ألن الخلق اجتمعوا فيه‪ ،‬والسبت ألن الخلق‬
‫انقط??ع في??ه وخل??ق في آخ??ره آدم‪ :‬وه??و م??أخوذ من ق??ولهم‪ :‬نع??ل ِس? ْب ِت َّية‪ ?،‬إذا ك??انت‬
‫س?? َب َت ش??عره‪ ،‬إذا قطع??ه‪ ،‬وك??انت الع??رب تس??ميها في‬ ‫الش??عر‪ ،‬و ُيق??ال‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫مقطوع??ة‬
‫الجاهلية‪:‬‬
‫صفحة ‪339 :‬‬

‫األح?د أول‪ ،‬واالث??نين أه??ون‪ ،‬والثالث??اء جب?ار‪ ،‬واألربع?اء دب??ار‪ ،‬والخميس م??ؤنس‪،‬‬
‫والجمعة عروبة‪ ،‬والسبت شيار قال شاعرهم‪ :‬أؤمل أن أعيش وأن يومي بأول أو‬
‫بأهون أو جبـار أو المردى دبار‪ ،‬فإن أفتـه فمؤنس أو عروبة أو شيار‬

‫أسماء الشهور عند العرب‬


‫وكانوا يسمون الشهور‪ :‬المحرم ناتق‪ ،‬وصفر ثقيل‪ ،‬ثم طلي??ق‪ ،‬ن??أجر‪ ،‬أس??لخ أميح‪،‬‬
‫أحلك‪ ،‬كسع‪ ،‬زاهر‪ ،‬برك‪ ،‬حرف‪ ،‬نعس‪ ،‬وهو ذو الحجة‪.‬‬

‫األزمنة األربعة‬
‫وق??د اختل??ف الع??رب في أس??ماء األزمن ?ة? األربع??ة‪ :‬ف??زعمت طائف??ة منه??ا أن أوله??ا‬
‫الو ْسمي‪ ،‬وهو الخريف‪ ،‬ثم الشتاء‪ ،‬ثم الصيف‪ ،‬ثم ال َق ْيظ‪ ،‬ومنهم من يع ? ُّد األول من‬ ‫َ‬
‫فصول السنة الربيع‪ ،‬وهو األ ْ‬
‫ش َه ُر واأل َع ُّم‪ ،‬والعرب تقول‪:‬‬
‫ش َت ْونا في بلد كذا‪ ،‬وتربعنا في بلد كذا‪ -،‬وصِ ْف َنا في بلد كذا‪.‬‬
‫َخ َر ْف َنا في بلد كذا‪ ،‬و َ‬

‫شهورالروم مرسومة? على فصول السنة دون شهور العرب وشهور الع??رب ليس??ت‬
‫مرتب??ة على فص??ول الس??نة وال على حس??اب س??نة الش??مس ب??ل المح??رم وغ??يره من‬
‫الشهور العربية قد يقع تارة في الربيع وتارة في غيره من فصول السنة‪?.‬‬

‫وشهور الروم مرسومة على ما يوافق فصول السنة التي تقطع فيها الشمس بروج‬
‫الفلك عن آخرها‪ ،‬ومقادير أيام كل شهر منها ولياليه في الطول والقصر وظهور ما‬
‫يظهر فيه من النجوم الثابتة? لألبص??ار واس??تتار م??ا يس??تتر منه??ا على مم??ر ال??دهور‬
‫والسنين وهي اثنا عشر شهراً على حسب ما ذكرنا أن أولها تشرين إلى أيلول؛فكل‬
‫فصل من السنة أربعة شهور معلومة من هذه األث??ني عش??ر ش??هراً غ??ير حائل??ة وال‬
‫منتقلة انتقال الشهور العربية‪ ،‬ولك??ل ب??رج منه??ا ش??هر‪ ،‬ف??أيلول وتش??رين وتش??رين‬
‫لسلطان الس??وداء‪ .‬وك??انون وك??انون وش??باط لس??لطان البلغم‪ ،‬وآذار ونيس??ان وأي??ار‬
‫لس??لطان ال??دم‪ ،‬وحزي??ران وتم??وز? وآب لس??لطان الص??فراء‪ ،‬ف??أيلول ل??برج الس??نبلة‬
‫وتشرين األول لبرج الميزان‪ ،‬وتشرين األخ??ر ل??برج العق??رب‪ ،‬وك?انون األول برج??ه‬
‫القوس‪ ،‬وكانون األخ??ر برج??ه الج??دي‪ ،‬وش??باط برج??ه ال? َد ْلو‪ ،‬وآذار برج??ه الح??وت‪،‬‬
‫ونيسان برجه الحمل‪ ،‬وأيار برجه الثور‪ ،‬وحزيران برج??ه الج??وزاء‪ ،‬وتم??وز برج??ه‬
‫السرطان‪ ،‬وآب برجه األسد‪.‬‬

‫وق??ال المس??عودي‪ :‬وس??نذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جمالً من الكالم في الطب??ائع‬
‫وفصول السنة‪ ،‬وم??ا يالئم ذل??ك من المآك??ل والمش??ارب وغ??ير ذل??ك مم??ا لح??ق به??ذا‬
‫الباب‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪ ،‬وهّللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫صفحة ‪340 :‬‬

‫ذكر قول العرب في ليالي الشهور القمرية? وغيرها‬


‫ك?انت الع?رب تخ?بر عن القم?ر في ك?ل ليل?ة من الش?هور على حس?ب م?اهو ب?ه من‬
‫الضياء وغيره على طريق المسألة والجواب؛ فتقول‪:‬‬
‫قيل للقمر‪ :‬ما أنت ابن ليلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬رضاع سخيلة‪ ،‬حل أهلها برميلة‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لليلتين‪.‬‬
‫قال‪ :‬حدثت أمتين‪َ ،‬ف َو ْ‬
‫اتي إفك َو َم ْين‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لثالث‪.‬‬
‫قال‪ :‬حديث فتيات‪ ،‬يجتمعن من شتات‬
‫وقيل‪ :‬قليل الثبات‪ ،‬قيل فما أنت ألربع‪.‬‬
‫قال‪ :‬غنمة رتع‪ ،‬غير جائع وال مرضع‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لخمس‪ .‬قال‪ :‬حديث وأنس‪ ،‬قيل‪ :‬فما أنت لست‪.‬‬
‫قال‪ :‬سِ َر َوبت‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لسبع‪.‬‬
‫قال‪ :‬تصفر في الشفع‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬دلجة الضبع‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لثمان‪.‬‬
‫قال‪ :‬قمر أصبحان‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬رغيف اقتسمه أخوان‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬فما أنت لتسع‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلتقط في الجرع‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لعشر‪.‬‬
‫قال‪ :‬محق للفجر‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت إلحدى عشرة‪.‬‬
‫وارى بكرة‪،‬‬‫قال‪ :‬أرى مسا َء َ‬
‫قيل‪ :‬فما أنت الثنتي عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬موفق للسير في البدو والحضر‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لثالث عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬قمر باهر‪ُ ،‬ي ْعشِ ي عين الناظر‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت ألربع عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬مقتبل? الشباب‪ ،‬أضيء بين السحاب‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لخمس عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬تم التمام ونفذت األيام‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لست عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ناقص الخلق‪ ،‬في الغرب والشرق‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لسبع عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ركب الفقير الفقر‪،‬‬
‫صفحة ‪341 :‬‬

‫قيل‪ :‬فما أنت لثمان عشرة‪.‬‬


‫قال‪ :‬قليل البقاء‪ ،‬سريع الفناء‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لتسع عشرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬بطيء الطلوع‪ ،‬من الخشوع‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أطلع سحرة‪ ،‬وأرى بكرة‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت إلحدى وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال أطيل السرى‪ ،‬إال ريثما أرى‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت الثنتين وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬مسفع خطب‪ ،‬وليث حرب‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لثالث وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬كالقبس‪ ،‬أطلع في الغلس‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت ألربع وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أطلع في قسمه‪ ،‬وال أجلي ظلمة‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لخمس وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا في تلك الليالي‪ ،‬ال قمر وال هالل‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لست وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬دنا األجل‪ ،‬وانقطع األمل‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لسبع وعشرين‪.‬‬
‫س َنا‪،‬‬
‫قال‪ :‬دنا ما دنا‪ ،‬فليس في من َ‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لثمان وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أطلع بكراً‪ ،‬وال أرى ظهراً‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لتسع وعشرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أسبق شعاع الشمس‪ ،‬وال أطيل الجلس‪،‬‬
‫قيل‪ :‬فما أنت لثالثين‪.‬‬
‫قال‪ :‬هالل مستقبل سريع األفل‪.‬‬

‫تقسيم الليالي ثالثا ً وثالثا ً واسم كل ثالث‬


‫وكانت العرب تسمي الثالث األولى من ليالي الشهر و فتق??ول‪ :‬ثالث غ??رر‪ ،‬والثالث‬
‫س َمر‪ ،‬والثالث التي تليها ثالث زهر‪ ،‬والثالث التي تليها ثالث درر‪،‬‬ ‫التي تليها ثالث َ‬
‫والثالث ال??تي تليه??ا قم??ر‪ ،‬وثالث بيض‪ ،‬وتق??ول في النص??ف الث??اني من الش??هر في‬
‫الثالث األول‪ :‬ثالث درع‪ ،‬وفي الثالث التي تليها ثالث ظلم‪ ،‬وفي الثالث ال??تي تليه??ا‬
‫ثالث حن?اديس‪ ،‬وفي الثالث ال?تي تليه?ا ثالث دواري‪ ،‬وفي الثالث ال?تي تليه?ا ثالث‬
‫محاق‪ ،‬وقيل في وجه آخر من الروايات‪ :‬إنه ُيقال لليالي الشهر‪ :‬ثالث هل??ل‪ ،‬وثالث‬
‫قم??ر‪ ،‬وس?ت نق?ل وثالث بيض‪ ،‬وثالث درع‪ ،‬وثالث بهم‪ ،‬وس?ت حن?اديس‪ ،‬وليلت?ان‬
‫داريتان‪ ،‬وليلة محاق‪.‬‬

‫صفحة ‪342 :‬‬

‫أسماء الهالل والليالي‬


‫قال المسعودي‪ :‬فأما ما ذهب إلي??ه الع??رب في تس??مية? القم??ر فإنه??ا تس??مية في ليل??ة‬
‫طلوعه هالال‪ ،‬وما لم يستدير? فهو هالل‪ ،‬ثم تسمه? قمراً إذا ما استدار‪ ،‬وإذا ما حجر‬
‫وأضاء فهو قمير‪ ،‬قال شاعرهم‪:‬‬
‫وقمير َبدَ ا ابن خمس وعشرين له قالت الفتاتان قـومـا‬

‫الس ? َواء‪ ،‬ثم ليل??ة البح??ر ألرب??ع عش??رة‪،‬‬


‫ثم يس??توي? لثالث عش??رة من??ه‪ ?،‬وهي ليل??ة ّ‬
‫و ُيقال‪ :‬غال ٌم بحر‪ ،‬إذا امتأل شبابأ قبل أن يحتلم‪،‬‬
‫و ُيقال‪ :‬عين حدرة بدرة‪ ،‬إذا كانت حديدة كعين الفرس‪ ،‬واللي??الي ال??بيض ليل??ة ثالث‬
‫عش??رة وأرب??ع عش??رة وخمس عش??رة‪ ،‬واللي??الي ال?د ُّْرع هي ال??تي تس??و ُد ص??دورها‬
‫وتبيض? سائرها‪ ،‬والمحاق إذا ما طلعت عليه الشمس‪ ،‬والسواد حين يستتر فيك??ون‬
‫خلف الشمس‪،‬‬
‫و ُيقال‪ :‬قد حجر القمر‪ ،‬إذا استدار بخط رقيق من غير أن يغلظ‪،‬‬
‫و ُيق??ال‪ :‬أفت??ق القم??ر إذا أص??ابته فرج??ة من الس??حاب فخ??رج وأفت??ق علين??ا فأبص??رنا‬
‫الطريق‪ ،‬وك??ل س??واد من اللي?ل حِن?دِس‪ ،‬واللي??الي ًّ‬
‫الزهْ? ر اللي?الي ال??بيض والزه??رة‪:‬‬
‫البياض وهّللا الموفق للصواب‪.‬‬

‫ذكر القول في تأثير النيرين في هذا العالم‬


‫وجمل مما قيل في ذلك وغير ذلك مما لحق بهذا الباب‬
‫قال المسعودي‪ :‬ذهب الحكماء جميع?ا ً من اليون??انيين وغ??يرهم إلى أن أفع??ال القم??ر‬
‫في الجواهر التي قلنا عظيمة‪ ،‬إال أنها أقصر من أفعال الشمس‪ ،‬وهو الثاني بعدها‪،‬‬
‫وذلك أن الشهور به تكون‪ ،‬وعلى حسب حركته يجري أمره??ا‪ ،‬وأفعال??ه ل??رى أعظم‬
‫وآبين في حيوان البحر خاصة‪ ،‬وهو ينمى النبات وغ??يره‪ ،‬ويعظم البح??ار‪ ،‬ويس??من‬
‫الحيوان‪ ،‬ويلزم النساء الطمث أزمانا ً محدودة‪.‬‬

‫تصور? الجنين في الرحم‬


‫هللا‪ :‬وقد تنازع الناس في كيفية تصور? الجنين فيٍ الرحم‪.‬‬‫قال المسعودي رحمه ّ‬
‫فذهب قوم من أهل القدم إلى أن في المني قوة تصور الجنين إما منة‪ .،‬وم??ا من دم‬
‫الطمث‪.‬‬
‫وذهب قوم إلى أن في الرحم قالبا ً يتصور فيه الجنين‪ ،‬وقد ذكر جالينوس في كتاب??ه‬
‫عن بقراط أن مقام المني مقام الفاعل والمفعول في تصور الجنينَ ‪.‬‬
‫وقال صاحب المنطق‪ :‬إن ذل??ك بمنزل??ة الفاع??ل‪ ،‬وإن الج??نين يتص??ور? في دم الطمث‬
‫من الم??ني‪ ،‬ق??ال‪ :‬والم??ني يعطي ال??دم مث??ل الحرك??ة‪ ،‬ثم يس??تحيل ريح?ا ً فيخ??رج من‬
‫الرحم‪ ،‬وزعم جالينوس أن الجنين يكون من المني‪ ،‬وقد يجذب إليه ال??دم ال??ذي ه??و‬
‫الطمث‪ ،‬والروح من العروق والش??ريانات فيك??ون من الم??ني‪ ،‬ومن ذل??ك ال??دم ال??ذي‬
‫يجذبه‪ ،‬ومن الريح الذي تصير? إليه من الشريانات‪.‬‬

‫صفحة ‪343 :‬‬

‫قال‪ :‬وكون الجنين بمنزلة? كون النبات‪ ،‬والطبيعة تصوره من الم??ني وال??دم‪ ،‬وتفع??ل‬
‫الطبيعة في الجنين ما تفعله في النبات‪ .‬ألن بزر النبات يحتاج إلى أرض لينال منها‬
‫ما يتغذى به‪ ،‬فالجنين إلى الرحم‪ ،‬والنبات يرس??ل عروق??ه من األص??ول ليج??ذب به??ا‬
‫من األرض غداه‪،‬وللجنين في المشيمة شريانات‪ ،‬والعروق نظير لذلك وهي أص??ول‬
‫الج??نين‪ ،‬و َب??زر النب??ات ينبت من??ه س??وق‪ ،‬ومن الس??وق أغص??ان كب??ار‪ ،‬ثم من ه??ذه‬
‫األغصان أغصان أخرى تتفرع أوالً حتى تنتهي? إلى األقاصي‪ ،‬ونظير ذلك يوجد في‬
‫الجنين؛ فتج??د الس??وق في بدئ??ه ثالث??ة من ك??ل واح??د ك??ل األغص??ان األص??ول وهي؛‬
‫الشريان األعظم‪ ،‬والعرق األجوف‪ ،‬والنخاع ثم تجد كل واحد من ه??ذه تتش??عب من?ه?‬
‫شعب كاألغصان المنقس َمة ألم أغصان آخر حتى ينتهي? إلى األطراف‪،‬‬

‫ثم قال بعد ذلك‪ :‬إن المني و المحرك لنفسه‪ ،‬وإن الجنين يكون من الرجل والمرأة‬
‫الطمث‪.‬‬
‫وحكى جالينوس عن أنبدقلس أن أجزاء الول??د منقس??مة? فيم??نى ال??ذكر واألن??ثى وأن‬
‫شهوة الجم?اع تس?وق ه?ذه األج?زاء إال االلتئ?ام‪ ،‬وه?ذا موج?ود في كت?اب أنب?دقلس‬
‫الكبير وفيما ذكره من مذهبه في كيفية تركيب العالم واتصال النفس بعالمه??ا وغ??ير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقد ذهب قوم من‪ ،‬أهل الق??دم إلى أن ذل??ك ه??و أج??زاء تخ??رج من أعض??اء اإلنس??ان‬
‫لطيفة من جنس سائر أعضاء اإلنس??ان‪ ،‬فتنص??ب في ال??رحم‪ ،‬فيتغ??ذى من??ه وينم??و‪?،‬‬
‫فيكون من ذلك الجنين‪.‬‬

‫يشبه? الولد أباه وأهل بيت أبيه‬


‫ومنهم من رأى أن هذه األجزاء الواردة من سائر أعضاء ال??ذكر تقاربه??ا م??واد من‬
‫الرحم ومن ماء المرأة عند اجتماعهما فيكون الجنين من ذلك‪ ،‬فمن ذلك صار الولد‬
‫يش??به أب??اه في األغلب من س??ائر األعض??اء ويش??اكله وأه??ل بيت أبي??ه‪ ،‬وله??ذا وق??ع‬
‫الشبه بين البنين واآلباء في األغلب من تشهابه األعضاء‪ ،‬ومن ههنا أدركت ال َقافُة‬
‫إلحاق النسب عند الشبه والشك في لنسب‪ ،‬وذلك على قول من رأى إلح??اق النس??ب‬
‫بالقيافة من الفقهاء‪ ،‬وقد تقدم الكالم في هذا المعنى فيما سلف من ه??ذا الكت??اب في‬
‫باب القيافة‪.‬‬

‫وللناس في كيفية تصور? الجنين في الرحم وما بدؤه وما عنصره وكيفية تقلب??ه من‬
‫النطف??ة إلى العلق??ة ومن العلق??ة إلى المض??غة إلى اس??تكمال ش??كله كالم كث??ير‪ :‬منهم‬
‫أص?حاب االث?نين وغ?يرهم ممن تق?دم وت?أخر‪ ،‬أعرض?نا عن ذك?ر ذل?ك؛ إذ ك?ان في?ه‬
‫خروج عما إليه قصدنا في هذا الباب‪.‬‬

‫صفحة ‪344 :‬‬

‫ق??ال المس??عودي رحم??ه هللا‪ :‬وال??ذي يقض??ي على س??ائر م??ا تق??دم وص??فه نقط??ع علم‬
‫العقول عن?ده‪ ،‬وه?و م?ا أخ?بر ب?ه الب?اري ع?ز وج?ل في كتاب?ه بقول?ه‪ " :‬ه?و ال?ذي‬
‫يصوركم في األرحام كيف يشاء‪ ،‬ال إله إال هو العزيز الحكيم" ولم يخبر عن كيفي??ة‬
‫وقوع ذلك وما سبب مواده‪ ،‬بل استأثر بعلمه‪ ،‬وأب??دى الدالل??ة بظه??ور حكمت??ه دال??ة‬
‫على توحيده وإتقانه لما أظه??ر لعب??اده من حكمت??ه ثم أخ??بر عن المب??دأ ال??ذي خلقهم‬
‫منه? فقال‪ " :‬يا أيها الناس إن خلقن??ا كم من ذك??ر وأن??ثى" وق??ال ع??ز وج??ل‪ :‬ي??ا أيها‬
‫الن??اس إن كنتم ريب من البعث فأن??ا خلقنكم من ت??راب ثم من نطف??ة ثم من علق??ة ثم‬
‫من مغة مخلقة وغير مخلقة؛ لنبين لكم ونقر في األرحام ما نشاء إلى أجل مس??مى‪،‬‬
‫ثم نخ??رجكم طفالً‪ ،‬ثم لتبلغ??وا أش??دكم‪ ،‬ومنكم من يت??وفى‪ ،‬ومنكم من ي??رد إلى أرذل‬
‫العمر" اآلية‪?.‬‬

‫إختالف في تأثير النيرين‬


‫قال المسعودي‪ :‬وللناس ممن س??لف من األوائ??ل وخل??ف من الش??رعيين‪،‬م كث??ير في‬
‫كيفية أفعال النيرين وتأثيرهما في هذا العالم‪ ،‬وما قالوه في ذلك‪ ،‬وما خصوا به كل‬
‫واحد منهما وأفرده‪ ،‬وما ذهبوا إليه من فعل الث?اني منهم??ا وه??و القم??ر وم??ا يظه??ر‬
‫من تأثيره في الجزر والمد في بح??ر الص??ين الهن??د والحبش واليمن على حس??ب م??ا‬
‫قدمنا في هذا الكتاب‪ ،‬وكذلك فعله المعادن وأدمغة الحيوان والبيض وسائر النب??ات‪،‬‬
‫وما يظهر من الزي??ادات في??ه عن??د امتالئ??ه‪ ،‬والنقص عن??د نقص??انه‪ ،‬وم??ا يك??ون من‬
‫بحرانات المرضى ؤ اليوم الس??ابع من العل??ة‪ -،‬والراب??ع عش??ر وإلح??ادي والعش??رين‬
‫والثامن والعشرين ألن القمر أربعة أشكال هي أثبت ص??وره‪ ،‬في??ه ش??كل التنض??يف‪?،‬‬
‫وشكل التمام‪ ،‬وشكل التنصيف عن التمام‪ ،‬وشكل المح??اق‪ ،‬ولك??ل ش??كل ه??ذه س??بعة‬
‫أيام؛ألنه في سبع ليالي يتنصف‪ ?،‬وفي الرابع??ة عش??رة يتم‪ ،‬وب الحادي??ة والعش??رين‬
‫يتنصف‪ ،‬وفي الثامنة? والعشرين ينمحق‪ ،‬كذلك البحرانات‪ ،‬وعند هذه الطائفة يصح‬
‫في السابع والرابع عشر وإلحادي والعشرين والثامن والعش??رين ويص??ح أيض ?ا ً في‬
‫تنصيفات هذه‪،‬إذ كانت هذه األشكال أثبت أشكال الشيء المنقسم‪ ،‬وقد خالف ه??ؤالء‬
‫خلق كثير من ذهب إلى غير هذا القول‪ ،‬وأن ذلك من قب??ل األخالط‪ ،‬وغ??ير ذل??ك ك??ل‬
‫الطبائع األربع‪ ،‬وغيرها مما قد أتينا على إيضاحه في كتابنا المترجم بكت??اب الزل??ف‬
‫وفي كتاب المبادي والتراكيب وغير ذلك في كيفية تأثير الشمس والقمر‪.‬‬

‫كروية السماء واألرض‬


‫وأما الدالئل على أن السماء على مثال الكرة وتدويرها بجميع ما فيما من الك??واكب‬
‫كدورة الكرة‪ ،‬وأن األرض بجمي??ع أجزائه??ا من ال??بر والبح??ر علم مث??ال الك??رة‪ ،‬وأن‬
‫كرة األرض مثبتة? في وسط السماء كالمركز‪ ،‬وقدرها عند قمر السماء ق??در النقط??ة‬
‫في الدائرة صغراً‪ ،‬ووصف الرابع المسكون من األرض‪ ،‬وم??ا يع??رض في??ه من دور‬
‫الرب?ع المس?كون من األرض‬‫ٍ‬ ‫الفل?ك‪ ،‬واختالف اللي?ل والنه?ار ووص?ف خ?واص ه?ذا‬
‫ووصف المواضع ال??تي تط??اع الش??مس فيه??ا ش??هور أال تغ??رب‪ ،‬وتغ??رب ش??هوراً ال‬
‫لطلع‪ ،‬فقد أتينا علم وصف جميع ذلك‪ ،‬وما اتضح عليه وانتصب من البراهين‪ ،‬وما‬
‫صفحة ‪345 :‬‬

‫قاله الناس في ذلك في كتابنا المترجم بكت??اب أخب??ار الزم??ان وم??ا أوض??حنا في??ه من‬
‫هيث األفالك والك??واكب‪ ،‬وأن األرض م??ع م??ا وص??فنا ت??دويرها موض??وعة فيج??وف‬
‫الفلك‪ .‬كالمح?ة في البيض?ة‪ ،‬والنس?يم ج?اذب أيض?ا ً لم?ا في أب?دان الخل?ق من الخف?ه‬
‫واألرض جاذبة لما في أبدانه من الثقل؛ إذ كانت األرض بمنزل??ة حج??ر المعن??اطيس‬
‫الذي يجذب بطبعه الحديد‪ ،‬وأن األرض مقسومة نص?فين وربينهم?ا خ?ط االس?تواء‪،‬‬
‫وهو بين المشرق إلى المغرب وهذا عندهم هو طول األرض؛ ألنه أكبر خطفي ك??رة‬
‫األرض كم??ا أن منطق??ة ال??برج أك??بر يخ??ط في الفل??ك‪ ،‬وع??رض األرض من القطب‬
‫الجنوبي? إلى القطب الشمالى‪ ،‬الذي ت??دور حول??ه بن??ات َن ْعش؛ وأن اس??تدارة األرض‬
‫فيخط االستواء ست وثالثون درجة‪ ،‬والدرجة خمسة وعشرون فرس??خا‪ ،‬والفرس??خ‬
‫اثن??ا أل??ف ذراع‪ ،‬وال??ذراع اثن??ان وأربع??ون إص??بعا‪ ،‬واإلص??بع س??ت حب??ات‪ ،‬وتس??عا‬
‫مصفوفة بعضها إلى بعض‪ ،‬يكون ذلك تسعة آالف فرسخ‪.‬‬
‫وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في باب ذكر األرض والبح??ار ومب??ادئ األنه??ار‬
‫مقدار المِيل والذراع األسود‪ ،‬وإنما نذكر في كل موضع من هذا الكتاب ما يسنح? لنا‬
‫ونج??ده في كتب الن??اس؛ فننق??ل ذل?ك عنهم على م??ا وج??دناه في كتبهم‪ ،‬ال أن?ا نقط??ع‬
‫على ص??حته؛إذ ك??ان م??ا ي??ذهب إلي??ه في مق??دار المي??ل من األذرع‪ ،‬وال??ذراع من‬
‫األصابع‪ ،‬هو ما بيناه آنفا ً في باب ذكر األرض والبحار‪.‬‬
‫وبين خط االستواء وك?ل واح?د من القط?بين تس?عون درج?ة‪ ،‬واس?تدارتها ‪ -‬عرض?ا ً‬
‫مثل ذلك‪ ،‬وزعم هؤالء أن العم?ارة في األرض بع?د خ?ط االس??تواء أرب?ع وعش?رون‬
‫درج??ة‪ ،‬وأن الب??اقي ق??د عم??ه البح??ر الكب??ير‪ ،‬وأن الخل??ق على الراب??ع الش??مالي من‬
‫األرض‪ ،‬والربع الجنوبي لشدة الحر فيه‪ ،‬والنصف البإقى من األرض ال ساكن فيه‪،‬‬
‫وكل ربع من الشمال والجنوب سبعة أقاليم‪ ،‬وقد ذكرناها فيما سلف من هذا الكت??اب‬
‫عند ذكرنا األرض واألقاليم السبعة‪ ،‬وأن عدد الم??دن عن??د ص??احب كت??اب الجغرافي??ا‬
‫أربع??ة آالف مدين??ة ومائت??ا مدين??ة‪ ،‬فأم??ا قبل??ه أه??ل المش??رق والمغ??رب وال??تيمن‬
‫والجنوبي‪ ?،‬فقد ذكرنا جمالً من ذلك في كتابنا أخبار الزمان‪.‬‬

‫وقد حرر ذلك في كتابه أبو حنيفة الدِّي َن َو ِر ّ‬


‫ي‪ ،‬وق??د س??لب ذل??ك ا َبن قتيب?ة? ونقل??ه إلى‬
‫كتبه نقالً‪ ،‬وجعله عن نفسه‪ ?،‬وقد فعل ذلك في كثير من كتب أبي حنيف??ة ال??دينوري‪?.‬‬
‫هذا‪ ،‬وكان أبو حنيفة هذا ذا محل من العلم كبير‪ ،‬ولبطليموس في كتاب المجسطي‪،‬‬
‫وغ??يره ممن تق??دم‪ ،،‬ثم لمن ط??رأ بع?د ظه?ور اإلس?الم‪ -‬مث??ل الكن??دي‪ ،‬وابن المنجم‪،‬‬
‫وأحم??د بن الطيب‪ ،-‬وم??ا ش??اء هللا‪ ،‬وأبى معش??ر‪ ،‬والخ??وارزمي‪ ،‬ومحم??د بن كث??ير‬
‫?رة‪ ،‬والت??بريزي‪?،‬‬‫الفرغ??اني‪ ،‬فيم??ا ذك??ره في كتاب??ه الفص??ول الثالثين‪ ،‬وث??ابت بن ق? ً‬
‫ومحمد د بن جابر البتانِي‪ ،‬وغير هؤالء ممن قد ع??نى بعل??وم الهيئ??ة‪ -‬عل??وم كث??يرة‬
‫في هذا المعنى‪ ،‬وإنما ننقل من ذلك إلى هذا الكتاب لمعاً‪ ،‬طلبا ً لالختصار واإليج??از‪،‬‬
‫وباهّلل التوفيق‪.‬‬

‫صفحة ‪346 :‬‬

‫ذكر أرباع العالم والطبائع‬


‫وما خص به كل جزء منه من الشرق والغرب والتيمن والجنوبي? واألهوية‪ ،‬وغ??ير‬
‫ذلك من سلطان الكواكب وما لحق بهذا الباب واتصل بهذا المعنى الطبائع األربع‬

‫قال المسعودي‪ :‬فأما الطب??ائع األربع??ة‪ :‬األرض‪ ،‬فالن??ار ح??ارة يابس??ة وهي الطبيع??ة‬
‫األولى والطبيعة الثانية‪ ?:‬باردة رطبة‪ ،‬وهي الماء‪ ،‬والطبيعة الثالث??ة‪ :‬اله??واء‪ ،‬وه??و‬
‫الص? َعدَاء‪:‬‬
‫حار رطب‪ ،‬والطبيعة الرابعة‪ :‬وهي ب??اردة يابس??ة؛فاثنت??ان منه??ا ت??ذهبان ً‬
‫س? ْفال‪ ،‬وهم??ا‪ :‬األرض‪ ،‬والم??اء والع??الم‬
‫وهم??ا‪ :‬الن??ار‪ ،‬واله??واء‪ ،‬واثنت??ان ترس??خان ُ‬
‫أربعة أجزاء؛ فالمشرق الربع األول‪ ،‬وجميع ما فيه حار رطب مث??ل اله??واء وال??دم‪،‬‬
‫وهذا الربع ريحه الجنوب‪ ،‬وله من الساعات األولى والثانية والثالثة‪ ،‬وله من قوى‬
‫البدن قوة الطبيعة الهاضمة‪ ،‬ومن الم??ذاقات إلى حالوة‪ ،‬ول??ه من الك??واكب‪ :‬القم??ر‪،‬‬
‫والزهرة‪ ،‬ول??ه من ال??بروج‪ :‬الحم??ل‪ ،‬والث??ور‪ ،‬والج?وزاء‪ .‬وللحكم?اء في ه??ذا خطب‬
‫طويل في وصف هذه األرب??اع منه??ا ُج َم??ل فيم??ا مض??ى وم??ا ي??أتي‪ .‬والمغ??رب‪ :‬وه??و‬
‫الربع الث??اني‪ ،‬وجمي??ع م??ا في??ه ب??ارد رطب مث??ل الم??اء والبلغم‪ ،‬والش??تاء‪ ،‬ورياح??ه‪:‬‬
‫ال??دَّ ُبو ُر‪ ،‬ول??ه من الس??اعات العاش??رة والحادي??ة عش??رة و الثاني ?ة? عش??رة‪ ،‬ول??ه من‬
‫المذاقات‪ :‬المالح‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬وله من القوى‪ :‬القوة الدافعة‪ ،‬وله من الك??واكب‪:‬‬
‫المش??تري‪ ،‬و ُع َط? ارد‪ ،‬ومن ال??بروج‪ :‬الج??دي‪ ،‬وال??دلو‪ ،‬والح??وت‪ .‬والج??زء الث??الث‪:‬‬
‫?رة الص??فراء‪.‬وريح?ه‪ ?،‬الض?با‪ ،‬ول??ه من‬ ‫التيمن‪ ،‬وجميع ما في??ه ح?ار ي??ابس مث??ل ال َم ّ‬
‫الس??اعات الرابع??ة والخامس??ة والسادس??ة من النه??ار‪ .‬ول??ه من ق??وى الب??دن الق??وة‬
‫النفس??انية والحيواني??ة‪ ?،‬ول??ه من الم??ذاقات‪ :‬الم??رارة‪ ،‬ول??ه من الك??واكب‪ :‬الم??ريخ‪?،‬‬
‫والش??مس‪ ،‬ومن ال??بروج‪ :‬الس??رطان‪ ،‬والس??نبلة‪ ،‬والم??يزان‪ ،‬والج??زء الراب??ع ه??و‬
‫الجن??وبي‪ ،‬وجمي??ع م??ا في??ه ب??ارد ي??ابس‪ ،‬مث??ل األرض والم??رة الس??وداء‪ ،‬والخري??ف‬
‫وريحه الشمال وله من الساعات‪ :‬السابعة والثامنة? والتاسعة‪ ،‬وله من ق??وى الب??دن‬
‫ص‪ ،‬وله من الكواكب‪ُ :‬ز َح? ل‪ ،‬ول??ه من‬ ‫القوة الماسكة‪ ،‬ومن الطعوم والمذاقات‪ :‬ال َع ْف ُ‬
‫البروج‪ :‬الميزان‪ ،‬والعقرب‪ ،‬والقوس‪ ،‬واألرض بع??د م??ا وص??فناه تتهاي??أ في الهيئ??ة‬
‫وتختلف في التأثير على مقادير‪ .‬الخطوط‪ ،‬فإذا بعد الخط كان التأثير? بخالف ما ه??و‬
‫إذا ق??رب؛لموجب??ات متنافي ?ة? متغ??ايرة‪ ،‬وأفض??ل المواض??ع من المس??كون م??ا تط??رح‬
‫الشمس ضوء شعاعها إليه‪ ،‬وإلى اإلِقليم الراب??ع ينتهي عن??د ه??ذه الطائف??ة ش??عاعها‬
‫في صفوة وارتفاع كحره؛ألن شعاع للشمس يهبط متساويا ً إلى هذا الموض??ع وه??و‬
‫العراق‪.‬‬

‫علة عدم سكنى بعض األرض‬


‫قال المسعودي‪ :‬والمواضع التي ال تسكن عند هذه الطائفة عدمت الس??كنى لعل??تين‪:‬‬
‫إحداهما إفراط الحر وإحراق الشمس وكثرة تواتر شعاعها على تلك األرضين ح??تى‬
‫قد جعلتها ِك ْلسِ ية وأغاضت مياهها لكثرة التنشيف‪ ?،‬والعلة األخرى ُب ْع ُد الشمس عن‬
‫اإلقليم‪ ،‬وارتفاعها عن حوزته‪ ،‬فاكتنف تلك األرضين ال??برد‪ ،‬واس??تولى عليه??ا الق??ر‬
‫والج َمدُ‪ ،‬فزاد إفراط البرد في الجو حتى أزال حسن االعتدال ورفع فضيلة النشف‪،‬‬
‫صفحة ‪347 :‬‬

‫األجس????ام‪ ،‬ولم تظه????ر الرطوب????ة في إنم????اء الحي????وان‬


‫ٍ‬ ‫فلم تلبث الح????رارة في‬
‫هنالك‪،‬فصارت تلك البل??د قاع??ا صفص??فا من الحي??وان والنب??ات‪ ،‬وه??ذه البل??دان ال??تي‬
‫تراها مفرطة الحرارة والبرودة هي تناسب ما ذكرنا من هذه الديار البالقع‪.‬‬

‫ولهذه الطائفة كالم كثير في فناء العالم ونقصه و َعوده جديداً‪ ،‬وذكروا أن الس??لطان‬
‫في هذا الوقت السنبلة وهو سبعة آالف سنة‪ ?،‬وذلك عمر ه?ذا الع?الم البش?ري‪ ،‬وق?د‬
‫سا َع َد السنبلة المشتري في التدبير‪ ،‬وأن نهاية العالم‪ .‬في كثرة قطع الكوكب المدبر‬
‫المسافة التامة بالقوى‪ ،‬فإذا استكمل َق ْطع المس??افة ال??تي ذكروه??ا في الفل??ك فهنال??ك‬
‫ودور ع??اد‬
‫?ر ْ‬ ‫يقع النف??اد ويك??ون ال? ً?دّ ُثور بالع??الم‪ ،‬والك??واكب إذا كملت م??ا له??ا من َك? ِّ‬
‫التدبير إلى األول منها‪ ،‬وعادت أشخاص كل عالم وصوره مع اجتماع الم??واد ال??تي‬
‫كانت له في حال حرك??ة ت??أثير الك??وكب ال??ذي ك??ان الت??دبير إلي??ه وهك??ذا عن?د ه??ؤالء‬
‫يجري شأن العالم سرمداً‪.‬‬
‫مدة سلطان الكوكب‬
‫وزعموا أن سلطان ا ْل َحمل اثنا عشر ألف س??نة وس??لطان الث??ور إح??دى عش??رة أل??ف‬
‫سنة‪ ،‬وسلطان الجوزاء عش??رة آالف س??نة‪ ،‬وس??لطان الس??رطان تس??عة آالف س??نة‪?،‬‬
‫وس??لطان األس?د ثماني?ة? آالف س?نة‪ ،‬وس?لطان الس??نبلة س?بعة آالف س??نة‪ ،‬وس??لطان‬
‫الميزان ستة آالف سنة? وسلطان العقرب خمسة آالف سنة وسلطان الق??وس أربع??ة‬
‫آالف س??نة وس??لطان الج??دي ثالث??ة ألف س??نة‪ ،‬وس??لطان ال??دلو ألف??ا س??نة وس??لطان‬
‫الحوت ألف سنة‪ ،‬فجميع ذلك ثماني?ة? وس??بعون أل??ف س??نة وعن??د ذل??ك ه??و انقض??اء‬
‫العالم ونقض ما فيه ورجوعه إلى كونه‪?.‬‬

‫وتكلم ه??ؤالء في الجن ال??ذين ك??انوا في األرض قب??ل خل??ق هّللا آدم واس??تخالفه في‬
‫األرض‪ ،‬وأن المتولي لهم كوكب من الكواكب النارية‪?.‬‬

‫وتكلم كال الفريقين في أوج الشمس عند انفصالها إلى البروج الجنوبية? وما يح??دث‬
‫في العالم في كون الشمال جنوبا ً والجن?وب ش?ماالً‪ ،‬وتح?ول الع?امر غ?امراً والغ?امر‬
‫عامراً‪ ،‬على حسب ما ذكرنا في كتابنا المترجم بكتاب الزلف‪.‬‬

‫أجناس األجسام‬
‫وقد ذهب غير هؤالء ممن تقدم من األوائل إلى أن التي وجد بها سائر الموج??ودات‬
‫كاألول والثواني والثوالث على قدر مراتبها في العق??ل النفس والص??ورة والهي??ولى‪،‬‬
‫وأنها المبادئ على حسب ما رتبناه وق?دمناه في كت?اب الزل??ف فم??ا ع??دا م??ا وص??فنا‬
‫فهي األجسام‪ ،‬وأناسها ستة‪ ?:‬الجسم السماوي والجسم األرضي والحيوان الن??اطق‪،‬‬
‫والحيوان غير الناطق‪ ،‬والنبات‪ ،‬واألجسام الحجري??ة وهي المعدني??ة‪ ،‬واألستقص??ات‬
‫األربعة وهي النار والهوا والماء واألرض‪.‬‬

‫صفحة ‪348 :‬‬


‫وتكلم هؤالء فيما يخص كل واحد مما ذكرنا مما ال يحتمله كتابنا هذا؛ إذا ك??ان في??ه‬
‫خروج عن الغرض الم َي ّمم فيه‪ ،‬وقد أتينا على بسط ذلك في كتاب الرؤوس السبعة‪،‬‬
‫في باب السياسة المدنية‪ ،‬وعدد أجزائها وعلله??ا الطبيعي??ة وه??ل مل??ك تل??ك المدين??ة‬
‫ج??زء من أجزائه??ا أو من غيره??ا‪ .‬وإلي??ه نهاي??ة أجزائه??ا على حس??ب م??ا ذك??ره‬
‫فرفوريوس في كتابه في وصف منازعة أفالطون وأرسطاطاليس في ذلك‪.‬‬
‫فأما علة كون الشتاء بأرض الهن??د في الحال??ة ال??تي يك??ون الص??يف به??ا عن??دنا‪ ،‬و‪،‬‬
‫لحالة التي يكون فيها عندنا الشتاء يكون الصيف عندهم فقد ذكرنا علة ذلك ووج??ه‬
‫البرهان عليه‪ ،‬وأن ذلك للشمس في قربها وبعدها‪ ،‬وكذلك علة تك??ون الس??ودان في‬
‫بعض البق??اع من األرض دون بعض وتفلف??ل ش??عورهم‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من مش??هور?‬
‫تكون البيضان في بعض البقاع دون بعض وتفطر ألوان الص??قالبة‬ ‫أوصافهم‪ ،‬وعلة ُّ‬
‫وص? ًهوبة ش??عورهم‪ ،‬وم??ا لح??ق ال??ترك من اس??ترخاء مفاص??لهم وتع??وج‬ ‫وش??قرتهم ُ‬
‫كرم ِي??ه من ق??دّام‬
‫أسواقهم ولين عظ أمه م حتى إن أحدهم ليرمى بالنشاب من خلف ْ‬
‫فيصير? وجهه قفاه وقفاه وجه?ه‪،‬ومطاوع?ة فق?ارات الظه?ور لهم على ذل?ك‪ ،‬وك?ون‬
‫الحم???رة في وج???وههم عن???د تكام???ل الح???رارة في الوج???ه على األغلب من كونه???ا‬
‫وارتفاعها؛ لغلبة البرد على مصداق ما ذكرنا فيما سلف من كتبنا في هذه المع??اني‬
‫المقم ذكرها‪ .‬ولم نتعرض لذكر ما لم يصح? عندنا في العالم وج??وده حس ?ا ً وال خ??براً‬
‫ب ومزيال للش?ك كأخب??ار العام??ة في ك??ون النس??ناس‪ ،‬وأن‬ ‫قاطعا ً للعذر وال دافعأ َّ‬
‫للر ْي ِ‬
‫وجوههم على نصف وجوه الن??اس‪ ،‬وأنهم ذوو أني??اب‪ ،‬وق??ولهم في عنق??اء مغ??رب‪.‬‬
‫وق??د زعم كث??ير من الن??اس أن الحي??وان الن??اطق ثالث??ة أجن??اس‪ :‬ن??اس‪ ،‬ونس??ناس‪،‬‬
‫ونسانس وهذا محال من القول؛ ألن النسناس إنما وقع هذا االس??م على الس??فلة من‬
‫والر َذال وقد قال الحسن‪ :‬ذهب الناس وبقي النس??ناس‪ ،‬وق??ال الش??اعر‪ :‬ذهب‬ ‫الناس ُّ‬
‫الناس فاستقلوا‪ ،‬وصرنا خلف?ا ً في أراذل النسـنـاس أراد ب??ه م??ا وص??فنا‪ :‬أي ذهب‬
‫الناس وبقي َمنْ ال خير فيه‪.‬‬

‫الجن وأنواعها‬
‫وقد ذهب كثير من الناس إلى أن الجن نوعان‪:‬‬
‫أعالهم وأشدهم الجن‪ ،‬وأخفضهم وأضعفهم الحن‪،‬‬
‫وأنشد الراجز‪ :‬مختلف َن ْج ُر ُه ُم ِجن و حِنّ‬
‫وهذا التفصيل بين الجنسين من الجن لم يرد به خبر‪ ،‬وال صح ب?ه أث?ر‪ ،‬وإنم?ا ذل?ك‬
‫من توهم األعراب على حسب ما بيناه آنفاً‪.‬‬

‫النسناس‬
‫وق??د غلب على كث?ير من الع?وام األخب??ار عن معرف?ة النس?ناس وص?حة وج??وده في‬
‫الع??الم كاألخب??ار عن وج??وده في الص??ين وغيره??ا من الممال??ك النائي??ة واألمص??ار‬
‫القاص??ية? فبعض??هم يخ??بر عن وج??ودهم في المش??رق‪ ،‬وبعض??هم في المغ??رب‪ ،‬فأه??ل‬
‫المشرق يذكرون كونها بالمغرب‪ ،‬وأهل المغرب يذكرون أنها بالمشرق‪ ،‬وكذلك ك??ل‬
‫صقع من البالد ُيشير س??كانه إلى أن النس??ناس فيم??ا بع??د عنهم من البالد ون??أى من‬
‫الديار‪.‬‬
‫صفحة ‪349 :‬‬

‫وقد رووا في ذلك خبرأ مخرجه من طري??ق اآلح??اد أن ذل??ك في بالد حض??رموت من‬
‫ش ْحر‪ ،‬وهو ما ذكره عبد هللا بن سعيد بن كثير بن عفير المصري‪ ،‬عن أبيه‬ ‫أرض ال ِّ‬
‫عن يعقوب بن الح??ارث بن نجيم‪ ،‬عن ش??بيب? بن ش??يبة? بن الح??ارث التميمي‪ ?،‬ق??ال‪:‬‬
‫الشحر فنزلت على رأسها‪ ،‬فتذاكرنا النسناس‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫قدمت‬
‫?ربين إذ أن??ا‬
‫فق??ال‪ :‬ص??يدوا لن??ا منه??ا‪ ،‬فلم??ا أن رجعت إلي??ه م??ع بعض أعوان??ه ال َم ْه? ِ‬
‫بنسناس منها‪،‬‬
‫فقال لي النسناس‪ :‬أنا باهلل وبك‪،‬‬
‫فقلت لهم‪ :‬خلوه‪ ،‬فخلوه‪ ،‬فلما حضر الغداء‬
‫قال‪ :‬هل اصطدتم منها شيئأ‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نعم؛ولكن خالّ ضيفك‪،‬‬
‫الش ? َحر خ??رج منه??ا‬ ‫قال‪ :‬استعموا فأنا خارجون في َق َنصِ ه‪ ?،‬فلما خرجنا إلى ذلك في َ‬
‫وش? َعرات في ذقن?ه‪ ،‬ومث?ل الث??دي في ص?دره‪،‬‬ ‫واحد يدمو وله وجه كوج??ه اإلنس??ان َ‬
‫ومثل رجلي اإلنسان رجاله‪ ،‬وقد ألظ به كلبان‪،‬‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫دهري من الهموم واألحزان‬ ‫الويل لي مما بـه دهـانـى‬
‫واستمعا قولي وص َدقـانـي‬ ‫قفا قليال أيها الـكـ ْلـ َب ِ‬
‫ـان‬
‫ألفيتماني حضرا عِنـانـي‬ ‫إنكما حين تـحـاربـانـي‬
‫حتى تموتا أو تفارقـانـي‬ ‫س َباتي ما ملكتـمـانـي‬ ‫لوال ُ‬
‫والبنكس َرعش الجـنـان‬ ‫بخ ّـوار وال جـبـان‬ ‫لست َ‬
‫ُيذِل ذا القوة والسـلـطـان‬ ‫لكن قضاء الملك الرحمـن‬

‫قال‪ :‬فالتقيا به فأخذاه‪ ،‬ويزعمون أنهم ذبحوا منها نسناساً‪،‬‬


‫فقال قائل منها‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬ما أشد حمرة دمه! فذبحوه أيضاً‪،‬‬
‫فقال نسناس آخر من شجرة‪ :‬كان يأكل السماق‪،‬‬
‫قال‪ :‬فقالوا نسناس آخر خذوه‪ ،‬فأخذوه وذبحوه‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬لو سكت هذا لم يعلم بمكانه‪،‬‬
‫فقال نسناس من شجرة أخرى‪ :‬أنا صمت‬
‫قالوا‪ :‬نسناس‪ ،‬خذوه فأخذوه فذبحوه‬
‫اح َف ْظ رأسك‪،‬‬
‫فقال نسناس من شجرة أخرى‪ :‬يا لسان ْ‬
‫فقالوا‪ :‬نسناس خذوه‪ ،‬فأخذوه‪ ،‬وزعم من روى هذا الخبر أن المهرة تص??طادها في‬
‫بالدها وتأكلها‪.‬‬

‫شحر من بالد حضرموت وس??احلها‪ -‬وهي األحس??اء‬ ‫قال المسعودي‪ :‬ووجدت أهل ال ّ‬
‫مدينة? على الشاطئ من أرض األحقاف‪ ،‬وهي أرض الرمل وغيرها مما اتصل بهذه‬
‫?رة‪ -‬يس ??تطرفون أخب???ار‬
‫ال??ديار من أرض اليمن وغيره???ا من عم???ان وأرض ال َم ْه? َ‬
‫النس??ناس إذا م??ا ح??دقوها‪ ،‬ويتعجب??ون من وص??فه‪ ،‬ويتوهم??ون أن??ه ببعض بق??اع‬
‫األرض مما قد نأى عنهم وبعد‪ ،‬كسماع غيرهم من أهل البالد بذلك عنهم‪ ،‬وهذا‬
‫صفحة ‪350 :‬‬

‫َ?وس العام??ة واختالطه?ا‪ ،‬كم?ا وق??ع‬ ‫يمل على عدم َك ْونه في العالم‪ ،‬وإنما ذل?ك من ه َ‬
‫غرب وهذا يم??ل على ع??دم كون??ه في الع??الم ورووا في??ه ح??ديثا ً‬ ‫لهم في خبر عنقاء ُم ِ‬
‫َع َز ْوه إلى ابن عباس‪ ،‬ونحن لم ن ِحلْ وجود النسناس والعنقاء وغير ذلك مما اتصل‬
‫به بهذا النوع من الحيوان الغريب النادر في العالم من طريق العقل‪ .‬فإن ذل??ك غ??ير‬
‫أح ْل َنا ذلك ألن الخبر القاطع للعذر لم يرد بصحة وجود ذلك‬ ‫ممتنع? في القدرة‪ ،‬ولكن َ‬
‫في الع??الم‪ ،‬وه??ذا ب??اب داخ??ل في ح??يز الممكن الج??ائز خ??ارج عن ب??اب الممتن??ع?‬
‫وال??واجب‪ ،‬ويحتم??ل ه??ذه األن??واع من الحي??وان الن??اعر ذكره??ا كالنس??ناس والعنق??اء‬
‫وال َع َرابد وما اتصل بهذا المعنى أن تك??ون ٍأ أنواع??ا من الحي??وان أخرجته??ا الطبيع??ة‬
‫ضنع كتأتيه في غ??يره من الحي??وان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يتأت فيه ال ُ‬ ‫الفعل ولم تحكمه ولم‬
‫ِ‬ ‫من القوة إلى‬
‫فبقي شاذاَ فريدأ متوحشا ناعراً في العالم طالبا ً للبقاع النائي??ة من البرمباي َن? ا َ لس??ائر‬
‫أن??واع الحي??وان من الن??اطقين وغ??يرهم؛ للض??دية ال??تي في??ه لغ??يره مم??ا ق??د أحكمت??ه‬
‫الطبيع??ة‪ ،‬وع??دم المش??اكلة والمناس??بة ال??تي بين?ه? وبين غ??يره من أجن??اس الحي??وان‬
‫وأنواعه‪ ،‬على حسب م??ا ق??دمنا في ب??اب الغيالن فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب‪ ،‬وفي‬
‫اإلكثار مهن هذا خروج عن الغرض الذي إليه قصدنا في هذا الكتاب‪.‬‬

‫وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكت??اب من األخب??ار عمن زعم أن المتوك??ل أم??ر ُح َن ْي ِن‬
‫بن إسحاق‪ -‬أو غيره من أهل عصره ممن عني بهذا الشأن من الحكماء‪ -‬أن يت??أتى‬
‫له ويحتال في حمل النسناس وا ْل َع ْر َبد من أرض اليمامة‪ ،‬وأن ُح َن ْينا ً حم??ل ل??ه ش??يئا ً‬
‫من ذلك‪ ،‬وقد أتينا على شرح هذا الخبر فيمن أرس??ل إلى اليم أم??ه في حم??ل العرب??د‬
‫شحر في حمل النسناس في كتابنا أخبار الزمان وهّللا تعالى أعلم بصحة‬ ‫وإلى بالد ال ِّ‬
‫هذا الخبر‪ ،‬وليس لنا في ذلك إال النقل‪ ،‬وأن نعزو ْه إلى راوية‪ ،‬وهو المق َلد بعلم ذلك‬
‫فيما حكاه ورواه؛فننظمه على حسب ما يتأتى لنا نظمه في الموضع المس??تحق ل??ه‪،‬‬
‫وهللا ولي التوفيق برحمته‪?.‬‬
‫وأما ما ذكروه عن ابن عباس فهو خبر يتصل بخبر خال??د بن س??نان العبس??ي‪ ،‬وق??د‬
‫قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب خبر خالد بن سنان العبسي‪ ،‬وأنه ذكر أن??ه ك??ان في‬
‫الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصالة والسالم‪ ،‬وذكرنا خبره مع الن??ار وإطفائ??ه‬
‫لها‪.‬‬

‫العنقاء‬
‫فلنذكر اآلن خبر العنقاء على حسب م??ا رووه‪ ،‬فال ب??د من إع??ادة خ??بر خال??د ل??ذكرنا‬
‫العنقاء واتصال الخبرين‪ ،‬ومخرج هذه األخبار كلها عن ابن عفير‪.‬‬
‫حدث الحسن بن إبراهيم قال‪ :‬حدثنا محمد بن عبد هّللا المروزي قال‪ :‬حدثنا أسد بن‬
‫سعد بن كثير بن عفير‪ ،‬عن أبيه عن ج?دة كث?ير‪ ،‬عن ج?د أبي?ه عف??ير عن عكرم?ة‪،‬‬
‫عن ابن عباس ق?ال‪ :‬ق?ال رس?ول هللا ص??لى هللا علي?ه وس??لم إن هّللا خل?ق ط?ائراً في‬
‫حسن قس??طاً‪ ،‬وخل??ق وجه??ه على‬ ‫الزمان األول من أحسن الطير‪ ،‬وجعل فيه من كل ْ‬
‫س ? ٍن من ال??ريش‪ ،‬وخل??ق ل??ه أربع??ة‬ ‫مثال وجوه الناس‪ ،‬وكان في أجنحته كل لون ُح َ‬
‫أجنحة من كل جانب منه‪ ?،‬وخلق له يدين فيهما مخالب‪ ،‬وله منقار على صفة منقار‬
‫صفحة ‪351 :‬‬

‫وأوحى هللا تعالى‬


‫ِ‬ ‫ال ُع َقاب غليظ األصل‪ ،‬وجعل له أنثى على مثاله‪ ،‬وسماها بالعنقاء‪،‬‬
‫إلى موسى بن عمران‪ :‬إني خلقت طائراً عجيب?ا ً خلقت??ه ذك??راَ وأن??ثى‪ ،‬وجعلت رزق?ه‬
‫في وحش بيت المقدس‪ ،‬وآنستك بهما؛ليكونا مما فضلت به بني? إسرائيل‪ ،‬فلم يزاال‬
‫يتناسالن حتى كثر نسلهما‪ ،‬وأدخل هللا موسى وبني? إسرائيل في التي??ه فمكث??وا في??ه‬
‫أربعين سنة حتى مات موسى وهرون في التيه وجميع من كان مع موسى من بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وكانوا ستمائة ألف‪َ ،‬و َخ َل َفهم نسلُهم في التي??ه‪ ،‬ثم أخ??رجهم هللا تع??الى من‬
‫التي??ه م??ع يوش??ع بن ن??ون تلمي??ذ موس??ى ووص??يه‪ ?،‬فانتق??ل ذل??ك الط??ائر فوق??ع بنج??د‬
‫والحجاز في بالد قيس َع ْيالَن‪ ،‬ولم يزل هنال?ك يأك?ل من الوح??وش ويأك?ل الص?بيان‬
‫وغير ذلك من البهائم إلى أن ظهر نبي من بني عبس بين عيسى ومحمد ص??لى هللا‬
‫عليهما وس?لم يق?ال ل?ه خال?د بن س?نان‪ ،‬فش?كا إلي?ه الن?اس م?ا ك?انت العنق?اء تفع?ل‬
‫بالصبيان‪ ،‬فدعا هللا عليها أن يقطع نس??لها فقط??ع هللا نس??لها فبقيت ص??ورتها تحكي‬
‫سطِ وغير ذلك‪.‬‬
‫في ال ُب ُ‬
‫وقد ذهب جماعة من ذوي الروايات إلى أن قول الناس في أمثالهم عنق??اء ُم ْغ? رب‬
‫إنما هو لألمر العجيب النادر وقوعه‪ ،‬وقولهم جاء فالن بعنقاء ُم ْغ? ِرب يري??دون أن??ه‬
‫ص ّب َحهم بالجيش عنقاء ُم ْغ ِرب‬
‫جاء بأمر عجيب‪ ،‬قال شاعرهم‪َ :‬و ً‬
‫َوا ْل َع َنق‪:‬السرعة‬

‫خالد بن سنان العبسي‬


‫هّللا‬
‫شر برس??ول ص??لى هللا‬ ‫قال ابن عباس من‪ :‬وكان خالد بن سنان نبي بني عبس َب َّ‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فلما حضرته الوف??اة ق??ال لقوم??ه‪ :‬إذا أن??ا مت ف??ادفنوني في ِح ْق??فِ من‬
‫هذه األحقاف‪ ،‬وهي تلول عظام من الرمل‪ ،‬واحرسوا قبري أياماً‪ ،‬فإذا رأيتم حم??اراً‬
‫أشهب أبتر ي?دور ح?ول ال ِح ْق??ف ال?ذي في?ه ق??بري أيام?ا ً ف?اجتمعوا ثم انبش?وا ق??بري‬
‫وأخرج??وني إلى ش??فير الق??بر‪ ،‬وأحض??روا لي كات َب? ا َ ومع??ه م??ا يكتب في??ه ح??تى أملي‬
‫عليكم ما يكون وما يحدث إلى يوم القيامة‪ ،‬وقال‪َ :‬ف َرصدوا قبره بعد وفات??ه ثالث?ا ً ثم‬
‫ثالث??أ ثم ثألث?اً‪ ،‬ف??إذا الحم??ار ي??رعى ح??ول الحق??ف قريب?ا ً من ق??بره واجتمع??وا علي??ه‬
‫لينبشوا كما أمرهم‪ ،‬فحض??ر ول??ده وش??هروا س??يبرفهم‪ ،‬وق??الوا‪ :‬وهللا ال تركن??ا أح??داً‬
‫ينبش??ه‪ ،‬أتري??دون أن ُن َع??ير ب??ذلك غ??داً وتق??ول لن??ا الع??رب‪ :‬ه??ؤالء ول??د المنب??وش؛‬
‫فانصرفوا عنه وتركوه‪ ،‬ق?ال ابن عب?اس‪ :‬ووردت ابن??ة ل?ه عج??وز ق??د عم?رت على‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فتلقاها خيرو أكرمها وأسلمت‪ ،‬وقال لها‪ :‬مرحب?ا ً بابن??ة‬
‫نبي ضيعه أهله قال شاعر بني عبس‪:‬‬
‫ب في القبر‬ ‫بني خالد لوأنكـم إذ حـضـر ُتـ ُم نبشتم عن الميت المغ َّي ِ‬
‫عـبـس ذخـيرة من العلم ال تبلى على سالف الدهر‬ ‫ٍ‬ ‫ألبقى عليكم آل َ‬
‫وقد رو َي ْت عن ابن عفير أخبار كثيرة في ه??ذا المع??نى وأش??باهه من فن??ون األخب??ار‬
‫من أخبار بني إسرائيل وغيرها‪.‬‬

‫صفحة ‪352 :‬‬

‫خلق الخيل‬
‫منها خبر خلق الخيل‪ ،‬وهو ما حدث به الحسن بن إبراهيم الش??عبي القاض??ي‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫حدثنا أبو عبد هّللا محمد بن عبد هّللا المروزي قال‪ :‬حدثنا أبو الحارث أسد بن سعيد‬
‫بن كثير بن عفير‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده كثير‪ ،‬عن جد أبيه عفير قال‪ :‬قال‬

‫عكرمة‪ :‬أخبرني موالي ابن عباس‪،‬‬


‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن هللا لما أراد أن يخلق الخي??ل أوحى‬
‫إلى الريح الجنوبي"‬
‫و قال هللا‪ :‬إني خالق منك خلقا ً فاجتمعي فاجتمعت‪ ،‬فأمر جبريل فأخذ منه??ا قبض??ة‬
‫ثم قال هللا‪ :‬هذه قبضتي‪،‬‬
‫قال‪ :‬ثم خلق هللا منها فرسا ً ُك َم ْي َتاَ‪،‬‬
‫ثم قال هللا‪ :‬خلقتك فرساً‪ ،‬وجعلتك عربياً‪ ،‬وفضلتك على سائر ما خلقته من البهائم‬
‫بس??عة ال??رزق‪ ،‬والغن??ائم تق??اد على ظه??رك‪ ،‬والخ??ير معق??ود بناص??يتك‪ ،‬ثم أرس??له‪،‬‬
‫ص َهلَ‪،‬‬
‫ف َ‬
‫فق??ال هللا‪ :‬ب??اركت في??ك‪ ،‬بص??هيلك أرعب المش??ركين‪ ،‬وأمأل مس??امعهم‪ ،‬وأزل??زل‬
‫سمه? بغرة وتحجيل‪ ،‬فلما خلق هّللا آدم‬ ‫أقدأمهم‪ ،‬ثم و َ‬
‫قال‪ :‬يا أدم‪ ،‬أخبرني? أي الدابتين أحب إليك الفرس أو البراق‪.‬‬
‫قال‪ :‬وصورة البراق على صورة البغل‪ ،‬ال ذكر وال أنثى‪،‬‬
‫اخترت أحسنهما وجهاً‪ ،‬فاختار الفرس‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال آدم‪ :‬يا رب‪،‬‬
‫فقال هللا‪ :‬يا آدم اخترت عزك وعز ولدك باقيا ً ما بقوا وخلدوا"‬
‫الو ْس?? ُم في??ه وفي ول??ده إلى ي??وم القيام??ة‪ ،‬يع??ني الغ??رة‬
‫ق??ال ابن عب??اس‪ :‬ف??ذلك َ‬
‫والتحجيل‪.‬‬
‫قال المسعودي رحمه هللا‪ :‬وقد ذكر عيس??ى بن لهيع??ة المص??ري في كتاب??ه الم??ترجم‬
‫بكت???اب الحالئب والجالئب وذك???ره لك??ل َح ْلب??ة أج ??ريت فيه??ا الخي ??ل في الجاهلي???ة‬
‫واإلِسالم‪ :‬أن سليمان بن داود َز َؤ َد أناسا من األزد فرسا ً يصيدون عليه‪ ،‬فسمي زاد‬
‫الراكب‪ ،‬وكذلك ذكر ابن عريد في كتاب الخيل وغيره‪.‬‬
‫وللناس في الخيل أخبار عظيمة كثيرة قد أتينا على ذكرها في السالف من كتبنا‪.‬‬
‫ليل لذكره في تصنيفه? من كل نوع لما ذكرنا هذه األخبار؛‬ ‫حاطب ٍ‬
‫ُ‬ ‫ولوال أن المصنف‬
‫إذ الناس من أهل العلم والدراية في قبول األخبار على وجوه‪.‬‬

‫الكالم على األخبار‬


‫وقد ذهبت طائفة إلى أن األخبار التي تقطع العذر وت??وجب العلم والعم??ل هي أخب??ار‬
‫االستفاضة‪ :‬ما رواه الكافة عن الكافة‪ ،‬وأن ما عدا ذلك فغير واجب قبوله‪.‬‬
‫وذهب الجمهور من فقهاء األمصار إلى قبول خبر االستفاضة‪ ،‬وه??و خ??بر الت??واتر‪،‬‬
‫يوجب العلم والعمل‪ ،‬وأوجبوا العمل بخبر الواحد‪ ،‬وزعموا أن??ه م??وجب للعم??ل‬
‫ْ‬ ‫وأنه‬
‫دون العلم بأوصاف ذكروها‪.‬‬

‫صفحة ‪353 :‬‬

‫ومن الن??اس من ذهب إلى غ??ير ه??ذه الوج??وه في قب??ول األخب??ار من الض??رورية‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫وما ذكرناه من حديث النسناس والعنقاء وخلق الخيل فغير داخل في أخب??ار الت??واتر‬
‫الموجب??ة للعم??ل والالحق??ة بم??ا أوجب العم??ل دون العلم‪ ،‬وال باألخب??ار المض??طرة‬
‫لسامعها إلى قبولها عن?د وروده?ا واعتق?اد ص?حتها عن ُم ْخ ِبره?ا‪ ،‬وه?ذا الن?وع من‬
‫األخبار قد قدمنا أنه??ا في َح ِّيز الج??ائز الممكن ال??ذي ليس ب??واجب وال ممتن??ع‪ ?،‬وهي‬
‫الحقة باإلِسرائيليات من األخبار واألخبار عن عجائب البحار‪.‬‬

‫ولوال ما قدمنا آنفا ً من اشتراطنا على أنفسنا االختصار واإليجاز لذكرنا م??ا اتص??ل‬
‫بهذا المعنى من األخبار مما رواه أصحاب الحديث عن النبي صلى هللا عليه وس??لم‪،‬‬
‫وهم حملة السنن ونقلة اآلثار‪ ،‬مما ال يتناكرونه‪ ،‬ويعرفونه وال يدفعونه‪?.‬‬
‫أمثلة من األخبار‬
‫مثل حديث القرد الذي كان في السفينة? في عهد ب??ني إس??رائيل م??ع رج??ل ك??ان ي??بيع‬
‫وب الخمر بالماء‪ ،‬وأن?ه جم?ع من ذل?ك دراهم كث?يرة‪ ،‬وأن‬ ‫ش ُ‬‫الخمر ألهل السفينة و َي ُ‬
‫القرد قبض على الكيس الذي كانت في??ه ال??دراهم وص??عد على ال??دقل‪ ،‬وه??و ص??ارى‬
‫الم??ركب و ُي??دْ َعى ب??العراق ال??دقل‪ ،‬فح??ل الكيس ولم ي??زل ي??رمي درهم ?ا ً إلى الم??اء‬
‫ودرهما ً إلى السفينة‪ ،‬حتى قسم ذلك نصفين‪.‬‬

‫ومث??ل م??ا روي الش??عبي عن فاطم??ة بنت قيس عن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪،‬‬
‫الداري‪ ،‬أن‬
‫ّ‬ ‫وكذلك قد رواه عن فاطمة بنت قيس عدة من الصحابة‪ ،‬وهو خبر تميم‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم أخبر عنه أنه أخبره أنه ركب البحر في جماعة من ب??ني?‬
‫عم??ه في س??فينة‪ ،‬فأض?ل َّ بهم البح??ر وألق?اهم إلى جزي??رة فخرج??وا من الس??فينة إلى‬
‫الجزيرة فنظروا إلى دابة عظيمة قد نش??رت ش??عرها‪ ،‬فق?الوا له?ا‪ :‬أيته??ا الداب??ة‪ ،‬م?ا‬
‫جساسة التي أخرج آخر الزمان‪ ،‬وذك??روا عنه?ا كالم?ا ً غ??ير ه??ذا‪،‬‬ ‫أنت؛ فقالت‪ :‬أنا ا ْل َّ‬
‫وأنها قالت‪ :‬عليكم بصاحب القصر‪ ،‬فنظروا فإذا هم بقص??ر من حال??ه ووص??فه ك??ذا‪،‬‬
‫س ْلسل إلى عمود من حديد وصفة وجهه كذا‪ ،‬وأن??ه‬ ‫وإذا هم برجل بالحديد والقيود ُم َ‬
‫خاطبهم وساءلهم‪ ،‬وأن??ه ال??دجال‪ ،‬وأن??ه أخ??برهم بجم??ل من المالحم‪ ،‬وأن??ه ال ي??دخل‬
‫مدينة? النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وغير ذلك مما ذكر في هذا الح??ديث وغ??يره مم??ا‬
‫ورد من األخبار في معناه‪ ،‬وهذا باب كبير يتسع? وصفه ويعظم شرحه‪?.‬‬

‫عود إلى ذكر أرباع العالم والطبائع‬


‫ثم رجع بنا القول إلى ما كنا فيه آنفا من ذكر أرباع العالم والطابع‪،‬وما اتص??ل به??ذا‬
‫المعنى‪ ،‬وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب جوامع من الكالم في الطبائع وغيره??ا‬
‫مما ينبه? على عظم ه??ذا الب??اب ومبس??وطه؛وق??د زعم جماع??ة ممن تق??دم وت??أخر من‬
‫األطباء ومصنفي? الكتب في الطبيعيات وغيرها أن للطعام ثالثة انهضامات‪:‬‬
‫صفحة ‪354 :‬‬

‫أم??ا األول فهي المع??دة ف??إن المع??دة تهض??م الطع??ام فتأخ??ذ قوت??ه فيص??ير مث??ل م??اء‬
‫الكشك‪ ،‬ثم تدفعه إلى الكب??د ثم يدفع??ه الكب??د في الع??روق إلى جمي??ع الجس??د كان??دفاع‬
‫الماء من النهر إلى السواقي والمشارب‪ ،‬فتهضمه أعضاء الجسد التالي??ة‪ ،‬فتص??يره‬
‫إلى شبهها اللحم لحما ً والشحم شحماً‪ ،‬وكذلك العروق والعصب وما سوى ذلك وأن‬
‫إقتارها إذا استوت استوت أقدار القوى وإذا استوت القوى استوى الجس??د واعت??دل‬
‫هللا تعالى‪.‬‬
‫ويصح? بإذن ّ‬

‫فصول السنة وأثر كل منها‬


‫وأن الزمان أربعة فصول‪ :‬الص??يف‪ ،‬والخري??ف‪ ،‬والش??تاء والربي??ع فالص??يف يق??وي‬
‫المرة الصفراء ويكثر اهتياجها‪ ،‬والخري??ف يق??وي الس??وداء والش??تاء يق??وي البلغم‪،‬‬
‫والربيع يقوي الدم‪.‬‬
‫ثم ينقسم عمر اإلِنسان أربعة أقسام‪ :‬الصبا وفيه يقوى ال??دم والش??باب وفي??ه تق??وى‬
‫المرة الصفراء‪ ،‬والكهولة وفيها تقوى السوداء والشيخوخة وفيها يقوى البلغم‪.‬‬
‫وأن البلدان أيضا ً تنقسم على أربعة أقس??ام‪ :‬المش??رق وطبيعت?ه? الح??رار والرطوب??ة‪،‬‬
‫وفيه يقوى الدم‪ ،‬والجنوب وطبيعته ال?برودة واليبس‪ ،‬وفي?ه تق?و؛ الم?رة الس?وداء‪،‬‬
‫والغرب وطبيعته البرودة والرطوبة وفي??ه يق??وى البلغم وال??تيمن وطبيعت??ه الح??رارة‬
‫واليبس‪ ،‬وفي??ه تق??وى الم??رة الص??فراء‪ ،‬وأن بني??ة األص??ول من الجس??د ربم??ا ك??انت‬
‫مستوية معتدل??ة األخالط‪ ،‬وربم??ا ك??ان أغلب األخالط أغلب في البني??ة فتظه??ر قوت??ه‬
‫بأعل أمه حتى يكون مقويا ً لذلك الخلط إذا هاج‪.‬‬

‫وقد قال أبقراط‪ :‬ينبغي أن يكون كل شيء في هذا العالم مق??در أعلى س??بعة أج??زاء‪،‬‬
‫فالنجوم سبعة‪ ،‬واألقاليم سبعة واأليام سبعة وأسنان الناس س??بعة‪ :‬أوله??ا طف??ل‪ ،‬ثم‬
‫صبي إلى أربع عشرة سنة‪ ،‬ثم غالم إلى أحد وعشرين سنة‪ ،‬ثم شاب م??ا دام يش??ب‬
‫ويقب??ل الزي??ادة إلى خمس وثالثين س??نة‪ ?،‬ثم كه??ل إلى األربعين‪ ،‬ثم ش??يخ إلى س??بع‬
‫واربعين سنة‪ ،‬ثم هرم إلى آخر العمر‪.‬‬

‫الهواء وأثره في اإلِنسان والحيوان‬


‫وجميع تغير أحوال الحيوان من الناطقين وغيرهم فمن الهواء يكون ذل??ك وق??د ق??ال‬
‫الحكيم أبق??راط‪ :‬إن تغ??ير ح??االت اله??واء ه??و ال??ذي يغ??ير ح??االت الن??اس‪ :‬م??رة إلى‬
‫الغضب‪ ،‬ومرة إلى السكون‪ ،‬وإلى الهم والس??رور وغ??ير ذل??ك‪ ،‬وإذا اس??توت ح?االت‬
‫الهواء استوت حاالت الناس وأخالقهم‪.‬‬

‫وقال‪ :‬إن ق??وى النفس تابع??ة لمزاج??ات األب??دان‪ ،‬ومزاج??ات األب??دان تابع??ة لتص??رف‬
‫الهواء‪ :‬إذا برد مرة وسخن أخرى خرج الزرع نض??يجا ً وم??رة غ??ير نض??يج‪ ?،‬وم??رة‬
‫قليال ومرة كثيراً‪ ،‬ومرة حاراً ومرة بارداً‪ ،‬فتتغ??ير ل??ذلك ص??ورهم ومزاج??اتهم‪ ،‬وإذا‬
‫اعتدل الهواء واستوى خرج معتدال‪ ،‬فاعتدل بذلك الصور والمزاجات‪.‬‬

‫صفحة ‪355 :‬‬

‫االستدالل باألقاليم على تأثير الهواء‬


‫فأما علة تش??ابه ص??ور ال??ترك فإن??ه لم??ا اس??توى ه??واء بل?دانهم في ال??برد اس??توت‬
‫صورهم وتشابهت‪ ،‬وكذلك أهل مصر لما استوت أهواؤهم تشابهت ص??ورهم‪ ،‬ولم??ا‬
‫كان الغالب على هواء الترك البرد وعجزت الح?رارة عن تنش?يف? رطوب?ات أب?دانهم‬
‫كثرت شحومهم‪ ،‬والنت أبدانهم‪ ،‬وتشبهوا بالنس??اء في كث??ير من أخالقهم‪ ،‬فض??عفت‬
‫شهوة الجماع فيهم‪ ،‬وقل َّ ولدهم؛لبرد مزاجهم‪ ،‬وللرطوبة الغالبة عليهم‪ ،‬وقد يك??ون‬
‫ض??عف الش??هوة أيض?ا ً لك?ثرة رك?وب الخي?ل‪ ،‬وك?ذلك نس?اؤهم‪ :‬لم?ا س??منت أب??دانهن‬
‫ورطبت ضعفت أرح أمه ن عن جذب الزرع إليها‪.‬‬
‫وأم??األوانهم فلل??برد كم??ا ذكرن??ا؛ ألن البي??اض إذا ألحت علي??ه ال??برودة ص??ار إلى‬
‫الحم??رة‪ ،‬وبي??ان ذل??ك أن أط??راف األص??ابع والش??فة واألن??ف إذا أص??ابها ب??رد ش??ديد‬
‫احمر ْت‪.‬‬
‫َّ‬
‫وذكر الحكيم أبم??راط أن في بعض البل??دان من الجن??وب بل??دة كث??يرة األمط??ار كث??يرة‬
‫شبِ‪ ،‬وأن أشجارها ذاهبة في الهواء‪ ،‬ومياهها عذب??ة ودوابه??ا عظيم??ة‪،‬‬ ‫النبات وال ُع ْ‬
‫وهي مخص??بة؛ألن تل??ك البالد لم يلحقه??ا ح??ر الش??مس‪ ،‬ولم يلحقه??ا يبس ال??برد‪،‬‬
‫فأجس???ام أهله???ا عظيم???ة‪ ،‬وص???وره جميل???ة‪ ،‬وأخالقهم كريم???ة؛فهم‪ -‬في ص???ورهم‬
‫وقاماتهم واعتدال طبائعهم يشبهون باعتدال زمان الربيع‪ ،‬غير أنهم أص??حاب دَ َع??ة‬
‫ال يحتملون الشدائد والكد‪.‬‬
‫وقال أبقراط في معنى ما وصفنا وم?ا إلي?ه قص?دنا‪ ،‬من بي?ان األهوي?ة وتأثيره?ا في‬
‫الحي??وان والنب??ات‪ :‬إن ال??روح المطبوع??ة فيه??ا هي ال??تي تج??ذب اله??واء إلين??ا‪ ،‬وإن‬
‫الري??اح تقلب الحي??وان من ح??ال إلى ح??ال‪ ،‬وتص??رفه من‪ -‬إلى ب??رد‪ ،‬ومن يبس إلى‬
‫رطوبة‪ ،‬ومن سرور إلى حزن‪ ،‬وكما تغير ما في البيوت من بزر أو عسل أو فض??ة‬
‫أو شراب أو س??من فتس??خنها م??رة وت??برده أخ??رى وترطبه??ا م??رة وتيبس??ها أخ??رى‪،‬‬
‫وعلة ذلك أن الش??مس والك??واكب تغ??ير اله??واء بحركاته??ا‪ ،‬وإذا تغ??ير اله??واء تغ??ير‬
‫بتغيره كل ش??يء‪ ،‬فمن تق??دم وع??رف أح??وال األزمن??ة وتغيره??ا وال??دالئل ال??تي فيه??ا‬
‫عرف السبب األعظم من أسباب العلم وتقدم في حفظ صحة األبدان‪.‬‬

‫أثر الجنوب‬
‫وقال أيضاً‪ :‬إن الجنوب إذا هبت أذابت الهواء وبردت??ه‪ ،‬وس??خنت البح??ار واألنه??ار‪،‬‬
‫وكل شيء فيه رطوبة‪ ،‬وتغير لون كل شئ وحاالته‪ ،‬وهى ترخي األبدان والعص??ب‪،‬‬
‫وتورث الكس??ل‪ ،‬وتح??دث ثقال في الس??ماع وغش??اوة في البص??ر؛ألنه??ا تحل??ل الم??رة‪،‬‬
‫وتنزل? الرطوبة إلى أصل العصب الذي يكون فيه الحس‪.‬‬

‫أثر الشمال‬
‫وأم??ا الش??مال فإنه??ا تص??لب األب??دان‪ ،‬وتص ?ح? األدمغ??ة‪ ،‬و َتحس??ن الل??ون‪ ،‬وتص??في‬
‫س َعال ووجع الصدر‪.‬‬ ‫الحواس‪ ،‬وتقوي الشهوة والحركة‪ ،‬غير أنها تحرك ال ُّ‬

‫صفحة ‪356 :‬‬

‫َب ب??أرض‬ ‫وق??د زعم بعض من ت??أخر في اإلس??الم من الحكم??اء أن الجن??وب إذا ه َّ‬
‫الع??راق تغ??ير ال??ورد‪ ،‬وتن??اثر? ال??ورق وتش??قق القنبي??ط وس??خن الم??اء‪ ،‬واس??ترخت‬
‫األب??دان‪ ،‬وتك??در اله??واء‪ ،‬ق??ال‪ :‬وذل??ك ش??به م??ا ق??ال أبق??راط ا‪ :‬إن الص??يف ْأو َب??أ من‬
‫الشتاء‪،‬ألنه يسخن األبدان فيرخيها ويضعف قواها‪ ،‬وإن أهل الع??راق يك??ون الرج??ل‬
‫فيحس بهبوبها‪ ،‬وإنه إذا هبت الشمال َب َر َد الخاتم في إص??بعه‬ ‫ُّ‬ ‫منهم نائما ً في فراشه‬
‫واتس??ع النض??مام الب??دن به??ا‪ ،‬وإذا هبت الجن??وب س??خن الخ??اتم وض??اق‪ ،‬واس??ترخى‬
‫البدن‪ ،‬وحدث فيه الكسل‪ ،‬وهذا يجده سائر َمنْ بالعراق ممن ل??ه حس??ن‪ ،‬إذا ص??رف‬
‫همته? إلى تأمل ذلك‪ ،‬وكذلك يجده من تأمل ما وصفناه في س??ائر األمص??ار في بق??اع‬
‫األرض والبلدان‪ ،‬وإن كان ذلك بالعراق أظهر لعموم االعتدال‪.‬‬

‫الرياح األربعة‬
‫ثم قال الحكيم أبقراط في معنى ما ذكرناه‪ :‬إن الرياح العامة أربعة‪ :‬إحداها تهب من‬
‫جهة المشرق‪ ،‬وهي ا ْل َق ُبول‪ ،‬والثانية تهب من المغرب‪ ،‬وهي ال ? َّد ُبور‪ ،‬والثالث??ة من‬
‫التيمن‪ ،‬وهي الجنوب‪ ،‬والرابعة من التيسر‪ ،‬وهي الشمال‪.‬‬
‫فأما الريح التي تهب في بلد دون بلد فإنها تسمى الريح البلدية‪.‬‬
‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وق??د ق??دمنا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب جوام??ع من األخب??ار عن‬
‫األرض والبح??ر‪ ،‬وكث??ير? من الممال??ك والبل??دان‪ ،‬وذكرن??ا في ه??ذآ الب??اب جوام??ع من‬
‫األخبار عن الطبائع واألهوية والبلدان وأرب??اع األرض من الع??امر والغ??امر‪ ،‬وغ??ير‬
‫ذلك مما تقدم ذكره وانتظم تص??نيفه? وا َت َ‬
‫س? َق بحم??د هللا إي??راده؛ فرأين??ا أن نختم ه??ذا‬
‫الباب بجوامع من مساحات الممالك‪ ،‬وما بينه??ا من البع??د والق??رب‪ ،‬على حس??ب م??ا‬
‫حكاه الفزاري صاحب كتاب الزيج والقصيدة في هيئة النجوم والفلك‪:‬‬

‫مساحات الممالك وما بينها من المسافة‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫زعم الف?زاري أن عم?ل أم?ير المؤم?نين? من ف ْر َغان?ة وأقص?ى خراس?ان إلى طنج?ة‬
‫بالمغرب ثالثة آالف وسبعمائة? فرسخ‪ ،‬والعرض من باب األبواب إلى ج??دة س??تمائة‬
‫فرسخ‪ ،‬ومن الب??اب إلى بغ??داد ثلثمائ?ة? فرس??خ‪ ،‬ومن مك??ة إلى ج??دة اثن??ان وثالث??ون‬
‫ميالَ‪.‬‬
‫عمل الصين من المشرق أحد وثالثون ألف فرسخ في أحد عشر ألف فرسخ‪.‬‬
‫عمل الهند في المشرق أحد عشر ألف فرسخ في سبعة آالف فرسخ‪.‬‬
‫عمل التبت خمسمائة فرسخ في مائتين وثالثين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل كابلشاه أربعمائة فرسخ في ستين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل التغزغز بالترك ألف فرسخ في خمسمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل الترك لخاقان سبعمائة فرسخ في خمسمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل الخزر والالن سبعمائة فرسخ في خمسمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل برجان ألف وخمسمائة فرسخ في ثلثمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل الصقالبة ثالثة آالف وخمسمائة? فرسخ في أربعمائة فرسخ وعشرين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل الروم بقسطنطينية? خمسة آالف فرسخ في أربعمائة وعشرين فرسخاً‪.‬‬
‫صفحة ‪357 :‬‬

‫عمل رومية? الروم ثالثة آالف فرسخ في سبعمائة فرسخ‪.‬‬


‫عمل األندلس لعبد الرحمن بن معاوية ثلثمائة فرسخ في ثمانين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل إعريس الفاطمي ألف ومائتا فرسخ في مائة وعشرين فرسخاً‪.‬‬
‫ٍ عمل ساحل سجلماسة لبني المنتصر? أربعمائة فرسخ في ثمانين فرسخا‪.‬‬
‫عمل أنبيه ألفان وخمسمائة? فرسخ في ستمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل غانة بالد الذهب ألف فرسخ في ثمانين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل ورام مائتا فرسخ في ثمانين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل نخلة مائة فرسخ وعشرون فرسخا ً في ستين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل واح ستون فرسخا ً في أربعين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل البحة مائتا فرسخ في ثمانين فرسخاً‪.‬‬
‫عمل النجاشي ألف وخمسمائة فرسخ في أربعمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل الزنج بالمشرق سبعة آالف وستمائة? فرسخ في خمسمائة فرسخ‪.‬‬
‫عمل أسطوال ألحمد بن المنتصر? أربعمائة فرسخ في مائتين وخمسين فرسخاً‪.‬‬
‫ف??ذلك الط??ول اثن??ان وس??بعون أل َف?ا َ وأربعمائ??ة وثم??انون فرس??خاً‪ ،‬والع??رض خمس??ة‬
‫َ‬
‫فرسخاَ‪.‬‬ ‫وعشرون ألفا ً ومائتان وخمسون‬

‫أصول الطب‬
‫وأما الكالم في وصف أصول الطب‪ ،‬وهل ذلك مأخوذ من طريق الرياض??ة والقي??اس‬
‫أم من غيره‪ ،‬ووصف تنازع الناس في ذلك؛فلم نتعرض إليراده في هذا الباب‪ ،‬وإن‬
‫كان متعلقا ً ومتصالً بالكالم في الطبائع وجمل المعاني المذكورة في هذا ا لباب؛ألن??ا‬
‫قد أوردناه فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار الواثق على إيض??اح ج??رى بحض??رته‪?،‬‬
‫وقد حضر مجلسه حنين بن إسحاق وابن ماس??وية ويختيش??وع وميخائي?ل? وغ??يرهم‬
‫من الفالسفة والمتطببين‪ ،‬فأغنى ذلك عن إي??راده في ه??ذا الب??اب‪ ،‬ول??وال أن الكت??اب‬
‫َي ِر ُد على أغراض مختلفة من الناس لما ُه ْم عليه من اختالف الطب??ائع والتب??اين في‬
‫المراد لما ذكرنا بعض ما نورد في??ه من أن??واع العل??وم وفن??ون األخب?ار‪ ،‬وق??د يلح??ق‬
‫اإلِنسان الملل لقراءته م?ا ال ته?وى نفس?ه فينتق?ل من?ه إلى غ?يره‪ ،‬فجمعن?ا في?ه من‬
‫سائر ما يحتاج الناس من ذوي المعرفة إلى علمه‪ ،‬ولما تغلغل بن??ا الكالم في نظم??ه‬
‫وتشعبه? واتصاله بغ??يره من المع??اني مم??ا لم يتق??دم ذك??ره‪ ،‬وق??د أتين??ا على مبس??وط‬
‫س??ائر م??ا ذكرن??اه على االتس??اع واإليض??اح في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وفي الكت??اب‬
‫األوسط‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫ذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة‬


‫وبيوت النيران واألصنام وذكر الكواكب وغير ذلك من عجائب العالم‬
‫عبادة الهند واتخاذهم األصنام‬
‫قال المسعودي‪ :‬كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن‬
‫هللاّ عز وجل جسم‪ ،‬وأن المالئكة أجسام لها أقدار‪ ،‬وأن هللاّ تعالى ومالئكته احتجبوا‬
‫بالسماء‪ ،‬فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل? وأصناما ً على صورة الباري‬
‫صفحة ‪358 :‬‬

‫عز وجل‪ ،‬وبعض??ها على ص??ورة المالئك??ة‪ :‬مختلف??ة الق??دود واألش??كال‪ ،‬ومنه??ا على‬
‫صورة اإلنسان وعلى خالفها من الصور‪ ،‬يعبدونها‪ ،‬وقربوا الق??رابين‪ ،‬ونف??روا له??ا‬
‫النذور‪ ،‬لشبهها عندهم بالباري وقربه??ا من??ه‪ ،‬فأق??اموا على ذل??ك بره??ة من الزم??ان‬
‫وجملة من األعصار‪.‬‬

‫عبادتهم الكواكب واتخاذهم أصناما ً لها‬


‫حتى نبههم بعض حكم??ائهم على أن األفالك والك??واكب أق??رب األجس??ام المرئي?ة? إلى‬
‫هللا‪ ،‬وأن ك??ل م??ا‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وأنها حية ناطقة‪ ،‬وأن المالئكة تختلف فيما بينها وبين ّ‬ ‫ّ‬
‫هّللا‬
‫يح??دث في ه??ذا الع??الم فإنم??ا ه??و على ق??در م??ا تج??ري ب??ه الك??واكب عن أم??ر ‪،‬‬
‫فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم‪ ،‬فمكثوا على ذل?ك ده?راً‪ ،‬فلم?ا رأوا الك?واكب‬
‫تخفى بالنه??ار وفي بعض أوق??ات اللي??ل لم??ا يع??رض في الج??و من الس??واتر أم??رهم‬
‫بعض من ك??ان فيهم من حكم??ائهم أن يجعل??وا له??ا أص??ناما ً وتماثي ?ل? على ص??ورها‬
‫وأشكالها‪ ،‬فجعلوا لها أصناما ً وتماثيل? بعدد الكواكب الكبار المشهورة‪ ،‬وك??ل ص??نف‬
‫منهم يعظم كوكبا ً منها‪ ،‬ويقرب لها نوعا ً من ا لقرب??ان خالف م??ا لآلخ??ر‪ ،‬على أنهم‬
‫إذا عظموا ما صوروا من األصنإم تحركت لهم األجسام العلوية من السبعة بك??ل م??ا‬
‫يري??دون‪ ،‬وبن??وا لك??ل ص??نم بيت?ا ً وهيكالً مف??رداً‪ ،‬وس??موا تل??ك الهياك??ل بأس??ماء تل??ك‬
‫الكواكب‪.‬‬
‫وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت ُز َحلَ‪ ،‬وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت‬
‫على مرور? الدهور معظما ً في سائر األعصار ألنه بيت ُز َحلَ‪ ،‬وأن زح??ل ت??واله‪ ،‬ألن‬
‫زحل من شأنه البقاء والثبوت‪ ،‬فما كان له فغير زائل وال داث??ر‪ ،‬وعن التعظيم غ??ير‬
‫حائل‪ ،‬وذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها‪.‬‬

‫بوداسف أول الصابئة‬


‫هّللا‬
‫ولم??ا ط??ال عليهم العه??د عب??دوا األص??نام على أنه??ا تق??ربهم إلى ‪ ،‬وألف??وا عب??ادة‬
‫الكواكب‪ ،‬فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر بوداسف ب??أرض الهن??د‪ ،‬وك??ان هن??ديا ً وق??د‬
‫ك??ان بوداس??ف خ??رج من أرض الهن??د إلى الس??ند‪ ،‬ثم س??ار إلى بالد سجس??تان وبالد‬
‫زابلستان‪ ،‬وهي بالد فيروز بن كبك‪ ،‬ثم دخل السند ثم إلى كرمان‪ ،‬فتنب??أ وزعم أن??ه‬
‫رسول هّللا ‪ ،‬وأنه واسطة بين هللاّ وبين خلق??ه‪ ،‬وأتى أرض ف??ارس‪ ،‬وذل??ك في أوائ??ل‬
‫ملك طهمورث ملك ف??ارس‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ذل??ك في مب??ك َج َّم‪ ،‬وه??و أول من أظه??ر م??ذاهب‬
‫الصابئة? على حسب ما قدمنا انفا ً فيما سلف من هذا الكتاب‪ ،‬وقد كان بوداسف أم??ر‬
‫الناس بالزهد في هذا العالم واالشتغال بما على من الع??والم؛إذ ك??ان من هنال??ك ب??دء‬
‫النفوس‪ ،‬وإليها يقع الصدر من هذا العالم‪.‬‬

‫وجدا بوداس??ف عن??د الن??اس عب?ادة األص??نام‪ ،‬والس??جود له?ا‪ُ ،‬‬


‫لش? َب ٍه ذكره??ا‪ ،‬وق? َّ‬
‫?ر َب‬
‫لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخداع‪.‬‬

‫صفحة ‪359 :‬‬

‫جم أول من دعا إلى عبادة النار‬


‫وذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم أن َج َّم الملك أول من عظم النار‪،‬‬
‫ودعا الناس إلى تعظيمها‪ ،‬وق??ال‪ :‬إنه??ا تش??به ض??وء الش??مس والك??واكب؛ألن الن??ور‬
‫عنده أفضل من الظلمة!‪ ،‬وجعل للنور مراتب‪.‬‬
‫ثم تنازع هؤالء بعده‪ ،‬فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه? من األسماء تقربا ً إلى‬
‫هللا بذلك ثم تنازعوا برهة من الزمان‪.‬‬

‫عمرو بن لحى أظهر األصنام بمكة‬


‫ونشأ عمر وبن لحى فساد قومه بمكة واستولى على أمر البيت‪ ،‬ثم سار إلى مدين ?ة?‬
‫البلق??اء من عم??ل دمش??ق من أرض الش??ام‪ ،‬ف??رأى قوم?ا ً يعب??دون األص??نام‪ ،‬فس??ألهم‬
‫عنها‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذه أرباب نتخ??ذها‪ :‬نستنص?ر? به??ا فننص??ر‪ ،‬ونستس??قي? به??ا فنس??قى‪،‬‬
‫وكل ما نسألهم نعطى‪ ،‬فطلب منهم صنما ً يدعونه ُه َبلَ‪ ،‬فسار ب??ه إلى مك??ة‪ ،‬ونص??به‬
‫على الكعبة ومعه إساف ونائلة‪ ،‬ودعا الناس إلى تعظيمها وعبادته??ا‪ ،‬ففعل??وا ذل??ك‪،‬‬
‫إلى أن أظهر هّللا اإلس??الم وبعث محم??داً علي??ه الص??الة الس??الم؛ فطه??ر البالد‪ ،‬وأنق??ذ‬
‫العباد‪.‬‬

‫البيت الحرام‬
‫وقد قال هؤالء‪ :‬إن البيت الحرام من البيوت السبعة المعظم??ة المتخ??ذة على أس??ماء‬
‫الكواكب من النيرين والخمسة‪?.‬‬

‫بيت للمجوس بأصبهان‬


‫وبيت ثان معظم على رأس جبل بأصبهان ُيقال له مارس‪ ،‬وك??انت في??ه أص??نام‪ ،‬إلى‬
‫مجس وجعل??ه بيت ن??اره‪ ،‬وذل??ك على ثالث??ة‬
‫َ‬ ‫أن أخرجه??ا من?ه? يستاس??ف المل??ك لم??ا َت‬
‫فراسخ من أصبهان‪ ،‬وهذا البيت معظم عند المجوس إلى هذه الغاية‪.‬‬

‫بيت بالهند‬
‫والبيت الثالث ي?دعى مندوس?ان ببالد الهن?د وه?ذا ال?بيت تعظم?ه الهن?د ولى ق?رابين‬
‫تقرب‪ ،‬وفيه أحجار المغن??اطيس الجاذب??ة والدافع??ة والم??نزرة من أوص??اف ال يس??عنا‬
‫اإلخبار عنها؛فمن أراد أن يبحث عن ذكرها فليبحث‪ ،‬فإنه َ‬
‫بيت مشهور? ببالد الهند‪.‬‬

‫بيت البرامكة ببلخ‬


‫والبيت الرابع هو النوبهار الذي بناه من وشهر بمدينة? َب ْل َخ من خراس??ان على اس??م‬
‫القم??ر‪ ،‬وك??ان من يلي ِ‬
‫كس ? َدانته تعظم??ه المل??وك في ذل??ك الص??قع وتنق??اد إلى أم??ره‬
‫وترجع إلى حكمه‪ ،‬وتحمل إليه األموال‪ ،‬وكانت عليه وقوف‪ ،‬وكان الموكل بسدانته?‬
‫ي??دعي البرم??ك‪ ،‬وه??و س??مة عام??ة لك??ل من يلي س??دانته‪ ?،‬ومن أج??ل ذل??ك س??ميت‬
‫البرامكة؛ألن خالد بن َب ْر َمك كان من ول َمنْ كان على هذا البيت‪ ،‬وك??ان بني??ان ه??ذا‬
‫البيت من أعلى البنيان تشييداً وكان تنصب على أعاله الرماح عليها شقاق الحرير‬
‫صفحة ‪360 :‬‬

‫?دفع ق??وة‬
‫األخضر طول ُ الشقة مات ذراع فما دونها قد نصب ل??ذلك رم??اح وخش??ب ت? ِ‬
‫الريح بم??ا عليه??ا من الحري??ر‪ ،‬فيق??ال وهللاّ أعلم‪ :‬إن ال??ريح خطفت يوم?ا َ بعض تل??ك‬
‫الش??قاق ورمت ب??ه‪ ،‬فأص??يب على مس??افة خمس??ين فرس??خاً‪ ،‬وقي??ل‪ :‬أك??ثر من تل??ك‬
‫المسافة وهذا يدل على زيادته في إلجو وتش??ييد بنيان??ه‪ ،‬وك??ان الح??يز المحي??ط به??ذ‬
‫علو السور وعرضه‪?.‬‬ ‫البنيان أمياالً لم نذكزها‪ ،‬إذ كان أمر ذلك مشهوراً من وصف ّ‬
‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكر بعض أه?ل الرواي?ة والتنق?ير? أن?ه ق?رأ على ب?اب النوبه?ار‬
‫ببلخ كتاب ?ا ً بالفارس??ية? ترجمت??ه‪ ?:‬ق??ال بوداس??ف‪ :‬أب? ُ‬
‫?واب المل??وكِ تحت??اج إلى ش??الث‬
‫خصال‪ :‬عقل‪ ،‬وصبر‪ ،‬ومال وإذا تحته بالعربية‪ :‬كذب بوداس??ف ال??واجب على الح??ر‬
‫إذا كان معه واحدة من هذه الثالث الخصال أن ال يلزم باب السلطان‪.‬‬

‫غمدان بصنعاء‬
‫غم? دَ ان َال??ذي بمدين?ة? ص??نعاء من بالد اليمن‪ ،‬وك??ان الض??حاك‬
‫والبيت الخامس بيت ْ‬
‫بناه على اسم الزهرة‪ ،‬وخربه عثمان بن عفان رضي هّللا عن??ه؛فه??و في وقتن??ا ه??ذا‬
‫وه?و س?نة اثن?تين وثالثين وثلثمائ?ة‪ -‬خ?راب ق?د ه?دم فص?ار تال عظيم?اً‪ ،‬وق?د ك?ان‬
‫بن عيس??ى بن الج??راح‪ -‬حين نفي إلى اليمن وص??ار إلى ص??نعاء‪َ -‬ب َنى‬ ‫ال??وزير علي ِ‬
‫فر فيه بئراً‪.‬‬
‫وح َ‬
‫فيه سقاية َ‬
‫ورأيت ُغ ْمدَ ان رثمإ ً وتال عظيما ً قد انه??دم بنيان??ه‪ ،‬وص??ار جب??ل ت??راب كأن??ه لم يكن‪،‬‬
‫وقد كان أسعد بن يعفر صاحب قلعة كحالن النازل بها وص??احب مخ??اليف اليمن في‬
‫هذا ال?وقت‪ ،‬وه?و المعظم في اليمن‪ ،‬أراد أن يب?ني غم?دان‪ ،‬فأش?ار علي?ه يح?يى بن‬
‫الحسين الحسني أن ال يتعرض لشيء من ذلك؛إذ كان بناؤه على ي??دي غالم يخ??رج‬
‫من أرض سبأ وأرض مأرب يؤثر في صقع من هذا العالم تأثيراً عظيماً‪.‬‬
‫وقد ذكر هذا البيت جد أمية بن أبي الص??لت وقي??ل‪ :‬ه??و أب??و الص??لت أمي??ة‪ ،‬واس??مه‬
‫ربيعه في مدحه لسيف بن ذي يزن‪ ،‬وقيل‪ :‬إن الممدوح بهذا الشعر مع??د يك??رب بن‬
‫ج ُم ْر َتفِقا ً برأس ُغ َم َدانَ داراً منك م ِْحالَالَ‬
‫ش َرب هنيئا ً عليك التا ُ‬ ‫سيف حيث يقول‪ :‬ا ْ‬
‫وكان أبو أمية جاهلياً‪ ،‬وهو القائل في أصحاب الفيل‪:‬‬

‫ـــاري بـــهـــنَّ إال َكـــفُـــــور‬


‫ما ُي َم ِ‬ ‫ٌ‬
‫بــــــينـــــــات‬ ‫إن آيات َر ِّبـــنـــا‬
‫حتـى ظـل ًّ يحـبـو كـأنـه مــعـــقـــور‬ ‫غلـب الـفـيل بـــالـــ ُم َ‬
‫ـــغـــ ِّمـــس‬
‫صـــقـــور‬ ‫مـالويث فـي الـحـــروب ُ‬ ‫ِ‬ ‫حولـه مـن شـبـاب كِـــ ْنـــدَ َة فـــتـــيان‬
‫صخ ٌر من جانب محدُو ُر‬ ‫ْ‬ ‫واضعا ً خلفه الجرار كما ُقطر‬

‫وقد قيل‪:‬‬

‫إن ملوك اليمن كانوا إذا قعدوا في أعلى هذا البنيان‬


‫بالليل واشتعلت الشموع رأى الناس ذلك من مسيرة ثالثة أيام‪.‬‬

‫صفحة ‪361 :‬‬

‫بيت بفرغانة بخراسان‬

‫والبيت السادس كاوسان‪ ،‬بناه ك?اوس المل?ك بن??ا ًء عجيب?ا ً على اس??م الم?دبر األعظم‬
‫من األجسام السماوية وهو الشمس‪ ،‬بمدين?ة? فرغان??ة من م??دائن خراس??ان‪ ،‬وخرب??ه‬
‫َ‬
‫البيت خب ٌر طري??ف ق??د أتين??ا على ذك??ره في كت??اب أخب??ار‬ ‫المعتصم باهّلل ‪ ،‬ولهدمه هذا‬
‫الزمانَ ‪.‬‬

‫بيت بالصين‬

‫والبيت السابع بأعالي بالد الصين‪ ،‬بناه ولد ع??امور بن س??وبل بن ي??افث ابن ن??وح‪،‬‬
‫وأفرده للعلة األولى؛إذ كان منشأ هذا الملك ومبدأه وباعث األنوار إليه‪ ،‬وقيل‪ :‬إنم??ا‬
‫بناه بعض ملوك الترك في قديم الزمان وجعله سبعة أبي??ات في ك??ل بيت منه??ا س??بع‬
‫ُك ًوى يقابل كل كوة صورة منصوبة على ص??ورة ك??وكب من الخمس??ة والن??يرين من‬
‫أنواع الجواهر المضافة إلى تأثير تلك الكواكب‪ ،‬من ياقوت أو عقيق أو زم??رد على‬
‫اختالف ألوان الجواهر‪ ،‬ولهم في هذا الهيكل سِ ٌّر يسرونه في بالد الص??ين‪ ،‬بم??ا ق??د‬
‫ف لهم فيه القول وزينه لهم الشيطان‪ ،‬ولهم في ه??ذا الهيك??ل عل??وم في اتص??ال‬ ‫َز َ‬
‫خر َ‬
‫األجسام السماوية وأفعالها بعالم الكون الذي تحدثه‪ ،‬وم??ا يح??دث في??ه من الحرك??ات‬
‫واألفعال عند تحرك األجسام السماوية؛ وقد قرب ذل??ك إلى عق??ولهم‪ :‬ب??أن جع??ل لهم‬
‫مثاالً من الشاهد يدل على ما غاب عنهم من فعل األجسام السماوية في هذا الع??الم‪،‬‬
‫وه??و خش??ب ال??ديباج ال??ذي ينس?ج? ب??ه؛فبض??رب? من حرك??ات الص??انع ب??ذلك الخش??ب‬
‫والخي??وط إإلبريس??م تح??دث ض??روب من الحرك??ات‪ ،‬ف??إذا اتص??لت أفعال??ه وت??واترت‬
‫حركاته من النسج للثوب ال??ديباج تحت الص??ورة في??ه؛فبض??رب من الحرك?ات يظه??ر‬
‫جن?اح ط?ائر‪ ،‬وب??آخر رأس??ه‪ ،‬وب?آخر رجاله‪،‬فال ي?زال ك?ذلك ح?تى تتم الص??ورة على‬
‫حسب مراد الصانع لها؛فجعلوا هذا المثال واتصال اإلِبريسم بآلة النسج وما يدحث??ه‬
‫الصانع في ذل??ك من األفع??ال مث??االً لم??ا ذكرن??ا من الك??واكب العلوي??ة‪ ،‬وهي األجس??ام‬
‫الس??ماوية‪ ،‬فبض??رب من الحرك??ات ظه??ر في الع??الم الط??ائر وبض??رب آخ??ر بيض??ة?‬
‫وبضرب آخ??ر ف??رخ‪ ،‬وك??ذلك س??ائر م??ا يح??دث في الع??الم‪ ،‬ويس??كن ويتح??رك ويوج??د‬
‫ويعدم‪ ،‬ويتصل وينفصل‪ ?،‬ويجتمع? ويف??ترق‪ ،‬ويزي??د وينقص‪ ،‬من جم??اد أو نب??ات أو‬
‫حيوان ناطق أو غير ناطق‪ ،‬فإنما يحدث عن حركات الكواكب على حسب ما وصفنا‬
‫من نسج الديباج وغيره من الصنائع‪ ،‬وأهل صناعة النجوم ال يتناكرون أن يقولوا‪:‬‬
‫كالش? ْقرة ُ‬
‫وص? ُهوبة? الش?عر وأعط??اه ُز َح? ل ُ‬ ‫ُّ‬ ‫أعطته الزهرة كذا‪ ،‬وأعطاه المريخ? ك??ذا‪،‬‬
‫خفة العارضين و ُج ُحو َظ العينين وأعطاه ُع َطارد الص?نعة وأعط?اه المش?تري? الحي?اء‬
‫والعلم والدين‪ ،‬وأعطته الشمس كذا‪ ،‬وأعطاه القمر كذا‪ ،‬وهذا باب يكثر الق??ول في??ه‬
‫ويتسع? وصف مذاهب الناس فيه‪ ،‬وما قالوه في بابه‪.‬‬

‫صفحة ‪362 :‬‬

‫ذكر البيوت المعظمة عند اليونانيين‬


‫بيت إنطاكية‬
‫البيوت المضاف بناؤها إلى َمنْ سلف من اليونانيين ثالثة بي??وت‪ :‬ف??بيت منه??ا ك??ان‬
‫بإنطاكية من أرض الشام‪ ،‬على جبل بها داكأ المدينة‪ ،‬والسور محيط بها‪ ،‬وقد جعل‬
‫المس??لمون في موض??عه َم ْر َقب??ا ا ل ُي ْن ِن??رهم َمنْ ق??د ُر َت َب في??ه من الرج??ال ب??الروم إذا‬
‫وردوا من البر والبحر‪ ،‬وكان يعظمونه‪ ،‬ويقربون فيه القرابين‪،‬فخ??رب عن??د مجيء‬
‫اإلِسالم‪ ،‬وقد قيل إن قسطنطين األكبر بن هيالني الملكة ال ُم ْظ ِه??رة ل??دين النص??رانية‬
‫هو المخرب لهذا البيت‪ ،‬وكانت فيه األصنام والتماثي?ل من ال?ذهب والفض?ة وأن?واع‬
‫الجواهر‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن هذا البيت هو بيت بمدينة إنطاكية على َيسره الجامع الي??وم‪،‬‬
‫وكان هيكال عظيماً‪ ،‬والصابئة تزعم أن الذي بناه سقالبيوس‪ ،‬وهو في هذا الوقت‪-‬‬
‫وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬سوق بسوق الجزارين‪ ،‬وقد كان ث??ابت بن ق??رة‬
‫بن ك??راني الص??ابئ الح??راني‪ -‬حين وافى المعتض??د باهلل في س??نة تس??ع وثم??انين‬
‫ومائتين في طلب وص??يف الخ??ادم‪ -‬أتى ه??ذا الهيك??ل و ًعظم??ه‪ ،‬وأخ??بر من ش??أنه م??ا‬
‫وصفنا‪.‬‬

‫األهرام بمصر وبيت المقدس‬


‫والبيت الثاني من بيوت اليونانيين هو بعض تلك األهرام التي بمصر وهو يرى من‬
‫الفُ ْسطاط على أميال منها‪.‬‬
‫والبيت الثالث هو بيت المقدس‪ ،‬على مازعم القوم‪ ،‬وأهل الشر إنم??ا تخ??بر أن داود‬
‫عليه السالم بن??اه وأتم??ه س??ليمان بع??د وف??اة أبي??ه‪ ،‬والمج??وس ت??زعم أن ال??ذي بن??اه‬
‫الضحاك؛وأنه سيكون ل??ه في المس??تقبل من الزم??ان خطب طوي??ل‪ ،‬ويقع??د في??ه مل??ك‬
‫عظيم‪ ،‬وذلك عند ظهور شوبين على بقرة من صفتها كذا‪ ،‬ومعه من الناس كذا من‬
‫ن?نزه كتابن?ا عن‬‫العدد‪ ،‬وأقاصيص تدعيها المجوس في هذا المعنى‪ ،‬واختالط طويل ّ‬
‫ذكره‪ ،‬وهّللا تعالى ولي التوفيق‪.‬‬

‫ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الروم‬


‫ك??انت ال??بيوت المعظم??ة عن??د أوائ??ل ال??روم قب??ل ظه??ور دين النص??رانية? بيت ببالد‬
‫المغ??رب بمدين??ة َق ْر َطاجن??ة‪ -‬وهي ت??ونس‪ -‬من وراء بالد الق??يروان‪ ،‬وهي من أرض‬
‫اإلفرنجة‪ ،‬وبني على اسم الزهرة بأنواع من الرخام‪.‬‬
‫والبيت الثاني بإفرنجة‪ ،‬وهو بيت عظيم عندهم‪.‬‬
‫والبيت الثالث عندهم بمقدوني??ة‪ ،‬وأم??ره مش??هور? في التش??ييد‪ ،‬وم??ا ك??ان من خ??بره‬
‫بمقدونية‪ ،‬وقد أتين??ا على أخب??اره وأخب??ار غ??يره فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪ ،‬وهّللا تع??الى‬
‫أعلم‪.‬‬

‫ذكر البيوت المعظمة عند الصقالبة‬


‫كانت في ديار الصقالبة بيوت تعظمه??ا‪ :‬منه??ا بيت ك?ان لهم في الجب??ل ال?ذي ذك??رت‬
‫الفالسفة أنه أحد جبال العالم العالية‪ ،‬وهذا البيت له خبر في كيفية بنائه‪ ،‬وترتيب‬
‫صفحة ‪363 :‬‬

‫أنواع أحجاره‪ ،‬واختالف ألوانه‪ ،‬والمخ?اريق المص?نوعة? ل?ه‪ ،‬في?ه على أعاله‪ ،‬وم?ا‬
‫من مطلع الشمس في تلك المخاريق المصنوعة وما أودع فيه من الجواهر واآلث??ار‬
‫المرس??ومة في??ه الدال??ة على الكائن??ات المس??تقبلة‪ ،‬وم??ا ُتن ?ذِر ب??ه تل??ك الج??واهر من‬
‫األحداث قبل كونها‪ ،‬وظهور أصوات من أعاليه لهم‪ ،‬وم??ا ك??ان يلحقهم عن??د س??مأع‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وبيت اتخذه بعض ملوكهم على الجبل األسود‪ ،‬تحي??ط ب??ه مي??اه عجيب?ة? ذوات أل??وان‬
‫وطعوم مختلفة عامة المنافع‪ ،‬وكان لهم فيه صنم عظيم على صورة رجل قد انحنى‬
‫على نفسه‪ ?،‬وهو شيخ بي?ده عص?ا يح?رك ب?ه عظ?ام الم?وتى من الن?واويس‪ ،‬وتحت‬
‫ص َور أنواع من النمل‪ ،‬وتحت األخرى غرابيب سود من صور ال ُغدَاف‬ ‫رجله اليمنى ُ‬
‫وغيرها‪ ،‬وصور عجيبة ألنواع‪ ،‬األحابيش والزنج‪?.‬‬
‫وبيت أخر على تجبل لهم يحيط به خليج من البحر قد بني بأحب المرج??ان األحم??ر‪،‬‬
‫وأحجار الزمرد األخضر‪ ،‬في وسطه قب??ة عظيم??ة‪ ،‬تحته??ا ص??نم عظيم أعض?اؤه من‬
‫جواهر أربعة‪ :‬زمرد أخضر‪ ،‬وياقوت أحمر وعقي??ق أص??فر‪ ،‬وبل??ور أبيض‪ ،‬ورأس??ه‬
‫من الذهب األحمر‪ ،‬فإزائه صنم آخ??ر على ص??ورة جاري??ة‪ ،‬وك??ان يق??رب ل??ه ق??رابين‬
‫ودخن‪ ،‬وكان ينسب هذا البيت إلى حكيم كان لهم في ق??ديم الزم??ان‪ ،‬وق??د أتين??ا على‬
‫خبره‪ ،‬وما ك??ان من أم??ره ب??أرض الص??قالبة‪ ،‬وم??ا أح??دث فيهم من ال??دكوك والحي??ل‬
‫والمخاريق المصطنعة التي اجتذب بها قُلُو َب ُه ْم وملك نفوسهم واسترق بها عق??ولهم‬
‫مع شراسة أخالق الصقالبة واختالف طب??ائعهم‪ ،‬فيم??ا س??لف من كتبن??ا‪ ،‬وهللا تع??الى‬
‫ولي التوفيق‪.‬‬
‫ّ‬

‫ذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة للصابئة‬


‫وغيرها وغير ذلك مما لحق بهذا الباب واتصل بهذا المعنى‬
‫هيكل العقل والعلة األولى‬
‫الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل‬ ‫للصابئة من َ‬
‫العلة األولى‪ ،‬وهيكل العقل‪ ،‬وم??ا أث??ري أ أش??اروا إلى العق??ل األول أم??ا الث?اني‪ ،‬وق??د‬
‫ذك??ر ص??احب المنط??ق في كتاب??ه في المقال??ة الثالث??ة من كت??اب النفس العق??ل األول‬
‫الف َّعال‪ ،‬والعقل الثاني‪ ،‬وذكر ذلك تامسطيس في كتابه في ش?رح كت?اب النفس ال?ذي‬
‫عمله ص??احب المنط??ق‪ ،‬وق??د ذك??ر العق??ل األول والث??اني اإلس??كندر األفرودوس??ي في‬
‫مقالة أ ْف َردها في ذلك قد ترجمها إسحاق بن ُح َنين‪.‬‬

‫جملة من هياكلهم‬
‫ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة‪ ،‬وهيكل الصورة‪ ،‬وهيكل النفس‪ ،‬وهذه ُمد ََّورات‬
‫الش??كل‪ ،‬وهيك??ل ُز َح?? ل مس??دس‪ ،‬وهيك??ل المش??تري مثلث‪ ،‬وهيك??ل الم??ريخ? مرب??ع?‬
‫مستطيل‪ ?،‬وهيكل الشمس مربع‪ ،‬وهيكل عطارد مثلث الشكل‪ ،‬وهيك??ل الزه??رة مثلث‬
‫في جوف مربع مستطيل‪،‬وهيك??ل القم??ر مثمن الش??كل وللص??ابئة? فيم??ا ذكرن??ا رم??وز‬
‫وأسرار يخفونها‪.‬‬

‫صفحة ‪364 :‬‬

‫وقد حكى رجل من ملكية النص??ارى من ًح? ّران يع??رف بالح??ارث بن ش??باط للص??ابئة‬
‫الحرانيين أشياء ذكرها من قرابين يقربونها من الحي??وان ودخن للك??واكب يبخ??رون‬
‫بها وغير ذلك مما امتنعنا عن ذكره مخافة التطويل‪.‬‬

‫والذي بقي من هياكلهم المعظمة في هذا الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين ‪-‬ثالثين وثلثمائ ?ة?‬
‫بيت لهم بمدينة َحران في باب الرقة يع?رف بمغليتي??ا‪ ،‬وه??و هيك??ل آزر أبي إب??راهيم‬
‫الخليل عليه السالم عندهم‪ ،‬وللقوم في آزر وابنه? إبراهيم كالم كثير ليس كتابنا هذا‬
‫موضعا ً ل??ه‪ ،‬والبن عيش??ون ا ْل َح? ًراني لقاض??ي‪ -‬وك??ان ذا َف ْهم ومعرف??ة‪ ،‬وت??وفي بع??د‬
‫الثلثمائة‪ ?-‬قصيدة طويلة ي??ذكر فيه??ا م??ذاهب الحران??يين المع??روفين بالص??ابئة‪ ،‬ذك??ر‬
‫فيها هذا البيت وما تحته من السراديب األربعة المختلفة ألنواع صور األصنام التي‬
‫جعلت مثاالً لألجسام السماوية وما ارتفع من ذلك من األشخاص العلوي??ة‪ ،‬وأس??رار‬
‫هذه األصنام‪ ،‬وكيفية إيرادهم ألطفالهم إلى هذه السراديب وعرض??هم لهم على ه??ذه‬
‫ص ْفرة وغيرها لم??ا‬‫األصنام‪ ،‬وما ُي ْحدِث ذلك في ألوان صبيانهم من االستحالة إلى ال ُّ‬
‫يسمون من ظهور أن??واع األص??وات وفن??ون اللغ?ات من تل?ك األص??نام واألش??خاص‪،‬‬
‫?ر فتتكلم ب?أنواع من‬ ‫ِبحِيل قد اتخذت ومنافيخ? قد عملت‪ :‬تق??ف الس? َدنة من وراء ُج ُم? ٍ‬
‫الكالم‪ ،‬فتج??ري األص??وات في تل??ك المن??افيخ والمخ??اريق والمناف??ذ إلى تل??ك الص??ور‬
‫المجوفة واألصنام المشخصة‪ ،‬فيظهر منها نطق على حس??ب م??ا ق??د عم??ل في ق??ديم‬
‫ُّ‬
‫وتسترق به??ا الرق??اب‪ ،‬ويق??ام به??ا المل??ك والممال??ك‬ ‫الزمان‪ ،‬فيصطادون به العقول‪،‬‬
‫ومما ذكر في هذه القصيدة قوله‪ :‬إن نفيس الـعـجـائب بيت لهم في سـرادب تعب??د‬
‫في??ه الـكـواكـب أص??ن أم??ه م خل??ف غ??ائب وله??ذه الطائف??ة المعروف??ة ب??الحرانيين‬
‫والص??ابئة فالس??فة‪ ،‬إال أنهم من حش??وية الفالس??فة‪ ،‬وعوأم??ه م مب??اينون لخ??واص‬
‫حكمائهم في مذاهبهم‪ ،‬وإنما أضفناهم إلى الفالسفة إضافة س??بب ال إض??افة حكم??ة‪،‬‬
‫ألنهم يونانية‪ ?،‬وليس كل اليونانيين فالسفة‪ ،‬إنما الفالسفة حكماؤهم‪.‬‬

‫ورأيت على باب مجمع الصابئة بمدينة حران مكتوب?ا ً على مدق??ة الب??اب بالس??ريانية?‬
‫قوال ألفالطون فسره مالك بن عقبون وغيره منهم وه??و من ع??رف ذات??ه تال? َه وق??د‬
‫قال أفالطون اإلنسان نبات س??ماوي‪ ،‬وال??دليل على ه??ذا أن??ه ش??بيه ش??جرة منكوس?ة?‬
‫أصلها إلى السماء وفروعها في األرض وألفالط??ون وغ??يره ممن س??لك طريق??ه في‬
‫النفس الناطق?ة كالم كث?ير في ه?ل النفس في الب?دن أو الب?دن في النفس‪ ،‬كالش?مس‬
‫أهي في الدار أو الدار في الشمس‪ ،‬وهذا ق??ول يتغلغ??ل بن??ا الكالم في??ه إلى الكالم في‬
‫تنقل األرواح في أنواع الصور‪.‬‬

‫القول في تنقل األرواح‬


‫على وجهين‪ ،‬فطائف??ة‬ ‫ِ‬ ‫وقد تنازع أهل هذه اآلراء ممن قصد ه??ذه المقال??ة في النقل??ة‬
‫من الفالسفة القدماء اليونانين والهن??د‪ -‬ممن لم يثبت كالم ?ا َ م??نزالً وال نبي ?ا ً مرس ?الً‬
‫منهم أفالطون ومن يمم طريقهم‪ -‬حكى عنهم أنهم زعم??وا أن النفس ج??وهر ليس??ت‬
‫بجسم‪ ،‬وأنها حية عالمة مميزة ألجل ذاتها وجوهرها‪ ،‬وأنها هي المدبرة لألجسام‬
‫صفحة ‪365 :‬‬

‫المركبة من طبائع األرض المتضادة‪ ،‬وعرضها في ذلك أن تقيمه?ا على الع?دل وم?ا‬
‫تتم ب??ه السياس??ة المس?تقيمة والنظ?ام المتس?ق وتردَّ ه??ا من الحرك?ة المض??طربة إلى‬
‫المنتظمة‪?.‬‬
‫وزعموا أنها تل ُّذ وتألم وتموت‪ ،‬وموتها عندهم انتقالها من جسد إلى جس??د بت??دبير‪،‬‬
‫وبطالن ذل??ك الش??خص ال??ذي فس??د ووص??ف ب??الموت‪ ،‬ألن شخص??ها يفس??د‪ ،‬وألن‬
‫جوهرها ينتقل‪.‬‬
‫وزعموا أنها عالمة بذاتها وجوهرها عالمة بالمعقوالت من ذاتها وجوهرها وفيه??ا‬
‫قبول علم المحسوسات من جهة الحس‪.‬‬

‫المقوألت‬
‫وألفالطون وغيره في هذه المعاني كالم يطول ذكره‪ ،‬ويعج??ز عن وص??فه وإظه??اره‬
‫العتياصه وغموضه‪ ،‬وكذلك صاحب المنطق وفيث??اغورس وغيرهم??ا من الفالس??فة‬
‫ممن تقدم وتأخر‪ ،‬ألن الطالب لعلم هذه األشياء واإلحاطة بفهمها وبل??وغ غايته??ا ال‬
‫يحرك ذلك لما نصبوا من الكتب‪ ،‬ورتبوا من التص??نيف? للعل??وم المؤدي??ة إلى معرف??ة‬
‫عل??ومهم وأغراض??هم ال??تي إليه??ا قص??دوا في كتبهم وهي معرف??ة األلف??اظ الخمس‪،‬‬
‫وهي‪ :‬الجنس‪ .‬والفصل‪ ،‬والنوع‪ ،‬والخاصة‪ ،‬والع?رض‪ ،‬ثم معرف?ة المق?والت‪ ،‬وهي‬
‫عشرة‪ :‬الجوهر‪ ،‬والكمية‪ ،‬والكيفية‪ ?،‬واإلضافة‪ -‬وهي النسبة‪ -‬وه??ذه أرب??ع بس??ائط‪،‬‬
‫والست األخر مركبات‪ ،‬وهي‪ :‬الزم??ان‪ ،‬والمك??ان‪ ،‬وال ِج??دة‪ -‬وهي ال ِم ْل? ُك‪ -‬والوض??ع‪،‬‬
‫والفاعل‪ ،‬والمنفعل‪ ،‬ثم ما بعد ذلك مما يترقى فيا الط??الب إلى أن ينتهي? إلى علم م??ا‬
‫بعد الطبيعة من معرفة األول والثاني‪.‬‬

‫عود إلى الكالم عن الصابئة‬


‫ثم رج??ع بن??ا اإلخب??ار عن م??ذاهب الص??ابئة من الحران??يين‪ ،‬وذك??ر َمنْ أخ??بر عن‬
‫مذاهبهم وكشف عن أحوالهم‪.‬‬

‫فمن ذلك كتاب رأيته ألبي بك??ر محم??د بن زكري??ا ال??رازي الفيلس??وف ص??احب كت??اب‬
‫المنصوري في الطب وغيره‪ ،‬ذكر في??ه م??ذاهب الص??ابف الحران??يين منهم‪ ،‬دون من‬
‫خالفهم من الصابئة‪ ،‬وهم الكيماريون‪ ،‬وذكر أشياء يط??ول ذكره?ا ويقبح عن?د كث??ير‬
‫من الناس وصفها‪ ،‬أعرضنا عن حكايتها‪ ،‬إذ كان في ذل??ك خ??روج عن ح??د الغ??رض‬
‫من كتابنا إلى وصف اآلراء والديانات‪.‬‬

‫وقد خاطبت مال?ك بن عقب??ون وغ??يره منهم بش??يء مم??ا ذكرن??ا وغ??يره عن??ه كتبن??ا‪،‬‬
‫فمنهم من اعترف ببعضه‪ ،‬وأنكر بعض?ا ً من ذك??ر الق??رابين وغ??يرا من اآلراء‪ ،‬مث??ل‬
‫?راعى‬ ‫فعلهم بالثور األسود‪ ،‬فإنه يضرب وجهه بالملح إذا شدت عيناه ثم ي??ذبح‪ ،‬و ُب? َ‬
‫كل عضو من أعضائه وما يظهر منه? من الحركات واألختالج على ما ي??دل ذل??ك من‬
‫أحوال السنة وغير ذلك من أسرارهم ومحاالتهم وأحوال قرابينهم‪.‬‬

‫صفحة ‪366 :‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكر جماعة‪ -‬ممن له تأمل بشأن أمور ه??ذا الع??الم والبحث عن‬
‫أخب??اره‪ -‬أن بأقص??ى بالد الص??ين هيكالً م??دوراً ل??ه س??بعة أب??واب‪ ،‬في داخل??ه قب??ة و‬
‫مسبعة? عظيمة? الشأن عالية السمك‪ ،‬في أعالي القبة شبه الجوهرة يزي??د على رأس‬
‫العجل تضيء? منه جميع أقطار ذل??ك الهيك??ل‪ ،‬وأن جماع??ة من المل??وك ح??اولوا أخ??ذ‬
‫تلك الجوهرة فلم َيدْ نُ أحد منها على مقدار عشرة أفرع إال َخ َّر ميتا ً وإن حاول أح??د‬
‫وانتهت إلى هذا‬‫َ‬ ‫منهم أخذ هذه الجوهرة بشيء من اآلالت الطوال كالرماح وغيرها‬
‫الذ ْرع انعكست وعطلت‪ ،‬وإن رميت بشيء كان ك?ذلك‪ ،‬فليس ش??يء من‬ ‫المقدار من َّ‬
‫الحيل يؤدي إلى تناولها بوجه وال بسبب‪ ،‬وإن تعرض لشيء من َه??دْ م ه??ذا الهيك??ل‬
‫مات َمنْ يروم ذلك وهذا عند جماعة من أهل الخبرة لقو ٍة دافع ? ٍة منف??رد ٍة ق??د عملت‬
‫من أن??واع األحج??ار المغناطيس??ية‪ ?،‬وفي ه??ذا الهيك??ل ب??ئر مس??بعة? ال??رأس م??تى أ َك َّب‬
‫اإلنس??ان على رأس الب??ئر إكباب?ا ً متمكن?ا ً ته? َ?ؤر في الب??ئر فص??ار في أس??فلها على أم‬
‫رأسه‪ ،‬وعلى رأس هذه البئر شبه الطوق مكتوب عليه بقلم ق??ديم أراه بقلم المس??ند‬
‫هذه بئر تؤدي إلى مخزن الكتب وتاريخ الدنيا وعلوم السماء وما ك??ان فيم??ا مض??ى‬
‫من الدهر وما يكون فيما يأتي منه‪ ،‬وتؤدي هذه البئر أيضا ً إلى خزائن وغائب ه??ذا‬
‫الع??الم‪ ،‬ال يعم??ل إلى الوص??ول إليه??ا واالقتب??اس منه??ا إال من وازت قدرت??ه ق??درتنا‪،‬‬
‫واتصل علمه بعلمن??ا‪ ،‬وص??ارت حكمت?ه? كحكمتن??ا‪ ،‬فمن ق??در على الوص??ول إلى ه??ذا‬
‫المخزن فليعلم أنه قد وازانا‪ ،‬ومن عجز عن الوصول إلى ما وصفنا فليعلم أنا أش??د‬
‫منه? بأس?اً‪ ،‬وأق??وى حكم??ة‪ ،‬وأك??ثر علم?اً‪ ،‬وأثقب راي??ة‪ ،‬وأتم عناي??ة‪ ،‬واألرض ال??تي‬
‫عليها هذا الهيكل والقبة وفيها البئر أرض حجرية صلبة عالية من األرض كالجب??ل‬
‫الشامخ ال ُت َرام قلعته وال يتأتى نقب ما تحته‪ ،‬فإذا أدرك البصر ذل??ك الهيك??ل والقب??ة‬
‫والبئر وقع للرائي عند رؤيته ذلك َج? َزع وح??زن واجت??ذاب للقلب إلي??ه وح??نين على‬
‫وهللا أعلم بذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إفساده وتأسف على إفساد شيء منه? أو هدمه‪،‬‬

‫ذكر األخبار عن بيوت النيران وغيرها‬


‫رأيهم في النار والنور‬
‫فأما بيوت النيران ومن رس??مها من مل??وك الف??رس األولى والثاني?ة? ف??أول م??ا يحكى‬
‫ذلك عنه أفريحون الملك‪ ،‬وذلك أنه وج??د ن??اراً يعظمه??ا أهله??ا‪ ،‬وهم معتكف??ون على‬
‫عبادته??ا‪ ،‬فس??ألهم عن خبره??ا ووج??ه الحكم??ة منهم في عبادته??ا‪ ،‬ف??أخبروه بأش??ياء‬
‫هللا ؤبين خلق??ه‪ ،‬وأنه??ا من جنس‬ ‫اجت??ذبت نفس??ه إلى عبادته??ا‪ ،‬وأنه??ا واس??طة بين ّ‬
‫اآللهة النورية‪ ،‬وأشياء ذكروها أعرضنا عن ذكرها العتياصها‪ ،‬وذل??ك أنهم جعل??وا‬
‫فيح? رق نفس??ه‬
‫للنور مراتب‪ ،‬وفرقوا بين طبع الن??ار والن??ور‪ ،‬وأن الحي??وان يجت??ذب َ‬
‫كال َف َراش الطائر بالليل‪ ،‬فما لطف يطرح نفسه في السراج فيحرقها‪ ،‬وغير ذلك مم??ا‬
‫يقع في صيد الليالي من الغزالن والطير والوحوش‪ ،‬وكظهور الحيتان من الماء إذا‬
‫قربت من السراج في الزوارق‪ ،‬كما يص??طاد ببالد البص??رة الس??مك في اللي??ل يظه??ر‬
‫من الماء طافيا ً حتى يقع في جوف المركب والسرج ق??د جعمن حوالي??ه‪ ،‬وأن الن??ور‬
‫صالح هذا العالم‪ ،‬وشرف النار على الظلمة ومضادته لها‪ ،‬ومرتب?ة? الم??اء وزيادت??ه‬
‫على النار بإطفائه ومضادته لها وأنه أصل لكل حي ومبدأ لكل نام‪.‬‬
‫صفحة ‪367 :‬‬

‫أماكن بيوت النيران‬


‫فلما أخبر أفريدون بما ذكرنا أمر بحم??ل ج??زء منه??ا إلى خراس??ان‪ ،‬فاتخ??ذ له??ا بيت?ا ً‬
‫بطوس واتخذ بيتا ً آخر بمدينة? ُب َخارا ُيقال له برد سورة وبنى آخ??ر من بي??وت الن??ار‬
‫بسجستان يقال له كراكر ك??ان اتخ??ذه بهمن بن إس??فنديار بن يستأس??ف‪ ?،‬وبيت آخ??ر‬
‫ببالد الشيزوالران‪ ،‬وكان فيه أصنام فأخرجها أنو ش??روان‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن أن??و ش??روان‬
‫صادف هذا البيت وفيه ن??ار معظم??ة فنقله??ا إلى الموض??ع المع??روف بالبرك??ة‪ ،‬وبيت‬
‫آخر للنار ُي قال له كوسجة بناه كيخسر والملك‪ ،‬وقد كان بقومس بيت للنار معظم ال‬
‫يدرى َمنْ بن??اه ُيق??ال ل??ه ج??ريش‪ ،‬ويق??ال‪ :‬إن اإلس??كندر لم??ا غلب عليه??ا تركه??ا ولم‬
‫يطفئها ويقال‪ :‬إنه كان في ذلك الموضع فيم??ا مض??ى مدين?ة? عظيم??ة عجيب??ة البن??اء‬
‫فيها بيت كبير عجيب الهيئة? فيه أصنام فأخربت تلك المدينة? بم??ا فيه??ا من ال??بيوت‪،‬‬
‫ثم بنى بعد ذلك بيت وجعلت فيه تلك النار‪ ،‬وبيت آخر يسمى كنجده بن??اه س??ياوخس‬
‫بن كاوس الجبار‪ ،‬وذلك في زمان لبثه بمشرق? الصين مما يلي البركن??د‪ ،‬وبيت ن??ار‬
‫بمدينة أرجان من أرض فارس اتخذ في أيام بهراسف‪.‬‬

‫زرادشت والبيوت التي اتخذها‬


‫وهذه البيوت العشرة كانت قبل ظهور زرادشت بن أسبيمان نبي? إلمجوس‪ ،‬ثم اتخذ‬
‫زرادشت بن أسبيمان بعد ذلك بيوت النيران‪ ،‬وكان مما اتخ??ذ بيت بمدين??ة نيس??ابور?‬
‫س?ا والبيض??اء من أرض ف??ارس‪ ،‬وق??د ك??ان‬ ‫من بالد خراس??ان‪ ،‬وبيت آخ??ر بمدين??ة َن َ‬
‫زرادشت أمر يستأسف الملك أن يطلب ناراً كان يعظمها ج ّم المل??ك‪ ،‬فطلبت فوج??دت‬
‫دارا َب َج? ْر َد من أرض ف??ارس‬
‫بمدينة خوارزم‪ ،‬فنقله??ا بع??د ذل??ك يستأس??ف إلى مدين?ة? َ‬
‫وكورها بهذا البيت‪ ،‬وهذه الن??ار تس??مى في وقتن??ا ه??ذا‪ -‬وه??و س??نة اثن??تين وثالثين‬
‫وثلثمائة‪ ?-‬زرجوى‪ ،‬وتفسير? ذلك نار النهر‪ ،‬وذلك أن آزر أحد أس??ماء الن??ار وج??وى‬
‫أحد أسماء النهر بالفارسية األولى‪ ،‬والمج??وس تعظم ه??ذه الن??ار م??اال تعظم غيره??ا‬
‫من النيران والبيوت‪.‬‬
‫وذكرت الفرس أن كيخسرو لما خرج غازيا إلى الترك سار إلى خوارزم‪ ،‬فم??ر على‬
‫تلك النار‪ ،‬فلما وجدها عظمها وسجد لها‪ ،‬ويق??ال‪ :‬إن أن??و ش??روان ه??و ال?ذي نقله?ا‬
‫إلى الكاريان‪ ،‬فلم?ا ظه??ر اإلس??الم تخ??وفت المج??وس أن يطفئه??ا المس??لمون ف??تركوا‬
‫بعضها بالكاريان‪ ،‬ونقلوا بعضها إلى نسا والبيضاء من كورة فارس؛لتبقى إحداهما‬
‫إن طفئت األخرى‪.‬‬

‫بيت بإصطخر‬
‫وللفرس بيت نار بإصطخر فارس تعظمه المجوس‪ ،‬وكان في قديم الزمان فأخرجته‬
‫حماي??ة بنت بهمن بن إس??فنديار وجعلت??ه بيت ن??ار‪ ،‬ثم نقلت عن??ه الن??ار فتخ??رب‪،‬‬
‫والناس في وقتنا هذا يذكرون أنه مسجد سليمان بن داود‪ ،‬وبه يعرف وق??د دخلت??ه‪،‬‬
‫وهو على نح??و فرس??خ من مدين?ة? إص??طخر‪ ،‬ف??رأيت بنيان?ا ً عجيب?اً‪ ،‬وهيكال عظيم?اً‪،‬‬
‫وأساطين صخر عجيبة‪ ?،‬على أعالها صور من الص??خر طريف??ة من الخي??ل وغيره??ا‬
‫من الحيوان عظيمة القدر واألشكال‪ ،‬محيط بذلك حيز عظيم وسور منيع من‬
‫صفحة ‪368 :‬‬

‫الحجر‪ ،‬وفي?ه ص??ور ألش?خاص ق?د تش?كلت وأتقنت ص?ورها‪ ،‬ي?زعم من ج?اور ه?ذا‬
‫الموضع أنه??ا ص??ور األنبي??اء‪ ،‬وه??و في س??فح جب??ل وال??ريح غ??ير خارج??ة من ذل??ك‬
‫ي‪ ،‬ي??ذكر َمنْ هنال??ك من المس??لمين أن‬ ‫?و ٌّ‬
‫الهيكل في ليل وال نه??ار‪ ،‬وله??ا هب??وب و َع? ِ‬
‫سليمان بن داود عليهما الس??الم حبس ال??ريح في ذل??ك الموض??ع‪ ،‬وأن??ه ك?ان يتغ? َذى‬
‫ويتعش?ى في ه??ذا المس??جد‪ ،‬وي??نزل بينهم??ا بمدين??ة َت??دْ ُم َر‬
‫َ‬ ‫ببعلب??ك من أرض الش??ام‪،‬‬
‫وملعبه??ا المتخ?ذ فيه?ا‪ ،‬ومدين??ة َت?دْ ُم َر في البري?ة بين الع?راق ودمش??ق وحمص من‬
‫أرض الشام يكون منها إلى الشام نحو خمسة أيام أو س??تة‪ ،‬وهي بني??ان عجيب من‬
‫الحجر‪ ،‬وكذلك الملعب الذي فيها‪ ،‬وفيها َخ ْلق من الناس من العرب من قحطان‪.‬‬

‫بيت بسابور? وبيت بجور‬


‫وفي مدينة سابور من أرض فارس بيت للنار معظم عندهم‪ ،‬اتخذه دارا بن دارا‪.‬‬
‫وفي مدينة جور من أرض فارس‪ -‬وهو البلد الذي يحمل من??ه م??اء ال??ورد الج??وري‬
‫وإليه يضاف‪ -‬بيت للنار‪ ،‬بناه أردشير بن بابك‪ ،‬وقد رأيته‪ ?،‬وه??و على س??اعة منه??ا‬
‫على عين هناك عجيبة‪ ،‬وله عي??د‪ ،‬وه??و أح??د متنزه??ات ف??ارس‪ ،‬وفي وس??ط مدين??ة‬
‫ج??ور بني??ان ك?ان تعظم??ه الف?رس ُيق?ال ل?ه الطرب?ال أخرب??ه المس?لمون‪ ،‬وبين ج?ور‬
‫ومدينة? كوار عشرة فراسخ‪ ،‬وبها يعمل ماء ال?ورد الك?وأري وإليه?ا يض?اف‪ ،‬وه?ذا‬
‫ب م??اء ورد يعم??ل في الع??الم‪ ،‬لص??حة الترب??ة‬ ‫الماء الورد المعمول بجور وكوار ْ‬
‫أط َي ُ‬
‫وصفاء الهواء‪ ،‬وفي ألوان س??كان ه??ذه البالد حم??رة في بي??اض ليس??ت لغ??يرهم من‬
‫أهل األمصار‪ ،‬ومن كوار إلى مدين?ة? ش??يراز‪ -‬وهي قص??بة ف?ارس‪ -‬عش??رة فراس??خ‪،‬‬
‫ولج??ور وك??وار وش??يراز وغيره??ا من ك??ور ف??ارس أخب??ار‪ ،‬ولم??ا فيه??ا من البني??ان‬
‫أقاصيص يطول ذكرها قد دونتها الفرس‪ ،‬وكذلك ما كان بأرض فارس من الموضع‬
‫المعروف بماء النار‪ ،‬وقد بني عليه هيكل‪.‬‬

‫وكان ك?ورش المل?ك‪ -‬حين ول?د المس?يح علي?ه الس?الم‪ -‬بعث ثالث?ة أنفس‪ :‬دف?ع إلى‬
‫وس ? َّيرهم‬
‫أحدهم صرة من لبان‪ ،‬وإلى آخر صرة من مر‪ ،‬وإلى آخر ص??رة من ت??بر‪َ ،‬‬
‫يهت??دون بنجم وص ? َفه لهم‪ ،‬فس??اروا ح??تى انته??وا إلى الس??يد المس??يح و أم??ه م??ريم‬
‫ب??أرض الش??ام‪ ،‬والنص??ارى تغل??و في قص??ة ه??ؤالء النف??ر‪ ،‬وه??ذا الخ??بر موج??ود في‬
‫اإلِنجيل‪ ،‬وإن هذا الملك كورش نظر إلى نجم قد طلع بمولد المسيح? عيس??ى‪ ،‬فك?انوا‬
‫إذا ساروا سار معهم ذل??ك النجم‪ ،‬وإذا وقف??وا وق??ف بوق??وفهم‪ ،‬وق??د أتين??ا في كتابن??ا‬
‫أخبار الزمان على شرح ه??ذا الخ??بر‪ ،‬وم??ا ق??الت في??ه المج??وس والنص??ارى‪ ،‬وخ??بر‬
‫الر ْغ َفان التي دفعتها إليهم مريم‪ ،‬وما كان من الرسل وجعلهم الخبز تحت الص??خرة‬ ‫ُّ‬
‫و َغ ْوصها في األرض‪ ،‬وذلك بفارس‪ ،‬وكيف حفر عليها إلى الماء وأنها وجدت وقد‬
‫صارت سعلتي نار على وجه األرض تتقدان‪ ،‬وغير ذلك مما قيل في هذا الخبر‪.‬‬

‫وقد كان أردشير بنى بيتا ً آخ?ر ُيق?ال ل?ه ب?ارنوا‪ ،‬وفي الي??وم الث?اني من غلبت?ه على‬
‫فارس‪ ،‬ؤبيت نار على خليج القسطنطينية? من بالد الروم‪ ،‬بن??اه س??ابور بن أردش??ير‬
‫بن بابك‪ -‬وهو سابور الجنود‪ -‬حين نزل على هذا الخليج‪ ،‬وحاصر القسطنطينية? في‬
‫صفحة ‪369 :‬‬

‫عساكره‪ ،‬فلم يزل هذا ال?ب ْيت هنال?ك إلى خالف?ة المه?دي‪ ،‬فخ?رب ول?ه خ?بر عجيب‪،‬‬
‫وكان مسيوره الجنود اش?ترط على ال?روم بن?اء ه?ذا ال?بيت وعمارت?ه عن?د حص?اره‬
‫القسطنطينية‪ ،‬وك??ان مس??يرهُ في جي??وش ف??ارس وغيره??ا من ال??ترك ومل??وك األمم‪،‬‬
‫فسمى سابور الجنود‪ .‬لكثرة من تبعه من الجنود‪.‬‬

‫حصن الحضر‬
‫وقد كان سابور لما سار إلى بالد الجزيرة َعدَ ل َ عن طريقه فنزل الحصن المع??روف‬
‫بالحض??ر‪ ،‬وق??د ك??ان ه??ذا الحص??ن للس??اطرون بن اس??يطرون مل??ك الس??ريانيين في‬
‫رستاق ُيقال ل??ه أي??اجر من بالد الموص??ل‪ ،‬وق??د ذكرت??ه الش??عراء؛لعظم ملك??ه وك??ثرة‬
‫?واد‬
‫جيوشه وحسن بنائه لهذا الحصن المعروف بالحضر‪ ،‬فممن ذك??ره منهم أب??و ُع? َ‬
‫جارية بن حجاج األيادي بقوله‪ :‬وأرى الموت قد تدلى من الحض ر على َر ِّب أهله‬
‫الساطـرون‬
‫ولق??د ك??ان آمن لـلـدواهـي ذا ث??راء وجوهـر مـكـنـون ق??ول في نس??ب النعم??ان بن‬
‫المنذر‪ :‬وقد قيل‪ :‬إن النعمان بن المنزر من ولد الساطرون بن أسيطرون وقال‪ :‬هو‬
‫النعمان بن المنزربن امرئ القيس بن عمرو بن ع??دي بن نص??ر بن الس??اطرون بن‬
‫اسيطرون والساطرون واسيطرون هذه ألقاب‪ ،‬وهم ملوك ملكوا على السريانيين‪.‬‬

‫ثم تملك تلك الديار بعد َمنْ ذكرنا ممن أفناهم الدهر الضيزن بن جبل??ة‪ ،‬وجبل??ة أم??ة‬
‫وهو الضيزن بن معاوية ملك??ا على قوم??ه من َت ُن??وخ بن مال?ك بن فهم بن تيم الالت‬
‫بن أس??د بن وب??رة بن تغلب بن حل??وان بن عم??ران بن الح??اف بن قض??اعة وه??و‬
‫الضيزن بن معاوية بن العبيد بن حرام بن سعد بن سليح بن حلوان بن عم??ران بن‬
‫إلحاف بن قضاعة‪ ،‬وكان كثير الجنود‪ ،‬مهادِن?ا ً لل??روم‪ ،‬متح??يزاً أليهم‪ ،‬يغ??ير رجال??ه‬
‫على حص??نه‬ ‫ِ‬ ‫على العراق والس??واد‪ ،‬وك??ان في نفس س??ابور عليهم ذل??ك‪ ،‬فلم??ا ن??زل‬
‫تحصن الضيزن في الحصن‪ ،‬فأقام سابور عليه شهراً ال يج??د س??بيال إلى فتح??ه‪ ،‬وال‬
‫يتأتى ل?ه حيل?ة في دخول?ه‪ ،‬فنظ?رت النض?يرة بنت الض?يزن يوم?ا ً وق?د أش?رفت من‬
‫الحصن إلى سابور فهويته وأعجبها جماله‪ ،‬وكان من أجمل الن??اس وأ َم? ِّدهم قام??ة‪،‬‬
‫فأرسلت إلي??ه‪ :‬إن أنت ض??منت لي أن تتزوج??ني وتفض??لني? على نس??ائك دللت??ك على‬
‫فتح هذا الحصن‪ ،‬فضمن لها ذلك‪ ،‬فأرسلت إليه‪ :‬ائت الثرثار‪ -‬وهو نه??ر في أعاله‪-‬‬
‫ض ?ي‬‫فانثر فيه تبنا ً ثم أ ْت َب ْعه فانظر أين يدخل فأدخِل الرجال َ منه‪ ،‬فإن ذلك المك??ان ُي ْف ِ‬
‫?عر أه??ل الحص??ن إال وأص??حاب س??ابور معهم‬ ‫إلى الحصن‪ ،‬ففعل ذلك سابور‪ ،‬فلم يش? ِ‬
‫فس َقت أباها الخمر حتى أسكرته طمعا ً في ت??زويج?‬ ‫في الحصن‪ ،‬وقد عمدت النضيرة َ‬
‫?رس‬ ‫سابور إياها‪ ،‬وأمر سابور به??دم الحص??ن بع??د أن قت??ل الض??يزن ومن مع??ه و َع? َّ‬
‫س? ّهدة‪ ،‬فق??ال له??ا س??ابور‪ :‬م??ا ل??ك ال تن??امين‪.‬‬‫سابور بالنضرة بنت الضيزن فباتت ُم َ‬
‫هّللا‬
‫قالت‪ :‬إن جنبي يتجافى عن فراشك‪ ،‬قال‪ :‬ولم فو ما نامت الملوك على ألين من??ه‬
‫آس بين‬ ‫ش? ُوه ل??زغب النع??ام‪ !!!.‬فلم??ا أص??بح س??ابور نظ??ر ف??إذا ورق??ة ٍ‬‫وأوط??أ إن َح ْ‬
‫ُع َكنها‪ ،‬فتناولها فكاد بطنها أن َيدْ َمى‪ ،‬فق??ال له??ا‪ :‬ويح??ك!! بم ك??ان أب??واك يغ??ذيانك‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬بالزبد والم َح والثلج والشهد وصفو الخمر‪ ،‬فقال لها سابور‪ :‬إني لخدير أن‬
‫صفحة ‪370 :‬‬

‫ال أستبقيك بعد إهالك أبويك وقوم??ك‪ ،‬وك??انت حالت??ك عن??دهم الحال??ة ال??تي َت ِ‬
‫ص?فِين‪،‬‬
‫فأمر بها فربطت بغدائرها إلى فرس??ين جم??وحين‪ ،‬ثم خلّى س??بيلهما‪ ،‬فقطعاه??ا‪ ،‬ففي‬
‫هذا الملك المقتول ومن كان معه في الحصن يقول حرى بن الدهماء العبسي‪:‬‬

‫س َراةُ بني العـبـيد‬ ‫بما القت َ‬ ‫ألم يحزنك واألنباء تـمـنـى‬


‫وأحالف الكتائب مـن تـزيد‬ ‫ومصرع ضيزن وبنـي أبـيه‬
‫وباألبطال سابور الـجـنـود‬ ‫أتاهم بالفُـ ُيول مـجـلـالت‬
‫كأن بنـاءه ُز ُبـ ُر الـحـديدا‬ ‫فه َّد َم من بروج الحصن صخراً‬

‫وفي قتل س??ابور للنض??يرة بنت الض??يزن وم??ا ك??ان منه??ا من الغ??در بأبيه??ا وقومه??ا‬
‫وإرشاد سابور إلى دخول الحصن يقول عدي بن زيد العبادي‪:‬‬
‫من قصره قد أبـ َذ سـاكـنـهـا‬ ‫ـت عـلـيه داهـية‬ ‫ص ّب ْ‬
‫والحضر ُ‬
‫لحينـهـا إذ أضـاع راقـبـهـا‬ ‫أربـيبة? لـم ُت َـو ّق والـدهـــا‬
‫َ‬
‫تظن أن الـرئيس خـاطـبـهـا‬ ‫وأسلمت أهلـهـا لـلـيلـتـهـا‬
‫الصبح دمـاء تـجـري سـبـائبـهـا‬ ‫وكان حظ العروس إذ جشر‬

‫والشعر في هذه القصة كثير‪.‬‬

‫جملة من بيوت النار‬


‫وب??أرض الع??راق بيت للن??ار ب??القرب من مدين ?ة? الس??الم‪ ،‬بنت??ه ب??وران بنت كس??رى‬
‫أبرويز الملكة في الموضع المعروف بأستنيا‪.‬‬
‫وبيوت النيران كثيرة مما بنته المجوس بالعراق وأرض فارس وكرمان وسجستان‬
‫وخراسان وطبرستان والجبال وأذر والران‪ ،‬وفي الهند والس??ند والص??ين‪ ،‬أعرض??نا‬
‫عن ذكرها‪ ،‬وإنما ذكرنا ما أشتهر منها‪.‬‬

‫بيت بعل‬
‫والهياكل المعظمة عند اليونانيين وغيرهم كثيرة‪ :‬مثل بيت َب ْع ٍل‪ ،‬وهو الص??نم ال??ذي‬
‫ذكره هّللا عز وجل بقوله‪ " :‬أتدعون بعالً وتذرون أحسن الخالقين "؛ وه??و بمدين ?ة?‬
‫بعلبك من أعمال دمشق من كورة سنير‪ ?،‬وقد كانت اليوناني?ة? اخت??ارت له??ذا الهيك??ل‬
‫قطعة من األرض بين جبل لبنان وجبل سنير? فأتخذته موضعا ً لألصنام‪ ،‬وهما بيت??ان‬
‫عظيمان أحدهما أقدم من األخر‪ ،‬فيهما من النق??وش العجيب??ة المحف??ورة في الحج??ر‬
‫الذي ال يتأتى حف??ر مثل??ه في الخش??ب م??ع عل??و س??مكهما وعظم أحجارهم??ا‪ ،‬وط??ول‬
‫أساطينهما‪ ،‬ووسع فتحهما‪ ،‬وعجيب بنيانهما‪ ،‬وقد أتينا على خبر هذه الهياكل وم??ا‬
‫ك??ان من خ??بر القت??ل على رأس ابن??ة المل??ك وم??ا ن??ال أه??ل ه??ذه المدين ?ة? من س??فك‬
‫الدماء‪..‬‬

‫صفحة ‪371 :‬‬

‫جيرون بدمشق‬
‫وهيكل عظيم في مدين?ة? دمش?ق‪ ،‬وه?و المع?روف بج?يرون‪ ،‬وق?د ذكرن?ا خ?بره فيم?ا‬
‫سلف من هذا الكتاب وأن بانيه جيرون بن س?عد الع?ادي‪ ،‬ونق?ل إلي?ه عم?د الرخ?ام‪،‬‬
‫وأنه أرم ذات العماد الم??ذكور في الق??رآن‪ ،‬إال م??ا ذك??ر عن كعب األحب??ار حين دخ??ل‬
‫على معاوي??ة بن أبي س??فيان وس??أله عن خبره??ا وذك??ر عجيب بنيانه??ا من ال??ذهب‬
‫والفضة والمسك والزعفران وأنه يدخلها رج?ل من الع?رب يتي?ه? ل?ه جمالن فيخ?رج‬
‫في طلبهما فيقع إليها‪ ،‬وذكر ِح ْلية الرجل‪ ،‬ثم التفت في مجلس معاوية فقال‪ :‬هذا هو‬
‫الرجل‪ ،‬وكان األعرابي قد دخلها يطلب ما ن??د من إبل??ه؛فأج??از معاوي??ة كعب?اً‪ ،‬وت??بيم‬
‫صدق مقاتله وإيضاح برهانه‪ ،‬فإن كان ه??ذا الخ??بر عن كعب حق?ا ً في ه??ذه المدين??ة‬
‫فهو حسن‪ ،‬وهو خبر يدخل?ه الفس?اد من جه?ات من النق?ل وغ?يره وه?و من ص?نعة‬
‫القُصاص‪.‬‬
‫وقد تنازع الناس في ه??ذه المدين??ة‪ ?،‬وأين هي ولم يص?ح? عن??د كث??ير من اإلخب??اريين‬
‫ممن وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وس??ير الغ??ابرين من الع??رب‬
‫وغيرهم من المتقدمين فيها‪ ،‬إال خبر عبيد بن َ‬
‫ش? ِرية وإخب??اره إي??اه عم??ا س??لف من‬
‫األيام وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعب األنساب‪ ،‬وكتاب عبيد بن شرية?‬
‫متداول في أيدي الناس مشهور‪?.‬‬

‫كتاب ألف ليلة وليلة‬


‫وقد ذكر كثير من الناس ممن ل??ه معرف??ة بأخب??ارهم أن ه??ذه أخب??ار‪ ،‬موض??وعة? من‬
‫ُخ َرافات مص??نوعة‪ ،‬نظمه??ا َمنْ تق??رب للمل??وك بروايته??ا‪ ،‬وص??ال على أه??ل عص??ره‬
‫بحفظه??ا والم??ذاكرة به??ا‪ ،‬وأن س??بيلها الكتب المنقول??ة إلين??ا والمترجم??ة? لن??ا من‬
‫الفارسية والهندية والرومية‪ ?،‬وسبيل? تأليفها مم??ا ذكرن??ا مث??ل كت??اب ه??زار أفس??انة‪،‬‬
‫وتفسير? ذلك من الفارسية إلى العربية ألف ُخ َراف??ة‪ ،‬والخراف??ة بالفارس??ية ُيق??ال له??ا‬
‫أفسانة‪ ،‬والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة‪ ،‬وهو خبر الملك والوزير وابنه‬
‫وجاريتها وهما شيرزاد ودينا زاد‪ ،‬ومثل? كتاب فرزة وس??يماس وم??ا في??ه من أخب?ار‬
‫ملوك الهند والوزراء‪ ،‬ومثل? كتاب السندباد‪ ،‬وغيرها من الكتب في هذا المعنى‪.‬‬

‫أصل مسجد دمشق‬


‫وقد كان مسجد دمشق قبل ظهور النص??رانية? هيكالً عظيم?ا ً في??ه التماثي??ل واألص??نام‬
‫على رأس منارته تماثيل منصوبة‪ ?،‬وقد كان بني على اسم المش??تري وط??الِع س??عد‪،‬‬
‫ثم ظه??رت النص??رانية فجعلت??ه كنيس??ة‪ ،‬وظه??ر اإلس??الم فجع??ل مس??جداَ وحكم بن??اءه‬
‫الولي ُد بن عبد الملك‪ ،‬والصوامع منه لم تغير‪ ،‬وهي َم َنائر األذان إلى هذا الوقت‪.‬‬

‫البريص بدمشق‬
‫وقد كان بدمشق أيضا ً بناء عجيب ُيقال له البريص‪ ،‬وهو مب ّقى إلى ه??ذا ال??وقت في‬
‫وسطها‪ ،‬وكان يجري فيه الخمر في قديم الزمان‪ ،‬وق??د ذكرت??ه الش??عراء في م??دحها‬
‫لملوك غسان من مأرب وغيرهم‪.‬‬
‫صفحة ‪372 :‬‬

‫الديماس بإنطاكية‬
‫وهيكل إنطاكية يعرف بالديماس‪ ،‬على يمين مسجدها الجامع‪ ،‬مبني? ب??األجر الع??ادي‬
‫والحجر‪ ،‬عظيم البنيان‪ ،‬وفي كل سنة? يدخل القمر عند طلوع??ه من ب??اب من أبواب??ه‬
‫ومن أعاليه في بعض األهلة الصيفية‪ ،‬وقد ذكر أن ه??ذا ال??ديماس من بن??اء الف??رس‬
‫ملكت إنطاكية‪ ،‬وأنه بيت نار لها‪.‬‬

‫بعض عجائب الدنيا‬


‫ق??ال المس??عودي‪ :‬وق??د ذك??ر أب??و معش??ر المنجم في كتاب??ه الم??ترجم بكت??اب األل??وف‬
‫الهياكل والبنيان العظيم الذي يحدث بناؤه في العالم في كل ألف ع?ام‪ ،‬وك?ذلك ذك??ره‬
‫ابن المازيار تلميذ أبي معشر في كتابه المنتخب من كتاب األلوف وقد ذكر غيرهم??ا‬
‫ممن تقدم عص??رهما وممن ت??أخر عنهم??ا كث??يراً من البني??ان والعج??ائب في األرض‪،‬‬
‫وقد أعرضنا عن ذكرها‪ ،‬وذكر السداألعظم‪ -‬وهو سد يأجوج ومأجوج ‪ -‬وقد تنازع‬
‫الناس في كيفية بنائه كتنازعهم في أرم ذات العماد على ما ذكرنا آنفاً‪ ،‬وكيفية بناء‬
‫األهرام الذي بأرض مصر وما عليها من الكتابة المرسومة‪ ،‬وما بص??عيد مص??ر من‬
‫ا ْل َب َر ِابي? المصنوعة‪ ،‬وبغير أرض الصعيد من بالد مصر‪ ،‬وأخبار مدينة? العقاب‪ ،‬وما‬
‫ذكر الناس فيها‪ ،‬وكونها في وهاد مصر وأنها في جهة الواح??ات مم??ا يلي المغ??رب‬
‫والحبشة‪ ?،‬وخبر العم??ود ال??ذي ي??نزل من??ه الم??اء في فص??ل من الس??نه ب??أرض ع??اد‪،‬‬
‫وأخب??ار النم??ل ال??ذي على ق??در ال??ذئاب والكالب‪ ،‬وقص??ة أرض ال??ذهب ال??تي ح??ذاء‬
‫سجلماس?ة من أرض المغ?رب‪ ،‬ومن هنال?ك من وراء النه?ر العظيم‪ ،‬ومب?ايعتهم من‬
‫غير مشاهدتهم وال مخاطبتهم‪ ،‬وتركهم المتاع‪ ،‬وغدؤ الن??اس إلى أمتعتهم فيج??دون‬
‫أعمدة الذهب وقد تركت إلى جنب كل متاع من تلك األمتعة‪ ،‬فإن شاء مال??ك المت??اع‬
‫أختار الذهب وترك المتاع‪ ،‬وإن شاء أخ??ذ متاع??ه وت??رك ال??ذهب‪ ،‬وإن أحب الزي??ادة‬
‫ترك الذهب والمتاع‪ ،‬وهذا مشهور بأرض المغرب بسجلماسة‪ ،‬ومنها يحمل التجار‬
‫األمتع??ة إلي س??احل ه??ذا النه??ر‪ ،‬وه??و نه??ر عظيم واس??ع الم??اء‪ ،‬وك??ذلك بأقاص??ي‬
‫خراسان مما يلي بالد الترك من أقاصي ديارهم أمة تتب??ايع على مث??ل ه??ذا الوص??ف‬
‫منغير مخاطبة وال مشاهدة‪ ،‬وهم هنالك على نهر عظيم أيضاً‪ ،‬وخبر البئر ال ُم ًعطل??ة‬
‫الش?? ْحر من بالد األحق??اف بين اليمن وحض??رموت‪،‬‬ ‫والقص??ر ال َم ِش??يدِ‪ ،‬وذاك ببالد َ‬
‫والبئر وما فيها من الخ??رق واتص??الها ب??القرى والفض??اء من أعاله??ا وأس??فلها وم??ا‬
‫قاله الناس في تأويل هذه اآلية فيها‪ ،‬وهل المراد بالقصر والبئر هذا القصر والبناء‬
‫أم غ??يره‪ .‬وأخب??ار مخ??اليف اليمن‪ ،‬وهي القالع والحص??ون كقلع??ة نح??ل وغيره??ا‪،‬‬
‫وأخب??ار مدين ?ة? رومي??ة وكيفي??ة بنائه??ا وم??ا حوت??ه من عجيب الهياك??ل والكن??ائس‪،‬‬
‫والعمود الذي عليه السودانية من النحاس وما يحمل إليها من الزيتون في أي أم??ه‬
‫بالش??ام وغ??يره‪ ،‬ويحم??ل ذل??ك الط??ائر المع??روف بالس??ودانية في مخالب??ه ومنق??اره؛‬
‫فيطرحونه في تلك‪ ،‬السودانية النحاس‪ ،‬فيكثر زيتون رومية? وزيتها من ذل??ك‪ ،‬على‬
‫حسب ما ذكرنا في أخبار الطلسمات عن بلينوس وغيره في كتابنا أخبار الزمان ثم‬
‫الص? ْفر وقب??ة الرص??اص ال??تي‬
‫أخبار البيوت السبعة التى ببالد األندلس وخبر مدينة? ُّ‬
‫ثم‬
‫بمفاوز األندلس‪ ،‬وما كان من خبر الملوك السالفة فيها وتعذر الوصول إليها‪ِ ،‬‬
‫صفحة ‪373 :‬‬

‫ما كان من أمر صاحب عب??د المل??ك بن م??روان في نزول??ه عليه??ا‪ ،‬وم??ا ته? َ‬
‫?افت في??ه‬
‫المسلمون عند الطلوع على سورها‪ ،‬وإخب??ارهم عن أنفس??هم أنهم وص??لوا إلى نعيم‬
‫ص ْفر على ساحل البح??ر الحبش??ي‬ ‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وخبر المدينة التي أسوارها من ال ُّ‬
‫في أطراف مفاوز الهند‪ ،‬وما كان من أخبار ملوك الهند وعدم وصولهم إليها‪ ،‬وم??ا‬
‫يجري من وادي الرمل نحوها‪ ،‬وما ببالد الهند من الهياك??ل المتخ??ذة لألص??نام ال??تي‬
‫على صورة البدرة المتقدم ظهورها في ق??ديم الزم??ان ب??أرض الهن??د‪ ،‬وخ??بر الهيك??ل‬
‫ص ?د من البل??دان‬‫المعظم ال??ذي ببالد الهن??د المع??روف بال??دري‪ ،‬وه??ذا عن??د الهن??د ُي ْق َ‬
‫ار لم تنظ??ر لتعظيم‬ ‫الشاسعة وله بلد قد وقف عليه وحوله أل??ف مقص??ورة فيه??ا َج? َو ٍ‬
‫هذا الصنم من الهند‪ ،‬وخبر الهيكل الذي فيه الصنم ببالد المولتان على نهر مهران‬
‫من أرض السند‪ ،‬وخبر سندان كس??رى ببالد قرماس??ين من أعم??ال ال??دينور من م??اه‬
‫الكوفة‪ ،‬وكثير من أخبار العالم وخواص بقاعه وأبنيته? وجبال??ه وب??دائع م??ا في??ه من‬
‫الخلق من الحيوان وغيره مما قد أتينا على ذكره فيما س??لف من كتبن??ا‪ ،‬وك??ذلك م??ا‬
‫خص به كل بلد من أنواع الفواكه دون غ??يره من البل??دان‪ ،‬في اإلس??الم وغ??يره من‬
‫الممالك‪ ،‬وما بان به أهل كل بلد من اللباس واألخالق دون غيرهم‪ ،‬وما انفردوا ب??ه‬
‫ِّ‬
‫والش?يم‪ ،‬وعج?ائب ك?ل بل?د‪ ،‬وذكرن?ا أخب?ار‬ ‫من أنواع األغذي?ة والمآك?ل والمش?ارب‬
‫البحار وما قيل في اتصال بعضها ببعض وتغلغل مياهه??ا‪ ،‬وم??ا يح??دث في ك??ل بح??ر‬
‫منها من اآلف??ات وم??ا في??ه من الج??واهر دون غي??وه‪ -‬من البح??ار‪ ،‬كتك??ون المرج??ان‬
‫ببحر المغرب وعدمه من غيره‪ ،‬ووجود اللؤلؤ في البحر الحبشي دون غيره‪.‬‬

‫محاوالت قديمة لوصل بحر الروم بالبحر األحمر‬


‫وقد كان بعض من ملك من الروم َح َفر بين القلزم وبحر ال?روم طريق?ا ً فلم يت?أت ل?ه‬
‫هللا عز وج?ل ّ ق?د جع?ل ذل?ك ح?اجزاً‬‫ذلك‪،‬الرتفاع القلزم‪ ،‬وانخفاض بحر الروم‪ ،‬وأن ّ‬
‫على حسب م?ا أخ?بر في كتاب?ه‪ ،‬والموض?ع ال?ذي حف?ره ببح?ر القل?زم يع?رف ب?ذنب‬
‫التمساح على ميل من مدينة القلزم‪ ،‬علي??ه قنط??رة يجت??از عليه?ا َمنْ يري??د الحج من‬
‫مصر‪ ،‬وأجرى خليجا ً من هذا البح??ر إلى موض??ع يع??رف بالهام??ة ض??يعة لمحم??د بن‬
‫علي المافراني من أرض مصر في هذا الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائ??ة‪?-‬‬
‫َّ‬
‫يتأت له اتصال ما بين بحر الروم وبحر القلزم‪.‬‬ ‫فلم‬
‫وحفر خليجا ً آخر مما يلي ت??نيس ودمي??اط وبحيرتهم??ا‪ ،‬ويع??رف ه??ذا الخليج ب??الربر‬
‫والخبية‪ ?،‬واستمر الماء في هذا الخليج من بح??ر ال??روم وبح??يرة ت??نيس? إلى موض??ع‬
‫يعرف بنعنعان حتى اتصل بنحو بالد الهامة‪ ،‬فكانت المراكب ت??دخل من بح??ر ال??روم‬
‫إلى نحو من هذه القري?ة‪ ،‬ومن بح??ر القل??زه في خليج ذنب التمس??اح فيتت??ابع أرب?اب‬
‫المراكب‪ ،‬ويقرب حمل ما في كل بحر إلى آخر‪ ،‬ثم أرتدم ذلك على تط??اول ال??دهور‪،‬‬
‫الس َوافِي من الرمل وغيره‪.‬‬
‫ومألت َّ‬
‫وقد رام الرشيد أن يوصل بين هذين البح?رين مم?ا يلي من أع?الي مص?به? من نح?و‬
‫تتأت له قسمة ماء النيل‪ ،‬فرام ذلك مم??ا يلي‬ ‫َّ‬ ‫بالد الحبشة وأقاصي صعيد مصر‪ ،‬فلم‬
‫بالد ا ْل َف َر َما نحو بالد تنيس‪ ،‬على أن يكون مص??ب بح??ر القل??زم إلى البح??ر ال??رومي‪،‬‬
‫فقال يحيى بن خالد‪ :‬يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف‪ ،‬وذلك أن‬
‫صفحة ‪374 :‬‬

‫مراكبهم تنتهي? من بحر ال??روم إلى بح??ر الحج??از‪ ،‬فتط??رح س??راياها مم??ا يلي ج??دة‪،‬‬
‫فيخطف الناس من المسجد الحرام ومكة والمدينة على ما ذكرنا‪ ،‬فامتنع من ذلك‪.‬‬
‫وقد حكي عن عمرو بن العاص‪ -‬حين كان بمصر‪ ?-‬أن??ه رام ذل??ك؛ فمنع??ه من?ه? عم??ر‬
‫بن الخطاب رضي هّللا عنه‪ ،‬وذلك لما وصفنا من فع??ل ال??روم وس??راياهم‪ ،‬وذل??ك في‬
‫حال ما افتتحها عمرو بن العاص في خالفة عمر بن الخطاب رضي هللا عن??ه وآث??ار‬
‫الحفر بين هذين البحرين‪ -‬فيما ذكرنا من المواضع والخلجان‪ -‬بينه على حس??ب م??ا‬
‫شرعت في??ه المل??وك الس??الفة طلب?ا ً لعم??ارة األرض‪ ،‬وخص??ب البالد‪ ،‬وعيش الن??اس‬
‫ب??األقوات‪ ،‬وأن يحم??ل إلى ك??ل بل? ٍد م??ا ليس في??ه من األق??وات وغيره??ا من ض??روب‬
‫المنافع وضروب المرافق‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪..‬‬

‫بدء العالم‬
‫ذكر جامع التاريخ من ِ‬
‫إلى مولد رسول هّللا صلى هّللا عليه وسلّم وما لحق بهذا الباب‬
‫بعض قول الطبيعيين‬
‫ق??د ذكرن??ا فيم??ا س??لف من كتبن??ا جمال من تب??اين الن??اس في ب??دء الع??الم‪ ،‬ممن أثبت‬
‫حدوثه و َن َفاه‪ ،‬وما جرت اآلراء بهم فيه إلى جهات شتى‪ ،‬وق?د أخبرن?ا أنهم طوائ?ف‬
‫الهن????د وف????رق من اليون????انيين‪ ،‬ومن وافقهم على الق????ول بالق????دم من الفلك????يين‬
‫والطبيعيين‪ ،‬وما أوردته الفلكية من وقله??ا‪ :‬إن الرك??ة الص??انعة لألش??خاص الم ِحلً??ة‬
‫فيها األرواح متى قطعت المسافة التي بين العقدة ‪ -‬التي ابتدأت منه??ا‪ ،‬ح??تى تنتهي?‬
‫إليه??ا راجع??ة‪ ،‬ثم تنفص??ل عنه??ا‪ -‬أع??ادت ك??ل م??ا ب??دأت ب??ه أوالً كهيئت??ه وأشخاص??ه‬
‫ص َوره وضروب أشكاله؛ إذ كانت العلة والسبب الل??ذان بوجودهم??ا توج??د األش??ياء‬ ‫و ُ‬
‫قد و ِجدَ ا َع ْوداً كما وجدا بدءاً‪ ،‬فوجب ظهور األشياء مي عادت إلى المبدأ الذي كان‬
‫عن??ه الص??در‪ ،‬ثم م??ا تعقب ه??ذا الق??ول من ق??ول الطبيع??يين‪ :‬إن عل??ة ك??ون األش??ياء‬
‫الجس??مانية والنفس??انية? من قب??ل حرك??ات الطب??ائع واختالطه??ا؛ألن الطبيع??ة عن??دهم‬
‫َ‬
‫?ودات في الع??الم‪،‬‬ ‫بدؤها واختلطت فظهر الحيوان والنبات وس??ائر الموج?‬ ‫تحركت في َ‬
‫وجعلت لها أصال من التناسل‪ ،‬لما عجزت عن تبقي?ة أش?خاص وع?دلت إلى النس?ل‪،‬‬
‫وإن الطب??ائع تنتق??ل من م??ركب إلى بس??يط‪ ،‬ومن بس??يط إلى م??ركب‪ ،‬ح??تى إذا أدى‬
‫المركب كنه ما فيه عادت األشياء إلى البسيط إلى‪ ،‬وابتدأ الكون ماراً على طريق??ه؛‬
‫ألن الذي أوجبه أوال ق??د وج??د‪ ،‬فحق??ه أن يوج??د من??ه بوج??ود المع??نى ال??ذي أوج??ده‪،‬‬
‫فظه??ر ذل??ك الظه??ور‪ ،‬كالنب??ات في الربي??ع‪ ،‬وتح??رك قوت??ه تحت ال??ثرى‪ ،‬وذل??ك أن‬
‫الشمس تبلغ في الربيع إلى رأس الحمل‪ ،‬بادئه في شرفها‪ ،‬آخذة في ممره??ا‪ ،‬وهي‬
‫العلة الكبرى في إحياء النبات ويأخذ الثم??ر في الظه??ور من الش??جر بادئ?ا ً كم??ا ك??ان‬
‫ظاهرأ بالمثال األول الذي قد باد في الشتاء ويبسه ويردة‪ ،‬ألن علة الكون الح??رارة‬
‫والرطوبة وعلة لفساد البرد واليبس‪ ،‬فإذا انتقلت األشياء ممن الح??رارة والرطوب??ة‬
‫إلى البرد واليبوسة? فارقت الكون المتمم ودخلت الفساد‪ ،‬فإذ انتهى به??ا الفس??اد إلى‬
‫غايته وأوصلها إلى نهايته? عاقبها الك??ون بوص??ول? الش??مس إلى رأس الحم??ل‪ ،‬فب??دأ‬
‫بها كعادته في إنشائها‪ ،‬وأبرزها من خساسة الفساد إلى نفاسة الك??ون‪ ،‬ول??و ك??انت‬
‫الحواس تضبط شأن األجسام وتحيط بانتقالها من حال إلى حال لشاهدت ممرها في‬
‫صفحة ‪375 :‬‬

‫دائرة الزمان‪ ،‬ومبتدئ??ة من رتب?ة؛راجع?ة إليه?ا‪ ،‬مش?كلة في محي?ط ال?دائرة بأش?كال‬


‫توافق بعضها‪ ،‬والشكول مختلفة باختالف العل??ل‪ ،‬متفرق?ة? ك??اختالف األس??باب‪ ،‬وفي‬
‫هذا القول من هذه الطائفة ماورح بالقول بالقدم وأبان عنه‪.‬‬

‫عليل على حدوث العالم‬


‫وقضية الفحص توجب أن األشياء الموجودة غير خالية من إح??دى المنزل??تين‪ :‬إم??ا‬
‫أن يكون ب??دء وانته??اء‪ ،‬وإم??ا أن يك??ون بال ب??دء وال انته??اء‪ ،‬ف??إن ك??ان بال ب??دء وال‬
‫انتهاء فواجب أن تكون أجزاؤها وأبعادها غير متناهي??ة‪ ،‬وواجب أن يك??ون الزم??ان‬
‫غ??ير ع??ا ٍّد له??ا وال حاص??ر لجميعه??ا‪ ،‬وق??د وج??دنا التن??اهي واالبت??داء في أجزائه??ا‬
‫وأبعادها على الدوام‪ ،‬وأنا في كل يوم جديد نعاين خلقا ً جديداً‪ ،‬وصوراً في العالم لم‬
‫تكن وصوراً بادئة قد كانت متأثلة‪ ،‬وفي هذا ما يدل على حص??ر األش??ياء ووقوعه??ا‬
‫في غاية انتهاء صورها‪ ،‬وواجب أن لألشياء بدءاً وانتهاء‪ ،‬وبطل وهم المتوهم أن‬
‫األشياء بال نهاية؛وأن ليس لها ابت??داء وال غاي??ة‪ ،‬وذل??ك باط??ل ومح??ال فاس??د‪ ،‬ول??و‬
‫وجب أن تكون األشياء الموجودة بال َب??دْ ء وال نهاي??ة ل??وجب أن ال ي??زول ش??يء من‬
‫مرك??زه‪ ،‬وال يتح??ول عن رتبت??ه‪ ?،‬ولبطلت االس??تحالة‪ ،‬وس??قطت المض??ادة‪ ،‬وه??ذا‬
‫مستحيل‪ ?،‬ولو وجب أن تكون األشياء على غير نهاية‪ ،‬لما كان لقولنا الي??وم وأمس‬
‫وغداً معنى؛ألن هذه األزمان تعد ما هو بالنهاي??ة‪ ،‬ويوج??د في حوزته??ا إيج??اد م??ا لم‬
‫يكن وإدخالها في حوزتها ما هو كائن‪.‬‬
‫وفيما ذكرنا ما أوض?ح عن تنق?ل ش?أن المع?اني‪ ،‬ودل على ح?دوث األجس?ام‪ ،‬وه?ذه‬
‫الداللة مأخوذة من الحس‪ ،‬ومستظهرة للعقول والبحث‪.‬‬

‫المحدث للعالم‬
‫وإذ قد وضح أن األشياء ُم ْحدَث??ة أكونه??ا بع??د أن لم تكن فال ب??د له?ا من مح??دث ه??و‬
‫بخالفها ال شكل له وال مثل‪ ،‬ألن العقل ال يفيم لشيء مثالً حتى يعلم له قدراً َ‬
‫ووزناً‪،‬‬
‫ويعادل??ه بمثل??ه وش??كله‪ ،‬وتع??الى وج??ل وع??ز من ال ُتع ِّب ُر عن ذات??ه اللغ??ات‪ ،‬وتعج??ز‬
‫العقول أن تحصره بالصوت‪ ،‬وتدركه باألشرات‪ ،‬أو يكون ذا غايات ولهايات‪.‬‬

‫ق??ال المس??عودي‪ :‬فل??نرجع اآلن إلى الكالم في حص??ر ت??اريخ الع??الم ووص??ف أقاوي??ل‬
‫الطوائف في ذلك المعنى‪،‬ألنا إنما ذكرنا الكالم في حدوث العالم لم??ا ذكرن??ا ق??ول من‬
‫قال بقدمه ودل على أزليته‪ ،‬وقد تقدم ذكرنا لقول الهند في ذلك فيما س??لف من ه??ذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫عمر الدنيا‬
‫وأما اليهود فإنهم زعم??وا أن عم??ر ال??دنيا س??تة آالف س??نة? وأخ??ذوا في ذل??ك مأخ??ذاً‬
‫شرع ّياً‪ ،‬وذهبت النصارى إلى أن عمر العالم ما ذهبت إلي??ه اليه??ود‪ ،‬وأم??ا الص??ابئة‬
‫من الحرانيين والكماريين فقد ذكرنا قولهم في ذلك في جملة قول اليون??انيين‪ ،‬وأم??ا‬
‫المجوس فإنهم ذهبوا في ذلك إلى حد غير معلوم من نفاذ قوة الهرمند وكيده‪،‬‬
‫صفحة ‪376 :‬‬

‫وهو الشيطان‪ ،‬ومنهم من ذهب في ذلك إلى نحو ما ذهب إليه أص??حاب االث??نين في‬
‫الزاج والخالص‪ ،‬وأن العالم سيعود بدءاً متخلصا ً من الشرور واآلفات‪.‬‬
‫وزعمت المج?وس أن من وقت زرادش?ت بن أس?بيمان ن?بيهم إلى اإلس?كندر م?ائتين‬
‫وثمانين سنة‪ ،‬وملك اإلس??كندر س??ت س??نين‪ ،‬ومن مل??ك اإلس??كندر إلى مل?ك أردش??ير‬
‫خمسمائة? سنة وسبع عشرة سنة‪ ،‬ومن مل??ك أردش??ير إلى الهج??رة خمس??مائة? س??نة‬
‫وأربع وستون سنة؛ فذلك من هبوط أدم إلى هجرة النبي صلى هللا عليه وسلم ستة‬
‫آالف س??نة ومائ??ة وس??ت وعش??رون س??نة‪ ?:‬منه??ا من هب??وط آدم علي??ه الس??الم إلى‬
‫الطوف??ان ألف?ان ومائت??ان وس??ت وخمس??ون س??نة‪ ،‬ومن الطوف??ان إلى مول??د إب??راهيم‬
‫الخليل عليه السالم ألف وتسع وسبعون سنة‪ ،‬ومن مولد إبراهيم إلى ظهور موسى‬
‫بع??د ثم??انين س??نة خلت من عم??ر موس??ى بن عم??ران‪ -‬وه??و وقت خروج??ه بب??ني‬
‫إسرائيل‪ ،‬من مصر إلى التيه‪ -‬خمسمائة وخمس وستون س??نة‪ ،‬ومن خ??روجهم إلى‬
‫سنة أربع من ملك سليمان بن داود‪ -‬عليه السالم!‪ -‬وذلك وقت ابتدائه في بناء بيت‬
‫المقدس‪ -‬ستمائة? وست وثالثون سنة‪ ،‬ومن بن??اء بيت المق??دس إلى مل??ك اإلس??كندر‬
‫سبعمائة وسبع عشرة سنة‪ ،‬ومن ملك اإلس??كندر إلى مول??د المس??يح ثلثمائ??ة وتس??ع‬
‫وستون سنة‪ ?،‬ومن مولد المسيح? إلى مولد الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس??مائة?‬
‫س??نة وإح??دى وعش??رون س??نة‪?-،‬يين أن رف??ع هللا المس??يح‪ ،‬وه??و ابن ثالث وثالثين‬
‫سنة‪ ،‬إلى وفاة النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس??مائة س??نة وس??ت وأربع??ون س??نة‬
‫وبين مبعث المس??يح وهج??رة الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس??مائة س??نة وأرب??ع‬
‫وتسعون سنة‪ ،‬وكانت وفاة نبين?ا ص?لى هللا علي?ه وس?لم في س?نة تس?عمائة وخمس‬
‫وثالثين سنة من سنِي ذي القرنين‪ ،‬ومن داود إلى محمد صلى هللا عليه وسلم أل??ف‬
‫سنة وسبعمائة سنة وسنتان وس??تة أش??هر وعش??رة أي??ام‪ ،‬ومن إب??راهيم إلى محم??د‬
‫صلى هللا عليه وسلم ألفا سنة? وسبعمائة سنة وعشرون سنة وستة? أشهر وعش??رة‬
‫أيام ومن ن?وح إلى محم?د ص?لى هللا علي?ه وس?لم ثالث?ة آالف س?نة وس?بعمائة س?نة‬
‫وعشرون سنة وعشرة أيام فعلى هذا القول جميع جملة التاريخ من هب??وط آدم إلى‬
‫األرض إلى مبعث الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم أربع??ة آالف س??نة وثمانمائ??ة س??نة‬
‫وإحدى عشرة سنة وستة? أش??هر وعش??رة أي??ام‪ ،‬فجمل??ة الت??اريخ? من هب??وط آدم إلى‬
‫باهلل‬
‫األرض إلى هذا الوقت‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائ??ة‪ ?،‬من خالف??ة المتقي ّ‬
‫ونزوله الرقة من ديار مضر‪ ?-‬خمسة آالف سنة ومائة وست وخمسون سنة‪.‬‬
‫وقد ذكرنا جمالً من التاريخ فيما سلف من هذا الكتاب فلم ُنعِدْ منه ما تقدم‪.‬‬

‫وللمجوس في التواريخ أقاصيص يطول ذكرها‪ ،‬وعود ال ُم ْلكِ إليهم وإلى غيرهم من‬
‫بدو العالم وفنائه‪ ،‬ومن ق??ال منهم ببقائ??ه‪ ،‬وأن ال َب??دْ َء ل??ه وال‬
‫الطوائف السالفة في ِّ‬
‫نهاية‪ ،‬ومن ذهب منهم إلى أن له انتهاء وال بدء له‪ ،‬وقد أتينا على ذلك فيما س??لف‬
‫من كتبن??ا ف??أغنى ذل??ك عن اإلع??ادة في ه??ذا الكت??اب؛ الش??تراطنا في??ه على أنفس??نا‬
‫االختصار واإليجاز والتنبيه? على ما سلف لنا من الكتب‪.‬‬

‫صفحة ‪377 :‬‬

‫رأي أهل النظر من المسلمين‬


‫وقد ذهب جماعة من أهك البحث والنظر من أهل اإلس??الم إلى أن الدالل??ة ق??د ق??امت‬
‫على حدوث العالم بعد أن لم يكن‪ ،‬وأن المحدث له الخالق الباري جل ّ وع??ز‪ ،‬أحدث??ه‬
‫ال من شيء‪ ،‬ويبعث?ه? ال من ش??يء في األخ??رة ليص??ح ب??ذلك وع?ده ووعي??ده‪،‬إذ ك?ان‬
‫الصادق في وعده ووعيده ال مبدل لكلماته‪ ،‬وأن أول العالم من لدن آدم‪ ،‬وق??د غ??اب‬
‫?اب لم يخ??بر‬
‫عنا حصر السنين وإحصاؤها‪ ،‬وتن??ازع الن??اس في ب??دء الت??اريخ‪ ،‬والكت? ُ‬
‫بحصر أوقاته وال َب َّينَ عن كيفيته وال أعداد سنيه فيما مضى‪ ،‬وليس علم ذل??ك مم??ا‬
‫?يات العق??ول وموجب??ات الفحص وض??رورات‬ ‫تهجم علي??ه اآلراء‪ ،‬وال تحص??ره أقض? ُ‬
‫الحواس عند مذاكرتها لمحسوس??اتها‪ ،‬فكي??ف ت??وجب أن ي??وقت عم??ر ال??دنيا بس??بعة‬
‫آالف س??نة‪ ?،‬وهللاّ ع? ّ‬
‫?ز وج?ل ّ يق??ول‪ ،‬وق??د ذك??ر األجي??ال ومن ض??مه الهالك‪ ":‬وع??اداً‬
‫وثمود وأصحاب الرس وقرونا ً بين ذلك كثيراً" وهللا تعالى ذكره ال يق??ول الكث??ير إال‬
‫في الشيء الحقيقي الكثير‪ ،‬وأعلمنا في كتابه خلق??ه أدم‪ ،‬وم??ا ك??ان من أم??ره وأم??ر‬
‫األنبياء بعده‪ ،‬وأخ??بر عن ش??أن َب??دْ ء الخل??ق‪ ،‬ولم يخبرن??ا بمق??دار ذل??ك فنق??ف علي??ه‬
‫كوقوفنا عندما أخبرنا به‪ ،‬وال سيما مع علمنا أن ال َمدَى بينن??ا وبين??ه متف??اوت‪ ،‬وأن‬
‫هللا ع??ز‬‫األرض ك??ثرت به??ا الم??دن والمل??وك والعج??ائب‪ ،‬فال نحص??ر م??ا لم يحص??ره ّ‬
‫وج??ل‪ ،‬وال نقب??ل من اليه??ود م??ا أوردت??ه؛ لنط??ق الق??رآن أنهم يحرف??ون الكلم عن‬
‫مواضعه ويكتمون الحق وهم يعلمون‪ ،‬ونفيهم النب??وات َو َج ْح? دهم م??ا أ َت? ْ?وا ب??ه ممن‬
‫َي عيس??ى بن م??ريم من المعج??زات‪ ،‬وعلى‬ ‫اآليات مما أظهره هّللا ع??ز وج??ل على َي? د ْ‬
‫دَي نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم من ال??براهين الب??اهرات وال??دالئل والعالم??ات‪،‬‬ ‫َي ْ‬
‫هللا‬
‫وهللا عز وجل يخبرنا بما أهلك من األمم لما كان من فعلهم وكفرهم بربهم‪ ،‬ق??ال ّ‬
‫عز وجل‪ " :‬الحاقة وما الحاقة وما أدراك ما الحاقة؛ ك?ذبت ثم?ود وع?اد بالقارع?ة‪،‬‬
‫فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية‪ ،‬وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر? عاتية" و إلى قوله‪":‬‬
‫فهل ترى لهم من باقية" ثم ق?ال الن??بي ص??لى هللا علي?ه وس??لم‪" :‬ك?ذب النس?ابون "‬
‫وأمر أن ينس??ب إلى مع??د‪ ،‬ونهى أن يتج??اوز بالنس??ب إلى م??ا ف??وق ذل??ك؛لعلم??ه بم??ا‬
‫أحنٌ ‪،‬‬‫مض??ى من األعص??ار الخالي??ة واألمم الفاني??ة؛ول??وال أن النف??وس إلى الط??ارف َ‬
‫ف‪ ،‬وإلى قص??ار األح??اديث أ ْم َي??ل وبه??ا أ ْك َل??ف‪ ،‬ل??ذكرنا من أخب??ار‬ ‫أش?? َغ ُ‬
‫وب??النوار ْ‬
‫المتقدمين وسير الملوك الغابرين ما لم نذكره في هذا الكت??اب‪ ،‬ولكن ذكرن??ا في??ه م??ا‬
‫قرب تناولُه تلويحا ً بالقول دون اإليضاح والشرح؛إذ كان ُم َع َّولنا في جميع ذلك على‬
‫ف من كتبنا وتق??دم من تص??نيفنا‪ ،‬وإذا علم هّللا ع??ز وج??ل موق??ع الني??ة ووج??ه‬ ‫س َل َ‬‫ما َ‬
‫القصد أعان على السالمة من كل َمخوفٍ‪.‬‬
‫وقد ذكرنا في هذا الكت??اب من ك??ل فن من العل??وم وك??ل ب??اب من اآلداب على حس??ب‬
‫الطاقة ومبلغ االجتهاد واالختصار واإليجاز‪ -‬لمعا ً سيعرفها من تأمل‪ ،‬وينبه? بها َمنْ‬
‫راها‪.‬‬
‫وإذ قد ذكرنا جوامع ما يحتاج المبتدئ والمنتهي? من عل??وم الع??الم وأخب??اره‪،‬فلن??ذكر‬
‫أالن نسب رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم‪ ،‬ومول??ده‪ ،‬ومبعث??ه‪ ،‬وهجرت??ه‪ ،‬ووفات??ه‪،‬‬
‫وأيام الخلفاء والملوك‪ :‬عصراً فعصراً‪ ،‬إلى وقتن??ا ه??ذا‪ ،‬ولم نع??رض في كتابن??ا ه??ذا‬
‫لكثير من األخبار‪ ،‬بل َل َّو ْحنا بالقول بها تخوفا ً من اإلطالة ووقوع الملل؛إذ ليس‬
‫صفحة ‪378 :‬‬

‫ينبغي? للعاقل أن يحمل البنية على م?ا ليس في طاقته??ا‪ ،‬ويس??وم النفس م?ا ليس في‬
‫ِج ِبلتها ‪ ،‬وإنما األلفاظ على ق?در المع?اني فكثيره?ا لكثيره?ا‪ ،‬وقليله?ا لقليله?ا‪ ،‬وه??ذا‬
‫باب كبير‪ ،‬وبعض??ه ين??وب عن بعض‪ ،‬والج??زء من?ه? يوهم??ك الك??ل‪ ،‬وهّللا تع??الى ولي‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫ذكر مولد النبي صلّى هّللا عليه وس ّلم‬


‫ونسبه وغير ذلك مما لحق بهذا الباب‬
‫وق??د ذكرن??ا فيم??ا س??لف من كتبن??ا َب??دْ َء الت??اريخ في أخب??ار الع??الم وأخب??ار األنبي??اء‬
‫والملوك‪ ،‬وعجائب البر والبحر‪ ،‬وجوامع التاريخ للفرس وال?روم والقب??ط‪ ،‬وش??هور‬
‫الروم والقبط‪ ،‬وما كان من مولد النبي صلى هللا علي??ه وس??لم إلى َم ْب َعث??ه‪ ?،‬و َمنْ آمن‬
‫به قب??ل رس??الته‪ ،‬وق??د ق??دمنا في ه??ذا الكت??اب َمنْ ك??ان بين??ه وبين المس??يح? من أه??ل‬
‫ال َف ْت َر ة‪ ،‬فلنذكر اآلن مولده؛إذ كان الطاهر المطهر األعز األزهر‪ ،‬الذي اتسعت أعالم‬
‫نبوته‪ ،‬وتواترت دالئل رسالته‪ ،‬ونطقت الشهادات له قبل بعثته‪?.‬‬

‫نسبه? الشريف‬
‫ص?ي بن كالب‬ ‫هّللا‬
‫وهو محمد بن عبد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد َم َن??اف بن قُ َ‬
‫صر بن كنان??ة بن ُخ َزيم??ة‬‫بن فهربن مالك بن ال َّن ْ‬ ‫بن مرة بن كعب بن لُؤي بن غالب ِ‬
‫بن مدرك??ة بن إلي??اس بن ُمض?ر? بن ن??زار بن مع??د بن ع??دنان بن أُدد بن ن??اخور بن‬
‫سود بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إس??ماعيل ابن إب??راهيم بن ف??الغ بن ع?ابر بن‬
‫ش??الخ بن إرفخش??ذ بن س??ام بن ن??وح بن لم??ك بن متوش??لح بن أخن??وخ بن ي??رد بن‬
‫مهالييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن أدم عليه السالم‪.‬‬
‫ازي والس?ير عن ابن إس?حاق‪ ،‬والنس?خ‬ ‫هذا ما في نسخة ابن هش?ام في كت?اب ال َم َغ? ِ‬
‫مختلفة األسماء من نزار‪.‬‬

‫الخالف في نسب معد بن عدنان‬


‫وفي نس??خة أن ن??زاراً بن َمع??د بن ع??دنان بن أدد بن س??ام بن يش??جب بن يع??رب بن‬
‫الهميس???ع بن ص???انوع بن يام???د بن في???دربن إس???ماعيل بن إب???راهيم بن ت???ارخ بن‬
‫ناخوربن أرعواء بن أس??روح بن ف??الغ بن ش??الخ بن إرفخش??ذ بن س??ام بن ن??وح بن‬
‫متوشلخ? بن أنوخ بن مهالييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم‪.‬‬
‫وفي رواية ابن األعرابي عن هشام بن محمد الكلبي‪ :‬هو ن??زار بن مع??د بن ع??دنان‬
‫بن أدد بن الهميسع بن نبت بن سالمان بن فيدربن إسماعيل بن إبراهيم الخلي??ل بن‬
‫تارخ بن ناخوربن أرعواء بن فالغ بن عابر بن شالخ بن إرفخشذ ين سام بن ن??وح‬
‫بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهالييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن‬
‫أدم عليه السالم‪.‬‬
‫وفي التوراة أن آدم عليه السالم عاش تسعمائة سنة وثالثين سنة‪،‬فيجب وهللا أعلم‬
‫أن أدم عليه السالم كان عن?د مول?د لم?ك‪ -‬وه?و أب?و ن?وح الن?بي علي?ه الس?الم‪ -‬ابن‬
‫ثمانمائة? سنة وأربع وستين سنة‪ ،‬وشيث ابن سبعمائة وأريع وأربعين سنة؛ فيجب‬
‫صفحة ‪379 :‬‬

‫على هذا الوصف من الحساب أن مولد نوح عليه السالم ك??ان بع??د وف??اة آدم بمائ ?ة?‬
‫وست وعشرين سنة‪.‬‬
‫وقد نهى النبي صلى هللا عليه وسلم على حسب ما ذكرنا من َن ْه ِيه‪ -‬أن يتج??اوز عن‬
‫معد؛ فق??د ثبت أن نتوق??ف في النس??ب على مع??د‪ ،‬وق??د اختل??ف أه??ل النس??ب على م??ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬فالواجب الوقف عند أمره عليه السالم ونهيه‪.‬‬

‫قال المسعودي‪ :‬وقد وجدت نسب معد بن عدنان في الس ? ْفر ال??ذي أثبت??ه ب??اروخ بن‬
‫ناريا كاتب ارميا النبي صلى هللا عليه وسلم أن معداً بن َعدْ نان بن أدد بن الهميسع‬
‫بن س??المان بن ع??وص بن ب??روبن م َتس??اويل بن أبي الع??وام بن ناس??ل بن ح??را بن‬
‫يلدأرم بن بدالن بن كالح بن فاجم بن ناخوربن ماحي بن عسقي بن عنف بن عبي??د‬
‫بن الرعاء بن حمران بن يسن بن هري بن بح??ري ابن يلخى بن أرع??وا بن عنق??إء‬
‫بن حسان بن عيسى بن أقت??اد بن إيه??ام بن معص??ر ابن ن??اجب بن رزاح بن س??مآى‬
‫بن مربن عوص بن عوام بن قدير بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليه السالم‪.‬‬
‫وقد ك?ان ألرمي?اء م??ع مع?د بن ع?دنان أخب??ار يط??ول ذكره??ا‪ ،‬وم?ا ك?ان من أمرهم??ا‬
‫بالشام‪ ،‬وقد أتينا على ذكر ذلك فيما س?لف من كتبن?ا‪ ،‬وإنم?ا ذ َكرن?ا ه?ذا النس?ب من‬
‫هذا الوجه ليعلم تنازع الناس في ذلك‪.‬‬

‫وقد نهى النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم عن تج??اوز مع??د؛ لعلم??ه من تباع??د األنس??اب‬
‫وكثرة اآلراء في طول هذه المدة واألعصار‪.‬‬

‫كنية الرسول وأسماؤه ومولده‬


‫وكنيته? صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أبو القاسم‪ ،‬وفي ذلك يقول الشاعر‪:‬‬

‫هَلل م َمنْ َب َ‬
‫ـرا صـفـو ٌة وصفوة الخلق بنوهاشـم‬
‫وصفوة الصفوة من هاشم محمد النور أبوالقـاسـم‬

‫هللا ب??ه ال??ذنوب‪ ،‬والع??اقب‪ ،‬والحاش??ر ال??ذي‬


‫وهو محمد‪ ،‬أحمد‪ ،‬والماحي الذي يمحو ّ‬
‫يحشر هّللا الناس على عقبه صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫حروب الفجار‬
‫وكان مولده عليه الصالة والسالم َع? ا َم الفي??ل‪ ،‬وك??ان بين ع??ام الفي??ل وع??ام الف َِج? ار‬
‫عشرون سنة‪ ،‬والف َِج? ار ح??رب ك??انت بين قيس َع ْيالَن وب??ني كنان??ة‪ ،‬اس??تحلوا فيه??ا‬
‫القتال في األش??هر الح??رم‪ ،‬فس??ميت الف َِج? ار‪ ،‬وكنان??ة‪ :‬ابن حزيم??ة بن مدرك??ة‪ ،‬وه??و‬
‫عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار‪ ،‬وكان ولد إلياس عمراً وعامراً وعديراً‪ ،‬فعمرو‬
‫هو مدْ ركه‪ ،‬وعامر هو طابخه‪ ،‬وعمير هو قمعة‪ ،‬وكانت أمه م ليلى بنت ُح ْل َوان بن‬
‫عمران بن إلحاف بن قضاعة وهي خِندحِف؛فغلب على من ذكرن??ا األلق??اب‪ ،‬ونس??ب‬
‫قصي بن كالب بن مرة‪:‬‬ ‫ولد إلياس إلى أمه م خندف‪ ،‬وفي ذلك يقول َ‬
‫صفحة ‪380 :‬‬

‫وحي‪ ،‬وأبي عند تناديهـم بـآل َوهَـ ِ‬


‫ب‬ ‫ّ‬ ‫إني لدى الحرب‬
‫ص ْولة عالي النس ِ‬
‫ب ا ِّم َي خندف وإلـياس ِأبـي‬ ‫معترم ال َّ‬

‫بطون قريش‬
‫وقريش خمسة وعشرون بطناً‪ ،‬وهم‪ :‬بنو هاشم بن عبد مناف بنو المطلب بن عب??د‬
‫مناف‪ ،‬بنو الحارث بن عبد المطلب‪ ،‬بنو أمي??ة بن عب??د ش??مس‪ ،‬بن??و َن ْو َف??ل بن عب??د‬
‫قص? ّي‪ -‬وهم‬ ‫مناف‪ ،‬بنو الحارث بن فِ ْهر‪ ،‬بنو أسد بن عبد ال ُع َّزى‪ ،‬بنو عب??د الح??رب َ‬
‫َح َج َبة الكعبة‪ -‬بنو زهرة بن كالب‪ ،‬بنو َتيم بن م??رة‪ ،‬بن??و مخ??زوم‪ ،‬بن??و َي َق َظ??ة‪ ،‬بن??و‬
‫بنوس? ْهم‪ ،‬بن??و ُج َمح‪ ?،‬وإلى هن??ا تنتهي? ق??ريش البط??اح على‬‫َ‬ ‫ِي بن كعب‪،‬‬
‫مرة‪ ،‬بنو َعد ّ‬
‫حسب ما قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب‪ ،‬بنو مالك بن حنبل‪ ،‬بنو ُم َع ْيط بن ع??امر‬
‫سا َم َة بن لُ? َ?ؤي‪ ،‬بن??و األع??رم‪ ،‬وه??و َتي ْم بى غ??الب‪،‬‬
‫بن لُ َؤي بنو نزار بن عامر‪ ،‬بنو َ‬
‫بنو محارب بن فِ ْهر‪ ،‬بنو الحارث بن عبد هللا بن كنانة‪ ،‬بنو عائذة‪ ،‬وهو خزيمة بن‬
‫لُ َؤي‪ ،‬بنو نباتة‪ ،‬وه?و س?عد بن لُ? َ?ؤي‪ ،‬ومن ب??ني مال?ك إلى آخ??ر القبائ?ل في ق?ريش‬
‫الظ??واهر على حس??ب م??ا ق??دمنا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب عن??د ذكرن??ا للمطي??بين‬
‫وغيرهم من قريش‪.‬‬

‫حلف الفضول‬
‫وكان من حرب الفِجار ما ذكرنا للمتفاخرين بالعشائر والتك??اثر‪ ،‬وانتهى الف َِج? ار في‬
‫ف الفضول بعد منصرفهم من الف َِجار‪ ،‬فقاال بعضهم‪:‬‬ ‫شوال‪ ،‬وكان ِح ْل ُ‬

‫نحن ُك َنا ال ُملُوك من آل نجد وحماة الزمان عند ال ِّذ َمار‬


‫ومنعنا ا ْل َح ُجونَ من كل حي ومنعنا الفجار يوم الف َِجار‬

‫أح? ل َّ ببطح??اء‬
‫ِدَاش بن زهير العامري‪ :‬فال توعديني بالف َِجـار فـإنـه َ‬
‫وفي ذلك قال خ ُ‬
‫ا ْل َح ُج ِ‬
‫ون المخازيا‬

‫سبب حلف الفضول‬


‫ف في ذي القعدة بسبب? رجل من زبيد من اليمن أو كان باع س??لعة ل??ه‬ ‫وقد كان ا ْل ِح ْل ُ‬
‫الس ْهمي‪َ ،‬ف َم َط َله بالثمن ح??تى يئس‪ ،‬فعال جب??ل ُق ْبيس‪ ،‬وق??ريش‬
‫من العاص بن وائل َّ‬
‫في مجالسها حول الكعب?ة‪ ،‬فن?ادى بش?عر يص?ف في?ه ُظالَم َت?ه‪ .‬رافع?ا ً ص?وته منادي?ا ً‬
‫يقول‪:‬‬
‫يا للرجال لمظلوم بضاعتـه ببطن مكة ناس الحي والنفير‬
‫إن الحرام لمن تصت حرامته وال حرام لثوب الفاجر َ‬
‫الغدر‬

‫ِ فم َ‬
‫ش ْت ق??ريش بعض??ها إلى بعض‪ ،‬وك??ان أول من س??عى في ذل??ك الزب??ير بن عب??د‬
‫المطلب بن هاشم بن عبد مناف‪ ،‬واجتمعت قبائل قريش في دار ال ّندْ وة وكانت َ‬
‫للحل ِّ‬
‫والحقد‪ ،‬ؤكان ممن اجتمع بها من قريش بنو هاشم بن عبد مناف‪ ،‬وبنو المطلب‬
‫صفحة ‪381 :‬‬

‫بن عبد مناف‪ ،‬زهْ َرة بن كالب َو َت ْيم بن مرة‪ ،‬وبن??و الح??ارث بن فه? ٍ?ر‪ ،‬ف??اتفقوا على‬
‫أنهم ينصفون المظلوم من الظ??الم‪ ،‬فس??اروا إلى دار عب??د هللا بن ُج??دْ عان‪ ،‬فتح??الفوا‬
‫هنالك؛ ففي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب‪:‬‬

‫حلفت لنع ِقدَنْ حلفا ً عليهـم وإن ك ّنا جميعا ً أهـل دار‬
‫يعزب ِ?ه الغريب للى الجوار‬
‫ِ‬ ‫نسميه الفضول إذا عقدنـا‬
‫ويعلم َمنْ َح َوالى البيت أنا ا َباة الضيم نهجر كل عار‬

‫الفجارات‬
‫وقد قدمنا في كتابنا األوسط أخب??ار األحالف والفج??ارات األربع??ة‪ :‬فج??ار الرج??ل‪ ،‬أو‬
‫فج??ار ب??در بن معش??ر‪ ،‬وفج??ار الق??رد‪ ،‬وفج??ار الم??رأة‪ ،‬والفج??ار الراب??ع ه??و فج??ار‬
‫البراض‪ ،‬وبين الفجار الرابع الذي كان فيه القتال وبين بنيان الكعب??ة خمس عش??رة‬
‫ار الرابع إلى أن‬ ‫سنة‪ ،‬وكان من حضور النبي صلى هللا عليه وسلم ومشاهدته الف َِج َ‬
‫خرج إلى الشام في تجارة خديجة‪ ،‬ونظر نسطور ال??راهب إلي??ه وه?و في ص?ومعته‪?،‬‬
‫س َرة‪ ،‬وقد أظلته غمامة‪ ،‬فق??ال‪ :‬ه??ذا ن??بي‪ ،‬وه??ذا‬‫والنبي صلى هللا عليه وسلم مع َم ْي َ‬
‫آخر األنبياء‪ -‬أربع سنين‪ ،‬وتسعة أش??هر‪ ،‬وس??تة أي?ام‪ ،‬وإلى أن ت??زوج? خديج??ة بنت‬
‫ُخويل??د ش??هران‪ ،‬وأربع??ة وعش??رون يوم ?اً‪ ،‬وإلى أن ش??هد بني??ان الكعب??ة‪ ،‬وحض??ر‬
‫منازعة قريش في وضع الحجر األسود عشر سنين‪.‬‬

‫قريش تبني? الكعبة‬


‫وق??د ك?ان الس??يل ُ هَ? َدم الكعب?ة فس??رق منه?ا لم?ا أن ه?دمت غ?زال من ال?ذهب وحلي‬
‫ص? َور كث??يرة ب??أنواع من األص??باغ‬
‫وجواهر‪ ،‬فنقض??تها ق??ريش‪ ،‬وك??ان في حيطانه??ا ُ‬
‫عجيبة‪ :‬منها صورة إبراهيم الخليل في يده األزالم‪ ،‬ويقابلها صورة إس??ماعيل ابن??ه‬
‫على فرس ُيجيز بالناس ُمفِيضاً‪ ،‬والف??اروق ق??ائم على وف??د من الن??اس يقس??م فيهم‪،‬‬
‫وبعد هذه الصور صور كثير من أوالدهم إلى قصي بن كالب وغيرهم‪ ،‬في نحو من‬
‫ستين صورة مع كل واحد من تلك الصور إله صاحبها‪ ،‬وكيفية عبادته‪ ،‬وما اشتهر‬
‫من فعله‪.‬‬

‫وضع الحجر األسود‬


‫س ْمكها وتأ َّتى لها ما أرادت في بنيانه??ا من الخش??ب‬ ‫ولما بنت قريش الكعبة ورفعت َ‬
‫الذي ابت??اعوه من الس??فينة ال??تي رمى به??ا البح? ُر إلى س??احلهم ال??تي بعث به??ا مل?ك‬
‫الروم من القلزم من بالد مصر إلى الحبش??ة‪ ،‬لُتب??نى هنال??ك ل??ه كنيس??ة‪ ،‬وانه??وا إلى‬
‫ض? ُعه‪ ،‬ف??اتفقوا أن يرض??وا ب??أول َمنْ‬
‫موضع الحجر على ما ذكرن??ا وتن??ازعوا أيهم َي َ‬
‫ش ْيبة‪ ?،‬فكان أول من ظهر ألبصارهم النبي صلى هللا علي??ه‬ ‫يطلع عليهم من باب بني َ‬
‫وس??لم من ذل?ك الب?اب‪ ،‬وك?انوا يعرفون?ه ب?األمين؛ لوق?اره وهدي?ه وص??دق اللهج??ة‪،‬‬
‫واجتنابه القاذورات واألدناس‪ ،‬فحكم??وه فيم??ا تن??ازعوا في??ه‪ ،‬وانق??ادوا إلى قض??ائه‪،‬‬
‫فبسط ما كان عليه من رداء‪ ،‬وقيل‪ :‬كساء طاروني‪ ،‬وأخذ عليه الصالة والسالم‬
‫صفحة ‪382 :‬‬

‫الح َج? َر فوض??عه في وس??طه‪ ،‬ثم ق??ال ألربع??ة رج??ال من ق??ريش‪ -‬وهم أه??ل الرياس??ة‬
‫َ‬
‫فيهم‪ ،‬والزعم??اء منهم‪ ،‬وهم‪ :‬عتب??ة بن ربيع??ه? بن عب??د ش??مس بن عب??د من??اف‪،‬‬
‫واألسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد ال ُع َّزى بن قصي‪ ،‬وأبو حذيفة بن المغ??يرة‬
‫?ذ ك?ل واح?د منهم بجنب من‬ ‫بن عمرو بن مخ?زوم‪ ،‬وقيس بن ع?دي الس?همي‪ -‬ليأ ُخ ْ‬
‫جنبات ه??ذا ال??رداء‪ ،‬فش??الوه ح??تى ارتف??ع عن األرض‪ ،‬وأدن??وه من موض??عه‪ ،‬فأخ??ذ‬
‫الح َج َر ووضعه في مكانه وق??ريش كله??ا حض??ور‪ ،‬وك??ان ذل??ك‬ ‫عليه الصالة والسالم َ‬
‫أول ما ظهر من فعله وفضائله وأحكأمه ‪.‬‬
‫فقال قائ?ل ممن حض?ر من ق?ريش متعجب?ا ً من فعلهم وانقي?ادهم إلى أص?غرهم س?ناً‪:‬‬
‫واعجبا ً لقوم أهل شرف ورياسة وشيوخ? وكهول عمدوا إلى أص??غرهم س??ناً؛ وأقلهم‬
‫ماالً‪ ،‬فجعلوه عليهم رئيسا ً وحاكماً!! أما والالت والعزى ليفوقنهم َ‬
‫س? ْبقاً‪ ،‬وليقس??من‬
‫بينهم حظوظا ً وجدوداً وليكو َننَّ له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم‪.‬‬
‫وقد تنوزع في هذا القائل‪ :‬فمن الناس من رأى أن?ه إبليس ظه?ر في ذل?ك الي?وم في‬
‫جمعهم في صورة رجل من قريش كان قد مات‪ ،‬وزعم??وا أن الالت والع??زى أحيت??اه‬
‫لذلك المشهد‪ ،‬ومنهم من رأى أنه بعض رجالهم وحكمائهم و َمنْ كانت له فطنة‪.‬‬

‫كسوة الكعبة‬
‫س? ْت َها أردي??ة الزعم??اء‪ ،‬وهي الوص??ائل‪ ،‬وأع??ادوا‬
‫فلما استتمت قريش بناء الكعب??ة َك َ‬
‫الصور التي كانت مصورة في الكعبة‪ ،‬وأتقنوا شكل ذلك واحكأمه ‪.‬‬
‫وكان أبو طالب حاضراً فلما سمع هذا الكالم من هذا القائل في النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وما يكون من أمره في المستقبل‪ ،‬أنشأ يقول‪:‬‬

‫إن لـنـا أولـه وآخـــره في الحكم العدل الذي ال ننكره‬


‫وقد جهدنا جهدنا لـيغـمـره وقد عهـدنـا أولـه وآخـره‬
‫فإن يكن حقا ً ففينا أكـثـره‬

‫وك??ان من بن??اء الكعب??ة إلى أن بعث??ه هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس س??نين‪ ،‬ومن‬
‫مولده إلي يوم مبعثه أربعون سنة ويوم‪.‬‬

‫تحديد المولد‬
‫والذي صح من مولده عليه الصالة والسالم أنه كان بعد ق??دوم أص??حاب الفي??ل مك??ة‬
‫بخمسين يوماً‪ ،‬وكان قدومهم مكة يوم االثنين لثالث عش??رة ليل??ة بقيت من المح??رم‬
‫سنة ثمانمائة واثنتين وثمانين من عهد ذ الق??رنين‪ ،‬وك??ان ق?دوم أبره??ة مك??ة لس??بع‬
‫عشرة خلت من المحرم ولست عشرة وم??ائتين من ت??اريخ الع??رب‪،‬ال?ذي ول?ه حج??ة‬
‫الغد ولسنة أربعين من ملك كسرى أنو شروان‪.‬‬
‫وك?ان مول??ده علي??ه الص?الة والس?الم لثم??ان خل??ون من ربي??ع األول من ه?ذه الس?نة‬
‫بمكة‪ ،‬في دار ابن يوسف‪ ?،‬ثم بعد ذل??ك بنته??ا الخ??يزران أم اله??ادى الرش??يد مس??جداً‬
‫وكان أبوه عبد هّللا غائبا ً بأرض الشام فانصرف مريضاً‪ ،‬فمات بالمدينة? ورسول‬
‫صفحة ‪383 :‬‬

‫هّللا صلى هللا عليه وسلم َح ْمل‪ ،‬وقد تنوزع في ذلك‪ :‬فمنهم من قال‪ :‬إنه مات بعد‬
‫مولد النبي صلى هللا عليه وسلم بشهر‪ ?،‬ومنهم من قال‪ :‬إنه مات في الس??نة الثاني ?ة?‬
‫من مولده‪.‬‬

‫نسب أمه عليه السالم‬


‫و أمه آمنة بنت َوهْ ب بن عبد مناف بن زهرة بن كالب بن مرة بن كعب‪.‬‬
‫وفي الس??نة األولى من مول??ده دُف??ع إلى حليم??ة بنت عب??د هّللا بن الح??ارث ل ُت ْر ِ‬
‫ض?عه‪،‬‬
‫هلل هَّللا الذي‬
‫وفي السنة الثانية من كونه في بني? سعد كان أبو عبد هللا يقول‪ :‬الحمد ّ‬
‫أعطانـي هذا الغالم الطـيب األردان‬
‫قد ساد في المهد على الغلمان أعيذه بالبـيت ذي األركـان‬
‫و في رواية أن عبد المطلب قال‪ :‬ال ُه ّم رب الراكب المسافر يحمد قلب بخـير طـائر‬
‫تنح? عن طريقه الفـواجـر وحيه برصد الطـواهـر‬
‫واحبس كل حلف فـاجـر في عرج الريح واألعاصر‬

‫أحداث قبل النبوة‬


‫شق الملكان بطنه‪ ،‬واستخرجا قلب??ه‪ ،‬فش??قاه وأخرج??ا‬ ‫وفي السنة الرابعة من مولده َ‬
‫منه? َع َل َقة سوداء ثم غسال بطنه وقلبه بالثلج‪ ،‬وقال أحدهما لصاحبه‪ِ :‬ز ْن? ُه‪ -‬بعش??رة‬
‫فرج َع‪ ،‬ثم ما زال يزيد حتى بلغ األلف‪ ،‬فقال وهللا لو وزنت??ه بأمت??ه‬ ‫من أمته‪ ،‬فوزنه َ‬
‫لوزنها‪.‬‬
‫وفي السنة الخامسة َر َّدته إلى أم??ه مرض??عته? حليم??ة؛ وقي??ل‪ :‬في مس??تهل السادس??ة‬
‫وبين ذلك وبين عام الفيل خمس سنين وشهران وعشرة أيام‪.‬‬
‫وفي الس??نة الس??ابعة من مول??ده خ??رجت ب??ه أم??ه إلى أخوال??ه ت??زورهم‪ ،‬فت??وفيت‬
‫اء‪ ،‬وقدمت به أم أ ْي َمنَ إلى مكة بعد خامسة من موت أمه ‪.‬‬ ‫باأل ْب َو ٍ‬
‫وفي السنة الثامنة من مولده توفي جده عبد المطلب‪ ،‬وضمه? عمه أبو ط??الب إلي??ه‪،‬‬
‫وكان في ح ِْجره‪ ،‬وخرج مع عمه إلى الش??ام‪ ،‬ول??ه ثالث عش??رة س??نة‪ ،‬ثم خ??رج في‬
‫س َرة وهو ابن خمس وعشرين‬ ‫تجارة لخديجة بنت خويلد إلى الشام مع غل أمه ا َم ْي َ‬
‫سنة‪?.‬‬
‫ق??ال المس??عودي‪:‬وق??د أتين??ا على مبس??وط ه??ذا الب??اب‪ ،‬في كتابين??ا أخب??ار الزم??ان‬
‫واألوسط‪.‬‬

‫ذكر مبعثه? صلى هّللا عليه وسلّم‬


‫وما جاء في ذلك إلى هجرته‬
‫ثم بعث هّللا رس??وله وأكرم?ه? بم??ا أختص??ه ب??ه من نبوت??ه‪ ،‬بع??د بني??ان الكعب??ة بخمس‬
‫سنين على ما ق??دمنا آنف?اً‪ ،‬وه??و ابن أربعين س??نة كامل??ة‪ ،‬فأق??ام بمك??ة ثالث عش??رة‬
‫سنة‪ ،‬وأخفى أمره ثالث سنين‪ ،‬ونكح خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة‬
‫وأنزل عليه بمكة من القران اثنتان وثمانون سورة‪ ،‬ون??زل تم??ام بعض??ها بالمدين??ة‪،‬‬
‫وأول ما نزل عليه من القران "اقرأ باسم ربك الذي خلق "‪ ،‬وأتاه جبريل صلى هللا‬
‫صفحة ‪384 :‬‬

‫وخا َطب??ه بالرس??الة في ي??وم االث??نين‪،‬‬


‫عليه وسلم في ليلة السبت‪ ،‬ثم في ليلة األحد‪َ ،‬‬
‫وذلك بحراء‪ ،‬وهو أول موضع نزل في??ه الق??رآن‪ ،‬وخاطب??ه ب??أول الس??ورة إلى قول??ه‬
‫"علّم اإلنس??ان م??ا لم يعلم " ون??زل تم أمه??ا بع??د ذل??ك؛ و خ??وطب بف??رض‬ ‫تع??الى‪َ :‬‬
‫?ر ْت ركع??تين في الس??فر‬‫الصلوات ركعتين ركعتين‪ ،‬ثم أمر ب??إتم أمه??ا بع??د ذل??ك‪ ،‬واق? َّ‬
‫ض ِر‪.‬‬
‫الح َ‬
‫وزي َد في صالة َ‬
‫ِ‬

‫تحديد المبعث‬
‫وكان مبعثه صلى هللا عليه وسلم على رأس عشرين سنة? من ُم ْلك كسرى أبروي??ز‪،‬‬
‫بالر َب? َذة‪ ،‬وذل??ك لس??تة االف ومائ??ة‬
‫وذل??ك على رأس م??ائتي س??نة من ي??وم التح??الف َّ‬
‫وثالث عشرة سنة من هبوط آدم عليه السالم‪ ،‬وقد ذكر مثل ه??ذا عن بعض حكم??اء‬
‫العرب في صدر اإلسالم ممن قرأ الكتب السالفة على حسب ما استخرج منها‪ ،‬وفي‬
‫ذلك يقول في أرجوزة طويلة‪ :‬في رأس عشرة من السنين إلى ثالث حصلت يقـين‬
‫والمائة المعدوة الـتـمـام إلى الوف سدس??ت نظـام أرس??له هَّللا لـنـا رسـوال وك??ان‬
‫فينا هادي السبـيال‬

‫إسالم علي بن أبي طالب‬


‫هللا وجه??ه وأس??ل أم??ه ‪ ،‬ف??ذهب كث??ير من‬ ‫وق??د تن??وزع في علي بن أبي ط??الب ك??رم ّ‬
‫الناس إلى أنه لم يشرك باهّلل شيئا ً فيستأنف اإلسالم‪ ،‬بل ك??ان تابع?ا ً للن??بي ص??لى هللا‬
‫علي??ه وس??لم في جمي??ع أفعال??ه مقت??ديا ً ب??ه‪ ،‬وبل??غ وه??و على ذل??ك‪ ،‬وأن هللا عص??مه‬
‫وسدده ووفقه لتبعيته? لنبيه عليه السالم؛ ألنهما كانا غ?ير مض?طرين وال مجب?ورين‬
‫على فعل الطاع??ات‪ ،‬ب??ل مخت??ارين ق??ادرين‪ ،‬فاخت??ارا طاع??ة ال??رب‪ ،‬وموافق??ة أم??ره‪،‬‬
‫واجتن??اب منهيات??ه‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه أول من آمن‪ ،‬وأن الرس??ول دع??اه وه??و‬
‫موضع التكليف بظاهر قوله عز وجل‪" :‬وأنذر عش??يرتك األق??ربين "‪ ،‬وك??ان ب??دؤى‬
‫بعلني إذ كان أ ْق َر َب الناس إليه وأتبعهم له‪ ،‬ومنهم من رأى غ??ير م??ا وص??افنا‪،‬‬
‫وهذا موضع قد تنازع الناس فيه من الشيعة‪ ،‬وقد احتج كل فري??ق لقول??ه ممن ق??ال‬
‫بالنص في اإلمامة واالختيار‪ ،‬وأرضى كل فريق كيفية إس??المه ومق??دار س??نيه‪?،‬‬
‫وق???د أتين???ا على الكالم في ذل???ك على الش???رح واإلِيض???اح في كتابن???ا‬
‫المترجم بكتاب الصفوة في اإلِمامة وفي كتاب االستبصار? وفي كتاب‬
‫الزاهي وغيره من كتبنا في هذا المعنى‪.‬‬

‫إسالم أبي بكر ومن أسلم بإسالم أمه‬


‫ثم أسلم أبو بكر رض??ي هللا عن??ه‪ ،‬ودع??ا قوم??ه إلى اإلِس??الم‪ ،‬فأس??لم على‬
‫يدي??ه عثم??ان بن عف??ان والزب??ير بن الع??وام‪ ،‬وعب??د ال??رحمن بن ع??وف‪،‬‬
‫وسعد بن أبي َو َّقاص‪ ،‬وطلح??ة بن عبي?د هللا‪ ،‬فج?اء بهم إلى الن?بي ص?لى‬
‫س َبقُوا الناس باإلِيمان‪ ،‬وقد قال‬‫هللا عليه وسلم فأسلموا‪ ،‬فهؤالء النفر َ‬
‫بعض َمنْ تقدم من الشعراء في صدر اإلِسالم يذكرهم‪:‬‬

‫صفحة ‪385 :‬‬

‫صا َد ْف َت ذا العلم والخبر ْه‬ ‫َ‬ ‫فيا سائلي عن خيار العـبـاد‪،‬‬


‫وخير قريش ذوو الهجـر ْه‬ ‫ِخ َيا ُر العباد جميعـا ً قـر ْيش‬
‫نـضـر ْه‬
‫َ‬ ‫ثمانية وحدهـم‬ ‫وخير ذوي الهجرة السابقون‬
‫َو َط ْل َحة واثنان من ُزهـر ْه‬ ‫علي َو ُعثمان ثم الـزبـير‬
‫َو َج َاو َر قبراهمـا قـبـر ْه‬ ‫وشيخان قد َج َاو َرا أحـمـداً‬
‫فال تذكروا عِ ندهم فخـر ْه‬ ‫فمن كان بعدهما فـاخـراً‬

‫الخالف في أول من أسلم‬


‫وقد اختلف في أول صن أسلم‪ :‬فمنهم من رأى أن أبا بكر الصديق ك??ان أول الن??اس‬
‫إسالماً‪ ،‬وأسبقهم إيماناً‪ ،‬ثم بالل بن رباح??ة‪ ،‬ثم عم??رو بن عبس??ة‪ ،‬ومنهم َمنْ ذهب‬
‫إلى أن أول من أس??لم من النس??اء خديج??ة‪ ،‬ومن الرج??ال َعل ِّي‪ ،‬ومنهم َمنْ رأي أن‬
‫علي‬
‫ِب النبي صلى هللا عليه وس??لم و ثم خديج??ة‪ ،‬ثم ِّ‬ ‫أول من أسلم زيد بن حارثة ح ّ‬
‫كرم هللا وجهة‪ ،‬وقد ذكرنا ما اجتبينا من القول في ذلك فيم??ا ق??دمنا ذك??ره من كتبن??ا‬
‫في هذا المعنى‪ ،‬وهللا تعالى ولي التوفيق‪.‬‬

‫ذكر هجرته وجوامع مما كان في أيامه‬


‫صلّى هّللا عليه وسلّم إلى وقت وفاته‬
‫أمر هللا عز وج??ل رس??وله ص?لى هللا علي??ه وس??لم ب??الهجرة‪ ،‬وف??رض علي??ه الجه??اد‪،‬‬
‫وذلك في سنة إحدى من سني الهجرة‪ ،‬وهي الس??نة ال??تي ن??زل فيه??ا األذن‪ ،‬وك??انت‬
‫سنة أربع عشرة من المبعث‪.‬‬
‫وك??ان ابن عب??اس يق??ول‪ُ :‬بعث رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم وه??و ابن أربعين‬
‫سنة‪ ،‬وأقام بمكة ثالث عشرة سنة‪ ،‬وهاجر عش??راً‪ ،‬وقبض وه??و ابنُ ثالث وس??تين‬
‫سنة‪?.‬‬

‫تحديد الهجرة‬
‫وكانت سنة? إحدى من الهجرة‪ ،‬وهي سنة اثنتين وتالثين من مل??ك كس??رى أبروي??ز‪،‬‬
‫وسنة? تسع من ملك هرقل ملك النصرانية‪ ،‬وسنة تس??عمائة وثالث وثالثين من مل??ك‬
‫اإلسكندر المقدوني‪.‬‬

‫كيف فعل في الهجرة‪.‬‬


‫قال المسعودي‪ :‬وقد ذكرنا في الكتاب األوسط كيفية فعل رسول هللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم في خروج??ه من مك??ة ودخول??ه الغ??ار واس??تئجار علي ل??ه اإلب??ل‪َ ،‬و ْنوم??ه على‬
‫فراشه؛ فخرج الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم من مك??ة‪ ،‬ومع??ه أب??و بك??ر‪ ،‬وع??امر بن‬
‫أر ْيقِط ال??ديلي دلي??ل لهم على الطري??ق‪ ،‬ولم يكن‬ ‫فُ َه ْي َرة مولى أبي بكر‪ ،‬وعبد هللا بن َ‬
‫مسلماً‪ ،‬وك?ان ُم َق?ام علي بن أبي ط?الب بع?ده بمك?ة ثالث?ة أي?ام إلى أن أدى م?ا أم?ر‬
‫بأدائه‪ ،‬ثم لحق بالرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫صفحة ‪386 :‬‬

‫دخول المدينة‬
‫وكان دخوله عليه الصالة والسالم إلى المدينة? يوم االثنين الثنتي? عشرة ليلة مضت‬
‫من ربيع األول‪ ،‬فأقام بها عشر سنين كوامل‪ ،‬وك??ان نزول??ه علي??ه الص??الة والس??الم‬
‫في حال موافاته المدي َن َة ب َق َباء على سعد بن َخ ْي َث َم َة وابت?نى المس?جد وك?ان م?ع أم??ه‬
‫ب َق َباء يوم االثنين والثالثاء واألربعاء والخميس‪ ،‬وسار يوم الجمعة ارتف? َ‬
‫?اع النه?ار‪،‬‬
‫وأتته األنصار ح ّيا ً حيا ً يسأله كل فريق منهم النزول عليه‪ ،‬ويتعلقون بزمام راحلت??ه‬
‫"خلُّوا عنها فإنها مأمورة" حتى أدركته‬ ‫وهي تجذبه‪ .‬فيقول عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬
‫الصالة في بني سالم‪ ،‬فصلّى بهم ي??وم الجمع??ة‪ ،‬وك??انت تل??ك أول جمع??ة ص??ليت في‬
‫اإلِسالم‪ ،‬وهذا موضع تنازع الفقهاء في العدد ال?ذي تتم بهم ص??الة الجمع??ة‪ :‬ف?ذهب‬
‫الشافعي في آخرين معه إلى أن الجمعة ال تجب إقامتها ح??تى يك??ون ع??دد المص??لين‬
‫أربعين فصاعداً‪ ،‬وأ َقل ُّ من ذلك ال يجزي‪ ،‬وخالفه غيره من الفقهاء من أهل الكوف??ة‬
‫وغيرهم‪ ،‬وكانت صالته في بطن الوادي المعروف بوادى رأنو َنا َء إلى ه??ذه الغاي??ة‪،‬‬
‫?رج على ش?يء‪ ،‬وال يرده?ا راد‪ ،‬ح?تى أتت إلى‬ ‫ثم استوى على ناقته‪ ،‬فس?ارت ال ُت َع ِّ‬
‫موضع مسجده عليه الص??الة والس??الم‪ ،‬والموض??ع يومئ??ذ لغالمين ي??تيمين من ب??ني‬
‫النج??ار‪ ،‬ف??بركت‪ ،‬ثم س??ارت فمض??ت غ??ير بعي??د‪ ،‬ثم ع??ادت إلى مبركه??ا ف??بركت‬
‫وأطمأنت‪ ،‬والنبي صلى هللا عليه وس??لم ي??راعي أحك??ام الب??اري في??ه‪ -،‬وتوفيق??ه ل??ه‪،‬‬
‫فنزل عنها‪ ،‬وسار إلى منزل? أبي أيوب األنصاري‪ -‬وهو خالد بن كليب بن ثعلب??ة بن‬
‫عوف بن سحيم بن مالك بن النجار‪ -‬فأقام في منزله شهراً حتى ابت??نى المس??جد من‬
‫الموضع‪ ،‬وأحدقت به األنصار واشتد س??رورهم ب??ه‪ ،‬وأظه??روا التأس??ف‬ ‫َ‬ ‫بعد ابتياعه‬
‫ص ?رته‪ ?،‬وفي ذل??ك يق??ول ص??رمة بن أبي أنس أح??د ب??ني ع??دي‬ ‫على م??ا ف??اتهم من ُن ْ‬
‫النجار من قصيدة‪:‬‬

‫ُي َذ َكرل ايلقى صديقـا ًمـواتـيا‬ ‫َث َوى في قريش بضع عشرة حجة‬
‫فلم ير من يوفي‪ ،‬ولم ير داعـيا‬ ‫ويعرض في أهل المواسم نفسـه‬
‫بط ْي َب َة راضـيا‬
‫وأصبح مسروراً? َ‬ ‫ـر الـلـه دينـه‬ ‫فلما أتانا ْ‬
‫أظـ َه َ‬
‫بعيداً‪ ،‬وال يخشى من الـنـاس دانـيا‬ ‫وأصبح ال يخشى من الـنـاس واحـداً‬
‫وأنفسنا عنـد الـوغـى والـتـآسـيا‬ ‫بذ ْل َنا له األموال في كـل مـلـكـنـا‬
‫وأن رسـول الـلـه لـلـحـق رائيا‬ ‫ونـعـلـم أن الـلـه الرب غــيره‬
‫كلهم جميعاً‪ ،‬وإن كان الحبيب المصافيا‬ ‫ونعادي الـذي عـادى مـن الـنـاس‬

‫فافترض صيام شهر رمضان‪ ،‬و ُح َؤلت القبلة إلى الكعبة بع??د قدوم??ه بثماني??ة عش??ر‬
‫شهراً‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنه أنزل عليه بالمدينة من القرآن اثنتان وثالثون سورة‪.‬‬

‫علته ووفاته‬
‫ثم قبضه هللا يوم االثنين الثنتي? عشرة ليل??ة مض??ت من ربي??ع األول س??نة عش??ر في‬
‫الساعة التي دخل فيه??ا المدين??ة‪ ،‬في م??نزل عائش??ة رض??ي هللا عنه??ا‪ ،‬وك??انت علت??ه‬
‫أتثنى عشر يوما‪.‬‬
‫صفحة ‪387 :‬‬

‫غزواته‬
‫وكانت غزواته صلى هللا عليه وسلم بفس??ه س??تا ً وعش??رين غ??زوة‪ ،‬ومنهم من رأى‬
‫أنها سبع وعشرون‪ ،‬األولون جعلوا منصرف النبي صلى هللا عليه وس??لم من خي??بر‬
‫إلى وادي القرى غزوة واحدة‪ ،‬والذين جعلوها سبعا ً وعشرين جعل??وا غ??زوة خي??بر‬
‫مفردة ووادي الق??رى منص??رفة? إليه??ا غ??زوة أخ??رى غ??ير خي??بر؛ فوق??ع التن??ازع في‬
‫أعداد الغزوات من هذا الوجه‪ ،‬وذل?ك أن الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم حين فتح هللا‬
‫خيبر انصرف منها إلى وادي القرى من غير أن يأتي المدينة‪.‬‬

‫وك??ان أول غزوا ّت??ه ص??لى هللا علي??ه وس??لم من المدين??ة بنفس??ه? إِلى ودان‪ ،‬وهي‬
‫رضوى‪ ،‬ثم غ??زوة العش??يرة من‬ ‫اء‪ ،‬ثم غزوة ُبواط إلى ناحية ْ‬ ‫المعروفة بغزوة األ ْب َو ٍ‬
‫بطن ينبع‪ ?،‬ثم غزوة بدر األولى‪ ،‬وكان خروجه طلبا ً لكرز بن ج??ابر‪ ،‬ثم غ??زوة ب??در‬
‫الكبرى‪ ،‬وهي بدر الثانية? التي قُتل فيها ص??ناديد ق??ريش وأش??رافها وأس??ر من أس??ر‬
‫س? َليم ح??تى بل?غ الموض??ع المع??روف َبالك?در م?اء لب?ني‬
‫من زعمائهم‪ ،‬ثم غزوة بني ُ‬
‫س َليم‪ ،‬ثم غزوة السويق طلبا ً ألبي سفيان بن حرب فبلغ فيهم??ا الموض??ع المع??روف‬ ‫ُ‬
‫بقرقرة الكدر‪ ،‬ثم غزوة غطفان إلى نج??د وتع??رف ه??ذه الغ??زوة بغ??زوة ذي أم??ر‪ ،‬ثم‬
‫غزوة بحران وهو موضع بالحجاز من فوق الفرع ثم غزوة أحد‪ ،‬ثم غزوة حم??راء‬
‫األسد‪ ،‬ثم غزوة بني ال َّنضِ ير‪ ،‬ثم غزو ًه ذات الرقاع من نجد‪ ،‬ثم غزوة بدر األخيرة‪،‬‬
‫ثم غزوة دومة الجندل ثم غزوة ال ُمر ْيسِ يع? ثم غزوة الخندق‪ ،‬ثم غزوة بني َ‬
‫قر ْيظ??ة‪،‬‬
‫ثم غ??زوة ب??ني لحي??ان بن ه??ذيل بن مدرك??ة‪ ،‬ثم غ??زوة في ق??رد‪ ،‬ثم غ??زوة ب??ني‬
‫صده المش??ركون‪ ،‬ثم غ??زوة‬ ‫المصطلق من ُخ َزاعة‪ ،‬ثم غزوة الحديبية? ال يريد قتاال ف َ‬
‫خيبر‪ ،‬ثم اعتمر عليه السالم عمرة القضاء‪ ،‬ثم فتح مكة‪ ،‬ثم عزوة ُحنين‪ ،‬ثم غزوة‬
‫الطائف‪ ،‬ثم غزوة َت ُبوك‪.‬‬

‫قات??ل منه??ا في تس??ع غ??زوات‪ :‬ب??در‪ ،‬واح??د‪ ،‬والخن??دق‪ ،‬وقريظ??ة‪ ،‬وخي??بر‪ ،‬والفتح‪،‬‬
‫وحنين‪ ،‬والطائف‪ ،‬وتبوك‪.‬‬

‫قول الواقدي في غزواته‬


‫هذا قول أحمد بن إسحاق‪ ،‬فأما م??ا ذهب إلي??ه الواق??دى فإن??ه واف??ق ابن إس??حاق في‬
‫قتال النبي صلى هللا عليه وسلم في هذه التس??ع الغ??زوات‪ ،‬وزاد أن الن??بي ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم قاتل في َغ َزاة وادي‪ -‬القرى‪ ،‬وذلك أن غ??ل أم??ه المع??روف بم??دعم رمي‬
‫بسهم فقتل‪ ،‬وقاتل في يوم الغابة فقتل من المشركين ستة? نفر‪ ،‬وقتل يومئ ?ذ? مح??رز‬
‫بن نضلة ففي قول الواقدي أنه قاتل في إحدى عشرة غزوة‪ ،‬وفي قول ابن إس??حاق‬
‫في تسع‪ ،‬فقتاله في التسع باتفاف منهما‪ ،‬وزاد الواقدي على ما ذكرنا‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن أول غزوة غزاها عليه السالم ذات العشيرة‪.‬‬

‫صفحة ‪388 :‬‬

‫سراياه وبعوثه‬
‫وقد تنازع من سلف من أهل السير واألخبار في عدة س??راياه وبعوث??ه‪ :‬فق??ال ق??وم‪:‬‬
‫ضه? هللا خمس وثالثون بعث??ا َ‬ ‫إن عدة سراياه وبعوثه بين أن قد َم المدينة? وبين أن َق َب َ‬
‫س ِرية‪ ?،‬وذكر محمد بن جرير الطبري في كتابه في الت??اريخ ق??ال‪ :‬ح??دثني الح??ارث‬ ‫و َ‬
‫قال‪ :‬حدثنا ابن سعد قال‪ :‬قال محمد بن ُع َمر الواقدى‪ :‬كانت سرايا الن??بي ص??لى هللا‬
‫س ِرية‪ ?،‬وقيل‪ :‬إن سراياه ص??لى هللا علي??ه وس??لم وبعوث??ه‬ ‫عليه وسلم ثمانيا ً وأربعين َ‬
‫كانت ستة وستين‪.‬‬

‫مشاهير األحداث‬
‫وقبض صلى هللا عليه وسلم وه??و ابن ثالث وس??تين س??نة على حس??ب م??ا تق??دم في‬
‫صدر هذا الباب من قول ابن عباس‪ ،‬ولم يخلف من الولد إال فاطمه عليه??ا الس??الم‪،‬‬
‫وتوفيت بعده بأربعين يوماً‪ ،‬وقيل‪ :‬سبعين يوماً‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ .‬وك??ان ت??زوج علي‬
‫بن أبي طالب لفاطمة عليهم??ا الس??الم بع??د س??نة مض??ت من الهج??رة‪ ،‬وقي??ل أق??ل من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وكانت أول امرأة تزوج بها النبي صلى هللا عليه وسلم خديجة بنت ُخويل??د بن أس??د‬
‫بن عبد العزى بن قصي‪ ،‬وكانت وفاتها في شوال بعد مبعثه بثالث سنين‪.‬‬
‫ي به وهو ابن إحدى وخمسين سنة? وثمانية? أشهر وعشرين يوماً‪.‬‬ ‫وأس ِر َ‬
‫ْ‬
‫وكانت وفاة عمه أبي طالب‪ -‬واسمه عبد مناف بن عبد المطلب‪ -‬بع??د وف??اة خديج??ة‬
‫بثالثة? أيام‪ ،‬وهو ابن تسع وأربعين سنة وثمانية? أشهر‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن أبا طالب اس??م‬
‫له‪.‬‬
‫سودة بنت َز ْمعة بن قيس بن عب??د ُو َذ بن نض??ر ابن مال??ك‬ ‫وتزوج? بعد وفاة خديجة ب َ‬
‫ِسل‪.‬‬
‫بن ح ْ‬
‫وت??زوج بعائش??ة رض??ي هللا عنه?ا قب??ل الهج?رة بس?نتين‪ ،‬وقي??ل‪ :‬تزوجه?ا بع?د وف?اة‬
‫خديجة‪ ،‬ودخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر وتسعة أيام‪ ،‬وقد أتينا على ذك??ر س??ائر‬
‫أزواجه في الكتاب األوسط؛ فأغنى ذلك عن إعادته‪.‬‬
‫روى جعفر بن محم??د عن أبي??ه محم??د بن علي عن أبي??ه علي بن الحس??ين بن علي‬
‫أدب محم??داً ص??لى هللا علي??ه‬ ‫بن أبي طالب رضي هللا عنه أنه قال‪ :‬إن هللا ّ‬
‫عز وج ?ل ّ َ‬
‫وسلم فأحسن تأديبه‪ ?،‬فقال خذ العف??و‪ ،‬وآم??ر الع??رف‪ ،‬وأع??رض عن الج??اهلين فلم??ا‬
‫كان كذلك قال هللا تعالى‪ " :‬وإن??ك على خل??ق عظيم " فلم??ا قب??ل من هللا ف??وض إلي??ه‬
‫فقال‪" :‬وما آتكم الرسول فخذوه‪ ،‬وما نه??اكم عن??ه ف??انتهوا" وك??ان يض??من على هللا‬
‫الجنة‪ ،‬فأجيز له ذلك‪.‬‬

‫وك??ان ع??دة من ت??زوج من النس??اء خمس عش??رة‪ ،‬دخ??ل بإح??دى عش??رة منهن‪ ،‬ولم‬
‫يدخل بأربع‪ ،‬وقبض عليه السالم عن تسع‪.‬‬

‫صفحة ‪389 :‬‬

‫النزاع في عمره عليه الصالة والسالم‬


‫قال المسعودي‪ :‬وقد تنوزع في مقدار عمره عليه الس??الم‪ ،‬وق??د ق??دمنا م??ا روي في‬
‫ذلك عن ابن عباس‪ ،‬وهو ما ذكره حماد بن س?لمة عن أبي حم?زة عن ابن عب?اس‪،‬‬
‫وقد روي عن أبي هريرة مثل قول ابن عباس‪ ،‬وذكر عن يحيى بن سعيد أنه س??مع‬
‫سعيد بن المسيب يقول‪ :‬أنزل على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم القران وهو ابن‬
‫ثالث وأربعين سنة‪ ،‬وأقام بمك??ة عش??راً‪ ،‬وبالمدين?ه? عش??راً‪ ،‬وت??وفي وه??و ابن ثالث‬
‫وستين سنة‪ ،‬وكذلك ذكر عن عائشة قالت ت??وفي رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‬
‫وهو ابن ثالث وستين سنة‪ ،‬وقد روي عن ابن عباس من وجه آخ??ر أن رس??ول هّللا‬
‫صلى هللا عليه وس??لم قبض وه??و ابن خمس وس??تين س??نة‪ ،‬وك??ذلك ذك??ر ابن هش??ام‬
‫قال‪ :‬حدثنا علي بن زيد‪ ،‬عن يوسف? بن مهران‪ ،‬عن ابن عب??اس‪ ،‬وذك??ر َق َت??ادة عن‬
‫الحسن عن دغفل ‪ -‬يعنى ابن حنظلة‪ -‬أن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم ت??وفي وه??و‬
‫ابن خمس وستين‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنه قبض وهو ابن س??تين وذك??ر ذل??ك عن ابن عب??اس‬
‫عر َوة بن ألزبير‪ ،‬وذ َك َر حماد قال‪ :‬أخبرنا عمرو بن دينار‪ ،‬عن ُع ْر َوة بن‬
‫وعائشة َو ْ‬
‫الزبير‪ ،‬قال‪ :‬بعث رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم وه??و ابن أربعين س??نة‪ ،‬وم??ات‬
‫وهو ابن ستين‪ ،‬وذكر شيبان عن يحيى بن أبي كث??ير عن أبي س??لمة ق??ال‪ :‬ح??دثتني?‬
‫عائشة رضي هّللا عنها وابن عباس أن رسول هللا صلى هللا علي??ه وس??لم بعث وه??و‬
‫ابن أربعين سنة‪ ،‬فلبث بمكة عشر سنين‪ ،‬وبالمدينة عشرة سنين‪ ،‬وقبض وهو ابن‬
‫ستين‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫وفاته وتكفينه ودفنه عليه السالم‬


‫وإنما حكينا هذا الخالف ليعلم من نظر في كتابنا هذا أن??ا لم نغف??ل ش??يئا ً مم??ا ق??الوه‪،‬‬
‫وال تركن??ا ش??يئا ً ذك??روهُ إال ذكرن??ا من??ه م??ا ت??أ َّتى لن??ا ذك??ره وأش??رنا إلي??ه‪ ،‬ميال إلى‬
‫لإليجاز‪ ،‬والذي وجدنا علي??ه آل محم??د علي??ه الص??الة والس??الم أن??ه‬ ‫االختصار وطلبا ً ِ‬
‫قُبض ابن ثالث وستين سنة‪ ،‬ولما غسل عليه الصالة والسالم كفن في ثالثة أثواب‬
‫ص َحاريين وثوب ِح َب َرة أدرج فيها إدراجأ‪ ،‬ونزل في قبره علي بن أبي ط??الب‬ ‫ثوبين ُ‬
‫ش ْق َران مولى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقد ذك??ر‬ ‫والفضل َوقُ َثم ابنا العباس َو ُ‬
‫في مقدار الثياب للكفن غير ما ذكرنا‪ ،‬وهللا أعلم بكيفية? ذلك‪.‬‬
‫وأخبار ك??انت من مول??ده إلى وفات??ه ص??لى هللا‬ ‫ٍ‬ ‫ولنرجع اآلن إلى ذكر لمع من أموره‬
‫شرف و ًع ّظم‪.‬‬ ‫عليه وسلم و َ‬

‫ذكر أمور وأحوال من مولده إلى وفاته‬


‫صلّى هّللا عليه وسلّم‬
‫وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب من ذك??ر مول??ده علي??ه الس??الم ومبعث?ه? ووفات??ه‬
‫جوام ِِع يكتفي بها العالم المستبص??ر‪ ?،‬ويتن َّبه به??ا الط??الب المسترش??د‪ ،‬وذكرن??ا ُج َمالَ‬
‫من الكوائن واألحداث في تضاعيف ذلك‪ ،‬وأفردنا هذا الب??اب ل??ذكر َل??رتيب جم??ل من‬
‫أح? دَ اث وك??وائن ك??انت في أي أم??ه ؛ ليق??رب‬ ‫الس??نين من مول??ده إلى وفات??ه‪ ،‬وجم??ل ْ‬
‫تناول ذلك على مريده‪ ،‬ؤيسهل مأخذه على الطالب له‪ ،‬وإن كنا قد أتينا على لمع‬
‫صفحة ‪390 :‬‬

‫من مبسوط هذا الباب فيما تقدمه من األبواب إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫ففي أول س??نة من مول??ده دف??ع إلى حليم??ة بنت عب??د هللا بن الح??ارث بن ش??جنة بن‬
‫ج??ابر بن رزام بن ناص??ر بن س??عد بن بك??ر بن ه??وازن بن منص??ور بن عكرم??ة بن‬
‫ص َفة بن قيس عيالن بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‪.‬‬ ‫َخ َ‬

‫وفي السنة الخامسة من مول??ده َر ًد ْت?ه حليم??ة إلى أم??ه‪ ،‬على حس?ب م?ا ذكرن?ا فيم??ا‬
‫سلف من هذا الكتاب‪.‬‬

‫وفي الس??نة السادس??ة أخرجت??ه أم??ه إلى أخوال??ه زائ??رة فت??وفيت ب??األ ْب َواء بين مك??ة‬
‫والمدينة‪ ،‬ونمي ذلك إلى أ ْي َمنَ ‪ ،‬فخرجت إليه؛ وقدمت به إلي مكة؛ وكانت موالة ل??ه‬
‫قد ورثها عن أمه ‪.‬‬
‫خروجه إلى الشام‬
‫وفي السنة التاسعة خرج مع عمه أبي طالب إلى الش??ام‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إذ خ??رج م??ع عم??ه‬
‫أبي طالب إلى الشام وله ثالث عش??رة س??نة‪ ،‬وق??د ك??ان أب??ا ط??الب أخ??ا عب??د هّللا أبي‬
‫النبي صلى هللا عليه وس??لم ألبي??ه و أم??ه ؛ فل??ذلك َك َف?ل َ ب??أمر الن??بي ص??لى هللا علي??ه‬
‫وس??لم من بين س??ائر إخوت??ه‪ -‬وهم‪ :‬العب??اس‪ ،‬وحم??زة‪ ،‬والزب??ير‪ ?،‬وحج??ل‪ ،‬والمق??وم‬
‫وضرار‪ ،‬والحارث‪ ،‬وأب??و لهب‪ -‬وهم عش??رة بن??و عب??د المطلب‪ ،‬وك??ان لعب المطلب‬
‫ستة عشر ولداً‪ :‬عشرة ذكور‪ ،‬وهم من سمينا‪ ،‬وست إناث‪ .‬وهن‪ :‬عاتكة‪ ،‬وصفية‪،‬‬
‫وأر َوى‪ ،‬ولم يسلم منهن إال صفية أم الزب??ير بن الع??وام‪،‬‬ ‫وأميمة‪ ?،‬والبيضاء‪ ،‬وبرة‪ْ ،‬‬
‫وقد تنوزع في أروى‪ :‬فمنهم من قال‪ :‬إنها أسلمت ومنهم من خالف ذلك‪.‬‬
‫?يرا ال??راهب‪،‬‬ ‫وفي خروج??ه علي??ه الس??الم م??ع عم??ه في ه??ذه الس??نة نظ??ر إلي??ه َب ِح? َ‬
‫وأوص??اهم بمراعات??ه من اليه??ود ف??إنهم أع??داؤه لعلمهم بم??ا يك??ون من نبوت ?ه? على‬
‫?ير ال??راهب وم??ا ك??ان‬ ‫حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لخ??بر َب ِح? َ‬
‫من إخباره بنبوة النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وذل??ك في ب??اب أه??ل الف??ترة ممن ك??ان‬
‫بين المسيح ومحمد عليهما السالم‪.‬‬

‫شهوده الفجار‬
‫ار‪ ،‬وذلك في سنة إحدى وعش??رين‪،‬‬ ‫وقد قدمنا أنه عليه السالم شهد يوم حرب الف َِج ِ‬
‫ب ك??انت بين ق??ريش وقيس عيالن‪ ،‬فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب وغ??يره‪،‬‬ ‫وأنها ح??ر ِ‬
‫وأنها إنما سميت بهذا االسم الذي هو الف َِجار ألنها كانت في األشهر الحرم‪ ،‬وك??انت‬
‫لقيس على قريش‪ ،‬وأن الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم لم?ا ش?اهدها ص?ارت لق?ريش‬
‫ِي‪ ،‬وك??ان نخاس?ا َ في‬‫على قيس‪ ،‬وكان على قريش يومئ??ذ عب??د هّللا بن ُج??دْ َعان ال ّت ْيم ُّ‬‫ِ‬
‫الجاهلية بياعا ً للجواري‪ ،‬وكانت ه??ذه إح??دى ال??دالئل الم??نزرة بنبوت??ه علي??ه الس??الم‬
‫والتيمن بحضوره‪.‬‬

‫صفحة ‪391 :‬‬

‫سنوات من حياته‬
‫وفي سنة ست وعشرين كان تزويجه? بخديجة بنت ُخويلد‪ ،‬وهي ومئذ بنت أربعين‪،‬‬
‫وقيل في سنها غيرهذا‪.‬‬
‫وفي سنة ست وثالثين َب َن ْت قريش الكعبة‪ ،‬وتراضت به‪ ،‬فوضع الحجر على حس??ب‬
‫ما قدمنا‪.‬‬
‫وفي سن إحدى وأربعين بعثه هّللا نبيا ً ورسوال إلى كافة الناس‪ ،‬وذل??ك ب??وم االث??نين‬
‫لعش??ر خل??ون من ربي??ع األول‪ ،‬على حس??ب تن??ازع الن??اس في ت??اريخ مبعث??ه علي??ه‬
‫السالم‪.‬‬
‫وفي سنة ست وأربعين كان حصار قريش للنبي صلى هللا عليه وسلم وب??ني هاش??م‬
‫وبني? عبد المطلب في ال ِّ‬
‫ش ْعبِ‪.‬‬
‫شعب‪.‬‬‫وفي سنة خمسين كان خروجه عليه السالم ومن تبعه من ال ِّ‬
‫وفي هذه الس??نة ك??انت وف??اة خديج??ة زوج??ه وفيه??ا ك??ان خروج??ه إلى الط??ائف على‬
‫حسب ما ذكرنا‪.‬‬
‫وفي سنة إحدى وخمسين كان اإلِسراء به صلى هللا عليه وس??لم إلى بيت المق??دس‪،‬‬
‫على حسب ما نطق به التنزيل‪.‬‬
‫وفي سنة? أربع وخمسين كانت هجرته صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬وفيها بني‬
‫صلى هللا عليه وس??لم مس??جده‪ ،‬وفيه??ا دخ??ل بعائش??ة بنت أبي بك??ر رض??ي هّللا عنه??ا‬
‫وهي ابنة تسع‪ ،‬وتزوج بها قبل الهجرة وهي بنت سبع‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن??ه تزوجه??ا وهي‬
‫بنت ست سنين‪ ،‬وبني? بها في المدينة? بعد الهجرة بسبعة أشهر‪ ،‬وقي??ل عن عائش??ة‬
‫?نة‪ ،‬وك??انت‬‫?ر َة س? ً‬
‫إن رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم قبض وهي بنت ثم??انَ عش? َ‬
‫وفاتها سنة ثمان وخمسين من الهجرة بالمدينة‪ ،‬وصلى عليها أب??و هري??رة في أي?ام‬
‫معاوية بن إلى سفيان وقد ق??اربت الس??بعين وفيه??ا أم??ر رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم باألذان‪ ،‬وأرى عبد هللا بن زيد كيفية األذان في َمنَ أم??ه ‪ ،‬وفيه??ا ك??ان ت??زوج‬
‫علي بن أبي ط??الب بفاطم??ة بنت رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم على حس??ب م??ا‬
‫ذكرنا من التنازع في التاريخ‪?.‬‬
‫وفي سنة اثنتين من الهجرة افترض على المؤمنين صوم ش??هر رمض??ان وفي ه??ذه‬
‫السنة أمر النبي صلى هللا عليه وسلم بالتوج ِه إلى الكعبة‪ ،‬وفيها توفيت ابنته ُرقي??ة‬
‫وفي آخر هذه السنة‪ -‬وهي سنة اثنتين من الهجرة‪ -‬كان دخ??ول علي بن أبى ط??الب‬
‫بفاطمة بنت رس??ول هللا ص?لى هللا علي??ه وس?لم‪ ،‬وفيه??ا ك?انت وقع??ة ب?در‪ ،‬وذل?ك في‬
‫ليلة خلت من شهر رمضان‪.‬‬ ‫الجمعة لسبع عشرة ً‬
‫وفي سنة ثالث كان تزويجه بزينب بنت ُخ َزيمة‪ ،‬وكانت وفاته??ا بع??د ش??هرين‪ ،‬وفي‬
‫هذه السنة كان تزويجه? بحفصة بنت عمر بن الخط??اب‪ ،‬وفيه??ا ك?ان ت??زويج عثم??ان‬
‫بن ع َّفان بأم كلثوم ابنة رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وفيه??ا ك??ان مول??د الحس??ن‬
‫بن علي بن أبي طالب على ما في ذلك من التنازع في الت??اريخ? وفيه??ا ك??انت غ??زوة‬
‫سنة أربع كانت غزوت??ه‬ ‫أحد‪ ،‬وفي هذه السنة استشهد حمزة بن عبد المطلب‪ .‬وفي َ‬
‫الر َقاع‪ ،‬وفي هذه الغزاة صلى صالة الخوف بالناس‪ ،‬على حسب ما‬ ‫المعروفة بذات ِّ‬
‫ذكر في كيفية ذلك التنازع‪ ،‬وفيها كان تزويجة بأم سلمة بنت أبي أمية‪ ،‬وفيها‬
‫صفحة ‪392 :‬‬

‫كانت غزوته إلى اليهود من بني ال َّنضِ ير? وامتنع??وا من??ه بحص??ونهم‪ ،‬فقطع??وا نخلهم‬
‫وشجرهم وأضرموا النار عليهم‪ ،‬فلما رأى ذلك صالحهم‪ ،‬وفيه??ا ك??انت غزوت??ه إلى‬
‫المص َط َلق‪ ،‬وفيها‪ -‬وهي سنة أربع‪ -‬كان مول??د الحس??ين بن علي بن أبي ط??الب‬ ‫ْ‬ ‫بني‬
‫رضي هّللا تعالى عنه‪ ،‬وق?د قي?ل‪ :‬إن مول?د فاطم?ة رض?ي هّللا تع?الى عنه?ا ك?ان قب?ل‬
‫الهجرة بثمان سنين‪.‬‬
‫وفي سنة خمس كانت غزوة الخندق وما ك??ان فيه??ا من حف??ر الخن??دق‪ ،‬وفيه??ا غ??زا‬
‫اليهود من بني قُ َر ْي َظة‪ ،‬وكان من أمرهم م??ا ق??د ش??هر‪ ،‬وفيه??ا ك?ان تزويج??ه ب??زينب‬
‫بنت َج ْحش‪ ،‬وفيها كان َت َق َّول ُ أهل اإلِفك على عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫وفي سنة ست كان استس??قاؤه علي??ه الس??الم لم??ا لح??ق الن??اس من الض??ر َوا ْل َج? دْ بِ‪،‬‬
‫وفيها اعتمر عمرته? المعروفة بعمرة الحديبية? وواعد المشركين‪ ،‬وفيه??ا أخ??ذ ف? َد َك‪،‬‬
‫بالرس?ل إلى كس??رى وقيص??ر‪ ،‬وك??ان‬ ‫ُ‬ ‫ووجه‬
‫َّ‬ ‫وفيها تزوج أم حبيبة بنت أبي س??فيان‪،‬‬
‫فيها أداؤه لكتابة ُج َويرية? بنت الحارث وتزويجه بها‪.‬‬
‫أخ َطب لنفس??ه‪،‬‬ ‫وفي سنة سبع غزا خي??بر فافتتحه??ا‪ ،‬واص??طفى ص??فية بنت ح َيى بن ْ‬
‫وفيها تزوج ميمونة? بنت الحارث الهاللية خالة عب??د هّللا بن عب??اس في س??فره حين‬
‫اعتمر عمرة القضاء‪ ،‬على ما ذكر من التنازع في نكاحه لها‪ ،‬أفي حال حل?ه نكحه??ا‬
‫أم في حال إحرامه ‪ .‬وما ق?ال الفقه?اء في ذل?ك‪ ،‬وتن?ازع الن?اس في نك?اح المح??رم‪،‬‬
‫وفيها ك??ان ق??دوم ح??اطب بن أبي ب ْل َتع??ة من مص??ر من عن??د المق??وقس ملكه??ا ومع??ه‬
‫مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وغ??ير ذل?ك من ه??دايا‬
‫المقوقس إليه‪ ،‬وفيها كان قدوم جعفربن أبي طالب من أرض الحبش??ة ومع??ه أوالده‬
‫وزوجته وغيرهم من المسلمين ممن كان بأرض الحبشة‪.‬‬
‫وفي سنة ثمان استشهد جعفر بن أبي طالب وزي??د بن حارث??ة وعب??د هللا بن َر َواح??ة‬
‫ب??أرض ُم ْؤت??ة من أرض ال َب ْلق??اء من أرض الش??ام وأعم??ال دمش??ق في وقعتهم م??ع‬
‫الروم‪ ،‬وفيها كانت وفاة زينب بنت رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وقي??ل‪ :‬غ??ير‬
‫ذلك من التاريخ‪?.‬‬

‫فتح مكة‬
‫وفي سنة ثمان كان افتتاح النبي صلى هللا عليه وسلم مك??ة‪ ،‬وق?د تن??ازع الن?اس في‬
‫?زى ثم ق??ال الن??بي‬ ‫فتحها‪ ،‬أصلحا ً كان أم َع ْن َو ًة؛ وفيها ُك ِّ‬
‫س َر ْت األص??نام‪َ ،‬و ُه? ِد َمت ال ُع? َّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يا معشر قريش‪ ،‬ما ترون أني فاعل بكم " ق??الوا‪ :‬خ??يرأ أ ٌ‬
‫خ‬
‫كريم‪ ،‬وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪ْ " :‬أذ َه ُبوا فأنتم ال ُّط َل َقاء"‪ ،‬وفيها غزا غ??زة ح??نين‪ ،‬وك??ان‬
‫در ْيد بن الص َمة‪ ،‬وفيها كانت غزوة الط??ائف‪،‬‬ ‫ض ِري ومعه َ‬ ‫ه ََوازن مالك بن عوف ال َّن ْ‬
‫وفيها كان إعطاؤه للمؤلفة قلوبهم وفيهم أبو سفيان صخربن حرب وابن?ه معاوي?ة‪،‬‬
‫وفيها كان مولد إبراهيم ابن رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم من مارية القبطية‪.‬‬
‫علي بن أبي‬ ‫وفي سنة تس??ع حج أب??و بك??ر الص??ديق رض??ي هّللا عن??ه بالن??اس‪ ،‬وق??رأ ّ‬
‫طالب عليهم سورة براءة‪ ،‬وأمرأن ال يحج مشرك‪ ،‬وأنه ال يط??وف ب??البيت ُع ْري??ان‪،‬‬
‫وفيها كانت وفاة أم كلثوم بنت رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫صفحة ‪393 :‬‬

‫وفي سنة عشر حج رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم حجة الوداع‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫" أال أن الزمان قد استدار كهيئته يوم َخ َل َق هّللا السموات واألرض "‬

‫وفيها كانت وفاة إبراهيم ابن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ول??ه س??نة وعش??رة‬
‫بعلي إلى‬
‫ّ‬ ‫أشهر وثمانية? أيام‪ ،‬وقيل غيم ذلك‪ ،‬وفيها كان بعثه عليه الصالة والس??الم‬
‫اليمن‪ ،‬وأحرم كإحرام النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫وفي سنة إحدى عشرة كانت وفاته صلى هللا عليه وسلم على حسب ما ق??دمنا فيم??ا‬
‫سلف من هذا الكتاب قبل هذا الباب من ذكر وفا ِت ِه ومق??دار عم??ره وم??ا قال??ه الن??اس‬
‫في ذلك‪ ،‬وفيها كانت وفاة فاطمة بنت رسول هللا صلى هللا علي??ه وس??لم على حس??ب‬
‫ما ذكرنا من تنازع الناس في مقدار عمرها ومدة بقائها بعد أبيها‪ ،‬ومن الذي صلى‬
‫العباس بن عبد المطلب أم َب ْعلُ َها علي ولما قبض??ت ج??زع عليه??ا َب ْعلُ َه??ا ّ‬
‫علي‬ ‫ُ‬ ‫عليها‪:‬‬
‫جزعأ شديداً واشتد بكاؤه وظهر أنينه وحنينه‪ ،‬وقال في ذلك‪:‬‬

‫وكل ُّالذي دون الممات قليل‬ ‫لكل اجتماع من خليلين فُ ْر َقة‬


‫دليل على أن ال يدوم خليل‬ ‫وإن افتقادي فاطما ً بعد أحمد‬

‫أوالده عليه السالم‬


‫وكل أوالده صلى هللا عليه وسلم من خديج??ة خال إب??راهيم‪ :‬ول??د ل??ه ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم‪ :‬القاسم‪ ،‬وبه كان يكنى‪ ،‬وكان أكبر بنيه س ّناً‪ ،‬ورقية وام كلثوم‪ ،‬وكانت??ا تحت‬
‫ُعتبة وعتيبة? ابني أبي َلهب عمه فطل َقاهما لخبر يطول ذكره‪ ،‬فتزوجهما عثم??ان بن‬
‫عفان واحدة بعد وحدة‪ ،‬وزينب‪ ،‬وكانت تحت أبي العاص بن الربيع‪ ،‬وفرق اإلِسالم‬
‫بينهما‪ ،‬ثم أسلم فردها عليه بالنك??اح األول‪ ،‬وه??ذا موض??ع خالف بين أه??ل العلم في‬
‫كيفية رده عليه الصالة والسالم ل??زينب على أبي الع??اص‪ ،‬وول??دت من أبي الع??اص‬
‫علي بعد موت فاطمة عليهم السالم‪.‬‬
‫امامة‪ ،‬وتزوجها ّ‬

‫و ولد له عليه الصالة والسالم بعد م?ا بعث عب? ُد هّللا وه?و الطيب والط?اهر‪ ،‬الثالث?ة‬
‫األسماء له ألنه ولد في اإلِسالم‪ ،‬وفاطمة‪ ،‬وإبراهيم‪.‬‬

‫وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان والكت??اب األوس??ط على م??ا ك??ان في س??ن ٍة س??نه من‬
‫مولده عليه الصالة والسالم إلى مبعثه‪ ،‬ومن مبعث??ه إلى هجرت??ه‪ ،‬ومن هجرت??ه إلى‬
‫وفاته‪ ،‬ومن وفاته إلى وقتنا هذا‪ -‬وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة‪ -‬وم??ا ك??ان في‬
‫س َرايا والبعوث والطرائق واألح??داث‪ ،‬وإنم??ا ن??ذكر في‬ ‫ذلك من المغازي والفتوح َوال َّ‬
‫ه??ذا الكت?اب لمع?ا ً منبهين‪ -‬ب??ذلك على م?ا س?لف من كتبن??ا‪ ،‬وم??ذكرين لم?ا تق?دم من‬
‫تصنيفنا‪ ،‬وباهّلل التوفيق‪.‬‬

‫صفحة ‪394 :‬‬

‫ذكر ما بدأ به عليه الصالة والسالم من الكالم‬


‫مما لم يحفظ قبله عن أحد من األنام‬
‫هّللا‬
‫ق??ال أب??و الحس??ن علي بن الحس??ين بن علي بن عب??د المس??عودي‪ :‬بعث هللا نبي??ه‬
‫صلى هللا عليه وسلم رحمة للعالمين‪ ،‬ومبشراً للن??اس أجمعين‪ ،‬وقرن??ه هللا باالي??ات‪،‬‬
‫وال??براهين الن??يرات‪ ،‬وأتى ب??القرآن المعج??زة؛ فتح?? َّدى ب??ه قوم??ا ً وهم الغاي??ة في‬
‫الفص??احة‪ ،‬والنهاي??ة في البالغ??ة‪ ،‬واول??و العلم باللغ??ة والمعرف??ة ب??أنواع الكالم من‬
‫الرسائل والخطب والسجع وال ُمق َّفى والمنثور والمنظوم واألش??عار في المك??أرم وفي‬
‫الحث والزجر والتحضيض واإلِغراء والوعد والوعيد والمدح والتهجين‪َ ،‬ف َق? َ‬
‫?ر َع ب?ه‬
‫س ? َّفه ب??ه أحألمهم‬‫أسماعهم‪ ،‬وأعجز به أذهانهم َوق َّبح به أفعالهم‪ ،‬وذم به آراءهم َو َ‬
‫مع تظاهرهم أن ال يأتوا‬ ‫عجزهم ِ‬
‫ِ‬ ‫وأزال به دياناتهم‪ ،‬وأبطل به سنتهم‪ ،‬ثم أخبر عن‬
‫بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‪ ،‬مع كونه عربئا َ مبيناَ‪?.‬‬
‫وقد تنازع الناس في نظ َم القرآن وإعجازه‪ ،‬وليس الغرض من ه??ذا الكت??اب وص??ف‬
‫أقاويل المختلفين‪ ،‬واإلِخبار عن كالم المتنازعين؛إذ كان كت??اب خ??بر‪ ،‬ال كت??اب بحث‬
‫ونظر‪.‬‬

‫آتاه هّللا الحكمة‬


‫ثبت عنه عليه الصالة والسالم بالعلم الموروث‪ ،‬ونقل إلينا الباقي عن الماض??ي من‬
‫بع??د قي??ام األدل??ة على ص??دقه‪ ،‬وم??ا أورد من المعج??زات وال??دالئل والعالم??ات ال??تي‬
‫أظهرها هللا على يديه ليؤدي رساالت ربه ألى خلقه‪ -‬أنه قال‪ :‬أوتيت جوام??ع الكلم‪،‬‬
‫اخ ُت ِ‬
‫ص?? َر لي الكالم‪ ،‬مخ??براً عم??ا أوتي??ه? من الحكم??ة والبي??ان غ??ير الق??رآن‬ ‫وق??ال‪ْ :‬‬
‫المعجزة‪ ،‬وهو ما أوتي عليه الصالة والسالم من الحكم??ة والنط??ق اليس??ير‪ ،‬والكالم‬
‫القصير المفيد للمع?اني الكث?يرة والوج?وه المتفرق?ة م?ع م?ا في?ه من الحكم?ة وتم?ام‬
‫المصلحة‪.‬‬
‫وأو َج َزه؛لقلة ألفاظه وكثرة معانيه‪.‬‬
‫سنَ المقال ْ‬ ‫أح َ‬
‫وكان كألمه صلى هللا عليه وسلم ْ‬

‫من موجز كألمه‬


‫فمن ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم عند َع ْرضِ ه لنفسه على القبائل بمكة ومعه أب??و‬
‫بكر وعلي ووقوفه على بكر بن وائل‪ ،‬وتقدم أبي بكر إليهم‪ ،‬وم??ا ج??رى بين ?ه? وبين‬
‫دغفل من الكالم في النسب "البالء ُم َو َّكل ٌ بالمنطق " وهذا مما َ‬
‫س َب َق إليه من الكالم‬
‫ولم يصف إلى غيره من األنام‪.‬‬

‫ثم إخب??اره عن الح??رب وقول??ه "الح??رب ُخدْ َع? ة " فعلم به??ذا اللف??ظ اليس??ير? والكالم‬
‫الوجيز أن آخر مكايد الحرب القتال بالسيف؛ إذ كان ب??دؤها خدع??ة‪ ،‬كم??ا ق??ال علي??ه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وهذا يعرفه كل في رأي صحيح وفي رياسة وسياسة‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬العائد في هبته كالعائد في َق ْيئِه " زاجراً بهذا الق??ول لل??واهب أن يس??ترجع‬
‫شيئا ً وهبه؛إذا كان الذيء ال يرجع فيه َمنْ قاءه‪.‬‬

‫صفحة ‪395 :‬‬

‫وللناس في هذا المعنى كالم كثير وخطب طويلة‪ ،‬وإنما الغرض فيما نذكر إيراد ك??ل‬
‫أمه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ووصف قوله الذي لم يتقدمه? به أحد"من الناس‪.‬‬
‫"اح ُثوا في وجوه ال َمدَّ احين التراب " المراد من ذل??ك إذا َك? َذ َب الم??ادح‪ ،‬ولم‬
‫وقوله‪ْ :‬‬
‫ُي ِردْ عليه السالم إذا شكر اإلنسان غيره بما أواله أو وصفه بما هو فيه أو قال ماله‬
‫أن يقول أن ُي ْح َثى في وجهه التراب‪ ،‬ولو كان هذا معنى قوله صلى هللا عليه وس??لم‬
‫إذاً ما َمدح أحد أح??داً؛إذ ك??ان ه??ذا النهي عموم?ا ً للص??ادق والك??اذب‪ ،‬وأن يح??ثى في‬
‫وجه الجميع التراب‪ ،‬وهذا خالف ما جاء ب??ه التنزي??ل حيث يق??ول ع??ز وج??ل مخ??براً‬
‫أج َع ْلنِي على خ??زائن األرض إني حفي??ظ عليم" فق??د‬ ‫عن نبيه? يوسف وقوله للملك‪ْ ":‬‬
‫مدح نفسه ووصف حاله‪.‬‬
‫وجميع ما يذكر في هذا الباب مستفيض? في السير واألخبار متع??ارف عن??د العلم??اء‪،‬‬
‫متداول بين الحكماء‪ ،‬يتمث?ل? ب??ه كث??ير من الن?اس‪ ،‬وتس??تعمل الع??وام كث??يراً من??ه في‬
‫ألفاظها‪ ،.‬و ُتورده في أمثالها وخطاباتها‪ ،‬واألكثر منهم ال يعلم أن رس??ول هللا ص??لى‬
‫س َبق إلى إيرده‪.‬‬‫هللا عليه وسلم أول من تكلم به‪ ،‬و َ‬
‫اتبع على مليء فليتب??ع‪ ،‬وقول??ه‪:‬‬ ‫وقال عليه الصالة والسالم‪َ :‬م ْطل الغني ظلم‪ ،‬ومن َ‬
‫األرواح جن??ود مجن??دة؛ فم??ا تع??ارف منه??ا ائتل??ف‪ ،‬وم??ا تن??اكر منه??ا اختل??ف‪ ،‬رأس‬
‫الحكم??ة معرف??ة هللا‪ .‬ي??ا َخ ْي? ل َ هللا ارك??بي وأبش??ري? بالجن??ة‪ .‬االن َحمِي ال??وطيس‪ .‬ال‬
‫ان‪ .‬ال ُي ْل َدغ المؤمن من جحر مرتين‪ ?.‬ال يج??ني على الم??رء إال ي??ده‪.‬‬ ‫ينتطح? فيها َع ْن َز ِ‬
‫ليس الخبر كالمعاينة‪ .‬الشديد من غلب نفسه بورك ألمتي في ُب ُكورها‪ .‬ساقي الق??وم‬
‫آخرهم شرباً‪ .‬المجالس باألمانات‪ .‬لو َب َغى جبل على جبل ل? ُد َّك الب??اغي منهم??ا‪ ،‬أب??دأ‬
‫ف أنفه أل يري??د ب??ذلك ال َف ْج? أة وأن??ه م??ات من غ??ير عل??ة وال ح? ٍ‬
‫?ال‬ ‫بمن تعول مات َح ْت َ‬
‫أوجبت وال سبب من أسباب الموت تق??دمت‪ ،‬ال ت??زال أم??تي بخ??ير م??ا لم ت??ر األمان??ة‬
‫والزكاة مغرماً‪ .‬قي?دوا العلم بالكتاب?ة‪ .‬خ?ير الم?ال عين س?اهرة لعين نائم?ة‪ ?.‬المس?لم‬
‫م ِْرآة المسلم رحم هللا من قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فسلم‪ .‬المرء كثير بأخيه‪.‬‬
‫الي??د العلي??ا خ??ير من الي??د الس??فلى‪ .‬ت??رك الش??ر ص??دقة‪ .‬فض??ل العلم خ??ير من فض??ل‬
‫العبادة‪ .‬ال ِغ َنى غنى النفس‪.‬‬
‫األعمال بالنيات‪ .‬أي أداء أدوأ من البخل‪ .‬الحياء خير كله الخي??ل معق??ود بنواص??يه? ا‬
‫كأخ ٍذ باليد‪ .‬إن من الش??عر لحكم??ة ومن‬ ‫الخير‪ .‬السعيد من ُو ِع َظ بغيره‪ .‬عِ دَ ةُ المؤمن ْ‬
‫البي??ان لس??حراً‪ .‬عف??و المل??وك بق??اء للمل??ك‪ْ .‬ار َح ْم من في األرض يرحم??ك من في‬
‫السماء‪ .‬المكر والخديعة في النار‪ .‬المرء م??ع من أحب‪ ،‬ول??ه م??ا أكتس??ب‪ .‬ليس من??ا‬
‫من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا‪ .‬المستشار مؤتمن‪ .‬من قُتِل َدون ماله فهو‬
‫شهيد‪ .‬ال يحل لمؤمن أن يهج??ر أخ??اه ف??وق ثالث‪ .‬ال??دال على الخ??ير كفاعل??ه‪ .‬الن??دم‬
‫هللا من ال يش??كر‬‫توبة‪ .‬الولد للفراش وللعاهر الحجر‪ .‬كل معروف ص??دقة‪ .‬ال يش??كر ّ‬
‫الس? َفر قطع??ة من‬‫?يء ُيعمي ويص??م‪َّ ،‬‬ ‫?ؤوي الض??الة إال ض??ال‪ ،‬حب??ك الش? َ‬ ‫الن??اس‪ .‬ال ي? ِ‬
‫?زع‪ ،‬وقول??ه‪:‬‬‫العذاب‪ ،‬وقوله لألنص??ار‪ :‬إنكم لتقل??ونَ عن??د الطم??ع وتك??ثرون عن??د الف? ِ‬
‫أح? ل َّ حرام?ا ً أو َح? َّرم حالال‪ .‬الرج??ل أح?ق بص?در‬‫المسلمون عند شروطهم إال شرطا ً َ‬
‫مجلسه وص??در دابت??ه‪ .‬الن??اس مع??ادن كمع??ادن ال??ذهب والفض??ة‪ .‬الظلم ظلم??ات ي??وم‬
‫ت النفوس على حب من أحسن إليها‪.‬‬ ‫القيامة‪ ?.‬تمام التحية المصافحة‪ُ .‬ج ِب َل ِ‬
‫صفحة ‪396 :‬‬

‫أمن??ك من أعتب??ك‪ .‬م??ا نقص م??ال من ص??دقة‪ .‬الت??ائب من ال??ذنب كمن ال َذ ْن َب ل??ه‪.‬‬
‫الشاهد يرى م??ا ال ي??رى الغ?ائب‪ .،‬خ??ذ حق?ك في َع َف?اف‪.‬واف أو غ??ير واف‪ .‬أعط??وا‬
‫األجير أجرت??ه قب??ل أن يج??ف عرق??ه‪ .‬أه??ل المع??روف في ال??دنيا أه??ل المع??روف ي??وم‬
‫القيامة‪ ?.‬الجنة تحت ظالل السيوف‪ .‬ليس بمؤمن من خاف جا ُرهُ َب َوا ِئ َقه اتق??وا الن??ار‬
‫صدَ قة‪ .‬ال خير ل??ك في‬ ‫أع ُروا النساء يلزمن الحجاب‪ .‬الكل َمة الطيبة َ‬ ‫ولو بشق تمرة‪ْ .‬‬
‫صحبة َمنْ ال يرى لك مثل ما يرى لنفس?ه‪ ?.‬ال?دنيا س??جن الم??ؤمن وجن??ة الك?افر‪ .‬م?ا‬
‫دق‪ .‬ال??دعا ُء س??الح الم??ؤمن‪ .‬خ??يراألمور أوس??طها‪ .‬إذا أت??اكم الزائ??ر‬ ‫أم َل َق ت??اجر َ‬
‫ص? َ‬ ‫ْ‬
‫فأكرموه‪ .‬اشفعوا تحمدوا أو ت??ؤجروا‪ .‬اإليم??ان الص??بر والس??ماحة آ َفض??لكم أفض??لكم‬
‫ورة‪ .‬ما َعال َ امرؤ اقتصد‪ .‬ما هلك امرؤ ع??رف ق??دره‪.‬‬ ‫ش َ‬‫معرفة‪ .‬ما هلك امرؤ عن َم ُ‬
‫شر العمى عمى القلب‪ .‬الكذب مجانب لإليمان‪ .‬م??ا َق?ل َّ وكفى خ??ير مم??ا ك??ثر وألهى‪.‬‬
‫?اء كف??ر‪ .‬المؤمن??ون َه ْي ُن??ون َل ْي ُن??ون‪ .‬ش??ر الندام??ة ي??وم‬ ‫من أث??نى فق??د كفى قل??ة الحي? ِ‬
‫?رات الك??رام‪ .‬اطلب??وا الخ??ير عن??د ِ‬
‫ص? َباح‬ ‫القيامة‪ ?.‬شر المعذرة عند الموت‪ .‬أقِيلُوا َع َث? َ‬
‫الوجوه‪ .‬الدنيا ُح ْلوة َخضِ رة‪ ،‬وإن هللا مس?تعملكم فيه?ا ينظ?ر كي?ف تعمل?ون‪ .‬انتظ?ار‬
‫الفرج عبادة‪ .‬كادت الفاقة أن تكون كفراً‪ .‬لم يبق من ال??دنيا إال َ‬
‫بالء وفتن??ة‪ .‬في ك??ل‬
‫عام ترذل??ون‪ُ .‬ز ْر غ ّب? ا ً ت??زد ح ّب? اً‪ .‬الص??حة والف??راغ نعمت??ان َم ْغ ُب??ون فيهم??ا كث??ير من‬
‫الناس‪ ،‬أو قال‪ :‬جميع الناس‪،‬‬

‫وقوله‪:‬‬
‫ال يلقى هللا أحد إال ناعماً‪ .‬من عمل خيراً قال يا ليتني أزدت‪ ،‬ومن عمل غ??ير ذل??ك‬
‫قال يا ليتني? قصرت‪،‬‬

‫وهذا مثل قوله‪:‬‬


‫إياكم والتسويف وطول َ األ َمل؛ فإنه كان سببا ً لهالك االمم‪.‬‬

‫وقوله‪:‬‬
‫ش َنا‪ ،‬وهذا القول يحتمل معاني كثيرة‪ :‬منها أن يكون إخباراً أن من‬ ‫ليس منا من َغ َ‬
‫غش المس??لمين على حس??ب الح??ال في ال??وقت أن بعض أه??ل الكت??اب أو المن??افقين‬
‫أخ??بر عن??ه بم??ا ك??ان من فعل??ه‪ ،‬ويحتم??ل أن يك??ون على طري??ق الزج??ر والنهي عن‬
‫الغش‪ ،‬وقد قيل غير ذل?ك‪ ،‬وهللا أعلم‪ ،‬مث?ل م??ا َر َوى عن??ه أب?و مس?عود الب?دري أن?ه‬
‫قال‪ :‬ال يبقى على وجه األرض بعد مائة أح ٌد إال مات‪ ،‬فاستفاضت هذه الرواي??ة عن‬
‫أبي مسعود عن النبي صلى هللا عليه وس??لم‪ ،‬فج??زع األك??ثر‪ ،‬فأفض??ى ذل??ك إلى علي‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬فقال‪ :‬صدق أبو مسعود فيما قال‪ ،‬وذهب عن??ه الم??راد ب??ذلك‪ ،‬وإنم??ا‬
‫مراد النبي صلى هللا عليه وسلم أن ال يبقى على وج?ه األرض أح?د بع?د رأس مائ?ة‬
‫ممن رأى الن??يي ص??لى هللا علي??ه وس??لم إال م??ات وقول??ه‪ :‬اس??تعينوا على أم??وركم‬
‫بالكتمان‪ ،‬وعلى قضاء حوائجكم باإلسرار‪.‬‬

‫صفحة ‪397 :‬‬

‫ذكر بعض من جمع موجز أقوال الرسول‬


‫عليه الصالة والسالم‬
‫قال المسعودي‪ :‬وق??د جم??ع كث??ير ممن تق??دم وممن ش??اهدناه كث??يراً من ألف?اظ الن??بي‬
‫صلى هللا عليه وسلم فأوردوه??ا في كتبهم‪ ،‬وذكروه??ا في تص??نيفهم‪ ،‬وق??د أف??رد أب??و‬
‫بكر محم ُد بن الحسن بن دريد لذلك كتابا ً ترجم ُ?ه بكتاب المجتبى يذ ُكر في??ه جمالً من‬
‫ألفاظه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكذلك ذكر أبو إسحاق الزجاجي النحوي ص??احب آبي‬
‫العباس المبرد‪ ،‬وأبو عبد هّللا ِن ْف َطويه‪ ،‬وجعفربن محمد بن حمدان الموصلي‪ ،‬وغير‬
‫هؤالء ممن ت َقدمهم وتأخر عنهم‪ ،‬أوردنا من ذل??ك في ه??ذا الكت??اب م??ا س??هل إي??راده‬
‫وتأتى لنا ذكره‪ ،‬على حسب الحاجة إليه واستحقاق الموضع ل??ه‪ ،‬وإن ُكن??ا ق??د أتين??ا‬
‫على جميع ما يحتاج إليه في هذه المعاني فيما سلف من ُكتبن??ا وتق??دم من تص??نيفنا‬
‫فأغنى ذلك عن إعادتها‪ ،‬وهّللا تعالى ولي التوفيق‪.‬‬
‫ذكر خالفة أبي بكر الصديق‬
‫رضي هّللا تعالى عنه‬

‫جماع تاريخه‬

‫الناس أبا بكر الصديق رض??ي هّللا تع??الى عن??ه‪ ،-‬في س??قيفة‬‫ُ‬ ‫قال المسعودي‪ :‬ثم با َي َع‬
‫ِّ‬
‫بني ساعدة بن كعب بن الخزرج األنصاري‪ ،‬في يوم األثنين الذي توف َي في?ه رس?ول‬
‫هللا صلى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وت??وفي أب??و بك??ر ليل??ة الثالث??اء لثم??ان بقين من جم??اعي‬
‫عشر َة من الهجرة‪ ،‬وهو ابن ثالث وس??تين س??نة‪ ،‬مس??توفيا ً لعم??ر‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ثالث‬ ‫األخرة سنة‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهذا اتفاق في س??ائر الرواي??ات على م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وك??ان‬
‫مولد أبي بكر بعد الفيل بثالث سنين‪ ،‬وكانت واليت?ه س?نتين وثالث?ة أش?هر وعش?رة‬
‫أيام‪ ،‬ودفن إلى جنب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على كتف رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬كذلك قالت عائشة‪،‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن أبا بكر كانت خالفته سنتين وثالثة أشهر وعش??رين يوم?اًً‪ ،-‬وس??نذ ُكر‬
‫فيما يرد من هذا الكتاب جمالً من أيأمهم ومق??ادير واليتهم‪ ،‬وك??ذلك نف??رد بيم??ا ي??رد‬
‫في هذا الكتاب‪ -‬بعد ذكرنا أليام بني امية وبني? العباس‪ -‬بابا ً نذ ُكر فيه جامع التاريخ‬
‫الثاني من الهجرة إلى هذا الوقت‪ -‬وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة‪ ?-‬في خالف??ة‬
‫أبي إسحاق المتقي هّلل ‪ ،‬أو بعد ذلك من األوقات إلى حيث ينتهي بنا التص??نيف‪ ?،‬وم??ا‬
‫أر ُخوه في مقادير السنين والشهور واألي??ام‬ ‫ذكره أصحاب الزيجات في النجوم‪ ،‬وما َّ‬
‫والخالف بينهم وبين تاريخ أصحاب السير واألخب??ار وكتب الت??اريخ? من األخب??اريين‬
‫وغيرهم؛إذ كان التفاوت بين الفريقين ب ِّيناً‪ ،‬و ُم َع ّولنا في ذلك على ما ذك?ره أص?حاب‬
‫الزيجات‪.‬‬

‫صفحة ‪398 :‬‬

‫ذكر نسبه ولمع من أخباره وسيره‬


‫كان اسم أبي بكر رضي هّللا عنه عبد هّللا بن عثمان‪ -‬وهو أب??و قُ َحاف??ة‪ -‬بن ع??امربن‬
‫هللا ص??لى‬‫عمروبن كعب بن سعد بن َت ْيم بن ُم ّرة بن كعب‪ ،‬وفي مرة يجتمع برسول? ّ‬
‫هللا ص?لى هللا علي?ه وس?لم إي?اه أن?ه‬
‫هللا عليه وس?لم‪ ،‬ولقب?ه َع? تيق؛ لبش?ارة رس?ول ّ‬
‫عتيق هّللا من النار‪ ،‬فسمي يومئذ عتيقا ً وهو الصحيح وقيل‪ :‬إنما سمي عتيقا ً لعت??ق‬
‫واس ُت ْخلف وأبوه في الحياة‪.‬‬
‫أمهاته‪ْ ،‬‬

‫صفاته‬
‫وك??ا ْأز َه? َد الن??اس‪ ،‬وأك??ثرهم تواض??عا ً في أخالق??ه ولباس??ه ومطعم??ه ومش??ربه? ك??ان‬
‫لبسهفيخالفته الشملة‪ ،‬العباءة وق??د َم إلي??ه زعم??اء الع??رب وأش??رافهم ومل??وك اليمن‬
‫وعليهم ا ْل ُح َلل َوا ْلحِبر وب??رود ا ْل َو ْ‬
‫ش?ي المثق??ل بال??ذهب والتيج??ان‪ ،‬فلم??ا ش??اهدوا م??ا‬
‫عليه من اللب??اس والزه??د والتواض??ع والنس??ك‪ ،‬وم??ا ه??و علي??ه من الوق??ار والهيب??ة‬
‫ذهبوا َم ْنذهبه ونزعوا ماكان عليهم‪.‬‬

‫وفود العرب إليه‬


‫وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذوالكالع ملك حمير‪ ،‬ومعه ألف عبد دون من‬
‫كان معه من عشيرته‪ ،‬وعليه التاج وما وصفنا من البرود وال ُح َلل‪ ،‬فلم??ا ش??اهد من‬
‫أبي بكر ما وصفنا ألقى ما كان عليه َو َت َز َّيا ِب ِز ِّيه‪ ،‬حتى إنه رؤي يوما ً في سوق من‬
‫أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة‪ ،‬ففزعت عشيرته? لذلك وقالوا ل??ه‪ :‬ق??د فض??حتنا‬
‫بين المه??اجرين واألنص??ار‪ ،‬ق??ال‪ :‬أف??أردتم م??ني أن أك??ون ملك?ا ً جب??اراً في الجاهلي??ة‬
‫جباراً في اإلسالم‪ ،‬الها ً هللا‪ ،‬ال تكون طاعة ال?رب إال بالتواض?ع هّلل والزه?د في ه?ذه‬
‫ال??دنيا‪ ،‬وتواض??عت المل??وك و َمنْ ورد علي??ه من الوف??ود بع??د التك??بر‪ ،‬وت??ذللوا بع??د‬
‫التجبر‪.‬‬

‫بين أبي بكر وأبي سفيان‬


‫وبلغ أبا بكررض??ي هّللا عن??ه عن أبي س??فيان ص??خربن ح??رب أ ْم? ر‪ ،‬فأحض??ره وأقب??ل‬
‫يصيح? عليه‪ ،‬وأبو سفيان يتملَّق?ه ويت?ذلل ل?ه‪ ،‬وأقب?ل أب?و ُق َحاف?ة فس?مع ص?ياح أبي‬
‫بكر‪ ،‬فقال لقائده‪:‬‬
‫َع َلى َمنْ يصيح ابني‪?.‬‬
‫فقال له‪ :‬على أبي سفيان‪،‬‬
‫فدنا من أبي بكر وقال له‪:‬‬
‫?ع ص??وتك ي??ا ع??تيق هّللا ‪ .‬وق??د ك??ان ب??األمس س??يد ق??ريش في‬ ‫أع َلى أبي سفيان ترف? ِ‬ ‫َ‬
‫الجاهلية لقد تعدَّ ْيت َط ْو َر َك َو ُج ْز َت مقدارك‬
‫فتبسم أبو بكر ومن حضره من المهاجرين واألنصار‪،‬‬
‫وقال له‪:‬‬
‫يا أبت‪ ،‬إن قد رفع باإلِسالم قوما ً وأذل َّ به آخرين‪.‬‬ ‫هّللا‬
‫باق غير أبي بكر‪.‬‬ ‫ولم يتقلَّدْ أحد الخالفة وأبوه ً‬
‫صفحة ‪399 :‬‬

‫وام أبي بكر سلمى‪ -‬وتكنى‪ :‬أم الخير‪ -‬بنت صخر بن عم??رو بن ع??امر ابن كعب بن‬
‫سعد بن َت ْيم بن مرة‪.‬‬

‫وارتدت العرب بعد استخالفه بعشرة أيام‪.‬‬

‫أوالده‬
‫وكان له من الولد‪ :‬عبد هّللا ‪ ،‬وعبد الرحمن‪ ،‬ومحمد‪ ،‬فأم??ا عب??د هّللا فإن??ه ش??هد ي??وم‬
‫الطائف مع النبي صلى هللا علي??ه وس??لم فلحقت??ه جراح??ة وبقي إلى خالف??ة أبي??ه أبي‬
‫وخ َلف س??بعة دن??انير‪ ،‬فاس??تكثرها أب??و بك??ر‪ ،‬وال عقب لعب??د‬
‫بكر‪ ،‬ومات في خالفته‪َ ،‬‬
‫المشركين‪ ،‬ثم أسلم فحسن‬
‫ِ‬ ‫هّللا ؛وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه شهد يوم بدر مع‬
‫أسألمه ‪ ،‬ولعبد الرحمن أخبار‪ ،‬وله عقب كثير بدر و َحضر في ناحية الحج??از مم??ا‬
‫يلي الجادة من طريق العراق في الموضع المعروف بالصفينيات والمس??ح‪ ?،‬ومحم??د‬
‫بن أبي بكر‪ ،‬أمه أسماء بنت عميس الخثعمي??ة‪ ?،‬ومنه??ا عقب جعف??ر بن أبي ط??الب‪،‬‬
‫ف عليها حين استشهد عبد هّللا وعونا ومحمدا بني جعفر‪ ،‬فقت??ل ع??ون ومحم??د‬ ‫وخ َل َ‬
‫َ‬
‫ِب جعف??ر عن عب??د هّللا‬ ‫ابنا جعفر ّ‬
‫بالطف مع الحس??ين بن علي‪ ،‬وال عقب لهم??ا‪َ ،‬و َعق ُ‬
‫?ماعيل وإس??حاق ومعاوي??ة‪ ،‬وتزوجه??ا‬ ‫ِ‬ ‫بن جعفر‪ ،‬وولد لعبد هّللا بن جعفر‪ :‬علي وإس?‬
‫بعده أبو بكر الصديق‪ ،‬فخلف منها محمداَ‪ ،‬ثم تزوجه??ا على بن أبي ط??الب فأول??دها‬
‫در ُجوا‪ ،‬وال عقب له منها وأم أسماء العجوز الحريشية? كان لها أرب??ع بن??ات‪،‬‬ ‫أوالداً َ‬
‫وهذه العجوز أكثر الناس أصهاراً‪ ،‬كانت ميمونة الهاللية تحت النبي صلى هللا عليه‬
‫وس??لم‪ ،‬وأم الفض??ل تحت العب??اس بن عب??د المطلب‪ ،‬وس??لمى تحت حم??زة بن عب??د‬
‫المطلب‪ ،‬وخل??ف منه??ا بنت ?اً‪ ،‬وأس??ماء تحت من ذكرن??ا من جعف??ر وأبي بك??ر وعلي‪،‬‬
‫والعقب من محمد بن أبي بك??ر قلي??ل‪ ،‬وأم جعف??ر بن محم??د بن علي بن الحس??ين بن‬
‫علي بن أبي علي بن أبي ط????الب أم ف????روة بنت القاس????م بن محم????د بن أبي بك????ر‬
‫الصديق‪.‬‬

‫ور َّباه علي بن أبي‬


‫وك??ان محم??د بن أبي بك??ر ي??دعي عاب??د ق??ريش لنس??كه وزه??ده‪َ ،‬‬
‫طالب‪ ،‬وسنذكر خبره فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب ومقتل??ه في أخب??ار معاوي??ة بن أبي‬
‫سفيان‪.‬‬

‫موت أبي قحافة‬


‫هّللا‬
‫ومات أبو قُ َحافة في خالفة عمر بن الخطاب رض??ي تع??الى عن??ه وه??و ابن تس??ع‬
‫وتسعين سنة‪ ،‬وذلك في سنة ثالث عشرة من الهجرة‪ ،‬وهي الس??نة ال??تي اس??تخلف‬
‫فيها عمر بن الخطاب رضي هّللا عنه‪،‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إنه مات في سنة أربعة عشرة‪.‬‬

‫صفحة ‪400 :‬‬

‫يوم السقيفة‬
‫السقيفة وجددت البيعة له يوم الثالثاء على العامة خرج‬ ‫ولما بويع أبو بكر في يوم َّ‬
‫علي فقال‪ :‬أفسدت علينا أمورنا‪ ،‬ولم تستشر‪ ،‬ولم َت ْر َع لنا حقأ‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬بلى‪،‬‬
‫الس ?قيفة خطب طوي??ل‪،‬‬‫ولك??ني خش??يت الفتن??ة‪ ،‬وك??ان المه??اجرين واألنص??ار ي??وم َّ‬
‫ومجاذبة في اإلمامة‪ ،‬وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع‪ ،‬فصار إلى الشام‪ ،‬فقتل هناك‬
‫في سنة خمس عشرة‪ ،‬وليس كتابنا هذا موض??عا ً لخ??بر مقتل??ه‪ ،‬ولم يبايع??ه أح??د من‬
‫بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي هّللا عنها‪.‬‬

‫عدي بن حاتم الطائي‬


‫ولما ارتدت العرب إال أهل المسجدين‪َ ،‬و َمنْ بينهما وأُناسا ً من العرب؛قدم ع??دي بن‬
‫حاتم بإبل الصدقة إلى أبي بكر رض??ي هّللا تع??الى عن??ه‪ ،‬ففي ذل??ك يق??ول الح??ارث بن‬
‫عدي بن حاتم‬
‫ُّ‬ ‫مالك الطائي‪َ :‬و َف ْي َنا وفاء لم َي َرال َّناس مثلـه َو َ‬
‫س ْر َب َل َنا مجداً‬
‫علته‬
‫وكان أبو بكر رض??ي هّللا عن??ه ق??د ً‬
‫س? ّمته? اليه??ود في ش??يء من الطع??ام‪ ،‬وأك??ل مع??ه‬
‫الحارث بن َكلدَ ة فعمي‪ ،‬وكان السم لسنة‪ ،‬ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عش??ر‬
‫يوماً‪.‬‬

‫كالم له‬
‫آس?ى على ش?يء إال على ثالث فعلته?ا وع?ددت أني تركته?ا‪،‬‬ ‫اح ُتضِ َر ق?ال‪ :‬م?ا َ‬
‫ولما ْ‬
‫وثالث تركتها وددت أني فعلتها‪ ،‬وثالث وددت إني سألت رسول هللا صلى هللا علي??ه‬
‫وسلم عنها؛فأما الثالث التي فعلتها‪ ،‬ووددت أني تركتها ف??وددت أني لم أكن فتش??ت‬
‫بيت فاطمة‪ ،‬وذكر في ذلك كالما ً كثيراً‪ ،‬ووددت أني لم أكن حرقت الفُ َجاءة وأطلقت??ه‬
‫ت األم??ر في عن??ق‬ ‫نجيحا ً أو قتلته صريحاً‪ ،‬وددت أني يوم س??قيفة ب??ني س??اعدة َق? َ?ذ ْف ُ‬
‫أحد الرجلين فكان أميراً وكنت وزيراً‪ ،‬والثالث التي تركتها وددت أني فعلتها وددت‬
‫أني يوم أتيت باألشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه‪ ،‬فإنه ق??د خي??ل لي أن??ه ال ي??رى‬
‫ش ? ّراً إال أعان??ه‪ ،‬وددت أني كنت ق??د ق??ذفت المش??رق بعم??ر بن الخط??اب‪ ،‬فكنت ق??د‬ ‫َ‬
‫?زت جيش ال??ردة ورجعت‬ ‫بسطت يميني وشمالي في س??بيل? هّللا ‪ ،‬وددت أني ي??وم ج َه? ْ‬
‫أقمت مكاني فإن سلم المس?لمون س?لموا‪ ،‬وإن ك?ان غ?ير ذل?ك كنت ص?در اللق?اء أو‬
‫َمدَ داً‪ ،‬وك??ان أب??و بك??ر ق??د بل??غ م??ع الجيش إلى مرحل??ة من المدين??ة‪ ،‬وه??و الموض??ع‬
‫هللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫المعروف بذى القص??ة‪ ،‬والثالث ال??تي وددت أني س??ألت رس??ول ّ‬
‫وسلم عنها وددت أني كنت سألته في َمنْ هذا األمر؛ فال ين??ازع األم??ر أهل??ه‪ ،‬وددت‬
‫أني س??ألته عن م??يراث العم??ة وبنت األخ ف??إن بنفس??ي منهم??ا حاج??ة‪ ،‬ووددت أني‬
‫سألته هل لألنصار في هذا األمر نصيب فنعطيهم إياه‪.‬‬

‫صفحة ‪401 :‬‬

‫بناته‬
‫وخلف من البنات‪ :‬أسماء ذات ال ِّن َطاقين‪ ،‬وهي أم عبد هّللا بن الزبير‪ ?،‬وعمرت مائ??ة‬
‫سنة حتى عميت‪ ،‬وعائشة زوج النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫بيعة علي إياه‬


‫وقد تنوزع في بيعة علي بن أبي طالب إياه‪ :‬فمنهم من قال‪ :‬بايعه بعد موت فاطم??ة‬
‫بعشرة أيام‪ ،‬وذلك بعد وفاة النبي صلى هللا عليه وسلم بنيف? وسبعين يوم?اً‪ ،‬وقي??ل‪:‬‬
‫بثالثة? أشهر‪ ،‬وقيل‪ :‬ستة‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬

‫وصيته ألمراء جيشه‬


‫ولما أنفذ أبو بكر األمراء إلى الشام كان فيما أوصى ب??ه يزي??د بن أبي س??فيان وه??و‬
‫ُم َ‬
‫شيع له‪ ،‬فقال له‪ :‬إذا قدمت على أهل عملك فعِدْ هُم الخ??ير وم??ا بع??ده‪ ،‬وإذا وع??دت‬
‫فأنجز‪ ،‬وال تك??ثرنَّ عليهم الكالم‪ ،‬ف??إن بعض??ه ينس?ي? بعض?اً‪ ،‬وأص??لح نفس??ك يص??لح‬
‫الناس لك‪ ،‬وإذا قدَ َم ْت علي?ك رس??ل ع?دوك ف?أكرم م?نزلتهم‪ ،‬فإن??ه أول خ?يرك إليهم‪،‬‬
‫سهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك‪ ،‬وامنع من قبلك من محادثتهم‪،‬‬ ‫وأقلل َح ْب َ‬
‫وكن أنت ال??ذي تلي ك??ل أم??ه م‪ ،‬وال تجع??ل س??رك م??ع عالنيت??ك فيم??رج عمل?ك‪ ،‬وإذا‬
‫استشرت فاصدق الخبر تصدق لك المشورة‪ ،‬وال تكتم المستشار فت??ؤتي المستش??ار‬
‫فتؤتي من قبل نفسك‪ ،‬وإذا بلغك عن العدو عورة فاكتمها حتى تعاينه??ا‪ ،‬واس??تر في‬
‫عسكرك األخبار َو ْأذكِ َح َ‬
‫السك‪ ،‬وأكثر مفاجأتهم في ليل??ك ونه??ارك‪ ،‬وأص??دق اللق??اء‬
‫إذا لقيت‪ ،‬وال تجبن فيجبن من سواك‪.‬‬

‫المتنبئون‬
‫وقد أعرضنا عن ذكر كثير من األخب??ار في ه??ذا الكت??اب طلب?ا ً لالختص??ار واإليج??از‪:‬‬
‫الع ْنسِ ي الكذاب المع?روف بعيهل?ة‪ ،‬وم?ا ك?ان من خ?برا ب?اليمن وص?نعاء‪،‬‬ ‫منها خبر َ‬
‫وتنبئه? ومقتله‪ ،‬وما كان من ف?يروز‪ ،‬وغ?يره من األنب?اء في أم?رهم‪ ،‬وخ?بر طليح?ة‬
‫وتنبئه‪ ?،‬وخبر سجاح بنت الحارث بن سويد‪ ،‬وقيل‪ :‬بنت غطف??ان وتك??نى أم ص??ادر‪،‬‬
‫وهي التي يقول فيه?ا قيس بن عاص?م‪ :‬أض?حت نبيتن?ا أن?ثى نطي?ف به?ا وأص?بحت‬
‫أنبياء الناس ًذ ْك َرانا َ‬
‫وفيها يقول الشاعر‪:‬‬

‫كما ضلت بخطبتها سجاج‬ ‫أضل هّللا َ‬


‫س ْع َي بني تمـيم‬

‫وقد كانت مع ادعائها النبوة مكذبة بنبوة مسيلمة الكذاب‪ ،‬ثم آمنت بنبوت??ه‪ ،‬وك??انت‬
‫قبل ادعائها النبوة متكهن?ة? ت??زعم أن س??بيلها س??بيل? س??طيح وابن س??لمة والم??أمون‬
‫الحارثي‪ ،‬وعمرو بن لُ َح ٍّي‪ ،‬وغيرهم من الكهان‪ ،‬وصارت إلى مسيلمة? فنكحها‪ ،‬وما‬
‫كان من خبر مسيملمة? َك َّذاب اليمامة‪ ،‬وحربه لخالد بن الوليد‪ ،‬وقتل َو ْحشِ ٍّي ل??ه م??ع‬
‫رجل من األنصار‪ ،‬وذلك في سنة إحدى عشرة‪ ،‬وما كان من أمره مع األنصار في‬
‫صفحة ‪402 :‬‬

‫يوم سقيفة بني? ساعدة والمهاجرين‪ ،‬وقول المنزر بن ا ْل ُح َباب‪ :‬أن??ا ُج? َذيلها المحك??ك‬
‫المرجب‪ ،‬أما وهّللا إن شئتم لنعي َد َّن َها َج َذ َع? ة‪ ،‬وقص??ة س??عد بن عب??ادة‪ ،‬وم??ا‬
‫َّ‬ ‫َو ُع َذ ْيقُ َها‬
‫ك??ان من بش??ر بن س??عد‪ ،‬وتخلي األوس عن معاض??دة س??عد خوف??ا ً أن يف??وز به??ا‬
‫الخزرج‪ ،‬وأخبار من قعد عن البيعة ومن بايع‪ ،‬وما قالت بنو هاش??م‪ ،‬وم??ا ك??ان من‬
‫قص??ة ف??دك‪ ،‬وم??ا قال??ه أص??حاب النص واالختي??ار في اإلِمام??ة‪َ ،‬و َمنْ ق??ال بإمام??ة‬
‫المفضول وغيره‪ ،‬وما كان من فاطمة وكل أمه ا متمثلة حين ع??دلت إلى ق??بر أبيه??ا‬
‫عليه السالم من قول صفية بنت عب??د المطلب‪ :‬ق??د َك??انَ بع??دك أنبـاء وهَـ ْي َنـ َمة? ل??و‬
‫شا ِه َدهَا لم تكثر الخطب‬ ‫ُك ْنت َ‬
‫إلى آخر الشعر‪ ،‬إلى غير ذلك مما تركنا ذكره من األخبار في هذا الكتاب؛إذ كن??ا ق??د‬
‫أتينا على جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان والكتاب األوسط‪ ،‬فأغنى ذلك عن ذك??ره‬
‫هاهنا‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬‬
‫ذكر خالفة عمر بن الخطاب‬
‫رضي هّللا عنه‬
‫وبويع عمر بن الخطاب رضي هّللا عنه‪ ،‬فلم??ا أن دخلت س??نة ثالث وعش??رين خ??رج‬
‫الحج في تلك السنة‪ ،‬ثم أقبل حتى دخل المدينة‪ ?،‬فقتله فيروز أبو لؤلؤة‬ ‫َّ‬ ‫حاجا‪ ،‬فأقام‬
‫غالم المغ??يرة بن ش??عبة ي??وم األربع??اء ألرب??ع بقين من ذي الحج??ة تم??ام س??نة ثالث‬
‫?ال‪ ،‬وقت??ل في ص??الة‬
‫وعش??رين؛فك??انت واليت?ه? عش??ر س??نين وس??تة أش??هر وأرب??ع لي? ٍ‬
‫الصبح‪ ،‬وه?و ابن ثالث وس?تين س?نة ودفن م?ع الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم وأبي‬
‫بكر‪ ،‬عند رجلي النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن قب??ورهم مس??طرة‪ :‬أب??و بك??ر‬
‫إلى جنب النبي صلى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وعم??ر إلى جنب أبي بك??ر‪ ،‬وحج في خالفت??ه‬
‫ورى إلى‬ ‫ش?? َ‬‫تسع حجج‪ ،‬وبعد أن قُ ِتل َ صلّى بالناس عب ُد الرحمن بن َع ْوف‪ ،‬وجعلها ُ‬
‫علي‪ ،‬وعثم??ان‪َ ،‬‬
‫وط ْل َح? ة‪ .‬والزب??ير‪ ،‬وس??عد‪ ،‬وعب??د ال??رحمن بن ع??وف‪،‬‬ ‫ستة‪ ،‬وهم‪ّ :‬‬
‫يب الرومي‪ .‬وكانت الشورى بعده ثالثة أيام‪.‬‬ ‫ص َه ٌ‬‫وصلّى عليه ُ‬

‫ذكر نسبه ولمع من أخباره وسيره‬


‫نسبه?‬
‫رزاح‬ ‫هو عمر بن الخطاب بن ُن َف ْيل بن عبد العزى بن قُ ْرط بن ر َباح بن عبد هللاّ بن َ‬
‫بن عدي بن كعب‪ ،‬وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب النبي صلى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬و‬
‫أمه َحن َتمة? بنت هشام بن المغيرة بن عبد هّللا بن عمرو بن مخزوم وكانت س??وداء‪،‬‬
‫وإنما سمي الفاروق ألنه فرق بين الحق والباطل‪ ،‬وكنيته? أبو حفص‪ ،‬وهو أول من‬
‫وهللا أعلم‪ ،‬وك??ان أول من‬‫ّ‬ ‫سمي بأمير المؤمنين‪ ،‬سماه عدي ُّبن حاتم‪ ،‬وقيل غيره‪،‬‬
‫سلّم علي??ه به??ا المغ??يرة بن ش??عبة‪ ،‬وأول من دع??ا ل??ه به??ذا االس??م على المن??بر أب??و‬
‫َ‬
‫موسى األشعري وأبو موسى أول من كتب إليه‪ :‬لعبد هللا عمر أم??ير المؤم??نين‪ ،‬من‬
‫أبي موسى األشعري فلما قرئ ذل??ك على عم??ر ق??ال‪ :‬إني لعب??د هلل وإني لعم??رو إ ِّني‬
‫ألمير المؤمنين‪ ،‬والحمد هللا رب العالمين‪.‬‬

‫صفحة ‪403 :‬‬

‫صفاته‬
‫وكان متواضعاً‪ ،‬خشن الملبس‪ ،‬شديداً في ذات هّللا ‪ ،‬واتبعه عمال??ه في س??ائر أفعال??ه‬
‫يتش? ّبه? ب??ه ممن غ??اب أو حض??ر‪ ،‬وك??ان يلبس الجب??ة الص??وف‬‫وشيمه وأخالقه‪ ،‬كل ّ َ‬
‫المرقعة باألديم وغيره‪ ،‬ويشتمل بالعباءة‪ ،‬ويحم??ل القرب??ة على كتف??ه م??ع هيب?ة? ق??د‬
‫ُر ِز َق َها‪ ،‬وكان أكثر ركابه اإلِبل‪َ ،‬و َر ْحله مشدودة بالليف‪ ،‬وكذلك ُعماله‪ ،‬م??ع م??ا فتح‬
‫هّللا عليهم من البالد وأوسعهم من األموال‪.‬‬

‫عماله‬
‫وكان من عماله سعيد بن عامر بن خ?ريم فش?كاه أه?ل حمص إلي?ه وس?ألوه َع ْزل?ه‪،‬‬
‫فقال عمر‪ :‬اللهم ال ُتفِلْ فراستي فيه الي?وم وق?ال لهم‪ :‬م?اذا تش??كون من??ه‪ ?.‬ق?الوا‪ :‬ال‬
‫يخرج إلينا حتى يرتفع النهار‪ ،‬وال يجيب أحداً بلي?ل‪ ،‬ول?ه ي?وم في الش?هر ال يخ?رج‬
‫علي ب??ه‪ ،‬فلم??ا ج??اء جم??ع بينهم وبين??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬م??ا تنقم??ون من??ه‪?.‬‬
‫ّ‬ ‫إلينا‪ ،‬فقال عم??ر‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬ال يخرج إلينا ح?تى يرتف?ع النه?ار‪ ،‬فق?ال‪ :‬م?ا تق?ول ي?ا س?عيد؛ ق?ال‪ :‬ي?ا أم?ير‬
‫المؤمنين‪ ،‬إنه ليس ألهلي خ?ادم‪ ،‬ف?أعجن عجي?ني‪ ،‬ثم أجلس ح?تى يختم?ر ثم أخ?بز‬
‫خبزي‪ ،‬ثم أتوضا وأخرج إليهم‪ ،‬قال‪ :‬وماذا تنقمون منه‪ ?.‬قالوا‪ :‬ال يجيب بليل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قد كنت أكره أن أذك??ر ه??ذا‪ ،‬إني جعلت اللي??ل كل??ه ل??ربي‪ ،‬وجعلت النه??ار لهم‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫وماذا تنقمون منه‪ .‬قالوا‪ :‬له يوم في الشهر ال يخرج إلينا في??ه‪ ،‬ق??ال‪ :‬نعم‪ ،‬ليس لي‬
‫خادم فأغسل ثوبي? ثم أجففه فأمسي‪ ،‬فق??ال عم??ر‪ :‬الحم??د هللّ ال??ذي لم ُيف??ل فراس??تي‬
‫صوا بواليكم خيراً‪ ،‬قال‪ :‬ثم بعث إلي??ه عم??ر ب??ألف دين??ار‪،‬‬ ‫فيك‪ ،‬يا أهل حمص‪ ،‬استو ُ‬
‫وقال‪ :‬استعن بها‪ ،‬فقالت له امرأته‪ ?:‬قد أغنانا هللا عن خدمتك‪ ،‬فقال لها‪ :‬أال ن??دفعها‬
‫ص ? َّرها ص??رراً ثم دفعه??ا إلى من‬‫أح َو َج ما كنا إلي??ه‪ .‬ق??الت‪ :‬بلى‪َ ،‬ف َ‬
‫إلى من يأتينا بها ْ‬
‫يثق به‪ ،‬وقال‪ :‬انطلق بهذه الصرة إلى فالن‪ ،‬وبهذه إلى ي??تيم ب??ني فالن‪ ،‬وه??ذه إلى‬
‫مسكين بني فالن‪ ،‬حتى بقي منها شيء يسير‪ ،‬فدفعه إلى امرأته‪ ،‬وقال‪ :‬أنفقي هذا‪،‬‬
‫ثم عاد إلى خدمت?ه‪ ،‬فق?الت ل?ه امرأت?ه‪ :‬أال تبعث إلي ب?ذلك الم?ال فنش?تري لن?ا من?ه‬
‫خادماً؛ فقال‪ :‬سيأتيك ْ‬
‫أح َو َج ما تكونين إليه‪.‬‬

‫سلمان الفارسي‬
‫ومن عماله على المدائإن سلمان الفارسي‪ ،‬وك??ان يلبس الص??وف‪ ،‬وي??ركب الحم??ار‬
‫ببرذعته? بغير إكاف‪ ،‬ويأكل خبز الشعير‪ ،‬وكان ناسكا ً زاهداً‪ ،‬فلما احتض??ر بالم??دائن‬
‫قال له سعد بن َو َّقاص‪ :‬أوصني يا أبا عبد هّللا قال‪ :‬نعم قال‪ :‬اذكر ّ‬
‫هللا عن?د هم?ك إذا‬
‫هممت‪ ،‬وعند لسانك إذا حكمت‪ ،‬وعن??د ي??دك إذا قس??مت‪ ،‬فجع??ل س??لمان يبكي‪ ،‬فق??ال‬
‫له‪ :‬يا أبا عبد هّللا ما يبكيك؛ ق??ال‪ :‬س??معت رس??ول ّ‬
‫هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم يق??ول‪:‬‬
‫"إن في األخرة عقبة ال يقطعه??ا إال ال ُم ِخ ُّفونَ " وأرى ه??ذه األداوة ح??ولي‪ ،‬فنظ??روا‬
‫فلم يجدوا في البيت إال إداوة وركوة ومطهرة‪.‬‬

‫صفحة ‪404 :‬‬

‫أبو عبيدة‬
‫وكان عامله على الشام أبا ع َب ْيدة بن الجراح‪ ،‬وكان يظه??ر للن??اس وعلي??ه الص??وف‬
‫الجافي‪ ،‬فعذل على ذلك‪ ،‬وقيل له‪ :‬إنك بالشام والي أمير المؤمنين وحولنا األعداء‪،‬‬
‫فغير من زيك‪ ،‬وأص?لح من ش?ارتك‪ ،‬فق?ال‪ :‬م?ا كنت بال?ذي أت?رك م?ا كنت علي?ه في‬
‫عصر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫عمر يحرض على الجهاد‬


‫وذك??ر الواق??دي في كتاب??ه في فت??وح األمص??ار أن عم??ر ق??ام في المس??جد‪ ،‬فحم??د هللا‬
‫وأثنى عليه‪ ،‬ثم دعاهم إلى الجهاد وحثهم عليه وقال‪ :‬إنكم قد أصبحتم في غ??ير دار‬
‫مقام بالحجاز‪ ،‬وقد َو َع? دكم الن??بي ص?لى هللا علي??ه وس??لم فتح بالد كس??رى وقيص??ر؛‬
‫فسيروا إلى أرض فارس‪ ،‬فقام أبو عبيد فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين أن??ا أول من انت??دب‬
‫من الناس‪ ،‬فلما انتدب أبو عبيد انتدب الن?اس‪ ،‬وقي??ل لعم??ر‪ :‬أم??ر على الن?اس رجال‬
‫عليهم إال أول من انتدب فأ َّم َر أب??ا عبي??د‪،‬‬
‫ِ‬ ‫من المهاجرين أو األنصار‪ .‬فقال‪ :‬ال أومر‬
‫وفي حديث آخ??ر أن??ه قي??ل ل??ه‪ :‬أت??ؤمر رجال من ثقي??ف على المه??اجرين واألنص??ار؛‬
‫فقال‪ :‬كان أول من انتدب فوليته‪ ?،‬وقد أمرته أن ال يقطع أمراً دون َم ْس َلمة بن أس??لم‬
‫بن حريش وسليط بن قيس‪ ،‬وأعلمت?ه? أنهم??ا من أه??ل ب??در‪ ،‬وخ??رج فلقي جمع??ا ًمن‬
‫العجم عليهم رجل ُيقال له جالينوس‪ ،‬فانهزم‪ ،‬وسار أب??و عبي??د ح??تى ع??بر الف??رات‪،‬‬
‫وعقد له بعض الدهاقين جسراً‪ ،‬فلما خلف الفرات وراءه أمر بقطع الجسر‪ ،‬فقال له‬
‫مسلمة بن أسلم‪ :‬أيها الرجل‪ ،‬إن??ه ليس ل??ك علم بم??ا ن??رى‪ ،‬وأنت تخالفن??ا‪ ،‬وس??وف‬
‫يهلك من معك من المسلمين بسوء سياستك‪ ،‬تأمر بجسر قد عقد أن يقط??ع فال يج??د‬
‫المس??لمون ملج??أ من ه??ذه الص??حاري وال??براري فال تري??د إال أن تهلكهم في ه??ذه‬
‫القطعة فقال‪ :‬أيها الرجل‪ ،‬تقدم فقاتل فق??د َحم م??ا ت??رى‪ ،‬وق??ال س??ليط‪ :‬إن الع??رب لم‬
‫تلق مثل جمع فارس قط‪ ،‬وال كان لهم بقتالهم عادة‪ ،‬فاجع??ل لهم ملج??أ ومرجع?ا ً من‬
‫هزيمة? إن كانت‪ ،‬فقال‪ :‬وهّللا ال فعلت َج ُب ْن َت ي??ا س??ليط‪ ،‬فق??ال س??ليط‪ :‬وهّللا م??ا جبنت‪،‬‬
‫ت بالرأي‪ ،‬فلما قط??ع أب??و عبي??د الجس??ر‬ ‫وهللا أ َ‬
‫ش ْر ُ‬ ‫ّ‬ ‫وأنا أجرأ منك نفسا ً وقبيالً‪ ،‬ولكن‬
‫والتحم الناس واشتد القتال نظرت العرب إلى الفيلة عليها التجافيف ف??رأوا ش??يئأ لم‬
‫يروا مثله قط‪ ،‬فانهزم الناس جميع?اً‪ ،‬ثم م?ات في الف??رات أك??ثر ممن قت??ل بالس??يف‪،‬‬
‫وخالف أبو عبيد سليطاً‪ ،‬وقد كان عمر أوصاه أن يستشيره? وال يخالفه‪ ،‬وك??ان رأى‬
‫سليط أن ال يعبر حتى يعبروا إليه‪ ،‬وال يقطع الجسر‪ ،‬فخالفه‪ ،‬وقال س?ليط في بعض‬
‫قوله‪ :‬لوال أني أكره خالف الطاعة النحزت بالناس‪ ،‬ولكني أسمع وأطيع‪ ،‬وإن كنت‬
‫قد أخطأت وأشركني عمر معك‪ ،‬فقال له أبو عبيد‪ :‬تق??دم أيه??ا الرج??ل‪ ،‬فق??ال‪ :‬أفع??ل‪،‬‬
‫ترجلَ‪ ،‬وق?د قت??ل من الف??رس‬ ‫فتقدما فقتال جميعاً‪ ،‬وقد كان أب??و عبي??د في ه??ذا الي??وم َّ‬
‫نحو ستة آالف‪ ،‬فدنا من الفي??ل ورمح??ه في ي??ده فطعن??ه في عين??ه‪ ،‬فخب??ط الفي??ل أب??ا‬
‫عبيد بيده؛ وجال الناس‪ ،‬وتراجعت رجال فارس‪ ،‬فأخذ الناس الس??يف لم??ا قت??ل أب??و‬
‫عبيد‪ ،‬وبادر رجل من بكر بن وائ??ل والمث??نى بن حارث??ة فحمي الن??اس ح??تى عق??دوا‬
‫الجسر فعبروا ومعهم المثنى حارثة‪ ،‬وقد فق??د من الن??اس أربع??ة آالف غرق ?ا ً وقتال‪،‬‬
‫وكان على جيش فارس في هذا اليوم جاذويه‪ ،‬ومعه راية فارس التي كانت‬
‫صفحة ‪405 :‬‬

‫ألفريدون‪ ،‬حتى ثار الناس من الوهاد‪ ،‬وهي المعروف??ة ب??درفش كاوي??ان وك??انت من‬
‫جلود النمور طوله?ا اثن?ا عش?ر ذراع?ا ً في ع?رض ثماني?ة? أف?رع على خش?ب ط?وال‬
‫موصل‪ ،‬وكانت فارس تتيمن بها وتظهرها في األمر الشديد‪ ،‬وق??د ق??دمنا الخ??بر عن‬
‫هذه الراية في أخبار الفرس األولى فيما سلف من هذا الكتاب‪.‬‬
‫فخ َط َب‬
‫ولما قتل أبو عبيد الثقفي بالجس??ر ش??ق ذل??ك على عم??رو وعلى المس??لمين‪َ ،‬‬
‫عمر الن??اس وحثهم على الجه?اد‪ ،‬وأم?رهم بالت??أهب ألرض الع?راق‪ ،‬وعس??كر عم??ر‬
‫بصرار وهو يريد الشخوص‪ ،‬وقد استعمل على مقدمت??ه طلح??ة بن عبي??د هللا‪ ،‬وعلى‬
‫ميمنته? الزب??ير بن الع??وام‪ ،‬وعلى ميس??رته عب??د ال??رحمن بن ع??وف‪ ،‬ودع??ا الن??اس‪،‬‬
‫فاستشارهم فأشاروا عليه بالمسير‪ ،‬ثم قال لعلي‪ :‬ما ت?رى ي?ا أب?ا الحس?ن‪ ،‬أس?ير أم‬
‫أبعث‪ .‬قال‪ :‬سر بنفسك فإنه أهيب للعدو وأرهب له‪ ،‬فخرج من عنده‪ ،‬فدعا العب??اس‬
‫في ِجلَّة من مشيخة? قريش وشاورهم‪ ،‬فق??الوا‪ :‬أقم وابعث غ??يرك ليك??ون للمس??لمين‬
‫إن انهزموا فئة‪ ،‬وخرجوا‪ ،‬فدخل إليه عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬فاستشاره‪ ،‬فقال عب??د‬
‫الرحمن‪ :‬فدِيت بأبي وامي‪ ،‬أقم وابعث؛فإنه إن انهزم جيش??ك فليس ذل??ك كهزيمت??ك‪،‬‬
‫وإنك إن ُت ْه َزم أو ُت ْق َتل يكفر المسلمون وال يشهدوا أن ال إل َه إال هّللا أبداً‪ ،‬ق??ال‪ :‬أش??ر‬
‫َع َل َّي من أبعث‪ .‬ق??ال‪ :‬قلت‪ :‬س??عد بن أبي وق??اص‪ ،‬ق??ال عم??ر‪ :‬أعلم أن س??عداً رج??ل‬
‫شجاع‪ ،‬ولكني أخشى أن ال يكون له معرفة بتدبير الحرب‪ ،‬ق??ال عب??د ال??رحمن‪ :‬ه??و‬
‫على ما تصف من الشجاعة‪ ،‬وقد ص??حب رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم وش??هد‬
‫بدراً فاعهد إليه وشاورنا فيما أردت أن تحدث إليه؛ فإنه لن يخالف أمرك‪ ،‬ثم خرج‬
‫فدخل عثمان عليه‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا عب??د هللا أش??ر علي أس??ير أم أقيم‪ .‬فق??ال عثم??ان‪:‬‬
‫ت أن ترج??ع‬ ‫أقم ي??ا أم??ير المؤم??نين وابعث ب??الجيوش‪ ،‬فإن??ه ال آمن إن أتى علي??ك آ ٍ‬
‫العرب عن اإلسالم‪ ،‬ولكن ابعث الجيوش وداركها بعض??ها على بعض‪ ،‬وأبعث رج??ل‬
‫صر بها‪ ،‬قال عمر‪ :‬ومن ه??و‪ .‬ق??ال‪ :‬علي بن أبي ط??الب‪ ،‬ق??ال‪:‬‬ ‫له تجربة بالحرب و َب َ‬
‫فالقه وكلمه وذاكره ذلك‪ ،‬فه??ل ت??راه مس??رعا ً إلي??ه أو ال‪ ،‬فخ??رج عثم??ان فلقي علي?ا ً‬
‫فذاكره ذلك‪ ،‬فأبى علي ذلك وكرهه‪ ،‬فعاد عثمان إلى عمر ف??أخبره‪ ،‬فق??ال ل??ه عم??ر‪:‬‬
‫ومن ترى‪ .‬قال‪ :‬س?عيد بن زي?د بن عم?رو بن نفي?ل‪ :‬ق?ال‪ :‬ليس بص?احب ذل?ك‪ ،‬ق?ال‬
‫عثمان‪ :‬طلحة بن عبيد هللا‪ ،‬قال له عمر‪ :‬أين أنت من رجل شجاع ضروب بالسيف‬
‫رام بالنبل‪ ،‬ولكني أخشى أن ال يكون ل??ه معرف??ة بت??دبير الح??رب‪ .‬ق??ال‪ :‬ومن ه??و ي??ا‬
‫أمير المؤمنين قال‪ :‬سعد بن أبي وقاص‪ ،‬فقال عثمان‪ :‬هو صاحب ذاك؛ولكنه رج??ل‬
‫غائب وما منعني من ذكره إال أني قلت‪ :‬رجل غائب في عم??ل‪ ،‬فق?ال عم?ر‪ :‬أرى أن‬
‫أوجهه‪ ،‬وأكتب إليه أن يسير? من وجهه ذلك‪ ،‬فقال عثمان‪ :‬و ُم ْره فليشاور قوما ً من‬
‫أهل التجربة والبصر بالحرب‪ ،‬وال يقط??ع األم??ور ح??تى يش??اورهم‪ ،‬ففع??ل عم??ر ذل?ك‬
‫وكتب إلى سعد بالتوجه نحو العراق‪.‬‬
‫وق??د ك??ان جري??ر بن عب??د هللا البجلي ق??دم على عم??ر‪ -‬وق??د اجتمعت إلي??ه بجيل??ة‪-‬‬
‫س َّرحهم نحو العراق‪ ،‬وجعل لهم ربع ما ظهروا علي??ه من الس??واد‪ ،‬وس??اهمهم م??ع‬ ‫َف َ‬
‫المسلمين‪ ،‬وخرج عمر فشيعهم‪ ،‬ولح??ق جري??ر بناحي??ة األبل??ه ثم ص??اعد إلى ناحي??ة‬
‫المدائن‪ ،‬ونمى قدوم جرير إلى َم ْر ًزب??ان الم??دائن وك??ان في عش??رة االف من ف??ارس‬
‫من األساورة‪ ،‬وذلك بعد يوم الجسر ومقتل أبي عبيد وسليط‪ ،‬فقال بجيلة لجرير‪:‬‬
‫صفحة ‪406 :‬‬

‫أع ُب ِر الدجلة إلى المدائن‪ ،‬فق??ال جري??ر‪ :‬ليس ذل??ك ب??الرأي‪ ،‬وق??د مض??ى لكم في ذل??ك‬ ‫ْ‬
‫عبرة بمن قتل من إخوانكم يوم الجسر‪ ،‬ولكن أمه لوا القوم؛فإن جمعهم كث??ير ح??تى‬
‫الظ َف??ر إن ش??اء هّللا تع??الى‪ ،‬فأق??امت الف??رس أيام ?ا ً‬
‫يع??بروا إليكم‪ ،‬ف??إن فعل??وا فه??ؤ َّ‬
‫بالمدائن‪ ،‬ثم أخذوا في العبور‪ ،‬فلما عبر منهم النصف أو نح??وه حم??ل عليهم جري??ر‬
‫تسر َع معه من بجيلة‪ ،‬فثبتوا ساعة‪ ،‬فقتل الم ِْر ُزبان وأخذهم الس??يف‪ ،‬وغ??رق‬ ‫فيمن َّ‬
‫أكثرهم في دجلة‪ ،‬وأخذ المسلمون ما كان في عسكرهم‪ ،‬وس??ار جري??ر ف??اجتمع م??ع‬
‫الم َث َّنى بن حارث??ة الش??يباني? بالبجل??ة‪ ،‬فأقب??ل إليهم??ا مه??ران في جيوش??ه‪ ?،‬ف??امتنع‬
‫المس??لمون من العب??ور إليهم‪ ،‬فع??بر مه??ران وبغى على المس??لمين‪ ،‬ف??التقوا وص??بر‬
‫الفريقان جميعا حتى قتل مهران قتله جرير بن عب??د هّللا البجلي وحس??ان بن الم??نزر‬
‫وس? َلبه‬
‫بن ض??رار الض??بي‪ ،‬ض??ربه? البجلي‪ ،‬وطعن??ه الض??بي‪ ،‬وف??از جري??ر بمنطقت??ه َ‬
‫وتنازع جرير وحسان في أيهما القاتل لمهران‪ ،‬وقد كان جرير ضربه بعد أن طعن??ه‬
‫حسان‪ ،‬ولحسان في ذلك أبيات‪:‬‬
‫بأس َم َر فيه كالخالل طـريد‬
‫ْ‬ ‫ت مهران َن ْف َ‬
‫سه‬ ‫ألم ترني خا َل ْس ُ‬
‫وبادر في رأس الهمام جرير‬ ‫بر ْجلِ ِه‬‫فخر صريعا ً وا ْل َت َقاني ِ‬
‫وكاد جرير للسرور يطـير‬ ‫فقال‪ :‬قتيلي‪ ،‬والحوادث جمة‪،‬‬
‫ومثلي قليل والرجال كثـير‬ ‫فقال أبو عمرو‪ :‬وقتلى قتلته‬
‫وأكرم أن تحلف وأنت أمير‬ ‫فأرسِ لْ يمينا ً أنَ رمحك نا َل ُه‬

‫وقد تن??ازع أه??ل األخب?ار والس??ير في جري??ر والمث??نى‪ :‬فمن الن??اس من ذهب إلى أن‬
‫جريراً كان هو المولَّى على الجيش‪ ،‬ومنهم من رأى أن جريراً على قومه والمث??نى‬
‫على قومه‪?.‬‬
‫أع َظمت الف??رس ذل??ك‪ ،‬وس??ار ش??يرازاد في جم??ع ف??ارس األعظم‬ ‫ولم??ا قت??ل مه??ران ْ‬
‫وكنيت?ه? ب??وران؛ وق?د ك?انت جمه??رة األس??اورة تق??دمت وتق??دم أمام??ه رس??تم‪ ،‬فتنحى‬
‫المسلمون لما بلغهم مسيره‪ ،‬فلحق جرير بكاظمة فنزلها‪ ،‬وسار المث??نى بقوم??ه من‬
‫بكر بن وائل فنزل بسيراف‪ ?،‬وبها ابار كث??يرة بين الكوف??ة وزبال??ة على ثالث??ة أمي??ال‬
‫من المنزل المعروف بواقصة‪ ،‬وكان المثنى قد أصيب بجراحات كثيرة في بدنه يوم‬
‫الجسر وغيره فمات بسيراف‪ ،‬رحمه هللا تعالى!‪.‬‬

‫سعد بن أبي وقاص‬


‫ولما ورد كتاب عمر على سعد بن أبي وقاص ن?زل زبال?ة على حس?ب م?ا أم?ره ب?ه‬
‫عمر‪ ،‬ثم أتى سيراف‪ ،‬وأتاه الناس من الشام وغيرها‪ ،‬ثم س??ار ف??نزل الع??ذيب وه??و‬
‫على فم ال??بر وط??رف الس??واد مم??ا يلي القادس??ية‪ ،‬ف??التقى جيش المس??لمين وجيش‬
‫الفرس وعليهم رستم‪ ،‬والمسلمون يومئذ في ثمانية? وثمانين أل َفا َ وقيل‪:‬‬
‫اس ِه َم له ثالثون ألفا ً والمش??ركون في س??تين آلف??ا‪ ،‬أم??ا جيوش??هم الفيل??ة‬
‫إن من ْ‬
‫عليها الرجال‪ ،‬وحرض الناس بعضهم بعض?اً‪ ،‬وب??رز أه??ل النج??دات‪َ ،‬‬
‫فأش? ُبوا القت??ال‬
‫وخرج إليهم أ ْق َرا ُنهم من صناديد فارس‪ ،‬فاعتوروا الضرب والطعن‪ ،‬وخرج‬
‫صفحة ‪407 :‬‬

‫هللا األسدي في من خرج ذلك اليوم وهو يقول‪:‬‬


‫غالب بن عبد ّ‬

‫ذات البنان َوالل َبان الواضح‬ ‫قد علمت واردة المسالـح‬


‫وفارج األمر المهم الفادح‬ ‫أني س َما ُم البطل المشـايح‬

‫فخرج إليه هرمز‪ -‬وك?ان من مل??وك الب??اب واألب??واب‪ ،‬وك??ان متوج?اً‪ -‬فأس??ره غ?الب‬
‫آسرا‪ ،‬فأتى به سعداً‪ ،‬وكر راجعا ً إلى المطاردة‪ ،‬وحمي الوطيس‪ ،‬وخرج عاص??م بن‬
‫عمرو وهو يقول‪:‬‬

‫شاه الـذهـب‬‫مثل اللجين يت َغ ّ‬ ‫قد علمت بيضاء صفراء اللَّ َب ْب‬


‫مثلى على مثلك يغريه? العتب‬ ‫أني أمرؤ ال من يعنيه? السبب‬
‫فبرز إليه عظيم من أساورتهم‪ ،‬فجاال‪ ،‬ثم إن الفارسي َولّى‪ ،‬واتبعه عاصم حتى لجأ‬
‫إلى صفوفهم‪َ ،‬وع ُموه‪ ،‬وغ??اص عاص??م بينهم ح??تى أيس الن??اس من??ه‪ ،‬ثم خ??رج في‬
‫مجنبات القلب‪ ،‬وقدامة بغل عليه صناديد موكبية بالة حسنة‪ ،‬فأتى به سعد بن مالك‬
‫وعلى البغل رجل عليه ُم َقطعات ديباج وقلنسوة ُم َذهَبة‪ ?،‬وإذا هو خب??از المل??ك‪ ،‬وفي‬
‫األخ ِبصة والعسل المعق??ود‪ ،‬فلم??ا نظ??ر إلي??ه س??عد‬ ‫الصناديق لطائف الملك من ْ‬
‫قال‪ :‬انطلقوا به إلى أهل َم ْوقِفِهِ‪،‬‬
‫وقولوا‪ :‬إن األمير قد نفلكم هذا فكلوه ففعلوا‪.‬‬

‫أيام القادسية?‬
‫وكانت وقعة القادسية في المحرم سنة أربع عش??رة‪ ،‬وم??ال من الفيل??ة س??بعة عش??ر‬
‫فيال على ك??ل في??ل عش??رون رجال‪ ،‬وعلى الفيل??ة تج??افيف الحدي??د ‪ -‬الق??رون مجلل??ة‬
‫بالديباج والحرير نحو بجيلة‪ ،‬وحول الفيلة الرجال الخيول‪ ،‬فبعث سعد إلى بني أسد‬
‫لم??ا نظ??ر إلى الم??راكب والفي??ول ق??د م??الت لى بجيل??ة‪ ،‬ف??أمرهم ب َم ُع??ونتهم‪ ،‬وم??الت‬
‫عشرون فيالً نحو القلب‪ ،‬فخرج طلحة بن خويلد األسدي مع فرسان بني أسد فقت??ل‬
‫منهم خمسمائة? رجل سوى من قتل من غيرهم فباشروا قتال الفيلة ح??تى أوقفوه??ا‪،‬‬
‫الجالد على بني أسد في هذا اليوم من سائر الناس‪ ،‬وهذا اليوم يع??رف بي??وم‬ ‫واشتد َ‬
‫غواث‪.‬‬
‫فلما أصبح الناس في اليوم الثاني أش??رف على الن??اس خي??ول لمس??لمين من الش??ام‪،‬‬
‫واإلمداد سائرة قد غطت بأسنتها الشمس عليها هاشم بن عتب??ة بن أبي َوق??اص في‬
‫خمس??ة آالف ف??ارس من ب??ني ربيع??ه ومض??ر إل??ف من اليمن‪ ،‬ومعهم ال َق ْع َق??اع بن‬
‫عمرو‪ ،‬وذلك بعد فتح دمش?ق بش?هر‪ ،‬وق?د ك?ان عم?ر رض?ي هّللا عن?ه كتب إلى أبي‬
‫الجراح بصرف أصحاب خالد بن الولي?د إلى الع?راق‪ ،‬ولم ي?ذكر في كتاب?ه‬ ‫ِ‬ ‫عبيدة بن‬
‫خالداَ‪ ،‬فشح أبو عبيدة بتخلية خالد عن يده‪ ،‬وبعث برجاله وعليهم هاش??م بن عتب??ة‬
‫على ما ذكرنا‪ ،‬إذ كان في نفس عمر على خال??د أش??ياء من أي??ام أبي بك??ر في قص??ة‬
‫مالك بن نو ْي َرة‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وكان خالد بن الوليد خال عمر‪ ،‬فتقدم القعقاع في‬
‫صفحة ‪408 :‬‬

‫أوائ??ك الم??دد‪ ،‬ف??أيقن أه??ل القادس??ية بالنص??ر على ف??ارس‪ ،‬وزال عنهم م??ا لحقهم‬
‫باألمس من القتل والجراح‪ ،‬وبرز القعقاع حين وروده أمام الصف ونادى‪ :‬ه??ل من‬
‫مب??ارز؛ ف??برز إلي??ه عظيم منهم‪ ،‬فق??ال ل??ه القعق??اع‪ :‬من أنت‪ .‬ق??ال‪ :‬أن??ا بهمن بن‬
‫جاذويه‪ ،‬وهو المعروف بذي الحاجب‪ ،‬فنادى القعق??اع‪ :‬يا َل َث??ارات أبي عبي??د وس??ليط‬
‫وأصحابهم يوم الجسر!! وقد كان ذو الح??اجب مب??ارزاَ لهم على م??ا ذكرن??ا من قتل??ه‬
‫إياهم‪ ،‬فجاال‪ ،‬فقتل?ه القعق?اع قت?ل في ذل?ك الي?وم ثالثين رجالً في ثالثين حمل?ة‪ ،‬ك?ل‬
‫رجال‪ ،‬وكان آخر من قتل‪ -‬عظيما ً من عظمائهم يقال له بزرجمه??ر‪?،‬‬ ‫حملة يقتل فيها َ‬
‫ففيه يقول القعقاع‪:‬‬

‫َه َّدارة مثل شعاع الشـمـس‬ ‫َح َب ْو ُت ُه جـ َّياشة بـالـنـفـس‬


‫أنخس بالقوم أشـد نـخـس‬ ‫في يوم أغواث َقتِيل َ الفـرس‬
‫حتى يفيض معشري ونفسي?‬
‫وب?ارز في ذل?ك الي?وم األع?ور بن قطب?ة ش?هريار سجس?تان فقت?ل ك?ل واح?د منهم?ا‬
‫صاحبه فقال أخو األعور في ذلك‪:‬‬

‫من يوم أغواث إذا اف َتر ال َّث ُغـر‬ ‫لم أر يوما ً كان إحـدى وأمـر‬
‫من غير ضحك كان أسوا وأبر‬

‫واعتل سعد فتخلف في حصن الع??ذيب‪ ،‬وجلس في أعاله يش??رف? على الن??اس‪ ،‬وق??د‬
‫تواقف الفريقاَن جميعاً‪ ،‬وأمسى الناس ينتمون‪ ،‬فلما سمع ذل??ك س??عد ق??ال لمن ك??ان‬
‫الناس على االنتماء فال توقظ??وني ف?إنهم أقوي??اء على‬
‫ُ‬ ‫عنده في أعلى القصر‪ :‬إن تم‬
‫عدوهم‪ ،‬وإن سكتوا فأيقظوني فإن ذلك شر‪ ،‬واشتد القتال في الليل‪.‬‬

‫أبو محجن الثقفي‬


‫وكان أبو محجن الثقفي محبوسا ً في أسفل القصر‪ ،‬فسمع انتماء الن??اس إلى آب??ائهم‬
‫وو ْق َع الحديد وشدة البأس‪ ،‬فتأسف على م??ا يفوت??ه من تل??ك المواق??ف‪،‬‬‫وعشائرهم‪َ ،‬‬
‫فحبا حتى صعد إلى سعد ستشفعه وشتقيله‪ ،‬وسأله أن يخلي عن??ه ليخ??رج‪ ،‬فزج??ره‬
‫سعد وردَّ ه‪ ،‬فانحدر راجعاً‪ ،‬فنظ??ر إلى س??لمى بنت حفص??ة زوج??ة المث??نى بن حارث??ة‬
‫الشيباني‪ ،‬وقد كان سعد تزوجها بعده‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا بنت حفصة‪ ،‬هل لك في خير‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬وما ذاك‪.‬‬
‫هللا أن أرج??ع إلي??ك ح??تى‬
‫س?لمني ّ‬ ‫علي إن َ‬
‫َّ‬ ‫وهلل‬
‫ق??ال‪ :‬تخلين ع??ني وتعيري??ني? البلق??اء ّ‬
‫أضع رجلي في القيد‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬وما أنا وذلك‪.‬‬

‫صفحة ‪409 :‬‬

‫فرجع يرسف في قيده وهو يقول‪:‬‬

‫وأترك مشدوداً علي وثـاقـيا‬ ‫كفى َح َزنا ً أن ترتدي? الخيل بال َق َنا‬
‫مصاريع من دوني ُتصِ ُّم المناديا‬ ‫إذا قمت عناني الحديد فأغلقـت‬
‫فقد تركوني واحداً ال أخـالـيا‬ ‫وقد كنت ذا مال كثيرو ثـروة‬
‫لئن فرجت أن ال أزور ا ْل َح َوا ِن َيا‬ ‫فللّه عهد ال أخِـيس بـعـهـده‬

‫فقالت سلمى‪ :‬إني استخرت هّللا ورضيت بعهدك‪ ،‬فأطلقته‪،‬‬


‫وقالت‪ :‬شأ َن َك وما أردت‪ ،‬فاقتاد بلقاء سعد‪ ،‬وأخرجه??ا من ب??اب القص??ر ال??ذي يلي‬
‫دب عليها‪ ،‬حتى إذا كان بحي?ال ميمن??ة المس?لمين ك?بر‪ ،‬ثم حم?ل‬‫الخندق‪ ،‬فركبها ثم َّ‬
‫على ميسرة القوم يلعب برمحه? وسالحه بين الصفين‪ ،‬فأوقف ميسرتهم وقتل رجاالً‬
‫كثيراً من ُف َّتاكهم‪ ،‬ونكس آخرين‪ ،‬والفريق??ان يرمقون ?ه? بأبص??ارهم‪ ،‬وق??د تن??وزع في‬
‫ج‪ ?،‬ثم غ?اص‬ ‫البلقاء فمنهم من قال‪ :‬إنه ركبها ُع ْرياً‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬بل ركبها َ‬
‫بس ْر ٍ‬
‫في المسلمين‪ ،‬فخرج في ميسرتهم‪ ،‬وحمل على ميمنة القوم فأوقفهم‪ ،‬وجع??ل يلعب‬
‫برمحه? وس??الحه ال يب??دو ل??ه ف??ارس إال هتك??ه‪ ،‬ف??أوقفهم‪ ،‬وهابت??ه الرج??ال‪ ،‬ثم رج??ع‬
‫فغاص في قلب المسلمين‪ ،‬ثم برز أم أمه م ووقف بإزاء قلب المشركين‪ ،‬ففعل مث??ل‬
‫أفعاله في الميمنة? والميسرة‪ ،‬وأوقف القلب حتى لم ي??برز منهم ف??ارس إال اختطف??ه‪،‬‬
‫وحمل عن المسلمين الحرب‪ ،‬فتعجب الناس منه‪ ،‬وقالوا‪ :‬من هذا الف??ارس ال??ذي لم‬
‫َن َرهُ في يومنا‪ .‬فقال بعضهم‪ :‬هو ممن قدم علينا من إخواننا من الش??ام من أص??حاب‬
‫المر َقال‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن كان الخضر علي??ه الس??الم يش??هد الح??رب‬ ‫هاشم بن عتبة ْ‬
‫فهذا هو الخضر قد َمنَّ هللا به علينا وهو علم بصرنا على عدونا‪ ،‬وقال قائ?ل منهم‪:‬‬
‫الض? ْرعام ق??د‬
‫لوال أن المالئكة ال تباشر الحروب لقلنا إنه ملك‪ ،‬وأبو محجن ك??الليث َ‬
‫هتك الفرسان كالعقاب يجول عليهم‪ ،‬ومن حضر من فرسان المس??لمين مث??ل عم??رو‬
‫خويل??د والقعق??اع بن عم??رو وهاش??م بن ُع ْتب??ة المرق??ال‬
‫بن مع??د يك??رب وطلح??ة بن َ‬
‫وسائر فُ َّتاك العرب وأبطالها ينظرون إليه‪ ،‬وقد حاروا في أم??ره‪ ،‬وجع??ل س??عد يفك?ر‬
‫شرف? على الناس من فوق القصر؛وهّللا ل??وال محبس أبي محجن لقلت‬ ‫ويقول وهو ُم ْ‬
‫هذا أبو محجن وهذه ال َب ْلقاء‪ ،‬فلما انتصف اللي??ل تح?اجز الن?اس‪ ،‬وت?راجعت الف?رس‬
‫على أعقابها وتراجع المسلمون إلى مواض??عهم على بقيتهم ومص??افهم‪ ،‬وأقب??ل أب??و‬
‫محجن حتى دخل القصرمن حيث خرج وال يعلم به‪َ ،‬و َر َّد البلقاء إلى مربطه??ا وع??اد‬
‫في محبسه ووضع رجله في القيد‪ ،‬ورفع عقيرته? وهو يقول‪:‬‬

‫بأنا نحن أكرمهـم سـيوفـا‬ ‫ِيف غير فخـر‬ ‫لقد علمت َثق ٌ‬
‫وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا‬ ‫وأكرمهم د ُروعا ً سابـغـا ٍ‬
‫ت‬
‫ولم أشعر بمخرجي الزحوفا‬ ‫وليلة قاعس لم يشعروا بـي‬
‫فإن عتبوا فسل به ُم عريفـا‬ ‫وأنا ِرفدهـم فـي كـل يوم‬
‫وإن أترك أذيقهم الحتـوفـا‬ ‫فإن أحبس فذلـ ُكـ ُم بـالئي‬

‫صفحة ‪410 :‬‬

‫سك هذا الرجل‪ .‬تعني سعداً‪،‬‬ ‫فقالت له سلمى‪ :‬يا أبا محجن‪ ،‬في أي شيء َح َب َ‬
‫يدب الشعر على لس??اني فأص??ف القه??وة وت??داخلني أريحي??ة‬ ‫قال‪ :‬وأنا امرؤ شاعر ُّ‬
‫فألتذ بمدحي إياها‪ ،‬فلذلك حبسني ألني قلت فيها‪:‬‬
‫روي عظامي بعد موتي? عروقُ َها‬ ‫ِّ‬ ‫إذا مت فادفنيني? إلى جانب َك ْـر َمة‬
‫ت أن ال أذقـهـا‬ ‫خاف إذا ما ُم ُ‬ ‫ال تدفنني بـالـفـالة فـإنـنـي‬
‫وهي أبيات‪.‬‬
‫وق??د ك??ان بين س??لمى وس??عد كالم كث??ير وجب غض??به عليه??ا‪ ،‬ل??ذكرها ال ًم َث َّنى عن??د‬
‫مختلف القنا‪ ،‬فأقامت مغاضبة? له عشية أغواث وليلة ا ْل َه ِري??ر وليل??ة الس??واد‪ ،‬ح??تى‬
‫فترض? ْته وص??الحته‪ ،‬ثم أخبرت?ه? خبره??ا م??ع أبي محجن‪ ،‬فدعاب??ه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إذا أصبحت أتت??ه‬
‫فأطلقه‬
‫وقال‪ :‬اذهب فما أنا مؤاخذ بشيء تقوله حتى تفعله‪،‬‬
‫قال‪ :‬ال َج َر َم وهّللا ال أجبت لساني إلى صفة قبيح أبداً‪.‬‬
‫يوعماس‬
‫وأصبح الناس في اليوم الث??الث وهم على مص??افهم‪ ،‬وه??و ي??وم عم??اس‪ ،‬وأص??بحت‬
‫كالر ْجل??ة الحم??راء‪ -‬يع??ني الح??رة‪ -‬في‬
‫األعاجم على مواقفها‪ ،‬وأصبح بين الف??ريقين َّ‬
‫ع??رض م??ا بين الص??فين‪ ،‬وق??د قت??ل من المس??لمين ألف??ان وخمس??مائة م??ا بين َرث ِِي ِ‬
‫ث‬
‫وميت‪ ،‬وقت من األع?اجم م??ا ال يحص??ى‪ ،‬فق?ال س?عد‪ :‬أيه?ا الن?اس‪ ،‬من ش?اء غس??ل‬
‫الشهيد الميت والرثيث‪ ،‬ومن شاء فليدفنهم بدمائهم‪ ،‬وأقب??ل المس??لمون على َق ْتالهم‬
‫ف??أحرزوهم وجعل??وهم وراء ظه??ورهم‪ ،‬وك??ان ا لنس??اء والص??بيان ي??دفنون الش??هيد‬
‫الرثِيث إلى النس??اء ويع??الجونهم من ُكلُ??ومهم‪ ،‬وك??ان بين موض??ع الوقع??ة‬ ‫ويحملون َّ‬
‫مما يلي القادسية وبين حصن العذيب نخلة‪ ،‬فإذا حم??ل الج??ريح وفي??ه تمي??يز وعق??ل‬
‫ونظر إلى تلك النخلة‪ -‬ولم يكن هنالك يومئذ نخلة غيره??ا‪ ،‬والي??وم به??ا نخ??ل كث??ير‪-‬‬
‫قال لحامله‪ :‬قد قربت من السوداء‪ ،‬فأريحوني تحت ظل هذه النخل??ة‪ ،‬ف??يراح تحته??ا‬
‫ساعة‪ ،‬فسمع رجل من الجرحى يقال له بجير من طيى‪ ،‬وهو يجود بنفسه? ويقول‪:‬‬

‫وبين العذيب‪ ،‬ال يجاورك النخل‬ ‫أال يا اسلمي يا نخلة بين قـاس‬

‫وسمع آخر من ب??ني تيم هّللا ‪ -‬وق??د أريح تحته??ا و ُح ْ‬


‫ش? َوته خارج??ة من جوف??ه‪ -‬وه??و‬
‫يقول‪:‬‬

‫ُ‬
‫والغيوث الهواطل ُ‬ ‫سقتك الغوادي‬ ‫الج ْر َعا‪ ،‬ويا نخلة العـدا‬
‫أيا نخلة َ‬

‫وأنخن األعور بن قطبة‪ ،‬فحمل من المعركة‪ ،‬فسأل حماله أن يريحه تحتها ح??تى إذا‬
‫بلغ إليها قال‪:‬‬

‫ُ‬
‫الدجنات من النخل‬ ‫سقتك الغوادي‬ ‫أيا نخلة بين العـذيب فـتـلـعة‬
‫صفحة ‪411 :‬‬

‫وأصبح الناس صبيحة? يوم القادسية‪ ،‬وهي صبيحة ليلة الهري??ر وهي‪ :‬تس??مى ليل??ة‬
‫وح? ّرض رؤس??اء‬‫القادسية من تلك األيام‪ ،‬والناس حيارى ولم يغمضو ليلتهم كلها‪َ ،‬‬
‫القبائل عشائرهم‪ ،‬واشتد الجالد إلى أن ج??اء وقت ال??زوال‪ ،‬فك??ان أول منَ زال حين‬
‫قام قائم الظهيرة الهرمزان والنيرمران‪ ،‬فتأخرا‪ ،‬وثبت??ا حيث أنتهي??ا‪ ،‬وانف??رج القلب‬
‫حين ق??ام ق??اف الظه??يرة‪ ،‬وهبت ريح عاص??ف فقطعت طي??ارة رس??تم عن س??ريره‪،‬‬
‫فهوت في نهر العتيق والريح دَ ُبور‪ ،‬فمال الغب??ار عليهم وانتهى القعق??اع وأص??حابه‬
‫إلي سرير رستم فعثروا به وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغ??ال‬
‫قد قدمت عليهم بمال يومئذ? فهي واقفة فاستظل في ظل بغ??ل منه??ا وحمل??ه وض??رب‬
‫هالل بن علقمة الحم??ل ال?ذي رس?تم في ظل??ه فقط?ع حبال?ه‪ ،‬ووق??ع على رس??تم أح??د‬
‫العِدْ ا َل ْي ِن وال يراه هاللى وال يشعر ب??ه‪ ،‬ف??أزال من ظهم فق??ارة وض??ربه? هالل ض??ربة‬
‫فنفخت مسكاً‪ ،‬ومضى رستم إلى نحو نهر الع??تيق ف??رمى بنفس??ه في??ه‪ ،‬واقتحم هالل‬
‫عليه فتناوله برجله‪ ،‬ثم خرج به إلى الخندق وضربه? بالسيف حتى قتله‪ ،‬ثم جاء به‬
‫يجره حتى رماه بين أرجل البغال وصعد السرير ون?ادى‪ :‬قتلت رس?تم ورب الكعب?ة‪،‬‬
‫إلي‪ ،‬فطاف به الناس ال يحس??ون الس??رير وال يرون??ه‪ ،‬وتن??ادوا‪ ،‬وتجبنت قل??وب‬ ‫إلي َّ‬ ‫َّ‬
‫المشركين عندها وانهزموا وأخذهم السيف‪ ،‬فمن غري??ق وقتي??ل‪ ،‬وق??د ك??ان ثالث??ون‬
‫ألف ?ا ً منهم َق َر ُن??وا أنفس??هم بعض??هم إلى بعض بالسالس??ل والحب??ال وتح??الفوا ب??النور‬
‫وبيوت النيران ال يبرحون حتى يقتحموا أو يقتلوا‪ ،‬فجث??وا على ال??ركب‪ ،‬وق??رع بين‬
‫أيديهم قناديل النشاب‪ ،‬فقتل القوم جميعاً‪.‬‬

‫وق??د تن??وزع فيمن قت??ل رس??تم‪ :‬ف??ذهب األك??ثر إلى أن قاتل??ه هالل بن علقم??ة من َت ْيم‬
‫الرباب على ما ق??دمنا‪ ،‬ومنهم من رأى أن قاتل??ه رج??ل من ب??ني أس??د‪ ،‬ول??ذلك يق??ول‬
‫شاعرهم في ذلك اليوم‪ -‬وهو عمرو بن شاس األسدي‪ -‬من أبيات‪:‬‬

‫إلى كسرى فوافقهارعـاال‬ ‫نـيق‬


‫ِ‬ ‫جلبنا الخيل من أكنافِ‬
‫الحقـو ْي ِن أيا َمـا طـواال‬
‫َ‬ ‫وب‬
‫ِ‬ ‫ش ْجواً‬ ‫سام َ‬ ‫تركن بهم على األ ْق َ‬
‫تثير? الخيل ُ فوقهم الـهـيال‬ ‫ـسـراً‬‫قتلنا رستما ًو بنيه? َق ْ‬
‫قياما ً ال يريدون ارتـحـاال‬ ‫تركنا منه ُم حيث التـقـينـا‬

‫وأخذ ضرار بن الخطاب في ذلك اليوم من فارس الرايه العظمى المقدم ذكره??ا أنه??ا‬
‫مرص ?عة بالي??اقوت واللؤل??ؤ‬
‫َّ‬ ‫من جل??ود النم??ور المعروف??ة بم??رفش كاوي??ان‪ ،‬وك??انت‬
‫وأنواع الجواهر‪ ،‬ف ُع ِّوض منها بثالثين ألفاً‪ ،‬وكانت قيمتها الفى أل??ف وم??ائتي أل??ف‪،‬‬
‫وقتل في ذلك اليوم حول هذه الراية‪ -‬غير ما ذكرنا من المق??رنين وغ??يرهم‪ -‬عش??رةُ‬
‫آالفٍ‪.‬‬

‫صفحة ‪412 :‬‬


‫تحديد تاريخ القادسية‬
‫وقد تنازع الناس‪ -‬ممن س??لف وخل??ف في ع??ام القادس??ية والع??ذيب ف??ذهب كث??ير من‬
‫الناس إلى أن ذلك كان في س?نة س?ت عش?رة‪ ،‬وه?ذا ق??ول الواق?دي عن آخ?رين من‬
‫الن?اس‪ ،‬ومنهم من ذهب إلى أن ذل?ك كانفيس??نة? خمس عش??رة‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه‬
‫كان في سنة أربع عشرة‪ ،‬والذي قطع عليه محمد بن إس??حاق أنه??ا ك??انت في س??نة‬
‫خمس عشرة‪ ،‬وقال‪ :‬في سنة أربع عشرة أم??ر عم??ر بن الخط??اب بالقي??ام في ش??هر‬
‫رمضان لصالة التراويح والذين ذهبوا إلى أن وقعة القادس??ية? ك??انت في س??نة? أرب??ع‬
‫عشرة احتجوا بهذ الرواية‪ ،‬وكتب عمر إلى األمصار بإقامة صالة التراويح‪ ،‬وذهب‬
‫كثير من الناس منهم المدائني? وغيره أن عمر أنفذ عتبة بن َغ ْز َوانَ في س??نة أرب??ع‬
‫ص?ر تف??ير بي??ع‬
‫ص َرها‪ ،‬وذهب كث??ير من الن??اس أنه??ا ُم ِّ‬‫عشرة إلى البصرة فنزلها َو َم َّ‬
‫سنة ست عشرة‪ ،‬وأن عتبة بن َغ ْز َوانَ إنما خرج إليها من المدائن بعد ف??راغ س??عد‬
‫بن أبي وق??اص من ح??رب َجلُ??والَء وتك??ريت‪ ،‬وأن عتب??ة ق??دم البص??يره وهي يومئ??ذ‬
‫تدعى أرض الهند وفيها حجارة بيض ف??نزل موض??ع ا ْل ُخ َر ْي َب??ة ومص??ر س??عد بن أبي‬
‫وق??اص الكوف??ة في س??نة خمس عش??رة‪ ،‬ودلهم على موض??عها ابن نفيل??ة الغس?اني‪،‬‬
‫وقال لسعد‪ :‬أدلك على أرض ارتفعت ع البر وانحدرت عن ال َفالة‪ ،‬فد َله على موضع‬
‫الكوفة اليوم‪.‬‬

‫أبو لؤلؤة غالم المغيرة بن شعبة‬


‫يدخل المدينة? فكتب إليه المغيرة‬
‫ِ‬ ‫قال المسعودي‪ :‬وكان عمر ال يترك أحداً من العجم‬
‫بن شعبة‪ :‬إن عندي غالما ً نقاشا ً نجاراَ حداداَ فيه منافع ألهل المدينة‪ ?،‬فإن رأيت أن‬
‫ت??أذن لي في اإلِرس??ال ب??ه فعلت‪ ،‬ف??أذن ل?ه‪ ،‬وق??د ك??ان المغ??يرة جع??ل علي??ه ك??ل ي??وم‬
‫درهمين‪ ،‬وكان يدعى أبا لؤلؤة‪ ،‬وكان مجوسيا ً من أهل نهاوند‪ ،‬فلبث م??ا ش??اء هللا‪،‬‬
‫ثم أتى عمر يشكو إليه ثقل خراجه‪ ،‬فقال له عم??ر‪ :‬وم??ا تحس??ن من األعم??ال‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫نقاش نجار حداد‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬ما َخ َرا ُج َك بكثير في كن??ه م??ا تحس??ن من األعم??ال‪،‬‬
‫فمضى عنه وهو يتذمر‪ ،‬قال‪ :‬ثم مر بعمر يوما ً آخر وهو قاعد‪ ،‬فق??ال ل??ه عم??ر‪ :‬ألم‬
‫اح? دَّث عن??ك أن??ك تق??ول‪ :‬ل??و ش??ئت أن أص??نع َرح??ا تطحن ب??الريح لفعلت‪ ،‬فق??ال أب??و‬ ‫َ‬
‫ألص َن َعنَّ لك َر َحا يتحدث الناس بها‪ ،‬ومضى أبو لؤلؤة‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أما العلج‬ ‫لؤلؤة‪ْ :‬‬
‫فقد تو َّع َدنِي انفاً‪ ،‬فلما أز َم َع بالذي أوعد به أخذ ِخ ْنجراً فاشتمل علي??ه ثم قع??د لعم??ر‬
‫في زاوية من زوايا المسجد في ال َغ َلس‪ ،‬وكان عمر يخرج في السحر فيوقظ الن??اس‬
‫للص?الة‪ ،‬فم??ر ب??ه‪ ،‬فث?ار إلي??ه فطعن??ه ثالث طعن?ات إح??داهن تحت س??رته? وهي ال??تي‬
‫قتلته‪ ،‬وطعن اثني عشر رجالً من أهل المسجد فمات منهم ستة وبقي س??تة‪ ،‬ونح??ر‬
‫نفسه بخنجره فمات‪ ،‬فدخل عليه ابنه عبد هّللا بن عمر وهو يجود بنفسه‪ ،‬فقال ل??ه‪:‬‬
‫يا أمير المؤمنين‪ ،‬استخلف على أمة محم??د؛ فإن??ه ل??و ج??اءك راعي إبل??ك أو غنم??ك‬
‫وترك إبله أو غنمه ال راعي لها َللُ ْم َت ُه وقلت له‪ :‬كيف تركت أمانتك ض??ائعة‪ .‬فكي??ف‬
‫ي??ا أم??ير المؤم??نين بآم??ة محم??د‪ .‬فاس??تخلف عليهم‪ ،‬فق??ال‪ :‬إن أس??تخلف عليهم فق??د‬
‫هللا ص?لى هللا علي?ه وس?لم‪،‬‬‫استخلف عليهم أبو بكر‪ ،‬وإن أتركهم فقد تركهم رس?ول ّ‬
‫فيئس منه عبد هللاّ حين سمع ذلك منه? وكان إسالم عمر قب??ل الهج??رة ب??أربع س??نين‬
‫وكان يخضب بالحناء والكتم‪.‬‬
‫صفحة ‪413 :‬‬

‫أوالد عمر‬
‫وكان له من الولد‪ :‬عبد هّللا ‪ ،‬وحفصة زوج الن??بي ص??لى هللا علي?ه وس??لم‪ ،‬وعاص?م‪،‬‬
‫وعبي??د هّللا ‪ ،‬وزي??د‪ ،‬من أًم‪ ،‬وعب??د ال??رحمن‪ ،‬وفاطم??ة‪ ،‬وبن??ات آخ??ر‪ ،‬وعب??د ال??رحمن‬
‫األصغر‪ -‬وهو المحدود في الشراب‪ ،‬وهو المعروف بأبي شحمة‪ -‬من ام‪.‬‬

‫عمر وابن عباس‬


‫وذكر عبد هّللا بن عباس أن عمر أرسل إليه فقال‪ :‬يا ابن عباس‪ ،‬إن عامل حمص‬
‫هلك‪ ،‬وكان من أه??ل الخ??ير‪ ،‬وأه?ل الخ?ير قلي?ل‪ ،‬وق?د رج?وت أن تك??ون منهم‪ ،‬وفي‬
‫نفسي منك شيء لم أره منك‪ ،‬وأعياني ذل??ك‪ ،‬فم??ا رأي??ك في العم??ل‪ .‬ق??ال‪ :‬لن أعم??ل‬
‫حتى تخبرني بالذي في نفسك‪ ،‬قال‪ :‬وما تريد إلى ذلك‪ .‬قال‪ :‬أريده‪ ،‬فإن ك??ان ش??يء‬
‫كنت بريئ?ا ً من مثل??ه‬
‫?يت‪ ،‬وإن ُ‬ ‫?يت من??ه عليه??ا ال??ذي خش? َ‬
‫أخاف منه على نفسي خش? ُ‬
‫علمت أني لس??ت من أهل??ه‪ ،‬فقبلت عمل??ك هنال??ك‪ ،‬ف??إني قلم??ا رأيت??ك طلبت ش??يئا ً إال‬
‫ت وأنت في‬ ‫علي ال??ذي ه??و ا ٍ‬
‫ِّ‬ ‫?أتى‬
‫عاجلت??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬ي??ا ابن عب??اس‪ ،‬إني خش??يت أن ي? ِ‬
‫هللا ص??لى هللا‬
‫عملك فتقول‪ :‬هلم إلينا‪ ،‬وال هلم إليكم دون غ??يركم‪ ،‬إني رأيت رس??ول ّ‬
‫وهللا قد رأيت من ذلك‪ ،‬فلم تراه فعل ذل??ك‪.‬‬‫ّ‬ ‫عليه وسلم استعمل الناس وترككم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ق??ال‪ :‬وهّللا م??ا أدري َ‬
‫أض??نَّ بكم عن العم??ل فأه??ل ذل??ك أنتم‪ ،‬أم خش??ي أن تب??ايعوا‬
‫بمنزلتكم منه? فيقع العتاب‪ ،‬وال بد من عتاب‪ ،‬وق??د ف??رغت ل??ك من ذل??ك‪ ،‬فم??ا رأي??ك‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬أرى أن ال أعمل لك‪ ،‬قال‪ :‬ولم‪ .‬قلت‪ :‬إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم‬
‫علي‪ ،‬قلت‪ :‬إني أرى أن تس??تعمل? ص??حيحا ً من??ك‬‫أب??رح ق? ًذى في عين??ك‪ ،‬ق??ال‪ :‬فأش??ر َّ‬
‫صحيحا ً لك‪.‬‬

‫عمر يستعمل النعمان بن مقرن غاز َيا َ لنهاوند‬


‫سار‪ ،‬أن عمر بن الخط??اب ش??اور‬ ‫وذكر علقمة بن عبد هللاّ المزني‪ ،‬عن معقل بن َي َ‬
‫الهرم??زان في ف?ارس وإص??بهان وأذربيج??ان‪ ،‬فق?ال ل??ه‪ :‬أص??بهان ال??رأس‪ ،‬وف?ارس‬
‫قطعت أح??د الجن??احين ن??اء ال??رأس بالجن??اح األخ??ر‪ ،‬وإن‬ ‫َ‬ ‫وأذربيجان الجناحان‪ ،‬ف??إن‬
‫عت الرأس وقع الجناحان‪ ،‬فأب??دا ب??الرأس‪ ،‬ف??دخل المس??جد ف??إذا ه??و بالنعم??ان بن‬ ‫قط َ‬ ‫ْ‬
‫ف َق ِّرن يصلي‪ ،‬فقعد إلى جنبه‪ ،‬فلما قضى صالته قال‪ :‬م??ا أراني إال مس??تعملك‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫فوجه??ه وكتب إلى أه??ل الكوف??ة أن‬‫?از‪َّ ،‬‬ ‫أم??ا جابي ?ا ً فال‪ ،‬ولكن غازي??ا‪ ،‬ق??ال‪ :‬فإن??ك غ? ٍ‬
‫يمدُوه‪ ،‬وبعث معه الزبير بن العوام‪ ،‬وعمرو بن معد يكرب‪ ،‬وحذيفة‪ ،‬وابن عم??رو‪،‬‬
‫واألشعث بن قيس‪ ،‬فأرسل النعمان المغيرة بن شعبة إلى ملكهم‪ ،‬وه??و يق??ال ل??ه ذو‬
‫الجن??احين‪ ،‬فقط??ع إليهم نه??رهم‪ ،‬فقي??ل ل??ذي الجن??احين‪ :‬إن رس??ول الع??رب هاهن??ا‪،‬‬
‫فشاور أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬ما ترون‪ .‬فق??الوا‪ :‬اقع??د ل??ه في بهج??ة المل??ك أو أقع??د ل??ه في‬
‫هيئة? الحرب‪ ،‬فقال‪ :‬بل أقعد له في بهجة الملك‪ ،‬فص??عد على س??ريره ووض??ع الت??اج‬
‫وأس? ِو َرةُ ال?ذهب وال??ديباج‪،‬‬
‫على رأسه وأقعد أبناء الملوك س??ماطين عليهم األق??راط ْ‬
‫وأذن للمغيرة‪ ،‬فأخذ بضبعيه? رجالن ومعه سيفه ورمحه قال‪ :‬فجع??ل المغ??يرة يطعن‬
‫سطِ هم يخرقها لينظروا فيغضبهم بذلك حتى قام بين يديه وجع??ل يكلم??ه‬ ‫برمحه? في ُب ُ‬
‫والترجمان يترجم بينهما‪ ?.‬فقال‪ :‬إنكم معشر العرب أصابكم جهد‪ ،‬فإن شئتم م ِْر َناكم‬
‫صفحة ‪414 :‬‬

‫ورجعتم‪ ،‬فتكلم المغيرة‪ ،‬فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن??ا معش??ر الع??رب كن??ا أذلّ? ً‬
‫?ة‬
‫يطؤنا الناس وال نطؤهم‪ ،‬ونأكل الكالب والجيف‪ ،‬ثم إن هّللا تع?الى بعث من?ا نبي?ا ً في‬
‫شرف منا أوسطنا حسبا ً وأصدقنا حديثاً‪ ،‬وبعث النبي صلى هللا علي??ه وس??لم ببعث??ه‪?،‬‬
‫وأخبرنا بأشياء وجدناها كما قال لن??ا‪ ،‬وإن??ه وع??دنا فيم??ا وع??دنا ب??ه أن??ا س??نملك م??ا‬
‫هاهن??ا ونغلب علي??ه‪ ،‬وإني أرى هاهن??ا هيئ??ة وب??زة م??ا َمنْ َخ ْلفِي بتاركه??ا ح??تى‬
‫ت فقع??دت م??ع العلج‬ ‫ِيز َك وو َث ْب َ?‬
‫يصيبوها أو يموتوا‪ ?،‬فقالت لي نفسي‪ :‬لوجمعت َج َزام َ‬
‫على س??ريره? ح??تى يتط??ير‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??وثبت وثب??ة ف??إذا أن??ا مع??ه على س??ريره‪ ،‬فجعل??وا‬
‫سلكم‪ ،‬وإن كنت قد‬ ‫يلكزونني بأرجلهم ويجذبونني بأيديهم‪ .‬فقلت لهم‪ :‬إنا ال نفعل ب ُر ُ‬
‫فجرت واستخففت فال تؤاخنوني‪ ،‬فإن الرسل ال يصنع بها هكذا‪ ،‬فقال الملك‪:‬‬

‫إن شئتم قطعنا إليكم وإن شئتم قطعتم إلينا‪ ،‬قلت‪ :‬بل نقط??ع إليكم‪ ،‬فقطعن??ا إليهم‪،‬‬
‫حتى‬
‫قال‪ :‬فتسللوا كل خمسة وستة حتى ال يفروا‪ .‬فدنوا إليهم فضايقناهم‪ ،‬فرشقونا َ‬
‫أشرعوا فينا‪ ،‬فقال المغ??يرة للنعم??ان‪ :‬إن??ه ق??د أش??رع في الن??اس وق??د جرح??وا‪ ،‬فل??و‬
‫حملت‪ ،‬فقال النعمان‪ :‬إنك لذو مناقب‪ ،‬وق??د ش??هدْ َت م??ع رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم القتال‪ ،‬وكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الري??اح‬
‫وينزل? النصر‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنى هاز ل?وائي ثالث‪ .‬م??رات‪ ،‬فأم?ا أول ه??زة فليقض الرج??ل‬
‫حاجت??ه وليتوض??أ‪ ،‬وأم??ا الثاني??ة فلينظ??ر الرج??ل إلى شِ ْس?معِه وليل??زم س??الحه‪ ،‬ف??إذا‬
‫هززت الثالثة فاحملوا وال يلو َينَّ أحد على أحد‪ ،‬وإن قتل النعمان‪ ،‬وإني داع إلى هللا‬
‫بدعوة‪ ،‬وأقسمت على كل أمرىء منكم لما أ َّمنَ عليه??ا‪ ،‬وق??ال‪ :‬اللهم ارزق النعم??ان‬
‫اليوم شهادة في نص??ر وفتح عليهم‪ .‬ف?أمن الق??وم فه??ز ل??واءه ثالث?اً‪ ،‬ثم أدنى درع??ه‬
‫وحمل ثم حمل الناس فكان أول صريع‪ ،‬قال معقل‪ :‬فأتيت علي??ه ف??ذكرت عزيمت??ه أال‬
‫وأم َع َنا القتل فيهم‪ ،‬ووق??ع ذو الجن??احين‬
‫أقف عليه‪ ،‬وأعلمت غلمانه ألعرف مكانه‪ْ ،‬‬
‫عن بغل??ة ل??ه ش??هباء فانش??ق بطن??ه‪ ،‬وفتح هللا على المس??لمين‪ ،‬ف??أتيت إلى مك??ان‬
‫النعمان فصادفته وب??ه َر َم??ق‪ ،‬فأتيت??ه ب??إداوة فغس??لت وجه??ه‪ ،‬فق??ال‪َ :‬منْ ه??ذا‪ .‬قلت‪:‬‬
‫سار‪ ،‬قال ما فعل هللا بالناس‪ .‬قلت‪ :‬فتح هللا عليهم‪ ،‬قال‪ :‬الحمد هللا كثيراً‬ ‫معقل ابن َي َ‬
‫اكتب??وا ب??ذلك إلى عم??ر‪ ،‬وفاض??ت نفس??ه‪ ،‬واجتم??ع الن??اس إلى األش??عث بن قيس‪،‬‬
‫وأرسلوا إلى أم ولده‪ :‬هل عهد إليك النعمان عهداً له أم عندك كتاب‪.‬قالت‪ :‬بل س??فط‬
‫فيه كتاب‪ ،‬فأخرجوه فإذا فيه‪ :‬إذا قتل النعمان ففالن وإن قتل فالن ففالن‪ ،‬وإن قت??ل‬
‫فالن ففالن‪ ،‬فامتثلوا‪ ،‬وفتح هللا على المسلمين فتحا ً عظيمأ‪.‬‬

‫شهداء نهاوند‬
‫قال المسعودي رحمه هّللا ‪ :‬وهذه وقعة نهاوند‪ ،‬وقد كان لألع?اجم فيه?ا جم?ع كث?ير‬
‫وقتل هنالك خلق كثير‪ :‬منهم النعمان بن مقرن‪ ،‬وعمرو بن معد يكرب‪ ،‬وغيرهم??ا‪،‬‬
‫إلى هذا الوقت بينة معروفة على نحو فرسخ من نهاوند فيم??ا بينه??ا وبين‬‫وقبورهم ِ‬
‫ِّينو ِ?ر وقد أتينا على وصف هذه الواقعة فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫الد َ‬

‫صفحة ‪415 :‬‬

‫عمر يسأل عمرو بن معد يكرب عن قبائل من العرب‬


‫وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى قال‪ :‬لما قدم عمرو بن معد يكرب من الكوفة على‬
‫عم??ر س??أله عن س??عد بن أبي َو َّقاص‪ ،‬فق??ال في??ه م??ا ق??ال من الثن??اء‪ ،‬ثم س??أله عن‬
‫السالح‪ ،‬فأخبره بما علم‪ ،‬ثم سأله عن قومه‪ ،‬فق??ال ل??ه‪ :‬أخ??برني عن قوم??ك َم? ْ?ذحِج‬
‫ودع طيئ?ا ً ق??ال‪ :‬س??لني عن أيهم ش??ئت‪ ،‬ق??ال‪ :‬أخ??برني? عن عل??ة بن جل??د‪ ،‬ق??ال‪ :‬هم‬
‫وش? َفاة أمراض??نا‪ ،‬وهم أعتقن??ا‪ ،‬وأنجبن??ا‪ ،‬وأس??رعنا طلب?اً‪ ،‬وأقلن??ا‬ ‫فرسان أغراضنا‪ُ ،‬‬
‫هرباً‪ ،‬وهم أهل السالح والسماِح والرم??اح‪ ،‬ق??ال عم??ر‪ :‬فم??ا أبقيت لس??عد العش??يرة‪.‬‬
‫ق??ال‪ :‬هم أعظمن??ا خميس?اَ‪ ،‬وأس??خانا نفوس?اً‪ ،‬وخ??ير نارن??ا رئيس?اً‪ ،‬ق??ال‪ :‬فم??ا أبقيت‬
‫لمراد‪ .‬ق?ال‪ :‬هم أوس??عنا داراً‪ ،‬وخيرن??ا ج?اراً‪ ،‬وأبع??دنا آث??اراً‪ ،‬وهم األتقي??اء ال??بررة‪،‬‬
‫والساعون ال َف َخرة‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني عن بني َز ِبيد‪ ،‬قال‪ :‬أنا عليهم ضنين‪ ،‬ولو س??ألت‬
‫الن??اس عنهم لق??الوا هم ال??رأس والن??اس األذن??اب‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??أخبرني? عن طيء‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫خص??وا ب??الجود‪ ،‬وهم جم??رة الع??رب‪ ،‬ق??ال‪ :‬فم??ا تق??ول في عبس‪ .‬ق??ال‪ :‬حجم عظيم‪،‬‬
‫الص? ْف َو‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫?وا العف??و‪ ،‬وش??ربوا َّ‬ ‫وزبن أث??ير‪ ،‬ق??ال‪ :‬أخ??برني? عن ِح ْم َي??ر‪ ،‬ق??ال‪َ :‬ر َع? ُ‬
‫ف??أخبرني? عن ِك ْن??دَ َة‪ ،‬ق??ال‪ :‬ساس??وا العب??اد‪ ،‬وتمكن??وا من البالد‪ .‬ق??ال‪ :‬ف??أخبرني عن‬
‫ه َْمدَ ان‪ .‬قال‪ :‬أبناء الليل‪ ،‬وأهل النيل‪ ،‬يمنعون الجار‪ ،‬ويوفون ال ِّن َمار ويطلبون الثار‬
‫قال‪ :‬فأخبرني? عن األزد‪ .‬قال‪ :‬هم أقدمنا ميالداً‪ .‬وأوسعنا بالداً‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??أخبرني? عن‬
‫الح??ارث بن كعب‪ ،‬ق??ال‪ :‬هم الحس??كة المس??كة‪ ،‬تلقى المناي??ا أط??راف رم??احهم‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫فأخبرني? عن لخم‪ .‬قال‪ :‬أخرنا ُم ْلك?اً‪ ،‬وأولن??ا هلك?اً‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??أخبرني عن ُج? َذام‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫أولئك كالعجوز الغ?براء‪ ،‬وهم أه?ل مق?ال وفع?ال‪ ،‬ق?ال‪ :‬ف?أخبرني? عن غس?ان‪ .‬ق?ال‪:‬‬
‫أرباب في الجاهلية نجوم في اإلِسالم‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني عن األوس والخزرج‪ .‬ق??ال هم‬
‫األنصار وهم أعزنا داراً‪ ،‬وأمنعنا ذماراً‪ ،‬وق??د كفان??ا هللا م??دحهم إذا يق??ول‪ :‬وال??ذين‬
‫تبوؤا الدار واأليمان اآلية‪ -‬قال‪ :‬فأخبرني? عن ُخ َزاع??ة‪ .‬ق??ال‪ :‬أولئ??ك م??ع كنان??ة لن??ا‬
‫نسبهم‪ ،‬وبهم نصرنا‪ .‬قال‪ :‬فأي العرب أبغض من َم ْذحِج‪ ،‬وأم??ا من س??عد فع??دي من‬
‫َف َزارة‪ ،‬ومرة من ذبي??ان‪ ،‬وكالب من ع??امر‪ ،‬وش??يبان من بك??ر بن وائ??ل‪ .‬ثم ل??و ُج ْل ُ‬
‫ت‬
‫بفرسي? على مياه معد م??ا خفت هيج أح??د م??ا لم َي ْل َقنِي ُحراه??ا و َع ْب??داها‪ .‬ق??ال‪ :‬ومن‬
‫ُح َّراها َو َمنْ عبداها‪ .‬قال‪ :‬أما حراهأ فعامر بن الط َفيل و ُع َي ْينة? بن الحارث بن شهاب‬
‫س َليك المقانب‪.‬‬ ‫التميمي‪ ،‬وأما عبداها فعنترة العبسي و ُ‬

‫ويسأله عن الحرب‬
‫ثم سأله عن الحرب فقال‪ :‬س??ألت عنه??ا خب??يراً‪ ،‬هي وهّللا ي??ا أم??ير المؤم??نين م??رة‬
‫ش ًمرت عن ساق‪ ،‬من ص??بر فيه??ا ظف??ر‪ ،‬ومن ض??عف فيه??ا هل??ك‪ ،‬ولق??د‬ ‫المذاق‪ ،‬إذا َ‬
‫أحسن واصفها فأجاد‪:‬‬
‫تبدو بزينتها لـكـل جـهـول‬ ‫الحرب أول َ ماتـكـون فـتـية‬
‫عادت عجوزاً غير ذات حلـيل‬ ‫حتى إذا حميت و َ‬
‫ش َّب ضِ َر أمه ا‬
‫مكروهة للثـم والـتـقـبـيل‬ ‫شمطاء ُج َّز ْت رأسها وتنكـرت‬

‫صفحة ‪416 :‬‬

‫ثم سأله عن السالح‪ ،‬فأخبره بما عرف حتى بلغ السيف‪ ،‬قال‪ :‬هنالك قارعتك أمك‬
‫فعاله عمر الدرة‪ ،‬وقال‪ :‬بل أمك قارعتك عن ثكفها‪ ،‬وهللا إني ألهم أن‬ ‫عن ثكلها‪َ ،‬‬
‫أقطع لسانك‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬ال ُح َّمى أضرعتني لك اليوم‪ ،‬وخرج من عنده وهو يقول‬
‫‪:‬‬
‫بأنعـم عـيشة أو ذو ُن َـواس‬ ‫أتوعدني كـأنـك ذو ُر َعـ ْين‬
‫عظيم ظاهرم الجبروت قاس‬ ‫فكم قد كان قبلك من ملـيك‬
‫ين َّقل ُ من أناس فـي أنـاس‬ ‫فأصبح أهله بادوا‪ ،‬وأمسـى‬
‫ـاس‬
‫شـ َم َ‬ ‫يصير مذلة بعد ال ِّ‬ ‫فل ايغررك ملكك‪ ،‬كل ُّ ملك‬

‫قال‪ :‬فاعتذر عمر إليه‪ ،‬وقال‪ :‬ما فعلت ما فعلته إال لتعلم أن اإلِس?الم أفض?ل وأع?ز‬
‫من الجاهلية‪ ،‬وفضله على الوفد‪.‬‬
‫عمرو يحدث عمر عن فراره ذات مرة‬
‫وقد كان عمر آنس عمراً بعد ذلك‪ ،‬وأقبل يسأله ويذاكره الحروب وأخبارها في‬
‫الجاهلية‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬يا عمرو‪ ،‬هل انصرفت عن ف??ارس ق??ط في الجاهلي??ة هيب??ة‬
‫له؛ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وهّللا ما كنت أستحل الكذب فيِ الجاهلي??ة فكي??ف أس??تحله في اإلس??الم‪.‬‬
‫ألحدثنك ح?ديثا ً لم أح??دث ب??ه أح??داَ قبل??ك‪ ،‬خ??رجت في جري??دة خي??ل لب??ني زبي??د أري??د‬
‫الغارة‪ ،‬فأتينا قوما ً سراة‪ .‬فقال عمر‪ :‬وكيف ع??رفت أنهم س??راة؛ ق??ال‪ :‬رأيت م??زاود‬
‫وقدوراً ُم ْك َفأة وقباب حمراً و َن َع َما ً كث??يراً وش??اء‪ ،‬ق??ال عم??رو‪ :‬ف??أهويت إلى أعظمه??ا‬
‫قبة بعدما حوينا الس??بي‪ ،‬وك??ان متب??دداً من ال??بيوت‪ ،‬وإذا ام??رأة بادي??ة الجم??ال على‬
‫فرش لها‪ ،‬فلما نظرت إلي وإلى الخيل استعبرت‪ ،‬فقلت‪ :‬م??ا يبكي??ك‪ .‬ق??الت‪ :‬وهّللا م??ا‬
‫أبكي على نفس??ى‪ ،‬ولك??ني أبكي حس??داً لبن??ات عمي َي ْس ? َلمن وأبتلي أن??ا من بينهن‪،‬‬
‫فظننت وهّللا أنه???ا ص???ادقة‪ ،‬فقلت له???ا‪ :‬وأين هُنَ ؛ ق???الت‪ :‬في ه???ذا ال???وادي‪ ،‬فقلت‬
‫ألصحابي‪ :‬ال ُت ْحدِثوا شيئا ً حتى آتيكم‪ ،‬ثم همزت فرسي حتى علوت كثيب ?اً‪ ،‬ف??إذا أن??ا‬
‫بغالم أصهب الشعر أهذب أقنى أ َق َّب يخصف نعاله وسيفه بين يدي??ه وفرس??ه عن??ده‪،‬‬
‫ض َر غير مكترث‪ ،‬فأخذ سالحه وأش??رف على‬ ‫أح َ‬
‫إلي َرمى النعل من يده ثم ْ‬ ‫فلما نظر َّ‬
‫ثنية‪ ?،‬فلما نظر إلى الخيل محيطة ببيته ركب ثم أقبل نحوي وهو يقول‪:‬‬

‫وألبستني بـكـرة رداهـا‬ ‫أقول لما َم َن َح ْتـنـي فـاهـا‬


‫فليت شعري اليوم َمنْ دهاها‬ ‫إني سأحوي اليوم َمنْ حواها‬

‫فحملت عليه وأنا أقول‪:‬‬

‫بالخيل يبقيها على وجـاهـا‬ ‫عمرو على طول الردى دَ َهاها‬

‫حتى إذا َحل َّ بهـا َح َـواهَـا ثم حملمت عليه بالفرس فإذا هو أروغ من ه??ر‪ ،‬ف??راغ‬
‫عني‪ ،‬ثم حمل علي فضربني? بسيفه? ضربة? جرحتني‪ ،‬فلما أفقت من ضربته? حملت‬
‫صفحة ‪417 :‬‬

‫عليه‪ ،‬فراغ وهّللا ‪ ،‬ثم حمل علي‪ ،‬تها صرعني‪ ،‬ثم استاق ما في أيدينا‪ ،‬ثم استويت‬
‫على فرسي‪ ،‬فلما رأني أقبل وهو يقول‪:‬‬

‫وخير َمنْ ي ْمشِ ي بساق وقدم‬ ‫أنا عبيد هّللا محمود الشـيم‬

‫الس َقم فحملت عليه وأنا أقول‪:‬‬


‫عدوه يفديه من كل َّ‬

‫أنا ابن في اإلكليل َق َّتال ُ البـهـم‬ ‫أنا ابن في التقليد في الشهر األصم‬
‫أتركه لحما على ظهـر َوضـم‬ ‫من يلقني يودي كـمـا أودت أرم‬

‫وهللا عني‪ ،‬ثم حمل علي فضربني? ضربة? أخرى‪ ،‬ثم صرخة ص??رخة‪ ،‬ورأيت‬ ‫ّ‬ ‫فراغ‬
‫الموت وهّللا يا أم??ير المؤم??نين ليس دون??ه ش??يء‪ ،‬و ِخ ْفت??ه خوف?ا ً لم أخ??ف ق??ط أح??داً‬
‫علي أح??د ق??ط إال ع??امر بن‬ ‫هللا م??ا أج??ترأ َّ‬
‫مثله‪ ،‬وقلت له‪ :‬من أنت ثكلتك أم??ك‪ ..‬ف??و ّ‬
‫لس? ِّن ِه وتجربت??ه فمن أنت‪ .‬ق??ال‪ :‬ب??ل َمنْ‬
‫الطفيل إلِعجابه بنفسه‪ ?،‬وعم??رو بن كلث??وم ِ‬
‫أنت‪ .‬خبرني وإاّل َ قتلتك‪ ،‬قلت‪ :‬أنا عمرو بن معد يكرب‪ ،‬قال‪ :‬وأن??ا ربيع??ه بن ُمك? َدم‪،‬‬
‫األع َج? ُز‬
‫قلت‪ :‬أختر مني إحدى ثالث خصال‪ :‬إن شئت اجتلدنا بس??يفينا ح??تى يم??وت ْ‬
‫ث وبقوم??ك إلي??ك‬ ‫الس ْلم‪ ،‬وأنت يا ابن أخي َح? َد ٌ‬‫منا‪ ،‬وإن شئت اصطرعنا‪ ،‬وإن شئت ِّ‬
‫حاجة‪ ،‬قال‪ :‬بل هي إليك‪ ،‬فاختر لنفسك‪ ،‬واخترت الس??لم‪ ،‬ثم ق??ال ان??زل عن فرس??ك‪،‬‬
‫ف عني حتى ن??زلت‬ ‫قلت‪ :‬يا ابن أخي قد جرحتني? جراحتين وال نزول لي فوهّللا ما َك َّ‬
‫عن فرس??ي‪ ،‬فأخ??ذ بعنان??ه‪ ،‬ثم أخ??ذ بي??دي في ي??ده وانص??رفنا إلى الحي وأن??ا أج??رر‬
‫رجلي‪ ،‬ح??تى طلعت علين??ا الخي??ل فلم??ا رأوني هم??زوا خي??ولهم إلي فن??اديتهم‪ :‬إليكم‬
‫ش? ّقهم‪ ،‬ثم أقب??ل علي فق??ال‪ :‬ي??ا عم??رو‪،‬‬ ‫وأرادوا ربيعه‪ ،‬فمضى وهللا كأنه ليث ح??تى َ‬
‫لع??ل أص??حابك يري??دون غ??ير ال??ذي تري??د‪ ،‬فص? َم َت وهللاّ الق??و ُم م??ا فيهم أح??د ينط??ق‪،‬‬
‫وأعظم ما رأوا من??ه‪ ،‬فقلت‪ :‬ي??ا ربيع??ه بن ُم َك? دَّم ال يري??دون إال خ??يراً‪ ،‬وإنم??ا س??مت‬
‫?ارس الع??ربِ‪،‬‬
‫ليعرفه القوم‪ ،‬فقال لهم‪ :‬ما تريدون‪ .‬فقالوا‪ :‬وما تري??د‪ ?.‬ق??د ج??رحت ف? َ‬
‫وأخذت سيفه وفرسه‪ ،‬ومضى ومضينا معه‪ ،‬حتى نزل‪ ،‬فق?امت إلي??ه ص??احبته وهي‬
‫وض? ِربت علين??ا قب??اب‪ ،‬فلم??ا أمس??ينا‬ ‫ضاحكة تمس??ح وجه??ه‪ ،‬ثم أم??ر بإب??ل فنح??رت‪ُ ،‬‬
‫جاءت الرعاء ومعهم أفراس لربيعه لم أرى مثلها قط فلم??ا رأى نظ??ري إليه??ا ق??ال‪:‬‬
‫كيف ترى هذه الخيول‪ .‬قلت‪ :‬لم أرى مثلها قط‪ ،‬قال‪ :‬أما لو ك?ان عن?دي بعض?ها م?ا‬
‫فضحكت وما ينطق أحد من أصحابي‪ ،‬فأقمنا عن??ده ي??ومين‬ ‫ُ‬ ‫لبثت في الدنيا إال قليأل‪،‬‬
‫ثم انصرفنا‪.‬‬
‫عمرو بن معد يكرب يغير على بني كنانة‬
‫قال‪ :‬وقد كان عمرو بن معد يكرب بعد ذلك بزمان أغ??ار على كنان??ة في ص??ناديد‬
‫قومه‪ ،‬فأخذ غنائمهم‪ ،‬وأخذ ام??رأة ربيع?ه? بن ُم َك??دَّم‪ ،‬فبل??غ ذل??ك ربيع??ه‪ -‬وك??ان غ??ير‬
‫بعيد‪ -‬فركب في الطلب على فرس ُع ْري ومعه رمح بال سنان حتى لحقه‪ ،‬فلما نظ??ر‬
‫إليه قال‪َ :‬خل ِّ عن الظعينة? وما معك فلم يلتفت إليه‪ ،‬ثم أعاد عليه‪ ،‬فلم يلتفت إليه‪،‬‬

‫صفحة ‪418 :‬‬

‫فقال‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إما أن تقف لي وإما أن أقف لك فوقف عمرو‪،‬‬


‫وقال‪ :‬لقد أنصف ال َق َ‬
‫ار َة من راماها‪ ،‬قف لي ي??ا ابن أخي‪ ،‬فوق??ف ل??ه ربيع??ه‪ ،‬فحم??ل‬
‫عمرو وهو يقول‪:‬‬
‫في ُخـ ُر ْق‬
‫لست بمأفون وال َّ‬ ‫أنا أبو َث ْو ٍر ووقاف الـزلـق‬
‫ناب الفرق‬ ‫ضهم ُ‬ ‫إذا الرجال َع َّ‬ ‫الحـ َد ْق‬
‫وأسد القوم إذا أحمر َ‬

‫ب لفرسه‪،‬‬‫وجدتني ِبالسيف َه َّتا َك الحلق حتى إذا ظنَّ أنه خالطه السنان إذا هو َل َب ٌ‬
‫و َم َّر السنان على ظهر الفرس‪ ،‬ثم وقف له عمرو‪ ،‬فحمل عليه ربيعه? وهو يقول‪:‬‬

‫كم مِنْ ه َِز ْب ٍر قد رأني فانشدخ‬ ‫أنا الغالم ابن الكناني ال بـذخ‬

‫فقرع ب??الرمح رأس?ه‪ ،‬ثم ق?ال‪ :‬خ?ذها إلي?ك ي??ا عم??رو‪ ،‬ول??وال أني أك??ره قت??ل مثل?ك‬
‫لقتلتك‪،‬‬
‫أح ُد َنا‪ ،‬فق??ف لي‪ ،‬فحم??ل علي??ه ح??تى إذا ظن أن??ه خالط??ه‬
‫فقال عمرو‪ :‬ال ينصرف إال َ‬
‫السنان إذا هو ح َِزام لفرسه وم??ر الس??نان على ظه??ر الف??رس ثم حم??ل علي??ه ربيع??ه‬
‫فقرع بالرمح رأسه أيضاً‪،‬‬
‫وقال‪ :‬خذها إليك يا عمرو ثانية‪ ،‬وإنما العفو مرتان‪ ،‬وصاحت به امرأته السنان هلل‬
‫درك‪ ،‬فأخرج سنانا ً من سِ ْنخ? إزاره كأنه ش??علة ن? ٍ‬
‫?ار‪ ،‬فركب??ه على رمح??ه‪ ،‬فلم??ا نظ??ر‬
‫إليه عمرو‪ ،‬وذكر طعنته? بال سنان‬
‫قال له عمرو‪ :‬يا ربيعه? خذ الغنيمة‪،‬‬
‫دَع َها وا ْن ُج‪ ،‬فقالت بنو زبيد أنترك غنيمتنا لهذا الغالم‪.‬‬
‫قال‪ْ :‬‬
‫فقال لهم عمرو‪ :‬يا بني زبيد‪ ،‬وهّللا لقد رأيت الم?وت األحم??ر في س??نانه‪ ،‬وس??معت‬
‫صريره في تركيبه‪?،‬‬
‫ِ‬
‫العرب أن قوما ً من بني زبيد فيهم عمرو بن معد يكرب‬ ‫ُ‬ ‫فقالت بنو زبيد‪ :‬ال يتحدث‬
‫تركوا غنيمتهم لمثل هذا الغالم‪،‬‬
‫قال عمرو‪ :‬إنه ال طاقة لكم به‪ ،‬وما رأيت مثله قط‪ ،‬فانصرفوا عن??ه‪ ،‬وأخ??ذ ربيع?ه?‬
‫امرأته والغنيمة وعاد إلى قومه‪.‬‬

‫قال المسعودي رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫ولعمر بن الخطاب رضي هللا تعالى عنه أخب??ار كث??يرة في أس??فاره في الجاهلي??ة إلى‬
‫الش??ام والع??راق م??ع كث??ير من مل??وك الع??رب والعجم‪ ،‬وس??ير? في اإلس??الم‪ ،‬وأخب??ار‬
‫وسياسات حسان‪ ،‬وما كان في أي أمه من الكوائن واألحداث وفتوح مص??ر والش??ام‬
‫والعراق وغيره??ا من األمص??ار‪ ،‬ق??د أتين??ا على مبس??وطها في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان‬
‫والكتاب األوسط‪ ،‬وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعا ً مما لم نذكره فيما سلف من كتبنا‪،‬‬
‫وباهّلل التوفيق‪.‬‬

‫صفحة ‪419 :‬‬

‫ذكر خالفة عثمان بن عفان رضي هّللا تعالى عنه‬

‫بوي??ع عثم??ان ي??وم الجمع??ة غ??رة المح??رم لليل??ة بقيت من في الحج??ة س??نة ثالث‬
‫وعشرين وقتل الثنتي عشرة ليلة مضت من في الحجة س??نة خمس وثالثين‪ ،‬وقي??ل‬
‫غير ذلك مما سنورده بعد هذا الموضع إال أنه في في الحج??ة؛فجمي??ع م??ا ولي اثنت??ا‬
‫عشرة سنة إال ثماني?ة? أي?ام‪ ،‬وقت?ل وه?و ابن اثن?تين وثم?انين س?نة‪ ،‬ودفن بالمدين?ة?‬
‫بموضع? يعرف بحش كوكب وكانت خالفته رضي هّللا تعالى عنه اثنتي عش??رة س??نة‬
‫إال ثمانية? أيام‪.‬‬

‫ذكر نسبه? ولمع من أخباره وسيره‬


‫نسبه وأوالده‬
‫هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‪ ،‬ويكنى‬
‫هللا‪ ،‬و أم??ه ْأر َوى بنت كري??ز بن‬
‫هللا وأبي عمرو‪ ،‬واألغلب منهما أبو عبد ّ‬ ‫بأبي عبد ّ‬
‫هللا‬
‫هللا األك??بر‪ ،‬وعب??د ّ‬
‫ج??ابر بن ح??بيب بن عب??د ش??مس‪ ،‬وك??ان ل??ه من الول??د‪ :‬عب??د ّ‬
‫األصغر‪ ،‬أمه ما رقية بنت رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم وأب??ان‪ ،‬وخال??د‪ ،‬وس??عيد‪،‬‬
‫والوليد‪ ،‬والمغيرة‪ ،‬وعبد الملك‪ ،‬وأم أبان‪ ،‬وأم سعيد‪ ،‬وأم عم??رو‪ ،‬وعائش??ة‪ ،‬وك??ان‬
‫عبد هللاّ األكبر يلقب بالمطرف لجماله وحس?نه‪ ?.‬وك?ان كث?ير ال??تزوج‪ ،‬كث?ير الطالق‪،‬‬
‫أصحاب الحديث عدة من السنن‪ ،‬وولي لب??ني‬ ‫ُ‬ ‫أح َولَ‪ ،‬قد حمل عنه‬
‫ص ْ‬ ‫وكان أبان أ ْب َر َ‬
‫أح? َول َ بخيالً وقت??ل في زمن معاوي??ة وك??ان الولي??د‬
‫مروان مكة وغيرها‪ .‬وكان سعيد ْ‬
‫صاحب شراب وفتوة و ُم ُجون وقتل أبوه وهو مخلَّ ُق الوجه سكران علي??ه ُم َ‬
‫ص ? َّبغات‬
‫واسعة وبلغ عبد هّللا األصغر من الس??ن س??تا ً وس??بعين عام?ا ً فنق??ره دي??ك في عين??ه‪،‬‬
‫فكان ذلك سبب موته‪ ،‬وعبد الملك مات صغيراً وال عقب له‪.‬‬

‫صفاته‬
‫وكان عثمان في نهاية الج??ود والك??رم والس??ماحة والب??ذل في الق??ريب والبعي??د‪.‬‬
‫وتأس ْوا به في فعل?ه‪ .‬وب?نى في?داره في‬ ‫َّ‬ ‫فسلك عمالُه وكثير من أهل عصره طريقته‪،‬‬
‫المدينة وشيدها بالحجر وال ِك ْلس‪ ،‬وجعل أبوابها من الساج وال َع ْر َعر واقت??نى أم??واالً‬
‫وجنانا ً وعيونا ً بالمدينة‪.‬‬

‫ثروته‬
‫وذكر عبد هللا بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازن??ه من الم??ال خمس??ون‬
‫ومائة ألف دينار وألف ألف درهم‪ ،‬وقيمة ض??ياعه ب??وادي القُ? َ‬
‫?رى و ُح َن ْين وغيرهم??ا‬
‫مائة ألف دينار‪ ،‬وخلف َخ ْيالً كثيراً وإبالً‪.‬‬

‫صفحة ‪420 :‬‬

‫ثروة الزبير بن العوام‬


‫اع والح??ور‪ :‬منهم الزب??ير بن‬
‫الض ? َي َ‬
‫وفي أي??ام عثم??ان اقت??نى جماع??ة من الص??حابة ِّ‬
‫العوام‪ ،‬بنى داره بالبصرة‪ ،‬وهي الكوفة في هذا الوقت‪ -‬وه??و س??نة اثن??تين وثالثين‬
‫وثلثمائة‪ ?-‬نزلها التجار وأرباب األم??وال وأص??حاب الجه??از من البح??ريين وغ??يرهم‪،‬‬
‫وابت??نى أيض?ا ً دوراًً بمص??ر والكوف??ة واإلس??كندرية‪ ،‬وم??ا ذكرن??ا من دوره وض??ياعه‬
‫فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية‪.‬‬
‫وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار‪ ،‬وخلف الزبير ألف فرس‪ ،‬وألف عبد‬
‫وأمة‪ ،‬وخططا ً بحيث ذكرنا من األمصار‪.‬‬

‫ثروة طلحة بن عبيد هّللا‬


‫وكذلك طلحة بن عبيد هّللا ال?تيمي‪ ?:‬ابت?نى داره بالكوف??ة المش??هورة ب??ه ه?ذا ال?وقت‪،‬‬
‫المعروفة بال ُك َناسة بدار الطلحيين‪ ،‬وكان غلته من العراق كل يوم ألف دينار‪ ،‬وقي??ل‬
‫ب?اآلجر‬
‫ِّ‬ ‫أكثر من ذلك‪ ،‬وبناحية? الشراة أكثر مما ذكرنا‪ ،‬وش?يد داره بالمدين?ة? وبناه?ا‬
‫ص والساج‪.‬‬‫وال ِج ِّ‬

‫ثروة عبد الرحمن بن عوف‬


‫وكذلك عبد ال??رحمن بن ع?وف الزه?ري‪ :‬ابت??نى داره ووس?عها‪ ،‬وك?ان على مربط?ه‬
‫ثمن‬
‫مائة فرس‪ ،‬وله ألف بعير‪ ،‬وعشرة آالف شاة من الغنم‪ ،‬وبلغ بع?د وفات??ه ُر ُب? ُع ِ‬
‫ً‬
‫أربعة وثمانين ألفا ً‪.‬‬ ‫مالِ ِه‬

‫ثروة قوم من الصحابة‬


‫وابتنى سعد بن أبي وقاص داره ب??العقيق‪ ،‬فرف??ع س??مكها‪ ،‬ووس??ع فض??اءها‪ ،‬وجع??ل‬
‫ت‪.‬‬‫ش ُر َفا ِ‬
‫أعالها ُ‬
‫وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف الذهب والفضة م??ا ك??ان‬
‫يكسر بالفؤوس‪ ،‬غير ما خلف من األموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار‪.‬‬
‫وابتنى المقداد داره بالمدينة? في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدين??ة‬
‫مجصصة الظاهر والباطن‪.‬‬‫َّ‬ ‫وجعل أعالها شرفات‪ ،‬وجعلها‬
‫ومات يعلى بن منية‪ ،‬وخلف خمسمائة ألف دين??ار‪ ،‬وديون?ا ً علم الن??اس‪ ،‬وعق??ارات‪،‬‬
‫وغير ذلك من التركة ما قيمته ثالثمائة? ألف دينار‪.‬‬
‫وهذا باب يتسع ذكره ويك??ثر وص??فه‪ ،‬فيمن تمل??ك من األم??وال في أيأم??ه ‪ ،‬ولم يكن‬
‫مثل ذلك في عصر عمر بن الخطاب‪ ،‬بل كانت جادة واضحة وطريقة بينة?‪.‬‬
‫وحج عمر فأنفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة? ستة عشر ديناراً‪ ،‬وقال لول??ده عب??د‬
‫هّللا ‪ :‬لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا‪.‬‬
‫ولق??د ش??كا الن??اس أم??يرهم بالكوف??ة س??عد بن أبي وق??اص‪ -‬وذل??ك في س??نة إح??دى‬
‫وعشرين‪ -‬فبعث عمر محمد بن مسلمة األنصاري حليف بني عب??د األش??هل‪ ،‬فح??رق‬
‫عليه باب قصر الكوفة‪ ،‬وعرضه في مساجد الكوف??ة يس??ألهم عن??ه؛فحم??ده بعض??هم‪،‬‬
‫وشكاه بعض‪ ،‬فعزله وبعث إلى الكوفة عمار بن ياسر على الثغر‪ ،‬وعثمان بن‬
‫صفحة ‪421 :‬‬

‫ُح َن ْيف على الخراج‪ ،‬وعب??د هّللا بن مس??عود على بيت الم??ال‪ ،‬وأم??ره أن يعلم الن??اس‬
‫القرآن ويفقههم في الدين وفرض لهم في كل يوم ش??اة‪ ،‬فجع??ل ش??طرها وس??واقطها‬
‫لعمار بن ياسر والش?طر األخ?ر بين عب?د هّللا بن مس?عود وعثم?ان بن ح?نيف‪ ،‬ف?أين‬
‫ُعمر ممم ذكرنا؛ وأين هو عما وصفنا‪..‬‬

‫عمال عثمان‬
‫وقدم على عثمان عمه الحكم بن أبي العاص وابنه مروان وغيرهما من بني? أمية‪-‬‬
‫والحكم هو طريد رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم ال??ذي َغ َّرب??ه عن المدين??ة‪ ،‬ونف??اه‬
‫عن جواره‪ -‬وكان عماله جماعة منهم الوليد بن عقب??ة بن أبي ُم َع ْي??ط على الكوف??ة‪،‬‬
‫وهو ممن أخبر النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم أن??ه من أه??ل الن??ار‪ ،‬وعب??د هللاّ بن أبي‬
‫هللا بن ع??امر على‬‫س? ْرح على مص??ر‪ ،‬ومعاوي??ة بن أبي س??فيان على الش??ام‪ ،‬وعب??د ّ‬ ‫َ‬
‫ف عن الكوفة الوليد بن ُع ْقبة‪ ،‬ووالها سعيد بن العاص‪.‬‬ ‫ص َر َ‬
‫البصرة‪ ،‬و َ‬
‫الوليد بن عقبة‬
‫وكان السبب في صرف الوليد بن عقبة ووالية سعيد‪ -‬على ما روي‪ -‬أن الوليد‬
‫بن عقب??ة ك??ان يش??رب م??ع ندمائ??ه ومغني ?ه? من أول اللي??ل إلى الص??باح‪ ،‬فلم??ا آذن??ه‬
‫ضال في َغالئله‪ ،‬فتقدَّ َم إلى المحراب في صالة الص??بح‪،‬‬ ‫المؤذنون بالصالة خرج متف ِّ‬
‫فصلى بهم أربعاً‪ ،‬وقال‪ :‬أتريحون أن أزيدكم‪ .‬وقيل‪ :‬إنه قال في سجوده وقد أط??ال‪:‬‬
‫أشرب واسقني‪ ،‬فقال له بعض من كان خلفه في الصف األول‪ :‬م??ا تزي??د الزادك هّللا‬
‫وهللا ال اعجب إال ممن بعثك إلينا واليا ً وعلين??ا أم??يراً‪ ،‬وك??ان ه??ذا القائ??ل‬
‫ّ‬ ‫من الخير‪.‬‬
‫عتاب بن غيالن الثقفي‪.‬‬
‫وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد‪ ،‬فدخل قصره يترنح‪ ?،‬ويتمثل‬
‫ش ّراً‪:‬‬ ‫بأبيات لتأبط َ‬

‫وال بصفا صلد عن الخير معزل‬ ‫ولست بعيداً عـن مـدام و َقـ ْينة?‬
‫وأمشي? ال َمالَ بالساحب‬ ‫ولكنني أروي من الخمر هامتي‬

‫المتسلسل وفي ذلك يقول الحطيئة‪:‬‬

‫أح ُّ‬
‫ـق بـالـعـذر‬ ‫أن الوليد َ‬ ‫شهد الحطيئة يوم يلقى ربـه‬
‫يدري‬
‫ً‬ ‫أ أزيدكم َث ِمالً ومـا‬ ‫نادى وقد َت َف ْت صـالتـهـم‬
‫لقرنت بين الشفع والـوتـر‬ ‫ليزيدهم أخرى‪ ،‬ولو قبـلـوا‬
‫َخلَّ ْوا عنانك لم تزل تجـري‬ ‫حبسوا عنانك في الصالة‪ ،‬ولو‬

‫وأشاعوا بالكوفة فعله‪ ،‬وظه??ر فس??قه ومداومت?ه? على ش??رب الخم??ر‪ ،‬فهجم علي??ه‬
‫جماع???ة من المس???جد منهم أب???و زينب بن ع???وف األزدى وجن???دب زه???ير األزدي‬
‫وغيرهما‪ ،‬فوجدوه سكران مضطجعا ً على سريره ال يعقل‪ ،‬فأيقظوه من رقدته‪،‬‬
‫صفحة ‪422 :‬‬

‫فلم يستيقظ‪ ،‬ثم تقايأ عليهم ما شرب من الخمر‪ ،‬فانتزعوا خاتمه من ي??ده وخرج??وا‬
‫فو ِرهم إلى المدينة‪ ،‬فأتوا عثمان بن عفان‪ ،‬فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب‬ ‫من ْ‬
‫الخم??ر‪ ،‬فاق?ال عثم??ان‪ :‬وم??ا يريكم??ا أن?ه ش??رب خم??را‪ .‬فق?اال‪ :‬هي الخم?ر ال?تي كن?ا‬
‫فزج َرهم??ا ودف??ع في ص??دروهما‪،‬‬ ‫نشربها في الجاهلية‪ ،‬وأخرجا خاتمه فدفعاه إلي??ه‪َ ،‬‬
‫هّللا‬
‫تنح َي??ا ع??ني‪ ،‬فخرج??ا من عن??ده وأتي??ا علي بن أبي ط??الب رض??ي عن??ه‬ ‫وق??ال‪َّ :‬‬
‫وأخبراه بالقصة‪ ،‬فأتى عثمان وهو يقول‪ :‬دفعت الشهود‪ ،‬وأبطلت الحدود‪ ،‬فقال ل??ه‬
‫عثمان‪ :‬فما ترى‪ .‬قال‪ :‬أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره فإن أقاما الشهادة عليه‬
‫في وجهه ولم يدْ َرأ عن نفسا بحج??ة أقمت علي??ه الح??د‪ ،‬فلم??ا حض??ر الولي??د دعاهم??ا‬
‫عثمان‪ :‬فأقاما الشهادة عليه ولم ُي?دل بحج?ة ف?ألقى عثم?ان الس?وط إلى علي‪ ،‬فق?ال‬
‫علي البنه الحسن‪ :‬قم يا بني ف??أقم علي??ه م??ا أوجب هللا علي??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬يكفيني??ه بعض‬
‫من ترى‪ ،‬فلما نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد علي?ه َت َو ِّقي?ا ً لغض?ب عثم?ان‬
‫لقرابته منه? أخ??ذ علي الس??وط ودن??ا من??ه‪ ،‬فلم??ا أقب??ل نح??وه س??به الولي??د‪ ،‬وق??ال‪ :‬ي??ا‬
‫صاحب مكس‪ ،‬فقال عقيل بن أبي ط??الب وك??ان ممن حض??ر‪ :‬إن??ك لتتكلم ي??ا ابن أبي‬
‫ص ? ّفورية‪ ?-‬وهي قري??ة بين عك??اء‬ ‫ُم َع ْيط كأنك ال تحري من أنت‪ ،‬وأنت علج من أهل َ‬
‫واللَّ ُجون‪ ،‬من أعمال األردن‪ ،‬من بالد طبرية‪ ?،‬وكان ذكر أن أباه كان يهود َي? ا َ منه??ا‪-‬‬
‫فأقبل الوليد َيرو ُغ من علي‪ ،‬فاجتذبه علي فضرب به األرض‪ ،‬وعاله بالسوط‪ ،‬فقال‬
‫عثمان‪ :‬ليس لك أن تفعل به هذا‪ ،‬قال‪ :‬ب?ل وش??راً من ه?ذا إذا فس?ق ومن?ع ح?ق هللا‬
‫تعالى أن يؤخذ منه‪.‬‬

‫سعيد بن العاص‬
‫وولي الكوفة بعده سعيد بن العاص‪ ،‬فلما دخل سعيد الكوفة وال َيا َ أبى أن يصعد‬
‫سل‪ ،‬وأمر ب َغ ْسلِهِ‪ ،‬وقال‪ :‬إن الولي??د ك?ان نجس??أ رجس?اً‪ ،‬فلم??ا أتص??لت‬ ‫المنبر حتى ُي ْغ َ‬
‫أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة‪ ،‬فاستبد باألموال‪ ،‬وق??ال في بعض األي??ام‬
‫أو كتب به عثمان‪ :‬إنما هذا السواد قطين لقريش‪ ،‬فقال ل??ه األش??تر‪ ،‬وه??و مال??ك بن‬
‫الحارث النخعي‪ :‬أتجعل ما أفاء هّللا علينا بظالل سيوفنا ومراكز رماحن??ا بس??تانا ً ل??ك‬
‫ولقومك‪ .‬ثم خرج إلى عثمان في سبعين راكبا ً من أهل الكوفة ف??ذكروا س??وء س??يرة‬
‫سعيد بن العاص‪ ،‬وسألوا َع ْز َله عنهم‪ ،‬فمكث األشتر وأص??حابه أيام ?ا ً ال يخ??رج لهم‬
‫من عثمان في سعيد شيء‪ ،‬وامتدت أي أمه م بالمدينة‪ ?،‬وق??دم َع َلى عثم??ان أم??راؤه‬
‫س ? ْرح من مص??ر ومعاوي??ة من الش??ام‬ ‫هللا بن س??عد بن أبي َ‬ ‫من األمص??ار منهم عب??د ّ‬
‫وعبد هّللا بن عامر من البصرة وسعيد بن العاص من الكوفة‪ ،‬فأقاموا بالمدينة? أياما ً‬
‫ال يردهم إلى أمصارهم‪ ،‬وكراهة أن يرد سعيداً إلى الكوف??ة‪ ،‬وك??ره أن يعزل??ه‪ ،‬ح??تى‬
‫كتب إلي??ه َمنْ بأمص??ارهم َيش??كون ك??رة الخ??راج وتعطي??ل الثغ??ور‪ ،‬فجمعهم عثم??ان‬
‫وقال‪ :‬ما ترون‪ .‬فقال معاوية‪ ?:‬أما أنا فراض بي جندي‪ ،‬وقال عبد هّللا بن ع??امر بن‬
‫كريز‪ :‬ليكفك امرؤ م??ا قبل??ه ْأكفِ? َك م??ا قبلي‪ ،‬وق??ال عب??د هللا بن س??عد بن أبي س??رح‪:‬‬
‫ليس بكثير عزل عامل للعامة وتولية غيره‪ ،‬وق?ال س?عيد بن الع?اص‪ :‬إن?ك إن فعلت‬
‫هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون ويعزلون‪ ،‬وقد صاروا حلق ?ا ً في المس??جد ليس‬
‫لهم غير األحاديث والخوض‪ ،‬فجهزهم في البعوث حتى يكون َه ُّم أحدهم أن يموت‬
‫صفحة ‪423 :‬‬

‫على ظهر دابته‪ ،‬ق??ال‪ :‬فس??مع مقالت??ه عم??رو بن الع??اص فخ??رج إلى المس??جد‪ ،‬ف??إذا‬
‫طلحة والزبير? جالسان في ناحية منه‪ ،‬فقاال له‪ :‬تعالى إلينا‪ ،‬فصار إليهما‪ ،‬فقاال‪ :‬م??ا‬
‫وراءك‪ .‬قال‪ :‬الشر‪ ،‬ما ترك ش??يئا ً من المنك??ر إال أتى ب??ه وأم??ره ب??ه‪ ،‬وج??اء األش??تر‬
‫فقاال له‪ :‬إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البع??وث‬
‫وهللا لقد كنا نشكو سوء س??يرته? وم??ا قمن??ا في??ه خطب??اء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبكذا وبكذا‪ ،‬فقال األشتر‪:‬‬
‫ت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته? إلى‬ ‫فكيف وقد قمنا وا ْي ُم هّللا على ذلك لوال أني أنفدْ ُ‬
‫الكوفة حتى أمنعه دخولها‪ ،‬فقاال له‪ :‬فعندنا حاجتك التي تق??وم ب??ك في س??فرك ق??ال‪:‬‬
‫فأسلفاني إذاً مائة ألف درهم‪ ،‬ق??ال‪ :‬فأس??لفه ك??ل واح??د منهم??ا خمس??ين أل??ف درهم‪،‬‬
‫فقسمها بين أصحابه‪ ،‬وخرج إلى الكوفة فس??بق س??عيداً‪ ،‬وص??عد المن??بر َ‬
‫وس?يفه? في‬
‫عنقه ما وضعه بعد‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإن عاملكم الذي أنكرتم تعدية وسوء س??يرته?‬
‫ق??د رد عليكم‪ ،‬وأم??ر بتجه??يزكم في البع??وث‪ ،‬فب??ايعوني على أن ال ي??دخلهاَ‪ ،‬فبايع??ه‬
‫عشرة آالف من أهل الكوفة وخرج راكبا ً متخفيا ً يريد المدينة أو مك??ة‪ ،‬فلقي س??عيداً‬
‫بواقصة فأخبره بالخبر‪ ،‬فانصرف إلى المدينة‪ ?،‬وكتب األش??تر إلى عثم??ان‪ :‬أن??ا وهللا‬
‫ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك‪ ،‬ولكن لسوء سيرته? فينا وش??دة عذاب??ه‪،‬‬
‫ف??ابعث إلى عمل??ك َمنْ أحببت‪ ،‬فكتب إليهم‪ :‬انظ??روا من ك??ان ع??املكم أي??ام عم??ر بن‬
‫الخطاب فولوه‪ ،‬فنظروا فإذا هو أبو موسى األشعري‪ ،‬فو َل ْو ُه‪.‬‬

‫بدء الطعن على عثمان وسببه?‬


‫وفي س??نة? خمس وثالثين ك??ثر الطعن على عثم??ان رض??ي هللا عن??ه‪ ،‬وظه??ر علي??ه‬
‫التنك??ير ألش??ياء ذكروه??ا من فعل??ه‪ :‬منه??ا م??ا ك??ان بين?ه? وبين عب??د هللا بن مس??عود‪،‬‬
‫وانحراف ُه َذ ْيل عن عثمان من أجله‪.‬‬
‫ومن ذلك ما نال عمار بن ياسر من الفتن والض??رب‪ ،‬وانح??راف ب??ني مخ??زوم عن‬
‫عثمان من أجله‪.‬‬

‫الوليد بن عقبة يهودى مشعوذ‬


‫ومن ذلك فعل الوليد بن عقبة في مسجد الكوفة‪ ،‬وذلك أنه بلغه عن رجل من‬
‫اليهود من ساكني قرية من قرى الكوفة مما يلي جسر باب??ل يق??ال له??ا زرارة يعم??ل‬
‫أنواعا ً من الشعبذة والسحر يعرف ببطروني? فأحضره فأراه في المس??جد ض??ربا ً من‬
‫التخيي??ل‪ ،‬وه??و أن أظه??ر ل??ه في اللي??ل قيال عظيم ?ا ً على ف??رس ي??ركض في ص??حن‬
‫المسجد‪ ،‬ثم صار اليهودي ناقة يمشي على حبل‪ ،‬ثم أراه صورة حمار دخل من فيه‬
‫?ر الس??يف‬‫ثم خرج من دبره‪ ،‬ثم ضرب عنق رجل ففرق بين جسمه و رأس??ه‪ ،‬ثم أ َم? ّ‬
‫ض ?وراً منهم جن??دب بن كعب‬ ‫علي??ه فق??ام الرج??ل‪ ،‬وك??ان جماع??ة من أه??ل الكوف??ة ُح ُ‬
‫األزدي‪ ،‬فجعل يستعيذ باهلل من فعل الش??يطان‪ ،‬ومن عم??ل يبع??د من ال??رحمن‪ ،‬وعلم‬
‫أن ذلك هو ضرب من التخييل والسحر‪ ،‬فاخترط سيفه وضرب ب??ه اليه??ودي ض??ربة‬
‫أدار رأسه ناحية من بدنه‪ ،‬وقال َجاء الحق وزهق الباطل‪ ،‬إن الباط??ل ك??ان زهوق??ا‬
‫‪ ،‬وق??د قي??ل‪ :‬إن ذل??ك ك??ان نه??اراً‪ ،‬وإن جن??ديا خ??رج إلى الس??وق ودن??ا من بعض‬
‫الصياقلة وأخذ سيفا ً ودخل فضرب به عنق اليهودي‪ ،‬وقال‪ :‬إن كنت صادقأ ْ‬
‫فأحي‬
‫صفحة ‪424 :‬‬

‫نفسك‪ ،‬فأنكر علي??ه الولي? ُد ذل??ك‪ ،‬وأراد أن َيقِي??دهُ ب??ه‪ ،‬فمنعت??ه األزد‪ ،‬فحبس??ه‪ ،‬وأراد‬
‫قتله غيلة‪ ،‬ونظر السجان إلى قيامة ليله إلى الصبح‪ ،‬فقال له‪ :‬ا ْن ُج بنفسك‪ ،‬فقال ل??ه‬
‫جندب‪ُ :‬ت ْقتل بي‪ ،‬قال‪ :‬ليس ذلك بكث??ير في مرض??اة هللا وال??دفع عن ولي من أولي??اء‬
‫هّللا فلما أصبح الوليد دعا به وق??د اس??تعد لقتل??ه فلم يج??ده‪ ،‬فس??أل الس??جان‪ ،‬ف??أخبره‬
‫بهربه‪ ?،‬فضرب عنق السجان‪ ،‬وصلبه با ْلكناسة‪.‬‬

‫بين عثمان وأبي ذر‬


‫ومن ذلك ما فعل بأبي ذر ‪ ،‬وهو أنه حضر مجلسه ذات يوم فق??ال عثم??ان‪ :‬رأيتم‬
‫من زكى ماله هل فيه حق لغيره‪ .‬فقال كعب‪ :‬ال يا أمير المؤمنين‪ ،‬ف??دفع أب??و ذر في‬
‫صد كعب‪ ،‬وقال له‪ :‬ك?ذبت ي?ا ابن اليه?ودي‪ ،‬ثم تال‪ :‬ليس ال?بر أن تول?وا وج?وهكم‬
‫قبل المشرق والمغرب اآلية‪ -‬فقال عثمان‪ :‬أترون بأسا ً أن نأخ?ذ م?االً من بيت م?ال‬
‫المسلمين فننفقه فيما ين??و بن??ا من أمورن??ا ونعطيكم??وه‪ .‬فق??ال كعب‪ :‬ال ب??أس ب??ذلك‪،‬‬
‫فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال‪ :‬يا ابن اليه??ودي م??ا أج??راك على‬
‫يب وجه??ك ع??ني فق??د آذيتن??ا‪،‬‬ ‫القول في دينن??ا فق??ال ل??ه عثم??ان‪ :‬م??ا أك??ثر أذاك لي َغ ْ‬
‫فخرج أبو ذر إلى الشام‪ ،‬فكتب معاوية إلى عثمان‪ :‬إن أبا ذر تجتمع إلي??ه الجم??وع‪،‬‬
‫وال آمن أن يفسدهم عليك‪ ،‬فإن كان ل??ك في الق??وم حاج??ة فاحمل??ه إلي??ك‪ ،‬فكتب إلي??ه‬
‫عثمان بحمله‪ ،‬فحم َله على بعير عليه َق َتب يابس معه خمسة من الصقالبة يط??يرون‬
‫به‪ ،‬حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت بواطن أفخاذه وك?اد أن يتل??ف‪ ،‬فقي??ل ل??ه‪ :‬إن??ك‬
‫تموت من ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬هيهات لن أموت حتى أنفى‪ ،‬وذكر جوامع م??ا ي??نزل? ب??ه بع??د‪،‬‬
‫على‬
‫ِ‬ ‫ومن يت??ولى دفن??ه‪ ،‬فأحس??ن إلي??ه عثم??ان في داره أيام ?اً‪ ،‬ثم دخ??ل إلي??ه فجلس‬
‫ركبتيه? وتكلم بأشياء‪ ،‬وذكر الخبر في ولد أبي العاص إذا بلغوا ثالثين رجالَ اتخذوا‬
‫هللا َخ َوالً‪ ،‬و ًمر في الخبر بطوله وتكلم بكالم كثير‪ ،‬وكان في ذلك اليوم ق??د أتى‬ ‫عباد ّ‬
‫الب??در ح??تى ح??الت‬‫عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من الم??ال‪ ،‬فن??ثرت ِ‬
‫بين عثمان وبين الرجل القائم‪ ،‬فقال عثمان‪ :‬إني ألرج??و لعب??د ال??رحمن خ??يراً؛ ألن??ه‬
‫كان يتصدق‪ ?،‬و َي ْق ِري الضيف‪ ،‬وترك ما ترون‪ ،‬فقال كعب األحب?ار‪ ،‬ص?دقت ي?ا أم??ير‬
‫المؤمنين‪ ،‬فشال أبوذر العصا‪ ،‬فضرب بها رأس كعب‪ ،‬ولم يشغله ما ك??ان في??ه األلم‬
‫وقال‪ :‬يا ابن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا الم??ال‪ :‬إن هللا أعط??اه خ??ير ال??دنيا‬
‫وخير األخرة‪ ،‬وتقطع على هللاّ بذلك‪ ،‬وأنا سمعت النبي صلى هللا عليه وسلم يق??ول‪:‬‬
‫ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطا فقال له عثم??ان‪َ :‬و ِارع ِّني وجه??ك‪ ،‬فق??ال‪:‬‬
‫أسير إلى مكة‪ ،‬قال‪ :‬ال وهّللا ‪ ،‬ق??ال‪ :‬فتمنع??ني من بيت ربي أعب??ده في??ه ح??تى أم??وت‪.‬‬
‫وهللا‪ ،‬فاختر غ??ير‬
‫ّ‬ ‫وهللا قال البصرة‪ .‬قال‪ :‬ال‬
‫ّ‬ ‫قال‪ :‬أي وهّللا ‪ ،‬قال‪ :‬فإلى الشام‪ ،‬قال‪ :‬ال‬
‫وهللا ما أختار غير ما ذكرت لك‪ ،‬ول??و تركت??ني? في دار هج??رتي‬ ‫ّ‬ ‫هذه البلدان‪ ،‬قال‪ :‬ال‬
‫س? ِّي ْر ِني? حيث ش??ئت من البالد‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??إني مس??يرك إلى‬ ‫أردت شيئا ً من البلدان‪َ ،‬ف َ‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم قد أخبرني بك??ل م??ا أن??ا‬ ‫الر َب َذةِ‪ ،‬قال‪ :‬هللا كبر‪ ،‬صدق رسول ّ‬ ‫َ‬
‫الق‪ ،‬قال عثمان‪ :‬وما قال لك‪ .‬قال‪ :‬أخبرني? ب??أني أم ِن??ع عن مك??ة والمدين??ة وأم??وت‬ ‫ٍ‬
‫بالر َبذةِ‪ ،‬ويتولى مواراتي نفر ممن َيردُون من العراق نح??و الحج??از‪ ،‬وبعث أب??و ذر‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫إلى جمل له فحمل عليه امرأته‪ ?-‬وقيل‪ :‬ابنته‪ ?-‬وآمر عثمان‬
‫صفحة ‪425 :‬‬

‫أن يتجافاه الناس حتى يسير? إلى الربذة‪ ،‬فلما طلع عن المدينة? ومروان يسير عنه??ا‬
‫طلع عليه علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه ومعه ابن??اهُ الحس??ن والحس??ين وعقي??ل‬
‫أخوه وعبد هّللا بن جعفر وعمار بن ياسر‪ ،‬فاعترض مروان فقال‪ :‬ي??ا على إن أم??ير‬
‫المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره? ويش??يعوه‪ ،‬ف??إن كنت لم ت??در‬
‫ب??ذلك فق??د أعلمت??ك‪ ،‬فحم??ل علي??ه علي بن أبي ط??الب بالس??وط وض??رب بين أذني‬
‫راحلت??ه‪ ،‬وق??ال‪َ :‬ت َن َّح نح??اك هّللا إلى الن??ار‪ ،‬ومض??ى م??ع أبي ذر فش??يعه ثم و َّدع??ه‬
‫وانصرف‪ ،‬فلما أراد علي االنصراف بكى أبو ذر‪ ،‬وقال‪ :‬رحمكم هّللا أه??ل ال??بيت‪ ،‬إذا‬
‫رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فشكا م??روان‬
‫إلى عثمان ما فع??ل ب??ه علي بن أبي ط?الب‪ ،‬فق?ال عثم?ان‪ :‬ي?ا معش??ر المس?لمين من‬
‫وجهته له‪ ،‬وفعل كذا‪ ،‬وهللاّ لنعطين??ه حق??ه‪ ،‬فلم??ا‬
‫يعذرني من علي‪ :.‬رد َّرسولي عما َّ‬
‫رجع علي استقبله الناس‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتش??ييعك أب??ا‬
‫ض َب الخيل على اللُّ ُجم‪.‬‬
‫ذر‪ ،‬فقال علي‪َ :‬غ َ‬
‫فلما كان بالعشي جاء إلى عثمان‪ ،‬فقال له‪ :‬ما حملك على ما صنعت بمروأن ولم‬
‫علي ورددت رسولي وأمري‪ ?.‬قال‪ :‬أما مروان فإنه استقبلني يردني فرددته‬ ‫ً‬ ‫اجترأت‬
‫عن ردي‪ ،‬وأما أمرك فلم أر َّد ُه‪ ،‬قال عثمان‪ :‬ألم يبلغك أني ق??د نهيت الن??اس من أبي‬
‫هللا والح??ق في‬
‫نر وعن تشييعه? فقال علي‪ :‬أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة ّ‬
‫خالفه أتبعنا فيه أمرك‪ .‬باهّلل ال نفعل‪ ،‬قال عثمان‪ :‬أقِدْ مروان‪ ،‬قال‪ :‬ومم أقيده‪ .‬قال‪:‬‬
‫ض??ربت بين أذني راحلت??ه وش??تمته‪ ،‬فه??و ش??اتمك وض??ارب بين أذني راحلت??ك ق??ال‬
‫علي‪ :‬أما راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ض??ربت راحلت??ه فليفع??ل‪ .‬وأم??ا‬
‫أنا فوهّللا لئن شتمني? الش?تم َّن َك أنت مثله??ا بم??ا ال أك??ذب في?ه وال أق??ول إال حق?اً‪ .‬ق?ال‬
‫عثمان‪ :‬ولم ال يشتمك إذا ش??تمته‪ ?،‬هلل م??ا أنت عن??دى بأفض??ل منه؛ فغض??ب علي بن‬
‫أبي طالب وقال‪ :‬ألي تقول هذا القول‪ .‬وبمروان تعدلني‪ .‬فأنا وهللا أفضل منك‪ ،‬وأبى‬
‫أفضل من أبي??ك‪ ،‬وامي أفض?ل من أم??ك‪ ،‬وه??ذه َن ْبلِي ق?د َن َث ْل ُت َه??ا‪ ،‬وه َلم فانث?ل بنبل?ك‪،‬‬
‫فغضب عثمان واحمر وجهه‪ ،‬فقام ودخل داره‪ ،‬وانص??رف? علي‪ ،‬ف??اجتمع إلي??ه أه??ل‬
‫بيته‪،‬ورجال من المهاجرين واألنصار‪.‬‬
‫فلما كان من الغد واجتمع الن??اس إلى عثم??ان ش??كا إليهم علي?ا ً وق??ال‪ :‬إن??ه يعيب??ني‬
‫و ُي َظاهر من يعيبني‪ ?،‬يري??د ب??ذلك أب??ا ذر وعم??ار بن ياس??ر وغيرهم??ا‪ ،‬ف??دخل الن??اس‬
‫بينهما حتى اصطلحا وقال له علي‪ :‬وهللا ما أردت بتشييع? أبي ذر إال هللا تعالى‪.‬‬

‫عمار بن ياسر‬
‫وقد كان عمار حين بوي??ع عثم??ان بلغ??ه ق??ول أبي س??فيان ص??خر بن ح??رب في دار‬
‫عثمان عقيب الوقت الذي بويع في??ه عثم??ان ودخ??ل داره ومع??ه بن??و أمي??ة فق?ال أبى‬
‫سفيان‪ :‬أفيكم أحد من غيركم‪ .‬وقد كان عدي‪ ،‬قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال يا ب??ني أمي??ة‪َ ،‬ت َل َقفُ ِو َه??ا‬
‫?يرنَ إلى‬ ‫تلقُ َ‬
‫ف الك??رة‪ ،‬ف??وا ل??ذي يحل??ف ب??ه أب??و س??فيان م??ا زلت أرجوه??ا لكم ولتص? َ‬
‫صبيانكم وراثة‪ ،‬فانتهره عثمان‪ ،‬وساءه ما ق??ال‪ ،‬ونمي ه??ذا الق??ول إلى المه??اجرين‬
‫واألنصار وغير ذلك الكالم فقام عمار في المسجد فقال‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬أما إذ‬
‫صفحة ‪426 :‬‬

‫ِن من أن‬ ‫صرفتم هذا األم??ر عن أه??ل بيت ن??بيكم ههن??ا م??رة وهن??ا م??رة فم??ا أن??ا ب??آم ٍ‬
‫ينزعه هللا منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهل??ه‬
‫وقام المقداد فقال‪ :‬ما رأيت مثل ما أودى به أهل هذا البيت بعد نبيهم‪ ،‬فقال له عب??د‬
‫الرحمن بن عوف‪ :‬وما أنت وذاك يا مقداد بن عم??رو‪ .‬فق??ال‪ :‬إني وهّللا ألحبهم لحب‬
‫رسول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم إي??اهم‪ ،‬وإن الح??ق معهم وفيهم‪ ،‬ي??ا عب??د ال??رحمن‬
‫تطولُهم على الن?اس بفض?ل أه??ل ه??ذا ال??بيت‪ -‬ق?د اجتمع?وا‬ ‫أعجب من قريش‪ -‬وإنما ُ‬
‫على نزع سلطان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بع??ده من أي??ديهم أم??ا واليم هللا ي??ا‬
‫عبد الرحمن ل??و أج??د على ق??ريش أنص??اراً لق??اتلتهم كقت??الي إي??اهم م??ع الن??بي علي??ه‬
‫الصالة والسالم يوم بدر‪ ،‬وجرى بينهم من الكالم خطب طوي??ل ق??د أتين??ا على ذك??ره‬
‫الشو َرى والدار‪.‬‬
‫َ‬ ‫في كتابنا أخبار الزمان في أخبار‬

‫الثورة على عثمان‬


‫ولما كان سنة? خمس وثالنين سار مالك بن الحارث النخعي من الكوفة في مائتي‬
‫رج??ل‪ ،‬وحكيم بن جبل??ة العب??دي في مائ??ة رج??ل من أه??ل البص??رة‪ ،‬ومن أه??ل مص??ر‬
‫وي‪ ،‬وقد ذك??ر الواق??دي وغ??يره من‬ ‫ستمائة? رجل عليهم عبد الرحمن بن عديس ال َب َل ً‬
‫أصحاب السير أنه ممن بايع تحت الشجرة‪ ،‬إلى آخرين ممن كان بمصر? مثل عمرو‬
‫?ران ال ُّت ِجي??بي‪ ?،‬ومعهم محم??د أبي بك??ر الص??ديق‪،‬‬ ‫بن الحمق الخزاعي وس??عد بن ُح ْم? َ‬
‫حرض الناس على عثمان ألمر يطول ذكره كان الس??بب في??ه‬ ‫َ‬ ‫وقد كان تكلم بمصر‪َ ?،‬و‬
‫م??روان بن الحكم‪ ،‬ف??نزلوا في الموض??ع المع??روف ب??ذي الخش??ب فلم??ا علم عثم??ان‬
‫بنزولهم بعث إلى علي بن أبي طالب فأحضره‪ ،‬وسأله أن يخرج إليهم ويض??من لهم‬
‫عنه كل ما يريدون من العدل وحسن الس??يرة‪ ،‬فس??ار علي إليهم‪ ،‬فك??ان بينهم خطب‬
‫طويل‪ ،‬فأجابوه إلى ما أراد وانصرفوا‪ ،‬فلما صاروا إلى الموضع المعروف بحسمى‬
‫بغالم على بع??ير وه??و ُم ْق ِب??ل من المدين??ة‪ ،‬فت??أ ًملُوه فم??اذا ه??و ورش غالم‬ ‫ِ‬ ‫إذا هم‬
‫س? ْرح ص?احب مص?ر وفي?ه إذا ق?دم‬ ‫َ‬
‫فقر ُروه‪ ،‬فأق ًر وأظهر كتابأ إلى ابن أبي َ‬ ‫عثمان‪َ ،‬‬
‫ص?ى ك??ثر َمنْ في‬ ‫الجيش فاقطع يد فالن‪ ،‬واقتل فالن?اً‪ ،‬وافع?ل بفالن ك?ذا‪ْ ،‬‬
‫واح َ‬ ‫ُ‬ ‫عليك‬
‫الجيش‪ ،‬وأم??ر فيهم بم??ا أم??ر وعلم الق??وم أن الكت??اب بخ??ط م??روان‪ ،‬فرجع??وا إلى‬
‫المدينة‪ ،‬واتفق رأيهم ورأي َمنْ قدم من العراق‪ ،‬ونزلوا المسجد وتكلم??وا‪ ،‬وذك??روا‬
‫ما نزل بهم من ُع ّمالهم‪ ،‬ورجع??وا إلى عثم??ان فحاص??روه في داره‪ ،‬ومنع??وه الم??اء‪،‬‬
‫فأشرف على الناس وق??ال‪ :‬أال أح??د يس??قينا‪ .‬وق??ال‪ :‬بم تس??تحلُّون قتلي وق??د س??معت‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪ :‬ال يحل ُّ دم آمري مسلم إال بإحدى ثالث‪ :‬كف??ر‬
‫بعد إيمان‪ ،‬أو زنى بع?د إحص?ان‪ ،‬أو قت?ل نفس بغ?ير نفس ‪ .‬وهللا م?ا فعلت ذلك في‬
‫ب ماء‪ ،‬فما وصل إلي??ه‬ ‫جاهلية أو إسالم‪ ،‬فبلغ عل ّيا ً طلبه للماء‪ ،‬فبعث إليه بثالث ق َِر ٍ‬
‫ذلك حتى خرج جماعة من موالي بني هاش??م وب??ني أمي??ة‪ ،‬وارتف??ع الص??وت‪ ،‬وك??ثر‬
‫وأح? دَ قُوا ب??داره بالس??الح وط??البوه بم??روان‪ ،‬ف??أبى أن يخلِّ َي عن??ه‪ ،‬وفي‬‫الض??جيج‪ْ ،‬‬
‫الناس بنو ُزهْ رة ألجل عبد هّللا بن مسعود ألنه كان من أحالفه??ا‪ ،‬وه??ذيل ألن??ه ك??ان‬
‫منها‪ ،‬وبنو مخزوم وأحالفها لعمار‪ ،‬و ِغ َف??ار وأحالفه??ا ألج??ل أبي ذر‪ ،‬و َت ْيم بن م??رة‬
‫مع محمد بن أبي بكر‪ ،‬وغير هؤالء ممن ال يحمل كتابنا ذكره‪ ،‬فلما بلغ عل َيا َ أنهم‬
‫صفحة ‪427 :‬‬

‫يريدون قتله بعث بابنيه? الحسن والحسين م??ع موالي??ه بالس??الح إلى باب??ه لنص??رته‪،‬‬
‫وأم??رهم أن يمنع??وه منهم‪ ،‬وبعث الزب??ير? ابن??ه عب??د هللا‪ ،‬وبعث طلح??ة ابن??ه محم??داً‪،‬‬
‫وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم إقتداء بمن ذكرنا‪ ،‬فصدُوهم عن ال??دار‪ ،‬ف??رمى‬
‫بئ قنبر‪ ،‬وج??رح محم??د بن‬ ‫من وصفنا بالسهام‪ ،‬واشتبك القوم‪ ،‬و ُجرح الحسن‪ ،‬و ُ‬
‫ش َ‬
‫طلحة‪ ،‬فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم وبنو أمية‪ ،‬فتركوا القوم في القت??ال على‬
‫الب??اب‪ ،‬ومض??ى نف??ر منهم إلى دار ق??وم من األنص??ار فتس? َّ?و ُروا عليه??ا‪ ،‬وك??ان ممن‬
‫وص??ل إلي??ه محم??د بن أبي بك??ر ورجالن آخ??ران‪ ،‬وعن??د عثم??ان زوجت??ه‪ ،‬وأهُل??ه؛‬
‫ومواليه مشاغيل بالقتال‪ ،‬فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته‪ ،‬فقال‪ :‬يا محم??د‪ ،‬وهّللا ل??و‬
‫رآك أبوك لساءه مكانك فتراخت يده‪ ،‬وخرج عنه إلى ال?دار‪ ،‬ودخ??ل رجالن فوج??داه‬
‫فقتاله‪ ،‬وكان المصحف بين يديه يقرأ فيه‪ ،‬فصعدت امرأته فصرخت وقالت‪ :‬قد قتل‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من ب??ني أمي??ة‪ ،‬فوج??ده ق??د‬
‫فاضت نفسه رضي هللا عنه‪ ،‬فبكوا‪ ،‬فبلغ ذلك عليا ً وطلحة والزبير وسعداً وغ??يرهم‬
‫علي الدار‪ ،‬وهو كالواله الحزين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من المهاجرين واألنصار‪ ،‬فاسترجع القوم‪ ،‬ودخل‬
‫وقال البني??ه‪ ?:‬كي?ف قت??ل أم??ير المؤم?نين وأنتم??ا على الب?اب‪ .‬و َل َطم الحس?ن وض?رب‬
‫صدر الحسين‪ ،‬وشتم محمد بن طلحة‪ ،‬ولعن عبد هّللا بن الزبير‪ ،‬فقال ل??ه طلح??ة‪ :‬ال‬
‫?ع إليهم م??روان م??ا قت??ل‪ ،‬وه??رب‬ ‫تض??رب أب??ا الحس??ن‪ ،‬وال تش??تم‪ ،‬وال تلعن‪ ،‬ل??و دَ َف? َ‬
‫على لزوجت??ه نائل??ة‬
‫ِ‬ ‫مروان وغيره من بني أمية‪ ،‬و ُطلِ ُبوا ليقتلوا فلم يوجدوا‪ ،‬وق??ال‬
‫ت كنت معه‪ .‬قالت‪ :‬دخل إليه رجالن وقصت خبر محمد‬ ‫بنت الفراقصة‪َ :‬منْ قتله وأن ِ‬
‫وهللا لق?د دخلت علي?ه وأن?ا أري?د قتل?ه‪ ،‬فلم?ا‬ ‫ّ‬ ‫بن أبي بكر‪ ،‬فلم ينكر ما ق?الت‪ ،‬وق?ال‪:‬‬
‫خرجت‪ ،‬وال أعلم بتخلف الرجلين ع??ني‪ ،‬وهّللا م??ا ك??ان لي في قتل??ه‬ ‫ْ‬ ‫خاطبني بما قال‬
‫من سبب‪ ،‬ولقد قتل وأنا ال أعلم بقتله‪.‬‬
‫وكانت مدة ما حوصر عثمان في داره تسعا ً وأربعين يوماً‪ ،‬وقيل‪ :‬أكثر من ذلك‪.‬‬

‫مقتله وقتلته‬
‫وقتل في ليلة الجمعة لثالث بقين من في الحجة‪ ،‬وذكر أن أحد الرجلين كنان?ة‬
‫??ران‬
‫بن بش??ر التجي??بي‪ ?،‬ض??ربه? بعم??ود على جبهت??ه‪ ،‬واألخ??ر منهم??ا س??عد بن ُح ْم َ‬
‫المرادى‪ ،‬ضربه? بالسيف على حبل عاتقه َفحلَّه‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن عمرو بن الحمق طعنه بسهام تس??ع طعن??ات‪ ،‬وك??ان فيمن م??ال علي??ه‬
‫عمير بن ضابىء البرجمي التميمي‪ ،‬وخضخض سيفه في يطنه‪.‬‬

‫مدفنه‬
‫ودفن على م??ا وص??فنا في الموض??ع المع??روف بحش ك??وكب‪ ،‬وه??ذا الموض??ع في??ه‬
‫مقابر بني أمية‪ ،‬ويعرف أيضا ً بحلة‪ ،‬وصلى علي??ه ُج َب??ير? بن مطعم وحكيم بن ح??زام‬
‫وأبو َج ْهم بن حذيفة‪.‬‬
‫ولما حوصر عثمان كان أبو أيوب األنص??اري رض??ي هّللا عن??ه يص?لّي بالن??اس‪ ،‬ثم‬
‫امتنع‪ ،‬فصلى بهم سهل بن ُح َن ْيف‪ ،‬فلما كان يوم النح??ر ص ?لّى بهم علي‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن‬
‫عثمان قتل ومعه في الدار من بني أمية ثمانية? عشر رجال منهم مروان بن الحكيم‪.‬‬
‫صفحة ‪428 :‬‬

‫ما قيل فيه من الرثاء‬


‫وفي مقتله تقول زوجته نائلة بنت الفرافصة‪:‬‬

‫التجيبي الذي جاء من مصر‬


‫ِّ‬ ‫قتيل ُ‬ ‫أال إنَ خير النـاس بـعـد ثـالثة‬
‫وقد غيبوا عني فضول أبي‬ ‫ومال َِي ال أبكي وتبكي قرابـتـي‬

‫وخ َذله من األنصار وغيرهم‪ ،‬وأعان‬


‫عمرو وقال حسان بن ثابت فيمن تخلف عنه َ‬
‫عليه وعلى قتله‪ ،‬وهّللا أعلم بما قاله‪ ،‬من أبيات‪:‬‬

‫َ‬
‫الـــمـــوت وكـــانـــت والية األنـــصـــــــار‬ ‫خذ َلـ ْتـ ُه األنـصـار إذ حـضـــر‬
‫َمن َعذِيري من الزبير ومن طلحة إذ جاء أمر له مقدار‬
‫فتولى محمد بن أبي بكر عياناً‪ ،‬وخلفه عمار في شعر له طويل يذكر فيه غير من‬
‫ذكرنا‪ ،‬وينسبهم إلى التمالؤعلى قتله‪ ،‬والرضا بما فُعل به‪ ،‬وهّللا أعلم‪ ،‬وكان حس??ان‬
‫عثمانيا ً منحرفا ً عن غيره‪ ،‬وكان عثم??ان إلي??ه محس??ناً‪ ،‬وه??و المتوع??د لألنص??ار في‬
‫قوله في شعره‪:‬‬

‫ما كان شأن علي وابن عفـانـا‬ ‫يا ل ْي َت شعري وليت الطير تخبرني‬
‫هّللا أكبر‪ ،‬يا ثارات عـثـمـانـا‬ ‫َل َت ْس َم ُعنّ وشـيكـا فـي ديارهـ ُم‬

‫هللا عنه كث??يراً م??ا ينش??د أبيات?ا ً قاله??ا ويطي??ل ذكره??ا ال ْ‬


‫تع? رف‬ ‫وكان عثمان رضي ّ‬
‫لغيره‪ ،‬منها‪:‬‬

‫من الحرام ويبقى اإلثم والعار‬ ‫تفنى اللذافة ِم َّمنْ نال صفوتها‬
‫الخير في لذة من بعدها النار‬ ‫يلقى عواقب سوء من مغبتها‬

‫وكان الوليد بن عقبة بن أبي ُم َع ْيط أخا عثمان ل أمه ‪ ،‬فسمع في الليلة الثانية من‬
‫مقتل عثمان يندبه‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫ِض الدهْ ر َشاعِ ُبه‬


‫صدْ ع الصفا ما يوم ُ‬
‫ك َ‬ ‫بني هاشم‪ ،‬إنـا ومـا كـان بـينـنـا‬
‫وسيف? ابن ْأر َوى عندكم وحـرائبـه‬ ‫بني هاشم‪ ،‬كيف الـ َه َـوادة بـينـنـا‬
‫والتنهبـوه‪ ،‬التـحـل ّ مـنـاهـبـ ْه‬ ‫بني هاشم‪ ،‬ردوا سالح ابن أخـتـكـم‬
‫كما غدرت يوما ً بكسرى َم َ‬
‫ـراز ُبـه‬ ‫غدرتم به كيما تكـونـوا مـكـانـه‬

‫صفحة ‪429 :‬‬

‫وهي أبي??ات‪ :‬فأجاب??ه عن ه??ذا الش??عر‪ ،‬وفيم??ا َر َمى ب??ه ب??ني هاش??م ونس??به إليهم‪،‬‬
‫الفضل ُ بن العباس بن عتبة بن أبي لهب فقال‪:‬‬

‫يع‪ ،‬وألقاه َل َور َّ‬


‫الر ْوع صاحبـه‬ ‫أضِ َ‬ ‫فال تسألونا سيفكـم؛ إن سـيفـكـم‬
‫فهم سلبـوه سـيفـه وحـرائبـه‬ ‫سلوا أهل مصر عن سالح ابن أختنا‬
‫علي‪ ،‬وفي كل المواطن صاحبـه‬ ‫ولي األمر بعـد مـحـمـد‬
‫وكان َّ‬
‫ش َق ْينَ فيما تحـاربـه‬
‫وأنت مع األ ْ‬ ‫علي ولـي الـلّـه أظـهـردينـه‬
‫فمالك فينا ممت حميم تعـاتـبـه‬ ‫وأنت امرؤ من أهل صفواء نـازح‬
‫فمالك في اإلسالم سهم تطالـبـه‬ ‫الرحمت أنـك فـاسـق‬
‫ْ‬ ‫وقد أنزل‬

‫هللا‪ :‬ولعثمان أخبار وسير ومآثر حسان‪ ،‬قد أتينا على ذكرها‬ ‫قال المسعودي رحمه ّ‬
‫في كتابنا أخبار الزمان والكتاب األوس??ط‪ ،‬وك??ذلك م??ا ك??ان في أي أم??ه من الك??وائن‬
‫وهللا ولي التوفي?ق‪ ،‬وص?لى هّللا‬
‫ّ‬ ‫واألحداث والفت?وح والح?روب مث?ل ال?روم وغ?يرهم‬
‫علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫ذكر خالفة أمير المؤمنين علي بن أبى طالب‬


‫كرم هّللا وجهه‬
‫بويع علي بن أبي طالب في اليوم الذي قتل في??ه عثم??ان بن عف??ان رض??ي هللا‬
‫عنه‪ ،‬فكانت خالفته إلى أن استشهد أربع سنين وتسعة أش??هر وثماني??ة أي??ام وقي?لَ‪:‬‬
‫أرب??ع ِس ?نِينَ وتس??عة أش??هر إال يوم ?اً‪ ،‬وك??انت الفرق??ة بين ?ه? وبين معاوي??ة ابن أبي‬
‫لسفيان على ما ذكرنا في خالفته‪ ،‬وكان مولده في ال َكعبة‪ ،‬وقي??ل‪ :‬إن خالفت??ه ك??انت‬
‫وس?تينَ س??نة‪?،‬‬‫خمس س??نين وثالث??ة أش??هر وس??بع لي??ال‪ ،‬واستش??هد وه??و ابن ثالث ِ‬
‫وعاش بعد الضربة الجمعة والسبت‪،‬؛ وت??وفى في ليل??ة األح??د‪ ،‬وق??د قي??ل في مق??دار‬
‫عمره أق??ل مم??ا ذكرن??ا‪ ،‬وق??د تن??وزع في موض??ع ق??بره؛فمنهم من ق??ال‪ :‬إن??ه دفن في‬
‫مسجد الكوفة‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬به حمل إلى المدينة ف??دفن عن??د ق??بر فاطم??ة‪ ،‬ومنهم‬
‫?ل‪ ،‬وإن الجم?ل َ ت??اه ووق??ع إلى وادي بطيء‪،‬‬ ‫من قال‪ :‬إنه حم??ل في ت??ابوت على َج َم? ٍ‬
‫وقد قيل من الوجوه غ??ير م??ا ذكرن??ا‪ ،‬وق??د أتين??ا على ذل??ك في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان‬
‫والكتاب األوسط‪.‬‬

‫ذكر نسبه? ولمع من أخباره وسيره‬


‫نسبه وأخوته وأخواته‬

‫ه??و علي بن أبي ط??الب بن عب??د المطلب بن هاش??م بن عب??د من??اف‪ ،‬ويك??نى أب??ا‬
‫الحسن‪ ،‬و أمه فاطمة بنت أسد بن هاش??م بن عب??د من??اف‪ ،‬ولم يكن من عه??د الن??بي‬
‫صلى هللا عليه وسلم إلى وقتنا هذا من خالف??ة المتقي ممن ولي الخالف??ة َم ِن اس??مه‬
‫علي غ??يره‪ ،‬وغ?ير المكتفي باهّلل علي بن المعتض??د‪ ،‬وك?ان أول َ من َو َل? َدهُ هاش??م َّيان‬
‫من الخلفاء‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنه بويع البيعة العامة بعد قتل عثمان بأربعة أيام‪ ،‬وقد‬
‫صفحة ‪430 :‬‬

‫ذكرنا البيعة األولى فيما سلف من هذا الكتاب‪ ،‬وتنازع الناس في اسم أبي طالب‬
‫وو َل ُد أبي طالب بن عبد المطلب أربعة ذك??ور وابنت??ان فط??الب وعقي??ل وجعف??ر‬
‫أبيه‪َ ،‬‬
‫وعلي وفاختة و ُج َمانة ألب وأم‪ ،‬أمه م فاطمة بنت أس??د بن هاش??م‪ ،‬وبين ك??ل واح??د‬
‫من البنين عشر سنين‪ :‬فطالب األكبر وبين??ه وبين عقي??ل عش??ر س??نين‪ ،‬وبين عقي??ل‬
‫ط?الب بن‬
‫َ‬ ‫?رج مش?ركو ق?ريش‬‫وجعفر سنتان‪ ،‬وبين جعفر وعلي عش??ر س??نين‪ ،‬وأخ? ِ‬
‫أبي طالب يوم بدر إلى حرب رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم كره?اَ‪ ،‬ومض??ى ولم‬
‫يعرف له خبر‪ ،‬و ُح َ‬
‫فظ من قوله في هذا اليوم‪:‬‬

‫في مقنب من تلكم ال َم َقانِـب‬ ‫يارب إما خرجوا بـطـالـب‬


‫والرجل المسلوب غير الساَلب‬ ‫فاجعلهم المغلوب غير الغالب‬

‫وكان زو َج فاختة بنت أبي طالب أبو َوهْ ب هبيرةُ بن عمرو بن عائد بن عمرو بن‬
‫مخزوم‪ ،‬وخلف عليها ابنا ً وبنتاً‪ ،‬وهاجرت‪ ،‬ومات زوجه??ا بنج??ران مش??ركاً‪ ،‬وفيه??ا‬
‫يقول ببالد نجران من أبيات كثيرة‬
‫‪:‬‬
‫كذاك النوى أسبابها وانتقالهـا‬ ‫شآ َك سؤالهـا‪.‬‬ ‫أشا َق ْت َك هند أم َ‬
‫بنجران يسري بعد نوم خيالُ َها‬ ‫وأر َقنِي في رأس حصن َّ‬
‫ممر ٍد‬ ‫َ‬
‫وقطعت األرحام منك حبالُها‬ ‫فإن تك قد تابعت دين محمـد‬

‫وهي طويلة‪ ،‬وكانت تكنى أم هانىء‪ ،‬وقد استعمل علي‪ -‬حين أفضت الخالفة إليه‪-‬‬
‫اب َن َها جعدة بن هبيرة‪ ،‬وجعدة هو القائل‪:‬‬

‫ومن هاشم أمي لخـير قـبـيل‬ ‫مخزوم ان كنت سائالً‬


‫ٍ‬ ‫أي من بني‬
‫وخالي علي ذو الندى وعـقـيل‬ ‫فمن ذا الذي يبأى علي بخـالـه‬

‫وجمانة بنت أبي طالب كان بعلها س??فيان بن الح??ارث بن عب??د المطلب‪ ،‬وهي أول‬
‫هاشمية ول??دت لهاش??مي‪ ،‬ك??ذلك ذك??ر الزب??ير بن بك??ار في كتاب??ه في أنس??اب ق??ريش‬
‫وأخبارها‪ ،‬وهاجرت وماتت بالمدينة? في أيام النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫مسيره إلى البصرة‬


‫وكان مسير? علي إلى البصرة في س??نة س??ت وثالثين‪ ،‬وفيه??ا ك?انت وقع??ة الجم??ل‪،‬‬
‫وذلك في يوم الخميس لعشر خلون من جمادي األول منها‪ ،‬وقتل فيها من أص??حاب‬
‫الجمل من أهل البصرة وغ??يرهم ثالث??ة عش??ر ألف?اً‪ ،‬وقت?ل من أص?حاب على خمس?ة‬
‫آالف‪ ،‬وقد تنازع الناس في مقدار من قتل من الفريقين‪ :‬فمن مقلل ومكثر‪ ،‬فالمقل??ل‬
‫يقول‪ :‬قتل منهم س??بعة آالف والمك??ثر يق??ول‪ :‬عش??رة آالف على حس??ب مي??ل الن??اس‬
‫وأهوائهم إلى كل فريق منهم‪ ،‬وكانت وقعة واحدة في يوم واحد‪.‬‬

‫صفحة ‪431 :‬‬

‫وقيل‪ :‬إنه بين خالفة علي إلى وقعة الجمل خمسة أش??هر وأح??د وعش??رون يوم?اً‪،‬‬
‫بين وقعة الجمل وأول الهجرة خمس وثالثون س??نة وخمس?ة? أش??هر وعش??رة أي??ام‪،‬‬
‫وبين ذلك وبين دخول علي إلى الكوف??ة ش??هر‪ ،‬وبين ذل??ك وبين أول الهج??رة خمس‬
‫وثالثون س?نة وس?تة أش?هر وعش?رة أي?ام‪ ،‬وبين دخ?ول علي والتقائ?ه م?ع معاوي?ة‬
‫للقتال بص ِّفينَ ستة أشهر وثالثة عشر يوما‪ ،‬وبين ذلك وأول الهجرة ست وثالث??ون‬
‫سنة وثالثة عشر يوما‪.‬‬

‫قتلى صفين وأيأمها‬


‫وقتل بصفين سبعون ألف?اً‪ :‬من أه??ل الش??ام خمس??ة وأربع??ون آلف??ا‪ ،‬ومن أه??ل‬
‫العراق خمسة وعشرون ألفاً‪ ،‬وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام‪ ،‬وقتل بها‬
‫من الصحابة ممن كان مع علي خمسة وعشرون رجال‪ :‬منهم عم??ار بن ياس??ر أب??و‬
‫س َمية وهو ابن ثالث وسبعين سنة وكانت عدة الوق??ائع بين‬ ‫اليقظان المعروف بابن ُ‬
‫أهل العراق والشام سبعون وقعة‪.‬‬

‫التقاء الحكمين‬
‫وفي سنة? ثمان وثالثين كان التقاء الحكمين‪ -‬وهما عمرو بن العاص وأبو موس??ى‬
‫األشعري‪ -‬بأرض البلقاء من أرض دمشق‪ ،‬وقيل‪ :‬بحومة الجن??دل‪ ،‬وهي على نح??و‬
‫عشرة أميال من دمشق‪ ،‬وكان من أمرهما م??ا ق??د ش??هر‪ ،‬وس??نورد في ه??ذا الكت??اب‬
‫جوامع ما ذكرنا‪ ،‬وإن كنا قد أتينا على مبسوط ذلك فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫ش َراةُ وكان ممن شهد صفين مع‬ ‫وفي هذه السنة حكمت الخوارج وتحكمت‪ ،‬وهم ال ُ‬
‫علي من أص??حاب ب??در س??بعة وثم??انون رجالً‪ :‬منهم س??بعة عش??ر من المه??اجرين‪،‬‬
‫وسبعون من األنصار‪ ،‬وشهد معه من األنصار ممن ب??ايع تحت الش??جرة وهي بيع??ة‬
‫الرضوان من المهاجرين واألنص??ار من أص??حاب رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‬
‫تسعمائة‪ ،‬وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفينا وثمانمائة‪.‬‬

‫حربه مع الخوارج‬
‫ان من الخ??وارج‪ ،‬وقع??د عن‬ ‫وفي سنة ثم??ان وثالثين ك??ان حرب??ه م??ع أه??ل ال َّن ْه? َ‬
‫?ر َو ِ‬
‫بيعته? جماعة عثمانية لم ي??روا إال الخ??روج عن األم??ر‪ :‬منهم س??عد بن أبي وق??اص‪،‬‬
‫وعبد هّللا بن عمر‪ ،‬وبايع يزي??د بع??د ذل??ك والحج??اج لعب??د المل??ك بن م??روان‪ ،‬ومنهم‬
‫?ة بن مظع??ون‪ ،‬وأهب??ان بن ص??يفي‪ ،‬وعب??د هللا بن س??الم‪ ،‬والمغ??يرة بن ش??عبة‬ ‫قُ َدا َم? ُ‬
‫الثقفي‪ ،‬وممن اع???تزل من األنص???ار كعب بن مال???ك‪ ،‬وحس???ان بن ث???ابت‪ ،‬وكان???ا‬
‫ْ‬
‫األش? َهل‪ ،‬ويزي??د‬ ‫شاعرين‪ ،‬وأبو سعيد ال ُخدْ ِري‪ ،‬ومحمد بن مسلمة حليف ب??ني عب??د‬
‫بن ثابت‪ ،‬ورافع بن خديج‪ ،‬ونعمإن بن بشير? و فص??الة بن عبي??د‪ ،‬وكعب بن عج??رة‬
‫و َم ْس َلمة? بن خالد‪ ،‬في آخرين ممن لم نذكرهم من العثماني??ة من األنص??ار وغ??يرهم‬
‫من بني أمية وسواهم‪.‬‬

‫صفحة ‪432 :‬‬

‫س?م م??ا في بيت‬ ‫وانتزع علي أمالكا ً كان عثمان أقطعه??ا جماع? ً‬
‫?ة من لمس??لمين‪ ،‬و َق َّ‬
‫ضلْ أحداً على أحد‪ ،‬وبعثت أم حبيب??ة بنت أبي س??فيان إلى‬ ‫المال على الناس‪ ،‬ولم ُي َف ِّ‬
‫مخض?با ً بدمائ??ه م??ع النعم??ان بن بش??ير? األنص??اري‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أخيه??ا معاوي??ة بقميص عثم??ان‬
‫واتصلت بيعة علي بالكوفة وغيرها من األنصار‪ ،‬وك??ان أه??ل الكوف??ة أس??رع إجاب??ة‬
‫على أهله??ا أب??و موس??ى األش??عري‪ ،‬ح??تى تك??اثر الن??اس‬
‫ِ‬ ‫إلى بيعته‪ ،‬وأخ??ذ ل??ه البيع??ة‬
‫عليه‪ ،‬وكان عليها عامالَ لعثمان‪.‬‬

‫بنو أمية عند علي‬


‫وأتاه جماعة ممن تخلف عن بيعته من بني أمية‪ :‬منهم سعيد بن العاص‪ ،‬ومروان‬
‫بن الحكم‪ ،‬والوليد بن ُع ْقبة بن أبي ُم َع ْيط‪ ،‬فج??رى بين??ه وبينهم خطب طوي??ل‪ ،‬وق??ال‬
‫الناس‪ ،‬وخفن??ا على‬
‫ُ‬ ‫له الوليد‪ :‬أنا لم نتخلف عنك رغبة عن بيعتك‪ ،‬ولكنا قوم َو َت َر َنا‬
‫فقتلت أبي ص??براً‪َ ،‬وض??ربتني ح??داً‪ ،‬وق??ال‬ ‫َ‬ ‫نفوسنا‪ ،‬فعذرنا فيما نقول واضح‪ ،‬أما أنا‬
‫سعيد بن العاص كالما ً كثيراً‪ ،‬وق??ال ل??ه الًولي??د‪ :‬أم??ا س??عيد فقتلت أب??اه‪ ،‬وأهنت َم ْث??و‬
‫ض ِّمه إياه‪.‬‬
‫وأ َّما مروان فإنك شتمت أباه‪ ،‬وعبت عثمان في َ‬
‫وقد ذكر أبو مخنف لوط بن يحيى أن حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن‬
‫بشير‪ ?-‬قبل نفوذه بالقميص‪ -‬أتوا عليا ًفي آخرين من العثمانية فقال كعب بن مال??ك‪:‬‬
‫يا أمير المؤمنين‪ ،‬ليس مسي َئا َ َمنْ عتب‪ ،‬وخير كفر م?ا مح?اهُ ع?ذر‪ ،‬في كالم كث?ير‪،‬‬
‫ثم بايع وبايع من ذكرنا جميعا ً‪.‬‬

‫عمرو بن العاص‬
‫وقد كان عمرو بن العاص انحرف عن عثمان النحرافه عنه وتوليته? مصر غيره‪،‬‬
‫فنزل الشام‪ ،‬فلما اتصل ب??ه أم?ر عثم?ان وم??ا ك?ان من بيع?ة علي‪ ،‬كتب إلى معاوي??ة‬
‫يهز ه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان‪ ،‬وكان فيما كتب به إليه‪ :‬ما كنت صانعا ً إذا‬ ‫ُّ‬
‫قشرت من كل شيء تملكه فاصنع ما أنت ص??انع‪ ،‬فبعث إلي??ه معاوي??ة‪ ،‬فس??ار إلي??ه‪،‬‬
‫وهللا ال أعطيك من ديني حتى أنال من دنياك‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫فقال له معاوية‪ :‬بايعني‪ ،‬قال‪ :‬ال‬
‫سلْ‪ ،‬قال‪ :‬مصر ُط ْع َمة‪ .‬فأجابه إلى ذلك‪ ،‬وكتب له به كتاباً؛ وقال عم??رو بن الع?اص‬ ‫َ‬
‫في ذلك‪:‬‬
‫به منك دنيا؛ فا ْن ُظ َرنْ كيف تصنع?‬ ‫اوي ال أعطيك ديني ولم أ َنـل‬
‫ُم َع َ‬
‫أخذت بها شيخا ً يضر و ينـفـع‬‫َ‬ ‫افأر ِب ْح بصفقة?‬
‫فإن تعطني مصر ْ‬
‫المغيرة بن شعبة ينصح? عل َيا َ ثم يرجع‬

‫وأتى المغيرة بن شعبة علياً‪ ،‬فقال له‪ :‬إن لك حق الطاعة والنصيحة‪ ?،‬وإن الرأي‬
‫?رر معاوي??ة‬‫اليوم تحوز به ما في غد‪ ،‬وإن المضاع اليوم تض??يع ب??ه م??ا في غ??د‪ ،‬أ ْق? ِ‬
‫على عمله‪ ،‬وأقرر ابن عامر على عملِهِ‪ ،‬وأقرر العمال على أعمالهم‪ ،‬حتى إذا أتتك‬
‫طاعتهم وطاعة الجنود استبدلت أو تركت‪ ،‬قال‪ :‬حتى أنظر‪ ،‬فخرج من عن??ده وع??اد‬
‫إليه من الغد‪ ،‬فقال‪ :‬إني أشرت عليك باألمس برأي وتعقبته برأي‪ ،‬وإنما ال??رأي أن‬
‫تعاجلهم بال َّن ْزع فتعرف السامع من غيره وتستقبل? أمرك‪ ،‬ثم خرج من عنده فتلقاه‬
‫صفحة ‪433 :‬‬

‫ابن عباس خارجا ً وهو داخل‪ ،‬فلم??ا انتهى إلى علي ق??ال‪ :‬رأيت المغ??يرة خارج?ا ً من‬
‫عندك ففيم جاءك‪ .‬قال‪ :‬جاءني أمس بكيت وكيت؛وجاءني اليوم ب?ذيت وذيت؛فق?ال‪:‬‬
‫ش?ك‪،‬ق?ال‪ :‬فم?ا ال?رأي‪ .‬ق?ال‪ :‬ك?ان ال?رأي أن‬ ‫أما أمس فقد نصحك؛وأما الي?وم فق?د َغ َّ‬
‫تخرج حين قتل عثمان‪ ،‬أو قبل ذلك‪ ،‬فتأتي مكة فتدخل دارك فتغلق عليك با َب َك‪،‬ف??إن‬
‫ك??انت الع??رب مائل??ة مض??طرة في أث??رك ال تج??د غ??يرك‪،‬فأم??ا الي??وم ف??إن ب??ني? أمي??ة‬
‫ش? ُع َبة من ه??ذا األم??ر‪ ،‬ويش??بهون? في??ك على الن??اس‪،‬‬ ‫سيحسنون الطلب بأن يلزموك ُ‬
‫وقال المغيرة‪ :‬نصحته فلم يقبل‪ ،‬فغششته‪ ،‬وذكر أن??ه ق??ال‪ :‬وهللاّ م??ا نص??حته قبله??ا‪،‬‬
‫وال أنصحه بعدها‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬ووجدت في وجه آخر من الروايات أن ابن عباس قال‪ :‬قدمت من‬
‫مكة بعد مقتل عثمان بخمس ليال‪ ،‬فجئت عليا ً أدخل عليه‪ ،‬فقيل لي‪ :‬عن??ده المغ??يرة‬
‫بن شعبة‪ ،‬فجلست بالباب ساعة‪ ،‬فخ??رج المغ?يرة‪ ،‬فس?لم علي‪ ،‬وق?ال‪ :‬م?تى ق?دمت‪.‬‬
‫علي وس??لمت علي??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬أين لقيت الزب??ير وطلح??ة‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬الس??اعة‪ ،‬ودخلت على ّ‬
‫قلت‪ :‬بالنواصب‪ ،‬قال‪ :‬و َمنْ معهما‪ .‬قلت‪ :‬أبو سعيد بن الح??ارث بن هش??ام في فتي??ة‬
‫من ق??ريش‪ ،‬فق??ال علي‪ :‬أم??ا إنهم لم يكن لهم بع??د أن يخرج??وا يقول??ون نطلب ب??دم‬
‫عثمان‪ ،‬وهّللا يعلم أنهم َق َتلة عثمان‪ ،‬فقلت‪ :‬أخبرني عن شأن المغيرة‪ ،‬ولم َخال ب??ك؛‬
‫أخلِنِي‪ ،‬ففعلت‪ ،‬فق??ال‪ :‬إن النص??ح‬ ‫ق??ال‪ :‬ج??اءني بع??د مقت??ل عثم??ان بي??ومين‪ ،‬فق??ال‪ْ :‬‬
‫رخيص وأنت بقية الناس‪ ،‬وأنا لك ناصح‪ ،‬وأنا أشير عليك أن ال ترد عم??ال عثم??ان‬
‫عا َم َك هذا‪ ،‬فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم‪ ،‬فإذا بايعوا لك واطمأن أمرك ع??زلت‬
‫من أحببت وأقررت من أحببت‪ ،‬فقلت له‪ :‬وهّللا ال أداهن في ديني‪ ،‬وال أعطي الرياء‬
‫في أمري‪ ،‬قال‪ :‬فإن كنت قد أتيت ف?انزع من ش??ئت وات?رك معاوي??ة ف?إن ل?ه ج?راءة‬
‫وهو في أهل الشام مسموع منه‪ ،‬ول??ك حج??ة في إثبات??ه فق??د ك??ان عم??ر واله الش??ام‬
‫وهللا ال أس?تعمل معاوي?ة ي?ومين أب?داً‪ ،‬فخ?رج من عن?دي على م?ا‬ ‫ّ‬ ‫كلها‪ ،‬فقلت له‪ :‬ال‬
‫أشار به‪ ،‬ثم عاد‪ ،‬فقال‪ :‬إني أش??رت علي??ك بم??ا أش??رت ب??ه وأبيت علي‪ ،‬فنظ??رت في‬
‫األمر‪ ،‬وأذا أنت مصيب ال ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة‪ ،‬وال يك??ون في??ه دلس??ة‪ ،‬ق??ال‬
‫ش ?ك‪،‬‬‫ابن عباس‪ :‬فقلت له‪ :‬أما أول ما أشار به عليك فقد نصحك‪ ،‬وأما األخر فقد َغ َّ‬
‫فعلي أن أقلع??ه من منزل??ه‪ ،‬ق??ال‪ :‬ال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية فإن ب??ايع ل??ك‬
‫وهّللا ال أعطيه إال السيف‪ ،‬ثم تمثل‪:‬‬
‫بعار‪ ،‬إذا ما غالت ال َّن ْف َ‬
‫س غولُ َها‬ ‫َ‬ ‫فما مِي َت ٌة إنْ ُم ُّت َها غير عـاجـز‬

‫فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أنت رجل ش??جاع‪ ،‬أم??ا س??معت رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم يقول‪ :‬الحرب ُخدْ َعة ؛ فقال علي‪ :‬بلى‪ ،‬قلت‪ :‬أما وهّللا لئن أطعتني ألص??درن‬
‫بهم بعد ورود‪ ،‬وألتركهم ينظرون في أدبار األمور‪ ،‬وال يدرون ما كان وجهها‪ ،‬من‬
‫غير نقص لك‪ ،‬وال إثم عليك‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا ابن عباس‪ ،‬لست من هنيات??ك وال هني??ات‬
‫علي برأي‪ ،‬فإذا عصيتك ْ‬
‫ف?أط ِعنِي‪ ،‬فقلت أن?ا‪ :‬أفع??ل‪ ،‬ف?إنَّ‬ ‫معاوية في شيء تشير به َّ‬
‫س َر مالك عندي الطاعة‪ ،‬وهّللا ولي التوفيق‪.‬‬
‫أ ْي َ‬

‫صفحة ‪434 :‬‬

‫ذكر األخبار عن يوم الجمل‬


‫وبدئه وما كان فيه من الحرب وغير ذلك‬
‫تدبير الخروج على علي‬
‫ودخل طلحة و الزبير? مكة‪ ،‬وقد كانا استأذنا عل ّيا ً في العمرة‪ ،‬فقال لهما‪ ،‬لعلكم‬
‫تريدان البصرة أو الشام‪ ،‬فأقس?ما أنهم?ا ال يقص??دان غ?ير مك??ة‪ ،‬وق??د ك?انت عائش??ة‬
‫هللا بن عامر عامل عثم??ان على البص??رة ه??رب‬ ‫هللا عنها بمكة‪ ،‬وقد كان عبد ّ‬ ‫رضي ّ‬
‫عنه??ا حين أخ??ذ البيع??ة لعلي به??ا على الن??اس حارث??ة بن قُ َدام??ة الس??عدي‪ ،‬ومس??ير?‬
‫عثم??ان بن ُح َن ْي??ف األنص??اري أليه??ا على خراجه??ا من قب??ل علي رض??ي هّللا عنه‬
‫وانص??رف عن اليمن عام??ل عثم??ان وه??و يعلى بن مني??ة‪ ?،‬ف??أتى مك??ة وص??ادف به??ا‬
‫عائش??ة وطلح??ة والزب??ير وم??روان بن الحكم في آخ??رين من ب??ني أمي??ة‪ ،‬فك??ان ممن‬
‫رض على الطلب ب??دم عثم??ان‪ ،‬وأعطى عائش??ة وطلح??ة والزب??ير أربعمائ??ة أل??ف‬ ‫َح? َ‬
‫درهم‪ ،‬ودرعا وسالحاً‪ ،‬وبعث إلى عائشة بالجمل المس??مى عس??كراً‪ ،.‬وك??ان ش??راؤه‬
‫عليه باليمن مائتي دينار‪ ،‬فأرادا الشام‪ ،‬فصدَ هم ابن ع??امر‪ ،‬وق??ال‪ :‬إن ب??ه معاوي??ة‪،‬‬
‫وال ينقاد إليكم وال يطيعكم‪ ،‬لكن هذه البصرة لي بها صنائع وع??دد؛ فجه??زهم ب??ألف‬
‫ألف درهم ومائة من اإلِبك وغير ذلك‪.‬‬

‫المسير إلى البصرة‬


‫وسار القوم نحو البصرة في ستمائة? راكب‪ ،‬فانتهوا في الليل إلى م??اء لب??ني كالب‬
‫?و ْت كالبهم على ال??ركب‪ ،‬فق??الت‬ ‫يع??رف ب??الحواب‪ ،‬علي??ه ن??اس من ب??ني كالب‪َ ،‬ف َع? َ‬
‫عائش??ة‪ :‬م??ا اس??م ه??ذا الموض??ع‪ .‬فق??ال له??ا الس??ائق أجمله??ا‪ :‬الح??واب‪ ،‬فاس??ترجعت‬
‫هللا ص?لى هللا علي??ه‬ ‫وذكرت م?ا قي??ل له?ا في ذل?ك‪ ،‬فق?الت‪ :‬ردُّونِي إلى ح??رم رس??ول ّ‬
‫وسلم‪ ،‬ال حاجة لي في المسير‪ ،‬فقال الزبير‪ ?:‬باهّلل ما هذا الح??واب‪ ،‬ولق??د غِل??ط فيم??ا‬
‫س?ا َق ِة الن??اس‪ ،‬فلحقه??ا فأقس??م أن ذل??ك ليس ب??الحوأب‪،‬‬ ‫أخبرك به‪ ،‬وك??ان طلح??ة في َ‬
‫وشهد معهما خمسون رجالً ممن كان معهم‪ ،‬فكان ذل??ك أول ش??هادة زور أقيمت في‬
‫اإلسالم‪ ،‬فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن ُح َن ْيف َفم??ا َن َع ُهم‪ ،‬وج??رى بينهم قت??ال‪،‬‬
‫ك?ف الح?رب إلى ق?دوم علي‪ ،‬فلم?ا ك?ان في بعض‬ ‫ثم إنهم اص?طلحوا بع?د ذل?ك على ِّ‬
‫ثم إن الق??وم‬‫اللي??الي َب ِّي ُت??وا عثم??ان بن ُح َن ْي??ف فأس??روه وض??ربوه? ونتف??وا لحيت??ه‪ِ ،‬‬
‫اس??ترجعوا وخ??افوا على مخلَّفيهم بالمدين ?ة? من أخي??ه س??هل بن ُح??نيف وغ??يره من‬
‫األنص??ار‪ ،‬فخلَّ ْوا عن??ه‪ ،‬وأرادوا بيت الم??ال فم??انعهم الخ??زانُ والموكل??ون ب??ه وهم‬
‫منهم سبعون رجال غير من جرح‪ ،‬وخمس??ون من الس??بعين ض??ربت‬ ‫ِ‬ ‫السبابجة‪ ،‬فقتل‬
‫رقابهم صبراَ من بعد األسر‪ ،‬وهؤالء أول من قُ ِتل َ ظلما ً في اإلِسالم وصبراً‪ ،‬وقتل??وا‬
‫ساكها‪ ،‬وتشا َّح‬ ‫حكيم بن َج َب َلة العبدي‪ ،‬ؤكان من سادات عبد القيس و ُزهِّاد ربيعه? و ُن َّ‬
‫طلح?ة والزب?ير? في الص?الة بالن?اس‪ ،‬ثم اتفق?وا على أن يص?لي بالن?اس عب?د هّللا بن‬
‫ألزبير يوماً‪ ،‬ومحمد بن طلحة يوماً‪ ،‬في خطب طوي??ل ك??ان بين طلح??ة والزب??ير إلى‬
‫أن اتفقا على ما وصفنا‪.‬‬

‫صفحة ‪435 :‬‬

‫مسير علي إلى العراق‬


‫وسار علي من المدينة بعد أربعة أشهر‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬في س??بعمائة راكب منهم‬
‫بدر ّيا ً وباقيهم من الص??حابة‪ ،‬وق??د‬ ‫أربعمائة من المهاجرين واألنصار منهما سبعون ِ‬
‫ك??ان اس??تخلف على المدين??ة س??هل بن ح??نيف األنص??اري‪ ،‬ف??انتهى إلى الر َب? َذة بين‬
‫علي أرادهم‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫الكوف??ة ومك??ة من طري??ق الج?ادة‪ ،‬وفات??ه طلح?ة وأص??حابه‪ ،‬وق??د ك?ان‬
‫فانصرف حين ف?اتوه إلى الع?راق في طلبهم‪ ،‬ولح?ق بعلي من أه?ل المدين?ة جماع?ة‬
‫خزيم??ة بن ث??ابت ذو الش??هادتين‪ ،‬وأت??اه من ط??يى س??تمائة? راكب‪،‬‬ ‫من األنصار فيهم َ‬
‫و َكا َت َب علي من الربذة أبا موس??ى األش??عري ليس??تنفر الن??اس‪َ ،‬ف َث َّب َطهم أب??و موس??ى‪،‬‬
‫وق??ال‪ :‬إنم??ا هي فتن??ة‪ ،‬فنمي ذل??ك إلى علي‪ ،‬ف??ولَّى علي الكوف??ة َق َر َظ??ة بن كعب‬
‫األنصاري‪ ،‬وكتب إلى أبي موسى‪ :‬اعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموما ً مدحوراً‪ ،‬فما‬
‫هذا أول يومنا منك‪ ،‬وإن لك فينا لهن??ات وهني??ات‪ .‬وس??ار علي بمن مع??ه ح??تى ن??زل‬
‫بني قار‪ ،‬وبعث بابنه? الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يس?تنفران الن?اس‪ ،‬فس?ارا‬
‫عنها ومعهما من أهل الكوف?ة نح?و من س?بعة االف‪ ،‬وقي??ل‪ :‬س??تة آالف وخمس?مائة?‬
‫وراس?ل َ الق??وم وناش??دهم هّللا ‪،‬‬
‫َ‬ ‫وستون رجالً منهم األش??تر ف??انتهى علي إلى البص??رة‬
‫فأ َب ْوا إال قِ َتاله‪.‬‬

‫قدوم علي البصرة‬


‫ض?ل ُ بن ا ْل ُح َب?اب‬ ‫وذكر عن الم?نزر بن الج?ارود فيم?ا ح?دث ب?ه أب?و خليف?ة ال َف ْ‬
‫الجمحي عن ابن عائشة عن َم ْعن بن عيسى عن المنزر بن الجارود ق??ال‪ :‬لم??ا ق??دم‬
‫فخرجت أنظ??ر إلي??ه‪،‬‬‫ُ‬ ‫الطف‪ ،‬فأتى الزاوية‬
‫َّ‬ ‫علي رضي هّللا عنه البصرة دخل مما يلي‬
‫أش? َه َب علي??ه قلنس??وة‬ ‫فورد موكب في نحو ألف فارس يتقدّ مهم فارس على‪ -‬ف??رس ْ‬
‫?اض‬
‫األغلب عليه??ا البي? ُ‬ ‫ُ‬ ‫وثي??اب بيض متقل??د س??يفا ً ومع??ه راي??ة‪ ،‬وإذا تيج??ان الق??وم‬
‫والص??فرة ُم??دَ ججين في الحدي??د والس??الح‪ ،‬فقلت‪ :‬من ه??ذا‪ .‬فقي??ل‪ :‬ه??ذا أب??و أي??وب‬
‫األنصاري صاحب رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم‪ ،‬وه??ؤالء األنص??ار وغ??يرهم‪ ،‬ثم‬
‫تالهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثي?اب بيض متقل?د س?يفا ً متنكب قوس?ا ً مع?ه‬
‫ش َقر َفي نحو ألف ف?ارس‪ ،‬فقلت‪ :‬من ه?ذا‪ .‬فقي?ل‪ :‬ه??ذا ُخ َزيم?ة? بن‬ ‫رأية على فرس أ ْ‬
‫ت معت ٌّم بعمامة‬ ‫فارس أخر على فرس ُك َم ْي ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ثابت األنصاري ذو الشهادتين‪ ،‬ثم مر بنا‬
‫صفراء من تحتها قلنسوة بيض??اء وعلي??ه َق َب??اء أبيض مص??قول متقل??د س??ي َفا متنكب‬
‫قوسا ً في نحو أل??ف ف??ارس من الن??اس ومع??ه راي??ة‪ ،‬فقلت‪ :‬من ه??ذا‪ .‬فقي??ل لي‪ :‬أب??و‬
‫ش َه َب عليه ثي??اب بيض وعمام?ة‬ ‫َق َتاعة بن ربعي‪ ،‬ثم مر بنا فارس أخر على فرس أ ْ‬
‫ومن خلف?ه ش??ديد األدم?ة علي??ه س?كينة ووق?ار راف??ع‬ ‫ِ‬ ‫س َدلها من بين يديه‬‫سوداء قد َ‬
‫صوته? بقراءة القرآن متقلد سيفا َ متنكب قوسا ً معه راية بيضاء في ألف من الن??اس‬
‫مختلفي التيجان حوله مشيخة وكهول وشباب كأنما قد أقفوا للحساب‪ ،‬أ َث ُر الس??جود‬
‫قد أثر في جباههم‪ ،‬فقلت‪ :‬من هذا فقيل‪ :‬عمار بن ياسر في ع??دة من الص??حابة من‬
‫المه??اجرين واألنص??ار وأبن??ائهم‪ ،‬ثم م??ر بن??ا ف??ارس على ف??رس أش??قر علي??ه ثي??اب‬
‫وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء متنكب قوسا ً متقل??د س??يفا ً تخ??ط رجاله في األرض‬
‫والبياض معه راية صفراء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الغلب على تيجانهم الصفرةُ‬
‫ُ‬ ‫في ألف من الناس‬
‫صفحة ‪436 :‬‬

‫قلت‪ :‬من ه??ذا‪ .‬قي??ل‪ :‬ه??ذا قيس بن س??عد بن عب??ادة في ع??دة من األنص??ار وأبن??ائهم‬
‫ش َهل َ ما رأينا أحسن من??ه‪ ،‬علي??ه‬ ‫وغيرهم من قحطان‪ ،‬ثم مر بنا فارس على فرس أ ْ‬
‫سدَ َل َها من بين يديه بلواء‪ ،‬قلت‪ :‬من ه??ذا‪ .‬قي??ل‪ :‬ه??و‬
‫ثياب بيض وعمامة سوداء قد َ‬
‫عبد هّللا بن العباس في وفده وعدة من أصحاب رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم‬
‫تاله موكب آخر فيه فارس أشبه بالناس باألولين‪ ،‬قلت‪ :‬من هذا‪ .‬قيل‪ :‬عبي??د هّللا بن‬
‫العباس‪ ،‬ثم تاله موكب آخر فيه فارس أشبه الن?اس ب??األولين‪ ،‬قلت‪ :‬من ه?ذا قي??ل‪:.‬‬
‫ق َث م بن العباس‪ ،‬أو معبد بن العباس ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً‪،‬‬
‫واش??تبكت الرم??اح‪ ،‬ثم ورد م??وكب في??ه خل??ق من الن??اس عليهم الس??الح والحدي??د‬
‫مختلفو الريات في أوله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنما ُكسِ َر و ُج ِب َر قال ابن عائش??ة‪:‬‬
‫وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى األرض أكثر من نظره إلى فوق‪ ،‬وكذلك‬
‫تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر وجبر كأنم??ا على رؤوس??هم‬
‫الطير‪ ،‬وعن يمينه شاب حسن الوجه‪ ،‬وعن يساره ش??اب حس??ن الوج??ه وبين يدي??ه‬
‫ش??اب مثلهم??ا قلت‪ :‬من ه??ؤالء قي??ل‪ :‬ه??ذا علي بن أبي ط??الب‪ ،‬وه??ذان الحس??ن‬
‫والحسين عن يمينه? وشماله‪ ،‬وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية ال ُع ْظمى‪،‬‬
‫وهذا الذي َخ ْلفه عبد هّللا بن جعفر بن أبي طالب‪ ،‬وه??ؤالء ول??د َعقي??ل وغ??يرهم من‬
‫فتيان بني? هاشم‪ ،‬وهؤالء المشايخ هم أهل بدر من المهاجرين واألنصار‪.‬‬
‫فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية‪ ،‬فصلى أربع ركعات‪ ،‬وعفر خدي??ه‬
‫رب الس??موات وم??ا‬ ‫على التراب‪ ،‬وقد خالط ذلك دموعه‪ ،‬ثم رفع يدي ?ه? ي??دعو‪ :‬اللهم َّ‬
‫أظلت‪ ،‬واألرضين وما أقلت‪ ،‬ورب العرش العظيم‪ ،‬هذه البصرة أس??ألك من خيره??ا‪،‬‬
‫وأعوذ بك من شرها‪ ،‬اللهم أنزلن??ا فيه??ا خ??ير م??نزل وأنت خ??ير الم??نزلين‪ ،‬اللهم إن‬
‫??وا علي ونكث??وا بيع??تي‪ ?،‬اللهم احقن دم??اء‬ ‫ه??ؤالء الق??وم ق??د خلع??وا ط??اعتي‪َ ،‬و َب َغ ْ‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وبعث إليهم من يناشدهم هللا في الدماء‪ ،‬وقال‪َ :‬عال َم تقاتلونني‪ .‬ف??أبوا إال الح??رب‪،‬‬
‫فبعث إليهم رجالً من أصحابه ُيقال له مسلم معه مص??حف ي??دعوهم إلى هّللا ‪ ،‬فرم??وه‬
‫بسهم فقتلوه‪ ،‬فحمل إلى علي وقالت أمه‪:‬‬

‫يتلو كتاب هّللا ال يخشاهم‬ ‫يارب إن مسلما ً أتـاهـم‬


‫ِّ‬
‫و أمه قـائمة تـراهـم‬ ‫ض ُبوا من دمه لحاهـم‬ ‫َفخ َّ‬
‫مبدأ القتال‬
‫وأمر علي رضي هّللا عنه أن يصا ُّفوهم‪ ،‬وال يبدءوهم بقتال‪ ،‬وال يرموهم بسهم‬
‫هللا بن ب??ديل بن ورق??اء‬
‫وال يضربوهم بسيف? وال يطعن??وهم ب??رمح‪ ?،‬ح??تى ج??اء عب??د ّ‬
‫الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول‪ ،‬وجاء قوم الميسرة برجل قد رمي بسهم فقت??ل‬
‫فقال علي‪ :‬اللهم أشهد‪ ،‬واعذروا إلى القوم‪.‬‬

‫ثم قام عمار بن ياسر بين الصفين فقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬ما أنصفتم ن??بيكم حين كففتم‬
‫عقائلكم في الخدور وأب??رزتم عقليت?ه? للس??يوف‪ ،‬وعائش??ة على َج َم??ل في َه? ْ?ودج من‬
‫دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر‪ ،‬وجعلوا دونه اللبود‪ ،‬وقد غشي‬
‫صفحة ‪437 :‬‬

‫على ذلك بالدروع‪ ،‬فدنا عم??ار من موض??عها‪ ،‬فن??ادى‪ :‬إلى م??اذا ت??دعين‪ .‬ق??الت‪ :‬إلى‬
‫الطلب بدم عثمان‪ ،‬فقال‪َ :‬قا َت? ل َ هّللا في ه??ذا الي??وم الب??اغي والط??الب بغ??ير الح??ق‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬أيها الن??اس‪ ،‬إنكم لتعلم??ون أين??ا ال??دم إلى في قت??ل عثم??ان‪ .‬ثم أنش??أ يق??ول وق?د‬
‫شقُوه بالنبل‪:‬‬
‫َر َ‬
‫ومنك الرياح‪ ،‬ومنك ال َم َطر‬ ‫فمنك البكاء‪ ،‬ومنك العـويل‬
‫وقا ُتله عندنـا َمـنْ أمـر‬ ‫وأنت أ َم ْر َت بقتـل اإلمـام‬

‫وتواتر عليه الرمي واتصل‪ ،‬فحرك فرسه‪ ،‬وزال عن موضعه وأتى عليا ً‬
‫فقال‪ :‬ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين‪ -‬وليس لك عند القوم إال الحرب‪..‬‬

‫خطبة لعلي قبل اإللتحام‬


‫هللا عن??ه في الن?اس خطيب?ا ً رافع?ا ً ص?وته? فق?ال‪ :‬أيه?ا الن?اس إذا‬
‫فق?ام علي رض?ي ّ‬
‫هزمتموهم? فال ُت ْجهزوا على جريح وال تقتلوا أسيراً‪ ،‬وال تتبع??وا مولِّي?اً‪ ،‬وال تطلب??وا‬
‫مدبراً‪ ،‬وال تكشفوا عورة‪ ،‬وال تمثلوا بقتيل‪ ،‬وال تهتكوا ستراً‪ ،‬وال تقربوا ش??يئا ً من‬
‫أموالهم إال ما تجدونه في عسكرهم من سالح أوكراع أو عب??د أو أُم??ة‪ ،‬وم??ا س??وى‬
‫ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب هّللا ‪.‬‬

‫بين علي والزبير‬


‫هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم ال س??الح‬ ‫وخرج علي بنفسه حاس??راً على بغل??ة رس??ول ّ‬
‫عليه فنادى‪ :‬يا زبير‪ ?،‬أخرج إلي‪ ،‬فخ??رج إلي??ه الزي??ير ش??اكا ً في س??الحه‪ ،‬فقي??ل ذل?ك‬
‫لعائشة‪ ،‬فقالت‪ :‬وا ُث ْك َلكِ يا أسماء‪ ،‬فقيل لها‪ :‬إن عليا ً حاسر‪ ،‬فطم??أنت‪ ،‬واعتن??ق ك??ل‬
‫واح??د منهم??ا ص??احبه‪ ،‬فق??ال ل??ه علي‪ :‬ويح??ك ي??ا زب??ير? م??ا ال??ذي أخرج??ك‪ .‬ق??ال‪ :‬دم‬
‫عثمان‪ ،‬قال‪َ :‬ق َتل َ هّللا أوالن?ا ب?دم عثم?ان‪ ،‬أم?ا ت?ذكر ي?وم لقيت رس?ول هللاّ ص?لى هللا‬
‫هللا‪ ،‬وض??حكت‬ ‫عليه وسلم في بني َب َياض??ة وه??و راكب حم??اره‪ ،‬فض??حك إلي رس??ول ّ‬
‫إليه‪ ،‬وأنت معه‪ ،‬فقلت أنت‪ :‬يا رسول هّللا ‪ ،‬م??ا ي??دع علي َزهْ? وه‪ ،‬فق??ال ل??ك ليس ب??ه‬
‫زهو‪ :‬أتحبه يا زب??ير فقلت‪ :‬إني وهّللا ألحب??ه‪ ،‬فق??ال ل??ك إن??ك وهّللا س??تقاتله وأنت ل??ه‬
‫هللا‪ ،‬وهّللا لو ذكرتها ما خرجت‪ ،‬فقال له‪ :‬يا زب??ير ارج??ع‪،‬‬ ‫ظالم فقال الزبير‪ ?:‬أستغفر ّ‬
‫س?ل‪،‬‬ ‫الب َط? ان‪.‬؛ ه??ذا وهللاّ الع?ار ال?ذي ال ُي ْغ َ‬
‫فقال‪ :‬وكيف أرجع اآلن وقد التقت حل َق َت?ا ِ‬
‫فقال‪ :‬يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار فرجع الزبير وهو يقول ‪:‬‬
‫ما إن يقوم لها خلق من الطـين‬ ‫ـج ٍة‬
‫مؤج َ‬
‫َّ‬ ‫اخترت عاراً على نأر‬
‫عار لعمرك في الدنيا وفي الدين‬ ‫علي بأمر لست أجـهـلـه‬‫ٌّ‬ ‫نادى‬

‫فقلت‪ :‬حسبك من َع ْذ ٍل أبا حسـن َف َب ْغ ُ‬


‫ض هذا الذي قد قلت يكفيني‬

‫صفحة ‪438 :‬‬

‫مقتل الزبير ورثاؤه‬


‫فقال ابنه عبد هّللا ‪ :‬أين تذهب و َتدَ ُع َنا فقال‪ :‬يا بني? ْأذ َك َرنِي أبو الحسن بأمر كنت قد‬
‫أنسيته? فقال‪ :‬ال وهّللا ‪ ،‬ولكنك فررت من سيوف بني عبد المطلب‪ ،‬فإنها طوال ِح َداد‪،‬‬
‫تحملها فتية أنجاد‪ ،‬قال‪ :‬ال وهّللا ‪ ،‬ولك?ني ذك??رت م??ا أنس?انيه? ال?دهر‪ ،‬ف?اخترت الع?ار‬
‫على النار‪ ،‬أبا لجبن تعيرني ال أبا لك ثم أمال سنانه َ‬
‫وش ?دَ في الميمن ?ة? فق??ال علي‪:‬‬
‫افرجوا له فقد هاجوه‪ ،‬ثم رجع فش َد في الميسرة‪ ،‬ثم رج??ع َ‬
‫فش ? َّد في القلب‪ ،‬ثم ع??اد‬
‫إلي ابن??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬أيفع??ل ه??ذا َجب??ان‪ .‬ثم مض??ى منص??رفاً‪ ،‬ح??تى أتى وادي الس??باع‬
‫ف بن قيس معتزل في قوم??ه من ب??ني تميم‪ ،‬فأت??اه آت فق??ال ل??ه‪ :‬ه??ذا الزب??ير‬ ‫واألح َن ُ‬
‫ْ‬
‫ماراً‪ ،‬فقال‪ :‬ما أصنع بالزبير? وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم‬
‫بعضا ً وهو مار إلى منزله سالما فلحق?ه نف?ر من ب?ني? تميم فس?بقهم إلي? َه عم?رو بن‬
‫ُج ْرموز‪ ،‬وقد نزل الزب??ير إلى الص??الة فق??ال‪ :‬أت??ؤ ُمنِي أو أوم??ك‪ .‬فأم??ه الزب??ير فقتل??ه‬
‫عمرو في الصالة‪ ،‬وقتل الزبير رضي هّللا عنه ول خمس وسبعون سنة‪ ،‬وق??د قي??ل‪:‬‬
‫إن األحنف بن قيس قتله بإرساله َمنْ أرسل من قومه وق??د رثت ?ه? الش??عراء وذك??رت‬
‫غدْ َر عمرو بن ُج ْوموزبه‪ ،‬وممن رثاه زوجت??ه عاتك??ة بنت زي??د بن عم??رو بن ُن َف ْي??ل‬
‫أخت سعيد بن زيد‪ ،‬فقالت‪:‬‬

‫يوم اللقاء‪ ،‬وكان غير مـسـدد‬ ‫َغ َدر َابن جرموز بفارس ُب ْهـ َم ٍة‬
‫الطائشا ً رعش الحنان وال الـيد‬ ‫يا عمرو‪ ،‬لو َن َّبهته? لـوجـدتـه‬
‫َحلّ ْت عليك عقوبة المتـعـمـد‬ ‫ه َِب َل ْت َك إن قلت َلـ ًم ْ‬
‫ـسـلِـمـا ً‬
‫فيمن مضى ممن يروح ويغتدي‬ ‫ما إن رأيت والسمعت بمثـلـه‬

‫وأتى عمرو عليا ً بسيف الزبير وخاتمه ورأسه‪ ،‬وقي?ل‪ :‬إن?ه لم ي?أت برأس??ه‪ ،‬فق?ال‬
‫?رب عن وج??ه رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬لكن??ه‬
‫علي‪ :‬س??يف طالم??ا جال الك? َ‬
‫ا ْل َحينُ ومص??ارع الس??وء‪ ،‬وقات ?ل ُ ابن ص??فية في الن??ار‪ ،‬ففي ذل??ك يق??ول عم??رو بن‬
‫جرموز التميمي? في أبيات‪:‬‬

‫وقد كنت أرجوبه الزلفـه‬ ‫أتيت عليا ً برأس الـزبـير‬


‫وبئس بشارة ذي التحـف‬ ‫ان‬ ‫َف َب ّ‬
‫ش َر بالنار قبل الـعِـ َي ِ‬
‫وضرطة عنز بذي الجحف ْه‬ ‫عندي قتل ُ الـزبـير‬
‫َ‬ ‫َلسيان‬

‫بين علي وطلحة‬


‫طلح? َة حين رج??ع الزب??ير‪ ?:‬ي??ا أب??ا محم??د‪ ،‬م??ا ال??ذي‬‫ثم ن??ادى علي رض??ي هللا عن??ه َ‬
‫هللا أوالنا ب??دم عثم??ان‪ ،‬أم??ا س??معت‬ ‫أخرجك‪ .‬قال‪ :‬الطلب بدم عثمان‪ ،‬قال علي‪ :‬قتل ّ‬
‫رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪ :‬اللهم وال من وااله‪ ،‬وعاد من ع??اداه وأنت‬
‫هللا عز وج??ل‪ :‬ومن نكث فإنم??ا ينكث على نفس??ه‬ ‫أول ُ من بايعني ثم نكثت‪ ،‬وقد قال ّ‬
‫فقال‪ :‬أستغفر هّللا ‪ ،‬ثم رجع‪ ،‬فقال مروان بن الحكم‪ :‬رجع الزبير ويرج??ع طلح??ة‪ ،‬م??ا‬
‫علي بعد‬
‫ٌّ‬ ‫ت ههنا أم ههنا‪ ،‬فرماه في أ ْك َحلِه فقتله‪ ،‬فمر به‬
‫أبالي َر َم ْي ُ‬
‫صفحة ‪439 :‬‬

‫الوقعة في موضعه في شنطرة قرة‪ ،‬فوقف عليه‪ ،‬فقال‪ :‬أن??ا هّلل وأن??ا إلي??ه راجع??ون‪،‬‬
‫وهللا كما قال القائل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وهّللا لقد كنت كارها ً لهذا أنت‬

‫إذا ما هو استغنى و ُيبعده الـفـقـر‬ ‫ف ًتى كان ُيدْ نيه الغنى من صـديقـه‬
‫وفي خده الشعرى‪ ،‬وفي األخر‬ ‫شأن الثريا ُعلِّـقـت فـي يمـينـه?‬

‫البدر وذكر أن طلحة رضي هللا عنه لما ولّي ُ‬


‫سم َِع وهو يقول‪:‬‬

‫ولهفي ثم لهف أبـي وأًمـي‬ ‫ندامة ما ندمت وضل حلمـي‬


‫طلبت رضا بني َج ْرم بزعمي‬ ‫ِـي لـمـا‬ ‫ندمت ندامة ال ُك َ‬
‫سع ِّ‬

‫وهو يمسح? عن جبينه ال ُغ َبار ويقول‪ :‬ووكان أمر هّللا قدَراً مقدورا‬
‫قيل‪ :‬إنه سمع وهو يقول هذا الشعر وقد َج َر َحه في جبهته عبد الملك رماه مروان‬
‫في أكحله وقد وقع صريعا ً يجود بنفسه‪.‬‬

‫رجمة طلحة‬
‫هّللا‬
‫وهو طلحة بن عبيد هللا بن عثمان بن عبيد بن عمرو بن كعب بن سعد بن َت ْيم‬
‫بن مرة‪ ،‬وهو ابن عم أبي بكر الصديق‪ ،‬ويكنى أبا محم??د‪ ،‬و أم??ه الص??عبة‪ ،‬وك??انت‬
‫َ‬
‫تحت أبي سفيان صخر بن حرب‪ ،‬ك??ذلك ذك??ر الزب??ير? بن بك??ار في كتاب??ه في أنس??اب‬
‫قريش‪ ،‬وقتل وهو ابن أربع وستين سنة‪ ،‬وقيل غ??ير ذل??ك‪ ،‬ودفن بالبص??رة‪ ،‬وق??بره‬
‫ومسجده فيها مشهور? إلى هذه الغاية‪ ،‬وقبر الزبير بوادي السباع‪.‬‬

‫مقتل محمد بن طلحة‬


‫علي فقال هذا رجل قتله بره‬ ‫ٌ‬ ‫وقتل محمد بن طلحة مع أبيه في ذلك اليوم‪ ،‬و َم َر به‬
‫بالس? َّجاد‪ ،‬وق?د تن?وزع في كنيت?ه‪ ?،‬فق?ال الواق?دي‪ :‬ك?ان‬ ‫َّ‬ ‫بأبيه وطاعته له وأن يدعى‬
‫يكنى بأبي سليمان‪ ،‬وقال الهيثم بن عدي كان يكنى بأبي القاسم‪ ،‬وفيه يقول ُ قاتل ُه‪:‬‬
‫األذى فيما ترى العين مسلم‬ ‫َ‬ ‫قليل‬ ‫ـجـاد بـايات ربـه‬
‫س َّ‬
‫وأشعث َ‬
‫فخر َّصريعا ًلليدين ولـلـفـم‬ ‫شككت له بالرمح جيب قميصـه‬
‫عل َّيا‪ ،‬ومن ال َي ْت َبع الـحـق َي ْنـدم‬ ‫على غير شيء غير أن ليس تابعا‬
‫فهال َتال حاميم قبـل الـتـقـدم‬ ‫يذكرني حاميم والرمـح شـارع‬

‫وقد كان أصحاب الجمل حمل?وا على ميمن?ة? علي وميس?رته? فكش?فوها فأت?اه بعض‬
‫ف?ق نعاس?ا ً على َق َر ُب?وس س?رجه‪ ،‬فق?ال ل?ه ي??ا عم??ر‪ ،‬ق?د بلغت‬
‫وعلي َي ْخ ِ‬
‫ٌّ‬ ‫ول?د عقي??ل‬
‫ميمنتك وميس??رتك حيث ت??رى‪ ،‬وأنت تخف??ق نعاس??ا‪ .‬ق??ال‪ :‬اس??كت ي??ا ابن أخي‪ ،‬ف??إن‬
‫لعمك يوما ً ال يعدوه‪ ،‬وهّللا ما يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الم??وت علي??ه‪ ،‬ثم‬
‫بعث إلى ولده محمد بن الحنفية‪ ،‬وكان صاحب رايته‪ :‬أحمل على القوم فأبطأ محمد‬
‫صفحة ‪440 :‬‬

‫بحملته وكان بإزائه ق??وم من الرم??اة ينتظ??ر نف??اد س??ه أم??ه م‪ ،‬فأت??اه علي فق?ال‪ :‬ه??ا‬
‫حملت‪ ،‬فقال‪ :‬ال أحد متقدَّما ً إال على س??هم أو س??نان‪ ،‬وإني منتظ?ر? َن َف??اد س??ه أم??ه م‬
‫وأحمل‪ ،‬فقال له‪ :‬احمل بين األسنة؛ فأن الموت عليك جنة‪ ،‬فحمل محمد‪ ،‬فش??ك بين‬
‫الرماح والنشاب فوقف‪ ،‬فأتاه علي فضربه بقائم سيفه وقال‪ :‬أدركك ع ِْرق من أمك‪،‬‬
‫وأخذ الراية وحمل‪ ،‬وحمل الناس معه‪ ،‬فما كان الق??وم إال كرم??اد اش??تدت ب??ه ال??ريح‬
‫في يوم عاصف‪ ،‬وأطافت بنو ضبة بالجمل وأقبلوا يرتجزون ويقولون‪:‬‬

‫ننازل الموت إذا الموت نـزل‬ ‫نحن بنو ضبة أصحاب الجمـل‬
‫َن ْن َعى ا ْبنَ عفان بأطراف األسل‬ ‫ـجـلْ‬
‫ردُوا علينا شيخنـا ثـم َب َ‬

‫والموت أحلى عندنا من العسل وقط??ع علي خط?ام الجم??ل س??بعون ي??داً‪ ،‬من ب??ني‬
‫ضبة? منهم سعد بن مود القاضي متقلداً مصحفاً‪ ،‬كلما قطعت يد واح??د منهم ُ‬
‫فص ? ِرع‬
‫َّ‬
‫بالنش?اب والنب??ل ح??تى‬ ‫قام آخر أخذ الخطام وقال‪ :‬أنا الغالم الضبي‪ ،‬و ُرمي اله??ودج‬
‫صار كأنه قنفذ‪ ،‬وعرقب الجمل وه??و ال يق??ع وق??د قطعت أعض?اؤه وأخذت??ه أس??يوف‬
‫حتى سقط‪ ،‬و ُيقال‪ :‬إن عبد هّللا بن الزبير قبض على خطام أجمل‪ ،‬فصرخت عائشة‪-‬‬
‫وكانت خالته‪ :-‬وا ُث ْكل َ أسماء‪ ،‬خل ِّ الخطام‪ ،‬ناشدته‪ ،‬فخلّى عن??ه‪ ،‬ولم??ا س??قط الجم??ل‬
‫ووق??ع اله??ودج ج??اء محم??د بن أبي بك??ر‪ ،‬فأدخ??ل ي??ده فق??الت‪ :‬من أنت‪ .‬ق??ال‪ :‬أق??رب‬
‫الناس منك قراب??ة‪ ،‬أبغض?هم إلي??ك‪ ،‬أن?ا محم??د أخ??وك‪ ،‬يق?ول ل?ك أم??ير الم?ؤنين ه??ل‬
‫أصابك شيء قالت‪ :‬ما أصابني إال سهم لم يض??رني‪ ،‬فج??اء علي ح??تى وق??ف عيه?ا‪،‬‬
‫فضرب الهودج بقضيب‪ ،‬وقال‪ :‬يا ُحميراء‪ ،‬رسول هللاّ صلى هللا علي??ه وس??لم أم??رك‬
‫بهذا ألم يأمرك أن تقري في بيتك وهللا ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم‬
‫وأبرزوك‪ ،‬وأمر أخاها محمداً فأنزلها في دار صفية بنت الحارث بن طلح??ة العب??دي‬
‫وهي أم طلحة الطلحات ووقع اله??ودج والن??اس متفرق??ون يقتتل??ون‪ ،‬والتقى األش??تر‬
‫مال??ك بن الح??ارث النخعي وعب??د هللا بن الزب??ير فاعترك??ا وس??قطا على األرض عن‬
‫فرسيهما وطال اعتراكهما على وجه األرض‪ ،‬فعاله األشتر ولم يجد سبيالً إلى قتل??ه‬
‫لشدة اضطرابه من تحته والناس حولهما يجولون‪ ،‬وابن الزبير ينادي‪:‬‬

‫فال يسمعه أحد لشدة الجالد‬ ‫واقتلوا مالكا معي‬ ‫اقتلوني ومالـكـا ً‬

‫اء لظلمة ال َنقع‪ ،‬وت??رادف ال َع َج? اج‪ ،‬وج??اء ذو‬


‫ووقع الحديد على الحديد وال يراهما َر ٍ‬
‫الشهادتين خزيمة بن ثابت إلى علي فقال‪ :‬يا أمير المؤم??نين‪ ?،‬ال تنكس الي??وم رأس‬
‫محمد‪ ،‬واردد إليه الرا َي َة‪ ،‬فدعا به‪ ،‬وردَّ عليه الراية‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫الخير في الحرب إذا لم توقد‬ ‫اطعنهم طعن أبيك تـحـمـد‬

‫صفحة ‪441 :‬‬

‫المـسـر ِد ثم استسقى‪ ،‬ف??أتى بعس??ل وم??اء‪ ،‬فحس??ا من??ه ُح ْس? َوة‪،‬‬


‫َّ‬ ‫بالمشرف ِِّي والقنا‬
‫ش َغ َل َك ما‬
‫هللا بن جعفر‪ :‬أما َ‬
‫وقال‪ :‬هذا الطائفي‪ ،‬وهو غريب بهذا البلد‪ ،‬فقال له عبد ّ‬
‫نحن فيه عن علم هذا قال‪ :‬إنه وهّللا يا ب??ني م??ا َمأل ص?در ع ّم?ك ش?يء ق?ط من أم?ر‬
‫الدنيا‪.‬‬

‫دخول علي البصرة‬


‫ثم دخ??ل البص??رة‪ ،‬وك??انت الوقع??ة في الموض??ع المع??روف با ْل ُخر ْيب ?ة? وذل??ك ي??وم‬
‫الخميس لعشر خلون من جمادى األخرة س??نة س??ت وثالثين‪ ،‬على حس??ب م??ا ق??دمنا‬
‫آنفا ً من التاريخ‪ ،‬وخطب الناس بالبصرة خطبته? الطويلة ال??تي يق??ول فيه??ا‪ :‬ي??ا أه??ل‬
‫السبخة يا أهل‪ ،‬المؤتفكة ائتفكت بأهلك من الدهر ثالثاً‪ ،‬وعلى هّللا تمام الرابع??ة‪ ،‬ي??ا‬
‫ُج ْن??د الم??رأة‪ ،‬ي??ا أتب??اع البهيم??ة‪ ،‬رغ??ا ف??أجبتم‪ ،‬وعق??ر ف??انهزمتم‪ ،‬أخالقكم رق??اق‪،‬‬
‫وأعم??الكم نف??اق‪ ،‬ودينكم زي??غ وش??قاق‪ ،‬وم??اؤكم أج??اج و ُز َع? اق‪ ،‬وق??د ذم ّ‬
‫علي أه??ل‬
‫البصرة بعد هذا الموقف مراراً كثيرة‪.‬‬
‫بين ابن عباس وعائشة‬
‫وبعث بعبد هّللا بن عباس إلى عائشة يأمرها بالخروج إلى المدينة‪ ،‬ف?دخل عليه??ا‬
‫بغير إذنها‪ ،‬واجتذب وسادة فجلس عليها‪ ،‬فقالت له‪ :‬ي??ا ابن عب??اس أخط??أت الس??نة‬
‫المأمور بها‪ ،‬دخلت إلينا بغير إذننا‪ ،‬وجلست على رحلنا بغ??ير أمرن??ا فق??ال له??ا‪ :‬ل??و‬
‫كنت في البيت الذي خلفك فيه رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم م??ا دخلن??ا إال بإذن??ك‪،‬‬
‫وم??ا جلس??نا على رحل??ك إال ب??أمرك‪ ،‬وإن أم??ير المؤم??نين ي??أمرك بس??رعة األوب??ة‪،‬‬
‫ت ما قلت وخالفت ما وصفت‪ ،‬فمض??ى إلى‬ ‫والتأهب للخروج إلى المدينة‪ ?،‬فقالت‪ :‬أ َب ْي ُ‬
‫علي‪ ،‬فخ??بره بامتناعه??ا‪ ،‬ف??ردَ ه إليه??ا‪ ،‬وق??ال‪ :‬إن أم??ير المؤم??نين يع??زم علي??ك أن‬
‫ترجعي‪ ،‬فأنعمت وأجابت إلى الخروج‪ ،‬وجهزها علي وآتاها في اليوم الثاني ودخ??ل‬
‫عليها ومع?ه الحس??ن والحس??ين وب?اقي أوالده وأوالد إخوت?ه وفتي?ان أهل?ه من ب??ني‬
‫هاشم وغيرهم من شيعته من َه ْم َدأن؛ فلم?ا بص??رت ب??ه النس??وان ص??حن في وجه??ه‬
‫وقلن‪ :‬يا قاتل األحبة‪ ،‬فقال‪ :‬لو كنت قات??ل األ ِح َّب ِة لقتلت َمنْ في ه??ذا ال??بيت‪ ،‬وأش??ار‬
‫إلى بيت من تلك البيوت قد اختفى فيه مروان بن الحكم وعب??د هّللا بن الزب??ير وعب??د‬
‫هللا بن عامر وغيرهم‪ ،‬فضرب َمنْ كان معه بأيديهم إلى ق??وائم س?يوفهم لم?ا علم??وا‬
‫َمنْ في البيت مخافة أن يخرجوا منه فيغتالوه‪ ،‬فق??الت ل??ه عائش??ة بع??د خطب طوي??ل‬
‫كان بينهما‪ :‬إني أحب أن أقيم معك فأسير إلى‪ ،‬قتال ع??دوك عن??د س??يرك‪ ،‬فق??ال‪ :‬ب??ل‬
‫ارجعي‪ ،‬الذي‪ ،‬البيت الذي تركك فيه رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬فس??ألته أن‬
‫ي??ؤ ِّمنَ ابن أخته??ا عب??د هللا بن الزب??ير‪ ،‬فأمن??ه‪ ،‬وتكلم الحس??ن والحس??ين في م??روان‬
‫فأمن?ه‪ ،‬وأمن الولي?د بن عقب?ة وول?د عثم?ان وغ?يرهم من ب?ني أمي?ة‪ ،‬وأ َّمنَ الن?اس‬
‫جميعاً‪ ،‬وقد كان نادى يوم الوقعة‪ :‬من ألقى سالحه فهو آمن‪ ،‬ومن دخ??ل داره فه??و‬
‫آمن‪.‬‬

‫صفحة ‪442 :‬‬

‫حزن علي على القتلى‬


‫علي على من قت?ل من ربيع??ه قب??ل وروده البص?رة‪ ،‬وهم ال?ذين قتلهم‬
‫واشتد حزن ٍّ‬
‫طلحة والزبير من عبد القيس وغيرهم من ربيعه‪ ،‬وج َّدد حزنه قتل زيد بن صوحان‬
‫العبدي قتله في ذلك اليوم عمرو بن سبرة‪ ،‬ثم قتل عمار بن ياسر عم??رو بن س??برة‬
‫في ذلك اليوم أيضاً‪ ،‬وكان علي يكثر من قوله‪:‬‬

‫ف نفسي على ربيعه ربيعه السامعة المطيعه وخرجت امرأة من عب??د القيس‬ ‫يا َل ْه َ‬
‫تطوف في القتلى‪ ،‬فوجدت اب??نين له??ا ق??د قتال‪ ،‬وق??د ك?ان ُق ِت?ل َ زوجه??ا وأخ??وان له?ا‬
‫فيمن قتل قبل مجيء علي البصرة‪ ،‬فأنشأت تقول‪:‬‬

‫فلم أر يوما ًكيوم الجمل‬ ‫شهدت الحروب فشيبنني?‬


‫وأقتله لشجاع بـطـل‬ ‫ً‬
‫فتـنة‬ ‫أضر على مؤمن‬
‫وليتك عسكر لم ترتحل‬ ‫فليت الظعينة في بيتهـا‬
‫وقد ذكر المدائني أنه رأى بالبصرة رجالً مصطلم األذن‪ ،‬فسأله عن قص??ته‪ ،‬ف??ذكر‬
‫أنه خرج يوم الجمل ينظر إلى القتلى‪ ،‬فنظ??ر إلى رج??ل منهم يخفض رأس??ه ويرفع??ه‬
‫وهو يقول‪:‬‬

‫فلم تنصرف? إال ونحن ِر َواء‬ ‫لقد أوردَ ْت َنا حو َم َة المو ِ‬


‫ت ا ُم َنا‬
‫وما تيم إال أعـبـ ٌد وإمـاء‬ ‫أطعنا بني َت ْي ٍم لشقوة جـدنـا‬

‫فقلت‪ :‬سبحان هّللا أتقول هذا عند الموت‪ .‬ق??ل ال إل? َه إال هّللا ‪ ،‬فق??ال‪ :‬ي??ا ابن ال َّل ْخ َن??اء‪،‬‬
‫ت عنه متعجبا ً منه‪ ،‬فصاح بي ادْ نُ م??نى ولق??ني‬ ‫إياي تأمر بالجزع عند الموت‪ .‬فولَّ ْي ُ‬
‫الشهادة‪ ،‬فصرت إليه‪ ،‬فلما قربت منه اس??تدناني‪ ،‬ثم التقم أذني ف??ذهب به??ا‪ ،‬فجعلت‬
‫ألعنه وأدعو عليه‪ ،‬فقال‪ :‬إذا صرت إلى أمك فقالت َمنْ فعل هذا ب?ك‪ .‬فق?ل عم?ير بن‬
‫األهلب الضبي مخدوع المرأة التي أرادت أن تكون أمير المؤمنين‪.‬‬

‫خروج عائشة من البصرة‬


‫وخرجت عائشة من البصرة‪ ،‬وقد بعث معها علي أخاها عبد ال??رحمن بن أبي‬
‫بك???ر وثالثين رجال وعش???رين ام???رأة من ذوات ال???دين من عب???د القيس وه َْم??? دَ ان‬
‫وغيرهم??ا‪ ،‬ألبس??هن العم??ائم وقل??دهن الس??يوف‪ ،‬وق??ال لهن‪ :‬ال ُت ْعلِ ْمنَ عائش??ة أنكن‬
‫نسوة و َت َل َّث ْمنَ كأنكن رجال‪ ،‬و ُكنَّ الالتي تلين خدمتها وحملها‪ ،‬فلما أتت المدينة قيل‬
‫له??ا‪ :‬كي??ف رأيت مس??يرك‪ .‬ق??الت‪ :‬كنت بخ??ير وهّللا ‪ ،‬لق??د أعطى علي بن أبي ط??الب‬
‫فأكثر‪ ،‬ولكنه بعث معي رجاال أنكرتهم فعرفها النسوة أمرهن‪ ،‬فس??جدت وق??الت‪ :‬م??ا‬
‫از َددْ َت وهّللا ي??ا ابن أبي ط??الب إال كرم??اً‪ ،‬وددت أني لم أخ??رج وإن أص??ابتني كيت‬
‫وكيت من أمور ذكرتها شاقة‪ ،‬وإنما قيل لي‪ :‬تخرجين فتصلحين بين الن??اس‪ ،‬فك??ان‬
‫ما كان‪ ،‬وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن الذي قتل من أصحاب علي في ذلك‬
‫صفحة ‪443 :‬‬

‫اليوم خمس??ة االف نفس ومن أص??حاب الجم??ل وغ??يرهم من أه??ل البص??رة وغ??يرهم‬
‫ثالثة عشر ألفاً‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬
‫علي على عب?د ال?رحمن بن عت?اب بن أس?يد بن أبي العيص بن أمي?ة وه?و‬ ‫ٌّ‬ ‫ووقف‬
‫وب ق??ريش‪ ،‬قتلت الغط??اريف من ب??ني? عب??د‬ ‫س? َ‬‫قتيل يوم الجمل فقال‪ :‬لهفي علي??ك َي ْع ُ‬
‫مناف‪ ،‬ش َفيت نفسي وجدعت أنفي‪ ،‬فقال له األشتر‪ :‬ما أشد َج َز َع? َك عليهم ي??ا أم??ير‬
‫المؤمنين وقد أرادوا بك ما نزل بهم فق??ال‪ :‬إن??ه ق??امت ع??ني وعنهم نس??وة لم يقمن‬
‫عنك وقد كان َق َت َل ُه في ذلك اليوم األشتر النخعي وأصيب كف ابن عتاب بم ًنى وقي??ل‬
‫ش?ه عب?د ال?رحمن بن عت?اب وك?ان الي?وم ال?ذي‬ ‫باليمامة ألقتها ُع َقاب وفيها خاتم َن ْق ُ‬
‫وجد فيه الكف بعد يوم الجمل بثالثة أيام‪.‬‬
‫ودخل علي بيت مال البصرة في جماعة من المه??اجرين واألنص??ار‪ ،‬فنظ??ر إلى م??ا‬
‫فيه من العين والورق فجع?ل يق?ول‪ :‬ي?ا ص?فراء‪ُ ،‬غ?ري غ?يري وي?ا بيض?اء‪ ،‬غ?ري‬
‫غ??يري وأدام النظ??ر إلى الم??ال مفك??راً‪ ،‬ثم ق??ال‪ :‬أقس??موه بين أص??حابي ومن معي‬
‫خمسمائة? خمسمائة‪ ،‬ففعلوا فما نقص درهم واحد‪ ،‬وعدد الرجال اثنا عشر ألفا ً‪.‬‬
‫وقبض م??ا ك??ان في معس??كرهم من س??الح وداب??ة ومت??اع وآل??ة وغ??ير ذل??ك فباع??ه‬
‫وقسمه بين أصحابه‪ ،‬وأخذ لنفسه كما أخذ لكل واحد ممن معه من أص??حابه وأهل??ه‬
‫وولده خمسمائة درهم‪ ،‬فأتاه رجل من أصحابه فقال‪ :‬يا أمير المؤم??نين إني لم آخ??ذ‬
‫شيئاً‪ ،‬وخلفني عن الحضور كذا‪ ،‬وأدْ لى بعذر‪ ،‬فأعطاه الخمسمائة? التي كانت له‪.‬‬
‫وقيل ألبي َلبيد الجهضمي من األزد‪ :‬أتحب عليا‪ .‬ق??ال‪ :‬وكي??ف أحب رجالً قت??ل من‬
‫قومي في بعض ي??وم ألفين وخمس??مائة‪ ?،‬وقت??ل من الن??اس ح??تى لم يكن أح??د يع??زي‬
‫أحداً‪ ،‬واشتغل أهل كل بيت بمن لهم‪.‬‬
‫مسيره إلى الكوفة‬
‫وولّى علي على البصرة عبد هللا بن عباس‪ ،‬وسار إلى الكوفة‪ ،‬فكان دخوله إليه??ا‬
‫ألثن???تي? عش???رة ليل???ة مض???ت من رجب؛ وبعث إلى األش???عث بن قيس يعزل???ه عن‬
‫أذربيجان وأرمينية‪ ،‬وكان عامالً لعثمان عليها‪ ،‬وصرف عن همدان جري??ر بن عب??د‬
‫هّللا البجلي‪ ،‬وك?ان ع?امالً لعثم?ان‪ ،‬فك?ان في نفس األش??عث على ّ‬
‫علي م??ا ذكرن?ا من‬
‫العزل‪ ،‬وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من األموال‪.‬‬

‫علي يبعث إلى معاوية‬


‫ووجه بجرير بن عبد هّللا إلى معاوية وقد كان األشتر َحذره من ذلك‪ ،‬وخوف??ه‬ ‫َّ‬
‫لعلي‪ :‬ابعثني? إليه‪ ،‬فإنه لم يزل لي مستنص??حا ً وواداً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من جرير‪ ،‬وقد كان جرير قال‬
‫فاتيه وأدعوه إلى أن يس??لم ل??ك ه??ذا األم??ر‪ ،‬وأدع??وا أه??ل الش??ام إلى طاعت??ك‪ ،‬فق??ال‬
‫فوهللا إني ألظن هواه هواهم ونيته? نيتهم‪ ،‬فق??ال علي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫األشتر‪ :‬ال تبعثه وال تصدقه‪،‬‬
‫دعه حتى ننظر ما يرجع به إلين??ا‪ ،‬فبعث ب??ه وكتب إلى معاوي??ة مع??ه يعلم??ه مبايع??ة‬
‫هللا‬
‫المهاجرين واألنصار إياه واجتم??اههم علي??ه‪ ،‬ونكث الزب??ير وطلح??ة‪ ،‬وم??ا أوق??ع ّ‬
‫بهم??ا‪ ،‬وي??أمره بال??دخول في طاعت??ه‪ ،‬ويعلم??ه أن??ه من الطلق??اء ال??ذين ال تح??ل لهم‬
‫الخالفة‪ ،‬فلما قدم عليه جرير دافعه وساءله أن ينتظره وكتب إلى عمرو بن العاص‬
‫على ما قدمنا فقدم عليه فأعطاه مصر ُط ْع َمة على ما قدمنا في صدر هذا الباب‪،‬‬
‫صفحة ‪444 :‬‬

‫فأشار إليه عمرو بالبعث إلى وجوه الشام وأن ُي ْل ِزم علي ?ا ً دم عثم??ان‪ ،‬ويقاتل??ه بهم؛‬
‫فقدم جرير على علي فأخبره خبرهم‪ ،‬واجتماع أهل الش??ام م??ع معاوي??ة على قتال??ه‪،‬‬
‫وأنهم يبكون على عثمان ويقولون‪ :‬إن عليا ً قتل?ه‪ ،‬واوى قتلت??ه ومن??ع منهم‪ ،‬وإنهم‬
‫ال ُبدَّ لهم من قتاله حتى يفن??وه أو يف??نيهم‪ ،‬فق??ال األش??تر‪ :‬ق??د كنت أخبرت??ك ي??ا أم??ير‬
‫المؤمنين بعداوته وغشه‪ ،‬ولو بعثتني لكنت خيراً من هذا ال?ذي أرخى خناق?ه وأق?ام‬
‫حتى لم يدع بابا ً نرجو روحه إال فتحه‪ ،‬وال بابا ً يخاف منه? إال أغلق??ه‪ ،‬فق??ال جري??ر‪:‬‬
‫لو كنت ثم لقتلوك‪ ،‬وهللا لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان‪ ،‬قال األشتر‪ :‬لو أتيتهم وهللا‬
‫ي??ا جري??ر لم ُي ْع ِي ِني? ج??وابهم‪ ،‬وال ثق??ل علي خط??ابهم‪ ،‬ولحملت معاوي??ة على خط??ة‬
‫أعج ْل ُته فيه??ا عن الفك??ر‪ ،‬ول??و أط??اعني أم??ير المؤم??نين في??ك لحبس??ك وأش??باهك في‬
‫محبس فال تخرجون منه? حيت يستقيم? هذا األمر‪.‬‬
‫فخرج جرير عن??د ذل??ك إلي بالد قرقيس??يا والرحب??ه من ش??اطئ الف??رات‪ ،‬وكتب إلى‬
‫أح ًّب مجاورته والمقام في داره‪ ،‬فكتب إليه معاوي??ة‬ ‫معاوية يعلمه بما نزل به‪ ،‬وأنه َ‬
‫يأمره بالمسير إليه‪.‬‬
‫بين المغيرة ومعاوية‬
‫ص َرف? علي من الجم??ل‪ ،‬وقب??ل‬ ‫ش ْعبة الثقفي‪ -‬عند م ْن َ‬
‫وبعث معاوية إلى المغيرة بن ُ‬
‫مسيره? إلى صِ َفينَ ‪ -‬بكتاب يقول فيه‪ :‬لقد ظهر من رأي ابن أبي طالب ما ك??ان تق??دم‬
‫وعده لك في طلحة والزبير‪ ،‬فما الذي بقي من رأيه فينا‪ .‬وذل??ك أن المغ??يرة بن‬ ‫من ْ‬
‫الناس عليا ً دخل عليه المغيرة فقال‪ :‬يا أمير المؤم??نين‪?،‬‬ ‫ُ‬ ‫شعبة لما قتل عثمان وبايع‬
‫إن لك عندي نص??يحة‪ ?،‬فق??ال‪ :‬وم??ا هي‪ .‬ق??ال‪ :‬إن أردت أن يس??تقيم? ل??ك م??ا أنت في??ه‬
‫فاستعمل طلحة بن عبيد هّللا على الكوفة‪ ،‬والزب??ير بن الع??وام على البص??رة‪ ،‬وابعث‬
‫إلى معاوي??ة بع??ده َع َلى الش??ام ح??تى تلزم??ه طاعت??ك‪ ،‬ف??إذا اس??تقر قراره??ا رأيت في??ه‬
‫رأيك‪ ،‬قال‪ :‬أما طلحة والزبير فس?أرى رأي فيهم??ا‪ ،‬وأم??ا معاوي??ة فال وهّللا ال ي??راني‬
‫هّللا أستعين به ما دام على حاله أبداً‪ ،‬ولكني أدعوه إلى ما عرفت??ه‪ ،‬ف??إن أج??اب وإال‬
‫حاكمته إلى هللا‪ ،‬فانصرف المغيرة مغضبا ً وقال‪:‬‬

‫يس َم ْع لها الدهر ثانيه?‬


‫فردت‪ ،‬فال ْ‬ ‫نصحت عليا ً في ابن هند مقـا َلة‬
‫َع َلى الشام‪ ،‬حتى يستقر معـاوية‬ ‫وقلت له‪ :‬أرسل إليه بـعـهـده‬
‫وأم ابن هند عند ذلـك هـاويه‬ ‫ويعلم أهْ ل ُ الشام أن قد َم َل ْكـتـه‬
‫وكانت له تلك النصيحة كافـيه‬ ‫فلم يقبل النصح الذي جئتـه بـه‬

‫قال المسعودي رحمه هّللا ‪ :‬وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب ما كان من المغيرة‬
‫مع علي‪ ،‬وما أشار به‪ ،‬وهذا أحد الوجوه المروية في ذلك‪.‬‬
‫فهذه جوام??ع م??ا ُي ْح َت??اج إلي??ه من أخب??ار ي??وم الجم??ل وم??ا ك??ان في??ه‪ ،‬دون اإلكث??ار‬
‫والتطويل وتكرار األسانيد في ذلك وهللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫صفحة ‪445 :‬‬

‫ذكر جوامع مما كان بين أهل العراق‬


‫وأهل الشام بصفين‬
‫قال المسعودي رحمه هللا‪ :‬قد ذكرنا جمال وجوامع من أخبار علي رض??ي هللا عن??ه‬
‫بالبصرة‪ ،‬وما كان يوم الجمل؛ فلنذكر اآلن جوامع من سيره إلى ِ‬
‫ص?فينَ ‪ ،‬وم??ا ك??ان‬
‫فيها من الحروب‪ ،‬ثم نعقب ذلك بشأن الحكمين وال َن ْه َر َوان‪ ،‬ومقتله عليه السالم‪.‬‬

‫مسيره إلى صفين‬


‫وكان سير علي من الكوفة إلى صِ ِّفينَ لخمس َخ َل ْونَ من شوال سنة ست وثالثين‪،‬‬
‫واستخلف على الكوف??ة أب??ا مس??عود ُع ْق َب??ة بن ع??امر األنص??اري فاجت??از في مس??يره?‬
‫بالمدائن‪ ،‬ثم أتى األنبار‪ ،‬وسار حتى ن??زل الرق??ة‪ ،‬ف ُعقِ? َد ل??ه هنال??ك جس??ر‪ ،‬فع??بر إلى‬
‫جانب الشام‪.‬‬

‫عدد جيشه‬
‫وقد تنوزع في مقدأرما كان معه من الجيش‪ ،‬فمكثر و مقلل‪ ،‬والمتف??ق علي??ه من‬
‫قول الجميع تسعون ألفاً‪ ،‬وقال رجل من أصحاب علي لما اس??تقروا مم??ا يلي الش??ام‬
‫من أبيات كتب بها إلى معاوية حيث يقول‪:‬‬

‫ت ِْس ُعونَ ألفا ً كلهم ُم َقـاتِـل ُ‬ ‫ا ْث ُب ْت معاوي قد أتاك ا ْل َحا ِفل ُ‬


‫ض َم ِحل? ال َباطِ ل ُ‬
‫َع َّما قليل َي ْ‬

‫جيش معاوية‬
‫وسار معاوية من الشام‪ ،‬وقد تنوزع في مقدار من ك??ان مع??ه أيض?ا ً فك??ثر ومقل??ل‪،‬‬
‫والمتف??ق علي??ه من ق??ول الجمي??ع خمس وثم??انون أل َف ?اَ‪ ،‬فس??بق عل ّي ? ا ً إلى ِ‬
‫ص ?فينَ ‪،‬‬
‫وعس??كر في موض??ع س??هل أ ْف َي َح اخت??اره قب??ل ق??دوم علي‪ ،‬على ش??ريع ٍة لم يكن على‬
‫الفرات في ذلك الموضع أسهل منها لل?وارد إلي الم?اء‪ ،‬وم?ا ع?داها أخ?راق عالي?ة‪،‬‬
‫ومواضع إلى الماء َو ْعرة‪ ،‬ووك??ل أب??ا األع??ور الس??لمي بالش??ريعة م??ع أربعين ألف?اً‪،‬‬
‫علي وجيشه في البر عطاشا ً قد حيل بينهم وبين ال??ورود‬ ‫ٌّ‬ ‫وكان على مقدمته‪ ،‬وبات‬
‫إلى الماء فقال عمرو بن العاص لمعاوي?ة‪ ?:‬إن علي?ا ً ال يم?وت عطش?ا ً ه?و وتس?عون‬
‫َع ُهم يش??ربون? ونش??رب‪ ،‬فق??ال‬ ‫عواتقهم‪ ،‬ولكن د ْ‬
‫ِ‬ ‫ألفا ً من أهل العراق وسيوفهم على‬
‫معاوي?ة‪ :‬ال وهّللا يموت?وا عطش?ا َ كم?ا م?ات عثم?ان‪ ،‬وخ?رج علي ي?دور في عس?كره‬
‫بالليل‪ .‬فسمع قائالً وهو يقول‪:‬‬

‫علي وفينا الهـدى‬


‫ٌّ‬ ‫وفينا‬ ‫أيمنعنا القوم ماء الفـرات‬
‫وفينا المناجون تحت الدجى‬ ‫وفينا الصالة‪ ،‬وفينا الصيام‬

‫صفحة ‪446 :‬‬

‫ثم مر بآخر عند راية ربيعه‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫الر َماح وفينا ا ْل َح َجف‬ ‫وفينا ِّ‬ ‫الفـرات‬


‫َ‬ ‫أيمنعنا ال َق ْوم ماء‬
‫إذا َخ َّوفُوه الدرى لم يخف‬ ‫وفينا علـي َلـ ُه صـولة‬
‫ارالتلف‬ ‫ض َنا غِ َم َ‬
‫وطلحة ُخ ْ‬ ‫ونحن غادة لقِي َنا الـزبـير‬
‫اء ال َّن َج ْ‬
‫ف‬ ‫ش َ‬ ‫وما بالنا اليوم َ‬ ‫أسدَ العـرين‬
‫أمس ْ‬ ‫فما بالنا ْ‬

‫وألقى في فسطاط األشعث بن قيس رقعة فيها‪:‬‬

‫من الموت فيها للنفوس َت َفلُّت‬ ‫ُ‬


‫األشعث اليو َم كربة‬ ‫لئن لم ُي َجل ِّ‬
‫َف َه ْب َنا ا َناسا ً َقبل ُ كانوا فمو ُتـوا‬ ‫ت بسيفه?‬‫ماء الفرا ِ‬
‫فنشرب من ِ‬

‫ِي وأتى َعلِ ّيا ً رض??ي هّللا عن??ه‪ ،‬فق??ال ل??ه‪ :‬أخ??رج في أربع??ة آالف من‬
‫فلما قرأها َحم َ‬
‫الخيل حتى تهجم بهم في وسط عسكر معاوية فتشرب وتستقي? أصحابك أو تموت??وا‬
‫ور َّجال??ة ورا َء َك‪ ،‬س?ار األش??عث في أربع??ة‬
‫?تر في خي??ل َ‬
‫س? ّير? األش? َ‬
‫عن أخركم‪ ،‬وأنا ُم َ‬
‫آالف من الخيل وهو يقول مرتجزاً‪:‬‬

‫ش ْع َث ال َّن َواصِ ي أو ُيقال ماتا‬


‫ُ‬ ‫خيلـي الـفـراتـا‬
‫َ‬ ‫ْو ِردَ نَّ‬

‫والرجالة‪ ،‬صار يؤم األشعث‬


‫َّ‬ ‫س َّرحه في أربعة آالف من الخيل‬‫علي األش َت َر َف َ‬
‫ّ‬ ‫ثم دعا‬
‫وصاحب رايته? وهو رجل من ال َّن َخع وهو يرتجز ويقول‪:‬‬

‫ِب النصر إذا ًع ّم الفزع‬


‫وصاح َ‬ ‫أشتر الخيرات يا خير ال َّن َخـع‬
‫إن َت ْسقِ َنا اليوم فما هو بالبـدع‬ ‫قد َج ِز َع ال َق ْو ُم َو ُع ُّموا بالفـزع‬

‫علي رضي هّللا عنه وراء األشتر بب??اقي الجيش‪ ،‬ومض??ى األش??عث فم??ا رد‬ ‫ثم سار ّ‬
‫على عسكر معاوية‪ ،‬فأزال أب??ا األع??ور عن الش??ريعة‪َ ،‬و َغ? َّ‬
‫?ر َق‬ ‫ِ‬ ‫َو ْج َهه أحد حتى هجم‬
‫منهم بشراً وخيالَ‪ ،‬وأورد خيله الفرات‪ ،‬وذل??ك أن األش??عث داخلت??ه الحمي??ة في ه??ذا‬
‫الي??وم‪ ،‬وك??ان يق??دم رمح??ه ثم يحث أص??حابه فق??ول‪ :‬ازحم??وهم مق??دار ه??ذا ال??رمح‪،‬‬
‫فيزيلوهم عن ذلك المكان‪ ،‬فبلغ ذلك من فعل األشعث عل ّياً‪ ،‬فقال‪ :‬هذا الي??وم نص??رنا‬
‫فيه بالحمية‪ ?،‬وفي ذلك يقول رجل من أهل العراق‪:‬‬

‫ُك ْر َب َة الموت ِع َيا َنا‬ ‫ف األشعث عنـا‬ ‫ش َ‬ ‫َك َ‬


‫طير ًة مست ل َها َنـا‬ ‫بعد ما طارت طالقا‬
‫وبه دارت َر َحا َنـا‬ ‫فل ُه ال َمنٌّ عـلـينـا‬

‫صفحة ‪447 :‬‬

‫وارتحل معاوية عن الموضع‪ ،‬وورد األشتر‪ ،‬وقد كشف األشعث القوم عن الم??اء‪،‬‬
‫وأزالهم عن مواضعهم‪ ،‬وورد علي فنزل في الموضع الذي ك??ان في??ه معاوي??ة فق??ال‬
‫معاوية لعمرو بن العاص‪ :‬يا أبا عبد هّللا ‪ ،‬ما ظنك بالرجل أتراه يمنعنا الم??اء لمنعن??ا‬
‫البرنائية عن الماء‪ ،‬فقال له عمرو‪:‬‬ ‫إياه‪ .‬وقد كان انحاز بأهل الشام إلى‪ ،‬ناحية في َ‬
‫ال‪ ،‬إن الرجل جاء لغير هذا‪ ،‬وإنه ال يرض??ى ح??تى ت??دخل في طاعت??ه أو يقط??ع حب??ل‬
‫عاتقك‪ ،‬فأرسل إليه معاوية يستأذنه في وروده مشرعته? واستقاء الناس من طريقه‬
‫علي كل مل أسأل وطلب منه‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ودخول رسله في عسكره‪ ،‬فأباحه‬

‫علي على ه??ذا الموض??ع بي??ومين‪?-‬‬


‫ّ‬ ‫ولما كان أول يوم من ذي الحجة‪ -‬بع??د ن??زول‬
‫بعث إلى معاوية يدعوه إلى اتحاد الكلم??ة وال??دخول في جماع??ة المس??لمين‪ ،‬وط??الت‬
‫المراسلة بينهما‪ ،‬فاتفقوا على الموادع?ة إلى آخ?ر المح?رم من س?نة س?بع وثالثين‪،‬‬
‫وامتنع المسلمون عن الغزو في البحر والبر لش??غلهم ب??الحروب‪ ،‬وق??د ك??ان معاوي??ة‬
‫?ال يحمل??ه إلي??ه لش??غله بعلي‪ ،‬ولم يتم بين علي ومعاوي??ة‬
‫ص??الح مل??ك ال??روم على م? ٍ‬
‫?زم الق??وم على الح??رب‬‫وع? َ‬
‫صلح على غير ما اتفقا عليه من الموادعة في المح??رم‪َ ،‬‬
‫بعد انقضاء المحرم ففي ذلك يقول حابس بن سعد الطائي صاحب راية معاوية‪:‬‬
‫بقين من المحرم أوثمان‬ ‫فما دون المنايا غير ُسبع‬

‫مبدأ الحرب‬
‫علي إلى أه??ل‬ ‫ٌّ‬ ‫ولم??ا ك??ان في الي??وم األخ??ر من المح??رم قب??ل غ??روب الش??مس بعث‬
‫الشام‪ :‬إني قد احتججت عليكم بكتاب هّللا ‪ ،‬ودعوتكم إليه‪ ،‬وإني ق??د نب??ذت إليكم على‬
‫س َواء‪ ،‬إن هّللا ال يهدى كيد الخائنين‪ ،‬فلم يردوا عليه جوابا ً إالَّ الس??يف بينن??ا وبين??ك‬‫َ‬
‫أو يهلك األعجز منا‪.‬‬
‫وأصبح علي يوم األربعاء‪ -‬وكان أول يوم من صفر‪ -‬فعبأ الجيش‪ ،‬وأخرج األش??تر‬
‫ح?بيب بن‬ ‫َ‬ ‫تصاف أه?ل الش?ام وأه?ل الع?راق‪-‬‬
‫َّ‬ ‫أمام الناس‪ ،‬وأخرج إليه معاوية‪ -‬وقد‬
‫مس??لمة الفه??ري‪ ،‬وك??ان بينهم قت??ال ش??ديد س??ائر ي??ومهم‪ ،‬وأس??فرت عن قتلى من‬
‫الفريقين جميعاً‪ ،‬وانصرفوا‪.‬‬
‫فلما ك?ان ي?وم الخميس‪ -‬وه??و الي?وم الث?اني‪ -‬أخ??رج علي هاش?م بن عتب??ة بن أبي‬
‫وقاص الزهري الم ِْر َقال‪ ،‬وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص‪ ،‬وإنم??ا س??مي الم ِْر َق??ال َ‬
‫ألنه كان يرقل في الحرب‪ ،‬وكان أعور ذهبت عينه يوم ال??يرموك‪ ،‬وك??ان من ش??يعة‬
‫علي‪ ،‬وقد أتينا على خبره في اليوم الذي ذهبت في??ه عين??ه‪ ،‬وحس??ن بالئ??ه في ذل??ك‬
‫الس ? َلمي‬‫اليوم‪ ،‬في الكتاب األوسط في فتوح الشام‪ ،‬فأخرج إليه معاوية أب??ا األع??ور ُ‬
‫وهو سفيان بن عوف وكان من شيعة معاوية والمنح??رفين عن علي‪ ،‬فك??انت بينهم?‬
‫الحرب سِ َجاالً‪ ،‬وانصرفوا في آخر يومهم عن قتلى كثير‪.‬‬
‫وأخرج علي في اليوم الثالث‪ -‬وهو يوم الجمعة‪ -‬أب??ا اليقظ??ان عم??ار بن ياس??ر في‬
‫عدة من البدريين وغيرهم من المهاجرين واألنصار فيمن تسرع منعهم من الناس‪،‬‬
‫وأخرج إليه معاوية عمرو بن العاص في َت ُنو َخ و َب ْه َراء وغيرهما من أهل الشام‪،‬‬
‫صفحة ‪448 :‬‬

‫فكانت بينهم سجاالً إلى الظهر‪ ،‬ثم حمل عم??ار بن ياس??ر فيمن ذكرن??ا‪ ،‬ف??أزال عم??راً‬
‫عن موض??عه وألحق??ه بعس??كر معاوي??ة‪ ،‬وأس??فرت عن قتلى كث??يرة من أه??ل الش??ام‬
‫ودونهم من أهل العراق‪.‬‬
‫وأخرج علي في اليوم الرابع‪ -‬وهو يوم السبت‪ -‬ابنه محمد بن الحنفية في َه ْم َدان‬
‫?ف مع??ه من الن??اس‪ ،‬ف??أخرج إلي??ه معاوي??ة عبي??د هللا بن عم??ر بن‬‫وغيره??ا ممن خ? َّ‬
‫َ‬
‫الخطاب في حمير و ْل َخم و ُجذام‪ ،‬وقد كان عبيد هللا بن عمر لحق بمعاوي??ة خوف?ا ً من‬
‫علي أن يقيدة بالهرمزان‪ -‬وذلك أن أب??ا لؤل??ؤة غالم المغ??يرة بن ش??عبة قات??ل عم??ر‪،‬‬
‫وكان في أرض العجم غالما ً للهرمزان‪ ،‬فلما قُتل عمر ش َد عبيد هللا َع َلى الهرم??زان‬
‫فقتله‪ ،‬وقال‪ :‬ال أترك بالمدينة فارسيا ً وال في غيرها إال قتلته بأبي‪ ،‬وكان الهرمزان‬
‫عليالً في الوقت الذي قتل فيه عمر‪ -‬فلم??ا ص??ارت الخالف??ة إلى ّ‬
‫علي أراد قت??ل عبي??د‬
‫هللا بن عمر بالهرمزان لقتله إياه ظلم?ا ً من غ??ير س??بب اس??تحقه فلج??أ إلى معاوي??ة‪،‬‬
‫فاقتتلوا في ذلك اليوم‪ ،‬وكانت َع َلى أهل الشام‪ ،‬ونجا ابن عمر في اخر النهار هربا ً‪.‬‬
‫علي في اليوم الخامس‪ -‬وهو يوم األحد‪ -‬عبد هللا بن العباس ف??أخرج إلي??ه‬ ‫ّ‬ ‫وأخرج‬
‫معاوية الولي?د بن عقب?ة بن أبي ُم َع ْي?ط‪ ،‬ف?اقتتلوا‪ ،‬وأك?ثر الولي?د من س?ب ب?ني عب?د‬
‫المطلب بن هاشم‪ ،‬فقاتله ابن عباس قتاالً شديداً‪ ،‬وناده ابرز إلي يا ص??فوان‪ ،‬وك?ان‬
‫الغ َلبة البن عباس‪ ،‬وكان يوما ًصعبا ً‪.‬‬ ‫َل َق َب الوليد‪ ،‬وكانت َ‬
‫وأخرج علي في اليوم السادس‪ -‬وهو يوم االثنين‪ -‬سعيد بن قيس الهمداني‪ ،‬وه??و‬
‫سيد همدان يومئذ‪ ،‬ف?أخرج إلي??ه معاوي??ة ذا ال َكالَع‪ ،‬وك??ان بينهم??ا إلى أخ??ر النه?ار‪،‬‬
‫وأسفرت عن قتلى‪ ،‬وانصرف الفريقان جميعا‪.‬‬
‫?ع وغ??يرهم‪،‬‬‫علي في الي??وم الس??ابع‪ -‬وه??و ي??وم الثالث??اء‪ -‬األش??تر في النخ? َ‬
‫وأخرج ّ‬
‫فأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرى‪ ،‬فكانت الح??رب بينهم س??جاالً‪ ،‬وص??بر‬
‫كال الفريقين وتكافئوا وتواقفوا للموت ثم انصر الفريقان وأسفرت عن قتلى منهما‪،‬‬
‫والجراح في أهل الشام أعم‪.‬‬

‫خروج علي للقتال‬


‫وخرج في اليوم الث??امن‪ -‬وه??و ي??وم األربع??اء‪ -‬علي رض??ي هّللا تع??الى‪ -‬بنفس??ه في‬
‫الصحابة من البدريين وغيرهم من المهاجرين واألنصار وربيعه وهمدان‪.‬‬

‫قال ابن عباس‪ :‬رأيت في هذا الي??وم عل َي? ا َ وعلي??ه عمام??ة بيض??اء‪ ،‬وك??انَ عيني?ه?‬
‫سليطٍ ‪ ،‬وهو يقف على طوائف الناس في مراتبهم يحثهم و يحرض??هم‪ ،‬ح??تى‬ ‫سراجا َ‬
‫انتهى إلي وأنا في كثيف من الناس‪ ،‬فقال‪ :‬ي??ا معش??ر المس??لمين‪ ،‬عم??وا األص??وات‪،‬‬
‫السلة‪ ،‬والحظوا‬ ‫وأك ِم لوا األمة‪ ،‬واستشعروا الخشية‪ ،‬أقلقوا السيوف في أجفان قبل َّ‬ ‫ْ‬
‫ش ْزر‪ ،‬واطعنوا لهبره‪ ،‬ونافخوا بالظباء‪ ،‬وصلوا السيوف بالخط والنبال بالرم??اح‪،‬‬ ‫ال َّ‬
‫طيبوا عن أنفسكم أنفساً‪ ،‬ف??إنكم بعين هللا‪ ،‬وم??ع ابن عم رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫?ر‪ ،‬فإن??ه ع??ا ٌر في األعق??اب‪ ،‬ون??ا ٌر ي??وم الحس??اب‬
‫لكر‪ ،‬واستقبحوا الف? َّ‬
‫وسلم‪ ،‬عاودوا َّ‬
‫ودونكم هذا السواد األعظم‪ ،‬والرواق ال ُم َط َّنب‪ ،‬فاضربوا َن ْه َجه‪ ،‬فإن الشيطان راكب‬
‫وأخ َر للنكوص رجأل‪ ،‬فصبراً جميالً‬ ‫صعيده‪ ،‬مفترش ذراعيه‪ ،‬قد َقدَّ م للوثبة يداً َّ‬
‫صفحة ‪449 :‬‬

‫حتى تنجلي عن وجه الحق‪ ،‬وأنتم األعلون وهّللا معم ولن َيت َِركم أعمالكم‪.‬‬
‫وتقدم علي للحرب على بغلة رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم َّ‬
‫الش? ْه َباء‪ ،‬وخ??رج‬
‫ُمعاوية في عدد أهل الشام‪ ،‬فانصرفوا عند المساء وكل ٌّ غير ظافر‪.‬‬
‫علي‪ ،‬وخ??رج معاوي??ة‪ ،‬فتتل??وا إلى‬‫وخرج في الي??وم التاس??ع‪ -‬وه??و ي??وم الخميس‪ّ -‬‬
‫ضحوة من النهار‪ ،‬وبرز أمام الناس عبيد هّللا بن عم??ر بن لخط??اب في أربع??ة آالف‬
‫من الخضرية معممين بشقاق الحرير األخضر مقدمين للموت يطلبون ب??دم عثم??ان‪،‬‬
‫وابن عمر يقدمهم وهو يقوك‪:‬‬

‫خير قريش َمنْ مضى ومن َغ َب ْر‬ ‫أنا ُع َبيد هّللا َي ْنـمِـينـي ُعـ َمـر‬
‫مضر‬‫قد أبطأت في نصر عثمان َ‬ ‫غير نبي? هّللا والـشـيخ األغـر‬

‫ْوالربعيون‪ ،‬فال اسقوا المطـر فناداه علي‪ :‬ويحك يا ابن عمر‪ ،‬عالم تقاتلني‪ .‬وهللاّ‬
‫لو كان أبوك حيا ً ما قاتلني‪ ،‬قال‪ ،‬أط??الب ب??دم عثم??ان‪ ،‬ق??ال‪ :‬أنت تطلب ب??دم عثم??ان‬
‫ش َت َر النخعي بالخروج إلي??ه فخ??رج األش??تر‬
‫علي األ ْ‬
‫ّ‬ ‫وهللا يطلبك بدم الهرمزان‪ ،‬وأمر‬
‫ّ‬
‫إليه وهو يقول‪:‬‬
‫ًّ‬
‫العراقي الذكر‬ ‫إني أنا األفعى‬ ‫إني أنا األشتر معروف السـير‬
‫لكنني من َم ْذحِج ال??بيض الغ??رر‬ ‫َ‬
‫لست من الحي ربيع أو مضر‬
‫هللا ولم يبارزه‪ ،‬وكثرت القتلى يومئذ‪.‬‬
‫فانصرف عنه عبيد ّ‬

‫عمار بن ياسر‬
‫وق??ال عم??ار بن ياس??ر‪ :‬إني ألرى وج??وه ق??وم ال يزال??ون يق??اتلون ح??تى يرت??اب‬
‫س َع َفات ه ََجر لكنا على الحق وكانوا على‬ ‫المبطلون‪ ،‬وهّللا لو هزمونا حتى يبلغوا بنا َ‬
‫الباطل‪.‬‬
‫رجع إلى موضعه فاستسقى‪ ،‬فأتته امرأة نس??اء ب??ني? ش??يبان‬ ‫ٍ‬ ‫وتقدم عمار فقاتل ثم‬
‫عس فيه لبن‪ ،‬فدفعته إليه‪ ،‬فقال‪ :‬هللا أكبر هّللا أكبر‪ ،‬اليوم ألقى األحب??ة‬
‫من مصافهم ُب ّ‬
‫ت في??ه‪،‬‬‫تحت األسنة‪ ،‬صدق الصادق‪ ،‬وبذلك أخبرني? الناطق‪ ،‬وهو اليوم الذي ُو ِع? دْ ُ‬
‫هللا تحت العوالي‪ .‬وال??ذي نفس??ي بي??ده لنق??اتلنهم‬‫ثم قال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬من رائح إلى ّ‬
‫على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله‪ ،‬وتقدم وهو يقول‪:‬‬

‫قاليوم نضر ْب ُكم على تأويله‬ ‫نحن ضربناكم على تنزيله‬


‫و ُي ْذ ِهل ُ الخليل َ عن خليلـه‬ ‫ضربا ً يزيل? الهام عن َمقِيلِه‬
‫ْ‬

‫الحق إلى سبيله فتوسط القوم‪ ،‬واشتبكت عليه األسنة‪ ?،‬فقتله أبو العادية‬ ‫ُّ‬ ‫يرجع‬
‫َ‬ ‫أو‬
‫س َلبه‪،‬فاحتكما إلى عبد هّللا بن عم??رو بن‬‫العاملي وابن جون السكسكي‪ ،‬واختلفا في َ‬
‫العاص‪ ،‬فقال لمهما‪ :‬أخرجا ع??ني‪ ،‬ف??إني س??معت رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‬
‫يقول‪ ،‬أو قال رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم وولعت قريش بعمار ما لهم‬
‫صفحة ‪450 :‬‬

‫ولعمار ي?دعوهم إلى جن?ة ويدعون?ه إلى الن?ار وك?ان قتل?ه عن?د المس?اء ول?ه ثالث‬
‫علي عليه السالم ولم يغسله‪ ،‬وك?ان يغ?ير‬ ‫وتسعون سنة‪ ،‬قبره بصفين وصلى عليه ّ‬
‫شيبه‪ .‬قد تنوزع في نسبه فمن الناس من ألحقه ببني? مخ??زوم‪ ،‬ومنهم من رأى أن??ه‬
‫من ُخ َل َفائهم‪ ،‬ومنهم من رأى غير ذلك‪ ،‬وقد أتينا على خبره في كتاب أخ??ر األخب??ار‬
‫وطرائف اآلثار عند ذكرنا االشتراط الخمسين الذين بايعوا عل ّي ? ا ً على الم??وت‪ ،‬وفي‬
‫قتله يقول الحجاج ابن ُع َزية? األنصاري أبياتا ً َر َثاه بها‪:‬‬

‫َقدْ هَا َج ُح ْزنِي أبو اليقظان َع َّمار‬ ‫يا ل َل ِّر َجال لعين ْ‬
‫دم ُع َهـا جـاري‬
‫يدعو السكون وللجيشين إعصار‬ ‫أبـوح َّـوا فـوارسـه‬
‫َ‬ ‫أهوى إليه‬
‫وج َب ْت فينا له النـار‬
‫للرمح‪ ،‬قد َ‬ ‫فاختل َّ صدر أبي اليقظان معترضا‬
‫ـت بـذلـك آيات وآثــار‬ ‫أ َت ْ‬ ‫هللا عن جمعهم الشك كان َع َفـا‬
‫على األسرة لم تمسسهم النـار‬ ‫من ينزع هّللا غال من صدورهم‬
‫سيطت لحومه ُم بالبغي‪ ،‬فُ َّجـار‬ ‫قال النبي له تقتـلـك شـرذمة‬
‫أصحاب تلك وفيها النار والعار‬ ‫فاليوم يعرف أهل الشام أنـهـم‬
‫ولما صرع عمار تقدم سعيد بن قيس الهمداني في هم??دان‪ ،‬وتق??دم قيس بن س??عد‬
‫بن عبادة األنصاري في األنصار وربيعه‪ ،‬وعدي بن حاتم في طيى وس??عيد بن قيس‬
‫الهمداني في أول الناس‪ ،‬فخلطوا الجمع بالجمع‪ ،‬واشت َّد القتال وحطمت همدان أهل‬
‫ص? َم َد فيمن ك?ان مع??ه لس??يعيد بن‬ ‫الشام حتى قذفتهم إلى معاوية‪ ،‬وقد ك?ان معاوي??ة َ‬
‫علي األش??تر أن يتق??دم ب??اللواء إلى أه??ل حمص‬ ‫قيس ومن مع??ه من هم??دان‪ ،‬وأم??ر ّ‬
‫وغ??يرهم من أه??ل قنس??رين‪ ،‬ف??أكثر القت??ل في أه??ل حمص وقنس??رين بمن مع??ه من‬
‫القراء‪ ،‬وأ ْبلى الم ِْر َقال يومئذ بمن معه فال يق??وم ل??ه ش??يء‪ ،‬وجع??ل يرق?ل كم?ا يرق?ل‬
‫وعلي وراءه يق??ول ل??ه‪ :‬ي??ا أع??ور‪ ،‬ال تكن جبان?اً‪ ،‬تق??دم‪ ،‬والم ِْر َق??ال‬ ‫ُّ‬ ‫الفحل في قي??ده‪،‬‬
‫يقول‪:‬‬
‫أعور يبغي أهله محـل‬ ‫قد أكثر القو ُم ومـا أ َقـاّل َ‬
‫ال ب َد أنْ َيفُـل َّ ْأو ُي َفـاّل‬ ‫ا قد عالج الحياة حتى َماّل‬

‫شال ثم صمد هاش??م بن عتب??ة الم ِْرق??ال ل??ذي ال َكالَع وه??و في‬‫شلُّ ُه ْم بذي الكعوب َ‬
‫أ ُ‬
‫حمير‪ ،‬فحمل عليه صاحب لواء ذي ال َكالع‪ ،‬وكان رجال من ُع ْذ َرة وهو يقول‪:‬‬
‫نحن اليمانيون ما فينا ضـجـر‬ ‫ِي مضر‬‫أثبت فإني لست من َفرع ْ‬
‫ينعى ابن عفان و َي ْلحى من غدر‬ ‫كيف ترى وقع غالم من عـذر‬
‫سيان عندي من سعى ومن أمر‬ ‫يا أعور العين رمى فيها العـور‬

‫صفحة ‪451 :‬‬

‫مصرع هاشم المرقال‬


‫فاختلفا طعنتين‪ ،‬فطعنه هاشم المرقال فقتله‪ ،‬وقتل بعده تسعة عشر رجال‪ ،‬وحم??ل‬
‫هاشم المرقال وحمل ذو الكالع ومع المرقال جماعة من أسلم قد ألوا أن ال يرجع??وا‬
‫أو يفتحوا أو يقتلوا‪ ،‬فاجتلد الناس‪ ،‬فقت??ل هاش??م المرق??ال‪ ،‬وقت??ل ذو الكالع جميع?اً‪،‬‬
‫فتناول ابن المرقال اللواء حين قبل أبوه في وس??ط المعرك??ة وك??ر في ا ْل َع َج? اج وه??و‬
‫يقول‪:‬‬
‫أع ِزز ْبشيخ? من قريش هالك‬ ‫ْ‬ ‫يا هاشم بن عتبة بن مـالِـك‬
‫أ ْبشِ ْر بحور العين في األرائك‬ ‫ُ‬
‫الخيالت بالسـنـابـك‬ ‫خبطه‬

‫والر ْوح والزيحان عند ذلك ووقف علي رضي هّللا عنه عند مصرع الم ِْر َقال و َمنْ‬ ‫ّ‬
‫وترح َم عليهم‪ ،‬وقال من أبيات‪:‬‬
‫َّ‬ ‫صرع حوله من اإلسالميين وغيرهم‪ ،‬فدعا لهم‬
‫ص ِّر ُعوا حول هاشم‬ ‫صباح الوجوه ُ‬ ‫جزى هّللا خيراً عصبة أسلـمـية‬
‫وسفيان وابنا هاشم ذي المـكـأرم‬ ‫يزيد وعبد هّللا بشر بن مـعـبـد‬
‫اخ ُترطت يوما ً خفاف الصوأرم‬ ‫إذا ْ‬ ‫وعروة ال ينـ َفـدْ ثـنـاه وذكـره‬

‫حذيفة بن اليمان‪ ،‬وابناه‬


‫واستشهد في ذلك اليوم ص??فوان وس?عد ابن?ا حذيف??ة بن اليم?ان‪ ،‬وق??د ك?ان حذيف??ة‬
‫عليالً بالكوفة في سنة س?ت وثالثين‪ ،‬فبلغ??ه قت?ل عثم?ان وبيع??ة الن?اس لعلي فق?ال‪:‬‬
‫جامعة فوضع على المنبر‪ ،‬فحمد هّللا وأثنى علي??ه وص ?لّى‬ ‫ً‬ ‫أخرجوني وادعوا الصالة‬
‫على النبي وعلى اله‪ ،‬ثم َقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إن الناس قد ب??ايعوا عل ّي? ا ً فعليكم بتق??وى‬
‫هّللا وانصروا عل ّيا ً ووازروه؛ فوهّللا إنه لعلى الحق أخرا وأوالً‪ ،‬وإنه لخير من مضى‬
‫بع??د ن??بيكم ومن بقي إلى ي??وم القيام??ة‪ ،‬ثم أطب??ق يمين??ه على يس??اره ثم ق??ال‪ :‬اللهم‬
‫هلل الذي أبقاني إلى هذا اليوم‪ ،‬وقال ال بنيه‬ ‫أشهد‪ ،‬إني قد بايعت عل ّياً‪ ،‬وقال‪ :‬الحمد ّ‬
‫صفوان وسعد‪ ،‬احمالني وكونا معه‪ ،‬فستكون له حروب كثيرة فيهلك فيها خلق من‬
‫الناس‪ ،‬فاجتهدا أن تستشهدا معه‪ ،‬فإنه وهّللا َع َلى الح??ق‪ ،‬ومن خالف??ه َع َل ِ‬
‫ى ال َباط??ل‪،‬‬
‫و َمات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام‪ ،‬وقيل‪ :‬بأربعين يوما َ واستش??هد عب??د هّللا بن‬
‫الحارث النخعي أخ??و األش??تر واستش??هد في??ه عب??د هّللا وعب??د ال??رحمن ابن??ا َب? دِيل بن‬
‫لي وهو يرتجز و‬ ‫ورقاء الخزاعي في خلق من خزاعة‪ ،‬وكان عبد هّللا في ميسرة َع ّ‬
‫يقول‪:‬‬

‫وأخذك الترس وسيف مصقلْ‬ ‫من يبق إلى الصبر و التوكـل‬

‫صفحة ‪452 :‬‬

‫التمشي في الرعيل األولْ فقتل ثم قتل عبد الرحمن أخوه بعده‪ ،‬فيمن ذكرنا من‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫خزاعة‪.‬‬

‫ولما رأى معاوية القتل في أهل الشام وك َل َب أهل العراق عليهم استدعى بالنعمان‬
‫ابن َج َبلة التنوخي‪ -‬وكان صاحب راية قومه في تنوخ و َب ْه َراء‪ -‬وقال له لق??د هممت‬
‫أو أولي قومك من هو خير منك مقدماً‪ ،‬وأنصح منك ديناً‪ ،‬فقال له النعم??ان‪ :‬آن??ا ل??و‬
‫بعض األن??اة فكي??ف ونحن‬ ‫ُ‬ ‫كنا ندعو قومنا إلى جيش مجموع لكان في كسع الرج??ال‬
‫وهللا لق??د‬
‫ّ‬ ‫ندعوهم إلى سيوف قاطعة‪ ،‬و ُر َد ْيني?ة? ش??اجرة‪ ،‬وق??وم ذوي بص??ائر ناف??ذة‪،‬‬
‫ت ملكك على ديني‪ ،‬وت??ركت له??واك الرش??د وآن??ا أعرف??ه‪،‬‬ ‫نصحتك على نفسي‪ ،‬وآ َث ْر ُ‬
‫ت لرش??د حين أقات??ل على ملك??ك ابن ع ّم‬ ‫ت عن الح??ق وأن??ا أبص??ره‪ ،‬وم??ا ُو ِّف ْق ُ‬‫و ِج??دْ ُ‬
‫رسول هّللا صلى هللا علي?ه وس?لم وأول م?ؤمن ب?ه ومه?اجر مع?ه‪ ،‬ول?و أعطين?اه م?ا‬
‫أعطيناك لكان أرأف بالرعية‪ ،‬وأجزل في العطية‪ ،‬ولكن قد ب??ذلنا ذل??ك األم??ر وال ب??د‬
‫من أتم أمه كان غي?ا ً أو رش??داً‪ ،‬وحاش??ا أن يك??ون رش??داً وس??نقاتل عن تين الغوط??ة‬
‫وزيتونها إذ حرمنا أثمار الجنة وأنهارها‪ ،‬وخرج إلى قومه‪ ،‬وصمد إلى الحرب‪.‬‬

‫مقتل عبيد هّللا بن عمر‬


‫وكان عبيد هللا بن عمر إذا خرج إلى القتال قام إلية نساؤه فشددن علي??ه س??الحه‪،‬‬
‫ما خال الشيبانية بنت هانى بن قبيصة‪ ?،‬فخرج في هذا اليوم‪ ،‬وأقبل على الش??يبانية‪?،‬‬
‫هللا إني ألرج??و أن أرب??ط بك??ل ُطنب من‬ ‫وقال لها‪ :‬إني قد َع َّبأت الي??وم لقوم??ك‪ ،‬وأيم ّ‬
‫إطناب فُ ْس َطاطي سيداً منهم‪ ،‬فقالت ل??ه‪ :‬م??ا أبغض إال أن تق??اتلهم ق??ال‪ :‬ولم؛ ق??الت‪:‬‬
‫ألن??ه لم يتوج??ه إليهم ص??نديد في جاهلي??ة وال إس??الم وفي رأس??ه ص??عر إال أب??ادوه‪،‬‬
‫وأخاف أن يقتلوك‪ ،‬وكأني بك قت َيالَ وقد أتي ُتهم أسألهم أن يهبوا لي جيفتك‪ ،‬فرماه??ا‬
‫توجه فحم?ل‬ ‫فش?جها وق?ال له?ا‪ :‬س?تعلمين بمن آتي?ك من زعم?اء قوم?ك‪ ،‬ثم َّ‬ ‫َّ‬ ‫بقوس‬
‫عليه حريث بن جابر الجعفي فطعنه فقتله‪ ،‬وقيل‪ :‬إن األشتر النخعي هو الذي قتله‪،‬‬
‫ش?وة‬ ‫ض ْر َب ً?ة فقط??ع م??ا علي??ه من الحدي??د ح??تى خال??ط س??يفه ُح ْ‬
‫وقيل‪ :‬إن عل ّيا ً ضربه َ‬
‫جوفه‪ ،‬وإن عل ّيا ً قال حين ه??رب فطلب??ه ليقي??د من?ه? ب??الهرمزان‪ :‬لئن ف??اتني في ه??ذا‬
‫اليوم ال يفوتني في غ??يره‪ ،‬وكلم نس??اؤه معاوي??ة في جيفت??ه‪ ،‬ف??أمر أن ت??أتين ربيع??ه‬
‫فتبذلن في جيفته عشرة آالف‪ ،‬ففعلن ذلك‪ ،‬فاستأمرت ربيعه علي ?اً‪ ،‬فق??ال لهم‪ :‬إنم??ا‬
‫جيفت??ه جيف??ة كلب ال يح??ل بيعه??ا‪ ،‬ولكن ق??د أجبتهم إلى ذل??ك؛ ف??اجعلوا جيفت??ه لبنت‬
‫هانئ بن قبيصة? الشيباني زوجت??ه‪ ،‬فق??الوا لنس??وة عبي??د هّللا ‪ :‬إن ش??ئتن ش??ددناه إلى‬
‫ب بغل ثم ضربناه حتى يدخل إلى عسكر معاوية‪ ،‬فصرخن وقلن‪ :‬هذا أشد علين??ا‪،‬‬ ‫َذ َن ِ‬
‫س?لُوها أن تكلمهم في جيفت??ه‪،‬‬ ‫وأخبرن معاوي??ة ب??ذلك‪ ،‬فق?ال لهن‪ :‬ائت??وا الش??يبانية َف َ‬
‫ففعلن‪ ،‬وأتت القوم وقالت‪ :‬أنا بنت هانئ بن قبيصة وهذا زوجي القاطع الظالم وق??د‬
‫حذرته ما صار إليه َف َه ُبوا إلي جيفت?ه‪ ،‬ففعل?وا‪ ،‬وألقت إليهم بمط?رف خ?ز ف?أدرجوه‬
‫في??ه ودفع??وه إليه??ا فمض??ت ب??ه‪ ،‬وك??ان ق??د ش??د في رجل??ه إلى طنب فس??طاط من‬
‫فساطيطهم‪.‬‬

‫صفحة ‪453 :‬‬

‫ولما قتل عمار ومن ذكرنا في هذا الي??وم ح??رض علي علي??ه الس??الم الن??اس وق??ال‬
‫لربيعه‪ :‬أنتم درعي ورمحي‪ ،‬فانتدب له م??ا بين عش??رة آالف إلى أك??ثر من ذل??ك من‬
‫وعلي أم أم??ه م على البغل??ة‬
‫ٌّ‬ ‫ربيع??ه وغ??يرهم‪ ،‬ق??د ج??ادوا بأنفس??هم هللا ع??ز وج??ل‪،‬‬
‫الشهباء‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫أيو َم لم يقـدر أم يوم قُـدر وحمل‬ ‫من أي يو َم ّ?ي من الموت أفر‬

‫وحملوا معه حملة رجل واحد‪ ،‬فلم يبق ألهلي الشام صف إال انتفض‪ ،‬وأهمدوا كل‬
‫ما أتوا عليه‪ ،‬حتى أتوا إلى قبة معاوية‪ ،‬وعلي ال يمر بفارس إال َق َّده وهو يقول‪:‬‬
‫األخ َزر َالعين العظيم الحاويه‬
‫ْ‬ ‫أضربهم وال أرى مـعـاويه‬
‫تهوي به في النار أم الهويه‬

‫وقيل‪ :‬إن هذا الشعر لبديل بن ورقاء‪ ،‬قاله في ذلك اليوم‪.‬‬

‫ثم نادى علي‪ :‬يا معاوية‪ ،‬عالم يقتل الناس بيني وبين??ك‪ .‬هلم أحاكم??ك إلى هّللا فآين??ا‬
‫قتل صاحبه استقامت له األُمور‪،‬‬
‫فقال له عمرو‪ :‬قد أنصفك الرجل‪،‬‬
‫فقال له معاوية‪ :‬ما أنصفت‪ ،‬وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رج??ك ق??ط إال قتل??ه أو أس??ره‪،‬‬
‫فقال له عمرو‪ :‬وما يحمل بك إال مبارزته‪،‬‬
‫وح َق َدها عليه‪.‬‬
‫فقال له معاوية‪ :‬طمعت فيها بعدي‪َ ،‬‬

‫وقد قيل في بعض الروايات‪ :‬إن معاوية أقسم على عمر ولم??ا أش??ار علي??ه به??ذا أن‬
‫يبرز? إلى علي‪ ،‬فلم يجد عم??رو من ذل?ك ب??داً‪ ،‬ف??برز‪ ،‬فلم??ا التقي??ا عرف??ه علي وش??ال‬
‫?رهٌ أخ??وك ال بط??ل فح??ول‬‫السيف ليضربه به‪ ،‬فكشف عمرو عن عورت??ه‪ ،‬وق??ال‪ُ :‬م ْك? َ‬
‫علي وجهه عنه‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫وقال‪ :‬قبحت ورجع عمرو إلى مصافه‪.‬‬

‫وقد ذكر هشام بن محمد الكلبي عن الشرقي بن القطامي أن معاوية ق??ال لعم??رو‬
‫بعد انقضاء الحرب‪ :‬هل غششتني? منذ نصحتني‪ .‬قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬بلى وهّللا يوم أ َ‬
‫ش ْر َت‬
‫علي بارزة علي وأنت تعلم ما هو‪ ،‬قال‪ :‬دعاك إلى المبارزة فكنت من مبارزته على‬
‫إح??دى الحس??نيين‪ :‬إم??ا أن تقتل??ه فتك??ون ق??د قتلت قات??ل األق??ران وت??زداد ش??رفا ً إلى‬
‫شرفك‪ ،‬وإما أن يقتل??ك فتك??ون ق?د اس??تعجلت مرافق??ة الش??هداء والص??الحين وحس??ن‬
‫أولئك رفيقاً‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬يا عمرو‪ ،‬الثانية من األولى‪.‬‬
‫وكان في هذا اليوم من القتال ما لم يكن قبل‪ ،‬ووجدت في بعض النسخ من أخب??ار‬
‫صفين أن هاشما ً الم ِْر َقال لما وقع إلى األرض وه??و يج??ود بنفس?ه? رف??ع رأس??ه ف??إذا‬
‫عبيد هّللا بن عمر مطروحا ً إلى قربه جريحاً‪ ،‬فحبا حتى دنا منه‪ ،‬فلم يزل يعض‬
‫صفحة ‪454 :‬‬

‫على ثدييه? حتى ثبتت فيه أسنانه لعدم السالح والق?وة‪ ،‬ألن?ه أص?يب فوق?ه ميت?ا ً ه?و‬
‫ورجل من بكم بن وائل‪ ،‬قد َز َح َفا إلى عبيد هّللا جميعا ً فنهشاه‪ ،‬وانص??رف الق??وم إلى‬
‫مواضعهم‪ ،‬وخرج كل فريق منهم يحملون ما أمكن قتالهم‪.‬‬
‫الموضع الذي ك??انت ميمنت?ه? في??ه‪ ،‬فنظ??ر‬
‫ِ‬ ‫ومر معاوية في خواص من أصحابه في‬
‫إلى عبد هّللا بن بديل بن ورقاء الخزاعي ف َع ّفراَ بدمائه‪ ،‬وقد كان على ميس??رة علي‪،‬‬
‫فحمل على ميمنة معاوية فأصيب على م?ا ق?دمتا آنف?اً‪ ،‬ف?أراد معاوي??ة أن يمث?ل? ب??ه‪،‬‬
‫فقال له عبد هّللا بن عامر وكان صديقا ً البن بديل‪ :‬وهللا ال تركتك وإياه‪ ،‬فوهب??ه ل??ه‪،‬‬
‫فغطاه بعمامته وحمل?ه ف?واراه‪ ،‬فق?ال ل?ه معاوي?ة‪ :‬ق?د وهللا واريت كبش?ا ً من كب?اش‬
‫القوم وسيداً من سادات خزاعة غير مدافع‪ ،‬وهّللا لو ظفرت بنا خزاعة ألكلونا‪ ،‬ولو‬
‫أنا من َج ْن َدل‪ ،‬دون هذا الكبش‪ ،‬وأنشأ يقول متمثالً‪:‬‬

‫ش َّمرت يوما ً به الحـرب شـ ّمـرا‬ ‫وإن َ‬ ‫عضت به الحرب عضها‬‫أخو الحرب إن َّ‬
‫رمته? المنايا قصـدهـا فـتـ َقـ َّط َ‬
‫ـرا‬ ‫كليث ه َِز ْب ٍـر كـان يحـمـي ذِمـاره‬

‫ونظر على إلى غسان في مصافهم ال يزولون‪ ،‬فحرض أصحابه عليهم‪ ،‬وقال‪ :‬إن‬
‫هوالء لن يزل?وا على م?وقفهم دون طعن يح?رج من?ه النس?يم‪ ،‬وض?رب يفل?ق اله?ام‬
‫ويص ُّج العظام‪ ،‬وتسقط منه? المعاصم واألك??ف‪ ،‬ح??تى تش??دخ جب??اههم ُب ُعم??د الحدي??د‪،‬‬
‫وتنت??ثر لممهم على الص??دور واألذق??ان‪ ،‬أين أه??ل الص??بر وطالب األج??ر‪ .‬فث?اب إلي??ه‬
‫عصابة من المسلمين من سائر الناس‪ ،‬فدعا ابنه محمداً‪ ،‬ف??دفع إلي??ه الراي??ة وق??ال‪:‬‬
‫امش بها نحو ه??ذه الراي??ة مش??يا ً روي??داً‪ ،‬ح??تى إذا أش??رعت في ص??دورهم الرم??اح‪،‬‬ ‫ْ‬
‫علي ومع??ه الحس??ن والحس??ين وش??يوخ ب??در‬ ‫ٌّ‬ ‫فأمسك حتى يأتيك أمري‪ ،‬ففعك‪ ،‬وأتاه‬
‫وغيرهم من الصحابة‪ ،‬وقد َك ْردس الخيل‪ ،‬فحمل??وا على غس??ان ومن يليه??ا‪ ،‬فقتل??وا‬
‫منها بشراً كثيراً‪ ،‬وعادت الحرب في أخ??ر النه??ار كحاله??ا في أول??ه‪ ،‬وحملت ميمن??ة‬
‫معاوي??ة وفيه??ا عش??رة االف من م??ذحج وعش??رون ألف ?ا ً مقنع??ون في الحدي??د على‬
‫ميس??رة? علي‪ ،‬ف??اقتطعوا أل??ف ف??ارس‪ ،‬فانت??دب من أص??حاب علي عب??د العزي??ز بن‬
‫هللا ركنك سِ ْر حتى تنتهي إلى‬ ‫لعلي‪ :‬مرني? بأمرك‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫ش َّد ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الحارث الجعفي‪ ،‬وقال‬
‫إخواننا المحاط بهم‪ ،‬وقل لهم‪ :‬يقول لكم علي‪ :‬كبروا ثم احملوا ونحمل حتى نلتقي‪،‬‬
‫فحمل الجعفي‪ ،‬فطعن في عرضهم حتى انتهى إليهم‪ ،‬فأخبرهم بمقالة علي‪ ،‬فكبروا‪،‬‬
‫وش? َد ُخوا س??بعمائة? من أه??ل الش??ام؛ وقت??ل حوش??ب ذو‬ ‫ثم ش??دوا ح??تى ال َت َق? ْ?وا بعلي‪َ ،‬‬
‫ظليم‪ ،‬وهو كبش من كباش اليمن من أهل الشام‪ ،‬وكان على راي??ة ُذهْ ? ل بن ش??يبان‬
‫ض? ْينُ بن المن?ذر بن الح?ارث بن وعل?ة ال?ذهلي‪ ،‬وفي?ه يق?ول‬ ‫وغيرها من ربيعه ال ُح َ‬
‫علي في هذا اليوم‪:‬‬
‫ض? ْينُ تق??دما ليل??ة الهرير ف??أمره‬
‫?دم َها ُح َ‬
‫س?وداء يخف??ق ظله??اإذا قلت ق? ْ‬ ‫لمن راي??ة َ‬
‫وج َنهم اللي?ل‪ ،‬وتن?ادوا‬‫بالتقدم‪ ،‬واختلط الناس‪ ،‬وبط?ل النب?ل‪ ،‬واس?تعملت الس?يوف‪َ ،‬‬
‫?ارس ويقع??ان‬
‫الفارس الف? َ‬
‫ُ‬ ‫بالشعار‪ ،‬وتقصفت الرماح‪ ،‬وتكالم دم القوم‪ ،‬وكان يعتنق‬
‫جميع?ا ً إلى األرض عن فرس??يهما‪ ،‬وك??انت ليل??ة الجمع??ة‪ -‬وهي ليل??ة الهري??ر‪ -‬فك??ان‬
‫علي بكفه في يومه? وليلته خمسمائة وثالثة وعشرين رجالً أكثرهم‬ ‫جملة من َق َتل َ ُّ‬
‫صفحة ‪455 :‬‬

‫في اليوم‪ ،‬وذلك أنه كان إذا قتل رجالً كبر إذا ضرب‪ ،‬ولم يكن يضرب إال قتل‪ ،‬ذك??ر‬
‫ذلك عنه َمنْ كان يليه في حربه‪ ،‬وال يفارقه من ولده وغيرهم‪.‬‬
‫وأص??بح الق??وم على قت??الهم‪ ،‬وكس??فت الش??مس‪ ،‬وارتف??ع ال َق َت??ام‪ ،‬وتقطعت األلوي??ة‬
‫والرايات ولم يعرفوا مواقيت الصالة‪ ،‬وغدا األشتر يرتجز وهو يقول‪:‬‬

‫لما َغدا قد أعلما‬ ‫نحن قتلنا َح ْو َ‬


‫شبا‬
‫ومـعـبـــدا إذ أ ْقـــدَ َمـــا‬ ‫وذا الـ َكــالَع قـــبـــلـــه‬
‫اليقظان شيخا ُم ْسلمما‬ ‫إن تقتلوا منا أبا‬
‫سبـعـين رأسـا مـجــرمـــا‬ ‫فقد قتلنا من ُكم‬
‫القـوا نـكـاال مـؤلـــمـــا‬ ‫ـح ْـوا بـصـفـــين وقـــد‬ ‫أض َ‬
‫ْ‬

‫خدعة رفع المصاحف‬


‫وكان األشتر في هذا اليوم‪ -‬وهو يوم الجمعة‪ -‬على ميمنة علي‪ ،‬وقد أش??رف على‬
‫الفتح‪ ،‬ونادت مشيخة أه??ل الش??ام‪ :‬ي??ا معش??ر الع??رب هّللا ّ‬
‫هللا في الحرم??ات والنس??اء‬
‫والبنات‪ ،‬وقال معاوية‪ :‬هلم مخبآك يا ابن العاص فق??د هلكن??ا‪ ،‬وت??ذكر والي??ة مص??ر‪،‬‬
‫فق??ال عم??رو‪ :‬أيه??ا الن??اس‪َ ،‬منْ ك??ان مع??ه مص??حف فليرفع??ه على ُر ْمح??ه‪ ،‬فك??ثر في‬
‫هللا بيننا وبينكم‪َ ،‬منْ لثغ??ور‬
‫الجيش رفع المصاحف‪ ،‬وارتفعت الضجة ونادوا‪ :‬كتاب ّ‬
‫الشام بعد أهل الشام‪ .‬و َمنْ لثغور العراق بعد أهل العراق‪ .‬ومن لجه??اد ال??روم‪ .‬ومن‬
‫للترك‪ .‬ومن للكفار ورفح في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف‪ ،‬وفي ذل??ك‬
‫يقول النجاشي بن الحارث‪:‬‬

‫عليها كتاب هّللا خـير قُ َ‬


‫ـران‬ ‫فأصبح أهل الشام قد رفعوا ا ْل َق َنا‬
‫أما تتقي أن َي ْهلِ َك الثـقـالن‬ ‫نادوا عليا ً يا ابن ع ّم محـمـد‬

‫فلما رأى كثير من أهل العراق ذل??ك ق??الوا‪ :‬نجيب إلى كت??اب هّللا و ُننِيب? إلي??ه‪َ ،‬‬
‫وأح َّب‬
‫هللا فاقب??ل‬
‫القوم الموادعة‪ ،‬وقيل لعلي‪ :‬قد أعطاك معاوية الح??ق‪ ،‬ودع??اك إلى كت??اب ّ‬
‫منه‪ ?،‬وكان أشدهم في ذلك اليوم األشعث بن قيس‪ ،‬فق?ال علي‪ :‬أيه?ا الن?اس‪ ،‬إن?ه لم‬
‫يزل من أمركم ما أحب حتى قرحتكم الح??رب‪ ،‬وق??د وهّللا أخ??ذت منكم وت??ركت‪ ،‬وإني‬
‫كنت باألمس أميراً فأصبحت الي??وم م??أموراً‪ ،‬وق??د أحببتم البق??اء‪ ،‬فق??ال الألش??تر‪ :‬إن‬
‫هللا الخلف‪ ،‬ولو ك??ان ل??ه مث??ل رجال??ك لم??ا‬ ‫ف له من رجاله‪ ،‬ولك بحمد ّ‬ ‫معاوية ال َخ َل َ‬
‫كان له مثل صبرك وال نصرك‪ ،‬فاقرع الحديد بالحدي??د واس??تعن باهّلل ‪ ،‬وتكلَّم رؤس??اء‬
‫علي بنحو من كالم األشتر‪ ،‬فقال األشعث بن قيس‪ :‬أنا ذل??ك الي??وم على م??ا‬ ‫أصحاب ّ‬
‫ك َّنا عليه أمس‪ ،‬ولسنا ندرى ما يكون غ??داً‪ ،‬وق??د وهّللا ُف?ل َّ الحدي??د‪ ،‬و َك َفت البص??ائر‪،‬‬
‫وتكلم معه غيره بكالم كثير‪ ،‬فقال علي‪ :‬ويحكم إنهم ما رفعوه??ا ألنكم تعلمونه??ا وال‬
‫يعلمون بها‪ ،‬وما رفعوها لكم إال خديعة ودهاء و َمكِيدة‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إنه ما يس??عنا أن‬
‫ُن??دْ َعى إلى كت??اب هّللا فان??أ بي أن نقبل??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬ويحكم إنم??ا ق??اتلتهم لي??دينوا بحكم‬
‫ص ُوا هّللا فيما أمرهم به‪ ،‬ونبذوا كتابه‪ ،‬فا ْمضوا على حقكم وقصدكم‪،‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬فقد َع َ‬
‫صفحة ‪456 :‬‬

‫وحبيب بن مسلمة?‬ ‫ِ‬ ‫وخذوا في قتال عدوكم‪،‬فإن معاوية وابن العاص وابن أبي ُم َع ْيط‬
‫ف بهم‬ ‫وابن النابغة وع?دداً غ?ير ه?ؤالء ليس?وا بأص?حاب دين وال ق?رآن‪ ،‬وأن?ا ْ‬
‫أع? َر ُ‬
‫منكم؛ صحبتهم أطفاال ًو رجاالً‪ ،‬فهم شر أطفال و رجال‪ ،‬وجرى له مع الق??وم خطب‬
‫ص َنع? به م??ا ص??نع بعثم??ان‪ ،‬وق??ال األش??عث‪ :‬إن‬ ‫طويل قد أتينا ببعضه‪ ،‬وتهددوه أن ُي ْ‬
‫ت معاوية فسألته ما يري??د‪ ،‬ق??ال‪ :‬ذل??ك إلي??ك فآ ِت? ِه إن ش??ئت‪ ،‬فأت??اه األش??عث‬‫شئت أ َت ْي ُ‬
‫نرجع نحن وأنتم إلى كتاب هللا‪ ،‬وإلى ما أمر به في كتاب??ه‪?:‬‬ ‫ِ‬ ‫فسأله‪ ،‬فقال له معاوية‪:‬‬
‫تبعث??ون منكم رجالَ ترض??ونه وتختارون??ه‪ ،‬ونبعث برج??ل‪ ،‬ونأخ??ذ عليهم??ا العه??د‬
‫والميثاق أن يعمال بم??ا في كت??اب هللا وال يخرج??ا عن??ه‪ ،‬وننق??اد جميع??أ إلى م??ا اتفق??ا‬
‫فص َؤ َب األشعث قول??ه‪ ،‬وانص??رف إلى علي‪ ،‬ف??أخبره ذل??ك‪ ،‬فق??ال‬ ‫عليه من حكم هللا‪َ ،‬‬
‫أكثر الناس‪ :‬رضينا وقبلنا وسمعنا وأطعنا‪ ،‬فاخت??ار أه??ل الش??ام عم??رو بن الع??اص‪،‬‬
‫وق??ال األش??عث ومن ارت??د بع??د ذل??ك إلى رأي الخ??ؤارج‪ :‬رض??ينا نحن ب??أبي موس??ى‬
‫األشعري‪ ،‬فقال على‪ :‬قد عص??يتموني? في أول ه??ذا األم??ر فال تعص??وني اآلن‪ ،‬إني ال‬
‫أرى أن أولي أب??ا موس??ى األش??عري‪ ،‬فق??ال األش??عث ومن مع??ه‪ :‬ال نرض??ى إال ب??أبي‬
‫وخ? َذل الن??اس م??ني وفع??ل‬ ‫موسى األشعري‪ ،‬قال‪ :‬ويحكم هو ليس بثقة‪ :‬قد ف??ارقني َ‬
‫كذا وكذا‪ ،‬وذكر أشياء فعلها أبو موسى‪ ،‬ثم إنه هرب شهوراً حتى أمنت??ه‪ ،‬لكن ه??ذا‬
‫ض??ريان‪،‬‬ ‫عبد هللا بن عباس َأولٌيه ذلك‪ ،‬فقال األشعث وأصحابه‪ ?:‬وهللا ال يحكم فينا ُم َ‬
‫علي‪ :‬فاألشتر‪ ،‬قالوا‪ :‬وهل هاج هذا األم??ر إال األش??تر‪ ،‬ق??ال‪ :‬فاص??نعوا اآلن م??ا‬ ‫قال ّ‬
‫أردتم‪ ،‬وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه‪ ،‬فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا له القصة‪ ،‬وقيل‬
‫ألبي موسى‪ :‬إن الناس قد اص??طلحوا‪ ،‬فق??ال‪ :‬الحم??د هللا‪ ،‬قي??ل‪ :‬وق??د جعل??وك حكم?اً‪،‬‬
‫قال‪ :‬إنا هلل و إنا إليه راجعون‪.‬‬

‫ذكر الحكمين وبدء التحكيم‬


‫كان أبو موسى األشعر يحدث قبل وقعة صِ ِّفينَ ويقول‪ :‬إن الفتن لم تزل في ب??ني‬
‫إس??رائيل ت??رفعهم وتخفض??هم ح??تى بعث??وا الحكمين يحكم??ان بحكم ال يرض??ى ب??ه من‬
‫اتبعهم?ا وإن ه?ذه األم?ة ال ت?زال به?ا الفتن ترفعه?ا وتخفض?ها ح?تى يبعث?وا حكمين‬
‫يحكمان بما ال يرضى به من اتبعهما‪ ،‬فقال له سويد بن َغ َفلة‪ :‬إياك‪ -‬إن أدركت ذلك‬
‫أحدَ الحكمين‪ ،‬ق?ال‪ :‬أن?ا‪ .‬ق??ال‪ :‬نعم أنت‪ ،‬ق?ال‪ :‬فك??ان يخل??ع قميص??ه‬‫الزمان أن تكون َ‬
‫ص? َعداً‪ ،‬وال في األرض مقع??داً‪ ،‬فلقي??ه س??ويد‬
‫ويقول‪ :‬ال جعل هللا لي إذاً في السماء َم ْ‬
‫بن َغ َفلة بعد ذلك فقال‪ :‬يا أبا موسى‪ ،‬أتذكر مقالتك‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫سلْ َربك العافية‪.‬‬

‫شروط الحكم وموعد االجتماع‬


‫وكان فيما كتب في الصحيفة أن يح??يى الحكم?ان م??ا أحي?ا الق?ران ويمت?ا م?ا أم?ات‬
‫القرآن‪ ،‬وال يتبعان الهوى‪ ،‬وال ُي َداهنان في شيء من ذل??ك ف??إن فعال فال حكم لهم??ا‪،‬‬
‫علي للحكمين حين أك??ره على أمرهم??ا ورد‬ ‫ُّ‬ ‫?راء‪ ،‬وق??ال‬
‫والمس??لمون من حكمهم??ا َب? َ‬
‫األشتر وكان قد أشرف في ذلك الي??وم على الفتح ف?أخبره مخ??بر بم??ا ق?الوا في علي‬
‫سلم إلى معاوية يفعل بهما فعل بابن عفان‪ ،‬فانصرف األشتر خوفا ً‬ ‫وأنه إن لم ُي ِرده ُ‬
‫هّللا‬
‫وكتاب كلُه لي‬ ‫ُ‬ ‫هّللا‬
‫علي فقال لهما علي‪ :‬على أن تحكما بما في كتاب ‪،‬‬ ‫على ّ‬
‫صفحة ‪457 :‬‬

‫وص? َّي ُروا األج??ل إلى ش??هر رمض??ان على‬‫فإن لم تحكما بما في كتاب فال حكم لكم??ا‪َ ،‬‬
‫اجتم??اع الحكمين في موض??ع بين الكوف??ة والش??ام‪ ،‬وك??ان ال??وقت ال??ذي كتبت في??ه‬
‫الصحيفة أليام بقين من صفر سنة سبع وثالثين‪ ،‬وقيل‪ :‬بعد أهذا الشهر منها‪ ،‬و ًم ّر‬
‫األشعث بالصحيفة يقرؤها على الناس فرحا ً مس??رورا‪ ،‬حتم انتهى إلى مجلس لب??ني‬
‫تميم‪ ،‬في???ه جماع???ة من زعم???ائهم‪ ،‬منهم ع???روة بن أدي???ة تميم‪ ،‬وه???و أخ???و بالل‬
‫الخارجي‪ ،‬فقرأها عليهم‪ ،‬فج??رى بين األش??عث وبين أن??اس منهم خطب طوي??ل‪ ،‬وإن‬
‫األشعث كان بدء هذا األمر والم??انع لهم من قت??ال ع??دوهم ح??تى يف??يئوا إال إلى أم??ر‬
‫وأمره ونهيه? الرج??ال‪ .‬ال حكم إال‬
‫ِ‬ ‫هللاّ‪ ،‬وقال له عروة بن أدَية‪ ?:‬أتحكمون في دين هللاّ‬
‫هلل‪ ،‬فكان أول َ من قالها وحكم بها‪ ،‬وقد تنوزع في ذل?ك‪ ،‬وش?د بس?يفه? على األش??عث‬ ‫ّ‬
‫فضم فرسه عن الضربة فوقعت في عجز الفرس ونجا األشعث‪ ،‬وكادت العصبية أن‬
‫تقع بين النزارية واليمانية‪ ?،‬لوال اختالف كلمتهم في الديانة والتحكيم‪.‬‬

‫وفي فعل عروة بن أدَ ية باألشعث يقول رجل من بني تميم في أبيات‪:‬‬

‫س َل َف ْت إنما تـكـون َفـتِـ َّي ْه‬


‫َ‬ ‫ُع ْرو يا عرو كل ُّ فتـنة قـوم‬
‫ـر َّيه‬‫فاحذرنْ غِ َّب ما أتيت ُع َ‬ ‫ثم َت ْن ِمي? ويعظم الخطب فيهـا‬
‫ج حم ْل َت السالح يا ابن أدَيه‬ ‫أع َلى األشعث المعصب بالتـا‬
‫صا والعص َّيه‬ ‫الع َ‬
‫أيا عروة َ‬ ‫إنها فتنة كفتـنة ذي الـعـجل‬
‫وا َّت ِبعه‪ ،‬فذاك خي ُر الـبـرية‬ ‫عـلـي‬
‫ّ‬ ‫فانظر اليوم ما يقول‬

‫عدة قتلى صفين‬


‫وقد تنوزع في مق??دار من قت??ل من أه??ل الش??ام والع??راق بص??فين‪ :‬ف??ذكر أحم??د بن‬
‫ال??دورقي عن يح??يى بن معين أن ع??دة من قت??ل به??ا من الف??ريقين في مائ??ة ي??وم‬
‫وعشرة أيام مائة ألف وعشرة آالف من الناس‪ :‬من أهل الش??ام تس??عون ألف?اً‪ ،‬ومن‬
‫أه??ل الع??راق عش??رون ألف?اً‪ ،‬ونحن ن??ذهب إلى أن ع??دد من حض??ر الح??رب من أه??ل‬
‫الشام بصفين أكثر مما قيل في هذا الباب‪ ،‬وهو خمسون ومائة أل??ف مقات??ل‪ ،‬س??وى‬
‫الخدم واألتباع‪ ،‬وعلى هذا يجب أن يكون مقدار القوم جميعا ً َمنْ قاتل منهم ومن لم‬
‫يقاتل من الخ?دم وغ??يرهم ثلثمائ??ة أل??ف‪ ،‬ب??ل أك??ثر من ذل?ك‪ ،‬ألن أق??ل من فيهم مع??ه‬
‫واحد يخدمه‪ ،‬وفيهم من معه الخمسة والعشرة من الخدم واألتباع وأك??ثر من ذل??ك‪،‬‬
‫وأهل العراق كانوا في عشرين ومائة ألف مقاتل دون األتباع والخدم‪.‬‬

‫وأما الهيثم بن عدي ا َلطائي وغيره مثل الشرقي بن القطامي وأبي مخنف لوط بن‬
‫يحيى فذكروا ما قدمنا‪ ،‬وهو أن جملة من قتل من الفريقين جميعا ً سبعون ألف?اً‪ :‬من‬
‫أهل الش?ام خمس??ة وأربع?ون ألف?اً‪ ،‬ومن أه?ل الع?راق خمس??ة وعش?رون ألف?اً‪ ،‬فيهم‬
‫بالتقص?ي واإلحص??اء للقتلى في ك?ل‬
‫ّ‬ ‫خمس??ة وعش?رون َب??دْ ِرياً‪ ،‬وأن الع?دد ك?ان يق??ع‬
‫وقع??ة‪ ،‬وتحص??يل ه??ذا يتف??اوت‪ ،‬ألن في قتلى الف??ريقين من ُي ْع? َرف ومن ال يع??رف‪،‬‬
‫وفيهم من غرق‪ ،‬وفيهم من قتل في البر؛ فأكلته السباع فلم يدركهم اإلحصاء‪،‬‬
‫صفحة ‪458 :‬‬

‫وغير ذلك مما يعتور ما وصفنا‪ ،‬وسمعت امرأة بصفين من أهل الع??راق وق??د قت??ل‬
‫لها ثالثة أوالد وهي تقول‪:‬‬

‫على فتية من خيار العرب‬ ‫س ِـر ْب‬


‫أعيني ُجودَ ا بدمـع َ‬
‫َّ‬
‫بأي امرئ من قريش َغ َلب‬ ‫وما ضرهم غير حنّ النفوس‬

‫بعد التحكيم‬
‫ولما وقع التحكيم تباغض القوم جميعا ً وأ ْق َبل َ بعضهم يت??برأ من بعض‪ :‬يت??برأ األخ‬
‫علي بالرحي?ل‪ ،‬لعلم?ه ب?اختالف الكلم?ة‪ ،‬وتف?اوت‬ ‫ٌّ‬ ‫من أخيه‪ ،‬واالبن من أبي?ه‪ ،‬وأم?ر‬
‫الرأي‪ ،‬وعدم النظام ألمورهم‪ ،‬وما لحقه من الخالف منهم‪ ،‬وكثر التحكيم في جيش‬
‫أهل العراق‪ ،‬وتضارب الق??وم بالمق?ارع ونع?ال الس??يوف‪ ،‬وتس??ابوا‪ ،‬والم ك??ل فري??ق‬
‫منهم األخ??ر في رأي??ه‪ ،‬وس??ار علي ي??ؤم الكوف??ة‪ ،‬ولح??ق معاوي??ة بدمش??ق من أرض‬
‫الشام‪ ،‬و َف َّر َق عساكره فلحق كل جند منهم ببلده‪.‬‬
‫علي رضي هّللا عنه الكوفة انحاز عنه اثنا عشر ألفا ً من القراء وغيرهم‬ ‫ّ‬ ‫ولما دخل‬
‫اء‪ -‬قري ِة من قرى الكوف?ة‪ -‬وجعل??وا عليهم ش?بيب بن ربعي التميمي‪،‬‬ ‫بح َر ْو َر َ‬
‫فلحقوا َ‬
‫علي إليهم‬
‫?واء اليش?كري من بك?ر بن وائ??ل‪ ،‬فخ??رج ّ‬ ‫هّللا‬
‫ص?الَتهم عب?د بن ال َك? َّ‬ ‫وعلى َ‬
‫وكانت له معهم مناظرات‪ ،‬فدخلوا جميعا ً الكوفة‪ ،‬وإنما سموا الحرورية الجتم??اعهم‬
‫في هذه القرية‪ ،‬وانحيازهم إليها‪.‬‬
‫ت بن‬‫الص ? ْل ِ‬
‫وق??د ذك??ر يح??يى بن معين ق??ال‪ :‬ح??دثنا وهب بن ج??ابر بن ح??ازم‪ ،‬عن َّ‬
‫علي الكوفة جعلت الحرورية? تناديه وهو على المن??بر‪ ?:‬ج??زعت‬ ‫بهرام‪ ،‬قال‪ :‬لما قدم ّ‬
‫من البلية‪ ،‬ورضيت بالقضية‪ ،‬وقبلت الدنية‪ ،‬ال حكم إال هّللا ‪ ،‬فيق??ول‪ُ :‬ح ْك َم هّللا أنتظ??ر‬
‫فيكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬ولقد أوح َِي إليك وإلى الذين من قبل??ك لئن أش??ركت ليحبطن عمل??ك‬
‫ولتك??ونن من الخاس??رين فيق??ول علي‪ :‬فاص??بر إن وع??د هّللا ح??ق‪ ،‬وال يس??تخلفنك‬
‫الذين ال يوقنون ‪.‬‬

‫التقاء الحكمين‬
‫وفي سنة? ثمان وثالثين كان التقاء الحكمين بدومة? الجندل‪ ،‬وقيل‪ :‬بغيرها‪ ،‬على‬
‫هللا بن العب??اس وش??ريح بن‬ ‫علي بعب??د ّ‬
‫ما قدمنا من وصف التن??ازع في ذل??ك‪ ،‬وبعث ّ‬
‫هانئ الهمداني في أربعمائة رجل فيهم أبو موسى األشعري‪ ،‬وبعث معاوي??ة بعم??رو‬
‫بن العاص ومعه شرخبيل بن السمط في أربعمائة‪ ،‬فلم??ا َت? َدانى الق??وم من الموض??ع‬
‫الذي كان فيه االجتماع ق?ال ابن عب?اس ألبي موس??ى‪ :‬إن علي?ا ً لم ي??رض ب?ك حكم?ا ً‬
‫لفضل عندك والمتقدمون عليك كثير‪ ،‬وإن الناس أ َب ْوا غيرك‪ ،‬وإني ألظن ذل ? َك لش??ر‬
‫?يت فال تنس أن علي?ا ً بايع??ه ال??ذين‬
‫ُي َراد بهم‪ ،‬وق??د ض??م داهي??ة الع??رب مع??ك‪ ،‬إن نس? َ‬
‫بايعوا أبا بك?ر وعم?ر وعثم?ان‪ ،‬وليس في??ه خص?لة تباع?ده من الخالف?ة‪ ،‬وليس في‬
‫معاوية خص??لة تقرب??ه من الخالف??ة‪ ،‬ووص??ى معاوي??ة عم??راً حين فارق??ه وه??و يري??د‬
‫االجتماع بأبي موسى‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا عبد هّللا ‪ ،‬إن أه??ل الع??راق ق??د أكره??وا علي?ا ً على‬
‫ضونَ بك‪ ،‬وقد ضم إليك رجل طويل اللسان قصير‬ ‫أبي موسى‪ ،‬وأنا وأهل الشام َرا ُ‬
‫صفحة ‪459 :‬‬

‫س?عد بن أبي‬ ‫فأخر الح?ز‪ ،‬وطب?ق المفص?ل‪ ،‬وال َتلق? َه برأي?ك كل?ه‪ ،‬وواف?اهم َ‬ ‫الرأي‪ِّ ،‬‬
‫وق?اص وعب??د هّللا بن عم?ر وعب?د ال??رحمن بن ع?وف الزه?ري والمغ??يرة بن ش??عبة‬
‫الثقفي وغيرهم‪ ،‬وهؤالء ممن َق َعدَ عن بيعة علي‪ ،‬في آخرين من الناس‪ ،‬وذل??ك في‬
‫شهر رمضان من سنة? ثم??ان وثالثين‪ ،‬فلم??ا التقى أب??و موس??ى وعم??رو ق??ال عم??رو‬
‫ألبي موسى تكلم وقل خيراً‪ ،‬فقال أبو موسى‪ :‬بك تكلم أنت ي??ا عم??رو فق??ال عم??رو‪:‬‬
‫ما كنت ألفعل وأقدم نفسي قبلك‪ ،‬ولك حقوق كلها واجبة لسنك وصحبتك رسول هّللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأنت ضيف‪ ?،‬فحمد هّللا أبو موسى وأثنى عليه‪ ،‬وذكر الحديث‬
‫الذي َحل َّ باإلِسالم‪ ،‬والخالف الواقع بأهله‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا عمرو هلم إلى أمر يجم??ع هللاّ‬
‫ش َع َث‪ ،‬ويص??لح ذات ال??بين‪ .‬فج??زا َّه عم??رو خ??يراً‪ ،‬وق??ال‪ :‬إن للكالم‬
‫به األلفة‪ ،‬ويلم ال َّ‬
‫أوالً وأخرا‪ ،‬ومتى تنازعنا الكالم خطبا ً لم نبلغ آخ??ره ح??تى ننس??ى أول??ه‪ ،‬فاجع??ل م??ا‬
‫كان من كالم بينا في كتاب يصير إليه أمرن??ا‪ .،‬ق??ال‪ :‬ف??اكتب‪ ،‬ف??دعا عم??رو بص??حيفة‬
‫وكاتب وكان الكاتب غالما ً لعمرو‪ ،‬فتقدم إليه ليبدأ به أوالً دون أبي موسى؛لما أراد‬
‫من المكر به‪ ،‬ثم قال له بحضرة الجماع?ة‪ :‬أكتب فإن?ك ش?اهد علين?ا وال تكتب ش?يئا ً‬
‫يأمرك به أحدنا حتى تستأمر األخ?ر في?ه‪ ،‬ف?إذا أم?رك ف?اكتب وإذا نه?اك فانت?ه ح?تى‬
‫يجتم??ع رأين??ا‪ ،‬اكتب‪ :‬بس?م هّللا ال??رحمن ال??رحيم‪ ،‬ه?ذا م??ا تقاض??ى علي?ه فالن وفالن‬
‫فكتب‪ ،‬وبدأ بعمرو‪ ،‬فقال له عمرو‪ :‬ال أم لك أتقدمني قبل??ه كأن??ك جاه??ل بحق??ه‪ .‬فب??دأ‬
‫تقاض َيا على أنهما يشهدان أن ال إل??ه إال هّللا وح??ده ال‬
‫َ‬ ‫باسم عبد هّللا بن قيس وكتب‪:‬‬
‫شريك له وأن محمداً عبده ورسوله‪ :‬أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين‬
‫كله ولو كره المشركون‪ ،‬ثم قال عمرو‪ :‬ونشهد أن أبا بكر خليف??ة رس??ول هللا ص??لى‬
‫هللا وسنة رسول هّللا حتى قبضه هّللا إليه وقد أ َدى الح??ق‬ ‫هللا عليه وسلم عمل بكتاب ّ‬
‫الذي عليه‪ ،‬قال أبو موس??ى‪ :‬اكتب‪ ،‬ثم ق??ال في عم??ر مث??ل ذل??ك‪ ،‬فق??ال أب??و موس??ى‪:‬‬
‫اكتب ثم قال عمرو‪ :‬واكتب وأن عثم??ان ولي ه??ذا األم??ر بع??د عم??ر على إجم??اع من‬
‫ورى من أصحاب رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ورض?ا ً منهم‪ ،‬وأن?ه‬ ‫ش َ‬‫المسلمين و ُ‬
‫كان مؤمناً‪ ،‬فقال أبو موسى األشعري‪ :‬ليس هذا مما قعدنا له‪ ،‬ق??ال عم??رو‪ :‬وهللاّ ال‬
‫بد من أن يكون مؤمنا ً أو كافراً فق?ال أب??و موس??ى‪ :‬ك?ان مؤمن?اً‪ ،‬ق??ال عم??رو‪َ :‬ف ُم??ره‬
‫يكتب‪ :‬قال أبو موسى أكتب ق??ال عم??رو‪ :‬فظالم??ا ق ِت?ل َ عثم??ان أو مظلوم?اً‪ ،‬ق??ال أب??و‬
‫هللا لولي المظلوم سلطانا ً يطلب‬ ‫موسى‪ :‬بل قتل مظلوماً‪ ،‬قال عمرو‪ :‬أفليس قد جعل ّ‬
‫بدمه‪ ?.‬قال أبو موسى‪ :‬نعم‪ ،‬قال عمرو‪ :‬فهل تعلم لعثمان وليا ً أولى من معاوية‪ ?.‬قال‬
‫أبو موسى‪ :‬ال‪ ،‬قال عمرو‪ :‬أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتل??ه أو‬
‫يعجز عن??ه‪ ،‬ق??ال أب??و موس??ى‪ :‬بلى‪ ،‬ق??ال عم??رو للك??اتب‪ :‬اكتب‪ ،‬وأم??ره أب??و موس??ى‬
‫فكتب‪ ،‬قال عمرو‪ :‬فإنا نقيم البينة? أن عليا ً قتل عثمان‪ ،‬قال أبو موسى‪ :‬هذا أمر ق??د‬
‫َح َد َث في اإلسالم‪ ،‬وإنما اجتمعنا لغيره‪ ،‬فهلم إلى أمر يصلح هّللا به أمة محم??د‪ ،‬ق??ال‬
‫عمرو‪ :‬وما هو‪ .‬قال أبو موسى‪ :‬قد ع َلمت أن أهل الع??راق ال يحب??ون معاوي??ة أب??داً‪،‬‬
‫وأن أهل الش?ام ال يحب??ون علي?ا ً أب??داً؛ فهل َّم نخلعهم?ا جميع?ا ً ونس??تخلف عب?د هّللا بن‬
‫هللا‬
‫هللا بن عمر على بنت أبي موسى‪ ،‬قال عمرو‪ :‬أيفعل ذل??ك عب??د ّ‬ ‫عمر‪ .‬وكان عبد ّ‬
‫بن عمر‪ .‬قال أبو موسى‪ :‬نعم إذا َح َم َله الناس على ذلك فع??ل‪ ،‬فعم??د عم??رو إلى ك??ل‬
‫فص َؤبه‪،‬‬‫ما مال إليه أبو موسى َ‬
‫صفحة ‪460 :‬‬

‫وقال له‪ :‬هل لك في سعد‪ .‬قال ل??ه أب??و موس??ى‪ :‬ال‪ ،‬فع??دد ل??ه عم??رو جماع??ة وأب??و‬
‫موسى له ذلك إال ابن عمر‪ ،‬فأخذ عمرو الصحيفة وطواها وجعله??ا تحت قدم??ه بع??د‬
‫أن ختماها جميعاً‪ ،‬وقال عمرو‪ :‬رأيت إن رضي أهل العراق بعبد هّللا بن عمر وأب??اه‬
‫أهل الشام أتقاتل أهل الشام‪ .‬قال أبو موسى‪ :‬ال‪ ،‬قال عمرو‪ :‬فأن رضي أه??ل الش??ام‬
‫وأبى أهل العراق أتقاتل أهل العراق‪ .‬قال أبو موسى‪ :‬ال‪ ،‬ق??ال عم??رو‪ :‬أم??ا إذا رأيت‬
‫?اخ ُطب الن??اس‪ ،‬واخل??ع ص??احبينا مع?ا ً‬
‫الصالح في هذا األمر والخير للمسلمين فقم ف? ْ‬
‫وتكلم باسم هذا الرجل الذي تستخلفه‪ ،‬فقال َ أب??و موس??ى‪ :‬ب??ل أنت قم ف??اخطب ف??أنت‬
‫أحق بذلك‪ ،‬قال عمرو‪ :‬ما أحب أن أتقدمك‪ ،‬وما قولي وقولك للناس إال قول واح??د‪،‬‬
‫فص َؤبه‪ ،‬وقال له‪ :‬هل لك في سعد‪ .‬قال له أبو موسى‪ :‬ال‪ ،‬فعدد ل??ه‬ ‫فقم راشداً‪.‬وسى َ‬
‫عمرو جماعة وأبو موس??ى ل??ه ذل??ك إال ابن عم??ر‪ ،‬فأخ??ذ عم??رو الص??حيفة وطواه??ا‬
‫وجعلها تحت قدمه بعد أن ختماها جميعاً‪ ،‬وقال عمرو‪ :‬رأيت إن رضي أهل الع??راق‬
‫بعبد هّللا بن عمر وأباه أهل الشام أتقاتل أهل الشام‪ .‬قال أبو موسى‪ :‬ال‪ ،‬قال عمرو‪:‬‬
‫فأن رضي أهل الشام وأبى أهل العراق أتقاتل أهل العراق‪ .‬قال أبو موس?ى‪ :‬ال‪ ،‬ق?ال‬
‫ف?اخ ُطب الن?اس‪،‬‬
‫عمرو‪ :‬أما إذا رأيت الصالح في هذا األم?ر والخ?ير للمس?لمين فقم ْ‬
‫واخلع صاحبينا معا ً وتكلم باسم هذا الرج?ل ال?ذي تس??تخلفه‪ ،‬فق?ال َ أب?و موس??ى‪ :‬ب?ل‬
‫أنت قم فاخطب فأنت أحق بذلك‪ ،‬قال عمرو‪ :‬ما أحب أن أتقدمك‪ ،‬وما ق??ولي وقول??ك‬
‫للناس إال قول واحد‪ ،‬فقم راشداً‪.‬‬
‫تمام الخدعة‬
‫فقام أبو موسى فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬وصلى على نبيه صلى هللا علي?ه وس??لم‪ ،‬ثم‬
‫ق??ال‪ :‬أيه??ا الن??اس‪ ،‬أن??ا ق??د نظرن??ا في أمرن??ا‪ ،‬فرأين??ا أق??رب م??ا يحض??رنا من األمن‬
‫وح ْقن الدماء وجمع األلف??ة َخ ْل َع َن??ا علي?ا ً ومعاوي??ة‪ ،‬وق??د خلعت‬‫ث َ‬ ‫والصالح و َلم ال َّ‬
‫ش َع ِ‬
‫عليا ً كما خلعت عمامتي? ه??ذه‪ ،‬ثم أهْ? َوى إلى عمامت??ه فخلعه??ا‪ ،‬واس??تخلفنا رجال ق??د‬
‫صحب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بنفسه‪ ،‬وصحب النبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫َ‬
‫اه‪،‬ورغ َب الن?اس في??ه‪ ،‬ثم ن??زل‪ -.‬فق?ام‬ ‫فبرز في سابقته‪ ،‬هو عبد هللا بن عمر‪ْ ،‬‬
‫وأط َر‬ ‫َ‬
‫عمرو فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬وص??لى على رس??وله ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬ثم ق??ال‪:‬‬
‫أيها الناس‪ ،‬إن أبا موسى عب?دَ هللا بن قيس ق??د خل??ع علي?ا ً وأخرج??ه من ه??ذا األم??ر‬
‫ُ‬
‫وأثبت معاوي??ة علي‬ ‫ال??ذي يطلب‪ ،‬وه??و أعلم ب??ه‪ ،‬أال وإني ق??د خلعت علي??ا ً مع??ه‪،‬‬
‫وعليكم‪ ،‬وإن أبا موسى قد كتب في الصحيفة أن عثمان قد قتل مظلومأ ش??هيداً وأن‬
‫لوليه سلطانا ً أن يطلب بدم??ه حيث ك??ان‪ ،‬وق??د ص??حب معاوي??ة رس??ول هّللا ص??لى هللا‬
‫?بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وأط??راه‪ ،‬ور َّغب‬ ‫عليه وس??لم بنفس??ه‪ ،‬وص??حب أب??وه الن? َ‬
‫الناس فيه‪ ،‬وقال‪ :‬هو الخليفة علينا‪ ،‬وله طاعتن??ا وبيعتن??ا على الطلب ب??دم عثم??ان‪،‬‬
‫فقال أبو موسى؛ كذب عمرو‪ ،‬لم نستخلف معاوية‪ ،‬ولكنا خلعنا معاوية وعلي?ا ً مع??أ‪،‬‬
‫فقال عمرو‪ :‬بل كذب عبد هللا بن قيس‪ ،‬قد خلع عليا ً ولم أخلع معاوية‪.‬‬
‫هللا‪ :‬ووجدت في وج??ه آخ??ر من الرواي??ات أنهم??ا أتفق??ا على‬ ‫قال المسعودي رحمه ّ‬
‫خلع على ومعاوية‪ ،‬وأن يجعال األمر بع??د ذل??ك ش??ورى‪ :‬يخت??ار الن??اس رجالً يص??لح‬
‫لهم‪ ،‬فقد َّم عمرو أبا موسى‪ ،‬فقال أبو موسى‪ :‬إني خلعت عليا ً ومعاوية‪ ،‬فاستقبلوا‬
‫صفحة ‪461 :‬‬

‫وتنحى‪ ،‬وقام عمرو مكانه فقال‪ :‬إن هذا قد خلع صاحبه وأن??ا أخل??ع ص??احبه‬ ‫َ‬ ‫أمركم‪،‬‬
‫كما خلعه‪ ،‬وأثبت ص??احبي معاوي??ة‪ ،‬فق??ال أب??و موس??ى‪ :‬م??ا ل??ك ال وفق??ك هّللا غ? ْ‬
‫?دَر َت‬
‫و َف َج ْر َت‪ .‬إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً‪ ،‬فقال ل??ه عم??رو‪ :‬ب??ل إي??اك يلعن هّللا ‪،‬‬
‫كذبت وغدرت‪ ،‬إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل علي?ه يلهث أو تترك?ه? يلِهث‪ ،‬ثم وك?ز‬
‫أبا موسى فألقاه لجنبه‪ ،‬فلما رأى ذلك شريح بن هانئ ق َنع عمراً بالس??وط‪ ،‬وانخ??زل‬
‫أبو موس??ى‪ ،‬فاس??توى على راحلت??ه ولح??ق بمك??ة‪ ،‬ولم َي ُع??دْ إلى الكوف??ة‪ ،‬وق??د ك??انت‬
‫خطته وأهله وولده بها‪ ،‬وألن أن ال ينظر إلى وجه علي ما بقي‪ ،‬ومضى ابن عمرو‬
‫سعد إلى بيت المقدس فأحرما‪.‬‬

‫ما قيل من الشعر في التحكيم‬


‫وفي فعل الحكمين يقول أيمن بن خريم بن فاتك األسدي‪:‬‬

‫عند الخطوب َر َم ْوكم بابن عبـاس‬ ‫لو َكانَ للقوم رأي يعصمـون بـه‬
‫ب أخماس‬
‫ض ْر ُ‬
‫ولم يدر ما َ‬ ‫لكن رموكم ِب َو ْغـ ٍد مـن ذو يمـن‬

‫ألسداس وفي اختالف الحكمين والمحكمة يقول بعض من حضر ذلك‪:‬‬

‫وباهّلل ِ َر ّبا ً والنبي وبالـذكـر‬ ‫رضينا بحكم هّللا ال حكم غيره‬


‫رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر‬ ‫علـي إمـامـنـا‬
‫ّ‬ ‫وباألص َلع الهادي‬
‫ْ‬
‫إمام الهدى في موقف النهى‬ ‫َرضِ ينا بـه َحـيا ً َو َمـ ْيتـاً؛ فـإنـه‬

‫واألمر وألبي موسى يقول ابن أعين‪:‬‬

‫قريب العفو مخزون اللسـان‬ ‫أبا موسى‪ ،‬بليت وأنت شـيخ‬


‫فيا هلل مـن شـيخ َيمـانِـي‬ ‫ص َفا ُت َك يا ابن قيس‬
‫وما عمرو َ‬
‫ضعيف الركن منكوب الجنان‬ ‫فأمسيت العش َّي َة ذا اعـتـذار‬
‫يرد عليك عضك للبـنـان‬ ‫تعض الكف من ندم‪ ،‬ومـاذا‬

‫وقيل‪ :‬إنه لم يكن بينهما غير ما كتباه في الصحيفة وإقرار أبي موسى بأن عثمان‬
‫قت??ل مظلوم?ا ً وغ??ير ذل?ك مم??ا ق??دمنا‪ ،‬و نهم??ا لم يخطب??ا‪ ،‬وذل??ك أن عم??راً ق??ال ألبي‬
‫موسى‪ :‬س َم من شئت حتى أنظر معك‪ ،‬فسمى أبو موس??ى ابن عم??ر وغ??يره ثم ق??ال‬
‫لعمرو‪ :‬ق?د س??ميت أن??ا َفس? ِّم أنت‪ ،‬ق?ال‪ :‬نعم‪ ،‬أس?مي ذل?ك أق?وى ه?ذه األم??ة عليه?ا‪،‬‬
‫وأس َدها رأياً‪ ،‬وأعلمها بالسياسة‪ ،‬معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬قال‪ :‬ال وهللا ما ه??و ل??ذلك‬
‫بأهل‪ ،‬قال‪ :‬فآتيك بآخر ليس هو بدونه‪ ?،‬قال‪ :‬من هو‪ .‬ق??ال‪ :‬أب??و عب??د هللا عم??رو بن‬
‫العاص‪ ،‬فلما قالها علم أبو موس??ى أن??ه يلعب ب??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬فعلته??ا لعن??ك هللا‪َ ،‬ف َت َ‬
‫س?ا َّبا‪،‬‬
‫َ‬
‫فلحق أبو موسى بمكة‪.‬‬

‫صفحة ‪462 :‬‬

‫فلم??ا أنص??رف أب??و موس??ى انص??رف عم??رو بن الع??اص إلى منزل??ه‪ ،‬ولم ي??أت إلى‬
‫معاوية‪ ،‬فأرسل إليه معاوية يدعوه‪ ،‬فقال‪ :‬إنما كنت أجيئك إذ كانت لي إليك حاج??ة‪،‬‬
‫فأما إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحق أن تأتينا‪ ،‬فعلم معاوية ما قد دُفع إلي??ه‪ ،‬فخم??ر‬
‫الرأي وأعمل الحيلة‪ ،‬وأمر معاوية بطع??ام كث??ير فص??نع‪ ،‬ثم دع??ا بخاص??ته وموالي??ه‬
‫وأهله‪ ،‬فق??ال‪ :‬إني س??أغدو إلى عم??رو‪ ،‬ف??إذا دع??وت بالطع??ام َف? َد ُعوا موالي??ه وأهل??ه‬
‫فليجلسوا قبلكم‪ ،‬فإذا شبع رج??ل منهم وق??ام فليجلس رج??ل منكم مكان??ه‪ ،‬إذا خرج??وا‬
‫ولم يبق في البيت أحد منهم فأغلقوا باب البيت‪ ،‬واحذروا أن يدخل أحد منهم إال أن‬
‫آمركم‪.‬‬

‫خدعة معاوية لعمرو بن العاص‬


‫وغدا إليه معاوية وعمرو جالس على فراش??ه‪ ،‬فلم يقم ل?ه عنه?ا‪ ،‬وال دع?اه فج?اء‬
‫ُمعاوية وجلس على األرض‪ ،‬واتكأ على ناحية الفراش‪ ،‬وذلك أن عمراً ك??ان يح??دث‬
‫نفسه أنه قد ملك األمر وإليه العقد‪ ،‬يضعها فيمن يرى‪ ،‬وين??دب للخالف??ة من يش??اء‪،‬‬
‫فجرى بينهما كالم كثير‪ ،‬وكان مما ق??ال ل??ه عم??رو‪ :‬ه??ذا ال َكت??اب ال??ذي بي??ني وبين?ه?‬
‫قتل مظلوماً‪ ،‬وأخرج عليا ً من هذا األم??ر‪،‬‬ ‫أقر بأن عثمان ِ‬ ‫عليه خاتمي وخاتمه‪ ،‬وقد َّ‬
‫علي رجاال لم أرهم أهال لها‪ ،‬وهذا األمر إلي أن اس??تخلف من ش??ئته‪ ?،‬وق??د‬ ‫و َع َرض َّ‬
‫أعطاني أهل الشام عهودهم ومواثيقهم‪ ،‬فحادثه معاوية ساعة وأخرجه عم??ا ك??انوا‬
‫عليه‪ ،‬وضاحكه وداعبه‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬يا أبا عبد هّللا ‪ ،‬هل من غداء‬
‫قال‪ :‬أ َما شيء يشبع َمنْ ترى فال وهّللا ‪،‬‬
‫فقال معاوية ‪ :‬هلم يا غالمي غداءك‪ ،‬فجيء بالطعام المستعد‪ ،‬فوضع‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا أبا عبد هّللا ‪ ،‬أدع مواليك وأهلك‪ ،‬فدعاهم‪،‬‬
‫ثم قال له عمرو‪ :‬وادع أنت أصحابك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫قال‪ :‬نعم يأكل أصحابك أوال ثم يجلس هؤالء بعدُ‪ ،‬فجعلوا كلما قام رجل من حاشية‬
‫عم??رو قع??د موض??عه رج??ل من حاش??ية معاوي??ة‪ ،‬ح??تى خ??رج أص??حاب عم??رو وبقي‬
‫أصحاب معاوية‪ ،‬فقام الذي وكله بغلق الباب‪ ،‬فأغلق الباب‪،‬‬
‫فقال له عمرو‪ :‬فعلتها‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إي وهّللا بيني? وبينك أم?ران ف?اختر أيهم?ا ش?ئت‪ :‬البيع?ة لي‪ ،‬أو أقتلك‪ ،‬ليس‬
‫وهّللا غيرهما‪،‬‬
‫فأذنْ لغالمي وردان حتى أشاوره وأنظر رأيه‪ ،‬ال تراه وهّللا وال يراك إال‬ ‫قال عمرو‪َ :‬‬
‫قتيالً أو على ما قلت لك‪ ،‬فالوفاء إذن بطعمة مصر‪،‬‬
‫قال‪ :‬هي لك م??ا عش??ت‪ ،‬فاس??توثق ك??ل واح??د منهم??ا من ص??احبه‪ ،‬وأحض??ر معاوي??ة‬
‫الخواص من أهل الشام‪ ،‬ومنع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فقال لهم عمرو‪ :‬قد رأيت أن أبايع معاوية‪ ،‬فلم أر أحداً أقوى على هذا األمر منه‪،‬‬
‫فبايعه أهل الشام‪ ،‬وانصرف معاوية إلى منزله خليفة‪.‬‬

‫صفحة ‪463 :‬‬

‫بين علي وأصحابه‬


‫ولما بلغ عليا ً ما كان منَ أمر أبي موسى وعمرو ق??ال‪ :‬إني كنت تق??دمت إليكم في‬
‫هذه الحكومة ونهيتكم عنها‪ ،‬فأبيتم إال عصياني‪ ،‬فكيف رأيتم عاقب??ة أم??ركم إذ أبيتم‬
‫علي‪ .‬وهللا إني ألع??رف َمنْ حملكم على خالفي وال??ترك ألم??ري‪ ،‬ول??و أش??اء أخ??ذه‬
‫لفعلت‪ ،‬ولكن هللا من ورائ??ه‪ ،‬يري??د ب??ذلك األش??عث بن قيس وهللا أعلم‪ ،‬وكنت فيم??ا‬
‫أمرت به كما قال أخو بني خثعم‪:‬‬
‫ض َحى الغد‬
‫فلم يستبينوا الرشد إال ُ‬ ‫الـلـوى‬
‫َ‬ ‫أ َم ْر ُت ُه ُم أمري بمنعرج?‬

‫َمنْ دعا إلى هذه الحكومة فاقتلوه قتل?ه هللا ول?و ك?ان تحت عم?امتي ه?ذه‪ ،‬إال إن‬
‫هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم هللا‪ ،‬وحكما به??وى‬
‫أح َي َي?ا م?ا أمات?ه‪،‬‬
‫أنفسهما بغ?ير حج?ة وال ح?ق مع?روف‪ ،‬فأمات?ا م?ا أحي?ا الق?ران‪َ ،‬و ْ‬
‫واختلف في حكمهما كل أمه ما‪ ،‬ولم يرشدمها هللا ولم يوفقهما‪ ،‬ف??بريء هللا منهم??ا‬
‫ورس??وله وص??الح المؤم??نين‪ ،‬فت??أهبوا للجه??اد واس??تعدو الس??ير‪ ،‬وأص??بحوا في‬
‫عساكركم أن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫قال المسعودي‪ :‬وق??د اختلفت الف??رق من أه??ل ملتن??ا في الحكمين‪ ،‬وق??الوا في ذل??ك‬
‫أقاويل كثيرة‪ ،‬وقد أتينا على ما ذهبوا إليه في ذلك وما قال??ه ك??ل فري??ق منهم‪ ،‬ومن‬
‫أيد قوله من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم من فرق هذه األمة في كتابنا في‬
‫المقاالت في أصول الديانات وذكرنا في كت??اب أخب??ار الزم??ان ق??ول علي في مواقف??ه‬
‫وخطبه‪ ،‬وما قاله في ذلك‪ ،‬وما أك??ره علي??ه‪ ،‬وتأنيب??ه لهم بع??د الحكوم??ة‪ ،‬وم??ا تق??دم‬
‫الحكوم??ة من تح??ذيره إي??اهم منه??ا حين ألح??وا في تحكيم أب??و موس??ى األش??عري‬
‫وعمرو‪ ،‬حيث قال‪ :‬أال إن القوم قد اختاروا ألنفسهم أقرب عهدكم بعبد هّللا بن قيس‬
‫باألمس وهو يقول أال إنها فتنة‪ ،‬فقطعوا فيه??ا أو ت??اركم وكس??روا قس??يكم‪ ،‬ف??إن ي??ك‬
‫صادقا ً فقد أخطأ في مسيره غير مستكره عليه‪ ،‬وإن يك كاذب?ا ً فق?د لزمت??ه التهم??ة‪.،‬‬
‫وهذا كالم أبي موسى في تخذيله الناس‪ ،‬وتحريض??هم على الجل??وس وتث??بيطهم عن‬
‫علي في حروبه ومس??يره إلى الجم??ل وغ??يره‪ ،‬ثم م??ا قال??ه في بعض‬ ‫ّ‬ ‫أمير المؤمنين‬
‫مقاماته في معاتبته لقريش‪ ،‬وقد بلغه عن أن??اس منهم ممن قع??د عن بيعت??ه و َن??ا َف َق‬
‫في خالفته كالم كثير‪ ،‬فق??ال‪ :‬وق??د زعمت ق??ريش أن ابن أبي ط??الب ش??جاع ولكن ال‬
‫مراس?ا ً له??ا م??ني‪ ?.‬لق??د نهض??ت فيه??ا‬
‫بت أيديهم وهل فيهم أشد َ‬ ‫علم له بالحروب‪َ ،‬ت ِر ْ‬
‫وما بلغت العشرين‪ ،‬وه??ا أن??ا ذا ق??د أربيت على ني??ف وس??تين‪ ،‬ولكن ال رأي لمن ال‬
‫ُي َطاع‪.‬‬
‫وص? ِّفينَ والحكمين؛‬ ‫?ل من أخب??ار الجم??ل ِ‬‫قال المسعودي‪ :‬وإذ ق??د تق??دّ م ذكرن??ا ل ُج َم? ٍ‬
‫فلنذكر اآلن جوامع من أخبار يوم النهروان‪ ،‬ونعقب ذلك بذكر مقتله علي??ه الس??الم‪،‬‬
‫وإن كان قد أتينا على مبسوط سائر م??ا تق??دم لن??ا في ه??ذا الكت??اب وم??ا ت??أخر‪ ،‬فيم??ا‬
‫سلف من كتبنا‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬‬

‫صفحة ‪464 :‬‬

‫ذكر حروبه رضى هللا عنه مع أهل النهروان‬


‫وما لحق بهذا الباب من مقتل محمد بن أبي بكر الصديق رضي هّللا عن??ه واألش??تر‬
‫النخعي وغير ذلك‬
‫اجتماع الخوارج ومسير علي إليهم‬
‫واجتمعت الخوارج في أربعة آالف‪ ،‬فبايعوا عبد هّللا بن َوهْ ب الراسبي‪ ،‬ولحقوا‬
‫بالمدائن‪ ،‬وقتلوا عبد هللا بن حب??اب عام??ل علي عليه??ا‪ :‬ذبح??وه ذبح?اً‪ ،‬وبق??روا بطن‬
‫امرأته وكانت حامال‪ ،‬وقتلوا غيرها من النساء‪ ،‬وق??د ك?ان علي انفص??ل عن الكوف??ة‬
‫في خمسة وثالثين ألفاً‪ ،‬وأتاه من البصرة‪ ،‬من قبل ابن عباس‪ -‬وكان عامله عليها‪-‬‬
‫ف بن قيس وحارثة? بن قدامة السعدي‪ ،‬وذلك في سنة? ثم??ان‬ ‫األح َن ُ‬
‫عشرة آالف فيهم ْ‬
‫وثالثين‪ ،‬فنزل على األنبار‪ ،‬والتأمت إلي??ه العس??اكر‪ ،‬فخطب الن??اس وحرض??هم على‬
‫الجهاد‪ ،‬وقال‪ :‬سيروا إلى قتلة هللا المهاجرين واألنص??ار قُ?دُماً‪ ،‬ف??إنهم طالم??ا َ‬
‫س? َع ْوا‬
‫في إطفاء نور هللا‪ ،‬وحرضوا على قتال رسول هللا صلى هللا عليه وس??لم ومن مع??ه‪،‬‬
‫أال إن رسول هللا أمرني بقتال القاسطين وهم ه??ؤالء ال??ذين س??رنا إليهم‪ ،‬والن??اكثين‬
‫وهم هؤالء الذين فرغنا منهم‪ ،‬والم??ارقين ولم نلقهم بع??د‪ ،‬فس??يروا إلى القاس??طين‪،‬‬
‫فهم أهم علينا من الخوارج‪ ،‬سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا َجبارين يتخ??ذهم‬
‫الناس أرباباً‪ ،‬ويتخذون عباد هّللا َخ َوالً ومالهم د َُوالً‪ ،‬ف??أبوا إال أن يب??دوا ب??الخوارج‪،‬‬
‫فسار علي إليهم‪ ،‬حتى أتى النهروان‪ ،‬فبعث إليهم بالحارث بن م?رة العب?دى رس?وال‬
‫يدعوهم إلى الرجوع‪ ،‬فقتلوه‪ ،‬وبعثوا إلى علي‪ :‬إن ُت ْب َت من حكومتك وش??هدت على‬
‫?راء‪،‬‬ ‫نفسك بالكفر بايعناك‪ ،‬وإن أبيت فاعتز ْل َنا حتى نختار ألنفسنا إماما فإن??ا من??ك َب? َ‬
‫فبعث إليهم علي‪ :‬أن ابعثوا إلي بقتلة إخواني ف??أقتلهم ثم أت??ارككم إلى أن أف??رغ من‬
‫ب قل??وبكم‪ ،‬فبعث??وا إلي??ه‪ ،‬كلن??ا قتل??ة أص??حابك‪ ،‬وكلن??ا‬ ‫قتال أهل المغرب‪ ،‬ولعل هّللا ُي َقلِّ ُ‬
‫مستحل ّ لدمائهم‪ ،‬مشتركون في قتلهم‪ ،‬وأخ?بره الرس?ول‪ -‬وك?ان من يه?ود الس?واد‪-‬‬
‫أن الق??وم ق??د ع??بروا نه??ر طبرس??تان‪ ،‬وه??ذا النه??ر علي??ه قنط??رة‪ ،‬تع??رف بقنط??رة‬
‫طبرستان‪ ،‬بين حل?وان وبغ?داد‪ ،‬من بالد خراس?ان‪ ،‬فق?ال علي‪ :‬وهّللا م?ا ع?بروه وال‬
‫يقطعونه‪ ،‬حتى نقتلهم بالرميلة دونه‪ ،‬ثم تواترت عليه األخبار بقطعهم له??ذا النه??ر‪،‬‬
‫وعبورهم هذا الجس??ر‪ ،‬وه??و ي??أبى ذل??ك‪ ،‬ويحل??ف أنهم لم يع??بروه‪ ،‬وأن مص??ارعهم‬
‫دونه‪ ?.‬ثم قال‪ :‬س??يروا إلى الق??وم‪ ،‬فوهللا ال يفلت منهم إال عش??رة‪ ،‬وال يقت??ل منكم إال‬
‫ف عليهم‪ ،‬وق??د عس??كروا بالموض??ع المع??روف بالرميل??ة‬ ‫عشرة‪ ،‬فس??ار علي‪ْ ،‬‬
‫فأش? َر َ‬
‫ف عليهم ق??ال‪ :‬هّللا أك??بر‪ ،‬ص??دق هللاّ ورس??ول‬ ‫على حسب ما قال ألصحابه‪ .‬فلما أ ْ‬
‫ش َر َ‬
‫فتصاف القوم‪ ،‬ووقف عليهم بنفسه‪ ،‬فدعاهم إلى الرجوع‬ ‫َّ‬ ‫هّللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫والتوبة‪ ،‬فأبوا ورموا أصحابه‪ ،‬فقيل له‪ :‬قد رمونا‪ ،‬فقال‪ :‬كفوا‪ ،‬فكروا الق??ول علي??ه‬
‫هللا أك??بر‪،‬‬‫ش ِّحطٍ بدمه‪ ،‬فقال علي‪ّ :‬‬ ‫ثالثا ً وهو يأمرهم بالكف‪ ،‬حتى أتي برجل قتيل مت َ‬
‫اآلن َحل قتالهم‪ ،‬احملوا على القوم‪ ،‬فحم??ل رج??ل من الخ??وارج على أص??حاب علي‪،‬‬
‫فجرح فيهم‪ ،‬وجعل يغشى كل ناحية‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ض َم ْ‬
‫ش َرفيا‬ ‫ألبسته أ ْب َي َ‬ ‫أضربهم ولو أرى عليا ً‬

‫صفحة ‪465 :‬‬

‫فخرج إليه علي رضي هللا عنه‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫شقِيا‬ ‫إني أراك جاهال َ‬ ‫يا أئ َه َذا المبتغي علـ َّيا‬


‫َه َلم فابرز هاهنا إلـ َّيا‬ ‫قد كنت عن كفاحه غنيا‬

‫علي فقتله ثم خرج منهم أخر‪ ،‬فحم??ل على الن??اس‪ ،‬ففت??ك فيهم‪ ،‬وجع??ل‬
‫ٌّ‬ ‫وحمل عليه‬
‫يكر عليهم‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫صأرمي ثوب َغ َبن‬


‫ألبسته ِب َ‬ ‫سنْ‬
‫أضربهم ولو أرى أبا َح َ‬

‫فخرج إليه علي وهو يقول‪:‬‬

‫إليك فانظر أينا يلقى ال َغ َبنْ‬ ‫سـن‬


‫يا أيهذا المبتغى أبا َح َ‬

‫وحمل عليه علي وشكه بالرمح‪ ،‬وترك الرمح فيه‪ ،‬فانصرف علي وهو يقول‪:‬‬
‫َ‬
‫فرأيت ما تكره‪.‬‬ ‫َ‬
‫رأيت أبا حسن‬ ‫لقد‬

‫المخدج ذو الثدية‬
‫هللا بن وهب‬ ‫األنص?اري على زي??د بن حص??ن فقتل??ه‪ ،‬وقت??ل عب??د ّ‬
‫َ‬ ‫وحمل أبو أيوب‬
‫األزدِي‪ ،‬وزياد بن حفصة‪ ،‬وقتل حرقوص بن زه??ير‬ ‫الراسبي‪ ،‬قتله هانئ بن حاطب ْ‬
‫السعدي‪ ،‬وكان جمل?ة من قت?ل من أص?حاب علي تس?عة‪ ،‬ولم يفلت من الخ?وارج إال‬
‫عش??رة‪ ،‬وأتى علي على الق??وم‪ ،‬وهم أربع??ة آالف‪ ،‬فيهم المخ??دج ذو الث َد َّية إال من‬
‫ذكرنا من هؤالء العشرة‪ ،‬وأمر علي بطلب المخدج‪ ،‬فطلبوه‪ ،‬فلم يقدروا عليه‪ ،‬فقام‬
‫المخدج‪ ،‬ف??انتهى إلى قتلى بعض??هم ف??وق بعض‪ ،‬فق??ال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫علي وعليه أثر الحزن لفقد‬
‫هّللا‬
‫افرجوا‪ ،‬ففرجوا يمينا َ وشماالً واستخرجوه‪ ،‬فق?ال علي رض?ي عن?ه‪ّ :،‬‬
‫هللا أك?بر‪،‬‬
‫ت على محم??د‪ ،‬إن??ه لن??اقص الي??د ليس فيه??ا عظم‪ ،‬طرفه??ا حلم??ة مث??ل َث??دْ ي‬ ‫م??ا َك? َ‬
‫?ذ ْب ُ‬
‫المرأة‪ ،‬عليها خمس شعرات أو سبع‪ ،‬رؤوسها معقفة‪ ،‬ثم ق??ال‪ :‬ائت??وني? ب??ه‪ ،‬فنظ??ر‬
‫إلى عضده‪ ،‬فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة علي??ه ش??عرات س??ود إذا م??دت‬
‫اللحمة امتدت حتى تحافي بطن يده األخرى‪ ،‬ثم ُت ْترك فتعود إلى منكبه‪َ ،‬ف َث َنى رجل??ه‬
‫ونزل‪ ،‬وخر هّلل ساجداً‪.‬‬
‫ص ْر َعى‪ ،‬فقال‪ :‬لقد صرعكم َمنْ غ??ركم‪ ،‬قي??ل‪ :‬و َمنْ غ??رهم‪.‬‬ ‫ثم ركب ومر بهم وهم َ‬
‫س السوء‪ ،‬فقال أصحابه‪ :‬قد قطع هللا داب??ر هم إلى آخ??ر ال??دهر‪،‬‬ ‫قال‪ :‬الشيطان وأ ْنفُ ُ‬
‫فقال‪ :‬كال والذي نفسي بيده‪ ،‬وإنهم لفي أصالب الرج??ال وأرح??ام النس??اء‪ ،‬ال تخ??رج‬
‫خارجة إال خرجت بعدها مثلُها حتى تخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال‬
‫له األشمط يخرج إليه رجل منا أهل البيت فيقتله‪ ،‬وال تخرج بعدها خارجة إلي ي??وم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫صفحة ‪466 :‬‬

‫وجمع علي ما كان في عسكر الخ?وارج‪ ،‬فقس?م الس?الح وال?دواب بين المس?لمين‪،‬‬
‫وردَّ المت??اع والعبي??د واإلم??اء إلى أهليهم‪ ،‬ثم خطب الن??اس‪ ،‬إن هّللا ق??د أحس??ن إليكم‬
‫َ‬
‫وأعز نصركم‪ ،‬فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم‪ ،‬فق??الوا‪ :‬ي??ا أم??ير المؤم??نين ق??د‬
‫ًكلّت سيوفنا‪ ،‬ونف َد ْت نبالن??ا‪ ،‬ونص??لت أس??نة رماحن??ا‪ ،‬ف?دعنا نس?تعد بأحس??ن ع?دَتنا‪،‬‬
‫وكان الذي كلمه بهذا األشعث بن قيس‪ ،‬فعسكر علي بالنخيلة‪.‬‬

‫تفرق أصحاب علي وردتهم‬


‫فجعل أصحابه يتسللون ويلحقون بأوطانهم‪ ،‬فلم يبق مع?ه إال نف?ر يس?ير‪ ،‬ومض?ى‬
‫الحارث بن راشد الناجي في ثالثمائة من الن??اس فارت??دوا إلى دين النص??رانية‪ ،‬وهم‬
‫من ولد سامة بن لؤي بن غالب‪ ،‬من ولد إسماعيل عند أنفسهم‪ ،‬وقد أبى ذلك كث??ير‬
‫أع َق َب‪ ،‬وق??د حكى عن علي فيهم م??ا ق??د‬
‫من الناس‪ ،‬وذك??روا أن س??امة بن ل??ؤي م??ا ْ‬
‫ذكرناه في كتابنا في أخبار الزمان‪.‬‬

‫ولد سامة بن لؤي وعلي‬


‫ولست تكاد ترى سام ّيأ إال منحرفا ً عن علي‪ :‬من ذلك م?ا ظه?ر من علي بن ا ْل َج ْهم‬
‫الشاعر السامي من النصب واالنحراف‪ ،‬وقد أتينا على لمع من ش??عره وأخب??اره في‬
‫الكتاب األوسط‪ ،‬ولقد بلغ من انحرافه العداوة لعلي عليه السالم أنه كان يلعن أب??اه‪،‬‬
‫فسئل عن ذلك‪ ،‬وبم استحق اللعن منه؛ فقال‪ :‬بتسميت ِه إياي عليا ً‪.‬‬
‫س ّرح إليهم علي معقل َ بن قيس الرياحي‪ ،‬فقت??ل الح?ارث ومن مع?ه من المرت?دين‬ ‫َف ً‬
‫ف البحر‪ ،‬وس??بى عي??الهم وذر أريهم‪ ،‬وذل??ك بس??احل البح??رين‪ .‬ف??نزل معق??ل بن‬ ‫ِبسي ِ?‬
‫قيس بعض ُك? َ?و ِر األه??واز بس??بي الق??وم‪ ،‬وك?ان هنال?ك مص??قلة بن هب??يرة الش??يباني‬
‫عامال لعلي‪ ،‬فصاح به النسوة‪ :‬امنن علينا‪ ،‬فاشتراهم بثلثمائة ألف درهم واعتقهم‪،‬‬
‫َ?رب إلى معاوي?ة‪ ،‬فق?ال علي‪ :‬قبح هّللا مص?قلة‪ ،‬فع?ل‬ ‫وأ َدى من المال مائتي أل?ف وه َ‬
‫أخ ْذ َنا ما قدر َنا على أخذه‪ ،‬فإن أعسر أنظ??ر ن??اه‪،‬‬
‫فعل السيد وفر فرار العبد‪ ،‬لو أقام َ‬
‫وإن عج??ز لم نأخ??ذه بش??يء‪ ?،‬وأنف??ذ العت??ق وفي ذل??ك يق??ول مص??قلة بن هب??يرة‪ ،‬من‬
‫أبيات‪:‬‬
‫س ْبيا ً من لؤي بن غالب‬‫وأعتقت َ‬ ‫تركت نساء الحي بكر بن وائل‬
‫قليل ال محـالة ذاهـب‬
‫لمال ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وفارقت خير الناس بعد محمـد‬

‫وفي ذلك يقول األخر‪:‬‬

‫ربيحا ًيوم ناجية بن سأمه ولمصقلة‬ ‫ومصقلة الذي قد باع بيعـا‬

‫أفع??ال أتاه??ا‪،‬وحي??ل عمله??ا ق??د ذكرناه??ا وم??ا ق??ال في ذل??ك من الش??عر في الكت??اب‬
‫األوسط‪.‬‬

‫صفحة ‪467 :‬‬

‫وقال علي بن محمد بن جعفر العلوي فيمن انتمى إلى سامة بن لؤي ابن غالب‪.‬‬

‫فأمر ُه ُم عندنا ُم ْ‬
‫ـظـلـم‬ ‫وسامة م َّنا‪ ،‬فأمـا بـنـوه‬
‫خرافة مضطجع يحلُـم‬ ‫أناس أتونا بأنـسـابـهـم‬
‫ـحـكـم‬‫وكل أقاويله ُم ْ‬ ‫وقلنا لهم مثل قول الوصِ ّي‬
‫تقول‪ ،‬فقل‪ :‬ربنا أعـلـم‬ ‫إذا ما سئلت فلم َتـدْ ِرمـا‬

‫عمرو بن العاص ومحمد بن أبي بكر في مصر‬

‫وفي سنة ثمان وثالثين وج??ه معاوي??ة عم??رو بن الع??اص إلى مص??ر في أربع??ة‬
‫آالف‪ ،‬ومعه معاوية بن خديج‪ ،‬وأبو األعور السلمي‪ ،‬واستعمل عمراً عليها حيات??ه‪،‬‬
‫وو َفى له بما تق??دم من ض??مانه‪ ،‬ف??التقواهم ومحم??د بن أبي بك??ر‪ -‬وك??ان عام??ل علي‬
‫َ‬
‫عليها‪ -‬بالموضع المعروف بالمسناة‪ ،‬فاقتتلوا‪ ،‬فانهزم محم??د إلِس??الم أص??حابه إي??اه‬
‫وتركهم له‪ ،‬وص??ار إلى موض??ع بمص??ر‪ ،‬ف?اختفى في??ه‪ ،‬فاحي??ط بال??دار‪ ،‬فخ??رج إليهم‬
‫محمد ومن معه من أصحابه‪ ،‬فقاتلهم حتى قت??ل‪ ،‬فأخ??ذه معاوي??ة بن خ??ديج وعم??رو‬
‫بن العاص وغيرهما‪ ،‬فجعلوه في جلد حم??ار وأض??رموه? بالن??ار‪ ،‬وذل??ك بموض ?ع? في‬
‫مصر‪ ،‬يقال له‪ :‬كوم شريك‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه فعل ب??ه ذل??ك‪ ،‬وب??ه ش??يء من الحي??اة‪ ،‬وبل??غ‬
‫معاوية قتل محمد وأصحابه‪ ،‬فأظهر الفرح والسرور‪ .‬وبلغ عل ّيا ً قتل محمد وس??رور‬
‫ت على هال??ك من??ذ دخلت‬ ‫?زع ُ‬
‫معاوية‪ ،‬فقال‪ :‬جزعنا علي ِه على قدر سرورهم‪ ،‬فم??ا ج? ْ‬
‫الحروب َج َزعِ ي عليه‪ ،‬كان لي ربيباً‪ ،‬وكنت أع??ده ول??داً‪ ،‬وك??ان بي ب??راً‪ ،‬وك??ان‬
‫َ‬ ‫هذه‬
‫ابن أخي‪ ،‬فعلى مثل هذا نحزن‪ ،‬وعند هّللا نحتسبه‪.‬‬
‫والية األشتر ومقتل?ه ب?العريش مس?موماً‪ :‬وولّى علي األش?تر مص?ر وأنف?ذه إليه?ا‬
‫دس إلى دهقان كان بالعريش‪ ،‬فأرغبه‪ ،‬وق??ال‪ :‬أت??رك‬ ‫فيجيش‪ ،‬فلما بلغ ذلك معاوية َ‬
‫خراجك عشرين سنة‪ ،‬واحتل لألشتر بالسم في طع أمه ‪ ،‬فلما نزل األش??تر الع??ريش‬
‫أحب إليه‪ .‬فقيل ل??ه‪ :‬العس??ل‪ ،‬فأه??دى ل??ه عس?الً‪،‬‬‫ُّ‬ ‫سأل الدهقانُ ‪ :‬أي الطعام والشراب‬
‫وقال‪ :‬إن من أمره وشأنه كذا وكذا‪ ،‬ووصفه لألشتر‪ ،‬وكان األشتر ص??ائمأ‪ ،‬فتن??اول‬
‫منه? شربة‪ ،‬فما استقرت في جوفه حتى تلف‪ ،‬وأتى َمنْ كان معه على الدهقان ومن‬
‫كان معه‪ ،‬وقيل‪ :‬كان ذلك بالقلزم‪ ،‬واألول أثبت‪ ،‬فبلِغ ذلك علياً‪ ،‬فقال‪ :‬لليدين والفم‪،‬‬
‫وبلغ ذلك معاوية‪ ،‬فقال‪ :‬إن هللا جنداَ من العسل‪.‬‬
‫علي في هذه الس??نة ثالث?ة أرزاق على حس??ب م?ا ك?ان يحم??ل‬ ‫وقبض أصحابه عن ّ‬
‫إليه من المال من أعمال??ه‪ ،‬ثم ورد علي??ه م??ال من أص??بهان‪ ،‬فخطب الن??اس‪ ،‬وق??ال‪:‬‬
‫اغدوا إلى عطاء رابع‪ ،‬فوهللا ما أنا لكم بخازن‪ ،‬وكان في عطائه أسوة للناس يأخ??ذ‬
‫كما يأخذ الواحد منهم‪.‬‬
‫ولم يكن بين علي ومعاوية من الحرب إال م??ا وص??فنا بص??فين‪ ،‬وك??ان معاوي??ة في‬
‫بقية أيام علي يبعث سرايا ُتغِي ُر‪ ،‬وكذلك علي كان يبعث من يمنع? سرايا معاوية من‬
‫أذ ّية الناس‪ ،‬وقد أتينا على ذكر السرايا والغارات فيما سلف من كتبنا‪.‬‬

‫صفحة ‪468 :‬‬

‫فرق المعاملة بين الجمل وصفين وسره‬


‫قال المسعودي رحمه هّللا ‪ :‬وقد تكلم طوائف من الناس ممن سلف وخلف من أه??ل‬
‫علي ي??وم الجم??ل‪ ،‬وص??فين‪ ،‬وتب??اين حكم??ه‬‫اآلراء من الخ??وارج وغ??يرهم في فع??ل ّ‬
‫فيهما‪ ،‬من قتله من أهل صفين‪ ،‬مقبلين وم??دبرين‪ ?،‬وإجه??ازه على َج ْر َح? اهم‪ ،‬وي??وم‬
‫يتبع ُم َولِّي?اً‪ ،‬وال أجه?ز على ج?ريح‪ ،‬ومن ألقى س?الحه أو دخ?ل داره ك?ان‬
‫الجمل لم ٍ‬
‫آمن??ا‪ ،‬وم??ا أج??ابهم ب??ه ش??يعة علي في تب??ان حكم علي في ه??ذين الي??ومين الختالف‬
‫حكمهما‪ ،‬وهو أن أصحاب الجمل لما انكشفوا لم يكن لهم فئة يرجعون إليها‪ ،‬وإنم??ا‬
‫رجع القوم إلى منازلهم‪ ،‬غير مح?اربين وال مناب?ذين‪ ،‬وال ألم?ره مخ?الفين‪ ،‬فرض??وا‬
‫الكف عنهم‪ ،‬وكان الحكم فيما رفع السيف إذ لم يطلبوا عليه أعوان ?اً‪ ،‬وأه??ل ص??فين‬
‫كانوا يرجعون إلى فئة مس??تعدة‪ ،‬وإم??ام منتص??ب‪ ،‬يجم??ع لهم الس??الح‪ ،‬ويس? ِني? لهم‬
‫األعطِ َي َة‪ ،‬وقسم لهم األموال‪ ،‬ويجبر كسيرهم‪ ،‬ويحمل راجلهم‪ ،‬وي??ردهم‪ ،‬ف??يرجعون‬ ‫ْ‬
‫إلى الحرب‪ ،‬وهم إلى إمامته منقادون‪ ،‬ولرأيه متبعون‪ ،‬ولغيره مخالفون‪ ،‬وإلمامت?ه?‬
‫ت??اركون‪ ،‬ولحق??ه جاح??دون‪ ،‬وبأن??ه يطلب م??ا ليس ل??ه ق??ائلون‪ ،‬ف??اختلف الحكم لم??ا‬
‫وصفنا‪ ،‬وتباين حكماهما لم?ا ذكرن??ا‪ ،‬ولك??ل فري??ق من الس??ائل والمجيب كالم يط??ول‬
‫ذكره ويتسع? شرحه‪ ،‬وقد أتينا على استيعابه‪ ،‬وما ذكره كل فريق منهم فيم??ا س??لف‬
‫من كتبنا‪ ،‬فأغنى ذلك عن إعادته‪ ،‬وهّللا أعلم‪.‬‬

‫ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‬


‫رضي هّللا عنه‬
‫المؤامرة‬
‫الناس‪ ،‬وم?ا هم‬ ‫َ‬ ‫وفي سنة? أربعين اجتمع بمكة جماعة من الخوارج‪ ،‬فتذاكروا‬
‫علي‪ ،‬ومعاوي??ة‪ ،‬وعم??رو بن‬ ‫فيه من الحرب والفتنة‪ ?،‬وتعاهد ثالث??ة منهم على قت??ل ّ‬
‫يتوجه‬
‫َّ‬ ‫العاص‪ ،‬وتواعدوا‪ ،‬واتفقوا على أن ال ينكص رج??ل منهم عن ص??احبه ال?ذي‬
‫إليه‪ ،‬حتى يقتل??ه أو ُي ْق َت? ل َ دون??ه‪ ،‬وهم‪ :‬عب??د ال??رحمن بن ُم ْل َجم‪ ،‬لعن??ه هللاّ وك??ان من‬
‫هللا الصريمي‪ ،‬ولقبه‪:‬‬ ‫ُت ِجيب‪ ،‬وكان عدادهم في ُم َراد‪ ،‬فنسب إليهم‪ ،‬وحجاج بن عبد ّ‬
‫ال ُب َر َك‪ ،‬وزدويه‪ ?:‬مولى بني العنبر‪ ،‬فقال ابن ُم ْل َجم‪ -‬لعن??ة ّ‬
‫هللا‪ :‬أن??ا أقت??ل عل ّي? اً‪ ،‬وق??ال‬
‫البرك‪ :‬أنا أقتل معاوية‪ ،‬وقال زادويه‪ :‬أنا أقتل عمرو بن العاص‪ ،‬وا َّتعدُوا أن يك??ون‬
‫ذلك ليلة سبع عشرة من شهر رمضان‪ ،‬وقيل‪ :‬ليلة إحدى وعشرين‪.‬‬

‫ابن ملجم وقطام‬


‫قط? ام بنت‬ ‫علي‪ ،‬فلم?ا ق?دم الكوف?ة أتى َ‬
‫فخرج عبد ال?رحمن بن ُم ْل َجم الم?رادى إلى ّ‬
‫ِ‬
‫عمه‪ ،‬وكان علي قد قتل أباها وأخاه??ا ي??وم النه??روان‪ ،‬وك??انت أجم??ل أه??ل زمانه??ا‪،‬‬
‫فخطبه??ا‪ ،‬فق??الت‪ :‬ال أت??زوج ح??تى تس??مي? لي‪ :‬ق??ال‪ :‬ال تس??أليني ش??يئا ً إال أعطيت??ه‪،‬‬
‫علي‪ ،‬فقال‪ :‬م??ا س??ألت ه??و ل??ك مه??ر إال قت??ل‬ ‫فقالت‪ :‬ثالث االف وعبداً وقينة‪ ،‬وقتل ّ‬
‫غرت??ه‪ ،‬ف?إن أص??بته ش??فيت نفس??ي َو َن َف َع? ك‬
‫علي‪ ،‬فال أراك تدركينه‪ ?،‬ق??الت‪ :‬ف?التمس َّ‬
‫العيش معي‪ ،‬وإن هل ْك َت فما عند هّللا خير لك من الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬وهّللا ما جاء بي‬
‫ُ‬
‫صفحة ‪469 :‬‬

‫إلى هذا المصر‪ ،‬وقد كنت هاربا ً منه إال ذل??ك‪ ،‬وق??د أعطيت??ك م??ا س??ألت‪ ،‬وخ??رج من‬
‫عندها وهو يقول‪:‬‬

‫وقتل ُ علي بالحسام المصـمـم‬ ‫ف وعـبـ ٌد وقـــي َن ٌة‬


‫ثالثة اال ٍ‬
‫وال فتك إال دون فتك ابن ُم ْل َجم‬ ‫فال مهر أغلى من علي وإن غال‬

‫ش َج َع ُيقال له شبيب بن نجمة من الخوارج‪ ،‬فقال ل??ه‪ :‬ه??ل ل??ك في‬ ‫فلقيه رجل من أ ْ‬
‫شرف الدنيا واألخرة؛ فقال‪ :‬وم??ا ذاك‪ .‬ق?ال‪ :‬تس?اعدني على قت??ل علي‪ ،‬ق?ال‪ :‬ثكلت??ك‬
‫أمك لقد جئت شيئا ً آدا‪ ،‬قد عرفت َغ َناءه في اإلسالم‪ ،‬وس?ابقته? م?ع الن?بي ص?لى هللا‬
‫عليه وسلم ِ‪ ،‬فقال ابن ُم ْل َجم‪ :‬ويحك؛أما تعلم أنه قد َحكم الرجال في كتاب هللا‪ ،‬وقتل‬
‫إخواننا المصلينَ ؛ فنقتله ببعض إخواننا‪ ،‬فأقبل معه حتى دخل على َق َط? ام‪ ،‬وهي في‬
‫المسجد األعظم‪ ،‬وقد ضربت ِكلَّ ًة لها وهي معتكف??ة ي??وم الجمع??ة لثالث عش??رة ليل??ة‬
‫مض??ت من ش??هر رمض??ان‪ ،‬فأعلمتهم??ا أن مجاش??ع بن وردان بن علقم??ة ق??د انت??دب‬
‫لقتله معهما‪ ،‬فدعت لهما بحرير فعصبتهما وأخذوا أس??يافهم وقع??دوا مق??ابلين لب??اب‬
‫السدة التي يخرج منها علي للمسجد‪ ،‬وكان علي يخرج ك??ل غ?داة أول اآلذان يوق?ظ‬
‫الناس للصالة‪ ،‬وقد كان ابن ُم ْل َجم مر باألشعث وهو في المسجد‪ ،‬فقال ل??ه‪َ :‬ف َ‬
‫ض ? َحك‬
‫الصبح‪ ،‬فسمعها حجر بن عدي‪ ،‬فقال‪ :‬قتلته يا أعور قتلك هللا‪ ،‬وخ??رج علي رض??ي‬
‫هللا عنه ينادي‪ :‬أيها الناس‪ ،‬الصالة‪ ،‬فشد علي??ه ابن ُم ْل َجم وأص??حابه وهم يقول??ون‪:‬‬
‫الحكم هلل‪ ،‬ال ل??ك‪ ،‬وض??ربه ابن ُم ْل َجم على رأس??ه بالس??يف في َق ْرن??ه‪ ،‬وأم??ا ش??بيب‬
‫ف??وقعت ص??ربته? بعض??ادة الب??اب‪ ،‬وأم??ا مجاش??ع بن وردان فه??رب‪ ،‬وق??ال علي‪ :‬ال‬
‫يف???وتنكم الرج???ل‪َ ،‬وش???د الن???اس على ابن ُم ْل َجم يرمون???ه بالحص???باء‪ ،‬ويتناولون???ه‬
‫ويصيحون‪ ،‬فضرب س??اقه رج??ل من هم?دان برجل??ه‪ ،‬وض??رب المغ??يرة بن نوف??ل بن‬
‫الحارث بن عبد المطلب وجهه فصرعه‪ ،‬وأقب??ل ب??ه إلى الحس??ن‪ ،‬ودخ??ل ابن وردان‬
‫بين الناس‪ ،‬فنج??ا بنفس??ه‪ ?،‬وه??رب ش??بيب ح??تى أتى رحل??ه‪ ،‬ف??دخل إلي??ه عب??د هللا بن‬
‫نجدة‪ -‬وه??و أح??د ب??ني أبي??ه‪ -‬ف??رآه ي??نزع الحري??ر عن ص??دره‪ ،‬فس??أله عن في ذل??ك‪،‬‬
‫فخبره خبره فانصرف عبد هّللا إلى رحله‪ ،‬وأقبل إليه بسيفه فضربه حتى قتله‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن عليا ً لم َي َن ْم تلك الليلة‪ ،‬وإن??ه لم ي??زل يمش??ي بين الب??اب والحج??رة‪ ،‬وه??و‬
‫يقول‪ :‬وهّللا ما كذبت وال كذبت‪ ،‬وإنها لليلة التي وعدلت فيها فلم??ا خ??رج ص??اح ب??ط‬
‫ك??ان للص??بيان‪ ،‬فص??اح بهنَّ بعض من في ال??دار‪ ،‬فق??ال علي‪ :‬ويح??ك دعهن ف??إنهن‬
‫نوائح‪.‬‬

‫وق??د ذك??رت طائف??ة من الن??اس أن علي?ا ً رض??ي هّللا عن??ه أوص??ى إلى ابن??ه الحس??ن‬
‫والحسين‪،‬ألنهما ش??ريكان في آي?ة التطه?ير‪ ،‬وه?ذا ق??ول كث??ير ممن ذهب إلى الق??ول‬
‫بالنص‪.‬‬
‫ّ‬

‫صفحة ‪470 :‬‬

‫وصية علي ألولده‬


‫ودخل عليه الناس يسألونه‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬رأيت إن فقدناك‪ ،‬وال نفقدك‪ ،‬أنبايع الحسن‪.‬‬
‫ص ُر‪ ،‬ثم دعا الحسن والحسين‪،‬‬ ‫قال‪ :‬ال آمركم وال أنهاكم‪ ،‬وأنتم أ ْب َ‬
‫فقال لهما‪ :‬أوصيكما بتقوى هّللا وحده وال تبغيا الدنيا وإن بغتكم??اء‪ ،‬وال تأس??فا على‬
‫ش??يء منه??ا‪ ،‬ق??وال الح??ق وارحم??ا الي??تيم‪ ،‬وأعين??ا الض??عيف‪ ،‬وكون??ا للظ??الم َخص??ما‬
‫وللمظلوم َع ْوناً‪ ،‬وال تأخذكما في هّللا لومه الئم؛ثم نظر إلى ابن الحنفية‬
‫فقال‪ :‬هل سمعت ما أوصيت به أخويك‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫تقطعنَ أم??را‬
‫َ‬ ‫ق??ال‪ :‬أوص??يك بمثل??ه‪ ،‬وأوص??يك بت??وقر أخوي??ك‪ ،‬وت??زيين أمرهم??ا‪ ،‬وال‬
‫ًدونهما‪،‬‬
‫واع ِر َفا حقه‪.‬‬ ‫ثم قال لهما‪ :‬أوصيكما به‪ ،‬فإنه سيفكما وابن أبيكما‪ْ ،‬‬
‫فأك ِر َماه ْ‬
‫فقال له رجل من القوم‪ :‬أال تعهد يا أمير المؤمنين‪?.‬‬
‫قال‪ :‬ال ولكني أتركهم كما تركهم رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫قال‪ :‬فماذا تقول لربك إذا أتيته‪?.‬‬
‫قال‪ :‬أقول‪ :‬ال ّله َّم إنك أبقيتني فيهم ما شئت أن تبقيني‪ ،‬وقبضتني? وتركتك فيهم ف??إن‬
‫شئت أفسدتهم‪ ،،‬وإن شئت أصلحتهم‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬أما وهّللا إنها الليلة التي ضرب فيها ُيوشع بن نون ليلة سبع عشرة وقبض‬
‫ليلة إحدى وعشرين‪.‬‬
‫وبقي علي الجمعة والسبت‪ ،‬وقبض ليلة األحد‪ ،‬ودفن بالرحبة عند مسجد الكوفة‪.‬‬
‫وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في أخباره تنازع الناس في موضع قبره‪ ،‬وم??ا‬
‫قيل في ذلك‪.‬‬

‫سنه وفضله‬
‫وقبض وقد أتى عليه اثنت??ان وس??بعون س??نة‪ ?،‬وقي??ل‪ :‬اثنت??ان وس??تون‪ ،‬وق??د ق??دمنا‬
‫تنازع الناس في مقدار سنة‪ ،‬وكان كما قال الحسن‪ :‬وهّللا لقد قبض فيكم الليلة رجل‬
‫ما سبقه األولون إال بفضل النبوة‪ ،‬وال يدرك??ه األخ??رون‪ ،‬وإن رس??ول هللا ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم كان يبعثه? فيكتنفه? جبريل عن يمينه? وميكائيل عن يساره فال يرجع حتى‬
‫يفتح هللا عليه‪.‬‬
‫وكان الذي صلى عليه الحسن ابنه‪ ،‬وكبر عليه سبعاً‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬

‫تركته‬
‫ولم يترك صفراء وال بيضاء‪ ،‬إال سبعمائة درهم بقيت من عطائه‪ ،‬أراد أن يشتري‬
‫بها خادم?ا ً ألهل??ه‪ ،‬وق??ال بعض??هم‪ :‬ت??رك ألهل??ه م??ائتين وخمس??ين درهم??أ ومص??حفه‬
‫وسيفه?‪.‬‬

‫صفحة ‪471 :‬‬

‫فعلهم بابن ملجم‬


‫هّللا‬
‫ولما أرادوا قت??ل ابن ُم ْل َجم لعن??ه هللا ق??ال عب??د بن جعف??ر‪ :‬دع??وني ح??تى أش??في‬
‫نفسي منه‪ ،‬فقطع يديه ورجليه وأحمى له مسماراً ح?تى إذا ص?ار جم?رة كحل?ه ب?ه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬سبحان الذي خلق اإلنسان‪ ،‬إنك لتكحل عمك بملمول الرصاص‪ ،‬ثم إن الن??اس‬
‫أخذوه وأدرجوه في َب? َ?واري ثم طلوه??ا بالنف??ط وأش??علوا فيه??ا الن??ار ف??احترق‪ ،‬وفي??ه‬
‫يقول عمران بن حِطان الرقاشي يمدحه في ضربته من شعر له طؤيل‪:‬‬
‫إال لِ َي ْب َل َغ من في العرش رضوانا‬ ‫ض ْر ً‬
‫بة من َتق ٍِّي ما أراد بـهـا‬ ‫يا َ‬
‫أوفى البرية? عند اللـه مـيزانـا‬ ‫إني ألذكره يوما ً فـأحـسـبـه‬

‫فأجابه القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد هللا الشافعي‪:‬‬


‫المعلون بهتا َنا‬
‫ِ‬ ‫عن ابن ملجم‬ ‫إني ألبرأ مما أنـت قـائلـه‬
‫إال ليهدم لإلسـالم أركـا َنـا‬ ‫يا ضربة? من شقي ما أراد بها‬
‫دنيا‪ ،‬وألعن عمرانا ً وح َِّطا َنـا‬ ‫إني ألذكره يوما ً فألـعـنـه‬
‫لعائن هّللا إسراراً وإعال َنـا‬ ‫عليه ثم عليه الدَّ ه ََر متصـال‬
‫نص الشريعة برهانا ً وتبيا َنـا‬ ‫فأنتما من كالب النار جاء به‬

‫وزاد بعضهم على هذه األبيات بيتا ً آخر‪ ،‬وهو‪:‬‬


‫عليكما لعنة الجبار ما طـلـعـت شمس‪ ،‬وم??ا أوق??دوا في الك??ون نيرا َن??ا معارض??ة‬
‫لبيتي اللعين ابن حطان لعنه هّللا في ابن ملجم أخزاه هّللا ‪:‬‬
‫َه َد ْم َت ويلك لـإلسـالم أركـا َنـا‬ ‫قل البن ملجـم‪ ،‬واألقـدار غـالـبة‬
‫وأول النـاس إسـالمـا ً وإيمـا َنـا‬ ‫قتلت أفضل َمنْ يمشي علـى قـدم‬
‫سنَّ الرسول لنا شرعـا ً وتـبـيا َنـا‬ ‫َ‬ ‫وأعلم الناس بالـقـرآن‪ ،‬ثـم بـمـا‬
‫أضحت مناقبه نـوراً وبـرهـا َنـا‬ ‫ضهر النبي‪ ،‬وموالنـا‪ ،‬ونـاصـره‬
‫مكان هارون من موسى بني عمرا َنا‬ ‫وكان منه على رغم الحـسـود لـه‬
‫لي َثا َ إذا ما ل َقـى األقـرانُ أقـرا َنـا‬ ‫وكان في الحرب سيفا ً صأرما ً ذكرا‬
‫فقلت سبحان رب الناس سبحـا َنـا‬ ‫ت قاتله والـدمـع مـنـحـدر‬ ‫ذ َك ْر ُ‬
‫يخشى ال َم َعادَ ولكن كان شيطا َنـا‬ ‫إني ألحسبه ما كان من بـشـر‬
‫س ُر الناس عند هللا مـيزا َنـا‬ ‫ْ‬
‫وأخ َ‬ ‫أشقى مراد إذا ُعدت قبـائلـهـا‬
‫على ثمود بأرض الحجر خسرانا‬ ‫كعاقر الناقة األول التي َج َلـ َب ْ‬
‫ـت‬
‫قبل المنية أزمانـا فـأزمـا َنـا‬ ‫قد كان يخبرهم أنْ سوف يخضب َها‬
‫وال سقى قبر عمران بن حطا َنا‬ ‫فال َع َفا هللا عنه مـاتـحـمـلـه‬
‫ونال ماناله ظلـمـا ًوعـدوا َنـا‬ ‫لقوله في شقي ظل مجـتـرمـا ً‬
‫إال ليبلغ من في العرش رضوانا‬ ‫تقي ما أراد بـهـا‬‫يا ضربة? من ّ‬
‫مخلدا قد أتى الرحمن غضبا َنـا‬ ‫بل ضربة من غوي أورثته? لظى‬
‫ص َلى عذاب الخلد نـيرا َنـا‬ ‫إال ل َي ْ‬ ‫كأنه لم يرد قصداً بضـربـتـه‬

‫صفحة ‪472 :‬‬

‫ولعمران بن حطان وألبيه? حطان أخبار كثيرة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخب??ار‬
‫الزم??ان في ب??اب أخب??ار الخ??وارج من األزارق??ة واألباض??ية? والحمري??ة والص??فرية?‬
‫والنجدية وغيرهم من فرق الخوارج إلى سنة ثمان عشرة وثلثمائة‪ .‬وكان آخر من‬
‫خرج منهم ربيعه المعروف بغيرون‪ ،‬فأدخل على المقتدر باهلل‪ ،‬بعث به ابن حم??دان‬
‫من كفرتوتا‪ ،‬وقد كان خرج في أي أمه أيضا ً المعروف بأبي شعيب‪.‬‬

‫وقد رثى الن??اس أم??ير المؤم??نين علي??ا رض??ي هللا عن??ه في ذل??ك ال??وقت وإلى ه??ذه‬
‫الغاية‪ ،‬وذكروا مقتله‪ ،‬وممن رثاه في ذلك الوقت أبو األسود الدؤلي من أبيات‪:‬‬
‫فال َقرت عيونُ الشامتينـا‬ ‫أال أبلغ معاوية بن َح ْـرب‬
‫بخير الناس طرا أجمعينـا‬ ‫أفي شهر الصيام فجعتمونـأ‬
‫و َدللها و من ركب السفينـا‬ ‫قتلتم خير من ركب المطايا‬
‫ومن قرأ المثاني والمبينـا‬ ‫ومن لبس النعال ومن َح َذأها‬
‫رأيت النور فوق الناظرينا‬ ‫إذا اسقبلت وجه أبي حسين‬
‫بأنك خيرهم َحسبـأ ودينـا‬ ‫لقد علمت قريش حيث كانت‬

‫البرك ومعاوية‬
‫وانطلق البر ُك الصريمي إلى معاوي??ة فطعن??ه بخنج??ر في آليت?ه? وه??و يص??لي فأخ??ذ‬
‫وأوقف بين يديه‪ ،‬فقال له‪ :‬ويلك وما أنت‪ .‬وما خبرك؛ قال‪ :‬ال تقتلني وأخبره‪ ،‬قال‪:‬‬
‫علي وعلى عم??رو؛ ف??إن أردت فأحس??بني‬ ‫آن??ا تبايعن??ا في ه??ذه الليل??ة علي??ك وعلى ّ‬
‫علي‪ ،‬ول??ك علي أن أقتل??ه وأن‬
‫عندك‪ ،‬ف??إن كان??ا قتال وإال خليت س??بيلي فطلبت قت??ل ّ‬
‫أتيك حتى أضع يدي في يدك‪ ،‬فقال بعض الناس‪ :‬قتله يومئذ‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬حس??به‬
‫حتى جاءه خبر قتل علي فأطلقه‪.‬‬

‫زادويه وعمرو بن العاص‬


‫وانطلق زادويه‪ -‬وقيل‪ :‬إنه عمرو بن بكر التميمي‪ -‬إلى عمرو بن الع??اص‪ ،‬فوج??د‬
‫خارجة قاضي مصر جالسا ً على السرير يطعم الناس في مجلس عم??رو‪ ،‬وقي??ل‪ :‬ب??ل‬
‫صلى خارجة بالناس الغداة ذلك اليوم‪ ،‬وتخلف عمرو عن الصالة لعارض‪ ،‬فض??ربه?‬
‫بالسيف‪ ،‬فدخل عليه عمرو وبه َر َم ٌق‪ ،‬فقال له خارج??ة‪ :‬وهللا م??ا أراد غ??يرك‪ ،‬فق??ال‬
‫عمرو‪ :‬ولكن هللا أراد خارجة‪ ،‬وأوقف الرج??ل بين ي??دي عم??رو‪ ،‬فس??أله عن خ??بره؛‬
‫فقص عليه القصة وأخبره أن عليا ومعاوية ق??د قتال في ه??ذه الليل??ة‪ ،‬فق??ال‪ :‬إن قتال‬
‫أو لم يقتال فال بد من قتلك‪ ،‬فبكى‪ ،‬فقيل له‪ :‬أجزعا ً من الموت مع هذا اإلقدام‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫ال وهّللا ‪ ،‬ولكن غما ً أن يفوز صاحباي بقتل علي ومعاوية وال أفوز أنا بقت??ل عم??رو‪،‬‬
‫فضربت عنقه وصلب‪.‬‬

‫صفحة ‪473 :‬‬

‫وكان علي رضي هللا عنه كثيراً ما يتمثل?‪:‬‬


‫فال وربك ما َبروا وما ظفروا‬ ‫تِلكم قريش َت َمنانى لتقتـلـنـي‬
‫بذات َودْ َق ْي ِن ال يعفو لها أثـر‬ ‫فإن هلكت َف َرهْ نٌ ذمتي لهـم‬

‫وكان يكثر من ذكر هذين البيتين‪:‬‬


‫فإن الموت القيكـا‬ ‫أشدد حيازيمك للموت‬
‫إذا ًحـل ّ بـواديكـا‬ ‫وال تجزع من الموت‬

‫وسمعا منه في الوقت الذي قتل فيه‪ ،‬فإنه قد خرج إلى المسجد‪ ،‬وق??د عس??ر علي??ه‬
‫فتح باب داره‪ ،‬وكان من جذوع النخل‪ ،‬فاقتلعه وجعله ناحي??ة‪ ،‬وانح??ل إزاره‪ ،‬فش? َّده‬
‫وجعل ينشد هذين البيتين المتقدمين‪.‬‬

‫الناس‬
‫ُ‬ ‫دس أناسا من أصحابه إلى الكوفة يشيعون موته‪ ،‬وأ ْك َث َر‬
‫وقد كان معاوية َ‬
‫القول في ذلك حتى بلغ علياً‪ ،‬فقال في مجلسه‪ :‬قد أكثرتم من نعي معاوية‪ ،‬وهّللا م??ا‬
‫مات وال يموت حتى يملك ما تحت قدمي‪ ،‬وإنم??ا أراد ابن أكل??ة األكب??اد أن يعلم ذل??ك‬
‫مني‪ ،‬فبعث َمنْ يشيع? ذلك فيكم ليعلم ويتيقن ما عندي فيه‪ ،‬وما يكون من أم??ره في‬
‫المستقبل من الزمان‪ ،‬و َمر في كالم كثير يذكر فيه أي??ام معاوي??ة ومن تاله من يزي??د‬
‫ومروان وبنيه? وذك??ر الحج??اج وم??ا يس??ومهم من الع??ذاب‪ ،‬ف??ارتفع الض??جيج‪ ،‬وك??ثر‬
‫البكاء والشهيق‪ ،‬فقام قائم من الناس فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ولق?د وص?فت أم?ورا‬
‫عظيمة‪ ،‬هللا إن ذلك كائن؛ قال علي‪ :‬وهللا إن ذلك لكائن‪ ،‬ما ك?ذبت وال ك?ذبت‪ ،‬فق?ال‬
‫ض? َب ْت ه??ذه من ه??ذه‪ ،‬ووض??ع‬ ‫آخرون‪ :‬متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين‪ ?.‬قال‪ :‬إذا ُخ ِ‬
‫?اس من البك??اء‪ ،‬فق??ال‪ :‬ال‬‫إح??دى يدي??ه على لحيت??ه واألخ??رى على رأس??ه‪ ،‬ف??أكثر الن? ُ‬
‫تبكوا في وقتكم هذأ فستبكون بعدي طويال‪ ،‬مكاتب أك??ثر أه??ل الكوف??ة معاوي??ة ِس? ّراً‬
‫في أمورهم‪ ،‬واتخذوا عنده األيادي‪ ،‬فوهّللا ما مضت إال أيام قالئل ح??تى ك??ان‪ -‬ذل??ك‪،‬‬
‫وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب‪ -‬بع??د ذكرن??ا لزه?ده ولم??ع من ك?ل أم??ه ‪ -‬جمالً من‬
‫أخباره أيضا ً في أيام معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬وهللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫ذكر لمع من كالمه وأخباره وزهده‬


‫رضوان هّللا عليه‬
‫خيار العباد‬
‫لم يلبس عليه السالم في أي أمه ثوبا ً جديدأ‪ ،‬وال أقتنى ضيعة وال َر ْبع??أ‪ ،‬إال ش??يئا ً‬
‫كان له بينبع مما تصدق به وحبسه‪.‬‬
‫وال??ذي حف??ظ الن??اس عن??ه من خطب??ه في س??ائر مقامات??ه أربعمائ??ة خطب??ة وني??ف‬
‫وثمانون خطبة يوردها على البديهة؛ وتداول الناس ذلك عنه قوأل وعمال‪.‬‬
‫وقي??ل ل??ه‪َ :‬منْ خي??ار العب??اد‪ .‬ق??ال‪ :‬ال??ذين إذا أحس??نوا استبش??روا‪ ،‬وإذا أس??اءوا‬
‫استغفروا وإذا أعطوا شكروا وإذا ابتلوا صبروا‪ ،‬وإذا أغضبوا غفروا‪.‬‬

‫صفحة ‪474 :‬‬

‫وصف الدنيا‬
‫وكان يقول‪ :‬الدنيا دار صدق لمن صدقها‪ ،‬ودار عافية لمن فهم عنه??ا‪ ،‬ودار غ??نى‬
‫لمن تزود منها‪ ،‬الدنيا مسجد أحباء هللا‪ ،‬ومصلى مالئكة هللا‪ ،‬ومهبط وحيه‪ ،‬و َم ْت َجر‬
‫وربحوا فيها الجنة‪ ،‬ومن ذا يذمها وقد آذنت ببينها‪،‬‬ ‫أوليائه‪ ،‬اكتسبوا فيها الرحمة‪ِ ،‬‬
‫ونع ْت نفسها وأهلها‪ ،‬ومثلت لهم ببالئها البالء‪ ،‬وشوقت بسرورها‬ ‫ونادت بفراقها‪َ ،‬‬
‫إلى السرور‪ ،‬وراحت بفجيعة‪ ،‬وابتك??رت بعافي??ة؛تح??ذيراً وترغيب?ا ً وتخويف??أ‪ ،‬ف??ذمها‬
‫غب الندام??ة‪ ،‬وحم??دها آخ??رون غب المكاف??أة‪ ،‬ذك??رتهم ف??ذكروا تص??اريفها‪،‬‬ ‫رج??ال َّ‬
‫وصدقتهم فصدقوا حديثها‪ ،‬فيا أيها الذا ُم للدنيا المغتر بغرورها‪ ،‬م?تى اس?تدامت ل?ك‬
‫الدنيا‪ .‬بل متى غرتك من نفسها؛ أبمض??اجع آبائ??ك من البلى‪ .‬أم بمص??ارع أم??ه آت??ك‬
‫رض? َت بي??دك من تبغي ل??ه الش??فاء وتستوص??ف ل??ه‬ ‫من الثرى‪ .‬كم قد عللت بكفك و َم ْ‬
‫الدواء من األطباء لم تنفعه بشفائك‪ ،‬ولم تسعف له بطلبتك‪ ،‬وقد مثلت ذلك به الدنيا‬
‫نفس??ك‪ ،‬وبمص??رعه? مص??رعك‪ :‬غ??داً ال ينفع??ك بك??اؤك‪ ،‬وال يغ??نى عن??ك أ ِح ِّباؤك‪ -‬وال‬
‫تسمع في مدح الدنيا أحسن فن هذا‪.‬‬
‫ومما حفظ من كل أمه في بعض مقاماته في صفة الدنيا أنه ق??ال‪ :‬أال إن ال?دنيا ق?د‬
‫ارتحلت ُمدْ برة‪ ،‬وإن اآلخرة قد دنت ُم ْقبلة‪ ،‬ولهذه أبن??اء‪ ،‬وله??ذه أبن??اء‪ ،‬فكون??وا من‬
‫أبن??اء اآلخ??رة وال تكون??وا من أبن??اء ال??دنيا‪ ،‬أال وكون??وا من الزاه??دين في ال??دنيا‪،‬‬
‫والراغبين في اآلخرة‪ ،‬إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا األرض بساطأ والتراب فراشا ً‬
‫سال عن الشهوات‪،‬‬ ‫ضوا الدنيا تقويضاً‪ ،‬أال ومن اشتاق إلى الجنة َ‬ ‫والماء طيباً‪ ،‬و َق َّو ُ‬
‫ومن أش??فق من الن??ار رج??ع عن المحرم??ات‪ ،‬ومن زه??د في ال??دنيا ه??انت علي??ه‬
‫المصيبات‪ ،‬ومن راقب اآلخرة سارع في المخيرات‪ ،‬أال وإن هّلل عب??اداً ك??أنهم ي??رون‬
‫أهل الجنة في الجنة منعدين مخلدين‪ ،‬وي??رون أه??ل الن??ار في الن??ار مع??ذبين قل??وبهم‬
‫محزونة‪ ?،‬وشرورهم مأمونة‪ ?،‬أنفسهم عفيفة‪ ،‬وحاجتهم خفيف??ة ص??بروا أيام?ا ً قليل??ة‬
‫فصارت لهم العقبى‪ ،‬راحة طويلة‪ ،‬أما الليل فصا ُّفو أقد أمه م‪ ،‬تجري دموعهم على‬
‫خدوهم‪َ ،‬ي ْجأرون إلى ربهم‪ ،‬ويسعون في فكاك رقابهم‪ ،‬وأما النه??ار فعلم??اء حكم??اء‬
‫?راهم الخ??وف والعب??ادة ينظ??ر إليهم الن??اظر فيق??ول‪:‬‬‫?ر َرة أتقي??اء‪ ،‬ك??أنهم القِ ?دَاح َب? َ‬
‫َب? َ‬
‫مرضى‪ ،‬وما بالقوم من مرض‪ ،‬إن خولطوا فق??د خ??الطهم أم??ر عظيم من ذك??ر الن??ار‬
‫ومن فيها‪.‬‬
‫اس? َت ْغ ِن عمن ش??ئت تكن نظ??يرهُ‪ ،‬وس??ل من ش??ئت تكن‬ ‫وقال البنه الحسن‪ :‬يا بني‪ْ ،‬‬
‫حقيره‪ ،‬وأعط من شئت تكن أميره‪.‬‬

‫ودخ??ل علي??ه رج??ل من أص??حابه فق??ال‪ :‬كي??ف أص??بحت ي??ا أم??ير المؤم??نين‪ .‬ق?ال‪:‬‬
‫أصبحت ضعيفا ً ُمذنباً‪ ،‬أكل رزقي‪ ،‬وأنتظ??ر أجلي‪ ،‬ق??ال‪ :‬وم??ا تق??ول في ال??دنيا‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫وما أقول في دار أولها فم‪ ،‬وآخرها موت‪ ،‬من اس?تغنى فيه?ا فتن‪ ،‬ومن افتق?ر فيه?ا‬
‫حزن‪َ ،‬حاللُها حساب‪ ،‬ومراحه??ا عق??اب‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??أي الخل??ق أنعم‪ .‬ق??ال‪ :‬أجس??اد تحت‬
‫التراب‪ ،‬قد أمنت من العقاب‪ ،‬وهي تنتظرالثواب‪.‬‬

‫صفحة ‪475 :‬‬

‫وصف علي عند معاوية‬


‫?واص علي‪ -‬على معاوي??ة واف??داً‪ ،‬فق??ال ل??ه‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ودخل ضرار بن ضمرة‪ -‬وك??ان من خ?‬
‫أعف ِِينِي يا أمير المؤمنين‪ ،‬ق??ال معاوي??ة‪ :‬ال ب??د من ذل??ك‪ ،‬فق??ال‪:‬‬ ‫صف لي علياً‪ ،‬قال‪ْ :‬‬
‫ص?ال‪،‬‬ ‫أما إذا كان ال بد من ذلك فإن??ه ك?ان وهّللا بعي??د الم?دى‪ ،‬ش?ديد الق??وى‪ ،‬يق?ول َف ْ‬
‫يتفج??ر العلم من جوانب??ه‪ ،‬وتنط??ق الحكم??ة من نواحي??ه‪ ،‬يعجب??ه من‬ ‫ً‬ ‫ويحكم ع??دالً‪،‬‬
‫الطعام ما خشن‪ ،‬ومن اللباس ما قصر‪.‬‬
‫وك??ان وهللا يجيبن??ا إذا دعون??اه‪ ،‬ويعطين??ا إذا س??ألناه‪ ،‬وكن??ا وهّللا ‪ -‬على تقريب?ه? لن??ا‬
‫وقربه منا‪ -‬ال نكلمه هيبة له‪ ،‬وال نبتدئه لعظمه في نفوسنا‪َ ،‬ي ْبسِ م عن ثغ??ر ك??اللؤلؤ‬
‫المنظوم‪ ،‬يعظم أهل الدين‪ ،‬ويرحم المساكين‪ ،‬ويطعم في ال َم ْس َغبة يتيما ً ذا مقربة? أو‬
‫مسكينا ً ذا متربة‪ ،‬يكسو ال ُع َر َيان‪ ،‬وينصر الله َفان‪ ،‬ويستوحش من الدنيا وزهرته??ا‪،‬‬
‫سدُو َله‪ ،‬وغارت نجومه‪ ،‬وهو في‬ ‫ويأنس بالليل وظلمته‪ ?،‬وكأني به وقد ْأر َخى الليل ُ‬
‫محرابه قابض على لحيته يتململ تململ الس??ليم‪ ،‬ويبكي بك??اء الح??زين‪ ،‬ويق??ول‪ :‬ي??ا‬
‫إلي تش??وفت‪ .‬هيه??ات هيه??ات ال ح??ان حين??ك‪ ،‬ق??د‬ ‫دنيا ُغري غيري‪ ،‬إلى تعرضت أم َّ‬
‫الر ْجعة لي فيك‪ ،‬عمرك قص??ير‪ ،‬وعيش??ك حق??ير‪ ،‬وخط??رك يس??ير‪ ،‬آه من‬ ‫أبنتك ثالثا ً َ‬
‫شة الطريق‪.‬‬ ‫قلَّة الزاد وبعد السفر َ‬
‫وو ْح َ‬

‫من كألمه‬
‫فقال له معاوية‪ ?:‬زدني شيئا ً من كألمه ‪،‬‬
‫فقال ضرار‪ :‬كان يقول‪ :‬أعجب ما في اإلِنسان قلبه‪ ،‬وله مواد من الحكمة‪ ،‬وأض??داد‬
‫س َن َح له الرجاء أ َما َل ُه الطمع‪ ،‬وإن مال به الطمع أهلك??ه الح??رص‪،‬‬
‫من خالفها‪ ،‬فإن َ‬
‫ض له الغضب أش??تد ب??ه الغي??ظ‪ ،‬وإن أس??عده‬ ‫وإن ملكه القنوط قتله األسف‪ ،‬وإن َع َر َ‬
‫الرضا نسي التحفظ‪ ،‬وإن ناله الخوف فضحه الج?زع‪ ،‬وإن أف?اد م?االً أطغ?اه الغ?نى‪،‬‬
‫وإن عضته فاقة فض??حه الفق??ر‪ ،‬وإن أجه??ده الج??وع أقع??ده الض??عف‪ ،‬وإن أف??رط ب??ه‬
‫الب ْطنة‪ ،‬فكل تقصير به مضر‪ ،‬وكل إفراط له مفسد‪.‬‬ ‫الشبع َك َّظته ِ‬
‫فقال له معاوية‪ ?:‬زدني كلما وعيته من كألمه ‪،‬‬
‫قال‪ :‬هيهات أن أتى على جميع ما سمعته منه‪،‬‬
‫ُ‬
‫ثم قال‪ :‬سمعته يوصي كميل بن زياد ذات ي??وم فق?ال ل??ه‪ :‬ي?ا كمي??ل ذب عن الم??ؤمن‬
‫فإن ظهره حِمى هللا‪ ،‬ونفسه كريمة? على هّللا ‪ ،‬وظالمه خصم هّللا ‪ ،‬وأح??ذركم من ليس‬
‫له ناصر إال هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسمعته? يقول ذات يوم‪ :‬إن هذه الدنيا إذا أقبلت على ق??وم أع??ارتهم محاس??ن‬
‫س َلبتهم محاسن أنفسهم‪.‬‬ ‫غيرهم‪ ،‬وإذا أدبرت عنهم َ‬
‫قال‪ :‬وسمعته يقول‪َ :‬ب َطر الغنى يمنع من عز الصبر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسمعته? يقول‪ :‬ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة‪ ،‬وسكوته فكرة‪ ،‬وكألم??ه‬
‫حكمة‪.‬‬
‫وكان رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم ‪ -‬بع??د أن قت??ل جعف??ر بن أبي ط??الب الطي??ار‬
‫أرض??ى الش??ام‪ -‬ال يبعث بعلي في وج??ه من الوج??وه إال يق??ول‪ :‬رب الَ‬‫ِ‬ ‫ُبمؤت??ة من‬
‫َ‬
‫تذ ْر ِني? فرداَ‪ ،‬وأنت خير الوارثين ‪.‬‬
‫صفحة ‪476 :‬‬

‫وحمل علي يوم أحد على كردوس من المشركين خشن فكشفهم‪،‬‬


‫فقال جبريل‪ :‬يا محمد‪ ،‬إن هذه لهي المواساة‪،‬‬
‫فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬يا جبريل إن عل ّيا ً مني‪?،‬‬
‫قال جبريل‪ :‬وأنا منكم‪ ،‬كذلك ذكره إسحاق عن بن إسرائيل وغيره‪.‬‬
‫ووقف َع َلى َعل ٍِّي سائل‪،‬‬
‫فقال للحسن‪ :‬قل أمك تدفع إليه درهماً‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إنما عندنا ستة دراهم للدقيق‪،‬‬
‫فقال علي‪ :‬ال يكون المؤمن مؤم َنا َ حتى يكون بما في يد هللا ْأو َث َق منه بم?ا في ي??ده‪،‬‬
‫ثم أمر للسائل بالستة الدراهم كلها‪ ،‬فما برح علي رضي هّللا عنه حتى مر ب??ه رج??ل‬
‫أج َل??ة ثماني??ة أي??ام‪ ،‬فلم يح?ل َّ‬
‫يقود بعيراً؛ فاشتراه منه بمائة وأربعين درهماً‪ ،‬وأنسأ َ‬
‫أجله حتى مر به رجل والبعير معقول‬
‫فقال‪ :‬بكم هذا‪.‬‬
‫فقال‪ :‬بمائتي? درهم‪،‬‬
‫فوزنَ له الثمن‪ ،‬فدفع علي منه مائة وأربعين درهما لل??ذي ابتاع??ه‬ ‫فقال‪ :‬قد أخذته‪َ ،‬‬
‫منه‪ ?،‬ودخل بالستين الباقية على فاطمة عليها السالم‪،‬‬
‫فسألته‪ :‬من أين هي‬
‫تصديق لما جاء به أبوك صلى هللا علي??ه وس??لم‪َ :‬منْ ج??اء بالحس??نة فله‬ ‫ٌ‬ ‫فقال‪ :‬هذه‬
‫عشر أمثالها‪.‬‬

‫َو َم َّر ابن عباس بقوم ينالون من علي وشبونه‪ ،‬فقال لقائده‪ :‬أدْ ِننِي منهم‪ ،‬فأدناه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أيكم الساب هّللا ‪ .‬قالوا‪ :‬نع??وذ باهّلل أن نس??ب هّللا ‪ ،‬فق??ال‪ :‬أيكم الس??اب ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم‪ .‬فقالوا‪ :‬نعوذ باهّلل أن نسب رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬أيكم‬
‫الساب علي بن أبي طالب قالوا‪ :‬أما ه?ذه فنعم‪ ،‬ق?ال‪ :‬أش??هد لق?د س??معت رس??ول هّللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يق??ول‪ :‬من س??بني فق??د س??ب هللا‪ ،‬ومن س??ب علي??ا فق??د س??بني?‬
‫فأط َرقُوا‪ ،‬ف َل َّما ولى قال لقائدة‪ :‬كيف رأيتهم فقال‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ـزو َزة نظر التيوس إلى شفار الجازر‬ ‫نظروا إليك بأعـين ُم َ‬
‫فقال‪ :‬زدني فداك أبي وامي‬
‫فقال‪:‬‬
‫نظر الذليل إلى العزير القاهر‬ ‫ُخ ْز َر العيون ُم َن ِّكسِ ي? أذقانهـم‬
‫قال‪ :‬زدني فداك أبي وامي‬
‫قال‪ :‬ما عندي مزيد‬
‫قال‪ :‬ولكن عندى‪:‬‬
‫والميتون فضيحة للغابـر‬ ‫أحياؤهم تجني على أمواتهم‬

‫صفحة ‪477 :‬‬

‫وصيته يوم موته?‬


‫وقد ذكر جماعة من أهل النقل عن أبي عبد هّللا جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن‬
‫علي بن الحس??ين بن علي أن علي?ا ً ق??ال في ص??بيحة الليل??ة ال??تي ض??ربه? فيه??ا عب??د‬
‫الرحمن بن ُم ْلجم‪ ،‬بعد حمد هّللا والثناء عليه والصالة على رس??وله ص??لى هللا علي??ه‬
‫س?اق النفس إلي??ه‪ ،‬واله??رت من??ه‬ ‫وسلم‪ :‬ك??ل ام??رئ مالقي??ه م??ا يف??ر من??ه‪ ،‬واألج??ل ُت َ‬
‫موافات??ه‪ ،‬كم اط??ردت األي??ام أتحينه??ا عن مكن??ون ه??ذا األم??ر ف?أبى هّللا ع??ز وج?ل ّ إال‬
‫إخف??اءه‪ ،‬هيه??ات علم مكن??ون‪ ،‬أم??ا وص??يتي? فاهّلل ال تش??ركوا ب??ه ش??يئاً‪ ،‬ومحم??داً ال‬
‫تضيعوا سنته‪ ،‬أقيموا هذين العمودين‪ ،‬حمل كل ام??رئ منكم مجه??وده‪ ،‬وخف??ف عن‬
‫الح َمل ? ِة رب رحيم‪ ،‬ودين ق??ويم‪ ،‬وإم??ام عليم‪ ،‬كن??ا في إعص??ار ذي ري??اح تحت ظ??ل‬ ‫َ‬
‫غمام??ة اض??محل راك??دها فمحطه??ا من األرض حي??ا‪ ،‬وبقي من بع??دي ُج َّنة ج??أواء‪،‬‬
‫وت أطرافي‪ ،‬إنه أوع??ظ لكم‬ ‫ساكنة بعد حركة‪ ،‬كاظمة بعد ُن ْطق‪ ،‬ليعظكم هدوئي و ُخفُ ُ‬
‫من نطق البليغ‪ ،‬ودعتكم وداع امرئ مرصد لتالق‪ ،‬وغدا ترون ويكشف عن ساق‪،‬‬
‫عليكم السالم إلى يوم المرام‪ ،‬كنت باألمس صاحبكم واليم عِ َظ ٌة لكم وغ??داً أف??ارقكم‪،‬‬
‫إن أفق فأنا ولي دمي‪ ،‬وإن أمت فالقيامة ميعادي‪ ،‬والعفو أقرب للتقوى‪ ،‬أال تحبون‬
‫أن يغفر هّللا لكم وهللا غفور رحيم‪.‬‬

‫تزهده في الدنيا‬
‫ومن خطبة قبل هذا وتزه??ده في ه??ذه ال??دنيا قول??ه في بعض مقام??ات وخطب??ه‪ :‬إن‬
‫ال??دنيا ق??د أدب??رت وأذنت ب??وداع‪ ،‬وإن اآلخ??رة ق??د أش??رفت وأقبلت ب??اطالع‪ ،‬وإن‬
‫المضمار اليوم والسباق غداً‪ ،‬أال إنكم في أيام أمل من ورائ??ه أج?ل‪ ،‬فمن أخلص في‬
‫صر في أيام أجله‬ ‫ص َر أجله‪ ،‬ومن َق َّ‬
‫أيام أمله قبل حضور أجله فقد حسن عمله وما َق ُ‬
‫خس??ر أجل??ه‪ ،‬أال ف??اعملوا هلل في الرغب??ة‪ ،‬كم??ا تعمل??ون في الرهب??ة‪ ،‬أال وإني لم أر‬
‫كالجنة نام طالبها‪ ،‬و كالنار نام هاربها‪ ،‬أال إنه َمنْ لم ينفع??ه الح??ق يض??ره الباط??ل‪،‬‬
‫ومن ال يستقيم له الهدى يخزيه الضالل وق??د أم??رتم ب??الظعن ودللتم على ال??زاد وإن‬
‫أخوف ما أخاف عليكم إتباع الهوى وطول األمل‪.‬‬

‫وفضائل علي ومقامات?ه ومناقب?ه ووص?ف زه?ده ونس?كه أك?ثر من أن ي?أتي علي?ه‬
‫كتابنا هذا أو غيره من الكتب‪ ،‬أو يبلغه إسهاب مسهب‪ ،‬أو إطناب ُم ْطنب‪ ،‬وقد أتين??ا‬
‫على جمل من أخباره وزهده وسيره‪ ،‬وأنواع من كل أمه وخطبه في كتابنا المترجم‬
‫بكتاب حدائق األذهان‪ ،‬في أخبار آل محمد عليه السالم وفي كت??اب مزاه??ر األخب??ار‪،‬‬
‫وطرائف اآلثار‪ ،‬للصفوة النورية? والذرية الزكية أبواب الرحمة وينابيع الحكمة‪.‬‬

‫صفحة ‪478 :‬‬

‫فضائله رضي هّللا عنه‬


‫قال المسعودى‪ :‬و األشياء التي استحقبها بها أصحاب رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم‬

‫الفضل َ هي‪ :‬السبق إلى اإليمان‪ ،‬والهجرة‪ ،‬والنصرة لرسول هّللا ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم‪ ،‬والقربى منه? والقناعة وب??ذل النفس ل??ه‪ ،‬والعلم بالكت??اب والتنزي??ل‪ ?،‬والجه??اد‬
‫في سبيل هللا‪ ،‬والورع‪ ،‬والزه??د‪ ،‬والقض??اء‪ ،‬والحكم‪ ،‬والفق??ه والعلم وك??ل ذل??ك لعلي‬
‫النصيب األوفر‪ ،‬والحظ األكبر‪ ،‬إلى م??ا ينف??رد ب??ه من ق??ول رس??ول‬
‫ُ‬ ‫عليه السالم منه‬
‫هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم حين آخى بين أص??حابه أنت أخي وه??و ص??لى هللا علي??ه‬
‫وسلم ال ضد ل??ه‪ ،‬وال ن??د‪ ،‬وقول??ه ص??لوات هللا علي??ه‪ :‬أنت م??ني بمنزل?ة? ه??رون من‬
‫موسى‪ ،‬إال أنه ال نبي? بعدي وقول??ه علي??ه الص??الة والس??الم‪ :‬من كنت م??واله فعلي‬
‫وعا ِد من عاداه ثم دعاؤه علي??ه الس??الم وق??د ق??دم إلي??ه‬‫مواله‪ ،‬اللّهم وال من وااله‪َ ،‬‬
‫أح َّب خلقك إليك ألكل معي من هذا الطائر‪ ،‬فدخل عليه‬ ‫أنس الطائر‪ :‬اللّهم أدخل إلي َ‬
‫علي‪ ،‬إلى آخر الحديث‪ ،‬فهذا وغيره من فضائله وما اجتم??ع في??ه من الخص??ال مم??ا‬
‫تفرق في غيره‪ ،‬ولكل فضائل ممن تقدم وتأخر‪ ،‬وقبض النبي صلى هللا عليه وس??لم‬
‫وهو راض عنهم‪ ،‬مخبر عن بواطنهم بموافقته??ا لظ??واهرهم باإلِيم??ان‪ ،‬وب??ذلك ن??زل‬
‫اَلتنزيل‪ ،‬وتولى بعضهم بعضاً‪ ،‬فلما قبض رسول هّللا صلى هللا علي??ه وس??لم وارتف??ع‬
‫الوحي ح??دثت أم??ور تن??ازع الن??اس في ص??حتها منهم‪ ،‬وذل??ك غ??ير يقين‪ ،‬وال ي ْق َط? ع‬
‫عليهم بها‪ ،‬واليقين من أمورهم ما تقدم‪ ،‬وما روى مما كان في أحداثهم بعد ن??بيهم‬
‫وهللا‬
‫ّ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم فغير متيقن‪ ،‬ب??ل ه??و ممكن‪ ،‬ونحن نعتق??د فيهم م??ا تق??دم‪،‬‬
‫أعلم بما حدث‪ ،‬وهّللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫\‪/‬ذكر خالفة الحسن بن علي بن أبي طالب‬


‫رضي هللا عنهما‬
‫ثم بويع الحسنُ بن علي بن أبي ط?الب بالكوف?ة بع?د وف?اة علي أبي?ه بي?ومين‪ ،‬في‬
‫س َواد والجبل‪.‬‬
‫ووجه ُع ّماله إلي ال َّ‬ ‫شهر رمضان من سنة? أربعين‪َ ،‬‬
‫َو َق َتل َ الحسنُ عبدَ الرحمن بن ُم ْل َجم‪ ،‬على حسب ما ذكرنا‪ ،‬ودخ??ل معاوي??ة الكوف??ة‬
‫بع??د ص??لح الحس??ن بن علي‪ ،‬لخمس بقين من ش??هر ربي??ع األول في س??نة? إح??دى‬
‫وأربعين‪.‬‬
‫خمس وخمسين سنة‪?-‬بالسم‪.‬ودُفن بالبقيع مع‬ ‫ٍ‬ ‫وكانت وفاة الحسن‪ -‬وهو يومئذ ابنُ‬
‫أمه فاطِ َم َة بنت رسول هللاّ صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫صفحة ‪479 :‬‬

‫ذكر لمع من أخباره وسيره رضي هللا عنه‬


‫سم الحسن رضي هّللا عنه‬
‫علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‬ ‫ِّ‬ ‫حدثنا جعفر بن محمد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدِّ ه‬
‫رضي هّللا عنهم‪ ،‬ق??ال‪ :‬دخ??ل الحس??ين َع َلى عمي الحس??ن بن علي لم??ا س??قي الس??م‪،‬‬
‫فقام لحاجة اإلنسان ثم َر َجع‪ ،‬فقال‪ :‬لقد سقيت السم على مرار فما سقيت مثل هذه‪،‬‬
‫لقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أقلبه بعود في يدي‪ ،‬فقال ل??ه الحس??ين‪ :‬ي??ا أخي‪،‬‬
‫فاهلل حسيبه? وإن كان غيره فما‬‫ّ‬ ‫س َقاك‪ .‬قال‪ :‬وما تريد بذلك‪ .‬فإن كان الذي أظنه‬ ‫َمنْ َ‬
‫هّللا‬
‫ِب أن يؤخذ بي بريء‪ ،‬فلم يلبث بعد ذلك إال ثالثا ً حتى توفي‪ ،‬رضي عنه‪.‬‬ ‫أح ُّ‬

‫ذكر الذي س ّمه‬


‫وذكر أن امرأته َج ْعدة بنت األشعث بن قيس الكندي سقته السم‪ ،‬وقد ك?ان معاوي??ة‬
‫وزوجت??ك‬
‫ت في قتل الحسن َو َّجهت إلي??ك بمائ??ة أل??ف درهم‪َّ ،‬‬ ‫دس إليها‪ :‬إنك إن احت ْل ِ‬‫َّ‬
‫س? ّمه‪ ،‬فلم??ا م??ات َو َفى له??ا معاوي??ة بالم??ال‪،‬‬
‫من يزيد‪ ،‬فك??ان ذل??ك ال??ذي بعثه??ا على َ‬
‫وأرسل إليها‪ :‬إنا‪ -‬نحب حياة يزيد‪ ،‬ولوال ذلك لوفينا لك بتزويجه‪.‬‬

‫وذكر أن الحسن قال عند موته‪ :‬لقد َحا َق ْت ش??ربته‪ ،‬وبل??غ أمنيت?ه? وهللا ال َو َفى له??ا‬
‫اش? ُّي الش??اعر‪ ،‬وك??ان من‬ ‫بما َو َعدَ ‪ ،‬وال صدق فيم??ا ق??ال‪ .‬وفي فع??ل جع??د يق??ول ال َّن َج ِ‬
‫علي‪ ،‬في شعر له طويل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫يع ِة‬
‫شِ َ‬

‫ـول الـثـاكـل‬
‫َب ْع ُد ُبكاء ال ُم ْـع ِ‬ ‫جعـ ُد َبـ ِّكـي ِه والتـسـامــي‬
‫ف َومِنْ ناعل‬ ‫هي األرض من َحا ٍ‬ ‫لم ُي ْس َبل الستر علـى مـثـل‬
‫يرفعها بالـسـنـد الـغـاتـل‬ ‫شـبـت َلـ ُه نـــاره‬‫ْ‬ ‫كان إذا‬
‫وفـرد قـوم لـيس بـاآلهـل‬ ‫كيمـا يراهـا بـائس ُم ْـرمِـل‬
‫أنضجه لـم يغـل مـن آكـل‬ ‫يغلي بنيء اللـحـم‪ ،‬حـتـى إذا‬
‫للزمن المستحرج الـمـاحـل‬ ‫أس َل َمـ َنـا هُـ ْلـكـه‬
‫أعني الذي ْ‬

‫يع ِة علي رضي ّ‬


‫هللا عنه‪:‬‬ ‫وفي ذلك يقول اخرمن شِ َ‬
‫ـزنْ‬‫ج عنك غليل ا ْل َح َ‬ ‫ُت َف ِّر ُ‬ ‫سـ ْل َـوة‬‫س فكم لك مـن َ‬ ‫تأ َ َّ‬
‫س ْين‪ ،‬وسم ا ْل َح َ‬
‫سنْ‬ ‫وقتل ا ْل ُح َ‬ ‫بي‪ ،‬وقتل ا ْل َوصِ ِّي‪،‬‬
‫بموت ال َّن ّ‬

‫قال المسعودي رحمه هللاّ ‪ :‬ووجدت في كتاب األخبار ألبي الحسن علي بن محمد‬
‫بن سليمان النوفلي عن صالح بن علي بن عطية األص??م ق??ال‪ :‬ح??دثنا عب??د ال??رحمن‬
‫هللا‬
‫بن العباس الهاشمي‪ ،‬عن أبي عون صاحب الدولة‪ ،‬عن محمد بن علي بن عبد ّ‬
‫بن العب??اس‪ ،‬عن أبي??ه‪ ،‬عن ج??ده‪ ،‬عن العب??اس بن عب??د المطلب‪ ،‬ق??ال‪ :‬كنت عن??د‬
‫رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم إذ أقب??ل علي بن أبي ط??الب‪ ،‬فلم??ا رآه أَ ْس ? َف َر في‬
‫وجهه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هللاّ‪ ،‬إنك ل ُت ْسفِر في وجه هذا الغالم‪ ،‬فقال‪ :‬يا َع َّم رسول هّللا ‪،‬‬
‫وهللا هّللا ُ أشد حبا ً له ِم ِّني‪ ?،‬إنه لم يكن ُّ‬
‫نبي إال وذريته? الباقية بعدي من‬ ‫ِّ‬
‫صفحة ‪480 :‬‬

‫ِي الن??اس‬ ‫ص ? ْلب ه??ذا‪ ،‬إن??ه إذا ك??ان ي??وم القيام??ة ُدع َ‬
‫ص ? ْلبه‪ ،‬وإن ذري??تي? بع??دي من ُ‬
‫ُ‬
‫بأس??مائهم واس??ماء أمه??اتهم س??تراً من هّللا عليهم‪ ،‬إال ه??ذا وش??يعته ف??إنهم ُي??دْ َع ْونَ‬
‫بأسمائهم السماء آبائهم لصحة والدتهم‪.‬‬

‫?ف محم??د ابن‬ ‫هللا عن?ه و َق َ‬


‫رث??اء ابن الحنفي??ة للحس??ن‪ :‬ولم?ا دُفن الحس??ن رض??ي ّ‬
‫الحنف َّي ِة أخوه على قبره‪ ،‬فقال‪ :‬لئن ع??زت حيا ُت? َك‪ ،‬لق??د َه? َّد ْت َو َفات??ك‪ ،‬ولنعم ال??روح‬
‫روح تضمنه كفنك‪ ،‬ولنعم الكفن كفن تضمن بدنك‪ ،‬وكيف ال تكون هكذا وأنت عقبة‬
‫ف أهل التقوى‪ ،‬وخامس أصحاب الكساء‪َ ،‬غ َد ْت َك ب??التقوى أك? ُّ‬
‫?ف الح??ق‪،‬‬ ‫الهدى‪َ ،‬و َخ َل َ‬
‫يت في ح ِْج? ِر اإِل س??الم‪ ،‬فطِ ْب َت ح ّي? ا ً وميت?اً‪ ،‬وإن ك??انت‬ ‫وأرض??عتك ُث?د ُّ‬
‫ِي اإليم??ان‪َ ،‬و ُر ِّب َ‬
‫هللا أبا محمد‪.‬‬ ‫أنفسنا غير سخية بفراقك‪ ،‬رحمك ّ‬

‫ومن رثاء ابن الحنفية للحسن‬


‫ووجدت في وجه آخر من الروايات في أخبار أهل البيت أن محمداً وقف على قبره‬
‫فقال‪ :‬أبا محمد‪ ،‬لئن ط??ابت حيات??ك‪ ،‬لق??د فج??ع ممات??ك‪ ،‬وكي??ف ال تك??ون ك??ذلك وأنت‬
‫خ??امس أه??ل الكس??اء‪ ،‬وابن محم??د المص??طفى‪ ،‬وابن علي المرتض??ى‪ ،‬وابن فاطم??ة‬
‫الزهراء‪ ،‬وابن شجرة ُطو َبى‪ .‬ثم أنشأ يقول رضي هّللا عنه‪:‬‬

‫َوخ ُّد َك معفـور وأنـت سـلـيب‬ ‫أأدْ هن رأسي أم تطيب مجـالـسـي‬


‫وقد ضمن األحشاء منـك لـهـيب‬ ‫ش َرب ماء المزن من غـير َمـائِة‬ ‫أأ ْ‬
‫دَوح الحجاز قضيب‬‫وما اخضر في ْ‬ ‫سأبكيك ما نـاحـت حـمـامة أ ْي َك ٍة‬
‫أال كل من تحت التـراب‬ ‫غريب َوأ ْك َناف الحجاز َتـ ُحـوطـه‬

‫غـريب ووج??دت في بعض كتب الت??واريخ في أخب??ار الحس??ن ومعاوي??ة أن بخالف??ة‬


‫ص َّح الخبر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬الخالفة بعدي ثالثين سنة‬ ‫الحسن َ‬
‫ألن أبا بكر الصديق رضي هّللا عنه َت َقلَّدَ هَا سنتين وثالثة أشهر وثمانية أيام‪ ،‬وعمر‬
‫رضي هّللا عنه عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال‪ ،‬وعثمان رضي هّللا عن?ه إح?دى‬
‫عشرة سنة وأحد عشر شهراً وثالثة عشر يوماً‪ ،‬وعلي رضي ّ‬
‫هللا عنه أربع س??نين‬
‫وسبعة أشهر إال يوماً‪ ،‬والحسن رضي هللا عن??ه ثماني??ة أش??هر وعش??رة أي??ام‪ ،‬ف?ذلك‬
‫ثالثون‪.‬‬

‫سرور معاوية بموت الحسن‬


‫الرازي‪ ،‬عن علي بن مجاهد‪،‬‬ ‫وحدث محمد بن جرير الطبري‪ ،‬عن محمد بن ُح َميد َّ‬
‫عن محم??د بن إس??حاق‪ ،‬عن الفض??ل بن عب??اس بن ربيع??ة‪ ،‬ق??ال‪ :‬وف??د عب??د هّللا بن‬
‫?بر معاوي??ة في الخض??راء‬ ‫العب??اس على معاوي??ة‪ ،‬ق??ال‪ :‬فوهّللا إني لفي المس??جد إذ ك? َ‬
‫فخرج ْت فاخت??ة بنت‬ ‫َ‬ ‫فكبر أهل الخضراء‪ ،‬ثم كبر أهل المسجد بتكبير? أهل الخضراء‪،‬‬
‫س? َّر َك هّللا ي??ا أم??ير‬
‫قرظ بن عمرو بن نوفل بن عبد من??اف من خو ِخ??ة له??ا‪ ،‬فق??الت‪َ :‬‬
‫المؤمنين ما هذا الذي بلغك فسررت به‪ .‬قال‪ :‬موت الحسن بن علي‪ ،‬فقالت‪ :‬إنا هّلل‬
‫صفحة ‪481 :‬‬

‫وإنا إليه راجعون‪ ،‬ثم ب َك ْت وقالت‪ :‬مات س ّيد المسلمين‪ ،‬وابن بنت رسول هّللا ص??لى‬
‫هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬فق??ال معاوي??ة‪ :‬نعم??ا وهّللا م??ا فعلت‪ ،‬إن??ه ك??ان ك??ذلك أهالً أن تبكي‬
‫عليه‪ ،‬ثم بلغ الخبر ابن عباس رض??ي هّللا عنهم?ا‪ ،‬ف?راح ف?دخل على معاوي??ة‪ ،‬ق?ال‪:‬‬
‫علمت يا ابن عباس أن الحسن توفي‪ ،‬قال‪ :‬ألذلك كبرت‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أما وهّللا ما‬ ‫ُ‬
‫بس?ادَ ٍة ُح ْف َر َت? َك‪ ،‬ولئن أص??بنا ب??ه قبل??ه بس??يد‬
‫?ؤخر أجل??ك‪ ،‬وال ُح ْف َر ُت??ه َ‬
‫َم ْو ُته? بال??ذي ي? ِّ‬
‫المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين‪ ،‬ثم بعده بس??يد األوص??ياء‪ ،‬فج??بر هّللا‬
‫تلك المصيبة‪ ،‬ورفع تلك ال َع ْث َرة‪ ،‬فقال‪َ :‬و ْي َح َك يا ابن عباس ما كلمتك قط إال وج??دتك‬
‫معداً‪.‬‬
‫وفي نسخة أنه لما صالح الحسن معاوية كبر معاوية في الخضراء‪ ،‬وكبر أهل‬
‫الخضراء‪ ،‬ثم كبر أهل المسجد بتكبير? أه??ل الخض??راء‪ ،‬فخ??رجت فاخت??ة بنت قرض??ة‬
‫سر َك هّللا يا أمير المؤمنين ما ه??ذا ال??ذي بلغ??ك‪ .‬ق??ال‪ :‬أت??اني‬ ‫من خوخة لها‪ ،‬فقالت‪َ :‬‬
‫البشي ُر بصلح الحسن وانقي??اده‪َ ،‬ف? َذ َك َر ْت ق??ول رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم إن‬
‫إب??ني ه??ذا س??يد أه??ل الجن??ة‪ ،‬وسيص??لح هللا ب??ه بين فئ??تين عظيم??تين من المؤم??نين‬
‫فالحمد هّلل الذي جعل فِ َئتِي إحدى الفئتين‪.‬‬
‫ولما صالح الحسن معاوية لما ناله من أهل الكوفة وم??ا ن??زل ب??ه أش?ار عم??رو بن‬
‫العاص على معاوية‪ -‬وذلك بالكوفة‪ -‬أن ي?أمر الحس??ن فيق?وم فيخطب الن?اس‪ ،‬فك??ره‬
‫ذلك معاوية‪ ،‬وقال‪ :‬ما أريد أن يخطب بالناس‪ ،‬قال عمرو‪ :‬لكني أريد أن يب??دو عي??ه‬
‫في الناس بأنه يتكلم في أمور ال ي??دْ ِري م??ا هي‪ ،‬ولم ي??زل ب??ه ح??تى أطاع??ه‪ .‬فخ??رج‬
‫معاوية فخطب الناس‪ ،‬وأمر رجالً أن ينادي بالحسن بن علي‪ ،‬فق??ام إلي??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬قم‬
‫الناس‪ ،‬فقام فتشهد في بديهته‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد أيه??ا الن??اس‪ ،‬ف??إن هللا‬ ‫َ‬ ‫يا حسن فكلم‬
‫هداكم بأولنا‪َ ،‬و َح َقنَ دماءكم بآخرنا‪ ،‬وإن لهذا األمر مدة‪ ،‬والدنيا د َُولٌ‪ ،‬ق??ال هّللا ع? ّ‬
‫?ز‬
‫وجل لنب ّيه محمد صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬قل إن أدري أقريب أم بعي??د م??ا توع??دون‪،‬‬
‫إنه يعلم الجهر من الق??ول ويعلم م??ا تكتم??ون‪ ،‬وإن أدري لعل??ه فتن??ة لكم ومت??اع إلى‬
‫حين ثم ق??ال في كالم??ه ذل??ك‪ :‬ي??ا أه??ل الكوف??ة‪ ،‬ل??و لم ُت? ْ?ذ َهلْ نفس??ي عنكم إال لثالث‬
‫خص??ال ل?? ُذهِلت‪َ :‬م ْق َتلكم ألبي‪ ،‬وس??لبكم ثقلي‪ ،‬وطعنكم في بط??ني‪ ،‬وإني ق??د ب??ايعت‬
‫معاوية‪ ،‬فاسمعوا له وأطيعوا‪.‬‬
‫س َرادق الحسن َو َر ْحله‪ ،‬وطعنوا ب??الخنجر في جوف??ه‪،‬‬ ‫وقد كان أهل الكوفة انتهبوا ُ‬
‫فلما تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح‪.‬‬

‫خطبة للحسن‬
‫علي رضي هّللا عنه وكرم هّللا وجهه اعتلَّ‪ ،‬فأمر ابن??ه الحس??ن رض??ي هّللا‬ ‫وقد كان ّ‬
‫هللا وأثنى عليه‪ ،‬ثم ق??ال‪ :‬إن‬ ‫عنه أن يصلى بالناس يوم الجمعة‪ ،‬فصعد المنبر فحمد ّ‬
‫هّللا لم يبعث نب ّيا ً إال اختار له نقيبا ً َو َرهْ طا ً وبيتاً‪ ،‬فو الذي بعث محمداً بالحق نب ّي?? ا ً ال‬
‫ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إال نقصه? هللا من َع َمله مثله‪ ،‬وال تكون علينا دول??ة‬
‫إال وتكون لنا العاقبة‪ ،‬ولتعلمنَّ نبأه بعد حين‪.‬‬

‫صفحة ‪482 :‬‬

‫خطبة أخرى‬
‫هللا عنه في أيامه في بعض مقاماته أنه قال‪ :‬نحن حزب‬ ‫ومن خطب الحسن رضي ّ‬
‫هّللا‬
‫?رة رس??ول ص??لى هللا علي??ه وس??لم األقرب??ون‪ ،‬وأه??ل بيت ?ه?‬ ‫هللا المفلح??ون‪َ ،‬و ِع ْت? َ‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫الطاهرون الطيبون‪ ،‬وأحد الثقلين اللذين َخلفهما رسول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪،‬‬
‫والث??اني كت??اب هّللا ‪ ،‬في??ه تفص??يل? ك??ل ش??يء‪ ،‬ال يأتي??ه الباط??ل من بين يدي??ه‪ ،‬وال من‬
‫َخ ْلفِه‪ ،‬والمعول عليه في كل شيء‪ ،‬ال يخطئنا تأويله‪ ،‬بل نتيقن حقائق??ه‪ ،‬فأطيعون??ا‪،‬‬
‫هللا والرس??ول وأولي األم??ر مقرون ?ة? ف??إن‬
‫ف??إنَّ طاعتن??ا مفروض ?ة? إذ ك??انت بطاع??ة ّ‬
‫تنازعتم في شيء َفردُّوه إلى هّللا والرس??ول‪ ?...‬ول??و َر ُّعوه إلى الرس??ول‪ ،‬وإلى أولي‬
‫األمر منهم‪ ،‬لعلمه الذين يستنبطونه منهم وأح??ذركم اإِل ص??غاء لهت??اف الش??يطان إن??ه‬
‫لكم عدو مبين‪ ،‬فتكون??ون كأوليائ??ه ال??ذين ق??ال لهم‪ :‬ال غ??الب لكم الي??وم من الن??اس‬
‫ص على عقيب??ه وق??ال‪ :‬إني ب??ريء منكم إني‬ ‫وإني جار لكم‪ ،‬فلما ت??راءت الفئت??ان َن َك َ‬
‫أرى م?اال ت??رون فتلق?ون للرم?اِح أزرا‪ ،‬وللس??يوف ج??زرا‪ ،‬وللعم??د خط?أ‪ ،‬وللس??هام‬
‫َغ َرضاً‪ ،‬ثم ال ينفع‪ .‬نفسا َ إيمانها لم تكن آمنت من قب??ل أوكس??بت في إيمانه??ا خ??يراً‪،‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫ّ‬

‫ذكر خالفة معاوية بن أبي سفيان‬


‫وبويع معاوية في شوال سنة إحدى وأربعين‪ ،‬ببيت المق??دس‪ ،‬فك??انت أيام??ه تس??ع‬
‫عشرة سنة وثمانية أشهر‪ ،‬وتوفي في رجب سنة إحدى وستين‪ ،‬وله ثمانون سنة‪،‬‬
‫ودُفن بدمشق بباب الصغير‪ ،‬وقبره ُي ِزار إلى هذا الوقت‪ -‬وهو س??نة اثن??تين وثالثين‬
‫وثالثمائة‪ ?-‬وعليه بيت مبني? يفتح كل يوم اثنين وخميس‪.‬‬
‫ذكر لمع من أخباره وسيره ونوادر من بعض أفعاله‬
‫مقتل حجر الكندي‬
‫ِي‪ ،‬وه??و أولى من‬ ‫وفي س??نة? ثالث وخمس??ين َق َت ? ل َ معاوي??ة ُح ْج? َربن ع??دي ال ِك ْن? د َّ‬
‫?ر من أص??حابه من أه??ل‬ ‫قتلصبراً في اإِل سالم‪ :‬حملة زياد من الكوفة ومعه تس? ُ‬
‫?عة َن َف? ِ‬
‫الكوفة وأربعة من غيرها‪ ،‬فلما صار على أميال من ال َكوفة يراد ب??ه دمش??ق أنش??أت‬
‫ابنته? تقول‪ ،‬وال عقب له من غيرها‪:‬‬
‫لعلك أن ترى ُح ْجراً يسير‬ ‫َت َر َف ْع أيها القمر المـنـير‬
‫ليقتله‪َ ،‬ك َذا َز َع َم األمـير‬ ‫يسير إلى معاوية بن حرب‬
‫وتأكل من َم َحاسِ نِه النسـور‬ ‫صلبه? َع َلى َبا َب ْي دمـشـق‬ ‫َو َي ْ‬
‫سدِير‬‫اب لها الخورنق وال َّ‬ ‫َو َط َ‬ ‫ـجـر‬
‫تخيرت الخبائر بعد ُح ْ‬
‫تلقتك السالمة َوالـسـ ُرور‬ ‫أال يا حجرحجربنـي عـدي‬
‫ش ْيخا ً في دمشق لـه زئير‬ ‫َو َ‬ ‫أخاف عليك ما أردى علـيا‬
‫ولم ُي ْن َحركما نحر ال َبـعِـير‬ ‫أال يا ليت حجراً مات موتـا ً‬
‫إلى ُه ْلكٍ من ال ُّد ْن َيا َيصِ ـير?‬ ‫فإن تهلك فكل َعمِـيد َق ْـوم‬
‫ولما صار إلى مرج عفراء على اثني عشر ميالً من دمشق تقدَّم البري??د بأخب??ارهم‬
‫أع َور‪ ،‬فلما أشرف على ُح ْجر وأصحابه قال رجل منهم‪:‬‬ ‫إلى معاوية‪ ،‬فبعث برجل ْ‬
‫صفحة ‪483 :‬‬

‫الز ْجر فإنه سيقتل ِم َّنا النصف وينجو الباقون‪ ،‬فقيل له‪ :‬وكيف ذلك‪ .‬ق??ال‪:‬‬ ‫إن صدق َّ‬
‫صابا ً بإحدى عينيه‪ ،‬فلما وصل إليهم قال لحج??ر‪ :‬إن أم??ير‬ ‫أما ترون الرجل المقبل ُم َ‬
‫المؤمنين قد أمرني بقتلك يا رأس الضالل ومع??دن الكف??ر والطغي??ان والمت??ولي ألبي‬
‫تراب وقتل أصحابك‪ ،‬إال أن ترجعوا عن كف??ركم‪ ،‬وتلعن??وا ص??احبكم وتت??برؤوا? من??ه‪،‬‬
‫س? ُر علين??ا مم??ا‬
‫فقال ُح ْجر وجماعة ممن ك?ان مع?ه‪ :‬إن الص?بر على ح?د الس?يف أل ْي َ‬
‫ب إلينا من دخول النار‪،‬‬ ‫َتدْ ُعو َنا إليه‪ ،‬ثم القدوم على هّللا وعلى نبيه? وعلى وصيه? َ‬
‫أح ُّ‬
‫وأجاب نصف من كان معه إلى البراءة من علي‪ ،‬فلما ُق ِّد َم حجر ل ُي ْقتل قال‪ :‬دع??وني‬
‫أج َزع?ا ً من الم??وت‪ .‬فق??ال‪ :‬ال‪،‬‬ ‫أصلي ركع??تين‪ ،‬فجع??ل يط??ول في ص??الته‪ ،‬فقي??ل ل??ه‪َ :‬‬
‫ف من ه??ذه‪ ،‬وكي??ف ال‬ ‫أخ? َّ‬‫ولكني ما تطهرت للصالة قط إال صليت‪ ،‬وم??ا ص??ليت ق?ط َ‬
‫أجزع‪ ،‬وإني ألرى قبراً محفوراً‪ ،‬وس??يفا ً مش??هوراً و َك َفن?ا ً منش??وراً‪ ،‬ثم تق??دم فنح??ر‪،‬‬
‫وألحق به من وافقه على قوله من أصحابه‪ ،‬وقيل‪ :‬إن قتلهم كان في سنة خمسين‪.‬‬

‫عدي بن حاتم ومعاوية‬


‫وذك??ر أن ع?دي بن ح??اتم الط?ائي دخ??ل على معاوي??ة‪ ،‬فق?ال ل??ه معاوي??ة‪ :‬م??ا فعلت‬
‫لي قت??ل أوالدك و َب َّقى‬
‫الطرفات‪ .‬يعني أوالك‪ ،‬قال‪ :‬قتلوا مع علي‪ ،‬قال‪ :‬ما أنص??فك َع ّ‬
‫ص ْف َت عل ّيا ً إذ قتل وبقيت بع??ده‪ ،‬فق?ال معاوي?ة‪ ?:‬أم?ا إن?ه ق?د‬ ‫أوالده‪ ،‬فقال عدي‪ :‬ما أ ْن َ‬
‫بقيت قطرة من دم عثمان ما يمحوها إال دم شريف? من أشراف اليمن‪ ،‬فق??ال ع??دي‪:‬‬
‫وهللاّ إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا‪ ،‬وإن أسيافنا التي قاتلن??اك به??ا لعلى‬
‫عواتقن??ا‪ ،‬ولئن أدنيت إلين??ا من الغ??در ف??تراً لن??دن َينَّ إلي??ك من الش??ر ش??براً‪ ،‬وإن َح? َّز‬
‫الحلق?وم وحش??رجة الح?يزوم ألهْ? َونُ علين??ا من أن نس??مع المس?اءة في علي‪ ،‬فس?لم‬
‫عدي محدثا ً‬
‫ّ‬ ‫السيف يا معاوية لباعث السيف‪ ،‬هذه كلمات حكم فاكتبوها‪ ،‬وأقبل على‬
‫له كأنه ما خاطبه بشيء‪.‬‬

‫بين عمرو بن عثمان وأسامة عند معاوية‬


‫وذكر أن معاوية بن أبي سفيان تنازع إليه عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن‬
‫زيد مولى رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬في أرض‪ ،‬فق?ال عم?رو‪ .‬ألس?امة‪ :‬كأن?ك‬
‫تنكرني‪ ?،‬فقال أسامة‪ ?:‬ما يس?رني نس?بك ب?والئي‪ ،‬فق?ام م?روان بن الحكم فجلس إلى‬
‫ج??انب عم??رو بن عثم??ان‪ ،‬وق??ام الحس??ن فجلس إلى ج??انب أس??امة‪ ،‬فق??ام س??عيد بن‬
‫العاص فجلس إلى جانب مروان‪ ،‬فقام الحسين فجلس إلى جانب الحسن‪ ،‬وقام عب??د‬
‫هّللا بن ع??امر فجلس إلى ج??انب س??عيد‪ ،‬فق??ام عب??د هّللا بن جعف??ر فجلس إلى ج??انب‬
‫الحسين‪ ،‬وقام عبد الرحمن بن الحكم فجلس إلى جانب ابن عامر‪ ،‬فقام عب??د هّللا بن‬
‫العباس فجلس إلى جانب ابن جعفر‪ ،‬فلما رأى ذلك معاوية قال‪ :‬ال تعجلوا‪ ،‬أن??ا كنت‬
‫ش??اهداً إذا أقطعه??ا رس??ول ُ هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪َ ،‬‬
‫أس ?ا َم َة‪ ،‬فق??ام الهاش??ميون‬
‫فخرجوا ظاهرين‪ ،‬وأقبل األمويون عليه فقالوا‪ :‬أال كنت أصلحت بيننا ق?ال‪ :‬دع?وني‬
‫فوهّللا ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إال لبس على عقلي‪ ،‬وإن‬
‫الح??رب أوله??ا نج??وى‪ ،‬وأوس??طها ش??كوى‪ ،‬وآخره??ا َب ْل? َ?وى‪ ،‬وتمث??ل بأبي??ات‬
‫امرىء القيس المتقدمة في هذا الكتاب في أخبا عمر رضي هّللا عنه‪،‬‬
‫صفحة ‪484 :‬‬

‫وأولها‪:‬‬
‫تدنو بزينتها لكل جهول‬ ‫الحرب أول ما تكون فتية‬

‫ثم قال‪:‬‬
‫ما في القلوب تشب الحروب‪ ،‬واألمر الكبير يدفعه األمر الصغير‪،‬‬
‫وتمثل?‪:‬‬
‫وإنما القرم مـن األفِـيل‬ ‫قد َيلحق الصغير بالجلـيل‬
‫وتسحق ال َّن ْخل منَ الفسيل‬

‫إلحاق زياد بأبي سفيان‬


‫قال المسعودي‪ :‬ولما َهم معاوية بإلحاق زياد بأبي سفيان أبيه‪ -‬وذلك في سنة?‬
‫أربع وأربعين‪ -‬شهد عنده زي??ادة بن أس??ماء الحرم??ازي ومال??ك بن ربيع??ة الس??لولي‬
‫والمنفر بن الزبير بن العوام أن أبا سفيان أخبر أنه ابنه‪ ،‬وأن أبا س??فيان ق??ال لعلي‬
‫عليه السالم حين ذكر زياد عند عمر بن الخطاب‪:‬‬
‫علي من األعادي‬
‫ُّ‬ ‫يراني يا‬ ‫أما وهّللا لوال َخ ْوف شخص‬
‫ولم يكن المجمجم عن زياد‬ ‫لبين أمره صخر بن حرب‬
‫لها نقم َو َن ْفي عن بـالدي‬ ‫ص ُروف كف‬ ‫ولكني أخاف ُ‬
‫وتركي فيهم ثمر الفـؤاد‬ ‫ًَ‬
‫فقد طالت محاولتي ثقي َفـَا?ً‬

‫?دء األم??ر‬
‫?ر الن?اس بب? ِ‬ ‫ثم زاد يقينا ً إلى ذلك ش?هادة أبي م??ريم الس?لولي‪ ،‬وك?ان ْ‬
‫أخ َب َ‬
‫س??مية?‬ ‫سمية? أم زياد في الجاهلية على زنا‪ ،‬وكانت ُ‬ ‫وذلك أنه جمع بين أبي سفيان و ُ‬
‫من ذوات الراي??ات بالط??ائف ت??ؤدي الض??ريبة? إلى الح??ارث بن َك َل َح? َة‪ ،‬وك??انت ت??نزل‬
‫بالموضع الذي تنزل في??ه البغاي??ا بالط??ائف خارج?ا ً عن الحض??ر في محل??ة يق??ال له??ا‬
‫حارة البغايا‪.‬‬
‫وكان سبب ادعاء معاوية له فيما ذك??ر أب??و عبي??دة معم??ر بن الم َّثنى أن علي?ا ً ك??ان‬
‫َوألَه فارس حين أخرج منه??ا س??هل بن ُح َني??ف‪ ،‬فض??رب زي??اد ببعض??هم بعض?ا ً ح??تى‬
‫غلب عليه??ا‪ ،‬وم??ا زال يتنق??ل? في ُك َو ِرهَ??ا ح??تى ص??لح أم??ر ف??ارس‪ ،‬ثم َواله على‬
‫هللا وس??الما ً ولدي??ه‬
‫أصطخب‪ .،‬وك??ان معاوي??ة يته??دد‪ ،‬ثم أخ??ذ ُب ْس?ر بن أرط??اة عبي??د ّ‬‫َ‬
‫وكتب إليه يقسم ليقتلنهما إن ِلم يراجع ويدخل في طاعة معاوية وكتب معاوي??ة إلى‬
‫ني زياد‪ ،‬وكتب إلى زياد أن يدخل في طاعت??ه َو َي? ُر َّده إلى عمل??ه‪،‬‬ ‫ُب ْسر أال يعرض أل ْب ْ‬
‫فقدم زياد على معاوية‪ ،‬فصالحه على مال وحلي‪ ،‬ودعاه معاوي??ة إلى أن يس??تحلفه‪،‬‬
‫فأبى زياد ذلك‪ ،‬وك??ان المغ??يرة بن ش??عبه ق??ال لزي??اد قب??ل قدوم??ه على معاوي??ة‪ْ :‬أرم‬
‫ضولَ‪ ،‬فإن هذا األمر ال يمد إليه أحد يداً إال الحس??ن‬ ‫صى‪ ،‬ودع عنك الفُ ُ‬ ‫بالغرض األق َ‬
‫فأش? ْر علي‪ ،‬ق??ال‪:‬‬‫بن علي وقد بايع لمعاوية‪ ،‬فخذ لنفسك قبل التوطين‪ ،‬فقال زي??اد‪ِ :‬‬
‫ص?ل َ حبل?ك بحبل?ه‪ ،‬وأن تع??ير الن?اس من?ك أذن?ا ً‬ ‫أرى أن تنق??ل أص?لك إلى أص?له‪َ ،‬و َت ِ‬
‫دَرة فتحيي??ه وال‬ ‫منبته? وال َم َ‬ ‫أأغرس عوداً في غير ِ‬ ‫ص ّماء‪ ،‬فقال زياد‪ :‬يا ابن شعبة‪ْ ،‬‬ ‫ً‬
‫برأي ابن شعبة‪ ،‬وأرسلت‬ ‫ْ‬ ‫ع ِْر َق فيسقيه‪ .‬ثم إن زياداً عزم على قبول الدعوى وأخذ َ‬
‫صفحة ‪485 :‬‬

‫ش? َف ْت عن‬ ‫إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية‪ ،‬فأتاها ف??أذنت ل??ه و َك َ‬
‫شعرها بين يديه‪ ،‬وقالت‪ :‬أنت أخي أخبرني? بذلك أبو م?ريم‪ ،‬ثم أخرج?ه معاوي?ة إلى‬
‫السلولى فقال‪ :‬أشهد أن أبا سفيان َق ِد َم علين??ا‬‫ِ‬ ‫المسجد‪ ،‬وجمع الناس‪ ،‬فقام أبو مريم‬
‫بالطائف وأنا خ َم??ار في الجاهلي??ة‪ ،‬فق??ال‪ :‬ابغ??ني بغي?اً‪ ،‬فأتيت??ه وقلت ل??ه‪ :‬لم أج??د إال‬
‫على ذفرها وقذرها‪ ،‬فق??ال ل??ه زي??اد‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫سمية‪ ،‬فقال‪ :‬ائتني بها‬‫جارية الحارث بن َك َلدَ ة ُ‬
‫مهالً ي??ا أب??ا م??ريم‪ ،‬إنم??ا بعثت ش??اهداَ ولم تبعث ش??اتماً‪ ،‬فق??ال أب??و م??ريم‪ :‬ل??و كنتم‬
‫أعفيتم??وني? لك??ان أحب إ َل َّي‪ ،‬وإنم??ا ش??هدت بم??ا ع??اينت ورأيت‪ ،‬وهّللا لق??د أخ??ذ بكم‬
‫درعه??ا‪ ،‬وأغلقت الب??اب عليهم??ا وقع??دت دهش??اناً‪ ،‬فلم ألبث أن خ??رج َع َل َي يمس??ح?‬
‫جبينه‪ ?،‬فقلت‪َ :‬م ْه يا أبا سفيان‪ ،‬فقال‪ :‬ما أصبت مثلها ي??ا أب??ا م??ريم‪ ،‬ل??وال اس??ترخاء‬
‫من ثديها وذف??ر من فيه??ا‪ ،‬فق??ام زي??اد فق?ال‪ :‬أيه??ا الن?اس‪ ،‬ه??ذا الش??اهد ق??د ذك??ر م??ا‬
‫سمعتم‪ ،‬ولس?ت أدري ح?ق ذل?ك من باطل?ه‪ ،‬وإنم?ا ك?ان عبي?د ربيب?ا ً م?بروراً أو ل َي? ا ً‬
‫مشكوراً‪ ،‬والشهود أعلم بما قالوا‪ ،‬فقام ي??ونس بن عبي??د أخ??و ص??فية بنت عبي??د بن‬
‫س َم َّية‪ -‬فقال‪ :‬يا معاوي??ة‪ ،‬قض??ى رس??ول‬ ‫أسد بن عالفي الثقفي‪ -‬وكانت صفية موالة ُ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أن الولد للفراش وللعاهر الحج??ر‪ ،‬وقض??يت أنت أن الول??د‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫هّللا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫للعاهر وأن الحجر للفراش‪ُ ،‬مخالفة لكتاب تعالى‪ ،‬وانصرافا عن سنة? رسول هللا‬
‫وهللا ي??ا‬‫ّ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان‪ ،‬فقال معاوية‪:‬‬
‫يونس لتنتهين أو ألطيرن بك طيرة بطيئا ً وقوعها‪ ،‬فق?ال ي??ونس‪ :‬ه??ل إال إلى هّللا ثم‬
‫أق?ع‪ .‬ق?ال‪ :‬نعم وأس?تغفر هّللا ‪ ،‬فق?ال عب?د ال??رحمن بن أ ّم الحكم في ذل?ك ويق??ال‪ :‬إن??ه‬
‫ليزيد بن مفرغ الحميري‪:‬‬
‫ُم َغ ْل َغلً َة عن الرجل اليمـانـي‬ ‫أال أبلغ معـاوية بـن َح ْـرب‬
‫وترضى أن ُيقال‪ :‬أ ُبو َك زاني‬ ‫أتغضب أن ُيقال‪ :‬أ ُبـو َك َعـف‬
‫َك ِر ْحم الذيل من ولـد األتـان‬ ‫فأشهد أن ِر ْحـ َمـ َك مـن زياد‬

‫وفي زياد وإخوته يقول خالد النجاري‪:‬‬

‫الع َجب‬ ‫َب ْك َر َة عندي من أعجب َ‬ ‫إن زياداً ونـافـعـا ً وأبـــا‬


‫النسب‬
‫َ‬ ‫من ِر ْحم أنثى مخالذي‬ ‫إن الجـاالً ثـالثة خـلـقـوا‬
‫َم ْولى‪ ،‬وهذا ِب َز ْع ِم ِه َع َر ِبـي‬ ‫ذا قُ َرشِ ّي فـيمـا يقـول‪َ ،‬و َذا‬

‫بين معاوية وعبد هّللا بن هاشم المرقال‬


‫ولما قتل علي كرم هّللا وجهه كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاش??م بن‬
‫إحنٌ ‪ ،‬فلم??ا اس??تعمل معاوي??ة‬
‫هللا بن هاش??م َ‬ ‫ُع ْت َبة بن أبي َو َّقاص الم ِْر َقال وولده عب??د ّ‬
‫زياداً على العراق كتب إليه‪ ،‬أما بعد‪ :‬ف?انظر عبدهّللا بن هاش??م عتب??ة‪ ،‬فش? َّد ي?ده إلى‬
‫عنقه‪ ،‬ثم أبعث به إلي فحمله زياد من البصرة ُم َق َّيداً مغل??والً إلى دمش??ق‪ ،‬وق??د ك??ان‬
‫زياد َط َر َقه بالليل في منزله بالبصرة‪ ،‬فأدخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص‪،‬‬

‫صفحة ‪486 :‬‬

‫فقال معاوية لعمرو بن العاص‪ :‬هل تعرف هذا‪ .‬قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬هذا الذي يقول أب??وه‬
‫يوم صِ َفين‪:‬‬
‫وأك َث َر اللـوم ومـا أقـالَّ‬ ‫اع َتال‬
‫ت ال َّنفس لما ْ‬ ‫إني َ‬
‫ش َر ْب ُ‬
‫قدعالج الحياة حتى َمـالَّ‬ ‫أع َور يبغي أهْ َل ُه مـحـالّ‬ ‫ْ‬
‫شـال‬ ‫أشلُّهم بذي ال ُك ُعوب َ‬ ‫ال ُبـ َّد أن َي ُغـل َّ أو ُي َفـال‬
‫ـــريم َولَّـــى‬
‫في َك ِ‬ ‫ال َخـ ْي َر عـــنـــدي‬

‫فقال عمرو متمثالً‪:‬‬


‫ات النفوس كما هـيا دونك يا أمير‬ ‫از ُ‬ ‫ت ال َم ْر َعى على د َم ِن ال ّث َرى وتبقى َ‬
‫حز َ‬ ‫وقد َي ْن ُب ُ‬
‫المؤمنين الضب المضب فاشخب أوداجه على أسباجه‪ ،‬وال ت??رده إلى أه??ل الع??راق‪،‬‬
‫أهل غدر وشقاق‪ ،‬وحزب إبليس لي??وم هيج??اء‪ ،‬وإن‬ ‫فإنه ال يصبر? عن النفاق‪ ،‬وهم ِ‬
‫سيرديه يه‪ ،‬ورأيا ً سيطغيه‪ ،‬وبطانة س??تقويه‪ ،‬وج??زاء س??يئة? س??يئة? مثله??ا‪،‬‬ ‫له هَوى َ‬
‫أس َلمه قومه‪ ،‬وأدر َك??ه يو ُم??ه‪ ?،‬أفال ك??ان ه??ذا‬
‫فقال عبد ‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إن أقتل فرجل ْ‬ ‫هّللا‬
‫من??ك إذ تحي??د عن القت??ال‪ ،‬ونحن ن??دعوك إلى ال??نزال‪ ،‬وأنت تل??وذ بس??مال النط??اف‪،‬‬
‫وعقائق الرص??اف‪ ،‬كاألم??ة الس??وداء‪ ،‬والنعج??ة ال َق? ْ?ودَاء‪ ،‬ال ت??دفع ي??د المس‪ ،‬فق??ال‪:‬‬
‫ش ْذ َقم لألقران ذي لب??د‪ ،‬وال أحس??بك منفلت??ا من‬ ‫عمرو‪ ،‬أما وهّللا لقد وقعت في لهاذم َ‬
‫وهللا يا ابن العاص إنك ل َبطِ ر في الرخاء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مخاليب أمير المؤمنين‪ ،‬فقال عبد هّللا ‪ :‬أما‬
‫?و ُد المنك??وس‬ ‫شوم إذا وليت‪ ،‬هيابة إذا لقيت‪ ،‬تهدر كما يه??د ال َع? ْ‬ ‫جبان عند اللقاء‪َ ،‬غ ُ‬
‫المقيد بين مجرى الشول ال يستعجل في المدة‪ ،‬وال يرتجى في الشده‪ ،‬أفال كان ه??ذا‬
‫منك إذ غمرك أقوام لم يعنف??وا ص??غاراً‪ ،‬ولم يمرقُ??وا كب?اراً‪ ،‬لهم أي??د ش??داد‪ ،‬وألس??نة‬
‫حداد‪ ،‬يدعمون العوج‪ ،‬ويذهبون الحرج‪ ،‬يكثرون القليل‪ ،‬ويشفون الغليل‪ ،‬ويع??زون‬
‫الذليل‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬أما وهّللا لقد رأيت أباك يومئ?ذ? تخف??ق أحش??اؤه‪ ،‬وتب??ق أمع??اؤه‪،‬‬
‫وتضطرب أطالؤه‪ ،‬كأنما انطبق عليه صمد‪ ،‬فقال عبد هّللا ‪ :‬يا عمرو‪ ،‬إنا ق??د بلون??اك‬
‫خلوت بأقوام ال يعرفونك‪ ،‬و ُج ْن ٍد ال يس??امونك‪،‬‬
‫َ‬ ‫ومقا َل َت َك فوجدنا لسانك كذوبا ً غادراً‪،‬‬
‫ول??و رمت المنط??ق في غ??ير أه??ل الش??ام لجح??ظ إلي??ك عقل??ك‪ ،‬ولتلجلج لس??انك‪ ،‬وال‬
‫ضطرب فخذاك اضطراب ال َق ُعو ِد الذي أثقله حمله‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬أيها ً عنكم??ا‪ ،‬وأم??ر‬
‫بإطالق عبد هّللا ‪ ،‬فقال عمرو لمعاوية‪:‬‬

‫وكان من التوفيق قتل ابن هاشم‬ ‫أمر ُت َك أمراً حازما ً فعصي َتنِـي‬
‫حز ال َغـالَصـم‬
‫أعان عليا ً يوم َ‬ ‫أليس أبوه يا مـعـاوية الـذي‬
‫بصفين أمثال البحور الخضارم‬ ‫ينثن حتى جرت من دمائنـا‬ ‫ِ‬ ‫فلم‬
‫ويوشك أن تقرع به سن نـادم‬ ‫شبه? شيخـه‬ ‫وهذا ابنه‪ ،‬والمرء ُي ْ‬

‫صفحة ‪487 :‬‬

‫فقال عبد هّللا يجيبه‪:‬‬


‫صـدر ِغـ ُّ‬
‫شـهـا غـير نـائم‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ضغينة‬ ‫ي إن المـرء عـمـراً أ َب ْ‬
‫ـت لـه‬ ‫او َ‬ ‫ُم َع ِ‬
‫يرى ما يرى عمرو ملـوك األعـاجـم‬ ‫يرى لك قتلي يا ابـن هـنـد‪ ،‬وإنـمـا‬
‫إذا منعت عنه عـهـود الـمـسـالـم‬ ‫على أنـهـم ال يقـتـلـون أسـيرهـم‬
‫عليك جناها هـاشـم وابـن هـاشـم‬ ‫وقد كان مـنـا يوم صِ ـ َفـينَ نـفـرة‬
‫وال ما جرى إال كأضـغـاث حـالـم‬ ‫قضى ما انقضى منها‪ ،‬وليس الذي مضى‬
‫وإن َت َر قتلي تستـحـل مـحـارمـي‬ ‫ف عني تعـف عـن ذي قـرابة‬ ‫فإن َت ْع ُ‬

‫فقال معاوية‪:‬‬
‫إلى هّللا في يوم العصيب القماطر‬ ‫أرى العفو عن ُع ْل َيا قريش وسـيلةً‬
‫بإدراك ثأري في لؤي وعـامـر‬ ‫الغدَ ا َة ابن ه ٍ‬
‫َاشـم‬ ‫ولست أرى َق ْتلِي َ‬
‫وز َل ْت به إحدى الجدود العـوائر‬ ‫بل العفو عنه بعد ما بان ُج ْـر ُمـه‬
‫نـهـابـر‬
‫ِ‬ ‫علينا فأردته ِرمـاح‬ ‫فكان أبوه يوم صـفـين جـمـرة‬

‫وحضر عبد هّللا بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية‪ ،‬فقال معاوية‪ ?:‬من يخ??برني? عن‬
‫هللا‪ :‬ي??ا أم??ير المؤم??نين‪ ،‬أم??ا الج??ود فابت??ذال‬
‫الجود والنج??دة والم??روءة‪ .‬فق??ال عب??د ّ‬
‫الم??ال‪ ،‬والعطي??ة قب??ل الس??ؤال‪ ،‬وأم??ا النج??دة ف??الجراءة على األق??وام‪ ،‬والص??بر عن??د‬
‫أزورار األقدام‪ ،‬وأما المروءة فالصالح في الدين‪ ،‬واإلصالح للمال‪ ،‬والمحام??اة عن‬
‫الجار‪.‬‬
‫بين معاوية ومحمد بن أبي بكر‬
‫س بن س?عد بن ُع َب?اد َة عن مص?ر َو َّجه مكان?ه‬ ‫ولما صرف علي رض?ي هللا عن?ه ق ْي َ‬
‫محمد بن أبي بكر‪ ،‬فلما وصل إليها كتب إلى معاوي??ة كتاب ?ا ً في??ه‪ :‬من محم??د بن أبي‬
‫بكر‪ ،‬إلى الغاوي معاوية بن صخر‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فإن هّللا بعظمت??ه وس??لطانه خل??ق خلق??ه‬
‫بال عبث منه‪ ،‬وال ضعف في قوته‪ ،‬والحاجة ‪ -‬به إلى خلقهم‪ ،‬ولكن??ه خلقهم عبي??داً‪،‬‬
‫وجعل منهم غو ّيا ً ورش??يداً‪ ،‬وش??قيا ً وس??عيداً‪ ،‬ثم اخت??ار على علم واص??طفى وانتخب‬
‫منهم محمداً صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فانتخبه? بعلمه‪ ،‬واصطفاه برسالته‪ ،‬وائتمنه? على‬
‫وحي??ه‪ ،‬وبعث ?ه? رس??والً ومبش??راً ون??ذيراً ووكيالً فك??ان أول من أج??اب وأن??اب وآمن‬
‫وسلّم أخوه وابن عمه علي بن أبي ط??الب‪ :‬ص??دقه ب??الغيب المكت??وم‪،‬‬ ‫وصدق وأسلم َ‬
‫أثره على كل حميم‪َ ،‬و َو َقاه بنفسه كل ه َْول‪ ،‬وحارب َح ْربه‪ ?،‬وسالم سِ ْل َمه‪ ،‬فلم ي??برح?‬
‫مبتذالً لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقا ً‬
‫ساميه? وأنت أنت‪ ،‬وهو‬ ‫ال نظير له فيمن اتبعه‪ ،‬وال مقارب له في فعله‪ ،‬وقد رأيتك ُت َ‬
‫هو‪ ،‬أصدق الناس نية‪ ،‬وأفضل الناس ذرية‪ ،‬وخ??ير الن??اس زوج??ة‪ ،‬وأفض??ل الن??اس‬
‫ابن عم‪ :‬أخوه الشاري بنفس?ه? ي??وم موت??ه‪ ،‬وعم??ه س??يد الش??هداء ي??وم أح??د‪ ،‬وأب??وه‬
‫هللا صلى هللا عليه وس?لم‪ ،‬وعن َح ْو َزت?ه‪ ?،‬وأنت اللعين ابن اللعين‪،‬‬ ‫الذاب عن رسول ّ‬
‫الغ َوائ??ل‪ ،‬وتجه??دان في‬‫ِيان لرسول هّللا صلى هللا علي??ه وس??لم َ‬
‫لم تزل أنت وأبوك َت ْبغ ِ‬
‫إطفاء نور هّللا ‪ ،‬تجمعان على ذلك الجموع‪ ،‬وتبذالن فيه المال‪،‬‬
‫صفحة ‪488 :‬‬

‫وتؤ َلبان عليه القبائ?ل‪ ،‬وعلى ذل?ك م?ات أب?وك‪ ،‬وعلي?ه َخ َل ْفت?ه‪ ،‬والش?هيد علي?ك من‬
‫ت?دني ويلج?أ إلي?ك من بقي?ة? األح?زاب ورؤس?اء النف?اق‪ ،‬والش?اهد لعلي‪ -‬م?ع فض?له‬
‫المبين القديم‪ -‬أنصاره الذين معه وهم الذين‪ .‬ذكرهم هّللا بفضلهم‪ ،‬وأث??نى عليهم من‬
‫رونَ الحق في اتباعه‪ ،‬والش??قاء‬ ‫المهاجرين واألنصار‪ ،‬وهم معه كتائب وعصائب‪َ ،‬ي ْ‬
‫هّللا‬
‫في خالفه‪ ،‬فكيف‪ -‬يا لك الويل‪َ -‬ت ْع ِدلُه نفسك بع??ده وه??و وارث رس??ول ص??لى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ووصيه وأبو ولده‪ :‬أول الناس له أتباع ?اً‪ ،‬وأق??ربهم ب??ه عه??داً‪ ،‬يخ??بره‬
‫بسره‪ ،‬ويطلعه على أمره‪ ،‬وأنت ع??دوه وابن ع??دوه‪ ،‬فتم َّت ْع في دني??اك م??ا اس??تطعت‬
‫بباطلك‪ ،‬وليمددك ابن العاص في غوايتك‪ ،‬فكأن أجلك قد انقضى‪ ،‬وكي??دك ق??د َوهَى‪،‬‬
‫ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا‪ ،‬واعلم أنك إنم??ا تكاي??د رب??ك ال??ذي أ ِم ْن َت َكي??ده‪،‬‬
‫ويئست? من َر ْوحه‪ .‬فهو لك بالمرصاد‪ ،‬وأنت منه في غرور‪ ،‬والسالم على من اتبع‬
‫الهدى‪.‬‬

‫فكتب إليه معاوية‪ ?:‬من معاوي??ة بن ص??خر‪ ،‬إلى ال?زاري على أبي?ه محم??د بن أبي‬
‫بكر‪ .‬أما بعده‪ :‬فقد أتاني كتا ُب َك تذكر فيه ما هّللا أهْ لًه في عظمته وقدرت??ه وس??لطانه‪،‬‬
‫وما اصطفى به رسول هللاّ صلى هللا عليه وس??لم‪ ،‬م??ع كالم كث??ير ل??ك في??ه تض??عيف‪،‬‬
‫وألبيك فيه تعنيف‪ ،‬ذكرت في??ه فض??ل ابن أبي ط??الب‪ ،‬وق??ديم س??وابقه‪ ،‬وقرابت??ه إلى‬
‫رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬و ُم َواس??اته إي??اه في ك??ل َه? ْ?ول وخ??وف‪ ،‬فك??ان‬
‫علي وعيبك لي بفضل غيرك ال بفض??لك‪ ،‬فاحم??د ر ّب? ا ً ص??رف ه??ذا الفض??ل‬ ‫احتجاجك َ‬
‫وحقه الزما ً لن??ا‬
‫عنك‪ ،‬وجعله لغيرك‪ ،‬فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب َ‬
‫مبروراً علينا‪ ،‬فلما اختار ّ‬
‫هللا لنبي?ه? علي??ه الص??الة والس??الم‪ ،‬م??ا عن??ده‪ ،‬وأتم ل??ه م??ا‬
‫هللا إليه صلوات هّللا عليه‪ ،‬فكان أب??وك‬ ‫وعده‪ ،‬وأظهر دعوته‪ ،‬وأ ْب َل َج حجته‪ ،‬وقبضه ّ‬
‫وفاروقه أول من ابتزه َح َقه‪ ،‬وخالفه على أمره‪ ،‬على ذل??ك اتفق??ا وا َّتس??قا‪ ،‬ثم إنهم??ا‬
‫دَ َع َواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما‪ ،‬وتلكأ عليهما‪ ،‬فه َّما به الهموم‪ ،‬وأرادا ب??ه العظيم‪،‬‬
‫وس?لّم لهم??ا‪ ،‬وأقام??ا ال يش??ركانه في أمرهم??ا‪ ،‬وال ُي ْطلِعان??ه على‬
‫ثم إن??ه ب??ايع لهم??ا َ‬
‫سرهما‪ ،‬حتى قبضهما هللا‪ ،‬ثم قام ثالثهما عثمان فه??دى به??ديهما وس??ار بس??يرهما‪،‬‬
‫فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه األقاصي من أهل المعاصي‪ ،‬فطلبتما له الغوائل‪،‬‬
‫وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه ُم َناكما‪ ،‬فخذ حذرك ي??ا ابن أبي بك??ر‪ ،‬وقس‬
‫شبرك بفترك‪ ،‬يقصر عن أن توازي أو تساوي َمنْ َي ِزنُ الجبال بحلم??ه‪ ،‬ال يلين عن‬
‫َق ْس ٍر قناته‪ ،‬وال يدرك ذو مقال أناته أبوك مهد ِم َهاده‪ ،‬وبنى لملكه وس?ادة‪ ،‬ف?إن ي?ك‬
‫ما نحن فيه صوابا ً فأبوك استبدَ به ونحن شركاؤه‪ ،‬ولوال ما فعل أب??وك من قب??ل م??ا‬
‫خالفنا ابن أبي طالب‪ ،‬ولسلمنا إليه‪ ،‬ولكنا رأينا أباك فعل ذل??ك ب??ه من قبلن??ا فأخ??ذنا‬
‫بمثله‪ ،‬فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك‪ ،‬والسالم على من أناب‪.‬‬

‫من معاوية إلى علي‬


‫علي‪ :‬أما بعد‪ ،‬فل?و علمن??ا أن الح??رب تبل??غ بن??ا وب??ك م??ا‬
‫ومما كتب به معاوية إلى ّ‬
‫ض َنا على بعض‪ ،‬وإنا وإن كنا ق?د ُغلبن?ا على عقولن?ا فق?د بقي لن?ا‬ ‫بلغت لم يجنها بع ُ‬
‫منها ما َن ُر ّم به مامضى‪ ،‬و ُنصلح به مابقي‪ ،‬وقد كنت سألتك الشام على أن ال‬
‫صفحة ‪489 :‬‬

‫تلزمني? لك طاعة‪ ،‬وأنا أدعوك اليوم إلى م??ا دعوت??ك إلي??ه أمس‪ ،‬فإن??ك ال ترج??و من‬
‫وهللا َر ّقت األجن??اد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البق??اء إال م??ا أرج??و‪ ،‬وال تخ??اف من القت??ال إال م??ا أخ??اف‪ ،‬وق??د‬
‫وذهبت الرجال‪ ،‬ونحن بنو عبد مناف‪ ،‬وليس لبعض??نا على بعض فض??ل يس??تذل ب??ه‬
‫عزيز‪ ،‬ويسترق? به حر‪ ،‬والسالم‪.‬‬

‫جواب علي لمعاوية‬


‫علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫علي كرم هّللا وجهه‪ :‬من‬ ‫ّ‬ ‫فكتب إليه‬
‫أما بعد‪ :‬فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وب??ك م??ا بلغت‬
‫ض َنا على بعض‪ ،‬وأنا وإياك نلتمس منها غاية لم نبلغها بعدُ‪ ،‬فأما طلب??ك‬ ‫لم يجنها بع ُ‬
‫مني الشام فإني لم أكن أعطيك الي??وم م??ا منعت??ك أمس‪ ،‬وأم??ا اس??تواؤنا في الخ??وف‬
‫والرجاء فلست بأمضى على للشك م?ني على اليقين‪ ،‬وليس أه?ل الش?ام على ال?دنيا‬
‫ص من أهل العراق على األخرى‪ ،‬وأما قولك نحن بنو عبد مناف فك??ذلك نحن‪،‬‬ ‫بأح َر َ‬
‫ْ‬
‫وليس أمية كهاشم‪ ،‬وال َح ْرب كعبد المطلب‪ ،‬وال أبو سفيان كأبي طالب‪ ،‬وال الطليق‬
‫كالمحق‪ ،‬وفي أيدينا فضل النبوة التي َق َت ْل َنا بها العزيز‪ ،‬وبعنا‬
‫ّ‬ ‫كالمهاجر‪ ،‬وال ال ُم ْبطِ ل‬
‫بها الحر‪ ،‬والسالم‪.‬‬

‫بين سعد ومعاوية‬


‫وحدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬عن محمد بن حميد الرازي‪ ،‬عن أبي‬
‫مجاه??د‪ ،‬عن محم??د بن إس??حاق‪ ،‬عن ابن أبي نجيح‪ ،‬ق??ال‪ :‬لم??ا حج معاوي??ة ط??اف‬
‫الن?درة‪ ،‬فأجلس?ه مع?ه على‬
‫َ‬ ‫بالبيص ومعه سعد‪ ،‬فلما فرغ انص?رف معاوي?ة إلى دار‬
‫َ‬
‫س َّبه‪ ?،‬فزحف سعد ثم قال‪ :‬أجلستني معك‬ ‫وو َق َع معاوية في علي و َ‬
‫ش َر َع في َ‬ ‫سريره‪َ ،‬‬
‫في خصلة واحدة من خص??ال‬ ‫وهللا ألن يكون َّ‬
‫ّ‬ ‫على سريرك ثم شرعت في سب علي‪،‬‬
‫ك??انت لعلي أحب إلي من أن‪ -‬يك??ون لي م??ا طلعت علي??ه الش??مس‪ ،‬وهّللا ألن أك??ون‬
‫صهراً لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأن لي من الول??د م??ا لعلي أحب إلي من أن‬
‫يكون لي ما طلعت عليه الشمس‪ ،‬وهللا ألن يكون رسول هّللا صلى هللا علي??ه وس??لم‪،‬‬
‫قال لي ما قاله ي?وم خي?بر ألعط َينَّ الراي?ة غ?داً رجالً يحب?ه هّللا ورس?وله ويحب هللاّ‬
‫هللا على يديه أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه‬ ‫ورسوله ليس ِب َف َّرار‪ ،‬يفتح ّ‬
‫وهللا ألن يك??ون رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم ق??ال لي م??ا ق??ال ل??ه في‬
‫ّ‬ ‫الشمس‪،‬‬
‫غزوة تبوك‪ :‬أال ترضى أن تك??ون م??ني بمنزل?ة? ه??ارون من موس??ى إال أن??ه ال ن??بي‬
‫أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس‪ ،‬وأيم هللا ال دخلت لك داراً‬ ‫ُّ‬ ‫بعدي‬
‫ما بقيت‪ ،‬ثم نهض ‪.‬‬
‫ووجدت في وجه آخر من الرواي??ات‪ ،‬وذل??ك في كت??اب علي بن محم??د بن س??ليمان‬
‫عن ابن عائشة وغيره‪ ،‬أن سعداً لما قال هذه المقال??ة لمعاوي??ة‬ ‫النوفلي في األخبار‪ِ ،‬‬
‫ضر َط له معاوية‪ ،‬وقال له‪ :‬اقعد حتى تسمع ج??واب م??ا قلت‪ ،‬م??ا ُك ْن َت‬ ‫ونهض ليقوم َ‬
‫عندي َق ُّط األم منك اآلن‪ ،‬فهال نصرته‪ ،‬ولك قعدت عن بيعت??ه‪ .‬ف??إني ل??و س??معت من‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادما ً لعلي م??ا عش??ت‪ ،‬فق??ال‬
‫سعد‪ :‬وهّللا إني ألحق بموضعك منك‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬يأبى عليك ذلك بنو عذرة‪،‬‬
‫صفحة ‪490 :‬‬

‫وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة‪ ،‬قال الن??وفلي‪ :‬وفي ذل??ك يق??ول الس??يد بن‬
‫محمد الحميري‪:‬‬
‫َمنْ كان أ ْث َب َت َها في الـدين ْأو َتـا َدا‬ ‫سائل قريشا ً يها إن كنت ذا َع َمـه‬
‫علما‪ ،‬وأطهرهـا أهـال وأوالدا‬ ‫من كان أقدمها سلما‪ ،‬وأكثـرهـا‬
‫هّللا‬
‫تدعو مع أوثـانـا ً وأنـدادا‬ ‫وح َد هّللا إذ كانـت مـكـذبة‬
‫من َّ‬
‫عنها‪ ،‬وإن َبخِلوا في أزمة جـادا‬ ‫ْ‬
‫من كان ُيقدِم في الهيجاء إن نكلوا‬
‫حلماً‪ ،‬وأصدقها وعـداً وإيعـادا‬ ‫من كان أعدلها حكماً‪ ،‬وأقسطهـا‬
‫إن أنت لم تلق لألبرار حـسـادا‬ ‫صدَ قوك فلم َيعدوا أبا حسـن‬ ‫إن َي ْ‬
‫ـحـادا‬ ‫ومن عدي لحق اللّـه ُج َّ‬ ‫ص َلف‬ ‫إن أنت لم تلق من َت ْي ٍم أخا َ‬
‫َرهْ ط العبيد ذوي جهل وأوغـادا‬ ‫أو من بني عامر‪ ،‬أو من بني? أسد‬
‫صـدَّ ادا‬ ‫َ‬ ‫هّللا‬ ‫عن مستقيم صراط‬ ‫أورهط سعد‪ ،‬وسعد كان قد علموا‬
‫لوال خمول بني زهر لما سـادا‬ ‫قوم َت َد َ‬
‫اع ْوا زنيمـا ثـم سـادهُـ ُم‬

‫وكان سعد وأسامة بن زيد وعبد هّللا بن عمر ومحمد بن سلمة ممن قعد عن علي‬
‫بن أبي طالب‪ ،‬وأبوا أن يبايعوه هم غيرهم ممن ذكرنا من القُ َّعاد وفل??ك أنهم ق??الوا‪:‬‬
‫أعطِ ن?ا س?يوفا ً نقات?ل به?ا مع?ك‪ ،‬ف?إذا ض?ربنا به?ا‬
‫إنه?ا فتن?ة‪ ،‬ومنهم من ق?ال لعلي‪ْ :‬‬
‫المؤمنين لم تعم?ل فيهم و َن َب ْت عن أجس?امهم‪ ،‬وإذا ض?ربنا به?ا الك?افرين َ‬
‫س? َر ْت في‬
‫علي‪ ،‬وقال‪ :‬ولو علم هللا فيهم خيراً ألسمعهم‪ ،‬ولو أسمعهم‬ ‫أبدانهم‪ ،‬فأعرض عنهم ّ‬
‫لتولوا وهم معرضون‪.‬‬
‫بين معاوية وأبي الطفيل الكناني‬
‫وذكر أبو مخنف ل??وط بن يح??يى وغ??يره من األخب??اريين أن األم??ر لم??ا أفض??ى إلى‬
‫معاوي??ة أت??اه أب??و الطفي??ل الكن??اني فق??ال ل??ه معاوي??ة‪ :‬كي??ف َوج?دُك على خليل??ك أبي‬
‫الحسن‪ .‬قال‪ :‬كوجد أم موسى على موسى‪ ،‬وأشكو إلى هللا التقصير‪ ،‬فق?ال معاوي?ة‪،‬‬
‫أكنت فيمن حضر قتل عثم??ان‪ .‬ق??ال‪ :‬ال‪ ،‬ولك??ني فيمن حض??ر فلم ينص??ره‪ ،‬ق??ال‪ :‬فم??ا‬
‫منعك من ذلك وقد كانت نصرته? عليك واجبة‪ .‬ق?ال‪ :‬منع?ني م?ا منع?ك إذ ت?ربص ب?ه‬
‫ريب المنون وأنت بالشأم‪ ،‬قال‪ :‬أو ما ترى طلبي بدمه نصرة ل??ه‪ .‬ق??ال بلى‪ ،‬ولكن??ك‬
‫وإياه كما قال الجعدي‪.‬‬

‫وفي حياتي ما زودتني?‬ ‫ال ألفينك بعد الموت تندبنـي‬

‫زادا ودخل على معاوية ضرار بن الخطاب‬


‫فقال له‪ :‬كيف حزنك على أبي الحسن‪.‬‬
‫قال‪ :‬حزن من ذبح ولدها على صدرها فما ترقأ عبرتها وال يسكن حزنها‪.‬‬

‫صفحة ‪491 :‬‬

‫بين معاوية وقيس بن سعد‬


‫ومما جرى بين معاوية وبين قيس بن سعد بن عبادة حين كان عامالً لعلي على‬
‫ب الف??ريقين‬
‫أح ُّ‬
‫مصر فكتب إليه معاوية‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنك يهودي ابن يهودي‪ ،‬إن ظفر َ‬
‫إليك َع َز َلك واستبدل بك‪ ،‬وإن ظفر أبغضهما إلي??ك َن َك? ل َ ب??ك وقتل??ك‪ ،‬وق??د ك?ان أب??وك‬
‫ِ‬
‫المفص?لَ‪ ،‬فخذل?ه قوم?ه‪ ،‬وأدرك?ه‬ ‫ْأو َت َر قوس?ه‪ ،‬ورمى َغ َرض?ه‪ ،‬ف?أكثر الح?ز وأخط?أ‬
‫يو ُمه‪ ?،‬ثم مات بحوران طريداً‪.‬‬

‫فكتب إليه قيس بن سعد‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنم??ا أنت وث??ني ابن وث??ني‪ ?،‬دخلت في اإلس??الم‬
‫كرهاً‪ ،‬وخرجت منه? طوعاً‪ ،‬لم يقدم إيمانك‪ ،‬ولم يح??دث نفاق??ك‪ ،‬وق??د ك??ان أبي أو َت? َ‬
‫?ر‬
‫قوسه‪ ،‬ورمى غرضه‪ ،‬فشعب به من لم يبلغ عقبه‪ ،‬وال ش??ق ُغ َب??اره‪ ،‬ونحن أنص??ار‬
‫الدين الذي منه? خرجت‪ ،‬وأعداء الدين الذي فيه دخلت‪.‬‬

‫ودخل قيس بن سعد بعد وفاة علي ووق??وع الص??لح في جماع??ة من األنص??ار على‬
‫معاوية‪ ،‬فقال لهم معاوية‪ ?:‬يا معشر اآلنص??ار‪ِ ،‬ب َم تطلب??ون م??ا قبلي‪ .‬فوهّللا لق??د كنتم‬
‫ص?? ِّفينَ ح??تى رأيت المناي??ا تل َّظى في‬ ‫ي??وم ِ‬
‫ِ‬ ‫قليالً معي كث??يراً َّ‬
‫علي‪ ،‬ولض??للتم َح?? ِّدي‬
‫هللا ما ح??اولتم‬
‫أسنتكم‪ ،‬وهجوتمونى في أسالفي بأشد من وقع األسنة‪ ،‬حتى إذا أقام ّ‬
‫ميله قلتم‪ْ :‬ار َع فينا وصية رس?ول هّللا ص??لى هللا علي?ه وس??لم‪ ،‬هيه?ات ي?أبى الحقِينُ‬
‫باإلس??الم الك??افي ب??ه هّللا ‪ ،‬ال بم??ا ّ‬
‫تمت ب??ه إلي??ك‬ ‫ِ‬ ‫الع??ذرة‪ ،‬فق??ال قيس‪ :‬نطلب قبل??ك‬
‫األحزاب‪ ،‬وأم عداوتنا لك فلو ِش? ْئت كففته??ا عن??ك‪ ،‬وأم??ا هجاؤن??ا إي??اك فق??ول ي??زول‬
‫باطله‪ ،‬ويثبت? حقه‪ ،‬وأما استقامة األم??ر فعلى ك??ره ك??ان من??ا‪ ،‬وأم??ا َفلُّ َن??ا ح??دك ي??وم‬
‫طاع َت ُه طاعة هّلل ‪ ،‬وأما وصية? رسول هّللا بن??ا فمن آمن‬
‫صفين فإنا كنا مع رجل نرى َ‬
‫هللا ي??د تحج??زك من??ا ي??ا‬
‫به رعاها بعده‪ ،‬وأما قول?ك ي?أبى الحقين الع??ذرة فليس دون ّ‬
‫معاوية‪ ،‬فقال معاوية يموه ‪ :‬أرفعوا حوائجكم‪.‬‬

‫من مناقب قيس بن سعد‬


‫وقد ك?ان قيس بن س??عد من الزه?د والديان??ة والمي?ل إلى علي بالموض?وع العظيم‪،‬‬
‫هللا وطاعته إياه أنه كان يصلي فلما أه??وى للس??جود إذا في موض??ع‬ ‫وبلغ من خوفه ّ‬
‫سجوده ثعبان عظيم مطوق‪ ،‬فمال عن الثعبان برأس??ه‪ ،‬وس??جد إلى جانب??ه‪ ،‬فتط??وق‬
‫الثعب??ان برقبت??ه‪ ،‬فلم يقص??ر من ص??الته وال نقص منه??ا ش??يئاً‪ ،‬ح??تى ف??رغ‪ ،‬ثم أخ??ذ‬
‫الثعبان فرمي به‪ ،‬كذلك ذكر الحسن بن علي بن عب??د هّللا بن المغ??يرة عن معم??ر بن‬
‫خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا‪.‬‬
‫أج َبانٌ أنت أم شجاع‪،‬‬ ‫وقال عمرو بن العاص لمعاوية ذات يوم‪ :‬قد أعياني أن أعلم َ‬
‫ألني أراك تتقدم حتى أقول‪ :‬أراد القتال‪ ،‬ثم تتأخر حتى أقول‪ :‬أراد الف??رار‪ ،‬فق?ال ل?ه‬
‫معاوية‪ :‬وهّللا ما أتقدم حتى أرى التقدم غما‪ ،‬وال أتأخر حتى التأخر َح ْزماً‪ ،‬كم??ا ق??ال‬
‫ال َق َطامي‪.‬‬

‫صفحة ‪492 :‬‬

‫العباس بن ربيعة‬
‫األغر التيمي‪ ،‬قال‪ :‬بينا أنا واقف بص??فين‬‫ّ‬ ‫وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى عن أبي‬
‫إذ مر بي العباس بن ربيعة مغفراً بالسالح‪ ،‬وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهم??ا‬
‫ش ْفرتها‪،‬‬
‫ش ْع َل َتا نار أو عينا ْأر َقم‪ ،‬وبيده صفيحة له يمانية ي ِّقلبها‪ ،‬والمنايا تلوح في َ‬
‫ُ‬
‫ص ْعب‪ ،‬فبينا هو يبعثه? ويمنعه? ويلين من عريكته إذ هتف به هاتف‬ ‫وهو على فرس َ‬
‫يقال له َع َرار بن أدهم من أهل الشام يا عباس‪ ،‬هلم إلى النزال‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??النزول إذاً‪،‬‬
‫فإنه آيا من الحياة‪ ،‬فنزل إليه الشامي وهو يقول‪:‬‬

‫أو تنزلون فإنا معشـر ُنـ ُزل ُ‬ ‫إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا‬

‫وثنى العباس وركه وهو يقول‪:‬‬

‫وال نلوم ُك ُم أن ال تخبونا‬ ‫هّللا يعلم أنا ال نحبـكـم‬

‫ثم عصر فضالت درعه في محزمه يريد منطقته ودفع فرسه إلى غالم له أس??ود‬
‫كأني وهللا أنظ??ر إلى فالف??ل ش??عره‪ ،‬ثم زح??ف ك??ل واح??د منهم??ا إلى ص??احبه‪ ،‬وك??ف‬
‫الفريقان أعنة الخيول ينظرون ما يك??ون من ال??رجلين‪ ،‬فتكافح??ا بس??يفيهما مل ّي? ا ً من‬
‫نهارهما ال يصل واحد منهما إلى صاحبه لكم??ال ال َم ِت? ِه‪ ?،‬إلى أن لح?ظ العب??اس وهن?ا ً‬
‫في درع الشامي فأهوى إليه بيده وهتكه إلى َث ْندُؤ َته‪ ،‬ثم عاد لمحاولته‪ ،‬وق??د أخ??رج‬
‫له مفتق ال??درع‪ ،‬فض??ربه العب??اس ض??ربة انتظم به??ا ج??وانح ص??دره‪ ،‬فخ??ر الش??امي‬
‫خت له??ا األرض من تحتهم‪ ،‬وانس??اب العب??اس في‬ ‫لوجه??ه‪ ،‬فك??بر الن??اس تكب??يرة ار َت ْ‬
‫خزهم وينص??ركم‬ ‫الناس‪ ،‬فإذا‪ .‬قائل يقول من ورائي‪ :‬قاتلوهم يعذبهم هّللا بأيديكم و ُي ِ‬
‫فالتفت فإذا بعلي رضي هّللا عنه‪ ،‬فقال‪ :‬ي??ا‬ ‫ُّ‬ ‫شفِ صدور قوم مؤمنين اآلية‬ ‫عليهم و َي ْ‬
‫األغر‪ ،‬من المبارز لعدونا‪ .‬قلت‪ :‬ابن أخيكم العب??اس بن ربيع??ة‪ ،‬ق??ال وإن??ه له??و‬ ‫ّ‬ ‫ابن‬
‫العباس قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬يا عباس‪ ،‬ألم أ ْن َه َك وعب َد هّللا بن عباس أن تحال بمركز أو‬
‫تبارزا أحداً قال‪ :‬إن ذلك كما قلت‪ ،‬ق??ال علي‪ :‬فم??ا َع? َدا مم??ا َب? َدا‪ .‬ق??ال‪ :‬أف??أدعى إلى‬
‫البراز فال اجيب‪ .‬قال‪ :‬طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوك‪ ،‬وتغي َظ واس??تطار‪ ،‬ثم‬
‫تطامن وسكن ورفع يديه مبتهالً‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم اش??كر للعب??اس مقام??ه‪ ،‬واغف??ر ذنب??ه‪،‬‬
‫اللهم إني قد غفرت له فاغفر له‪ ،‬وتأسف معاوية على َع َرار بن أدهم‪ ،‬وق??ال‪ :‬م??تى‬
‫هللا‪ ،‬أال رجل يشري? نفسه يطلب بدم َع َرار‪ ،‬فانتدب‬ ‫ينطق فحل بمثله? أبطل دمه الها ّ‬
‫ل??ه رجالن من لخم من أه??ل الب??أس ومن ص??ناديد الش??ام‪ ،‬فق??ال‪ :‬أذهب??ا فأيكم??ا قت??ل‬
‫العب??اس فل??ه مائ??ة أوقي??ة من الت??بر ومثله??ا من اللُّ َجين وبع??ددهما من ب??رود اليمن‪،‬‬
‫?دع َواه إلى ال??براز‪ ،‬وص??احا بين الص??فين‪ :‬ي??ا عب??اس ي??ا عب??اس‪ ،‬اب??رز إلى‬ ‫فأ َت َي??اه ف? َ‬
‫ال??داعي‪ ،‬فق??ال‪ :‬إن لي س??يداً أري??د أن أؤام??ره‪ ،‬ف??أتى علي?ا ً وه??و في جن??اح الميمن?ة?‬
‫وهللا َل? َ?و َّد معاوي??ة أن??ه م??ا بقي من ب??ني‬
‫ّ‬ ‫يحرض الناس‪ ،‬فأخبره الخ??بر‪ ،‬فق??ال علي‪:‬‬
‫هاشم ناف ُخ ضِ ْر َم ٍة إال طعن في بطنه إطفاء لنور هّللا ويأبى هّللا إال أن يتم نوره ولو‬
‫كره الكافرون أما وهّللا ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم سوم الخسف‬
‫صفحة ‪493 :‬‬

‫حتى تعفو اآلثار‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا عباس‪ ،‬ن??اقلني س??الحك بس??الحي‪ ،‬فناقل??ه‪ ،‬ووثب على‬
‫فرس العباس‪ ،‬وقصد اللخميين‪ ،‬فلم يشكا أنه العباس‪ ،‬فق??اال ل??ه‪ :‬أذن ل??ك ص??احبك‪.‬‬
‫فتحرج أن يقول نعم‪ ،‬فقال‪ :‬أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‪ ،‬وإن هللا على نص??رهم‬
‫لقدير ‪.‬‬
‫وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعده‪ ،‬فبرز له أحدهما فما أخطأه‪ ،‬ثم‬
‫برز له االخر فألحقه باألول‪ ،‬ثم أقب??ل وه??و يق??ول الش??هر الح??رام بالش??هر الح??رام‪،‬‬
‫والحرمات قص??اص‪ ،‬فمن اعت??دى عليكم فاعت??دوا علي??ه بمث?ل? م??ا اعت??دى عليكم ثم‬
‫قال‪ :‬يا عباس‪ ،‬خذ سالحك وهات سالحي‪ ،‬فإن عاد لك أحد فعد لي‪ ،‬ونما الخبر إلى‬
‫معاوية فقال‪ :‬قبح هّللا اللجاج إن??ه لعق??ور م??ا ركبت??ه ق??ط إال خ??ذلت‪ ،‬فق??ال عم??رو بن‬
‫الع??اص‪ :‬المخ??ذول وهللاّ اللخمي??ان‪ ،‬والمغ??رور من غررت??ه‪ ،‬ال أنت المخ??ذول‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫اسكت أيها الرجل فليس ه??ذا من ش?أنك‪ ،‬ق?ال‪ :‬وإن لم يكن‪ ،‬رحم هّللا اللخم??يين‪ ،‬وال‬
‫س? ُر لص??فقتك‪ ،‬ق??ال‪ :‬ق??د علمت ذل??ك‪،‬‬ ‫يق لحجت??ك‪ْ ،‬‬
‫وأخ َ‬ ‫أض? ُ‬
‫وهللا ْ‬
‫ّ‬ ‫أراه يفعل‪ ،‬قال‪ :‬ذلك‬
‫ولوال مصر وواليتها لركبت المنج??اة منه??ا‪ ،‬ف??إني أعلم أن علي بن أبي ط??الب على‬
‫وهللا أعمت??ك‪ ،‬ول??وال مص??ر الل??ذيتك‬ ‫ّ‬ ‫الح??ق وأنت على ض??ده‪ ،‬فق??ال معاوي??ة‪ :‬مص??ر‬
‫بص??يراً‪ ،‬ثم ض??حك معاوي??ة ض??حكا ً ذهب ب??ه ك??ل م??ذهب‪ ،‬ق??ال‪ِ :‬م َّم تض??حك ي??ا أم??ير‬
‫المؤم??نين‪ ،‬أض??حك هّللا س??نك‪ .‬ق??ال‪ :‬أض??حك من حض??ور ذهن??ك ي??وم ب??ارزت علي ?اً‪،‬‬
‫ورأيت الم??وت عيان?اً‪ ،‬ول??و‬‫َ‬ ‫وهللا يا عم??رو لق??د واقعت المناي??ا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وإبدائك سوأ َت َك‪ ،‬أما‬
‫هّللا‬
‫شاء لقتلك‪ ،‬ولكن أبى ابن أبي طالب في قتلك إال تكرماً‪ ،‬فقال عم??رو‪ :‬أم??ا و إني‬
‫فاح َولَّ ْت عين??اك و َب? َدا َ‬
‫س? ْحرك و َب? َدا من??ك م??ا أك??ره‬ ‫لعن يمينك حين دعاك إلى البراز ْ‬
‫ذكره لك‪ ،‬فمن نفسك فاضحك أودع‪.‬‬
‫وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى أن معاوية برز في بعض أي??ام ص?فين أم?ام الن?اس‬
‫و َك َّر على ميسرة علي‪ ،‬وكان علي فيه?ا في ذل?ك ال??وقت يع?بىء الن?اس‪ ،‬فغ??ير على‬
‫ْألمته وجواده‪ ،‬وخرج بألمة بعض أصحابه‪َ ،‬‬
‫وص?م َد ل??ه معاوي??ة‪ ،‬فلم??ا ت??دانيا أ ْث َبت??ه‬
‫اف أه??ل‬ ‫ص? ّ‬‫معاوية فغمز برجليه على جواده وعلي‪ -‬وراءه‪ ،‬حتى فاته ودخ??ل في َم َ‬
‫علي رجال من مصافهم دونه‪ ،‬ثم رجع وهو يقول‪:‬‬ ‫ٌّ‬ ‫الشام‪ ،‬فأصاب‬

‫فوق طم ٍِّر كالعقاب الضاب َي ْ?ه‬ ‫لهف نفسي َفا َتنِي معاويه‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫وق?دم عم?روبن الع?اص من مص?ر على معاوي?ة في بعض األي?ام‪ ،‬فلم?ا رآه معاوي?ة‬
‫قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫التموت‬ ‫حيي تخطا َك المنايا‬ ‫يموت الصالحـونَ وأنـت‬ ‫ُ‬
‫فأجابه عمرو‪:‬‬
‫ولس?ت بميت ح?تى تم?وت وذك?ر أن‬ ‫ت م?ادمت ح ّي? ا ً‬
‫ت بمي ٍ‬ ‫فلس ُ‬
‫ْ‬
‫معاوية لما نظر إلى معسكر أهل العراق‪ -‬وقد‪ .‬أشرفت وأخذت الرج??ال مراتبه??ا من‬
‫ب الص??فوف كأن?ه‬ ‫أش? َق َر حاس?ر ال??رأس ي?ر َت ُ‬
‫علي على ف??رس ْ‬ ‫الص?فوف‪ -‬ونظ??ر إلى ّ‬
‫يغرسهم في األرض غرسا ً فيثبتون كأنهم بنيان مرصوص‪ ،‬قال لعمرو‪ :‬يا أب??ا عب??د‬
‫هّللا ‪ ،‬أما تنظر إلى ابن أبي طالب وما ه??و علي??ه‪ .‬فق??ال ل??ه عم??رو‪َ :‬منْ طلب عظيم?ا ً‬
‫خاطر بعظيم‪.‬‬
‫صفحة ‪494 :‬‬

‫بسر بن أرطاة‬
‫وق??د ك??ان معاوي??ة في س??نة أربعين بعث ُب ْس ? َر بن أرط??اة في ثالث آالف ح??تى َق ?دِم‬
‫فتنحى‪ ،‬وج??اء ُب ْس?ر ح??تى ص??عد المن??بر وته??دَّ د‬
‫َّ‬ ‫المدينة وعليها أبو أيوب األنصاري‬
‫أهل المدينة بالقتل‪ ،‬فأجابوه إلى بيع??ة معاوي??ة‪ ،‬وبل??غ الخ??بر علي?ا ً فأنف??ذ حارث??ة بن‬
‫قدامة السعدي في ال??ذين ووهب بن مس??عود في ال??ذين‪ ،‬ومض??ى ُب ْس?ر إلى مك??ة‪ ،‬ثم‬
‫سار إلى اليمن‪ ،‬وكان عبيد هّللا بن العباس بها‪ ،‬فخرج عنها ولحق بعده واس??تخلف‬
‫عليها عبد هّللا بن عبد ال َم َدان الحارثي‪ ،‬وخلف ابنيه? عبد ال??رحمن وقُ َثم عن??د أمهم??ا‬
‫جويرية? بنت قارظ الكناني‪ ،‬فقتلهما ُب ْسر وقتل معهما خاال لهما من ثقيف وق??د ك??ان‬
‫ُب ْسربن ْأر َطا َة الع??امري‪ -‬ع??امر بن ل??ؤي بن غ??الب‪َ -‬ق َت? ل َ بالمدين??ة وبين المس??جدين‬
‫خلقا ً كث??يراً من ُخ َزاع??ة وغ??يرهم‪ ،‬وك??ذلك ب??الجرف قت??ل به??ا خلق?ا ً كث??يراً من رج??ال‬
‫ه َْمدَ ان‪ ،‬وقتل بصنعاء خلقا ً كثيراً من األبناء‪ ،‬ولم يبلغه عن أحد أنه يمالىء عليا ً أو‬
‫يهواه إال قتله‪ ،‬ونما إليه خبر حارثة بن قدامة السعدي فه?رب‪ ،‬وظف?ر حارث?ة ب?ابن‬
‫هللا بن‬‫أخي ُب ْسر مع أربعين من أه??ل بيت??ه‪ ،‬فقتلهم‪ ،‬وك??انت جويري??ة أ ُّم اب??ني عبي??د ّ‬
‫س ? ْعرها وهي من أجم??ل النس??اء‬ ‫العباس اللذين قتلهما ُب ْس ٌر تدور حول البيت ناشرة َ‬
‫وهي تِقول ترثيهما‪:‬‬
‫ّ‬
‫كالدرتين َتشظى عنهما الـصـدف‬ ‫س من اب َن ِّى اللذين هـمـا‬ ‫أح َّ‬ ‫هامن َ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫مختط ُ‬ ‫سمعي وقلبي‪ ،‬فعقلي اليوم‬ ‫ابني للـذين هـمـا‬
‫س من َّ‬ ‫أح َّ‬ ‫هامن َ‬
‫مخ العظام فمخي اليوم مزدهـف‬ ‫ابني اللذين هـمـا‬ ‫س من َّ‬ ‫أح َّ‬‫هامن َ‬
‫من قولهم ومن اإلفك الذي وصفوا‬ ‫ص َّدقت ما زعمـوا‬ ‫نبئت ُب ْسراً‪ ،‬وما َ‬
‫مشحوذة‪ ،‬وكذاك اإلثـم ُي ْقـ َتـرف‬ ‫أنحى على َود َِج ْي ابنـي مـرهـفة‬
‫بين معاوية وعمرو بن العاص ووردان‬
‫وذكر الواقدي قال‪ :‬دخ?ل عم?رو بن الع?اص يوم?ا ً على معاوي?ة بع?د م?ا ك?بر ودق‬
‫ومعه مواله َو ْر َدانُ ‪ ،‬فأخذا في الحديث‪ ،‬وليس عندهما غير وردان‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬ي??ا‬
‫أرب لي فيهن‪ ،‬وأم??ا‬ ‫أم??ير المؤم??نين‪ ،‬م??ا بقي مم??ا تس??تلذه‪ .‬فق??ال‪ :‬أم??ا النس??اء فال َ‬
‫الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي فما أدري أيه??ا الين‪ ،‬وأم??ا‬
‫يب فق??د‬ ‫الطعام فقد أكلت من لينه وطيب??ه ح??تى م??ا أدري أيه??ا أل??ذ وأطيب‪ ،‬وأم??ا ال ِّط ُ‬
‫دخل خياشيمي? منه حتى ما أدري أيه أطيب‪ ،‬فما شيء أل??ذ عن??دي من ش??راب ب??ارد‬
‫بني يدورون حولي‪ ،‬فم??ا بقي من??ك ي??ا‬ ‫بني وبني َّ‬
‫في يوم صائف‪ ،‬ومن أن أنظر إلى َّ‬
‫عمرو‪ .‬قال‪ :‬مال أغرسه فأصيب من ثمرته? ومن غلًته‪ ،‬ف??الت َف َت معاوي??ة إلى َو ْردَانَ‬
‫فقال‪ :‬ما بقي منك يا َو ْردَ انَ ‪ .‬قال‪ :‬صنيعة? كريمة سنية أعلقها في أعن??اق ق??وم ذوي‬
‫فض??ل وأخط??ار ال يك??افئونني? به??ا ح??تى ألقى هللا تع??الى وتك??ون لعق??بي في أعق??ابهم‬
‫بعدي‪ ،‬فقال معاوية‪َ :‬ت ّبا ً لمجلسنا سائر هذا اليوم‪ ،‬إن هذا العبد غلبني وغلبك‪.‬‬

‫صفحة ‪495 :‬‬


‫وفاة عمرو بن العاص‬
‫س ْهم بن سعيد بن سعد‬ ‫وفي سنة? ثالث وأربعين مات عمرو بن العاص بن وائل بن َ‬
‫بمصر‪ ?،‬وله تسعون سنة‪ ،‬وكانت واليت??ه مص??ر عش??ر س??نين وأربع??ة أش??هر‪ ،‬ولم??ا‬
‫حضرته? الوفاة قال‪ :‬اللهم ال براءة لي فأعتذر‪ ،‬وال قوة لي فأنتصر‪ ?،‬أمرتنا فعصينا‪،‬‬
‫وس ? ُّنوا‬
‫ونهيتنا فركبنا‪ ،‬اللهم هذه يدي إلى ذقني‪ ،‬ثم قال‪ُ :‬خ ُنوا لي في األرض َخ ّداً‪ُ ،‬‬
‫صلّى عليه ابنه عبد هللاّ يوم‬ ‫علي التراب س ّناً‪ ،‬ثم وضع أصبعه في فيه حتى مات‪ ،‬و َ‬
‫الفطر‪ ،‬فبدأ بالصالة عليه قبل صالة العيد‪ ،‬ثم صلى بالن??اس بع??د ذل??ك ص??الة العي??د‪،‬‬
‫نزلت إن شانئك هو األبتر وولى معاوية ابن??ه‬ ‫َ‬ ‫وكان أبوه من المستهزئين‪ ،‬وفيه‬
‫عبد هّللا بن عمرو ما كان ألبيه‪.‬‬

‫تركته‬
‫الع ْي ِن ثلثمائ??ة أل??ف دين??ار وخمس??ة وعش??رين أل??ف دين??ار‪ ،‬ومن‬
‫وخلف عمرو من َ‬
‫الو ِر ِق ألف درهم وغلة مائتي ألف دينار بمصر وضيعته? المعروف??ة بمص??ر بالوه??ط‬ ‫َ‬
‫قيم ُتها عشرة آالف ألف درهم‪.‬‬
‫ير األسدي الشاعر من أبيات‪:‬‬ ‫وفيه يقول ابن َ‬
‫الز ِب ِ‬
‫عمرو السهمي ُت ْج ِبى له مصر‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫صـ ُروفُـه‬ ‫ْ‬
‫أخنت ُ‬ ‫ألم تر أن الدهر‬
‫وال جمعه َل َّما أتـيح لـه الـدهـر‬ ‫فلم ُي ْغ ِن عنه َح ْزمـه واحـتـيالـه‬
‫مكايدة عنـه وأمـوالـه الـدَّثـر‬ ‫بالع َراء وضـلـلـت‬ ‫سى مقيما َ‬ ‫وأم َ‬
‫ْ‬

‫ُ‬
‫معاوية زيا َد بن أبيه البصر َة وأعمالها‪ ،‬وقال لما‬ ‫وفي سنة? خمس وأربعين َولّى‬
‫دخلها‪:‬‬
‫وآخرمحزون بنا ال نضرة‬ ‫مسرور بنا ال نسره‬
‫ٍ‬ ‫رب‬
‫أال َّ‬
‫أغ َرى في هذه السنة س??فيان بن ع??وف الع??امري‪ ،‬وأم??ره أن يبل??غ‬ ‫وقد كان معاوية ْ‬
‫الناس الحزنُ بمن أصيب ب??أرض ال??روم‪،‬‬
‫َ‬ ‫الطوانة فأصيب معه خلق من الناس‪ ،‬فع َّم‬
‫وبلغ معاوية أنّ يزيد ابنه لما بلغه خبرهم وهو على شرابه مع ندمائه قال‪:‬‬
‫يوم الطوانة من ح َمى ومن ُموم‬ ‫أهْ ِونْ َعلً ّي بما القت جموع ُهـ ُم‬
‫بدير ًمرانَ عندي أم كـلـثـوم‬ ‫إذا اتكأت على األنماط مرتفقـا‬

‫أبـو أيوب األنـصــاري‬


‫ليغزونَ ‪ ،‬وأردف به سفيان‪ ،‬فس??ميت ه?ذه الغ??زاة غ?زاة الرادف??ة‪ ،‬وبل??غ‬‫َ‬ ‫فحلف عليه‬
‫الناس فيها إلى القسطنطينية‪ ?،‬وفيها مات أبو أيوب األنصاري ودُفن هناك على باب‬ ‫ُ‬
‫القسطنطينية‪ ،‬واسم أبي أيوب خالد بن زيد‪ ،‬وقد قي??ل‪ :‬إن أب??ا أي??وب م??ات في س??نة‬
‫إحدى وخمسين غازيا ً مع يزيد‪ ،‬وقد أتينا على خبر هذه ال َغ َزاة‪ ،‬وم??ا ك??ان من يزي??د‬
‫فيها في الكتاب األوسط‪.‬‬

‫صفحة ‪496 :‬‬


‫المغيرة بن شعبة‬
‫وفي سنة? تسع وأربعين ك??ان الط??اعون بالكوف??ة‪ ،‬فه??رب منه??ا المغ??يرة بن ش??عبة‬
‫فمر أعرابي عليه وهو يدفن فقال‪:‬‬‫وكان واليها‪ ،‬ثم‪ .‬عاد إليها فطعن فمات‪ِّ ،‬‬
‫ي اإلنس والجن تـعـزف‬ ‫عليها د َِو ّ‬ ‫أر ْس َم ديار لـلـمـغـيرة تـعـرف‬
‫َ‬
‫ف‬‫وفرعون فاعلم أن ذا العرش ُم ْنصِ ُ‬ ‫فإن كنت قد القيت هامان بـعـدنـا‬

‫وذك??ر أن المغ??يرة ركب إلى هن??د بنت النعم??ان بن المن??ذر‪ ،‬وهي في دي??ر له??ا في‬
‫ِير ِة مترهبة‪ ،‬وهو أمير الكوفة يومئ??ذ‪ ?،‬وق??د ك??انت هن??د عميت‪ ،‬فلم??ا ج??اء ال??دير‬ ‫الح َ‬
‫استأذن عليها‪ ،‬فأتتها جاريتها فقالت‪ :‬هذا المغيرة يستأذن علي??ك‪ ،‬فق??الت للجاري??ة‪:‬‬
‫س َع ٍر‪ ،‬فلما دخل قعد عليها وقال‪ :‬أنا المغيرة‪،‬‬ ‫ألقي إليه أثاثاً‪ ،‬فألقت إليه وسادة من َ‬
‫فقالت له‪ :‬قد عرفتك عامل المدرة‪ ،‬فم??ا ج??اء ب??ك‪ .‬ق??ال‪ :‬أتيت??ك خاطب?ا ً إلي??ك نفس??ك‪،‬‬
‫رج ْع َت إال بحاجتك‪ ،‬ولك??ني أخ??برك‬ ‫قالت‪ :‬أما والصليب لو أردتني? لِد ِِي ِن أو جمال ما َ‬
‫ِ‬
‫الموس?م‬ ‫الذي أردت ذلك له‪ ،‬قاَل‪ :‬وما هو‪ .‬قالت‪ :‬أردت أن تتزوجني حتى تق??وم في‬
‫ت‪ ،‬ولكن أخبري??ني? م??ا ك??ان‬ ‫أردْ ُ‬
‫في العرب فتقول‪ :‬تزوجت ابنة النعم??ان‪ ،‬ق??ال‪ :‬ذل??ك َ‬
‫أبوك يقول في هذا الحي من ثقيف‪ ?.‬ق?الت‪ :‬ك??ان ينس??بهم في إي?اد‪ ،‬وق?د افتخ??ر عن??د‬
‫رجالن من ثقي??ف أح??دهما من ب??ني س??الم واألخ??ر من ب??ني يس??ار‪ ،‬فس??ألهما عن‬
‫?وازن واآلخ??ر إلى إي?اد‪ ،‬فق??ال أبي‪ :‬م?ا لحي مع??د‬ ‫أنسابهما‪ ،‬فانتس??ب أح??دهما إلى َه? َ‬
‫على إياد فضل‪ ،‬فخرجا وأبي يقول‪:‬‬

‫ولم تناسب عامراً ومازنا‬ ‫إن ثقيفا ً لم تكن هوازنـا ً‬

‫إال حديثا ً َوا َفق المحاسنا فقال المغيرة‪ :‬أ َّما نحن فمن ه??وازن وأب??وك أعلم‪ ،‬ق?ال‪:‬‬
‫ف??أخبريني? أي الع??رب ك??ان أحب إلى أبي??ك‪ .‬ق??الت‪ :‬أط??وعهم ل??ه‪ ،‬ق??ال‪ :‬ومن أولئ??ك‪.‬‬
‫ق??الت‪ :‬بك??ر بن وائ??ل‪ ،‬ق??ال‪ :‬ف??أين بن??و تميم‪ .‬ق??الت‪ :‬م??ا اس??تعنتهم في طاع??ة‪ ،‬ق??ال‪:‬‬
‫فقيس‪ .‬قالت‪ :‬ما اقتربوا إليه بم??ا يحب إال اس??تعقبوه بم??ا يك??ره‪ ،‬ق??ال‪ :‬فكي??ف أط??اع‬
‫فارس‪ .‬قالت‪ :‬كانت طاعته إياهم فيما يهوى‪ ،‬فانصرف المغيرة‪.‬‬

‫ولما هل?ك المغ?يرة ض?م معاوي?ة الكوف??ة إلى زي?اد‪ ،‬فك?ان َّأول َ من جم?ع ل?ه والي?ة‬
‫ض معاوي??ة َف??د َك من م??روان‬
‫العراقين البصرة والكوفة‪ .‬وفي سنه ثمان وأربعين َق َب َ‬
‫بن الحكم‪ ،‬وقد كان وهبها له قبل ذلك‪ ،‬فاستردها‪.‬‬

‫وقد كان معاوية ح َّج في س?نة خمس?ين‪ ،‬وأم?ر بحم?ل من?بر الن?بي ص?لى هللا علي?ه‬
‫وسلم‪ ،‬من المدينة إلى الشام‪ ،‬فلما حمل كسفت الش??مس ورؤيت الك??واكب بالنه??ار‪،‬‬
‫وأع َظ َمه‪ ،‬وردَ ه‪ ،‬إلى موضعه‪ ،‬وزاد فيه ستة مراقي‪.‬‬
‫فجزع من ذلك ْ‬

‫صفحة ‪497 :‬‬


‫موت زياد‪.‬‬
‫وفي سنة ثالث وخمسين هلك زي??اد بن أبي??ه بالكوف??ة في ش??هر رمض??ان‪ ،‬وك??ان‬
‫يكنى أبا المغيرة‪ ،‬وقد كان كتب إلى معاوية أنه ق??د ض??بط الع??راق بيمين??ه‪ ?،‬وش??مالُه‬
‫فار َغ ٌة‪ ،‬فجم??ع ل?ه الحج?از م??ع الع??راقين‪ ،‬واتص??لت واليت??ه بأه??ل المدين??ة‪ ،‬ف??اجتمع‬
‫وض? ُّجوا إلى هّللا ‪ ،‬والذوا‬
‫الصغير والكبير بمسجد رسول هللا ص?لى هللا علي?ه وس?لم‪َ ،‬‬
‫بق??بر الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬ثالث??ة أي??ام‪ ،‬لعلمهم بم??ا ه??و علي??ه من الظلم‬
‫والعسف‪ ،‬فخرجت في كفه َب ْث َرة ثم َح َّكها ثم سرت واسود ْت فصارت آكل??ة س?وداء‪،‬‬
‫فهلك بذلك وهو ابن خمس وخمسين سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬اثن??تين وخمس??ين‪ ،‬ودُفن بالثوي ?ة?‬
‫من أرض الكوفة‪.‬‬
‫وقد كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرض??هم على َل ْع ِن علي‪ ،‬فمن أبى‬
‫ذلك عرضه على السيف‪ ،‬فذكر عبد الرحمن بن السائب‪ ،.‬قال‪ :‬حضرت فصرت إلى‬
‫الرحبة ومعي جماعة من األنصار‪ ،‬فرأيت شيئا ً في منامي وأنا جالس في الجماعة‪،‬‬
‫ت‪ ،‬وهو إني رأيت شيئا ً طويالً قد أقبل‪ ،‬فقلت‪ :‬ماه??ذا‪ .‬فق??ال‪ :‬أن??ا النق??اد ذو‬ ‫وقد َخ َف ْق ُ‬
‫ت إلى صاحب هذا القصر‪ ،‬فانتبهك فزعاً‪ ،‬فما كان إال مقدار ساعة ح??تى‬ ‫الرقبة‪ُ ،‬ب ِع ْث ُ‬
‫خرج خارج من القصر فقال‪ :‬انصرفوا فإن األمير عنكم مشغول‪ ،‬وإذا به قد أص??ابه‬
‫ما ذكرنا من البالء‪ ،‬وفي ذلك يقول عبد هللا بن السائب من أبيات‪:‬‬

‫حتى تأتى له النقاد ذوا لرقبـ ْه‬ ‫ما كان منتهيا ً عما أراد بـنـا‬
‫صاحب الرحبه‬
‫َ‬ ‫لما تناول ظلما ً‬ ‫فأسقط الشق منه? ضربة? ثبتـت‬

‫يعني بصاحب الرحية علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه وقد ذهب جماعة إلى أن‬
‫عل ّيا ً دفن في القصر بالكوفة‪ .‬ويقال‪ :‬إن زياداً ُطعِن في يده‪ ،‬وأنه شاور شريحا ً في‬
‫قطعها‪ ،‬فقال له‪ :‬لك رزق مقسوم‪ ،‬وأجل معلوم‪ ،‬وإني أكره إن كانت لك مدة أن‬
‫أج َذ َم‪ ،‬وإن َحم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك‪ :‬لِ َم قطعتها‪ .‬قلت‪:‬‬
‫تعيش ْ‬
‫بغضا ً للقائك‪ ،‬وفراراً من قضائك‪ ،‬فالم الناس شريحاً‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إنه استشارني?‬
‫والمستشار مؤتمن‪ ،‬ولوال أمانة المشورة لوددت أن هّللا قطع يده يوما ً ورجله‬
‫يوماً‪ ،‬وسائر جسده يوما ً‪.‬‬

‫البيعة ليزيد‬
‫وفي سنة? تسع وخمسين وفد على معاوية وفد األمصار من العراق وغيرها‪ ،‬فكان‬
‫?ف بن قيس في آخ??رين من وج??وه الن??اس‪ ،‬فق??ال‬ ‫ممن وف??د من أه??ل الع??راق األخ َن? ُ‬
‫معاوي??ة للض??حاك بن قيس‪ :‬إني ج??الس من غ??د للن??اس ف??أتكلم بم??ا ش??اء هّللا ‪ ،‬ف??إذا‬
‫فرغت من كالمي فقل في يزيد الذي يحق علي??ك‪َ ،‬وادْ ُع إلى بيعت??ه‪ ،‬ف??إني ق??د أم??رت‬
‫عب??د ال??رحمن بن عثم??ان الثقفي‪ ،‬وعب??د هّللا بن عض??اة األش??عري‪ ،‬وث??ور بن َم ْعن‬
‫السلمي أن يصدقوك في كالمك‪ ،‬وأن يجيبوك إلى الذي دعوتهم إليه‪ ،‬فلم??ا ك??ان من‬
‫الغد قعد معاوية فأعلم الناس بما رأى من ُح ْس ِن ِر ْع َية يزيد ابن??ه وهَدْ ِي??ه‪ ،‬وأن ذل??ك‬
‫وحض الن??اس‬ ‫َ‬ ‫دعاه إلى أن يوليه عهده‪ ،‬ثم قام الضحاك بن قيس فأجابه إلى ذل??ك‪،‬‬
‫على البيعة ليزيد‪ ،‬وقال لمعاوية‪ :‬اعزم على ما أردت‪ ،‬ثم قام عبد الرحمن بن‬
‫صفحة ‪498 :‬‬

‫عثمان الثقفي وعبد هّللا بن عض??اة األش??عري وث??ور بن َم ْعن فص??دقُوا قول??ه ثم ق??ال‬
‫س ْوا في منكر زمان قد سلف‪ ،‬ومع??روف‬ ‫أم َ‬
‫معاوية‪ :‬أين األحنف ققال‪ :‬إن الناس قد ْ‬
‫زمان يؤتنف‪ ،‬ويزيد ح??بيب ق??ريب‪ ،‬ف??إن تول??ه عه??دك فعن غيرك??بر ُم ْفن‪ ،‬أو م??رض‬
‫وج? ربت األم??ور‪ ،‬ف??اعرف من ُت ْس?نِد إلي??ه عه??دك‪ ،‬ومن‬ ‫ضن‪ ،‬وقد َح َل ْبت ال??دهور‪َ ،‬‬
‫ُم ْ‬
‫تولِّيه األم??ر من بع??دك‪ ،‬وأعص??ى رأي من ي??أمرك وال يق??در ل??ك‪ ،‬ويش??ير? علي??ك وال‬
‫ضبا ً فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق‪ ،‬وق??ال‪:‬‬ ‫ينظر لك‪ ،‬فقام الضحاك بن قيس ُم ْغ َ‬
‫اردد رأيهم في نحورهم‪ ،‬وقام عبد الرحمن بن عثمان فتكلم بنحو كالم الضحاك‪ ،‬ثم‬
‫قام رجل من األزد‪ ،‬فأشار إلى معاوية وق??ال‪ :‬أنت أم??ير المؤم??نين‪ ،‬ف??إذا ُم َت ف??أمير‬
‫المؤمنين يزيد‪ ،‬فمن أ َبى هذا فهذا‪ ،‬وأخذ بقائم سيفه فسلّه‪ ،‬فق?ال ل?ه معاوي?ة‪ ?:‬أقع?د‬
‫فأنت من أخطب الناس‪ ،‬فكان معاوية أول من ب??ايع ليزي??د ابن??ه بوالي?ة? العه??د‪ ،‬وفي‬
‫ذلك يقول عبد الرحمن بن همام السلولي‪:‬‬

‫ُن َبايعها أميرة مـؤمـنـينـا‬ ‫فإن َتاتوا ِب َر ْمـ َل َة أوبـهـنـد‬


‫نع ُد ثالثة ُم َتـ َنـاسـقـينـا‬ ‫إذا ما مات كسرى قام كسرى‬
‫ولكن النعود كما عـنـينـا‬ ‫فيالهفا َل َـوانَ لـنـا أنـوفـا‬
‫سخِـي َنـا‬‫بمكه تلعقون بها ال َّ‬ ‫إذا لضرب ُت ُم َح َتـى تـعـودوا‬
‫مـار َوي َنـا‬
‫دماء بني أمـية َ‬ ‫ش ِر ْبـ َنـا‬
‫خشينا الغيظ َح َتى لو َ‬
‫َتصِ يدُونَ األرانب غافلينا‬ ‫لقد ضاعت َر ِع َّيت ُك ْم وأنتم‬

‫وأنفذت الكتب ببيعة? يزيد إلى األمصار‪ ،‬وكتب معاوية إلى م??روان بن الحكم‪ -‬وك??ان‬
‫عام َله على المدين??ة‪ ?-‬يعلم??ه باختي??اره يزي??د‪ ،‬ومبايعت??ه إي??اه بوالي?ة? العه??د‪ ،‬وي??أمره‬
‫بمبايعته‪ ?،‬وأخذ البيعة له على من ِق َب َله‪ ،‬فلما قرأ مروان ذلك خرج ُم ْغ َ‬
‫ض ?با ً في أه??ل‬
‫بيته? وأخواله من بني كنانة‪ ،‬ح??تى أتى دمش??ق فنزله??ا‪ ،‬ودخ??ل على معاوي??ة يمش??ي‬
‫س?لّم‪ ،‬وتكلم بكالم كث??ير‬‫ص? ْو َته? َ‬
‫الس َماطين‪ ،‬حتى إذا كان من??ه بق??در م??ا ُي ْس?معه َ‬
‫بين ِّ‬
‫يوبخ? به معاوية‪ ،‬منه‪ ?:‬أقم األًمور يا ابن أبي سفيان‪ ،‬واعدل عن تأميرك الص??بيان‪،‬‬
‫?راء‪ ،‬وأن ل?ك على من?اوأتهم وزراء‪ ،‬فق?ال ل?ه معاوي??ة‪:‬‬ ‫واعلم أن لك من قوم?ك ُن َظ َ‬
‫ولي عه??ده‪،‬‬
‫أنت نظير أمير المؤمنين‪ ،‬و ُع ّدته في كل شديده و َعضده‪ ،‬والث??اني بع??د ِّ‬
‫وجعله ولي عهد يزي??د‪ ،‬ور َده إلى المدين??ة‪ ،‬ثم إن??ه عزل??ه عنه??ا‪ ،‬وواله??ا الولي??د بن‬
‫ف لمروان بما جعل له من والية عهد يزيد بن معاوية‪.‬‬ ‫عتبة بن أبي سفيان‪ ،‬ولم َي ِ‬

‫ذكر جمل من أخالقه وسياسته‬

‫وطرائف من عيون أخباره‬


‫قد ذكرنا فيما تقدم ُج َمالً من أخبار معاوية وسيره‪ ،‬فلنذكر اآلن في هذا الباب جمالً‬
‫من أخالقه وسياسته? وأخباره‪ ،‬وغير ذلك مما لحق هذا المعنى إلى وفاته‪.‬‬

‫صفحة ‪499 :‬‬


‫من أخالق معاوية وعاداته‬
‫كان من أخالق معاوية أنه كان يأذن في اليوم والليلة خمس مرات‪:‬‬
‫?اص ح??تى يف??رغ من قصص??ه‪ ،‬ثم ي??دخل في??ؤتى‬ ‫ك??ان إذا ص??لى الفج??ر جلس للق? ِّ‬
‫بمصحفه? فيق??رأ ج??زأه‪ ،‬ثم ي??دخل منزل??ه في??أمر وينهى‪ ،‬ثم يص??لي أرب??ع ركع??ات‪ ،‬ثم‬
‫يخ??رج إلى مجلس??ه‪ ،‬في??أذن لخاص??ة الخاص??ة‪ .‬فيح??دثهم ويحدثون??ه‪ ،‬وي??دخل علي??ه‬
‫?ي‪ ،‬ثم ي??ؤتى بالغ??داء األص??غر‪،‬‬ ‫وزراؤه فيكلمونه? فيما يري??دون من ي??ومهم إلى العش? ِّ‬
‫ضلة عشائه من جدي بارد أو فرخ أو ما يشبهه‪ ?،‬ثم يتحدث طويالً‪ ،‬ثم ي??دخل‬ ‫وهو َف ْ‬
‫منزل??ه لم??ا أراد‪ ،‬ثم يخ??رج فيق??ول‪ :‬ي??ا غالم أخ??رج الكرس??ي‪ ،‬فيخ??رج إلى المس??جد‬
‫اس فيتق??دم‬‫األح َر ُ‬
‫فيوضع فيسند ظهره إلى المقصورة ويجلس على الكرسي‪ ،‬ويقوم ْ‬
‫إليه الضعيف واألعرابي والصبي والمرأة ومن ال أح?د ل??ه‪ ،‬فيق??ول‪ :‬ظلمت‪ ،‬فيق?ول‪:‬‬
‫أع ُِّزو ُه‪ ،‬ويقول‪ :‬عدي علي‪ ،‬فيقول‪ :‬أبعثوا معه‪ ،‬ويقول‪ :‬صنع بي‪ ،‬فيقول ‪ :‬انظ??روا‬
‫في أمره‪ ،‬حتى إذا لم يبقى أحد دخ??ل فجلس على الس??رير‪ ،‬ثم يق??ول‪ :‬ائ??ذنوا للن??اس‬
‫على ق??در من??ازلهم‪ ،‬وال يش??غلني أح??د عن رد الس??الم‪ ،‬فيق??ال‪ :‬كي??ف أص??بح أم??ير‬
‫هللا‪ ،‬ف??إذا اس??تووا جلوس ?ا ً ق??ال‪ :‬ي??ا‬
‫المؤم??نين أط??ال هللا بق??اءه‪ .‬فيق??ول‪ :‬بنعم??ة من ّ‬
‫ه??ؤالء‪ ،‬إنم??ا س??ميتم أش??رافا ً ألنكم ش??رفتم من دونكم به??ذا المجلس‪ ،‬ارفع??وا إلين??ا‬
‫ح??وائج َمنْ ال يص??ل إلين??ا‪ ،‬فيق??وم الرج??ل فيق??ول‪ :‬استش??هد فالن‪ ،‬فيق??ول‪ :‬افرض??وا‬
‫لول??ده‪ ،‬ويق??ول آخ??ر‪ :‬غ??اب فالن عن أهل??ه‪ ،‬فيق??ول‪ :‬تعاه??دوهم‪ ،‬أعط??وهم‪ ،‬اقض??وا‬
‫حوائجهم‪ ،‬اخدموهم‪ ،‬ثم ي??ؤتى بالغ??داء‪ ،‬ويحض??ر الك??اتب فيق??وم عن??د رأس??ه ويق??دم‬
‫الرج??ل فيق??ول ل??ه‪ :‬اجلس على المائ??دة‪ ،‬فيجلس‪ ،‬فيم??د ي??ده فيأك??ل لقم??تين أو ثالث?ا ً‬
‫والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه بأمره‪ ،‬فيقال‪ :‬يا عبد هللا أعقب‪ ،‬فيق??وم ويتق??دم آخ??ر‪،‬‬
‫ح??تى ي??أتي على أص??حاب الح??وائج كلهم‪ ،‬وربم??ا ق??دم علي??ه من أص??حاب الح??وائج‬
‫أربع??ون أو نح??وهم على ق??در الغ??داء‪ ،‬ثم يرف??ع الغ??داء ويق??ال للن??اس‪ :‬أج??يزوا‪،‬‬
‫فينصرون‪ ،‬فيدخل منزله‪ ،‬فال يطمع فيه طامع‪ ،‬حتى ينادي بالظهر‪ ،‬فيخرج فيص??لي‬
‫ثم يدخل فيصلي أربع ركعات‪ ،‬ثم يجلس في??أذن لخاص??ة الخاص??ة‪ ،‬ف??إن ك??ان ال??وقت‬
‫ص??ة اليابس??ة? والخش??كنانج واألق??راص‬ ‫وقت ش??تاء أت??اهم ب??زاد‪ .‬الح??اج من ْ‬
‫األخ ِب َ‬ ‫َ‬
‫المعجون??ه ب??اللبن والس??كر ودقي??ق الس??ميذ والكع??ك المس??من والفواك??ه اليابس??ة?‬
‫وال??ذانجوج وإن ك??ان وقت ص??يف أت??اهم بالفواك??ه الرطب??ة‪ ،‬ويخ??ل إلي??ه وزراؤه‬
‫فيؤامرونه? فيما احتاجوا إليه بق َّي َة يومهم‪ ،‬ويجلس إلى العصر‪ ،‬ثم يخ??رج فيص??لي ‪-‬‬
‫العص??ر‪ ،‬ثم ي??دخل إلى منزل??ه فال يطم??ع في??ه ط??امع‪ ،‬ح??تى إذا ك??ان في آخ??ر أوق??ات‬
‫العص??ر خ??رج فجلس على س??ريره و ُي? ْ?ؤ َذنُ للن??اس على من??ازلهم‪ ،‬في??ؤتى بالعش??اء‬
‫فيفرغ من?ه مق?دار م?ا ين?ادي ب?المغرب‪ ،‬وال ين?ادي ل?ه أص?حاب الح?وائج‪ ،‬ثم يرف?ع‬
‫شاء وينادي بالمغرب فيخرج فيصليها ثم يصلي بعدها ‪.‬أربع ركعات يقرأ في ك??ل‬ ‫الع َ‬
‫َ‬
‫ركعة خمسين آية يجهر تارة ويخافت أخرى‪ ،‬ثم يدخل منزل??ه فال يطم??ع في??ه ط??امع‬
‫حتى ينادي بالعشاء اآلخرة‪ ،‬فيخرج كي يصلي‪ ،‬ثم يؤذن للخاصة وخاصة الخاص??ة‬
‫والوزراء والحاشية‪ ،‬فيؤامره الوزراء فيم??ا أرادوا ص??دراً من ليلتهم‪ ،‬ويس??تمر? إلى‬
‫ثلث اللي??ل في أخب??ار الع??رب وأيامه??ا والعجم وملوكه??ا وسياس??تها لرعيته??ا ِ‬
‫وس ? َير‬
‫مل??وك األمم وحروبه??ا ومكاي??دها وسياس??تها لرعيته??ا‪ ،‬وغ??ير ذل??ك من أخب??ار األمم‬
‫ف الغريبة? من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل‬ ‫الطر ُ‬
‫َ‬ ‫السالفة‪ ،‬ثم تأتيه‬
‫صفحة ‪500 :‬‬

‫اللطيفة‪ ،‬ثم يدخل فينام ثلث الليل‪ ،‬ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيه??ا س??ير المل??وك‬
‫الأخباره??ا والح??روب والمكاي??د‪ ،‬فيق??رأ ذل??ك علي??ه غلم??ان ل??ه مرتب??ون‪ ،‬وق??د وكل??وا‬
‫بحفظها وقراءتها‪ ،‬فتمر بسمعه كل ليلة جمل من األخب??ار والس??ير واآلث??ار وأن??واع‬
‫السياسات‪ ،‬ثم يخرج فيصلي الصبح‪ ،‬ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم‪.‬‬
‫جماعة بعده مث??ل عب??د المل??ك بن م??روان وغ??يره فلم ي??دركوا‬‫ٌ‬ ‫وقد كان ًه ّم بأخالقه‬
‫حلمه‪ ،‬وال إتقانه للسياسة‪ ،‬وال الت??أ َتي لألم??ور‪ ،‬وال مدارات??ه للن??اس على من??ازلهم‪،‬‬
‫ورفقه بهم على طبقاتهم‪.‬‬

‫من دهاء معاوية‪:‬‬


‫وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوام??ه أن رجالً‬
‫من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعل??ق‬
‫به رج??ل من دمش??ق فق??ال‪ :‬ه??ذه ن??اقتي‪ ،‬آخ??ذت م??ني بص??فين‪ ،‬ف??ارتفع أمرهم??ا إلى‬
‫معاوية‪ ،‬وأقام الدمش??قي خمس??ين رجالً بين??ة يش??هدون أنه?ا ناقت??ه‪ ،‬فقض??ى معاوي??ة‬
‫هللا إن??ه جم??ل وليس‬ ‫على الكوفي‪ ،‬وأمره بتسليم البعير إليه‪ ،‬فقال الكوفي‪ :‬أص??لحك ّ‬
‫بناقة‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬هذا حكم ق?د مض?ى‪ ،‬ودس إلى الك?وفي بع?د تف?رقهم فأحض?ره‪،‬‬
‫وسأله عن ثمن بعيره‪ ،‬فدفع إليه ضعفه‪ ،،‬و َبر َة‪ ،‬وأحسن إليه‪ ،‬وقال له‪ :‬أبل??غ علي ?ا ً‬
‫إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل‪ ،‬وقد بل??غ من أم??رهم في‬
‫ط??اعتهم ل??ه أن??ه ص??لى بهم عن??د مس??يرهم إلى ص??فين الجمع??ة في ي??وم األربع??اء‪،‬‬
‫رؤوسهم عند القتال وحملوه بها‪ ،‬وركنوا إلى قول عم??رو بن الع?اص‪ :‬إن‬ ‫ِ‬ ‫وأعاروه‬
‫عليا َ هو الذي قت??ل ًع ّم??ار بن ياس??ر حين أخرج??ه لنص??رته‪ ،‬ثم ارتقى بهم األم??ر في‬
‫س َنة‪ ?،‬ينشأ عليها الصغير‪ .‬ويهلك عليها الكبير‪.‬‬‫طاعته إلى أن جعلوا َل ْعنَ علي ُ‬
‫من غفلة أهل الشام والعراق‬
‫قال المسعودي‪ :‬وذكر بعض األخباريين أنه قال لرجل من أهل الش??ام من زعم??ائهم‬
‫وأهل الرأي والعقل منهم‪َ :‬منْ أبو تراب ه?ذا ال?ذي يلعن??ه اإلم??ام على المن??بر‪ ?.‬ق?ال‪:‬‬
‫أراه لصا ً من لصوص الفتن‪.‬‬
‫وحكى الجاحظ قال‪ :‬سمعت رجالً من العامة وهو حاج وقد ذكر له البيت يقول‪ :‬إذا‬
‫أتيته? َمنْ يكلّمني‪ ?.‬منه ‪ .‬وأنه أخبره صديق ل??ه أن??ه ق??ال ل??ه رج??ل منهم وق??د س??معه‬
‫يصلي على محمد صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬ما تقول في محمد هذا‪ .‬أربنا هو‪..‬‬
‫ش َرس ق?ال‪ :‬كنت م??اراً في الس?وق ببغ??داد‪ ،‬ف?إذا أن??ا برج?ل علي?ه‬ ‫وذكر ثمامة بن أ ْ‬
‫الناس مجتمعون‪ ،‬فنزلت عن بغلتي‪ ،‬وقلت‪ :‬لش??يء م??ا ه??ذا االجتم??اع‪ ،‬ودخلت بين‬ ‫ُ‬
‫الناس‪ ،‬وإذا برجل يصف كحال معه أنه ينجح من كل داء يصيب العين‪ ،‬فنظرت إليه‬
‫شاء واألخرى مأسوكة‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا ه??ذا‪ ،‬ل??و ك??ان كحل??ك كم??ا‬ ‫فإذا عينه الواحدة َب ْر َ‬
‫تقول نفع عينيك فقال لي‪ :‬يا جاهل أهاهنا اشتكت عيناي‪ .‬إنما اشتكتا بمص??ر‪ ?،‬فق?ال‬
‫كلهم‪ :‬صدق‪ ،‬وذكر أنه ما انفلت من نعالهم إال بعد كد‪.‬‬
‫وذكر لي بعض إخواني أن رجالً من العامة بمدين?ة? الس??الم رف??ع إلى بعض ال??والة‬
‫الطالبين ألصحاب الكالم َع َلى جار له أنه يتزندق‪ ،‬فسأله الوالي عن مذهب الرجل‪،‬‬
‫صفحة ‪501:‬‬

‫ي ناص?بي رافض?ي‪ ،‬فلم?ا قص? ُه عن ذل?ك ق?ال‪ :‬إن?ه يبغض‬ ‫?رجىء َق?د َِر ّ‬
‫فق?ال‪ :‬إن?ه ُم ْ‬
‫معاوية بن الخطاب الذي قاتل ع َل ّي بن العاص‪ ،‬فقال ل??ه ال??والي‪ :‬م??ا أدري َع َلى أي‬
‫شيء أحسدك‪ :‬أعلى علمك بالمقاالت‪ ،‬أو على بصرك باألنساب‪.‬‬

‫وأخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم‪ ،‬قال‪ :‬كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر‬
‫وعلي ومعاوية‪ ،‬ونذكر ما يذكره أهل العلم‪ ،‬وكان قوم من العامة يأتون فيس??تمعون‬
‫بعض?هم وك?ان من أعقلهم وأك?برهم لحي?ة‪ ،‬كم ُت ْطنب?ون في‬ ‫ُ‬ ‫من?ا‪ ،‬فق?ال لي ذات ي?وم‬
‫علي ومعاوية وفالن وفالن‪ ،‬فقلت له‪ :‬فما تقول أنت في ذلك‪ .‬ق?ال‪ :‬من تري?د‪ .‬قلت‪:‬‬
‫علي‪ ،‬ما تقول فيه قال‪ :‬أليس هو أبو فاطمة‪ .‬قلت‪ :‬و َمنْ كانت فاطم??ة‪ ?.‬ق??ال‪ :‬ام??رأة‬
‫النبي عليه لسالم بنت عائشة أخت معاوية‪ ،‬قلت‪ :‬فم??ا ك??انت قص??ة علي‪ .‬ق?ال‪ :‬قت??ل‬
‫في َغ َزاة حنين مع النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد كان عبد هّللا بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الش??ام‪ ،‬وك??ان من قص??ة‬
‫هللا بن علي الش??ام‪ ،‬ووج??ه إلى أبي العب??اس‬‫مروان ومقتله ما قد ذك??ر‪ ،‬ون??زل عب??د ّ‬
‫الس??فاح أش??ياخا ً من أه??ل الش?ام من أرب??اب النعم والرياس??ة من س??ائر أجن??اد الش??ام‬
‫فحلفوا ألبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول هّللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قراب??ة‬
‫وال أهل بيت يرثونه غير بني أمي?ة ح?تى وليتم الخالف?ة‪ ،‬فق?ال في ذل?ك إب?راهيم بن‬
‫المهاجر ال َب َجل ُِّي‪:‬‬

‫عجبا زا َد على كل العجـب‬ ‫أيها الناس اسمعوا أخبركـم‬


‫فتحوا للناس أبواب الكـذب‬ ‫عجبا ً من عبد شمس‪ ،‬إنهـم‬
‫دون عباس بن عبد المطلب‬ ‫ورثوا أحمد فيما زعـمـوا‬
‫يحرز الميراث إال من قرب‬ ‫كذبوا وهّللا ما نـعـلـمـه‬
‫متطبب في عهد الرشيد‬

‫وقد كان ببغداد رجل في أيام هارون الرشيد متطبب يطبب العامة بص??فاته وك??ان‬
‫دهريا ً يظهر أنه من أهل السنة والجماعة ويلعن أهل الب??دع ويع??رف بالس??ني? تنق??اد‬
‫?ق من الن??اس‪ ،‬ف??إذا‬ ‫إليه العام??ة‪ .‬فك??ان يجت ِم??ع إلي??ه في ك??ل ي??وم بق??وارير الم?اء َخ ْل? ٌ‬
‫اجتمعوا وثب قائما َ على قدميه فقال لهم‪ :‬معاشر المس??لمين‪ ،‬قلتم ال ض??ار وال ن??افع‬
‫إال هّللا فألي شيء مصيركم إلي تسألونني عن مض??اركم ومن??افعكم‪ .‬ألج??ؤا إلى ربكم‬
‫وتوكل??وا على ب??ارئكم ح??تى يك??ون فعلكم مث??ل ق??ولكم‪ ،‬فيقب??ل بعض??هم على بعض‬
‫فيقولون‪ :‬إي وهّللا قد صد َق َنا‪ ،‬فكم من مريض لم يعالج ح??تى م??ات‪ ،‬ومنهم من ك??ان‬
‫يتركه حتى يسكن ثم يريه? الماء فيصف له ال?دواء‪ ،‬فيق?ول‪ :‬إيما ُن? َك ض?عيف‪ ،‬ول?وال‬
‫ض? َك فه??و ُي ْب ِرئ??ك‪ ،‬فك??ان يقت??ل بقول??ه ه??ذا خلق?ا ً كث??يراً‬ ‫ذلك لتوكلت على هّللا كما ْ‬
‫أم َر َ‬
‫لتزهيده إياهم في معالجة مرضاهم‪.‬‬

‫صفحة ‪502 :‬‬

‫من أخالق العامة‬


‫ومن أخالق العامة أن يسودوا غير الس??يد‪ ،‬ويفض??لوا غ??ير الفض??ل‪ ،‬ويقول??وا بعلم‬
‫س? َب َق إليهم من غ??ير تمي??يز بين‪ ،‬الفاض??ل والمفض??ول‪،‬‬ ‫غير الع??الم‪ ،‬وهم أتب??اع من َ‬
‫والفض??ل والنقص??ان‪ ،‬والمعرف??ة للح??ق من الباط??ل عن??دهم‪ ،‬ثم انظ??ر ه??ل ت??رى إذا‬
‫اعتبرت ما ذكرنا ونظرت في مجالس العلماء ه??ل تش??اهدها إال مش??حونة? بالخاص??ة‬
‫من أولي التمي??يز? والم??روءة والحج??ا‪ ،‬وتفق??د العام??ة في احتش??ادها وجموعه??ا‪ ،‬فال‬
‫دب‪ ،‬وض??ارب ب??دف على سياس??ة ق??رد‪ ،‬أو‬ ‫??رقِلين إلى‪ ،‬قائ??د ٍّ‬
‫ت??راهم ال??دهر إال ُم ْ‬
‫مش?عبذ متنمس? مخ??رق‪ ،‬أو مس??تمعين‬ ‫متشوقين إلى اللهو واللعب‪ ،‬أو مختلفين إلى َ‬
‫قاص كذاب‪ ،‬أو مجتمعين ح??ول مض??روب‪ ،‬أو وقوف?ا ً عن??د مص??لوب‪ُ .‬ي ْن َع? ق بهم‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬
‫فيتبع??ون‪ .‬ويص??اح بهم فال يرت??دعون‪ ،‬ال ينك??رون منك??راً‪ ،‬وال يعرف??ون معرف?اً‪ ،‬وال‬
‫البر بالفاجر‪ ،‬والمؤمن بالكافر‪ ،‬وقد بين ذلك رسول هّللا ص??لى هللا‬ ‫يبالون أن يلحقوا َّ‬
‫عليه وس??لم‪ ،‬فيهم حيث يق??ول‪ :‬الن??اس إثن??ان‪ :‬ع??الم‪ ،‬ومتعلم‪ ،‬وم??ا ع??دا ذل??ك هَمج‬
‫َرع??اع ال يعب??أ هّللا بهم ‪ .‬وك??ذلك ذك??ر عن علي وق??د س??ئل عن العام??ة‪ ،‬فق??ال َه َمج‬
‫َر َعاع أتباع كل ناعق‪ ،‬لم يستضيئوا? بنور العلم‪ ،‬ولم يلجأوا إلى ركن وثيق‪ ،‬وأجمع‬
‫الناس في تسميتهم على أنهم َغ ْو َغاء‪ ،‬وهم الذين إذا اجتمع??وا غلب??وا‪ ،‬وإذا تفرق??وا‬
‫لم يعرف??وا‪ ،‬ثم ت??دبر تف??رقهم في أح??والهم وم??ذاهبهم‪ ،‬ف??انظر إلى إجم??اع َم َل ِئ ِه ْم‪ ،‬إن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أقام يدعو الخلق إلى اثن??تين وعش??رين س??نة وه??و‬
‫ينزل? عليه الوحي ويمليه على أصحابه‪ ،‬فيكتبونه و ُيد َِّونونه ويلتقطونه لفظة لفظة‪،‬‬
‫وكان معاوية في هذه الم??دة بحيث علم هّللا ‪ ،‬ثم كتب ل??ه ص??لى هللا علي??ه وس??لم قب??ل‬
‫وفات??ه بش??هور‪ ،‬فأش??ادوا ب??ذكره‪ ،‬ورفع??وا من منزلت??ه‪ ،‬ب??أن جعل??وه كاتب ?ا ً لل? َ?و ْحي‪،‬‬
‫و َع َّظ ُموه بهذه الكلمة‪ ،‬وأضافوه إليها‪ ،‬وسلبوها عن غ??يره‪ ،‬وأس??قطوا ذك??ر س??واه‪،‬‬
‫وأصل ذلك العادة واأللف وما ولدوا علي??ه‪ ،‬وم??ا نش??ؤا في??ه‪ ،‬ف??ألفوا وقت التحص??يل‬
‫والبلوغ‪ ،‬وقد عملت العادة عملها‪ ،‬وبلغت مبالغها‪ ،‬وفي العادة قالت الشعراء وتكلم‬
‫أهل الدراية واألدباء‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫ـز َع ُة‬
‫فشدي ٌد عادةٌ م ْن َت َ‬ ‫ال ُت ِه َني بعد إذ أكرمتني?‬
‫وقال آخر معاتبا ً لصاحبه‪:‬‬
‫من الصخره الصماء حين ترومها‬ ‫ولكِنْ فِ َطا ُم الن ْفس أ ْث َقل ُ مـحـمـال‬

‫وقد قالت حكماء الع??رب‪ :‬الع??ادة أمل??ك ب??األرب‪ ،‬وق??الت حكم??اء العجم‪ :‬الع??ادة هي‬
‫الطبيعة الثاني?ة‪ ،‬وق?د ص??نف أب??و عق?ال الك?اتب كتاب?ا ً في أخالق الع?وا ِّم يص?ف في?ه‬
‫س َّماه بالمل ِهي‪.‬‬
‫أخالقهم وشيمهم ومخاطباتهم‪ ،‬و َ‬
‫ولوال إني أكره التطوي??ل والخ??روج عم?ا قص??دنا إلي?ه في ه??ذا الكت?اب من اإِل يج??از‬
‫عج?ائب‪ ،‬ول?ذكرت م?راتب‬ ‫َ‬ ‫لش?رحت من ن?وادر العام?ة وأخالقه?ا‪ ،‬وطرائ?ف أفعاله?ا‬
‫الناس في أخالقهم‪ ،‬وتصرفهم في أحوالها‪.‬‬
‫فل??نرجع اآلن إلى أخب??ار معاوي??ة وسياس??ته‪ ?،‬وم??ا أوس??ع الن??اس من أخالق??ه‪ ،‬وم??ا‬
‫أف??اض عليهم من ب??ره وعطائ??ه‪ ،‬وش??ملهم من إحس??انه‪ ،‬مم??ا اجت??ذب ب??ه القل??وب‪،‬‬
‫واستدعى به النفوس‪ ،‬حتى آثروه على األصل والقرابات‪.‬‬
‫صفحة ‪503 :‬‬
‫عقيل بن أبي طالب ومعاوية‬
‫فرح َب به معاوي??ة‪،‬‬ ‫من ذلك أنه وفد عليه َعقيل ُ بن أبي طالب منتجعا ً وزائراً‪ّ ،‬‬
‫س? َعه حلم?ا َ واحتم?االً‪،‬فق?ال ل?ه‪ :‬ي?ا أب?ا‬ ‫وأو َ‬
‫على أخي?ه‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫سر بوروده‪ ،‬الختياره إي?اه‬ ‫و ُ‬
‫يحب هّللا ورس??وله والفيت??ك على م??ا‬ ‫ُّ‬ ‫يزيد‪ ،‬كيف تركت علي?اَ‪ .‬فق??ال‪ :‬تركت?ه? على م??ا‬
‫يكره هّللا ورسوله‪ ،‬فقال له معاوية‪ ،‬لوال أنك زائر منتج??ع جنا َب َن??ا ل??رددت علي??ك أي??ا‬
‫يزي??د جوا َب? ا َ ت??ألم من??ه‪ ،‬ثم أحب معاوي??ة أن يقط??ع كالم??ه مخاف??ة أن ي??أتي بش??يء‬
‫يخفضه‪ ،‬فوثب عن مجلسه‪ ،‬وأمر له بنزل‪ ،‬وحمل إليه م??االً عظيم?اً‪ ،‬فلم??ا ك??ان من‬
‫غد جلس وأرسل إليه فأتاه‪ ،‬فقال ل??ه‪ :‬ي??ا أب??ا يزي??د‪ ،‬كي??ف ت??ركت علي?ا ً أخ??اك‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫تركته خيراً لنفسه من??ك‪ ،‬وأنت خ??ير لي فن??ه‪ ،‬فق??ال ل??ه معاوي??ة‪ :‬أنت وهّللا كم??ا ق??ال‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫فالمج??د منهم في ب??ني َع َّتاب فحم??ل‬ ‫وإذا ع??ددت فخ??ار آل مح??رق‬
‫يا أبا يزيد ما تغيرك األيام والليالي‬ ‫المجد من بني هاشم َم ُنو ُط فيك‬
‫فقال عقيل‪:‬‬
‫هّللا‬
‫أصبر لحرب أنت جانيها البدأن تصلى بحاميهـا وأنت و يا ابن أبي سفيان‬
‫كما قال االخر‪:‬‬
‫يوما ً فخرتهم بآل مجـاشـع‬ ‫وإذا هوازن أقبلت ب َف َخارهـا‬
‫والضاربين الهام يوم الفـازع‬ ‫بالحاملين على الموالي ُغ ْر َمهم‬

‫وصف بني صوحان‬


‫ولكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفخر‪ .‬فقال معاوية‪ :‬عزمت علي??ك‬
‫أبا يزيد لما أمسكت‪ ،‬فإني لم أجلس لهذا‪ ،‬وإنما أردت أن أس??ألك عن أص??حاب علي‬
‫فإنك ذو معرفة بهم‪ ،‬فقال َعقِي??ل‪ :‬س??ل عم??ا ب??دا ل??ك‪ :‬فق??ال‪َ :‬م ِّي ْز لي أص??حاب علي‪،‬‬
‫ص ْو َحان فإنهم مخاريق الكالم‪ ،‬ق?ال‪ :‬أم?ا صعص?عة فعظيم الش?أن‪ ،‬عض?ب‬ ‫وابدأ بآل َ‬
‫اللسان‪ ،‬قائد فرسان‪ ،‬قاتل أقران‪ ،‬يرتق ما فتق‪ ،‬ويفتق ما رتق‪ ،‬قليل النظير‪ ،‬وأم??ا‬
‫هللا فإنهما نهران جاريان‪ ،‬يصب فيهم??ا ا ْلخلج??ان‪ ،‬ويغ??اث بهم??ا البل??دان‪،‬‬
‫زيد وعبد ّ‬
‫رجالَ ِج ًد ال لعب معه‪ ،‬وبنو صوحان كما قال الشاعر‪:‬‬

‫أسوداً تخلس ْ‬
‫األسدَ النفوسا‬ ‫إذا نزل العدو فإن عنـدي‬

‫من صعصعة إلى عقيل‪ :‬فا َتصل كالم عقيل بصعصعة فكتب إليه بسم هللا الرحمن‬
‫الرحيم‪ ،‬ذ ْك ُر هللا أكبر‪ ،‬وبه يستفتح? المستفتحون‪ ،‬وأنتم مفاتيح الدنيا واآلخ??رة‪ .‬أم??ا‬
‫ت هّللا على ذل??ك‪ ،‬وس??ألته‬ ‫بعد‪ ،‬فقد بلغ موالك كال ُم َك لعدو هللا وعدو رس??وله‪ ،‬فحم??دْ ُ‬
‫أن يفيء بك إلى الدرجة العليا‪ ،‬والقضيب األحمر‪ ،‬والعمود األسود فإن??ه عم??و ٌد َمنْ‬
‫?زع ْت ب??ك نفس??ك إلى معاوي??ة طل َب? ا َ لمال??ه إن?ك ل?ذو علم‬
‫فارقه الدين األزهر‪ ،‬ولئن ن? َ‬
‫بجميع خصاله‪ ،‬فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلك عن الحجة‪ ،‬ف??إن هللا ق??د رف??ع عنكم‬
‫ص?ل َ إلين??ا‪،‬‬
‫أهل البيت ما وض??عه في غ??يركم‪ ،‬فم?ا ك?ان من فض??ل أو إحس??ان فبكم َو َ‬
‫هللا أقداركم‪ ،‬وحمى أخطاركم‪ ،‬وكتب آثاركم‪ ،‬فإن أقداركم مرضية‪ ،‬وأخط??اركم‬ ‫فأجل َّ ّ‬
‫َ‬
‫محمية‪ ?،‬وآثاركم بدْ ِرية‪ ?،‬وأنتم سلم هللا إلى خلقه‪ ،‬ووسيلته إلى طرقه‪ ،‬أيد علية‪،‬‬
‫صفحة ‪504 :‬‬

‫ووجوه جلية‪ ،‬وأنتم كما قال الشاعر‪:‬‬


‫ار َثه? آباء آبائهـم َقـ ْبـل ُ‬
‫َت َو َ‬ ‫فما كان من خير أتوه فإنمـا‬
‫س إال في منابتها النخل‬ ‫و ُت ْغ َر ُ‬ ‫وهل ينبت الخطي إالوشيجه‬

‫بين علي ووجوه أصحابه‬


‫وحدث الهيثم عن أبي عمرو بن يزيد‪ ،‬عن البراء بن يزيد‪ ،‬عن محمد بن عبد‬
‫هللاّ بن الحارث الطائي ثم أحد ب??ني عف??ان‪ ،‬ق??ال‪ :‬لم??ا انص??رف علي من الجم??ل ق??ال‬
‫ألذن??ه‪َ ?:‬منْ بالب??اب من وج??وه الع??رب‪ .‬ق??ال‪ :‬محم??د بن عم??يربن عط??ارد ال??تيمي‬
‫واألحنف بن قيس‪ ،‬وصعصعة بن صوحان العبدي‪ ،‬في رج??ال س??ماهم‪ ،‬فق??ال‪ :‬ائ??ذن‬
‫لهم‪ ،‬فدخلوا فسلموا عليه بالخالفة‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أنتم وجوه الع??رب عن??دي‪ ،‬ورؤس??اء‬
‫?ترف‪ ?-‬يع??ني معاوي??ة‪ -‬ف??افت ّن ْت بهم‬
‫علي في أم??ر ه??ذا الغالم الم? َ‬
‫َّ‬ ‫أص??حابي‪ ،‬فأش??يروا‬
‫شورة عليه‪ ،‬فقال صعصعة‪ :‬إن معاوية أ ْت َر َف ُه الهوى‪ ،‬وحببت إليه الدنيا‪ ،‬فهانت‬ ‫ال َم ُ‬
‫ص? ْب‪،‬‬‫عليه مصارع الرجال‪ ،‬وابتاع آخرتة بدنياهم‪ ،‬فإن تعم?ل في?ه ب??رأي ترش??د و ُت ِ‬
‫إن شاء هللا‪ ،‬والتوفيق باهّلل وبرسوله وبك يا أمير المؤمنين‪ ?،‬وال??رأي أن ترس?ل? ل??ه‬
‫عينا ً من عيونك وثقة من ثقاتك‪ ،‬بكتاب تدعوه إلى بيعتك‪ ،‬فإن أجاب وأناب كأن ل??ه‬
‫مالك وعليه ما علي??ك‪ ،‬وإال جاهدت??ه وص??برت? لقض??اء هّللا ح??تى يأتي??ك اليقين‪ ،‬فق??ال‬
‫علي‪ :‬عزمت عليك يا صعصعة إال كتبت الكتاب بي??ديك‪ ،‬وت??وجهت ب??ه إلى معاوي??ة‪،‬‬
‫واجع??ل ص??در الكت??اب تح??ذيراً وتخويف ?اً‪ ،‬وعج??زه اس??تتابة واس??تنابة? و ْل َيكن فاتح??ة‬
‫هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬من عبد هللا علي أمير المؤمنين إلى معاوي??ة س??الم‬ ‫الكتاب بسم ّ‬
‫هّللا‬
‫علي‪ ،‬واجعل عن??وان الكت??اب أال إلى تص??ير‬ ‫أشرت به َ‬ ‫َ‬ ‫عليك‪ ،‬أما بعد ثم اكتب ما‬
‫األمور‪ ،‬قال‪ :‬أعفني من ذلك‪ ،‬قال‪ .‬عزمت عليك لتفع َلنَ ‪ ،‬قال‪ :‬أفعل‪ ،‬فخ??رج بالكت??اب‬
‫وتجهز وسار حتى ورد دمشق‪ ،‬فأتى باب معاوية فقال آلذنه‪ :‬استأذن لرسول أم??ير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب‪ -‬وبالباب ْأز َفلة من بني أمية‪ -‬فأخذت??ه األي??دي والنع??ال‬
‫لقوله‪ ،‬وهو يقول أتقتل?ون رجالً أن يق?ول ربي هللا وك?ثرت الجلب?ة واللغ?ط‪ ،‬فاتص?ل‬
‫فوجه من يكشف الناس عنه‪ ،‬فكشفوا‪ ،‬ثم أذن لهم فدخلوا‪ ،‬فق??ال لهم‪:‬‬ ‫ذلك بمعاوية َّ‬
‫من هذا الرجل‪ .‬فقالوا‪ :‬رجل من العرب يقال له صعصعة بن صوحان معه كتاب من‬
‫علي‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا لقد بلغني أمره‪ ،‬هذا أح?د س?هام علي و ُخ َطب?اء الع?رب‪ ،‬ولق?د كنت‬
‫إلى لقائ??ه َ‬
‫ش? ِّيقاً‪ ،‬ائ??ذن ل??ه ي??ا غالم‪ ،‬ف??دخل علي??ه‪ ،‬فق??ال‪ :‬الس??الم علي??ك ي??ا ابن أبي‬
‫الرس ?ل ً تقت??ل في‬
‫ُ‬ ‫كتاب أمير المؤمنين‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬أما إن??ه ل??و ك??انت‬‫ُ‬ ‫سفيان‪ ،‬هذا‬
‫جاهلية أو إسالم لقتلتك‪ ،‬ثم اعترضه? معاوية في الكالم‪ ،‬وأراد أن يستخرجه ليعرف‬
‫قريحته أطبعا ً أم تكلفا ً فقال‪ :‬ممن الرجل‪ .‬قال‪ :‬من نزار‪ ،‬قال‪ :‬وما ك??ان ن??زار‪ .‬ق??ال‪:‬‬
‫نكس‪ ،‬وإذا لقي اف??ترس‪ ،‬وإذا انص??رف اح?ترس‪ ،‬ق?ال‪ :‬فمن أي أوالده‬ ‫َ‬ ‫كان إذا غ?زا‬
‫أنت‪ .‬قال‪ :‬من ربيعة‪ ،‬قال‪ :‬وما كان ربيعة‪ ?.‬قال‪ :‬كان يطي??ل ال ِّنج??اد‪ ،‬و َي ُع??ول ُ العب??اد‪،‬‬
‫ويضرب ببقاع األرض ال ِع َما َد‪ ،‬قال‪ :‬فمن أي أوالده أنت‪ .‬قال‪ :‬من َجدِي َل َة‪ ،‬قال‪ :‬وم??ا‬
‫ك?ان جديل??ة‪ .‬ق?ال‪ :‬ك?ان في الح?رب س?يفا ً قاطع?اً‪ ،‬وفي المكرم??ات غيث?ا ً نافع?اً‪ ،‬وفي‬
‫اللقاء لهبا ً ساطعاً‪ ،‬قال‪ :‬فمن أي أوالده أنت‪ .‬قال‪ :‬من عب??د القيس‪ ،‬ق??ال‪ :‬وم??ا ك??ان‬
‫عبد القيس‪ .‬قال كاد خصيبا ً خضرما ً أبيض وهابا ً لضيفه ما يجد‪ ،‬وال يسأل عما‬
‫صفحة ‪505 :‬‬

‫فقد‪ ،‬كثير المرق‪ ،‬طيب العرق‪ ،‬يقوم للناس مق??ام الغيثمن الس??ماء‪ ،‬ق??ال‪ :‬ويح??ك ي??ا‬
‫ابن صوحان فما تركت لهذا الحي من ق?ريش مج?داً وال فخ?راً‪ ،‬ق?ال‪ :‬بلى وهّللا ي?ابن‬
‫أبى سفيان‪ ،‬تركت لهم ما ال يصلح إال بهم‪ ،‬ولهم تركت األبيض واألحمر‪ ،‬واألصفر‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫واألشقر‪ ،‬والس??رير والمن??بر‪ ?،‬والمل??ك إلى المحش??ر‪ ،‬وأنى ال يك??ون ذل??ك ك??ذلك وهم‬
‫َم َنا ُر هّللا في األرض ونجومه في السماء‪ .‬ففرح معاوية وظن أن كالمه يشتمل? على‬
‫قريش كلها‪ ،‬فقال‪ :‬صدقت يا ابن صوحان‪ ،‬إن ذلك لكذلك‪ ،‬فعرف صعصعة ما أراد‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ليس لك وال لقومك في ذلك إصدار وال إيراد ويلك يا ابن صوحان قال‪ :‬الويل‬
‫فأخ َر ُجوهُ‪ ،‬فقال صعصعة‪:‬الصدق ينبيء عن??ك‬ ‫ألهل النار‪ ،‬ذلك لبنى هاشم‪ ،‬قال‪ :‬قم‪ْ ،‬‬
‫ال الوعيد‪ ،‬من أراد المشاجرة قبل المحاورة‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬لشيء ما س??وده قوم??ه‪،‬‬
‫وددت وهللا إني من صلبه‪ ،‬ثم التفت إلى بني أمية فقال‪ :‬هكذا فلتكن الرجال‪.‬‬

‫معاوية وجماعة من أصحاب علي‬


‫وح??دث منص?ور بن وحش?ي‪ ،‬عن الح?ارث بن مس?مار البه??راني‪ ،‬ق?ال‪ :‬حبس‬
‫?واء اليش??كري ورج??االً من‬ ‫معاوي??ة صعص??عة بن ص??وحان العب??دي وعب??د هّللا بن ال َك? َّ‬
‫أصحاب علي مع رجال من قريش‪ ،‬فدخل عليهم معاوية يوما ً فقال‪ :‬نشدتكم باهّلل إال‬
‫أي الخلفاء رأيتموني‪ .‬فقال ابن ال َك َّواء‪ :‬لوال أنك عزمت علين??ا‬ ‫ما قلتم حقا ً وصدقاً‪َ ،‬‬
‫ما قلنا ألنك جبار عنيد‪ ،‬ال تراقب هللاّ في قتل األخي??ار‪ ،‬ولكن??ا نق??ول‪ :‬إن??ك م??ا علمن??ا‬
‫?ر َعى‪ ،‬تجع?ل الظلم?ات ن?وراَ‪،‬‬ ‫واسِ ُع الدنيا‪ ،‬ض?يق األخ?رى‪ ،‬ق?ريب ال?ثرى‪ ،‬بعي?د ال َم ْ‬
‫والنور ظلمات‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬إن هّللا أكرم هذا األمر بأهل الشام الذابينَ عن َب ْيضته‪?،‬‬
‫التاركين لمحارمه‪ ،‬ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم هّللا ‪ ،‬والمحلَّينَ‬
‫ما ّحرم هللا‪ ،‬والمحرمِينَ ما أحل هّللا ‪ ،‬فقال عب??د هّللا بن الك??واء‪ :‬ي??ا ابن أبي س??فيان‪،‬‬
‫إن لكل كالم جواب‪ ،‬ونحن نخاف جبروتك‪ ،‬ف??إن كنت تطل??ق ألس??نتنا ذببن??ا عن أه??ل‬
‫العراق بألسنة حِدَ ا ٍد ال تأخذها في هّللا لومة الئم‪ ،‬وإال فإن??ا ص??ابرون ح??تى يحكم هّللا‬
‫ويضعنا على فرجه قال‪ :‬وهّللا ال يطلق لك لسان‪ ،‬ثم تكلم صعص??عة فق??ال‪ :‬تكلمت ي??ا‬
‫ابن سفيان فأبلغت‪ ،‬ولم تقصر عما أردت‪ ،‬وليس األم??ر على م??ا ذك??رت‪ ،‬أ َّنى يك??ون‬
‫الخليفة َمنْ ملك الناس قهراً‪ ،‬ودَ ا َنهم كبراً‪ ،‬واستولى بأس??باب الباط??ل ك??ذبا ً ومك??راً‪.‬‬
‫أما وهّللا ‪ .‬أئا لك في يوم بدر مضرب وال مرمى وما كنت فيه إال كم??ا ق??ال القائ??ل‪ :‬ال‬
‫لب على رس??ول هللا‬ ‫أج َ‬
‫حلي وال سيري ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنف??ير ممن ْ‬
‫هللا ص??لى هللا‬
‫صلى هللا علي??ه وس??لم‪ ،‬وإنم??ا أنت طلي??ق ابن طلي??ق‪ ،‬أطلقكم??ا رس??ول ّ‬
‫عليه وسلم فأنى تصلح الخالفة لطليق‪ .‬فقال معاوية‪ :‬ل??وال إني أرج??ع إلى ق??ول أبي‬
‫طالب حيث يقول‪:‬‬

‫ب من الكرم‬ ‫والعفوعن قدر ٍة َ‬


‫ض ْر ٌ‬ ‫قابلت جهله ُم حلمـا ً ومـغـفـرة‬
‫لقـتــلـــتـــكـــم‪.‬‬

‫صفحة ‪506 :‬‬

‫صعصعة بن صوحان عند معاوية يصف له أهل البالد‬


‫وحدث أب??و جعف??ر محم??د بن ح??بيب‪ ،‬ق??ال‪ :‬أخبرن??ا أب??و الهيثم يزي??د بن رج??اء‬
‫الغ َنوي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا الولي??د بن البخ??تري‪ ،‬عن أبي??ه‪ ،‬عن ابن م??ردوع الكل??بي ق??ال‪:‬‬ ‫َ‬
‫دخل صعصعة بن صوحان العب??دي على معاوي??ة فق??ال ل??ه‪ :‬ي??ا ابن ص??وحان أنت ذو‬
‫معرفة بالعرب وبحالها‪ ،‬فأخبرني? عن أهل البصرة‪ ،‬وإياك والحمل على ق??وم لق??وم‪،‬‬
‫قال‪ :‬البصرة واسطة العرب‪ ،‬ومنتهى الش??رف والس??ؤدد‪ ،‬وهم أه??ل الخط??ط في أول‬
‫?دَوران الرح??ا على قطبه??ا‪ ،‬ق??ال‪:‬‬‫ات الع??رب ك? َ‬ ‫س ? َر َو ُ‬
‫ال??دهر وآخ??ره‪ ،‬وق??د دارت بهم َ‬
‫فأخبرني? عن أهل الكوفة‪ ،‬ق??ال‪ :‬قب??ة اإلس??الم‪ ،‬وذروة الكالم‪ ،‬ومظ??انُ ذوي األعالم‪،‬‬
‫إال أن بها أجالفا ً تمنع ذوي األم??ر الطاع??ة‪ ،‬وتخ??رجهم عن الجماع??ة‪ ،‬وتل??ك أخالق‬
‫أسرع الناس إلى فتنة‪،‬‬ ‫ذوي الهيئة والقناعة‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني عن أهل الحجاز‪ ،‬قال‪ِ :‬‬
‫وأضعفهم عنها‪ ،‬وأقلهم َغ َن??اء فيه??ا‪ ،‬غ??ير أن لهم ثبات?ا َ في ال??دين‪ ،‬وتمس??كا ً بع??روة‬
‫س َق َة الفجار‪ ،‬فق??ال معاوي??ة‪ :‬من ال??بررة‬‫اليقين‪ ،‬يتبعون األئمة األبرار‪ ،‬ويخلعون ال َف َ‬
‫علي وأص??حابه‬ ‫ٌّ‬ ‫والفسقة‪ .‬فقال‪ :‬يا ابن أبي سفيان‪َ ،‬ت َر َك الخ??داع َمنْ كش??ف القن??اع‪،‬‬
‫من األئمة األبرار‪ ،‬وأنت وأصحابك من أولئك‪ ،‬ثم أحب معاوية أن يمضي? صعص??عة‬
‫في كالمه بعد أن بان فيه الغضب‪ ،‬فقال‪ :‬أخبرني? عن القبة الحمراء في ديار مضر‪،‬‬
‫قال‪ :‬أسد مض??ر ُب ْس?النٌ بين غيلين‪ ،‬إذا أرس??لتها افترس??ت‪ ،‬وإذا تركته??ا احترس??ت‪،‬‬
‫فقال معاوية‪ :‬هنالك يا ابن صوحان العز الراسي‪ ،‬فهل في قومك مثل هذا‪ .‬قال‪ :‬هذا‬
‫أح ّب قوما ً ُحشِ َر معهم‪ .‬قال‪ :‬فأخبرني? عن ديار‬ ‫ألهله دونك يا ابن أبي س َفيان‪ ،‬ومن َ‬
‫ربيعة وال يستخفنك الجهل وسابقة الحمية? بالتعصب لقومك‪ .‬قال‪ :‬وهّللا ما أن??ا عنهم‬
‫براض‪ ،‬ولكني أقول فيهم وعليهم‪ :‬هم وهّللا أعالم اللي??ل‪ ،‬وأذن?اب في ال?دين والمي??ل‬
‫لن ُتغلب رايتها إذا رسخت‪ ،‬خ??وارج ال??دين‪ ،‬ب??رازخ اليقين‪ ،‬من نص??روه? فلج‪ ،‬ومن‬
‫خذلوه زلج‪ ،‬قال‪ :‬فأخبرني? عن مضر‪ ،‬قال‪ :‬كنان??ة الع??رب‪ ،‬ومع??دن الع??ز والحس??ب‪،‬‬
‫يقذف البحر بها آ ِذ ًيه‪ ،‬والبر دري??ه‪ ،‬ثم أمس??ك معاوي??ة‪ ،‬فق??ال ل??ه صعص??عة‪َ :‬‬
‫س?لْ ي??ا‬
‫معاوية وإال أخبرتك بما تحيد عنه‪ ،‬قال‪ :‬وما ذاك يا ابن صوحان‪ .‬قال‪ :‬أهل الش??ام‪،‬‬
‫صاة الجب??ار‪،‬‬ ‫أط َو ُع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق‪ُ ،‬ع َ‬ ‫قال‪ :‬فأخبرني? عنهم‪ ،‬قال‪ْ :‬‬
‫وخلف??ة األش??رار‪ ،‬فعليهم ال??دمار‪ ،‬ولهم س??وء ال??دار‪ ،‬فق??ال معاوي??ة‪ :‬وهللا ي??ا ابن‬
‫صوحان إنك لحامل ٌ ُمدْ َي َت َك منذ أزمان‪ ،‬إال أن حلم ابن أبي سفمِان يرد عن??ك‪ ،‬فق??ال‬
‫صعصعة‪ :‬بل أمر هّللا وقدرته‪ ،‬إن أمر هّللا كان قدَ راً مقدوراً‪.‬‬

‫وحدث أبو الهيثم قال‪ :‬حدثني أبو البشير محمد بن بشر الفزاري‪ ،‬عن إبراهيم بن‬
‫عقيل البصري‪ ،‬قال‪ :‬قال معاوية يوماً‪ -‬وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي‬
‫هلل‪ ،‬وأن??ا خليف??ة هللا‪ ،‬فم??ا آخ??ذ من م??ال هللا فه??و لي‪،‬‬
‫وعنده وجوه الناس‪ :-‬األرض ّ‬
‫وما تركت منه? كان جائزاً لي‪ ،‬فقال صعصعة‪:‬‬

‫ن َج ْهالًمعاوي التأثم‬ ‫ُت َم َني َ?ك نفسك مااليكو‬

‫صفحة ‪507 :‬‬

‫فقال معاوي??ة‪ :‬ي??ا صعص??عة‪ ،‬تعلّمت الكالم‪ ،‬ق??ال‪ :‬العلم ب??التعلم‪ ،‬ومن ال يعلم يجه??ل‪،‬‬
‫أح َو َج َك إلى أن أذيق??ك َو َب??ال َ أم??رك ق??ال‪ :‬ليس ذل??ك بي??دك‪ ،‬ذل??ك بي??د‬
‫قال معاوية‪ :‬ما ْ‬
‫الذي ال يؤخر نفسا ً إذا جاء أجلها‪ ،‬قال‪ :‬ومن يحول بيني وبينك‪ .‬ق??ال‪ :‬ال??ذي يح??ول‬
‫بين المرء وقلبه‪ ،‬قال معاوية‪ ?:‬اتس??ع بطن??ك للكالم كم??ا اتس??ع بطن البع??ير للش??عير‪،‬‬
‫قال‪ :‬اتسع بطن َمنْ ال يشبع‪ ،‬ودعا عليه من ال يجمع‪.‬‬

‫من أخبار صعصعة‬


‫قال المسعودي‪ :‬ولصعصعة بن ص??وحان أخب??ار حس??ان‪ ،‬وكالم في نهاي??ة البالغ??ة‬
‫والفصاحة واإليضاح عن المعاني‪ ،‬على إيجاز واختصار‪.‬‬
‫ومن ذلك خبره مع عبد هّللا بن العباس‪ ،‬وهو م?ا ح?دث ب?ه الم?دائني‪ ،‬عن زي?د بن‬
‫?رة الش??يباني‪ ،‬ق??ال‪:‬‬ ‫طليح الذهلي الشيباني‪ ،‬قال‪ :‬أخ??برني أبي‪ ،‬عن مص??قلة بن ه َب ْي? َ‬
‫سمعت صعصعة بن صوحان وقد سأله ابن عب?اس‪ :‬م?ا الس?ؤدد فيكم‪ .‬نق?ال‪ :‬إطع?ام‬
‫الطعام‪ ،‬ولين الكالم‪ ،‬وبذل ال َنوال‪ ،‬وكف المرء نفسه عن السؤال‪ ،‬والتودد للص??غير‬
‫ش َرعاً‪ ،‬قال‪ :‬فما المروءة‪ .‬قال‪ :‬أخوان اجتمعا فإن‬ ‫والكبير‪ ،‬وأن يكون الناس عندك َ‬
‫لقي??ا قه??راً حارس??هما قلي??ل‪ ،‬وص??احبهما جلي??ل‪ ،‬يحتاج??ان إلى ص??يانة? م??ع نزاه??ة‬
‫وديانة‪ ،‬قال‪ :‬فهل تحفظ في ذلك شعراً قال‪ :‬نعم‪ ،‬أما سمعت ق??ول م??رة بن ُذهْ ? ل ابن‬
‫شيبان حيث يقول‪:‬‬
‫س َماكِ األعزل‬‫حيث السماء من ال ِّ‬ ‫إن السيادة والمـروءة ُعـلِّـ َقـا‬
‫عثر الهجين وأسلمته األرجـل‬ ‫ان لـغـاية‬‫ـج ِـر َي ِ‬
‫وإذا تقابل ُم ْ‬

‫قرب الجياد فلم يجئه األفكـل‬ ‫و َي ِجي الصري ُح مع العتاق معوداً‬


‫في أبيات‪ ،‬فقال له ابن عباس‪ :‬لو أن رجالً ضرب آباط إبل??ه مش??رقا ً ومغرب?ا ً لفائ??دة‬
‫هذه األبيات ما عنفته‪ ،‬إنا منك يا ابن صوحان لعلى علم وحكم واستنباط ما قد عف??ا‬
‫من أخبار العرب‪ ،‬فمن الحكيم فيكم‪ .‬ق??ال‪َ :‬منْ مل??ك عض??به فلم يعج??ل‪ ،‬وس??عي إلي??ه‬
‫فصفع ولم يقتل‪ ،‬ذل??ك الحكيم ي??ا ابن‬ ‫ِ‬ ‫بحق أو باطل فلم يقبل‪ ،‬ووجد قاتل أبيه وأخيه‬
‫عباس‪ ،‬قال‪ :‬فهل تجد ذلك فيكم كثيراَ‪ .‬ق??ال‪ :‬وال قليالً‪ ،‬وإنم??ا وص??فت ل??ك أقوام?ا ً ال‬
‫تجدهم إال خاش??عين راه??بين هّلل مري??دين ي??نيلون وال ين??الون‪ ،‬فأم??ا اآلخ??رون ف??إنهم‬
‫سبق جهلهم حلمهم‪ ،‬وال يبالي أحدهم إذا ظفر ببغيته حين الحفيظة ما ك??ان بع??د أن‬
‫يدرك زعمه يقضي بغيته‪ ?،‬ولو وتره أبوه لقتل أباه‪ ،‬أو أخوه لقتل أخاه‪ ،‬أما س??معت‬
‫إلى قول زبان بن عمرو بن زبان‪ ،‬وذلك أن عمراً أب?اه قتل??ه مال??ك بن كوم??ة‪ ،‬فأق?ام‬
‫زب??ان زمان?اً‪ ،‬ثم غ??زا مالك?اً‪ ،‬فأت?اه في م?ائتي ف?ارس ص??باحا ً وه?و في أربعين بيت?ا ً‬
‫فقتله‪ ،‬وقتل أصحابه وقتل عمه فيمن قت??ل‪ ،‬ويق??ال‪ :‬ب??ل ك??ان أخ??اه‪ ،‬وذل??ك أن??ه ك??ان‬
‫جاورهم‪ ،‬فقيل لزبان في ذلك‪ :‬قتلت صاحبنا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ل َبل ثيابها عـلـق صـبـيب‬ ‫فلو أمي َث َق ْف ُ‬


‫ت بحيث كـانـوا‬
‫بهذا الماء َظل َّ لها نـحـيب‬ ‫ولو كانت أمية أخت عمـرو‬
‫ولم تعطف أواصِ َر َنا قلـوب‬ ‫شهرت السيف في األدنين مني‬
‫صفحة ‪508 :‬‬

‫فقال له ابن عباس‪ :‬فمن الفارس فيكم‪ُ .‬ح ّد لي حداً أسمعه منك فإنك تض??ع األش??ياء‬
‫مواضعها يا ابن صوحان‪ ،‬قال‪ :‬الفارس من قصر أجله في نفسه‪ ،‬وضغم على أمل??ه‬
‫بضرسه‪ ،‬وكانت الحرب أهون علي??ه من أمس??ه‪ ،‬ذل??ك الف??ارس إذا وق??دت الح??روب‪،‬‬
‫واشتدت ب??األنفس الك??روب‪ ،‬وت??داعوا لل??نزال‪ ،‬وتزاحف??وا للقت??ل‪ ،‬وتخالس??وا المهج‪،‬‬
‫واقتحموا بالسيوف اللجج‪ ،‬ق??ال‪ :‬أحس??نت وهّللا ي??ا ابن ص??وحان‪ ،‬إن??ك لس??ليل أق??وام‬
‫الفارس كثير الحذر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كرام خطباء فصحاء‪ ،‬ما ورثت هذا من َكالَلة‪ ،‬زدني قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫م??دير النظ??ر‪ ،‬يلتفت بقلب??ه‪ ،‬وال ي??دير خ??رزات ص??لبه‪ ،‬ق??ال‪ :‬أحس??نت وهّللا ي??ا ابن‬
‫ف‪ ،‬فهل في مثل هذه الص??فة من ش??عر‪ .‬ق??ال‪ :‬نعم‪ ،‬لزه??ير بن َجن??اب‬ ‫ص َ‬ ‫الو ْ‬
‫صوحان َ‬
‫الكلبي يرثي ابنه عمراً حيث يقول‪:‬‬
‫ـر الـحـريق‬ ‫بحسـام يمـ ُر ًم ّ?‬ ‫فارس تكأل الصـحـابة مـنـه‬
‫يغفل الطرف‪ ،‬ال‪ ،‬والفي مضيق‬ ‫التراه لدى الوغى في مـجـال‬
‫أنه أخرق مضـل الـطـريق‬ ‫من يراه َي َخ ْله في الحرب يومـا‬

‫ص ? ْف ُه َما ألع??رف‬
‫في أبيات‪ ،‬فقال له ابن عباس‪ :‬فأين أخواك منك يا ابن صوحان‪ِ .‬‬
‫وزنكم‪ .‬قال‪ :‬أما زيد فكما قال أخو َغن ِّي‪:‬‬
‫ـوب‬
‫ش ُح ُ‬ ‫ت الكرام ُ‬ ‫إذا سد خالَّ ِ‬ ‫فتى ال يبالي أن يكون بوجهـه‬
‫فلم ينطقوا العوراء وهو قريب‬ ‫إذا ما ترا آه الرجال تحفظـوا‬
‫إليه‪ ،‬ويدعوه الندى فـيجـيب‬ ‫حليف الندى يدعو الندى فيجيبه?‬
‫إذا لم يكن في المنقيات حلوب‬ ‫ض ِجيعه‬
‫يبيت الندى يا أم عمرو َ‬
‫يب‬
‫س مايلفى بهـن َع ِـر ُ‬ ‫س ِاب ُ‬
‫َب َ‬ ‫كأن بيوت الحي مالم يكن بهـا‬

‫في أبيات‪ ،‬كان وهّللا يا ابن عب?اس عظيم الم?روءة‪ ،‬ش?ريف? األخ?وة‪ ،‬جلي?ل الخط?ر‪،‬‬
‫بعيد األثر‪ ،‬كميش العروة‪ ،‬أليف البدوة‪ ،‬سليم جوانح الصدر‪ ،‬قليل وساوس ال??دهر‪،‬‬
‫ذاكراً هّللا طر َفي النهار و ُز َلفَا ًًَ?من الليل‪ ،‬الج??وع والش??بع عن??ده س??يان‪ ،‬ال ين??افس في‬
‫الدنيا‪ ،‬وأق?ل أص?حابه من ُي َن?افس فيه?ا‪ ،‬يطي?ل الس?كوت‪ ،‬ويحف?ظ الكالم‪ ،‬وإن نط?ق‬
‫ُّعار األشرار‪ ،‬ويألفه األحرار األخي??ار‪ ،‬فق??ال ابن عب??اس‪:‬‬ ‫نطق ب ُعقام‪ ،‬يهرب منه الد َّ‬
‫هّللا‬ ‫هّللا‬
‫ما ظنك برجل من أهل الجنة‪ ،‬رحم زيداً‪ ،‬فأين كان عبد منه‪ .‬قال‪ :‬ك??ان عب??د‬
‫خيره وساع‪ ،‬وش?ره دف?اع‪ ،‬قُ ْل??بي النح??يزة‪ ،‬أح??وذي‬ ‫هّللا سيداً شجاعاً‪ ،‬مألف ٍا مطاعاً‪ِ ،‬‬
‫الغريزة‪ ،‬ال ينهنهه? من ِهنة? عما أراده‪ ،‬وال يركب من األمر إال عت??اده‪ ،‬س??ماع ع??دي‪،‬‬
‫وباذل قرى‪ ،‬صعب ال َم َقادة‪َ ،‬ج ْزل الرفادة‪ ،‬أخو إخوان‪ ،‬وفتى فتي?ان‪ ،‬وه??و كم?ا ق?ال‬
‫البرجمي عامر بن سنان‪:‬‬
‫الر َد ْين ِِّي مشغب‬
‫وبالسيف والرمح ُّ‬ ‫سِ َما ُم عدى‪ ،‬بالنبل يقتل من رمى‬
‫بفعل الندى والمكرمات مجرب‬ ‫مهيب مفيد لـلـنـوال ُم َـع َّـود‬
‫وفي أبيات‪ ،‬فقال له ابن عباس‪ :‬أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب‪.‬‬
‫ومن أخبار صعصعة ما حدث ب??ه أب??و جعف??ر محم??د بن ح??بيب الهاش??مي‪ ،‬عن أبي‬
‫الهيثم يزيد بن رجاء الغنوي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني رجل من بني ف??زارة ثم من ب??ني ع??دي‪،‬‬
‫قال‪ :‬وقف رجل من بني فزارة على صعصعة‪ ،‬فأسمعه كالما ً منه‪ :‬بسطت لسانك يا‬
‫صفحة ‪509 :‬‬

‫ابن صوحان على الناس فتهيبوك‪ ،‬أما لئن ِش? ْئ َت ألك??ونن ل??ك لص??اقاً‪ ،‬فال تنط??ق إال‬
‫بأذ َر َب من ُظ َب ِة السيف‪ ،‬بعض??ب ق??وي‪ ،‬ولس??ان علي‪ ،‬ثم ال يك??ون ل??ك‬‫ت لسانك ْ‬
‫َح َددْ ُ‬
‫حل وال ترحال‪ ،‬فقال صعصعة‪ :‬لو أجد غرضا ً منك ل??رميت‪ ،‬ب??ل أرى ش??بحا َ‬ ‫في ذلك ِ‬
‫وال أرى مثاالً‪ ،‬إال مسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا ج?اءه لم يج??ده ش??يئاً‪،‬‬
‫بأذ َر َب من ذلك الس??نان‪ ،‬ولرش??قتك بنب??ال تردع??ك‬ ‫أما لو كنت كفؤاً لرميت حصائلك ْ‬
‫عن النضال‪ ،‬ولخطمتك بخطام يخزم منك موضع الزمام‪ ،‬فاتصل الكالم بابن عب??اس‬
‫سه نقل الصخور من جبال‬ ‫فاستضحك من الفزاري‪ ،‬وقال‪ :‬أما لو كلف أخو فزارة َن ْف َ‬
‫شمام إلى الهضام‪ ،‬لكان أهون عليه من منازع??ة أخي عب?د القيس‪ ،‬خ?اب أب?وه‪ ،‬م?ا‬
‫أجهله يستجهل أخا عبد القيس‪ ،‬وقواه المريرة‪ ،‬ثم تمثل‪:‬‬

‫ش َق ْينَ مصبوب‬
‫إن الشقاء على األ ْ‬ ‫تنصب من أ َمـم‬
‫ّ‬ ‫ص ّب ْت عليك ولم‬
‫ُ‬

‫أبو أيوب وصعصعة‬


‫هّللا‬
‫وحدث المبرد‪ ،‬عن الرياشي‪ ،‬عن ربيعة بن عبد النميري‪ ?،‬قال‪ :‬أخ??برني رج??ل‬
‫من األزد‪ ،‬قال‪ :‬نظرت إلى أبي أيوب األنصاري‪ ،‬في ي??وم النه??روان‪ ،‬وق??د عال عب??د‬
‫هللا بن وهب الراسي‪ ،‬فضربه ضربة على كتفه‪ ،‬فأبان يده‪ ،‬وق??ال‪ُ :‬ب ْؤبه??ا إلى الن??ار‬
‫يا مارق‪ ،‬فقال عبد هللا‪ :‬ستعلم أينا أولى بها صليا‪ ،‬ق??ال‪ :‬وأبي??ك إني ألعلم‪ .‬إذ أقب??ل‬
‫صعصعة بن صوحان فوقف وقال‪ :‬أولى به??ا وهللا ص??ليا ً من ض?ل َّ في ال??دنيا عمي?اً‪،‬‬
‫وهللا‪ :‬لق??د أن??ذرتك ه??ذه الص??رعة‬
‫ّ‬ ‫وصار إلى اآلخرة ش??قيا‪ ،‬أبع??دك هّللا وأنزح??ك أم??ا‬
‫باألمس‪ ،‬فأبيت إال نكوصا على عقبيك‪ ،‬فذق يا مارق وبال أمرك‪ ،‬و َ‬
‫ش َر َك أب??ا أي??وب‬
‫ضربة بالسيف أبان بها رجل??ه‪ ،‬وأدرك??ه ب??أخرى في بطن??ه‪ ،‬وق??ال‪:‬‬ ‫ً?‬ ‫في قتله‪ :‬ضربه‬
‫لقد صرت إلى نازال تطفأ‪ ،‬وال يبوخ سعيرها‪ ،‬كم احتزا رأسه‪ ،‬وأ َت َيا به علياً‪ ،‬فق??اال‪:‬‬
‫هذا رأس الفاسق‪ ،‬الناكث‪ ،‬المارق‪ :‬عبد هّللا بن وهب‪ ،‬فنظر إليه ف َق ّط َب‪ ،‬وقال‪َ :‬‬
‫شا َه‬
‫هذا الوجه حتى خيل إلينا أنه يبكي‪ ،‬ثم قال‪ :‬قد كان أخ??و راس??ب حافظ??ا لكت??اب هّللا ‪،‬‬
‫تارك?ا ً لح?دود هّللا ‪ ،‬ثم ق?ال لهم?ا‪ :‬اطلب?ا لي ذا الثدَي??ة‪ ،‬ف ُطل َِب فلم يوج?د‪ ،‬فرجع?ا إلي?ه‬
‫وقاال‪ :‬ما أصبنا ش??يئاَ‪ ،‬فق?ال‪ :‬وهّللا لق?د قت??ل في يوم??ه ه?ذا‪ ،‬وم?ا ك?ذبني رس?ول هّللا‬
‫?امت جماع??ة من‬ ‫ت عليه‪ ،‬قوموا بجمعكم ف??اطلبوه‪ ،‬فق? َ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وال َك َذ ْب ُ‬
‫أص??حابه‪ ،‬فتفرق??وا في القتلى‪ ،‬فأص??ابوه في ده??اس من األرض‪ ،‬فوق??ه زه??اء مائ??ة‬
‫قتيل‪ ،‬فآخرجوه يج??ر برجل??ه‪ ،‬ثم أتى ب??ه علي‪ ،‬فق??ال‪ :‬اش??هدوا أن??ه ذو الثدي??ة‪ ،‬وق??د‬
‫ذكرنا أخبار ذي الثدية فيما سلف من هذا الكتاب‪.‬‬

‫صفحة ‪510 :‬‬

‫من قول علي في ربيعة‬


‫ولعلي في ربيع??ة كالم كث??ير يم??دحهم في??ه‪ ،‬وي??رثيهم ش??عراً ومنث??وراً‪ ،‬وق??د ك??انوا‬
‫أنصاره وأعوانه‪ ،‬والركن المنيع من أركانه‪ ،‬فمن بعض ذلك قوله يوم صفين‪:‬‬
‫ضـ ْينُ تـقـدمـا‬
‫إذا قيل قدمها ُح َ‬ ‫لمن راية سوداء يخفق ظـلـهـا‬
‫حياض المنايا تقطر الموت والدما‬ ‫فيوردها في الصف حتى يعلهـا‬
‫لدى الموت قدْ ما ً ما أعز وأكرما‬ ‫جزى هللا قوما ً قاتلوا في لـقـائه‬
‫إذا كان أصوات الرجال تغمغمما‬ ‫وأطيب أخباراً‪ ،‬وأكـرم شـيمة‪،‬‬
‫وبأس إذا القوا خميسا ً عرمرمـا‬ ‫أعنِي‪ ،‬إنهم أهـل نـجـدة‬‫ربي َع َة ْ‬

‫معاوية وجميل بن كعب‬


‫وذكر المدائني أن معاوية أس?ر جمي??ل بن كعب الثعل?بي‪ -‬وك?ان من س?ادات ربيع?ة?‬
‫هلل الذي أمكنني منك‪ ،‬ألس??ت‬‫وشيعة علي وأنصاره‪ -‬فلما وقف بين يديه? قال‪ :‬الحمد ّ‬
‫القائل يوم الجمل‪:‬‬
‫والملك مجموع غداً لمن غلب‬ ‫ـب‬
‫أمرع َج ْ‬
‫َ‬ ‫أصبح ِ‬
‫ت األمة في‬
‫إن غداً تهلك أعالم العـرب‬ ‫قد قلت قوالً صاد َقا َ غيركـذب‬

‫قال‪ :‬ال تقل ذلك فإنها مصيبة‪ ?،‬قال معاوية‪ :‬وأي نعمة أكبر من أن يكون اللة ق??د‬
‫أظفرني برجل قد قت??ل في س?اعة واح?دة ع?دة من ح َم?اة أص?حابي‪ .‬اض??ربوا عنق?ه‪،‬‬
‫أش?هد أن معاوي??ة لم يقتل??ني في??ك‪ ،‬وال ألن??ك ترض??ى قتلي‪ ،‬ولكن قتل??ني‬‫فقال‪ :‬اللهم ِ‬
‫على ُح َطام الدنيا‪ ،‬فإن فعل فافعل ب?ه م?ا ه?و أهل?ه‪ ،‬وإن لم يفع?ل فافع?ل ب?ه م?ا أنت‬
‫أهله‪ ،‬فقال معاوي??ة‪ :‬قاتل??ك هللا لق??د س??ببت ف??أبلغت في الس??ب‪ ،‬ودع? َ‬
‫?وت فب??الغت في‬
‫الدعاء‪ ،‬ثم أمر به فآطلق‪ ،‬وتمثل? معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر‪ ،‬لم يقل النعمان‬
‫غيرها‪ ،‬فيما ذكر ابن الكلبي‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫تعفو الملوك عن الجليل من األمور ب َف ْ‬
‫ضلِ َها‬
‫ولقد ُت َعاقب في اليسير‪ ،‬وليس ذاك لجهلها‬
‫إال ليعرف فضل َها و ُي َخاف شدة نكل َها‬

‫صفحة ‪511 :‬‬

‫معاوية عند موته‬


‫وذك??ر ل??وط بن يح??يى وابن دأب والهيثم بن ع??دي وغ??يرهم من َن َق َل ? ِة األخب??ار أن‬
‫معاوية لما اح ُتضِ َر تمثل‪:‬‬

‫هو الموت‪ ،‬ال َم ْنجى من الموت‪ ،‬والذي تحاذر بعد الموت أدهـى وأفـظـع‬
‫ج‬ ‫الع ْث??رة‪ ،‬واع??ف عن الزل??ة‪ ،‬و ُج??دْ بحلم??ك على جه??ل من لم َي? ْ‬
‫?ر ُ‬ ‫ثم قال‪ :‬اللهم أقِ??ل َ‬
‫غيرك‪ ،‬ولم يثق إال بك‪ ،‬فإنك واسع المغفرة‪ ،‬وليس لذي خطيئة مه??رب‪ ،‬فبل??غ ذل??ك‬
‫سعيد بن المسيب‪،‬‬

‫هللا‪.‬‬
‫فقال‪ :‬لقد رغب إلى َمنْ ال مرغوب إليه مثله وإني ألرجو أن ال يعذبه ّ‬
‫وذكر محمد بن إسحاق وغ??يره من نقل??ة اآلث??ار أن معاوي??ة دخ??ل الحم??ام في ب??دء‬
‫ف علي??ه‬
‫?ر َ‬
‫علته التي كانت وفاته فيها‪ ،‬فرأى نحول جسمه‪ ،‬فبكى لفنائه وم?ا ق?د أش? َ‬
‫من الثور الواقع بالخليقة‪ ،‬وقال متمثالً‪:‬‬
‫أخ ْذنَ بعضي وتركن بعضـي‬ ‫َ‬ ‫أرى الليالي أسرعت في نقضي‬
‫أقعدنني? من بعد طول نهضي?‬ ‫وح َن ْينَ عـرضـي‬
‫خ َن ْينَ طولي َ‬

‫ولما أزف أمر ُه‪ ،‬وحان فراقه‪ ،‬واشتدت علته‪ ،‬وأيس من برئه‪ ?،‬أنشأ يقول‪:‬‬

‫ولم أك في اللذات أعشى النواظر‬ ‫فيا ليتني لم أعن في الملك سـاعة‬


‫من الدهرحتى زار أهل المقابر‬ ‫وكنت كذي طمرين عاش ُبب ْل َـغة‬

‫قال المسعودي‪ :‬ولمعاوية أخباركثيرة مع علي وغيره‪ ،‬وق??د أتين??ا على الغ??رر من‬
‫أخباره‪ ،‬وما كان في أيامه في كتابينا أخبار الزمان واألوسط‪ ،‬وغيرهم??ا من كتبن??ا‪،‬‬
‫مما أفرد لآلثار‪ ،‬وهذا باب كبير‪ ،‬والكالم فيه وفي غ??يره مم??ا تق??دم وت??أخر في ه??ذا‬
‫ضمِنَ االختصار لم َي ُج ْز له اإلكثار‪.‬‬
‫الكتاب كثير‪ ،‬و َمنْ َ‬
‫وإنما نذكر في كل باب من هذا الكتاب ُط َر َفا َ من كل نوع من العلوم واألخبار‪ ،‬وما‬
‫انتخبناه من طرائف اآلثار‪ .‬ليس??تدل الن??اظر في??ه بم??ا ذكرن??ا على الم??راد مم??ا تركن??ا‬
‫ذكره‪ ،‬وقد تقدم وصفه وبسطه فيما سلف من كتبنا‪.‬‬
‫ضل الصحابة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬عليهم السالم‪.‬‬ ‫وإذ تقدم ما ذكرنا‪ ،‬فلنذكر اآلن جمالً من َف ْ‬
‫إذ كانوا حجة على َمنْ بعدهم‪ ،‬وقدوة لمن تأخرعنهم‪ ،‬وباهلل التأييد‪.‬‬

You might also like