Professional Documents
Culture Documents
أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي
أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي
ص ّنف َنا كتابنا في أخبار الزمان ،وقدمنا الق??ول في??ه في هيئ??ة األرض، أما بعد ،فإنا َ
وأغ َواره??ا ،وجباله??ا ،وأنهاره??ا ،وب??دائع معادنه??ا، ومدُنها ،وعجائبه??ا ،وبحاره??اْ ،
?رات الص??غار ،وأخب??ار وأصناف َم َناهلها ،وأخبار ِغ َياضِ ها ،وجزائر البحار ،وال ُب َح ْي? َ
?رفة ،وذك??ر ش??أن المب??دأ ،وأص??ل ال ّن ْس?ل ،و َت َب??اين األبنية ال ُم َع ّظمة ،والمس??اكن المش? َّ
?را فص??ار األوطان ،وما كان نهراً فصار بحراً ،وما كان بحراً فصار َب ًّرا ،وما ك??ان َب? ًّ
بحراً ،على م?رور? األي??ام ،و ُم? ُرور? ال?دهور ،وعل?ة ذل?ك ،وس?ببه الفلكي والط?بيعي،
وانقسام األقاليم بخواص الك?واكب ،ومع?اطف األوت?اد ،ومق?ادير الن?واحي واألف?اق،
وتباين الناس في التاريخ القديم ،واختالفهم في َبدْ ئِه وأوليته ،من الهند.
وأصناف الملحدين ،وما ورد في ذلك عن الشرعيين ،وم??ا نطقت ب??ه الكتب وورد
على ال??دينيين? .ثم أتبعن??ا ذل??ك بأخب??ار المل??وك الغ??ابرة ،واألمم ال ? َّداث َِرةَ ،وا ْلقُ?? ُرون
الخالية ،والظوائف البائحة على َم ّر سيرهم ،في تغير أوقاتهم وتض??يف? أعاص??رهم،
من الملوك والفراعنة العادية واألكاس??رة واليوناني??ة ،وم?ا ظه??ر من حكمهم ومق??ال
ض?اعِيف ذل??ك من أخب??ار فالسفتهم وأخبار ملوكهم ،وأخب??ار العناص??ر ،إلى م??ا في َت َ
ش ّرف برسالته محم??داً نبي ?ه? هللا بكرامته? و َ أفضى ّ
األنبياء والرسل واألتقياء ،إلى أن َ
از َي??ه، ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،ف??ذ َك ْر َنا مول??ده ،ومنش??أه ،وبعث??ه ،وهجرت??ه ،و َم َغ ِ
ساق المملك??ة ب??زمن زمنَ ،و َم َقا ِت??ل ان وفاته ،واتصال الخالفةَ ،وا ِّت َ س َراياه ،إلى َأو ِ و َ
َمنْ ظه??ر من الط??البين ،إلى ال??وقت ال??ذي ش??رعنا في??ه في تص??نيف? كتابن??ا ه??ذا من
خالفة المتقي هّلل أمير المؤمنين ?،وهي سنة اثنتين وثالثين وثالثمائة.
ثم أتبعناه بكتابنا األوسط في األخبار على التاريخ وما اندرج في السنين الماضية?،
من ل??دن ال َب??دء إلى ال??وقت ال??ذي عن??ده انتهى كتابن??ا األعظم وم??ا تاله من الكت??اب
األوسط .ورأينا إيجاز ما بس??طناه واختص?ار م??ا وس??طناه ،في كت?اب لطي??ف ُنو ِد ُع?ه
ض َّم َّناهُما ،وغير ذل??ك من أن??واع العل??وم ،وأخب??ار األمم لُ َمع ما في ذي الكتابين مما َ
الماضية ?،واألعصار الخالية ،مما لم يتقدم ذكره فيهما.
اب
ش? َ ?رض لم ق??د َ ?ال إنْ َع? َ ص?ل? من إغف? ٍ ?ير إنْ ك??انَ ،و َن َت َن ّ
على أن??ا نعت??نر? من تقص? ٍ
َخ َواطِ َر َناَ ،و َغ َم َر قلوبنا ،من َت َقا ُذف األسفار ،و َق ْط? ع ا ْلقِف??ار ،ت??ارة على َم ْتن البح??ر،
?واص األق??اليم
ّ وتارة على ظهر البرُ ،م ْس َت ْع ِملِينَ بدائع األمم بالمش??اهدة ،ع??ارفين خ?
سند والزنج والصنف والص??ين وال??زابجَ ،و َت َق ُّحمن??ا َّ
الش? ْر َق بال ُم َعا َي َنة ?،ك َق ْطعنا ِباَل دَ ال ِّ
بأقص??ى ُخ َراس??ان ،وت??ارة بوس??ائط أرمينية? وأذربيج??ان وال??ران ِ والغ??رب ،فت??ار ًة
س? َرى الش??مس في يري في اآلف??اقُ ، والبلقان ،وطوراَ بالعراق ،وطوراً بالش??امَ .
فس? ِ
اإلشراق .كما قال بعضهم:
ش ْرقِ َها األ ْقصى َو َط ْوراً إ َلى ا ْل َغ ْر ِ
ب ار ا ْل ِباَل دِة فتارة لدى َ َت َي َّم َم أَ ْق َط َ
ـــالـــركـــب ق??ال
َّ ـــصـــ ُر ِبـاء ُي َق ِّ
ش ْمس ،اَل َي ْنف ُّك َت ْقذِف ُه ال َّن َوى إ َلـى أفق َن ٍ س َرى ال َّ ُ
المصنف :ثم مفاوضتنا أصناف الملوكِ على تغاير أخالقهم،
صفحة 2 :
وأخ ُذ َنا بمسلك مسلك من مواقفهم ،على أن العلم وتباين هممهم ،وتباعد ديارهمْ ،
ثر فيه العناء ،وقل ّ ا ْلفهماء ة فال ُت َعاين إال ُم َم ّوها ًقد بادت آثاره ،وطمس مناره ،و َك َ
?ر االش??تغال به??ذا ِي عن اليقين ،لم َن? َجاهالً ،ومتعاطيا ً ناقصاً ،قد قنع بالظنون ،و َعم َ
الض ْرب من العل?وم والتف?رغ له?ذا الفن من اآلداب ،ح?تى ص?نفنا كتبن?ا من ض?روب َّ
المقاالت ،وأنواع الديانات ،ككت??اب اإلِبان??ة عن أص??ول الديان??ة وكت??اب المق??االت في
أصول الديانات وكتاب سر الحياة وكتاب نظم األدل?ة ،في أص??ول المل?ة وم??ا اش??تمل
عليه من أصول الف ْت َوى وقوانين األحك??ام :ك??تيقن القي??اس ،واالجته??اد في األحك??ام،
وقع الرأي واالستحسان ،ومعرفة الناسخ من المنسوخ ،وكيفية اإلجماع و ماهيته?،
والح ْظ? ر واإِل باح??ة ،وم??ا أتت ب??ه َ ومعرف??ة الخ??اص والع??ام ،واألوام??ر والن??وا هي،
األخبار من االستفاضة واآلحاد ،وأفعال النبي صلى هللا عليه وسلم ،وما ألحق بذلك
من أصول الف ْت َوى ،ومناظرة أنباء الخصوم فيما نازعونا في??ه ،م??وافقتهم في ش??يء
من??ه ،وكت??اب االستبص??ار في اإلمام??ة ووص??ف قاوي??ل الن??اس في ذل??ك من أص??حاب
النص واالختيار ،وحِجاج كل فريق منهم ،وكتاب الص??فوة في اإلمام??ة وم??ا احت??واه
ذلك ،مع س??ائر نتبن??ا في ض??روب علم الظ??واهر والب??واطن والجلي والخفي وال??دائر
الوافر ،وإيقاظنا على ما يرتقب??ه المرتقب??ون ،ويتو َّقع??ه المح??دثون ،وم??ا ذك??روه من
نور يلمع في األرض وينبسط في الجدب والخصب ،وم??ا في عقب ال َمالَح َم الكائن??ة،
الظاهر أنباؤها المتجلِّي أوائلُه?ا ،إلى س?ائر كتبن??ا في السياس??ة ،كالسياس?ة المدني??ة
وأجزاء المدينة ،ومثلها الطبيعية ?،انقسام أجزاء الملة ،واإِل بانة عن المواد ،وكيفية
تركيب العوالم ،األجسام السماوية ،وما هو محسوس وغير محسوس ،من الك??ثيف
اللطيف ،وما قال أهل ال ِّن ْحلة في ذلك.
اس ُكتب?ا ً في الت?اريخ واألخب?ار ِم ِّمنْ ش? َلف َوخ َل?ف ،فأص?اب البعض وق?د ألَّف ال َّن ُ
?وهْ ب وأخطأ البعض ،وكل قد اجتهد بغاية إمكانه ،وأظه?ر مكن?ون ج?وهر ْ
فط َنت?هَ ?:ك َ
بن ُم َنب??ه ،وأبي م ِْخ َن??ف ل??وط بن يحمى الع??امري ،ومحم??د بن إس??حاق ،والواق??دي،
وابن الكل??بي ،وأبي ُع َب ْي??دَ ة َم ْعم??ر بن المث??نى ،وأبي العب??اس الهم??داني ،وا ْل َه ْي َثم بن
وس ? ْهل بن وح َم??اد الراوي??ة ،واألص??معيَ ، قي بن القُ َط? اميَ ، والش ? ْر ّّ ع??دي الط??ائي،
ه??ا ُرون ،وعب??د هّللا بن المقف??ع ،واليزي??دي ،ومحم??د بن عب??د هّللا ا ْل ُع ْت ِبي ،واألم??وي،
ش َميل ?،وعبد هللا بن عائشة ،وأبي ضر? بن ُ وأبي زيد سعيد بن أوس األنصاري ،وال ّن ْ
مس ?ألَم ،وعلي بن محم??د الم??دائني ،ود َم??اذ بن رفي??ع بن س??لمة، ُع َبي ? ٍد القاس??م بن َ
ومحمد بن سالم ا ْل ُج َمحِي ،وأبي عثمان َع ْمرو بن بحر الجاحظ ،وأبي زيد عم??ر بن
قيئ األنصاري ،وأبي السائب المخزومي ،وعلي بن محم??د بن والز َر َ ش َّبة النميريّ ?، َ
والرياش?ي ،وابن عاب??د ،وعم??ارة بن ِ سليمان النوفلي ،وال ُز َب??ير بن َب َّكار ،اإِل نجيلي،
?وار ْزمي ،وأبي وس??يمة المص??ري ،وأبي حس??ان الزي??ادي ،ومحم??د بن موس??ى ا ْل ُخ? َ
جعفر محمد بن أبي لسري ،ومحمد بن الهيثم بن ش??بابة الخراس??اني ص??احب كت??اب
ص?لي ص??احب كت??اب األغ??اني وغ??يره من الكتب، الدول??ة ،إس??حاق بن إب??راهيم ا ْل َم ْو ِ
والخلي??ل بن الهيثم اله??ر َتمي ص??احب كت??اب الحي??ل والمكاي??د في الح??روب غ??يره،
المبر ِد األزدي ،ومحم??د بن س??ليمان المنق??ري الج??وهري ،ومحم??د، ِّ ومحمد بن يزيد
البي المصري المصنف للكت??اب الم??ترجم كت??اب األج??واد وغ??يره ،وابن بن زكريا ا ْل َغ ِّ
باهلل ،وأحم??د بن محم??د الخ??زاعي المع??روف بالخاق??اني أبي ال??دنيا م??ؤدب المكتفي ّ
ي األنصاري صاحب أبي يزي??د عم??ارة هللا بن محمد بن حفوظ ال َب َل ِو ّ األنطاكي ،وعبد ّ
بن زيد المديني ،أحمد بن محمد بن خالد البرقي الكاتب صاحب التبي??ان ،وأحم??د بن
ش?اء ،علي بن الو َّ
أبي طاهر صأحب الكتاب المع??روف بأخب??ار بغ??داد وغ??يره ،وابن َ
مجاهد ص??احب الكت??اب المع??روف بأخب??ار األم??ويين وغ??يره ،ومحم??د بن ص??الح بن
النطاح صاحب كتاب الدولة العباسية وغ??يره ،ويوس?ف? بن إب??راهيم ص??احب أخب??ار
إبراهيم بن المهدي وغيرها ،ومحمد بن الحارث الثعلبي ص??احب الكت??اب المع??روف
بأخالق الملوك المؤلف للفتح بن َخا َقان وغيره ،وأبي سعيد السكري ص??احب كت??اب
أبي??ات الع??رب ،وعبي??د هّللا بن عب??د هللا بن خرداذب??ة؛ فإن??ه ك??ان إمام ?ا ً في الت??أليف
متبرعا ً في َماَل حة التصنيف ،أت َب َعه من ُي ْع َتمد ،وأخذ من??ه ،ووطئ على عقب??ه ،و َقف??ا
أثره ،وإذا أردت أن تعلم صحة ذلك فانظر إلى كتابه الكبير في الت??اريخ فإن??ه اجم??ع
وأح? َوى ألخب??ار األمم ومل??وكهم ه??ذه الكتب ج??داً ،وأبرعه??ا نظم?اً ،وأكثره??ا علم?اًْ ،
وس??يرها من األع??اجم وغيره??ا ،ومن كتب??ه النفيس??ة كتاب??ه في المس??الك والممال??ك
وغير ذلك مما إذا طلبته وجدته ،وإذا تفقدته حمدته ،وكتاب التاريخ من المولد إلى
الوفاة ،ومن كان بعد النبي صلى هللا علي??ه وس??لم من الخلف??اء والمل??وك إلى خالف??ة
المعتضد باهّلل ،وما كان من األجداث والكوائن في أي??امهم وأخب??ارهم ،ت??أليف محم??د
?اريخ? ألحم??د بن يحمى ا ْل َبالَ ُذري، ي ?،وكت??اب الت? ِ بن علي الحس??يني العل??وي ال??دِّ َي َن ِ
ور ِّ
?و ًة من هج??رة الن??بي ص??لى هللا علي??ه ص? ْلحا َ َو َع ْن? َ وكتابه أيضا ً في البلدان وفتوحه??ا ُ
وسلم وم??ا فتح في أيام??ه وعلى ي??د الخلف?اء بع??ده ،وم??ا ك??ان من األخب??ار في ذل?ك،
ووصف البلدان في الشرق والغرب والشمال والجنوب ،وال نعلم في فتوح البلدان
صفحة 4 :
أحسن منه ،وكت??اب داود بن الج??راح في الت??اريخ الج??امع لكث??ير من أخب??ار الف??رس
وغيرها من األمم ،وه??و ج??د ال??وزير علي بن عيس??ى بن داود بن الج??راح ،وكت??اب
التاريخ الجامع لفنون من األخبار والكوائن في األعصار قبل اإِل سالم وبعده ،ت??أليف
أبي عبد هّللا محم??د بن الحس??ين ابن س??وار المع??روف ب??ابن أخت عيس??ى بن المنجم
على ما أنبأت به الت??وراة وغ??ير ذل??ك من أخب??ار األنبي??اء والمل??وك و ُك َّتاب الت??اريخ،
وأخبار األمويين ومناقبهم ،وذكر فضائلهم ،وما أ َت ْوا ب??ه عن غ??يرهم ،وم??ا أح??دثوه
من الس??ير في أي??امهم ،ت??أليف أبي عب??د ال??رحمن خال??د بن هش??ام األم??وي ،وكت??اب
الدوالب ِّي في التاريخ ،والكتاب الشريف تأليف أبي بك??ر محم??د بن ِ القاضي أبي بشر
خل?ف بن وكي?ع القاض?ي في الت?اريخ وغ?يره من األخب?ار ،وكت?اب الس?ير واألخب?ار
لمحم??د بن خال??د الهاش??مي ،وكت??اب الت??اريخ والس??ير ألبي إس??حاق بن س??ليمان
الهاشمي ،وكتاب سير الخلفاء ألبي بكر
هللا
محمد بن زكريا الرازي صاحب كتاب المنصوري? في الطب وغيره ،فأما عبد ّ
بن مسلم بن قتيبة? ال??دينوري? فممن ك??ثرت كتب??ه واتس??ع تص??نيفه ?،ككتاب??ه الم??ترجم
بكتاب المعارف وغيره من مصنفاته.د بن زكريا الرازي ص??احب كت?اب المنص?وري?
هللا بن مس??لم بن قتيب ?ة? ال??دينوري? فممن ك??ثرت كتب??ه
في الطب وغ??يره ،فأم??ا عب??د ّ
واتسع تصنيفه ،ككتابه المترجم بكتاب المعارف وغيره من مصنفاته?.
المعروف بكتاب زهر الربي??ع ،وأش??رف على كتاب??ه الم??ترجم بكت??اب الخ??راج؛ فإن??ك
تشاهد بهما حقيقة ما قد ذكرنا ،وصِ دْ َق ما وصفنا ،وما صنفه? أبو القاسم جعف??ر بن
محمد بن حمدان الموص??لي الفقي??ه في كتاب??ه في األخب??ار ال??ذي يع??ارض في??ه كت??اب
الروضة للمبرد ولقبه بالباهر ،وكتاب إب?راهيم بن ماهوي?ه الفارس?ي ال?ذي ع?ارض
فيه المبرد في كتابه الملقب بالكامل ،وكت??اب إب??راهيم بن موس??ى الواس??طي الك??اتب
في أخبار الوزراء الذي عارض فيه كتاب محم??د بن داود بن ا ْل َج? راح في ال??وزراء،
وكتاب علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوق في أخبار عدة من وزراء المقت??در
باهّلل ،وكتاب زهرة العيون وجالء القلوب ت??أليف المص??ري ،وكت??اب الت??اريخ ت??أليف
عب??د ال??رحمن بن عب??د ال??رازق المع??روف با ْل َج ْو َز َج? اني الس??عدي ،وكت??اب الت??اريخ
وأخبار الموصل تأليف أبي ذكره الموصلي ،وكتاب التاريخ تأليف أحم??د بن يعق??وب
المصري في أخبار العباسيين وغيرهم ،وكتاب التاريخ في أخب??ار الخلف??اء من ب??ني
هللا بن الحس??ين بن س??عد الك??اتب ،وكت??اب محم??د بن مزي??د بن العباس وغيرهم لعبد ّ
أبي األزهر في التاريخ وغيره ،وكتابه المترجم بكتاب الهرج واألحداث.
ورأيت ِس?? َنانَ بن ث??ابت بن ق??رة ا ْل َح?? راني حين انتح??ل م??ا ليس من ص??ناعته،
واس??تنهج? م??ا ليس من طريقت??ه ق??د ألَّف كتاب ?ا ً جعل??ه رس??الة إلى بعض إخوان??ه من
الكت???اب ،واس???تفتحه بجوام???ع من الكالم في أخالق النفس وأقس???امها من الناطق???ة
والغضبية? والشهوانية ،وذكر لُ َمع?ا ً من السياس??ات المدني??ة مم??ا ذك??ره أفالط??ون في
كتاب??ه في السياس??ة المدني??ة ،وه??و عش??ر مق??االت ،ولمع ?ا ً مم??ا يجب على المل??وك
أخبار يزعم أنها ص??حت عن??ده ولم يش??اهدها ،ووص??ل ذل??ك ٍ والوزراء ،ثم خرج إلى
بأخبار المعتضد باهّلل ،وذكر صحبته إياه ،وأيامه الس??الفة مع??ه ثم ت??رقى إلى خليف??ة
خليف??ة في التص??نيف ،مض??ادة لرس??م اإلخب??ار والت??واريخ? وخروج?ا ً عن جمل??ة أه??ل
التأليف ،وهو وإن أحسن فيه ،ولم يخرجه عن معاني??ه ،فإنم?ا عيب?ه أن?ه خ??رج عن
مركز صناعته ،وتكلف ما ليس من مهنته ?،ولو أقبل على علمه الذي انف??رد ب??ه من
علم إقلي??دس والمقطع??ات وال َم َج ْس?? َطى والمح??ورات ،ول??و اس??تفتح آراء س??قراط
وأفالطون وأرسطاطاليس ،فأخبر عن األشياء الفلكية ،واآلثار العلوية ،والمزاج??ات
الطبيعية ?،والنسب والتأليفات ،والنتائج والمقدمات ،والص??نائع المركب??ات ،ومعرف??ة
الطبيعيات :من اإِل لهي??ات ،والج??واهر والهي??آت ،ومق??ادير األش??كال ،وغ??ير ذل??ك من
أنواع الفلسفة لكان قد سلم مما تكلَّفه ،وأتى بما ه??و ألي??ق بص??نعته ?،ولكن الع??ارف
بقدره ُم ْع ِوز ،والعالم بمواضع الخلة مفقود ،وقد قال عبد هّللا بن المقفعَ :منْ وض??ع
كتابا ً فق??د اس??تهدف ،ف??إن أج??اد فق??د استش??رف ،وإن أس??اء فق??د اس??تقذف .ق??ال أب??و
ب التواريخ واألخبار الحسن علي بن الحسين بن علي المسعوعي :ولم نذكر من كت ِ
والسير واآلثار إال ما اشتهر مص??نفوها ،وع??رف مؤلفوه??ا ولم نتع??رض ل??ذكر كتب
تواريخ? أصحاب األحاديث في معرفة أسماء الرجال وأعصارهم وطبقاتهم ؛ إذ كان
صفحة 6 :
ذلك كله أكثر من أن ن??أتي على ذك??ره في ه??ذا الكت??اب ،إذ كن??ا ق??د أتين??ا على جمي??ع
تسمية أهل األعصار من حمله اآلث?ار ،ونقل?ة الس?ير واألخب?ار ،وطبق?ات أه?ل العلم
من عص??ر الص??حابة ،ثم َمنْ تالهم من الت??ابعين ،وأه??ل ك??ل عص??ر على اختالف
أن???واعهم ،وتن???ازعهم في آرائهم :من فقه???اء األمص???ار وغ ??يرهم من أه ??ل اآلراء
والنحل والمذاهب والجدل ،إلى سنة اثن??تين وثالثين وثالثمائ??ة ،في كتابن??ا الم??ترجم
بكتاب أخبار الزمان ،وفي الكتاب األوسط.
اب الثاني
ال َب ُ
مباحث الكتاب
قدم َنا فيما سلف من هذا الكتاب ذكرنا ألغراضه ،فلن??ذكر اآلن ُج َمالً من كمي??ة قد ْ
أبوابه على حسب مراتبها فيه ،واستحِقاقها منه ،لكي يقرب تناولها على مريدها.
فأول ذلك ذك??ر المب??دأ ،وش??أن الخليق??ةَ ،
وذ ْرء ال َب ِر َّي ِة من آدم إلى إب??راهيم عليهم??ا
الص??الة والس??الم .ذك??ر قص??ة إب??راهيم علي??ه الس??الم ،ومن َتالَ عص??ره من األنبي??اء
والملوك من بني إسرائيل.
ذكر ملك أرخبعم بن س?ليمان بن داود ،ومن َتال عص?ره من مل?وك ب?ني إس?رائيل،
وجمل من أخبار األنبياء والملوك من بني إسرائيل.
الفتر ِة ممن كان بين المسيح ومحمد صلى هللا عليه وسلم ذك??ر جم??ل من َ ذكر أهل
أخبار الهند وأربابها ،ومدد ممالكها ،وسيرها وآرائها في عبادتها.
ذكر األرض والبحار ،ومبادئ األنهار والجب?ال ،واألق?اليم الس?بعة وم?ا وااله?ا من
الكواكب وغير ذلك.
ذكر جمل من األخب??ار عن انتق??ال البح??ار ،وجم??ل من أخب??ار األنه??ار الكب??ار .ذك??ر
األخبار عن البحر الحبشي ،وما قيل في مقداره وتشعبه? و ُخ ْل َجانه.
ذكر تنازع الناس في ال َمدِّ َوا ْل َجزر ،وجوامع ما قيل في ذلك.
ذكر البحر الرومي ،ووصف ما قيل في طوله وعرضه وابتدائه وانتهائه?.
ذكر بحر نيطس ،وبحر مايطس ،وخليج القسطنطينية?.
ذكر بحر الباب واألبواب وا ْل َخ َز ِر و ُخ ْر َجان ،وجملة من األخب??ار عن ت??رتيب? جمي??ع
البحار.
ذكر ملوك الصين والترك ،وتفرق ولد عامور ،وأخبار الصين وملوكهم ،وجوام??ع
من سيرهم وسياساتهم وغير ذلك.
ذك??ر جم??ل من األخب??ار عن البح??ار ،وم??ا فيه??ا وم??ا حوله??ا من العج??ائب واألمم،
ومراتب الملوك ،وغير ذلك.
ذك??ر جب??ل القبج ،وأخب??ار األمم من الالن والس??رير والخ??زر ،وأن??واع من ال??ترك
وال َب ْلغر ،وأخبار الباب واألبواب ،ومن حولهم من الملوك واألمم.
ذكر ملوك السريانيين.
ذكر ملوك الموصل ويي َن َوى ?،وهم الصوريون.
ذكر ملوك بابل من ال َّن َبطِ وغيرهم ،وهم الكلدانيون.
ذكر ملوك الفرس األولى وسيرها ،وجوامح من أخبارها.
ذكر ملوك الطوائف األشعانيين ،وهم بين الفرس األولى والثانية?.
ذكر أنساب فارس ،وما قاله الناس في ذلك.
صفحة 8 :
صفر ،وأخبارها في ذلك. العرب في النفوس وال َهام وال َّ ُ ذكر ما ذهب إليه
ذكر أقاويل العرب في ال ّت َغؤُ ل والغيالن ،وما قاله غيرهم من الناس في ذلك ،وغير
ذلك مما لحق بهذا الباب واتصل بهذه المعاني.
ذكر أقاويل الناس في ال َه َواتِف والجانَ ،من العرب وغيرهم ممن أثبت ذلك ونفاه.
ذكر ما ذهب إليه الع??رب من القِ َياف??ة وال ِع َياف??ة َّ
والز ْج? ر والس??انح والب??ارح ،وغ??ير
ذلك.
ذكر ال َك َهانة وصفتها ،وما قاله الناس في ذلك من أخبارهاَ ،
وح ِّد الناطقة وغيره??ا
من النفوس ،وما قيل فيما يراه النائم ،وما اتصل بهذا الباب.
?رم ب?أرض س?بأ وم??أرب ،وتف??رق ْ
األز ِد في ذكر جمل من أخبار الكهان ،وس??يل ا ْل َع ِ
البلدان وسكناهم في البالد.
ذكرسِ ِني? العرب والعجم ،وشهورها ،وما اتفق منها وما اختلف.
ذكر شهور القبط والسريانيين ،والخالف في أسمائها ،وجمل من الت??اريخ ،وغ??ير
ذلك مما اتصل بهذا المعنى.
ووص??ف موافقته??ا لش??هور ال??روم ،وع??دد أي??ام الس??نة، ذك??ر ش??هور الس??ريانيينَ ،
ومعرفة األنواء.
ذكر شهور الفرس ،وما اتصل بذلك.
ذكر أيام الفرس ،وما اتصل بذلك.
ب وشهورها وتسمية أيامها و َل َياليها. ذكر سِ نِي العر ِ
ذكر قول العرب في ليالي الشهور القمرية ،وغير ذلك مما اتصل بهذا المعنى.
ذكر القول في تأثير النيرين في هذا العالم ،وجمل مما قيل في ذلك مما ا َتصل بهذا
الباب.
ذكر أرباع العالم والطبائع واألهْ ِو َيةِ ،وم??ا خص ب??ه ك??ل ج??زء من??ه ،من?ه? الش??رقي
والغربي واليمني? والجنوبي ،وغير ذلك من سلطان الكواكب.
ذكر ال??بيوت المعظم??ة ،والهياك??ل المش??رفة ،وبي??وت ال ِّن ِ
يران واألص??نام ،وعب??ادات
الهند ،وذكر الكواكب ،وغير ذلك من عجائب العالم.
ذكر البيوت المعظمة عند اليونانيينَ ،ووصفها.
الص َقالبةَ ،ووصفها. ذكر البيوت المعظمة عند َّ
ووصفها. ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الرومَ ،
الحرانيين ،وغيره??ا،وم??ا فيه??ا من ذكر بيوت معظمة وهياكل مشرفة للصابئة من َ
العجائب واألخبار وغيرها.
يران ،وكيفية? بنائها ،وأخب??ار المج??وس فيه??ا،وم??ا لح??ق ذكر األخبار عن بيوت ال َن ِ
ببنائها.
ذكر جامع تاريخ العالم من بدئه إلى مولد النبي صلى هللا عليه وسلم ،وم??ا اتص??ل
بهذا الباب من العلوم.
ذكر مولد النبي صلى هللا عليه وسلم ،ونسبه ?،وغيرذلك مما لحق بهذا الباب.
ذكر مبعثه? عليه الصالة والس??الم ،وم??ا ك??ان في ذل??ك إلى هجرت??ه ص??لى هللا علي??ه
وسلم .
صفحة 10 :
ذكر هجرته ،وجوامع مما كان في أيامه إلى وفاته صلى هللا عليه وسلم ذكر
أمور وأحو ال ً ك??انت من مول??ده إلى حين وفات??ه ص??لى هللا علي??ه وس??لم ٍ األخبار عن
ذكر ما بدىء به عليه الصالة والس?الم من الكالم ،مم??ا لم يحف??ظ قبل?ه عن أح?د من
األنام .
هّللا
ذكر خالفة أبي بكر الصديق رضي عنه ،ونسبه ،ولمع من أخباره وسيره.
هللا عنه ،ونسبه ،ولمع من أخباره وسيره. ذكر خالفة عمر بن الخطاب رضي ّ
ذكر خالفة عثمان بن عفان رضي هّللا عنه ،ونسبه ?،ولمع من أخباره وسيره.
ذكر خالفة علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه ،ونسبه ?،ولم??ع من أخب??اره وس??يره.
ونسب إخوته وأخواته.
ذكر األخبار عن يوم الجمل وبدئه ،وما كان فيه من الحروب ،وغيرذلك.
ذكر جوامع مما كان بين أهل العراق وأهل الشام ِبصِ فينَ .
ذكر الحكمين ،وبدء التحكيم.
ش َراة ،ومالحق بهذا الباب. هروان ،وهم ال ّ ذكر حروبه رضي هّللا عنه مع أهل ال َن َ
ذكرمقتل علي بن أبي طالب رضي هللا عنه.
ذكر لمع من كالمه ،وزهده ،وما لحق بهذا المعنى من أخباره.
ذكرخالفة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه ،ولمع من أخباره وسيره.
ذك??ر أي??ام معاوي??ة بن أبي س??فيان ،ولم??ع من أخب??اره وس??يرهَ ،و َن? َ?وادر من بعض
أخباره.
ذكر جمل من أخالق معاوية وسياسته ،وطرف من عيون أخباره.
فضلهم.ذكر الصحابة و َمدْ حهم ،وعلي بن أبي طالب والعباس رضي هللا كنهمَ ،و ْ
ذكر أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
ذكر مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي هللا عنهماَ ،و َمنْ قتل من أهل بيته?
وشيعته .ذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب رضي هللا عنه.
ذكر لمع من أخبار يزيد بن معاوي?ة وس?يره ،ون?وادر من بعض أفعال?ه ،وم?ا ك?ان
الح َّرة وغيرها.
منه? في َ
ذكر أيام معاوية بن يزيد ،وم??روان بن الحكم ،والمخت??ار بن أبي ُع َب ْي? دٍ ،وعب??د هّللا
بن الزبير ،ولمع من أخبارهم وسيرهم ،وبعض ما كان في أيامهم.
ذكر أيام عبد الملك بن مروان 4ولمع من أخباره وسيره ،والحجاج بن يوسف?،
وأفعاله ،ونوادر من أخباره.
ذكر لمع من أخبار الحجاج بن يوسف و ُخ َطبه ،وما كان منه في بعض أفعاله.
ذكر أيام الوليد بن عبد الملك ،ولمع من أخباره وسيره وم??ا ك??ان من الحج??اج في
أيامه.
ذكر أيام سليمان بن عبد الملك ،ولمع من أخباره وسيره
في عحة من كتب التواريخ والسير واألنساب أن آدم لما نطق بهذا الشعر أجابه
إبليس من حيث يسمع صوته? وال يرى شخصه ،وهو يقول:
ضاق ِبك ال َفسِ ي ُح األرض َ َف َقد ْفي ْ سـاكـنـي َهـا نح َع ِن الـبـاَل ِد و ََت َّ
ح
أذى الـدُّنـ َيا مـري ُ? َ أآدم مِـنْ وز ْوج َك ا ْل َحـوا ُء فـي َهـا وكنت ََ
إلي أنْ َفا َت َك الثـمـنُ الـربـيح? ومـكـريِ فما زا َل ْت مكايدتـي
ِب َك َفك مِنْ ِج َن ِ
ـان ا ْلـ ُخـلـد ِِري ُح ـحـت أض َ مـن ْ
الر ْح ِالر ْح َم ُة ََّف َل ْو َ
مفردا
ً ووجدت أن آدم عليه السالم سمع صو َتا َ وال يرى شخصا ً وهو يقول بيتا ً آخر
عون ما ذكرنا من هذا الشعر ،وهو هذا البيت:
وصارا ْل َح ُّي بالم ْيت الذبيحَ هابيل َ َقدْ قتالَ جميعـا ً
أبا ِ
حواء تحمل بشيث
صفحة 12:
وج َزع?ا ً على الماض??ي والب??اقي ،وعلم أن القات??ل فلما سمع آدم ذل??ك ازداد حزن?ا ً َ
مقت??ول ?.ف??أوحى هّللا إلي??ه إني مخ??رج من??ك ن??وري ال??ذي ب??ه الس??لوك في ال َق َن? َ?وات
الطاهرة واألرومات الشريفة ،وأباهي به األنوار ،وأجعله خاتم األنبياء ،وأجعل آل??ه
خيار األئم?ة الخلف?اء ،وأختم الزم?ان بم?دتهم ،وأغص األرض ب?دعوتهم ،وأنش?رها
ش َزوجت ? َك على طه??ارة منه??ا ،ف??إن ?بحْ ،
واغ َ بشيعتهم ،فش ِّمز وتط َهر ،و َق ِّدس ،وس? ْ
وديع??تى تنتق??ل منكم??ا إلى الول??د الك??ائن منكم??ا ،ف??اقع آدم َح? َّوا َء ،فحملت لوقته??ا،
?تى إذا انتهى وأش??رق جبينه??ا ،وتألأل الن??ور في َم َخايله??ا ،ولم??ع من محاجره??ا ،ح? ِ
الذ ْك َران ،وأتمهم وقاراَ ،وأحسنهم ص??ورة، س َم ًة كأسر ما يكون من ّ حملها وضعت َن َ
وأع? دَ لهم َخ ْلق?اً ،مجلّاًل ب??النور والهيب??ة ?،موش??حا ً بالجالل??ة واألبه??ة،وأكملهم هيئةْ ،
?رة طلعت??ه، س?ق في غ? َّ فانتقل النور من ح??واء إلي??ه ح??تى لم??ع في أس??اريرجبهته و َب َ
?ع وكم??ل واستبص??ر هللا ،ح??تى إذا ترع??رع وأيف? َفسما ه آدم شيثاً ،وقي??ل ش??يث هب??ة ّ
وعرف?ه مح??ل م??ا اس??تودعه ،وأعلم?ه أن??ه حج??ة هّللا بع??ده. َّ ص?ي َّته?، ْأو َ
عز إلي?ه آدم َو ِ
وخليفت??ه في األرض ،والم??ؤدِي ح??ق هّللا إلى ْأو ِ
ص?? َيائه ،وأن??ه ث??اني انتق??الى ال ِّن ِّر
الطاهرة ،وال ُج ْرثومة? الزاهرة.
وإن أنوش قد لبث في األرض يعمرها ،وقد قيل وهللا أعلم إن شي َثا َ أص??ل النس??ل
من آدم عون سائر ولده ،وقيل غير ذلك ،وكانت وفاة شيث قد مض??ت ل??ه تس??عمائة
س??نة واثنت??ا عش??رة س??نة وفي زمن أن??وش قُ ِت ?ل َ ق??اينُ ابنُ آدم قات ?ل ُ أخي??ه هابي??ل،
ولمقتله خبر عجيب قد أوردناه في أخبار الزمان في الكتاب األوس??ط ،وك??انت وف??اة
أنوش لثالث خل??ون من تش??رين األول ،ك??انت مدت??ه تس??عمائة س??نة وس??تيم ?،.س??نة،
وكان قد ولد له قينان،والح النور في جبينه ?،وأخ??ذ علي??ه العه? َد ،فعم??ر البالد ح??تى
مات ،فكانت مدت تسعمائة سنة? وعشرين سنة ،وقد قي??ل :إن موت?ه? ك??ان في تم??وز
بعدما ولد لى مهالئيل ،فكانت مدة مهالئيل ثمانمائة? سنة ،وقد ولد له ل??ود ،والن??ور
مت??وارث ،والعه??د م??أخوذ ،والح??ق ق??ائم ،ويق??ال :إن كث??يراً من المالهي أح??دثت في
أيامه ،أحدثها ولد قاين قاتل أخيه ،ولولد قاين مع ولد لو حروب وقصص ق??د أتين??ا
على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان ووقع التحارب بين ولد ش??يث وبين غ??يرهم من
ولد قاين ،فنوع من الهند ممن يقر ب??آدم ،ينتس??وبن إلى ه??ذا الش??عب من ول??د ق??اين
وأكثر هذا النوع بأرض قمار مز أرض الهند ،وإلى بلدهم أضيف الع??ود القم??اري ة
فكانت حياة لود سبعمائأ سنة? واثنتين وثالثين سنة ،وكانت وفاته في آذار.
أخنوخ
خ ،وهو إدريس النبي صلى هّللا عليه وسلم ،والص??ابئة ت??زعم أخ ُنو ُ
وقام بعحه ولم ْ
أنه هو هرمس ،ومعنى هرمس عطارد ،وهو الذي أخبر هّللا عزوجل في كتاب??ه أن??ه
رفعه مكانا ً عليا ً وكانت حياته في األرض ثالثمائأ سنة ?،وقي??ل أك??ثر من ذل??ك ،وه??و
در َز الدروز ،وخاط باإِل برة ،وأنزل عليه ثالثون صحيفة ،وكان قد نزل قبل أول من َ
ذلك على آدم إحدى وعشرون صحيفة ،وأنزل على ش?يث تس??ع وعش?رون ص??حيفة
فيها تهليل وتسبيح?.
متوشلح
ً
وقام بعده َم ّتوشلح بن أخنوخ ،فعمر البالد والنو ُر في جبينه ،وول??د ال أوالد ،وق??د
تكلم الناس في كثير من ول??ده ،وإق البلغ??ر وال??روس والص??قالبة من ول??ده ،وك??انت
حياته تسعمائة سنة وستين سنة ،ومات في أيلول.
صفحة 14 :
لمك
وقام بعده لمك ،وكان في أيامه كوائن واختالط في النس??ل ،وت??وفي،وك??انت حيات??ه
سبعمائة سنة وتسعين سنة?.
مساكن سام
فأما سام فسكن وسط األرض من بالد الحرم إلى حضرموت إلى عمان إلى عالج،
فمن ولده إرم بن سام ،وإرفخشذ بن سام بن نوح.
إرم بن سام
ومن ولد إرم بن سام عاذ بن عوص بن إرم بن سام وكانوا ينزلون األحق??اف من
الرمل ،فأرسِ ل َ إليهم هوذ..
إرفخشذ بن سام
وك?ان القيم بع?د س?ام في األرض ولح??ه إرفخش?ذ ،وك?ان عم?ره إلى أن قبض?ه هّللا
عزوجل ّ أربعمائة سنة وخمسا ً وستين سنة ،وكانت وفاته في نيسان.
شالخ بن إرفخشذ
ولم?ا قبض هّللا إرفخش??ذ ق?ام بع??ده ول?ده ش??الخ بن إرفخش?ذ ،وك?ان عم?ره إلى أن
هللا عز وجل أربعمائة سنة وثالثين سنة. قبضه ّ
عابر بن شالخ
ولما قبض هّللا شالخ قام بع?ده ول?ده ع?ابر؛ فعم?ر البالد ،وك?انت في أيام?ه ك?وائن
وتن??ازع في مواض??ع من األرض ،وك??ان عم??ره إلى أن قبض??ه هّللا ع??ز وج??ل إلي??ه
ثالثمائة سنة وأربعين سنة.
رعو بن فالغ
هّللا
ولما قبض فالغ قام بعده ولده رعوبن ف??الغ ،وقي??ل :إن في زمن?ه? 0ك??ان مول??د
خمروذ الجبار ،وكان عمره إلى أن قبضه هّللا مائتي? سنة ،وكانت وفاته في نيسان.
ساروغ بن رعو
ولما قبض هّللا رعو قام بعدهساروغ بن رعو ،وقيل :إنه في أيامه ظه??رت عب??ادة
ص َور ،لضروب من العلل أح??دثت في األرض وش??به? ذل??ك ،وك??ان عم??ره األصنام وال ُّ
إلى أن قبضه هّللا إليه مائتي سنة وثالثين سنة.
ناحور بن ساروغ
ولما قبض هّللا ساروغ قام بع??ده ن?احور بن س??اروغ مقت?ديا ً بمن س??لف من آبائ?ه،
ف وزالزل لم تعه?د فيم?ا س?لف من األي?ام قبل?ه ،وأح?دثت في رج? ٌ
وح?دث في أيام?ه ْ
أيامه ضروب من المهن واالالت ،وك??انت في أيام??ه ح??روب وتح??زيب األح??زاب من
الهند وغيرها ،وكان عمره إلى أن قبضه هّللا إليه مائة سنة وستا ً وأربعين سنة.
تارح بن ناحور
ولما قبض هّللا ناحور قام بع??ده ول??ده ت??ارح ،وه??و آزر أب??و إب??راهيم الخلي??ل ،وفي
عصره كان نم??روذ بن كنع??ان ،وفي أي??ام نم??روذ? ح??دثت في األرض عب??ادة الن??يران
واألنوار ،وجعل لها مراتب في العبادات ،وكان في األرض ه??رج عظيم من ح??روب
وإح??داث ك??ور وممال??ك بالش??رق والغ??رب،وغ??ير ذل??ك ،وظه??ر الق??ول بأحك?ام نج??وم
وص??ورت األفالك ،وعملت له??ا الآلالت ،وقُ? ِّ
?ر َب فهم ذل??ك إلى قل??وب الن??اس ،فنظ??ر
أصحاب النجوم إلى طالع السنة التي ولد فيها إبراهيم علي??ه الس??الم وم??اذا ي??وجب،
س? ّفه أحالمهم ،ويزي?ل? عب?ادتهم ،ف?أمر النم?روذ فأخبروا النمروذ أن مول?وداً يول?د ُي َ
الو لدان ،وأخفي إبراهيم عليه السالم في مغارة ،ومات آزر ،وهو تارح ،وكان بقتل ِ
هّللا
عمره إلى أن قبضه عزوجل مائتين وستين سنة ،و الموفق للصواب. هّللا
أصحاب المؤتفكة
وأرس???ل هللا لوط???ا ً إلى الم???دائن الخس???من ،وهي :س???دوم ،وعم???ورا ،وأدموت???ا،
وصاعورا ،وصابورا ،وإن قوم لوط هم أصحاب المؤتفكة ،وهذا االس??م مش??تق? من
اإِل ف??ك ،وه??و الك??ذب على رأي من ذهب إلى االش??تقاق ،وق??د ذك??رهم هّللا في كتاب??ه
?ة أهْ? َوى وه??ذه بالد بين ُت ُخ??وم الش??ام والحج??از مم??ا يلي األردنبقولهَ :وا ْل ُم ْؤ َتف َك? َ
وبالد فلسطين ،إال أن ذلك في ح?يز الش?ام ،وهي ُم َبق?اة إلى وقتن?ا ه?ذا ،وه?و س?نة
سو َمة? موجودة فيها يراه??ا اثنتين وثالثين وثالثمائة خرابا ً ال أحد بها ،والحجارة ال ُم َ
برا َق ًة ،فأقام فيهم لوط بضعا ً وعش?رين س?نة ي?دعوهم إلى هّللا سوداء َّ س َّفار َ الناس ال ُّ
هّللا
فلم يؤمنوا ،فأخذهم العذاب على حسب ما أخبر من شأنهم.
مولد إسحاق
ُ
إسحاق عليه السالم ،وذلك بعد مض??ي عش??رين ومائ??ة ثم ولد إلِبراهيم من سارة
سنة من عمره.
وقبض هّللا ع??ز وج??ل يعق??وب ببالد مص??ر ،وه??و ابن مائ??ة وأربعين س??نة ،فحمل??ه
يوسف فدفنه ببالد فلسطين ،عند تربة? إبراهيم وإسحاق ،وقبض هّللا يوسف بمص??ر?
وله مائة وعشرون س??نة ،وجع??ل في ت??ابوت من الرخ??ام ،وس??د بالرص??اص ،وطلى
األطلية الدافع??ة لله??واء والم??اء ،وط??رح في ني??ل مص??ر نح??و مدين?ة? َم ْن? َ
?ف ،وهن??اك
مسجده وقيل :إت يوسف ْأوصى أن يحمل فيدفن عن??د ق??بر أبي??ه ي َعق??وب في مس??جد
إبراهيم عليه السالم
أيوب النبي
وكان في عصره أيوب النبي صلى هّللا عليه وسلم ،وهوأيوب بن موص بن زراح
بن رعوايل بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السالم،وذلك في بالد الش??ام من
ورانَ والبثنية? من بالد األردن من بين دمشق والجابي??ة ?،وك?ان كث??ير الم??ال أرض ُح َ
فص ? َبر ،ورد هّللا علي??ه ذل??ك ،وأقال??ه
والول??د ،ف??ابتاله هّللا في نفس??ه ومال??ه وول??دهَ ،
ثرت??ه ?،واقتص م??ا اقتص من أخب??اره في كتاب??ه على لس??ان نبي ?ه? ص??لى هللا علي??ه َع َ
وسلم ،ومسجده والعينُ التي اغتسِ ل مئها في وقتنا هذا ،وهو س??نة اثن??تين وثالثين
نوى والج??والن فيم??ا بين لمح دمش??ق وطبري??ة من بالد وثالئمائة ?،مشهوران ببالد َ
األردن ،وه??ذا المس??جد والعين على ثالث??ة أمي??ال من مدين ?ة? َن? َ?وى ،أو نح??و ذل??ك،
وا ْل َح َج ُر الذي كان يأوي إلي??ه في ح??ال َبال ِئ??ه ه??و وزوجت??ه واس??مها رحم??ةفي ذل??ك
المسجد إلى هذا الوقت وذكر أهل الت??وراة والكتب األولى أن موس??ى بن ميش??اء بن
يوسف بن يعقوب نبي قبل موسى بن عمران ،وأنه هو الذي طلب الخضربن ملكان
ابن فالغ بن عابوربن شالخ بن إرفخشد بن سام بن نوح ،وذكر بعض أه??ل الكت??اب
أن الخضر هو خضرون بن عميائيل بن النف??ر بن العيص بن إس??حاق ابن إب??راهيم،
وأنه أرسل إلى قومه فاستجابوا له.
موسى بن عمران
فكان موس??ى بن عم??ران بن ق??اهث بن الوى بن يعق??وب بمص??ر في زمن فرع??ون
الجبار ،وهو الوليد بن مص??عب بن معاوي??ة بن أبي نم??ير بن أبي الهل??واس بن ليث
بن هران بن عمرو بن عمالق ،وهو الرابع من فراعنة مصر ،وقد كان طال عم??ره
وعظم جسمه ،وكان بن??و إس??رائيل ق??د اس??ترقُوا بع??د مض??ي يوس??ف ?،واش??تد عليهم
والنجوم والسحر فرعون أن مولودأ سيولد ويزيل ملك??ه ٍ البالء ،وأخبر أهل ال َك َهانة
ويحدث ببالد مصر? أموراً عظيمة ،فجزع لذلك فرعون ،وأمر بذبح األطف??ال ،وك??ان
من أمر موسى ما أوحى هّللا عزوجل إلى أ ِّم ِه في أمره :أن اقذفيه في اليم ،فقذفت??ه،
إلى آخر ما اقتص من خبره ،وأوضحه على لسان نبيه? صلى هللا عليه وس??لم وك??ان
ش َع ْيب عليه السالم ،وه??و ش??عيب بن ن??ويت بن رعواي??ل بن م??ر بن في ذلك الزمان ُ
عنقاء بن مدين بن إبراهيم ،وكان لسانه عرب ّياً ،وكان مبعوثا ً إلى أهل َم??دْ َينَ ،ولم??ا
خرج موسى عليه السالم هاربا ً من فرعون مر بشعيب الن??بي علي??ه الس??الم ،وك??ان
من أمره معه وتزويجه? ابنته? ما قد ذكره هّللا عزوجل.
ض ?ده بأخي??ه ه??ارون ،وبعثهم??ا إلى فرع??ون، وكلم هّللا موس??ى تكليم ?اً ،وش??دَ َع ُ
فخالفهم??ا ،ف??أغرق هّللا ع??ز وج??ل فرع??ون ،وأم??ره هّللا ع??ز وج??ل ب??الخروج بب??ني?
إسرائيل إلى ال َّتي??ه ،وك??ان ع??ددهم س??تمائة? أل??ف ب??الغ دون من ليس بب??الغ ،وك??انت
األلواح التي أنزله??ا هّللا على موس??ى بن عم??ران على جب??ل ط??ور س??يناء من زم??رد
أخض??ر فيه??ا كتاب??ة بال??ذهب ،فلم??ا ن??زل من الجب??ل رأى قوم?ا ً من ب??ني إس??رائيل ق?د
اعتكفا على عبادة عجل لهم ،فارتعد ،فسقطت األلواح من ي??ده ،فتكس??رت ،فجمعه??ا
وأودعها تابوت السكينة مع غيرها وجعله في الهيك??ل ،وك?ان ه??ارون كاهن?اً؛ وه??و
قيم الهيكل وأتم هللا عزوجل نزول التوراة على موس??ى بن عم??ران وه??و في ال ّتي??ه،
ت من نح??و جب??ل الش??راة مم??ا يلي وقبض هللا هارون في ال ّتيه فدفن في جب??ل و َم? َ
?وا ٍ
الطور ،وقبره مشهور في مغارة عادية يسمع? منها في بعض اللي??الي ع??وق ٌي عظيم
يجزع منه كل فيى روح ،وقيل :إنه غير مدفن ،بل ه??و موض??وع في تل??ك المغ??ارة،
ولهذا الموضع خبر عجيب قد ذكرن??اه في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان عن األمم الماض??ية
والممالك الداثرة ومن وصل إلى هذا الموضع علم ما وصفنا ،وكان ذل??ك قب??ل وف??اة
موس??ى بس??بعة? أش??هر ،وقبض هّللا ه??ارون وه??و ابن مائ??ة وثالث وعش??رين س??نة?،
وقيل :إنه قبض وهو ابق مائة وعشرين ،وقيل :إن موسى قبض بعد وفاة ه??ارون
بثالث سنين ،وإنه خرج إلى الشام وكان له بها ح??روب من س??رايا ك??انوا يس??رونها
?يرهم ممن ك?انوا بالش??ام وغ??يرهم من البر إلى العماليق والقربانيين والمدنيين وغي? ٍ
من الطوائ??ف على حس??ب م??افي الت??وراة ،وأن??زل هّللا ع??ز وج??ل على موس??ى عش??ر
صحف ،فاس??تتم مائ??ة ص??حيفة ،ثم أن??زل هّللا علي??ه الت??وراة بالعبراني??ة وفيه??ا األم??ر
سفروالنهي والتحريم والتح ْليل والسنن واألحكام ،وذنك في خمسة أسفار ،وال ً
صفحة 22 :
يريدون به الصحيفة ،وكان موسى قد ضرب التابوت الذي فيه الس??كينة من ال??ذهب
من ستماتة ألف مثقال وسبعمائة? وخمسين مثقاالً ،فصار الكاهن بعد هارون يوش ? ُع
هللا موس??ى وه??و ابن عش??رين ومائ??ة س??نة ?،ولم بن نون بن س??بط يوس??ف ،وقبض ّ
قبض
َ يحدث لموسى وال لهارون شيء من الشيب ،وال حاال عن صفة الشباب ولما
هّللا عز وجل موسى بن عمران سار يوشع بن نون بب??ني? إس??رائيل إلى بالد الش??ام،
وقد كان غلب عليها الجبابرة من ملوك العماليق وغيرهم من ملوك الشام ،فأس??رى
إليهم يوشع بن نون سرايا ،وكانت له معهم وقائع ،فافتتح بالد أريح??اء وزغ??ر من
أرض الغ??ور ،وهي أرض البح??يرة المنتن??ة ال??تي ال تقب??ل الغ??رقى ،وال يتك??ون فيه??ا
روح من سمك وال ْع? يزه ،وق?د ذكره?ا ص?احب المنط?ق وغ?يره من الفالس? ْفة و َمنْ
تقدم وتأخر من عصره ،وإليها ينتهي? ماء بحيرة طبري??ة ،وه??و األردن ،وب??دء م??اء
صب نهر بحيرة طبرية? من بحيرة كفرلى والقرعون من أرض دمشق ،فإذا انتهى َم َ
األردن إلى البحيرة المنتنة? َخ َر َق َها وانتهى إلى وس??طها متم??يزاً عن مائه??ا فيغ??وص
في وسطها ،وهو نهر عظيم ،فال يدري أين غاص من غير أن يزيد في البحيرة وال
ينقص منها ،ولهذه البحيرة أع??ني المنتن??ة أخب??ار عجيب??ة وأقاص??يص طويل??ة ،وق??د
أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان عن األمم الماض??ية والمل??وك ال??داثرة وذكرن??ا
أخبار األحجار التي تخرج منه??ا على ص??ورة البطيخ على ش??كلين ،ويع??رف الواح??د
منه??ا ب??الحجر اليه??ودي ،وذكرت??ه الفالس??فة ،واس??تعمله أه??ل الطب لمن ب??ه وج??ع
صاة في ال َم َثانة ،وهو نوع??ان :ذك??ر ،وأن??ثى ،فال?ذكر للرج?ال ،واألن??ثى للنس??اء،
الح َ
َ
ومن ه??ذه البح??يرة يخ??رج الغب??ار المع??روف ب??الحمرة ،وليس في ال??دنيا وهّللا أعلم
بحيرة ال يتكون فيها روح من سمك وغيره إال هذه البحيرة ،وبحيرة ر ِك ْب ُته??ا ببالد
أفربيج?ان بين مدين?ة إرميني?ة? والمراغ?ة ،وهي المعروف?ة هن?ا بكب?ودان ،وق?د ذك?ر
الن??اس ممن تق??دم ع??ذر ع??دم تك??ون الحي??وان في البح??يرة المنتن??ة ?،ولم يتعرض??وا
لبحيرة كبودان ،وينبغي على قياس قولهم أفي تكون علّتهما واحدة.
وسار ملك الش?ام وه??و الس??ميدع بن ه??وبر بن مال?ك إلى يوش??ع بن ن??ون؛ فك?انت
بينهم حروب إلى أن قتله يوشع ،واحتوى على جمي??ع ملك??ه ،وألح??ق ب??ه غ??يره من
?ام ،وك??انت م??دة يوش??ع بن ن??ون في شنَّ الغارات ب??أرض الش? ِ الجبابرة والعماليق ،و َ
بني إسرائيل بعد وفاة موسى بن عمران تسعا َ وعشرين سنة ،وهو يوشع بن ن??ون
بن إفرائيم بن يوسف? بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ،وقي??ل :إن يوش??ع بن ن??ون
كان بدء محاربته لملك العماليق وهو السميدع ببالد أ ْي َل َة نحو مدين ،ففي ذلك يقول
عوف بن سعد الجرهمي:
َّ
تـمـزعـا بأ ْي َل َة أمسى َل ْح ُم ُه قـد هـوبـر
ٍ ألم ترأنَ ا ْل َع ْم َلقـي ابـن
ودرعـا ثمانين ألفـا ً حـاسـرين ً تداعت عليه من يهود َحـجـافـل
على األرض مشيا ً مصعدين وفُ َّزعا فأمست عداداً للعمـالـيق بـعـده
سـ َمـ ْيدعـاولم َي َرراء قبل ذاك ال َّ كأنْ لم يكونوا بين أجـبـال مـكة
بلعم بن بعوراء
وكان بقرية? من ق??رى البلق?اء من بالد الش??ام رج??ل يق??ال ل??ه بلعم بن ب??اعوراء بن
سنور بن وسيم بن ناب بن لوط بن هاران ،وكان مس??تجاب ال??دعوة ،فحمل??ه قوم??ه
يتأت له ذلك ،وعجز عن??ه ،فأش??ار على بعض َّ على الدعاء على يوشع بن نون ،فلم
ملوك العماليق أن يبرزوا الحسان من النساء نحو عسكر يوش??عع بن ن??ون ففعل??وا،
فتسرعوا إلى النساء فقع فيهم الطاعون ،فهلك منهم س??بعون ألف?اً ،وقي??ل أك??ثر من
ذلك وبلعم هو الذي أخبر هللا عنه أنه آتاه اآليات فانسلخ منها وقيل :إن يوشمع? بن
نون قبض وهو ابن مائة وعشرين سنة.
كالب بن يوقنا
?الب بن يوقن??ا بن ب??ارض بن يه??وذا، وقام في بني إسرائيل بع??د يوش??ع بن ن??ون ك? ُ
ويوشع وكالب الرجالن اللذان أنعم هللا عليهما .قال المسعودي :ووجدت في نس??خة
أن القائم في بني إسرائيل بعد وفاة يوشع بن نون كوشان الكفري ،وأن??ه أق??ام فيهم
ثمانين سنة ?،وهلك ،وملك عميائيل بن قابيل من س??بط يه??وذا أربعين س??نة ،وقي??ل:
كوش جبار كان في آب من أرض البلقاء ،وإن بني? إسرائيل كف??رت بع??د ذل??ك فملً? َك
هللا عليهم كنعان عشرين س??نة ،وهل??ك ،فك??ان على ب??ني إس??رائيل عمالل األحب??اري
أربعين س??نة ،ثم ق?ام ش??مويل? إلى أن وليهم ط??الوت ،وخ??رج عليهم ج??الوت الجب??ار
ملك البربر من أرض فلسطين .قال المسعودي :فأما على الرواية األولى التي قمن??ا
ذكرها أن القيم بعد يوشع في بني? إسرائيل كالب بن يوقنا وأن القائم بع??ده في ب??ني
إسرائيل والمدبر لهم فنحاص بن العازر بن هارون بن عم??ران ثالئين س??نة ،وك??ان
َع َم?? َد إلى مص??احف موس??ى بن عم??ران علي??ه الس??الم فجعله??ا في خابي??ة نح??اس
رأس َها ،وأتى بها صخرة بيت المق??دس ،وذل??ك قب??ل بنائ?ه? ف??انفرجت ،ف??إذاص َ ص َور َ
مغارة فيها صخرة ثانية ،فضع الخابية فيها ،وانضصت الصخرة على ذل??ك ك َك ْونه??ا
أوالَ .ولما هلك فنحاص بن العازر دبر أمرهم كوشان األثيم ملك الجزيرة فتعبد بني
إسرائيل ،وأخذهم البالء ثم??ان س??نين ،ثم دب??رهم عنيائي??ل بن يوقن??ا أخ??و ك??الب من
سبط يهوذا أربعين س??نة ،ثم دب??رهم أعل??ون مل??ك م??واب بجه??د ش??ديد ثم??ان عش??رة
سنة ،ثم دبرهم أهوذ من ولد إفرايم خمس?ا ً وخمس??ين س??نة ،ولخمس وثالثين س??نة?
خلت من أيامه ثم للع?الم أربع?ة آالف س?نة وقي?ل غ?ير ذل?ك من الت?اريخ ،ثم دب?رهم
شاعان بن أهوذ خمسا ً وعشرين سنة ،ثم دبرهم يابين الكنعاني ملك الشام عشرين
رجالَ من سبط سنة ثم دبرهم امرأة يقال لها دبورا ،وقيل :إنها ابنته ،وضمت إليها َ
نفتالي يقال له باراق أربعين سنة ،ثم تداولتهم رؤوس من ب??ني? م??دين وهم ع??ريب
وربيب وبرسونا ودراع وصلنا تسع سنين وثالثة أشهر ،ثم دب??رهم ك??دعون من آل
منشا أربعين سنة ،وقتل ملوك مدين.،ثم ابنه أبيمالخ ثالث سنين وثالثة أش??هر ،ثم
دب??رهم تول??ع من آل إف??راين ثالث ?ا ً وعش??رين س??نة ?،ثم ي??امين من آل منش??ا اثن??تين
وعشرين سنة ،ثم ملوك عمان ثماني عشرة سنة وثالثة أشهر ثم نحشون من بيت
لحم سبع سنين ،ثم شنشون عشرين سنة ،ثم أملج عشر سنين ،ثم عج??ران ثم??اني
سنين ،ثم قهرهم ملوك فلسطين أربعين سنة ?،ثم عيالن الكاهن بعد ذلك أربعين
صفحة 24 :
سنة ،وفي زمانه ظفر البابل ُّيون ببني إسرائيل وغنموا التابوت ،وكان بنو إس??رائيل
يستفتحون به ،فحملوه إلى بابل ،وأخرجوهم من ديارهم وأبن??اءهم ،وك??ان م??ا ك??ان
ألوف َح َن َر الموت ،فقال لهم
ٌ من أمرف حزقيل ،وهم الذين أخرجوا من ديارهم وهم
هللا موتوا ثم أحياهم ،وكان قد أصابهم الطاعون ،فبقي منهم ثلث??ةز أس??باط ،فلحقت
فرقة بالرمل ،وفرقة بشواهق الجبال ،وفرقة بجزيرة من جزائ??ر البح??ر ،وك??ان لهم
خبر طويل ح??تى رجع??وا إلى دي??ارهم ،فق?الوا لحزقي?ل :ه??ل رأيت قوم?ا ً أص?ابهم م?ا
أصابنا .قال :ال ،وال سمعت بقوم ف??روا من هّللا ف??راركم ،فس??لط هّللا عليهم الط??اعون
سبعة أيام ،فماتوا عن آخرهم ،ودب??ر ب??ني? إس??رائيل بع??د عيالن الك??اهن ش??مويل ُ بن
بروحان ابن ناحورا ،ونبىء فمكث فيهم عشرين سنة.
طالوت وجالوت
ووض??ع هّللا ع??ز وج??ل عنهم القت??ال ،وص??لح أم??رهم ،فخلط??وا بع??د ذل??ك ،فق??الوا
لشمويل ?:ابعث لنا ملكا ً يقاتل معنا في سبيل هّللا ،فأمر بتملي??ك ط??الوت ،وه??و س??اود
بن بشر بن إينال بن ط?رون بن بح?رون بن أفيح بن س??ميداح بن ف?الح بن بني??امين
بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السالم ،فملكه هّللا عليهم ،ولم يجمعهم قبل
ذلك مثل طالوت ،وكان بين خروج موسى عليه السالم ببني? إسرائيل من مصر إلى
?رائيل ط?الوت خمس??مائة س??نة واثنت??ان وس??بعون س??نة وثالث??ة ِ أن ملك على بني إس?
أشهر ،وكان طالوت َد َّباغا َ يعم??ل األد َم ف??أخبرهم ن??بيهم ش??مويل أن ّ
هللا ق??د ب??دث لكم
طالوت ملكاً ،فقالوا فيه ما أخبر هّللا عزوجل في كتابه :وأنى يكون له الملك علين??ا
س ? َع ًة من الم??ال .ق??ال :إن هّللا اص??طفاه عليكم،ونحن أح??ق بالمل??ك من??ه ،ولم ي??ؤت َ
وزاعه بسطة في العلم والجسم وأخبرهم نبيهم أن وآية ملك??ه أن ي??أتيكم الت??ابوت
فيه سكينة ?،من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله المالئك??ة وك??ان
مدة ما مكث التابوت ببابل عشر سنين ،فسمعوا عند الفج??ر حفي??ف المالئك??ة تحم??ل
الت??ابوت ،واش??تد س??لطان ج??الوت ،وك??ثرت عس??اكره وقُ? َّ?واو ُر ،وبلغ??ه انقي??اد ب??ني
إسرائيل إلى طالوت ،فسار جالوت من فلسطين بأجناس من ال??بربروهو ج??الوت بن
بايول بن لاير بن حطان بن فارس فنزل بساحة بني إسرائيل ،فأمر شمويل? ط??الوت
بالمسير ببني إلبمرائيل إلى حرب جالوت ،فابتالهم هّللا ع??ز وج??ل بنه??ر بين األردن
هللا ذئ??ك في كتاب??ه ،وم??روا كي??ف وفنس??طين ،وس??لط هّللا عليهم العطش ،وق??د قص ّ
يشربون من النهر ،فلغه أهل الريب??ة ول??وغ الكالب ،فقتلهم ط??الوت عن آخ??رهم ،ثم
ضل من خيارهم ثالثمائة? وثالثة عشر رجالً فيهم إخ??وة داود علي??ه الس??الم ولح??ق ف َ
داود بإخوته ،فتوافؤ الجيشان جميعاً ،وكافت الحروب بينهما سِ َجاالً ،وندب ط??الؤت
الناس ،وجعل لمن يخ??رج إلى ج??الوت ثلث ملك??ه وي??تزوج? ابنت??ه ?،ف??برز داود فقتل??ه
بحجر كان في مِخالَ ِتهِ ،رماه بمقالع فخر جالوت ميتاً ،وقد أخبر هّللا عزوج??ل ب??ذلك
في كتاِبه بقوله :وقتل داود جالوت وقد ذكر أن الحج??ر ال?ذي ك?ان في مخالة داود
كان ثالثة أحجار ،فاجتمعت وصارت حجراً واحداً ،وله??ا أخب??ار ق??دمت ذكره??ا فيم??ا
سلف من كتبنا ،وهي التي قتل بها جالوت ،وإن القوم الذين ولغوا في الماء وخالفا
صفحة 25 :
ما أمروا به كان القاتل لهم طالوت .وقد أتين??ا على خ??بر ال??درع ال??تي ك??ان أخ??برهم
نبيهم أنه ال يقتل جالوت إال من صلحت عليه تلك ال??درع إذا لبس??ها ،وأنه??ا ص??لحت
ش على رأس??ه ،وخ??بر على داود ،وما كان من هذه الح??روب ،وخ??بر النه??ر ال??ذي َن َّ
تملك طالوت ،وأخبار البربر وبدء شأنهم في كتابنا في أخبار الزمان ،وسنورد بع??د
ه??ذا ُج َمالً من أخب??ار ال??بربروتفرقهم في البالد في الموض??ع الالئ??ق به??ا من ه??ذا
الكتاب.
داود
وأخ َمل ذكر طالوت ،وأبى طالوت أن يفي لداود بم??ا تق??دم من ورفع هّللا ذكر داودْ ،
ش??رطه ،فلم??ا رأى مي??ل الن??اس إلي??ه َز َّوج??ه ابنت??هَ ?،
وس?لم إلي??ه ثلث الجباي??ة ،وثلث
الحكم ،وثلث الناس .ثم حسه بعد ذلك وأراد اغتياله ،فمنع??ه هللا عزوج??ل من ذل??ك،
فأبى داود أن ينافسه في ملكه ،ونما أمر داود ،فبات طالوت على سرير ملكه فمات
من ليلته كمداً ،وانقاذث بنوإسرائيل إلى داود عليه السالم ،وكانت مدة ملك ط??الوت
عشرين سنة ،وذكر أن الموضع الذي قتل فيه جالوت كان ببيسان من أرض الغ??ور
خر ل??ه
وس? َ
هللا عز وجل لداود الحدي??د فعم??ل من??ه الح??روعَ ، من بالد األردنَ ،وأاَل َنه ّ
س ِّب ْحنَ معه ،وحارب داود أهل مواب من أرض البلقاء، الجبال والطير ُي َ
ور بالعبرانية خمسين ومائة س??ورة ،وجعل??ه ثالث??ة وأنزل هّللا عز وجل عليه َّ
الز ُب َ
نضر .وما يكون من أم??ره في المس??تقبل ?،وثلث م??اَ أثالث :فثلث ما يلقون من ُب ْخت
يلقون من أهل أثور ،وثلث موعظة وترغيب وتمجيد وترهيب ،وليس في??ه أم??ر وال
نهي وال تحليل وال تحريم ،واس??تقامت األم??ور ل??داود ،ولحقت الخ??وارج من الكف??ار
بأطراف األرض لهيبة? داود ،وبنى داود بيتا ً للعبادة بأورشليم ،وه??و بيت المق??دس،
وهو البيت الباقي لوقتنا هذا ،وهو سنة اثنتين وثالثين وثالثمائة ،ويدعى بمح??راب
داود عليه السالم ،وليس في بيت المقدس بناء هو أعلى منه في ه??ذا ال??وقت ،وق??د
يرى في أعاله البحيرة المنتنة? ونهر األردن المقدم ذك??ره ،وك??ان من أم??ر داود م??ع
الخصمين ما قص هّللا عزوجل في كتابه من خ??بره ،وقول??ه ألح??دهما قب??ل اس??تماعه
من االخرَ :ل َقدْ َظ َل َمك اآلية ،وقذ تنازع الناس في خطيئة داود :فمنهم من رأى م??ا
وصفنا ونفى عن األنبياء المعاصي وتعمد الفسق وأنهم معصومون فكانت الخطيئة
ما ذكرنا ،وذلك قوله عز وجل :يا داود إنا جعلن??اك خليف??ة في األرض ،ف??احكم بين
الناس بالحق ومنهم من رأى أن ذلك كان من قصة أروياء بن حي??ان ومقتل??ه على
ما ذكرنا في كتاب المبت??دأ وغ??يره ،وت??اب هّللا عزوج??ل على داود بع??د أربعين يوم?ا ً
كان فيها صائما ً باكياً ،وتزوج? داود عليه السالم مائة امرأة.
?رداً
?رداً ُم? ْ
على فلس??طين واألردن ،وك??ان عس??كره س??تين ألف ?ا ً أص??حاب س??يوف ُج? ْ
أصحاب بأس ونجدة.
لقمان الحكيم
وكان ببالد َمدْ ين وأ ْي َلة في عصر داود عليه السالم لُ ْق َم??ان الحكيم،وه??و لقم??ان بن
عنقاء بن مرب??د بنم ص??اوون ،وك?ان نوبي??ا م??ولى لل َق ْين بن جس??ر ،ول??د على عش??ر
س??نين من مل??ك داود علي??ه الس??الم ،وك??ان عب??داَ ص??الحا ً َف َمنَّ هّللا عزوج??ل علي??ه
بالحكمة ،ولم يزل باقيا ً في األرض ُمظهراً للحكم??ة والزه??د في ه?ذا الع?الم إلى أب?ام
يونس بن َم َّتى حين أرسل إلى أرض نِي َن َوى من بالد الموصل.
ملك سليمان
ولما قبض هّللا داود عليه السالم ق??ام بع??ده ول??ده س??ليمان ب??النبوة والحكم ،وغم??ر
عدلُه رعيته ،واستقامت له األمور ،وانق??ادت ل??ه الجي??وش ،وابت??دأ س??ليمان ببني??ان
بيت المقدس ،وهو المسجد األقصى الذي بارك هّللا عزوجل َح ْو َله ،فلما استتم بناءه
ب??نى لنفس??ه بيت?اً ،وه??و الموض??ع ال??ذي يس??مىفي وقتن??ا ه??ذا كنيس??ة القيأم??ة ،وهي
الكنيسة? العظمى ببيت المقدس عن??د النص??ارى ،ولهم كن??ائس غيره??ا معظم??ة ب??بيت
ص ْه ُيون ،وقد ذكرها داود عليه الس??الم ،والكنيس?ة? المعروف??ة المقدس ،منها كنيسة َ
هّللا
بالجسمانية? ويزعمون أن فيها قبر داود عليه السالم ،وأعطى عزوجل لسليمان
علي??ه الس??الم من المل??ك م??ا لم ُي ْعطِ?? ِه ألح??د من َخ ْلقِ??هَ ،
وس?? َّخر ل??ه الجن واإِل نس
والطيروالريح على .حسب ما ذك??ر هّللا عزوج??ل في كتاب??ه ،وك??ان مل??ك س??ليمان بن
ض وهو ابن اثن??تين وخمس??ين س??نة ،وهللا داود على بني? إسرائيل أربعين سنةَ ،وقُ ِب َ
ولي التوفيق.
وملك على بني إس??رائيل بع??د وف??اة س??ليمان بن داود عليهم??ا الس??الم أرخبعم بن
سليمان ،واجتمعت عليه األسباط ،ثم افترقوا عنه ،إال سبط يه??وذا وس??بط بني??امين،
وكان ملك?ه إلى أن هل?ك س?بع عش?رة س?نة ،ومل?ك على العش?رة األس?باط ب?وريعم،
وكانت ل??ه ك??وائن وح??روب ،واتخ??ذ ل??ه ِع ْجالً من ال??ذهب والج??وهر ،واعتك??ف على
عبادته .فأهلكه هّللا عز وجل ،فكان ملك??ه عش??رين س??نة ،ومل??ك بع??دهأبيابن أرخبعم
بن سليمان ثالث سنين ،ثم ملك بعده أحاب أربعين سنة وملك بع??ده ي??ورام ،ف??أظهر
عباثة األصنام والتماثيل? والصور ،وكان ملكه سنة ?،ثم ملكت بع??ده ام??رأة يق??ال له??ا
عيالن؛ فضعت السيف في ولد داود علي??ه الس??الم ،فلم َي ْن ُج منهم إال غالم ،ف??أنكرت
بنو إسرائيل ذلك من فعله?ا ،فقتلوه?ا ،وك?ان ملكه?ا س??بع س??نين ،وقي?ل غ??ير ذل?ك،
وملكوا عليهم الغالم الذي بقي من نسل داود ،فملك وله سبع سنين ،فأقام ملكا ً
صفحة 27 :
أربعين سنة ،وقيل دون ذلك ،وملك بعده مليصا ،وكان ملكه اثنتين وخمسين س??نة،
وكان في عصره شعيب النبي ،ولشعيب معه أخبار ،وكانت له حروب قد أتين??ا على
ذكرها في كتاب أخبار الزم??ان ومل??ك بع??ده نوق??ا بن ع??دل عشرس??نين ،وقي??ل :س??ت
عشرة سنة ،وم َل َك بعده أجام ،فأظهر عبادة األص??نام ،وطغى وأظه??ر ال َب ْغ َي ،فص??ار
إليه بعض ملوك بابل ،وكان يقال له فلعيعس ،وكان من عظماء مل?وك باب?ل ،وك?ان
وخ? ّرب م??دن األس??باط ومس??اكنهم، سرائيلي مع??ه ح??روب إلى أن أس??ره الب??ابليَ ، ِّ لإل
ِ
وكان في أيامه تنازع بين اليهود في الديان??ة ،فش??ذ منهم األس??امرة ،وأنك??روا نب??وة
داود عليه السالم ومن تاله من األنبياء ،وأبوا أن يكون بع??د موس??ى ن??بي ،وجعل??وا
رؤساءهم من ولد هارون بن عمران ،واألسامرة في وقتن??ا ه??ذا وه??و س??نة? اثن??تين
وثالثين وثالثمائة? ببالد فلسطين واألردن ،وفي قرى متفرقة? مثل القري??ة المعروف??ة
بعارا ،وهي بين الرملة وطبرية ?،وغيره??ا من الق??رى إلى مدين??ة ن??ابلس ،وأك??ثرهم
في هذه المدينة? أعني نابلس ولهم جبل يقال له طوريك ،ولألس??امرة علي??ه ص??لوات
في أوقاته??ا ،ولهم بوق??ات من فض??ة ُي ْن َفخ فيه??ا عن??د أوق??ات الص??الة ،وهم ال??ذين
اس ويزعمون أن نابلس هي بيت المقدس ،وهي مدينة يعقوب النبي س َ يقولون ال ِم َ
عليه السالم ،وهناك َم ْر َعاه وهما ص??نفان متباين??ان كتب??اينهم لس?ائر اليه??ود ،وأح??د
?ان
الصنفين يقال له الكوسان ،واآلخر الدروس??ان ،أح??د الص??نفين يق??ول الع??الم ومع? ٍ
غير ذلك أعرضنا عن ذكرها مخا َف َة التطويل ،وأن كتابنا هذا كتاب خبرالكت??اب آراء
ون َِحل ً.
البابلي سبع عشرة سنة ،ولماأسر الملك أج??ام ُّ وكان ملك أجام إلى أن أسره الملك
ملك ولد له يقال له حزقيل بن أجام ،فأظهر عباثة الرحمن ،وأم??ر بتكس??ير? التماثي??ل
واألصنام ،وفي ملكه سار سنجارب ملك بابل إلى بيت المقدس ،وك??انت ل??ه ح??روب
كثيرة مع بني إسرائيل ،وقتل من أصحابه خلق كثيرون ،وس??بى من األس??باط ع??دداً
كثيراً ،وكان ملك حزقيل إلى أن هلك سبعا ً وعشرين سنة.ثم ملك بعد حزقيل ولد له
فغمرش ? ُّره س??ائرمملكته،وه ?و? ال??ذي قت??ل ش??عيبا ً الن??بي ،فبعث هّللا
َ يق??ال ل??ه ميش??ا؛
قسطنطين ملك الروم فسار إليه في الجي??وش فه??زم جيش??ه وأس??ره فأق??ام في أرض
الروم عشرين سنة ،وأقلع عما كان عليه ،وعاد إلى ملكه ،فكان ملك??ه إلى أن هل??ك
خمسا ً وعشرين سنة ?،وقي?ل :ثالثين س?نة.ثم مل?ك بع?ده ول?د ل?ه يق??ال ل??ه أم??ور بن
ميشا ،فأظهر الطغيان ،وكفر بالرحمن ،وعبد التماثي?ل واألص??نام ،ولم?ا اش?تد بغي??ه
سار إلي??ه فرع??ون األع??رج من بالد مص??ر في الجي?وش ،ف?أمعن في القت??ل ،وأس?ره
ومضئ? به إلى مصر ،فمات هناك ،وكان ملكه خمس سنين ،وقيل غيرذلك.
وملك بعده أخ له يقال له نوفين ،وهو أب?و داني??ال علي??ه الس?الم ،وفي عص?ر ه?ذا
صر ،وهو َم ْر ُزبان العراق والع?رب من قب?ل مل?ك ف?ارس ،وك?ان الملك سار البخت َن ّ
ض ? ُر في القت??ل لب??ني إس??رائيل يومئ??ذ ب َب ْل َخ ،وك??انت َق َ
ص ?بة? المل??ك ،ف??أمعن البخت َن َ
واألسر ،وحملهم إلى أرض العراق ،وأخذ التوراة وما ك?ان في هيك??ل بيت المق?دس
من كتب الملوك و َط َرحه في بئر ،وعمد إلى تابوت السكينة فأودعه بعض المواضع
من األرض فيقال :إنه كان ِع ّمدةُ منْ سبى من ب??ني إس??رائيل ثماني?ة? عش??رألفاً.وفي
هذا العصر كان أرميا النبي عليه السالم ،وسار بخت َن َّ
ص ُر إلى
صفحة 28 :
مصر ة فقتل فرعون األعرج ،وكان يومئذ? ملك مصر ،وسار نحو المغ??رب فقت??ل
بها ملوكاً ،وافتتح مدائن .وكان ملك فارس تزوج جاري?ة من س?بايا ب?ني? إس?رائيل،
فرذ بني? إسرائيل إلى ديارهم ،وكان ذلك بعد سنين. فأولدهاولداًَ ،
ولما رجعت بنو إسرائيل إلى بالدهم ملكت عليها زريايل بن سلسان،فابتنى مدين??ة
بيت المق??دس ،و َع َّم َر م??ا ك??ان خ??رب ،وأخ??رجت بن??و إس??رائيل الت??وراة من الب??ئر،
واستقامت لهم األمور ،فأق??ام ه??ذا المل??ك على عم??ارة أرض??هم س??تا ً وأربعين س??نة،
وشرع لهم الص??لوات وغيره??ا من الش??رائع مم??ا ك??ان تل??ف منهم في ح??ال الس??بي،
واألسامرة تزعم أن التوراة التي في يد اليهود ليست التوراة ال??تي أورده??ا موس??ى
بن عمران عليه السالم ،وأن تلك حرفت وبدلت وغ??يرت ،وأن ا ْل ُم ْح? د َ
ِث له??ذه ال??تي
بأيديهم هذا الملك المذكور؛ ألنه جمعها ممن ك??ان يحفظه??ا من ب??ني إس??رائيل ،وأن
التوراة الصحيحة هي التي في أيدي األسامرة دون غيرهم ،وك??ان مل??ك ه??ذا المل??ك
ستا ً وأربعين س??نة ،ووج??دت في نس??خة أخ??رى أن الم??تزوج في ب??ني إس??رائيل ه??و
بخت نصرنفسه ?،وهوالذي َردهم ،ومنَ عليهم وفيه نظر.
بعض الملوك إلى مصر ،فلما صار رجالً بعثه هّللا عزوج??ل إلى ب??ني إس??رائيل ،فق??ام
فيهم بأمر هللا عزوجل ونهيه فقتلوه ،وكثرت األح??داث في ب??ني إس??رائيل ،فبعث هّللا
عليهم ملك?ا ً من ناحي??ة المش??رق يق??ال ل??ه ح??ردوس ،فقت??ل منهم على دم يح??يى بن
زكريا ألوفا ً من الناس وهو يفر إلى أن هدأ الدم بعد َخ ْطب طويل.
ُ
أخت مري َم أ ِّم المسيح يحيى بن زكريا عليهما السالم هربت به أشبا ُع ُ
ابنة عمران
حنظلة بن صفان
فممن ذكر أنه نبي َح ْن َظلة بن صفان ،وكان من ول??د إس??ماعيل بن إب??راهيم ،ص?لّى
س ،وكانوا من ي??د إس??ماعيل بن إب??راهيم الر ِّ
هللا عليهما وسلم ،وأرسل إلى أصحاب َّ ّ
وهم قبيلتان يقال إِل حداهما أدمان ،ولألخ??رى ي??امن ،وقي??ل :رعوي??ل وذل??ك ب??اليمن،
هللا عزوج??ل فقتل??وه ،ف??أوحى هّللا إلى ن??بي? من أنبي??اء ب??ني فق??ام فيهم حنظل??ة ب??أمر ّ
ص? َر ب??أن يس??ير? إليهم ،فس??ار إليهم ،ف??أتى إسرائيل من سبط يه??وذا أن ي??أمر بخت َن َ
عليهم ،ف??ذلك قول??ه ع??ز وج??ل :فلم??ا أحس??وا بأس??نا إلى قول??ه :حص??يداَ خام??دين ِ
شعرائهم في مرثية له ،فقال: وقيل:إ ن القوم كانوا من ح ِْمير ?،وقد ذكر ذلك بعض ُ
َر ْعـويل وقـدمـان ب َك ْت عيني ألهل َّ
الرس
نكال ا ْل َح ِّي َق ْحطـان َوأس َل َم من أبـي َز ْرع
ذو القرنين
وقد حكي عن وهب بن منبه? أن ذا القرنين وهو اإِل سكندر كان بع??د المس??يح علي??ه
الس??الم في ال َف ْت??رة ،وأن??ه ك??ان حلم حلم?ا ً رأى في??ه أن??ه دَ َن??ا من الش??مس ح??تى أخ??ذ
بقرنيه??ا في ش??رقيها وغربيه??ا ،فقص رؤي??اه على قوم??ه ،س??موه ب??ني الق??رنين،
وللناس في في القرنين تنازع كبيز وقد أتينا على ذلك في كتاب أخبار الزم??ان وفي
الكتاب األوسط ،وسنذكر لمعا ً من خبره عند ذكرنا لملوك اليونانيين الروم.
أهل الكهف
وكذلك تنازع الن?اس في أص?حاب الكه?ف في أي األعص?ار ك?انوا؛ فمنهم من زعم
?برهم في
أنهم كانوا في زمن الفترة ،ومنهم من رأى غيرذلك ،وسنأتي? بلم??ع من خ? ِ
ذكرنا ملو َك الروم في هذا الكتاب ،وإن كنا ق??د أتين??ا على ذل??ك في الكت??اب األوس??ط،
فيما سلف قبله من كتاب أخبار ا لزمان.
جرجيس
وممن كان في الف??ترة بع??د المس??يح? علي??ه الس??الم :ج??رجيس ،وق??د أدرك بعض
الح??واريين فأرس??له إلى بعض مل??وك الموص??ل ،ف??دعاه إلى هّللا ع??ز وج??ل ،فقتل??ه،
فأحياه هّللا وبعثه إليه ثانية ،فقتله ،فأحياه هّللا ،فأمر بنشره ثالث??ة وإحراق??ه وإذرائ??ه
?ع أه??ل مملكت??ه ممن اتبع??ه ،على في دجلة ،فأهل??ك هّللا ع??ز وج??ل ذل??ك المل? َك وجمي? َ
حس??ب م??ا وردت ب??ه األخب??ار عن أه??ل الكت??اب ممن آمن ،وذل??ك موج??ود في كت??اب
المبتدأ والسير لوهب بن ُم َن ِّبه وغيره.
حبيب النجار
وممن كان في الفترة :حبيب النجار ،وكان يسكن أنطاكي??ة من أرض الش??ام وك??ان
فدعواه
َ ص َور ،فسار إليه إثنان من تالمذة المسيح،
بها ملك متجبر يعبد التماثيل وال ُّ
إلى هّللا عز وجل ،فحبسهما وضربهما ،فعززهما بثالث ،وقد تنوزع فيه؛فذهب
هّللا
صفحة 31 :
كثير من الناس إلى أنه بطرس ،وه?ذا اس?مه بالرومي?ة ?،واس?مه بالعربي?ة س?معان،
وبالسريانية? شمعون وهو شمعون الصفاء ،وذكر كثير من الناس وإليه ذهب س??ائر
?ز َز ب??ه ه??و ب??ولس ،وأن االث??نين المت َق??دمين الل??ذين
فرق النص??رانية? أن الث??الث المع? َّ
أودع??ا الحبس توم??اوبطرس ،فك??ان لهم م??ع ذل??ك المل??ك خطب عظيم طوي??ل فيم??ا
أظهروا من اإلعجاز واألعاجيب وال??براهين :من إب??راء األكم??ة واألب??رص ،وإحي??اء
الميت ،وحيلة بولس عليه بمداخلته إياه وتلطفه له ،واستنفاذ صاحبيه? من الحبس،
فجاء حبيب النجار فصدقهم ،لما رأى من آيات هللا عزوجل ،وقد أخ??بر هّللا عزوج??ل
ب??ذلك في كتاب??ه بقول??ه :إذا أرس??لنا إليهم اث??نين فكنبوهم??ا إلى قول??ه :وج??اء من
وص ?لِبا منكس??ين،أقصى المدينة رجل َي ْس َعى وقتل بولس وبطرس بمدينة? رومي??ةُ ،
وكان لهم?ا فيه?ا خبرطوي?ل م?ع المل?ك ،وم?ع س?يما الس?احر ،ثم جعال بع?د ذل?ك في
خزانة من البلور ،وذلك بعد ظهور دين النصرانية ?،وحرمهم??ا في كنيس??ة هت??اك ق??د
ذكرناها في الكتاب األوسط عند ذكرنا العجائب رومية ?،وأخبار تالميذ المسيح عليه
السالم ،وتفرقهم في البالد ،وسنورد في هذا الكتاب لمعا ً من أخبارهم ،إِن ش??اء هللا
تعالى.
أصحاب األخدود
فأما أصحاب األخ??دود ف??إنهم ك??انوا في الف??ترة في مدين?ة? نج??ران ب??اليمن،في ُم ْل??كِ
ش َناتر ،وكان على دين اليهودي??ة ،فبل??غ ذا ُن? َ?واس أن قوم?ا ً ي ُن َواس ،وهو القاتل لذي َ
بنج َران على دين المسيح عليه السالم .فسار إليهم بنفسه ?،واحتف??ر لهم أخادي??د في ْ
وأض َرمها ناراً ،ثم عرضهم على اليهودية؛ فمن تبعه تركه، ْ األرض ،ومألها َج ْمراً،
ومن أبى َق َذفه في النار ،فأ َتى بامرأة معها طفلها ابن سبعة أش??هر ،ف?أبت أن تتخلى
أمه ا ْمض فأدنيت من النار ،فجزعت ،فأنطق هللا عزوجل الطفل فقال :يا ْ ْ عن دينها،
موحدين ،ال على رأي َ على دينك فال نار بعد هذه ،فألقاها في النار ،وكانوا مؤمنين
النص??رانية في ه??ذا ال??وقت ،فمض??ى رج??ل منهم يق??ال ل??ه ف ثعلب??ان إلى قيص??رملك
الروم يستنجده ،فكتب له إلى النجاش??ي ألن??ه ك??ان أق??رب إليهم داراً ا فك?ان من أم??ر
ف في س ? ْي ٍ
الحبشة وعب??ورهم إلى أرض اليمن ؤتغلبهم عليه??ا إلى أن ك??ان من أم??ر َ
يزن واستنجاده الملوك إلى أن أنجده أنو شروان ما ق??د أتين??ا على ذك??ره في كتابن??ا
أخبار الزمان ،وفي الكتاب األوسط ،وسنذكر لُمعا ً من ذلك فيما يرد من هذا الكت??اب
قصة أصحاب َ عند ذكرنا ألخبار األفاء وملوك اليمن ،وقد ذكر هّللا عزوجل في كتابه
األخدود بقوله عزوجل :قتل أص??حاب األخ??دود إلى قول??ه :وم??ا َن َق ُم??وا مئهم إال أن
يؤمنوا? باهّلل العزج الحميد
هللا عنه فقال :أنا أحفظها ي??ا رس??ول هللا ،فق??ال :هاتتا،
أحفظها ،فقام أبو بكر رضي ّ
فقال:
صائ ِْر ن مِنَ ا ْلقُ ُر ِ
ون َل َنا َب َ األولـي
ِـبـينَ َّالذاه ِ في َّ
ادر
ص ْ س َلها َم َ ت َل ْي َْلل َم ْو ِ ـــو ِارداً
ت َم َ لمـا َرأ ْي ُ
األوا ِئل ُ َو َ
األواخ ِْر ت ْمضِ ي? َ ت َق ْومي َن ْح َـوهـا ورأ ْي َُ
َي ْب َقى مِنَ ا ْل َباقِينَ َغ ِ
ـاب ْـر اَل َي ْر ِج ُع المـاضـي ،واَل
صار ا ْل َق ْو ُم صائ ِْرث َ َح ْي ُ ـت أنـي اَل مـحـالة أ ْي َق ْن ُ
فقال رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم :رحم هّللا قسا ،إني ألرج??و أن يبعث??ه هللا أم??ة
بص?ر? في الطب الزج?ر وحده.قال المسعودي :ولقس أش??عار كث?يرة و ِح َك ٌم ،وأخب?ار ُت ِّ
ْ
والفأل وأنواع الحكم ،وقد ذكرنا ذلك في كتاب أخبار الزمان وفي الكتاب األوسط.
وممن كان في الفترة :زيد بن عمرو بن ُن َف ْيل ،أب??و س??عيد بن زي??د أح??د ال َع َ
ش? َرة،
وهو ابن عم عمر بن الخطاب َل ّحاً ،وكان زي?د ي??رغب عن عب?ادة األص?نام ،وعابه?ا
الخط?اب س? َفهاء مك?ة ،وس?لطهم علي?ه ،فآف? ُه ،فس?كن كهف?ا ً بح??راء، ُ فأولع به َع ُّمه
وكان يدخل مكة سراً ،وسار إلى الشام يبحث عن الدين ،فس??مته? النص??ارى ،وم??ات
بالشام ،وله خبر طويل مع الملك الترجمان ،ومع بعض ملوك غسان بدمشق ،وق??د
أتينا عليه فيما سلف من كتبنا.
وأي ع ْب? ٍد َل??ك اَل أ َل َّمـا أو ق??ال :أن??ا من حفت ب??ه النعم??ة
إنْ َت ْغفِ??ر اللهم َت ْغفِ??ر َْج ّم??ا ُّ
والحمد ولم يجهد في الشكر ،ثم أنشأ يقول:
صغير َي ْومـا ً َط ِ
ـوياَل اب فيه ال ً ش ََ سـاب َي ْوم عـظـي ٌم إنَ َي ْو َم ا ْلحـ َ
فِي ُرؤوس ا ْل ِجبال ْأر َعى ا ْل ُو ُعوالَ ت َق ْبل َ مـا قـد َبـدَالِـي
َل ْي َتنِي ُك ْن ُ
ـارى أيامــه أنْ ي ُزوالَ ثم َفقُـ َ
ص َ ـاول َ حـينـا
ـط َش َوإنْ َت َ ُكل ّ َع ْي ٍ
شهق شهقة ة فكانت فيها نفسه. َ
قال المسعودي :وقد ذكر جماعة من أهل المعرفة بأيام الناس ،وأخبار َمنْ سلف
كابن دأب ،والهيثم بن عدي ،وأبي م ِْخ َنف لوط بن يحيى ،ومحمد بن السائب الكلبي
أن السبب في كتابة قريش ،واستفتاحها في أوائل كتبها باس??مك اللهم ه??و أن أمي??ة
ِير لهم ،فلما الشام في نفر من ثقيف وقريش في ع ٍ ٍ الص ْلت الثقفي خرج إلى
بن أبي َّ
لعش?ائهم ؛ إذ أقبلت حي??ة ص??غيرة ح??تى دَ َنت قفلوا راجعين نزلوا م??نزال ،واجتمع??وا َ
ش ?دواشدُواسفرتهم ثم قاموا َف َ ص َب َها بعضهم بشيء في وجهها ،فرجعتَ ،ف َ منهمَ ،ف َح َ
على إبلهم وارتحلوا من منزلهم ،فلما برزوا عن الم??نزل أش??رفت عليهم عج??وزمن
كثيب رمل متوكئة? على َعصا ً له??ا ،فق??الت :م??ا منعكم أن تطعم??وا رحيم??ة ?،الجاري??ة
ت منذ أع??وام، اليتيمة ?،التي جاءتكم عشية .قالوا :ومن أ ْنتِ .قالت :أم العوام ،أوت ْم ُ
أما ورب العباد ،لتفترقُنَّ في البالد ،ثم ضربت بعصاها األرض ،فأثارت بها الرم??ل،
ذر َوة ك??ل بع??ير منه??ا إيابهم ،وأ ْنف ِِري ركابهم ،فثبت اإِل بل فك??أن على ْ ِ وقالت :أطيلي
شيطاناَ ،ما نملك منها شيئاً ،حتى اف??ترقت في الب??وادي ،فجمعناه??ا من آخ??ر النه??ار
إلى غد ،ولم نكد ،فلما أنخناها لنرحلها طلعت علينا العج??وز فع??ادت بالعص??ا كفعله??ا
أوالً ،وعادت إلى مقالته??ا األولى :م??ا منعكم أن تطعم??وا رحيم??ة ،الجاري??ة اليتيم??ة.
أطيلي إيابهم وأ ْنف ِِري ركابهم ،فخرجت اإِل بل ما نملك منها شي َئاَ ،فجمعناها من آخ??ر
النهار إلى غ??د ،ولم نك??د ،فلم??ا أنخناه?ا لنرحله??ا طلعت علين??ا العج??وز ،ففعلت مث??ل
?رة ،وق??د يئس??نا من فعلته??ا األولى والثاني??ة ،فتف??رقت اإلب??ل وأمس??ينا في ليل??ة ُم ْق ِم? َ
فتوج َه إلى
َّ الص ْلتِ :أين ما كنت تخبرنا ب??ه عن نفس??ك. ظهورنا ،فقلنا ألمية? بن أبي َّ
ذلك الكثيب الذي كانت تأتي منه العجوز ،حتى َه َب َط من ناحية أخرى ،ثم صعد كثيبا ً
آخر حتى هبط منه ،ثم رفعت له كنيسة فيها قناديل ،وإذا رجل جالس أبيض الرأس
واللحية ،قال أمية :فلما وقفت عليه رفع رأسه إلي وقال :إنك لمتب??وع ،قلت :أج??ل،
قال :فمن أين يأتي?ك ص?احبك .قلت :من أذني اليس??رى ،ق?ال :فب?أي الثي?اب ي?أمرك.
قلت :بالسواد ،قال :هذا َخ ْطب الجن ،كدت ولم تفعل ،ولكن صاحب ه??ذا األمريكلم??ه
البياض ،فما جاء بك .وما حاجتك. ُ وأحب الثياب إليه
في أذنه اليمنىَ ،
ص?دَ ق ْت ،وليس?ت بص??ادقة ،هي ام??رأة يهودي?ة? هل?ك َ فحدثته حديث العج??وز ،ق?الَ :
زوجها منذ أعوام ،وإنها ال ت??زال تص??نع? بكم ذل??ك ح??تى تهلككم إن اس??تطا َع ْت ،ق??ال
وركم فإذا جاءتكم ففعلت ماكانت تفعل فقولوالها: أمية :فما الحيلة .قال :اجمعوا ُظ ُه َ
س?بعا ً من ف?ق ،وس?بعأمن أس?فل ،باس?مك اللهم ،فإنه?ا ال تض?ركم ،فرج?ع أمي?ة إلى
أصحابه ،فأخبرهم بما قيل له ،فجاءتهم ،ففعلت كما ك?انت تفع?ل ،فق?الوا :س??بعا ً من
فق ،وسبعأ من أسفل ،باسمك اللهم ،فلم تضرهم ،فلما رأت اإلبل لم تتحرك قالت:
صفحة 35 :
عرفت صاحبكمَ ،ل َي ْب َيضن أعاله ،ويسودن أسفله ،وسِ ْر َناَ ،فلما أدركنا الصبح نظرنا
ص في عذاري??ة ورقبت??ه وص??دره ،واس??ودّ أس??فله ،فلم??ا ق??دموا
??ر َ إلى أمي??ة ق??د َب ِ
مك??ةذكروا ه??ذا الح??ديث.وك??ان أمي??ة أول من كتب باس??مك اللهم إلى أن ج??اء هللا
عزوجل باإلسالم فرفع ذلك وكتب :بسم هللا الرحمن الرحيم ،وله أخبار غير ه??ذه
قد أتينا عليها وعلى ذكرها في أخبار الزمان وغيره مما سلف من كتبنا.
ورقة بن نوفل
ومنهم :ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد ال ُعزى بن قصي ،وهو ابن عم خديجة بنت
ُخويل??د زوج الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم َل ًح? اً ،وك??ان ق??د ق??رأ الكتب وطلب العلم،
عن عبادة األصنام ،وبشر خديج?ة ب??النبي ص?لى هللا علي?ه وس?لم وأن??ه ن??بي ورغب ِ
?ذب ،ولقي الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،فق?ال :ي??ابن هذه األمة ،وأنه س??يؤذى ويك? ُ
أخي ،ا ْث ُب ْت على م??ا أنت علي??ه ،.فال??ذي نفس ورق??ة بي??ده إن??ك لن??بي ه??ذه األم??ة،
ولتؤذ َين ولتكذبن ولتخرجن ولتقاتلن ،ولئن أدركت يومك ألنصرن هللا نصراً يعلمه، َ
ظهور النبي صلى هللا َ وقد اختلف فيه :فمنهم من زعم أنه مات نصرانياً ،ولم يدرك
عليه وسلم ،ولم يتيسر له أمره ،ومنهم من رأى أنه مات مس??لما ً وأن??ه م??دخ الن??يي
صلى هللا عليه وسلم فقال:
ض ِ
ب َو َي ْكظِ ُم ا ْل َغ ْي َظ ِع ْن َدالش ْتم َوا ْل َغ َ سـ ِّيئ ٍ?ة ص َف ُ?
ح اَل َي ْج ِـزي ِبـ َ فو َي ْ
َي ْع َ
البرهمن
ْ
فأز َم َع ْت على ذلك ،ونصبت? لها ملكاً ،وهؤ البرهمن األكبر ،والملك األعظم ،اإلمام
فيها المقدم ،وظهرت في أيامه الحكمة ،وتق?دمت العلم?اء ،واس?تخرجوا الحدي?د من
ض ِر َب ْ?ت في أيام??ه الس??يوف والخن??اجر ،وكث??ير من أن??واع المقات??ل ،وش??يد المعدن ،و ُ
?وؤر فيه??ا األفالك وال??بروج الهياك??ل ،ورص??عها ب??الجواهر المش??رقة المن??يرة ،وص? َ
االثنى عشر والكواكب ،وبين بالصورة كيفي??ة الع??الم ،وأرى بالص??ورة أيض ?ا ً أفع??ال
الكواكب في هذا العالم وأحداثها لألشخاص الحيواني??ة ?:من الناطق??ة وغيره??ا ،وبين
حال المدبر األعظم الذي هو الشمس ،وأثبت في كتابه ب??راهين جمي??ع ذل??ك ،و َق? َّ
?ر َب
إلى عقول العوام َف ْه َم ذلك ،وغرس في نفس الخواص دراية ما هو أعلى من ذل??ك،
وأشار إلى المبدأ األول المعطى سائر الموجودات وجو َد َه??ا الف??ائض عليه??ا بج??وده،
وانقاد ل??ه الهن??د ،وأخص??بت بالده??ا ،وأراهم وج??ه مص??الح ال??دنيا ،وجم??ع الحكم??اء
فأحدثوا في أيامه كتاب السند هند وتفسيره دهر الدهور ،ومنه فرغت الكتب ككتاب
األرجيه???د والمجس???طى ،وف???رع من األرجيه???د األركن???د ،ومن المجس???طى كت???اب
بطليموس ،ثم عمل منهما بع??د ذل??ك الزيج??ات ،وأح??دثوا التس??عة األح??رف المحيط??ة
بالحساب الهندي ،وكان أول من تكلم في أوج الشمس ،وذكر أنه يقيم في ك??ل ب??رج
ثالثة آالف سنة ،ويقطع الفلك في س??تة وثالثين أل??ف س??نة ،واألوج اآلن على رأي
?رج الث?ور وأن?ه إذا البرهمن في وقتنا هذاوهو سنة اثن?تين وثالثين وثالثمائ??ة في ب? ِ
انتقل إلى البروج الجنوبية انتقلت العمارة ،فصار العامر خراب ?اَ ،والخ??ارب ع??امراً،
والش???مال جنوب???اً ،والجن???وب ش???مأالً ،ور َّت َب في بيت ال???ذهب حس???اب ال???دوراألول
والتاريخ األق??دم ال?ذي علي??ه عملت الهن??د في ت??واريخ? الب??دءة ،وظهوره??ا في أرض
الهن??د دون س??ائر الممال??ك ،ولهم في الب??دء َخ ْطب طوي??ل أعرض??ناعن ذك??ره إذ ك?ان
كتابن?ا كت?اب خ?بر ،ال كت?اب بحث ونظ?ر ،وق?د أتين?ا على جم?ل من ذل?ك في الكت?اب
األوسط ،ومن الهند من يذكر أن ابتداء العالم في كل س??بعين أل??ف س??نة ه??ازروان،
وأن العالم إذا قطع هذه المدة عاد الك??ون؛ فظه??ر النس??ل،وم??رحت? البه??ائم ،وتغلغ??ل
ب ،وخ??رق النس??يم اله??واء ،فأم??ا أك??ثر أه??ل الهن??د ش ُودب الحيوان ،و َب َقل َ الغ ْ
َّ الماء،
فإنهم قالوا بكرور منصوبات على دوائر تبتدىء القوى متالشية ش??بيهة الش??خص،
موجوعة القوة ،منتصبة الذات ،وحدوا لذلك أجاًل ضربوه ،ووقتا ً نص??بوه ،وجعل??وا
الدائرة العظمى والحادثة الكبرى ،وس??موا ذل??ك بعم??ر الع??الم ،وجعل??وا المس??افة بين
البدء واإلِنتهاء مدة ست وثالثين ألف سنة مكررة في اثني عش??ر أل??ف ع??ام ،وه??ذا
عندهم الهازوران الضابط لقوى األشياء والمدبر له?ا ،وأن الح??وائر تقبض وتبس?ط?
جميع المعاني التي تستودعها ،وأن األعمار تطول في أول الك??ر النفس??اخ ال??دوائر،
صر األعمار في آخر الكر لضيق ال?دوائر ،وك??ثرة م??ا وتمكن القوى من المجال ،و َت ْق ُ
ص?فها في أول يعرض فيها من األكدار الباترة لألعم??ار ،وذل??ك أن ق??وى األجس??ام َو َ
الكر تظهر وتسرح ،وأن الصف سابق الكدر ،والشافي يبادر الثفل ،واألعمار تطول
بحسب صفاء المزاج ،وتكامل الق??وى الم??دبرة لعناص??ره أخالط الكائن??ات الفاس??دات
المستحيالت البائ?دات ،وأن آخ??ر الك??ر األعظم وغاي?ة ال َب?دء األك?بر تظه??ر الص??ورة
متشوهة ،والنفس ضعيفة ،واألمزجة مختلطة ،وتناقض القوى ،وتبيد المواسك،
صفحة 38 :
وترد المواد في الحوائر منعكسة مزدحمة ،فال يحظى فو األعص??ار بتم??ام األعم??ار،
وللهند فيما ذكرناه علل وبراهين في المبادى األول ،وفيما بسطناه من تفريعهم في
الدوائر والهازروانات ،ورموز وأسرار في النفس في اتصالها بم??ا عال من الع??والم
وكيفي??ة َب??دْ ئها من أعلى إلى أس??فل ،وغ??ير ذل??ك مم??ا رتب لهم ال??برهمن في ب??دء
الزمان ،وكان ملك البرهمن إلى أن هلك ثالثمائة سنة وستين سنة
البراهمة
وولده يعرفن بالبراهمة إلى وقتنا ،والهند تعظمهم ،وهم أعلى أجناسهم وأشرفهم،
وال يغتفن بش??يء من الحي??وان ،وفي رق??اب الرج??ل والنس??اء منهم خي??وط ُص?? ْفر
يتقلدون بها كحمائل السيوف ،فرقا ً بينهم وبين غيرهم من أنواع الهند.
وق??د ك??ان اجتم??ع منهم في ق??ديم الزم??ان في مل??ك ال??برهمن س??بعة من حكم??ائهم
المنظور إليهم في بيت الذهب فقال بعضهم لبعض :اجلسوا حتى نتناظر ة فننظر ما
قصة العالم .وما سره .ومن أين أقبلنا .وإلى أين نم?ر .وه?ل خرو ُجن?ا من ع?دم إلى
حكم?ة أو ض?د ذل?ك .وه?ل خالقن?ا المخ?ترع لن?ا والمنش?ىء ألجس?امنا يجتلب ٌ وجود
بخلقنا منفعة ،أم هل ي??دفع ب َف َنائن??ا عن ه??ذه ال??دار عن نفس??ه مض??رة ،أم ه??ل ي??دخل
عليه من الحاجة والنقص ما يدخل علينا .أم هل ه??و غ??ني من ك??ل وج??ه فم??ا وج??ه
إفنائه إيانا وإعدامنا بعد موجودنا وآالمنا ومالذنا .فقال الحكيم المنظور إلي??ه منهم:
أترى أحداً من الناس أدرك األشياء الحاض??رة والغائب??ة على حقيق??ة اإِل دراك؛ فظف??ر
بالبغية واستراح إلى الثقة .قال الحكيم الثاني :ل??و تن??اهت حكم??ة الب??ارىء عزوج??ل
في أح??د العق??ول ك??ان ذل??ك نقص ?ا ً من حكمت??ه ،و َك??ان الغ??رض غ??ير م??درك ،و َك??ان
التقصير مانعا ً من اإلِدراك ،ق?ال الحكيم الث?الث :ال?واجب علين?ا أن نبت?دىء بمعرف?ة
أنفس??نا ال??تي هي أق??رب األش??ياء من??ا ونحن أولى به??ا وهي أولى بن??ا ،من قب??ل أن
نتفرغ إلى علم ما بعد منا قال الحكيم الرابع :لقد ساء وقوع من وقع موقع?ا ً احت??اج
في??ه إلى معرف??ة نفس??ه ?،ق??ال الحكيم الخ??امس :من ههن??ا وجب االتص??ال ُ بالعلم??اء
الممدودين بالحكمة ،قال انحكيم السادس :الواجب علر المرء المحب لسعادة نفس??ه
أن ال يغفل عن ذلك ،السيما إذا كان المقام في ه??ذه ال??دنيا ممتنع?اً ،والخ??روج منه??ا
واجباً ،قال الحكيم السابع :أنا ال أدري ما تقولون ،غ??ير أني ْ
أخ? ِر ْج ُ
ت إلىه??ذه ال??دنيا
أخرج منها مكرها ً. مضطراً ،وعشت فيها حائرأَ ،و ْ
فاختلف الهند ممن سلف وخلف في آراء هؤالء السبعة ،وكل قد اقتدى بهم ،ويمم
مذهبهم ،ثم تفرعوا بعد ذلك في مذاهبهم ،وتنازعوا في آرائهم ،وال??ذي وق??ع علي??ه
الحصرمن طوائفهم سبعون فرقة.
خي ذك??ر في كت??اب عي??ون المس??ائل ق??ال المس??عودي :وق??د رأيت أب??ا القاس??م ال َب ْل َّ
والجواب??ات وك??ذلك الحس??ن بن موس??ى الن??و َبختِي في كتاب??ه الم??ترجم بكت??اب اآلراء
ِب الهن??د وآراءهم ،والعل??ة ال??تي من أجله??ا أحرق??وا أنفس??هم في وال??ديانات م??ذاه َ
النيران ،وقطع??وا أجس??امهم ب??أنواع الع??ذاب ،فم?ا تعرض??ا لش??يءمماذكرنا ،وال َيمم??ا
نحوما وصفنا.
صفحة 39 :
حقيقة البرهمن
وقد تنوزع في ال??برهمن :فمنهم من زعم أن??ه أدم علي??ه الس??الم ،وأن??ه رس??ول هللا
عزوجل إلى الهن??د ،ومنهم من يق??ول :إن??ه ك??ان ملك?ا ً على حس??ب م??ا ذكرن??ا ،وه??ذا
أشهر.
الباهبود بن البرهمن
صب ملك عليها ولما هلك البرهمن جزعت عليه الهند جزعأ شديدأً ،وفزعت إلى َن ْ
من أكبرولده؛ فك??ان ولي عه??ده الموص??ى ل??ه من ول??ده ابن??ه الم??اهبود ،فس??ار فيهم
س??يرة أبي??ه ،وأحس??ن النظ??ر إليهم،زاد في بن??اء الهياك??ل ،و َق??دم الحكم??اء ،وزاد في
وحثهم على تعليم الناس الحكمة ،و َب َع َثهم على طلبها ،فك??ان ملك??ه إلى أن مراتبهمَ ،
هلك مائة سنة.
ملك فر
َ
ثم ملك فر ،وهو الذي واق َع ُه اإلسكندر ،فقتله اإلسكندر مبارزة،وكان مل??ك ف??ر إلى
أن هلك أربعين ومائة سنة.
ملك دبشليم
شلِي ُم ،وهو الواضع لكتاب كليلة ودمنة? ال?نى ينس?ب البن المقف?ع، ثم ملك بعده َد ْب َ
وقد ص?نف? س?هل بن ه?ارون الك?اتب ألم?ير المؤم?نين الم?أمون كتاب?ا َ ترجم?ه? ثعل?ة
وعفرة يعارض ب?ه كت?اب كيل?ة ودمن?ة? في أبواب?ه وأ ْم َثالِ?هِ ،ويزي?د علي?ه في حس?ن
نظمه ،وكان ملكه مائة وعشرين سنة ?،وقيل غيرذلك.
ملك كورش
ثم مل??ك بع??ده ك??ورش ،ف??احمث للهن??د آراء في ال??ديانات ،على حس??ب م??ارأى من
س ? َل َ
ف، العصر ،وخرج عن م??ذاهب من َ ِ صالخ الوقت ،وما يحتمله من التكليف أهل
وكان في مملكته وعصره سندباد ،دونَ ل??ه كت??اب ال??وزراء الس??بعة والمعلم والغالم
وامرأة الملك ،وهو الكتاب المترجم بالسندباد وعم??ل في خزان??ة ه??ذا المل??ك الكت??اب
األعظم في معرفة العلل واأللدواء والعالجات ،وشكلت الحشائش ،وصورت ،وك??ان
مدة ملك الهند هذا إلى أن مات عشرين ومائة سنة.
وقد ذكر غيرجالينوس في ط??رب الس??ودان ،وغلب??ة الف??رح عليهم ،وم??اخص ب??ه
الزنج من ذلك دون س??ائر الس??ودان في أكث??ار من الط??رب أم??وراً ق??د ذكرناه??ا فيم??ا
?احب عب??د هللا بن عب?اس ال يأك??ل من سلف من كتبنا.ولق??د ك?ان ط??اوس اليم??اني ص? ُ
شوه الخلقة. ذبيحة الزنجي ،ويقول :إنه عبد ُم َ
وبلغنا أن أبا العباس الراضي باهلل ابن المقتدر باهلل كان ال يتناول? ش?يئامن أس?ود،
ويقول :إنه عبد مش??وه خلق??ه .فلس??ت أدري أقل??دَ طاوس?ا ً في مذهب??ه أم لض??رب من
اآلراء والنحل.وقد صنف عمرو بن بحر الجاحظ كتابا ً في فخر السودان ومناظرتهم
مع البيضان .
وصف األرض
َقسمت الحكماء األرض جهة المشرق والمغرب والشمال والجنوب،و َقس ُموا ذل??ك
إلى قسمين :مس?كون ،وغ?ير مس??كون ،وع?امر ،وغ?ير ع?امر ،وذك?روا أن األرض
مستديرة ?،ومركزها في وسط الفلك ،والهواء محيط بها من كل الجهات ،وأنها عند
فلك البروج بمنزلة? النقطة قلة ،وأخفا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر
أوقيانوس الغربي ،وهي ستة أجزاء عامرة إلى أقصى عمران الصين ،فج??دوا ذل??ك
اثني عشر ساعة فعلموا أن الشمس إذا غابت في أقصى الصين ك?ان طلوعه??ا على
الجزائر الع??امرة الم??ذكورة ال??تي في بح??ر أوقي??انوس الغ??ربي ،واذا غ??ابت في ه??ذه
الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين ،وذلك نصف دائرة األرض ،وهو طول
صفحة 43 :
العمران الذي ذك??روا أنهم وقف??ا علي??ه ومق??داره من األمي??ال ثالث??ة عش??ر أل??ف مي??ل
وخمسمائة? ميل من األميال التي عمل??وا عليه??ا في مس??احة دور األرض ،ثم نظ??روا
إلى العروض .فجدوا العمران من موض??ع خ??ط االس??تواء إلى ناحي??ة الش??مال ينتهي?
إلى جزي??رة ت??ولى ال??تي في بريطاني??ا حيث يك??ون النه??ار األط??ول عش??رين س??اعة،
وذكروا أن موضع خط االستواء من األرض يقطع فيما بين المش??رق والمغ??رب في
جزيرة بين الهند والحبش من ناحية الجنوب ،فيعرض ما بين الشمال والجنوب في
النصف مما بين الجزائر العامرة وأقصى عمران الصين وهو قبة األرض المعروفة
بما ذكرنا ،ويكون العرض من خط االستواء إلى جزيرة تولى قريبأ من ستين ج??زأ،
وذلك سدس دائ??رة األرض،وإذا ض??رب ه??ذا الس??دس ال??ذي ه??و مق??دار الع??رض في
النصف الذي هو مقدار الطول كان مقدار ما يظهر من العم??ران من ناحي??ة الش??مال
مقدار نصف سدس دائرة األرض.
األقاليم السبعة
وأما األقاليم السبعة فأولها أرض بابل من?ه? خراس??ان وف??ارس:األه??واز والموص??ل
الح َم? ل ُ وال َق? ْ?وس ،ومن األنجم الس??بعة ال ُم ْ
ش? َت ِري وأرض الجبال ة ول??ه من ال??بروج َ
دي ،ومن األنجم واالقليم الث??اني الهن??د والس??ند والس??ودان ،ول?? َه من ال??بروج ا ْل َج?? ُ
السبعة ُزحلُ ،واإِل قليم الثالث مكة والمدين??ة واليمن والط??ائف والحج??از وم??ا بينه??ا،
وله من ال??بروج العق??رب ،ومن األنجم الس??بعة ال ُزهْ? َرة ،وهي س??عد الفل??ك ،واإِل قليم
الرابع مصر وإفريقية? والبربر? واألندلس وما بينها ،ل?ه من ال?بروج الج?وزاء ،ومن
األنجم السبعة ُع َطارد ،واإِل قليم الخ?امس الش?ام وال?روم والجزي?رة ،ل?ه من ال??بروج
ال???دَّ ْلو ،ومن األنجم الس???بعة القم???ر ،واإِل قليم الس???ادس ال???ترك والخ???زر وال???ديلم
?ري ُخ ،واإِل قليم الس??ابع س َر َطان ،ومن األنجم الس??بعة ال َم? ِّ
والصقالبة ،له من البروج ال َّ
الديبل والصين ،له من البروج الم??يزان ،ومن األنجم الس??بعة الش??مس.ذك??ر حس??ين
الزيج في النجوم ،عن خال??د بن عب??د المل??ك الم??روزي وغ??يره المنجم صاحب كتاب ِّ
صدوا الشمس ألمير المؤمنين المأمون في َب ِّرئ ?ة? س??نجار من بالد دي??ار وقد كانوا َر َ
ربيعة أن مقدار درجة واحدة من وجه األرض ستة وخمسون ميالً .فضربوا مق??دار
والبح? ر
َ دَو َر ك??رة األرض المحيط??ة ب??البر درجة واحدة في ثالثمائة وس??تين فج??دوا ْ
عشرين أل??ف مي??ل ومائ??ة وس??تين مياَل َ ،ثم ض??ربوا دور األرض في س??بعة ف??اجتمع
مائة ألف ميل وأحد وأربعون أل??ف مي??ل ومائ??ة وعش??رون ميالً .فقس??موا ذل??ك على
اث??نين وعش??رين ميالً وخ??رج للقس??م ال??ذي ه??و مق??دار ُق ْط?? ر األرض س??تة آالف
وأربعمائة وأربعة عشرميالً ونصفا ً ونصف? عشر ميل بالتقريب ،ونصف قطر ثالثة
آالف ميل ومائتا ميل وسبعة أميال وست عشرة دقيقة وثلثا ثانية ،يكون رب??ع مي??ل
ربع عشر ميل ،والميل أربعة آالف ذراع باألسود ،وهي الذراع ال?تي وض?عها أم?ير
المؤمنين المأمون َلذ ْرع الثي??اب ومس??احة البن??اء ،وقس??مة المن??ازل ،وال??ذراع مائ??ة
وعشرون إصبعا ً.
جغرافية بطليموس
بجغرافياص? َف َة األرض
ِ قال المسعودي :وقد ذكر بطليموس في الكت??اب المع??روف
ف الم?دن ص? َ
وو َو ُم ُد َن َها وجبالها وما فيه?ا من البح?ار والجزائ?ر واألنه?ار والعي?ون َ
المسكونة والمواضع العامرة ،وأن عددها أربع??ة آالف مدين?ة? وخمس??مائة? وثالئ??ون
مدينة? في عصره ،وسماها مدينة مدينة? في إقليم إقليم ،وذكر في هذا الكت??اب أل??وان
من الحم??رة والص??فرة والخض??رة وغ??ير ذل??ك من األل??وان ،وأن ع??ددها جبال ال??دنيا ِ
مائت??ا جب??ل وني??ف ،وذك??ر مق??دارها وم??ا فيه??ا من المع??ادن والج??واهر.وذك??ر ه??ذا
الفيلسوفأن عدد البحار المحيطة باألرض خمسة أبحر،وذكر م??ا فيه??ا من الجزائ??ر،
والعامر منها وغير العامر ،وما اش??تهر من الجزائ??ر دون م??ا لم يش??تهر ?،وذك??ر أن
في البحر الحبشي جزائر متصلة نحواً من ألف جزي??رة يق??ال له??ا ال??دبيحات ع??امرة
كله?ا من الجزي??رة إلى الجزي??رة الميالن والثالث?ة وأك??ثر من ذل?ك ،دون م?ا في ه??ذا
البحر من الجزائر.وذكر بطليموس في جغرافيا أن ابتداء بحر مص??ر من ال??روم إلى
بحر األصنام النحاس ،وأن جميع العي??ون الكب??ار ال??تي تنب??ع من األرض مائت??ا عين
وثالثون عين?اً ،دون م??ا ع??داها من الص??غار ،وأن ع??دد األنه??ار الكب??ار الجاري??ة في
األقاليم السبعة على دوام األوقات مائتان وتس??عون نه??راً ،وأن األق??اليم على حس??ب
م??ا ق??دمناه فى ع??دة األق??اليم ،وك??ل إقليم س??عته تس??عمائة فرس??خ في مثله??ا ،وفي
البحارما ه??و معم??ور ب??الحيوان ،ومنه??ا م??ا ليس بمعم??ور ،وه??و أوقي??انوس البح??ر
المحي??ط ،وس??نأتي فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب على ذك??ر جم??ل في تفص??يل? البح??ار
ووصفها ،وهذه البحار كلها بصورة في كتاب جغرافيا ً بأنواع من األص??باغ مختلف??ة
المق??ادير في الص??ورة ،فمنه??ا م??ا ه??و على ص??ورة الطيلس??ان ،ومنه??ا م??ا ه??و على
ص??ورة الش??ابورة ،ومنه??ا مص??راني الش??كل ومنه??ا مح??ور ومنه??ا مثلث ،إالّ أن
أسماءها في هذا الكت??اب باليوناني?ة? متع??ذر فهمه??ا ،وأن قط??ر األرض ألف??ان ومائ??ة
فرسخ يكون ذلك على الصحيح ستة آالف وستمائة? فرس??خ تق??دير ك??ل فرس??خ س??تة?
عشر ألف ذراع ،والذي يحيط بأسفل دائرة النجوم وهو فلك القمرمائة أل??ف فرس??خ
وخمسة وعش??رون أل َف?ا َ وس??تمائة? وس??تون فرس??خأ ،وأن قط??ر الفل??ك من ح??د رأس
الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ بتقدير هنه الفراس?خ ،وع?دد .ه?ذه
ارد،األفالك تسعة فأوله??ا وه??و أص??غرها وأقربه??ا إلى األرض للقم??ر ،والث??اني ل ُع َط? ِ
للزهْ ? رة ،وال??را ب??ع للش??مس ،والخ??امس للم??ريخ ،والس??ادس للمش??تري، والث??الث ُّ
والسابع ل ُز َحل ،والثامن للكواكب الثابتة ،والتاسع للبروج ،وهيئة? هذه األفالك هيئة
األ َكر بعضها في ج??وف بعض ففل??ك ال??بروج يس??مى الفل??ك الكلي ،وب??ه يك??ون اللي??ل
والنهار ألنه يدير الشمس والقمر وسائر الكواكب من المشرق إلى المغ??رب في ك??ل
?ةدو َرة واح??دة ،على قط??بين ث??ابتين :أح??دهما مم??ا يلي الش??مال وه??و قطب يوم وليل? ْ
س َه ْيل ،وليس ال??بروج غ??ير الفل? َك، بنات َن ْعش ،واألخر مما يلي الجنوب وهو قطب ُ
وإنما هي مواض?ع لقبت به?ذه األس?ماء لتع?رف مواض?ع الك?واكب من الفل?ك الكلي.
فيجب أن تكون البروج تضيق من ناحية القُ ْطبين وتتس ?ع? في وس??ط الك??رة ،والخ??ط
القاطع للكرة نصفين اآلخذ من المشرق إلى المغرب يسمى دائرة ُم َعدل النهار ،ألن
صفحة 45 :
?وا أن ال?دليل على أن على قطبين غير قطبي الفلك األعظم المتق??دم ذك??ره ،وزعم? ِ
ش َر يتلو بعضها بعضا ً االثني ع َ
ْ حركة هذه البروج غير حركة األفالك هو أن البروج
في مسيرها ،وال تنتقل عن أماكنها ،وال تتغير حركتها في طلوعه??ا وغروبه??ا ،وأن
الك??واكب الس??بعة لك??ل واح??د منه??ا حرك??ة خالف حرك??ة ص??احبه ،وله??ا تف??اوت في
حركاتهاث فربما أسرع الكوكب في حركته ومسيره ?،وربما أخذ في الجنوب ،وربما
وح ُّد الفلك عندهم أنه نهاية لما تصير? إلي??ه الطب??ائع عل??واً وس??فالً،
أخذ في الشمالَ ،
َو حده من جهة الطبائع أنه شكل مستدير ،وهو أوسع األشكال ،وهو يحيط باألشكال
كلها ،وأن مقادير حركة هذه الكواكب في أفالكها مختلفة فمقام القم??ر في ك??ل ب??رج
يومان ونصف ،ويقطع الفلك في شهر ،ومقام الش??مس في ك??ل ب??رج ش??هر ،ومق??ام
الزهْ رة في كل برج خمس??ة وعش??رون ُع َطارد في كل برج خمسة عشريوماً ،ومقام ُّ
يوماً ،ومقام المريخ في كل ب??رج خمس??ة وأربع?ون يوم?اً ،ومق??ام المش??تري في ك?ل
برج سنة ،ومقام ُز َحل في كل برج ثالثون شهراً.وقد زعم بطليموس صاحب كت??اب
المجسطي أن استدارة األرض كلها جبالها وبحارها أربعة وعشرون ألف مي??ل وأن
قطرهاوهو عرضها وعمقها سبعة آلف وستمائة? وس??تة وثالث??ون ميالً ،وأنهم إنم??ا
استدركوا ذلك بأنهم أخنوا ارتفاع القطب انشمالي في مدينتين وهما على خط واحد
ومثل مدينة
ِ من خط االستواء ،مثل مدينة َتد ُمر التي في البرية بين العراق والشام،
الرقة فجدوا ارتف??اع القطب في مدين?ة? الرق??ة خمس??ة وثالثين ج??زءاَ وثل َث? ا َ ووج??دوا
ارتفاع القطب في مدينة َتدْ ُمر أربعة وثالثين جزءاً ،بينهما زيادة ج??زءوثلث ج??زء،
س ُحواما بين الرقة فجدوه سبعة وستين ميالً؛ فالظاهر من الفل??ك س??بعة وس??تون و َم َ
ميالً من ألرض ،والفلك ثلثمائة وستون جزءأ لعل ذكروه??ا يبع??د علين??ا إيراده??ا في
هذا الموضع ،وهذه قسمة صحيحة عندهم ألنهم وجدوا الفلك ق??د اقتس??مته? ال??بروج
االثنا عشر ،وأن الشمس تقطع كل برج في شهر ،وتقطع البروج كلها في ثلثمائة
صفحة 46 :
وستين يومأ ،وأن الفلك مستدير? يدور بمحورين أو قطبين ،وأنهما بمنزلة محوري
ِص?اع وغيره??ا من اآلالت الخش??ب ،وأن من ?ر والق َالنجار والخراط الذيِ يخ?رط األ َك َ
ُ
?اعات ليل??ه ونه??اره س??ائر
كل مسكنة وسط األرض وعند خ??ط االس??تواء اس??توت س?
الدهور ،ورأى هذين المحورين أعني القطب الش َمالي والقطب الجنور جميعاً ،فأم??ا
ش، أهل البلدان التي مالت إلى ناحية السمال فإنهم يرون القطب الشمالي وبن??ات َن ْع ٍ
وال يرون القطب الجنوبي وال الكواكب التي هي قريبة منه ،وكذلك ال يرى الك??وكب
س َه ْي ٍل بناحيةخراسان ،ويرى في العراق في الس??نة أيام ?اً ،وال تق??ع عين المعروف ب ُ
?اس من العل??ة في جمل من الجمال عليه إال هلك ،على حسب ما ذكرناه وما ذكر الن? ُ
?رى في ذلك في موت هذا النوع من الحيوان خاصة ،وأما البل??دان الجنوبي??ة فإن??ه ُي? َ
?وا أن ال??دليل السنة كلها.ى قطبين غ??ير قط??بي الفل??ك األعظم المتق??دم ذك??ره ،وزعم? ِ
عش? َر يتل??و ?ني َ على أن حركة هذه ال??بروج غ??ير حرك??ة األفالك ه??و أن ال??بروج االث? ْ
بعضها بعضا ً في مسيرها ،وال تنتق??ل عن أماكنه??ا ،وال تتغ??ير حركته??ا في طلوعه??ا
وغروبها ،وأن الكواكب السبعة لكل واحد منها حرك??ة خالف حرك??ة ص??احبه ،وله??ا
تفاوت في حركاته??اث فربم??ا أس??رع الك??وكب في حركت??ه ومس??يره ?،وربم??ا أخ??ذ في
وح ُّد الفلك عندهم أنه نهاية لما تصير إليه الطبائع الجنوب ،وربما أخذ في الشمالَ ،
علواً وسفالًَ ،وحده من جهة الطبائع أنه شكل مستدير ،وهو أوس?ع األش?كال ،وه?و
يحيط باألشكال كله??ا ،وأن مق??ادير حرك??ة ه??ذه الك??واكب في أفالكه??ا مختلف??ة فمق??ام
القمر في كل برج يومان ونصف ،ويقطع الفل??ك في ش??هر ،ومق??ام الش??مس في ك??ل
الزهْ رة في كل ب??رج برج شهر ،ومقام ُع َطارد في كل برج خمسة عشريوماً ،ومقام ُّ
خمسة وعشرون يوماً ،ومقام المريخ في ك?ل ب??رج خمس??ة وأربع??ون يوم?اً ،ومق??ام
المش??تري في ك??ل ب??رج س??نة ،ومق??ام ُز َح? ل في ك??ل ب??رج ثالث??ون ش??هراً.وق??د زعم
بطليموس صاحب كتاب المجسطي أن استدارة األرض كلها جبالها وبحاره??ا أربع??ة
وعشرون ألف ميل وأن قطرهاوهو عرض??ها وعمقه??ا س??بعة آلف وس??تمائة? وس??تة
وثالثون ميالً ،وأنهم إنما اس??تدركوا ذل??ك ب??أنهم أخن??وا ارتف??اع القطب انش??مالي في
مدينتين وهما على خط واحد من خط االستواء ،مث??ل مدين??ة َت??د ُمر ال??تي في البري?ة?
ومثل مدينة? الرقة فجدوا ارتفاع القطب في مدينة? الرقة خمسة ِ بين العراق والشام،
وثالثين جزءاَ وثل َثا َ ووجدوا ارتف??اع القطب في مدين?ة? َت??دْ ُمر أربع??ة وثالثين ج??زءاً،
س? ُحواما بين الرق?ة فج?دوه س?بعة وس??تين ميالً؛ بينهما زي??ادة ج?زءوثلث ج?زء ،و َم َ
فالظاهر من الفلك سبعة وستون ميالً من ألرض ،والفلك ثلثمائة وستون جزءأ لعل
ذكروها يبعد علينا إيراده??ا في ه??ذا الموض??ع ،وه??ذه قس??مة ص??حيحة عن??دهم ألنهم
وجدوا الفلك قد اقتسمته البروج االثنا عشر ،وأن الشمس تقطع كل برج في شهر،
وتقطع البروج كلها في ثلثمائة? وستين يومأ ،وأن الفلك مستدير? يدور بمحورين أو
صاع وغيرها قطبين ،وأنهما بمنزلة? محوري النجار والخراط الذيِ يخرط األ َك َر والقِ َ
من اآلالت الخشب ،وأن من كل مسكنة وسط األرض وعن??د خ??ط االس??تواء اس??توت
ساعات ليله ونهاره سائر ال??دهور ،ورأى ه??ذين المح??ورين أع??ني القطب الش? َمالي ُ
والقطب الجنور جميعاً ،فأما أهل البلدان التي مالت إلى ناحية الس?مال ف?إنهم ي?رون
ش ،وال يرون القطب الجنوبي وال الكواكب التي هي القطب الشمالي وبنات َن ْع ٍ
صفحة 47 :
شكل البحار
وق??د تن??وزع في ش??كل البح??ار ،ف??ذهب األك??ثر من الفالس??فة المتق??دمين من الهن??د
وحكماء اليونانيين إال من خالفهم وذهب إلى قول الشرعيين أن البحر مستدير? على
مواضع األرض ،واستدلوا على صحة ذلك بدالئل كث??يرة ،منه??ا أن??ك إذا لججت في??ه
غابت عنك األرض والجبال شيئا ً بعد شيء حتى تغيب ذلك كله ،وال ت??رى ش??يئأ من
ش َوامخ الجبال ،وإذا أقبلت أيضا ً نحو الساحل ظهرت تلك الجب??ال ش??يئا ً بع??د ش??يء، َ
وإذا قربت من الساحل ظهرت األشجار واألرض.وهذا جب??ل ُد ْن َب َاو ْن? َد بين بالد ال??ري
وطبرس??تان ي??رى من مائ??ة فرس??خ لعل??وه وذهاب??ه في الج??و ،ويرتف??ع في أعالي??ه
الدخان ،والثلوج مترادفة عليه غير خالية من أعاليه ،ويخ??رج من أس?فله نهركث??ير
الماء أصفركبريتي? ذهبي اللون ،مسافة الصعود إلي??ه في نح??و ثالث??ة أي??ام بلياليه??ا،
وإن َمنْ َعاَل ه وصار في قُلَّته وجد مساحة رأس نحوألف فراع في مث??ل ذل??ك ،وهي
ت??رى في رأي العين من أس??فل نح??و القب??ة المنخرط??ة ،وإن في ه??ذه المس??احة في
أعاليه رماًل أحمرتغوص فيه األقدام ،وإن ه??ذه القب??ة ال يلحقه??ا ش??يء من ال??وحش
وال من الطير،لشدة الرياح وسموها في الهواء ،وشدة البرد ،وإن في أعاليه نح??واً
من ثالثين ثقب ?ا ً يخ??رج منه??ا ال??دخان الكبري??تي? العظيم ،ويخ??رج م??ع ذل??ك من ه??ذه
ب الر ْع? دِ ،وذل??ك ص??وت تله ِ المخ??ارق م??ع ال??دخان دوي عظيم كأش??د م??ا يك??ون من َّ
غرر بنفسه وصعد إلى أعاليه من أفاه هذه الثقوب كبريتا ً النيران ،وربما يحمل من َّ
أصفر كأنه الذهب يقع في أنواع الصنعة والكيمياء وغير ذلك من الوجوه ،وإن َمنْ
َعاَل ه يرى ما حوله من الجبال الشامخة كأنها َر َواب وتاَل ل لعلوه عليه??ا ،وبين ه??ذا
الجبل وبحر طبرستان في المسافة نحو من عشرين فرسخاً ،والمراكب إذا َل َّجت في
هذا البحر غاب عنها جبل ُد ْن َب َاو ْندَ فلم ير ُه أحد ،فإذا صاروا في هذا البحر على نحو
من مائة فرسخ ،ودَ َن ْوا من جبال طبرستان رأوا اليسير من أعالي هذا الجبل ،فكلما
قرب??وا من ه?ذا الس?احل ظه??ر لهم ،وه?ذا دلي??ل على م?ا ذهب??وا إلي?ه من كري?ة م??اء
البحر ،وأنه مستدير الشكل.وكذلك َمن يكون في بح??ر ال??روم ال??ذي ه??و بح??ر الش??ام
?ال ال يح??رك عل??وهُ ،مطِ? ل على بالد أنطاكي??ة ومصريرى الجبل األقرع ،وهو جبل ع? ٍ
والالذقية وطرابلس وجزيرة قبرص وغيرها في بالد الروم ،فيغيب عن أبص??ار َمنْ
في المراكب النخفاضهم في المسير في البحر عن المواضع التي ُيرى منها.
صفحة 48 :
وسنذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جب??ل دُن َب َاو ْن? َد وم??ا ق??ال الف??رس في ذل??ك ،وأن
الضحاك ذا األفاه ُمو َثق في أعاليه بالحديد ،وهذه القبة ال??تي في أع??الي ه??ذا الجب??ل
أ ُط ٌم عظيمة من آطام األرض وعجائبها.
مساحة األرض والكواكب
وقد تكلم الناس في بعد األرض فذكر األك??ثر أن من مرك??ز األرض إلى م??ا ينتهي?
إليه الهواء والنار مائة ألف وثمانية? عشر ألف ميل ،وأما القمر ف??إن األرض أعظم
من??ه بتس??ع وثالثين م??رة ،واألرض أعظم من ُع َط? ارد بثالث وعش??رين أل??ف م??رة،
واألرض أعظم من الزهرة بأربع وعشرين ألف م??رة ،والش??مس أعظيم من األرض
بمائة وسبعين مرة وربع وثمن ،وأعظم من القم?ر ب?ألف وس?تمائة? وأرب?ع وأربعين
م??رة ،واألرض كله??ا نص??ف عش??ر ثمن ج??زء من الش??مس ،وقُ ْط? ر الش??مس اثن??ان
وأربعون ألف ميل ،والمريخ? مثل األرض زيادة ثالثة وس??تين م??رة ،وقط??ره ثماني??ة
آالف وس??بعمائة مي??ل ونص??ف مي??ل ،والمش??تري مث??ل األرض إح??دى وثم??انين م??رة
ونصف? وربع ،وقطره ثالثة وثالثون ألف ميل وس??تة عش??ر ميالً ،و ُز َح? ل ُ أعظم من
األرض تس??عا ً وتس??عين م?رة ونص??فاً ،وقط??ره اثن??ان وثالث?ون أل??ف مي??ل وس??بعمائة
وس??تة وثالث??ون ميالً ،وأم??ا أج??رام الك??واكب الثابت??ة ال??تي في المش??رق األول وهي
خمسة عشر كوكبا ً فكل كوكب منها أعظم من األرض بأربع وتس??عين م??رة ونص ?ف?
مرة ،وأما بعدها من األرض فإن أقرب بعد القمر منها مائة ألف وثمانية وعشرون
ألف ميل ،وأبعد بعده من األرض مائة ألف وأربعة وعشرون ألف مي?ل ،وأبع?د بع??د
ًع َطارد من األرض سبعمائة ألف ألف وسبعمائة? وثالثة وثالث??ون أل??ف مي??ل ،وأبع??د
بعد الزهرة من األرض أربعة آالف وتسعة عشر ألف ميل وستمائة? ميل ،وأبعد بعد
الشمس من األرض أربعة آالف ألف أل??ف وثمانمائ?ة? أل??ف وعش??رون ألف??أ ونص??ف
ميل ،وأبعد بعد المريخ من األرض ثالثة وثالثون ألف ألف ميل وستمائة? أل??ف مي??ل
وشيء ،وأبع??د بع??د المش??تري من األرض أربع??ة وخمس??ون أل??ف أل??ف ومائ??ة أل??ف
وستة? وستون ألف ميل إال شي َئاَ ،وأبعد بعد ُز َح? ل من األرض س??بعة وس??بعون أل??ف
ألف ميل إال شيئاً ،وأبعد الكواكب الثابت??ة من مرك??ز األرض نحوذل??ك .وفيم??ا ذكرن??ا
من القسمة واألج??زاء والمق??اييس اس??تدرك الق??وم علم الس??اعات والكس??وفات وبه??ا
استخرجوا اآلالت واإِل سطرالبات ،وعليها صنفا كتبهم كله?ا ،وه??ذا ب??اب إن ش??رعنا
في إيراد البعض منه كثر ،واتسع الكالم فيه ،وإنما ذكرنا لمعا ً من هذه الفنون لندل
به??ا على م??ا لم ن??ورده .وق??د رتبت الص??ابئة? من الحران??يين وهم ع??وام اليون??انيين
وح ْ
ش ِوية? الفالسفة المتق??دمين الكهن??ة في هياكله??ا م??راتب على ت??رتيب? ه??ذه األفالك َ
الس??بعة ،ف??أعلى كه??انهم يس??مى رأس كم??رى ،ثم وردت بع??دهم النص??ارى ف??رتبت
الكهنة في َك َهانتها ،على ما تقدمت فيه الصابئة في مذهبها.وس??مت النص??ارى ه??ذه
المراتب العظات :فأولها السلط ،والثاني اعنسط ،والثالث يودنا ،والرا ب??ع ش??ماس،
والخامس قسيس ،والسادس ي?ودوط ،والس?ابع ح?ور الغينطس ،وه?و ال?ذي يخل?ف
األسقف ،والثامن أسقف ،والتاسع ُم ْط َران ،وتفسير? مطران رئيس المدينة ،والذي
صفحة 49 :
ف??ق ه??ؤالء كلهم في المرتب?ه? ل َب ْط? رك ،وتفس??يره? أب??و اآلب??اء ،فمن تق??دم ذك??رهم من
أصحاب المراتب وغيرهم من األداني وعوامهم ،ه??ذا عن??د خ??واص النص??ارى،فأم??ا
العوام منهم في??ذكرونَ في ه??ذه الم??راتب غ??ير م??ا ذكرن??ا ،وه??و أن َم َلك?ا ً ظه??ر لهم،
وأظهر أموراً يذكرونها ال حاجة بنا إلى وصفها ،وه??ذا ت??رتيب الملكي??ة ?.،وهم ُع ُم? ُد
النصراينة وقُ ْطبها .ألن ص المشارقة وهم العباد والملقبون بال ًن ْس ُطورية واليعاقب??ة
عن هؤالء تفرعوا ،ومنهم تبددوا ،وإنم??ا أخ??ذت النص??ارى جمالً من ه??ذه الم??راتب
على ما ذكرنا من الصابئة ?،وأم??ا القس??يس والش??ماس وغ??ير ذل??ك فعن ال َمانِي??ة ،إال
التصدوس والسماع ،وإن كان ماني َح َدث بعد مضي الس??يد عيس??ى بن م??ريم علي??ه
ص?ان ومرقي?ون ،وإلى م?اني أض?يفت الماني?ة ?،وإلى مرقي?ون السالم ،وكذلك ابن َد ْي َ
أض??يفت المرقيوني??ة ،وإلى ابن ديص??ان أض??يفت الديص??انية ،ثم تف??رعت بع??د ذل??ك
المزدَ قية وغيرها ممن سلك طريقة صاحب األثنين.وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان ْ
وفي الكتاب األوس??ط على ُج َم??ل من نوادره??ذه الم??ذاهب ،وم??ا أورده من الخراف??ات
ش َبه الموضوعة ،وما ذكرناه من مذاهبهم في كتابنا في المق??االت في المزخرفة ،وال ُ
أص??ول ال??ديانات وم??ا ذكرن??اه في كس??ر ه??ذه اآلراء وه??دم ه??ذه الم??ذاهب في كتابن??ا
المترجم بكتاب اإلِبانة في أص??ول الديان??ة وإنم??ا ن??ذكر في ه?ذه األب??واب م??ا يتش??عب
الكالم إليه ،ويتغلغل الوصف نحوه ،فن??ورد من?ه? لمع?ا ً على طري??ق الخ??بر والحكاي??ة
للمذهب ،ال على طريق النظر والجدل .لئال يخلو كتابنا ه??ذا مم??ا ت??دعو الحاج??ة إلى
ذكره ،وهّللا أعلم.
س حينئ??ذ ،لغل??ظ األرض وض??غطتها إياه??ا من أس??فل،األرض وقُ ُعوره??ا طلبت التن ُّف َ
فتنبثق? من ذلك العيون واألنهار ،ربما تتولد في باطن األرض??ين من اله??واء الك??ائن
هناك ،وأن الم??اء ل??يى بأس??طقس ،وإنم??ا ه??و متول??د من ُعفن??ات األرض وبخاره??ا،
وقالوا في فلك كالما ً كثيراً أعرضنا ذكره طلبا ً لإليجاز وميالً لالختصار ،وقد بس??طنا
ذلك في غير هذا الكتاب من كتبنا.أما مبادىء األنهار الكب?ار ،ومطارحه?ا ،ومق?ادير
جريانه??ا على وج??ه األرض كالني??ل والف??رات والدجل??ة ونه??ر بلخ ،وه??و جيح??ون،
ومهران الس??ند وجنجس ،وه??و نه??ر عظيم ب??أرض الهن??د ،ونه??ر س??ابط وه??و نه??ر
عظيم ،ونهر طنابس الذي يصب إلى بحر نيطس ،وغيرها مما كبر من األنهار فق??د
تكلم الناس في مقدار جريانها على وجه األرض.
النيل
ف??رأيت في جغرافي??ا الني??ل مص??وراً ظ??اهراً من تحت جب??ل القم??ر ،ومنبع??ه ومب??دأ
ظهوره من اثنتي? عشرة عين?اً ،فتص?ب تل?ك المي?اه إلى بح?رين هن?اك كالبط?ائح ،ثم
يجتمع الماء جاريا ً فيمر برمال هناك وجبال ،ويخترق أرض السودان مم??ا يلي بالد
وهى
ِ ال??زنج .فيتش??عب من ?ه? خليج ينص ?ب? إلى بح??ر ال??زنج ،و بح??ر جزي??رة قنبل??و،
جزي??رة ع??امرة فيه??ا ق??وم من المس??لمين ،إال أن لغتهم زنجي??ة :غلب??وا على ه??ذه
س َب ْوا َمنْ كان فيها من الزنج . ،كغلبة المس??لمين على جزي??رة إق??ريطش الجزيرة ،و َ
إلى
ض?ي األموي??ة ?،ومنه??ا ِ في البحر ال??رومي ،وذل??ك في مب??دأ الدول??ة العباس??ية و َت َق ِّ
عم??ان في البح??ر نح??و م??ز خمس??مائة فرس??خ على م??ا يق??ول البحر ُّيونَ َح? ْزراَ منهم
لذلك ،ال علر طريق التحصيل والمساحة ،وذكر جماعة من َن َواخ??ذة ه??ذا البح??ر م??و
السيرافيين والعمانيين وهم أرباب المراكب أنهم يشاهدون في هذا البحر في الوقت
الذي تكثر فيه زيادة النيل بمصر ،أو قبل األوان بمدة يسيرةماء يخترق ه??ذا البح??ر
ويشقه? من شدة جريانه ،يخرج من جبال الزنج ،عرضه ك??ثر من مي??ل ع??ذبا ً حل??وا،
يتكدر في إبان الزيادة بمصر وصعيدها ،فيها الشوهمان ،وهو التمس??اح الك??ائن في
نيل مصر ،ويسمى أيضا ً الورل.
وقد زعم عمرو بن بحز الجاحظ أن نه??ر مه??ران ال??ذي ه??و نه??ر الس??ند من ني??ل
مصر ،ويستدل على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه ،فلست أدري كيف و ّق??ع ل??ه
هذا ال?دليل ،وذك?ر ذل?ك في كتاب?ه الم?ترجم بكت?اب األمص?اروعجائب البل?دان ،وه?و
كتاب في نهاي??ة ال َغ َثاث??ة ألن الرج??ل لم يس??لك البح??ار ،وال ك??ثر األس??فار ،وال َت َق??رى
المسالك واألمصار وإنما كان حاطب ليل ،ينقل من كتب الوراقين أولم يعلم أن نه??ر
أعين مشهورة من أع?الي بالد الس??ند من أرض القن??وج من مهران السنديخرج من َ
مملكة بؤورة وأرض قشمير والقفندار والطافر حتى ينتهي إلى بالد المولتان ،وك??ل
هناك يسمى مهران ال??ذهب ،وتفس??ير? المولت??ان ف??رج ال??ذهب ،وص??احب مملك? َ
?ة بل??د
سأمة بن لؤي بن غالب ،والقوافل من إلى المولتان رجل من قريش من ولد َ
صفحة 51 :
خراسان متصلة ،وكذلك صاحب مملكة المنصورة رجل من قريش من ولد َه َّبار بن
األسود ،والملك في هؤالء وملك صاحب المولتان متوارثان قديما ً من صدراإِل سالم،
ثم ينتهي? نهر مهران إلى بالد المنصورة وبص??ب نح??و بالد ال??ديبل في بح??ر الهن??د،
والتماسيح كثيرة في أجواف هذا البحر .،وفي خليج مي??دايون من مملك??ة ي??اغر من
أرض الهند وخلجان الزابج من بحر مملك??ة المه??راج وك??ذلك في خلج??ان األغي??اب،
وهي أغياب تلي جزيرة سرنديب ،واألغلب على التماسيح كونها في الم??اء الع??ذب،
ب من أمواهه??ا أن تك??ون عذب??ة لص??ب مي??اه?األغ َل ُ
وم??ا ذكرن??ا من خلجان??ات الهن??د ف? ْ
األمطار إليها.
وأما نهر َب ْل َخ الذي يسمى َج ْي ُح??ون فإن??ه يخ??رج من عي??ون تج??ري حتىت??أتي بالد
ار ْز َم ،وقد اجتاز قبل ذلك ببالد الترمذ وإسفرائين وغيرها من بالد خراسان فإذا ُخ َو َ
ورد إلى بالد خوارزم تفرق في مواضع هن??اك ،ويمض?ي? باقي??ه فيص??ب في البح??يرة
?الجر َجاني??ة أس??فل خ??وارزم ،وليس في ذل??ك الص??قع التي عليها القرية المعروف??ة ب? ْ
أك??بر من ه??ذه البح??يرة ،و ُيق??ال :إن??ه ليس في العم??ران بح??يرة أكبرمنه??األن طوله??ا
مس??يرة? ش??هر في نحوذل??ك من الع??رض ،تج??ري فيه??ا الس??فن ،وإليه??ا يص??ب نه??ر
فر َغ انة والشاش ويمر ببالد الفاراب في مدينة جديس ،وتجري فيه السفن إلى هذه ْ
البحيرة ،وعليها لمدينة للترك يقال لها المدينة الجديدة ،وفيها المسلمون ،واألغلب
ض?ر ،وه??ذا الجنس من األت??راك من األتراك في هذا الموضع ال ُغزي??ة ،وهم َب? َ?وا ٍد َ
وح َ
األسافل ،واألعالي ،واألواسط ،وهم أشد الترك بأس ?ا ً وأقص??رهم، ِ هم أصناف ثالثة:
صاحب المنط??ق ُ أع ُيناَ ،وفي الترك َمنْ هو أصغر من هؤالء على ما ذكر وأصغرهم ْ
في كت??اب الحي??وان في المقال??ة الرابع??ة عش??رة والثامن ?ة? عش??رة حين ذك??ر الط??ير
بالغ َرانيق ،وسنذكر لمعا ً من أخبار أجناس الترك فيما يرد من هذا الكتاب المعروف َ
مجتمعا ً ومفتر َقاَ ،وبمدينة? بلخ رباط يقال له األخش??ان على نح??و من عش??رين يوم?ا ً
منها ،وهوآخر أعمالها ،وبإزائهم أن??واع من الكف??ار ُيق??ال لهم أوخ??ان وتبت ،وعلى
اليمين من هؤالء جنس آخر يقال لهم إيغان ،ويخ??رج من هنال?ك نه??ر عظيم يع?رف
بنهر? إيغان ،وزعم ق??وم من أه??ل الخ??برة أن??ه مبت??دأ نه??ر جيح??ون ،وه??و نه??ر َب ْل َخ،
ومقدار جريانه على وج??ه األرض نح??و من خمس??ين ومائ??ة فرس??خ ،من مب??دأ نه??ر
الترك ،وهو إيغان ،وقيل :أربعمائ??ة فرس??خ ،وق??د غل??ط ق??وم من مص??نفي? الكتب في
?ران الس??ند ،يم ي??ذكروا نه??رهذا المع??نى ،وزعم??وا أن جيح??ون يص??ب إلى نه??ر ُم ْه? َ
رست األسود ،وال نهر رست األبيض الذي تكون علي??ه مملك??ة كيم??اك بيغ??ور ،وهم
جنس من ال??ترك وراء نه??ر بلخ ،وهوجيح??ون ،جملى ه??ذين النه??رين الغوري??ة من
?ط مق??دار مس??افتهما على وج??ه األرض فن??ذكر الترك ،ولهذين النهرين أخب??ار لم نح? ْ
ذلك.
نهر الفرات
وأما الفرات فمبدؤه من بالد َقالِيقال ،ومق?دار جريان?ه من بالد ال?روم إلى أن ي?أتي
بالد ملطية مائة فرسخ ،وأخبرني? بعض إخواننا من المسلمين ممن ك??ان أس??يراً في
أرض بالد النصرانية أن الفرات إذا توسط أرض الروم تحلبت إليه مياه كثيرة منها
نهريخرج? مما يلي بحيرة الماذرمون ،وليس في أرض??ي ال??روم بح??يرة أك??بر منه??ا،
وهي نحومن شهر ،وقيل :أكثرمن ذلك طواَل َ وعرضاً ،تجري فيها السفن ،وينتهي
صفحة 53 :
ناحية بربري? من بالد الزنج والحبشة ،ويس??مى الخليج ال??بربري ،طول??ه خمس??مائة
ميل ،وعرض طرفيه مائة ميل ،وليست هذه بربرى التي ينسب إليها البرابرة الذي
ببالد المغ??رب من أرض إفريقي??ة ألن ه?ذا موض??ع اخ??ر ي??دعى به??ذا االس??م ،وأه??ل.
المراكب من العمانيين يقطعون هذا الخليج إلى جزيرة قنبل??و من بح??ر ال??زنج ،وفي
هنه المدين??ة مس??لمون بين الكف??ار من ال??زنج ،والعم??انيون ال?ذين ذكرن??ا من أرب??اب
المراكب يزعمون أن ه??ذا الخليج المع??روف ب??البربري? وهم يعرفن??ه ببح??ر برب??ري?،
وبالد جفني أكثر مس??افة مم??ا ذكرن??ا ،وموج??ه عظيم كالجب??ال الش??واهق فإن??ه م??وج
أعمى ،يريدون بذلك أنه يرتف??ع كارتف??اع الجب??ال ،وينخفض ك??أخفض م??ا يك??ون من
األودِية ،ال ينكس??ر موج??ه ،وال يظه??ر من ذل??ك ز َب? دٌ ،كتكس??ر أم??واج س??ائر البح??ار،
ْ
ويزعمون أنه موج مجنون ،وهؤالء القوم الذين يركبون هذا البحر من أهل عم??ان
ب من األزد ،فإذا توسطوا هذا البحر ودخلوا بين ما ذكرناه من األمواج ت??رفعهم َع َر ٌ
وتخفضهم فيرتجزون ويقولون:
َو َم ْوخ َك ا ْل َم ْج ُنون بربري? وجفنـي
َو َم ْو ُج َهاكم??????اترى جف??????ني وبربـري
وينتهي ه??ؤالء في بح??ر ال??زنج إلى جزي??رة قنبل??و على م??ا ذكرن??ا ،وإلىبالد س??فالة
وال??واق واق من أقاص??ي أرض ال??زنج ،واألس??افل من بح??رهم ،ويقط??ع ه??ذا البح??ر
السيرافيون ،وقد ركبت أنا هذا البح??ر من مدين??ة س??نجار ،من بالد عم??ان وس??نجار
قصبة بالد عمان م??ع جماع??ة من َن َواخ??ذة الس??يرافيين ،وهم أرب??اب الم??راكب ،مث??ل
محمد بن الريدوم السيرافي ،وجوهربن أحمد ،وهو المعروف بابن سيرة ،وفي هذا
ِف ومن كان معه في مركبه ،وآخر مرة ركبت فيه في س??نة أرب??ع وثلثمائ?ة? البحر َتل َ
من جزيرة قنبلو إلى مدينة عمان ،وذلك في مركب أحمد وعبد الص??مد أخ??وي عب??د
الرحيم بن .جعفر السيرافي ،بميكان وهي محلة من سيراف وفيه غرقا في مركبهم
وجميع َمنْ كان معهما ،وكان ركوبي فيه أخيراً واألمي ُر على عم??ان أحم ? ُد بن هالل
بن أخت القيتال ،وقد ركبت عدة من البحار كبحر الص??ين وال??روم والخ??زر والقل??زم
واليمن ،وأصابني فيها من األهوال ما ال أحص??يه ك??ثر ًة ،فلم أش??اهد أه??ول من بح??ر
ال??زنج ال??ذي ق??دمنا ذك??ره ،وفي??ه الس??مك المع??روف باف??ال ط??ول الس??مكة نح??و من
أربعمائ??ة ذراع إلى خمس??مائة? ذراع العمري??ة ،وهي ذراع ذل?ك البح??ر ،واألغلب من
هذا السمك طوله مائ??ة ذراع ،وربم??ا يه??ز البح??ر فيظه??ر ش??يئا ً من جناح??ه ،فيك??ون
الص ? َعدَاء بالم??اء في??ذهب ك??القلع العظيم ،وه??و َ
الش ? َراع ،وربمايظهررأس??ه ،وينفخ? ُّ
الماء في الجوأكثرمن ممر السهم ،والمراكب تفزع منه? في الليل والنهار ،وتض??رب
له بالدبادب والخشب لينفر من ذلك ،ويحشر بأجنحته وذنبه الس??مك إلى فم??ه ،وق??د
َف َغ َرفاهُ ،وذلك السمك يهوي إلى َج ْوفه جرياً ،.فإذا بغت هذه السمكة بعث هللا عليه??ا
سمكة نحو الذراع تدعى ال َلش??ك فتلص??ق بأص??ل أذنه??ا فال يك??ون له??ا منه??ا خالص،
فتطلب قعرالبح??ر ،وتض??رب بنفس??ها ح??تى تم??وت ،فتطفف??ق الم??اء ،فتك??ون كالجب??ل
العظيم ،وربما تلتصق هذه السمكة المعروفة باللشك ب??المركب فال ي??دنو األف??ال م??ع
عظمتها من المركب ،ويهرب إذا رأى السمكة الصغيرة ،إذ كانت آفة له وقاتلته.
آفة التمساح
?ل وجزائ??ره ،وذل??ك أنوك??ذلك التمس??اح يم??وت من دويب??ة تك??ون في س??احل الني? ِ
التمساح ال دبر له وما يأكله يتكون في بطن??ه دوداَ ،وإذا آذاه ذل??ك ال??دود خ??رج إلى
ص هّللا إلي??ه ط??ير الم??اء ك??الطيطوىال??بر فاس??تلقى على َق َف??اه ف??اغراً ف??اه ،ف ُيق ِّي ُ
والحصافي وغير ذلك من أنواع الطي??ور وق??د اعت??ادوا ذل??ك من??ه ،فيأك??ل م??اظهرفي
جوفه من ذلك الدود ،وتكون تل??ك الدويب?ة? ق??د كمنت في الرم??ل تراعي??ه ،فت??دب إلى
حلقه ،وتص??ير في جوف??ه ،فيخب??ط بنفس??ه في األرض فيطلب قع??ر الني??ل ح??تى ت??أتي
ش َو ة جوفه ثم تخرق جوفه وتخرج ،وربما يقتل نفسه قبل أن تخرج الدويبة? على ُخ ْ
فتخرج بعد موته ،وهذه الدويبة تكون نحواً من ذراع على صورة ابن ُع ْرس ،ولها
ق??وائم ش??تى و َم َخ? الب.وفي بح??ر ال??زنج أن??واع من الس??مك بص??ور? ش??تى ،ول??وال أن
النفس تنكر ما لم تعرفه وتدفع ما لم تألفه ،ألخبرنا عن عج??ائب ه??ذه البح??ار ،وم??ا
فيهامن الحيتان والدواب ،وغير ذلك من عجائب المياه والجماد.
البحرين وجزائ??ر قط??ر وش??ط ب??ني جذيم??ة وبالد عم??ان وأرض مه??رة إلى رأس
ش ْحر واألحقاف ،وفيه جزائر كثيرة مثل جزي??رة خ??ارك ،وهي الجمجمة إلى أرض ال ِّ
بالذ جنابة ةألن خارك مضافة إلى جنابة ،وبينها وبين ال??بر فراس??خ وفيه??ا َم َغ? ُ
اص
اللؤلؤ المعروف بالخاركي ،وجزيرة أوال فيها بنو َم ْعن وبنو مسمار وخالئق كثيرة
من العرب بينها وبين مدن ساحل البح??رين نح??و ي??وم ،ب??ل أق??ل من ذل??ك ،وفي ذل??ك
الساحل مدينة الزارة والعقل والقطيف من ساحل هجر ،ثم بع??د جزي??رة أوال جزائ??ر
كثيرة ،منها جزيرة الفت ،وتدعى جزيرة بني كاوان ،وق??د ك??ان افتتحه??ا عم??رو بن
?رى وعم??ارةالع??اص ،وفيه??ا فس??جده إلى ه??ذه الغاي??ة ،وفيه??ا خل??ق من الن??اس وق? ً
متصلة ،وتقرب هذه الجزيرة إلى جزيرة هنج??ام ،ومنه??ا يستس??قي? أرب??اب الم??راكب
الم??اء ،ثم الجب??ال المعروف??ة بكس??ير وع??وير وث??الث ليس في??ه خ??ير ،ثم ال??دردور
المعروف بدردور مسندم ،ويكنيه البحريون بأبي جهرة ،وهذه مواض??ع من البح??ر،
وجبال سود ذاهبة في الهواء ال نبات عليها وال حيوان ،يحيط به??ا مي??اه من البح??ر
عظيم قعرها وأمواج متالطمة تجزع منها النفس إذا أشرفت عليها ،وهذه المواضع
من بالد عمان وس??يراف ال ب??د للم??راكب من الج??واز عليه??ا وال??دخول في وس??طها،
فتخطىء وتصيب ،وهذا البحر هو خليج فارس ويعرف بالبحر الفارس??ي ،علي??ه م??ا
وصفنا من البحرين وفارس والبص??رة وكرم??ان وعم??ان إلى رأس الجمجم??ة ،وبين
هذا الخليج وخليج القلزم أيلة والحجاز واليمن ،ويك??ون بين الخليجين من المس??افة
ألف وخمسمائة? ميل ،وهي داخل??ة من ال??بر في البح??ر ،والبحريطي?ف? به??ا من أك??ثر
جهاتها على ما وصفنا.فهذا بحر الصين والهند وفارس وعمان والبصرة والبحرين
واليمن والحبشة والحجاز والقُ ْلزم والزنج والس??ند و َمنْ في جزائ??ره و َمنْ ق??د أح??اط
به من االمم الكثيرة التي ال يعلم وصفهم وال عددهم إال َمنْ خلقهم سبحانه وتعالى،
ولكل قطعة منه اسم ُي ْف ِردها من غيرها ،والماء واحد متصل? غير منفصل.
وفي ه??ذا البح??ر مغاص??ات ال??در واللؤل??ؤ ،وفي??ه العقي??ق والب??ادبيج ?،وهون??وع من
البجادي ،وأنواع الياقوت والماس والسنباذج ،وفي??ه مع?ادن ذهب وفض?ة نح?و بالد
كلة وسريرة ?،وحول?ه مع?ادن حدي?د مم?ا يلي بالد كرم?ان ،ونح?اس ب?أرض عم?ان،
وفيه أنواع الطيب واألفاويه والعن??بر وأن??واع األدوي??ة والعق?اقير والس??اج والخش??ب
المعروف بالد ارزنجي والق َنا والخيزران ،وسنذكر بعد هذا الوضع تفص??يل مواض??ع
وح ْو َل??ه ،وس??ائر م??ا
فيه أدركناها ،وكل ما ذكرنا من الجواهر والطيب والنيات ففيه َ
ذكرنا من هذا البحر يدعى بالبحر الحبشي ،ورياح ما وصفنا من قطعه ال??تي ت??دعى
ك??ل واح??دة منه??ا بح??راً كقولن??ا :بح??ر ف??ارس ،وبح??ر اليمن ،وبح??ر القل??زم ،وبح??ر
الحبش ،وبحر الزنج ،وبحر السند ،وبحر الهند ،وبحر كل??ة ،وبح??ر ال??زانج ،وبح??ر
الصين -فمختلفة ،فمنها ماريحه من قعر البحر يظه??ر فتغلي??ه ويعظم موج??ه كالق??در
تف??ر مم??ا يلحقه??ا من م??واد ح??رارة الن??ار ،ومنه??ا م??ا ريح??ه واآلف??ة في??ه من قع??ره
والنسيم ،ومنها ما يكون مه ُّبة من النسيم ع??ون م??ا يظه??رمن قع??ره ،وم??ا وص??فناه
مم??ا يظه??ر من قع??ره من الري??اح ف??ذلك تنفس??ات من األرض تظه??ر إلى قع??ره ثم
عزوجل ّ أعلم بكيفية ذل??ك ،ولك??ل من ي??ركب ه??ذه البح??ار من تظهرفي سطحه ،وهّللا ّ
الناس رياح يعرفنها في أوقات تكون منها َم َهابها ،قد علم ذلك بالعادات وطول
صفحة 58 :
التجارب ،يتوارثون علم ذلك قوالً وعمالً ،ولهم فيه??ا دالئ??ل وعالم??ات يعمل??ون به??ا
إ َباّنَ َه َي َجانه وأحوال ركوده وثورانه ،هذا فيما س??مينا من البح??ر الحبش??ي وال??روم،
والمسافرون في البحر الرومي سبيلُهم كذلك ،وكذلك من يركب بحر الخزر إلى بالد
جرجان وطبرستان والديلم ،وسنأتي بعد هذا الموض??ع على ُج َم??ل وفص??ول من علم
معرنة هنه البحار ،وعجائب أوصافها وأخبارها ،إن شاء هّللا تعالى.
فالبحار التي ال يكون فيها الجزر والمد امتنع منها الجزر والمد لعلل ثالث ،وهي
على ثالثة أصناف :فأولها ما يقف الماء فيه زمانا ً فيغلظ و َت ْق َوى ُملوحته ،وتتكي??ف?
في??ه األري??اح ،ألن??ه ربم??ا ص??ار الم??اء إلى بعض المواض??ع ببعض األس??باب فيص??ير?
ينص?ب في?ه
ُّ كالبحيرة وينقص في الصيف ويزيد في الشتاء ،ويت?بين في?ه زي?ادة م?ا
من األنهار والعيون ،والصنف الثاني البحار ال??تي تبع??د عن م??دار القم??ر ومس??افاته
بعداً كثيراً ،فيمتنع? منه المد والجزر ،والصنف الثالث المياه التي يكون الغ??الب على
أرض??ها التخلخ??ل ،ألن??ه إذا ك??انت أرض??ها مخلخل??ة نف??ذ الم??اء منه??ا إلى غيره??ا من
البح??ار وتخلخ??ل؛ وأنش??بت الري??اح الكائن??ة في أرض??ها أوالً ف??أوالً ،وغلبت الري??اح
عليها ،وأكثر ما يكون هذا في ساحل البحار والجزائر.
وقد تنازع الناس في علة المد والجزر؛ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك من القمر ألنه
مجانس للماء ،وهو يسخنه ،فينبسط ،وشبهوا ذلك بالنار إذا أس??خنت م??ا في الق??در
وأغ َل ْته ،وإن الماء يكون فيها على قمر النصف أو الثل??ثين ،ف??إذا غال الم??اء انبس??ط ْ
في القدر وارتفع وتدافع حتى يفر فتتضاعف كميت??ه في الحس ،وينقص في ال??وزن
ة ألن من شرط الحرارة أن تبسط األجسام ،ومن ش??رط ال??برودة أن تض??مها ،وذل??ك
أن قعور البحار تحمي فتتولّد في أرضها عفبة وتس??تحيل? وتحمى كم??ا يع??رض ذل??ك
في البالليع واالبار ،فإذا حمي ذلك الماء انبس??ط ،وإذا أنبس??ط زاد ،وإذا زاد ارتف??ع،
فدفع كل جزء منه صاحبهَ ،ف َط َفا على سطحه وبان عن قعره ،فاحتاج إلى أك??ثر من
وهدته ،وإن القمر إذا أمتأل حمي الج?و حمي?ا ً ش?ديداً فظه??رت زي??ادة الم?اء ،فس??مي
ذلك المد الش??هري ،وإن ه??ذا البح??ر تحت مع??دل النهارأخ??ذاً من جه??ة المش??رق إلى
المغرب ودور الكواكب المتحيرة عليه مع ما يساميه من الك??واكب الثابت??ة إذا ك??انت
المتحيرة في القدر مثل الميل على تجاوزه ،وإذا زالت عنه كانت منه قريب??ة فاعل??ة
فيه من أوله إلى آخره في كل يوم وليلة ،وهي مع ذلك في الموضع المقابل
صفحة 59 :
الحمي ،فقليل مايعرض فيه من الزيادة ويكون في النهر الذي يعرض فيه المد بين??ا
من أطرافه وما يصب إليه من سائر المياه.
وقالت طائفة اخرى :لو كان الجزر والمد بمنزلة النار إذا أسخنت الم??اء ال??ذي في
القِدْ ر وبسطته فيطلب أوسع منها فيفيض ح??تى إذا خال قع??ره من الم??اء طلب الم??اء
بعد خروجه منه? عمق األرض بطبعه فيرجع اضطراراً بمنزل??ة رج??وع م??ا يغلي من
الماء في الم?رج والقمقم إذا ف?اض وتت?ابعت أج?زاء الن?ار علي?ه ب?الحمي ،لك?ان في
الشمس أشد سخونة ،.ولوكانت الشمس علة َمدةلكان يمدمع ب??دء طل??وع الش??مس،
ويجزرمع? غيبتها فزعم ه??ؤالء أن عل??ة الج??زر والم??د في األبحرتتول??د من األبخ??رة
التي تتولد من بطن األرض؛ فإنها ال تزال تتولد حتى تكثف وتكثر فتدفع حينئذ م??اء
ه??ذا البح??ر لكثافته??ا فال ت??زال ك??ذلك ح??تى تنقص مواده??ا من أس??فل ،ف??إذا انقطعت
موادها تراجع الماء حينئذ إلى قعر البح??ر ،وك??ان الج??زر من أج??ل ذل??ك ،والم??د ليالً
ونهاراً ،وشتاء وص??يفاً ،وفي غيب??ة القم??روفي طلوع??ه ،وك??ذلك في غيب??ة الش??مس
درك بالحس ،ألنه ليس يستكمل? الجزرآخره ح??تى يب??دأ أول وطلوعها ،قالوا :وهذا ُي َ
الم??د ،وال ينقض??ي آخ??ر الم??د ح??تى يبت??دىء أول الج??زر ألن??ه ال يتغ??ير توال??د تل??ك
البخارات ،حتى إذا خرجت تول َد غيره??ا مكانه??ا ،وذل??ك أن البح??ر إذا غ??ارت مياه??ه
ورجعت إلى قع??ره تول??دت تل??ك األبخ??رة لمك??ان م??ا يتص?ل? منه??ا من األرض بمائ??ة،
وكلما عاد تولدت ،وكلما فاض نقصت.وذهب آخرون من أهل الديانات أن كل م??ا لم
يعرف له من الطبيعة مج??رى وال يوج??د ل??ه فيه?ا قي??اس فه??و فع??ل اإلِل??ه ،ي??دل على
عز وجل وحكمته؛? فليس للمد والجزرعلة في الطبيعة البتة ،وال قياس . توحيد هّللا ّ
وقال آخرون :ما َه َي َجان ماء البحر إال كهيجان بعض الطبائع ة فإنك ترى صاحب
الدم وصاحب الصفراء وغيرهما تهتاج طبيعته ثم تسكن ،وكذلك م??واد تم??دها ح??االً
بعد حال ،فإذا قويت هاجت ،،ثم تسكن قلياَل َ قلياًل ح??تى تع??ود .وذهبت طائف??ة أخ??رى
إلى إبطال سائر ما وصفنا من القول ،وزعموا أن الهواء المطل على البحريس?تحيل?
دائماً ،فإذا استحال عظم ماء البحر وفاض عند ذل??ك ،وإذا ف??اض البح??ر فه??و الم??د،
فعند ذل?ك يس?تحيل م?اؤه ويتنفس فيس?تحيل ه?واء فيع?ود إلى م?ا ك?ان علي?ه ،وه?و
الج??زر ،وه??و دائم ال َي ْف??تر ،متص??ل م??ترادف متع??اقب .ألن الم??اء يس??تحيل? ه??واء،
والهواء يستحيل? ماء ،قالوا :وقد يجوز أن يكون ذل??ك عن??د امتالء القم??ر أك??ثر؛ألن
القمر إذا امئأل استحال الهواء أكثر مما كان يستحيل ،وإنما القمر علة لك??ثرة الم??د،
ال للمد نفسه ،ألنه قد يكون والقمر في محاقه ،والمد والجزر في بحرفارس يكونان
على مطالع الفج??ر في األغلب من األوق?ات.وق??د ذهب كث??ير من نواخ?ذة ه?ذا البح??ر
وهم أرباب المراكب ،من السيرافيين والعمانيين ممن يقطعون ه??ذا البح??ر ويختلفن
إلى عم??ائره من األمم ال??تي في جزائ??ره وحول??ه إلى أن الم??د والج??زر ال يك??ون في
معظم هذ البحر إال مرتين في السنة :م??رة يم??د في ش??هور الص??يف ش??رقا ً بالش??مال
ستة أشهر ،فإذا ك??ان ذل??ك طغ??ا الم??اء في مش??ارق األرض وبالص??ين بالص??ين وم??ا
وراء ذلك الصقع وانحسر بالصين من مغارب البحر ،ومرة يمد في ش??هور الش??تاء
غربا ً بالجنوب ستة أشهر ،فإذا كان الصيف طغا الماء في مغارب البحر وانحسر
صفحة 60 :
بالص??ين ،وق??د يتح??رك البح??ر بتح??رك الري??اح ،وإن الش??مس إذ ك??انت في الجه??ة
الشمالية تحرك الهواء إلى الجهة الجنوبية لعلل ذكروها فيسيل م??اء البح??ر بحرك??ة
اله??واء إلى الجه??ة الجنوبي??ة ?،فك??ذلك تك??ون البح??ار في جه??ة الجن??وب في الص??يف
لهبوب الش??مال طامي?ة عالي?ة ،وتق?ل ُّ المي??اه في جه??ة البح?ار الش??مالية ،وك??ذلك إذا
كانت الشمس في الجنوب وسال الهواء من الجنوب إلى جهة الشمال سال معه ماء
ت المي??اه في الجه??ة الجنوبي??ة البحر من الجه?ة الجنوبي??ة إلى الجه??ة الش?مالية ،فقلَّ ِ
منه ?،وينتقل ماء البحر في هذين الميلين أعني في جهتي الشمال والجنوب فيس??مى
جزا ومداً ،وذلك أن َمدّ الجنوب َج ْز ُر الشمال ومد الشمال جزر الجنوب ،فإن واف??ق
القمر بعض الك?واكب الس?يارة في أح?د الميلين تزاي?د الفعالن وق?وي الحمي واش?تد
لذلك سيالن الهواء فاشتد لذلك انقالب ماء البحر إلى الجه?ة المخالف?ة للجه?ة ال?تي
ليس فيها الشمس.قال المسعودي :فهذا رأي يعقوب بن إسحاق الكن??دي وأحم??د بن
السرخسِ ي فيما حكاه عنه :أن البحر يتحرك بالرياحَ ،ورأيت مث??ل ذل??ك ببالد ْ الطيب
كنباية من أرض الهند ،وهي المدينة ال??تي تض??اف إليه??ا النع??ال الكنبائي?ة? الص??رارة
وفيها تعمل َوفيما يليها مثل مدينة? سندارة وس??ريارة،وك??ان دخ??ولي إليه??ا في س??نة
ثالث وثلثمائ??ة ،والمل??ك يومئ??ذ باني??ا ،وك??ان برهماني??ا من قب??ل البله??ري ص??احب
الم??انكير ،وك??ان لبني??ا ه??ذا عناي??ة بالمن??اظرة م??ع َمنْ ي??رد إلى بالد من المس??لمين
وغيرهم من أهل الملل ،وهذه المدين??ة على خ??ور من أخ??وار البح??ر ،وه??و الخليج،
أع??رض من الني??ل أو دجل??ة أو الف??رات ،علي??ه الم??دن والض??ياع والعم??ائر والج َن??انُ
والنخل والنارجيل والطواويس والببغاء وغير ذلك من أنواع طيور الهند ،بين تل??ك
الجنان والمياه ،وبين مدينة كنباية بين البحر الذي يأخذ منه هذا الخليج يومان ،أو
أقل من ذلك فيجزر الماء عن هذا الخليج ح??تى يبم??و الرم??ل في قع??ر الخليج ويبقى
?ب عن??ه الم??اءفي وسطه قلي??ل من الم??اء ف??رأيت الكلب على ه??ذا الرم??ل ال??ذي ينص? ُّ
الح ْل َب??ة،
وقعر خليج قد صار كالصحراء ،وقد أقبل المد من نهاية الخور كالخي??ل في َ
فربما أحس الكلب بذلك فأقبل ُيحضِ ُر ما استطاع َخ ْوفا ً من الماء ،طلب البر الذيى ال
يص??ل إلي??ه الم??اء ،فيلحق??ه الم??اء بس??رعته? فيغرق??ه ،وك??ذلك الم??د َي??ر ُد بين البص??رة
واألهواز في الموضع المعروف بالباس??يان وبالد القن??در ،ويس??مى هن??اك ال??ذئب ل??ه
ضجيج ود َِوي وغليان عظيم َي ْف َزع من?ه أص?حاب الس?فن وه?ذا الموض?ع يعرف?ه من
يسلك هنالك إلى بالد مورق من أرض فارس ،وهللا أعلم.
أما بحر الروم وطرسوس وأذنة والمصيصة? وأنطاكية والالذقية وطرابلس صيدا
وصور وغ?ير ذل?ك من س?احل الش?ام ومص?ر وا إِل س?كندرية? وس?احل مغ?رب ،ف?ذ َك َر
جماعة من أصحاب الزيجات في كتبهم ،.منهم محمد بن جابر النس??ائي وغ??يره ،أن
طوله خمسة آالف ميل ،وعرضه مختلف :فمنه ثمانمائة ميل ،ومنه سبعمائة ميل،
صفحة 61 :
ومنه? ستمائة? ميل ،وأقل من ذلك ،على حسب مضايقة البر والبحر للبر ،ومبدأ ه??ذا
البحر من خليج يخرج جاري??أ من بح??ر أقي??انوس ،وأض??يق موض??ع من ه??ذا الخليج
بين س??احل طنج??ة وس??بتة? من بالد الغ??رب وبين س??احل األن??دلس ،وه??ذا الموض??ع
المع??روف بس??يطاء ،وعرض??ه فيم??ا بين الس??احلين نح??و من عش??رة أمي??ال ،وه??ذا
الموض??ع ه??وا ْل َم ْع َب? ُر لمن أراد العب??ور من الغ??رب إلى األن??دلس ومن األن??دلس إلى
الغرب ويعرف بالزقاق ،وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب في أخب??ار مص??ر القنط??رة
التي كانت بين هذين الساحلين ،وما ركبها من ماء ه??ذا البح??ر ،والطري??ق المتص??ل
بين جزيرة قبرص وأرض العريش وسلوك القواف??ل إي??اه وعلى الح??د بين البح??رين
النح?اس ،والحج?ارة ال?تي بناه?ا ه َِر ْق? ل ُ
ُ أعني بحر الروم وبح??ر أوقي??انوس المن??ارةُ
الجبار ،على أعاله??ا الكتاب??ة والتماثي??ل مش??يرة بأي??ديها أن ال طري??ق ورائي لجمي??ع
الداخلين إلى ذلك البحر بحر ال?روم؛ إذ ك?ان بح??ر ال تج??ري في??ه جاري??ة وال عم??ارة
?درى غايت??ه ،وال يعلم في??ه ،وال حي??وان ن??اطق يس??كنه ،وال يح??اط بمق??داره ،وال ُتح? َ
منتهاه ،وهو بحر الظلمات واألخضر والمحيط وق??د قي??ل إن المن??ارة على غ??ير ه??ذا
ال ُز َقاق ،بل في جزير من جزائر بحر أوقي??انوس المحي??ط وس??واحله.وق??د ذهب ق??وم
إلى أن هذا البحر أصل ماء سائر البحار ،وله أخبار عجيبة قد أتينا على ذكره??ا في
رر وخاطر بنفس??ه في ركوب??ه ،ومن نج??ا منهم، كتابنا أخبار الزمان في أخبار من َغ َ
ِف ،وما شاهدوا منه ،وما َر ْأوا ،وأن منهم رجالً من أه??ل األن??دلس ُيق??ال ل??ه ومن َتل َ
وأحدَ اثها فجمع جماعة من أحد اثه??ا ،وركب بهم خشخاش ،وكان من فتيان قرطبة ْ
مراكب استعدها في هذا البح??ر المحي??ط ،فغ??اب في??ه مح??ة ثم انث??نى بغن??ائم واس??عة، ِ
وخ َب? ُره مش??هور عن??د أه??ل األن??دلس وبين ه??ذه المن??ارة المنص??وبة ،وبين موض??ع
األحجار مسافة طويلة في طول مصب هذا الخليج وجريان??ه ،وذل??ك أن م??اء يج??ري
من بحر أوقيانوس إلى البحر الرومي يحس بجريان?ه? ويعلم بحركت??ه ،ويتش??عب من
بح?ر ال?روم والش?ام ومص?ر ،خليج من نح?و خمس?مائة? مي?ل يتص?ل? بمدين??ة رومي?ة
س? ْب َتة، تسمى بالرومية? أدرس وعلى هذا الخليج من جانب المغرب قري??ة ُيق??ال له??ا َ
س?? ْب َتة? ه??ذه من ناحي??ة األن??دلس الجب??ل وهي وطنج??ة من س??احل واح??د ،ويقاب??ل َ
س? ْب َتة? إلى س??احل ص ْيرَ ?،و َي ْع ُب? ُر الن??اس من َالمعروف بجبل طارق َم ْو َلى موسى بن ُن َ
األن??دلس من غم??وة إلى الظه??ر ،وفي ه??ذا الخليج َم? ْ?وج عظيم ،والم??اء من هن??اك
?ب إلى البح??ر ال??رومي ،وفي ه??ذا الخليج مواض??ع يخرج من بحر أوقي??انوس ،ويص? ُّ
تعلو أمواجها ،ويعلو الماء من غيرريح ?،وه??ذا الخليج يس??ميه? أه??ل المغ??رب وأه??ل
األندلس ال ُز َقاق ؛إذ كان على هيئة ذلك ،وفي بحر الروم جزائر كثيرة منه??ا جزي??رة
قبرص بين ساحل الشام والروم ،وجزيرة رودس في مقابلة اإِل س??كندرية ?،وجزي??رة
إقريطش ،وجزي??رة ص??قلية ،وس??نذكر ص??قلية بع??د ه??ذا الموض??ع عن??د ذكرن??ا لجب??ل
البركان الذي تظهر من??ه الن??ار ،وفيه??ا أجس??ام وجثث وعظ??ام.وق??د ذك??ر يعق??وب أن
إسحاق الكندي ،وتلميذه أحمد بن الطيب السرخس?ي في ط?ول ه?ذا البح?ر وعرض?ه
غير ما ذكرنا.
وسنذكر بعد هذا الموضع فيما يرد من هذا الكتاب هذه البحار علىنظم من التأليف،
وترتيب? من التصنيف ?،إن شاء هّللا تعالى.
صفحة 62 :
وخليج القسطنطينية
فأما نيطش فإنه يمت?دّ من بالد الذق?ة إلى القس?طنطينية وطول?ه أل?ف ومائ?ةميل،
وعرضه في األصل ثلثمائة? ميل ،وفيه يصب النهر العظيم المعروف بأطنابس ،وق??د
قدمنا ذك??ره ،ومب??دأ ه??ذا البح??ر من الش??مال ،وعلي??ه كث??ير من ول??د ي??افث بن ن??وح،
أع ُي ٍن وجب?ال ،ويك?ون مق?دار جريان?ه وخروجه من بح?يرة عظيم?ة في الش?مال من ْ
على وج??ه األرض نح??و ثلثمائ??ة فرس??خ عم??ائر متص??لة? لول??د ي??افث ،ويس??ير? بح??ر
مانطش فيما زعم ق??وم من أه??ل العناي??ة به??ذا الش??أن ح??تى يص??ب في بح??ر نيطش،
وهذا البحرعظيم فيه أنواع من األحجار والحش??ائش والعق?اقير ،وق?د ذك??ره جماع?ة
ممن تقدم من الفالسفة ،ومن الناس من يسمى بحرم??انطش بح??يرة ،ويجع??ل طول??ه
ثلثمائة ميل،وعرضه? مائ??ة مي??ل ،ومن?ه? ينفج??رخليج القس??طنطينية ال??ذي يص??ب إلى
بح???ر ال???روم ،وطول???ه ثلثمائ???ة مي???ل ،وعرض???ه نح???و من خمس???ين ميالً ،وعلي???ه
القسطنطينية والعمائر من أول??ه إلى آخ??ره ،والقس??طنطينية من الج?انب الغ??ربي من
ه??ذا الخليج ،متص??لة ب??بر? رومي ?ة? واألن??دلس وغيرهم??ا فيجب وهّللا أعلم على ق??ول
المنجمين من أص??حاب الزيج??ات وغ??يرهم ممن تق??دم ،أن بح??ر البلغ??ر وال??روس،
وبجنى وبجناك وبغرد ،وهم ثالثة أنواع الترك هو بحر نيطش ،وسيأتي ذكر هؤالء
األمم فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء هّللا تعالى على حسب استحقاقهم في ذك??رهم،
واتصال عمائرهم ،ومن يركب هذا البحر منهم ومن ال يركبه ?،وهّللا أعلم.
بحر األعاجم
فأما بحر األعاجبم الذي علي??ه دو ُر َه??ا ومس??اكنها فه??و معم??ور بالن??اس من جمي??ع
جهاته ،وه??و المع??روف ببح??ر الب??اب واألب??واب والخ??زر والجي??ل وال??ديلم وجرج??ان
ار ْزم، وطبرستان ،وعليه أنواع من الترك ،وينتهي? في إحدى جهات??ه نح??و بالد ُخ? َ
?و َ
ميل ،وهو مدور الشكل إلى الطول ،وسنذكر وطوله ثمانمائة ميل ،وعرضه ستمائة? ِ
فيما يرد من هذا الكتاب جمالَ من ذكراألمم المحيطة به?ذه البح?ار المعم??ورة ،وه?ذا
البحر الذي هو بحر األعاجم كثير ال ّت َنانين ،وكذلك بحر الروم فالتنان فيهم??ا كث??يرة،
وكثيراً ما تكون مما يلي بالد طرابلس والالذقية والجبل األقرع من أعمال أنطاكية،
وتحت هذا الجبل معظم ماء البحر وأكثره ،ويسمى عجز البحر ،وغايته إلى س??احل
أنطاكية ورشيد واإِل س??كندرية وحص??ن المثقب وذل??ك في س??فح جب??ل اللك??ام وس??احل
المصيصة ?،وفيه مصب نهر جيحان ،وساحل أذن??ة ،وفي??ه مص??ب س??يحان ،وس??احل
طرس??وس ،وفي??ه مص??ب نه??ر ب??ردان،وه??و نه??ر طرس??وس،ثم البل??د الخ??الي من
العمارات الخراب بين الروم والمسلمين مما يلي مدينة قلمية إلى قبرص وقريطس
صفحة 63 :
وقراسيا ،ثم بالد س??لوقية َونهره??ا العظيم ال??ذي يص??ب في ه??ذا البح??ر ،ثم حص??ون
الروم إلى خليج القس??طنطينية .وق??د أعرض??نا عن ذك??ر أنه??ار كث??يرة ب??أرض ال??روم
ومما يصب إلى هذاالبحر كنهر البارد ونهر العسل وغيرهما من األنهار.
َوالعمارةُ على هذا البحر من المضيق الذي قدمنا ذك??ره ،وه??و الخليج ال??ذي علي??ه
ٌ
متص???لة بس???احل المغ???رب وبالد إفريقي???ة والس ??وس وط ??رابلس المغ???رب طنج???ة،
والقيروان وساحل َب ْر َقة والرفادة وبالد اإِل سكندرية? ورشيد وتنيس ودمياط وس??احل
الشام وساحل الثغور الشامية ثم ساحل الروم م??اراً متص ?الً إلى بالد رومي??ة إلى أن
يتصل? بساحل األندلس ،إلى أن ينتهي? إلى ساحل الخليج الضيق المقابل ل َط ْن َج? ة طى
ما ذكرنا ال تنقطع من هذا البركل??ه ألعم??ائر ال??تي وص??فناها من اإِل س??الم وال??روم إال
األنهار الجارية إلى البحر وخليج القسطنطينية ،وعرضه نحو من مي??ل ،وخلجان??ات
اخر داخلة في البرال منفذ لها؛ فجميع م??ا ذكرن??ا على ش??اطىء ه??ذا البح??ر ال??رومي
متصلو الديار غير منفصلين بما يقطعهم أو يمنعهم إال ما ذكرنا من األنه??ار وخليج
القسطنطينية ،ومثال هذا البحر الرومي ،ومثال ما ذكرن??ا من العم??ائر علي??ه إلى أن
ينتهي إلى مبدأ الخليج الضيق اآلخ??ذ من أوقي??انوس ال??ذي علي??ه المن??ارة النح??اس،
ويلي األعلى من َط ْن َج??? ة ،وس???احل األن???دلس :مث???ل الك???رنيب ،في قبض???ة الخليج،
والكرنيب على ضفة البحر ،إال أنه ليس بمدور الشكل ،لما ذكرن??ا من طول??ه.وليس
تع??رف التن??انين في البحرالحبش??ي ،وال في ش??يء من خلجان??ه من حيث وص??فنا في
نهاياته ،وأكثرها يظهر مما يلي بحر أوقيانوس.
وقد اختل??ف الن??اس في الت??نين :فمنهم من رأى أن??ه ريح س??وداء تك??ون في قع??ر
البحر فتظهر إلى النسيم ،وه??و الج??و ،فتحل??ق الس??حب كالزوبع??ة ،ف??إذا ص??ارت من
الص? َعداء
?ة ُّ ?ار ثم اس??تطالت في اله??واء ذاهب? ًاألرض واس??تدارت وأث??ارت معه??ا الغب? ِ
الناس أنها حيات سود قد ظهرت من البحر لسواد الس??حاب ،وذه??اب الض??وء ُ َت َوهَّم
دواب تتك??ون في قع??ر البح??ر ،فتعظم وت??ؤذي وترادف الري??اح.ومنهم من رأى أنه??ا َ
دواب البحر ،فيبعث هّللا عليها السحاب والمالئكة فيخرجونها من بينها ،وأنه??ا على
صورة الحية السوداء لها بريق وبص?يص ?،ال تم?ر بمدين?ة? إال أتت على م?ا ال يق?در
عليه من بناء عظيم أوشجرأوجبل ،وربم??ا تتنفس فتح??رق الش??جرة الكب??يرة فيلقي??ه
الس??حاب في بل??د ي??أجوج وم??أجوج ،ويمط??ر الس??حاب عليهم ،فيقت??ل الت??نين ،فمن??ه
يتغذى يأجوج ومأجوج ،وهذا القول ُي ْع َزى إلى ابن عباس.وقد ذكر ق??وم في الت??نين
غير ما ذكرنا ،وكذلك حكى ق??وم من أه??ل الس??ير وأص??حاب القص??ص أم??ورأ في م??ا
ذكرن??ا أعرض??نا عن ذكره??ا ،منه??ا خ??بر عم??ران بن ج??ابر ال??ذي ص??عد في الني??ل،
فألمحرك غايته ،وعبر البح?ر على ظهرداب?ة تعل?ق بش?عرها وهي داب?ة ينج?ر منه?ا
على األرض ش??بر من قوائمه??ا ُت َغ? ادي ق??رن الش??مس من مب??دأ طلوعه??ا إلى ح??ال
?رعلى وص??فنا من تعلق??ه الشمس ف َع َب? َ
َ غروبها فاغرة فاها نحوها لتبتلع عند نفسها-
بشعرها البحر ،ودار بدورانها طلبا ً لعين الشمس ،حتى صار إلى ذلك الجانب،
صفحة 64 :
فرأى النيل منح??دراً من قص?ور ال?ذهب من ،الجن?ة ،وأعط?اه ال َم َل? ُك العنق??ود العنب،
وص?وله إلى مب??دأ
وأنه أتى الرجل الذي رآه في ذهابه ،ووصف ل??ه كي??ف يفع??ل في ُ
ش??ويةالنيل ،فجم ميتاً ،وخبر إبليس معه والعنقود العنب ،وغير ذلك من خرافات َح ْ
فى وس??طعن أصحاب الحديث ،ومنها ما روي أن قبة من ال??ذهب وأن??واع الج??وهر ِ
البحر األخضر على أربعة أركان من الي?اقوت األحم??ر ينح??در من ك??ل ركن من ه??ذه
األركان ماء عظيم من رشحه فقسم إلى جهات أرب??ع في ذل??ك البح??ر األخض??ر غ??ير
متماس ب??ه ،ثم ينتهي? إلى جه??ات من ال??بر من س??واحل ذل??ك البح??ر، ّ مخالط له ،وال
أحدها النيل ،والثاني سيحان ،والث??الث جيح??ان ،والراب??ع الف??رات ،ومنه??ا أن المل??ك
الموكك بالبحار يضع عقبه في أقص??ى بح??ر الص??ين فيف??ر من?ه? البح??ر ،فيك??ون من??ه
الم??د ،ثم يرف??ع عقب??ه من البحرف??يرجع الم??اء إلى مرك??زه ،ويطلب قع??ره ،فيك??ون
الج?زر ،ومثل?وا ذل?ك بإن?اء في?ه م?اء في مق?دار النص?ف من?ه ?،فيض?ع اإلِنس?ان ي?ده
أورجل??ه فيمأل الم??اء اإِل ن??اء ،ف??إذا رفعه??ا رج??ع الم??اء إل ح??ده ،وانتهى إلى غايت??ه،
ومنهم من رأىأن الملك يضع إبهامه من كفه اليمنى في البحر فيكون من??ه الم??د ،ثم
فى ح??يز يرفعها فيكون الجزر وما ذكرنا فغير ممتنع كو ُنه ،وال واجب ،وه??و داخ??ل ِ
?ورد الت??واتر الممكن والجائزألن طريقه في النقل طريق األفراد واآلحاد ،ولم ي??رد َم? ِ
واالستفاضة كاألخبار الموجبة للعم ،والعل??ل القاطع??ة للع??ذر في النق??ل ،ف??إن قارنه??ا
عز وج ?ل ّ علين??ا دالئل توجب صحتها وجب التسليم لها ،واالنقياد إلى ما أوجب اللة ّ
?ز وج?ل ّ وم??ا آت??اكم الرس??ول فخن??وه ،وم??ا من أخبار الشريعة والعمل بها؛ لقوله ع? ّ
نهاكم عنه فانتهوا ،وإن لم يصح ما ذكرنا فقد وصفنا آنفا ً ما قال الناس في ذل??ك،
وإنما ذكرنا هذا ليعلم من قرأ هذا الكتاب أنا قد اجتهدنا فيما أوردناه في هذا الكتاب
وغ??يره من كتبن??ا ،ولم َي ْع? ُر ْب عن??ا فهم م??ا قال??ه الن??اس في س??ائر م??ا ذكرن??ا ،وباهّلل
التوفيق.
جملة البحار
فهذه جمل البحار ،وعند أكثر الناس أنها أربعة في المعم?ور من األرض ،ومنهم
من يع??دها خمس??ة ،ومنهم من يجعله??ا س??تة ،ومنهم من ي??رى أنه??ا س??بعة منفص??لة
غيرمتصلة ?،وعلى أنها ستة فأولها البح??ر الحبش??ي ،ثم ال??رومي ،ثم نيطش ،ثم م??ا
نطش ،ثم الخزري ،ثم أوقيانوس الذي ال يعلم أك?ثر نهايات?ه ،وه?و األخض?ر المظلم
المحيط ،وبحر نيطش متصل? ببحر ما نطش ،ومنه خليج القسطنطينية ال??ذي يص??ب
إلى بحر الروم ويتصل? به ،على حسب ما ذكرنا ،والرومي بدؤه من بحر أوقيانوس
األخضر؛ فيجب على هذا القياس أن يكون ما وصفنا بحراً واح??داً التص??ال مياهه??ا،
وليست هذه المياه وال شيء منها وهّللا أعلم متصله بشيء من بح??ر الحبش ،فبح??ر
نيطش وبح??ر م??انطش يجب أن يكون??ا أيض ?ا ً بح??راً واح??داً ،وإن تض??ايق البح??ر في
بعض المواضع يبنهما ،أو صار بين الماءين كالخليج ،وليست تسمية ما اتسع منه?
وكثرماؤه بمانطش ،وما ضاق منه وق??ل م??اؤه ب??نيطش ،يمن??ع من أن تجمعهم??ا في
اسم مانطش أو نيطش ،فإذا عبرنا بعد هذا الموضع في مبسوط هذا الكتاب فقلنا ما
صفحة 65 :
نطش أو نيطش ،فإنم??ا نري??د ب??ه ه??ذا المع??نى فيم??ا اتس??ع من البح??ر وض??اق.ق??ال
المسعودي :وقد غلط قوم زعموا أن البحر الخزري يتص??ل ببح??ر م??ا يطس ،ولم أر
فيمن دخ??ل بالد الخ??زر من التج??ار ومن ركب منهم في بح??ر م??ايطس ونيطس إلى
بالد ال??روس والبلغ??ر أح??داً ي??زعم أن بح??ر الخ??زر يتص??ل ببح??ر من ه??ذه البح??ار أو
بشيء من مائها أومن خلجانها إال من نهر الخزر ،وسنذكر ذل??ك عن??د ذكرن??ا لجب??ل
القبق ومدينة? الباب واألبواب ومملكة الخزر وكي??ف دخ??ل ال??روس في الم??راكب إلى
بحر الخزر ،وذلك بعد الثلثمائة ،ورأيت أكثر من تعرض لوص??ف البح??ار ممن تق??دم
وت??أخر ي??ذكرون في كتبهم أن خليج القس??طنطينية? اآلخ??ذ من نيطش يتص??ل ببح??ر
الخزر ،ولست أدري كيف ذلك ،ومن أين ق??الوه .أمن طري??ق الح??دس أم من طري??ق
االستدالل والقياس .أو توهموا أن الروس ومن جاورهم على هذا البحر هو الخ??زر
وقد ركبت فيه من أبسكون ،وهو ساحل جرجان ،إلى بالد طبرستان ،وغيره??ا ،ولم
أت??رك ممن ش??اهدت من التج??ار ممن ل??ه أدب وفهم ومن ال فهم عن??ده من أرب??اب
المراكب إال سألته عن ذلك ،وكل ٌّ يخبرني أن ال طريق ل??ه إليه??ا إال من بح??ر الخ??زر
حيث دخلت إليه مراكب الروس ،ون َفر من أهل أذر بيجان والباب واألبواب وبردعة
والديلم والجبل وجرجان وطبرستان إليه??ا ألنهم لم يعه??دوا ع??دواً يط??رأ عليهم ،وال
ع??رف ذل??ك فيم??ا س??لف ،وم??ا ذكرن??ا فمش??هور فيم??ا س??مينا من األمص??ار واألمم
والبل???دان ،س???الك مس???لك االستفاض???ة فيهم.ورأيت في بعض الكتب المض???افة إلى
الكن??دي وتلمي??ذه وه??و أحم??دابن الطيب السرخس??ي ،ص??احب المعتض??د باهّلل أن في
طرف العمارة من الش?مال بح?يرة عظيم?ة بعض?ها تحت قطب الش?مال ،وأن بقربه?ا
مدين??ة ليس بع??دها عم??ارة ،يق??ال له??ا تولي??ة ،ولق??د رأيت لب??ني المنجم في بعض
رسائلهم ذكر هذه البحيرة ،وقد ذكر أحمد بن الطيب في رسالته في البح?ار والمي?اه
والجبال عن الكندي أن بحر الروم طوله س??تة آالف مي??ل من بالد ص??ور وط??رابلس
وأنطاكية والالذقية والمثقب وساحل المصيصة وطرس??وس وقلمي?ة? إلىمن??ار هرق??ل،
ض موضع فيه أربعمائة ميل ،هذا قول الكندي وابن الطيب.وقد أتينا ع??يى أع َر َ
وأنا ْ
ق?ول الف?ريقين جميع?ا ً وم?ا بينهم?ا من الخالف في ذل?ك من أص?حاب الزيج?ات وم?ا
وجدناه في كتبهم وسمعناه من أتباعهم ،ولم نذكر ما ذك??روه من ال??براهين المؤي??دة
لما وصفا ة الشتراطنا في هذا الكتاب على أنفسنا االختصار واإِل يجاز.
ومنهم من رأى أن البحر هو ما بقي مما ص َّف ْت ُه األرض من الرطوبة المائية لغلظ
جسمها ،كما يع?رض في الم?اء الع?ذب إذا م?زج بالرم??اد ،فإن??ه إذا ص?فا من الرم??اد
وجد مالحا ً بعد أن كان َع ْذبا ً.
وذهب آخرون أن الماء عذبه ومالحه كانا ممتزجين ،فالشمس ترفع لطيفه َو َع ْذبه
لخفته.
وبعضهم قال :ترفعه الشمس لتغتذي به ،وقال بعضهم :بل يع??ود باالس??تحالة م??اء
إذا صار بارتفاعه إلى الموضع الذي يحصره البرد فيه ،ويكيف?ه.ومنهم من ذك?ر أن
الماء الذي هو أس ُطقُس :ما كان منه عن الهواء وما يع??رض من??ه من ال??برد يك??ون
حلواً ،وما كان منه? في األرض لم??ا ينال??ه من االح??تراق والح??رارة يك??ون م??راً.ومن
أهل البحث من قال :إن جمع الماء الذي يفيض إلى البح?رمن جمي?ع ظه?ور األرض
ض?اض ،واألرض ض?اض من ُم َ وبطونها إذا ص?ار إلى تل?ك الحف??رة العظيم??ة فه??و ُم َ
تقذف إليه ما فيها من الملوحة ،والني في الماء من أجزاء الن??ار ال??تي تخ??رج إلي??ه
من بطون األرض ومن أجزاء النيران المختلطة يرفع??ان لط??ائف الم??اء بارتفاعهم??ا
وتبخرهما 4ف??إذا رفع??ا اللط??ائف ص??ار منه??ا م??ا يش??به? المط??ر ،وك??ان ذل??ك دأبهم??ا
وعادتهما ،ثم يعود ذلك الماء مالحاًألن األرض إذا كانت تعطيه الملوح??ة ،والن??يران
تخرج منها العفبة واللطافة ،ك??ان واجب?ا ً أن يع??ود إلى الملوح??ة وك??ذلك يك??ون م??اء
البحر على كيل واحد ووزن واحد ة ألن الحرير يرفع اللطيف فيصير طاّل ً وم??اء ،ثم
تعود تلك األندية سيوالً ،وتطلب الحدور وال َق َرار ،وتج?ري في أعم?اق األرض ح?تى
يض?يع من ذل?ك الم?اء ش?يء ،وال يبط?ل من?ه ش?يء، يصير? إلى ذل?ك اله?ور ،فليس ِ
ف من نه??ر وص??ب إلى حف??رة تفيض إلى ذل??ك النه??ر، غر َ
واألعيان قائمة كمنجنون َ
وقد شبه? ذلك قوم بأعضاء الحيوان إذا اغتذت وعملت الحرارة في غذائه فاجت??ذبت
منه? ماء ع ُذ َب إلى األعضاء المغتذية به،وخلفت ما ثق??ل من??ه ،وه??و الم??الح والم??ر،
فمن ذلك البول والعرق ،وهذا فضول األغذية فيها ،ولما ك??انت عن رطوب??ات عذب??ة
إلى الم??رارة والملوح??ة ،وإن الح?رارة ل??و زادت أك?ثر من مق??دارها أحالتها الحرارة ِ
لصار الفضل مراَ زائداً على م??ا يوج??د من الع??رق والب??ول ث لوجودن??ا ك??ل مح??ترق
مراً.هذا قول جماعة ممن تقدم ،وأما ما يوجد بالعيان وإيقاع المحنة عند المباش??رة
ف??إن ك??ل الرطوب??ات ف??ات الطع??وم إذا ص??عدت ب??القرع واألن??ابيق بقيت روائحه??ا
وطعومها فيما يرتفع منها كالخل والنبيذ والورود والزعفران والقرنفل ،إال المالحة
فإنها تختلف طعومها وروائحه??ا ،وال س??يما إن ص??عدت م??رتين وأس??خنت م??رة بع??د
أخرى.وقد ذكر ص?احب المنط?ق في ه?ذا المع?نى كالم?ا ً كث?يراً ا :من ذل?ك أن الم?اء
المالح أ ْث َقل ُ من الماء العذب ،وجع??ل الدالل??ة على ذل??ك أن الم??اء الم??الح َك??در غلي??ظ
ف رقيق ،وأنه إذا أخ?ذ ش??يء من الش?مع فعم?ل من?ه? إن?اء ثم س??د صا ٍ
والماء العذب َ
رأسه وصيرني ماء م?الح وج?د ذل?ك الم?اء ال?ذي وص?ل إلى داخ?ل اإِل ن?اء ع?ذبا ً في
الطعم خفيفا ً في الوزن ،ووجد الماء المحيط به على خالف ذل??ك ،وك??ل م??اء يج??ري
فهونهر ،وحيث َين َبع? فهوعين ،وحيث يكون معظم الماء فهوبحر.
قال المسعودي :وقد تكلم الن?اس في المي?اه وأس??بابها ،وأك??ثروا ،وق??د ذكرن?ا في
كتابناأخبار الزمان في الفن الث??اني من جمل??ة الثالثين فن?ا ً م??ا أوردوه من ال??براهين
في مساحة البحار ومقاديرها ،والمنفعة في ملوحة مائه??ا ،واتص??ال بعض??ها ببعض
وانفصالها ،وعدم بي??ان الزي??ادة فيهاوالنقص??ان ،وألي??ة عل??ة ك??ان الج??زر والم??د في
البحر الحبشي أظهر من لمحون سائر البحار ،ووجدت َن َواخذة بحر الص??ين والهن??د
والسند والزنج واليمن والقلزم والحبش??ة من الس??يرافيين والعم??انيين يخ??برون عن
البحر الحبشي في أغلب األمور على خالف ما ذكرته الفالسفة وغيرهم ممن حكينا
عنهم المق??ادير والمس??احة ،وإن ذل??ك ال غاي??ة ل??ه ،وفي مواض??ع من??ه? ش??اهدت
أربابالمراكب في البحر الرومي من الحربية والعمالة وهم النواتي وأصحاب الرح??ل
والرؤساء ومن يلي تدبير المراكب والحرب فيهم ،مث??ل الوي المك??نى ب??أبي الح??رب
غالم زراقة صاحب طرابلس الشام من ساحل دمشق ،وذلك بعد الثلثمائ??ة ُي َع ِّظم??ون
هللا
طول البحر الرومي وعرضه ،وكثرة خلجان??ه وتش??عبه ?،وعلى ه??ذا وج??دت عب??د ّ
بن وزير صاحب مدينة? جبلة من س??احل حمص من أرض الش??ام ،ولم يب??ق في ه??ذا
ص? ُر من??ه في البح??ر ال??رومي ،وال أس??نُّ
الوقت وهو سنة? اثنتين وثالثين وثلثمائة? أ ْب َ
منه ?،وليس فيمن يركبه من أصحاب المراكب من الحربية والعمال??ة إال وه??و منق??اد
إلى قوله ،و ُيقِر له بالبصر وال ِح ْن??ق ،م??ع م??ا ه??و علي??ه من الديان??ة والجه??اد الق??ديم
فيها ،وقد ذكرنا عجائب هذه البحار وما س??معناه ممن ذكرن??ا من أخباره??ا وآفاته??ا،
وم??ا ش??اهدوا فيه??ا فيم??ا س??لف من كتبن??ا ،وس??نورد بع??د ه??ذا الموض??مع جمالً من
أخبارها.
ليس في ذلك الموضع ماء ،فال َت َت َعنّ في َح ْفره.ووجدت في بعض النس??خ من كت??اب
الفالحة في هذا المعنى أن َمن أراد علم ذلك فلينظر إلى قرى النمل ،فإن وجد النمل
غالظا ً سي اً ثقيل??ة المش??ي فلينظ??ر فعلى ق??درثقل مش??يهن الم??ا ُء ق??ريب منهن ،وإن
يلح? ق فالم??اء على أربعين ذراع?اً ،والم??اء األول
?ريع المش??ي ال يك??اد َ
وجد النمل س? ِ
يكون عذبا َ طيبا ً والثاني يكون ثق َياَل مالحاً.فهذه جملة عالم??ات لمن يري??د إس??تخراج
الماء ،وقد أتينا على مبسوط ما ذكرن??ا في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان أل وإنم??ا ن??ذكر في
هذا الكتاب ما تدعو الحاجة إلى ذكره باإلِش??ارة إلي??ه دون َب ْس?طه وإيض??احه.وإذ ق??د
ذكرن??ا جماًل من أخب??ار البح??ار وغيره??ا ،فلنق??ل في أخب??ار مل??وك الص??ين وغيره??ا
وأهلها ،وغيرذلك مما لحق به ،إن شاء هّللا تعالى.
قد تنازع الناس في أنساب أهل الصين وبدئهم :فذكر كثير منهم أن ولد عابوربن
األرض
َ س ٍم فالغ بن عابربن إرفخشذ بن سام بن نوح سوبيل? بن ياقث بن نوح لما َق ّ
س ? ْمت
بين ولد نوح ساروا يسرة في الشرق ،فسار ق??وم منهم من ول??د أرع??و على َ
الش???مال ،وانتش???روا في األرض فص???اروا ع???دة ممال???ك :منهم ال??? َد ْي َلم ،والجي???ل،
والطيلسان ،والت??تر ،وفرغ??ان فأه??ل جب??ل القب??ق من أن??واع اللك??ز ثم الالن والخ??زر
واألنجاد والس??رير وكش??ك ،وس??ائر تل?ك األمم .المنتش?رة? في ذل?ك الص??قع ،إلى بالد
طوابريدة إلى بحر م?انطش ونيطش وبح?ر الخ?زر إلى ال?برغو ومن اتص?ل بهم من
وع َب??ر ول??د ع??ابور نه??ر بلخ ،وي ّمم بالد الص??ين األك??ثر منهم ،وتفرق??وا ع??دة
األممَ ،
ممالك في تل??ك البالد وانتش??روا في تل??ك ال??ديار ،فمنهم الجي??ل ،وهم س??كان جيالن،
واألش???ر وس???نة والص???غد ،وهم بين بخ???ارى وس???مرقند ،ثم الفراغن???ة والش???اش
واس??تيجاب رأه??ل بالد الف??اراب؛ فبن??وا الم??دن والض??ياع ،وانف??رد منهم أن??اس غ??ير
هؤالء فسكنوا البوادي :فمنهم الترك والخ??زلج والطغرغ??ر ،ومنهم أص??حاب مدين??ة
كوش???ان ،وهي مملك???ة بين خراس???ان وبالد الص???ين ،وليس في أجن???اس ال???ترك
وأنواعهم في وقتن?ا ه?ذا وه?و س?نة اثن?تين وثالثين وثلثمائ?ة أش?د منهم بأس?اً ،وال
أكثر منهم شوكة ،وال أضبط ملكاً ،وملكهم أيرخان ،ومذهبهم مذهب المانية ،وليس
في الترك من يعتقد هذا المذهب غيرهم ،ومن الترك الكيماكية والبرسخانية والبدية
والجعري??ة ،وأش??دهم بأس??أ الغزي??ة ،وأحس??نهم ص??ورة ،وأط??ولهم قأم??ة ،وأص??بحهم
وجوهاً :الخزلجي??ة ،وهم أه??ل بالد فرغان??ة والش?اش وم??ا يلي ذل??ك الص??قع ،وفيهم
كان ال ُم ْل ُك ،ومنهم خاف الخواقين ،وكان يجم??ع ملك??ه س??ائر ممال??ك ال??ترك ،وتنق??اد
إ.ليه ملوكها ،ومن هؤالء الخواقين كان فراسياب التركي الغ??الب على بالد ف??ارس،
ومنهم س??انة ،ولخاق??ان ال??ترك في وقتن??ا ه??ذا تنق??اد مل??وك ال??ترك كلهم من??ذ خ??ربت
المدينة المعروفة بعمات ،وهي في مفاوز سمرقند ،وقد ذكرنا انتقال الملك عن هذه
صفحة 69 :
المدينة ،والسبب في ذلك في كتابنا المترجم بالكتاب األوسط ،ولحق فري??ق من ول??د
عابور بتخوم الهند ،فأثرت فيهم تلك البقاع فصارت أل??وانهم بخالف أل??وان ال??ترك،
?ر َو َب??وادٍ ،وس??كن فري??ق منهم ببالد التبت ،وملك??وا
ولحقوا بألوان الهند ،ولهم َحض? َ
وس?مىعليهم ملكا ً وكان ينقادإلى ملك خاقان ،فلما زال ملك خاقان على م??ا ق??دمناَ ،
أهل التبت ملكهم بخاقان تشبيهأ بمن تقدم من ملوك الترك وخاقان الخواقين.وس??ار
الجمهور من ولد عابور على ساحل البحر حتى انتهواإلى أقاصيه من بالد الص??ين،
ومص ?روا األمص??ار
َّ فتفرقوا في تلك البقاع والبالد ،وقطنوا ال??ديار و ًك??وروا ال ُك? َ?و َر،
و ًمذنوا المدن ،واتخفا لمملكتهم مد عظيم??ة ،وس ? َّم ّوها انم??وا ،وبينه??ا وبين س??احل
البحر الحبشي وهو بحر الصين مسافة ثالثة أشهر مدن وعمائر متصلة.
ملك نسطرطاس
وكان أول ملك تملك عليهم في ه??ذه ال??ديار وهي انم??وا نس??طرطاس بن ب??اعوربن
مدتج بن عابور بن يافث بن نوح ،فكان ملكه ثلثمائة س??نة ونيف?اً ،وف??رق أهل??ه في
ش ًقق األنهار ،وقت السباع ،وغرس األشجار وأطعم الثمار ،وهلك. تلك الديار ،و َ
ملك عوون
فملك ولد له ُيقال له عوون فجعل جس??د أبي??ه في تمث??ال من ال?ذهب ألحم??ر جزع?ا ً
صع ب??الجواهر وجع??ل عليه ،وتعظيما ً له ،وأجلسه على سرير من الذهب األحمر َ
مر َّ
مجلسه دونه ،وأقبل يسجد ألبيه وهو في جوف تل??ك الص??ورة ،ه??و وأه??ل مملكت??ه،
في طرفي النهار إجالالً له ،وعاش بعد أبيه،مائتي? سنة وخمسين سنة ،وهلك.
ملك عيثدون
فمل?ك ول?د ل?ه يق?ال ل?ه عيث??دون فجع?ل جس?د أبي??ه مخزون?ا ً في تمث??ال من ال?ذهب
رص? َع ُه ب??أنواع الج??واهر
األحمر ،وجعله دون مرتبة ج??ده على س??رير من ال??ذهب َو َّ
س?نَ
وأح َ
وكان يسجد ل??ه ،ويب??دأ بج??ده األول ثم بأبي??ه ،وأه??ل مملكت??ه يس??جدون ل??ه ْ
السياس??ة للرعي??ة ،وس? َّ?واهم في جمي??ع أم??ورهم ،وش??ملهم ،بالع??دل ،فك??ثر النس??ل
وأخصبت األرض فكان ملكه إلى أن هلك نحواً من مائتي سنة.
ملك غيثنان
ثم ملك بعدهولده غيثنان فجعل أباه في تمثال من الذهب األحمر جرى فيه على ما
سلف من أفعالهم من السجود والتعظيم ،وطال ملكه واتصلت بالده ببالد ال??ترك من
بني عمه ،فعاش أربعمائ??ة س??نة ،واتخ??ذ في أيام??ه كث??يراً من المهن مم??ا لط??ف في
الدور من الصنائع.
ملك حراتان
وملك بعمه ولده حراتان فأحدث الفلك وحم??ل فيه??ا الرج??ال ،وحم??ل لط??ائف بالد
الصين ،وصيرها نحو الس??ند والهن??د إلى إقليم باب??ل وإلى س?ائر الممال??ك مم??ا ق??رب
منها َو ُبعدَ في البحر ،وأهدى الهدايا العجيبة والرغائب النفيسة إلى الملوك وأمرهم
أن يجلبوا إليه ما في كل بلد من الطرائف والتحف من المآكل والمشارب والمالبس
وسائر الفُ ُرش ،وأن يعرفا سياسة كل ملك وك??ل أم??ة وش??ريعتها و َن ْهجه??ا ال??ذي هي
يرغبوا الناس فيما في بلدانهم من الجواهر والطيب والآلالت ة فتف??رقت عليه ،وأن ِّ
المراكب في البالد ،ووردوا الممالك لما أم??روا ب??ه ،فلم ي??ردوا على أه??ل مملك??ة إال
وأعجب??وا بهم ،واس??تطرفا م??ا أوردوه من أرض??هم ،فبنت المل??وك المطيف??ة بالبح??ار
ِب ،وجهزت نحوهم السفن ،وحمل??وا إليهم م??ا ليس عن??دهم ،وك??اتبوا ملكهم، المراك َ
وكافأوه على ما كان من هداياه إليهم ،فعمرت بالد الصين ،واس??تقامت ل??ه األم??ور،
فكان عمره نحواً من مائتي? سنة فهلك ،فج?زع علي?ه أه?ل مملكت?ه وأق?اموا النياح?ة
عليه شهراً.
ملك توتال
ثم فزعوا إلى األكبر من أوالده فصيروه عليهم ملكاً ،فجع??ل جس??د أبي??ه في تمث??ال
طريق َمنْ كان قبله في فعلهم مقتديا ً بمن مضى من آبائه ،وك?ان َ من الذهب ،وسلك
اسم هذا الملك توتال فاستقامت له االمور وأحدث من السنن المحمودة ما لم يحدثه
أحد ممن س??لف من مل??وكهم وزعم أن المل??ك ال يثبت إال بالع??دل ف??إن الع??دل م??يزان
الرب ،وإن من العدل الزيادة في اإلِحسان مع الزيادة في العم??ل وحص??ن ،وش??رف،
ووقفهم على طرائقهم ،وخ??رج يرت??اد موض??عا ً ليب??ني
ِ وتوج ورتب الناس في رتبهم
فيه هيكالً ،فافى موضعا ً عامراَ بالنبات حسن االعتمام ب?الزهر تخترق?ه المي?اه فح?ط
الهيكل ،وجلبت له أنواع األحجار المختلفة األلوان فشيد الهيك??ل وجع??ل على عل??وه
قب??ة ،وجع??ل له??ا مخ??ارج لله??واء متس??اوية ?،ونص??ب فيه??ا بيوت ?ا ً لمن أراد التف??رد
بالعبادة فلما فرغ منها نصب في أعالها تل?ك التماثي??ل ال?تي فيه?ا أجس?ام من س?لف
من آبائه ،وأمر بتعظيمها ،وجمع الخواص من أهل مملكت??ه وأخ??برهم أن من رأي??ه
ضم الناس إلى ديانة يرجعون إليها لجمع
الشمل وتساوي النظام ،فإن??ه م??تى ع?دم المل??ك الش??ريعة لم ي??ؤمن علي??ه الخل??ل،
ودخول الفساد والزلل ،فرتب لهم سياس??ة ش??رعية ،وف??رائض عقلي??ة ،وجعله??ا لهم
صاصا ً في األنفس واألعضاء ،ومس??تحالت من??اكح يس??تباح? به??ا ِر َباطاً ،ورتب لهم قِ َ
النسوان ،وتصح بها األنساب ،وجعله?ا م?راتب فمنه?ا ل?وازم موجب?ة َي ْح َر ُج?ون من
ت لخالقهم تقربا ً لمعب??ودهم:تركها ،ومنها نوافل يتنفلون بها ،وأوجب عليهم صلوا ِ
منها إيماء ال ركوع فيه??ا وال س??جود في أوق??ات من اللي??ل والنه??ار معلوم??ة،ومنه??ا
من السنة والشهور محدودة ،ورس??م لهم أعي??اداً ،وجع??ل بركوع وسجود في أوقات ِ
على الز َناة منهم حداَ ،وعلى من أراد من نسائهم البغاء جزية مفروضة ?،وأن ال
صفحة 71 :
يس??جن النك??اح إال في وقت من األوق??ات ،وإن أقلعن عم??ا كن علي??ه تك??ف الجزي??ة
عنهن ،وما يكون من أوالدهن ذكوراً يك??ون للمل??ك عبي??داً و ُج ْن??داً ،وم??ا يك??ون محن
?رهم بق??رابين للهياك??ل ودخن، أوالدهن إناث ?اً ،مألمه??اتهنّ ،ويلحقن بص??نعتهن ،وأم? ِ
وأبخرة للكواكب ،وجعل لك?ل ك?وكب منه?ا وقت?ا َ بتق?رب إلي?ه في?ه ب?دخن معل?وم من
أنواع الطيب والعقاقير ،وأحكم لهم جميع األم?ور ،فاس?تقامت أيام?ه ،وك?ثر النس?ل،
فكانت حياته نحواً من مائة وخمس??ين س??نة ،وهل??ك ،فجزع??وا علي??ه جزع?ا ً ش??ديداً،
ص?عوه ب??أنواع الج??واهر ،وبن??وا ل??ه هيكالً ور َّ
فجعلوه في تمث??ال من ال??ذهب األحم??ر َ
عظيماً ،وجعلوا س??قفه س??بعة أل??وان من الج??وهر على أن??واع الك??واكب الس??بعة من
النيرين والخمسة بألوانها وأشكالها ،وجعلوا يوم وفات??ه ص??لوات وعي??داً يجتمع??ون
فيه كلند ذلك الهيكل ،وصوروا صورته على أبواب المدينة وعلى ال??دنانير الفل??وس
الفلوس الصفر والنحاس ،فاستقرت هذه المدينة? ب??دار ُ وعلى الثياب ،وأكثر أموالهم
ملك الصين ،وهي مدينة? انموا ،وبينها وبين البحر نحومن ثالث??ة أش??هر وأك??ثر من
ذلك على حسب ما قدمنا آنفاً ،ولهم مدينة? عظيمة نح??و م??ا يلي من أرض??هم مغ??رب
التبت ،والحرب بين بالد التبت وأه??ل الم??د ِس ? َجال َ الشمسُ ،يقال لها مد ،وتلي بالد
ٌ.فلم تزل الملوك ممن ط??رأ بع??د ه??ذا المل??ك أم??ورهم منتظم??ة وأح??والهم مس??تقيمة،
والخصب والعدل لهم شامل ،والجور في بالدهم معدوم ،يقتدون بم??ا نص?به? لهم من
الش??رع َمنْ ق??دمنا ذك??رهم ،وح??روبهم على ع??دوهم قائم??ة ،وثغ??ورهم مش??حونة?،
دار ،والتجار يختلفن إليهم في البر والبحر من كل بل??د ب??أنواع والرزق على الجنود ُّ
الجه??از ،ودينهم دين َمنْ س??لف ،وهي مل??ة ت??دعى الس??منية ?،عب??اداتهم نح??و من
عبادات قريش قبل مجيء اإلِسالم :يعبدون الصور ،ويتوجهون نحوها بالص??لوات،
واللّ??بيب منهم يقص??د بص??الته الخ??الق ،ويقيم التماثي??ل من األص??نام والص??ور مق??ام
قِ ْب َل??ة ،والجاه??ل منهم و َمنْ ال علم ل??ه يش??رك األص??نام بإلهي??ة الخ??الق ،ويعتق??دهما
جميعاً ،وأن عبادتهم األصنام تقربهم إلى هّللا ُز ْل َفى ،وأن منزلتهم في العب??ادة تنقص
عن عبادة البارىء لجاللته وعظمته? وسلطانه ،وأن عب??ادتهم له??ذه األص??نام طاع??ة
له ووسيلة إليه ،وهذا الدين كان ب??دء ظه??وره في خواص??هم من الهن??د لمج??اورتهم
إياهم ،وهو رأي الهند في الع??الم والجاه??ل على حس??ب م??ا ذكرن??ا في أه??ل الص??ين،
ولهم آراء ونحل حدثت عن مذاهب الثنوية? وأهل الدهر ،فتغيرت أحوالهم ،وبحثوا،
وتن??اظروا ،إال أنهم ينق??ادون في جمي??ع أحك??امهم إلى م??ا نص??ب لهم من الش??رائع
المقدمة ،ومن حيث إن ُم ْلكهم متصل? بمل??ك الطغرغ??ر على حس??ب م??ا تق??دم ص??اروا
على آرائهم من اعتقادهم مذاهب المانية والقول بالنور والظلمة ،وقد كانوا جاهلية
سبيلُهم في االعتق??اد س??بيل ُ ال??ترك ،إلى أن وق??ع لهم ش??يطان من ش??ياطين الماني??ة?،
فزخرف لهم كالما ً يريهم في?ه تض??اد م??ا في ه?ذا الع?الم وتباين??ه ?:من م?وت وحي?اة،
وصحة وسقم ،وضياء وظالم ،وغنى وفقر ،واجتماع وافتراق ،وإتصال وانفص??ال،
وشروق وغروب ،ووجود وعدم ،وليل ونه??ار ،وغ??ير ذل??ك من س??ائر المتض??ادات،
وذكر لهم أنواع اآلالم المعترضة ألجناس الحيوان من الناطقين وغ??يرهم مم??ا ليس
والمجانين ،وأن الب??ارىء ج??ل وع? ّ
?ز ِ بناطق من البهائم ،وما يعرض لألطفال وال ُب ْله
غني عن إيالمهم ،وأراهم أن هناك ضداً شديداَ دَ َخل َ على الخير
صفحة 72 :
ينتج? منه? الحرير ،فكان ذهاب الش??جر داعي?ا ً إلى انقط??اع الحري??ر الص??يني وجه??ازه
إلى ديار اإلِسالم.وسار يانشو بجيوشه? إلى بلد بلد فافتتح??ه ،وانض??اف إلي??ه أمم من
الن??اس ممن يطلب الش??ر والنهب وغ??يرهم ممن يخ??اف على نفس??ه ،وقص??د مدين??ة
أنم??وا ،وهي دار المل?ك ،فخ?رج إلي?ه المل?ك في نح??و مائ??ة أل?ف ممن بقي مع??ه من
خواصه والتقى ه??و ويانش??و وك??انت الح??رب بينهم? س??جاالً نح??واً من ش??هر ،وص??بر
الفريق??ان جميع??اً ،ثم ك??انت على المل??ك فلَّى منهزم??اً ،وأمعن الخ??ارجي في طلب??ه،
الح? ْو َزة،
فانح??از المل??ك إلى مدين??ة في أط??راف أرض??ه ،واس??تولى الخ??ارجي على َ
واحتوى على ديار الملك ،وملك خزائن الملوك السالفة ،وما أعحوه للنوائب ،وشن
الغ??ارات في س??ائر العم??ارات ،وافتتح الم??دن ،وعلم أن ال ق??وام ل??ه بالمل?ك؛ إذ ك??ان
وس? ْفك ال??دماء ،وك??اتب
ليس من أهله ،فأمعن في خراب البالد واس??تباحة األم??والَ ،
مل? ُك الص??ين من المدين??ة ال??تي انح??از إليه??ا ال ًم َتاخم??ة لبالد التبت ،وهي مدين?ة? م??د
المتقدم ذكرهاَ ،ملِ َك الترك ابن خاقان فاستنجده ،وأعلم??ه م??ا ن??زل ب??ه ،وأعلم??ه م??ا
يلزم الملوك من الواجبات إذا استنجدها إخوانها من الملوك ،وأن ذل??ك من ف??رائض
الملك وواجباته ،فأنجده ابن خاقان بولد له بنحو من أربعمائة أل??ف ف??ارس ورج??ل،
وقد استفحل أمر يانشو ،فالتقى الفريقان جميعاً ،فكانت الح??رب بينهم س??جاالً نح??واً
من سنة ،وتفانى من الفريقين خلق كثير ،ففقد يانشو ،فقي?ل :إن?ه قت??ل ،وقي??ل :إن?ه
أحرق ،وأس??ر ول??ده والخ??واص من أص??حابه ،وس??ار مل??ك الص??ين إلى دار المملك??ة
وعاد إلى ملكه والعأمة تسمية يعبور ،وتفسير ذل??ك ابن الس??ماء تعظيم?ا ً ل??ه ،وه??و
االس??م األخص لمل??وك الص??ين ،وال??ذي يخ??اطبون ب??ه جميع?ا ً جح??ان ،وال يخ??اطبون
بيعبور ?،وتغلَّ َب ك??ل ص??احب ناحي??ة من عمل??ه على ناحيت??ه ،كتغلب مل??وك الطوائ??ف
حين َق َتل َ اإلِسكندر بن فيلبوس المقدوني دارا بن دارا ملك فارس ،وكنح??و م??ا نحن
بسبيله? في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة-فرضي مل??ك الص??ين منهم
يتأت له المس??ير إلى س??ائر أعمال??ه ،وال محارب??ة ّ بالطاعة له ،ومكاتبته بالملك ،ولم
من تغلب على بالده ،وقن?ع بم?ا وص?فنا ،وامتن?ع َمنْ ذكرن?ا من حم?ل األم?وال إلي?ه
فتاركهم مسالما ً لهم ،وعدا كل فريق منهم على م??ا يلي??ه على حس??ب قوت??ه وتمكن??ه
فعدم انتظام الملك واستقامته? على حسب ما سلف من ملوكهم.وق??د ك??ان لمن س??لف
من ملوكهم س??ير وسياس??ات للمل??ك ،وانقي??اد للع??دل ،على حس??ب م??ا توجب??ه قض??ية
العقل.وحكي أن رجالً من التجار من أهل مدين??ة س??مر قن??د من بالد خراس??ان خ??رج
من بالده ،ومعه متاع كثير ،حتى انتهى إلى الع??راق ،فحم??ل من جه??ازه ،وانح??در
إلى البص??رة ،وركب البح??ر ح??تى أتى إلى بالد عم??ان ،وركب إلى بالد كل??ة ،وهي
النص??ف من طري??ق الص??ين أو نح??و ذل??ك ،وإليه??ا تنتهي م??راكب أه??ل اإلِس??الم من
السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت فيجتمعون م??ع من ي??رد من أرض الص??ين في
مراكبهم ،وقد كانوا في بدء الزمان بخالف ذلك ،وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي
بالد عمان وسيراف وساحل فارس وساحل البحرين واألبلة والبصرة وك??ذلك ك??انت
ع?دم الع?دل وفس?دت ٍ المراكب تختلف من المواضع التي ذكرن?ا إلى م?ا هن?اك ،ولم?ا
النيات وكان من أمر الصين ما وص??فنا التقى الفريق??ان جميع??ا في ه??ذا النص??ف ،ثم
ركب هذا التاجر من مدينة? كلة في مراكب الصينيين إلى مدينة خانقواَ ،وهي
صفحة 74 :
مرسى المراكب على حسب ما ذكرنا آنفاً ،وبلغ ملك الصين خبر المراكب وما فيه??ا
من الجهاز واألمتع??ة فس??رح خص??يا من خ??واص خحم??ه ممن يث??ق ب??ه في أس??بابه،
وذل??ك أن أه??ل الص??ين يس??تعملون الخص??يان من الخ??دم في الخ??راج وغ??يره من
العماالت والمهمات وفيهم من يخصي ولحه طلب?ا ً للرياس??ة واعتق??اد النعم??ة؛ فس??ار
الخص??ي ح??تى أتى مدين??ة خ??انقوا ،وأحض??ر التج??ار ومعهم الت??اجر الخراس??اني،
فعرضوا عليه ما احتاج إليه من المتاع وما يصلح له ،فسأل الخراساني أن يحض??ر
متاع??ه فأحض??ره ،وج??رت بينهم? محادث??ة ،ودار األم??ر في التثمين للمت??اع ،ف??أمر
الخص??ي بس??جن الخراس??اني وإكراه??ه ،وذل??ك أن??ه زاده ثق??ة من??ه بع??دل المل??ك،
فمضىالخراساني من َق ْوره حتى أتى إلى مدينة? أنموا ،وهي دار الملك ،فقف موق??ف
المتظلم ،وذل???ك أن المتظلم إذا أتى من البل???د الشاس ??ع أو غ???يره تقمص نوع???ا ً من
للظألم??ة ،وق??درتب بعض مل??وك الن??واحي الحرير األحمر ،ووقف موض??عا ً ق??د رس??م ّ
للقبض على من يرد من المتظلمين ،ويقف ذلك الموقف ،فيحم??ل مس??يرة ش??هر من
أرضهم على البريد ،ففعل ذلك بالت??اجر الخراس??اني ،ووق??ف بين ي??دي ص??احب تل??ك
الناحية المرتب لما ذكرناه ،فأقبل عليه ،وقال :أيها الرجل لقد تعرضت ألمر عظيم،
وخاطرت بنفسك ،أنظر إن كنت صادقا ً فيم??ا تخ??بر ب??ه ،وإال فإن??ا نقيل??ك ون??ردُّك من
حيث جئت ،وكان هذا خطابه لمن يتظلم ،فإن رآه قد جزع وضرع في القول ض??ربه?
مائة خشبة ورده من حيث جاء ،وإن هو صبرعلى م?ا ه??و علي?ه حم??ل إلى حض?رة
الملك ،وأوقف بين يديه ،وسمع كالم?ه ،فص?مم الخراس?اني في المطالب?ة وال ُّظألم?ة
ص حديث??ه ض ِرع وال متلجلج ،فحم??ل إلى المل?ك ،فق??ف بين يدي??ه و َق َّ فرآه محقا ً غير َ
على الملك ،فلم??ا أن أس الترجم??ان إلي??ه م??ا قال??ه وفهم ظالمت??ه أم??ر ب??ه إلى بعض
المواضع ،وأحسن إليه ،وأحضر الوزير وصاحب الميمنة? وصاحب القلب وص??احب
الميسرة ،وهم أناس قد رتبوا لذلك عند الملمات وحين الحروب قد عرف ك??ل واح??د
منهم مرتبته? والمراد منه ،ف?أمرهم أن يكتب ك?ل واح?د منهم إلى ص?احبه بالناحي?ة،
ولكل واحد منهم خليفة في كل ناحية ،فكتبوا إلى أصحابهم بخانقوا أن يكتب??وا إليهم
بما كان من خبر التاجر والخادم ،وكتب الملك خليفته بالناحية بمثل? ذل?ك ،وق?د ك?ان
خبر الخادم والتاجر اشتهر واستفاض ،فردت الكتب على بغال البري??د بتص??حيح م??ا
قاله التاجر ،وذاك أن ملوك الصين له??ا في س??ائر الط??رق من أعماله??ا بغ?ال للبري??د
ُم ْس َرجة محفة األالت لألخبار والخرائط ،فبعث الملك فاستحضر الخادم ،فلم??ا وق??ف
بين يديهى العراق ،فحمل من جهازه ،وانحدر إلى البصرة ،وركب البح??ر ح??تى أتى
إلى بالد عمان ،وركب إلى بالد كلة ،وهي النصف من طريق الصين أو نح??و ذل??ك،
وإليه??ا تنتهي? م??راكب أه??ل اإلِس??الم من الس??يرافيين والعم??انيين في ه??ذا ال??وقت
فيجتمعون مع من يرد من أرض الص??ين في م??راكبهم ،وق??د ك??انوا في ب??دء الزم??ان
بخالف ذلك ،وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي بالد عمان وسيراف وساحل فارس
وساحل البحرين واألبلة والبصرة وكذلك كانت المراكب تختل?ف من المواض?ع ال?تي
عدم العدل وفسدت النيات وكان من أمر الصين ما وص?فنا ذكرنا إلى ما هناك ،ولما ٍ
التقى الفريق??ان جميع??ا في ه??ذا النص??ف ،ثم ركب ه??ذا الت??اجر من مدين ?ة? كل??ة في
مراكب الصينيين إلى مدينة? خانقواَ ،وهي مرسى المراكب على حسب ما ذكرنا
صفحة 75 :
آنفاً ،وبلغ ملك الصين خبر المراكب وما فيه??ا من الجه??از واألمتع??ة فس??رح خص??يا
من خ??واص خحم??ه ممن يث??ق ب??ه في أس??بابه ،وذل??ك أن أه??ل الص??ين يس??تعملون
الخصيان من الخدم في الخراج وغ??يره من العم??االت والمهم??ات وفيهم من يخص??ي
ولحه طلبا ً للرياسة واعتقاد النعمة؛ فسار الخصي حتى أتى مدينة? خانقوا ،وأحض??ر
التجار ومعهم الت??اجر الخراس??اني ،فعرض??وا علي??ه م??ا احت??اج إلي??ه من المت??اع وم??ا
يصلح ل??ه ،فس??أل الخراس??اني أن يحض??ر متاع??ه فأحض??ره ،وج??رت بينهم محادث??ة،
ودار األمر في التثمين للمتاع ،فأمر الخصي بسجن الخراساني وإكراهه ،وذلك أن??ه
زاده ثقة منه? بعدل المل??ك ،فمضىالخراس??اني من َق? ْ?وره ح??تى أتى إلى مدين?ة? أنم??وا،
وهي دار الملك ،فقف موقف المتظلم ،وذلك أن المتظلم إذا أتى من البلد الشاسع أو
غيره تقمص نوعا ً من الحرير األحمر ،ووقف موضعا ً ق??د رس??م لل ّظألم??ة ،وق??درتب
بعض مل??وك الن??واحي للقبض على من ي??رد من المتظلمين ،ويق??ف ذل??ك الموق??ف،
فيحمل مسيرة شهر من أرضهم على البريد ،ففعل ذلك بالتاجر الخراس??اني ،ووق??ف
بين يدي صاحب تلك الناحية المرتب لما ذكرناه ،فأقبل عليه ،وقال :أيها الرجل لقد
تعرضت ألمر عظيم ،وخاطرت بنفسك ،أنظر إن كنت صادقا ً فيما تخبر به ،وإال فإنا
نقيلك ونر ُّد ك من حيث جئت ،وكان هذا خطابه لمن يتظلم ،فإن رآه قد جزع وضرع
في القول ضربه مائة خشبة ورده من حيث جاء ،وإن ه??و ص??برعلى م??ا ه??و علي??ه
حمل إلى حض?رة المل?ك ،وأوق?ف بين يدي?ه ،وس?مع كالم?ه ،فص?مم الخراس?اني في
ض? ِرع وال متلجلج ،فحم??ل إلى المل??ك ،فق??ف بين المطالبة وال ُّظألمة فرآه محقا ً غير َ
ص حديثه على الملك ،فلما أن أس الترجمان إليه ما قاله وفهم ظالمته أمر يديه و َق َّ
به إلى بعض المواضع ،وأحسن إليه ،وأحض??ر ال?وزير وص??احب الميمن?ة? وص??احب
القلب وصاحب الميسرة ،وهم أناس قد رتبوا لذلك عند الملمات وحين الح??روب ق??د
عرف ك??ل واح?د منهم مرتبت??ه والم??راد من??ه ،ف??أمرهم أن يكتب ك??ل واح?د منهم إلى
ص??احبه بالناحي??ة ،ولك??ل واح??د منهم خليف??ة في ك??ل ناحي??ة ،فكتب??وا إلى أص??حابهم
بخ??انقوا أن يكتب??وا إليهم بم??ا ك??ان من خ??بر الت??اجر والخ??ادم ،وكتب المل??ك خليفت??ه
بالناحية بمثل ذلك ،وقد كان خبر الخادم والت??اجر اش??تهر واس??تفاض ،ف??ردت الكتب
على بغال البري??د بتص??حيح? م??ا قال??ه الت??اجر ،وذاك أن مل??وك الص??ين له??ا في س??ائر
الط??رق من أعماله??ا بغ??ال للبري??د ُم ْس ? َرجة محف??ة األالت لألخب??ار والخرائ??ط ،فبعث
س َلبه ما ك??ان أنعم ب??ه علي??ه ،ثم ق??ال
الملك فاستحضر الخادم ،فلما وقف بين يديه َ
له :عمدت إلى رجل تاجر قد خرج من بلد شاسع ،وقطع مسالك ،واجتاز بملوك في
بر وبحر ،فلم يتعرض له ،يؤمل الوصول إلى مملكتي ثقة منه بعدلي ،ففعلت به م??ا
فعلت ،وكان ينصرف? عن ملكي ،ويقبح? األحدوثة عن سيرتي ?،أما لوال قديم حرمتك
بنا لقتلتك ،لكن أعاقبك بعقوبة إن عقلت فإنها أكبر من القتل ،وهو أن أوليك مق??ابر
الموتى من الملوك السالفة ،أن عجزت عن تدبير األحي??اء والقي??ام بم??ا إلي??ه ن??دبت،
وأحسن الملك إلى التاجر ،وحمله إلى خانقوا ،وقال له :إن س??محت نفس??ك أن ت??بيع
منا م??ا اخت??ير لن??ا من متاع??ك ب??الثمن الجزي??ل ،وإال ف??أنت المح َّكم في مال??ك ،أقم إذا
وص ? َرف الخ??ادم إلى مق??ابرش??ئت ،وب??ع كي??ف ش??ئت ،وانص??ر راش??داً حيث ش??ئتَ ،
الملوك.قال المسعودي :ومن طرائف أخبار ملوك الصين أن رجالً من قريش من
صفحة 76 :
ولد َه َّباربن األسود لما كان من أمر صاحب الزنج بالبصرة ما كان واش??تهر ?،خ??رج
هذا الرجل من مدينة? س??يراف ،وك??ان من أرب??اب البص??يرة وأرب??اب النعم به??ا ،وفي
األحوال الحس??نة ?،ثم ركب منه??ا في بعض م??راكب بالد الهن??د ،ولم ي??زل يتح??ول من
مركب إلى مركب ،ومن بل??د إلى بل??د ،يخ??ترق ممال??ك الهن??د ،إلى أن انتهى إلى بالد
الصين فصار إلى مدينة خانقوا ،ثم دعته همته إلى أن ص??ار إلى دار مل??ك الص??ين،
وكان المل?ك يومئ?ذ بمدين??ة حم?دان ،وهي من كب?ار م?دنهم ،ومن عظيم أمص?ارهم،
فأقام بباب الملك مدة طويلة يرفع الرقاع ويذكرأنه من أهل بيت نبوة الع??رب ،ف??أمر
الملك بعد هذه المدة الطويل??ة بإنزال?ه في بعض المس??اكن وإزاح?ة العل?ة من أم??وره
وجميع ما يحتاج إليه ،وكتب إلى الملك المقيم بخانقوا يأمره بالبحث عنه ،ومس??ألة
التجار عما يدعيه الرجل من قرابة نبي العرب صلى هللا عليه وسلم ،فكتب ص??احب
خانقوا بصحة نسبه ،فأذن له في الوصول إليه ،ووص??له بم??ال واس??ع ،وأع??اده إلى
العراق ،وكان شيخا ً فهم?اً ،أخ??بر أن??ه لم??ا وص??ل إلي??ه ،وس??أله عن الع??رب ،وكي??ف
باهلل عز وجل ،وما كانت العجم عليه من عبادة النيران أزالوا ملك العجم ،ف ّمال لهّ :
والسجود للشمس والقمر من دون هللا عز وج??ل ،فق??ال ل??ه :لق??د غلبت الع??رب على
أجل ِّ الممالك ،وأنفسها ،وأوسعها َريعاً ،وأكثره??ا أم??واالً ،وأعقله??ا رج??االً ،وأه??داها
َ
بهم علم ،فق?ال صوتاً ،ثم ق?ال ل?ه :فم?ا منزل?ة س?ائر المل?وك عن?دكم .فق?ال :م?ا لي ِ
للترجمان قل له :إنا نع ُّد الملوك خمسة ،فأوسعهم ملكا َ الذي يملك العراق ،ألن??ه في
وسط الدنيا ،والملوك ُم ْح ِد َقة به ،ونجد اسمه ملك الملوك ،وبعده ملكنا هذا ،ونج??ده
عندنا ملك الناس ،ألنه ال أحد من الملوك أسوس منا ،وال أضبط لملك??ه من ض??بطنا
لملكنا ،وال رعية من الرعايا أط??وع لملكه??ا من رعيتن??ا ،فنحن مل??وك الن??اس ،ومن
بعده ملك السباع ،وهو ملك الترك ال??ذي يلين??ا ،وهم س??با ُع اإِل ْنس ،ومن بع??ده مل??ك
الذي َلةِ ،وهو ملك الهند ،ونج??ده عن??دنا مل??ك الحكم??ة أيض?اً ،ألن أص??لها منهم ،ومن
بع??ده مل??ك ال??روم ،وه??و عن??دنا مل??ك الرج??ال ،ألن??ه ليس في األرض أتم خلق ?ا ً من
رجاله ،وال أحسن وجوها ً منهم ،فه??ؤالء أعي??ان المل??وك ،والب??اقون دونهم ،ثم ق??ال
للترجمان :قل له :أتعرف صاحبك إن رأيته ?.يعني رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم،
ع?ز وج?لّ .فق?ال :لم أرد ه?ذا ،وإنم?ا ّ قال القرشي :وكيف لي برؤيته وه??و عن?د هّللا
بس َفطٍ فأخرج فضع بين يديه ،فتن??اول من??ه درج?اً، أردت صورته ،فقلت :أجل ،فأمر َ
?فتي
?ركت ش? َّوق??ال للترجم??ان :أره ص??احبه ،ف??رأيت في ال??درج ص??ور األنبي??اء ،فح? ُ
س? ْله عن تحريك??ه بالصالة عليهم ،ولم يكن عن??دهم أني أع??رفهم ،فق??ال للترجم??انَ :
ص? ِّو َر
لشفتيه ،فسألني ،فقلت :أصلي على األنبي??اء :ومن أين ع??رفتهم .فقلت :بم??ا ُ
عزوج??ل ّ من أمورهم ،هذا نوح عليه السالم في السفينة ينجو بمن معه لما أمر هّللا ّ
الماء فع َّم الماء األرض كلها بمن فيها وسلمه َو َمنْ مع??ه ،فق?ال :أم??ا ن??وح فص??دقت
في تس??ميته ?،وأم??ا غ??رق األرض كله??ا فال نعرف??ه ،وإنم??ا أخ??ذ الطوف??ان قطع??ة من
األرض ولم يص??ل إلى أرض??نا ،وإن ك??ان خ??بركم ص??حيحا ً فعن ه??ذه القطع??ة ،ونحن
معاشر أهل الصين والهند والسند وغيرنا من الطوائف واألمم ال نعرف م??ا ذك??رتم،
وال َن َقل َ إلين??ا أس??الفنا م??ا وص??فتم ،وم??ا ذك??رت من رك??وب الم??اء األرض كله??ا فعن
الكوائن العظام التي ُتفزع النفس إلى حفظة وتتداوله األمم ناقلة له ،قال القرشي:
صفحة 77 :
ت الرد عليه وإقأمة الحجة؛ لعلمي بدَ ْف ِع ِه ذلك ،ثم قلت :وه??ذا موس??ى ص??لى هللاَف ِه ْب ُ
عليه وسلم وبنو إسرائيل ،فقال :نعم على قل??ة البل??د ال??ذي ك??ان ب??ه وفس??اد قوم??ه
علي??ه ،ثم قلت :ه??ذا عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم على حم??اره الحوار ُّيونَ مع??ه،
فقال :لقد كان قليل المدة ،إنما كان أ َمده يزيد على ثالثين شهراً ش?يئا ً يس?يراً ،وعال
من سائر األنبياء وأخبارهم ما اقتصرت على ذكر بعضه ،ويزعم هذا القرشي وه??و
دون فيه??ا ذك??ر المع??روف ب??ابن هب??ار أن??ه رأى ف??ق ك??ل ص??ورة كتاب??ة طويل??ة ق??د ِّ
أسمائهم ،ومواضع بلدانهم ،ومقادير اعمارهم ،وأسباب نب??واتهم وس??يرهم ،وق??ال:
ثم رأيت صورة نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم على جمل وأص??حابه ُم ْح? دِقون ب??ه
في أرجلهم نع??ال عربي??ة من جل??ود اإِل ب??ل ،وفي أوس??اطهم الحب??ال ،ق??د علق??وا فيه??ا
المساويك ،فبكيت ،فقال للترجمان :سله عن بكائ??ه ،فقلت :ه??ذا نبين??ا وس??يدنا وابن
عمنا محمد بن عبد هّللا صلى هللا عليه وسلم ،فق??ال :ص??دقت ،لق??د مل??ك َقوم??ه َ
أج? ل ّ
الممالك ،إال أنه لم يعاين من الملك شيئاً ،إنما عاينه من بعده ومن تولى األمر على
أمت??ه من خلفائ??ه ،ورأيت ص??ور أنبي??اء كث??يرة منهم من ق??د أش??ار بي??ده جامع?ا ً بين
س َّبابته? وإبهامه كالحلقة ،كأن يص??ف أن الخليق??ة في مق??داو الحلق??ة ،ومنهم من ق??د
ب للخليق??ة بم??ا ف??ق ،وغ??ير ذل??ك ،ثم س??ألني عن أشار بسبابته نحو السماء ك??ال ُم ْر ِه ِ
الخلفاء وز ّيهم وكثير? من الشرالى فأجبته? على قدر ما أعلم منها ،ثم ق??ال :كم عم??ر
الدنيا عن??دكم .فقلت :فق??د تن??وزع في ذل??ك ،فبعض يق??ول :س??تة? آالف س??نة ،وبعض
يقول .دونها ،وبعض يقول :أك?ثر منه?ا ،فق?ال:ذل?ك عن ن?بيكم .فقلت :نعم ،فض?حك
ضحكا ً كثيراً ووزيره أيضاً ،وهو واقف َذ على إنكار ذل?ك ،وق?ال :م?ا حس?بت ن?بيكم
ق??ال ه??ذا ،ف??زللت فقلت :بلى ه??و ق??ال ذل??ك ،ف??رأيت اإِل نك??ار في وجه??ه ،ثم ق??ال
للترجمان :قل له ميز كالم??ك ف??إن المل??وك ال تكلم إال عن تحص??يل ،أم??ا زعمت أنكم
تختلفن في ذلك ،فإنكم اختلفتم في قول نبيكم ،وما قالت األنبي??اء ال يجب أن يختل??ف
فيه ،بل هو مسلم لها ،فاحذر هذا وشبهه? أن حكيه ،وذكر أشياء كثيرة ذهبت ع??نيِ
لطول المدة ،ثم قال لي :لم عدلت عن ملكك وهو أقرب إليك داراَ ونس??باً ?.قلت :بم??ا
حدث على البصرة ،ووقوعي إلى سيراف ،ونزعت بي همتي إلى ملكك أيها المل??ك،
لما بلغ??ني من اس??تقأمة ملك??ك ،وحس??ن س??يرتك ،وك??ثرة جنوث??ك وش??مول سياس??تك
لسائر رعيتك فأحببت الوقوع إلى هذه المملك??ة ومش??اهدتها ،وأن??ا راج??ع عنه??ا إلى
بالدي ،وملك ابن عمي ،ومخبر بما شاهدت من جاللة هذا الملك ،وسعة هذه البالد
ش? َيمِك أيه?ا المل?ك المحم??ود ،وس?أقول بك?ل ق?ول حس?ن وعموم هذا العدل ،وحسن َ
فس َّرهُ ذلك ،وأمرلي بج??ائزة س??نية ،وخل??ع ش??ريفة ،وأم??ر بحملي وأثني بكل جميلَ ،
على البري??د إلى مدين ?ة? خ??انقوا ،وكتب إلى ملكه??ا ب??إكرامي وتق??ديمي? على من في
ناحيته من سائر خواص الناس ،وإقأمة ال ُن ُزل إلى وقت خ??روجي عن??ه ،فكنت عنلى
في أخصب عيش وأنهمه ?،إلى أن خرجت من بالد الصين.ائيل ،فقال :نعم على قل??ة
البلد الذي كان به وفساد قومه عليه ،ثم قلت :ه??ذا عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم
على حماره الحوار ُّيونَ معه ،فقال :لقد كان قلي??ل الم??دة ،إنم?ا ك?ان أ َم??ده يزي??د على
ثالثين شهراً شيئا ً يسيراً ،وعال من سائر األنبياء وأخبارهم ما اقتص??رت على ذك??ر
بعضه ،ويزعم هذا القرشي وهو المعروف بابن هبار أنه رأى فق كل صورة كتابة
صفحة 78 :
دون فيها ذكر أسمائهم ،ومواضع بل??دانهم ،ومق??ادير اعم??ارهم ،وأس??باب طويلة قد ِّ
نبواتهم وس?يرهم ،وق?ال :ثم رأيت ص??ورة نبين??ا محم?د ص??لى هللا علي?ه وس??لم على
جمل وأصحابه ُم ْحدِقون به في أرجلهم نعال عربية من جلود اإِل بل ،وفي أوس??اطهم
الحبال ،قد علقوا فيها المساويك ،فبكيت ،فق??ال للترجم??ان :س??له عن بكائ??ه ،فقلت:
هذا نبينا وسيدنا وابن عمنا محمد بن عبد هّللا صلى هللا عليه وسلم ،فقال :ص??دقت،
لقد ملك َقومه َ
أجل ّ الممالك ،إال أنه لم يعاين من المل??ك ش??يئاً ،إنم??ا عاين??ه من بع??ده
ومن تولى األمر على أمته من خلفائه ،ورأيت صور أنبياء كثيرة منهم من قد أشار
بيده جامعا ً بين س َّبابته? وإبهامه كالحلقة ،كأن يصف أن الخليق?ة في مق?داو الحلق?ة،
ب للخليقة بما ف??ق ،وغ??ير ذل??ك ،ثم ومنهم من قد أشار بسبابته نحو السماء كال ُم ْر ِه ِ
سألني عن الخلفاء وز ّيهم وكث?ير من الش?رالى فأجبت?ه? على ق?در م?ا أعلم منه?ا ،ثم
قال :كم عمر ال??دنيا عن??دكم .فقلت :فق??د تن??وزع في ذل??ك ،فبعض يق??ول :س??تة آالف
سنة ،وبعض يقول .دونها ،وبعض يقول :أكثر منه??ا ،فق??ال:ذل??ك عن ن??بيكم .فقلت:
نعم ،فضحك ضحكا ً كثيراً ووزيره أيضاً ،وهو واق??ف َذ على إنك??ار ذل??ك ،وق??ال :م??ا
حسبت نبيكم قال هذا ،فزللت فقلت :بلى هو قال ذلك ،فرأيت اإِل نك??ار في وجه??ه ،ثم
قال للترجمان :قل له م??يز كالم??ك ف??إن المل??وك ال تكلم إال عن تحص??يل ?،أم??ا زعمت
أنكم تختلفن في ذلك ،ف??إنكم اختلفتم في ق??ول ن??بيكم ،وم??ا ق??الت األنبي??اء ال يجب أن
يختلف فيه ،بل هو مسلم له??ا ،فاح??ذر ه??ذا وش??بهه أن حكي??ه ،وذك??ر أش??ياء كث??يرة
ذهبت ع??نيِ لط??ول الم??دة ،ثم ق??ال لي :لم ع??دلت عن ملك??ك وه??و أق??رب إلي??ك داراَ
ونسباً ?.قلت :بما حدث على البصرة ،ووقوعي إلى سيراف ،ونزعت بي هم??تي إلى
ملكك أيها المل??ك ،لم??ا بلغ??ني من اس??تقأمة ملك??ك ،وحس??ن س??يرتك ،وك??ثرة جنوث??ك
وشمول? سياستك لسائر رعيتك فأحببت الوقوع إلى هذه المملكة ومش??اهدتها ،وأن??ا
راجع عنها إلى بالدي ،وملك ابن عمي ،ومخبر بما شاهدت من جالل??ة ه??ذا المل??ك،
ش َيمِك أيه??ا المل??ك المحم??ود ،وس??أقول وسعة هذه البالد وعموم هذا العدل ،وحسن َ
فس َّر ُه ذلك ،وأمرلي بجائزة سنية ?،وخلع ش??ريفة?، بكل قول حسن وأثني? بكل جميلَ ،
وأمر بحملي على البريد إلى مدينة خانقوا ،وكتب إلى ملكها بإكرامي وتقديمي على
من في ناحيت?ه? من س??ائر خ??واص الن??اس ،وإقأم??ة ال ُن? ُزل إلى وقت خ??روجي عن??ه،
فكنت عنلى في أخصب عيش وأنهمه ،إلى أن خرجت من بالد الصين.
عليه??ا منتظم??ة ?،ومن??ازل فس??يحة ،وفي الش??ق األيس??ر مم??ا يلي المغ??رب الرعي??ة
والتجار والميرة واألسواق ف??إذا وض??ح النه??ار رأيت فيه??ا َق َهارم??ة المل??ك وغلمان??ه
وغلم??ان وزرائ ?ه? ووكالئهم م??ا بين راكب وراج??ل ق??د دخل??وا إلى الش??ق ال??ذي في??ه
العأمة والتجار ،فأخف??ا بض??ائعهم وح??وائجهم ،ثم انص??رفا فال يع??ود واح??د منهم إلى
ض?ة حس?نة، هذا الشق إال في الي?وم الث?اني ،وأن ه?ذه البل?دان فيه?ا ك?ل نزه?ة َ
وغ ْي َ
وأنها ُم َّطردة إال النخل فإنه معدوم عندهم.
وما فيها وما حولها من العجائب واألمم ،ومراتب الملوك وأخبار األندلس ومعادن
الطيب وأصوله وعد د أنواعه وغير ذلك
قد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب جمآلَ من ترتيب? البح?ار المتص??لة والمنفص?لة،
فلنذكر االن في هذا الباب جمالً من أخبار ما اتصل بنا من البحر الحبشي والممال??ك
والملوك ،وجمالً من ترتيبها ،وغير ذلك من أنواع العجائب.
فنقول :إن بحر الصين والهند وفارس واليمن متصلة ميا ُه َهاغير منفصلة ،على
ما ذكرنا ،اال أن هيجانها وركودها مختل??ف الختالف مه??اب رياحه??ا وآث??ار ثورانه??ا
وغ??ير ذل??ك ،فبح??ر ف??ارس تك??ثر أمواج??ه ،ويص??عب ركوب??ه ،عن??د لين بح??ر الهن??د
واستقامه ركوبه وقلة أمواجه ،ويلين بحر فارس ،وتقل ُّ أمواج??ه ،ويس??هل? ركوب??ه،
عند ارتجاج بحر الهن??د ،واض??طراب أمواج?ه وظلمت??ه ،وص?عوبة مركب?ه ،ف?أول م??ا
تبتدىء? صعوبة بحر فارس عند دخول الشمس السنبلة وقرب االس??تواء الخ??ريفي،
وال يزال في كل يوم تكثر أمواجه إلى أن تصير الشمس إلى برج الحوت ،فأش? ً?دّ م??ا
يكون ذلك في آخ??ر الخري??ف عن??د ك??ون الش??مس في الق??وس ،ثم يلين إلى أن تع??ود
الشمس إلى السنبلة ،وآخر ما يكون ذلك في آخر ما يكون ذلك في آخر الربيع عن??د
كون الشمس في الج??وزاء ،وبح??ر الهن??د ال ي??زال ك??ذلك إلى أن تص??ير? الش??مس إلى
ب حينئذ ،وأهدأ ما يكون عند كون الشمس في الق??وس ،وبح??ر ف??ارس السنبلة فير َك ُ
ب في س??ائر الس??نة من ُع َم??ان إلى س??يراف ،وه??و س??تون ومائ??ة فرس??خ ،ومن ي??ر َك ُ
سيراف إلى البصرة وه??و أربع??ون ومائ??ة فرس??خ ،وال يتج??اوز في ركوب??ه غ??ير م??ا
ذكرن??ا من ه??ذين الموض??عين ونحوهم??ا ،وق??د حكى أب??و معش??ر المنجم في كتاب??ه
الم??ترجم بالم??دخل الكب??ير إلى عل??وم النج??وم م??ا ذكرن??ا من اض??طراب ه??ذه البح??ار
وهدوئها عند كون الش??مس فيم??ا ذكرن??ا من ال??بروج ،وليس يك??اد يقط??ع من ُع َم??ان
نحو الهند في انتهائ??ه إال م??ركب مع??زز ،وحمولت??ه يس??يرة ?،وتس??مى ه??ذه الم??راكب
بعمان إذا َق َط َع ْت أرض الهند في هذا الوقت التيرماهية ?،وذل??ك أن بالد الهن??د وبح??ر
الهند يكون فيه اليس??ارة وه??و الش??تاء ودوام األمط??ار في ك??انون ،وك??انون وش??باط
عندنا صيف ?،وعن??دهم الش??تاء ،كم??ا يك??ون عن??دنا الح??ر في حزي??ران وتم??وز وآب،
فشتاؤنا صيفهم ،وصيفهم شتاؤنا ،وكذلك سائر مدن السند والهند وما اتص??ل ب??ذلك
يس? َر ب??أرض ش َّتى في صيفنا ب??أرض الهن??د قي??ل :فالن َّ
إلى أقاصي هذا البحر ،ومن َ
الهند ،أي شتى هناك ،وذلك لقرب الشمس وبعدها.
وما يلحقهم ،وذكر شق أصول آذانهم لخروج النفس من هناك ب??دالً عن المنخ??رين،
ألن المنخرين يجعل عليهما شيء من الدبل هو ظهور السالحف البحرية التي تتخذ
منه??ا األمش??اط أو من الق??رن يض??مهما كالمش??قاص المن الخش??ب ،وم??ا يجع??ل في
آذانهم من القطن فيه شيء من الدهن ،فيعصرمن ذل??ك ال??دهن اليس??يرفي الم??اء في
قعره ،فيضيء لهم ذلك في البحر ضياء بينا ،وما يطلون به أقدامهم َوأس? َ?واقهم من
السواد حوفا ً من َبلع دواب البحر إي??اهم ولنفره??ا من الس??واد ،وص??ياح الغاص??ة في
?واص قعر البحركالكالب ،وخ??رق الص?وت الم?اء فيس?مع بعض?هم ص?ياح بعض ،لل َغ َ
واللؤلؤ وحيوانه أخبار عجيبة وقد أتين?ا على جمي?ع أوص?اف ذل?ك وص?فات اللؤل?ؤ
وعالماته وأثمانه ومقادير أوزانه فيم??ا س??لف من كتبن??ا.ف??أول ه??ذا البح??ر مم??ا يلي
البصرة واألبلة والبحرين من خشبات البصرة ،ثم بحر ال روى وعليه بالد ص??يمور?
وسوبارة وتاب??ة وس??ندان وكنباية وغيره??ا من الس??ند والهن??د ،ثم بحرهركن??د ،ثم
بحركاله ،وهوبحركلة والجزائ??ر ،ثم بح??ر ك??ردنج ،ثم بح??ر الص??نف ،وإلي??ه يض??اف
العود الصنفي وإلى بالده ،ثم بحر الصين وهو بحر صنجي ليس بع??ده بح??ر ،ف??أول
بح??ار ف??ارس على م??ا ذكرن??ا خش??بات البص??رة والموض??ع المع??روف ب??الكفالء وهي
عالمات منصوبة? من خشب في البحر مغروسة عالمات للمراكب إلى عمان مس??افة
ثالثمائ??ة فرس??خ ،وعلى ذل??ك س??احل ف??ارس وبالد البح??رين ،ومن عم??ان وقص??بتها
تس??مى س??نجار ،والف??رس يس??مونها م??زون إلى المس??قط ،وهي قري??ة منه??ا يس??تقي
أرباب المراكب الماء من آبار هناك عذبة خمسون فرسخاً ،ومن المس??قط إلى رأس
الجمجمة خمسون فرسخاً ،وهذا آخ??ر بح??ر ف??ارس ،وطول??ه أربعمائ??ة فرس??خ ،ه??ذا
تحديد النواتية وأرباب المراكب ،ورأس الجمجمة جبل متصل ببالد اليمن من أرض
ش ْحر واألحقاف ،والرم??ل من?ه? تحت البح??ر ،ال ي??دري أين تنتهي? غايت??ه في الم??اء ال َ
أعني الجبل المعروف برأس الجمجمة ،وإذا كان ما وصفنا من الجبل في البر ومنه?
تحت البحر سمي في البحر الرومي سفالة ،من تلك السفالة في الموضع المع??روف
بساحل سلوقيا من أرض ال??روم ،واتص?الها تحت البح?ر بنح??و من جزي??رة ق?برص،
ب أك??ثر م??راكب ال??روم وهالكه??ا ،وإنم??ا نع??بر بلغ??ة أه??ل ك??ل بحروم??ا وعليه??ا َ
عط ُ
يستعملونه في خطابهم فيما يتعارفنه بينهم ،فمن هناك تنطل??ق الم??راكب إلى البح??ر
الثاني وه??و المع??روف بال روي وال ُي??دْ رى عمق??ه وال يحص??ر طول??ه وعرض??ه عن??د
البحريين ،وربما يقطع في الشهرين والثالثة وفي الش??هر ،على ق??در مه??اب ال??ريح
والسألمة ،وليس في هذه البحار أعني مااحتوى عليه البحر الحبشي أك??بر من ه??ذا
البحر بحر الروى ،وال أشد ،وفي عرضه بح??ر ال??زنج وبالدهم ،وعن??بر ه??ذا البح??ر
الش? ْحر من أرض الع??رب، قليل ،وذلك أن العنبرأك??ثره يق??ع إلى بالد ال??زنج وس??احل َ
وأهل الشحر أناس من قضاعة وغيرهم من العرب ،وهم َم ْهرة ،ولغتهم بخالف لغة
العرب ،وذلك أنهم يجعلون الشين ب??دالً من الك??اف ،مث??ال ذل??ك أن يقول??وا :ه??ل َلش
فيما قُ ْلت َلش ،وقلت لي :أن تجعلي الذي معي في ال??ذي َم َعش ،يري??د ه??ل ل??ك فيم??ا
قلت ل??ك ،وقلت لي أن تجعلي ال??ذي معي في ال??ذي مع??ك ،وغ??ير ذل??ك من خط??ابهم
ون??وادر كالمهم ،وهم ف??و فق??ر وفاق??ة ،ولهم ُن ُجب يركبونه??ا باللي??ل تع??رف ب??النجب
ال َم ْه ِر َّية تشبه في السرعة بالنجب البجاوية ،بل عند جماعة أنها أسرع منها،
صفحة 82 :
وذلك أن هذا الودع فيه نوع من الحيوان ،وإذا قل ماله??ا أم??رت أه??ل ه??ذه الجزائ??ر
أنيقطعوا من سعف نخل النارجيل بخوصه ،ويطرحون?ه? على وج??ه الم?اء ،في?تراكب
عليه ذلك الحيوان ،فيجمع ويطرح على رمل الساحل ،فتحرق الش??مس م??ا في??ه من
الحيوان ،ويبقى ال?ودع خالي?ا ً مم?ا ك?ان في?ه ،فتمأل من ذل?ك بي?وت األم??وال ،وه?ذه
الجزائر تعرف جميعها بالدبيحات ومنها يحمل أكثر ال?زانج ،وه?و النارجي?ل ،وآخ?ر
ه??ذه الجزائ?ر جزي??رة س?رنديب ،ويلي جزي?رة س??رنديب جزائ?ر أخ?ر نح?و من أل??ف
فرسخ تعرف بالرامين معمورة وفيها ملوك وفيه??ا مع??ادن من ذهب كق??يرة ،ويليه??ا
بالد قنصور وإليها يضاف الكافر القنصوري ،والسنة التي تك??ون كث??يرة الص??واعق
والر ْجف والقذف والزالزل يكثر فيها الكافر ،وإذا قل ذلك ك??ان نقص??انا ً في والبروق َّ
وجوده ،وأكثر ما ذكرنا من الجزائ??ر غ??ذاؤهم النارجي??ل ،ويحم??ل من ه??ذه الجزائ??ر
خش??ب ال َب َقم والخ??يزران وال??ذهب ،وفيلته??ا كث??يرة ،ومنه??ا م??ا يأك??ل لح??وم الن??اس،
وتتصل? هذه الجزائر بجزائر النجمالوس ،وهي أمم عجيبة الص??ور ع??راة يخرج??ون
في الق??وارب عن??د اجتي??از الم??راكب بهم ،معهم العن??بر والنارجي??ل ،فيتعاوض??ون
بالحرير وشيء من الثياب ،وال يبيعون ذلك بال??دراهم وال بال??دنانير ،وتليهم جزائ??ر
ُيقال لها أندامان ،فيها اناس س??ود عجيب??و الص??ورة والمنظ??ر مفلفل??و الش??عور َق??دَ ُم
الواحد منهم أكبر من الذراع ،ألمراكب لهم ،فإذا وقع الغري??ق إليهم مم??ا ق??د انكس??ر
في البح??ر أكل??وه ،وك??ذلك فعلهم ب??المراكب إذا وقعت إليهم ،وذك??ر لي جماع??ة من
النواخذة أنهم ربما رأوا في هذا البحر سحابا ً أبيض قطعا ً صغاراً يخرج من ?ه? لس??ان
أبيض طويل حتى يتصل? بماء البحر ،فإذا اتصل به َغاَل البح??ر ل??ذلك ،وارتفعت من??ه
زوابع عظيمة ،ال تمر? زوبعة منها بش??يء إال أتلفت??ه ،و ُي ْم َط? رون عقيب ذل??ك مط??راً
س ِهكا ً فيه أنواع من قذى البحر.
بحر كلة
وأما البحر الرابع فهو كالهبار ،على حسب ما ذكرنا ،وتفسير? ذلك بحر كلة ،وهو
بحر قليل الماء ،وإذا قل ماء البحر كان أكثر آفات وأشد خب َث? اَ ،وه??و كث??ير الجزائ??ر
والصراوي ،واح?دها ص?رو ،وذل?ك أن أه?ل الم?راكب يس?مون م?ا بين الخليجين إذا
كان طريقهم فيه الصرو ،وبهذا البح??ر أن??واع من الجزائ??ر والجب??ال عجيب??ة ،وإنم??ا
غرضنا التلويح بلمع من األخبار عنها ،ال البسط.،
بحر كردبح
وكذلك البحر الخامس المعروف بكردبح ،فإنه كثير الجبال والجزائر ،وفيه الكافر،
وهو قليل الماء كثير المطر ،ال يكاد يخلو من??ه ?،وفي??ه أجن?اس من األمم منهم جنس
ُيق??ال ل??ه الفنجب :ش??عورهم مفلفل??ة وص??ورهم ومن??اظرهم عجيب??ة ،يتعرض??ون في
قوارب لهم لطاف للمراكب إذا اجتازت بهم ،ويرمون بن??وع من الس??هام عجيب??ة ق??د
سقِيت السم ،وبين هذه األمة وبين بالد كلة جبال معادن الرص??اص األبيض وجب??ال ُ
صاص ال يكاد يتميز? منه. من الفضة ،وفيها أيضا ً معادن من الذهبَ ،
ور َ
بحرالصنف
ثم يليه بحر الصنف على ما رتبن??اه آنف?اً ،وفي??ه مملك??ة المه??راج مل??ك الجزائ??ر،
وملكه ال يضبط كثرة ،وال تحصى جنوده ،وال يستطيع أحد من الناس في أسرع م??ا
يكون من المراكب أن يمر بجزائ??ره في س??نين ،وق??د ح??از ه??ذا المل??ك أن??واع الطيب
واألفاوية ،وليس ألحد من الملوك مال??ه ،ومم??ا يحم??ل من بالده ويجه??ز من أرض??ه
والص ْندَ ل والجوز والبسباسة والقاقل??ة والكباب??ه وغ??ير ذل??ك
َ الكافر والعود والقرنفل
مما لم نذكره ،وجزائره تتصل ببحر ال تدرك غايته ،وال يعرف منتهاه مما يلي بحر
الصين ،وفي أطراف جزائره جبال فيها أمم كثيرة بيض ،آذانهم مخرمة ووج??وههم
يجزون شعورهم كم?ا يج?ز الش?عر من ال?زق م?درجاً ،تظه?ر كقطع التراس ُم ْط َرقةُّ ،
من جب??الهم الن??ار باللي??ل والنه??ار ،فنهاره??ا حم??راء وباللي??ل تس??ود ،وتلح??ق بعن??ان
الس??ماء لعلوه??ا وذهابه??ا في الج??و ،تق??ذف بأش??د م??ا يك??ون من ص??وت الرع??د
والصواعق ،وربما يظهر منها صوت عجيب مفزع ينذر بموت ملكهم ،وربما يكون
أخفض من ذلك فين??ذر بم??وت بعض رؤس??ائهم ،ق?د ع?رف م??ا ين??ذر من ذل?ك يط??ول
الع??ادات والتج??ارب على ط??ول الس??نين ،وأن ذل??ك غ??ير مختل??ف ،وه??ذه أح??د آط??ام
األرض الكب??ار 4وتليه??ا الجزي??رة ال??تي يس??مع منه??ا على دوام األوق??ات أص??وات
الطبول والس??رنايات والعي??دان وس??ائر أن??واع المالهي المطرب??ة المس??تلذة ،ويس??مع
إيقاع الرقص والتصفيق ،ومن يسمع ذلك يم?يز بين ك?ل ن?وع من أص?وات المالهي
وغيره ،والبحريون ممن اجتاز بتلك الديار يزعمون أن الدجال بتل??ك الجزي??رة.وفي
مملك??ة المه??راج جزي??رة س??ريرة ?،ومس??افتها في البح??ر نح??ومن أربعمائ??ة فرس??خ،
عمائر متصلة ،وبه جزيرة الزانج والرامني? وغير ذلك مما ال ي??ؤتى على ذك??ره من
جزائره وملكه ،وهو صاحب البحر السادس ،وهو بحرالصنف.
بحر الصين
ثم البحر السابع وهو بحر الصين على ما رتبناه آنفاً ،ويعرف ببحر ص??نجى وه??و
بحر خ??بيث كث??ير الم??وج والخب ،وتفس??ير? الخب الش??دة العظيم?ة? في البح??ر ،وإنم??ا
نخبر عن عبارة أهل كل بحر وما يستعملونه? في خطابهم ،وفي??ه جب??ال كث??يرة ال ب??د
للمراكب من النفذ بينها ،وذلك أن البحر إذا عظم خبه وكثر موجه ظهرت أش??خاص
س??ود ط??ول الواح??د منهم نح??و الخمس??ة أش??بار أو األربع??ة ك??أنهم أوالد األح??ابيش
الصغار ،شكالً واحداً ،وقداً واحداً ،فيص?عدون على الم?راكب ،ويك??ثر منهم الص?عود
من غير ضرر ة فإذا شاهد الناس ذل??ك تيقن??وا الش??دة ف??إن ظه??ورهم عألم??ة للخب،
فيستعدون لذلك :فمع?افى ،ومبتلى ،ف?إذا ك?ان ك?ذلك .ربم?ا ش??اهد المع?اقى منهم في
أعلى ال?دقل ويس??ميه? أرب??اب الم??راكب في بح??ر الص??ين وغ??يره من البح??ر الحبش??ي
الدولي ،ويسميه? الرجال في البحر الرومي الصاري شيئا ً على صورة الطائر يتوق??د
نوراً ال يستطيع? الناظرمنهم على ملء بصره منه ،وال إداركه كيف هو ،فإذا أس??تقل
على أعلى ال?دقل ي??رون البح?ر يه?دأ ،واألم?واج تص??غر ،والخب يس??كن ،ثم إن ذل?ك
النور يفقد؛ فال يدرى كيف أقبل ،وال كيف ذهب ،فذلك عألمة الخالص ،ودليل
صفحة 85 :
النج??اة ،وم??ا ذكرن??ا فال تن??اكر في??ه عن??د أه??ل الم??راكب والتج??ار من أه??ل البص??رة
وس??يراف وعم?ان وغ??يرهم ممن قط?ع ه?ذا البح??ر ،وم?ا ذكرن??اه عنهم فممكن غ?ير
ممتن??ع وال واجب؛ إذا ك??ان ج??ائزاً في مق??دور الب??اري َج? ل ّ وع??ز خالص عب??اده من
الهالك واستنقاذهم من البالد.وفي هذا البحر ن??وع من الس??راطين يخ??رج من البح??ر
كالذراع والشبر وأصغر من ذلك وأكبر ،فإذا ب??ان عن الم??اء بس??رعة حرك??ة وص??ار
على البر صار حجارة وزالت عنه الحيوانية ،وتدخل تلك الحجارة في أكح??ال العين
وأدويتها ،وأمره مستفيض أيضا ً.
أيضا َ وهو السابع المعروف بصنجى أخب??ار عجيب??ة،وق??د أتين??ا على ولبحر الصين َ
جمل من أخباره وأخبار ما اتصل به من البح?ار فيم?ا س?مينا من كتبن?ا وأس?لفنا من
تصنيفنا في هذا المعنى ،ونحن ذاكروان فيما يرد من هذا الكتاب من أخبار المل??وك
جوام??ع وجمالً من ذل??ك.وليس بع??د بالد الص??ين مم??ا يلي البح??ر ممال??ك تع??رف وال
توصف ?،إالبالد السيلى وجزائرها ،ولم يصل إليها من الغرباء أح??د من الع??راق وال
غيره ،فخرج منها ة لصحة هوائه??ا ،ورق??ة مائه??ا ،وج??ودة ترتبه??ا ،وك??ثرة خيره??ا
وصفاء جواهرها إال الن??ادر من الن??اس ،وأهله??ا مه??ادنون أله??ل الص??ين وملوكه??ا،
والهدايا بينهم ال تكاد تنقطع ،وقد قيل :إنهم تشعبوا من ولد عامو ،وسكنوا هن??اك،
على حسب ما ذكرنا من سكنى أه??ل الص??ين في بالدهم ،وللص??ين أنه??ار كب??ار مث??ل
الدجلة والفرات ،تج??ري من بالد ال??ترك والتبت والص??غد ،وهي بين بخ??ارى وس??مر
قند.
جبال النوشادر
وهناك جبال النوشادر ،فإذا كان في الصيف رؤيت في الليل نيران ق??د ارتفعت من
تلك الجبال من نحو مائة فرسخ بالنهار يظه??ر منه??ا ال??دخان لغلب??ة ش??عاع الش??مس
وضوء النهار ،ومن هناك يحمل النوشادر ،ف??إذا ك??ان في أول الش??تاء فمن أراد من
بالد خراس??ان أن يس??لك إلى بالد الص?ين ص?ار إلى م??ا هنال?ك وهنال?ك واد بين تل?ك
الجب??ال طول??ه أربع??ون ميالً أو خمس??ون في??أتي إلى أن??اس هنال??ك على فم ال??وادي
ف??يرغبهم في األج??رة النفيس??ة فيحمل??ون م??ا مع??ه على أكت??افهم ،وبأي??ديهم العص??ي
?رب ال??واعي َوه َْول??ه ،ح??تىيض??ربون جنبي??ه خوف ?ا ً أن يبلح أو يق??ف فيم??وت من َك? ْ
يخرجوا إلى ذلك الرأس من الوادي ،وهنالك غابات ومس??تنقعات للم??اء ،فيطرح??ون
أنفسهم في ذلك الماء ،لما قد نالهم من شدة الكرب وحر النوشادر ،وال يس??لك ذل??ك
الطري??ق ش??يء من البه??ائم ،ألن النوش??ادريلتهب ن??اراً في الص??يف ،فال يس??لك ذل??ك
ال??وادي داع وال مجيب ،ف??إذا ك??ان الش??تاء وك??ثرت الثل??وج واألن??داء وق??ع في ذل??ك
الموضع فأطفأ حر النوشادر ولهيبه ،فسلك الناس حينئ??ذ ذل??ك ال??وادي ،والبه??ائم ال
ص??بر له??ا على م??ا ذكرن??اه من ح??ره ،وك??ذلك َمنْ ورد من بالد الص??ين فُ ِع??ل ب??ه من
الضرب ما فعل بالمار ،والمسافة من بالد خراسان على الموضع ال??ذي ذكرن??اه إلى
بالد الصين نحو من أربعين يوما ً بين عامروغير عامر ودم??اس ورم??ل ،وفي غ??ير
هذه الطريق مما يسلكه البهائم نحو من أربعة أشهر ،إال أن ذلك في خفارات أنواع
من الترك.
صفحة 86 :
وسنذكر في باب أخبار مل??وك اليمن طرف?ا ً من أخب??ار مل??وكهم ،ومن ط??اف منهم
التبت متاخمة لبالد الصين وأرضها من إح??دى جهات??ه ،وألرض الهن??د َ البالد ،وبالد
وخراسان ولمفاوز الترك ،ولهم مدن وعمائر كثيرة فات َم َن َعة وقوة ،وقد ك??انوا في
قديم الزمان يسمون ملوكهم ُتبعا ً ا ِّتباعا ً السم تب??ع مل??ك اليمن ،ثم إن ال??دهر ض??رب
ضرباته ?،فتغيرت لغ??اتهم عن الحميري??ة ?،وج??الت إلى لغ??ة تل??ك البالد ممن ج??اورهم
من األمم فسموا ملوكهم بخاقان.
ظباء المسك
وفي بالدهم األرض ال??تي به??ا ظب??اء المس??ك التب??تي ال??ذي يفض??ل على الص??ينين
بجهتين :إحداهما أن ظباء التبت ترعى سنبل? الطيب وأنواع األفاويه وظباء الصين
ت??رعى الحش??يش دون م??ا ذكرن??ا من أن??واع حش??ائش الطيب ال??تي ترع??اه التبتي??ة?،
والجهة األخرى أن أهل التبت ال يتعرضون إلِخ??راج المس??ك من َن َوافج??ه ويتركون??ه
على ما هو به وأهل الص??ين يخرجون??ه من الن??وافج ويلحقون??ه الغش بال??دم وغ??يره
من أنواع الغش ،وأن الصيني أيضا ً يقطع به ما وص??فنا من مس??افة البح??ار وك??ثرة
األنداء واختالف األهوية ،وإنْ ُعدِم من أهل الصين الغش في مسكهم وأودع براني?
الزج??اج وأحكم ِعفاص??ها ووكاؤه??ا ،وأورد إلى بالد االس??الم من عم??ان وف??ارس
والعراق وغيرها من األمصار ،كان ك??التبتي ،وأج??ود المس??ك وأطيب??ه م??ا خ??رج من
الظباء بع??د بلوغ??ه النهاي??ة في النض??ج ،وذل??ك أن??ه ال ف??رق بين غزالنن??ا ه??ذه وبين
غزالن المسك في الصورة والشكل والل??ون والق??رن ،وإنم??ا تت??بين تل??ك بأني??اب له??ا
كأنياب الفي َلة ،لكل ظبي ناب?ان خارج?ان من الفكين قائم??ان منتص??بان أبيض?ان نح?و
الشبر وأقل وأكثر ،فتنصب لها في بالد التبت والصين الحبائ??ل واألش??راك َو ِّ
الش? َباك
فيصطادونها ،وربما رموها بالسهام فيصرعونها فيقطعون عنها نوافجها والدم في
وطري لم يدرك ،فيكون لريحت??ه س??هوكة ،فيبقى زمان ?ا ً ح??تى سررها حار لم ينضج َ
تزول منه تلك الرائحة السهكة الكريهة ،ويستحيل? بمواد من الهواء فيصير مس??كاً،
وسبيل? ذلك سبيل الثم??ار إذا أبينت عن األش??جار وقطعت قب??ل اس??تحكام نض??جها في
ش??جرها واس??تحكمام مواده??ا في??ه ،وخ??ير المس??ك م??ا نض??ج في وعائ??ه ،وأدرك في
سرته ?،واستحكم في حيوانه ،وتمام مواده ،وذل??ك أن الطبيع??ة ت??دفع م??واد ال??دم إلى
السرة ،فإذا استحكم كون الدم فيها ونض??ج آذاه ذل??ك َو ًحك? ُه فيف??زع حينئ??ذ إلى أح??د
الصخور واألحجار الحارة من حر الشمس فيحتك به??ا مس??تلذاً ب??ذلك فينفج??ر حينئ??ذ
?راج وال??د َمل إذا نض??ج م??ا في??ه عن??د ت??رادف ويسيل? على تلك األحج??ار كانفج??ار ا ْلخ? َّ
المواد عليه فيجد لخروجه لدة ،ف?إذا ف?رغ م?ا في نافجت?ه ان?دمل حينئ?ذ ،ثم ان?دفعت
إلي??ه م??واد من ال??دم ،ويجتم??ع ثاني??ة ككونه??ا َب??دءاً ،فتخ??رج رج??ال التبت يقص??مون
مراعيه??ا بين تل??ك األحج??ار والجب??ال ،فيجح??ون المم ق??د ج??ف على تل??ك الص??خور
واألحجار ،وقد أحكمته المواد ،وأنضجته الطبيع??ة في حيوان??هَ .،و َج َّف َفت??ه الش??مس،
وأثر فيه الهواء ،فيأخنونه ?،فذلك أفضل المسك ،فيودعون??ه ن??وافج معهم ق?د أخفه??ا
من غزالن قد أصطادوها مستعحة معهم .ف??ذلك ال??ذي تس??تعمله مل??وكهم ويتهادون??ه
بينهم ،ويحمله التجار في النادر من بالدهم ،والتبت ف مدن كثيرة ،فيض??اف مس??ك
كل ناحية إليها.قال المس??عودي :وق??د أق??رت مل??وك الص??ين وال??ترك والهن??د وال??زنج
وسائر ملوك العالم لملك بابل بالتعظيم ،وأنه أول ملوك العالم ،وأن منزلت??ه فيهم
كمنزلته فيهم كمنزلة القم??ر في الك??واكب؛ ألن إقليم?ه? أش??رف األق??اليم ،وألن??ه أك??ثر
الملوك ماالً ،وأحسنهم طبعاً ،وأكثرهم سياسة ،وأثبتهم قحم??أ ،وه??ذا وص??ف مل??وك
ه??ذا اإِل قليم فيم??ا مض??ى ،ال في ه??ذا ال??وقت ،وه??و س??نة اثنت??يز? وثالثين وثلثمائ??ة?،
وك??انوا يلقب??ون ه??ذا المل??ك شاهنش??اه ،وتفس??يره مل??ك المل??وك ،ومنزلت??ه في الع??الم
منزلة القلب من جسد اإِل نسان والواسطة من القالدة ،ثم يتلوه ملك الهند ،وهومل??ك
الحكمة،
صفحة 88 :
وملك الفي َلة .ألن عند المل??وك األكاس??رة أن الحكم??ة من الهن??د ب??دؤها ،ثم يتل??وه في
المرتبة ملك الصين ،وهو ملك الرعاية والسياسة وإتقان الصنعة ،وليس في ملوك
العالم أكئررعاية وتفقداً من ملك الصين لرعيته من جنده وعوام??ه ،وه??و ف ب??أس
شذيد ،وقوة َو َم َن َع??ة ،ل??ه من الجن??ود المس??تعمة ،والك??راع والس??الح،وي??رزق? جنم??ه
كفعل ملوك بابل ،ثم يتلو ملك الصين ملك من ملوك الترك ص??احب مدين??ة كوش??ان،
وهو ملك الطغزغز من الترك ،ويدعى ملك السباع وملك الخي??ل؛ إذ ليس في مل??وك
العالم أشد بأسا ً من رجاله ،وال أشد استئساداً منه على سفك الدماء ،وال أك??ثر خيالً
من??ه ،ومملكت??ه ف??رز بين بالد الص??ين ومفاص??ز خراس??ان ،وي??دعى باالس??م األعم
أيرخان ،وللترك ملو ٌك كثيرة ،وأجناص ،مختلفة ،وال تنق?اد إلى ملك?ه ،إال أن?ه ليس
منهم من ُيدَ انِي ملكه ،ثم يتلوه ملك الروم ،وي??دعى مل??ك الرج??ال ،وليس في مل??وك
العالم أصبح وجوها ً من رجاله ،ثم إن مل??وك الع??الم تتف??اوت مراتبه??ا وال تتس??اوى،
وقد قال ف عناية بأخبار العالم وملركهم في شعر له يصف جمالً من م??راتب الع?الم
وممالكهم وأسمائهم:
وا لملك ُم ْل َكان :ساسان ،وقحطان الد ار داران :أيوان ،وغـمـد ان،
واإلسالم مكة ،والدنيا خـراسـان واألرض فارس واإلقلـيم بـابـل،
منها بخارى وبلخ الشـاهـدا ران والجانبان العليان اللـذا حـسـنـا
والري شروانها ،والجيل جـيالن والبيلقان وطبرسـتـان فـارزهـا
فمرزبان ،وبطريق ،وطـرخـان قد رتب الناس فيها في مراتبـهـم
حبش النجاشي ُئ ،واألتراك خاقـان للفرس كسرى وللروم القياصر وال
وصاحب صقلية وإفريقية? من بالد المغرب قبل ظهور اإلِسالم كان يدعى جرجير
وصاحب األندلس كان يدعى لذريق ،وهذا كان اسم سائر ملوك األندلس ،وقد قي??ل:
إنهم كانوا من األشبان ،وهم أمة من ول??د ي??افث بن ن??وح ،دث??رت هنال??ك ،واألش??هر
عند من سكن األندلس من المسلمين أن ل??ذريق ك??ان من مل??وك األن??دلس الجاللق??ة،
وهم نوع من اإلفرنجة ،وآخر لذريق الذي كان باألندلس قتله ط??ارق م??ولى موس??ى
بن نصير حين افتتح بالد األندلس ودخل إلى مدينة? طليطلة وكانت قصبة األن??دلس،
ودار مملكتهم ،ويشقها نهر عظيم يدعى تاجة يخ??رج من بالد الجاللق??ة والوش??كند،
وهي أمة عظيمة لهم ملوك ،وهم َح ْرب ألهل األندلس كالجاللقة واإلِفرنجة ،وبصب
هذا النهر في البحر الرومي ،وهو موصوف بأنه من أنهار العالم ،وعليه على بع??د
من طليطلة مدينة? طلب??يرة ،ثم قنط??رة عظيم??ة ت??دعى قنط??رة الس??يف بنته??ا المل??وك
السالفة ،وهي من البنيان المذكور الموصوف وإنها أعجب عقوداً من قنطرة سنجة
من الثغر الخ??زري مم??ا يلي سميس??اط من بالد س??رجة ،ومدين??ة طليطل??ة ذات منع??ة
عص? ْوا على
عليها أسوار منيعة ?،وأهلها بعد أن فتحت وصارت لبني أمية قد ك??انوا َ
األمويين ،فأقامت مدة سنين ممتنعة ?،السبيل لألمويين إليها ،فلما ك??ان بع??د الخمس
عشرة وثلثمائة فتحها عبد الرحمن بن محمد بن عبد هللا بن عبد الرحمن بن الحكم
بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن م??روان ابن الحكم
األموي وعبد الرحمن هذا هو صاحب األندلس في هذا الوقت ،وهو سنة اثنتين
صفحة 89 :
ير كثيراً من بنيان هذه المدينة حين افتتحها ،وصارت وثالثين وثلثمائة ،وقد كان َغ َ
دار مملكة األندلس قرطبة إلى هذا الوقت ،ومن قرطبة إلى مدينة? طليطل??ة نح??و من
سبع مراحل ،ومن قرطب??ة إلى البح??ر مس??يرة نح??و من ثالث??ة أي??ام ،ولهم على ي??وم
ساحل البحر مدينة? ُيقال لها إشبيلية ?،وبالد األندلس يكون مسيرة عمائره?ا وم?دنها
نح??واً من ش??هرين ،ولهم من الم??دن الموص??وفة نح??و من أربعين مدين??ة ،وت??دعى
بنوأمية بها ببني? الخالئف ،وال يخاطبون بالخلفاء؛ألن الخالف??ة ال يس??تحقها عن??دهم
إال من كان مالكأ للحرمين ،غير أنه يخاطب بأمير المؤمنين.
وقد كان عبد ال??رحمن بن معاوي??ة بن هش??ام بن عب??د المل??ك بن م??روان س??ارإلى
األندلس في سنة? تسع وثالثين ومائ??ة فملكه??ا ثالث?ا ً وثالثين س??نة وأربعةأش??هر ،ثم
هلك ،فملكها ابنه هشام بن عبد الرحمن سبع سنين ،ثم ملكها ابنه الحكم بن هش??ام
نحواً من عشرين س??نة ،وو َل??ده ُوال ُت َه??ا إلى الي??وم على م??ا ذكرن??ا أن ص??احبها عب??د
وولي عهد عبد الرحمن في هذا الوقت فت??اه الحكم أحس??ن الن??اس ُّ الرحن بن محمد،
سيرة ،وأجملهم عداًل ،وقد كان عبد الرحمن صاحب األندلس في هذا الوقت المق??دم
ذكره غزا سنة سبع وعشرين وثلثمائة في أزي?د من مائ??ة أل?ف ف?ارس من الن?اس،
فنزل على دار مملكة الجاللقة ،وهي مدينة? ُيقال لها س??مورة ،عليه??ا س??بعة أس??وار
من عجيب البنيان قد أحكمتها الملوك السالفة ،بين األسوار فصالن وخنادق ومي??اه
واس??عة ،ف?افتتح منهم??ا س??ورين ،ثم إن أهلهم??ا ث??اروا على المس??لمين فقتل??وا منهم
ف أربعين ألفاً ،وقيل :خمسين ألفاً ،وكانت للجاللق??ة ممن أدرك اإلِحصاء وممن ُع ِر َ
والوش??كند على المس??لمين ،وآخ??ر م??ا ك??ان بأي??دي المس??لمين من م??دن األن??دلس
وثغورها مما يلي اإلِفرانجة مدينة? أربونة ?،خرجت من أيدي المس??لمين س??نة? ثالثين
وثالثمائة? مع غيرها مما كان في إيديهم من المدن والحصون ،وبقي ثغر المسلمين
في هذا الوقت وهو سنة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة من ش??رقي األن??دلس َط ْرطوش??ة،
وعلى س??احل بح??ر ال??روم مم??ا يلي طرطوش??ة آخ??ذاً في الش??مال أفراغ??ة على نه??ر
عظيم ،ثم الردة ،ثم بلغ??ني عن ه??ذه الثغ??ور أنه??ا تالقي اإِل فرانج??ة ،وهي أض??يق
مواضع األندلس ،وقد كان قبل الثلثمائ??ة ورد إلى األن??دلس م??راكب في البح??ر فيه??ا
أغارت على سواحلهم ،زعم أهل األندلس أنهم ناس من المج??وس ألوف من الناس ْ
تطرأ إليهم في هذا البحر في كل مائتين من الس??نين ،وأن وص??ولهم إلى بالدهم من
خليج يع??ترض من بح??ر أوقي??انوس ،وليس ب??الخليج ال??ذي علي??ه المن??ارة النح??اس،
وأرىوهللا أعلم أن ه???ذا الخليج متص???ل ببح???ر م???ايطس ونيطس وأن ه ??ذه أم???ة هم
الروس الذين قدمنا ذكرهم فيما سلف من هذا الكت??اب إذ ك??ان ال يقط??ع ه??ذه البح??ار
المتصلة ببحر أوقيانوس غيرهم ،وق?د أص?يب في البح?ر ال?رومي فيم?ا بين جزي?رة
أقريطش أل??واح الم??راكب الس??اج المثقب??ة المخيط??ة بلي??ف النارجي??ل من م??راكب ق??د
عطبت تقاذفت بها األمواج في مي??اه البح??ار ،وه??ذا ال يك??ون إال في البح??ر الحبش??ي
ألن مراكب البحر لرومي والعرب كلها فات مسامير ،ومراكب البحر الحبشي ال
صفحة 90 :
يثبت فيها الحديد ألن ماء البحريذيب الحدي??د ف??ترق المس??امير في البح??ر وتض??عف،
فاتخذ أهلها الخياطة بالليف ب??دالً منه??ا ،و ُطلِ َي ْت بالش??حوم والن??ورة ،فه??ذا ي??دل وهّللا
أعلم على إتصال البحار ،وأن البحر مم??ا يلي الص??ين وبالدالس??يلى يح??ور على بالد
الترك ،و ُي ْفضِ ي إلى بح??ار المغ??رب من بعض خلج??ان أوقي??انوس المحي??ط.وق??د ك??ان
في البح??ر ال??رومي
وجد بساحل بالد الشام عنبر قذف به البحر ،وهذا من المستئكر َ
الذي لم يعهد فيه من قديم الزمان مثل ذلك ،يمكن أن يكون سبيل وقوع العن??بر إلى
هذا البحر سبيل? ما ذكرناه من ألواح مراكب البحر الص??يني ،وهللا أعلم بكيفي??ة ذل??ك
وعلمه.ولبحر المغرب وما قرب من?ه? من عم??ائر الس??ودان وأقاص??ي أرض المغ??رب
أخبار عجيبة.
وقد ذكر فو العناية بأخبار العالم أن أرض الحبشة وسائر السودان كله?ا مس?يرة
سبع س??نين ،وأن أرض مص??رجزء واح??د من س??تين ج??زءاً من ض الس??ودان ،وأن
أرض السودان ج??زء وأح??د من األرض كله??ا ،وأن األرض كله??ا مس??يرة خمس??مائة
وثلث بحار ،وتتصلٌ وثلث براري غير مسكون، ٌ سنة ?:ثلث عمران مسكون مأهول،
أقاصي السودان العراة بآخر بالد ولدإدريس بن إدريس بن عب??د هللا بن الحس??ن بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السالم من أرض المغرب ،وهي بالد تلمس??ان
وتاهرت وبالد فاس ثم الس??وس األدنى ،وبين??ه وبين بالد الق??يروان نح??و ألفي مي??ل
وثلثمائ??ة? مي??ل ،وبين الس??وس األدنى والس??وس األقص??ى من المس??افة نح??و من
عشرين يوماًعمائر متصلة إلى أن تتصل? بوادي الرمل والقص??ر األس??ود ،ثم يتص ?ل?
ذلك بمفاوز الرمل ال?تي فيه?ا المدين?ة المعروف?ة بم?دين النح?اس وقب?اب الرص?اص
التي سار إليها موسى بن نصير? في أيام عبد الملك بن م??روان ورأى فيه??ا م??ا رأى
من العجائب ،وقد ذكر ذلك في كتاب يتداوله الن??اس ،وق??د قي??ل :إن ذل??ك في مف??اوز
تتصل? ببالد األندلس ،وهي األرض الكب?يرة ،وق?د ك?ان ميم?ون بن عب?د الوه?اب بن
عبد الرحمن بن رستم الفارسي وهو إِباضِ ُّي المذهب ،وهو الذي أنشأ في ذلك البل??د
م??ذهب الخ??وارج ،وق??د قي??ل :إنهم من بقاي??ا األش??بان ع َّم َر تل??ك ال??ديار ،وك??انت ل??ه
حروب مع الطالبيين ،وقد ذكرنا فيما يرد من هذا الكتاب تنازع الناس في األشبان،
ومن قال :إنهم من الفرس ناقلة من بالد أصبهان.
بالد المغرب
الص? ْف ِرية الخ??وارج،لهم م??دن مم??دودة
وفي هذا الصقع من بالد المغرب خل??ق من ُّ
مثل مدينة ثرغية ،وفيها معدن كبيرمن الفضة ،وهو مما يلي الجنوب ويتصل? ببالد
الحبشة ،والحرب بينهم? سِ َجالٌ ،وق??د ذكرن??ا في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان خ??بر المغ??رب
والض? ْف ِرية ،ومن س??كن المغ??رب من
ُ وم??دنها ،ومن س??كنها من الخ??وارج اإِل باض??ية
المعتزلة ،وما بينهم وبين الخوارج من الح??روب ،وذكرن??ا خ??بر ابن األغلب التم??يي
وتوليه المنصور? له على المغرب ،ومقامه ببالد إفريقية وغيرها من أرض المغرب
صفحة 91 :
وم??ا ك??ان من أم??ره في أي??ام الرش??يد ،وت??داول ول??ده ببالد إفريقي?ة? وغيره??ا إلى أن
انتهى األمر إلى أبي نصر زيادة هّللا بن عبد هّللا بن إب??راهيم بن أحم??د بن محم??د بن
األغلب بن إبراهيم بن محمد بن األغلب بن إب??راهيم بن س??الم بن س??وادة ،فأخرج??ه
عنها أبو عبد هّللا المحتسب الصوفي الداعية لصاحب المهدية حين ظه??ر في كتأم??ة
وغيرها من أجيال البربر ،وذلك في سنة سبع وتس??عين وم??ائتين في أي??ام المقت??در،
ومسيره? إلى الرافقة ،وكان هذا المخسب من مدينة رامهرمز? من كور األهواز.
سق ما بقي من الممالك على البحرملوك العالم :ونعود إلى ذكر مراتب الملوك َو َن َ
الحبشي الذي شرعنا في وصفه َو َمنْ عليه ،فنقول:
ملك الزنج وفليمي ،مل??ك الالن كركن??داج ،مل??ك الح??يرة من ب??ني? نص??ر النعماني??ة
والمناذرة ،ملك جبال طبرستان كان يدعىقارن والجبل معروف ب??ه وبول??ده في ه??ذا
الوقت ،ملك الهند البلهرا ،ملك القنوج من ملوك السند ب??ؤورة وه??ذا اس?م ك?ل س??ك
يلي القنوج ،وهنا مدينة ُيقال لها بؤورة باسم ملوكهم ،وقد ص??ارت الي??وم في ح??يز
اإلِسالم ،وهي من أعمال المولتان ،ومن هذه المدين??ة يخ??رج أح??د األنه??ار ال??تي إذا
اجتمعت كانت نهرمهران السند الذي زعم الجاحظ أن??ه من الني??ل ،وزعم غ??يره أن??ه
من جيحون خراسان ،وبؤورة هذا الذي هو ملك القنوج هو ضد البلهرا ملك الهند،
وملك القندهار من ملوك السند وجبالها ،يدعى ححج ،وه??و اس??م األعم ،ومن بالده
يخرج النهر المعروف برائ?د وه?و أح?د األنه?ار الخمس?ة ال?تي منه?ا مه?ران الس?ند
والقندهار يعرف ببالد الرهبوط ،ونهر من الخمس??ة يخ??رج من بالد الس??ند وجباله??ا
يعرف ببهاطل ويجتاز بالد الرهبوط وهي بالد القن??دهار ،والنه??ر الراب??ع يخ??رج من
بالد كابل وجبالها وهي تخوم السند مما يلي بسط وغزنين وزرعون والرخج وبالد
الدوار مم??ا يلي بالد سجس??تان ،ونه??ر من الخمس??ة يخ??رج من بالد قش??مير ،ومل??ك
قشميريعرف ب??الراني ،ه??ذا االس??م األعم لس??ائر مل??وكهم ،وقش??مير? ه??ذه من ممال??ك
السند وجبالها هملكة عظيمة حصينة? يحتوي ملكها على مدن وضياع على نح??ومن
?اس على بل??ده إال من وج??ه واح??د، ستين ألفا ً إلى سبعين ألفاً ،ال سبيل ألح??د من الن? َِ
واح َد ِ،أِل ن ذلك في جبال شوامخ منيع??ة? ال و ُيغ َلق على جميع ما ذكره من ملكه باب َ
س??بيل? للرج??ال أن يتس ? َلقوا علي َه??ا ،وال لل??وحش أن يلح??ق بعلوه??ا ،وال يلحقه??ا إال
الطير ،وما ال جبل فيه فأودية َو ْع َرة وأشجار وغياض وأنه??ار ذات َم َن َع? ة من ش??دة
األنصباب والجريان ،وم??ا ذكرن??ا من منع??ة ذل?ك البل??د فمش??هور في أرض خراس??ان
وغيرها من البالد ،وذلك أحد عجائب الدنيا.
القنوج
فأما ملك بؤورة وهو مل?ك القن??وج ف?إن مس?افة مملكت??ه تك?ون نح?واً من عش?رين
ومائة فرسخ في مثلها فراسخ سندية الفرسخ ثمانية أميال بهذا الميل ،وه?و المل?ك
مهاب الرياح األربع ،كل
ِّ الذي قدمنا ذكره فيما سلف أن له من الجيوش أربعة على
جيش منها سبعمائة ألف ،وقيل :تسعمائة ألف وقيل :تسعة آالف ألف فيحارب
صفحة 92 :
بجيش الشمال صاحب المولتان ومن معه في تلك الثغ??ور من المس??لمين ،ويح??ارب
بجيش الجنوب البلهرا ملك المانكير ،وبالجيوش الباقية من يلق??اه في ك??ل وج??ه من
الملوك ،ويقال :إن ملكه يحيط في مقدار ما ذكرناه من المسافة من الم??دن والق??رى
والضياع مما يدركه اإلِحص??اء وال َع? د ُد ب??ألف أل??ف وثمانمائ?ة? أل??ف قري??ة بين أنه??ار
وشجر وجبال ومروج ،وهو قليل الفيلة من بين المل??وك ،ورس??مه لحرب??ه ألف?ا ً في? ٍ
?ل
حربية? تقاتل ،وذلك أن الفيل إذا كان فارها ً ممارسا ً شجاعا ً وكان راكبه فارس ?ا ً وفي
بالزر ِد والحدي??د ،وعلي??ه
َ شىخرطومه القرطل وهو نوع من السيوف وخرطومه مغ َّ
تجافيف قد أحاطت سائر جسده من الق??رن والحدي??د ،وك??ان حول??ه خمس??مائة راج??ل
يمنعونه ويحرزونه من ورائه ،حارب ستة? آالف فارس ،وقام بها ،وأدناها إذا ك??ان
معه خمس?مائة راج?ل ،ك?ر على خمس?ة آالف ف?ارس ،ودخ?ل وخ?رج وص?ال عليه?ا
كالرجال علىال َف َرس ،وهذا رسم فيلتها في سائر حروبها.
المولتان
سأمة بن لؤي بن غالب ،وه??وف فأما صاحب المولتان فقد قلنا :إن الملك في ولد َ
جي??وش و َم َن َع? ة ،وه??و ثغ??ر من ثغ??ور المس??لمين الكب??ار ،وح??ول ثغ??ر المولت??ان من
ضياعه وقراه عشرون ومائة ألف قرية مما يقع عليه اإِل حص??اء والع??د ،وفي??ه على
ما ذكرنا الصنم المعروف بالمولتان ،يقصده السند والهند من أقاصي بالدهم ب??النفر
واألموال والجواهر والعود وأن??واع الطيب ،ويحج إلي??ه األل??وف من الن??اس ،وأك??ثر
ي الخ??الص ال??ذي ار ِّ
أموال صاحب المولتان مما يحمل إلى هذا الصنم من العود الق َم ِ
يبلغ ثمن األوقية منه مائة دينار ،وإذا ختم بالخاتم أث??ر في??ه كم??ا ي??ؤثر في الش??مع،
وغير ذلك من العجائب التي تحمل إليه ،وإذا نزلت الملوك من الكفار على المولتان
وعجز المسلمون عن حربهم هددوهم بكسرهذا الص??نم وتع??ويره ،فترح??ل الجي??وش
عنهم عند ذل??ك ،وك?ان دخ??ولي إلى بالد المولت??ان بع??د الثالثمائ??ة ،والمل??ك به??ا أب??و
اللهاب المنبه? بن أسد القرشي.
المنصورة
وكذلك كان دخولي إلى بالد المنصورة في هذا الوقت ،والملك عليها أب??و المن??ذر
عمر بن عبد هللا ،ورأيت بها وزيره رباحا وابني?ه? محم??داً وعلي?اً ،ورأيت به??ا رجالً
سيداً من العرب وملكا ً من ملوكهم وهو المعروف بحمزة ،وبها خل??ق من ول??د علي
بن أبي طالب رضي هللا عنه ،ثم من ولد عم??ربن علي وول??د محم??د بن علي ،وبين
ملوك المنصورة وآل أبي الشوارب القاضي قراب?ة وص??لة ونس?ب ،وذل?ك أن مل??وك
المنصورة الذين فيهم الملك في وقتن??ا ه??ذا من ول??د ًه ّبار بن ألس??ود ،ويع??رفن بب??ني?
عمر بن عبد العزيز القرشي ،وليس هوعمر بن عبد العزيز بن مروان األموي.
ف??إذا اجت??از جمي??ع م??ا ذكرن??ا من األنه??ار ببالد م??رج بيت ال??ذهب وه??و المولت??ان
اجتمعت بع??د المولت??ان بثالث??ة أي??ام فيم??ا بين المولت??ان والمنص??ورة? في الموض??ع
المعروف بدوسات ،فإذا انتهى جميع ذلك إلى مدينة الروذ من غربيها ،وهي من
صفحة 93 :
س ِّمي.هنالك مهران ،ثم ينقسم قسمين ،ويصب ك??ل من القس??مين أعمال المنصورةُ ،
من ه??ذا الم??اء العظيم المع???روف بمه???ران الس??ند في مدين??ة? ش??اكرة من أعم???ال
المنصورة في البحر الهندي ،وذلك على مقدار يومين من مدينة? الديبل.
والمس??افة من المولت??ان إلى المنص??ورة خمس??ة وس??بعون فرس??خا ً س??نديةعلى م??ا
ذكرن??ا ،والفرس??خ ثماني??ة أمي??ال ،وجمي??ع م??ا للمنص??ورة من الض??ياع والق??رى مم??ا
يضاف إليها ثلثمائة ألف قرية ذات زروع وأش??جار وعم??ائر متص??لة ?،وفيه??احروب
كثيرة من جنس يقال لهم المي??د ،وهم ن??وع من الس??ند وغ??يرهم من األجن??اس ،وهم
ثغ??ر الس??ند ،وك??ذلك المولت??ان من ثغ??ور الس??ند ومم??ا أض??يف إليه??ا من العم??ائر
والم??دن.وس??ميت المنص??ورة باس??م منص??ور بن جمه??ور عام??ل ب??ني أمي??ة ،ولمل??ك
المنصورة فيل?ة حربي?ة ،وهي ثم?انون فيالً رس? ُم ك?ل في?ل أن يك?ون حول?ه على م?ا
ذكرنا خمسمائة? راجل وأنه يحارب ألوفا ً من الخيك على ما ذكرنا ،ورأيت ل??ه فيلين
عظيمين كانا موصوفين عند ملوك السند والهند لما كانا علي??ه من الب??أس والنج??دة
واإلِقدام على فل ّ الجيوش ،وكان اسم أحدهما منف??رقلس واآلخرحي??درة ولمنف??رقلس
هذا أخبار عجيبة ،وأفعال حسنة ،وهي مشهورة في تلك البالد وغيره??ا :منه??ا أن??ه
س َّواسه ،فمكث أياما ً ال يطعم وال يشربُ ،ي ْبدي الح??نين ،ويظه??ر األنين، بعض ُ
ُ مات
كالرجل الحزين ،ودموعه تجري من عينيه ال تنقطع ،ومنها أنه خرج ذات ي??وم من
ح??ائرهِ ،وهي دار الفيل??ة ،وحي??درة وراءه ،وب??اقي الثم??انين تب??ع لهم??ا ،ف??انتهى
منف??رقلس في س??يره إلى ش??ارع قلي??ل الع??رض من ش??وارع المنص??ورة ،ففاج??أ في
مسيره? امرأة على حين غفلة منها ،فلما بصرت به دهشت واستلقت على قفاها من
الجزع ،وانكشفت عنها أطمارها في وسط الطريق ،فلما رأى ذل??ك منف??رقلس وق??ف
بعرض الشارع مستقبالً بجنبه األيمن م?ا وراءه من الفيل?ة مانع?ا ً لهم من النف?ذ من
أجل المرأة ،وأقبل يشير? إليها بخرطومه بالقيام،ويجمع عليها أثوابها ،وششر منها
ما ب??دا ،إلى أن انتقلت الم??رأة وتزح??زحت عن الطري??ق بع??د أن ع??اد إليه??ا روحه??ا،
فاستقام افيل في طريقه ،واتبعه الفيلة.وللفيلة أخبار عجيبة الحربية منها وال َعمال??ة
الع َجل َ وتحمل عليه األثق??ال وشش??عمل في ِد َي??اس األرز ألن منها ما ال يحارب فيجر َ
وغيره من األقوات كد َْوس البقرفي ا ْل َب ْيدَ ر ،وسنذكر فيما يرد من هذا الكت??اب أخب??ار
ال??زنج والفيل??ة ،وكونه??ا في بالده??ا ،وليس في س??ائر الممال??ك أك??ثر منه??ا في بالد
الزنج ،وهي وحشية هنالك كلها.
فهذه جمل من أخبار ملوك السند والهند ،ولغة السند خالف لغ??ة الهن??د ،والس??ند
مم??ا يلي اإلِس??الم ،ثم الهن??د ،ولغ??ة أه??ل الم??انكير وهي دار مملك??ة البله??را كيري??ة
مضافة إلى الصقع ،وهي كيرة ،ولغة ساحله مث??ل ص??يمور وس??ويارة وتان??ة وغ??ير
ذلك من مدن الس??احل ال ري??ة ،وبل??دهم مض??افة إلى البح??ر ال??ذي هم علي??ه ،وه??و ال
روى ،وقد تقدم ذكره فيما سلف من هذا الكتاب ،ولهذا السالح أنهار عظيمة تجري
من الجنوب ،بالضد من أنهار العالم ،وليس في أنهار العالم ما يج??ري من الجن??وب
إلى الشمال إال نيل مصر ومهران السند ويسير من األنهار ،وما عدا ذلك من أنهار
العالم يجري من الشمال إلى الجنوب ،وقد ذكرنا وجه العلة في ذلك وما قاله الناس
صفحة 94 :
في ه??ذا المع??نى في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وق??د ذكرن??ا م??ا انخفض من األرض وم??ا
ارتف??ع.وليس في مل??وك الس??ند والهن??د من يع??ز المس??لمين في ملك??ه إال البله??را،
صون ،ولهم مساجد مبنية ،وجوام?ع معم?ورة بالص?لوات فاإلِسالم في ملكه عزير َم ُ
للمسلمين ،ويملك الملك منهم األربعين سنة والخمسين سنة فصاعداً ،وأهل مملكته
يزعمون أنه إنما طالت أعمار مل??وكهم لس??نة الع??دل وإك??رام المس??لمين ،وه??و مل??ك
ي?رزق الجن?ود من بيت مال?ه كفع?ل المس?لمين بجن?ودهم ،ول?ه دراهم طاهري?ة وزن
الدرهم منها وزن درهم ونصف،س َك ُته بدء تاريخ ملكهم ،وفيلته الحربية ال تحص??ى
ك??ثرة ،وت??دعى بالده أيض?ا ً بالد الكمك??ر ،ويح??اربهم مل??ك الخ??زر من إح??دى جه??ات
مملكته ،وهو ملك كثير الخيول واإلِبل والجنود ة ويزعم أن??ه ليس في مل??وك الع??الم
أجل منه? إال صاحب إقليم بابل ،وه??و اإلِقليم الراب??ع ،وذل??ك أن ه??ذا المل??ك ف نخ??وة
وصولة على س??ائر المل??وك ،وه??و م??ع ذل??ك مبغض للمس??لمين ،وه??و كث??ير الفيل??ة،
وملك??ه على لس??ان من األرض ،وفي أرض??ه مع??ادن ال??ذهب والفض??ة ،ومب??ايعتهم
بهم??ا.ثم يلي ه??ذا المل??ك مل??ك الط??افن ُم? َ?وادع لمن حول??ه من المل??وك ،وه??و مك??رم
للمسلمين ،وليست جيوش??ه كجي??وش َمنْ ذكرن??ا من مل??وك ،وليس في نس??اء الهن??د
أحس??ن من نس??ائهم ،والَ أك??ثر منهن جم??االً وبياض??اً ،وهن موص??وفات الخل??وات،
مذكورات في كتب الباه ،وأهل البحر يتنافسون في شرائهن يعرفن بالطافنيات.
رهمى
?مائهم،
ِ ثم يلي هذا الملك مملكة رهمى ،وه??ذه س??مة لمل??وكهم ،وه??و األعم من أس?
ويقاتل??ه ال ُج??زر ،وملك??ه مت??اخم لملكهم ،ورهمى يح??ارب البله??را أيض ?ا َ من إح??دى
جهات مملكته ،وهو أكثر جيوشا ً وفيلة وخي??والً من البله??را ومن مل??ك الج??زر ومن
مل?ك الط?افن ،وإذا خ??رج في حروب?ه فرس?مه أن يك?ون في خمس?ين أل?ف في?ل ،وال
يكون حربه إال في الشتاء لقلة ص??بر الفيل??ة على العطش وقل??ة لبثه??ا ،والمك??ثر من
الناس يغلو في القول في كثرة جنوده ،فيزعمون أن عدد القصارين والغس??الين في
وح??رب َمنْ ذكرن??ا من المل??وك
ُ عس??كره من عش??رة آالف إلى خمس??ة عش??ر ألف??اً،
كراديس ،كل ُّ كردوس عشرون ألف?اً ،أربع??ة أوج??ه ك??ل وج??ه من الك??ردوس خمس??ة
االف ،ومملكة رهمى تع??املهم ب??الودع ،وه??و م??ال البل??د ،وفي بل??ده الع??ود وال??ذهب
والفضةوالثياب ال?تي ليس??ت لغ?يره رق?ة ودق?ة ،ومن بل?ده يحم??ل الش?عر المع?روف
ب العاج والفضة يق??وم به??ا الخ??دم على رؤوس بالضمر الذي تتخذ منه ا ْل َم َذاب ب ُن ُ
ص ِ
الملوك في مجالسها.
وصف الكركدن
وفي بلده الحيوان المعروف بالنشان المعلم ،وهو الذي تسميه الع??وام الكرك??دن،
وله في مقدم جبهته قرن واحد ،وهو دون الفي??ل في الخلق??ة وأك??بر من الج??اموس،
?تر كم??ا تج??تر البق??ر وغيره??ا مم??ا يج??تر من الحي??وان،
إلى السواد ما هو ،وه??و يج? ُّ
والفيلة تهرب منه ?،وليس في أنواع الحيوان وهّللا أعلم أشد منه ،وذلك أن أكثر
صفحة 95 :
عظامه أص??م ،وال مفص??ل في قوائم?ه? وال ي??برك في ني??ام ،وإنم??ا يك??ون بين الش?جر
واآلج??ام يس??تند إليه??ا عن??د نوم??ه ?،والهن??د تأك??ل لحم??ه ،وك??ذلك َمنْ في بالدهم من
المسلمين .ألنه نوع من البقر ،والجواميس بأرض السند والهند كثيرة ،وهذا النوع
من الحيوان وه??و النش??ان يك??ون في أك??ثر غاب??ات الهن??د ،إال أن??ه في مملك??ة رهمى
أكثر ،وقرونه أصفى وأحسن ،وذلك أن قرنه أبيض ،وفي وسطه صورة سوداء في
ذل?ك البي??اض أم?ا ص??ورة إنس??ان أو ص??ورة ط?اووس بتخطيط??ه وش??كله أو ص??ورة
سمكة أو صورته في نفسه أو صورة نوع من الحيوان مم??ا يوج??د في تل??ك ال?ديار،
فينش??ر ه??ذا الق??رن وتتخ??ذ من??ه المن??اطق والس??يور على ص??ورة الحلي??ة من ال??ذهب
والفضة فتلبسها مل??وك الص??ين ،وخواص??ها تتن??افس في لبس??ها وتب??الغ في أثمانه??ا
فتبلغ المنطق?ة ألفي دين?ار إلى أربع?ة آالف ،فيه?ا مع?اليق ال?ذهب ،وذل?ك في نهاي?ة
الحسن واإلتقان ،وربما تقمع بأنواع من الجواهر على قضبان الذهب ،ووجوه تل??ك
الصور ُم َك َتبة? بسواد في بياض ،وربما يوجد في قرونه بياض في سواد ،وليس في
ك??ل بل??د يوج??د في ق??رون النش??ان م??ا ذكرن??ا من الص??ور.وق??د زعم عم??رو بن بح??ر
الجاحظ أن الكركدن يحمل في بطن أمه سبع سنين ،وأنه يخرج رأسه من بطن أمه
فيرعى ثم يدخل رأسه في بطنها ،وهذا القول أورده في كتاب الحي??وان على طوي??ق
الحكاية والتعجب ،فبعثني هذا الوصف على مس??ألة َمن س??لك تل??ك ال??ديار من أ.ه??ل
س??يراف وعم??ان ومن رأيت ب??أرض الهن??د من التج??ار ،فك??ل يتعجب من قول??ه إذا
أخبرت??ه بم??ا عن??دي من ه??ذا وس??ألته عن??ه ،ويخبرون??ني أن حمل??ه وفص??اله ك??البقر
والجواميس ،ولس?ت أدري كي?ف وقعت ه?ذه الحكي?اة للجاح?ظ :أمن كت?اب نقله?ا أو
مخبر أخبره بها..
الكامن
ولرهمى في ملكه بروبحر ،ويلي ملكه ملك ال بحرله يقال ل?ه مل?ك الك?امن ،وأه??ل
مملكت??ه بيض مخرمم??ا اآلذان ،لهم فيل??ة وإب??ل وخي??ول ،وحس??ن وجم??ال للرج??ال
والنساء ،ثم بعد هؤالء ملك اإِل فرنج ،وله بر وبح??ر ،وه??و على لس??ان من ال??بر في
البحر ،يقع إلى بلده عنبر كثير ،وفي بلده فلفل يسير ،وهو ف فيلة كثيرة ،وهو ذو
بأس بين الملوك وزهو وفخرَ ،
وزهْ ُوة أك??ثر من قوت??ه ،وفخ??ره أك??ثر من بأس??ه ،ثم
يلي هذا الملك ملك الموجه أهل??ه بيض ف??و حس??ن وجم??ال غ??يرخرومي اآلذان ،لهم
خي??ل كث??يرة ،وع??دد منيع??ة ،والمس??ك في بالدهم كث??ير على م??ا ق??دمنا من غ??زالنهم
ووصف ظب?ائهم فيم?ا س?لف من ه?ذا الكت?اب ،وه?ذه األم?ة تش?به بأه?ل الص?ين في
لباسهم ،وجبالهم منيعة شواهق بيض ،ال ُي ْع َلم بأرض السند والهند وال فيم??ا ذكرن??ا
من هذه الممالك جبال أطول منها وال أمنع ،،ومسكهم موصوف? مض??اف إلى بل??دهم
يتعارف??ه البحري??ون ،ممن ع??ني بحم??ل ذل??ك وتجه??يزه ،ره??و المس??ك المع??روف
بالموجهي.
الماند
ثم يلى الموجه مملكة الماند ،ولهم مدن كثيرة وعمائر واسعة وجنودعظيمة?،
صفحة 96 :
ولمن ذكرن??ا من الهن??د والص??ين في بالدهم ولغ??يرهم من األمم أخالق وش??يم في
الماكل والمشارب والمناكح والمالبس والعالفي واألدوية والكي بالنار وغيره ،وق??د
ذك??ر عن جماع??ة من مل??وكهم أنهم ال ي??رون حبس ال??ريح في أج??وافهم ألن??ه دا ٌء
يؤذي ،وال يحتشمون في إظهارها في سائر أحوالهم ،وكذلك فعل حكمائهم ،ورأيهم
أن حبسها داء يؤذي ،وأن إرسالها شفاء ينجي ،وأن في ذل??ك العالفي األك??بر ،وأن
في??ه راح??ة لص??احب الق??ولنج والمحص??ور ،وأن في??ه داء للس??قيم المطح??ول ،وال
يحتشمون من الضرطة ،وال يحصرون الفسوة ،وال يرون ذلك عيباً ،وللهن??د التق??دم
في ص??ناعة الطب ،ولهم في??ه اللطاف??ة والح??ذق ،وذك??ر ه??ذا المخ??بر عن الهن??د أن
س???اء ،وأن ص???وت ش???اء في وزن الفُ َ
الس??? َعال عن???دهم أقبح من الض???راط ،وأن ا ْل ُج َ
الضرطة دباغها والمذهب عنها ريحها ،واستشهد? هذا المخبر على صحة م??ا حك??اه
عن الهند باستفاضة القول في ذلك في كثير من الناس عنهم ،حتى ذك??ر ذل??ك عنهم
في السير واألخبار والنوادر واألشعار؛ فمن ذلك م??ا ذك??ر أب??ان بن عب??د الحمي??د في
األرجوزة المعروفة بذات الحلل.
وأن الريح واححة فيِ الج??وف ،وإنم??ا تختل??ف أس??مائها ب??اختالف مخارجه??ا ،فم??ا
شاء ،وما يذهب سفالً يسمى فساء ،وال فرق بين ال??ريحين إال ص ُعداَ يسمى ُج َ
يذهب ُ
باختالف المخرجين ،كما ُيقال الصفعة واللطمة ،إال أن اللطمة في الوج??ه والص??فعة
مؤخر الرأس والقفا ،والجنس واح??د ،وإنم??ا اختلفت اس??ماؤها الختالف الموض??عين
وتباين المكانين ،وأن الحيوان الناطق إنما كثرت علله ،وترادفت أد َواؤه ،واتصلت
أمراضه ك?القولنج وأوج?اع المع?دة وغيره?ا من الع??وارض بحبس ال?داء في جوف?ه
وترك إظهاره في حال هيجانه وتفرغ الطبيعه لدفعه وإخراجه ،وأن س??ائر الحي??وان
غ??ير الن??اطق إنم??ا َب ُع??د عم??ا ذكرن??ا من اآلف??ات والمعترض??ات من العاه??ات لس??رعة
خروج ما يعرض ويثور? من األدواء في أجوافها وعدم احتباس??ها في وعائه??ا ،وأن
الفالسفة والمتقدمين من الحكماء اليونانيين ك??ديموقرطيس وفيث??اغورس وس??قراط
وديوجانس وغيرهم من حكماء األمم لم يكونوا يرون حبس ش??يء من ذل??ك لعلمهم
بما يتول??د من آفات??ه ،وي??ؤول إلي??ه من متعقبات??ه ،وأن ذل??ك يج??ده في نفس??ه ك??ل في
حس ،وأن ذلك يعلم بالطبيعة ،ويدرك بضرورة? العقل ،وإنما استقبح ذلك ان??اس من
أ صحاب الشرائع والكتب لما ورد ت به الشرائع ومنعت منه المل??ل ،ولم يج??ر ذل??ك
في عاداتهم.قال االمسعودي :وقد أتينا على أخبارهم وما أحكمنا من ذكر شِ َيمِهم
صفحة 97 :
وعجائب سيرهم ومتصرفاتهم في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب األوسط ،وك??ذلك
أتينا على ذكر أخبار المهراج ملك الجزائر والطيب واألفاوية م??ع س??ائرملوك الهن??د
ومع القنجب وغيره من ملوك الجبال مما قاب??ل ه??ذه الجزائ??ر ك??الزابج وغيره??ا من
بالد الصين ،وأخبار ملوك الص??ين ومل??ك س??رنديب م??ع مل??ك من??دورفين ،وهي بالد
مقابلة لجزيرة س??رنديب كمقابل??ة بالد قم??ار لجزائ??ر المه??راج من ال??زانج وغيره??ا،
وكل ملك تمل??ك بالد من??دورفين يس??مى المقاي??دي ،وس??نأتي بجم??ل من أخب??ار مل??وك
الشرق والغرب واليمن والحيرة فيما يرد من ه??ذا الكت??اب ومن أخب??ار مل??وك اليمن
والفرس والروم واليونانيين والمغرب وأنواع األحابيش والسودان ومل??وك الص??ين
ولد يافث ،وغير ذلك من أخبار العالم وعجائب األمم.
من االن والسرير والخزر وأنواع الترك والبرغز وغيرهم وأخبار الباب واألبواب
و َمنْ حولهم من الملوك واألمم.
جبل القبخ
أما جب?ل القبخ فهوجب??ل عظيم ،وص?قعه ص??قع جلي?ل ،ق?د أش?تمل على كث?ير من
الممال?ك واألمم ،وفي ه?ذا الجب?ل اثنت?ان وس?بعون أم?ة ،ك?ل أم?ة له?ا مل?ك ولس?ان
بخالف لغة غيرها ،وه??ذا الجب??ل ذو ش??عاب وأودي??ة ،ومدين?ة? الب?اب واألب??واب على
شعب من شعابهَ ،ب َناها كسرى أنو شروان وجعلها بين ?ه? وبين بح??ر الخ??زر ،وجع??ل
إلى البح??ر ،ثم على جب??ل القبحهذا السور من جوف البحرعلى مقدار ميل منه ماداً ِ
ماداً في أعاليه ومشخفضاته وشعابه نح??واَ من أربعين فرس??خاً ،إلى أن ينتهي? ذل??ك
إلى قلعة ُيقال لها طبرستان ،وجعل على كل ثالثة أمي??ال من ه??ذا الس??ور أو أق??ل أو
أكثر على حسب الطريق الذي جعل الباب من أجله بابا ً من حديد ،وأس??كن في??ه على
كل باب من داخله أمة تراعي ذلك الباب وما يلي??ه من الس??ور ،ك??ل ذل??ك لي??دفع أذى
وأنواع ال??ترك والس??رير وغ??يرهم من ِ األمم المتصلة بذلك الجبل .من الخزر َوالالن
أن??واع الكف??ار ،وجب??ل القبخ يك??ون في المس??افة عل??واَ وط??والً وعرض ?ا ً نح??واً من
شهرين ،بل وأكثر ،وحوله أمم ال يحصيهبم إال الخالق عز وج??ل ،أح??د ش??عابه على
بح??ر الخ??زر مم??ا يلي الب??اب واألب??واب على م??ا ذكرن??ا ،ومن ش??عابه مم??ا يلي بح??ر
مايطس المقدم ذكره فيما سلف من هذا الكالم الذي ينتهي إليه خليج القسطنطينية?،
وعلى بحر طرابزندة ،وهي مدينة? على ش??اطىء ه??ذا البح??ر له?ا أس??واق في الس??نة
يأتي إليها كثير من األمم للتجارة من المس??لمين وال??روم واألرمن وغ??يرهم من بالد
أنوشروان هذه المدينة المعروفة بالباب واألبواب والس??ور في ال??برَ كشك ولما بني
والبحر والجبل أسكن هناك أمما ً من الناس وملوكاً ،وجعل لهم مراتب َرتب ُه ْم عليه??ا
ووسم كل أمة منهم بسمة? معلومةَ ،وحدَّ له حداً معلوما ً على حسب فعل أردشير بن
أنوشروان من الملوك في بعض َ بابك حين رتب ملوك خراسان ،فممن رتب منهم
صفحة 98 :
ه??ذه البق??اع والمواض??ع مم??ا يلي اإِل س??الم من بالد بردع??ة مل??ك يق??ال ل??ه ش??روان،
ومملكته مضافة إلى اسمه فيقال له شروان شاه ،وكل ملك يلي هذا الصقع يقال ل??ه
شروان ،وتكون مملكته في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة نح??واً من
شهر ألنه كان تغ َل َب على مواضع لم يكن رسمها له أنوشروان فانضافت إلى ملكه،
والملك في هذا الوقت المؤرخ وهّللا أعلم مس??لم ُيق??ال ل??ه محم??د بن يزي??د ،وه??و من
ولد بهرام جور ،الخالف في نسبه ،وكذلك ملك السرير من ولد بهرام جور ،وكذلك
صاحب خراسان في هذا الوقت المؤرخ من ولد إسماعيل بن أحمد ،وإس??ماعيل من
ولد بهرام جور ،الخالف فيما ذكرنا من شهرة أنساب من ذكرنا ،وق??د تمل??ك محم??د
بن يزيد هذا وهو شروان على مدينة? الب??اب واألب??واب ،وذل??ك بع??د م??وت ص??هر ل??ه
ُيق??ال ل??ه عب??د المل??ك بن هش??ام ،وك??ان رجاًل من األنص??ار ،وك??ان في??ه إم??رة الب??اب
واألبواب ،وقد كانوا قطنوا تلك الديار منذ دخلها َم ْس َلمة? بن عب??د المل??ك وغ??يره من
أمراء اإلسالم في صدر الزمان.
إيران
وتلى مملكة شروان مملكة اخرى من جبل القبخ يقال لها اإِل يران ،وملكه??ا ي??دعى
اإِل ي??ران ش??اه ،وق??د غلب على ه??ذه المملك??ة في ه??ذا ال??وقت ش??روان أيض ?اً ،وعلى
مملكة اخرى ُيق?ال له?ا مملك?ة الموقاني?ة ،والمع?ول في مملكت?ه على مملك?ة اللك?ز،
وهي أمة ال تحصى كثرة ساكنة في أعالي هذا الجبل ،ومنهم كف??ار ال ينق??اعون إلى
ملك شروان ُيقال لهم الدودانية? جاهلية ال يرجعون إلى ملك ،ولهم أخبار طريفة في
المن??اكح والمع??امالت ،وه??ذا الجب??ل فأودي??ة وش??عاب وفج??اج ،وفي??ه أمم ال يع??رف
بعض??هم بعض ?ا ً لخش??ونة? ه??ذا الجب??ل وامتناع??ه وذهاب??ه في الج??و وك??ثرة غياض??ه
وأشجاره وتسلسل المي??اه من أعاله وعظم ص??خوره وأحج??اره ،وغلب ه??ذه الرج??ل
سمها كس??رى أنوش??روان المعروف بشروان على ممالك كثيرة من هذا الجبل كان َر َ
لغ??يره ممن رتب هن??اك ،فأض??افها محم??د بن يزي??د إلى ملك??ه :منه??ا خراس??ان ش??اه
وزادان شاه ،وسنذكر بعد هذا الموض?ع تغلب?ه على مملك?ه ش?روان ،وق?د ك?ان قب?ل
ذلك على اإِل يران هو وأبوه من قبل ،ثم على سائر الممالك.
طبرستان
وتلي مملكة شروان في جبل القبخ مملكة طبرستان ،وملكها في هذا الوقت مسلم،
وهو ابن أخت عبد الملك الذي كان أمير الباب واألب??واب ،وهي أول االمم ال ُم َّتص??لة
بالباب واألبواب.
جيدان
ويبادي أهل الباب واألبواب مملكة ُيقال لها جيدان ،وه??ذه األمةداخل??ة في جمل??ة
ملوك الخزر ،وقد كانت دار مملكتها مدينة على ثماني??ة أي??ام من مدين??ة الب??اب يق??ال
لها سمندر ،وهي اليوم يسكنها خلق من الخزر ،وذلك أنها افتتحت في بدء الزمان،
افتتحها سليمان بن ربيعة الب??اهلي رض??ي هللا تع??الى عن??ه ،فانتق??ل المل??ك عنه??ا إلى
مدينة? آمل ،وبينها وبين األولى سبعة أيام ،وآمل التي يسكنها مل??ك الخ??زر في ه??ذا
الوقت ثالث قطع يقسمها نهرعظيم يرد من أعالي بالد ال??ترك ويتش??عب مت??ه ش??عبة
نحوبالد البرغز وتصب في بح?ر م?ايطس ،وه?ذه المدين?ة جانب?ان ،وفي وس?ط ه?ذا
النهر جزيرة فيها دار الملك ،وقصر الملك في وسط هذه الجزيرة ،وبه??ا جس??ر إلى
أحد الجانبين من سفن ،وفي هذه المدينة? خل??ق من المس??لمين والنص??ارى واليه??ود
تهودَ ملك الخزروالجاهلية؛ فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه ،وكان َّ
في خالفة هرون الرشيد ،وقد انضاف إليه خلق من اليه??ود َو َردُوا علي??ه من س??ائر
أمصار المسلمين ومن بالد الروم ،وذلك أن ملك ال??روم في وقتن??ا ه??ذا ،وه??و س??نة
اثنتين وثالثين وثلثمائة ،وهم أرمنوس َن َق?ل َ من ك??ان في ملك??ه من اليه??ود إلى دين
النصرانية وأكرههم ،وسنذكر فيما يرد من هذا الكت??اب كيفي??ة أخب??ار مل??وك ال??روم،
ش?اركه في ملك?ه في ه?ذا ال?وقت الم?ؤرخ، وأعدادهم ،وأخب?ار ه?ذا المل?ك ومن ق?د َ
فتهار َب خلق من اليهود من أرض الروم إلى أرضه على م??ا وص??فنا ،وك?اذ لليه??ود َ
مع ملك الخزرخبر ليس هذا موضع ذكره.
ور ْس?? ُم دار مملك??ة الخ??زر أن يك??ون فيه??ا قض??اة س??بعة :اثن??ان منهم
مس??لمونَ ،
للمس?لمين ،واثن?ان للخ?زر يحكم?ان بحكم الت?وراة ،وائن?ان لمن به?ا من النص?رانية?
يحكم??ان بحكم النص??رانية ،وواح??د منهم للص??قالبة وال??روس وس??ائرالجاهلية يحكم
بأحكام الجاهلية وهي قضايا عقلية؛ فإذا ورد عليهم م??ا ال علم لهم ب??ه من الن??وازل
العظام اجتمعوا إلى قضاة المسلمين فتحاكموا إليهم انق??ادوا إلى م??ا توجب??ه ش??ريعة
اإِل س??الم ،وليس في مل??وك الش??رق في ه??ذا لص??قع من ل??ه جن??د مرتزق??ة غ??ير مل??ك
الخزر ،وكل مسلم من تلك الديار مرف بأس??ماء ه??ؤالء الق??وم الالرس??ية ?،وال??روس
والصقالبة ال??ذين ذكرن??ا أنهم جاهلي??ة هم جن??د المل??ك وعبي??ده ،وفي بالده خل??ق من
المس??لمين تجاروص??ناع غ??ير الالرس??ية? ف??روا إلى بالده لعدل??ه وأمن??ه ،ولهم مس??جد
جامع ،والمنارة تشرف على قصر الملك ،ولهم مساجد أخ??رى فيه??ا المك??اتب لتعليم
الص??بيان الق??رآن ،ف??إذا اتف??ق المس??لمون ومن به??ا من النص??ارى لم يكن للم??ك بهم
طاقة.
مراسم خاقان
قال المسعودي :وليس إخبارنا عن ملك الخزر نريد به خاق?ان ،وذل?ك أن للخ?زر
ملكا ً ُيقال له خاقان ،ورسمه? أن يكون في ي??دي مل??ك آخ??ر ه??و وغ??يره ،فخاق??ان في
ج??وف قص??ر ال يع??رف الرك??وب وال الظه??ور للخاص??ة وال للعأم??ة ،وال الخ??روج من
مس??كنه ،مع??ه حرم??ه ،وال ي??أمر وال ينهى ،وال ي??دبر من أم??ر المملك??ة ش??يئاً ،وال
تس??تقيم مملك??ة الخ??زر لملكهم إال بخاق??ان يك??ون عن??ده في دار مملكت??ه ،ومع??ه في
ح??يزه ،ف?إذا أج?د بت أرض الخ??زر أو ن?ابت بل?دهم نائب??ة ،أو ت?وجهت عليهم ح?رب
لغ??يرهم من األمم ،أو فاج??أهم أم??ر من األم??ور ،نف??رت الخاص??ة والعأم??ة إلى مل??ك
الخزر ،فقالوا له :قد تطيرنا بهذا الخاقان وأيامه ،وقد تشاء منابه ،فاقتله أو س??لمه
إلينا نقتله ،فربما سلَّمه إليهم فقتلوه ،وربما ت??ولَّى ه??و قتل??ه ،وربم??ا َر َّق ل??ه ف??دافع
عنه ألنقتله بال جرم استحقه وال ذنب أتاه ه??ذا رس??م الخ??زر في ه??ذا ال??وقت فلس??ت
أدري :أفي قديم الزمان كان ذلك أم حدث ،وإنم??ا منص??ب خاق??ان ه??ذا من أه??ل بي ٍ
ت
بأعياِنهم أرى أن الملك كان فيهم قديماً ،وهللا أعلم.
نهر برطاس
وللخزر زوارق يركب فيها الركاب التجار في نه??ر ف??ق المدين??ة يص??ب إلى نهره??ا
من أعاليهاُ ،يقالى له برطاس ،عليه أمم من الترك حاضرة داخلة في جمل??ة ممال??ك
الخزر ،وعمائرهم متصلة بين مملكة الخزر والبرغز ،يرد هذا النه??ر من نح??و بالد
البرغز ،والسفن تختلف فيه من البرغز والخزر.
أمة برطاس
وبرطاس أمة من الترك على ما ذكرنا على هذا النه??ر المع??روف بهم،ومن بالدهم
تحمل جلود الثعالب السود ،والحمر التي تعرف بالبرطاسية ?،يبلغ الجل??د منه??ا مائ??ة
دينار ،وأكثر من ذلك ،وذلك من السود ،والحمر أخفض ثمن ?ا ً منه??ا ،وتلبس الس??ود
منه??ا مل??وك الع??رب والعجم ،وتتن??افس في لبس??ه ،وه??و أغلى عن??دهم من الس??مور
والفنك وما شاكل ذلك ،وتتخذ الملوك منه القالنس والخفاف والحواويج ويتعذر في
المل??وك من ليس ل??ه خف??ان ودواج مبطن من ه??ذه الثع??الب البرطاس??ية الس??ود.وفي
أعالي نهر الخزرمصب متصل? بخليج من بحر نيطس ،وهو بحر ال??روس ال يس??لكه
غيرهم ،وهم على ساحل من سواحله ،وهي أم??ة عظيم??ة جاهلي??ة التنق??اد إلى مل??ك
وال إلى شريعة ،وفيهم تجار يختلفن إلى مل??ك ال??برغز ولل??روس في أرض??هم مع??دن
الفضة كثير نحو معدن الفضة الذي بجبل بنجهير من أرض خراسان.
البرغز
ومدينة? البرغز على ساحل بح??ر م??ايطس ،وأرى أنهم في اإلِقليم الس??ابع ،وهم
نوع من ال??ترك ،والقواف??ل متص??لة بهم من بالد خ??وارزم من أرض خراس??ان ،ومن
خوارزم إليهم ،إال أن ذل??ك بين ب??وادي غ??يرهم من ال??ترك ،والقواف??ل مخف??رة منهم.
وملك البرغز في وقتنا هذا وهوسنة اثنتين وثالنين وثلثمائة مس??لم ،أس??لم في أي??ام
المقتدر باهلل ،وذلك بعد العشر والثلثمائة ?،وذلك لرؤيا رآهأ ،وقد ك??ان ل??ه ول??د ًح ّج،
جامع ،وهذا المل??كِ وورد مدينة? السالم ،وحمل معه لمقتدر لواء و ُب ُنودأ وماالً ولهم
غزا بالد القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداَ ويشن الغ??ارات حوله??ا
إلى بالد رومي???ة? واألن???دلس وأرض برج???ان والجاللق???ة واإِل فرانج???ة ،ومنهم إلى.
القسطنطينية نحو من شهرين متصلين عم??ائر ومف??اوز ،وق??د ك??ان المس??لمون حين
غزوا من بالد طرسوس من الثغر الشامي مع أم??ير الثغ??ور ثم??ل الخ??ادم المع??روف
بالزلفى ومن كان معه من مراكب الشاميين والبصريين سنة? اثنتي عشرة وثلثمائ??ة
قطعوا فم خليج القسطنطينية وفم خليج آخرمن البحر الرومي ال منف??ذ ل?ه ،وانته??وا
إلى بالد فندب??ة ،وأت??اهم في البح??ر جماع??ة من ال??برغز ينج??دونهم ،وأخ??بروهم أن
ملكهم بالقرب ،وهذا يدل على ما وصفنا أن البرغز تتصل سراياها إلى ساحل بح??ر
ال???روم ،وك???ان نف???ر منهم ركب???وا في م???راكب الطرسوس???يين ،ف???أتوا بهم إلى بالد
طرسوس ،والبرغز أمة عظيمة منيعة? ش?ديدة الب?أس ،ينق?اد إليه?ا من جاوره?ا من
األمم ،والفارس ممن قد أسلم مع ذل?ك المل?ك يقات?ل المائ?ة من الفرس?ان والم?ائتين
من الكفار ،وال يمتنع? أهل القسطنطينية منه في هذا الوقت إال بسورها ،وك??ذلك ك??ل
من ك??ان في ه??ذا الص??قع ال يعتص??م منهم إال بالحص??ون والج??دران ،واللي??ل في بالد
البرغز في نهاية من القصر في بعض السنة ،ومنهم من زعم أن أحدهم ال يستطيع?
أن يفرغ من طبخ قدره حتى يأتي الصباح ،وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا علة ذلك
من الوجه ال َفلكي ،وعلة الموضع الذي يكون الليل فيه ستة أش??هر متص??لة ال نه??ار
فيه ،والنهار ستة? أشهر متصلة ال ليل فيه ،وذل?ك نح?و الج?دي ،وق?د ذك?ر أص?حاب
النجوم في الزيجات علة ذلك من الوجه الفلكي.
صفحة 102 :
الروس وأجناسهم
والروس :أمم كثيرة وأنواع شتى ،ومنهم من ُيقال لهم اللوذعانة،وهم األكثرون،
يختلفن بالتج??ارة إلى بالد األن??دلس ورومي??ة وقس??طنطينية والخ??زر وق??د ك??ان بع??د
الثالثمائة? ورد عليهم نحو من خمسمائة مركب ،في كل م??ركب مائ??ة نفس ،ف??دخلوا
خليج نيطس المتصل ببحر الخزر ،وهنالك رجال ملك الخزر مرتبين بالع??دد القوي??ة
يصدّ ون من يرد من ذلك البحر،ومن يرد من ذل??ك الوج??ه من ال??بر ال??ذي ش??عبه من
ش َتي?
بحر الخزر تتصل ببحر نيطس ،وذلك أن َب َوادي الترك الغز ترد إلى ذلك البرو ُت َ
هنالك ،فربما يجمد هذا الماء المتصل من نهر الخزر إلى خليج نيطس ،فتع??بر الغ??ز
عليه بخيولها ،وهوماء عظيم ،فالينخسف من تحتهم لشدة اس?تحجاره ،فتغ?ير على
بالد الخزر ،وربما يخرج إليهم ملك الخزر إذا عجز َمنْ هنالك من رجال??ه المرت??بين
عن دفعهم َو َم َن َعهم العبور على ذلك ا ْل َج َم? دِ ،وأم??ا في الص??يف فال س??بيل لل??ترك إلى
العب??ور ،فلم??ا وردت م??راكب ال??روس إلى رج??ال الخ??زر المرت??بين على فم الخليج
راسلوا ملك الخزر في أ ان يجتازوا البالد وينحدروا في نهره في??دخلوا نه??ر الخ??زر
ويتصلوا ببحر الخزر الذي هو بحر جرنجان وطبرستان وغيرهما من بالد األعاجم
على ما ذكرنا ،ويجعلوا لملك الخزر النصف مما يغنمون ممن هن??اك من األمم على
ذل??ك البح??ر ،فأب??احهم ذل??ك ،ف??دخلوا الخليج واتص??لوا بمص??ب النه??ر في??ه ،وس??اروا
ص ِع دين في تلك الشعبة من الماء ،حتى وصلوا إلى نهر الخزر ،وانحدروا فيه إلى ُم ْ
مدينة? آمل واجتازوا به??ا وانته??وا إلى فم النه??ر ومص??به إلى البح??ر الخ??زري ،ومن
مصب النهر إلى مدينة? آمل وهو نهر عظيم وماء كثير فانتشرت مراكب الروس في
هذا البحر ،وطرحت س??راياها إلى الجي??ل وال??ديلم وبالد طبرس??تان وآبس??كون ،وهي
بالد على س??احل جرج??ان وبالد النفاط??ة ،ونح??و بالد أذر بيج??ان ،وذل??ك أن من بالد
أردبي??ل من بالد أذر بيج??ان إلى ه??ذا البح??ر نح??و من نالث??ة أي??ام ،فس??فكت ال??روس
الدماء ،واستباحت النسوان والولدان ،وغنمت األموال ،وشنت الغارات ،وأخ??ربت،
وأخرقت ،فضج َمنْ حول هذا البح??ر من الألمم ،ألنهم لم يكون??وا يعه??دون في ق??ديم
الزمان عدواً يط??رقهم في??ه ،إنم??ا تختل??ف في??ه م??راكب التج??ار والص??يد ،وك??انت لهم
حروب كثيرة مع الجيل والديلم مع قائد البن أبي الساج ،فانتهوا إلى ساحل النفاطة
من مملكة شروان المعروفة بباكة ،وكانت الروس تأوي عند رجوعها من غاراته??ا
الى جزائر تقرب من النفاط?ة على أمي?ال منه?ا ،وك?ان مل?ك ش?روان يومئ?ذعلي بن
الهيثم ،فاستعد الناس ،وركب??وا في الق??وارب ،وم??راكب التج??ار ،وس??اروا نح??و تل??ك
الجزائر ،فمالت عليهم الروس ،فقت??ل من المس??لمين وغ??رق أل??وف ،وأق??ام ال??روس
شهوراً كثيرة في هذا البحر على ما وصفنا ال سبيل? ألحد ممن جاور هذا البح??ر من
األمم أليهم ،والناس مهتابون لهم ،ح??ذرون منهم .ألن??ه بح??ر غ??امر لمن حول??ه من
األمم ،فلما غنموا وسئموا ما هم فيه ساروا إلى فم نه??ر الخ??زر ومص??به ،فراس??لوا
ملك الخزر وحملوا إلي?ه األم?وال والغن?ائم على م?ا اش?ترط عليهم ،ومل?ك الخ?زر ال
م??راكب ل??ه ،وليس لرجال??ه به??ا ع??ادة ،ول??وال ذل??ك لك??ان على المس??لمين منهم آف??ة
عظيمة ،وعلم بشأنهم الالرسية? ومن في البالد الخزر من المسلمين ،فقالوا لملك
صفحة 103 :
الخ??زرَ :خلِّ َن??ا وه??ؤالء الق??وم فق??د أغ??اروا على بالد إخوانن??ا المس??لمين ،وس??فكوا
ال??دماء ،وس???بوا النس???اء وال???ذراري ،فلم يمكن المل ??ك منعهم ،وبعث إلى ال??روس
فأعلمهم بما قد عزم عليه المس??لمون من ح??ربهم ،وعس??كروا ،وخرج??وا يطلب??ونهم
منح??درين م??ع الم??اء ،فلم??ا وقعت العين على العين خ??رجت ال??روس عن مراكبه??ا
وصافا المسلمين ،وكان مع المسلمين خلق من النصارى من المقيمين بمدين?ة? آم??ل
سلمون في نحو خمسة عشر ألفا ً بالخيل والعدد ،فأقام الح?رب بينهم ثالث?ة وكان الم َ
أيام ،ونصر هّللا المسلمين عليهم ،وأخذهم السيف :فمن قتيل ،وغريق ،ونج??ا منهم
نحو خمسة آالف ،فركبوا في المراكب إلى ذلك ذلك الجانب مم??ا يلي بالد برط??اس،
وتركوا مراكبهم وتعلق??وا ب??البر فمنهم من قتل??ه أه??ل برط??اس ،ومنهم من وق??ع إلى
بالد ال??برغز إلى المس??لمين فقتل??وهم ،وك??ان من وق??ع علي??ه اإِل حص??اء ممن قتل??ه
المسلمون على شاطىء نهر الخزر نحواً من ثالثين ألفاً ،ولم يكن لل??روس من تل??ك
السنة عودة إلى ما ذكرنا.
ق?ال المس?عودي :وإنم?ا ذكرن?ا ه?ذه القص?ة دفع?ا ً لق?ول من زعم أن بح?ر الخ?زر
متصل ?،ببحر مايطس وخليح القسطنطينية من جهة بحر م??ايطس ونيطس ولوك??ان
له??ذا البح??ر اتص??ال بخليج القس??طنطينية من جه??ة بح??ر م??ايطس أو نيطس لك??انت
الروس قد خرجت فيه ،إذ كان ذلك بحرها على ما ذكرنا ،وال خالف بين من ذكرن??ا
ممن تجاوز هذا البحر من األمم في أن بحر األعاجم ال خليج له متص??ل ،بغ??يره من
البحار ة ألنه بحر صغيريحاط بعلمه ،وما ذكرنا من مراكب ال??روس فمس??تفيض في
تلك البالد عند سائر األمم ،والسنة معروفة ،و َكانت بعد الثالثمائة ?.وق??د غ?اب ع?ني
تاريخها ،ولعل من ذك??ر أن بح??ر الخ??زر متص??ل بخليج القس??طنطينية يري??د أن بح??ر
وهللا أعلم بكيفي?ة?
ّ الخزر هو بحر مايطس ونيطس الذي هو بحر ال??برغز وال??روس،
ذلك .وساحل طبرستان على هذا البحر ،وهنالك مدين??ة ُيق??ال له??ا الهم،وهي فرض??ة
قريبة? من الساحل ،وبينها وبين مدينة? آمل ساعة من النهار ،وعلى ساحل جرجان،
مما يلي هذا البحر ،مدينة ُيقال لها آبسكون ،على نحو من ثالثة أي??ام من جرج??ان،
وعلى هذا البحر الجيل والديلم ،وتختلف الم??راكب بالتج??ارات في??ه إلى مدين??ة آم??ل،
فيدخل في نهر الخزر إليها وتختل??ف ،الم??راكب في??ه بالتج??ارات من المواض??ع ال??تي
سمينا من ساحله إلى باكة ،وهي معدن النفط األبيض وغ??يره ،وليس في الدنياوهللا
أعلم نفط أبيض إال في هذا الموض??ع ،وهي على س??احل مملك??ة ش??روان ،وفي ه??ذه
النفاط??ة أط َم??ة ،وهي عين من عي??ون الن??ار ال ته??دأ على س??ائر األوق??ات َت َت َّ
ض??ر ُم
الصعداء.
بالد ص???قلية من أرض اإِل فرنج???ة ومن بالد إفريقي???ةمن? أرض المغ???رب ،وليس في
آطام األرض أشد صوتا ً وال أسود دخانا ً وال كثر تلهب ?ا ً من األطم??ة ال??تي في أعم??ال
المه??راج ،وبع??دها أطم??ة وادي بره??وت ،وهي نح??وبالد س??بأ وحض??رموت من بالد
ش ْحر ،وذلك بين بالد اليمن وبالد ُع َمان ،وصوتها يسمع كالرعد من أمي??ال كث??يرة ال ِّ
تقذف من قعرها بجمركالجبال وقطع من الصخورسود حتى يرتف??ع ذل??ك في اله??واء
در ُك حسا ً من أميال كث??يرة ثم ينعكس س ?فاًل فيهوي إلى قعره??ا وحوله??ا ،والجم??ر
َو ُي َ
الذي يظهر منها حجارة قد أحمرت مما قد أحالها من مواد حرارة الن??ار ،وق??د أتين??ا
على عل??ة تك??ون عي??ون الن??يران في األرض ،وم??ا س??بب مواده??ا ،في كتابناأخب??ار
الزمان.
حديث عن البزاة
وفي هذا البحر جزائر أخرى مقابلة لساحل جرج?ان ،يص?اد منه?ا ن??وع من ال ُب? َ
?زاة
أسرع الضواري إجاب??ة ،وأقله??ا معاش??رة ،إال أن في البيض ،وهذا النوع من ال ُب َزاة ِ
ه??ذا الن??وع من ال ُب? ْ?زاة ش??يئا َ من الض??عف ،ألن الص??ائد يص??طادها من ه??ذه الجزائ??ر
فيغذي َها بالسمك ،فإذا اختلف عليها الغذاء عرض لها الض??عف ،وق??د ق??ال الجمه??ور
من أهل المعرفة بالضواري وأن??واع الج??وارح من الف??رس وال??ترك وال??روم والهن??د
?زاة وأحس?نها والعرب :إن الب?ازي إذا ك?ان إلى البي??اض في الل?ون؛ فإن??ه أس?رع ال ُب? َ
?بزاة على وأنبلها أجس??اماً ،وأجرؤه??ا قلو َب? اَ ،وأسهلهارياض??ة وإن??ه أق??وى جمي??ع ال? َ
السمو في الجو ،وأذهبها الصعداء وأبع??دها غاي??ة في اله??واء؛ ألن فيه??ا من ح??رف
?زاة ،وإن اختالف الح??رارة وج??راءة القلب م?ا ليس في غيره?ا من جمي??ع أن?واع ال ُب َ
ألوانه??ا الختالف مواض??عها ،وإن من أج??ل ذل??ك خلص??ت ال??بيض لك??ثرة الثلج في
أرمينية وأرض الخزر وجرجان وما واالها من بالد الترك.
وقد حكي عن حكيم من خواقين الترك وهم الملوك المنقادة إلىملكهم جمي??ع مل??وك
?زاة أرض?نا إذا أس?قطت أنفس فراخه?ا من الوع?اء إلى الفض?اء الترك أنه قال :إن ُب َ
سمت في آخر الجو إلى الهواء البارد الكثيف ف??أنزلت ع??واب تس??كن هن??اك فتغ??ذيها
به??ا ،فال تلبث أن تق??وى وتنهض إِل س??راع الغ??ذاء فيه??ا ،وأنهم ربم??ا وج??دوا في
أوكارها من تلك الدواب أشالء.وقد قاك جالينوس :إن اله??واء ح??ار رطب ،وال??برد
يعرض فيه لقوة الرياح المرتفعة وال يخلوالجومن نشاء فيه وساكن.
وعن بليناس أنه قال :واجب إذا كان لهذين االسطقصين يعني األرض والماء خلق
وساكن أن يكون لالسطقصين األعليين يعني الهواء والنار خلق وساكن.
َو َو َجدت في بعض أخبار ه??ارون الرش??يد أن الرش??يد خ??رج ذات ي??وم إلى الص??يد
فلم ي??زل يحل??ق
ببالد الموصل ،وعلى يده بازأبيض ث فاضطرب على يده فأرسله ة ِ
حتى غاب في الهواء ثم طلع بعد اإِل ياس منه? وقد علق شيئا َ فهوى به يش??به الحي??ة
أو السمكة وله ريش كأجنحة السمك فأمر الرشيد فضع في طست ؛فلما عاد من
صفحة 105 :
َق َنصِ ِه أحضر العلم??اء فس??ألهم :ه??ل تعلم??ون لله??واء س??اكناً .فق??ال مقات??ل :ي??ا أم??ير
المؤم??نين ،روين??ا عن ج??دك عب??د هّللا بن عب??اس أن اله??واء معم??ور ،ب??أمم مختلف??ة
دواب ت??بيض في اله??واء تف??رخ في??ه ،يرفعه??ا اله??واء الخلق ،فيها سكان أقربها منا َ
ت أو السمك ،لها أجنحة ليست ب??ذات ريش الغليظ َويربيها حتى تنشأ في هيئة الح َّيا ِ
?زاة بيض تك??ون بأرميني??ة ?،ف??أخرج الطس??ت إليهم ،ف??أراهم الداب??ة ،وأج??از تأخذها ُب? َ
مقاتاًل يومئذ.
و قدأخبرني غير ،واحد من أهال التحص??يل بمص??روغيرهامن البالد أنهم ش??اهدوا
ت تس َعى كأسرع ما يك??ون من ال??برق بيض ،وأنه??ا تق??ع على الحي??وان في الجو َح َّيا ٍ
في األرض فتقتل??ه ،وربم??ا يس??مع? لطيرانه??ا في اللي??ل وحركته??ا في اله??واء ص??وت
كنشرثوب جديد ،وربما يقول من ال علم له وغيره من البش??ر :ه??ذا ص??وت س??احرة
لّطير ،ذات أجنحة من قصب.وللناس كالم كث??ير فيم??ا ذكرن??ا ،واس??تداللهم على ه??ذا
إنما هو بما يحدث في أسطقص الماء من الحيوان ،وأنه يجب على ه??ذه القص??ة أن
يحدث ذلك بين العنصرين الخفيفين وهما الهواء والنار نشو وحي??وان كحدوث??ه بين
الثقيلين وهما األرض والماء.
وصف البزاة
?زا َة ،وأغ?ربت في الوص?ف، ق?ال المس?عوعي :وق?د وص?فت الحكم?اء والمل?وك ال ُب َ
وأطنبت في المدح ،فقال خاقان ملك الترك :البازي ش??جاع مري??د وق??ال كس??رى أن??و
شروان :البازي رفيق يحسن اإِل ش?ارة وال ي?ؤخر الف?رص إذا أمكنت ،وق?ال قيص?ر:
البازي ملك كريم إن احت??اج أخ??ذ وإن اس??تغنى ت??رك ،وق??الت الفالس??فة :حس??بك من
البازي سرعة في الطلب وقوة على الرزق وفي السمو إذا ط??الت قوادم??ه و َب ُع??دَ م??ا
بين منكبيه? ف??ذلك أبع??د لغايت??ه وأخ??ف لس??رعته ،أال ت??رى إلى الص??قور ال ت??زداد في
غاياته??ا إال بع??داً وس??رعة وق??وة على التك??رار ،وذل??ك لط??ول قوادمه??ا م??ع كثاف??ة
أجسامها ،وإنما قصرت غاية البازي لقص?ر جناحي?ه ورق?ة جس?مه ،ف?إذا ط?الت ب?ه
الغاية أخره ذلك حتى تشتد نفسه ،وال ُت ْؤ َتى الجوارح إال من قصر القوادم ،أال ترى
أن ال??دراج والس??ما ن والحج??ل واش??باهها حين قص??رت قوادمه??ا ،كي??ف قص??رت
غاياتها .وقال أرستجانس :البازي طير عاري الحجاب ،وما يفته في كسوره يزي??ده
في أخمصه ورجليه ،وهو أضعف الطير جسماً ،وأقواهاقلبا ً وأشجعها وذلك لفض??له
على سائر الطير بالجزء الذي فيه من الحرارة التي ليست في شيء منهاَ ،و َوج??دنا
ص??دورها منس??وجة بالعص??ب ال لحم عليه??ا وق??ال ج??الينوس مؤي??دأ لم??ا ذهب إلي??ه
أرستجانس :إن البازي ال يتخذ وكراً إال في ش??جرة َل َف??اء مش??تبكة? بالش??وك مختلف??ة
شجرعسى طلبأ للكن ودفعا ً أللم الحر وال??برد ،ف??إذا أراد أن يف??رخ ب??نى
ِ الحجوم بين
لنفسه بيتا َ وسقفه تسقيفا ً ال يصل إليه منه مطروال ثلج إشفاقا ً على نفس??ه وفراخ??ه
من البرد والضر.
وذكر أن قيصر أهدى إلى كسرى ُعقابا ً وكتب إليه ُي ْعلِمه أنها تعم??ل أك??ثر من عم??ل
الصقر الذي أعجبه صيده ،فأمر بها كسرى فأرس??لت على ظ??بى ع??رض ل??ه فدقت??ه،
فأعجبه ما رأى منها ،فانصرف مسروراً ،فجوعها ليصيد بها ،فثبت على صبي ل??ه
فقتلته ،فقال كسرىَ :و َت َر َنا قيص??رفي أوالدن??ا بغ??ير جيش ،ثم إن كس??رى أهْ? دى إلى
قيصر نمراً ،وكتب إلي??ه أن??ه يقت??ل الظب??اء وأمثاله??ا من ال??وحش ،وكتب م??ا ص??نعت
ال ُع َقاب ،فأعجب قيصر حسن النمر ،وطابق صفته بوصف من الفه??د ،وغف??ل عن??ه،
فافترس بعضى فتيانه ،فقال :صادنا كسرى ،فإن كنا قد صدناه فال ب??أس.ه??ذا ،وق??د
تغلغل بنا الكالم عند ذكرنا لبح??ر جرج??ان وجزائ??ره إلى الكالم في أن??واع الج??وارح،
وسنذكر لُ َمعا ً من أخبار البزاة وأعداد أجناس الجوارح وأشكالها عند ذكرن??ا لمل??وك
اليونانيين ،فلنرجع االن إلى ذكر الباب واألب??واب ومن يلي الس??ور من األمم وجب??ل
القبخ ،وقد قلنا إن شر الملوك ممن جاورها من األمم مملكة جي??دان ،وملكهم رج??ل
مسلم يزعم أنه من العرب من قحطان ويعرف بس??لفان في ه??ذا ال??وقت ،وه??و س??نة
اثن?تين وثالثين وثلثمائ?ة ،وليس في مملكت?ه مس?لم غ?يره وول?ده وأهل?ه ،وأرى أن
ه??ذه الس??مة يس??مى به??ا ك??ل مل??ك له??ذا الص??قع ،وبين مملك??ة جي??دان وبين الب??اب
واألبواب أناس من المسلمين عرب ال يحس??نون ش??يئا ً من اللغ?ات غ??ير العربي??ة في
آجام هناك و ِغ َياض وأودية وأنهار كبار من قرى قد سكنوها ،وقطن??وا ذل??ك الص??قع
منذ ال??وقت ال??ذي افتتحت في??ه تل??ك ال??ديار ممن ط??رأ من ب??وأدي الع??رب إليه??ا ،فهم
مجاورون لمملكة جيدان ،إال أنهم ممتنعون بتلك األشجار واألنهار ،وهم على نح??و
ثالثة أميال من مدينة الباب واألبواب ،وأهل الب??اب يح??ذرونهم.ويلي مملك??ة جي??دان
مما يلي جبل القبخ والسرير ملك يقال له برزبان مسلم ،ويعرف بلده ب??الكرج ،وهم
أصحاب األعمدة ،وكل ملك يلي هذه المملكة يدعى برزبان.
مملكة غميق
ثم يلي مملكة برزبان مملكة ُيقال لها غميق ،وأهلها أناس نصارى ال ينقادون إلى
ملك ،ولهم رؤساء ،وهم مهادنون لمملكة الالن.
مملكة زريكران
ثم يليهم مما يلي السرير والجبل مملكة ُيق??ال له??ا زريك??ران ،وتفس??يرذلك عم??ال
ال??زرد ،ألن أك??ثرهم يعم??ل ال??زرد وال َي َل َب واللجم والس??يوف وغ??ير ذل??ك من أن??واع
الحديد ،وهم فو ديانات مختلفة :مسلمون ،ويهود ،ونصارى ،وبلدهم بلد خشن ،قد
امتنعوا بخشونته على ما جاورهم من األمم.
وخزائنه وأمواله مع رجل من ولد َب ْه َرام جور ليسير بها إلى هذه المملكة فيحرزها
هناك إلى وقت موافاته ،ومضى يزدجرد إلى خراسان فقتل هناك ،وذل??ك في خالف??ة
عمر رض??ي هللا عن??ه على م??ا ذكرن??ا في ه??ذا الكت??اب وغ??يره من كتبن??ا ،فقطن ذل?ك
الرجل في هذه المملكة ،واس??تولى عليه??ا ،وص??ار المل??ك في عقب??ه فس??مي ص??احب
السرير ،ودار مملكت??ه تع??رف بحم??رج ،ول??ه أثن??ا عش??رألف قري??ة يس??تعبد? منهم من
شاء ،وبلده بلد خشن م?نيع? لخش?ونته ?،وه??و ش??عب من .جب?ل القبخ ،وهويغ?يرعلى
الخزر مستظهرأعليهم ألنهم في سهل وهوفي جبل.
مملكة الالن
ثم تلي هذه المملكة مملكة الالن وملكها ُيقال له كركنداج ،وهذا االسم األعم لسائر
ملوكهم ،وكذلك فيالن شاه ،فهو االسم األعم لسائر ملوك السرير ،ودار مملكة ملك
الالن يقال لها معص ،وتفسير ذل??ك الديان??ة ،ول??ه قص??ور ومنتزه??ات في غ??ير ه??ذه
المدين??ة ينتق ?ل? في الس??كنى إليه??ا ،وبين ?ه? وبين ص??احب الس??رير مص??اهرة في ه??ذا
الوقت ،وقد تزوج كل واحد منهما بأخت اآلخر ،وقد ك?انت مل??وك الالت بع?د ظه?ور
اإلسالم في الدولة العباسية اعتقدوا دين النصرانية ?.وكانوا قبل ذل??ك جاهلي??ة ،فلم??ا
كان بعد العشرين والثلثمائة رجع??وا عم??ا ك??انوا علي??ه من النص??رانية ،وط??ردوا َمنْ
كان قبلهم من األساقفة والقسيسين ،وقد كالط أنفذهم إليهم ملك الروم.
وبين مملكة الالن وجبل القبخ قلعة وقنطرة على واد عظيم يقال لهذه القلعة قلع??ة
ب??اب الالن ،ب??نى ه??ذه القلع??ة مل??ك في ق??ديم الزم??ان من الف??رس األوائ??ل يق??ال ل??ه
اسبنديار بن يستاسف بن بهراسب ورتب في هذه القلع??ة رج??االً يمنع??ون الالن عن
الوصول إلى جبل القبخ ،وال طريق لهم إال على هذه القنطرة من تحت هذه القلع??ة،
والقلعة على صخرة صماء ال سبيل? إلى فتحها والوص??ول إليه??ا إال ب??إذن َمنْ فيه??ا؛
وله??ذه القلع??ة المبني??ة على أعلى ه??ذه الص??خرة عين من الم??اء عذب??ة تظه??ر في
وسطها من أعلى هذه الصخرة ،وهذه القلعة إحور قالع العالم الموصوفة بال َم َن َع??ة،
وق??د ذكرته??ا الف??رس في اش??عارها ،وم??ا ك??ان الس??بنديار بن يستاس??ف في بنائه??ا،
وإِل سبنديار في الشرف حروب كث??يرة م?ع أص??ناف من األمم ،وه?و الس?ائر إلى بالد
الترك ،فخرب مدينة? الصقر ،وكانت من المنعة بالموضع العظيم الذي ال ُي َرام ،وبها
تضرب الفرس األمثال ،وما كان من أفعال إسبنديار وما وصفنا فمذكور في الكت??اب
المعروف بكتاب البنكش ،نقله ابن المقف??ع إلى لس?ان الع??رب ،وق?د ك?ان َم ْس?لمة بن
عبد الملك بن مروان حين وصل إلى هذا الصقع ووطىء أهله أسكن في هذه القلعة
أناسا ً من العرب إلى هذه الغاية يحرصون هذا الموضع ،وربما يحم??ل إليهم ال??رزق
وأقوات من ال??بر من ثغ??ر تفليس ،وبين تفليس وه??ذه القلع??ة مس??يرة? خمس??ة أي??ام،
ولوك??ان رج??ل واح??د في ه??ذه القلع??ة لمن??ع س??ائر المل??وك الكف??ار أن يجت??ازوا به??ذا
الموضع؛ لتعلقها بالجو وإشرافها على الطريق والقنطرة وال??وادي ،وص??احب الالن
يركب في ثالئين ألف فارس ،وهو ذو َم َن َعة وبأس ش?ديد وف سياس?ة بين المل?وك،
ومملكته عمائرها متصلة ،غ??ير منفص??لة ،إذا تص??ايحت ال??ديوك تج??اوبت في س??ائر
مملكته الشتباك العمائر واتصالها.
صفحة 109 :
أمة كشك
ثم يلي مملة الالن أمة ُي َقال لها كشك ،وهم بين جبل القبخ وبحر الروم ،وهي
أمة مطيعة منقادة إلى دين المجوسية ?،وليس فيمن ذكرنا من األمم في ه??ذا الص??قع
أنقى أبشاراً ،وال أصفى ألوانأ وال أحس رج??االً وال أص??بح نس??اء ،وال أق??وم ق??دودأ،
وال أدق أخص??اراً ،وال أظه??ر أكف??االً وأرداف??اً ،وال أحس??ن ش??كأل من ه??ذه األم??ة،
ونس???اؤهم موص???وفات بل???ذة الخل???وات ،ولباس???هم البي???اض وال???ديباج ال???رومي
والسقالطوني وغير ذلك من أن??واع ال??ديباج الم??ذهب ،وبأرض??هم أن??واع من الثي??اب
يصنع? من القنب ،فيها نوع يقال له الطلى أرق من ال?دبيقي على ال َك? ِّد ،يبل?غ الث?وب
عش??رة:دن??انير ،ويحم??ل إلى م??ا يليهم من اإلِس??الم ،وق??د تحم??ل ه??ذه الثي??اب ممن
ج???اورهم من األمم ،إال أن الموص???وف منه???ا م???ا يحم???ل من قب???ل ه???ؤالء.والالن
مستظهرة على هذه األمة ،ال تنتصف هذه األم??ة من الالن،إال أنه??ا تمتن?ع? من الالن
بقالع لها على ساحل البحر ،وقد ُتنوزع في البحر ال?ذي هم علي?ه :فمن الن?اس من
يرى أنه بحر الروم ،ومنهم من ي??رى أن??ه بح??ر نيطس ،إال أنهم يقرب??ون في البح??ر
من بالد طرابزن??دة ،والتج??ارة تتص??ل? بهم منه??ا في الم??راكب ،وتتجه??ز من قبلهم
أيض?اً ،والعل?ة في ض?عفهم عن الالن ت?ركهم أن يملِّك??وا عليهم ملك?ا ً يجم?ع كلمتهم،
ولو اجتمعت كلمتهم لم ُيطِ ْقهم الالن وال غيرها من األمم ،وتفسير هذا االس??م وه??و
ف ،وذلك أن الف??رس إذا ك??ان اإِل نس??ان تائه??ا ص??لفا ً ص َل ُ
فارسي إلى العربية ال َتيه وال َ
قالوا :كشك.وتلي هذه األمة ال??تي على ه??ذا البحرأم??ة أخ??رى ُيق??ال لبالدهم :الس??بع
بلدان ،وهي أمة كبيرة ممتنعة بعيحة ال??دار ال أعلم ملته??ا ،وال نمي إلي خ ُبر َه??ا في
دينها.
ارم ذات العم??اد :وتليه??ا أم??ة عظيم??ة بينه??ا وبين بالد كش??ك نه??ر عظيم ك??الفرات
يصب إلى حر الروم ،وقيل :إلى بحر نيطس ،ويقال ل??دار مملك??ة ه??ذه ا .م??ة إرم ت
ات العم??اد ،وهم ف??و خل??ق عجيب ،وآراؤه??ا جافلي??ة ،وله??ذا البل??د على م??ذا البح??ر
خ?برظريف ،وذاك أن س?مكة عظيم?ة ت?أتيهم في ك?ل س?نة فيتن?اولن ش?ها ،ئم تع?ود
ثانية فتتوجه نحوهم من الشق االخر فيتناولن منه??ا ،وق??د ع??اد للحم على الموض??ع
الذي أخذ منه أواًل ،وخبرهن ا .مة مستفيض في لك الديار من الكفار.
ويلي هذه ا مة أمة بين جبال أربعة كل جبل منه??ا ممتن??ع ذاهب في اله??واء وبين
ه??ذه الجب??ال األربع??ة من المس??افة نح??و من مائ??ة مي??ل ص??حراء ،في وس??ط تل??ك
الص?حراء دارة مق?ورة كأنه?ا ق?د خطت ببيك?ار ،وش?كل دائرته?ا خس?فة مجوف?ة في
ص ْلد منخسف كما تححر الدائرة ،استدارة تلك الخسفة نحوخمس??ين ميالً قط??ع َح َجر َ
قائم يهوي سفاًل كحائ??ط مب??ني? من س??فل إلى عل??و يك??ون قع??ره على نح??و ميلين ،ال
سبيل? إلى الوصولى إلى مستوى? تل??ك ال??دارة ،وي??رى فيه??ا باللي??ل ن??يران كث??يرة في
مواضع مختلفة ،وبالنهار يرى قرى وعمائر وأنهارحتجري بين تلك الق??رى ون??اس
وبهائم ،إال أنهم يرون لطاف األجسام لبع??د قع??ر الموض??ع ،وال يح??رى من أي االمم
هم ،وال س??بيل? لهم إلى الص??عود إلى جه???ة من الجه??ات ،وال س??بيل? لمن ف??ق إلى
النزولى إليهم بوجه من الوجوه.
وف نوع من القرلة :ووراء تلك الجبال األربعة على س??احل البح??ر خس??فة اخ??رى
قريبة? القعم
صفحة 110 :
فيه??ا آج??ام وغي??اض فيه??ا ن??وع من الق??رود منتص??بة? القام??ات مس??تديرة الوج??و
واألغلب عليها صور الن??اس وأش??كالهم ،إال أنهم ف??و ش??عر ،وربم??ا وق??ع في الن??اثر
الق??رد منه??ا إذا احتي?ل في اص??طياعه .فيك??ون في نهاي??ة الفهم والحراي??ة ،إال أن??ه ال
لسان له فيعبر بالنطق ة ويفهم كل ما يخاطب به باإِل شارة ،ورب حمل الواحد منه??ا
?ذاب على موائ??دها لم??ا فيإلى ملوك األمم من هناك فتعلِّمه القيام على رؤوس بالم? ِّ
الق??ود من الخاص??ة بمعرف??ة الس??موم من المأك??ل والمش??رب ويلقي المل??ك ل??ه من
طعامه :فإن أكله أكل الملك منه ،وإذ اجتنبه علم أنه مسموم فحفر منه ?،وكذلك فعل
األكثر من مل??وك الس??نأل والهن??د في القرث??ة ،وق??د ذكرن??ا في ه??ذا الكت??اب خ??بر وف??د
المهحي ،وما ذكروا له مما في القرد من منافع ملوكهم ب??ه ِّ الصين حين وفحو على
عند الطعام وذكرنا خبر القرود باليمن ،واللوح الحديد الذي كتب??ه س??ليمان بن ث??اود
عهد للقرود باليمن ،وما كان من أمرهم مع عامل معاوية بن أبي سفيان ،وما كتب
به في أمرهم ،ووصف القرد العظيم الذي ك?ان في رقبت??ه الل??وح الحدي??د ،وليس في
ق??رود الع??الم أفطن من ه??ذا الن??وع ،وال أخبث ،وذل??ك أن القرع??ة تك??ون في بق??اع
األرض الحارة :فمنها بأرض النوب??ة وأعلى بالد األح??ابيش مم??ا يلي أع??الي مص??ب
النيل وهي القرود المعروفة بالنوبية ،وهي صغيرة القد صغيرة الوج?وه ذات س?واد
غير حالك كأنه ني وهو الذي يكون م??ع ال َق??رادين ،ويص??عد على رمح فيص??ير على
أعاله ،ومنها ما يك?ون في ناحي?ة الش?مال في اج?ام وغي?اض نح?و أرض الص?قالبة
وغيرها ممن هناك من االمم ،كنحو م??ا وص??فنا من ه??ذا الن??وع من الق??رود ،وق??رب
ش??كله من ص??ورة اإِل نس??ان ومنه??ا بخلجان??ات بالد ال??زابج في الص??ين وفي مملك??ة
المهراج ملك الجزائر ،وقد قممنا فيما سلف من ه??ذا الكت??اب أن ملك??ه ي??وازي مل??ك
الص??ين ،وه??و بين مملك??ة البله??را ومل??ك الص??ين ،وه??ذه الق??رود مش??هورة? في ه??ذا
الصقع معروفة بالكثرة في هذه الخلجانات ،وهي ذات ص?ور تأم??ة ،وق?د ك?ان حم??ل
إلى المقتمر منها ،وجاءت في سالسل عظام ،وكان في القرود فو لحى وسبال كبار
وشيوخ? وشبان مع أنواع من الهدايا من عجائب البح??ر ،حم??ل ذل??ك أحم??د بن هالل
أمير عمان يومئ??ذ ،وهن??ه الق??رود أمره??ا مش??تهر? عن??د البح??ريين من أه??ل س??يراف
وعمان ممن يختلف إلى بالد كلة والزانج ،وكيف تأتي بالحيلة لص??يد التماس??يح من
جوف الماء ،على أن الجاحظ ق??د ذك??ر أن التماس??يح? ال تك??ون إال بني?ل? مص??ر ونه??ر
مهوان السند وقد ذكرنا فيما سلف من ه??ذا الكت??اب م??ا قي??ل في ذل??ك ،وأخبرن??ا عن
مواضع التماسيح? فأما اليمن فال تناكر بين َمنْ دخله في أن القرود منه في مواضع
الج َن? ِد وبالد
كثيرة ال يحصرها عحد لكثرتها :فمنها في واعي نخل??ة ،وهي بين بالد َ
زبيد التي أميرها في هذا الوقت -وه??و س??نة? اثن??تين وثاللين وثلثمائ??ة ?-إب??راهيم بن
الج َن? ِد ي??وم أو
زياد صاحب الحرملي ،وبين هذا الواثي وبين زبيد يوم ،وبين??ه وبين َ
أكثر من ذلك ،وهذا الواس كثير العمائر ،ومصاد المياه إليه كثيمة ،وش??جر الم??وز
فيه كثير ،والق?رود في?ه كث??يرة ،وه?و بين جبلين ،والق??رود قطع?ان ك?ل قطي?ع منه??ا
يسوقه هرز ،والهرز :الذكر العظيم كالفحل العظيم المق َّمم فيها ،وقد تلد القرع??ة في
بطن واححة عمة من القرود نحو العشرة واألثني عشر ،كما تلد الخنزيرة خنانيص
كثيرة ،وتحمل القردة البعض من أوالدها كحمل المرأة ولدها ،ويحمل الذكر
صفحة 111 :
ب???اقيهن ،ولهن أندي???ة ومج???الس يجتم???ع فيه???ا خل???ق منهن فيس???مع لهن ح???ديث
ومخاطبات وهمهمة ?،واإِل ن??اث كالنس??اء متح??يزات عن ال??ذكور ،ف??إذا س??مع الس??امع
محادثتهن وهو ال يرى أشخاصهن بين تلك الجبال وأشجار الموز ،وذلك باللي??ل ،لم
يشك أنهم اناس لكثرتهم بالليل والنه??ار ،وليس في جمي??ع البق?اع ال?تي تك??ون فيه?ا
الق??رود أحس??ن وال أخبث وال أس??رع قب??واًل للتعليم من قرع??ة اليمن ،وأه??ل اليمن
كأس? َو ِد م??ا
يسمون القرد الرباح ،ولهم ُج َمم للذكور واإلِناث قد سرحت ومنها س??ود ْ
يكون من الشعر ،وإذا جلسوا يجلسون مراتب عون مرلبة الرئيس ،ويتشبهون في
س??ائر أعم??الهم بالن??اس ،ومن القرث ?ة? ب??اليمن ببالد م??أرب بين بالد ص??نعاء وقلع??ة
ار وجب??ال هن??اك كأنه??ا الس??حب في تل??ك ال??براري والجب??ال ?ر ٍ
كهالن م??ا يك??ون في ب? َ
لكثرتها ،وكهالن هنه قلع?ة من مخ?اليف اليمن فيه?ا أس?عد بن يعف?ر مل?ك اليمن في
هذا الوقت ُم ْح َتجب عن الناس إال عن خواصه ،وهوبق َّية من مل??وك حم??ير ،وحول??ه
من الجنود من الخيل والرجال نحو خمس??ين ألف?ا ً مرتزق??ة يقبض??ون ال??رزق في ك??ل
شهر ،ويدعي وقت القبض البركة ،فيجتمعون هناك ويتحفرون وينحمرون من تلك
المخاليف ،والمخاليف :القالع ،وقد كانت لهذا الرجل حروب ب??اليمن م??ع القرامط??ة
وصاحب المذيحرة ،وهو علي بن الفضل ،وذلك بعد الس??بعين والم??ائتين ،وق??د ك??ان
لعلي باليمن ش??أن عظيم ح??تى قت??ل ،وتوط??أت اليمن له??ذا الرج??ل ،وب??اليمن للق??رود
مواضع كثيرة ،وكذلك في بقاع من األرض أعرضنا عن ذرها ،إذ كنا ق??د أتين??ا على
علة تكونها في بعض البقاع لمحون بعض من األرض وأخب??ار النس??ناس في كتابن??ا
أخبار الزمان ثا وكذلك األخبار عن العرابيد ،وهو ن??وع كالحي??ات تك??ون ببالد حج??ر
اليمأمة فيما زجمموا ،واحدها عربد ،وقد كان المتوكل في بل خالفته سأل حنين بن
إسحاق أن يتأتى له في حم??ل أش??خاص من النس??ناس والعرب??د ،فلم َي ْس? َلم منهم إلى
ّ
تت??أت ل??ه الحيل??ة في حم??ل العرب??د من س?? َّر َمنْ رأى إال اثن??ان من النس??ناس ،ولمُ
اليمأمة ،وذلك أن العربد هذا إذا خرج عن اليمأمة وصار إلى موضع منها مع??روف
المسافة عدم من الوعاء الذي حمل فيه ،وأه??ل اليمأم??ة ينتفع??ون ب??ه لمن??ع الحي??ات
والعقارب وسائر الهوام ،كمنفعة أهل سجستان بالقنافذ ،ول??ذلك ك??ان في عه??د أه??ل
سجستان القديم أال يقتل قنفذ ببل??دهم ،ألن??ه بل??د كث??ير الرم??الى بن??اه ذو الق??رنين في
َم َطافه ،وحوله جبال كثيرة من الرم??ل ق??د س??كرت بالخش??ب والقص??ب ،والبل??د كث??ير
األفاعي والحيات جداً ،فلوال كثرة القناف??ذ لتل??ف من هن??اك من الن??اس ،وك??ذلك أه??ل
مصر في صعيدها وغيره ،لهم عويبة يقال لها العرانس أكبر من الجرذ وأصغر من
ابن عرس حمراء بيضاء البطن ،لوال هذه الحويبة لغلب على أهل مص??ر الثع??ابين،
?ف به??ا وهي ن??وع من الحي??ات عظيم??ة ،فينط??وي الثعب??ان على ه??ذه الدويب??ة ويلت? ُّ
ف??ترخي علي??ه ال??ريح فينقط??ع الثعب??ان من ريحه??ا ،ه??ذه خاص??ية ه??ذه الداب??ة ،وفي
الشرق أن?واع من الخ?واص في ب?ره وبح?ره وحيوان?ه ونبات?ه وجم?اده ،وك?ذلك في
الغرب واليمن وهو الجنوب ،والجدي وهو الشمال ،وق??د ذكرن??ا طب??ع ك??ل واح??د من
ه???ذه األرب???اع؛ ففي ذكره???ا في ه???ذا الب???اب خ???روج عن الغ???رض ال???ذي يممن???ا
نحوه.فل??نرجع اآلن إلى م??ا كن??ا في??ه آنف?ا ً من ذك??ر األمم المخيط??ة بالب??اب واألب??واب
والسور وجبل القبخ وبالد الخزر والالن ،فنقول:إنه يلي الخزر والالن فيما بينهم
صفحة 112 :
ض ?ر وب??دو ،ذو
وبين المغرب أمم أربع :ترك ترجعإلى أب واحد في بدء أنسابهمَ ،ح َ
َم َن َعة وبأس شديد ،لكل أمة منها ملك ،مسافة مملكته أيام ،متصلة ممالكهم بعض??ها
ببحر نيطس ،وتتصل عماراتها بمدينة رومي??ة ?،وم??ا يلي بالد األن??دلس ،مس??تظهرة
على سائر ما هنالك من األمم ،وبينهم وبين ملك الخزر مهادنة ،وكذلك مع ص??احب
الالن ،وديارهم تتصل? ببالد الخزر ،فالجيل األول منهم ُيقال له يجنى ،ثم تليه??ا أم??ة
ثانية ُيقال لها بجغرد ،ثم تليها أمة ُيق?ال له?ا بجن??اك ،وهي أش?د ه??ذه األمم األربع??ة
بأساً ،ثم تليها أمة ثانية ُيقال لها نوكرده وملوكهم َبدْ و ،وكان لهم حروب مع الروم
بعد العشرين والثالثمائة ،أو يها،
وقد كان للروم في تخوم أرض??هم يم??ا يلي من ذكرن??ا من ه??ذه األجن??اس األربع??ة
مدين??ة عظيم??ة يوناني??ة يق??ال له??ا ولن??در ،يه??ا خل??ق من الن??اس و َم َن َع? ة بين الجب??ال
والبحر ،كل من فيها م??انع لمن ذكرن??ا من األمم ،ولم يكن له??ؤالء ال??ترك س??بيل إلى
أرض الروم لمنع الجب??ال والبح??ر إي??اهم ،ومن في ه??ذه المدين??ة ،وك??ان بين ه??ؤالء
األجناس حروب لخالف وقع بينهم على رأس رجل مس??لم ت??اجر من أرض أردبي??ل:
كان نازالً على أرض بعضهم ،استض??افه ن?اس من الجب?ل االخ??ر ،ف?اختلفت الكلم?ة،
على دي?ارهم وهم عنه??ا ُخلُ??وفَ ،
فس? َب ْوا كث??يراً من ِ وأغار من في ولن??در من ال??روم
الذري??ة ،وس??اقوا كث??يراَ من األم??وال ،ونمى ذل??ك إليهم وهم مش??اغيل في ح??ربهم،
اجتمعت كلمتهم ،وتواهبوا ما كان بينهم من ،الدماء ،عمد القوم جميعا ً نح??و مدين?ة?
ولن??در ،فس??اروا إليه??ا في نح??و من س??تين أل??ف ف??ارس ،وذل??ك علىغ??ير احتف??ال وال
تج ُّمع ،ولو كان ذل??ك لك??انوا في نح??و من مائ??ة أل??ف ف??ارس ،فلم??ا نمى خ??برهم إلى
س?ير إليهم أرمنوس ملك الروم في هذا الوقت وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة َ
اثني عشر ألف فارس من المتنصرة على الخيول بالرماح في زي العرب ،وأض??اف
إليهم خمسين ألفا ً من الروم،فوصلوا إلى مدينة? ولن??در في ثماني ?ة? أي??ام ،وعس??كروا
وراءه??ا ،ون??ازلوا الق??وم ،وق??د ك??انت ال??ترك قتلت من أه??ل ولن??در خلق ?ا ً كث??يراً من
الناس ،وامتن??ع أهله??ا بس??ورهم إلى أن أت??اهم ه??ذا الم??دد ،ولم??ا ص??ح عن??د المل??وك
األربعة من سار إليهم من المنتصرة? والروم بعثوا إلى بالدهم جمعوا من كان قبلهم
من تج??ار المس??لمين ممن يط??رأ إلى بالدهم من نح??و بالد الخ??زر والب??اب والالن
وغيرهم ،وفي ه??ؤالء األجن??اس األربع??ة من ق??د أس??لم ،وهم غ??ير مخ??الطين لهم إال
عند حروب الكفار ،لما تصاف القوم وبرزت المنتصرة أم??ام ال??روم خ??رج إليهم من
كان قِ َبل َ الترك من التجار المسلمين فدعوهم إلى ملة اإلِس??الم ،وأنهم إن دخل??وا في
?ف الفريق??انأمان الترك أخرجوهم من بالدهم إلى أرض اإِل سالم ،فأبوا ذل??ك ،وتواق? َ
والروم على الترك ألنهم ك??انوا في الك??ثرة أض??عاف ِ في ذلك الوقت ،كانت للمنتصرة
صافهم ،وتش??اور مل??وك ال??ترك األربع??ة ق??ال لهم مل??ك بجن??اك: الترك ،وباتوا على ّم َ
قلدوني التدبير في غداة غد ،أنعم?وا ل?ه ب?ذلك ،لم?ا أص?بح جع?ل في جن?اح الميمن??ة
كراديس كثيرة كل كردوس منها ألف؛وكذلك فٍي جناح الميسرة ،فلما تص??اف الق??وم
خرجت الكراديس من ناحية الميمنة فرشقت في قلب ال?روم فص?ارت إلى الميس?رة،
وخرجت كراديس الميسرة فرشقت في قلب الروم فصارت إلى موضع َمنْ خرج
صفحة 113 :
بالدهم جمع??وا من ك??ان قبلهم من تج??ار المس??لمين ممن يط??رأ إلى بالدهم من نح??و
بالد الخزر والباب والالن وغيرهم ،وفي هؤالء األجناس األربعة من قد أسلم ،وهم
غير مخالطين لهم إال عند حروب الكفار ،لما تصاف القوم وب??رزت المنتص??رة أم??ام
ال??روم خ??رج إليهم من ك??ان قِ َب?? ل َ ال??ترك من التج??ار المس??لمين ف??دعوهم إلى مل??ة
اإلِسالم ،وأنهم إن دخلوا في أمان ال??ترك أخرج??وهم من بالدهم إلى أرض اإِل س??الم،
?روم على ال??ترك وتواقف الفريقان في ذلك ال??وقت ،ك??انت للمنتص??رة وال? َِ فأبوا ذلك،
ص?افهم ،وتش??اور مل??وك ال??ترك ألنهم كانوا في الكثرة أضعاف الترك ،وباتوا على ّم َ
األربعة قال لهم ملك بجن??اك :قل??دوني الت??دبير في غ??داة غ??د ،أنعم??وا ل??ه ب??ذلك ،لم??ا
أصبح جعل في جن??اح الميمن?ة? ك??راديس كث??يرة ك??ل ك??ردوس منه??ا أل??ف؛وك??ذلك فٍي
جناح الميسرة ،فلما تصاف القوم خرجت الكراديس من ناحية الميمن??ة فرش??قت في
قلب الروم فصارت إلى الميسرة ،وخرجت كراديس الميسرة فرشقت في قلب الروم
فص??ارت إلى موض???ع َمنْ خ??رج من جن??اح الميمن??ة ?،واتص ??ل ال??ر ْم ُي ،واتص???لت
الك??راديس ك??الرحى ،والقلب والميمن??ة والميس??رة لل??ترك ثابت??ة ،والك??راديس تعم??ل
عليها في اللفي?ق ،وذل?ك أن من خ??رج من ك?راديس ال??ترك من جن??اح ميمنتهم ك?ان
يبتدىء? فيرمي في جن??اح ميس??رة? ال??روم ويم??ربميمنتهم ف??يرمي وينتهي إلى القلب،
وما يخرج من كراديسهم من جناح الميسرة فيرمي في جناح ميمنة الروم ،وينتهي
إلى الميسرة ف??يرمي ،وينتهي إلى القلب ف??يرمي ?،يك??ون ملتقى الك??راديس في القلب
ش ُّوش ص??وهم دائراً على ما وصنا ،لما نظرت المتنصرة والروم إلى ما لحقهم من َت َ
وتواتر الرمي عليهم حمل??وا على الق??وم مشوش??ين في مص??ادفهم فص??ادوا ص??فوف
الترك ثابتة أخرجت لهم الكراديس ،فرش??قتهم ال??ترك كله??ا رش??قا ً واح??داً ،ك??ان ذل??ك
الرشق سبب هزيمة الروم ،وعقبهم الترك بعد الرشق بالحمل??ة على ص??فوفهم وهم
غ??ير متشوش??ين عم??ا ك??انوا علي??ه من التعبئ??ة ،وركض??ت الك??راديس من اليمين
والشمال ،وأخذ القوم السيف ،وأسود الفأق ،وك??ثر ص??ياح الخي??ل ،فقت??ل من ال??روم
والمتنصرة نح??و من س??تين أل??ف ح??تى ك??ان يص??عد إلى س??ور المدين??ة على جثثهم،
فافتتحت المدينة ،وأقام السيف يعمل يها أياماً ،وس??بى أهله??ا ،وخ??رج عنه??ا ال??ترك
بعد ثالثة أيام يؤم??ون القس??طنطينية ?،ثم توس??طوا العم??ائر والم??روج والض??ياع قتالً
وأسرا وسبيا ،حتى نزلوا على سور القسطنطينية ،فأقاموا عليه??ا نح??واً من أربعين
?ر ،وب??ذلوا يوما ً يبيعون المرأة والصبي? منهم بالخرق??ة والث??وب من ال??ديباج والحري? َ
وش? ًّنوا
السيف في الرجال فلم يبقوا على أحد منهم ،وربما قتلوا النس??اء والول??دانَ ،
الغارات في تل??ك ال??ديار ،فأتص??لت غ??اراتهم ب??أرض الص??قالبة ورومي??ة ?،ثم اتص??لت
?و ِبالد األن??دلس واإِل فرنج??ة والجاللق??ة ،فغ??ارات منغاراتهم في هذا ال??وقت إلى نح? ِ
ذكرنا من ال??ترك متص??لة إلى أرض القس??طنطينية? وم??ا ذكرن??ا من الممال??ك إلى ه??ذه
الغاية.
األبخاز
فلنر ِجع اآلن إلى ذكر جبل القبخ والسور والباب واألبواب؛إذ كنا قدذكرنا جمالَ من
أخب??ار األمم القاطن??ة في ه??ذا الص??قع ،فمن ذل??ك أن أم??ة تلي بالد الالن يق??ال له??ا
األبخاز منقادة إلى دين النصرانية ،ولها ملك في هذا ال??وقت ومل??ك الالن مس??تظهر?
عليهم ،وهم متص??لون بجب?ل القبخ ،ثم يلي مل?ك األبخ?از مل?ك الجوري??ة ،وهي أم??ة
عظيمة منقادة إلى دين النصرانية تدعى خزران ،ولها ملك في هذا الوقت يق??ال ل??ه
الط??بيعي ،وفي مملك??ة ه??ذا الط??بيعي موض??ع يع??رف بمس??جد ذي الق??رنين ،وك??انت
األبخاز والخزرية? ت??ؤدي الجزي??ة إلى ص??احب ثغ??ر تفليس من??ذ تحت تليس وس??كنها
المسلمون في أيام المتوكل فإنه كان بها رجل ُيقال له إس?حاق بن إس?ماعيل ،وك?ان
مس??تظهراً بمن مع??ه من المس??لمين على من حول??ه من األمم ،وهم منق??اعون إلى
طاعته وأداء الجزية إليه ،وعال أمر َمن هناك من األمم حتى بعث المتوكل بعثا ً نزل
على ثغ??ر تفليس ،وأق??ام عليه??ا محارب?ا ً ح??تى افتتحه??ا بالس??يف ،وقت??ل إس??حاق بن
إسماعيل؛ ألن إسحاق بن إسماعيل كان متغلبا ً على الناحية ،وكانت له أخبار يطول
وغيرهم ممن عني بأخبار الع??الم ،وأراه
ِ ذكرها ،وهي مشهورة في أهل ذلك الصقع
رجاًل من قريش من بني أُمية أو م??ولى الحق?اَ ،ف??انخرقت هيب?ة? المس??لمين من ثغ??ر
تفليس من ذلك الوقت إلى هذه الغاية ،فامتنع من جاورهم من الممالك من اإلِذع??ان
لهم بالطاعة ،واقتطعوا األكثر من ضياع تفليس ،وانقطع الوصول من بالد اإِل س??الم
إلى ثغر تفليس بين هؤالء األمم من الكف??ار؛ إذ ك??انت محيط??ة ب??ذلك الثغ??ر ،وأهله??ا
ذوو قوة وبأس شديد ،وإن كان ما ذكرنا من الممالك محيطا ً بهم.
مملكة الصنارية
ثم يلي مملكة خزران مملكة ُيقال لها الصمص??خي ،نص??ارى وفيهم جاهلي??ة المل??ك
لهم ،ثم تلي مملك??ة ه??ؤالء الصمص??خية بين ثغ??رتفليس وقلع??ة ب??اب الالن المق??دَّ م
ذكره?ا مملك?ة يق?ال له?ا الص?نارية ،وملكهم يق?ال ل?ه كرس?كوس ،ه?ذا االس?م األعم
لسائر ملوكهم ،وينقادون إلى دين النصرانية ?،وهؤالء النصرانية? يزعمون أنهم من
العرب من نزار بن معد ،من مضر ،وأنهم فخ??ذ من عقي??ل ،س??كنوا هنال??ك من ق??ديم
الزمان ،وهم هناك مستظهرون على كث??ير من األمم ،ورأيت ببالد م??أرب من أرض
اليمن أناساًمن عقيل محالفه لمذحج ،ال فرق بينهم وبين أخالفهم الستقامه كلمتهم،
فيهم خيل كثيرة َو َم َن َعة ?،وليس في اليمن كلها قوم من ن??زاربن مع??د غيره??ذا الفخ??ذ
من عقيل ،إال ما ذكر من ولد أنمار بن نزار بن معد ،ودخولهم في اليمن حس??ب م??ا
البجلي م??ع الن??بي ص??لى هللاَ ورد به الخبر ،وهو ما كان من خبر جري??ربن عب??د هّللا
عليه وسلم ،وما كان من خبر بجيل??ة ،والص??نارية يزعم??ون أنهم اف??ترقوا في ق??ديم
س َّمينا من عقيل ببالد مأرب في خبر طويل. الزمان هم ومن َ
مملكة شكين
ثم يلي مملكة الصنارية مملكة شكين وهم نصارى ،وفيهم خلق من المسلمين من
التج?اروغيرهم من ذوي المهن ،و ُيق?الى لملكهم في ه?ذا ال?وقت الم?ؤرخ ب?ه كتابن?ا
آزر بن نبيه بن مهاجر.
مملكة قيلة ،مملكة الموقان
ثم تليهم مملك??ة قيل??ة وم??احوت المدين??ة منه??ا مس??لمون ،وماحوله??ا من العم??ائر
والض??ياع نص??ارى ،ويق??ال لملكهم في ه??ذا ال??وقت الم??ؤرخ ب??ه كتابن??ا ه??ذا عنبس??ة
األعور ،وه??و م??أوى اللص??وص والص??عاليك وال??د َّعار .ثم تلي ه?ذه المملك??ة مملك??ة
الموقان ،وهي التي ق??دمنا ذكره??ا ،وأنه??ا متغلب عليه??ا ،وأنه??ا مض??افة إلى مملك??ة
شروان شاه ،وليس هذا البلد المعروف بالموقانية هو الملك الذي على ساحل بح??ر
الخزر ،وقد كان محمد بن يزيد المعروف بشروان شاه في هذا الوقت مل??ك اإِل ي??ران
علي بن الهيثم ،فلم??ا هل??كشاه هو ومن سلف من آبائه ،وك??ان مل??ك ش??روان ش??اه ّ
علي تغلب محمد على شروان شاه على حسب ما ذكرنا آنفاً ،بعد أن قتل عمومة له
واحتوى على ما ذكرنا من الممالك ،وله قلعة ال ي??ذكر في قالع الع??الم أحس??ن منه??ا
في جبل القبخ.
وللباب أخبار كثيرة من أخبار األبنية? العجيبة التي بناه??ا كس??رى بن قب??اذا بن
فيرور وهو أبو كس??رى أن??و ش??روان في الموض??ع المع??روف بالمس??قط من المدين?ة?
بالحجارة والحيطان التي بناها ببالد شروان المعروف بسور الطين وسور الحجارة
المعروف بالبرمكي وما يتصل ببالد برذعة أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتين??ا على
ذل??ك فيم??ا س??لف من كتبن??ا.وأم??ا نه??ر الك??ر فيبت??دىء من بالد خ??زران من مملك??ة
جرجين ،ويمر? ببالد أبخ?ازحتى ي??أتي ثغ??ر تفليس ،ويش??ق في وس??طه ،ويج??ري في
بالد السياوردية حتى ينتهي على ثمانية? أميال من بردع??ة ،ويج??ري إلى ب??رداج من
أعمال برذعة ثم يصب فيه مما يلي الصنارة نه??ر ال??رس ،ويظه??ر من أقاص??ي بالد
الروم من نحو مدينة? طرابزنده ح?تى يجيء إلى الك?ر ،وق?د ص??ار في?ه نه??ر ال??رس،
الخ? ّرمي من يصب في بحر الخزر ،ويجري ال??رس بين بالد الب??دين وهي بالد باب??ك َ
أرض أذر بيجان وجبل أبي موسى من بالد الران ،ويم?ر? ببالد ورث??ان ،وينتهي? إلى
حيث وص???فنا ،وق???د أتين???ا على وص???ف ه???ذه األنه???ار أيض???اً ،والنه???ر المع???روف
بأس??بيذروج وتفس??ير? ذل??ك النه??ر األبيض على التق??ديم والت??أخير بين اللغ??تين وهي
الفارسية والعربية ،ومم??ره وجريان??ه في أرض ال??ديلم نح??و قلع??ة س??الر ،وه??و ابن
أسوار الديلمي بعض ملوك الديلم وقد ظهر في هذا الوقت الم??ؤرخ ب??ه كتابن??ا تغلب
بالد أربيجان ثم يمر هذا النهر من الديلم إلى الجيل ،ويصب في??ه نه??ر آخ??ر في بالد
الديلمُ ،يق??ال ل??ه :ش??اهان روذ ،فينتهي? مص??ب الجمي??ع إلى بح??ر الجي??ل ،وه??و بح??ر
ال??ديلم والخ??زر وغ??يرهم ممن ذكرن??ا من األمم المحيط??ة به??ذا البح??ر ،وعلى ه??ذه
األنهار أكثر هؤالء الديم والجيل الذين قد ظهروا وتغلبوا على كثير من األرض.ف??إذ
ق??د ق??دمنا من أخب??ار بالد جب??ل القبخ وم??ا في??ه وم??ا حول??ه من األمم وأخب??ار الب??اب
واألبواب وبحر الخزر.
صفحة 117 :
ملوك العالم
فلن???دكر اآلن مل???وك الس???ريان ،وهم أول من يع??? ّد في كتب الزيج???ات والنج???وم
والتواريخ القديمة? من ملوك العالم ،ثم ملوك الموصل ونينوى ،ثم مل??وك باب??ل وهم
الذين عمروا األرض ،وشقوا األنهار ،وغرسوا األشجار ،وطعموا الثم??ار ،ومه??دوا
الوعر ،وسهلوا الطريق ،ثم نتبع ذلك بالفرس األولى ،وهم المعروف??ون بالخ??ذاهان
إلى مل??ك أفري??دون ،ثم اإلِس??كان إلى دارا وه??و داري??وس بن دارا وهم الس??كنون ثم
مل?وك الط?وائ ،ثم الف?رس الثاني?ة ،ثم اليون?انين ،ثم ال?روم ون?ذكر من يتل?وهم من
ملوك العرب واألمم والسودان ومصر? واإِل سكندرية و غير ذلك من بقاع األرض إن
شاء هّللا تعالى.
ولمع من أخبارهم
?ر أهلى العناي??ة بأخب??ار مل??وك الع??الم أن أول المل??وك مل??وك الس??ريانيين بع??د ذ َك? َ
الطوف??ان ،وق??د تن??وزع فيهم و في ال َّن َب??ط :فمن الن??اس من رأى أن الس??ريانيين هم
النبط ،ومنهم من رأى أنهم إخوة لودماش بن نبيط ،ومنهم من رأى غيرذلك و كان
أول من ملك منهم رجل ُيقال له إشوسان وكان أول من وضع التاج على رأس??ه في
تاريخ السريانيين وال َّن َبط ،وانقادت له ملوك األرض ،وكان ملكه س??ت عش??رة س??نة
باغيا ً في األرض ،مفسداً للبالد ،سفاكا ً للدماء.ثم ملك ول?د ل?ه يق?ال ل?ه برب?ر وك?ان
ملكه إلى أن هلك عشرين سنة .ثم ملك سماسير بن آوت ،سبع سنين.ثم ملك بع??ده
وك?و َر ْأل ُك َ?ور ،وج? َّد في أم?ره ،وإتق?ان ملك?ه،
َّ هريمون عش?ر س?نين ،خ?ط الخط?ط،
وعمارة أرضه ،فلما استقامت له األحوال وانتظم له الملك بلغ بعض ملوك الهند ما
عليه ملوك السريانيين من القوة وشدة العمارة ،وأنهم يحاولون الممالك ،وقد ك??ان
ه??ذا المل??ك من مل??وك الهن??د غالب?ا ً على م??ا حول??ه من ممال??ك الهن??د ،وانق??ادت إلى
سلطانه ،ودخلت في أحكامه ،وقيل:إن مكله كان مما يلي بالد السند والهن??د ،فس??ار
نحو بالد بسط وغ??زنين ولعس وبالد ال??داور على النه??ر المع??روف بنه??ر الهرمن??د،
وهو نهر سجستان ينتهي جريانه على أربع فراسخ منه??ا ،وه??ذا النه??ر علي??ه أه??ل
سجستان وضياعهم ونخلهم وجبالهم ومنتزهاتهم في هذا الوقت ،وهو سنة اثن??تين
وثالثين وثلثمائة ?،وهذا النهريعرف بنه??ر بس??ط ،وتج??ري ي??ه الس??فن من هن??اك إلى
سجستان فيها األقوات وغير ذلك ومن بس??ط إلى سجس??تان نح??و من مائ??ة فرس??خ،
وبالد سجستان هي بالد الرياح والرمال ،وهو البلد الموصوف بأن ال?ريح ب??ه ت??دير
األر ِح َية وتس??قي الم??اء من اآلب??ار وتس??قي? ال ِج َن??انَ ،وليس في ال??دنيا بل??د وهّللا آعلم
ْ
أكثر منه اتسعماالً للرياح.
نهر الهرمند
وقد تنوزع في مبدأ هذا النهر المعروف بنهر الهرمنده فمن الناس من رأى أن??ه
من عيون بجبال السند والهند ،ومنهم زآى أن مبدأه ص??ت مب??دأ نه??ر الكن??ك ،وهو
نهر الهند ،ويمر بكثير من جبال السند ،وهو نهر ح??اد االنص??باب والجري??ان ،علي??ه
يعذب أكتر الهند أنفس??ها بالحدي??د وتغوقه??ا زه??داً في ه??ذا الع??الم ورغب??ة في النقل??ة
عنه ،وذلك أنهم يقصدون موضعا ً في أعالى هذا النهر المعروف بالكنك ،وهو جبال
عالية ،وأشجار عادية ،ورجال جلوس ،وحدائد وسيوف? منصوبة على ذلك الشجر،
وقطع من الخشب فت??أتيهم الهن??د من الممال??ك النائي??ة والبل??دان القاص??ية فيس??معون
كالم أولئك الرجال المرتبين على هذا النهر وما يقولون من تزهيدهم في هذا العالم
والترغيب فيما سواه ،فيطرحون أنفس??هم من أع??الي تل??ك الجب??ال العالي??ة على تل??ك
أألشجار العادية والسيوف والحدائد المصوبة ?،فيتقطعون قطعاً ،ويصيرون إلى ه??ذا
النهر أجزاء ،وما ذكرنا فموصوف عنهم وما يفعلون على هذا النهر كدْ لك.
هذا الوقت مضغه بداَل َ من الطين ،ويكون عند الصنادلة للورم وغير ذلك ،وه??ذا إذا
ش?دَّ اللِّ َث? َ
?ة ،وبعث على الب??اه ،وحم??ر األس??نان مضغ على ما ذكرنا بالورق والن??ورة َ
حتى تكون ك??أحمر م??ا يك??ون من حب الرم??ان ،وأح??دث في النفس طرب?ا ً وأريحي??ة?،
وق??وي الب??دن ،وأث??ار من النكه??ة روائح طيب??ة خم??رة ،والهن??د خواص??ها وعوامه??ا
تستقبح َمنْ أسنانه بيض ،وتجتنب? من ال يمضغ ما وصفنا ،فإذا طاف ه??ذا المع??ذب
لنفسه بالنار في األس??واق وانتهى إلى تل??ك الن??ار وه??و غ??ير مك?ترث وال متغ?ير في
مشيته وال متهيب في خطوته ،ففيهم من إذا أش??رف على الن??ار وق??د ص??ارت جم??راً
كالت??ل العظيم يتن?اول بي?ده خنج?راً وي?دعى الج??ريء عن?دهم فيض?عه في لبت?ه ،وق?د
حضرت ببالد ص??يمور من بالد الهن??د من أرض الالزمن مملك??ة البله??را ،وذل??ك في
سنة أربع وثلثمائة ،والملك يومئذ على صيمور المع??روف بح??اج ،وبه??ا يومئ??ذ من
المسلمين نحو من عش??رة االف ق??اطنين بياس??رة وس??يرافيين وعم??انيين وبص??ريين
وبغداديين وغيرهم من س??ائر األمص??ار ممن ق??د تأه??ل وقطن في تل??ك البالد ،وفيهم
خلق من وجوه التجارمثل موسى بن إسحاق الصندالوني وعلى الهزمة يومئ ?ذ? أب??و
سعيد معروف بن زكريا ،وتفسير? الهزم?ة ي?راد ب?ه رآس?ة المس?لمين يتواله?ا رج?ل
منهم عظيم من رؤسائهم تكون أحكامهم مصروفة إليه ،ومعنى قولنا البياسرة يراد
ب??ه من ول??دوا من المس??لمين ب??أرض الهن??دُ ،ي??دْ َع ْون به??ذا االس??م ،واح??دهم بيس??ر،
فرأيت بعض فتيانهم وقد طاف على ما وصفنا في أسواقهم ،فلم??ا ُ وجمعهم بياسرة،
دنا من النار أخذ الخنجر فوض??عه على ف??ؤاده فش? َقه ،ثم أدخ??ل يم??ه الش??مال فقبض
على كبده فجذب منها قطعة وهو يتكلم فقطعها بالخنجر ،ف??دفعها إلى بعض إخوان??ه
تهاونا ً بالموت ولذة بالنقلة ،ثم هوى بنفسه? في النار ،وإذا مات المل??ك من مل??وكهم
أو قت??ل نفس??ه َح? َّر َق خل?ق من الن?اس أنفس??هم لموت??ه ،ي??دعون ه??ؤالء البالنجري??ة،
واح??دهم بالنج??ري ،وتفس??يرذلك المص??ادق لمن يم??وت فيم??وت بموت??ه ?،ويحي??ا
بحياته.وللهند أخبار عجيبة تج??زع من س??ماعها النفس :من أن??واع اآلالم والمقات??ل
ال??تي ت??ألم عن??د ذكره??ا األب??دان ،وتقش??عر منه??ا األبش??ار ،وق??د أتين??ا على كث??ير من
عجائب أخبارهم فيِ كتابنا أخبار الزمان.فلنرجع اآلن إلى خبر مل??ك الهن??د ومس??يره
إلى بالد سجستان ،وقصده مملكة السريانيين ،ونعدل عما احتذينا من أخبار الهن??د،
فنقول:كان هذا الملك من ملوك الهند ُيقال ل??ه زنبي??ل ،وك??ل مل??ك يلي ه??ذا البل??د من
أرض الهن??د يس??مى به??ذا االس??م زنبي??ل إلى ه??ذا ال??وقت ،وهوس??نة اثن??تين وثالثين
وثلثمائة ?،وكان بين الهند وملوك السريانيين حروب عظام نحو من سنة ،فقتل ملك
السريانيين ،واحتوى ملك الهند على الصقع ،وملك جميع ما فيه ،فسار إلي??ه بعض
ملوك العرب ،فأتى عليه وملك الع?راق ،ورد مل?ك الس?ريانيين ،فملك?وا عليهم رجاًل
منهم ُيقال له:تستر وكان ولد المقتول ،فكان ملكه إلى أن هلك ثمان سنين.
أهريمون هوريا ما روب
ثم ملك بعده أهريمون وكان ملكه اثنتي عشرة سنة ثم ملك بعد ابن ُيقال له هوريا
فزاد في العمارة ،وأحسن في الرعاية ،وغرس األش??جار ،وك??ان ملك??ه إلى أن هل??ك
اثنتين وعشرين سنة.ثم ملك بع??ده م??اروب واس??تولى على المل? َك وك??ان ملك??ه م??دة
خمس عشرة سنة ،وقيل :ثالثة وعشرين سنة.
صفحة 120 :
ثم ملك بعد أزور و خلنجاس ُويقال :إنهما كانا أخوين؛ فأحسنا السيرة ،وتعاضدا
على الملك ،و ُيق??ال :إن أح??د ه??ذين الملكين ك??ان جالس?ا ً ذات ي??وم إذ نظ??ر في أعلى
قصره إلى طائر قد أفرخ هناك ،وإذا هو يضرب بجناحيه ويصيح ?،فتأمل الملك ذلك
فنظر إلى حية تنس??اب إلى ال??وكر ص??اعدة ألك??ل ف??راخ الط??ائر ،ف??دَ َعا المل??ك بق??وس
فرمى به الحية فصرعها ،وسلمت ف??راخ الط??ائر ،فج??اء الط??ائر بع??د هنيه?ة? يص??فق
بجناحيه وفي منقاره حبة وفي مخاليبه حبتان ،وجاء إلى المل??ك وألقى م??ا ك??ان في
منقاره ومخاليبه ،والملك يرمقه ،فوقع الحب بين يدي الملك فتأمله ،وقال :ألمر ما
ألقى هذا الطائر ما ألقى ،ال شك أنه أراد مكافأتنا على فعلن??ا ب??ه ،فأخ??ذ لحب وجع??ل
يتأمله فلم يعرف مِثله في إقليمه ?،فقال جليس مِنْ ُجلسائه حكيم وقد نظر إلى ح??يرة
الملك في الحب :أيها الملك ،ينبغي أن يودع لنبات أرحام األرض فإنه??ا تخ??رج ُك ْن? َه
ما فيه ،فنقف على الغاية ِم ْنه ،إداء َما في مخزونه و َمكنونه ?،فدعا باأل َك َر ِة وأ َم َرهُم
بزرع الحب و ُمراعاته ،وما يكون منه ،فزرع ،فنبت وأقبل يلتف بالشجر ثم حصرم
وأعنب ،وهم َي ْر ُمقُون??ه ،والمل?ك يراعي??ه ،إلى أن انتهى في البل??وغ وهم ال ُي ْق??دمون
على ذوقه خوف?ا ً أن يك?ون متلف?اً ،ف?أمر المل?ك بعص?ر مائ?ه ،وأن ي?ودع في أواني،
وإفراد ُح ٍّب منه وتركه على حالته ،فلما صار في اآلنية عصيراً َهد ََر وق??ذف بالزب??د
فان فأتي به ،فلدد له من ذلك بشيخ كبير ٍ
ِ علي
َ وفاحت له روائح عبقة ،فقال الملك:
في إناء فرآه لونا ً عجيب?اً ،ومنظ?راَ ك?اماًل ،ولون?ا ً ياقوت َي? ا َ أحم?ر ،وش?عاعا ً ن?يراً ،ثم
سقوا الشيخ فما شرب ثالثا ً ح??تى م??ال ،وأرخى من م??آزره الفض??ول وص??فق بيدي??ه
وح??رك رأس??ه ،ووق??ع برجلي??ه على األرض ،فط??رب ،ورف??ع عقيرت ?ه? يتغ َّنى ،فق??ال
الملك :هذا شراب يذهب بالعقل ،وأخاف أن يكون قا َتاَل ،أال ت??رى إلى الش??يخ كيفم??ا
عاد في ح??ال الص??با وس??لطان ال??دم وق??وة الش??باب .ثم أم??ر المل??ك ب??ه فزي??د ،فس??كر
الش??يخ ،فن??ام ،فق??ال المل??ك :هل??ك ،ثم إن الش??يخ أف??اق وطلب الزي??ادة من الش??راب،
وقال :لقد شربته فكشف عني الغم?وم ،وأزال عن س?احتي األح??زان والهم?وم ،وم??ا
أراد الطائر إال مكافأتكم بهذا الشراب الشريف ،فقال الملك .هذا أشرف ش??راب أه??ل
األرض ،وذل?ك أن?ه رأى ش?يخا ً ق?د حس?ن لون?ه ،وق?وي حيل?ه ،وانبس?ط في نفس?ه،
وطرب في حال طبيعة الحزن وسلطان البلغم ،وجاد هض??مه ،وج?اءه الن??وم ،وص??فا
لونه ،واعترته أريحية ،فأمر الملك أن يكثر من َغ ْرس ال َك ْرم ،فكثر الغ??رس للك??رم،
وأمر أن يمنع العامة من ذلك ،وقال:هذا شراب الملوك ،وأنا السبب فيه ،فال يشرب
غيري ،فاستعمله الملك بقية أيامه ،ثم نما في أيدي الن??اس واس??تعملوه ،وق??د قي??ل:
إن نوحا ً أول من زرعها ،وقد ذكرنا الخبر حين س??رقها إبليس من ?ه? حين خ??رج من
السفينة واستولى على الجودي في كتاب المبدأ وغيره من الكتب.
مدينة نينوى
نينوى ?:هي مقابلة الموصل ،وبينهما دجلة ،وهي بين قردى وم??ا زن??دى من ك??ور
الموصل ،ونينوى? في َو ْقتنا هذا وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة مدين?ة? خ??راب
فيها قرى ومزارع ألهلها ،وإلى أهلها أرسل هّللا يونس بن َم َّتى ،وآثار الصور فيها
بينة? واضحة وأصنام من حجارة مكتوبة? على وجوهه??ا ،وظ??اهر المدين??ة ت??ل علي??ه
مسجد ،وهناك عين تعرف بعين ي??ونس الن??بي علي??ه الص??الة والس??الم ،وي??أوي إلى
ساك والعباد والزهاد. هذا المسجد ال ُّن ّ
المعروفين بالكلدنيين
ذ َك َر جماعة من أهل التبص??ر والبحث ،ومن ذوي العناي??ة بأخب??ار مل??وك الع??الم أن
ملوك باب هم أول م َلوك الع??الم ال??ذين َم َّهدُوا األرض بالعم??ارة ،وأن الف??رس األولى
إنما أخذت الملك من هؤالء ،كما أخذت الروم الملك من اليونانيين.
نمروذ الجبار
وكان أولهم نمروذ الجبار ،وكان ملك??ه نح??واً من س??تين س??نة ?،وه??و ال??ذي احتف??ر
الفرات فيق?ال :إن من ذل?ك نه??ر ك?وثى يطري??ق من ط??رق أنهاراً بالعراق ،آخذة من َ
الكوفة ،وهو بين قصر ابن هبيرة وبغداد ،الخف??اء لخ??بره وش??هرته ?،وس??نذكر فيم??ا
ي??رد من ه??ذا الكت??اب كث??يراً من أنه??ار الع??راق ،عن??د ذكرن??ا لمل??وك الف??رس األولى
والثانية ،وغيرهم من ملوك الطوائف ،وإنما الغرض في هذا الكتاب التلويح بتاريخ?
ملوك العالم ،والتنبيه? على ما سلف من كتبنا.
ملك بعده فنحست إحدى وأربعين سنة ،ثم ملك بعده أحرس??ت ثالث س??نين ،وقي??ل:
سنتين وشهرين ،ثم ملك بعده ش??عرياس س??نة ،وقي??ل :تس??عة أش??هر ،ثم مل?ك بع?ده
داري??وس عش??رين س??نة ،وقي??ل:تس ?ع? عش??رة س??نة ?،ثم مل??ك بع??ده أطحس??ت تس??عا ً
وعشرين سنة ثم ملك بعده داروا اليسع خمس عشرة سنة ?،وقيل :عشر سنين.
أعمال ملوك بابل
بحث في األلوان
وقد ذكر ق??وم أن األل??وان ثماني??ة على حس??ب الموض??ع المس??تحق له?ا،ومنع??وا أن
تكون الحمرة تشوب شيئا ً من ذلك إال ما لط??ف من أجزائه??ا داخالً في جمل??ة األك??ثر
من أشباه الحيوان من تلك األعالم ،وعموا أن قضية القياس توجب أن تكون س??ائر
أعالم الح??رب حم??راء؛ إذ ك??انت ألي??ق وأش??كل بل??ون ال??دم ،وأك??ثر مالءم??ة ،إذ ك??ان
لونهم??ا واح??داً ،لكن من??ع من ذل??ك اس??تعمالها في خ??ال الزين??ة والط??رب وأوق??ات
السرور ،واستعمال النساء والصبيان لها ،وفرح النف??وس به??ا ،وأوجب ت??رك ذل??ك،
وإن حس البصر مشاكل للون الحمرة ،إذا كان من شأنه أنه إذا أدركها انبسط نوره
في إدراكه??ا ،وإذا وق??ع البص??ر على الل??ون األس??ود ن??وره ولم ينبس ?ط? في إدراك??ه
انبس??اطه في الحم??رة ،وأن النس??بة? الواقع??ة بين بص??ر الن??اظر وبين ل??ون الحم??رة
االشتراك ،والمباينة الضدية بين نور البصر ول??ون الس??واد.وتكلم ه??ؤالء الق??وم في
مراتب األلوان من الحمرة والسواد والبياض وغيرها ،ومراتب األن??وار ،وم??ا وج??ه
ِس البصر وبين لون الحم??رة ذلك من أسرار الطبيعة ،والحد المشترك بين نورية ح ِّ
والبي?اض ،والض??د المب?اين بين الس??واد وبين ن?ور البص?ر ،دون س?ائر األل??وان من
الحمرة والخضرة والصفرة والبياض ،وتغلغ??ل الق??وم في ه??ذه المع??اني إلى م??ا عال
من األجسام السماوية من النيرين والخمسة ،واختالفها في ألوانها ،وإلى غير ذلك
صفحة 124 :
من األشخاص العلوية.وقد أتينا على ما قالوه من ذلك فيما س??لف من كتبن??ا ،وأتين??ا
على سير هؤالء الملوك وأخبارهم واختالفهم في كتابنا أخبار الزمان ،وفي الكت??اب
األوسط.وقد ذهبت طائفة من الناس إلى أن هؤالء الملوك كانوا من النب??ط وغ??يرهم
من األمم ،وأنه كان يرأس بعضهم غ?يره من مل?وك الف?رس ممن ك?ان مقيم?ا ً ب َب ْل َخ،
ْ
واألش ? َه ُر م??ا ق??دمناه ،وس??نورد فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب لمع ?ا ً من أخب??ار النب??ط
وأنسابهم.
أصل الفرس
الفرس تخبر م??ع اختالف آرائه?ا وبع?د أوطانه?ا وتباينه?ا في دياره?ا وم?ا ألزمت??ه
?اض ،وص??غير عن كب??ير أن أول ?اق عن م? ٍأنفس??ها من حف??ظ أنس??ابها ،ينق??ل ذل??ك ب? ٍ
من زعم أن??ه ابن آدم ،واألك??بر من ول??ده، ملوكهم كي??ومرث ثم تن??ازعوا في??ه فمنهم ِ
?رء ،وق??د ذهبت ومنهم من زعم وهم األقل??ون ع??دداَ -أن??ه أص??ل النس??ل وينب??وع ال َن? ْ
طائفة منهم إلى أن كيومرث هو أميم بن الوذ بن إرم بن س??ام بن ن??وح ،ألن أميم ?ا ً
أول من َحل َّ بفارس من ولد نوح ،وكان كيومرث ينزل بف??ارس ،والف??رس ال تع??رف
?وح ،والق??وم ال??ذين ك??انوا بين آدم ون??وح? عليهم??ا الس??الم ك??ان لس??انهم طوف??ان ن? ِ
سريانياَ ?.،ولم يكن عليهم ملك ،بل بهانوا في مسكن واحد ،وهللا أعلم بذلك.
وكان كيومرث أكبر أهْ ل عصره ،والمقدم فيهم وكان أول ملك نص??ب في األرض
فيما يزعم?ون ،وك?ان الس?بب ال?ذي دع?ا أه?ل ذل?ك العص?ر إلى أقأم?ة مل?ك ونص?ب
رئيس أنهم رأؤا أكثر الناس قد ُج ِبلوا على التب??اغض والتحاس??د والظلم والع??دوان،
ورأوا أن الشرير منهم ال يصلحه إال الرهب??ة ،ثم ت??أملوا أح??وال الخليق??ة ،وتص??رف
شأن الجسم ،وصورة اإِل نسان الحساس الدراك ،فرأوا الجس??م في بنيت??ه وكون??ه ق??د
رتب بخواص تؤدي إلى معنى ه?و غيره?ا يورده??ا ويص??درها ويميزه??ا بم?ا ت??ورده
إليه من أخالقها في مداركها ،وهو مع??نى في القلب ف??رأوا ص??الخ الجس??م بت??دبيره?،
وأنه متى فسد تدبيره فسد سائره ،ولم تظهر أفعاله المتقنة المحكمة ،فلما رأوا هذا
العالم الصغير الذي هو جسد اإِل نسان المرئي ال تستقيم أموره وال تنتظم أحوال??ه إال
باستقامة الرئيس الذي قدمنا ذكره علموا أن الناس ال يستقيمون إال بملك ينصفهم،
ويوج??ه الع??دل عليهم ،وينف??ذ األحك??ام على م??ا يوجب??ه العق??ل بينهم ،فس??اروا إلى
وع َّرفوه حاجتهم إلى ملك وقيم ،وق?الوا :أنت أفض??لنا ،وأش?رفنا، كيومرث بن الوذَ ،
وأكبرنا ،وبقية أبينا ،وليس في العص??ر من يوازي??ك ،ف? ُر َذ أمرن??ا إلي??ك ،وكن الق??ائم
فينا؛ فإنا تحت سمعك وطاغتك ،والقائلون بما تراه ،فأجابهم ما دعوه إليه،
صفحة 125 :
واستوثق منهم بأكيد العهود والمواثيق على السمع والطاعة وت??رك الخالف علي??ه،
فلما وضع التاج على رأسه ،وكان أول من ركب التاج على رأسه من أهل األرض،
قام خطيبا ً وق??ال :إن النعم ال ت??دوم إال بالش??كر وإن??ا نحم??د هّللا على أيادي??ه ونش??كره
على نعمه ،ونرغب إليه في مزي??ده ،ونس??أله المعون?ة على م?ا دفعن?ا إلي??ه ،وجس??ن
الهداي??ة إلى الع??دل ال??ذي ب??ه يجتم??ع الش??مل ويص??فو العيش ،فثق??وا بالع??دل من??ا،
وأنصفونا من أنفسكم نوردكم إلى أفض??ل م??ا في هممكم والس?الم فلم ي?زل كي??ومرث
قائما َ باألمر ،حسن السيرة في الناس ،والحال آمنة ،واألمة س??اكنة ط??ول مدت??ه إلى
أن مات.ولهم في وضع التاج على الرأس أسرار ي??ذكرونها أعرض??نا عن ذكره??ا إذ
كن??ا ق??د أتين??ا على ذل??ك في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وفي الكت??اب األوس??ط.وذك??روا أن
كيومرث أول من أمر بالسكوت عند الطعام .لتأخ?ذ الطبيع?ة بقس?طها فيص?لح الب?دن
بم??ا ي??رد إلي??ه من الغ??ذاء ،وتس??كن النفس عن??د ذل??ك ،ف ُت?دَبركل عض??ومن األعض??اء
تدبيراً يؤدي إلى ما فيه صالحه من أخذ صفو الطع??ام ،فيك??ون ال?ذي ي??رد إلى الكب??د
وغيره من األعضاء القابلة للغذاء م??ا يناس??بها ،وم??ا في??ه ص??الحها ة ف??إن اإِل نس??ان
متى شغل عن طعام??ه بض??رب من الض??روب انص??رف قس??ط من الت??دبير وج??زء من
التقدير إلى حيث انصباب الهمة ووقوع االش??تراك ،فأض??ر ذل??ك ب??األنفس الحيواني?ة?
والق??وى اإلٍ نس??انية ?،وإذا ك??ان ذل??ك أدى إلى مفارق??ة النفس الناطق??ة له??ذا الجس??د
الم??رئي ،وفي ذل??ك ت??رك للحكم??ة ،وخ??روج عن الص??واب.ولهم في ه??ذا الب??اب س??ر
لطيف من أسرار السبب الذي بين النفس والجسم ليس هذا موضعه ،وقد أتينا على
ذكره في الكتاب المترجم بسر الحياة وفي كت??اب الزل??ف عن??د ذكرن??ا النفس الناطق??ة
والنفس العالمة والنفس الحسية والمخيلة والنزاعية ،وما قال الناس في ذل??ك ممن
تقدم وتأخر من الفالسفة وغيرهم.وق??د تن??وزع في مق??دار عم??ر كي??ومرث ه??ذا فمن
الناس من رأى أن عمره ألف سنة ،دون ذل?ك ،وللمج?وس في كي?ومرث ه?ذا خطب
طويل في أنه مبدأ النسل ،وأنه نبت من نبات األرض ،وهو الريباس ،هو وزوجته،
وهما شابة ومنشابة? وغير ذلك مما يفحش إيراده ،وما ك??ان من خ??بره م??ع إبليس،
إص َط ْخ َر فارس ،وكانت مدة ملك??ه أربعين س??نة ،وقي??ل :أق??ل وقتله إياه ،وكان ينزل ْ
من .ذلك.
ثم ملك بعده أوشهنج بن فروال بن سيامك بن يزنيق بن كيومرث المل??ك ،وك??ان
أوشهنج ينزل الهند ،وك?ان ملك?ه أربعين س?نة ،وقي?ل :أك?ثر من ذل?ك ،وق?د تن?وزع
في???ه،فمنهم من رأى أن???ه أخ لكي???ومرث بن آدم ،ومنهم من رأى أن???ه ول???د المل???ك
الماضي.ثم? ملك بعده طهمورث بن نوبجهان بن أرفخشذ بن أوش??هنج ?،وك??ان ي??نزل?
سابور ،وظهر في سنة من ملكه رج?ل ُيق?ال ل?ه بوداس?ف أح?دث م?ذاهب الص?ابئة?،
وقال :إن معالي الشرف الكامل ،والصالخ الشامل ،ومعدن الحياة ،في ه??ذا الس??قف
المرفوع ،وإن الكواكب هي المدبرات والواردات والصادرات ،وهي ال??تي بمروره??ا
في أفالكها وقظعها مسافاتها واتصالها بنقطة وانفصالها عن نقطة يتم ما يكون في
صفحة 126 :
العالم من اآلثار :من امتداد األعمار وقصرها ،وترك البسائط ،وانبس??اط المركب??ات،
وتتميم الصور ،وظهور المياه َ
وغ ْيضها ،وفي النجوم السيارة وفي أفالكه??ا الت??دبير
األك??بر ،وغ??ير ذل??ك مم??ا يخ??رج وص??فه عن ح??د االختص??ار واإلِيج??از ،واحت??ذى ب??ه
جماع??ة من ذوي الص??عف في اآلراء.؛فيق??ال :إن ه??ذا الرج??ل أول من أظه??ر آراء
الصابئة? من الحرانيين والكيماريين ،وه??ذا الن??وع من الص??ابئة? مب??اينون للحران??يين
في ن ِْح َلتهم ،ودي??ارهم بين بالد واس??ط والبص??رة من أرض الع??راق نح??و البط??ائح
واآلجام ،فكان ملك طهمورث إلى أن هلك ثالثين سنة ،وقيل غير ذلك.
جمشيد
ثم ملك بعده أخوه جمشيد ،وكان ينزل بفارس ،وقيل :إنه ك?ان في زمن??ه طوف??ان،
وذهب كثير من الناس إلى أن النيروز في أيامه أحدث وفي ملكه رسم ،على حس??ب
ما نورده فيما يرد من هذا الكتاب ،كذلك ذكر أبو عبيدة َم ْع َم?ر بن المث?نى عن عم?ر
المعروف بكسرى ،وكان هذا الرجل ممن أشتهر بعلم ف??ارس وأخب??ار ملوكه??ا ح??تى
لقب بعمر كسرى ،وكان مل??ك جمش??يد إلى أن هل??ك س??تمائة س??نة ،وقي??ل :تس??عمائة
س??نة وس??تة أش??هر ،وأح??دث في األرض أنواع??ا ً من الص??ناعات واألبني??ة والمهن
وادعى اإِل لهية.
بيوراسب
ثم ملك بعده بيوراسب بن أروادسب بن رستوان بن ني??اداس بن ط??اع ابن ق??روال
بن ساهر فرس بن كيومرث ،وهو كذلك ،وقد عربت أسماؤه جميعا ً فسماه ق??وم من
العرب اِلضحاك ،وسماه قوم بهراسب وليس هو كذلك ،وإنما اسمه على ما وص??فنا
بيوراسب ،وقتل جمشيد الملك ،وق??د تن??وزع في??ه :أمن الف??رس ك??ان أم من الع??رب.
فزعمت الفرس أنه منها ،وأنه كان ساحراً ،وأن??ه مل??ك األق??اليم الس??بعة ،وأن ملك??ه
كان ألف سنة ،وبغى في األرض وتمرد ،وللفرس فيه خطب طويل ،وأنه مقيد مغلل
في جبل دباوند بين الري وطبرستان ،وقد ذكرته? شعراء العرب ممن تق??دم وت??أخر،
وقد افتخر أبو نواس به ،وزعم أنه من اليمن .ألن أبا نواس م??ولى لس??عد العش??يرة
الض ّحا ُك َت ْع ُبده الجامل والوحش في مساربها
من اليمن ،فقال :وكان ِم ِّنا َ
تقصده النصارى واليهود في أوق?ات من الس?نة في أعي?ادهم ،وإذا أش?رف اإِل نس?ان
على هذه القرية تبين فيها آثاراً عظيمة من ردم وهدم وبنيان قد صارت ك??الروابي،
وذهب كثير من الناس إلى أن بها هاروت وم?اروت ،وهم?ا الملك?ان الم?ذكوران في
الق??رآن على حس??ب م??ا قص هّللا تع??الى من تس??مية ه??ذه القري??ة بباب??ل ?.وك??ان ُمل??ك
أفريدون خمسمائة? سنة ،وقيل :أقل من ذلك ،وقيل :أك??ثر ،وقس??م األرض بين ول??ده
الثالثة ،وقد قال في ذلك بعض الشعراء ممن سلف :من أبناء الف??رس بع??د اإِل س??الم
يذكر ولد أفريدون الثالثة:
ضـ ْم
ظـهـرو َ
َ اللَّ ْحـم عـلـى سمناملكنافي دهرنـا قـسـمة َو َق َ
مغرب الشمس إلى الغطريف سلم وجعلنـا الـشـام والـروم إلـى
فبالدالترك يحـويهـا ابـن عـم وأطـوج جـعـل الـتـرك لـه
وإِل يران جعلنا عـنـوة فارس الملك وفزنابالنعم وللناس فيما ذكرن?ا خطب طوي?ل،
وأن بالد بابل أضيفت إلى ولد أفريدون وهو إيراج ،و َق َتله أخوه في حياة أفري??دون،
وهلك ،ولم يخلص له الملك فيعدَّ في ملوك.وسنذكر? فيما يرد من هذا الكت??اب كيفي??ة
إضافة هذا اإِل قليم إلى إي??راج وإس??قاطهم الجيم ،وجعلهم الن??ون ب??دالً منه??ا ،فق??الوا:
إيران شهر ،والشهر :الملك.
ملك فراسياب
ثم مل??ك بع??ده فراس??ياب بن أط??وج بن ياس??ر بن رامي بن آرس بن ب??ورك ابن
ساساس??ب بن زسس??ت بن ن??وح بن دوم بن س??رور بن أط??وج بن أفري??دون المل??ك،
وك???ان مول???د فراس???ياب ببل???د ال???ترك؛ فل???ذلك غل???ط من غل???ط من أص???حاب الكتب
والتصنيفات في التاريخ وغيره فزعم أنه ت??ركي ،وك??ان تملك??ه على م??ا غلب علي??ه
من البالد اثنتي عشرة سنة ،وعم??ره عن??د كث??يرمن الن??اس أربعمائ??ة س??نة.والثن??تي?
عشرة س??نة خلت من ملك??ه ظه??ر علي??ه زوبن بهاس??ت بن كمجه??ورابن عداس??ة بن
راي??ريج? بن ماس??ربن ي??ود بن من??وجهر المل??ك ،فهزم??ه وقت??ل أص??حابه بع??د ح??روب
وع َّمر ما َخ َّربه براسياب.وقد تنوزع في المقدار الذي مل??ك في??ه :فقي??ل ثالث كثيرةَ ،
سنين ،وقيل أكثر من ذلك ،وكان مسكنه ببابل ،وللفرس كالم طويل في قتل
صفحة 128 :
فراس??يان ،وكيفي??ة قتل??ه وحروب??ه ،وم??ا ك??ان بين الف??رس وال??ترك من الح??روب
والغارات ،وما ك??ان قت??ل س??ياوخس وخبررس??تم بن دس??تان ،ه??ذا كل??ه مش??روح? في
الكت??اب الم??ترجم بكت??اب الس??كيكين ترجم??ة? ابن المقف??ع من الفارس??ية األولى إلى
العربية ?،وخبر اسفنديار بن كشتاشب بن بهراسب وقتل رستم بن دس??تان ل??ه ،وم??ا
ك??ان من قت??ل بهمن بن إس??فنديار لرس??تم ،وغ??ير ذل??ك من عج??ائب الف??رس األولى
وأخبارها ،وه?ذا الكت?اب تعظم?ة الف?رس .لم?ا ق?د تض??من من خ??بر أس?الفهم وس?ير
ملوكهم ،وقد أتينا بحمد هّللا على كثير من أخبارهم فيما س??لف من كتبن??ا.وق??د قي??ل:
إن أول من نزل من الملوك ب َب ْل َخ وانتقل عن العراق كيكاووس وق?د ك?ان س?ار نح??و
اليمن بعد أن كان له بالعراق َت َمرد على هّللا ،وبنيان بناه لحرب الس??ماء وك??ان مل??ك
اليمن الذي سار إليه كيكاووس في ذلك الوقت ش??مر بن ف??ريقس فخ??رج إلي??ه ش??مر
فأسره وحبسه في أضيق محبس ،ف َه ِو َي ْت ُ?ه ابنه لشمريقال له??ا س??عدى ك??انت تحس??ن
إليه في خِف َية من أبيها ،وإلى من كان معه من أص??حابه ،،ومكث في محبس??ه أرب??ع
سنين ،حتى أس??رى رس??تم بن دس??تان من بالد سجس??تان س??رية? فيه??ا أربع??ة االف،
ورده إلى ملك??ه ،وس??عدى فقت??ل مل??ك اليمن ش??مر بن ف??ريقس واس??تنقذ كيك??اووسَ ،
تلت عليه ،وأغرت??ه بول??ده س??ياوخش ،ح??تى ك??ان من أم??ره م??ع فراس??ياب معه ،فا َع ْ
التركي ما قد شهر من استئمانه إلي?ه وتزوج?ه بابنت??ه ح?تى حملت من?ه بكيخس?رو،
وم??ا ك??ان من قت??ل فراس??ياب لس??ياوخش بن كيك??اووس ،وقت??ل رس??تم بن دس??تان
لسعدى ،وأخذه بطائلة سياوخش ،فقتل من ،قتله وجوه ال??ترك ،وعن??د الف??رس على
ما في كتاب السكيكين أن كيخسرو كان قبله على الملك ج??ده ألبي??ه ،وهوكيك??اووس
ولم يعلم ممن هو ولم يكن لكيخسرو عقب؛فجعل الملك في بهراسف ،وهؤالء القوم
كانوا يسكنون بلخ ،وكانت دار مملكتهم ،وكان يدعي نهر بلخ وهو جيح??ون بلغتهم
كالف ،وكذلك يسميه? كثير من أعاجم خراسان في هذا الوقت بهذا االسم.فلم يزال??وا
ك???ذلك إلى أن ص???ار المل???ك إلىح???اي ابن???ة بهمن بن إس???فنديار ابن يستاس???ف بن
بهراسف ،فانتقلت إلى العراق ،وسكنت نحو المد ائن .
لهراسب
ثم كان بعد كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس الملك إلى لهراس??ب بن قن??وج بن
كيمس بن كيناس??س بن كيناس??ة بن كيقب??اذ المل??ك ،فعم??ر البالد ،وأحس??ن الس??يرة
لر َعيته ،وشملهم عدله.
ش َتتهم في البالد ،وكانت له ولسنين خلت من ملكه نال بني إسرائيل منه م َِحنٌ َ ،و َ
معهم أقاصيص يطول ذكرها.وذكر في بعض الرواي??ات من أخب??ار الف??رس أن??ه ب??نى
بلخ الحسناء لما فيها من المياه والشجر والمروج.وكان ملكه مائة وعشرين سنة،
وقد ذكر خبر مقتله مع الترك وما كان منهم في حصاره َو َمنْ أخ??ذ بث??أره بع??د قتل??ه
في كتب قدماء الفرس.
بخنتصر
وقد ذكر كثير ممن ُعني بأخبار الفرس أن بختنصر? َم ْر ُزبان العراق والمغرب كان
من ِق َب??ل ه??ذا المل??ك ،وه??و ال??ذي وطىء الش??ام ،وفتح بيت المق??دس ،وس??بى ب??ني?
إسرائيل ،وكان من أم??ره بالش??ام والمغ??رب م??ا ق??د اش??تهر ،والعام??ة تس??ميه? البخت
ص ?اص يغ??الون في أخب??اره ،ويب??الغون في وص??فه، ناص??ر ،وأك??ثر اإِل خب??اريين والقُ َّ
والمنجمون في زيجاتهم وأهل التواريخ في كتبهم يجعلونه ملكا ً برأسه ،وإنما ك??ان
َم ْر ُزبابا ً على ما وصفنا للملوك ممن ذكرنا ،وتفسير مرزبان ي??راد ب??ه ص??احب ُر ْب??ع
مات المملكة وقائد عسكر ووزير وصاحب ناحية من الن?واحي ،وواليه?ا ،وق?د ك?ان
حمل سبايا بني إسرائيل إلى الشرق ،وتزوج منهن امرأة يق??ال له??ا دين??ارد ،فك??انت
س??بب َر َد ب??ني إس??رائيل إلى بيت المق??دس.وقي??ل ?:إن دين??ارد أول??دها َ لهراس??ب بن
كشتاس??ب ،وقي??ل غ??ير ذل??ك من الوج??وه ،وإن حماي??ة من نس??ل ب??ني إس??رائيل من
أمها.وقيل :إن بهراسف قد كان أ ْنف َذ سنجاريب وكان خليفته على العراق إلى حرب
بني إسرائيل فلم يصنع شيئاً ،فعقب بعده بالبخت نصر ،وقيل في البحث نص??ر غ??ير
م??ا ذكرن??ا مم??ا س??نورده بع??د ه??ذا الموض??ع في ذك??ر مل??ك بهمن بن إس??فنديار بن
يستاسف? بن بهراسف.وقد أرخ بطليموس صاحب كتاب المجسطي تاريخ كتابه من
وأر َخ ثاون صاحب كتاب الق?انون في النج??وم من عهد بخت نصر َم ْر ُزبان المغربَّ ،
مملكة اإلِسكندر بن فيلبس المقدوني.
زرادشت المجوسي
ثم ملك بعده ابنه يستأسف ،وكان منزله بلخ ،ولثالثين سنة? خلت من ملك??ه أت??اه
زرادشت بن أسبيمان ،وقيل :إنه زرادشت بن بورشف? بن فذراس??ف بن أريكدس??ف
بن هجدسف بن ححيش بن باتير بن أرح??دس بن ه??ردار بن أس??بيمان بن واندس??ت
بن ه??ايزم بن أرج بن دورش??رين بن منوش??هر? المل??ك ،وك??ان من أه??ل أذربيج??ان،
واألش??هر من نس??به أن??ه زرادش??ت بن أس??بيمان ،وه??و ن??بي المج??وس ال??ذي أت??اهم
بالكتاب المعروف بالزمزمة عند عوام الن??اس ،واس??مه عن??د المج??وس بس??تاه وأتى
زرادشت عندهم بالمعجزات الباهرات للعقول ،وأخبر عن الكائنات من المغيبات قبل
حدوثها من الكلي??ات والجزئي??ات ،والكلي??ات :هي األش??ياء العام??ة ،والجزئي??ات :هي
األشياء الخاصة ،مثل زيد يموت يوم كذا ،ويمرض فالن في وقت كذا ،ويولد لفالن
في وقت كذا ،وأشباه ذلك ،ومعجم ه??ذا الكت??اب ي??دور على س??تين حرف?ا ً من أح??رف
المعجم ،وليس في سائر اللغ?ات أك??ثر حروف?ا ً من ه?ذا ،ولهم خطب طوي?ل ق?د أتين?ا
على ذكره في كتابينا أخبار الزمان والكت??اب األوس??ط ،وأتى زرادش??ت بكت??ابهم ه??ذا
بلغة يعجزون عن إيراد مثلها ،وال يدركون كنه مرادها ،وسنذكر بعد ه??ذا الموض??ع
من هذا الكتاب ما أتى ب??ه زرادش??ت ،وم??ا جع??ل ل??ه من التفس??ير وتفس??ير? التفس??ير،
وكتب هذا الكتاب في أثني عشر ألف مجلد بالذهب ،فيه وعد ووعيد ،وأم??ر ونهي،
وغير ذلك من الشرائع والعبادات فلم تزل الملوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد
اإِل سكندر وما كان من قتله لدارا بن دارا ،فأحرق اإِل سكندر بعض هذا الكتاب.ثم
صفحة 130 :
صار الملك بعد الطوائف إلى أردشير بن بابك ،فجمع الفرس على قراءة سورة منه?
يقال لها إسناد؛ فالفرس والمجوس إلى هذا الوقت ال يقرؤن غيرها ،والكتاب األول
يسمى بثناه.ثم عمل زرادشت تفسيراً عند عجزهم عن فهمه ،وس َموا التفسير زنداً،
عمل للتفسير تفسيراً ،وسماه بازند ،ثم عمل علماؤهم بعد وفاة زرادشت تفسيراَِ ثم
لتفسير التفسير وشرحا ً لسائر ما ذكرنا ،وسموا هذا التفسير ب??ارده ف??المجوس إلى
هذا الوقت يعجزون عن حفظ كتابهم المنزل ،فص??ار علم??اؤهم َو َم َواب??ذتهم يأخ??ذون
كثيراً منهم بحفظ أسباع من هذا الكتاب وأرباع وأثالث ،فيبتدء كل واح??د بم??ا حف??ظ
من جزئه فيتلوه،ويبتدء الثاني منهم فيتلو ج??زأ آخ??ر ،والث??الث ك??ذلك ،إلى أن ي??أتي
الجميع على قراءة سائر الكت??اب لعج??ز الواح??د منهم عن حفظ??ه على الكم??ال ،وق??د
كانوا يقولون :إن رجالً منهم بسجستان بعد الثالثمائة مس??تظهر بحف??ظ ه?ذا الكت?اب
على الكمال.وكان ملك يستاسف إلى أن تمجس ثم هلك عشرين ومائة سنة ?،وكانت
مدة نبوة زرادشت فيهم خمسا ً وثالثين سنة ،وهلك وهو ابن سبع وسبعين سنة..
وأهل البيوتات منهم ،وما وس?م ب?ه ك?ل فري?ق منهم ،من ،الش?هارجة وغ?يرهم :أن
أول ملك من ملوك الطوائف أشك بن أشك بن أردوان بن أشغان بن آس الجب??ار بن
سياوش بن كيقاوس الملك عشرين سنة ،ثم ملك بعد أش??ك س??ابور بن أش??ك المل??ك
ستين سنة?.
ظهور المسيح
وفي إح??در وأربعين من مملكت??ه ك??ان ظه??ور الس??يد المس??يح علي??ه الس??الم ببالد
فلسطين بإيليا ،ثم ملك جودرز بن أشك بن أردوان بن أشغان عشر سنين ،ثم مل??ك
نيزر? بن سابور الملك بن أشك الملك إح??دى وعش??رين س??نة ،وقي??ل :إن??ه في أيام??ه
?أربعين
ِ سار توس بن أسفانيوس ملك رومية إلى إيليا ،وذلك بعد ارتف??اع المس??يح ب?
سنة ف َق َتل َ وأسر وسبى وخرب ثم ملك بع??د ن??يزر بن س??ابور ابن??ه ج??ودرز بن ن??يزر?
تسع عشرة سنة ،ثم ملك بعد جودرز نرس بن نيزر أربعين سنة ثم ملك بعده أخوه
هرمز بن نيزر عشرين سنة ?،ثم ملك أردوان بن هرمزبن نيزرخمس عش??رة س??نة،
ثم ملك بعد أردوان ابنه كسرى بن أردوان أربعين س??نة ،ثم مل??ك بع??د كس??رى ابن??ه
وعش?رين س??نة ،ثم مل?ك بع?د بالس ابن??ه أردوان بن بالس َ بالس بن كس??رى أربع?ا ً
ثالث عشرة سنة.
قال المسعودي :فهذا وجه آخر غير ما قدمنا ذكره ،وقد قيل في تاريخ سني ملوك
الطوائف غير ما وصفنا ،وإن مدتهم كانت أق?ل مم?ا وص?فنا ،واألول أش?هر وأض?ح
في مقدار ما ملكوا من السنين ،مع تباين التواريخ واختالفها وتضاد ما فيها ،غ??ير
س? َلف أن الذي حكيناه ما أخذناه من علماء الف??رس ،وهم يراع??ون من ت??واريخ من َ
ما ال يراعيه غيرهم ألن الفرس تدين بما وصفنا ق??والً وعمالً ،وغ??يرهم من الن??اس
يقول ذلك قوالً وال ينقاد إليه عمالً لتباين أه??ل الش??رائع ،وق??د أتين??ا فيم??ا س??لف من
كتبنا على الغرر من أخبار الطوائف وسيرهم وباهلل التوفيق.
وق??د زعم ق??و َم أن الف??رس من ول??د ل??وط من ابنتي??هُ ?،زهَى َو َر ْع? وى ،وألص??حاب
التوراة في هذا خبر طويل ،وذكر آخرون أنهم من ول??د َب? َ?وان بن إي??ران بن األس??ود
ب َبوان من بالد فارس ،وه??و بن سام بن نوحَ ،وبوان هذا هو الذي ينسب إليه شِ ْع ُ
وتدفق المياه ،وك??ثرة
ِ أحد المواضع المشهورة في العالم بالحسن ،وكثرة األشجار،
أنواع األشجار ،وقد ذكره بعض الشعراء فقال:
َ
فث َّم ُن ْلقي ْأر ُح??? ل َ النجـائب ف???وادي ال???راهب
ب???وان َ
فش???عب َّ
ومنهم من رأى أن الفرس من ول??د إي??ران بن أفري??دون ،وق??د ق??دمنا في ص??در ه??ذا
الكتاب أخبار ولد أفريدون حين قسم األرض بينهم ،وم??ا قال??ه الش??اعر في ذل??ك من
قوله:
ف????ارس المل????ك وفزناب????النعم وإلِي????ران جعلن????ا عـنـوة
الفرس أي??رج إذا عرف??وا اس??مه ،وال تن??اكر
ُ فأضيف الفرس إلى ذلك ،وإيران تسمية
بين الفرس جميع?ا ً في أنه?ا من ول?د أي??رج جميع?اً ،وأي?رج ه??و إي?ران بن أفري?دون
ه??ذاهو المس??تفيض بينهم ?،واألغلب عليهم :أنهم من آلي أي??رج ،ومن الن??اس من
ذهب إلى أن سائر أجناس الفرس وأهل كور األهواز من ولد عيالم ،وال خالف بين
الفرس في أن الجميع منهم من ولد كيومرث وهذا هو األشهر ،وكيومرث ه??و قب??ل
أيرج بن أفريدون ،وأيرج بن أفريدون هو الذي ترجع إليه فارس من ولد كي??ومرث
ومن الن??اس من ذهب إلى أن الف??رس الثاني??ة وهم الساس??انية? دون من س??لف من
الفرس األولى هم من ولد منوش??هربن أي??رج بن أفري??دون ،ومنهم من ذهب إلى أن
منوشهر هو ابن مشجر بن ويرك ،وويرك ه?و إس?حاق بن إب?راهيم الخلي?ل ،وس?ار
مش??جر إلى أرض ف??ارس ،وك??ان به??ا ام??رأة متملك??ة ُيق??ال له??ا ك??ورك ابن??ة أي??رج،
فتزوجها ،فولدت له منوشهر الملك ،وك??ثر ول??ده ،فملك??وا األرض ،وغلب??وا عليه??ا،
وه??ابتهم المل??وك لم??ا هم علي??ه من الش??جاعة والفروس??ية ?،ودث??رت الف??رس األولى
كدثور األمم الماضية والعرب العاربة.
قال المسعودي :وأكثر حكماء العرب من نزار بن معد يقول هذا ،ويعمل علي??ه في
َبدء النسب ،وينقاد إليه كثيرمن الفرس ،وال ينكرون??ه ،وق??د ذكرت??ه ش??عراء الع??رب
من نزار بن معد ،وافتخرت على اليمن من قحطان بالفرس ،وأنها من ولد إس??حاق
?دوي ع??دي بن إبراهيم الخليل عليهما الس??الم ،فق??ال في ذل??ك إس??حاق بن س??ويد الع? ّ
قريش:
وأسـودا أتى فخرنا أعلى عليهـا ْ إذا افتخرت َق ْحطان يوما ً بـسـؤد ٍد
الدهرأع ُب َدا
ْ وصاروا لنا غرما ً على ملكناهم َب ْلداً بإسـحـاق عـمـنـا
فأمالكهم كانـوا ألمـالكـنـا يدا فإن كان منهم ُت َّبـع وابـن تـبـع
أب ال يبالي بعـده مـن تـفـردا ٌ ـرأبـنـاء سـارة ويجمعنا والـ ُغ َّ
وهم منح??وهم بعـد ذلـك سـؤددا هم َملّكوا شرقا ً وغرب?ا ً ملوكـهـم
الخطفي التميمي يفخ??ر على قحط??ان ب??أن الف??رس َ وفي ذل??ك أيض ?ا ً يق??ول جري??ربن
والروم من أوالد إسحاق ،واألنبياء من ول??د يعق??وب بن إس??حاق بن إب??راهيم عليهم
السالم ،من كلمة طويلة يقول فيها:
الـسـنـو َرا
َّ حمائل موت البسين وأبناء إسحاق اللـيوث إذا ار َت ْ
ـدوا
وكسرى و َعدوا الهر ُم َزانَ وقيصرا إذا افتخروا عحوا الصبهبذ منـهـ ُم
ـراإص َط ْخ َر الملوك َو ُت ْس َت َ
وكانوا ِب ْ وكان كتاب ال ّلـه فـيهـم ونـوره
فأعطِ َي بنيانا وملـكـا ً مـقـدراً ْ النبـي الـذي دعـا
ُّ ومنه ْم سليمان
أب كان مهد ّيا ً نبـيا ً مـطـهـرا ٌ أبونا أبوإسحاق ،يجمـع بـينـنـا
فأورثنا عزاً وملكـا ً مـعـمـرا بني قِ ْب َلة هّللا التي ُي ْهـ َتـدى بـهـا
وأ ْن َب َت زرعا دمع عينيه أخضـرا وموسى وعيسى والني خرساجـداً
وكان ابن يعقوب نبياًمـطـهـرا ويعقوب منهم ،زاده هّللا حـكـمة
أب ال يبالي بعـده مـن تـأخـرا والـغـرأبـنـاء فـارس
َّ ويجمعنا
رضينا بما أعطى اإِل لـ ُه وقـدرا أبونا خليل اللّـه ،والـلـه ربـنـا
وقال أحد شعراء الفرس يذكر أنه من ولد إسحاق ،وأن إسحاق هو المسمى ويرك،
على حسب ما قدمنا قبل ،من كلمة له:
ق??ال المس??عودي :وق??د افتخ??ر بعض أبن??اء الف? ْ?رس بع??د التس??عين والم??ائتين بج??ده
إس??حاق بن إب??راهيم الخلي??ل ،على ول??د إس??ماعيل ،ب??أن ال??ذبيح? ك??ان إس??حاق دون
إسماعيل ،فقال من كلمة له:
ما هذه الكبرياء والعظمة قلْ لبني هاجرأ َب ْن ُ
ـت لـكـم
ألمنا سارة الجـمـال أ َمـ ْه ألم تكن في القـديم أمـكـم
توجدُوا َظلمهْ
إن ُت ْنك ِِروا ذاك َ وال ُم ْل ُك فينا واألنبـياء لـنـا
إسحاق كان الذبيح ،قد أجمع الناس عليه إال ادع??اء لم??ه ح??تى إذا م??ا محم??د أظه??ر
الدين وجلى بنوره الظلمه قلتم:
أصل لنا ،إن كنتم بـنـيه فـ َمـه قريش األحـسـاب مـفـخــرة
أسكنـه الـلـه آمـتـاًحـرمـه أمابنويعـرب فـلـيسـواكـمـن
األج َم ْه
في األرض مثل األسودفي َ وال كـأبـنـاء فـارس ،وهُــ ْم
وهي قصيدة طويلة ،ذكر فيها كالما ً كثيراً لم يس??عنا ذك??ره ،وق??د أجاب??ه عب??د هّللا بن
المعتز .وكان قائل هذه القصيدة في عصره ،و ُع ِّمر إلى أن مضت الثلثمائة ،يناقضه
في أبيات منها فمن ذلك قوله:
من ذا الشقي الذي أباح د َم ْه أسمع صوتا ً وال أرى أحـداً
أباً ،وإن كنتم بنـيه فـ َم ْ
ـه حاشا إلِسحاق أن يكون لكـم
ق??دفغرالليث للف??راس فمـه ق??والًلكلب ي??رى لبطـشـتـه
والفرس ال تنقاد إلى القوك بأن ال ُم ْل َك كان فيها ألحد غ??ير ول??د أفري??دون في عص??ر
من األعصار فيما سلف وخل??ف إلى أن زال عنهم المل ? ُك ،إال أن يك??ون دخ??ل عليهم
داخل على طريق الغصب بغير حق.
وكانت الف??رس ته??دي إلى الكعب??ة أم??واالً في ص??در الزم??ان ،وج??واهر،وق??د ك??ان
ساسان بن بابك هذا أهدى غزا َل ْي ِن من ذهب وج??وهراً وس??يوفا ً وذهب?ا ً كث??يراً فقذف??ه
في زمزم وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذل??ك
كان لجرهم حين كانت بمكة ،وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذل??ك إليه??ا ،ويحتم ?ل?
أن يكون لغيرها ،وهّللا أعلم.وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب ما ك??ان من فع??ل عب??د
المطلب بهذه األسياف وغيرها مما أودع في زمزم.
وللناس في ه?ذه األنس?اب تن?ازع في َب?دْ ئها وتش?عبها ،وق?د ذكرن?ا من ذل?ك جمالً،
وأوردنا منه جوامع يكتفي ذوالمعرفة باإِل شراف عليها عن كثير من مبسوطها.
أردشير بن بابك
ك?ان أول من نس?ب إلي?ه مل?وكهم على حس?ب م?ا ق?دمنا في الب?اب ال?ذي قب?ل ه?ذا
أردشير بن بابك شاه بن ساسان بن بابك بن ساسن بن بهاوند بن دارا بن ساس??ان
بن بهمن بن إس??فنديار بن يستاس?ف? بن بهراس??ف على حس??ب م??ا ق??دمنا من نس??ب
بهراسف ،وقيل :إن?ه أردش?ير بن باب?ك بن ساس?ان ألص?غربن باب?ك بن ساس?ان بن
بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن بن إسفنديار بن يستاس??ف بن بهراس??ف وال
خالف بينهم في أن أردشير من ولد منوشهر ،وكان مم??ا حف??ظ من قول??ه ي??وم َم َل? َك
وقتل أردوان وفرغ من ملوك طوائف ووضع الت??اج على رأس??ه أن ق??ال :الحم??د هلل
ضنا بنعمه ?،شملنا بفوائده وقسمه ،ومهد لنا البالد ،وقاد إلى طاعتن??ا العب??اد الذي خ َ
نحمده حمد من عرف فضل ما آتاه ،ونشكره شكر الداري بما منح??ه واص??طفاه ،أال
وإناساعون في إقامة منازل العدل ،وإدرار الفضل ،وتش??ييد? الم??آثر،وعم??ارة البالد،
وردِّ ما انخرم في س??ائر األي??ام منه??ا ،فليس??كن والرأفة بالعبادَ ،و َرم أقطار المملكةَ ،
?وي والض??عيف ،وال??دنيء والش??ريف?، ط??ائركم ،أيه??ا الن??اس ،ف??إني أ ُع ُّم بالع??دل الق? ّ
وأجع??ل الع??دل س??نة? محم??ودة ،وش??ريعة مقص??ودة ،وس??تردون في س??يرتنا إلى م??ا
تحمدوننا عليه ،وتصدق أفعالنا أقوالنا ،إن شاء هّللا تعالى ،والسالم.
قال المسعودي :وأردشير بن بابك المتقدم في ترتيب? طبقات القدماء ،وبه اقتدى
المت??أخرون من المل??وك والخلف??اء ،وك??ان ي??رى أن ذل??ك من السياس??ة ،ومم??ا ي??دعم
عمود الرياسة؛ فكانت طبقات خاصته ثالثاً :األولى األساورة وأبناء المل??وك ،وك??ان
مجلس هذه الطبقة عن يمين الملك ،على نحو من عش??رة أذ ُر ٍع ،وهم بطان??ة المل??ك
وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم ،وكانت الطبقة الثانية على مقدار عش??رة
أذرع من األولى ،وهم وج?وه ا ْل َم َرازب?ة? ومل??وك الك??ورا والمقيم??ون بب??اب أردش?ير،
والمرازبة وهم اإِل صبهبذية ممن كانت مملكة الكور في أيامه ،والطبقة الثالثة كانت
رتبتها على قدر عشرة أذرع من حد مرتبة? الطبقة الثانية ?،وأهل هذه الطبقة
المضحكون وأهل البطالة والهزل ،غير أنه لم يكن في هذه الطبق??ة الثالث??ة خس??يس
األصل ،وال وضيع الق?در ،وال ن?اقص الج?وارح ،وال ف?احش الط?ول أو القص?ر ،وال
َمؤُ ف ،وال مرمي بأبن??ة ،وال ابن في ص??ناعة دنيئ??ة ك??ابن حائ??ك أو َح َّجام ،ولوك??ان
يعلم الغيب أوحوى كل العلوم مثالًوك??ان أردش??ير يق??ول :م??ا ش??يء أض??ر على نفس
ملكٍ أو رئيس أوذي معرفة صحيحة من معاشرة س??خيف أو مخالط??ة وض??يع .ألن??ه
كما أن النفس تصلح على مخالطة الشريف األريب الحسيب ،ك??ذلك تفس??د بمعاش??رة
الخسيس ،حتى يقدح ذلك فيها ،ويزيلها عن فضيلتها ،ويثنيها عن محم??ود ش??ريف
أخالقها ،وكما أن الريح إذا مرت بالطيب حملت طيبا ً تحيا ب?ه النف?وس وتتق?وى? ب?ه
جوارحها ،كذلك إذا مرت بالنتن فحملته ألمت ب??ه النفس ،وأض??ر بأخالقه??ا إض??راراً
تاماً ،والفساد أسرع إليها من الصالح .إذ كان الهدم أس??رع من البن??اء ،وقديج??د ذو
المعرفة في نفس?ه عن?د معاش?رة الس?فلة الوض?عاء ش?هراً فس?ا َد عقِلِ?ه ده?راً.وك?ان
أردشير يقول :يجب على الملك أن يكون فائض العدل ،فإن في العدل جماع الخ??ير،
وتخرم?ه ?،إن أول مخاي?ل اإِل دب?ار في المل?ك
ِ وهو الحصن الحص?ين من زوال المل?ك
ذهاب العدل منه ،وأنه متى خف َقت رايات الجور في ديار قوم كافحتها عق??اب الع??دل
فردته??ا على العقب ،ييس أح??د ممن يص??حب المل??وك ويخ??الطهم أولى باس??تجماع
محاسن األخالق و فضائل اآلداب وظرائف الملح وغ??رائب النت??ف من الن??ديم ،ح??تى
ساك مجون ليحتاج أن يكون له مع شرف الملوك تواضع العبيد ،ومع عفاف ال ُّن ّ إنه ْ
الفتاك ،ومع وقار الشيوخ مزاح األحداث ،وكل واحدة من ه??ذه الخالل ه??و مض??طر
إليها في حال ال يحسن أن يجلب غيرها وإلى أن يجتمع له من قوة الخاطر ما يفهم
به ضمير الرئيس الذي ينادمه ،على حسب ما يبل?وه من خالئق?ه ،وبعلم من مع?اني
لحظه وإشاراته ما يعينه? على شهوته،ال يكون نديمأ حتى يكون له جمال وم??روءة؛
فأما جماله فنظافة ثوبه ،طيب رائحته ،وفصاحة لسانه ،وأما مروءته فكثرة حيائ ? ِه
في أنبساطه إلى الجميل ،ووقاره في مجلسه ،مع طالقة وجه??ه في غيرس??خف ،وال
يستكمل? المروءة حتى يسلوعن اللذة.
ورتب أردشير المراتب فجعلها سبعة أفواج :فأولها الوزراء ،ثم الموب??ذان وه??و
القائم ب??أمور ال??دين ،وه??و قاض??ي القض??اة ،وه??و رئيس المواب??ذة ،ومعناه??ا القُ? َّ?وام
بأمور الدين في سائر المملكة ،والقضاة المنصوبون لألحكام ،وجع??ل اإِل ص??بهبذيين
أربع??ة :األول بخراس??ان ،والث??اني ب??المغرب ،والث??الث ببالد الجن??وب ،والراب??ع ببالد
الشمال ؛ فهؤالء األربعة هم أصحاب تدبير? الملك ،ك??ل واح??د منهم ق??د أف??رد بت??دبير?
جزء من أجزاء المملكة ،فكل واحد منهم صاحب ربع منها ،ولكل واح??د من ه??ؤالء
َم ْر ُز َبان ،وهم خلفاء هؤالء األربع??ة ،ورتب أردش??ير الطبق??ات األربع??ة من أص??حاب
التدبير و َمنْ إليهم ِأز ّم ُة الملك وحض??ور المش??ورة في إي??راد األم??ور وإص??دارها ،ثم
رتب طبقات المغنين وسائر المطربين وذوي الصنعة بالموسيقى.فلم يزل على ذل??ك
َمنْ طرأ بعده من ملوك آل ساسان إلى بهرام جور فإنه قرر مراتب األشراف
صفحة 139 :
زهد أردشير
و َك َو َر أردشير بن بابك ُك َوراًَ ،و َمدَّ نَ ُم ُد َناَ ،وله عهد في أيدي الناس.ولما خال من
ملكه أربع عشرة سنة ،وقيل :خمس عشرة سنة ،واستقامت له األرض ،ومه??دها،
وصال على الملوك فانقادت إلى طاعته ،زهد في الدنيا ،وتبين له َع َوارها ،وما هي
عليه من الغرور والعناء ،وقلة المكث ،وسرعة الغِيلة منه??ا إلى َمنْ أمنه??ا ،ووث??ق
اع? َذ َ
وذب ضرارة خاتلة زائلة بائ??دة ،وم??ا ْ غرارة و َبها ،واطمأنَّ إليها ،وبان له أنها ّ
تمرر منها عليه ج?انب َو ْأوبى ورأى أن َمنْ ب?نى قبل?ه َ منها جانب المرىء َو َحالَ إال
صن الحصون وساق الجموع وكان أعظم جيشا ً وأشد جنوداً وأتم عديدأ وح ّ
المدائن ً
قد صار رميما ً هشيماً ،وتحت التراب مقيما ً فآثر التف??رد عن المملك??ة ،وال َّت ْرك له??ا،
واللحاق ببيوت النيران ،واالنفراد بعب??ادة ال??رحمن ،واألنس بالوح??دة ،فنص??ب ابن??ه
سابور لمملكت?هَ ،و َت ًو َج? ه بتاج?ه ،وذل?ك أن?ه رآه أرجح ول?ده حلم?اً ،وأكملهم علم?اً،
وأشدهم بأس?اً ،وأج??زلهم مراس?اً ،فع??اش بع??د ذل??ك في ح??ال تزه??ده ،وخل??وه برب??ه،
وكونه في بيوت النيران سنة ،وقيل شهراً ،وقي??ل :أك??ثر مم??ا ذكرن??ا.وأق??ام أردش??ير
اثنتي? عشرة سنة? يحارب ملوك الطوائف .فمنهم من يكاتبه? فينق??اد إلى ملك??ه رهب ?ة?
ص ْو لته ،ومنهم من يمتنع عليه فيسير إلى داره ويأتي عليه ،وكان آخر من قتل من َ
منهم ملكا ً للنبط بناحية سواد العراق اسمه بابا بن بردينا صاحب قصر ابن هبيرة،
صفحة 140 :
ثم أردوان المل??ك ،وفي ه??ذ الي??وم س??مي شاهنش??اه ،وهومل??ك المل??وك.وأ ُّم ساس??ان
األكبر من سبايا بني إسرائيل ،وهي بنت سانال ،وألردشيرابن بابك أخب??ار في ب??دء
ملك َه مع زاهد من زهادهم وأبناء ملوكهم ُيقال ل??ه بيش?ر? وك??ان أفالط??وني الم??ذهب
على رأي سقراط وأفالطون ،أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتينا على جميع ذل??ك في
كتابنا أخبار الزم?ان وفي الكت?اب األوس?ط ،م?ع ذك?ر س?يره وفتوح?ه ،وم?ا ك?ان من
أمره ،وألردشير بز بابك كت?اب يع??رف بكت??اب الكرن??امج في??ه ذك??ر أخب??اره وحروب??ه
ومسيره? في األرض وسيره.
من وصايا أردشير وكتبه
وكان مما حفظ من وصية أردشير البنه? سابور عند نصبه? إياه للملك أن قال له :يا
بني ،إن ال??دين والمل??ك أخ??وان ،وال غ??نى لواح??د منهم??ا عن ص??احبه ة فال??دين أس
حارس ?ه ،وم??ا لم يكن ل??ه أس??ر فمه??دوم ،وم??ا لم يكن ل??ه ح??ارس ُ المل??ك ،والمل??ك
?واص من أن??واع رعيت??ه َ فضائع.وكان مما حف?ظ من مكاتبات??ه أع?ني أردش?ير إلى خ?
وعماله :من أردشير بن بهمن ملك الملوك ،إلى الكت??اب ال?ذين بهم ت??دبير المملك??ة،
?راثوالفقهاء الذين هم عماد الدين ،واألس??اورة ال??ذين هم ُح ْم? اة الح??رب ،وإلى الح? َّ
الذين هم َع َم َرة البالد ،سالم عليكم ،نحن بحمد هّللا صالحون ،وقد رفعنا إتاوتنا عن
رعيتنا بفضل رأفتنا ورحمتنا ،ونحن كاتبون إليكم بوصية فاحفظوه??ا ال تستش??عروا
الحق??د فيكم في??دهمكم الع??دو ،وال تح ُّبوا االحتك??ار فيش??ملكم القح??ط ،وكون??وا ألبن??اء
س للرحم وأق??رب السبيل مأوى ترووا غداً في المعاد ،وتزوجوا في األقارب فإنه أ َم ُّ
للنسب ،وال تركنوا للدنيا فإنها ال تدوم ألحد ،وال تهتموا لها فلن يك?ون إال م?ا ش?اء
هّللا ،وال ترفض??وها م??ع ذل??ك ف??إن اآلخ??رة ال تن??ال إال به??ا.وكتب أردش??ير إلى بعض
عمال??ه :بلغ??ني أت??ك ت??ؤثر اللين على الغلظ??ة ،والم??ودة على الهيب??ة ،والجبن على
الج??راءة ،فليش??تد َّأولُ??ك ،وليلن آخ??رك ،وال تخلين قلب ?ا ً من هيب??ة ،وال تعطلن??ه من
مودة ،وال يبعد عليك ما أقول لك فإنهما يتجاوران.
هرمز وبهرام
ثم ملك بعد سابور ابنه هرمز بن سابور الملقب بالبطل ،وكان ملكه س??نة ،وقي??ل:
اثنين وعش??رين ش??هراً ،وب??ني مدين??ة رامهرم?ز? من ُك? َ?ور األه??واز.وكتب إلى بعض
عماله :ال يصلح لسد الثغور و َق ْود الجيوش وإبرام االمور وت??دبير? األق??اليم إال رج??ل
تكاملت فيه خمس خصال :ح??زم ي??تيقن ب??ه عن??د م??وارد األم??ور حق??ائق مص??ادرها،
التهور في المشكالت إال عند تجلي فرصتها ،وشجاعة ال تنقصها ُ وعلم يحجبه عن
الملمات بتواتر جوائحها ،وص??دق في الوع??د والوعي??د يو َث??ق بوفائ??ه بهم??ا ،وج??ود
يهون علي?ه بت?دبير األم??وال في حقه?ا.ثم مل?ك بع?ده به?رام بن هرم??ز ثالث س??نين،
وكانت له حروب مع ملوك الشرق.
الزنادقة
الثنوي??ة
َ وقد ذكرنا أن بهرام أتاه ماني بن يزيد تلميذ قاردون فعرض عليه مذاهب
فأجاب??ه احتي??االً من??ه علي??ه إلى أن أحض??ر دعات??ه المتف??رقين في البالد من أص??حابه
الذين َيدْ ُعون الناس إلى مذاهب الثنوي??ة فقتل??ه ،وقت??ل الرؤس??اء من أص??حابه ،وفي
أيام ماني هذا ظهر اسم الزندقة الذي إليه أض??يف الزنادق??ة ،وذل??ك أن الف??رس حين
أتاهم َز َر ادشت بن أسبيمان على حسب ما قدمنا من نسبهفيما سلف من هذا الكتاب
بكتابهم المعروف بالبس?تاه باللغ?ة األولى من الفارس??ية ،وعم??ل ل?ه التفس??ير ،وه??و
وعمل لهذا التفسير شرحا ً سماه البازند ،على حسب م??ا ق??دمنا ،وك??ان الزن??د ِ الزند،
بيانا َ لتأويل المتقدم المنزل ،وكان َمنْ أورد في شريعتهم شيئا ً بخالف المنزل ال??ذي
وعدَ ل إلى التأوي??ل ال??ذي ه??و الزن??د ،ق??الوا :ه??ذا زن??دي ،فأض??افوه إلى
هو البستاهَ ،
تأويل هو بخالف التنزيل ?،فلما
ٍ التأويل ،وأنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى
صفحة 142 :
أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس ،وقالوا :زنديق ،و ًعربوه ،والثنوي??ة?
هم الزنادقة ،ولحق بهؤالء سائر من اعتقد القدم ،وأبى حدوث العالم.
بهرام بن بهرام
ثم ملك بعده بهرام ،بن بهرام ،وكان ملكه س??بع عش??رة س??نة ،وقي??ل غ??ير ذل??ك،
صف واللذات والصيد والنزه??ة ،ال يفك??ر في ملك??ه ،وال وأقبل في أول ملكه على ال َق ْ
ينظرفي أمور رعيت??ه ?،وأ ْق َط? ع الض??ياع لخواص??ه و َمنْ الذب??ه منْ َخدم??ه وحاش??يته،
فخربت الضياع ،وخلت من ُع َّمارها ،وس??كنوا الض??ياع المتع??ززة ،فقلت العم??ارة إال
ما أقطع من الضياع ،وس??قطت عنهم المطالب??ة ب??الخراج بممايل??ة ال??وزراء َخ? َواص
مفوضا َ إلى وزرائه فخربت البالد ،وقلت العم??ارة وق??ل م??ا َ الملك ،وكان تدبير الملك
القوي من الجنود ،وهل??ك الض??عيف منهم ،فلم??ا ك??ان في ُ في بيوت األموال ،فضعف
بعض األيام ركب الملك إلى بعض منتزهاته وص?يده ،فجن?ه اللي??ل وه?و يس?ير? نح??و
المدائن ،وكانت ليلة َق ْمراء ،فدعا بالموب??ذان ألم??ر خط??ر ببال??ه فلح??ق ب??ه وس??ايره،
وأقبل على محادثته ،مستخبراً له عن سير أسالفه ،فتوسطوا في مس??يرهم خرب??ات
كانت من أمهات الضياع قد خ??ربت في مملكت??ه ،وال أنيس به??ا إال الب??وم ،وإذا ب??وم
يصيح? وآخر يجاوبه من بعض تلك الخربات ،فقال الملك للموبذان :أترى أح??داً من
الن??اس أعطى ف ْه َم منط??ق ه??ذا الط??ير المص??وت في ه??ذا اللي??ل اله??ادىء فق??ال ل??ه
الموبذان :أنا أيها الملك ممن قد خص??ه هّللا بفهم ذل??ك ،فاس??تفهمه المل??ك عم??ا ق??ال،
فأعلمه أن قوله صحيح ،فقال له :فما يقول هذا الطائر .وما الذي يقول الآلخر .قال
الموبذان هذا بوم ذكر يخاطب بومة ?،ويق??ول له?ا :أمتعي??ني من نفس??ك ح??تى يخ?رج
هللا ،ويبقى لنا في هذا العالم َعقِب يكثرون ذكرنا وال??ترحم علين??ا منا أوالد يسبحون ّ
فأجابت??ه البوم??ة :إن ال??ذي دعوت??ني? إلي??ه ه??و الح??ظ األك??بر ،والنص??يب األوف??ر ،في
العاج??ل واآلج??ل ،إال أني أش??ترط علي??ك خص??اال إن أنت أعطيتنيه??ا أجبت??ك إلى م??ا
دعوتني إليه ،فقال لها الذكر :وما تلك الخصال .ق??الت :أوله??ا إن أن??ا أبحت??ك نفس??ي
وص??رت إلى م??ا إلي??ه دعوت??ني تض??من لي أن تعطي??ني من خرب??ات أمه??ات الض??ياع
عشرين قرية مما قد خرب في أيام هذا الملك السعيد ،فقال له الملك :فما الذي ق??ال
لها الذكر .قال الموبذان :كان من قوله له?ا :إن دامت أي?ا ُم ه?ذا المل?ك الس?عيد ج?ده
أعطيتك مما يخرب من الضياع ألف قرية ،فم??ا تص??نعين به??ا .ق??الت :في اجتماعن??ا
ظهور النسل ،وكثرة الولد ،ف ُن ْقطِ ع كل واحد من أوالدنا قرية من هذه الخربات ،قال
لها الذكر :هذا أسهل أمر س??ألتنيه ?،وأيس??رأمرطلبته? م??ني ?،وق??دمت ل??ك الوع??د وأن??ا
مليء بذلك ،فهاتي ما بعد ذلك فلما س??مع المل??ك ه??ذا الكالم من الموب??ذان عم??ل في
وتر َّجل َ للناس،
نفسه ،واستيقظ من نومه ?،وفكر فيما خوطب به ،فنزل من ساعتهَ ،
أغف َله
وخال بالموبذان فقال له .:إيها القيم بالدين ،والناصح للملك ،والمنبه? على ما ْ
من أمور ملكه ،وأضاعه من أمر بالده ورعيته ?،ما ه??ذا الكالم ال??ذي خ??اطبتني? ب??ه?.
فقد حركت مني ما كان ساكناً ،وبعثني? على علم ما كنت عنه غائباً ،قال الموب??ذان:
وقت سع ٍد للعباد والبالد ،فجعلت الكالم مثاًل وموقظا ً
َ صادفت من الملك السعيد ً
جدّ ه
صفحة 143 :
على لس??ان الط??ائر عن??د طلب المل??ك م??ني ج??واب م??ا س??أل ،ثم ق??ال ل??ه المل??ك:أيه??ا
الناصح ،ا ْكشِ ف لي عن هذا الغرض الذي إليه رميت ،والمعنى الذي له قصدت ،م??ا
منه? و إلى ماذا يؤول .قال الموبذان :أيها المل?ك الس?عيد ج?ده إن المل?ك ال يتم ع?زه
إال بالش??ريعة والقي??ام هّلل تع??الى بطاعت??ه ،والتص??رف تحت أم??ره ونهي??ه ،وال ق??وام
للش??ريعة إال بالمل??ك ،وال ع??ز للمل??ك إال بالرج??ال ،وال ق??وام للرج??ال إال بالم??ال ،وال
س???بيل إلى الم??ال إال بالعم??ارة ،وال س???بيل للعم??ارة إال بالع??دل ،والع??دل الم???يزان
المنصوب بين الخليقة ،نصبه الرب وجعل له قيما ،وهو الملِك ،قال المل??ك :أم??ا م??ا
فأبنْ لي عما تقصد ،وأوضح لي في البيان ،ق??ال الموب??ذان :نعم أيه??ا وصفت فحقِ ،
المل?ك ،عم?دت إلى الض?ياع فانتزعته?ا من أربابه?ا و ُع َّماره?ا ،وهم أرب?اب الخ?راج
َو َمنْ تؤخذ منهم األموال ،فأقطِ عتها الحاشية والخدم وأهل البطالة وغيرهم ،فعمدوا
إلى ما تعجل من غرتها ،واستعجلوا المنفعة ،وتركوا العم??ارة والنظ??ر في الع??واقب
وما يصلح الضياع ،وس??ومحوا في الخ??راج لق??ربهم من المل??ك ،ووق??ع ا ْل َح ْي??ف على
من بقي من أرب??اب الخ??راج وعم??ار الض??ياع ،ف??انجلوا عن ض??ياعهم ،ورحل??وا عن
دياره َم ،وآووا إلى ما تعزز من الض??ياع بأرباب??ه فس??كنوه ،فقلت العم??ارة ،وخ??ربت
الضياع ،وقلت األموال ،فهلكت الجن??د والرعي?ة ،وطم??ع في مل?ك ف?ارس َمنْ أط?اف
بها من الملوك واألمم لعلمهم بانقطاع المواد التي بها تستقيم دعائم المل??ك ،فلم??ا
سمع الملك هذا الكالم من الموبذان أقام في موض??عه ذل??ك ثالث?اً ،وأحض??ر ال??وزراء
والكتاب وأرباب الدواوين ،وأحضرت الجرائد فانتزعت الض??ياع من أي??دي الخاص??ة
جر ْوا على رسومهم السالفة ،وأخذوا في العم??ارة، والحاشية ،و ُر َدت إلى أربابهاَ ،و َ
وق??وي من ض??عف منهم ،فعم??رت األرض ،وأخص??بت البالد ،وك??ثرت األم??وال عن??د
جباية الخراج .وقويت الجنود ،وقطعت مواد األعداء ،وشحنت الثغور ،وأقبل الملك
يباش??ر األم??ر بنفس?ه? في ك??ل وقت من الزم??ان ،وينظ??ر فى أم??ر خواص??ه وعوام??ه،
فحسنت أيامه ،وانتظم ملك??ه ،ح??تى ك??انت ت??دعى أيام??ه أعي??اداً؛ لم??ا عم الن??اس من
الخصب واإلفضال وشملهم من العدل.قيم دعائم الملك ،فلما سمع المل??ك ه??ذا الكالم
من الموب??ذان أق??ام في موض??عه ذل??ك ثالث??اً ،وأحض??ر ال??وزراء والكت??اب وأرب??اب
الدواوين ،وأحضرت الجرائد فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة والحاش??ية ،و ُر َدت
جر ْوا على رسومهم السالفة ،وأخذوا في العمارة ،وق??وي من ض??عف إلى أربابهاَ ،و َ
منهم ،فعمرت األرض ،وأخصبت البالد ،وكثرت األموال عند جباية الخراج .وقويت
الجنود ،وقطعت مواد األعداء ،وشحنت الثغور ،وأقب??ل المل??ك يباش??ر األم??ر بنفس?ه?
في كل وقت من الزمان ،وينظر فى أمر خواص??ه وعوام??ه ،فحس??نت أيام??ه ،وانتظم
ملكه ،حتى كانت تدعى أيامه أعياداً؛ لما عم الناس من الخصب واإلفضال وش??ملهم
من العدل.
النسب ،وكان ملكه سبع سنين وخمس??ة أش??هر .وذك??ر أب??و عبي??دة معم??ر بن المث َنى
عن عمر كسرى أن كل من ذكرنا من ملوك آل ساسان إلى ه??ذا المل??ك وه??و هرم??ز
بن نرسي كانوا ينزلون جند يسابور? من بالد خوزستان ،وقد كان يعق??وب بن الليث
الصفار أراد سكنى جند يسابور متشبها ً بمن مضى من ملوك ساسان ،إلى أن م??ات
بها .وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب أخبار المعتمد حين سكناه إياها ووفاته فيها.
سابور ذو االكتاف
ثم ملك بعد هرمزبن نرسي ابنه سابوربن هرمز ،وهو س??ابورذو األكت??اف ،وك??ان
ملكه إلى أن هلك اثنتين وسبعين سنة .وخلفه والده َح ْمالً ،فغلبت العرب على سواد
العراق ،وقام الوزراء بأمر التدبير ،وك?انت جمه??رة الع?رب ممن غلب على الع??راق
ولد إياد بن نزار ،وكان ُيقال لها طبق إلطباقها على البالد ،وملكه??ا يومئ??ذ الح??ارث
بن األغ??ر اإلِي??ادي ،فلم??ا بل??غ س??ابور من الس??ن س??ت عش??رة س??نة أع ? َد أس??اورت ُ?ه
بالخروج إليهم واإِل يقاع بهم ،وكانت إياد تصيف ب??الجزيرة وتش??تو ب??العراق ،وك??ان
في حبس سابور رجل منهم ُيقال له لقيط ،فكتب إلى إياد شعراً ينذرهم به ،ويعلمهم
خبرمن يقصدهم ،وهو:
على من في الجزيرة من إياد سالم في الصحيفة من لقـيط
فال يحسبكم شوك الـ َقـ َتـاد بأن الـلـيث يأتـيكـم دالق
َي ُجرون الكتائب كالـجـراد أتاكم منه ُم سبـعـون ألـفـا ً
أوانُ هالككم كهـالك عـاد على خي??ل ستأتـيكـم فـهـذا
فلم يعبؤا بكتابه ،وسراياه تكر نحو العراق و ُت ِغ??ير على الس??واد ،فلم??ا تجه??ز الق??وم
وتحش?دوا لهم ،وأنهم َ نحوهم أعاد إليهم كتابا ً يخبرهم في??ه أن الق??وم ق??د عس??كروا،
سائرون إليهم ،وكتب لهم شعراً أوله.
وق??د ك??ان س??ابور في مس??يره في البالد أتى على بالد البح??رين ،وفيه??ا يومئ ?ذ?
بنوتميم ،فأمعن في قتلهم ،وفرت بنوتميم ،وش??يخها يومئ??ذ عم??روبن تميم بن م??ر،
وله يومئذ ثلثمائة? سنة ،وكان يعلق في عمود البيت في قفة قد اتخذت ل??ه ،ف??أرادوا
حمله ،فأبى عليهم إال أن يتركوه في ديارهم ،وقال :أنا هال?ك الي??وم أو غ?داً ،وم??اذا
ص? ْولة ه??ذا المل??ك المس??لط على بقي لي من فسحة العمر .ولع??ل هّللا ينجيكم بي من َ
فص? َّبحت خي??ل س??ابور ال??ديار،
الع??رب ،فخل??وا عن??ه ،وترك??وه على م??ا ك??ان علي??هَ ،
فنظروا إلى أهلها وقد ارتحلوا ،ونظروا إلى قف??ة معلق??ة في ش??جرة ،وس??مع عم??رو
صهيل الخيل ووقعه??ا ،وهمهم??ة الرج??ال ،فأقب??ل يص??يح? بص??وت ض??عيف ،فأخ??ذوه،
?رم وم??رور األي??اموض?ع بين يدي??ه نظ??ر إلى دالئ??ل اله? َ
وجاءوا به إلى سابور ،فلما ُ
عليه ظاهرة ،فقال له سابورَ :منْ أنت أيها الش?يخ الف?اني .ق?ال :أن?ا عم?روبن تميم
بن مر ،وقد بلغت من العم??ر م??ا ت??رى ،وق??د ه??رب الن??اس من??ك إلِس??رافك في القت??ل
وآثرت الفناء على يديك ليبقى َمنْ مضى من قومي ،ولعل هّللا ُ وشدة عقوبتك إياهم،
ملك السماوات واألرض ُيجري على يديك ف??رجهم ،ويص??رفك عم??ا أنت بس??بيله? من
قتلهم ،وأنا سائلك عن أمر إن أذ ْن َت لي فيه ،فقال له سابور :قل ُي ْس?مع من??ك ،فق??ال
له عمرو :ما الذي يحملك على قتل رعيتك ورجال العرب .فقال س??ابور :أقتلهم لم??ا
أرتكبوا من أخذ بالدي وأهل مملكتي ،فقال عم??رو :فعل??وا ذل??ك ولس??ت عليهم بقيم،
فلما بلغت وقفوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك ،قال سابور :أقتلهم ألنا مل??و َك
الفرس نجد في مخزون علمنا وما سلف من أخبار أوائلنا أن العرب س ? ُتدال علين??ا،
وتك??ون لهم الغلب??ة على ملكن??ا ،فق?ال عم??رو :ه??ذا أم??ر تتحقق??ه أم تظن??ه ،ق??ال :ب??ل
اتحقق??ه وال ب??د أن يك??ون ذل??ك ،ق??ال ل??ه عم??رو :ف??إن كنت تعلم ذل??ك فلم تس??يء إلى
العرب .وهّللا ألن ُت ْبقِي على العرب جميعا ً وتحسنَ إليهم فيكافئون عند إدال??ة الدول??ة
لهم قو َم? َك بإحس??انك ،وإن أنت ط??الت ب??ك الم??دة كاف??أوك عن??د مص??ير المل??ك إليهم،
فيبقون عليك وعلى قومك ،وإن ك??ان األم??ر حق?ا ً كم??ا تق??ول فه??و أح??زم في ال??رأي،
وأنف??ع في العاقب??ة ،وإن ك??ان ب??اطاًل فلم تتعج??ل اإِل ثم وتس??فك دم??اء رعيت??ك .فق??ال
?دقت في الق??ول،قلت ،ولق?د ص? َ سابور :األمر ص??حيح ،وه??و ك??ائن لكم ،وال??رأي م??ا َ
ونصحت في الخطاب ،فنادى منادي س??ابور بأم??ان الن??اس ،ورف??ع الس??يف ،والك??ف
عن قتلهم ،ويقال :إن عمراً بقي في هذا العالم بعد هذا الوقت ثم??انين س??نة ،وقي??ل:
أقل من ذلك ،وهّللا أعلم.وسار سابور نحو بالد الشام ،ف?افتتح الم??دن ،وقت??ل خالئ??ق
نفس ?ه بال??دخول إلى أرض ال??روم متنك??راً ليع??رف أخب??ارهم من ال??روم ،ثم طالبت??ه ُ
وسيرهم ،فتنكر ،وسار إلى القسطنطينية ،فص??ادف وليم??ة لقيص??ر ق??د اجتم??ع فيه??ا
الخ??اص والع??ام منهم ،ف??دخل في جملتهم ،وجلس جملى بعض موائ??دهم ،وق??د ك??ان
فصوره له ،فلما جاء قيصر بالصورة أمر بها َّ قيصر أمر مصوراً أتى عسكر سابور
فصورت على آنية? الش??راب من ال??ذهب والفض??ة ،وأتى من ك??ان على المائ??دة ال??تي
عليها س??ابور بك??أس ،فنظ??ر بعض الخ??دم إلى الص??ورة ال??تي على الك??أس وس??ابور
مقابل له على المائح??ة ،فعجب من اتف??اق الص??ورتين ،وتق??ارب الش??كلين ،فق??ام إلى
المللك ،فأخبرة ،فأمر به ،فمثل بين يديه غ فسأله عن خبره ،فقال :أنا من أس??اورة
سابور استحققت العقوبة ألمر كان م ِّني ،فدعاني ذلك إلى الدخول إلى أرضكم ،فلم
صفحة 146 :
يقبل ذلك منهَ ،وقُئدم إلى السيف فأ َق َّر ،فجعله في جلد بقرة ،وسارقيصر في جن??ود ِه
ض? َد النخ?ل ،وانتهى إلى حتى توس?ط الع?راق ،وافتتح? الم?دائنَ ،و َ
ش?نَّ الغ?اراتَ ،و َع َ
مدينة? جندي يسابور ،وقد تحصن بها وجوه فارس ،ف??نزل عليه??ا وحض??ر عي??د لهم
في تلك الليلة التي أشرفوا على فتح المدين?ة? في ص??بيحتها ،فأغف??ل الموكل??ون أم??ر
الشراب منهم ،وكان بالقرب من سابور جماعة من أس??اري الف??رس، ُ سابور ،وأخذ
َ َ
?ج َعهم ،وأم??رهم أن يص??بوا علي??ه ِزقاق?ا َ من فخ??اطبهم أن يح??ل بعض??هم بعض?اً ،وش? َّ
الزيت كانت هناك ففعلوا ،فاَل نَ عليه الجلد وتخلص ،وأتى المدينة وهم يتحارس??ون
على سورها فخاطبهم ،فعرفوه ورفعوه بالحبال إليهم ،ففتح أبواب خزائن الس??الح،
وخ??رج بهم فف??رقهم ح?ول مواض?ع من الجيش ،وال?روم غ?ارونَ مطمئن?ون ،فكبس
الجيش عند ضرب النواقيس ،فأتوه بقيص??ر أس??يراً ،فاس??تحياه وأبقى علي??ه ،وض? ِ?م
إليه من أف َل َت من القتل من رجاله ،فغرس قيصر بالعراق الزيتون بدالَ مم??ا عض??ده
من النخل فيها ،.ولم يكن ُيعهد بالعراق الزيتون قبل ذلك ،وب?نى ش??اذروان مدين?ة?
تس??تر لنهره??ا ،والش??اذروان ه??و المس??ناة العظيم??ة ،والك??رمن الحج??ر والحدي??د
أخ? َرب ،في أخب??ار يط??ول ذكره??ا ،وانص??رف? قيص??ر نح??و والرص??اص ،وعم??ر م??ا ْ
الروم.وقد ذكر في بعض األخبار أن سابور َر َب َق قيص??ر ،وقط??ع أعص??اب عقبي?ه? أو
رقمه??ا ،وأن ال??روم ال ترب??ق دوابه??ا ،وال تلبس الخف??اف المعقب??ة،وفي? ذل??ك يق??ول
الحارث بن جندة المعروف بالهرمزان :الزيت??ون قب??ل ذل??ك ،وب??نى ش??اذروان مدين?ة?
تس??تر لنهره??ا ،والش??اذروان ه??و المس??ناة العظيم??ة ،والك??رمن الحج??ر والحدي??د
أخ? َرب ،في أخب??ار يط??ول ذكره??ا ،وانص??رف? قيص??ر نح??و والرص??اص ،وعم??ر م??ا ْ
الروم.وقد ذكر في بعض األخبار أن سابور َر َب َق قيص??ر ،وقط??ع أعص??اب عقبي?ه? أو
رقمه??ا ،وأن ال??روم ال ترب??ق دوابه??ا ،وال تلبس الخف??اف المعقب??ة،وفي? ذل??ك يق??ول
الحارث بن جندة المعروف بالهرمزان:
وهم َر َبقوا هر ْقالً بالسواد ه ُم ملكوا جميع الناس طرا
وهم أخفوا البسيطة من إياد وهم قتلوا أبا قابوس غصبا ً
وفي فعل سابور وتغريره بنفسه? في دخوله إلى أرض ع??دوه متجسس??ا يق??ول بعض
المتقدمين من شعراء أبناء فارس:
تيرعنها فأضحى غيرمخـتـار ْ
أخ َ صفواً في أرومـتـه وكان سابور َ
َح ْزم المنية? من في كيد مـكـار إِذكان بالروم جاسوسأ يجـول بـه
وزلة سبقت مـن غـير َعـ َّثـار فاستأسروه وكانت كبوة عـجـبـا ً
أرض العراق على هول وأخطار فأصبح الملِ ُك الرومي معتـرضـا
كما تجاوب أسد الغاب في الغـار َ
فراطنَ الفرس باألبواب فافترقـوا
هّلل لحرك مـن َطـالَّب أوتـار فجذ بالسيف أمرالروم فامتحـقـوا
من النخيل وما حفوا بمـنـشـار ضـدوا إِذيغرسون من الزيتون ما َع َ
إِيوان كسرى
وغزا سابور بعد ذلك بالد الجزيرة وامد وغيره??ا من بالد ال??روم ،ونق??ل خلق??أ من
أهله??ا ،وأس??كنهم بالد الس??وس وتس??تر? وغيره??ا من م??دن ك??ور األه??واز ،فتناس??لوأ
و َق َطنوا تلك الديار ،فمن ذلك الوقت صار الديباج التستري وغيره من أنواع الحرير
يعمل بتستر ،والخ??ز بالس??وس ،والس??تور والف??رش ببالد نص??يبين ،ومكث إلى ه??ذه
الغاية ،وقد كان َمنْ قبله من ملوك الساسانية? وكث??ير ممن س??لف من ف??ارس األولى
يسكن بطيسون ،وذلك بغربي المدائن من أرض العراق ،فسكن س??ابور في الج??انب
الشرقي من المدائن ،وبنى هناك اإليوان المعروف بإيوان كس??رى إلى ه??ذه الغاي??ة،
وقد كان أبرويزبن هرمز أتم مواضع من بناء هذا اإلِيوان ،وق??د ك??ان الرش??يد ن??ازاَل َ
على دجلة بالقرب من اإليوان ،فسمع بعض الخدم من وراء السرادق يق??ول آلخ??ر:
هذا الذي بنى هذا البناء ابن كذا وكذا أراد أن يصعد عليه إلى السماء ،فأمر الرشيد
بعض األس??تاذين من الخ??دم أن ض??ربه مائ??ة َعص ?اً ،وق??ال لمن حض??ره :إن المل??ك
نسبة ?،والملوك به إخوة ،وإن الغيرة بعثتني على أدب??ة لص??يانة المل??ك ،وم??ا يلح??ق
الملوك للملوك.وذكر عن الرشيد بع?د القبض على البرامك??ة أن?ه بعث إلى يح?يى بن
خالد بن برمك ،وهو في اعتقال??ه ،يش??اوره في َه??دْ م اإِل ي??وان ،فبعث إلي??ه :ال تفع??ل،
فقال الرشيد لمن حض??ره :في نفس??ه لمجوس??ية ،والحن??و عليه??ا ،والمن??ع من إزال??ة
آثاره?ا ،فش?رع في هدم?ه ،ثم نظ?ر ف?إذا يلزم?ه في هدم?ه أم?وال عظيم?ة ال تض?بط
كثرة ،فأمسك عن ذلك ،وكتب إلى يحيى يعلمه ذلك ،فأجابه بأن ينفق في هدم??ه م??ا
بل??غ من األم??وال ،ويح??رص على فعل??ه ،فعجب الرش??يد من تن??افي كالم??ه في أول??ه
?رت ب??ه في األول ف??إني وآخره ،فبعث إلي??ه يس??أله عن ذل??ك ،فق??ال :نعم ،أم??ا م??ا أش? ُ
أردت بقاء الذكرألمة اإِل سالم و ُب ْعدَ الصيت ،وأن يكون من ير ُد في األعص??ار ويط??رأ
من األمم في األزم??ان ي??رى مث??ل ه??ذا البني??ان العظيم فيق??ول :إن أم??ة ه??ذا بنيانه??ا
فأزالت رس??ومها واحت??وت على ملكه??ا،ألم??ة عظيم??ة ش??ديحة منيع??ة ،وأم??ا ج??وابي
الثاني فأخبرت أنه قد ش??رع في هَدم??ه ثم عج??ز عن??ه ،ف??أردت نفي العج??ز عن أم??ة
اإِل سالم .لئال يقول من وصفت ممن يرد في األعصار:إن هذه األمة عجزت عن هدم
ما ب َن ْته فارس ،فلما بلغ الرشيد ذلك من كالمه قال :قاتله هللا تعالى فما سمعته? ق??ال
صدق فيه ،وأعرض عن هدمه ،وسابور هو الذي بنى مدين ?ة? نيس??ابور شيئا ً قط إال َ
ببالد خراسان وغيرها بفارس والعراق.
أردشير
ثم ملك بعد سابور بن هرمز أخ??وه أردش??يربن هرم??ز ،وك??ان ملك??ه إلى أن خل??ع
أربعين سنة ،ثم ملك بعده سابور بن س??ابور ،خمس س??نين وقي??ل :وأربع??ة أش??هر،
وكانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب وفيه يقول شاعر إياد:
قباب إيا ٍد حولها الخيل والنـ َعـ ْم
ُ على رغم سابور بن سابورأصبحت
ويقال :إن هذا الشعر قال??ه نف??ر ق??د لحق??وا ب??أرض ال??روم حين أوق??ع بهم س??ابورذو
األك َت اف على ما ذكرنا ثم تراجعوا إلى ديارهم ،وانضافوا إلى ربيعة من ولد بك??ربن ْ
وش ? َّن ْت الغ??ارات في مل??ك س??ابور بن
كانت قد غلبت على السوادَ ،َ وائل ،وإن ربيعة
سابور ،فقال شاعر إياد في ذلك م??ا وص??فنا ،وهم داخل??ون في جمل??ة ربيع??ة ،وقي??ل
غير ذلك ،وهللا أعلم بالصحيح منه.
بهرام ويزدجرد
ثم ملك بعده بهرام بن سابور ،وكان ملكه عشرسنين ،وقيل :إحدى عشرة سنة.ثم?
ملك بع??ده يزدج??رد بن س??ابور ،المع??روف ب??األثيم ،وك??ان ملك??ه إلى أن هل??ك إح??دى
وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية? عشر يوماً ،وقيل :اثنتين وعشرين سنة غير
شهرين.
بهرام جور
ثم ملك بعده بهرام بن يزدجرد وهو بهرام جور ،فكان ملكه ثالث?ا ً وعش??رين س??نة?
وقيل :تسع عش??رة س??نة َو َم َل? َك وه??و ابن عش??رين س??نة ،وغ??اص ه??و وفرس??ه في
حومة حمأة في بعض أيام صيده ،فجزعت عليه فارس ،لما ك??ان َع َّم َه??ا من عدل??ه،
وشملها من إحسانه ورأفته برعيته ،واستقأمة األمور في أيامه ،وقد كان خرج في
أيامه خاقان ملك الترك إلى الصغد ،وشن الغارات في بالده ،وقيل :إنه أتى إلى بالد
الري ،وإن بهرام كتب أجناده وتنكب الطريق في اليس?ير من جري?دة أص?حابه ح?تى
أنى على خاق??ان في جن??وده ،وس??ار نح??و الع??راق برأس??ه ،فهابت??ه مل??وك األرض،
وهادنه قيصر ،وحمل إليه األموال ،وقد كان بهرام قب??ل ذل??ك دخ??ل إلى أرض الهن??د
متعرفاَ ،واتصل بشبرمة ملك من مل??وك الهن??د ،ف??أبلى بين يدي??هَ متنكراً ،وألخبارهم
فزوج??ه ابنت??ه على أن??ه بعض أس??اورة في ح??رب من حروب??ه ،وأمكن??ه من ع??دوهً ،
فارس ،وكان نشؤه مع العرب بالحيرة ،وكان يق??رل الش??عر بالعربي??ة ويتكلم بس??ائر
اللغات ،وكان خاتمه مكتوب :باألفعال تعظم األخبار .وله أخبار في أخذه المل??ك بع??د
بعين وأخبار غ??ير ذل?ك .وس??ير يط??ول س َ
أبيه وتناوله التاج والراية .وقد وضعا بين َ
بالنش?اب في أيام??ه ?.رمنِ ذكرها .وألية علة سمي بهرام جور.وما أحدث من الرمي
النظم في داخل القوس وخارجها .وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزم??ان
والكتاب األوس?ط .وم?ا ق?الت الف?رس وال?ترك في بني?ة? الق?وس ،وأنه?ا مركب?ة على
الطبائع األربع كطبائع اإِل نسان ،وما ذهب??وا إلي??ه من أن??واع ال??رمي وكيفيت??ه ?،ومم??ا
حفظ من شعربهرام جورق قولُه يوم ظفره بخاقان وقتله له:
هرام
كأنك لم تسمع بصوالت َب َ أقول له لما فضضت جموعه
وماخير ُم ْلكٍ اليكون له حام فإ ِّن َي حامي ُم ْلكِ فارس كلهـا
وقوله أيضاً.
بأ َن ُه ُم َقد اضحوا لي عبـيدا لقد علم األنام بـكـل ِّ أرض
المسو َد والمسـودا
َّ عزيزهم ملكت ملوكهم ،وقهرت منهم
مخافتي الورودَا
َ وترهب من فتلك أسودهم ُتقعِي حـذاري
عبأت له الكتائب والجنـودا وكنت إذا تشاوس ملك أرض
ب??ه يش??كو السالس??ل والقـيودا فيعطي??ني ال َم َقـاد َة أو أوافـي
وله أشعار كثيرة بالعربي??ة والفارس??ية? أعرض??نا عن ذكره??ا في ه??ذا الموض??ع طل َب? ا َ
لإِل يجاز.
يزدجرد
ثم ملك بعده يزدجردبن بهرام ،وكان ملكه تسع عشرة سنة .وقيل:ثم??ان عش??رة
ِبن والطين بناحي??ة سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما ً وقد ك??ان ب??نى حائط?ا ً ب??الل ِ
الباب واألبواب على حسب م??ا قممن??ا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب في ذكرن??ا للب??اب
واألبواب وجبل القبخ ،وأحضر يزدجرد بن بهرام رجالً من حكماء عص??ره ك??ان في
أقاصي مملكته آخذاً من أخالقهم ومقتبس الرأي منه يس??وس ب??ه رعيت??ه ،فق??ال ل??ه
ص?اَل ح المل?ك .فق?ال :الرف?ق يزدجرد وقد مث?ل بين يدي?ه ?:أيه?ا الحكيم الفاض?ل ،م?ا َ
بالرعية ،وأخ??ذ الح??ق منهم من غ??ير مش??قة ،والت??ودد إليهم بالع??دل ،وأمن الس??بل،
وإنصاف المظلوم من الظالم ،قال َ:فما ص??الح أم??ر المل??ك .فق??ال :وزراؤه وأعوان??ه
فإنهم إن صلحوا صلح ،وإن فسحوا فسد ،وقال ل??ه يزدج??رد :إن الن??اس ق??د أك??ثروا
شبها وينش??ئها ،وم??ا ال??ذي يس??كنها وي??دفنها، في أسباب الفتن ،فصف لي ما الذي َي ُ
شبها ضغائن وينشئها جرأة عامة ولدها اس?تخفاف بخاص?ة ،وأك?دها انبس?اط قالَ :ي ُ
األلس??ن بض??مائر القل??وب ،وإش??فاق موس??ر ،وأم??ل ُم ْع ِس ?ر ،وغفل??ة ملت??ذ ،ويقظ??ه
محروم ،والذي يس?كنها أخ?ذ ال ُع?دَ ة لم?ا ُي َخ? اف قب?ل حلول?ه ،وإيث?ار الج?د حين يلت?ذ
الهزل ،والعمل بالحزم في الغضب والرضا.ثم ملك بعده هرمز بن يزدجرد ،فنازع??ه
وولي المل??ك ،وه??و ف??يروز بن يزدج??رد بن به??رام ،وك??ان مل?ك َ أخوه فيروز ،فقتل??ه
إلى أن هلك على يدي ملك الهياطلة أخشنواز بمرو ال??روذ من بالد حراس??ان فيروز ِ
س??بعا َ وعش??رين س??نة ?،والهياطل??ة هم الص??غد ،وهم بين بخ??ارى وس??مرقند.ثم مل??ك
بالس بن فيروز الملك ،وكان ملكه أربع سنين.
ثم ملك قباذ بن فيروز ،وفي أيامه ظهر مزدك الزن??ديق ،وإلي??ه تض??اف المزدكي??ه،
ول??ه أخب??ار م??ع قب??اذ ،وم??ا أحدث??ه في العام??ة من الن??واميس والحي??ل إلى أن قتل??ه
أنوشروان في ملكه ،وكان ملك قباذ إلى أن هلك ثالثا ً وأربعين سنة?.
أنو شروان
ثم ملك بعده ولده أنوشروان بن قباذ بن فيروز ثمانيا ً وأربعين سنة ،وقيل :س??بعا ً
وأربعين سنة وثمانية أشهر ،وقد كان قياذ خلع من ملكه وأجلس بدل?ه أخ ل?ه يق?ال
له جاماسب نحواً من سنتين ،ألمر كان من َم ْزدك وأصحابه ،فظاهر أنوشروان
صفحة 150 :
بزرجمهر? بن سرحو حتى أعيد قباذ إلى ملكه في خبر طويل ،ولما مل??ك أنوش??روان
قتل مزدك وأتبعه بثمانين ألفا ً من أص?حابه ،وذل?ك بين ح?ادر والنه??روان من أرض
العراق ،فسمي من ذلك اليوم أنوشروان ،وتفسير ذل??ك جدي??د المل??وك ،وجم??ع أه??ل
مملكت??ه على دين المجوس??ية ?،ومنعهم النظ??ر والخالف والحج??اج في المل??ل ،وس??ار
نحو الباب واألبواب وجب??ل القبخ لم??ا ك??ان من غ??ارات من هنال??ك من المل??وك على
بالده ،فب???نى الس???ور في البح???ر على أزق??اق البق ??ر المنفوخ ??ة بالص ??خر والحدي???د
والرصاص ،فكلما ارتفع البناء نزلت تلك األزقاق إلى أن استقرت في َق? َ
?رار البح??ر،
وقد ارتفع السور على الماء ،وغاصت الرجال حينئذ بالخناجر والس??كاكين إلى تل??ك
باق إلى وقتنااألزقاق فشقتها ،وتمكن السور على وجه الماء في قرار البحر ،وهو ٍ
هذا ،وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة ،ويسمى هذا الموضع من السور في البح??ر
الصد مانعا ً للمراكب في البحر إن وردت من بعض األعداء ،ثم م??د الس??ور في ال??بر
ما بين جبل القبخ والبحر ،وجعل في??ه األب??واب مم??ا يلي الكف??ار ،ثم م??د الس??ورعلى
جب??ل القبخ على ما ق??دمنا فيم??ا س??لف من الكت??اب عن??د ذكرن??ا ألخب??ار جب??ل القبخ
والباب ،وكان ألنوشروان خبر مع ملوك الخزر إلى أن تأتى له ه??ذا البن??اء ،وقي??ل:
إن??ه ب??نر ذل??ك بالرهب ?ة? وإذع??ان من هن??اك من األمم ل??ه.وانص??رف? أنوش??روان إلى
العراق ،ووفدت عليه رسل الملوك وهداياها والوفود من الممالك ،وكان فيمن وف??د
إليه رسول لملك الروم قيص??ر به??دايا وألط??اف ،فنظ??ر الرس??ول إلى إيوان??ه وحس??ن
بنيانه? واعوجاج في ميدانه ?.فقال :كان يحتاج ه??ذا الص??حن أن يك??ون مربع?اً ،فقي??ل
له :إن عجوز لها م??نزل? من ج??انب األعوج??اج من??ه ،وإن المل??ك أراده?ا على بيع??ه.
وأرغبها ،ف??أ َب ْت ،فلم يكره??ا المل??ك ،وبقي االعوج??اج من ذل??ك على م??ا ت??رى ،فق??ال
الرومي :هذا االعوجاج االن أحسن من االستواء.وسار أنوش??روان في بالده ،ودار
مملكت??ه ،ف??أحكم البني??ان ،وش??يد القالع والحص??ون ،ورتب الرج??ال وغ??در بقيص??ر?،
فسار نحو الجزيرة ،فافتتح ما هنالك من المدن ،وانتهى إلى الفرات فعبر إلى الشام
فافتتح? بها المدن ،وكان مما افتتح? بالد حلب َوقِ َّن ْس ? ِرين وحمص وفامي??ة ?،وهي بين
ت لقيص??ر فافتتحه??ا، أنطاكية وحمص ،وسار إلى أنطاكية وحاصرها ،وفيه??ا ابن أ ِخ ِ
وافتتح مدين ?ة? عظيم??ة كث??يرة العم??ران عجيب??ة البني??ان ك??انت في س??احل أنطاكي??ة
س?لُوقية ،وأقب?ل يفتتح? الم?دائن رسومها بينة إلى هذه الغاي??ة ،وأثره?ا ق?ائم ،ت??دعى َ
??ذل الس??يف ،وبث بالش??ام وأرض ال??روم ،ويغنم الغن??ائم والج??واهر واألم??وال َو َب َ
عساكره وسراياه ،فهادن?ه قيص?ر ،وحم?ل إلي?ه الخ?راج والجزي?ة ،فقب?ل ذل?ك من?ه،
ونقل من الشام المرمر والرخ??ام وأن??واع الفسيفس??اء واألحج??ار ،والفسيفس??اء :هي
شيء يطبخ من الزجاج واألحجار ذو بهج??ة وأل??وان ي??دخل فيم??ا ف??رش من األرض
والبنيان كالفصوص ،ومنه على هيئة الجامات شاف ،وحمل ذلك إلى العراق ،فبنى
داخل َ سورها بما ذكرن??ا من مدينة? نحو المدائن وسماها برومية ?،وجعل ببيانها وما َ
أنواع األحجار ،يحكي بذلك أنطاكي??ة وغيره??ا من الم??دن في الش??ام ،وه??ذه المدين?ة?
زوجه خاق??ان وباق يعرف بما ذكرناَ ،و َ ٍ سورها من طين قائم إلى هذا الوقت خراب،
ملك ال??ترك بابنت?ه? وابن??ة أخي??ه ،وهادنت??ه مل??وك الس??ند والهن??د والش??مال والجن??وب
وسائر الممالك ،وحملت إليه الهدايا ،ووفدت إليه الوفود خوفا ً من صولته وكثرة
صفحة 151 :
جنوده وعظم مملكته ،ولم??ا ظه??رمن فعل??ه بالممال??ك ،وقتل??ه المل??وك ،وانقي??اده إلى
العدل ،وكتب إليه ملك الصين :من فغفور ملك الصين صاحب قصر الدر والج??وهر،
ال?ذي يج?ري في قص?ره نه?ران يس?قيان الع?ود والك?افور ال?ذي توج?د رائحت?ه على
فرسخين ،والذي تخدمه بنات ألف ملك ،والذي في مربطه? ألف فيل أبيض إلى أخبه
كسرى أنو شروان ،وأهدى إليه فرس?ا ً من در منض??داً ،عين??ا الف?ارس والف??رس من
ياقوت أحمر ،وقائم سيفه من زمرد منضد بالجوهر ،وثوب حرير ص??يني عس??جدي
في??ه ص??ورة المل??ك جالس?ا ً في أيوان??ه ،وعلي??ه حليت??ه وتاج??ه ،وعلى رأس??ه الخ??دم،
المذاب ،والصورة منسوجة? بالذهب ،وأرض الثوب الزورد ،في س??فط من ُّ وبأيديهم
ذهب ،تحمله جارية تغيب في شعرها ،تتألأل جمااَل َ ،وغير ما ذكرن??ا من عج??ائب م??ا
يحمل من أرض الصين وتهديه? الملوك إلى ْأكفائها ،وكتب إليه ملك الهند :من مل??ك
الهند ،وعظيم أراكنه المشرق وصاحب قص??ر ال??ذهب وأب??واب الي??اقوت وال??در .إلى
أخيه ملك فارس وصاحب التاج والراية كسرى أنو ش?روان ،وأه?دى إلي?ه أل?ف َمنً
يختم على الش??مع فت??بينِ من عود هندي يذوب في النار كالش??مع ،ويختم علي??ه كم??ا
في?ه الكتاب?ة ،وجام?ا من الي?اقوت األحم?ر فتح?ه ش?بر ممل?وءاَ دراً ،وعش?رة أمن?ان
كافور كالفستق وأكبر من ذلك ،وجارية طوله?ا س?بعة أذرع تض?رب أش?فار عينيه?ا
خدها ،وكأن بين أجفانها لمع??ان ال??رق من بي??اض مقلتيه??ا م??ع ص??فاء لونه??ا ودق??ة
تخطيطها وإتقان تشكيلها مقرون?ة? الح?اجبين له?ا ض?فائر تجره?ا وفرش?ا ً من جل?ود
شي ،وكان كتابه في لحاء الشجر المعروف الو ْ
الحيات ألين من الحرير وأحسن من َ
بالكاذي ،مكتوب بالذهب األحمر ،وهذا الشجر يك??ون ب??أرض الهن??د والص??ين ،وه??و
نوع من النبات عجيب ذو لون حسن وريح? طيب ،لحاؤهُ أرق من ال??ورق الص??يني،
تتكاتب فيه ملوك الصين والهند.وورد? عليه وهو في عسكره محاربا ً لبعض أعدائ??ه
كتاب ملك التبت:من خاقان ملك تبت ومشارق األرض المتاخمة للصين والهن??د إلى
أخيه المحمود في السيرة والقدر ،ملك المملكة المتوسطة لألقاليم الس??بعة .وأه??دى
إليه أنواعا ً من العجائب التي تحمل من أرض تبت منها مائة جوش?ن تبتي??ة ،ومائ?ة
قطعة تجافيف ،ومائة ترس تبتية مذهبة ،وأربع??ة آالف منٍّ من المس??ك الخزائ??ني
في ن??وافج غزالن??ه.وق??د ك??ان أن??و ش??روان س??ار إلى م??اوراء نه??ر َب ْل َخ ،وانتهى إلى
ختالن ،وقت??ل أخش??نواز مل??ك الهياطل??ة بج??ده ف??يروز ،ومل??ك مملكت??ه فأض??افها إلى
ُم ْلكه.مذهبة ?،وأربعة آالف منٍّ من المسك الخزائني? في نوافج غزالنه.وقد ك??ان أن??و
ش???روان س???ار إلى م???اوراء نه???ر َب ْل َخ ،وانتهى إلى ختالن ،وقت???ل أخش???نواز مل???ك
الهياطلة بجده فيروز ،وملك مملكته فأضافها إلى ُم ْلكه.
وقد كان نق??ل إلي??ه من الهن??د كت??اب كليل??ة وثمن??ة والش??طرنج ،والخض??اب األس??ود
المعروف بالهندي ،وهو الخضاب الذي يلم?ع س?واده فيم?ا يظه?رمن أص?ول الش?عر
سنة كاملة بصبغة سوداء ،وال ينصل? منه ش??يء .ويحكي أن هش??ام بن عب??د المل??ك
بن مروان كان يخضب بهذا الخضاب.
وكان ألنو ش??روان مائ??دة من ال??ذهب عظيم??ة عليه??ا أن??واع من الج??واهر مكت??وب
عليها من جوانبه??ا :ليهن??ه طعام??ه َمنْ أكل??ه من ِحلِّه ،وع??اد على ذوي الحاج??ة من
فضله ،ما أكلته وأنت تشتهيه? فقد أكلته ،وما أكلته وأنت ال تشتهيه? فقد أكلك ،وكان
صفحة 152 :
له خواتم أربعة :خاتم للخراج فصه من العقيق ونقشه العدل ،وخاتم للض??ياع فص??ه
فيروزج ن ْقشه العم??ارة ،وخ??اتم للمعون??ة فص??ه ي??اقوت كحلي نقش??ه الت??أني ،وخ??اتم
للبريد فصه ياقوت أحمر يتقد كالنار نقشه الرجاءَ ،و َوضع أنو شروان على العراق
وضائع الخراج فألزم كل ج??ريب من الس??واد من م??زارع الحنط??ة والش??عير درهم?اً،
واألرز نصفا ً وثلثاً ،ولكل أربع نخالت فارسية ثرهماً ،وكل ست نخالت دقل درهماً،
وكل ست أصول زيتون درهماً ،والكرم ثمانية? دراهم ،والرطب س??بعة دراهم ،فه??ذه
سبعة أنواع من الغالت ،وترك ما عداها إذ كانت لقضم الناس والبه??ائم ،وك??ان أن??و
شروان يدعى كسرى الخير ،وقد ذكرته الشعراء في أشعارها ،ففي ذلك يقول عدي
بن زيد العبادي من كلمة:
ان .أم أين قــبـــلـــه ســـابـــور أين كـسـرى خـير الـمـلـوك أنــوشـــرو
فولّى الملك عنه ،فبابه مهجور لم َي َه ْبه ريب المنون
فأ ْل َو ْت به الصبا والدبور حين ولِّ ْوا كأنهم ورق جف
وجلس أنوشروان يوما ً للحكماء ليأخذ من آدابهم فقال لهم وق??د أخ??ذوا م??راتبهم
في مجلسهُ :دلُّوني على حكمة فيها منفعة لخاصة نفسي وعأمة رعي??تي ،فتكلم ك??ل
ضره من الرأي ،وأنو شروان مطرق يتفكر في أق??اويلهم ،ف??انتهى واحد منهم بما َح َ
القول إلى بزرجمه?ر? بن البختك??ان ،فق??ال أيه??ا المل??ك أن??ا ج??امع ل??ك ذل??ك في اثن??تي
عشرة كلم??ة ،فق?ال :ه??ات ،فق?ال :أولهن تق??وى هللا في الش??هوة والرغب??ة والرهب??ة
والغضب والهوى ،فاجعل ما عرض من ذلك كله هّلل ال للناس ،والثاني??ة الص??دق في
ش?ورة ت والش??روط والعه??ود والمواثي??ق ،والثالث??ة َم ُ الق??ول والعم??ل والوف??اء بال ِع? َدا ِ
العلماء فيما يح??دث من األم??ور ،والرابع??ة إك??رام العلم??اء واألش??راف وأه??ل الثغ??ور
ض?اة والفحص عن والق?واد وال ُك َّتاب والخ??ول بق?در من??ازلهم ،والخامس??ة التعه?د للقُ َ
العمال محاسبة عادلة ،ومج?ازاة المحس?ن منهم بإحس?انه والمس?يء على إس?اءته،
ؤالسادسة تعهد أهل السجون بال َع ْرض لهم في األيام لتستوثق من المسيء وتطل??ق
البريء ،والس??ابعة تع ُّهد س??بيل? الن??اس وأس??واقهم وأس??عارهم وتج??ارتهم ،والثامن??ة
حسن تأديب الرعية على الجرائم وإقأمة الحدود ،والتاس??عة إع??داد الس??الح وجمي??ع
آالت الحرب ،والعاشرة إكرام الولد واألهل واألقارب وتفقد م??ا يص??لحهم ،والحادي??ة
عشرة إذك?اء العي??ون في الثغ?ور ليعلم م??ا يتخ??وف فيؤخ??ذ ل?ه أهبت?ه قب?ل هجوم?ه،
والثانية عشرة تفقد الوزراء والخ??ول واالس??تبدال ب??ذي الغش والعج??ز عنهم ،ف??أمر
أنوش???روان أن يكتب ه???ذا الكالم بال???ذهب ،وق???ال :ه???ذا كالم في???ه جوام???ع أن???واع
السياسات الملوكية.وكان مما حفظ من كالم أنوشروان وحكمته أنه سثل :م??ا أعظم
الكنوز قدراً ،وأنفعه??ا عن??د االحتي??اج إليه??ا .فق??ال:مع??روف أودعت??ه األح??رار ،وعلم
تورثه? األعقاب.وقيل ألنو ش??روانَ :منْ أط??ول الن??اس عم??راً .فق??ال :من ك??ثر علم??ه ِ
فتأدب به من بعده أومعروفه فيشرف ب??ه عقب?ه.وأن??و ش?روان ال?ذي يق?ول :اإِل نع?ام
ح ،والش??كر والدة ،والمنعم ه??و الجاع??ل .للش??اكر إلى ش??كره س??بيالً.وه?و? ال??ذي لِ َق??ا ٌ
يقول :ال تع??دنَّ الحرص??اء في األمن??اء ،وال الك??ذابين في األح??را ر.وق??ال أنوش??روان
يوما ً لبزرجمهرَ :منْ يصلح من ولدي للملك فأظهر ترشيحه واإليماء إليه ،فقال:ال
صفحة 153 :
أعرف ولدك ،ولكني أصف لك من يصلح للملك :أسماهم للمع??الي ،وأطلبهم لألدب،
وأنجزعهم من العامة ،وأرأفهم بالرعية ،وأوصلهم للرحم ،وأبع??دهم من الظلم فمن
كانت هذه صفته فهوحقيق بالمل??ك.ق??ال االمس??عودي :وق??د ذكرن??ا في كت??اب الزل??ف،
الخصال َ التي يس??تحق به??ا ال ُم ْل? َك َمنْ وج??دت في??ه ،وم??ا ذكرن??ا عن حكم??اء الف??رس
وأسالفها في ذلك وغيره??ا من حكم??اء اليون??انيين ك??أفالطون ،وم??ا ذك??ره في كت??اب
السياسة المدنية? وغيره ممن تأخرعن عصره.وذكر عن بزرجمه ?ر? أن??ه ق??ال :رأيت
من أنو شروان خصلتين متباينتين لم أر مثلهما منه .جلس يوما ً للناس فدخل رج??ل
من خاصة أهله ف َن ّحاه وزيره ،فأمر به أن يق??ام ويحجب عن??ه س??نة لتعدي??ه المرتب?ة?
التي رسمت له ،وازدياده فيها عن مرتبة? غيره في المجلس ،ثم رأيت??ه يوم ?ا ً ونحن
عن??ده في س??ر من ت??دبير? ش??يء من المملك??ةَ ،و َخد ُم??ه خل??ف فراش??ه وس??ريرملكه
يتحدثون ،فارتفعت أصواتهم حتى شغلونا عن بعض ما كنا فيه ،فقلت ل??ه وأخبرت??ه
بتفاوت ما بين الحالتين ،فقال لي :ال تعجب فنحن ملوك على رعيتنا ،وخدمنا ملوك
على أرواحنا ينالون منا في َخلوتنا م?اال حيل?ة لن?ا مع?ه في الح?رز منهم وك?ان أن?و
شروان يقول :الملك بالجند ،والجند بالم??ال ،والم??ال ب??الخراج ،والخ??راج بالعم??ارة،
والعم??ارة بالع??دل ،والع??دل بإص??الح العم??ال ،وإص??الح العم??ال باس??تقامة ال??وزراء،
أم???ور نفس???ه واقت???داره على تأديبه???ا ح???تى يملكه???ا وال
َ ورأس الك???ل تف ُّقد المل???ك
ص ُر من كثرة الجنود ،وعدل الملك أنفع من تملكه.وكان يقول :صالح أمر الرعية أ ْن َ
خصب الزمان.وك??ان يق??ول :أي??ام الس??رور كلمح البص??ر ،وأي??ام الح??زن تك??اد تك??ون
شهوراً.قال االمسعودي :وألنو شروان س??ير وأخب??ار حس??ان ،ق??د أتين??ا على ذكره??ا
فيما سلف من كتبنا ،وما كان منه في مسيره? في سائر أسفاره ،وما بني? من المدن
والحصون ،ورتب من ال َمقاتلة في الثغور.
ملك هرمز
ثم ملك بعده هرمز بن أنوشروان بن قب??اذ ،وأم??ه ف??اقم بنت خاق??ان مل??ك ال??ترك،
وقيل :بل ملك ملوك الخزر مما يلي الباب واألبواب ،فكان ملكه اثنتي عشرة س??نة،
وكان متحاماًل على خواص الناس ،مائالً إلى عوامهم مقويا ً لهم .مؤثراً للروبصية?،
وتوابع العوام ،مغريا ً لهم بخواص الناس ،وقيل :إنه قتل في مدة ملكه من خ??واص
فارس ثالثة عش??ر أل??ف رج??ل م??ذكور والثن??تي عش??رة س??نة من ملك??ه َت َخ? رم علي??ه
الملك ،وتداعت أركانه،وزحفت إليه األعداء ،وكثرت عليه الخوارج ،وقد ك??ان أزال
أحكام الموابذان .فخربت بذلك السنة المحمودة والشريعة المعهودة ،وغير األحكام،
وأزال الرس??وم ،وك??ان ممن س??ار إلي??ه س??ابة بن ش??ب عظيم من مل??وك ال??ترك في
أربعمائة ألف ،فنزل نحو بالد ه ََراة وب??دغيس وبوش?نج من أرض خراس?ان ،وس??ار
إليه من أط?ارف أرض?ه طراخن?ة من الخ?زر في جيش عظيم ،فش?نوا الغ?ارات فيم?ا
بين ذلك الصقع بخيل أوقعت ،وملوك تهادنت ،وتواهبت م??ا ك??ان بينه??ا من الحم??اء
مما يلي جبل القبخ ،وسار َب ْطريق لقيصر في ثمانين ألفا َ مم??ا يلي الجزي??رة ،وس??ار
مما يلي اليمن جيش عظيم للعرب من قحطان ومعد ،وعليهم العباس المعروف
صفحة 154 :
باألحول وعمرو األفوه ،فاضطرب على هرمز أمره وأحضر الموابذة وذوي الرأي
وشاو َرهم ،فكان من نتيجة? رأيهم موادعة الوجوه الثالث??ة َ منهم من بعد إخماله لهم
وإرض??اؤهم واإلِقب??ال على ش??ابة بن ش??اب ،فانت??دب لحرب??ه به??رام ج??وبين مرزب??ان
الري ،وكان بهرام هذا من ولد ج??وبين بن ميالد من نس??ل أن??وش المع??روف ب??الرام
فسار في اثني عش??ر ألف?اً ،وش??ابة في أربعمائ??ة أل??ف ،فك??انت لبه??رام مع??ه خط??وب
ومراسالت من ترغيب وت??رهيب? وحي??ل في الح??رب ،إلى أن قتل??ه به??رام ،واس??تباح
عسكره ،واستولى على خزانته وأمواله ،وبعث إلى هرمز برأسه ،وقد كان برمودة
بن شابة ولده تحصن في بعض القالع من بهرام ،فنزل عليه بهرام ،ف??نزل برم??ودة
على حكم هرمز ،وسار إليه ،وحمل بهرام حماًل من الغنائم وما كان أخذه من شابة
مما ك?ان مع?ه من ترك?ات المل?وك ،مث?ل م?ا ك?ان في خ?زائن فراس?ياب من األم?وال
الجواهر التي كان أخذها من سياوخش ،وما كان بأيدي الترك من تركات بهراس??ف
ملك الترك مما أخذه من خزائن يستاسف من مدينة بلخ وغيره??ا من ذخ??ائر مل??وك
الترك السالفة ،فلما انتهى ما وصفنا من األموال والج??واهر وغ??ير ذل?ك من الغن??ائم
من قبل بهرام حسده وزير هرمز أريخسيس الخوري ،وقد نظر إلى إعج??اب هرم??ز
بما حمل إليه بهرام وسروره به ،فق?ال :أعظم ه?ذه زلت??ه ،وع?رض لهرم?ز بخيان?ة
بهرام ،واستبداده بأكثر الجواهر واألموال والغنائم ،وأغراه ب??ه ،فعص??اه به??رام ،ثم
س أناس?ا ً من التج??اراحت??ال به??رام ب??دراهم ض??رب عليه??ا اس??م كس??رى أبروي??ز ،و َد َّ
فأنفقوها بباب هرمز ،فتعامل بها الناس ،وكثرت في أيديهم ،وعلم به??ا هرم??ز ،فلم
يشك في أن أبروي??ز ض??ربها طلب?ا ً للمل??ك ،فه َّم ب??ه هرم??ز وه??وال يش??ك أن ذل??ك من
فعله ،ولم يعلم أن الحيلة في ذلك من بهرام ،فهرب أبروي??ز من أبي?ه لتغ??يره علي?ه،
ولح??ق ببالد أذربيج??ان وأرميني ?ة? وال??ران والبيلق??ان ،وحبس هرم??ز خ??الي أبروي??ز
بس??طام وبندوي??ه ،ف?أعمال الحيل??ة في محبس??هما وخرج?ا فانض?اف إليهم?ا خل?ق من
سماَل عينيه? وأعمي??اه .،فلم??ا نمي ذل??ك إلى أبروي??ز س??ار الجيش فدخال على هرمز ف َ
إلى أبيه فدخل عليه وأخبره أنه ال ذنب له في ذل??ك ،وإنم??ا ه??رب خوف?ا ً على نفس??ه
من??ه ،ف َت َّوج??ه هرم??ز وس ?لَّم المل??ك إلي??ه ،ونمي ذل??ك إلى به??رام ج??وبين فس??ار في
عساكره يؤم الباب ودار الملك ،فخرج إليه أبرويز ،فالت َق َيا على شاطىء النه??روان،
والنهر بينهما ،فتواقعا ،وكان لهما خطب طويل من تقاذف وتشاتم ،ثم كانت بينهما
حروب انكشف فيه??ا أبروي??ز لتخل??ف أص??حاب عن??ه وميلهم إلى به??رام ،فق??ام تحت??ه
فرسه المعروف بشبدار وهو المصور في الجب??ل ،وه??و ببالد قرماس??ين من أعم??ال
الدينور? من ماء الكوف??ة ه??و وأبروي?ز? وغ??ير ذل??ك من الص??ور ،وه??ذا الموض??ع من
إحور عجائب العالم ،وغ??رائب م??ا في??ه من الص??ور العجيب??ة المنق??ورة في الص??خر،
س المع??روف بش??بدار ،وق??د الفر َ
س تذكر في أشعارها وغيرها من العرب هذا َ والفر ُ
ْ
ك??ان أبروي?ز? على ش??بدار في بعض األي??ام ف??انقطع ِع َنا ُن??ه ،ف??دعا بص??احب س??روجه
ولجمه ،فأراد ضرب عنق??ه لم??ا لم يتعه??د ال ِع َن??انَ ،فق?ال :أيه??ا المل??ك ،م??ا بقي س??ير
يحي??د ب?ه مل?ك اإِل نس ومل?ك الخي?ل ،فأطلق??ه ،وأج?ازه ،ولم?ا بلح ه?ذا الف?رس تحت
أبروي??ز وقص??ر طلب إلى النعم??ان في المعرك??ة أن يمن علي??ه بفرس??ه? المع??روف
باليحموم ،فأبى عليه ،ونجا عليه بنفسه ?،ونظر حسان بن حنظلة بن حية الطائي
صفحة 155 :
إلى أبروي??ز وق??د خانت??ه الرج??ال وأش??رف على الهالك ،فأعط??اه فرس??ه المع??روف
بالصبيب ،وقال له :أيها الملك ،انج على فرسي فإن حياتك للناس خير من حي??اتي،
وأعطاه أبرويز فرسه شبدار فنجا عليه في جملة الناس ،ومضى أبروي??ز إلى أبي??ه?.
ففي ذلك يقول حسان بن حنظلة الطائي:
ألتركه في الخيل يعثـرراجـال وأعطيت كسرى ما أراد ،ولم أكن
س َّومة? من خـيل تـرك ووائل ُم َ ت له ظهر الصبيب وقد بـدت بذ ْل ُ
فكافأه أبرويز بعد ذلك ،وعرف له ما صنع ،ولما سار أبرويز من الهزيمة? إلى أبي??ه
هرمز أشار عليه أن يلحق بقيصر ويستنجده فإن الملوك إذا اس ُت ْن ِجدت في مثل هذه
الحالة أنجدت ،في خطب طويل جرى بينه? وبين أبيه ،فمض??ى أبروي??ز وتبع??ه غ??يره
?ر دجل??ة ،وقط??ع الجس??ر خوف?ا ً من خي??ل وع َب َ
من الخواص،وخااله بسطام وبندوي??هَ ،
بهرام ،ونظرفي مسيره ذلك اليوم إلى خا َل ْيهِ ،وقد تأخرا عنه ،فاستراب بهم??ا وبمن
أنضاف إليهما ممن كان معهم ،فسألهما عن السبب ،فق??اال :لس??نا ب??آمنين أن ي??دخل
بهرام إلى أبيك هرمز فيضع تاج المملكة على رأسه ،وإن كان أعمى ،ويص??ير ه??و
الهرم??زان ،وتفس??ير? ذل??ك أم??ير األم??راء ،وال??روم تس??مي? ص??احب ه??ذه الموتب??ة?
الدمس??تق ،فيكتب به??رام عن أبي??ك هرم??ز إلى قيص??ر :إن اب??ني أبروي??ز وجماع??ة
انضافوا إلي??ه وثب??وا بي وس??ملوا عي??ني ،فاحمل??ه إلي ،فيحملن??ا قيص??ر إلي??ه ،في??أتي
علينا بهرام ،وال بد لنا من الرجوع إلى أبيك وقتل??ه ،فناش??دهماهللا أن ال يفعال ذل??ك،
?رع معهم??ا وأظهر فيما ذكر عنه ،البراءة من فعلهما ،فرجعا من فورهم??اَ ،و َمنْ تس? َّ
إلى المدائن وقد صاروا على أميال منها فدخال على هرمز فخنقناه ،ولحقا بأبرويز?،
ولحقتهم خي??ل به?رام ،وك?انت بينهم حمل??ة في بعض ال?ديارات إلى أن تخلص?وا من
تلك الخيل ،وسار أبرويز ففي هرمز يقول ورقة بن نوفل :
والخلد قد حاولت عا ٌد فما َخ َلدوا لم يغن هرمز شيء من خزائنه?
والجن واإلِنس تجري بينها ال ُبرد وال سليمان إذ تجري الرياح لـه
وأسرع بهرام جوبين إلى المدائن من النهروان ،حين بلغ?ه قت?ل هرم?ز ف?احتوى
على الملك ،ولحق أبرويز? بالرها فنزلها ،وكاتب ملك الروم ،و م??وريقس م??ع خال??ه
بسطام وجماعة ممن كانوا معه ،يسأله النصرة علىع??دوه ،ويض??من ل??ه الوف??اء بم??ا
ينفقه من أمواله ،واإِل حسان إلى جنده ،وأنه يؤدي إليه دي?ات َمنْ يقت?ل من رجال?ه،
وغير ذلك من الشروط ،وأهدى إليه هدايا كثيرة :منها مائة غالم من أبن??اء أراكن??ة
الترك في نهاية الحسه والجم??ال واس?تقامة الص??ور ،في آذانهم أق??راط ال?ذهب فيه??ا
ال??در واللؤل??ؤ ومائ??دة من العن??بر ف ْت َحه??ا ثالث??ة أذرع على ثالث ق??وائم من ال??ذهب
ِ?ل بظلف?ةمفصلة بأنواع الجواهر أح?د األرج?ل س?اعد وك?ف أس?د واآلخ?ر س?اق َوع ٍ
والثالث كف عقاب بمخلبه ،وفي وسطها جام جزع يماني فاخر ف ْتحته ش??بر ممل??وء
حجارة ياقوت أحمر ،وسفط من ذهب في??ه مائ??ة درة وزنُ ك??ل درة مثق??ال أرف??ع م??ا
يكون ،فحمل إليه موريقس? ملك الروم ألف دينار ،ومائة ألف ف??ارس ،بعث بهم م??ع
هديت??ه ،وأل??ف ث??وب من ال??ديباج الخزائ??ني المنس??وج بال??ذهب األحم??ر وغ??يره من
األلوان ،وعشرين ومائة جارية من بنات ملوك برجان والجاللقة والصقالبة
صفحة 156 :
وكان وزير أبرويز ،والغالب علي??ه ،والم??دبر ألم??ره حكي ٌم من حكم?اء الف??رس وه??و
بزرجمه??ر بن البختك??ان ،فلم??ا خال من ملك??ه ثالث عش??رة س??نة? اتهم??ه بالمي??ل إلى
بعضر الزنادقة من ال َّث َن ِوية ?،فأمر بحبسه ?،وكتب إليه :كان من ثمرة علم??ك ونتيج??ة
مِا أداك إليه عقلك ،أن صرت أهاًل للقتل .وموضعا ً للعقوب??ة ،فكتب إلي??ه بزرجمه??ر?:
أما إذ كان معي الجد فقد كنت أنتفع بثم??رة عقلي ،ف??الآلن إذ ال َج? َّد معي فق??د أنتف??ع
بثمرة? الصبر ،وإذ قد فقدت كثير الخير فق??د اس??ترحت من كث??ير من الش??ر ،وأغ??رى
أبرويز ببزرجمهر ?،فدعا به ،وأمر بكسر أنفه وفمه ،فقال بزرجمهر :فمي ألهل لما
صفحة 157 :
هو شر من ه??ذا ،فق??ال أبروي??ز ?:ولم ي??ا ع??دو هّللا المخ??الف .فق??ال ألني كنت ِ
أص?ف َك
لخواص الناس وعوامهم بما ليس في??ك ،وأقرب??ك م??ل قل??وبهم ،وأرف??ع من محاس??ن
أمورك ما لم تكن عليه ،اسمع مني يا ش??ر المل??وك نفس?اً ،وأخبثهم فعاًل ،وأس??وأهم
عشرة ،أتقتلني بالشك وترفع به اليقين الذي قد علمته مني من التمسك بالش??ريعة?.
من ذا الذيى يرجوعدلك يثق بقولك ويطمئن إليك .فغضب أبرويز ،وأمر به فض??رب
عنقه ،ول??بزرجمهر في أي??دي الن??اس قض??ايا وحكم ومواع??ظ وكالم كث??ير في الزه??د
غيره ،وندم أبرويز على قتل??ه ،وتأس??ف ،ودع??ا بخ??ير اريس ال??وزير الث??اني ،ك??انت
مرتبته? دون مرتبة? بزرجمه??ر ،فلم??ا رأى بزرجمه??ر ق??تيالً أس??ف علي??ه ،علم أن??ه ال
ينجو ،فأغلظ ألبرويز في الكالم ،فأمر به فقتل وأغ??رق في دجل??ة ،فلم?ا ع?دم ه?ذين
ال??رجلين وم??ا ك??ان علي??ه من الكفاي??ة وت??دبير? المل??ك اس??توحش من ش??ريعة الع??دل
وواضحة الحق فعدل إلى الجور وال َع ْسف بخواص رعيت??ه وعوامه??ا ،وحمله??ا على
ما لم تكن تعهد ،وأوردهم إلى ما لم يكون??وا يعرفون??ه من الظلم ،ف??وثب بطري??ق من
بطارقة الروم يقال له فوقاس فيمن اتبع?ه على م?وريقس? مل?ك ال?روم َحمِي أبروي?ز?
ومنجده فقتلوه ،و َملَّكوا فوقاس ،ونمى ذلك إلى أبرويز فغض??ب لحمي??ه ،وس??ير? إلى
ال??روم الجي??وش ك??انت ل??ه في ذل??ك أخب??ار يط??ول ذكره??ا ،وس??ير? ش??هريار مرزب??ان
المغ??رب إلى ح??رب ال??روم ،ف??نزل أنطاكي??ة ،فك??انت ل??ه م??ع ال??روم وأبروي??ز أخب??ار
ومكاتب??ات حي??ل إلى أن خ??رج مل??ك ال??روم إلى ح??رب ش??هريار ،وق??دم خزائن??ه في
البحر،ألف مركب ،فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكي??ة ،فغنمه??ا ش??هريار ،حمله??ا إلى
أبروي??ز ،فس??ميت خ??زائن ال??ريح ،ثم فس??دت الح??ال بين أبروي ?ز? وش??هريار ،وماي??ل
ش??هريار مل??ك ال??روم ،فس??يره ش??هريار نح??و الع??راق إلى أن انتهى إلى النه??روان،
فاحتال أبرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفة النصرانية ممن كان في ذمت??ه ح??تى
رده إلى القسطنطينية? وأفسد الحال بينه بين شهريار ،وغير ذلك مما ق??د أتين??ا على
ذكره في الكتاب األوسط .
يوم ذي قار
وفي ملك أبرويز كانت ح?روب ذي ق?ار ،وه?و الي?وم ال?ذي ق?ال فيه?النبي ص?لى هللا
عليه وسلم هذا َأول ي??وم انتص??فت في??ه الع??رب من العجم ،و ُن ِ
ص? َر ْت عليهم ،وك??انت
وقعة ذي قار لتم??ام أربعين س??نة? من مول??د رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم وه??و
بمكة بعد أن بعث ،وقيل :بعد أن هاجر ،وفي رواية أخرى أنها كانت بعد وقعة بحر
بأشهر ،ورسول هّللا صلى هللا عليه وسلم بالمدينة ?،وكانت هذه الوقع??ة بين بك??ر بن
وائل والهرمزان صاحب كسرى أبرويز ،وق??د أتين??ا على ه??ذه األخب??ار على الش??رح
واإِل يضاح في الكتاب األوسط ،فأغنى ذلك عن إيراده في هذا الموضع.
وفي أيام أبرويز كانت حوادث تن??ذر ب??النبوة وتبش?ر? بالرس??الة ،وأنف??ذ أبروي??ز عب??د
المسيح بن بقيل?ة الغس?اني إلى س?طيح الك?اهن ،ف?أخبره برؤي?ا الموب?ذان وارتج?اج
اإِل يوان ،وغير ذلك من أخبار فيض ،وادي السماوة وما كان من بحيرة ساوة.وكان
صه ياقوت أحمر نقشه ألبرويز? تسعة خواتم تمور? في أمر الملك :منها خاتم فضة ف ُّ
صورة الملك وحوله مكتوب صفة الملك وحلقته ماس ُت ْختم به الرسائل والسجالت،
والخاتم الثاني فصه عقيق نقشه خراسان ح??رة وحلقت??ه ذهب تختم ب??ه !الت??ذكرات،
صه جزع نقش??ه ف??ارس ي??ركض وحلقت??ه ذهب منق??وش في??ه ا ْل َو َح? ا والخاتم الثالث ف ُّ
ش?ه بالم??ال ين??ال الف??رحيختم به أجوبة البريد ،والخاتم الرابع فصه ياقوت مورد َن ْق ُ
وحلقته ذهب يختم به البراوات والكتب في التجاوز عن العصاة والمذنبين ?،والخاتم
الخ??امس فص??ه ي??اقوت بهرم??ان ،وه??و أحس??ن م??ا يك??ون من الحم??رة وأص??فاها
وأشرفها ،نقشه حره وخرم أي بهجة وسعادة حافتاه لؤلؤ وماس ،يختم به خ??زائن
الجوهر وبيت مال الخاصة وخزانة الكسوة وخزانة الحلي ،والخاتم السادس نقش??ه
عقاب يختم به كتب الملوك إلى اآلفاق وفصه حديد حبش??ي ،والخ??اتم الس??ابع نقش??ه
ذباب يختم به األدوية واألطعمة والطيب فصه بادزهر ،والخاتم الثامن فص??ه ُج َم??ان
نقشه رأس خنزير يختم به أعناق من يؤمر? بقتل??ه وم??ا ينف??ذ من الكتب في ال??دماء،
والخاتم التاسع حديد يلبسه? عند دخول الحمام وفص??ه اب??زن ع?دد أبرويزوك??ان على
مربطه? خمسون ألف دابة وسروج ذهب مكلّلة بالدر والجوهر على عدد م??ا لركاب??ه
ضا َ من الثلج ،ومنها ما من الخيل ،وكان على مربطه ألف فيل ،منها أشهب أشد بيا َ
ارتفاعه اثتا عشر ذراعاً ،وفي النادر ما يوجد من الفيلة الحربي??ة م??ا ارتفاع??ه ه??ذا
القدر ،وأكثر م??ا يوج??د من ارتف??اع الفيل??ة من التس??عة األذرع إلى العش??رة ،ومل??وك
الهن??د تب??الغ في أثم??ان م??ا عظم من الفيل??ة ،وارتف??ع من األرض ،وق??د يك??ون من
الوحشية? في أرض الزنج من الفيل?ة م?ا ه?وأعظم س?مكا ً مم?ا وص?فنا ب?أفرع كث?يرة
على حسب ما تحم??ل من قرونه??ا المس??ماة باألني??اب م??ا وزن الن??اب منه??ا خمس??ون
ومائة َمنٍّ إلى المائتين ،والمن رطالن بالبغدادي ،وعلى قدر عظم الناب عظم جس??د
الفيل.
تدريب الفيلة
وقد كان أبرويز خرج في بعض األعياد وقد وص??فت ل??ه الجي??وش والع??دد والس??الخ
وفيما وصف له ألف فيل ،وقد أحدقت به خمسون أل??ف ف??ارس دون الرجال??ة ،فلم??ا
نظرت ?ه? الفيل??ة س??جدت ل??ه فم??ا رفعت رؤوس??ها َو َب ْس ?طها لخراطيمه??ا ح??تى ج??ذبت
بالمحاجن ،وراطنها الفيالون بالهندية ،فلما بصر بذلك أبرويز تأسف على ما خص
به أهل الهند من فضيلة الفيل??ة ،وق??ال :ليت أن الفي??ل لم يكن هن??ديا ً وك??ان فارس??ياً،
انظروا إليها وإلى سائر الدواب وفضلوها بقدر ما ترون من معرفتها وأدبه??ا ،وق??د
افتخ??رت الهن??د بالفيل??ة وعظم أجس??امها ،وحس??ن طاعته??ا ،وقبوله??ا الرياض??ات،
وفهمها المزادات ،وتمييزها بين الملك وغيره ،وأن غيرها من الدواب ال يفهم
صفحة 159 :
شيئا ً من ذلك وال يفصل بين ش??يئين ،وس??نورد فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جمالَ من
الفصول في أخبار الفيلة وم??ا قالت??ه الهن??د وغ??يرهم في ذل??ك وتفض??يلها على س??ائر
الدواب.
شيرويه بن أبرويز
فكانت مدة ملك أبرويز? إلى أن خلع وسملت عيناه وقتل ثمان َيا َ وثالثين سنة? ثم مل??ك
بعده ولده قباذ المعروف بشيرويه? القابض على أبيه ،والج??اني علي??ه ،والقات??ل ل??ه،
والفرس تسميه المشؤوم ،وفي أيامه كان الطاعون ب??العراق وغيره??ا من األق??اليم،
فهلك مائتا ألف من الناس ،فالمكثر يقول :هلك نصف الناس ،والمقل يق?ول :الثلث،
وكان ملك شيرويه? إلى أن هلك س??نة وس??تة أش??هر ،وقي??ل :أق??ل من ذل??ك.ولكس??رى
أبرويز والبنه شيرويه? أخبار عجيبة? ومراسالت قد أتينا على ذكرها فيما س??لف من
كتبنا.
أردشير
ثم ملك بعد شيرويه? ولده أردشير ولي عهد الملك ،وهو ابن سبع سنين ،فسار إليه
من أنطاكية من بالد الشام شهريار مرزبان المغرب المقدم ذكره م??ع أبروي??ز ومل?ك
الروم فقتله ،فكان ملكه خمسة أشهر.
شهريار
ثم ملك شهريار نحوا من عشرين يوماً ،وقيل :شهرين ،وقيل غ??ير ذل??ك ،واغتالت??ه
ابنة لكسرى أبرويز يقال لها أرزمي دخت فقتلته?.
كسرى
ثم ملك كسرى بن قباذ بن أبرويز ،وقي??ل :إن??ه ابن ألبروي??ز ?،وك??ان بناحي??ة ال??ترك،
فسار يريد دار الملك ،فقتل فى الطرلِق بعد ملكه ثالثة أشهر.
بوران
ثم ملكت بعده بوران بنت كسرى أبرويز ?،فك??ان ملكه??ا س??نة ونص??فا .ثم مل??ك رج??ل
من أهل بيت الملك من ولد سابوربن يزدجرد األثيم .يقال له فيروز خشنش??ده فك??ان
ملكه شهرين.ثم ملكت ابنة لكسرى أبرويز ئقال! لها أرزمي دخت فكان ملكها س??نة
وأربعة أشهر.ثم ملك فرحاد خسرو بن كسرى أبروبز ،وهو طفل ،فكانت مدة ملك??ه
شهراً ،وقيل أشهراً.
يزدجرد
ثم ملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز? بن هرمز بن أنوش??روان بن قب??اذ بن
فيروز بن به??رام بن يزدج??ر بن س??ابور بن هرم??ز بن س?ابور بن أردش??ير بن باب??ك
بنساسان .وهو أخر ملوك الساسانية فكان ملكه إلى أن قتل بمرو من بالد خراسان
عشرين سنة وذلك لسبع سنين ونصف خلت من خالفة عثمان بن عفان رض??ي هّللا
عنه .وهي سنة? إحدى وثالثين من الهجرة ،وقيل غيرذلك مقدار ملكه وخبر مقتله.
أجناس الفرس:
وكانت الفرس من بدء الدهر أربعة أجناس إلى أن جاء هّللا تعالى باإِل سالم فالصنف
األول ُيقال له الخداهان وهم األرباب ،كما ُيقال :رب المت??اع ،ورب ال??دار وذل??ك من
كيومرث إلى أفريدون ،ثم الكيان من أفريدون إلى دارا بن دارا.
صفحة 161 :
ثم األشغان ،وهم ملوك الطوائف بعد اإِل س??كندر على م??ا ذكرن??ا في ب??اب ذك??ر مل??وك
الطوائف ،ثم الساسانية? وهم الفرس الثانية ،وقد ذك?ر أب?و عبي?دة معم?ر بن المث?نى
في كتابه في أخب?ار الف??رس ال??ذي رواه عن عم??ر كس??رى أن الف??رس طبق??ات أرب??ع
ممن سلف وخلف :فالطبقة األولى من كيومرث إلى كرساسب ،والطبقة الثاني??ة من
كيان بن كيقباذ إلى اإِل سكندر وآخ??رهم دارا ،والطبق??ة الثالث??ة وهم األش??غانية مل??وك
الطوائف ،والطبقة الرابعة سماهم مل?وك االجتم?اع ،وهم الساس?انية? أولهم أردش?ير
بن باب?ك ،ثم س?ابور بن أردش?ير ،هرم?ز بن س?ابور ،به?رام بن س?ابور ،به?رام بن
بهرام ،نرسي بن سابور ،هرمز بن نرس??ي ?،س??ابور بن هرم??ز ،أرش??ير بن هرم??ز،
سابور بن أردشير ،سابور بن سابور ،بهرام بن سابور ،يزدجرد بن بهرام ،به??رام
بن يزدجرد ،فيروز بن يزدجرد ،بالس بن يزدجرد ،فب??اذ بن ف??يروز ،أن??و ش??روان،
هرمز أبرويز ش??يرويه? أردش??ير ش??هريار ب??وران كس??رى بن قب??اذ ف??يروز خشنش??ده
أرزمي دخت فرحاد خسرو يزدجرد.وإنما ذكرن??ا ه??ؤالء بع??د أن ق??دمنا ذك??رهم فيم??ا
س??لف من ه??ذا الب??اب للخالف الواق??ع وتب??اين الرواي??ات والت??واريخ? في أع??دادهم
وأسمائهم ،فأوردنا م??ا قال??ه المتن??ازعون من األخب??اريين .وق??د أتين??ا على أخب??ارهم
وسيرهم ووصاياهم وعهودهم ومكاتباتهم وتوقيع??اتهم وكالمهم عن??د عق??د التيج??ان
على رؤوسهم ورسائلهم وسائر ما ك??ان من الح??وادث في أعص??ارهم ،وم??ا ك??وروه
من الكور ،وأحدثوه من المدن ،وغير ذلك من أحوالهم ،فيما سلف من كتبن??ا.وإنم??ا
نذكر في هذا الكتاب جوامع من تاريخم وأعداد ملوكهم ولمعا ً من أخب??ارهم ،وك??ذلك
ذكرنا في كتابنا في أخبار الزمان خطب الطبقات األربع ،وما حفر كل ملك منهم من
األنهار وانفرد ببنائه? من المدن .وآراء الملوك وأحكامه??ا ،وكث??يراً من قض??اياها في
خواصها وعوامها ،وأنساب أصحاب خيل الملك ،ومن كان على خيل كل مل??ك منهم
في الحروب ،وأنساب حكمائهم وز َّهادهم ممن اشتهر بذلك في أعصارهم ،وأنس??اب
المرازبة ،وذكر أوالد الطبقات األربع ممن تقدم ذكرهم ،وتش??عب أنس??ابهم ،وتف??رق
أعقابهم ،ووصفنا األبيات الثالثة التي شرفها كسرى على سائر َمنْ بس??واد الع??راق
وهم مشهورون في أهل السواد إلى وقتنا هذا ،وأشراف السواد بعد األبيات الثالث??ة
من الشهارجة الذين ش??رفهم أي??رج وجعلهم أش??راف الس??واد ثم الطبق??ة الثاني??ة بع??د
الش??هارجة وهم ال??دهاقين وهم ول??د وهك??رت بن ف??ردال بن س??يامك بن نرس ?ي? بن
كيومرث الملك .وكان لولد وهكرت عشر بنين ،فأبناء هؤالء العشرة هم ال??دهاقين،
وك??ان وهك??رت أول من َت??دَ هقن .وال??دهاقين تتف??رع على م??راتب خمس ومن ذكرن??ا
كانت مالبس?هم تختل?ف على ق?در م?راتبهم ?.وقت?ل يزدج?رد االخ?ر من مل?وكهم على
حسب ما ذكرنا .وله خمس وثالثون سنة ?.وخلف من الولد :به??رام ،وف??يروز ،ومن
النساء أدرك .وشاهين ،ومرداون?د .وأك?ثر عقب?ه بم?رو ،واألك?ثر من أبن?اء المل?وك
وأعق??اب الطبق??ات األرب??ع بس??واد الع??راق إلى اآلن يتدارس??ون أنس??ابهم ويحفظ??ون
أحس??ابهم كحف??ظ الع??رب من قحط??ان ون??زار ،وال خالف فيم??ا ذكرن??ا عن??د الدراي??ة
بماوصفنا.قال المسعوعي :فإذ قد ذكرنا جوامع من أخبار الفرس وطبق?اتهم فلن??ذكر
االن مل??وك اليون??انيين ولمع?ا ً من أخب??ارهم وتن??ازع الن??اس في ب??دء أنس??ابهم ،على
االختصار واإليجاز ،وهّللا ولي التوفيق ،برحمته? ورضوانه.
صفحة 162 :
قال المسعودى :تنازع الناس في فرق اليونانيين؛ فذهب طائفة من الن??اس إلى أنهم
ينتمون إلى الروم ،ويضافون إلى ولد إسحاق ،وقالت طائفة اخ??رى :إن يون?ان ه?و
ابن يافث بن ينوح ،وذهب قوم إلى أنهم من ولد آراش بن ناوان بن يافث بن نوح،
وذهب قوم إلى أنهم قبيل متقدم في الزمان األول ،وإنما وهم من وهم أن اليون??انين
ينس??بون إلى حيث تنس??ب ال??روم ،و ينتم??ون إلى ج??دهم إب??راهيم ألن ال??ديار ك??انت
مشتركة? والمقاطن والم??واطن ك??انت متس??اوية ،وك??ان الق??وم ق??د ش??اركوا الق??وم في
السجية والمذهب؛ فلذلك غلط من غلط في النسب ،وجعل األب واحداً ،وهذا طري??ق
فت في لغاته??ا الص??واب عن??د المفتش??ين ،وس??بيل البحث عن??د الب??احثين ،وال??روم َق ْ
ووض??ع كتبه??ا اليون??انيين فلم يص??لوا إلى كن??ه فص??احتهم وطالق??ة ألس??نتهم وال??روم
أنقص في اللس???ان من اليون???انيين ،وأض???عف في ت???رتيب? الكالم ال???ذي علي???ه نهج
س َننُ خطابهم.
تعبيرهم و َ
قال المسعودي :وقد ذكر ذوو العناية بأخبار المتقدمين أن يونان أخو قحطان ،وأنه
من ولد عابر بن شالخ ،وأن أمره في األنفصال عن دار أخيه ك??ان س??بب الش??ك في
الشركة في النسب ،وأن??ه خ??رج عن أرض اليمن في جماع??ة من ول??ده وأهل??ه َو َمنْ
س?ل َ في تل??ك انضاف إلى جملته حتى وافى أقاص??ي بالد المغ??رب ،فأق??ام هنال??كَ ،وأ ْن َ
الديار ،واستعجم لسانهَ ،و َوازى من ك??ان هنال??ك في اللغ??ة األعجمي??ة من اإلِفرنج??ة
رالروم ،فزالت نسبته ?،وانقطع سببه ،وص??ار منس??يا ً في دي??ار اليمن غ??ير مع??روف
س?نَ العق??ل النسابين منهم وكان يونان جباراً عظيماً ،وس??يما ً جس??يماً ،وك??ان َح َِ عند
والخلق َج ْزل الرأي ،كثير الهمة ،عظيم القدر.وقد ك??ان يعق??وب بن إس??حاق الكن??دي
خ لقحطان ،ويحتج لذلك بأخبار يذكرها يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا من أنه أ ٌ
في ب?دء األنس??اب ،ويورده?ا من ح?ديث اآلح?اد واألف?راد ،ال من ح?ديث االستفاض??ة
والكثرة.
وقد َر َد عليه أبو العباس عبد هّللا بن محمد الناش??ىء في قص??يدة ل??ه طويل??ة ،وذك??ر
َخ ْلطه نسب يونان بقحطان ،على حسب ما ذكرنا آنف?ا ً في ص??در ه??ذا الب??اب ،فق??ال:
ص َّح منك والعقدا َع َلى ْ
الفحص َرايا ً َ سف ،إني نظـرت فـلـم أجـد أبائو ُ
إذا امـرؤ َبالَ ُه ْم جميعا ً لم يجد عندهم عـنـدا وصرت حكيما ً عند قـوم
أخـا كـنـده إدا لقد جئت شـيئا ً يا َ أ َت ْق ِرنُ إلـحـاداً بـدين مـحـمـد
لقد َبا َعدْ َت بينـهـمـاجـدا ـلة لعمريض ًو َلخلط يونانـأبـقـحـطـان َ
مساكن يونان
ولما نشأ ولديونان وك?ثرخرج يس?يرفي? األرض يطلب موض??عا ً يس??كنه ،ف?انتهى إلى
موضع من الغ??رب ،ف??نزل بمدين?ة? أثين??ا ،وهي المعروف??ة بمدين?ة? الحكم??اء في دي??ار
المغرب في صدر الزمان ،وأقام بها هو ومن معه من ولده ،فك??ثر نس??له به??ا وب??نى
به??ا البني??ان العظيم ،إلى أن أدركت??ه الوف??اة ،فجع??ل وص??يته? إلى األك??بر من ول??ده،
?ربص من ا ْل َح ْتم
َ واس??مه حربي??وس ،فق??ال ل??ه :ي??ا ب??ني ،إني ق??د وافيت األج??ل ،وق?
ال??واجب ،وإني راح??ل عن??ك ومفارق??ك ،ومف??ارق إخوات??ك وأه??ل بيت??ك ،وق??د ك??انت
أحوالكم حسنة النظام بي ،وكنت لكم َك ْهفا ً في الشدائد ،وعون ?ا ً على المحنَ ،وم َِج ّن? ا ً
من الزمان فعليك بالجود فإنه قطب الملك ،ومفتاح السياس??ة ،وب??اب الس??يادة ،وكن
حريص??أ على اقتن??اء الرج??ال باإِل نع??ام عليهم تكن س??يداً رش??يداً ،وإي??اك َوا ْل َح َي??دَ عن
?ورط
الطريق المثلى التي عليها بني العقل ،ف?إن من ت??رك رأي اللب وثم??رة العق??ل ت? ّ
في المهالك ،ووقع في مقابض المتالف.
حربيوس
ثم مات يونان ،واستولى ولده حربي??وس على مك??ان أبي??ه ،وض??م إلي??ه أهل??ه ووللى
وعم??ل بم??ا أم??ره ونم??ا خ??برهم ،وك??ثر نس??لهم ،فغلب??وا على دي??ار المغ??رب من بالد
اإِل فرنجة والنوكبرد ،وأجناس األمم من الصقالبة وغيرهم.
فيلبس
وكان أول ملوكهم ممن سماه بطليموس في كتابه :فيلبس ،وتفسيره محب الفرس،
وقيل :إن اسمه يابس ،وقيل :فيلقوس ،وكانت مدة ملكه س?بع س?نين.وق?د قي?ل :إن
اليونانيين لما أن سار البخت نصر من ديار المشرق نح??و الش??ام ومص??ر والمغ??رب
?راج إلى ف??ارس ،وك??ان خ??راجهموبذل السيف كانوا ي??ؤدون الطاع??ة ويحمل??ون الخ? ِ
بيضا ً من ذهب عدداً معلوما ً ووزنا ً مفهوم?ا َ وض??ريبة محص??ورة ،فلم??ا أن ك??ان من
أمر اإِل سكندر بن فيلبس وهو الملك الماضي النيى هو أول ملوك اليونانيين على ما
ذكره بطليموس ما كان من ظهوره وهمت??ه بعث إلي??ه داري??وس مل??ك ف??ارس ،وه??و
دارا بن دارا ،يطالبه بما جرى من الرسم ،فبعث إليه اإِل س??كندر :إني ق??د ذبحت تل??ك
الدجاج??ة ال??تي ك??انت ت??بيض? بيض ال??ذهب ،وأكلته??ا ،فك??ان من ح??روبهم م??ا دع??ا
اإِل سكندر إلى الخروج إلى أرض الشام والعراق ،فاصطلم من كان به??ا من المل??وك،
وقتل دارا بن دارا ملك الفرس ،وقد أتينا على خ??بر مقتل??ه ومقت?ل? غ??يره من مل??وك
الهند ،ومن لحق بهم من ملوك الشرق في الكت??اب األوس??ط .ونس??ب ق??وم اإِل س??كندر
أنه اإِل س??كندربن فيلبس بن مص??ريم? بن ه??رمس بن ه??ردوس بن ميط??ون بن رومي
بن نويط بن نوفيل بن رومي بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح ،ونسبه? قوم أن??ه
من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم ،ومنهم من رأى أن??ه اإلِس??كندر بن يون??ه بن
س??رحون بن رومي بن قرم??ط بن نوفي??ل بن رومي? بن األص??فر بن اليغ??زبن العيص
بن إسحاق بن إ برا هيم.
أصبح آسر األسراء أسيراً ،ثم قام حكيم ثان فق?ال :ه?دا اإلِس?كندر ال?ذي ك?ان يخب?ؤ
الذهب فصار الذهب يخبؤه ،وقال الحكيم الث?الث :م?ا أزه??د الن?اس في ه??ذا الجس??د،
وأرغبهم في هذا التابوت وقال الحكيم الرابع:من أعجب العجب أن القوي قد ُغلِب،
قال االمسعودي :لما َق َتل اإلِس??كندر ف??ور ص??احب مدين?ة? الم??انكير من مل??وك الهن??د،
وانقاد إليه جميع ملوك الهند ،على حسب ما ذكرناه من حمل األموال والخراج إليه
فبلغ??ه أن في أقاص??ي أرض الهن??د ملك ?ا ً من مل??وكهم ذا حكم??ة ،وسياس??ة وديان??ة،
وإنصاف للرعية ،وأنه قد أتى عليه من عمره مئون من السنين وأن??ه ليس ب??أرض
الهند من فالسفتهم وحكمائهم مثلهُ ،يقال له كند ،وكان قاهراً لنفسه ،مميتا ً لصفاته
من الشهوية والغضبية وغيرها ،حامالً لها على خلق كريم ،وأدب زائن :فكتب إليه
كتابا ً يقول فيه :أما بع?د ،ف?إذا أت?اك كت?ابي ِه??ذا ف?إن كنت قائم?ا ً فال تقع??د ،وإن كنت
ت ملكك ،ولحقتك بمن مضى من مل??وك الهن??د ،فلم??ا ورد ماشيا ً فال تلتفت ،وإال مز ْق ُ
عليه الكتاب أجاب اإِل سكندر أحسن جواب ،وخاطبه بمل??ك المل??وك ،وأعلم?ه أن?ه ق?د
اجتمع له قبله ،أشياء ال يجتمع عند غيره مثلها إال من صارت إلي??ه عن??ه فمن ذل??ك
ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن صورة منها ،وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن
تسأله لحِدة مزاجه ،وحسن قريحته ،واعتدال بنيته ?،واتساعه في علمه ،وط??بيب ال
تخشى معه داء ،وال شيئا ً من العوارض ،إال ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع
صفحة 167 :
الجسم الحس??ي ،وإنِ بهذه البنية ?،وحل العقدة التي عقدها المبدع لها المخترع لهذا
ك??انت بني ?ة? اإلس??نان وهيكل??ه ق??د نص??بت في ه??ذا الع??الم غرض ?ا َ لألف??ات والحت??وف
والباليا ،و َق َدح عندي إذا أنا مألته شرب منه عسكرك بجمعه وال ينقص منه شيء،
وال يزيده الوارد عليه إال دهاقاً ،وأنا ُم ْنف ٌذ جميع ذلك إلى الملك ،وصائر إلي??ه ،فلم??ا
قرأ اإلِسكندر هذا الكتاب ووقف على ما فيه قال :تكون هذه األشياء األربعة عندي،
ونج??اة ه??ذا الحكيم من ص??ولتي أحب من أن ال تك??ون عن??دي ويهل??ك ،فأنف??ذ إلي??ه
اإِل سكندر جماعة من حكماء اليونانيين والروم .في عدة من الرج??ال ،وتق??دم إليهم:
إن ك??ان ص??ادقا ً فيم??ا كتب ب??ه ف??احملوا ذل??ك إلي ،ودع??وا الرج??ل في موض??عه ،وإن
تبينتم أن األمر بخالف ذلك وأنه أخبر عن الشيء على خالف ما هو ب??ه فق??د خ??رج
عن حد الحكمة فأشخصوه إلي ،فمضى القوم حتى انتهوا إلى الملك فتلقاهم بأحسن
لقاء ،وأن?زلهم أحس?ن م?نزل ،فلم?ا ك?ان في الي?وم الث?الث جلس لهم مجلس?ا ً خاص?ا ً
للحكم??اء منهم دون من ك??ان معهم من المقاتل??ة ،فق??ال بعض الحكم??اء لبعض :إن
ص??دقنا في األولى ص??دقنا فيم??ا بع??دها مم??ا ذك??ر ،فلم??ا أخ??ذت الحكم??اء مراتبه??ا،
واس??تقرت به??ا مجالس??ها ،أقب??ل عليهم مباحث ?ا ً لهم في أص??ول الفلس??فة والكالم في
الطبيعيات وما فوقه??ا من اإلِلهي??ات ،وعلى ش??ماله جماع??ة من حكمائ??ه وفالس??فته،
وتش??اح الق??وم ،ونظ??روا في موض??وعات العلم??اء ّ فط??ال الخطب في المب??دأ األول،
وترتيبات الحكماء على غير مراء وتناهى بهم الكال ُم إلى غاية كان إليها ص??دورهم
من العلويات ،ثم أخرج الجارية فلم??ا ظه??رت ألبص??ارهم َر َمقُوه??ا ب??أعينهم فلم يق??ع
طرف واحد منهم على عضو من أعضائها مما ظهر فأمكن??ه أن يتع??دى ببص??ره? إلى
غيره ،وشغله تأمل ذلك وحسنه? وحسن شكلها وإتقان صورتها ،فخ??اف الق??وم على
عق??ولهم لم??ا ورد عليهم عن??د النظ??ر إليه??ا ،ثم إن ك??ل واح??د منهم رج??ع إلى نفس??ه
وفهمه وقهر س??لطان ه??واه دواعي طبع??ه ،ثم أراهم بع??د ذل??ك م??ا تق??دم الوع??د ب??ه،
وسيرهم وسير الفيلسوف والط??بيب والجاري??ة والق??دح معهم ،وش??يعهم مس??افة من
أرض??ه ،فلم??ا وردوا على اإلِس??كندر أم??ر ب??إنزال الط??بيب والفيلس??وف ،ونظ??ر إلى
الجارية ،فحار عند مشاهدتها ،وبهرت عقله ،وأمر َقي َمة جواريه بالقيام عليه??ا ،ثم
صرف همته إلى الفيلسوف وإلى علم ما عنده ،وإلى علم الطبيب ومحله من صنعة
الطب وحفظ الص??حة ،وقص الحكم??اء علي??ه م??ا ج??رى لهم من المباحث??ة م??ع المل??ك
الهندي ،ومن أحضره من فالسفته وحكمائه ،فأعجب??ه ذل?ك ،وتأم??ل أغ??راض الق??وم
ومقاصدهم والغاية ال??تي إليه??ا ك??ان أص??درهم ،وأقب??ل ينظ??ر إلى مط??اردة الهن??د في
عللها ومعلوالتها وما يصفه اليونانيون من عللها وصحة قياسها على ما قدمنا من
أوضاعها ،ثم أراد محنة الفيلسوف على حسب ما أخبر عنه ،وأج??ال فك??ره ،فس??نح
له سانح من الفكر بإيقاع معنى يخت??بره ب??ه ،ف??دعا بق??دح فمأله س??منا ً وأدهق??ه ،ولم
يجعل للزيادة عليه سبيالً ،ودفعه إلى رسول له ،وقال له :امض به إلى الفيلسوف،
وال تخبره بشيء ،فلما ورد الرسول بالقدح ودفعه إلى الفيلسوف قال بصحة فهم??ه
وتبينه? لألم??ور المتقن??ة المحكم??ة في نفس??ه ?:ألم? ٍ?ر م??ا بعث ه??ذا المل??ك الحكيم به??ذا
س َبر المراد به ،ثم دعا بنح??و أل??ف إب??رة فغ??رز أطرافه??ا السمن إلي ،وأجال فكره ،و َ
في السمن ،وأنفذها إلى اإِل سكندر ،فأمر اإِل سكندر بسبكها كرة مدورة ململمة
صفحة 168 :
متساوية? األجزاء ،وأمر بردها إلى الفيلسوف ،فلما نظر إليها الفيلسوف وتأمل فعل
اإلسكندر فيها أمر ببسطها ،وبأن يتخ??ذ منه??ا م??رآة بحض??رته ?.،وص? َق َلها ،فص??ارت
جسما ً صقيالً ت??ر ُّد ص??ورة َمنْ قابله??ا من األش??خاص لش??دة ص??فائها ،وزوال ال??درن
عنها ،وأمر بردها إلى اإِل سكندر ،فلما نظر إليها ،وتأمل حس??ن ص??ورته فيه??ا ،دع??ا
بطست فجعل المرآة فيه ،وأمر بإراقة الماء فيه عليها حتى رسبت فيه ،وأمر بحمل
ذلك إلى الفيلسوف ،فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك أم??ر ب??المرآة فجع??ل منه??ا مش??ربة
ك??الطر جه??ارة ،وجعله??ا في الطس??ت ف??وق الم??اء ،فطفت فوق??ه ،وأم??ر برده??ا إلى
اإِل سكندر ،فلم??ا نظ??ر اإِل س??كندر إلى ذل??ك أم??ر ب??تراب ن??اعم فملئت من??ه ،ورده?ا إلى
الفيلسوف ،فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك تغيرلونه وحال ،وج??زع وتغ??يرت ص??فاته،
وأسبل دموعه على صحن خده ،وكثر ش??هيقه ?،وط??ال أنين??ه ،وظه??ر حنين??ه ،وأق??ام
بقية يومه غير منتفع? بنفسه ،ثم أفاق من ذلك الح??ال ،وزج??ر نفس??ه ،وأقب??ل عليه??ا
الس ?دْ فة وأص??ارك إلىكالمعاتب لها وقال :ويحك يا نفس ما الذي قذف بك في ه??ذه ُّ
ه??ذه الغم??ة ،ووص??لك به??ذه الظلم??ة ?.أنس??يت وأنت في النورتس??رحين وفي العل??وم
تمرحين ،وتنظرين في الضياء الصادق ،وتنفسحين في العالم المش??رق .أن??زلت إلى
عالم الظلم والمعاندة ،والغشم والمفاسدة ،تخطفك الخواطف ،وتنته??رك العواص??ف،
ق??د ح??رمت علم الغي??وب ،والك??ون في الع??الم المحب??وب ،ورميت بش??دائد الخط??وب،
ورفض??ت ك??ل مطل??وب ،أين مص??ادرك الطبي??ة وراحت??ك القوي??ة .حللت في األجس??اد،
فقوي عليك الكون والفساد ،حللت يا نفس بين الس??باع القاتل??ة واألف??اعي المهلك??ة،
والمياه الحاملة والنيران المحرقة ،والريح العاصفة ،وصيرتك األعمار في ق??رارات
?ر ْينَ إال ج??اهالً ،ق??د زه??د في الخ??يرات ورغب األجسام ،ال تشاهدين إال غافاَل َ ،وال َت? َ
عن الحسنات ،ثم رفع طرفه نحو السماء فرأى النجوم تزهر ،فق?ال ب?أعلى ص??وته?:
يال??ك من نج??وم س??ائرة ،وأجس??ام زاه??رة ،من ع??الم ش??ريف طلعت ،ولش??يء م??ا
وضعت ،إنك من عالم نفيس قد كانت النفس في أعاليه ساكنة ،وفي أكنافه قاطن??ة،
فقد أصبحت عنه ظاعنة ،ثم أقبل على الرس??ول ص??لى هللا علي??ه وس??لم وق??ال :خ??ذه
ورده إلى الملك ،يعني التراب ،ولم يحدث فيه حادث??ة ،فلم??ا ورد الرس??ول ص??لى هللا
عليه وسلم على اإِل سكندر أخبره بجميع ما شهده ،فتعجب اإِل سكندر من ذل??ك ،وعلم
مرامي الفيلسوف ومقاصده وغاية مراده فيما وقع بالنفوس من النقلة مما عال من
العوالم إلى هذا العالم.ولما كان في ص??بيحة? تل??ك الليل??ة جلس ل??ه اإِل س??كندر جلوس?ا ً
خاص?اً،ودع??ا ب??ه ،ولم يكن رآه قب??ل ،ذل??ك ،فلم??ا أقب??ل ونظ??ر إلى ،ص??ورته وتأم??ل،
قامته ،ثم دعا بنحو أل??ف إب??رة فغ??رز أطرافه??ا في الس??من ،وأنف??ذها إلى اإِل س??كندر،
ف??أمر اإِل س??كندر بس??بكها ك??رة م??دورة ململم??ة متس??اوية األج??زاء ،وأم??ر برده??ا إلى
الفيلسوف ،فلما نظر إليها الفيلسوف وتأمل فعل اإلسكندر فيها أمر ببس??طها ،وب??أن
يتخذ منها مرآة بحضرته .،وص َق َلها ،فصارت جسما ً ص??قيالً ت??ر ُّد ص??ورة َمنْ قابله??ا
من األشخاص لشدة صفائها ،وزوال الدرن عنها ،وأمر برده??ا إلى اإِل س??كندر ،فلم??ا
نظر إليها ،وتأمل حسن صورته? فيها ،دعا بطست فجعل الم??رآة في??ه ،وأم??ر بإراق??ة
الم??اء في??ه عليه??ا ح??تى رس??بت في??ه ،وأم??ر بحم??ل ذل??ك إلى الفيلس??وف ،فلم??ا نظ??ر
الفيلسوف إلى ذلك أمر بالمرآة فجعل منها مشربة? كالطر جهارة ،وجعلها في
صفحة 169 :
الطست فوق الماء ،فطفت فوقه ،وأمر بردها إلى اإِل سكندر ،فلما نظر اإِل سكندر إلى
ذلك أمر بتراب ناعم فملئت منه ?،ورده??ا إلى الفيلس??وف ،فلم??ا نظ??ر الفيلس??وف إلى
ذلك تغيرلونه وحال ،وجزع وتغيرت صفاته ،وأسبل دموعه على صحن خده ،وكثر
شهيقه ?،وطال أنينه ،وظهر حنينه ?،وأقام بقية? يومه غير منتفع بنفسه ?،ثم أفاق من
ذلك الحال ،وزجر نفسه ?،وأقبل عليها كالمعاتب لها وقال :ويحك ي??ا نفس م??ا ال??ذي
سدْ فة وأصارك إلى ه??ذه الغم??ة ،ووص??لك به??ذه الظلم??ة .أنس??يت قذف بك في هذه ال ُّ
وأنت في النورتس??رحين وفي العل??وم تم??رحين ،وتنظ??رين في الض??ياء الص??ادق،
وتنفس???حين في الع???الم المش???رق .أن???زلت إلى ع???الم الظلم والمعان???دة ،والغش???م
والمفاس??دة ،تخطف??ك الخواط??ف ،وتنته??رك العواص??ف ،ق??د ح??رمت علم الغي??وب،
والكون في العالم المحبوب ،ورميت بش??دائد الخط??وب ،ورفض??ت ك??ل مطل??وب ،أين
مصادرك الطبية وراحتك القوية .حللت في األجساد ،فق??وي علي??ك الك??ون والفس?اد،
حللت ي??ا نفس بين الس??باع القاتل??ة واألف??اعي المهلك??ة ،والمي??اه الحامل??ة والن??يران
المحرقة ،والريح العاصفة ،وصيرتك األعمار في قرارات األجس??ام ،ال تش??اهدين إال
?ر ْينَ إال ج??اهالً ،ق??د زه??د في الخ??يرات ورغب عن الحس??نات ،ثم رف??ع غ??افاَل َ ،وال َت? َ
طرفه نحو السماء فرأى النجوم تزهر ،فقال بأعلى صوته :يالك من نج??وم س??ائرة،
وأجسام زاهرة ،من عالم شريف? طلعت ،ولشيء م??ا وض??عت ،إن??ك من ع??الم نفيس
قد كانت النفس في أعاليه ساكنة ،وفي أكنافه قاطنة ،فقد أصبحت عن??ه ظاعن??ة ،ثم
أقبل على الرسول صلى هللا عليه وسلم وقال :خذه ورده إلى الملك ،يع??ني ال??تراب،
ولم يحدث فيه حادثة ،فلما ورد الرسول صلى هللا عليه وسلم على اإِل سكندر أخ??بره
بجمي??ع م??ا ش??هده ،فتعجب اإِل س??كندر من ذل??ك ،وعلم م??رامي الفيلس??وف ومقاص??ده
وغاية مراده فيما وقع بالنفوس من النقلة مما عال من العوالم إلى هذا الع??الم.ولم??ا
كان في صبيحة تلك الليلة جلس له اإِل سكندر جلوسا ً خاصاً،ودع??ا ب??ه ،ولم يكن رآه
قبل ،ذلك ،فلما أقبل ونظر إلى ،صورته وتأمل ،قامته وخلقته ،نظر إلى رجل طويل
الجسمَ ،ر ْحب الجبين ،معتدل البنية ،فقال في نفسه :هذه بني?ة? تض??اد الحكم??ة ،ف??إذا
أوحدَ زمانه ،ولست أشك أن ه??ذا الش??خص اجتمع حسن الصورة وحسن الفهم كان َ
قد اجتمع له األم?ران جميع?اً ،ف?إن ك?ان ه?ذا الش?خص ق?د علم ك?ل م?ا راس?لته ب?ه،
وأجابني? عليه من غير مخاطبة وال موافقة وال مباحثة ،فليس في وقته أح??د يداني??ه
في حكمته ،وال يلحقه في علمه ،وتأمل الفيلسوف اإلِسكندر ف??أدار أص??بعه الس??بابة
على وجهه ،ووضعها على أرنب?ة? أنف??ه ،وأس??رع نح??و اإلِس??كندر وه??و ج??الس على
غير سرير? ملكه ،فحياه بتحية الملوك ،فأشار إليه اإِل سكندر بالجلوس ،فجلس حيث
أمره ،فق??ال ل??ه اإلس??كندر :م??ا بال??ك حين نظ??رت إلي .ورميت بطرف??ك نح??وي أدرت
أصبعك حول وجهك ووض??عتها على أرنب?ة أنف?ك .ق?ال :تأملت??ك أيه?ا المل?ك بنوري?ة?
عقلي وصفاء مزاجي ،فتبينت? فكرتك في ،وتأملك لصورتي ،وأنها قلما تجتم??ع م??ع
الحكمة ،فإذا كان ذلك كان صاحبها أوحد أهل زمانه ،ف??أعرت أص??بعي مص??داقا ً لم??ا
سنح لك ،وأريتك مثاالً شاهداً ،كما أن??ه ليس في الوج??ه إال أن??ف واح??د فك??ذلك ليس
في دار مملك??ة الهن??د غ??يري ،وال يلح??ق أح??د من الن??اس بي في حكم??تي ،فق??ال ل??ه
تأتى لك ما ذكرت ،وانتظم لك بحسن الخاطر ما وصفت، ااِل سكندر :ما أحسن ما َّ
صفحة 170 :
فدع عنك هذا ،وأخبرني? ما بالك حين أنفذت إلي??ك ق??دحا ً ممل??وءاً س??منا ً غ??رزت في??ه
إلي .قال الفيلس??وف :علمت أيه??ا المل??ك أن??ك تق??ول :إن قل??بي ق??د أمتألإبراً ورددته َّ
وعلمي ق??د أنتهى ك??امتالء ه??ذا اإِل ن??اء من الس??من ،فليس ألح??د من الحكم??اء في??ه
مستزاد ،فأخبرت الملك أن علمي سيزيد في علمك ،ويدخل فيه دخول هذه اإِل بر في
هذا اإِل ناء ،قال :فأخبرني? ما بالك حين عملت من اإلِبر كرة وأنفذتها إلي??ك ص??يرتها
مرآة ورددتها إلي صقيلة ،قال :قد علمت أيها الملك أنك تريد أن قلب??ك ق??د قس??ا من
سفك ال??دماء والش??غل بسياس?ة? ه??ذا الع??الم كقس??وة ه??ذه الك??رة ،فال يقب??ل العلم ،وال
ي??رغب في فهم الغاي??ات في العل??وم والحكم??ة ،فأخبرت??ك مجيب?ا ً متمثالَ بس??بك الك??رة
والحيلة في أمرها بجعلي منها مرآة صقيلة مؤدية إلى األجسام عند المقابلة لحسن
الصفاء ،قال له اإلِسكندر :صدقت ،قد أجبتني? عن مرادي ،فأخبرني أيها الفيلسوف
حين جعلت المرآة في الطست ورسبت في الماء :لِ َم جعلتها قدحا ً فوق الماء طافي??ة
ٍلي ،قال الفيلسوف :علمت أنك تريد بذلك أن األيام قد انقضت وقصرت، ثم رددتها ا ّ
واألجل قد قرب ،وال يدرك العلم الكثير في المه??ل القلي??ل ،ف??أجبت المل??ك متمثالً أني
ساعمل الحيلة في إيراد العلم الكثير في المهل القليل إلى قلب??ه وتقريب??ه من فهم??ه،
كاحتيالي للمرآة من بعد كونها راسبة في الماء حتى جعلته??ا طافي??ة علي??ه ،ق??ال ل??ه
إلي ولم تح??دث االسكندر :صدقت فأخبرني? م??ا بال??ك حين مألت اإلِن??اء تراب?ا ً رددت??ه ّ
فيه حادثة كفعلك فيما سلف ،قال :علمت أنك تقول :ثم الم??وت وأن??ه ال ب??د من??ه ?،ثم
لحوق هذه البنية بهذا العنص??ر الب??ارد الي??ابس الثقي??ل ال??ذي ه??و األرض ،ودثوره??ا
وتف??رق أجزائه??ا ومفارق??ة النفس الناطق??ة الص??افية الش??ريفة اللطيف??ة له??ذا الجس??د
المرئي ،قال له اإلسكندر :صدقت ،وألحسنن إلى الهند من أجلك ،وأمر ل??ه بج??وائز
ُ
أحببت الم??ار لم??ا أردت العلم، كثيرة ،وأقطعه قطائع واسعة ،فقال له الفيلسوف :لو
ولس??ت أدخ??ل على علمي م??ا يض??اده وينافي??ه ،واعلم أيه??ا المل??ك أن القني??ة ت??وجب
الخدمة ،ولسنا نجد عاقاًل َمنْ خدم غير ذاته ،واستعمل غير ما يصلح نفسه ،والذي
يصلح النفس الفلسفة ،وهي صقالها وغذاؤها ،وتن??اول الل??ذات الحيواني ?ة? وغيره??ا
سلم إليه ،ومن عدم ذل?ك ع?دم من الموجودات ضد لها ،والحكمة سبيل? إلى العلو ،و ُ
القربة من بارئه ،واعلم أيها الملك أن بالعدل ركب جميع العالم بجزئيات??ه ?،واليق??وم
بالجور ،والعدل ميزان البارىء جل ّ وعز ،فكذلك حكمته? مبرأة عن ك??ل مي??ل وزل??ل،
وأشبه األشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم اإِل حسان إلى الناس ،وق??د ملكت أيه??ا
الملك بسيفك ،وصولة ملكك ،وتأ ّتيك في أمورك ،وانتظ??ام سياس??تك أجس??ام رعيت??ك
ف َت َح? َّر أن تمل?ك قل??وبهم بإحس?انك إليهم ،وإنص?افك لهم ،وع?دلك فيهم ،فهي خزان??ة
سلطانك ،فإنك إن قدرت أن تقول قدرت أن تفعل ،فاحترز من أن تقول تأمن من أن
تفعل ،فالملك السعيد من تمت ل??ه رياس??ة أيام??ه ،والمل??ك الش??قي من انقطعت عن??ه،
فمن تحرى في سيرته? العدل اس??تنار قلب??ه بعذوب??ة الطه??ارة.ق??ال المس??عودي رحم??ه
هّللا :وخلّى اإِل س َكندر عن الفيلسوفِ إلبائه المقام معه فلحق بأرضه ،ولاِل سكندر مع
هذا الفيلسوف مناظرات كثيرة في أنوع من العلوم ،ومكاتب??ات ،ومراس??الت ،ج??رت
بين اإِل س?كندر وبين كن?د مل?ك الهن?د ،ق?د أتين??ا على مبس?وطها والغ??رر من معانيه?ا
ح فامتحنه حين أدهقه بالماء، والزهْ ر من عيونها في كتابنا أخبار الزمان.وأما ال َق َد ُ
ُّ
صفحة 171 :
وأورد عليه الناس ،فلم ينقص شربهم منه? شيئاً ،وكان معموالً بضرب من خ??واص
الهند والروحانية? والطبائع التأمة والتوهم ،وغير ذلك من العلم مم??ا َي َّدعي??ه الهن??د،
وق??د قي??ل :إن??ه ك??ان آلدم أبي البش??ر علي??ه الس??الم ب??أرض س??رنديب من بالد الهن??د
مبارك ل??ه في??ه ،ف? ُ?و ِر َث عن??ه ،وتداولت??ه المل??وك ،إلى أن انتهى إلى كن??د ه??ذا المل??ك
العظيم سلطانه ،وما كان عليه من الحكمة ،وقيل غير ذلك من الوجوه ،مما قد أتينا
على ذكره فيما سلف من كتبنا.وللطبيب معه أخبار ظريفة ،ومن??اظرات عجيب??ة ،في
أوائ??ل المعرف??ة وص??نعة الطب وترقي??ه مع??ه إلى مبس??وط الص??نعة من الطبيعي??ات
وغيرها ،أعرضنا عن ذكرها خوفا ً من اإِل طالة وميالً إلى االختصار في ه??ذا الكت??اب
لتعلق الكالم بالتوهم الذي تدعيه الهند في صنعة الطب وغيرها.وقد كان لاِل س??كندر
في أسفاره وتوسطه الممالك وقطعه األقاليم ومشاهدته األمم ،ومالقاته الحكماء مع
تنائي ديارهم ،وبع??د أوط??انهم ،واختالف لغ??اتهم ،وعج??ائب ص??ورهم ،وتب??اينهم? في
شيمهم وأخالقهم أخب??ار كث??يرة من ح??روب ومكاي??د وحي??ل وفن??ون من الس??ير ،وم??ا
أحدث من األبنية ،وقد أتينا على شرح ذلك فيما سلف من كتبنا مم??ا س??مينا ،وغ??ير
ذلك مما عن وصفه أمسكنا ،وإنما ذكرنا اليسير من أخباره ،لئال َي ْع? َرى كتابن??ا ه??دا
من شيء منها مع ذكرنا لمسيره ووفاته ،وباهّلل التوفيق.
?زاة ولعب وذكر جماعة من أهل الدرايات بأخبار ملوك العالم أن??ه أول من اقت??نى ال ُب? َ
ضراها ،وأن??ه ركب في بعض األي??ام في طرب??ه إلى بعض متنزهات??ه فنظ??ر إلى بها َو َ
باز يطير ،فرآه إذا عال صفق ،وإذا سفل خف?ق ،وإذا أراد أن يس?توي? ف?رق ،فأتبع?ه ٍ
بص??ره ح??تى اقتحم ش??جرة ملتف??ة كث??يرة الش??وك ،فتأمل??ه فأعجب??ه ص??فاء عيني??ه?
وصفرتها وكمال خلقه ،فق?ال :ه??ذا ط?ائر حس?ن ،ول?ه س??الح وينبغي? أن ت?تزين ب?ه
الملوك في مجالسها ،فأمر أن يجمع منها ع??دة لتك??ون في مجلس??ه زينت??ه ،فع??رض
لباز منها أ ْي ٌم ،وهو الحية الذكر ،فوثب عليه الب?ازي فقتل?ه ،فق?ال المل?ك :ه?ذا مل?كٍ
يغضب مما تغضب منه الملوك ،ثم عرض له بعد أيام ثعلب كان داجناً ،فوثب علي??ه
البازي فما أفلت إال جريحاً ،فقال الملك :هذا ملك جبار ال يحتمل الض??يم ،ثم م??ر ب??ه
طائر فوثب عليه فأكله ،فقال الملك :هذا ملك يمنع حماه وال يضيع أكل??ه ،فلعب به??ا
ثم لعب بعده ملوك األمم من اليونانيين والروم والعرب والعجم وغيرهم ،وث??ني َمنْ
بعده من ملوك الروم بلعب الشواهين واالص??طياد به??ا ،وق??د قي??ل :إن ال َّل َذارق??ة وهم
ملوك األندلس من األشبان أول من لعب بالشواهين وصاد بها ،وكذلك اليونانيون
صفحة 172 :
أول من ص???اد بالعقب???ان ولعب به???ا ،وق???د ذك???ر أن مل???وك ال???روم أول من ص???اد
بالعقبان.قال المسعودي :وق??د ق??دمنا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب عن??د ذكرن??ا لجب??ل
القبخ والباب واألبواب جمالً من أخبارها وأخبار من لعب بها ،وق??د ك??ان من س??لف
من حكماء اليونانيين يقولون :إن الجوارح أجناس ،خلقها هّللا تعالى وأنش??أها على
منازلها ودرجاتها ،وهي :أربعة أجناس ،وثالثة عشر شكاَل َ ،فأما األجناس األربع??ة
فهي :البازي ،والشاهين ،والصقر ،والعق??اب ،وق??د ذكرن??ا ه??ذه األجن??اس واألش??كال
على طري??ق الخ??بر في الكت??اب األوس??ط على مراتبه??ا من س??ائر أن??واع الحي??وان
الجوارح ،ودالئلها ،وما قاله الناس في ذلك.
هيفلوس
ثم ملك بع??د بطليم??وس هيفل??وس وك??ان رجاًل جب??اراً ،وفي أيام??ه عملت ال َّط ْ
لس? َمات
لش? َبه دخلت عليهم ،وأنه??ا وس??ائط بينهم وبين وظه??رت عب??ادة التماثي??ل واألص??نام ُ
خالقهم تقربهم إليه و ُتدْ نيهم منه ?،وك??ان ملك??ه ثماني?ا ً وثالثين س??نة ،وقي??ل :أربعين
س??نة .وق?د قي??ل :إن ال?ذيىتملك بع??د خليف?ة اإِل س?كندر بطليم?وس الث?اني،محب األخ،
وغ??زا ب??ني? إس??رائيل ببالد فلس??طين وإيلي??ا من أرض الش??ام ،فس??باهم ،وقت??ل منهم،
وطلب العلوم ،ثم رد بني إس??رائيل إلى فلس??طين ،وحم??ل معهم الج??واهر واألم??وال،
وآالت الذهب والفضة لهيكل بيت المقدس ،وكان ملك الشام يومئذ أبطنجنس ،وه??و
الذي بني مدينة? أنطاكية ،وكانت دار ملكه ،وجعل بناء س??ورها أح??د عج??ائب الع??الم
في البناء على السهل والجبل ،ومس??افة الس??ور أثن?ا عش??ر ميالً ،ع?دة األب??راج في?ه
ش ُرفاته أربعة وعشرين أل??ف ش??رفة ،وجع??ل مائة وستة? وثالثون برجاً ،وجعل عدد ُ
كل برج من األبراج ينزله بطريق برجاله وخيله ،وجعل ك?ل ب??رج منه??ا طبق?ات إلى
أعاله ،فمربط الخيل في أسفله ،وأرضه ،والرجال في طبقات?ه والبطري?ق في أعاله،
وجعل كلى برج منها كالحصن عليه أبواب حدي?د ،وآث?ار األب?واب ومواض?ع الحدي?د
َب ِّين إلى هذا الوقت وهو سنة? اثنتين وثالئين وثلثمائة? وأظهر فيه??ا مياه ?ا ً من أعين
وغيره??ا ،ال س??بيل إلى قطعه??ا من خارجه??ا ،وجع??ل إليه??ا مياه ?ا ً منص??بة في ق? ٍّ
?ني
مخرقة إلى شوارعها ودورها ،ورأيت فيها من هذه المياه ما يستحجر في مجاريها
المعمولة من الخزف لترادف التقن فيها فيتراكم طبق??ات ويمن??ع الم??اء من الجري??ان
بانسداده ،فال يعمل الحديد في كسره ،وقد ذكرن??ا ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بالقض??ايا
والتجارب ما شاهدناه حساً ،ونمي إلينا خ?براً ،مم?ا يول?ده م?اء أنطاكي?ة في أجس?اد
الحيوان الناطق وأجوافهم ،وما يح??دث في مع??دهم ،من الري??اح الس??وداوية الب??اردة
والقولنجية الغليظة ،وقد أراد الرشيد سكناها فقيل له بعض ما ذكرنا من أوصافها،
وت??رادف الص??دأ على الس??الخ من الس??يوف وغيره??ا به??أ ،وع??دم بق??اء ريح أن??واع
الطيب بها ،واستحالته على اختالف أنواعه فامتنع من سكناها.
كليوباترا
ثم ملكت بع??د ابنت??ه كليوب??اترا وك??ان ملكه??ا اثن??تين وعش??رين س??نة وك??انت حكيم?ة?
والر ْق َي??ة وغ??ير
متفلسفة ،مقربة للعلماءمعظمة للحكماءولها كتب مصنفة? في الطب ُّ
ذلك من الحكمة ،مترجمة? باسمها ،منسوب إليه??ا ،معروف??ة عن??د ص??نعة أه??ل الطب
?رت أي?امهم ،وا َّم َحتوهذه الملكة آخ?ر مل?وك اليون?انيين إلى أن انقض?ى ملكهم َودَ َث َ
آثارهم ،وزالت علومهم إال ما بقي في أيدي حكمائهم ،وق??د ك??ان له??ذه الملك??ة خ??بر
ظريف في موتها وقتلها لنفسها ،وقد كان لها زوج ُيقال له أنطونيوس مشارك له??ا
في ملك مقدونية ،وهي بالد مصر من ااِل سكندرية? وغيرها ،فس??ار إليهم الث??اني من
ملوك الروم ،من بالد رومية ،وه??و أغس??مطس ،وه??و أول من س??مي قيص??ر وإلي??ه
تنسب القياصرة بعده ،وسنذكر خبره في باب ملوك الروم بعد هذ الموضع ،وك??انت
له حروب بالشام ومصر? مع قلبطرة الملكة ومع زوجه??ا أنطوني??وس ،إلى أن قتل??ه،
ولم يكن لقلبطرة في دفع أغسطس ملك الروم عن ملك مصر حيلة ،وأراد أغسطس
إعمال الحيلة فيها لعلمه بحكمتها .وليتعلم منها إذ كانت بقي??ة الحكم??اء اليون??انيين،
ثم بعدها يقتلها ،فراسلها .وعلمت مراده فيه??ا وم??ا ق??د و َت َره??ا ب??ه من قت??ل زوجه??ا
وجنوده??ا ،فطلبت الحي??ة ال??تي تك??ون بين الحج??از ومص??ر والش??ام وهي ن??وع من
الحيات :تراعي اإِل نسان ،حتى إذا تمكنت من النظ??ر إلى عض??و من أعض??ائه قف??زت
أذرعا ً كثيرة كالرمح فلم تخطىء ذل?ك العض??و بعين??ه ?،ح??تى تتف??ل علي??ه س??ما ً فت?أتي
عليه ،وال يعلم بها ،لخموده من فوره ،ويتوهم الناس أنه قدمات فجأة حت??ف أنف??ه،
ورأيت نوع?ا ً من ه??ذه الحي??ات بين بالد خوزس??تان من ك??ور األه??واز لمن أراد بالد
فارس من البصرة ،وهوالموضع المع??روف بخ??ان مردوي?ة? بين مدين??ة دورق وبالد
الباسيان والفندم في الماء ،وهي حيات شبرية ?،وتدعى هنالك الفترية ،ذات رأسين ِ
صفحة 174 :
تك??ون في الرم??ل وفي ج??وف ت??راب األرض ،ف??إذأ أحس??ت باإِل نس??ان أو غ??يره من
الحيوان وثبت من موضعها أذرعا ً كث??يرة فض??ربت بإح??دى رأس??يها إلى أي موض??ع
من ذلك الحيوان ،فتلحقه من ساعته ضد الحياة وعدمها لحينه ،فبعثت قلبطرة هذه
الملكة فاحتمل لها حية من هذه المقدم ذكرها التي توجد بأطراف الحج??از ،فلم??ا أن
كان اليوم الذي علمت أن أغسطس يدخل قص??ر ملكه??ا أم??رت بعض جواريه??ا ومن
الع?ذاب بع?دها ،فس?متها في إنائه?ا فخم?دت من
ُ أح ّب ْت ف َناءها ق َلبلها ،وأن ال يلحقه?ا
فورها ،ثم جلست قلبطرة الملكة على س??رير? ملكه?ا ،ووض??عت تاجه??ا على رأس??ها،
وعليها ثيابها وزينة? ملكها ،وجعلت أنواع الرياجن والزه??ر والفاكه??ة والطيب وم??ا
يجتمع بمصر? من عجائب الرياحين وغيرها مما ذكرنا ،مبسوطة? في مجلسها وقدَّ ام
س??ريرها ،وعه??دت بم??ا أحت??اجت إلي??ه من أموره??ا ،وف??رقت حش??مها من حوله??ا،
فاش??تغلوا بأنفس??هم عن ملكتهم ،لم??ا ق??د غش??يهم من ع??دوهم ودخول??ه عليهم في
دارملكهم ،وأدنت يدها من اإِل ناء الزجاج ال??ذي ك??انت في??ه الحي??ة ،فق??ربت ي??دها من
فيه فتفلت عليها الحية ،فجفت مكانها ،وانسابت الحية وخ??رجت من اإِل ن??اء لم تج??د
ُج ْح? راً وال م??ذهبا ً ت??ذهب في??ه إِل تق??ان تل??ك المج??الس بالرخ??ام والمرم??رو? األص??باغ،
ف??دخلت في تل??ك الري??احين ،ودخ??ل أغس??طس ح??تى انتهى إلى لمجلس ،فنظ??ر إليه??ا
جالسة والتاج على رأسها ،فلم يشك في أنها تنطق ،فدنا منها فتبين له أنه??ا ميت??ة،
وأعجب بتلك الرياحين ،فمد يده إلى كل نوع منها يلمس ?ه? ويتبين ?ه? ويعجب خ??واص
من معه به ،ولم يدرسبب موتها وهو يتأسف على ما فاته منها فبينما هو كذلك من
تناول تلك الرياحين وشمها إذ قف?زت علي?ه تل?ك الحي?ة فرمت?ه? بس?مها ،فيبس ش?قه
األيمن من ساعته ،وذهب بصره األيمن وسمعه ،فتعجب من فعله??ا وقتله??ا لنفس??ها
وإيثارها للموت على الحياة مع الذل ،ثم ما كادته به من إلقاء الحية بين الرياحين،
فقال في ذلك شعراً بالرومية يذكر حاله وما نزل به وقصتها ،وأقام بعد ما ن??زل ب??ه
ما ذكرنا يوما ً وهلك ،ولوال أن الحية كانت قد أف??رغت س??مها على الجاري??ة ثم على
قلبطرة الملكة لك??ان أغس??طس ق??د هل??ك من س??اعته ،ولم تمهل??ه ه??ذه الم??دة ،وه??ذا
الشعر معروف عند الروم إلى هذه الغاية يذكرونه في نوحهم و َي ْر ُث? َ?ون ب??ه مل??وكهم
وموتاهم ،وربما ذكروه في أغانيهم ،وهو متعالم معروف عندهم ،وق??د ذكرن??ا فيم??ا
سلف من كتبنا سير ه??ؤالء المل??وك وأخب??ارهم وح??روبهم وط??وافهم البالد ،وأخب??ار
اآلراء والنح??ل ،ومقائ??ل فالس??فتهم ،وغ??ير ذل??ك من حكم??ائهم ،وم??ا أح??دثوه من َ
أسرارهم وعجيب أخبارهم.
ال??زنج فليمي ،وق??د ذك??رت جمالً من م??راتب مل??وك الع?الم وس??ماتهم واس??مهم األعم
الش??امل لهم فيم??ا س??لف من كتابن??ا ه??ذا ،وس??نورد بع??د ه??ذا الموض??ع في الموض??ع
المستحق له من هذا الكتاب جماًل عند ذكرنا الملوك والممالك إن شاء هللا تعالى.
أغسطس
ثم ملك بعده أغسطس َقيصر ،ستا ً وخمسين سنة ،وهذا الملك هوأول من سمي من
ملوك الروم قيصر ،وه??و الث??اني من مل??وكهم ،وتفس??ير قيص??ر ُبقِ??ر أي ش??ق عن??ه،
وذلك أن أمه ماتت وهي حامل به فشق بطنها فكان هذا الملك يفتخر في وقت??ه ب??أن
النساء لم تلده ،وكذلك من حدث بعده من ملوك الروم ممن كان من ولده يفتخ??رون
بهذا الفعل وما كان من أمهم ،فصارت سِ َمة لمن ط??رأ بع??ده من مل??وك ال??روم ،وهللا
أعلم.
مولد المسيح
وغزا هذا الملك الشام ومص??ر وااِل س??كندرية ،وأزال من بقي من مل??وك االس??كندرية?
ومقدونية وهي مصر ،وقد قدمنا أن كل ملك كان يلي مقدونية? واالس??كندرية يس??مى
بطليم??وس ،واحت??وى ه??ذا المل??ك أع??ني أغس??طس على خ??زائن مل??وك ااِل س??كندرية?
ومقدونية ،ونقلها إلى رومية ،وكانت له حروب كث??يرة في األرض ،وق??د أتين??ا على
وكور كوراً ذكرها فيما سلف من كتبنا ،وكان يعبد األوثان ،وبنى بأرض الروم مدنا ً َّ
نس??بت تل??ك الم??دن إلي??ه :منه??ا قيس??ارية ،وك??ذلك بالش??ام بس??احل فلس??طين مدين??ة
قيس??ارية ،وك??ان مول??د المس??يح عيس??ى ابن م??ريم علي??ه الس??الم به??ا ،وه??و يس??وع
الناص??ري على حس??ب م??ا ق??دمناه ،الثن??تين وأربعين س??نة خلت من مل??ك قيص??ر
أغس??طس ه??ذا ،فك??ان من مل??ك االس??كندر إلى مول??د المس??يح ثلثمائ??ة س??نة وتس??ع
وششون سنة ،ورأيت في مدينة? أنطاكية في بعض تواريخ? الروم الملكية في كنيسة?
القسبان أنه كان من ملك االسكندر إلى مولد المس??يح ثالثمائ??ة س??نة وتس??ع س??نين،
وكان مولد يسوع الناصري إِل حدى وعشرين سنة خلت من ملك هيرثوس? ملك بني
إس??رائيل في ذل?ك العص??ر بإيلي?ا من بالد فلس?طين ،وهي أورش??ليم بالعبراني??ة ،فمن
هبوط آدم إلى مول??د المس??يح في ت??واريخ أص??حاب الش??رائع من أه??ل الكتب خمس??ة
آالف سنة وخمسمائة? سنة? وخمسون س??نة.وأق??ام أغس??طس وه??و قيص??ر ملك?ا ً بع??د
مولد المسيح أربع عشرة س??نة? ونص??فا ً وك??ان م??دة ملك??ه على ال??روم برومي??ة وفي
سائر أسفاره ستا ً وخمسين سنة ،على حسب ما قدمنا من موت?ه? ولس??ع الحي??ة إي?اه
بمقدونية ،وجفاف نصفه ،وذهاب سمعه.وبصره عن??د ذكرن??ا لفع??ل قلبط??رة بنفس??ها
في الباب الذي قبل هذا الباب.
طيياريوس وقلودييس
ثم ملك الروم بعده طيباريوس وكان مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة ،ولثالث س??نين
بقيت من ملكه رف??ع المس?يح علي??ه الس?الم ،ولم?ا هل?ك ه?ذا المل?ك برومي??ة اختلفت
الروم وتحزبت ،فأقاموا على اختالف الكلمة والتنازع في الملك مائتي سنة وثماني?ا ً
وتس??عين س??نة ،ال نظ??ام لهم ،وال مل??ك يجمعهم.ولم??ا انقض??ى ،م??ا ذكرن??ا من الم??دة
ملكوا عليهم طباريس غ??انس بمدين??ة رومي??ة ?،فك??ان ملك??ه أرب??ع س??نين ،والق??وم ال
يعرفون غير عبادة التماثيل والصور.
صفحة 177 :
ثم ملك بعد قلوديس أرب??ع عش??ر ،س??نة ،وذل??ك برومي??ة ،وه??و أول مل??ك من مل??وك
الروم ش??رع في قت??ل النص??ارى واتب??اع المس??يح .وقي??ل :إن في أيام??ه قت??ل برومي?ة?
بطرس ،واسمه باليونانية? شمعون ،والعرب تسميه س??معان ،ه??و وب??ولص ،وص??لبا
منكس??ين ،وم??ا ك??ان من خبرهم??ا م??ع س??يما الس??احر برومي??ة ?،وهم??ا ممن أتى إلى
عز وجل ّ عنهما في سورة يس ،ثم كان لهما بعد ذلك نب??أ عظيم، أنطاكية وأخبر هّللا ّ
أج ِر َب??ة من البل??ور ،فهم??ا على
وذلك بعد ظهور دين النص??رانية? برومي??ة ?،فجعال في ْ
ذلك بمدينة? رومية? في بعض الكنائس إلى هذه الغاية ،على حسب ما قدمنا آنفا ً فيما
سلف من هذا الكتاب ،وأكثر من عني بأخبار العالم وسير ملوكهم وتاريخهم ،يذهب
إلى أنهما قتال برومي??ة في مل??ك الخ??امس من مل??وك ال??روم ،وتف??رق تالمي??ذ يس??وع
الناصري في األرض ،فس?ار م?اري إلى م?ا دَ َن?ا من الع?راق فم?ات بمدين?ة? دي?ر قُ َنى
والصافية على شاطىء دجلة بين بغداد وواسط ،وهذا البلد بل??د علي بن عيس??ى بن
داود بن الجراح ومحمد بن داود بن الجراح وغيرهم??ا من الكت??اب فق??بره هن??اك في
كنيس??ة إلى وقتن??ا ه??ذا ،وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثالثمائ??ة ،يعظم??ه أه??ل دين
النصرانية ،ومضى توما ،وكان من االثني عشر ،إلى بالد الهن??د داعي ?ا ً إلى ش??ريعة?
المسيح ،فمات هناك ،وسار آخر إلى آخر مدين?ة? بخراس?ان ،فم?ات هنال?ك وموض?ع
ق??بره مش??هور يعظم??ه النص??ارى ،ومنهم من رأى أن??ه م??ات ببالد دقوق??ا وخانيج??ار
وكرخ حدان في تخوم العراق ،وموضعه? مشهور ،وم??ات م??ارقس بااِل س??كندرية من
أرض مصر ،وقبره هناك ،وهو أحد التالميذ األربعة الذين ألفوا اإلِنجي??ل ،وق?د ك?ان
لم??ارقس م??ع أه??ل مص??رخبرظريف في مقتل??ه ،وق??د أتين??ا على الس??بب في ذل??ك في
تال له ،وأتينا على قص??ته م??ع أه??ل مص??ر ووص??يته? كتابنا األوسط الذي ،كتا ُب َنا هذا ٍ
لهم حين أراد المس??ير إلى المغ??رب :إن??ه َمنْ ج??اءكم على ص??ورتي? ف??اقتلوه ،فإن??ه
س??يرد عليكم بع??دي أُن??اس يتش??بهون بي ،فب??ادروا إلى قتلهم ،وال تقبل??وا منهم م??ا
يقول??ون ،ومض??ى ،وغ??اب عنهم بره??ة من الزم??ان ،ولم يلح??ق بحيث أراد ،فرج??ع
إليهم ،فلما هموا بقتله ق??ال لهم :ويحكم أن??ا م??ارقس ،ق??الوا :ال ،وق??د أخبرن??ا أبون??ا
مارقس ،وعهد إلينا بقتل من يتشبه به ،قال :فإني أنا مارقس ،ق??الوا :ال س??بيل? إلى
تركك ،وال بد من قتلك ،فقتلوه ،وك??ان قب??ل ذل??ك س??ئل في ب??دء األم??ر عن ال??براهين
المؤيدة لقوله ،وطلبوا منه المعجزات ،وقال له بعضهم :إن كنت صاد َقا َ فيم??ا أتيتن??ا
به فاعرج إلى هذه السماء ،ونحن نراك ،فنزع عنه زربانقته وأت??زر بم??ئزر ص??وف
على أن يصعد إلى السماء ،فتعلق ب?ه جماع?ة من تالمذت?ه ?،وق?الوا ل?ه :إن مض?يت?
فمن لنا بعمك إذ كنت األب .وكان أمره بعد ذلك على ما وصفنا.
تالميذ المسيح
وتالميذ المسيح اثنان وسبعون تلميذاً واثنا عشر من غير االث??نين والس??بعين ،فأم??ا
ويوح ّن??ا ،وم??تى ،ومنهم من االث??نين
ً ال??ذين نقل??وا اإِل نجي??ل فهم :لوق??ا ،وم??ارقس،
والسبعين لوقا َو َم َّتى ،وقد يعد َم َتى أيضا ً في األثني عشر ،وال ادري ما معن??اهم في
ذل???ك ،واالثن???ان الل???ذان من األث???ني عش???ر يوحن???ا بن زب???دى ،وم???ارقس ص???اجب
االسكندرية ،والثالث الذي ورد أنطاكية ،وق??د تقدم??ه بط??رس وتوم??ا ،وه??و ب??ولس،
وهو الثالث المذكور في القرآن بقوله تعالى "فعزرنا بثالث" ق??ال :وليس في س??ائر
رهبان النصرانية? من يأكل اللحم غير رهبان مصر؛ ألن مارقس أباح لهم ذلك.
ملك تيزون ملك طيطش وأسباسيانوس
ثم ملك الروم تيزون واستقام ملك??ه ،ورغب في عب?ادة التماثي??ل واألص??نام ،ويق??ال:
إنه قتل في ملكه بطرس وبولس برومية على حسب ما قدمنا ونمى دين النصرانية
إلى الروم ،فكثرت فيهم الدعاة إليه ،فقتل هذا الملك منهم خالئق كثيرة ،وكان ملكه
أربع عشرة سنة? وأشهراً.
ثم ملك بعده طيطش وأسباسيانوس مش??تركين في المل??ك ثالث عش??رة س??نة ،وذل??ك
بمدينة رومية ،ولسنة? خلت من ملك ه??ذين الملكين س??ارا إلى الش??ام ،وك??انت لهم??ا
مع بني إسرائيل حروب عظيمة ،وقتل فيها من بني إس?رائيل ثلثمائ??ة أل?ف ،وخرب?ا
بيت المقدس وأحرقا الهيك??ل بالن??ار ،وحرث??اه ب??البقر ،وأزاال رس??مه ?،و َم َح? وا أث??ره،
وكانت عبادتهما لألصنام .ووجدت في بعض كتب التواريخ أن هّللا عاقب ال??روم من
ذلك اليوم الذي خربت فيه بيت المقدس أن يسبى كل يوم منهم سبي ،يفعل ذلك من
أطاف ببالدهم من األمم ،فال يأتي يوم من أيام العالم إال والسبي واق??ع بهم َق??ل ذل??ك
أوأكثر?.
ثم ملك ال?روم بع?دهما دوبطي?اس خمس عش?رة س?نة ،عاب?داً للتماثي?ل معظم?أ له?ا،
ولتس??ع س??نين من ملك??ه نفى يوحن??ا التلمي??ذ أح??د األربع??ة من أص??حاب اإلِنجي??ل إلى
بعض جزائر البحر" ،ثم رده بعد ذلك.
ثم ملك بعده بيرنوس سنة.
ثم ملك بعده طريانوس سبع عشرة سنة يعبد األصنام ،ولتسع سنين خلت من ملكه
مات يوحنا التلميذ.
ثم ملك بعده أدريانس إحدى عشرة سنة ،يعبد التماثيل ،وخ??رب س??ائر م??ا ب??نى بن??و
إسرائيل بالشام.
ثم ملك بعده أبط??وليس برومي??ة ثالث?ا ً وعش??رين س??نة ،وب??نى بيت المق??دس وس??ماه
إيليا ،وهو أول من سماه بهذا االسم إيليا.
ثم ملك بعده غرلس سبع عشرة سنة يعبد األصنام.
صفحة 179 :
ملك قسطنطين بعد أن هلك قليطانس برومية ?،وه??و يعب??د األوث??ان ،وك??ان أول مل??ك
انتقل من ملوك الروم عن رومي?ة? إلى بوزنطي??ا ،وهي مدين??ة القس??طنطينية? فبناه??ا،
وسماها باسمه إلى وقتن??ا ه??ذا ،وك??ان ل??ه لي بناته??ا خ??بر ظري??ف م??ع بعض مل??وك
برجان ،لخوف داخله من بعض ملوك ساسان ،وكان خروجه من رومي??ة ،ودخول??ه
في دين النصرانية ،لسنة خلت من ملكه ،ولتسع سنين خلت من ملك?ه خ?رجت أم?ه
هالني إلى أرض الشام ،فبنت الكنائس ،وسارت إلى بيت المقدس ،وطلبت الخش??بة?
ال??تي ص??لب عليه??ا المس??يح عن??دهم ،فلم??ا ص??ارت إليه??ا ًحفته??ا بال??ذهب والفض??ة،
واتخذت لوجودها عيداً ،وهو عي??د الص??ليب ،وه??و ألرب??ع عش??رة تخل??و من أيل??ول،
وفيه تفتح? الترع والخلجانات ببالد مصر ،على حسب ما ن??ورده عن??د ذكرن?ا ألخب??ار
مصر من هذا الكتاب ،وهي التي بنت كنيس??ة حمص على أربع??ة أرك??ان ،وذل??ك من
عجائب بنيان العالم ،واستخرجت الكنوز والدفائن بمصر? والشام ،وصرفت ذلك إلى
بناء الكنائس ،وتش??ييد دين النص??رانية ?،وك??ل كنيس??ة بالش??ام ومص??ر وبالد ال??روم،
فإنه??ا بنته??ا ه??ذه الملك??ة هالني أم قس??طنطين ،وجع??ل اس??مها م??ع الص??ليب في ك??ل
كنيسة? لها ،وليس للروم في أحرفهم ه??اء ،وأح??رف هالني خمس??ة أح??رف ،ف??األول
إمالة ،وهو بحس??اب الجم??ل خمس??ة ،والث??اني -وه??و الِالم -ثالث??ون ،والث??الث إمال??ة
أيضاً ،وهي خمسة أيضا ،والرابع النون وهي خمس??ون ،والخ??امس ي??اء ،وه??و في
حساب الجمل عشرة ،ف??ذلك مائ??ة اختص??اراً على م??ا ذكرن??ا ،وه??ذه ص??ورة الح??رف
الذي هو مائة بالرومية.
وخمس??ون ميالً ،وقي??ل :أق??ل من ذل??ك ،وعرض??ه في الموض??ع ال??ذي يأخ??ذ من بح??ر
مايطس نحو من عشرة أميال ،وهناك عمائر ،ومدينة للروم تدعى سباه ،تمن??ع من
ي??رد في ه??ذا البح??ر من م??راكب ال??روس ،وغيره??ا ،ثم يض??يق ه??ذا الخليج عن??د
القس??طنطينية ?،فيص??ير عرض??ه -وه??و موض??ع العب??ور من الج??انب الش??رقي إلى
الموضع الغربي الذي في??ه القس??طنطينية ?-نح??واً من أربع??ة أمي??ال ،وعلي??ه العم??ائر،
وينتهي في ضيقه إلى الموضع المعروف باألندلس ،وهناك جبال وعين م??اء كث??ير،
ماؤها موصوف ?،تعرف بعين َم ْسلمة بن عبد الملك وكان نزولها عليها حين حاصر
القس??طنطينية ،وأتت??ه م??راكب المس??لمين ،وفم ه??ذا الخليج مم??ا يلي بح??ر الش??ام،
ومنتهى? مصبه? مضيق ،وهناك برج يمنع من فيه من يرد من مراكب المس??لمين في
الوقت الذي كانت للمسلمين فيه مراكب تغزو الروم ،وأما اآلن فمراكب الروم تغزو
?دي بن أحم??د بنبالد اإِل سالم ،وهلل األمر من قبل ومن بعد ،وأخ??برني أب??و عم??ير ع? ُّ
عبد الباقي األزدي -وهو شيخ الثغور الشامية .قديما ً وحديثا ً إلى وقتنا ه??ذأ ،وه??و
من أهل التحصيل ?-أنه لما عبر إلى القس?طنطينية? في ه?ذا الخليج حين دخ?ل إلقام?ة
الهدنة والفداء كان يتبين جرية ه??ذأ الم??اء وت??ردده مم??ا يلي بح??ر م??ايطس ،وربم??ا
يتبين? في الماء الذي يلي بحر الشام فيجده فاتراً ،وهذا يدل على ا َلصال م??اء ه??ذين
البحرين ،وأنه قد دخل في بحر الروم إلى هذا الخليج أيضاً ،وسمعت غير واحد من
أهل التحصيل ممن غزا غ?زاة س??لوقية م?ع غالم زراف??ة -وق?د ك?انوا ق?د دخل??وا إلى
خليج القسطنطينية ?،وساروا فيه مس??افة بعي??دة -أنهم وج?دوا الم??اء فيِ ه??ذا الخليج
يقل في أوقات من الليل والنهار ويكثر كالمد والجزر ،وعليه العمائر والم??دن ،فلم??ا
أحسوا بنقص الماء بادروا ب??الخروج من??ه إلى البح??ر ال??رومي ،وأن في مدخل??ه من
بحر الروم مدين?ة? تق??رب من فم الخليج ،والخليج يطي??ف بالقس??طنطينية? من جه??تين
مما يلي الشرق ومما يلي الشمال ،وفي الج??انب الجن??وبي? ال??بر ،وفي??ه ب??اب ال??ذهب
مطلي على صفائح النحاس ،وهو عدة أسوار مم??ا يلي الغ??رب ،وفي??ه قص??ر وأعلى
أس?وارها الغريب?ة? نح?و من ثالثين فراع?اً ،وق?د ذك?ر أن?ه أق?ل من ذل?ك ،وأن أقص?ر
موضع فيه عشرة أفرع ،وأعلى موضع من سورها ما كان مما يلي الجن??وب ،فأم??ا
ما كان مم??ا يلي الخليج فس??ور واح??د ،وفي??ه قص??ر وبواش? ِ?ير وأب??راج كث??يرة ،وله??ا
أبواب كثيرة مما يلي البر والبحر ،وحولها كنائس كثيرة ،وق??د قي??ل :إن له??ا ثالثين
باب??ا ،ومنهم من زعم أن عليه??ا مائ??ة ب??اب ص??غاراً وكب??اراً وه??و بل??د عفن مختل??ف
المهاب مرطب لألبدان لكونه بين ما وصفنا من هذه البحار.
قال المسعودي :ولم تزل الحكم??ة باقي??ة عالي??ة زمن اليون?انيين ،وبره?ة من مملك??ة
الروم ،تعظم العلماء وتش??رف الحكم??اء ،وك??انت لهم اآلراء في الطبيعي??ات والجس??م
والعقل والنفس ،والتعاليم األربعة -أع??ني :اإلرتم??اطيقي ،وه??و علم األع??داد والج??و
مط??ري َقي ،وه??و علم المس??احة والهندس??ة ،واالس??ترونوميا ،وه??و علم النج??وم،
والموسيقى وهو علم تأليف اللحون -ولم تزل العلوم قائمة السوق ،مشرقة األقطار
قوية المعالم ،شديدة المقاوم ،سامية البن??اء ،إلى أن تظ??اهرت ديان??ة النص??رانية في
الروم ،فعفوا مع?الم الحكم?ة ،وأزال?وا رس?مها ،ومح?وا س?بلها ،وطمس?وا م?ا ك?انت
اليونانية أبانته ،وغيروا ما كانت القدماء منهم أوضحته.
صفحة 183 :
الموسيقى وشرفها
وكان من شريف ما تركته المعرفة بعلم الموسيقى ألنه غذاء للنفس ،ومطرب له??ا،
وملهيه??ا ،تبتهج? عن??د س??ماعه ،وتحن إلى ت??أليف أوض??اعه ،وق??د نطقت الحكم??اء
بشرفه ،ونبهت على نفاس??ه محل??ه ،فق??ال اإلس??كندرَ :منْ فهم األلح??ان اس??تغنى عن
سائر اللذات ،وقد قالت الفالسفة :أن النغم واألغ??اني فض??يلة ش??ريفة ك??انت تع??ذرت
عن المنط?ق ليس?ت في قدرت?ه ،فلم يق?در على إخراجه?ا ،فأخرجته?ا النفس ألحان?اً،
سرت بها وعشقتها وط??ربت إليه??ا ،ورتبت الحكم??اء األوت??ار األربع??ة فلما أظهرتها ُ
ب??ازاء الطب?ائع األرب??ع ،فجعل??وا الزي??ر ب??ازاء الم??رة الص??فراء ،والمث??نى إزاء ال?دم،
والمثلث بازاء البلغم والبم بازاء المرة السوداء ،وق?د أش?بعنا الق?ول في الموس??يقى
وأص??حاب المالهي واإليق??اع وأص??ناف ال??رقص والط??رب والنغم ونس??ب النغم وم??ا
اس????تعملته ك????ل أم????ة من األمم ،من أص????ناف المالهي ،من اليون????انيين وال????روم
والسريانيين والنب??ط والس??ند والهن??د والف??رس وغ??يرهم من األمم ،وذكرن??ا مناس??بة
النغم لألوت??ار ،وممازج??ة النفس واأللح??ان وكيفي??ة تول??د الط??رب وأن??واع الس??رور
وذه??اب الغم وزوال الح??زن ،وعل?ل ً ذل??ك الطبيعي??ة والنفس??ية ?،وم??ا أح??اط ب??ذلك من
جميع الوجوه ،في كتابنا المترجم بكتاب الزلف وأتينا على ظريف أخبارهم وأن??واع
له??وهم ومالهيهم في كت??اب أخب??ار الزم??ان وفي الكت??اب األوس??ط ف??أغنى ذل??ك عن
إعادته ههنا .إذ هذا الكتاب في غاية اإليجاز ،وإن س??نح لن??ا س??انح ذكرن??ا لمع??ا من
هذه الجوامع فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء هللا تعالى ،وإن تعذر ذل??ك فق??د ق??دمنا
التنبيه? على ما سلف من كتبنا ،على الشرح واإليضاح.
قسطنطين ولليانس
ثم مل?ك ال?روم بع?د قس?طنطين بن هالني المل?ك المنتص?ر قس?طنطين بن قس?طنطين
وهو ابن الملك الماضي ،وكان ملك??ه أربع?ا ً وعش??رين س??نة ،وب??نى كن??ائس كث??يرة،
وشيد دين النصرانية.
ثم تملك ابن أخي قسطنطن األول لليانس فرفض دين النصرانية ?،ورج?ع إلى عب?ادة
األوث??ان ،وه??و للي??انس المع??روف ب??الحنيفي .وأه??ل دين النص??رانية? لبغض??هم في??ه
لرجوعه عن النصرانية وتغييره لرسومها يس??مون للي??انس لبزط??اط وغ??زا الع??راق
في ملك سابور بن أردشير بن بابك ،فأتاه س??ه ٌم غ? ْ?رب فذبح??ه ،وق??د ك??ان س??ار إلى
العراق في جنود ال تحصى ،ولم يكن لسابور حيلة في دفع??ه ولقائ??ه لمفاجأت??ه إاله،
فانصر فسابور عن اللقاء إلى الحيلة في دفعه وكان من أمره م??ا وص??فنا من س??هم
الغرب .وكان ملكة إِلى أن هلك سنة ،وقيل كثر من ذلك ،وهو الملك الثالث من بع??د
ظهور دين النصرانية?.
يونياس
ولما هلك لليانس جزع َمنْ كان معه من الملوك ،والبطارق??ة ،والجي??وش ،ففزع??وا-
إلى بطريق كان معظما ً فيهم ،يقال له يونياس ،وقيل :إنه كان كاتب الماضي ،ف??أبى
عليهم أن يتمل??ك إال أن يرجع??وا إلى دين النص??رانية ،فأج??ابوه إلى ذل??ك وض??ايق
س??أبور الق??وم ،وأح??اط بعس??كرهم .فك??ان ليوني??اس م??ع س??أبور مراس??الت ومهادن??ة
واجتم??اع ومحادث??ة ومعاش??رة ،ثم افترق??ا ،وانص??رف بجي??وش النص??رانية? ُم َوادع ?ا ً
لسابور ،وأخلف عليه ما أتلف من أرض??ه ب??أموال حمله?ا إلي??ه ،وه??دايا من لط?ائف
ال??روم ،وش??د هياك??ل في دين النص??رانية ?،ورده??ا إلى م??ا ك??انت علي??ه ،ومن??ع من
سنة?.
األصنام والتماثيل ،وقتل على عبادتها ،وكان ملكه َ
ثم مل??ك بعل??ه أوالس وه??و على دين النص??رانية ?،ثم رج??ع عنه??ا ،وهل??ك في بعض
حروبه ،وكان ملكه إلى أن هلك أربع عشرة سنة?.
غراطاس وتدوسيس?
ثم ملك بع??د أوالس غراطي??اس خمس عش??رة س??نة ،ولس??نة من ملك??ه ك??ان اجتم??اع
النصرانية ،وهو أحد االجتماع??ات ف??أتموا الق??ول في روح الق??دس عن??دهم وأحرق??وا
مقدونس بطريق القسطنطينية ?،وهو السنودس الثاني.
ثم مل?ك بع?ده تدوس?يس األك?بر ،وتفس?ير ه?ذا االس?م عن?دهم عطي?ة هللا وق?ام ب?دين
وعظم منها ،وبنى كنائس ،ولم يكن من أهل بيت المل??ك وال من ال??روم، النصرانيةَ ،
وإنما كان أصله من األشباب ،وهم بعض األمم السالفة ،وقد كانت ممن مل?ك الش?ام
ومصر? والمغرب واألندلس ،وقد تنازع الناس فيهم :فذكر الواقدي في كتاب??ه فت??وح
األمصار أن بدأهم من أهل أصبهان ،وأنهم ناقلة من هنال??ك ،وه??ذا ي??وجب أنهم من
قبل ملوك فارس األولى ،وذكر عبيد هللا بن خرداذبة نحو ذلك وساعدهما على ذل??ك
جماعة من أهل السير واألخبار ،واألشهر من أم?رهم أنهم من ول?د ي?افث بن ن?وح،
سهم ملوك األندلس من الل َذارقة واح?دهم ل?ذريق ،وق?د تن?وزع في ديان?اتهم :نمنهم
من رأى أنهم ك??انوا على دين المج??وس ،ومنهم من رأى أنهم ك??انوا على م??ذهب
الصابئة? وغيرهم من عبدة األصنام ،وقد قلنا :إن األشهر من أنسابهم أنهم من ول??د
يافث بن نوح ،فكان مدة ملك تدوسيس إلى أن هلك عشر سنين.
جماعة من ملوكهم
ثم ملك بعده أرقاديس أربع عشرة سنة ،وكان على دين النصرانية?.
ثم ملك بعده ابنه تدوسيس األصغر ،وذلك بمدين ?ة? أفس??يس ،وجم??ع م??ائتي أس??قف،
وهذا االجتماع الثالث ال??ذي ق??دمنا ذك??ره آنف??ا ،ولعن في??ه نس??طورس البط??رك ،وق??د
ذكرن???ا في كتابن???ا أخب???ار الزم???ان الحيل???ة ال???تي وقعت على نس???طورس َب ْط??? رك
القسطنطينية من ص??احب الكرس??ي باإلس??كندرية ،وم??ا ك??ان من نس??طورس ،ونفي??ه
ليوحنا المعروف بالراهب ،وما كان من يدوقيا زوجة الملك إلى أن نفي نس??طورس
من القسطنطينية? إلى إنطاكية ثم منه?ا إلى ص?عيد مص?ر ،والمش?ارقة من النص?ارى
أض??يفوا إلى نس?طورس ألنهم اتبع?وه وق?الوا بقول?ه :وإنم??ا وس??متهم الملكي??ة به?ذا
لتع ِّيرهم وتعيبهم ب??ذلك ،وق??د ك??انت المش??ارقة ب??الحيرة وغيره??ا من الش??رق
االس??م َ
َت??دْ َعى بال ِع َب??اد ،وس??ائر نص??ارى المش??رق ي??أبون ه??ذه اإلض??افة إلى نس??طورس،
ويكرهون أن يقال لهم نسطورية ?،وقد أيد برصوما مطران نصيبين رأي المش??ارقة
في الثالوث ،وهو الكالم في األقاليم الثالثة والجوهر الواحد وكيف??ة اتح??اد الاله??وت
القديم بالناسوت ال ًم ْح َدث ،وكان ملك تدوسيس األصغر إلى أن هلك اثن??تين وأربعين
سنة?.
اليعاقبة
ثم ملك بعده مرقي??انوس ،ثم مل??ك ال??روم بلخاري??ا زوج??ة مرقي??انوس ،وك??انت ملك??ة
معه ،وفي أيامها كان خبر اليعاقبة من النصارى ،ووقع الخالف بينهم في الث??الوث.
فكان ملكها سبع سنين ،وأكثر اليعاقبة ب??العراق وبالد تك??ريت والموص??ل والجزي??رة
ومصر? وأقباطها إال اليسير فإنهم ملكية ،والنوبة? واألرمن يعاقبة ،ومطران اليعاقبة
بتكريت بين الموص??ل وبغ??داد ،وق??د ك??ان لهم ب??القرب من رأس العين واح??د فم??ات،
وصاحبهم اليوم بناحية حلب ببالد قنسرين والعواصم ،وكرس??ي اليعاقب??ة رس??مه أن
يك???ون بمدين???ة إنطاكي???ة ،وك???ذلك لهم كرس???ي بمص???ر ?،وال أعلم لهم غ???ير ه???ذين
الكرسيين ،وهما مصر وإنطاكية.
ثم ملك بعدهما اليون األصغر بن اليون ،وك??ان ملك??ه س??ت عش??ر س??نة ،وفي أيام??ه
أحرم مسعرة اليعقوبي بطرك اإلسكندرية ?،واجتمع له من األساقفه ستمائة وثالثون
أس???قفاً ،وفي ت???اريخ ال???روم أن ع???دة المجتمعين س???تمائة وس???تون رجالً ،وذل???ك
بخلقدونية ،وهذا االجتماع هو السنودس الرابع عند الملكية ،واليعاقبة ال تعتد بهذا
السنودس ،ولهم خبر ظريف في قصة سوار في البطرك ،وما كان من أمره ،وخ??بر
تلمي??ذه يعق??وب ال??براذعي ،ودعوت??ه إلي م??ذهب س??واري ،واليعاقب??ة أض??يفت إلى
منصب يعقوب البراذعي هذا .،وبه عرفت ،وكان من أهل إنطاكية يعمل البرادع.
ثم ملك بعده اليون األصغر ابن اليون ،سنة على دين الملكية?.
ثم ملك بعده زينو ،وهو من بالد األرمينيان ،وكان يذهب إلى رأى اليعقوبية ،وك??ان
ملكه سبع عشرة سنة ،وكانت ل??ه ح??روب م??ع خ??وارج علي??ه في دار المل??ك ،فظف??ر
بهم.
ثم ملك بع??ده نس??طاس وك??ان ي??ذهب إِلى م??ذهب اليعق??وبي ،وب??نى مدين??ة عموري??ة?،
وأصاب كنوزاً ودفائن عظيمة ،وكان ملكه إلى أن هلك تسعا ً وعشرين سنة.
ثم ملك بعده يوسطاناس تسع سنين?.
ثم ملك بعده يوسطانياس تسعا ً وثالثين سنة ،وقي?ل :أربعين ،وب?نى كن?ائس كث?يرة،
وش??يد دين النص??رانية ?،وأظه??ر م??ذهب الملكي??ة ،وب??نى كنيس?ة? الره??ا ،وهي إح??دى
عج??ائب الع??الم ،والهياك??ل الم??ذكورة ،وق??د ك??ان في ه??ذه الكنيس ?ة? من??ديل? يعظم??ه
النصارى ،وذلك أن يسوع الناصري -حين أخرج من ماء المعودية -تنشف? ب??ه .فلم
ي??زل ه?ذا المن??ديل يت??داول إلى أن ق??رر بكنيس?ة? الره??ا ،فلم??ا أش??تد أم??ر ال??روم على
المس??لمين وحاص??روا الره??ا في ه??ذه الس??نة -وهي س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة-
أعطى ه??ذا المن??ديل لل??روم ،فجنح??وا إلى الهندن??ة ،وك??ان لل??روم عن??د تس??لمهم ه??ذا
المنديل فرح عظيم.
ثم مل?ك بع?ده ابن أخي?ه نوس?طيس ثالث عش?رة س?نة ،على رأي الملكي?ة ،.ثم مل?ك
بعده طباريس أربع سنين ،وأظهر في ملكه أنواعا ً من اللباس واآلالت وآنية الذهب
والفضة وغير ذلك من االت الملوك.
ثم ملك بعده موريقس عش??رين س??نة ،ونص??ر كس??رى أبروي??ز على به??رام ج??وبين،
فقتل غيلة ،وبعث أبروي??ز غض??با ً ل??ه بجي??وش إلى ال??روم ،وك?انت لهم ح??روب على
حسب ما قدمنا .
ثم ملك بعده فوقاس ثمان سنين إلى أن قتل أيضاً.
ثم ملك بعده هرقل وكان بطريقا ً في بعض الجزائ??ر قب??ل ذل??ك ،فعم??ر بيت المق??دس،
وذلك بعد انكشاف الفرس عن الشام ،وبنى الكنائس ،ولسبع سنين من ملك??ه ك??انت
ه ِجرة النبي صلى هللا عليه وسلم من مكة إلى المدينة? َ
شرفها هللا تعالى.
ولم يزل ملك الروم مضطربا ً إلى أن ملكهم قس??طنطين بن الي??ون ،وذل??ك في خالف??ة
أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور? أخيه ،ثم ملك بعده الي??ون بن قس??طنطين،
وذلك في أيام المهدي والهادي ،ثم مل??ك بع??ده -قس??طنطين بن الي??ون ،وك??انت أم??ه
أريش ملكة معه ،مشاركة له في الملك ،لصغر سنه? في أيام هارون الرش??يد ،فم??ات
قسطنطين بن اليون وسملت عينا أمه بعد ذل??ك ألخب??ار يط??ول ذكره??ا ،ثم مل??ك على
الروم يعف??ور بن اس??دراق ،وك??انت بين??ه وبين الرش??يد مراس??الت ،وغ??زاه الرش??يد،
فأعطاه القود من نفسه بعد بغي كان منه? في بعض مراسالته ،فانصرف الرشيد
صفحة 188 :
عنه ،ثم غدر ونقض ما ك??ان أعط??اه من االنقي??اد و ُكتم عن الرش??يد أم??ره ،لع??ارض
وح ْمل??ه األم??وال واله??دايا
علة كان وج??دها بالرق??ة ،وفي انقي??اد يعف??ور إلى الرش??يد َ
والض????????????????ريبة إلي????????????????ه يق????????????????ول أب????????????????و العتاهي????????????????ة :
مستمـطـر َريا
ٍ أص َب ْح َت تسقي كل َو ْ أص َب ْح َت بالـدين َم ْـعـنـا ً
إما َم الهدى ْ
فأنت الذي تدعـي رشـيداً ومـهـد َّيا ش َقا من رشاد ومـن هـدى لك اسمان ُ
وإن ترض شيئا ً كان في الناس مرض ّيا س ّخـطـا ً سخط َت الشيء كان ُم َ ْ إذا ما
فأوسعت شرقيا ً وأوسعـت غـربـ ّيا بسطت لنا شرقا ً وغـربـا ً َيدَ الـعـال
فأصبح وجه األرض بالجود مغـشـيا شيا وجه األرض بالجود و الـنـدي و َغ َّ
ـطـويا نشرت من اإِل حسان ما كان َم ْ أمير المؤمنين ،فتى الـتـقـى وأنتَ ،
وكان قضاء هللا في الخلق َم ْقـضـيا صفى لهارون ملـكـه قضى هّللا أن َ
وأصبح يعـفـور لـهـارون ذمـيا تحببت الدنيا لـهـارون بـالـرضـا
فلما عوفي الرشيد من علته دخل عليه بعض الشعراء وقد هابه الناس أن يخ??بروه
بغدْ ر يعفور ،فقال:
فعليه دائرةُ الـبـوار تـدُور نقض الذي أعطاكه يعـفـو ر
فت ٌح أتاك به اإِل لـ ُه كـبـي ُر أبشر ،أمير المؤمنين ،فـإنـه
بالنصر فيه ل َِواؤُ ك المنصور? يزيد على الفتوحَ ،يؤُ م َنـا ف ْتح ْ
بالغدر عنه وافـد َو َبـشِ ـير? الرعِ َّية أن ِ
أتـى ت َش َر ِ فلقد تبا َ
النفوسَ ،ن َكالُ َها مذكورَ تشفي غزو َةَو َر َج ْت ِب ُي ْم ِن َك أن ُت َع ِّجل َ
عنك اإلمام َل َجا ِهل ٌ مغـرور يعفور ،إنك حين َت ْغ ِد ُر أنْ نأى
ه َِب َل ْت َك أمك ،ما ظننت ُغ ُرور أظننت حين غدرت أنك ُمفل ٌ
ِت
بت دِيارك أم نأت بك عور َق ُر ْ إن اإلمام على اقتسارك قادر
عما يسوس بحـزمـه ويدير س اإِل مام وإن غفلنا َغافـأل َل ْي َ
فعدُؤُ هُ أبداً بـه مـقـهـور تجرد للجهاد بنـفـسـه ملك َ
وهللا ال َي ْخفي عليه ضمـير? يامن يريد رضا اإلله بسعـيه
والنصح من نصحا ِئ ِه مشكور ش إمامـه النصح ينفع من َي ُغ ُ
وألهله كفـارة وظـهـور ح اإِل مام على األنام فريضة ص ُ?ُن ْ
وهي طويل??ة ،فلم??ا أنش??ده إياه??ا ق??ال الرش??يد :أو ق??د ف َع? لَ .وعلم أن ال??وزراء ق??د
احتالوا ،فتجهز وغزاه ،ونزل على هرقلة ،وذلك في سنة تسعين ومائة?.
هللا فتحه لم يتعذر عليك فتح حصن بع??ده ،ف??أمره باالنص??راف ،ودع??ا ب??أبي إس??حاق
الفزاري فقال له مثل ما قال لمخلد ،فقال :يا أمير المؤمنين هذا حص??ن بنت??ه ال??روم
في َن ْحر الدروب ،وجعلته له??ا ثغ??راً من الثغ??ور ،وليس بااله??ل ،ف??إن أنت فتحت??ه لم
يكن فيه ما يعم المسلمين من الغنائم ،وإن تعذر فتحه ك??ان ذل??ك نقص?ا ً في الت??دبير،
والرأي عن??دي أن يس??ير? أم??ير المؤم??نين إلى مدين?ة? عظيم??ة من م??دن ال??روم ،ف??إن
فتحت َع ًم ْت غنائمها المسلمين ،وإن تع?ذر ذل?ك ق?ام الع?ذر ،فم?ال الرش?يد إلى ق?ول
مخلد ،فنزل على هرقلة ،ونصب حوله??ا الح??رب تس??عة عش??ر يوم?اً ،فأص??يب خل??ق
كث??ير من المس??لمين ،وف??نيت األزواد والعلوف??ات ،وض??اق ص??در الرش??يد من ذل??ك،
?رى م?ا ن?زل بالمس?لمين ،فم?ا فأحضر أبا إسحاق الف?زاري ،فق?ال :ي?ا إب?راهيم ق?د َت َ
الرأي اآلن عندك .فقال :يا أمير المؤمنين ?،قد كنت أشفقت من هذا ،وق??دمت الق??ول
فيه ورأيت أن يكون الجد والحرب من المسلمين على غير هذا الحص??ن ،وأم??ا اآلن
فال سبيل إلى الرحيل عنه من بعد المباشرة ،فيكون ذلك نقصا ً في الملك .ووهنا ً في
الدين ،وإطماعا ً لغيره من الحص??ون في االمتن??اع عن المس??لمين ،والمص??ابرة لهم،
لكن الرأي ي?ا أم?ير المؤم?نين أن ت?أمر بالن?داء في الجيش أن أم?ير المؤم?نين مقيم
على هذا الحصن إلى أن يفتحه هّللا عز وجل ّ للمسلمين ،وتأمر بقطع الخشب وجمع
األحجار وبناء مدينة? بازاء هذا الحصن إلى أن يفتحه هّللا عز وج?ل ،وال يك??ون ه?ذا
الخبر ينمو? إلى أح??د من الجيش إال على المق??ام .ف??إن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم
ق??ال :الح??رب خدع??ة وه??ذه ح??رب حيل??ة ال ح??رب س??يف ،ف?أمر الرش??يد من س??اعته
بالنداء ،فحملت األحجار وقطع األخشاب من الشجر ،وأخ??ذ الن?اس في البن??اء ،فلم??ا
رأى أهل الحصن ذلك جعلوا يتسللون في الليل ،و ُي َدلون أنفسهم بالحبال.
وفي خبر أبي عمير بن عبد الباقي زيادات ،منها خبر الجارية ال??تي س? َباها الرش??يد
من هذا الحصن ،وهي ابنة بطريقِهِ ،وكانت ذات حسن وجمال ،فزايد فيه??ا ص??احب
الرشيد في المغنم ،وبالغ فيها ح??تى اش??تراها ل??ه ،فبلغت من قلب??ه ،وب??نى له??ا نح??و
الرافقة بأميال على طريق بالس حصنا ً سماه هرقلة على الفرات ،يحاكي به حص??ن
هرقلة ببالد الروم ،في خبر طويل قد أتينا على جميعه في كتابنا األوسط.
باق إلى هذه الغاية هنالك خراب يعرف بهرقلة. وهذا الحصن ٍ
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد ،قال :أخبرني أبو العين??ا ،ق??ال :أخ??برني
?ع الرش??يد حين ن??زل على هرقل??ة وفتحه??ا ،ف??رأيت به??ا شبل الترجمان ،قال :كنت م? ِ
حجراً منصوبا ً مكتوبا َ عليه باليونانية ،فجعلت أترجمه والرش??يد ينظ??ر َ
إلي ،وأن??ا ال
أعلم ،فكانت ترجمت?ه ?.بس?م هللا ال?رحمن ال?رحيم ،ي?ا ابن آدم غ?افص الفرص?ة عن?د
إمكانها ،وكِل األمور إلى وليها ،وال يحملنك إفراط الس??رور على الم??أتم ،وال تحم??ل
على نفسك هم يوم لم يأت ،فإنه إن يك من أجلك وبقية عمرك يأت هللا فيه برزق??ك،
وال تكن من المغرورين بجمِع المال ،فكم قد رأينا جامعا ً لبعل حليلت??ه ،ومق??تراً على
نفسه ،موفراَ لخزانة غيره وق??د ك?ان ت?اريخ ه?ذا الكت?اب في ذل?ك الي??وم زائ??داً على
الذي سنة.
وباب هرقلة ُمطِ ل َع َلى واد وخندق يطيف به??ا ،وذك??ر جماع??ة من أه??ل الخ??برة من
أه??ل الثغ??ور أن أه??ل هرقل??ة لم??ا اش??تد بهم الحص??ار ،وعض??تهم الح??رب بالحج??ارة
والس??هام والن??ار فتح??وا الب??اب فاستش??رف المس??لمون ل??ذلك ،-ف?إذا رج??ل من أهله??ا
كأجم??ل الرج??ال ق??د خ??رج في أكم??ل الس??الح ،فن??ادى :ي??ا معش??ر الع??رب :ق??د ط??الت
مواقفتكم إيانا ،فليخرج إلي منكم الرجل والعشرة إلى العشرين مب??ارزة ،فلم يخ??رج
إليه من الناس أحد ،ينتظرون ْإذنَ الرش??يد ،وك??ان الرش??يد نائم?ا ً فع??اد ال??رومي إلى
حصنه ،فلما استيقظ أخبر بذلك ،فتأسف والم خدمه على ت?ركهم إيقا َظ? ُه ،فقي?ل ل?ه:
يطمعه ويطغيه ويجرئه? أن يخرج في يا أمير المؤمنين ،إن امتناع الناس منه? اليوم ْ
غ ٍد فيطلب المبارزة ويعود لمثل قوله ،فطالت على الرشيد ليلته ،وأصبح ك??المنتظر
له ،إذ فتح الباب ،فإذا الفارس قد خ??رج ،وع??اد إلى كالم??ه ،فق??ال الرش??يدَ :منْ ل??ه.
ض ّج أهل الثغور والمتطوع??ة بب??اب فابتدره جلة القواد ،فعزم على إخراج بعضهم ،ف َ
المض??رب ،ف??أذن لبعض??هم ،وفي مجلس??ه مخل??د بن الحس??ين وإب??راهيم الف??زاري،
ف??دخلوا ،فق??الوا :ي??ا أم??ير المؤم??نين ،ق??وادك مش??هورون بإلب??اس والنج??دة ،وعل??و
الصيت ومباشرة الحرب ومتى خرج واحد منهم وقتل هذا العلج لم يك??بر ذل??ك ،وإن
قتله العلج كانت وصمة على العسكر عظيمة ،وثلمة ال تنسد ،ونحن عامة ال يرتف??ع
فصو َب
َّ رجاَل منا يخرج إليه ف َعل،
ألحد منا صيت فإن رأى أمير المؤمنين? أن يختار َ
الرشيد رأيهم وقال مخل?د وإب?راهيم :ص?دقوا ي?ا أم?ير المؤم?نين ،ف?أومؤا إلى رج?ل
منهم يعرف بابن الجزري مشهور في الثغور موصوف بالنج??دة ،فق??ال ل??ه الرش??يد:
أتخرج إلي??ه .ق??ال :نعم ،وأس??تعين باهّلل علي??ه ،فق??ال :أعط??وه فرس?ا ً وس??يفا ً ورمح?ا ً
وترساً ،فقال :يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق ،ورمحي في ي??دى أش??د ،ولكن ق??د
قبلت السيف وال??ترس .فلبس الس??الح ،وأش??تدناه الرش??يد فودع??ه وأتبع??ه بال??دعاء،
انقض في ال??وادي ق??ال لهم العلج وه??و َّ وخرج مع??ه عش??رون من المتطوع??ة ،فلم??ا
يعدهم واح?داً :إنم?ا ك?ان الش?رط عش?رين ،وق?د إزددتم رجاَل َ ولكن ال ب?أس ،فن?اده:
ليس يخرج لك منا إال رجل واحد ،فلما فص??ل منهم ابن الج??زري تأمل??ه العلج ،وق??د
أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم ،فقال له ال??رومي :أتص??دقني عم??ا
أسألك عنه .قال :نعم ،قال :أنت ابن الجزري باهّلل .قال :اللهم نعم ،ف ُك??ف ل??ك ،ق??ال:
س?ان أن فتطاع َن??ا ح??تى ط??ال األم??ر بينهم??ا ،وك??اد َ
الفر َ َ بل ُكف ،ثم أخذا في شأنهما،
يقوم??ا تحتهم?ا ،وليس واح??د منهم?ا خ?دَ ش ص??احبه ،ثم رمي??ا برمحيهم?ا ه?ذا نح??و
س ? ُيوفهما وق??د اش??تد الح??ر عليهم??ا ،وتبل??دوانتض? َيا ُ
َ أص??حابه وه??ذا نح??و حص??نه،
جواداهما ،فجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يظن أن??ة ق??د ب??الغ فيه??ا
فيتقيها الرومي ،وكانت درقته حديداً ،فيسمع له??ا ص??وت منك??ر ،ويض??ربه ال??رومي
فيغ??وص س??يفه ألن ت??رس ابن الج??زري ك??ان درق??ة تبتي??ة ?،وك??ان العلج يخ??اف أن
يغوص السيف فيعطب ،فلما يئس كل واحد منهما من صاحبه انه??زم ابن الج??زري،
فداخلت الرشيد والمسلمين من ذلك كآبة لم يصبهم مثلها ،وعطع??ط المش??ركون من
حصنهم ،وإنما كانت حيل??ة من ابن الج??زري ،فاتبع??ه العلج وعال علي??ه ،فلم??ا تمكن
وص?ل َ إلىمنه? ابن الجزري رماه بوهق فاختطفه من سرجه ،ثم عط??ف علي??ه ،فم?ا َ
األرض جسده حتى فارقه رأسه ،وكبر المسلمون ،وانكسر المشركون ،وبادروا
صفحة 191 :
وذلك في بقية أيام المقتدر وأيام القاهر والراض??ي والمتقي ،إلى ه??ذا ال??وقت -وه??و
سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة ?-في خالفة أبي إسحاق المتقي هلل بن المقتدر.
وملوك الروم في هذا الوقت المؤرخ ثالثة ،واألكبر منهم والم??دبر ألم??ور أرمن??وس
المتغلب ،ثم الثاني وهو قسطنطين بن الوي بن اليون بن بسيل ?،والملك الث?الث ابن
ص?احب
َ ب بالملك ،واسمه اسطفنوس وجعل أرمنوس اب َنا َ ل?ه َ
آخ? َر ألرمنوس ،يخا َط ُ
الكرسي بالقسطنطينية ?،وه??و البط?رك األك?بر ال?ذي يأخ?ذون عن??ه دينهم ،وق?د ك?ان
ّ
صاه قبل ذلك ،وقربه إلى الكنيسة ،وأم ُر الروم يدور في وقتنا هذا على من ذكرنا َخ َ
من ملوكهم.
قال المسعودي :وإلى هذا الوقت انتهت أخبار ملوك ال?روم ،على حس?ب م?ا ذكرن?ا،
وهللا أعلم ما يكون من أمرهم في المستقبل? من الزمان.
وصف مصر
ووصف بعض الحكماء مصر فقال :ثالثة أشهر لؤلؤة بيضاء ،وثالث أش??هر مس??كة
أش? ُهر س??بيكة ذهب حم??راء فأم??ا س??وداء ،وثالث??ة أش??هر زم??ردة خض??راء ،وثالث??ة ْ
اللؤلؤة البيضاء فإن مصر في شهر أبيب -وهو تموز -ومِسري -وهو آب -وت??وت-
وهو أيلول -يركبه?ا الم?اء ف?ترى ال?دنيا بيض?اءِ ،
وض? َياعها على َر َاو ِب َي وتالل مث?ل
الكواكب ،قد أحاطت المياه به??ا من ك??ل وج??ه ،فال س??بيل? لبعض البالد إلى بعض إال
في ال??زوارق ،وأم??ا المس??كة الس??وداء ف??أن في ش??هر باب??ه -وه??و تش??رين األول-
وهاتور -وهو تش??رين الث??اني ،وكيه??ك -وه??و ك??انون األول -ينكش??ف الم??اء عنه??ا،
وينضب? عن أرضها فتصير أرضا ً س?وداء ،وفيه?ا تق?ع الزراع?ات ،ولألرض روائح
طيبة تش??به روائح المس??ك ،وأم??ا الزم??ردة الخض??راء ،ف??إن في ش??هر طوب??ة -وه??و
كانون الثاني -وأمش??ير ?-وه??و ش??باط -وبرمه??ات -وه??و آذار -تلم??ع ويك??ثر عش??بها
ونباتها .فتصير كألزمردة الخضراء وأما السبيكة الحم?راء ف?إن في ش?هر برم?ودة-
?بيض ال??زرع ،ويت??ورد
ُ وهو نيسان -وبشنس -وهو أ َّيا ُر -وبؤونة -وهو حزي??ران -ي?
العشب ،فهو كسبيكة الذهب منظراً ومنفعة.
ونسمى ك??ل ش??هر منه??ا بع??د
ِ وسنذكر هذه الشهور بالسريانية والعربية والفارسية?،
هذا الموضع من هذا الكتاب ،وإن كنا قد أتينا على جميع ذلك في الكتاب األوسط.
آخ ُر مصر فق??ال :نيله??ا عجب ،وأرض??ها ذهب ،وخيره??ا َج َلب وملكه??ا لمن ووصف َ
ص??? َخب ،وط???اعتهم َرهَب ،وس???المهم ش???غب، س???لب ،وماله???ا رغب ،وفي أهله???ا َ
وحروبهم َحرب ،وهي لمن غلب.
نهر النيل
ونهره??ا الني??ل من س??ادات األنه??ار ،وأش??راف البح??ار .ألن??ه يخ??رج من الجن??ة على
حس??ب م??ا ورد ب??ه خ??بر الش??ريعة إن الني??ل وس??يحان ،وه??و نه??ر أدب??ه من الثغ??ر
الشامي ،ويصب إلى البحر الرومي ،ومخرجه على ثالثة أي??ام من ملطي??ة ،ويج??ري
في بالد الروم ،وليس للمسلمين علي??ه إال مدين?ة? أذن??ة بين طرس??وس والمصيص??ة،
وجيح??ان ،ومخرج??ه من عي??ون تع??رف بعي??ون جيح??ان على ثالث??ة أي??ام من مدين ?ة?
مرعش ،ويطرح إلى البحر الرومي ،فليس للمسلمين عليه من المدن إال المصيصة?
وكفربيا ،ومجراه بينهما ،والف??رات وق??د ق??دمنا األخب??ار عن??ه وعن الني??ل ومب??دئهما
ومقدار جريانهما على وجه األرض ومص??بهما ،فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب ،وأن??ه
يخرج من الجنة ،وكذلك الدجلة وغيرها مما اشتهر من األنهار الكبار.
وقد قالت الع??رب في الني??ل :إن??ه إذا زاد غاض??ت ل??ه األنه??ار واألعين واألب??ار ،وإذا
غاض زادت .فزياداتها من َغ ْيضه ،وغيض ُه من زياداتها.
قال البسري :يغيض إن زاعت له األنهار في األرض ذات العرض والمقدار وق??الت
الهند :زيادته ونقصانه بالسيول ،ونحن نعرف ذلك بتوالى األنواء وك??ثرة األمط??ار،
وركود السحاب.
وقالت ال??روم :لم ي??زد ق??ط ولم ينقص ،وءإنم??ا زيادت??ه ونقص??انه من عي??ون ك??ثرت
واتصلت.
صفحة 194 :
وق??الت القب??ط :زيادت??ه ونقص??انه من عي??ون في ش??اطئه ،يراه??ا َمنْ س??افر ولح??ق
بأعاليه.
وقيل :لم ي??زد ق?ط ،وإنم?ا زيادت?ه ب?ريح? الش?مال إذا ك??ثرت واتص??لت ب??ه ،فتحبس??ه،
فيفيض على وجه األرض.
وقد ذكرنا التنازع في الني??ل وزيادت??ه ممن س??لف وخل??ف ،على الش??رح واإليض??اح،
وغيره من األنهار الكبار والبحار والبحيرات الص??غار ،في كت??اب أخب??ار الزم??ان في
الفن الثاني ،فأغنى ذلك عن إعادتها في هذا الكتاب.
في قاع المقي??اس من الم??اء ثالث??ة أف??رع ،وفي مث??ل تل??ك الس??نة يك??ون الم??اء قليالً،
واألف? ُر ُع ال??تي يستس??قي? عليه??ا بمص??ر هي فراع??ان تس??ميان منك??راً ونك??يراً ،وهي
الفراع الثالث عشر ،والفراع الرابع عشر ،فإذ انصرف الماء عن هاتين الفراعين-
أعني ثالث عشرة وأربع عشرة -وزيادة نصف? ذراع من الخمس عشرة ،استس??قى
الناس بمصر ،وكان الضرر شامالً لكل البلدان ،إال أن يأذن هّللا عز وج??ل في زي??ادة
الماء ،وإذا تم خمس عشرة ودخل في س??ت عش??رة ذراع?ا ً ك??ان في??ه ص??الح لبعض
الناس ،وال يستسقي? فيه ،وكان ذلك نقصا ً من خراج السلطان ،والترع التي َبغ ْيضة
مص???ر أرب???ع أمه???ات .أس???ماؤها :ترع???ة ذنب التمس???اح ،وترع???ة بلقين???ة ،وخليج
س??ردوس ،وخليج ذات الس??احل ،وتفتح ه??ذه ال??ترع إذا ك??ان الم??اء زائ??داً في عي??د
الصليب ،وهو ألربع عشرة تخلو من توت وهو أيلول ،وقد قدمنا خ??بر تس??مية ه??ذا
اليوم بعيد الصليب فيما سلف من هذا الكت??اب ،والنبي?ذ? الش??يراري يتخ??ذ بمص??ر من
م??اء طوب??ة ،وه??و ك??انون اآلخ??ر ،بع??د الغط??اس ،وه??و لعش??رة تمض??ي من طوب??ة،
وأصفى ما يكون النيل في ذلك الوقت ،وأهل مصر يفتخرون بص??فاء الني??ل في ه??ذا
الوقت ،وفيه تختزن المياه أهل تنيس ودمياط وبونة وسائر قرى البحيره.
ليلة الغطاس
ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها ،ال ينام الناس -فيها ،وهي ليلة إح??دى
عشرة تمضي من طوبة وستة? من كانون الثاني.
ولقد حضرت سنة ثالثين وثلثمائة? ليلة الغطاس بمص??ر ،واإلخش??يد محم??د بن ظغج
في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة الراكبة للنيل والنيل يطيف بها ،وق??د أم??ر
فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غ??ير م??ا أس??رج أه??ل مص?ر?
من المش??اعل والش??مع ،وق??د حض??ر الني??ل في تل?ك الليل??ة مئ??و آالف من الن??اس من
المس??لمين والنص??ارى ،منهم في ال??زوارق ،ومنهم في ال??دور الداني??ة? من الني??ل،
ومنهم على الشطوط ،اليتنا كرون الحضور ،و ُي ْحضِ رون كل ما يمكنهم إظه??اره من
المأكل والمش??ارب والمالبس وآالت ال??ذهب والفض??ة والج??واهر والمالهي والع??زف
والقصف ،وهي أحسن ليلة تكون بمصر ،وأشملها سروراً ،وال تغلق فيها الدروب،
ويغطس أكثرهم في النيل ،ويزعمون أن ذلك أمان من المرض ومبرئ للداء.
مقاييس النيل
قال االمسعودي :وأما المقاييس الموضوعة بمص??ر لمعرف??ة زي??ادة الني??ل ونقص??انه
ف??إني س??معت جماع??ة من أه??ل الخ??برة يخ??برون أن يوس??ف الن??بي ص??لى هللا علي??ه
وسلم ،حين بنى األهرام ،اتخذ مقياسا ً لمعرفة زيادة النيل ونقصانه ،وأن ذل??ك ك??ان
بمنف ?،ولم يكن الفسطاط يومئذ ،وأن دلوكة الملكة العجوز وضعت مقياسا ً بأقص??ى
الصعيد ،ووضعت أيضا ً مقياسا ً آخر ببالد إخميم ،فه??ذه المق??اييس الموض??وعة قب??ل
مجيء اإلسالم ،ثم ورد اإلسالم ،وافتتحت مصر ،وك??انوا يعرف??ون زي??ادة الني??ل بم??ا
ذكرن??ا ونقص??انه? بم??ا وص??فنا ،إلى أن ولي عب??د العزي??ز بن م??روان ،فاتخ??ذ مقياس?ا ً
بحلوان ،وهو صغير الذراع ،وحلوان فوق الفسطاط ،ثم اتخذ اسأمه بن زيد
صفحة 196 :
التنوخي مقياسا ً ب??الجزيرة ال??تي ت??دعى جزي??رة الص??ناعة ،وهي الجزي??رة ال??تي بين
الفسطاط والجيزة ،وال َم ْع َب?ر عليه?ا من الفس?طاط على الجس?ر ،ثم منه?ا على جس?ر
آخر إلى الجيزة ،وه??و الج??انب الغ??ربي ،ألن الفس??طاط من الج??انب الش??رقي ،وه??ذا
المقياس الذي أتخذه اسأمه بن زيد التنوخي ه??و أكثره??ا اس??تعماال ،واتخ??ذ ذل?ك في
أيام سليمان بن عبد الملك بن مر وأن ،وهو المقي??اس ال??ذي يعم??ل علي??ه في وقتن??ا
هذا -وه?و س?نة اثنتِن وثالثين وثلثمائ?ة -بالفس?طاط ،وق?د ك?ان َمنْ س?لف يقيس?ون
بالمقياس الذي بمنف ،ثم ترك استعماله ،وعملى على مقياس الجزيرة المعمول في
أي?ام س?ليمان بن عب?د المل?ك ،وفي ه?ذه الجزي?رة مقي?اس آخ?ر ألحم?د بن طول?ون،
والعمل عليه عند كثرة الم?اء ،وت??رادف الري??اح ،واختالف َم َهابه?ا ،وك?ثرة الم?وج،
ِوقد كانت أرض مصر كلها تروي من س??ت عش??رة ذراع اً عامره??ا وغامره??ا ،لم??ا
أحكم??وا من جس??ورها ،وبن??اء قناطره??ا ،وتنقي??ة? خلجانه??ا ،وك??ان بمص??ر س??بع
خلجان??ات :فمنه??ا خليج اإلس??كندرية ،وخليج س??خا ،وخليج دمي??اط ،وخليج من??ف،
وخليج الفيوم ،وخليج سرعوس ،وخليج المنهي?.
وكانت مصر فيما يذكر أهل الخبرة أكثر البالد جناناً ،وذلك أن جنانها كانت متص??لة
بحافتي النيل من أوله إلى آخره ،من حد أسوان إلى رشيد ،وكان الم??اء إذا بل??غ في
زيادته تسعة أفرع دخل خليج المنهي وخليج الفيوم وخليج سرعوس وخليج سخا،
وكان الذي ولي حفر خليج سردوس لفرعون عدو هّللا هامان ،فلما ابت??دأ في َحف??ره
أتاه أهل القرى يسألونه أن ُي ْج? ري الخليج إلى تحت ق??راهم ،ويعط??وه على ذل??ك م??ا
أراد من المال ،وكان يعمل ذلك حتى اجتمعت له أموال عظيمة ،فحمل تل??ك األم??وال
إلى فرعون ،فلما وضعها بين يديه سأله عنها فأخبره بما فعل ،فق??ال فرع??ون :إن??ه
ينبغي? للس??يد أن يعط??ف على عبي??دة ،ويفيض عليهم معروف??ه ،وال ي??رغب فيم??ا في
أيديهم ،ونحن أحق َمنْ فعل هذا بعبيده ،فاردد على أهل ك??ل قري??ة م??ا أخذت??ه منهم،
ففعل ذلك هامان ،ورد على أه??ل ك??ل قري??ة م??ا أخ??ذ منهم ،فليس في الخلج??ان ال??تي
بأرض مصر أكثر عطوفا ً وعزاقيل من خليج س?ردوس ،وأم?ا خليج الفي?وم ،وخليج
المنهي فإن الذي حفرهما يوسف بن يعقوب صلى هللا عليه وسلم ،وذلك أن الري??ان
بن الوليد ملك مصر لما رأى رؤياه في البقر والسنابل وع َب َرها يوسف عليه السالم
استعمله على ما كان يلي من أرض مصر ،وقد أخبر هللا بذلك عند إخباره عن نبي?ه?
يوسف بقوله "اجعلني على خزائن األرض ،إني حفيظ عليم " .
الفيوم
وأم??ا أخب??ار الفي??وم من ص??عيد مص??ر وخلجانه??ا من المرتف??ع والمط??اطي ومط??اطي
المطاطي ،وهذه عبارة أهل مصر يريدون بذلك المنخفض ،وكيفية? فعل يوسف فيها
خرب??ة ومص??فاة لمي??اه الص??عيد ،وهى جزي??رة ق??د أح??اط
وعمارته أرضها بعد كونها ِ
الم?اء حينئ??ذ ألك?ثر أقطاره?ا ،فق?د أتيت?ا على ،ذل?ك في الكت?اب األوس?ط ف?أغنى عن
إعادته في هذا الكتاب ،وكذلك في تسمية الفيوم فيوماً ،وأن ذلك ألف يوم ،وما كان
من خبر يوسف مع الوزراء وحسدهم إياه.
وقد كانت مصر ?-على ما زعم أهل الخبرة والعناية بأخبار ش??أن ه??ذا الع?الم -ي??ركب
أرض? َها م??اء وينبس??ط على بالد الص??عيد إلى أس?فل األرض ،وموض?ع الفس?طاط في َ
وقتنا هذا ،وقد كان بدء ذلك من موضع يعرف بالجنادل بين أس??وان والحبش??ة وق??د
قدمنا ذكر هذا الموضع فيما سلف من هذا الكت?اب ،إلى أن ع?رض ل?ذلك موان?ع من
انتقال الماء وجريانه ،وم?ا ينق?ل من الترب?ة? بت َّياره من موض?ع إلى موض?ع فيص?ب
من بعض المواضع من بالد مصر على حس?ب م?ا وص?فنا عن ص??احب المنط??ق في
عمران األرض وخرابها فيما سلف من هذا الكت??اب ،فس??كن الن??اس بالد فص??ر ،ولم
ي??زل الم??اء ينص??ب عن أرض??ها قليالً قليالً ح??تى امتألت أرض مص??ر من الم??دن
وحفروا له الخلجانات ،وعقدوا في وجهه المس ّناة ،إال أن والعمائر ،وطرقوا للماءَ ،
ذلك خفي على ساكنيها ،ألن طول الزمان أذهب معرفة أول سكناهم كيف كان ذل??ك،
ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر العلة الموجبة المتناع المطر بمصر وال لكث??ير من
أخبار اإلسكندرية وكيفية? بنائه??ا ،واألمم ال??تي ت??داولتها والمل??وك ال??تي س??كنتها من
الع??رب وغ??يرهم .ألن??ا ق??د أتين??ا على ذل??ك في الكت??اب األوس??ط ،وس??نذكر بع??د ه??ذا
الموضع جمالً من أخبارها ،وجوامع من كيفية بنائها ،وم??ا ك?ان من أم??ر اإلس??كندر
فيها.
المآكل والمشارب ،فأبى أن يتواطأ على شيء ،وأن يتغذى إال بغذاء كان حمله معه
من كعك وغيره ،وقال :هذه ِب ْنية? قوا ُم َها بما ترون من ه??ذا الغ??ذاء ،وه??ذا الملبس،
س ْم ُت ُموها النقل?ة عن ه?ذه الع?ادة وتن??اول م?ا أوردتم?وه عليه?ا من المآك?لفإن أنتم ُ
الب ْن َي??ة ،وتفري?ق? ه??ذه الص??ورة،
والمشارب والمالبس ك??ان ذل??ك س??بب انحالل ه??ذه ِ
فترك على ما كان عليه ،وم??ا ج??رت ب??ه عادت??ه ،وأحض??ر ل??ه أحم??د بن طول??ون من
حض??ره من أه??ل الحراي??ة ،وص??رف همت??ه علي??ه ،وأخلى نفس??ه ل??ه في لي??ال وأي??ام
كثيرة ،يسمع كالمه وإيراداته وجواباته فيما يسأل عنه ،فكان مما سئل عن??ه الخ??بر
عن بحيرة تنيس ودمياط ،فق??ال :ك??انت أرض?ا ً ِلم يكن بمص??ر مثله??ا اس??تواء وطيب
?ار علىتربة? وثراوة ،وكانت جنانا ً ونخالً وكرما َ وشجراً ومزارع ،وك??انت فيه??ا مج? ٍ
?اع من األرض وق??رى على قراره??ا ،ولم ي??ر الن?اس بل?داً ك??ان أحس??ن من ه??ذه ارتف? ٍ
األرض ،وال أحسن اتصاالً من جنانها وكرومه??ا ،ولم يكن بمص?ر? ك??ورة يق??ال إنه??ا
تشبهها إال الفيوم وكانت أكثر خيراً من الفيوم وأخصب وأكثر فاكه??ة وري??احين من
األضناف الغريبة ?،وكان الماء منحدراً إليها ال ينقطع عنها صيفا ً وال شتا ًء ،يسقون
منه? جنانهم إذا شاءوا ،وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من سائر ُخ ْل َجانه،
ومن الموض??ع المع??روف باألش??توم ،وق??د ك??ان بين البح??ر وبين ه??ذا االرض نح??و
مسيرة? يوم قبرس تسلكه الدواب َي َبساً ،ولم يكن فيما بين العريش وجزي??رة ق??برس
إال َم َخ اضة ،وجزيرة قبرس اليوم بينها وبين العريش في البحر سير طويل ،وكذلك
فيما بينها وبين أرض ال??روم ،وق??د ك??ان بين األن??دلس وبين الموض??ع ال??ذي يس??مى
الخضراء -وهو قريب من فاس المغرب وطنجة -قنط??رة مبني??ة بالحج??ارة والط??وب
تمر عليها اإلِبل والدواب من ساحل المغ??رب من بالد األن??دلس إلى المغ??رب ،وم??اء
البحر تحت تلك القنطرة متقطع خلجانات صغاراً تجري تحت قناطرها وم?ا عق?د من
ص ّم ،وقد عقد من كل حجر إلى حجر ط??اق ،وه??و مب??دأ الطاقات تحتها على صخور ُ
بحر الروم األخذ من أوقيانوس ،وه??و البح??ر المحي??ط األك??بر ،فلم ي??زل البح??ر يزي??د
ماؤه ويعلو أرضا ً فأرضا ً في طول ممر السنين ،يرى زيادته أهل كل زمان ،ويتبينه
أهل كل عصر ،ويقفون عليه ،حتى عال الماء الطريق الذي كان بين الع??ريش وبين
قبرس وعال القنطرة التي كانت بين األن??دلس و َب ِّرطنج??ة ،وم??ا وص? ُ
?فت ف??بينٌ ظ??اهر
عند أهل األندلس وأهل ف??اس من بالد المغ??رب من خ??بر ه??ذه القنط??رة ،وربم??ا ب??دا
الموضع ألهل المراكب تحت الماء ،فيقولون :هذه القنطرة ،وكان طولها نحو اث??ني
عش??ر ميالً ،في ع??رض واس??ع ،وس??مو بين ،فلم??ا مض??ت ل??ديقلطيانوس من ملك??ه
مائت??ان وإح??دى وخمس??ون س??نة? هجم الم??اء من البح??ر على بعض المواض??ع ال??تي
تسمى اليوم بحيرة تنيس? فأغرقه ،وصار يزيد في كل ع?ام ح?تى أغرقه?ا بأجمعه?ا،
فما كان من القرى التي في قرارها غرق ،وأما التي كانت على ارتف??اع من األرض
فبقيت منها بونة وسمنور? وغيم ذلك مما هي باقية إلى ه??ذا ال??وقت ،والم??اء محي??ط
بها ،وكان أهل القرى التي في هذه البح??يرة ينقل??ون موت??اهم إلى ت??نيس فيق??برونهم
واحداً فوق آخر ،وهي األكوام الثالثة التي تسمى اليوم أبو الك??وم ،وك??ان اس??تحكام
غ??رق ه??ذه األرض بأجمعه??ا وق??د مض??ى ل??ديقلطيانوس المل??ك مائت??ان و إح??دى
وخمسون سنة ،ذلك قبل أن تفتح? مصر بمائة سنة ،وقال :وقد كان لملك من ملوك
صفحة 199 :
األمم كانت داره الفر ما م??ع أرك??ون من أراكن??ة البلين??ا وم??ا اتص??ل به??ا من األرض
حروب وخنادق وخلجانات فتحت من النيل إلى البح??ر ،يمن?ع? ك??ل واح??د من اآلخ??ر،
وكان ذلك داعيا ً لتشعب الماء من النيل واستيالئه? على هذه األرض.
وسئل عن ملوك األحابش على النيل وممالكهم فقال :لقيت من ملوكهم س??تين ملك ?ا ً
في ممالك مختلفة ،كل ملك منهم ينازع من يليه من المل??وك ،وبالدهم ح??ارة يابس??ة
مسودة ليبسها وحرارتها والستحكام النارية? فيها تغيرت الفضة ذهبا ً لطبخ الشمس
إياها لحرارتها ويبسها وناريتها فتحولت ذهباً ،وقد يطبخ الذهب التي يؤتى ب??ه من
المعدن خالصا ً صفائح بالملح والزاج والطوب فيخ??رج من??ه فض??ة خالص??ة بيض??اء،
وليس يدفع هذا األمر إال منْ المعرفة له بماوصفنا ،وال قارب شيئا ً مما ذكرنا.
قيل له :فما منتهى النيل في أعاليه .قال :البحيرة ال??تي ال ي??درك طوله??ا وعرض??ها،
وهى نح??و األرض ال??تي اللي??ل والنه??ار فيه??ا متس??اويان ط??ول ال??دهر ،وهي تحت
الموضع الذي يسميه المنجمون الفلك المستقيم ،وما ذكرت فمعروف غير منكر.
األهرام
وسئل عن بناء األهرام ،فقال :إنها قبور الملوك ،وكان الملك منهم إذا م??ات وض??ع
في حوض حجارة وشمى بمصر والش?ام الج??رن وأطب?ق علي??ه ،ثم يب??نى من اله?رم
على قدر ما يريدون من ارتفاع األساس ،ثم يحمل الح??وض فيوض??ع وس??ط اله??رم،
ثم يقنطر عليه البنيان واألقب??اء ،ثم يرفع??ون البن??اء على ه??ذا المق??دار ال??ذي ترون??ه
ويجعل باب اله??رم تحت اله??رم ،ثم يحف??ر ل??ه طري??ق في األرض بعق??د أزج ،فيك??ون
طول األزج تحت األرض مائة ذراع وكثر ،ولكل ه??رم من ه??ذه األه??رام ب??اب ي??دْ َخل
منه? على ما وصفت ،فقيل له :فكيف بنيت ه??ذه األه??رام المملس??ة .وعلى أي ش??يء
كانوا يصعدون ويبنون .وعلى أي شيء كانوا يحملون هذه الحجارة العظيم??ة ال??تي
ال يقدر أهل زماننا هذا على أن يحرك??وا الحج??ر الواح??د إال بجه??د إن ق??دروا .فق??ال:
كان القوم يبنون الهرم مدرجا ذا مراقي كالدرج ،فإذا فرغ??وا م ُن?ه? نحت??وه من ف??وق
إلى أسفل ،فهذه ك??انت حيلتهم ،وك??انوا م??ع ه??ذا لهم ص? ْبر وق??وة وطاع??ة لمل??وكهم
ديانة .فقيل له :ما بال هذه الكتابة التي على األه?رام وال?برابي ال تق?رأ .فق?الَ :د َث َ
?ر
الحكماء وأهل العصر الذين كان هذا قلمهم ،وت??داول أرض مص??ر األمم ،فغلب على
أهلها القلم ال?رومي ،وأش?كال األح?رف لل?روم ،والقب?ط تق?رؤه على حس?ب تعارفه?ا
إياه ،وخلطها األحرف الروم بأحرفها ،على حسب ما ولّ ُموا من الكتابة بين الرومي
والقبطي األول .فذهبت عنهم كتابة آبائهم.
فقيل له :فمن أول من سكن مصر .قال :أول من نزل ه??ذه األرض مص??ر بن بيص?ر?
بن حام بن نوح ،ومر في أنساب ولد نوح الثالثة وأوالدهم ،وتفرقهم في األرض.
فقيل له :أتعرف بمصر? مقاطع رخام .قال :نعم في الجانب الشرقي من الصعيد جب??ل
رخام عظيم كانت األوائل تقطع منه? العمد وغيرها ،وكانوا َي ْجلُون ما عملوا بالرم??ل
بعد النقر ،فأما العمد والقواعد والرؤوس التي قسميها أهل مصر األسوانية ،ومنها
حجارة الطواحين ،فتلك َن َق َرها األولون بع??د ح??دوث النص??رانية بم??ئين من الس??نين،
ومنها العمد التي باإلسكندرية ،والعمود الذي بها الضخم الكبير ال يعلم بالعالم
صفحة 200 :
عمود مثله ،وقد رأيت في جبل أسوان أخا ً لهذا العمود قد هن??دس ونق??ر ولم يفص??ل
من الجبل ،ولم ا ُيحك ما ظهر من??ه ،وإنم??ا ك??انوا ينتظ??رون أن يفص??ل من الجب??ل ثم
يحمل إلى حيث يريد القوم.
وسئل عن مدينة? العقاب ،فقال :هي غربي أهرام بوصير? الج??يزة وهي على خمس??ة
أيام بلياليها للراكب المجد ،وق??د وع??رت طريقه??ا وعميت المس??الك إليه?ا ،والس??مت
الذي يؤدي نحوها ،وذكره??ا فيه??ا من عج??ائب البني??ان والج??واهر واألم??وال والعل??ة
ال??تي له??ا س??ميت مدين??ة العق??اب ،ووص??ف مدين ?ة? أخ??رى غ??ربي أخميم من أرض
الصعيد ذات بني??ان عجيب اتخ??ذتها المل??وك الس??الفة ،وذك??ر من ش??أن ه??ذه المدين??ة
األخرى عجائب من األخبار ،وزعم أن بينها وبين إخميم من أرض الصعيد مس??يرة?
ستة أيام.
وس??ئل عن النوب??ة وأرض??ها ،فق??ال :هم أص??حاب ِإب??ل و ُب ْخت ،وبق??ر وغنم ،وملكهم
يس??تعد الخي??ل العت??اق ،واألغلب من رك??وب ع??وامهم ال??براذين ،ورميهم بالنب??ل عن
قسيئ عربية ?،وعنهم -أخذ ال??رمي أه??ل الحج??از واليمن وغ??يرهم من الغ??رب ،وهم
الذين يسميهم العرب رماة الح??دق ،ولهم النخ??ل والك??رم وال??ذرة والم??وز والحنط??ة،
وأرضهم كأنها جزء من أرض اليمن ،وللنوبة أترج كأكبر ما يكون بأرض اإِل سالم،
وملوكهم ت??زعم أنهم من حم??ير ،وملكهم يس??تولى على مق??را ونوب?ة? وعل??وة ،وراء
?راة ك??الزنج ،وأرض??هم تنبت عل??وة أم??ة عظيم??ة من الس??ودان ت??دعى بكن??ة وهم ُع? َ
الذهب ،وفي مملكة ه?ذه األم??ة يف?ترق الني??ل فيتش? ّعب من??ه خليج عظيم ،ثم يخض??ر
الخليج بعد انفصاله من النيل ،وينحدر األكثر إلى بالد النوبة ،وهو الني??ل ال يتغ??ير،
فلذا كان في بعض األزمنة? انفصل األكثر من الماء في ذلك الخليج ،وابيض األك??ثر،
واخضر األقل ،فيشق ذلك الخليج في أوديا وخلجان وأعم??اق مأنوس??ة ح??تى يخ??رج
إلى جالسق والجنوب ،وذلك على ساحل الزنج ،ومصبه? في بحرهم.
ثم سئل عن الفيوم والمنهى وحجر الالهون ،فذكر كالما ً طوياًل فن أمر الفيوم ،وأن
جاري??ة فن بن??ات ال??روم وابنه??ا نزل??وا الفي??وم ،وك?انوا الب?دء في عمارته??ا وعم??ارة
أرضها ،وإنما كان الماء ي?أتي الفي?وم من المنهي أي?ام َج? ْري الني?ل ،ولم يكن حج?ر
الالهون بني ،وإنما كان مصب الماء من المنهي من الموضع المعروف بدمونة ?،ثم
بني الالهون على ما هو اليوم علي??ه ويق??ال :إن يوس??ف بن يعق??وب بن إس??حاق بن
ودبر من أمر الفيوم ما هو الي??وم ق??ائم بين
َ إبراهيم عليهم السالم ،بناه أيام العزيز،
من الخلج المرتفعة والمطاطية ،وهو خليج ف??وق خليج ف??وق خليج ،وب??نى القنط??رة
المعروف بسفونة ،وأقام العمود الذي في وسط الفي??وم وه??ر غ??ائص في األرض ال
يدْ ركة منتهاه منها ،وهو أحد عجائب الدنيا مرب??ع الش??كل ق??د جه??د أن??اس من األمم
ممن ورد بعد يوسف أن ينت َهوا? إلى آخره في األرض َحف??راً فلم يت??أت لهم ذل?ك ،وال
قدروا عليه وغلبهم الماء فعجزهم ،ورأس هذا العمود مس??او ألرض المنهي ،ق??ال:
وأما حجر الالهون فإن من سطح الحجر الذي في بين القبتين إلى ناحي??ة الاله??ون،
والالهون هي القرية بعينها ،ففي ما بيم السطح إلى القرية ستون درجة وربما م??ل
بعض الدرج ،وفي حائط الحجر فوارات بعضها اليوم ُ الماء في المنهي ،وظهر
صفحة 201 :
يخرج منه? الماء ،وبعض ال يرى ،وفيما بين سطح الحج??ر ال??ذي بين القب??تين وبين
القرية شاذروان وهو من أس??فل ال?درج ،وإنم??ا ي??دخل الم??اء الفي??وم ب??وزن الحج??ر،
وجعل??ه االس??تقالة -وهي القن??اطر -ليخ??رج الم??اء منه??ا ،وال يعل??و الم??اء الحج??ر أب
سده ،فبالتقدير ُبني حجر الالهون ،وبق??در م??ا يكفي الفي??وم من الم??اء ي??دخل إليه??ا،
وبناء حج?ر اله?ون من أعجب األم?ور ،ومن أحكم البني?ان ،ومن البن?اء ال?ذي يبقى
على وجه األرض ال يتحرك وال يزول ،بالهندسة عمل َ بالفلسفة أتقن ،وفي الس??عود
نصب ،وقد ذكر كثير من أهل بلدنا أن يوسف? عليه السالم عمل ذلك ب??الوحي ،وهللا
أعلم.
ولم ت??زل مل??وك األرض -إذا غلبت على بالدن??ا ،واحت??وت على أرض??نا ،ص??ارت إلى
هذا الموضع فتأملته ?.لما ق??د نمي? إليه??ا من أخب??اره ،وس??ار في خليق??ة من عج??ائب
بنيانه? وإتقانه.
وكان هذا الرجل من أقباط مصر ،ممن يظهر دين النص??رانية? ورأي بعقوبي??ة ،ف?أمر
السلطان أحمد بن طولون في بعض األيام ،وقد أحضر جلسه بعض أه?ل النظ?ر ،أن
يس??أله عن ال??دليل على ص??حة دين النص??رانية ?،مآل??ه عن ذل??ك ،فق??ال :دليلي على
صحتها وجودي إياه??ا متناقض??ة متنافي??ة ،ت??دفعها العق??ول ،وتنف??رد منه??ا النف??وس،
لتباينها وتضادها ،ال نظر يقويها ،أ ج? َدل َ يص??ححها وال بره??ان يعض??دها من العق??ل
لفحص عنها ،ورأيت مع ذلك أمم?ا ً كث??يرة ،وملوك?ا ً عظيم??ة والحس عند التأمل لها ْ
ذوي معرفة وحسن رأي ،قد انقادوا إليها وتدينوا بها ،فعلمت أنهم لم يقبلوها ،ولم
يت??دينوا به??ا -م??ع م??ا ذك??رت من تناقض??ها في العق??ل -إال ل??دالئل ش??اهدوها ،وآب??ات
علموها ،ومعجزات عرفوها ،أوجبت انقيادهم إليها والتدين أيه??ا،،ق??ال ل??ه الس??ائل:
وما التضاد الذي فيها .قال :وهل يدرك أو يعلم غايته .لما قولهم بأن الواحد ثالث??ة،
والثالثة واحد ،ووصفهم األق?انيم والج??وهر و والث??الوث ،وه??ل األق??انيم في أنفس??ها
قادرة عالمة أم ال .وفي اتحاد ربهم القديم باإلنسان المح َدثِ ،وما ج??رى في والدت??ه
ص?لب ،و ُبص??ق في وجه??ه، وقتله وصلبه ،وهل في التش??نيع أك??بر وأفحش من إل??ه ُ
ووضع على رأس??ه اإلكلي??ل من الش??وك ،وض??رب رأس??ه بالقض??يب ،وس??مرت ي??داه،
فس??قي الخ??ل في بطيخ الحنظ??ل . ونخس باألس??نة والخش??ب َج ْنب??اهَ ،
وط َلب الم??اء ُ
فأمسكوا عن مناظرته ،وانقطعوا عن مجادلته .لما ق??د أعط??اهم من تن??اقض مذهب??ه
وفساده ووهْ يه .
فقال طبيب البن طولون يهودي وقد حضر المجلس :أيأذن لي األمير في مخاطبت??ه?.
قال :شأنك :فأقبل َع َلى القبطي مسائاًل له ،فق?ال ل??ه القبطي :وم??ا أنت أيه?ا الرج?ل.
وما نحلتك .فق??ال ل??ه :يه??ودي ،فق??ال ل??ه :مجوس??ي إذا! .ق??ال ل??ه :كي??ف ذل??ك وه??و
يهودي .قال :ألنهم يرون نكاح البنات في بعض الحاالت ،إذ كان في دينهم أن األخ
يتزوج? بنت أخيه ،وعليهم أن يتزوجوا نساء أخوتهم إذا ماتوا ،فإذا وافق اليهودي
أن تكون امرأة أخيه ابنته لم يجد بداً من أن يتزوجها ،وهذا من أسرارهم ،وما
صفحة 202 :
يكتمونه وال ُي ْظهرون??ه ،فه??ل في ا َلمجوس??ية أش??نع من ه??ذا .ف??أنكر اليه??ودي ذل??ك،
وجحد أن يكون في دينه أو يعرفه أحد من اليهود ،فاستخبر ابن طولون عن ص??حة
ذلك ،فوجد ذلك الطبيب اليهودي قد تزوج امرأة أخيه ،وكانت بنته ?،ثم أقبل القبطي
على ابن طولون ،فقال :أيها األمير ،هؤالء يزعمون -وأش??ار إلى اليه??ودي -أن هللا
خلق آدم على صورته ?،وعن نبي من أنبيائهم سماه قال في كتابه :إنه رآه في قديم
الزمان أبيض الرأس واللحية ،وإن هللا تعالى قال :إني أن??ا الن??ار المحرق??ة ،والحمى
س? َق ْي َنه?
األخذة ،وأنا الذي آخذ األبناء ب??ذنوب األب??اء ،ثم في ت??وراتهم أن بن??ات ل??وط َ
الخم???ر ح???تى س???كر وزنى بهن ،وحملن من???ه ،وولحن ،وأن موس???ى َر َد على هللا
الرسالة مرتين حتى أشتد غضب هللا عليه .وأن هارون صنع العجل الذي عبده بنو
الس?ح َرة مثله??اَ .ثم ق?الوا في
َ إسرائيل ?.وأن موسى أظهر معج?زات لفرع?ون وفعلت
ذبائح الحيوان والتقرب إلى هللا بدمائها ولحومها وتحكمهم على العق??ل ومنعهم من
تنس?خ ?،وال يقب??ل ق??ولي أح??د من
النظر بغير بره??ان ،وه??و ق??ولهم :إن ش??ريعتهم ال َ
األنبياء بعد موسى إذا انحرف عما جاء ب??ه موس??ى وال ف??رق في قض??ئة العق??ل بين
موسى وغيره من األنبياء إذا أتى ببرهان ،وبان بحجة ،ثم األكبر من كفرهم قولهم
في يوم عيد الكفور ،وه??و ي??وم االس??تغفار ذل??ك لعش??ر تخل??و من تش??رين األول :إِن
ال??رب الص??غير -ويس??مونه? ميطط??رون -يق??ول في ه??ذا الي??وم قائم?اً ،وينت??ف ش??عور
رأسه ،ويقول :ويلي إذا خربت بيتي ?،وأيتمت بنتي ،قامتي منكسة? ال أرفعه??ا ،ح??تى
آتي بنتي ،وذكر عن اليهود أقاصيص وتخاليط كثيرة ،ومناقضات واسعة.
وله??ذا القبطي مج??الس كث??يرة عن??د أحم??د بن طول??ون م??ع جماع??ة من الفالس??فة
والديصانية والثنوية? والص??ابئة? والمج??وس ،وع??دة من متكلمي اإلس??الم ،وق??د أتين??ا
على ما احتمل منها إيراده في كتابنا في أخبار الزمان وذكرنا جميع ذل??ك في كتابن??ا
المقاالت ،في أصول الديانات وكان هذا القبطي -على ما نمي? إلينا من خبره ،وصح
عندنا من قوله -يذهب إلى فس??اد النظ??ر ،والق??ول بتك??افؤ الم??ذاهب ،وأق??ام عن??د ابن
طول??ون نح??و س??نة ،فأج??ازه ،وأعط??اه ،ف??أى قب??ول ش??يء من ذل??ك ،ف??رده إلى بل??ده
مكرماً ،وأقام بعد ذلك مدة من الزمان ،ثم هلك -وله مص??نفات ت??دل من كالم??ه على
ما ذكرنا عنه ،وهللا أعلم بكيفية ذلك.
واليه??ود ت??أبى م??ا ذك??ره القبطي في نك??اح بنت األخ ،وك??ثر هم يق??ر ب??التزوبج? ببنت
األخ.
قال المسعودي :وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من أن?واع الحي??وان مم?ا في
البر والبحر ،من ذلك السمك المع??روف بالر َغ? اد ،وه??و نح??و ال??ذراع ،إذا وقعت في
شبكة الص َّياد ُرعدت يداه وعض??داه ،فيعلم بوقوعه??ا ،فيب??ادر إلى أخ??ذها وإخراجه??ا
عن شبكته ،ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك ،وقد ذكره??ا ج??الينوس ،وأنه??ا
إن جعلت على رأس َمنْ به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته?.
س الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض وا ْل َ
فر ُ
صفحة 203 :
المواضع من األرض علم أهل مص??ر أن الني??ل يزي??د إلى ذل??ك الموض??ع بعين??ه غ??ير
زائد عليه وال مقصر عنه ،ال يختل??ف ذل??ك عن??دهم بط??ول الع??ادات والتج??ارب ،وفي
ظهوره من الماء ضرر بأرباب األرض والفالحة لرعيه الزرع ،وذلك أنه يظهر من
الماء في الليل فينتهي إلى موضع من الزرع ،ثم يولي عائداً إلى الماء ،فيرعى في
حال رجوع??ه من الموض??ع ال??ذي انتهى إلي??ه س??يره ،وال ي??راعي من ذل??ك ش??يئا ً في
ممره ،كأنه يحدد مقدار ما يرع??اه فمنه??ا م??ا إذا رعت ورعت إلى الني??ل فش??ربت ثم
تقفف ما في أجوافها في مواضع ش??تى ،فينبت ذل??ك م??رة ثاني??ة ،ف??إذا ك??ثر ذل??ك من
فعله واتصل ض?رره بأرب?اب الض?ياع ط?رح ل?ه ال?ترمس في الموض?ع ال?ذي يع?رف
خروجه مكاكيك كثيرة مبدَ دأ مبسوطأ ،فيأكله ،ثم يعود إلى الم??اء ف??يربو في جوف??ه،
ويزداد في انتفاخه فيشق جوفه ،فيموت ويطفو على الماء ،ويقفف به إلى الس??احل
والموضع الذي يكون فيه ال يكاد يرى فيه تمساح ،وهو على صورة الف??رس إال أن
حوافره وذنبه بخالف ذلك ،والجبهة أوسع.
قال المس??عودي :وق??د ذك??ر جماع??ة من الش??رعيين أن يبص?ر? بن ح??ام بن ن??وح لم??ا
أنفصل عن أرض بابل بولده وكثير من أهل بيته? َغ ًر َب نحو مص??ر ،وك??ان ل??ه أوالد
أربعة :مصر بن بيص??ر ،وف??ارق بن بيص??ر ?،وم??اح وي??اح ،ف??نزل بموض??ع ُيق??ال ل??ه
منف ،وبذلك يسمى إلى وقتنا ه??ذا ،وك??ان ع??دمهم ثالثين فس??ميت ثالثين بهم ،كم??ا
سميت مدينة ثمانين من أرض الجزيرة وبالد الموصل من بالد بني حم??دان ،وإنم??ا
نسبت إلى عدد ساكنيها ممن كان مع نوح في السفينة ،وكان بيصر بن حام قد كبر
سنه ،فأوصى إلى األكبر من ولده ،وهو مصر ،واجتمع الن??اس إلي??ه وانض??افوا إلى
جملتهم ،وأخص??بت البالد ،فتمل??ك عليهم مص??ر بن بيص??ر ،ومل??ك من ح??د رفح من
أرض فلسطين من بالد الشام ،وقيل :من الع??ريش ،وقي??ل :من الموض??ع المع??روف
بالش??جرة ،وه??و آخ??ر أرض مص??ر ،والف??رق بينه??ا وبين الش??ام ،وه??و الموض??ع
المشهور بين العريش ورفح -إلى بالد أسوان من أرض الصعيد ط??والً ،ومن أيل??ة-
وهي تخ??وم الحج??از -إلى برق??ة عرض??اً ،وك??ان لمص??ر أوالد أربع??ة ،وهم قب??ط،
وأشمون ،وإتريب ،وصا ،فقسم مصر األرض بين أولده األربعة أرباعاً ،وعه??د إلى
األكبر من ولده -وه??و قب??ط -وأقب??اط مص??ر يض??افون إلى النس??ب إلى أبيهم قب??ط بن
مصر ،وأضيفت المواضع إلى ساكنيها ،وع??رفت بأس??مائهم ،فمنه??ا أش??مون وقب??ط،
وصا ،فى تريب ،وهذه أسماء ه?ذه المواض??ع إلى ه??ذه الغاي??ة ،واختلطت األنس??اب،
وكثر ولد قبط ،وهم األقباط ،فغلبوا على سائر األرض ،ودخل غ??يرهم في أنس??ابهم.
لما ذكرنا من الكثرة ،فقيل لكل قبط مص??ر وك??ل فري??ق منهم يع??رف نس??بة واتص??اله
بمصر? بن بيصر بن حام بن نوح إلى هذه الغاية.
ولما هلك قبط بن مصر ملك بعده أش??مون بن مص??ر ،ثم مل??ك بع??ده ص??ا بن مص??ر،
وملك بعده إتريب بن مصر ،ثم ملك بع??ده م??اليق بن دارس ثم مل??ك بع??ده حراي??ا بن
ماليق ثم ملك بعده كلكي بن حرايا وأقام في الملك نحواً من مائة سنة ،ثم ملك بعده
أخ ُيقال له ماليا بن حرايا ثم ملك بعده لوطسى بن ماليا نحواً من س??بعين س??نة ،ثم
ملكت بع??ده ابن??ة ل??ه ُيق??ال له??ا حوري??اينت ل??وطس نح??واً من ثالثين س??نة ،ثم ملكت
بعدها امرأة أخرى ُيقال لها ماموم وكثر ولد بيصر? بن حام بأرض مصر ،فتش??عبوا،
وملكوا النساء ،فطمعت فيهم ملوك األرض ،فس??ار إليهم من الش??ام مل??ك من مل??وك
العم??اليق ،يق??ال ل??ه الولي??د بن دوم??ع ،فك??انت ل??ه ح??روب به??ا ،وغلب على المل??ك،
فانق??ادوا إلي??ه ،واس??تقام ل??ه األم??ر إلى أن هل??ك ،ثم مل??ك بع??ده الري??ان بن الولي??د
العمالقي ،وهو فرعون يوسف ،وقد ذكر هللا تعالى خبره م??ع يوس?ف? وم??ا ك??ان من
أمرهما في كتابه العزيز ،وقد أتينا على شرح ذلك في كتابنا األوسط ،ثم مل??ك بع??ده
دارم بن الري??ان العمالقي ،ثم مل??ك بع??ده ك??امس بن مع??دان العمالقي ،ثم مل??ك بع??ده
الوليد بن مصعب وهو فرعون موسى ،وقد تن??وزع في??ه :فمن الن??اس من رأى أن??ه
من العم??اليق ومنهم من رأى أن??ه من لخم من بالد الش??ام ،ومنهم من رأى أن??ه من
األقباط من ولد مصر بن بيصر ،وكان يعرف بظلما ،وقد أتينا على ذل??ك في الكت??اب
األوس??ط ،وهل??ك فرع??ون َغ َرق ?ا ً حين خ??رج في طلب ب??ني? إس??رائيل حين أخ??رجهم
موسى بن عمران وجعل هللا لهم طريقا ً في البح??ر َي َبس?اً ،ولم??ا غ??رق فرع??ون ومن
كان معه من الجنود وخشي من بقي بأرض مصر من الفراري والنساء والعبي??د أن
يغزوهم ملوك الشام والمغرب فملكوا عليهم امرأة ذات رأي وحزم .يقال لها دلوك??ة
فبنت على بالد مصر حائطا ً يحيط بجميع البالدة وجعلت عليه المحارس واألحراس
?اق إلى ه??ذا
والرجال متصلة أصواتهم بقرب بعضهم من بعض ،وأثر ه??ذا الحائ??ط ب? ٍ
الوقت ،وهو سنة? اثنتين وثالثين وثلثمائة ?،يعرف بحائط العجوز ،وقي??ل .إنم??ا بنت ?ه?
خوفا ً على ولدها وكان كثير القنص ،فخافت عليه من س??باع ال??بر والبح??ر واغتي??ال
َمنْ جاور أرضهم من المل??وك والب??وادى ،فح? ً?وطت الحائ??ط من التماس??يح وغيره??ا،
وقد قيل في ،لك من الوجوه غير ما ذكرنا ،فملكتهم ثالثين سنة وقيل :أقل من ذل??ك
-اتخذت بمصر البرابي والص??ور ،وأحكمت آالت الس??حر ،وجعلت في ل??برابى ص??ور
َمنْ يرد من كل ناحية ،ودوابهم إبال كانت أو خيالً ،وصورت م??ا ي??رد في البح??ر من
المراكب من بحر المغرب والشام ،وجمعت في هذه لبرابي العظيمة المشيدة البنيان
أسرار الطبيعة وخواص األحجار والنب?ات الحي?وان ،من الجاذي?ة والدافع?ة ،وجعلت
ذلك في أوق??ات حرك??ات فلكي??ة واتص??الها ب??المؤثرات العلوي??ة وك??انوا إذا ورد إليهم
جيش من نح??و الحج??از أو اليمن ع??ورت تل??ك الص??ور ال??تي في ال??برابي من اإلِب??ل
وغيرها ،فيتع??ور م??ا في الجيش ،وينقط??ع عنهم ناس??ه وحيوان??ه ،وإذا ك??ان الجيش
من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منه??ا جيش الش?ام
ما فعل بما صفنا قبله??ا فيح??دث في ذل??ك الجيش من اآلف??ات في ناس??ه وحيوان??ه م??ا
صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة وكذلك ما ورد من جيوش الغرب ،وما رد
صفحة 205 :
في البحر من رومية? والشام وغير ذلك من الممالك ،فهابتهم الملوك األمم ،ومنع??وا
ناحيتهم من عدوهم ،واتصل ملكهم بتدبير? هذه العجوز إتقانه??ا ل??زم أقط??ار المملك??ة
وإحكامها السياسة.
وقد تكلم الناس ممن سلف وخل??ف في ه??ذه الخ??واص ،وأس??رار طبيع??ة ال??تي ك??انت
ببالد مصر ،وهذا الخبر من فعل العجوز عند المصريين مستفيض ال يش??كون في??ه،
والبرابي بمصر? من صعيدها وغيره باقية إلى هذا وقت ،وفيه??ا أن??واع الص??ور مم??ا
إذا صورت في بعض األشياء أحدثت أفعاالً على حسب ما رس??مت ل??ه ووض??عت من
أجله ،على حسب قولهم في الطباع تام ،وهللا أعلم بكيفية? ذلك.
كتابة على البرابى
ق??ال المس??عودي :وأخ??برني غ??ير واح??د من بالد أخميم من ص??عيد مص??ر ،عن أبي
الفيض في النون بن إبراهيم المصري اإِل خميمي الزاه?د ،وك?ان حكيم?أ ،وك?انت ل??ه
طريق??ة يأتيه??ا ونحل??ة يعض??دها ،وك??ان ممن يق??رأ عن أخب??ار ه??ذه ال??برابي وداره??ا
وامتحن كثيراً مما ص??ور فيه??ا ورس??م عليه??ا من الكتاب??ة والص??ور ،ق??ال :رأيت في
بعض البرابي كتابا ً تدبرته ،فإذا ه??و احف??روا العبي??د المعتقين ،واألح??داث المغ??ترين
والجند المتعبدين ،والنبط المستعربين قال :ورأيت في بعضها كتابأ تد َّب ْرته فإذا في??ه
يقدر المقدور والقضاء يضحك وزعم أن??ه رأى في آخ??ره كتاب??ة وتبينه??ا ب??ذلك القلم
ورب النجم يفعل ُ ما يري??د وك??انت ه??ذه ولمست َتدْ ري َ
َ األول فوجدهاُ :ت َدئر ُبالنجوم
أتخذت هذه البرابي ل ِه َجة بالنظر في أحكام النج??وم مواظب??ة على معرف??ةَ األمة التي
أسرار الطبيعة ،وكان عندها مم??ا دلت علي??ه أحك??ام النج??وم أن طوفان??أ س??يكون في
األرض ،ولم تقطع ب??أن ذل??ك الطوف?ان م??ا ه??و :أن??ار ت??أتي على األرض فتح??رق م??ا
عليها ،أو ماء فيغرقها ،أو سيف يبي??د أهله?ا .فخ?افت دث??ور العل??وم وفناءه?ا بفن??اء
أهله??ا ،فاتخ??ذت ه??ذه ال??برابي ،واح??دها برب??ا ،ورس??مت فيه??ا علومه??ا من الص??ور
والتماثيل والكتابة ،وجعلت بنيانها نوعين :طينأ ،وحجر أو فرزت ما يب??نى ب??الطين
مما يبنى بالحجر ،وقالت :إن كان ه??ذا الطوف??ان ن??اراً اس??تحجر م??ا يب??نى من الطين
وانحرق ،وبقيت هذه العلوم ،وإن كان الطوفان الوارد ماء أذهب ما يب??نى ب??الطين،
ويبقى ما يبنى بالحجارة ،وإن كان الطوفان سيفا ً بقي ِكاَل الن??وعين م??ا ه??و ب??الطين
وما هو بالحجر ،وهذا على ما قيل -وهللا أعلم -ك??ان قب??ل الطوف??ان ،وقي??ل :إن ذل??ك
كان بعد الطوفان لرأن الطوفان الذي كانوا يرقبونه ولم يتيقنوا أن??ار ه??و أم م??اء أم
سيف ،كان سيفا ً أتى على جميع أهل مصر من أمة غشيتها وملك نزل عليه??ا فأب??اد
أهلها ومنهم من رأى أن ذلك الطوفان كان وبا ًء عم أهلها ومصداق ذل??ك م??ا يوج??د
ببالد تنيس من التالل المنضدة من الناس من صغير وكبير ?،وذكر وأن??ثى ،كالجب??ال
العظ?ام ،وهي المعروف?ة ببالد ت?نيس من أرض مص?ر ب?أبي الك?وم وم?ا يوج?د ببالد
مص??ر وص??عيدها من الن??اس المنكس??ين بعض??هم على بعض في كه??وف وغ??ير ان
ونواوش??ى ،ومواض??ع كث??يرة من األرض ال ي??درى من أي األمم هم ،فال النص??ارى
تخبر عنهم أنهم من أسالفهم ،وال اليهود تقول عنهم إنهم من أوائلهم ،وال
صفحة 206 :
المسلمون يدرون َمنْ هم وال ت??اريخ ين??بئ? عن ح??الهم ،عليهم أث??وابهم ،وكث??يراً م??ا
يوجد في تلك الروابي والجبال من حليهم ،والبرابي ببالد مصر بني??ان ق??ائم عجيب:
كالبربا المتخفة بأنصناء من صعيد مصر ،وهو أحد الموصوفين منها ،والبربا التي
ببالد أخميم ،والبربا التي ببالد سمنود ،وغير ذلك.
األهرامات أيضا ً
واأله??رام وطوله?ا عظيم ،وبنيانه??ا عجيب ،عليه??ا أن??واع من الكتاب??ات ب??أقالم األمم
السالفة ،والممالك الداثرة ،ال يحرى ما تلك الكتابة وال ما المراد بها ،وق??د ق??ال َمنْ
عنى بتقدير? ذرعها :إن مقدار ارتفاع ذهابها في الج??و نح??و من أربعمائ?ة ذراع ،أو
كثر ،وكلما عال به الصعداء دق ذلك ،والعرض نحو ما وصفنا ،عليه??ا من الرس??وم
ما ذكرنا ،وإن ذلك علوم وخ??واص وس??حر وأس??رار للطبيع??ة ،وإن من تل??ك الكتاب??ة
مكتوب :أنا بنيناها فمن يدعى موازنتنا في الملك وبلوغنا في القدرة وانتهاءن??ا من
السلطان فليهدمها ،وليزل رسمها .فإن الهدم أيسر من البناء ،والتفري??ق أيس??ر من
التأليف ،وقد ذكر أن بعض ملوك اإِل سالم شرع في ه??دم بعض??ها ف??إذا خ??راج مص??ر
وغيرها من األرض ال يفي بقلعها ،وهي من الحج??ر والرخ??ام ،والغ??رض في كتابن??ا
هذا اإلخبار عن ُج َمل األشياء وجوامعها ،ال عن تفصيلها وبس??طها ،وق??د أتين?ا على
األرض والممال? َك ،وم??ا نمي إلين??ا خ??براً من
َ س??ائر م??ا ش??اهدناه حس?ا ً في مطافاتن??ا
الخواص وأسرار الطبيعة من الحيوان والنبات والجماد في عجائب البلدان واآلث??ار
والبقاع ،في كتابنا المترجم بكتاب القضايا والتجارب.
وال تمانع بين ذوي الفهم أن في مواضع من األرض مدنا ً وق??رى ال ي??دخلها عق??رب
ص َرى? وإنطاكية ،وق??د ك??ان ببالد إنطاكي??ة ،إذا
وال حية ،مثل مدينة? حمص و َم َعرة و ُب ْ
أخرج إنسان يده خارج السور وقع عليها البق ،فإذا ج??ذبها إلى داخ??ل لم يب??ق على
يده من ذلك شيء ،إلى أن كسر عمود من الرخام في بعض المواضع بها ،فأص??يب
في أعاله ُح ُّق من نحاس في داخل??ه ب??ق مص??ور? من نح??اس نح??و ك??ف ،فم?ا مض??ت
أيام -أو على الفور من ذلك -حتى صار البق في وقتنا ه??ذا يعم األك??ثر من ده??رهم،
وهذا حجر المغناطيس يجذب الحديد ،ولقد رأيت بمصر? حي??ة مص??ورة من حدي??د أو
نحاس توضع على شيء و ُيدْ نى منها حجر المغن??اطيس فتح??دث فيه??ا حرك??ة تباع??د
منه ?،وحجر المغناطيس إذا أصابته رائح??ة الث??وم بط??ل فعل??ه في الحدي??د واذا غس??ل
بشيء من الخل أو ناله شيء من عسل النحل عاد إلى فعله األول من جذب الحديد،
وللمغناطيس في الحديد خواص عجيبة غير م??ا ذكرن??ا ك??الحجر الم??اص لل??دم ،وهللا
عز وجل قد استأثر بعلم األشياء ،وأظهر للعباد م??ا ش??اء م??ا لهم في??ه الص??الح على
قدر الوقت وحاجتهم فيه إليه وأش??ياء اس??تأثر بعلمه??ا لم يظهره??ا لخلق??ه .فال تق??ف
العقول َع َلى كنهها ،وكما يجمع بين أشياء فيحدث الجتماعها معنى هو غيرها ،كما
يحدث من م??اء العفص وال??زاج عن?د االجتم??اع من ش??دة الس??واد ،وكح??دوث ج??وهر
الزجاج عند جمعنا بين الرمل والمغنيسيا والقلى عند الطبخ والسبك لذلك ،وكذلك
صفحة 207 :
لو جمع بين ماء القلي وماء المرتك وهو المرداسنج خ??رج الح??ارث من مزاجيهم??ا
كالزب??د بياض?اً ،وإذا م??زج م??اء القلي بم??اء ال??زاج خ?رج من مزاجيهم?ا ل?ون أحم?ر
كالعصفر ،وكجمعنا في النت??اج بين الف??رس األن??ثى والحم??ار فتح??دث بغالً ،ول??و نتج?
دابة على أتان لخرج منها بغل أفطس ذو خبث ودها يسمى الكودن.
وقد ذكرن??ا النت??اج ال??ذي ك??ان بص??عيد مص??ر مم??ا يلي .الحبش??ة ،وم??ا ك??ان ينتج? من
الث??يران على األتن ،والحم??ير على البق??ر ،وم??ا ك??ان يح??دث من ذل??ك من ال??دواب
العجيبة التي ليست بحمير? وال بقر كالبغل التي ليس بدابة وال حمار.
وق??د ذكرن??ا ض??روب التولي??دات في أن??واع الحي??وان والنب??ات من تطعيمهم الغ??ررس
واألش??جار وم??ا تول??د من الطع??وم في الم??ذاق في كتابن??ا الم??ترجم بكت??اب القض??ايا
والتجارب في أن??واع الفالح??ات وغيره??ا ،وذكرن??ا ب??اب خ??واص األش??ياء ومعرفته??ا
والطلسمات وعجائبها ،وهو باب كبير في ذكر بعضه نيابة عن بعض ،والجزء منه
يوهمك الكل ،واليسير منه يدلُّ َك على معرفة الكثير?.
ويمكن -وهللا اعلم أن تكون هذه الخواص والطلسمات واألشياء المحدث??ة في الع??الم
للحركات مما وصفنا والدافعة والمانعة والمنف??ردة والجاذب??ة والفاعل??ة في الحي??وان
وغير ذلك مثل الطرد والجذب -كانت داللة لبعض األنبياء في األمم الخالي??ة ،جعله??ا
هللا كذلك لذلك النبي داللة ومعجزة ت??دل على ص??دقه وتنبيئ??ه من غ??يره لي??ؤدي عن
هللا أمره ونهيه وما فيه من الصالح لخلقه في ذلك الوقت ،ثم رف??ع هللا ذل??ك الن??بي،
وبقيت علومه ،وما أبانه هللا ع??ز وج??ل مم??ا ذكرن??ا ،في أي??دي الن??اس ،وأص??ل ذل??ك
أنهى كما وصفنا ،إذ كان ما ذكرنا ممكنا ً غير واجب وال ممتنع في القدرة.
قال المسعودي :فلنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار ملوك مصر.
وكان الملك بع??د انقض??اء مل??ك دلوك??ة العج??وز عرك??وس بن بل??وطس ثم مل??ك بع??ده
بورس بن عركوس ثم ملك بعده فغامس بن بورس نحواً من خمسين سنة ?،ثم ملك
بع??ده دني??ا بن ب??ورس نح??واً من عش??رين س??نة ،ثم مل??ك بع??ده نم??اريس بن مرين??ا
عشرين سنة ،ثم ملك بعده بلوطس بن ميناكيل أربعين سنة ?،ثم مل??ك بع??ده م??الوس
بن بلوطس عشرين سنة ?،ثم مل??ك بع??ده بل??وطس بن ميناكي??ل بن بل??وطس ،ثم مل??ك
بعده بلونا بن ميناكيل وكانت له حروب ومسير في األرض ،وه??و فرع??ون األع??رج
وخ? رب بيت المق??دس ،ثم مل??ك بع??ده مرين??وس وك??انت ل??ه الذي غزا ب??ني إس??رائيل َ
حروب كثيرة بالمغرب ،ثم ملك بعده نقاس بن مرينوس? ثمانين سنة ،ثم مل??ك بع??ده
فوميس بن نقاس عشر س??نين ،ثم هل??ك بع??ده كابي??ل وك??انت ل??ه ح??روب م??ع مل??وك
المغرب ،وغزاه البخت ناصر َم ْر ُز َبان المغرب من قبل ملوك فارس ،فخ??رب أرض??ه
وقتل رجاله ،وس??ار البخت ناص??ر نح??و المغ??رب ،وق??د أتين??ا على أخب??اره في كت??اب
راح??ة األرواح ألن ه??ذا الكت??اب رس??مناه بأخب??ار مس??ير? المل??وك لألرض ،وأخب??ار
مقاتلهم ،عون ما ذكرناه في كتابنا أخبار الزمان.
ولما زال أمر البخت ناصر ومن معه من جنود فارس ،ملكت ال??روم مص??ر ،وغلبت
عليها ،فتنصر أهلها ،فلم يزال??وا على ذل??ك إلى أن مل??ك كس??رى أنوش??روان ،فغلبت
جيوشه على الشام ،وسارت نح?و مص?ر ،فملكوه?ا ،وغلب?وا على أهله?ا ،نح?واً من
عش??رين س??نة وك?انت بين ال??روم وف?ارس ح?روب كث?يرة فك?ان أه??ل مص??ر ي??ؤدون
خراجين :خراجا ً إلى فارس ،وخراجا ً إلى الروم ،عن بالدهم.
ثم انجلت فارس عن مص??ر والش??ام ألم??ر ح??دث في دار مملكتهم ،فغلب ال??روم على
مصر والشام وأشهروا النصرانية ،فش??مل ذل??ك َمنْ بالش??ام ومص??ر ،إلى أن أتى هللا
باإِل سالم ،وكان من أمر المقوقس صاحب القبط مع النبي صلى هللا علي??ه وس??لم من
الهدايا ما كان إلى أن افتتحها عمرو بن العاص ،ومن كان معه في خالفة عم??ر بن
الخطاب رضي هللا عنه ،فبنى عمرو بن العاص الفسطاط وهي قصبة مصر في هذا
الوقت ،وكان ملك مصر -وهو المقوقس صاحب القبط -ينزل اإلس??كندرية? في بعض
فصول السنة ،وفي بعضها ينزل مدينة َم ْنف ،وفي بعضها قصر الشمع ،وهو اليوم
يعرف بهذا االسم في وسط مدينة الفسطاط.
ولعم??رو بن الع??اص في فتح مص??ر أخب??ار ،وم??ا ك??ان بين??ه وبين المق??وقس وفتح??ه
لقص??ر الش??مع ،وغ??ير ذل??ك من أخب??ار مص??ر واإلس??كندرية ?،وم??ا ك??ان من ح??روب
المسلمين في ذلك ،ودخول عمرو بن العاص إلى مصر واإلس??كندرية في الجاهلي??ة،
?رة ال?ذهب ال?تي ك?انوا يظهرونه?ا للن?اس في وم?ا ك?ان من خ?بره م?ع ال?راهب وال ُك َ
أعيادهم ،ووقوعها في ح ِْجر عمرو بن العاص ،وذل??ك قب??ل ظه??ور الن??بي ص??لى هللا
عليه وسلم ،قد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان والكتاب األوسط.
قال المسعودي :والذي اتفقت علي?ه الت?واريخ ?-م?ع تب??اين م?ا فيه??ا -أن ع?دة مل??وك
مصر من الفراعن?ة وغيره?ا اثن?ان وثالث?ون فرعون?ا ،ومن مل?وك باب?ل ممن تمل?ك
على مص??ر خمس??ة ،ومن مل??وك باب??ل -وهم العم??اليق ال??ذين ط??رأوا إليه??ا من بالد
الشام -أربعة ،ومن الروم سبعة ،ومن اليونانيين عش??رة ،وذل??ك قب??ل ظه??ور الس??يد
المسيح عليه السالم ،وملكها أناس من الف??رس من قب??ل األكاس??رة ،وك??ان م??دة من
والفرس والروم والعماليق واليونانيينَ ألف س??نة? وثلثمائ??ة ْ هلك مصر من الفراعنة
سنة?.
قال المسعودي :وسألت جماعة من أقباط مصر بالصعيد وغ??يره من بالد مص??ر من
تحص?ل لي في ّ أهل الخ??برة عن تفس??ير فرع??ون فلم يخ??بروني? عن مع??نى ذل??ك ،وال
لغتهم ،فيمكن -وهللا أعلم -أن هذا االس??م ك??ان ِس? َم َة مل??وك تل??ك األعص??ار وأن تل??ك
اللغ???ة تغ???يرت كتغ???ير الفهلوي???ة ،وهي الفارس???ية األولى إلى الفارس???ية الثاني???ة?،
وغير ذلك من اللغات. وكاليونانية? إلى الرومية ،وتغير الحميريةْ ?،
باألطلِي? َ
?ة ْ صخر منقور فيه تماثي??ل قائم??ة على أرجله?ا من أن??واع الخش??ب ق?د طليت
المانع??ة من س??رعة البلى وتف??رق األج??زاء ،والص??ور مختلف??ة :منه??ا ص??ور ش??يوخ?
وشبان ونساء وأطف?ال أعينهم من أن?واع الج?واهر كالي?اقوت والزم?رد والف?يروزج
والزبرجد ،ومنها ما وجوهها ذهب وفض??ة ،فكس??روا بعض تل??ك التماثي??ل ،فوج??دوا
في أجوافها رممأ بالية ،وأجساما ً فانية ،وإلى جانب كل تمثال منها ن??وع من اآلني?ة?
كالبراني وغيرها من اآلالت من المرم?ر والرخ?ام ،وفي?ه ن?وع من الطالء ال?ذي ق?د
طلي منه? ذلك الميت الموضوع في تمثال الخش??ب ،وم??ا بقي من الطالء م??تروك في
ذلك اإلِناء ،والطالء دواء مسحوق وأخالط معمولة ال رائح??ة له?ا ،فجع??ل من??ه على
النار ،ففاح منه روائح طيبة مختلفة ال تعرف في نوع من األنواع التي للطيب ،وقد
جعل كل تمثال من الخشب على ،صورة َمنْ في??ه من الن??اس على اختالف أس??نانهم،
ومقادير أعمارهم ،وتباين صورهم ،وبازاء ك??ل تمث??ال من ه??ذه التماثي??ل تمث??ال من
الحج??ر المرم??ر ،أو من الرخ??ام األخض??رَ ،ع َلى هيئ ?ة? الص??نم َع َلى حس??ب عب??ادتهم
للتماثيل والصور ،وعليها أنواع من الكتابات لم يقف على استخراجها أحد من أهل
الملل ،وزعم قوم من ذوي الدراي??ة منهم أن ل??ذلك القلم ،من حين فق??د من األرض-
أعني أرض مص??ر -أربع??ة آالف س??نة ،وفيم??ا ذكرن??اه دالل??ة على أن ه??ؤالء ليس??وا
بيهود وال بنصارى ،ولم يؤدهم ا ْل َحف ُر إال إلى ما ذكرنا من هذه التماثيل ،وكان ذل??ك
في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
وقد ك??ان لمن س??لف وخل??ف من ُوالة مص??ر إلى أحم??د بن طول??ون وغ??يره إلى ه??ذا
الوقت -وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة -أخبار عجيبة ،فيما استخرج في أي??امهم
من الدفائن واألموال والجواهر ،وما أصيب في القبور من المطالب والخزائن ،وق??د
أتينا على ذكرها فيما سلف من تأليفنا ،وتقدم من تصنيفنا ،و باهلل التوفيق.
ذكر جماعة من أهل العلم أن اإلس??كندر المق??دوني لم??ا اس??تقام ملك??ه في بالده س??ار
يختار أرضا ً صحيحة الهواء والترب?ة? والم??اء ،ح??تى انتهى إلى موض??ع اإلس??كندرية
فأصاب في موضعها آثار بنيان عظيم وعمدأ كثيرة من الرخام ،وفي وسطها عمود
عظيم عليه مكتوب بالقلم ال ُم ْس َندِ -وهو القلم األول من أقالم حمير وملوك عاد -أن??ا
شداد بن عاد بن شداد بن ع?اد ،ش?ددت بس?اعدى البالد ،وقطعت عظيم العم?اد ،من
الجبال واألطواد ،وأنا بنيت? إرم ذات العماد ،التي لم يخل??ق مثله??ا في البالد ،وأردت
أن أبني ههنا ك??إرم ،وأنق??ل إليه??ا ك??ل في إق??دام وك??رم ،من جمي??ع العش??ائر واألمم،
وذلك إذ ال خوف وال هرم ،وال اهتمام وال سقم ،فأصابني ما أعجل??ني ،وعم??ا أردت
ش َجنِي ،وقل نومي? وسكني ،فارتحلت باألمس عن قطعني مع وقوع ما أطال همي و َ
ص? َغار،
داري ال لقهر مل??ك جب??ار ،وال لخ??وف جيش َج? رار ،وال عن رهب??ة وال عن َ
ولكن لتمام المقدار ،وانقطاع األثار ،وسلطان العزيز الجبار ،فمن رأى أثري،
صفحة 211 :
وعرف خبري ،وطول عمري ،و َنفاذ بصري ،وشدة حفري ،فال يغتر بالدنيا بع??دي،
فإنها غرارة تأخذ منك ما تعطي ،وتسترجع ما ُت ِولي .وكالم كث??ير ُي? ِ?ري فن??اء ال??دنيا
ويمنع? من االغترار بها والسكون إليها.
ونزل اإلسكندر متفكراً يتدبر? هذا الكالم ويعتبره ،ثم بعث فحشر الصناع من البالد.،
وخط األساس ،وجعل طولها وعرضها أمياالً ،وحش??د إليه??ا العم??د والرخ??ام ،وأتت??ه
المراكب فيها أنواع الرخام .وأن??واع المرم??ر واألحج??ار ،من جزي??رة ص??قلية ،وبالد
إفريقية ،وإقريطش ،وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه? من بحر أوقيانوس ،وحمل
إليه أيضا ً من جزيرة روعس وهي جزي??رة مقابل??ة لإلس??كندرية على ليل??ة منه??ا في
البحر ،وهي أول بالد اإِل فرنجة ،وه??ذه الجزي??رة في وقتن??ا ه??ذا ،وه??و ص??نة اثن??تين
وثالنين وثلثمائة ?،دار صناعة لم لروم ،وبها تنش??أ الم??راكب الحربي?ة ?،وفيه?ا خل??ق
كثير من ال??روم ،وم??راكبهم تط??رق بالد اإلس??كندرية وغيره??ا من بالد مص??ر ف ُت ِغ??ي ُر
الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أس??اس وتأسر وتسبي .وأ َم َر اإلسكندر َ
سور المدينة ،وجعل على ك?ل قطع?ة من األرض خش?بة قائم??ة ،وجع?ل من الخش??بة
إلى الخشبة حباالً منوط?ة? بعض??ها ببعض ،وأوص??ل جمي??ع ذل??ك بعم??ود من الرخ??ام،
وكان أمام مضربه ،وعلق على العمود جرسا ً عظيما ً مصوتاً ،وأمر الن??اس والقُ??ؤام
والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس وتحركت الحب??ال َ على ال َب َنائين
وقد علق على كل قطعة منها جرسا ً صغيراً حرصوا على أن يضعوا أساس المدين ?ة?
يجعل ذل??ك في وقت يخت??اره في ِ دفعة واحدة من سائر أقطارها ،وأحب اإلسكندر أن
?وقت المحم??و َد نة في ح??ال ارتقاب??ه ال? َطالع سعيد ،فخفق اإلسكندر برأسه وأخذته سِ ٌ
المأخو َذ فيه الطال ُع ،فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود
فحركه ،وخرج ص?وت الج?رس وتح?ركت الحب?ال ،وخفقت م?ا عليه?ا من األج?راس
الصغار ،وكان ذلك معموالً بحركات فلسفية ،وحيل حكمية ،فلما رأى الصناع تحرك
تلك الحبال وسمعوا تلك األصوات وضعوا األساس دفع??ة واح??دة ،وارتف??ع الض??جيج
بالتحميد والتقديس ،فاستيقظ اإلسكندر من َر ْقدت??ه وس??أل عن الخ??بر ،ف??أخبر ب??ذلك،
فعجب وقال :أردت امرأَ وأراد هللا غيره ،ويأبى هللا إال ما يريد ،أردت طول بقائه??ا،
وأراد هللا سرعة فنائها وخرابها وتداول الملوك إياها.
وإن اإلس?كندرية لم?ا أحكم بنيانه?ا وأثبت أساس?ها وجن اللي?ل عليهم خ?رجت دواب
من البح??ر ف??أتت على جمي??ع ذل??ك البني??ان ،فق??ال اإلس??كندر حين أص??بح ?:ه??ذا ب??دء
الخراب في عمارتها ،وتحقق مراد الباري في زوالها ،وتطير من فع?ل ال?دواب ،فلم
ي??زل البن??ا ُء ُيث َنى في ك??ل ي??وم ويحكم: ،يوك??ل ب??ه من يمن??ع ال??دواب إذا خ??رجت من
البحر ،فيصبحون وقد أخرب البنيان ،فقلق اإلسكندر لذلك ،وراع??ه م??ا رأى ،فأقب??ل
يفكر ما الذي يصنع ،وأي حيلة تنفع في دفع األذية عن المدينة ،فسنحت له الحيل??ة
في ليلته عند خلوته بنفسه? وإيراده األم??ور وإص??دارها ،فلم??ا أص??بح دع??ا بالص??ناع
فاتخذوا له تابوتا ً من الخش??ب طول??ه عش??رة أذرع في ع??رض خمس ،،وجعلت في??ه
جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها ،وق??د أمس??ك ذل??ك بالق??ار
والزفت وغيره من األطلية الدافعة للماء ،حذراً من دخول الم??اء إلى الت??ابوت ،وق??د
جعل فيها مواضع للحبال ،ودخل اإلسكندر في التابوت هو ورجالن معه من كتابه
صفحة 212 :
ممن له علم باتقان التصوير ومبالغة فيه وأمر أن تس??د عليهم األب??واب ،وأن تطلى
بما ذكرنا من األطلية ،وأمر فأتي بمركبين عظيمين ،فأخرجا إلى لجة البحر ،وعلق
على التابوت من أسفل مثقالت الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت س??فالً
إذ كان من شأنه لم?ا في??ه من اله??واء أن يطف??و ف??وق الم?اء وال يرس??ب في أس??فله،
وجع??ل الت??ابوت بين المرك??بين ،فألص??قهما بخش??ب بينهم??ا لئال يفترق??ا ،وش??د حب??ال
التابوت إلى المركبين و َطؤل َ حبال?ه ،فغ?اص الت?ابوت ح?تى انتهى إلى ق?رار البح?ر،
فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزج??اج الش??فاف في ص??فاء م??اء البح??ر.
سهم على مثال رؤوس السباع ،وفي أيدي فإذا هم بشياطين على مثال الناس ورؤو ُ
بعض??هم الف??ؤوس ،وفي أي??دي بعض المناش??ير والمق??اطع ،يح??اكون ب??ذلك ص??ناع
المدين??ة والف َعل??ة وم??ا في أي??ديهم من آالت البن??اء ،ف??أثبت اإلس??كندر ومن مع??ه تل??ك
الصور وأحكموها بالتصوير? في الق??راطيس ،على اختالف أنواعه??ا وتش??وه خلقتهم
وق??دودهم وأش??كالهم ،ثم ح??رك الحب??ال ،فلم??ا أحس ب??ذلك َمنْ في المرك??بين ج??ذبوا
الحب??ال وأخرج??وا الت??ابوت ،فلم??ا خ??رج اإلس??كندر من الت??ابوت وس??ار إلى مدين ?ة?
اإلسكندرية أمر صناع الحديد والنحاس والحجارة فصنعوا تماثيل تل??ك ال??دواب على
ما كان صؤره اإلسكندر وص??احباء ،فلم??ا فرغ??وا منه??ا وض??عت الص??ور على ال ُع ُم??د
بشاطئ البحر ،ثم أم??رهم فبن??وا ،فلم??ا جن اللي??ل ظه??رت تل??ك ال?دوالب واآلف??ات من
البحر ،فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إِلى البحر ،فرجعت إلى البحر ولم تعد
بعد ذلك.
ثم لم???ا ب???نيت اإلس???كندرية? وش???يدت أم???ر اإلس???كندر أن يكتب على أبوابه???ا ه???ذه
اإلس???كندرية ،أردت أن أبنيه???ا على الفالح والنج???اح واليمن والس???عادة والس???رور
والثبات في الدهور ،فلما يرد الباري عز وجل ملك السموات واألرض ومفني األمم
أن نبنيها كذلك ،فبنيتها وأحكمت بنيانها ،وشيدت سورها ،وآتاني هّللا من كل شيء
علما ً وحكماً ،وسهل لي وجوه األسباب ،فلم يتعذر علي شيء في العالم مما أردته،
وال امتنع عني شرء مما طلبته ،لطف??أ من هللا ع??ز وج??ل ،وص??نعا ً بي ،وص??الحا ً لي
ولعبادي من أهل عصري ،والحمد هّلل رب العالمين ،ال إله إال هللاّ رب كل شيء.
ورسم اإلسكندر بعد هذه الكتابة كل ما يح??دث ببل??ده من األح??داث بع??ده في مس??تقبل?
الزمان :من اآلفات ،والعمران ،والخراب ،وما يؤول إليه إلى وقت دُثور العالم.
وكان بناء اإلسكندرية طبقات ،وتحتها قن??اطر مقنط??رة ،عليه??ا دور المدين??ة ،يس??ير?
تحتها الفارس وبيده رمح ال يضيق به حتى يدور جميع تل??ك األزاج والقن?اطر ال??تي
تحت المدينة ،وقد عمل لتلك العق??ود واالزاج مخ?اريق ،وتنفس??ات للض??ياء ،ومناف??ذ
للهواء.
وقد كانت اإلسكندرية تضيء بالليل بغير مصباح ،لش??دة بي??اض الرخ??ام و المرم??ر،
وأسواقها وشوارعها وأزقتها مقنطرة بها لئال يصيب أهلها ش??ي ٌء من لمط??ر ،وق??د
كان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلف??ة ألوانه??ا ،بينه??ا خن??ادق ،وبين
ك??ل خن??دق وس??ور فص??الن ،وربم??ا عل??ق على المدين??ة ش??قاق الحري??ر األخض??ر.
الختطاف بياض الرخام أبصار الناس لشدة بياضه.
صفحة 213 :
فلما أحكم بناؤها ،وسكنها أهلها ،كانت آفات البحر وسكانه -على ،زعم اإلِخباريون
من المصريين واالسكندريين ?-تختطف بالليل أهل هذه لمدينة ،فيص??بحون وق??د فق??د
منهم العدد الكثير?.
المال
ولما علم اإلسكندر ب??ذلك اتخ??ذ الطلس??مات على أعم??دة هن??اك ت??دعى المس??ال ،وهي
الس? ْر َوة وط??ول ك??ل
باقية إلى هذه الغاية ،وك??ل واح??د من ه??ذه األعم??دة على هيئ??ة َّ
واح??د منه??ا ثم??انون ذراع ?اً ،على عم??د من نح??اس وجع??ل تحته??ا ص??ورأ وأش??كاالً
وكتابة ،وذلك عند انخفاض درجة من درجات الفلك وقربه??ا من ه??ذا الع??الم ،وعن??د
أصحاب الطلسمات من المنجمين والفلكيين أنه إذا ارتفع من الفلك درج??ة وانخفض
أخرى في مدة ي??ذكرونها من الس??نين نح??و س??تمائة س??نة ن??أتي في ه??ذا الع??الم فع??ل
الطلسمات النافعة المانع??ة والدافع??ة ،وق??د ذك??ر ه??ذا جماع??ة من أص??حاب الزيج??ات
والنجوم وغيرهم من مصنفي الكتب في هذا المعنى ،ولهم في ذل?ك س??ر من أس??رار
الفلك ليس??ى كتابن??ا ه??ذا موض??عا ً ل??ه ،ولغ??يرهم ممن ذهب إلى أن ذل??ك للط??ف ق??وى
الطبائع التام وغير ذلك مما قال??ه الن??اس ،وم??ا ذكرن??ا من ع??رج الفل??ك فموج??ود في
كتب من تأخر من -علماء المنجمين والفلكيين ،كأب معش??ر البلخي ،والخ??وارزمي?،
ومحم??د بن كث??ير الفرغ??اني ،وم??ا ش??اء هللا ،وحبش ،واليزي??دي ،ومحم??د بن ج??ابر
ال ُبتاني في زيجه الكبير ،وث??ابت بن ق??رة ،وغ??ير ه??ؤالء ممن تكلم في عل??وم هي??أت
الفلك والنجوم.
منارة اإلسكندرية
قال المسعودي :فأما منارة اإلسكندرية? فذهب األكثر من المصريين وااِل س??كندرانيين
-ممن عني بأخبار بلدهم -إلى أن اإلس??كندر بن فيلبس المق??دوني ه??و ال??ذي بناه??ا
على حسب ما ق?دمنا في بن?اء المدين?ة ،ومنهم من رأى أن دلوك?ة الملك?ة هي ال?تي
بنتها ،وجعلتها مرقبا ً لمن يرد من العدو إلى بلدهم ،ومنهم من رأى أن العاش??ر من
فراعنة مصر هو الذي بناها ،وقد قدمنا ذكر هذا الملك فيما سلف من ه??ذا الكت??اب،
ومنهم من رأى أن ال??ذي ب??نى مدين??ة رومي??ة ه??و ال??ذي ب??نى مدين??ة اإلس??كندرية
ومنارته??ا واأله??رام بمص??ر ?،و-إنم??ا أض??يفت اإلس??كندرية? إلى اإلس??كندر لش??هرته?
باالستيالء على األكثر من ممالك العالم فشهرت به ،وذكروا في ذلك أخباراً كث??يرة،
يدلون بها على ما قالوا ،واإلسكندر لم يطرقه في ه??ذا البح??ر ع??دو ،وال ه??اب ملك?ا ً
يرد إليه في بلده ويغزوه في داره ،فيكون هو الذي جعله?ا مرقب?اً ،وإن ال?ذي بناه??ا
جعلها على كرسي من الزجاج على هيئ??ة الس??رطان في ج??وف البح??ر وعلى ط??رف
اللسان الذي هو داخل في البحر من ال??بر ،وجع??ل على أعاله??ا تماثي??ل من النح??اس
وغيره ،وفيها تمثال قد أشار بسبابته? من يده اليمنى نح?و الش??مس أينم?ا ك?انت من
الفلك ،وإذا علت في الفلك فإصبعه مشيرة نحوها فإذا انخفضت يده سفالً ،يدور
صفحة 214 :
معها حيث دارت ،ومنها تمثال يشير? بيده إلى البحر إذا صار الع??دو من??ه على نح??و
من ليلة ،فإذا دنا وجاز أن يرى بالبصر لقرب المس??افة س??مع ل??ذلك التمث??ال ص??وت
هائل يسمع من ميلين أو ثالثة ،فيعلم أهل المدينة أن العدو قد دنا منهم ،فيرمقون??ه?
بأبص??ارهم ،ومنه??ا تمث?ال كلم?ا مض?ى من اللي?ل والنه??ار س??اعة س??معوا ل??ه ص??وتا ً
بخالف ما صوت في الساعة التي قبلها ،وصوته? ُم ْط ِرب.
وقد كان ملك الروم في مدة الوليد بن عبد الملك بن مروان أنفذ خادما ً من خ??واص
خدمه ذا رأي وده?اء س??راً ،ؤج??اء مس??تأمنا ً إلى بعض الثغ??ور ،ف??ورد بآل??ة حس??نة،
ومع??ه جماع??ة ،فج??اء إلى الولي??د ف??أخبره أن??ه من خ??واص المل??ك ،وأن??ه أراد قتل??ه
موج??دَ ٍة وح??ال بلغت??ه عن??ه لم يكن له??ا أص??ل ،وأن??ه اس??توحش من??ه ،ورغب في َل ْ
اإِل س??الم ،فأس??لم على ي??دي الولي??د ،وتق??رب من قلب??ه ،وتنص??ح إلي??ه في دف??ائن
استخرجها له من بالد دمشق وغيرها من الشام بكتب كانت مع??ه فيه??ا ص??فات تل??ك
َت نفس??ه ،واس??تحكم طمع??ه، الدفائن ،فلما رأى الوليد تلك األم??وال والج??واهر َ
ش? ِره ْ
فقال له الخادم :يا أمير المؤمنين ،إن ههنا أمواالً وجواهر ودفائن للمل??وك ،فس??أله
الوليد عن الخبر ،فقال :تحت منارة اإلسكندرية? أم?وال األرض ،وذل?ك أن اإلس?كندر
احتوى على األم??وال والج??واهر ال??تي ك??انت لش??داد بن ع??اد ومل??وك الع??رب بمص??ر
والشام ،فبنى له??ا األزاج تحت األرض ،و َق ْن َط??ر له??ا األ َق َب??اء والقن??اطر والس??راديب،
?ار َة،
والو ِرق والج??واهر وب??نى ف??وق ذل??ك ه??ذه المن? َ وأودعها تلك الذخائر من العين َ
وكان طولها في الهواء ألف ذراع ،والمرآة على علوها والدبادب??ة جل??وس حوله??ا،
ف??إذا نظ??روا إلى الع??دو في البح??ر في ض??ؤ تل??ك الم??رآة ص??وتوا بمن ق??رب منهم،
ونصبوا? ونشروا أعالما ً فيراها من َب ُعدَ منهم فيحذر الن??اس وينف??ر البل??د ،فال يك??ون
للعدو عليهم سبيل ،فبعث الوليد مع الخادم بجيش واناس من ثقاته وخواصه فه??دَ َم
نص??ف المن??ارة من أعاله??ا ،وأزيلت الم??رآة .فض??ج الن??اس من أه??ل اإلس??كندرية
وغيرها ،وعلموا أنها مكي??دة وحيل??ة في أمره??ا ،ولم??ا علم الخ??ادم استفاض??ة ذل??ك،
وأنه سينمى? إلى الوليد ،وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه ه??رب في اللي??ل في م??ركب ك??ان
ق?د أع?ده ،وواط?أ قوم?أ على ذل?ك من أم?ره ،فتمت حيلت?ه ،وبقيت المن??ارة على م??ا
ذكرن??ا إلى ه?ذا ال??وقت -وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة -وك?ان ح??والي من??ارة
اص يخ??رج من??ه قط??ع من الج??واهر تتخ??ذ من?ه? فص??وص اإلس??كندرية في البح??ر َ
مغ? ٌ
للخواتم يشبه? أنواعا من الجواهر :منه الس??كركهن واألدرك وأش??باد جش??م ،ويق??ال:
إن ذل??ك من األالت ال??تي ك??ان اتخ??ذها اإلس??كندر للش??راب ،فلم??ا م??ات كس??رتها أم??ه
المواض?ع من البح??ر ،ومنهم من رأى أن اإلس??كندر اتخ??ذ ذل??ك ِ صر َم ْت بها في تل??ك
َ
النوع من الجوهر وغرقه حول المنارة لكيال يخلو من الناس حولها ،ألن من ش??أن
الجوهر أن يكون مطلوبا ً أبداً في كل عصر في معدنه براً أو بحراً ،فيكون الموض??ع
على عوام األوقات بالناس معموراً ،واألكثر مما يستخرج? من الجوهر ح??ول من??ارة
اإلسكندرية األشباد جشم ،وقد رأيت كثيراً من أصحاب التلويحات وممن ُعن َِي
صفحة 215 :
بأعمال الجواهر المنسوبة بالمغرب يعمل ه??ذه الج??واهر المعروف??ة باألش??باد جش??م،
ويتخذ منه? الفصوص وغيرها ،وكذلك الفص??وص المعروف??ة بالب??اقلمون وهي ت??رى
ألوانا ً مختلف??ة من حم??رة وخض??رة وص??فرة تتل??ون في المنظ??ر ألوان?ا ً مختلف??ة على
حسب ما ق??دمنا ،والتل??ون من ذل??ك على حس??ب الجره??ر في ص??فائه واختالف نظ??ر
البصر في إدراكه ،وتلون هذا النوع من الجوهر -أعني الباقلمون -نحو تلون ريش
صدر الطواوشى .فإنها تلون ألوانا ً مختلفة بأذنابها وأجنحتها -أع??ني ال??ذكور دون
اإلناث -وقد رأيت منها بأرض الهند ألوانا ً تظهر لحس البصر عند تأملها ،ال ت??درك
وال تحصى ،وال تشبه بلوق من األلوان .لما يتراثف من تموج األل??وان في ريش??ها،
لعظم خلقها وكبر أجسامها وس?عة ريش?ها ?.ألن للط?واوس ب?أرض ٍ ويتأتى ذلك منها
الهند شأنا ً عجيبا ،وال??ذي يحم??ل منه??ا إلى أرض اإلس??الم ويخ??رج عن أرض الهن??د
فيبيض ويف??رخ تك??ون ص??غيرة األجس??امَ ،ك? د َِرة األل??وان ،ال تخط??ف أن??وار األبص??ار
بإدراكها ،وأنما تشبه? بالهندية بالشبه اليسير ،هذا في الذكور منها دون اإلناث.
وكذلك شجر النارنج واألترج المدور ،حم??ل من أرض الهن??د إلى أرض غيره??ا بع??د
الثلثماث??ة ?،ف??زرع بعم??ان ثم نق??ل إلى البص??رة والع??راق والش??ام ،ح??تى ك??ثر في دور
الناس بطرسوس وغيرها من الثغور الشامية وإنطاكية وس??واحل الش??ام وفلس??طين
ومصر ?،وما كان يعهد وال يعرف ،فع??دمت من??ه ال??روائح الخمري??ة الطيب??ة ،والل??ون
الحسن الذي يوجد فيه ب?أرض الهن?د .لع?دم ذل?ك اله?واء والترب?ة? والم?اء وخاص?ية
البلد.
قال المسعودي :ولما تف?رق ول?د ن?وح في األرض س?ار ول?د ك?وش بن كنع?ان نح?و
المغرب حتى قطعوا نيل مصر ،ثم افترقوا فسارت منهم طائفة ُم َي ِّمن ?ة? بين المش??رق
والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج ،وس??ار فري??ق منهم نح??و المغ??رب وهم أن??واع
كثيرة نحو الزغاوة والكانم ومركه وكوك??و وغان??ة وغ??ير ذل??ك من أن??واع الس??ودان
والدمادم ،ثم افترق الذين مضوا بين المشرق والمغرب ،فصارت ال??زنج من المغ??ير
والمشكر وبربرا وغيرهم من أن??واع ال??زنج ،وق?دمنا فيم?ا س?لف عن?د ذكرن??ا للبح??ر
الحبشي ،الخليج البربر في وما عليه من أنواع السودان واتصالهم في دي??ارهم إلى
بالد ال??دهلك والزيل??ع وناص??ع ،وه??ؤالء الق??وم أص??حاب جل??ود النم??ور الحم??ر وهي
لباس??هم ،ومن أرض??هم تحم??ل إلى بالد اإلس??الم ،وهي أك??بر م??ا يك??ون من جل??ود
النمورة وأحسنها للسروج ،وبحر الزنج واألحابش ه??و عن يمين بح??ر الهن??د ،وإن
كانت مياههما متصلة ،ومن أرضهم يحمل الذبل من ظه??ور الس??الحف ،وه??و ال??ذي
تتخذ منه األمشاط كالقرون ،وأكثر ما تكون الدابة المعروفة بالزراف??ة في أرض??هم،
وإن كانت عامة الوجود في أرض النوبة دون سائر بالد األحابش.
الزرافة
وقد تتوزع في نتاج هذا النوع من ال??دواب المعروف??ة بالزراف??ة ،فمنهم من رأى أن
بدء نتاجها من اإلبل ،ومنهم من رأى أن ذلك ك??ان بجم??ع بين اإلب??ل والنم??ورة وأن
الزرافة ظه??رت من ذل?ك ،ومنهم من زعم أن??ه ن??وع من الحي??وان ق??ائم بذات??ه كقي??ام
الخي??ل والحم??ير والبق??ر ،وأن ليس س??بيلها كس??بيل البغ??ال المول??دة من النت??اج بين
الخيل والحمير ،وتدعي الزرافة بالفارسية? اشتركاو ،وقد ك??انت ته??دى إلى مل??وكهم
من أرض النوبة كما تحم??ل إلى مل??وك الع??رب ومن مض??ى من خلف??اء ب??ني العب?اس
ووالة مصر ،وهي دابة طويلة اليدين والرقبة ،قصيرة الرجلين ،ال ركبتين لرجليها
وإنما الركبتان ليديها ،وقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان عن??د ذك??ر الزراف??ة كالم?ا ً
كثيراً في نتاجها ،وأن في أعالي بالد النوبة يجتم??ع س??باع ووح??وش ودواب كث??يرة
ارة القي?ظ إلى ش?رائع المي?اه ،فتتس?افد هنال?ك ،فيلقح منه?ا م?ا يلقح ويمتن?ع? في َح َم َ
منها ما يمتنع ،فيجيء من ذلك خلق كث??ير مختلف??ون في الص??ور واألش??كال ؛ منه??ا
الزرافة ذات األظالف ،وهي دابة منحنية إلى خلفها ،منص??وبة? الظه??ر إلى مؤخره??ا
وذلك لقصر رجليها ،وللناس في الزراف??ة كالم كث??ير على حس??ب م??ا ق??دمنا في ب??دء
نتاجها ،وأن النمور ببالد النوبة عظيمة الخل??ق ،وأن اإلب??ل ص??غيرة الخل??ق قص??يرة
القوائم ،وأن ذلك كاتساع أرحام القالص العربي?ة ،لف??والج كرم?ان وغيره??ا من إب?ل
خراسان ،فيظهر بينهم??ا ويتول??د عنهم??ا الجم??ال البخت والجم??ازات ،وال ينتج? بين
بختى وبختية ?،وإنما يصح هذا النوم من اإلبل بين فوالج اإلبل ،وهي ذات
صفحة 217 :
الس??نامين ،وبين قالص اإلب??ل ،وهي الن??وق العربي??ة ،وكنت??اج البخت بين البجاوي??ة
والمهرية ،وللزرافة أخبار كثيرة قد ذكر ذلك ص??احب المنط??ق في كتاب??ه الكب??ير في
الحيوان ومنافع أعض?ائها وغ??ير ذل?ك من س?ائر أعض?اء الحي??وان ،وق?د أتين?ا على
جميع ما يحتاج إليه من ذلك في كتابنا المترجم ب القضايا والتجارب.
وتوورها إلى أهلها ،وهي كالفيلة :منه??ا وحش?ية، ُّ والزرافة عجيبة الفعل في إلفها،
ومنها مستأنس??ة أهلي??ة ،م??ع من ق??دمنا ذك??ره من الزن??وج واألجن??اس من األح??ابش
الذين صاروا عن يمين النيل ،ولحق??وا بأس??فل البح??ر الحبش??ي ،وقطعت ال??زنج دون
يصب إلى بحر الزنج ،فس??كنت ُّ سائر األحابش الخليج المنفصل من أعلى النيل الذي
الزنج في ذلك الصقع ،واتصلت مساكنهم إلى بالد سفالة ،وهي أقاصي بالد ال??زنج،
وإليها تقصد مراكب العمانيين والسيرافيين ،وهي غاي??ة مقاص??دهم في أس?افل بح??ر
الزنج كما أن أقاصي بحر الصين متصل ببالد السيلي ،وقد تقدم ذكره??ا فيم??ا س??لف
من هذا الكتاب ،وك??ذلك أقاص??ي بح??ر ال??زنج ه??و بالد س??فالة ،وأقاص??يه بالد ال??واق
واق ،وهي أرض كثيرة الذهب ،كثيرة العجائب ،خصبة حارة.
واتخذها الزنج دار مملك??ة ،وملك??وا عليهم ملك??ا س??موه وقليمي ،وهي س??مة لس??ائر
ملوكهم في سائر األعصار على ما قدمنا آنفا ،وي??ركب وقليمي -وه??و يمل??ك مل??وك
سائر الزنوج -في ثلثمائة ألف فارس ،ودوابهم البقر ،وليس في أرض??هم خي??ل وال
بغ??ال وال إب??ل ،وال يعرفونه??ا ،وك??ذلك ال يعرف??ون الثلج وال??برد ،وال غ??يرهم من
األحابش ،ومنهم أجناس محددة األسنان يأكل بعضهم بعضاً.
ومس??اكن ال??زنج من ح??د الخليج المتش??عب من أعلى الني??ل إلى بالد س??فالة وال??واق
واق ،ومقدار مسافة مساكنهم واتصال مقاطنهم في الطول والعرض نح??و س??بعمائة
فرسخ أودية وجبال ورمال.
صيد الفيلة
قوادها وال أحد من خواصها على ملوكه??ا بش??يء من الحدي??د ،ب??ل العاج ،وال يدخل ِّ
بتل??ك األعم??دة المختلف??ة من الع??اج ،ورغبتهم فيم??ا اس??تقام من أني??اب الفيل??ة ولم
يتقوس ،التخاذ األعمدة منها على ما ذكرنا ،ويستعمل? الع??اج في دخن بي??وت أص??ن
أمه ا وأبخرة هياكله?ا ،كاس?تعمال النص?ارى في الكن?ائس الدخن?ة المعروف?ة بدخن?ة
مريم وغيرها من األبخرة ،وأهل الصين ال يتخذون الفيل??ة في أرض??هم ،ويتط??يرون
من اقتنائه??ا عن??دهم والح??رب عليه??ا؛ لخ??بر ك??ان لهم في ق??ديم الزم??ان في بعض
حروبهم.
والهند تتخذ الفيلة في بالده??ا وتتن??اتج في أرض??ها ،ليس فيه??ا وحش??ية ?،وإنم??ا هي
حربية? ومس??تعملة? كاس??تعمال البق??ر واإلب??ل ،وأكثره??ا ي??أوي إلى الم??روج والض??ياع
والغياض كالجواميس في أرض اإلسالم ،والفيلة تهرب من المكان الذي يك??ون في??ه
الكرك?دن على حس?ب م??ا ق?دمنا ،فال ت?رعى في موض??ع تش??م في??ه رائح?ة الكرك?دن،
ويعمر الفيل بأرض الزنج نحواً من أربعمائة سنة ،كذلك يذكر ال??زنج؛ ألنه??ا تع??رف
في ديارها ومفاوزها ،والفيل العظيم مما ال يتأتى لهم قتله ،ومنها األسود واألبيض
واألبلق واألغبر ،وفي أرض الهن??د منه??ا م?ا يعم??ر المائ??ة س??نة? والم??ائتين ،ويض??ع
حمله في كل سبع سنين.
حيوان الزبرق
ولها بأرض الهند آفة عظيمة نوع من الحيوان يع??رف ب?الزبرق ،وهي داب??ة أص??غر
من الفهد أحم??ر ذو َز َغب وعي??نين براق??تين عجيب??ة س??ريع الوثب??ة ،يبل??غ في وثبت?ه?
الثالثين واألربعين والخمسين ذراعاً ،وأكثر من ذلك ،فإذا أشرف على الفيل رشش
علي??ه بول??ه بذنب?ه? فيحرقه??ا .وربم??ا لح??ق اإلنس??ان ف??أتى علي??ه ،وفي الهن??د من إذا
أشرفت عليه هذه الدابة تعلق بأكبر ما يكون من شجر الساج ،وهي أكبر من النخل
وأكبر من شجر الج??وز ،تكِنّ الش??جرة منه??ا الخل??ق الكث??ير من الن?اس وغ??يرهم من
الحيوان على حسب م??ا يحم??ل إلى البص??رة والع??راق ومص??ر من خش??ب الس?اج في
طوله ،فإذا تعلق اإلنسان بأعلى تلك الشجرة وعجز هذا الحيوان عن إدراك??ه لص??ق
باألرض ووثب إلى أعلى الشجرة ،فإن لم يلحق اإلِنسان في وثبته? رشش من بول??ه
إلى أعلى الشجرة ،وإال وضع رأسه في األرض وصاح صياحا ً عجيب ?اً ،فيخ??رج من
فيه قطع دم ويموت من ساعته ،وأي موضع من الشجرة سقط عليه بول??ه أحرق??ه،
وإن أصاب اإلنسان شيء من بوله أتلفه ،وكذلك سائر الحيوان.
ومل??وك الهن??د تتخ??ذ في خزائنه??ا م??رارة ه??ذه الداب??ة ،وم??ذاغيره ،ومواض??ع من
أعضائه ،وهو السم القاتل من ساعته ،ومنه ما يسقى به السالح فيتلف من ف??وره،
ومذاغير هذه الدابة كمذاغير كلب الماء الذي يخرج منه الجند بادستر ،وهذا الكلب
أم??ره مش??هور عن??د الص??يادلة وغ??يرهم ،وه??و اس??م فارس??ي مع??رب ،وإنم??ا هوكن??د
وتفسير? ذلك الخصية ،فعرب فقيل جند بادستر.
والدابة المتقدم ذكرها المعروفة بالزبرق ال تأوي إلى موضع يك??ون في??ه النوش??ان-
وهو الكركدن -وتهرب منه كما يهرب منه الفيل أيضاً ،والفيل يهرب من الس??نانير?-
وهي القطاط -وال يقف لها البتة إذا أبصرها ،وقد ذكر عن ملوك الفرس أنها ك??انت
توقي الفيلة المقاتلة بالرجال??ة حوله??ا ومراع??اة حي??ل األع??داء عن??د الح??رب بتخلي??ة
السنانير عليه??ا ،وك??ذلك أفع??ال مل??وك الس??ند والهن??د إلى ه??ذه الغاي??ة ،وق??د ذك??ر أن
الخنازير ربما تهرب منها الفيلة.
?ل بالمولت??ان من أرض الس??ند ي??دعى ه??ارون بن موس??ى م??ولى األزد، وقد ك??ان رج? ِ
وك??ان ش??اعراَ ش??جاعا ً ذا رياس??ة في قوم??ه ومنع??ة ب??أرض الس??ند مم??ا يلي أرض
المولتان ،وكان في حصن له ،فالتقى مع بعض ملوك الهند وقد قدمت الهند أم أم??ه
ا الفيلة ،فبرز هارون بن موسى أمام الصف وقصد لعظيم من الفيلة وق?د خب??أ تحت
ثوبه? سنورا ،فلما دنا في حملته من الفيل خلى القط عليه ،فو َلى الفي??ل منهزم?ا ً لم??ا
بصر بذلك الهر ،وكان ذلك هزيمة? الجيش ،وقتل الملك ،وغلبة المسلمين عليهم،
العندبيل?:
طائر صغير يك??ون ب??أرض الس??ند والهن??د ،ت??ذكره الش??عراء في أش??عارها تمثال ب??ه
لصغره
والزندبيل:
هو العظيم من الفيلة والمقدم فيها،وق??د قي??ل :إن الزن??دبيل? ه??و اس?م لم?ا اش??تد في
الحرب من إناث الفيلة ،وقد ذكر بعض الشعراء في هذا المعنى الزندبيل عن??د ذك??ره
للفيل فقال:
ذاك الذي مشفره طويل وهو من األفيال زندبيل
وقال آخر:
وفيلُ ُه كالطود زندبيل?
وق?د ذك?ر عم?رو بن بح?ر الجاح?ظ في كت?اب الحي?وان ه?ذه القص?يدة ،وفس?ر بعض
أبياتها ،وذكر في معنى الخنشبيل? وتفسيره? قول األنصاري في صفة النحل:
وفى مدر األرض عنها فضول تبيض العشـاء بـأذنـابـهـا
إذا عاجت الشاة والخنشـبـيل ويشبعها المص مص الـثـرى
و الفيلة ال تنتج? وال تتوالد إال بأرض الزنج والهند ،وال تعظم أنيابها ب??أرض الس??ند
والهند على حسب م??ا تعظم ب??أرض ال??زنج ،وال??زنج تتخ??ذ من جل??ود الفيل??ة ال?دَوق
وكذلك الهند ،وال يلحق ذلك في المنعة شيء من الدرق الصيني والتب??تي ،واللمطي
والبجاوي ،وال ما نقع في اللبن وغير ذلك من أنواع الدرق.
يوص??ل ُ الطع??ام والش??راب إلى َج ْوف??ه ،وه??و ش??يء بين
َ وخرطوم??ه أنف??ه ،وب??ه
إلغضروف واللحم والعصب ،وبه يقاتل ويضرب ،ومنه يصيح ،وليس ص??وت الفي??ل
على مقدار عظم جسمه وكبر خلقه.
عمره ،وثقل جسمه ،وقلة اكتراثه بما وضع على ظهره ،وأنه -مع كبر هذا الجس??م
وعظم ه??ذه الص??ورة -يم?ر? باإلنس??ان فال يحس بوطئ??ه ،وال يش??عر ب??ه ح??تى يغش??اه
لحسن خطوته واستقامة مشيه.
وقد وص??ف عم??رو بن بح?ر الجاح??ظ الفي??ل في كت?اب الحي?وان ف?أغرق في وص?فه،
وأكثر في مدحه ،وعدد مع??اني كث??يرة في ص??فة الفي??ل وهيئت??ه ?،وم??ا ه??و علي??ه من
عجيب التركيب وغريب التأليف ،والمعاني الصحيحة ،واإلحساس??ات اللطيف??ة ،وفي
قبولها التأديب وصحة تمييزها وسرعتها إلى التلقين والتقويم ،وما في أب??دانها من
األعضاء الكريمة ،واألجزاء الشريفة ،وكم مقدار منافعها ،ومبلغ مض??ارها ،وبتل??ك
الفض??يلة من اإلحس??اس ف??اقت تل??ك األجن??اس ،وم??ا فيه??ا من اآلي??ات والبرهان??ات
والعالمات النيرات التي جالها هّللا لعي??ون خلق??ه ،وف??رق بينه??ا وبين عق??ول عب??ادة،
وقيدها عليهم ،وحفظها لهم ،لتكثر لهم ،وتزيد بهم إلى وضوح الحج??ة ،وتس??خرهم
لتم??ام النعم??ة ،وم??ا ذك??ر هّللا في الكت??اب الن??اطق والخ??بر الص??اعق ،وفي اآلث??ار
المعروف??ة ،واألمث??ال المض??روبة ?،والتج??ارب الص??حيحة ،وم??ا ق??الت الش??عراء في??ه،
ونطقت به الفصحاء ،وميزته العلماء ،وعجبت منه الحكماء ،وحالها عن??د المل??وك،
وموضع نفعها عند الحروب ،وتباينها في العلوم ،وجاللتها في الصدور ،وفي طول
أعماره??ا ،وق??وة أب??دانها ،وفي اع??تز أم??ه ا وتص??ميمها وأحقاده??ا وش??دة اكتراثه??ا،
الس??قاط واقتن??اء الس??فلة واألراذل وعن وطلبه??ا بطوائله??ا ،وارتفاعه??ا عن مل??ك ُّ
ارتخاص?ها في الثمن ،وارتباطه?ا على الخس?ف ،وابت?ذالها ،وإذالله?ا ،وعن امتن?اع
طبائعها ،وتمنع? غرائزها أن تصلح أبدانها وتنبت أنيابها وتعظم جوارحها وتتس??افد
وتتالقح إال في معادنها وبالدها ومغارس أعراقها ،مع التماس المل??وك ذل??ك منه??ا،
وطمع الق??وم عليه??ا ب?التقرب ب?ذلك منه??ا ،ح??تى أعج??زت الحي??ل ،وخ?رجت عن ح?د
الطمع ،وعن األخبار عن حملها ووضعها ومواض??ع أعض??ائها ،وال??ذي خ??الفت في??ه
األش??كال األربع??ة ال??تي تحي??ط ب??الجميع مم??ا يس??تناخ ?،أو يق??وم أو يمش ?ي? أو يط??ر،
وجميع ما ينتق??ل عن أولي??ة خلق??ه ،وم??ا يبقى على الطب??ع األول من ص??ورته وعم??ا
?ع الحي??وان ،وعن الق??ول في ش??دة يتنازعه من شبه الحيوان ،وما يخ??الف في??ه جمي? ِ
َ
وأح? ُذ ظف??رأ وذرب لس??انا ً
قلبه وأسره وفي حدته على ما هو أعظم بدنا َ وأش??د قلب?ا ً َ
وهربه? مما هو أصغر جسماً ،وأكل ُّ حداً ،وأضعف أسراً ،أخمل ذك??راً ،وعن األخب??ار
عن خص?اله المذموم?ة ?،وأم?وره المحم?ودة ،وعن الق?ول في لون??ه وجل??ده وش??عره
ولحم??ه وش??حمه وعظم??ه وبول??ه و َن ْج? ِوه ،وعن لس??انه وفم??ه ،م??ع غ??ير ذل??ك من
المواعي??د الكث??يرة ال??تي تض??منت إيراده??ا ،فلم??ا أنتهي إلى موض??ع نظمه??ا وإي??راد
وصفها وما أسلفه من الق??ول في ه??ذه المع??اني ال??تي ق?دًمها أورد جوام??ع متفرق??ة،
ولمعا ً غير متسقة في الفيلة وغيرها ،وأعرض عن إِيراد خواص أعضائها ،وأك??ثر
منافعها ،وعجيب خصالها ،وما ذك?ر من أس??رار الطبيع??ة فيه?ا -وم??ا قالت??ه فالس?فة
الهند في بدْ ئها ،وما أثرته عمن تقدم من حكمائه??ا في ب??دء أوليته??ا وعل??ة تكوينه??ا
في أرض الزنج والسند ،دون سائر البقاع من األرض ،والسبب المانع لتكونه??ا في
غيرها ،والتضاد الذي بينها وبين الكركدن مع عظم خلقهاِ ،وفرارها من السنور،
صفحة 223 :
مع صغر حجم جسمه ولطافة منظره ،وعن كثرة الطرب الذي يوجد في الفي??ل دون
غيره من الحيوان ،وقبولها الرياضة والدربة والمعرف??ة عن??د المح??اورة ،وال??دهاء،
والخبث ،والتمييز?.
وقد ذكر صاحب المنط?ق في كت?اب الحي?وان جمالً كث?يرة من خص?ال الفي?ل ومن?افع
أعضائه ،وسلك طريقة لم يسلكها من تق??دم من حكم??اء الهن??د في الفي??ل ،وم??ا ذهب
إلي??ه حكم??اء الهن??د من أن الع??الم بم??ا في??ه من األجس??ام على جه??ات ثالث :متف??ق،
?ام ،وإخ??راجهم عن الع??الم-
ومختل??ف ،ومض??اد ،وأن ذل??ك في الجمل??ة ه??و جم??اد ون? ٍ
األفالك والنجوم والبروج وغير ذلك من األجسام السماوية ،وأنها ليست بجم??اد وال
نام ،وأنها أحياء ناطقة.
عود إلى وصف الزنج
قال المسعودي :فل??نرجع اآلن إلى م??ا كن??ا في??ه آنف??ا في ص??در ه??ذا الب??اب ،من ذك??ر
ال??زنج وبالدهم وغ??يرهم من ال??زنج أو األح??أبش ،ف??الزنج م??ع ك??ثرة اص??طيدها لم??ا
ذكرنا من الفيل?ة وجمعه?ا لعاجه?ا -غ?ير منتفع??ة بش??يء من ذل?ك في آالته??ا ،وإنم?ا
تتحلى الزنج بالحدي??د ب??دالً عن ال??ذهب والفض??ة ،وم??ا ذكرن??ا من دوابهم أنه??ا بق??ر،
وأنهم عليه??ا يتق??اتلون ب??دالً من اإلب??ل والخي??ل ،وهي بق??ر تج??ري كالخي??ل بس??روج?
ولُ ُجم ،ورأيت بالري نوعا ،من هذا البقر يبرك كما يبرك الجمل ،ويثور بجمل??ه كم??ا
تث??ور? اإلب??ل إذا اس??تقلَّت بأحماله??ا ،وه??ذا الن??وع من البق??ر يحم??ل علي??ه الميت??ة من
الحيوان كالخيل واإلبل والحمير والبغال ،ومالكها نوع من المجوس ْ
مز َدقي??ة ،ولهم
خارج الري قرية ال يسكن معهم فيها غيرهم ،فإذا مات بالري أو َق ْز ِوين شيء مم??ا
ذكرنا من البهائم ورد الواحد منهم مع ثوره فأناخه ،وحمل عليه تلك الجيفة وس??ار
به??ا إلى قريت??ه ،ف??أكلُهم منه??ا ،وبني??انهم من ع??ظ أم??ه ا ،ويحفف??ون من لحمه??ا م??ا
يدخرونه? لشتائهم ،فأكثر أكلهم وأكل بق?رهم من تل?ك ال ًّل ْح َم?ان رط َب? ا َ ويابس?اً ،وه?ذا
النوع من البقر الغالب عليه حمرة الحدق ،وسائر البقر تنفر وتهرب من هذا البقر،
والص? ْفر ،ق?د خ?زمت فيه?ا ُّ ورأيت بأصبهان وقدم منها م??ا في أنوفه?ا حل?ق الحدي??د
الحبال ،وخطمت بها كما يفعل بالجم?ال البخت ،وك?ذلك ب?الري رأيت ث?وراً منه?ا ق?د
النوع ،فلما رآه قد قصده قام فزعا ً من هذا الجنس. ِ عدا نحو ثور من غير هذا
وليس في سائر أنواع البقر ما يأوي المياه والجزائر والبحيرات إال البقر المعروف
الحبشية? التي تكون ببالد مصر? وأعمالها ،وبحيرة تنيس ودمي??اط وم??ا اتص??ل بتل??ك
الع َج? ل ،في
الديار ،وأما الجواميس فإنه??ا ب??الثغر الش??امي تج??ر أك??بر م??ا يك??ون من َ
ص ْفر على م??ا ذكرن??ا من البق??ر ،وك??ذلك منه??ا ببالد إنطاكي??ة، أنوفها حلق الحديد وال ُ
وأكثر ذلك ببالد السند والهند وطبرستان ،و ْق??رون تل??ك البق??ر أك??بر من ق??رون ه??ذه
الجواميس التي بأرض اإلسالم ،وطول القرن منها نحو ال??زراع وال??ذراعين وك??ذلك
الجواميس كثيرة بأرض الع??راق مم??ا يلي طف??وف الكوف??ة والبص??رة والبط??ائح وم??ا
اتصل بهذه الديار ،والناس يذكرون عنقاء ًم ْغرب ويصورون العنقاء في الحمام??ات
وغيرها ،ولم أجد أحدا في ه??ذه الممال??ك ممن ش??اهدته أو نمي? إلي خ??بره ذك??ر أن??ه
رآها ،ولست أدري كيف ذلك ،ولعله اسم ال مسمى له.
صفحة 224 :
ولنرجع اآلن إلى أخبار الزنج وأخبار ملوكها :فأما تفسير اسم ملك الزنج-الذي هو
وقليمي -فمعنى ذلك ابن الرب الكبير ،ألنه اخت??ار لملكهم والع??دل فيهم ،فم??تى ج??ار
الملك عليهم في حكمه وحاد عن الحق قتلوه وحرموا عقبه المل??ك ،ويزعم??ون أن??ه
إذا فع??ل ذل??ك فق??د بط??ل أن يك??ون ابن ال??رب ال??ذي ه??و مل??ك الس??موات واألرض،
ويسمون الخالق عز وجل ملكنجلو ،وتفسيره ال??رب الكب??ير ،وال??زنج أول??و فص??احة
في ألسنتهم ،وفيهم خطب??اء بلغتهم ،يق??ف الرج??ل الزاه??د منهم فيخطب على الخل??ق
الكثير منهم ،ويرغبهم في القرب من بارئهم -،ويبعثهم على طاعت??ه ،وي??رهبهم من
عقاب??ه وص??ولته ،وي??ذكرهم من مض??ى من مل??وكهم وأس??الفهم ،وليس لهم ش??ريعة
يرجعون إليها ،بل رسوم لملوكهم ،وأن??واع من السياس?ات يسوس?ون به?ا رعيتهم،
وأكلهم الموز ،وهو ببالدهم كثير ،وكذلك بأرض الهن??د ،الغ??الب على أق??وات ال??زنج
الذرة ،ونبت يقال له الكالري يقلع من األرض :كالكمأة ،والراسن ،ومنه? كثير ببالد
ع?دن وم??ا اتص??ل به?ا من أرض اليمن ،ويش?به? ه??ذا الكالري القلق?اس ال?ذي يك?ون
ه?وي منهم ش?يئا َ من نب?ات
َ بالشام ومصر ،ومن غذائهم أيضا العس?ل واللحم ،ومن
آو حيوان أو جماد يجده ،وجزائرهم في البح??ر ال تحص??ي ك??ثرة ،وفيه??ا الن??ار جي??ل
يعم أكله سائر الزنج ،ومن بعض تلك الجزائر جزيرة بينها وبين ساحل الزنج نح??و
من يوم أو يومين ،فيها خالئق من المسلمين يتوارثه??ا مل??وك من المس??لمين ،يق??ال
لها قنبلو ،على حسب ما ذكرنا من أمرها في هذا الكتاب.
مساكن النوبة
وأما النوبة فافترقت فرقتين :فرقة في شرق الني??ل وغربي??ة ?،وأن??اخت على ش??طيه،
فاتص?لت دياره?ا ب?ديار القب?ط من أرض مص?ر والص?عيد من بالد أس?وان وغيره?ا،
واتس??عت مس??اكن النوب??ة على ش??اطئ الني??ل مص??عدة ،ولح?اقوا بق??ريب من أعالي??ه،
وبنوا دار مملكة ،وهي مدينة? عظيمة تدعئ دنقلة ،والفريق األخر من النوب??ة يق??ال
لهم علوة ،وبنوا مدينة عظيمة وسموها سرية?.
قال المسعودي :وانتهيت? في تصنيفي إلى ه?ذا الموض??وع من كتابن??ا ه?ذا في ش?هر
ربيع األخر سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة ،وكنت بفس??طاط مص??ر ف??أخبرت أن المل??ك
في مدينة دنقلة للنوبة كابل بن سرور ،وهو ملك أبن ملك ابن ملك فصاعدا وملك??ه
يحتوي على ما قرة وعلوة ،والبلد المتصل بمملكته بأرض أسوان يع??رف بم??ريس،
وإليه تضاف الريح المريس??ية ?،وعم??ل ه??ذا المل??ك متص?ل? بأعم??ال مص??ر من ارض
الصعيد ومدينة? أسوان.
البجة
وأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل? مص??ر ،وتش??عبوا فرق??ا ،وملك??وا عليهم
?رد ،وتتص?ل? س??راياهم ملكا ،وفي أرضهم معادن الذهب ،وه??و الت??بر ،ومع??ادن الزم? ّ
ب إلى بالد النوبة ،فيغ??يرون وس??بون ،وق??د ك??انت النوب??ة قب??ل ومناسرهم على ال ُّن ُج ِ
ذلك أش??د من البج??ة ،إلى أن ق??وتي اإلس??الم وظه??ر ،وس??كن جماع??ة من المس??لمين
معدن الذهب وبالد العالة وعالقي و عيذاب ،وسكن في تلك الديار خل??ق من الع??رب
من ربيع??ه بن ن??زار بن مع??د بن ع??دنان ،فاش??تدت ش??وكتهم ،وتزوج??وا في البج??ة،
فق??ويت البج??ه بمن ص??اهرها من ربيع??ه ?،وق??ويت ربيع??ه بالبج??ة على م??ا ناوأه??ا
وجاورها من قحطان وغيوهم من مضر بن نزار ممن س??كن تل??ك ال??ديار ،وص??احب
المعدن شي وقتنا ه?ذا -وه?و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثماث?ة ?-أب??و م?روان بش?ر بن
إس??حاق ،وه??و من ربيع??ه ،ي??ركب في ثالث??ة آالف من ربيع??ه وأحالفه??ا من مض??ر
واليمن وثالثين أل????ف ح????راب على ال ُّن ُجب من البج????ة ب????الحجف البجاوي????ة ،وهم
الحداربة ،وهم المسلمون ممن بين سائر البجة ،وباقي البج??ة كف?ار يعب?دون ص?نما
لهم.
الحبش
وأما الحبشة? فاسم مملكتهم كعبر وهي مدين?ة? عظيم??ة ،وهي دار مملك??ة النجاش??ي،
وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة ،يتصل? مل??ك النجاش??ي ب??البحر الحبش??ي ،ولهم
ساحل لهم فيه مدن كثيرة ،وهو مقابل لبالد اليمن :فمن مدن الحبشة? على الس??احل
الزيل??ع وال??دهلك وناص??ع ،وه??ذه م??دن فيه??ا خل??ق من المس??لمين إال أنهم في ذم??ة
الحبشة ،وبين ساحل الحبشة ومدين??ة غالفق?ة -وهي س?احل زبي?د من أرض اليمن-
ثالثة أيام عرض البح??ر بين الس??احلين ،ومن ه??ذا الموض??ع ع??برت الحبش??ة البح??ر
حين ملكت اليمن في أي??ام في ن??واس وه??و ص??احب األخ??دود الم??ذكور في الق??رآن،
وصاحب زبيد في وقتنا هذا إبراهيم بن زياد صاحب الحرملي ومراكب??ه تختل??ف إلى
ساحل الحبشة ?،وتركب فيه?ا التج?ار باألمتع?ة ،وبينهم مهادن?ة ،وه?ذا الموض?ع من
البحر بين هذين الشطين -أعني ساحل اليمن ،وساحل الحبش?ة ?-أق?ل المواض?ع في?ه
عرضاً ،وهنالك جزائر بين هذين الساحلين :منها جزيرة العقل ،يقال :إن فيها م??اء
يعرف بماء العقل ،يستسقي منه أرباب الم??راكب ،ويفع??ل في الق??رائح وال??ذكاء فعالً
جميال ،وقد ذكر بعض الفالسفة المتقدمين ما يفعل هذا الماء ومال??ه من الخ??واص،
وذكر علة ذلك ،وقد أتين?ا على الخ?بر في كتابن?ا "أخب?ار أخب?ار الزم?ان عن?د ذكرن?ا
ألخبار المتطببين في تجاربهم وما كان من قضاياهم في عالج??اتهم ممن س??لف قب??ل
ظهور اإلسالم وغيرهم ممن اتصل بالملوك والخلفاء بعد ظهور الش??رع ،وق??د غلب
ابن زياد على هذه الجزيرة ،وله في هذا الوقت رجال مرتبون فيها من أصحابه.
وأم??ا غ??ير ه??ؤالء من الحبش??ة ال??ذين ق??دمنا ذك??رهم من أمعن في المغ??رب -مث??ل
الزغاوة والكوكو والقراقر ومديدة ومريس والمبرس والمالنة والقوم??اطي ودويل??ة
والقرمة -ذلكل واحد من هؤالء وغيرهم من أنواع األحابش ملك ،ودار مملكة.
وقد أتيناء على ذكر جميع أجن??اس الس??ودان وأن??واعهم ومس??اكنهم ومواض??عها من
الفل??ك ،وألي??ة عل??ة تفلفلت ش??عورهم واس??ودت أل??وانهم ،وغ??ير ذل??ك من أخب??ارهم
وأخبار ملوكهم وعجائب سيرهم وتشعبهم في أنسابهم ،في كتابنا أخبار الزمان في
الفن األول من جمل??ة الثالثين فن?اً ،ثم في الكت??اب األوس??ط مم??ا لم ن??ذكره في كتابن??ا
أخبار الزمان من أخبارهم ،وذكرنا في ه??ذا الكت?اب م??اال يس??ع ت?رك إي?راده في?ه وال
تعريته? منه?.
قال المس??عودي :وق??د ك??ان عم??ر بن الخط??اب رض??ي هّللا عن??ه لم??ا افتتح عم??رو بن
الع??اص مص??ر كتب إلي??ه بمحارب?ة? النوب??ة ،فغ??زاهم المس??لمون ،فوج??دوهم يرم??ون
الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم ،حتى ص??رف عن مص??ر ،ووليه??ا عب??د
هّللا بن سعد ،فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة ،مما يسبي هذا الملك
صفحة 227 :
المجاور للمسلمين من غيرهم من ممالك النوبة المقدم ذكرها فيما س??لف من ص??در
هذا الباب المدعو بملك مريس وغيرها من أرض النوبة ،فص??ار م??ا قبض من ?ه? من
س ّن ًة جارية في كل سن ٍة إلى هذه الغاية يحمل إلى صاحب مصر وي??دعى ه??ذا السبي َ
السبي في العربيه? بأرض مصر والنوب??ة بالبق??ط ،وعم??د ذل??ك ثلثمائ??ة رأس وخمس
وستون رأسا ،وأراه رسم على عدد أي??ام الس??نة ،ه??ذا ل??بيت م??ال المس??لمين بش??رط
بينهم وبين النوبة ،ولألمير? بمصر غير م??ا ذكرن??ا من ع??دد الس??بي أربع??وت ِ الهدنة
رأسا ،ولخليفته? المقيم ببالد أسوان المجاورة ألرض النوب??ة ?،وه??و المت??ولي لقبض
هذا البقط ،وهو السبي ،عشرون رأسا ً غير األربعين ،وللحاكم المقيم بأسوان ال??ذي
ض البق??ط خمس??ة رؤوس غ??ير العش??رين ال??تي يقبض??ها يحضر مع أم??ير أس??وان َق ْب ُ
األمير ،والثني عشر شاهداً عدوالً من أهل أسوإن يحضرون مع الح??اكم حين قبض
جرى به الرسم في صدر اإلسالم في بل??د َ البقط اثتا عشر رأسا ً من السبي حسب ما
إيقاع الهدنة بين المسلمين النوبة ،والموضع الذي يتسلَّم فيه ه??ذا البق??ط ويحض??ره
من سميناه وغ??يرهم من النوب?ة? من ثق??ات المل??ك يع??رف بالقص??ر ،وه??و على س??تة
أميال من مدينة? آسوان ب??القرب من في ي??رة بالق ،وبالق ه??ذه مدين?ة? في الموض??ع
المعروف بالجنادل من الجبال واألحجار ،وهذه المدينة في هذه الجزي??رة يحي??ط به??ا
ماء النيل كإحاطة ماء الفرات بالمدن التي في الجزائ??ر الكائن??ة بين َر ْح َب??ة مأل?ك بن
َط ْوق و َه ْيت ،وهي ناوسة وعانة والحديثة ،وفي مدينة? بالق خلق كث??ير من الن??اس
وس?فُن
ومنبر? ونخل كثير في كال الشطين ،وهذء المدينة إليه??ا تنتهي? س??فن النوب??ة ُ
المس??لمين من بالد مص??ر وأس??وان ،ومدين??ة أس??وان يس??كنها كث??ير من الع??رب من
قحط??ان ون??زاربن مع??د من ربيع??ه ومض??ر وخل??ق من ق??ريش ،وأك??ثرهم ناقل??ة من
الحجاز وغيره ،والبلد كثير النخل خص??يب كث??ير الخ??ير ُت??ود ُع الن??واة األرض فتنبت
نخلة ،ويؤكل من ثمرها بعد سنتين ،وليست تربتهم كترب??ة البص??رة وال الكوف??ة وال
غيرهما من أرض النخل ،ألن النخل بالبصرة ال ينبت من النوى ب??ل ينبت من الث??ال
والفسيل ،وهو النخل الص??غير ،وم??ا يخ??رج من الن??واة فليس يثم?ر? وال يفلح ،ولمن
بأسوان من المسلمين ضياع كثيرة داخلة ب?أرض النوب?ة ي?ؤدًون خراجه?ا إلى مل?ك
إلنوبة ،وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الزمان في دولة ب??ني أمي??ة وب??ني
العباس ،وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخ??ل مص??ر على ه??ؤالء الق??وم
بوفد أوف??دهم إلى الفس??طاط ،ذك??روا عن??ه أن ناس?ا ً من أه??ل مملكت??ه وعبي??ده ب??اعوا
ضياعا ً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان ،وأنها ضيهاعه والق??وم عبي??دة،
وال أمالك لهم ،وإنم??ا تملكهم على ه??ذه الض??ياع تمل??ك العبي??د العملين فيه??ا ف??رد
المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة? أسوان ومن به??ا من أه??ل العلم والش??يوخ ،وعلم
من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها س??تنزع من أي??ديهم ،فاحت??الوا على مل??ك
النوب??ة ب??أن تق??دموا إلى من ابت??اع منهم من أه??ل النوب??ة أنهم إذا حض??روا حض??رة
الحاكم أن ال يقروا لمليكهم بالعبوية ،وأن يقولوا :سبيلنا معاشر المس??لمين س??بيلكم
مع ملككم تجب علينا طاعته وترك مخالفت??ه ،ف??إن كنتم أنتم عبي??داً لملككم وأم??والكم
له فنحن كذلك ،فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أت??وا به??ذا الكالم للح??اكم
أو نحوه مما وقفوا عليه من هذا المعنى ،فمضى البيع لعدم إِقرارهم بالرق لملكهم
صفحة 228 :
إلى هذا الوقت ،وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوب?ة من بالد م??ريس ،وص??ار
النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين :نوع ممن وص??فنا أح??رأر غ??ير عبي??د ،والن??وع
األخر من أهل مملكت??ه عبي??د ،وهم من س??كن النوب??ة في غ??ير ه?ذه البألد المج??اورة
ألسوان ،وهي بالد مريس?.
وقد كانت مل??وك اليون??انيين ومن تالهم من مل??وك ال??روم تعظم ش??أن ه??ذا الج??وهر،
وتفض??له على غ??يره من س??ائر الج??واهر؛ لم??ا اجتم??ع في??ه من الخ??واص العجيب??ة،
والمنافع الكثيرة ،ولخفته في الوزن دون سائر الجواهر المعدنية .وأك??ثر م??ا يوج??د
من ه??ذه األن??واع األربع??ة الع??روق في األرض ،وه??و الم َتن??افس في??ه ،إذا س??لم من
االعوجاج والثقب ،واستقام سلكه ،واستطال ما استدار ،وأدناه ما ينح??ل في معدن??ه
من ال??تراب ويلتق??ط من الطين ،وق??د يوج??د على ظه??ر األرض في ه??ذا المع??دن في
وهاده وجباله وما انخفض وارتفع من أرضه نوع?ان من??ه وهم?ا المغ?ربي واألص??م
المقدم ذكرهما.
وقد يحمل من أرض الهند من بالد سندان ،ونحو كنباية من مملكة البله??ر اص??احب
المانغير المقدم ذكره فيما سلف من هذا الكتاب نوع من الزمرد يلحق بم??ا وص??فناه
من النور والخضرة والشعاع ،إال أنه حجر صلب مما وصفنا ،وأثقل مما ذكرنا ،وال
يفرق بين هذا النوم المحمول من أرض الهند وبين األنواع األربعة المق??دم ذكره??ا، ِّ
إال ذو دراي??ة فطن أو م??اهر في??ه ،وه??ذا الن??وع الهن??دي يعرف??ه أص??حاب الج??وهر
?الملكي ،ألن??ه يحم??ل من أرض الهن??د إلى بالد ع??دن وغيره??ا من س??واحل اليمن،
َ ب?
ويؤتى به م َكة ،فاشتهر بهذا االسم لما وصفنا ،وبان بهذا النعت بعض ذكرنا.
وق??د أتين??ا على مبس??وط? أخب??ار الج??واهر الش??فافة وغيره??ا ووص??ف معادنه??ا على
الشرح واإليض??اح في كتبن??ا أخب??ار الزم??ان ووجت جماع??ة بص??عيد مص??ر،من ذوي
الدراية -ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن ،وعرف هذا النوع من الجوهر الذي هو
الزمرد -يخبرون أن ه??ذأ الزم??رد يك??ثر ويق??ل في فص??ول من الس??نة ،وفي ق??وة من
م??واد اله??واء ،وهب??وب ن??وع من الري??اح األرب??ع ،وتق??وى الخض??رة في??ه والش??عاع
النوري في أوائل الشهر و الزيادة في نور القمر ،وكذلك وجدت في أخبار من عني
أكثر المعادن من الجوهرية وغيرها،أن الكبريت األبيض واألصفر وغيره??ا بمعرفة ّ
من أنواع الكبريت يكثر في معدنه في السنة ال??تي يك??ثر برقه??ا ،وتش??تد ص??واعقها،
على حسب ما أخبرنا به فيما سلف من ه?ذا الكت?اب عن الكف?ور في بالد منص?ورة?،
من أرض الهند أنه يكثر في السنة التي تكثر فيها الصواعق و الرع??ود وأل??برق ،و
أل أن الم َكثار كحاطب ليل ،واإليجاز لمحة دالة ،وح ٌي ص??رح عن ض??مير ،والبالغ??ة
إيضاح بإيجاز ألسهبت في هذا الباب.
وبين هذا الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن هذأ النوع من الج??وهر ،وه??و
الزمرد ،وبين ما اتصل به من العم??ارة وق??رب من?ه? من ال??ديار ،مس??يرة س??بعة أي??ام
وهي قف??ط وق??وص وغيرهم??ا من ص??عيد مص??ر ?،وق??وص راكب??ة للني??ل ،وبين الني??ل
وقفط نحو من ميلين ،ولمدينتي? قفط وقوص أخبار عجيب?ة? في أي??ام عمرانهم?ا وم?ا
كان في أيام األقباط من أخبارهما إال أن مدينة قفط في هذا الوقت متداعية للخراب،
وقوص أعمر ،والناس فيها أكثر.
َو َب َوادي البجة المالكة لهذا المعدن تتصل ديارها بالعالقي ،وهي مع??دن ال??ذهب على
حسب ما قدمنا في هذا الباب ،وبين العالقي والنيل خمس عشرة مرحلة ،وماء أهل
العالقي ما ا ْن َهل َّ من الس??ماء ،ولهم م??اء من عين يس??يل? في وس??ط العالقي ،وأق??رب
العم??ارة إلي??ه مدين??ة أس??وان ،ومنه??ا يس?? ّمى العالقي ،والنوب??ة? متص??لة بتجارته??ا
وقوافلها بمدينة أسوان ،وأهل أسوان مختلطون بالنوبة.
الواحات
ق??ال المس??عودي :وأم??ا بالد الواح??ات -وهي بين بالد مص??ر واإلس??كندرية وص??عيد
مصر والمغرب وأرض األحابش من النوبة وغيرهم -فقد ذكرنا جمأل من أخباره??ا،
وكيفية العمران بها ،والخواص في أرضها ،فيما سلف من كتبنا ،وبها أرض َ
ش? ِّبية?
وزاجية وعيون حامضة وغير ذلك من الطعوم :وص??احب الواح??ات في وقتن??ا ه??ذا-
وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة -عبد الملك بن مروان ،وهو رجل من َل َوات??ة ،إال
أنه مرواني المذهب ،ويركب في ألوف من الن??اس خيالً ورجالً ونجب??ا ،وبين?ه? وبين
األح?ابش نح?و من س?تة أي?ام ،وك?ذلك بين??ه وبين س?ائر م?ا ذكرن?ا من العم?ائر ه?ذا
المقدار من المس?افة ،وفي أرض??ه خ??واص وعج?ائب ،وه?و بل?د ق?ائم بنفس??ه ،غ?ير
متصل? بغيره ،وال مفتق?ر إلي?ه ،ويحم??ل من أرض??ه التم?ر وال?زبيب واألعن?اب ،وق?د
رأيت صاحب هذا الرجل المقيم بالواحات بباب اإلِخشيد محمد بن طغج ،وذلك س??نة?
ثالثين وثلثمائة ،وسألته عن كثير من أخبار بلدهم ،واحتجت أن أعلمه من خواص
أرضهم ،وكذلك ك??ان فعلي م??ع غ??يره في س??ائر األوق??ات ممن لم أص??ل إلى بالدهم،
شب وأنواع الزاج ،وم??ا يحم??ل من بالدهم، وأخبرني هذا الرجل عما بأرضهم من ال ً
وما بأرضهم من أنواع العيون الحامضة ،وغير ذلك من المياه المختلفة الطعوم.
وق??د ذك??ر ص??احب المنط??ق أن ببعض المواض??ع عيون??ا ً حامض??ة يس??تعمل ماؤه??ا
كاستعمال الخل ،وذكر المواضع التي تنبع منها العي??ون الم??رة ،وأن ق??وة مائه??ا في
المرارة ال يخالط شيئا ً إال م?رره ،وأن العل?ة في اختالف ه?ذه الطع?وم في المي?اه أن
األرضين مختلفة مثل مواضع الشب "والمواضع النارية والرمادية ،وذكر األطعم??ة
التي ببالد صقلية المقدم ذكرها إذا خ??الطت الم??اء أفادت??ه طعوم?ا ً مختلف??ة على ق??در
اختالفها وأعداد طعومها.
الجسد وتميته ?،وأن الماء األجاج ينفع من سدد العبد والطحال ،وأن الماء الكبريتي?
ينفع الجراح والقروح العتيقة والحكة؛ والبورقي نافع للحكة والجرب ،وأما القاري
فإن??ه ن??افع من أوج??اع الص??لب والعص??ب ،وم??اء الحدي??د ن??افع من االس??ترخاء في
األحشاء وما بطن من األوعية ،وماء النحاس نافع من الرطوبة والبل??ة الكائن??ة في
الجسد والرأس ،وماء الجص يشنج? المعدة ويقبضها ويكرشها ،وماء الزاج يحبس
الدم ،وماء البحر نافع من البرص ،وقد ذكر جماعة أن??ه ينف??ع من األخالط الفاس??دة
إذا شرب منه اليسر مع دهن اللوز ،وله في البصر أتعاب فظي??ع ،وأن أص??ح المي??اه
لألجس??اد األبيض ال??براق ال??ذي يخ??رج من جب??ال الطين من مش??رق الش??مس نح??و
مغربها ،القابل بسرعة ما يرد إليه من الحر والبرد ،وللناس فيم??ا ذكرن??ا كالم كث??ير
في أنواع المياه وأوصافها ومنافعها ومضارها ،وليس كتابنا هذا موضعا ً له ،وإنما
تغلغل بنا الكالم إلى ذكرها ،وتشعب بنا القول إلى وصفها.
و ُكل ُّ ما ذكرنا من بالد األحابش ما ك??ان من غ??ربي اليمن وج??دة والحج??از مم??ا يلي
بح?ر القل?زم ،فبالد قش?فة ال خ?ير في أرض?ها ،وال ش?يء يحم?ل من س?احلها إال م?ا
وص??فنا من ال??ذبل والنم??ور? وغيرهم??ا ،وك??ذلك م??ا علي??ه من س??احل الش??حر وبالد
األحقاف من ساحل حضر موت إلى عدن ،فبل ٌد ال خصب ألهل??ه في??ه ،وال يحم??ل من
أرضهم في وقتنا إال اللبان ويسمى الكن??در ،وه??ذا البح??ر اتص??اله ب??القلزم وه??و عن
يمين بحر الهند وإن كان الماء متصالً ،وليس في البحار ،وم??ا ذكرن??ا من الخلج??ان
مما احتوى علي??ه البح??ر الحبش??ي ،أص??عب وال أك??ثر حي??االً ،وال أس??هك رائح??ة ،وال
أقحط ،وال أقل خيراً في بطنه وظهره من بحر القلزم ،وسائر البحر الحبشي تقطعه
المراكب في إبان سيرها فيه بالليل والنهار ،إال بحر القلزم ،فإن المراكب تسير? فيه
بالنهار ،فإذا َجنً الليل أرست في مواضع معروفة كالمراح??ل المش??هورة ،والمن??ازل
المعروفة ،لكثرة جباله وظلمته ووحشته ،وليس هذا البحر مما اتص??ل ب??ه من بح??ر
الهند والصين وغيره في شيء ،وهو بالضد من ذلك ،ألن بح??ر الهن??د والص??ين في
قعره اللؤلؤ ،وفي جباله الجواهر ،ومعادن الذهب والفضة والرصاص القلعي ،وفي
أف??واه دواب??ه الع?اج ،وفي منابت??ه اآلبن??وس ،والخ??يزران ،وال َق َن??ا ،وال ّبقم ،والس??اج،
والع??ود ،وأش??جار الك??افور ،والج??وز ،والقرنف??ل ،والص??ندل ،واألفاوي??ه ،والطيب،
والعبر ،وطيوره البباغي البيض والخضر ،واحدها ببغ??ة ،ثم الط??واويس وأنواعه??ا
في صورها واختالفها في الصغر والكبر ومنها ما يكون كالنعام??ة ك??براً ،وحش??رات
أرض الهند الزباد كالسنانير بأرض اإلسالم كثيرة م َت َخذة كالسنور ،وأكثر ما يخرج
من ض??روعها الطيب المع??روف بلبن الزب??اد ،وه??و ن??وع من الطيب عجيب ،ثم م??ا
يظهر في وقت من السنة من جباه الفيلة بأرض الهن??د ورؤوس??ها من الع??رق ال??ذي
هو كالمسك ،والهند تراعي ظه??ور ه??ذا الطيب في الفص??ل من الزم??ان ال??ذي يك??ون
فيه ،فتأخذه وتجعله على بعض أدهانه?ا الطيب?ة ،فيك?ون أغلى طيبه??ا والمس?تطرف?
عندها ،والذي تستعمله ملوكها وخواصها لضروب من المنافع منها طيب الرائحة
صفحة 232 :
والتجمر الذي قد فاق على سائر الطيب عندهم ،وم??ا ي??ؤثر? في اإلنس??ان عن??د ش??مه
الش?? َبق من الرج??ال والنس??اء والطلب للب??اه واالغتالمإي??اه واس??تعماله من ظه??ور َّ
والطرب و ،النشاط واألريحية ،وكثير من فُ َّتاك الهند وشجعانهم يستعمل هذا الدهن
عند اللقاء والحرب ،ألن ذلك عندهم مما يشجع القلب ،ويقوي النفس ،ببعثه??ا على
اإلقدام ،وأكثر ما يظهر هذا الن??وع من الع??رق في جب??اه الفيل??ة في ذل??ك الفص??ل من
السنة في حال اغتل أم??ه ا وهيجانه??ا؛ وإذا ك?ان ذل??ك منه??ا ه??رب عنه?ا س??و أس??ها
و ُر َعاتها ،وال َتفرق بين من تعرف وغيره من الن??اس ،وإذا وج??د الفي??ل م??ا وص??فنا
سلك األودي?ة والجب?ل والغي?اض ،و َن?د عن بل?ده ،وغ?اب عن وطن?ه؛ ف?إذا ق?دم على
النوشان الذي هو الكركدن هرب حينئ??ذ من الفي??ل ،وال يقيم في الموض??ع ال?ذي ه?و
فيه ألن الفيل عن??د ذل??ك بح??ال الس??كران ال يعق??ل وال يم??يز? بين الكرك??دن ال??ذي ك??ان
يخافه قبل ذلك وغيره ،فإذا خرج عن??ه ذل??ك الفص??ل من الس??نة واس??ترجع ع??اد إلى
بلدة على مسيرة? شهر وأكثر من ذل??ك ،وه??و في بقي? ٍة من س? َكره ،فيبقى نح??و ذل??ك
المقدار الذي كان هيجانه فيه عليالً ،وال يكون ذل??ك إال في الفح??ول من الفيل??ة ذوى
الجراءة منها واإلقدام ،وما ذكرنا من ظباء المسك وغير ذلك مما عن??ه أمس??كنا من
عجائبه وخيراته وفيما ذكرنا تنبيه على غيره.
وللهن??د َخ ْطب طوي??ل في ظه??ور ه??ذا الن??وع من الطيب في ه??ذه الحال??ة من الفيل??ة،
والفرق بينه? وبين سائر أنواع الدواب وم??ا يظه??ر من الفي??ل من الج??زع عن??د ورود
صافي ،فإنه يثيره ويكدره ويمتنع? ً المياه من الغدران واألنهار للشرب إذا كان الماء
من شربه حين صفائه ،وإن ذلك يوجد في أكثر الخيل إذا وردت الماء وكان ص??افيا ً
ضربته بأيديها فك َّدرته فتشرب حينئذ ،وتوافق الخي?ل الفيل?ة في المع?نى دون س?ائر
الحيوان ،وإن ذلك لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه ،ولعلها تقصد زول
ذلك عند كدر ما تضربه بأيديها؛ لعدم ظهور الصور فيه في ح?ال الك??در ،وإن اإلب?ل
األغلب فنها يفعل ذلك ،ولمعان غير ذلك مم??ا وص??فنا من أن م??ا عظم من الحي??وان
أع َج َب ْت ُه لعظمها وحسنها وما بان به من إذا رأى صورته منعكسة على صفاء الماء ْ
حسن الهيئة عما دونه -من أن??واع الحي??وان ،وليس ش??يء يفع??ل ذل??ك من الحي??وان
غير ما ذكرنا من الخيل واإلِبل والفيلة ،وإن الفيل -مع عظم جس??مه ولطاف??ة نفس??ه
?دوه من الن??اطقين وغ??يرهم وخف??ة روح??ه وحس??ن تمي??يزه والتفرق??ة بين ولي??ه وع? ُّ
وقبوله الرياض?ة ?-يمتن?ع? من األن?ثى كم?ا تمتن?ع? الن?وق إذا لقحت ،وليس ش?يء من
الس َفاد من اإلناث عند حملها إال الفيلة واإلبل ،وهذا ب??اب إن نحن الدواب يمتنع من ِّ
َت َقص ْي َناه وذكرنا ما فيه طال ب??ه الكت?اب ،وخ??رج عن ح?د االختص??ار واإليج?از .وق??د
أتينا على وصف جميع ذلك في كتاب أخبار الزم??ان وغ??يره من كتبن??ا ،فلن??ذكر اآلن
أنواعا ً من ولد يافث بن نوح ؛ إذ كان قد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب كث??يراً من
ذك?ر األمم م?ع اختالف أل?وانهم ،وتب?اينهم في دي?ارهم ،واختالفهم في أح?والهم ،إن
شاء هللاّ تعالى.
ملوك الصقالبة
فاألول من ملوك الصقالبة مل??ك ال??دير ،ول??ه م??دن واس??عة ،وعم??ائر كث??يرة ،وتج??ار
المسلمين يقصدون دار ملكه بأنواع التجارات.
ثم يلي ه??ذا المل??ك من مل??وك الص??قالبة مل??ك األوانج ،ول??ه م??دن وعم??ائر واس??عة،
وجيوش كثيرة ،وعدد كثير ،ويحارب الروم واإلفرنج والنوكبرد ،وغ??ير ه??ؤالء من
األمم ،والحرب بينهم سِ َجالٌ.
ثم يلي هذا الملك من مل??وك الص??قالبة مل??ك ال??ترك ،وه??ذا الجنس أحس??ن الص??قالبة
صوراً ،وأكثرهم عدداً ،وأشدهم بأساً.
أجناس الصقالبة
والصقالبة أجناس كثيرة ،وأنواع واسعة ،ال يأتي كتابنا ه??ذا على وص??ف أجناس??هم
وتفريع أنواعهم ،وقد قدمنا األخبار عن الملك الذي كان ينقاد إليه ملوكهم في قديم
الزمان ،وهو ماجك ملك ولينان ،وهذا الجنس أصل من أص??ول الص??قالبة ُم َع ّظم في
أجناسهم ،وله قدم فيهم.
?ز َبت أجناس??هم ،ومل??ك ك??لثم اختلفت الكلم??ة بين أجناس??هم ،ف??زال ن??ظ أم??ه م ،وتح? َّ
جنس منهم ملكا ً على حسب ما ذكرنا من مل??وكهم ألم??ور يط??ول ذكره??ا ،وق??د أتين??ا
على جم??ل من ش??رحها وكث??ير من مبس??وطها في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان من األمم
الماضية ?،واألجيال الخالية ،والممالك الداثرة.
ذكر اإلفرنجة والجاللقة وملوكها وما يتصل? بذلك
نسبهم وصفاتهم
اإلِفرنجة والصقالبة والنوكبرد واألشبان ويأجوج ومأجوج والترك والخزر وبرجان
والالن والجاللقة وغير ذلك ممن ذكرن??ا ممن ح??ل الج??دي ،وه??و الش??مال ،ال خالف
بين أهل البحث والنظر من الشرعيين أن جميع من ذكرنا من هؤالء األمم من -ولد
يافث بن نوح وهو األصغر من ول??د ن??وح؛ فاإلفرنج??ة أش??د ه??ؤالء األجن??اس بأس?اً،
وأمنعهم هيب??ة ،وأك??ثرهم ُع??دَ ة ،وأوس??عهم ملك??ا ،وأك??ثرهم م??دناً .وأحس??نهم نظام?ا ً
وانقياداً لملوكهم ،وأكثرهم طاعة؛ إال أن الجاللقة أش??د من اإلفرنج??ة بأس??ا ،وأعظم
منهم نكاية ،والرجل من الجاللقة يقاوم عدة من اإلفرنجة ،وكلم??ة اإلفرنج??ة متفق??ة
على ملك واحد ،ال تنازع بينهم في ذل??ك ،وال تح??زب ،واس??م دار مملكتهم في وقتن??ا
هذا بويرة ،وهي مدينة? عظيمة ،ولهم من المدن نحو من خمسين ومائة مدينة غير
العمائر والكور.
مساكنهم
وك??ان أوائ??ل بالد اإلفرنج??ة قب??ل ظه??ور اإلس??الم في البح??ر جزي??رة رودس ،وهي
الجزيرة ال?تي ذكرن?ا أنه?ا مقابل?ة لإلس?كندرية ،وأن فيه?ا دار ص?ناعة الم?راكب في
وقتنا هذا للروم ،ثم جزيرة إقريطش ،وقد كانت لإلفرنجة أيض?ا ً ففتحه??ا المس??لمون
ونزلوها إلى هذه الغاية ،وكانت بالد إفريقية? وجزيرة صقلية لإلفرنج??ة أيض ?اً ،وق??د
أتينا على أخبار هذه الجزائر وخبر الجزيرة المعروفة بالبركان ،وهي األطم??ة ال??تي
يخرج منها أجسام من النار كأجساد الناس بال رؤوس فتعلو في اله??واء باللي??ل ،ثم
تسقط في البحر فتطفو لحى الماء وهي الحجارة التي يحك بها الكتاب??ة من ال??دفاتر،
وهي خف???اف بيض على هيئ???ة? الش???هد وأك???وار الزن???ابير الص???غار ،وهي األطم???ة
المعروف???ة بأطم???ة ص???قلية ،وفيه???ا ق???بر فرف???وريس الحكيم ال???ذي ص???نف كت???اب
إيس??اغوجي ،وه??و الم??دخل إلى علم المنط??ق ،وه??ذا الكت??اب به??ذا الرج??ل يع??رف.،
وك??ذلك أتين??ا على ذك??ر آط??ام األرض ،كأطم??ة وادي بره??وت من بالد حض??ر م??وت
ش حر ،وأطمة بالد الزابج من بحر الصين ،وأطمة بالد أسك ،وهي ما بين وبالد ال ِّ
صفحة 235 :
بالد فارس وبالد األهواز من أعمال مدينة أرجان من بالد فارس ،وهذه النار ت??رى
بالليل من نحو عشرين فرسخاً ،وهي مشهورة بأرض اإلسالم ،وتفس??ير أطم??ة هي
عين النار التي تنبع? من األرض.
ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر الحمامات الكبريتية? والزاجية ،وال الحمامات ال??تي
تظهر من مائها النار باألطمة ال??تي ببالد ماس??بدان من أرض أريوج??ان والس??يروان
يقال لها النومان وهي أطمة تظهر من وسط مائه??ا الن?ار وهي أطم??ة عجيب??ة تمن?ع?
ورود الماء عن إطفائها ،وتدفعه بشدة قوتها وسلطان لهبه??ا ،وهي إح??دى عج??ائب
العالم؛ إذ كنا قد أتينا على علل جميع ذلك فيما سلف من كتبنا.
وقد أتينا على منافع أنواع المياه بجوامع ذكرناها ،ولمع لوحنا بها ،فيما س??لف من
هذا الكتاب عند ذكرنا ألرض الواحات من بالد مصر ،وإن كنا قد أتينا على مبسوط
ذلك فيما تقد َم من كتبنا.
ملوك اإلفرنجة
إلي بفس??طاط مص??ر س??نة س??ت وثالثين ق??ال المس??عودي ،ووج??دت في كت??اب وق??ع َّ
وثلثمائة? أه??داه عرم??از األس??قف بمدين??ة جري??دة من م??دن اإلفرنج??ة في س??نة ثم??ان
وعشرين وثلثمائة إلى الحكم بن عب??د ال??رحمن بن محم??د بن عب?د هّللا بن محم??د بن
عب??د ال??رحمن بن الحكم بن هش??ام بن عب??د ال??رحمن بن معاوي??ة بن هش??ام بن عب??د
الملك بن مروان بن الحكم ولي عه??د أبي??ه عب??د ال??رحمن ص??احب األن??دلس في ه??ذا
الوقت في عهده :يا أمير المؤمنين ،إن أول ملوك إفرنجة قلودي??ة ،وك??ان مجوس??يا ً
فنصرت ُ?ه امرأته وكان اسمها غرطلة ،ثم ملك بعده ابنه ل??ذريق ،ثم ولي بع??د ل??ذريق َّ
ابنه دقشرت ،ثم ولي بعده ابنه لذريق ،ثم ولي أبع??ده قرط??ان ابن دقش??رت ،ثم ولي
بعده ابنه قارله ثم ولي بعمه ابنه تبين ثم ولي بعده قارل??ة بن ت??بين وك??انت واليت??ه
ستا ً وعشرين سنه ،وكان في أيام الحكم صاحب األندلس ،وق??د ت??دافع أوالده ووق??ع
االختالف بينهم ،ح??تى تف??انت اإلفرنج??ة بس??ببهم ،وص??ار لفري??ق بن قارل??ة ص??احب
?نة وس??تة? أش??هر ،وه??و ال??ذي أقب??ل إلى طرطوش??ةملكهم ،فملك ثمانيا ً وعش??رين س? ً
فحاصرها ،ثم ولي بعده ابنه قارلة بن لذريق وهو الذي َت َه??ادَنَ م??ع محم??د بن عب??د
الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد المل??ك بن
م??روان ،وك?ان محم??د يخ??اطب باإلم??ام ،وك?انت واليت?ه تس?عا ً وثالثين س?نة ،وس?تة
أشهر ،ولي بع??ده ابن??ه ل??ذريق س??تة? أع??وام ،ثم وثب علي??ه قائ??د اإلفرنج??ة المس??مى
نوسة ?،وملك إفرنجة ،وأقام في ملكه ثمان سنين ،وهو الذي ص??الح المج??وس على
بلده سبع سنين بستمائة? رطل ذهب وستمائة رطل فض??ة يؤديه??ا ص??احب اإلفرنج??ة
إليهم ،ثم ولي بعده قارلة بن تقويرة أربع س?نين ،ثم مل?ك بع?ده قارل?ة أخ?ر ،ومكث
إحدى وثالثين سنة وثالثة أشهر ،ثم وليِ بعده لذريق ابن قارلة وهو مل??ك إفرنج??ة
إلى هذا -وهو سنة? اثنتين وثالثين وثالثمائة ?-وقد استوفى في مملكته عش??ر س??نين
إلى هذا التاريخ على حسب ما نمي إلينا من خبره.
قال المسعودي :وأش??د م??ا على األن??دلس من األمم المحارب??ة لهم الجاللق??ة ،كم??ا أن
اإلفرنجة حرب لهم ،غير أن الجاللقة أشد بأساً ،وق??د ك??ان لعب??د ال??رحمن بن محم??د
صاحب األندلس في هذا الوقت وزير من ولد أمية يقال له أحم??د بن إس??حاق فقبض
عليه عبد الرحمن ألمر ك??ان من??ه اس??تحق علي??ه في الش??ريعة العقوب??ة ،فقتل??ه عب??د
الرحمن ،وك?ان لل?وزير أخ يق?ال ل?ه أمي?ة في مدين?ة من ثغ?ور األن?دلس ،يق?ال له?ا
ش?? ْن َت ِرين ،فلم??ا نمي إلي??ه م??ا فع??ل بأخي??ه عص??ى على عب??د ال??رحمن؛افص??ار في
حيزرذمير? مل??ك الجاللق??ة ،فأعان??ه على المس??لمين ،ودل??ه على ع??وراتهم ،ثم خ??رج
أمية في بعض األي??ام من المدين??ة يتص??يد? في بعض منتزهاته??ا ،فغلب على المدين?ة?
بعض غلمانه ومنعوه من الدخول إليها ،وكتبوا إلى عبد الرحمن ،ومض??ى أمي??ة بن
إسحاق أخو الوزير المقتول إلى رذمير ،فاصطفاه ،واستوزره ،وصيره في جملت??ه،
وغزا عبد الرحمن صاحب األندلس سمورة مملكة الجاللقة المتقدم??ة ص??فة بنيانه??ا
وأس??وارها في ب??اب جم??ل األخب??ار عن البح??ار وم??ا فيه??ا وم??ا حوله??ا من العج??ائب
واألمم ومراتب الملوك وأخبار األن??دلس وغ??ير ذل??ك ،وك??ان عب??د ال??رحمن في مائ??ة
ألف أو يزيدون ،فكانت الواقعة بينه وبين رذمير? ملك الجاللقة في شوال سنة س??بع
وعش??رين وثلثمائ??ة بع??د الكس??وف ال??ذي ك??ان في ه??ذا الش??هر بثالئ??ة أي??ام ،وك??انت
للمس??لمين عليهم ،ثم أن??ابوا بع??د أن حوص??روا وأولج??و إلى المدين??ة فقتل??وا من
المسلمين -بعد عبورهم الخندق -خمسين ألفاً ،وقيل :إن الذي منع رذم??ير من طلب
من نج??ا من المس??لمين أمي??ة بن إس??حاق ،وخوف??ه الكمين ،ورغب??ه فيم??ا ك??ان في
معس??كر المس??لمين من األم??وال والع??دد والخ??زائن ،ول??وال ذل??ك ألتى على جمي??ع
المس??لمين ،ثم إن أمي??ة بع??د ذل??ك اس??تأمن إلى عب??د ال??رحمن ،وتخلّص من رذم??ير،
فقبله عبد الرحمن أحسن قبول ،وقد ك?ان عب?د ال??رحمن ص?احب األن?دلس بع??د ه??ذه
تج َّه َز عس?اكر م?ع ع?دة من ق?واده إلى الجاللق??ة ،وك?انت لهم معهم ح??روب الواقعة َ
هل??ك فيه??ا من الجاللق??ة ض??عف م??ا قت??ل من المس??لمين في الوقع??ة األولى ،وك??انت
للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية ،ورذمير ملك الجاللقة إلى هذا الوقت -وه??و س??نة?
اثنتين وثالثين وثلثمائة -وكان قبله على الملك أردون وك??ان قب??ل أردون أذبوش??ن،
والجاللقة واإلفرنجة تدين بدين النصراني ِة على رأى الملكية.
جاورهم من بالد األندلس والمغرب غلبوهم على مدن كثيرة من مدنهم مث??ل مدين ?ة?
باري ومدينة? طارنيو ومدينة? شبرامة? وغيرها من مدنهم الكبار.
ثم إن النوكبرد أنابوا ورجعوا على من كان في تلك المدن من المسلمين فأخرجوهم
عنه??ا بع??د ح??رب طوي??ل ،وم??ا ذكرن??ا من الم??دن في وقتن??ا ه??ذا -وه??و س??نة اثن??تين
وثالثين وثلثمائة ?-في أيدي النوكبرد.
قال المسعودي :ومن ذكرنا من الجاللقة واإلفرنجة والص??قالبة والنوك??برد وغيره??ا
ب أله??ل األن??دلس ،وص??احب األن??دلس من األمم فديارهم متقاربة ،واألكثر منهم َح? ْر ٌ
في هذا الوقت ذو َم َنعة وقوة عظيمة على ما قدمنا من نسبه? وأخباره ،وقد كان عبد
الرحمن بن معاوي??ة بن هش??ام س??ار إلى األن??دلس في أول دول??ة ب??ني العب??اس ،ول??ه
أخبار كثيرة في كيفية وصوله إلى األن??دلس ،ودار مملك??ة األن??دلس قرطب??ة على م??ا
ذكرنا ،ولهم مدن كثيرة وعمائر متصلة واسعة ،وثغور في أطراف أرضهم ،وربم??ا
يجتمع عليهم من جاورهم من األمم من ولد يافث من الجاللقة وبرج??ان واإلِفرنج??ة
صاحب األندلسى في هذا الوقت يركب في مائة ألف ،وه?و ذو وغيرها من األلسن و َ
هّللا
َم َن َعة بالرجال والمال وال ُكراع والعدد ،و أعلم.
ذ َك َر جماعة ذوي العناية بأخبار العالم أن ال ُم ْل َك ُي?ؤ َثر من بع?د ن?وح في ع?اد األولى
التي بأدت قبل سائر ممالك العرب كلها ،ومصداق ذلك قوله ع?ز وج?ل :وأن?ه أهل?ك
عادأ األولى فإنه ي?دل على تق?دمهم ،وأن هن?اك ع?ادأ ثاني?ة ،وأخ?بر هّللا عن ملكهم،
ونطق بشدة بطشهم ،وم??ا بن??وه من األبني?ة? المش??يدة ال??تي ت??دعى على من ال??دهور
ِئة ،وقد أخبر هّللا تع??الى عن ق??ول نبي?ه? ه??ود -علي??ه الس?الم وخطاب??ه إي??اهم" :
العاد َ
أتبن??ون بك??ل ري??ع آي??ة تعبث??ون ،وتتخ??ذون مص??انع لعلكم تخل??دون ،وإذا بطش??تم
جبارين".
وعاد أول من مل??ك في األرض في ق??ول ه??ذه الطائف??ة ،بع??د أن أهل??ك هللا ع??ز وج??ل
الكفار من قوم نوح ،وذلك لقوله تعالى :واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح،
وزادكم في الخلق بسطة وذلك أن هؤالء القوم كانوا في هيأت النخل ط?وال ،وك?انوا
في اتصال األعمار وطولها بحسب ذلك من القدر ،وكانت نفوس??هم قوي??ة ،وكب??ادهم
غليظة ،ولم يكن في األرض أمة هي أش?د بطش?ا وك?ثر آث?ارا وأق?وى عق?وال وأك?ثر
أحالما ً من ق?وم ع?اد ،ولم يكن الهل?ك يع?رض في أجس أم?ه م ،لق?وة آث?ار الطبيع?ة
فيها ،وما أوتوه من الزيادة في تمام البنية وكم?ال الهيئ?ة? على حس?ب م?ا أخ?بر هللا
عز وجل.
وكان عاد رجال جباراً عظيم الخلقة ،وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن ن??وح،
وكان عاد يعبد القمر ،وذكروا أنه رأى من صلبه أربعة آالف ولد ،وأنه تزوج أل??ف
امرأة ،وكانت بالدة متصلة ب??اليمن ،وهي بالد األحق??اف ،وبالد ص??حاري هي وبالد
عمان إلى حضر موت على حسب ما قدمنا آنفا ً فيما س??لف من ه??ذا الكت??اب وغ??يره
من كتبنا.
وقد ذ َك َر جماعة من اإلخباريين -ممن عني بأخبار العرب -أن عادا لما توسط العمر
واجتمع له الول??د وول?د الول??د ،ورأى البطن العاش?ر من ول?ده ،وظه?ور الك??ثرة م??ع
?رى الض??يف ،وأحوال??ه تش??ييد? المل??ك واس??تقامة األم??ر ،غم??ر إحس??انه الن??اسَ ،و َق? َ
منتظمة ،والدنيا عليه مقبلة ،فعاش ألف سنة ومائتي سنة ثم مات.
وكان الملك بعده في األكبر من ولده ،وهو شديد بن عاد وكان ش??ديد بن ع?اد ملك?ه
خمسمائة? سنة وثمانينَ سنة ،وقيل غير ذلك.
ثم ملك بعده أخوه شداد بن عاد وكان ملكه تسعمائة سنة ،و ُيقال :إنه احت??وى على
سائر ممالك العالم ،وهو الذي بنى مدينة? أرم ذات العماد ،على حسب ما قدمنا فيم??ا
سلف من كتبنا عند إخبارنا عن ه??ذه المدين?ة? وتن??ازع الن??اس في كيفته??ا وماهيته??ا
وفي أي بالد هي.
وهذه عاد الثانية التي ذكرها هّللا تعالى فقال" :لم تر كي??ف فع??ل رب??ك بع??اد أرم ذات
العماد" وإلى هذه األمة انتهى البطش ،ولشداد بن عاد مسير? في األرض ،وط??واف
في البالد وب??أس عظيم في ممال??ك الهن??د وغيره??ا من ممال??ك الش??رق والغ??رب،
وحروب كث?يرة ،أعرض?نا عن ذكره??ا لش?رط االختص?ارَ ،و ُم َع ّولن??ا في ذل?ك على م?ا
س ْطناه من أخبارهم في كتاب أخبار الزمان :من األمم الماضية ،واألجيال الخالي??ة، َب َ
والممالك الداثرة وسنورد فيما يود من هذا الكتاب -عند ذكرن??ا تف??رق الن??اس بباب??ل
وتشعب األنساب ،وما قالوا في ذلك من األشعار -جمالً من أخبار عاد ونبيها ه??ود،
فأما تنازع الناس ممن س?لف وخل?ف في العل?ة ال?تي له?ا عظمت أجس?ادهم وط?الت
أعمارهم فقد أتينا على ذكر ذلك في كتابنا المترجم ب الكتاب ال??رؤوس الس??بعة من
السياسة الملوكية وكذلك في كتابنا المترجم ب -كتاب الزلف.
وذكرنا العلة التي لها من أجلها عدم كون الس??باع والجم??ال ب??أرض األن??دلس ،وم??ا
يتكون في ه??ذه األرض من الج??واهر في نباته??ا ومعادنه??ا ،وم??ا في أرض جليقي??ة،
وإلى هذه األرض أضيفت مملكة الجاللقة المقدم ذكرها فيما سلف من ه??ذا الكت??اب،
وهم أش??د األمم على أه??ل األن??دلس ،وأعظمهم بطش??ا ً ممن ج??اورهم ،ثم يليهم في
الناس أمة عظيمة الملك يقال لها الوشكنش ،على حسب ما ق??دمنا من ذك??رهم فيم??ا
سلف من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا مما تقدم تأليف هذا الكتاب.
قد ذكرنا فيما سلف من ذكر ثم??ود ونبيه??ا ص??الح علي??ه الس??الم لمع??ا ،و إن كن??ا ق??د
بسطنا ذلك في غير هذا الكتاب ،وكان ملك ثمود بن عابر بن أرم بن س??ام بن ن??وح
بين الشام والحجاز إلى ساحل البح??ر الحبش??ي ،ودي??ارهم ِب َف َج الناق??ة ،وبي??وتهم? إلى
وقتنا هذا أبنية منحوتة في الجبال ،ورسمهم باقية وآثارهم بادية ،وذلك في طري??ق
الحاج لمن َو َردَ من الشام ب?القرب من وادي الق?رى ،وبي?وتهم منحوت?ة في الص?خر
بأبواب صغار ،ومساكنهم على قدر مساكن أهل عص??رنا ،وه??ذا ي??دل على أن أجس
أمه م على قمر أجسامنا ،دون ما يخبر ب??ه القص??اص من بع??د أجس أم??ه م ،وليس
هؤالء كعاد؛ إذ كانت آثارهم ومواضع مساكنهم وبني??انهم ب??أرض الش??حر ت??دل على
بعد أجسأمه .
و كان ملك المل??ك األول من مل??وكهم م??ائتي س??نة ،وه??و ع?ابر بن أرم بن ثم??ود بن
عابر بن أرم بن سام بن نوح.
ثم ملك بعده جندع بن عمروبن الذبيل بن أرم بن ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن
نوح ،وكان ملكه إلى أن هلك مائتي سنة وتسعين س??نة ،وهل??ك جن??دع ه??ذا بع??د أن
كان من أمر صالح النبي صلى هللا عليه وسلم ما كان على م??ا ذكرن??ا أربعين س??نة،
فجميع ما ملك هذا الملك -وهو جندع -ثلثمائة? وسبع وعشرون سنة ،فهؤالء ملوك
ثمود?.
وبعث هّللا صالحا ً نبيا ً وهو غالم َحدَ ث لثمود على حين ف??ترة ك??انت بين??ه وبين ه??ود
نحو من مائ??ة س??نة ،ف?دعاهم إلى هللا ،وملكهم يومئ??ذ ه?و جن?د ابن عم?رو على م??ا
ذكرنا ،فلم يجب صالحا ً من قومه إال نف??ر يس??ير ،وك??بر ص??الح ،ولم ي??زد قوم??ه من
اإلِيم??ان إال ُب ْع? داً ،فلم??ا ت??واتر عليهم أع??ذاره وإن??ذاره ووع??ده س??اموه المعج??زات،
وإظهار العالمات ،ليمنعوه من دعائهم ،وليعجزوه عن خطابهم ،فحض??ر عي??داً لهم،
وقد أظهروا أوثانهم ،وكان القو ُم أص??حاب إب??ل ،فس??اموه اآلي??ة من جنس أم??والهم،
وطالبوه بما هو مجإنس ألمالكهم ،وذل??ك من بع??د ا َتف??اق آرائهم فق??ال ل??ه زعيم من
زعمائهم :يا صالح ،إن كنت صادقا ً في قولك ،وأنك ُم َع ِّبر عن ربك ،ف??أظهر لن??ا من
ش? َراء َن ُتوج?ا ً حالك??ة ص??افيه الل??ون ذات
هذه الصخرة ناقة ،ولتكن َو ْب َراء س??وداء ُع َ
عرف وناصية وشعر ووبر ،فاستغاث بربه ?،فتحركت الصخر وتململت ،وب??دا منه??ا
َحنِين وأنين ،ثم انص??دعت من بع??د تمخض ش??ديد كتمخض الم??رأة حين ال??والدة،
ب له??ا نحوه??ا س ْق ٌ
وظهر منها ناقة على ما طلبوه من الصفة ،ثم تالها من الصخرة َ
في الوصف ،فأ ْم َع َنا في َر ْعي الكأل وطلب الماء والمرعى ،فآمن خلق ممن حضره،
وزعيمهم الذي سأله وهو جندع بن عمرو ،وأقامت الناقة يحلبون من لبنها م?ا يعم
شربه? ثموداً كلها ،وضايقتهم في الكأل والماء ،وكان في ثمود مرآتان َذ َوا َتا حسن
صفحة 240 :
وفيهم يقول حباب بن عمرو ،وكان ممن اعتزلهم من المؤمنين وبان عن ديارهم:
ار
إن ُيضام لهم في الناس مِنْ َج ِ عـز ومـكـرمة ما كانت ثمود ذوي ّ
َو ْق َع السيوف ،وال نزعا ً بـأوتـار ال يرهبون من األعداء حـولـهـم
قد أنفروها وكانوا غـير أبـرار لـر َبـهـم
َ فأهلكوا ناقة كـانـت
هل للعجول وهل للسقب من ثـار ب بـينـهـم الس ْق ِ
ناعوا قداراً ولحم ِّ
وأخفروا العهد هَذبا ً أي إخفار لم َي ْر َع َيا صالحا ً في عقر ناقته
َفش ّدخوا روسهم شدْ خا ً بأحجار فصادفوا عنده من ربه َح َرسا
وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب -عند ذكرنا لتفرق الن??اس بباب??ل -من أخب??ار ثم??ود
ُج َمالً ،وما كان من أمر الن?اس ب?أرض باب?ل واف?تراق لغ?اتهم ،وم?ا قال?ه ك?ل فري?ق
منهم من الشعر ،على حسب ما أعطاه هّللا من اللسان ،وان كنا قد أتين??ا على ش??رح
ذلك على الكمال فيما تقدم لنا من كتابنا أخبار الزمان و باهلل التوفيق.
فيممت العم??اليق نح??و تهام??ة يطلب??ون الم??اء والم??رعى وال??دار الخص??يبة ،عليهم
السميدع بن هوبر بن الوى بن قيطوربن كرك??ر بن حي??دان ،فلم??ا أمعنت بن??و كرك??ر
في المسير ?-وقد عدمت الماء والمرعى ،واشتد بها الجهد -أقبل السميدع بن ه??وبر
شعر له ويشجعهم بما قد نزل بهم ،وهو:ٍ يحثهم على السير في
وق??د ك??ان إب??راهيم اس??تأذن س??ارة في زي??ارة إس??ماعيل ،ف??أذنت ل??ه ،ف??وافى مك??ة
وإسماعيل في الصيد والرعي ومعه أمه هاجر ،فسلم على الجداء بنت س??عد زوج??ة
إسماعيل ،فلم تر َّد عليه السالم ،فقال :ه??ل من م??نزل .فق??الت :ال ه??ا هّللا ،ق??ال :فم??ا
يفعل رب البيت؛ قالت :هو غائب ،فقال لها :إذا ورد فأخبريه? أن إب??راهيم يق??ول ل??ك
بعد مسألته عنك وعن أمك :استبدل بعتبة بيتك غيرها ،وانصرف إبراهيم من َف ْوره
نحو الشام ،وراح إس??ماعيل وه??اجر ،فنظ??ر إلى ال??وادي ق??د أش??رق وأن??ار ،والغن??ام
تتنسم? اآلثار ،فقال لزوجته الجداء :هل كان ل??ك بع??دي من خ??بر؛ ق??الت :نعم ،ش??يخ
َو َردَ علي ،وأخبر ْت ُ?ه بالقص??ة ،فق??ال :ذاك أبي خلي??ل ال??رحمن ،وق??د أم??رني بتخلي??ك،
فالحقِي بأهلك ،فال خير فيك.
ْ
أبناء إسماعيل
وول??د إلِس??ماعيل اثن??ا عش??ر ول??داً ذك??راً ،وهم ن??ابت ،وقي??دار ،وأدبي??ل ،ومبس??مٍ ،و
مشمع ،ودوما ،وع??وام ،ومس??ا ،وح??داد ،وثيم??ا ،ويط??ور ،ون??افش وك??ل ه??ؤالء ق??د
سلَ.أ ْن َ
بناء الكعبة
وقد كان إبراهيم قدم إلى مكة وإلسماعيل ثالثون س?نة ?،حين أم?ره هّللا تع?الى ببن?اء
البيت ،فبناه ،وكان إسماعيل ي??أتي ب??الحجر من ع?دة جب?ال ذك??رت ،وطول??ه ثالث??ون
ذراعا ،والحجر فيه وهو س?بعة أف??رع ،وعرض??ه اثن??ان وعش?رون ذراع?ا ،وس?مكه
?ع ال??ركن موض??عه ،وألص??ق المق??ام سبعة أفرع ،وجعل ل??ه باب?اً ،ولم يس??قف ،ووض? ِ
ت وإس?ماعِيل"ُ إب?راهِي ُم ال َق َواعِ? دَ مِنَ ال َب ْي ِ
"وإِ ْذ َي ْرف? ُع َ
بالبيت ،وذلك قوله ع?ز وج?لَ :
اآلية ،وأمر هّللا تعالى إبراهيم أن يؤ ِّذنَ في الناس بالحج.
الر َعاف والنمل وغير ذلك من اآلف?ات فهل??ك كث??ير منهم ،وك??ثر ول??د هّللا على جرهم ُّ
إس??ماعيل وص??اروا ذوي ق??وة و َم َن َع??ة َف َغ َلب??وا على أخ??والهم ج??رهم وأخرج??وهم من
مكة ،فلحقوا ب ُجهينة ?،فأت??اهم في بعض اللي??الي الس??يل ف??ذهب بهم ،وك??ان الموض??ع
الصلت الثققي في شعر له فقال: يعرف بإضم ،وقد ذكر ذلك أمية بن أبي َّ
ضم
فسالت بجمعهم إ َ وجرهم دمنوا تهامة في الد هر
ثم صارت والية البيت في ولد أياد بن نزار بن معد ،وكانت حروب كثيرة بين مضر
وأياد ،وكانت لمضر على إياد ،فانجلوا عن مكة إلى العراق.
وسنورد بعد هذا جمالً من أخبار مكة وولد نزار و ُخزاعة وغيرهم.
والعم??اليق ووب??ار وج??رهم ،ولم يب?ق من الع??رب إال من ك?ان من ع?دنان وقحط?ان،
ودخ??ل من بقي ممن ذكرن??ا من الع??رب البائ??دة في ع??دد قحط??ان وع??دنان ،ف??انمحت
أنسابهم وزالت آثارهم.
العماليق
هّللا
وقد كانت العم??اليق َب َغ ْت في األرض ،فس??لط عليهم مل??وك األرض فأفنته??ا ،وق??د
ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرن??ا لل??روم وأنس??ابها َمنْ ألح??ق ول??د عمالق
وغ??يرهم ،ممن ذكرن??ا ،بول??د عيص??و بن إس??حاق بن إب??راهيم عليهم??ا الس??الم ،وأن
علماء الع??رب تنس??بهم? إلى غ??ير ه??ذا النس??ب ،وه??و األش??هر في الن??اس؛وق??د رثتهم
الشعراء :فقال بعض من رثاهم:
والفو نخوة متـشـاوس مضى آل عمالق فلم يبق منهـم خطير
هذا وعده وهو سائس َع َت ْوا فأدال هّللا منهم ،وحكـمـه على الناس
طسم وجديس-
وأما طسم وجديس فتفانت في نحو من سبعين سنة في البراري ،بما كان بينهم من
ال َّ
ش ْحناء ،وطلب الرياسة ،فدثروا ،ولم يبق لهم باقية ،فض??ربت بهم الع??رب المث??ل،
وضربت بهم الشعراء المقال فمن ذلك ما قاله بعض الشعراء ممن رثاهم في قوله:
ذويلي من َج َوى هم رسيس من األول َ
لط ْس ٍم أو جديس
األح ِّم العيطمـوس
بنو عم تفانوا بالمـذاكـي وباليوم َ
أصحاب الرس
َ
الرس وأصحابه فق??د ق??دمنا ذك??رهم فيم??ا س??لف من كتبن??ا ،وهم ق??وم َح ْنظل??ة بن
ُّ أما
صفوان العبسي ،بعثه هّللا إليهم فك??ذبوه ،وق??د ذكرن??ا من خ??بره لمع??ا ،وق??د قي??ل في
أصحاب الرس أو ُج ٌه كثيرة غير ما ذكرنا في هذا الكت??اب ،وق??د ذك??رت ه??ذه القبائ??ل
في التوراة ،وكل يرجع إلى ولد سام بن نوح ?.من ب?ني أرم بن س?ام وه?و من ول?ده
عوص بن أرم ،ومن ولده عابر بن أرم ،ومن ولده ماش بن أرم.
البييط
فولد عوص عاد بن عوص ،وولد عابر ثمود بن عابر ،وولد ماش بن أرم نبيط بن
ماش؛فسائر النبط وملوكها ترجع في أنسابها إلى نبيط بن ماش.
طسم بن لود بن سام بن نوح وولده اليمامة مع بني? ج??ديس، إلى هذا الوقت ،وحل ْ
وحل عمليق بن لود بن سام بن نوح الحجاز ،وقد ذكرنا ول??د عيالم فيم?ا س?لف من
هذا الكتاب أنهم حلوا األهواز وفارس ،وهو عيالم بن سام بن نوح ،وحل نبي??ط بن
ماش بن أرم بن سام بن نوح بابل ،فغلب?وا على الع?راق ،وهم النب?ط ،ومنهم مل?وك
باب??ل ال??ذين ق??دمنا ذك??رهم ،وأنهم المل??وك ال??ذين عم??روا األرض ،ومه??دوا البالد،
?ز ،فص??اروا على وكانوا أشر ملوك األرض ،فأدال منهم الدهر ،وسلبهم المل??ك والع? َّ
ما هم عليه من الذل في هذا الوقت بالعراق وغيرها.
دعوى الشعوبية
وق???د زعم جماع???ه من المتكلمين -منهم ض???رار بن عم???رو وثمام???ة? بن األش???رس
وعمرو بن بحر الجاحظ -أن النبط خير من العرب،ألن من جع??ل هّللا تب??ارك وتع??الى
النبي صلى هللا عليه وسلم منهم لم َيدَ ْع أكبر شرف في الدنيا إال وقد أعط??اهم إي?اه،
و َمنْ لم يجعله منهم فلم ياع أكبر شرف في الدنيا إال وقد أعراهم منه وسلبهم إياه،
وال نعمة على من جعل هّللا تعالى النبي عليه السالم منهم أكبر من الن??بي ص??لى هللا
عليه وسلم ،وال َب ْل َوى على من لم يجعل هّللا عز وج??ل الن??بي ص?لى هللا علي??ه وس??لم
منهم أكبر من خروج النبي صلى هللا علي??ه وس??لم عنهم ،إال أنهم م??ع ه??ذا كل??ه لهم
عند هّللا فضل ما بين النعمة والبالء.
الثواب أم على طريق التفضيل؛ قال :إًن زعم زاعم أن ذلك ثواب خ??رج من معق??ول
كالم العرب ومفهوم خطابه??ا؛ألن??ه ال يق??ال لمن أعطى األج??ير أجرت??ه وو ّفى العام??ل
ثوابه ?:قد اختص فالن فالنا بعطيته ،وإنما يقال ذلك إذا تط??وع علي??ه بالعطي??ة بغ??ير
ضل ٌ قلنا لهم :فإذا جاز أن يص??رف? عمل ومنعها غيره بغير جرم ،وإن زعموا أنه تف ُّ
هّللا ع??ز وج??ل رحمت??ه إلى بعض خلق??ه بغ??ير عم??ل اس??تحقوها ب??هَ ،فلِ َم ال يج??وز أن
يشرفهم بأنسابهم ،وإن لم تكن األنساب من أعمالهم .فإن قالوا :ليس من الع??دل أن
يشرفهم بغير أعمالهم ،قلنا لهم :رأيتكم إن عارض??كم ُم َع? ارض؛ف??زعم أن??ه ليس من
الع??دل أن يمن عليهم برحمت??ه دون غ??يرهم بغ??ير عم??ل ك??ان منهم ،وبغ??ير معص??ية
كانت من غيرهم ،ماذا يكون الفصل بينكم معاش??ر الش??عوبية وبين??ه ،وق??د أخ??بر هّللا
عمن اصطفاه من خلقه فقال" :إن هّللا اصطفى آدم ونوحا ً وال إبراهيم وآل عم??ران
على العالمين ،ذرية بعضها من بعض ،وهّللا سميع عليم" .
وال??واجب على في النس??ب الش??ريف ،والمج??د الرفي??ع ،أن ال يجع??ل ذل??ك س??لما ً إلى
ال??تراخي عن األعم??ال الموافق??ة لنس??به ،واالتك??ال على آبائ??ه؛ف??إن ش??رف األنس??اب
يحضر على شرف األعمال ،والشريف بهذا أولى؛إذ كان الشرف يدعو إلى الش??رف
وال يثبط عنه كما أن الحسن يدعو إلى الحسن ويحرك عليه وأكثر الممدوحين إنم??ا
مدحوا بأعمالهم دون أنسابهم ،وهذا كثير في أشعار الناس ومنثور كل أمه م ،وق??د
قال الشاعر في هاشم بن عبد من?اف وه?و إم?ام ذوي األنس?اب :عم?ر وال?ذي ه َ
َش? َم
اف فمدحه بعمله ،ولم يذكر نسبه ?،وإن كان عِج ُ
ون َإلثريد لقومه ورجال مكة ُم ْس ِن ُت َ?
شريفأ رفيعاً ،وإنما ينبغي لذي األنس??اب أن يكون??وا كم??ا ق?ال أخ??وهم وش??ريكهم في
النسب عامر بن الطفيل:
والضريح? ال ُم َه َّذب
ِ وفي السر منها ت ا ْبنَ سيد عـامـر وإني وإن ُك ْن ُ
أسـ ُمـو بـأم وال أبهللا أن ْ س َّودَت ِني? عـامـر عـن وراثة أبى فما َ
وأرمي َمنْ رماها بمقنـب ولكننني أحمي حماهـا ،وأتـقـي أذاها
وكما قال األخر:
ساب نتكل لسنا وإن كرمت أوائلنـا يوما ً على ْ
األح َ
نبني? كما كانت أوائلـنـا تبني ،ونفعل كالذي فعلوا
والية خزاعة أمر البيت
قال المسعودي:
ولما خرج عمرو بن عامر وول??ده من م??أرب انخ??زع بن??و ربيع??ه ،ف??نزلوا تهام??ة،
اعة النخزاعهم ،ولما ثارت الحرب بين أي??اد ومض??ر اب??ني ن??زار ،وك??انت فس ُموا َ
خز َ
على إي??اد قلعت الحج??ر األس??ود ودفنت??ه في بعض المواض??ع ،ف??رأت ذل??ك ام??رأة من
ُخ َزاعة ،فأخبرت قومها ،فاشترطوا على مض??ر أنهم إن َرفُ??وا الحج??ر جعل??وا والي??ة
البيت فيهم ،فوفوا لهم بذلك ،ووليت ُخ َزاعة أم??ر ال?بيت ،وك?ان أول من ولي?ه منهم
عمرو بن لُ َح ًي ،واسم لحي حارثة بن عامر ،فغير دين إبراهيم وب َّدله ،وبعث العرب
على عبادة التماثيل؛ لخبر قد ذكرناه في هذا الكتاب وغ??يره ،حين خ??رج إلى الش??ام
ورأى قوما ً يعبدون األصنام ،فأعطوه منها صنمأ فنصبه على الكعبة ،وقويت
صفحة 248 :
ُخ َزاعةَ ،و َع َّم الناس ظلم عمرو بن لحي ،وفي ذلك يقول رجل من ُج? ْ
?رهُم ك??ان على
دين الحنيفية:
إنها َبـ َلـ ٌد حـرام يا عمرو ال تظلم بمكة
وكذاك ُت َخترم األنـام بعـا ٍد أين هُـم
سائل َ
السـوام
َ لهم بها كان بني العاملـيق الـذين
النسء والنسأة
النسأة في ب??ني مال??ك بن كنان??ة ،وك??ان أولهم أب??وَ والنسء للشهور ال ُح ْر ُم ،،وكانت
القلمس حذيفة بن عبد ،ثم ولده قلع بن حذيفة وورد اإلس??الم وآخ??رهم أب??و ثمام??ة،
وذل??ك أن الع??رب ك??انت إذا ف??رغت من الحج وأرادت الص??در اجتمعت إلي??ه ،فيق??وم
فيهم ،فيقول :اللهم إني ؤ أحللت أحد الض َف َر ْي ِن الصفر األول ،وأنس??أت األخ??ر للع??ام
المقبل ،وظهر اإلسالم وقد عادت الشهور الحرم إلى َبدْ ِئ َها على م??ا ك??انت علي??ه في
أصلها ،وذلك قول النبي صلى هللا عليه وسلم :أال إن الزمان قد استدار كهيئته ي??وم
خلق هللا الس??موات واألرض وم?ا ذك??ر علي?ه الص?الة والس??الم في ه??ذا الح?ديث إلي
آخره ،فأخبر هللا عز وجل عنهم بذلك بقوله تعالى" :إن َما ِ
النس ?ىء ِز َي??ا َد في الكف??ر-
اآلية" ،وقد َف َخر بذلك عمير بن قيس بن ِج ْذل الط َعان فق??ال :ألس??نا الناس??ئين علـى
مـعـد شهور الحل نجعلها حراما.
وقد كان قصى بن كالب بن مرة تزوج ابنة حلي?ل ،وحلي?ل ه?و آخ?ر من ولي ال?بيت
من ُخ َزاعة ،وقد كان عمرو بن لحي -حين ُع ِّمر ما ذكرنا من السنين -مات وله من
الولد وولد الولد ألف ،ولم??ا حض??رت حليال الوف??اة -وه??و آخ??ر من ولي ال??بيت من
ُخ َزاعة -وقد كان عمرو على ما ذكرنا جعل والية ال??بيت إلى -ابنت?ه? زوج قص??ى بن
كالب ،فقيل له :إنه?ا ال تق?وم بفتح الب?اب َو َغ ْلقِ?هِ ،فجع?ل والي?ة ال?بيت إليه?اَ ،و َف ْتح
شان الخزاعي ،فباعه أبو غبش??ان وغ ْلقه إلى رجل من ُخزاعة يعرف بأبي َغ ْب َ الباب َ
س? ُر من ص??فقة إلى قص??ي ببع??ير? وزق خم??رة فأرس??لت الع??رب ذل??ك مثالً ،فق??الت ْ
أخ َ
شان وفي بيعه لوالية البيت ببعير وزق من الخمر َو َن ْقله والي??ة ال??بيت من قوم??ة َغ ْب َ
من ُخ َزاعة إلى قصي بن كالب ،يقول الشاعر:
وقد كانت والية البيت في خزاعة ثلثمائة? سنة ،واس??تقام أم??ر قص??ي ،و َع َّ
ش ?را على
َمنْ دخل مكة من غير قريش ،وبني الكعبة ،ورتب قريش?ا ً على منازله??ا في النس??ب
األبطحيئ من قريش ،وهم األباطح ،وجعل الظاهري ظاهرياً.
َ بمكة َو َب َّينَ
قريش البطاح
?زي بن وق??ريش البط??اح :هي قبائ??ل عب??د من??اف ،وب??ني عب??د ال??دار ،وب??ني عب??د ال ُع? َ
وعلي ،وهم َل َع َق??ة ال??دم،
َّ قصي ،و ُزهْ رة ،ومخزوم ،و َت ْيم بن م??رة ،و ُج َمحَ ،
وس ? ْهم،.
وبنو عتيك بن عامر بن لُؤي.
قريش الظواهر
وقريش الظواهر :بنو محارب ،والحارث بن فهر ،وبنو األعرم بن غ??الب بن فه??ر،
للض? َّحاك
وبنو هصيص بن عامر بن لؤي ،وفي ذلك يقول ذكوان م?ولي عب?د ال?دار َ
بن قيس الفهرى:
إلى نسب في قومه متقـاصـر ت للضحاك حتى َر َر ْر ُتـه? تطاو ْل ُ
َ
قريش البطاح ال قريش الظواهر فلو شاهَدَ ْتني من قريش عصـابة
فقبحت من حامي فمار وناصـر ت شـاهـدا وأصبح ُ
ْ ولكنهم غابوا
ومنهم فريق ساكن بالمشـاعـر فريقان منهم سكن بطـن يثـرب
صفحة 250 :
األحالف والمطيبون
واألحالف من قريش :بنو عبد الدار بن قصي ،وسهم ،و ُج َمح ،وعلي ،ومخزوم.
وال ُم َط ِّيبون :بنو عبد مناف ،وبنو أسد بن عبد ال ُع َزى ،و ُزهْ رة ،وتيم ،وبنو? الحارث
بن لؤي.
وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعه المخزومي في امرأة :ولها في المطيبـين جـدود
ثم نالت فوائب األحـالف
إنها بين عامر بـن لـؤي حين ُتدْ عى وبين عبد مناف
وأخ??ذت ق??ريش اإليالف من المل??وك ،وتفس??ير ذل??ك األمن ،و َت َقرش??ت ،والتق??رش:
شوا ال??ذ ُنوب علينـا في ح??ديث مِنْالجمع ،ومنه قول ابن ِحلِّزة اليشكري :أخوة َقر ُ
دهر َنا و قديم
ِ
رحلت ق??ريش -حين أخ??ذ له??ا اإلِيالف من المل??وك -إلى الش??ام والحبش??ة واليمن
والعراق ،وفي ذلك يقول َم ْطرود الخزاعي :يا أيها الرجل ال ُم َح َؤل َر ْحله هالَ َ
ن??ز ْل َت
بآل عبد منـاف
الع ْهدَ من آنافـنـا والرا ِحلِينَ ِب ِر ْح َلة اإليالف
اآل ِخذِينَ َ
ولقريش أخبار كثيرة ،وكذلك لج??رهم وخزاع??ة وغيرهم??ا من مع??د ،وق??د أتين??ا على
جميعها فيما سلف من كتبنا ،وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً.
تنبيها ً بها على ما سلف ،وسنورد عند ذكرنا تفرق الناس من بابل جمالً من أخب??ار
هللا.
مكة وعبد المطلب والحبشة ،وغير ذلك مما لحق بهذا المعنى ،إن شاء ّ
الشام
ب وآك??ام ،وريح وغم??ام ،وغ??دق و ُرك??ام ،ت??رطب األجس??ام ،وتول??د فس? ُح ٌ
أم??ا الش??ام ُ
األحالم ،وتصفي األلوان ،ال سيما أرض ِح ْمص فإن تحسن الجسم ،وتصفي الل??ون،
وتبلد اللهم ،وتنزح? غوره ،وتجفي الطبع ،وتذهب بماء القريحة ،وتنص??ب العق??ول،
والشام -يا أم??ير المؤم??نين ،وإن ك?انت على م?ا وص?فت ل?ك -فهي َم ْس? َرح? خص??ب،
واط َردت أنه??اره ،وغم??رت أعش??اره ،وب??ه من??ازل س ? ْكب ،ك??ثرت أش??جارهَّ ،
وواب??ل َ
األنبي??اء ،والق??دس المجت??بى ،وفي??ه َح?? ل َّ أش??راف خل??ق هّللا تع??الى من الص??الحين
والمتعبدين ،وجباله مساكن المجتهدين والمنفردين?.
مصر
وأما أرض مصر فأرض َق ْو َراء َغ? ْ
?و َراء ،دي??ار الذراعن??ة ،ومن??ازل الجب??ابرة ،تحم??د
بفضل نيلها ،و َذ ّمها أكثر من حم??دها ،هواؤه??ا راك??د ،وحره??ا زائ??د ،وش??رها وارد،
تك??در األل??وان ،وتخبب الفطن وتك?ثر اإلِحن وهي مع?دن ال?ذهب والج?وهر والزم?رد
واألموال ،ومغارس ال َغالَّت ،غير أنها تسمن األبدان وتس??ود األبش??ار ،وتنم??و فيه??ا
األعمار ،وفي أهلها مكر ورياء ،وخبث ودهاء وخديعة ،إال أنها بل??د مكس??ب ال بل??د
مسكن؛ لترادف فتنها ،واتصال شرورها.
اليمن
وأم??ا اليمن فيض??عف األجس??ام ،وي??ذهب األحالم ،وي??ذهب بالرطوب??ة ،في أهل??ه همم
كبار ،ولهم أحساب وأخطارَ ،م َغايضه ح ْ
ِص َبة ،وأطرافه َجدْ ب??ة ،وفي هوائ??ه انقالب،
وفي س???كانه اغتي???ال ،وبهم قطع???ة من الحس???ن ،وش???عبة من الترف???ه و فق???رة من
الفصاحة.
الحجاز
وأم??ا الحج??از فح??اجز بين الش??ام واليمن والته??ائم ،ه??واؤه َح? رور ،وليل??ه بهف??ور،
ينحف األجسام ،و ُيج َفف األدمغة ،ويشجع القلوب ،ويبسط الهم ،ويبعث على اإلِحن
وهو بلد َم ْحل َق ْحط َجدب َ
ض ْنك.
المغرب
قس??ي القلب ،وي??وحش الطب??ع ،و ُيطِ يش اللُّ َّب وي??ذهب بالرحم??ة،
وأم??ا المغ??رب ف ُي ِّ
ويكسب الشجاعة ،ويقشع الضراعة ،وفي أهله غ??د ْمر ،ولهم خبث ومك??ر ،دي??ارهم
مختلفة ،وهممهم غير مؤتلفة ،ولديارهم في آخر الزمان نبأ عظيم ،وخطب جس??يم،
من أمر يظهر ،وأحوال تبهر.
العراق
سرة األرض وقلبها ،إليه تحادرت المياه ،وبه اتص??لت وأما العراق فمنار الشرق ،و ُ
النضارة ،وعنده وقف االعتدالَ ،ف َ
صفت أمزجة أهله ،ولطفت أذهانهم ،واح َت َدت
صفحة 252 :
الجبال
وأما الجب??ال فتخش??ن األجس??ام وتغلظه??ا ،وتبل??د األفه??ام وتقطعه??ا ،وتفس??د األحالم،
وتميت? الهمم؛لم??ا هي علي??ه من غل??ظ الترب??ة ،ومتان??ة اله??واء ،وتكاثف??ه ،واختالف
َم َهابه ،وسوء متصرفاته?.
واألخالق والصور -يا أم??ير المؤم??نين -تناس??ب البل??د وتحاذي??ه ،وتقارب??ه ،وتوافق??ه
وتضاهيه ?،وكل بلد اعتدل هواؤه ،وخف ماؤه ،ولط??ف غ??ذاؤه -ك??انت ص??ور أهل??ه
س علي??ه بنيان?ه?أس? َ
وخالئقهم تناسب البلد وتحاذيه ،وتشاكل ما عليه أركان??ه ،وم??ا ِّ
وكل بلد يزول عن االعتدال ،انتسب أهله إلى سوء الحال.
خراسان
وأما خراسان فتكبر الهام؛ وتعظم األجسام؛ وتلط??ف األحالم ،وألهله??ا عق??ول وهمم
طامحة؛ وفيهم َغ ْوص وتفكير؛ ورأي وتقدير?.
فارس
وأما بلد فارس فخصب الفضاء ،رقيق الهواء ،متراكم الماءُ ،م ْع َت ّم باألشجار ،كث??ير
الثمار ،وفي أهل??ه ش??ح ،ولهم خب ؛ وغرائ??زهم س??يئة ?،وهمهم دنيئ??ة ،وفيهم مك??ر
وخداع.
خوزستان
وأم??ا بالد خوزس??تان فهي َك?? د َِرة األه??واء ،تفس??د األحالم ،وتبل??د اإلفه??ام ،وتخبث
س ْو َق األنعم ،وهم ال َه َم ُج ال َّط َغام.
الهمم ،وتستأصل? الكرم ،يساق أهله َ
الجزيرة
ج ،وألهله?ا وس? ْر ٌ
وأما أرض الجزيرة فتناسب البر بالهواء اللطي?ف ،وفيه?ا خص?ب َ
بأس ومراس.
والبر -يا أمير المؤم??نين ?-أفض??ل قط??ع األرض وأس??ناها ،وأش??رفها وأعاله??ا ،نح??و
األنج??اد والته??ائم ،لحماي??ة اله??واء األق??ذاء عن س??كانه ،ودفع??ه اآلف??ات عن قُ َّطان??ه،
?وى ،وته??ذيب الم??اء ،وص??حة ال ُم َت َنس??م ،وارتف??اع األك??دار ،وذه??ابوس??ماحة الم ْث? َ
األضرار.
واعلم -يا أمير المؤمنين -أن هّللا تبارك وتعالى قس??م األرض أقس??اما َف َّ
ض ?ل بعض??ها
على بعض ،فأ ْف َ
ضل ُ أقس أمه ا العراق ،فه??و س??يد اآلف??اق ،وق??د س??كنه أجي??ال وأمم
ذوو كمال.
الهند والصين
وأما الهند والصين وبالد الروم فال حاجة بي إلى وصفها لك ،ألنها منازل شاس??عة،
وبلدان نائية ،كافرة طاغية.
رت إلى علمه ،وكل ما وصفته في ه??ذه ش َف َ
وفي الذي ذكرته لك ما أشفى بك إلى ما َ
البل??دان فه??و األعم من أم??ور أهله??ا ،واألغلب على أح??والهم ،ف??إن وج??د فيهم أح??د
بخالف ذلك فهو النادر يا أمير المؤمنين ،والحكم في ذلك لألغلب.
كعب األحبار يصف لعمر العراق
قال المسعودي :وذكر جماعة من أهل العلم بالس??ير واألخب??ار أن عم??ر بن الخط??اب
رض??ي هللا عن??ه لم??ا أراد الش??خوص إلى الع??راق -حين بلغ??ه م??ا علي??ه األع??اجم من
الجمع ببالدهم -سأل كعب األحبار عن العراق ،فقال :يا أمير المؤم??نين ،إن هّللا لم??ا
خلق األشياء ألحق كل شيء بشيء ،فقال العق??ل :أن??ا ال ح??ق ب??العراق ،فق??ال العلم:
وأنا معك ،فقال المال :وأنا الحق بالشام ،فق??الت الفتن :وأن??ا مع??ك ،فق??ال الخص??ب:
وأنا الحق بمصر ?،فقال ال?ذل :وأن?ا مع?ك ،فق?ال الفق?ر :وأن?ا الح?ق بالحج?از فق?الت
القناعة :وأنا معك فقال الشقاء :وأنا الحق بالبوادي ،فقالت الصحة :وأنا معك.
األق?دار من ف?راق ه?ذا المص?ر ال?ذي عن بقعت?ه فص?لنا ،وفي قاعت?ه تجمعن?ا ،لكن?ه
الزمن الذي شيمته? التشتيت ،والدهر الذي من شروطه اإلبانة ولقد أحسن أبو دلف
العجلي حيث يقول:
س َبا في شرقها والمغارب أيادي َ نك َب َة الدهر التي َط َّو َح ْت بنـا
أيا ْ
إليها تناهت َرا ِج َعات المصائب قِفِي بالتي َن ْه َوى فقد طِ ْرت بالتي
وللنف??وس في عل??ة حنينه??ا إلى األوط??ان كالم ليس ه??ذا موض??عه ?،وق??د ذكرن??اه في
كتابنا المترجم بسر الحياة وفي كتاب طب النفوس.
فضل الكتاب
وبعد؛فإنه يوصل به كل كالم ،ويتزين? به في كل مقام ،ويتجم??ل ب??ه في ك??ل مش??هد،
ويحتاج إليه في كل محفل ،ففضيلة علم األخبار بينة? على كل علم ،وش??رف منزلت??ه
ص??حيح في ك??ل فهم ،فال يص??بر على فهم??ه وتيقن م??ا في??ه ،وإي??راده وإص??داره إال
إنسان قد تجرد له ،وفهم معناه ،وذاق ثمرته ?،واستسفر من غرره ونال من
صفحة 255 :
سروره ،وقد قالت الحكماء :الكتاب نعم الجليس ،ونعم الذخر ،إن شئت ألهتك ن??واد
ش َج ْت َك مواعظه ،وإن شئت تعجبت من غ??رائب رده ،وأضحكتك بوادره ،وإن شئت أ ْ
فوائدة ،وهو يجمع لك األول واألخر والغائب والحاضر والناقص وال??وافر والش??اهد
والغائب والبادي والحاضر ،والشكل وخالفه ،والجنس وضده ،وهو ميت ينطق عن
وينام بنوم??ك ،وال ينط??ق
ِ ش ُط بنشاطك، الموتى ،ويترجم عن األحياء وهو مؤنس َي ْن َ
ف ،وال رفيق?ا ً أط??وع ،وال معك إال بم??ا ته??وى ،وال نعلم ج??ارأ أب??ر ،وال خليط?ا َ أ ْن َ
ص? َ
معلم?ا ً أخض??ع ،وال ص??احبا ً اظه??ر كفاي??ة ،وأق??ل خيان??ة ،وال أج? َدى نفع?اً ،وال أحم??د
أخال َق?ا َ وال أق?ل خِالف?أ وال أع?وم س?روراً ،وال أس?كت غيب?ة ،وال أحس?ن مواف?اة وال
أعجل مكافأة ،وال أخف مؤنه? من??ه إن نظ??رت إلي??ه أط??ال إمتاع??ك ،وش??حذ طباع??ك،
وأيد فهمك ،وأكثر علمك ،و َت ْع ِرف منه? في شهر ،ما ال تأخ??ذه من أف??واه الرج??ال في
ده??ر .،ويغني??ك عن ك??د الطلب ،وعن الخض??وع لمن أنت أثبت من?ه? أص?الً ،وأس??مح
فرعاً ،وهو المعلم الذي ال يجفوك ،وإن قطعت عنه المائدة ،لم يقطع عن??ك الفائ??دة،
وهو الذي يطيع??ك ِباللي??ل طاعت??ه ل??ك بالنه??ار ،ويطيع??ك في الس??فر كطاعت??ه ل??ك في
الحضر ،وقد قال هللا تبارك وتعالى " :اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق اإلنس??ان من
علق ،اقرأ ورب??ك األك??رم،ال??ذي ًعلّ َم ب??ال َق َلمَ ،علّم اإلِنس??ان م??ا لم َي ْع َلم" فوص??ف عن
نفسه أنه علم بالقلم كإخباره عن نفسه بالكرم ،وفي ذلك يقول بعض أهل األدب:
وقد كان عبد هّللا بن عبد -العزيز بن عبد هّللا بن عمر بن الخطاب ال يجالس الناس،
أر
ونزل مقبرة ،وكان ال ُي َرى إال وفي يده كت?اب يق??رؤه ،فس?ئل عن ذل?ك ،فق?ال :لم َ
واعظا ً أوعظ من قبر ،وال ممتعا ً أمتع من كتاب ،وال ش??ي َئا َ أس??لم من الوح??دة ،فقي??ل
له :قد جاء في الوحدة ما جاء،فق?ال :م??ا أفس?دها للجاه??ل وق??د ق?ال بعض الش??عراء
فيمن يجمع الكتب وال يعلم ما فيها:
وبحر الروم بقوله ع??ز وج??لَ " :و َج َع? ل َ بين البح??رين ح?اجزاً" وإنم??ا س??مي الع??راق
عراقأ لمصب المياه إليه كالدجلة والفرات وغيرهما من األنهار ،وأظنه م??أخوذاً من
عراقي الدلو وعراقي القربة.
ومنهم من زعم أن اليمن يم إنما س??مي يمن?ا ً ليمن??ه ،والش?ام ش?اما ً لش??ؤمه ة وه?ذا
قول ُيعزى إلى قُ ْطرب النحوي في آخرين من الناس.
ومنهم من رأى أنه إنما سمي اليمن يمنا ً ألن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل َت َيا َمنَ
بعضهم يمين الشمس وهو اليمن ،وبعضهم تشاءهم فوسم له هذا االس??م ،وس??نذكر
تفرق هذه القبائل من أرض بابل بع??د ه??ذا الموض??ع ،وبعض م?ا ق?الوه في ذل??ك من
الشعر ،عند مسيرهم في األرض واختيارهم البقاع.
وقيل :إنما س??مي الش??ام ش??اما ً لش??امات في أرض??ه بيض وس??رد ،وذل??ك في ال??تراب
والبقاع والحجر وأنواع النبات واألشجار ،وهذا قول الكلبي.
وقال الشرقي بن القطامي :إنما سمي الشام شاما ً بسام بن نوح ،ألنة أول من نزل??ه
و َق َطن فيه ،فلما سكنته العرب تط ّيرت من أن تقول سام ،فقالت :شام.
سا َمرا إنما سميت بذلك إضافة إلى سام.
وقيل :إن َ
وقيل :إن أول من سكنها من خلفاء بني العباس سماها به??ذا االس??م ،وإنه??ا س??رور
لمن رآها.
وقد ذكر في أسماء هذه المعاقل و البقاع واألمصار .وجوه غير ما ذك??رت ق??د أتين??ا
عليها فيما سلف من كتبنا.
اختلف الن??اس في أنس??اب قحط??ان؛ فحكى هش??ام بن الكل??بي عن أبي??ه والش??رقي بن
القطامي أنهم?ا كان?ا ي?ذهبان إلى أن َق ْح َط? انَ بن الهميس?ع? بن نبت -وه?و ن?ابت -بن
إسماعيل بن إبراهيم الخليل ،ويحتج??ان ل??ذلك بوج??وه من األخب??ار .ومنه??ا م??ا روي
عن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،وه??و م??ا رواه هش??ام عن أبي??ه عن ابن عب?اس،
ورواه الهيثم عن الكل??بي عن أبي ص??الح أن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم م??ر على
فتية من األنصار يتناضلون ،فقال .ارموا ي??ا ب??ني إس??ماعيل ف?إن أب?اكم ك??ان رامي??أ،
ارموا وأنا مع ابن األعرع رجل من خزاعة ،فرمى القوم نبالهم .وقالوا :ي??ا رس??ول
ضل َ !! فقال ارموا وأنا معكم جميعأ.هللا ،من كنت معه فقد َن َ
قال المسعودي :وسائر ولد قحطان من حمير وكهالن يأبى هذا الق??ول وينك??ره وق??د
ثبت أن قحطان يقطن ،وإنما ُعرب فقيل له :قحطان.
وحكي ابن الكلبي ،أن اسم يقطن في التوراة الجبار بن عابر بن ش?الخ بن إرفخش?ذ
بن سام بن ن??وح ،والواض??ح ،من أنس??اب اليمن ،وم?ا ت?دين ب??ه كهالن وحم??ير ابن??ا
قحطان إلى هذا الوقت قوال وعمال ،وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير
والذي وجدت عليه التواريخ القديمة? للعرب وغيرها من األمم ،وعليه وجدت األكثر
صفحة 257 :
من ش??يوخ ول??د قحط??ان من حم??ير وكهالن ب??أرض اليمن والته??ائم واألنج??اد وبالد
ض َر َم? ْ?وت َو األحق?اف وبالد عم??ان وغيره??ا من األمص??ار أن الص??حيح في نس??ب
َح ْ
قحطأن أنه قحطان بن عابر بن شالخ بن سالم -وه??و قين??ان -ابن إرفخش??ذ بن س?ام
بن نوح ،وقد كان لعابر ثالثة أوالد :فالغ ،وقحطان ،وملكان ،والخضر عليه السالم
من ولد ملكان في قول كثير من الناس ،وولد لقحطان أحد وثالثون ذك??راً ،و أم??ه م
َح ّي بنت روق بن ق??زارة بن منق??ذ بن س??ويد بن ع??وص بن أرم بن س??ام بن ن??وح،
فولد قحطان يعرب بن قحطان ،وولد يعرب يش??جب ،وول??د يش??جب ول??دين ،أح??دهما
عبد -وهو سبأ بن يشجب -وإنما سمي سبأ لسبيه? السبايا ،فولد سبأ حم??ير وكهالن
ابني سبأ ،والثاني لم يعقب ،وإنما العقب من ولد هذين -وهم??ا حم??ير وكهالن؛فه?ذا
المتفق عليه عند أهل الخبرة بهما ،والمتيقن لديهم.
وكان الهيثم بن عمي الطائي ينكر أيضا ً أن يكون قحطان من ول??د إس??ماعيل ،وإنم??ا
إسماعيل تكلم بلغة جرهم؛ ألن إسماعيل كان سرياني? اللس??ان على لغ??ة أبي??ه خلي??ل
الرحمن حين أسكنه هو و أمه ه??اجر بمك??ة على م??ا ذكرن??ا ،فص??اه ََر ج??رهم ،ونش??أ
على لغتها ،ونطق بكل أمه ا و َق َفا في ُم َراده خطابها.
?رهم ،ويقول??ون :إن هللا ع??ز وج??لونزار تأبى أن يكون إس??ماعيل نش??أ على لغ??ة ُج? ْ
أعطاه هذه اللغة ،وذل??ك أن إب??راهيم خلف??ه ه??و و أم??ه ه??اجر ،وإس??ماعيل ابن س??ت
عش??رة س??نة ،وقي??ل :ابن أرب??ع عش??رة س??نة ،في واد غ??ير ذي زرع ،وال أنيس،
وعلّم إسماعيل هذه اللغة العربية?. فحفظها هللا تعالى ،وأتبع لها زمزمَ ،
قالوا :ولغة جرهم غير هذه اللغة ،ووجدنا لغة ولد قحطان بخالف لغة ولد نزار بن
معد ،فهذا يقضي? بإبطال قول من قال :إن إسماعيل أعرب بلغ??ة ج??رهم ،ول??و وجب
ش ِئه? فيها لوجب أن تك??ون أن يكون إسماعيل إنما كان عربي اللسان ألجل جرهم و َن ْ
لغت??ه موافق??ة للغ??ة ج??رهم ،أو لغ??ير ممن ن??زل مك??ة ،وق??د وج??دنا قحط??ان س??رياني
اللسان ،وولده يعرب بخالف لسانه ،وليس منزل??ة يع??رب عن??د هّللا أعلى من منزل??ة
إسماعيل ،وال منزل قحطان أعلى من منزلة إبراهيم خليل الرحمن فيمن??ع إس??ماعيل
فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان.
ولولد نزار وولد قحطان َخ ْطب طويل ومناظرات كثيرة ال يأتي علي كتابنا ه??ذا ،في
التنازع والتفاخر باألنبي??اء والمل??وك ،وغ?ير ذل?ك مم??ا ق?د أتين?ا على ذك?ر ج َم??ل من
ح َِجاجهم وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف ،وكذلك من??اظرات الس??ودان
والبيضان والعرب والعجم ومناظرات الشعوبية? في كتابنا أخبار الزمان.
وزعم الهيثم بن ع??دي أن ج??رهم بن ع??ابر بن س??بأ بن يقطن ه??و قحط??ان وت??أول
الهيثم قول النبي صلى هللا عليه وسلم -حين قال للرماة من األنصار ،ارموا يا بني
إسماعيل -أنه عليه السالم نسبهم إلى إسماعيل من جهة ال أمه ات ،وما نالهم من
صفحة 258 :
الوالدات من ولد إسماعيل؛ ألن النبي صلى هللا عليه وس??لم ال يزي??ل نس??با ً ق??د ثبت،
وال يثبت نسب قوم إلى غير آبائهم ،وقد نقلوا ذلك قوال وعمال وقد روي عنه صلى
س? َبأ :أرجال ك?ان أو ام?رأة أو وادي?ا أو هللا عليه وسلم أن سائال سأله مِنْ ُم َراد عن َ
جبالً .فق??ال ل??ه :ك??ان رجالً ،ول??د ل??ه عش??رة فتش??اءم أربع??ة وتي??امن س??تة :فال??ذين
سان ،والذين تيامنوا حمير واألزد و َم? ْ?ذ َحج وكنان??ة تشاءموا لخم وجذام وعاملة و َغ َّ
وخ ْث َعم.
واألشعريون وأنمار الذين هم بجيلة َ
وقال أبو المنذر :هو أنمار بن إي??اد بن عم??رو بن الغ??وث بن نبت بن مال??ك بن زي??د
بن كهالن بن سبأ.
ق??ال المس??عودي :وق??د تن??وزع في نس??ب أنم??ار؛ف??ذهب األك??ثر إلى أن أنم??اراً وإي??اداً
وربيعه? ومضر بنو نزار بن معد بن عدنان ،وإنما دخل??وا في اليمن فأض??يفوا إليهم،
وما ذكرناه عن النبي صلى هللا عليه وسلم فيمن تيامن وتشاءم فمن أخبار اآلح??اد،
وليس مجيئه مجيء االستفاضة التي يقطع بها العذر ويثبت بها الحكم.
وللناس في هؤالء كالم كثير ،وقد ذكر هشام عن أبيه الكلبي قال :كان يق??ال لس??ائر
الس َبئِيون ،ولم تكن لهم قبائل تجمعهم دون سبأ.
ولد سبأ َّ
وسنذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب خ??بر عم??رو بن ع??امر مزيقي??اء ،وخ??بر طريف??ة
?رم والس??يل،
الكاهنة ،وخبر عمران الكاهن ،وهو أخو عمرو بن عامر ،وأخب??ار ال َع? ِ
?أر َب ،ومن
وما كان من كهانتهما في أمر السد وسيل الع??رم ،وتف??رق القبائ??ل من م? ِ
سراة والشام وغير ذلك من بقاع األرض. ش ُنوءة وال ً
لحق ب ُع َمان و َ
حمير
أشج َع الناس في وقته،
َ ثم ملك بعده ولده حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ،وكان
وأفرسهم ،وأكثرهم جماالً ،وكان ملكه خمسين سنة وقيل :أكثر من ذلك ،وقيل :أقل
وكان يعرف بالمتوج وكان أول من وضع على رأسه تاج الذهب من ملوك اليمن.
كهالن
ثم ملك بعده أخوه كهالن بن سبأ ،فطال عمره ،وك??بر س??نه واس??تقامت ل??ه األم??ور،
وكان ملكه ثلثمائة سنة ،وقيل غير ذلك.
ثم عاد الملك بعد أن هلك كهالن إلى ولد حم??ير؛ ألخبار يط??ول ذكره??ا ،وتن??ازع في
الملك بين ولد حمير .وكهالن.
عمرو بن سبأ
ثم مل??ك أب??و مال??ك عم??رو بن س??بأ ،واتص??ل ملك??ه ،وغم??ر الن??اس عدل??ه وش??ملهم
إحسانه ،وكان ملكه ثلثمائة? سنة?.
قول آخر
وقيل :إن أول من ملك بعد كهالن الرائش ،وهو الحارث بن شداد.
ثم ملك جبار بن غالب بن زيد بن كهالن ،فكان ملكه عشرين ومائة سنه.
ثم ملك بعده الحارث بن مالك بن إفريقس بن صيفي بن يشجب بن سبأ ،وكان ملكه
مائة سنة? ونحو أربعين سنة ?،وقيل :إن هذا الملك هو أبرهة بن ال??رائش المع??روف
بذي المنار.
ذو األذعار
ثم ملك بع??ده اله??داهاد بن ش??رحبيل بن عم??رو بن ال??رائش ،وق??د تن??وزع في مق??دار
ملكه؛فمنهم من رأى أنه عاش عشر سنين ،ومنهم من ذكر سبعاً ،ومنهم من ق??ال:
ستا.
تبع األول
ثم مل??ك تب??ع األول ،وك??ان ملك??ه أربعمائ??ة س??نة ،وذك??ر كث??ير من الن??اس أن بلقيس
قتلته ،وقيل غير ذلك ،واألشهر ما قدمنا.
بلقيس وسليمان
ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد ،وكان لمولدها خ??بر ظري??ف ذكرت??ه ال??رواة فمي??ا
روي أنه تصور ألبيها في بعض َق َنصِ ه? َح َّي َتان سوداء وبيضاء ف?أمر بقت?ل الس??وداء
منهما،؛وما ظهر له بعد ذلك من شيخ وشاب من الجن ،وأن الش??يخ زوج??ه بابنت??ه?،
واشترط عليه شروطا ً لها ،فعلقت منه? ببلقيس ،ونقض تلك الشروط المأخوذة عليه
لها ،فغابت عنه ،في خبر ظريف ،وهو موجود في كتاب أخبار التبابعة.
وإنما نحكي هذه األخبار على حسب ما وجدناه في كتب األخباريين وعلى حسب ما
توجبه الشريعة والتسليم لها ،وليس .قصدنا من ذلك وصف أقاويل أصحاب الق??دم،
ألنهم ينكرون هذا ويمنعونه ?،وإنما نحكي في ه??ذا الكت?اب أقاوي??ل أص??حاب الح?ديث
المنق??ادين للش??رع والمس?لِّمين للح??ق ،وأخب??ار الش??ياطين على حس??ب م??ا نط??ق ب??ه
الكتاب المنزل على الن?بي المرس?ل ،وم?ا ق?ارن ذل?ك من ال?دالئل الدال?ة على ص?دقه
صلى هللا علية وس??لم ،وإعج??از الخليق??ة أن ي??أتوا بمث??ل ه??ذا الق??رآن ال??ذي ال يأتي??ه
الباطل من بين يديه وال من خلفه.
وكان ملك بلقيس عشرين ومائة سنة ،وكان من أمرها مع سليمان عليه السالم م??ا
ذكر هّللا عز وجل في كتابه ،وم??ا اقتص من خ??بر الهده??د ،وم??ا اقتص من أمرهم??ا،
فملك سليمان اليمن ثالثا ً وعشرين سنة?.
سنة ،وقتله يوسف ذو نواس ،وكان من أبناء الملوك ،خوفا ً على نفسه ،وأ َن َفة أن
يفسق به?.
ثم ملك بعده يوسف ذو ن??واس بن زرع??ة بن تب??ع األص??غر بن حس??ان بن كليك??رب،
وقد ذكرنا خبره في غير هذا الموض??ع من كتبن??ا ،وم??ا ك??ان من أم??ره م??ع أص??حاب
األخدود ،وتحريقه إياهم بالنار ،وهم الذين خبر هللا تع??الى عنهم في كتاب??ه فق??ال" :
قت?ك أص?حاب األخ?دود ،الن?ار ذات الوق?ود" و إلي?ه ع?برت الحبش?ة من بالد ناص?ع
والزيلع ،وهو ساحك الحبشة على حسب ما ذكرنا ،إلى بالد غالفقة من ساحل زبيد
من أرض اليمن ،فغرق يوسف نفسه بعد حروب طويلة خوفا ً من العار؛ وكان ملكه
مائتي سنة وستين سنة ،وقيل أق?ل من ذل?ك ،وذل?ك أن النجاش?ي مل?ك الحبش?ة لم?ا
بلغه فعل ذي نواس بأتباع المسيح? عليه السالم ،وما يعذبهم ب??ه من أن??واع الع??ذاب
والتحريق بالنار بعث إليه الحبشة وعليهم أرب??اط بن أص??حمة فمل??ك اليمن عش??رين
سنة?.
و سنورد فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب قص??ه الحبش??ة وورودهم الح??رم وم??ا ك??ان من
أمرهم في ذلك.
قال :وفي طريق العراق إلى مكة -وذلك بين الثعلبية والهبير نح?و البط?ان -موض?ع
يع??رف بق??بر العب??اعيَ ،ت ْرجم??ه الم??ارة إلى ه??ذه الغاي??ة كم??ا ت??رجم ق??بر أبي ُر َغ? ال،
وللعباعي خبر ظريف قد أتينا على ذكره في كتاب أخبار الزمان وفي كت??اب ح??دائق
األذهان وفي أخبار أهل البيت رضي هّللا عنهم.
فك??ان مل??ك أبره??ة على اليمن إلى أن هل??ك بع??د أن رج??ع من الح??رم وق??د حس??قطت
أنامله وتقطعت أوصاله حين بعث هّللا عليه الطير األبابيل ثالثا ً وأربعين سنة?.
وكان قدوم أصحاب الفيل مكة يوم األحد لس??بع عش??رة ليل??ة خلت من المح??رم س??نة
ثمانمائ??ة واثن??تين وثالثين س??نة لالس??كندر وس??ت عش??رة س??نة وم??ائتين من ت??اريخ
العرب الذي أوله حجة الغدر.
وسنذكر بعد هذا في الموضع المستحق ل??ه من ه??ذا الكت??اب جمالً من ت??اريخ? الع??الم
وتاريخ األنبياء والملوك ،في باب ُن ْفرده لذلك إن شاء هّللا تعالى.
ثم ملك اليمن بعد أبرهة األشرم ولده يكسوم ،فع ًم أذاه سائر اليمن ،وكان ملك??ه إلى
أن هلك عشرين سنة?.
مسروق بن أبرهة
روق بن أبره??ة ،فاش??تدت وطأت??ه على اليمن ،وعم أذاه س??اير مس?? َ?
ثم مل??ك بع??ده ِ
?زن ،وك??ان س??يف النأس ،وزاد على أبيه وأخيه في الذي ،وك??انت أم??ه من آل ذى َي? َ
بن ذي َي َزن قد ركب البحار ،ومضى إلى قيصر يستنجلى ،فأقام بباب??ه س??بع س??نين،
فأبى أن ُي ْن ِج??د ،وق??ال :أنتم يه??ود ،والحبش?ة? نص??ارى ،وليس في الديان??ة أن ننص??ر
المخالف على المواف??ق ،فمض??ى إلى كس??رى أن??و ش??روان فاس??تنجده و َم َّت إلي??ه
يت به??ا إلي.؛ بالقرابة ،وسأله النصرة ،فقال له كسرى :وم??ا ه??ذه القراب??ة ال??تي أدْ َل َ
الج ِبلة وهي الجلدة البيضاء ؛إذ كنت أقرب إليك منهم ،فوع?ده أن?و فقال :أيها الملك ْ
شروان بالنصرة على السودان وشغل بحرب الروم وغيرها من األمم ،ومات سيف
بن ذي يزن ،فأتى يعلى معد يكرب بن سيف ،فصاح على باب الملك ،فلما سئل عن
ميراث ،فوقف بين يدي أنو ش??روان ،فس??أله عن ميراث??ه?، ٌ حاله ،قال :لي َق َبل الملك
فوج َه مع??ه َوهْ? ِرز
فقال :أنا ابن الشيخ ال??ذي وع??ده المل??ك بالنص??رة على الحبش??ةَّ ،
إص ? ِب ْه ِب َذ ال??ديلم في أه??ل الس??جون ،فق??ال " إن فتح??وا لن??ا ،وإن هلك??وا فلن??ا ،وكال
ْ
الوجهين َف ْت ٌح ،فحملوا في السفن في دجلة ومعهم خيولهم ،وعددهم وأموالهم،
صفحة 263 :
حتى أتوا أبلّة البصرة -وهي ف??رج البح??ر ،ولم يكن حينئ??ذ بص??رة وال كوف??ة ،وه??ذه
م??دن إس??المية ?-فركب??وا في س??فن البح??ر ،وس??اروا ح??تى أت??وا س??احل حض??ر م??وت
ب ،فخرجوا من الس??فن ،وق??د ك??ان أص??يب بعض??هم في البح??ر، بموضع? يقال له َم ْث َو ُ
فأمرهم َوهْ ِرز أن يحرقوا السفن ليعلموا أنه الموت ،وال وج??ه يؤمل??ون ال َم َف? َّ
?ر إلي??ه
?ف في ?وب أ ْل? ٌ فيجهدون أنفسهم ،وفي ذلك يقول رجل من حضر موت :أصبح في َم ْث? َ
ال ُج َنـنْ من رهط ساسان ورهط مهرسن ليخرج??وا الس??ودان من أرض اليمن دله ُم
ذويزن في شعر له طويل ،ونما خبرهم إلى ملك اليمن مس??روق بن َ َقصـد الـسـبـيل
أبرهة ،فأتاهم في مائة ألف من الحبشة وغيرهم من حمير وكهالن ومن س??ائر من
وتصاف القوم ،وكان مسروق على في?ل َ عظيم ،فق??ال وه??رز َ سكن اليمن من الناس
لمن كان معه من الفرس :اصدقهم الحملة ،واستشعروا الصبر ،ثم تأمل ملكهم وقد
نزل عن الفيل فركب جمالً ،ثم نزل عن الجمل فركب فرساً ،ثم أنف أن يحارب على
فرس فركب حماراً ،استصغارأ ألصحاب السفن ،فقال َوهْ ِر ُز " ذهب ملكم??ه ،وتنق??ل
من كب??ير إلى ص??غير ،وك??ان بين عي??ني مس??روق ياقوت??ة حم??راء معلق??ه في تاج??ه
وه???رز
ِ بمعالق من ال??ذهب تض???يء كالن???ار ،ف???رمى َوهْ??? ِر ُز ،ورمى الق ??وم ،وق ??ال
ألصحابه:
قد رميت ابن الحمارة ،فانظروا إن كان الق??وم يجتمع??ون علي??ه وال يتفرق??ون عن??ه
فهو حي ،وإن كان أصحابه يجتمعون عليه ويتفرقون عنه فقد هل??ك ،فنظ??روا إليهم
فرأوهم يجتمعون ويتفرقون عنه ،فأخبروه بذلك ،فقال:
احملوا على القوم واصدقوهم فحملوا عليهم وصدقوهم؛ فانكشفت الحبشة وأخذهم
السيف ،ورفع رأس مسروق ورؤوس خواص الحبشة ورؤسائهم ،فقتل منهم نحو
ثالثين ألفاً ،وقد كان أنو شروان أتشرط على معد يكرب ش??روطأ :منه??ا أن الف??رس
ت??تزوج? ب??اليمن وال ت??تزوج? اليمن منه??ا وفي ذل??ك يق??ول الش??اعر :على أن ينكح??وا
النس?وان منهم وال ينكح?وا في الفارسـينـا َو َخ? َراج يحمل?ه إلي?ه ف َت?ؤ َج وه?رز مع?د
يكرب بتاج كان معه وبدن??ة من الفض??ة ألبس??ه إياه??ا ،ورتب?ه? في ملك??ه على اليمن،
وكتب إلى أنو شروان بالفتح ،وخلف هناك جماعة من أصحابه.
ملكت األحابش اليمن اثنتين وسبعين سنة ،وك??ان مل??ك مس??روق بن َ وكان جميع ما
أ ْب َر َه??ة إلى أن قتل??ه َوهْ ? ِر ُز ثالث س??نين ،وذل??ك لخمس وأربعين خلت من مل??ك أن??و
شروان.
وأتت معدي كرب الوفود من العرب تهنئه? بالملك ،فأتاه عبد المطلب وج??د أمي??ة بن
الص ْلت ،وقد ذكرنا خبر عبد المطلب ووفادته على ابن ذي يزن في هذا الكت??اب
أبي َ
فيما بعد ،وما قيل من الشعر وفي مسير? الفرس إلى اليمن ونص??رتهم? على الحبش??ة
يقول بعض أوالد فارس:
وفي ذلك يقول البحتري يمدح أبناء العجم ،ويذكر فض??ل الف??رس على أس??الفه ألن??ه
من قطحان:
باق عـلـى الـزمـن ونعمة ذ ْك ُرهَا ٍ فكم لكم من َي ٍد يزكو الـثـنـاء بـهـا
وال يد كـأياديكـم عـلـى الـيمـن إن تفعلوها فليست ِب ْك َ
ـر أنـعـمـكـم
غيابة الذل عـن سـيف بـن ذي يزن ـلـى أنـو شـروان جـدكــم أيام َج َّ
ص ْن َعا وعن َعدَنبالضرب والطعن عن َ إذ ال تزال خـيول الـفـرس دافـعة
بـنـو من فاز منكم بفضل ال ّط ْول والمـ َن ِ
ـن أنتم بنو المنعم المجمـيع وخـن
ولمعد يكرب بن سيف بن ذي يزن كالم كثير م??ع عب??د المطلب وك??وائن أخ??بره به??ا
وح َبا جميع الوفد ،وانصرفوا ،وقد في أمر النبي صلى هللا عليه وسلم و َبدْ ء ظهورَ ،
أتينا على ما كان من أخبارهم في كتابنا أخبار الزمان فأغنى عن إعادته ووصفه.
بصنعاء ثم ملك بعده النوشجان بن وهرز إلى أن هل??ك به??ا ثم مل??ك بع??ده رج??ل من
فارس يقال له سبحان ،ثم ملك بعده خرزاد س َّت َة أشهر ،ثم مل??ك بع??ده ابن س??بحان،
ثم ملك بعده المرزبان وكان من أهل بيت مملك??ة ف??ارس ،ثم مل??ك بع??ده خرخس??رو،
وكان مولده باليمن ،ثم ملك بعده بآذان ساسان.
قال المسعودي :فهؤالء جميع من ملك اليمن من قحط??ان والحبش?ة? والف??رس ،وق??د
رجل من ول?د إب?راهيم الخلي??ل علي??ه الس?الم ،وه??و يع? ُد من مل??وك اليمن
ِ ملك اليمن
واسمه هنيبة بن أميم بن بدل بن مدين بن إب??راهيم لخلي??ل علي??ه الس?الم ،وك??ان ل??ه
شأن عظيم في ملك اليمن؛وطالت أي أمه ،وذكره امرؤ القيس في شعره فقال:
على زيد أن إذ حان الزول هنيبة الـذي زادت قـواه
إلى زيدان أعيط ال ينـال تمكن قِائما وبنى طـريقـا ً
بن لسان بن إبراهيم الخليل. إ نِه منتبه بن أميم بن بدل وي َقال:
عاصمة اليمن
?ار ،مث??ل آل ذي س??حر وآل ذي الكالع وآل وقد كانت مل??وك اليمن ت?نزل? بمحين??ة َظ َف ِ
ذي أصبح وآل ذي يزن ،إال اليسير? منهم فإنهم نزلوا غيرها وك?ان على ب?اب َظ َف ِ
?ار
مكت??وب ب??القلم األول في حج??ر أس??ود :ي??وم ش??يدت ظف??ار قي??ل :لمن أنت .فق??الت:
لـحـمـير األخـيار
لألح ُبـش األشـرار
ثم سيلت :من بعد ذأك .فقالت :إن ملكي ْ
ثم سيلت َمنْ بعد ذاك .فقالـت :إن ملكي لـفـارس األحـرار
ثم سيلت :ما بعد ذاك .فقالـت :إن ملكي إلى قريش التـجـار
ثم سيلت :ما بعد ذاك .فقالـت :إن ملكي لحمـير وصـحـار
وقليال ما يلبث الـقـو ُم فـيهـا منذ شيدت مشيدها لـلـبـوار
من أسو ٍد يلقيه ُم البحـر فـيهـا تشعل النار في أعالي الـديار
وهذا خبر عن ملوك تداولوها ،أخبروا عن ملكهم قبل كونه ،فتداولتها هذه المل??وك
على حس??ب م??ا وص??فناه ،وينتظ??ر في المس??تقبل? من الزم??ان م??ا ذكرن??ا من وق??ود
النيران في أعالي الديار ،وعند أهل اليمن ديارهم سيغلب عليه??ا األح??ابش في آخ??ر
ِث الن??بي ص?لى هللا علي?ه وس??لم وعلى اليمن الزمان بعد َه َنات وكوائن وأح?داث و ُبع َ
ُع ّمال كسرى ،ثم غلب اإلسالم فظفر بحمد هّللا .
وق???د أتين???ا على أخب???ار من ذك???رن من المل???وك ،وس???يرهم ،ومطاف???اتهم في البالد
وحروبهم ،وأبنيتهم? في سائر مطافاتهم ،في الكتاب األوسط،فأغنى ذلك عن إعادت??ه
في هذا الباب.
ْمالك بن فهم
وكان الملك قبل جذيمة أباه ،وهو أول من مل??ك الح??يرة ،وهّللا أعلم ،وك??ان يق??ال ل??ه
?وث بن نبت بن مال??ك بن زي??د بن كهالن بن دوس بن األزد بن َ
الغ? ْ مالك بن َف ْهم بن ْ
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ،وكان سار من اليمن مع ولد َج ْفن??ة بن عم??رو
مز ْيقياء ،فسار بنو َج ْفنة نح??و الش??ام ،وانفص??ل مال??ك نح??و الع??راق فمل??ك
بن عامر َ
على مضر? بن نزار اثنتي? عشرة سنة ?،ثم ملك بعده ابنه جذيمة على ما ذكرنا.
عمرو بن عدي
ثم ملك بع??د جذيم??ة ابن أخ ِت? ِه عم??ر وبن ع??دي بن نص??ر بن ربيع??ه بن الح??ارث بن
مال??ك بن غنم بن نم??ارة بن لخم ،وه??و أول من ن??زل من المل??وك الح??يرة واتخ??ذها
منزالً ودار مل??كٍ ،وإلي??ه تنس??ب المل??وك النص??رانية ?،وهم مل??وك الح??يرة؛فك??ان مل??ك
عمرو عدي ابن أخت جذيمة مائة سنة?.
صفحة 269 :
قال المسعودي :وقد ذكر غير واحد ممن عني بأخبار العرب وأي أم??ه ا أن َجذِيم ?ة?
ض?اعة ،وه?و جذيم?ة بن مال?ك بن َف ْهم ال َّت ُن?وخي ،وأن?ه ق?ال ذات أول من ملك من قُ َ
ف وأدب، يوم لندمائه :لقد ذكر لي عن غالم من لخم ،في أخوال??ه من إي??اد ،ل??ه َظ? ْ
?ر ٌ
بعثت إليه فولَّيته كأسي والقيام على رأسي لكان ال??رأي ،ق??الوا :ال??رأي م??ا رأى َ فلو
الملك ،فليبعث إليه ،ففعل ،فلما قدم عليه قال :من أنت .قال :أنا ع??دي بن نص??ر بن
ربيعه ،فواله مجلسه ،فعش??قته ق?اش ابن??ة مال??ك أخت المل?ك ،فق?الت :ي?ا ع?دي ،إذا
أخ? َذ َت الخم?ر من?ه ف?اخطبني من?ه فإن?ه سقيت القوم فا ْم ُزج لهمَ ،وغدق للملك ،فإذا َ
ش ِه ِد القوم إن فعل ،ففعل الغالم ذلك وخطبها وزوجها به ،فأش?هد علي?ه، يزوجك ،فأ ْ
س بأهلك ،ففعل ،فلما أصبح غدا متضرجا ً وانصرف الغالم إليها فأنبأها ،فقالتَ :ع ِّر ْ
بالخلُوق ،فقال !له َجذِيمة ?:ما هذه اآلثار يا عدي ..ق?ال :اث?ار الع?رس ،وق?ال :وأي
وأكب على األرض ،ورفع علي جرام??يزه ،وه??ربّ عرس ..قال :عرس رقاش َف َن َخ َر
وأسرع جذيمة? في طلبه ،فلم يجده ،وقال بعضهم :بل قتله ،وبعث إليها يقول:
وح َباه ،ثم إن الجن استطارته ،فضرب له جذيم??ة في االف??اق زمان??ا، فالتزمه? جذيمة َ
فلم يسمع له بخبر فكف عنه إذ أقبل رجالن يق??ال ألح??دهما :مال??ك ،ولآلخ??ر عقي??ل،
ابنا فالج ،وهما يريدان المل??ك بهدي??ة ?،ف??نزال على م??اء ،ومعهم??ا َق ْين??ة يق??ال له??ا أم
عمرو ،فنصبت لهما قدراً ،وأصلحت لهما طعاماً ،فبينما هم??ا ي??أكالن إذ أقب??ل رج??ل
أشعث أغبر الرأس قد طالت أظفاره وساءت حاله ،حتى جلس َم ْز َج َر الكلب ،وم َّد
صفحة 270 :
يده ،فناولته القينة? طعاماً ،فأكل ،فلم يغن عنه شي َئاَ ،فم َد يده ،فقالت القينة ?:إن تعط
العبد ُك َراعا ً طلب ذراع?اً ،فأرس??لتها مثالً ،ثم ن??اولت ص??احبيها من ش??رابها ،وأوكت
ِز َّقها ،فقال عمرو بن عدى:
س مجراها اليميناوكان الكأْ ُ ع َلت الكأس عنا أم عمـرو
بصاحبك الذي التصبحينـا وما َ
ش ُّر الثالثة أم عمـرو
فق??ال ل??ه ال??رجالن :من أنت .فق??ال :إن تنك??راني فلن تنك??را حس??بي ،أن??ا عم??رو بن
وقص?را من لم ّت?ه ،وألبس?اه َّ عدي؛ فقاما إليه فلثماه ،وغسال رأسه ،وقلم?ا أظف?اره،
من طرائف ثيابهما ،وقاال :ما كنا لنهدي إلى المل??ك هدي??ة هي أنفس عن??ده وال ه??و
عليها أحرص من ابن أخته ،ق?درده هّللا إلي?ه ،فخرج?ا ب?ه ،ح?تى إذا وقف?ا على ب?اب
بش?راه ب?ه فس?ر ب?ه وص?رفه إلى أم?ه ،وق?ال لهم?اُ :ح ْك َمكم??ا ،فق?اال :حكمن?ا
الملك َ
منادمتك ما بقيت وبقينا ،قال :ذلك لكم?ا ،فهم?ا َن?دْ َمانا َجذيم?ة المعروف?ان ،وإياهم?ا
عني متمم بن نويرة اليربوعي في مرثيته? ألخيه مالك حين قتله خالد بن الولي??د بن
حـقـبة من الدهر حتى قيل :لن يتص َّد َعا ً المغيرة يوم البطاح :وكنا كندماني جـذيمة?
فلما تفرقنا كـأنـي ومـالـكـا لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا
وق??ال أب??و خ??راش اله??ذلي :ألـــــــم تـــــــعـــــــلـــــــمـــــــــــــي أن قـــــــــــــــد
ـــــــــــــــفـــــــــــــــر َق قـــــــــــــــبـــــــــــــــلـــــــــــــــنـــــــــــــــا
َّ َت
خلـــــــــــــــيال ًصـــــــــــــــفـــــــــــــــاء مـــــــــــــــالــــــــــــــــــــــــك
وعـــــــــــــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــيل
وإنّ أم عمرو عمدت إلي??ه ،فبعثت مع??ه َحف? َدة يقوم??ون علي??ه في الحم??ام ،ح??تى إذا
خرج ألبسته من طرائف ثياب الملوك ،وجعلت في عنق??ه طوق?ا َ من ذهب لن??ذر ك??ان
ش? ّب عليها ،ثم أمرته? بزيارة خالة ،فالما رأى خاله لحيته والط??وق في عنق??ه ق??الَ :
عمرو عن الطوق ،وأقام عمرو مع جذيمة خاله قد حمل عنه عامة أمره.
وإن الزباء ابنة عمرو بن ظ??رب بن حس??ان بن أذين??ة بن الس??ميدع بن ه??وبر ملك??ة
الشام والجزيرة من أهل بيت عاملة من العماليق كانوا في سليح ،وقال بعضهم :بل
ك??انت رومي??ة ?،وك??انت تتكلم بالعربي??ة ،م??دائنها على ش??اطىء الف??رات من الج??انب
الشرقي والغربي ،وهي اليوم خراب ،وكانت -فيما ذكر -ق??د س??قفت الف??رات وجعلت
من فوق??ه أبني?ة? رومي??ة وجعلت??ه أنقاب??ا بين م??دائنها ،وك??انت تغ??زو ب??الجنود قبائ??ل
ب في??ه ،ف?إذا ش??ئت فخطبها جذيمة األبرش ،فكتبت إليه :إني فاعلة ،ومثلك من ُي ْر َغ ُ
ص إلي ،وكانت بكرا ،فجمع عند ذلك جذيمة أصحابه ،فاستش??ارهم ،فأش??اروا ش َخ ْفا ْ
بالمضي ،وخاللهم قصير بن س??عد ت??ابع ك??ان ل??ه من َل ْخم ،ف??أمره أن ال يفع??ل،
ِّ عليه
ويكتب إليه??ا ،ف??إن ك??انت ص??ادقة أقبلت إلي??ك ،وإال لم تق??ع في ِح َباله??ا ،فعص??اه
وأطاعهم وس??ار ح??تى إذا ك?ان بب ّق??ة -من دون َه ْي َت إلى األنب??ار -جمعهم وش??اورهم
فأمروه بالشخوص إليها لما علموا من رأيه في ذلك ،وقال القصير ?:تنصرف? ود ُم َك
صفحة 271 :
قة قضي األمر ،فأرسلها مثال ،وقال قصير بن سعد حين في وجهك ،،فقال جذيمة ب َب َ
رآه قد ع??زم ،ال يط??اع لقص??ير أم??ر ،فأرس??لها مثالً ،وظعن جذيم??ة ،ح??تى إذا ع??اين
مدينتها ?-وهي بمكان دون الخانوقة -ونظر إلى الكتائب من دونها ،فهال??ه م??ا رأى،
فقال :أي قصير ،ما الرأي .فقال قصير :إني تركت الرأي ببقة ،فقال عند ذلك :أشِ ْر
علي ،فقال :إن لقيتك الكتائب فحيتك بتحية الملك وانصرفوا أمامك فالمرأة صادقة،
وإن هم أخ??ذوا بجنبي??ك ووقف??وا دون??ك ف??القوم منعطف??ون علي??ك فيم??ا بينهم وبين
جنوهم ،فاركب ال َعصا فإنها ال تحرك وال تسبق ،يعني فرس?ا ً ك?انت جنبت مع?ه ،ف?ط
س??تقبله الق??وم وأح??اطوا ب??ه ،فلم ي??ري العص??ا ،فع??دد إليه??ا قص??ير فركبه??ا وحم??ل
وانطلق ،فالتفت جذيمة فإذا هو بالعصا عليها قصير أم??ام خيلهم ح??تى ت??وارت ب??ه،
فقال جذيمة :ما ضل َمنْ تجري به العصا ،فأدخل على الزباء فاستقبلته وقد كش??فت
أي متاع عروس ت??رى. عن َك َب ْع َثا ِت َها أي عفلها وتنظفت باستها ،وقالت :يا جذيمةّ ،
?واس ،وال وهللا م?ا ذاك من ع?دم َم? َ
ّ قال :أرى َم َتاع ا َم ٍة غير ذات َخ َف? ٍ
?ر ،فق?الت :أم?ا
قل??ة أواس ،ولكن ش??يمة م??ا أن??اس ،ثم أجلس??ته على ن َط? ع ،ودعت ل??ه بطس??ت من
عسجد ،فقطعت َر َواهِش??ه واس??تنزفته ?،ح??تى إذا ض??عفت ق??واه ض??رب بي??ده فقط??رت
قطرة من دمه على دعامة من زخام ،وقد قيل لها :إن??ه إن وق??ع من دم??ه قط??رة في
غير َط ْست طلب بدمه ،فقالت :أي جذيمة؛ال تضيعن من دمك شيئاً ،فإني إنم??ا بعثت
إليك ألنه بلغني أن لدمك شفاء من الخبل ،فقال جذيمة :وما ُي ْحزن??كِ من دم أض??اعه
أهْ لُه وفي ذلك يقول البعيث :من الدأرميين الذين دماؤهـم واستصفت دمه ،وجعلت??ه
في برنية ?،وقال بعضهم :دخل عليها جذيم??ة في قص??ر له??ا ليس في??ه إال الج??واري،
وهي على سريرها ،فقالت لإلماءُ :خ ْذنَ بيد سيدكن ،ثم دعت بنط??ع فأجلس??ته علي?ه
فعرف الشر وكشفت عن عورتها فإذا هي قد عقدت ش??عر اس??تها من وراء؛فق??الت:
ار عروس ترى .فقال :بل شوار أمه بظراء ،فقالت :أم??ا وهللا م??ا ذاك من ع??دم أ َ
ش َو َ
َم َواس ،وال قلة أواس ،ولكنها شيمة? ما أناس ،ثم أم??رت ِب َر َواهش ?ة? فقطعت ،فجع??ل
دمه يشخب في ال ِّنطع كراه??ة أن يفس??د مقع??دها ،فق??ال جذيم??ة :ال يحزن??ك دَ ٌم أراق??ه
أهله.
شر كان أنصح لجذيمة? وال أغش لك مني ،حتى جدع عم??رو بن على وجه األرض َب َ
ت أني ال أكون مع أحد هو أثقل عليه مني معك ،فقالت :أي عدي أنفي وأذني ،فعر ْف ُ
قصير ،نقبل منزلتك ونصرفك في بض??ائعنا ،فأعطت??ه م??اال للتج??ارة ،ف??أتى بيت م??ال
فاستخف ما فيه بأمر عم?رو بن ع?دي ،وانص?رف? ب??ه إليه??ا ،فلم?ا رأت م??ا َّ الحيرة،
جاءها به فرحت بذلك ،وزادته ما ال إلى م?ا ج?اء ب??ه ،وق?ال :إن??ه ليس من مل?ك إال
وهم يتخنون في مدائنهم أنقابا تكون لهم عدداً ،فقالت له :أما إني قد فعلت ذلك ،قد
س َربا ً وبنيته? من تحت س??ريري ه??ذا ح??تى أخ??رج من تحت الف??رات إلى س??رير نقبت َ
أختي رحيلة ففرح ب??ذلك قص??ير ،ثم ظعن ح??تى أتى عم??راً ،ف??ركب عم??رو في ال??ذي
?ر َة،
رجل على ألف بعير في الصناديق ،حتى صار إليها ،فتق??دم قص??ير وس??بق األ ْب ِع? َ
فقال لها :اصعدي حائط مدينتك .وانظري إلى مالك ،وتقدمي إلى بوابك فال يتعرض
لشيء من أموالن??ا ،ف??إني ق??د جئت بم??ال ص??امت وك??انت ق??د أمنت??ه ،فلم تكن تخاف??ه
وصعدت وفعلت ما أمرها ،فلمال نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت:
ص ْبر الب??واب ،فطعن بمنخس??ة ودخلت اإلِبل المدينة ،حتى إذا بقي آخرها جمالً عِيل َ َ
ى خاصرة رجل فضرط ،فقال البواب :بشتابشتا ،وهي بالنبطية أي :في كانت في يد ِ
الجوالق شر ،وثار الرجال من الجوالق ضربا ً بأسيافهم ،فخرجت الزباء هارب??ة إلى
صلتا ً سيفه ،فانصرفت راجعة ،و َت َل َقاها عم??روس َربها ،فأبصرت قصيراً عند نفقها ُم ْ
َ
بن عدي ،فضربها وقال بعضهم :مصت خاتمه??ا ،وك??ان في??ه س??م س??اعة! ،وق??الت:
بيدي ال بيد عمرو ،وخربت المدينة ،وس??بيت الف??راري ،فق??الت الش??عراء في أمره??ا
وأمر قصير فأكثرت فمن ذلك قول المتلمس:
وكانت الزباء ال تأتي حصنا ً إال ضفرت شعر استها من خلفه ،ثم تقاعس??ت فتقلع??ه،
ح??تى فعلت ذل??ك بم??ارد -حص??ن دُو ِم??ة الجن??دل -وب??األبلق -حص??ن تيم??اء -حص??نين
منيعين ،فقالت :تمرد مارد وعز األبلق فذهب مثال ،وهما الحصنان اللذان ت??ذكرهما
العرب في أشعارها كثيراً ،قال األعشى في ذلك:
ثم ملك قابوس بن المنزر ثالثين سنة ،وكانت أمه هند بنت الحارث ،من آل معاوية
بن معد يكرب.
وملك النعمان بن المنزر ،وهو الذي يقال له :أبيت اللعين! اثن??تين وعش??رين س??نة،
وكانت أمه سلمى بنت وائل بن عطية من كلب.
وذكر عدة من األخباريين أن النابغة استأذن على النعمان يوماً ،فق??ال ل??ه الح??اجب:
ش? َرابه ،ق??ال النابغ??ة :فه??و وقت ال َم َل? ِ
?ق ،تقبل??ه األفئ??دة ،وه??و َج? ذِل إن المل??ك على َ
للرحيق والسماع ،فإن تلج تلق المجد عن غرر مواهبه ،فأنت قسيم ما أف??دت ،ق??ال
له الحاجب :م??ا تفي عن??ايتي ب??دون ش??كرك ،فكي??ف أرغب فيم??ا وص??فت وع??ون م??ا
طلبت رهبة التعدي ..فهل من سبب .قال النابغة :ومن عن??دي .ق??ال الح??اجب :خال??د
بن جعفر الكالبي ندي ُم ُه ?،فقال النابغة :هل لك إلى أن تؤدي إلى خالد عني م??ا أق??ول
لك.؛ قال :وما هو .قال :تقول إن من قدرك وفاء الدرك بك وناحيتي من الش??كر م??ا
ق??د علمت ،فلم??ا ص??ار خال??د إلى بعض م??ا تبعث??ه? م??وارد الش??راب علي??ه نهض،
س?ام ح??ادث النعيم ،ق??ال :وم??ا ذاك .ف??أخبره فاعترضه? الحاجب ،فقال :ليهن??ك أب??ا ال َب ّ
الخبر ،وكان خالد رفيقاً ،يأتي األشياء بلطف وحسن بصيرة ،ف??دخل مبتس??ماً ،وه??و
س ْبق الجواد إذا استولى على األمد يقول :إال لمثلك أو من أنـت سـابـقـه َ
والالت لكأني أنظ??ر إلى أمالك ذي ُر َع ْي ِن ،وق??د م??دت لهم قض??بان المج??د إلى مع??الم
أحس???ابكم ،ومن???اقب أنس???اب َكم ،في َح ْلب???ة أنت -أبيت اللعن!ُ -غ َّرته???ا فجئت س???ابقا
متمهأل ،وجاءوا لم يلم لهم سعي ،ق??ال النعم??ان :ألنت في وص??فك أبل??غ إحس??انا ً من
النابغة في نظام قافيته ،فقال خالد :ما أبلغ فيك حسنأ إال وهو دون قدرك اس??تحقاقا ً
للشرف الباهر ،ولو كان النابغة حاضرأ لقال وقلنا ،ف??أمر النعم??ان بإدخال??ه ،فخ??رج
إليه الحاجب ،فقال النابغ?ة :م?ا وراءك فق?ال :ق?د أذنت بفتح الب?اب ،رف?ع الحج?اب،
ادخل ،فدخل ثم انتصب بين يديه ،وحي??اه بتحي?ة? المل??ك ،وق??ال :أبيت اللعن! أتف? َ
?اخ ُر
سك أ ْيمنُ من يومه ?،و َل َق َفا َك أحس??ن وأنت سائس العرب ،وغرة الحسب ،والال ِ
ت ألم ُ
سارك أسمع من يمينه ،و َل َو عدُك أصلح من ِرفدِه ،ولعبيدك أكثر من من وجهه ،و َل َي َ
وألس ُمك أشهر من قدره ،ولنفسك أكبر من جده ،وليومك أش??رف من ده?ره، ْ قومه،
ثم قال:
الجود والبأس بين العلم والخبر أخالق مجدك جلت ما لها خطـر في
ض ْيغئم في صورة القمر الو َغى َوفي َ فـوق َمـ ْف ِـرقِـ ِه
َ ُم َتؤج? بالمعالـي
فتهلل وجه النعمان بالسرور ،ثم أمر فحشي فُو ُه جوهراً ،ثم قال:
الملوك.
ٍ بمثل هذا فلتمدح
من الدهر لو أن امرأً َكانَ َنا ِج َيا تر للنعمان َكانَ ِبـ َن ْ
ـج َـوة ألم َ
او َياوم واحد كان َغ ِ من الدهر َي ٍ فغير عنه ملك عشـرين حـجة
أ َقل صديقا معطيا ً أو ُم َواسِ ـ َيا فلم أرمسلوبا ً له مثل مـلـكـه
ـازيا ـخ ِ وكانوا أ َناسا ً َي َتقُونَ ال َم َ احة حافظوا َخالَ أن حيا ً من َر َو َ
ـار ِه ه َِجانَ المطايا و العتاق ال َم َذا ِك َيا يسيرون حتى َج ّيشوا عند َث ِ
وو َّدعهم توديع أنْ الَ َتـالقِـيا ازا ُه ُم خيرأ وأثنى علـي ِهـ ُم َف َج َ
ص?ص ل??ه كس??رى ثماني??ة آالف جاري??ة عليهن وأقب??ل النعم??ان ح??تى أتى الم??دائنَ ،ف ً
المصبغات صفين ،فلما ص?ار النعم?ان بينهن قلن ل?ه :أم?ا فين?ا للم?ك ِغ ًنى عن بق?ر
السواد ا؛ فعلم النعمان أنه غير ناج منه ?،ولقي??ه زي??د بن ع??دي ،فق??ال ل??ه النعم??ان:
أنت فعلت هذا بي ،لئن تخلصت ألسقينك بكأس أبيك ،فقال له زيد :امض ُن َع ْي ُم ،فق??د
األرنُ ،وأم??ر كس??رى بالنعم??ان ،فحبس بس??اباط ت ل??ك أ ِخ َّي ًة ال يقطع??ا المه??ر ِ
أخ ْي ُ
المدائن ،ثم أمر به فرمي تحت ْأر ُج??ل الفِ َي َل?ةِ ،وق??ال بعض??هم :ب??ل م??ات في محبس??ه
بساباط ،وقد ذكرت ذلك الشعراء فأكثرت؛ فمن ذلك قول األعشى وأجاد:
ومما رثى به النعمان :لم تبكه هند وال أختهـا خرق??اء ،واس??تعجم ناعي??ه بين في??ول
ْ
تخبط َن ُه مختبطا ً َتدْ مى نواحـيه وقد كان النعمان حين أراد المضي إلى كسرى الهند
مستسلما ً مر على بني شيبان ف??أودعهم س??الحه وعيال??ه عن??د ه??انى بن مس??عود بن
هانى السيباني ،فلما أتى كس?رى على النعم?ان بعث إلى ه?انى بن مس?عود ،وطالب?ه
بتركته ?،فامتنع ،وأبى أن يخفر الذمة ،فكان ذلك السبب الذي أه??اج ح??رب في ق??ار،
وقد أتينا على ذلك في الكتاب األوسط فأغنى عن إعادته هنا.
بنت ألنعمان عند سعد بن أبي وقاص
وقد كانت حرقة بنت النعمان بن المنزر إذا خرجت إلى ِبي َع ِت َه??ا يف??رش له??ا طريقه??ا
ب??الحرير وال??ديباج ،مغش??ى ب??الخز والوش??ي ،ثم تقب??ل في جواريه??ا ح??تى تص??ل إلى
بيعتها ،ويرجع إلى منزلها ،فلما هلك النعمان نكبها الزمان ،فأنزلها من الرفعة إلى
اص القادسية أميراً عليها لما هزم هّللا الفرس وقتل الذلة ،ولما وفد سعد بن أبي َو َق ٍ
ُر ْس ? ُتم ،ف??أتت حرق??ة بنت النعم??ان في حف??دة من قومه??ا وجواريه??ا وهن في زيه??ا
عليهن المس??وح والمقطع??ات الس??ود ،مترهب??ات تطلب ص??لته ،فلم??ا وقفن بين يدي??ه
أنكرهن سعد ،فقال :أفيكن حرقة ..قالت :ها أن??ا ِذهِ ،ق??ال :أنت حرق??ة ..ق??الت :نعم،
فما تكرارك في استفهامي .ثم قالت :إن الدنيا دار زول .وال تدوم على ح??ال ،تنتق ?ل?
بأهلها انتق?اال ،و ُت ْعقِبهم بع??د ح?ال ح?االً ،كن??ا مل?وك ه?ذا المص??ر ُي ْج َبى لن?ا خراج?ه،
ويطيعنا أهله مدى المدة زمان الدولة ،فلما أدب??ر األم??ر وانقض??ى ص??اح بن??ا ص??ائح
ش َّتت ش??ملنا ،وك??ذلك ال??دهر ي??ا س??عد ،إن??ه ليس ي??أتي قوم?ا ً
الدهر ،فصدع عصانا و َ
بمسرة? إال ويعقبهم بحسرة ،ثم أنشأت تقول:
إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف فبينا نسوس الناس واألمر أمرنا
تقلب تارا ٍ
ت بنـا وتـصـرف فأف لدنيا ال يدوم نـعـيمـهـا
فقال سعد :قاتله هللا عدي بن زيد ،كأنه ينظر إليها حيث يقول:
قال :فبين??ا هي واقف??ة بين ي??دي س??عد إذ دخ??ل عم??رو بن مص يك??رب ،وك?ان َز َؤاراً
ألبيها في الجاهلية ،فلما نظر إليه??ا ق??ال :أنت حرق??ة .ق??الت :نعم ،ق??ال :فم??ا دَ َه َم??كِ
فأذهب محمودات شيمك ،وأين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك .فقالت :ي?ا عم?رو ،إن
للدهر لسطوات وعثرات وعبرات ،تعثر بالملوك وأبنائهم ،فتخفضهم بعد رفعة،
صفحة 277 :
وتفردهم بعد منعة ،وت??ذلهم بع??د ع??زة ،إن ه??ذا ألم??ر كن?ا ننتظ??ره ،فلم?ا ح??ل بن??ا لم
ننكره .قال :فأكرمها سعد ،وأحسن جائزتها ،قلما أرادت فراق??ه ق??الت :ح??تى أحيي??ك
بتحيه? ملوكنا بعضهم لبعض ،ال َن َز َع هّللا من عبد صالح نعمة إال جعلك س??ببا ً لرده??ا
عليه! ثم خرجت من عنده فلقيها نساء المدينة ،فقلن لها :ما فعل بك األمير .قالت:
حاط لي ذمتي ،وأكرم وجهي ،إنما يكرم الكري َم الكري ُم.
وسنذكر خبر هند بنت النعمان مع المغيرة بن شعبة أي??ام إمرت??ه على الكوف??ة ،فيم??ا
يرد من هذا الكتاب ،عند ذكرنا ألخبار معاوية بن أبي سفيان.
قال أبو الحس??ن علي بن الحس??ين المس??عودي :فه??ؤالء مل??وك الح??يرة إلى أن ظه??ر
س َّم ْينا من ه??ؤالء المل??وك من ول??د اإلِسالم ،فأظهره هللا ،وأذل الكافرين ،فجميع من َ
عمرو بن عدي بن أخت جذيمة? األبرش ،على حس??ب م??ا ق??دمنا آنف?ا ً في ص??در ه??ذا
الباب ،ثم جاء اإلسالم ومل ُك الفرس وكسرى أبرويز بن هرم??ز ،ف ّمل ? َك على الع??رب
ض? ْتإياس بن َقبيصة الطائي ،فكان ملكه تس??ع س??نين ،ولثماني?ة? أش??هرَ ،م َ
َ بالحيرة
هللا صلى هللا عليه وسلم ،ثم ملك الح??يرة جماع??ة من ملك إياس ،كان مبعث رسول ّ
من الفرس ،وقد كان قبل عمرو بن عدي ملوك على الحيرة على حسب م??ا ذكرن??ا،
وكان عدة الملوك بالحيرة ثالثة وعشرين ملكا ً من ب??ني نص??ر وغ??يرهم من الع??رب
والفرس؛وكان عدة ملكهم ستمائة سنة? واثنتين وعشرين سنة وثمانية? أشهر ،وق??د
قيل :إن ُع ْم َران الحيرة وبدوه إلى أن خرجت في وقت بناء الكوفة ،ك??ان خمس??مائة
سنة وبضعا ً وثالثين سنة.
خراب الحيرة
قال المسعودي :ولم يزل ُع ْمرانها يتناقص من الوقت الذي ذكرنا إلى صدر من أيام
المعتضد ،فإنه استولى عليها الخراب ،وق??د ك??ان جماع??ة من خلف??اء ب??ني? العب??اس-
ص ?لُون المق??ام به??ا لطيب كالس??فاح ،والمنص??ور ،والرش??يد ،وغ??يرهم -ينزلونه??ا َي ِ
هوائها ،وصفاء جوهرها ،وصحة تربته??ا ،وص??البتها ،وق??رب الخورن??ق ،والنج??ف
منها ،وقد كان فيها ديارات كثيرة فيها رهب??ان ،فلحق??وا بغيره??ا من البالد ،لت??داعي
الخراب إليها ،وأقفرت من كل أنيس في هذا ال??وقت ليس به??ا إلى الص??دَ ى وال ُب??وم،
س?عدها وعند كثير من أهل الدراية التامة بما يح??دث في المس??تقبل من الزم??ان :أن َ
سيعود بالعمران ،وأن هذا النحس عنها سيزول وكذلك الكوفة.
قال المسعودي :ولمن س ّمينا من ملوك الحيرة أخبار وس??ير وح??روب ق?د أتين??ا على
ور من مبسوطها في كتابنا أخبار الزم??ان ،وفيم??ا بع??د من ه??ذا الكت??اب ذكرها َوال ُغ َر ِ
فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الباب.
تنوخ? ونسبها
وكان أول من ملك من َت ُنو َخ النعمان بن عم??رو بن مال??ك ،ثم مل??ك بع??ده عم??رو بن
ثم ملك بعده الح??واري بن النعم??ان ،ولم يمل??ك من َت ُن??و َخ إال من
النعمان بن عمروِ ،
خ بن مال??ك بن َف ْهم بن َت ْيم الالت بن األزد بن َو ْب??رة بن ثعلب??ة بن
ذكرن??ا ،وه??و تن??و ُ
حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير.
وقد تنوزع في قضاعة :أمن معد كان أم من قحط??ان .فقض??اعة ت??أبى أن تك??ون من
معد ،وتزعم أنها من َق ْح َطان ،على ما ذكرنا.
وقد قيل في نسب قضاعة واتصالها بحمير غير ما ذكرنا من النسب.
سليح ونسبها
وخ ?،وتنصرت فم َلكتها الروم على العرب الذين ثم وردت سليح الشام فغلبت على َت ُن َ
بالشام ،وهم ولد سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قض??اعة ،فاس??تقام مل??ك
س??ليح بالش??ام ،وتف??رقت قبائ??ل الع??رب لم??ا ك??ان بم??ارب وقص??ة عم??رو بن ع??امر
?وث بن مزيقياء؛فسارت غسان إلى الشام وهم من ولد مازن ،وذلك أن األزد بن َ
الغ? ْ
َن ْبت بن مالك بن زيد بن كهالن بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ولد م??ازن،
وإليه ترجع جميع قبائل غسان ،وإنما غسان ماء شربوا منه? فسموا بذلك وه??و م??ا
بين زبيد ورم??ع ،وادي األش??عريين ب??أرض اليمن وفي ذل??ك يق??ول حس??ان بن ث??ابت
ت فإ َنا معشر ُن ُجب األزد نس َب ُت َناَ ،وال َما ُء غسان
األنصاري :إ َما سأل ِ
?رم،وس??نذكر بع??د ه??ذا الموض??ع خ??بر عم??رو بن ع??امر مزيقي??اء ،وخ??بر س??يل ال َع? ِ
س?ان ،وق??د ذك??ر أن عم??رو بن ع??امر وتفرقهم في البالد ،وخبر الم??اء المع??روف َ
بغ َّ
حين خ??رج من م??أرب لم ي?زل مقيم?ا ً على ه??ذا الم?اء إلى أن أدرك?ه الم?وت ،وك?ان
سوقة ،وأربعمائة ملكاً. ً عمره ثمانمائة سنة :أربعمائة
ثم ملك بعده الحارث بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عمرو بن عامر بن حارثة و أمه ماري??ة
القر َطين بنت أرقم بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عم??رو ،وذك??ر أنه??ا ماري??ة بنت ظ??الم
ذات ْ
بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور وهو كندة ،وهي التي ذكرتها الش??عراء في
أشعارها ،وتنسب جماعة من ملوك غسان إليها.
وملك بعده النعمان بن الحارث بن َج َب َلة بن الحارث بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عمرو.
ثم ملك بعده المنزر أبو شمر بن الحارث بن َج َب َلة بن ثعلبة بن َج ْف َنة بن عمرو.
ثم ملك بعده عوف بن أبي شمر.
ِث رس??ول هللا ص??لى هللا علي??هثم ملك بعده الحارث بن أبي شمر فكان ملك??ه حين بع َ
وسلم.
جبلة بن األيهم
ثم ملك بعده َج َب َلة بن األيهم بن َج َب َلة بن الح??ارث بن ثعلب??ة بن َج ْف َن??ة بن عم??رو بن
عامر بن حارث??ة بن أم??رىء القيس بن ثعلب??ة بن م??ازن ،وه??و غس??ان بن األزد بن
الغوث ،وهو الملك الذي امتدحه حس??ان بن ث??ابت األنص??اري ،حيث يق??ول في ش??عر
ش ِه َر ْن َها فإنَ ملكك بالـشـام إلى الروم فخر كل يماني وفيه يقول أيضاً: طويل :أ ْ
صـــ َّمـــان
بين أعـلـى الـيرمـوك َوالـ َّ لمـن الـدار أقـفــرت بـــمـــعـــان
ناسـكـا ً مـنـه بـالـقـصـور الـدوانـــي من قـريات مـــن ثـــالثـــين عـــدت
ينظمنَّ سراعا ً ألك َلة المرجان قد َد َنا الف ْ
ِص ُح والوالئد
وحـقـــا ً تـــصـــرف األزمـــان ذاك مغنى آلل َج ْف َنة في الد ر
دعـاء الـقـسـيس والـــرهـــبـــان ص َل ُ
ـوات الـمـسـيح فـي ذلـــك الـــدبر َ
صفحة 280 :
َ
غوطة دمشق وأعمالها بين الجوالن واليرموك. وهذه مواضع وقرى من
منازل غسان
وك??انت دي??ار مل??وك غس??ان ب??اليرموك والج??والن وغيرهم??ا ،من ُغو َط??ة دمش??ق
وعمالها ،ومنهم من نزل األردن من أرض الشام.
َو َج َب َل??ة بن األيهم هوال??ذي أس??لم وارت??د عن دين??ه خ??اف إلع??ار َوال َق? َ?و ِد من ال َّل ْط َم??ة،
واضح مشهور ?،قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا ،وسائر أخبار ملوك ِ وخبره
تنوخ? وسليح وغسان وغيرهم ممن ملك الشام ،ودعاء النبي صلى هللا عليه وس??لم
الح?ارث بن أبي ش??مر الغس?اني إلى اإلس?الم وترغيب?ه? في اإليم??ان ،وق?د أتين?ا على
خبره وما كان من أمر أسل أمه وأخباره مع النبي صلى هللا علي??ه وس??لم في كِتابن??ا
أخبار الزمان ،وفي أبيه يقول النابغة:
مسـتـقـبـل الـخـير سـريع الــ َّتـــ َمـــام هذا ُغـــالم حـــســـن َو ْجـــ ُهـــــ ُه
والحارث خير األنام للحارث األكبر والحارث األصغر
فـي الـخــيرات مـــنـــه أمـــام ثم لهند ولهند ،وقد أسـرع
ص ْـو َب الـــغـــمـــام َمـنْ يشـرب َ وخـــمـــسة آبـــاؤهـــم مـــاهـــم أكـرم
فجميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملك ،وقد كان بالشام ملوك ببالد
مأرب من أرض البلقاء من بالد دمشق ،وكعذلك مدائن ق??وم ل??وط من أرض األردن
وبالد فلس??طين ،وك??انت خمس م??دن ،وك??انت دار المملك??ة منه??ا ،والمدين?ة? العظمى
سدُوم ،وكانت سمة كل ملك يملكها بارعاً ،وك?ذلك ذك?ر في الت?وراة ،وذك?رت مدينة? َ
أسماء هذه المدن ،أعرضنا عنه إذ كان فيه خروج عن شرط االختصار.
وق??د ك??ان لكن??دة وغيره??ا من الع??رب من قحط??ان َو َم َع? ٍّد مل??وك كث??يرة لم نتع??رض
لذكرها؛ إذ كان ال أس??ماء لهم تعمهم وتش??هرهم ،كقولن??ا الخليف??ة وقيص??ر وكس??رى
والنجاشي ،ولئال يطول الكتاب بذكرهم.
وقد أتينا على سائر ملوك العرب من معد وقحط??ان وغ??يرهم ممن وس??م بالمل??ك في
بعض الممالك في سائر األمم الخالي?ة ،والممال?ك الباقي?ة ،من البيض?ان والس?ودان،
ممن أمكن ذكره وتأ ّتى لنا اإلِخبار عنه ،وإنما ذكرنا في هذا الكتاب من المل??وك من
اشتهر ملكه ،وعرفت مملكته ميالً إلى االختصار ،وطلبا ً ِ
لإليج??از ،وتنبيه ?ا ً على م??ا
سلف من أخبارهم .في كتبنا المتقدم ذكرها من تصنيفنا ،و هّللا الموفق.
?تى ينق??اد إلى وقد كان لليمن ملوك ال يدعون بالتبابع??ة ،ممن تق??دم وت? َّ
?أخر منهم ،ح? ِ
ش ْحر وحضرموت ،فحينئذ يستحق أن يسمى تبعاَ ،ومن تخلف عن ملك??ه مكة أهل ال ِّ
من ذكرنا سمي ملكاً ،ولم يطلق علي??ه اس??م تب??ع ،وق??د ق??ال هّللا ع??ز وج??ل في قص??ة
قريش وتفاخرها بقوتها وعددها" :أهم خير أم ق??وم تب??ع " اآلي??ة حين دخ??ل الح??ر َم
فبعث هللا علي??ه الظل??ة ،وإنم??ا س??مي تبع?ا ً بمن تبع??ه ،وك??ذلك حكي عن عب??د هّللا بن
العباس.
ور ُثـوهـم جـدودهــم والـــجـــدودا َ َو َرد الـمـلـك تـــبـــع وبـــنـــوه
ثم سـرنـا بـهـا مـســيراً بـــعـــيدا إذجـ َنـ ْبـ َنـا جـيادنـا مـن ظـــفـــار
َ
وابـن أقـلـود قـائمـا ً مـصـــفـــودا فاسـتـبـحـنـا بـالـخـيل مـلـك قـبــاد
ُمال ًء ُم َق َّ
صبا ً َو ُب ُرودا فكسونا البيت الذي حرم هًللا
وجـعـلـنـا لـبــابـــه إقـــلـــيدا وأقمنا به من الشهر عشرا
وسـجـدنـا عـنـد الـمـقـام سـجـــودا ثم طفـنـا بـالـبـيت سـبـعـا ًو سـبـعـا
وقد كانت لنزار بن معد معه وقائع وحروب كث?يرة ،واجتمعت علي?ه مع?د بن ربيع?ه
ومضر? وإي??اد وأنم??ار ،وت??داعت بج??دها ن??زار ،وت??واهبت م??ا ك??ان بينه??ا من ال??دماء
والثأر ،فكانت لهم عليه؛ ففي ذلك يقول أبو ُع َواد ا أليادي:
جياد البرود َ
وخ ْر َج الذهب ض َر ْب َنا على ُت َّبـع جـزية
َ
وكان جبانا ً كثيرا لرهـب وولي أبوكـرب هـاربـا
وكان العزيز بها َمنْ غلب وأتبعه َف َه َوى للـجـبـين
وقد ذكرنا في الكتاب األوسط بدء النسب من إب??راهيم علي??ه الص??الة والس??الم وول??د
إس??ماعيل وتف??رق النس??ب إلى ن??زار بن مع??د وتش??عب الن??اس من ن??زار بن مع??د بن
عدنان ،فلنذكر اآلن في هذا الموضع خ??بر ول??د ن??زار األربع??ة م??ع األفعى بن األفعى
الجرهمي ،ثم نعقب ذلك بم??ا إلي??ه قص??دنا في ه??ذا الب??اب من ه??ذا الكت??اب ،من عل??ة
س??كنى الب??وادي من الع??رب الب??دو وغ??يرهم ممن س??كن الجب??ال واألودي??ة وس??ائر
البراري والقِ َفار.
ذ َك َر عدة من رواة أخبار العرب أن نزار بن معد ول??د أربع??ة أوالد :إي?ادا ،وب??ه ك?ان
ثعم من ولده على ما قيل ،إذ كان فيم??ا ذكرن??ا تن??ازع ألن يكنى ،وأنمارا -و َب ِجيلة َ
وخ َ
من الناس من ألحقهم ب?اليمن ،ومن الن??اس من ذك?ر فيهم م??ا وص??فنا أنهم من ول?د
ضر ?،فلما حضرت نزاراً الوفاة دعا بني?ه? ودع??ا بجاري?ة? أنمار بن نزار -وربيعه ،و ُم َ
له َ
ش ْمطاء ،فقال إلِياد:
ضر فأدخله قبة له حم??راء من هذه الجارية وما أشبهها من مالي ذلك ،ثم أخذ بيد ُم َ
أدَ م ،ثم قال:
هذه القبة وما أشبهها من مالي ذلك ،ثم أخذ بيد ربيعه َوقال له:
هذا الفرس األدْ َه ُم وال ِخ َباء األسود وما أشبهها من مالي ذلك .،ثم أخ??ذ بي??د أنم??ار
وقال له:
هذه ال َب ْح َرة والمجلس وما أشبهها من مالي ذل??ك ،ف??إن أش??كلت عليكم ه??ذه القس??مة
فأ ُتوا األفعى بن األفعى الجرهمي -وك??ان مل??ك َن ْج? ران -ح??تى يقس??م بينكم وتراض??وا
بقس??مته ?،فلم يلبث ن??زار إال قليأل ح??تى هل??ك ،وأش?كلت القس??مة على ول?ده ،فركب??وا
رواحلهم ثم قص??دوا نح??و األفعى ،ح??تى إذا ك??انوا من??ه على ي??وم وليل??ة من أرض
نجران ،وهم في َم َفازة ،إذا هم بأثر بعير فقال إياد:
صفحة 283 :
إن هذا البعير الذي َت َر ْونَ أثره أعور ،فقال أنم??ار :وإن??ه ألب?تر ،ق?ال ربيع??ه :وإن??ه
شرود ،فلم ِيلبثوا أن رفع إليهم راكب ُت ِ
وض ? ُع ب??ه راحلت??ه، ألز َو ُر ،قال مضر :وإنه ل َ
ْ
فلما غشيهم قال لهم :هل رأيتم من بعير ضال في وج?وهكم ،ق?ال إي?اد أك?ان بع?يرك
أعور .قال :فإنه ألعور ،قال أنمار :أكان بعيرك أبتر .ق?ال :فإن?ه ألب?تر? ق?ال ربيع??ه:
أك?ان بع??يرك أزور .ق??ال :فإن??ه ألزور ق?ال مض??ر ?:أك?ان بع??يرك ش??رودا ،.ق?ال :إن??ه
لشرود ،ثم قال لهم :فأين بعيري دلوني عليه ،قالوا :وهللاّ ما أحسسنا لك ببع??ير وال
رأيناه ،قال - :أنتم أصحاب بعيري وما أخطأ َتم من نعته ش??يئاً ،ق??الوا :م??ا رأين??ا ل??ك
بعيراً ،فتبعهم حتى قدموا نج??ران ،فلم?ا أن?اخوا بب?اب األفعى أس??تأذنوا علي??ه ،ف?أذن
لهم ،فدخلوا ،وصاح الرجل من وراء الب?اب :أيه?ا المل?ك ،ه?ؤالء أخ?ذوا بع?يري ثم
حلفوا أنهم ما رأوه ،فدعا به األفعى فقال :ما تقول .فقال :أيها الملك ،هؤالء ذهبوا
ببعيري? وهم أصحابه ،فقال لهم األفعى :ما تقولون .قالوا :رأينا في سفرنا هذا إليك
أ َث َر بعير ،فقال إياد :إنه ألعور ،قال :وما يمريك أنه أعور؛ قال :رأيت??ه مجته??داً في
ف كث?ير اإللتف??اف لم يمس??ه فقلت: َر ْعي الكأل من شق قد لحسه والش?ق األخ??ر وارا ٍ
مص? َع ب??ه فعلمت إنه أعور ،وقال أنمار :رأيته يرمى ببعره مجتمعا ً ولو ك?ان أهلب َل َ
أنه أبتر ،وقال ربيعه ?:رأيت أثر إحدى يدي??ه ثابت?ا ً واألخ??ر فاس??داً فعلمت أن??ه ْأز َور،
?ف الغض وقال مضر ?:رأيته يرعى الش??قة من األرض ثم يتع? ّداها فيم??ر ب??الكأل الملت? ّ
ش? ُرود ،فق??ال فال ينهش منه? حتى يأتي ما ه??و أرق من??ه ،ف??يرعى في??ه ،فعلمت أن??ه َ
بعي??رك وليس??وا بأص??حابه ،التمس بع??يرك ثم ق??ال األفعى :ص??دقوا ،ق??د أص??ابوا أث??ر ِ
?رح َب بهم وحي??اهم ثم ق??ال: األفعى للقوم :من أنتم فأخبروه بحالهم ،وانتسبوا إليه ف? َّ
ما خطبكم .فقصوا عليه قصة أبيهم ،قال األفعى :وكيف تحتاجون إلي وأنتم على ما
أرى قالوا :أمرنا بذلك أبونا ،ثم أمر بهم فأنزلوا ،وأمر خادم?ا ً ل??ه على دارالض??يافة
أن يحسن إليهم ويكرم َم ْث َوأهم وإلطافهم بأفضل ما يق??در علي??ه أم??ر وص??يفا ً ل??ه من
بعض خدمه ظريفا ً أديباً ،فقال له :أنظر كل كلمة تخرج من أفواهم فأ ِتنِي بها ،فلم??ا
نزلوا بيت الضيافة أتاهم ال َق ْه َر َمانُ بقرص من شهد فأكلوا وق??الوا :م??ا رأين??ا ش??هداً
أعذب وال أحس?ن وال أش?د حالوة من?ه ?،فق?ال إي?اد :ص?دقتم ل?وال أن نحل?ه ألق?ا ُه في
ش? ِوية? هامة جبار ،فوعاها الغالم ،فلما حضر غداؤهم وجيء بالش??واء ف??إذا بش??اة َم ْ
ش?ئا وال أرخص لحم?ا ً وال أس??من من??ه ،فق??ال فأكلوها وقالوا :ما رأينا شواء أج??ود َ
إنمار :صدقتم لوال أنه غنِي بلبن كلبة .ثم جاءهم بالش??راب فلم??ا ش??ربوا ق??الوا :م??ا
رأينا خمراً أرق وال أعنب وال أص??فى وال أطيب رائح??ة من??ه ،فق??ال ربيع??ه ?:ص??دقتم
لوال أن كرمها َن َب َت على قبر .ثم قالوا :مارأين??ا م??نزالً أك??رم ق??رى وال أخص??ب َر ْحال
من ه??ذا المل??ك .ق??ال مض??ر :ص??دقتم ل??وال أن??ه لغ??ير أبي??ه .ف??ذهب الغالم إلى األفعى
فأخبره بما كان منهم ،فدخل األفعى على أمه ،فقال :أقسمت عليك إال م??ا أخبرت??ني
من أنا ومن أبي ،فقالت :يا بني ،وما دعاك إلى هذا .أنت ابن األفعى المل??ك األك??بر،
قال :حقا ً لتصدقني ،فلما أل ّح عليها ق??الت :ي??ا ب??ني إن أب??اك األفعى ال??ذي ُت??دْ َعى ل??ه
شيخا ً قد أثقل ،فخشيت أن يخرج هذا الملك عنا أهل البيت ،وقد كان قدم إلينا ش??ابا ً
ت بك منه ،ثم بعث إلى القهرمان ،فق??ال: من أبناء الملوك ،فدعوته إلى نفسي ،فعل ْق ُ
أخبرني عن الشهد الذي بعثت به إلى هؤالء النفر ما خطبه قال :أنا أخبرنا ب َد ْير
صفحة 284 :
شو ُره ،،فأخبروني? أنهم هجم??وا على عظ??ام نخ??رة منك??رة في طف فبعثت إليه من َي ُ
في ذلك الطف ،فإذا النحل ق?د عس?لت في جمجم?ة من تل?ك العظ?ام ،ف?أتوا بعس?ل لم
أرمثله فقدمته إلي القوم لجودته ،ثم بعث إلى صاحب مائدت??ه فق?ال :م??ا ه??ذه الش?اة
شويتها لهؤالء الق??وم .ق??ال :أنى بعثت إلى ال??راعي أن ابعث إلي بأحس??ن ش??اة التي َ
فبعث به??ا إلي ،وم??ا س??ألته عنه?ا ،فبعث إلى ال?راعي أن أعلم?ني خ?بر ه?ذه َ عندك،
الشاة ،قال :إنها أول م??ا ول??دت من غنمي ع??ام أول ،فم??اتت أم??ه ا ،فبقيت ،وك??انت
?راء الكلب??ة ،فك??انت ترض??ع من الكلب??ة م??ع الس? ْخلة ِب ِج? َ
كلبة لي ق??د وض??عت فأنس??ت َّ
ِج َرائها ،فلم أجد في غنمي مثله??ا ،فبعثت به??ا إِلي??ك ،ثم بعث إلى ص??احب الش??راب،
?رم نبتت غرس??تها فقال :ما هذا الخمر ال??ذي س??قيت له??ؤالء الق??وم ق?ال :من حب??ة َك? ْ
على قبر أبيك ،فليس في العرب مثل شرابها ،فقال األفعى :ما ه??ؤالء الق??وم .إنْ هُم
قص ?تكم ،فق??ال إي??اد :هللا أبيصوا علي ّ إال شياطين ،ثم أحضرهم فقال :ما خطبكم ُق ُّ
جعل لي خادمة شمطاء وما أشبهها من ماله ،فقال :إن أباك ترك غنما ً َب ْرشاء فهي
لك ورعاؤها مع الخادم قال أنمار :إن أبي جعل لي بدرة ومجلسه وم??ا أش??بهها من
ماله ،قال :ذلك ما ترك أبوك من الر َق ِة والحرث واألرض ،فقال ربيعه :إن أبي جعل
لي فرسا ً أدهم وبيتأ أسود وما أش??بهها من مال??ه ،ق??ال :ف??إن أب??اك ت??رك خيال دُهْ م?ا ً
وسالحا ً فهي لك وما فيها من عبيد ،فسمي ربيعه الفرس ،فقال مضر :إن أبي جعل
لي قبة حمراء من أدم وما أشبهها من ماله ،فق??ال :إن أب??اك ت??رك إبأل حم??راء فهي
لك وما أشبهها من ماله ،فصارت لمض??ر اإلِب??ل والقب??ة الحم??راء ،وال??ذهب ،فس??مي
مضر الحمراء ،وكانوا على ذلك م??ع أخ??والهم ج??رهم بمك??ة فأص??ابتهم س??نة? أهلكت
ص ?ل ُ أخوت??ه ،وذهب الشاء وعامة اإلِبل ،وبقيت الخيل ،وكان ربيعه يغزو عليه??ا و َي ِ
ما كان ألنمار من شاء في تلك السنين ،ثم ع??اود الن??اس الخص??ب والغيث ،ف??رجعت
اإلِبل وثابت إليها أنفسها ومشت ،فتناسلت وكثرت وقام مضر ب??أمر أخوت??ه ،فبينم??ا
هم كذلك وقد قدم الرعا ُء بابلهم فتعش??وا ليالً وعش??وا رع??اءهم فق??ام مض??ر يوص??ي
الرعاء وفي يد أنمار عظم يت ًعرق ُه فرمى به في ظلمة الليل وهو ال يبصر? فأوت??د في
عين مضر وفقأه فتأوه مض?ر? وص?اح :عي?ني ،عي?ني ،وتش?اغل ب?ه أخوت?ه ،ف?ركب
أنم??ار بع??يراً من ك??رائم إبل??ه ،فلح??ق ب??ديار اليمن ،وك??ان بين أخوت??ه م??ا ذكرن??ا من
التنازع.
فهؤالء ولد نزار األربعة :إليهم يرجع سائر ولد نزار على حسب ما ق َدمنا أن مضر
الحم??راء لم??ا ذكرن??ا من أم??ر القب??ة ،وب??ذلك تفتخ??ر مض??رة ك??ل أم??ه ا من المنث??ور?
والمنظوم ،وربيعه? الفرس وربيعه القشعم من الفروسية? والشجاعة والنج??دة والع??ز
وشن الغارات لما ذكرنا من أمر ال َف َرس ،وإياد و ذكرنا ما لحق عقبه ،وأنم??ار وق??د
بينا الخالف في تفرع نسله ،وما قاله النسابون في عقبه.
ولكل واحد من هؤالء ومن أعقب أخبار كثيرة يط??ول ذكره??ا ،ويتس??ع ش??رحها :من
ذكر ما حلوا به من ال?ديار ،وتش??عب أنس??ابهم وتسلس?لها ،أتى الن?اس على ذكره?ا،
وقد قدمنا فيما س??لف من كتبن??ا اليس??ير مبس??وطها؛فمنعن??ا ذل?ك من إعادت??ه في ه??ذا
الكتاب.
فلنذكر اآلن الغرض من هذا الباب الذي به ترجم ،وإلي??ه نس??ب ،من س??كنى َمنْ ح??ل
والب َج ِة وال??بربر ،ومن
البدْ َو من العرب وغيرها من األمم المتوحشة? كالترك والكرد ِ
تقطن بالبراري و َق َطنَ الجبال ،والعلة الموجبة لذلك من فعلهم.
ومن بحر إفريقية? وصقلية يخرج المرجان ،وهو المتصل ببحر الظلم??ات المع??روف
ببح??ر أقي??انس ،وغ??ير ه??ؤالء ممن ذكرن??ا من األمم من س??كن قط??ع األرض وابت??نى
المدائن شرقأ وغرباً.
ورأت العرب أن جوالن األرض وتخير بقاعها على األيام أش??به ب??أولى الع??ز وألي??ق
ب??ذوي األنف??ة ،وق??الوا :لنك??ون محكمين في األرض ونس??كن نش??اء أص??لح من غ??ير
ذلك ،فاختاروا سكنى البدو ،من أجل ذلك.
س?مو األخط?ار ونب?ل الهمم ّ هّللا
وذكر آخرون أن الق?دماء من الع?رب لم?ا ركبهم من
واألقدار ،وشدة األ َن َقة ،والحمية من المعرة ،والهرب من الع??ار ،ب??دأت ب??التفغير في
المن??ازل ،والتق??دير للم??واطن ،فت??املُوا ش??ان الم??دن واألبني??ة ،فوج??دوا فيه??ا مع??رة
ونقص??ا ،وق??ال ذو المعرف??ة والتمي??يز? منهم :أن األرض??ين تم??رض كم??ا تم??رض
األجسام ،ولحقها اآلفات .والواجب تخير المواضع بحسب أحوالها من الص??الح .إذا
الهواء ربما قوي فأضر بأجسام م سكانه ،وأحال أمزج??ة ق َطان??ة ،وق?ال ذوى اآلراء
صر عن التصرف في األرض ،و َم ْقطعة عن الج? َ?والن، منهم :إن األبنية والتحويط َح ْ
وتقييد للهمم ،وحبس لما في الغرائز من المسابقة إلى الش??رف ،وال خ??ير في اللبث
على هذه الحالة .وزعم?وا أيض?ا ًً أن األبني?ة? واألطالل تحص?ر الغ?ذاء وتمن?ع اتس?اع
الهواء ،وتسد سروحه عن المرور وق??ذاه عن الس??لوك ،فس??كنوا ال??بر األ َفي َح ال??ذيال
يخافون فيه من حصر ومنازلة ض??ر ،ه?ذا م??ع ارتف??اع األق?ذاء ،وس??ماحة األه??واء،
واعتزال الوباء ،ومع تهذيب األحالم في ه??ذه الم??واطن ،ونق??اء الق??رائح في التنق??ل
في المساكن ،مع صحة األمزجة ،وقوة الفطنة ،وصفاء األل??وان وص??يانة األجس??ام.
فإن العقول واالراء تتولد من حيث تول??د اله??واء ،وطب??ع اله??واء الفض??اء وفي ه??ذا
?كنى الب??وادي والحل??ول األمن من العاهات واألسقام والعلل واآلالم ،فآثرت العرب س? ِ
في البيداء ،فهم أقوى الناس همماً ،وأشدهتم أحالماَ ،وأص??حهم أجس??اماً ،وأع??زهم
جاراً ،وأحماهم ذمارا ،وأفض??لهم ج??واراً ،وأج??ودهم فطن?اً؛لم??ا أكس??بهم إي??اه ص??فاء
الج??و ونق??اء الفض??اء،ألن األب??دان تحت??وي أجزاؤه??ا على متك??اثف األك??دار وعن??اء
األق??ذار مم??ا يرتف??ع ألي??ه ،ويتالطم في عرص??اته وأفق??ه من جمي??ع المس??تحيالت،
والمستنقعات من المياه ،ففي أكنافه جميع ما يتص??عد إلي??ه ،ول??ذلك ت??راكبت األق??ذاء
واألع??واء والعاه??ات في أه??ل الم??دن ،وت??ركبت في أجس أم??ه م ،وتض??اعفت في
أش???عارهم وأبص???ارهم ،ففض???لت الع???رب على س???ائر َمنْ ع???داها من ب???وادي األمم
المتفرقة لما ذكرنا من تخيرها األماكنَ وارتيادها المواطن.
قال المسعودي :ولذلك جانبوا فظاظ??ة األك??راد وس??كان الجب??ال من األجي??ال الجافي??ة
سها ،وذلك أن هذه األمم الساكنة ه??ذه وغيرهم الذين مساكنهم ُح ُزونُ األرض ودها ُ
الجبال واألودية تناسب أخالقها مساكنها في انخفاض??ها وارتفاعه??ا؛ لع??دم اس??تقامة
قطانها على ما هي عليه من الجفاء والغلظ. الق َ
أخ ُ االعتدال في أرضها ،فلذلك ْ
ت ومنه??ا مص??ايف؛ فمنهم ال ُم ْن ِج??د وال ُم ْت ِهم فتخيرت العرب في البر إنزاال منها َم َ
ش ?ا ٍ
فالمنجد منهم هم الذين س??كنوا أرض نج??د والمتهم هم ال??ذين س??كنوا أرض تهام??ة،
ومنهم من سكن أغوار األرض كغور بيسان وغ??ور غ??زة من أرض الش??ام من بالد
فلسطين واألردن ومن سكنه من لخم و ُج َذام ،ولجميع العرب مياه يجتمع??ون عليه??ا
ِيع? ان وملكية يعرجون إليها ،كالدهناء والسماوة والتائم وأنجاد األرض والبقاع والق َ
والوهاد ،ولست تكاد ترى قبيالً من العرب توغل من األماكن المعروفة لهم والمي??اه
المشهورة بهم ،كماء ضارج وماء لعقيق وال َه َباءة وما أشبه ذلك من المياه.
ومن الن??اس من ألحقهم بإم??اء س??ليمان بن داود عليهم??ا الس??الم حين س??لب ملك??ه
ووقع على إمائه المنافقات الشيطانُ المعروف بالجسد ،وعص??م هللا من??ه المؤمن??ات
هللا على س??ليمان ُم ْلك??ه ووض??ع تل??كأن يقع عليهن ،فعلق منه المنافق??ات ،فلم??ا َر َّد ّ
اإلماء الحوامل من الشيطان قال :أكردوهن إلى الجبال واألودية ،فربتهم أم??ه اتهم،
وتناكحوا ،وتناسلوا ،فذلك بدء نسب ا ألكرا د.
ومن الن??اس من رأى أن الض??حاك ذا األف??واه المق ? َّدم ذك??ره في ه??ذا الكت??اب ال??ذي
تنازعت فيه الفرس والعرب من أي الفريقين هو ،أنه خرج بكتفيه َحي َت? ِ
?ان فكانت??ا ال
ُت َغ َذيان إال بألدمغة الناس ،فأفنى خلقا ً كثيراً من فارس ،واجتمعت إلى حربه جماعة
كاوان،كثيرة وافاه أفريدون بهم وقد شالوا راية من الجلود تسميها الفرس درفش َ
فأخ??ذ أفري??دون الض??حاك وقي??دهُ في جب??ل دنباون??د على م??ا ذكرن??ا ،وق??د ك??ان وزي??ر
الضحاك في كل يوم يذبح كبشا ً ورجالً ويخلط أدمغتهما ،ويطعم تينك الحيتين اللتين
كانتا في كتفي الضحاك ،ويطرد من تخلَّص إلى الجبال ،فتوحشوا وتناسلوا في تل??ك
الجبال فهم بدء األكرادَ ،وهؤالء من نسلهم ،وتشعبوا أفخ??ادْ اً ،وم??ا ذكرن??ا من خ??بر
س اليتنا كرونه ،وال أصحاب التواريخ القديمة وال الحديثة. الضحاك فالفُ ْر ُ
وللف??رس في أخب??ار الض??حاك م??ع إبليس أخب??ار عجيب??ة ،وهي موج??ودة في كتبهم،
الفرس أن طهومرث المقدم ذك??ره في مل??وك لف??رس األولى ه??و ن??وح الن??بي ُ وتزعم
عليه السالم ،وتفس??ير? درفيش بالفارس??ية? اللهلوي??ة -وهي األولى -الراي??ة والمط??رد
والعلم.
وأما الترك وأجناسها فقد قدمنا كثيرأ من أخبارها ،وقد غلط قوم فزعموا أن ال??ترك
من ول??د ط??وح بن أفري??دون ،وه??ذا غل??ط َب ِّين؛ألن ط??وح َوألَه أفري??دون على ال??ترك
وسلم على الروم ،وكيف توليه عليهم وهم ولده؛ وم??ا قلن??ا ي??دل على أن ال??ترك من
غير ولد طوم بن أفريدون ،بل لطوح في الترك عقب مشهور ،والمعظم في أجن??اس
الترك هم التبت ،وهم من حمير على حسب ما ذكرنا أن بعض التبابعة ربتهم هناك.
وما قلنا من األكراد فاألشهر عند الناس؛واألصح من أنسابهم؛ أنهم من ول??د ربيع??ه
بن ن??زار ،فأم??ا ن??وع من األك??راد -وهم الش??وهجان ببالد م??ا بين الكوف??ة والبص??رة،
وهي أرض الدينور وهمذان -فال تناكما بينهم أنهم من ولد ربيعه بن نزار بن معد،
والماجردان -وهم من الكنكور ببالد أذر والهلبانية? والسراة وم??ا ح??وى بالد الجب??ال
من الشادنجان والمادنجان والمزدنكان والبارسان والخالية والجابارقية والجاواني??ة
والمس??تكان ومن ًح? ل ّ بالد الش??ام من الدبابل??ة وغ??يرهم -فالمش??هور فيهم أنهم من
مضر بن نزار ،ومنهم اليعقوبية والجورق??ان وهم نص??ارى ،ودي??ارهم مم??ا يلي بالد
الموصل وجبل الجودي.
وفي األكراد َمنْ رأيهم رأي الخوارج والبراءة من عثمان وعلي رضي هللا عنهما.
فهذه جم??ل من أخب??ار ب??وادي الع??الم ،وق??د أعرض??نا عن ذك??ر الغ??وز والخ??رلج وهم
أنواع من الترك نحو بالد غرش وبسطام و ُب ْست مما يلي بالد سجستان وك??ذلك من
ببالد كرمان من أرض القفص والبلوج والجت.
وكان قد نذر إنْ رزقه هّللا عز وج??ل عش??رة أوالد ذك??ور أن يق??رب أح??دهم هلل تع??الى
فكان أمره -حين رزقه هّللا إياهم -أن قرب أحبهم إليه وهو عبد هّللا أبو الن??بي ص??لى
هللا عليه وسلم ،فضرب عليه بالقِدَ اح حتى افتداه بمائة من اإلبل ،في خبر طويل.
أصحاب الفيل
وقد كان أبرهة حين سار بالحبشة وأتى أنصاب الح??رم ،ف??نزل بالموض??ع المع??روف
س? ِّي ُد مك??ة ،فعظم??ه وهاب??ه
بحب المحصب ،فأتى بعبد المطلب بن هاش??م ف??أخبر أن??ه َ
س ْلنِي يا عب??د المطلبالستدراة نور النبي صلى هللا عليه وسلم في جبينه ?،فقال لهَ :
فأبى أن يسأله إال إبال له ،فأمر بردها عليه وقال له :أال تسألني الرجوع؛ فقال :أن??ا
رب ه??ذه اإلِب??ل ،ولل??بيت رب س??يمنعه من??ك وانص??رف عب??د المطلب إلى مك??ة وه??و
يقول:
مع الفيول على أنيابها َّ
الز َرد يا أهل مكة قد وافا ُك ُم ملـك
مع الليوث عليها البيض تتقد النجاشي قد سارت كتائبه
ُّ هذا
كمنع تبع لما جاءها حـرد يريد كعبتكم ،وهللا مانـعـه
وأمر قريشآ َ أن تلحق ببطون األودية ورؤوس الجبال من َم َع ًرة الحبشة ،و َقلّدَ اإلِبل
النعال وخالها في الحرم ووقف بباب الكعبة وهويقول:
ولقول:
فأرس??ل هّللا عليهم الط??ير األبابي??ل ،أش??باه اليعاس??يب ،ت??رميهم بحج??ارة من س??جيل،
وهوطين خلط بحجارة خرجت من البحر ،مع كل طير ثالثة أحجار فأهلكهم هّللا ع??ز
وجل.
وق??د ذكرن??ا خ??بر أبي ُر َغ? ال فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب حين دلهم على الطري??ق،
وهالكه في الطريق ،وجعلت الحبشة? يومئذ? تسأل عن ُن َف ْيل بن حبيب الخثعمي يدلها
?ع لم??ا عمهم من
على الطري??ق ،ونفي?ل? يس??مع? كالم الحبش??ة وس??ؤالها عن??ه وق??د ِرب? َ
البالء ،وانفرد ،من جملتهم يؤمل الخالص ،وقد تاهوا ،فأنشأ يقول:
شان دَ ْي َنا وقد ذكرنا م?ا ك?ان منهم في هل?ك علي للح ْب َ وكل القوم يسأل عن نفيل كأن َّ
عز وج?ل ّ عن الكعب??ة أنش??أ عب??د ّ هّللا ص ّدهم
عديدهم فيما سلف من هذا الكتاب ،فلما ً
ص َم ْم إن للبيت لر ّبا ً
المطلب يقول :أيها الداعي لقدأسمعتني ثم ما بي عن ِن َداكم من َ
ص َطلم ر أمه تبع فيمن َج َن َد ْت ِح ْميروالحي من آل ق??دم ف??انثنى مانعا ً َمنْ ُي ِر ْع! بأثام ُي ْ
ح أمسك منه? بال َك َظ ْم قلت واألشرم ترس خيل??ه :إن ذا األش??رم عنه وفي أوداجه جار ٌ
غرب??الحرم نحن آل هَّللا فيم??ا قدمض??ى لم ي??زل ذاك على عه??د َ
إل??ر َه ْم نحن َع َفرن??ا
ص? َل ُة الق?ربى وإيف?اء .ال ِّنمم
س? َنة ِ
ثمودأع ْنوة ثم عاداً قبلها ذات األرم نعبد هللا وفينا ُ َ
لم تزل هَّلل فيناحجة يدفع هَّللا بهاعنا ال ِّن َق ْم.
قال المسعودي:
وقد اس??تدل ق?وم ممن ذهب إلى الغل??و في بعض الم??ذاهب والخ?روج عم?ا أوجبت?ه
قضية العقل وضرورات الحواس بهذا الشعر وقول عبد المطلب فيم?ا ك?ان منهم في
قديم الزم?ان ،وأي??دوا ذل?ك الش??عر بش??عر العب?اس بن عب?د المطلب في مدح??ه الن??بي
صلى هللا عليه وس??لم وه??و م??ا ذك??ره ق??ريم بن أوس بن حارث??ة بن ألم الط??ائي أن??ه
هاجر إلى رسول هّللا فقدم عليه ُم ْن َ
ص َر َفة من َت ُبوك فأسلم ،قال :س??معت العب??اس بن
عبد المطلب يقول :يا رسول هّللا ،إني أريد أن أمتدحك ،فقال رس??ول هللا ص??لى
ضض هّللا فاك يا عدي ،فأنشأ يقول : هللا عليه وسلم :قل ال َي ْف ُ
الو َرق
ف َ ص ُوفي مستودع حيث ُي ْخ َ من قبلها طِ ْب َت في الظالل
أنت ،والمضـغة ،والعـلـق ثم هبطت الـبـالد ،البـشـر
وقـد ألجم ْن ْسرأوأهـ َلـ ُه الـغـرق بل حجة تركب السفـين،
إذا مضى عالم بـدا َطـ َبـق تنقل من صالـب إلـى رحـم
ال أرض ،وضاءت بنورك األفق وأنت لما ُولدْ ت أشـرقـت
مـن خندق علياء تحتها الـنـطـق حتى احتوى بيتك المهيمن
و سبل الرشاد نخـتـرق فنحن في ذلك الضياء وفي النور
قالوا:
وهذا الخبر قد ذكره أصحاب السير واألخب??ار والمغ??ازي ،ونقل??وا ه??ذا الم??ديح من
قول العباس ،وما كان من سرور النبي صلى هللا عليه وس??لم ب??ذلك واستبش??اره ب??ه
فجعلت هذه الطائفة من ال ُغالة ما ذكرن?ا من الش?عرين -ش?عر عب?د المطلب ،وش?عر-
العب?اس -دالل?ة لهم على م?واطن ادعوه?ا ،وتغلغل?وا إلى ش?به بعي?دة اس?تخرجوها،
ذك?ر ذل?ك جماع?ة من يمن?ع? منه?ا م?ا تق?دم من أوائ?ل العق?ول ،وموجب?ات الفحصَ ،
مصنفي? كتبهم ،ومن حذاق مبرزيهم ،من ف??رق المحمدي??ة والعلباني??ة ?،وغ??يرهم من
فرق الغالة :منهم إسحإق بن محمد النخعي المعروف ب??األحمر في كتاب??ه المع??روف
بكت??اب الص??راط ،وق??د ذك??ر ذل??ك الفي??اض بن علي بن محم??د بن الفي??اض في كتاب??ه
الصراط وذكره المعروف بالنهكني في نقضه المعروف بالقسطاس في نقضة لكتاب َ
ه??ذا الكت?اب الم?ترجم بالص??راط ،وه??ؤالء محمدي??ة نقض?وا ه?ذا الكت??اب ،وه??و على
مذهب العلبانية ،وقد أتينا على ذكر هؤالء المحمدية والعلبانية والمغيرية? والقمرية?
وسائر فرق ال ُغالَة وأصحاب التذويض والوسائط ،واستقص??ينا النقض عليهم وعلى
س??ائر من ذهب إلى الق??ول بتناس??خ األرواح في أن??واع أش??الء الحي??وان ممن ادعى
اإلس??الم وغ??يرهم ممن س??لف من اليون??انيين والهن??د والثنوي??ة والمج??وس واليه??ود
والنصارى ،وذكرنا قول أحمد بن حائ??ط وابن ي??افوس جعف??ر القاض??ي ،إلى َمنْ نج َم
في وقتنا ممن تقدم وتأخر إلى هذا الوقت -وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة -ممن
أحدث ق??والً تفريع?ا ً على م??ا س??لف من أص??ولهم وأب??ور ش??بها ً أ َّي َد به??ا م??ا تق??دم من
م??ذاهبهم ،مث??ل الحس??ين بن منص??ور المع??روف ب??الحالج ،وأص??حاب أبي يعق??وب
المزايلي ،ثم أصحاب السم ومن تأخر عن??ه وف??ارقهم في أص??ولهم ،مث??ل أبي جعف??ر
محم??د بن على الش??لمغاني المع??روف ب??ابن أبي الغرائ??ر وغ??يرهم ممن أ َّمم نهجهم،
وذكر الفرق بينهم وبين غيرهم من أصحاب الدور في ه??ذا ال??وقت ممن ي??راء وقت
الظهور ،وأصحاب حجج الليل والنهارث إذ كان هؤالء ق??د أثبت??وا الق??ول بالتناس??خ،
وأن األرواح تنتقل? في شيء من األجسام الحيوانية ?،وأحالوا على القديم ع??ز وج??ل
أن يجوز عليه شيء مما تقدم ،فلنرجع اآلن إلى ما كنا ا آنفاً ،وما تغلغل بن??ا الك??رم
عنه من ذكرعبد المطلب.
صفحة 293:
االختالف في إيمان عبد المطلب
تنازع الناس في عبد المطلب:
عزوج?لّ ،وال أح??د من فمنهم من رأى أنه كان مؤمنا ً موح??داً وأن??ه لم يش??رك باهّلل ّ
آباء النبي صلى هللا عليه وسلم ،وأنه نقلفياألصالب الط??اهرة ،وأن??ه أخ??بر أن??ه ول??د
من نكاح ال من سفاح ،ومنهم،رأى أن عب??د المطلب ك?ان مش??ركاً ،وغ??يره من آب??اء
الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم أال من ص??ح إيمان??ه ،وه??ذا موض??ع في??ه تن??ازع بين
اإلمامية والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغ??يرهم من الف??رق في النص واالختي??ار،
وليس كتابنا هذا موسوما ً للح َِجاج فنذكرحجاج كل فريق منهم.
وقد أتينا على قول كل فريق منهم وما أيد ب??ه قول??ه في كتابن??ا المق??االت في أص??ول
ال??ديانات وفي كت??اب االستبص??ار ووص??ف أقاوي??ل الن??اس في اإلم أم??ه وفي كت??اب
الصفوة أيضاً.
أبو طالب
األرحام ،وإطعام الطع??ام ،وي??رغبهم وي??رهبهم
ٍ وكان عبد المطلب يوصي ولده بصلة
فعل من يراعي في المتعف معادا وبعثا ً ونشوراً ،وجعل السقاية والرفاع?ة إلى ابن?ه
عبد مناف -وهو أبو طالب -وأوصاه بالنبي صلى هللا عليه وسلم.
وق??د تن??وزع في اس??م أبي ط??الب :فمنهم من رأى أن اس??مه عب??د من??اف ،على م??ا
وصفنا ،ومنهم من رأس أن كنيت??ه اس??مه ،وأن علي بن أبي ط?الب رض??ي هّللا عن??ه
كتب في كتاب النبي صلى هللا عليه وسلم ليهود خيبر بإمالء الن??بي ص??لى هللا علي??ه
وسلم وكتب علي بن أبي طالب بإسقاط األل??ف وق??د ذك??ر عب??د المطلب في ش??عر ل??ه
وصية? أبي طالب بالنبي? ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،فق??ال :أوص??يت َمنْ كنيت??ه بطـالـب
بابن الذي قد غاب ليس بآئب
اختالط األلسنة
َ
وقد كان أكثر العرب ممن بقي ودث َريقر? بالصانع ،ويستدل? على الخالق وقد كان في
ملك النمروذ بن كوش بن حام بن نوح هيج?انُ ال?ريح ال?تي نس??فت ص?رح النم??روذ
بباب??ل من أرض الع??راق ،فب??ات الن??اس ولس??انهم س??رياني ،وأص??بحوا وق??د تف??رقت
لغاتهم على اثنين وسبعين لساناً ،فسمى الموضع من ذل??ك ال??وقت باب??ل ،فص??ار من
ذلك في ولد سام بن نوح تسعة عشر لسانا ً وفي ولد حام بن توح ستة عشر لس??انا ً
وفي ولد يافث بن نوح سبعة وثالث??ون لس??ا َنا َ على حس??ب م??ا ذكرن??ا في ص??در ه??ذا
الكت??اب ،وك??ان من تكلم بالعربي??ة? يع??رب وج??رهم وع??اد وعبي??ل وج??ديس وثم??ود
وعمالق وطسم ووبار وعبد ضخم ،فسار يعرب بن قحط??ان بن ع??ابر بن ش??الخ بن
إرفخشذ بن سام بن نوح بمن تبعه من ولده وغيرهم وهويقول:
األيمن المعرب في المـهـل أنا ابن قحطان الهمام األفضل
أنا ا ْلبدِي ُئ باللسان المسـهـل يا قوم سيروا في الرعيل األول
حثوت واالمة في تبـلـبـل األبين المنطق غير المشـكـل
نحو يمين الشمس في تمهـل يا قوم سيروا في الرعيل األول
َ
آنفا َ من هذا الكتاب. فحل باليمين على ما وصفنا
صفحة 294 :
الح ْج َر إلى فرع ،وقد تقدم ذكرهم فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب ،وخ??بر
فنزلى هؤالء َ
القرف ،بين الشام والحجاز. نبيهم صالح عليه السالم ،وأنهم نحو وادي َ
كعب األحبار
هو كعب بن مانع ،أبو اسحاق ،تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في
اليمن ،وأسلم في زمن أبي بكر ،وقدم المدينة في دولة عمر .ت??وفي في حمص عن
مئة? وأربع سنين سنة?.
وقد قلنا فيما سلف إن هؤالء الذين نزلوا اليمامة?.
فنزل هؤالء أكناف الحرم والتهائم ،ومنهم من سار إلى بالد مصر? والمغرب ،وقيل:
إن هؤالء بعض ذراعنة مصر ?،وق?د ذكرن??ا ق??ول من الح?ق العم??اليق وغ?يرهم ممن
ذكرنا بعيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ،وزعم أنهم من ولد العيص على حسب
ما ذكرنا فيما تقدم.
وقد كانت للعماليق ملوك كثيرة سلفت في مواضع من األرض بالشام وغ??يره ،وق??د
أتينا على أخبارهم وذكر مم??الكهم وح??روبهم في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان ،وق??د ذكرن??ا
فيما سلف من هذا الكتاب قصة يوشع بن نون م??ع مل??ك العم??اليق ببالد أيل??ة ،وه??و
الس??ميدع بن ه??وبر ،وق??د ك??ان من بقي من العم??اليق انض??افوا إلى مل??وك ال??روم؛
فملكتهم الروم على مشارق الش??ام والغ??رب والجزي??رة من ثغ??ور الش??ام فيم??ا بينهم
وبين فارس.
ولم يكن حوله الرايات تختفـق كأن عمرو بن زباا لم يعش ملكا
فيها خراشف بالنيران ترتشـق الءم جذيمة من ضرساء مشعلة
فنزل هؤالء البحرين وقد ك??ان جمي??ع من ذكرن??ا ب??دواًً ،وانتش??روا في األرض ،على
حس??ب م??ا ذكرن??ا من مس??اكنهم ،وك??ثرت ج??ديس ،فملكت عليهااألس??ود بن غف??ار،
ش ? ِر َّي َ?ة الج??رهمي
وكثرت طسم ،فملكت عليها عملوق بن جديس ،وقد ذكرعبي??د بن َ
حين وفد على معاوية وأخبره أن طسم بن الوذ بن أرم بن سام بن ن??وح ،وج??ديس
بن عابر بن سام بن نوح ،هم العرب العاربة ،وق??د ك?ان م?نزلمهم جميع??أ باليمام??ة،
واسمها إذ ذاك َجؤ.
فأبرم حكما ً في ه َُز ْي َلة ظالـمـا طسم ليحكـم بـينـنـاِ أتينا أخا
وال َف ِهما ً عند الحكومة عالـمـا لعمري لقد ُح َك ْم َت ال متـورعـا
وأصبح? زوجي حائر الرأي نادما ندمت فلم أقدرعلى متـزحـزح ُ
فبلغ ال َملِ َك قول ه َُزيلة ،فغضب ،وأمر أن ال تتزوج? امرأة،جديس فتزف إلى زوجه??ا
حتى تحمل إلي??ه ،فيفترعه??ا قب??ل زوجه??ا ،فلق??وآ من ذل??ك ذالً ط??ويال ،ولم ت??زل تل?ك
حالتهم حتى تزوجت عفيرة ،وقيل الشموس ،بنت غفار الجديس??ي أخت األس??ود بن
غفار ،فلما كانت لي هَدْ ِي َها إلى زوجها انطل??ق به??ا إلى عمل??وق المل??ك ليطأه??ا على
عادته ،ومعها ال َق ْي َنات يغنينه ويقلنا فيغنائهن:
وهي تقول:
ال أحد أفل منها َجدِيس أهكذا يفعل بالعروس.
وقالت أيض?ا ً تح??رض قومه??ا ج??ديس على طس??م ،وأبت أن تمض?ي? إلى زوجه??ا من
كلمة:
وأنتم رجال فيكم عـدد الـرمـل صلُح ما يؤتى إلى فـتـياتـكـمأ َي ْ
صبيحة ُز َّفت في النساء إلى البعل صلُح تمشي? في الدما فتـياتـكـم أ َي ْ
فكونوا نساء ال تفروا من الكحـل فإن أنتم التغضبـوا بـعـد هـذه
خلقتم ألثواب العروس وللغـسـل طيب العـروس؛فـإنـمـا
َ ودونكم
ٍ
ويختال يمشي بيننا مشية? الفـحـل فقبحا و شيكأ للذى لـيس دافـعـا ً
نساء لكنا ال نقـر عـلـى الـذل فلو أننا كنا الـرجـال وكـنـتـم
بحرب َتلظى في القرام من الجزل فموتوا كرامأ ،واصبروا لعـدوكـم
إنـمـا تقوم بأقوام كرام عـلـى ِر ْجـل والتجزعوا للحرب يا قوم،
ويسلم فيها ذو النجابة والفـضـل فيهلك فيها كل ن ِْـك ٍ
ـس مـواكـل
التفكر في االنتقام
قال:
فلما سمعت جديس بذلك وغيره من قولها اجتمعت غض??با ً ل??ذلك ،فق??ال لهم األس??ود
بن غفار -وكان فيهم سيداً مطاعاً -يا جديس ،أطيع??وني فيم??ا ام??ركم ب??ه ،وأدع??وكم
إليه ،ففي ذلك عز الدهر ،وذهااب الذل،
قالوا:
وما ذلك؛
قال:
قد علمتم أن هؤالء -يع??ني طس??ماً -ليس??و ب??أعز منكم ،ولكن ُم ْل? َك ص??احبهم عليكم
وعليهم وهو الذي ُي ْذ ِعننا إليه بالطاعة ،ولوال ذلك ما كان له علينا من فض??ل ،ول??و
امتنعنا منه لكان لنا النصف،
فقالوا:
قد قبلنا قولك ،ولكن القوم أقراننا ،وأكثر عمداً َوعدداً ِم َنا ،فنخاف إن ظفروا بنا أن
ال يقيلونا،
فقال:
وهّللا يا جديس لتطيعنني? فيما آمركم به وأدع??وكم إلي??ه أو ألتكئن على س??يفي فأقت??ل
به نفسي،
قالوا:
فإنا نطيعك فيما قد عزمت عليه،
قال:
إني صانع لعملوق وقومه من طسا طعاما ً وداعيهم إليه ،فإذا جاءوا إليه متفضلين
في الحلل والنعال نهضنا إليهم بأسيافنا ،فانفردت أنا بالملك ،وانفرد ك??ل رج??ل منكم
برجل منهم،
قالوا له:
فافعل ما بدا لك ،واجتمع رأيهم عليه ،فقالت عفيرة ألخيه??ا األس??ود ال تفع??ل ه??ذا؛
فإن الغدر فيه ذلة وعار ،ولكن كابدوا القوم في ديارهم تظفروا أو تموتوا كراماً،
قال:
أم َكنَ لن?ا من نواص??يهم ،وأبل??غ في االنتق??ام منهم،
ال ،ولكن نمكر بهم ،فيك??ون ذل??ك ْ
فقالت عفيرة في ذلك أسعاراً قد ذكرناها فيما سلف من كتبنا.
ثم إن األسود صنع طعاما ً كثيراً ،وأمر قومه فاخترطوا سيوفهم ودفنوها في الرم??ل
حيث أ َعدُوا الطعام،
قالوا:
نفعل ما قلت.
ثم دعا األس??ود بعمل??وق الطس??مى ومن مع??ه من رؤس??اء طس??م باليمام??ة فأس??رعوا
إجابة دعوة األسود ،فلما توافوا إلى ال َمدْ َعاة َو َث َب ْت جديس ،فاستثإروا س??يوفهم من
الرمل ،وشدوا على عملوق وأصحابه فقتلوهم حتى أفنوهم عن اخرهم ،ومضوا
صفحة 299 :
إلى ديارهم فانتهبوها ،وق??ال األس??ود بن غف??ار في ذل??ك أش??عاراً ي??رثي به??ا طس??ماً،
ويذكر بغيها وفعل عملوق بأخته ،يطول بذكرها الكتاب ،وقد تقدمت فيما س??لف من
كتبنا.
قال:
نعم،
فقال الملك:
إن كنت صادقا ً لقد خرجت من أرض قريبةَ ،
وو َعدده بالنصرة ،ثم نادى في حم??ير
بالمسير ،وأعلمهم بما فعل بطسم،
قالوا:
َمنْ فعل َ هذا أبيت اللعن.
قال:
عبيدهم
قالوا:
أربٍ ،هم إخوانن??ا فال نعين بعض??نا على بعض ،وهم عبي??دك أيه??ا
ما لنا في هذا من َ
الملك فدعهم،
فقال حسان:
ما هذا بحسن ،أرأيتم لوك??ان ه??ذا فيكم ك??ان حس??نا ً لملككم أن يه??در دم??اءكم؛ وم??ا
علينا في الحكم إال أننا ننصف بعضنا من بعض.
زرقاء اليمامة
فقام فرسانهم فقالوا :أبيت اللعن األمر أمرك ،فمرنا بم??ا أحببت ،ف??أمرهم بالمس??ير?،
فساروا وسار بهم رباح بن مرة حتى إذا ص??اروا من اليمام??ة على ثالث ق??ال رب??اح
بن مرة للملك حسان :أبيت اللعن إن لي أختا ً متزوج ?ة? في ج??ديس ليس في األرض
أبصر منها ،إنها تبصر الراكب على مسيرة ثالث لي??ال ،وأن??ا أخ??اف أن تن??ذر الق??وم
بك ،فتأمر ك??ل واح??د من أص??حابك أن يقتل??ع ش??جرة من األرض فيجعله??ا أم أم??ه ثم
يسير ?،فأمرهم حسان بذلك ،ففعلوا ثم ساروا ،وكان اسم أخت رباح يمامة? بنت مرة
فأشرفت من منظرها فقالت :يا ج??ديس ،لق??د س??ارت أليكم الش??جر ،ق??الوا له??ا :وم??ا
ذاك .قالت :أرى أشجاراً تسير ووراءه??ا ش??يء ،وإني ألرى رجالً من وراء ش??جرة
ينهش كتفا ً أو يخصف نعال ،فكذبوها ،وكان ذلك كم??ا ذك??رت فغفل??وا عن أخ??ذ أهب??ة
الحرب ،ففي ذلك تقول اليمامة لجديس تحفذهم:
ُ وأقبل الملك حسان بحمير ،حتى إذا كان من َجؤ على مسيرة ليلة عب??أ جيش??ه ثم
ص َبح َها فاستباح أهلها من جديس قتالً ،فأفناهم وسبى نساءهم وص??بيانهم ،وه??رب
ً
األسود بن غفار ملكها حتى نزل بدار طيىء فأجاروه من المل??ك وغ??يره -،من غ??ير
أن يعرفوه؛فيذكرأن نسله اليوم في طيىء مذكور.
فلما فرغ حس?ان من ج?ديس دع?ا باليمام??ة بنت م?رة ،وك?انت ام?رأة زرق??اء ،ف?أمر
فنزعت عيناها فإذا في داخلها عروق سود ،فسألها عن ذل??ك ،فق??الت :حج??ر أس??ود
يقال ل?ه اإلثم?د كنت أكتح?ل ب?ه فنش?ب إلى بص?ري? وك?انت هي أول من أكتح?ل ب?ه،
فاتخذوه بعد ذلك كحالً ،وأمر امل??ك باليمام??ة ،فص??لبت على ب??اب ج??و ،وق??ال س??موا
جواً باليمامة؛فسميت? بها إلى اليوم.
وفارس أرباب الملوك؛ بهم فخري أبونا أميم الخير من قبـل فـارس
من المجد إال ِذ ْك ُر َنا أفضل الذكـر وما عد قوم من حـديث وحـادث
أنساب البربر
وقد تنازع الناس في بدء أنس?اب ال?بربر ،فمنهم من رأى أنهم من غس?ان وغ?يرهم
من اليمن ،وأنهم تفرقوا حول تلك ال?ديار حين تف?رق الن?اس من بالد م?أرب عن?دما
??رم ومنهم من رأى أنهم من قيس عيالن ،ومنهم من رأى غ??ير ك??ان من س??يل ال َع ِ
ذلك ،وقد ذكرناه فيما سلف من كتبنا.
ونزل ولد كنعان بن حام -وهم األغلب من ولد كنعان -بالد الش??ام ،فهم الكنع??انيون،
وبهم تعرف تلك الديار ،فقيل :بالد كنعان.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أخبار مصربن حام وبيصر? واأل نباط.
وقد كان من ذكرنا من األمم ال يجحد الص??انع ج??ل وع??ز ،ويعلم??ون أن نوح?ا ً علي??ه
وفي لقومه بما وعدهم من العذاب ،إال أن القوم دخلت عليهم ُ
ش َبه السالم كان نبياًّ ،
بعد ذلك لتركهم البحث واستعمال النظر ،ومالت نفوسهم إلى ال َّد َعة ،وما تدعو إليه
الطبائع من ال َمالَ ِّذ والتقليد ،وكان في نفوسهم هيبة الصانع ،والتقرب إليه بالتماثيل?
وعبادتها ،لظنهم أنها مقرب?ة? لهم إلي??ه ،وك??انوا م??ع ذل?ك يعظم??ون موض??ع الكعب??ة،
وكان موضع على م??ا ذكرن??ا رب??وة حم??راء ،فوف??دت ع??اد إلى مك??ة يستس??قون لهم،
وكان بمكة يومئذ العم?اليق ،ف?أتى الوف?د مك??ة ،ف?أقبلوا علي الش?رب والله?و ،ح?تى
َغنتهم الجرادتان َق ْي َن َتا معاوية بن بكر بشعر فيه َحث لهم على ما وردوا من أجله،
صفحة 304 :
وهو:
لعل ً هللا يمـطـرنـا غـمـامـا أال يا َق ْيل َو ْي َحـ َك قـم َفـ َهـ ْينِـم
س ْوا ال يبينون الكالما إنَ عادا َق َد ا ْم َ فيســقـــي أرض عـــادٍ،
نـرجـو به الشيخ الكبير وال الـغـالمـا من العطش الشديد فليس
فال تخشى لراميهـم سـهـامـا وإن الوحش تـأتـي أرض عـاد
نهار ُك ُم وليلـ ُكـ ُم الـتـمـامـا
َ وأنتم ههنا فـيمـا اشـتـهـيتـم
وال لُ ُّقوا التـحـية والـسـالمـا َفقبح وفـدكـم مـن وفـد قـوم
فاستيقظ القوم من غفلتهم ،وب??اثروا إلى االستس??قاء لق??ومهم؛ فك??ان من أم??رهم في
مجيء السحاب واختيارهم لما اخت??اروه منه??ا م??ا ق??د اتض??ح وفيهم يق??ول َم ْرث??د بن
سعد من كلمة:
َ
فأمسوا عِ طاشا ال َت ُبلّهم السـمـاء ص ْت عاد رسو َل ُه ُم َع َ
عـاد فإن قلوبهم َق ْفـ ٌر هـواء أال َق َب َح اإلِل ُه ُحلُـو َم
د يقابله صـداء والـهـبـاء لهم صنم يقال له صـمـو
فأبصرنا الهدى ونأى ال َع َماء صرنا النبي سبـيل رشـد فب َ
بأن إله هود هو الـعـالء وإني موقن فاستـيقـنـوه
على هللا التوكل والرجـاء و أن إله هود هـو إلـ ِهـي
وإخوته إذا حق المـسـاء وأني الحق باألمس هـوداً
مهلك عاد
فأرسل هللا عز وجل على عاد الريح العقيم ،فخرجت الريح عليهم من وا ٍد لهم ،فلما
رأوا ذلك قالوا:
عارض ممطرناط وتباشروا بذلك،
ٌ " هذا
فل ّما سمع هود ذلك من قولهم قال:
" بل هو ما استعجلتم به ،ريح فيها عذاب أليم" االية فأت َتهم الريح يوم األربع??اء،
فلم تأت األربعاء الثانية ومنهم َح ٌّي ،فمن أجل ذلك كره الناس يوم األربعاء.
وقد بينا فيما يرد من هذا الكتاب كيفية ذلك ،وكيف وقوعه من أيام الشهر في ب??اب
ذكر الشعور ،فلما شاهد هود النبي صلى هللا عليه وسلم ما نال َ قومه انفرد هو
صفحة 305 :
وقد كان نزل بالد الجحفة بين مك??ة والمدين??ة عبي??ل بن ع??وص بن أرم بن س??ام بن
نوح هو وولدة ومن تبعه ،فهلكوا بالسيل ،فس??مي ذل??ك الم??وف با ْل ُج ْحف??ة إلجحافه??ا
عليهم.
يثرب
وكان يثرب بن قاتية بن مهليل بن أرم بن عبيل نزل بالمدينة? هو وول??ده ومن تبع??ه
فسميت به يثرب ،فهلك هؤالء أيضا ً ببعض غوائل الدهر و افاته ،فقال شاعرهم:
وقد أخبر هللاّ جلت قدرت?ه عن?ه ،فق?ال " :ك?ذبت ثم??ود وع?اد بالقارع??ة ،فأم?ا ثم?ود
رصر عاتية".
ص ٍ فأهلكوا بالطاغية ،وأما عاد فأهلكوا بريح َ
صفحة 306 :
قوم شعيب
وقد تنازع أهل الش??رائع في ق??وم ش??عيب بن نوي??ل بن رعوي??ل بن م??ربن عنق??اء بن
َمدْ ين بن إبراهيم الخليل صلى هللا عليه وسلم وكان لسانه العربي??ة ?:فمنهم من رأى
أنهم من الع??رب ال??داثرة ،واألمم البائ??دة ،وبعض من ذكرن??ا من األجي??ال الخالي??ة،
ومنهم من رأى أنهم من ول??د المحض بن جن??دل بن لِعص??ب بن م??دين بن إب??راهيم،
وأن ش??عيبا ً أخ??وهم في النس??ب ،وق??د ك??انوا ع??دة مل??وك تفرق??وا في ممال??ك متص??لة
ومنفصلة? فمنهم المسمى بأبي ج??اد وه??وز وحطي وكلمن وس??عفص وقرش??ت ،وهم
على ما ذكرنا بنو المحض بن جنمل?.
حروف الجمل
وأحرف الجمل على أس??ماء ه??ؤالء المل??وك ،وهي التس??عة والعش??رون .حرف?ا ً ال??تي
يدور عليها حساب الجمل ،وقد قيل في هذه األحرف غيرما ذكرنا من الوجوه ،على
حس??ب م??ا ق??دمنا في ه??ذا الكت??اب ،وليس كتابن??ا ،موض??عا ً لم??ا قال??ه الن??اس فيه??ا،
وتنازعوا في تأويلها والم??راد به??ا ،وك??ان أبج??د مل??ك مك??ة وم??ا يليه??ا من الحج??از،
وكان هوز و حطي ملكين ببالد َو ّج ،وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من أرض
نجد ،وكلمن وسعفص وقرش ملوك?ا ً ب َم??دْ َين ،وقي??ل :ببالد مص??ر ،وك??ان كلمن على
ملك مدين ،ومن الناس َمنْ رأى أنه كان ملكا ً على جميع من سمينا مش??اعا ً متص??أل
على ما ذكرنا.
ُه ْلـكـه َو ْس َ
ـط الـمـحـلّـــ ْه كلـمـن هَــدَّ م ركـــنـــي
ناراً تحت ُظل ْه فالح ْت ُ
سيد القوم أتاه َ
دار قـومـي مـضـمـحـلّ ْ
ــه كونت ناراً ،وأضحت
وح َّي بني عـمـرو أتيت بها عمراً َ أال يا شعيب قد َنـ َطـ ْق َ
ـت مـقـالة
كمثل شعاع الشمس في صورة البدر أوج َهـا
وهم ملكوا أرض الحجاز و َ
وه ََّوز َأرباب ال َبنـية والـحـجـر فص ذي الندى س ْع َ ملوك بني ُح َطي َو َ
خطوراً وساموا في المكأرم والفخر وهم قطنوا البيت الحـرام ور ّتـبـوا
صفحة 307 :
ولهؤالء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير ،وكيفي??ة تغلبهم على ه??ذه الممال??ك
وتملكهم عليها ،وإبادتهم من كان فيها وعليها قبلهم من األمم ،قد أتينا على ذكرها
فيما تقدم من كتبنا في هذا المعنى مما كتا ُب َنا هذا منبه عليها وباعث على درسها.
فلما سمعوا ذلك علموا أن األمر قد نزل بهم ،فانفضت جنودهم وتف??رقت جم??وعهم،
وولَّ ْت كتائبهم يتراكضون ،وأخذهم السيفَ ،ف ُحصِ دا أجمعين.
س ?وا بأس??نا إذا هم وقد ذكر أن في قصة هلكهم قال هّللا عز وجل من قائلَ " :فما َ
أح ُّ
منها يركضون ".
منازل حضورا
وقد تنوزع في ديارهم والموض??ع ال??ذي ك??انوا في??ه فمن الن??اس مم رأى أنهم ك??انوا
بأرض السماوة ،وأنها ك??انت عم??ائر متص??لة ذات جن??ان ومي??اه متدفق??ة ،وذل??ك بين
العراق والشام إلى حد الحجاز ،وهي اآلن ديار خراب براري وقفار ،ومنهم من
صفحة 308 :
رأى أن دي??ارهم ك??انت بالد جن??د قنس??رين إلى ت??ل ماس??ح إلى خناص??رة إلى بالد
سورية ?،وهذه المدن في هذا ال??وقت مض??اف إلى أعم?ال حلب من بالد قنس??رين من
أرض الشام.
قال المسعودي :وقد أتينا على جمل من أخبار العرب الماض??يه? والباقي??ة ،وق??د ك??ان
قبل ظهور اإلسالم للباقى منهم مذاهب وآراء في النفوس وتغول الغيالن والهواتف
والجن ،وسنورد جمالً منها منفرعة على حسب ما يقتضيه شرط االختصار في هذا
الكتاب ،وعلى حس??ب م??ا نمي? إلين??ا من أخب??ارهم ،واتص??ل بن??ا من آث??ارهم ،وذك??ره
الناس من آرائهم ،عن الفاني والباقي منه ،إن شاء هللا تعالى.
تزعم أنه -النفس طائر ينبسط في جسم اإلِنسان ،فإذا م??ات أو قت??ل لم ِ وطائفة منهم
ينزل? مطيفا َ به متصوراً إلي??ه في ص??ورة ط??ائر يص??رخ على ق??بره مستوحش?اً ،وفي
ذلك يقول بعض الشعراء وذكر أصحاب الفي??ل :س??لط الط??ير و المن??ون عليهم فلهم
?دَى المق??ابر َه??ام ألن ه??ذا الط??ائر يس??مونه اله??ام ،والواح??د ِة هام??ة ،وج??اء
في ص? َ
ص َفر".
اإلسالم وهم على ذلك حتى قال النبي صلى هللا عليه وسلم "ال َها َ َم وال َ
ويزعمون أنَّ هذا الطائر يكون صغيراً ،ثم يكبر حتى يصير? كضرب من الب??وم وهي
صدَ ع ،وتوجد أبداً في ال??ديار المعطل??ة والن??واويس ،وحيث مص??ارع أبداً تتوحش و َت ْ
القتلى وأجداث الموتى.
ويزعمون أن الهامة ال تزال على ذلك عند ول??د الميت في محلت??ه بفن??ائهم لتعلم م??ا
يكون بعده فتخبره به ،حتى قال الصلت بن أمية لبنيه:
تخبرني? بما تستشعروا فتجنبوا الشنعاء والمكروها هامِي ِّ
وهذا من قولهم يدل على أن الصدَ ى قد ينزل إلى قبورهم ويصعد ومن ذلك م??اروي
عن حاتم طيىء مما سنورد خبره في هذا الكتاب.
?دح ْت أم??ه اوس??نذكر ه?ذا الش??عر في أخب??ار
أتيت لصحبك تبغي القرى ل??دى ُحف??ر ص? َ
الحجاج بن يوسف مع ليلى األخيلية من هذا الكتاب ،وقد قيل :إن هذه األبيات لغ??ير
وس? ْجعهم وخطبهم، توبة? في غير ليلى ،وهذا كث??ير في أش??عارهم ومنث??ور? ك??ل أم??ه َ
وغير ذلك من محاورا تهم.
تنقل األرواح
ف كالم كث??ير في تنق??ل األرواح وق??دوخ َل َ
وللعرب وغيرهم من أهل الملل ممن سلف َ
أتين??ا على مبس??وط ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بس??ر الحي??اة وكت??اب ال??دعاوى وباهلل
التوفيق.
ويزعمون أن رجليها رجال عنز ،وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون
ويقولون :يارجل عنز آ ْن َهقِي نـيقـا لن نترك السبسب والطريقا
وقد ذكر جماعة من الص??حابة ذل??ك :منهم عم??ر بن الخط??اب ،رض??ي هللا عن??ه أن??ه
شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام ،وأن الغول كانت تتغول ل??ه ،وأن??ه ض??ر به??ا
بسيفه ?،وذلك قبل ظهور اإلسالم ،وهذا مشهور عندهم في أخبارهم.
رأي الفالسفة
وقد حكي عن بعض المتفلسفين أن الغول حيوان شاذ من جنس الحي??وان ُم َ
ش? ّو ًه لم
?وحش من مس??كنه ،فطلب تحكمه الطبيعة ،وأنه لما خرج منفرداً في نفسه وهيئته ت? َ
القفار ،وهو يناسب اإلِنس??ان والحي??وان البهيمي في الش??كل ،وق??د ذهبت طائف??ة من
الهند إلى أن ذلك إنما يظهر من فعل ما كان غائبا ً من الكواكب عن??د طلوعه??ا ،مث??ل
الش? ْع َرى اا ْل َع ُب??ور ،وأن ذل?ك يح?دث داء في
الكوكب المع?روف بكلب الجب?ار ،وهيَ :
الكالب ،وسهيل في الحمل والذئب في الدب وحامل رأس الغول يحدث عن??د طلوع??ه
تماثي??ل وأش??خاص تظه??ر في الص??حاري ،وغيره??ا من الع??امر والخ??رائب ،فتس??مية?
عوام الناس غوالً ،وهي ثمانية? وأربعون كوكباً ،وقد ذكرها بطليموس وغيره ممن
تقدم وتأخر ،وقد وصف ذلك أبو معشر في كتابه المعروف بالمدخل الكبير إلى علم
النجوم وذكر كيفية صورة كل كوكب عند ظهوره في أنواع مختلفة.
للس? َفار ،ويتمث?ل? في
وزعمت طائفة من الن??اس أن الغ??ول اس??م لك??ل ش??يء يع??رض ُّ
ضروب من الصور ،ذكراً كان أو أنثى ،إال أن اكثر هم كل أمه م على أنه أنثى ،وقد
قال أبو المطراب ،عبيد بن أيوب العنبري:
وقال آخر وهو كعب بن زهير الصحابي :فما َت ُحو ُم على حال تكون به??ا كم??ا َتلً??ؤنُ
في أثوابها الغول ُ
وقدقدمنا ذكر ذل?ك فيم?ا س?لف من كتبن?ا في ه?ذا المع?نى ،وأن ك?ل ك?وكب من ه?ذه
يظه??ر في ص??ورة مخالف??ة لم??ا تقدم??ه من الص??ور يح??دث في ه??ذا الع??الم نوع?ا ً من
األفعال لم ينفرد يفعله غيره من الكواكب.
وكانت الع?رب قب?ل اإلس?الم ت?زعم أن الغيالن توق?د باللي?ل الن?يران للعبث والتخي?ل،
واختالل الس?ا بل?ة ،ق?ال أب?و المط?راب :فللَّه در الـغـول ،أي رفـيق ٍة لص?احب قف?ر
حوالي نيرانا تلوح وتـزهـر
ً حالف وهو معبرأر َن ْت بلحن بعد لحن َوأوقـدت
قولهم في السعالة
الس ْعالَة والغول ،قال عبيد بن أيوب:
وقد فرقوا بين ِّ
وساخرة مني ،ولـو أن عـينـهـا رأت مارأت عيني من الهول ُج َنت
أر َّنـت
الجنّ فـيه َ
إذا الليل وارى َ أبيت بسعـالة وغـول بـقـفـرة
فض??رب ك?ل منهم??ا ص??احبه ،فخ??را مي?تين ،وه??ذا مش?هور عن?دهم ،وأن علقم??ة بن
صفوان قتلته الجن.
ش َّب حتى مات في الخير رغبا لحن َ أبوس َفـا َنة الـخـير لـم يزل
َ أبوك
وكان َل ُه إذ ذاك حيا مصـاحـبـا به تضرب األمثال في الشعر ميتـا
ولم يقر قبر قبله ال َّدهْ ـر َراكـب َق َرى قبره األضياف إذ نزلـوا بـه
وحدث أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاز السجستاني ،عن أبي عبيدة
َم ْعمر بن المثنى ،قال :سمعت شيخاًه العرب قد أناف على المائ??ة يق??ول :إن??ه خ??رج
وافداً على بعض ملوك بئ أمية ،قال :فسرت في ليلة صِ َهاكية حالك??ة ك??أن الس??ماء
قد ب??رقعت نجومه??ا بطرائ?ق الس??حاب ،وض?للت الطري?ق ،فت??ولجت وادي?أ ال أعرف?ه
فأهمتني نفسي بطرحها حتى الصباح فلم آمن عزيف الجن ،فقلت :أعوز ب??رب ه??ذا
الوادي من شره ،وأستجيره في طريقي هذا ،وأسترش??ده ،فس??معت ق??ائالً يق??ول من
بطن الوادي:
تيامن تجاهك تلق ا ْل َكال تسير وتأمن في المسلك
قال:
فتوجهت حيث أشار إلي وقد أمنت بعض األمن فإذا أنا بأقباس نار تلمع أمامي في
خللها كالوجوه على قامات كالنخيل السحيقة ،فس??رر وأص??بحت بأوش??ال وه??و م??اء
لكلب بقرب برية? دمشق.
وقد ذكر هّللا عز وجل ذلك من فعلهم في كتابه فقالَ " :وا َن? ُه َك??ان رج??ال من اإلنس
يعوذون برجال من الجن فزاثوهم َرهَقا".
منشأ القيافة
وقد ذهبت طائفة ممن سلف ،من أهل البحث والتنق??ير? إلى أن القياف??ة :اس??م مش??تق
?تداللي ،وأص??ل ذل??ك :أن األش??كال انفص??لت في ص??ورة ٌّ من ال َق ْف? ِ
?و ،وه??و مع??نى اس?
أنسابها بأشياء تخص األنواع بالتشكيل وخواصم وج?دت لم?ا ب?ه ض?ربت الفواص?ل
إضرابها في وحيدات األشخاص ،وك?ان التناس??ل على وس??اعة وق??در من الغ??ير لم?ا
توجبه الطبيعة من اتف?اق ك?ل ش?يء في حوزت?ه ،وص?رفه إلى وجه?ه ،كم?ا خص?ت
الطبيعة كل نوع من الجنس بفصل أبانت?ه? من أغي??اره ،وف??رقت بين??ه وبين أش??كاله،
فكذلك أيضا ً خصت أوحد األشخاص المنفصلة في الهيئة ،بتغ??ير? الغ??ير من أغي??اره.
وكذلك ال تكاد فنون الصور تتراءى في المرائي لغير من أغياره،وكذلك ال تكاد وإن
ضمها النوع وشملتها المادة فالقائف يقارب بين الهيات ،فيحكم لألقرب صورة ألن
تشبيه النسل أقرب من تشبيه? النوع .وكذلك تشبيه الش??خص إلى الن??وع أق??رب من?ه?
إلى الجنس،ألن النوع والشخص ضمهما حدان مشتركان وإنم??ا ض??م الجنس واح??د
فهو أصل القيافة عند هذه الطائفة ،وهو ضرب من ضروب البحث ،وإلحاق النظ??ير
في األغلب بنظ??يره ،ومن حيث تس??اويهما من حيث ذكرن??ا في قض??ية العق??ل ،وه??و
القياس بعينه ،وليس هذا االس??تدالل من كالم أح??د من فقه??اء القائس??ين وال غ??يرهم
من المسلمين ،وإنما هذا الكالم انتزعن??اه من كالم طائف??ة من الفالس??فة المتق??دمين؛
فيجب أن يكون نظر القائف على قول ه??ذه الطائف??ة إلى ال َق? َدم؛ ألنه??ا نهاي??ة الش??كل
وغاية الهيئة ،والولد لو خالف صورة أبيه في كنه أفعاله ،و باينه في س??ائر ش??كله
في األغلب يوافقه في الق َد َم؛ ألن النسل ال بد له من تخص??يص قوت??ه بش??يء يم??يزه
ش ُنوأة ،ولذلك صار الجفاء عن غيره و ُيبينه? من سواه ،ولذلك وجدوا الطول في أزد َ
والغلظ في الروم ،وأصحاب األجبال ،واألكثر من أهل الشام وأوباش مصر،
صفحة 316 :
والل??ؤم في الخ??زر وأه??ل ح??ران من بالد دي??ار بك??ر ،والش??ح بف??ارس ،والل??ؤم على
الطعام بأصفهان ،وصار تفرطح الرجلين و َف َطس ! األن??وف في الس??ودان ،والط??رب
في الزنج خاصة.
وهذا الذي وصفنا عند هذه الطائفة من أسرار الطبيعة ،وخ??واص ت??أثير األش??خاص
العلوي??ة ،واألجس??ام الس??ماوية ،وق??د تقص??ينا ه??ذا الش??أن على كمال??ه في كتابن??ا في
األسرار الطبيعية وخواص تأثير? األش??خاص العلوي??ة والغ??رائب الفلس??فية? في كتابن??ا
في ال??رؤوس الس??بعية في أن??واع السياس??ات المدني??ة وملكه??ا الطبيعي??ة وفي كت??اب
االسترجاع في الكرم على من زعم أن العالم متغير جوهره إلى الظلم??ة ،وأن الن??ور
فيه غريب مختار ،وأن ستة? أنفس كانوا نورأ بال أجساد :شيث بن أدم وزرادش??ت،
والمسيح ،ويونس ،واثنان ال يمكن ذكرهما ،وأن النور والظلمة قديمان ،وأنهم??ا ال
ان إال غير ممتزجين وأن األشياء ال تعمل إال في جوهرهما ثم امتزجا من تلق??اء ُي َر َي ِ
أنفسهما ،من غير داخل عليهما وال مكره أكرههما ،وهذا الخلف من الكالم والفاسد
من المقال ،وأعجب من هذا الق??ول ق??ول زردش??ت ن??بي? المج??وس :أن الق??ديم تع??الى
ش?ته ،توال??دذكره طالت َو ْح َدته فطالت فكرت??ه ،فلم?ا أن ط??الت فكرت??ه ،واش??تدت َو ْح َ
ال َه ُئم من??ه ،وه??و الش??يطان ،من تل??ك الوحش??ة ال??تي ول??دتها تل??ك الفك??رة ،ونتجته??ا
الوحدة ،وأن هللا عز وجل لو كان قادراً على إفناء ألهم منه لما ضرب له أجال ،وال
أخل َ له أمراً يغوي عبادة ،ويفسد بالده .وهذا هو ال ُم َحال بعينه ،والتناقض بنفس??ه?،
وعجب آخر من األراء من قول بولص :إن المسيح عليه السالم ه??و ال??ذي أرس??له،
وإن المسيح إنسان وإله؛ ألنه إله صار إنس??اناً ،إنس??ان ص??ار إله?اً ،وق??د أتين??ا على
جمل من متناقضات أهل اآلراء ،في أثناء ما تقدم من كتبنا ،وإنما تشعب بت الكالم
إلى هذا النوع ،وتغلغل بنا القول إلى هذا المع?نى ،ألن?ه من جنس م?ا كن?ا في?ه ،لكن
عند ذكرنا لما أودعناه كتاب االسترجاع واإلبانة عن غرض فيه.
الزجر
فلنرجع اآلن إلى ما كنا فيه من هذا الكتاب :وحدث المنقري عن العتبي ،قال :وقف
ع َبيدْ الراعي ذات ي??وم م??ع ركب ب َف ْي َف??اء َق ْف??ر ،وك??انوا يري??دون استقص??اد رج??ل من
ض ِرها ،واقف??ة
تميم؛ إذ سنحت ظباء سود منكرة ،ثم اعترضت الركب مقصرة في ُح ْ
على شأنها ،فأنكر ذلك ُع َبيدْ الراعي ،ولم ينتبه له أصحابه ،فقال عبيد:
ثم شارفوا مقصدهم ،فأ ْل َف ُوا الرئيس قد نهشته? أفعى ،فأتت عليه.
والبارح:
هو المخوف ،وأظن ُع َب ْيداً إنما زجر الظب??اء في حال??ة رجوعه??ا ،ووص??ف الح??ال
األول في شعره ،كما أن من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي األسباب فيوضح عنها،
فهذا وجه زجر عبيد الراعي في شعره.
القيافة
وقد َق َف ْت ال َقا َف ُة بقريش حين خرج النبي صلى هللا عليه وسلم وأبو بك??ر إلى الغ??ار،
حتى أتت باب الغار على حجر صلد وصخر صم وجبال ال رم??ل عليه??ا وال طين وال
تراب تتبين عليه األقدام ،فحجبهم هّللا تعالى عن نبيه? صلى هللا عليه وسلم بما ك??ان
س َف ْت عليه الرياح ،وما لحق الق??ائف من الح??يرة ،وقول??ه:من َن ْسج العنكبوت ،وما َ
إلى هنا انتهت األقدام ،ومعه الجماعة من قريش ،ال يرون على الصلد ما ي??رى وال
الض? ْف َوان م??ا يش??اهد ،وأبص??ارهم س??ليمة ،واآلف??ات عنه??ا مرتفع??ة ،والموان??ع
على َ
زائلة ،ولوال أن هنالك لطيفة ال يتس??اوى الن??اس في علمه??ا ،وال يتفق??ون باألبص??ار
إحصاء إدراكهاَ ،ل َما استأثر بذلك طائفة دون أخرى ،وأهل الجبال والقفار وال ِّدهَاس
ْأز َج ُر وأعرف.
وق??د ذهب ق??وم من أه??ل الش??ريعة ،من فقه??اء األمص??ار وغ??يرهم ممن س??لف ،إلى
الحكم بالقيافة؛ استدالالً على شرف القيافة ،وعظم خطره??ا وك??بر محله??ا ،وتحقي??ق
فضلها؛لتعجب النبي صلى هللا عليه وسلم منها ،وتصديقه? ُم ْح ِرز المدْ لجي.
وقد أنكر جماعة من فقهاء األمص??ار ،ممن س??لف وخل??ف ،الحكم بالقياف??ة ،وال??دليل
الو َل? َد بأبي??ه حين ش??ك فيه
على فساد الحكم بها إلحاق النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم َ
لعدم التشابه ،فقال:
يا رسول هّللا ،إن امرأتي وضعت غالما ً وإنه ألسود
فقال النبي ص?لى هللا علي??ه وس?لم مقرب?ا ً إلى فهم?ه وقص?داً من??ه لفس?اد علت??ه ال?تي
قصدها وشك من أجلها في ولده.
فهل لك من إبل.
قال :نعم،
قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
فما ألوانها.
قالُ :ح ْمر،
قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
فهل فيها من َأو ْرق.
قال :نعم،
قال النبي صلى هللا عليه وسلم" :فمن أين ذلك .لعل عرقا نزع "ا وقول??ه ص??لى هللا
س ْحماء ال إن ج??اءت ب??ه على النعت المك??روه ،فه??و عليه وسلم في قصة شريك بن َ
للذي رميت به لما فلما جاءت به على النعت المكروه َو َج? َد التش??ابه بين??ه وبين من
رميت به ،فقال النبي صلى هللا عليه وس??لم " :ل??وال حكم هّللا لك?ان لي ول?ك ش??أن "
فألحق الولد مع عدم الشبه هنالك ،ولم يلحق بالشبه هنا ،ولم يجعله حكماً ،وقض??ى
بوجود الفراش وثبوت النص على فساد الحكم بالتشابه.
وهذا باب َق َ
صدْ َنا فيه ه??ذا الكالم ،وإنم??ا ذكرن??ا ه??ذا الفص??ل لن??ذكر الحكم بض??ده من
القيافة ،وهذا باب يطول فيه الخطب ،ويك??ثر في معاني??ه الش??رح؛لغموض?ه? ولُ ْطف??ه،
وق??د ذكرن??ا وج??ه الكالم في ذل??ك وم??ا ذهبت إلي??ه ك??ل فرق??ة من الن??اس ممن س??لف
وخل??ف في كتابن??ا الم??ترجم بكت??اب ال??رؤوس الس??بعة في اإلحاط??ة بسياس??ة الع??الم
وأسراره وهو كتاب مشهور مستوعب?.
وذهب ق??وم من النص??ارى أن الس??يد المس??يح إنم??ا ك??ان يعلم الغائب??ات من األم??ور،
ويخبر عن األشياء قبل كونها؛ ألنه كانت في?ه نفس عالم?ة ب?الغيب ،ولم ك?انت تل?ك
النفس في غيره من أشخاص الناطقين لكان يعلم الغيب ،وال أمة خلت إال وق??د ك??ان
فيها َك َهانة ،ولم يكن األوائل من الفالسفة إليونانية يدفعون الكهان??اتُ ،
وش ? ِه َر فيهم
أن فيث??اغورس ك??ان يعلم علوم??أ من الغيب وض??روبا ً من ال??وحي؛لص??فاء نفس??ه
وتجردها من أدران هذا العالم ،والصابئة تذهب إلى أن أوري??ايس األول وأوري??ايس
الثاني -وهما :هُرمس! ،وأغاثيمون -كانوا يعلمون الغيب ،ولذلك كانوا أنبي??اء عن??د
الصابئة ?،ومنعوا أن تكون الجن أخ?برت َمنْ ذكرن?ا بش?يء من ض?روب الغيب ،لكن
صفت نفوسهم حتى اطلعوا على ما استتر عن غيرهم من جنسهم.
وطائفة ذهبت إلى أن التكهن سبب نفساني لطيف يتول??د من ص??فاء م??زاج الطب??اع،
وقوة النفس .،ولطافة الحس.
وذكر كثير من الناس أن الكهانة تكون من قبل شيطان يكون مع الكاهن يخبره بم??ا
غاب عنه ،وأن الشياطين كانت تسترق السمع وتلقيه على ألس??نة الكه??ان في??ؤدون
الناس األخبار ،بحسب ما ي??رد إليهم ،وق??د أخ??بر هّللا ع??ز وج??ل ب??ذلك في كتاب??هَ إلى
فقال:
" وأنا لمسنا الس?ماء فوج?دناها ملئت َح َرس?ا ً ش?ديداً وش?بها " و إلى آخ?ر القص?ة،
وقوله تعالى:
" يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" وقوله تعالى " :وإن الشياطين
ليوح??ون إلى أولي??ائهم ليج??ادلوكم " اآلي??ة والش??ياطين والجن ال تعلم الغيب ،وإنم??ا
ذلك الستراقها السمع مما تس?مع من المالئك?ة بظ?اهر قول?ه ع?ز وج?ل " :فلم?ا خر
تبينت? الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وطائف??ة ذهبت إلى أن وج??ه س??بب الكهان??ة من ال??وحي الفلكى ،وأن ذل??ك يك??ون في
المولد عن??د ثب??وت عط??ارد على ش??رفه ،وأم??ا م??ا ع??داه من الك??واكب الم??د َب َرات من
الن??يرين والخمس??ة إذا ك??انت في عق??د متس??اوية? وأرب??اع متكافئ??ة ومن??اظر متوازي?ة?
وجب لصاحب المولد التكهن واإلِخبار بالكائنات قبل حدوثها؛ إلِشراق هذه األشراق
الكوكبية ،ومن هؤالء من أوجب كون ذلك في القرانات الكبار.
?أخر أن عل??ة ذل??ك عل??ل نفس??انية ،وأن النفس إذا ق??ويت وذهب كث??ير ممن تق??دم وت? ِّ
وزادت قهرت الطبيعة ،وأبانت لإلنسان كل سر لطيف ،وخبرته بكل مع??نى ش??ريف،
وغاصت بلطافته??ا في انتخ??اب المع?اني اللطيف??ة البديع??ة فاقتنص??تها وأبرزته??ا على
الكمال ،وكشفت هذه الطائفة وجه اعتاللها فيما ذكرنا؛ فإنهم ق??الوا :رأين??ا اإلنس??ان
ينسب إلى قس??مين ،وهم??ا النفس والجس??د ،ووج??دنا الجس??د َم َوات??ا ال حرك??ة ل?ه وال
حس إال ب???النفس ،وك???ان الميت ال يعلم ش???يئا ً وال يؤ َذي???ه؛? ف???وجب أن يك???ون العلم
للنفس ،والنفوس طبقات :منها الص??افي وهي النفس الناطق??ة ،ومنه??ا الك? ِد ُر ،وهي
النفس الحس??ية والنفس النزاعي??ة والنفس المتخيل??ة ،ومنه??ا م??ا قوت??ه في اإلنس??ان
أزيد من قوة الجسم ،ومنها ما ق??وة الجس?م أزي?د من?ه ?،فلم??ا ك?انت النس?بة? النوري?ة
لإلنسان إلى النفس كانت ته??دي اإلنس??ان إلى اس??تخراج الغيب وعلم اآلتي ،وك??انت
فطنته وظنونه? أبعث وأعم؛فإذا كانت النفس في غاية البرور ونهاية الخلوص
صفحة 320 :
وكانت تامة النور وكاملة الشعاع ك??ان تولجه??ا في دراي??ة الغ??ائب بحس??ب م??ا علي??ه
نفوس الكهنة ،وبهذا وجد الكهان على هذه السبيل من نقصا في األجس??ام وتش??ويه?
الخل??ق ،كم??ا اتص??ل بن??ا عن ش??ق وس??طيح وس??ملقة وزوبع??ة وس??ديف بن هوم??اس
وطريفة الكاهنة وعمران أخى ُم َزيقياء وحارثة وجهينة وكاه ُنة با ِه َل َه وأشباهه من
الكهان.
ش َف َيانِي
وعراف نجد أنهما َ
َ جع ُ
لت ل َِعرافِ اليمامة حكمه ْ
وكهند صاحب المسننبرن وكان في نهاية التقدم في العرافة.
الكهانة في العرب
والكهانة أصلها نفسيئ؛ ألنها لطيفة باقية ومقارنة ألعجاز ب??اهرة ،وهي تك??ون في
الع??رب على األك??ثر وفي غ??يرهم على وج??ه الن??درة؛ ألن??ه ش??يء يتول??د على ص??فاء
المزاج الطبيعي ،وقوة مادة نور النفس ،وإذا أنت اعتبرت أوطانه??ا رأيته??ا متعلق??ة
بعفة النفس وقمع شرها بك??ثرة الوح??دة وإدم??ان التف??رد وش??دة الوحش??ة من الن?اس
وقلة األنس بهم ،وذلك أن النفس إذا هي تفردت فكرت ،وإذا هي فكرت تع??دت وإذا
ب العلم النفس??ي ،فنظ??رت ب??العين النوري??ة ،ولحظت ب??النور س? ُح ُ تعدت ه َ
َط? ل َ عليه??ا ُ
الث??اقب ،ومض??ت على الش??ريعة المس??توية ?،ف??أخبرت عن األش??ياء على م??ا هي ب??ه
وعلي??ه وربم??ا ق??ويت النفس في اإلنس??ان فأش??رفت ب??ه على لراي??ة الغائب??ات قب??ل
ورودها.
وكان كبراء اليونانيين ينعت??ون ه??ذه الطائف??ة بالروحاني??ة ،ويقول??ون :إن النفس إذا
هي زادت وك??انت ك??بر ج??زء في اإلنس??ان ته??دت إلى اس??تخراج الب??دائع واألخب??ار
المستترات ،واستدلوا على ذلك أن اإلنس??ان إذا ق??وي فك??ره من وذادت م??واد نفس??ه
وخأطره فكر في الطارىء قبل وروده فعلم صورته? فيكون وروثه? إلى حال على م??ا
تصوره وهكذا النفس أيضا ً إذا تهذبت ك??انت الرؤي??ا في الن??وم ص??ادقة وفي الزم??ان
موجودة.
الرؤيا وأسبابها
وقد تنازع الناس في الرؤيا ،والسبب الموقع لها وماهيته?ا وكيفي?ة وقوعه?ا ،فق?ال
فريق :إن النوم هو اشتغال النفس عن األمور الظاهرة بمالقاة حوادث باطنة فيه??ا،
وذل??ك على وجهين :أح??دهما مع??روف ب??العين،ق??ائم بالص??فة في خ??واطر تح??دث في
النفس معاني تعبرها وتفرق بينها ،فتشغل به عن اس??تعمال الظ??اهر ،والب??اطن في??ه
يؤعي إليه الحواس الخمس فتبطل الحواس عن اإلدراك إلى الحاس أعني الروح
صفحة 321 :
الشتغال الروح عن استعمالها ،وإذا وجب بطالنها س??مي نوم?ا ً عرض??ياً ،ألن??ه ليس
النوم الكلي الذي يعم األطفال والعجائز والشيوخ ال??ذين خرج??وا من موق??ع الس??رور
أو مخافة الشر .وكذلك نوم الليل على ما وصفنا ،والوجه األخر -وه??و الن??وم الكلي
الذي يعم األطفال والعجائز والطبقات الحيوانية فوات الفك??ر وغيره??ا -وهي طبيع??ة
توجبها الخلقة في وقته ضرورة كما يوجب الج??وع في وقت??ه ض??رورة؛ ألن الج??وع
عند أهل صناعة الطب علة ،وهي الموجبة تحديد الكبد من الفراغ من األغذية?.
ومنهم من رأى أن النفس تحرك صورة األشياء على ضربين :أحدهما حس واألخر
فكر؛ فالصورة المحسوسة ال تحركها إال في هيئتها؛ فإذا تخلص علمها عندها ك??ان
إدراكها مفرداً من طبعها؛ فيكون فكر اإلنسان م??ا لم يتم تابع?ا ً للحس ،ح??تى إذا ن??ام
فعدمت النفس الحواس كلها كانت تلك الصورة التي أخذتها من أعيان األشياء فيها
قائمة كأنها محسوسة؛ألن الحس بها في أعيانها كان قبل استيالئها بالفكر ض??عيفاً،
ص ِّور األشياء كأنها محسوسة يخطر على ب??ال فلما ارتفع الحس قوي الفكر فصار ُي َ
النائم منها كما يخطر على باله إذا كان َي ْق َظان الشيء ال?ذي ق??د ك?ان أنيس?ه ،وليس
لذلك نظام ،وإنما هو ما اتفق؛ فلذلك يرى اإلنسان كأنه يط??ير وليس بط??ائر ،وإنم??ا
يرى صورة الط?يران مف??ردة كم?ا يعلمه?ا إذ غ?ابت؛ ولكن فكرت?ه فيه?ا تق??وى ح?تى
كأنها معاينة له ،فأما ما يراه النائم من األشياء التي ت??دل على م??ا يري??د فإنم??ا ذل??ك
ألن النفس عالمة بالصور ،فإذا خلصتفى المنام من ش??وائب األجس??ام أش??رفت على
ما تريد أن ينالها ،وهي عالمة أنها في حال اليقظ??ة ال يمكنه??ا معرف??ة ذل??ك فتتخي??ل
خياالت تدل بها على تلك األشياء التي تريد أن تكون ،حتى إذا أنتبهت ت??ذكرت تل??ك
الخياالت وتلك األش??ياء؛ فمن ك??انت نفس??ه ص??افية لم َت َك??دْ رؤي??اه تك??ذب ومن ك??انت
نفس??ه ك??درة ك??انت تك??ذب كث??يراً ،ثم م??ا بين الك??درة والص??افية وس??ائط على حس??ب
َم َراتبها من الصفاء والكدَ ر يكون صدق ما تخيلته وكذبه.
وقال فريق آخر :إذا بطل اس??تعمال النفس للح??واس ظ??اهراً لم يبط??ل اس??تعمالها في
نفسها ،ولم يبطل استعمال قواه?ا ،فتنتق?ل في األم?اكن ،وتش?اهد األش?خاص ب?القوة
الروحاني??ة ال??تي ليس??ت بجس??م ،ال ب??القوة الجس??مانية? الغليظ??ة ،وذل??ك أن الق??وة
الجسدانية ال تدرك إال بمشاركة ومالمسة األشياء :إم?ا باتص??ال كاتص??ال الل??ون من
المل??ون وإم??ا بانفص??ال كانفص??ال الجس??م من األم??اكن ،وال??روح تح??رك المتص??ل
والمنفصل جميعاً ،ال بمشاركة الجسد الذي يوجب الحاجة إلى قرب المدرك.
ومنهم من رأى أن النوم هو اجتماع الدم وجريانه إلى الكبد.
ومنهم من رأى أن ذلك هو سكون النفس وهدوء الروح.
ومنهم من زعم أن م??ا يجلى اإلِنس??ان في نوم??ه? من الخ??واطر إنم??ا ه??و من عم??ل
األغذية واألطعمة والطبائع.
?يطان،واع َت? ل ّ ه??ؤالء
ْ ومنهم من رأى أن بعض الرؤي??ا من ال َمل??ك وبعض??ها من الش?
بقوله تعالى" :إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا".
صموه ،وال يوافيهم َجئار في جيش إال كسروه ،فذلت لهم البالدْ .
وأذ َعنَ لط??اعتهم َق َ
العباد ،فصاروا تاج األرض ،وك??انت المي??اه ال??تي هي أك??ثر م??ا ي??رد إلى أرض س??بأ
تظهر من مخراق من الحجر الص ْلد والحديد من ذلك السد والجبال ،ط??ول المخ??راق
فيما وصفنا فرسخ ،وكانوراء السد والجبال أنه??ار عظ??ام ،وك??ان في ه??ذا المخ??راق
األخذ من?ا تل?ك األنه?ار ثالث??ون نقب?ا ً مس??تديرة في ،اس??تدارة الف??راء ط??وأل وعرض?ا ً
مدورة على أحسن هندسة وأكمل تقدير ،وكانت المي??اه تخ??رج من تل??ك األنق??اب في
س ْقيا ،وتعدم شرب القوم ،وقد كانت أرض س??بأ مجاريها حتى تأتي الجنان فترويها َ
قبل ما وصفنا من العمارة والخصب يركبها السيل من تلك المياه ،وكان مل?ك الق?وم
في ذلك الزم??ان يق??رب الحكم??اء ،وي??دنيهمُ ،وي? ْ?ؤثرهم ،ويحس??ن إليهم ،فجمعهم من
أقطار األرض لإللتجاء إلى رأيهم ،واألخ??ذ من محص??ن عق??ولهم ،فش??ارهم في دف??ع
ذلك السيل وحصره ،وذلك أنه كان ينحدر من أعالي الجبل هابط?ا ً على رأس??ه ح??تى
يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء ،فأجمع الق??وم رأيهم على عم??ل مص??ارف ل?ه
إلى ب??راري تق??ذف ب??ه إلى البح??ر ،وأخ??بروا المل??ك أن الم??اء إذا حف??رت المص??ارف
الهابطة طلبه?ا ،وانح??در فيه??ا ،ولم ي??تراكم ح??تى يعل??و الجب??ال؛ألن في طب?اع الم?اء
طالب الخفض فحفر الملك المصارف حتى انحدر الم??اء وانص??رف وت??دافع إلى تل??ك
الجهة واتخذوا السد في الموضع الذي ك??ان في??ه ب??دء جري??ان الم??اء من الجب??ل ألى
الجبل ،وجعلوا فيه المخراق على ما وصفنا آنف?اً ،ثم اجت??ذبوا من تل??ك المي??اه نه??راً
إلى المخ??راق ،ثم ينبعث الم??اء من??ه إلي مرسالً ومقداراً معلوم?ا ً ينتهي في جريان??ه ِ
تلك األنقاب ،وهي الثالثون ومخرافا َ الصغار التي قلمنا ذكرها ،وكانت البالد عامرة
على ما وصفنا آنفأ.
مبدأ التهدم
ثم إن تل?ك األمم ب?أدت وم?رت عليه?ا الس?نون ،وض?ربها ال?دهر بض?رباته و َط َح َنه?ا
ب َك ْلكله ،وعمل الماء في أصول ذلك المخراق ،وأض?عفه َم َم?ر الس?نين علي?ه وت?دافع
الماء حوله ،وقد قيل في المث??ل :إذا أث??ر ت??واتر الم??اء طى الحج??ر الص??لد فم??ا ظن??ك
بسيل? يتدافع على حديد وحجرمصنوع فلما سكنت أبناء قحطان ما وص??فنا من ه??ذه
ال???دياروتغلبت على من ك???ان فيه???ا الس???د والبني???ان في الض???عف عن???ه على الس???د
والمخراق والبنيان ،فقنف به َج ْريه ورمى به في تياره ،وذل??ك إ ًب??ان زياع??ة الم??اء،
واستولى الماء على تلك الديار والجنان والعمائر والبنيان ،حتى انقرض سكان تلك
األرض ،وزالوا عن تلك المواطن ،فهقه جملة من أخبار سيل العرم وبالد سبأ.
العرم
وال خالف بين ذوي الدراي??ة منهم أن الع??رم ه??و المس??ناة ال??تي ق??د أحكم??وا عمله??ا
لتك??ون ح??اجزأ بين ض??ياعهم وبين الس??يل ،ففجرت??ه ف??أرة ،ليك??ون ذل??ك أظه??ر في
األعجوبة ،كما أفار هللا تعالى ماء الطوفان من جوف َتن??ور ليك??ون أثبت في الع??برة
وأو َك َد في الحجة ،واليتنا كر أحالف قحطان من أهل تلك ال??ديار إلى ه?ذا ال??وقت م??ا
ْ
كان من العرم؛ الستفاضته فيهم ،وشهرته? عندهم.
صفحة 325 :
وقد قيل:
هذا الملك في صدر الزمن إن مأرب سِ َم ٌة لقصر
عمر ُم َعاذ بن مسلم بن رجاء مولى ال َق ْع َقاع بن حكيم من قوله في??ه عن??د ذك??ره س??نة
وهرمه ?،وهو:
ضـ ًج مــن طـــول عـــمـــره األ َبـــد قد َ إن مـعـــاذ بـــن مـــســـلـــم رجـــل
وأثواب عمره جدد ُ واختضب الحصر قد شاب رأس الزمان
ثـــوب الـــحـــياة يالُـــبـــد يانسر لقمان كم تعيش وكم تلـبـــس
الـــوتـــد
َ وأنـت فـــيهـــا كـــأنـــك ــت دار حـــمـــير َخ ِ
ـــربـــت أصـبـح ْ
َ قد
صـــدَاع والـــرمــــد كيف يكـــون الـــ ُ نسـأل غـربـانـــهـــا إذا حـــجـــلـــت
قالت :وعد من هللا نزل ،وباطل بطل ،ونكال بنا نزل ،فبغيرك يا عمرو فليكن الثكل،
فانطلق عمرو إلى السد يحرسه ?،فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون
رجال فرجع إلى طريفة فأخبرها وهو يقول:
الس َقم
ح ّ وهاج لي من ه َْوله َب ْر ُ أبصرت أمراً عادني منـه ألـم
أو َت ْيس مرم من أفاريق ا ْل َغ َنـم من ُج َر ٍذ ك َف ْحل خنزير َ
األجـ ْم
مخاليب وأنـياب قـضـم ُ له يسحب صخراً من جالميد ال َع ِر ْم
س َلـم كأنما يرعى حظيرا ًمن َ مافاته سحال من الصخر قصـم
فقالت له طريفة :إن من عالمة ما ذكرت لك أن تجلس في مجلسك بين الجنتين ،ثم
تأمر بزجاجة فتوض??ع بين ي??ديك ،فإنه??ا س??تمتلئ? بين ي??ديك من ت??راب ال َب ْطح??اء من
س ْهلة الوادي ورملة ،وقد علمت أن الجنان ُمظلمة ما يدخلها شمس وال ريح، َ
فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ،فلم يمكث إال قليالً ح??تى امتألت من ت??راب
البطحاء ،فذهب عمرو إلى طريفة فأخبرها بذلك،
وقال :متى ترين هالك السد
قالت :فيما بينك وبين السبع السنين،
قال :ففي أيها يكون؛
قالت :ال يعلم ذلك إال هللا تعالى ،ولو علمه أحد لعلمته ،وال ي??أتي علي??ك ليل??ة فيم??ا
بينك وبين السبع السنين إال ظننت هالكه في غدها أوفي تلك الليلة.
الع ِرم ،فخرج ناس من األزد وباعوا أموالهم ،فلم??ا أك??ثروا ال??بيع اس??تنكر ذل??ك سيل َ
الناس ،فأمس??كوا بأي??ديهم عن الش??راء ،فلم??ا اجتمعت إلى عم??رو بن ع??امر أموال??ه
أخبر الناس بشأن سيل العرم ،فقال أخوه عمران الك??اهن :ق??د رأيت أنكم س??تمزقون
ويباع ُد بين أسفاركم ،وإني أصف لكم البلدان فاختاروا أيها ش??ئتم ،فمن َ كل ُم َم َّزق،
أعجبه منكم صفة بلد فليص??ر إليه??ا ،من ك??ان منكم ذاهَم بعي??د وجم??ل ش??ديد وم??زاد
جديد فليلحق بقصر عم??ان المش??يد ،فك??ان ال??ذين نزل??وهُ أزد عم??ان ق??ال :ومن ك??ان
منكم ذاهم غير بعيد ،وجمل غير شديد ومزاد غير جديد فليلحق بالشعب من كرود،
قال :وهي أرض همدان ،فلحق به وادعة بن عمرو ،فانتسبوا فيهم ،وقال الك??اهن،
ومن كان منكم ذا حاجة ووطر وسياسة ونظر ،وصبر على أزم??ات ال?دهر ،فلي ْل َح? ْق
ببطن َم ًر ،وك?ان ال?ذين س?كنوه خزاع?ة س?ميت ب?ذلك النخزاعه?ا في ذل?ك الموض?ع
عمن ك??ان معه??ا من الن??اس ،وهم بن??و عم??رو بن َلحي ،فتخ??زعت هنال??ك إلى ه??ذه
زع ْت خزاع??ة من??ا الغاية ،وفي ذلك يقول حسان بن ثابت :و َل ّما َه َب ْط َنا بطنَ َم??ر َت َخ? َ
شعر له طويل ومال??ك وأس??لم و َم ْلك??ان بن??و قص??ى بن حارث??ة بن
ٍ في ملوك كراكرفي
عمرو مزيقياء ،وقال الكاهن :ومن كان يري??د الراس??يات في الرح??ل ،المطعم??ات في
ال َم ْح? ل ،فليلح??ق بي??ثرب? ذات النخ??ل ،وهي المدين??ة ?،وك??ان ال??ذين س??كنوها األوس
والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء ،قال الكاهن :ومن كان يري??د منكم
الخمر والخمير ،والديباج والحرير ،واألمر والتدبير ،فليلحق ببصرى? وحفير ،وهي
أرض الشام فكان الذين س??كنوها غس?ان ق?ال الك?اهن :ومن ك?ان منكم يري??د الثي?اب
الرقاق والخيول العتاق ،والكن??وز واألرزاق ،فليلح??ق ب??العراق ،وك?ان ال?ذين لحق??وا
األزدِي وول??ده ،و َمنْ ك??ان ب??الحيرة من غس??ان ،على ب??العراق منهم مال??ك بن فهم ْ
حسب ما قدمنا آنفا ً فيما سلف من هذا الكتاب.
وقال هشام بن الكلبي :وأما أبي فكان يقول :إنما نزل ب??الحيرة من غس??ان م??ع تب??ع
بعد هذا بزمان.
ثم خرج عمرو بن عامر مزيقي??اء وول??ده ،من م??أرب ،وخ??رج من ك??ان بم??أرب من
األزد يري??دون أرض??ا تجمعهم يقيم??ون به??ا ،فف??ارقهم وادع??ة بن عم??رو بن ع??امر
ُم َزيقياء فسكنوا هم??دان ،وتخل??ف مال??ك بن اليم??ان بن فهم بن ع??دي بن عم??رو بن
مازن بن األزد ،وكان بعدهم بمأرب ملكا ً إلى أن كان من أمرهم ما ك??ان في الهالك،
ثم ساروا ح?تى إذا ك?انوا ب َن ْج? َران تخل?ف أب?و حارث?ة بن عم?رو بن ع?امر ُم َز ْيقي?اء
ودعبل بن كعب بن أبي حارثة فانتسبوا? في مذحج ،قال أبو الم??نزر :ويق??ال :إن أب??ا
حارثة هو جد الحارث بن كعب بن أبي حذيفة الذي بنجران ،وهّللا أعلم.
ثم سار عمرو بن عامر حتى إذا كان بين السراة ومك??ة أق??ام هنال??ك أن??اس من ب??ني
نصر من األزد ،وأقام معهم عمران بن عامر الكاهن أخو عمرو بن عامر ُم َزيقياء،
وعدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء ،وسار عمرو بن عامر وبنو مازن حتى نزل??وا
بين بالد األشعريين وع? ٍّك على م??اء ُيق??ال ل??ه غس??ان بين واديين ،يق??ال لهم??ا زبي??د
ورمع ،وهما مما يلي صدورهما بين صعيد ُيقال له :صعيد الحسك ،وبين الجبال
صفحة 330 :
التي تدفع به في زبيد ورمع ،فأق?اموا على غس?ان ،وش?ربوا من?ه ،فس?موا غس?ان،
وغلب على أسمائهم ،فال يعرفون إال به ،قال شاعرهم:
ْ
األز ُد نسبتنا والماء غسان إما سألت فإنا معشرنجب
وللقوم أخبار في تف??رقهم ،ومن دخ??ل منهم في مع??د بن ع??دنان وم??ا ك??ان بينهم من
الحروب إلى أن ظفرت بهم بنو مع??د ،ف??أخرجتهم إلى أن لحق??وا بالس??راة -والس??راة
جبل األزد الذي هم به يقال له السراة ،ويقال له :الحجاز ،وإنم??ا س??مي الس??راة من
هذا الجبل ظهره ،فيقال لظهره السراة كم?ا يق?ال لظه??ر الداب?ة الس??راة ،فأق?اموا ب?ه
وكانوا في سهله وجبله وما قاربه ،وهو جبل على تخ??وم الش??ام ،وف??رز بين??ه وبين
الحجاز مما يلي أعمال دمشق واألردن وبالد فلسطين ويالقي جبل موسى.
ف??دعت عليهم الرس??ل فأرس??ل هللا عليهم س??يل الع??رم ،فه??دم س??دهم وغش??ي الم??اء
ضراءهم ،وأزال أموالهم وانع أمهم ،ف??أتوا رس??لهم أرضهم ،فأهلك شجرهم وأباد َخ ْ
فقالوا :أدْ ُعوا هّللا أن يخلف علينا نعمتنا ،و ُي ْخصِ ب بالدنا ،ويرد علين??ا م??ا ش??رد من
أنعامنا ،ونعطيكم َم ْوثقا أن ال نشرك باهلل شيئاً ،فس??ألت الرس??ل ربه??ا ،فأج??ابهم إلى
وأعطاهم ما سألوا ،فأخصبت بالدهم ،واتس??عت عم??ائرهم إلى أرض فلس??طين ذلكْ ،
هّلل
والشام :قُ ًرى ومنازل وأسواقاً ،ف??أتتهم رس??لهم ،فق??الوا :موع??دكم أن تؤمن??وا با ،
فأبوا إال طغيانا ً وكفرأ ،فمزقهم هّللا كل ممزق ،وباعد بين أسفارهم.
قال المسعودي :وإذ قد ذكرنا جمأل من أخبار السد وبالد مأرب ،وعمرو بن ع??امر،
وغير ذلك مما تقدم ذكره في هذا الباب ،فلنرجع اآلن إلى أخبار الكهان.
قال المسعودي:عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر ش??هرأ فلن??ذكر اآلن
سِ نِي وشهور وأي??ام م??ا أش??تهر أهل??ه من ج??ل االمم ،وهم الع??رب والف??رس وال??روم
والسريانيون والقبط؛ إذ كان قول اليونانيين في ذلك هو م??ا ذهبت إلي??ه ال??روم ،ولم
نعرض لوصف قول الهند في السنين والشهور واأليام وما ذهبوا إلي??ه في ذل??ك من
حسابهم ،ومن تبعهم على ذلك من أهل الصين وكثير من الممالك واالمم؛إذ كان في
ذلك خروج عما عليه الجمه?ور والمعه?ود بين الن?اس ،ونجع?ل المبت?دأ ب?ذكر س?ني
وشهور القب??ط؛ لموافقته??ا الس??ريانيين ثم نعقب بع??د ذل??ك ب??ذكر ش??هور الس??ريانيين
وموافقتها لشهور الروم .ثم نتب?ع? ذل??ك ب??ذكر س??ني الع??رب وش??هورها وأيأمه??ا ،ثم
نعقب بعد ذلك بذكر سِ نِي الفرس وشهورها وأيأمها وألية علة استحق عندها
صفحة 332 :
تسمية كل شهر منها ،وكل يوم ،وم??ا قالت??ه الع??رب في تس??مية? اللي??الي ،وجم??ل من
ذكر أفعال الشمس والقمر وتأثيرهما في هذا العالم في الجم??اد والنب??ات والحي??وان،
وغير ذلك مما يقف عليه المتأمل عند قراءت??ه -إن ش??اء هللا تع??الى -على م??ا يري??د،
وهللا تعالى ولي التوفيق.
سنة القبط
وأول يوم من السنة عند القبط ه??و الي??وم التاس??ع والعش??رون من ش??هر آب ،وعلى
كل شهر منها ثالثون يوماً ،وكانت أيام السنة ثلثمائة وخمس??ة وس??تين يوم ?ا ً كع??دة
أيام سنة الفرس وكانت شهور القبط فيما مضى توافق أوائلها شهور الفرس فك??ان
أول توت أول أذر ما ،ثم كل شهر كذلك على هذا الوصف إلى آخر سنة القب??ط آخ??ر
آذر ماه ،وهذا الحس??اب بعين?ه? موج??ود في كتب الزيج??ات في النج??وم ،وأه??ل مص??ر
وسائر القبط في ه??ذا ال??وقت -وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة -يس??تعملون في
حسابهم في الشهور غيرما قدمنا ،وذل??ك أنهم زادوا في أي??ام الس??نة رب??ع ي??وم على
م??ذهب الس??ريانيين وال??روم فص??ارت ش??هورهم مخالف??ة لش??هور الف??رس وموافق??ة
لشهور السريانيين والروم فيعدد أيام السنة ،وتاريخ القبط في كتاب المجس??طي من
أول السنة التي ملك فيها البخت َنضر وكان أولها يوم األربعاء.
مبدأ التواريخ?
وأما تاريخ القبط في كتاب زيج? بطليموس ،فمن أول سنة ملك فيلقوس وكان أولها
يوم األحد ،والتباين الذي بين تاريخ البخت نص??ر وت??اريخ ي??زد ج?رد أل?ف وثلثمائ?ة
وتسع وتسعون س??نة فارس??ية? وثالث??ة أش??هر ،وال??ذي بين ت??اريخ فليق??وس وت??اريخ?
يزدج??رد تس??عمائة وخمس وخمس??ون س??نة وثالث??ة أش??هر ،وبين ت??اريخ اإلس??كندر
وتاريخ يزدجرد تسعمائة واثنتان وأربعون س??نة من س??ني ال??روم ومائت??ان وتس??عة
وخمس??ون يوم??اً ،وبين ت??اريخ? يزدج??رد وت??اريخ الهج??رة من األي??ام ثالث??ة آالف
وستمائة? وأربعة وعشرون يوماً ،فأول هذه التواريخ تاريخ البخت نصر ،ثم ت??اريخ
فيلقوس ،ثم تاريخ ابنه اإلسكندر ،ثم تاريخ? الهجرة ،ثم تاريخ يزدجرد.
صفحة 333 :
أوائل كل تاريخ
وتاريخ العرب من أول السنة التي هاجر فيها النبي صلى هللا علي??ه وس??لم من مك??ة
إلي المدينة ،وكان أولها يوم الخميس.
وتاريخ الفرس من أول السنة التي ملك فيها يزدجرد بن شهر ياربنكسرى أبرويز،
وكان أولها يوم الثالثاء.
وت??اريخ ال??روم والس??ريانيين من أول الس??نة من مل??ك اإلس??كندر ،وك??ان أوله??ا ي??وم
االثنين ،وهللاُ تعالى أعلم بحقيقة ذلك.
وأيلول ثالثون يومأ ،ولخمس منه? عيد زكريا ،ولعشر منه تط??ع الص??رفة فينص??رف?
الحر ،ولثالث عشرة منه? عيد الصليب ،وهو الرابع عشر منه ?،وفي هذا اليوم تفتح?
الترع بمصر? على حسب ما ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب ،ولتمام عش??رين من??ه،
يستوي? الليل والنهار ،وقال أبو ُن َواس:
المالبس ،ولخمس منه ?-وه??و تش??رين األول -عي??د كنيس??ة القيام??ة ب??بيت المق??دس،
وفي هذا اليوم تجتم?ع النص?ارى من س?ائر األرض ،وت?نزل عليهم ن?أر من الس?ماء
فيس??رج هن??اك الش??مع ،ويجتم??ع في??ه من المس??لمين خل??ق عظيم للنظ??ر إلى العي??د،
ويقتلع فيه ورق الزيتون ،ويكون للنصارى فيه أقاصيص ،ولهذه النار حيلة لطيفة
?ر عظيم ،وق??د ذكرن??ا وج??ه الحيل??ة في ذل??ك في كتابن??ا الم??ترجم بكت??اب القض??ايا
وس? ّ
والتجارب وتشرين الثاني ثالثون يوما ،وكانون األول ثالثون يوما ،ولتس??ع عش??رة
تس?ع س??اعات ونص??فا ً وربع?اً ،وه??و منتهى قص??ره ،واللي??ل أرب??ع منه? يكون النه??ار ِ
عش??رة س??اعة وربع ?اَ ،وه??و منتهى طول??ه ،وليل??ة الخ??امس والعش??رين من ?ه? ميالد
المسيح عليه السالم ،وكانون الثاني أحد وثالثون يوم?اً ،وأول ي??وم من??ه القلن??دس،
فيكون فيه بالشام ألهله عيد يوقدون في ليلته النيران ،ويظهرون األفراح ،ال سيما
بمدين?ة? إنطاكي??ة ،وم?ا يك?ون في كنيس??ة القس??يان به??ا من الق?داس عن?دهم ،وك??ذلك
بسائر الشام وبيت المق?دس ومص?ر وأرض النص?رانية كله?ا ،وم?ا يظه?ر أه?ل دين
النص??رانية? بإنطاكي??ة من الف??رح والس??رور وإيق??اد الن??يران والمآك??ل والمش??ارب،
ويساعدهم على ذلك عوام الناس وكثير? من خواصهم ،وذلك أن مدينة إنطاكية به??ا
كرسي البطرك المعظم عن??دهم في دي??انتهم ،وأن النص??رانية? تس??مى إنطاكي??ة مدين?ة?
هللا ،ويسمونها أيضا ً مدينة? الملك ،وأم المدن ،ألن بدُؤ ظهور النصرانية كان فيها.
بطارقة النصارى
والبطارق??ة عن??د النص??رانية أربع??ة :أولهم ص??احب مدين??ة رومي??ة ?،ثم الث??اني وه??و
صاحب مدينة? قسطنطينية ?،وهي أقسس ،واسمها الق??ديم بوزنطي??ا ،ثم الث??الث وه??و
ص??احب اإلس??كندرية من أرض مص??ر ،ثم الراب??ع وه??و ص??احب إنطاكي??ة ،ورومي??ة
وإنطاكي??ة لبط??رس ،فب??دءا برومي??ة ألنه??ا لبط??رس ،ثم ختم??وا بإنطاكي??ة ألنه??ا ل??ه،
وتعظيما ً لبولس ،وقد أحدثوا كرسيا ً ببيت المقدس ،ولم يكن هذا متقدماً؛ وإنم?ا ه?و
محدث ،وكان إلِيليا وهو بيت المقدس أسقف ولكورة لد من أرض فلسطين.
مشهور? كنائسهم
وبإنطاكية أيضا ً كنيسة? بولس ،وتعرف بإنطاكية بدير البراغيث وهي مم??ا يلي ب??اب
ف??ارس ،وبه??ا أيض?ا ً كنيس??ة أخ??رى ت??دعى أش??مونيت ،وبه??ا عي??د عظيم للنص??رانية?
وكذلك بها كنيسة بربارا ،وكنيس?ة? م??ريم وهي كنيس?ة? م??دورة ،وبنيانه??ا من إح??دى
عجائب العالم في التشييد والرفعة ،وكان الوليد بن عبد الملك بن م??روان اقتل??ع من
هذه الكنيسة? ُعمدأ عجيبة من المرمر والرخام لمسجد دمش??ق حملت في البح??ر إلى
ساحل دمشق ،وبقي األكثر من هذه الكنيسة? إلى هذا الوقت.
وقد كان لملك من ملوك الروم مع اليهود بإنطاكية خبر عجيب في كنيسة أشمونيت?
وكانت خارج السور من إنطاكية ،وهي في أيدي اليهود ،فعوضت اليهود دار الملك
بإنطاكية بدالً من كنيسة أشمونيت ?،وهذه الدار التي كانت دار الملك تعرف في ه??ذا
الوقت بدار اليهود ،ولليهود حيلة احتالوها حين خ??رجت الكنيس ?ة? من أي??ديهم ح??تى
قتلوا من النصرانية? خلقا ً عظيما ً من نشر خشب فيها وغير ذلك.
صفحة 335 :
وق??دمنا أخب??ار بط??رس وب??ولس وم??ا ك??ان من أمرهم??ا بمدين?ة? رومي?ة? وغيره??ا من
تالميذ المسيح وتفرقهم في البالد ،وذكرنا قص??ة المل??ك ال??ذي ب??نى مدين?ة? إنطاكي??ة،
وه??و المع??روف ب??أنطيخش ،وتفس??ير ذل??ك مح??وط الحوائ??ط ،وك??ان اس??م إنطاكي??ة
بالرومية على اسمه أنطيخش ،فلما ورد المس??لمون وافتتحوه??ا ح??ذفت األح??رف إال
األلف والنون والطاء.
وفي تاريخ النصارى الملكية وغيرها من أهل دين النصرانية يكون لمول??د المس??يح
إلى وقتنا هذا -وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة ?-وتسعمائة س??نة وأربع??ونْ س??نة،
وتكون ِس? ُنو اإلس?كندر ألف?ا ً وم?ائتين وخمس?أ وثم?انين ?.،ويك?ون من اإلس?كندر إلى
المسيح ثلثمائة? سنة وتسع وستون.
هذا ما وجدت في تاريخ الملكية في كنيسة القسيان بمدين ?ة? إنطاكي??ة ،وس??نذكر بع??د
هذا الموضع جمالً من التاريخ? في باب نفرده لذلك ،إن شاء هّللا تعالى.
عود إلى الشهور وأي أمه ا وأيام العجوز
فلنرجع اآلن إلى وصف حساب الشهور :شباط ثمانية? وعش??رون يوم??ا ورب??ع ثالث
سنين متوالية ،والرابعة كبيسة فيكون تسعا ً وعشرين يومأ ،وتكون الس??نة ثلثمائ??ة
وستة? وستين يوماً ،ولسبعة منه تسقط الجمرة األولى ،وهي الجبهة وألربع عشرة
من?ه? تس?قط الجم?رة الثاني?ة ،وهي الزب?رة ،وإلح?دى وعش?رين من?ه تس?قط الجم?رة
الثالثة ،وهي الصرفة ،وينصرف البرد ،وثالثة أي??ام من آخ??ره أي??ام العج??وز ،وآذار
أحد وثالثون يوماً ،وألربعة من أوله تتم أيام العجوز ،والعرب تس??مى ه??ذه الس??بعة
وو ْبرأ ،وآمرا ،ومؤتمرا ،ومعلال ،ومطفئ الجمر ،ق??ال بعض األيام :صِ َنا ،وصِ ن ْبراَ ،
العرب في أسماء أيام العجوز:
ِ صِ نٍّ وص َن ٍ?
بر وبالوبـر كسع الشتاء بسبعة ُغ ْبر
ومعلل ،وبمطفئ الجمر وبآمر وأخيه مؤتـمـر?
أيام صادرة عن القـر ش ْت َوتنـا
أيام َ
فإذا انقضت ِ
وأتتك واقدة من الحـر كسع الشتاء ُمولياًهربـا
ولخمس عشرة من آذار يستوي الليل والنهار ،وتحل الش?مس الحم?ل ،وه?ذا الي?وم
تحويل سنة العالم ،قال أبو ُن َواس:
واع َتـدَل
وطاب َو ْزنُ الزمان ْ ت الحمـال أما ترى الشمس ًحلّ ِ
واستوفت الخمر حولها َك َمـل و َغن ِ
ت الطير بعد ُع ْج َمـتـ َهـا
ش َي نباتا تخالـهـا ُحـ َلـل
َو ْ أو اكتست األرض من زخارفها
فقـد أصبح وجه الزمان مقتـبـال فاشرب على ِجدَ ِة الزمان
وليس بحلول الشمس الحمل تستوفي? الخم??ر س??نة ،وإنم??ا أراد بحلوله??ا قربه??ا من
الحول والقوة.
صفحة 336 :
شهور الروم
قال المسعودي :وأما شهور الروم فهي موافقة لشهور السريانيين في الع??دد وذل??ك
أن أول شهور الروم يواريوس وهو كانون الثاني ،وقد ق??دمنا أن في أول ي??وم من?ه?
يك??ون القلن??دس ،ؤش??باط ف??براريوس ،وأزار م??ارتيوس ،ونيس??ان إب??ريليس ،وأي??ار
مايوس ،وحزيران يونيوس ،وتموز يوليوس ،وآب أغس??طوس ،وأيل??ول س??بطمبر،
وتشرين األول أقطوبر ،وتشرين الثاني نوفمبر ?،وكانون األول عشمير?.
فأما أيأمهم المعروفة بالفرودجان فهي أهندكاه أسميهاه مشركاه مشروكاه كاساه.
وكانت العرب تسمي هذه األيام الخمس?ة ?:الهري?ر ،والهب?ير ،وق?الب الفه?ر ،وحاف?ل
الضرع ،ومدحرج البعر.
صفحة 337 :
كبس الفرس
وكانت الفرس تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهراً ،وإنما أخروا ذل??ك إلى مائ??ة
س? ُعوداً ونحوس??أ -فكره??وا أن يكبس?وا في ك?ل
وعشرين سنة ،ألن أي أم?ه م ك?انت ُ
أربع سنين يومأ ،فتنتقل بذلك أيام السعود إلى أيام النحوس ،وال يكون النيروز أول
يوم من الشهر ،وهّللا تعالى أعلم.
تعالى أن التعجيل في يومين من المعدودات وإذا كانت المع??دودات م??ا وص??فنا ص??ح
أن المعلومات منها ،والذبح في يوم النحر ذبح في المعلومات لكونه منهاوال تم??انع
بين العرب أن يقول القائل أتيتك في الشهر ،واإلتيان إنما كان في بعضه وجئتك في
ص?ام ي??وم النح??ر ،وال ي??وم الفط??ر ،وال أي??ام
اليوم والمجيء في بعض أوقات??ه ،وال ُي َ
?رض وال تط??وع؛ لنهي الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم عن ذل??ك؛ ولم يخص م??نى ،لف? ٍ
فرضا ً من تطوع بالنهي ،فالواجب االمتناع على وصفنا.
وقد ذكر عن عقبة بن عامر أن النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم نهى عن ص??يام ثالث??ة
أيام التشريق? وفي جمي??ع م??ا ذكرن??ا من المعلوم??ات والمع??دودات والص??يام في أي??ام
التشريق خالف بين الناس ،وأيام التشريق أولها ثاني النحر ،وآخرها اليوم الث??الث
عشر من في الحجة إلى العصر.
األح?د أول ،واالث??نين أه??ون ،والثالث??اء جب?ار ،واألربع?اء دب??ار ،والخميس م??ؤنس،
والجمعة عروبة ،والسبت شيار قال شاعرهم :أؤمل أن أعيش وأن يومي بأول أو
بأهون أو جبـار أو المردى دبار ،فإن أفتـه فمؤنس أو عروبة أو شيار
األزمنة األربعة
وق??د اختل??ف الع??رب في أس??ماء األزمن ?ة? األربع??ة :ف??زعمت طائف??ة منه??ا أن أوله??ا
الو ْسمي ،وهو الخريف ،ثم الشتاء ،ثم الصيف ،ثم ال َق ْيظ ،ومنهم من يع ? ُّد األول من َ
فصول السنة الربيع ،وهو األ ْ
ش َه ُر واأل َع ُّم ،والعرب تقول:
ش َت ْونا في بلد كذا ،وتربعنا في بلد كذا -،وصِ ْف َنا في بلد كذا.
َخ َر ْف َنا في بلد كذا ،و َ
شهورالروم مرسومة? على فصول السنة دون شهور العرب وشهور الع??رب ليس??ت
مرتب??ة على فص??ول الس??نة وال على حس??اب س??نة الش??مس ب??ل المح??رم وغ??يره من
الشهور العربية قد يقع تارة في الربيع وتارة في غيره من فصول السنة?.
وشهور الروم مرسومة على ما يوافق فصول السنة التي تقطع فيها الشمس بروج
الفلك عن آخرها ،ومقادير أيام كل شهر منها ولياليه في الطول والقصر وظهور ما
يظهر فيه من النجوم الثابتة? لألبص??ار واس??تتار م??ا يس??تتر منه??ا على مم??ر ال??دهور
والسنين وهي اثنا عشر شهراً على حسب ما ذكرنا أن أولها تشرين إلى أيلول؛فكل
فصل من السنة أربعة شهور معلومة من هذه األث??ني عش??ر ش??هراً غ??ير حائل??ة وال
منتقلة انتقال الشهور العربية ،ولك??ل ب??رج منه??ا ش??هر ،ف??أيلول وتش??رين وتش??رين
لسلطان الس??وداء .وك??انون وك??انون وش??باط لس??لطان البلغم ،وآذار ونيس??ان وأي??ار
لس??لطان ال??دم ،وحزي??ران وتم??وز? وآب لس??لطان الص??فراء ،ف??أيلول ل??برج الس??نبلة
وتشرين األول لبرج الميزان ،وتشرين األخ??ر ل??برج العق??رب ،وك?انون األول برج??ه
القوس ،وكانون األخ??ر برج??ه الج??دي ،وش??باط برج??ه ال? َد ْلو ،وآذار برج??ه الح??وت،
ونيسان برجه الحمل ،وأيار برجه الثور ،وحزيران برج??ه الج??وزاء ،وتم??وز برج??ه
السرطان ،وآب برجه األسد.
وق??ال المس??عودي :وس??نذكر فيم??ا ي??رد من ه??ذا الكت??اب جمالً من الكالم في الطب??ائع
وفصول السنة ،وم??ا يالئم ذل??ك من المآك??ل والمش??ارب وغ??ير ذل??ك مم??ا لح??ق به??ذا
الباب ،إن شاء هللا تعالى ،وهّللا ولي التوفيق.
قال :وكون الجنين بمنزلة? كون النبات ،والطبيعة تصوره من الم??ني وال??دم ،وتفع??ل
الطبيعة في الجنين ما تفعله في النبات .ألن بزر النبات يحتاج إلى أرض لينال منها
ما يتغذى به ،فالجنين إلى الرحم ،والنبات يرس??ل عروق??ه من األص??ول ليج??ذب به??ا
من األرض غداه،وللجنين في المشيمة شريانات ،والعروق نظير لذلك وهي أص??ول
الج??نين ،و َب??زر النب??ات ينبت من??ه س??وق ،ومن الس??وق أغص??ان كب??ار ،ثم من ه??ذه
األغصان أغصان أخرى تتفرع أوالً حتى تنتهي? إلى األقاصي ،ونظير ذلك يوجد في
الجنين؛ فتج??د الس??وق في بدئ??ه ثالث??ة من ك??ل واح??د ك??ل األغص??ان األص??ول وهي؛
الشريان األعظم ،والعرق األجوف ،والنخاع ثم تجد كل واحد من ه??ذه تتش??عب من?ه?
شعب كاألغصان المنقس َمة ألم أغصان آخر حتى ينتهي? إلى األطراف،
ثم قال بعد ذلك :إن المني و المحرك لنفسه ،وإن الجنين يكون من الرجل والمرأة
الطمث.
وحكى جالينوس عن أنبدقلس أن أجزاء الول??د منقس??مة? فيم??نى ال??ذكر واألن??ثى وأن
شهوة الجم?اع تس?وق ه?ذه األج?زاء إال االلتئ?ام ،وه?ذا موج?ود في كت?اب أنب?دقلس
الكبير وفيما ذكره من مذهبه في كيفية تركيب العالم واتصال النفس بعالمه??ا وغ??ير
ذلك.
وقد ذهب قوم من ،أهل الق??دم إلى أن ذل??ك ه??و أج??زاء تخ??رج من أعض??اء اإلنس??ان
لطيفة من جنس سائر أعضاء اإلنس??ان ،فتنص??ب في ال??رحم ،فيتغ??ذى من??ه وينم??و?،
فيكون من ذلك الجنين.
وللناس في كيفية تصور? الجنين في الرحم وما بدؤه وما عنصره وكيفية تقلب??ه من
النطف??ة إلى العلق??ة ومن العلق??ة إلى المض??غة إلى اس??تكمال ش??كله كالم كث??ير :منهم
أص?حاب االث?نين وغ?يرهم ممن تق?دم وت?أخر ،أعرض?نا عن ذك?ر ذل?ك؛ إذ ك?ان في?ه
خروج عما إليه قصدنا في هذا الباب.
ق??ال المس??عودي رحم??ه هللا :وال??ذي يقض??ي على س??ائر م??ا تق??دم وص??فه نقط??ع علم
العقول عن?ده ،وه?و م?ا أخ?بر ب?ه الب?اري ع?ز وج?ل في كتاب?ه بقول?ه " :ه?و ال?ذي
يصوركم في األرحام كيف يشاء ،ال إله إال هو العزيز الحكيم" ولم يخبر عن كيفي??ة
وقوع ذلك وما سبب مواده ،بل استأثر بعلمه ،وأب??دى الدالل??ة بظه??ور حكمت??ه دال??ة
على توحيده وإتقانه لما أظه??ر لعب??اده من حكمت??ه ثم أخ??بر عن المب??دأ ال??ذي خلقهم
منه? فقال " :يا أيها الناس إن خلقن??ا كم من ذك??ر وأن??ثى" وق??ال ع??ز وج??ل :ي??ا أيها
الن??اس إن كنتم ريب من البعث فأن??ا خلقنكم من ت??راب ثم من نطف??ة ثم من علق??ة ثم
من مغة مخلقة وغير مخلقة؛ لنبين لكم ونقر في األرحام ما نشاء إلى أجل مس??مى،
ثم نخ??رجكم طفالً ،ثم لتبلغ??وا أش??دكم ،ومنكم من يت??وفى ،ومنكم من ي??رد إلى أرذل
العمر" اآلية?.
قاله الناس في ذلك في كتابنا المترجم بكت??اب أخب??ار الزم??ان وم??ا أوض??حنا في??ه من
هيث األفالك والك??واكب ،وأن األرض م??ع م??ا وص??فنا ت??دويرها موض??وعة فيج??وف
الفلك .كالمح?ة في البيض?ة ،والنس?يم ج?اذب أيض?ا ً لم?ا في أب?دان الخل?ق من الخف?ه
واألرض جاذبة لما في أبدانه من الثقل؛ إذ كانت األرض بمنزل??ة حج??ر المعن??اطيس
الذي يجذب بطبعه الحديد ،وأن األرض مقسومة نص?فين وربينهم?ا خ?ط االس?تواء،
وهو بين المشرق إلى المغرب وهذا عندهم هو طول األرض؛ ألنه أكبر خطفي ك??رة
األرض كم??ا أن منطق??ة ال??برج أك??بر يخ??ط في الفل??ك ،وع??رض األرض من القطب
الجنوبي? إلى القطب الشمالى ،الذي ت??دور حول??ه بن??ات َن ْعش؛ وأن اس??تدارة األرض
فيخط االستواء ست وثالثون درجة ،والدرجة خمسة وعشرون فرس??خا ،والفرس??خ
اثن??ا أل??ف ذراع ،وال??ذراع اثن??ان وأربع??ون إص??بعا ،واإلص??بع س??ت حب??ات ،وتس??عا
مصفوفة بعضها إلى بعض ،يكون ذلك تسعة آالف فرسخ.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب في باب ذكر األرض والبح??ار ومب??ادئ األنه??ار
مقدار المِيل والذراع األسود ،وإنما نذكر في كل موضع من هذا الكتاب ما يسنح? لنا
ونج??ده في كتب الن??اس؛ فننق??ل ذل?ك عنهم على م??ا وج??دناه في كتبهم ،ال أن?ا نقط??ع
على ص??حته؛إذ ك??ان م??ا ي??ذهب إلي??ه في مق??دار المي??ل من األذرع ،وال??ذراع من
األصابع ،هو ما بيناه آنفا ً في باب ذكر األرض والبحار.
وبين خط االستواء وك?ل واح?د من القط?بين تس?عون درج?ة ،واس?تدارتها -عرض?ا ً
مثل ذلك ،وزعم هؤالء أن العم?ارة في األرض بع?د خ?ط االس??تواء أرب?ع وعش?رون
درج??ة ،وأن الب??اقي ق??د عم??ه البح??ر الكب??ير ،وأن الخل??ق على الراب??ع الش??مالي من
األرض ،والربع الجنوبي لشدة الحر فيه ،والنصف البإقى من األرض ال ساكن فيه،
وكل ربع من الشمال والجنوب سبعة أقاليم ،وقد ذكرناها فيما سلف من هذا الكت??اب
عند ذكرنا األرض واألقاليم السبعة ،وأن عدد الم??دن عن??د ص??احب كت??اب الجغرافي??ا
أربع??ة آالف مدين??ة ومائت??ا مدين??ة ،فأم??ا قبل??ه أه??ل المش??رق والمغ??رب وال??تيمن
والجنوبي ?،فقد ذكرنا جمالً من ذلك في كتابنا أخبار الزمان.
قال المسعودي :فأما الطب??ائع األربع??ة :األرض ،فالن??ار ح??ارة يابس??ة وهي الطبيع??ة
األولى والطبيعة الثانية ?:باردة رطبة ،وهي الماء ،والطبيعة الثالث??ة :اله??واء ،وه??و
الص? َعدَاء:
حار رطب ،والطبيعة الرابعة :وهي ب??اردة يابس??ة؛فاثنت??ان منه??ا ت??ذهبان ً
س? ْفال ،وهم??ا :األرض ،والم??اء والع??الم
وهم??ا :الن??ار ،واله??واء ،واثنت??ان ترس??خان ُ
أربعة أجزاء؛ فالمشرق الربع األول ،وجميع ما فيه حار رطب مث??ل اله??واء وال??دم،
وهذا الربع ريحه الجنوب ،وله من الساعات األولى والثانية والثالثة ،وله من قوى
البدن قوة الطبيعة الهاضمة ،ومن الم??ذاقات إلى حالوة ،ول??ه من الك??واكب :القم??ر،
والزهرة ،ول??ه من ال??بروج :الحم??ل ،والث??ور ،والج?وزاء .وللحكم?اء في ه??ذا خطب
طويل في وصف هذه األرب??اع منه??ا ُج َم??ل فيم??ا مض??ى وم??ا ي??أتي .والمغ??رب :وه??و
الربع الث??اني ،وجمي??ع م??ا في??ه ب??ارد رطب مث??ل الم??اء والبلغم ،والش??تاء ،ورياح??ه:
ال??دَّ ُبو ُر ،ول??ه من الس??اعات العاش??رة والحادي??ة عش??رة و الثاني ?ة? عش??رة ،ول??ه من
المذاقات :المالح ،وما شابه ذلك ،وله من القوى :القوة الدافعة ،وله من الك??واكب:
المش??تري ،و ُع َط? ارد ،ومن ال??بروج :الج??دي ،وال??دلو ،والح??وت .والج??زء الث??الث:
?رة الص??فراء.وريح?ه ?،الض?با ،ول??ه من التيمن ،وجميع ما في??ه ح?ار ي??ابس مث??ل ال َم ّ
الس??اعات الرابع??ة والخامس??ة والسادس??ة من النه??ار .ول??ه من ق??وى الب??دن الق??وة
النفس??انية والحيواني??ة ?،ول??ه من الم??ذاقات :الم??رارة ،ول??ه من الك??واكب :الم??ريخ?،
والش??مس ،ومن ال??بروج :الس??رطان ،والس??نبلة ،والم??يزان ،والج??زء الراب??ع ه??و
الجن??وبي ،وجمي??ع م??ا في??ه ب??ارد ي??ابس ،مث??ل األرض والم??رة الس??وداء ،والخري??ف
وريحه الشمال وله من الساعات :السابعة والثامنة? والتاسعة ،وله من ق??وى الب??دن
ص ،وله من الكواكبُ :ز َح? ل ،ول??ه من القوة الماسكة ،ومن الطعوم والمذاقات :ال َع ْف ُ
البروج :الميزان ،والعقرب ،والقوس ،واألرض بع??د م??ا وص??فناه تتهاي??أ في الهيئ??ة
وتختلف في التأثير على مقادير .الخطوط ،فإذا بعد الخط كان التأثير? بخالف ما ه??و
إذا ق??رب؛لموجب??ات متنافي ?ة? متغ??ايرة ،وأفض??ل المواض??ع من المس??كون م??ا تط??رح
الشمس ضوء شعاعها إليه ،وإلى اإلِقليم الراب??ع ينتهي عن??د ه??ذه الطائف??ة ش??عاعها
في صفوة وارتفاع كحره؛ألن شعاع للشمس يهبط متساويا ً إلى هذا الموض??ع وه??و
العراق.
ولهذه الطائفة كالم كثير في فناء العالم ونقصه و َعوده جديداً ،وذكروا أن الس??لطان
في هذا الوقت السنبلة وهو سبعة آالف سنة ?،وذلك عمر ه?ذا الع?الم البش?ري ،وق?د
سا َع َد السنبلة المشتري في التدبير ،وأن نهاية العالم .في كثرة قطع الكوكب المدبر
المسافة التامة بالقوى ،فإذا استكمل َق ْطع المس??افة ال??تي ذكروه??ا في الفل??ك فهنال??ك
ودور ع??اد
?ر ْ يقع النف??اد ويك??ون ال? ً?دّ ُثور بالع??الم ،والك??واكب إذا كملت م??ا له??ا من َك? ِّ
التدبير إلى األول منها ،وعادت أشخاص كل عالم وصوره مع اجتماع الم??واد ال??تي
كانت له في حال حرك??ة ت??أثير الك??وكب ال??ذي ك??ان الت??دبير إلي??ه وهك??ذا عن?د ه??ؤالء
يجري شأن العالم سرمداً.
مدة سلطان الكوكب
وزعموا أن سلطان ا ْل َحمل اثنا عشر ألف س??نة وس??لطان الث??ور إح??دى عش??رة أل??ف
سنة ،وسلطان الجوزاء عش??رة آالف س??نة ،وس??لطان الس??رطان تس??عة آالف س??نة?،
وس??لطان األس?د ثماني?ة? آالف س?نة ،وس?لطان الس??نبلة س?بعة آالف س??نة ،وس??لطان
الميزان ستة آالف سنة? وسلطان العقرب خمسة آالف سنة وسلطان الق??وس أربع??ة
آالف س??نة وس??لطان الج??دي ثالث??ة ألف س??نة ،وس??لطان ال??دلو ألف??ا س??نة وس??لطان
الحوت ألف سنة ،فجميع ذلك ثماني?ة? وس??بعون أل??ف س??نة وعن??د ذل??ك ه??و انقض??اء
العالم ونقض ما فيه ورجوعه إلى كونه?.
وتكلم ه??ؤالء في الجن ال??ذين ك??انوا في األرض قب??ل خل??ق هّللا آدم واس??تخالفه في
األرض ،وأن المتولي لهم كوكب من الكواكب النارية?.
وتكلم كال الفريقين في أوج الشمس عند انفصالها إلى البروج الجنوبية? وما يح??دث
في العالم في كون الشمال جنوبا ً والجن?وب ش?ماالً ،وتح?ول الع?امر غ?امراً والغ?امر
عامراً ،على حسب ما ذكرنا في كتابنا المترجم بكتاب الزلف.
أجناس األجسام
وقد ذهب غير هؤالء ممن تقدم من األوائل إلى أن التي وجد بها سائر الموج??ودات
كاألول والثواني والثوالث على قدر مراتبها في العق??ل النفس والص??ورة والهي??ولى،
وأنها المبادئ على حسب ما رتبناه وق?دمناه في كت?اب الزل??ف فم??ا ع??دا م??ا وص??فنا
فهي األجسام ،وأناسها ستة ?:الجسم السماوي والجسم األرضي والحيوان الن??اطق،
والحيوان غير الناطق ،والنبات ،واألجسام الحجري??ة وهي المعدني??ة ،واألستقص??ات
األربعة وهي النار والهوا والماء واألرض.
الجن وأنواعها
وقد ذهب كثير من الناس إلى أن الجن نوعان:
أعالهم وأشدهم الجن ،وأخفضهم وأضعفهم الحن،
وأنشد الراجز :مختلف َن ْج ُر ُه ُم ِجن و حِنّ
وهذا التفصيل بين الجنسين من الجن لم يرد به خبر ،وال صح ب?ه أث?ر ،وإنم?ا ذل?ك
من توهم األعراب على حسب ما بيناه آنفاً.
النسناس
وق??د غلب على كث?ير من الع?وام األخب??ار عن معرف?ة النس?ناس وص?حة وج??وده في
الع??الم كاألخب??ار عن وج??وده في الص??ين وغيره??ا من الممال??ك النائي??ة واألمص??ار
القاص??ية? فبعض??هم يخ??بر عن وج??ودهم في المش??رق ،وبعض??هم في المغ??رب ،فأه??ل
المشرق يذكرون كونها بالمغرب ،وأهل المغرب يذكرون أنها بالمشرق ،وكذلك ك??ل
صقع من البالد ُيشير س??كانه إلى أن النس??ناس فيم??ا بع??د عنهم من البالد ون??أى من
الديار.
صفحة 349 :
وقد رووا في ذلك خبرأ مخرجه من طري??ق اآلح??اد أن ذل??ك في بالد حض??رموت من
ش ْحر ،وهو ما ذكره عبد هللا بن سعيد بن كثير بن عفير المصري ،عن أبيه أرض ال ِّ
عن يعقوب بن الح??ارث بن نجيم ،عن ش??بيب? بن ش??يبة? بن الح??ارث التميمي ?،ق??ال:
الشحر فنزلت على رأسها ،فتذاكرنا النسناس، ْ قدمت
?ربين إذ أن??ا
فق??ال :ص??يدوا لن??ا منه??ا ،فلم??ا أن رجعت إلي??ه م??ع بعض أعوان??ه ال َم ْه? ِ
بنسناس منها،
فقال لي النسناس :أنا باهلل وبك،
فقلت لهم :خلوه ،فخلوه ،فلما حضر الغداء
قال :هل اصطدتم منها شيئأ.
قالوا :نعم؛ولكن خالّ ضيفك،
الش ? َحر خ??رج منه??ا قال :استعموا فأنا خارجون في َق َنصِ ه ?،فلما خرجنا إلى ذلك في َ
وش? َعرات في ذقن?ه ،ومث?ل الث??دي في ص?دره، واحد يدمو وله وجه كوج??ه اإلنس??ان َ
ومثل رجلي اإلنسان رجاله ،وقد ألظ به كلبان،
وهو يقول:
دهري من الهموم واألحزان الويل لي مما بـه دهـانـى
واستمعا قولي وص َدقـانـي قفا قليال أيها الـكـ ْلـ َب ِ
ـان
ألفيتماني حضرا عِنـانـي إنكما حين تـحـاربـانـي
حتى تموتا أو تفارقـانـي س َباتي ما ملكتـمـانـي لوال ُ
والبنكس َرعش الجـنـان بخ ّـوار وال جـبـان لست َ
ُيذِل ذا القوة والسـلـطـان لكن قضاء الملك الرحمـن
شحر من بالد حضرموت وس??احلها -وهي األحس??اء قال المسعودي :ووجدت أهل ال ّ
مدينة? على الشاطئ من أرض األحقاف ،وهي أرض الرمل وغيرها مما اتصل بهذه
?رة -يس ??تطرفون أخب???ار
ال??ديار من أرض اليمن وغيره???ا من عم???ان وأرض ال َم ْه? َ
النس??ناس إذا م??ا ح??دقوها ،ويتعجب??ون من وص??فه ،ويتوهم??ون أن??ه ببعض بق??اع
األرض مما قد نأى عنهم وبعد ،كسماع غيرهم من أهل البالد بذلك عنهم ،وهذا
صفحة 350 :
َ?وس العام??ة واختالطه?ا ،كم?ا وق??ع يمل على عدم َك ْونه في العالم ،وإنما ذل?ك من ه َ
غرب وهذا يم??ل على ع??دم كون??ه في الع??الم ورووا في??ه ح??ديثا ً لهم في خبر عنقاء ُم ِ
َع َز ْوه إلى ابن عباس ،ونحن لم ن ِحلْ وجود النسناس والعنقاء وغير ذلك مما اتصل
به بهذا النوع من الحيوان الغريب النادر في العالم من طريق العقل .فإن ذل??ك غ??ير
أح ْل َنا ذلك ألن الخبر القاطع للعذر لم يرد بصحة وجود ذلك ممتنع? في القدرة ،ولكن َ
في الع??الم ،وه??ذا ب??اب داخ??ل في ح??يز الممكن الج??ائز خ??ارج عن ب??اب الممتن??ع?
وال??واجب ،ويحتم??ل ه??ذه األن??واع من الحي??وان الن??اعر ذكره??ا كالنس??ناس والعنق??اء
وال َع َرابد وما اتصل بهذا المعنى أن تك??ون ٍأ أنواع??ا من الحي??وان أخرجته??ا الطبيع??ة
ضنع كتأتيه في غ??يره من الحي??وان، ّ
يتأت فيه ال ُ الفعل ولم تحكمه ولم
ِ من القوة إلى
فبقي شاذاَ فريدأ متوحشا ناعراً في العالم طالبا ً للبقاع النائي??ة من البرمباي َن? ا َ لس??ائر
أن??واع الحي??وان من الن??اطقين وغ??يرهم؛ للض??دية ال??تي في??ه لغ??يره مم??ا ق??د أحكمت??ه
الطبيع??ة ،وع??دم المش??اكلة والمناس??بة ال??تي بين?ه? وبين غ??يره من أجن??اس الحي??وان
وأنواعه ،على حسب م??ا ق??دمنا في ب??اب الغيالن فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب ،وفي
اإلكثار مهن هذا خروج عن الغرض الذي إليه قصدنا في هذا الكتاب.
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكت??اب من األخب??ار عمن زعم أن المتوك??ل أم??ر ُح َن ْي ِن
بن إسحاق -أو غيره من أهل عصره ممن عني بهذا الشأن من الحكماء -أن يت??أتى
له ويحتال في حمل النسناس وا ْل َع ْر َبد من أرض اليمامة ،وأن ُح َن ْينا ً حم??ل ل??ه ش??يئا ً
من ذلك ،وقد أتينا على شرح هذا الخبر فيمن أرس??ل إلى اليم أم??ه في حم??ل العرب??د
شحر في حمل النسناس في كتابنا أخبار الزمان وهّللا تعالى أعلم بصحة وإلى بالد ال ِّ
هذا الخبر ،وليس لنا في ذلك إال النقل ،وأن نعزو ْه إلى راوية ،وهو المق َلد بعلم ذلك
فيما حكاه ورواه؛فننظمه على حسب ما يتأتى لنا نظمه في الموضع المس??تحق ل??ه،
وهللا ولي التوفيق برحمته?.
وأما ما ذكروه عن ابن عباس فهو خبر يتصل بخبر خال??د بن س??نان العبس??ي ،وق??د
قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب خبر خالد بن سنان العبسي ،وأنه ذكر أن??ه ك??ان في
الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصالة والسالم ،وذكرنا خبره مع الن??ار وإطفائ??ه
لها.
العنقاء
فلنذكر اآلن خبر العنقاء على حسب م??ا رووه ،فال ب??د من إع??ادة خ??بر خال??د ل??ذكرنا
العنقاء واتصال الخبرين ،ومخرج هذه األخبار كلها عن ابن عفير.
حدث الحسن بن إبراهيم قال :حدثنا محمد بن عبد هّللا المروزي قال :حدثنا أسد بن
سعد بن كثير بن عفير ،عن أبيه عن ج?دة كث?ير ،عن ج?د أبي?ه عف??ير عن عكرم?ة،
عن ابن عباس ق?ال :ق?ال رس?ول هللا ص??لى هللا علي?ه وس??لم إن هّللا خل?ق ط?ائراً في
حسن قس??طاً ،وخل??ق وجه??ه على الزمان األول من أحسن الطير ،وجعل فيه من كل ْ
س ? ٍن من ال??ريش ،وخل??ق ل??ه أربع??ة مثال وجوه الناس ،وكان في أجنحته كل لون ُح َ
أجنحة من كل جانب منه ?،وخلق له يدين فيهما مخالب ،وله منقار على صفة منقار
صفحة 351 :
خلق الخيل
منها خبر خلق الخيل ،وهو ما حدث به الحسن بن إبراهيم الش??عبي القاض??ي ،ق??ال:
حدثنا أبو عبد هّللا محمد بن عبد هّللا المروزي قال :حدثنا أبو الحارث أسد بن سعيد
بن كثير بن عفير ،عن أبيه ،عن جده كثير ،عن جد أبيه عفير قال :قال
ومن الن??اس من ذهب إلى غ??ير ه??ذه الوج??وه في قب??ول األخب??ار من الض??رورية
وغيرها.
وما ذكرناه من حديث النسناس والعنقاء وخلق الخيل فغير داخل في أخب??ار الت??واتر
الموجب??ة للعم??ل والالحق??ة بم??ا أوجب العم??ل دون العلم ،وال باألخب??ار المض??طرة
لسامعها إلى قبولها عن?د وروده?ا واعتق?اد ص?حتها عن ُم ْخ ِبره?ا ،وه?ذا الن?وع من
األخبار قد قدمنا أنه??ا في َح ِّيز الج??ائز الممكن ال??ذي ليس ب??واجب وال ممتن??ع ?،وهي
الحقة باإلِسرائيليات من األخبار واألخبار عن عجائب البحار.
ولوال ما قدمنا آنفا ً من اشتراطنا على أنفسنا االختصار واإليجاز لذكرنا م??ا اتص??ل
بهذا المعنى من األخبار مما رواه أصحاب الحديث عن النبي صلى هللا عليه وس??لم،
وهم حملة السنن ونقلة اآلثار ،مما ال يتناكرونه ،ويعرفونه وال يدفعونه?.
أمثلة من األخبار
مثل حديث القرد الذي كان في السفينة? في عهد ب??ني إس??رائيل م??ع رج??ل ك??ان ي??بيع
وب الخمر بالماء ،وأن?ه جم?ع من ذل?ك دراهم كث?يرة ،وأن ش ُالخمر ألهل السفينة و َي ُ
القرد قبض على الكيس الذي كانت في??ه ال??دراهم وص??عد على ال??دقل ،وه??و ص??ارى
الم??ركب و ُي??دْ َعى ب??العراق ال??دقل ،فح??ل الكيس ولم ي??زل ي??رمي درهم ?ا ً إلى الم??اء
ودرهما ً إلى السفينة ،حتى قسم ذلك نصفين.
ومث??ل م??ا روي الش??عبي عن فاطم??ة بنت قيس عن الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم،
الداري ،أن
ّ وكذلك قد رواه عن فاطمة بنت قيس عدة من الصحابة ،وهو خبر تميم
النبي صلى هللا عليه وسلم أخبر عنه أنه أخبره أنه ركب البحر في جماعة من ب??ني?
عم??ه في س??فينة ،فأض?ل َّ بهم البح??ر وألق?اهم إلى جزي??رة فخرج??وا من الس??فينة إلى
الجزيرة فنظروا إلى دابة عظيمة قد نش??رت ش??عرها ،فق?الوا له?ا :أيته??ا الداب??ة ،م?ا
جساسة التي أخرج آخر الزمان ،وذك??روا عنه?ا كالم?ا ً غ??ير ه??ذا، أنت؛ فقالت :أنا ا ْل َّ
وأنها قالت :عليكم بصاحب القصر ،فنظروا فإذا هم بقص??ر من حال??ه ووص??فه ك??ذا،
س ْلسل إلى عمود من حديد وصفة وجهه كذا ،وأن??ه وإذا هم برجل بالحديد والقيود ُم َ
خاطبهم وساءلهم ،وأن??ه ال??دجال ،وأن??ه أخ??برهم بجم??ل من المالحم ،وأن??ه ال ي??دخل
مدينة? النبي صلى هللا عليه وسلم ،وغير ذلك مما ذكر في هذا الح??ديث وغ??يره مم??ا
ورد من األخبار في معناه ،وهذا باب كبير يتسع? وصفه ويعظم شرحه?.
أم??ا األول فهي المع??دة ف??إن المع??دة تهض??م الطع??ام فتأخ??ذ قوت??ه فيص??ير مث??ل م??اء
الكشك ،ثم تدفعه إلى الكب??د ثم يدفع??ه الكب??د في الع??روق إلى جمي??ع الجس??د كان??دفاع
الماء من النهر إلى السواقي والمشارب ،فتهضمه أعضاء الجسد التالي??ة ،فتص??يره
إلى شبهها اللحم لحما ً والشحم شحماً ،وكذلك العروق والعصب وما سوى ذلك وأن
إقتارها إذا استوت استوت أقدار القوى وإذا استوت القوى استوى الجس??د واعت??دل
هللا تعالى.
ويصح? بإذن ّ
وقد قال أبقراط :ينبغي أن يكون كل شيء في هذا العالم مق??در أعلى س??بعة أج??زاء،
فالنجوم سبعة ،واألقاليم سبعة واأليام سبعة وأسنان الناس س??بعة :أوله??ا طف??ل ،ثم
صبي إلى أربع عشرة سنة ،ثم غالم إلى أحد وعشرين سنة ،ثم شاب م??ا دام يش??ب
ويقب??ل الزي??ادة إلى خمس وثالثين س??نة ?،ثم كه??ل إلى األربعين ،ثم ش??يخ إلى س??بع
واربعين سنة ،ثم هرم إلى آخر العمر.
وقال :إن ق??وى النفس تابع??ة لمزاج??ات األب??دان ،ومزاج??ات األب??دان تابع??ة لتص??رف
الهواء :إذا برد مرة وسخن أخرى خرج الزرع نض??يجا ً وم??رة غ??ير نض??يج ?،وم??رة
قليال ومرة كثيراً ،ومرة حاراً ومرة بارداً ،فتتغ??ير ل??ذلك ص??ورهم ومزاج??اتهم ،وإذا
اعتدل الهواء واستوى خرج معتدال ،فاعتدل بذلك الصور والمزاجات.
أثر الجنوب
وقال أيضاً :إن الجنوب إذا هبت أذابت الهواء وبردت??ه ،وس??خنت البح??ار واألنه??ار،
وكل شيء فيه رطوبة ،وتغير لون كل شئ وحاالته ،وهى ترخي األبدان والعص??ب،
وتورث الكس??ل ،وتح??دث ثقال في الس??ماع وغش??اوة في البص??ر؛ألنه??ا تحل??ل الم??رة،
وتنزل? الرطوبة إلى أصل العصب الذي يكون فيه الحس.
أثر الشمال
وأم??ا الش??مال فإنه??ا تص??لب األب??دان ،وتص ?ح? األدمغ??ة ،و َتحس??ن الل??ون ،وتص??في
س َعال ووجع الصدر. الحواس ،وتقوي الشهوة والحركة ،غير أنها تحرك ال ُّ
َب ب??أرض وق??د زعم بعض من ت??أخر في اإلس??الم من الحكم??اء أن الجن??وب إذا ه َّ
الع??راق تغ??ير ال??ورد ،وتن??اثر? ال??ورق وتش??قق القنبي??ط وس??خن الم??اء ،واس??ترخت
األب??دان ،وتك??در اله??واء ،ق??ال :وذل??ك ش??به م??ا ق??ال أبق??راط ا :إن الص??يف ْأو َب??أ من
الشتاء،ألنه يسخن األبدان فيرخيها ويضعف قواها ،وإن أهل الع??راق يك??ون الرج??ل
فيحس بهبوبها ،وإنه إذا هبت الشمال َب َر َد الخاتم في إص??بعه ُّ منهم نائما ً في فراشه
واتس??ع النض??مام الب??دن به??ا ،وإذا هبت الجن??وب س??خن الخ??اتم وض??اق ،واس??ترخى
البدن ،وحدث فيه الكسل ،وهذا يجده سائر َمنْ بالعراق ممن ل??ه حس??ن ،إذا ص??رف
همته? إلى تأمل ذلك ،وكذلك يجده من تأمل ما وصفناه في س??ائر األمص??ار في بق??اع
األرض والبلدان ،وإن كان ذلك بالعراق أظهر لعموم االعتدال.
الرياح األربعة
ثم قال الحكيم أبقراط في معنى ما ذكرناه :إن الرياح العامة أربعة :إحداها تهب من
جهة المشرق ،وهي ا ْل َق ُبول ،والثانية تهب من المغرب ،وهي ال ? َّد ُبور ،والثالث??ة من
التيمن ،وهي الجنوب ،والرابعة من التيسر ،وهي الشمال.
فأما الريح التي تهب في بلد دون بلد فإنها تسمى الريح البلدية.
ق??ال المس??عودي :وق??د ق??دمنا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب جوام??ع من األخب??ار عن
األرض والبح??ر ،وكث??ير? من الممال??ك والبل??دان ،وذكرن??ا في ه??ذآ الب??اب جوام??ع من
األخبار عن الطبائع واألهوية والبلدان وأرب??اع األرض من الع??امر والغ??امر ،وغ??ير
ذلك مما تقدم ذكره وانتظم تص??نيفه? وا َت َ
س? َق بحم??د هللا إي??راده؛ فرأين??ا أن نختم ه??ذا
الباب بجوامع من مساحات الممالك ،وما بينه??ا من البع??د والق??رب ،على حس??ب م??ا
حكاه الفزاري صاحب كتاب الزيج والقصيدة في هيئة النجوم والفلك:
أصول الطب
وأما الكالم في وصف أصول الطب ،وهل ذلك مأخوذ من طريق الرياض??ة والقي??اس
أم من غيره ،ووصف تنازع الناس في ذلك؛فلم نتعرض إليراده في هذا الباب ،وإن
كان متعلقا ً ومتصالً بالكالم في الطبائع وجمل المعاني المذكورة في هذا ا لباب؛ألن??ا
قد أوردناه فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار الواثق على إيض??اح ج??رى بحض??رته?،
وقد حضر مجلسه حنين بن إسحاق وابن ماس??وية ويختيش??وع وميخائي?ل? وغ??يرهم
من الفالسفة والمتطببين ،فأغنى ذلك عن إي??راده في ه??ذا الب??اب ،ول??وال أن الكت??اب
َي ِر ُد على أغراض مختلفة من الناس لما ُه ْم عليه من اختالف الطب??ائع والتب??اين في
المراد لما ذكرنا بعض ما نورد في??ه من أن??واع العل??وم وفن??ون األخب?ار ،وق??د يلح??ق
اإلِنسان الملل لقراءته م?ا ال ته?وى نفس?ه فينتق?ل من?ه إلى غ?يره ،فجمعن?ا في?ه من
سائر ما يحتاج الناس من ذوي المعرفة إلى علمه ،ولما تغلغل بن??ا الكالم في نظم??ه
وتشعبه? واتصاله بغ??يره من المع??اني مم??ا لم يتق??دم ذك??ره ،وق??د أتين??ا على مبس??وط
س??ائر م??ا ذكرن??اه على االتس??اع واإليض??اح في كتابن??ا أخب??ار الزم??ان وفي الكت??اب
األوسط ،وهللا تعالى أعلم.
عز وجل ،وبعض??ها على ص??ورة المالئك??ة :مختلف??ة الق??دود واألش??كال ،ومنه??ا على
صورة اإلنسان وعلى خالفها من الصور ،يعبدونها ،وقربوا الق??رابين ،ونف??روا له??ا
النذور ،لشبهها عندهم بالباري وقربه??ا من??ه ،فأق??اموا على ذل??ك بره??ة من الزم??ان
وجملة من األعصار.
البيت الحرام
وقد قال هؤالء :إن البيت الحرام من البيوت السبعة المعظم??ة المتخ??ذة على أس??ماء
الكواكب من النيرين والخمسة?.
بيت بالهند
والبيت الثالث ي?دعى مندوس?ان ببالد الهن?د وه?ذا ال?بيت تعظم?ه الهن?د ولى ق?رابين
تقرب ،وفيه أحجار المغن??اطيس الجاذب??ة والدافع??ة والم??نزرة من أوص??اف ال يس??عنا
اإلخبار عنها؛فمن أراد أن يبحث عن ذكرها فليبحث ،فإنه َ
بيت مشهور? ببالد الهند.
?دفع ق??وة
األخضر طول ُ الشقة مات ذراع فما دونها قد نصب ل??ذلك رم??اح وخش??ب ت? ِ
الريح بم??ا عليه??ا من الحري??ر ،فيق??ال وهللاّ أعلم :إن ال??ريح خطفت يوم?ا َ بعض تل??ك
الش??قاق ورمت ب??ه ،فأص??يب على مس??افة خمس??ين فرس??خاً ،وقي??ل :أك??ثر من تل??ك
المسافة وهذا يدل على زيادته في إلجو وتش??ييد بنيان??ه ،وك??ان الح??يز المحي??ط به??ذ
علو السور وعرضه?. البنيان أمياالً لم نذكزها ،إذ كان أمر ذلك مشهوراً من وصف ّ
قال المسعودي :وقد ذكر بعض أه?ل الرواي?ة والتنق?ير? أن?ه ق?رأ على ب?اب النوبه?ار
ببلخ كتاب ?ا ً بالفارس??ية? ترجمت??ه ?:ق??ال بوداس??ف :أب? ُ
?واب المل??وكِ تحت??اج إلى ش??الث
خصال :عقل ،وصبر ،ومال وإذا تحته بالعربية :كذب بوداس??ف ال??واجب على الح??ر
إذا كان معه واحدة من هذه الثالث الخصال أن ال يلزم باب السلطان.
غمدان بصنعاء
غم? دَ ان َال??ذي بمدين?ة? ص??نعاء من بالد اليمن ،وك??ان الض??حاك
والبيت الخامس بيت ْ
بناه على اسم الزهرة ،وخربه عثمان بن عفان رضي هّللا عن??ه؛فه??و في وقتن??ا ه??ذا
وه?و س?نة اثن?تين وثالثين وثلثمائ?ة -خ?راب ق?د ه?دم فص?ار تال عظيم?اً ،وق?د ك?ان
بن عيس??ى بن الج??راح -حين نفي إلى اليمن وص??ار إلى ص??نعاءَ -ب َنى ال??وزير علي ِ
فر فيه بئراً.
وح َ
فيه سقاية َ
ورأيت ُغ ْمدَ ان رثمإ ً وتال عظيما ً قد انه??دم بنيان??ه ،وص??ار جب??ل ت??راب كأن??ه لم يكن،
وقد كان أسعد بن يعفر صاحب قلعة كحالن النازل بها وص??احب مخ??اليف اليمن في
هذا ال?وقت ،وه?و المعظم في اليمن ،أراد أن يب?ني غم?دان ،فأش?ار علي?ه يح?يى بن
الحسين الحسني أن ال يتعرض لشيء من ذلك؛إذ كان بناؤه على ي??دي غالم يخ??رج
من أرض سبأ وأرض مأرب يؤثر في صقع من هذا العالم تأثيراً عظيماً.
وقد ذكر هذا البيت جد أمية بن أبي الص??لت وقي??ل :ه??و أب??و الص??لت أمي??ة ،واس??مه
ربيعه في مدحه لسيف بن ذي يزن ،وقيل :إن الممدوح بهذا الشعر مع??د يك??رب بن
ج ُم ْر َتفِقا ً برأس ُغ َم َدانَ داراً منك م ِْحالَالَ
ش َرب هنيئا ً عليك التا ُ سيف حيث يقول :ا ْ
وكان أبو أمية جاهلياً ،وهو القائل في أصحاب الفيل:
وقد قيل:
والبيت السادس كاوسان ،بناه ك?اوس المل?ك بن??ا ًء عجيب?ا ً على اس??م الم?دبر األعظم
من األجسام السماوية وهو الشمس ،بمدين?ة? فرغان??ة من م??دائن خراس??ان ،وخرب??ه
َ
البيت خب ٌر طري??ف ق??د أتين??ا على ذك??ره في كت??اب أخب??ار المعتصم باهّلل ،ولهدمه هذا
الزمانَ .
بيت بالصين
والبيت السابع بأعالي بالد الصين ،بناه ولد ع??امور بن س??وبل بن ي??افث ابن ن??وح،
وأفرده للعلة األولى؛إذ كان منشأ هذا الملك ومبدأه وباعث األنوار إليه ،وقيل :إنم??ا
بناه بعض ملوك الترك في قديم الزمان وجعله سبعة أبي??ات في ك??ل بيت منه??ا س??بع
ُك ًوى يقابل كل كوة صورة منصوبة على ص??ورة ك??وكب من الخمس??ة والن??يرين من
أنواع الجواهر المضافة إلى تأثير تلك الكواكب ،من ياقوت أو عقيق أو زم??رد على
اختالف ألوان الجواهر ،ولهم في هذا الهيكل سِ ٌّر يسرونه في بالد الص??ين ،بم??ا ق??د
ف لهم فيه القول وزينه لهم الشيطان ،ولهم في ه??ذا الهيك??ل عل??وم في اتص??ال َز َ
خر َ
األجسام السماوية وأفعالها بعالم الكون الذي تحدثه ،وم??ا يح??دث في??ه من الحرك??ات
واألفعال عند تحرك األجسام السماوية؛ وقد قرب ذل??ك إلى عق??ولهم :ب??أن جع??ل لهم
مثاالً من الشاهد يدل على ما غاب عنهم من فعل األجسام السماوية في هذا الع??الم،
وه??و خش??ب ال??ديباج ال??ذي ينس?ج? ب??ه؛فبض??رب? من حرك??ات الص??انع ب??ذلك الخش??ب
والخي??وط إإلبريس??م تح??دث ض??روب من الحرك??ات ،ف??إذا اتص??لت أفعال??ه وت??واترت
حركاته من النسج للثوب ال??ديباج تحت الص??ورة في??ه؛فبض??رب من الحرك?ات يظه??ر
جن?اح ط?ائر ،وب??آخر رأس??ه ،وب?آخر رجاله،فال ي?زال ك?ذلك ح?تى تتم الص??ورة على
حسب مراد الصانع لها؛فجعلوا هذا المثال واتصال اإلِبريسم بآلة النسج وما يدحث??ه
الصانع في ذل??ك من األفع??ال مث??االً لم??ا ذكرن??ا من الك??واكب العلوي??ة ،وهي األجس??ام
الس??ماوية ،فبض??رب من الحرك??ات ظه??ر في الع??الم الط??ائر وبض??رب آخ??ر بيض??ة?
وبضرب آخ??ر ف??رخ ،وك??ذلك س??ائر م??ا يح??دث في الع??الم ،ويس??كن ويتح??رك ويوج??د
ويعدم ،ويتصل وينفصل ?،ويجتمع? ويف??ترق ،ويزي??د وينقص ،من جم??اد أو نب??ات أو
حيوان ناطق أو غير ناطق ،فإنما يحدث عن حركات الكواكب على حسب ما وصفنا
من نسج الديباج وغيره من الصنائع ،وأهل صناعة النجوم ال يتناكرون أن يقولوا:
كالش? ْقرة ُ
وص? ُهوبة? الش?عر وأعط??اه ُز َح? ل ُ ُّ أعطته الزهرة كذا ،وأعطاه المريخ? ك??ذا،
خفة العارضين و ُج ُحو َظ العينين وأعطاه ُع َطارد الص?نعة وأعط?اه المش?تري? الحي?اء
والعلم والدين ،وأعطته الشمس كذا ،وأعطاه القمر كذا ،وهذا باب يكثر الق??ول في??ه
ويتسع? وصف مذاهب الناس فيه ،وما قالوه في بابه.
أنواع أحجاره ،واختالف ألوانه ،والمخ?اريق المص?نوعة? ل?ه ،في?ه على أعاله ،وم?ا
من مطلع الشمس في تلك المخاريق المصنوعة وما أودع فيه من الجواهر واآلث??ار
المرس??ومة في??ه الدال??ة على الكائن??ات المس??تقبلة ،وم??ا ُتن ?ذِر ب??ه تل??ك الج??واهر من
األحداث قبل كونها ،وظهور أصوات من أعاليه لهم ،وم??ا ك??ان يلحقهم عن??د س??مأع
ذلك.
وبيت اتخذه بعض ملوكهم على الجبل األسود ،تحي??ط ب??ه مي??اه عجيب?ة? ذوات أل??وان
وطعوم مختلفة عامة المنافع ،وكان لهم فيه صنم عظيم على صورة رجل قد انحنى
على نفسه ?،وهو شيخ بي?ده عص?ا يح?رك ب?ه عظ?ام الم?وتى من الن?واويس ،وتحت
ص َور أنواع من النمل ،وتحت األخرى غرابيب سود من صور ال ُغدَاف رجله اليمنى ُ
وغيرها ،وصور عجيبة ألنواع ،األحابيش والزنج?.
وبيت أخر على تجبل لهم يحيط به خليج من البحر قد بني بأحب المرج??ان األحم??ر،
وأحجار الزمرد األخضر ،في وسطه قب??ة عظيم??ة ،تحته??ا ص??نم عظيم أعض?اؤه من
جواهر أربعة :زمرد أخضر ،وياقوت أحمر وعقي??ق أص??فر ،وبل??ور أبيض ،ورأس??ه
من الذهب األحمر ،فإزائه صنم آخ??ر على ص??ورة جاري??ة ،وك??ان يق??رب ل??ه ق??رابين
ودخن ،وكان ينسب هذا البيت إلى حكيم كان لهم في ق??ديم الزم??ان ،وق??د أتين??ا على
خبره ،وما ك??ان من أم??ره ب??أرض الص??قالبة ،وم??ا أح??دث فيهم من ال??دكوك والحي??ل
والمخاريق المصطنعة التي اجتذب بها قُلُو َب ُه ْم وملك نفوسهم واسترق بها عق??ولهم
مع شراسة أخالق الصقالبة واختالف طب??ائعهم ،فيم??ا س??لف من كتبن??ا ،وهللا تع??الى
ولي التوفيق.
ّ
جملة من هياكلهم
ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة ،وهيكل الصورة ،وهيكل النفس ،وهذه ُمد ََّورات
الش??كل ،وهيك??ل ُز َح?? ل مس??دس ،وهيك??ل المش??تري مثلث ،وهيك??ل الم??ريخ? مرب??ع?
مستطيل ?،وهيكل الشمس مربع ،وهيكل عطارد مثلث الشكل ،وهيك??ل الزه??رة مثلث
في جوف مربع مستطيل،وهيك??ل القم??ر مثمن الش??كل وللص??ابئة? فيم??ا ذكرن??ا رم??وز
وأسرار يخفونها.
وقد حكى رجل من ملكية النص??ارى من ًح? ّران يع??رف بالح??ارث بن ش??باط للص??ابئة
الحرانيين أشياء ذكرها من قرابين يقربونها من الحي??وان ودخن للك??واكب يبخ??رون
بها وغير ذلك مما امتنعنا عن ذكره مخافة التطويل.
والذي بقي من هياكلهم المعظمة في هذا الوقت -وهو سنة اثنتين -ثالثين وثلثمائ ?ة?
بيت لهم بمدينة َحران في باب الرقة يع?رف بمغليتي??ا ،وه??و هيك??ل آزر أبي إب??راهيم
الخليل عليه السالم عندهم ،وللقوم في آزر وابنه? إبراهيم كالم كثير ليس كتابنا هذا
موضعا ً ل??ه ،والبن عيش??ون ا ْل َح? ًراني لقاض??ي -وك??ان ذا َف ْهم ومعرف??ة ،وت??وفي بع??د
الثلثمائة ?-قصيدة طويلة ي??ذكر فيه??ا م??ذاهب الحران??يين المع??روفين بالص??ابئة ،ذك??ر
فيها هذا البيت وما تحته من السراديب األربعة المختلفة ألنواع صور األصنام التي
جعلت مثاالً لألجسام السماوية وما ارتفع من ذلك من األشخاص العلوي??ة ،وأس??رار
هذه األصنام ،وكيفية إيرادهم ألطفالهم إلى هذه السراديب وعرض??هم لهم على ه??ذه
ص ْفرة وغيرها لم??ااألصنام ،وما ُي ْحدِث ذلك في ألوان صبيانهم من االستحالة إلى ال ُّ
يسمون من ظهور أن??واع األص??وات وفن??ون اللغ?ات من تل?ك األص??نام واألش??خاص،
?ر فتتكلم ب?أنواع من ِبحِيل قد اتخذت ومنافيخ? قد عملت :تق??ف الس? َدنة من وراء ُج ُم? ٍ
الكالم ،فتج??ري األص??وات في تل??ك المن??افيخ والمخ??اريق والمناف??ذ إلى تل??ك الص??ور
المجوفة واألصنام المشخصة ،فيظهر منها نطق على حس??ب م??ا ق??د عم??ل في ق??ديم
ُّ
وتسترق به??ا الرق??اب ،ويق??ام به??ا المل??ك والممال??ك الزمان ،فيصطادون به العقول،
ومما ذكر في هذه القصيدة قوله :إن نفيس الـعـجـائب بيت لهم في سـرادب تعب??د
في??ه الـكـواكـب أص??ن أم??ه م خل??ف غ??ائب وله??ذه الطائف??ة المعروف??ة ب??الحرانيين
والص??ابئة فالس??فة ،إال أنهم من حش??وية الفالس??فة ،وعوأم??ه م مب??اينون لخ??واص
حكمائهم في مذاهبهم ،وإنما أضفناهم إلى الفالسفة إضافة س??بب ال إض??افة حكم??ة،
ألنهم يونانية ?،وليس كل اليونانيين فالسفة ،إنما الفالسفة حكماؤهم.
ورأيت على باب مجمع الصابئة بمدينة حران مكتوب?ا ً على مدق??ة الب??اب بالس??ريانية?
قوال ألفالطون فسره مالك بن عقبون وغيره منهم وه??و من ع??رف ذات??ه تال? َه وق??د
قال أفالطون اإلنسان نبات س??ماوي ،وال??دليل على ه??ذا أن??ه ش??بيه ش??جرة منكوس?ة?
أصلها إلى السماء وفروعها في األرض وألفالط??ون وغ??يره ممن س??لك طريق??ه في
النفس الناطق?ة كالم كث?ير في ه?ل النفس في الب?دن أو الب?دن في النفس ،كالش?مس
أهي في الدار أو الدار في الشمس ،وهذا ق??ول يتغلغ??ل بن??ا الكالم في??ه إلى الكالم في
تنقل األرواح في أنواع الصور.
المركبة من طبائع األرض المتضادة ،وعرضها في ذلك أن تقيمه?ا على الع?دل وم?ا
تتم ب??ه السياس??ة المس?تقيمة والنظ?ام المتس?ق وتردَّ ه??ا من الحرك?ة المض??طربة إلى
المنتظمة?.
وزعموا أنها تل ُّذ وتألم وتموت ،وموتها عندهم انتقالها من جسد إلى جس??د بت??دبير،
وبطالن ذل??ك الش??خص ال??ذي فس??د ووص??ف ب??الموت ،ألن شخص??ها يفس??د ،وألن
جوهرها ينتقل.
وزعموا أنها عالمة بذاتها وجوهرها عالمة بالمعقوالت من ذاتها وجوهرها وفيه??ا
قبول علم المحسوسات من جهة الحس.
المقوألت
وألفالطون وغيره في هذه المعاني كالم يطول ذكره ،ويعج??ز عن وص??فه وإظه??اره
العتياصه وغموضه ،وكذلك صاحب المنطق وفيث??اغورس وغيرهم??ا من الفالس??فة
ممن تقدم وتأخر ،ألن الطالب لعلم هذه األشياء واإلحاطة بفهمها وبل??وغ غايته??ا ال
يحرك ذلك لما نصبوا من الكتب ،ورتبوا من التص??نيف? للعل??وم المؤدي??ة إلى معرف??ة
عل??ومهم وأغراض??هم ال??تي إليه??ا قص??دوا في كتبهم وهي معرف??ة األلف??اظ الخمس،
وهي :الجنس .والفصل ،والنوع ،والخاصة ،والع?رض ،ثم معرف?ة المق?والت ،وهي
عشرة :الجوهر ،والكمية ،والكيفية ?،واإلضافة -وهي النسبة -وه??ذه أرب??ع بس??ائط،
والست األخر مركبات ،وهي :الزم??ان ،والمك??ان ،وال ِج??دة -وهي ال ِم ْل? ُك -والوض??ع،
والفاعل ،والمنفعل ،ثم ما بعد ذلك مما يترقى فيا الط??الب إلى أن ينتهي? إلى علم م??ا
بعد الطبيعة من معرفة األول والثاني.
فمن ذلك كتاب رأيته ألبي بك??ر محم??د بن زكري??ا ال??رازي الفيلس??وف ص??احب كت??اب
المنصوري في الطب وغيره ،ذكر في??ه م??ذاهب الص??ابف الحران??يين منهم ،دون من
خالفهم من الصابئة ،وهم الكيماريون ،وذكر أشياء يط??ول ذكره?ا ويقبح عن?د كث??ير
من الناس وصفها ،أعرضنا عن حكايتها ،إذ كان في ذل??ك خ??روج عن ح??د الغ??رض
من كتابنا إلى وصف اآلراء والديانات.
وقد خاطبت مال?ك بن عقب??ون وغ??يره منهم بش??يء مم??ا ذكرن??ا وغ??يره عن??ه كتبن??ا،
فمنهم من اعترف ببعضه ،وأنكر بعض?ا ً من ذك??ر الق??رابين وغ??يرا من اآلراء ،مث??ل
?راعى فعلهم بالثور األسود ،فإنه يضرب وجهه بالملح إذا شدت عيناه ثم ي??ذبح ،و ُب? َ
كل عضو من أعضائه وما يظهر منه? من الحركات واألختالج على ما ي??دل ذل??ك من
أحوال السنة وغير ذلك من أسرارهم ومحاالتهم وأحوال قرابينهم.
قال المسعودي :وقد ذكر جماعة -ممن له تأمل بشأن أمور ه??ذا الع??الم والبحث عن
أخب??اره -أن بأقص??ى بالد الص??ين هيكالً م??دوراً ل??ه س??بعة أب??واب ،في داخل??ه قب??ة و
مسبعة? عظيمة? الشأن عالية السمك ،في أعالي القبة شبه الجوهرة يزي??د على رأس
العجل تضيء? منه جميع أقطار ذل??ك الهيك??ل ،وأن جماع??ة من المل??وك ح??اولوا أخ??ذ
تلك الجوهرة فلم َيدْ نُ أحد منها على مقدار عشرة أفرع إال َخ َّر ميتا ً وإن حاول أح??د
وانتهت إلى هذاَ منهم أخذ هذه الجوهرة بشيء من اآلالت الطوال كالرماح وغيرها
الذ ْرع انعكست وعطلت ،وإن رميت بشيء كان ك?ذلك ،فليس ش??يء من المقدار من َّ
الحيل يؤدي إلى تناولها بوجه وال بسبب ،وإن تعرض لشيء من َه??دْ م ه??ذا الهيك??ل
مات َمنْ يروم ذلك وهذا عند جماعة من أهل الخبرة لقو ٍة دافع ? ٍة منف??رد ٍة ق??د عملت
من أن??واع األحج??ار المغناطيس??ية ?،وفي ه??ذا الهيك??ل ب??ئر مس??بعة? ال??رأس م??تى أ َك َّب
اإلنس??ان على رأس الب??ئر إكباب?ا ً متمكن?ا ً ته? َ?ؤر في الب??ئر فص??ار في أس??فلها على أم
رأسه ،وعلى رأس هذه البئر شبه الطوق مكتوب عليه بقلم ق??ديم أراه بقلم المس??ند
هذه بئر تؤدي إلى مخزن الكتب وتاريخ الدنيا وعلوم السماء وما ك??ان فيم??ا مض??ى
من الدهر وما يكون فيما يأتي منه ،وتؤدي هذه البئر أيضا ً إلى خزائن وغائب ه??ذا
الع??الم ،ال يعم??ل إلى الوص??ول إليه??ا واالقتب??اس منه??ا إال من وازت قدرت??ه ق??درتنا،
واتصل علمه بعلمن??ا ،وص??ارت حكمت?ه? كحكمتن??ا ،فمن ق??در على الوص??ول إلى ه??ذا
المخزن فليعلم أنه قد وازانا ،ومن عجز عن الوصول إلى ما وصفنا فليعلم أنا أش??د
منه? بأس?اً ،وأق??وى حكم??ة ،وأك??ثر علم?اً ،وأثقب راي??ة ،وأتم عناي??ة ،واألرض ال??تي
عليها هذا الهيكل والقبة وفيها البئر أرض حجرية صلبة عالية من األرض كالجب??ل
الشامخ ال ُت َرام قلعته وال يتأتى نقب ما تحته ،فإذا أدرك البصر ذل??ك الهيك??ل والقب??ة
والبئر وقع للرائي عند رؤيته ذلك َج? َزع وح??زن واجت??ذاب للقلب إلي??ه وح??نين على
وهللا أعلم بذلك.
ّ إفساده وتأسف على إفساد شيء منه? أو هدمه،
بيت بإصطخر
وللفرس بيت نار بإصطخر فارس تعظمه المجوس ،وكان في قديم الزمان فأخرجته
حماي??ة بنت بهمن بن إس??فنديار وجعلت??ه بيت ن??ار ،ثم نقلت عن??ه الن??ار فتخ??رب،
والناس في وقتنا هذا يذكرون أنه مسجد سليمان بن داود ،وبه يعرف وق??د دخلت??ه،
وهو على نح??و فرس??خ من مدين?ة? إص??طخر ،ف??رأيت بنيان?ا ً عجيب?اً ،وهيكال عظيم?اً،
وأساطين صخر عجيبة ?،على أعالها صور من الص??خر طريف??ة من الخي??ل وغيره??ا
من الحيوان عظيمة القدر واألشكال ،محيط بذلك حيز عظيم وسور منيع من
صفحة 368 :
الحجر ،وفي?ه ص??ور ألش?خاص ق?د تش?كلت وأتقنت ص?ورها ،ي?زعم من ج?اور ه?ذا
الموضع أنه??ا ص??ور األنبي??اء ،وه??و في س??فح جب??ل وال??ريح غ??ير خارج??ة من ذل??ك
ي ،ي??ذكر َمنْ هنال??ك من المس??لمين أن ?و ٌّ
الهيكل في ليل وال نه??ار ،وله??ا هب??وب و َع? ِ
سليمان بن داود عليهما الس??الم حبس ال??ريح في ذل??ك الموض??ع ،وأن??ه ك?ان يتغ? َذى
ويتعش?ى في ه??ذا المس??جد ،وي??نزل بينهم??ا بمدين??ة َت??دْ ُم َر
َ ببعلب??ك من أرض الش??ام،
وملعبه??ا المتخ?ذ فيه?ا ،ومدين??ة َت?دْ ُم َر في البري?ة بين الع?راق ودمش??ق وحمص من
أرض الشام يكون منها إلى الشام نحو خمسة أيام أو س??تة ،وهي بني??ان عجيب من
الحجر ،وكذلك الملعب الذي فيها ،وفيها َخ ْلق من الناس من العرب من قحطان.
وكان ك?ورش المل?ك -حين ول?د المس?يح علي?ه الس?الم -بعث ثالث?ة أنفس :دف?ع إلى
وس ? َّيرهم
أحدهم صرة من لبان ،وإلى آخر صرة من مر ،وإلى آخر ص??رة من ت??برَ ،
يهت??دون بنجم وص ? َفه لهم ،فس??اروا ح??تى انته??وا إلى الس??يد المس??يح و أم??ه م??ريم
ب??أرض الش??ام ،والنص??ارى تغل??و في قص??ة ه??ؤالء النف??ر ،وه??ذا الخ??بر موج??ود في
اإلِنجيل ،وإن هذا الملك كورش نظر إلى نجم قد طلع بمولد المسيح? عيس??ى ،فك?انوا
إذا ساروا سار معهم ذل??ك النجم ،وإذا وقف??وا وق??ف بوق??وفهم ،وق??د أتين??ا في كتابن??ا
أخبار الزمان على شرح ه??ذا الخ??بر ،وم??ا ق??الت في??ه المج??وس والنص??ارى ،وخ??بر
الر ْغ َفان التي دفعتها إليهم مريم ،وما كان من الرسل وجعلهم الخبز تحت الص??خرة ُّ
و َغ ْوصها في األرض ،وذلك بفارس ،وكيف حفر عليها إلى الماء وأنها وجدت وقد
صارت سعلتي نار على وجه األرض تتقدان ،وغير ذلك مما قيل في هذا الخبر.
وقد كان أردشير بنى بيتا ً آخ?ر ُيق?ال ل?ه ب?ارنوا ،وفي الي??وم الث?اني من غلبت?ه على
فارس ،ؤبيت نار على خليج القسطنطينية? من بالد الروم ،بن??اه س??ابور بن أردش??ير
بن بابك -وهو سابور الجنود -حين نزل على هذا الخليج ،وحاصر القسطنطينية? في
صفحة 369 :
عساكره ،فلم يزل هذا ال?ب ْيت هنال?ك إلى خالف?ة المه?دي ،فخ?رب ول?ه خ?بر عجيب،
وكان مسيوره الجنود اش?ترط على ال?روم بن?اء ه?ذا ال?بيت وعمارت?ه عن?د حص?اره
القسطنطينية ،وك??ان مس??يرهُ في جي??وش ف??ارس وغيره??ا من ال??ترك ومل??وك األمم،
فسمى سابور الجنود .لكثرة من تبعه من الجنود.
حصن الحضر
وقد كان سابور لما سار إلى بالد الجزيرة َعدَ ل َ عن طريقه فنزل الحصن المع??روف
بالحض??ر ،وق??د ك??ان ه??ذا الحص??ن للس??اطرون بن اس??يطرون مل??ك الس??ريانيين في
رستاق ُيقال ل??ه أي??اجر من بالد الموص??ل ،وق??د ذكرت??ه الش??عراء؛لعظم ملك??ه وك??ثرة
?واد
جيوشه وحسن بنائه لهذا الحصن المعروف بالحضر ،فممن ذك??ره منهم أب??و ُع? َ
جارية بن حجاج األيادي بقوله :وأرى الموت قد تدلى من الحض ر على َر ِّب أهله
الساطـرون
ولق??د ك??ان آمن لـلـدواهـي ذا ث??راء وجوهـر مـكـنـون ق??ول في نس??ب النعم??ان بن
المنذر :وقد قيل :إن النعمان بن المنزر من ولد الساطرون بن أسيطرون وقال :هو
النعمان بن المنزربن امرئ القيس بن عمرو بن ع??دي بن نص??ر بن الس??اطرون بن
اسيطرون والساطرون واسيطرون هذه ألقاب ،وهم ملوك ملكوا على السريانيين.
ثم تملك تلك الديار بعد َمنْ ذكرنا ممن أفناهم الدهر الضيزن بن جبل??ة ،وجبل??ة أم??ة
وهو الضيزن بن معاوية ملك??ا على قوم??ه من َت ُن??وخ بن مال?ك بن فهم بن تيم الالت
بن أس??د بن وب??رة بن تغلب بن حل??وان بن عم??ران بن الح??اف بن قض??اعة وه??و
الضيزن بن معاوية بن العبيد بن حرام بن سعد بن سليح بن حلوان بن عم??ران بن
إلحاف بن قضاعة ،وكان كثير الجنود ،مهادِن?ا ً لل??روم ،متح??يزاً أليهم ،يغ??ير رجال??ه
على حص??نه ِ على العراق والس??واد ،وك??ان في نفس س??ابور عليهم ذل??ك ،فلم??ا ن??زل
تحصن الضيزن في الحصن ،فأقام سابور عليه شهراً ال يج??د س??بيال إلى فتح??ه ،وال
يتأتى ل?ه حيل?ة في دخول?ه ،فنظ?رت النض?يرة بنت الض?يزن يوم?ا ً وق?د أش?رفت من
الحصن إلى سابور فهويته وأعجبها جماله ،وكان من أجمل الن??اس وأ َم? ِّدهم قام??ة،
فأرسلت إلي??ه :إن أنت ض??منت لي أن تتزوج??ني وتفض??لني? على نس??ائك دللت??ك على
فتح هذا الحصن ،فضمن لها ذلك ،فأرسلت إليه :ائت الثرثار -وهو نه??ر في أعاله-
ض ?يفانثر فيه تبنا ً ثم أ ْت َب ْعه فانظر أين يدخل فأدخِل الرجال َ منه ،فإن ذلك المك??ان ُي ْف ِ
?عر أه??ل الحص??ن إال وأص??حاب س??ابور معهم إلى الحصن ،ففعل ذلك سابور ،فلم يش? ِ
فس َقت أباها الخمر حتى أسكرته طمعا ً في ت??زويج? في الحصن ،وقد عمدت النضيرة َ
?رس سابور إياها ،وأمر سابور به??دم الحص??ن بع??د أن قت??ل الض??يزن ومن مع??ه و َع? َّ
س? ّهدة ،فق??ال له??ا س??ابور :م??ا ل??ك ال تن??امين.سابور بالنضرة بنت الضيزن فباتت ُم َ
هّللا
قالت :إن جنبي يتجافى عن فراشك ،قال :ولم فو ما نامت الملوك على ألين من??ه
آس بين ش? ُوه ل??زغب النع??ام !!!.فلم??ا أص??بح س??ابور نظ??ر ف??إذا ورق??ة ٍوأوط??أ إن َح ْ
ُع َكنها ،فتناولها فكاد بطنها أن َيدْ َمى ،فق??ال له??ا :ويح??ك!! بم ك??ان أب??واك يغ??ذيانك.
فقالت :بالزبد والم َح والثلج والشهد وصفو الخمر ،فقال لها سابور :إني لخدير أن
صفحة 370 :
ال أستبقيك بعد إهالك أبويك وقوم??ك ،وك??انت حالت??ك عن??دهم الحال??ة ال??تي َت ِ
ص?فِين،
فأمر بها فربطت بغدائرها إلى فرس??ين جم??وحين ،ثم خلّى س??بيلهما ،فقطعاه??ا ،ففي
هذا الملك المقتول ومن كان معه في الحصن يقول حرى بن الدهماء العبسي:
وفي قتل س??ابور للنض??يرة بنت الض??يزن وم??ا ك??ان منه??ا من الغ??در بأبيه??ا وقومه??ا
وإرشاد سابور إلى دخول الحصن يقول عدي بن زيد العبادي:
من قصره قد أبـ َذ سـاكـنـهـا ـت عـلـيه داهـية ص ّب ْ
والحضر ُ
لحينـهـا إذ أضـاع راقـبـهـا أربـيبة? لـم ُت َـو ّق والـدهـــا
َ
تظن أن الـرئيس خـاطـبـهـا وأسلمت أهلـهـا لـلـيلـتـهـا
الصبح دمـاء تـجـري سـبـائبـهـا وكان حظ العروس إذ جشر
بيت بعل
والهياكل المعظمة عند اليونانيين وغيرهم كثيرة :مثل بيت َب ْع ٍل ،وهو الص??نم ال??ذي
ذكره هّللا عز وجل بقوله " :أتدعون بعالً وتذرون أحسن الخالقين "؛ وه??و بمدين ?ة?
بعلبك من أعمال دمشق من كورة سنير ?،وقد كانت اليوناني?ة? اخت??ارت له??ذا الهيك??ل
قطعة من األرض بين جبل لبنان وجبل سنير? فأتخذته موضعا ً لألصنام ،وهما بيت??ان
عظيمان أحدهما أقدم من األخر ،فيهما من النق??وش العجيب??ة المحف??ورة في الحج??ر
الذي ال يتأتى حف??ر مثل??ه في الخش??ب م??ع عل??و س??مكهما وعظم أحجارهم??ا ،وط??ول
أساطينهما ،ووسع فتحهما ،وعجيب بنيانهما ،وقد أتينا على خبر هذه الهياكل وم??ا
ك??ان من خ??بر القت??ل على رأس ابن??ة المل??ك وم??ا ن??ال أه??ل ه??ذه المدين ?ة? من س??فك
الدماء..
جيرون بدمشق
وهيكل عظيم في مدين?ة? دمش?ق ،وه?و المع?روف بج?يرون ،وق?د ذكرن?ا خ?بره فيم?ا
سلف من هذا الكتاب وأن بانيه جيرون بن س?عد الع?ادي ،ونق?ل إلي?ه عم?د الرخ?ام،
وأنه أرم ذات العماد الم??ذكور في الق??رآن ،إال م??ا ذك??ر عن كعب األحب??ار حين دخ??ل
على معاوي??ة بن أبي س??فيان وس??أله عن خبره??ا وذك??ر عجيب بنيانه??ا من ال??ذهب
والفضة والمسك والزعفران وأنه يدخلها رج?ل من الع?رب يتي?ه? ل?ه جمالن فيخ?رج
في طلبهما فيقع إليها ،وذكر ِح ْلية الرجل ،ثم التفت في مجلس معاوية فقال :هذا هو
الرجل ،وكان األعرابي قد دخلها يطلب ما ن??د من إبل??ه؛فأج??از معاوي??ة كعب?اً ،وت??بيم
صدق مقاتله وإيضاح برهانه ،فإن كان ه??ذا الخ??بر عن كعب حق?ا ً في ه??ذه المدين??ة
فهو حسن ،وهو خبر يدخل?ه الفس?اد من جه?ات من النق?ل وغ?يره وه?و من ص?نعة
القُصاص.
وقد تنازع الناس في ه??ذه المدين??ة ?،وأين هي ولم يص?ح? عن??د كث??ير من اإلخب??اريين
ممن وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وس??ير الغ??ابرين من الع??رب
وغيرهم من المتقدمين فيها ،إال خبر عبيد بن َ
ش? ِرية وإخب??اره إي??اه عم??ا س??لف من
األيام وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعب األنساب ،وكتاب عبيد بن شرية?
متداول في أيدي الناس مشهور?.
البريص بدمشق
وقد كان بدمشق أيضا ً بناء عجيب ُيقال له البريص ،وهو مب ّقى إلى ه??ذا ال??وقت في
وسطها ،وكان يجري فيه الخمر في قديم الزمان ،وق??د ذكرت??ه الش??عراء في م??دحها
لملوك غسان من مأرب وغيرهم.
صفحة 372 :
الديماس بإنطاكية
وهيكل إنطاكية يعرف بالديماس ،على يمين مسجدها الجامع ،مبني? ب??األجر الع??ادي
والحجر ،عظيم البنيان ،وفي كل سنة? يدخل القمر عند طلوع??ه من ب??اب من أبواب??ه
ومن أعاليه في بعض األهلة الصيفية ،وقد ذكر أن ه??ذا ال??ديماس من بن??اء الف??رس
ملكت إنطاكية ،وأنه بيت نار لها.
ما كان من أمر صاحب عب??د المل??ك بن م??روان في نزول??ه عليه??ا ،وم??ا ته? َ
?افت في??ه
المسلمون عند الطلوع على سورها ،وإخب??ارهم عن أنفس??هم أنهم وص??لوا إلى نعيم
ص ْفر على ساحل البح??ر الحبش??ي الدنيا واآلخرة ،وخبر المدينة التي أسوارها من ال ُّ
في أطراف مفاوز الهند ،وما كان من أخبار ملوك الهند وعدم وصولهم إليها ،وم??ا
يجري من وادي الرمل نحوها ،وما ببالد الهند من الهياك??ل المتخ??ذة لألص??نام ال??تي
على صورة البدرة المتقدم ظهورها في ق??ديم الزم??ان ب??أرض الهن??د ،وخ??بر الهيك??ل
ص ?د من البل??دانالمعظم ال??ذي ببالد الهن??د المع??روف بال??دري ،وه??ذا عن??د الهن??د ُي ْق َ
ار لم تنظ??ر لتعظيم الشاسعة وله بلد قد وقف عليه وحوله أل??ف مقص??ورة فيه??ا َج? َو ٍ
هذا الصنم من الهند ،وخبر الهيكل الذي فيه الصنم ببالد المولتان على نهر مهران
من أرض السند ،وخبر سندان كس??رى ببالد قرماس??ين من أعم??ال ال??دينور من م??اه
الكوفة ،وكثير من أخبار العالم وخواص بقاعه وأبنيته? وجبال??ه وب??دائع م??ا في??ه من
الخلق من الحيوان وغيره مما قد أتينا على ذكره فيما س??لف من كتبن??ا ،وك??ذلك م??ا
خص به كل بلد من أنواع الفواكه دون غ??يره من البل??دان ،في اإلس??الم وغ??يره من
الممالك ،وما بان به أهل كل بلد من اللباس واألخالق دون غيرهم ،وما انفردوا ب??ه
ِّ
والش?يم ،وعج?ائب ك?ل بل?د ،وذكرن?ا أخب?ار من أنواع األغذي?ة والمآك?ل والمش?ارب
البحار وما قيل في اتصال بعضها ببعض وتغلغل مياهه??ا ،وم??ا يح??دث في ك??ل بح??ر
منها من اآلف??ات وم??ا في??ه من الج??واهر دون غي??وه -من البح??ار ،كتك??ون المرج??ان
ببحر المغرب وعدمه من غيره ،ووجود اللؤلؤ في البحر الحبشي دون غيره.
مراكبهم تنتهي? من بحر ال??روم إلى بح??ر الحج??از ،فتط??رح س??راياها مم??ا يلي ج??دة،
فيخطف الناس من المسجد الحرام ومكة والمدينة على ما ذكرنا ،فامتنع من ذلك.
وقد حكي عن عمرو بن العاص -حين كان بمصر ?-أن??ه رام ذل??ك؛ فمنع??ه من?ه? عم??ر
بن الخطاب رضي هّللا عنه ،وذلك لما وصفنا من فع??ل ال??روم وس??راياهم ،وذل??ك في
حال ما افتتحها عمرو بن العاص في خالفة عمر بن الخطاب رضي هللا عن??ه وآث??ار
الحفر بين هذين البحرين -فيما ذكرنا من المواضع والخلجان -بينه على حس??ب م??ا
شرعت في??ه المل??وك الس??الفة طلب?ا ً لعم??ارة األرض ،وخص??ب البالد ،وعيش الن??اس
ب??األقوات ،وأن يحم??ل إلى ك??ل بل? ٍد م??ا ليس في??ه من األق??وات وغيره??ا من ض??روب
المنافع وضروب المرافق ،وهللا تعالى أعلم..
بدء العالم
ذكر جامع التاريخ من ِ
إلى مولد رسول هّللا صلى هّللا عليه وسلّم وما لحق بهذا الباب
بعض قول الطبيعيين
ق??د ذكرن??ا فيم??ا س??لف من كتبن??ا جمال من تب??اين الن??اس في ب??دء الع??الم ،ممن أثبت
حدوثه و َن َفاه ،وما جرت اآلراء بهم فيه إلى جهات شتى ،وق?د أخبرن?ا أنهم طوائ?ف
الهن????د وف????رق من اليون????انيين ،ومن وافقهم على الق????ول بالق????دم من الفلك????يين
والطبيعيين ،وما أوردته الفلكية من وقله??ا :إن الرك??ة الص??انعة لألش??خاص الم ِحلً??ة
فيها األرواح متى قطعت المسافة التي بين العقدة -التي ابتدأت منه??ا ،ح??تى تنتهي?
إليه??ا راجع??ة ،ثم تنفص??ل عنه??ا -أع??ادت ك??ل م??ا ب??دأت ب??ه أوالً كهيئت??ه وأشخاص??ه
ص َوره وضروب أشكاله؛ إذ كانت العلة والسبب الل??ذان بوجودهم??ا توج??د األش??ياء و ُ
قد و ِجدَ ا َع ْوداً كما وجدا بدءاً ،فوجب ظهور األشياء مي عادت إلى المبدأ الذي كان
عن??ه الص??در ،ثم م??ا تعقب ه??ذا الق??ول من ق??ول الطبيع??يين :إن عل??ة ك??ون األش??ياء
الجس??مانية والنفس??انية? من قب??ل حرك??ات الطب??ائع واختالطه??ا؛ألن الطبيع??ة عن??دهم
َ
?ودات في الع??الم، بدؤها واختلطت فظهر الحيوان والنبات وس??ائر الموج? تحركت في َ
وجعلت لها أصال من التناسل ،لما عجزت عن تبقي?ة أش?خاص وع?دلت إلى النس?ل،
وإن الطب??ائع تنتق??ل من م??ركب إلى بس??يط ،ومن بس??يط إلى م??ركب ،ح??تى إذا أدى
المركب كنه ما فيه عادت األشياء إلى البسيط إلى ،وابتدأ الكون ماراً على طريق??ه؛
ألن الذي أوجبه أوال ق??د وج??د ،فحق??ه أن يوج??د من??ه بوج??ود المع??نى ال??ذي أوج??ده،
فظه??ر ذل??ك الظه??ور ،كالنب??ات في الربي??ع ،وتح??رك قوت??ه تحت ال??ثرى ،وذل??ك أن
الشمس تبلغ في الربيع إلى رأس الحمل ،بادئه في شرفها ،آخذة في ممره??ا ،وهي
العلة الكبرى في إحياء النبات ويأخذ الثم??ر في الظه??ور من الش??جر بادئ?ا ً كم??ا ك??ان
ظاهرأ بالمثال األول الذي قد باد في الشتاء ويبسه ويردة ،ألن علة الكون الح??رارة
والرطوبة وعلة لفساد البرد واليبس ،فإذا انتقلت األشياء ممن الح??رارة والرطوب??ة
إلى البرد واليبوسة? فارقت الكون المتمم ودخلت الفساد ،فإذ انتهى به??ا الفس??اد إلى
غايته وأوصلها إلى نهايته? عاقبها الك??ون بوص??ول? الش??مس إلى رأس الحم??ل ،فب??دأ
بها كعادته في إنشائها ،وأبرزها من خساسة الفساد إلى نفاسة الك??ون ،ول??و ك??انت
الحواس تضبط شأن األجسام وتحيط بانتقالها من حال إلى حال لشاهدت ممرها في
صفحة 375 :
المحدث للعالم
وإذ قد وضح أن األشياء ُم ْحدَث??ة أكونه??ا بع??د أن لم تكن فال ب??د له?ا من مح??دث ه??و
بخالفها ال شكل له وال مثل ،ألن العقل ال يفيم لشيء مثالً حتى يعلم له قدراً َ
ووزناً،
ويعادل??ه بمثل??ه وش??كله ،وتع??الى وج??ل وع??ز من ال ُتع ِّب ُر عن ذات??ه اللغ??ات ،وتعج??ز
العقول أن تحصره بالصوت ،وتدركه باألشرات ،أو يكون ذا غايات ولهايات.
ق??ال المس??عودي :فل??نرجع اآلن إلى الكالم في حص??ر ت??اريخ الع??الم ووص??ف أقاوي??ل
الطوائف في ذلك المعنى،ألنا إنما ذكرنا الكالم في حدوث العالم لم??ا ذكرن??ا ق??ول من
قال بقدمه ودل على أزليته ،وقد تقدم ذكرنا لقول الهند في ذلك فيما س??لف من ه??ذا
الكتاب.
عمر الدنيا
وأما اليهود فإنهم زعم??وا أن عم??ر ال??دنيا س??تة آالف س??نة? وأخ??ذوا في ذل??ك مأخ??ذاً
شرع ّياً ،وذهبت النصارى إلى أن عمر العالم ما ذهبت إلي??ه اليه??ود ،وأم??ا الص??ابئة
من الحرانيين والكماريين فقد ذكرنا قولهم في ذلك في جملة قول اليون??انيين ،وأم??ا
المجوس فإنهم ذهبوا في ذلك إلى حد غير معلوم من نفاذ قوة الهرمند وكيده،
صفحة 376 :
وهو الشيطان ،ومنهم من ذهب في ذلك إلى نحو ما ذهب إليه أص??حاب االث??نين في
الزاج والخالص ،وأن العالم سيعود بدءاً متخلصا ً من الشرور واآلفات.
وزعمت المج?وس أن من وقت زرادش?ت بن أس?بيمان ن?بيهم إلى اإلس?كندر م?ائتين
وثمانين سنة ،وملك اإلس??كندر س??ت س??نين ،ومن مل??ك اإلس??كندر إلى مل?ك أردش??ير
خمسمائة? سنة وسبع عشرة سنة ،ومن مل??ك أردش??ير إلى الهج??رة خمس??مائة? س??نة
وأربع وستون سنة؛ فذلك من هبوط أدم إلى هجرة النبي صلى هللا عليه وسلم ستة
آالف س??نة ومائ??ة وس??ت وعش??رون س??نة ?:منه??ا من هب??وط آدم علي??ه الس??الم إلى
الطوف??ان ألف?ان ومائت??ان وس??ت وخمس??ون س??نة ،ومن الطوف??ان إلى مول??د إب??راهيم
الخليل عليه السالم ألف وتسع وسبعون سنة ،ومن مولد إبراهيم إلى ظهور موسى
بع??د ثم??انين س??نة خلت من عم??ر موس??ى بن عم??ران -وه??و وقت خروج??ه بب??ني
إسرائيل ،من مصر إلى التيه -خمسمائة وخمس وستون س??نة ،ومن خ??روجهم إلى
سنة أربع من ملك سليمان بن داود -عليه السالم! -وذلك وقت ابتدائه في بناء بيت
المقدس -ستمائة? وست وثالثون سنة ،ومن بن??اء بيت المق??دس إلى مل??ك اإلس??كندر
سبعمائة وسبع عشرة سنة ،ومن ملك اإلس??كندر إلى مول??د المس??يح ثلثمائ??ة وتس??ع
وستون سنة ?،ومن مولد المسيح? إلى مولد الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس??مائة?
س??نة وإح??دى وعش??رون س??نة?-،يين أن رف??ع هللا المس??يح ،وه??و ابن ثالث وثالثين
سنة ،إلى وفاة النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس??مائة س??نة وس??ت وأربع??ون س??نة
وبين مبعث المس??يح وهج??رة الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس??مائة س??نة وأرب??ع
وتسعون سنة ،وكانت وفاة نبين?ا ص?لى هللا علي?ه وس?لم في س?نة تس?عمائة وخمس
وثالثين سنة من سنِي ذي القرنين ،ومن داود إلى محمد صلى هللا عليه وسلم أل??ف
سنة وسبعمائة سنة وسنتان وس??تة أش??هر وعش??رة أي??ام ،ومن إب??راهيم إلى محم??د
صلى هللا عليه وسلم ألفا سنة? وسبعمائة سنة وعشرون سنة وستة? أشهر وعش??رة
أيام ومن ن?وح إلى محم?د ص?لى هللا علي?ه وس?لم ثالث?ة آالف س?نة وس?بعمائة س?نة
وعشرون سنة وعشرة أيام فعلى هذا القول جميع جملة التاريخ من هب??وط آدم إلى
األرض إلى مبعث الن??بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم أربع??ة آالف س??نة وثمانمائ??ة س??نة
وإحدى عشرة سنة وستة? أش??هر وعش??رة أي??ام ،فجمل??ة الت??اريخ? من هب??وط آدم إلى
باهلل
األرض إلى هذا الوقت -وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائ??ة ?،من خالف??ة المتقي ّ
ونزوله الرقة من ديار مضر ?-خمسة آالف سنة ومائة وست وخمسون سنة.
وقد ذكرنا جمالً من التاريخ فيما سلف من هذا الكتاب فلم ُنعِدْ منه ما تقدم.
وللمجوس في التواريخ أقاصيص يطول ذكرها ،وعود ال ُم ْلكِ إليهم وإلى غيرهم من
بدو العالم وفنائه ،ومن ق??ال منهم ببقائ??ه ،وأن ال َب??دْ َء ل??ه وال
الطوائف السالفة في ِّ
نهاية ،ومن ذهب منهم إلى أن له انتهاء وال بدء له ،وقد أتينا على ذلك فيما س??لف
من كتبن??ا ف??أغنى ذل??ك عن اإلع??ادة في ه??ذا الكت??اب؛ الش??تراطنا في??ه على أنفس??نا
االختصار واإليجاز والتنبيه? على ما سلف لنا من الكتب.
ينبغي? للعاقل أن يحمل البنية على م?ا ليس في طاقته??ا ،ويس??وم النفس م?ا ليس في
ِج ِبلتها ،وإنما األلفاظ على ق?در المع?اني فكثيره?ا لكثيره?ا ،وقليله?ا لقليله?ا ،وه??ذا
باب كبير ،وبعض??ه ين??وب عن بعض ،والج??زء من?ه? يوهم??ك الك??ل ،وهّللا تع??الى ولي
التوفيق.
نسبه? الشريف
ص?ي بن كالب هّللا
وهو محمد بن عبد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد َم َن??اف بن قُ َ
صر بن كنان??ة بن ُخ َزيم??ةبن فهربن مالك بن ال َّن ْ بن مرة بن كعب بن لُؤي بن غالب ِ
بن مدرك??ة بن إلي??اس بن ُمض?ر? بن ن??زار بن مع??د بن ع??دنان بن أُدد بن ن??اخور بن
سود بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إس??ماعيل ابن إب??راهيم بن ف??الغ بن ع?ابر بن
ش??الخ بن إرفخش??ذ بن س??ام بن ن??وح بن لم??ك بن متوش??لح بن أخن??وخ بن ي??رد بن
مهالييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن أدم عليه السالم.
ازي والس?ير عن ابن إس?حاق ،والنس?خ هذا ما في نسخة ابن هش?ام في كت?اب ال َم َغ? ِ
مختلفة األسماء من نزار.
على هذا الوصف من الحساب أن مولد نوح عليه السالم ك??ان بع??د وف??اة آدم بمائ ?ة?
وست وعشرين سنة.
وقد نهى النبي صلى هللا عليه وسلم على حسب ما ذكرنا من َن ْه ِيه -أن يتج??اوز عن
معد؛ فق??د ثبت أن نتوق??ف في النس??ب على مع??د ،وق??د اختل??ف أه??ل النس??ب على م??ا
ذكرنا ،فالواجب الوقف عند أمره عليه السالم ونهيه.
قال المسعودي :وقد وجدت نسب معد بن عدنان في الس ? ْفر ال??ذي أثبت??ه ب??اروخ بن
ناريا كاتب ارميا النبي صلى هللا عليه وسلم أن معداً بن َعدْ نان بن أدد بن الهميسع
بن س??المان بن ع??وص بن ب??روبن م َتس??اويل بن أبي الع??وام بن ناس??ل بن ح??را بن
يلدأرم بن بدالن بن كالح بن فاجم بن ناخوربن ماحي بن عسقي بن عنف بن عبي??د
بن الرعاء بن حمران بن يسن بن هري بن بح??ري ابن يلخى بن أرع??وا بن عنق??إء
بن حسان بن عيسى بن أقت??اد بن إيه??ام بن معص??ر ابن ن??اجب بن رزاح بن س??مآى
بن مربن عوص بن عوام بن قدير بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليه السالم.
وقد ك?ان ألرمي?اء م??ع مع?د بن ع?دنان أخب??ار يط??ول ذكره??ا ،وم?ا ك?ان من أمرهم??ا
بالشام ،وقد أتينا على ذكر ذلك فيما س?لف من كتبن?ا ،وإنم?ا ذ َكرن?ا ه?ذا النس?ب من
هذا الوجه ليعلم تنازع الناس في ذلك.
وقد نهى النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم عن تج??اوز مع??د؛ لعلم??ه من تباع??د األنس??اب
وكثرة اآلراء في طول هذه المدة واألعصار.
هَلل م َمنْ َب َ
ـرا صـفـو ٌة وصفوة الخلق بنوهاشـم
وصفوة الصفوة من هاشم محمد النور أبوالقـاسـم
حروب الفجار
وكان مولده عليه الصالة والسالم َع? ا َم الفي??ل ،وك??ان بين ع??ام الفي??ل وع??ام الف َِج? ار
عشرون سنة ،والف َِج? ار ح??رب ك??انت بين قيس َع ْيالَن وب??ني كنان??ة ،اس??تحلوا فيه??ا
القتال في األش??هر الح??رم ،فس??ميت الف َِج? ار ،وكنان??ة :ابن حزيم??ة بن مدرك??ة ،وه??و
عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار ،وكان ولد إلياس عمراً وعامراً وعديراً ،فعمرو
هو مدْ ركه ،وعامر هو طابخه ،وعمير هو قمعة ،وكانت أمه م ليلى بنت ُح ْل َوان بن
عمران بن إلحاف بن قضاعة وهي خِندحِف؛فغلب على من ذكرن??ا األلق??اب ،ونس??ب
قصي بن كالب بن مرة: ولد إلياس إلى أمه م خندف ،وفي ذلك يقول َ
صفحة 380 :
بطون قريش
وقريش خمسة وعشرون بطناً ،وهم :بنو هاشم بن عبد مناف بنو المطلب بن عب??د
مناف ،بنو الحارث بن عبد المطلب ،بنو أمي??ة بن عب??د ش??مس ،بن??و َن ْو َف??ل بن عب??د
قص? ّي -وهم مناف ،بنو الحارث بن فِ ْهر ،بنو أسد بن عبد ال ُع َّزى ،بنو عب??د الح??رب َ
َح َج َبة الكعبة -بنو زهرة بن كالب ،بنو َتيم بن م??رة ،بن??و مخ??زوم ،بن??و َي َق َظ??ة ،بن??و
بنوس? ْهم ،بن??و ُج َمح ?،وإلى هن??ا تنتهي? ق??ريش البط??اح علىَ ِي بن كعب،
مرة ،بنو َعد ّ
حسب ما قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب ،بنو مالك بن حنبل ،بنو ُم َع ْيط بن ع??امر
سا َم َة بن لُ? َ?ؤي ،بن??و األع??رم ،وه??و َتي ْم بى غ??الب،
بن لُ َؤي بنو نزار بن عامر ،بنو َ
بنو محارب بن فِ ْهر ،بنو الحارث بن عبد هللا بن كنانة ،بنو عائذة ،وهو خزيمة بن
لُ َؤي ،بنو نباتة ،وه?و س?عد بن لُ? َ?ؤي ،ومن ب??ني مال?ك إلى آخ??ر القبائ?ل في ق?ريش
الظ??واهر على حس??ب م??ا ق??دمنا فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب عن??د ذكرن??ا للمطي??بين
وغيرهم من قريش.
حلف الفضول
وكان من حرب الفِجار ما ذكرنا للمتفاخرين بالعشائر والتك??اثر ،وانتهى الف َِج? ار في
ف الفضول بعد منصرفهم من الف َِجار ،فقاال بعضهم: شوال ،وكان ِح ْل ُ
أح? ل َّ ببطح??اء
ِدَاش بن زهير العامري :فال توعديني بالف َِجـار فـإنـه َ
وفي ذلك قال خ ُ
ا ْل َح ُج ِ
ون المخازيا
ِ فم َ
ش ْت ق??ريش بعض??ها إلى بعض ،وك??ان أول من س??عى في ذل??ك الزب??ير بن عب??د
المطلب بن هاشم بن عبد مناف ،واجتمعت قبائل قريش في دار ال ّندْ وة وكانت َ
للحل ِّ
والحقد ،ؤكان ممن اجتمع بها من قريش بنو هاشم بن عبد مناف ،وبنو المطلب
صفحة 381 :
بن عبد مناف ،زهْ َرة بن كالب َو َت ْيم بن مرة ،وبن??و الح??ارث بن فه? ٍ?ر ،ف??اتفقوا على
أنهم ينصفون المظلوم من الظ??الم ،فس??اروا إلى دار عب??د هللا بن ُج??دْ عان ،فتح??الفوا
هنالك؛ ففي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنع ِقدَنْ حلفا ً عليهـم وإن ك ّنا جميعا ً أهـل دار
يعزب ِ?ه الغريب للى الجوار
ِ نسميه الفضول إذا عقدنـا
ويعلم َمنْ َح َوالى البيت أنا ا َباة الضيم نهجر كل عار
الفجارات
وقد قدمنا في كتابنا األوسط أخب??ار األحالف والفج??ارات األربع??ة :فج??ار الرج??ل ،أو
فج??ار ب??در بن معش??ر ،وفج??ار الق??رد ،وفج??ار الم??رأة ،والفج??ار الراب??ع ه??و فج??ار
البراض ،وبين الفجار الرابع الذي كان فيه القتال وبين بنيان الكعب??ة خمس عش??رة
ار الرابع إلى أن سنة ،وكان من حضور النبي صلى هللا عليه وسلم ومشاهدته الف َِج َ
خرج إلى الشام في تجارة خديجة ،ونظر نسطور ال??راهب إلي??ه وه?و في ص?ومعته?،
س َرة ،وقد أظلته غمامة ،فق??ال :ه??ذا ن??بي ،وه??ذاوالنبي صلى هللا عليه وسلم مع َم ْي َ
آخر األنبياء -أربع سنين ،وتسعة أش??هر ،وس??تة أي?ام ،وإلى أن ت??زوج? خديج??ة بنت
ُخويل??د ش??هران ،وأربع??ة وعش??رون يوم ?اً ،وإلى أن ش??هد بني??ان الكعب??ة ،وحض??ر
منازعة قريش في وضع الحجر األسود عشر سنين.
الح َج? َر فوض??عه في وس??طه ،ثم ق??ال ألربع??ة رج??ال من ق??ريش -وهم أه??ل الرياس??ة
َ
فيهم ،والزعم??اء منهم ،وهم :عتب??ة بن ربيع??ه? بن عب??د ش??مس بن عب??د من??اف،
واألسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد ال ُع َّزى بن قصي ،وأبو حذيفة بن المغ??يرة
?ذ ك?ل واح?د منهم بجنب من بن عمرو بن مخ?زوم ،وقيس بن ع?دي الس?همي -ليأ ُخ ْ
جنبات ه??ذا ال??رداء ،فش??الوه ح??تى ارتف??ع عن األرض ،وأدن??وه من موض??عه ،فأخ??ذ
الح َج َر ووضعه في مكانه وق??ريش كله??ا حض??ور ،وك??ان ذل??ك عليه الصالة والسالم َ
أول ما ظهر من فعله وفضائله وأحكأمه .
فقال قائ?ل ممن حض?ر من ق?ريش متعجب?ا ً من فعلهم وانقي?ادهم إلى أص?غرهم س?ناً:
واعجبا ً لقوم أهل شرف ورياسة وشيوخ? وكهول عمدوا إلى أص??غرهم س??ناً؛ وأقلهم
ماالً ،فجعلوه عليهم رئيسا ً وحاكماً!! أما والالت والعزى ليفوقنهم َ
س? ْبقاً ،وليقس??من
بينهم حظوظا ً وجدوداً وليكو َننَّ له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم.
وقد تنوزع في هذا القائل :فمن الناس من رأى أن?ه إبليس ظه?ر في ذل?ك الي?وم في
جمعهم في صورة رجل من قريش كان قد مات ،وزعم??وا أن الالت والع??زى أحيت??اه
لذلك المشهد ،ومنهم من رأى أنه بعض رجالهم وحكمائهم و َمنْ كانت له فطنة.
كسوة الكعبة
س? ْت َها أردي??ة الزعم??اء ،وهي الوص??ائل ،وأع??ادوا
فلما استتمت قريش بناء الكعب??ة َك َ
الصور التي كانت مصورة في الكعبة ،وأتقنوا شكل ذلك واحكأمه .
وكان أبو طالب حاضراً فلما سمع هذا الكالم من هذا القائل في النبي صلى هللا عليه
وسلم ،وما يكون من أمره في المستقبل ،أنشأ يقول:
وك??ان من بن??اء الكعب??ة إلى أن بعث??ه هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم خمس س??نين ،ومن
مولده إلي يوم مبعثه أربعون سنة ويوم.
تحديد المولد
والذي صح من مولده عليه الصالة والسالم أنه كان بعد ق??دوم أص??حاب الفي??ل مك??ة
بخمسين يوماً ،وكان قدومهم مكة يوم االثنين لثالث عش??رة ليل??ة بقيت من المح??رم
سنة ثمانمائة واثنتين وثمانين من عهد ذ الق??رنين ،وك??ان ق?دوم أبره??ة مك??ة لس??بع
عشرة خلت من المحرم ولست عشرة وم??ائتين من ت??اريخ الع??رب،ال?ذي ول?ه حج??ة
الغد ولسنة أربعين من ملك كسرى أنو شروان.
وك?ان مول??ده علي??ه الص?الة والس?الم لثم??ان خل??ون من ربي??ع األول من ه?ذه الس?نة
بمكة ،في دار ابن يوسف ?،ثم بعد ذل??ك بنته??ا الخ??يزران أم اله??ادى الرش??يد مس??جداً
وكان أبوه عبد هّللا غائبا ً بأرض الشام فانصرف مريضاً ،فمات بالمدينة? ورسول
صفحة 383 :
هّللا صلى هللا عليه وسلم َح ْمل ،وقد تنوزع في ذلك :فمنهم من قال :إنه مات بعد
مولد النبي صلى هللا عليه وسلم بشهر ?،ومنهم من قال :إنه مات في الس??نة الثاني ?ة?
من مولده.
تحديد المبعث
وكان مبعثه صلى هللا عليه وسلم على رأس عشرين سنة? من ُم ْلك كسرى أبروي??ز،
بالر َب? َذة ،وذل??ك لس??تة االف ومائ??ة
وذل??ك على رأس م??ائتي س??نة من ي??وم التح??الف َّ
وثالث عشرة سنة من هبوط آدم عليه السالم ،وقد ذكر مثل ه??ذا عن بعض حكم??اء
العرب في صدر اإلسالم ممن قرأ الكتب السالفة على حسب ما استخرج منها ،وفي
ذلك يقول في أرجوزة طويلة :في رأس عشرة من السنين إلى ثالث حصلت يقـين
والمائة المعدوة الـتـمـام إلى الوف سدس??ت نظـام أرس??له هَّللا لـنـا رسـوال وك??ان
فينا هادي السبـيال
تحديد الهجرة
وكانت سنة? إحدى من الهجرة ،وهي سنة اثنتين وتالثين من مل??ك كس??رى أبروي??ز،
وسنة? تسع من ملك هرقل ملك النصرانية ،وسنة تس??عمائة وثالث وثالثين من مل??ك
اإلسكندر المقدوني.
دخول المدينة
وكان دخوله عليه الصالة والسالم إلى المدينة? يوم االثنين الثنتي? عشرة ليلة مضت
من ربيع األول ،فأقام بها عشر سنين كوامل ،وك??ان نزول??ه علي??ه الص??الة والس??الم
في حال موافاته المدي َن َة ب َق َباء على سعد بن َخ ْي َث َم َة وابت?نى المس?جد وك?ان م?ع أم??ه
ب َق َباء يوم االثنين والثالثاء واألربعاء والخميس ،وسار يوم الجمعة ارتف? َ
?اع النه?ار،
وأتته األنصار ح ّيا ً حيا ً يسأله كل فريق منهم النزول عليه ،ويتعلقون بزمام راحلت??ه
"خلُّوا عنها فإنها مأمورة" حتى أدركته وهي تجذبه .فيقول عليه الصالة والسالمَ :
الصالة في بني سالم ،فصلّى بهم ي??وم الجمع??ة ،وك??انت تل??ك أول جمع??ة ص??ليت في
اإلِسالم ،وهذا موضع تنازع الفقهاء في العدد ال?ذي تتم بهم ص??الة الجمع??ة :ف?ذهب
الشافعي في آخرين معه إلى أن الجمعة ال تجب إقامتها ح??تى يك??ون ع??دد المص??لين
أربعين فصاعداً ،وأ َقل ُّ من ذلك ال يجزي ،وخالفه غيره من الفقهاء من أهل الكوف??ة
وغيرهم ،وكانت صالته في بطن الوادي المعروف بوادى رأنو َنا َء إلى ه??ذه الغاي??ة،
?رج على ش?يء ،وال يرده?ا راد ،ح?تى أتت إلى ثم استوى على ناقته ،فس?ارت ال ُت َع ِّ
موضع مسجده عليه الص??الة والس??الم ،والموض??ع يومئ??ذ لغالمين ي??تيمين من ب??ني
النج??ار ،ف??بركت ،ثم س??ارت فمض??ت غ??ير بعي??د ،ثم ع??ادت إلى مبركه??ا ف??بركت
وأطمأنت ،والنبي صلى هللا عليه وس??لم ي??راعي أحك??ام الب??اري في??ه -،وتوفيق??ه ل??ه،
فنزل عنها ،وسار إلى منزل? أبي أيوب األنصاري -وهو خالد بن كليب بن ثعلب??ة بن
عوف بن سحيم بن مالك بن النجار -فأقام في منزله شهراً حتى ابت??نى المس??جد من
الموضع ،وأحدقت به األنصار واشتد س??رورهم ب??ه ،وأظه??روا التأس??ف َ بعد ابتياعه
ص ?رته ?،وفي ذل??ك يق??ول ص??رمة بن أبي أنس أح??د ب??ني ع??دي على م??ا ف??اتهم من ُن ْ
النجار من قصيدة:
ُي َذ َكرل ايلقى صديقـا ًمـواتـيا َث َوى في قريش بضع عشرة حجة
فلم ير من يوفي ،ولم ير داعـيا ويعرض في أهل المواسم نفسـه
بط ْي َب َة راضـيا
وأصبح مسروراً? َ ـر الـلـه دينـه فلما أتانا ْ
أظـ َه َ
بعيداً ،وال يخشى من الـنـاس دانـيا وأصبح ال يخشى من الـنـاس واحـداً
وأنفسنا عنـد الـوغـى والـتـآسـيا بذ ْل َنا له األموال في كـل مـلـكـنـا
وأن رسـول الـلـه لـلـحـق رائيا ونـعـلـم أن الـلـه الرب غــيره
كلهم جميعاً ،وإن كان الحبيب المصافيا ونعادي الـذي عـادى مـن الـنـاس
فافترض صيام شهر رمضان ،و ُح َؤلت القبلة إلى الكعبة بع??د قدوم??ه بثماني??ة عش??ر
شهراً ،وقد قيل :إنه أنزل عليه بالمدينة من القرآن اثنتان وثالثون سورة.
علته ووفاته
ثم قبضه هللا يوم االثنين الثنتي? عشرة ليل??ة مض??ت من ربي??ع األول س??نة عش??ر في
الساعة التي دخل فيه??ا المدين??ة ،في م??نزل عائش??ة رض??ي هللا عنه??ا ،وك??انت علت??ه
أتثنى عشر يوما.
صفحة 387 :
غزواته
وكانت غزواته صلى هللا عليه وسلم بفس??ه س??تا ً وعش??رين غ??زوة ،ومنهم من رأى
أنها سبع وعشرون ،األولون جعلوا منصرف النبي صلى هللا عليه وس??لم من خي??بر
إلى وادي القرى غزوة واحدة ،والذين جعلوها سبعا ً وعشرين جعل??وا غ??زوة خي??بر
مفردة ووادي الق??رى منص??رفة? إليه??ا غ??زوة أخ??رى غ??ير خي??بر؛ فوق??ع التن??ازع في
أعداد الغزوات من هذا الوجه ،وذل?ك أن الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم حين فتح هللا
خيبر انصرف منها إلى وادي القرى من غير أن يأتي المدينة.
وك??ان أول غزوا ّت??ه ص??لى هللا علي??ه وس??لم من المدين??ة بنفس??ه? إِلى ودان ،وهي
رضوى ،ثم غ??زوة العش??يرة من اء ،ثم غزوة ُبواط إلى ناحية ْ المعروفة بغزوة األ ْب َو ٍ
بطن ينبع ?،ثم غزوة بدر األولى ،وكان خروجه طلبا ً لكرز بن ج??ابر ،ثم غ??زوة ب??در
الكبرى ،وهي بدر الثانية? التي قُتل فيها ص??ناديد ق??ريش وأش??رافها وأس??ر من أس??ر
س? َليم ح??تى بل?غ الموض??ع المع??روف َبالك?در م?اء لب?ني
من زعمائهم ،ثم غزوة بني ُ
س َليم ،ثم غزوة السويق طلبا ً ألبي سفيان بن حرب فبلغ فيهم??ا الموض??ع المع??روف ُ
بقرقرة الكدر ،ثم غزوة غطفان إلى نج??د وتع??رف ه??ذه الغ??زوة بغ??زوة ذي أم??ر ،ثم
غزوة بحران وهو موضع بالحجاز من فوق الفرع ثم غزوة أحد ،ثم غزوة حم??راء
األسد ،ثم غزوة بني ال َّنضِ ير ،ثم غزو ًه ذات الرقاع من نجد ،ثم غزوة بدر األخيرة،
ثم غزوة دومة الجندل ثم غزوة ال ُمر ْيسِ يع? ثم غزوة الخندق ،ثم غزوة بني َ
قر ْيظ??ة،
ثم غ??زوة ب??ني لحي??ان بن ه??ذيل بن مدرك??ة ،ثم غ??زوة في ق??رد ،ثم غ??زوة ب??ني
صده المش??ركون ،ثم غ??زوة المصطلق من ُخ َزاعة ،ثم غزوة الحديبية? ال يريد قتاال ف َ
خيبر ،ثم اعتمر عليه السالم عمرة القضاء ،ثم فتح مكة ،ثم عزوة ُحنين ،ثم غزوة
الطائف ،ثم غزوة َت ُبوك.
قات??ل منه??ا في تس??ع غ??زوات :ب??در ،واح??د ،والخن??دق ،وقريظ??ة ،وخي??بر ،والفتح،
وحنين ،والطائف ،وتبوك.
سراياه وبعوثه
وقد تنازع من سلف من أهل السير واألخبار في عدة س??راياه وبعوث??ه :فق??ال ق??وم:
ضه? هللا خمس وثالثون بعث??ا َ إن عدة سراياه وبعوثه بين أن قد َم المدينة? وبين أن َق َب َ
س ِرية ?،وذكر محمد بن جرير الطبري في كتابه في الت??اريخ ق??ال :ح??دثني الح??ارث و َ
قال :حدثنا ابن سعد قال :قال محمد بن ُع َمر الواقدى :كانت سرايا الن??بي ص??لى هللا
س ِرية ?،وقيل :إن سراياه ص??لى هللا علي??ه وس??لم وبعوث??ه عليه وسلم ثمانيا ً وأربعين َ
كانت ستة وستين.
مشاهير األحداث
وقبض صلى هللا عليه وسلم وه??و ابن ثالث وس??تين س??نة على حس??ب م??ا تق??دم في
صدر هذا الباب من قول ابن عباس ،ولم يخلف من الولد إال فاطمه عليه??ا الس??الم،
وتوفيت بعده بأربعين يوماً ،وقيل :سبعين يوماً ،وقيل غير ذلك .وك??ان ت??زوج علي
بن أبي طالب لفاطمة عليهم??ا الس??الم بع??د س??نة مض??ت من الهج??رة ،وقي??ل أق??ل من
ذلك.
وكانت أول امرأة تزوج بها النبي صلى هللا عليه وسلم خديجة بنت ُخويل??د بن أس??د
بن عبد العزى بن قصي ،وكانت وفاتها في شوال بعد مبعثه بثالث سنين.
ي به وهو ابن إحدى وخمسين سنة? وثمانية? أشهر وعشرين يوماً. وأس ِر َ
ْ
وكانت وفاة عمه أبي طالب -واسمه عبد مناف بن عبد المطلب -بع??د وف??اة خديج??ة
بثالثة? أيام ،وهو ابن تسع وأربعين سنة وثمانية? أشهر ،وقد قيل :إن أبا طالب اس??م
له.
سودة بنت َز ْمعة بن قيس بن عب??د ُو َذ بن نض??ر ابن مال??ك وتزوج? بعد وفاة خديجة ب َ
ِسل.
بن ح ْ
وت??زوج بعائش??ة رض??ي هللا عنه?ا قب??ل الهج?رة بس?نتين ،وقي??ل :تزوجه?ا بع?د وف?اة
خديجة ،ودخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر وتسعة أيام ،وقد أتينا على ذك??ر س??ائر
أزواجه في الكتاب األوسط؛ فأغنى ذلك عن إعادته.
روى جعفر بن محم??د عن أبي??ه محم??د بن علي عن أبي??ه علي بن الحس??ين بن علي
أدب محم??داً ص??لى هللا علي??ه بن أبي طالب رضي هللا عنه أنه قال :إن هللا ّ
عز وج ?ل ّ َ
وسلم فأحسن تأديبه ?،فقال خذ العف??و ،وآم??ر الع??رف ،وأع??رض عن الج??اهلين فلم??ا
كان كذلك قال هللا تعالى " :وإن??ك على خل??ق عظيم " فلم??ا قب??ل من هللا ف??وض إلي??ه
فقال" :وما آتكم الرسول فخذوه ،وما نه??اكم عن??ه ف??انتهوا" وك??ان يض??من على هللا
الجنة ،فأجيز له ذلك.
وك??ان ع??دة من ت??زوج من النس??اء خمس عش??رة ،دخ??ل بإح??دى عش??رة منهن ،ولم
يدخل بأربع ،وقبض عليه السالم عن تسع.
من مبسوط هذا الباب فيما تقدمه من األبواب إن شاء هللا تعالى.
ففي أول س??نة من مول??ده دف??ع إلى حليم??ة بنت عب??د هللا بن الح??ارث بن ش??جنة بن
ج??ابر بن رزام بن ناص??ر بن س??عد بن بك??ر بن ه??وازن بن منص??ور بن عكرم??ة بن
ص َفة بن قيس عيالن بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. َخ َ
وفي السنة الخامسة من مول??ده َر ًد ْت?ه حليم??ة إلى أم??ه ،على حس?ب م?ا ذكرن?ا فيم??ا
سلف من هذا الكتاب.
وفي الس??نة السادس??ة أخرجت??ه أم??ه إلى أخوال??ه زائ??رة فت??وفيت ب??األ ْب َواء بين مك??ة
والمدينة ،ونمي ذلك إلى أ ْي َمنَ ،فخرجت إليه؛ وقدمت به إلي مكة؛ وكانت موالة ل??ه
قد ورثها عن أمه .
خروجه إلى الشام
وفي السنة التاسعة خرج مع عمه أبي طالب إلى الش??ام ،وقي??ل :إذ خ??رج م??ع عم??ه
أبي طالب إلى الشام وله ثالث عش??رة س??نة ،وق??د ك??ان أب??ا ط??الب أخ??ا عب??د هّللا أبي
النبي صلى هللا عليه وس??لم ألبي??ه و أم??ه ؛ فل??ذلك َك َف?ل َ ب??أمر الن??بي ص??لى هللا علي??ه
وس??لم من بين س??ائر إخوت??ه -وهم :العب??اس ،وحم??زة ،والزب??ير ?،وحج??ل ،والمق??وم
وضرار ،والحارث ،وأب??و لهب -وهم عش??رة بن??و عب??د المطلب ،وك??ان لعب المطلب
ستة عشر ولداً :عشرة ذكور ،وهم من سمينا ،وست إناث .وهن :عاتكة ،وصفية،
وأر َوى ،ولم يسلم منهن إال صفية أم الزب??ير بن الع??وام، وأميمة ?،والبيضاء ،وبرةْ ،
وقد تنوزع في أروى :فمنهم من قال :إنها أسلمت ومنهم من خالف ذلك.
?يرا ال??راهب، وفي خروج??ه علي??ه الس??الم م??ع عم??ه في ه??ذه الس??نة نظ??ر إلي??ه َب ِح? َ
وأوص??اهم بمراعات??ه من اليه??ود ف??إنهم أع??داؤه لعلمهم بم??ا يك??ون من نبوت ?ه? على
?ير ال??راهب وم??ا ك??ان حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لخ??بر َب ِح? َ
من إخباره بنبوة النبي صلى هللا عليه وسلم ،وذل??ك في ب??اب أه??ل الف??ترة ممن ك??ان
بين المسيح ومحمد عليهما السالم.
شهوده الفجار
ار ،وذلك في سنة إحدى وعش??رين، وقد قدمنا أنه عليه السالم شهد يوم حرب الف َِج ِ
ب ك??انت بين ق??ريش وقيس عيالن ،فيم??ا س??لف من ه??ذا الكت??اب وغ??يره، وأنها ح??ر ِ
وأنها إنما سميت بهذا االسم الذي هو الف َِجار ألنها كانت في األشهر الحرم ،وك??انت
لقيس على قريش ،وأن الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم لم?ا ش?اهدها ص?ارت لق?ريش
ِي ،وك??ان نخاس?ا َ فيعلى قيس ،وكان على قريش يومئ??ذ عب??د هّللا بن ُج??دْ َعان ال ّت ْيم ُِّ
الجاهلية بياعا ً للجواري ،وكانت ه??ذه إح??دى ال??دالئل الم??نزرة بنبوت??ه علي??ه الس??الم
والتيمن بحضوره.
سنوات من حياته
وفي سنة ست وعشرين كان تزويجه? بخديجة بنت ُخويلد ،وهي ومئذ بنت أربعين،
وقيل في سنها غيرهذا.
وفي سنة ست وثالثين َب َن ْت قريش الكعبة ،وتراضت به ،فوضع الحجر على حس??ب
ما قدمنا.
وفي سن إحدى وأربعين بعثه هّللا نبيا ً ورسوال إلى كافة الناس ،وذل??ك ب??وم االث??نين
لعش??ر خل??ون من ربي??ع األول ،على حس??ب تن??ازع الن??اس في ت??اريخ مبعث??ه علي??ه
السالم.
وفي سنة ست وأربعين كان حصار قريش للنبي صلى هللا عليه وسلم وب??ني هاش??م
وبني? عبد المطلب في ال ِّ
ش ْعبِ.
شعب.وفي سنة خمسين كان خروجه عليه السالم ومن تبعه من ال ِّ
وفي هذه الس??نة ك??انت وف??اة خديج??ة زوج??ه وفيه??ا ك??ان خروج??ه إلى الط??ائف على
حسب ما ذكرنا.
وفي سنة إحدى وخمسين كان اإلِسراء به صلى هللا عليه وس??لم إلى بيت المق??دس،
على حسب ما نطق به التنزيل.
وفي سنة? أربع وخمسين كانت هجرته صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة ،وفيها بني
صلى هللا عليه وس??لم مس??جده ،وفيه??ا دخ??ل بعائش??ة بنت أبي بك??ر رض??ي هّللا عنه??ا
وهي ابنة تسع ،وتزوج بها قبل الهجرة وهي بنت سبع ،وقي??ل :إن??ه تزوجه??ا وهي
بنت ست سنين ،وبني? بها في المدينة? بعد الهجرة بسبعة أشهر ،وقي??ل عن عائش??ة
?نة ،وك??انت?ر َة س? ً
إن رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم قبض وهي بنت ثم??انَ عش? َ
وفاتها سنة ثمان وخمسين من الهجرة بالمدينة ،وصلى عليها أب??و هري??رة في أي?ام
معاوية بن إلى سفيان وقد ق??اربت الس??بعين وفيه??ا أم??ر رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه
وسلم باألذان ،وأرى عبد هللا بن زيد كيفية األذان في َمنَ أم??ه ،وفيه??ا ك??ان ت??زوج
علي بن أبي ط??الب بفاطم??ة بنت رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم على حس??ب م??ا
ذكرنا من التنازع في التاريخ?.
وفي سنة اثنتين من الهجرة افترض على المؤمنين صوم ش??هر رمض??ان وفي ه??ذه
السنة أمر النبي صلى هللا عليه وسلم بالتوج ِه إلى الكعبة ،وفيها توفيت ابنته ُرقي??ة
وفي آخر هذه السنة -وهي سنة اثنتين من الهجرة -كان دخ??ول علي بن أبى ط??الب
بفاطمة بنت رس??ول هللا ص?لى هللا علي??ه وس?لم ،وفيه??ا ك?انت وقع??ة ب?در ،وذل?ك في
ليلة خلت من شهر رمضان. الجمعة لسبع عشرة ً
وفي سنة ثالث كان تزويجه بزينب بنت ُخ َزيمة ،وكانت وفاته??ا بع??د ش??هرين ،وفي
هذه السنة كان تزويجه? بحفصة بنت عمر بن الخط??اب ،وفيه??ا ك?ان ت??زويج عثم??ان
بن ع َّفان بأم كلثوم ابنة رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ،وفيه??ا ك??ان مول??د الحس??ن
بن علي بن أبي طالب على ما في ذلك من التنازع في الت??اريخ? وفيه??ا ك??انت غ??زوة
سنة أربع كانت غزوت??ه أحد ،وفي هذه السنة استشهد حمزة بن عبد المطلب .وفي َ
الر َقاع ،وفي هذه الغزاة صلى صالة الخوف بالناس ،على حسب ما المعروفة بذات ِّ
ذكر في كيفية ذلك التنازع ،وفيها كان تزويجة بأم سلمة بنت أبي أمية ،وفيها
صفحة 392 :
كانت غزوته إلى اليهود من بني ال َّنضِ ير? وامتنع??وا من??ه بحص??ونهم ،فقطع??وا نخلهم
وشجرهم وأضرموا النار عليهم ،فلما رأى ذلك صالحهم ،وفيه??ا ك??انت غزوت??ه إلى
المص َط َلق ،وفيها -وهي سنة أربع -كان مول??د الحس??ين بن علي بن أبي ط??الب ْ بني
رضي هّللا تعالى عنه ،وق?د قي?ل :إن مول?د فاطم?ة رض?ي هّللا تع?الى عنه?ا ك?ان قب?ل
الهجرة بثمان سنين.
وفي سنة خمس كانت غزوة الخندق وما ك??ان فيه??ا من حف??ر الخن??دق ،وفيه??ا غ??زا
اليهود من بني قُ َر ْي َظة ،وكان من أمرهم م??ا ق??د ش??هر ،وفيه??ا ك?ان تزويج??ه ب??زينب
بنت َج ْحش ،وفيها كان َت َق َّول ُ أهل اإلِفك على عائشة رضي هللا عنها.
وفي سنة ست كان استس??قاؤه علي??ه الس??الم لم??ا لح??ق الن??اس من الض??ر َوا ْل َج? دْ بِ،
وفيها اعتمر عمرته? المعروفة بعمرة الحديبية? وواعد المشركين ،وفيه??ا أخ??ذ ف? َد َك،
بالرس?ل إلى كس??رى وقيص??ر ،وك??ان ُ ووجه
َّ وفيها تزوج أم حبيبة بنت أبي س??فيان،
فيها أداؤه لكتابة ُج َويرية? بنت الحارث وتزويجه بها.
أخ َطب لنفس??ه، وفي سنة سبع غزا خي??بر فافتتحه??ا ،واص??طفى ص??فية بنت ح َيى بن ْ
وفيها تزوج ميمونة? بنت الحارث الهاللية خالة عب??د هّللا بن عب??اس في س??فره حين
اعتمر عمرة القضاء ،على ما ذكر من التنازع في نكاحه لها ،أفي حال حل?ه نكحه??ا
أم في حال إحرامه .وما ق?ال الفقه?اء في ذل?ك ،وتن?ازع الن?اس في نك?اح المح??رم،
وفيها ك??ان ق??دوم ح??اطب بن أبي ب ْل َتع??ة من مص??ر من عن??د المق??وقس ملكه??ا ومع??ه
مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وغ??ير ذل?ك من ه??دايا
المقوقس إليه ،وفيها كان قدوم جعفربن أبي طالب من أرض الحبش??ة ومع??ه أوالده
وزوجته وغيرهم من المسلمين ممن كان بأرض الحبشة.
وفي سنة ثمان استشهد جعفر بن أبي طالب وزي??د بن حارث??ة وعب??د هللا بن َر َواح??ة
ب??أرض ُم ْؤت??ة من أرض ال َب ْلق??اء من أرض الش??ام وأعم??ال دمش??ق في وقعتهم م??ع
الروم ،وفيها كانت وفاة زينب بنت رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،وقي??ل :غ??ير
ذلك من التاريخ?.
فتح مكة
وفي سنة ثمان كان افتتاح النبي صلى هللا عليه وسلم مك??ة ،وق?د تن??ازع الن?اس في
?زى ثم ق??ال الن??بي فتحها ،أصلحا ً كان أم َع ْن َو ًة؛ وفيها ُك ِّ
س َر ْت األص??نامَ ،و ُه? ِد َمت ال ُع? َّ
صلى هللا عليه وسلم" :يا معشر قريش ،ما ترون أني فاعل بكم " ق??الوا :خ??يرأ أ ٌ
خ
كريم ،وابن أخ كريم ،قالْ " :أذ َه ُبوا فأنتم ال ُّط َل َقاء" ،وفيها غزا غ??زة ح??نين ،وك??ان
در ْيد بن الص َمة ،وفيها كانت غزوة الط??ائف، ض ِري ومعه َ ه ََوازن مالك بن عوف ال َّن ْ
وفيها كان إعطاؤه للمؤلفة قلوبهم وفيهم أبو سفيان صخربن حرب وابن?ه معاوي?ة،
وفيها كان مولد إبراهيم ابن رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم من مارية القبطية.
علي بن أبي وفي سنة تس??ع حج أب??و بك??ر الص??ديق رض??ي هّللا عن??ه بالن??اس ،وق??رأ ّ
طالب عليهم سورة براءة ،وأمرأن ال يحج مشرك ،وأنه ال يط??وف ب??البيت ُع ْري??ان،
وفيها كانت وفاة أم كلثوم بنت رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم.
وفي سنة عشر حج رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم حجة الوداع ،وقال:
" أال أن الزمان قد استدار كهيئته يوم َخ َل َق هّللا السموات واألرض "
وفيها كانت وفاة إبراهيم ابن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ول??ه س??نة وعش??رة
بعلي إلى
ّ أشهر وثمانية? أيام ،وقيل غيم ذلك ،وفيها كان بعثه عليه الصالة والس??الم
اليمن ،وأحرم كإحرام النبي صلى هللا عليه وسلم.
وفي سنة إحدى عشرة كانت وفاته صلى هللا عليه وسلم على حسب ما ق??دمنا فيم??ا
سلف من هذا الكتاب قبل هذا الباب من ذكر وفا ِت ِه ومق??دار عم??ره وم??ا قال??ه الن??اس
في ذلك ،وفيها كانت وفاة فاطمة بنت رسول هللا صلى هللا علي??ه وس??لم على حس??ب
ما ذكرنا من تنازع الناس في مقدار عمرها ومدة بقائها بعد أبيها ،ومن الذي صلى
العباس بن عبد المطلب أم َب ْعلُ َها علي ولما قبض??ت ج??زع عليه??ا َب ْعلُ َه??ا ّ
علي ُ عليها:
جزعأ شديداً واشتد بكاؤه وظهر أنينه وحنينه ،وقال في ذلك:
و ولد له عليه الصالة والسالم بعد م?ا بعث عب? ُد هّللا وه?و الطيب والط?اهر ،الثالث?ة
األسماء له ألنه ولد في اإلِسالم ،وفاطمة ،وإبراهيم.
وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان والكت??اب األوس??ط على م??ا ك??ان في س??ن ٍة س??نه من
مولده عليه الصالة والسالم إلى مبعثه ،ومن مبعث??ه إلى هجرت??ه ،ومن هجرت??ه إلى
وفاته ،ومن وفاته إلى وقتنا هذا -وهو سنة اثنتين وثالثين وثلثمائة -وم??ا ك??ان في
س َرايا والبعوث والطرائق واألح??داث ،وإنم??ا ن??ذكر في ذلك من المغازي والفتوح َوال َّ
ه??ذا الكت?اب لمع?ا ً منبهين -ب??ذلك على م?ا س?لف من كتبن??ا ،وم??ذكرين لم?ا تق?دم من
تصنيفنا ،وباهّلل التوفيق.
ثم إخب??اره عن الح??رب وقول??ه "الح??رب ُخدْ َع? ة " فعلم به??ذا اللف??ظ اليس??ير? والكالم
الوجيز أن آخر مكايد الحرب القتال بالسيف؛ إذ كان ب??دؤها خدع??ة ،كم??ا ق??ال علي??ه
الصالة والسالم ،وهذا يعرفه كل في رأي صحيح وفي رياسة وسياسة.
ثم قال" :العائد في هبته كالعائد في َق ْيئِه " زاجراً بهذا الق??ول لل??واهب أن يس??ترجع
شيئا ً وهبه؛إذا كان الذيء ال يرجع فيه َمنْ قاءه.
وللناس في هذا المعنى كالم كثير وخطب طويلة ،وإنما الغرض فيما نذكر إيراد ك??ل
أمه صلى هللا عليه وسلم ،ووصف قوله الذي لم يتقدمه? به أحد"من الناس.
"اح ُثوا في وجوه ال َمدَّ احين التراب " المراد من ذل??ك إذا َك? َذ َب الم??ادح ،ولم
وقولهْ :
ُي ِردْ عليه السالم إذا شكر اإلنسان غيره بما أواله أو وصفه بما هو فيه أو قال ماله
أن يقول أن ُي ْح َثى في وجهه التراب ،ولو كان هذا معنى قوله صلى هللا عليه وس??لم
إذاً ما َمدح أحد أح??داً؛إذ ك??ان ه??ذا النهي عموم?ا ً للص??ادق والك??اذب ،وأن يح??ثى في
وجه الجميع التراب ،وهذا خالف ما جاء ب??ه التنزي??ل حيث يق??ول ع??ز وج??ل مخ??براً
أج َع ْلنِي على خ??زائن األرض إني حفي??ظ عليم" فق??د عن نبيه? يوسف وقوله للملكْ ":
مدح نفسه ووصف حاله.
وجميع ما يذكر في هذا الباب مستفيض? في السير واألخبار متع??ارف عن??د العلم??اء،
متداول بين الحكماء ،يتمث?ل? ب??ه كث??ير من الن?اس ،وتس??تعمل الع??وام كث??يراً من??ه في
ألفاظها ،.و ُتورده في أمثالها وخطاباتها ،واألكثر منهم ال يعلم أن رس??ول هللا ص??لى
س َبق إلى إيرده.هللا عليه وسلم أول من تكلم به ،و َ
اتبع على مليء فليتب??ع ،وقول??ه: وقال عليه الصالة والسالمَ :م ْطل الغني ظلم ،ومن َ
األرواح جن??ود مجن??دة؛ فم??ا تع??ارف منه??ا ائتل??ف ،وم??ا تن??اكر منه??ا اختل??ف ،رأس
الحكم??ة معرف??ة هللا .ي??ا َخ ْي? ل َ هللا ارك??بي وأبش??ري? بالجن??ة .االن َحمِي ال??وطيس .ال
ان .ال ُي ْل َدغ المؤمن من جحر مرتين ?.ال يج??ني على الم??رء إال ي??ده. ينتطح? فيها َع ْن َز ِ
ليس الخبر كالمعاينة .الشديد من غلب نفسه بورك ألمتي في ُب ُكورها .ساقي الق??وم
آخرهم شرباً .المجالس باألمانات .لو َب َغى جبل على جبل ل? ُد َّك الب??اغي منهم??ا ،أب??دأ
ف أنفه أل يري??د ب??ذلك ال َف ْج? أة وأن??ه م??ات من غ??ير عل??ة وال ح? ٍ
?ال بمن تعول مات َح ْت َ
أوجبت وال سبب من أسباب الموت تق??دمت ،ال ت??زال أم??تي بخ??ير م??ا لم ت??ر األمان??ة
والزكاة مغرماً .قي?دوا العلم بالكتاب?ة .خ?ير الم?ال عين س?اهرة لعين نائم?ة ?.المس?لم
م ِْرآة المسلم رحم هللا من قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فسلم .المرء كثير بأخيه.
الي??د العلي??ا خ??ير من الي??د الس??فلى .ت??رك الش??ر ص??دقة .فض??ل العلم خ??ير من فض??ل
العبادة .ال ِغ َنى غنى النفس.
األعمال بالنيات .أي أداء أدوأ من البخل .الحياء خير كله الخي??ل معق??ود بنواص??يه? ا
كأخ ٍذ باليد .إن من الش??عر لحكم??ة ومن الخير .السعيد من ُو ِع َظ بغيره .عِ دَ ةُ المؤمن ْ
البي??ان لس??حراً .عف??و المل??وك بق??اء للمل??كْ .ار َح ْم من في األرض يرحم??ك من في
السماء .المكر والخديعة في النار .المرء م??ع من أحب ،ول??ه م??ا أكتس??ب .ليس من??ا
من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا .المستشار مؤتمن .من قُتِل َدون ماله فهو
شهيد .ال يحل لمؤمن أن يهج??ر أخ??اه ف??وق ثالث .ال??دال على الخ??ير كفاعل??ه .الن??دم
هللا من ال يش??كرتوبة .الولد للفراش وللعاهر الحجر .كل معروف ص??دقة .ال يش??كر ّ
الس? َفر قطع??ة من?يء ُيعمي ويص??مَّ ، ?ؤوي الض??الة إال ض??ال ،حب??ك الش? َ الن??اس .ال ي? ِ
?زع ،وقول??ه:العذاب ،وقوله لألنص??ار :إنكم لتقل??ونَ عن??د الطم??ع وتك??ثرون عن??د الف? ِ
أح? ل َّ حرام?ا ً أو َح? َّرم حالال .الرج??ل أح?ق بص?درالمسلمون عند شروطهم إال شرطا ً َ
مجلسه وص??در دابت??ه .الن??اس مع??ادن كمع??ادن ال??ذهب والفض??ة .الظلم ظلم??ات ي??وم
ت النفوس على حب من أحسن إليها. القيامة ?.تمام التحية المصافحةُ .ج ِب َل ِ
صفحة 396 :
أمن??ك من أعتب??ك .م??ا نقص م??ال من ص??دقة .الت??ائب من ال??ذنب كمن ال َذ ْن َب ل??ه.
الشاهد يرى م??ا ال ي??رى الغ?ائب .،خ??ذ حق?ك في َع َف?اف.واف أو غ??ير واف .أعط??وا
األجير أجرت??ه قب??ل أن يج??ف عرق??ه .أه??ل المع??روف في ال??دنيا أه??ل المع??روف ي??وم
القيامة ?.الجنة تحت ظالل السيوف .ليس بمؤمن من خاف جا ُرهُ َب َوا ِئ َقه اتق??وا الن??ار
صدَ قة .ال خير ل??ك في أع ُروا النساء يلزمن الحجاب .الكل َمة الطيبة َ ولو بشق تمرةْ .
صحبة َمنْ ال يرى لك مثل ما يرى لنفس?ه ?.ال?دنيا س??جن الم??ؤمن وجن??ة الك?افر .م?ا
دق .ال??دعا ُء س??الح الم??ؤمن .خ??يراألمور أوس??طها .إذا أت??اكم الزائ??ر أم َل َق ت??اجر َ
ص? َ ْ
فأكرموه .اشفعوا تحمدوا أو ت??ؤجروا .اإليم??ان الص??بر والس??ماحة آ َفض??لكم أفض??لكم
ورة .ما َعال َ امرؤ اقتصد .ما هلك امرؤ ع??رف ق??دره. ش َمعرفة .ما هلك امرؤ عن َم ُ
شر العمى عمى القلب .الكذب مجانب لإليمان .م??ا َق?ل َّ وكفى خ??ير مم??ا ك??ثر وألهى.
?اء كف??ر .المؤمن??ون َه ْي ُن??ون َل ْي ُن??ون .ش??ر الندام??ة ي??وم من أث??نى فق??د كفى قل??ة الحي? ِ
?رات الك??رام .اطلب??وا الخ??ير عن??د ِ
ص? َباح القيامة ?.شر المعذرة عند الموت .أقِيلُوا َع َث? َ
الوجوه .الدنيا ُح ْلوة َخضِ رة ،وإن هللا مس?تعملكم فيه?ا ينظ?ر كي?ف تعمل?ون .انتظ?ار
الفرج عبادة .كادت الفاقة أن تكون كفراً .لم يبق من ال??دنيا إال َ
بالء وفتن??ة .في ك??ل
عام ترذل??ونُ .ز ْر غ ّب? ا ً ت??زد ح ّب? اً .الص??حة والف??راغ نعمت??ان َم ْغ ُب??ون فيهم??ا كث??ير من
الناس ،أو قال :جميع الناس،
وقوله:
ال يلقى هللا أحد إال ناعماً .من عمل خيراً قال يا ليتني أزدت ،ومن عمل غ??ير ذل??ك
قال يا ليتني? قصرت،
وقوله:
ش َنا ،وهذا القول يحتمل معاني كثيرة :منها أن يكون إخباراً أن من ليس منا من َغ َ
غش المس??لمين على حس??ب الح??ال في ال??وقت أن بعض أه??ل الكت??اب أو المن??افقين
أخ??بر عن??ه بم??ا ك??ان من فعل??ه ،ويحتم??ل أن يك??ون على طري??ق الزج??ر والنهي عن
الغش ،وقد قيل غير ذل?ك ،وهللا أعلم ،مث?ل م??ا َر َوى عن??ه أب?و مس?عود الب?دري أن?ه
قال :ال يبقى على وجه األرض بعد مائة أح ٌد إال مات ،فاستفاضت هذه الرواي??ة عن
أبي مسعود عن النبي صلى هللا عليه وس??لم ،فج??زع األك??ثر ،فأفض??ى ذل??ك إلى علي
رضي هللا عنه ،فقال :صدق أبو مسعود فيما قال ،وذهب عن??ه الم??راد ب??ذلك ،وإنم??ا
مراد النبي صلى هللا عليه وسلم أن ال يبقى على وج?ه األرض أح?د بع?د رأس مائ?ة
ممن رأى الن??يي ص??لى هللا علي??ه وس??لم إال م??ات وقول??ه :اس??تعينوا على أم??وركم
بالكتمان ،وعلى قضاء حوائجكم باإلسرار.
جماع تاريخه
الناس أبا بكر الصديق رض??ي هّللا تع??الى عن??ه ،-في س??قيفةُ قال المسعودي :ثم با َي َع
ِّ
بني ساعدة بن كعب بن الخزرج األنصاري ،في يوم األثنين الذي توف َي في?ه رس?ول
هللا صلى هللا علي??ه وس??لم ،وت??وفي أب??و بك??ر ليل??ة الثالث??اء لثم??ان بقين من جم??اعي
عشر َة من الهجرة ،وهو ابن ثالث وس??تين س??نة ،مس??توفيا ً لعم??ر َ َ
ثالث األخرة سنة
النبي صلى هللا عليه وسلم ،وهذا اتفاق في س??ائر الرواي??ات على م??ا ذكرن??ا ،وك??ان
مولد أبي بكر بعد الفيل بثالث سنين ،وكانت واليت?ه س?نتين وثالث?ة أش?هر وعش?رة
أيام ،ودفن إلى جنب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على كتف رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،كذلك قالت عائشة،
وقد قيل :إن أبا بكر كانت خالفته سنتين وثالثة أشهر وعش??رين يوم?اًً ،-وس??نذ ُكر
فيما يرد من هذا الكتاب جمالً من أيأمهم ومق??ادير واليتهم ،وك??ذلك نف??رد بيم??ا ي??رد
في هذا الكتاب -بعد ذكرنا أليام بني امية وبني? العباس -بابا ً نذ ُكر فيه جامع التاريخ
الثاني من الهجرة إلى هذا الوقت -وه??و س??نة اثن??تين وثالثين وثلثمائ??ة ?-في خالف??ة
أبي إسحاق المتقي هّلل ،أو بعد ذلك من األوقات إلى حيث ينتهي بنا التص??نيف ?،وم??ا
أر ُخوه في مقادير السنين والشهور واألي??ام ذكره أصحاب الزيجات في النجوم ،وما َّ
والخالف بينهم وبين تاريخ أصحاب السير واألخب??ار وكتب الت??اريخ? من األخب??اريين
وغيرهم؛إذ كان التفاوت بين الفريقين ب ِّيناً ،و ُم َع ّولنا في ذلك على ما ذك?ره أص?حاب
الزيجات.
صفاته
وك??ا ْأز َه? َد الن??اس ،وأك??ثرهم تواض??عا ً في أخالق??ه ولباس??ه ومطعم??ه ومش??ربه? ك??ان
لبسهفيخالفته الشملة ،العباءة وق??د َم إلي??ه زعم??اء الع??رب وأش??رافهم ومل??وك اليمن
وعليهم ا ْل ُح َلل َوا ْلحِبر وب??رود ا ْل َو ْ
ش?ي المثق??ل بال??ذهب والتيج??ان ،فلم??ا ش??اهدوا م??ا
عليه من اللب??اس والزه??د والتواض??ع والنس??ك ،وم??ا ه??و علي??ه من الوق??ار والهيب??ة
ذهبوا َم ْنذهبه ونزعوا ماكان عليهم.
وام أبي بكر سلمى -وتكنى :أم الخير -بنت صخر بن عم??رو بن ع??امر ابن كعب بن
سعد بن َت ْيم بن مرة.
أوالده
وكان له من الولد :عبد هّللا ،وعبد الرحمن ،ومحمد ،فأم??ا عب??د هّللا فإن??ه ش??هد ي??وم
الطائف مع النبي صلى هللا علي??ه وس??لم فلحقت??ه جراح??ة وبقي إلى خالف??ة أبي??ه أبي
وخ َلف س??بعة دن??انير ،فاس??تكثرها أب??و بك??ر ،وال عقب لعب??د
بكر ،ومات في خالفتهَ ،
المشركين ،ثم أسلم فحسن
ِ هّللا ؛وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه شهد يوم بدر مع
أسألمه ،ولعبد الرحمن أخبار ،وله عقب كثير بدر و َحضر في ناحية الحج??از مم??ا
يلي الجادة من طريق العراق في الموضع المعروف بالصفينيات والمس??ح ?،ومحم??د
بن أبي بكر ،أمه أسماء بنت عميس الخثعمي??ة ?،ومنه??ا عقب جعف??ر بن أبي ط??الب،
ف عليها حين استشهد عبد هّللا وعونا ومحمدا بني جعفر ،فقت??ل ع??ون ومحم??د وخ َل َ
َ
ِب جعف??ر عن عب??د هّللا ابنا جعفر ّ
بالطف مع الحس??ين بن علي ،وال عقب لهم??اَ ،و َعق ُ
?ماعيل وإس??حاق ومعاوي??ة ،وتزوجه??ا ِ بن جعفر ،وولد لعبد هّللا بن جعفر :علي وإس?
بعده أبو بكر الصديق ،فخلف منها محمداَ ،ثم تزوجه??ا على بن أبي ط??الب فأول??دها
در ُجوا ،وال عقب له منها وأم أسماء العجوز الحريشية? كان لها أرب??ع بن??ات، أوالداً َ
وهذه العجوز أكثر الناس أصهاراً ،كانت ميمونة الهاللية تحت النبي صلى هللا عليه
وس??لم ،وأم الفض??ل تحت العب??اس بن عب??د المطلب ،وس??لمى تحت حم??زة بن عب??د
المطلب ،وخل??ف منه??ا بنت ?اً ،وأس??ماء تحت من ذكرن??ا من جعف??ر وأبي بك??ر وعلي،
والعقب من محمد بن أبي بك??ر قلي??ل ،وأم جعف??ر بن محم??د بن علي بن الحس??ين بن
علي بن أبي علي بن أبي ط????الب أم ف????روة بنت القاس????م بن محم????د بن أبي بك????ر
الصديق.
يوم السقيفة
السقيفة وجددت البيعة له يوم الثالثاء على العامة خرج ولما بويع أبو بكر في يوم َّ
علي فقال :أفسدت علينا أمورنا ،ولم تستشر ،ولم َت ْر َع لنا حقأ ،فقال أبو بكر :بلى،
الس ?قيفة خطب طوي??ل،ولك??ني خش??يت الفتن??ة ،وك??ان المه??اجرين واألنص??ار ي??وم َّ
ومجاذبة في اإلمامة ،وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع ،فصار إلى الشام ،فقتل هناك
في سنة خمس عشرة ،وليس كتابنا هذا موض??عا ً لخ??بر مقتل??ه ،ولم يبايع??ه أح??د من
بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي هّللا عنها.
كالم له
آس?ى على ش?يء إال على ثالث فعلته?ا وع?ددت أني تركته?ا، اح ُتضِ َر ق?ال :م?ا َ
ولما ْ
وثالث تركتها وددت أني فعلتها ،وثالث وددت إني سألت رسول هللا صلى هللا علي??ه
وسلم عنها؛فأما الثالث التي فعلتها ،ووددت أني تركتها ف??وددت أني لم أكن فتش??ت
بيت فاطمة ،وذكر في ذلك كالما ً كثيراً ،ووددت أني لم أكن حرقت الفُ َجاءة وأطلقت??ه
ت األم??ر في عن??ق نجيحا ً أو قتلته صريحاً ،وددت أني يوم س??قيفة ب??ني س??اعدة َق? َ?ذ ْف ُ
أحد الرجلين فكان أميراً وكنت وزيراً ،والثالث التي تركتها وددت أني فعلتها وددت
أني يوم أتيت باألشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه ،فإنه ق??د خي??ل لي أن??ه ال ي??رى
ش ? ّراً إال أعان??ه ،وددت أني كنت ق??د ق??ذفت المش??رق بعم??ر بن الخط??اب ،فكنت ق??د َ
?زت جيش ال??ردة ورجعت بسطت يميني وشمالي في س??بيل? هّللا ،وددت أني ي??وم ج َه? ْ
أقمت مكاني فإن سلم المس?لمون س?لموا ،وإن ك?ان غ?ير ذل?ك كنت ص?در اللق?اء أو
َمدَ داً ،وك??ان أب??و بك??ر ق??د بل??غ م??ع الجيش إلى مرحل??ة من المدين??ة ،وه??و الموض??ع
هللا ص??لى هللا علي??ه
المعروف بذى القص??ة ،والثالث ال??تي وددت أني س??ألت رس??ول ّ
وسلم عنها وددت أني كنت سألته في َمنْ هذا األمر؛ فال ين??ازع األم??ر أهل??ه ،وددت
أني س??ألته عن م??يراث العم??ة وبنت األخ ف??إن بنفس??ي منهم??ا حاج??ة ،ووددت أني
سألته هل لألنصار في هذا األمر نصيب فنعطيهم إياه.
بناته
وخلف من البنات :أسماء ذات ال ِّن َطاقين ،وهي أم عبد هّللا بن الزبير ?،وعمرت مائ??ة
سنة حتى عميت ،وعائشة زوج النبي صلى هللا عليه وسلم.
المتنبئون
وقد أعرضنا عن ذكر كثير من األخب??ار في ه??ذا الكت??اب طلب?ا ً لالختص??ار واإليج??از:
الع ْنسِ ي الكذاب المع?روف بعيهل?ة ،وم?ا ك?ان من خ?برا ب?اليمن وص?نعاء، منها خبر َ
وتنبئه? ومقتله ،وما كان من ف?يروز ،وغ?يره من األنب?اء في أم?رهم ،وخ?بر طليح?ة
وتنبئه ?،وخبر سجاح بنت الحارث بن سويد ،وقيل :بنت غطف??ان وتك??نى أم ص??ادر،
وهي التي يقول فيه?ا قيس بن عاص?م :أض?حت نبيتن?ا أن?ثى نطي?ف به?ا وأص?بحت
أنبياء الناس ًذ ْك َرانا َ
وفيها يقول الشاعر:
وقد كانت مع ادعائها النبوة مكذبة بنبوة مسيلمة الكذاب ،ثم آمنت بنبوت??ه ،وك??انت
قبل ادعائها النبوة متكهن?ة? ت??زعم أن س??بيلها س??بيل? س??طيح وابن س??لمة والم??أمون
الحارثي ،وعمرو بن لُ َح ٍّي ،وغيرهم من الكهان ،وصارت إلى مسيلمة? فنكحها ،وما
كان من خبر مسيملمة? َك َّذاب اليمامة ،وحربه لخالد بن الوليد ،وقتل َو ْحشِ ٍّي ل??ه م??ع
رجل من األنصار ،وذلك في سنة إحدى عشرة ،وما كان من أمره مع األنصار في
صفحة 402 :
يوم سقيفة بني? ساعدة والمهاجرين ،وقول المنزر بن ا ْل ُح َباب :أن??ا ُج? َذيلها المحك??ك
المرجب ،أما وهّللا إن شئتم لنعي َد َّن َها َج َذ َع? ة ،وقص??ة س??عد بن عب??ادة ،وم??ا
َّ َو ُع َذ ْيقُ َها
ك??ان من بش??ر بن س??عد ،وتخلي األوس عن معاض??دة س??عد خوف??ا ً أن يف??وز به??ا
الخزرج ،وأخبار من قعد عن البيعة ومن بايع ،وما قالت بنو هاش??م ،وم??ا ك??ان من
قص??ة ف??دك ،وم??ا قال??ه أص??حاب النص واالختي??ار في اإلِمام??ةَ ،و َمنْ ق??ال بإمام??ة
المفضول وغيره ،وما كان من فاطمة وكل أمه ا متمثلة حين ع??دلت إلى ق??بر أبيه??ا
عليه السالم من قول صفية بنت عب??د المطلب :ق??د َك??انَ بع??دك أنبـاء وهَـ ْي َنـ َمة? ل??و
شا ِه َدهَا لم تكثر الخطب ُك ْنت َ
إلى آخر الشعر ،إلى غير ذلك مما تركنا ذكره من األخبار في هذا الكتاب؛إذ كن??ا ق??د
أتينا على جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان والكتاب األوسط ،فأغنى ذلك عن ذك??ره
هاهنا ،وهّللا أعلم.
ذكر خالفة عمر بن الخطاب
رضي هّللا عنه
وبويع عمر بن الخطاب رضي هّللا عنه ،فلم??ا أن دخلت س??نة ثالث وعش??رين خ??رج
الحج في تلك السنة ،ثم أقبل حتى دخل المدينة ?،فقتله فيروز أبو لؤلؤة َّ حاجا ،فأقام
غالم المغ??يرة بن ش??عبة ي??وم األربع??اء ألرب??ع بقين من ذي الحج??ة تم??ام س??نة ثالث
?ال ،وقت??ل في ص??الة
وعش??رين؛فك??انت واليت?ه? عش??ر س??نين وس??تة أش??هر وأرب??ع لي? ٍ
الصبح ،وه?و ابن ثالث وس?تين س?نة ودفن م?ع الن?بي ص?لى هللا علي?ه وس?لم وأبي
بكر ،عند رجلي النبي صلى هللا عليه وسلم ،وقي??ل :إن قب??ورهم مس??طرة :أب??و بك??ر
إلى جنب النبي صلى هللا علي??ه وس??لم ،وعم??ر إلى جنب أبي بك??ر ،وحج في خالفت??ه
ورى إلى ش?? َتسع حجج ،وبعد أن قُ ِتل َ صلّى بالناس عب ُد الرحمن بن َع ْوف ،وجعلها ُ
علي ،وعثم??انَ ،
وط ْل َح? ة .والزب??ير ،وس??عد ،وعب??د ال??رحمن بن ع??وف، ستة ،وهمّ :
يب الرومي .وكانت الشورى بعده ثالثة أيام. ص َه ٌوصلّى عليه ُ
صفاته
وكان متواضعاً ،خشن الملبس ،شديداً في ذات هّللا ،واتبعه عمال??ه في س??ائر أفعال??ه
يتش? ّبه? ب??ه ممن غ??اب أو حض??ر ،وك??ان يلبس الجب??ة الص??وفوشيمه وأخالقه ،كل ّ َ
المرقعة باألديم وغيره ،ويشتمل بالعباءة ،ويحم??ل القرب??ة على كتف??ه م??ع هيب?ة? ق??د
ُر ِز َق َها ،وكان أكثر ركابه اإلِبلَ ،و َر ْحله مشدودة بالليف ،وكذلك ُعماله ،م??ع م??ا فتح
هّللا عليهم من البالد وأوسعهم من األموال.
عماله
وكان من عماله سعيد بن عامر بن خ?ريم فش?كاه أه?ل حمص إلي?ه وس?ألوه َع ْزل?ه،
فقال عمر :اللهم ال ُتفِلْ فراستي فيه الي?وم وق?ال لهم :م?اذا تش??كون من??ه ?.ق?الوا :ال
يخرج إلينا حتى يرتفع النهار ،وال يجيب أحداً بلي?ل ،ول?ه ي?وم في الش?هر ال يخ?رج
علي ب??ه ،فلم??ا ج??اء جم??ع بينهم وبين??ه ،فق??ال :م??ا تنقم??ون من??ه?.
ّ إلينا ،فقال عم??ر:
قالوا :ال يخرج إلينا ح?تى يرتف?ع النه?ار ،فق?ال :م?ا تق?ول ي?ا س?عيد؛ ق?ال :ي?ا أم?ير
المؤمنين ،إنه ليس ألهلي خ?ادم ،ف?أعجن عجي?ني ،ثم أجلس ح?تى يختم?ر ثم أخ?بز
خبزي ،ثم أتوضا وأخرج إليهم ،قال :وماذا تنقمون منه ?.قالوا :ال يجيب بليل ،قال:
قد كنت أكره أن أذك??ر ه??ذا ،إني جعلت اللي??ل كل??ه ل??ربي ،وجعلت النه??ار لهم ،ق??ال:
وماذا تنقمون منه .قالوا :له يوم في الشهر ال يخرج إلينا في??ه ،ق??ال :نعم ،ليس لي
خادم فأغسل ثوبي? ثم أجففه فأمسي ،فق??ال عم??ر :الحم??د هللّ ال??ذي لم ُيف??ل فراس??تي
صوا بواليكم خيراً ،قال :ثم بعث إلي??ه عم??ر ب??ألف دين??ار، فيك ،يا أهل حمص ،استو ُ
وقال :استعن بها ،فقالت له امرأته ?:قد أغنانا هللا عن خدمتك ،فقال لها :أال ن??دفعها
ص ? َّرها ص??رراً ثم دفعه??ا إلى منأح َو َج ما كنا إلي??ه .ق??الت :بلىَ ،ف َ
إلى من يأتينا بها ْ
يثق به ،وقال :انطلق بهذه الصرة إلى فالن ،وبهذه إلى ي??تيم ب??ني فالن ،وه??ذه إلى
مسكين بني فالن ،حتى بقي منها شيء يسير ،فدفعه إلى امرأته ،وقال :أنفقي هذا،
ثم عاد إلى خدمت?ه ،فق?الت ل?ه امرأت?ه :أال تبعث إلي ب?ذلك الم?ال فنش?تري لن?ا من?ه
خادماً؛ فقال :سيأتيك ْ
أح َو َج ما تكونين إليه.
سلمان الفارسي
ومن عماله على المدائإن سلمان الفارسي ،وك??ان يلبس الص??وف ،وي??ركب الحم??ار
ببرذعته? بغير إكاف ،ويأكل خبز الشعير ،وكان ناسكا ً زاهداً ،فلما احتض??ر بالم??دائن
قال له سعد بن َو َّقاص :أوصني يا أبا عبد هّللا قال :نعم قال :اذكر ّ
هللا عن?د هم?ك إذا
هممت ،وعند لسانك إذا حكمت ،وعن??د ي??دك إذا قس??مت ،فجع??ل س??لمان يبكي ،فق??ال
له :يا أبا عبد هّللا ما يبكيك؛ ق??ال :س??معت رس??ول ّ
هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم يق??ول:
"إن في األخرة عقبة ال يقطعه??ا إال ال ُم ِخ ُّفونَ " وأرى ه??ذه األداوة ح??ولي ،فنظ??روا
فلم يجدوا في البيت إال إداوة وركوة ومطهرة.
أبو عبيدة
وكان عامله على الشام أبا ع َب ْيدة بن الجراح ،وكان يظه??ر للن??اس وعلي??ه الص??وف
الجافي ،فعذل على ذلك ،وقيل له :إنك بالشام والي أمير المؤمنين وحولنا األعداء،
فغير من زيك ،وأص?لح من ش?ارتك ،فق?ال :م?ا كنت بال?ذي أت?رك م?ا كنت علي?ه في
عصر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
ألفريدون ،حتى ثار الناس من الوهاد ،وهي المعروف??ة ب??درفش كاوي??ان وك??انت من
جلود النمور طوله?ا اثن?ا عش?ر ذراع?ا ً في ع?رض ثماني?ة? أف?رع على خش?ب ط?وال
موصل ،وكانت فارس تتيمن بها وتظهرها في األمر الشديد ،وق??د ق??دمنا الخ??بر عن
هذه الراية في أخبار الفرس األولى فيما سلف من هذا الكتاب.
فخ َط َب
ولما قتل أبو عبيد الثقفي بالجس??ر ش??ق ذل??ك على عم??رو وعلى المس??لمينَ ،
عمر الن??اس وحثهم على الجه?اد ،وأم?رهم بالت??أهب ألرض الع?راق ،وعس??كر عم??ر
بصرار وهو يريد الشخوص ،وقد استعمل على مقدمت??ه طلح??ة بن عبي??د هللا ،وعلى
ميمنته? الزب??ير بن الع??وام ،وعلى ميس??رته عب??د ال??رحمن بن ع??وف ،ودع??ا الن??اس،
فاستشارهم فأشاروا عليه بالمسير ،ثم قال لعلي :ما ت?رى ي?ا أب?ا الحس?ن ،أس?ير أم
أبعث .قال :سر بنفسك فإنه أهيب للعدو وأرهب له ،فخرج من عنده ،فدعا العب??اس
في ِجلَّة من مشيخة? قريش وشاورهم ،فق??الوا :أقم وابعث غ??يرك ليك??ون للمس??لمين
إن انهزموا فئة ،وخرجوا ،فدخل إليه عبد الرحمن بن عوف ،فاستشاره ،فقال عب??د
الرحمن :فدِيت بأبي وامي ،أقم وابعث؛فإنه إن انهزم جيش??ك فليس ذل??ك كهزيمت??ك،
وإنك إن ُت ْه َزم أو ُت ْق َتل يكفر المسلمون وال يشهدوا أن ال إل َه إال هّللا أبداً ،ق??ال :أش??ر
َع َل َّي من أبعث .ق??ال :قلت :س??عد بن أبي وق??اص ،ق??ال عم??ر :أعلم أن س??عداً رج??ل
شجاع ،ولكني أخشى أن ال يكون له معرفة بتدبير الحرب ،ق??ال عب??د ال??رحمن :ه??و
على ما تصف من الشجاعة ،وقد ص??حب رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم وش??هد
بدراً فاعهد إليه وشاورنا فيما أردت أن تحدث إليه؛ فإنه لن يخالف أمرك ،ثم خرج
فدخل عثمان عليه ،فقال له :يا أبا عب??د هللا أش??ر علي أس??ير أم أقيم .فق??ال عثم??ان:
ت أن ترج??ع أقم ي??ا أم??ير المؤم??نين وابعث ب??الجيوش ،فإن??ه ال آمن إن أتى علي??ك آ ٍ
العرب عن اإلسالم ،ولكن ابعث الجيوش وداركها بعض??ها على بعض ،وأبعث رج??ل
صر بها ،قال عمر :ومن ه??و .ق??ال :علي بن أبي ط??الب ،ق??ال: له تجربة بالحرب و َب َ
فالقه وكلمه وذاكره ذلك ،فه??ل ت??راه مس??رعا ً إلي??ه أو ال ،فخ??رج عثم??ان فلقي علي?ا ً
فذاكره ذلك ،فأبى علي ذلك وكرهه ،فعاد عثمان إلى عمر ف??أخبره ،فق??ال ل??ه عم??ر:
ومن ترى .قال :س?عيد بن زي?د بن عم?رو بن نفي?ل :ق?ال :ليس بص?احب ذل?ك ،ق?ال
عثمان :طلحة بن عبيد هللا ،قال له عمر :أين أنت من رجل شجاع ضروب بالسيف
رام بالنبل ،ولكني أخشى أن ال يكون ل??ه معرف??ة بت??دبير الح??رب .ق??ال :ومن ه??و ي??ا
أمير المؤمنين قال :سعد بن أبي وقاص ،فقال عثمان :هو صاحب ذاك؛ولكنه رج??ل
غائب وما منعني من ذكره إال أني قلت :رجل غائب في عم??ل ،فق?ال عم?ر :أرى أن
أوجهه ،وأكتب إليه أن يسير? من وجهه ذلك ،فقال عثمان :و ُم ْره فليشاور قوما ً من
أهل التجربة والبصر بالحرب ،وال يقط??ع األم??ور ح??تى يش??اورهم ،ففع??ل عم??ر ذل?ك
وكتب إلى سعد بالتوجه نحو العراق.
وق??د ك??ان جري??ر بن عب??د هللا البجلي ق??دم على عم??ر -وق??د اجتمعت إلي??ه بجيل??ة-
س َّرحهم نحو العراق ،وجعل لهم ربع ما ظهروا علي??ه من الس??واد ،وس??اهمهم م??ع َف َ
المسلمين ،وخرج عمر فشيعهم ،ولح??ق جري??ر بناحي??ة األبل??ه ثم ص??اعد إلى ناحي??ة
المدائن ،ونمى قدوم جرير إلى َم ْر ًزب??ان الم??دائن وك??ان في عش??رة االف من ف??ارس
من األساورة ،وذلك بعد يوم الجسر ومقتل أبي عبيد وسليط ،فقال بجيلة لجرير:
صفحة 406 :
أع ُب ِر الدجلة إلى المدائن ،فق??ال جري??ر :ليس ذل??ك ب??الرأي ،وق??د مض??ى لكم في ذل??ك ْ
عبرة بمن قتل من إخوانكم يوم الجسر ،ولكن أمه لوا القوم؛فإن جمعهم كث??ير ح??تى
الظ َف??ر إن ش??اء هّللا تع??الى ،فأق??امت الف??رس أيام ?ا ً
يع??بروا إليكم ،ف??إن فعل??وا فه??ؤ َّ
بالمدائن ،ثم أخذوا في العبور ،فلما عبر منهم النصف أو نح??وه حم??ل عليهم جري??ر
تسر َع معه من بجيلة ،فثبتوا ساعة ،فقتل الم ِْر ُزبان وأخذهم الس??يف ،وغ??رق فيمن َّ
أكثرهم في دجلة ،وأخذ المسلمون ما كان في عسكرهم ،وس??ار جري??ر ف??اجتمع م??ع
الم َث َّنى بن حارث??ة الش??يباني? بالبجل??ة ،فأقب??ل إليهم??ا مه??ران في جيوش??ه ?،ف??امتنع
المس??لمون من العب??ور إليهم ،فع??بر مه??ران وبغى على المس??لمين ،ف??التقوا وص??بر
الفريقان جميعا حتى قتل مهران قتله جرير بن عب??د هّللا البجلي وحس??ان بن الم??نزر
وس? َلبه
بن ض??رار الض??بي ،ض??ربه? البجلي ،وطعن??ه الض??بي ،وف??از جري??ر بمنطقت??ه َ
وتنازع جرير وحسان في أيهما القاتل لمهران ،وقد كان جرير ضربه بعد أن طعن??ه
حسان ،ولحسان في ذلك أبيات:
بأس َم َر فيه كالخالل طـريد
ْ ت مهران َن ْف َ
سه ألم ترني خا َل ْس ُ
وبادر في رأس الهمام جرير بر ْجلِ ِهفخر صريعا ً وا ْل َت َقاني ِ
وكاد جرير للسرور يطـير فقال :قتيلي ،والحوادث جمة،
ومثلي قليل والرجال كثـير فقال أبو عمرو :وقتلى قتلته
وأكرم أن تحلف وأنت أمير فأرسِ لْ يمينا ً أنَ رمحك نا َل ُه
وقد تن??ازع أه??ل األخب?ار والس??ير في جري??ر والمث??نى :فمن الن??اس من ذهب إلى أن
جريراً كان هو المولَّى على الجيش ،ومنهم من رأى أن جريراً على قومه والمث??نى
على قومه?.
أع َظمت الف??رس ذل??ك ،وس??ار ش??يرازاد في جم??ع ف??ارس األعظم ولم??ا قت??ل مه??ران ْ
وكنيت?ه? ب??وران؛ وق?د ك?انت جمه??رة األس??اورة تق??دمت وتق??دم أمام??ه رس??تم ،فتنحى
المسلمون لما بلغهم مسيره ،فلحق جرير بكاظمة فنزلها ،وسار المث??نى بقوم??ه من
بكر بن وائل فنزل بسيراف ?،وبها ابار كث??يرة بين الكوف??ة وزبال??ة على ثالث??ة أمي??ال
من المنزل المعروف بواقصة ،وكان المثنى قد أصيب بجراحات كثيرة في بدنه يوم
الجسر وغيره فمات بسيراف ،رحمه هللا تعالى!.
فخرج إليه هرمز -وك?ان من مل??وك الب??اب واألب??واب ،وك??ان متوج?اً -فأس??ره غ?الب
آسرا ،فأتى به سعداً ،وكر راجعا ً إلى المطاردة ،وحمي الوطيس ،وخرج عاص??م بن
عمرو وهو يقول:
أيام القادسية?
وكانت وقعة القادسية في المحرم سنة أربع عش??رة ،وم??ال من الفيل??ة س??بعة عش??ر
فيال على ك??ل في??ل عش??رون رجال ،وعلى الفيل??ة تج??افيف الحدي??د -الق??رون مجلل??ة
بالديباج والحرير نحو بجيلة ،وحول الفيلة الرجال الخيول ،فبعث سعد إلى بني أسد
لم??ا نظ??ر إلى الم??راكب والفي??ول ق??د م??الت لى بجيل??ة ،ف??أمرهم ب َم ُع??ونتهم ،وم??الت
عشرون فيالً نحو القلب ،فخرج طلحة بن خويلد األسدي مع فرسان بني أسد فقت??ل
منهم خمسمائة? رجل سوى من قتل من غيرهم فباشروا قتال الفيلة ح??تى أوقفوه??ا،
الجالد على بني أسد في هذا اليوم من سائر الناس ،وهذا اليوم يع??رف بي??وم واشتد َ
غواث.
فلما أصبح الناس في اليوم الثاني أش??رف على الن??اس خي??ول لمس??لمين من الش??ام،
واإلمداد سائرة قد غطت بأسنتها الشمس عليها هاشم بن عتب??ة بن أبي َوق??اص في
خمس??ة آالف ف??ارس من ب??ني ربيع??ه ومض??ر إل??ف من اليمن ،ومعهم ال َق ْع َق??اع بن
عمرو ،وذلك بعد فتح دمش?ق بش?هر ،وق?د ك?ان عم?ر رض?ي هّللا عن?ه كتب إلى أبي
الجراح بصرف أصحاب خالد بن الولي?د إلى الع?راق ،ولم ي?ذكر في كتاب?ه ِ عبيدة بن
خالداَ ،فشح أبو عبيدة بتخلية خالد عن يده ،وبعث برجاله وعليهم هاش??م بن عتب??ة
على ما ذكرنا ،إذ كان في نفس عمر على خال??د أش??ياء من أي??ام أبي بك??ر في قص??ة
مالك بن نو ْي َرة ،وغير ذلك ،وكان خالد بن الوليد خال عمر ،فتقدم القعقاع في
صفحة 408 :
أوائ??ك الم??دد ،ف??أيقن أه??ل القادس??ية بالنص??ر على ف??ارس ،وزال عنهم م??ا لحقهم
باألمس من القتل والجراح ،وبرز القعقاع حين وروده أمام الصف ونادى :ه??ل من
مب??ارز؛ ف??برز إلي??ه عظيم منهم ،فق??ال ل??ه القعق??اع :من أنت .ق??ال :أن??ا بهمن بن
جاذويه ،وهو المعروف بذي الحاجب ،فنادى القعق??اع :يا َل َث??ارات أبي عبي??د وس??ليط
وأصحابهم يوم الجسر!! وقد كان ذو الح??اجب مب??ارزاَ لهم على م??ا ذكرن??ا من قتل??ه
إياهم ،فجاال ،فقتل?ه القعق?اع قت?ل في ذل?ك الي?وم ثالثين رجالً في ثالثين حمل?ة ،ك?ل
رجال ،وكان آخر من قتل -عظيما ً من عظمائهم يقال له بزرجمه??ر?، حملة يقتل فيها َ
ففيه يقول القعقاع:
من يوم أغواث إذا اف َتر ال َّث ُغـر لم أر يوما ً كان إحـدى وأمـر
من غير ضحك كان أسوا وأبر
واعتل سعد فتخلف في حصن الع??ذيب ،وجلس في أعاله يش??رف? على الن??اس ،وق??د
تواقف الفريقاَن جميعاً ،وأمسى الناس ينتمون ،فلما سمع ذل??ك س??عد ق??ال لمن ك??ان
الناس على االنتماء فال توقظ??وني ف?إنهم أقوي??اء على
ُ عنده في أعلى القصر :إن تم
عدوهم ،وإن سكتوا فأيقظوني فإن ذلك شر ،واشتد القتال في الليل.
وأترك مشدوداً علي وثـاقـيا كفى َح َزنا ً أن ترتدي? الخيل بال َق َنا
مصاريع من دوني ُتصِ ُّم المناديا إذا قمت عناني الحديد فأغلقـت
فقد تركوني واحداً ال أخـالـيا وقد كنت ذا مال كثيرو ثـروة
لئن فرجت أن ال أزور ا ْل َح َوا ِن َيا فللّه عهد ال أخِـيس بـعـهـده
بأنا نحن أكرمهـم سـيوفـا ِيف غير فخـر لقد علمت َثق ٌ
وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأكرمهم د ُروعا ً سابـغـا ٍ
ت
ولم أشعر بمخرجي الزحوفا وليلة قاعس لم يشعروا بـي
فإن عتبوا فسل به ُم عريفـا وأنا ِرفدهـم فـي كـل يوم
وإن أترك أذيقهم الحتـوفـا فإن أحبس فذلـ ُكـ ُم بـالئي
سك هذا الرجل .تعني سعداً، فقالت له سلمى :يا أبا محجن ،في أي شيء َح َب َ
يدب الشعر على لس??اني فأص??ف القه??وة وت??داخلني أريحي??ة قال :وأنا امرؤ شاعر ُّ
فألتذ بمدحي إياها ،فلذلك حبسني ألني قلت فيها:
روي عظامي بعد موتي? عروقُ َها ِّ إذا مت فادفنيني? إلى جانب َك ْـر َمة
ت أن ال أذقـهـا خاف إذا ما ُم ُ ال تدفنني بـالـفـالة فـإنـنـي
وهي أبيات.
وق??د ك??ان بين س??لمى وس??عد كالم كث??ير وجب غض??به عليه??ا ،ل??ذكرها ال ًم َث َّنى عن??د
مختلف القنا ،فأقامت مغاضبة? له عشية أغواث وليلة ا ْل َه ِري??ر وليل??ة الس??واد ،ح??تى
فترض? ْته وص??الحته ،ثم أخبرت?ه? خبره??ا م??ع أبي محجن ،فدعاب??ه، َّ إذا أصبحت أتت??ه
فأطلقه
وقال :اذهب فما أنا مؤاخذ بشيء تقوله حتى تفعله،
قال :ال َج َر َم وهّللا ال أجبت لساني إلى صفة قبيح أبداً.
يوعماس
وأصبح الناس في اليوم الث??الث وهم على مص??افهم ،وه??و ي??وم عم??اس ،وأص??بحت
كالر ْجل??ة الحم??راء -يع??ني الح??رة -في
األعاجم على مواقفها ،وأصبح بين الف??ريقين َّ
ع??رض م??ا بين الص??فين ،وق??د قت??ل من المس??لمين ألف??ان وخمس??مائة م??ا بين َرث ِِي ِ
ث
وميت ،وقت من األع?اجم م??ا ال يحص??ى ،فق?ال س?عد :أيه?ا الن?اس ،من ش?اء غس??ل
الشهيد الميت والرثيث ،ومن شاء فليدفنهم بدمائهم ،وأقب??ل المس??لمون على َق ْتالهم
ف??أحرزوهم وجعل??وهم وراء ظه??ورهم ،وك??ان ا لنس??اء والص??بيان ي??دفنون الش??هيد
الرثِيث إلى النس??اء ويع??الجونهم من ُكلُ??ومهم ،وك??ان بين موض??ع الوقع??ة ويحملون َّ
مما يلي القادسية وبين حصن العذيب نخلة ،فإذا حم??ل الج??ريح وفي??ه تمي??يز وعق??ل
ونظر إلى تلك النخلة -ولم يكن هنالك يومئذ نخلة غيره??ا ،والي??وم به??ا نخ??ل كث??ير-
قال لحامله :قد قربت من السوداء ،فأريحوني تحت ظل هذه النخل??ة ،ف??يراح تحته??ا
ساعة ،فسمع رجل من الجرحى يقال له بجير من طيى ،وهو يجود بنفسه? ويقول:
وبين العذيب ،ال يجاورك النخل أال يا اسلمي يا نخلة بين قـاس
ُ
والغيوث الهواطل ُ سقتك الغوادي الج ْر َعا ،ويا نخلة العـدا
أيا نخلة َ
وأنخن األعور بن قطبة ،فحمل من المعركة ،فسأل حماله أن يريحه تحتها ح??تى إذا
بلغ إليها قال:
ُ
الدجنات من النخل سقتك الغوادي أيا نخلة بين العـذيب فـتـلـعة
صفحة 411 :
وأصبح الناس صبيحة? يوم القادسية ،وهي صبيحة ليلة الهري??ر وهي :تس??مى ليل??ة
وح? ّرض رؤس??اءالقادسية من تلك األيام ،والناس حيارى ولم يغمضو ليلتهم كلهاَ ،
القبائل عشائرهم ،واشتد الجالد إلى أن ج??اء وقت ال??زوال ،فك??ان أول منَ زال حين
قام قائم الظهيرة الهرمزان والنيرمران ،فتأخرا ،وثبت??ا حيث أنتهي??ا ،وانف??رج القلب
حين ق??ام ق??اف الظه??يرة ،وهبت ريح عاص??ف فقطعت طي??ارة رس??تم عن س??ريره،
فهوت في نهر العتيق والريح دَ ُبور ،فمال الغب??ار عليهم وانتهى القعق??اع وأص??حابه
إلي سرير رستم فعثروا به وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغ??ال
قد قدمت عليهم بمال يومئذ? فهي واقفة فاستظل في ظل بغ??ل منه??ا وحمل??ه وض??رب
هالل بن علقمة الحم??ل ال?ذي رس?تم في ظل??ه فقط?ع حبال?ه ،ووق??ع على رس??تم أح??د
العِدْ ا َل ْي ِن وال يراه هاللى وال يشعر ب??ه ،ف??أزال من ظهم فق??ارة وض??ربه? هالل ض??ربة
فنفخت مسكاً ،ومضى رستم إلى نحو نهر الع??تيق ف??رمى بنفس??ه في??ه ،واقتحم هالل
عليه فتناوله برجله ،ثم خرج به إلى الخندق وضربه? بالسيف حتى قتله ،ثم جاء به
يجره حتى رماه بين أرجل البغال وصعد السرير ون?ادى :قتلت رس?تم ورب الكعب?ة،
إلي ،فطاف به الناس ال يحس??ون الس??رير وال يرون??ه ،وتن??ادوا ،وتجبنت قل??وب إلي َّ َّ
المشركين عندها وانهزموا وأخذهم السيف ،فمن غري??ق وقتي??ل ،وق??د ك??ان ثالث??ون
ألف ?ا ً منهم َق َر ُن??وا أنفس??هم بعض??هم إلى بعض بالسالس??ل والحب??ال وتح??الفوا ب??النور
وبيوت النيران ال يبرحون حتى يقتحموا أو يقتلوا ،فجث??وا على ال??ركب ،وق??رع بين
أيديهم قناديل النشاب ،فقتل القوم جميعاً.
وق??د تن??وزع فيمن قت??ل رس??تم :ف??ذهب األك??ثر إلى أن قاتل??ه هالل بن علقم??ة من َت ْيم
الرباب على ما ق??دمنا ،ومنهم من رأى أن قاتل??ه رج??ل من ب??ني أس??د ،ول??ذلك يق??ول
شاعرهم في ذلك اليوم -وهو عمرو بن شاس األسدي -من أبيات:
وأخذ ضرار بن الخطاب في ذلك اليوم من فارس الرايه العظمى المقدم ذكره??ا أنه??ا
مرص ?عة بالي??اقوت واللؤل??ؤ
َّ من جل??ود النم??ور المعروف??ة بم??رفش كاوي??ان ،وك??انت
وأنواع الجواهر ،ف ُع ِّوض منها بثالثين ألفاً ،وكانت قيمتها الفى أل??ف وم??ائتي أل??ف،
وقتل في ذلك اليوم حول هذه الراية -غير ما ذكرنا من المق??رنين وغ??يرهم -عش??رةُ
آالفٍ.
أوالد عمر
وكان له من الولد :عبد هّللا ،وحفصة زوج الن??بي ص??لى هللا علي?ه وس??لم ،وعاص?م،
وعبي??د هّللا ،وزي??د ،من أًم ،وعب??د ال??رحمن ،وفاطم??ة ،وبن??ات آخ??ر ،وعب??د ال??رحمن
األصغر -وهو المحدود في الشراب ،وهو المعروف بأبي شحمة -من ام.
ورجعتم ،فتكلم المغيرة ،فحمد هللا وأثنى عليه ،ثم قال :إن??ا معش??ر الع??رب كن??ا أذلّ? ً
?ة
يطؤنا الناس وال نطؤهم ،ونأكل الكالب والجيف ،ثم إن هّللا تع?الى بعث من?ا نبي?ا ً في
شرف منا أوسطنا حسبا ً وأصدقنا حديثاً ،وبعث النبي صلى هللا علي??ه وس??لم ببعث??ه?،
وأخبرنا بأشياء وجدناها كما قال لن??ا ،وإن??ه وع??دنا فيم??ا وع??دنا ب??ه أن??ا س??نملك م??ا
هاهن??ا ونغلب علي??ه ،وإني أرى هاهن??ا هيئ??ة وب??زة م??ا َمنْ َخ ْلفِي بتاركه??ا ح??تى
ت فقع??دت م??ع العلج ِيز َك وو َث ْب َ?
يصيبوها أو يموتوا ?،فقالت لي نفسي :لوجمعت َج َزام َ
على س??ريره? ح??تى يتط??ير ،ق??ال :ف??وثبت وثب??ة ف??إذا أن??ا مع??ه على س??ريره ،فجعل??وا
سلكم ،وإن كنت قد يلكزونني بأرجلهم ويجذبونني بأيديهم .فقلت لهم :إنا ال نفعل ب ُر ُ
فجرت واستخففت فال تؤاخنوني ،فإن الرسل ال يصنع بها هكذا ،فقال الملك:
إن شئتم قطعنا إليكم وإن شئتم قطعتم إلينا ،قلت :بل نقط??ع إليكم ،فقطعن??ا إليهم،
حتى
قال :فتسللوا كل خمسة وستة حتى ال يفروا .فدنوا إليهم فضايقناهم ،فرشقونا َ
أشرعوا فينا ،فقال المغ??يرة للنعم??ان :إن??ه ق??د أش??رع في الن??اس وق??د جرح??وا ،فل??و
حملت ،فقال النعمان :إنك لذو مناقب ،وق??د ش??هدْ َت م??ع رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه
وسلم القتال ،وكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الري??اح
وينزل? النصر ،ثم قال :إنى هاز ل?وائي ثالث .م??رات ،فأم?ا أول ه??زة فليقض الرج??ل
حاجت??ه وليتوض??أ ،وأم??ا الثاني??ة فلينظ??ر الرج??ل إلى شِ ْس?معِه وليل??زم س??الحه ،ف??إذا
هززت الثالثة فاحملوا وال يلو َينَّ أحد على أحد ،وإن قتل النعمان ،وإني داع إلى هللا
بدعوة ،وأقسمت على كل أمرىء منكم لما أ َّمنَ عليه??ا ،وق??ال :اللهم ارزق النعم??ان
اليوم شهادة في نص??ر وفتح عليهم .ف?أمن الق??وم فه??ز ل??واءه ثالث?اً ،ثم أدنى درع??ه
وحمل ثم حمل الناس فكان أول صريع ،قال معقل :فأتيت علي??ه ف??ذكرت عزيمت??ه أال
وأم َع َنا القتل فيهم ،ووق??ع ذو الجن??احين
أقف عليه ،وأعلمت غلمانه ألعرف مكانهْ ،
عن بغل??ة ل??ه ش??هباء فانش??ق بطن??ه ،وفتح هللا على المس??لمين ،ف??أتيت إلى مك??ان
النعمان فصادفته وب??ه َر َم??ق ،فأتيت??ه ب??إداوة فغس??لت وجه??ه ،فق??الَ :منْ ه??ذا .قلت:
سار ،قال ما فعل هللا بالناس .قلت :فتح هللا عليهم ،قال :الحمد هللا كثيراً معقل ابن َي َ
اكتب??وا ب??ذلك إلى عم??ر ،وفاض??ت نفس??ه ،واجتم??ع الن??اس إلى األش??عث بن قيس،
وأرسلوا إلى أم ولده :هل عهد إليك النعمان عهداً له أم عندك كتاب.قالت :بل س??فط
فيه كتاب ،فأخرجوه فإذا فيه :إذا قتل النعمان ففالن وإن قتل فالن ففالن ،وإن قت??ل
فالن ففالن ،فامتثلوا ،وفتح هللا على المسلمين فتحا ً عظيمأ.
شهداء نهاوند
قال المسعودي رحمه هّللا :وهذه وقعة نهاوند ،وقد كان لألع?اجم فيه?ا جم?ع كث?ير
وقتل هنالك خلق كثير :منهم النعمان بن مقرن ،وعمرو بن معد يكرب ،وغيرهم??ا،
إلى هذا الوقت بينة معروفة على نحو فرسخ من نهاوند فيم??ا بينه??ا وبينوقبورهم ِ
ِّينو ِ?ر وقد أتينا على وصف هذه الواقعة فيما سلف من كتبنا.
الد َ
ويسأله عن الحرب
ثم سأله عن الحرب فقال :س??ألت عنه??ا خب??يراً ،هي وهّللا ي??ا أم??ير المؤم??نين م??رة
ش ًمرت عن ساق ،من ص??بر فيه??ا ظف??ر ،ومن ض??عف فيه??ا هل??ك ،ولق??د المذاق ،إذا َ
أحسن واصفها فأجاد:
تبدو بزينتها لـكـل جـهـول الحرب أول َ ماتـكـون فـتـية
عادت عجوزاً غير ذات حلـيل حتى إذا حميت و َ
ش َّب ضِ َر أمه ا
مكروهة للثـم والـتـقـبـيل شمطاء ُج َّز ْت رأسها وتنكـرت
ثم سأله عن السالح ،فأخبره بما عرف حتى بلغ السيف ،قال :هنالك قارعتك أمك
فعاله عمر الدرة ،وقال :بل أمك قارعتك عن ثكفها ،وهللا إني ألهم أن عن ثكلهاَ ،
أقطع لسانك ،فقال عمرو :ال ُح َّمى أضرعتني لك اليوم ،وخرج من عنده وهو يقول
:
بأنعـم عـيشة أو ذو ُن َـواس أتوعدني كـأنـك ذو ُر َعـ ْين
عظيم ظاهرم الجبروت قاس فكم قد كان قبلك من ملـيك
ين َّقل ُ من أناس فـي أنـاس فأصبح أهله بادوا ،وأمسـى
ـاس
شـ َم َ يصير مذلة بعد ال ِّ فل ايغررك ملكك ،كل ُّ ملك
قال :فاعتذر عمر إليه ،وقال :ما فعلت ما فعلته إال لتعلم أن اإلِس?الم أفض?ل وأع?ز
من الجاهلية ،وفضله على الوفد.
عمرو يحدث عمر عن فراره ذات مرة
وقد كان عمر آنس عمراً بعد ذلك ،وأقبل يسأله ويذاكره الحروب وأخبارها في
الجاهلية ،فقال له عمر :يا عمرو ،هل انصرفت عن ف??ارس ق??ط في الجاهلي??ة هيب??ة
له؛ قال :نعم ،وهّللا ما كنت أستحل الكذب فيِ الجاهلي??ة فكي??ف أس??تحله في اإلس??الم.
ألحدثنك ح?ديثا ً لم أح??دث ب??ه أح??داَ قبل??ك ،خ??رجت في جري??دة خي??ل لب??ني زبي??د أري??د
الغارة ،فأتينا قوما ً سراة .فقال عمر :وكيف ع??رفت أنهم س??راة؛ ق??ال :رأيت م??زاود
وقدوراً ُم ْك َفأة وقباب حمراً و َن َع َما ً كث??يراً وش??اء ،ق??ال عم??رو :ف??أهويت إلى أعظمه??ا
قبة بعدما حوينا الس??بي ،وك??ان متب??دداً من ال??بيوت ،وإذا ام??رأة بادي??ة الجم??ال على
فرش لها ،فلما نظرت إلي وإلى الخيل استعبرت ،فقلت :م??ا يبكي??ك .ق??الت :وهّللا م??ا
أبكي على نفس??ى ،ولك??ني أبكي حس??داً لبن??ات عمي َي ْس ? َلمن وأبتلي أن??ا من بينهن،
فظننت وهّللا أنه???ا ص???ادقة ،فقلت له???ا :وأين هُنَ ؛ ق???الت :في ه???ذا ال???وادي ،فقلت
ألصحابي :ال ُت ْحدِثوا شيئا ً حتى آتيكم ،ثم همزت فرسي حتى علوت كثيب ?اً ،ف??إذا أن??ا
بغالم أصهب الشعر أهذب أقنى أ َق َّب يخصف نعاله وسيفه بين يدي??ه وفرس??ه عن??ده،
ض َر غير مكترث ،فأخذ سالحه وأش??رف على أح َ
إلي َرمى النعل من يده ثم ْ فلما نظر َّ
ثنية ?،فلما نظر إلى الخيل محيطة ببيته ركب ثم أقبل نحوي وهو يقول:
حتى إذا َحل َّ بهـا َح َـواهَـا ثم حملمت عليه بالفرس فإذا هو أروغ من ه??ر ،ف??راغ
عني ،ثم حمل علي فضربني? بسيفه? ضربة? جرحتني ،فلما أفقت من ضربته? حملت
صفحة 417 :
عليه ،فراغ وهّللا ،ثم حمل علي ،تها صرعني ،ثم استاق ما في أيدينا ،ثم استويت
على فرسي ،فلما رأني أقبل وهو يقول:
وخير َمنْ ي ْمشِ ي بساق وقدم أنا عبيد هّللا محمود الشـيم
أنا ابن في اإلكليل َق َّتال ُ البـهـم أنا ابن في التقليد في الشهر األصم
أتركه لحما على ظهـر َوضـم من يلقني يودي كـمـا أودت أرم
وهللا عني ،ثم حمل علي فضربني? ضربة? أخرى ،ثم صرخة ص??رخة ،ورأيت ّ فراغ
الموت وهّللا يا أم??ير المؤم??نين ليس دون??ه ش??يء ،و ِخ ْفت??ه خوف?ا ً لم أخ??ف ق??ط أح??داً
علي أح??د ق??ط إال ع??امر بن هللا م??ا أج??ترأ َّ
مثله ،وقلت له :من أنت ثكلتك أم??ك ..ف??و ّ
لس? ِّن ِه وتجربت??ه فمن أنت .ق??ال :ب??ل َمنْ
الطفيل إلِعجابه بنفسه ?،وعم??رو بن كلث??وم ِ
أنت .خبرني وإاّل َ قتلتك ،قلت :أنا عمرو بن معد يكرب ،قال :وأن??ا ربيع??ه بن ُمك? َدم،
األع َج? ُز
قلت :أختر مني إحدى ثالث خصال :إن شئت اجتلدنا بس??يفينا ح??تى يم??وت ْ
ث وبقوم??ك إلي??ك الس ْلم ،وأنت يا ابن أخي َح? َد ٌمنا ،وإن شئت اصطرعنا ،وإن شئت ِّ
حاجة ،قال :بل هي إليك ،فاختر لنفسك ،واخترت الس??لم ،ثم ق??ال ان??زل عن فرس??ك،
ف عني حتى ن??زلت قلت :يا ابن أخي قد جرحتني? جراحتين وال نزول لي فوهّللا ما َك َّ
عن فرس??ي ،فأخ??ذ بعنان??ه ،ثم أخ??ذ بي??دي في ي??ده وانص??رفنا إلى الحي وأن??ا أج??رر
رجلي ،ح??تى طلعت علين??ا الخي??ل فلم??ا رأوني هم??زوا خي??ولهم إلي فن??اديتهم :إليكم
ش? ّقهم ،ثم أقب??ل علي فق??ال :ي??ا عم??رو، وأرادوا ربيعه ،فمضى وهللا كأنه ليث ح??تى َ
لع??ل أص??حابك يري??دون غ??ير ال??ذي تري??د ،فص? َم َت وهللاّ الق??و ُم م??ا فيهم أح??د ينط??ق،
وأعظم ما رأوا من??ه ،فقلت :ي??ا ربيع??ه بن ُم َك? دَّم ال يري??دون إال خ??يراً ،وإنم??ا س??مت
?ارس الع??ربِ،
ليعرفه القوم ،فقال لهم :ما تريدون .فقالوا :وما تري??د ?.ق??د ج??رحت ف? َ
وأخذت سيفه وفرسه ،ومضى ومضينا معه ،حتى نزل ،فق?امت إلي??ه ص??احبته وهي
وض? ِربت علين??ا قب??اب ،فلم??ا أمس??ينا ضاحكة تمس??ح وجه??ه ،ثم أم??ر بإب??ل فنح??رتُ ،
جاءت الرعاء ومعهم أفراس لربيعه لم أرى مثلها قط فلم??ا رأى نظ??ري إليه??ا ق??ال:
كيف ترى هذه الخيول .قلت :لم أرى مثلها قط ،قال :أما لو ك?ان عن?دي بعض?ها م?ا
فضحكت وما ينطق أحد من أصحابي ،فأقمنا عن??ده ي??ومين ُ لبثت في الدنيا إال قليأل،
ثم انصرفنا.
عمرو بن معد يكرب يغير على بني كنانة
قال :وقد كان عمرو بن معد يكرب بعد ذلك بزمان أغ??ار على كنان??ة في ص??ناديد
قومه ،فأخذ غنائمهم ،وأخذ ام??رأة ربيع?ه? بن ُم َك??دَّم ،فبل??غ ذل??ك ربيع??ه -وك??ان غ??ير
بعيد -فركب في الطلب على فرس ُع ْري ومعه رمح بال سنان حتى لحقه ،فلما نظ??ر
إليه قالَ :خل ِّ عن الظعينة? وما معك فلم يلتفت إليه ،ثم أعاد عليه ،فلم يلتفت إليه،
ب لفرسه،وجدتني ِبالسيف َه َّتا َك الحلق حتى إذا ظنَّ أنه خالطه السنان إذا هو َل َب ٌ
و َم َّر السنان على ظهر الفرس ،ثم وقف له عمرو ،فحمل عليه ربيعه? وهو يقول:
كم مِنْ ه َِز ْب ٍر قد رأني فانشدخ أنا الغالم ابن الكناني ال بـذخ
فقرع ب??الرمح رأس?ه ،ثم ق?ال :خ?ذها إلي?ك ي??ا عم??رو ،ول??وال أني أك??ره قت??ل مثل?ك
لقتلتك،
أح ُد َنا ،فق??ف لي ،فحم??ل علي??ه ح??تى إذا ظن أن??ه خالط??ه
فقال عمرو :ال ينصرف إال َ
السنان إذا هو ح َِزام لفرسه وم??ر الس??نان على ظه??ر الف??رس ثم حم??ل علي??ه ربيع??ه
فقرع بالرمح رأسه أيضاً،
وقال :خذها إليك يا عمرو ثانية ،وإنما العفو مرتان ،وصاحت به امرأته السنان هلل
درك ،فأخرج سنانا ً من سِ ْنخ? إزاره كأنه ش??علة ن? ٍ
?ار ،فركب??ه على رمح??ه ،فلم??ا نظ??ر
إليه عمرو ،وذكر طعنته? بال سنان
قال له عمرو :يا ربيعه? خذ الغنيمة،
دَع َها وا ْن ُج ،فقالت بنو زبيد أنترك غنيمتنا لهذا الغالم.
قالْ :
فقال لهم عمرو :يا بني زبيد ،وهّللا لقد رأيت الم?وت األحم??ر في س??نانه ،وس??معت
صريره في تركيبه?،
ِ
العرب أن قوما ً من بني زبيد فيهم عمرو بن معد يكرب ُ فقالت بنو زبيد :ال يتحدث
تركوا غنيمتهم لمثل هذا الغالم،
قال عمرو :إنه ال طاقة لكم به ،وما رأيت مثله قط ،فانصرفوا عن??ه ،وأخ??ذ ربيع?ه?
امرأته والغنيمة وعاد إلى قومه.
بوي??ع عثم??ان ي??وم الجمع??ة غ??رة المح??رم لليل??ة بقيت من في الحج??ة س??نة ثالث
وعشرين وقتل الثنتي عشرة ليلة مضت من في الحجة س??نة خمس وثالثين ،وقي??ل
غير ذلك مما سنورده بعد هذا الموضع إال أنه في في الحج??ة؛فجمي??ع م??ا ولي اثنت??ا
عشرة سنة إال ثماني?ة? أي?ام ،وقت?ل وه?و ابن اثن?تين وثم?انين س?نة ،ودفن بالمدين?ة?
بموضع? يعرف بحش كوكب وكانت خالفته رضي هّللا تعالى عنه اثنتي عش??رة س??نة
إال ثمانية? أيام.
صفاته
وكان عثمان في نهاية الج??ود والك??رم والس??ماحة والب??ذل في الق??ريب والبعي??د.
وتأس ْوا به في فعل?ه .وب?نى في?داره في َّ فسلك عمالُه وكثير من أهل عصره طريقته،
المدينة وشيدها بالحجر وال ِك ْلس ،وجعل أبوابها من الساج وال َع ْر َعر واقت??نى أم??واالً
وجنانا ً وعيونا ً بالمدينة.
ثروته
وذكر عبد هللا بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازن??ه من الم??ال خمس??ون
ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ،وقيمة ض??ياعه ب??وادي القُ? َ
?رى و ُح َن ْين وغيرهم??ا
مائة ألف دينار ،وخلف َخ ْيالً كثيراً وإبالً.
ُح َن ْيف على الخراج ،وعب??د هّللا بن مس??عود على بيت الم??ال ،وأم??ره أن يعلم الن??اس
القرآن ويفقههم في الدين وفرض لهم في كل يوم ش??اة ،فجع??ل ش??طرها وس??واقطها
لعمار بن ياسر والش?طر األخ?ر بين عب?د هّللا بن مس?عود وعثم?ان بن ح?نيف ،ف?أين
ُعمر ممم ذكرنا؛ وأين هو عما وصفنا..
عمال عثمان
وقدم على عثمان عمه الحكم بن أبي العاص وابنه مروان وغيرهما من بني? أمية-
والحكم هو طريد رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم ال??ذي َغ َّرب??ه عن المدين??ة ،ونف??اه
عن جواره -وكان عماله جماعة منهم الوليد بن عقب??ة بن أبي ُم َع ْي??ط على الكوف??ة،
وهو ممن أخبر النبي ص??لى هللا علي??ه وس??لم أن??ه من أه??ل الن??ار ،وعب??د هللاّ بن أبي
هللا بن ع??امر علىس? ْرح على مص??ر ،ومعاوي??ة بن أبي س??فيان على الش??ام ،وعب??د ّ َ
ف عن الكوفة الوليد بن ُع ْقبة ،ووالها سعيد بن العاص. ص َر َ
البصرة ،و َ
الوليد بن عقبة
وكان السبب في صرف الوليد بن عقبة ووالية سعيد -على ما روي -أن الوليد
بن عقب??ة ك??ان يش??رب م??ع ندمائ??ه ومغني ?ه? من أول اللي??ل إلى الص??باح ،فلم??ا آذن??ه
ضال في َغالئله ،فتقدَّ َم إلى المحراب في صالة الص??بح، المؤذنون بالصالة خرج متف ِّ
فصلى بهم أربعاً ،وقال :أتريحون أن أزيدكم .وقيل :إنه قال في سجوده وقد أط??ال:
أشرب واسقني ،فقال له بعض من كان خلفه في الصف األول :م??ا تزي??د الزادك هّللا
وهللا ال اعجب إال ممن بعثك إلينا واليا ً وعلين??ا أم??يراً ،وك??ان ه??ذا القائ??ل
ّ من الخير.
عتاب بن غيالن الثقفي.
وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد ،فدخل قصره يترنح ?،ويتمثل
ش ّراً: بأبيات لتأبط َ
وال بصفا صلد عن الخير معزل ولست بعيداً عـن مـدام و َقـ ْينة?
وأمشي? ال َمالَ بالساحب ولكنني أروي من الخمر هامتي
أح ُّ
ـق بـالـعـذر أن الوليد َ شهد الحطيئة يوم يلقى ربـه
يدري
ً أ أزيدكم َث ِمالً ومـا نادى وقد َت َف ْت صـالتـهـم
لقرنت بين الشفع والـوتـر ليزيدهم أخرى ،ولو قبـلـوا
َخلَّ ْوا عنانك لم تزل تجـري حبسوا عنانك في الصالة ،ولو
وأشاعوا بالكوفة فعله ،وظه??ر فس??قه ومداومت?ه? على ش??رب الخم??ر ،فهجم علي??ه
جماع???ة من المس???جد منهم أب???و زينب بن ع???وف األزدى وجن???دب زه???ير األزدي
وغيرهما ،فوجدوه سكران مضطجعا ً على سريره ال يعقل ،فأيقظوه من رقدته،
صفحة 422 :
فلم يستيقظ ،ثم تقايأ عليهم ما شرب من الخمر ،فانتزعوا خاتمه من ي??ده وخرج??وا
فو ِرهم إلى المدينة ،فأتوا عثمان بن عفان ،فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب من ْ
الخم??ر ،فاق?ال عثم??ان :وم??ا يريكم??ا أن?ه ش??رب خم??را .فق?اال :هي الخم?ر ال?تي كن?ا
فزج َرهم??ا ودف??ع في ص??دروهما، نشربها في الجاهلية ،وأخرجا خاتمه فدفعاه إلي??هَ ،
هّللا
تنح َي??ا ع??ني ،فخرج??ا من عن??ده وأتي??ا علي بن أبي ط??الب رض??ي عن??ه وق??الَّ :
وأخبراه بالقصة ،فأتى عثمان وهو يقول :دفعت الشهود ،وأبطلت الحدود ،فقال ل??ه
عثمان :فما ترى .قال :أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره فإن أقاما الشهادة عليه
في وجهه ولم يدْ َرأ عن نفسا بحج??ة أقمت علي??ه الح??د ،فلم??ا حض??ر الولي??د دعاهم??ا
عثمان :فأقاما الشهادة عليه ولم ُي?دل بحج?ة ف?ألقى عثم?ان الس?وط إلى علي ،فق?ال
علي البنه الحسن :قم يا بني ف??أقم علي??ه م??ا أوجب هللا علي??ه ،فق??ال :يكفيني??ه بعض
من ترى ،فلما نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد علي?ه َت َو ِّقي?ا ً لغض?ب عثم?ان
لقرابته منه? أخ??ذ علي الس??وط ودن??ا من??ه ،فلم??ا أقب??ل نح??وه س??به الولي??د ،وق??ال :ي??ا
صاحب مكس ،فقال عقيل بن أبي ط??الب وك??ان ممن حض??ر :إن??ك لتتكلم ي??ا ابن أبي
ص ? ّفورية ?-وهي قري??ة بين عك??اء ُم َع ْيط كأنك ال تحري من أنت ،وأنت علج من أهل َ
واللَّ ُجون ،من أعمال األردن ،من بالد طبرية ?،وكان ذكر أن أباه كان يهود َي? ا َ منه??ا-
فأقبل الوليد َيرو ُغ من علي ،فاجتذبه علي فضرب به األرض ،وعاله بالسوط ،فقال
عثمان :ليس لك أن تفعل به هذا ،قال :ب?ل وش??راً من ه?ذا إذا فس?ق ومن?ع ح?ق هللا
تعالى أن يؤخذ منه.
سعيد بن العاص
وولي الكوفة بعده سعيد بن العاص ،فلما دخل سعيد الكوفة وال َيا َ أبى أن يصعد
سل ،وأمر ب َغ ْسلِهِ ،وقال :إن الولي??د ك?ان نجس??أ رجس?اً ،فلم??ا أتص??لت المنبر حتى ُي ْغ َ
أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة ،فاستبد باألموال ،وق??ال في بعض األي??ام
أو كتب به عثمان :إنما هذا السواد قطين لقريش ،فقال ل??ه األش??تر ،وه??و مال??ك بن
الحارث النخعي :أتجعل ما أفاء هّللا علينا بظالل سيوفنا ومراكز رماحن??ا بس??تانا ً ل??ك
ولقومك .ثم خرج إلى عثمان في سبعين راكبا ً من أهل الكوفة ف??ذكروا س??وء س??يرة
سعيد بن العاص ،وسألوا َع ْز َله عنهم ،فمكث األشتر وأص??حابه أيام ?ا ً ال يخ??رج لهم
من عثمان في سعيد شيء ،وامتدت أي أمه م بالمدينة ?،وق??دم َع َلى عثم??ان أم??راؤه
س ? ْرح من مص??ر ومعاوي??ة من الش??ام هللا بن س??عد بن أبي َ من األمص??ار منهم عب??د ّ
وعبد هّللا بن عامر من البصرة وسعيد بن العاص من الكوفة ،فأقاموا بالمدينة? أياما ً
ال يردهم إلى أمصارهم ،وكراهة أن يرد سعيداً إلى الكوف??ة ،وك??ره أن يعزل??ه ،ح??تى
كتب إلي??ه َمنْ بأمص??ارهم َيش??كون ك??رة الخ??راج وتعطي??ل الثغ??ور ،فجمعهم عثم??ان
وقال :ما ترون .فقال معاوية ?:أما أنا فراض بي جندي ،وقال عبد هّللا بن ع??امر بن
كريز :ليكفك امرؤ م??ا قبل??ه ْأكفِ? َك م??ا قبلي ،وق??ال عب??د هللا بن س??عد بن أبي س??رح:
ليس بكثير عزل عامل للعامة وتولية غيره ،وق?ال س?عيد بن الع?اص :إن?ك إن فعلت
هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون ويعزلون ،وقد صاروا حلق ?ا ً في المس??جد ليس
لهم غير األحاديث والخوض ،فجهزهم في البعوث حتى يكون َه ُّم أحدهم أن يموت
صفحة 423 :
على ظهر دابته ،ق??ال :فس??مع مقالت??ه عم??رو بن الع??اص فخ??رج إلى المس??جد ،ف??إذا
طلحة والزبير? جالسان في ناحية منه ،فقاال له :تعالى إلينا ،فصار إليهما ،فقاال :م??ا
وراءك .قال :الشر ،ما ترك ش??يئا ً من المنك??ر إال أتى ب??ه وأم??ره ب??ه ،وج??اء األش??تر
فقاال له :إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البع??وث
وهللا لقد كنا نشكو سوء س??يرته? وم??ا قمن??ا في??ه خطب??اء، ّ وبكذا وبكذا ،فقال األشتر:
ت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته? إلى فكيف وقد قمنا وا ْي ُم هّللا على ذلك لوال أني أنفدْ ُ
الكوفة حتى أمنعه دخولها ،فقاال له :فعندنا حاجتك التي تق??وم ب??ك في س??فرك ق??ال:
فأسلفاني إذاً مائة ألف درهم ،ق??ال :فأس??لفه ك??ل واح??د منهم??ا خمس??ين أل??ف درهم،
فقسمها بين أصحابه ،وخرج إلى الكوفة فس??بق س??عيداً ،وص??عد المن??بر َ
وس?يفه? في
عنقه ما وضعه بعد ،ثم قال :أما بعد ،فإن عاملكم الذي أنكرتم تعدية وسوء س??يرته?
ق??د رد عليكم ،وأم??ر بتجه??يزكم في البع??وث ،فب??ايعوني على أن ال ي??دخلهاَ ،فبايع??ه
عشرة آالف من أهل الكوفة وخرج راكبا ً متخفيا ً يريد المدينة أو مك??ة ،فلقي س??عيداً
بواقصة فأخبره بالخبر ،فانصرف إلى المدينة ?،وكتب األش??تر إلى عثم??ان :أن??ا وهللا
ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ،ولكن لسوء سيرته? فينا وش??دة عذاب??ه،
ف??ابعث إلى عمل??ك َمنْ أحببت ،فكتب إليهم :انظ??روا من ك??ان ع??املكم أي??ام عم??ر بن
الخطاب فولوه ،فنظروا فإذا هو أبو موسى األشعري ،فو َل ْو ُه.
نفسك ،فأنكر علي??ه الولي? ُد ذل??ك ،وأراد أن َيقِي??دهُ ب??ه ،فمنعت??ه األزد ،فحبس??ه ،وأراد
قتله غيلة ،ونظر السجان إلى قيامة ليله إلى الصبح ،فقال له :ا ْن ُج بنفسك ،فقال ل??ه
جندبُ :ت ْقتل بي ،قال :ليس ذلك بكث??ير في مرض??اة هللا وال??دفع عن ولي من أولي??اء
هّللا فلما أصبح الوليد دعا به وق??د اس??تعد لقتل??ه فلم يج??ده ،فس??أل الس??جان ،ف??أخبره
بهربه ?،فضرب عنق السجان ،وصلبه با ْلكناسة.
أن يتجافاه الناس حتى يسير? إلى الربذة ،فلما طلع عن المدينة? ومروان يسير عنه??ا
طلع عليه علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه ومعه ابن??اهُ الحس??ن والحس??ين وعقي??ل
أخوه وعبد هّللا بن جعفر وعمار بن ياسر ،فاعترض مروان فقال :ي??ا على إن أم??ير
المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره? ويش??يعوه ،ف??إن كنت لم ت??در
ب??ذلك فق??د أعلمت??ك ،فحم??ل علي??ه علي بن أبي ط??الب بالس??وط وض??رب بين أذني
راحلت??ه ،وق??الَ :ت َن َّح نح??اك هّللا إلى الن??ار ،ومض??ى م??ع أبي ذر فش??يعه ثم و َّدع??ه
وانصرف ،فلما أراد علي االنصراف بكى أبو ذر ،وقال :رحمكم هّللا أه??ل ال??بيت ،إذا
رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فشكا م??روان
إلى عثمان ما فع??ل ب??ه علي بن أبي ط?الب ،فق?ال عثم?ان :ي?ا معش??ر المس?لمين من
وجهته له ،وفعل كذا ،وهللاّ لنعطين??ه حق??ه ،فلم??ا
يعذرني من علي :.رد َّرسولي عما َّ
رجع علي استقبله الناس ،فقالوا له :إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتش??ييعك أب??ا
ض َب الخيل على اللُّ ُجم.
ذر ،فقال عليَ :غ َ
فلما كان بالعشي جاء إلى عثمان ،فقال له :ما حملك على ما صنعت بمروأن ولم
علي ورددت رسولي وأمري ?.قال :أما مروان فإنه استقبلني يردني فرددته ً اجترأت
عن ردي ،وأما أمرك فلم أر َّد ُه ،قال عثمان :ألم يبلغك أني ق??د نهيت الن??اس من أبي
هللا والح??ق في
نر وعن تشييعه? فقال علي :أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة ّ
خالفه أتبعنا فيه أمرك .باهّلل ال نفعل ،قال عثمان :أقِدْ مروان ،قال :ومم أقيده .قال:
ض??ربت بين أذني راحلت??ه وش??تمته ،فه??و ش??اتمك وض??ارب بين أذني راحلت??ك ق??ال
علي :أما راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ض??ربت راحلت??ه فليفع??ل .وأم??ا
أنا فوهّللا لئن شتمني? الش?تم َّن َك أنت مثله??ا بم??ا ال أك??ذب في?ه وال أق??ول إال حق?اً .ق?ال
عثمان :ولم ال يشتمك إذا ش??تمته ?،هلل م??ا أنت عن??دى بأفض??ل منه؛ فغض??ب علي بن
أبي طالب وقال :ألي تقول هذا القول .وبمروان تعدلني .فأنا وهللا أفضل منك ،وأبى
أفضل من أبي??ك ،وامي أفض?ل من أم??ك ،وه??ذه َن ْبلِي ق?د َن َث ْل ُت َه??ا ،وه َلم فانث?ل بنبل?ك،
فغضب عثمان واحمر وجهه ،فقام ودخل داره ،وانص??رف? علي ،ف??اجتمع إلي??ه أه??ل
بيته،ورجال من المهاجرين واألنصار.
فلما كان من الغد واجتمع الن??اس إلى عثم??ان ش??كا إليهم علي?ا ً وق??ال :إن??ه يعيب??ني
و ُي َظاهر من يعيبني ?،يري??د ب??ذلك أب??ا ذر وعم??ار بن ياس??ر وغيرهم??ا ،ف??دخل الن??اس
بينهما حتى اصطلحا وقال له علي :وهللا ما أردت بتشييع? أبي ذر إال هللا تعالى.
عمار بن ياسر
وقد كان عمار حين بوي??ع عثم??ان بلغ??ه ق??ول أبي س??فيان ص??خر بن ح??رب في دار
عثمان عقيب الوقت الذي بويع في??ه عثم??ان ودخ??ل داره ومع??ه بن??و أمي??ة فق?ال أبى
سفيان :أفيكم أحد من غيركم .وقد كان عدي ،قالوا :ال ،قال يا ب??ني أمي??ةَ ،ت َل َقفُ ِو َه??ا
?يرنَ إلى تلقُ َ
ف الك??رة ،ف??وا ل??ذي يحل??ف ب??ه أب??و س??فيان م??ا زلت أرجوه??ا لكم ولتص? َ
صبيانكم وراثة ،فانتهره عثمان ،وساءه ما ق??ال ،ونمي ه??ذا الق??ول إلى المه??اجرين
واألنصار وغير ذلك الكالم فقام عمار في المسجد فقال :يا معشر قريش ،أما إذ
صفحة 426 :
ِن من أن صرفتم هذا األم??ر عن أه??ل بيت ن??بيكم ههن??ا م??رة وهن??ا م??رة فم??ا أن??ا ب??آم ٍ
ينزعه هللا منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهل??ه
وقام المقداد فقال :ما رأيت مثل ما أودى به أهل هذا البيت بعد نبيهم ،فقال له عب??د
الرحمن بن عوف :وما أنت وذاك يا مقداد بن عم??رو .فق??ال :إني وهّللا ألحبهم لحب
رسول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم إي??اهم ،وإن الح??ق معهم وفيهم ،ي??ا عب??د ال??رحمن
تطولُهم على الن?اس بفض?ل أه??ل ه??ذا ال??بيت -ق?د اجتمع?وا أعجب من قريش -وإنما ُ
على نزع سلطان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بع??ده من أي??ديهم أم??ا واليم هللا ي??ا
عبد الرحمن ل??و أج??د على ق??ريش أنص??اراً لق??اتلتهم كقت??الي إي??اهم م??ع الن??بي علي??ه
الصالة والسالم يوم بدر ،وجرى بينهم من الكالم خطب طوي??ل ق??د أتين??ا على ذك??ره
الشو َرى والدار.
َ في كتابنا أخبار الزمان في أخبار
يريدون قتله بعث بابنيه? الحسن والحسين م??ع موالي??ه بالس??الح إلى باب??ه لنص??رته،
وأم??رهم أن يمنع??وه منهم ،وبعث الزب??ير? ابن??ه عب??د هللا ،وبعث طلح??ة ابن??ه محم??داً،
وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم إقتداء بمن ذكرنا ،فصدُوهم عن ال??دار ،ف??رمى
بئ قنبر ،وج??رح محم??د بن من وصفنا بالسهام ،واشتبك القوم ،و ُجرح الحسن ،و ُ
ش َ
طلحة ،فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم وبنو أمية ،فتركوا القوم في القت??ال على
الب??اب ،ومض??ى نف??ر منهم إلى دار ق??وم من األنص??ار فتس? َّ?و ُروا عليه??ا ،وك??ان ممن
وص??ل إلي??ه محم??د بن أبي بك??ر ورجالن آخ??ران ،وعن??د عثم??ان زوجت??ه ،وأهُل??ه؛
ومواليه مشاغيل بالقتال ،فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته ،فقال :يا محم??د ،وهّللا ل??و
رآك أبوك لساءه مكانك فتراخت يده ،وخرج عنه إلى ال?دار ،ودخ??ل رجالن فوج??داه
فقتاله ،وكان المصحف بين يديه يقرأ فيه ،فصعدت امرأته فصرخت وقالت :قد قتل
أمير المؤمنين ،فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من ب??ني أمي??ة ،فوج??ده ق??د
فاضت نفسه رضي هللا عنه ،فبكوا ،فبلغ ذلك عليا ً وطلحة والزبير وسعداً وغ??يرهم
علي الدار ،وهو كالواله الحزين، ّ من المهاجرين واألنصار ،فاسترجع القوم ،ودخل
وقال البني??ه ?:كي?ف قت??ل أم??ير المؤم?نين وأنتم??ا على الب?اب .و َل َطم الحس?ن وض?رب
صدر الحسين ،وشتم محمد بن طلحة ،ولعن عبد هّللا بن الزبير ،فقال ل??ه طلح??ة :ال
?ع إليهم م??روان م??ا قت??ل ،وه??رب تض??رب أب??ا الحس??ن ،وال تش??تم ،وال تلعن ،ل??و دَ َف? َ
على لزوجت??ه نائل??ة
ِ مروان وغيره من بني أمية ،و ُطلِ ُبوا ليقتلوا فلم يوجدوا ،وق??ال
ت كنت معه .قالت :دخل إليه رجالن وقصت خبر محمد بنت الفراقصةَ :منْ قتله وأن ِ
وهللا لق?د دخلت علي?ه وأن?ا أري?د قتل?ه ،فلم?ا ّ بن أبي بكر ،فلم ينكر ما ق?الت ،وق?ال:
خرجت ،وال أعلم بتخلف الرجلين ع??ني ،وهّللا م??ا ك??ان لي في قتل??ه ْ خاطبني بما قال
من سبب ،ولقد قتل وأنا ال أعلم بقتله.
وكانت مدة ما حوصر عثمان في داره تسعا ً وأربعين يوماً ،وقيل :أكثر من ذلك.
مقتله وقتلته
وقتل في ليلة الجمعة لثالث بقين من في الحجة ،وذكر أن أحد الرجلين كنان?ة
??ران
بن بش??ر التجي??بي ?،ض??ربه? بعم??ود على جبهت??ه ،واألخ??ر منهم??ا س??عد بن ُح ْم َ
المرادى ،ضربه? بالسيف على حبل عاتقه َفحلَّه.
وقد قيل :إن عمرو بن الحمق طعنه بسهام تس??ع طعن??ات ،وك??ان فيمن م??ال علي??ه
عمير بن ضابىء البرجمي التميمي ،وخضخض سيفه في يطنه.
مدفنه
ودفن على م??ا وص??فنا في الموض??ع المع??روف بحش ك??وكب ،وه??ذا الموض??ع في??ه
مقابر بني أمية ،ويعرف أيضا ً بحلة ،وصلى علي??ه ُج َب??ير? بن مطعم وحكيم بن ح??زام
وأبو َج ْهم بن حذيفة.
ولما حوصر عثمان كان أبو أيوب األنص??اري رض??ي هّللا عن??ه يص?لّي بالن??اس ،ثم
امتنع ،فصلى بهم سهل بن ُح َن ْيف ،فلما كان يوم النح??ر ص ?لّى بهم علي ،وقي??ل :إن
عثمان قتل ومعه في الدار من بني أمية ثمانية? عشر رجال منهم مروان بن الحكيم.
صفحة 428 :
َ
الـــمـــوت وكـــانـــت والية األنـــصـــــــار خذ َلـ ْتـ ُه األنـصـار إذ حـضـــر
َمن َعذِيري من الزبير ومن طلحة إذ جاء أمر له مقدار
فتولى محمد بن أبي بكر عياناً ،وخلفه عمار في شعر له طويل يذكر فيه غير من
ذكرنا ،وينسبهم إلى التمالؤعلى قتله ،والرضا بما فُعل به ،وهّللا أعلم ،وكان حس??ان
عثمانيا ً منحرفا ً عن غيره ،وكان عثم??ان إلي??ه محس??ناً ،وه??و المتوع??د لألنص??ار في
قوله في شعره:
ما كان شأن علي وابن عفـانـا يا ل ْي َت شعري وليت الطير تخبرني
هّللا أكبر ،يا ثارات عـثـمـانـا َل َت ْس َم ُعنّ وشـيكـا فـي ديارهـ ُم
من الحرام ويبقى اإلثم والعار تفنى اللذافة ِم َّمنْ نال صفوتها
الخير في لذة من بعدها النار يلقى عواقب سوء من مغبتها
وكان الوليد بن عقبة بن أبي ُم َع ْيط أخا عثمان ل أمه ،فسمع في الليلة الثانية من
مقتل عثمان يندبه ،وهو يقول:
وهي أبي??ات :فأجاب??ه عن ه??ذا الش??عر ،وفيم??ا َر َمى ب??ه ب??ني هاش??م ونس??به إليهم،
الفضل ُ بن العباس بن عتبة بن أبي لهب فقال:
هللا :ولعثمان أخبار وسير ومآثر حسان ،قد أتينا على ذكرها قال المسعودي رحمه ّ
في كتابنا أخبار الزمان والكتاب األوس??ط ،وك??ذلك م??ا ك??ان في أي أم??ه من الك??وائن
وهللا ولي التوفي?ق ،وص?لى هّللا
ّ واألحداث والفت?وح والح?روب مث?ل ال?روم وغ?يرهم
علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
ه??و علي بن أبي ط??الب بن عب??د المطلب بن هاش??م بن عب??د من??اف ،ويك??نى أب??ا
الحسن ،و أمه فاطمة بنت أسد بن هاش??م بن عب??د من??اف ،ولم يكن من عه??د الن??بي
صلى هللا عليه وسلم إلى وقتنا هذا من خالف??ة المتقي ممن ولي الخالف??ة َم ِن اس??مه
علي غ??يره ،وغ?ير المكتفي باهّلل علي بن المعتض??د ،وك?ان أول َ من َو َل? َدهُ هاش??م َّيان
من الخلفاء ،وقد قيل :إنه بويع البيعة العامة بعد قتل عثمان بأربعة أيام ،وقد
صفحة 430 :
ذكرنا البيعة األولى فيما سلف من هذا الكتاب ،وتنازع الناس في اسم أبي طالب
وو َل ُد أبي طالب بن عبد المطلب أربعة ذك??ور وابنت??ان فط??الب وعقي??ل وجعف??ر
أبيهَ ،
وعلي وفاختة و ُج َمانة ألب وأم ،أمه م فاطمة بنت أس??د بن هاش??م ،وبين ك??ل واح??د
من البنين عشر سنين :فطالب األكبر وبين??ه وبين عقي??ل عش??ر س??نين ،وبين عقي??ل
ط?الب بن
َ ?رج مش?ركو ق?ريشوجعفر سنتان ،وبين جعفر وعلي عش??ر س??نين ،وأخ? ِ
أبي طالب يوم بدر إلى حرب رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم كره?اَ ،ومض??ى ولم
يعرف له خبر ،و ُح َ
فظ من قوله في هذا اليوم:
وكان زو َج فاختة بنت أبي طالب أبو َوهْ ب هبيرةُ بن عمرو بن عائد بن عمرو بن
مخزوم ،وخلف عليها ابنا ً وبنتاً ،وهاجرت ،ومات زوجه??ا بنج??ران مش??ركاً ،وفيه??ا
يقول ببالد نجران من أبيات كثيرة
:
كذاك النوى أسبابها وانتقالهـا شآ َك سؤالهـا. أشا َق ْت َك هند أم َ
بنجران يسري بعد نوم خيالُ َها وأر َقنِي في رأس حصن َّ
ممر ٍد َ
وقطعت األرحام منك حبالُها فإن تك قد تابعت دين محمـد
وهي طويلة ،وكانت تكنى أم هانىء ،وقد استعمل علي -حين أفضت الخالفة إليه-
اب َن َها جعدة بن هبيرة ،وجعدة هو القائل:
وجمانة بنت أبي طالب كان بعلها س??فيان بن الح??ارث بن عب??د المطلب ،وهي أول
هاشمية ول??دت لهاش??مي ،ك??ذلك ذك??ر الزب??ير بن بك??ار في كتاب??ه في أنس??اب ق??ريش
وأخبارها ،وهاجرت وماتت بالمدينة? في أيام النبي صلى هللا عليه وسلم.
وقيل :إنه بين خالفة علي إلى وقعة الجمل خمسة أش??هر وأح??د وعش??رون يوم?اً،
بين وقعة الجمل وأول الهجرة خمس وثالثون س??نة وخمس?ة? أش??هر وعش??رة أي??ام،
وبين ذلك وبين دخول علي إلى الكوف??ة ش??هر ،وبين ذل??ك وبين أول الهج??رة خمس
وثالثون س?نة وس?تة أش?هر وعش?رة أي?ام ،وبين دخ?ول علي والتقائ?ه م?ع معاوي?ة
للقتال بص ِّفينَ ستة أشهر وثالثة عشر يوما ،وبين ذلك وأول الهجرة ست وثالث??ون
سنة وثالثة عشر يوما.
التقاء الحكمين
وفي سنة? ثمان وثالثين كان التقاء الحكمين -وهما عمرو بن العاص وأبو موس??ى
األشعري -بأرض البلقاء من أرض دمشق ،وقيل :بحومة الجن??دل ،وهي على نح??و
عشرة أميال من دمشق ،وكان من أمرهما م??ا ق??د ش??هر ،وس??نورد في ه??ذا الكت??اب
جوامع ما ذكرنا ،وإن كنا قد أتينا على مبسوط ذلك فيما سلف من كتبنا.
ش َراةُ وكان ممن شهد صفين مع وفي هذه السنة حكمت الخوارج وتحكمت ،وهم ال ُ
علي من أص??حاب ب??در س??بعة وثم??انون رجالً :منهم س??بعة عش??ر من المه??اجرين،
وسبعون من األنصار ،وشهد معه من األنصار ممن ب??ايع تحت الش??جرة وهي بيع??ة
الرضوان من المهاجرين واألنص??ار من أص??حاب رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم
تسعمائة ،وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفينا وثمانمائة.
حربه مع الخوارج
ان من الخ??وارج ،وقع??د عن وفي سنة ثم??ان وثالثين ك??ان حرب??ه م??ع أه??ل ال َّن ْه? َ
?ر َو ِ
بيعته? جماعة عثمانية لم ي??روا إال الخ??روج عن األم??ر :منهم س??عد بن أبي وق??اص،
وعبد هّللا بن عمر ،وبايع يزي??د بع??د ذل??ك والحج??اج لعب??د المل??ك بن م??روان ،ومنهم
?ة بن مظع??ون ،وأهب??ان بن ص??يفي ،وعب??د هللا بن س??الم ،والمغ??يرة بن ش??عبة قُ َدا َم? ُ
الثقفي ،وممن اع???تزل من األنص???ار كعب بن مال???ك ،وحس???ان بن ث???ابت ،وكان???ا
ْ
األش? َهل ،ويزي??د شاعرين ،وأبو سعيد ال ُخدْ ِري ،ومحمد بن مسلمة حليف ب??ني عب??د
بن ثابت ،ورافع بن خديج ،ونعمإن بن بشير? و فص??الة بن عبي??د ،وكعب بن عج??رة
و َم ْس َلمة? بن خالد ،في آخرين ممن لم نذكرهم من العثماني??ة من األنص??ار وغ??يرهم
من بني أمية وسواهم.
س?م م??ا في بيت وانتزع علي أمالكا ً كان عثمان أقطعه??ا جماع? ً
?ة من لمس??لمين ،و َق َّ
ضلْ أحداً على أحد ،وبعثت أم حبيب??ة بنت أبي س??فيان إلى المال على الناس ،ولم ُي َف ِّ
مخض?با ً بدمائ??ه م??ع النعم??ان بن بش??ير? األنص??اري،
َّ أخيه??ا معاوي??ة بقميص عثم??ان
واتصلت بيعة علي بالكوفة وغيرها من األنصار ،وك??ان أه??ل الكوف??ة أس??رع إجاب??ة
على أهله??ا أب??و موس??ى األش??عري ،ح??تى تك??اثر الن??اس
ِ إلى بيعته ،وأخ??ذ ل??ه البيع??ة
عليه ،وكان عليها عامالَ لعثمان.
عمرو بن العاص
وقد كان عمرو بن العاص انحرف عن عثمان النحرافه عنه وتوليته? مصر غيره،
فنزل الشام ،فلما اتصل ب??ه أم?ر عثم?ان وم??ا ك?ان من بيع?ة علي ،كتب إلى معاوي??ة
يهز ه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان ،وكان فيما كتب به إليه :ما كنت صانعا ً إذا ُّ
قشرت من كل شيء تملكه فاصنع ما أنت ص??انع ،فبعث إلي??ه معاوي??ة ،فس??ار إلي??ه،
وهللا ال أعطيك من ديني حتى أنال من دنياك ،قال: ّ فقال له معاوية :بايعني ،قال :ال
سلْ ،قال :مصر ُط ْع َمة .فأجابه إلى ذلك ،وكتب له به كتاباً؛ وقال عم??رو بن الع?اص َ
في ذلك:
به منك دنيا؛ فا ْن ُظ َرنْ كيف تصنع? اوي ال أعطيك ديني ولم أ َنـل
ُم َع َ
أخذت بها شيخا ً يضر و ينـفـعَ افأر ِب ْح بصفقة?
فإن تعطني مصر ْ
المغيرة بن شعبة ينصح? عل َيا َ ثم يرجع
وأتى المغيرة بن شعبة علياً ،فقال له :إن لك حق الطاعة والنصيحة ?،وإن الرأي
?رر معاوي??ةاليوم تحوز به ما في غد ،وإن المضاع اليوم تض??يع ب??ه م??ا في غ??د ،أ ْق? ِ
على عمله ،وأقرر ابن عامر على عملِهِ ،وأقرر العمال على أعمالهم ،حتى إذا أتتك
طاعتهم وطاعة الجنود استبدلت أو تركت ،قال :حتى أنظر ،فخرج من عن??ده وع??اد
إليه من الغد ،فقال :إني أشرت عليك باألمس برأي وتعقبته برأي ،وإنما ال??رأي أن
تعاجلهم بال َّن ْزع فتعرف السامع من غيره وتستقبل? أمرك ،ثم خرج من عنده فتلقاه
صفحة 433 :
ابن عباس خارجا ً وهو داخل ،فلم??ا انتهى إلى علي ق??ال :رأيت المغ??يرة خارج?ا ً من
عندك ففيم جاءك .قال :جاءني أمس بكيت وكيت؛وجاءني اليوم ب?ذيت وذيت؛فق?ال:
ش?ك،ق?ال :فم?ا ال?رأي .ق?ال :ك?ان ال?رأي أن أما أمس فقد نصحك؛وأما الي?وم فق?د َغ َّ
تخرج حين قتل عثمان ،أو قبل ذلك ،فتأتي مكة فتدخل دارك فتغلق عليك با َب َك،ف??إن
ك??انت الع??رب مائل??ة مض??طرة في أث??رك ال تج??د غ??يرك،فأم??ا الي??وم ف??إن ب??ني? أمي??ة
ش? ُع َبة من ه??ذا األم??ر ،ويش??بهون? في??ك على الن??اس، سيحسنون الطلب بأن يلزموك ُ
وقال المغيرة :نصحته فلم يقبل ،فغششته ،وذكر أن??ه ق??ال :وهللاّ م??ا نص??حته قبله??ا،
وال أنصحه بعدها.
قال المسعودي :ووجدت في وجه آخر من الروايات أن ابن عباس قال :قدمت من
مكة بعد مقتل عثمان بخمس ليال ،فجئت عليا ً أدخل عليه ،فقيل لي :عن??ده المغ??يرة
بن شعبة ،فجلست بالباب ساعة ،فخ??رج المغ?يرة ،فس?لم علي ،وق?ال :م?تى ق?دمت.
علي وس??لمت علي??ه ،فق??ال :أين لقيت الزب??ير وطلح??ة. قلت :الس??اعة ،ودخلت على ّ
قلت :بالنواصب ،قال :و َمنْ معهما .قلت :أبو سعيد بن الح??ارث بن هش??ام في فتي??ة
من ق??ريش ،فق??ال علي :أم??ا إنهم لم يكن لهم بع??د أن يخرج??وا يقول??ون نطلب ب??دم
عثمان ،وهّللا يعلم أنهم َق َتلة عثمان ،فقلت :أخبرني عن شأن المغيرة ،ولم َخال ب??ك؛
أخلِنِي ،ففعلت ،فق??ال :إن النص??ح ق??ال :ج??اءني بع??د مقت??ل عثم??ان بي??ومين ،فق??الْ :
رخيص وأنت بقية الناس ،وأنا لك ناصح ،وأنا أشير عليك أن ال ترد عم??ال عثم??ان
عا َم َك هذا ،فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم ،فإذا بايعوا لك واطمأن أمرك ع??زلت
من أحببت وأقررت من أحببت ،فقلت له :وهّللا ال أداهن في ديني ،وال أعطي الرياء
في أمري ،قال :فإن كنت قد أتيت ف?انزع من ش??ئت وات?رك معاوي??ة ف?إن ل?ه ج?راءة
وهو في أهل الشام مسموع منه ،ول??ك حج??ة في إثبات??ه فق??د ك??ان عم??ر واله الش??ام
وهللا ال أس?تعمل معاوي?ة ي?ومين أب?داً ،فخ?رج من عن?دي على م?ا ّ كلها ،فقلت له :ال
أشار به ،ثم عاد ،فقال :إني أش??رت علي??ك بم??ا أش??رت ب??ه وأبيت علي ،فنظ??رت في
األمر ،وأذا أنت مصيب ال ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة ،وال يك??ون في??ه دلس??ة ،ق??ال
ش ?ك،ابن عباس :فقلت له :أما أول ما أشار به عليك فقد نصحك ،وأما األخر فقد َغ َّ
فعلي أن أقلع??ه من منزل??ه ،ق??ال :ال، َّ وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية فإن ب??ايع ل??ك
وهّللا ال أعطيه إال السيف ،ثم تمثل:
بعار ،إذا ما غالت ال َّن ْف َ
س غولُ َها َ فما مِي َت ٌة إنْ ُم ُّت َها غير عـاجـز
فقلت :يا أمير المؤمنين ،أنت رجل ش??جاع ،أم??ا س??معت رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه
وسلم يقول :الحرب ُخدْ َعة ؛ فقال علي :بلى ،قلت :أما وهّللا لئن أطعتني ألص??درن
بهم بعد ورود ،وألتركهم ينظرون في أدبار األمور ،وال يدرون ما كان وجهها ،من
غير نقص لك ،وال إثم عليك ،فقال لي :يا ابن عباس ،لست من هنيات??ك وال هني??ات
علي برأي ،فإذا عصيتك ْ
ف?أط ِعنِي ،فقلت أن?ا :أفع??ل ،ف?إنَّ معاوية في شيء تشير به َّ
س َر مالك عندي الطاعة ،وهّللا ولي التوفيق.
أ ْي َ
قلت :من ه??ذا .قي??ل :ه??ذا قيس بن س??عد بن عب??ادة في ع??دة من األنص??ار وأبن??ائهم
ش َهل َ ما رأينا أحسن من??ه ،علي??ه وغيرهم من قحطان ،ثم مر بنا فارس على فرس أ ْ
سدَ َل َها من بين يديه بلواء ،قلت :من ه??ذا .قي??ل :ه??و
ثياب بيض وعمامة سوداء قد َ
عبد هّللا بن العباس في وفده وعدة من أصحاب رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ،ثم
تاله موكب آخر فيه فارس أشبه بالناس باألولين ،قلت :من هذا .قيل :عبي??د هّللا بن
العباس ،ثم تاله موكب آخر فيه فارس أشبه الن?اس ب??األولين ،قلت :من ه?ذا قي??ل:.
ق َث م بن العباس ،أو معبد بن العباس ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً،
واش??تبكت الرم??اح ،ثم ورد م??وكب في??ه خل??ق من الن??اس عليهم الس??الح والحدي??د
مختلفو الريات في أوله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنما ُكسِ َر و ُج ِب َر قال ابن عائش??ة:
وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى األرض أكثر من نظره إلى فوق ،وكذلك
تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر وجبر كأنم??ا على رؤوس??هم
الطير ،وعن يمينه شاب حسن الوجه ،وعن يساره ش??اب حس??ن الوج??ه وبين يدي??ه
ش??اب مثلهم??ا قلت :من ه??ؤالء قي??ل :ه??ذا علي بن أبي ط??الب ،وه??ذان الحس??ن
والحسين عن يمينه? وشماله ،وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية ال ُع ْظمى،
وهذا الذي َخ ْلفه عبد هّللا بن جعفر بن أبي طالب ،وه??ؤالء ول??د َعقي??ل وغ??يرهم من
فتيان بني? هاشم ،وهؤالء المشايخ هم أهل بدر من المهاجرين واألنصار.
فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ،فصلى أربع ركعات ،وعفر خدي??ه
رب الس??موات وم??ا على التراب ،وقد خالط ذلك دموعه ،ثم رفع يدي ?ه? ي??دعو :اللهم َّ
أظلت ،واألرضين وما أقلت ،ورب العرش العظيم ،هذه البصرة أس??ألك من خيره??ا،
وأعوذ بك من شرها ،اللهم أنزلن??ا فيه??ا خ??ير م??نزل وأنت خ??ير الم??نزلين ،اللهم إن
??وا علي ونكث??وا بيع??تي ?،اللهم احقن دم??اء ه??ؤالء الق??وم ق??د خلع??وا ط??اعتيَ ،و َب َغ ْ
المسلمين.
وبعث إليهم من يناشدهم هللا في الدماء ،وقالَ :عال َم تقاتلونني .ف??أبوا إال الح??رب،
فبعث إليهم رجالً من أصحابه ُيقال له مسلم معه مص??حف ي??دعوهم إلى هّللا ،فرم??وه
بسهم فقتلوه ،فحمل إلى علي وقالت أمه:
ثم قام عمار بن ياسر بين الصفين فقال :أيها الناس ،ما أنصفتم ن??بيكم حين كففتم
عقائلكم في الخدور وأب??رزتم عقليت?ه? للس??يوف ،وعائش??ة على َج َم??ل في َه? ْ?ودج من
دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر ،وجعلوا دونه اللبود ،وقد غشي
صفحة 437 :
على ذلك بالدروع ،فدنا عم??ار من موض??عها ،فن??ادى :إلى م??اذا ت??دعين .ق??الت :إلى
الطلب بدم عثمان ،فقالَ :قا َت? ل َ هّللا في ه??ذا الي??وم الب??اغي والط??الب بغ??ير الح??ق ،ثم
قال :أيها الن??اس ،إنكم لتعلم??ون أين??ا ال??دم إلى في قت??ل عثم??ان .ثم أنش??أ يق??ول وق?د
شقُوه بالنبل:
َر َ
ومنك الرياح ،ومنك ال َم َطر فمنك البكاء ،ومنك العـويل
وقا ُتله عندنـا َمـنْ أمـر وأنت أ َم ْر َت بقتـل اإلمـام
وتواتر عليه الرمي واتصل ،فحرك فرسه ،وزال عن موضعه وأتى عليا ً
فقال :ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين -وليس لك عند القوم إال الحرب..
يوم اللقاء ،وكان غير مـسـدد َغ َدر َابن جرموز بفارس ُب ْهـ َم ٍة
الطائشا ً رعش الحنان وال الـيد يا عمرو ،لو َن َّبهته? لـوجـدتـه
َحلّ ْت عليك عقوبة المتـعـمـد ه َِب َل ْت َك إن قلت َلـ ًم ْ
ـسـلِـمـا ً
فيمن مضى ممن يروح ويغتدي ما إن رأيت والسمعت بمثـلـه
وأتى عمرو عليا ً بسيف الزبير وخاتمه ورأسه ،وقي?ل :إن?ه لم ي?أت برأس??ه ،فق?ال
?رب عن وج??ه رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،لكن??ه
علي :س??يف طالم??ا جال الك? َ
ا ْل َحينُ ومص??ارع الس??وء ،وقات ?ل ُ ابن ص??فية في الن??ار ،ففي ذل??ك يق??ول عم??رو بن
جرموز التميمي? في أبيات:
الوقعة في موضعه في شنطرة قرة ،فوقف عليه ،فقال :أن??ا هّلل وأن??ا إلي??ه راجع??ون،
وهللا كما قال القائل:
ّ وهّللا لقد كنت كارها ً لهذا أنت
إذا ما هو استغنى و ُيبعده الـفـقـر ف ًتى كان ُيدْ نيه الغنى من صـديقـه
وفي خده الشعرى ،وفي األخر شأن الثريا ُعلِّـقـت فـي يمـينـه?
وهو يمسح? عن جبينه ال ُغ َبار ويقول :ووكان أمر هّللا قدَراً مقدورا
قيل :إنه سمع وهو يقول هذا الشعر وقد َج َر َحه في جبهته عبد الملك رماه مروان
في أكحله وقد وقع صريعا ً يجود بنفسه.
رجمة طلحة
هّللا
وهو طلحة بن عبيد هللا بن عثمان بن عبيد بن عمرو بن كعب بن سعد بن َت ْيم
بن مرة ،وهو ابن عم أبي بكر الصديق ،ويكنى أبا محم??د ،و أم??ه الص??عبة ،وك??انت
َ
تحت أبي سفيان صخر بن حرب ،ك??ذلك ذك??ر الزب??ير? بن بك??ار في كتاب??ه في أنس??اب
قريش ،وقتل وهو ابن أربع وستين سنة ،وقيل غ??ير ذل??ك ،ودفن بالبص??رة ،وق??بره
ومسجده فيها مشهور? إلى هذه الغاية ،وقبر الزبير بوادي السباع.
وقد كان أصحاب الجمل حمل?وا على ميمن?ة? علي وميس?رته? فكش?فوها فأت?اه بعض
ف?ق نعاس?ا ً على َق َر ُب?وس س?رجه ،فق?ال ل?ه ي??ا عم??ر ،ق?د بلغت
وعلي َي ْخ ِ
ٌّ ول?د عقي??ل
ميمنتك وميس??رتك حيث ت??رى ،وأنت تخف??ق نعاس??ا .ق??ال :اس??كت ي??ا ابن أخي ،ف??إن
لعمك يوما ً ال يعدوه ،وهّللا ما يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الم??وت علي??ه ،ثم
بعث إلى ولده محمد بن الحنفية ،وكان صاحب رايته :أحمل على القوم فأبطأ محمد
صفحة 440 :
بحملته وكان بإزائه ق??وم من الرم??اة ينتظ??ر نف??اد س??ه أم??ه م ،فأت??اه علي فق?ال :ه??ا
حملت ،فقال :ال أحد متقدَّما ً إال على س??هم أو س??نان ،وإني منتظ?ر? َن َف??اد س??ه أم??ه م
وأحمل ،فقال له :احمل بين األسنة؛ فأن الموت عليك جنة ،فحمل محمد ،فش??ك بين
الرماح والنشاب فوقف ،فأتاه علي فضربه بقائم سيفه وقال :أدركك ع ِْرق من أمك،
وأخذ الراية وحمل ،وحمل الناس معه ،فما كان الق??وم إال كرم??اد اش??تدت ب??ه ال??ريح
في يوم عاصف ،وأطافت بنو ضبة بالجمل وأقبلوا يرتجزون ويقولون:
ننازل الموت إذا الموت نـزل نحن بنو ضبة أصحاب الجمـل
َن ْن َعى ا ْبنَ عفان بأطراف األسل ـجـلْ
ردُوا علينا شيخنـا ثـم َب َ
والموت أحلى عندنا من العسل وقط??ع علي خط?ام الجم??ل س??بعون ي??داً ،من ب??ني
ضبة? منهم سعد بن مود القاضي متقلداً مصحفاً ،كلما قطعت يد واح??د منهم ُ
فص ? ِرع
َّ
بالنش?اب والنب??ل ح??تى قام آخر أخذ الخطام وقال :أنا الغالم الضبي ،و ُرمي اله??ودج
صار كأنه قنفذ ،وعرقب الجمل وه??و ال يق??ع وق??د قطعت أعض?اؤه وأخذت??ه أس??يوف
حتى سقط ،و ُيقال :إن عبد هّللا بن الزبير قبض على خطام أجمل ،فصرخت عائشة-
وكانت خالته :-وا ُث ْكل َ أسماء ،خل ِّ الخطام ،ناشدته ،فخلّى عن??ه ،ولم??ا س??قط الجم??ل
ووق??ع اله??ودج ج??اء محم??د بن أبي بك??ر ،فأدخ??ل ي??ده فق??الت :من أنت .ق??ال :أق??رب
الناس منك قراب??ة ،أبغض?هم إلي??ك ،أن?ا محم??د أخ??وك ،يق?ول ل?ك أم??ير الم?ؤنين ه??ل
أصابك شيء قالت :ما أصابني إال سهم لم يض??رني ،فج??اء علي ح??تى وق??ف عيه?ا،
فضرب الهودج بقضيب ،وقال :يا ُحميراء ،رسول هللاّ صلى هللا علي??ه وس??لم أم??رك
بهذا ألم يأمرك أن تقري في بيتك وهللا ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم
وأبرزوك ،وأمر أخاها محمداً فأنزلها في دار صفية بنت الحارث بن طلح??ة العب??دي
وهي أم طلحة الطلحات ووقع اله??ودج والن??اس متفرق??ون يقتتل??ون ،والتقى األش??تر
مال??ك بن الح??ارث النخعي وعب??د هللا بن الزب??ير فاعترك??ا وس??قطا على األرض عن
فرسيهما وطال اعتراكهما على وجه األرض ،فعاله األشتر ولم يجد سبيالً إلى قتل??ه
لشدة اضطرابه من تحته والناس حولهما يجولون ،وابن الزبير ينادي:
فال يسمعه أحد لشدة الجالد واقتلوا مالكا معي اقتلوني ومالـكـا ً
ف نفسي على ربيعه ربيعه السامعة المطيعه وخرجت امرأة من عب??د القيس يا َل ْه َ
تطوف في القتلى ،فوجدت اب??نين له??ا ق??د قتال ،وق??د ك?ان ُق ِت?ل َ زوجه??ا وأخ??وان له?ا
فيمن قتل قبل مجيء علي البصرة ،فأنشأت تقول:
فقلت :سبحان هّللا أتقول هذا عند الموت .ق??ل ال إل? َه إال هّللا ،فق??ال :ي??ا ابن ال َّل ْخ َن??اء،
ت عنه متعجبا ً منه ،فصاح بي ادْ نُ م??نى ولق??ني إياي تأمر بالجزع عند الموت .فولَّ ْي ُ
الشهادة ،فصرت إليه ،فلما قربت منه اس??تدناني ،ثم التقم أذني ف??ذهب به??ا ،فجعلت
ألعنه وأدعو عليه ،فقال :إذا صرت إلى أمك فقالت َمنْ فعل هذا ب?ك .فق?ل عم?ير بن
األهلب الضبي مخدوع المرأة التي أرادت أن تكون أمير المؤمنين.
اليوم خمس??ة االف نفس ومن أص??حاب الجم??ل وغ??يرهم من أه??ل البص??رة وغ??يرهم
ثالثة عشر ألفاً ،وقيل غير ذلك.
علي على عب?د ال?رحمن بن عت?اب بن أس?يد بن أبي العيص بن أمي?ة وه?و ٌّ ووقف
وب ق??ريش ،قتلت الغط??اريف من ب??ني? عب??د س? َقتيل يوم الجمل فقال :لهفي علي??ك َي ْع ُ
مناف ،ش َفيت نفسي وجدعت أنفي ،فقال له األشتر :ما أشد َج َز َع? َك عليهم ي??ا أم??ير
المؤمنين وقد أرادوا بك ما نزل بهم فق??ال :إن??ه ق??امت ع??ني وعنهم نس??وة لم يقمن
عنك وقد كان َق َت َل ُه في ذلك اليوم األشتر النخعي وأصيب كف ابن عتاب بم ًنى وقي??ل
ش?ه عب?د ال?رحمن بن عت?اب وك?ان الي?وم ال?ذي باليمامة ألقتها ُع َقاب وفيها خاتم َن ْق ُ
وجد فيه الكف بعد يوم الجمل بثالثة أيام.
ودخل علي بيت مال البصرة في جماعة من المه??اجرين واألنص??ار ،فنظ??ر إلى م??ا
فيه من العين والورق فجع?ل يق?ول :ي?ا ص?فراءُ ،غ?ري غ?يري وي?ا بيض?اء ،غ?ري
غ??يري وأدام النظ??ر إلى الم??ال مفك??راً ،ثم ق??ال :أقس??موه بين أص??حابي ومن معي
خمسمائة? خمسمائة ،ففعلوا فما نقص درهم واحد ،وعدد الرجال اثنا عشر ألفا ً.
وقبض م??ا ك??ان في معس??كرهم من س??الح وداب??ة ومت??اع وآل??ة وغ??ير ذل??ك فباع??ه
وقسمه بين أصحابه ،وأخذ لنفسه كما أخذ لكل واحد ممن معه من أص??حابه وأهل??ه
وولده خمسمائة درهم ،فأتاه رجل من أصحابه فقال :يا أمير المؤم??نين إني لم آخ??ذ
شيئاً ،وخلفني عن الحضور كذا ،وأدْ لى بعذر ،فأعطاه الخمسمائة? التي كانت له.
وقيل ألبي َلبيد الجهضمي من األزد :أتحب عليا .ق??ال :وكي??ف أحب رجالً قت??ل من
قومي في بعض ي??وم ألفين وخمس??مائة ?،وقت??ل من الن??اس ح??تى لم يكن أح??د يع??زي
أحداً ،واشتغل أهل كل بيت بمن لهم.
مسيره إلى الكوفة
وولّى علي على البصرة عبد هللا بن عباس ،وسار إلى الكوفة ،فكان دخوله إليه??ا
ألثن???تي? عش???رة ليل???ة مض???ت من رجب؛ وبعث إلى األش???عث بن قيس يعزل???ه عن
أذربيجان وأرمينية ،وكان عامالً لعثمان عليها ،وصرف عن همدان جري??ر بن عب??د
هّللا البجلي ،وك?ان ع?امالً لعثم?ان ،فك?ان في نفس األش??عث على ّ
علي م??ا ذكرن?ا من
العزل ،وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من األموال.
فأشار إليه عمرو بالبعث إلى وجوه الشام وأن ُي ْل ِزم علي ?ا ً دم عثم??ان ،ويقاتل??ه بهم؛
فقدم جرير على علي فأخبره خبرهم ،واجتماع أهل الش??ام م??ع معاوي??ة على قتال??ه،
وأنهم يبكون على عثمان ويقولون :إن عليا ً قتل?ه ،واوى قتلت??ه ومن??ع منهم ،وإنهم
ال ُبدَّ لهم من قتاله حتى يفن??وه أو يف??نيهم ،فق??ال األش??تر :ق??د كنت أخبرت??ك ي??ا أم??ير
المؤمنين بعداوته وغشه ،ولو بعثتني لكنت خيراً من هذا ال?ذي أرخى خناق?ه وأق?ام
حتى لم يدع بابا ً نرجو روحه إال فتحه ،وال بابا ً يخاف منه? إال أغلق??ه ،فق??ال جري??ر:
لو كنت ثم لقتلوك ،وهللا لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان ،قال األشتر :لو أتيتهم وهللا
ي??ا جري??ر لم ُي ْع ِي ِني? ج??وابهم ،وال ثق??ل علي خط??ابهم ،ولحملت معاوي??ة على خط??ة
أعج ْل ُته فيه??ا عن الفك??ر ،ول??و أط??اعني أم??ير المؤم??نين في??ك لحبس??ك وأش??باهك في
محبس فال تخرجون منه? حيت يستقيم? هذا األمر.
فخرج جرير عن??د ذل??ك إلي بالد قرقيس??يا والرحب??ه من ش??اطئ الف??رات ،وكتب إلى
أح ًّب مجاورته والمقام في داره ،فكتب إليه معاوي??ة معاوية يعلمه بما نزل به ،وأنه َ
يأمره بالمسير إليه.
بين المغيرة ومعاوية
ص َرف? علي من الجم??ل ،وقب??ل ش ْعبة الثقفي -عند م ْن َ
وبعث معاوية إلى المغيرة بن ُ
مسيره? إلى صِ َفينَ -بكتاب يقول فيه :لقد ظهر من رأي ابن أبي طالب ما ك??ان تق??دم
وعده لك في طلحة والزبير ،فما الذي بقي من رأيه فينا .وذل??ك أن المغ??يرة بن من ْ
الناس عليا ً دخل عليه المغيرة فقال :يا أمير المؤم??نين?، ُ شعبة لما قتل عثمان وبايع
إن لك عندي نص??يحة ?،فق??ال :وم??ا هي .ق??ال :إن أردت أن يس??تقيم? ل??ك م??ا أنت في??ه
فاستعمل طلحة بن عبيد هّللا على الكوفة ،والزب??ير بن الع??وام على البص??رة ،وابعث
إلى معاوي??ة بع??ده َع َلى الش??ام ح??تى تلزم??ه طاعت??ك ،ف??إذا اس??تقر قراره??ا رأيت في??ه
رأيك ،قال :أما طلحة والزبير فس?أرى رأي فيهم??ا ،وأم??ا معاوي??ة فال وهّللا ال ي??راني
هّللا أستعين به ما دام على حاله أبداً ،ولكني أدعوه إلى ما عرفت??ه ،ف??إن أج??اب وإال
حاكمته إلى هللا ،فانصرف المغيرة مغضبا ً وقال:
قال المسعودي رحمه هّللا :وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب ما كان من المغيرة
مع علي ،وما أشار به ،وهذا أحد الوجوه المروية في ذلك.
فهذه جوام??ع م??ا ُي ْح َت??اج إلي??ه من أخب??ار ي??وم الجم??ل وم??ا ك??ان في??ه ،دون اإلكث??ار
والتطويل وتكرار األسانيد في ذلك وهللا ولي التوفيق.
عدد جيشه
وقد تنوزع في مقدأرما كان معه من الجيش ،فمكثر و مقلل ،والمتف??ق علي??ه من
قول الجميع تسعون ألفاً ،وقال رجل من أصحاب علي لما اس??تقروا مم??ا يلي الش??ام
من أبيات كتب بها إلى معاوية حيث يقول:
جيش معاوية
وسار معاوية من الشام ،وقد تنوزع في مقدار من ك??ان مع??ه أيض?ا ً فك??ثر ومقل??ل،
والمتف??ق علي??ه من ق??ول الجمي??ع خمس وثم??انون أل َف ?اَ ،فس??بق عل ّي ? ا ً إلى ِ
ص ?فينَ ،
وعس??كر في موض??ع س??هل أ ْف َي َح اخت??اره قب??ل ق??دوم علي ،على ش??ريع ٍة لم يكن على
الفرات في ذلك الموضع أسهل منها لل?وارد إلي الم?اء ،وم?ا ع?داها أخ?راق عالي?ة،
ومواضع إلى الماء َو ْعرة ،ووك??ل أب??ا األع??ور الس??لمي بالش??ريعة م??ع أربعين ألف?اً،
علي وجيشه في البر عطاشا ً قد حيل بينهم وبين ال??ورود ٌّ وكان على مقدمته ،وبات
إلى الماء فقال عمرو بن العاص لمعاوي?ة ?:إن علي?ا ً ال يم?وت عطش?ا ً ه?و وتس?عون
َع ُهم يش??ربون? ونش??رب ،فق??ال عواتقهم ،ولكن د ْ
ِ ألفا ً من أهل العراق وسيوفهم على
معاوي?ة :ال وهّللا يموت?وا عطش?ا َ كم?ا م?ات عثم?ان ،وخ?رج علي ي?دور في عس?كره
بالليل .فسمع قائالً وهو يقول:
ِي وأتى َعلِ ّيا ً رض??ي هّللا عن??ه ،فق??ال ل??ه :أخ??رج في أربع??ة آالف من
فلما قرأها َحم َ
الخيل حتى تهجم بهم في وسط عسكر معاوية فتشرب وتستقي? أصحابك أو تموت??وا
ور َّجال??ة ورا َء َك ،س?ار األش??عث في أربع??ة
?تر في خي??ل َ
س? ّير? األش? َ
عن أخركم ،وأنا ُم َ
آالف من الخيل وهو يقول مرتجزاً:
علي رضي هّللا عنه وراء األشتر بب??اقي الجيش ،ومض??ى األش??عث فم??ا رد ثم سار ّ
على عسكر معاوية ،فأزال أب??ا األع??ور عن الش??ريعةَ ،و َغ? َّ
?ر َق ِ َو ْج َهه أحد حتى هجم
منهم بشراً وخيالَ ،وأورد خيله الفرات ،وذل??ك أن األش??عث داخلت??ه الحمي??ة في ه??ذا
الي??وم ،وك??ان يق??دم رمح??ه ثم يحث أص??حابه فق??ول :ازحم??وهم مق??دار ه??ذا ال??رمح،
فيزيلوهم عن ذلك المكان ،فبلغ ذلك من فعل األشعث عل ّياً ،فقال :هذا الي??وم نص??رنا
فيه بالحمية ?،وفي ذلك يقول رجل من أهل العراق:
وارتحل معاوية عن الموضع ،وورد األشتر ،وقد كشف األشعث القوم عن الم??اء،
وأزالهم عن مواضعهم ،وورد علي فنزل في الموضع الذي ك??ان في??ه معاوي??ة فق??ال
معاوية لعمرو بن العاص :يا أبا عبد هّللا ،ما ظنك بالرجل أتراه يمنعنا الم??اء لمنعن??ا
البرنائية عن الماء ،فقال له عمرو: إياه .وقد كان انحاز بأهل الشام إلى ،ناحية في َ
ال ،إن الرجل جاء لغير هذا ،وإنه ال يرض??ى ح??تى ت??دخل في طاعت??ه أو يقط??ع حب??ل
عاتقك ،فأرسل إليه معاوية يستأذنه في وروده مشرعته? واستقاء الناس من طريقه
علي كل مل أسأل وطلب منه. ٌّ ودخول رسله في عسكره ،فأباحه
مبدأ الحرب
علي إلى أه??ل ٌّ ولم??ا ك??ان في الي??وم األخ??ر من المح??رم قب??ل غ??روب الش??مس بعث
الشام :إني قد احتججت عليكم بكتاب هّللا ،ودعوتكم إليه ،وإني ق??د نب??ذت إليكم على
س َواء ،إن هّللا ال يهدى كيد الخائنين ،فلم يردوا عليه جوابا ً إالَّ الس??يف بينن??ا وبين??كَ
أو يهلك األعجز منا.
وأصبح علي يوم األربعاء -وكان أول يوم من صفر -فعبأ الجيش ،وأخرج األش??تر
ح?بيب بن َ تصاف أه?ل الش?ام وأه?ل الع?راق-
َّ أمام الناس ،وأخرج إليه معاوية -وقد
مس??لمة الفه??ري ،وك??ان بينهم قت??ال ش??ديد س??ائر ي??ومهم ،وأس??فرت عن قتلى من
الفريقين جميعاً ،وانصرفوا.
فلما ك?ان ي?وم الخميس -وه??و الي?وم الث?اني -أخ??رج علي هاش?م بن عتب??ة بن أبي
وقاص الزهري الم ِْر َقال ،وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص ،وإنم??ا س??مي الم ِْر َق??ال َ
ألنه كان يرقل في الحرب ،وكان أعور ذهبت عينه يوم ال??يرموك ،وك??ان من ش??يعة
علي ،وقد أتينا على خبره في اليوم الذي ذهبت في??ه عين??ه ،وحس??ن بالئ??ه في ذل??ك
الس ? َلمياليوم ،في الكتاب األوسط في فتوح الشام ،فأخرج إليه معاوية أب??ا األع??ور ُ
وهو سفيان بن عوف وكان من شيعة معاوية والمنح??رفين عن علي ،فك??انت بينهم?
الحرب سِ َجاالً ،وانصرفوا في آخر يومهم عن قتلى كثير.
وأخرج علي في اليوم الثالث -وهو يوم الجمعة -أب??ا اليقظ??ان عم??ار بن ياس??ر في
عدة من البدريين وغيرهم من المهاجرين واألنصار فيمن تسرع منعهم من الناس،
وأخرج إليه معاوية عمرو بن العاص في َت ُنو َخ و َب ْه َراء وغيرهما من أهل الشام،
صفحة 448 :
فكانت بينهم سجاالً إلى الظهر ،ثم حمل عم??ار بن ياس??ر فيمن ذكرن??ا ،ف??أزال عم??راً
عن موض??عه وألحق??ه بعس??كر معاوي??ة ،وأس??فرت عن قتلى كث??يرة من أه??ل الش??ام
ودونهم من أهل العراق.
وأخرج علي في اليوم الرابع -وهو يوم السبت -ابنه محمد بن الحنفية في َه ْم َدان
?ف مع??ه من الن??اس ،ف??أخرج إلي??ه معاوي??ة عبي??د هللا بن عم??ر بنوغيره??ا ممن خ? َّ
َ
الخطاب في حمير و ْل َخم و ُجذام ،وقد كان عبيد هللا بن عمر لحق بمعاوي??ة خوف?ا ً من
علي أن يقيدة بالهرمزان -وذلك أن أب??ا لؤل??ؤة غالم المغ??يرة بن ش??عبة قات??ل عم??ر،
وكان في أرض العجم غالما ً للهرمزان ،فلما قُتل عمر ش َد عبيد هللا َع َلى الهرم??زان
فقتله ،وقال :ال أترك بالمدينة فارسيا ً وال في غيرها إال قتلته بأبي ،وكان الهرمزان
عليالً في الوقت الذي قتل فيه عمر -فلم??ا ص??ارت الخالف??ة إلى ّ
علي أراد قت??ل عبي??د
هللا بن عمر بالهرمزان لقتله إياه ظلم?ا ً من غ??ير س??بب اس??تحقه فلج??أ إلى معاوي??ة،
فاقتتلوا في ذلك اليوم ،وكانت َع َلى أهل الشام ،ونجا ابن عمر في اخر النهار هربا ً.
علي في اليوم الخامس -وهو يوم األحد -عبد هللا بن العباس ف??أخرج إلي??ه ّ وأخرج
معاوية الولي?د بن عقب?ة بن أبي ُم َع ْي?ط ،ف?اقتتلوا ،وأك?ثر الولي?د من س?ب ب?ني عب?د
المطلب بن هاشم ،فقاتله ابن عباس قتاالً شديداً ،وناده ابرز إلي يا ص??فوان ،وك?ان
الغ َلبة البن عباس ،وكان يوما ًصعبا ً. َل َق َب الوليد ،وكانت َ
وأخرج علي في اليوم السادس -وهو يوم االثنين -سعيد بن قيس الهمداني ،وه??و
سيد همدان يومئذ ،ف?أخرج إلي??ه معاوي??ة ذا ال َكالَع ،وك??ان بينهم??ا إلى أخ??ر النه?ار،
وأسفرت عن قتلى ،وانصرف الفريقان جميعا.
?ع وغ??يرهم،علي في الي??وم الس??ابع -وه??و ي??وم الثالث??اء -األش??تر في النخ? َ
وأخرج ّ
فأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرى ،فكانت الح??رب بينهم س??جاالً ،وص??بر
كال الفريقين وتكافئوا وتواقفوا للموت ثم انصر الفريقان وأسفرت عن قتلى منهما،
والجراح في أهل الشام أعم.
قال ابن عباس :رأيت في هذا الي??وم عل َي? ا َ وعلي??ه عمام??ة بيض??اء ،وك??انَ عيني?ه?
سليطٍ ،وهو يقف على طوائف الناس في مراتبهم يحثهم و يحرض??هم ،ح??تى سراجا َ
انتهى إلي وأنا في كثيف من الناس ،فقال :ي??ا معش??ر المس??لمين ،عم??وا األص??وات،
السلة ،والحظوا وأك ِم لوا األمة ،واستشعروا الخشية ،أقلقوا السيوف في أجفان قبل َّ ْ
ش ْزر ،واطعنوا لهبره ،ونافخوا بالظباء ،وصلوا السيوف بالخط والنبال بالرم??اح، ال َّ
طيبوا عن أنفسكم أنفساً ،ف??إنكم بعين هللا ،وم??ع ابن عم رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه
?ر ،فإن??ه ع??ا ٌر في األعق??اب ،ون??ا ٌر ي??وم الحس??اب
لكر ،واستقبحوا الف? َّ
وسلم ،عاودوا َّ
ودونكم هذا السواد األعظم ،والرواق ال ُم َط َّنب ،فاضربوا َن ْه َجه ،فإن الشيطان راكب
وأخ َر للنكوص رجأل ،فصبراً جميالً صعيده ،مفترش ذراعيه ،قد َقدَّ م للوثبة يداً َّ
صفحة 449 :
حتى تنجلي عن وجه الحق ،وأنتم األعلون وهّللا معم ولن َيت َِركم أعمالكم.
وتقدم علي للحرب على بغلة رس??ول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم َّ
الش? ْه َباء ،وخ??رج
ُمعاوية في عدد أهل الشام ،فانصرفوا عند المساء وكل ٌّ غير ظافر.
علي ،وخ??رج معاوي??ة ،فتتل??وا إلىوخرج في الي??وم التاس??ع -وه??و ي??وم الخميسّ -
ضحوة من النهار ،وبرز أمام الناس عبيد هّللا بن عم??ر بن لخط??اب في أربع??ة آالف
من الخضرية معممين بشقاق الحرير األخضر مقدمين للموت يطلبون ب??دم عثم??ان،
وابن عمر يقدمهم وهو يقوك:
خير قريش َمنْ مضى ومن َغ َب ْر أنا ُع َبيد هّللا َي ْنـمِـينـي ُعـ َمـر
مضرقد أبطأت في نصر عثمان َ غير نبي? هّللا والـشـيخ األغـر
ْوالربعيون ،فال اسقوا المطـر فناداه علي :ويحك يا ابن عمر ،عالم تقاتلني .وهللاّ
لو كان أبوك حيا ً ما قاتلني ،قال ،أط??الب ب??دم عثم??ان ،ق??ال :أنت تطلب ب??دم عثم??ان
ش َت َر النخعي بالخروج إلي??ه فخ??رج األش??تر
علي األ ْ
ّ وهللا يطلبك بدم الهرمزان ،وأمر
ّ
إليه وهو يقول:
ًّ
العراقي الذكر إني أنا األفعى إني أنا األشتر معروف السـير
لكنني من َم ْذحِج ال??بيض الغ??رر َ
لست من الحي ربيع أو مضر
هللا ولم يبارزه ،وكثرت القتلى يومئذ.
فانصرف عنه عبيد ّ
عمار بن ياسر
وق??ال عم??ار بن ياس??ر :إني ألرى وج??وه ق??وم ال يزال??ون يق??اتلون ح??تى يرت??اب
س َع َفات ه ََجر لكنا على الحق وكانوا على المبطلون ،وهّللا لو هزمونا حتى يبلغوا بنا َ
الباطل.
رجع إلى موضعه فاستسقى ،فأتته امرأة نس??اء ب??ني? ش??يبان ٍ وتقدم عمار فقاتل ثم
عس فيه لبن ،فدفعته إليه ،فقال :هللا أكبر هّللا أكبر ،اليوم ألقى األحب??ة
من مصافهم ُب ّ
ت في??ه،تحت األسنة ،صدق الصادق ،وبذلك أخبرني? الناطق ،وهو اليوم الذي ُو ِع? دْ ُ
هللا تحت العوالي .وال??ذي نفس??ي بي??ده لنق??اتلنهمثم قال :أيها الناس ،من رائح إلى ّ
على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله ،وتقدم وهو يقول:
الحق إلى سبيله فتوسط القوم ،واشتبكت عليه األسنة ?،فقتله أبو العادية ُّ يرجع
َ أو
س َلبه،فاحتكما إلى عبد هّللا بن عم??رو بنالعاملي وابن جون السكسكي ،واختلفا في َ
العاص ،فقال لمهما :أخرجا ع??ني ،ف??إني س??معت رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم
يقول ،أو قال رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم وولعت قريش بعمار ما لهم
صفحة 450 :
ولعمار ي?دعوهم إلى جن?ة ويدعون?ه إلى الن?ار وك?ان قتل?ه عن?د المس?اء ول?ه ثالث
علي عليه السالم ولم يغسله ،وك?ان يغ?ير وتسعون سنة ،قبره بصفين وصلى عليه ّ
شيبه .قد تنوزع في نسبه فمن الناس من ألحقه ببني? مخ??زوم ،ومنهم من رأى أن??ه
من ُخ َل َفائهم ،ومنهم من رأى غير ذلك ،وقد أتينا على خبره في كتاب أخ??ر األخب??ار
وطرائف اآلثار عند ذكرنا االشتراط الخمسين الذين بايعوا عل ّي ? ا ً على الم??وت ،وفي
قتله يقول الحجاج ابن ُع َزية? األنصاري أبياتا ً َر َثاه بها:
َقدْ هَا َج ُح ْزنِي أبو اليقظان َع َّمار يا ل َل ِّر َجال لعين ْ
دم ُع َهـا جـاري
يدعو السكون وللجيشين إعصار أبـوح َّـوا فـوارسـه
َ أهوى إليه
وج َب ْت فينا له النـار
للرمح ،قد َ فاختل َّ صدر أبي اليقظان معترضا
ـت بـذلـك آيات وآثــار أ َت ْ هللا عن جمعهم الشك كان َع َفـا
على األسرة لم تمسسهم النـار من ينزع هّللا غال من صدورهم
سيطت لحومه ُم بالبغي ،فُ َّجـار قال النبي له تقتـلـك شـرذمة
أصحاب تلك وفيها النار والعار فاليوم يعرف أهل الشام أنـهـم
ولما صرع عمار تقدم سعيد بن قيس الهمداني في هم??دان ،وتق??دم قيس بن س??عد
بن عبادة األنصاري في األنصار وربيعه ،وعدي بن حاتم في طيى وس??عيد بن قيس
الهمداني في أول الناس ،فخلطوا الجمع بالجمع ،واشت َّد القتال وحطمت همدان أهل
ص? َم َد فيمن ك?ان مع??ه لس??يعيد بن الشام حتى قذفتهم إلى معاوية ،وقد ك?ان معاوي??ة َ
علي األش??تر أن يتق??دم ب??اللواء إلى أه??ل حمص قيس ومن مع??ه من هم??دان ،وأم??ر ّ
وغ??يرهم من أه??ل قنس??رين ،ف??أكثر القت??ل في أه??ل حمص وقنس??رين بمن مع??ه من
القراء ،وأ ْبلى الم ِْر َقال يومئذ بمن معه فال يق??وم ل??ه ش??يء ،وجع??ل يرق?ل كم?ا يرق?ل
وعلي وراءه يق??ول ل??ه :ي??ا أع??ور ،ال تكن جبان?اً ،تق??دم ،والم ِْر َق??ال ُّ الفحل في قي??ده،
يقول:
أعور يبغي أهله محـل قد أكثر القو ُم ومـا أ َقـاّل َ
ال ب َد أنْ َيفُـل َّ ْأو ُي َفـاّل ا قد عالج الحياة حتى َماّل
شال ثم صمد هاش??م بن عتب??ة الم ِْرق??ال ل??ذي ال َكالَع وه??و فيشلُّ ُه ْم بذي الكعوب َ
أ ُ
حمير ،فحمل عليه صاحب لواء ذي ال َكالع ،وكان رجال من ُع ْذ َرة وهو يقول:
نحن اليمانيون ما فينا ضـجـر ِي مضرأثبت فإني لست من َفرع ْ
ينعى ابن عفان و َي ْلحى من غدر كيف ترى وقع غالم من عـذر
سيان عندي من سعى ومن أمر يا أعور العين رمى فيها العـور
والر ْوح والزيحان عند ذلك ووقف علي رضي هّللا عنه عند مصرع الم ِْر َقال و َمنْ ّ
وترح َم عليهم ،وقال من أبيات:
َّ صرع حوله من اإلسالميين وغيرهم ،فدعا لهم
ص ِّر ُعوا حول هاشم صباح الوجوه ُ جزى هّللا خيراً عصبة أسلـمـية
وسفيان وابنا هاشم ذي المـكـأرم يزيد وعبد هّللا بشر بن مـعـبـد
اخ ُترطت يوما ً خفاف الصوأرم إذا ْ وعروة ال ينـ َفـدْ ثـنـاه وذكـره
التمشي في الرعيل األولْ فقتل ثم قتل عبد الرحمن أخوه بعده ،فيمن ذكرنا من
َ ثم
خزاعة.
ولما رأى معاوية القتل في أهل الشام وك َل َب أهل العراق عليهم استدعى بالنعمان
ابن َج َبلة التنوخي -وكان صاحب راية قومه في تنوخ و َب ْه َراء -وقال له لق??د هممت
أو أولي قومك من هو خير منك مقدماً ،وأنصح منك ديناً ،فقال له النعم??ان :آن??ا ل??و
بعض األن??اة فكي??ف ونحن ُ كنا ندعو قومنا إلى جيش مجموع لكان في كسع الرج??ال
وهللا لق??د
ّ ندعوهم إلى سيوف قاطعة ،و ُر َد ْيني?ة? ش??اجرة ،وق??وم ذوي بص??ائر ناف??ذة،
ت ملكك على ديني ،وت??ركت له??واك الرش??د وآن??ا أعرف??ه، نصحتك على نفسي ،وآ َث ْر ُ
ت لرش??د حين أقات??ل على ملك??ك ابن ع ّم ت عن الح??ق وأن??ا أبص??ره ،وم??ا ُو ِّف ْق ُو ِج??دْ ُ
رسول هّللا صلى هللا علي?ه وس?لم وأول م?ؤمن ب?ه ومه?اجر مع?ه ،ول?و أعطين?اه م?ا
أعطيناك لكان أرأف بالرعية ،وأجزل في العطية ،ولكن قد ب??ذلنا ذل??ك األم??ر وال ب??د
من أتم أمه كان غي?ا ً أو رش??داً ،وحاش??ا أن يك??ون رش??داً وس??نقاتل عن تين الغوط??ة
وزيتونها إذ حرمنا أثمار الجنة وأنهارها ،وخرج إلى قومه ،وصمد إلى الحرب.
ولما قتل عمار ومن ذكرنا في هذا الي??وم ح??رض علي علي??ه الس??الم الن??اس وق??ال
لربيعه :أنتم درعي ورمحي ،فانتدب له م??ا بين عش??رة آالف إلى أك??ثر من ذل??ك من
وعلي أم أم??ه م على البغل??ة
ٌّ ربيع??ه وغ??يرهم ،ق??د ج??ادوا بأنفس??هم هللا ع??ز وج??ل،
الشهباء ،وهو يقول:
وحملوا معه حملة رجل واحد ،فلم يبق ألهلي الشام صف إال انتفض ،وأهمدوا كل
ما أتوا عليه ،حتى أتوا إلى قبة معاوية ،وعلي ال يمر بفارس إال َق َّده وهو يقول:
األخ َزر َالعين العظيم الحاويه
ْ أضربهم وال أرى مـعـاويه
تهوي به في النار أم الهويه
ثم نادى علي :يا معاوية ،عالم يقتل الناس بيني وبين??ك .هلم أحاكم??ك إلى هّللا فآين??ا
قتل صاحبه استقامت له األُمور،
فقال له عمرو :قد أنصفك الرجل،
فقال له معاوية :ما أنصفت ،وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رج??ك ق??ط إال قتل??ه أو أس??ره،
فقال له عمرو :وما يحمل بك إال مبارزته،
وح َق َدها عليه.
فقال له معاوية :طمعت فيها بعديَ ،
وقد قيل في بعض الروايات :إن معاوية أقسم على عمر ولم??ا أش??ار علي??ه به??ذا أن
يبرز? إلى علي ،فلم يجد عم??رو من ذل?ك ب??داً ،ف??برز ،فلم??ا التقي??ا عرف??ه علي وش??ال
?رهٌ أخ??وك ال بط??ل فح??ولالسيف ليضربه به ،فكشف عمرو عن عورت??ه ،وق??الُ :م ْك? َ
علي وجهه عنه،
ٌّ
وقال :قبحت ورجع عمرو إلى مصافه.
وقد ذكر هشام بن محمد الكلبي عن الشرقي بن القطامي أن معاوية ق??ال لعم??رو
بعد انقضاء الحرب :هل غششتني? منذ نصحتني .قال :ال ،قال :بلى وهّللا يوم أ َ
ش ْر َت
علي بارزة علي وأنت تعلم ما هو ،قال :دعاك إلى المبارزة فكنت من مبارزته على
إح??دى الحس??نيين :إم??ا أن تقتل??ه فتك??ون ق??د قتلت قات??ل األق??ران وت??زداد ش??رفا ً إلى
شرفك ،وإما أن يقتل??ك فتك??ون ق?د اس??تعجلت مرافق??ة الش??هداء والص??الحين وحس??ن
أولئك رفيقاً ،فقال معاوية :يا عمرو ،الثانية من األولى.
وكان في هذا اليوم من القتال ما لم يكن قبل ،ووجدت في بعض النسخ من أخب??ار
صفين أن هاشما ً الم ِْر َقال لما وقع إلى األرض وه??و يج??ود بنفس?ه? رف??ع رأس??ه ف??إذا
عبيد هّللا بن عمر مطروحا ً إلى قربه جريحاً ،فحبا حتى دنا منه ،فلم يزل يعض
صفحة 454 :
على ثدييه? حتى ثبتت فيه أسنانه لعدم السالح والق?وة ،ألن?ه أص?يب فوق?ه ميت?ا ً ه?و
ورجل من بكم بن وائل ،قد َز َح َفا إلى عبيد هّللا جميعا ً فنهشاه ،وانص??رف الق??وم إلى
مواضعهم ،وخرج كل فريق منهم يحملون ما أمكن قتالهم.
الموضع الذي ك??انت ميمنت?ه? في??ه ،فنظ??ر
ِ ومر معاوية في خواص من أصحابه في
إلى عبد هّللا بن بديل بن ورقاء الخزاعي ف َع ّفراَ بدمائه ،وقد كان على ميس??رة علي،
فحمل على ميمنة معاوية فأصيب على م?ا ق?دمتا آنف?اً ،ف?أراد معاوي??ة أن يمث?ل? ب??ه،
فقال له عبد هّللا بن عامر وكان صديقا ً البن بديل :وهللا ال تركتك وإياه ،فوهب??ه ل??ه،
فغطاه بعمامته وحمل?ه ف?واراه ،فق?ال ل?ه معاوي?ة :ق?د وهللا واريت كبش?ا ً من كب?اش
القوم وسيداً من سادات خزاعة غير مدافع ،وهّللا لو ظفرت بنا خزاعة ألكلونا ،ولو
أنا من َج ْن َدل ،دون هذا الكبش ،وأنشأ يقول متمثالً:
ش َّمرت يوما ً به الحـرب شـ ّمـرا وإن َ عضت به الحرب عضهاأخو الحرب إن َّ
رمته? المنايا قصـدهـا فـتـ َقـ َّط َ
ـرا كليث ه َِز ْب ٍـر كـان يحـمـي ذِمـاره
ونظر على إلى غسان في مصافهم ال يزولون ،فحرض أصحابه عليهم ،وقال :إن
هوالء لن يزل?وا على م?وقفهم دون طعن يح?رج من?ه النس?يم ،وض?رب يفل?ق اله?ام
ويص ُّج العظام ،وتسقط منه? المعاصم واألك??ف ،ح??تى تش??دخ جب??اههم ُب ُعم??د الحدي??د،
وتنت??ثر لممهم على الص??دور واألذق??ان ،أين أه??ل الص??بر وطالب األج??ر .فث?اب إلي??ه
عصابة من المسلمين من سائر الناس ،فدعا ابنه محمداً ،ف??دفع إلي??ه الراي??ة وق??ال:
امش بها نحو ه??ذه الراي??ة مش??يا ً روي??داً ،ح??تى إذا أش??رعت في ص??دورهم الرم??اح، ْ
علي ومع??ه الحس??ن والحس??ين وش??يوخ ب??در ٌّ فأمسك حتى يأتيك أمري ،ففعك ،وأتاه
وغيرهم من الصحابة ،وقد َك ْردس الخيل ،فحمل??وا على غس??ان ومن يليه??ا ،فقتل??وا
منها بشراً كثيراً ،وعادت الحرب في أخ??ر النه??ار كحاله??ا في أول??ه ،وحملت ميمن??ة
معاوي??ة وفيه??ا عش??رة االف من م??ذحج وعش??رون ألف ?ا ً مقنع??ون في الحدي??د على
ميس??رة? علي ،ف??اقتطعوا أل??ف ف??ارس ،فانت??دب من أص??حاب علي عب??د العزي??ز بن
هللا ركنك سِ ْر حتى تنتهي إلى لعلي :مرني? بأمرك ،فقالَ :
ش َّد ّ ٍّ الحارث الجعفي ،وقال
إخواننا المحاط بهم ،وقل لهم :يقول لكم علي :كبروا ثم احملوا ونحمل حتى نلتقي،
فحمل الجعفي ،فطعن في عرضهم حتى انتهى إليهم ،فأخبرهم بمقالة علي ،فكبروا،
وش? َد ُخوا س??بعمائة? من أه??ل الش??ام؛ وقت??ل حوش??ب ذو ثم ش??دوا ح??تى ال َت َق? ْ?وا بعليَ ،
ظليم ،وهو كبش من كباش اليمن من أهل الشام ،وكان على راي??ة ُذهْ ? ل بن ش??يبان
ض? ْينُ بن المن?ذر بن الح?ارث بن وعل?ة ال?ذهلي ،وفي?ه يق?ول وغيرها من ربيعه ال ُح َ
علي في هذا اليوم:
ض? ْينُ تق??دما ليل??ة الهرير ف??أمره
?دم َها ُح َ
س?وداء يخف??ق ظله??اإذا قلت ق? ْ لمن راي??ة َ
وج َنهم اللي?ل ،وتن?ادوابالتقدم ،واختلط الناس ،وبط?ل النب?ل ،واس?تعملت الس?يوفَ ،
?ارس ويقع??ان
الفارس الف? َ
ُ بالشعار ،وتقصفت الرماح ،وتكالم دم القوم ،وكان يعتنق
جميع?ا ً إلى األرض عن فرس??يهما ،وك??انت ليل??ة الجمع??ة -وهي ليل??ة الهري??ر -فك??ان
علي بكفه في يومه? وليلته خمسمائة وثالثة وعشرين رجالً أكثرهم جملة من َق َتل َ ُّ
صفحة 455 :
في اليوم ،وذلك أنه كان إذا قتل رجالً كبر إذا ضرب ،ولم يكن يضرب إال قتل ،ذك??ر
ذلك عنه َمنْ كان يليه في حربه ،وال يفارقه من ولده وغيرهم.
وأص??بح الق??وم على قت??الهم ،وكس??فت الش??مس ،وارتف??ع ال َق َت??ام ،وتقطعت األلوي??ة
والرايات ولم يعرفوا مواقيت الصالة ،وغدا األشتر يرتجز وهو يقول:
فلما رأى كثير من أهل العراق ذل??ك ق??الوا :نجيب إلى كت??اب هّللا و ُننِيب? إلي??هَ ،
وأح َّب
هللا فاقب??ل
القوم الموادعة ،وقيل لعلي :قد أعطاك معاوية الح??ق ،ودع??اك إلى كت??اب ّ
منه ?،وكان أشدهم في ذلك اليوم األشعث بن قيس ،فق?ال علي :أيه?ا الن?اس ،إن?ه لم
يزل من أمركم ما أحب حتى قرحتكم الح??رب ،وق??د وهّللا أخ??ذت منكم وت??ركت ،وإني
كنت باألمس أميراً فأصبحت الي??وم م??أموراً ،وق??د أحببتم البق??اء ،فق??ال الألش??تر :إن
هللا الخلف ،ولو ك??ان ل??ه مث??ل رجال??ك لم??ا ف له من رجاله ،ولك بحمد ّ معاوية ال َخ َل َ
كان له مثل صبرك وال نصرك ،فاقرع الحديد بالحدي??د واس??تعن باهّلل ،وتكلَّم رؤس??اء
علي بنحو من كالم األشتر ،فقال األشعث بن قيس :أنا ذل??ك الي??وم على م??ا أصحاب ّ
ك َّنا عليه أمس ،ولسنا ندرى ما يكون غ??داً ،وق??د وهّللا ُف?ل َّ الحدي??د ،و َك َفت البص??ائر،
وتكلم معه غيره بكالم كثير ،فقال علي :ويحكم إنهم ما رفعوه??ا ألنكم تعلمونه??ا وال
يعلمون بها ،وما رفعوها لكم إال خديعة ودهاء و َمكِيدة ،فقالوا له :إنه ما يس??عنا أن
ُن??دْ َعى إلى كت??اب هّللا فان??أ بي أن نقبل??ه ،فق??ال :ويحكم إنم??ا ق??اتلتهم لي??دينوا بحكم
ص ُوا هّللا فيما أمرهم به ،ونبذوا كتابه ،فا ْمضوا على حقكم وقصدكم، الكتاب ،فقد َع َ
صفحة 456 :
وحبيب بن مسلمة? ِ وخذوا في قتال عدوكم،فإن معاوية وابن العاص وابن أبي ُم َع ْيط
ف بهم وابن النابغة وع?دداً غ?ير ه?ؤالء ليس?وا بأص?حاب دين وال ق?رآن ،وأن?ا ْ
أع? َر ُ
منكم؛ صحبتهم أطفاال ًو رجاالً ،فهم شر أطفال و رجال ،وجرى له مع الق??وم خطب
ص َنع? به م??ا ص??نع بعثم??ان ،وق??ال األش??عث :إن طويل قد أتينا ببعضه ،وتهددوه أن ُي ْ
ت معاوية فسألته ما يري??د ،ق??ال :ذل??ك إلي??ك فآ ِت? ِه إن ش??ئت ،فأت??اه األش??عثشئت أ َت ْي ُ
نرجع نحن وأنتم إلى كتاب هللا ،وإلى ما أمر به في كتاب??ه?: ِ فسأله ،فقال له معاوية:
تبعث??ون منكم رجالَ ترض??ونه وتختارون??ه ،ونبعث برج??ل ،ونأخ??ذ عليهم??ا العه??د
والميثاق أن يعمال بم??ا في كت??اب هللا وال يخرج??ا عن??ه ،وننق??اد جميع??أ إلى م??ا اتفق??ا
فص َؤ َب األشعث قول??ه ،وانص??رف إلى علي ،ف??أخبره ذل??ك ،فق??ال عليه من حكم هللاَ ،
أكثر الناس :رضينا وقبلنا وسمعنا وأطعنا ،فاخت??ار أه??ل الش??ام عم??رو بن الع??اص،
وق??ال األش??عث ومن ارت??د بع??د ذل??ك إلى رأي الخ??ؤارج :رض??ينا نحن ب??أبي موس??ى
األشعري ،فقال على :قد عص??يتموني? في أول ه??ذا األم??ر فال تعص??وني اآلن ،إني ال
أرى أن أولي أب??ا موس??ى األش??عري ،فق??ال األش??عث ومن مع??ه :ال نرض??ى إال ب??أبي
وخ? َذل الن??اس م??ني وفع??ل موسى األشعري ،قال :ويحكم هو ليس بثقة :قد ف??ارقني َ
كذا وكذا ،وذكر أشياء فعلها أبو موسى ،ثم إنه هرب شهوراً حتى أمنت??ه ،لكن ه??ذا
ض??ريان، عبد هللا بن عباس َأولٌيه ذلك ،فقال األشعث وأصحابه ?:وهللا ال يحكم فينا ُم َ
علي :فاألشتر ،قالوا :وهل هاج هذا األم??ر إال األش??تر ،ق??ال :فاص??نعوا اآلن م??ا قال ّ
أردتم ،وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه ،فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا له القصة ،وقيل
ألبي موسى :إن الناس قد اص??طلحوا ،فق??ال :الحم??د هللا ،قي??ل :وق??د جعل??وك حكم?اً،
قال :إنا هلل و إنا إليه راجعون.
وص? َّي ُروا األج??ل إلى ش??هر رمض??ان علىفإن لم تحكما بما في كتاب فال حكم لكم??اَ ،
اجتم??اع الحكمين في موض??ع بين الكوف??ة والش??ام ،وك??ان ال??وقت ال??ذي كتبت في??ه
الصحيفة أليام بقين من صفر سنة سبع وثالثين ،وقيل :بعد أهذا الشهر منها ،و ًم ّر
األشعث بالصحيفة يقرؤها على الناس فرحا ً مس??رورا ،حتم انتهى إلى مجلس لب??ني
تميم ،في???ه جماع???ة من زعم???ائهم ،منهم ع???روة بن أدي???ة تميم ،وه???و أخ???و بالل
الخارجي ،فقرأها عليهم ،فج??رى بين األش??عث وبين أن??اس منهم خطب طوي??ل ،وإن
األشعث كان بدء هذا األمر والم??انع لهم من قت??ال ع??دوهم ح??تى يف??يئوا إال إلى أم??ر
وأمره ونهيه? الرج??ال .ال حكم إال
ِ هللاّ ،وقال له عروة بن أدَية ?:أتحكمون في دين هللاّ
هلل ،فكان أول َ من قالها وحكم بها ،وقد تنوزع في ذل?ك ،وش?د بس?يفه? على األش??عث ّ
فضم فرسه عن الضربة فوقعت في عجز الفرس ونجا األشعث ،وكادت العصبية أن
تقع بين النزارية واليمانية ?،لوال اختالف كلمتهم في الديانة والتحكيم.
وفي فعل عروة بن أدَ ية باألشعث يقول رجل من بني تميم في أبيات:
وأما الهيثم بن عدي ا َلطائي وغيره مثل الشرقي بن القطامي وأبي مخنف لوط بن
يحيى فذكروا ما قدمنا ،وهو أن جملة من قتل من الفريقين جميعا ً سبعون ألف?اً :من
أهل الش?ام خمس??ة وأربع?ون ألف?اً ،ومن أه?ل الع?راق خمس??ة وعش?رون ألف?اً ،فيهم
بالتقص?ي واإلحص??اء للقتلى في ك?ل
ّ خمس??ة وعش?رون َب??دْ ِرياً ،وأن الع?دد ك?ان يق??ع
وقع??ة ،وتحص??يل ه??ذا يتف??اوت ،ألن في قتلى الف??ريقين من ُي ْع? َرف ومن ال يع??رف،
وفيهم من غرق ،وفيهم من قتل في البر؛ فأكلته السباع فلم يدركهم اإلحصاء،
صفحة 458 :
وغير ذلك مما يعتور ما وصفنا ،وسمعت امرأة بصفين من أهل الع??راق وق??د قت??ل
لها ثالثة أوالد وهي تقول:
بعد التحكيم
ولما وقع التحكيم تباغض القوم جميعا ً وأ ْق َبل َ بعضهم يت??برأ من بعض :يت??برأ األخ
علي بالرحي?ل ،لعلم?ه ب?اختالف الكلم?ة ،وتف?اوت ٌّ من أخيه ،واالبن من أبي?ه ،وأم?ر
الرأي ،وعدم النظام ألمورهم ،وما لحقه من الخالف منهم ،وكثر التحكيم في جيش
أهل العراق ،وتضارب الق??وم بالمق?ارع ونع?ال الس??يوف ،وتس??ابوا ،والم ك??ل فري??ق
منهم األخ??ر في رأي??ه ،وس??ار علي ي??ؤم الكوف??ة ،ولح??ق معاوي??ة بدمش??ق من أرض
الشام ،و َف َّر َق عساكره فلحق كل جند منهم ببلده.
علي رضي هّللا عنه الكوفة انحاز عنه اثنا عشر ألفا ً من القراء وغيرهم ّ ولما دخل
اء -قري ِة من قرى الكوف?ة -وجعل??وا عليهم ش?بيب بن ربعي التميمي، بح َر ْو َر َ
فلحقوا َ
علي إليهم
?واء اليش?كري من بك?ر بن وائ??ل ،فخ??رج ّ هّللا
ص?الَتهم عب?د بن ال َك? َّ وعلى َ
وكانت له معهم مناظرات ،فدخلوا جميعا ً الكوفة ،وإنما سموا الحرورية الجتم??اعهم
في هذه القرية ،وانحيازهم إليها.
ت بنالص ? ْل ِ
وق??د ذك??ر يح??يى بن معين ق??ال :ح??دثنا وهب بن ج??ابر بن ح??ازم ،عن َّ
علي الكوفة جعلت الحرورية? تناديه وهو على المن??بر ?:ج??زعت بهرام ،قال :لما قدم ّ
من البلية ،ورضيت بالقضية ،وقبلت الدنية ،ال حكم إال هّللا ،فيق??ولُ :ح ْك َم هّللا أنتظ??ر
فيكم ،فيقولون :ولقد أوح َِي إليك وإلى الذين من قبل??ك لئن أش??ركت ليحبطن عمل??ك
ولتك??ونن من الخاس??رين فيق??ول علي :فاص??بر إن وع??د هّللا ح??ق ،وال يس??تخلفنك
الذين ال يوقنون .
التقاء الحكمين
وفي سنة? ثمان وثالثين كان التقاء الحكمين بدومة? الجندل ،وقيل :بغيرها ،على
هللا بن العب??اس وش??ريح بن علي بعب??د ّ
ما قدمنا من وصف التن??ازع في ذل??ك ،وبعث ّ
هانئ الهمداني في أربعمائة رجل فيهم أبو موسى األشعري ،وبعث معاوي??ة بعم??رو
بن العاص ومعه شرخبيل بن السمط في أربعمائة ،فلم??ا َت? َدانى الق??وم من الموض??ع
الذي كان فيه االجتماع ق?ال ابن عب?اس ألبي موس??ى :إن علي?ا ً لم ي??رض ب?ك حكم?ا ً
لفضل عندك والمتقدمون عليك كثير ،وإن الناس أ َب ْوا غيرك ،وإني ألظن ذل ? َك لش??ر
?يت فال تنس أن علي?ا ً بايع??ه ال??ذين
ُي َراد بهم ،وق??د ض??م داهي??ة الع??رب مع??ك ،إن نس? َ
بايعوا أبا بك?ر وعم?ر وعثم?ان ،وليس في??ه خص?لة تباع?ده من الخالف?ة ،وليس في
معاوية خص??لة تقرب??ه من الخالف??ة ،ووص??ى معاوي??ة عم??راً حين فارق??ه وه??و يري??د
االجتماع بأبي موسى ،فقال :يا أبا عبد هّللا ،إن أه??ل الع??راق ق??د أكره??وا علي?ا ً على
ضونَ بك ،وقد ضم إليك رجل طويل اللسان قصير أبي موسى ،وأنا وأهل الشام َرا ُ
صفحة 459 :
س?عد بن أبي فأخر الح?ز ،وطب?ق المفص?ل ،وال َتلق? َه برأي?ك كل?ه ،وواف?اهم َ الرأيِّ ،
وق?اص وعب??د هّللا بن عم?ر وعب?د ال??رحمن بن ع?وف الزه?ري والمغ??يرة بن ش??عبة
الثقفي وغيرهم ،وهؤالء ممن َق َعدَ عن بيعة علي ،في آخرين من الناس ،وذل??ك في
شهر رمضان من سنة? ثم??ان وثالثين ،فلم??ا التقى أب??و موس??ى وعم??رو ق??ال عم??رو
ألبي موسى تكلم وقل خيراً ،فقال أبو موسى :بك تكلم أنت ي??ا عم??رو فق??ال عم??رو:
ما كنت ألفعل وأقدم نفسي قبلك ،ولك حقوق كلها واجبة لسنك وصحبتك رسول هّللا
صلى هللا عليه وسلم ،وأنت ضيف ?،فحمد هّللا أبو موسى وأثنى عليه ،وذكر الحديث
الذي َحل َّ باإلِسالم ،والخالف الواقع بأهله ،ثم قال :يا عمرو هلم إلى أمر يجم??ع هللاّ
ش َع َث ،ويص??لح ذات ال??بين .فج??زا َّه عم??رو خ??يراً ،وق??ال :إن للكالم
به األلفة ،ويلم ال َّ
أوالً وأخرا ،ومتى تنازعنا الكالم خطبا ً لم نبلغ آخ??ره ح??تى ننس??ى أول??ه ،فاجع??ل م??ا
كان من كالم بينا في كتاب يصير إليه أمرن??ا .،ق??ال :ف??اكتب ،ف??دعا عم??رو بص??حيفة
وكاتب وكان الكاتب غالما ً لعمرو ،فتقدم إليه ليبدأ به أوالً دون أبي موسى؛لما أراد
من المكر به ،ثم قال له بحضرة الجماع?ة :أكتب فإن?ك ش?اهد علين?ا وال تكتب ش?يئا ً
يأمرك به أحدنا حتى تستأمر األخ?ر في?ه ،ف?إذا أم?رك ف?اكتب وإذا نه?اك فانت?ه ح?تى
يجتم??ع رأين??ا ،اكتب :بس?م هّللا ال??رحمن ال??رحيم ،ه?ذا م??ا تقاض??ى علي?ه فالن وفالن
فكتب ،وبدأ بعمرو ،فقال له عمرو :ال أم لك أتقدمني قبل??ه كأن??ك جاه??ل بحق??ه .فب??دأ
تقاض َيا على أنهما يشهدان أن ال إل??ه إال هّللا وح??ده ال
َ باسم عبد هّللا بن قيس وكتب:
شريك له وأن محمداً عبده ورسوله :أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله ولو كره المشركون ،ثم قال عمرو :ونشهد أن أبا بكر خليف??ة رس??ول هللا ص??لى
هللا وسنة رسول هّللا حتى قبضه هّللا إليه وقد أ َدى الح??ق هللا عليه وسلم عمل بكتاب ّ
الذي عليه ،قال أبو موس??ى :اكتب ،ثم ق??ال في عم??ر مث??ل ذل??ك ،فق??ال أب??و موس??ى:
اكتب ثم قال عمرو :واكتب وأن عثم??ان ولي ه??ذا األم??ر بع??د عم??ر على إجم??اع من
ورى من أصحاب رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ورض?ا ً منهم ،وأن?ه ش َالمسلمين و ُ
كان مؤمناً ،فقال أبو موسى األشعري :ليس هذا مما قعدنا له ،ق??ال عم??رو :وهللاّ ال
بد من أن يكون مؤمنا ً أو كافراً فق?ال أب??و موس??ى :ك?ان مؤمن?اً ،ق??ال عم??روَ :ف ُم??ره
يكتب :قال أبو موسى أكتب ق??ال عم??رو :فظالم??ا ق ِت?ل َ عثم??ان أو مظلوم?اً ،ق??ال أب??و
هللا لولي المظلوم سلطانا ً يطلب موسى :بل قتل مظلوماً ،قال عمرو :أفليس قد جعل ّ
بدمه ?.قال أبو موسى :نعم ،قال عمرو :فهل تعلم لعثمان وليا ً أولى من معاوية ?.قال
أبو موسى :ال ،قال عمرو :أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتل??ه أو
يعجز عن??ه ،ق??ال أب??و موس??ى :بلى ،ق??ال عم??رو للك??اتب :اكتب ،وأم??ره أب??و موس??ى
فكتب ،قال عمرو :فإنا نقيم البينة? أن عليا ً قتل عثمان ،قال أبو موسى :هذا أمر ق??د
َح َد َث في اإلسالم ،وإنما اجتمعنا لغيره ،فهلم إلى أمر يصلح هّللا به أمة محم??د ،ق??ال
عمرو :وما هو .قال أبو موسى :قد ع َلمت أن أهل الع??راق ال يحب??ون معاوي??ة أب??داً،
وأن أهل الش?ام ال يحب??ون علي?ا ً أب??داً؛ فهل َّم نخلعهم?ا جميع?ا ً ونس??تخلف عب?د هّللا بن
هللا
هللا بن عمر على بنت أبي موسى ،قال عمرو :أيفعل ذل??ك عب??د ّ عمر .وكان عبد ّ
بن عمر .قال أبو موسى :نعم إذا َح َم َله الناس على ذلك فع??ل ،فعم??د عم??رو إلى ك??ل
فص َؤبه،ما مال إليه أبو موسى َ
صفحة 460 :
وقال له :هل لك في سعد .قال ل??ه أب??و موس??ى :ال ،فع??دد ل??ه عم??رو جماع??ة وأب??و
موسى له ذلك إال ابن عمر ،فأخذ عمرو الصحيفة وطواها وجعله??ا تحت قدم??ه بع??د
أن ختماها جميعاً ،وقال عمرو :رأيت إن رضي أهل العراق بعبد هّللا بن عمر وأب??اه
أهل الشام أتقاتل أهل الشام .قال أبو موسى :ال ،قال عمرو :فأن رضي أه??ل الش??ام
وأبى أهل العراق أتقاتل أهل العراق .قال أبو موسى :ال ،ق??ال عم??رو :أم??ا إذا رأيت
?اخ ُطب الن??اس ،واخل??ع ص??احبينا مع?ا ً
الصالح في هذا األمر والخير للمسلمين فقم ف? ْ
وتكلم باسم هذا الرجل الذي تستخلفه ،فقال َ أب??و موس??ى :ب??ل أنت قم ف??اخطب ف??أنت
أحق بذلك ،قال عمرو :ما أحب أن أتقدمك ،وما قولي وقولك للناس إال قول واح??د،
فص َؤبه ،وقال له :هل لك في سعد .قال له أبو موسى :ال ،فعدد ل??ه فقم راشداً.وسى َ
عمرو جماعة وأبو موس??ى ل??ه ذل??ك إال ابن عم??ر ،فأخ??ذ عم??رو الص??حيفة وطواه??ا
وجعلها تحت قدمه بعد أن ختماها جميعاً ،وقال عمرو :رأيت إن رضي أهل الع??راق
بعبد هّللا بن عمر وأباه أهل الشام أتقاتل أهل الشام .قال أبو موسى :ال ،قال عمرو:
فأن رضي أهل الشام وأبى أهل العراق أتقاتل أهل العراق .قال أبو موس?ى :ال ،ق?ال
ف?اخ ُطب الن?اس،
عمرو :أما إذا رأيت الصالح في هذا األم?ر والخ?ير للمس?لمين فقم ْ
واخلع صاحبينا معا ً وتكلم باسم هذا الرج?ل ال?ذي تس??تخلفه ،فق?ال َ أب?و موس??ى :ب?ل
أنت قم فاخطب فأنت أحق بذلك ،قال عمرو :ما أحب أن أتقدمك ،وما ق??ولي وقول??ك
للناس إال قول واحد ،فقم راشداً.
تمام الخدعة
فقام أبو موسى فحمد هللا وأثنى عليه ،وصلى على نبيه صلى هللا علي?ه وس??لم ،ثم
ق??ال :أيه??ا الن??اس ،أن??ا ق??د نظرن??ا في أمرن??ا ،فرأين??ا أق??رب م??ا يحض??رنا من األمن
وح ْقن الدماء وجمع األلف??ة َخ ْل َع َن??ا علي?ا ً ومعاوي??ة ،وق??د خلعتث َ والصالح و َلم ال َّ
ش َع ِ
عليا ً كما خلعت عمامتي? ه??ذه ،ثم أهْ? َوى إلى عمامت??ه فخلعه??ا ،واس??تخلفنا رجال ق??د
صحب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بنفسه ،وصحب النبي صلى هللا عليه وسلم،
َ
اه،ورغ َب الن?اس في??ه ،ثم ن??زل -.فق?ام فبرز في سابقته ،هو عبد هللا بن عمرْ ،
وأط َر َ
عمرو فحمد هللا وأثنى عليه ،وص??لى على رس??وله ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،ثم ق??ال:
أيها الناس ،إن أبا موسى عب?دَ هللا بن قيس ق??د خل??ع علي?ا ً وأخرج??ه من ه??ذا األم??ر
ُ
وأثبت معاوي??ة علي ال??ذي يطلب ،وه??و أعلم ب??ه ،أال وإني ق??د خلعت علي??ا ً مع??ه،
وعليكم ،وإن أبا موسى قد كتب في الصحيفة أن عثمان قد قتل مظلومأ ش??هيداً وأن
لوليه سلطانا ً أن يطلب بدم??ه حيث ك??ان ،وق??د ص??حب معاوي??ة رس??ول هّللا ص??لى هللا
?بي ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،وأط??راه ،ور َّغب عليه وس??لم بنفس??ه ،وص??حب أب??وه الن? َ
الناس فيه ،وقال :هو الخليفة علينا ،وله طاعتن??ا وبيعتن??ا على الطلب ب??دم عثم??ان،
فقال أبو موسى؛ كذب عمرو ،لم نستخلف معاوية ،ولكنا خلعنا معاوية وعلي?ا ً مع??أ،
فقال عمرو :بل كذب عبد هللا بن قيس ،قد خلع عليا ً ولم أخلع معاوية.
هللا :ووجدت في وج??ه آخ??ر من الرواي??ات أنهم??ا أتفق??ا على قال المسعودي رحمه ّ
خلع على ومعاوية ،وأن يجعال األمر بع??د ذل??ك ش??ورى :يخت??ار الن??اس رجالً يص??لح
لهم ،فقد َّم عمرو أبا موسى ،فقال أبو موسى :إني خلعت عليا ً ومعاوية ،فاستقبلوا
صفحة 461 :
وتنحى ،وقام عمرو مكانه فقال :إن هذا قد خلع صاحبه وأن??ا أخل??ع ص??احبه َ أمركم،
كما خلعه ،وأثبت ص??احبي معاوي??ة ،فق??ال أب??و موس??ى :م??ا ل??ك ال وفق??ك هّللا غ? ْ
?دَر َت
و َف َج ْر َت .إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً ،فقال ل??ه عم??رو :ب??ل إي??اك يلعن هّللا ،
كذبت وغدرت ،إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل علي?ه يلهث أو تترك?ه? يلِهث ،ثم وك?ز
أبا موسى فألقاه لجنبه ،فلما رأى ذلك شريح بن هانئ ق َنع عمراً بالس??وط ،وانخ??زل
أبو موس??ى ،فاس??توى على راحلت??ه ولح??ق بمك??ة ،ولم َي ُع??دْ إلى الكوف??ة ،وق??د ك??انت
خطته وأهله وولده بها ،وألن أن ال ينظر إلى وجه علي ما بقي ،ومضى ابن عمرو
سعد إلى بيت المقدس فأحرما.
عند الخطوب َر َم ْوكم بابن عبـاس لو َكانَ للقوم رأي يعصمـون بـه
ب أخماس
ض ْر ُ
ولم يدر ما َ لكن رموكم ِب َو ْغـ ٍد مـن ذو يمـن
وقيل :إنه لم يكن بينهما غير ما كتباه في الصحيفة وإقرار أبي موسى بأن عثمان
قت??ل مظلوم?ا ً وغ??ير ذل?ك مم??ا ق??دمنا ،و نهم??ا لم يخطب??ا ،وذل??ك أن عم??راً ق??ال ألبي
موسى :س َم من شئت حتى أنظر معك ،فسمى أبو موس??ى ابن عم??ر وغ??يره ثم ق??ال
لعمرو :ق?د س??ميت أن??ا َفس? ِّم أنت ،ق?ال :نعم ،أس?مي ذل?ك أق?وى ه?ذه األم??ة عليه?ا،
وأس َدها رأياً ،وأعلمها بالسياسة ،معاوية بن أبي سفيان ،قال :ال وهللا ما ه??و ل??ذلك
بأهل ،قال :فآتيك بآخر ليس هو بدونه ?،قال :من هو .ق??ال :أب??و عب??د هللا عم??رو بن
العاص ،فلما قالها علم أبو موس??ى أن??ه يلعب ب??ه ،فق??ال :فعلته??ا لعن??ك هللاَ ،ف َت َ
س?ا َّبا،
َ
فلحق أبو موسى بمكة.
فلم??ا أنص??رف أب??و موس??ى انص??رف عم??رو بن الع??اص إلى منزل??ه ،ولم ي??أت إلى
معاوية ،فأرسل إليه معاوية يدعوه ،فقال :إنما كنت أجيئك إذ كانت لي إليك حاج??ة،
فأما إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحق أن تأتينا ،فعلم معاوية ما قد دُفع إلي??ه ،فخم??ر
الرأي وأعمل الحيلة ،وأمر معاوية بطع??ام كث??ير فص??نع ،ثم دع??ا بخاص??ته وموالي??ه
وأهله ،فق??ال :إني س??أغدو إلى عم??رو ،ف??إذا دع??وت بالطع??ام َف? َد ُعوا موالي??ه وأهل??ه
فليجلسوا قبلكم ،فإذا شبع رج??ل منهم وق??ام فليجلس رج??ل منكم مكان??ه ،إذا خرج??وا
ولم يبق في البيت أحد منهم فأغلقوا باب البيت ،واحذروا أن يدخل أحد منهم إال أن
آمركم.
َمنْ دعا إلى هذه الحكومة فاقتلوه قتل?ه هللا ول?و ك?ان تحت عم?امتي ه?ذه ،إال إن
هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم هللا ،وحكما به??وى
أح َي َي?ا م?ا أمات?ه،
أنفسهما بغ?ير حج?ة وال ح?ق مع?روف ،فأمات?ا م?ا أحي?ا الق?رانَ ،و ْ
واختلف في حكمهما كل أمه ما ،ولم يرشدمها هللا ولم يوفقهما ،ف??بريء هللا منهم??ا
ورس??وله وص??الح المؤم??نين ،فت??أهبوا للجه??اد واس??تعدو الس??ير ،وأص??بحوا في
عساكركم أن شاء هللا تعالى.
قال المسعودي :وق??د اختلفت الف??رق من أه??ل ملتن??ا في الحكمين ،وق??الوا في ذل??ك
أقاويل كثيرة ،وقد أتينا على ما ذهبوا إليه في ذلك وما قال??ه ك??ل فري??ق منهم ،ومن
أيد قوله من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم من فرق هذه األمة في كتابنا في
المقاالت في أصول الديانات وذكرنا في كت??اب أخب??ار الزم??ان ق??ول علي في مواقف??ه
وخطبه ،وما قاله في ذلك ،وما أك??ره علي??ه ،وتأنيب??ه لهم بع??د الحكوم??ة ،وم??ا تق??دم
الحكوم??ة من تح??ذيره إي??اهم منه??ا حين ألح??وا في تحكيم أب??و موس??ى األش??عري
وعمرو ،حيث قال :أال إن القوم قد اختاروا ألنفسهم أقرب عهدكم بعبد هّللا بن قيس
باألمس وهو يقول أال إنها فتنة ،فقطعوا فيه??ا أو ت??اركم وكس??روا قس??يكم ،ف??إن ي??ك
صادقا ً فقد أخطأ في مسيره غير مستكره عليه ،وإن يك كاذب?ا ً فق?د لزمت??ه التهم??ة.،
وهذا كالم أبي موسى في تخذيله الناس ،وتحريض??هم على الجل??وس وتث??بيطهم عن
علي في حروبه ومس??يره إلى الجم??ل وغ??يره ،ثم م??ا قال??ه في بعض ّ أمير المؤمنين
مقاماته في معاتبته لقريش ،وقد بلغه عن أن??اس منهم ممن قع??د عن بيعت??ه و َن??ا َف َق
في خالفته كالم كثير ،فق??ال :وق??د زعمت ق??ريش أن ابن أبي ط??الب ش??جاع ولكن ال
مراس?ا ً له??ا م??ني ?.لق??د نهض??ت فيه??ا
بت أيديهم وهل فيهم أشد َ علم له بالحروبَ ،ت ِر ْ
وما بلغت العشرين ،وه??ا أن??ا ذا ق??د أربيت على ني??ف وس??تين ،ولكن ال رأي لمن ال
ُي َطاع.
وص? ِّفينَ والحكمين؛ ?ل من أخب??ار الجم??ل ِقال المسعودي :وإذ ق??د تق??دّ م ذكرن??ا ل ُج َم? ٍ
فلنذكر اآلن جوامع من أخبار يوم النهروان ،ونعقب ذلك بذكر مقتله علي??ه الس??الم،
وإن كان قد أتينا على مبسوط سائر م??ا تق??دم لن??ا في ه??ذا الكت??اب وم??ا ت??أخر ،فيم??ا
سلف من كتبنا ،وهّللا أعلم.
علي فقتله ثم خرج منهم أخر ،فحم??ل على الن??اس ،ففت??ك فيهم ،وجع??ل
ٌّ وحمل عليه
يكر عليهم ،وهو يقول:
وحمل عليه علي وشكه بالرمح ،وترك الرمح فيه ،فانصرف علي وهو يقول:
َ
فرأيت ما تكره. َ
رأيت أبا حسن لقد
المخدج ذو الثدية
هللا بن وهب األنص?اري على زي??د بن حص??ن فقتل??ه ،وقت??ل عب??د ّ
َ وحمل أبو أيوب
األزدِي ،وزياد بن حفصة ،وقتل حرقوص بن زه??ير الراسبي ،قتله هانئ بن حاطب ْ
السعدي ،وكان جمل?ة من قت?ل من أص?حاب علي تس?عة ،ولم يفلت من الخ?وارج إال
عش??رة ،وأتى علي على الق??وم ،وهم أربع??ة آالف ،فيهم المخ??دج ذو الث َد َّية إال من
ذكرنا من هؤالء العشرة ،وأمر علي بطلب المخدج ،فطلبوه ،فلم يقدروا عليه ،فقام
المخدج ،ف??انتهى إلى قتلى بعض??هم ف??وق بعض ،فق??ال: ِ علي وعليه أثر الحزن لفقد
هّللا
افرجوا ،ففرجوا يمينا َ وشماالً واستخرجوه ،فق?ال علي رض?ي عن?هّ :،
هللا أك?بر،
ت على محم??د ،إن??ه لن??اقص الي??د ليس فيه??ا عظم ،طرفه??ا حلم??ة مث??ل َث??دْ ي م??ا َك? َ
?ذ ْب ُ
المرأة ،عليها خمس شعرات أو سبع ،رؤوسها معقفة ،ثم ق??ال :ائت??وني? ب??ه ،فنظ??ر
إلى عضده ،فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة علي??ه ش??عرات س??ود إذا م??دت
اللحمة امتدت حتى تحافي بطن يده األخرى ،ثم ُت ْترك فتعود إلى منكبهَ ،ف َث َنى رجل??ه
ونزل ،وخر هّلل ساجداً.
ص ْر َعى ،فقال :لقد صرعكم َمنْ غ??ركم ،قي??ل :و َمنْ غ??رهم. ثم ركب ومر بهم وهم َ
س السوء ،فقال أصحابه :قد قطع هللا داب??ر هم إلى آخ??ر ال??دهر، قال :الشيطان وأ ْنفُ ُ
فقال :كال والذي نفسي بيده ،وإنهم لفي أصالب الرج??ال وأرح??ام النس??اء ،ال تخ??رج
خارجة إال خرجت بعدها مثلُها حتى تخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال
له األشمط يخرج إليه رجل منا أهل البيت فيقتله ،وال تخرج بعدها خارجة إلي ي??وم
القيامة.
صفحة 466 :
وجمع علي ما كان في عسكر الخ?وارج ،فقس?م الس?الح وال?دواب بين المس?لمين،
وردَّ المت??اع والعبي??د واإلم??اء إلى أهليهم ،ثم خطب الن??اس ،إن هّللا ق??د أحس??ن إليكم
َ
وأعز نصركم ،فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم ،فق??الوا :ي??ا أم??ير المؤم??نين ق??د
ًكلّت سيوفنا ،ونف َد ْت نبالن??ا ،ونص??لت أس??نة رماحن??ا ،ف?دعنا نس?تعد بأحس??ن ع?دَتنا،
وكان الذي كلمه بهذا األشعث بن قيس ،فعسكر علي بالنخيلة.
أفع??ال أتاه??ا،وحي??ل عمله??ا ق??د ذكرناه??ا وم??ا ق??ال في ذل??ك من الش??عر في الكت??اب
األوسط.
وقال علي بن محمد بن جعفر العلوي فيمن انتمى إلى سامة بن لؤي ابن غالب.
فأمر ُه ُم عندنا ُم ْ
ـظـلـم وسامة م َّنا ،فأمـا بـنـوه
خرافة مضطجع يحلُـم أناس أتونا بأنـسـابـهـم
ـحـكـموكل أقاويله ُم ْ وقلنا لهم مثل قول الوصِ ّي
تقول ،فقل :ربنا أعـلـم إذا ما سئلت فلم َتـدْ ِرمـا
وفي سنة ثمان وثالثين وج??ه معاوي??ة عم??رو بن الع??اص إلى مص??ر في أربع??ة
آالف ،ومعه معاوية بن خديج ،وأبو األعور السلمي ،واستعمل عمراً عليها حيات??ه،
وو َفى له بما تق??دم من ض??مانه ،ف??التقواهم ومحم??د بن أبي بك??ر -وك??ان عام??ل علي
َ
عليها -بالموضع المعروف بالمسناة ،فاقتتلوا ،فانهزم محم??د إلِس??الم أص??حابه إي??اه
وتركهم له ،وص??ار إلى موض??ع بمص??ر ،ف?اختفى في??ه ،فاحي??ط بال??دار ،فخ??رج إليهم
محمد ومن معه من أصحابه ،فقاتلهم حتى قت??ل ،فأخ??ذه معاوي??ة بن خ??ديج وعم??رو
بن العاص وغيرهما ،فجعلوه في جلد حم??ار وأض??رموه? بالن??ار ،وذل??ك بموض ?ع? في
مصر ،يقال له :كوم شريك ،وقيل :إنه فعل ب??ه ذل??ك ،وب??ه ش??يء من الحي??اة ،وبل??غ
معاوية قتل محمد وأصحابه ،فأظهر الفرح والسرور .وبلغ عل ّيا ً قتل محمد وس??رور
ت على هال??ك من??ذ دخلت ?زع ُ
معاوية ،فقال :جزعنا علي ِه على قدر سرورهم ،فم??ا ج? ْ
الحروب َج َزعِ ي عليه ،كان لي ربيباً ،وكنت أع??ده ول??داً ،وك??ان بي ب??راً ،وك??ان
َ هذه
ابن أخي ،فعلى مثل هذا نحزن ،وعند هّللا نحتسبه.
والية األشتر ومقتل?ه ب?العريش مس?موماً :وولّى علي األش?تر مص?ر وأنف?ذه إليه?ا
دس إلى دهقان كان بالعريش ،فأرغبه ،وق??ال :أت??رك فيجيش ،فلما بلغ ذلك معاوية َ
خراجك عشرين سنة ،واحتل لألشتر بالسم في طع أمه ،فلما نزل األش??تر الع??ريش
أحب إليه .فقيل ل??ه :العس??ل ،فأه??دى ل??ه عس?الً،ُّ سأل الدهقانُ :أي الطعام والشراب
وقال :إن من أمره وشأنه كذا وكذا ،ووصفه لألشتر ،وكان األشتر ص??ائمأ ،فتن??اول
منه? شربة ،فما استقرت في جوفه حتى تلف ،وأتى َمنْ كان معه على الدهقان ومن
كان معه ،وقيل :كان ذلك بالقلزم ،واألول أثبت ،فبلِغ ذلك علياً ،فقال :لليدين والفم،
وبلغ ذلك معاوية ،فقال :إن هللا جنداَ من العسل.
علي في هذه الس??نة ثالث?ة أرزاق على حس??ب م?ا ك?ان يحم??ل وقبض أصحابه عن ّ
إليه من المال من أعمال??ه ،ثم ورد علي??ه م??ال من أص??بهان ،فخطب الن??اس ،وق??ال:
اغدوا إلى عطاء رابع ،فوهللا ما أنا لكم بخازن ،وكان في عطائه أسوة للناس يأخ??ذ
كما يأخذ الواحد منهم.
ولم يكن بين علي ومعاوية من الحرب إال م??ا وص??فنا بص??فين ،وك??ان معاوي??ة في
بقية أيام علي يبعث سرايا ُتغِي ُر ،وكذلك علي كان يبعث من يمنع? سرايا معاوية من
أذ ّية الناس ،وقد أتينا على ذكر السرايا والغارات فيما سلف من كتبنا.
إلى هذا المصر ،وقد كنت هاربا ً منه إال ذل??ك ،وق??د أعطيت??ك م??ا س??ألت ،وخ??رج من
عندها وهو يقول:
ش َج َع ُيقال له شبيب بن نجمة من الخوارج ،فقال ل??ه :ه??ل ل??ك في فلقيه رجل من أ ْ
شرف الدنيا واألخرة؛ فقال :وم??ا ذاك .ق?ال :تس?اعدني على قت??ل علي ،ق?ال :ثكلت??ك
أمك لقد جئت شيئا ً آدا ،قد عرفت َغ َناءه في اإلسالم ،وس?ابقته? م?ع الن?بي ص?لى هللا
عليه وسلم ِ ،فقال ابن ُم ْل َجم :ويحك؛أما تعلم أنه قد َحكم الرجال في كتاب هللا ،وقتل
إخواننا المصلينَ ؛ فنقتله ببعض إخواننا ،فأقبل معه حتى دخل على َق َط? ام ،وهي في
المسجد األعظم ،وقد ضربت ِكلَّ ًة لها وهي معتكف??ة ي??وم الجمع??ة لثالث عش??رة ليل??ة
مض??ت من ش??هر رمض??ان ،فأعلمتهم??ا أن مجاش??ع بن وردان بن علقم??ة ق??د انت??دب
لقتله معهما ،فدعت لهما بحرير فعصبتهما وأخذوا أس??يافهم وقع??دوا مق??ابلين لب??اب
السدة التي يخرج منها علي للمسجد ،وكان علي يخرج ك??ل غ?داة أول اآلذان يوق?ظ
الناس للصالة ،وقد كان ابن ُم ْل َجم مر باألشعث وهو في المسجد ،فقال ل??هَ :ف َ
ض ? َحك
الصبح ،فسمعها حجر بن عدي ،فقال :قتلته يا أعور قتلك هللا ،وخ??رج علي رض??ي
هللا عنه ينادي :أيها الناس ،الصالة ،فشد علي??ه ابن ُم ْل َجم وأص??حابه وهم يقول??ون:
الحكم هلل ،ال ل??ك ،وض??ربه ابن ُم ْل َجم على رأس??ه بالس??يف في َق ْرن??ه ،وأم??ا ش??بيب
ف??وقعت ص??ربته? بعض??ادة الب??اب ،وأم??ا مجاش??ع بن وردان فه??رب ،وق??ال علي :ال
يف???وتنكم الرج???لَ ،وش???د الن???اس على ابن ُم ْل َجم يرمون???ه بالحص???باء ،ويتناولون???ه
ويصيحون ،فضرب س??اقه رج??ل من هم?دان برجل??ه ،وض??رب المغ??يرة بن نوف??ل بن
الحارث بن عبد المطلب وجهه فصرعه ،وأقب??ل ب??ه إلى الحس??ن ،ودخ??ل ابن وردان
بين الناس ،فنج??ا بنفس??ه ?،وه??رب ش??بيب ح??تى أتى رحل??ه ،ف??دخل إلي??ه عب??د هللا بن
نجدة -وه??و أح??د ب??ني أبي??ه -ف??رآه ي??نزع الحري??ر عن ص??دره ،فس??أله عن في ذل??ك،
فخبره خبره فانصرف عبد هّللا إلى رحله ،وأقبل إليه بسيفه فضربه حتى قتله.
وقيل :إن عليا ً لم َي َن ْم تلك الليلة ،وإن??ه لم ي??زل يمش??ي بين الب??اب والحج??رة ،وه??و
يقول :وهّللا ما كذبت وال كذبت ،وإنها لليلة التي وعدلت فيها فلم??ا خ??رج ص??اح ب??ط
ك??ان للص??بيان ،فص??اح بهنَّ بعض من في ال??دار ،فق??ال علي :ويح??ك دعهن ف??إنهن
نوائح.
وق??د ذك??رت طائف??ة من الن??اس أن علي?ا ً رض??ي هّللا عن??ه أوص??ى إلى ابن??ه الحس??ن
والحسين،ألنهما ش??ريكان في آي?ة التطه?ير ،وه?ذا ق??ول كث??ير ممن ذهب إلى الق??ول
بالنص.
ّ
سنه وفضله
وقبض وقد أتى عليه اثنت??ان وس??بعون س??نة ?،وقي??ل :اثنت??ان وس??تون ،وق??د ق??دمنا
تنازع الناس في مقدار سنة ،وكان كما قال الحسن :وهّللا لقد قبض فيكم الليلة رجل
ما سبقه األولون إال بفضل النبوة ،وال يدرك??ه األخ??رون ،وإن رس??ول هللا ص??لى هللا
عليه وسلم كان يبعثه? فيكتنفه? جبريل عن يمينه? وميكائيل عن يساره فال يرجع حتى
يفتح هللا عليه.
وكان الذي صلى عليه الحسن ابنه ،وكبر عليه سبعاً ،وقيل غير ذلك.
تركته
ولم يترك صفراء وال بيضاء ،إال سبعمائة درهم بقيت من عطائه ،أراد أن يشتري
بها خادم?ا ً ألهل??ه ،وق??ال بعض??هم :ت??رك ألهل??ه م??ائتين وخمس??ين درهم??أ ومص??حفه
وسيفه?.
ولعمران بن حطان وألبيه? حطان أخبار كثيرة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخب??ار
الزم??ان في ب??اب أخب??ار الخ??وارج من األزارق??ة واألباض??ية? والحمري??ة والص??فرية?
والنجدية وغيرهم من فرق الخوارج إلى سنة ثمان عشرة وثلثمائة .وكان آخر من
خرج منهم ربيعه المعروف بغيرون ،فأدخل على المقتدر باهلل ،بعث به ابن حم??دان
من كفرتوتا ،وقد كان خرج في أي أمه أيضا ً المعروف بأبي شعيب.
وقد رثى الن??اس أم??ير المؤم??نين علي??ا رض??ي هللا عن??ه في ذل??ك ال??وقت وإلى ه??ذه
الغاية ،وذكروا مقتله ،وممن رثاه في ذلك الوقت أبو األسود الدؤلي من أبيات:
فال َقرت عيونُ الشامتينـا أال أبلغ معاوية بن َح ْـرب
بخير الناس طرا أجمعينـا أفي شهر الصيام فجعتمونـأ
و َدللها و من ركب السفينـا قتلتم خير من ركب المطايا
ومن قرأ المثاني والمبينـا ومن لبس النعال ومن َح َذأها
رأيت النور فوق الناظرينا إذا اسقبلت وجه أبي حسين
بأنك خيرهم َحسبـأ ودينـا لقد علمت قريش حيث كانت
البرك ومعاوية
وانطلق البر ُك الصريمي إلى معاوي??ة فطعن??ه بخنج??ر في آليت?ه? وه??و يص??لي فأخ??ذ
وأوقف بين يديه ،فقال له :ويلك وما أنت .وما خبرك؛ قال :ال تقتلني وأخبره ،قال:
علي وعلى عم??رو؛ ف??إن أردت فأحس??بني آن??ا تبايعن??ا في ه??ذه الليل??ة علي??ك وعلى ّ
علي ،ول??ك علي أن أقتل??ه وأن
عندك ،ف??إن كان??ا قتال وإال خليت س??بيلي فطلبت قت??ل ّ
أتيك حتى أضع يدي في يدك ،فقال بعض الناس :قتله يومئذ ،وقال بعضهم :حس??به
حتى جاءه خبر قتل علي فأطلقه.
وسمعا منه في الوقت الذي قتل فيه ،فإنه قد خرج إلى المسجد ،وق??د عس??ر علي??ه
فتح باب داره ،وكان من جذوع النخل ،فاقتلعه وجعله ناحي??ة ،وانح??ل إزاره ،فش? َّده
وجعل ينشد هذين البيتين المتقدمين.
الناس
ُ دس أناسا من أصحابه إلى الكوفة يشيعون موته ،وأ ْك َث َر
وقد كان معاوية َ
القول في ذلك حتى بلغ علياً ،فقال في مجلسه :قد أكثرتم من نعي معاوية ،وهّللا م??ا
مات وال يموت حتى يملك ما تحت قدمي ،وإنم??ا أراد ابن أكل??ة األكب??اد أن يعلم ذل??ك
مني ،فبعث َمنْ يشيع? ذلك فيكم ليعلم ويتيقن ما عندي فيه ،وما يكون من أم??ره في
المستقبل من الزمان ،و َمر في كالم كثير يذكر فيه أي??ام معاوي??ة ومن تاله من يزي??د
ومروان وبنيه? وذك??ر الحج??اج وم??ا يس??ومهم من الع??ذاب ،ف??ارتفع الض??جيج ،وك??ثر
البكاء والشهيق ،فقام قائم من الناس فقال :يا أمير المؤمنين ،ولق?د وص?فت أم?ورا
عظيمة ،هللا إن ذلك كائن؛ قال علي :وهللا إن ذلك لكائن ،ما ك?ذبت وال ك?ذبت ،فق?ال
ض? َب ْت ه??ذه من ه??ذه ،ووض??ع آخرون :متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين ?.قال :إذا ُخ ِ
?اس من البك??اء ،فق??ال :الإح??دى يدي??ه على لحيت??ه واألخ??رى على رأس??ه ،ف??أكثر الن? ُ
تبكوا في وقتكم هذأ فستبكون بعدي طويال ،مكاتب أك??ثر أه??ل الكوف??ة معاوي??ة ِس? ّراً
في أمورهم ،واتخذوا عنده األيادي ،فوهّللا ما مضت إال أيام قالئل ح??تى ك??ان -ذل??ك،
وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب -بع??د ذكرن??ا لزه?ده ولم??ع من ك?ل أم??ه -جمالً من
أخباره أيضا ً في أيام معاوية بن أبي سفيان ،وهللا ولي التوفيق.
وصف الدنيا
وكان يقول :الدنيا دار صدق لمن صدقها ،ودار عافية لمن فهم عنه??ا ،ودار غ??نى
لمن تزود منها ،الدنيا مسجد أحباء هللا ،ومصلى مالئكة هللا ،ومهبط وحيه ،و َم ْت َجر
وربحوا فيها الجنة ،ومن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، أوليائه ،اكتسبوا فيها الرحمةِ ،
ونع ْت نفسها وأهلها ،ومثلت لهم ببالئها البالء ،وشوقت بسرورها ونادت بفراقهاَ ،
إلى السرور ،وراحت بفجيعة ،وابتك??رت بعافي??ة؛تح??ذيراً وترغيب?ا ً وتخويف??أ ،ف??ذمها
غب الندام??ة ،وحم??دها آخ??رون غب المكاف??أة ،ذك??رتهم ف??ذكروا تص??اريفها، رج??ال َّ
وصدقتهم فصدقوا حديثها ،فيا أيها الذا ُم للدنيا المغتر بغرورها ،م?تى اس?تدامت ل?ك
الدنيا .بل متى غرتك من نفسها؛ أبمض??اجع آبائ??ك من البلى .أم بمص??ارع أم??ه آت??ك
رض? َت بي??دك من تبغي ل??ه الش??فاء وتستوص??ف ل??ه من الثرى .كم قد عللت بكفك و َم ْ
الدواء من األطباء لم تنفعه بشفائك ،ولم تسعف له بطلبتك ،وقد مثلت ذلك به الدنيا
نفس??ك ،وبمص??رعه? مص??رعك :غ??داً ال ينفع??ك بك??اؤك ،وال يغ??نى عن??ك أ ِح ِّباؤك -وال
تسمع في مدح الدنيا أحسن فن هذا.
ومما حفظ من كل أمه في بعض مقاماته في صفة الدنيا أنه ق??ال :أال إن ال?دنيا ق?د
ارتحلت ُمدْ برة ،وإن اآلخرة قد دنت ُم ْقبلة ،ولهذه أبن??اء ،وله??ذه أبن??اء ،فكون??وا من
أبن??اء اآلخ??رة وال تكون??وا من أبن??اء ال??دنيا ،أال وكون??وا من الزاه??دين في ال??دنيا،
والراغبين في اآلخرة ،إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا األرض بساطأ والتراب فراشا ً
سال عن الشهوات، ضوا الدنيا تقويضاً ،أال ومن اشتاق إلى الجنة َ والماء طيباً ،و َق َّو ُ
ومن أش??فق من الن??ار رج??ع عن المحرم??ات ،ومن زه??د في ال??دنيا ه??انت علي??ه
المصيبات ،ومن راقب اآلخرة سارع في المخيرات ،أال وإن هّلل عب??اداً ك??أنهم ي??رون
أهل الجنة في الجنة منعدين مخلدين ،وي??رون أه??ل الن??ار في الن??ار مع??ذبين قل??وبهم
محزونة ?،وشرورهم مأمونة ?،أنفسهم عفيفة ،وحاجتهم خفيف??ة ص??بروا أيام?ا ً قليل??ة
فصارت لهم العقبى ،راحة طويلة ،أما الليل فصا ُّفو أقد أمه م ،تجري دموعهم على
خدوهمَ ،ي ْجأرون إلى ربهم ،ويسعون في فكاك رقابهم ،وأما النه??ار فعلم??اء حكم??اء
?راهم الخ??وف والعب??ادة ينظ??ر إليهم الن??اظر فيق??ول:?ر َرة أتقي??اء ،ك??أنهم القِ ?دَاح َب? َ
َب? َ
مرضى ،وما بالقوم من مرض ،إن خولطوا فق??د خ??الطهم أم??ر عظيم من ذك??ر الن??ار
ومن فيها.
اس? َت ْغ ِن عمن ش??ئت تكن نظ??يرهُ ،وس??ل من ش??ئت تكن وقال البنه الحسن :يا بنيْ ،
حقيره ،وأعط من شئت تكن أميره.
ودخ??ل علي??ه رج??ل من أص??حابه فق??ال :كي??ف أص??بحت ي??ا أم??ير المؤم??نين .ق?ال:
أصبحت ضعيفا ً ُمذنباً ،أكل رزقي ،وأنتظ??ر أجلي ،ق??ال :وم??ا تق??ول في ال??دنيا .ق??ال:
وما أقول في دار أولها فم ،وآخرها موت ،من اس?تغنى فيه?ا فتن ،ومن افتق?ر فيه?ا
حزنَ ،حاللُها حساب ،ومراحه??ا عق??اب ،ق??ال :ف??أي الخل??ق أنعم .ق??ال :أجس??اد تحت
التراب ،قد أمنت من العقاب ،وهي تنتظرالثواب.
من كألمه
فقال له معاوية ?:زدني شيئا ً من كألمه ،
فقال ضرار :كان يقول :أعجب ما في اإلِنسان قلبه ،وله مواد من الحكمة ،وأض??داد
س َن َح له الرجاء أ َما َل ُه الطمع ،وإن مال به الطمع أهلك??ه الح??رص،
من خالفها ،فإن َ
ض له الغضب أش??تد ب??ه الغي??ظ ،وإن أس??عده وإن ملكه القنوط قتله األسف ،وإن َع َر َ
الرضا نسي التحفظ ،وإن ناله الخوف فضحه الج?زع ،وإن أف?اد م?االً أطغ?اه الغ?نى،
وإن عضته فاقة فض??حه الفق??ر ،وإن أجه??ده الج??وع أقع??ده الض??عف ،وإن أف??رط ب??ه
الب ْطنة ،فكل تقصير به مضر ،وكل إفراط له مفسد. الشبع َك َّظته ِ
فقال له معاوية ?:زدني كلما وعيته من كألمه ،
قال :هيهات أن أتى على جميع ما سمعته منه،
ُ
ثم قال :سمعته يوصي كميل بن زياد ذات ي??وم فق?ال ل??ه :ي?ا كمي??ل ذب عن الم??ؤمن
فإن ظهره حِمى هللا ،ونفسه كريمة? على هّللا ،وظالمه خصم هّللا ،وأح??ذركم من ليس
له ناصر إال هللا.
قال :وسمعته? يقول ذات يوم :إن هذه الدنيا إذا أقبلت على ق??وم أع??ارتهم محاس??ن
س َلبتهم محاسن أنفسهم. غيرهم ،وإذا أدبرت عنهم َ
قال :وسمعته يقولَ :ب َطر الغنى يمنع من عز الصبر.
قال :وسمعته? يقول :ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة ،وسكوته فكرة ،وكألم??ه
حكمة.
وكان رسول هّللا صلى هللا عليه وس??لم -بع??د أن قت??ل جعف??ر بن أبي ط??الب الطي??ار
أرض??ى الش??ام -ال يبعث بعلي في وج??ه من الوج??وه إال يق??ول :رب الَِ ُبمؤت??ة من
َ
تذ ْر ِني? فرداَ ،وأنت خير الوارثين .
صفحة 476 :
َو َم َّر ابن عباس بقوم ينالون من علي وشبونه ،فقال لقائده :أدْ ِننِي منهم ،فأدناه،
فقال :أيكم الساب هّللا .قالوا :نع??وذ باهّلل أن نس??ب هّللا ،فق??ال :أيكم الس??اب ص??لى هللا
عليه وسلم .فقالوا :نعوذ باهّلل أن نسب رسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ،فقال :أيكم
الساب علي بن أبي طالب قالوا :أما ه?ذه فنعم ،ق?ال :أش??هد لق?د س??معت رس??ول هّللا
صلى هللا عليه وسلم يق??ول :من س??بني فق??د س??ب هللا ،ومن س??ب علي??ا فق??د س??بني?
فأط َرقُوا ،ف َل َّما ولى قال لقائدة :كيف رأيتهم فقال: ْ
ـزو َزة نظر التيوس إلى شفار الجازر نظروا إليك بأعـين ُم َ
فقال :زدني فداك أبي وامي
فقال:
نظر الذليل إلى العزير القاهر ُخ ْز َر العيون ُم َن ِّكسِ ي? أذقانهـم
قال :زدني فداك أبي وامي
قال :ما عندي مزيد
قال :ولكن عندى:
والميتون فضيحة للغابـر أحياؤهم تجني على أمواتهم
تزهده في الدنيا
ومن خطبة قبل هذا وتزه??ده في ه??ذه ال??دنيا قول??ه في بعض مقام??ات وخطب??ه :إن
ال??دنيا ق??د أدب??رت وأذنت ب??وداع ،وإن اآلخ??رة ق??د أش??رفت وأقبلت ب??اطالع ،وإن
المضمار اليوم والسباق غداً ،أال إنكم في أيام أمل من ورائ??ه أج?ل ،فمن أخلص في
صر في أيام أجله ص َر أجله ،ومن َق َّ
أيام أمله قبل حضور أجله فقد حسن عمله وما َق ُ
خس??ر أجل??ه ،أال ف??اعملوا هلل في الرغب??ة ،كم??ا تعمل??ون في الرهب??ة ،أال وإني لم أر
كالجنة نام طالبها ،و كالنار نام هاربها ،أال إنه َمنْ لم ينفع??ه الح??ق يض??ره الباط??ل،
ومن ال يستقيم له الهدى يخزيه الضالل وق??د أم??رتم ب??الظعن ودللتم على ال??زاد وإن
أخوف ما أخاف عليكم إتباع الهوى وطول األمل.
وفضائل علي ومقامات?ه ومناقب?ه ووص?ف زه?ده ونس?كه أك?ثر من أن ي?أتي علي?ه
كتابنا هذا أو غيره من الكتب ،أو يبلغه إسهاب مسهب ،أو إطناب ُم ْطنب ،وقد أتين??ا
على جمل من أخباره وزهده وسيره ،وأنواع من كل أمه وخطبه في كتابنا المترجم
بكتاب حدائق األذهان ،في أخبار آل محمد عليه السالم وفي كت??اب مزاه??ر األخب??ار،
وطرائف اآلثار ،للصفوة النورية? والذرية الزكية أبواب الرحمة وينابيع الحكمة.
الفضل َ هي :السبق إلى اإليمان ،والهجرة ،والنصرة لرسول هّللا ص??لى هللا علي??ه
وسلم ،والقربى منه? والقناعة وب??ذل النفس ل??ه ،والعلم بالكت??اب والتنزي??ل ?،والجه??اد
في سبيل هللا ،والورع ،والزه??د ،والقض??اء ،والحكم ،والفق??ه والعلم وك??ل ذل??ك لعلي
النصيب األوفر ،والحظ األكبر ،إلى م??ا ينف??رد ب??ه من ق??ول رس??ول
ُ عليه السالم منه
هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم حين آخى بين أص??حابه أنت أخي وه??و ص??لى هللا علي??ه
وسلم ال ضد ل??ه ،وال ن??د ،وقول??ه ص??لوات هللا علي??ه :أنت م??ني بمنزل?ة? ه??رون من
موسى ،إال أنه ال نبي? بعدي وقول??ه علي??ه الص??الة والس??الم :من كنت م??واله فعلي
وعا ِد من عاداه ثم دعاؤه علي??ه الس??الم وق??د ق??دم إلي??همواله ،اللّهم وال من واالهَ ،
أح َّب خلقك إليك ألكل معي من هذا الطائر ،فدخل عليه أنس الطائر :اللّهم أدخل إلي َ
علي ،إلى آخر الحديث ،فهذا وغيره من فضائله وما اجتم??ع في??ه من الخص??ال مم??ا
تفرق في غيره ،ولكل فضائل ممن تقدم وتأخر ،وقبض النبي صلى هللا عليه وس??لم
وهو راض عنهم ،مخبر عن بواطنهم بموافقته??ا لظ??واهرهم باإلِيم??ان ،وب??ذلك ن??زل
اَلتنزيل ،وتولى بعضهم بعضاً ،فلما قبض رسول هّللا صلى هللا علي??ه وس??لم وارتف??ع
الوحي ح??دثت أم??ور تن??ازع الن??اس في ص??حتها منهم ،وذل??ك غ??ير يقين ،وال ي ْق َط? ع
عليهم بها ،واليقين من أمورهم ما تقدم ،وما روى مما كان في أحداثهم بعد ن??بيهم
وهللا
ّ صلى هللا عليه وسلم فغير متيقن ،ب??ل ه??و ممكن ،ونحن نعتق??د فيهم م??ا تق??دم،
أعلم بما حدث ،وهّللا ولي التوفيق.
وذكر أن الحسن قال عند موته :لقد َحا َق ْت ش??ربته ،وبل??غ أمنيت?ه? وهللا ال َو َفى له??ا
اش? ُّي الش??اعر ،وك??ان من بما َو َعدَ ،وال صدق فيم??ا ق??ال .وفي فع??ل جع??د يق??ول ال َّن َج ِ
علي ،في شعر له طويل: ّ يع ِة
شِ َ
ـول الـثـاكـل
َب ْع ُد ُبكاء ال ُم ْـع ِ جعـ ُد َبـ ِّكـي ِه والتـسـامــي
ف َومِنْ ناعل هي األرض من َحا ٍ لم ُي ْس َبل الستر علـى مـثـل
يرفعها بالـسـنـد الـغـاتـل شـبـت َلـ ُه نـــارهْ كان إذا
وفـرد قـوم لـيس بـاآلهـل كيمـا يراهـا بـائس ُم ْـرمِـل
أنضجه لـم يغـل مـن آكـل يغلي بنيء اللـحـم ،حـتـى إذا
للزمن المستحرج الـمـاحـل أس َل َمـ َنـا هُـ ْلـكـه
أعني الذي ْ
قال المسعودي رحمه هللاّ :ووجدت في كتاب األخبار ألبي الحسن علي بن محمد
بن سليمان النوفلي عن صالح بن علي بن عطية األص??م ق??ال :ح??دثنا عب??د ال??رحمن
هللا
بن العباس الهاشمي ،عن أبي عون صاحب الدولة ،عن محمد بن علي بن عبد ّ
بن العب??اس ،عن أبي??ه ،عن ج??ده ،عن العب??اس بن عب??د المطلب ،ق??ال :كنت عن??د
رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم إذ أقب??ل علي بن أبي ط??الب ،فلم??ا رآه أَ ْس ? َف َر في
وجهه ،فقلت :يا رسول هللاّ ،إنك ل ُت ْسفِر في وجه هذا الغالم ،فقال :يا َع َّم رسول هّللا ،
وهللا هّللا ُ أشد حبا ً له ِم ِّني ?،إنه لم يكن ُّ
نبي إال وذريته? الباقية بعدي من ِّ
صفحة 480 :
ِي الن??اس ص ? ْلب ه??ذا ،إن??ه إذا ك??ان ي??وم القيام??ة ُدع َ
ص ? ْلبه ،وإن ذري??تي? بع??دي من ُ
ُ
بأس??مائهم واس??ماء أمه??اتهم س??تراً من هّللا عليهم ،إال ه??ذا وش??يعته ف??إنهم ُي??دْ َع ْونَ
بأسمائهم السماء آبائهم لصحة والدتهم.
وإنا إليه راجعون ،ثم ب َك ْت وقالت :مات س ّيد المسلمين ،وابن بنت رسول هّللا ص??لى
هللا علي??ه وس??لم ،فق??ال معاوي??ة :نعم??ا وهّللا م??ا فعلت ،إن??ه ك??ان ك??ذلك أهالً أن تبكي
عليه ،ثم بلغ الخبر ابن عباس رض??ي هّللا عنهم?ا ،ف?راح ف?دخل على معاوي??ة ،ق?ال:
علمت يا ابن عباس أن الحسن توفي ،قال :ألذلك كبرت .قال :نعم ،قال :أما وهّللا ما ُ
بس?ادَ ٍة ُح ْف َر َت? َك ،ولئن أص??بنا ب??ه قبل??ه بس??يد
?ؤخر أجل??ك ،وال ُح ْف َر ُت??ه َ
َم ْو ُته? بال??ذي ي? ِّ
المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين ،ثم بعده بس??يد األوص??ياء ،فج??بر هّللا
تلك المصيبة ،ورفع تلك ال َع ْث َرة ،فقالَ :و ْي َح َك يا ابن عباس ما كلمتك قط إال وج??دتك
معداً.
وفي نسخة أنه لما صالح الحسن معاوية كبر معاوية في الخضراء ،وكبر أهل
الخضراء ،ثم كبر أهل المسجد بتكبير? أه??ل الخض??راء ،فخ??رجت فاخت??ة بنت قرض??ة
سر َك هّللا يا أمير المؤمنين ما ه??ذا ال??ذي بلغ??ك .ق??ال :أت??اني من خوخة لها ،فقالتَ :
البشي ُر بصلح الحسن وانقي??ادهَ ،ف? َذ َك َر ْت ق??ول رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم إن
إب??ني ه??ذا س??يد أه??ل الجن??ة ،وسيص??لح هللا ب??ه بين فئ??تين عظيم??تين من المؤم??نين
فالحمد هّلل الذي جعل فِ َئتِي إحدى الفئتين.
ولما صالح الحسن معاوية لما ناله من أهل الكوفة وم??ا ن??زل ب??ه أش?ار عم??رو بن
العاص على معاوية -وذلك بالكوفة -أن ي?أمر الحس??ن فيق?وم فيخطب الن?اس ،فك??ره
ذلك معاوية ،وقال :ما أريد أن يخطب بالناس ،قال عمرو :لكني أريد أن يب??دو عي??ه
في الناس بأنه يتكلم في أمور ال ي??دْ ِري م??ا هي ،ولم ي??زل ب??ه ح??تى أطاع??ه .فخ??رج
معاوية فخطب الناس ،وأمر رجالً أن ينادي بالحسن بن علي ،فق??ام إلي??ه ،فق??ال :قم
الناس ،فقام فتشهد في بديهته ،ثم قال :أما بعد أيه??ا الن??اس ،ف??إن هللا َ يا حسن فكلم
هداكم بأولناَ ،و َح َقنَ دماءكم بآخرنا ،وإن لهذا األمر مدة ،والدنيا د َُولٌ ،ق??ال هّللا ع? ّ
?ز
وجل لنب ّيه محمد صلى هللا عليه وسلم :قل إن أدري أقريب أم بعي??د م??ا توع??دون،
إنه يعلم الجهر من الق??ول ويعلم م??ا تكتم??ون ،وإن أدري لعل??ه فتن??ة لكم ومت??اع إلى
حين ثم ق??ال في كالم??ه ذل??ك :ي??ا أه??ل الكوف??ة ،ل??و لم ُت? ْ?ذ َهلْ نفس??ي عنكم إال لثالث
خص??ال ل?? ُذهِلتَ :م ْق َتلكم ألبي ،وس??لبكم ثقلي ،وطعنكم في بط??ني ،وإني ق??د ب??ايعت
معاوية ،فاسمعوا له وأطيعوا.
س َرادق الحسن َو َر ْحله ،وطعنوا ب??الخنجر في جوف??ه، وقد كان أهل الكوفة انتهبوا ُ
فلما تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح.
خطبة للحسن
علي رضي هّللا عنه وكرم هّللا وجهه اعتلَّ ،فأمر ابن??ه الحس??ن رض??ي هّللا وقد كان ّ
هللا وأثنى عليه ،ثم ق??ال :إن عنه أن يصلى بالناس يوم الجمعة ،فصعد المنبر فحمد ّ
هّللا لم يبعث نب ّيا ً إال اختار له نقيبا ً َو َرهْ طا ً وبيتاً ،فو الذي بعث محمداً بالحق نب ّي?? ا ً ال
ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إال نقصه? هللا من َع َمله مثله ،وال تكون علينا دول??ة
إال وتكون لنا العاقبة ،ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.
خطبة أخرى
هللا عنه في أيامه في بعض مقاماته أنه قال :نحن حزب ومن خطب الحسن رضي ّ
هّللا
?رة رس??ول ص??لى هللا علي??ه وس??لم األقرب??ون ،وأه??ل بيت ?ه? هللا المفلح??ونَ ،و ِع ْت? َ
ّ
َّ
الطاهرون الطيبون ،وأحد الثقلين اللذين َخلفهما رسول هللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم،
والث??اني كت??اب هّللا ،في??ه تفص??يل? ك??ل ش??يء ،ال يأتي??ه الباط??ل من بين يدي??ه ،وال من
َخ ْلفِه ،والمعول عليه في كل شيء ،ال يخطئنا تأويله ،بل نتيقن حقائق??ه ،فأطيعون??ا،
هللا والرس??ول وأولي األم??ر مقرون ?ة? ف??إن
ف??إنَّ طاعتن??ا مفروض ?ة? إذ ك??انت بطاع??ة ّ
تنازعتم في شيء َفردُّوه إلى هّللا والرس??ول ?...ول??و َر ُّعوه إلى الرس??ول ،وإلى أولي
األمر منهم ،لعلمه الذين يستنبطونه منهم وأح??ذركم اإِل ص??غاء لهت??اف الش??يطان إن??ه
لكم عدو مبين ،فتكون??ون كأوليائ??ه ال??ذين ق??ال لهم :ال غ??الب لكم الي??وم من الن??اس
ص على عقيب??ه وق??ال :إني ب??ريء منكم إني وإني جار لكم ،فلما ت??راءت الفئت??ان َن َك َ
أرى م?اال ت??رون فتلق?ون للرم?اِح أزرا ،وللس??يوف ج??زرا ،وللعم??د خط?أ ،وللس??هام
َغ َرضاً ،ثم ال ينفع .نفسا َ إيمانها لم تكن آمنت من قب??ل أوكس??بت في إيمانه??ا خ??يراً،
وهللا أعلم.
ّ
الز ْجر فإنه سيقتل ِم َّنا النصف وينجو الباقون ،فقيل له :وكيف ذلك .ق??ال: إن صدق َّ
صابا ً بإحدى عينيه ،فلما وصل إليهم قال لحج??ر :إن أم??ير أما ترون الرجل المقبل ُم َ
المؤمنين قد أمرني بقتلك يا رأس الضالل ومع??دن الكف??ر والطغي??ان والمت??ولي ألبي
تراب وقتل أصحابك ،إال أن ترجعوا عن كف??ركم ،وتلعن??وا ص??احبكم وتت??برؤوا? من??ه،
س? ُر علين??ا مم??ا
فقال ُح ْجر وجماعة ممن ك?ان مع?ه :إن الص?بر على ح?د الس?يف أل ْي َ
ب إلينا من دخول النار، َتدْ ُعو َنا إليه ،ثم القدوم على هّللا وعلى نبيه? وعلى وصيه? َ
أح ُّ
وأجاب نصف من كان معه إلى البراءة من علي ،فلما ُق ِّد َم حجر ل ُي ْقتل قال :دع??وني
أج َزع?ا ً من الم??وت .فق??ال :ال، أصلي ركع??تين ،فجع??ل يط??ول في ص??الته ،فقي??ل ل??هَ :
ف من ه??ذه ،وكي??ف ال أخ? َّولكني ما تطهرت للصالة قط إال صليت ،وم??ا ص??ليت ق?ط َ
أجزع ،وإني ألرى قبراً محفوراً ،وس??يفا ً مش??هوراً و َك َفن?ا ً منش??وراً ،ثم تق??دم فنح??ر،
وألحق به من وافقه على قوله من أصحابه ،وقيل :إن قتلهم كان في سنة خمسين.
وأولها:
تدنو بزينتها لكل جهول الحرب أول ما تكون فتية
ثم قال:
ما في القلوب تشب الحروب ،واألمر الكبير يدفعه األمر الصغير،
وتمثل?:
وإنما القرم مـن األفِـيل قد َيلحق الصغير بالجلـيل
وتسحق ال َّن ْخل منَ الفسيل
?دء األم??ر
?ر الن?اس بب? ِ ثم زاد يقينا ً إلى ذلك ش?هادة أبي م??ريم الس?لولي ،وك?ان ْ
أخ َب َ
س??مية? سمية? أم زياد في الجاهلية على زنا ،وكانت ُ وذلك أنه جمع بين أبي سفيان و ُ
من ذوات الراي??ات بالط??ائف ت??ؤدي الض??ريبة? إلى الح??ارث بن َك َل َح? َة ،وك??انت ت??نزل
بالموضع الذي تنزل في??ه البغاي??ا بالط??ائف خارج?ا ً عن الحض??ر في محل??ة يق??ال له??ا
حارة البغايا.
وكان سبب ادعاء معاوية له فيما ذك??ر أب??و عبي??دة معم??ر بن الم َّثنى أن علي?ا ً ك??ان
َوألَه فارس حين أخرج منه??ا س??هل بن ُح َني??ف ،فض??رب زي??اد ببعض??هم بعض?ا ً ح??تى
غلب عليه??ا ،وم??ا زال يتنق??ل? في ُك َو ِرهَ??ا ح??تى ص??لح أم??ر ف??ارس ،ثم َواله على
هللا وس??الما ً ولدي??ه
أصطخب .،وك??ان معاوي??ة يته??دد ،ثم أخ??ذ ُب ْس?ر بن أرط??اة عبي??د َّ
وكتب إليه يقسم ليقتلنهما إن ِلم يراجع ويدخل في طاعة معاوية وكتب معاوي??ة إلى
ني زياد ،وكتب إلى زياد أن يدخل في طاعت??ه َو َي? ُر َّده إلى عمل??ه، ُب ْسر أال يعرض أل ْب ْ
فقدم زياد على معاوية ،فصالحه على مال وحلي ،ودعاه معاوي??ة إلى أن يس??تحلفه،
فأبى زياد ذلك ،وك??ان المغ??يرة بن ش??عبه ق??ال لزي??اد قب??ل قدوم??ه على معاوي??ةْ :أرم
ضولَ ،فإن هذا األمر ال يمد إليه أحد يداً إال الحس??ن صى ،ودع عنك الفُ ُ بالغرض األق َ
فأش? ْر علي ،ق??ال:بن علي وقد بايع لمعاوية ،فخذ لنفسك قبل التوطين ،فقال زي??ادِ :
ص?ل َ حبل?ك بحبل?ه ،وأن تع??ير الن?اس من?ك أذن?ا ً أرى أن تنق??ل أص?لك إلى أص?لهَ ،و َت ِ
دَرة فتحيي??ه وال منبته? وال َم َ أأغرس عوداً في غير ِ ص ّماء ،فقال زياد :يا ابن شعبةْ ، ً
برأي ابن شعبة ،وأرسلت ْ ع ِْر َق فيسقيه .ثم إن زياداً عزم على قبول الدعوى وأخذ َ
صفحة 485 :
ش? َف ْت عن إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية ،فأتاها ف??أذنت ل??ه و َك َ
شعرها بين يديه ،وقالت :أنت أخي أخبرني? بذلك أبو م?ريم ،ثم أخرج?ه معاوي?ة إلى
السلولى فقال :أشهد أن أبا سفيان َق ِد َم علين??اِ المسجد ،وجمع الناس ،فقام أبو مريم
بالطائف وأنا خ َم??ار في الجاهلي??ة ،فق??ال :ابغ??ني بغي?اً ،فأتيت??ه وقلت ل??ه :لم أج??د إال
على ذفرها وقذرها ،فق??ال ل??ه زي??اد: ِ سمية ،فقال :ائتني بهاجارية الحارث بن َك َلدَ ة ُ
مهالً ي??ا أب??ا م??ريم ،إنم??ا بعثت ش??اهداَ ولم تبعث ش??اتماً ،فق??ال أب??و م??ريم :ل??و كنتم
أعفيتم??وني? لك??ان أحب إ َل َّي ،وإنم??ا ش??هدت بم??ا ع??اينت ورأيت ،وهّللا لق??د أخ??ذ بكم
درعه??ا ،وأغلقت الب??اب عليهم??ا وقع??دت دهش??اناً ،فلم ألبث أن خ??رج َع َل َي يمس??ح?
جبينه ?،فقلتَ :م ْه يا أبا سفيان ،فقال :ما أصبت مثلها ي??ا أب??ا م??ريم ،ل??وال اس??ترخاء
من ثديها وذف??ر من فيه??ا ،فق??ام زي??اد فق?ال :أيه??ا الن?اس ،ه??ذا الش??اهد ق??د ذك??ر م??ا
سمعتم ،ولس?ت أدري ح?ق ذل?ك من باطل?ه ،وإنم?ا ك?ان عبي?د ربيب?ا ً م?بروراً أو ل َي? ا ً
مشكوراً ،والشهود أعلم بما قالوا ،فقام ي??ونس بن عبي??د أخ??و ص??فية بنت عبي??د بن
س َم َّية -فقال :يا معاوي??ة ،قض??ى رس??ول أسد بن عالفي الثقفي -وكانت صفية موالة ُ
هللا صلى هللا عليه وسلم ،أن الولد للفراش وللعاهر الحج??ر ،وقض??يت أنت أن الول??د ّ
ً هّللا ً َ َ َ
للعاهر وأن الحجر للفراشُ ،مخالفة لكتاب تعالى ،وانصرافا عن سنة? رسول هللا
وهللا ي??اّ صلى هللا عليه وسلم ،بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان ،فقال معاوية:
يونس لتنتهين أو ألطيرن بك طيرة بطيئا ً وقوعها ،فق?ال ي??ونس :ه??ل إال إلى هّللا ثم
أق?ع .ق?ال :نعم وأس?تغفر هّللا ،فق?ال عب?د ال??رحمن بن أ ّم الحكم في ذل?ك ويق??ال :إن??ه
ليزيد بن مفرغ الحميري:
ُم َغ ْل َغلً َة عن الرجل اليمـانـي أال أبلغ معـاوية بـن َح ْـرب
وترضى أن ُيقال :أ ُبو َك زاني أتغضب أن ُيقال :أ ُبـو َك َعـف
َك ِر ْحم الذيل من ولـد األتـان فأشهد أن ِر ْحـ َمـ َك مـن زياد
فقال معاوية لعمرو بن العاص :هل تعرف هذا .قال :ال ،قال :هذا الذي يقول أب??وه
يوم صِ َفين:
وأك َث َر اللـوم ومـا أقـالَّ اع َتال
ت ال َّنفس لما ْ إني َ
ش َر ْب ُ
قدعالج الحياة حتى َمـالَّ أع َور يبغي أهْ َل ُه مـحـالّ ْ
شـال أشلُّهم بذي ال ُك ُعوب َ ال ُبـ َّد أن َي ُغـل َّ أو ُي َفـال
ـــريم َولَّـــى
في َك ِ ال َخـ ْي َر عـــنـــدي
وكان من التوفيق قتل ابن هاشم أمر ُت َك أمراً حازما ً فعصي َتنِـي
حز ال َغـالَصـم
أعان عليا ً يوم َ أليس أبوه يا مـعـاوية الـذي
بصفين أمثال البحور الخضارم ينثن حتى جرت من دمائنـا ِ فلم
ويوشك أن تقرع به سن نـادم شبه? شيخـه وهذا ابنه ،والمرء ُي ْ
فقال معاوية:
إلى هّللا في يوم العصيب القماطر أرى العفو عن ُع ْل َيا قريش وسـيلةً
بإدراك ثأري في لؤي وعـامـر الغدَ ا َة ابن ه ٍ
َاشـم ولست أرى َق ْتلِي َ
وز َل ْت به إحدى الجدود العـوائر بل العفو عنه بعد ما بان ُج ْـر ُمـه
نـهـابـر
ِ علينا فأردته ِرمـاح فكان أبوه يوم صـفـين جـمـرة
وحضر عبد هّللا بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية ،فقال معاوية ?:من يخ??برني? عن
هللا :ي??ا أم??ير المؤم??نين ،أم??ا الج??ود فابت??ذال
الجود والنج??دة والم??روءة .فق??ال عب??د ّ
الم??ال ،والعطي??ة قب??ل الس??ؤال ،وأم??ا النج??دة ف??الجراءة على األق??وام ،والص??بر عن??د
أزورار األقدام ،وأما المروءة فالصالح في الدين ،واإلصالح للمال ،والمحام??اة عن
الجار.
بين معاوية ومحمد بن أبي بكر
س بن س?عد بن ُع َب?اد َة عن مص?ر َو َّجه مكان?ه ولما صرف علي رض?ي هللا عن?ه ق ْي َ
محمد بن أبي بكر ،فلما وصل إليها كتب إلى معاوي??ة كتاب ?ا ً في??ه :من محم??د بن أبي
بكر ،إلى الغاوي معاوية بن صخر ،أما بعد ،فإن هّللا بعظمت??ه وس??لطانه خل??ق خلق??ه
بال عبث منه ،وال ضعف في قوته ،والحاجة -به إلى خلقهم ،ولكن??ه خلقهم عبي??داً،
وجعل منهم غو ّيا ً ورش??يداً ،وش??قيا ً وس??عيداً ،ثم اخت??ار على علم واص??طفى وانتخب
منهم محمداً صلى هللا عليه وسلم ،فانتخبه? بعلمه ،واصطفاه برسالته ،وائتمنه? على
وحي??ه ،وبعث ?ه? رس??والً ومبش??راً ون??ذيراً ووكيالً فك??ان أول من أج??اب وأن??اب وآمن
وسلّم أخوه وابن عمه علي بن أبي ط??الب :ص??دقه ب??الغيب المكت??وم، وصدق وأسلم َ
أثره على كل حميمَ ،و َو َقاه بنفسه كل ه َْول ،وحارب َح ْربه ?،وسالم سِ ْل َمه ،فلم ي??برح?
مبتذالً لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقا ً
ساميه? وأنت أنت ،وهو ال نظير له فيمن اتبعه ،وال مقارب له في فعله ،وقد رأيتك ُت َ
هو ،أصدق الناس نية ،وأفضل الناس ذرية ،وخ??ير الن??اس زوج??ة ،وأفض??ل الن??اس
ابن عم :أخوه الشاري بنفس?ه? ي??وم موت??ه ،وعم??ه س??يد الش??هداء ي??وم أح??د ،وأب??وه
هللا صلى هللا عليه وس?لم ،وعن َح ْو َزت?ه ?،وأنت اللعين ابن اللعين، الذاب عن رسول ّ
الغ َوائ??ل ،وتجه??دان فيِيان لرسول هّللا صلى هللا علي??ه وس??لم َ
لم تزل أنت وأبوك َت ْبغ ِ
إطفاء نور هّللا ،تجمعان على ذلك الجموع ،وتبذالن فيه المال،
صفحة 488 :
وتؤ َلبان عليه القبائ?ل ،وعلى ذل?ك م?ات أب?وك ،وعلي?ه َخ َل ْفت?ه ،والش?هيد علي?ك من
ت?دني ويلج?أ إلي?ك من بقي?ة? األح?زاب ورؤس?اء النف?اق ،والش?اهد لعلي -م?ع فض?له
المبين القديم -أنصاره الذين معه وهم الذين .ذكرهم هّللا بفضلهم ،وأث??نى عليهم من
رونَ الحق في اتباعه ،والش??قاء المهاجرين واألنصار ،وهم معه كتائب وعصائبَ ،ي ْ
هّللا
في خالفه ،فكيف -يا لك الويلَ -ت ْع ِدلُه نفسك بع??ده وه??و وارث رس??ول ص??لى هللا
عليه وسلم ،ووصيه وأبو ولده :أول الناس له أتباع ?اً ،وأق??ربهم ب??ه عه??داً ،يخ??بره
بسره ،ويطلعه على أمره ،وأنت ع??دوه وابن ع??دوه ،فتم َّت ْع في دني??اك م??ا اس??تطعت
بباطلك ،وليمددك ابن العاص في غوايتك ،فكأن أجلك قد انقضى ،وكي??دك ق??د َوهَى،
ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا ،واعلم أنك إنم??ا تكاي??د رب??ك ال??ذي أ ِم ْن َت َكي??ده،
ويئست? من َر ْوحه .فهو لك بالمرصاد ،وأنت منه في غرور ،والسالم على من اتبع
الهدى.
فكتب إليه معاوية ?:من معاوي??ة بن ص??خر ،إلى ال?زاري على أبي?ه محم??د بن أبي
بكر .أما بعده :فقد أتاني كتا ُب َك تذكر فيه ما هّللا أهْ لًه في عظمته وقدرت??ه وس??لطانه،
وما اصطفى به رسول هللاّ صلى هللا عليه وس??لم ،م??ع كالم كث??ير ل??ك في??ه تض??عيف،
وألبيك فيه تعنيف ،ذكرت في??ه فض??ل ابن أبي ط??الب ،وق??ديم س??وابقه ،وقرابت??ه إلى
رس??ول هّللا ص??لى هللا علي??ه وس??لم ،و ُم َواس??اته إي??اه في ك??ل َه? ْ?ول وخ??وف ،فك??ان
علي وعيبك لي بفضل غيرك ال بفض??لك ،فاحم??د ر ّب? ا ً ص??رف ه??ذا الفض??ل احتجاجك َ
وحقه الزما ً لن??ا
عنك ،وجعله لغيرك ،فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب َ
مبروراً علينا ،فلما اختار ّ
هللا لنبي?ه? علي??ه الص??الة والس??الم ،م??ا عن??ده ،وأتم ل??ه م??ا
هللا إليه صلوات هّللا عليه ،فكان أب??وك وعده ،وأظهر دعوته ،وأ ْب َل َج حجته ،وقبضه ّ
وفاروقه أول من ابتزه َح َقه ،وخالفه على أمره ،على ذل??ك اتفق??ا وا َّتس??قا ،ثم إنهم??ا
دَ َع َواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ،وتلكأ عليهما ،فه َّما به الهموم ،وأرادا ب??ه العظيم،
وس?لّم لهم??ا ،وأقام??ا ال يش??ركانه في أمرهم??ا ،وال ُي ْطلِعان??ه على
ثم إن??ه ب??ايع لهم??ا َ
سرهما ،حتى قبضهما هللا ،ثم قام ثالثهما عثمان فه??دى به??ديهما وس??ار بس??يرهما،
فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه األقاصي من أهل المعاصي ،فطلبتما له الغوائل،
وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه ُم َناكما ،فخذ حذرك ي??ا ابن أبي بك??ر ،وقس
شبرك بفترك ،يقصر عن أن توازي أو تساوي َمنْ َي ِزنُ الجبال بحلم??ه ،ال يلين عن
َق ْس ٍر قناته ،وال يدرك ذو مقال أناته أبوك مهد ِم َهاده ،وبنى لملكه وس?ادة ،ف?إن ي?ك
ما نحن فيه صوابا ً فأبوك استبدَ به ونحن شركاؤه ،ولوال ما فعل أب??وك من قب??ل م??ا
خالفنا ابن أبي طالب ،ولسلمنا إليه ،ولكنا رأينا أباك فعل ذل??ك ب??ه من قبلن??ا فأخ??ذنا
بمثله ،فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك ،والسالم على من أناب.
تلزمني? لك طاعة ،وأنا أدعوك اليوم إلى م??ا دعوت??ك إلي??ه أمس ،فإن??ك ال ترج??و من
وهللا َر ّقت األجن??اد،
ّ البق??اء إال م??ا أرج??و ،وال تخ??اف من القت??ال إال م??ا أخ??اف ،وق??د
وذهبت الرجال ،ونحن بنو عبد مناف ،وليس لبعض??نا على بعض فض??ل يس??تذل ب??ه
عزيز ،ويسترق? به حر ،والسالم.
وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة ،قال الن??وفلي :وفي ذل??ك يق??ول الس??يد بن
محمد الحميري:
َمنْ كان أ ْث َب َت َها في الـدين ْأو َتـا َدا سائل قريشا ً يها إن كنت ذا َع َمـه
علما ،وأطهرهـا أهـال وأوالدا من كان أقدمها سلما ،وأكثـرهـا
هّللا
تدعو مع أوثـانـا ً وأنـدادا وح َد هّللا إذ كانـت مـكـذبة
من َّ
عنها ،وإن َبخِلوا في أزمة جـادا ْ
من كان ُيقدِم في الهيجاء إن نكلوا
حلماً ،وأصدقها وعـداً وإيعـادا من كان أعدلها حكماً ،وأقسطهـا
إن أنت لم تلق لألبرار حـسـادا صدَ قوك فلم َيعدوا أبا حسـن إن َي ْ
ـحـادا ومن عدي لحق اللّـه ُج َّ ص َلف إن أنت لم تلق من َت ْي ٍم أخا َ
َرهْ ط العبيد ذوي جهل وأوغـادا أو من بني عامر ،أو من بني? أسد
صـدَّ ادا َ هّللا عن مستقيم صراط أورهط سعد ،وسعد كان قد علموا
لوال خمول بني زهر لما سـادا قوم َت َد َ
اع ْوا زنيمـا ثـم سـادهُـ ُم
وكان سعد وأسامة بن زيد وعبد هّللا بن عمر ومحمد بن سلمة ممن قعد عن علي
بن أبي طالب ،وأبوا أن يبايعوه هم غيرهم ممن ذكرنا من القُ َّعاد وفل??ك أنهم ق??الوا:
أعطِ ن?ا س?يوفا ً نقات?ل به?ا مع?ك ،ف?إذا ض?ربنا به?ا
إنه?ا فتن?ة ،ومنهم من ق?ال لعليْ :
المؤمنين لم تعم?ل فيهم و َن َب ْت عن أجس?امهم ،وإذا ض?ربنا به?ا الك?افرين َ
س? َر ْت في
علي ،وقال :ولو علم هللا فيهم خيراً ألسمعهم ،ولو أسمعهم أبدانهم ،فأعرض عنهم ّ
لتولوا وهم معرضون.
بين معاوية وأبي الطفيل الكناني
وذكر أبو مخنف ل??وط بن يح??يى وغ??يره من األخب??اريين أن األم??ر لم??ا أفض??ى إلى
معاوي??ة أت??اه أب??و الطفي??ل الكن??اني فق??ال ل??ه معاوي??ة :كي??ف َوج?دُك على خليل??ك أبي
الحسن .قال :كوجد أم موسى على موسى ،وأشكو إلى هللا التقصير ،فق?ال معاوي?ة،
أكنت فيمن حضر قتل عثم??ان .ق??ال :ال ،ولك??ني فيمن حض??ر فلم ينص??ره ،ق??ال :فم??ا
منعك من ذلك وقد كانت نصرته? عليك واجبة .ق?ال :منع?ني م?ا منع?ك إذ ت?ربص ب?ه
ريب المنون وأنت بالشأم ،قال :أو ما ترى طلبي بدمه نصرة ل??ه .ق??ال بلى ،ولكن??ك
وإياه كما قال الجعدي.
فكتب إليه قيس بن سعد :أما بعد ،فإنم??ا أنت وث??ني ابن وث??ني ?،دخلت في اإلس??الم
كرهاً ،وخرجت منه? طوعاً ،لم يقدم إيمانك ،ولم يح??دث نفاق??ك ،وق??د ك??ان أبي أو َت? َ
?ر
قوسه ،ورمى غرضه ،فشعب به من لم يبلغ عقبه ،وال ش??ق ُغ َب??اره ،ونحن أنص??ار
الدين الذي منه? خرجت ،وأعداء الدين الذي فيه دخلت.
ودخل قيس بن سعد بعد وفاة علي ووق??وع الص??لح في جماع??ة من األنص??ار على
معاوية ،فقال لهم معاوية ?:يا معشر اآلنص??ارِ ،ب َم تطلب??ون م??ا قبلي .فوهّللا لق??د كنتم
ص?? ِّفينَ ح??تى رأيت المناي??ا تل َّظى في ي??وم ِ
ِ قليالً معي كث??يراً َّ
علي ،ولض??للتم َح?? ِّدي
هللا ما ح??اولتم
أسنتكم ،وهجوتمونى في أسالفي بأشد من وقع األسنة ،حتى إذا أقام ّ
ميله قلتمْ :ار َع فينا وصية رس?ول هّللا ص??لى هللا علي?ه وس??لم ،هيه?ات ي?أبى الحقِينُ
باإلس??الم الك??افي ب??ه هّللا ،ال بم??ا ّ
تمت ب??ه إلي??ك ِ الع??ذرة ،فق??ال قيس :نطلب قبل??ك
األحزاب ،وأم عداوتنا لك فلو ِش? ْئت كففته??ا عن??ك ،وأم??ا هجاؤن??ا إي??اك فق??ول ي??زول
باطله ،ويثبت? حقه ،وأما استقامة األم??ر فعلى ك??ره ك??ان من??ا ،وأم??ا َفلُّ َن??ا ح??دك ي??وم
طاع َت ُه طاعة هّلل ،وأما وصية? رسول هّللا بن??ا فمن آمن
صفين فإنا كنا مع رجل نرى َ
هللا ي??د تحج??زك من??ا ي??ا
به رعاها بعده ،وأما قول?ك ي?أبى الحقين الع??ذرة فليس دون ّ
معاوية ،فقال معاوية يموه :أرفعوا حوائجكم.
العباس بن ربيعة
األغر التيمي ،قال :بينا أنا واقف بص??فينّ وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى عن أبي
إذ مر بي العباس بن ربيعة مغفراً بالسالح ،وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهم??ا
ش ْفرتها،
ش ْع َل َتا نار أو عينا ْأر َقم ،وبيده صفيحة له يمانية ي ِّقلبها ،والمنايا تلوح في َ
ُ
ص ْعب ،فبينا هو يبعثه? ويمنعه? ويلين من عريكته إذ هتف به هاتف وهو على فرس َ
يقال له َع َرار بن أدهم من أهل الشام يا عباس ،هلم إلى النزال ،ق??ال :ف??النزول إذاً،
فإنه آيا من الحياة ،فنزل إليه الشامي وهو يقول:
أو تنزلون فإنا معشـر ُنـ ُزل ُ إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
ثم عصر فضالت درعه في محزمه يريد منطقته ودفع فرسه إلى غالم له أس??ود
كأني وهللا أنظ??ر إلى فالف??ل ش??عره ،ثم زح??ف ك??ل واح??د منهم??ا إلى ص??احبه ،وك??ف
الفريقان أعنة الخيول ينظرون ما يك??ون من ال??رجلين ،فتكافح??ا بس??يفيهما مل ّي? ا ً من
نهارهما ال يصل واحد منهما إلى صاحبه لكم??ال ال َم ِت? ِه ?،إلى أن لح?ظ العب??اس وهن?ا ً
في درع الشامي فأهوى إليه بيده وهتكه إلى َث ْندُؤ َته ،ثم عاد لمحاولته ،وق??د أخ??رج
له مفتق ال??درع ،فض??ربه العب??اس ض??ربة انتظم به??ا ج??وانح ص??دره ،فخ??ر الش??امي
خت له??ا األرض من تحتهم ،وانس??اب العب??اس في لوجه??ه ،فك??بر الن??اس تكب??يرة ار َت ْ
خزهم وينص??ركم الناس ،فإذا .قائل يقول من ورائي :قاتلوهم يعذبهم هّللا بأيديكم و ُي ِ
فالتفت فإذا بعلي رضي هّللا عنه ،فقال :ي??ا ُّ شفِ صدور قوم مؤمنين اآلية عليهم و َي ْ
األغر ،من المبارز لعدونا .قلت :ابن أخيكم العب??اس بن ربيع??ة ،ق??ال وإن??ه له??و ّ ابن
العباس قلت :نعم ،فقال :يا عباس ،ألم أ ْن َه َك وعب َد هّللا بن عباس أن تحال بمركز أو
تبارزا أحداً قال :إن ذلك كما قلت ،ق??ال علي :فم??ا َع? َدا مم??ا َب? َدا .ق??ال :أف??أدعى إلى
البراز فال اجيب .قال :طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوك ،وتغي َظ واس??تطار ،ثم
تطامن وسكن ورفع يديه مبتهالً ،فقال :اللهم اش??كر للعب??اس مقام??ه ،واغف??ر ذنب??ه،
اللهم إني قد غفرت له فاغفر له ،وتأسف معاوية على َع َرار بن أدهم ،وق??ال :م??تى
هللا ،أال رجل يشري? نفسه يطلب بدم َع َرار ،فانتدب ينطق فحل بمثله? أبطل دمه الها ّ
ل??ه رجالن من لخم من أه??ل الب??أس ومن ص??ناديد الش??ام ،فق??ال :أذهب??ا فأيكم??ا قت??ل
العب??اس فل??ه مائ??ة أوقي??ة من الت??بر ومثله??ا من اللُّ َجين وبع??ددهما من ب??رود اليمن،
?دع َواه إلى ال??براز ،وص??احا بين الص??فين :ي??ا عب??اس ي??ا عب??اس ،اب??رز إلى فأ َت َي??اه ف? َ
ال??داعي ،فق??ال :إن لي س??يداً أري??د أن أؤام??ره ،ف??أتى علي?ا ً وه??و في جن??اح الميمن?ة?
وهللا َل? َ?و َّد معاوي??ة أن??ه م??ا بقي من ب??ني
ّ يحرض الناس ،فأخبره الخ??بر ،فق??ال علي:
هاشم ناف ُخ ضِ ْر َم ٍة إال طعن في بطنه إطفاء لنور هّللا ويأبى هّللا إال أن يتم نوره ولو
كره الكافرون أما وهّللا ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم سوم الخسف
صفحة 493 :
حتى تعفو اآلثار ،ثم قال :يا عباس ،ن??اقلني س??الحك بس??الحي ،فناقل??ه ،ووثب على
فرس العباس ،وقصد اللخميين ،فلم يشكا أنه العباس ،فق??اال ل??ه :أذن ل??ك ص??احبك.
فتحرج أن يقول نعم ،فقال :أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ،وإن هللا على نص??رهم
لقدير .
وكان العباس أشبه الناس في جسمه وركوبه بعده ،فبرز له أحدهما فما أخطأه ،ثم
برز له االخر فألحقه باألول ،ثم أقب??ل وه??و يق??ول الش??هر الح??رام بالش??هر الح??رام،
والحرمات قص??اص ،فمن اعت??دى عليكم فاعت??دوا علي??ه بمث?ل? م??ا اعت??دى عليكم ثم
قال :يا عباس ،خذ سالحك وهات سالحي ،فإن عاد لك أحد فعد لي ،ونما الخبر إلى
معاوية فقال :قبح هّللا اللجاج إن??ه لعق??ور م??ا ركبت??ه ق??ط إال خ??ذلت ،فق??ال عم??رو بن
الع??اص :المخ??ذول وهللاّ اللخمي??ان ،والمغ??رور من غررت??ه ،ال أنت المخ??ذول ،ق??ال:
اسكت أيها الرجل فليس ه??ذا من ش?أنك ،ق?ال :وإن لم يكن ،رحم هّللا اللخم??يين ،وال
س? ُر لص??فقتك ،ق??ال :ق??د علمت ذل??ك، يق لحجت??كْ ،
وأخ َ أض? ُ
وهللا ْ
ّ أراه يفعل ،قال :ذلك
ولوال مصر وواليتها لركبت المنج??اة منه??ا ،ف??إني أعلم أن علي بن أبي ط??الب على
وهللا أعمت??ك ،ول??وال مص??ر الل??ذيتك ّ الح??ق وأنت على ض??ده ،فق??ال معاوي??ة :مص??ر
بص??يراً ،ثم ض??حك معاوي??ة ض??حكا ً ذهب ب??ه ك??ل م??ذهب ،ق??الِ :م َّم تض??حك ي??ا أم??ير
المؤم??نين ،أض??حك هّللا س??نك .ق??ال :أض??حك من حض??ور ذهن??ك ي??وم ب??ارزت علي ?اً،
ورأيت الم??وت عيان?اً ،ول??وَ وهللا يا عم??رو لق??د واقعت المناي??ا، ّ وإبدائك سوأ َت َك ،أما
هّللا
شاء لقتلك ،ولكن أبى ابن أبي طالب في قتلك إال تكرماً ،فقال عم??رو :أم??ا و إني
فاح َولَّ ْت عين??اك و َب? َدا َ
س? ْحرك و َب? َدا من??ك م??ا أك??ره لعن يمينك حين دعاك إلى البراز ْ
ذكره لك ،فمن نفسك فاضحك أودع.
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى أن معاوية برز في بعض أي??ام ص?فين أم?ام الن?اس
و َك َّر على ميسرة علي ،وكان علي فيه?ا في ذل?ك ال??وقت يع?بىء الن?اس ،فغ??ير على
ْألمته وجواده ،وخرج بألمة بعض أصحابهَ ،
وص?م َد ل??ه معاوي??ة ،فلم??ا ت??دانيا أ ْث َبت??ه
اف أه??ل ص? ّمعاوية فغمز برجليه على جواده وعلي -وراءه ،حتى فاته ودخ??ل في َم َ
علي رجال من مصافهم دونه ،ثم رجع وهو يقول: ٌّ الشام ،فأصاب
فوق طم ٍِّر كالعقاب الضاب َي ْ?ه لهف نفسي َفا َتنِي معاويه َ يا
وق?دم عم?روبن الع?اص من مص?ر على معاوي?ة في بعض األي?ام ،فلم?ا رآه معاوي?ة
قال:
ُ
التموت حيي تخطا َك المنايا يموت الصالحـونَ وأنـت ُ
فأجابه عمرو:
ولس?ت بميت ح?تى تم?وت وذك?ر أن ت م?ادمت ح ّي? ا ً
ت بمي ٍ فلس ُ
ْ
معاوية لما نظر إلى معسكر أهل العراق -وقد .أشرفت وأخذت الرج??ال مراتبه??ا من
ب الص??فوف كأن?ه أش? َق َر حاس?ر ال??رأس ي?ر َت ُ
علي على ف??رس ْ الص?فوف -ونظ??ر إلى ّ
يغرسهم في األرض غرسا ً فيثبتون كأنهم بنيان مرصوص ،قال لعمرو :يا أب??ا عب??د
هّللا ،أما تنظر إلى ابن أبي طالب وما ه??و علي??ه .فق??ال ل??ه عم??روَ :منْ طلب عظيم?ا ً
خاطر بعظيم.
صفحة 494 :
بسر بن أرطاة
وق??د ك??ان معاوي??ة في س??نة أربعين بعث ُب ْس ? َر بن أرط??اة في ثالث آالف ح??تى َق ?دِم
فتنحى ،وج??اء ُب ْس?ر ح??تى ص??عد المن??بر وته??دَّ د
َّ المدينة وعليها أبو أيوب األنصاري
أهل المدينة بالقتل ،فأجابوه إلى بيع??ة معاوي??ة ،وبل??غ الخ??بر علي?ا ً فأنف??ذ حارث??ة بن
قدامة السعدي في ال??ذين ووهب بن مس??عود في ال??ذين ،ومض??ى ُب ْس?ر إلى مك??ة ،ثم
سار إلى اليمن ،وكان عبيد هّللا بن العباس بها ،فخرج عنها ولحق بعده واس??تخلف
عليها عبد هّللا بن عبد ال َم َدان الحارثي ،وخلف ابنيه? عبد ال??رحمن وقُ َثم عن??د أمهم??ا
جويرية? بنت قارظ الكناني ،فقتلهما ُب ْسر وقتل معهما خاال لهما من ثقيف وق??د ك??ان
ُب ْسربن ْأر َطا َة الع??امري -ع??امر بن ل??ؤي بن غ??البَ -ق َت? ل َ بالمدين??ة وبين المس??جدين
خلقا ً كث??يراً من ُخ َزاع??ة وغ??يرهم ،وك??ذلك ب??الجرف قت??ل به??ا خلق?ا ً كث??يراً من رج??ال
ه َْمدَ ان ،وقتل بصنعاء خلقا ً كثيراً من األبناء ،ولم يبلغه عن أحد أنه يمالىء عليا ً أو
يهواه إال قتله ،ونما إليه خبر حارثة بن قدامة السعدي فه?رب ،وظف?ر حارث?ة ب?ابن
هللا بنأخي ُب ْسر مع أربعين من أه??ل بيت??ه ،فقتلهم ،وك??انت جويري??ة أ ُّم اب??ني عبي??د ّ
س ? ْعرها وهي من أجم??ل النس??اء العباس اللذين قتلهما ُب ْس ٌر تدور حول البيت ناشرة َ
وهي تِقول ترثيهما:
ّ
كالدرتين َتشظى عنهما الـصـدف س من اب َن ِّى اللذين هـمـا أح َّ هامن َ
ف َ
مختط ُ سمعي وقلبي ،فعقلي اليوم ابني للـذين هـمـا
س من َّ أح َّ هامن َ
مخ العظام فمخي اليوم مزدهـف ابني اللذين هـمـا س من َّ أح َّهامن َ
من قولهم ومن اإلفك الذي وصفوا ص َّدقت ما زعمـوا نبئت ُب ْسراً ،وما َ
مشحوذة ،وكذاك اإلثـم ُي ْقـ َتـرف أنحى على َود َِج ْي ابنـي مـرهـفة
بين معاوية وعمرو بن العاص ووردان
وذكر الواقدي قال :دخ?ل عم?رو بن الع?اص يوم?ا ً على معاوي?ة بع?د م?ا ك?بر ودق
ومعه مواله َو ْر َدانُ ،فأخذا في الحديث ،وليس عندهما غير وردان ،فقال عمرو :ي??ا
أرب لي فيهن ،وأم??ا أم??ير المؤم??نين ،م??ا بقي مم??ا تس??تلذه .فق??ال :أم??ا النس??اء فال َ
الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي فما أدري أيه??ا الين ،وأم??ا
يب فق??د الطعام فقد أكلت من لينه وطيب??ه ح??تى م??ا أدري أيه??ا أل??ذ وأطيب ،وأم??ا ال ِّط ُ
دخل خياشيمي? منه حتى ما أدري أيه أطيب ،فما شيء أل??ذ عن??دي من ش??راب ب??ارد
بني يدورون حولي ،فم??ا بقي من??ك ي??ا بني وبني َّ
في يوم صائف ،ومن أن أنظر إلى َّ
عمرو .قال :مال أغرسه فأصيب من ثمرته? ومن غلًته ،ف??الت َف َت معاوي??ة إلى َو ْردَانَ
فقال :ما بقي منك يا َو ْردَ انَ .قال :صنيعة? كريمة سنية أعلقها في أعن??اق ق??وم ذوي
فض??ل وأخط??ار ال يك??افئونني? به??ا ح??تى ألقى هللا تع??الى وتك??ون لعق??بي في أعق??ابهم
بعدي ،فقال معاويةَ :ت ّبا ً لمجلسنا سائر هذا اليوم ،إن هذا العبد غلبني وغلبك.
تركته
الع ْي ِن ثلثمائ??ة أل??ف دين??ار وخمس??ة وعش??رين أل??ف دين??ار ،ومن
وخلف عمرو من َ
الو ِر ِق ألف درهم وغلة مائتي ألف دينار بمصر وضيعته? المعروف??ة بمص??ر بالوه??ط َ
قيم ُتها عشرة آالف ألف درهم.
ير األسدي الشاعر من أبيات: وفيه يقول ابن َ
الز ِب ِ
عمرو السهمي ُت ْج ِبى له مصر ٍ على صـ ُروفُـه ْ
أخنت ُ ألم تر أن الدهر
وال جمعه َل َّما أتـيح لـه الـدهـر فلم ُي ْغ ِن عنه َح ْزمـه واحـتـيالـه
مكايدة عنـه وأمـوالـه الـدَّثـر بالع َراء وضـلـلـت سى مقيما َ وأم َ
ْ
ُ
معاوية زيا َد بن أبيه البصر َة وأعمالها ،وقال لما وفي سنة? خمس وأربعين َولّى
دخلها:
وآخرمحزون بنا ال نضرة مسرور بنا ال نسره
ٍ رب
أال َّ
أغ َرى في هذه السنة س??فيان بن ع??وف الع??امري ،وأم??ره أن يبل??غ وقد كان معاوية ْ
الناس الحزنُ بمن أصيب ب??أرض ال??روم،
َ الطوانة فأصيب معه خلق من الناس ،فع َّم
وبلغ معاوية أنّ يزيد ابنه لما بلغه خبرهم وهو على شرابه مع ندمائه قال:
يوم الطوانة من ح َمى ومن ُموم أهْ ِونْ َعلً ّي بما القت جموع ُهـ ُم
بدير ًمرانَ عندي أم كـلـثـوم إذا اتكأت على األنماط مرتفقـا
وذك??ر أن المغ??يرة ركب إلى هن??د بنت النعم??ان بن المن??ذر ،وهي في دي??ر له??ا في
ِير ِة مترهبة ،وهو أمير الكوفة يومئ??ذ ?،وق??د ك??انت هن??د عميت ،فلم??ا ج??اء ال??دير الح َ
استأذن عليها ،فأتتها جاريتها فقالت :هذا المغيرة يستأذن علي??ك ،فق??الت للجاري??ة:
س َع ٍر ،فلما دخل قعد عليها وقال :أنا المغيرة، ألقي إليه أثاثاً ،فألقت إليه وسادة من َ
فقالت له :قد عرفتك عامل المدرة ،فم??ا ج??اء ب??ك .ق??ال :أتيت??ك خاطب?ا ً إلي??ك نفس??ك،
رج ْع َت إال بحاجتك ،ولك??ني أخ??برك قالت :أما والصليب لو أردتني? لِد ِِي ِن أو جمال ما َ
ِ
الموس?م الذي أردت ذلك له ،قاَل :وما هو .قالت :أردت أن تتزوجني حتى تق??وم في
ت ،ولكن أخبري??ني? م??ا ك??ان أردْ ُ
في العرب فتقول :تزوجت ابنة النعم??ان ،ق??ال :ذل??ك َ
أبوك يقول في هذا الحي من ثقيف ?.ق?الت :ك??ان ينس??بهم في إي?اد ،وق?د افتخ??ر عن??د
رجالن من ثقي??ف أح??دهما من ب??ني س??الم واألخ??ر من ب??ني يس??ار ،فس??ألهما عن
?وازن واآلخ??ر إلى إي?اد ،فق??ال أبي :م?ا لحي مع??د أنسابهما ،فانتس??ب أح??دهما إلى َه? َ
على إياد فضل ،فخرجا وأبي يقول:
إال حديثا ً َوا َفق المحاسنا فقال المغيرة :أ َّما نحن فمن ه??وازن وأب??وك أعلم ،ق?ال:
ف??أخبريني? أي الع??رب ك??ان أحب إلى أبي??ك .ق??الت :أط??وعهم ل??ه ،ق??ال :ومن أولئ??ك.
ق??الت :بك??ر بن وائ??ل ،ق??ال :ف??أين بن??و تميم .ق??الت :م??ا اس??تعنتهم في طاع??ة ،ق??ال:
فقيس .قالت :ما اقتربوا إليه بم??ا يحب إال اس??تعقبوه بم??ا يك??ره ،ق??ال :فكي??ف أط??اع
فارس .قالت :كانت طاعته إياهم فيما يهوى ،فانصرف المغيرة.
ولما هل?ك المغ?يرة ض?م معاوي?ة الكوف??ة إلى زي?اد ،فك?ان َّأول َ من جم?ع ل?ه والي?ة
ض معاوي??ة َف??د َك من م??روان
العراقين البصرة والكوفة .وفي سنه ثمان وأربعين َق َب َ
بن الحكم ،وقد كان وهبها له قبل ذلك ،فاستردها.
وقد كان معاوية ح َّج في س?نة خمس?ين ،وأم?ر بحم?ل من?بر الن?بي ص?لى هللا علي?ه
وسلم ،من المدينة إلى الشام ،فلما حمل كسفت الش??مس ورؤيت الك??واكب بالنه??ار،
وأع َظ َمه ،وردَ ه ،إلى موضعه ،وزاد فيه ستة مراقي.
فجزع من ذلك ْ
حتى تأتى له النقاد ذوا لرقبـ ْه ما كان منتهيا ً عما أراد بـنـا
صاحب الرحبه
َ لما تناول ظلما ً فأسقط الشق منه? ضربة? ثبتـت
يعني بصاحب الرحية علي بن أبي طالب رضي هّللا عنه وقد ذهب جماعة إلى أن
عل ّيا ً دفن في القصر بالكوفة .ويقال :إن زياداً ُطعِن في يده ،وأنه شاور شريحا ً في
قطعها ،فقال له :لك رزق مقسوم ،وأجل معلوم ،وإني أكره إن كانت لك مدة أن
أج َذ َم ،وإن َحم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك :لِ َم قطعتها .قلت:
تعيش ْ
بغضا ً للقائك ،وفراراً من قضائك ،فالم الناس شريحاً ،فقال لهم :إنه استشارني?
والمستشار مؤتمن ،ولوال أمانة المشورة لوددت أن هّللا قطع يده يوما ً ورجله
يوماً ،وسائر جسده يوما ً.
البيعة ليزيد
وفي سنة? تسع وخمسين وفد على معاوية وفد األمصار من العراق وغيرها ،فكان
?ف بن قيس في آخ??رين من وج??وه الن??اس ،فق??ال ممن وف??د من أه??ل الع??راق األخ َن? ُ
معاوي??ة للض??حاك بن قيس :إني ج??الس من غ??د للن??اس ف??أتكلم بم??ا ش??اء هّللا ،ف??إذا
فرغت من كالمي فقل في يزيد الذي يحق علي??كَ ،وادْ ُع إلى بيعت??ه ،ف??إني ق??د أم??رت
عب??د ال??رحمن بن عثم??ان الثقفي ،وعب??د هّللا بن عض??اة األش??عري ،وث??ور بن َم ْعن
السلمي أن يصدقوك في كالمك ،وأن يجيبوك إلى الذي دعوتهم إليه ،فلم??ا ك??ان من
الغد قعد معاوية فأعلم الناس بما رأى من ُح ْس ِن ِر ْع َية يزيد ابن??ه وهَدْ ِي??ه ،وأن ذل??ك
وحض الن??اس َ دعاه إلى أن يوليه عهده ،ثم قام الضحاك بن قيس فأجابه إلى ذل??ك،
على البيعة ليزيد ،وقال لمعاوية :اعزم على ما أردت ،ثم قام عبد الرحمن بن
صفحة 498 :
عثمان الثقفي وعبد هّللا بن عض??اة األش??عري وث??ور بن َم ْعن فص??دقُوا قول??ه ثم ق??ال
س ْوا في منكر زمان قد سلف ،ومع??روف أم َ
معاوية :أين األحنف ققال :إن الناس قد ْ
زمان يؤتنف ،ويزيد ح??بيب ق??ريب ،ف??إن تول??ه عه??دك فعن غيرك??بر ُم ْفن ،أو م??رض
وج? ربت األم??ور ،ف??اعرف من ُت ْس?نِد إلي??ه عه??دك ،ومن ضن ،وقد َح َل ْبت ال??دهورَ ،
ُم ْ
تولِّيه األم??ر من بع??دك ،وأعص??ى رأي من ي??أمرك وال يق??در ل??ك ،ويش??ير? علي??ك وال
ضبا ً فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق ،وق??ال: ينظر لك ،فقام الضحاك بن قيس ُم ْغ َ
اردد رأيهم في نحورهم ،وقام عبد الرحمن بن عثمان فتكلم بنحو كالم الضحاك ،ثم
قام رجل من األزد ،فأشار إلى معاوية وق??ال :أنت أم??ير المؤم??نين ،ف??إذا ُم َت ف??أمير
المؤمنين يزيد ،فمن أ َبى هذا فهذا ،وأخذ بقائم سيفه فسلّه ،فق?ال ل?ه معاوي?ة ?:أقع?د
فأنت من أخطب الناس ،فكان معاوية أول من ب??ايع ليزي??د ابن??ه بوالي?ة? العه??د ،وفي
ذلك يقول عبد الرحمن بن همام السلولي:
وأنفذت الكتب ببيعة? يزيد إلى األمصار ،وكتب معاوية إلى م??روان بن الحكم -وك??ان
عام َله على المدين??ة ?-يعلم??ه باختي??اره يزي??د ،ومبايعت??ه إي??اه بوالي?ة? العه??د ،وي??أمره
بمبايعته ?،وأخذ البيعة له على من ِق َب َله ،فلما قرأ مروان ذلك خرج ُم ْغ َ
ض ?با ً في أه??ل
بيته? وأخواله من بني كنانة ،ح??تى أتى دمش??ق فنزله??ا ،ودخ??ل على معاوي??ة يمش??ي
س?لّم ،وتكلم بكالم كث??يرص? ْو َته? َ
الس َماطين ،حتى إذا كان من??ه بق??در م??ا ُي ْس?معه َ
بين ِّ
يوبخ? به معاوية ،منه ?:أقم األًمور يا ابن أبي سفيان ،واعدل عن تأميرك الص??بيان،
?راء ،وأن ل?ك على من?اوأتهم وزراء ،فق?ال ل?ه معاوي??ة: واعلم أن لك من قوم?ك ُن َظ َ
ولي عه??ده،
أنت نظير أمير المؤمنين ،و ُع ّدته في كل شديده و َعضده ،والث??اني بع??د ِّ
وجعله ولي عهد يزي??د ،ور َده إلى المدين??ة ،ثم إن??ه عزل??ه عنه??ا ،وواله??ا الولي??د بن
ف لمروان بما جعل له من والية عهد يزيد بن معاوية. عتبة بن أبي سفيان ،ولم َي ِ
اللطيفة ،ثم يدخل فينام ثلث الليل ،ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيه??ا س??ير المل??وك
الأخباره??ا والح??روب والمكاي??د ،فيق??رأ ذل??ك علي??ه غلم??ان ل??ه مرتب??ون ،وق??د وكل??وا
بحفظها وقراءتها ،فتمر بسمعه كل ليلة جمل من األخب??ار والس??ير واآلث??ار وأن??واع
السياسات ،ثم يخرج فيصلي الصبح ،ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم.
جماعة بعده مث??ل عب??د المل??ك بن م??روان وغ??يره فلم ي??دركواٌ وقد كان ًه ّم بأخالقه
حلمه ،وال إتقانه للسياسة ،وال الت??أ َتي لألم??ور ،وال مدارات??ه للن??اس على من??ازلهم،
ورفقه بهم على طبقاتهم.
ي ناص?بي رافض?ي ،فلم?ا قص? ُه عن ذل?ك ق?ال :إن?ه يبغض ?رجىء َق?د َِر ّ
فق?ال :إن?ه ُم ْ
معاوية بن الخطاب الذي قاتل ع َل ّي بن العاص ،فقال ل??ه ال??والي :م??ا أدري َع َلى أي
شيء أحسدك :أعلى علمك بالمقاالت ،أو على بصرك باألنساب.
وأخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم ،قال :كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر
وعلي ومعاوية ،ونذكر ما يذكره أهل العلم ،وكان قوم من العامة يأتون فيس??تمعون
بعض?هم وك?ان من أعقلهم وأك?برهم لحي?ة ،كم ُت ْطنب?ون في ُ من?ا ،فق?ال لي ذات ي?وم
علي ومعاوية وفالن وفالن ،فقلت له :فما تقول أنت في ذلك .ق?ال :من تري?د .قلت:
علي ،ما تقول فيه قال :أليس هو أبو فاطمة .قلت :و َمنْ كانت فاطم??ة ?.ق??ال :ام??رأة
النبي عليه لسالم بنت عائشة أخت معاوية ،قلت :فم??ا ك??انت قص??ة علي .ق?ال :قت??ل
في َغ َزاة حنين مع النبي صلى هللا عليه وسلم.
وقد كان عبد هّللا بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الش??ام ،وك??ان من قص??ة
هللا بن علي الش??ام ،ووج??ه إلى أبي العب??اسمروان ومقتله ما قد ذك??ر ،ون??زل عب??د ّ
الس??فاح أش??ياخا ً من أه??ل الش?ام من أرب??اب النعم والرياس??ة من س??ائر أجن??اد الش??ام
فحلفوا ألبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول هّللا صلى هللا عليه وسلم ،قراب??ة
وال أهل بيت يرثونه غير بني أمي?ة ح?تى وليتم الخالف?ة ،فق?ال في ذل?ك إب?راهيم بن
المهاجر ال َب َجل ُِّي:
وقد كان ببغداد رجل في أيام هارون الرشيد متطبب يطبب العامة بص??فاته وك??ان
دهريا ً يظهر أنه من أهل السنة والجماعة ويلعن أهل الب??دع ويع??رف بالس??ني? تنق??اد
?ق من الن??اس ،ف??إذا إليه العام??ة .فك??ان يجت ِم??ع إلي??ه في ك??ل ي??وم بق??وارير الم?اء َخ ْل? ٌ
اجتمعوا وثب قائما َ على قدميه فقال لهم :معاشر المس??لمين ،قلتم ال ض??ار وال ن??افع
إال هّللا فألي شيء مصيركم إلي تسألونني عن مض??اركم ومن??افعكم .ألج??ؤا إلى ربكم
وتوكل??وا على ب??ارئكم ح??تى يك??ون فعلكم مث??ل ق??ولكم ،فيقب??ل بعض??هم على بعض
فيقولون :إي وهّللا قد صد َق َنا ،فكم من مريض لم يعالج ح??تى م??ات ،ومنهم من ك??ان
يتركه حتى يسكن ثم يريه? الماء فيصف له ال?دواء ،فيق?ول :إيما ُن? َك ض?عيف ،ول?وال
ض? َك فه??و ُي ْب ِرئ??ك ،فك??ان يقت??ل بقول??ه ه??ذا خلق?ا ً كث??يراً ذلك لتوكلت على هّللا كما ْ
أم َر َ
لتزهيده إياهم في معالجة مرضاهم.
وقد قالت حكماء الع??رب :الع??ادة أمل??ك ب??األرب ،وق??الت حكم??اء العجم :الع??ادة هي
الطبيعة الثاني?ة ،وق?د ص??نف أب??و عق?ال الك?اتب كتاب?ا ً في أخالق الع?وا ِّم يص?ف في?ه
س َّماه بالمل ِهي.
أخالقهم وشيمهم ومخاطباتهم ،و َ
ولوال إني أكره التطوي??ل والخ??روج عم?ا قص??دنا إلي?ه في ه??ذا الكت?اب من اإِل يج??از
عج?ائب ،ول?ذكرت م?راتب َ لش?رحت من ن?وادر العام?ة وأخالقه?ا ،وطرائ?ف أفعاله?ا
الناس في أخالقهم ،وتصرفهم في أحوالها.
فل??نرجع اآلن إلى أخب??ار معاوي??ة وسياس??ته ?،وم??ا أوس??ع الن??اس من أخالق??ه ،وم??ا
أف??اض عليهم من ب??ره وعطائ??ه ،وش??ملهم من إحس??انه ،مم??ا اجت??ذب ب??ه القل??وب،
واستدعى به النفوس ،حتى آثروه على األصل والقرابات.
صفحة 503 :
عقيل بن أبي طالب ومعاوية
فرح َب به معاوي??ة، من ذلك أنه وفد عليه َعقيل ُ بن أبي طالب منتجعا ً وزائراًّ ،
س? َعه حلم?ا َ واحتم?االً،فق?ال ل?ه :ي?ا أب?ا وأو َ
على أخي?هْ ، ِ سر بوروده ،الختياره إي?اه و ُ
يحب هّللا ورس??وله والفيت??ك على م??ا ُّ يزيد ،كيف تركت علي?اَ .فق??ال :تركت?ه? على م??ا
يكره هّللا ورسوله ،فقال له معاوية ،لوال أنك زائر منتج??ع جنا َب َن??ا ل??رددت علي??ك أي??ا
يزي??د جوا َب? ا َ ت??ألم من??ه ،ثم أحب معاوي??ة أن يقط??ع كالم??ه مخاف??ة أن ي??أتي بش??يء
يخفضه ،فوثب عن مجلسه ،وأمر له بنزل ،وحمل إليه م??االً عظيم?اً ،فلم??ا ك??ان من
غد جلس وأرسل إليه فأتاه ،فقال ل??ه :ي??ا أب??ا يزي??د ،كي??ف ت??ركت علي?ا ً أخ??اك .ق??ال:
تركته خيراً لنفسه من??ك ،وأنت خ??ير لي فن??ه ،فق??ال ل??ه معاوي??ة :أنت وهّللا كم??ا ق??ال
الشاعر:
فالمج??د منهم في ب??ني َع َّتاب فحم??ل وإذا ع??ددت فخ??ار آل مح??رق
يا أبا يزيد ما تغيرك األيام والليالي المجد من بني هاشم َم ُنو ُط فيك
فقال عقيل:
هّللا
أصبر لحرب أنت جانيها البدأن تصلى بحاميهـا وأنت و يا ابن أبي سفيان
كما قال االخر:
يوما ً فخرتهم بآل مجـاشـع وإذا هوازن أقبلت ب َف َخارهـا
والضاربين الهام يوم الفـازع بالحاملين على الموالي ُغ ْر َمهم
أسوداً تخلس ْ
األسدَ النفوسا إذا نزل العدو فإن عنـدي
من صعصعة إلى عقيل :فا َتصل كالم عقيل بصعصعة فكتب إليه بسم هللا الرحمن
الرحيم ،ذ ْك ُر هللا أكبر ،وبه يستفتح? المستفتحون ،وأنتم مفاتيح الدنيا واآلخ??رة .أم??ا
ت هّللا على ذل??ك ،وس??ألته بعد ،فقد بلغ موالك كال ُم َك لعدو هللا وعدو رس??وله ،فحم??دْ ُ
أن يفيء بك إلى الدرجة العليا ،والقضيب األحمر ،والعمود األسود فإن??ه عم??و ٌد َمنْ
?زع ْت ب??ك نفس??ك إلى معاوي??ة طل َب? ا َ لمال??ه إن?ك ل?ذو علم
فارقه الدين األزهر ،ولئن ن? َ
بجميع خصاله ،فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلك عن الحجة ،ف??إن هللا ق??د رف??ع عنكم
ص?ل َ إلين??ا،
أهل البيت ما وض??عه في غ??يركم ،فم?ا ك?ان من فض??ل أو إحس??ان فبكم َو َ
هللا أقداركم ،وحمى أخطاركم ،وكتب آثاركم ،فإن أقداركم مرضية ،وأخط??اركم فأجل َّ ّ
َ
محمية ?،وآثاركم بدْ ِرية ?،وأنتم سلم هللا إلى خلقه ،ووسيلته إلى طرقه ،أيد علية،
صفحة 504 :
فقد ،كثير المرق ،طيب العرق ،يقوم للناس مق??ام الغيثمن الس??ماء ،ق??ال :ويح??ك ي??ا
ابن صوحان فما تركت لهذا الحي من ق?ريش مج?داً وال فخ?راً ،ق?ال :بلى وهّللا ي?ابن
أبى سفيان ،تركت لهم ما ال يصلح إال بهم ،ولهم تركت األبيض واألحمر ،واألصفر ِ
ً
واألشقر ،والس??رير والمن??بر ?،والمل??ك إلى المحش??ر ،وأنى ال يك??ون ذل??ك ك??ذلك وهم
َم َنا ُر هّللا في األرض ونجومه في السماء .ففرح معاوية وظن أن كالمه يشتمل? على
قريش كلها ،فقال :صدقت يا ابن صوحان ،إن ذلك لكذلك ،فعرف صعصعة ما أراد،
فقال :ليس لك وال لقومك في ذلك إصدار وال إيراد ويلك يا ابن صوحان قال :الويل
فأخ َر ُجوهُ ،فقال صعصعة:الصدق ينبيء عن??ك ألهل النار ،ذلك لبنى هاشم ،قال :قمْ ،
ال الوعيد ،من أراد المشاجرة قبل المحاورة ،فقال معاوية :لشيء ما س??وده قوم??ه،
وددت وهللا إني من صلبه ،ثم التفت إلى بني أمية فقال :هكذا فلتكن الرجال.
وحدث أبو الهيثم قال :حدثني أبو البشير محمد بن بشر الفزاري ،عن إبراهيم بن
عقيل البصري ،قال :قال معاوية يوماً -وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي
هلل ،وأن??ا خليف??ة هللا ،فم??ا آخ??ذ من م??ال هللا فه??و لي،
وعنده وجوه الناس :-األرض ّ
وما تركت منه? كان جائزاً لي ،فقال صعصعة:
فقال معاوي??ة :ي??ا صعص??عة ،تعلّمت الكالم ،ق??ال :العلم ب??التعلم ،ومن ال يعلم يجه??ل،
أح َو َج َك إلى أن أذيق??ك َو َب??ال َ أم??رك ق??ال :ليس ذل??ك بي??دك ،ذل??ك بي??د
قال معاوية :ما ْ
الذي ال يؤخر نفسا ً إذا جاء أجلها ،قال :ومن يحول بيني وبينك .ق??ال :ال??ذي يح??ول
بين المرء وقلبه ،قال معاوية ?:اتس??ع بطن??ك للكالم كم??ا اتس??ع بطن البع??ير للش??عير،
قال :اتسع بطن َمنْ ال يشبع ،ودعا عليه من ال يجمع.
فقال له ابن عباس :فمن الفارس فيكمُ .ح ّد لي حداً أسمعه منك فإنك تض??ع األش??ياء
مواضعها يا ابن صوحان ،قال :الفارس من قصر أجله في نفسه ،وضغم على أمل??ه
بضرسه ،وكانت الحرب أهون علي??ه من أمس??ه ،ذل??ك الف??ارس إذا وق??دت الح??روب،
واشتدت ب??األنفس الك??روب ،وت??داعوا لل??نزال ،وتزاحف??وا للقت??ل ،وتخالس??وا المهج،
واقتحموا بالسيوف اللجج ،ق??ال :أحس??نت وهّللا ي??ا ابن ص??وحان ،إن??ك لس??ليل أق??وام
الفارس كثير الحذر،
ُ كرام خطباء فصحاء ،ما ورثت هذا من َكالَلة ،زدني قال :نعم،
م??دير النظ??ر ،يلتفت بقلب??ه ،وال ي??دير خ??رزات ص??لبه ،ق??ال :أحس??نت وهّللا ي??ا ابن
ف ،فهل في مثل هذه الص??فة من ش??عر .ق??ال :نعم ،لزه??ير بن َجن??اب ص َ الو ْ
صوحان َ
الكلبي يرثي ابنه عمراً حيث يقول:
ـر الـحـريق بحسـام يمـ ُر ًم ّ? فارس تكأل الصـحـابة مـنـه
يغفل الطرف ،ال ،والفي مضيق التراه لدى الوغى في مـجـال
أنه أخرق مضـل الـطـريق من يراه َي َخ ْله في الحرب يومـا
ص ? ْف ُه َما ألع??رف
في أبيات ،فقال له ابن عباس :فأين أخواك منك يا ابن صوحانِ .
وزنكم .قال :أما زيد فكما قال أخو َغن ِّي:
ـوب
ش ُح ُ ت الكرام ُ إذا سد خالَّ ِ فتى ال يبالي أن يكون بوجهـه
فلم ينطقوا العوراء وهو قريب إذا ما ترا آه الرجال تحفظـوا
إليه ،ويدعوه الندى فـيجـيب حليف الندى يدعو الندى فيجيبه?
إذا لم يكن في المنقيات حلوب ض ِجيعه
يبيت الندى يا أم عمرو َ
يب
س مايلفى بهـن َع ِـر ُ س ِاب ُ
َب َ كأن بيوت الحي مالم يكن بهـا
في أبيات ،كان وهّللا يا ابن عب?اس عظيم الم?روءة ،ش?ريف? األخ?وة ،جلي?ل الخط?ر،
بعيد األثر ،كميش العروة ،أليف البدوة ،سليم جوانح الصدر ،قليل وساوس ال??دهر،
ذاكراً هّللا طر َفي النهار و ُز َلفَا ًًَ?من الليل ،الج??وع والش??بع عن??ده س??يان ،ال ين??افس في
الدنيا ،وأق?ل أص?حابه من ُي َن?افس فيه?ا ،يطي?ل الس?كوت ،ويحف?ظ الكالم ،وإن نط?ق
ُّعار األشرار ،ويألفه األحرار األخي??ار ،فق??ال ابن عب??اس: نطق ب ُعقام ،يهرب منه الد َّ
هّللا هّللا
ما ظنك برجل من أهل الجنة ،رحم زيداً ،فأين كان عبد منه .قال :ك??ان عب??د
خيره وساع ،وش?ره دف?اع ،قُ ْل??بي النح??يزة ،أح??وذي هّللا سيداً شجاعاً ،مألف ٍا مطاعاًِ ،
الغريزة ،ال ينهنهه? من ِهنة? عما أراده ،وال يركب من األمر إال عت??اده ،س??ماع ع??دي،
وباذل قرى ،صعب ال َم َقادةَ ،ج ْزل الرفادة ،أخو إخوان ،وفتى فتي?ان ،وه??و كم?ا ق?ال
البرجمي عامر بن سنان:
الر َد ْين ِِّي مشغب
وبالسيف والرمح ُّ سِ َما ُم عدى ،بالنبل يقتل من رمى
بفعل الندى والمكرمات مجرب مهيب مفيد لـلـنـوال ُم َـع َّـود
وفي أبيات ،فقال له ابن عباس :أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب.
ومن أخبار صعصعة ما حدث ب??ه أب??و جعف??ر محم??د بن ح??بيب الهاش??مي ،عن أبي
الهيثم يزيد بن رجاء الغنوي ،قال :أخبرني رجل من بني ف??زارة ثم من ب??ني ع??دي،
قال :وقف رجل من بني فزارة على صعصعة ،فأسمعه كالما ً منه :بسطت لسانك يا
صفحة 509 :
ابن صوحان على الناس فتهيبوك ،أما لئن ِش? ْئ َت ألك??ونن ل??ك لص??اقاً ،فال تنط??ق إال
بأذ َر َب من ُظ َب ِة السيف ،بعض??ب ق??وي ،ولس??ان علي ،ثم ال يك??ون ل??كت لسانك ْ
َح َددْ ُ
حل وال ترحال ،فقال صعصعة :لو أجد غرضا ً منك ل??رميت ،ب??ل أرى ش??بحا َ في ذلك ِ
وال أرى مثاالً ،إال مسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا ج?اءه لم يج??ده ش??يئاً،
بأذ َر َب من ذلك الس??نان ،ولرش??قتك بنب??ال تردع??ك أما لو كنت كفؤاً لرميت حصائلك ْ
عن النضال ،ولخطمتك بخطام يخزم منك موضع الزمام ،فاتصل الكالم بابن عب??اس
سه نقل الصخور من جبال فاستضحك من الفزاري ،وقال :أما لو كلف أخو فزارة َن ْف َ
شمام إلى الهضام ،لكان أهون عليه من منازع??ة أخي عب?د القيس ،خ?اب أب?وه ،م?ا
أجهله يستجهل أخا عبد القيس ،وقواه المريرة ،ثم تمثل:
ش َق ْينَ مصبوب
إن الشقاء على األ ْ تنصب من أ َمـم
ّ ص ّب ْت عليك ولم
ُ
قال :ال تقل ذلك فإنها مصيبة ?،قال معاوية :وأي نعمة أكبر من أن يكون اللة ق??د
أظفرني برجل قد قت??ل في س?اعة واح?دة ع?دة من ح َم?اة أص?حابي .اض??ربوا عنق?ه،
أش?هد أن معاوي??ة لم يقتل??ني في??ك ،وال ألن??ك ترض??ى قتلي ،ولكن قتل??نيفقال :اللهم ِ
على ُح َطام الدنيا ،فإن فعل فافعل ب?ه م?ا ه?و أهل?ه ،وإن لم يفع?ل فافع?ل ب?ه م?ا أنت
أهله ،فقال معاوي??ة :قاتل??ك هللا لق??د س??ببت ف??أبلغت في الس??ب ،ودع? َ
?وت فب??الغت في
الدعاء ،ثم أمر به فآطلق ،وتمثل? معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر ،لم يقل النعمان
غيرها ،فيما ذكر ابن الكلبي ،وهي:
تعفو الملوك عن الجليل من األمور ب َف ْ
ضلِ َها
ولقد ُت َعاقب في اليسير ،وليس ذاك لجهلها
إال ليعرف فضل َها و ُي َخاف شدة نكل َها
هو الموت ،ال َم ْنجى من الموت ،والذي تحاذر بعد الموت أدهـى وأفـظـع
ج الع ْث??رة ،واع??ف عن الزل??ة ،و ُج??دْ بحلم??ك على جه??ل من لم َي? ْ
?ر ُ ثم قال :اللهم أقِ??ل َ
غيرك ،ولم يثق إال بك ،فإنك واسع المغفرة ،وليس لذي خطيئة مه??رب ،فبل??غ ذل??ك
سعيد بن المسيب،
هللا.
فقال :لقد رغب إلى َمنْ ال مرغوب إليه مثله وإني ألرجو أن ال يعذبه ّ
وذكر محمد بن إسحاق وغ??يره من نقل??ة اآلث??ار أن معاوي??ة دخ??ل الحم??ام في ب??دء
ف علي??ه
?ر َ
علته التي كانت وفاته فيها ،فرأى نحول جسمه ،فبكى لفنائه وم?ا ق?د أش? َ
من الثور الواقع بالخليقة ،وقال متمثالً:
أخ ْذنَ بعضي وتركن بعضـي َ أرى الليالي أسرعت في نقضي
أقعدنني? من بعد طول نهضي? وح َن ْينَ عـرضـي
خ َن ْينَ طولي َ
ولما أزف أمر ُه ،وحان فراقه ،واشتدت علته ،وأيس من برئه ?،أنشأ يقول:
قال المسعودي :ولمعاوية أخباركثيرة مع علي وغيره ،وق??د أتين??ا على الغ??رر من
أخباره ،وما كان في أيامه في كتابينا أخبار الزمان واألوسط ،وغيرهم??ا من كتبن??ا،
مما أفرد لآلثار ،وهذا باب كبير ،والكالم فيه وفي غ??يره مم??ا تق??دم وت??أخر في ه??ذا
ضمِنَ االختصار لم َي ُج ْز له اإلكثار.
الكتاب كثير ،و َمنْ َ
وإنما نذكر في كل باب من هذا الكتاب ُط َر َفا َ من كل نوع من العلوم واألخبار ،وما
انتخبناه من طرائف اآلثار .ليس??تدل الن??اظر في??ه بم??ا ذكرن??ا على الم??راد مم??ا تركن??ا
ذكره ،وقد تقدم وصفه وبسطه فيما سلف من كتبنا.
ضل الصحابة ،وغيرهم ،عليهم السالم. وإذ تقدم ما ذكرنا ،فلنذكر اآلن جمالً من َف ْ
إذ كانوا حجة على َمنْ بعدهم ،وقدوة لمن تأخرعنهم ،وباهلل التأييد.