Professional Documents
Culture Documents
في توافق السيادة و المواطنة
في توافق السيادة و المواطنة
تتميز رؤية سبينوزا )7761-7711(،للعالقة بين سيادة الدولة من ناحية ،وحرية املواطن من ناحية
ثانية ،بأنها دعوة أو تأسيس لعالقة تقوم على تحقيق التوافق بين السيادتين في نفس الوقت .وتتأسس
نظرية سبينوزا (شأنه شأن جميع فالسفة العقد الاجتماعي) ،على افتراض وجود حالة سابقة على
الدولة ،تعرف بحالة الطبيعة [وهي حالة الالدولة] ،تتسم بهيمنة القوي على الضعيف ،وعلى سيادة
قانون الغاب .فالحق الطبيعي هو القوة الطبيعية ذاتها ،وعليه يمتد الحق بقدر ما تمتد القوة.
هذا الوضع الذي يجعل من الحق يتأسس على القوة ،هو الذي سيدفع باألفراد في هذه الحالة ،إلى
الرغبة في إيجاد مخرج .من هنا سيتنازل ألافراد عبر عملية تعاقدية ،عن تسيير شؤونهم بأنفسهم ،وفق
منطق الانفعال في اتجاه تنظيم الحياة وفق مقتضيات العقل.
"إن الغاية التي ترمي إليها الديمقراطية والمبدأ الذي تقوم عليه هو كما قلنا من قبل ،تخليص الناس من
سيطرة الشهوة العمياء واإلبقاء عليهم بقدر االمكان في حدود العقل بحيث يعيشون في وئام وسالم"
سبينوزا.
لذلك ال يشترط العقد تنازال عن الحق الطبيعي ،بل هو تأمين له .يقتض ي هذا العقد طرفان ،هما
ألافراد و السلطة .ويترتب عنه التزامات تتمثل في طاعة ألافراد للقانون في مقابل ،احترام الحاكم لحق
ألافراد في الحرية .لذا يعد نظام الحكم نظاما ديمقراطيا و نظام دولة الحرية .فالدولة لم توجد لغاية
قمعية ،ولحفظ الحياة ،وضمان ألامن والسالم فقط ،بل وجدت لكي يعيش املواطن وفق نظام العقل
وضمان الحرية.
"أما الدولة أو نظام الحكم الذي ال تؤخذ فيه مصلحة اآلمر بوصفها قانونا أسمى ،بل تراعي مصلحة
الشعب كله -فمن الواجب أال يعد من يطيع الحكم عبدا ال يحقق مصلحته الخاصة ،بل مواطنا ،وعلى ذلك
تكون اكثر الدول حرية تلك التي تعتمد قوانينها على العقل السليم" سبينوزا
1
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
وجود لهيمنة الدولة على ألافراد ،حتى وإن كان نظام الحكم فيها مطلقا وال وجود لتكريس سيادة
الشعب على املواطنة ،وفق منطق الانفعال بل أن عقالنية الحكم وتدريب إلانسان على املواطنة
،وترسيخ الديمقراطية ،هي الضمانات ألاساسية إليجاد توافق بين السيادة واملواطنة .
ً
و "من يتخلى عن حريته خوفا على أمنه ،ال يستحق حرية وال أمنا " بنجامين فرانكلين
الحرية مفهوم مركزي في فكر سبينوزا يقترن بإعمال العقل لتصريف االنفعاالت ويرتبط بالسلم الذي
يمثل غاية الدولة .إن تحرير الفرد من بعض االنفعاالت كالخوف وضمان حقه الطبيعي في الحياة
(الكوناتوس ،)conatusوفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير ،هو الذي يحقق الحرية والسلم .وبالتالي
يؤسس لفكرة المواطنة .والمواطن يحق له التفكير بحرية تامة ،شريطة ان ال يتعدى حدود الكالم ،وأن
يحتكم إلى العقل ،ويستعمل حريته = طاعة ال خضوعا = للسلطة العليا.
ف :املرور من حالة الطبيعة إلى الحالة املدنية ،يقتض ي اتفاقا وتعاقدا بين ألافراد ،يتم بموجبه تنازل
كل ألافراد عن حقوقهم الطبيعية ،لصالح إلارادة العامة .و يكون أطراف هذا العقد ألافراد من ناحية
2
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
وإلارادة العامة التي تعبر عن املجموع من ناحية أخرى .ويترتب عن هذا العقد وجوب طاعة الجميع
لإلرادة العامة مقابل تأمين الحقوق املدنية مثل الحرية والامن .وهذا التنازل ليس اختيارا عقالنيا كما
تصور سبينوزا( ،روسو يسبق فطرة الضمير على افانين العقل) ،بل ميال فطريا بدافع ال فقط حفظ
البقاء بل وايضا تنظيم الحرية :
"بهذا الضرب من الاجتماع يستطيع كل امرئ ان ينضم الى املجموعة كلها ،ولكنه يظل في الوقت
نفسه حرا كما كان في السابق ،فال يخضع الا لسلطان نفسه ،هذه هي املعضلة الاساسية التي
يوجد العقد الاجتمايي حال لها"
املعضلة التي يتحدث عنها روسو ،هي كيفية التوفيق بين رغبة البقاء وحفظ الذات من ناحية
واملحافظة على الحرية –كحق طبيعي -ال يقبل التنازل عنه من ناحية ثانية .وهذا ال يكون الا بتصور
ضمانة لحالة استقرار مدني وسياس ي تغني عن التفكير في العودة للحالة الطبيعية من جديد.
هذه الضمانة اخالقية ،قبل ان تكون سياسية .ونعني هنا اتباع امليل الفطري(فكرة الضمير) ،وكون
التنازل ال يكون لفرد او شخص /حاكم (تنين ،كما تصور هوبز) .ذلك أنه:
"اذا منح كل واحد نفسه للمجموعة كلها ،فانه لم يمنح نفسه الحد" روسو
مثل هذا العقد لن يفض ي الا الى نظام "حكم ديمقراطي" مباشر ،تكون فيه السلطة مطلقة لإلرادة
العامة .إنه نظام "دولة ّ
الحق".
لكن يجب ان ننتبه الى انه:
عند روسو ،الدولة ال تمثل صاحب السيادة الفعلي فصاحب السيادة هو الشعب الذي ال يقاسم و ال
ّ
يفوت في إرادته ،اذ أن:
«إن السيادة التي ليست سوى "ممارسة إلارادة العامة" ال يمكن أبدا أن تكون محل
تنازل» .روسو.
ّأما الدولة فهي من يعطي القوة الفعلية لهذه إلارادة ،ذلك ّأن روسو يعتبر أن الشعب هو صاحب
السيادة من جهة كونه يمثل إلارادة العامة ،و سلطات الدولة ليست إال تعبيرات عن هذه إلارادة
فالدولة ال تتكلم و ال تفعل إال باسم الشعب ،و بالتالي تجد الدولة دائما حدا داخليا لفعلها .و إذا كانت
التصرف فيها ،فإننا ال نستطيع أن نقول نفس الش يء عن سلطة الدولة ّ السيادة غير قابلة للقسمة أو
3
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
التي يمكن أن تقسم و يمكن أن يفوت فيها جزئيا ،لذلك فإن كل خلط بين السيادة و سلطة الدولة
يؤدي إلى النظم الكليانية ،و بالتالي تهديد املواطنة بما أن املواطنة ال تتحقق إال في النظام الديمقراطي.
فالحكم في هذا النظام ،يجب أن يكون مقيدا ،ليس فقط بالقوانين ،بل أيضا باملؤسسات واملنظمات
التي تلعب دورا في منع الفساد ،وفي الدفاع عن الحريات الشخصية .وفي هذه الحالة ليست للحكومة
مصلحة مناقضة ملصلحة ألافراد ،بل هي تكريس لها .ويمكن على ضوء ذلك أن تحاسب الدولة
الفاسدة واملستبدة .كما يمكن للسلطة السياسية ،ممارسة سيادتها على املواطن إذا لم يلتزم بما تم
الاتفاق عليه .هكذا فإن هذه إلارادة العامة ،هي وحدها املشرعة واملصدرة للقانون ،وان سيادة الدولة
ال تتحقق إال بسيادة الشعب.
فالسيادتين متالزمتين متعايشتين بقدر احترامهما لبنود العقد وخضوعهما لسلطة القانون .
صحيح ان هذا التصور مكننا من إدراك العالقة القائمة بين السيادة واملواطنة ،والسيادة والدولة،
واملواطن والدولة .وهذا يحسب لهذه التصورات الفلسفية ،غير أن هذا الجهد املحمود لم يتفطن إلى
4
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
العديد من الاحراجات التي فرضتها املمارسات السياسية ،والتغيرات التاريخية املعاصرة .فدفعت
بالعقل السياس ي إلى إعادة النظر فيها ومن بينها:
من خالل التجربة إلانسانية املعاصرة ،في الحقل السياس ي ،وفي إطار مراجعتها و تقييمها تبين
للوعي البشريّ ،أن الربط بين السيادة واملواطنة من جهة ،والسيادة والدولة من جهة أخرى،
ّ
أصبح أمرا محرجا للغاية ،اذ يمكن للفرد أن يفقدها بمجرد نسيانه لطبيعتها أو كلما فسد
النظام الديمقراطي .وبما أن السيادة تأبى القسمة ،وتتطلب الاطالقية(،ألنها هي التي ترس ي
القانون وتشرعه على حد الرؤية الروسوية) .سيكون الخطر أعظم ،بمجرد ربط السيادة
بالدولة ،إذ قد تتماهى السيادة مع الدولة .وفي هذا التماهي نزوع نحو فقدان املواطن
لسيادته ،والحال نفسها عندما ننظر الى الخلط العفوي او املقصود بين الدولة واملجتمع
ّ
املدني .وهو خلط نبهت إليه وحذرت منه الفلسفة السياسية الهيجلية عندما وجهت سهامها إلي
نظريات العقد الاجتماعي.
ما قد يؤدي الى ظهور نوع جديد من الاستبداد السياس ي ،انه استبداد باسم الديمقراطية نفسها ،انه
الاستبداد الناعم على حد عبارة "توكفيل" وهو من اخطر أنواع الاستبداد التي عرفتها إلانسانية.
وإذا ما اعتبرنا ،أن حرية واستقاللية السيادة ،تتجلى في مستوى ما يعرف ب "حق
التأسيس" في الدول ذات الحكم الديمقراطي ،فإنه يترتب عن ذلك القول بأن الشعب وحده
له الحق في أن يشرع القوانين التي يريدها وبكل حرية ،وله أحقية مراجعة الدستور وتنقيح
مواده وفصوله متى شاء ،بل له وبكل حرية تجاوز الدستور ،وإيقاف العمل به .ألن الدستور
والقوانين املتفرعة عنه و -حسب بعض الحقوقيين -.تستمد شرعيتها من الشعب وال سلطة
تعلو على سلطة الشعب .وهذا ما يجعل سلطة الدولة مهددة.
ثم إن هذه الاستقاللية تتجلى في مستوى القانون الدولي ،الذي يتضمن و يعترف بحرية تقرير
املصير و بالتساوي في الحقوق مع بقية الشعوب ألاخرى .فعلوية السلطة تتناقض مع قابليتها
للقسمة ،وهي حق غير قابل للتصرف إذ ال تستطيع أن تكون عليا وفي نفس الوقت تتنازل عن
جزء من سلطتها لفائدة أي جهة أخرى ،ولعل هذا ما قصده "روسو" ،بقوله «إن السيادة التي
ليست سوى ممارسة إلارادة العامة ال يمكن أبدا أن تكون محل تنازل» .والحال أن إقامة
عالقات دولية قد ال تستقيم إال بفعل التنازل.
5
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
6
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
و هكذا يصبح الفرق بين املجتمع املدني و الدولة ،هو كون الفرد ينظر لنفسه في املجتمع على أنه غاية
وحيدة لدرجة أنه يصبح غاية جزئية ,في حين أنه في الدولة التي تعد غاية أعلى يوجد الفرد من أجلها
غاية كلية.
في هذا السياق يأتي نقد هيجل لروسو و فالسفة العقد الاجتمايي ،فمحاوالتهم تبدو ايجابية,
ملا كان عليه واقع التفكير السياس ي آنذاك( .أي واقع السلطة الكنيسية الثيوقراطية املطلقة القائمة
على فكرة الحق الاالهي املقدس للملوك) ،و هي الفكرة التي نجح هؤالء الفالسفة بالقضاء عليها و
تعويضها بفكرة السلطة البشرية القائمة على الاتفاق ،غير أن هذه املحاولة الجريئة ,بقيت رغم أهميتها
التاريخية تحتفظ بالفصل الجوهري بين الدولة و املجتمع املدني .لذلك ما كان لهم أن يوحدوا بين
إلارادة الكلية ( الدولة/السيادة ) و إلارادة الجزئية (املواطن/الفرد ) إال عن طريق التعاقد الاجتمايي
فهذه التصورات جميعا ،تقيم فصال بين ألافراد ( الجزئي ) و الدولة ( الكلي ) وتعتقد أنهما متعارضان
تعارضا تاما ,و أنهما مبدأين متضادين ال يمكن الربط بينهما إال عن طريق العقد.
فإضافتهم حسب هيجل تتمثل في كونهم لم ينظروا للدولة كمجرد شكل فارغ ( الحق الاالهي املقدس
للملوك في الحكم) ،كما كانت في العصور الوسطى مفروضة على ألافراد ,بل تقوم كذلك على فكرة هي
فكرة إلارادة.
"يجب أن نشهد لروسو بالفضل ،ألنه أسس للدولة مبدأ ال يقوم على شكل فحسب ..بل
يقوم كذلك من حيث محتواه على الفكرة الفاعلة ذاتها ,أي إلارادة" هيقل.
غير أن هذه إلارادة بقيت فقط مجرد إرادة فردية جزئية ,و هو ما يبقي على التعارض قائما بين إلارادة
الفردية ( الجزئية = الفرد ) و بين إلارادة املوضوعية ( الكلية = الدولة ) .و لكن حسب هيجل أن الكلي
و الجزئي مجرد عوامل للفكرة الشاملة العينية ,و أنهما ليسا متضادان إال بقدر ما يكونان متحدين .إذ
أن غاية الدولة(السيادة) هي نفسها غاية الفرد (املواطن) = كالهما كلية .فوحدتهما تتحقق في
الاختالف .فالدولة من منظور العقل إذن هي الهوية في الاختالف ,و ليس الاختالف يفهم إال بكونه
اختالفا منطقيا فقط ال واقعيا ( .هكذا يعدو الجزء و الكل (الدولة و الفرد = السيادة واملواطنة) ،هما
وجهي الفكرة الكلية املتحققة في التاريخ ( الدولة) .وتصبح الدولة بهذا املنظور هي الشكل ألاسمى
لتحقق الحرية.
إذ هي " تحقق الفكرة ألاخالقية " أو هي "العقل في ذاته ولذاته" كما يقول هيجل.
7
2021االستاذ الهادي عبد الحفيظ – معهد حي االمل -قابس
و تصبح بالتالي هي الفرد الحقيقي و قد تحقق و تموضع و أصبح خالدا ,ألن جوهر الفرد هو الكلي على
الحقيقة ,و الدولة هي الكلي املتحقق بالفعل ،و بالتالي فهي الفرد و قد تحقق بالفعل و تموضع .و هكذا
ال تعود الدولة ما يناقض الفرد ,و شيئا غريبا يفرض عليه من خارج و يتعارض مع حريته ,بل على
العكس هي الفرد ذاته ,و فيها وحدها يحقق الانسان /املواطن فرديته و حريته.
لئن انطلق فالسفة العقد من تصور ما يجب ان تكون عليه الدولة( ،عصر التأسيس النظري للدولة),
النهم كانوا يبحثون في الدولة -السيادة -كفكرة .فقد كان هيجل ينطلق من واقع جديد ,هو عصر
صارت فيه الدولة واقعا فعليا في التاريخ -القرن [ - 71دولة بروسيا – دولة بونابرت ] ( ،عصر التأريخ
للدولة ) .هذا الاختالف في املنطق سيؤدي الى اختالف في تصور العالقة بين الدولة و املواطنة .لذلك
سيؤصل هيجل العالقة من منظور العقل ومن منظور التاريخ ،وحيث ان العقل والتاريخ يتطابقان في
نظره ،باعتبار ان " كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي" ،لذا سيعتبر الدولة هي
انتاج عقلي متحقق في التاريخ.
وهو ماعبر عنه بتلك الجملة الشهيرة التي قالها عند مشاهدته بونابارت يدخل منتصرا املانيا:
"ارى نابليون على الحصان ،أرى العقل على الحصان" هيقل.
وعليه فإن الروح الذي سيشهد تحققه الكلي في الفلسفة ،سيتجسد في روح الانسان العاقل الذي ال
يعي ذاته الا في الاخر ..وهذا الوعي البينذاتي سيشهد اكتماله وتجليه في املوضوع مع ذوبان الفرد في
الدولة .ليصبح الفرد/املواطن و الدولة كل واحد = الارادة الكلية( .الكلي) .هذه الارادة الكلية التي سيرى
فيها احد تالمذته املجددين الفيلسوف الامريكي فرانسيس فوكوياما "الانسان الاخير و نهاية التاريخ" .في
تأكيد واضح على انتصار التصور الليبرالي لفكرة املواطنة ،ونظرية السيادة املبنية على مطلق العقل
التاريخاني( .بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك املعسكر الشرقي).
8