Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 523

‫‪1‬‬ ‫اإلحسان‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫‪1‬‬ ‫• عنوان الكتاب ‪ :‬اإلحسان‬


‫• المؤلف‪ :‬عبد السالم ياسين‬
‫• الطبعة األولى‪1998 :‬‬
‫• السحب‪ :‬مطبوعات األفق ‪ -‬الدار البيضاء‬
‫• رقم اإليداع القانوني‪98/163 :‬‬
‫عبد السالم ياسني‬

‫اإلحسان‬
‫‪1‬‬
‫الجزء األول‬
‫‪ ‬مقدمة‬
‫‪ ‬الرجال‬
‫‪ ‬عقبة واقتحام‬
‫‪ ‬الصحبة والجماعة‬
‫‪ ‬الذكر‬
‫‪ ‬الصدق‬
‫‪ ‬البذل‬
‫اإلحسان‬

‫مقدمة‬
‫إن احلمد هلل‪ ،‬حنمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ .‬من يهده اهلل فال ُمضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ .‬وأشهد‬
‫أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪﴿ .‬يَا أَيـَُّها‬
‫آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ َح َّق تـَُقاتِِه َوالَ تَ ُموتُ َّن إِالَّ َوأَنتُم ُّم ْسلِ ُمو َن﴾‪﴿ .‬يَا أَيـَُّها‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫ث‬‫اح َد ٍة َو َخلَ َق ِمنـَْها َزْو َج َها َوبَ َّ‬
‫س وِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َّاس اتـَُّقواْ َربَّ ُك ُم الذي َخلَ َق ُكم ِّمن نـَّْف ٍ َ‬ ‫الن ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ساءلُو َن بِه َواأل َْر َح َ‬
‫ام إِ َّن اللّهَ َكا َن‬ ‫ساء َواتـَُّقواْ اللّهَ الذي تَ َ‬ ‫منـْ ُه َما ِر َجاالً َكثيراً َون َ‬
‫صلِ ْح لَ ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا اتـَُّقوا اللَّهَ َوقُولُوا قـَْوالً َسديداً يُ ْ‬‫ين َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َعلَْي ُك ْم َرقيباً﴾‪﴿ .‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫أَ ْع َمالَ ُك ْم َويـَغْ ِف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َوَمن يُ ِط ْع اللَّهَ َوَر ُسولَهُ فـََق ْد فَ َاز فـَْوزاً َع ِظيماً﴾‪.‬‬
‫اللهم اجعلنا من الفائزين الفوز العظيم فضال منك ومنة يا ملك يا وهاب‪.‬‬
‫أما بعد فقد كتبت كتاب «اإلحسان» منذ سبع سنوات‪ ،‬ونشرت‪ ،‬خلسة‬
‫من الرقابة الصارمة على املطابع أن تتعامل معنا‪ ،‬الفصل األول منه حتت عنوان‬
‫«الرجال»‪.‬‬
‫كان بعض الفضالء ممن يتأسفون على «سوابقي» الصوفية اقرتح علي أن‬
‫ماضي الصويف‪ .‬ولعلهم حبسن نية أرادوا أن ميحوا عين وصمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أكتب متربئا من‬
‫ولعلهم ظنوها زلة‪ .‬ولعلهم‪.‬‬
‫فهأنا أكتب بعد تسع وعشرين سنة مضت منذ وضعت قدمي يف احلوزة‬
‫املباركة يوم احتضنين وليدا تائبا حائرا وأنا يف األربعني من عمري شيخي وقدويت‬

‫‪7‬‬
‫اإلحسان‬

‫إىل اهلل العارف باهلل الشريف النسيب سيدي احلاج العباس بن املختار القادري‬
‫نسبا البوتشيشي شهرة الشاذيل طريقة‪.‬‬
‫رمحه اهلل وأجزل له املثوبة مبا غذى الوليد بذلك الغذاء الروحي الذي ال‬
‫خيطر وجوده ببال من يسألين عن مؤلفات شيخي سؤال تبكيت‪ ،‬ألن الرجل‬
‫العظيم رمحه اهلل ما كان معه من مؤهالت ال ُقّراء املهرة احلاذقني إال زاد متواضع‬
‫من حفظ القرآن والتفقه يف الدين‪ .‬عامل الروح وعجائب القلب واختصاص‬
‫عند‬
‫اهلل عز وجل من شاء من عباده مبا شاء من مادة ترياق القلوب أمور ما َ‬
‫املبكتني هبا خرب‪ .‬كان اهلل لنا وهلم‪.‬‬
‫ُولدت امليالد املعتمد يف طريق اهلل على يد حمسن من احملسنني‪ ،‬يف ظل‬
‫قلب تزكى ملا زكاه اهلل‪ .‬شيخ صويف قال االصطالح‪ .‬ما هو التصوف وما بينه‬
‫من عالقة وبني االلفاظ القرآنية النبوية مثل‪ :‬إحسان‪ ،‬تزكية‪ ،‬أولياء‪ ،‬تقرب إىل‬
‫اهلل‪ ،‬سابقون‪ ،‬مقربون‪ِ ،‬حمبون‪ ،‬حمبوبون ؟ وهل بعد العلم يَرويه العلماء عن‬
‫العلماء مبا قال اهلل وقال رسول اهلل من مطلب؟‬
‫حاولت يف الفصل املنشور منذ سنوات بعنوان «الرجال» أن أضع بني‬
‫يدي العقالء مناذج من علماء املسلمني وأفذاذهم الذين حبثوا عن عارف باهلل‬
‫يربيهم‪ .‬واهنالت علي من بعض الناس محالت تؤكد َجهد أمياهنا أن مؤلفكتاب‬
‫«اإلسالم بني الدعوة والدولة» ال يزال سادرا يف غيه‪ ،‬مصرا على ضالله‪ ،‬ناشرا‬
‫لبدعته‪ .‬وكف ِّْر الناس يا من ال يتورع وال حيب أن ينزل حلظة عن رئاسته ليتعلم‪.‬‬
‫سبحان اهلل! واحد أمضى حبول اهلل وتوفيقه تسعا وعشرين سنة يف رحاب عمل‬
‫وجهد العقل واجلسد والقلب ضال مضل‪ .‬وواحد قرأ ورقات شتم‬ ‫الليل والنهار‪ُ ،‬‬
‫ولعن وسب وتكفري يف الصوفية كالمه حجة! سبحان اهلل!‬
‫جيمل أن نسكت؟ بل‬
‫أما بعد فهل ينفع أن نُثري املعارك حول التصوف‪ ،‬أم ُ‬
‫‪8‬‬
‫اإلحسان‬

‫السؤال هو‪ :‬أفينا من يصرب حىت يتعلم أم إن األمر «أشار فأشار» ومنضي‬
‫لشأننا على سطوح التسلف اجملند يداً واحدة علينا مع «من غلبهم بالسيف حىت‬
‫مسي أمري املؤمنني»‪ ،‬ال حيل عقيدة متوارثة أ ْن نبيت وال نراه لنا إماما مطاعا‪ .‬أو‬
‫منضي لشأننا برباح إسالم فكري ثقايف سياسي وما شئت‪ ،‬لكن دعنا‪ ،‬نرجوك‪،‬‬
‫من الصوفية‪.‬‬
‫كتاب «اإلسالم بني الدعوة والدولة»‬
‫منذ عشرين سنة محل أحد اإلخوان َّ‬
‫و«اإلسالم غدا» إىل املوسم مبكة املكرمة‪ .‬يف مكة أهدى أخي سيدي أمحد‬
‫املالخ نسختني للسيد اجلليل أيب احلسن الندوي‪ .‬فلما انصرف الناس إىل‬
‫املدينة املنورة إذا بالشيخ الندوي يبحث عن املغريب ليُحمله إيل رسالة شفوية‬
‫مؤداها‪« :‬جزاك اهلل خريا صرحت مبا ال نستطيع التصريح به»‪.‬‬
‫كان أستاذ األجيال وال يزال وفقه اهلل حيمل عبئا ثقيال يف مجع مشل‬
‫املسلمني باهلند‪ .‬وكانت له صالت جبهات ختندق فيها العقيدة احلنبلية التيمية‬
‫الوهابية شديدة املراس‪ .‬مل متنعه صالته تلك أن يكتب ببيانه العذب وعلومه‬
‫الواسعة دفاعا متنوع املظاهر عما مساه القرآن تزكية‪ ،‬ومساه االصطالح التارخيي‬
‫تصوفا‪ ،‬ومساه شيخ اإلسالم ابن تيمية فقه سلوك تع ّقبه بالنقد بعد اطالع‬
‫واسع على دخائل من تسموا صوفية‪ .‬فيهم أمثال اجلنيد والشيخ عبد القادر‬
‫وأضراهبم من أئمة الدين‪ ،‬وفيهم أكلة األفاعي والراقصون والزنادقة واجملانني‬
‫والسكارى الشطاحون‪ .‬كل أولئك اجتهد شيخ اإلسالم ليميز من بينهم الصاحل‬
‫من الطاحل‪ .‬الصاحل والطاحل يف نظره‪.‬‬
‫كتب الشيخ أبو احلسن الندوي يف «رجال الفكر والدعوة» و«ربانية ال‬
‫رهبانية»‪ .‬ولكن العقالنية التيمية الصائلة يف امليدان املدججة باملال وسيل املطبوعات‬
‫الفاخرة واجلامعات تفرخ الدكاترة اجملندين املتكلمني حراس العقيدة ترتصد البدعة‬

‫‪9‬‬
‫اإلحسان‬

‫والضاللة والكفر واجلهل وفساد العقيدة وراء كل ما ينطق بالتصوف‪ .‬التصوف‬


‫مجلة واحدة ضالل قبل أي كالم‪.‬‬
‫وحتس ْر أنت وحدك يا من حيمل هم األمة على ما تسرب إىل جوهر‬ ‫َّ‬
‫الدين من خالل التصوف الفلسفي الشاطح‪ ،‬وعلى ما تعانيه الدعوة من خواء‬
‫روحي‪ .‬هذه النفوس الصاحية إىل اإلسالم‪ ،‬وهذا الشباب املتطلع إىل صالح‬
‫كيف هندي إليه واملعمعة حامية بشرى التزكي وترياق الشفاء حتت شعار‬
‫مقبول مثل «الرتبية الروحية» دون أن نذكر الكلمة‪/‬احلرب ودون أن نصارح‬
‫هذه األجيال الصادقة بأمانة وصدق أن التصوف عمل‪ ،‬وأن العلم مبا هو‬
‫التصوف فرض على كل ناصح لنفسه ال يقعقع له بالشنان زجرا له عما تصفه‬
‫العقالنية املقتضبة بالبدعة والضاللة والكفر والزندقة كلمةً واحدة‪.‬‬
‫وليس من شأننا‪ ،‬وال مما يشغلنا‪ ،‬وال مما ينبغي أن يشغلنا الدفاع عن‬
‫خطإ من أخطأ‪ ،‬وتثبيت أقدام من زل‪ ،‬وتذكري الناسي مبا نسي‪.‬‬
‫فأوَرى زند احلرب على املسلمني وشنها شعواء على‬
‫يا من رخص عليه دينه ْ‬
‫املؤمنني! وحيك! أرثي واهلل لزهدك يف االطالع على دينك! شعارك «الكتاب‬
‫وحدك متلففا يف مذهبيتك الكتاب‬
‫والسنة» وهو شعار املؤمنني‪ .‬لكنك تفهم َ‬
‫والسنة‪ .‬وغريك ضال ومضل‪ .‬ما أنصفت نفسك إذ استخففت بأجيال العلماء‬
‫من األمة الذين دانوا اهلل قبلك وحققوا ودققوا ونصحوا‪ .‬وال أنصفت غريك إذ‬
‫اختصرت املسألة يف تقابل ضدي بني تصوف كفر وعقيدة سليمة‪ .‬العقيدة‬
‫السليمة أنت‪ ،‬وغريك جهمي معطل فاسق بدعي كافر‪ .‬وحيك!‬
‫هل من سبيل يا أهل السماحة إىل احلديث يف هذا املوضوع دون نفثات‬
‫حسرة وغضب؟‬

‫‪10‬‬
‫اإلحسان‬

‫أكثرت يف هذا الكتاب من اقتطاف نصوص من أطايب الكالم ألمثال‬


‫الشيخ عبد القادر والشيخ الرفاعي وشيخ اإلسالم ابن القيم‪ ،‬خرقا للمنهجية‬
‫األكادميية اليت تأىب أن تسرد النصوص الطويلة‪« .‬لست من قيس وال قيس‬
‫ِم ِن!»‪ .‬فلذلك أهدي القارئ من عيون البالغة وأزاهر البيان‪.‬‬
‫قال املعرتض‪ :‬هذا عبد القادر وأمحد الرفاعي صوفيان مشهوران‪ .‬فما‬
‫بال ابن القيم وهو العامل السلفي اجمليد؟‬
‫قلت‪ :‬من قرأ تذييل ابن رجب على طبقات احلنابلة اطلع على ما عند سادة‬
‫املذهب وأئمته رضي اهلل عنهم من تقوى وربانية وخشية هلل تعاىل‪ .‬ال حيبون كلمة‬
‫«تصوف» لكن سلوك أكابرهم يذكر بسلوك الصاحلني يف القرون الفاضلة‪.‬‬
‫ومن قرأ كتب ابن القيم مثل «مدارج السالكني» و«دار اهلجرتني» وما‬
‫فيها من الرقائق وبدائع الوعظ والتذكري واهلمسات والزفرات املكتومة رمبا أدرك‬
‫أن يف األمر شيئا مميِّزاً بني العقالنية الصارمة للشيخ ابن تيمية والتلميذ ابن القيم‪.‬‬
‫وإن يف األمر ألشياء أعرضها يف هذا الكتاب حني كتب شيخ اإلسالم‬
‫يعي أصحابه بأنه ينقصهم‬ ‫من سجنه الذي مات فيه رمحه اهلل ورفع درجته ِّ‬
‫الوجد‪ ،‬ويبشرهم بأن اهلل تعاىل فتح له ما مل يكن باحلسبان‪.‬‬
‫سبحان اهلل! عُ ْمٌر كامل يف مزاولة العقل والنقل وحماربة الوجد‬
‫والواجدين‪ ،‬مث انقالب آخر رمق!‬
‫حارب قبل شيخ اإلسالم الصوفية اإلمام ابن اجلوزي رمحه اهلل‪ .‬ووصفهم‬
‫يف «تلبيس إبليس» ‪-‬وصف ما شاهد وما مسع‪ -‬بأهنم من «مجلة الزهاد وقد‬
‫ذكرنا تلبيس إبليس على الزهاد إال أن الصوفية انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال‬
‫وتومسوا بسمات فاحتجنا إىل إفرادهم بالذكر‪ ،‬والتصوف طريق كان ابتداؤها‬

‫‪11‬‬
‫اإلحسان‬

‫الزهد الكلي مث ترخص املنتسبون إليها بالسماع والرقص فمال إليهم طالب‬
‫اآلخرة من العوام ملا يظهرونه من الزهد‪ .‬ومال إليهم طالب الدنيا ملا يرون‬
‫عندهم من الراحة واللعب فال بد من كشف تلبيس إبليس عليهم يف طريقة‬
‫القوم»‪ 1.‬مث جند ابن اجلوزي يف كتابه «صيد اخلاطر» يقول‪« :‬جمرد العلم‬
‫باحلالل واحلرام ليس له كبري عمل يف رقة القلب‪ .‬وإمنا ترق القلوب بذكر رقائق‬
‫األحاديث وأخبار السلف الصاحلني وأذواق أهل التصوف»‪.‬‬
‫وجند احلافظ ابن اجلوزي ينصح ابنه قائال‪« :‬وعليك بكتاب «منهاج‬
‫املريدين»‪ ،‬فإنه يعلمك السلوك‪ ،‬فاجعله جليسك ومعلمك‪ ،‬وتـَلَ َّم ْح كتاب‬
‫‪2‬‬
‫«صيد اخلاطر»‪ ،‬فإنك تقع بواقعات تصلح أمر دينك ودنياك»‪.‬‬
‫حنابلة أئمة يرجعون‪ .‬هذا عري إخوانه يف آخر حياته بأنه ينقصهم الوجد‬
‫الوجد وأهل الوجد عمرا حافال‪ .‬واآلخر كشف عن تلبيسات‬ ‫بعد أن حارب َ‬
‫إبليس لدى املتزهدة الذين يكثرون من األكل والرقص والغناء‪ ،‬مث ينصح أعز‬
‫الناس عليه وأقرهبم إليه‪ ،‬وينصح األمة بالبحث عما يرقق القلوب ويوقظ‬
‫القلوب لتذوق حالوة اإلميان‪.‬‬
‫ولئن تركها ابن اجلوزي رمحه اهلل إشارة إىل «أذواق أهل التصوف»‪،‬‬
‫وتركها بعده شيخ اإلسالم رمحه اهلل توجيها إىل طلب الوجد‪ ،‬فإننا بعون اهلل‬
‫نُطَِّوف يف رياض املربني املتزكني الذائقني الواجدين احملبني الواهلني يف جالل اهلل‬
‫ومجاله‪ ،‬عسى يشيم صادق صابر معنا وصادقة صابرة من عبري النفح الروحي‬
‫وعطر التزكية اإلحسانية‪.‬‬

‫‪ 1‬تلبيس إبليس ص ‪.145‬‬


‫‪ 2‬لفتة الكبد يف نصيحة الولد ص ‪.66‬‬

‫‪12‬‬
‫اإلحسان‬

‫واذهب أنت يا من متر على فتاوي ابن تيمية مر الكرام ال تقف عند‬
‫فصوص الكالم ومفاصل العربة‪ ،‬تكفر املسلمني وترفع لواء محله قبلك فطاحلة‬
‫مث ختلوا عنه‪.‬‬
‫أكتب يا أهل السماح هذه املقدمة ليلة السابع والعشرين من رجب‬
‫سنة ‪ 1414‬تيمنا بالذكرى املباركة لإلسراء واملعراج‪ .‬على سيدنا وحبيبنا حممد‬
‫رسول اهلل أزكى الصالة وأطيب السالم‪ .‬اللهم اهد قلوبنا ملا فيه خرينا وخري‬
‫املسلمني‪ .‬وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫سال‪ ،‬ليلة اإلثنني ‪ 27‬رجب ‪.1414‬‬

‫‪13‬‬
‫الفصل األول‬
‫الرجال‬
‫‪ ‬معاني اإلحسان‬
‫ ‬
‫‪ ‬أال وإن في الجسد مـضغة‬
‫‪ ‬علم التصوف فقه واجتهاد‬
‫‪ ‬علوم القوم ومكانتها من بين العلوم‬
‫‪ ‬المحدثون والصوفية‬
‫ ‬
‫‪ ‬الفقهاء تالمذة الصوفية‬
‫ ‬
‫‪ ‬بين التشدد واالعتدال‬
‫‪ ‬مراجعة وتوبة‬
‫ ‬
‫اإلحسان‬

‫معاني اإلحسان‬
‫لفظ «اإلحسان» يدل على معاين ثالثة ورد هبا القرآن ووردت هبا السنة‪:‬‬
‫‪ 1-‬اإلحسان بأن تعبد اهلل كأنك تراه‪ ،‬فإن مل تكن تراه فإنه يراك‪.‬‬
‫‪ 2-‬اإلحسان إىل الناس‪ ،‬كالوالدين واألقربني واليتامى واملساكني‬
‫واملسلمني وسائر اخللق أمجعني‪.‬‬
‫‪ 3-‬إحسان العمل وإتقانه وإصالحه‪ ،‬سواء العمل العبادي أو العادي‬
‫أو املعاماليت‪.‬‬
‫جمموع هذه الدالالت يعطينا مواصفات املؤمن الصاحل يف نفسه وخلقه‬
‫وتعامله مع اجملتمع‪ ،‬يعطينا الوصف املرغوب لعالقات العبد بربه وبالناس‬
‫وباألشياء‪ .‬عالقته بربه تكون إحسانية إن حافظ على ذكره اليفرت عن مراقبته‬
‫وخشيته ورجائه ودعائه ومناجاته‪ .‬هبذا اإلحسان يف عبادة ربه يطيب قلبه‬
‫وجتمل أخالقه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رمحة يعم نفعه العامل‬
‫األقرب فاألقرب‪ .‬ونفعه للمجتمع وللناس كافة ال يتوقف على حسن النية‬
‫ومجال القصد واإلسراع إىل الفعل فقط‪ ،‬بل يتوقف أيضا‪ ،‬وباملكانة املؤكدة‪،‬‬
‫على خربته ومهارته وقدرته على إتقان ما هو موكول إليه من أعمال‪.‬‬
‫يقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما أخرجه البيهقي رمحه اهلل عن‬
‫عائشة أم املؤمنني رضي اهلل عنها‪« :‬إن اهلل حيب إذا عمل أحدكم عمال أن‬
‫يتقنه»‪ .‬ومن حديث مسلم قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل كتب اإلحسان‬

‫‪17‬‬
‫اإلحسان‬

‫على كل شيء»‪ .‬يف هذين احلديثني جند املعىن الثالث لإلحسان عائدا إىل‬
‫املعىن األول‪ ،‬حصول األول متوقف إىل حد على حصول الثالث‪ .‬ويعم حب‬
‫اهلل تعاىل احملسنني‪ ،‬أكملهم نصيبا من حبه تعاىل من عبده ذاكرا نافعا للعباد‬
‫متقنا جميدا‪ ،‬يعطيه إتقانه الوسائل الضرورية إلرضاء احلاجات الدنيوية لنفسه‬
‫وعائلته وأمته‪ ،‬وتؤهله خدمته وإجنازاته الدنيوية للتقرب من اهلل رب العباد من‬
‫خالل هذه اإلجنازات نفسها‪.‬‬
‫ين﴾‬ ‫ِِ‬ ‫﴿واللّهُ يُ ِح ُّ‬ ‫ِِ‬ ‫وردت عبارة ﴿إِ َّن اللّهَ يُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُْم ْحسن َ‬ ‫ين﴾ أو َ‬
‫ب ال ُْم ْحسن َ‬
‫يف سورة البقرة‪ ،‬ويف سورة آل عمران مرتني‪ ،‬ويف املائدة مرتني‪ .‬ويف القرآن‬
‫آيات عديدة تعد أن اهلل مع الذين اتقوا والذين هم حمسنون‪ ،‬وأن اهلل ال يضيع‬
‫أجر احملسنني‪ ،‬وأن البشرى للمحسنني‪ .‬حض على اإلحسان متكرر‪ ،‬فما هي‬
‫حقيقة اإلحسان تفصيال؟‬
‫بعد أن وضعنا على رأس هذه الفقرة املعاين الثالثة مرتبة‪ ،‬نستمع إىل بيان‬
‫ترمجان القرآن رسول رب العاملني لنضع اإلحسان يف مكانته من اإلسالم واإلميان‪.‬‬
‫فإن اإلحسان ما هو معىن عائم هكذا‪ ،‬عام الداللة بعموم املدلول اللغوي‪ ،‬بل‬
‫اإلحسان رتبة يف الدين ودرجة يف التقوى‪ ،‬هلا األمهية القصوى‪ .‬اإلحسان غاية‬
‫الغايات وحمط نظر ذوي اهلمم العالية من الرجال‪ .‬ألمهية اإلحسان هذه البالغة‬
‫شاء اهلل جل شأنه أن يرتب للصحابة رضي اهلل عنهم ولنا من بعدهم حادثة‬
‫تلفت النظر وتعلق باخليال‪ ،‬وختاطب العقل والوجدان‪ ،‬لكيال يفهم املسلمون‬
‫دينهم فهما مسطحا‪ .‬هذه احلادثة هي نزول جربيل عليه السالم الستجواب‬
‫الرسول الكرمي وهو بني أصحابه يف جملس تعليمه‪ .‬رأوا امللك املقرب مجيعا‬
‫وشهدوا احلوار‪ .‬هذه لوحة خالدة للتعليم الرباين يرويها الشيخان وأبوداود‬
‫والنسائي عن أيب هريرة وأيب ذر رضي اهلل عنهما بصيغة مقتضبة منسك منها‬

‫‪18‬‬
‫اإلحسان‬

‫عبارة أن اإلحسان‪« :‬أن تعبد اهللكأنك تراه‪ ،‬فإن مل تكن تراه فإنه يراك»‪ .‬يف هذه‬
‫الرواية يقول احلبيب آخر احلديث‪« :‬هذا جربيل جاء ليعلم الناس دينهم»‪.‬‬
‫نأخذ الرواية األمت‪ ،‬ننقلها بتمامها ألمهيتها البالغة‪ ،‬أخرجها مسلم وأبوداود‬
‫والنسائي عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه قال‪« :‬بينما حنن جلوس عند رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذات يوم‪ ،‬إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد‬
‫سواد الشعر‪ ،‬اليرى عليه أثر السفر‪ ،‬وال يعرفه منا أحد‪ .‬حىت جلس إىل النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأسند ركبتيه إىل ركبتيه‪ ،‬ووضع كفيه على فخذيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫يا حممد! أخربين عن اإلسالم‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اإلسالم أن‬
‫تشهد أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤيت الزكاة‪ ،‬وتصوم‬
‫رمضان‪ ،‬وحتج البيت إن استطعت إليه سبيال‪ .‬قال‪ :‬صدقت‪ .‬قال‪ :‬فعجبنا له يسأله‬
‫ويصدقه‪ .‬قال‪ :‬فأخربين عن اإلميان‪ .‬قال‪ :‬أن تومن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫اآلخر‪ ،‬وتومن بالقدر خريه وشره‪ .‬قال‪ :‬صدقت‪ .‬قال‪ :‬فأخربين عن اإلحسان‪.‬‬
‫قال‪ :‬أن تعبد اهللكأنك تراه فإن مل تكن تراه فإنه يراك‪ .‬قال‪ :‬فأخربين عن الساعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما املسؤول عنها بأعلم من السائل‪ .‬قال‪ :‬فأخربين عن أماراهتا‪ .‬قال‪ :‬أن تلد‬
‫األمة ربتها‪ ،‬وأن ترى احلفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون يف البنيان‪ .‬قال‪ :‬مث انطلق‪.‬‬
‫فلبثت مليا (أي قليال) مث قال يل‪ :‬يا عمر أتدري من السائل؟ قلت‪ :‬اهلل ورسوله‬
‫أعلم‪ ،‬قال‪ :‬فإنه جربيل أتاكم يعلمكم دينكم»‪.‬‬
‫نعم يا حبيب اهلل أنت املعلم نعم املعلم جزاك اهلل عن هذه األمة ما هو أهله‪.‬‬
‫لكن رمحته سبحانه بنا‪ ،‬وحرصه على أن نتعلم ديننا كامال وافيا‪ ،‬ملا يعلم من‬
‫قصور فهمنا وغلبة النسيان علينا واختالط معامل األمور يف ذاكرتنا‪ ،‬بعثت معلما‬
‫مساعدا مساويا هو رفيقك وحماذيك يف إسرائك ومعراجك‪ .‬عليك صالة اهلل‬
‫وسالمه وعلى امللك الكرمي‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلحسان أن نعبد اهلل كأننا نراه‪ .‬درجة ثالثة بعد اإلسالم واإلميان‪،‬‬
‫فوقهما‪ ،‬بناء عليهما الحتليقا‪ ،‬الإميان بال إسالم‪ ،‬وال إحسان بال إميان‪.‬‬
‫اهلل سبحانه أحسن صبغة وأحسن قيال‪ .‬وهو أحسن اخلالقني‪ .‬ومن إحسانه‬
‫يفيض اخلري على من أقرض اهلل قرضا حسنا‪ ،‬وعلى من أبلى بالء حسنا‪ .‬منه إلينا‬
‫الرزق احلسن واملتاع احلسن يف الدنيا واحلسىن وزيادة يف اآلخرة إن حنن أحسنا‬
‫يف هذه الدنيا حسنة‪ ،‬وهاجرنا فيه سبحانه ليبوئنا يف الدنيا حسنة‪ .‬يزيدنا حسنا‬
‫إن اقرتفنا حسنة ويعطينا إن أحسنا الدعاء يف الدنيا حسنة ويف اآلخرة حسنة‪.‬‬
‫له األمساء احلسىن سبحانه‪ .‬دعانا رسوله املصطفى باملوعظة احلسنة‪ ،‬فإن‬
‫حنن استجبنا لربنا وصدقنا باحلسىن أعطانا احلسىن يف هذه الدار‪ ،‬وجعلنا من‬
‫املبعدين عن النار مع الذين سبقت هلم منه احلسىن‪.‬‬
‫أمرنا أن نتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا‪ ،‬وهو كتابه العظيم وسنة رسوله‬
‫الكرمي‪ ،‬ويف كتابه وسنة رسوله اإلحسان إىل الوالدين‪ ،‬والدفع باليت هي أحسن‬
‫رفقا باخللق ومالطفة‪ ،‬وأن نقول للناس حسنا‪ ،‬وأن جنازي باإلحسان إحسانا‪.‬‬
‫خلقنا سبحانه يف أحسن تقومي‪ ،‬مث ردنا أسفل سافلني يف دار االمتحان ليبلونا‬
‫أينا أحسن عمال‪ ،‬فمن آمنوا وعملوا صاحلاكان هلم أجر غري ممنون‪ ،‬وكلماكان إمياهنم‬
‫أكمل وعملهم أحسنكانوا أقرب إىل نيلكماهلم األخروي حيث حيشرون إىل دار‬
‫النعيم يف أحسن تقومي‪ .‬خرجوا من االمتحان صاحلني‪ .‬هنالك يف مقعد الصدق يقال‬
‫ك‬‫يم َك َذلِ َ‬
‫َ‬ ‫هلم ما قيل للنبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪َ ﴿ :‬س َل ٌم َعلَى إِبـَْر ِاه‬
‫ين﴾‪.2‬‬ ‫ِِ‬
‫ك نَ ْج ِزي ال ُْم ْحسن َ‬ ‫ين إِنَّا َك َذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫﴿س َل ٌم َعلَى إِ ْل يَاس َ‬ ‫ين﴾ ‪َ .‬‬
‫ِِ‬
‫نَ ْج ِزي ال ُْم ْحسن َ‬
‫‪1‬‬

‫ين﴾‪ 3.‬هنالك يستبشرون‬ ‫ِِ‬


‫ك َج َزاء ال ُْم ْحسن َ‬ ‫شاءُو َن ِعن َد َربِّ ِه ْم َذلِ َ‬
‫﴿ لَ ُهم َّما يَ َ‬
‫‪ 1‬الصافات‪109-110 ،‬‬
‫‪ 2‬الصافات‪130-131 ،‬‬
‫‪ 3‬الزمر‪34 ،‬‬

‫‪20‬‬
‫اإلحسان‬

‫ين َكانُوا قَلِيالً ِّم َن‬ ‫اهم ربـُُّهم إِنـَُّهم َكانُوا قـ ْبل َذلِ َ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ك ُم ْحسن َ‬ ‫ََ‬ ‫ين َما آتَ ُ ْ َ ْ ْ‬ ‫﴿ آخذ َ‬
‫َس َحا ِر ُه ْم يَ ْستـَغْ ِف ُرو َن َوفِي أ َْم َوالِ ِه ْم َح ٌّق لِّ َّ‬
‫لسائِ ِل‬ ‫اللَّْي ِل َما يـَْه َجعُو َن َوبِ ْال ْ‬
‫‪1‬‬
‫َوال َْم ْح ُر ِوم﴾‪.‬‬
‫وللمحسنات مثل ذلك‪ ،‬لنساء نيب اهلل وحبيبه القانتات التائبات العابدات‬
‫ِ‬
‫الد َار ْالخ َرَة فَِإ َّن اللَّهَ‬
‫﴿وإِن ُكنتُ َّن تُ ِر ْد َن اللَّهَ َوَر ُسولَهُ َو َّ‬
‫قيل يف الكتاب العزيز‪َ :‬‬
‫َجراً َع ِظيماً﴾‪ 2.‬ولكل مؤمنة قيل ذلك يا من يسمع‬ ‫أَع َّد لِلْمح ِسن ِ ِ‬
‫ات من ُك َّن أ ْ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫كالم اهلل‪ ،‬ويفهم عن اهلل‪ ،‬يرجو اهلل‪ ،‬وخياف اهلل‪ ،‬وحيب اهلل‪ .‬ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫واحلمد هلل‪.‬‬

‫‪ 1‬الذاريات‪ ،‬اآليات‪16-19:‬‬
‫‪ 2‬األحزاب‪29 ،‬‬

‫‪21‬‬
‫اإلحسان‬

‫أال وإن في الجسد مضغة‬


‫نريد يف هذا الفصل أن نقف عند فقهاء الرتبية أطباء القلوب‪ ،‬وأن ننظر‬
‫يف هذا الطب العظيم كيف عاجل به أهل اإلحسان أنفسهم وتالمذهتم‪ .‬نريد أن‬
‫نلتمس طريقا ملعرفة كلمة احلق يف موضوع خطري‪ ،‬موضوع السلوك إىل اهلل جل‬
‫وعال‪ .‬كثر حوله النزاع وتضاربت اآلراء‪ ،‬واحتدم اخلالف‪ ،‬ومحيت املعركة‪.‬‬
‫كنت كتبت منذ مخسة عشر عاما وأنا يومئذ ال أزال يف بدايايت عن‬
‫صحبيت لشيخ عارف باهلل رمحه اهلل رمحة واسعة وجزاه عنا خريا‪ ،‬وأدليت مبا كان‬
‫معي يومئذ من شهادة‪ ،‬واستشهدت بنقول أستأنس هبا برباءة من اكتشف عاملا‬
‫فأخذ يصيح بكل قواه ليجلب انتباه الناس‪ ،‬اليبايل مبن صدق أو كذب أو‬
‫شك‪ .‬تلك النقول ألزمين هبا بعض الناس ما ال يلزم‪ ،‬كفرين بعضهم ألين ذكرت‬
‫فالنا وفالنا فلم أكفر أحدا‪ ،‬واستخرفين آخرون حلديثي عن الغيب والكرامات‪.‬‬
‫اآلن أعود إىل املوضوع ال ألتربأ من الصوفية كما أحل علي بعضهم‪ ،‬وال‬
‫ألحتمل تبعات غريي‪ ،‬لكن ألقول كلمة احلق اليت ال ترتك لك صديقا‪ ،‬لكن‬
‫ألجتاوز مرحلة كانت النقول عن الرجال ما دون كتاب اهلل وسنة رسوله سندا‬
‫لطفوليت يف طريق القوم‪ .‬اآلن وقد شب عمرو عن الطوق بفضل امللك الوهاب‬
‫أعود ألشهد شهادة احلق أرجو هبا وجه اهلل‪ ،‬أعود ألحدث من يقرأين حديث‬
‫القلب عن القلب وعن اإلحسان وعن حمبة اهلل ورسوله وعن املعرفة وعن الكمال‪.‬‬
‫كل ذلك من خالل عرض هادئ لقضايا التصوف‪ ،‬ومن خالل نصوص ال‬
‫خالف حول مؤلفيها‪ ،‬فأنا ال أحب أن أدخل يف جدل وال وقت لدي أضيعه‬

‫‪22‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف الدفاع أمام حماكمات ال تنتهي‪.‬‬


‫االسم والشكل ألين ال أجدمها يف‬ ‫لست أدعو إىل التصوف‪ ،‬وال أحب ِ‬
‫كتاب اهلل وسنة رسوله بعد أن اخرتت جوار القرآن واجللوس عند منرب احلبيب‬
‫املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ال‪ ،‬وال حاجة يل باملصطلحات احملدثة‪ ،‬فلي‬
‫غىن عنها بلغة القرآن وبيان إمام أهل اإلحسان‪ .‬لكن احلق الذي مع الصوفية‪،‬‬
‫حق حب اهلل تعاىل وابتغاء وجهه وإرادة الوصول إليه والتماس الطريق ملعرفته وما‬
‫يكرم به احلنان املنان املصطفني من عباده‪ ،‬حق ثابت يف القرآن والسنة‪ ،‬ثابت‬
‫يف حياة من تعرض لنفحات اهلل وصدق يف اهلل وذكر اهلل وسار إىل اهلل‪ .‬ذاك‬
‫حق شهد به الرجال حتدثا بنعمة اهلل عليهم‪ ،‬وأنا أسعد الناس إن كان لشهاديت‬
‫سامعون واعون هبوا من سبات الغفلة لصرخيت هذه اهلادئة‪ ،‬وتيقظوا يقظة‬
‫القلب‪ ،‬وجتافوا عن احلياة الدنيا‪ ،‬وفزعوا إىل من يدهلم على اهلل حىت يعرفوا اهلل‪.‬‬
‫أنا أسعد الناس إذاً إن حصل يف ميزان حسنايت أفواج من احملسنني كنت هلم‬
‫صوتا يقول‪ :‬من هنا الطريق‪ ،‬من هنا البداية‪.‬‬
‫إن عُرا اإلسالم أول ما انتقض منها احلكم‪ ،‬مث تواىل نقض عُراً أخرى حىت‬
‫اختل اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬والعقل اإلسالمي‪ ،‬والوحدة اإلسالمية‪ ،‬والشورى والعدل‬
‫اإلسالميان‪ .‬ولئن بقي لألمة وجود البتة‪ ،‬ولئن بقي هلا متاسك استعصى على‬
‫عوامل النقض والتفتيت أن تبلغ مداها‪ ،‬فالفضل هلل عز وجل ولكتابه وسنة رسوله‬
‫مث لرجال كانوا غياث اخللق مصابيح اهلدى‪ .‬يف كل إقليم كان دعاة مربون‪ .‬كان‬
‫الواعظ مربيا له نفوذه الروحي على قدر ما معه من خشية اهلل‪ .‬كان املدرس مربيا‬
‫على مقدار ما وصل العلم بالعمل الصاحل‪ .‬كان اجلار للجار وإمام املسجد وعائل‬
‫األسرة مربني على قدر ما ورثوا بالصحبة واملالزمة ملن قبلهم من تقوى اهلل‪.‬‬
‫كان النسب القليب الفطري حياة سارية باإلميان يف أوصال األمة‪ ،‬وكان أهل‬

‫‪23‬‬
‫اإلحسان‬

‫النسبة الوثقى أولياء اهلل تعاىل أهل كرامته حمطات يشع منها اإلميان األقرب‬
‫فاألقرب‪.‬‬
‫هذا التماسك املوروث باالنتساب القليب‪ ،‬بالتحاب يف اهلل‪ ،‬واخللة يف‬
‫اهلل والتواصي باحلق والصرب‪ ،‬هو كان وال يزال روح األمة ومناط وجودها‬
‫وبقائها ومنعتها على الفنت‪.‬‬
‫يف عصرنا توشك هذه العروة القلبية أن تتالشى‪ .‬لذلك يكون املطلب‬
‫اإلحساين أسبق املطالب يف سلم األولويات‪ ،‬ويكون طب القلوب أهم علم‪،‬‬
‫وتطبيقه أهم عمل‪ .‬جسد األمة متداع هنب للناهبني‪ .‬يستطيع احمللل السياسي‬
‫واخلبري االقتصادي والباحث االجتماعي أن يشخصوا أعراض االحنالل يف‬
‫جسد األمة‪ .‬وينربي أصحاب «احلل اإلسالمي» و«البديل اإلسالمي»‬
‫ليقرتحوا عالجا «إسالميا» وفقا لذلك التشخيص‪ ،‬ويف مستواه من املادية‬
‫والعقالنية‪ ،‬واستجابة له‪ ،‬وتبنيا ملا تعرفه اجملتمعات البشرية من بواعث ومنازع‪.‬‬
‫التشخيص النبوي وصف داء األمة حني تنحل وتصبح غثاء كغثاء السيل‪،‬‬
‫ومساه «وهنا» وهو حب الدنيا وكراهية املوت‪ .‬العالج النبوي هلذا الفساد نستنبطه‬
‫من حديث املصطفى الكرمي عن األجساد تفسد أو تصلح بفساد أو صالح‬
‫مضغة فيها تسمى القلب‪ .‬من حديث رواه الشيخان وغريمها عن النعمان بن‬
‫بشري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ ...« :‬أال وإن يف اجلسد مضغة‪،‬‬
‫إذا صلحت صلح اجلسدكله‪ ،‬وإذا فسدت فسد اجلسدكله‪ ،‬أال وهي القلب»‪.‬‬
‫صالح التيار القليب اإلمياين الساري يف أوصال األمة يكون بصالح قلوب‬
‫املؤمنني‪ .‬وصالح القلوب يكون بالرتبية‪ .‬وللرتبية أصول وقواعد من كتاب اهلل‬
‫وسنة رسوله‪ .‬حفظها وحافظ عليها القوم رضي اهلل عنهم‪ ،‬واجتهدوا واجتهادهم‬
‫فرع‪ .‬وحنن‪ ،‬وإن استدللنا يف طفولتنا بالفرع على وجود األصل واقتبسنا والتمسنا‬

‫‪24‬‬
‫اإلحسان‬

‫نورا من الفروع‪ ،‬النبتغي باألصل بدال‪.‬‬


‫يف األصل جند أن «أول علم يرفع من الناس اخلشوع» هذا جزء من حديث‬
‫شريف عند الرتمذي‪ .‬وجند أن «أكثر منافقي أميت القراء»‪ .‬وهذا حديث عند‬
‫اإلمام أمحد‪ .‬فاإلسالم الثقايف‪ ،‬إسالم العقل والقراءة‪ ،‬والقلوب فارغة من خشية‬
‫اهلل‪ ،‬مرض آخر زائد على أمراض األمة الكثرية‪ .‬وجند يف األصل أن «أخوف ما‬
‫أخاف عليكم كل منافق عليم اللسان» وهو حديث عند اإلمام أمحد‪ ،‬والنفاق‬
‫يعشش يف القلوب إذا خلت من اإلميان أو سبق إليها النفاق فلم يدخلها اإلميان‬
‫آمنَّا قُل لَّ ْم تـُْؤِمنُوا َولَ ِكن‬ ‫اب َ‬
‫ِ‬
‫قط‪ .‬يفكتاب اهلل عز وجل جند آية‪﴿ :‬قَالَت ْالَ ْع َر ُ‬
‫‪1‬‬
‫يما ُن فِي قـُلُوبِ ُك ْم﴾‪.‬‬ ‫ال َ‬‫َسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل ِْ‬
‫قُولُوا أ ْ‬
‫عن اإلميان واإلحسان نبحث‪ ،‬فنجد أهنما عقد بالقلب يتبعه نطق باللسان‬
‫وعمل باجلوارج‪ .‬حمصور اإلميان هبذا العقـد القليب‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤِمنُو َن‬
‫يماناً‬ ‫ادتـْ ُه ْم إِ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم آيَاتُهُ َز َ‬ ‫ت قـُلُوبـُُه ْم َوإِ َذا تُلِيَ ْ‬ ‫ين إِ َذا ذُكِ َر اللّهُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫اه ْم يُ ِنف ُقو َن أ ُْولَـئِ َ‬ ‫وعلَى ربِّ ِهم يـتـوَّكلُو َن الَّ ِذين ي ِقيمو َن َّ ِ‬
‫الصالَةَ َوم َّما َرَزقـْنَ ُ‬ ‫َُ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ُْم ْؤِمنُو َن َح ّقاً ل ُه ْم َد َر َج ٌ‬
‫َّ‬
‫يم﴾‪ .‬ذكر اهلل َوَو َج ُل‬ ‫ات عن َد َربِّ ِه ْم َوَمغْف َرةٌ َوِرْز ٌق َك ِر ٌ‬
‫‪2‬‬

‫القلب والتوكل على اهلل أعمال قلبية يتفرع عنها إقامة الصالة وإيتاء الزكاة وسائر‬
‫ِ َّ ِ‬
‫آمنُوا‬‫ين َ‬ ‫أركان اإلسالم وشعب اإلميان‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤمنُو َن الذ َ‬
‫يل اللَّ ِه أ ُْولَئِ َ‬‫اه ُدوا بِأ َْم َوالِ ِه ْم َوأَن ُف ِس ِه ْم فِي َسبِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫بِاللَّه َوَر ُسوله ثُ َّم لَ ْم يـَْرتَابُوا َو َج َ‬
‫الص ِادقُو َن﴾‪ 3.‬إمنا يف اللغة حرف حصر‪ ،‬فال إميان دون عقيدة ال ترتاب‬ ‫ُه ُم َّ‬
‫وجهاد الينثىن باملال والنفس‪ ،‬باعثه ابتغاء مرضاة اهلل‪ ،‬طريقه سبيل اهلل‪.‬‬

‫‪ 1‬احلجرات‪14 ،‬‬
‫‪ 2‬األنفال‪2-4 ،‬‬
‫‪ 3‬احلجرات‪15 ،‬‬

‫‪25‬‬
‫اإلحسان‬

‫ين إِ َذا ذُ ِّك ُروا بِ َها َخ ُّروا ُس َّجداً‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ‬


‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ َما يـُْؤم ُن بآيَاتنَا الذ َ‬
‫َو َسبَّ ُحوا بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َو ُه ْم َل يَ ْستَ ْكبِ ُرو َن﴾‪ 1.‬فكم من ساجد باجلسد مسبح‬
‫باللسان مل حيصل له اخلضوع واخلشوع للواحد القهار‪ ،‬فظل مستكربا يف نفسه‬
‫مستكربا على بين جنسه‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ﴿ :‬ا تَ ِج ُد قـَْوماً يـُْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه َوالْيـَْوِم‬
‫اد اللَّهَ َوَر ُسولَهُ﴾‪ 2.‬احلب يف اهلل والبغض يف اهلل أوثق‬ ‫ْال ِخ ِر يـَُوادُّو َن َم ْن َح َّ‬
‫عرى اإلميان كما جاء يف احلديث‪ .‬وثاقة هاته العروة من وثاقة الوالء التام هلل‬
‫ولرسوله ولدينه‪ .‬أفيمكن لألمة واجلسد واه غثائي أن تستجمع قواها وجتاهد‬
‫أعداءها وتعز على املستكربين إن مل يصلح القلب وتتوثق عرا اإلحسان؟‬
‫القلب مكمن الداء‪ ،‬فإن صح وسلم فهو مركز اإلشعاع‪ ،‬وهو العنصر احلاسم‬
‫يف معادلة وجود األمة وانبعاثها‪ .‬ما حديثنا عن مقاصد الشريعة‪ ،‬وعن الطلب‬
‫واملطالب‪ ،‬وعن العدل والشورى‪ ،‬وعن األهداف الدنيوية‪ ،‬وعن الغاية األخروية إال‬
‫أحالم طائشة إن مل يشتد قلب األمة باشتداد قلوب املؤمنني على عزمة إميانية وإرادة‬
‫إحسانية تنهد أمامها العقبات وتنفتح أبواب األرض والسماوات‪.‬‬

‫‪ 1‬السجدة‪15 ،‬‬
‫‪ 2‬اجملادلة‪22 ،‬‬

‫‪26‬‬
‫اإلحسان‬

‫علم التصوف فقه واجتهاد‬


‫قصدي يف هذه الصفحات أن أدل على اهلل وعلى الطريق إليه‪ .‬قصدي أن‬
‫أستنهض الراقد وأستحث الفاتر وأنادي ذوي اهلمم العالية إىل مأدبة اهلل‪ .‬ما قصدي‬
‫أن أعرض علم التصوف عرضا أكادمييا تارخييا موثقا‪ .‬وما يغين العلم إذاكان وراءه‬
‫فضول فكري فقط‪ .‬حديثي حديث القلب إىل القلوب احلرة‪ .‬حنتاج يف حوارنا‬
‫إىل استبصار العقل وإىل االطالع على أحوال القوم لنقوم ننافسهم ونسابقهم يف‬
‫اخلرياتكما أمرنا اهلل جل شأنه‪.‬‬
‫حيتد اخلصام حول التصوف يف زماننا احتدادا شديدا‪ .‬كل جدران االحتياط‬
‫اليت أقامها نقاد التصوف السابقون خرقها بعض كتبة العصر يسايرون يف غلوهم‬
‫هذا تالمذة املستشرقني الذين يسعون جهدهم أن يقدموا التصوف على أنه علم‬
‫دخيل‪ ،‬والصوفية على أهنم تالمذة الربامهة والغنوصيني‪ .‬ما مثل هؤالء إالكمثل من‬
‫رأى مائدة حافلة حوهلا ضيف مكرمون ومن حوايل الضيف ذباب يتطاير ويطن‪،‬‬
‫فزعم أن املائدة ما نصبها إال الذباب وأن الضيف احمللقني ما هم إال ذبابكبري‪.‬‬
‫نعم طرأ بعد القرون الفاضلة الثالثة هجوم الفكر الفلسفي اهليليين وتأثري التأله‬
‫الفارسي واهلندي والصابئي‪ .‬وطرأ بعد اإلمام الغزايل الذي حاول إصالح ذات‬
‫البني بني فقهاء األحكام وفقهاء الرتبية تسلل الفلسفة اإلشراقية وعقائد احللول‬
‫واالحتاد امللعونة‪ .‬لكن موكب النور منكتائب أهل اهلل ما سار منذ عهد النبوة إال‬
‫على هدي أصيل وإن جدت مصطلحات دعت إليها ضرورة التفاهم بني أهل‬
‫االختصاص‪ ،‬وجدت هيآت وتكتالت دعت إليها ضرورة التعاون‪ .‬متاماكما جدت‬

‫‪27‬‬
‫اإلحسان‬

‫مصطلحات وتكتالت يف مدارس التفسري واحلديث وعلم أصول الفقه وعلم فروعه‬
‫وعلم أصول الدين وعلم اللغة وسواها‪.‬‬
‫لكي يطمئن حوارنا نثق بعلمائنا‪ ،‬فنستمع إىل حكمهم على علم‬
‫التصوف‪ ،‬وال نصدق املغرضني الذين يعملون معاول اهلدم يف سلفنا الصاحل‬
‫حياربون اإلميان بالغيب وبسمو الروح وكمال اإلحسان ويؤهلون العقل واملادة‪.‬‬
‫وال نصدق مقلدة قاصرين تبنوا عن انطماس يف العقل والبصرية وعن جهل‬
‫مبوضوع اجلدال وأوائله وتواليه معارك قدمية‪.‬‬
‫نستمع أوال إىل فارس اإلسالم وشيخه ابن تيمية رمحه اهلل‪ .‬نستمع إليه‬
‫ألمرين‪ :‬أحدمها أن كثريا من معاصرينا يعتربون شهادته هي الكلمة الفصل‪ ،‬فال‬
‫حنب أن نفجعهم وهم يف مهد اإلعجاب غري املشروط بوضع الفارس اجلليل يف‬
‫مكان نسبيته‪ .‬واالعتبار الثاين هو أن شيخ اإلسالم رمحه اهلل من أجل من حارب‬
‫اإلحلاد والفلسفة ومنطقها‪ .‬فللمرتاحني يف املهد نقدم جواز املرور‪ ،‬وللمتعسفني‬
‫نقدم جبهة إسالمية واحدة‪ ،‬ابن تيمية ابنها وفارسها‪ ،‬خصامها بينها من داخلها‪،‬‬
‫خصامها ظاهرة صحية تربهن على قدرهتا أن تنتقد أخطاءها وتتحاور وتصلح‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم‪« :‬والصواب أهنم (أي الصوفية) جمتهدون يف طاعة اهلل‪،‬‬
‫كما اجتهد غريهم يف طاعة اهلل‪ .‬ففيهم السابق املقرب حبسب اجتهاده‪ ،‬وفيهم‬
‫املقتصد الذي هو من أهل اليمني‪ .‬ويف كل من الصنفني من قد جيتهد فيخطئ‪.‬‬
‫وفيهم من يذنب فيتوب أو ال يتوب»‪ 1 .‬وقال‪« :‬وإهنم يف ذلك مبنزلة الفقهاء‬
‫‪2‬‬
‫يف الرأي»‪.‬‬

‫‪ 1‬فتاوي ابن تيمية ج ‪ 11‬ص ‪.18‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 10‬ص ‪.370‬‬

‫‪28‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال تلميذ ابن تيمية اإلمام ابن القيم‪« :‬وأما السابقون املقربون فنستغفر‬
‫اهلل الذي ال إله إال هو أوال من وصف حالتهم وعدم االتصاف هبا‪ .‬بل ما‬
‫مشمنا هلا رائحة‪ .‬ولكن حمبة القوم ( أي الصوفية والكلمة مصطلح ) حتمل‬
‫على تعرف منزلتهم والعلم هبا‪ .‬وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق‬
‫هبم ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة (‪ )...‬ومنها أن هذا العلم (يعين علم‬
‫التصوف) هو من أشرف علوم العباد‪ ،‬وليس بعد علم التوحيد أشرف منه‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وهو اليناسب إال النفوس الشريفة»‪.‬‬
‫حياك اهلل من رجل! جند عند الغزايل وهو من أكابر القوم ما يلي‪« :‬ولقد‬
‫كان اسم الفقه يف العصر األول مطلقا على علم طريق اآلخرة ومعرفة دقائق‬
‫آفات النفوس ومفسدات األعمال وقوة اإلحاطة حبقارة الدنيا وشدة التطلع‬
‫إىل نعيم اآلخرة واستيالء اخلوف على القلب‪ .‬ويدلك عليه قوله عز وجل‪:‬‬
‫﴿لِّيتـ َف َّقهواْ فِي الدِّي ِن ولِي ِ‬
‫نذ ُرواْ قـَْوَم ُه ْم إِ َذا َر َجعُواْ إِلَْي ِه ْم﴾‪ .2‬وما حيصل‬‫َُ‬ ‫ََ ُ‬
‫به اإلنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطالق والعتاق واللعان‬
‫‪3‬‬
‫والسلم واإلجارة»‪.‬‬
‫وجند عند الفقيه األصويل اإلمام الشاطيب تفصيال‪ :‬فالتصوف عنده قسمان‪:‬‬
‫«أحدمها التخلق بكل خلق سين‪ ،‬والتجرد عن كل خلق دين‪ .‬والثاين أنه الفناء‬
‫عن نفسه والبقاء بربه‪ .‬ومها يف التحقيق إىل معىن واحد‪ ،‬إال أن أحدمها يصلح‬
‫التعبري به عن البداية واآلخر يصلح التعبري به عن النهاية (‪ )...‬فالتصوف باملعىن‬
‫األول ال بدعة يف الكالم فيه (‪ )...‬وهو فقه صحيح‪ .‬وأصوله يف الكتاب والسنة‬
‫ظاهرة‪ .‬فال يقال يف مثله بدعة إال إذا أطلق على فروع الفقه اليت مل يلف مثلها‬
‫‪ 1‬طريق اهلجرتني ص ‪.260-261‬‬
‫‪ 2‬التوبة‪122 .‬‬
‫‪ 3‬اإلحياء ج ‪ 1‬ص ‪ .28‬‬

‫‪29‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف السلف الصاحل أهنا بدعة‪ ،‬كفروع أبواب السلم ومسائل السهو (‪ )...‬وأما‬
‫باملعىن الثاين فهو على أضرب‪ ،‬أحدمها يرجع إىل العوارض الطارئة على السالكني‬
‫إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداين‪ .‬فيتكلم فيها حبسب الوقت واحلال وما‬
‫حيتاج فيه يف النازلة اخلاصة رجوعا إىل الشيخ املريب وما بني له يف حتقيق مناطها‬
‫بفراسته الصادقة يف السالك حبسبه وحبسب العارض‪ .‬فيداويه مبا يليق به من‬
‫الوظائف الشرعية واألذكار الشرعية‪ )...( .‬فمثل هذا ال بدعة فيه لرجوعه إىل‬
‫أصل شرعي»‪ 1 .‬ويذكر رمحه اهلل الضرب الثاين وهو ما يتعلق بالكرامات وهو‬
‫ال بدعة فيه‪ ،‬وعن الضرب الثالث وهو البحث يف عامل الغيب وماهية املالئكة‬
‫والشياطني وعامل األرواح وهو بدعة‪ ،‬وعن الضرب الرابع وهو النظر يف حقيقة‬
‫الفناء وهو فقه متعلق بأهواء النفس البدعة فيه‪.‬‬
‫وعند اإلمام السهروردي أحد أعالم القوم رضي اهلل عنهم جند ما يلي‪:‬‬
‫«وعلوم هؤالء القوم ال حتصل مع حمبة الدنيا وال تنكشف إال مبجانبة اهلوى‬
‫‪2‬‬
‫وال تدرس إال يف مدرسة التقوى»‪.‬‬
‫يقصد رضي اهلل عنه العلوم اليت تنقدح يف القلوب بعد صفائها بالعمل‬
‫الصاحل والذكر واجملاهدة‪ ،‬ال تلك اليت حتويها الطروس‪.‬‬
‫وماكان القوم رضي اهلل عنهم أهل بطالة يتسلون مبضغ العباراتكما يفعل‬
‫املتحذلقون‪ ،‬بل كان مههم اهلل ونيل رضاه‪ .‬لذلك كانوا أصحاب عمل وجد‬
‫واجتهاد‪ .‬ما الفقه الذي أثلوه إال قواعد مستنبطة‪ ،‬مذكرات وصف السالكون‬
‫فيها مراحل سفرهم الروحي‪ ،‬تتلقاها األجيال الصاحلة من بعدهم نصيحة وحتديا‬

‫‪ 1‬االعتصام ج ‪ 2‬ص ‪.208‬‬


‫‪ 2‬عوارف العوارف ج ‪ 1‬ص ‪.247‬‬

‫‪30‬‬
‫اإلحسان‬

‫وضرب موعد هناك يف املقامات العالية‪.‬‬


‫قال اإلمام الغزايل يف إحيائه‪« :‬ومنها (أي عالمات علماء اآلخرة) أن‬
‫يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق اآلخرة وسلوكه‬
‫وصدق الرجاء يف انكشاف ذلك من اجملاهدة واملراقبة‪ .‬فإن اجملاهدة تفضي‬
‫إىل املشاهدة‪ ،‬ودقائق علوم القلب تتفجر هبا ينابيع احلكمة من القلب‪ .‬وأما‬
‫الكتب والتعليم فال تفي بذلك»‪ 1.‬وقال‪« :‬ومنها أن يكون اعتماده يف علومه‬
‫على بصريته وإدراكه بصفاء قلبه‪ ،‬ال على الصحف والكتب‪ ،‬وال على تقليد‬
‫‪2‬‬
‫ما يسمعه من غريه»‪.‬‬

‫‪ 1‬ج ‪ 1‬ص ‪.63‬‬


‫‪ 2‬ج ‪ 1‬ص ‪.69‬‬

‫‪31‬‬
‫اإلحسان‬

‫علوم القوم ومكانتها من بين العلوم‬

‫كثريا ما نسمع يف عرض احلديث عن اخلواء الروحي الذي يشكو منه‬


‫الشباب املتطلع ملعرفة دينه نصائح ومتمنيات بتصوف سين أو تصوف سلفي‪.‬‬
‫وكأن نسبة األلفاظ بعضها إىل بعض تعطي القضية وضوحا وسلطة ال مينحها‬
‫االسم اجملرد‪ .‬ومسعت تسجيال ألحد علمائنا العاملني يف حقل الدعوة حيث على‬
‫«التصوف السين»‪ ،‬فلما سألوه عن السبيل إىل هذا اخلري أجاب بأن ذلك حيصل‬
‫بقراءة الكتب اجليدة مثل إحياء الغزايل‪ .‬كأن األمر عملية فكرية ونزهة ثقافية‪.‬‬
‫إن العلم واالطالع ميكن أن يكونا باعثني على العمل‪ ،‬إذا كان يف القلب كوامن‬
‫واستعداد‪ .‬أما إذاكان القلب خاليا متضلعا من حب الدنيا ال مكان فيه حلب اهلل‬
‫فما تغين القراءة‪.‬‬
‫إن أول الطريق هبوب القلب من غفلته‪ ،‬فإن كان االطالع على علوم‬
‫القوم يصور لك أحواهلم السنية فينزعج قلبك ملا جتده عند املقارنة من ختلفك عن‬
‫الركب‪ ،‬وتطمئن ملا جتده عندهم من اعتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬فتشمر للحاق‬
‫ويتبع العلم العمل‪ ،‬فذاك هـو املطلوب‪ .‬ويكون لعبارة «التصوف السين» معىن‪:‬‬
‫هو أن تسري يف الطريق وأنت على يقني من أنك على سنة املصطفى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ال يف دروب الغواية والتيه‪ .‬إن كنت تقيد يف شرطك التصوف بالسنة‬
‫فهذا من باب حتصيل احلاصل‪ .‬أو كنت تنفي بتقييدك «التصوف الفلسفي»‪،‬‬
‫تصوف احللول واالحتاد الذي ليس من اإلسالم وال من التصوف يف شيء‪ ،‬فكأن‬
‫الذباب احلائم حول املائدة شغل بالك عن املائدة فأعطيته من االهتمام حترزا منك‬
‫‪32‬‬
‫اإلحسان‬

‫أو خوفا مبالغا فيه أكثر مما يستحق‪ .‬وكثريا ما تعقم هذه احليطة احلركة أو‬
‫تكون ستارا خيتبئ وراءه كسل العقل وركود الروح‪.‬‬
‫إن ملس جناح التوفيق قلبك فتعال جللسة لطيفة مع أهل املعىن‬
‫احلريصني على دينهم أكثر من حرصك (وإىل نفسي اخلامدة أوجه اللوم)‪،‬‬
‫الذرى‪ .‬قال أبو نصر السراج الطوسي يف‬ ‫وفاتوك بالشوق الدائم إىل بلوغ ُّ‬
‫كتابه «اللمع» وهو من أهم كتب القوم‪« :‬وعندي‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬أن أويل‬
‫العلم القائمني بالقسط الذين هم ورثة األنبياء‪ ،‬هم املعتصمون بكتاب‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬اجملتهدون يف متابعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬املقتدون‬
‫بالصحابة والتابعني‪ ،‬السالكون سبيل أوليائه املتقني وعباده الصاحلني‪ .‬هم‬
‫ثالثة أصناف‪ :‬أصحاب احلديث‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬والصوفية‪ .‬فهؤالء هم األصناف‬
‫الثالثة من أويل العلم القائمني بالقسط الذين هم ورثة األنبياء‪ .‬وكذلك أنواع‬
‫العلوم كثرية‪ ،‬فعلم الدين من ذلك ثالثة علوم‪ :‬علم القرآن‪ ،‬وعلم السنن‬
‫والبيان‪ ،‬وعلم حقائق اإلميان‪ .‬وهي العلوم املتداولة بني هؤالء األصناف‬
‫الثالثة‪ .‬ومجلة علوم الدين ال خترج عن ثالث‪ :‬آيات من كتاب اهلل عز وجل‪،‬‬
‫أو خرب عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أو حكمة مستنبطة خطرت‬
‫‪1‬‬
‫على قلب ويل من أولياء اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫وذكر علوم الشريعة فقسمها أربعة أقسام‪ ،‬علم الرواية واآلثار واألخبار‪،‬‬
‫وعلم الدراية وهو علم الفقه واألحكام‪ ،‬وعلم القياس والنظر واالحتجاج‪،‬‬
‫يقصد علم أصول الدين‪ .‬قال‪« :‬والقسم الرابع هو أعالها وأشرفها‪ .‬وهو علم‬
‫احلقائق واملنازالت‪ ،‬وعلم املعاملة‪ 2‬واجملاهدات‪ ،‬واإلخالص يف الطاعات‪ ،‬والتوجه‬

‫‪ 1‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 2‬يعين املعاملة مع اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫اإلحسان‬

‫إىل اهلل عز وجل من مجيع اجلهات‪ ،‬واالنقطاع إليه يف مجيع األوقات‪ ،‬وصحة‬
‫القصود واإلرادات‪ ،‬وتصفية السرائر من اآلفات‪ ،‬واالكتفاء خبالق السماوات‪،‬‬
‫وإماتة النفوس باملخالفات (يعين خمالفة اهلوى)‪ ،‬والصدق يف منازلة األحوال‬
‫واملقامات‪ ،‬وحسن األدب بني يدي اهلل يف السر والعالنية يف اخلطوات‪،‬‬
‫واالكتفاء بأخذ البلغة عند غلبة الفاقات‪ ،‬واإلعراض عن الدنيا وترك مافيها‬
‫‪1‬‬
‫طلبا للرفعة يف الدرجات‪ ،‬والوصول إىل الكرامات»‪.‬‬
‫يا أخي احلبيب! يا من يوصي إخوانه بتصوف سين يرتكز على قراءة‬
‫الكتب‪ ،‬كيف اإلعراض عن الدنيا وترك ما فيها لرفع الدرجات؟ خرب هذا‬
‫يف كتب القوم‪ .‬ويف كتاب اهلل وسنة رسوله أمر باجلهاد ومقارعة أهل العناد‪.‬‬
‫هم رمحهم اهلل شربوها حلوة يف خلواهتم وانقطاعهم يف اخلانقاهات والزوايا يف‬
‫عصور كان حفظ الدين فيها يقتضي الوحدة بأي مثن‪ ،‬وكان الثمن السكوت‬
‫عن الظلمة واهلروب من الساحة‪ .‬فكيف تدعو إىل تقليدهم؟‬
‫باجلوهر شرف علمهم ال باألعراض‪ .‬اجلوهر حب اهلل وصحبة أهل‬
‫الرتبية أهل اهلل‪ ،‬والصدق يف طلب اهلل‪ ،‬والذكر الدائم هلل‪ .‬واألعراض أذواق‬
‫يوتيها اهلل‪ ،‬وإعراض عن اخللق بكيفيتهم يف زماننا المعىن له وال يأذن به اهلل‪.‬‬
‫ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪.‬‬
‫شرف علمهم العتماده على الشريعة‪ ،‬بدون هذا االعتماد يصبح احلديث‬
‫عن القلب ومعانيه هوسا‪ .‬علوم احلقيقة نتائج لعلوم الشريعة وتطبيقها‪ ،‬وإال‬
‫فهو اجلهل واخلبط‪ .‬قال اإلمام السيوطي يف كتابه «تأييد احلقيقة العلية وتشييد‬
‫الطريقة الشاذلية»‪« :‬وقد ظهر يل أن نسبة علم احلقيقة إىل علم الشريعة كنسبة‬

‫‪ 1‬ص ‪.456‬‬

‫‪34‬‬
‫اإلحسان‬

‫علم املعاين والبيان إىل علم النحو‪ .‬فهو سره ومبين عليه‪ .‬فمن أراد اخلوض يف علم‬
‫احلقيقة من غري أن يعلم الشريعة فهو من اجلاهلني وال حيصل على شيء‪ .‬كما أن‬
‫من أراد اخلوض يف أسرار علم املعاين والبيان من غري أن حيكم النحو فهو خيبط‬
‫‪1‬‬
‫خبط عشواء»‪.‬‬
‫يا أخي يا من يبحث عن حب اهلل ومعرفته (هذا هو موضوع التصوف)‬
‫يف كتب األقدمني‪ ،‬أين أنت من كتاب رب العاملني وسنة سيد املرسلني‪ .‬لو‬
‫كنت كالسيوطي إمام عصره البالغ درجة االجتهاد اجلامع لشتات العلوم وكان‬
‫بك مثل ما به من لوعة لبحثت عن ويل مرشد يدلك على اهلل ويربيك على‬
‫ذكر اهلل‪ .‬أم تراك من الذين يستخفون بعقول العقالء وأعمال العلماء فتتساءل‬
‫ما هو هذا السيوطي الذي خيرف بتشييد الطريقة الشاذلية؟‬
‫هاك كلمات نرية لشيخ جليل من أكابر القوم‪ ،‬كان يدل الناس على اهلل‬
‫وعلى كتاب اهلل وسنة رسوله‪ ،‬حىت إذا توفاه اهلل قام من املنتسبني إليه قوم احرتفوا‬
‫أكل احليات واالقتحام يف النار‪ .‬احنراف خطري جاء من تقليد مقلد املقلد‪ .‬وقد‬
‫يأيت من تقليد الكتب البائد مناطها احنراف مثله‪ .‬قال اإلمام أمحد الرفاعي رمحه‬
‫اهلل‪« :‬ال تقولوا كما يقول بعض املتصوفة‪ :‬حنن أهل الباطن‪ ،‬وهم (أي الفقهاء)‬
‫أهل الظاهر‪ .‬هذا الدين اجلامع باطنه لب ظاهره‪ ،‬وظاهره ظرف باطنه‪ .‬لوال‬
‫الظاهر ملاكان الباطن وما صح‪ .‬القلب ال يقوم بال جسد‪ .‬بل لوال اجلسد لفسد‪.‬‬
‫والقلب نور اجلسد‪ .‬هذا العلم الذي مساه بعضهم بعلم الباطن هو إصالح القلب‪.‬‬
‫فاألول (أي علم الظاهر) عمل باألركان وتصديق باجلنان‪ .‬إذا انفرد قلبك حبسن‬
‫نيته‪ ،‬وطهارة طويته‪ ،‬وقتلت وسرقت وزنيت وأكلت الربا وشربت اخلمر وتكربت‬

‫‪ 1‬ص ‪.21‬‬

‫‪35‬‬
‫اإلحسان‬

‫وأغلظت القول فما الفائدة من نيتك وطهارة قلبك؟ وإن عبدت اهلل وتعففت‬
‫وصمت وتواضعت وأبطن قلبك الرياء والفساد‪ ،‬فما الفائدة من عملك؟» ‪.1‬‬
‫وقال رمحه اهلل خياطب العقالء النجباء‪« :‬أي سادة‪ .‬إن هناية طريق الصوفية‬
‫هناية طريق الفقهاء‪ .‬وهناية طريق الفقهاء هناية طريق الصوفية‪ .‬وعقبات القطع‬
‫اليت ابتلي هبا الفقهاء يف الطلب هي العقبات اليت ابتلي هبا الصوفية يف السلوك‪.‬‬
‫والطريقة هي الشريعة‪ ،‬والشريعة هي الطريقة(…) وما أرى الصويف إذا أنكر حال‬
‫الفقيه إال ممكورا‪ ،‬وال الفقيه إذا أنكر حال الصويف إال مبعودا‪ .‬إال إذا كان الفقيه‬
‫آمرا بلسانه ال بلسان الشرع‪ ،‬والصويف سالكا بنفسه ال بسلوك الشرع‪ ،‬فالجناح‬
‫‪2‬‬
‫عليهما‪ .‬والشرط هنا الصويف الكامل والفقيه العارف»‪.‬‬
‫الشرط يف تعادل املعنيني وتكافؤ الفقيه مع الصويف أن جيمع الصويف إىل‬
‫صفائه الروحي علما واسعا بالشريعة ويتفرغ لرتبية الرجال‪ ،‬وأن جيمع الفقيه‬
‫إىل علومه النقلية والعقلية معرفة باهلل وعاؤها القلب‪ .‬بدون هذا الشرط تكون‬
‫محولة هذا وذاك وباال‪.‬‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.68‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.105‬‬

‫‪36‬‬
‫اإلحسان‬

‫المحدثون والصوفية‬
‫واحملدث ما شرطه لكي يكاىفء الصويف؟ ماذا ذهب السيوطي يفعل عند‬
‫الشاذلية يشيد طريقتهم ويشيد هبا؟ أليس هو العلم البارز يف عصره اجلامع‬
‫لشتات العلوم‪ ،‬املشارك احملدث الذي حقق املشروع الضخم أو كاد‪ ،‬مشروع‬
‫مجع احلديث وخترجيه؟‬
‫مازال بني أهل احلديث على مر العصور حوار ووصال منذ العهد األول‬
‫مع من تسموا بالصوفية‪ .‬وما نقرأ عنه من خصام عنيف عند أمثال شيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية‪ ،‬وهو احملدث الناطق عن نفسه وعن طائفة من أهل احلديث احلنابلة‪،‬‬
‫ما كان يستهدف الصوفية الصادقني‪ ،‬بل كان موجها ملن اعتربهم أهل احلديث‬
‫املتأخرون أدعياء منحرفني‪.‬‬
‫يف العهود األوىل كان احرتام متبادل وتعاون على الرب والتقوى‪ .‬كان‬
‫من الصوفية من خترجوا يف علم الرواية‪ ،‬وكان من احملدثني من تصوفوا على‬
‫يد مشايخ متصوفني‪ .‬مل تكن هناك قطيعة وال سوء ظن‪ .‬ومن أئمة احلديث‪،‬‬
‫أولياء اهلل إن كان هلل ويل‪ ،‬من جلس يف جمالس القوم ومن آخى مشايخ القوم‪،‬‬
‫مع التسليم واملصافاة‪.‬‬
‫نقل تاج الدين ابن السبكي يف «طبقات الشافعية» عن احلافظ الكبري أيب‬
‫عبد اهلل احلاكم قصة اإلمام أمحد ابن حنبل مع الشيخ احلارث احملاسيب‪ .‬قال احلاكم‬
‫بسنده املتصل إىل إمساعيل بن إسحاق السراج‪ ،‬قال امساعيل‪« :‬قال يل أمحد بن‬
‫حنبل‪ :‬بلغين أن احلارث هذا يكثر الكون عندك (يكثر من احلضور يف بيتك) فلو‬
‫‪37‬‬
‫اإلحسان‬

‫أحضرته منزلك وأجلستين من حيث ال يراين فأستمع كالمه‪ .‬فقصدت احلارث‬


‫وسألته أن حيضر تلك الليلة وأن حيضر أصحابه‪ .‬فقال‪ :‬فيهم كثرة‪ ،‬فال تزدهم‬
‫على الكسب (اخلبز) والتمر‪ ،‬فأتيت أبا عبد اهلل (ابن حنبل) فأعلمته فحضر‬
‫إىل غرفة واجتهد يف ورده‪ .‬وحضر احلارث وأصحابه فأكلوا‪ .‬مث صلوا العتمة‬
‫(العشاء) ومل يصلوا بعدها‪ .‬وقعدوا بني يدي احلارث ال ينطقون إىل قريب‬
‫نصف الليل‪ .‬مث ابتدأ رجل منهم فسأل مسألة‪ ،‬فأخذ احلارث يف الكالم‪،‬‬
‫وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطري‪ .‬فمنهم من يبكي‪ ،‬ومنهم من‬
‫حين‪ ،‬ومنهم من يزعق وهو يف كالمه‪ .‬فصعدت الغرفة ألتعرف حال أيب عبد‬
‫اهلل‪ ،‬فوجدته قد بكى حىت غشي عليه‪ .‬فانصرفت إليهم‪ .‬ومل تزل تلك حاهلم‬
‫حىت أصبحوا وذهبوا‪ .‬فصعدت إىل أيب عبد اهلل فقال‪ :‬ما أعلم أين رأيت مثل‬
‫هؤالء القوم‪ ،‬وال مسعت يف علم احلقائق مثل كالم هذا الرجل‪ .‬ومع هذا فال‬
‫أرى لك صحبتهم‪ .‬مث قام فخرج»‪ .‬ويف رواية أخرى أن أمحد قال‪« :‬ال أنكر‬
‫من هذا شيئا»‪ .‬قال ابن السبكي‪« :‬قلت‪ :‬تأمل هذه احلكاية بعني البصرية‬
‫واعلم أن أمحد بن حنبل إمنا مل ير هلذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم‪.‬‬
‫فإهنم يف مقام ضيق ال يسلكه كل أحد‪ ،‬فيخاف على سالكه‪ .‬وإال فأمحد‬
‫قد بكى وشكر احلارث هذا الشكر‪ .‬ولكل رأي واجتهاد‪ ،‬حشرنا اهلل معهم‬
‫‪1‬‬
‫أمجعني يف زمرة سيد املرسلني صلى اهلل عليه وعلى آله وأصحابه وسلم»‪.‬‬
‫وأضيف بضراعة املقصرين الراجني عفوه تعاىل‪ :‬اللهم آمني‪.‬‬
‫ماذا ذهب شيخ احملدثني يفعل عند البكائني؟ وهل يغشى عليه من وعظهم‬
‫لو مل يكن أبكى منهم وأخشع؟ له ورده جيتهد فيه كما هلم أوراد‪ .‬ويزيد عليهم‬
‫خبدمة العلم‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية الكربى ج‪ 2‬ص ‪.39-40‬‬

‫‪38‬‬
‫اإلحسان‬

‫إن أهل احلديث رضي اهلل عنهم هم أهل اإلحسان باملعاين املتعددة‬
‫للكلمة‪ :‬إحسان يف العبادة‪ ،‬وإتقان لصناعتهم اجلليلة‪ ،‬وإحسان للخلق كافة مبا‬
‫حفظوا عليهم من هذا الدين‪ .‬صحبتهم لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صحبة‬
‫خدمة واتباع وحمبة‪ .‬خدموه بأبداهنم يرحلون الرحالت الشاقة البعيدة لسماع‬
‫حديث أو حتقيق كلمة‪ .‬وخدموه بعقوهلم يف تصحيح إسناد ونقد رجال وإثبات‬
‫تاريخ وتقومي منت‪ .‬وخدموه بقلوهبم غرية على حديث خري الربية أن يزور أو‬
‫حيرف‪ .‬الجرم يعم فضلهم األمة ويوصي ابن حنبل صاحب الدار‪ ،‬ولعله كان‬
‫تلميذا له‪ ،‬أن يرتك حلق الذكر اخلاصة اخلاص نفعها ليتفرغ للعلم الذي يعم نفعه‬
‫كل طائفة وكل مكان وكل جيل‪.‬‬
‫ما كل من محل احلديث مبنزلة اإلمام أمحد وال كل من تسمى صوفيا‬
‫مبعزل عن اللوم‪ .‬أمثال أمحد الذين تشربوا حب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وتعظيمه وإكبار أمره وأفنوا أعمارهم يف خدمته قليل‪ .‬هم أئمة اهلدى‪ .‬يقول‬
‫اإلمام الشافعي متحدثا عن اجلناب الشريف‪« :‬فصلى اهلل على نبينا كلما ذكره‬
‫الذاكرون‪ ،‬وغفل عن ذكره الغافلون‪ .‬وصلى عليه يف األولني واآلخرين‪ ،‬أفضل‬
‫وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه‪ ،‬وزكانا وإياكم بالصالة عليه أفضل‬
‫ما زكى أحدا من أمته بصالته عليه‪ .‬والسالم عليه ورمحته وبركاته‪ .‬وجزاه اهلل‬
‫عنا أفضل ما جزى مرسال عن من أرسل إليه‪ .‬فإنه أنقذنا من اهللكة‪ ،‬وجعلنا‬
‫يف خري أمة أخرجت للناس‪ ،‬دائنني بدينه الذي ارتضى‪ ،‬واصطفى به مالئكته‬
‫ومن أنعم عليه من خلقه‪ .‬فلم متس بنا نعمة ظهرت وال بطنت‪ ،‬نلنا هبا حظا‬
‫يف دين ودنيا‪ ،‬أو دفع هبا عنا مكروه فيهما أو يف واحد منهما‪ ،‬إال وحممد صلى‬
‫‪1‬‬
‫اهلل عليه وسلم سببها‪ ،‬القائد إىل خريها‪ ،‬واهلادي إىل رشدها»‪.‬‬

‫‪ 1‬الرسالة ص ‪.12‬‬

‫‪39‬‬
‫اإلحسان‬

‫كان حب اهلل ورسوله رابطة جامعة بني كل طوائف السلف الصاحل‪.‬‬


‫وكانت نسبة اإلميان واصلة‪ ،‬ونسبة اإلحسان سارية يشيم ومضها بعضهم‬
‫من بعض ويشتم عبريها بعضهم من بعض‪ .‬ملا امتحن اإلمام أمحد يف مسألة‬
‫خلق القرآن وأعلن املامون ومن بعده املعتصم حتيزمها جلانب الفكر الدخيل‬
‫خنس كثري من الفقهاء والقراء‪ ،‬ومتاأل على اإلمام قضاة القصر وبغاته‪ ،‬وبقي‬
‫هو رضي اهلل عنه صامدا كاجلبل ينافح عن صفاء العقيدة وحرمة القرآن‪.‬‬
‫يف تلك األثناء كتب إليه الشافعي رسالة تشجيع وتضامن‪ .‬قال الربيع بن‬
‫سليمان صاحب اإلمام الشافعي‪« :‬فدخلت بغداد ومعي الكتاب‪ .‬فصادفت‬
‫أمحد بن حنبل يف صالة الصبح‪ .‬فلما انفتل من احملراب سلمت إليه الكتاب‬
‫وقلت‪ :‬هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر‪ .‬فقال يل أمحد‪ :‬نظرت فيه؟‬
‫فقلت‪ :‬ال‪ ،‬فكسر اخلتم وقرأ‪ ،‬وتغرغرت عيناه‪ .‬فقلت له إيش فيه أبا عبد‬
‫اهلل؟ فقال‪ :‬يذكر فيه أنه رأى النيب صلى اهلل عليه وسلم يف النوم فقال له‪:‬‬
‫اكتب إىل أيب عبد اهلل فاقرأ عليه السالم‪ ،‬وقل له‪ :‬إنك ستمتحن وتدعى إىل‬
‫خلق القرآن فال جتبهم‪ ،‬فريفع اهلل لك علما إىل يوم القيامة‪ .‬قال الربيع‪ :‬فقلت‬
‫له‪ :‬البشارة يا أبا عبد اهلل‪ .‬فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده فأعطانيه‪.‬‬
‫فأخذت اجلواب وخرجت إىل مصر‪ .‬وسلمته إىل الشافعي‪ .‬فقال‪ :‬إيش الذي‬
‫أعطاك؟ فقلت‪ :‬قميصه‪ .‬فقال الشافعي‪ :‬ليس نفجعك به‪ .‬ولكن بله وارفع‬
‫إيل املاء ألتربك به»‪ 1 .‬من ال تتسع حويصلته أن يسمع عن أئمة الدين كيف‬
‫كانوا يتكاتبون بالرؤى الصادقة وكيف كانوا يعتزون بصلتهم القلبية باملخدوم‬
‫األعظم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكيف كانوا يتربكون بآثار النيب الطاهر وبآثار‬
‫بعضهم فليبحث عن تاريخ مفلسف منقح مادي «غري غييب» يف تاريخ غري‬
‫تاريخ املسلمني املوثق باألسانيد املتصلة‪.‬‬
‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 1‬ص ‪.205‬‬

‫‪40‬‬
‫اإلحسان‬

‫كان الشافعي رضي اهلل عنه صاحب قلب ونورانية وفراسة عرف هبا أولياء‬
‫اهلل وخصوا‪ .‬سواء منهم من محل اسم صويف أو فقيه أو حمدث‪ ،‬ال يغري مظهر‬
‫اللقب من جوهر امللقب‪ .‬روى نفس الصاحب الربيع بن سليمان قال‪« :‬دخلنا‬
‫على الشافعي رضي اهلل عنه عند وفاته أنا والبوطي واملزين وحممد بن عبد اهلل بن‬
‫عبد احلكم‪ .‬قال‪ :‬فنظر إلينا الشافعي ساعة فأطال‪ .‬مث التفت إلينا فقال‪ :‬أما‬
‫أنت يا أبا يعقوب فستموت يف حديدك‪ ،‬وأما أنت يا مزين فسيكون لك مبصر‬
‫هيآت وهنات‪ ،‬ولتدركن زمانا تكون أقيس أهل ذلك الزمان‪ .‬وأما أنت يا حممد‬
‫فسرتجع إىل مذهب أبيك‪ .‬وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم يل يف نشر الكتب‪.‬‬
‫قم يا أبا يعقوب فتسلم احللقة (أي حلقة التعليم اليتكان جيلس فيها الشافعي)‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫قال الربيع‪ :‬فكان كما قال»‪.‬‬
‫كانت لوائح الوالية الئحة على اإلمام البخاري‪ .‬كانت له كرامات‬
‫ودعوات مستجابات‪ .‬وما له ال يكون من أصحاب االستجابة والتجلي وهو‬
‫السابق باخلريات اجمللي‪ ،‬والربكرمي‪ ،‬نواله عظيم‪ .‬كان رضي اهلل عنه قواما صواما‬
‫تاليا لكتاب اهلل معظما لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حمبا له خادما‪ .‬روى عنه‬
‫صاحبه الفربري أنه كان ال يكتب يف صحيحه حديثا إال بعد أن يغتسل ويصلي‬
‫ركعتني‪ .‬وكذلك كان اإلمام مالك رضي اهلل عنه من قبله‪ ،‬الجيلس للحديث إال‬
‫بعد أن يغتسل ويتطيب‪ .‬وال يركب دابة يف املدينة على كرب سنه‪ ،‬ويقول‪« :‬ال‬
‫أركب يف بلد جسد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيه مدفون»‪ .‬بذلك نالوا‬
‫عند اهلل جل وعال الدرجات‪.‬‬
‫قال حممد بن أيب حامت‪ :‬مسعت أبا عبد اهلل (البخاري) يقول‪« :‬ما ينبغي‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 1‬ص ‪.238‬‬

‫‪41‬‬
‫اإلحسان‬

‫للمسلم أن يكون حبالة إذا دعا مل يستجب له»‪ .‬قال‪« :‬ومسعته يقول‪ :‬خرجت‬
‫إىل آدم بن إياس‪ ،‬فتخلفت عين نفقيت‪ ،‬حىت جعلت أتناول احلشيش وال أخرب‬
‫بذلك أحدا‪ .‬فلماكان اليوم الثالث أتاين آت مل أعرفه‪ ،‬فناولين صرة دنانري وقال‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫أنفق على نفسك»‪.‬‬
‫كأين بقائل من العقالنيني يستلقي على قفاه ضحكا وسخرية من‬
‫«اخلرافات» اليت متتلئ هبا كتب املسلمني‪ .‬إن من ال يؤمن مبعجزات األنبياء‬
‫وكرامة اهلل عز وجل ألوليائه عن طريق األسباب أو خبرق العادة ملدخول‬
‫العقيدة‪ .‬ولنا عودة للموضوع إن شاء اهلل‪ .‬وطائفة يقرأون مثل خرب الدنانري‬
‫اآلتية من الغيب فينصرفون عن عبادة اهلل اجملردة القصد‪ ،‬ويرتكون السعي‬
‫الذي شرعه اهلل لكسب الرزق‪ ،‬ويعيشون يف وهم سابح‪ .‬هذه الذهنية هي‬
‫اخلرافية بعينها‪ ،‬وهي اخلطر احملدق‪ .‬وقد عاشت طوائف من املسلمني هبذه‬
‫الذهنية وال تزال‪ .‬والناقدون الساخرون من الديـن و«الغيبية» ال يستطيعون‬
‫أن مييزوا بني الشعوذة والسحر واألحالم وبني الكرامة اليت يظهرها املوىل‬
‫عز وجل على يد أفراد كالبخاري وعلى يد مجاعات جماهدة كالصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم وكاجملاهدين يف أفغانستان يف زماننا‪ 2 .‬كان البخاري رمحه‬
‫اهلل يقوم يف الليل أكثر من عشر مرات ليدون حديثا أو فائدة‪ ،‬ال يرتك‬
‫له االهتمام بالعلم نوما‪ .‬والصحابة رضي اهلل عنهم وجماهدو أفغانستان‬
‫ال يألون جهدا يف إعداد القوة كما أمر اهلل‪ ،‬يبارك اهلل العلي القدير تلك‬
‫الوسائل على ضآلتها فتأيت بنتائج ال ختطر على البال‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج‪ 2‬ص ‪.11‬‬


‫‪ 2‬ذلك يوم كان يف أفغانستان جماهدون رمحهم اهلل‪ .‬وقبل اجملازر القبلية اجلاهلية بني الفصائل األفغانية‪ .‬مالحظة‬
‫بتاريخ حمرم ‪.1418‬‬

‫‪42‬‬
‫اإلحسان‬

‫كان إمام احملدثني البخاري عبقا بعطر الصالح حيا وميتا‪ .‬مرض واشتد‬
‫به املرض فدعا اهلل ربه قائال بعد أن فرغ من صالة الليـل‪« :‬اللهم قد ضاقت‬
‫علي األرض مبا رحبت فاقبضين إليك»‪ .‬قال الراوي‪« :‬فما مت الشهر حىت قبضه‬
‫اهلل عز وجل»‪ 1.‬فلما حضرته الوفاة دعا بدعوات مث اضطجع فقضى رمحه اهلل‪.‬‬
‫قال الراوي‪« :‬فلما دفناه فاح من تراب قربه رائحة غالية (الغالية نوع من الطيب‬
‫الفاخر)‪ .‬فدام على ذلك أياما‪ .‬مث علت سوار بيض يف السماء مستطيلة حبذاء‬
‫‪2‬‬
‫قربه فجعل الناس خيتلفون (أي يأتون اجلماعة بعد األخرى) ويتعجبو»‪.‬‬
‫تسمع أخي املؤمن يف زماننا هذا أخبارا مستفيضة عن شهداء أفغانستان وما‬
‫يفوح من أجسادهم املطهرة من عطر‪ ،‬وما يظهر يف مسائهم من عالمات‪ ،‬فليزدك‬
‫هذا اخلرب عن رجل صاحل من القرون الفاضلة يقينا أن والية اهلل التنال بالقعود‬
‫والتأمل‪ ،‬وإمنا تنال باجلهاد واجملاهدة فيما يطهر القلب وينفع الناس يف األرض‪.‬‬
‫كان من أهل احلديث من يبحث عن دليل يسلك به إىل اهلل‪ ،‬يتخذه‬
‫شيخا مربيا يلزمه‪ ،‬بعد أن رقت الكثافة اإلميانية اإلحسانية اليت كانت شائعة‬
‫سارية يف اجلو يف جمتمع القرون الفاضلة‪ .‬يف تلك القرون كانت الصحبة‬
‫واالقتباس الروحي عملية فطرية‪ ،‬جيذب القلب الكبري القلوب الظمأى إليه يف‬
‫يسر وصداقة ورمحة‪ .‬كانت الوشيجة الرابطة بني احملدثني حبهم املشرتك هلل‬
‫ورسوله وحبثهم املشرتك عن العلم‪ .‬كان الشافعي يقول البن حنبل رضي اهلل‬
‫عنهما‪« :‬أنت أعلم باحلديث مين‪ ،‬فإذا صح احلديث فأعلمين حىت أذهب‬
‫إليه‪ ،‬شاميا كان أو كوفيا أو بصريا»‪.‬‬

‫‪ 1‬شذرات الذهب ج ‪ 2‬ص ‪135‬‬


‫‪ 2‬طبقات الشافعية ج‪ 2‬ص ‪.15‬‬

‫‪43‬‬
‫اإلحسان‬

‫كان بني عبد اهلل بن املبارك وبني الفضيل بن عياض صداقة وأخوة يف‬
‫اهلل‪ .‬فضيل يعده الصوفية منهم‪ ،‬وابن املبارك من مشايخ مشايخ البخاري‪.‬‬
‫قال ابن تيمية شيخ اإلسالم‪« :‬قال سيد املسلمني يف وقته الفضيل بن عياض‬
‫يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ليبلوكم أيكم أحسن عمال﴾‪ .‬قال‪ :‬أخلصه وأصوبه‪ .‬قيل‬
‫له‪ :‬يا أبا علي‪ ،‬ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ :‬إن العمل إذا كان خالصا ومل يكن‬
‫صوابا مل يقبل‪ .‬وإن كان صوابا ومل يكن خالصا مل يقبل‪ ،‬حىت يكون خالصا‬
‫صوابا‪ .‬واخلالص أن يكون هلل‪ ،‬والصواب أن يكون على السنة»‪ 1.‬شهد ابن‬
‫املبارك يف أخيه الفضيل قال‪« :‬ما بقي على ظهر األرض أفضل من الفضيل‬
‫بن عياض»‪ 2.‬وقال الفضيل‪« :‬ورب هذا البيت‪ ،‬ما رأت عيناي مثل ابن‬
‫املبارك»‪ 3.‬كان ابن املبارك حمدثا عاملا فارسا عابدا كرميا كثري النفقة يف سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬حيج عاما ويغزو عاما‪ .‬وكان شاعرا‪ .‬كان أمة وحده‪ .‬وكان الفضيل زاهدا‬
‫ذاكرا ورعا آمرا باملعروف ناهيا عن املنكر‪ .‬كانا منوذجني متكاملني ألهل‬
‫اخلري‪ .‬ومل متنع أخوهتما الصادقة وإكبار كل منهما لصاحبه من املصارحة‬
‫واملناصحة‪ .‬كتب ابن املبارك إىل أخيه الفضيل هذه الرسالة الشعرية اليت‬
‫تستحق أن نطرق هبا يف زماننا باب كل ناسك منزو يف خلوته‪ ،‬وأن نسمعها‬
‫كل عامل خيشى اهلل ويشركه يف اخلشية الناس فينكص عن ميادين اجلهاد‬
‫مكتفيا بأوراده يتمتمها‪ .‬قال الفارس العامل‪:‬‬
‫«يا عابد احلرمني لو أبص ـرتـ ـ ـ ـ ــنا لعلمت أنك يف العبــادة تلعـب‬
‫من كان خيضب خده بدموعـ ـ ه فنحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورنا بدمـائنـا تتخـضـب‬
‫أو كان يتعب خيله يف باطـ ـ ـ ـ ـل فخي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـولنا يوم الكريهـة تتعـب‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج‪ 11‬ص ‪.600‬‬


‫‪ 2‬شذرات الذهب ج ‪ 1‬ص ‪.317‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.296‬‬

‫‪44‬‬
‫اإلحسان‬

‫رهج السنابك والغبـار األطيــب‬ ‫ريح العبري لكم وحنن عبيـ ـ ـ ـ ـ ـرنا ‬
‫قول صحيـح صـادق ال يكـذب‬ ‫ولقد أت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانا عن مقــال نبي ـ ـنــا ‬
‫أنف امرىء دخـ ـ ــان نار تلهــب‬ ‫ال يستوي وغبـار خيـل اهلل يف ‬
‫‪1‬‬
‫ليس الشهيد مبيت ال يكذب»‬ ‫هذا كتــاب اهلل ينطــق بينـ ـ ـ ـ ـن ـا ‬
‫اختذ إمام األئمة يف احلديث ابن خزمية موقفا معظما من أحد صوفية‬
‫عصره هو أبو علي الثقفي‪ 2.‬وملا حج اخلطيب البغدادي شرب من ماء زمزم‬
‫عمال بقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ماء زمزم ملا شرب له»‪ ،‬وطلب‬
‫من اهلل تعاىل ثالث حاجات‪ :‬أن حيدث بتاريخ بغداد‪ ،‬وأن ميلي جبامع‬
‫املنصور‪ ،‬وأن يدفن إذا مات عند قرب بشر احلايف‪ ،‬وقد استجاب اهلل دعاءه‬
‫يف الثالث احلاجات‪ 3.‬وبشر احلايف من أكابر الزهاد الصوفية‪ .‬فال تعجب‬
‫من بغية حمدث بارز يف الدنيا أن يدفن مع مثل بشر رجاء أن حيشر يف صفه‪.‬‬
‫وصحب أبو عبد اهلل احلاكم احملدث الكبري مؤلف «املستدرك» الشيخ الصويف‬
‫‪4‬‬
‫أبا عمرو بن حممد بن جعفر اخللدي والشيخ أبا عثمان املغريب ومجاعة‪.‬‬
‫أما اإلمام النووي شارح صحيح مسلم وأحد أعالم هذه األمة‪ ،‬فقد أخذ‬
‫طريق القوم عن شيخه الشيخ ياسني ابن يوسف الزركشي‪ 5.‬وصحب شيخا آخر‬
‫قال عنه‪« :‬الفقيه اإلمام احلافظ املتقي الضابط الزاهد الورع الذي مل تر عيين يف‬
‫وقيت مثله‪ .‬كان رمحه اهلل بارعا يف معرفة احلديث وعلومه وحتقيق ألفاظه‪ ،‬ال سيما‬
‫الصحيحات‪ ،‬ذا عناية باللغة والنحو والفقه ومعارف الصوفية حسن املذاكرة فيها‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 1‬ص ‪.151‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 2‬ص ‪.173‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ج ‪ 3‬ص ‪.14‬‬
‫‪ 4‬نفس املصدر ج ‪ 3‬ص ‪.65‬‬
‫‪ 5‬نفس املصدر ج ‪ 5‬ص ‪.166‬‬

‫‪45‬‬
‫اإلحسان‬

‫وكان عندي من كبار املسلكني يف طريق احلقائق‪ ،‬حسن التعليم‪ .‬صحبته‬


‫حنو عشر سنني مل أر منه شيئا يكره‪ .‬وكان من السماحة مبحل عال على قدر‬
‫‪1‬‬
‫وجده‪ ،‬وأما الشفقة على املسلمني ونصيحتهم فقل نظريه فيهما»‪.‬‬
‫تعج كتب الطبقات‪ ،‬سواء منها طبقات احلنفية واملالكية والشافعية‬
‫واحلنابلة‪ ،‬بذكر العلماء العاملني املربزين يف علوم احلديث املشاركني يف الفقه‬
‫املتميزين أيضا يف ميدان التصوف‪ .‬احلنابلة الحيبون اسم «الصويف»‪ ،‬فتجدهم‬
‫يستعملون ألفاظ «الصالح» و«التقوى» و«اخلرية»‪ .‬وكل كانوا صادقني‪،‬‬
‫رمحهم اهلل ورمحنا أمجعني‪ .‬آمني‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 5‬ص ‪.48‬‬

‫‪46‬‬
‫اإلحسان‬

‫الفقهاء تالمذة الصوفية‬


‫وكذلك من أعيان الفقهاء من مجيع املذاهب جتد الفقيه بعد استكمال‬
‫طلبه للعلم أو أثناء الطلب يلتمس وليا مرشدا يصقل قلبه باإلحسان‪ .‬هذا اإلمام‬
‫السيوطي جامع علوم عصره املتبحر املتفنن الذي نازع معاصريه الزعامة وقارعهم‬
‫بعناده واعتداده بنفسه يلجأ إىل املشايخ الشاذلية يتخذهم قدوة وأدلة‪ .‬كتب يف‬
‫«حسن احملاضرة» دعواه‪ ،‬وهو جدير هبا رمحه اهلل‪« :‬رزقت التبحر يف سبعة علوم‬
‫التفسري واحلديث والفقه والنحو واملعاين والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء‬
‫ال على طريقة العجم وأهل الفلسفة‪ .‬والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من‬
‫هذه العلوم الستة‪ ،‬سوى الفقه والنقول اليت اطلعت عليها منها‪ ،‬مل يصل إليه وال‬
‫وقف عليه شخص من األشخاص‪ .‬فضال عمن هو دوهنم‪.‬‬
‫وأما علم احلساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهين‪ .‬وإذا نظرت يف‬
‫مسألة تتعلق به فكأمنا أحاول جبال أمحله‪ .‬وقدكملت عندي آالت االجتهاد»‪.1‬‬
‫ما بال مثل هذا الرجل املعتز بعلمه‪ ،‬املنفرد يف عصره باالطالع الواسع‪،‬‬
‫املؤلف املرموق‪ ،‬املقرب إىل «خليفة» عصره املتوكل على اهلل العباسي‪ ،‬احملسود‬
‫من طرف فقهاء مصر‪ ،‬خاضوا ضده معارك حامية‪ ،‬يذهب إىل املشايخ أهل‬
‫الطريق خيضع هلم ويتتلمذ ؟ أمل يكفه ما يف بطون الكتب من علم غزير؟ عربة‬
‫لك يا سيدي يا أخي يا حبييب يا من ترشد الناس لقراءة كتب الصوفية‪« .‬تأييد‬

‫‪ 1‬حسن احملاضرة ج ‪ 1‬ص ‪.159 - 153‬‬

‫‪47‬‬
‫اإلحسان‬

‫احلقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية»‪ ،‬هذا عنوان كتاب السيوطي‪ ،‬وهو‬
‫مطبوع‪ .‬فاحبث عنه عله يكون آخر ورقات تبحث فيها عن الرتبية اإلحسانية‪،‬‬
‫ولن جتد فيه إال شهادة رجل صادق خشي كما ختشى أن يكتم شهادته‪ََ ﴿ ،‬م ْن‬
‫اد ًة ِعن َدهُ ِم َن اللّ ِه َوَما اللّهُ بِغَافِ ٍل َع َّما تـَْع َملُو َن﴾‪ 1.‬تتلمذ‬ ‫ِ‬
‫أَظْلَ ُم م َّمن َكتَ َم َش َه َ‬
‫خلق ال يكادون حيصون من الفقهاء يفكل العصور للمشايخ من رجال الطريق‪.‬‬
‫وحتدثوا عن مشاخيهم‪ ،‬وقارنوا بني الفقهاء والصوفية وفاضلوا‪ .‬استمع معي إىل‬
‫حكم حمدث بارز يقارن ويقوم‪ ،‬حمدث تتلمذ للمشايخ الشاذلية كما تتلمذ‬
‫السيوطي‪ .‬إنه ابن حجر اهليثمي‪ .‬قال‪« :‬فمستنبطو الفروع هم خيار سلف‬
‫األمة وعلماؤهم وعدوهلم وأهل الفقه واملعرفة فيهم‪ .‬فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا‬
‫باهلدى‪ .‬أفنوا أعمارهم يف استنباطها وحتقيقها بعد أن ميزوا صحيح األحاديث‬
‫من سقيمها وناسخها من منسوخها‪ .‬فأصلوا أصوهلا ومهدوا فروعها‪ .‬فجزاهم‬
‫اهلل عن املسلمني خريا وأحسن جزاءهم‪ ،‬كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫أحلقنا اهلل هبم وجعلنا من تابعيهم بإحسان»‪.‬‬
‫ويكتب عن العارفني الصوفية‪« :‬العارفون باهلل الذين وفقهم اهلل ألفضل‬
‫األعمال‪ ،‬وحفظهم من سائر املخالفات يف كل األحوال‪ .‬مث كشف هلم الغطاء‬
‫فعبدوه كأهنم يرونه‪ ،‬واشتغلوا مبحبته عما سواه‪ .‬وأطلعهم على عجائب ملكه‪،‬‬
‫وغرائب حكمه‪ ،‬وقرهبم من حضرة قدسه‪ ،‬وأجلسهم على بساط أنسه‪ ،‬ومأل‬
‫قلوهبم بصفات مجاله وجالله‪ ،‬وجعلها مطالع أنواره‪ ،‬ومعادن أسراره‪ ،‬وخزائن‬
‫معارفه‪ ،‬وكنوز لطائفه‪ .‬وأحىي هبم الدين‪ ،‬ونفع هبم املريدين‪ ،‬وأغاث هبم العباد‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫وأصلح هبم البالد»‪.‬‬

‫‪ 1‬البقرة‪140 ،‬‬
‫‪ 2‬الفتاوي احلديثية ص ‪.207‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.226‬‬

‫‪48‬‬
‫اإلحسان‬

‫مث يتحدث عن الفقهاء ليعقد املقارنة فيقول‪« :‬علماء الظاهر الذين عرفوا‬
‫رسوم العلوم الكسبية‪ ،‬وعويصات الوقائع الفعلية والقولية‪ ،‬وغرائب الرباهني العقلية‬
‫والنقلية‪ ،‬حىت حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق‪ ،‬أو خيرقه مبتدع مارق‪.‬‬
‫فاألولون (أي العارفون) أفضل‪ ،‬وإن كان لآلخرين (الفقهاء محاة الشريعة) فضل‬
‫‪1‬‬
‫عظيم‪ ،‬بل رمبا كانوا أفضل من حيثية ال مطلقا»‪.‬‬
‫الشهادة القولية الصادرة عن الفحول من علماء األمة وأئمتها هلا وزهنا‪.‬‬
‫والعربة بالشهادة الفعلية أقوى وأبلغ‪ .‬انقياد الفقهاء للمشايخ املربني‪ ،‬وانصياعهم‬
‫ألمرهم‪ ،‬وتلقيهم بالتسليم واملوافقة لتوجيهاهتم‪ ،‬مث تعظيمهم هلم وحمبتهم إياهم‬
‫واعرتافهم بفضلهم تقرأ هذا يف أثباهتم وفهارسهم‪ ،‬ويف كتب التاريخ والطبقات‪.‬‬
‫فهل هي ظاهرة تدل على صبيانية رجال اإلسالم أم هناك مادة نورانية ال توخذ‬
‫من الكتب بل من قلوب أهل الصفاء والوفاء؟‬
‫إن من ال حرقة يف نفسه إىل معرفة اهلل ال يبحث‪ ،‬وإن حبث فلمجرد‬
‫االطالع وإرضاء الفضول‪.‬‬
‫باحث عن احلق صارم ترك لنا مبجموع تارخيه وثروة فكره ومثني مؤلفاته‬
‫شهادة بليغة كانت ألجيال املسلمني منذ تسعة قرون معينا ال ينضب من الفهم‬
‫واالقتداء واالنتقاد واألخذ والرد أيضا‪ .‬إنه حجة اإلسالم أبو حامد الغزايل رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬اجلبل الراسخ الذي اليسع املفكر وال العامل وال الفقيه وال الصويف وال‬
‫السياسي وال الباحث عن أسرار النفس البشرية وال املؤرخ للفكر اإلسالمي‬
‫واإلنساين أن ميروا به مر الكرام‪ .‬بعضهم يقرأ نقدا هلذه الفكرة أو تلك النظرة من‬
‫نظرات الغزايل وفكره فيسد عليه النقد اهلدام بأنقاضه منافذ التمييز‪ .‬إن أخطأ‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص ‪.226‬‬

‫‪49‬‬
‫اإلحسان‬

‫الغزايل يف جزئية فالبشر معدن اخلطأ‪ .‬ويكون ماذا إن انتقده فالن أو عالن؟‬
‫أنت ماذا جنت يداك‪ ،‬ماذا فعلت حبياتك يا من يلهو بقراءة جدل الرجال؟‬
‫أبو حامد حبث واستقصى‪ ،‬مث اضطر آخر األمر لرجل يعلمه دينه‪ .‬فماذا‬
‫قال أبو حامد‪ ،‬وما يفيدين أنا ما شهد به أبو حامد يف قضييت مع ريب؟‬
‫كتاب «املنقذ من الضالل» كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه‪ .‬خلص‬
‫فيه حجة اإلسالم مسريته وحريته وأخطاءه وسلوكه‪ .‬قال‪« :‬مث إين ملا فرغت من‬
‫هذه العلوم (العلوم النقلية والعقلية يف عصره قتلها دراسة ونقاشا) أقبلت هبميت‬
‫على طريق الصوفية‪ ،‬وعلمت أن طريقتهم ال تتم إال بعلم وعمل‪ .‬وكان حاصل‬
‫علمهم قطع عقبات النفس‪ ،‬والتنزه عن أخالقها املذمومة‪ ،‬وصفاهتا اخلبيثة‪،‬‬
‫حىت يتوصل إىل ختلية القلب عن غري اهلل‪ ،‬وحتليته بذكر اهلل‪ )…( .‬فلم أزل‬
‫أفكر فيه مدة‪ ،‬وأنا بعد على مقام االختيار أصمم العزم على اخلروج من بغداد‪،‬‬
‫ومفارقة تلك األحوال يوما (األحوال اليت كان فيها هي منصبه املرموق مدرسا‬
‫يف «النظامية» أكرب «جامعة» يف بغداد ومسعته كفقيه تشد لفتواه الرحال)‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأحل العزم يوما‪ ،‬وأقدم فيه رجال وأؤخر عنه أخرى‪ .‬ال تصدق يل رغبة يف‬
‫طلب اآلخرة بكرة إال وحتمل عليها جند الشهوة محلة فتفرتسها عشية‪ .‬فصارت‬
‫شهوات الدنيا جتاذبين بسالسلها إىل املقام‪ ،‬ومنادي اإلميان ينادي‪ :‬الرحيل! فلم‬
‫يبق من العمر إال القليل! وبني يديك السفر الطويل! ومجيع ما أنت فيه من‬
‫العلم والعمل رياء وختييل‪ .‬فإن مل تستعد اآلن لآلخرة فمىت تستعد؟ وإن مل‬
‫تقطع اآلن هذه العالئق فمىت تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية‪ ،‬وينجزم العزم‬
‫على اهلروب والفرار‪ .‬مث يعود الشيطان ويقول‪ :‬هذه حالة عارضة‪ ،‬إياك أن‬
‫تطاوعها‪ ،‬فإهنا سريعة الزوال‪ .‬فإذا أعرضت عنها وتركت هذا اجلاه العريض‬
‫والشأن املنظوم اخلايل عن التكدير والتنغيص‪ ،‬واألمن الصايف عن منازعة اخلصوم‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫اإلحسان‬

‫رمبا التفتت إليه نفسك‪ ،‬وال يتيسر لك املعاودة»‪.‬‬


‫ومرض الرجل مرضا شديدا‪ ،‬انعكس الصراع النفسي احملتدم يف جوفه على‬
‫جسمه فأرداه‪ ،‬كذلك اهلمم العالية تنوء حبملها األجسام‪ .‬ويئس األطباء فلم‬
‫يبق ملجأ إال اهلل الرؤوف الرحيم‪ .‬وبرأ أبو حامد من أمراض جسمه ومن تردده‪،‬‬
‫فأوصى لعياله‪ ،‬مث غادر بغداد متخففا يبحث عن رجل من حلم ودم يدله على‬
‫اهلل بعد أن أعياه البحث عن احلق يف بطون الكتب‪ ،‬وزمحه هم اآلخرة وهم اهلل‪.‬‬
‫لقي شيخا مربيا فصحبه وشاوره وائتمر بأمره‪ .‬ويتحدث عن «املتبوع املقدم»‬
‫(كأنه ينظر إىل قول موسى للخضر عليهما السالم‪ :‬هل أتبعك) فيقول‪« :‬فمن‬
‫كان هلل كان اهلل له‪ .‬حىت إنه يف الوقت الذي صدقت فيه رغبيت لسلوك هذه‬
‫الطريق شاورت متبوعا مقدما من الصوفية يف املواظبة على تالوة القرآن‪ .‬فمنعين‬
‫وقال‪ :‬السبيل أن تقطع عالئقك من الدنيا بالكلية‪ ،‬حبيث ال يلتفت قلبك إىل‬
‫أهل وولد ومال ووطن وعلم ووالية‪ .‬بل تصري إىل حالة يستوي عندك وجودها‬
‫وعدمها‪ ،‬مث ختلو بنفسك يف زاوية‪ ،‬تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب‪،‬‬
‫وجتلس فارغ القلب‪ ،‬جمموع اهلم‪ ،‬مقبال بذكرك على اهلل تعاىل‪ .‬وذلك يف أول‬
‫األمر بأن تواظب باللسان على ذكر اهلل تعاىل‪ ،‬فال تزال تقول اهلل اهلل‪ ،‬مع حضور‬
‫القلب وإدراكه‪ ،‬إىل أن تنتهي إىل حالة لو تركت حتريك اللسان لرأيتكأن الكلمة‬
‫جارية على لسانك‪ ،‬لكثرة اعتياده‪ .‬مث تصري مواظبا عليه إىل أن ينمحي أثر‬
‫اللسان‪ ،‬فتصادف نفسك وقلبك مواظبني على الذكر من غري حركة اللسان‪ .‬مث‬
‫تواظب إىل أن ال يبقى يف قلبك إال معىن اللفظ‪ ،‬وال خيطر ببالك حروف اللفظ‬
‫‪1‬‬
‫وهيآت الكلمة‪ ،‬بل يبقى املعىن اجملرد حاضرا يف قلبك على اللزوم والدوام»‪.‬‬

‫‪ 1‬ميزان العمل ص ‪.222‬‬

‫‪51‬‬
‫اإلحسان‬

‫كيف يقبل العقل أن مينع مؤمن مؤمنا من قراءة القرآن واملواظبة على التالوة؟‬
‫أم كيف نفهم قَبول حجة اإلسالم عامل بغداد توجيها من هذا القبيل؟ أم كيف‬
‫نعقل بادئ األمر أن يسأل أمثال أيب حامد هذه املسألة‪ :‬هل أواظب على التالوة؟‬
‫إن إسالس القياد لويل مرشد يدلك على الطريق شرط يف السلوك‪ .‬وما‬
‫كان لويل أن يأمر إال حبق‪ .‬وما منعه من املواظبة على التالوة إال بغية أن يهيئه‬
‫بتصفية القلب بالذكر‪ ،‬حني يعم قلبه اإلميان ويعقل قلبه القرآن‪ ،‬ملرحلة تكون‬
‫فيها املواظبة على التالوة عبادة كاملة‪ .‬وهاك الدليل‪ .‬روى اإلمام أمحد عن‬
‫عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما أن رجال جاء إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فقال‪« :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إين أقرأ القرآن فال أجد قليب يعقل عليه‪ .‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن قلبك حشي اإلميان‪ ،‬وإن اإلميان يعطى‬
‫العبد قبل القرآن»‪ .‬مث إن الذكر باالسم املفرد أنكره ابن تيمية رمحه اهلل وأمجع‬
‫الصوفية إمجاعا على أن الذكر به من أعظم الذكر‪ .‬فال جدال‪.‬‬
‫مث إن العربة عندنا هنا يف انصياع عامل فقيه من أعالم امللة لشيخ «متبوع مقدم»‪،‬‬
‫يطيعه فيما يأمر بال نقاش‪ .‬السؤال الدائم‪ :‬ملاذا يضطر الفقهاء الصادقون لصحبة‬
‫املشايخ؟ واجلواب الدائم أهنا الوالية اليت ال تكسب بالدراسة واالطالع‪ ،‬بل بنور يقذفه‬
‫اهلل جل وعال يف قلوب أصفيائه‪ ،‬فيأيت من شاء اهلل له خريا يقتبس من ذلك النور‪.‬‬
‫والنفوس الصغرية ال تقبل أن تعرتف مبزية عليها ألحد‪ ،‬إمنا يعرتف بفضل أويل الفضل‬
‫منكان أهال لفضل اهلل الذي يوتيه من يشاء‪ ،‬واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫وميضي أبو حامد يطبق اإلرشادات إىل أن فتح اهلل له كما يفتح الفتاح‬
‫العليم ألحبابه‪ .‬كتب رمحه اهلل يف «املنقذ من الضالل»‪« :‬مث دخلت الشام‬
‫وأقمت هبا قريبا من سنتني‪ ،‬ال شغل يل إال العزلة واخللوة والرياضة واجملاهدة‪ ،‬اشتغاال‬
‫بتزكية النفس وهتذيب األخالق وتصفية القلب بذكر اهلل تعاىل كما حصلته من‬

‫‪52‬‬
‫اإلحسان‬

‫علم الصوفية‪ .‬فكنت أعتكف مدة يف مسجد دمشق‪ ،‬أصعد منارة املسجد طول‬
‫النهار‪ ،‬وأغلق باهبا على نفسي (‪ ،)...‬ودمت على ذلك مقدار عشر سنني‪.‬‬
‫وانكشفت يل يف أثناء هذه اخللوات أمور ال ميكن إحصاؤها واستقصاؤها‪ .‬والقدر‬
‫الذي أذكره ينتفع به»‪.‬‬
‫ويؤدي الرجل بأمانة وصدق وبساطة شهادته أمام اهلل تعاىل ليقرأها‬
‫من بعده الصادقون‪ .‬ما كان يبايل أن يعرتض معرتض أو يسخر ساخر‪ .‬ما‬
‫حاول أن يعلل ويفلسف ويعقلن تنازال عند من يشققون الكالم‪ .‬بل أفضى‬
‫بذات قلبه إلينا يف كلمات مباشرة ساذجة سذاجة احلق وبساطته‪ .‬فمن أزرى‬
‫بعقل كبري مثل عقل أيب حامد‪ ،‬أو اهتم سكرات القلوب املعروفة عند اجملانني‬
‫واجملاذيب‪ ،‬فما عليه إال أن يتخطى شهادة الرجل ويطوي هذا الكتاب ويرتبه‬
‫يف الرف‪ .‬وقد انتهى األمر وما يغين احلديث‪ .‬والسالم‪.‬‬
‫يؤدي الغزايل شهادة جمملة ألن ما انكشف له ال ميكن «استقصاؤه‬
‫وإحصاؤه» فيستمر قائال‪« :‬إين علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون‬
‫لطريق اهلل تعاىل خاصة‪ ،‬وأن سريهتم أحسن السري‪ ،‬وطريقهم أصوب الطرق‪،‬‬
‫وأخالقهم أزكى األخالق‪ .‬بل لو مجع عقل العقالء وحكمة احلكماء‪ ،‬وعلم‬
‫الواقفني على أسرار الشرع من العلماء‪ ،‬ليغريوا شيئا من سريهم وأخالقهم‬
‫ويبدلوه مبا هو خري منه مل جيدوا إىل ذلك سبيال‪ .‬فإن مجيع حركاهتم وسكناهتم‪،‬‬
‫يف ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة‪ ،‬وليس وراء نور النبوة على‬
‫وجه األرض نور يستضاء به»‪.‬‬
‫نعم يا ويل اهلل‪ ،‬ما وراء نور النبوة نور يستضاء به‪ ،‬وال فوق النموذج األول‬
‫منوذج يعلو‪ .‬رحم اهلل زمر الصاحلني من الصوفية واحملدثني والعلماء العاملني‪ .‬أووا‬
‫إىل الزوايا واملدارس والعزلة والصمت واجملاهدة والسهر والعبادة والذكر‪ .‬وبقي‬

‫‪53‬‬
‫اإلحسان‬

‫عليهم أمر عظيم مل يتخلوا عنه استغناء عنه‪ ،‬إذ ال يعوضه يف مراتب اإلحسان‬
‫شيء‪ .‬بقي عليهم اجلهاد يف األرض ليحكم دين اهلل األرض‪ .‬عاشوا‪ ،‬األحباء‪،‬‬
‫يف عهود كان قدر اهلل فيها على األمة أن حيكم النظام العاض واجلربي‪ .‬ويف‬
‫حاضر األمة ومستقبلها لن نلتفت إن شاء اهلل إىل ما حتت الصحابة رضي اهلل‬
‫عنهم الذين مجعوا أطراف اإلحسان وأقطار اجملد الدنيوي واألخروي من كل‬
‫جانب‪ .‬كانت فاعليتهم يف ميادين اجلهاد ضمان بقاء الدين واستمراره حىت‬
‫اغرتف الصوفية من ينبوع كان للصحابة رضي اهلل عنهم فضل تلقيه وصيانته‬
‫والذود عنه واجلِالد من دونه باملال والسيف‪ ،‬وفضل نشره وتبليغ دعوته‪ ،‬وفضل‬
‫قتال الكفر حىت باد الكفر‪ ،‬وفضل نصرة احلق حىت ظهر احلق‪ .‬أهل الكمال‬
‫حقا بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان‬
‫ذو النورين وعلي اإلمام‪ ،‬مث أهل بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وسائر مشاهد‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫يويت اهلل عز وجل فضله من يشاء كما يشاء‪ .‬وقد آتى سادتنا الصوفية‬
‫خرياكثريا‪ .‬لكن أساليب العزلة وتربية الصمت واجملاهدة املنفردة يف زماننا نكوص‬
‫وبيت املقدس حمتل‪ ،‬واألمة هنب مقسم‪ ،‬وجودها املعنوي مهدد‪ ،‬ورسالتها منكرة‬
‫يف عقر دارها‪ .‬لسنا ممن يكيل للغزايل اهتامات كما يفعل فالسفة اجلامعات من‬
‫بين جلدتنا‪ .‬قضى اهلل وما شاء فعل‪ ،‬والتكليف علينا وحده هو املعترب‪ .‬تكليف‬
‫الشرع أن نأمر باملعروف وننهى عن املنكر وجناهد يف اهلل حق جهاده حىت تكون‬
‫كلمة اهلل هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى‪.‬‬
‫مطلب شريف ومطمح منيف أن حتدث نفسك بأن تلحق بالصاحلني‬
‫وتكون من أولياء اهلل‪ .‬مث أن تصارع نوازع النفس واهلوى ونزغات الشيطان وتتجرد‬
‫للعمل وتشمر وهتجر كل ما سوى اهلل عز وجل‪ .‬تلك طريق سلكها ذوو اهلمم‬

‫‪54‬‬
‫اإلحسان‬

‫الرفيعة من الرجال أمثال أيب حامد‪ ،‬تعطرت بأنفاسهم األزمان‪ .‬مل يكن الدين‬
‫غريبا يف أزمنتهم‪ ،‬بل كانوا ساكنني حتت مطارق األقدار اإلهلية اليت حكمت‬
‫بأن يعيش املسلمون يف ظل ملك عاض وجربي إىل أن يرفع اهلل جل جالله‬
‫تلك احلوبة التارخيية‪ .‬اآلن عاد الدين غريبا كما بدأ‪ ،‬فطوىب لغرباء أزمنتنا إن مشروا‬
‫لاللتحاق بركب األخيار على منت اجلادة اجلهادية اليت سلكها الصحابة يف غربة‬
‫اإلسالم األوىل‪ ،‬حىت نصروا الدين وأقاموا لإلسالم دولة وصرحا شاخما‪ .‬تلك‬
‫اجلادة أوسع وأبعد مناال وأوفر نورانية ألهنا مجعت بني اجلهاد لتحقيق مطالب‬
‫األمة وبني اجملاهدة لتحقيق املطلب اإلحساين الفردي‪.‬‬
‫يف ظروف الغزايل وحدوده بالزمان واملكان واملطلب جترد الغزايل لطلب‬
‫«علم اآلخرة» بعد حتصيل علوم الفقه وبعد جدال الفالسفة ونيل األوطار‬
‫الدنيوية‪« .‬وتزيا بزي الصاحلني‪ ،‬وقصر األمل‪ ،‬ووقف األوقات على هداية اخللق‬
‫ودعائهم إىل ما يعنيهم من أمر اآلخرة وتبغيض الدنيا واالشتغال هبا على‬
‫السالكني واالستعداد للرحيل إىل الدار الباقية واالنقياد لكل من يتوسم فيه أو‬
‫‪1‬‬
‫يشم منه رائحة املعرفة أو التيقظ بشيء من أنوار املشاهدة»‪.‬‬
‫إعراض عن الدنيا وإقبال على اهلل عز وجل وانقياد ألهل اخلري‪« .‬وتفكر‬
‫يف العاقبة وما جيدي وما ينفع يف اآلخرة‪ .‬فابتدأ بصحبة الفارمدي‪ ،‬وأخذ منه‬
‫استفتاح الطريقة‪ ،‬وامتثل ما كان يشري به عليه من القيام بوظائف العبادات‬
‫واإلمعان يف النوافل واستدامة األذكار واجلد واالجتهاد طلبا للنجاة‪ ،‬إىل أن جاز‬
‫‪2‬‬
‫تلك العقبات»‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 4‬ص ‪.108‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 4‬ص ‪.109‬‬

‫‪55‬‬
‫اإلحسان‬

‫من عظماء اإلسالم كثري جلأوا مثل الغزايل‪ ،‬قبله وبعده‪ ،‬إىل مربني‬
‫يساعدوهنم على جواز العقبات‪ .‬ال تكاد حتصي األمثلة للعلماء الذين ارمتوا‬
‫يف أحضان العارفني تعج بذكرهم كتب التاريخ وطبقات املذاهب‪.‬‬
‫من أجلهم سلطان العلماء شيخ اإلسالم واملسلمني إمام عصره بال‬
‫مدافعة‪ ،‬اآلمر باملعروف الناهي عن املنكر الذي كان يف عصره مالذ األمة‬
‫وحاميها من احلكام الظلمة‪ .‬إنه عز الدين بن عبد السالم الصائل بعلمه يف‬
‫اجملالس‪ ،‬الصائل بشجاعته يف احلق‪ ،‬يهجم بكلمة الزجر والتأنيب على دواوين‬
‫احلكام‪ .‬مواقفه تشرف كل منتسب للعلم يف كل زمان‪.‬‬
‫كان رمحه اهلل أعبد اخللق وأتقاهم‪ .‬حكى عنه ابن دقيق العيد‪ ،‬أحد األكابر‬
‫علما وتقى‪ ،‬أنه‪« :‬لبس خرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السهروردي‬
‫وأخذ عنه»‪ .‬وذكر أيضا أنه‪« :‬كان يقرأ بني يديه رسالة القشريي فحضره مرة‬
‫الشيخ أبو العباس املرسي ملا قدم من اإلسكندرية إىل القاهرة‪ ،‬فقال له الشيخ‬
‫عز الدين‪ :‬تكلم عن هذا الفصل‪ .‬فأخذ املرسي يتكلم والشيخ عز الدين يزحف‬
‫يف احللقة ويقول‪ :‬امسعوا هذا الكالم الذي هو حديث العهد بربه»‪ 1 .‬قال‬
‫السبكي‪« :‬وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطوىل يف التصوف‪ ،‬وتصانيفه‬
‫قاضية بذلك»‪.‬‬
‫قال عز الدين سلطان العلماء‪« :‬أما تفضيل العارفني باهلل على العارفني‬
‫بأحكام الشرع فقول األستاذ (القشريي) وأيب حامد (الغزايل) فيه متفق‪ .‬وال يشك‬
‫عاقل أن العارفني مبا جيب هلل من أوصاف اجلالل ونعوت الكمال ومبا يستحيل‬
‫عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفني باألحكام‪ .‬بل العارفون باهلل أفضل‬
‫من أهل الفروع واألصول‪ .‬ألن العلم يشرف بشرف املعلوم وبثمراته‪ .‬فالعلم باهلل‬
‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 5‬ص ‪.83‬‬

‫‪56‬‬
‫اإلحسان‬

‫وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف املعلومات‬


‫‪1‬‬
‫وأكملها‪ ،‬وألن مثاره أفضل الثمرات»‪.‬‬
‫هلكان فطاحلة علمائنا هباليل جمانني حىت يزحفوا يف احللقة إعجابا بكالم‬
‫العارفني وهم كانت ترتعد خوفا منهم فرائص اجلبارين يف األرض؟ أم أهنم مل‬
‫جيدوا يف كتب الرقائق والوعظ ما يروي الغلة حىت ينقادوا للمشايخ ويتتلمذوا‬
‫بأدب؟‬
‫هذه نصيحة من أحد كبار فقهائنا عسى أن يقرأها من يوصون ب‬
‫«التصوف السين» الذي حتتويه بطون الكتب اليت تكفي قراءهتا والتضلع منها‪.‬‬
‫قال القسطالين صاحب املؤلفات املشهورة‪« :‬وإن كان مرادك أن تصري بقراءهتا‬
‫(أي كتب القوم) صوفيا حمققا فوالذي فلق احلبة وبرأ النسمة لو قرأت من هذه‬
‫الكتب عدد رمل عاجل يف مدة عمر نوح مل تصر صوفيا حىت يلج اجلمل يف سم‬
‫اخلياط‪ .‬إمنا التصوف الدؤوب يف الطاعات‪ ،‬وترك املخالفات‪ ،‬وفطم النفس عن‬
‫املألوفات‪ ،‬وعدم التطلع إىل ما يف أيدي الناس من األموال املباحات فضال عن‬
‫‪2‬‬
‫الشبهات‪ ،‬وترك التوسل باخللق‪ ،‬واالعتماد على اهلل يف كل احلاالت»‪.‬‬
‫يفيت القسطالين حبرمة قراءة الكتب املشتملة على العبارات الغامضة‬
‫والشطحات‪ .‬وينصح بعدم تضييع الوقت يف طلب علم القوم‪ ،‬ألن العلم بال‬
‫عمل بطالة‪ .‬وكانت سعادته بلقاء الشيخ شهاب الدين السهروردي‪ ،‬وهو ابن‬
‫‪3‬‬
‫أخ الشيخ أيب النجيب السهروردي األشهر‪ ،‬لبس منه خرقة التصوف‪.‬‬
‫وكان تقي الدين بن دقيق العيد شيخا إماما زاهدا حمدثا حافظا ورعا فقيها بلغ‬

‫‪ 1‬تأييد احلقيقة العلية ص ‪.23‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.75‬‬
‫‪ 3‬طبقات الشافعية ج ‪ 5‬ص ‪.18‬‬

‫‪57‬‬
‫اإلحسان‬

‫درجة االجتهاد املطلق‪ .‬قال السبكي ‪« :‬ومل ندرك أحدا من مشاخينا خيتلف يف أن‬
‫ابن دقيق العيد هو العامل املبعوث على رأس السبعمائة املشار إليه يف احلديث‬
‫املصطفوي النبوي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأنه أستاذ زمانه علما ودينا»‪ 1.‬هذا‬
‫اإلمام األوحد يف قرنه سلك طريق القوم على يد الشيخ الصاحل كمال الدين بن‬
‫‪3‬‬
‫عبد الظاهر اهلامشي‪ .2‬وكانت له كرامات كثرية‪.‬‬
‫خنتم حديثنا عن الفقهاء الصوفية‪ ،‬وقد اقتصرنا على األشهرين من الشافعية‪،‬‬
‫بذكر التقي السبكي أحد أعالم األمة الذيكان يدعى بالشافعي الثاين‪ ،‬وناهيك‬
‫بالتشبيه‪.‬‬
‫تصدى التقي السبكي‪ ،‬والد مؤلف الطبقات‪ ،‬ملسائل شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية وعارضه يف اجتهاداته الشاذة عن اإلمجاع يف موضوع زيارة قرب النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ويف قضية الطالق املعلق وغريها‪ .‬كانت اضطرابات ابن تيمية‬
‫رمحه اهلل وسجنه وما حلقه وحلق أصحابه من أذى نتيجة ملا يسمى «مسائل»‬
‫ابن تيمية‪ .‬وهي بضع وستون مسألة يف أصول الدين وقضايا الفقه خالف فيها‬
‫علماء عصره‪ .‬مل يكن الفارس احلنبلي يف زمانه وتفرده بآرائه ِ‬
‫وحدَّته املرجع املطلق‬
‫كما هو الشأن يف هذه األزمان اليت فتحت فيها أبواب اخلزائن لتنشر كتبه من‬
‫دون كتب خصومه‪.‬‬
‫يقول احلافظ الذهيب الناقد الالذع عن شيخه التقي السبكي يفكتابه «املعجم‬
‫املختصر» كما نقل عنه عبد الوهاب السبكي يف الطبقات‪« :‬القاضي اإلمام العالمة‬
‫الفقيه احملدث احلافظ فخر العلماء تقي الدين أبو احلسن (‪ )...‬وكان صادقا ثبتا‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 6‬ص ‪.3‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 6‬ص ‪.143‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ج ‪ 6‬ص ‪.4‬‬

‫‪58‬‬
‫اإلحسان‬

‫خريا دينا متواضعا حسن السمت من أوعية العلم‪ .‬يدري الفقه ويقرره‪ ،‬وعلم‬
‫احلديث وحيرره‪ ،‬واألصول ويقررها والعربية وحيققها (‪ )...‬وقد بقي يف زمانه امللحوظ‬
‫إليه بالتحقيق»‪ 1 .‬شهادة إنصاف‪.‬‬
‫كان «ملحوظ زمانه» هذا وحمققه كلفا بالصاحلني ومعاشرهتم‪ ،‬كثري‬
‫العبادة والذكر‪ ،‬مستجاب الدعوة‪ ،‬ظاهر الكرامات‪« .‬وكان كثري التعظيم‬
‫للصوفية واحملبة هلم‪ .‬ويقول‪ :‬طريق الصويف إذا صحت هي طريق الرشاد اليت‬
‫‪2‬‬
‫كان السلف عليها»‪.‬‬
‫يعظمه الذهيب ويقول‪« :‬ما صعد هذا املنرب بعد ابن عبد السالم أعظم‬
‫منه»‪ 3 .‬قال عبد الوهاب السبكي‪« :‬وصح من طرق شىت عن الشيخ تقي‬
‫الدين ابن تيمية أنه كان ال يعظم أحدا من أهل العصر كتعظيمه له‪ ،‬وأنه كان‬
‫كثري الثناء على تصنيفه يف الرد عليه»‪ 4.‬رمحهم اهلل مجيعا وإيانا وعفا‪ ،‬إنه العفو‬
‫الغفور‪.‬‬

‫‪ 1‬ج ‪ 6‬ص ‪.150‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 6‬ص ‪.168‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ج ‪ 6‬ص ‪.157‬‬
‫‪ 4‬نفس املصدر ج ‪ 6‬ص ‪.168‬‬

‫‪59‬‬
‫اإلحسان‬

‫بين التشدد واالعتدال‬

‫وللتقي السبكي إمام عصره شيخ آخر شاذيل‪ .‬فمن هم هؤالء العارفون‬
‫الذين ختضع هلم هامات رفعها العلم وزانتها التقوى وأحاطتها هالة االحرتام؟‬
‫هل كان مشايخ الرتبية أهال لذلك التقدير العظيم الذي نالوه من خاصة العلماء‬
‫وأفذاذهم كما نالوه من العامة؟ هل كانوا من األخيار الصاحلني بدرجة جيمع‬
‫على الشهادة هباكل مالحظ‪ ،‬أم هيكتب «املناقب» واملذاهب حتايب وتداهن؟‬
‫ينقل اإلمام الشوكاين «خامتة احملققني» عن املؤرخ الناقد الشديد الذهيب‬
‫ترمجة واحد من مشايخ املدرسة الشاذلية‪ ،‬أحد أساطينها‪ ،‬ما يلي‪« :‬كانت‬
‫له خالل عجيبة ووقع يف النفوس ومشاركة يف الفضائل‪ .‬ورأيت الشيخ تاج‬
‫الدين الفارقي ملا رجع من مصر معظما لوعظه وإشارته‪ .‬وكان يتكلم باجلامع‬
‫األزهر ميزج كالم القوم بآثار عن السلف وفنون من العلم‪ .‬فكثر أتباعه‪ .‬وكان‬
‫عليه سيماء اخلري‪ .‬ويقال إن ثالثة قصدوا جملسه فقال أحدهم‪ :‬لو سلمت‬
‫من العائلة لتجردت‪ .‬وقال اآلخر‪ :‬أنا أصلي وأصوم وال أجد من الصالح ذرة‪.‬‬
‫فقال الثالث‪ :‬إن صاليت ما ترضيين فكيف ترضي ريب‪ .‬فلما حضروا جملسه‬
‫قال يف أثناء كالمه‪ :‬ومن الناس من يقول‪ ،‬فأعاد كالمهم بعينه‪ .‬ومن مجلة‬
‫من أخذ عنه الشيخ تقي الدين السبكي‪ .‬وهو صاحب احلكم املشهورة اآلن‬
‫حبكم ابن عطاء اهلل اليت يلهج كثري من متصوفة زماننا حبفظ كلمات منها»‪.1‬‬

‫‪ 1‬البدر الطالع ج ‪ 1‬ص ‪.108 - 107‬‬

‫‪60‬‬
‫اإلحسان‬

‫هذا الشيخ الذي أشاد به احملدث الناقد الذهيب ونقل شهادته الشوكاين‬
‫الفقيه اجلامع اجملتهد هو السيد أمحد املعروف بابن عطاء اهلل السكندري تلميذ‬
‫الشيخ أيب العباس املرسي تلميذ الشيخ أيب احلسن الشاذيل مؤسس الطريقة‬
‫الشاذلية‪« .‬وكان املتكلم على لسان الصوفية يف زمانه وهو ممن قام على الشيخ‬
‫تقي الدين ابن تيمية»‪.‬‬
‫كان هذا املريب الكبري مالكي املذهب‪ ،‬تلميذه تقي الدين السبكي شافعي‬
‫بارز حاز لقب «الشافعي الثاين» من معاصريه‪ ،‬أمامهما احلنبلي الثائر تقي الدين‬
‫ابن تيمية‪ ،‬خاصماه وجاداله‪ .‬فما منع ذلك اخلصام شيخ اإلسالم احلنبلي من‬
‫إنصاف خصمه السبكي كما رأينا يف الفقرة السابقة‪ .‬وما منع الذهيب حتزبه‬
‫الشديد الذي عرف به من إنصاف السبكي وشيخه الشاذيل كما رأينا‪.‬‬
‫يأيت يف زماننا مقلدون امتألت أرداهنم رعونة ونزقا فيتبنون تلك اخلصومات‬
‫ويتشددون ويلعنون فيعيدون إشعال نريان الفتنة بعد أن مخدت‪ ،‬يبعثوهنا من‬
‫طي الكتب الراقدة اليت كان من حقها أن ختلد إىل الراحة بعد أن أتعب األمة‬
‫وأوهاها ما سجلته من صدام تارخيي مؤمل‪.‬‬
‫إن من أحوج ما حنتاج إليه بسط صفحة من التسامح والرمحة واالعتدال‬
‫وضبط النفس‪ .‬كان الصوفية وال يزالون‪ ،‬أعين الصادقني ال املنتحلني لالسم‬
‫والسمعة‪ ،‬أصحاب قلوب حشوها احملبة والرفق والرمحة باخللق كافة‪ .‬ولئن‬
‫اصطدم هبم بعض الفقهاء واحملدثني الذين من شأهنم التعامل مع النصوص بدقة‬
‫العقل القانوين والتعامل مع الناس مبيزان اجلرح والتعديل الباين اهلادم فإن صدق‬
‫الفريقني يرجع آخر األمر إىل اإلنصاف‪ ،‬واالعتدال‪ ،‬واالعرتاف‪ ،‬والرجوع إىل‬
‫احلق‪ .‬مثال هذا االعتدال واملراجعة نفتقده يف زماننا‪ ،‬فال جند إال التعنت‬
‫والتصلب والرفض لكل حوار‪ .‬لذا نستعرض تاريخ الرجال من سلفنا الصاحلني‬

‫‪61‬‬
‫اإلحسان‬

‫لنستلهم الرفق كفاء جلهود غرينا ممن ينفخ يف رماد الفتنة ليوري الشرار‪.‬‬
‫كان احلافظ املفسر الشافعي املذهب ابن كثري رمحه اهلل ممن ينكرون على‬
‫الصوفية ويشتدون‪ .‬يف أخريات عمره رجع واعرتف وتتلمذ ودخل يف صف‬
‫الشاذلية‪ .‬قال الصالح الصفدي يف كتابه «نكت اهلميان» ‪« :‬ورأيت شيخنا‬
‫عماد الدين (ابن كثري) قد فرت عنه (أي عن أيب احلسن الشاذيل) وبقي واقفا‬
‫يف هذه العبارات حائرا يف الرجل ألنه كان قد تصوف على طريقته‪ .‬وأخذ عن‬
‫جنم الدين األصفهاين نزيل احلرم‪ ،‬وجنم الدين صحب الشيخ أبا العباس املرسي‬
‫صاحب الشيخ أيب احلسن»‪.1‬‬
‫كثريا ما قرأنا عبارات «أخذ عنه» أو «تلقى عنه»‪ ،‬فيا عجبا أي شيء‬
‫يتلقاه أئمة الدين محاة الشريعة من أساتذهتم الصوفية؟ أيف األمر أسراركهنوتية أم‬
‫أن األمة أمجعت على ضالل حني اتبعت فقهاء يف أغلبهم يتصوفون‪ ،‬واقتدت‬
‫بصوفية تتلقى عنهم وتأخذ شيئا زائدا عن العلم والفتوى واإلرشاد؟ إن يف هذا‬
‫ما حيري من كان خايل الفؤاد من هم اآلخرة وهم اهلل‪ ،‬ويشل حركته‪ ،‬ويرتد به إىل‬
‫السلبية والعدمية والشك‪ .‬أال يكفي يا فقهاء ما مجعتموه من علوم حىت تلتمسوا‬
‫من قوم ليس هلم أحيانا مساع وال رواية وال أصول مضبوطة حمفوظة؟ ماذا تتلقون‬
‫مما ال جتدونه يف كتاب اهلل وسنة رسوله؟ أمث شيء زاده الصوفية يف الدين‪ ،‬أم هو‬
‫وحي بعد الوحي أم أن الدين الذي أنزل على حممد صلى اهلل عليه وسلم حباجة‬
‫إىل من يكمله؟‬
‫أسئلة إنكار وجدال تبقى صماء التصيخ جلواب يف فم الغاضب لنفسه‪،‬‬
‫وقد يومهه جهله أنه يغضب هلل‪ .‬أما من كان يف قلبه حرقة‪ ،‬وكان من ذوي األفق‬

‫‪ 1‬كذا نقله الشيخ أمحد بن الصديق يف كتابه الربهان اجللي ص ‪.50‬‬

‫‪62‬‬
‫اإلحسان‬

‫الواسع‪ ،‬استكشف رحاب العلم وجوانب االطالع‪ ،‬فانتهى مثل الغزايل إىل أن‬
‫علمه املكتسب ما زاده إال ختبطا يف الدنيا وهوسها بعيدا عن علم اآلخرة بعيدا‬
‫عن معرفة ربه‪ ،‬فذاك يطلب العلم الميل‪ ،‬ويتعرضكما تعرض موسى عليه السالم‬
‫ملن يعلمه علما‪ ،‬يتبعه على ذلك ويطيعه ويصرب معه‪.‬‬
‫أو كمثل جمتهد القرنني الثاين عشر والثالث عشر الشوكاين الذي حيظى‬
‫عند السادة السلفية واحلنابلة بالقبول التام وحتظى كتبه بالتقدير الكامل‪ .‬هذا‬
‫الرجل مثال لالعتدال واإلنصاف‪ ،‬نعرض نصوصا له ملن يعرف احلق بالرجال وال‬
‫يعرف الرجال باحلق لبعده عن احلق‪.‬‬
‫الشوكاين أيضا أخذ وتلقى عن شيخ صويف‪ ،‬هو أيضا تتلمذ وقعد بني‬
‫يدي مرب ماهر يف طب القلوب‪ .‬أتدري يا أخي ماذا تلقى ؟ إنه تلقى دواء كما‬
‫تلقى غريه ممن قرأت وممن مل تقرأ‪ .‬فإن كنت مطمئنا إىل إميانك وسالمة قلبك‬
‫أكثر من اطمئنان من سردت عليك من الفحول فال عليك أن ترضى حبالك‬
‫وأن تقعد فأنت الطاعم الكاسي‪.‬‬
‫حتدث الشوكاين يف كتابه «البدر الطالع» عن شيخه يف طريق القوم السيد‬
‫عبد الوهاب احلسين املوصلي‪ .‬قال‪« :‬وقدم علينا إىل صنعاء يف سنة ‪.1234‬‬
‫وكثر اتصاله يب‪ .‬وهو جامع بني علم األديان واألبدان‪ ،‬جيد الفهم فصيح‬
‫‪1‬‬
‫اللسان‪ ،‬حسن العبارة‪ ،‬حسن اإلشارة»‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫قال‪« :‬وقد تلقيت منه الذكر على الطريقة النقشبندية»‪.‬‬
‫يعترب السادة السلفيون من أهل احلديث وغريهم ممن يقلدون االجتاه املتشدد‬

‫‪ 1‬ج ‪ 1‬ص ‪.407 - 406‬‬


‫‪ 2‬ج ‪ 1‬ص ‪.408‬‬

‫‪63‬‬
‫اإلحسان‬

‫عفا اهلل عنا وعنهم أن الشوكاين واحد منهم‪ ،‬وحيتفلون بكتبه أميا احتفال‪ .‬والرجل‬
‫سليم من الغلو الذي وقع فيه الوهابية الذين فسروا ابن تيمية تفسريهم اخلاص‪.‬‬
‫جند عند الشوكاين فتوى توصي باالعتدال والكف عن تكفري املسلمني‪ ،‬أىب إال‬
‫أن ينظمها أبياتا ليسهل حفظها وتناقلها وسريها يف اآلفاق كما كان أسالفنا‬
‫رضي اهلل عنهم يفعلون باملتون املهمة‪ .‬قال رمحه اهلل‪:‬‬
‫مقــالتنا وليس لذا جح ـ ـ ــود‬ ‫نرد إىل الكت ــاب إذا اختلفن ـ ــا‬
‫وال قيـ ــل وال قــال ولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــود‬ ‫مضى خـري القــرون ومن تلته‬
‫ولبـس للهــدى هلــم بـ ـ ـ ـ ـ ــرود‬ ‫هلم من حلة اإلنص ـ ــاف حلي‬
‫هلم بدع على اإلسـالم س ــود‬ ‫وما قالـوا بتكفـيـ ــر لـق ـ ـ ــوم‬
‫وبدعتــه تشــق له اجللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــود‬ ‫وما قالـوا بأن الرفـض كف ـ ــر‬
‫يرى لقبــورهم حجـر وع ـ ــود‬ ‫فكيف يقال قد كفـرت أن ـ ــاس‬
‫بتسـوية القبــور فال جحـ ـ ــود‬ ‫فإن قالـوا أتى أمــر صحيـ ــح‬
‫وال فسقــا فهـل يف ذا ردود؟‬ ‫ولكـن ذاك ذنب ليس كف ـ ـ ـرا‬
‫كفــورا‪ ،‬إن ذا قـول ش ـ ـ ــرود‬ ‫وإال ك ــان من يعصـي بذنـب‬
‫مقـاما ليس ينكــره احلســود‬ ‫ويل يف ذا كتــاب قمــت فيـه‬
‫‪1‬‬
‫وق ــد س ــارت به الركبــان شـ ــرق ـ ــا وغربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا مل ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرد فـي ـ ـ ــه ردود‬
‫كان الشوكاين إماما مستقال باجتهاده‪ ،‬يؤلف‪ ،‬كما قرأنا‪ ،‬كتابا يف الدعوة‬
‫لالعتدال‪ ،‬ويشجب املذاهب املتشددة ويقول‪« :‬فإن صاحب جند (سعود) ومجيع‬
‫أتباعه يعملون مبا تعلموه من حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬وكان حنبليا‪ ،‬مث طلب احلديث‬
‫باملدينة املشرفة‪ .‬فعاد إىل جند وصار يعمل باجتهادات مجاعة من متأخري احلنابلة‬
‫كابن تيمية وابن القيم وأضراهبما‪ ،‬ومها من أشد الناس على معتقدات األموات»‪.2‬‬
‫‪ 1‬والية اهلل والطريق إليها ص ‪.26‬‬
‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.27‬‬

‫‪64‬‬
‫اإلحسان‬

‫إنكان عند ابن تيمية وابن القيم تشدد فقدكان لتشددمها حدود‪ ،‬مل يبلغ هبما‬
‫التمسك باألحوط أن يتجاوزا الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬وهم أكثر الناس ورعا وحيطة‬
‫يف الدين ومل يكن الصحابة رضي اهلل عنهم يقذفون الناس مبا يقذف به املكفرون‬
‫املقلدون‪ ،‬وحاشاهم‪ .‬ها هو اإلمام علي كرم اهلل وجهه خيرج عليه اخلوارج ويكفرونه‬
‫يف قضية التحكيم‪ ،‬ويهددون وحدة األمة يف زمن الفتنة واالنشقاق هتديدا خطريا‪.‬‬
‫ما أهون بدعة تشييد األضرحة أمام بدعتهم اليت تنشق هلا اجللود كما تنشق لبدعة‬
‫الرفض‪ .‬ومع ذلك فلم يكفرهم رضي اهلل عنه بل قال عنهم‪« :‬من الكفر فروا»‪ .‬وبعث‬
‫إليهم عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنه ليحاورهم بلطف‪ .‬وعندما رفعوا شعار املروق‬
‫وقالوا‪« :‬الحكم إال هلل»‪ ،‬أصدر اخلليفة الرابع رضي اهلل عنه أمره احلكيم ووصيته‬
‫العادلة قائال‪« :‬كلمة حق أريد هبا باطل‪ ،‬ال تقتلوا اخلوارج بعدي‪ ،‬فليس من طلب‬
‫احلق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه»‪ .‬هكذا التمس هلم رضي اهلل عنه العذر‪.‬‬
‫وشيخ اإلسالم ابن تيمية مهما كانت حدته رجل صادق يف اقتفائه أثر‬
‫السلف الصاحل‪ .‬أحيانا يلج يف اخلصام ويبني أثناء محية اجلدل فيتلقف املقلدة‬
‫تلك اللحظة العابرة يف تفكري الرجل ليتخذوها سندا لتزمتهم وعنفهم‪ .‬أما يف‬
‫سائر كتاباته فرجوعه إىل السنة الصحيحة وإىل عمل الصحابة يدله على االعتدال‬
‫والرتيث والتثبيت‪ .‬قال رمحه اهلل‪« :‬ومازال السلف يتنازعون يف كثري من هذه‬
‫املسائل (مسائل اخلالف يف العقيدة‪ ،‬فكالمه هذا جاء يف نقاشه خلالف األشاعرة‬
‫‪1‬‬
‫واحلنابلة) ومل يشهد أحد منهم على أحد ال بكفر وال بفسق وال معصية»‪.‬‬
‫وقال‪« :‬مع أين دائما ومن جالسين يعلم ذلك مين‪ :‬إين من أعظم الناس هنيا أن‬
‫ينسب معني إىل تكفري وتفسيق ومعصية‪ .‬إال إذا علم أنه قد قامت عليه احلجة‬
‫الرسالية اليت من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى‪ .‬وإين‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج ‪ 3‬ص ‪.229‬‬

‫‪65‬‬
‫اإلحسان‬

‫أقرر أن اهلل قد غفر هلذه األمة خطأها‪ ،‬وذلك يعم اخلطأ يف املسائل اخلربية القولية‬
‫واملسائل العملية»‪.1‬‬
‫وكما حتدث الشوكاين يف منظومته عن الرافضة‪ ،‬وهم الذين يسبون‬
‫الصحابة قاتلهم اهلل‪ ،‬فلم ينسبهم للكفر مع أن بدعتهم من أشد البدع سوادا‬
‫ولؤما‪ ،‬فإن ابن تيمية سبقه إىل موقف االعتدال منهم‪ ،‬مع أنه يف عامة كتبه‬
‫صب عليهم وابال من غضبه فعدوه ناصبيا‪ .‬والنواصب خذهلم اهلل هم من‬
‫يكرهون آل البيت عليهم السالم‪ .‬قال‪« :‬فالرافضة ملا كانت تسب الصحابة‬
‫‪2‬‬
‫صار العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة»‪.‬‬
‫أكتب هذا واحلملة على الشيعة وثورهتم يف إيران شعواء ماحقة‪.‬‬
‫تصدر فتاوي مأجورة مأزورة بتكفري الشيعة كافة‪ ،‬اليتقي اهلل يف األمة‬
‫من يلفقون األحكام‪ .‬إن كان يف إيران روافض‪ ،‬والرفض منتشر هناك‬
‫بالتأكيد‪ ،‬فهم عقول ونفوس مريضة بداء الكراهية الوبيل‪ .‬غاية القاضي‬
‫أن يعاقبهم كما كان يفعل العلماء‪ .‬وذلك ال يتأتى إال لو كانت األمة‬
‫موحدة والقضاء إسالميا والعزة يف األرض هلل ولرسوله ولل مؤمنني‪ .‬وإن‬
‫كان الثوار اإليرانيون سجنوا علماء السنة واضطهدوا السنيني ومهشوهم‬
‫فاهليجان الثوري كان وال يزال يف كل زمان ومكان خييل للثوار أهنم‬
‫قادرون على تبديل األرض غري األرض والسماء غري السماء‪ .‬والواقع‬
‫املستعصي على اإلرادات الثورية يعطي االجتاه الثوري العنيف إما حكمة ورجوعا‬
‫إىل احللول املعقولة إن وجدت يف الواقع املقابل تفهما‪ ،‬وإما احنرافا خطريا إن‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج ‪ 3‬ص ‪.229‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 3‬ص ‪.409‬‬

‫‪66‬‬
‫اإلحسان‬

‫خيبت التجربة الثورية اآلمال ودفع هبا اليأس من تطرف إىل تطرف‪.‬‬
‫محل إخواننا الشيعة أملني ممضني منذ قرون‪ ،‬أمل احلزن على فوات اخلالفة‬
‫ممن يعتربوهنم أئمة وارثني شرعيني‪ ،‬قمة احلزن مأساة قتل احلسني رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫مث أمل اخلضوع للحكم اجلربي الذيكان الشاه املقبور من أعىت مناذجه‪ .‬فلما أذن‬
‫اهلل بتحرر القطر اإلسالمي إيران من داء احلكم الفاسد اشتعل محاس املسلمني‬
‫يف أرجاء األرض استبشارا‪ .‬مث أخذت األخطاء اجلسام ترتاكم فانفعل من انفعل‪،‬‬
‫وغضب من غضب‪ ،‬وأفىت من أفىت‪.‬‬
‫إننا وحنن نتحدث عن سرطان الرفض يف معرض البحث عن مواقف‬
‫التثبت واالعتدال نعاجل مرضا واحدا‪ ،‬هو مرض اهليجان العاطفي الذي‬
‫فتك بوحدة األمة وال يزال يفتك‪ .‬كفروا الشيعة مجيعا ألن من بينهم‬
‫روافض‪ ،‬وكفروا الصوفية مجيعا ألن بعض الزنادقة لبسوا الزي وحتلوا‬
‫باللقب‪ .‬يف املاضي كانت التكفريات تتناول األفراد أو الطوائف والكل‬
‫داخل الوحدة اإلسالمية قبل أن تكرس القطرية الفرقة وحتجرها‪ .‬أما اليوم‬
‫فوقع التكفري والطرد من حظرية اإلسالم أبلغ أثرا وأعمق وأبشع ألن‬
‫تكفري قطعة من جسم األمة املمزقة بغري حق يزيد التمزيق استفحاال‪.‬‬
‫فإذا كانت هذه القطعة من األمة ثورة هائجة‪ ،‬وكان تصديها‪ ،‬الرائع بكل‬
‫ميزان‪ ،‬لقوى االستكبار العاملي جيد صدى سلبيا من علماء السنة‪ ،‬بل‬
‫وقوفا ضد الثورة اإلسالمية‪ ،‬وتكفريا لقيادهتا‪ ،‬فرعونة الفقيه أو الكاتب‬
‫الذي ميلي وخيط آراءه يف كرسيه اآلمن‪ ،‬يكفر ويلعن ويستبيح احلرم‪،‬‬
‫جرمية نكراء‪ .‬إن مستقبل األمة يف خطر داه مبا جتنيه أيد غري مسؤولة‪.‬‬
‫وإن املرض العضال الذي التزال األقطار السنية تعاين منه‪ ،‬وهو مرض‬
‫احلكم اجلربي اجلائر‪ ،‬التزيده الفتاوي الطائشة ضد إيران والشيعة إال‬
‫ترسيخا‪ .‬داء إخواننا الشيعة سرطان الرفض يف بعض األفراد ويف بطون‬
‫الكتب واألخطاء الفادحة اليت الختلو منها أية ثورة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫اإلحسان‬

‫فهل جيوز ياقوم أن حنكم جبرة قلم إرضاء للنزوات أو للحكام بفتاوي‬
‫بئيسة يلتحم هبا الرفض املوروث باألخطاء الثورية التحاما أبديا ليولد خملوق‬
‫بشع وليخلد يف ديار السنة حكم الظلمة املارقني؟‬

‫‪68‬‬
‫اإلحسان‬

‫مراجعة وتوبة‬

‫صاحبنا اإلمام الشوكاين نشأ زيديا شيعيا‪ ،‬مث توسعت مداركه حىت بلغ‬
‫درجة االجتهاد‪ .‬وجنده يف كتاب «نيل األوطار»‪ ،‬وهوشرح لكتاب «منتقى‬
‫األخبار» البن تيمية اجلد‪ ،‬ميشي مع التشدد يف مسألة التمسح باألضرحة‬
‫واحللف بغري اهلل‪ ،‬ويندد «بالكفر الفظيع واملنكر الشنيع» و«الشرك املبني»‪.‬‬
‫ويستعدي العلماء واحلكام قائال‪« :‬فيا علماء الدين‪ ،‬ويا ملوك املسلمني‪ ،‬أي‬
‫رزء لإلسالم أشد من الكفر‪ ،‬وأي بالء هلذا الدين أضر عليه من عبادة غري‬
‫اهلل‪ ،‬وأي مصيبة يصاب هبا املسلمون تعدل هذه املصيبة‪ ،‬وأي منكر جيب‬
‫‪1‬‬
‫إنكاره إن مل يكن إنكار هذا الشرك املبني؟»‬
‫هذا الرجل املعتدل الذي قرأنا فتواه املنظومة يف الفقرة السابقة الداعية إىل‬
‫الرفق خاض معارك من مجلتها معركته مع الروافض‪ .‬لنستمع إليه يقص قصتها‬
‫فهي مليئة بالعرب‪ .‬قال رمحه اهلل‪« :‬وملا ألفت الرسالة اليت مسيتها «إرشاد الغيب‬
‫إىل مذهب أهل البيت يف صحب النيب» ونقلت إمجاعهم من ثالث عشرة‬
‫طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه‪ ،‬وقعت هذه الرسالة بأيدي‬
‫مجاعة من الرافضة الذين بصنعاء املخالفني ملذاهب أهل البيت‪ ،‬فجالوا وصالوا‬
‫وتعصبوا وحتزبوا وأجابوا بأجوبة ليس فيها إال حمض السباب واملشامتة (‪.)...‬‬
‫وكل من عنده أدىن معرفة يعلم أين مل أذكر فيها إال جمرد الذب عن أعراض‬

‫‪ 1‬نيل األوطار ج ‪ 3‬ص ‪.134‬‬

‫‪69‬‬
‫اإلحسان‬

‫الصحابة الذين هم خري القرون‪ ،‬مقتصرا على نصوص األئمة من أهل البيت‪،‬‬
‫ليكون ذلك أوقع يف نفوس من يكذب عليهم وينسب إىل مذاهبهم ماهم منه‬
‫برآء‪ .‬ولكن كان أهل العلم خيافون على أنفسهم وحيمون أعراضهم‪ ،‬فيسكتون‬
‫عن العامة‪ .‬وكثري منهم كان يصوهبم مداراة هلم‪ .‬وهذه الدسيسة هي املوجبة‬
‫الضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم ومخول ذكرهم وسقوط مراتبهم‪،‬‬
‫ألهنم يكتمون احلق‪ .‬فإذا تكلم واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم‬
‫وداهنوهم وأومهوهم أهنم على الصواب‪ .‬فيتجرأون هبذه الذريعة على وضع‬
‫مقادير العلماء وهضم شأهنم‪ .‬ولو تكلموا بالصواب أو نصروا من يتكلم به‬
‫أو عرفوا العامة إذا سألوهم احلق وزجروهم عن االشتغال مبا ليس من شأهنم‬
‫لكانوا يدا واحدة على احلق‪ ،‬ومل يستطع العامة ومن يلتحق هبم من جهلة‬
‫‪1‬‬
‫املتفقهة إثارة شيء من الفنت‪ .‬فإنا هلل وإنا إليه راجعون»‪.‬‬
‫حكمة جليلة يضع الشوكاين أصبعنا عليها‪ .‬حكمة عملية سياسية‬
‫اجتماعية‪ .‬وهي سقوط القيادات يف قبضة اجلماهري بتعبري عصري‪ .‬يف اجملتمع‬
‫الشيعي يعيش الناس إسالمهم على منط خاص‪ :‬عاطفة فوارة وذاكرة تتأجج‬
‫مبآسي الفتنة الكربى ومقتل احلسني رضي اهلل عنه‪ .‬اجلماهري تنوح وحتزن وتسب‬
‫وتلعن‪ ،‬والعلماء خيشون ثورة العامة فيصانعون ويداهنون ويسكتون‪ .‬متاما كما‬
‫يصانع علماء السنة احلكام ويداهنون ويسكتون خمافة بطش السلطان‪.‬‬
‫فإذا نقلنا حتليل الشوكاين‪ ،‬وهو اخلبري باجملتمع الشيعي‪ ،‬إىل عصر الثورة‬
‫اإليرانية‪ ،‬وحسبنا الفرق بني الزيدية املعتدلني وبني اإلمامية األكثر صالبة ظهرت‬
‫لنا أبعاد القضية كلها‪ .‬املسلمون الشيعة يف قبضة حركية تولدت من االنكسار‬

‫‪ 1‬البدر الطالع ج ‪ 1‬ص ‪.234 - 233‬‬

‫‪70‬‬
‫اإلحسان‬

‫التارخيي‪ ،‬وقويت واشتدت وتأزمت حىت انفجرت اليوم يف وجه العامل‪ .‬العامة‬
‫ثائرة‪ ،‬والقادة ال ميلكون الزمام‪ .‬واملسلمون السنة يف قبضة حركية تارخيية‬
‫السلطان فيها هو احملرك والعامة ال متلك من أمرها شيئا‪ ،‬من ضمن العامة‬
‫العلماء‪.‬‬
‫عاش الشوكاين معركة من موقع مريح‪ .‬كان القاضي العام يف اليمن‬
‫حتوطه رعاية اإلمام احلاكم‪ .‬هدوء حياته كان ال شك عامال مهما يف صياغة‬
‫شخصية كانت صاخبة متطرفة يف شباهبا‪ ،‬مث ترزنت وتثبتت لتعطينا املفيت‬
‫الرفيق‪ .‬يتهمه بعضهم بأنه كان تيميا وهابيا‪ ،‬أي مقلدا جامدا‪ .‬واحلقيقة أن‬
‫الرجل حر يف رأيه‪ ،‬حر يف حبثه‪ ،‬حر يف اجتهاده‪ .‬ففي مسألة من «مسائل‬
‫ابن تيمية» وهي مسألة التوسل نراه يسلك مسلكا واسعا لينا‪ .‬يف كتابه «قطر‬
‫الويل على حديث الويل» يذكر مناقب اإلمام البخاري رمحه اهلل ويثين ويقول‪:‬‬
‫«وجعل اهلل سبحانه كتابه (كتاب البخاري) هذا أرفع جماميع كتب السنة‬
‫املطهرة وأعالها وأكرمها عند مجيع الطوائف اإلسالمية‪ ،‬وأجلها عند كل أهل‬
‫هذه امللة‪ .‬وصاروا يف مجيع الديار إذا دمههم عدو أو أصيبوا جبدب يفزعون‬
‫إىل قراءته يف املساجد والتوسل إىل اهلل بالعكوف على قراءته ملا جربوه قرنا بعد‬
‫قرن وعصرا بعد عصر من حصول النصر والظفر على األعداء بالتوسل به‪،‬‬
‫واستجالب غيث السماء‪ ،‬واستدفاع كل الشرور بذلك وصار هذا لديهم من‬
‫‪1‬‬
‫أعظم الوسائل إىل اهلل سبحانه‪ .‬وهذه مزية عظيمة ومنقبة كبرية»‪.‬‬
‫توسع ورجوع وجتربة‪ .‬وكذلك رجع الشوكاين عن تكفري املسلمني وأعلن توبته‬
‫يف صفحة مشرقة نقدمها هدية لكل عاقل لبيب من أهل اإلميان‪ .‬كان أحدهم‬
‫استفتاه يف مجاعة من الصوفية نظما‪ ،‬فأجابه نظما بتكفري اجلميع‪ .‬وأورد القصيدة‬

‫‪ 1‬والية اهلل ص ‪.519‬‬

‫‪71‬‬
‫اإلحسان‬

‫بتمامها يف كتابه البدر الطالع ليشطب عليها ويلغيها ويتوب مما احتوته‪ .‬قال‪:‬‬
‫«وقد أوضحت يف تلك الرسالة (رسالة منه أصحبها فتواه املنظومة) حال كل‬
‫واحد من هؤالء‪ ،‬وأوردت نصوصكتبهم‪ ،‬وبينت أقوال العلماء يف شأهنم»‪ .‬قال‪:‬‬
‫«وكان حترير هذا اجلواب يف عنفوان الشباب‪ .‬وأنا اآلن أتوقف يف حال هؤالء‪،‬‬
‫وأتربأ من كل ما كان من أقواهلم وأفعاهلم خمالفا هلذه الشريعة البيضاء الواضحة‬
‫اليت ليلها كنهارها»‪ .‬هكذا رجع من التورط يف التعيني إىل التعميم األسلم‪.‬‬
‫قال‪« :‬ومل يتعبدين اهلل بتكفري من كان يف ظاهر أمره من أهل اإلسالم‪ .‬وهب‬
‫أن املراد مبا يف كتبهم وما نقل عنهم من الكلمات املستنكرة املعىن الظاهر‬
‫واملدلول العريب‪ ،‬وأنه قاض على قائله بالكفر البواح والضالل الصراح‪ ،‬فمن‬
‫أين لنا أن قائله مل يتب عنه؟ وحنن لو كنا يف عصره بل يف مصره‪ ،‬بل يف منزله‬
‫الذي يعاجل فيه سكرات املوت مل يكن لنا إىل القطع بعدم التوبة سبيل‪ ،‬ألهنا‬
‫تقع من العبد مبجرد عقد القلب ما مل يغرغر باملوت‪ .‬فكيف وبيننا وبينهم من‬
‫السنني عدة مئني‪ )...( ،‬ويف ذنوبنا اليت أثقلت ظهورنا لقلوبنا أعظم شغلة‪.‬‬
‫وطوىب ملن شغلته عيوبه‪ .‬ومن حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه‪ .‬فالراحلة اليت‬
‫قد محلت ما ال تكاد تنوء به إذا وضع عليها زيادة عليه انقطع ظهرها وقعدت‬
‫على الطريق قبل وصول املنزل‪ .‬وبال شك إن التوثب على ثلب أعراض‬
‫املشكوك يف إسالمهم‪ ،‬فضال عن املقطوع بإسالمهم‪ ،‬جراءة غري حممودة‪ .‬فرمبا‬
‫كذب الظن‪ ،‬وبطل احلديث‪ ،‬وتقشعت سحائب الشكوك‪ ،‬وجتلت ظلمات‬
‫الظنون‪ ،‬وطاحت الدقائق‪ ،‬وحقت احلقائق‪ .‬وإن يوما يفر املرء من أبيه‪ ،‬ويشح‬
‫مبا معه من احلسنات على أحبابه وذويه‪ ،‬حلقيق بأن حيافظ فيه على احلسنات‪،‬‬
‫وال يدعها يوم القيامة هنبا بني قوم قد صاروا حتت أطباق الثرى قبل أن خيرج‬
‫إىل هذا العامل بدهور‪ .‬وهو غري حممود على ذلك وال مأجور‪ .‬فهذا ما ال‬
‫يفعله بنفسه العاقل‪ .‬وأشد من ذلك أن ينثر جراب طاعاته‪ ،‬وينثل كنانة‬
‫حسناته على أعدائه غري مشكور بل مقهور‪ .‬وهكذا يفعل عند احلضور‬
‫للحسنات بني يدي اجلبار باملغتابني والنمامني واهلمازين اللمازين‪ ،‬فإنه قد‬
‫علم بالضرورة الدينية أن مظلمة العرض كمظلمة ا ملال والدم‪ ،‬وجمرد التفاوت‬

‫‪72‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف مقدار املظلمة اليوجب عدم إنصاف ذلك الشيء املتفاوت أو بعضه بكونه‬
‫مظلمة‪ .‬فكل واحدة من هذه الثالث مظلمة آلدمي‪ ،‬وكل مظلمة آلدمي ال‬
‫تسقط إال بعفوه‪ .‬وما مل يعف عنه باق على فاعله حىت يوايف عرصات القيامة»‪.‬‬
‫مث يقول رمحه اهلل خماطبا العقالء األشحاء على دينهم‪ ،‬املشفقني من لقاء‬
‫رهبم‪ ،‬مناشدا عندهم خشية املوقف الرهيب الذي ال ريب فيه‪« :‬فقل يل كيف‬
‫يرجو من ظلم ميتا بثلب عرضه أن يعفو عنه؟ ومن ذاك الذي يعفو يف هذا‬
‫املوقف وهو أحوج ما كان إىل ما يقيه عن النار؟ وإذا التبس عليك هذا فانظر‬
‫ما جتده من الطباع البشرية يف هذه الدار‪ ،‬فإنه لو ألقي الواحد من هذا النوع‬
‫اإلنساين إىل نار من نريان هذه الدنيا وأمكنه أن يتقيها بأبيه أو أمه أو بابنه أو‬
‫حببيبه لفعل‪ .‬فكيف بنار اآلخرة اليت ليست نار هذه الدنيا بالنسبة إليها شيئا‪.‬‬
‫ومن هذه احليثية قال بعض من نظر بعني احلقيقة‪ :‬لو كنت مغتابا أحدا الغتبت‬
‫أيب وأمي‪ ،‬ألهنما أحق حبسنايت اليت توخذ مين قسرا‪ .‬وما أحسن هذا الكالم!»‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬وال ريب أن أشد أنواع الغيبة وأضرها وأشرها وأكثرها بالء‬
‫وعقابا ما بلغ منها إىل حد التكفري واللعن‪ .‬فإنه قد صح أن تكفري املؤمن كفر‪،‬‬
‫ولعنه راجع على فاعله‪ ،‬وسبابه فسق‪ .‬وهذه عقوبة من جهة اهلل سبحانه‪ .‬وأما‬
‫من وقع له التكفري واللعن والسب فمظلمته باقية على ظهر املكفر والالعن‬
‫والساب‪ .‬فانظركيف صار املكفركافرا والالعن ملعونا والساب فاسقا‪ ،‬ومل يكن‬
‫ذلك حد عقوبته‪ ،‬بل غرميه ينتظر بعرصات احملشر ليأخذ من حسناته‪ ،‬أو يضع‬
‫عليه من سيئاته مبقدار تلك املظلمة‪ .‬ومع ذلك فالبد من شيء غري ذلك‪ ،‬وهو‬
‫العقوبة على خمالفة النهي‪ ،‬ألن اهلل قد هنى يفكتابه وعلى لسان رسوله عن الغيبة‬
‫جبميع أقسامها‪ .‬وخمالفة النهي فعل حمرم‪ ،‬وفاعل احملرم معاقب عليه»‪.1‬‬

‫‪ 1‬البدر الطالع ج ‪ 2‬ص ‪.39 - 37‬‬

‫‪73‬‬
‫اإلحسان‬

‫انتهى كالم عاملنا الورع‪ .‬كتبه بعد أن استجمع عقله وإميانه‪ ،‬وترك‬
‫وصيته معلمة على طريق كل باحث عن سبيل النجاة بدينه‪.‬‬
‫منكان اليستحضر بيقني أهوال العرض على اهلل يوم توزن األعمال مبثقال‬
‫الذرة فهذا الكالم النري موجه لغريه‪ .‬ومن كان ال يستطيع أن يعرف احلق فيعرف‬
‫باحلق الرجال ومقاديرهم ومرتبة قراراهتم ومنعطفات فكرهم وحياهتم فقد بسطنا‬
‫له طرفا وجيزا من مواقف الرجال ليعترب‪ ،‬وعساه يهتدي إىل احلق باقتفاء آثار من‬
‫سبقوه باإلميان‪ ،‬يفحص تلك اآلثار ويقارن وحيكم‪ .‬ذلك ملن كان فيه استعداد‬
‫للبحث‪ ،‬وطلب للحق‪ ،‬ووحشة من اجلهل‪ ،‬واستنكاف عن اهلينة اللينة حياة‬
‫التقليد والسطحية والرضى بالدنية‪.‬‬
‫ملاذا خيرج أمثال الغزايل عن اجلاه العريض‪ ،‬والرياسة العلمية‪ ،‬ويرتك األهل‬
‫والوطن ليلقى «متبوعا مقدما»؟ ِلَ يزحف سلطان العلماء العز بن عبد السالم‬
‫أمام املشايخ وهو الذي ترتعد منه فرائص امللوك وجيثو بني يديه األمراء والكرباء؟‬
‫من هو السيوطي الذي يشيد الطريقة الشاذلية ويتتلمذ للصوفية؟‬
‫متر بني عيين القارئ السايل الفارغ الفؤاد راحة من طلب املعايل أمثوالت‬
‫الرجال فال يتحرك فيه حس املنافسة وال خشية أن يفوته األمر اجللل الذي‬
‫تزامحت عليه الفحول‪ ،‬وختاصمت‪ ،‬وتناظرت‪ ،‬وتسابقت‪.‬‬
‫فهل من مهم عالية تسمع‪ ،‬وهتب‪ ،‬وتلتاع؟‬

‫‪74‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫عقبة واقتحام‬
‫‪ ‬إسماع الفطرة‬
‫‪ ‬أخذ العلم عن أهله‬
‫‪ ‬فال اقتحم العقبة!‬
‫‪ ‬اآلل والصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫‪ ‬اإلسالم واإليمان واإلحسان‬
‫‪ ‬التوبة واليقظة‬
‫‪ ‬اإلرادة والهمة والعزم‬
‫‪ ‬جناية المصطلحات‬
‫‪ ‬كن حلس بيتك‬
‫‪ ‬عقبة الخالف واالختالف‬
‫‪ ‬ابك على نفسك!‬
‫اإلحسان‬

‫إسماع الفطرة‬

‫الر ْحمـ ِن‬


‫ين َّ‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬الْحم ُد للّ ِه ر ِّ ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫يم‬
‫المستَق َ‬ ‫الص َرا َط ُ‬
‫ين اهدنَـ ــا ِّ‬ ‫الرح ِيم َمالك يـَْوم الدِّي ِن إِيَّ َاك نـَْعبُ ُد وإِيَّ َاك نَ ْستَع ُ‬
‫َّ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ين﴾‪ .‬ال إله‬‫وب َعلَي ِه ْم َوالَ الضَّالِّ َ‬
‫ض ِ‬ ‫المغ ُ‬ ‫مت َعلَي ِه ْم غَي ِر َ‬ ‫َنع َ‬ ‫ين أ َ‬‫ص َرا َط الذ َ‬
‫إال أنت سبحانك إينكنت من الظاملني‪ .‬ال إله إال اهلل وحده‪ ،‬أعز جنده‪،‬‬
‫ونصر عبده‪ ،‬وهزم األحزاب وحده‪ ،‬فال شيء بعده‪ .‬وصلى اهلل وسلم وبارك‬
‫على سيدنا حممد وآله وصحبه وإخوانه من قبله ومن بعده‪.‬‬

‫أستمطر الصالة والسالم والربكة على خري اخللق وآله وصحبه وإخوانه‬
‫من قبله ومن بعده‪ .‬الذين من قبله هم األنبياء‪ .‬فما بال الذين من بعده؟‬
‫روى الشيخان وغريمها عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أتى املقربة فقال‪" :‬السالم عليكم َد َار قوم مؤمنني‪ ،‬وإنا إن شاء اهلل بكم‬
‫الح ُقون ِ‬
‫ود ْدت أن قد رأينا إِخواننا" قالوا‪ :‬أولسنا إخوانك يا رسول اهلل؟ قال‪:‬‬
‫"أنتم أصحايب‪ ،‬وإخواننا الذين مل يأتوا بعد"‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫وروى مسلم عن أيب هريرة أن نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ِ :‬‬
‫"من‬
‫أش ِّد أميت يل حبا ناس يكونون بعدي‪ ،‬يـََود أحدهم لو رآين بأهله وماله"‪.‬‬ ‫َ‬
‫وأخرج الدارمي أن أبا ُمَ ْييز قال‪ :‬قلت أليب مجعة رجل من الصحابة‪:‬‬

‫‪77‬‬
‫اإلحسان‬

‫حدثنا حديثا مسعته من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬قال نعم أحدثك‬
‫حديثا جيدا‪ .‬تغ ّدينا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة ابن‬
‫أح ٌد خريٌ منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك! قال‪" :‬نعم!‬
‫اجلراح‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل؟ َ‬
‫قوم يكونون من بعدكم‪ ،‬يؤمنون يب ومل يروين"‪ .‬وروى احلديث أيضا رزين‪.‬‬
‫هذه األحاديث تثبت أن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إخوانا من‬
‫بعده‪ ،‬ليسوا أنبياء ألن النبوة به ختمت‪ ،‬لكن هلم فضال مبا أحبوه حبب اهلل‪،‬‬
‫وهلم فضل مبا آمنوا به ومل يروه‪ ،‬وهلم فضل مبا صربوا على غربة اإلسالم‪ ،‬وعلى‬
‫شدة أعداء اإلسالم على أهل اإلميان‪ .‬روى أبوداود والرتمذي وقال حديث‬
‫حسن غريب عن أيب أمامة الشعباين أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"فإن من ورائكم أيام الصرب‪ ،‬الصرب فيهن مثل القبض على اجلمر‪ .‬للعامل‬
‫فيهن أجر مخسني رجال يعملون مثل عملكم"‪ .‬زاد أبو داود‪" :‬قيل‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل؟ أجر مخسني رجال منا أو منهم؟ قال‪ :‬بل أجر مخسني رجال منكم"‪.‬‬
‫احلديث‪ .‬وللحديث طرق أخرى بعض أسانيدها صحيح‪.‬‬
‫ملثل هذه املزية اليت ترفعُك إىل مصاف الرجال فليعمل العاملون‪ .‬هلذا‬
‫استمطرت الصلوات والسالم والربكة على الصحب واإلخوان بعد اآلل‪.‬‬
‫صع‬
‫ويف كتايب هذا أبدأ كل فقرة بالبسملة فكل كلمة أمر ذو بال‪ ،‬و َأر ِّ‬
‫كل فقرة يف البداية بدعاء قرآين أو نبوي أو هبما معا‪ ،‬وأوشيها يف آخرها بشعر‬
‫يرقق الشعور‪ .‬والشعر بعضه حكمة‪ .‬روى البخاري يف كتاب األدب‪ ،‬باب‬
‫أخ َب أن رسول‬ ‫ما جيوز من الشعر واحلُداء وما يكره منه‪ ،‬أن أيب بن كعب ْ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إن من الشعر حلكمة"‪ .‬واحلكمة كما قال‬
‫البخاري يف مكان آخر هي‪" :‬الصواب يف غري النبوة"‪.‬‬
‫أريد يف هذا الكتاب أخي وأخيت‪ ،‬واهلل املستعان‪ ،‬أن أحدثك حديث القلب‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫اإلحسان‬

‫املوضوعات على اإلطالق‪ ،‬وهو موضوع‬ ‫حديث الفطرة‪ ،‬يف موضوع هو أجل ُ‬
‫صلة العبد بربه‪ ،‬وتقرب العبد من ربه‪ ،‬ووصول العبد إىل ربه‪ ،‬وفوز العبد بربه‪.‬‬
‫ويا خسارة من خرج من الدنيا وليس له حظ من اهلل وال نصيب وال علم وال‬
‫هدى وال كتاب منري؟‬
‫ليس جيسر عاقل أن خيوض فيما ليس له به علم خمافة أن يفتضح عند‬
‫الناس‪ .‬فكيف جيسر مسلم يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن خيوض يف غمار احلديث‬
‫عن جوهر الدين ولبه‪ ،‬وهو حب اهلل ومعرفة اهلل‪ ،‬وهـو غريب عن مصادر املعرفة‬
‫ومواردها‪ .‬إهنا إذن الفضيحة الكربى يوم القيامة‪.‬‬
‫وقد جترأ كثري من املطالعني يف األوراق على "التأليف" يف علم التصوف‪،‬‬
‫وأقحموا يف ورقاهتم الكئيبة ما التقطوه من فتات موائد أهل العلم ليلفقوا أحكاما‬
‫هنائية بأن التصوف تلبيس إبليس‪ ،‬وعمموا األحكام وأضرموا نار اللجاج وأثاروا‬
‫دخان العجاج‪.‬‬
‫فتعال أحدثك بلسان أهل مكة وهم أدرى بشعاهبا‪ .‬قدمت لك يف الفصل‬
‫األول من هذا الكتاب وقائع موثقة عن لقاء الفقهاء والعلماء واحملدثني باملشايخ‬
‫املربني‪ .‬ووصفت لك من أحواهلم‪ ،‬وسردت لك من أقواهلم وشهاداهتم‪ .‬وأفضل‬
‫أن أنزهك يف حدائق كتب القوم طييب األنفاس تسمع كالمهم مباشرة‪ ،‬بعد أن‬
‫ت‪ ،‬وكنت يومئذ يف أول الطريق‪ ،‬شهادة‬ ‫كنت منذ قريب من عشرين سنة كتَْب ُ‬
‫عن » جتربيت الشخصية"‪ .‬فثارت علي الشبهات‪ ،‬وأشرعت يف وجهي األسنة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬طرقي خمرف ال يكفر زيدا وعمرا من الناس! وينقل عن "الكتب الصفراء"‬
‫فاسد العقيدة اخل‪ .‬ولست أبايل حني أقتل مسلما‪...‬‬ ‫حديث خرافة! ِ‬
‫أفضل أن أكون ُم َس ِّمعا لصدى تلك األصوات اليت قلما جتد يف عصرنا صدى‬
‫يرددها‪ ،‬على أنين لست ببغائي احملتد بل أحىي معاين ما أكتب بلحمي ودمي‬

‫‪79‬‬
‫اإلحسان‬

‫وروحي وعقلي‪ .‬وفضل اهلل على آخر هذه األمة ما قيد بِعصر‪ .‬وهلل احلمد من‬
‫قبل ومن بعد‪.‬‬
‫أخي وأخيت‪ ،‬إنك تأيت اهلل يوم القيامة فردا‪ ،‬فتعال اجلس إيل‪ ،‬واصرب‬
‫علي‪ ،‬حىت أخربك مبا لقي به الرجال من أهل اهلل والنساء رهبم‪ ،‬وماذا غنموا‬ ‫ّ‬
‫من الدنيا ليوم اللقاء‪ .‬وامسع‪ ،‬امسع‪.‬‬
‫النفس اجلديدة اليت أبرزها اهلل عز وجل إىل الوجود عند امليالد يُشرع أن‬
‫يُؤذن هلا يف األذن اليمىن وأن يقام يف اليسرى‪ .‬ذلك ليكون أول ما تسمعه الفطرة‬
‫الكامنة عند خروجها للدنيا‪ ،‬التذكري بعهد اهلل وميثاقه أنه عز وجل ربنا‪ .‬اللطيفة‬
‫الدفينة يف جسم الوليد تسمع جالل اهلل عز وجل ووحدانيته‪ ،‬وخرب رسالة حممد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ودعوة الصالة والفالح‪ ،‬وكربياء من له الكربياء سبحانه‪.‬‬
‫كما شرع تلقني امليت من املؤمنني واملسلمني الكلمة الطيبة وشهادة احلق‬
‫لترتدد الشهادة يف كيان النفس الغاربة عن الدنيا وقت سفرها‪ ،‬عسى أن ُيتم هلا‬
‫بالفطرة‪.‬‬
‫والفطرة إقامة الوجه هلل‪َ ،‬وتَستوي الفطرة أو تـَْع َو ُّج وحتيد عن اجلادة‬
‫بالرتبية‪ .‬روى الشيخان وغريمها عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬ما من مولود إال يولد على الفطرة» ‪ .‬مث يقول‪" :‬اقرأوا إن شئتم‪:‬‬
‫ِّين‬
‫ك الد ُ‬ ‫يل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫﴿فط َْرَة ‪1‬الله التي فَطََر الن َ‬
‫ِ‬
‫الْ َقيِّم﴾‪ .‬زاد البخاري‪" :‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه"‪.‬‬
‫والرتبية مساع وتشبه ومتثل وتشرب‪ .‬روى اإلمام أمحد أن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم كان يلقن صبية بين هاشم إذا أفصحوا قول اهلل عز وجل‪﴿ :‬‬
‫يك فِي الْمل ِ‬
‫ْك َولَ ْم يَ ُكن‬ ‫وقُ ِل الْحم ُد لِلّ ِه الَّ ِذي لَم يـت ِ‬
‫َّخ ْذ َولَداً َولَم يَ ُكن لَّهُ َش ِر ٌ‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ِ َْ‬
‫ِ‬
‫لَّهُ َول ٌّي ِّم َن الذل َوَكبـِّْرهُ تَ ْكبيراًَ﴾‪ .‬سبع مرات‪ .‬وعند البخاري‪" :‬باب الدعاء‬
‫‪2‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫للصبيان بالربكة"‪.‬‬
‫‪ 1‬الروم‪30 ،‬‬
‫‪ 2‬اإلسراء‪111 ،‬‬

‫‪80‬‬
‫اإلحسان‬

‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يستقبل بالصبيان عند قدومه من السفر‪.‬‬
‫ومالطفته صلى اهلل عليه وسلم لسبطيه الكرميني وألمامة ابنة بنته‪ ،‬وحبه هلم‪،‬‬
‫أمرنا صلى اهلل عليه وسلم أن نأمر الصبيان بالصالة لسبع‬ ‫خرب مستفاض‪ .‬وقد َ‬
‫سنوات‪ ،‬بل أنه صلى اهلل عليه وسلم بايَع عبد اهلل بن الزبري وهو ابن سبع‪ ،‬مبايعة‬
‫تربيك وتشريف ال مبايعة تكليف كما قال ابن حجر رمحه اهلل‪.‬‬
‫هذه النفوس الطرية ال يرتكها اإلسالم هلََوس السؤال "من أنا‪ ،‬ومن أين‬
‫جئت‪ ،‬وإىل أين‪ ،‬وما معىن وجودي؟"‪ .‬بل حتتضنها الفطرة‪ ،‬وهي إقامة الوجه هلل‪،‬‬
‫إذا كان اجملتمع مؤمنا باهلل‪ ،‬وتصوهنا من عوامل الشيطنة والفساد‪ .‬تُلقن النفوس‬
‫الطرية‪ ،‬خترب لتسمع‪ ،‬تؤمر لتنفذ‪ ،‬تعرض عليها النماذج الصاحلة لتتعلق وتتخلق‬
‫قبل أن يتشكل العقل املنطقي املتعلق حبواسه السابح يف ظلمائه الكونية‪.‬‬
‫أن تسمع خرب الوحي وتقبله وتتخذه شعارا مباشرا لكيانك النفسي ال‬
‫حيول بني ذلك الكيان وخرب الوحي حائل من متوجات األحداث‪ ،‬وال من‬
‫عوارض التعليالت العاجزة عن جتاوز الشكل‪ ،‬تلك هي الطريق الوحيدة لإلميان‬
‫واإلحسان‪ .‬واإلحسان مساع وقـَبُول وتربية‪.‬‬
‫﴿ص ٌّم بُ ْك ٌم‬
‫وقد وصف اهلل عز وجل الكافرين اجلاحدين للوحي بأهنم‪ُ :‬‬
‫عُ ْم ٌي فـَُه ْم الَ يـَْع ِقلُو َن﴾‪ 1.‬وعقل احلق يف لغة القرآن يطلب االنقياد ملا مسعته أذن‬
‫القلب‪ ،‬وشهد به نطق اللسان‪ ،‬واعتربت صحته العني الباصرة لألكوان‪ .‬وليس‬
‫لوجود السمع احلسي‪ ،‬وال اإلبصار وال النطق املشرتكة بني البشر أي اعتبار يف‬
‫جمال اإلميان إذا كانت أذن القلب صماء عن مساع نداء الوحي‪ ،‬وكان اللسان‬
‫معتقال عن شهادة االنقياد‪ ،‬والبصر حائرا ال يرى وراء األكوان صانعا‪ .‬قال اهلل‬

‫‪ 1‬البقرة‪171 ،‬‬

‫‪81‬‬
‫اإلحسان‬

‫وب الَّ يـَْف َق ُهو َن‬


‫نس لَ ُه ْم قـُلُ ٌ‬ ‫ْج ِّن َوا ِإل ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬ولََق ْد َذرأْنَا لِج َهنَّم َكثِيراً ِّمن ال ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ك َكاألَنـَْع ِام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِ َها َولَ ُه ْم أَ ْعيُ ٌن الَّ يـُْبص ُرو َن بِ َها َولَ ُه ْم آ َذا ٌن الَّ يَ ْس َمعُو َن بِ َها أ ُْولَـئ َ‬
‫‪1‬‬
‫ك ُه ُم الْغَافِلُو َن﴾‪.‬‬ ‫ض ُّل أ ُْولَـئِ َ‬
‫بَ ْل ُه ْم أَ َ‬
‫العقل البشري عاجز عن معرفة اهلل وعن معرفة الغيب واآلخرة‪ .‬وإن كان‬
‫هذا العقل عقال متفلسفا حكيما فغاية مداركه أن حيكم بوجوب وجود ذات‬
‫خالقة للعامل حبكم حاجة كل صنعة لصانع‪ .‬أما أن يعرف صفات هذه الذات‬
‫وأفعاهلا وأمرها وخلقها املغيب دنيا وأخرى فذلك ال يأيت إال من قناة السمع‬
‫والقبول لصوت النبوءة املرتجم عن الوحي‪ .‬ويعرب علماؤنا عن إخبار الوحي‬
‫باملعتقدات بعبارة "السمعيات"‪.‬‬
‫بساطة اإلميان الفطري تتمثل يف أويل األلباب الذين يذكرون اهلل ويتفكرون‪،‬‬
‫﴿ربـَّنَا إِنـَّنَا س ِم ْعنَا منَ ِادياً يـنَ ِادي لِ ِإليم ِ‬
‫ان أَ ْن‬ ‫الذين حكى اهلل عز وجل قوهلم‪َّ :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫آمنُواْ بَِربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫آمنَّا﴾‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ها أنت أيها األخ اجلالس إيل يف هذه الصفحات واألخت وصلك فيما‬
‫وصل صوت خافت عن اآلخرة وعن اإلميان‪ ،‬أو تضلعت من اإلميان واحلمد‬
‫هلل رب العاملني‪ .‬فماذا مسعت وقرأت عن التصوف وعن معرفة اهلل وعن سلوك‬
‫الطريق إىل اهلل‪ ،‬وعن شروط هذا السلوك‪ ،‬وعن مشروعيته‪ ،‬ممن اختصموا يف هذه‬
‫ش على النداء الفطري‬ ‫القضية العظمى‪ ،‬واخلالف له قعقعة تُصم اآلذان‪ ،‬وتُ َش ِّو ُ‬
‫أحدثُك عن هذا‬ ‫ومع ِقده؟ ِّ‬ ‫األول؟ ما الذي شوش‪ ،‬وما أصل اخلالف وفرعُه ْ‬
‫أهل مكة الذين هم أدرى بشعاهبا‪.‬‬ ‫أسعُك شهادات ِ‬ ‫أيضا إن شاء اهلل‪ ،‬كما ِْ‬

‫األعراف‪179 ،‬‬ ‫ ‪1‬‬


‫آل عمران‪193 ،‬‬ ‫‪ 2‬‬

‫‪82‬‬
‫اإلحسان‬

‫نكتفي هنا بإمجال األسباب املـ ِ‬


‫ص َّمة املشوشة يف ضياع الناس‪ ،‬والتفاهتم عن‬ ‫ُ‬
‫النبوة ومشوهلا‪ ،‬وتشتتهم يف جزئيات الدين‪ ،‬صرفهم االشتغال باجلزئيات وبالغري‬
‫عن السماع الكلي‪ .‬قال اإلمام الغزايل يف كتابه الفريد "املنقذ من الضالل"‪:‬‬
‫عرفَنا ذلك‪ ،‬وش ِه َد‬
‫"األنبياء أطباء أمراض القلوب‪ ،‬وإمنا فائدة العقل وتصرفه أن َّ‬
‫النبوة‪ .‬وأخذ بأيدينا‬
‫للنبوءة بالتصديق‪ ،‬ولنفسه بالعجز عن درك ما يُدرك بعني َّ‬
‫وسلَّمنا إليها تسليم العميان إىل القائدين‪ ،‬وتسليم املرضى املتحريين إىل األطباء‬
‫َ‬
‫املشفقني"‪.‬‬
‫العقل املخرتع اجلبار يف زماننا ال يُ ْسلم الناس للنبوة‪ ،‬واخلالف املكفر‬
‫للصوفية يعتمد عقالنية جافية عن النبوة‪ .‬والنبوة طب ل ْلقلوب‪ ،‬يا من له قلب‬
‫وحين للحق‪ .‬يا عميان ويا متحريون!‬ ‫يشتاق للحق‪ِ ،‬‬
‫قال احملب الصويف‪:‬‬
‫ـص ُـه ـ ـ ـ ـ ـ ُـم عنـي بكــل س ـ ـ ـ ــالم‬ ‫فخ َّ‬
‫ُ‬ ‫زرت أرض أحبيت ‬ ‫الصبَا إن َ‬
‫نسيم َّ‬
‫َ‬
‫وأن غـ ـ ـ ـ ـرامـي فــوق ك ــل غ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام‬ ‫وبلِّ ْغهــم أنـي رهيــن صـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـةٍ‬
‫َ‬ ‫ُ ََ‬ ‫ُ‬
‫لَو َّ‬
‫أن جـفـ ـ ـ ـ ـ ــوين ُمتّـعــت مبنـ ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫وأين لَيكفيـين ط ــروق خيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلم ‬
‫ـوم لقاكـ ـ ــم َذ َاك فِطْـ ُـر صيـامي‬ ‫وي ُ‬ ‫وقد صمت عن لذات نفسـي كلِّهـ ا‬

‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ـالء ظـالمي‬ ‫لطرح حجـ ــايب واجن ـ ِ‬ ‫ـوم لَِقا ُكم يا ُمنـى القلب موعدي ‬
‫وي ُ‬
‫ودون العال حب ــر املهالك طـامي‬ ‫ال‬
‫ركضت جوادي قاصدا ذروة العـ ‬
‫رب أسعفـنــي وخ ــذ بِ ِزمــامي‬
‫فيا ِّ‬ ‫هتافت جهـ ــدي القتح ــام ِلـاجها ‬

‫‪83‬‬
‫اإلحسان‬

‫أخذ العلم عن أهله‬


‫ب الْ َفلَ ِق ِمن َش ِّر‬‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬قُ ْل أَعُوذُ بَِر ِّ‬
‫ات فِي الْعُ َق ِد‬ ‫اس ٍق إِ َذا وقَب وِمن َش ِّر النـََّّفاثَ ِ‬
‫ما َخلَ َق وِمن َش ِّر غَ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َومن َش ِّر َحاسد إِ َذا َح َس َد﴾‪ .‬اللهم ربنا آتنا يف الدنيا حسنة ويف‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلخرة حسنة وقنا عذاب النار‪.‬‬

‫ورث أهل العلم من علوم النبوة‪ ،‬وورث أهل التقوى من فيض النبوة‪،‬‬
‫وص َدٌر‪ .‬فمن حسن السمع أن نُ ِلق َي االنتباه إىل ما يقوله‬
‫لكل م ْشرب َوِوْرٌد َ‬
‫ٍّ‬
‫العلماء‪ .‬فإن كانت األمثلة العديدة اليت سقتها يف الفصل األول من هذا‬
‫الكتاب لفقيه وعامل يَنقاد لشيخ مرب‪ ،‬ويسمع ويطيع‪ ،‬ويتتلمذ‪ ،‬مل تكف‬
‫إليقافك للعربة‪ ،‬فامسع األصوات الفاصلة‪.‬‬
‫قال سيدنا عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬يوصيك باستثبات األحوال‪:‬‬
‫"ال يزال الناس صاحلني ما أخذوا العلم عن أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ومن أكابرهم‪ .‬فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا"‪ .‬رواه الطرباين بإسناد صحيح‪.‬‬
‫األكابر هم أكابر العِلم والتقوى‪ ،‬عظيمو احلظ من اهلل‪ ،‬واألصاغر‬
‫أصاغر العلم والتقوى واحلظ من اهلل وإن عال هبم السن وتقدم هبم الزمان‪.‬‬
‫وسيدنا عبد اهلل بن مسعود من أكابر علماء الصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫تنفع فيها‬
‫ويقول اإلمام أبو حامد الغزايل يف إحيائه‪" :‬وأما اآلخرة فال ُ‬
‫فن الفقيه‪ .‬وإن‬
‫األموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخالصها‪ .‬وليس ذلك من ّ‬

‫‪84‬‬
‫اإلحسان‬

‫خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض يف الكالم والطب‪ ،‬وكان خارجا عن‬
‫فنه"‪ 1.‬وذكر أن حكم الفقيه على صالة الغافل الذي حيسب معامالته يف‬
‫السوق أثناء الصالة بالصحة حكم على ظواهر األمور‪ .‬قال‪" :‬فأما اخلشوع‬
‫وإحضار القلب الذي هو عمل اآلخرة وبه ينفع العمل الظاهر ال يتعرض له‬
‫الفقيه‪ .‬ولو تعرض له لكان خارجا عن فنه"‪ .‬وقال‪" :‬فإن تكلم يف ٍ‬
‫شيء من‬
‫صفات القلب وأحكام اآلخرة فذلك يدخل يف كالمه على سبيل التطفل"‪.‬‬
‫وأخريا َوضع اإلمام الغزايل فقه الفقيه وربانية املريب يف مكاهنما فقال‪" :‬علم الفقه‬
‫ُمَا ِوٌر لعلم طريق اآلخرة ألنه نظر يف أعمال اجلوارح‪ ،‬ومصدر أعمال اجلوارح‬
‫نش ُؤها صفات القلوب"‪.‬‬ ‫وم َ‬
‫َ‬
‫ضعفوا حديث "العلماء ورثة األنبياء"‪ ،‬لكن هناك حديث‪" :‬العلماء أمناء‬
‫الرسل" وإسناده حسن‪ .‬قال املناوي‪" :‬هناك أربعون حديثا تقوي هذا املعىن"‪.‬‬
‫تفرد احملدثون رضي اهلل عنهم بالنصيب الوافر من أمانة الرسالة وتفرد الفقهاء‬
‫باألحكام‪ ،‬وختصص مشايخ الرتبية يف القلوب وعالجها وتوجيه سريها إىل اهلل‪.‬‬
‫مل يكن يف عهد النبوة انصداع يف األمر‪ ،‬فالرسول صلى اهلل عليه وسلم هو املرجع‬
‫والطبيب واألمري‪ ،‬والوحي ينزل‪ ،‬وتَسليم الصحابة أنفسهم هلل ورسولهكان تسليما‬
‫كامال‪ .‬من بعد عهد الصحابة عامت سحابات الفلسفة ودخن الفتنة فغطت على‬
‫اجلالء األول‪ ،‬وترجمكل فريق من أمناء الرسالة وورثتها عما عنده من علم‪ ،‬وخاض‬
‫كل فريق يف طائفة العلم اليت ختصص فيها إىل درجة االستغراق‪.‬‬
‫وشم طيب النبوة‬‫تاح‪َّ ،‬‬ ‫فمن أدركته العناية اإلهلية مسع الكرباء الرتامجة ِ‬
‫بانف ٍ‬
‫وش َام نورها‪ .‬وأقوى ما وجد الواجدون النسمات النبوية املنعشة عند أطباء‬
‫َ‬
‫القلوب‪ .‬فيذهب أمثال الغزايل عند "متبوع مقدم" للسماع والتلمذة‪ .‬ومتنع‬
‫‪ 1‬ج ‪ 1‬ص ‪.17‬‬

‫‪85‬‬
‫اإلحسان‬

‫اآلخرين األنانية عن السماع من أهل "الفن"‪ ،‬أو مينعهم حتجر على العادة‪،‬‬
‫أو ختشب على ذهنية جتزيئية سطحية حرفية‪.‬‬
‫كان الغزايل فقيها أصوليا متَكلما ذا حظوة يف بالط نظام امللك وزير‬
‫اخلروج لسؤال‬
‫السلطنة السلجوقية القوية‪ .‬ما صده جاهه العريض وعلمه عن ُ‬
‫األكابر واألخذ عنهم‪.‬‬
‫كبري آخر من الفقهاء األصوليني يديل بنصيحته إلينا يف اتباع العلماء‬
‫واألخذ عنهم‪ .‬هو اإلمام الشاطيب ذو العلم الواسع والفهم اجلامع واالستنباط‬
‫الرائع‪ .‬مل يكن من أهل "فن" الرتبية‪ ،‬لكنه كان يسلم للقوم ويعترب الصادقني‬
‫يقبض العلم انتزاعا ينتزعه‬
‫كل االعتبار‪ .‬أورد احلديث الشريف‪" :‬إن اهلل ال ُ‬
‫من الناس‪ ،‬ولكن يقبضه بقبض العلماء"‪ .‬احلديث‪ .‬مث قال‪" :‬فإذا كان كذلك‬
‫فالرجال هم مفاتيحه بال شك‪ .‬فإذا تقرر هذا فال يوخذ (العلم) إال ممن حتقق‬
‫به‪ .‬وهذا أيضا واضح يف نفسه متفق عليه بني العقالء‪ .‬إذ من شروطهم يف‬
‫‪1‬‬
‫العامل‪ ،‬بأي علم اتفق‪ ،‬أن يكون عارفا بأصوله وما ينبين عليه ذلك العلم"‪.‬‬
‫وذكر من شروط العامل املتحقق‪" :‬أن يكون ممن رباه الشيوخ يف ذلك العلم‪،‬‬
‫ألخذه عنهم ومالزمته هلم"‪ 2.‬هذا يقال ملن يقرأون يف الصحف واجملالت‬
‫والكتب اجلليلة بال فهم‪ ،‬مل يرهبم الشيوخ ومل يأخذوا إال عن قال وقيل‪،‬‬
‫ومل يلزموا األكابر‪ ،‬ففاتتهم الفوائد‪ .‬بل فاتتهم الدنيا واآلخرة ملا فاهتم العلم‬
‫يأخذونه من أهله‪.‬‬
‫وذكر اإلمام الشاطيب فوائد صحبة العلماء ومالزمتهم وقال‪" :‬فهذا من فوائد‬
‫املالزمة واالنقياد للعلماء والصرب عليهم يف مواطن اإلشكال حىت الح الربهان‬

‫‪ 1‬املوافقات ج ‪ 1‬ص ‪.53‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.54‬‬

‫‪86‬‬
‫اإلحسان‬

‫للعيان‪ .‬وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفني‪ :‬أيها الناس اهتموا رأيكم‪،‬‬
‫فواهلل لقد رأيتين يوم أيب َجندل (قصته معروفة يف صلح احلديبية ملا ظن بعض‬
‫الصحابة أن شروط الصلح جمحفة باملسلمني)‪ ،‬ولو أين أستطيع أن أرد أمر‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لرددته‪ .‬وإمنا قال ذلك ملا عرض هلم فيه‬
‫(أي يف أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم برد أيب جندل إىل املشركني)‬
‫من اإلشكال‪ .‬وإمنا نزلت سورة الفتح بعدما خالطهم احلزن والكآبة لشدة‬
‫اإلشكال عليهم‪ ،‬والتباس األمر‪ .‬ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حىت نزل‬
‫القرآن فزال اإلشكال وااللتباس‪ ،‬وصار مثل ذلك أصال ملن بعدهم (أي‬
‫الصحابة)‪ .‬فالتزم التابعون يف (صحبة) الصحابة سريهتم مع النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم حىت فقهوا ونالوا ذروة الكمال يف العلوم الشرعية‪ .‬وحسبك من‬
‫صحة هذه القاعدة (أي تلقي جيل عن جيل باملالزمة والصحبة واألخذ‬
‫والصرب) أنك ال جتد عاملا اشتهر يف الناس األخذ عنه إال وله قدوة اشتهر‬
‫‪1‬‬
‫يف قرنه مبثل ذلك"‪.‬‬
‫ومما ينكره بعض املتلَ ّفعني يف رداء أنانيتهم ويرفضونه أن يكون تسلسل‬
‫مشيخة يف علم القلوب وفن الفطرة وأدب الرتبية والتزكية املسمى يف االصطالح‬
‫تصوفا‪ .‬ينقصهم صرب أمثال الغزايل وانقياده لألمناء‪ .‬من الشروط اليت وضعها‬
‫الشاطيب يف اعتبار أهلية العامل‪" :‬االقتداء مبن أخذ عنه‪ ،‬والتأدب بآدابه‪،‬‬
‫كما علمت من اقتداء الصحابة بالنيب صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬واقتداء التابعني‬
‫قرن"‪ 2.‬ويذكر كيف حيصل العلم والربكة حبضرة‬ ‫بالصحابة‪ ،‬وهكذا يف كل ٍ‬
‫الشيخ‪" :‬وقد حيصل بأمر غري معتاد‪ .‬ولكن بأمر يهبه اهلل للمتعلم عند مثوله‬

‫‪ 1‬املوافقات ج ‪ 1‬ص ‪.55 - 54‬‬


‫‪ 2‬املوافقات ج ‪ 1‬ص ‪.55‬‬

‫‪87‬‬
‫اإلحسان‬

‫بني يدي املعلم ظاهر الفقر‪ ،‬بادي احلاجة إىل ما يلقى إليه"‪ .‬وهذا ليس ينكر‪،‬‬
‫فقد نبه عليه احلديث الذي جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وذكر رمحه اهلل أن العلوم حتصل مبشافهة العلماء‪" ،‬ومفاتيحه بأيدي‬
‫الرجال‪ ،‬والكتب ال تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء"‪.‬‬
‫وذكر رمحه اهلل أن اإلعراض عن الكرباء‪ ،‬واالعرتاض عليهم‪ ،‬واألنفة من‬
‫االنقياد هلم سبب للحرمان والعياذ باهلل‪ .‬قال‪" :‬عُ ِهد بالتجربة أن االعرتاض‬
‫على الكرباء قاض بامتناع الفائدة‪ ،‬مبعد بني الشيخ والتلميذ‪ ،‬والسيما عند‬
‫‪1‬‬
‫الصوفية‪ ،‬فإنه عندهم الداء األكرب"‪.‬‬
‫ننتقل اآلن إىل أحد عظماء اإلسالم وكرباء األمة يف عصرنا يديل بشهادته‬
‫يف املوضوع‪ .‬قال اإلمام حسن البنا رمحه اهلل‪" :‬وظللت معلق القلب بالشيخ‬
‫(احلصايف) رمحه اهلل (‪ )...‬وواظبت على احلضرة يف مسجد التوبة يف كل ليلة‪.‬‬
‫وسألت عن مقدم اإلخوان فعرفت أنه الرجل الصاحل التقي الشيخ بسيوين‬
‫العبد التاجر‪ ،‬فرجوته أن يأذن يل بأخذ العهد عليه ففعل"‪ 2 .‬مث التقى بشيخ‬
‫الطريقة احلصافية الشيخ عبد الوهاب‪ ،‬فيقول عنه‪" :‬وجزى اهلل عنا الشيخ عبد‬
‫الوهاب خري اجلزاء‪ ،‬قد أفادتين صحبته أعظم الفائدة"‪.‬‬
‫ولإلمام البنا رمحه اهلل "رأي يف التصوف" نرجع إليه إن شاء اهلل‪ ،‬فشهادة‬
‫أمثاله من الكرباء هلا األمهية القصوى‪.‬‬
‫التقى بالبنا يف بداياته صويف اشتهر يف سوريا وكان علَما فيما بعد‪ .‬هو الشيخ‬

‫‪ 1‬املوافقات ج ‪ 4‬ص ‪.221‬‬


‫‪ 2‬مذكرات الدعوة والداعية ص ‪.14 - 13‬‬

‫‪88‬‬
‫اإلحسان‬

‫حممد احلامد رمحه اهلل‪ .‬وشهد احلامد يف البنا شهادة تكشف وجها لدعوة‬
‫اإلمام طاملا غطى عليه صيت اإلخوان املسلمني الواسع يف كل ميدان‪ .‬هذا‬
‫الوجه هو الوجه الرباين الصويف‪ ،‬ويا للمصطلحات! قال الشيخ احلامد‪" :‬إين‬
‫أقوهلا كلمة حرة‪ ،‬وال بأس بروايتها عين‪ .‬أقول‪ :‬إن املسلمني مل يروا مثل حسن‬
‫البنا منذ مئات السنني يف جمموع الصفات اليت حتلى هبا وخفقت أعالمها‬
‫على رأسه الشريف‪ .‬ال أنكر إرشاد املرشدين‪ ،‬وعلم العاملني‪ ،‬ومعرفة العارفني‪،‬‬
‫وحنكة السائسني‪ .‬ال أنكر هذا‬ ‫وبالغة اخلطباء والكاتبني‪ ،‬وتدبري املدبرين‪ُ ،‬‬
‫كله عليهم‪ ،‬من سابقني والحقني‪ ،‬لكن هذا التجمع هلذه املتفرقات من‬
‫‪1‬‬
‫الكماالت قلما ظفر به أحد كاإلمام الشهيد رمحه اهلل"‪.‬‬
‫يف زماننا قل من جيسر على ذكر الصوفية والصحبة والذكر واملعرفة‬
‫والكرامات واالنقياد للمشايخ‪ .‬إال أن يكون الدكتور عبد اهلل عزام الذي يكتب‬
‫عن كرامات أولياء اهلل اجملاهدين يف أفغانستان‪ ،‬أو يكون الفارس املعلم الشيخ‬
‫عبد احلميدكشككثر اهلل من أمثاله‪ ،‬أو الشيخ عبد اهلل علوان يفكتبه رمحه اهلل‪.‬‬
‫من القلة‪ ،‬بل أبرزهم‪ ،‬الشيخ األستاذ أبو احلسن النّ ْدوي‪ ،‬هذا احلكيم‬
‫من بني احلكماء يعاجل موضوع الرتبية والتزكية وهو يف وضع َحرِج من جراء‬
‫احلرفيون الذين ال يسمعون إال من‬
‫نشاطاته الواسعة وخمالطته لطوائف منهم ْ‬
‫جهة واحدة‪ ،‬و«فن» واحد‪ ،‬وتعصب واحد‪ .‬فهو ال يستعمل لفظ تصوف‬
‫لكن يقول‪" :‬تزكية"‪.‬‬
‫كتب الشيخ الندوي عن فن التصوف يف تاريخ املسلمني يقول‪" :‬قيض اهلل‬
‫للمسلمني يف كل عصر وجيل من ينفون عن هذا الدين "حتريف الغالني وانتحال‬

‫‪ 1‬العالمة اجملاهد الشيخ حممد احلامد ص ‪.33‬‬

‫‪89‬‬
‫اإلحسان‬

‫املبطلني وتأويل اجلاهلني"‪ ،‬ويدعون إىل التزكية اخلالصة من شوائب العجمية‬


‫والفلسفة‪ ،‬وإىل "اإلحسان" و"فقه الباطن" من غري حتريف وانتحال وتأويل‪.‬‬
‫وي ّددون هذا الطب النبوي لكل عصر‪ .‬وينفخون يف األمة روحا جديدة من‬ ‫ُ‬
‫اإلميان واإلحسان‪ ،‬وجيددون صلة القلوب باهلل‪ ،‬واألجسام باألرواح‪ ،‬واجملتمع‬
‫ويوجدون يف اجلمهور قُوة مقاومة الشهوات‪،‬‬ ‫باألخالق‪ ،‬والعلماء بالربانية‪ِ .‬‬
‫وفتنة املال والولد‪ ،‬وزينة احلياة الدنيا‪ ،‬ويف اخلواص قوة مقاومة صالت امللوك‬
‫وسياطهم‪ ،‬ووعدهم ووعيدهم‪ ،‬واجلرأة على اجلهر بكلمة حق عند سلطان‬
‫جائر‪ ،‬واالحتساب على امللوك واألمراء‪ ،‬واالستهانة باملظاهر والزخارف‪،‬‬
‫والقناعة باليسري‪ .‬فيستطيع أحدهم أن يقول ‪-‬وقد طلب إليه أن يقبل يد‬
‫ملك بالده لريضى عنه‪ :-‬يا مسكني! واهلل ما أرضاه أن يقبل يدي فضال عن‬
‫أن أقبل يده! يا قوم أنتم يف واد وأنا يف واد! "‪.‬‬
‫‪2 1‬‬

‫ومن الراسخني يف العلم من أكابر الدعاة الشيخ الدكتور سعيد رمضان‬


‫البوطي نفع اهلل به ينصح هلذه األجيال اإلسالمية الصاحية املباركة‪ 3.‬يقول يف‬
‫مقال عنوانه‪" :‬موقف ابن تيمية من ابن عريب"‪" :‬صفوة القول‪ :‬غياب التصوف‬
‫هو املسؤول عن جل مشكالتنا اليوم‪ .‬بل هو املسؤول أيضا عن البدع واالحنرافات‬
‫اليت تسللت إىل جوهر التصوف وحقيقته‪ .‬فلو أن النفوس ُزكيت وتطهرت من‬
‫أهوائها ورعونتها وعصبيتها ‪-‬وهذا هو لب التصوف ومعناه‪ -‬ملا حتول التصوف‬
‫عند أرباب هذه النفوس إىل مطية لشهرة‪ ،‬أو حرفة ملال‪ ،‬أو إطار ألهبة‪ ،‬أو‬

‫‪ 1‬قاهلا سلطان العلماء عز الدين بن عبد السالم ص (‪660‬هـ)‪.‬‬


‫‪ 2‬ربانية ال رهبانية ص ‪.17 - 16‬‬
‫‪ 3‬أما موقفه ال ُـمصانِع للطاغوت النصريي فينبغي أن يـُْفهم يف اإلطار التارخيي ملواقف علمائنا إزاء الطواغيت‬
‫املتسلطني‪ ،‬يدرؤون فتنة أعظم بفتنة أقل ضررا‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫اإلحسان‬

‫خندق حملاربة العلم واالنضباط بقيوده وأحكامه‪ .‬لو زكيت النفوس‪ ،‬كما أمر‬
‫اهلل يف حمكم تبيانه‪ ،‬ملا مزق املسلمون أنفسهم فئات ومجاعات‪ ،‬مث اهنالت كل‬
‫مجاعة على األخرى توسعها انتقاصا وشتما وتكفريا يف كثري من األحيان (‪.)...‬‬
‫والشباب املسلم الذي يتكاثر بفضل اهلل يف كل بقعة من أرضه الواسعة يظل‬
‫أسَُو على‬
‫يسأل‪ ،‬حتت إحلاح فطرته اإلسالمية الظامئة‪ :‬كيف السبيل إىل أن ْ‬
‫األزمنة العصيبة وسط هذه املغريات املتأججة؟(…)‪.‬‬ ‫نـَْفسي وأهوائها يف هذه ْ‬
‫نعم إنكم لتعلمون أيّها السادة أن الشباب املسلم الظامىء يظل يَ ْسأل هذه‬
‫األسئلة‪ ،‬وال من جميب‪ ،‬ألن الذين عليهم أن جييبوا منهمكون يف مالحقة البدع‬
‫والسعي للقضاء عليها‪ .)…( .‬إننا ال نعدو احلقيقة عندما نقول‪ :‬إن جل‬
‫مشكالت جمتمعاتنا اإلسالمية اليوم إمنا يكمن يف غياب هذه الرتبية الوجدانية‬
‫‪1‬‬
‫اليت هي العمود الفقري يف جوهر اإلسالم"‪.‬‬
‫شباب يسأل وال من جميب‪ ،‬وصمت مطبق ‪-‬كان‪ ،-‬و"إرهاب فكري"‪.‬‬
‫وقد خرق هذا الصمت واحد من أبرز الدعاة‪ ،‬هو الشيخ سعيد حوى غفر‬
‫بعد‬
‫اهلل لنا وله‪ ،‬فقد شن محلة تكفريية شعواء على املسلمني الشيعة‪ .‬وتويف ُ‬
‫رمحه اهلل وجتاوز عنا وعنه‪.‬‬
‫ميثل الشيخ سعيد أسعده اهلل معلمة بارزة يف فكر اإلخوان املسلمني‪ ،‬وميثل‬
‫رجوعه إىل علم التصوف يف كتاباته األخرية حتوال نوعيا يف هذا التفكري‪ .‬أخربه‬
‫شيخه حممد احلامد رمحه اهلل أن اإلمام البنا كان يدرس حكم ابن عطاء اهلل‪،‬‬
‫صائه‪ .‬وعكف الشيخ سعيد على التأليف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وهي من نفائس الكالم‪ ،‬لقلة من أخ ّ‬
‫فأنشأَ يف علم التصوف ُكتبا يدرك أهل الفن والذوق أهنا فقه تربكي مبعزل عن‬

‫‪ 1‬جملة "منار اإلسالم" رمضان ‪ 1408‬ص ‪ 103‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫اإلحسان‬

‫معاين السلوك والوصول واملعرفة‪ .‬والرجل صادق يف دعوته اللتزام وظيفة البنا‪،‬‬
‫واحملافظة على الذكر رجاء "إحياء الربانية"‪ .‬ويقرتح ترتيبا "جلمعية الربانيني"‬
‫حىت خترج الربانية من "عفويتها" ويستفيد منها اجليل اإلسالمي ِ‬
‫احلاضر الذي‬
‫يصفه‪ ،‬وهو أعرف الناس به‪ ،‬باخلواء الروحي‪.‬‬
‫ليست الربانية اجتهادا وحتصيال وشهادات وإجازات‪ ،‬بل هي وهب‬
‫كيف تعرف العارفني باهلل إن مل تكن واحدا منهم؟‬
‫إهلي وعطاء ومنة‪ .‬و ْ‬
‫قال الصويف املشتاق‪:‬‬

‫ويف الليل يدعوين اهلوى فأجيب‬ ‫ ‬


‫أحن بأطراف النهــار صـبــابة‬
‫كأن زمان الشـوق ليـس يغـيــب‬ ‫ ‬
‫وأيامنـا تفـىن وشــوقـ َـي زائ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫وقال الصويف املفتت الكبد‪:‬‬

‫مبَ ْش َع ــره بالرك ــن بالبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــركــات‬ ‫بزمزم باألركان باحلِ ْجـ ِر بالص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ا‬
‫صـب َحجيـج اهلل باجلمـ ـرات‬ ‫حبَ ْ‬ ‫حبجاج بيت اهلل من كل ج ـ ـ ــانـب ‬
‫ـت باحلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرات‬ ‫فلي كـبــد تْنـ َفـ ُّ‬ ‫الصد واجلفا ‬ ‫ِأج ْرين من اإلعراض و َّ‬

‫وقلت غفر اهلل يل وأجارين‪:‬‬

‫ ت ـ ُّـن لذاك الـرب ــع باجلـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ِ‬


‫ات‬ ‫َِ‬ ‫ويل َكبِ ـ ـ ٌد تـَْنفـَ ُّ‬
‫ـت باحلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرات‬
‫َ‬
‫وأركب مت البحر يف الغَم ـر ِ‬
‫ات‬ ‫ـف الفال ‬ ‫ويلهبين شوقي أل ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ََْ‬ ‫َعتَسـ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫رب أدرْكــين أقــل َعـثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراتـي‬‫فيا ِّ‬ ‫صَّرم عمري والطـ ـريق طويلـ ـ ـ ـ ـ ةٌ‬ ‫تَ َ‬

‫‪92‬‬
‫اإلحسان‬

‫فال اقتحم العقبة!‬

‫َّاس َملِ ِك الن ِ‬


‫َّاس‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬قُ ْل أَعُوذُ بَِر ِّ‬
‫ب الن ِ‬
‫ص ُدوِر الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫س في ُ‬
‫َّاس الَّ ِذي يـوس ِو ِ‬
‫َُ ْ ُ‬ ‫َّاس ِمن َش ِّر ال َْو ْس َو ِ‬
‫اس الْ َخن ِ‬ ‫إِلَ ِه الن ِ‬
‫َّاس﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من اهلم واحلزن‪ ،‬ومن العجز‬ ‫ِم َن ال ِْجن َِّة َو الن ِ‬
‫والكسل‪ ،‬ومن اجلنب والبخل‪ ،‬ومن غلبة الدين وقهر الرجال‪.‬‬

‫ال ميلك الوليد أن يُصم مسعه الغامض الفطري عن مساع كلمة التوحيد‬
‫ين ب ُق ّوته وعلمه‬
‫والبشارة بالنبوة والرسالة وذكر جالل اهلل‪ .‬لكن الكبري املست ْغ َ‬
‫ال يتواضع وال يستسلم وال جيلس أمام من يسمعه كالم اهلل وحديث اآلخرة‬
‫بذلك االستعداد للتلقي وتلك الفاقة اليت حتدث عنها الشاطيب‪.‬‬
‫الكينونة مع املؤمنني كينونة الصحبة‬
‫عقبات حتول دون اإلنسان ودون ْ‬
‫والتلمذة والتعاون وااللتحام واجلهاد‪.‬‬
‫قال اهلل عز وجل يهيب باإلنسان القتحام العقبة‪ ،‬وهو نداء للفطرة‪﴿ :‬ل َق ْد‬
‫ت َماالً لُّبَداً‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ول أ َْهلَ ْك ُ‬ ‫َح ٌد يـَُق ُ‬ ‫ب أَن لَّن يـَْقد َر َعلَْيه أ َ‬ ‫س ُ‬ ‫نسا َن في َكبَد أَيَ ْح َ‬ ‫ال َ‬ ‫َخلَ ْقنَا ِْ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َّج َديْ ِن‬
‫ساناً َو َش َفتـَْي ِن َو َه َديـْنَاهُ الن ْ‬ ‫ب أَن لَّ ْم يـََرهُ أ َ‬
‫َح ٌد أَلَ ْم نَ ْج َعل لهُ َعيـْنـَْي ِن َول َ‬ ‫س ُ‬ ‫أَيَ ْح َ‬
‫ك َرقـَبَ ٍة أ َْو إِط َْع ٌام فِي يـَْوٍم ِذي َم ْسغَبَ ٍة‬ ‫اك َما ال َْع َقبَةُ فَ ُّ‬
‫فَ َل اقـْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ َوَما أَ ْد َر َ‬
‫اص ْوا بِ َّ‬
‫الص ْب ِر‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا َوتـََو َ‬ ‫ين َ‬ ‫يَتيماً َذا َم ْق َربَة أ َْو م ْسكيناً َذا َمتـَْربَة ثُ َّم َكا َن م َن الذ َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫اص ْوا بِال َْم ْر َح َم ِة أ ُْولَئِ َ‬
‫اب‬
‫َص َح ُ‬ ‫ين َك َف ُروا بِآيَاتِنَا ُه ْم أ ْ‬ ‫اب ال َْم ْي َمنَة َوالذ َ‬‫َص َح ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫َوتـََو َ‬

‫‪93‬‬
‫اإلحسان‬

‫ِ‬
‫ال َْم ْشأ ََمة َعلَْي ِه ْم نَ ٌار ُّم ْؤ َ‬
‫ص َدةٌ﴾‪ 1.‬اللهم أجرنا من النار‪.‬‬
‫عقبات تثبط اإلنسان عن اقتحام العقبة اإلميانية‪ ،‬وعقبات ْأوعر تعوقه‬
‫عن االرتقاء يف اإلحسان‪ .‬عقبات من تعلق نفسه بالدنيا‪ ،‬باملال‪ ،‬باجلاه الذي‬
‫يصرفه عن املرمحة‪ ،‬باألنانية اليت جتعله يستكرب عن الدخول يف حصن اجلماعة‬
‫يسمع النصيحة‪ ،‬غافال عن ربه‪ ،‬عن خملوقيته‪ ،‬حيسب أن أحدا ال يراه‪ ،‬ناسيا‬
‫أن الذي برأه وجعل له لسانا وشفتني ديَّان‪.‬‬
‫شيطنة النفس‪ ،‬وشيطنة الوسواس اخلناس من اجلنة والناس‪ ،‬وفتنة الدنيا‪،‬‬
‫جمتمعةً عقبة يف أنفس البشر ويف آفاق الكون‪ .‬وطب القلوب يعاجل‬ ‫تشكل ِ‬
‫األنفس لِينزع منها بالرتبية‪ ،‬أي بالصحبة والذكر واملالزمة والعبادة‪ ،‬تلك‬
‫احلظوظ الدنيئة‪ ،‬ويرفعها ويرقيها يف سلم اإلحسان‪.‬‬
‫غ السادة الصوفية الطيبو األنفاس عن الفتنة اآلفاقية باخلروج عن‬
‫را َ‬
‫اجملتمع والزهد يف الدنيا ليتجنبوا عويصات الطريق‪ .‬وهم بذلك نزلوا عن‬
‫مستوى الصحابة الذين خاضوا اجلهاد على كل اجلبهات‪ ،‬فاستحقوا بذلك‬
‫أعلى الدرجات‪.‬‬
‫يف هذا الكتاب لست أدعو األجيال املقبلة للتصوف! وإن كانت الرتبية‬
‫الصوفية هي اليت احتفظت جبوهر األمر كله‪ ،‬بل أدعو إىل اقتحام العقبة اليت‬
‫ِ‬
‫احندر منها الصوفيَّة الكرام عن ذلك األفق العايل اجلهادي الذي حترك يف ذُراهُ‬
‫الصحابة اجملاهدون‪ ،‬نالوا باجلهاد املزدوج‪ ،‬اجلهاد اآلفاقي واألنفسي درجة‬
‫الكمال‪ .‬ومجعوا إىل نورانية القلوب املتطهرة محل األمانة الرسالية إىل العامل‪.‬‬
‫وبذلك حلقوا مبقعد الصدق‪.‬‬

‫‪ 1‬البلد‬

‫‪94‬‬
‫اإلحسان‬

‫ليكن هذا واضحا‪ .‬وليكن واضحا أن احلديث عن جتاوز الصوفية دون‬


‫اإلسَراج من مشكاهتم املطهرة إمنا هو ضرب من اخليَال‪.‬‬ ‫االقتباس من نورهم و ْ‬
‫فهم كانوا واليزالون‪ ،‬الصادقني منهم وال ُك ّمل‪ ،‬املتحلني بزينة القلوب‪ ،‬املرتفقني‬
‫من الزاد النبوي‪.‬‬
‫حتدث األكابر الصوفية رضي اهلل عنهم عن العقبات اليت تقتحم يف‬
‫طريق السالك‪ ،‬وذكروا شروط االقتحام‪ .‬مل يتعرضوا لشيء من سلوك الصحابة‬
‫اجلهادي لغياب أسباب اجلهاد وشروطه ووقته يف حيواهتم املكرمة‪.‬‬
‫قال اإلمام أبو حامد‪" :‬إمنا سلوكه (أي املريد) بقطع العقبات وال عقبة‬
‫على طريق اهلل تعاىل إال صفات القلب اليت سببها االلتفات إىل الدنيا‪ .‬وبعض‬
‫تلك العقبات أعظم من بعض‪ .‬والرتتيب يف قطعها أن ي ْشتغل باألسهل‬
‫فاألسهل"‪ 1.‬وذكر اجملاهدة النفسية الالزمة وهي‪" :‬مضادة الشهوات وخمالفة‬
‫اهلوى يف كل صفة غالبة على نفس املريد"‪ ،‬حىت ال يبقى يف قلبه عالقة‬
‫تشغله‪ .‬وعندئد ينصرف إىل الذكر ومالزمة األوراد والعبادة حىت يتجرد قلبه‬
‫من كل العالئق‪ ،‬ويستويل عليه حب اهلل تعاىل "حىت يكون يف صورة العاشق‬
‫املستهرت"‪ .‬كل ذلك حتت نظر الشيخ وتوجيهه‪.‬‬
‫ونقرأ عند كبري آخر من أكابر اإلسالم‪ ،‬وهو عز الدين بن عبد السالم‬
‫سلطان العلماء ومفخرهتم‪ ،‬وصفا للعقبات وختطيها‪ ،‬ينظر إىل العقبات وما وراءها‬
‫نظرة ال تكاد ختتلف عن نظرة أيب حامد وإن كان يفصل بينهما قرن ونصف‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪" :‬إنك ال تصل إىل منازل القربات حىت تقطع ست عقبات‪ :‬فطم‬
‫اجلوارح عن املخالفات الشرعية‪ ،‬فطم النفس عن املألوفات العادية‪ ،‬فطم القلب‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج ‪ 3‬ص ‪.66‬‬

‫‪95‬‬
‫اإلحسان‬

‫عن الرعونات البشرية‪ ،‬فطم السر عن الكدورات الطبيعية‪ ،‬فطم الروح عن‬
‫التجارب احلسية‪ ،‬فطم العقل عن اخلياالت الومهية‪ .‬فتشرف من العقبة األوىل‬
‫على علم ينابيع احلكم القلبية‪ ،‬وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم الدينية‪،‬‬
‫ويلوح لك يف العقبة الثالثة أعالم املناجاة امللكوتية‪ ،‬ويلمع لك يف العقبة الرابعة‬
‫أنوار أعالم املنازالت القربية‪ ،‬ويطلع لك يف العقبة اخلامسة أقمار املشاهدات‬
‫احلبية‪ ،‬وهتبط من العقبة السادسة على رياض احلضرة القدسية"‪.‬‬
‫"فهناك تغيب مبا تشاهد من اللطائف األنسية‪ ،‬عن الكثائف‬ ‫قال‪ُ :‬‬
‫احلِسية‪ .‬فإذا أرادك اهلل خلصوصية االصطفائية سقاك بكأس حمبته شربة تزداد‬
‫‪1‬‬
‫بذلك ظمأ‪ ،‬وبالذوق شوقا‪ ،‬وبالقرب طلبا‪ ،‬وبالسكوت قلقا"‪.‬‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬كم لوحوا لك بلطيف العبارات ومجيل اإلشارات كي ال‬
‫يكون لك لَبث مع غري اهلل لكن رقدة الغفالت واللذات الفانيات تُربم أمر‬
‫العاجز وتنقض‪ ،‬ال إرادة له‪ ،‬نفسه حرباء تتلون بظواهر الكون وبواطنه‪ ،‬وعقله‬
‫عقال‪ ،‬وومهه زمام‪ ،‬فأىن له الفطام!‬
‫نتخطى قرنا آخر من الزمان فنجلس إىل كبري آخر من أكابرنا هو شيخ‬
‫اإلسالم ابن القيم‪ .‬قال يف العقبات حيذر السالك من عدوه اللدود الشيطان املكلف‬
‫به‪" :‬فإنه يريد أن يظفر به يف عقبة من سبع عقبات‪ ،‬بعضها أصعب من بعض‪ ،‬ال‬
‫ينزل منه من العقبة الشاقة إىل ما دوهنا إال إذا عجز عن الظفر به فيها‪ .‬العقبة األوىل‬
‫عقبة الكفر باهلل وبدينه ولقائه وبصفاتكماله‪ ،‬ومبا أخربت به رسله عنه‪،)...( .‬‬
‫العقبة الثانية وهي عقبة البدعة (‪ ،)...‬العقبة الثالثة وهي عقبة الكبائر (‪ ،)...‬العقبة‬
‫الرابعة وهي عقبة الصغائر (‪ ،)...‬العقبة اخلامسة وهي عقبة املباحات (‪ ،)...‬العقبة‬

‫‪ 1‬كتاب "بني الشريعة واحلقيقة" ص ‪.8‬‬

‫‪96‬‬
‫اإلحسان‬

‫السادسة وهي عقبة األعمال املرجوحة املفضولة من الطَّاعات"‪.‬‬


‫ومل يذكر رمحه اهلل العقبة السابعة‪ .‬قال بعد احلديث عن العقبة السادسة‪:‬‬
‫"وأيْن أصحاب هذه العقبة فهم األفراد يف العامل‪ ،‬واألكثرون قد ظفر هبم‬
‫(الشيطان) يف العقبات األ َُول‪ )...( ،‬وال يقطع هذه إال أهل البصائر والصدق‬
‫من أويل العلم‪ ،‬السائرين على جادة التوفيق‪ ،‬قد أنزلوا األعمال منازهلا‪ ،‬وأعطوا‬
‫‪1‬‬
‫كل ذي حق حقه"‪.‬‬
‫هذا سلوك جوارحي يركز على األعمال‪ ،‬وحماربة البدع والشيطان‪،‬‬
‫وحيذر من دنس العقيدة‪ .‬والعقبات يف سري الغزايل تتلخص يف حب الدنيا‬
‫و"االلتفات إليها"‪ ،‬االقتحام قليب أوال مث جوارحي بعد ذلك‪ .‬ونالحظ غياب‬
‫الشيخ وتوجيهه يف السري اجلوارحي عند ابن القيم رمحه اهلل‪ .‬ولنا معه ومع‬
‫شيخه َشيخ اإلسالم ابن تيمية رمحهما اهلل وقفات طويلة يف هذا الكتاب إن‬
‫شاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫كف وتكميم وضبط‪،‬‬ ‫إن الفطَامات الستة اليت وصفها اإلمام عز الدين ٌّ‬
‫ما يف عبارة "فطم" ما يوحي بفاعلية آفاقية‪ .‬والعجيب أن هذا الرجل الفذ‬
‫الذي كان يف عصره النجم الثاقب‪ ،‬تلقي صالبته يف احلق وفاعليته يف اجملتمع‬
‫الرعب يف قلوب امللوك‪ ،‬يصف السلوك الصويف وصفا سالبا فرديا نفسيا‪ ،‬كأن‬
‫الفصل الذي حدث بني الساحة العامة واخللوة التعبدية أصبح ضربة ال ِز ٍ‬
‫ب‪،‬‬
‫وكأن الكف والفطم عملية ال تتأتى بدون عزلة واعتزال‪.‬‬
‫يف مستقبل اإلسالم حنتاج لِقران "الفطم" الفردي األنفسي السلوكي‬
‫بالفاعلية اجلهادية‪ ،‬ليكون السلوك اإلحساين عمال مصرييا رائده الفردي عبادة‬
‫اهلل كأننا نراه‪ ،‬ورائده اجلماعي إتقان األعمال اجلماعية لتحقيق إسالم العدل يف‬
‫‪ 1‬مدارج السالكني ج ‪ 1‬ص ‪.222‬‬

‫‪97‬‬
‫اإلحسان‬

‫األرض وعمارهتا واخلالفة فيها‪ .‬ومن أهم العقبات يف طريق اإلحسانَني ترويض‬
‫العقل ليكون مستسلما هلل عز وجل وللنبوة‪ ،‬ويكون يف نفس احلركة فاعال يف‬
‫الكون السبيب‪.‬‬
‫إن الغزو الفكري اجلاهلي فكك العقل املسلم تفكيكا‪ ،‬وركبه تركيبة وثنية‪،‬‬
‫وفصله عن الوحي‪ .‬وإن إعادة تركيبه يف أحضان الوحي والنبوة والربانية شرط‬
‫أساسي يف قدرة األمة على اجلهاد‪ .‬وحدات العلوم الكونية اليت يتفوق علينا‬
‫فيها اجلاهليون وحدات مبعثرة‪ ،‬جمردة عن املعىن‪ ،‬متناقضة أحيانا‪ ،‬إحلادية‪،‬‬
‫منكرة للنبوة‪ ،‬تفسر احلياة والتاريخ والنظام الكوين تفسريا عبثيا‪ ،‬ال َخبـََر عندها‬
‫بسنة اهلل يف اإلنسان والتاريخ‪.‬‬
‫بداية الرتكيب العقلي للمسلمني البداية الصحيحة ينطلق من صلة العقل‬
‫بالقلب لنكون من أويل األلباب الذين يذكرون اهلل قياما وقعودا ويتفكرون‬
‫ُّ‬
‫تفكر اإلميان باهلل ورسله وكتبه واليوم اآلخر والقدر خريه وشره‪ .‬هذا الذكر‬
‫وهذا اإلميان مركز وحمور لكل أنشطة العقل وجزئيات العلوم‪ ،‬يلتزم العقل‬
‫توجيه الوحي‪ ،‬ويبقى العقل خادما ألوامر القلب املفعم حبب اهلل‪ ،‬القائم حبق‬
‫اهلل‪ ،‬الفاعل بإرادة قوية ال تتنكر لقدر اهلل‪ ،‬وال حتيد عن مقتضى سنة اهلل‪.‬‬
‫جيب أن نصل شرايني العقل بواردات القلب ليتمكن العقل املسلم من‬
‫كل أنواع القدرة العلمية والتكنولوجية واخلربة التنظيمية يف كل اجملاالت دون‬
‫أن يتنازل عن استقامته الفطرية‪.‬‬
‫إن الذي حيدث عند كثريين من الكتبة عن اإلسالم هو استعمال اللغة‬ ‫َّ‬
‫ترشح من‬
‫العقالنية الثقافية‪ ،‬من خالل عباراهتم البعيدة عن القرآن وبيان القرآن‪ .‬ال ُ‬
‫أقالمهم إال أفكار سطحية مادية اصطبغت على أصلها "احلضاري الثقايف العقالين"‬
‫بصبغة إسالمية شفافة‪ .‬إنه تلوث وحتد أمام الربانية لتعيد العقل املسلم إىل نصابه‪،‬‬

‫‪98‬‬
‫اإلحسان‬

‫ليتأصل هذا العقل يف القرآن والنبوة والربانية‪ ،‬مث ينصرف إىل مهماته مبنهاج قـُْرآين‬
‫يستقطب العلوم ويستكمل القوة‪ ،‬ال تستقطبه العقالنية فيصبح خادما يف حانوت‬
‫"احلضارة" يقرتح البدائل‪ ،‬وهم عن اآلخرة هم غافلون‪ .‬عقبات!‬

‫قال الصويف املفعم الفؤاد حبب اهلل ورسوله‪ ،‬املقرح القلب شوقا‪:‬‬

‫أزجــر دمعــي فيك وهو غزيــر‬ ‫أُقَلـِّ ُل ما يب فيــك ْ‬


‫وه َـو كثـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر و ُ‬
‫ـاضت حب ــور بعدهن بـح ــور‬ ‫وعندي دموع لو ب َك ْـيـت ببعضهـا لف َ‬
‫ى رجال هلم حتت الثيــاب قـ ـبــور‬ ‫قبور الورى حتت الرتاب وللهو ‬
‫سـأبكي بأجـفـان عليك ق ـريـ ـح ٍـة وأرنـو بأحلــاظ إليــك تـش ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــر‬

‫وقلت غفر اهلل يل َولوالدي ولل مؤمنني يوم يقوم احلساب‪:‬‬

‫ِّق يف اآلف ــاق أيـن أسـ ـ ـ ـ ــريُ؟‬ ‫أُحــد ُ‬ ‫وأرنو بأحلـ ـ ٍ‬


‫ـاظ إليك مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقـَ ة‬ ‫َ‬
‫وه َو َكسريُ‬ ‫ص ـ ْـرح العزم ْ‬
‫ض َ‬ ‫َويـَنـَْق ُّ‬ ‫فـَيـَْرتَ ُّد طريف حاسرا متح ـ ـ ـ ـ ـ ـس ـر اً‬
‫في ــا رب أي ـِّـدنا فأن ــت ُمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــريُ‬ ‫تراءى لنا هول الطريق مهـ ــدِّدا ‬

‫‪99‬‬
‫اإلحسان‬

‫اآلل والصحابة رضي اهلل عنهم‬

‫ك ِم ْن‬
‫ب أَعُوذُ بِ َ‬‫﴿وقُل َّر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ضر ِ‬ ‫الشي ِ‬
‫اطي ِن َوأَعُوذُ بِ َ‬ ‫ِ‬
‫ون﴾‪ .‬أعوذ بكلمات‬ ‫ب أَن يَ ْح ُ ُ‬
‫ك َر ِّ‬ ‫َه َم َزات َّ َ‬
‫اهلل التامات من شر ما أخاف وأحذر‪.‬‬

‫عقبات النفس والشيطان والدنيا والعقل‪ ،‬وفطم النفس عن الشهوات‪،‬‬


‫واقتحام العقبات‪ ،‬هل كان للصحابة رضي اهلل عنهم علم بكل هذا؟ أم هل‬
‫كانت مهماهتم اجلهادية وبساطتهم وقرهبم من الفطرة تسمح بالتفريع العلمي‬
‫والتفصيل؟ أم كل هذا بدعة وحرام وكفر؟‬
‫قال أحد أكابر األمة وفرساهنا املربزين شيخ اإلسالم ابن تيمية يف معرض‬
‫حديثه عن التقليد وفيما جيوز‪" :‬ال ريب أن كثريا من الناس حيتاج إىل تقليد‬
‫العلماء يف األمور العارضة اليت ال يستقل هو مبعرفتها‪ .‬ومن سالكي طريق اإلرادة‬
‫والعبادة والتصوف من جيعل شيخهُ كذلك‪ .‬بل قد جيعله كاملعصوم‪ ،‬وال يتلقى‬
‫سلوكه إال عنه‪ .‬وال يتلقى عن الرسول سلوكه‪ ،‬مع أن تلقي السلوك عن الرسول‬
‫أسهل من تلقي الفروع املتنازع عليها‪ .‬فإن السلوك هو بالطريق اليت أمر اهلل هبا‬
‫ورسوله من االعتقادات والعبادات واألخالق‪ .‬وهذاكله مبني يف الكتاب والسنة‪.‬‬
‫فإن هذا مبنزلة الغذاء الذي البد لل مؤمن منه"‪.‬‬
‫قال‪" :‬وهلذا كان مجيع الصحابة يعلمون السلوك بداللة الكتاب والسنة‬

‫‪100‬‬
‫اإلحسان‬

‫والتبليغ عن الرسول‪ .‬ال حيتاجون يف ذلك إىل فقهاء الصحابة‪ .‬ومل حيصل بني‬
‫الصحابة نزاع يف ذلك كما تنازعوا يف بعض مسائل الفقه‪ )...( .‬كثري من‬
‫أهل العبادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق اهلل ورسوله‪،‬‬
‫فاحتاج لذلك إىل تقليد شيخ‪ .‬ويف السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ‪ ،‬لكن‬
‫يوجد يف الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب يف ذلك ما يفهمه‬
‫غالب السالكني‪ ،‬فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد‪ ،‬كلها منصوصة‬
‫يف الكتاب والسنة‪ .‬وإمنا اختلف أهل الكالم ملا أعرضوا عن الكتاب والسنة‪.‬‬
‫فلما دخلوا يف البدع وقع االختالف‪ .‬وهكذا طريق العبادة‪ ،‬عامة ما يقع فيه‬
‫من االختالف إمنا هو بسبب اإلعراض عن الطريق املشروع‪ )...( .‬والصحابة‬
‫(‪ )...‬مل يتنازعوا يف العقائد وال يف الطريق إىل اهلل اليت يعرب هبا الرجل من أولياء‬
‫‪1‬‬
‫اهلل األبرار املقربني"‪.‬‬
‫حصل من كالم شيخ اإلسالم أن الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا يعرفون‬
‫السلوك إىل اهلل يف الطريق اليت يصري هبا الرجل وليا من أولياء اهلل األبرار املقربني‪،‬‬
‫وأهنم ما تنازعوا يف ذلك‪ ،‬وأهنم تلقوها من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالغا قرآنيا وبيانا سنيا‪ .‬ومل يتعرض شيخ اإلسالم رمحه اهلل إىل عقدة األمر‬
‫كله يف السلوك‪ ،‬أال وهو الرابطة القلبية‪ ،‬رابطة احملبة والتفاين يف الوالء لشخص‬
‫الرسول الكرمي على اهلل‪ .‬لنا إن شاء اهلل رجوع ملوضوع احملبة‪ ،‬وما مسوا صحابة‬
‫إال لصحبتهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وما فضلوا األمة إال هبا‪ ،‬وال نالوا‬
‫الدرجات العلى‪ .‬وليست الصحبة تطبيقا جمردا للنصوص وامتثاال جافا عسكريا‬
‫لألوامر‪ ،‬إمنا هي حمبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجذر يف القلوب باملالزمة واملخالطة‬
‫واملعايشة والتلمذة حىت ميلك حب املصحوب على الصاحب كيانه كله‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج ‪ 19‬ص ‪.274 - 272‬‬

‫‪101‬‬
‫اإلحسان‬

‫وحصل من كالم شيخ اإلسالم أن تقليد املشايخ يف اإلرادة والسلوك‬


‫الغايل حيجب عن السالك بيان الكتاب والسنة‪ ،‬وحيول بينه وبني‬ ‫التقليد َ‬
‫َ‬ ‫ذلك‬
‫النبوة‪ .‬هنا تكمن قوة ابن تيمية رمحه اهلل‪ .‬تكمن يف دفاعه عن النبوة وإبراز‬
‫خصائص عصره املتأخر الذي ساد فيه التقليد كل فروع العلم‪ ،‬حيث جتمد‬
‫الفقهاء‪ ،‬وختبط املتكلمون‪ ،‬وابتدع املتصوفة‪ .‬فكر ابن تيمية يف عصره مل يلق‬
‫معشار ما يلقاه يف عصرنا من إقبَال‪ .‬يف عصره الغارق يف التقليد كان‬ ‫َ‬ ‫وال‬
‫صوتاً غريبا‪ ،‬أما يف عصرنا‪ ،‬ومنذ قرنني َو نيف‪ ،‬فمذهبه يف التعلق املباشر‬
‫صدى متزايدا‪.‬‬
‫بالنصوص‪ ،‬ال يقبل أن حيجب الناس عنها حاجب‪ ،‬جيد ً‬
‫شهد معاصرو ابن تيمية أنه مل يكن له شيخ يف السلوك‪ ،‬ونسبوا صالبته‬
‫وخشونته يف اخلصام إىل أنه مل يتأدب بشيخ عارف‪ .‬ويف النص الذي أمامنا‬
‫ما يؤيد هذه الشهادة‪ ،‬فالسلوك عنده تلق للبالغ والبيان‪ ،‬وال شيء غري هذا‪.‬‬
‫ومن صحبوا املشايخ العارفني باهلل أئمة الرتبية يعلمون باملمارسة أن الشيخ‬
‫املريب حقا هو قبل كل شيء "من ينهض بك حاله"‪ ،‬أي الذي ترفعك حمبته‬
‫ف روحانيته روحانيتك ولو مل يتكلم‪ ،‬وحتتضنها‪،‬‬ ‫وصحبته رفعا قلبيا‪ ،‬تَ ْستَ ُّ‬
‫وترقيها‪ ،‬وهتذهبا‪ ،‬وتبث فيها حب اهلل وحب رسوله‪ ،‬ذلك احلب الذي يسود‬
‫القلوب املنورة‪ ،‬قلوب العلماء باهلل الغارقني يف حضرة اهلل‪.‬‬
‫صحبة الصحابة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رفعتهم‪ ،‬حاله استـََّف ُهم‬
‫ونورهم قبل مقاله‪.‬‬
‫َّ‬
‫فإذا نزلت القضية إىل ُرسوم وطقوس وتَعاليم قولية أصبح التصوف تَقليدا‬
‫باردا‪ ،‬والتقليد حاجزا مسيكا‪ ،‬واحلجز بدعة وضاللة‪ .‬وكل ذلك انتقده ابن‬
‫تيمية انتقادا شديدا‪.‬‬
‫امتاز الصحابة رضي اهلل عنهم بتعلقهم الشديد بشخص الرسول صلى اهلل‬

‫‪102‬‬
‫اإلحسان‬

‫عليه وسلم‪ .‬مل يكن عندهم وال عند كل تقي ّأو ٍاه من هذه األمة جمرد مبلغ‬
‫أدى رسالته ومضى‪ ،‬بل كان رسول اهلل‪ .‬كان الشخص الذي اصطفاه اهلل‪.‬‬
‫القرآن رسالته والبيان بيانه‪ .‬تسمو هبم احملبة العميقة للشخص املكرم عند‬
‫اهلل‪ ،‬ويسمو هبم القرآن‪ ،‬ويرفعهم البيان إىل ذُرى اإلحسان‪ .‬السلوك القليب‬
‫منجذب مبغناطيسية الروح الشريفة‪ ،‬والعقل يتغذى باآليات البينات‪ ،‬واجلوارح‬
‫تنضبط بأوامر الشارع احلاضر بني ظهراين البشر‪ .‬عزفوا عن الدنيا ومغرياهتا‬
‫الدنيئة ملا اتصلت مهمهم الطالبة الراغبة بتلك اهلمة السماوية‪ ،‬وأحبوا ذلك‬
‫اجلناب العايل فارتقوا عن السفساف‪ ،‬وحنّوا إىل اهلل‪ ،‬واشتاقوا للقاه‪ ،‬واتّقدت‬
‫يف قلوهبم حمبة اهلل‪ .‬حرصهم على مرضاة من أرسل الرسول هو الذي حل‬
‫َعقد نفوسهم حىت َتروضوا علـى الطاعة‪ ،‬وزكت منهم األخالق‪ ،‬واسرتخصوا‬
‫نفوسهم وأمواهلم يف جنب اهلل‪ .‬حبهم للرسول الكرمي الذي أمسع فطرهتم‬
‫وأيقظ إرادهتم هو احملرك ال جمرد االتباع لزعيم ِآم ٍر ناه‪ .‬يف أحضان النبوة تربوا‪،‬‬
‫استـََقوا حىت تفجرت يف قلوهبم ينابيع اإلميان وكانوا أبر الناس‬ ‫ومنها رشفوا و ْ‬
‫قلوبا وأعمقهم علما‪ .‬باحلب ترىب الصحابة ال باخلضوع لسلطة حاكمة‪.‬‬
‫َرفَعوا ُخبـَْيباً رضي اهلل عنه على اخلَشبة يف مكة ليقتلوه‪ ،‬فسألوه‪ :‬أحتب‬
‫أن حممدا مكانك؟ قال‪" :‬ال واهلل العظيم ما أحب أن يفديين بشوكة يشاكها‬
‫يف قدمه"‪.‬‬
‫وتـََّرس عليه صلى اهلل عليه وسلم أبو طلحة يوم أحد بظهره‪ ،‬يعرض ظهره‬
‫للنبالكي ال تنال الشخص الكرمي‪ .‬وامتص مالك اخلدري رضي اهلل عنه جرح رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم أحد لينقيه‪ .‬ورفض أن َيُ َّجهُ‪ ،‬بل ابتلعه حمبة وت َفانيا‪.‬‬
‫كانوا يتقاتلون على بصاقه من منهم يتربك به‪ .‬كانت مهابته يف قلوهبم قاضية‪ ،‬مهابة‬
‫احلب واإلجالل ال مهابة اخلوف‪ ،‬جيلسون إليهكأمنا على رؤوسهم الطري‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال عروة بن مسعود لقومه ثقيف ملا رجع من احلديبية ورأى الصحابة‬
‫حول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أي قوم! واهلل لقد وفدت على امللوك‪،‬‬
‫على كسرى وقيصر والنجاشي‪ .‬واهلل ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم‬
‫أصحاب حممد حممدا‪ .‬واهلل إ ْن تنخم ُنامة إال وقعت يف كف رجل منهم‬
‫فَدلك هبا وجهه وجلده‪ .‬وإذا أمرهم ابتدروا أمره‪ ،‬وإذا توضأ يقتتلون على‬
‫َوضوئه‪ ،‬وإذا تكلم خفضوا أصواهتم عنده‪ ،‬وما ُِي ّدون إليه النظر تعظيما له"‪.‬‬
‫جاء األمر القرآين بتعظيم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وتوقريه‪،‬‬
‫وتعزيره‪ ،‬واألدب البالغ يف حضرته‪ .‬وأُمر الصحابة أن ال يرفعوا أصواهتم فوق‬
‫صوت النيب‪ ،‬وأن ال جيهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض‪ ،‬وأن ال ينادوه‬
‫نداء بعضهم لبعض‪ .‬وأعلمهم القرآن أن الذين يبايعون رسول اهلل إمنا يبايعون‬
‫اهلل‪ ،‬وأن يد اهلل فوق أيدي املبايعني‪ .‬فاجتمعت للصحابة عوامل التبجيل‬
‫واإلجالل واحملبة أمراً ُموحى به من السماء‪ ،‬وانبعاثا متوثبا من القلوب‪ .‬لوال‬
‫هذا االنبعاث ملا تـُلُ ّق َي األمر السماوي وال البيان النبوي بالتقديس‪.‬‬
‫التقليد البارد للمشايخ أصحاب املقال قد يكون له مربر إن كان املقلد‬
‫جاهال عاجزا عن فهم النصوص‪ ،‬وكان الشيخ عاملا قادرا على االجتهاد يف مرتبة‬
‫ما من مراتب االجتهاد‪ ،‬وكان موضوع التقليد فروع الشريعة‪ .‬أما تقليد القوالني‬
‫يف السلوك‪ ،‬أولئك الذين تنحصر بضاعتهم يف عبارات حمفوظة وتقاليد ورسوم‬
‫وم ْهلَكة‪.‬‬
‫فمتـْلَ َفة َ‬
‫َ‬
‫وهنالك االقتداء باألكابر‪ ،‬والسماع من األكابر‪ ،‬واألخذ عن األكابر‪.‬‬
‫األكابر قنوات موصلة جيذبك مغناطيسهم إىل حب اهلل ورسوله وال حيجبك‪ .‬وإن‬
‫كنا نلحكثريا يف هذا الكتاب وغريه على اجللوس يف تربيتنا وسلوكنا وجهادنا وفقهنا‬
‫إزاء القرآن‪ ،‬عند أقدام املنرب النبوي‪ ،‬فإننا نقصد تربية واجتهادا وجهادا مقدمته‬

‫‪104‬‬
‫اإلحسان‬

‫الالزمة أن َن ِرق كل سقف حيول بيننا وبني النبوة‪ .‬ويكون اخلرق للسقوف‬
‫تطفال وافتياتا وهبتانا إن مل نستمد من القنوات القلبية والعلمية املوصلة‪ ،‬ونَن ُف ْذ‬
‫ونصعد على طريقها إىل ذلك اجلوار القدسي‪ .‬وليس إىل ذلك سبيل‬ ‫منها‪َ ،‬‬
‫إال باالقتداء السليم‪.‬‬
‫وباالقتداء أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األجيال من أمته‪ .‬روى‬
‫الرتمذي وابن عدي عن أنس رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬اقتدوا بالذين من بعدي أيب بكر وعمر‪ .‬واهتدوا هبدي عمار ومتسكوا بعهد‬
‫ابن أم عبد"‪ .‬وابن أم عبد هو ابن مسعود الذي قرأنا نصيحته يف فقرة سابقة يوصينا‬
‫باألخذ عن األكابر ال عن األصاغر‪ .‬وكل ّقوال ال ينهض بك حاله وال يدلك على‬
‫اهلل مقاله صغري‪.‬‬
‫قال أحد أكابر األمة الشيخ اجلليل أمحد الرفاعي يف تفسري حديث‬
‫االقتداء‪" :‬أمر عليه الصالة والسالم بتصحيح القدوة بالشيخني العظيمني‪،‬‬
‫سيدنا أيب بكر الصديق‪ ،‬وسيدنا عمر الفاروق رضي اهلل عنهما‪ ،‬وبالتحقق‬
‫باالهتداء هبدي عمار رضي اهلل عنه‪ ،‬فإنه مات على حب الصهر العظيم‪،‬‬
‫الصنو الكرمي‪ ،‬سيدنا على رضي اهلل عنه‪ .‬وأكد لزوم التمسك بالعهد‪ ،‬كما‬
‫كان حمافظا عليه ابن أم عبد رضي اهلل عنه‪ .‬ويف هذه حكمة اجلمع بـَْي حب‬
‫الصحب واآلل‪ ،‬سر يدركه العارفون املوفقون‪ .‬وقد جعل صحة املتابعة له باتباع‬
‫الشيخني رضي اهلل عنهما‪ .‬ومجع بني النكتتني بلزوم التمسك بالعهد‪ .‬ومىت‬
‫اقتدى العبد اهتدى‪ ،‬ومىت اهتدى متسك بعهد اهلل‪ ،‬وهناك وقد عرف‪ .‬وهل‬
‫املعرفة باهلل إال هذا؟ فإن من اهتدى هبدي حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واقتدى‬
‫‪1‬‬
‫به‪ ،‬ومتسك بعهده‪ ،‬أقبل على اهلل‪ ،‬وأعرض عن غريه"‪.‬‬

‫‪ 1‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.102‬‬

‫‪105‬‬
‫اإلحسان‬

‫وما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم بنا األمني‬
‫على رسالة اهلل أن يدلنا على االقتداء واالهتداء والعهد لو كان يف التمسك‬
‫بذلك ما حيجبنا عن اهلل ورسوله‪ .‬ونرى إن شاء اهلل يف الفصل املقبل كيف‬
‫تسلسل االقتداء واالهتداء والعهد من الصحابة جيال بعد جيل‪.‬‬
‫نقرأ يف كلمة الشيخ الرفاعي رمحه اهلل نكتة بالغة األمهية‪ ،‬وهي اقرتان‬
‫الوصية بالصحابة مع الوصية باآلل‪ .‬وهي نكتة ينتبه إليها املوفقون كما قال‪.‬‬
‫التارخيي ّفرق بني شقي األمة‪ :‬سنة ومجاعة يف جهة‪ ،‬وهم جسم‬‫ّ‬ ‫إن الصدام‬
‫األمة وكلها‪ ،‬وشيعة وهم عضو منها‪ ،‬حياول بعض أهل الغِّرة تكفريهم ونبذهم‬
‫وكأهنم دخيل على األمة‪.‬‬
‫خبس لئيم من االستهانة بالصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬‫عند الشيعة مرياث ٌ‬
‫وهذا بؤس وحرمان والعياذ باهلل‪ .‬والقائل بذلك يكذب اهلل الذي شهد‬
‫للصحابة يف قرآنه الكرمي باألفضلية والسابقية‪ ،‬ويكذب رسوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم الذي بلغ ورىب وأوصى باالقتداء واالهتداء والعهد‪.‬‬
‫غاىل الشيعة‪ ،‬بعضهم وفيهم العقالء‪ ،‬يف حب آل البيت وتعظيمهم حىت جتاوزوا‬
‫القدر الذي يكون به االهتداء‪ .‬ويسكت طوائف من أهل السنة سكوتا مريبا عن‬
‫مكانة آل البيت وعن الوصية النبوية هبم‪ .‬وبذلك تعظم الفجوة بني شقي األمة‪ ،‬وتبتعد‬
‫الشقة‪ ،‬وتنشأ القطيعة‪ .‬وإىل هذه النكتة نبه الشيخ اجلليل رفع اهلل مقامه‪.‬‬
‫روى اإلمامان أمحد ومسلم عن زيد بن أرقم رضي اهلل عنه أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬أما بعد أال أيها الناس‪ ،‬فإمنا أنا بشر يوشك أن‬
‫يأيت رسول ريب فأجيب‪ .‬وأنا تارك فيكم ثـََقلني‪ .‬أوهلماكتاب اهلل‪ ،‬فيه اهلدى والنور‪،‬‬
‫من استمسك وأخذ به كان على اهلدى‪ ،‬ومن أخطأه ضل‪ .‬فخذوا بكتاب اهلل‬

‫‪106‬‬
‫اإلحسان‬

‫بيت! أذكركم اهلل يف أهل بييت! أذكركم اهلل يف‬ ‫تعاىل‪ ،‬واستمسكوا به‪ .‬وأهل ِ‬
‫أهل بييت"‪.‬‬
‫إذا كانت نِ ْسبة أحد من هذه األمة إىل أحد تشرف‪ ،‬فهي نسبة املسلمني‬
‫مجيعا إىل اهلل ورسوله‪ .‬زاد أهل البيت بالنسب الطيين لنزوهلم من ساللته الطاهرة‬
‫صلى اهلل عليه وسلم اليت تأذن اهلل عز وجل يف كتابه العزيز أنه يريد أن يذهب‬
‫أمر اهلل ال يرد‪ ،‬وإرادته املعلنة ال تتعطل‪ .‬وأهل‬
‫الرجس ويطهرهم تطهريا‪ .‬و ُ‬
‫َ‬ ‫عنهم‬
‫ت‪.‬‬ ‫البيت أمان لألمة‪ ،‬تشرف األمة إن عظمتهم وذكرت اهلل فيهم كما ذُ ِّكَر ْ‬
‫اِ ّدعاءُ العصمة ألحد دون النبوة جتاوز لكل احلدود‪ ،‬وفتح لرتعة ال تسد‪،‬‬
‫يدخل منها على الدين كل باطل‪.‬‬
‫وما دون العصمة مكانة حيتلها رجال جامعون بني النسب الطيين إىل‬
‫ذلك اجلناب املطهر وبني النسب الديين‪ .‬أولئك هم كمل العارفني‪ ،‬غالبا ما‬
‫جتد أئمة الرتبية من آل البيت‪.‬‬
‫جمموع اآلل والصحب هم أولياء اهلل حقا‪ .‬قال واحد من أكابر األمة‪،‬‬
‫من أفذاذ علمائها يف هذه القرون املتأخرة‪ ،‬اإلمام الشوكاين‪" :‬اعلم أن الصحابة‪،‬‬
‫السيما أكابرهم اجلامعني بني اجلهاد بني يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله‬
‫وسلم والعلم مبا جاء به‪ ،‬وأسعدهم اهلل سبحانه من مشاهدة النبوة وصحبة رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف السراء والضراء‪ ،‬وبذهلم أنفسهم وأمواهلم يف اجلهاد‬
‫يف سبيل اهلل سبحانه‪ ،‬حىت صاروا خري القرون باألحاديث الصحيحة‪ .‬فهم خرية‬
‫اخلرية (‪ )...‬فت َقّرر من هذا أن الصحابة رضي اهلل عنهم خري العامل بأسره‪ ،‬من‬
‫س‬‫أوله إىل آخره‪ ،‬ال يفضلهم أحد إال األنبياء واملالئكة (‪ .)...‬فإذا مل يكونوا َرأْ‪َ1‬‬
‫األولياء‪ ،‬وصفوة األتقياء‪ ،‬فليس هلل أولياء‪ ،‬وال أتقياء‪ ،‬وال بررة‪ ،‬وال أصفياء"‪.‬‬
‫‪ 1‬كتاب "والية اهلل" ص ‪.276‬‬

‫‪107‬‬
‫اإلحسان‬

‫وذهب الشوكاين رضي اهلل عنه يقمع الروافض املستخفني بالصحابة اهلدامني‬
‫للدين‪ ،‬يصف محاقتهم‪ ،‬وطعنهم القميء اخلبيث ملقام القدوة واالهتداء والعهد‬
‫واألسوة‪ ،‬ويصف شيطنتهم‪ .‬لكنه ال يكفر‪ .‬منعه من تكفري هؤالء املرتكبني ألشنع‬
‫اجلرائم يف حق صفوة اهلل من ِ‬
‫خلقه بعد األنبياء‪ ،‬الوالغني يف أعراض خري الربايا بعد‬
‫األنبياء‪ ،‬ما قرأناه من تَصونه وحذره يف الفصل األول من هذا الكتاب‪ .‬وهو غفر‬
‫اهلل لهكان يف صباه وشبابه من "املكفراتية" كما شهد على نفسه وتاب‪.‬‬
‫نضع أصبعنا يف نص الشوكاين على ميزة الصحابة عن سائر األجيال‪،‬‬
‫ميزة اجلهاد باملال والنفس بني يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واإلسالم‬
‫يف بدايته‪ ،‬واإلسالم يواجه اجلاهلية‪ .‬أما من جاء بعد الصحابة ووجد األمر‬
‫ممهدا‪ ،‬واإلسالم ضاربا أطنابه يف األرض‪ ،‬فقد فاتته فرصة اجلهاد‪ ،‬كما فاتته‬
‫صحبة الرسول‪ ،‬إال أن ُيدد يف غربة الدين الثانية جهادا واجتهادا‪.‬‬
‫أما يف زماننا هذا وما بعده فاالقتداء باملشايخ العارفني باهلل ينبغي أن‬
‫يتجاوز بنا ه مؤمنا الفردية لنحمل مهوم األمة‪ ،‬ومهوم اإلنسانية‪ ،‬حاملني‬
‫الرسالة‪ ،‬جماهدين يف وجه الفتنة الداخلية واجلاهلية احمليطة‪ ،‬كما جاهد األولون‪.‬‬
‫هم األصحاب وحنن اإلخوان‪ .‬جسومنا هنا اآلن‪ ،‬وقلوبنا وعقولنا جيب أن‬
‫ترتفع إىل هناك‪ ،‬بإزاء القرآن‪ ،‬وعند قدم املنرب الشريف‪ ،‬وتأسياً مباشرا بأهل‬
‫االقتداء واالهتداء والعهد‪.‬‬
‫قال الصحايب اجلليل عبد اهلل بن رواحة رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫مشهود من الفجر طالـع‬ ‫ٌ‬ ‫كما الح‬ ‫أتـانـا رسول اهلل يتلــو كت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابـ ه‬
‫به موقنـات أن ما ق ــال واق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع‬ ‫أتى باهلدى بعد العمى فقـلوبنا ‬
‫إذا استثقلت باملشركني املضاجـ ـ ـ ـ ــع‬ ‫يبيت جيايف جنبه عـن فـراشـ ـ ـ ـ ـ ـه ‬

‫‪108‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت رمحين اهلل كما رمحهم‪:‬‬

‫فأيقظنا قول‪ :‬استقــيمـ ـوا وسـارع ـ ـوا‬ ‫مسعن ـ ــا نـداء احلـق واحل ــق ذائ ـ ـ ـ ع‬
‫أن اقتحموا ِحصن العدو وصارعـوا‬ ‫أتانا رســول اهلل باألم ــر صــادع اً‬
‫إىل قمة اإلحسـ ـ ــان بالع ـ ــزم طــالـ ـ ـ ُـع‬ ‫ـات إال مـجـاهد ‬ ‫فمـا بل ــغ الغ ــايـ ـ ِ‬

‫‪109‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلسالم واإليمان واإلحسان‬

‫﴿ربـَّنَا ا ْغ ِف ْر لَنَا َوِِل ْخ َوانِنَا‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذين سبـ ُقونَا بِ ِْ ِ‬
‫آمنُوا‬ ‫ال َيمان َوَل تَ ْج َع ْل في قـُلُوبنَا غ ّلً لِّلَّذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َ ََ‬
‫يم﴾‪ .‬اللهم ال خري إال خري اآلخرة‪ ،‬فاغفر‬ ‫ِ‬ ‫َربـَّنَا إِنَّ َ‬
‫وف َّرح ٌ‬
‫ك َرُؤ ٌ‬
‫لألنصار واملهاجرة‪.‬‬

‫من املواضيع اليت طال اجلدال فيها بني املسلمني منذ القدمي مدلول اإلميان‬
‫واإلسالم وما بني اللفظني من عموم وخصوص‪ .‬وأفرد بالتأليف يف املوضوع‬
‫جهابذة العلماء مثل ابن تيمية يف كتابه "اإلميان" فلينظر هناك تفاصيل النقاش‬
‫من كان راغبا‪.‬‬
‫اهتمامنا هنا بغياب أفق التقدم‪ ،‬وغياب معىن اقتحام العقبة‪ ،‬والرتقي‬
‫يف معارجها عند اجليل الصاحي إىل إسالمه‪ .‬يكون الداعي نفسه والقائد‬
‫للجماعة خاليا من فهم املسألة‪ ،‬خليا من التحلي خبصال اإلميان‪ ،‬ال مشة لديه‬
‫من الشوق إىل اإلحسان وهو عبادة اهلل كأنك تراه‪.‬‬
‫من األئمة الذين جزموا بأن مدلول "إسالم" و"إميان" متغايران اإلمام‬
‫أمحد بن حنبل رمحه اهلل‪ .‬وأعطى البخاري املدلولني مكاهنما حيث اعترب أن‬
‫الدين الذي رضيه اهلل لعباده وال يقبل ممن ارتضى غريه دينا هو جمموع اإلسالم‬
‫واإلميان واإلحسان‪.‬‬
‫قال البخاري يفكتاب "اإلميان"‪ :‬باب سؤال جربيل النيب صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪110‬‬
‫اإلحسان‬

‫عن اإلميان واإلسالم واإلحسان وعلم الساعة‪ ،‬وبيان النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم له‪ .‬مث قال (أي النيب صلى اهلل عليه وسلم)‪" :‬جاء جربيل يعلمكم‬
‫دينكم"‪ .‬فجعل ذلك كله دينا‪.‬‬
‫نورد هنا رواية البخاري حلديث جربيل‪ ،‬وهو أقصر من رواية مسلم‬
‫وأصحاب السنن إال ابن ماجه عن عمر ابن اخلطاب‪ ،‬وهي رواية مشهورة‪.‬‬
‫روى البخاري عن أيب هريرة قال‪ :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم بارزا يوماً‬
‫للناس‪ ،‬فأتاه رجل فقال‪" :‬ما اإلميان؟" قال‪" :‬اإلميان أن تومن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪،‬‬
‫وبلقائه‪ ،‬ورسله‪ ،‬وتومن بالبعث"‪ .‬قال‪" :‬ما اإلسالم؟" قال‪" :‬اإلسالم أن‬
‫تعبد اهلل وال تشرك به شيئا‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤيتَ الزكاة املفروضة‪ ،‬وتصوم‬
‫رمضان"‪ .‬قال‪" :‬ما اإلحسان؟" قال‪" :‬أن تعبد اهلل كأنك تراه‪ ،‬فإن مل ت ُكن تَراه‬
‫فإنه يراك"‪ .‬قال‪" :‬مىت الساعة؟" قال‪" :‬ما املسؤول عنها بأعلم من السائل‪.‬‬
‫وسأخربك عن أشراطها‪ :‬إذا ولدت األمة ربتها‪ ،‬وإذا تطاول رعاة اإلبل البـُْه ِم يف‬
‫البنيان‪ ،‬يف مخس ال يعلمهن إال اهلل"‪ .‬مث تال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن‬
‫اهلل عنده علم الساعة" اآلية‪ .‬مث ْأدبـََر‪ ،‬فقال‪ُ :‬ردوه‪ ،‬فلم يروا شيئا‪ .‬فقال‪" :‬هذا‬
‫جربيل جاء يعلم الناس دينهم"‪ .‬قال أبو عبد اهلل (وهو البخاري)‪" :‬جعل ذلك‬
‫كله من اإلميان"‪.‬‬
‫مذهب البخاري رمحه اهلل أن اإلسالم واإلميان شيء واحد‪ .‬لكن جممل‬
‫القرآن واحلديث يرد اإلسالم إىل األعمال الظاهرة اليت ميكن أن يؤديها املنافق‬
‫واألعرايب الذي ملا يدخل اإلميان يف قلبه‪ ،‬بينما يقتضي التحلي بشعب اإلميان‪،‬‬
‫قوال وعقيدة وعمال‪ ،‬أن يكون القلب حمط األمانة‪ ،‬منه تنبعث النية والصدق‬
‫واإلخالص واإلرادة والعزم اليت بدوهنا تكون األعمال الظاهرة لغوا وعمال ال يقبله‬
‫اهلل‪ .‬ألن اهلل تعاىل إمنا يتقبل من املتقني‪ ،‬و"التقوى ها هنا" كما جاء يف احلديث‬

‫‪111‬‬
‫اإلحسان‬

‫الصحيح‪ ،‬ويشري النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل صدره الشريف‪.‬‬
‫أخرج اإلمام أمحد عن أنس أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬اإلسالم‬
‫عالنية واإلميان يف القلب"‪.‬‬
‫القلب هلل عز وجل‪ ،‬هو وحده حياسب العبد على النية‪ .‬أما العالنية‬
‫فهي الشأن العام‪ ،‬والوجه الذي ينظر إليه املسلمون من اإلنسان ليحكموا‬
‫عليه باإلسالم أو عدمه تبعاً لسلوكه الظاهر‪ .‬عالج القلوب وتربيتها وتلقينها‬
‫مبخاطبة الفطرة وبالصحبة من شأن الربانيني‪ .‬والفقهاء اخلبريون باألحكام‬
‫الفرعية حيصون األعمال الظاهرة‪ ،‬ال شأن هلم بالقلوب وطبها‪ ،‬بل ال خرب‬
‫عندهم إن مل ياتوا الرباين الوارث كما رأينا فطاحلهم يفعلون يف الفصل‬
‫األول من هذا الكتاب‪ .‬ومن الفقهاء األصوليني املتكلمني املدرسني الذين‬
‫دخلوا من عالنية اإلسالم إىل بواطن اإلميان‪ ،‬وعرجوا من مث إىل ذرى‬
‫اإلحسان اإلمام الغزايل‪ .‬قال يف إحيائه‪" :‬منتهى نظر الفقيه (‪ )...‬أنه ال‬
‫جياوز حدود الدنيا إىل اآلخرة‪ .)...( ،‬أما اإلسالم فيتكلم الفقيه فيما‬
‫يصح منه‪ ،‬وفيما يفسد‪ ،‬ويف شروطه‪ .‬وليس يلتفت فيه إال إىل اللسان‪.‬‬
‫وأما القلب فخارج عن والية الفقيه‪ ،‬لعزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال (ألسامة يف القصة املشهورة حني‬
‫قتل رجال نطق يف احلرب بالشهادتني)‪" :‬هال شققت على قلبه؟"‪ )…(1‬بل‬
‫حيكم الفقيه بصحة اإلسالم حتت ظالل السيوف مع العلم أن السيف مل‬
‫يكشف له عن نيته‪ ،‬ومل يدفع عن قلبه غشاوة اجلهل واحلرية‪ .‬ولكنه مشري على‬
‫صاحب السيف‪ .‬فإن السيف ممتد إىل رقبته (أي إىل رقبة الذي ينظر الفقيه‬
‫يف أمره)‪ ،‬واليد ممتدة إلـى ماله‪ ،‬وهذه الكلمة باللسان (الشهادتان) تعصم‬

‫‪ 1‬احلديث رواه مسلم عن أسامة بن زيد نفسه‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫اإلحسان‬

‫رقبته وماله مادام له رقبة ومال‪ ،‬وذلك يف الدنيا‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا ال إله إال اهلل‪ ،‬فإذا قالوها فقد عصموا‬
‫مين دماءهم وأمواهلم "‪.‬‬
‫‪2 1‬‬

‫بلغة العصر‪ :‬الفقيه شأنه خدمة الدولة (أرباب السيوف والسلطنة) يف‬
‫بالتبية‪ .‬وهذا تقسيم للوظائف متليه‬‫ترتيب احملاكم وفصل القضايا‪ ،‬ال شأن له ّ‬
‫الضرورة يف غد اإلسالم‪ ،‬غد اخلالفة الثانية‪ ،‬فتكون الدعوة منكبة على تربية‬
‫اإلميان يف القلوب ال تبتلعها الدولة‪.‬‬
‫ب على قاعدة إميانية عميقة متجسدة يف‬ ‫على أن دولة القرآن إن مل تـَْن َ ِ‬
‫"جند اهلل" الربانيني‪ ،‬مجاعة أو مجاعات متعاونة متشاورة‪ ،‬فإن الشريعة املفروضة‬
‫قانونا من أعلى لن جتد قلوبا تتأصل عليها وال ِذَماً ترسو فيها‪ .‬وقد شهد‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم أهنم أوتوا اإلميان قبل القرآن‪ .‬قال جندب بن عبد اهلل‬
‫وابن عمر وغريمها‪ » :‬تَعلمنا اإلميان مث تعلمنا القرآن فازددنا إميانا"‪ .‬وجاء يف‬
‫مسند اإلمام أمحد من حديث لعبد اهلل بن عمرو أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫العبد قبل القرآن"‪.‬‬‫قال‪" :‬وإن اإلميان يُعطى َ‬
‫إذا كان اإلميان ال تعطيه تالوة القرآن فأحرى أن ال تعطيه قراءة الكتب‬
‫البشرية‪ .‬اإلميان والدين يسريان من قلب الداعي واملصحوب وسلوكه إىل قلب‬
‫الصاحب وسلوكه‪.‬‬
‫عنون البخاري بابه الثاين يف "كتاب اإلميان" هكذا‪" :‬باب دعاؤكم إميانكم"‬
‫ُقل َما يـَْعبَأُ بِ ُك ْم‬
‫وفسر العلماء تبويبه بتفسري ابن عباس الذي قال يف قوله تعاىل‪ْ " :‬‬

‫‪ 1‬احلديث متفق عليه‪.‬‬


‫‪ 2‬ج ‪ 1‬ص ‪.17 - 16‬‬

‫‪113‬‬
‫اإلحسان‬

‫َربِّي لَ ْوَل ُد َعا ُؤُك ْم"‪ 1،‬قال‪ :‬يقول‪ :‬إميانكم‪ .‬قال احلافظ ابن حجر‪" :‬وقال َغريه (أي‬
‫غري ابن عباس)‪" :‬الدعاء هنا (أي يف اآلية الكرمية) مصدر مضاف إىل املفعول‪،‬‬
‫واملراد دعاء الرسل اخللق إىل اإلميان‪ .‬ليس لكم عند اهلل عذر إال أن يدعوكم الرسول‬
‫ف يؤمن من آمن ويكفر من َك َفَر"‪.‬‬
‫وبناء على هذا التفسري واستنادا إىل احلديث الصحيح‪" :‬الرجل على دين‬
‫خليله" أخرجه أمحد وأبو داود والرتمذي واحلاكم عن أيب هريرة بسند صحيح‪،‬‬
‫نقول‪ :‬دعاؤكم إميانكم ميكن أن تفهمنا أن مقدار إميان املدعو ودرجته وعمقه‬
‫تقاس بوجود الداعي وبدرجة إميانه على قدر ما اقتبس منه املدعو مساعا‬
‫فطريا‪ ،‬وصحبة عملية‪ ،‬ومالزمة وأخذا‪ .‬وقد سبق أن شرحنا أن أخذ الدين‬
‫عن األكابر هو املنطلق الصحيح‪.‬‬
‫اإلميان أمانة‪ ،‬واألمانة اإلميانيةكنز ومعني يف قلوب األمناء‪ ،‬والعلماء هم أمناء‬
‫الرسل كما جاء يف احلديث‪ .‬والقرآن أمانة تكليف عظيمة‪ ،‬ونور وهداية وبيان‪.‬‬
‫نرى القلوب اخلَِربَةَ تقرأ القرآن باللسان العريب املبني لكن القلوب عجماء صماء ال‬
‫أثر فيها ألمانة اإلميان‪ ،‬فهي أعجز عن حتمل أمانة القرآن‪ .‬أويت األحباب الصحابة‬
‫اإلميان قبل القرآن فكانوا رجاال‪ .‬وال يَن َقطع نسل تلك الرجولة إىل يوم القيامة‪،‬‬
‫ولنتذكر شوق الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم إىل رؤية إخوانه من بعده‪.‬‬
‫من حديث رواه الشيخان والرتمذي عن حذيفة أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬إن األمانة قد نزلت يف جذر قلوب الرجال‪ ،‬مث نزل القرآن‬
‫فعلموا من الكتاب وعلموا من السنة"‪.‬‬
‫َحسن الْح ِد ِ‬
‫يث كِتَاباً‬ ‫ويقول رب العزة واجلالل يف حمكمكتابه‪﴿ :‬اللَّهُ نـََّزَل أ ْ َ َ َ‬

‫‪ 1‬الفرقان‪.77 ،‬‬

‫‪114‬‬
‫اإلحسان‬

‫ود ُه ْم َوقـُلُوبـُُه ْم‬


‫ين ُجلُ ُ‬‫ِ‬ ‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ جلُ ُ َّ ِ‬
‫شابِهاً َّمثَانِ َي تـَْق َ‬
‫ش ْو َن َربـَُّه ْم ثُ َّم تَل ُ‬
‫ين يَ ْخ َ‬‫ود الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّمتَ َ‬
‫شاءُ﴾‪.‬‬ ‫ك ُه َدى اللَّ ِه يـَْه ِدي بِ ِه َم ْن يَ َ‬ ‫إِلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه َذلِ َ‬
‫‪1‬‬

‫ص كما جاء بذلك‬ ‫عقيدتنا أهل السنة واجلماعة أن اإلميان يزيد وين ُق ُ‬
‫الوحي‪ .‬أهم ما يزيده مساع القرآن‪ .‬فإذا مل يوت العبد اإلميان قبل القرآن‪ ،‬ومل‬
‫يكن يف القلوب أصل إمياين سابق فكيف تتصور الزيادة؟‬
‫إن ُوجد أصل إمياين يف القلوب‪ ،‬وهذا األصل ال إمكان الكتسابه‬
‫إال بالرتبية وهي إيقاظ الفطرة وتقوميها‪ ،‬يفعل األبوان يف ذلك واملصحوب‬
‫واجلماعة الفعل األول بعد هداية اهلل تعاىل وشرحه صدر من شاء لإلسالم‪،‬‬
‫فإن باإلمكان تقوية ذلك األصل وتزكيته وترقيته يف معارج العقبة اإلحسانية‬
‫إىل أن يبلغ العبد املرتبة اليت سبقت له هبا احلسىن عند اهلل عز وجل‪.‬‬
‫الكتاب احلادي والثمانون عند البخاري هو‪" :‬كتاب الرقاق"‪ .‬ويف دواوين‬
‫السنة حيز هام متخصص لرواية أحاديث ترقيق القلوب‪ .‬بوب البخاري املرققات‬
‫يف ثالث ومخسني بابا‪ ،‬نذكر بعضها‪" :‬باب الصحة والفراغ وال عيش إال عيش‬
‫اآلخرة‪ ،‬باب مثل الدنيا واآلخرة‪ ،‬باب قول النيب صلى اهلل عليه وسلم " ُك ْن يف‬
‫الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"‪ ،‬باب يف األمل وطُوله‪ ،‬باب من بلغ ستني‬
‫سنة فقد أعذر اهلل إليه يف العمر‪ ،‬باب ما حيذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها"‪.‬‬
‫والباقي على هذا املْنوال‪ ،‬فرغ احملدث الكبري من سرد أحكام الشرع الدنيوية‪،‬‬
‫فهو يف كتاب الرقاق يذكر باآلخرة‪ .‬وطريق اإلحسان هي طريق اآلخرة‪ ،‬علم‬
‫اإلحسان هو علم عاقبة املرء وعلم اآلخرة‪.‬‬
‫القلوب املؤمنة تلني إىل ذكر اهلل عند تالوة القرآن‪ ،‬وتقشعر اجللود واألبشار‬

‫‪ 1‬الزمر‪23 ،‬‬

‫‪115‬‬
‫اإلحسان‬

‫املؤمنة خشوعا هلل وتعظيما ملقام النبوة‪ .‬إهنا ِرقة تكتسب بالتأصيل الرتبوي ال‬
‫بالتفريع الفقهي‪ .‬على أن التفريع الفقهي والرعاية الورعة اخلائفة الوجلة حلرمة‬
‫الشرع وأمره وهنيه اهتمام أساسي للمحسنني‪ .‬ومن رام الصعود إىل مراتب‬
‫اإلحسان دون أن ُيكم إسالمه الظاهر‪ ،‬وإميانه الباطن خلقا وطاعة‪ ،‬وأدبا‬
‫مع اهلل والناس‪ ،‬وأداء للحقوق‪ ،‬كان كمن يبين على غري أساس‪ ،‬وسقط على‬
‫أم َرأسه‪.‬‬
‫املؤمن احملسن قريب من القرآن ومن احلديث‪ ،‬يشعر بذلك قلبه‪ ،‬ويطمئن‬
‫إليه عقله‪ ،‬ويلني له ِجلده‪ ،‬وتُطاوع جوارحه‪ .‬روى اإلمام أمحد بإسناد صحيح‬
‫أسيد أو محيد أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إذا مسعتم‬ ‫عن أيب َ‬
‫احلديث عين تعرفه قلوبكم‪ ،‬وتلني له أشعاركم وأبشاركم‪ ،‬وترون أنه منكم قَريب‬
‫فأنا أوالكم به‪ .‬وإذا مسعتم احلديث عين تنكره قلوبكم‪ ،‬وتنفر منه أشعاركم‬
‫وأبشاركم‪ ،‬وترون أنه بعيد منكم‪ ،‬فأنا أبعدكم منه"‪ .‬يا له من حس قليب تستمد‬
‫منه األشعار واألبشار!‬
‫قال القلب الطيار شوقاً‪ ،‬احلساس ذوقا‪:‬‬
‫َوزيْ َن هذا السق ِـام يف جس ـ ـ ـ ــدي‬ ‫ـجـ ـ َـوى على كب ـ ـ ـ ـ ـ ــد ‬
‫ي‬ ‫يا بـَْرد ال َ‬
‫أ َُو ُار شــوق ِمن معــدن ال َكبِـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـد‬ ‫وحسن هذي الدم ــوع يـَْنبِطُـهـا ‬ ‫َ‬
‫صحت مما أُكِ ُّن‪ :‬وا َكبـدي!‬ ‫إن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِزْد كبدي يا ُمذيـبَهــا حـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرق ــا ‬
‫ُ‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫ومن حر أنْفاسـ ـ ــي عل َّـي هليــب‬ ‫برده ا‬ ‫الصبا عاد ُ‬ ‫اصلت َّ‬‫إذا أنا و ُ‬
‫ِ‬
‫ـال إال أن أراك طبـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب‬
‫وم ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ف األطـباء قـوهل ـ ـ ـ ـ م‬‫ت ِ َّ‬
‫وقَد أكثـََر ْ‬
‫وبني جفـ ــوين والرقـ ـ ــاد حـ ـ ــروب‬ ‫ب فهو حلـيفـ ـ ـ ـ ـ ه‬ ‫يسامل قلـيب احلُ َّ‬

‫‪116‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت رمحين اهلل واملؤمنني واملؤمنات واملسلمني واملسلمات‪:‬‬

‫كمــدي‬ ‫مهجيت وزد َ‬ ‫ض َن َ‬ ‫ِزْد كبــدي يا مذيبه ـ ــا حـ ـرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ً وِزْد َ‬


‫أتي ــه يف البـيـ ــد ال دلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل إل ـى حــي املعــايل تيـه ـ ــا بال رش ـ ـ ـ ــد‬
‫ـدى ي ــدركـ ـ ــه األولي ـ ــاء باجلَـ ـلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـد‬
‫ـول دو َن م ً ‬ ‫كم عقبــات حت ـ ـ ُ‬

‫‪117‬‬
‫اإلحسان‬

‫التوبة واليقظة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫يع ُّ‬
‫الد َعاء﴾‪.‬‬ ‫ك َسم ُ‬ ‫َ‬ ‫ب لِي ِمن لَّ ُدنْ َ‬
‫ك ذُ ِّريَّةً طَيِّبةً إِنَّ َ ِ‬
‫ب َه ْ‬
‫﴿ر ِّ‬
‫َ‬
‫اللهم اجعلين أُعظم شكرك‪.‬‬

‫نعيش يف خضم احلضارة االستهالكية تابعني جمرورين‪ ،‬تَ ْسحبنا من البطن‬


‫ألهنا تنتج الغذاء وال ننتج‪ ،‬وتسحبنا من الرأس‪ ،‬ومن األسفل‪ ،‬بأسباهبا القوية‪.‬‬
‫نلبس ما يلبسون‪ ،‬ونفكر كما يفكرون‪ ،‬ونريد ما يُريدون‪ ،‬طوعا وكرها‪ .‬واألبوان‬
‫اللذان أنيط هبما حفظ الفطرة غثاء مع الغثاء‪ ،‬جيري السيل باجلميع جريا إىل اهلاوية‪،‬‬
‫السياسيّة بداعي اإلميان‪،‬‬ ‫ومنادي اإلميان هناك‪ ،‬امتزج عنده الوعي السياسي واليقظة ِّ‬
‫فدعوته القتحام عقبة املواجهة‪ ،‬وللجهاد مباشرة‪ .‬ويسأل الشباب وال من جميب عن‬
‫أسباب اخلواء الروحي وضعف اإلميان ألن الذين ينتظر منهم أن جييبوا عن األسئلة‬
‫يق‬ ‫ِ‬
‫احلائرة منهمكون يف مطاردة البدع وتكفري املسلمني‪ .‬خيتلقون البدع َجهال أو ض َ‬
‫َعطَ ٍن‪ ،‬فيُنازلون خياالت صنعوها ليومهوا أنفسهم والناس أهنم محاة الدين‪.‬‬
‫وصية اهلل تعاىل لإلنسان إن مل جيد األب احلكيم‪ ،‬ومل ينشأ يف احملضن الفطري‬
‫السليم‪ ،‬أن يتبع سبيل من أناب إىل اهلل‪ .‬واإلنابة درجة من درجات التوبة‪ .‬قال‬
‫ال لُْق َما ُن ِلبْنِ ِه َو ُه َو يَ ِعظُهُ يَا‬
‫﴿وإِ ْذ قَ َ‬
‫تعاىل عن عبده لُقمان الذي آتاه احلكمة‪َ :‬‬
‫الشر َك لَظُل ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم﴾‪ 1.‬مث جاء القرآن بالوصية اإلهلية مجلة‬ ‫ْم َعظ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بـُنَ َّي َل تُ ْش ِر ْك باللَّه إِ َّن ِّ ْ‬

‫‪ 1‬لقمان‪13 ،‬‬

‫‪118‬‬
‫اإلحسان‬

‫نسا َن بَِوالِ َديْ ِه‬‫ال َ‬ ‫صيـْنَا ِْ‬


‫اعرتاضية بني وصايا لقمان البنه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ََ ﴿ :‬و َّ‬
‫ك إِلَ َّي‬ ‫َن ا ْش ُك ْر لِي َولَِوالِ َديْ َ‬‫حملَْتهُ أ ُُّمهُ و ْهناً َعلَى و ْه ٍن وفِصالُهُ فِي َعام ْي ِن أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬
‫ْم فَ َل تُط ْع ُه َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك به عل ٌ‬ ‫س لَ َ‬ ‫َ‬ ‫اك َعلى أَن تُ ْشر َك بي َما لَْي‬ ‫اه َد َ‬‫ال َْمص ُير َوإن َج َ‬
‫اب إِلَ َّي﴾‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫وص ِ‬
‫احبـْ ُه َما فِي ُّ‬
‫يل َم ْن أَنَ َ‬‫الدنـْيَا َم ْع ُروفاً َواتَّب ْع َسب َ‬
‫‪1‬‬
‫َ َ‬
‫إن غابت السلسلة الفطرية‪ ،‬سلسلة األبوين‪ ،‬فاتبع ُخطى "من" أناب‪ .‬احبث‬
‫أنام َل روحانيته متتد إىل قلبك بلمسات احملبة ونسمات الشوق‬ ‫عن هذا "املن" لعل ِ‬
‫لك‬‫ؤص ُل َ‬ ‫إىل ربك واحلنني إليه‪ .‬ولعل التوبة واليقظة الروحية‪ ،‬وهي أعمال قلبية‪ ،‬تُ ِّ‬
‫دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من جمرد "االلتزام" الذي ال يبدأ بك سلوك الطريق إىل‬
‫اهلل‪ ،‬ألن ُسلَّم اإلسالم فاإلميان فاإلحسان مفهوم غريب عن الوقت‪.‬‬
‫الباطنَة من العلوم واألعمال‪ ،‬وإن‬ ‫"أصل الدين يف احلقيقة هو األمور ِ‬
‫األعمال الظاهرة ال تنفع بدوهنا‪ ،‬كما قال النيب صلى اهلل عليه وسلم يف احلديث‬
‫الذي رواه أمحد يف مسنده‪" :‬اإلسالم عالنية واإلميان يف القلب"‪.2‬‬
‫إفراط يف احلديث عن "ثقافة اإلسالم" و"حضارة اإلسالم" و"البديل‬
‫اإلسالمي"‪ .‬وتفريط خمل يف الرتبية‪ .‬يا إنسان!‬
‫أول خطى الرتبية التوبة مث اليقظة‪ .‬كانت التوبة يف عصور الفتنة بعد اخلالفة‬
‫الراشدة األوىل عبارة عن التوبة من الذنب واملعصية‪ ،‬والتائب يف مأمن وعافية‪،‬‬
‫ال هم له إال صراعهُ الداخلي ووخز ضمريه ومعاملته مع اهلل‪ ،‬يـَُؤِّرقُه هم اآلخرة‪.‬‬
‫يف عهد النبوة واخلالفة الراشدة كانت التوبة من الشرك واملعاصي َهّاً مزدوجا‪،‬‬
‫ألن اجلهاد وواجبه وضروراته وحضور املوت واحتماله يف كل خروج يف سبيل‬
‫اهلل تُ َك ِّون ظروفا يلتحم فيها مصري الفرد مبصري اجلماعة‪ ،‬ويتميز فيها املنافقون‬

‫‪ 1‬لقمان‪ ،‬اآليتان‪14-15 :‬‬


‫‪ 2‬قاله ابن تيمية يف الفتاوي ج ‪ 10‬ص ‪.15‬‬

‫‪119‬‬
‫اإلحسان‬

‫من الصادقني‪ .‬يف زماننا صحوة إسالمية يغلب فيها اهلم االجتماعي اجلماعي‬
‫السياسي على اهلم الفردي األخروي‪ ،‬ويأيت مصطلح "االلتزام" الغريب عن القرآن‬
‫ليمحو املعامل‪ .‬فال متييز يرجى‪.‬‬
‫الذي يبحث عنه علماء الدعوة أمثال الشيخ سعيد رمضان البوطي‬
‫والشيخ سعيد حوى هو القنطرة الواصلة بني ذلك العهد األول املتمايز وهذه‬
‫النهضة العارمة الشديدة االضطراب الفكري والغبش الرتبوي‪" .‬األولياء قناطر‬
‫اخللق‪ ،‬يعرب املوفقون عليهم إىل اهلل تعاىل‪ .‬هم العاملون املخلصون اخلالصون"‪.1‬‬
‫"القوم أرشدونا‪ ،‬دلونا على الطريق‪ ،‬كشفوا لنا حجاب اإلغالق عن خزائن‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬عرفونا حكمة األدب مع اهلل ورسوله‪ .‬هم القوم ال يشقى‬
‫‪2‬‬
‫جليسهم‪ .‬من آمن باهلل وعرف شأن رسوله أحبهم واتبعهم"‪.‬‬
‫باتباع املنيبني فقط ميكن أن حتمل اهلم املزدوج محال متوازنا‪ .‬باتباع‬
‫املنيبني فقط ميكن أن نرجع إىل اهلل‪ ،‬ونبُ َّل غُلة النّفس‪ ،‬ونكف عن زرع األماين‬
‫والتواين‪ ،‬ذلك الزرع الذي ال ُيصد منه إال التلف واللهف‪.‬‬
‫يف قلب العبد ثالثة أمناط من املعاطب‪ ،‬يكون جمموعها مرض النفـاق‪ .‬تكون‬
‫التوبة ذات الداللة األعم أدعى إىل السري احلثيث صعودا يف عقبة اإلميان واإلحسان‬
‫إن تطهر العبد مباء التوبة يستفيضه من املنيبني‪ ،‬ورشف من ذلك املاء رشفات‬
‫تذيقه حالوة اإلميان‪ ،‬فيستزيد ويستزيد حىت تنفر نفسه من املعصية‪ ،‬وحىت يكون‬
‫االستغفار واليقظة التامة يفكل صغرية وكبرية من أعماله رفيقني دائمني‪.‬‬
‫روى الشيخان وغريمها عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪ 1‬الشيخ أمحد الرفاعي يف "الربهان املؤيد" ص ‪.71‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.41‬‬

‫‪120‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال‪" :‬آية املنافق ثالث ‪-‬زاد مسلم‪ :‬وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم‪ ،‬مث‬
‫اتفقت رواية الشيخني‪ -‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا عاهد‬
‫غدر"‪ .‬وروى الشيخان وغريمها عن أنس أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬ثالث من كن فيه وجد هبن طعم اإلميان‪ :‬من كان اهلل ورسوله أحب‬
‫إليه مما سوامها‪ ،‬ومن أحب عبدا ال حيبه إال هلل‪ ،‬ومن يكره أن يعود يف الكفر‬
‫بعد أن أنقذه اهلل منه كما يكره أن يلقى يف النار"‪.‬‬
‫ثالث بثالث‪ .‬أولئك يبدل اهلل سيآهتم حسنات‪.‬‬
‫توبة من شرك أو نفاق على خطى حكيم منيب سائر إىل اهلل حمب هلل‬
‫حمبوب ليست كتوبة من معصية خوفا من عقوبة اآلخرة‪ .‬أن حتب عبدا ال حتبه‬
‫إال هلل‪ ،‬وأن تتبعه وتتخذ قلبه املنور قنطرة لقلبك‪ ،‬حركة ال تقف بك عند الدوران‬
‫يف العقد والنكث‪ ،‬ما عاهدت اهلل عليه باألمس تنقضه اليوم‪ .‬حركة مع "من‬
‫أناب" إىل اهلل تسري بك‪ ،‬تضع قدمك على أول الطريق‪ .‬قال سلطان العلماء‪:‬‬
‫"التوبة صفة املؤمنني (‪ )...‬واإلنابة صفة األولياء‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪" :‬وجاء بقلب‬
‫منيب"‪ ،‬وأما األوبة فهي صفة األنبياء واملرسلني"‪ .‬حىت قال‪" :‬فشتان بني التائب‬
‫‪1‬‬
‫من الزالت‪ ،‬وبني التائب من الغفالت‪ ،‬وبني التائب من رؤية احلسنات"‪.‬‬
‫القلب املنيب وما فيه من حب هلل وإخالص له هو أصل الدين بشرط أن‬
‫تُقيم األعمال الظاهرة على قانون الشرع‪" ،‬فإن حركات الظاهر توجب بركات‬
‫الباطن" ومن مأل قلبه حب اهلل واإلخالص له‪ ،‬وبرأ من النفاق والشقاق‪ ،‬كان‬
‫وليا هلل‪ ،‬ال يتعامل مع اهلل عز وجل إال على أساس أنه مذنب مقصر مهما كان‬
‫عمله‪ .‬يتوب إىل اهلل ملا يعرف من أن اهلل جلت عظمته حيب التوابني وحيب‬
‫املتطهرين (قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬توبوا إىل ربكم‪ ،‬فواهلل إين‬
‫‪ 1‬بني احلقيقة والشريعة ص ‪.59‬‬

‫‪121‬‬
‫اإلحسان‬

‫ألتوب إىل ريب يف كل يوم مائة مرة"‪ .‬رواه مسلم)‪ ،‬وملا يعلم أن اهلل عزت قدرته‬
‫ووسعت رمحته يفرح بعبده التائب‪ .‬تَسبق يف حساب العبد املنيب الرابطة الوثقى‬
‫رابطة حب اهلل والفرح باهلل توقعات الثواب وخوف العقاب‪ .‬يكون حياؤه من‬
‫اهلل وخوفه من اهلل ووالؤه اخلالص هلل وذكره الدائم هلل الباعث والوازع‪ .‬وتراه يف‬
‫جزئيات األمر والنهي ودقيقات الشرع أورع الناس وأحرص الناس على خري‪.‬‬
‫ب نـَِّي‪" :‬السر األعظم الذي‬ ‫اقرأ معي هذه الصفحة النرية كتبها قـَْل ٌ‬
‫ال تقتحمه العبارة‪ ،‬وال جتسر عليه اإلشارة‪ ،‬وال ينادي عليه منادي اإلميان‬
‫على رؤوس األشهاد‪ ،‬بل شهدتهُ قلوب خواص العباد‪ ،‬فازدادت به معرفة‬
‫برهبا وحمبة له‪ ،‬وطمأنينة وشوقا إليه‪ ،‬وَلَجا بذكره‪ ،‬وشهودا لربه ولطفه وكرمه‬
‫وإحسانه‪ ،‬ومطالعة لسر العبودية‪ ،‬وإشرافا على حقيقة اإلهلية‪ .‬وهو ما ثبت‬
‫يف الصحيحني من حديث أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬لَلّه أفرح بتوبة عبده حني يتوب إليه من أحدكم كان‬
‫على راحلة بأرض فالة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه‪ ،‬فأيِس منها فأتى‬
‫شجرة فاضطجع يف ظلها‪ ،‬قد أيِس من راحلته‪ .‬فبينما هو كذلك إذا هو هبا‬
‫قائمة عنده‪ .‬فأخذ ِِبطَ ِامها مث قال من شدة الفرح‪ :‬اللهم أنت عبدي وأنا‬
‫‪1‬‬
‫ربك! أخطأ من شدة الفرح"‪ .‬هذا لفظ مسلم‪.‬‬
‫وقال كبرينا املستنري القلب‪ .‬اجلميل العبارة‪" :‬اعلم أن العبد‪ ،‬قبل وصول‬
‫الداعي إليه‪ ،‬يف نوم الغفلة‪ .‬قلبه نائم وطرفه يقظان‪ .‬فصاح به الناصح‪ ،‬وأمسعه‬
‫داعي النجاح‪ ،‬وأذن به مؤذن ال رمحن‪ :‬حي على الفالح‪ .‬فأول مراتب‬
‫هذا النائم اليقظة واالنتباه من النوم‪ )...( .‬وصاحب "املنازل" (يعين شيخ‬
‫اإلسالم اهلِروي) يقول‪( :‬اليقظة) هي القومة هلل املذكورة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل‬

‫‪ 1‬ابن القيم يف "مدارج السالكني" ج ‪ 1‬ص ‪.209‬‬

‫‪122‬‬
‫اإلحسان‬

‫وموا لِلَّ ِه َمثـْنَى َوفـَُر َ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬


‫ادى﴾‪.‬‬ ‫إِنَّ َما أَعظُ ُكم بَِواح َدة أَن تـَُق ُ‬
‫‪1‬‬

‫قال‪" :‬القومة هلل هي اليقظة من ِسنة الغفلة‪ ،‬والنهوض عن ورطة الفرتة‪.‬‬


‫يستنري قلب العبد باحلياة لرؤية نور التنبيه‪ .‬وهي على ثالثة أشياء‪:‬‬
‫وهي أول ما ْ‬
‫ظ القلب إىل النعمة‪ ،‬على اليأس من عدها‪ ،‬والوقوف على حدها‪ ،‬والتفرغ‬ ‫َلْ ُ‬
‫‪2‬‬
‫إىل معرفة املِنّة هبا‪ ،‬والعلم بالتقصري فيها"‪.‬‬
‫اهلروي وغريه من املنيبني مشايخ الصوفية‪ .‬كانت‬‫رحم اهلل شيخ اإلسالم ّ‬
‫مسالكهم يف اخللوات‪ ،‬وقومتهم القلبية إىل اهلل‪ ،‬ودعوهتم النفوس النائمة‬
‫إىل االنتباه واليقظة‪ ،‬انكبابا على النفس وانكفافا عن الدنيا‪ .‬وابتلينا يف هذا‬
‫العصر‪ ،‬بل ُشِّرفْنا وهلل املنة والنعمة‪ ،‬بأن نلحظ الشكر الواجب بقومة جهادية‬
‫إلقامة اخلالفة الثانية املوعودة اليت تتجلى طالئعها يف هذا الشاهد الزكي‬
‫املسمى "صحوة إسالمية"‪ ،‬ويف النصر املبني للمجاهدين يف أفغانستان‪ 3.‬هلل‬
‫الفضل واإلفضال‪ ،‬وإليه ترجع األمور‪.‬‬
‫كان للصحبة شروط أيام سلوك اجملاهدة يف اخللوة‪ ،‬كان املشايخ يصرفون‬
‫الوارد املريد ليتطهر قبل أن جيلس إليهم‪ .‬يف زماننا‪ ،‬واحلمد هلل وله املنة‪ ،‬تُباغت‬
‫الرمحة اإلهلية قلوب هذا الشباب فإذا هي تطري حملقة بأجنحة الصدق‪ .‬إن‬
‫وجدت صادقني‪.‬‬
‫جاء رجل إىل عارف باهلل يف الزمان القدمي يطلب الصحبة‪ .‬فقال له العارف‪:‬‬
‫"إن مثلي معك كرجل وقع يف القاذورات‪ ،‬فذهب إىل العطار وقال‪ :‬أين الطيب؟‬

‫‪ 1‬سبأ‪46 ،‬‬
‫‪ 2‬ابن القيم يف "مدارج السالكني" ج ‪ 1‬ص ‪.140-141‬‬
‫‪ 3‬يا لَْلحسرِة على ما فعلته الفتنةُ بأقوام مسهم عذاب من ال رمحن فأصبح منهم أولياءُ للشيطان! نعوذ باهلل من‬
‫احلَ ْوِر بعد الكور‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫اإلحسان‬

‫فقال العطار‪ :‬اذهب اشرت األشنان (صابون ذلك الزمان)‪ ،‬واغسل نفسك‬
‫لطخت نفسك‬ ‫فتطيب! قال العارف للمريد‪" :‬وكذلك أنت‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ولباسك‪ ،‬مث تعال‬
‫بأجناس الذنوب‪ ،‬فخذ أشنان احلسرة‪ ،‬وطني الندامة‪ ،‬وماء التوبة واإلنابة‪ ،‬وطهر‬
‫إجانة (قصعة يغسلون فيها) اخلوف والرجاء‪ ،‬من أجناس اجلرم واجلفاء‪.‬‬‫ظواهرك يف ّ‬
‫مث اذهب إىل محام الزهد والتقى‪ ،‬واغسل نفسك مباء الصدق والصفاء‪ .‬مث ائتين‬
‫‪1‬‬
‫حىت أطيبك بعطر معرفيت!"‪.‬‬
‫لست أدري ما أجاب املريد‪ .‬ويكون جواب مريد عصرنا عن مثل‬
‫هذه الشروط‪" :‬يا سيدي! لو كنت أعلم ما هو صابون احلسرة على ما‬
‫فات‪ ،‬وما هو طني الندامة‪ ،‬وما هو ماء التوبة‪ ،‬وما معىن الندامة‪ ،‬وما ظواهر‬
‫اإلسالم وبواطن اإلميان‪ ،‬وما حماسن اخلوف والرجاء‪ ،‬ومساوىء القطيعة مع‬
‫اهلل واجلفاء‪ ،‬وأين محام الزهد والتقى يغتسل فيه مثلي ملا جئتك!"‪.‬‬
‫قال التائب الراجي الندمان املناجي‪:‬‬
‫يب جعلت رجائي حنو عفوك سلمـا‬ ‫قســا قلــيب وضـاقت م ــذاهـ ‬
‫وملا َ‬
‫تعـاظَمـنـي ذنـيب فلَ ّـمـ ـ ـ ــا قرنـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بعفـوك ريب كان عـفــوك أعظـ ـمــا‬
‫فما زلت ذا عفو عن الذنب مل تـ َـز ل جتــود وتعـف ــو منــة وتـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرمـا‬

‫ومن وأحسن‪:‬‬
‫وقلت عفا اهلل عين وتاب علي ّ‬
‫جته ـ ـ ـمـا‬
‫ـاقت مذاه ـيب وأظل ــم أفْقـي والص ــديـق َّ‬ ‫َوملا قسا قلـيب وض ْ‬
‫ـاث و ْأر َحـ ـم ــا‬
‫وقـفت إهل ـ ــي تـائبـ ـ ـ ـ ـ ــا متنـ ـ ـ ـ ــدمـ ـ ـا ببابك أرجو أن أغ َ‬
‫وتُفتَ َح يف وجهي السدود فأرتق ي وأصعد يف حضن العن ــاية سلَّمــا‬

‫‪ 1‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.66‬‬

‫‪124‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلرادة والهمة والعزم‬

‫ب إِنِّي ال أ َْملِ ُ‬
‫ك إِالَّ نـَْف ِسي‬ ‫ال َر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬قَ َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم اغفر يل خطيئيت‬ ‫َوأَخي فَافـُْر ْق بـَيـْنـَنَا َوبـَْي َن الْ َق ْوم الْ َفاسق َ‬
‫وجهلي وإسرايف يف أمري وما أنت أعلم به مين‪ .‬اللهم اغفر يل جدي‬
‫وهزيل وخطئي وعمدي‪ .‬وكل ذلك عندي‪ .‬اللهم اغفر يل ما قدمت‬
‫وما أخرت‪ ،‬وما أسررت وما أعلنت‪ ،‬وما أنت أعلم به مين‪ .‬أنت‬
‫ملؤخر‪ ،‬وأنت علىكل شيء قدير‪.‬‬ ‫املقدم وأنت ا ّ‬

‫النداء العُ ْلوي يُهيب بك يا إنسان باقتحام العقبة‪ ،‬ويستفهمك سائال‬


‫لتتيقظ إىل أن هنالك عقبة تقتحم‪ ،‬وأن القتحامها شروطا‪﴿ .‬فَ َل اقـْتَ َح َم‬
‫ال َْع َقبَةَ َوَما أَ ْد َر َ‬
‫اك َما ال َْع َقبَةُ﴾‪ 1‬استفهام وحض واستنهاض‪.‬‬
‫مث ينوع اهلل الرمحن خبلقه‪ ،‬الفارح بتوبة عباده‪ ،‬اخلطاب لتقوم اإلرادات‬
‫فم ْن أساليب إثارتك يا إنسان‬ ‫الباردة‪ ،‬وتعزم على طلبه سبحانه اهلمم الراكدة‪ِ .‬‬
‫﴿من َكا َن‬ ‫عرض عليك مراتب اإلرادات‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ :‬‬ ‫وتعليمك وتنبيهك أن تُ َ‬
‫الدنـْيَا نُؤتِِه ِمنـَْها َوَما‬
‫ث ُّ‬ ‫ث ْال ِخ َرِة نَ ِز ْد لَهُ فِي َح ْرثِِه َوَمن َكا َن يُ ِري ُد َح ْر َ‬‫يُ ِري ُد َح ْر َ‬
‫ص ٍ‬ ‫لَهُ فِي ْال ِخرِة ِمن نَّ ِ‬
‫ْحيَاةَ ُّ‬
‫الدنـْيَا‬ ‫﴿من َكا َن يُ ِري ُد ال َ‬ ‫يب﴾‪ .‬وقال عز من قائل‪َ :‬‬
‫‪2‬‬
‫َ‬
‫ف إِلَي ِهم أَ ْعمالَهم فِيها وهم فِيها الَ يـب َخسو َن أُولَـئِ َ َّ ِ‬
‫س‬‫ين لَْي َ‬‫ك الذ َ‬ ‫َوِزينَتـََها نـَُو ِّ ْ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ُْ ُ ْ‬
‫‪ 1‬البلد‪ ،‬اآليتان‪12–11 :‬‬
‫‪ 2‬الشورى‪20 ،‬‬

‫‪125‬‬
‫اإلحسان‬

‫ط ما صنـعواْ فِيها وب ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اط ٌل َّما َكانُواْ يـَْع َملُو َن﴾‪.‬‬‫َّار َو َحبِ َ َ َ َُ َ َ َ‬
‫لَ ُه ْم في اآلخ َرة إِالَّ الن ُ‬
‫‪1‬‬

‫وأنت ترى أصلحك اهلل أن اهلل جلت حكمته ال يبخس أهل الدنيا‬
‫أعماهلم يف الدنيا‪ .‬وما تفوق العامل املصنع املتعلم املنظم من حولنا إال نتيجة‬
‫توفية اهلل عز وجل لكل قوم أعماهلم َوفق ما يريدون‪.‬‬
‫فما السبيل إىل أن تقرتن إرادتنا هلل واآلخرة باإلرادة اجلهادية القائمة‬
‫أسباهبا على العمل الدنيوي التصنيعي التكنولوجي التنظيمي؟ مهما َِن ْد عن‬
‫تربية القرآن وأحضان النبوة نَِز ْغ عن الطريق‪.‬‬
‫إن اهلل اللطيف اخلبري ّأدب نبيه صلى اهلل عليه وسلم فأحسن تأديبه‪ ،‬فكان‬
‫ك‬ ‫سَ‬ ‫من أهم ما ّأدبه به لنتعلم حنن األمة الربانية املرحومة أن قال‪﴿ :‬و ْ ِ‬
‫اصب ْر نـَْف َ‬ ‫َ‬
‫اك َعنـْ ُه ْم‬‫ين يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ َوَل تـَْع ُد َعيـْنَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫َم َع الذ َ‬
‫الدنـْيَا َوَل تُ ِط ْع َم ْن أَ ْغ َفلْنَا قـَلْبَهُ َعن ِذ ْك ِرنَا َواتـَّبَ َع َه َواهُ َوَكا َن‬‫ْحيَ ِاة ُّ‬
‫تُ ِري ُد ِزينَةَ ال َ‬
‫أ َْم ُرهُ فـُُرطاً﴾‪ 2.‬يريدون وجهه‪ ،‬ال إله إال اهلل!‬
‫اقت َح عليك االقتحام‪ ،‬وعُينت لك الرفقة مع املريدين الذاكرين غري الغافلني‪،‬‬ ‫ُِ‬
‫أرباب القلوب العاكفني بباب اهلل بالغداة والعشي‪ .‬فأين إرادتك من اإلرادات؟‬
‫وأين مهتك من اهلمم؟ إنكانت ال حتركنا اإلهابة القرآنية فلعل مالحظة أقراننا يف‬
‫اإلنسانية واإلسالم‪ ،‬السابقني الراقني يف مرافع اإلحسان‪ ،‬توقد فينا محية املنافسة‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن القيم يف تفصيل اإلرادات واهلمم‪" :‬ل ّذةكل أحد على‬
‫حسب ق ْدره ومهته وشرف نفسه‪ .‬فأشرف الناس نفسا‪ ،‬وأعالهم مهة‪ ،‬وأرفعهم‬
‫قدرا‪ ،‬من ل ّذته يف معرفة اهلل‪ ،‬وحمبته‪ ،‬والشوق إىل لقائه‪ ،‬والتودد إليه مبا حيبه‬

‫‪ 1‬هود‪ ،‬اآليتان‪16–15 :‬‬


‫‪ 2‬الكهف‪28 ،‬‬

‫‪126‬‬
‫اإلحسان‬

‫ويرضاه‪ .‬فلذته يف إقْباله عليه‪ ،‬وعكوف مهته عليه‪ .‬ودون ذلك مراتب ال‬
‫حيصيها إال اهلل‪ ،‬حىت تنتهي إىل من لذته يف أخس األشياء من القاذورات‬
‫‪1‬‬
‫والفواحش يف كل شيء من الكالم والفعال واألشغَال"‪.‬‬
‫وصنف اإلمام الغزايل إرادات الناس وتعلُّ َقها باملطلوبات واحملبوبات‪ ،‬من‬
‫لعب األطفال‪ ،‬يرى األطفال أن اللعب أعظم اللذات‪ ،‬إىل لذة البطن والفرج‬
‫عند الكبري‪ ،‬إىل لذة العلم يف عمر النضج‪ ،‬إىل لذة الرئاسة ملن نَا َلَا بالسيف‬
‫الغزايل من طَْرف َخ ِف ٍّي إىل قصته حني زهد يف الرئاسة‬ ‫أو القلم‪ .‬ويشري ّ‬
‫وخرج يبحث عن الدليل إىل اهلل فسخر منه الساخرون‪ .‬قال‪" :‬وكما أن‬
‫الصيب يضحك على من يرتك اللعب ويشتغل مبالعبة النساء وطلب الرئاسة‪،‬‬
‫فكذلك الرؤساء يضحكون على من يرتك الرئاسة ويشتغل عنها مبعرفة اهلل‬
‫تعاىل‪ .‬والعارفون يقولون‪﴿ :‬إِن تَ ْس َخ ُرواْ ِمنَّا فَِإنَّا نَ ْس َخ ُر ِمن ُك ْم َك َما تَ ْس َخ ُرو َن‬
‫‪2‬‬
‫ف تـَْعلَ ُمو َن﴾"‪.‬‬
‫س ْو َ‬
‫فَ َ‬
‫الع َوز‪ ،‬ومن اهلمم َمن طبعها اخلََوُر‪ .‬كان ألمري‬ ‫من اإلرادات من ز ُادها َ‬
‫املؤمنني عمر بن عبد العزيز نفس تواقة عالية‪ .‬قال ملواله مزاحم وقد تعجب‬
‫مزاحم من زهد مواله الذي كان يف شبابه متوسعا يف املعايش فلما ويل أمر‬
‫املسلمني ضرب ملن بعده مثال خالدا ‪" :‬وحيك يا مزاحم! ال يكثرن عليك شيء‬
‫صنعته هلل‪ ،‬فإن يل نفسا ّتواقة‪ ،‬مل تـَتُ ْق إىل منزلة فنالتها إال تاقت إىل ماهو أرفع‬
‫منها‪ ،‬حىت بلغت اليوم املنزلة اليت ما بعدها منزلة‪ .‬وإهنا اليوم قد تاقت إىل اجلنة"‪.‬‬
‫هذا التوقان اجمليد إىل اجلنة ُحداءٌ ترتمن به النفوس الطيبة‪ .‬وهناك التوقان األعظم‪،‬‬
‫الشوق إىل رب اجلنة والنار‪ ،‬والسعي إليه والعجلة إليه على أجنحة اهلمم الطيارة‪ .‬ما‬

‫‪ 1‬الفوائد ص ‪.150‬‬
‫‪ 2‬هود‪ ،‬اآليتان‪39–38 :‬‬

‫‪127‬‬
‫اإلحسان‬

‫حتدث ابن عبد العزيز عن هذه املرتبة‪ ،‬وكانوا يف القرون الثالثة الفاضلة كتومني‬
‫ملواجيدهم وأشواقهم‪ .‬وهلل مهم أولياء اهلل الذين َح َد ْونا وحت ّدونا باإلخبار عن‬
‫إراداهتم الشاخمة ومطالبهم السامية‪ .‬جزاهم اهلل عنا أفضل اجلزاء‪ ،‬فسروا لنا مبثاهلم‬
‫وقصة حياهتم معاين القرآن حني ينادي "سابقوا"‪" ،‬سارعوا"‪ ،‬ومعاين "من تقرب إيل‬
‫شربا تقربت إليه باعا" الوارد يف احلديث القدسي‪ .‬مهم صوارم!‬
‫قال اإلمام الشيخ أمحد الرفاعي‪" :‬ليست اهلمة أن يقف الرجل عند‬
‫حجابه‪ ،‬بل اهلمة أن يـَْفتِق شراع احلجاب‪ ،‬ويتدىل إىل الرحاب‪ .‬صوارم اهلمم‬
‫تفعل ما ال مير باألوهام‪ُ .‬حجب الغيوب ال تشق إال بسهام القلوب"‪ .1‬وعلى‬
‫قدر مهتك تُعطى‪ .‬فأي شيء طلبت يف عمرك يا إنسان! أما مسعت نداء ربك‬
‫ب لَ ُك ْم﴾؟‪ 2‬وليس الطلب بالتمين‪ ،‬لكن بالتشمري‬ ‫الكرمي ﴿ا ْدعُونِي أ ْ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫واهلجرة إىل اهلل بعد التوبة واإلنابة مع املنيبني‪.‬‬
‫لعلك يا نفسي الراكدة اهلامدة القاعدة جتدين ُمنيبا يقرع مسعك بقوارع اللوم‬ ‫ِ‬
‫ك كالمه بعد‬ ‫كما كان يقرع األئمة السابقون‪ .‬قال كبري من كرباء األمة‪ ،‬أمسِّع ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫مثانية قرون ونصف عسى وعسى‪" :‬يا غالم! على قدر مهتك تعطى! ابـَْع ْد عما‬
‫ت عنك وعن اخللق وقد رفعت‬ ‫سوى احلق عز وجل بقلبك حىت تقرب منه‪ُ .‬م ْ‬
‫احلجب بينك وبني ربك عز وجل‪ .‬قال (الغالم)‪ :‬كيف أموت؟ (اجلواب‪ ):‬مت‬
‫عن متابعة نفسك وهواك وطبعك وعاداتك‪ ،‬وعن متابعة اخللق وأسباهبم‪ .‬وآيس‬
‫منهم‪ ،‬واترك الشرك هبم وكل شيء سوى احلق عز وجل‪ .‬اجعل أعمالك كلها‬
‫‪3‬‬
‫لوجه احلق عز وجل(…) فإذا فعلت هذا فقد ُمت عنك وحييت به"‪.‬‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.48‬‬


‫‪ 2‬غافر‪60 ،‬‬
‫‪ 3‬الشيخ عبد القادر اجليالين يف "الفتح الرباين" ص ‪.110‬‬

‫‪128‬‬
‫اإلحسان‬

‫"وهلل اهلمم ما أعجب شأهنا‪ ،‬وأشد تفاوهتا! فهمة متعلقة مبن فوق العرش‪.‬‬
‫ش‪ .‬العامة تقول‪ :‬قيمة كل امرىء ما حيسنه‪.‬‬ ‫ومهة حائمة حول األنتان واحلُ ّ‬
‫‪1‬‬
‫واخلاصة تقول ‪ :‬قيمة املرء ما يطلبه‪ .‬وخاصة اخلاصة تقول‪ :‬مهة املرء إىل مطلوبه"‪.‬‬
‫ت عصى السري إال بني يدي‬ ‫"فلله مهة قطعت مجيع األكوان! وسارت فما ألْ َق ْ‬
‫ال رمحن‪ ،‬تبارك وتعاىل‪ .‬فسجدت بني يديه سجدة الشكر على الوصول إليه"‪.2‬‬
‫من أصحاب احلسرة والثبور من ال جيد من إر ِ‬
‫ادته رفْدا هلبُوطها‪ ،‬وال من‬
‫مهته جهدا لسقوطها‪ .‬ومن الرجال من تـَبـْلُ ُغ إرادته توترها ومدها‪ ،‬وتناهض‬
‫نفسه يف ميدان املنافسة قِْرَنا ونِ ّدها‪ ،‬وتقتحم مهته األكوان خارقة عقبتها‬
‫وسدها‪ .‬اخرق السدود بينك وبني املوىل‪ ،‬عسى أنواره لك َتَلّى‪.‬‬
‫قال اإلمام الغزايل‪" :‬السد بني املريد وبني احلق أربعة‪ :‬املال واجلاه والتقليد‬
‫واملعصية(‪ .)...‬فيْنبغي أن يطلب كشف ذلك من اجملاهدة ال من اجملادلة(‪.)...‬‬
‫فإذا قدم هذه الشروط األربعة (وهي خرق سدود املال واجلاه والتقليد واملعصية)‪،‬‬
‫وجترد عن املال واجلاهكانكمن تطهر وتوضأ ورفع احلدث وصار صاحلا للصالة‪.‬‬
‫فيحتاج إىل إمام يقتدي به‪ .‬فكذلك املريد حيتاج إىل شيخ وأستاذ يقتدي به ال‬
‫‪3‬‬
‫حمالة ليهديه إىل سواء السبيل‪ .‬فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثرية"‪.‬‬
‫من قال إن سبيل الدين غامض؟ أنت يا حجة اإلسالم‪ ،‬يا منكانت تشد‬
‫إليه الرحال للفتوى وتتزاحم حوله الرجال لالستفادة والتلمذة؟ مث خرجت تطلب‬
‫إماما بعدما أعياك نطح السدود والتماس األشنان لتغسل هبا ذات نفسك من‬
‫ْأدران اهلوى والدنيا!‬

‫‪ 1‬ابن القيم يف "مدارج السالكني" ج ‪ 3‬ص ‪.147‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.98‬‬
‫‪ 3‬اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،3‬س‪.65‬‬

‫‪129‬‬
‫اإلحسان‬

‫لقد كلفتنا جسيما أن نـُبـَِّي ملن ال يريد أن يسمع كيف يكون سبيل الدين‬
‫غامضا ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم علم أصحابه وبني‪ ،‬وما ترك صغرية وال‬
‫كبرية إال أوضحها وجالها حىت تركهم على مثل احملجة البيضاء‪ ،‬ليلهاكنهارها ال‬
‫يزيغ عنها إال هالك‪.‬‬
‫جزاكم اهلل عنا خري اجلزاء يا أكابرنا‪ .‬لقد أحمضتمونا النصح حني أمجعتم‬
‫على أن ُسلوك الطريق إىل اهلل عز وجل بال إمام مرشد ويل مغامرة يف ُوعورة‬
‫ال أول هلا وال آخر‪.‬‬
‫كنت قد شارفت األربعني عندما تداركين الرؤوف الرحيم باملؤمنني هببة‬
‫املعاد‪ ،‬فوجدتين حمموال على‬ ‫ويقظة‪ ،‬فهام الفؤاد‪ ،‬وغلب التفكري يف املبدإ و َ‬
‫وعكفت علىكتب القوم‪ ،‬فما‬ ‫الطلب مدفوعا إليه‪ .‬كيف السبيل إليك يا رب؟ َ‬
‫منهم إال من صرفين للبحث عن الرفيق قبل الطريق‪ِ .‬بن أَستنجد يا رب غريك؟‬
‫وشككت وترددت أهو شرك مع اهلل؟ لكنين بَعد أن استغرقْت يف العبادة والذكر‬
‫نت أن طلب ما عند اهلل هو غري طلب وجه اهلل‪.‬‬ ‫واجملاهدة والتالوة زمانا تبيّ ُ‬
‫األعمال الصاحلة إن كان فيها اإلخالص وقبلها احلنان املنان تنيل اجلنان‪ .‬لكن‬
‫أي شيء يرفعين إىل مقامات اإلحسان َوفسحات العرفان‪ .‬واشتد يب األسى‪،‬‬
‫ت نفسي‪ ،‬وتضرعت وبكيت عليه‪ ،‬هو امللك الوهاب‪ .‬وأحتفتين ألطافُهُ بلقاء‬ ‫ِ‬
‫وع ْف ُ‬
‫عارف باهلل رباين صحبته أعواما رمحه اهلل‪ .‬وفَهمت منذئذ ما معىن كون الطريق‬
‫مسدودا‪ ،‬ومل هذه السدود‪ ،‬وكيف اخرتاقها‪ ،‬وأين‪ ،‬ومىت‪ ،‬وأيَّا َن! هلل احلمد واملنة‪،‬‬
‫وألهل اهلل الناصحني خلق اهلل‪ ،‬ال خيافون يف النصيحة غري اهلل‪ ،‬وال يرجون إال‬
‫اهلل‪ ،‬الشكر اخلالص‪ .‬ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪.‬‬
‫غالب ال ُـمربني خيربون أن اإلرادة ترك العادة‪ ،‬وأن اهلمة هنوض القلب يف‬
‫طلب احلق‪ .‬وقالوا‪ :‬اإلرادة لَ ْوعة تـَُه ِّون كل روعة! لوعة على ماذا؟ وروعة من‬

‫‪130‬‬
‫اإلحسان‬

‫ماذا؟ إذا كان ال يزورك َهم بالعاجلة ومعناها‪ ،‬واآلجلة ومبناها‪ ،‬وال‬
‫خيامرك خاطر طلب احلق كما طلب الرجال‪ ،‬فلمثلك يقال‪:‬‬
‫دع املكــارم ال ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي‬
‫اقعد يف سفاسف األمور‪ .‬واعلم أن اهلل عز وجل حيب معايل األمور‬
‫وأشرافها‪ ،‬ويكره سفسافها كما جاء يف احلديث‪ .‬وأي شيء أعظم وأشرف‬
‫وأعلى من مهة مسعت السماع القليب أن اهلل يتخذ من عباده أولياء أصفيَاء‬
‫فتلوعت واكتوت‪ .‬وتروعت وفقدت الراحة وأظلم هنارهاكمدا وابيض ليلها َأرقاً!‬
‫وما استقر هلا قرار حىت وضعت قدمها على أول الطريق‪ ،‬وهو العُثور على الرفيق‪.‬‬
‫قال الدقاق رمحه اهلل‪" :‬اإلرادة لوعة يف الفؤاد‪ ،‬لَذعة يف القلب‪ ،‬غرام يف‬
‫الضمري‪ ،‬انزعاج يف الباطن‪ ،‬نريان تتأجج يف القلوب"‪.‬‬
‫ومراد يف اصطالح القوم‪ ،‬والكل إرادته عز وجل وإفضاله‪.‬‬ ‫هنالك مريد ُ‬
‫طائفة سلك هبم طريق اجملاهدة والصرب واملكابدة فهم املسمون مريدين‪ .‬وطائفة‬
‫الر َسن‪ ،‬ومحلهم‬ ‫ِ‬
‫العلَن‪ ،‬وأسلس هلم َّ‬
‫سلك هبم طريق املنن‪ ،‬ومهد هلم يف السر و َ‬
‫على أجنحة التوفيق والوفاق إىل التالق‪ .‬أولئك هم املرادون‪ .‬سادهتم األنبياء مث‬
‫الصحابة اجملاهدون فاإلخوان املكرمون‪ .‬جعلنا اهلل منهم مبنه وعفوه وكرمه‪ .‬آمني‪.‬‬
‫ال َخبـََر عند الطاعمني الكاسني بأن يقظة القلب‪ ،‬ولوعة الفؤاد‪ ،‬وهبوب‬
‫خبروج القلب من ظلمات الغفلة‪ ،‬ومبيالد الروح‬ ‫اهلمة‪ ،‬ولذعة الليل والنهار إيذا ٌن ُ‬
‫شيمتِها‪ .‬قال كبري من أهل الذوق والتوق والشوق شيخ‬ ‫وم َ‬
‫ِ‬
‫من َرحم النفس َ‬
‫اإلسالم ابن القيم رمحه اهلل‪" :‬القلوب يف هذه الوالدة ثالثة‪ .‬قلب ال يولد ومل يأْ ِن‬
‫له أن يُو َلد‪ ،‬بل هو َجنني يف بطن الشهوات والغي واجلهل والضالل‪ .‬وقلب قد‬
‫ُولد وخرج إىل فضاء التوحيد واملعرفة‪ ،‬وختلص من مشيمة (أحشاء الرحم) الطباع‬

‫‪131‬‬
‫اإلحسان‬

‫ت بقربه‬ ‫ِ‬
‫فقرت عينه باهلل‪ ،‬وقرت عيون به وقلوب‪ ،‬وأن َس ْ‬ ‫وظلمات النفس واهلوى‪ّ ،‬‬
‫وذكرت رؤيتُه باهلل‪ .‬فاطمأن باهلل‪ ،‬وسكن إليه‪ ،‬وعكف هبمته عليه‪،‬‬ ‫األرواح‪َّ ،‬‬
‫وسافرت ِه ُمه وعزائمه إىل الرفيق األعلى‪ .‬ال يَِقّر بشيء غري اهلل‪ ،‬وال يسكن إىل‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫شيء سواه‪ ،‬وال يطمئن بغريه‪ .‬جيد منكل شيء سوى اهلل ع َوضا‪ .‬وحمبته قوته‪ .‬ال‬
‫جيد من اهلل عوضا أبدا‪ .‬فذكره حياة قلبه‪ ،‬ورضاه غاية مطلبه (‪ .)...‬وقلب ثالث‬
‫يف الربزخ ينتظر ال ِوالدة صباحا مساء‪ .‬قد أصبح على فضاء التجريد‪ .‬وأنِس من‬
‫قرباً إىل َمن السعادة‬
‫خالل الديار أشعة التوحيد‪ .‬تأىب َغلَبَات احلب والشوق إال تَ ُّ‬
‫‪1‬‬
‫كلها بقربه‪ ،‬واحلظ كل احلظ يف طاعته وحبه"‪.‬‬
‫ال حتسيب يا نـَْفس أن بالقوم رضي اهلل عنهم َولُوعاً باألدب وحباً يف النثر‬
‫الفين ينمقون العبارات للمعارض الكالمية‪ .‬قصدهم إثارتك لتسأيل َم ْن قلبك‬
‫بني القلوب‪ ،‬وأين أنت من معاين اإلرادة واهلمة وامليالد القليب‪ .‬ولعل أنامل‬
‫الكلمة الرقيقة من نثر وشعر تتخلل كيانك الكثيف لتبلغك لطائف املعاين‪.‬‬
‫انظري أية سدود تعوقك عن االقتحام‪ ،‬أم أن مستنقع الرذيلة جمال‬
‫تستحلينها‪ ،‬مفضلة "عافية‬
‫ْ‬ ‫يستهويك‪ ،‬أو عندك "فضيلة" رخيصة أنت‬
‫اجلبناء" املرحية من اللوعات والروعات؟!‬
‫آنست ُّ‬
‫ختففا من ج َذبات‬ ‫ِ‬
‫إنه امللك الوهاب سبحانه‪ ،‬عليك به إن ْ‬
‫تك نسمة من مسافرين إىل اهلل جماهدين يف سبيل‬ ‫اإلبطال واإلحباط‪ ،‬أو عطّر ِ‬
‫فيك هاجس الطلب‪.‬‬‫اهلل فهجس ِ‬
‫إن ِ‬
‫فاتك أن تكوين من الذين "قرت عيوهنم باهلل‪ ،‬وقرت هبم عيون وقلوب‪،‬‬
‫وأنست بقرهبم األرواح‪ ،‬وذكرت رؤيتهم باهلل"‪ ،‬وكانوا على باب امللك ترامجة‬

‫‪ 1‬طريق اهلجرتني ص ‪.17‬‬

‫‪132‬‬
‫اإلحسان‬

‫عن الوحي أمناء للرسل‪ ،‬فال أقل من أن تقفي بالباب راجية راغبة‪.‬‬
‫حماسب ومناقَش‪ .‬أنت يف القرب مذموم‪،‬‬
‫امسك غدا َ‬
‫امسك مذنب‪َ ،‬‬ ‫امسك؟! َ‬‫"ما َ‬
‫ال تدري أمن أهل النار أنت أم من أهل اجلنة‪َ .‬عاقبتك مبهمة فال تغرتَّ بصفاء‬
‫ن إذا أصبحت فال حتدث نفسك باملساء‪ ،‬وإذا‬ ‫حالك‪ .‬ما تدري ما امسك غدا‪ .‬يا بـََُّ‬
‫أمسيت فال حتدث نفسك بالصباح‪ )…( .‬عالمة غفلتك مصاحبتك الغافلني‪ .‬يا‬
‫أمحق؟ من ال يظهر عليه أمارات احلق ملاذا تصحبه؟ (‪ )...‬يا أمحق! تأيت باب هذا‬
‫وباب هذا تسأله حىت يكثر مجعك (احلديث موجه ملن يطلب بعلمه الرئاسة على‬
‫‪1‬‬
‫اخللق)‪ .‬كيف يرجى لك الفالح! هالكنت على باب امللك؟!"‪.‬‬
‫أوصى األكابر بالوقوف بالباب وبتعلم آداب الوقوف ممن "عندهم رأس‬
‫األمر كله‪ ،‬وهم قناطر اخللق"‪ .‬قال الشيخ أمحد الرفاعي رمحه اهلل‪" :‬أوصيكم‬
‫كل الوصية بعد علم واجبات الدين بصحبتهم‪ ،‬فإهنا تَرياق جمرب‪ .‬عندهم‬
‫رأس األمر كله‪ .‬عندهم الصدق والصفاء‪ ،‬والذوق والوفاء‪ ،‬والتجرد من الدنيا‪،‬‬
‫والتجرد من األخرى‪ ،‬والتجرد إىل املوىل‪ .‬وهذه اخلصال ال حتصل بالقراءة‬
‫والدرس واجملالس‪ .‬ال حتصل إال بصحبة الشيخ العارف الذي جيمع بني احلال‬
‫‪2‬‬
‫واملقال‪ .‬يدل مبقاله‪ ،‬وينهض حباله‪ .‬أولئك هدى اهلل فبهداهم اقتده"‪.‬‬
‫إن كنت مل تفهم معىن "التجرد من األخرى‪ ،‬والتجرد إىل املوىل" فاصرب‬
‫معي إىل آخر الكتاب‪ ،‬عساك تفهم‪ ،‬وتغنم‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫قال القاعد املرتاح‪:‬‬
‫ذريـين جتئين ميتيت مطمـ ـ ـ ـ ـ ــئنـ ـ ـ ـ ــة ومل أجتشم هول تلك الـم ـ ـ ـ ـوارد‬

‫‪ 1‬الشيخ عبد القادر يف "الفتح الرباين" ص ‪.343‬‬


‫‪ 2‬الربهان املؤيد ص ‪.71‬‬

‫‪133‬‬
‫اإلحسان‬

‫مبستودعات يف بطون األسـا ِود‬ ‫فإن عُليــات األمــور َمش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوبَـ ةٌ‬
‫وقال املهاجر إىل اهلل‪:‬‬
‫هلل ال تقص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوى اهلل‬ ‫خذ طارف السري بال عائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ ـق‬
‫بـهج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة القـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب إىل اهلل‬ ‫فك ــل م ــا أملت ـ ـ ـ ـ ـ ــه قـائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ‬
‫وقال الناصح املشفق‪:‬‬
‫هنارك يا مغرور سهو وغفلـ ـ ـ ـ ـ ـة وليلك نــوم والـردى لـ ـ ـ ــك الزم‬
‫وتَكدح فيما سوف تُنكر ِغبَّه كذلك يف الدنيا تعيش البهائــم‬
‫تُ َسُّر مبا يـَْف َن وتفــرح بامل ـ ـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـىن كما غُر باللذات يف النوم حامل‬
‫وقال السائر املقتحم يف حبار األهوال‪:‬‬
‫ومل أر غيــر اهلل مــاال وال أه ـ ــال‬ ‫وملا ركبت البحر حنـوك قـاصـد ا‬
‫ِ‬
‫بصدق ِوداد مل يكـن قـط ُم ْعـتَـ ـ ـ ـالّ‬ ‫ـوج طاف ح‬‫دعوتك باإلخالص وامل ُ‬
‫ويا صمدا يبقـى إذا أذهـب ال ُكال‬ ‫أيا منقذ الغرقى ويا ملهم التق ـ ى‬
‫وحق هلذا اخلَلق أن يألـف الـ ـ ـ ـ ـ ّذال‬
‫ُ‬ ‫الب والبَ ْحُر خاض ـ ع‬
‫لوجهك َذ ّل َ‬

‫وقلت أغاثين اهلل وكل ملهوف تائق حلضرته‪:‬‬

‫ـت هلل‬
‫تنـ ـ ـ ــاهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا إن م ـ ـ ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫كـ ـ ُّـل الــذي تـأْ ُملُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهُ ِهبَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ة‬
‫ـك النّـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـد إىل اهلل‬ ‫َوتَـ ـ ـ ْـس ـ ـلُـ َ‬ ‫إن مهـ ـ ـ ـ ــة من ـ ــك إليـ ـ ــه ارتـََقـ ْ ‬
‫ـت‬
‫ك ــف الضـ ـ ـ ـراعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة إىل اهلل‬ ‫ِّدت ‬ ‫تـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوز باهلل إذا مـ ـ ـ ــد َ‬

‫‪134‬‬
‫اإلحسان‬

‫جناية المصطلحات‬

‫ب ا ْغ ِف ْر لِي َوأل َِخي َوأَ ْد ِخلْنَا‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ين ﴾‪ .‬اللهم أصلح يل ديين الذي‬ ‫َنت أَرحم َّ ِ ِ‬ ‫فِي َر ْح َمتِ َ‬
‫الراحم َ‬ ‫ك َوأ َ ْ َ ُ‬
‫هو عصمة أمري‪ .‬وأصلح يل دنياي اليت فيها معاشي‪ .‬وأصلح‬
‫يل آخريت اليت فيها معادي‪ .‬واجعل احلياة زيادة يل يف كل خري‪.‬‬
‫واجعل املوت راحة يل من كل شر‪.‬‬

‫إنكانت عقبَات الصمم عن مساع النداء املوجه للفطرة‪ ،‬وعقبات الكربياء‬


‫املانعة من األخذ عن األكابر‪ ،‬وعقبات البعد عن عهد النبوة والصحابة‪،‬‬
‫وعقبات الدنيا والشهوات املانعة من التوبة واليقظة‪ ،‬وعقبات االنغماس‬
‫اجز شاهقة وسدودا َغالقة عن االقتحام‬ ‫واالنطماس عن طلب املعايل حو َ‬
‫فإن من أهم العقبات وجود آراء مسبقة عن شيء يسمى التصوف‪ ،‬يتحدث‬
‫جهابذة علمائه عن "سبيل الدين الغامض"‪ ،‬وعن املعرفة واللحظ‪ ،‬وعن ميالد‬
‫القلوب‪ ،‬وعن ضرورة الشيخ‪ ،‬ويستعملون مصطلحات حمدثة‪ .‬وعندي وعند‬
‫املسلمني أن كل حمدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة‪ ،‬وكل ضاللة يف النار‪.‬‬
‫فما هي هذه الشجرة اليت ْتزعمون أنكم مشمتم أزهارها وقطفتم مثارها؟‬
‫من غرسها‪ ،‬ومب سقاها‪ ،‬ومن تعهدها حىت َوِرفَ ْ‬
‫ت ظالهلا‪ ،‬وامتدت‪ ،‬وفاء إليها‬
‫أكابر العلماء جيثون على الركب أمام الشيخ العارف يسلسون له القياد‪ .‬وقام‬
‫طائفة من أهل العلم يصرخون ويستصرخون‪ ،‬وينقدون ويؤلفون يف "تبليس‬

‫‪135‬‬
‫اإلحسان‬

‫إبليس"؟ دين اهلل واضح‪ ،‬وها هو الكتاب وها هي السنة‪.‬‬


‫ضع بإزاء سؤاالتك ُسؤاالً أخريا‪ :‬ما حقيقة إسالمك أنت؟ وما حقيقة إميانك؟‬
‫وضع بإزاء وجود الكتاب والسنة وجودك أنت‪ ،‬واشتغل بسؤاهلا إن‬
‫ت وأعياك التَّطواف بالكتب واخلالفات‪.‬‬
‫طُْف َ‬
‫مث تعال معي‪ ،‬واصرب معي‪ .‬فقد جنيت لك األطايب من شجرة طيبة إن‬
‫كنت من الصادقني‪ ،‬وإن علمت أن أحداً من العقالء ال جيازف بآخرته فيهرف‬
‫مبا ال يعرف‪.‬‬
‫ذكر البخاري عن علي رضي اهلل عنه أنه قال‪" :‬حدثوا الناس مبا يعرفون‪،‬‬
‫َودعوا ما يكرهون‪ .‬أحتبون أن يكذب اهلل ورسوله؟" ومن هذا الباب قول عبد‬
‫اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪" :‬ما من رجل حيدث قوما حديثا ال تبلغه عقوهلم‬
‫إال كان فتنة لبعضهم"‪.‬‬
‫وقد كانت وال تزال أحاديث الصوفية عن مواجيدهم وما يتخذونه من‬
‫مصطلحات فتنة لكثري من املسلمني‪ .‬ومن الناس من يكره تلك األحاديث‬
‫جملرد أهنا تشري إىل ما ال تدركه عقوهلم‪ .‬وعند القوم رضي اهلل عنهم مما يضمره‬
‫اجلنان ما ال تتسع له العبارة رغم وفرة املصطلحات‪ .‬قال الغزايل‪" :‬ومن أول‬
‫الطريقة تبتدئ املشاهدات واملكاشفات حىت إهنم (أي الصوفية) يف يقظتهم‬
‫يشاهدون املالئكة وأرواح األنبياء‪ ،‬ويسمعون منهم أصواتا‪ ،‬ويقتبسون منهم‬
‫فوائد‪ ،‬مث يرتقى هبم احلال من مشاهدة الصور واألمثال إىل درجـات يضيق عنها‬
‫نطاق النطق‪ ،‬فال حياول معرب أن يعرب عنها إال اشتمل لفظه على خطإ صريح‬
‫‪1‬‬
‫ال ميكنه االحرتاز عنه"‪.‬‬

‫‪ 1‬املنقذ من الضالل ص ‪.54‬‬

‫‪136‬‬
‫اإلحسان‬

‫رويدا‪ ،‬رويدا! مالئكة تشاهد! أرواح! مث ال يكفي هذا! أين بساطة‬


‫اإلميان من هذه الدعوى اليت ال يستسيغها ُمدرك حبس وال متخيل حبدس؟!‬
‫السلف الصاحل مل يستعملوا األلفاظ الـمـُْغ ِربة وإنكان ورد عن عمران بن حصني‬
‫الصحايب رضي اهلل عنه أنهُ كانت تصافحه املالئكة حىت اكتوى فاحتجبت عنه‪.‬‬
‫إن اصطالحات القوم ككل االصطالحات احملدثة يف اإلسالم أشياء‬
‫حمددة باملكان‪ ،‬موسومة بالزمان‪ ،‬أمالها االضطرار‪.‬‬
‫يستعملوا هذه األلفاظ‪ .‬مل يكن‬ ‫قال األستاذ القشريي‪" :‬السلف الصاحل مل ْ‬
‫يف معارفهم خلل‪ .‬واخللَف الذين استعملوا هذه األلفاظ مل يكن ذلك منهم لطريق‬
‫احلق ُمبايَنةً‪ ،‬وال يف الدين بدعة‪ .‬كما أن املتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة‬
‫استعملوا ألفاظ الفقهاء من لفظ "العلة" و"املعلول" و"القياس" وغريه‪ .‬مث‬ ‫والتابعني ْ‬
‫مل يكن استعماهلم لذلك بدعة وال ُخلُُّو السلف عن ذلككان هلم نقصا‪ .‬وكذلك‬
‫شأن النحويني والتصريفيني ونـََقلَةُ األخبار‪ ،‬يف ألفاظ َتْتصكل طائفة منهم هبا"‪.1‬‬
‫قال هذا األستاذ القشريي‪ ،‬وهو من أئمة الفقهاء واملتكلمني والصوفية‪،‬‬
‫مجع اهلل فيه خريا كثريا‪ ،‬يف رسالة له يدافع فيها عن العقيدة األشعرية‪ ،‬وعن‬
‫مصطلحات املتكلمني‪.‬‬
‫ومن العلماء األكابر من يشفق على قارىء أخبار الصوفية أن يسيء‬
‫فهمهم فيقرب ويُسدد‪ .‬قال ابن القيم بعد أن تناول مبحثا دقيقا من مباحث شيخ‬
‫اإلسالم اهلروي‪" :‬وَك َس ْوتُهُ أحسن عبارة لئال يـُتَعدى عليهم بسوء التعبري املوجب‬
‫‪2‬‬
‫للتنفري"‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 2‬ص ‪.287‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكني ج ‪ 2‬ص ‪.249‬‬

‫‪137‬‬
‫اإلحسان‬

‫ومنهم من يشرح ويُقارن‪ .‬قال اإلمام السيوطي‪" :‬واعلم أن دقائق علم‬


‫التصوف لو عُرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة اليت ألفوها يف علومهم‬
‫الستحسنوها كل االستحسان‪ ،‬وكانوا أول قائل هبا‪ .‬وإمنا ينفرهم منها إيرادها‬
‫‪1‬‬
‫بعبارة مستغربة مل يألفوها"‪.‬‬
‫وبعد فما هو التصوف‪ ،‬وكلمة "تصوف" هي رأس قائمة املصطلحات؟‬
‫وما عالقة التصوف‪ ،‬وهو لفظ حمدث‪ ،‬باإلحسان وهو لفظ قرآين نبوي‪،‬‬
‫وبالتزكية والتطهر؟‬
‫اعلم يا أخي أوال أنين أزهد الناس يف املصطلح إن سلمت لنا مطويات‬
‫القلوب ومكنونات اللبوب‪ .‬واعلم ثانيا أن هؤالء الذين تسموا يف التاريخ صوفية‬
‫أشكال وألوان وأصناف‪ ،‬منهم الصادقون ومنهم دون ذلك‪ .‬واعلم أخريا أنين ال‬
‫أبغي بغري الصحابة اجملاهدين املهاجرين إىل اهلل ورسوله الناصرين بديال‪.‬‬
‫أما الصوفية فقال عنهم واحد من فرسان العلماء وجهابذهتم ابن تيمية‬
‫رمحه اهلل‪" :‬طائفة ذمت الصوفية والتصوف‪ ،‬وقالوا إهنم مبتدعون خارجون عن‬
‫السنة (‪ .)...‬وطائفة َغلت فيهم وادعوا أهنم أفضل اخللق وأكملهم بعد األنبياء‪.‬‬
‫وكِال طريف هذه األمور ذميم‪ .‬والصواب أهنم جمتهدون يف طاعة اهلل‪ ،‬كما اجتهد‬
‫غريهم من أهل طاعة اهلل‪ .‬ففيهم السابق املقرب حبسب اجتهاده‪ .‬وفيهم املقتصد‬
‫الذي هو من أهل اليمني‪ .‬ويف كل من الصنفني من قد جيتهد فيُخطئ‪ ،‬وفيهم‬
‫يذنب فيتوب أو ال يتوب‪ .‬ومن املنتسبني إليهم من هو ظامل لنفسه‪ ،‬عاص‬ ‫من ُ‬
‫لربه‪ )...( .‬فهذا أصل التصوف‪ .‬مث إنه بعد ذلك تشعب وتنوع‪ ،‬وصارت‬
‫‪2‬‬
‫الصوفية ثالثة أصناف‪ :‬صوفية احلقائق‪ ،‬وصوفية األرزاق‪ ،‬وصوفية الرسم"‪.‬‬

‫‪ 1‬تأييد احلقيقة العلية ص ‪.21‬‬


‫‪ 2‬الفتاوي ج ‪ 10‬ص ‪.19 18-‬‬

‫‪138‬‬
‫اإلحسان‬

‫يعين شيخ اإلسالم بصوفية احلقائق صوفية السلوك واألذواق والكشف‬


‫والفتح والكرامات على درجات‪ .‬ويعين بصوفية األرزاق أقواما حبسوا أنفسهم يف‬
‫األرفاقات والصدقات‪ .‬ويعين بصوفية‬ ‫اخلانقات والزوايا جتري عليهم اجلرايات و ْ‬
‫املتشبّهون واملتربكون واملنتسبون باللباس واآلداب والزي‪ .‬صنف رابع مل‬
‫الرسم َ‬
‫يذكرهم الشيخ هم صنف التصوف الفلسفي حيملون االسم زورا وهبتانا‪.‬‬
‫وصنف خامس مل يذكرهم الشيخ ولعلهمكانوا ال يوجدون يف زمانه ومكانه‬
‫واهتمامه‪ .‬وهم صوفية الرباط‪ ،‬اجملاهدون يف ثغور املسلمني‪.‬‬
‫باجلملة ما حكم العلماء على الصوفية الصادقني؟ قرأنا يف الفصل األول‬
‫من هذا الكتاب شهادات متشي على رجلني‪ ،‬هي شهادات فطاحل العلماء‬
‫الساعني خبضوع للجلوس بني يدي العارف الرباين‪ .‬ونقرأ هنا شهادة مكتوبة‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل‪" :‬فَنبأ القوم عجيب‪ ،‬وأمرهم خفي إال على من له مشاركة‬
‫مع القوم‪ ،‬فإنه يطلع من حاهلم على ما يريه إياه ال َق ْدر املشرتك"‪ .‬ال شك أن‬
‫الشيخ يعين نفسه هنا‪ ،‬يشارك القوم (الصوفية) يف مشارهبم القلبية ويـَنـَْف ِرُد عنهم‬
‫باملشاركة الواسعة يف علوم الظاهر‪ .‬والق ْد ُر املشرتك بينه وبينهم َعلّ َمه أن‪" :‬مجلة‬
‫أمرهم أهنم قوم قد امتألت قلوهبم من معرفة اهلل‪ ،‬وغُ ِمرت مبحبته وخشيته‬
‫وإجالله ومراقبته‪ .‬فسرت احملبة يف أجزائهم‪ ،‬فلم يبق فيها عرق وال مفصل إال‬
‫وقد دخله احلب‪ .‬قد أنساهم حبه ذكر غريه‪ .‬وأوحشهم أنسهم به ممن سواه‪ .‬قد‬
‫فـَنُوا حببه عن حب من سواه‪ ،‬وبذكره عن ذكر من سواه‪ ،‬وخبوفه ورجائه والرغبة‬
‫إليه والرهبة منه والتوكل عليه واإلنابة إليه والسكون إليه والتّذلل واالنكسار بني‬
‫‪1‬‬
‫يديه عن تعلق ذلك منهم بغريه"‪.‬‬

‫‪ 1‬طريق اهلجرتني ص ‪.262‬‬

‫‪139‬‬
‫اإلحسان‬

‫أهذا غلُو يف القوم يـُْبديه تلميذ ابن تيمية الذي يعده املستَ ِخ ّفون عدوا لكل‬
‫ما ميت للتصوف بصلة؟ كال واهلل بل هي شهادة رجل واثق ذائق صادق‪.‬‬
‫والتصوف اخلُلُق‪ .‬قال الكتاين أحد مشايخ الصوفية‪" :‬التصوف هو‬
‫اخللق‪ ،‬فمن زاد عليك يف اخللق فقد زاد عليك يف التصوف"‪ .‬وسئل ذو النون‬
‫املصري‪ ،‬وهو من أكابر القوم‪ ،‬عن الصويف فقال‪" :‬هو الذي ال يُتعبه طلب‪،‬‬
‫وال يزعجه سلب"‪ .‬وقال أيضا‪" :‬هم قوم آثروا اهلل على كل شيء فآثرهم اهلل‬
‫على كل شيء"‪.‬‬
‫ال حاجة لنا هنا يف البحث عن أصل املصطلح هل هو من الصوف‬
‫أو من الصفاء‪ .‬ولننظر يف املواضيع اليت متأل كتب القوم‪ .‬يف رسالة القشريي‪:‬‬
‫احلال واملقام‪ ،‬والقبض‬
‫"باب يف تفسري ألفاظ تدور بني هذه الطائفة"‪ .‬منها ُ‬
‫والبسط‪ ،‬واهليبة واألنس‪ ،‬والتواجد والوجد والوجود‪ ،‬واجلمع والفرق‪ ،‬والفناء‬
‫والبقاء‪ ،‬والغيبة واحلضور‪ ،‬والصحو والسكر‪ ،‬والذوق والشرب‪ ،‬واحملو واإلثبات‪.‬‬
‫الصيا ُن وال يفصح عنها البيان إال‬
‫والقائمة طويلة‪ .‬وحتت كل لفظ علوم يـُْبهمها ِّ‬
‫إشارات ومصطلحات يعرفها من ذاق‪.‬‬
‫ال بأس من هذه األذواق الشريفة ال ُـمنيفة تُصاغ يف قوالب لفظية ليتداوهلا‬
‫أهل الذوق وليتفامهوا فيما بينهم‪ .‬وقدكانت حياهتم حياة التفرغ واالنكفاف عن‬
‫لتعميق املشاعر الرقيقة‪ .‬يا حسرة على من ظن أن حديث‬ ‫اخللق‪ .‬يتسع وقتهم ْ‬
‫القوم ولغتهم زخرف القول غرورا‪ ،‬تزويق وتنميق‪ .‬ذاك على الباب ما قرع‪ ،‬ومن‬ ‫ْ‬
‫أهل الذكر ما مسع‪ .‬أولئك هم الغافلون‪.‬‬
‫وبخ بَ ٍخ! لكين ال أجد يف هذه القائمة املبجلةكلمات القرآن والنبوة‬
‫البأس‪ٍ ،‬‬
‫عن اجلهاد‪ ،‬والقتال‪ ،‬والنفقة يف سبيل اهلل‪ ،‬وحصار املشركني‪ ،‬والغلظة عليهم‬
‫والشدة‪ ،‬والتحزب هلل‪ ،‬ومحل هم األمة‪ ،‬والنصيحة لعامة املسلمني وخاصتهم‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫اإلحسان‬

‫َّت يف عصرنا مستجدات‪ :‬أمة مقهورة مقسومة مغلوبة‪ ،‬فلسطني‬ ‫وجد ْ‬


‫َ‬
‫القدس احملتلة‪ ،‬ختلف املسلمني‪ ،‬حكام اجلرب عليهم‪ ،‬قوى عظمى تتحكم يف‬
‫األرض‪ ،‬ختلف‪ ،‬صناعة‪ ،‬فضاء‪ ،‬علوم‪ ،‬اخرتاعات‪ ،‬تكنولوجيا‪ ،‬طـوق إعالمي‬
‫يغزو سكان األرض‪ ،‬جماعة‪ ،‬تضخم سكاين‪ ،‬استعمار‪ ،‬ثورة‪ ،‬تلوث البيئة‪،‬‬
‫أسلحة نووية‪ ،‬أسفار حنو الكواكب‪ ،‬إنتاج‪ ،‬استهالك‪ ،‬دميوقراطية‪ ،‬اشرتاكية‪.‬‬
‫أين تقع مصطلحات القوم من اهتمامات العصر‪ ،‬ومن املست َقر القرآين‬
‫النبوي‪ ،‬ومن النموذج الصحايب اجلهادي؟ هذا هو سؤالنا يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫قدميا قال الشاعر الصويف يأسف على ما آل إليه التصوف يف زمانه‪،‬‬
‫وحنن مهنا أن ندرج الرتبية اإلحسانية يف سياق ِجهادي لكيال تكون مََْرقَة‪:‬‬
‫ص ـ ـ ـ ــار التصــوف خمرق ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫أهل التصوف قد مض ـ ـ ـ ـ ـو ا‬
‫اجـ ـ ـ ــدا وم ـُـطَـبَّـ َق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫وتَو ُ‬ ‫صْيحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ‬ ‫صار التصـوف َ‬
‫ـوب مشـ ـ ـ ـ ـرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وال قـلـ ـ ـ ٌ‬ ‫مضت العلوم فال عل ـ ـ ـ ـ ــوم ‬
‫َسنَن الطـ ـري ـ ــق ال ُـم ْخـلَ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫كذبتـ ــك نفسـك ليـس ذا ‬
‫ع ـن ــه العيـ ـ ــون ال ُـمحـ ـ ـ ِـدقَـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫حىت تكون بعي ـ ــن م ـَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ‬
‫ومه ـ ـ ــوم ِس ـ ـ ـ ّـرك ُمطـ ـ ـرق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫جتري عليك صـروف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ‬

‫وقلت جعلين اهلل وإياك من اإلخوان أهل القرآن‪:‬‬

‫ين واألم ـ ــاين َمْ ـ ـ ـ َـرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه‬ ‫ك نفسك باألمـ ـ ـ ـ ـ ـ ا‬ ‫ك َذبـَْت َ‬


‫وترى الفتوح امل ْشـ ـ ــرقَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه‬ ‫ال لن تفـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوز بقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـربـه ‬
‫ـش ـ َق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه‬ ‫وبـه ـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة ُمـتَـ َـع ِّ‬ ‫إال بـع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزم صـاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ‬

‫‪141‬‬
‫اإلحسان‬

‫كن حلس بيتك‬

‫ك َما‬
‫َسأَلَ َ‬ ‫ب إِنِّي أَعُوذُ بِ َ‬
‫ك أَ ْن أ ْ‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ْم ﴾‪ .‬اللهم لك أسلمت‪ ،‬وبك آمنت‪ ،‬وعليك توكلت‪،‬‬ ‫لَي ِ ِ ِ ِ‬
‫س لي به عل ٌ‬
‫ْ َ‬
‫وإليك أنبت‪ ،‬وبك خاصمت‪ .‬اللهم إين أعوذ بعزتك ال إله إال أنت‬
‫أن تضلين‪ .‬أنت احلي ال متوت‪ .‬واجلن واإلنس ميوتون‪.‬‬

‫اح‬
‫قَال املعرتض احملتار وقد أسر صدمة رؤية أولياء اهلل املالئكةَ وأرو َ‬
‫األنبياء يف نفسه‪" :‬إن كان للصوفية فيما مضى داع الصطناع مصطلحات‬
‫ال الصوفية‪ ،‬كانوا وال‬ ‫متخصصة كما فعل علماء الفنون األخرى‪ ،‬فما بَ ُ‬
‫زعمت‬
‫َ‬ ‫يزالون‪َ ،‬رمزاً للخمول واهلروب من الواقع واالنكماش والدروشة؟ وإن‬
‫أنك تريد جتاوز التصوف كمذهب ومدرسة وأسلوب تربية فهل ميكن شيء‬
‫من ذلك إال بنبذ املذاهب مجلة‪ ،‬واإلعراض عن كل شيء سوى الكتاب‬
‫والسنة؟"‪.‬‬
‫اع ُدو َن‬ ‫فأقول وباهلل التوفيق ‪ :‬إن اهلل جلت عظمته يقول‪﴿ :‬الَّ يست ِوي الْ َق ِ‬
‫َ َْ‬
‫يل اللّ ِه بِأ َْم َوالِ ِه ْم‬‫اه ُدو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫ِمن الْم ْؤِمنِين غَيـر أُولِي الضَّرِر والْمج ِ‬
‫َ َ َُ‬ ‫َ ُ َ ُْ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َد َر َجةً‬ ‫ين بأ َْم َوال ِه ْم َوأَن ُفس ِه ْم َعلَى الْ َقاعد َ‬
‫َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ‬ ‫َوأَن ُفسه ْم فَض َ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫َجراً‬ ‫ين أ ْ‬ ‫ين َعلَى الْ َقاعد َ‬ ‫َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ‬ ‫ْح ْسنَى َوفَض َ‬ ‫َوُكـالًّ َو َع َد اللّهُ ال ُ‬
‫‪1‬‬
‫ات ِّم ْنهُ َوَمغْ ِف َرًة َوَر ْح َمةً َوَكا َن اللّهُ غَ ُفوراً َّرِحيماً﴾‪.‬‬
‫َع ِظيماً َدرج ٍ‬
‫ََ‬

‫‪ 1‬النساء‪96–95 ،‬‬

‫‪142‬‬
‫اإلحسان‬

‫ساحات‬ ‫ِ‬
‫أي شيء أجلم تلك اإلرادات القوية واهلمم العلية عن غشيان َ‬
‫الوغى‪ ،‬وعن مناصرة القرآن يف وجه السلطان ملا اختصم السلطان والقرآن؟ أولئك‬
‫الذين كانوا يـَُرقِّقون الدمعة ويـَُع ّفرو َن اخلد على "باب امللك" ملاذا مل يُِريقوا دماءهم‬
‫يف سبيل اهلل كما أراقها أصحاب اجملد السامق الصحابة الكرام؟ هل كان هلم من‬
‫عذر؟ وهل ينفعهم العذر عند اهلل فيدركوا وهم يف ركن اخللوة مراتب اجملاهدين؟‬
‫عذرهم أو ِامُر نبوية صرحية‪ .‬أطلع اهلل عز وجل نبيه الكرمي على مستقبل األمة‪،‬‬
‫وجاء يف األحاديث الصحاح أنه صلى اهلل عليه وسلم أخرب أصحابه بكل ما حيدث‬
‫ف‬ ‫ِ‬
‫سج ُ‬‫بعده إىل يوم القيامة‪ .‬فأنساهم اهلل تعاىل تفاصيل ما أخرب به‪ ،‬وأسدلت ُ‬
‫الغيب‪ ،‬لتبقى لكل جيل مسؤولية الكسب واالختيار‪ .‬وكان من النصوص اليت مل‬
‫نسُرُد بعضها‪:‬‬
‫وورثونا إياها أحاديث تأمر باالنعزال عن الفتنة‪ْ ،‬‬ ‫ينسها الصحابة َّ‬ ‫َ‬
‫أخرج مسلم وأبو داود عن أيب بكرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"إهنا ستكون فنت‪ .‬أالَ ُث تكون فتنة‪ ،‬القاعد فيها خري من املاشي‪ ،‬واملاشي فيها‬
‫خري من الساعي إليها‪ .‬أال فإذا نزلت‪ ،‬أو وقعت‪ ،‬فمن كان له إبل فليلحق بإبله‪،‬‬
‫ومنكان له غنم فليلحق بغنمه‪ ،‬ومنكانت له أرض فليلحق بأرضه"‪ .‬فقال رجل‪:‬‬
‫يا رسول اهلل! أرأيت من مل تكن له إبل وال غنم وال أرض؟ قال‪" :‬يعمد إىل سيفه‬
‫فيدق على حده حبَ َجر‪ ،‬مث لِيْن ُج إن استطاع النَّجاءَ‪ .‬اللهم هل بلغت؟ اللهم هل‬
‫ت‬‫أكره ُ‬
‫بلغت؟ اللهم هل بلغت؟"‪ .‬قال‪ :‬فقال رجل‪ :‬يا رسول اهلل! أرأيت إن ْ‬
‫حىت يـُْنطَلَ َق يب إىل أحد الصفني‪ ،‬أو إحدى الفئتني‪ ،‬فضربين رجل بسيفه‪ ،‬أو جييء‬
‫سهم فيقتلين؟ قال‪" :‬يبوء بإمثه وإمثك‪ ،‬ويكون من أصحاب النار"‪ .‬وأخرج أبو داود‬
‫عن وابصة األسدي أن ابن مسعود حدثه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه‬
‫ستكون أيام اهلَْرج (أي الفتنة والقتل) وأوصاه إن أدركه ذلك الزمان أن يكف لسانَه‬
‫يده‪ ،‬وأن يكون ِح ْلساً (حصريا) من أحالس بيته‪.‬‬ ‫وَ‬

‫‪143‬‬
‫اإلحسان‬

‫وأخرج البخاري عن سعيد بن جبري أن عبد اهلل بن عمر خرج عليهم‬


‫يوما ليحدثهم‪ ،‬فسأله رجل عن الفتنة وعن قوله تعاىل‪( :‬وقاتلوهم حىت ال‬
‫ك أمك؟ إمنا كان حممد‬ ‫تكون فتنة) فقال ابن عمر‪" :‬وهل تدري ما الفتنة ثَ ِكلَْت َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يقاتل املشركني‪ ،‬وكان الدخول يف دينهم فتنةً‪ ،‬وليس‬
‫كقتالِكم على امللك"‪ .‬وأخرج اإلمام أمحد أن ابْناً لِسعد بن أيب وقاص جاءه‬
‫وقت الفتنة بني علي ومعاوية يريده على اخلروج‪ ،‬فقال‪" :‬يا بُين! أيف الفتنة‬
‫أعطَى سيفاً إن ضربت به مؤمنا نَبا عنه‬ ‫تأمرين أن أكون َرأسا؟ ال واهلل! حىت ْ‬
‫(مل جيرحه) وإن ضربت به كافرا قتله"‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫وأخرج البخاري عن عبد اهلل بن عمر أو ابن عمرو قال‪ :‬شبك رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصابعه وقال‪" :‬كيف أنت يا عبد اهلل بن عمرو إذا‬
‫ت (فسدت) عهودهم وأماناهتم‪،‬‬ ‫بقيت يف ُحثالة من الناس (أراذهلم)‪ ،‬قَ ْد َم ِر َج ْ‬
‫واختلفوا فصاروا هكذا!" قال‪ :‬فكيف أصنع يا رسول اهلل؟ قال‪" :‬تأخذ ما‬
‫تعرف‪ ،‬وتدع ما تُنكر‪ ،‬وتُقبل على خاصتك‪ ،‬وتدعهم وعوامهم"‪.‬‬
‫مذهب االنعزال‬
‫ُ‬ ‫هكذا تأصل يف األمة منذ الفتنة الكربى إِثـَْر اخلالفة الراشدة‬
‫واإلقبال على خاصة النفس‪ ،‬وترك األتقياءُ األخفياء األبرياء الناس يتقاتلون على‬
‫امللك‪ .‬هكذا انسحب أهل الفضل من ساحة السلطان ليحافظوا يف مدارس‬
‫العلم وجمالس احلديث وخالوي الذكر على لب اإلسالم وجوهره وكلمته‪ .‬ولئن‬
‫جلس املفتون للعامة يفصلون القضايا‪ ،‬وجلس الفقهاء للتعليم العام‪ ،‬فإن الصوفية‬
‫انصرفوا يف عزلتهم إىل تربية اخلاصة من املريدين يورثوهنم تلك األمانة اليت تنزل يف‬
‫جذر قلوب الرجال كما قرأنا يف حديث الشيخني‪ .‬جاء حديث ‪" :‬تنزل األمانة‬
‫يف جذر قلوب الرجال « عند البخاري يف » باب األمانة"‪ .‬واألمانة الزمة من‬
‫تتساكن يف جذر القلوب مع النفاق‪ .‬فنفهم نزوهلا يف القلوب‬ ‫ُ‬ ‫لوازم اإلميان‪ ،‬ال‬

‫‪144‬‬
‫اإلحسان‬

‫نزوال لإلميان فيها واستقراراً‪.‬‬


‫وبقي العلماء أمناء على أمانة اإلميان والعلم‪ ،‬مبعزل عن العامة وعن السلطان‬
‫كما أوصى بذلك هذا احلديث الشريف الذي أخرجه احلسن بن سفيان والقضاعي‬
‫وابن عساكر عن أنس بإسناد حسن‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬العلماء‬
‫أمناء الرسل‪ ،‬مامل خيالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا‪ .‬فإذا خالطوا السلطان وداخلوا‬
‫الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم"‪.‬‬
‫ليس جنس علماء القصور جنسا حمدود النسل يف تارخينا‪ ،‬لكن األمة مل‬
‫تثق يف كل عصر إال باألتقياء األخفياء الذين وصفهم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حيث قال‪" :‬إن أغبط الناس عندي ل مؤمن خفيف ِ‬
‫احلاذ (خفيف الظهر‬ ‫َ ُ‬
‫أحسن عباد َة ربه‪ ،‬وأطاعه يف السر‪،‬‬
‫َ‬ ‫من تكاليف العيال)‪ ،‬ذو حظ من الصالة‪،‬‬
‫وكان غامضا يف الناس ال يشار إليه باألصابع‪ ،‬وكان رزقهكفافا‪ ،‬فصرب على ذلك‪.‬‬
‫عُ ّجلت منيته‪ ،‬وقلت بواكيه"‪ .‬رواه اإلمام أمحد والرتمذي وابن ماجه واحلاكم بإسناد‬
‫صحيح عن أيب أمامة‪.‬‬
‫املنصرف خلاصة نفسه‪ ،‬منوذج نازل‬ ‫ُ‬ ‫هذا النموذج الغامض اخلامل يف الناس‪،‬‬
‫عن درجة األصحاب اجملاهدين‪ ،‬ما يف ذلك شك‪ .‬لكن الفتنة اليت عاشتها األمة‬
‫اع ُدو َن ِم َن‬
‫تقوم له مقام العذر‪ .‬قال املفسرون يف قوله تعاىل ‪﴿ :‬الَّ يست ِوي الْ َق ِ‬
‫َ َْ‬
‫ين غَيـُْر أ ُْولِي الض ََّرِر َوال ُْم َج ِاه ُدو َن﴾‪ :1‬الضرر‪ :‬العُذر‪ .‬وجاء عند البخاري‬‫ِِ‬
‫ال ُْم ْؤمن َ‬
‫عن أنس أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلمكان يف غزاة فقال‪" :‬إن أقواما باملدينة‬
‫َخ ْل َفنا ما سلكنا ِشعبا وال وادياً إال وهم معنا فيه‪ ،‬حبسهم العذر"‪.‬‬
‫ب عند اهللكمن حضر اجلهاد‪ ،‬ولو بقي يف‬ ‫ِ‬
‫َمن حبسه العذر عن اجلهاد ُحس َ‬
‫‪ 1‬النساء‪95 ،‬‬

‫‪145‬‬
‫اإلحسان‬

‫خلوته غامضا خفيف احلاذ متجردا‪ .‬ذلك إنكانت نفسه حتدثه بغزو وجهاد‪ ،‬وإال‬
‫مات على شعبة من نفاقكما جاء يف احلديث‪" :‬من مات ومل يغز ومل حيدث به نفسه‬
‫مات على شعبة من نفاق"‪ .‬أخرجه مسلم عن أيب هريرة‪.‬‬
‫فيما نستقبله حبول اهلل من أيَّام ازدهار اإلسالم ارتفع عنا العذر فال‬
‫مكان بني األخيار بعد للغامض اخلامل‪ .‬يكفي أولئك األخفياء أمناء الرسل‬
‫شرفاً يف الدين أهنم حافظوا لنا على بذور اإلميان حىت أورثوناها رمحهم اهلل‪.‬‬
‫إخبار املصطفى أمني‬
‫اب اجلهاد واالجتهاد ُ‬ ‫العذر وفـَتَح لنا أبو َ‬
‫َرفَع عنا َ‬
‫الوحي صلى اهلل عليه وسلم أهنا ستكون خالفة ثانية راشدة ينهض هبا إخوانه‬
‫على منهاج النبوة واخلالفة األوىل بعد أن يَنقضي َزمان امللك العضوض‬
‫واجلربي الذي قضى به اهلل يف سنته األزلية‪ ،‬ونزل به القدر بعد ثالثني عاما‬
‫كسبَت أيدي الناس وقُلوهبم ما كسبت من إمث يف‬ ‫من وفاة الرسول الكرمي‪ ،‬و َ‬
‫خوض فتنه‪ ،‬وسفك دمائه‪ ،‬وتأجيج ناره‪ ،‬واعتالء كراسيه‪.‬‬
‫روى اإلمام أمحد عن النعمان بن بشري بإسناد صحيح أن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قال‪" :‬تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬مث يرفعها اهلل إذا‬
‫شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون خالفة على منهاج النبوة‪ ،‬فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬مث‬
‫يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون ملكا عاضا‪ ،‬فيكون ما شاء اهلل أن يكون‪،‬‬
‫مث يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون ملكا جربيا‪ ،‬فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪،‬‬
‫مث يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون خالفة على منهاج النبوة‪ .‬مث سكت"‪.‬‬
‫سكن الصوفية الكرام يف أرض اخلمول‪ ،‬واستكانت األمة للسيف زمانا‪.‬‬
‫وكأننا بعد أن أفقنا على صيحات مجال الدين األفغاين وحممد عبده وأصحاهبم‬
‫رمحهم اهلل أصحاب كهف يغطون يف نوم عميق‪ .‬وكأ ّن اإلسالم يف َهبّته منذ‬
‫قرن ويف صحوته منذ سنوات واف ٌد جديد طارئ وجد املكان حتتله ذهنية اخلمول‬

‫‪146‬‬
‫اإلحسان‬

‫املوروثة‪ ،‬وحتتله الالييكية اليت كان الشيخ رشيد رضا رمحه اهلل يسميها "املقالة‬
‫اإلبليسية"‪ .‬املساجد يف دار اإلسالم مزدمحة‪ ،‬ومكة يف موسم احلج والعمرة‬
‫مكتظة باملسلمني‪ ،‬لكن إسالم املسلمني مبثابة بناء فوقي مهزوز يف اهلواء‪.‬‬
‫والقاعدة املتمكنة يف األرض‪ ،‬ال تزال‪ ،‬هي العض واجلرب أعىت ما يكونان‪.‬‬
‫التمس َذراري املسلمني املغربون من "صيدلية الغرب" حلوال ملشاكل‬ ‫َ‬ ‫ولطاملا‬
‫األمة يف علب اللربالية واالشرتاكية والثورية‪ ،‬فخابوا ومل تقم هلم يف األرض قائمة‬
‫دائمة‪.‬‬
‫فآن لنا أن نستمد من القرآن الكرمي ومن السنة املطهرة مادة احلياة كما‬
‫استمد الصحابة‪ .‬لكن قلوبنا خاوية من اإلميان‪ ،‬وهم رضي اهلل عنهم أوتوا‬
‫بصحبة َخري األنام اإلميان قبل القرآن‪ .‬فماذا يف صيدلية السادة الصوفية من‬
‫عالج للقلوب؟ وهل حنتاج هلذا العالج؟ وهل ميكن أن نقتبس منهم دون‬
‫شيء أن نثق بتلك‬ ‫أن نتقيد بأسلوب الغموض واخلفاء؟ وهل ميكن قبل كل ٍ‬
‫الصيدلية اليت ثار حوهلا اجلدل وأوسعها الناس تشهريا وتكفريا؟ ما يف ُو ْسعنا أن‬
‫نتخ ّفف من احلاذ ومهمات إقامة الدولة اإلسالمية أمامنا يف عصر َع َّجاج ثَ ّجاج‬ ‫َ‬
‫س ْبتُ ْم َوالَ‬ ‫ِ‬
‫ت َولَ ُكم َّما َك َ‬
‫سبَ ْ‬
‫ت لَ َها َما َك َ‬
‫ْك أ َُّمةٌ قَ ْد َخلَ ْ‬
‫متَالطم األمواج‪ ﴿ .‬تل َ‬
‫‪1‬‬
‫تُ ْسأَلُو َن َع َّما َكانُوا يـَْع َملُو َن﴾‪.‬‬
‫التع ّذر واالستعذار‪ ،‬ودفعت األمة مثنا فادحا‪ ،‬وال تزال تدفع‪،‬‬ ‫فات أوان َ‬ ‫َ‬
‫للسكوت عن الظلمة‪ .‬وكان مراد اهلل عز وجل أن يتحمل كل جيل مسؤولية‬
‫التقدير ملا هو أوفق وأرفق‪ .‬والرضى مبا فات ومضى وانقضى جزء من عقيدة‬
‫املؤمن‪ .‬واكتمال اإلميان يف حقنا أن نبذل الروح يف طلب املنزلة الشاخمة اليت‬

‫‪ 1‬البقرة‪134 ،‬‬

‫‪147‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬ ‫َّنوه هبا قوله تعاىل‪﴿ :‬الَّ يست ِوي الْ َق ِ‬


‫اع ُدو َن﴾‪.‬‬ ‫َ َْ‬
‫ائم القرب من احلبيب اسرتوحها األصفياء األخفياء أهل اهلل الذاكرون‬‫نَ َس ُ‬
‫لِلّه يف خلواهتم قرونا‪ .‬وحنن بعونه وفضله ومنته نسرتوحها حتت غبار النـَّْقع‬
‫وحتت ظالل الرايات اخلفاقة للقومة اإلسالمية جبهاد متعدد اجلوانب ميادينُه‬
‫تسمى "حتررا" و"تنمية" و"تصنيعا" وبناء للوحدة‪ ،‬وإتقانا للعلوم الكونية‪،‬‬
‫ومحال للرسالة إىل العاملني‪.‬‬
‫قال عبد اهلل بن املبارك وكان رجال جماهدا لصديقه فضيل بن عياض‪:‬‬
‫يا عابـد احلرميـن لو أبْصـرتنـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا لعلمت أنك يف العبادة تلعـ ـ ــب‬
‫ـورنا بدمــائنـا تتخـض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب‬ ‫ِ‬
‫من كان َيضب خدَّه بدموعه فنح ُ‬
‫أو كان يُتعب خـيـله يف باطـ ـل فخيـولنا يـوم الكريهة تتع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب‬
‫الغبار األطي ــب‬ ‫ريح العبري لكم وحنن عبـي ـ ـ ـ ــرنا رهج ِ ِ‬
‫السنابك و ُ‬ ‫ََ ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ولقد أتـانا عن مـق ــال نبـينـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا قول صحيح صـادق ال يكـذب‬
‫غبار خيـ ــل اهلل يف أنف امرئ ودخان نار تله ـ ــب‬ ‫ال يسـتوي ُ‬
‫هذا كتـاب اهلل ينـطــق بـَيـْنـَنَ ـ ـ ـ ــا ليس الشهيد مبيِّت ال يك ـ ـ ـ ِـذب‬

‫وقلت وقاين اهلل إياكم من القعود‪:‬‬

‫ب‬
‫وتلع ُ‬
‫للنهوض َ‬ ‫ِ‬ ‫كم ذا تسوف‬ ‫يا قاع ـ ــداً عنّ ــا بِليـ ِن معيشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ة‬
‫ـب‬ ‫لوجدت أشبـال العـري ِن َّ‬
‫تأه ـ ـ ـ ُ‬ ‫يت ِرك ــابنا ‬ ‫ك! لَو أتَ َ‬ ‫َكبَ ٌد حياتُ َ‬
‫ووجدت إميانا َِيـ ُّـد ويُ ْك َس ـ ـ ـ ـ ــب‬ ‫َوَو َج ْدت عزما ماضيا ومـ ـ ـ ــروءة ‬

‫‪ 1‬النساء‪95 ،‬‬

‫‪148‬‬
‫اإلحسان‬

‫عقبة الخالف واالختالف‬

‫الصالَ ِة‬
‫يم َّ‬ ‫ب ِ ِ‬
‫اج َعلْني ُمق َ‬
‫﴿ر ِّ ْ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫َوِمن ذُ ِّريَّتِي َربـَّنَا َوتـََقبَّ ْل ُد َعاء﴾‪ .‬يا مقلب القلوب‪،‬‬
‫ثبت قليب على دينك‪.‬‬

‫كان عبد اهلل بن املبارك حمدثا كبريا‪ ،‬ومجع اهلل له إىل ذلك خصاال‬
‫جليلة‪ ،‬فكان شاعرا جوادا جماهدا‪ ،‬حيج عاما ويغزو عاما‪ .‬واشتهر فضيل بن‬
‫عياض بالزهد والصالح‪ ،‬يعتربه الزهاد والصوفية إماماً‪.‬‬
‫اب رقيق بني صديقني متصافيني‪ .‬وكان الرجالن َعلَمني بارزين من‬ ‫ِ‬
‫عتَ ٌ‬
‫أعالم القرن الثالث الفاضل‪ .‬يف القرون التالية اختذ اخلالف يف املذهب والرأي‬
‫العنيف‪ ،‬واستفحل‪ ،‬وكانت حروب كالمية وغارات‪.‬‬ ‫اجلدل َ‬
‫ووجهة النظر شكل َ‬
‫فتقف عند جزئيات‬
‫ب اخلالف فيما ترث‪ُ ،‬‬ ‫ث هذه األجيال املتأخرة كتُ َ‬ ‫وتَ ِر ُ‬
‫اخلالف دون أن تتعلم أن ذلك اخلالف كان ضروريا‪ ،‬وكان رمحة‪ ،‬ألنه متخض‬
‫وصفي احلديث‪ ،‬وتأصل الفقه‪،‬‬ ‫وحتررت من خالله العقيدة‪ُ ،‬‬‫ْ‬ ‫عن زبدة الدين‪،‬‬
‫وحوربت البدع‪.‬‬
‫ال ميكننا أن نضرب مبا شجر من خالف بني علمائنا عُرض احلائط‪ ،‬وميكننا‬
‫بوط ِه إلينَا اكتشاف الطريق الصاعدة إىل النبوة واخلالفة‬
‫أن نستفيد من مسرية ه ِ‬
‫ُ‬
‫الراشدة‪ .‬ختطي هذا اخلالف مثل ّاتاذه هدفاً أمسى وسقفا موقفان متطرفان‪،‬‬
‫بينهما توجد احلكمة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫اإلحسان‬

‫واحلكمة قبول اخلالف ظاهرةً بشرية‪ ،‬وقبول تنوع االجتهاد‪ ،‬وتنظيم هذا‬
‫التنوع‪ .‬وبداية احلكمة أن نضع خالفات علمائنا األولني مواضعها النسبية‪،‬‬
‫ال نتخذ رأي فالن أو فالن مرجعا هنائيا ومطلقا ال تسمو العقول ملناقشته‪.‬‬
‫حظ كل صاحب مذهب ورأي من حفظ النص وحتريره‪ ،‬ومن ِحدة العقل‬ ‫ُّ‬
‫وجه اإلرادة ومسوها ومضائها حيدد إمكانياته ويرسم له حدودا‪.‬‬ ‫وتنظيمه‪ ،‬ومن تَ ُّ‬
‫فينكر يف حدوده وظروفه وزمانه ومكانه ما هو عند اآلخرين غري منكور‪ .‬ويـَُرّد ويُ ّرد‬
‫عليه‪ .‬ولكل جمتهد أجر عند اهلل‪ ،‬ووجه معقول َم ْقبول عند العقالء املوفقني‪.‬‬
‫عقبة اخلِالف يف شأن الصوفية والتصوف ليست أهون العقبات أمام من‬
‫يريد أن يشرح ما عند القوم من كنز حمفوظ لقارئ وقع يف يده كتاب من هذه‬
‫الورقات السطحية اليت تتكاثر يف السوق‪ ،‬يكتبها من أهلاهم التكاثر عن السؤال‬
‫املركزي‪" :‬وأنا ماذا فعلت‪ ،‬وماذا علمت‪ ،‬وما حظي من ريب؟"‪.‬‬
‫ينحصر معظم اخلالف على الصوفية يف امل َح ّدثني احلنابلة‪ .‬علم أصول‬
‫احلديث علم تعديل وجتريح‪ ،‬وبنفس املنهاج تناول ُ‬
‫احلنابلة احملدثون الصوفية فجرحوا‬
‫أكثر مما َعدَّلوا‪ .‬وكان من أدعياء التصوف وفالسفة اإلشراق طوائف نالوا جبدارة‬
‫واستحقاق من بعض احملدثني احلنابلة تصويرا سلبيا حمضا‪ .‬فأنت إذا قرأت كتاب‬
‫"تلبيس إبليس" خيل إليك أن الصوفية يف كلمة واحدة هم إخوان الشياطني‪ .‬ويا‬
‫حسرة على من قرأ نُقول من نقل عن من نقل عن أمثال ابن اجلوزي رمحه اهلل‪ ،‬مث‬
‫اكتفى وطوى امللف! ماذا فاتك يا مسكني!‬
‫هلذه اخلالفات أسباب ظاهرة مشروعة‪ ،‬مثل اخلالف يف العقيدة‪ ،‬وهلا أسباب‬
‫ُدنيوية تارخيية‪ .‬واخلالف جزء ال يتجزأ من العناصر احلركية اليت عليها صلحت‬
‫األرض واستقامت‪ .‬اخلالف مهماكانت أسبابه‪ ،‬شريفة عفيفة أو مغرضة أو جاهلة‬
‫ض ُه ْم‬
‫َّاس بـَْع َ‬ ‫ِ‬
‫﴿ولَ ْوالَ َدفْ ُع اللّه الن َ‬
‫أو حتاملية‪ ،‬دفاع اهلل الناس بعضهم ببعض‪َ ،‬‬

‫‪150‬‬
‫اإلحسان‬

‫ض لََّفس َد ِ‬ ‫ِ‬
‫ض﴾‪.‬‬
‫ت األ َْر ُ‬ ‫ببـَْع ٍ َ‬
‫‪1‬‬

‫قال التاج السبكي يقص قصة خالف احملدثني والصوفية‪ ،‬وقد كان ووالده‬
‫التقي السبكي شيخ اإلسالم من أكرب املعارضني البن تيمية‪ .‬قال‪" :‬نبه شيخ‬
‫اإلسالم ابن دقيق العيد أن اخلالف بني كثري من الصوفية وأصحاب احلديث قد‬
‫أوجب كالم بعضهم يف بعض‪ ،‬كما تكلم بعضهم يف احلارث احملاسيب وغريه‪.‬‬
‫غريهُ‪.‬‬
‫وهذا يف احلقيقة داخل يف قسم خمالفة العقائد‪ ،‬وإن عده ابن دقيق العيد َ‬
‫والطامة الكربى إمنا هي يف العقائد املثرية للتعصب واهلوى‪ .‬نعم‪ ،‬ويف املنافسات‬
‫‪2‬‬
‫الدنيوية على حطام الدنيا‪ .‬وهذا يف املتأخرين أكثر منه يف املتقدمني"‪.‬‬
‫عندما ختتلف اآلراء‪ ،‬وتشتبك األلسنة يف اجلدال‪ ،‬تثور النفوس وتتعمق‬
‫اهلوة بني اخلصوم‪ ،‬وجيد الشيطان يف هوى الناس مطية إلشعال ِ‬
‫الفْتنة‪ .‬والغُِّر‬
‫من يظن أن النزاعات بني العلماء تعكس كلها الصفاء املالئكي والتحري اجملرد‬
‫عن كل شائِبَ ٍة‪ .‬والبشر بشر‪ ،‬والفتنة اللسانية أمضى من فتنة السيف وأسرع‬
‫ِضراما‪ .‬روى أصحاب السنن عن عبد اهلل بن عمرو أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬تكون الفتنة تَستنطف (أي تأيت على األخيار) العرب‪.‬‬
‫قتالها يف النار‪ .‬اللسان فيها أشد من السيف"‪ .‬هذا لفظ الرتمذي‪.‬‬
‫ضخم ما يكون َثَّ من‬
‫تتدخل فتُ ِّ‬
‫والغرية البشرية بني األقران واملتعاصرين َّ‬
‫ي عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أنه قال‪:‬‬ ‫أصل حقيقي للخالف‪ُ .‬رِو َ‬
‫كت وال ْأدركتم زمانا يتغاير الناس فيه على العلم كما يتغايرون على‬
‫"ال أدر ُ‬
‫األزواج!"‪.‬‬
‫ِ‬
‫وألب عُمر بن عبد الرب كالم نفيس يف املوضوع أنقله عن التاج السبكي‪.‬‬

‫‪ 1‬البقرة‪251 ،‬‬
‫‪ 2‬طبقات الشافعية ج ‪ 1‬ص ‪.165‬‬

‫‪151‬‬
‫اإلحسان‬

‫وابن عبد الرب من احملدثني احملققني حيظى باالعتبار التام عند علماء األمة‪ .‬قال‬
‫السبكي‪" :‬عقد احلافظ ابن عبد الرب يف كتاب العلم بابا يف حكم قول العلماء‬
‫الزبـَْي رضي اهلل عنه‪" :‬دب إليكم داء األمم‬‫بعضهم يف بعض بدأ فيه حبديث ُّ‬
‫قبلكم احلسد والبغضاء" احلديث‪ .‬قلت‪ :‬وهو حديث صحيح رواه احلاكم‬
‫عن أيب هريرة قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬سيصيب‬
‫األش ُر والبَطَُر والتكاثر‬
‫أميت داء األمم فقالوا يا رسول اهلل! وما داء األمم؟ قال َ‬
‫والتناجش يف الدنيا‪ ،‬والتباغض والتحاسد‪ ،‬حىت يكون البغي"‪.‬‬
‫مث قال السبكي رمحه اهلل‪" :‬وروى (ابن عبد الرب) بسنده عن ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما أنه قال‪" :‬استمعوا علم العلماء‪ ،‬وال تصدقوا بعضهم على بعض‪.‬‬
‫فوالذي نفسي بيده‪ ،‬هلم ُّ‬
‫أشد تَغايُراً من التُّيوس يف ُزروهبا" وعن مالك بن دينار‪:‬‬
‫"يوخذ بقول العلماء والقراء يف كل شيء إال قول بعضهم يف بعض" (‪.)...‬‬
‫واختالف االجتهاد مما ال يلزم املقول فيه ما قال القائل فيه‪ .‬وقد محل بعضهم‬
‫على بعض بالسيف تأويال واجتهادا‪ .‬مث اندفع ابن عبد الرب يف ذكر كالم مجاعة‬
‫من النظراء بعضهم يف بعض وعدم االلتفات إليه‪ ،‬إىل أن انتهى إىلكالم ابن معني‬
‫يب به‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(وهو منكبار احملدثني) يف الشافعي‪ ،‬وقال‪ :‬إنه مما نُق َم على ابن معني وع َ‬
‫وذكر قول أمحد بن حنبل‪" :‬من أين يعرف حيىي بن معني الشافعي؟! هو ال يعرف‬
‫‪1‬‬
‫الشافعي‪ ،‬وال يعرف ما يقوله الشافعي‪ ،‬ومن جهل شيئا عاداه"‪.‬‬‫ّ‬
‫أقول وباهلل التوفيق‪ :‬إن خالف العلماء وشجارهم ووقوع بعضهم يف بعض‬
‫عن حسن نية أو فلتةً بشريّةً ينبغي أن ال يومهنا أن احلق يف هذا اجلانب ضربة‬
‫الزب‪ .‬فهم خطاؤون ككل اب ٍن آلدم‪ ،‬وهم خمطئون أحيانا‪ .‬وحلة القدسية اليت‬

‫‪ 1‬طبقات الشافعية ج ‪ 1‬ص ‪.189 - 188‬‬

‫‪152‬‬
‫اإلحسان‬

‫يضفيها خيال ال ُـمقلدين على إمام عامل هي من صنع اجلهل‪ .‬وكل واحد يؤخذ‬
‫من كالمه ويطرح إال قول املعصوم صلى اهلل عليه وسلم كما قال ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫صاً مثينا من فصوص‬‫وأرجع البن السبكي وابن عبد الرب ألنقل إليك فَ ّ‬
‫العلم ونوادر احلكمة‪ .‬قال‪" :‬مث قال ابن عبد الرب‪ :‬فمن أراد قبول قول العلماء‬
‫الثقات بعضهم يف بعض فليقبل قول الصحابة بعضهم يف بعض‪ .‬قال‪ :‬فإن‬
‫فعل ذلك فَقد ضل ضالال بعيدا‪ ،‬وخسر ُخسرانا مبينا‪ .‬قال‪ :‬وإن مل يفعل‪،‬‬
‫ولن يفعل إن هداه اهلل وأهلمه‪ ،‬فليقف عند ما شرطناه يف أن ال يقبل يف‬
‫صحيح العدالة املعلوم بالعلم قول قائل ال برهان له"‪.‬‬
‫خاضوها من‬
‫فسه ويظلم العلماءَ من جيرد اخلصومات اليت ُ‬ ‫يظلم نَ َ‬
‫أحدهم لواءً خفاقا خيوض حتته‬
‫مالبساهتا الظرفية وشوائبها البشرية‪ ،‬وينصب َ‬
‫معاركهُ هو‪ ،‬عن جهل لألصول والفروع‪ ،‬وعن تقليد أعمى ملن ال حيسن حىت‬
‫فك مجلهم وفهم لغتهم‪ ،‬فأحرى أن يفهم مرامي الكالم وظواهره وبواطنه‬
‫ودوافعه ومقدماته التارخيية‪.‬‬
‫من املظلومني يف هذا العصر شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ .‬تبحره يف العلوم‪،‬‬
‫ومتكنه يف احلديث وقد كان حافظا‪ ،‬مث انتشار كتبه االنتشار الواسع تنفق عليها‬
‫بسخاء جهات معروفة ألسباب قد ال يعرفها كل الناس‪ ،‬جعل من امسه سالحا‬
‫مرهبا‪ ،‬ومن سردكلماته حجة قاطعة‪ ،‬ومن فكره مرجعا هنائيا‪ ،‬حيسب املتحنبلون‬
‫اجلدد أن كلمة شيخ اإلسالم رمحه اهلل هي الكلمة الفصل‪ ،‬والكلمة الوحيدة‪،‬‬
‫والكلمة األخرية‪ ،‬وكأن اهلل عز وجل مل خيلق معه وال بعده عاملا يذكر‪.‬‬
‫تعمدت يف هذا الكتاب االستشهاد بكالم ابن تيمية‪ ،‬وخاصة بكالم‬
‫تلميذه ومريده هذا النجم الثاقب يف مساء البيان ابن القيم‪ ،‬إشفاقا على من ظَلَموا‬

‫‪153‬‬
‫اإلحسان‬

‫ت‬
‫وصم ْ‬
‫أنفسهم وظلموا أهل العلم‪ ،‬وإشفاقا على من جترعوا مرارات اخلالف َّ‬
‫طبول املقلِّ َد ِة‪.‬‬
‫آذانم ُ‬
‫َ‬
‫كتب الدكتور سعيد رمضان البوطي مقاال مهما بعنوان‪" :‬موقف ابن تيمية‬
‫س فيها‬‫من ابن عريب"‪ ،‬دافع فيه عن ابن عريب مبا هو معروف من أن كتبه ُد َّ‬
‫الكثري‪ .‬يفكتايب هذا جتنّبت مواطن اخلالف على األشخاص‪ ،‬إذ الشأ ُن يب وبك‬
‫ال مبن مضوا وانقضوا ول ُقوا اهلل بأعماهلم‪ .‬لكين أنقل إليك تظَلُّم عاملنا اجلليل‬
‫سعيد من املقلدة‪ .‬قال‪" :‬واحلقيقة اليت ال ريب فيها أن ابن تيمية رمحه اهلل قد‬
‫ظُلم من قِبَ ِل هؤالء الناس‪ ...‬ل َق ْد ظُلم من قبلهم مرتني‪ :‬املرَة األوىل ّأنم نسبوا‬
‫إليه بسبب جهلهم أو بسبب أغراضهم اليت يتأبطوهنا مامل يقله‪ ،‬وما مل خيطر منه‬
‫صوروا منه عدوا للتصوف‪ ،‬وهو من أبرز املنافحني عنه والداعني‬ ‫على بال‪ .‬فقد ّ‬
‫إليه‪ ،‬والقائلني بوجوب االخنراط يف منهجه الرتبوي على كل مسلم (‪.)...‬‬
‫تصور كثري من الناس‪ ،‬بل حىت‬ ‫صبَغوه بذلك يف ُّ‬ ‫قال‪" :‬واملرَة الثانيَةَ أهنم َ‬
‫نك ِر هلذا الذي ثبت أنه جوهر اإلسالم‬‫العلماء والباحثني السطحيني‪ ،‬بصبغة الـم ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ِّص لكل من سار يف هذا الطريق وسلك الناس يف طريق تزكية النفس‪،‬‬ ‫ولُبابه‪ ،‬واملنق ِ‬
‫حىت غدا اسم ابن تيمية عند عامة الناس رمزاً حملاربة هذا السبيل اإلسالمي القومي"‪.1‬‬
‫نعم‪ ،‬من العقبات الكربى واحلواجز العائقة عن مساعكلمة احلق يف موضوع‬
‫جوهر اإلسالم ولُبابه استعمال املتسطحني احلرفيني السم ابن تيمية وترمجتهم‬
‫لفكره‪.‬‬
‫كان الرجل رمحه اهلل شعلة من الذكاء واهلمة العالية والفروسية العلمية‬
‫األر ُجوان‪ ،‬وعاله غبار‬
‫فكره بلون ْ‬
‫وامليدانية‪ .‬كانت حياته كلها معارك‪ ،‬فاصطبغ ُ‬
‫‪ 1‬جملة "منار اإلسالم" رمضان ‪ 1408‬ص ‪.103‬‬

‫‪154‬‬
‫اإلحسان‬

‫امليدان احلريب‪ .‬ولوال وضوح فكره ومتكنه ورسوخه يف العلوم‪ ،‬ولوال تشبثه املتني‬
‫باألصول يدافع عن احلق يف زمان استفحلت فيه البدع‪ ،‬وهجمت الباطنية‪،‬‬
‫وطم الغزو التتاري فكان الفارس امل ْعلَم يف كل تلك امليادين‪ ،‬لكانت خالفياته‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫ي وبقي يف الرفوف‪ .‬لكن نشر تراثه املمتاز أثار موجة من البلوى عمت‬ ‫مما طُ ِو َ‬
‫وطمت‪.‬‬
‫الرجل‪ ،‬وإن كان اختلف مع املتأخرين من الصوفية‪ ،‬يعترب أمثال اجلنيد‬
‫وابن يزيد وسهل أئمة هدى‪ .‬ويضع الشيخ عبد القادر اجليالين موضع االحرتام‬
‫املطلق‪ .‬يذكر امسه فيقرنه بالرتحم الصويف على األكابر‪" :‬قدس اهلل سره"‪.‬‬
‫إن كان ابن تيمية كفر هذا وجرح ذاك وش ّدد على هؤالء وسامل أولئك‪،‬‬
‫معارك مضت وانقضت‪ .‬وتبقى رسالة ابن تيمية وشهادته ناصعة اجلبني‬ ‫فتلك ُ‬
‫واضحة املعامل ملن جتاوز مراحل حماربة األمية أنَّه من أكرب الداعني للتزكي القليب‬
‫وصحبة املشايخ ومالزمة األوراد‪.‬‬
‫ايل يف أمور نُسبت إليه يف كتاب "مشكاة األنوار" وكتاب‬ ‫خاصم الغز َّ‬
‫"كيمياء السعادة" مث قال‪" :‬وقد أنكر عليه (على الغزايل) طائفة من أهل‬
‫الكالم والرأي كثريا مما قاله من احلق‪ .‬وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب‬
‫ال تؤثر يف حصول العلم‪ .‬وأخطأوا أيضا يف هذا النفي‪ .‬بل احلق أن التقوى‬
‫‪1‬‬
‫وتصفية القلب من أعظم األسباب على نيل العلم"‪.‬‬
‫املكاشفة والكشف والفتح هي األمساء اليت يطلقها الصوفية على العلوم‬
‫الوهبية اليت يفتحها اهلل الكرمي الوهاب على من يشاء مصداقا لوعده الكرمي‬
‫﴿واتـَُّقواْ اللّهَ َويـَُعلِّ ُم ُك ُم اللّهُ﴾‪ 2.‬ابن تيمية من أهل الذوق‪ ،‬علم يقينا أن‬
‫‪َ :‬‬
‫‪ 1‬كتاب "الرد على املنطقيّني" ص ‪.511‬‬
‫‪ 2‬البقرة‪282 ،‬‬

‫‪155‬‬
‫اإلحسان‬

‫الذاكرين السالكني تفتح هلم أبواب من العلم ال يَناهلا غريهم‪ .‬وهذا لب املسألة‬
‫كلها‪ .‬ومن العلماء من ينكر هذا العلم املوهوب مجلة وتفصيال ويعترب املكاشفة‬
‫"كالما فارغا"‪ 1.‬وكال الرجلني حمدث حنبلي‪ ،‬لكن شتان ما بينهما‪.‬‬
‫نقطة أخرى تتطابق فيها معرفة ابن تيمية وجتربته مع معرفة الغزايل وجتربته‪،‬‬
‫هي ضرورة صحبة املشايخ الكتساب علوم الوالية‪ .‬قال‪" :‬أهل التصفية والرياضة‬
‫والتأله حيصل هلم املعارف والعلوم اليقينية بدون النظر‪ ،‬كما قال الشيخ امللقب‬
‫بالكبريي للرازي ورفيقه‪ ،‬وقد قاال له‪" :‬يا شيخ! بلغنا أنك تعلم علم اليقني"‪.‬‬
‫ذكر شيئا‬
‫فقال‪" :‬نعم!" فقاال‪" :‬كيف تـَْعلَ ُم وحنن نتناظر يف زمان طويل‪ ،‬كلما َ‬
‫أفسده؟ " فقال‪" :‬هو واردات ترد على النفوس‪،‬‬ ‫ذكرت شيئا َ‬ ‫أفسدتُه‪ ،‬وكلما ُ‬
‫تعجز النفوس عن ردها‪ .‬فجعال يعجبان من ذلك ويكرران الكالم‪ .‬وطلب‬
‫‪2‬‬
‫أحدمها أن حيصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حىت حصلت له"‪.‬‬
‫اعرتاف إذا ونصح مبشروعية التشيخ وبنتائجه‪.‬‬
‫يف نص آخر يصرح ابن تيمية حبقيقة ال تسعها أدمغة املقلدة‪ ،‬ولعل‬
‫منهم من يؤوهلا لنا تأويال إن استطاع‪ .‬قال‪" :‬إن األنبياء واألولياء هلم من علم‬
‫الوحي واإلهلام ما هو خارج عن قياسهم (أي الفالسفة) الذي ذكروه‪ ،‬بله‬
‫‪3‬‬
‫الفراسة أيضا وأمثاهلا"‪.‬‬
‫َقر َن إذن األنبياء واألولياء يف تلقي علوم الوحي واإلهلام‪ .‬هل قال الغزايل‬
‫وأكابر السادة الصوفية غري هذا؟‬
‫كان ابن تيمية رمحه اهلل ذا شخصية قوية عزيزة اجلانب‪ .‬قوته وعزة جانبه‬

‫‪ 1‬ابن اجلوزي يف "تلبيس إبليس" ص ‪.184‬‬


‫‪ 2‬رسائل ابن تيمية ج ‪ 1‬ص ‪.52‬‬
‫‪ 3‬الرد على املنطقيني ص ‪.437‬‬

‫‪156‬‬
‫اإلحسان‬

‫يرشحان من مقاالته اجلازمة احلامسة يف مؤلفاته‪ .‬فمن ال يعطي احلقائق مكانتها‬


‫َ‬
‫مطلق ال يأتيه‬ ‫ِ‬
‫حق ٌ‬ ‫اسع يف زمان ما ومكان ما ٌّ‬
‫النسبيّة يظن أن ما كتبه عالمنا الو ُ‬
‫الباطل من بني يديه وال من خلفه‪ .‬وذلك خطل وخبال‪.‬‬
‫كان خطاءً ككل بين آدم عرضة للخطإ مثلهم‪ .‬وكان يكتب اليوم ما جيزم‬
‫به اليوم‪ ،‬فيَفتح اهلل له غدا مبا يناقض اقتناعه باألمس‪ .‬نرجع إن شاء اهلل يف الفصل‬
‫السادس من هذا الكتاب ملسألة نظر األولياء يف اللوح احملفوظ‪ .‬ابن تيمية الشيخ‬
‫يكتب يف مرحلة ما من مراحل سلوكه أن ذلك ممتنع‪ ،‬ويشهد ابن القيم املريد‬
‫أن شيخه صرح بأنه ينظر يف اللوح احملفوظ‪ .‬تناقض؟ ال! لكن َس ْي‪ ،‬واطالع‬
‫نسيب‪ ،‬وقصور بشري‪ِ ،‬ومنن إهلية خيتص اهلل هبا من شاء من عباده مىت شاء‪ .‬وقد‬
‫نعرض لبعض التناقضات الظاهرة يفكالم ابن تيمية وتلميذه الويف‪ ،‬ال لكي حنطم‬
‫الشخصني العزيزين‪ ،‬لكن لنكسر صورة التشويه اليت صنعها املقلدة‪.‬‬
‫كان خصوم ابن ْتيمية يرمونه بتهمة أنه مل يتأدب على يد شيخ يهذب‬
‫شخصيته‪ .‬وكيف ينقاد شخص يف مثل قوته وكرامته واندفاعه ألحد؟ قال التقي‬
‫السبكي الوالد‪" :‬مث جاء يف أواخر املائة السابعة رجل له اطالع‪ ،‬ومل جيد شيخا‬
‫يهذبه‪ ،‬وهو على مذهبهم (يعين احلنابلة ال ُـمثْبتة يسميهم اخلصوم جمسمة)‪ .‬وهو‬
‫َجسور ُمتجرد لتقرير مذهبه"‪ 1.‬وقال‪" :‬وهو كان مكثرا من احلفظ‪ ،‬ومل يتهذب‬
‫بشيخ‪ ،‬ومل يرتض يف العلوم‪ ،‬بل يأخذها بذهنه‪ ،‬مع جسارة واتساع خيال وشغَب‬
‫‪2‬‬
‫كثري (…)‪ .‬وكان الناس يف حياته قد ابتلوا بالكالم معه للرد عليه"‪.‬‬
‫يتقمص ابن تيمية حجمه الطبيعي النسيب‪:‬‬ ‫يف نظر معاصري ابن تيمية ّ‬
‫"جاء يف أواخر املائة السابعة رجل"‪ ،‬رجل "له اطالع ومل جيد شيخا يهذبه"‪ .‬لَ ّما‬

‫‪ 1‬الرسائل السبكية ص ‪.85‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.195‬‬

‫‪157‬‬
‫اإلحسان‬

‫الق َدِم وتقليد القاصرين إىل مراتب العالء‪.‬‬ ‫ترفعه قداسة ِ‬


‫ومن معاصري شيخ اإلسالم‪ ،‬من احملدثني احلنابلة الصوفيني‪ ،‬رجل من‬
‫أكابر العلماء وأئمتهم ال ريب‪ ،‬أخذت منه شخصية احلافظ "اجلسور" كل‬
‫مأخذ‪ ،‬فاختذه شيخا بكل ما يف كلمة "شيخ" من فخامة وضخامة‪ ،‬وأحبه‬
‫وو ّف‪ ،‬وخاض معه معارك‪ ،‬وبث يف كتبه النفيسة ما أورثته صحبة‬ ‫وأخلص له‪َ ،‬‬
‫شيخ اإلسالم الكرمي علينا من علوم ظاهرة‪ ،‬وأذواق باطنة ال تكون إال عند‬
‫خلّص الصوفية‪ .‬ها هو يشيد بشيخه إشادة الَ يتأتى هلا النثر‪ .‬فقال شعرا‬
‫سجلت معركة َحاميةً يف تاريخ اخلالف‪ .‬إنه ابن القيم‬ ‫يف نونيته املشهورة اليت َّ‬
‫شيخ اإلسالم اجلليل‪ .‬قال‪:‬‬
‫ل اإللـه بفضـلـ ه من ليس جت ـزيـ ــه يدي ولس ـ ــاين‬ ‫ِ‬
‫(‪ )...‬حىت أتــاح َ‬
‫فىت أتى من أرض ح ـران فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـا أهال مبـن قـد ج ـ ــاء من حـ ـ ـ ـران‬
‫فاهلل يـجـزيـه الذي هو أه ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه من جنـة امل ـ ــأوى مع الرضـ ـ ـ ـوان‬
‫أخذت يداه يَدي وسار فلم يَِرْ م حىت أرانـ ـ ــي مطـلـ ـ ــع اإلميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان‬
‫ورأيت أعـالم املديـنـة حولـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نزل اهلدى وعس ـ ــاكـر الـق ـ ـ ـ ــرآن‬
‫ورأيت آثارا عظيـمـا شــأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـا حمج ـ ـ ــوب ـ ـةً عــن زم ـ ــرة الـعمي ـ ـ ــان‬
‫ووردت كأس املاء أبيض صافيا حصـبـ ـ ــاؤه كــآللـئ الـت ـي ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان‬
‫ورأيت أكـ ـواب ـ ـ ــا هـنــاك كثـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــرة مثـ ـ ــل النجـ ـ ـ ــوم ل ـ ـ ـوارد ظ ـم ـ ـ ــآن‬
‫وقلت جعلين اهلل وإياك من عساكر القرآن اجملاهدين حتت أعالم النبوة‬
‫إلقامة اخلالفة الثانية آمني‪:‬‬

‫لدعوة اإلحس ـ ـ ـ ِ‬
‫ـان‬ ‫نَ َزل الـهــدى ببشـ ــائ ــر ال ُق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرآن للمستجيب ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الورى بالعدل يف أحكـامه م واستُنهضـ ـوا لمـآدب ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرمحن‬ ‫ِ‬
‫أمر َ‬
‫ارد الظَّ ْـمـ ـ ـ ــآن‬ ‫والع ْدل يف األقسام نُطْعِم سـاغب اً نـروي لُغُـ ــوب ال ـ ـو ِ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ َ‬
‫‪158‬‬
‫اإلحسان‬

‫ابك على نفسك!‬

‫ب ْار َح ْم ُه َما َك َما َربـَّيَانِي‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َّ .‬‬
‫ص ِغيراً﴾‪ .‬اللهم عافين يف جسدي‪ ،‬وعافين يف بصري‪ ،‬واجعله‬ ‫َ‬
‫الوارث مين‪ .‬ال إله إال أنت احلليم الكرمي‪ .‬سبحان اهلل رب‬
‫العرش العظيم‪ .‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫مل يكن ابن القيم ب ْدعاً من العلماء يف صحبته لشيخ أخذ بيده حىت أراه‬
‫مطالع اإلميان‪ ،‬وحىت رآى على يده آثاراً عظيمة "حمجوبة عن زمرة العميان"‪.‬‬
‫وقد رأينا مناذج من سعي العلماء إىل املشايخ الربانيني جيثون أمامهم على‬
‫الركب‪.‬‬
‫وما منهم إال من أخرب عما آتاه اهلل من الفضل حني "ورد" الكأس‬
‫ك‬ ‫الصافية‪ .‬وقد تركوا لك شهادات مشفقة على شكل نداء لفطرتك يَ ْستـَْن ِه ُ‬
‫ضونَ َ‬
‫لتطلب كما طلبوا وت ِرد كما وردوا‪ .‬فاجلس معي ألمسِّعك عسى أن َّ‬
‫تتيقظ‬
‫مهتك‪ ،‬وتـَْنبعث‪ ،‬وتسري‪ ،‬وتصحب‪ ،‬وتذكر اهلل‪ ،‬وحتب اهلل ورسوله‪ ،‬وتبلغ‬
‫مبالغ الرجال‪ ،‬فأكو َن السعيد بأن أجدك يف صحيفيت ونلتقي هناك يف رمحته‪،‬‬
‫مبحض فضله وكرمه‪ ،‬إنه سبحانه الكرمي‪.‬‬
‫ك الشيخ اإلمام القدوة موالنا عبد القادر اجليالين قدس اهلل سره‪" :‬يا‬ ‫قال لَ َ‬
‫َ‬
‫ي أن يقطعهم عن‬ ‫ي املـُ ْجتَبـَْ َ‬
‫أب اهلل عز وجل مع عباده املصطََف ْ َ‬
‫غالم! (‪َ )...‬د ُ‬
‫ويبتليهم بأنواع الباليا واآلفات واحملن‪ ،‬ويُضيق عليهم الدنيا واآلخرة وما‬ ‫الكل‪ْ ،‬‬
‫حتت العرش إىل الثرى‪ .‬يـُْفين بذلك وجودهم‪ ،‬حىت إذا أفْىن وجودهم ْأوجدهم له‬

‫‪159‬‬
‫اإلحسان‬

‫ال لغريه‪ ،‬أقامهم معه ال مع غريه‪ .‬يُنشئهم خلقا آخر كما قال عز وجل‪﴿ :‬ثُ َّم‬
‫ِِ‬
‫ين﴾‪ 1.‬اخللق األول مشرتك (مع‬ ‫س ُن الْ َخالق َ‬ ‫شأْنَاهُ َخلْقاً آ َخ َر فـَتَبَ َار َك اللَّهُ أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫أَن َ‬
‫سائر بين آدم)‪ ،‬وهذا اخللق مفرد‪ .‬يفرده عن إخوانه وأبناء جنسه من بين آدم‪.‬‬
‫‪2‬‬ ‫يغري معناه األول ويـبدِّله‪ .‬يصيـِّر عاليه سافلَه‪ .‬ي ِ‬
‫صريُ ربانيا روحانيا"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ َ ُ َ‬
‫وخاف عليك شيخ اإلسالم ابن القيم أن ال تصدق التحويل الذي حيول‬
‫اهلل أولياءه‪ ،‬فقال لك‪" :‬وما أظنك تصدق هبذا! وأنه يصري له وجود آخر‪.‬‬
‫وتقول‪ :‬خيال ووهم! فال تعجل بإنكار ما مل ُتط بعلمه‪ ،‬فضال عن ذوق‬
‫‪3‬‬ ‫حاله‪ ،‬وأعط ال َقوس با ِريها وخل املطايا ِ‬
‫وحاديَها"‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ْ َ َ‬
‫وقال لك الشيخ عبد القادر قدس اهلل سره‪" :‬وحيك! تدعي أنك منهم!‬
‫ما عالمتهم عندك؟ ما عالمة قرب احلق عز وجل ولطفه؟ يف أي منزلة أنت‬
‫عند احلق عز وجل ويف أي مقام؟ ما امسك وما لقبك يف امللكوت األعلى؟"‪.4‬‬
‫منك! ما يكفيك نفاقك حىت‬ ‫وقال‪" :‬يا منافق! طهر اهلل عز وجل األرض َ‬
‫تغتاب العلماء واألولياء والصاحلني بِأ ْكل حلومهم! أنت وإخوانك املنافقون‬
‫مثلُك عن قريب تأكل الديدان ألسنتكم وحلومكم‪ ،‬وتقطعكم ومتزقكم‪)…( .‬‬
‫ال فالح ملن ال ُيسن الظن بعباد اهلل عز وجل وبعباده الصاحلني ويتواضع هلم‪.‬‬
‫ِلَ ال تتواضع هلم وهم الرؤساء واألمراء؟ من أنت باإلضافة إليهم؟ احلق عز‬
‫‪5‬‬
‫وجل قد سلم احلل والربط إليهم‪ .‬هبم متطر السماء وتُنبت األرض"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬يا غالم! تفكر يف أمرك! (‪ )...‬ما أنت صادق وال ِص ّديق وال‬

‫‪ 1‬املؤمنون‪14 ،‬‬
‫‪ 2‬الفتح الرباين ص ‪.51‬‬
‫‪ 3‬مدارج السالكني ج ‪ 3‬ص ‪.327‬‬
‫‪ 4‬الفتح الرباين ص ‪.58‬‬
‫‪ 5‬نفس املصدر ص ‪.68‬‬

‫‪160‬‬
‫اإلحسان‬

‫ُمب وال موافق وال راض وال عارف! قد ادعيت املعرفة باهلل عز وجل‪ :‬قل يل‬
‫إيش ترى يف قلبك من احلُ ْكم واألنوار؟ ما عالمة أولياء اهلل‬
‫ما عالمة معرفته؟ ْ‬
‫‪1‬‬
‫عز وجل وأبدال أنبيائه؟"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬هذا العبد الذي وصل إليه(…) يصري ِمطَْرقاً للخلق َج ْهبَذاً (أي‬
‫خبريا كاشفا للعيوب املبطنة) سفرياً داالًّ إىل باب احلق عز وجل‪ .‬فحينئذ يدعى‬
‫يف امللكوت عظيما‪ )…( .‬ال تـَْه ِذ! أنت تدعي ما ليس لك‪ ،‬وما ليس عندك!‬
‫نفسك ُمستولِيَةٌ عليك واخللق والدنيا كلها يف قلبك! مها يف قلبك أكرب‬ ‫أنت ُ‬
‫ِّهم‪ .‬إن أردت الوصول إىل‬ ‫حد القوم وعد ِ‬
‫من اهلل عز وجل‪ .‬أنت خارج عن ِّ‬
‫أخرج الدنيا‬ ‫أشرت إليه فاشتغل بطهارة قلبك(…)‪ ،‬واصرب مع ال َق َدر‪ ،‬و ْ‬ ‫ما ُ‬
‫إيل حىت أتكلم معك(…)‪ .‬وقبل هذا فالكالم‬ ‫من قلبك‪ .‬وبعد هذا تعال َّ‬
‫َه َذيا ٌن!"‪.2‬‬
‫واقرأ أخي وأخيت ولو مرة كتاب "الفتح الرباين" فكله رسالة واحدة‪،‬‬
‫وصية واحدة‪ ،‬من هذا الرجل املبارك الذي أمجعت األمة على توقريه‪ .‬وإن كان‬
‫يف الكتاب أحاديث ضعيفة وواهية فإن شيخ احملدثني اإلمام أمحد رمحه اهلل ال‬
‫يرى بأسا يف االستشهاد بالضعيف يف فضائل األعمال‪.‬‬
‫وأوصاك اإلمام اجلليل القدوة الشيخ أمحد الرفاعي قدس اهلل سره فقال‪:‬‬
‫"أي أخي! أين أنت؟ يف أي واد؟ هتيم يف وادي ومهك! تَسرح يف ميادين‬
‫ص عليك واهلل أن تنقطع! أخاف عليك أن ختذل!‬ ‫أح ِر ُ‬
‫قطيعتك! اهللَ اهللَ بك! ْ‬
‫انقطعت وأنت تظن الوصل‪ ،‬ورأيت‬
‫َ‬ ‫(‪ )...‬يا أخي ال َْت ِرْد (ال هترب) مين إذا‬
‫الس ْوُم‪ ،‬وسبقك القوم‪،‬‬
‫أنك عامل وأنت على طائفة من اجلهل‪ .‬فقد فاتك َّ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.113‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.261‬‬

‫‪161‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫وعمك اللوم"‪.‬‬
‫"أي حمجوب! تزعم أنك اكتفيت‬ ‫وترك لك عندي نصيحة أخرى تقول‪ْ :‬‬
‫عنا بعلمك! ما الفائدة من علم بال عمل؟ ما الفائدة بعمل بال إخالص؟‬
‫اإلخالص على حافة طريق اخلطر من ينهض بك إىل العمل؟ من يداويك من‬
‫‪2‬‬
‫سم الرياء؟ من يدلك على الطريق القومي بعد اإلخالص؟"‪.‬‬
‫ووصية أخرى تقول‪" :‬أي سادة! أحذركم الدنيا! أحذركم رؤية األغيار!‬
‫األمر صعب‪ ،‬والناقد بصري‪ .‬إياكم وهذه البطاالت! إياكم وهذه الغفالت!‬
‫إياكم والعوامل! إياكم واحملدثات! اطلبوا الكل برتك الكل‪ .‬من ترك الكل نال‬
‫الكل‪ .‬ومن أراد الكل فاته الكل‪ .‬كل ما أنتم عليه من الطلب ال يُصلحه إال تركه‬
‫تندر ِْج حتت توحيدكم كل املطالب‪ .‬من حصل‬ ‫وحدوا املطلوب َ‬
‫والوقوف وراءه‪ِّ .‬‬
‫‪3‬‬
‫له اهلل حصل له كل شيء‪ ،‬ومن فاته اهلل فاته كل شيء"‪.‬‬
‫إن كان ما قرأته من وصايا الرجال هيج شوقك‪ ،‬فامسع قوارع الكالم‬
‫ات مؤملة عساك‬ ‫حياول به أهل اهلل وخاصته أن َِيزوا به مهتك وأنـ َفتك وخز ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تنهض وال ترضى مبا دون اللحاق هبم ومنافستهم وسبقهم‪ .‬ومل ال تطلب واهلل‬
‫وهاباً كرميا!‬
‫ال يزال َّ‬
‫رجل من بين آدم طلب فوجد‪ ،‬وسلك فوصل خياطبك‪" :‬يا من باع كل‬
‫شيء بال شيء‪ ،‬واشرتى ال شيء بكل شيء! قد اشرتيت الدنيا باآلخرة‪،‬‬
‫س يف َه َوس! َع َدم يف عدم! جهل يف جهل!"‪.4‬‬ ‫ت َه َو ٌ‬
‫وبعت اآلخرة بالدنيا! أنْ َ‬
‫فاصرب على مطارق‬
‫وخياطبنا وقد هاج عليه إخالصه قائال‪" :‬إن أردت الفالح ْ‬
‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.75‬‬
‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.44‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.39‬‬
‫‪ 4‬الشيخ عبد القادر يف "الفتح الرباين" ص ‪.105‬‬

‫‪162‬‬
‫اإلحسان‬

‫كالمي‪ .‬إين إذا أخذين جنوين ال أراك! إذا ثار طبع سري‪ ،‬طبع إخالصي‪ ،‬ال أرى‬
‫وجهك! وأريد الصالح وإزالة اخلبث عن قلبك‪ ،‬وأطفىء احلريق عن بيتك‪ ،‬وأصون‬
‫يت شيئا!‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حرميك‪ )...( .‬أنت كسالن! أنت جويهل! ألَْيكع! عندك أنك ْأعط َ‬
‫ت الدنيا مثلك وأكلته؟ مسنته باجلاه والكثرة مث أكلته‪ .‬لو رأينا فيها خريا ما‬ ‫كم َسَّنَ ْ‬
‫ِ ِ‬
‫ور﴾‪."1‬‬ ‫سبقتنا! ﴿أََل إِلَى اللَّه تَص ُير ُ‬
‫األم ُ‬
‫حبدب احلريص ال ُـمشفق فيقول‪:‬‬ ‫وخياطبنا معاشر اخلربني من الباطن َ‬
‫"إذا صفا السر تَع ّدى الصفاء إىل القلب والن ْفس واجلوارح واملأكول وامللبوس‪،‬‬
‫داخل الدار‪ ،‬فإذا كملت عمارهتا‬ ‫ُ‬ ‫أول ما يـَْع ُمر‬
‫وتعدى إىل مجيع أحوالك‪ُ .‬‬
‫خرج إىل عمارة الباب‪ .‬ال كان ظاهر بال باطن! ال كان اخللق بال خالق! ال‬
‫كان باب بال دار! ال كان قُفل على َخ ِربَة! يا دنيا بال آخرة! يا خلقا بال‬
‫‪2‬‬
‫خالق! مجيع ما أنت فيه ال ينفعك يوم القيامة"‪.‬‬
‫وحيثنا َجزاه اهلل خريا على اإلخالص فيقول‪" :‬أنت صنم بال روح! ِج ْل ٌد‬
‫يابس بال معىن وال قوة! ال تصلح إال للنار! عبادتك ال إخالص فيها؟ فإذاً‬
‫ال روح فيها! ال تصلح أنت وعبادتك إال للنار! ما حتتاج تتعب إن مل ُتلص‬
‫‪3‬‬
‫يف األعمال!"‪.‬‬
‫ويقول‪" :‬يا أمحق! أنت يف قيام وقعود بال إخالص‪ .‬تصلي للناس وتصوم‬
‫وعيناك إىل أطباق الناس وإىل ما يف بيوهتم‪ .‬أيَا خارجاً عن األنام! يا منفردا‬
‫‪4‬‬
‫عن وصف الصديقني والربانيني!"‪.‬‬

‫‪ 1‬الشورى‪53 ،‬‬
‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.111‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.128‬‬
‫‪ 4‬نفس املصدر ص ‪.275‬‬

‫‪163‬‬
‫اإلحسان‬

‫بأولياء‬
‫ويقول‪" :‬يا غالم! أراك قليل املعرفة باهلل عز وجل وبرسوله‪ ،‬قليل املعرفة ْ‬
‫خال من معىن! أنت قفص بال‬ ‫اهلل عز وجل وأبدال أنبيائه وخلفائه يف خلقه! أنت ٍ‬
‫طائر! بيت فارغ خراب! شجرة قد يبست وتناثر ورقها"‪ .1‬أيقصد الشيخ اجلليل‬
‫حتقري أحد من املسلمني؟ حاشا معا َذ اهلل! إمنا هو أسلوب إليقاظ النائمني‪.‬‬
‫ما بال القوم خيتارون لك من العبارات أنف َذها إىل القلوب؟ ما باهلم‬
‫ومصافاهتا‪ ،‬وطريق الوالية‬ ‫ال ميلون إخبارك عن العبودية وصفاهتا‪ ،‬واأللوهية ُ‬
‫وشروطها؟ إهنم آلخرهتم حيرثون‪ .‬يا هذا! ال تظن أن هبم مها غري اهلل‪ ،‬والداللة‬
‫على اهلل‪ ،‬وحتبيب العباد إىل اهلل الذي يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح‪ .‬فهم‬
‫احلريصون على أن يلتقي قضاء اهلل لك أيها السعيد‪ ،‬وسابقته األزلية لك‬
‫باحلسىن‪ ،‬مع كلمة تسمعها منهم تكون سبب يقظتك وتشمريك فينالوا عن‬
‫طريقك مثوبة من اهلل ورضوانا‪.‬‬
‫هذا واحد ممن أبلى البالء احلسن يف إيصال رسالة الربانية إليك‪ ،‬أمسعك‬
‫ب حديثه بعد أن مسعتك قوارع اجليالين الكبري‪ .‬هو ابن القيم الطيب‬ ‫َع ْذ َ‬
‫الكرمي‪ .‬يبلّغك على يدي هذه املختارات من هداياه إليك‪ ،‬وارجع إىل كتبه‬
‫لتقطف مزيدا من األطايب‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪ ،‬ال يعنيه أن تصدق أو ال تصدق بعد أن بلغ اجلهد معك‬
‫وبلغك‪" :‬فلو فُرضت لذات أهل الدنيا بأمجعها حاصلة لرجل‪ ،‬مل يكن هلا نسبة‬
‫إىل لذة مجعية قلبه على اهلل‪ ،‬وفرحه به‪ ،‬وأنسه بقربه‪ ،‬وشوقه إىل لقائه‪ .‬وهذا أمر‬
‫‪2‬‬
‫ال يصدق به إال من ذاقه‪ .‬فإمنا يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك"‪.‬‬
‫ضْيعتك‪" :‬ومن مل يعلم معىن وجوده هلل عز وجل‬
‫وقال لك رمحه اهلل عزاءً يف َ‬
‫‪ 1‬نفس املصدر ص ‪.79‬‬
‫‪ 2‬مدارج السالكني ج ‪ 3‬ص ‪.163‬‬

‫‪164‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫ث على رأسه الرماد‪ ،‬وليبك على نفسه!"‪.‬‬
‫والفوز به‪ ،‬فليَ ْح ُ‬
‫وقال يهيب بالقاعدين مثلنا السالكني يف ديار الشهوات والغفالت إىل‬
‫السفر إىل املوىل الكرمي‪" :‬من مل يسافر ومل خيرج عن وطن طبعه ومرباه‪ ،‬وما‬
‫قدره‪ ،‬وكفى‬ ‫ِ‬
‫أهل زمانه‪ ،‬فَهو مبعزل عن هذا‪ .‬فإن عرف َ‬ ‫ألف عليه أصحابَه و َ‬
‫الناس شره‪ ،‬فهذا يُرجى له السالمة‪ .‬وإن عدا طَْوَره‪ ،‬وأنكر ما مل يعرفه‪ ،‬وكذب‬
‫َ‬
‫مبا مل حيط به علما‪ ،‬مث جتاوز إىل تكفري من خالفه‪ ،‬ومل يقلد شيوخه‪ ،‬ويرضى‬
‫مبا رضي هو به لنفسه‪ ،‬فذلك الظامل اجلاهل‪ ،‬الذي ما ضر إال نفسه‪ ،‬وال‬
‫‪2‬‬
‫أضاع إال حظه"‪.‬‬
‫إن كنت أخي وأخيت ممن يستبعد أن يصرف العقالء وقتهم وجهدهم يف‬
‫العبث والفراغ‪ ،‬فاصرب معي يف الفصول املقبلة حىت أصف لك أحوال األولياء‪،‬‬
‫وأصف لك طريق الوالية‪ .‬وإن كنت من الصنف اآلخر الذي قرأت عنه يف هذه‬
‫أحب إليك من رضى اهلل تطلبه مع‬‫أهل زمانك َّ‬‫ضى ُرفقتك و ِ‬‫الصفحة‪ ،‬وكان ِر َ‬
‫الطالبني‪ ،‬وكان اإلنكار والتنكر أوفق لطبعك من التصديق‪ ،‬وكانت النفرة من‬
‫كلمة النصيحة ألصق بنفسك وأشهى إليها من االنقياد‪ ،‬فاطو هذا الكتاب‬
‫وانفض يدك وقل‪ :‬كالم فارغ! كما قال غريك‪ ،‬وهذا فراق بيين وبينك‪.‬‬
‫واعلم من هنا أن ألف كتاب حتفظه ال يتقدم بك شعرة يف الطريق إىل اهلل‬
‫إن مل تنبثق فيك إرادة ويقظة ومهة وطلب ومل جتد من يسدد خطاك من رجال‬
‫عصرك‪ .‬وتكفي كلمة صادق يف حلظة صفاء يف لقاء شفوي أو مقروء يباركه‬
‫اهلل تعاىل ليُ َورى َزنْ ُد َك‪ ،‬وتظلم الدنيا يف عينك‪ ،‬ال ِيقُّر لك قرار حىت تضع قدم‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ج ‪ 2‬ص ‪.452‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج ‪ 1‬ص ‪.159‬‬

‫‪165‬‬
‫اإلحسان‬

‫قلبك يف مدارج العقبة لتقتحمها‪ ،‬ولتكون من أهل املناجاة والنجوى‪ ،‬والقرب‬


‫مع ذوي القرىب‪ .‬كان اهلل معك!‬
‫قال لك وامق حمب على لسان حضرة القرب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ال يُبع َدنـَّـك َعْتبُن ـ ــا عـن بابنـ ـ ـ ـ ـ ـا فالعهــد بـاق وال ِو ُ‬
‫داد ُمصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ُن‬
‫فبجاهنا ِوبُ ْسنِنـَا وبلطْف ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا شاع احلديث وسارت الركبـ ـ ــان‬
‫ـت لِعـ ِّـزنـا ذلـت لعـ ـ ـ ـزتك الـ ـ ــملــوك وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابك السلط ـ ـ ـ ـ ــان‬
‫وإذا َذلَْل ـ ـ َ‬
‫يا أي ـ ـ ـ ـه ــا العشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق دونكـم السب ـ ــاق فه ـ ــذه الشقـ ـ ـ ـ ـراء وامليـ ـ ـ ـ ــدان‬

‫وقال حمب لك يف اهلل يبشرك بالعقىب إن قدرت على الثمن‪:‬‬


‫يا طـالب ـاً للـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ــايل مـهر املع ــايل َغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالـي‬
‫ـجـ ُـل اآلجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫ِّم فــأول نـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُم َع ّ‬
‫قـد ْ‬
‫ـذب املوت إال مـن ذاق َذ ْو َق الـرجـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫مـ ــا استع ـ َ‬
‫ حَـ ــاه َحـ ـ ُّـد الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـصـ ــال‬ ‫َ‬ ‫حـَ َمـ ـ ـ ـ ــاه دون وصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال‬
‫بس ْم ـ ـ ِر الـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوالـي‬ ‫ت ُ‬ ‫كـ ــذا القـصـ ــور الع ـ ـ ـ ـ ـوايل ُح َّف ْ‬
‫ـح ـ ِّـر الـنَبـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫والش ْـهـ ـ ُـد دون ج ـَنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاه لَ ْذعٌ ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫وقلت وأنا احلريص عليك الشفيق‪:‬‬

‫الرجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫تبـغــي َلَـ ـ ـ ـ ـ ــاق ِّ‬ ‫يَا طالب ــا للمـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ــي ‬
‫لِش ــاهقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوالـي‬ ‫ش ِّـمـر بعـ ـ ٍـزم لِتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرقى ‬
‫مبـَ ِ‬
‫ـاضي ـ ـ ـ ــات النِّـصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫اهج ـ ـ ـ ـ ـ ـم ‬ ‫ِ‬
‫نب و ُ‬ ‫وغالب اجلُ َ‬

‫‪166‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الصحبة والجماعة‬
‫حب اهلل قطب رحى الدين‬ ‫‪ ‬‬
‫محبة رسول اهلل هي العروة الوثقى‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الحب في اهلل والبغض في اهلل‬ ‫‪ ‬‬


‫سنة اهلل في التابع والمتبوع‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫شفاء السائل‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الشيخ كإمام للصالة‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫من أصحب يا رب؟‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫والدة القلب‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫المحبة واألدب عماد الطريق وسمة الطائفة‬ ‫‪ ‬‬


‫قضية الشيخ والبيعة‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫شعب اإليمان‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫اإلحسان‬

‫حب اهلل قطب رحى الدين‬

‫ص ْد ٍق‬‫ب أَ ْد ِخلْنِي م ْد َخل ِ‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َّ .‬‬
‫ُ َ‬
‫نك س ْلطَاناً نَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأَ ْخ ِر ْجنِي م ْخرج ِ‬
‫صيراً﴾‪.‬‬ ‫ص ْد ٍق َو ْ‬
‫اج َعل لِّي من لَّ ُد َ ُ‬ ‫ُ ََ‬ ‫َ‬
‫رب أعين وال تعن علي‪ ،‬وانصرين وال تنصر علي‪ ،‬وام ُكر ِل وال‬
‫علي‪ ،‬رب‬
‫اي‪ ،‬وانصرين على من بغى َّ‬ ‫مت ُكر علي‪ ،‬واهدين ويسر ُه َد َ‬
‫اجعلين لك شاكرا‪ ،‬لك ذاكرا‪ ،‬لك راهبا‪ ،‬لك ِمطْواعاً‪ ،‬إليك ُميبا‬
‫ت حجيت‪،‬‬ ‫ُمنيبا تقبل توبيت‪ ،‬واغسل حوبيت‪ ،‬وأجب دعويت‪ ،‬وثبِّ ْ‬
‫اسلل سخيمة قليب‪.‬‬ ‫واهد قليب‪ ،‬وسدد لساين‪ ،‬و ْ‬

‫الطريق الصادقة الصاعدة اليت إن استقام عليها العبد يف إرادته وجه اهلل‪،‬‬
‫وجهه‪ ،‬طريق تقرب إىل اهلل عز وجل وتوصل إليه‪ .‬إهنا‬ ‫ف إرادة الدنيا َ‬‫تص ِر ُ‬
‫ال ْ‬
‫طريق الوالية والسبق لدرجات القرب من اهلل عز وجل‪ .‬وتتحقق الوالية للعبد‪.‬‬
‫وي ِرُز على السبق وال ُقرىب حني تكلل جهوده يف طاعة مواله وحبه والوفاء له‬ ‫ُْ‬
‫والسري إليه حبب املوىل عبده ذلك احلب اخلاص الذي تَشرئب إليه أعناق‬
‫الرجال‪ .‬روى اإلمام البخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن اهلل قال‪ :‬من عادى يل وليا فقد آ َذنته باحلرب‪ .‬وما‬
‫إيل عبدي بشيء أحب إيل مما افرتضته عليه‪ .‬وما يزال عبدي يتقرب‬ ‫تقرب َّ‬
‫إىل بالنوافل حىت أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت مسعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي‬
‫يُبصر به‪ ،‬ويده اليت يبطش هبا‪ ،‬ورجله اليت ميشي هبا‪ .‬وإن سألين ألعطينه‪ ،‬ولئن‬

‫‪169‬‬
‫اإلحسان‬

‫ترددي عن نفس املؤمن‪،‬‬ ‫استعاذ يب ألعيذنه‪ .‬وما ترددت عن شيء أنا ِ‬


‫فاعلُه ُّ‬
‫يكره املوت‪ ،‬وأنا أكره َمساءَتَه"‪.‬‬
‫هذا احلديث القدسي العظيم سن ٌد قَوي لزيادة بيان ما أثبته القرآن وأثبتته‬
‫خاصةً يـُْف ِرُدهم عن الناس هم‬
‫السنة من أن اهلل جلت عظمته حيب من عباده َّ‬
‫ت بني طوائف العلماء خالفات وتأويالت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أولياء اهلل‪ .‬وحول هذا احلديث نَشبَ ْ‬
‫أفرده بعضهم بالتأليف ملزيد العناية به‪ ،‬كما فعل الشوكاين يف كتاب "قطر الويل‬
‫يف حديث الويل"‪ ،‬وأنكره بعضهم مع ثبوته يف أصح كتاب بعد كتاب اهلل تعاىل‬
‫يتضمنها‪ ،‬كما فعل الذهيب‬ ‫ِ‬
‫لَ ّما ضاقت ُح َويْصلَتُه عن قبول املعاين اجلليلة اليت ّ‬
‫حني زعم أنه‪" :‬حديث غريب جدا‪ ،‬ولوال هيبة اجلامع الصحيح لعددته من‬
‫منكرات خالد بن خملد"‪ 1.‬وخالد بن خملد راو من رجال إسناد احلديث‪ ،‬جتاوز‬
‫القنطرة بتَزكية البخاري له‪ ،‬ويريد الذهيب غفر اهلل له أن يرده على أعقابه‪.‬‬
‫حديث جليل عظيم تفسر بعض معانيه فصول هذا الكتاب‪ .‬نقف هنا‬
‫عبده ذلك احلب اخلاص هو مطلب كل متقرب إىل اهلل‪،‬‬ ‫على كون حب اهلل َ‬
‫حمب هلل‪ ،‬مطيع هلل‪ ،‬طامع يف اهلل‪ ،‬مريد هلل‪ ،‬فائز باهلل‪.‬‬
‫مية ال َـم ْع ِد ِن‪ ،‬تَطْ ِمُره الطّوامر‬ ‫وحب اهلل اخلالق املنعم مغروز يف ِ‬
‫الفطَ ِر الكر ِ‬ ‫ٌ‬
‫وتُربزه من مكامنه صحبة من "ينهض بك حاله‪ ،‬ويدلك على اهلل مقاله"‪ .‬ال‬
‫حبب أكرب إال جاحد ُمعاند‪ ،‬أو‬ ‫ينكر حب العبد لربه واستجابة املوىل الودود ٍّ‬
‫ُمعطل فاسد‪" .‬فكل ما فطرت القلوب على حمبته من نعوت الكمال فاهلل هو‬
‫املستحق له على الكمال‪ .‬وكل ما يف غريه من حمبوب فهو منه سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فهو املستحق ألن ُيب على احلقيقة والكمال‪ .‬وإنكار حمبة العبد لربه هو يف‬

‫‪ 1‬ميزان االعتدال يف نقد الرجال ج ‪ 1‬ص ‪ 641‬خلالد بن خملد القطواين‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫اإلحسان‬

‫احلقيقة إنكار لكونه إهلا معبودا‪ .‬كما أن إنكار حمبته لعبده يستلزم إنكار‬
‫مشيئته‪ ،‬وهو يستلزم إنكار كونه ربا خالقا‪ .‬فصار إنكارها مستلزما إلنكار‬
‫كونه رب العاملني‪ ،‬ولكونه إله العاملني‪ .‬وهذا هو قول أهل التَّعطيل واجلمود"‪.‬‬
‫قال هذا شيخ اإلسالم ابن تيمية الذي أورد حديث الوالية يف بداية كتابه‬
‫"الفرقان بني أولياء ال رمحن وأولياء الشيطان"‪ ،‬ومل يتوقف فيهكما توقف الذهيب‪،‬‬
‫بل بىن عليه و ْاهتَبَل به‪ .‬والعجب لرجل من أهل احلديث مذهبُه إثبات الصفات‬
‫وإمضاؤها كما جاءت‪ ،‬يتحول ُمعطال لِ َما يسمع من جالل والية اهلل لعبده‬
‫ويده ورجلَه! عجب! مث عجب! مث عجب ملن‬ ‫وبصره َ‬
‫مسعه َ‬ ‫احملبوب حىت لَيَكون َ‬
‫املؤولني يف الصفات عُ ْمَره‪ ،‬ويذهب هو يؤول ويعطِّل يف مثل هذا اخلرب‬
‫حيارب ِّ‬
‫العظيم الذي بلَّغه من ال ينطق عن اهلوى إن هو إال وحي يوحى‪ .‬واحلمد هلل‬
‫أن هنالك هيبة اجلامع الصحيح حتول دون احملرفني ودون طمس معامل الطريق‪.‬‬
‫عبده هو قطب رحى الدين‪ .‬وكلما كان العبد‬ ‫حب العبد ربَّه وحب الرب َ‬
‫ِّ ِ ‪1‬‬
‫آمنُواْ أَ َش ُّد ُحبّاً للّه﴾‪.‬‬ ‫أشد إميانا كان أشد حبا هلل‪ .‬قال اهلل تعاىل‪ِ َّ :‬‬
‫ين َ‬‫﴿والذ َ‬ ‫َ‬
‫هذه احملبة بني العبد وربه‪ ،‬منك إليه ومنه إليك‪ ،‬هي‪" :‬عقد اإلميان الذي ال يدخل‬
‫فيه الداخل إال هبا‪ ،‬وال فالح للعبد وال جناة له من عذاب اهلل إال هبا (‪ .)...‬وهلذا‬
‫كانت أصدق الكالم‪ ،‬وكان أهلها أهل اهلل وحزبه‪ ،‬واملنكرون هلا أعداءه‪ ،‬وأهل‬
‫مداره‪ .‬وإذا صحت‬ ‫غضبه ونقمته فهذه املسألة هي قطب رحى الدين الذي عليه ُ‬
‫صح هبا كل مسألة وحال وذوق‪ .‬وإذا مل يصححها العبد فالفساد الزم له يف‬
‫‪2‬‬
‫علومه وأعماله وأحواله وأقواله‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل"‪.‬‬

‫‪ 1‬البقرة‪165 ،‬‬
‫‪ 2‬ابن القيم يف "طريق اهلجرتني" ص ‪.415‬‬

‫‪171‬‬
‫اإلحسان‬

‫واملؤمنون يف حبهم هلل مراتب‪ ،‬فالعامة حيبونه ملا يغذوهم به من نعم‬


‫ومنَن‪ ،‬وخاصة أهل اهلل حيبونه عبودية وإخالصا وشوقا‪ .‬وكل هذه العواطف‬ ‫ِ‬
‫فروع لشجرة احملبة املغروزة يف الفطرة اإلنسانية‪ْ ،‬تبز من داين الفطرة وقاصيها‬
‫مشكك ُمعطِّل‪،‬‬ ‫إىل الوجود‪ ،‬فيقذف اهلل هبا‪ ،‬وهي حق‪ ،‬على كل باطل ِّ‬
‫فيدمغه فإذا هو زاهق‪" .‬أما بعد‪ ،‬فإن اهلل سبحانه غرس شجرة حمبته ومعرفته‬
‫وفضلهم على‬ ‫اختصهم بنعمته‪ّ ،‬‬ ‫وتوحيده يف قلوب من اختارهم لربوبيته‪ ،‬و ّ‬
‫سائر خليقته‪ .‬فهي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها يف السماء تويت أكلها كل‬
‫حني بإذن رهبا"‪ 1‬ويضرب اهلل األمثال للناس‪ ،‬واهلل بكل شيء عليم‪.‬‬
‫رابطة احلب بني العبد وربه مغناطيس جيذب‪ ،‬ويـَُقِّرب‪ ،‬ويـُبـَلِّغ املقامات‬
‫خاص ِية حمبته‪،‬‬
‫بلطافة ِّ‬‫ِ‬ ‫العليا‪ .‬قال سلطان العلماء‪" :‬إن احملبوب أبدا يسلُب‬
‫وجيذب أجزاءها إليه بقوة سلطانه عليه‪ .‬كما أن املغناطيس تعلقت به أجزاءُ‬
‫احلديد‪ ،‬واجنذب إليه بذاته‪ ،‬فهو يدور معه حيث دار‪ ،‬وينجذب إليه حيثما‬
‫امليل الدَّائم‪ ،‬بالقلب اهلائم‪ ،‬وخمالفة الالئم‪ .‬إن من‬ ‫ِ‬
‫سار‪ .‬فمن أوصاف احلب ُ‬
‫اجللي‪ ،‬فليتدبر قوله عليه السالم خمربا‬ ‫اخلفي‪ ،‬والكشف ّ‬ ‫أراد كشف هذا السر ّ‬
‫عن ربه عز وجل‪" :‬ال يزال عبدي يتقرب إيل بالنوافل حىت أحبه‪ ،‬فإذا أحببته‬
‫كنت له مسعا وبصرا وفؤادا"‪.‬‬
‫وصلة‬
‫قال‪" :‬فهمنا من ذلك أن عالقة وصلة احملبة ملا اتصلت هبا لطافة ْ‬
‫احملبوبية‪ ،‬واستمسك بعروة حىت أحبه‪ ،‬قَوي سلطان احملبوبية على سلطان احملبة‬
‫فأفناه عن ذاته‪ ،‬ونَفاه عن صفاته‪ ،‬مث أقام ببقائه عن فنائه‪ ،‬وخيم بصفاته عن فنائه‪.‬‬
‫تبدلت الصفات بالصفات‪ ،‬وقام الوجود بالوجود‪ ،‬فجاءت ِخلَ ُع اجلود على يد‪:‬‬

‫‪ 1‬ابن القيم يف "طريق اهلجرتني" ص ‪.4‬‬

‫‪172‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫"فَيب يسمع ويب يبصر"‪.‬‬
‫نؤجل احلديث عن علوم األولياء وأذواقهم ومعارفهم مثل الفناء والبقاء‬
‫والوجود بالوجود إىل سائر ما يعرب به كل معرب‪ .‬ما يبلغ متكلم بالغة املصطفى‬
‫استِفادتنا منكالمهم رضي اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم وأمانته ودقته وصدقه‪ .‬غاية ْ‬
‫عنهم أن نستمع عسى تَبلُ ُغ نربة من نربات صدقهم َمغَابِ َن فطرتنا‪ .‬قال الشيخ‬
‫ن! اعلم أن حبيب القلوب سبحانه إذا أحب عبدا أطْلع‬ ‫"أي بـََُّ‬
‫أمحد الرفاعي‪ْ :‬‬
‫سره على جالل قدرته‪ ،‬وحرك قلبه مبراوح ذكر ِمنّته‪ ،‬وسقاه َشربةً منكأس حمبته‪،‬‬
‫حىت يُسكره به عن غريه‪ .‬وجعله من أهل أنسه وقربه وصحبته‪ ،‬حىت ال يصرب عن‬
‫ذكر ربه‪ .‬وال خيتار أحدا عليه‪ ،‬وال يُشغل بشيء دون أمره"‪.2‬‬
‫دهاق يف‬‫سقي القوم من قبلنا رضي اهلل عنهم شراب احملبة بكاسات ٍ‬
‫ُ‬
‫خلوات اجملاهدة والرياضة والتفرغ الدائم لذكر اهلل‪ .‬ومطلب اجملاهدين املشتاقني‬
‫إىل رهبم يف مستقبل القومة هلل‪ ،‬والتحزب هلل‪ ،‬وإقامة اخلالفة على منهاج رسول‬
‫اهلل‪ ،‬ينبغي أن يكون عند مقام من وصفهم اهلل عز وجل يف كتابه العزيز حيث‬
‫ف يأْتِي اللّه بَِقوٍم ي ِحبـُّهم وي ِحبُّونَه أ َِذلَّ ٍة علَى الْم ْؤِمنِين أ ِ‬
‫َع َّزٍة َعلَى‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ُ ْ ُ ُ ْ َُ ُ‬ ‫َس ْو َ َ‬
‫قال‪َ ﴿ :‬‬
‫ض ُل اللّ ِه‬
‫ك فَ ْ‬‫يل اللّ ِه َوالَ يَ َخافُو َن لَ ْوَمةَ آلئِ ٍم َذلِ َ‬
‫اه ُدو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫الْ َكافِ ِرين يج ِ‬
‫َ َُ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يـُْؤتِ ِيه َمن يَ َ‬
‫شاءُ َواللّهُ َواس ٌع َعل ٌ‬
‫‪3‬‬

‫رحيق احملبة ُسقوه قروناً طويلة يف ظالل اخللوات‪،‬‬ ‫هنيئا ألحباب اهلل أولياء اهلل َ‬
‫وأهنأُ منه ما ُس ِقيَه الصحابة حتت ظالل السيوف‪ ،‬وما يوعد به "اإلخوان" بعد‬
‫الصحابة حتت ظالل البنادق وأزيز الصواريخ وعجيج دواليب الدولة اإلسالمية‪،‬‬

‫‪ 1‬بني الشريعة واحلقيقة ص ‪.14‬‬


‫‪ 2‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.226‬‬
‫‪ 3‬املائدة‪54 ،‬‬

‫‪173‬‬
‫اإلحسان‬

‫ْتعمر األرض‪ ،‬وتنشر لواء العزة باهلل‪ ،‬وتبلغ للعاملني رسالة اهلل‪.‬‬
‫ادعاء حب اهلل دون إعطاء براهني الصدق العمليَّة كذب و ٍ‬
‫أمان وأحالم‪.‬‬
‫حب ما سوى اهلل من دنيا ُموثَرة وهوى‬ ‫نقلع من قلبك ُّ‬ ‫لست هناك حىت يَ َ‬ ‫َ‬
‫لست هناك حىت يرى اهللُ ورسولُه واملؤمنون عملَك عند‬ ‫ُمتبع وأنانية طاغية! َ‬
‫األمر والنهي! قال الغزايل‪" :‬ال ينبغي أن يـ ْغتـر اإلنسان بتلبيس الشيطان ِ‬
‫وخ َد ِع‬ ‫َ َّ‬
‫النفس مهما ادعت حمبة اهلل تعاىل ما مل ميتحنها بالعالمات‪ ،‬وما مل يُطالبها‬
‫مثارها‬
‫بالرباهني واألدلة‪ .‬واحملبة شجرة طيبة أصلها ثابت‪ ،‬وفرعها يف السماء‪ ،‬و ُ‬
‫تظهر يف القلب واللسان واجلوارح"‪.‬‬
‫وذكر رمحه اهلل سبعة أدلة على ثبوت حمبة اهلل يف قلب العبد‪ ،‬منها "حب‬
‫لقاء احلبيب بطريق الكشف واملشاهدة"‪ ،‬و"أن يكون ُم ْؤثرا ما أحبه اهلل تعاىل‬
‫على ما حيبه يف ظاهره وباطنه"‪ ،‬و"أن يكون مستهرتا بذكر اهلل"‪ .‬و"أن يكون‬
‫أنسه باخللوة ومناجاته هلل تعاىل وتالوة كتابه"‪ ،‬و"أن ال يتأسف على ما يفوته‬
‫ُ‬
‫مما سوى اهلل عز وجل"‪ ،‬و"أن يتنعم بالطاعة‪ ،‬وال يستثقلها"‪ ،‬و"أن يكون‬
‫‪1‬‬
‫ُم ْش ِفقاً على مجيع عباد اهلل‪ ،‬رحيما هبم‪ ،‬شديدا على مجيع أعداء اهلل"‪.‬‬
‫من الناس من يَزعم أن السلوك إىل اهلل عن طريق احلب أمر إرادي يتحقق‬
‫بدون اعتبار األمر والنهي الوارد هبما الشرع‪ .‬ويتحدثون عن احملبة والدنو والقرب‬
‫والعشق واهلُيام وسائر هذه املصطلحات‪ ،‬مث جتدهم عند األمر والنهي ُمتلَ ّكئني‬
‫ُمتها ِونِني‪ .‬هؤالء عابثون مستهزئون‪" ،‬مل حيققوا شهادة أن ال إله إال اهلل وشهادة‬
‫أن حممدا رسول اهلل‪ .‬فإن حتقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي أن ال حيب إال هلل‪،‬‬
‫حيب ما حيبه اهلل‪،‬‬
‫وال يبغض إال هلل‪ ،‬وال يوايل إال هلل‪ ،‬وال يعادي إال هلل وأن َّ‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج ‪ 4‬ص ‪.282‬‬

‫‪174‬‬
‫اإلحسان‬

‫ويبغض ما أبغضه‪ ،‬ويأمر مبا أمر اهلل به‪ ،‬وينهى عما هنى اهلل عنه‪ .‬وأنك ال ترجو‬
‫إال اهلل‪ ،‬وال ختاف إال اهلل‪ ،‬وال تسأل إال اهلل وهذا ملة إبراهيم‪ .‬وهذا اإلسالم‬
‫‪1‬‬
‫الذي بعث اهلل به مجيع املرسلني"‪.‬‬
‫حمبة اهلل عز وجل الصادقة بَِباهينِها‪ ،‬املـَُوفِّية لشروطها من جانب العبد‪،‬‬
‫معجلة ألحباب اهلل‪ .‬قال‬
‫الفائضة من العزيز احلميد نـُُزال ُمباركاً‪ ،‬جنة يف الدنيا َّ‬
‫ابن القيم‪" :‬مسعت شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس اهلل روحه يقول‪" :‬إن يف‬
‫الدنيا جنة من مل يدخلها ال يدخل جنة اآلخرة"‪.2‬‬
‫وقال احملب‪:‬‬
‫ـاره مسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتوحـش بني العبــاد يسي ــر كاملتفـ ـ ـ ـ ـ ـ ِّـرد‬ ‫إن احملـب هنـ ُ‬
‫ـوحـ ـ ــد‬
‫فالعـيــن منه ق ـريـرة حبب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيبـه يرجـو لقـاء الواحـد املت ِّ‬
‫يا ُح ْس َن موكبهم إذا ما أقبل ـوا حنو اإللـه مـع النـيب حممـ ـ ـ ـ ــد!‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫ال قُضيَـت من صـدق حبك ْأوطـ ـ ـ ــاري‬ ‫أمــوت وما مــاتت إلي ــك صبــابـ ـ ـ ـ ـ ‬
‫يت‬
‫وأنت الغىن‪ ،‬كل الغىن‪ ،‬عنـد‬ ‫ُمناي‪ ،‬املىنكل املنـ ــى‪ ،‬أنت يل ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ً ‬
‫ـىن‬
‫إِقت ـ ـ ـ ـ ــاري‬
‫إضمـ ـ ـ ـ ــاري‬ ‫مـوضع آم ـ ــايل ومكـنـ ـ ـ ــون ْ‬ ‫وأنت َمـدى ُسـ ْـؤيل وغـاية رغب ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـي ‬
‫إن طال ُس ْقمي فيك أو طال إضـراري‬ ‫َت َّـمـ َـل قلبـي فيــك ما ال أبـُث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ‬
‫ومل يـَْب ـ ـ ُـد بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاديه ألهــل وال َج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار‬ ‫وبني ضلـوعي منـك ما لك قَـ ْد بــدا ‬
‫كن وانبث إس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراري‬ ‫فقد َه َّد مين الر َ‬ ‫ويب منـك يف األحشـاء داء ُمـامـِـ ـ ـ ٌ ـر‬
‫ف هـ ـ ـ ـ ــار؟‬ ‫ومْنقـ َذ من أشفـى على جـر ٍ‬ ‫ألست دليل الركب إن هم حتيـ ـ ــروا؟ ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ابن تيمية يف الفتاوي ج ‪ 8‬ص ‪.337‬‬
‫‪ 2‬الوابل الصيب ص ‪.44‬‬

‫‪175‬‬
‫اإلحسان‬

‫من النـور يف أيديـهم عُ ْش ُـر معشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار‬ ‫ت اهلـدى للمـهتـدين ومل يك ـ ـ ـ ـ ـ ن‬ ‫أنَ ْـر َ‬
‫أغثين بيُ ْسـر مـنك يطـرد إعس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاري‬ ‫أحـيـى بقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـربه ‬ ‫ِ‬
‫فَن ْلـين بعفــو مـنك ْ‬
‫وقال احملب الذاكر ذو البصرية‪:‬‬

‫يُوعــدين عنك منك بالظََّف ـ ـ ـ ـ ــر‬ ‫ذكـرك يل مـؤنـس يعـارض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــين ‬


‫وأنت مـين مبوضع النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظـر؟‬ ‫فكيف أنساك يا َم َدى ِهَمي ‬
‫وقال اإلمام الشافعي خياطب ِ‬
‫الدع َّي الكاذب‪:‬‬

‫هذا حمــال يف القـيـاس بديـ ـ ـ ـ ـ ــع‬ ‫تعصي اإلله وأنت تظهـر حب ه‬


‫إن احملب ملـن حيب مطيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع‬ ‫لو كـان حبـك صـادقا ألطعـتـه ‬
‫منه وأنت لشكـر ذاك مطيـ ـ ــع‬ ‫يف كـل يـوم يبـتـديـك بنعـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ‬

‫وقلت وأنا العبد العاصي عفا اهلل عين‪:‬‬

‫حب املهيمــن إن ذا لفظـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـع‬


‫َّ‬ ‫ويك زاعما بوقاح ـ ة‬ ‫تعصيه ْ‬
‫حب ملن ُيب ُمطـي ـ ـ ـ ـ ُـع‬ ‫إن ال ُـم َّ‬ ‫أبدعت يف شرع الوداد وخْنتَه ‬
‫وألنت يف َو َحل ال ُفتون صري ُـع‬ ‫ما أنت ِمن ِر ّق اهلوى ُمتح ِّـرٌر ‬

‫‪176‬‬
‫اإلحسان‬

‫محبة رسول اهلل هي العروة الوثقى‬

‫ب إِنِّي َو َه َن ال َْعظ ُْم ِمنِّي‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ب َش ِقيّاً﴾‪ .‬اللهم إنا‬ ‫ك َر ِّ‬‫س َش ْيباً َولَ ْم أَ ُكن بِ ُد َعائِ َ‬
‫الرأْ ُ‬
‫َوا ْشتـََع َل َّ‬
‫نسألك موجبات رمحتك‪ ،‬وعزائم مغفرتك‪ ،‬والسالمة من كل إمث‪،‬‬
‫والغنيمة من كل بر‪ ،‬والفوز باجلنة‪ ،‬والنجاة من النار‪.‬‬

‫صلى اهلل على من قر َن حمبته واستحقاق املزيد من احملبة واملغفرة باتباعه‬


‫حيث قال‪﴿ :‬ق ُق ْل إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِْب ُك ُم اللّهُ َويـَغْ ِف ْر لَ ُك ْم‬
‫ب‬‫ول فِإن تـََولَّ ْواْ فَِإ َّن اللّهَ الَ يُ ِح ُّ‬
‫الر ُس َ‬
‫َطيعُواْ اللّهَ َو َّ‬‫ذُنُوب ُكم واللّه غَ ُفور َّرِحيم قُل أ ِ‬
‫َ َْ ُ ٌ ٌ ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪ .1‬اللهم صل وسلم تسليما كثريا على حممد وآله وصحبه الذي‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫جعلت طاعته من طاعتك‪ ،‬ومعصيته والتويل عنهكفرا‪ ،‬وبيعته من بيعتك‪ ،‬وحمبته‬
‫من حمبتك‪ ،‬عبدك ونبيك ورسولك ومصطفاك من خلقك‪ ،‬العروة الوثقى وثوق‬
‫كتابك الذي أنزلت‪ ،‬احلبل املمدود بينك وبني أحبابك وأصفيائك وأوليائك‪،‬‬
‫سندا متصال‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه الرتمذي عن عبد‬
‫اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما‪" :‬أحبوا اهلل ملا يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوين حلب‬
‫اهلل‪ ،‬وأحبوا أهل بييت حليب"‪ .‬ورواه أيضا احلاكم وصححه ووافقه الذهيب‪.‬‬
‫ال فاصل بني حب اهلل وحب رسول اهلل وحب أهل بيت رسول اهلل‪ ،‬وإن‬

‫‪ 1‬آل عمران‪ ،‬اآليتان‪31-32 :‬‬

‫‪177‬‬
‫اإلحسان‬

‫تنوعت النعمة‪ .‬وأعظم نعم اهلل علينا الرمحة املهداة صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬اللهم‬
‫لك احلمد على ما تغذونا به من نعمك‪ ،‬ولك احلمد على نعمتك العظمى‬
‫حممد حبيبك‪.‬‬
‫وال حدود للتفاين يف حمبة الشخص الكرمي على اهلل حىت يكون أحب‬
‫إلينا من الناس أمجعني ومن أنفسنا‪ .‬روى البخاري عن عبد اهلل بن هشام قال‪:‬‬
‫"كنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن اخلطاب‪ .‬فقال‬
‫أحب إيل من كل شيء إال نفسي! فقال النيب‬ ‫له عمر‪ :‬يا رسول اهلل! ألنت ُّ‬
‫أحب إليك من‬‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال والذي نفسي بيده‪ ،‬حىت أكو َن َّ‬
‫أحب إيل من نفسي! فقال له النيب‬
‫ت ُّ‬ ‫نفسك!" فقال عمر‪ :‬فإنه اآلن واهلل ألنْ َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اآلن يا عمر!"‪.‬‬
‫أحب إليه مما سوامها‪ ،‬وذاق‬
‫ك واهلل ناصيةَ التوفيق من كان اهلل ورسوله َّ‬
‫َملَ َ‬
‫حالوة اإلميان‪ ،‬وأشرف على مشارف اإلحسان‪ ،‬ودحض مزاعم الشيطان‬
‫الذي يزعم أن التفاين يف حب الذات احملمدية غلو‪ .‬يا شيطان‪ ،‬هذه أنوار‬
‫حبه الشريف املنيف فهل من حميص!‬
‫كان عند الصحابة رضي اهلل عنهم من احملبة لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ما بلغ هبم أن يفتدوه باملهج‪ ،‬ومن التعظيم واهليبة لذلك اجلناب ما‬
‫طوق األنفس ِبََرس من جالله صلى اهلل عليه‬‫ُيرس األلسن ويغض األبصار ويُ ِّ‬
‫وسلم ومجاله‪ .‬إنه رسول اهلل! وكفى‪.‬‬
‫مثل ما كان عند‬
‫وكان عند التابعني والسلف الصاحلني من حمبته وتعظيمه ُ‬
‫الصحابة‪ .‬ذكر القاضي عياض رمحه اهلل يف "الشفاء" أن َمالكاً رمحه اهلل سئل‬
‫أحد إال وأيوب أفضل منه‪ .‬قال‪:‬‬‫عن أيوب السختياين فقال‪" :‬ما حدثتكم عن ٍ‬
‫أرمقه فال أمسع منه غري أنه إذا ذكر النيب صلى اهلل عليه‬
‫وحج حجتني‪ ،‬فكنت ُ‬
‫‪178‬‬
‫اإلحسان‬

‫وسلم بكى حىت أرمحه‪.‬‬


‫قال عياض‪" :‬وقال مصعب بن عبد اهلل‪ :‬كان مالك إذا ذكر النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يتغري لونه وينحين حىت يصعُب ذلك على جلسائه‪ .‬فقيل له‬
‫علي ما ترون‪ :‬لقد كنت‬ ‫أيت ملا أنكرمت َّ‬
‫يوما يف ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬لو رأيتم ما ر ُ‬
‫أرى حممد بن املنكدر‪ ،‬وكان سيد القراء‪ ،‬ال نكاد نَسأله عن حديث أبدا إال‬
‫بكى حىت نرمحه‪ .‬ولقد كنت أرى جعفر بن حممد (وهو اإلمام جعفر الصادق‬
‫ُّعابَة والتبسم‪ ،‬فإذا ذكر عنده النيب صلى اهلل‬
‫من آل البيت)‪ ،‬وكان كثري الد َ‬
‫عليه وسلم اصفر لونه وما رأيته حيدث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال‬
‫اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إال على ثالث خصال‪:‬‬‫ُ‬ ‫طهارة‪ .‬ولقد‬
‫على َ‬
‫ّإما مصليا‪ ،‬وإما صامتا‪ ،‬وإما يقرأ القرآن‪ .‬وال يتكلم فيما ال يعنيه‪ ،‬وكان من‬
‫العلماء والعُباد الذين خيشون اهلل"‪.‬‬
‫قال مالك‪" :‬ولقد كان عبد ال رمحن بن القاسم يذكر النيب صلى اهلل‬
‫جف لسانه يف فمه هيبة‬ ‫ف منه الدم‪ ،‬وقد َّ‬‫عليه وسلم فيُنظَر إىل لونه كأنه نـََز َ‬
‫لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ولقد كنت آيت عامر بن عبد اهلل بن الزبري‪،‬‬
‫فإذا ذُكر عنده النيب صلى اهلل عليه وسلم بكى حىت ال يبقى يف عينيه دموع‪.‬‬
‫أقربم‪ ،‬فإذا ذكر عنده النيب صلى‬‫الزهري‪ ،‬وكان لَ ِم ْن ْأهنَإ الناس و ِ‬
‫ولقد رأيت ُّ‬
‫اهلل عليه وسلم فكأنه ما عرفَك وال عرفته‪ .‬ولقد كنت آيت صفوان بن ُسلَيم‪،‬‬
‫وكان من املتعبدين اجملتهدين‪ ،‬فإذا ذكر النيب صلى اهلل عليه وسلم بكى‪ ،‬فال‬
‫يزال يبكي حىت يقوم الناس عنه ويرتكوه"‪.‬‬
‫تردي‬
‫هذه بعض الصور ألهل اإلميان األولني‪ .‬ومن أصدق املعايري على ّ‬
‫إمياننا ذبول زهرة احلب اإلهلي النبوي يف قلوبنا‪ .‬حالت أكداس الكتب والتفاريع‬
‫بيننا وبني املعني الفياض‪ ،‬حالت بيننا وبني الوراثة القلبية ألولئك الرجال انقطاعات‬

‫‪179‬‬
‫اإلحسان‬

‫الفتنة‪ .‬واحتفظ الصوفية رضي اهلل عنهم بالتعلق الشديد جبناب النبوة‪ .‬قال‬
‫الناطق بلسان الصفوة احملبني شيخ اإلسالم ابن القيم نضر اهلل وجهه‪" :‬فهذا‬
‫العلم (يعين علم القلوب‪ ،‬علم األولياء) الصايف املتل ّقى من مشكاة الوحي‬
‫والنبوة يُهذب صاحبَه لسلوك طريق العبودية‪ .‬وحقيقتها التأدب بآداب رسول‬
‫الوقوف معه‬
‫وحتكيمه باطنا وظاهرا‪ ،‬و ُ‬
‫ُ‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم باطنا وظاهرا‪،‬‬
‫حيث وقف بك‪ ،‬واملسريُ معه حيث سار بك‪ ،‬حبيث جتعله مبنزلة شيخك‬
‫سره وظاهره (‪ )...‬وتعلق قلبك بقلبه الكرمي‪،‬‬ ‫الذي قد ألقيت إليه أمرك كلَّه َّ‬
‫‪1‬‬
‫وروحانيتك بروحانيته‪ ،‬كما يـَُعلِّق املريد روحانيته بروحانية شيخه"‪.‬‬
‫لكن أىن لك بذلك التعلق بالقلب األمسى واجلناب األمحى ونفسك يف‬
‫احلضيض‪ ،‬عدميُ اإلرادة‪ ،‬ساقط اهلمة! عليك مبحبة العوام واسأل ربك أن يقيض‬
‫لك روحانية عارف تطري بك مهتها بأجنحة احملبة إىل رحاب الوحي والنبوة‪.‬‬
‫إن تـََوِّل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والصالة عليه الدائمة‪ ،‬وحب‬
‫آل البيت املطهرين‪ ،‬وتويل صحابته‪ ،‬لَ ِم َّما يقرب املسافات للمريد الطالب‪.‬‬
‫واختلف العلماء فيمن هم أهل بيته الذين جاءت يف حمبتهم ومواالهتم أحاديث‬
‫صحيحة تذكرنا اهلل وتناشدنا اهلل فيهم ويف القرآن‪ .‬فمن قائل إهنم اآلل الذين‬
‫حترم عليهم الصدقة من بين هاشم‪ .‬ومن قائل إهنم ذريته وأزواجه‪ .‬ومن قائل‬
‫إهنم أمته عامة‪ .‬ومن قائل إهنم أتقياء أمته خاصة‪ .‬وحديث الرتمذي خيصص‬
‫عليا وفاطمة والسبطني الكرميني احلسن واحلسني‪ .‬وعند مسلم أن زيد بن أرقم‬
‫عرف أهل البيت بأهنم‪" :‬من ُحرم الصدقة بعده‪ ،‬وهم آل علي‬ ‫رضي اهلل عنه َّ‬
‫وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس"‪.‬‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ج ‪ 3‬ص ‪.143‬‬

‫‪180‬‬
‫اإلحسان‬

‫واملوفّق من يوايل اهلل ورسوله واألهل اخلاصني والعامني‪ ،‬حمبة متصلة‬


‫ممتدة تربطه برباط املودة والرمحة مبن أحبهم اهلل وأمر مبحبتهم‪.‬‬
‫كان شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل فردا متفردا يف التوقف يف قضية‬
‫التوسل والتربك‪ .‬كان مهه أن يُ ِّنزه جناب األلوهية عن الشرك‪ ،‬وأن يربز مكانة‬
‫الوحي والنبوة ويرفعها عن تقديس املشايخ‪ .‬هو عندنا من عدول األمة الذين‬
‫حاولوا جمتهدين يف طاعة اهلل أن يدفعوا عن الدين حتريف الغالني وانتحال‬
‫املبطلني وتأويل اجلاهلني‪ .‬لكنه قال يف التوسل والزيارة للقرب الكرمي مقاال‬
‫َشاذّاً رده عليه مجهور العلماء‪ .‬ما أحسن عفا اهلل عنه احلفا َظ على حبل احملبة‬
‫الواصل بني اهلل والناس عرب الشخص الكرمي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫إنه يتحدث عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كما يتحدث عن األموات‪.‬‬
‫ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حي تعرض عليه أعمالنا ويدعو لنا‪ .‬فارقنا‬
‫جسده الشريف‪ ،‬فهو يف القرب ثا ٍو ال يعتدى عليه الرتاب‪ ،‬والروح َرفرافة حاضرة‬‫ُ‬
‫ميأل نورها اخلافقني‪ .‬روى ابن خزمية وصححه وابن حبان يف صحيحه واحلاكم‬
‫وغريهم حديث حياة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ورواية ابن ماجه هلذا احلديث‬
‫علي يوم‬
‫عن أيب الدرداء أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬أكثروا الصالة ّ‬
‫ت‬‫ضْ‬ ‫اجلمعة‪ ،‬فإنه يوم مشهود‪ ،‬تشهده املالئكة‪ ،‬وإن أحدا ال يصلي علي إال عُ ِر َ‬
‫يفرغ منها"‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬وبعد املوت؟ قال‪" :‬وبعد املوت‪ ،‬إن‬ ‫علي صالته حىت ُ‬
‫اهلل حرم على األرض أن تأكل أجساد األنبياء"‪ .‬وأخرج البزار بسند صحيح عن‬
‫وي ُدث‬‫ابن مسعود أنه صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬حيايت خري لكم ُتدثون َْ‬
‫أيت من خري محدت اهلل‪،‬‬ ‫لكم‪ .‬ووفايت خري لكم‪ ،‬تُعرض علي أعمالكم فما ر ُ‬
‫أيت من شر استغفرت اهلل لكم"‪.‬‬ ‫وما ر ُ‬
‫ك ِرَه اإلمام مالك رمحه اهلل أن يقال‪" :‬زرت قرب النيب صلى اهلل عليه وسلم"‪،‬‬

‫‪181‬‬
‫اإلحسان‬

‫ألن كلمة قرب تتناىف مع إجالل من هو عند اهلل أجل وأعظم قدرا من الشهداء‬
‫إخبار اهلل عنهم بذلك وقال‬
‫األحياء عند رهبم يرزقون فرحني‪ ،‬يكفر من رد َ‬
‫إهنم أموات‪.‬‬
‫قال احلافظ‪" :‬ألْزموا ابن تيمية بتحرمي شد الرحال إىل زيارة قرب سيدنا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأن َك ْرنا صورة ذلك‪ .‬ويف شرح ذلك من‬
‫طول‪ .‬وهي من أبشع املسائل املنقولة عن ابن تيمية (‪ .)...‬الزيارة من‬
‫الطرفني ٌ‬
‫أفضل األعمال وأجل القربات املوصلة إىل ذي اجلالل‪ .‬وإن مشروعيتها حمل‬
‫‪1‬‬
‫إمجاع بال نزاع واهلل اهلادي إىل الصواب"‪.‬‬
‫وأمجع الفقهاء املالكية وكثري من علماء املذاهب على استحباب التوسل‬
‫باملصطفى سيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وأنكر ذلك وينكره التيميون‬
‫غفر اهلل هلم‪ .‬بل ينكرون على من يذكر لفظ السيادة متشيا مع مسألة بَشعة‬
‫ش ّذ فيها رجل شذوذاً مل يسبقه إليه أحد كما قال اإلمام التقي السبكي‪.‬‬
‫وقد جاء يف مسألة التوسل حديث الضرير الذي رواه الرتمذي وابن‬
‫ماجه والنسائي يف عمل اليوم والليلة وغريهم بسند صحيح أن رجال ضرير‬
‫البصر أتى النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬ادع اهلل أن يعافيين فقال‪" :‬إن‬
‫صربت فهو خري لك"‪ .‬قال‪ :‬فادعُ ْه! قال‪ :‬فأمره أن‬
‫َ‬ ‫دعوت وإن شئت‬
‫ُ‬ ‫شئت‬
‫إين أسألك وأتوجه إليك‬ ‫ويدعو هبذا الدعاء‪" :‬اللهم ِ‬
‫َ‬ ‫يتوضأ فيُحسن الوضوء‬
‫بنبيك حممد نيب الرمحة‪ .‬يا حممد! إين أتوجه بك إىل ريب يف حاجيت هذه‬
‫لتُقضى‪ .‬اللهم فشفعه يف"‪.‬‬
‫املعركة طويلة‪ ،‬وهناك ذرائع جيب أن تسد لكيال تُعبَد القبور‪ .‬واألرواح‬

‫‪ 1‬فتح الباري ج ‪ 3‬ص ‪.66‬‬

‫‪182‬‬
‫اإلحسان‬

‫الويف‬
‫ف الشاذّين‪ .‬قال التلميذ ُّ‬ ‫ِ‬
‫النائرة هتفو جلناب الروضة الشريفة ولَ ْو َرغ َم أنْ ُ‬
‫البن تيمية املتشدد‪ ،‬تسمع آهات األسى من بني الكلمات‪" :‬وأهل السنة‬
‫أولياء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وورثته وأحباؤه الذين هو عندهم أوىل‬
‫أحب إليهم منها‪ ،‬جيدون نفوسهم أقرب إليه وهم يف‬ ‫هبم من أنفسهم‪ ،‬و ُّ‬
‫األقطار النائية عنه من جريان حجرته يف املدينة‪ .‬واحملبون املشتاقون للكعبة‬
‫‪1‬‬
‫وم ْن حوهلا"‪.‬‬
‫والبيت احلرام جيدون قلوهبم وأرواحهم أقرب إليها من جرياهنا َ‬
‫أجسادها صارت كاملوج‬
‫َ‬ ‫ويقول مستهام آخر‪" :‬وأرواح ال ُكمل إذا فارقت‬
‫املكفوف (‪ .)...‬ولكن النفوس اليت هي دوهنا تلتصق هبا باهلمة فتجلب منها‬
‫نورا وهيأ ًة مناسبة لألرواح‪ .‬وهي املكىن عنه بقوله عليه السالم‪" :‬ما من أحد‬
‫شاهدت ذلك‬
‫ُ‬ ‫يسلم علي إال رد اهلل علي روحي حىت أرد عليه السالم"‪ .‬وقد‬
‫‪2‬‬
‫ما ال أحصي يف جماوريت املدينة سنة ألف ومائة وأربع وأربعني"‪.‬‬
‫وهلل َدر الدكتور سعيد رمضان البوطي الذي جاء املسألة من باب رفيع‪.‬‬
‫ذكر السببية اليت جعلها اهلل يف الكون‪ ،‬وذكر أن اهلل أرسل رسوله صلى اهلل عليه‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪ .3‬مث قال‪:‬‬‫اك إَِّل َر ْح َمةً لِّل َْعالَم َ‬
‫﴿وَما أ َْر َسلْنَ َ‬
‫وسلم رمحة للعاملني يف قوله‪َ :‬‬
‫"وإذا كان (أي قانون السببية) بالنسبة للدواء والطبيب واألمطار‪ ،‬ال ضري فيه وال‬
‫أي ضري يف ذلك بالنسبة لألنبياء كالتوسل والتربك هبم أوىل‬ ‫حرج‪ ،‬فأل ْن يكون ُّ‬
‫وأجدر (‪ .)...‬وقد امتأل الصحابة كلهم شعورا هبذا املعىن‪ ،‬فلم يألوا جهدا يف‬
‫التوسل والتربك بآثاره وفَضالته (‪ .)...‬وقد ثبت ذلك بأحاديث ثابتة صحيحة‬
‫ال يرقى إليها الظن أو الوهم (‪ .)...‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال تأثري‬

‫‪ 1‬ابن القيم يف "مدارج السالكني" ج ‪ 2‬ص ‪.266‬‬


‫‪ 2‬ويل اهلل الدهلوي يف "حجة اهلل البالغة" ج ‪ 2‬ص ‪.77‬‬
‫‪ 3‬األنبياء‪107 ،‬‬

‫‪183‬‬
‫اإلحسان‬

‫له يف شيء ما‪ ،‬ال يف حياته وال بعد موته‪ .‬ومن اعتقد خالف ذلك فهو كافر‬
‫التوسل والتربك به فهو ُمرد تكرمي من اهلل عز وجل له‪،‬‬
‫باهلل ورسوله‪ .‬أما منا ُط ّ‬
‫وجعلُه وسيلةَ ٍ‬
‫رمحة للعباد‪ .‬وهذا التكرمي والتشريف ال ينفك شيء منه عن النيب‬ ‫َْ‬
‫‪1‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بوفاته‪ .‬بل إنه ليزداد ‪-‬كما نعلم‪ -‬علوا وشرفا"‪.‬‬
‫قال الشيخ اإلمام عبد القادر اجليالين يف كتاب "الغنية" ‪" :‬فإذا من اهلل‬
‫وقد َم املدينة‪ ،‬فاملستحب له أن يأيت مسجد النيب‬ ‫تعاىل بالعافية (على احلاج) ِ‬
‫﴿ولَ ْو‬
‫فليقل‪ )...( :‬اللهم إنك قلت يف كتابك لنبيك ‪َ :‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم ْ‬
‫ِ َّ‬
‫ول لََو َج ُدواْ‬
‫الر ُس ُ‬
‫استـَغْ َف َر لَ ُه ُم َّ‬
‫استـَغْ َف ُرواْ اللّهَ َو ْ‬
‫وك فَ ْ‬ ‫أَنـَُّه ْم إذ ظلَ ُمواْ أَن ُف َ‬
‫س ُه ْم َجآ ُؤ َ‬
‫اللّهَ تـََّواباً َّرِحيماً﴾‪ 2.‬وإين أتيت نبيك تائبا من ذنويب مستغفرا‪ .‬فأسألك أن‬
‫فد َعا‬
‫فأقر عنده بذنوبه‪َ ،‬‬ ‫توجب يل املغفرة كما أوجبتها ملن أتاه يف حال حياته‪َّ ،‬‬
‫نيب الرمحة‪ .‬يا‬ ‫له نبيُّه‪ ،‬فغفرت له‪ .‬اللهم إين أتوجه إليك بنبيك عليه سالمك ِّ‬
‫‪3‬‬
‫رسول اهلل! إين أتوجه بك إىل ريب ليغفر يل ذنويب"‪.‬‬
‫يف أية خانة يضع الشاذون كالم الشيخ عبد القادر قدس اهلل سره‪ ،‬أهي‬
‫استغاثة وتوسل ب ْد ِعيَّان؟ كال واهلل بل هي السنة اخلالصة‪.‬‬
‫واإلمام النووي رضي اهلل عنه قمة شاخمة يف احلديث واملعـرفة باهلل يوصي‬
‫يف الباب السادس من كتابه "إيضاح املناسك" بزيارة قرب سيدنا وموالنا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم بآداب بالغة يف احرتام احلضرة الشريفة ومبخاطبات‬
‫وتسليمات عليه وعلى صاحبيه وضجيعيه ال تليق مبن يزور قربا جامدا وأمواتا‬

‫‪ 1‬كربى اليقينيات الكونية ص ‪.239‬‬


‫‪ 2‬النساء‪64 ،‬‬
‫‪ 3‬أنقل هذا النص عن الشيخ النبهاين يف كتاب "شواهد احلق يف االستغاثة بسيد اخللق" ص ‪.75‬‬

‫‪184‬‬
‫اإلحسان‬

‫فائتني‪ ،‬بل هي خماطبات ألفضل األحياء من وراء حجاب املوت والنقلة عن‬
‫هذه الدار الفانية‪.‬‬
‫قضية الشيخ أمحد الرفاعي يف زيارته لقرب جده صلى اهلل عليه وسلم‬
‫معروفة ال حاجة للتطويل فيها‪ .‬وقد ألف السيوطي كتاب "الشرف احملتم"‬
‫ليشرح للمعارضني معىن نوبة األشباح واألرواح‪ ،‬وقال‪" :‬أول ما أقول أن حياة‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم هو وسائر األنبياء معلومة عندنا قطعا ملا قام عندنا‬
‫من األدلة بذلك‪ .‬وقام بذلك الربهان وصحت الروايات وتواترت األخبار"‪.‬‬
‫وألئمة املسلمني العظام ُهيام ال ينتهي باجلناب الشريف وبالذرية واآلل‪ .‬غال‬
‫يف تلك احملبة قوم مل تتسع صدورهم حلب الصحب الكرام بعد الفتنة الكربى‪،‬‬
‫فرفضوا اخللفاء الراشدين‪ ،‬ياخليبتهم ِ‬
‫وحرماهنم ! وحفظ األئمة العظام امليزان‪.‬‬ ‫َ‬
‫قال اإلمام الشافعي‪:‬‬
‫وهــم إليـه وس ـيـل ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫آل النـبـ ـ ـ ــي ذري ـعـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ‬
‫بيدي اليمــني صحيفت ــي‬ ‫ْأرجـو هبـم أ ُْعطَـ ــى غـ ـ ــدا ‬
‫وقال‪:‬‬
‫وسبطيـه وفــاطمة الزكي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫إذا يف جملـس نذ ُك ْـر عليّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ اً‬
‫فهـذا من حديث الرافضي ـ ـ ــه‬ ‫يقال‪ :‬جتاوزوا يا قـوم ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذا ‬
‫يرون الرفض حب الفاطميّه‬ ‫ت إىل املهيمن من أنـ ـ ـ ـ ــاس ‬ ‫بَرئْ ُ‬
‫وقال‪:‬‬
‫فضـل ـ ـنــا عليـ ـ ـ ـ ـ ــا فـإنـن ــا روافض بالتفضيل عند ذوي اجلهـل‬
‫إذا حنــن ّ‬
‫ـري للفضل‬ ‫وفض ــل أىب بكر إذا ما ذكـ ـرتــه ُرميـت بنَصب عنـد ذك َ‬
‫فـالزلت ذا رفـض ونص ٍ‬
‫ـب كـالمهــا حببِّيهـمــا حتّـى أ َُو َّسـ َـد يف الرم ـ ــل‬

‫‪185‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال‪:‬‬
‫يا آل بيت رســول اللـه حبـ ـ ـكــم فـرض من اهلل يف القـرآن أنـزل ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫يكفيكم من عظيــم الفخـر أنكـم من مل يصل عليكم ال صـالة له‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ف سـ ـريريت‬ ‫آل النب ـ ـ ـ ــي حب ـب ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم قد طاب َع ْـر ُ‬


‫أنت ــم ُسـ ـ ــاللـ ــة أمح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـد هـ ــادي األن ــام ذخ ـريت ــي‬
‫أرجـو شفـ ـ ــاعته غ ـ ـ ـ ـ ـ ــدا لك ـبـ ـ ـريتـي وصـغـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرتــي‬

‫‪186‬‬
‫اإلحسان‬

‫الحب في اهلل والبغض في اهلل‬

‫ص ْد ِري‬ ‫ِ‬
‫ب ا ْش َر ْح لي َ‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫سانِي يـَْف َق ُهوا قـَْولِي﴾‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وي ِّ ِ‬
‫س ْر لي أ َْم ِري َو ْ‬
‫احلُ ْل عُ ْق َدةً ِّمن ل َ‬ ‫ََ‬
‫اللهم اغفر لنا ذنوبنا وظلمنا وهزلنا وجدنا وعمدنا‪،‬‬
‫كل ذلك عندنا‪.‬‬

‫ب هلل واحلب يف اهلل‪ ،‬رزق ْيرزقه اهلل من يشاء‪ ،‬ال يفيد يف ذلك تفعل‬
‫احلُ ُّ‬
‫يدعو ربه‪ .‬عن عبد اهلل بن يزيد اخلطيمي األنصاري رضي اهلل عنه أن‬
‫العبد إال أن َ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يقول يف دعائه‪" :‬اللهم ارزقين حبك‪ ،‬وحب‬
‫أحب فاجعله قوة يل فيما حتب‪ .‬وما‬‫من ينفعين حبه عندك‪ .‬اللهم ما رزقتين مما ُّ‬
‫ب فاجعله فراغا يل فيما ُتب"‪ .‬رواه الرتمذي وحسنه‪.‬‬ ‫زويت عين مما ِ‬
‫أح ُّ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫وأعظم الرزق بعد حب اهلل حب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬حبه‬
‫الشريف مقام يرفع اهلل إليه العبد املختار‪ .‬وهو حب عميق يف قلوب الرجال‬
‫يستفيض منه العامة هذه احملبة للجناب النبوي اليت يعربون عنها باحملافل‬
‫ت البدع‪.‬‬‫واملواليد‪ ،‬وهي مناسبات خري ال شك ما ُتنِّب ِ‬
‫َُ‬
‫حبه الشريف صلى اهلل عليه وسلم عالمة على صدق املريد وجه اهلل يف‬
‫وعلَ ٌم من أعالم النصر على طريق السلوك إىل اهلل‪ .‬قال ابن القيم رمحه‬‫طلبه‪َ ،‬‬
‫اهلل‪" :‬فإذا صدق يف ذلك (أي يف مجع إرادته على اهلل) ُرِزق حمبة رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واستولت روحانيته على قلبه‪ ،‬فجعله إمامه ومعلمه‪،‬‬

‫‪187‬‬
‫اإلحسان‬

‫وأستاذه وشيخه وقُدوته‪ ،‬كما جعله اهلل نبيَّه ورسوله وهاديا إليه‪ .‬فيطالع سريته‬
‫ومبَادئ أمره‪ ،‬وكيفية نزول الوحي عليه‪ ،‬ويعرف صفاتِه وأخالقَه يف حركاته‬
‫وسكونه‪ ،‬ويقظته ومنامه‪ ،‬وعبادته ومعاشرته ألهله وأصحابه‪ ،‬حىت يصري كأنه‬
‫معه‪ ،‬من بعض أصحابه‪ 1" .‬قلت‪ :‬والشغف بسرية احلبيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وبتفاصيل حياته الزمة من لوازم اتباعه يف جليل األمر وهينه‪ ،‬أصدق‬
‫عالمات أهل اهلل شغفهم بتقليد احملبوب يف سنته الكاملة‪.‬‬
‫ألقى اهلل عز وجل يف قلوب العارفني واملؤمنني حبه كما يلقي على أحبابه‪،‬‬
‫خصه من ذلك بالنصيب األوفر‪ .‬زاده اهلل تعظيما وشرفا‪ .‬قال اهلل ملوسى عليه‬
‫ك َم َحبَّةً ِّمنِّي﴾‪ 2.‬ويُلقي اهلل من هذه احملبة على‬ ‫﴿وأَلْ َق ْي ُ‬
‫ت َعلَْي َ‬ ‫السالم َيُن عليه‪َ :‬‬
‫من يشاء من عباده ممن هم دون مقام النبوة‪ .‬روى الشيخان وغريمها عن أيب هريرة‬
‫(واللفظ هنا ملسلم فروايته أكمل) أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إن‬
‫اهلل إذا أحب عبداً دعا جربيل فقال‪ :‬إين أحب فالنا فأحبه‪ .‬قال‪ :‬فيحبه جربيل‪،‬‬
‫مث ينادي يف السماء فيقول‪ :‬إن اهلل حيب فالنا فأحبوه فيحبه أهل السماء‪ .‬مث‬
‫يوضع له ال َقبول يف األرض‪ .‬وإذا أبْغض عبدا دعا جربيل عليه السالم‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫إن أبغض فالنا فأبغضه‪ .‬قال‪ :‬فيُبغضه جربيل‪ .‬مث ينادي يف أهل السماء إن اهلل‬ ‫ِّ‬
‫يُبغض فالنا فأبغضوه‪ .‬مث توضع له البغضاء يف األرض"‪.‬‬
‫ونفسي األمارَة بالسوء أعين‪ ،‬إن منادي السماء يهتف بامسك!‬
‫َ‬ ‫يا غافل!‬
‫فأي فالنني أنت؟ وما امسك يف امللكوت؟ ِوبَ تـَنـََّزل األمر يف حقك؟ أيسوغ‬
‫لك طعام وشراب قبل أن تعرف؟ أحتلو الدنيا يف عينك قبل أن تستشف ما وراء‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ج ‪ 3‬ص ‪.268‬‬


‫‪ 2‬طه‪39 ،‬‬

‫‪188‬‬
‫اإلحسان‬

‫التسمع والذكر واالبتهال والتضرع والتقرب حىت تأتيك‬


‫احلجب باالستماع و ُّ‬
‫البشرى؟ اللهم ارزقنا حمبتك وحمبة أحبابك وحمبة حمابك حىت يقع حبنا يف‬
‫مواضع حبك‪.‬‬
‫نتحاب يف اهلل‪ ،‬وهو حتاب يلقيه اهلل على هذه‬
‫َّ‬ ‫اجلنة ممنوعة علينا ما مل‬
‫األمة املرحومة‪ ،‬على املؤمنني املتقني‪ ،‬يتذوقونه وحتلو احلياة به وهي مرة‪" .‬مثل‬
‫املؤمنني يف توادهم وترامحهم وتعاطفهم مثل اجلسد! إذا اشتكى منه عضو‬
‫تداعى له سائر اجلسد بالسهر واحلمى" كما روى ذلك الشيخان عن النعمان‬
‫بن بشري مرفوعا‪ .‬وروى مسلم وأبو داود والرتمذي عن أيب هريرة أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬والذي نفسي بيده ال تدخلوا اجلنة حىت تومنوا‪ ،‬وال‬
‫تومنوا حىت حتابوا‪َ .‬أوالَ أدلكم على شيء إن فعلتموه حتابـَْبتم؟ أفشوا السالم‬
‫بينكم"‪ .‬إفشاء السالم سبب ظاهر إذا اقرتن باألسباب األخرى فاجتمعت‬
‫القلوب على طاعة اهلل‪ ،‬والوفاء بالعهود‪ ،‬والتحزب هلل‪ ،‬ونصرة دين اهلل‪ ،‬واتباع‬
‫سنة رسول اهلل حصل املقصود‪ ،‬فرتاص الصف كالبنيان‪ ،‬واستقرت أعضاء‬
‫اجلسد الواحد‪ ،‬وتضامنت وتعاونت‪ .‬فثبت خري الدنيا حبياة اإلميان اجلماعي‬
‫وثبت خري اآلخرة بإميان التحاب يف اهلل‪ .‬وهنا نضع األصبع على مفصل‪ ،‬بل‬
‫موصل‪ ،‬من أهم مواصل بناء اجلماعة‪ ،‬بل هو أمهها إطالقا‪ :‬أال وهو التواصل‬
‫القليب‪ .‬الصحبة يف اهلل املؤدية إىل مجاعة يف اهلل هي مبدأ احلركة ووسطها‬
‫ومعادها‪ .‬وكل ذلك رزق يُلقيه اهلل عز وجل على املرحومني‪ ،‬له عالئم ظاهرة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وأسباب مشروعة‪ ،‬وحكمة ورمحة يضعها اهلل يف قلوب العباد‪.‬‬
‫ومن ُرزق يف الدنيا من املؤمنني حتابا خاصا عميقا كان له يف اآلخرة مكانة‬
‫خاصة‪ .‬يقول اهلل تعاىل يوم القيامة‪" :‬أين املتحابون جباليل؟ اليوم ِ‬
‫أظلُّهم حتت‬
‫ظلِّي يوم ال ظل إال ظلِّي"‪ .‬أخرجه مسلم ومالك يف املوطإ عن أيب هريرة مرفوعا‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫اإلحسان‬

‫ومن أحب قوما حشر معهم‪ .‬فانظر يا غافل من يسكن يف فؤادك حبّه‪ .‬روى‬
‫الشيخان وغريمها عن أنس أن رجال سأل النيب صلى اهلل عليه وسلم عن‬
‫الساعة فقال‪" :‬مىت الساعة؟ قال‪" :‬وما أعددت هلا؟" قال‪ :‬الشيء‪ ،‬إال أين‬
‫أحب اهلل ورسوله‪ .‬قال‪" :‬أنت مع من أحببت"‪ .‬قال أنس‪ :‬فما فرحنا بشيء‬
‫َفر َحنا بقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أنت مع من أحببت"‪ .‬قال أنس‪:‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم وأبا بكر وعمر‪ ،‬وأرجو أن أكون معهم‬ ‫فأنا أحب َّ‬
‫حبيب إياهم‪ ،‬وإن مل أعمل أعماهلم"‪.‬‬
‫ومفيض الكرم حنمدك على حبنا إياهم ونـَْفرح‪ ،‬زدنا‬ ‫النع ِم ُ‬
‫وحنن يا ُم ِول َ‬
‫حبا لك ولرسولك وأليب بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬واهد إخواننا الشيعة‬
‫لتوسيع ما ضيقوه على أنفسهم ِحرمانا وتعنُّتا‪.‬‬
‫يتصرم! فماذا أسست من صداقات‪ ،‬وماذا بنيت‬ ‫يا غافل! هذا عمرك َّ‬
‫ف قلبك من أحباب؟ أنت مع أولئك يوم القيامة‪،‬‬ ‫آلخرتك من معارف‪ ،‬وما َشغَ َ‬
‫وأنت من ذلك الصنف أياكان‪" .‬فاألرواح جنود جمندة‪ ،‬فما تعارف منها ائتلف‪،‬‬
‫وما تناكر منها اختلف" كما روى مسلم وأبو داود عن أيب هريرة مرفوعا‪.‬‬
‫اهرب من قرناء الغفلة‪ ،‬و ْارَِت يف أحضان قوم صاحلني‪ ،‬وابك على ربك‬ ‫ُ‬
‫تنجو من َورطة االحنشار يف زمرة اهلالكني‪ .‬فإن‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫عسى‬ ‫حمبتهم‪،‬‬ ‫لريزقك‬
‫حب الصاحلني يُثمر حب اهلل‪ ،‬وحب اهلل يثمر حب الصاحلني قال الغزايل‪:‬‬
‫كل من يقوم حبق عبادة اهلل يف علم أو عمل‪،‬‬‫"إن حب اهلل إذا قوي أمثر حب ِّ‬
‫وأمثر حب كل من فيه صفة ْمرضية عند اهلل من ُخلُق حسن أو تأدب بآداب‬
‫‪1‬‬
‫الشرع"‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج ‪ 2‬ص ‪.154‬‬

‫‪190‬‬
‫اإلحسان‬

‫واعلم أن "أوثق عرى اإلميان احلب يف اهلل والبغض يف اهلل" كما روى‬
‫الطرباين عن عبد اهلل بن عباس مرفوعا‪ .‬واعلم أن "أفضل األعمال احلب يف‬
‫اهلل والبغض يف اهلل" كما أخرج أبو داود عن عمر بن اخلطاب مرفوعا‪ .‬وهبذا‬
‫االعتبار يكون حب املؤمنني وبُغض األعداء يف اهلل عمال بوسعك أن تكسبه‬
‫وتـَتَسبَّب يف حصوله‪ .‬فما ألحد عند اهلل عُذر أن يقول‪ :‬ما رزقت شيئا!‬
‫ويهرب يف دهاليز العقيدة اجلربية والعياذ باهلل‪.‬‬
‫ولكون احلب يف اهلل كسبًا للعباد بوجه من الوجوه‪ ،‬جاء احلث عليه يف‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬واستُ ِحب للرجل إذا أحب أخاه أن خيربه ليكون ذلك مدعاة‬
‫ملزيد من التعاطف والتواد‪ ،‬واستُ ِحب أيضا أن يقتصد بَعضنا يف حب بعض لكيال‬
‫حتجبنا ألفة بعضنا بعضا عن حب اهلل ورسوله‪ .‬يكون حب اهلل يف صميم صميم‬
‫حب بعضنا‬
‫حب رسول اهلل تلك الشِّغاف‪ ،‬وتَستَظْهر النفوس َّ‬ ‫قلوبنا‪ ،‬ويغشى ُّ‬
‫بعضا مما يلي القلب‪ ،‬ومما يلي جانب املواساة والتعاون الفعلي‪ ،‬والبذل والعطاء‪،‬‬
‫واخلدمة والرعاية‪ ،‬والتعاون على الرب والتقوى‪ ،‬والتواصل والتزاور والتجالس والرتاص‬
‫يف صف اجلهاد‪ ،‬واالنتداب للمشاركة يف أعمال البناء اجلماعي تربية وتنظيما‬
‫وزحفا‪ ،‬ومحال ألعباء الدعوة والدولة‪ ،‬وتبليغا لرسالة الرمحة واحملبة للعاملني‪.‬‬
‫ال حتسب أن احلب يف اهلل املقبول عند اهلل‪ ،‬الذي يتقرب به إىل اهلل‬
‫ب يف اهلل‬‫وتبادل ُوّدي للعواطف يف جمالس الرخاوة والبطالة‪ ،‬بل لِْل ُح ِّ‬
‫اسرتاحة ُ‬
‫ُمقتضيات وواجبات أدناها إماطة األذى عن طريق من حتبهم يف اهلل‪ ،‬وأعالها‬
‫مواجهة ال ُـمبـْغَضني يف اهلل يف صف األحباب يف اهلل حىت االستشهاد‪ .‬ولكل‬
‫حادين هلل‪ ،‬والضالّني عن‬ ‫مرتبة من مراتب العاصني هلل‪ ،‬واجلاهلني باهلل‪ ،‬وال ُـم ّ‬
‫سبيل اهلل‪ ،‬املستكربين يف أرض اهلل‪ ،‬نوعٌ ودرجة من إبغاضك‪ ،‬ونوع ودرجة من‬
‫مقاومتك وحماربتك‪ .‬وما َسواءٌ ما يطلبه منك الشرع واحلكمة يف حق املبتدعني‬

‫‪191‬‬
‫اإلحسان‬

‫اجلهلة‪ ،‬والعاتني الظلمة‪ ،‬والكافرين العادين على الناس‪ .‬للحب يف اهلل والبغض‬
‫ف ِ‬
‫الفرد واجلماعة‬ ‫تصر ِ‬
‫لكن هلما يف ظاهر ُّ‬ ‫يف اهلل ميزان يف القلوب خفي‪َّ ،‬‬
‫معايري شرعيَّة وحدوداً‪ ،‬لكيال تستحيل املسألة إىل عاطفية عائمة فوضوية‪.‬‬ ‫َ‬
‫وخيرج‬ ‫ِ‬
‫يف صميم صميم قلب املؤمن املوفق يستقُّر حب اهلل ورسوله‪ُ ،‬‬
‫كل ذي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حب الدنيا وأهلها إىل مراتبهم اليت وضعهم فيها الشرع‪ ،‬ليـُْعط َي املؤمن ّ‬
‫ظهور تلك احملبة يف‬
‫حقه‪ ،‬وهو دائما هلل ال لغريه‪ .‬من عالمات حمبتك هلل ُ‬ ‫حق َّ‬
‫س اهلل سره العزيز‪" :‬وحيَك قد ادعيت‬ ‫تصرفك‪ .‬قال اإلمام الشيخ عبد القادر ق ّد َ‬
‫حمبة اهلل عز وجل ! أما علمت أن هلا شرائط؟ من شرائط حمبته موافقتُه فيك ويف‬
‫غريك‪ .‬ومن شرائطها أن ال تسكن إىل غريه‪ ،‬وأن تستأنس به‪ ،‬وال تستوحش‬
‫س به‪ ،‬وأبغض كل ما يشغل عنه‪ 1".‬وقال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫معه‪ .‬إذا سكن حب اهلل قلب عبد أن َ‬
‫ك ال جيتمعان‪ ،‬احملب للحق‬ ‫"احملب ال ميلك َشيئا‪ .‬يسلم الكل حملبوبه‪ .‬حمبةٌ ومتلُّ ٌ‬
‫عز وجل‪ ،‬الصادق يف حمبته‪ ،‬يسلم إليه نفسه وماله وعاقبته‪ ،‬ويرتك اختياره فيه‬
‫ويف غريه‪ .‬ال تتهمه يف تصرفه! ال تستعجله! ال تـُبَ ِّخ ْله! حيلو عنده كل ما يصدر‬
‫‪2‬‬
‫إليك منه‪ .‬تـَْنس ّد جهاتُه‪ .‬ال تبقى له إال جهة واحدة"‪.‬‬
‫أنست من نفسك عُزوفاً عن الدنيا وأهلها أو بداية امشئزاز‬ ‫يا غافل! إذا َ‬
‫من رذائلها فذاك‪ ،‬وامحد اهلل‪ .‬وإال فاحبث عن من خيرجك من ورطتك‪" .‬أنت‬
‫ميت القلب وصحبتك أيضا ملوتى القلب‪ .‬عليك باألحياء النجباء الب ِ‬
‫دالء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يقودك َزِم ٌن‪ 3‬أعمى‬ ‫ِ‬
‫أنت قرب تأيت قرباً مثلك! ميت تأيت ميتا مثلك! أنت َزم ٌن ُ‬
‫يقودك أعمى مثلك! اصحب املؤمنني املوقنني الصاحلني‪ .‬واصرب على كالمهم‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.32‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.167‬‬
‫‪ِ 3‬‬
‫الزمن‪ :‬املقعد‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪192‬‬
‫اإلحسان‬

‫واقبله واعمل به وقد أفلحت‪ .‬امسع قول الشيوخ واعمل به واحرتمهم إن أردت‬
‫‪1‬‬
‫الفالح"‪.‬‬
‫تستخلصك صحبة الصادقني وخمالطتهم وجمالستهم من ُرقاد‬
‫َ‬ ‫إن مل‬
‫غفلتك فمن يْنتشلك من ِو ِ‬
‫هاد ُرفقتك؟ إهنا عقبة شاقة على نفسك أن تسلك‬
‫إىل البيوت من أبواهبا‪ .‬لذلك يسهل أن تزعم لنفسك أنك حتب اهلل ورسوله‬
‫وتزعم للناس‪ .‬هات برهانك إن كنت صادقاً!‬
‫قال اإلمام الشافعي يعرب عن حبه من ينفع اهلل حببهم‪:‬‬
‫أخلِـ ــص‬ ‫وأشه ــد أن البعــث ح ٌّـق و ْ‬ ‫شهــدت بأن اللـ ــه ال رب غي ـ ـ ــره ‬
‫وفعـ ٌـل زكـي قـد يـزي ــد وينقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــص‬ ‫وأن عُــرى اإلمي ـ ــان ق ـ ـ ـ ـ ــول ُمبـَيّ ـ ــن ‬
‫وكان أبو حفص على اخلري حيـ ِرص‬ ‫وأن أب ـ ــا بكـ ــر خلـيـف ـ ـ ـ ــة ربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ‬
‫وأن عـلـيــا فـضـلـ ــه متـخ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــص‬ ‫وأ ْش ِهـ ــد ريب أن عثمـ ـ ــان فاضـ ـ ــل ‬
‫َلَــى اهللُ مـن إيــاهم يتَـنـ ّق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــص!‬ ‫أئم ـ ـ ــة قـ ـ ــوم يُـهت ـ ــدى هب ـ ــداهـ ـ ـ ـ ـ ــم ‬
‫وقال‪:‬‬
‫ـت قـ ـلـ ــت ك ـ ـ ــال! ما الرفض دي ـن ـ ــي وال اع ـتـ ـقـ ـ ـ ـ ــادي‬ ‫قال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‪ :‬ترفَّ ْ‬
‫ضـ َ‬
‫ـت غ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر شـ ـ ـ ـ ـ ــك خ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــر إمـ ـ ـ ـ ـ ــام وخـ ـي ـ ـ ــر هـ ـ ـ ـ ـ ــادي‬ ‫ل ـك ـ ــن تـ ـ ـ ـولـي ـ ُ‬
‫ـب ال ـول ّـي رفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض ـ ــا ف ـ ـ ــإن رفـ ـضـ ـ ــي إل ـ ـ ــى الـ ـعـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد‬ ‫إن كــان ح ُّ‬
‫يقصد بالويل عليا كرم اهلل وجهه‪ .‬وقال‪:‬‬
‫ـف بقـاعد ِخ ِيفهــا والنـاهض‬ ‫صـب مـن من ًـى واهتِ ْ‬ ‫يا راكبا قف بال ُـم َح َّ‬
‫كم ْلتـطـم ال ُفـرات الفـائض‬ ‫ِ‬
‫َس َحراً إذا فاض احلجيج إىل من ًـى فَ ْـيـضـاً ُ‬
‫إن كـان رفضـا حـب آل حمـمـ ـ ـ ــد فليشهـد الثـقــالن أن َـي رافـض ـ ـ ـ ـ ــي‬
‫‪ 1‬الشيخ عبد القادر يف "الفتح الرباين" ص ‪.248‬‬

‫‪193‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال رضي اهلل عنه يشيد بأهل احلديث ويواليهم ملكاهنم من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫ـاسه صحبـوا‬
‫صحبـوا نفسه أنف َ‬
‫ ل يَ ْ‬
‫هم أهل النيب وإن َ‬
‫أهل احلديـث ُ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ويك أقْص ــر م ــن الـعنـ ـ ـ ــاد‬ ‫ـك يا عاذيل اعتـ ــداءٌ ْ‬ ‫لَ ْوُمـ َ‬
‫حب ثَـوى ُمهـج ــة الفـ ـ ـ ـؤاد‬ ‫ٌّ‬ ‫حب النـيب من حب ريب ‬ ‫ُّ‬
‫وح َّجيت يف يـ ـ ــوم التَّنـ ـ ـ ــادي‬
‫وعقـ ُـد قـلـ ـ ـ ــيب ُ‬
‫وذاك ديــين َ‬

‫‪194‬‬
‫اإلحسان‬

‫سنة اهلل في التابع والمتبوع‬

‫ب ِز ْدنِي ِعلْماً﴾‪ .‬اللهم‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫اغفر يل ما أخطأت وما تعمدت‪ ،‬وما أسررت‬
‫وما أعلنت‪ ،‬وما جهلت وما تعمدت‪.‬‬

‫ين آ ََمنُوا َه ْل أ َُدلُّ ُك ْم َعلَى‬ ‫َّ ِ‬


‫نزلت علينا داللة اهلل يف القرآن‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫يم﴾‪ 1،‬وتنزلت فينا داللة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫اب أَلِ ٍ‬ ‫تِجارٍة تُ ِ‬
‫نجي ُكم ِّم ْن َع َذ ٍ‬ ‫ََ‬
‫وسلم حية بيننا‪ ،‬منوذجا شاهدا حاضرا‪ ،‬معلِّما هاديا رؤوفا رحيما صاحبا أسوة‪:‬‬
‫"أال أدلكم على شيء إن فعلتموه حتاببتم؟"‪ .‬مل تَكن داللة الرسول صلى اهلل‬
‫جمرد تبليغ‪ ،‬وإن كان التبليغ ركنا‬ ‫عليه وسلم وداللة إخوانه من قبله من النبيئني َ‬
‫جناح وقياد ًة آلت‬ ‫وخفض ٍ‬ ‫َ‬ ‫من أركان الداللة‪ ،‬وإمناكانت ُم َعايشةً وسياسة وتلَطُّفا‬
‫إىل اتباع وإميان‪ ،‬ورفع االتباع إىل حمبة الشخص الرسول‪ ،‬ورفعت حمبة الرسول إىل‬
‫حمبة اهلل‪ ،‬وأوجبت حمبة اهلل عبده املتقرب بالفرض والنفل‪ ،‬ومن الفرض اآلكد‬
‫اتباع الرسول وحبه‪ ،‬إىل مراتب االصطفاء والفالح‪.‬‬
‫أسس املسرية‪﴿ :‬قُ ْل إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِْب ُك ُم‬ ‫أمر إهلي َّ‬
‫اللّهُ﴾‪ ،2‬وخرب إهلي قدسي أخرب مبراحلها‪" :‬وما يزال عبدي يتقرب إيل بالنوافل حىت‬

‫‪ 1‬الصف‪10 ،‬‬
‫‪ 2‬آل عمران‪31 ،‬‬

‫‪195‬‬
‫اإلحسان‬

‫أحبه"‪ .‬ومل تنقطع املسرية ومل تُرفَع يف فضاء الروحانية والشوق إىل زمان مضى‬
‫وانقضى‪ ،‬بل حاف َظ على شروطها احلُبِّية الواصلة بني العباد واهلل سنة احلب يف‬
‫اهلل‪ ،‬وفضيلة الصحبة يف اهلل‪ ،‬ووجود أولياء اهلل إخوان رسول اهلل يف أرض اهلل‪.‬‬
‫إثر وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقعت للصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫ِّد من زعم‬ ‫دهشة خلرب عظُم عليهم‪ ،‬حىت َش َهَر عمر بن اخلطاب سي َفه يُهد ُ‬
‫ت دهشة غياب الشخص الكرمي‪ .‬روى‬ ‫أن حممداً قد مات‪ .‬مث رجع عمر وبقيَ ْ‬
‫الرتمذي عن أنس بإسناد حسن قال‪" :‬ملا كان اليوم الذي دخل فيه رسول اهلل‬
‫األيدي من دفن‬
‫َ‬ ‫ضنا‬‫صلى اهلل عليه وسلم املدينة أضاء منها كل شيء‪ .‬وما ن َف ْ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإنا لفي دفنه‪ ،‬حىت أنْ َك ْرنَا قلوبنا"‪.‬‬
‫ذهلت له القلوب‪ .‬ما قبل التبليغ‬ ‫كل شيء‪ ،‬وغياب ِ‬ ‫حضور أضاء له ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫لوب‬
‫تتعرف عليها القلوب وحتبها‪ ،‬وتُنكر ال ُق ُ‬ ‫اللساين وما بعده وما وراءه نورانيَّة ُ‬
‫قلوبا لغياب شخص وضع اهلل له غاية ال َقبول يف األرض‪.‬‬ ‫َ‬
‫بعد ذلك أفاق الصحابة من الذهول‪ ،‬وانتخبوا خليفة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫فأدت الصديقيَّة منذئذ ما كانت تؤديه النبوة من‬ ‫عليه وسلم أبا بكر الصديق‪َّ ،‬‬
‫وظيفة احلضور والشهادة بني الناس واهلداية والداللة‪ ،‬وكان التبليغ العلمي اللساين‬
‫العقلي جزءا من املسألة ال كل املسألة‪ .‬بقيت الوراثة القلبية والتحاب يف اهلل بني‬
‫جوهر الدين‪ .‬بقيت سنة اهلل يف التابع واملتبوع قائمة وستظل إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫املؤمنني َ‬
‫الفتحي احلُ ِِّّب‬
‫ِّ‬ ‫القليب‬
‫وقد أخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بتسلسل املدد ِّ‬
‫من بعده حني قال‪" :‬يأيت على الناس زمان يغزو فيه فِئَ ٌام من الناس (مجاعات)‬
‫فيقولون‪ :‬هل فيكم من صاحب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فيقولون‪ :‬نعم!‬
‫فيُفتح هلم‪ .‬مث يأيت على الناس زمان‪ ،‬فيغزو فِئام من الناس فيقال‪ :‬هل فيكم من‬
‫صاحب أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فيقولون نعم! فيُفتح هلم‪ .‬مث‬

‫‪196‬‬
‫اإلحسان‬

‫يأيت على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال‪ :‬هل فيكم من صاحب من‬
‫صاحب أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فيقولون نعم! فيُفتح هلم"‪ .‬رواه‬
‫البخاري ومسلم والرتمذي عن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫بركة متسلسلة‪ ،‬وفالح ونصر‪ .‬وإن التابعني فَ َمن بعدهم إىل يوم القيامة‬
‫نسيم احلب والقرب من ِع ْشَرة أصحاب القلوب النرية اخلرية‪،‬‬ ‫احهم َ‬ ‫لتَ ُشم أرو ُ‬
‫وحتوم حوهلا‪ ،‬وتقتبس منها نوراً وحمبة َورْوحاً‪ .‬روى اإلمام مالك يف املوطإ بسند‬
‫اق‬
‫صحيح عن أيب إدريس اخلوالين قال‪" :‬دخلت مسجد دمشق‪ ،‬فإذا فىت بر ُ‬
‫وصدروا عن رأيه‪.‬‬ ‫الثَّنايا‪ ،‬والناس حوله‪ .‬فإذا اختلفوا يف شيء أسندوه إليه‪َ ،‬‬
‫ت‪ 1‬إليه‪ ،‬فوجدته‬ ‫فسألت عنه‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا معاذ بن جبل‪ .‬فلما كان الغد َه َّج ْر ُ‬
‫قد سبقين يف التهجري‪ ،‬ووجدته يصلي‪ .‬فانتظرته حىت قضى صالته‪ ،‬مث جئته من‬
‫قِبَل وجهه‪ ،‬فسلمت عليه‪ ،‬مث قلت واهلل إين ألحبك يف اهلل! فقال‪ :‬آللّ ِه! فقلت‬
‫آللّه! فقال‪ :‬آللّه! فقلت آللّه! فأخذ حبُْبوة ردائي‪ ،‬فَ َجب َذين إليه وقال‪ :‬أبْ ِش ْر!‬
‫فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬قال اهلل تبارك وتعاىل‪:‬‬
‫وجبت حمبيت للمتحابني يف‪ ،‬واملتجالسني يف‪ ،‬واملتزاورين يف‪ ،‬واملتباذلني يف"‪.‬‬
‫ب إىل اهلل من بعد أصحاب‬ ‫املقر ِ‬
‫وكان أمناء الرسالة‪ ،‬ورثة احلب يف اهلل ِّ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أولياءَ اهلل الذين أحبهم اهلل بعدما تقربوا إليه بالفرض والنفل حىت‬
‫أكرمهم بذلك السمع والبصر واليد والرجل والسؤال املستجاب واإلعاذة‬
‫والقبول يف األرض‪ .‬تابع ومتبوع بإسناد قليب متّصل إىل يوم القيامة‪ .‬وال والية‬
‫لك أيها الفقيه يف األحكام الظاهرة على هذا املوضوع لتتكلم فيه‪ ،‬وتـُْفيت بأنه‬
‫زعم مرفوض مرفوض مرفوض!‬

‫‪ 1‬هجرت ذهبت وقت اهلاجرة وهو أول وقت صالة الظهر‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫اإلحسان‬

‫امسع اخلرب الصحيح من نبيك صلى اهلل عليه وسلم عساك هتتدي‬
‫وتقتدي‪.‬‬
‫هاك حديثا عظيما يثبت اهلل به قلوب من يشاء رواه ابن حبان يف‬
‫صحيحه‪ ،‬وروى اإلمام أمحد وأبو يعلى واحلاكم حديثا مبعناه وصححه‪.‬‬
‫أعطيك رواية أيب داود للحديث عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن من عباد اهلل ألناسا ما هم بأنبياء‬
‫وال شهداء‪ ،‬يغبطهم األنبياءُ والشهداء يوم القيامة مبكاهنم من اهلل"‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫يا رسول اهلل! ُتربُنا من هم؟ قال‪" :‬هم قوم َتابوا ُبروح اهلل على غري ْأرحام‬
‫بينهم‪ ،‬وال أموال يَتعاطوهنا‪ .‬فواهلل إن وجوههم لنور‪ ،‬وإهنم لعلى نور‪ ،‬ال‬
‫خيافون إذا خاف الناس‪ ،‬وال حيزنون إذا حزن الناس"‪ .‬وقرأ هذه ﴿أَال إِ َّن أ َْولِيَاء‬
‫‪1‬‬
‫اللّ ِه الَ َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوالَ ُه ْم يَ ْح َزنُو َن﴾‪.‬‬
‫توقّف بعض العلماء يف معىن هذا احلديث‪ ،‬ألهنم تعاظموا أن يكون‬
‫األنبياء يوم القيامة يغبطون من ليسوا أنبياء وال شهداء مبكانتهم من اهلل‪ .‬وال‬
‫مزامحة يف األمر‪ ،‬وما ينبغي للوالية أن تزاحم النبوة‪ .‬ينصرف األنبياء إىل مواطن‬
‫الشفاعة يف أممهم يوم العرض‪ ،‬والشفاعة تشريف زائد‪ ،‬بينما يبقى األولياء‬
‫على منابر النور بالقرب اإلهلي‪ .‬فهي حلظة وموقف‪ .‬وال مزامحة‪.‬‬
‫إهنا سنة إهلية ماضية إىل يوم القيامة أن يكون يف سلسالت الوالية تابع‬
‫ومتبوع‪ .‬قال الشيخ عبد القادر اجليالين قدس اهلل روحه‪" :‬إن اهلل عز وجل أجرى‬
‫العادة بأن يكون يف األرض شيخ ومريد‪ ،‬صاحب ومصحوب‪ ،‬تابع ومتبوع من‬
‫لدن آدم إىل أن تقوم الساعة"‪ .‬وذكر رمحه اهلل كيف كان آدم بعد نزوله من اجلنة‬
‫جراً‪،‬‬
‫حمتاجا إىل شيخ‪" ،‬وجربيل عليه السالم أستاذه وشيخه‪ )...( ،‬مث هلم ّ‬
‫‪ 1‬يونس‪62 ،‬‬

‫‪198‬‬
‫اإلحسان‬

‫تعلم شيت بن آدم من أبيه آدم‪ ،‬مث أوالده منه‪ ،‬وكذلك نوح النيب عليه السالم‬
‫صى بِ َها‬
‫﴿وَو َّ‬
‫علم أوالده‪ ،‬وإبراهيم عليه السالم علم أوالده‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫وب﴾‪ 1‬أي أمرهم وعلمهم‪ ،‬وكذلك موسى وهارون‪ ،‬علما‬ ‫إِبـر ِاه ِ ِ‬
‫يم بَنيه َويـَْع ُق ُ‬
‫َْ ُ‬
‫أوالدمها وبين إسرائيل‪ ،‬وعيسى عليه السالم علم احلواريني‪ .‬مث إن جربيل عليه‬
‫السالم علم نبينا صلى اهلل عليه وسلم (‪ )...‬مث تعلم الصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫منه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث التابعون منهم‪ ،‬مث تابعو التابعني منهم قرنا بعد قرن‪،‬‬
‫وعصرا بعد عصر (‪ )...‬فال ينبغي له (املريد) أن ينقطع عن الشيخ حىت يستغين‬
‫عنه بالوصول إىل ربه عز وجل‪ ،‬فيتوىل تبارك وتعاىل تربيته‪ ،‬ويوقفه على معاين‬
‫أشياء خفيت على الشيخ‪ ،‬ويستعمله فيما يشاء من األعمال‪ ،‬ويأمره‪ ،‬وينهاه‪،‬‬
‫ويبسطه‪ ،‬ويقبضه‪ ،‬ويُغنيه‪ ،‬ويُفقره‪ ،‬ويُلقنه‪ ،‬ويُطلعه على أقسامه (ما قسم له من‬
‫‪2‬‬
‫رزق) وما سيؤول إليه أمره‪ .‬فيستغين بربه عن غريه"‪.‬‬
‫نصحوك! نصحوك! وعلموك إن كنت موضعا للتعليم‪ .‬واصرب حىت‬
‫أسِّ َعك ما يقصدون بالوصول واألمر والنهي بعد زمان الوحي‪ ،‬والبسط‬ ‫َ‬
‫بالرب وسائر هذه املعاين الرقيقة الراقية‪.‬‬
‫والقبض‪ ،‬واالستغناء ِّ‬
‫يف أي شيء كان الصحابة رضي اهلل عنهم الذين ورثوا اإلميان‪ ،‬وعُلموه‬
‫ْقب َل القرآن‪ ،‬وأوتُوه بالصحبة واحملبة؟ ويف أي شيء كان األولياء املشايخ‬
‫أهل النور الذين محلوا عصراً بعد عصر وقرنا بعد قرن أمانةَ الرسل‪،‬‬
‫الصوفية ُ‬
‫وجرثومة إحيائها؟‬
‫وإكسري عالجها‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫طب القلوب‪،‬‬
‫وسر ِّ‬
‫َّ‬
‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم يف جهاد الذلة على املؤمنني والشدة على‬

‫‪ 1‬البقرة‪132 ،‬‬
‫‪ 2‬الغنية ج ‪ 2‬ص ‪.165‬‬

‫‪199‬‬
‫اإلحسان‬

‫الكافرين واإلنابة لرب العاملني‪ .‬و ْانَسر السادة األماجد النورانيون من بعدهم‬
‫عن امليدان اجلهادي‪ ،‬جلُّهم ال كلُّهم‪ ،‬فكانوا أحالس بيوهتم‪ ،‬فرغوا من الشأن‬
‫العام ليتفرغوا لشأن الرتبية اخلاص‪.‬‬
‫منذ زمان التابعني‪ ،‬ويف عصرنا بصفة خاصة‪ ،‬غلب اسم "عامل" على‬
‫أكثرهم مجعا للمعلومات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أغزر الناس اطالعا و ُ‬
‫سم ُ‬ ‫عقول املسلمني‪ ،‬ومحل اال َ‬
‫أقدرهم على اإلفصاح واخلطابة‪ .‬وانعزل "العارف" الرباين يف حيزه‪" ،‬وأصبح علم‬
‫و ُ‬
‫اآلخرة مطويا"‪ ،‬يبحث عنه الراغبون املريدون بشروط أمهها االنزواء عن العامة‪.‬‬
‫املطلوب اآلن وبعد اآلن استجماع ما تفرق بعد زمان الصحابة‪،‬‬
‫واكتساب الشخصية اجلهادية الصحابيَّة‪ ،‬واستصحاب ما ترثه أجيالنا من‬
‫علماء الدين األولني واآلخرين استئناساً به ال عبئا ثقيال‪ ،‬اجتهادا نستضيء‬
‫به حنن لنقول كلمتَنا من إزاء القرآن ومن مشارف الصحبة‪ .‬من أهم ما ُْيلِي‬
‫اقتباسنا ملا عند رجال اهلل‬
‫غبار التقليد القروينِّ ُ‬
‫سحاب الفتنة وين ُفض عنا َ‬
‫َ‬ ‫عنا‬
‫أولياء اهلل من كنوز "اخلوف واحلزن والتفكر واجملاهدة ومراقبة الظاهر والباطن‪،‬‬
‫احلرص على إدراك خفايا شهوات النفوس‬ ‫اجتناب دقيق اإلمث وجليله‪ ،‬و ُ‬
‫و ُ‬
‫‪1‬‬
‫ومكايد الشيطان‪ ،‬إىل غري ذلك من علوم الباطن"‪.‬‬
‫بعد عهد الصحابة "هبَّت عاصفة عقلية جاحمة بعثها "علم الكالم"‪،‬‬
‫الشغل الشاغل للمسلمني يف القرون األخرية‪ .‬وكانت هذه العاصفة‬
‫َ‬ ‫الذي كان‬
‫عاتية شديدة‪ ،‬انطفأت هبا كوانني القلوب وجمامرها‪ .‬وإذا كانت ال تزال بقية من‬
‫مجرات احلب والعاطفة فقدكانتكامنة يف الرماد‪ ،‬مغلوبة على أمرها‪ .‬وقد أصبح‬
‫املسلمون بعدما كانوا شعلة من احلياة وجذوة من النار ُركاما بشريا أو فحما‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج ‪ 1‬ص ‪.70‬‬

‫‪200‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫حجريا بـَعُ َد عهده بالنار واحلرارة"‪.‬‬
‫مناص من أخذ َجوهر ديننا‬ ‫من حتت الرماد ن ْقتبس اجلذوة احلُبيَّة‪ ،‬ال َ‬
‫قليب‬
‫الركام قفزاً بال زاد ٍّ‬
‫عن األكابر أهل املعرفة والنور وإن حماولة ختطي عصور ُّ‬
‫يؤصل نسبتنا للنبوة والصحبة لَمغامرة يف فضاء اإلسالم الفكري الثقايف إىل‬
‫جهة‪ .‬قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬اصحبوا شيخا عاملا حبكم اهلل‬ ‫غري ِو ٍ‬
‫عز وجل وعلمه يدلكم عليه‪ .‬من ال يرى املفلح ال يُفلح! من ال يصحب‬
‫ض الرتاب ال أب له وال أم‪ .‬اصحبوا من له صحبة‬ ‫العلماء العمال فهو من نـَْب ِ‬
‫‪2‬‬
‫مع احلق عز وجل"‪.‬‬
‫من ال أب له وال أم يف الربانية واحلب يف اهلل صحبته نَ َك ٌد‪.‬‬
‫قال اإلمام الشافعي يشكو "نبض الرتاب" يف عصره‪:‬‬
‫وكنت أحسب أين قد مألت ي ـ ــدي‬ ‫إنـي صحبـ ــت أنـ ــاسـ ـ ــا ما هل ــم ع ـ ـ ــد د‬
‫كالناس يف الغ ــدر مل يُبـق ـوا على أحد‬ ‫ملـا بلـوت أخــالئـي وجــدتـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ‬
‫وإن مــرض ــت فخيـ ـ ــر الن ـ ــاس مل يـَعُـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـد‬ ‫ين‬
‫إن غبت عنهم فشر الناس يشتُم ‬
‫وإنرأونـيب ـش ـ ـ ٍّـرسـ ـ ــرهـ ــمنـَ ـ ـ َكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدي‬ ‫وإن رأوين خبي ـ ــر ســاءَهـم فرحـ ـ ــي ‬
‫وقال‪:‬‬
‫وعن الورى كـن راهبـ ـ ــا يف ِديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرِه‬ ‫كن سـائرا يف َذا الزمـان بسي ـ ـ ـ ـ ـ ــر ه‬
‫مودهتم تنـ ـ ـ ْـل مــن خـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره‬ ‫واحذر ّ‬ ‫واغسل يديك من الزمان وأهل ـ ـ ـه ‬
‫أصحبُـه يف الده ـ ــر وال يف غـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره‬ ‫إين اطلعت فلم أجـد يل صاحبـا ‬
‫وتركـت أعـ ـ ــالهم لـ ـقـ ـل ـ ــة خ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره‬ ‫فتـركت أسفـلهم لـكـث ــرة ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره ‬

‫‪ 1‬أبو احلسن الندوي "ربانية ال رهبانية" ص ‪.61 60-‬‬


‫‪ 2‬الفتح الرباين ص ‪.269‬‬

‫‪201‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال‪:‬‬
‫شو ٌك إذا لُمسـوا زهـر إذا ُرِم ُقـ ـ ـ ـ ـوا‬
‫مل يبق يف الناس إال املكـر وامللَ ُـق ْ‬
‫الشو َك حيرتق‬ ‫فـإن دعتـك ضرور ِ‬
‫ات لعش ـ ـ ـرهت ـ ـم فكن جحيما لعل ْ‬ ‫ٌ‬
‫قال هذا يف القرن الثاين الفاضل‪ ،‬وكم من ُركام بعده تراكم!‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ليل التُّقى فالطَّبع يُ ْسـ ـتـََر ُق‬


‫اص َحب َخ َ‬‫ـهم َو ْ‬ ‫َج ــانِ ْب ِرفـ ـ َ‬
‫ـاق اخلَنَ ـ ــا ال تَ َغتْر ب ـ ُ‬
‫ـوسهم ويف اجلِه ـ ــاد بعهـ ــد اللَّه قـد صــدق ـ ـ ـوا‬ ‫لك َسبيـ َـل األ َُل َزَّكـ ـ ْـوا نـُُف َ‬
‫و ْاس ْ‬
‫ـهم‪ ،‬ما عْن ـ َـد ُهم َمـلَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـق‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب ــادر ِ‬
‫جلمعه ـ ُـم واقْصـ ــد لقـص ــده ُ ـم و ْاس ْع لنصح ـ ُ‬ ‫ْ ْ‬

‫‪202‬‬
‫اإلحسان‬

‫شفاء السائل‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ب َل تَ َذ ْرنِي فـَْرداً َوأ َ‬
‫َنت َخيـُْر ال َْوا ِرث َ‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫َ‬
‫اللهم أحسنت َخ ْلقي فأحسن ُخلُقي‪.‬‬

‫للمؤرخ الكبري أحد حكماء املسلمني‪ ،‬أيب زيد عبد الرمحن بن خلدون‬
‫لكن له مشاركةً واطالعا‬
‫"قدر مشرتك" مع الصوفية‪ .‬ليس مذكورا من أهل الفن‪َّ ،‬‬
‫ورأياً يبدو منه االهتمام الكبري‪ .‬له رسالة مساها‪ِ :‬‬
‫"شفاء السائل لتهذيب املسائل"‬
‫وسع فيها الفصل الذي خصصه يف املقدمة الشهرية للتصوف‪.‬‬
‫وكانت املسألة اليت َورد هبا الكتاب من علماء األندلس قد أثارت بني‬
‫فقهاء تلك العدوة خالفات ومناظرات منذ القرن الثامن فما بعده‪ .‬شارك يف‬
‫السؤال واملناظرة واملراسلة إمام األصوليني يف ذلك العصر وهذا أبو إسحاق‬
‫الشاطيب رمحه اهلل‪ .‬وناهيك به سائال ومناظرا ومراسال!‬
‫املقرب يف بالط فاس‬ ‫تدور هذه الرسالة حول سؤال ورد على الفقيه املؤرخ َّ‬ ‫ُ‬
‫يف موضوع كان وال يزال َمثاراً للخالف‪ .‬قال‪" :‬وقَّفين بعض اإلخوان أبقاهم اهلل‬
‫على تقييد (أي كتاب) وصل من َع ْدوة األندلس وطن الرباط واجلهاد‪ ،‬ومأوى‬
‫الزهاد‪ ،‬والفقهاء والعُبَّاد‪ ،‬خياطب بعض األَعالم من أهل مدينة‬ ‫الصاحلني و ُّ‬
‫ك يـَْز ُأر‪ِ ،‬وبار العلم والدين ْتز َخر‪ ،‬وثواب اهلل يـَُع ُّد ألنصار دين‬
‫فاس‪ ،‬حيث امللُ ُ‬
‫أهل التحقيق يف التوحيد‬ ‫اهلل ويُ ْذ َخُر‪ .‬طالبا كشف الغِطا يف طريق الصوفية‪ِ ،‬‬

‫‪203‬‬
‫اإلحسان‬

‫الذوقي واملعرفة ال ِو ْجدانيَّة‪ ،‬هل يصح سلوكه والوصول به إىل املعرفة الذوقية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫اقتداء‬ ‫و‬ ‫ألهله‪،‬‬ ‫املوضوعة‬ ‫الكتب‬ ‫من‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫م‬‫ُّ‬
‫ل‬ ‫تع‬ ‫الروحاين‬ ‫العامل‬ ‫عن‬ ‫احلجاب‬ ‫ورفع‬
‫ً‬
‫الرعاية‬‫بأقواهلم الشارحة الوافية بشروط البِداية والنهـاية‪ ،‬كاإلحياء (للغزايل) و ِّ‬
‫ذر َغوائِلَهُ‪ ،‬وُييِّز‬ ‫(كتاب للحارث احملاسيب) أم البد من شيخ يتبني دالئِلَهُ‪َ ،‬‬
‫وي ُ‬
‫للمريد عند ا ْشتِباه الواردات واألحوال مسائلَه‪ ،‬فيتنزل منزلةَ الطبيب للمرضى‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫واإلمام العادل لألمة الفوضى"‪.‬‬
‫هذا هو السؤال‪ :‬ما موقع الكتب وفائدهتا ومردوديتها يف السلوك القليب؟‬
‫مامه كما تستسلم "األمة الفوضى" لإلمام‬ ‫وهل البد من شيخ يُسلِّمه املريد ِز َ‬
‫العادل‪ ،‬وكما يستسلم املريض للطبيب؟‬
‫ويبدأ فقيهنا احلكيم العبقري اجلواب باإلشارة إىل متيّز الطائفة عن سائر علماء‬
‫اإلسالم بعد عهد أتباع التابعني قائال‪" :‬مث اختلف الناس‪ ،‬وتباينت املراتب‪ ،‬وفشا‬
‫اخلروج عن االستقامة‪ ،‬ونسي الناس أعمال القلوب وأغفلوها‬ ‫اجلادة‪ ،‬و ُ‬
‫امليل عن َّ‬
‫وأقبل اجلَ ُّم الغَفريُ على صالح األعمال البدنيَّة والعناية باملراسم الدينية من غري‬
‫وشغِل الفقهاء مبا تعم به البلوى من أحكام‬ ‫التفات إىل الباطن وال اهتمام بصالحه‪ُ .‬‬
‫املعامالت والعبادات الظاهرة حسبما طالبهم بذلك منصب ال ُفتـيا ِ‬
‫وهداية اجلمهور‪.‬‬ ‫ُ َْ‬
‫فاختص أرباب القلوب باسم الزهاد والعُبّاد وطُالب اآلخرة‪ ،‬منقطعني إىل اهلل‪،‬‬
‫قابضني على دينهم كالقابض على اجلمر حسبما ورد (يف احلديث)‪ .‬مث طرقت‬
‫مذاهب شىت‪ ،‬هذا معتزيل ورافضي‬ ‫َ‬ ‫آفة البِ َدع يف املعتقدات‪ ،‬وتداعى العُبّاد إىل‬
‫وخارجي‪ ،‬ال ينفعهم شيء من أعماهلم الظاهرة والباطنة مع فساد ال ُـم ْعتـََقد الذي هو‬
‫أس األمر‪ .‬فانفرد خواص السنة احملافظون على أعمال القلوب‪ ،‬املقتدون بالسلف‬ ‫رُ‬

‫‪ 1‬شفاء السائل ص ‪.21‬‬

‫‪204‬‬
‫اإلحسان‬

‫وسوا بالصوفية"‪.1‬‬
‫الصاحل يف أعماهلم الباطنة والظاهرة‪ُ ،‬‬
‫ص ْلب املوضوع فيحدد أهداف التصوف يف‬ ‫ويلُص عاملنا الفحل إىل ُ‬‫َ‬
‫ثالث جماهدات‪" :‬جماهدة التقوى وهي رعاية األدب مع اهلل يف الظاهر والباطن‬
‫التصوف عند‬ ‫ُ‬ ‫بالوقوف عند حدوده مراقباً أحو َال الباطن‪ ،‬طالبا النجاة‪ ،‬وإنه‬
‫الصدر األول منهم‪ .‬مث جماهدة االستقامة وهي تقومي النفس ومحلُها على الصراط‬
‫املستقيم حىت تصري هلا آداب القرآن والنبوءة‪ ،‬بالرياضة والتهذيب‪ُ ،‬خلُقاً ِجبِلِيَّةً‪،‬‬
‫طالبا مراتب الذين أنعم اهلل عليهم من النبيئني والصديقني والشهداء والصاحلني‪.‬‬
‫األفكار‪،‬‬
‫َ‬ ‫مث جماهدة الكشف واالطالع‪ ،‬وهي إمخاد ال ُقوى البشرية كلِّها حىت‬
‫متوجهاً بكلية تعقله إىل مطالعة احلضرة الربانية‪ ،‬طالبا رفع احلجاب‪ ،‬ومشاهدة‬
‫أنوار الربوبية يف حياته الدنيا‪ ،‬ليكون ذلك وسيلة إىل الفوز بالنظر إىل وجه اهلل‬
‫‪2‬‬
‫يف حياته األخرى اليت هي غاية مراتب السعداء"‪.‬‬
‫وبعد أن يبني أن اجملاهدة الثّالثة‪ ،‬جماهدة الكشف‪ ،‬تنطوي على اجملاهدتني‬
‫األوليـَْي وتـَْنبَِن عليهما يـُبـَّي أن مهة املريد ُ‬
‫تقف به عند حدود مطلَبه‪ ،‬وأن‬
‫طالب التقوى والنجاة قد ال يكون له باعث أعلى ليطلب مراتب االستقامة‪،‬‬
‫اجملتهد لنيلها قد ال تسمو إرادته إىل أعلى ليطلب وجه‬
‫َ‬ ‫وأن طالب االستقامة‬
‫اهلل و"مشاهدة أنوار الربوبية يف حياته الدنيا"‪.‬‬
‫وخيلص إىل حمور السؤال واخلالف وهو ضرورة الشيخ فيقول‪" :‬مث اعلم‬
‫أن افتقار هذه اجملاهدات إىل الشيخ ال ُـمعلِّم‪ ،‬واملريب الناصح‪ ،‬ليس على سبيل‬
‫وآكد‪ ،‬ويف بعضها‬
‫واحدة‪ .‬بل هو يف بعضها أكمل وأوىل‪ ،‬ويف بعضها أحق ُ‬
‫جب‪ ،‬حىت إنه ال ميكن بدونه (‪ .)...‬أما جماهدة التقوى اليت هي بالورع فال‬‫ْأو ُ‬

‫‪ 1‬شفاء السائل ص ‪.26‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.43‬‬

‫‪205‬‬
‫اإلحسان‬

‫ت‬ ‫ِ ِ‬
‫يضطر فيها إىل الشيخ‪ ،‬إمنا يكفي فيها معرفةُ أحكام اهلل وحدوده‪ ،‬أخ َذ ْ‬
‫ت من ُمعلم أو تُ ُدوِر َست من أستاذ (‪ .)...‬وأما جماهدة‬
‫من كتاب أو لُّقنَ ْ‬
‫االستقامة اليت هي التخلق بالقرآن وخبلق األنبياء فمحتاجة بعض الشيء‬
‫نات القلب‪،‬‬‫تلو ِ‬ ‫ِ‬
‫وخفاء ُّ‬ ‫إىل الشيخ املعلم لعُسر االطالع على ُخلُق النفس‪،‬‬
‫ومعانَاهتا (‪ ،)...‬فإذن يتأكد طلب الشيخ يف حق صاحب‬ ‫ِ‬
‫وصعوبة عالجها ُ‬
‫هذه اجملاهدة‪ ،‬واالقتداء فيها بسالكها املطلع على عللها (‪.)...‬‬
‫مطلوبا رفع احلجاب‬‫ُ‬ ‫قال‪" :‬وأما جماهدة الكشف واملشاهدة اليت‬
‫ِ‬
‫وملكوت السماوات واألرض‪ ،‬فإهنا مفتقرة إىل‬ ‫واالطالعُ على العا َل الروحاين‬
‫ٍ‬
‫وجوب واضطرا ٍر‪ ،‬ال يسع‬ ‫عب عنه بالشيخ‪ ،‬افتقار‬ ‫املعلم املريب‪ ،‬وهو الذي يُ َّ‬
‫‪1‬‬
‫غريه‪ ،‬وال ميكن يف الغالب حصوُلا بدونه"‪.‬‬
‫رمحك اهلل أبا زيد! كنت حتدثنا عن املريد الطالب رفع احلجاب ليشاهد‬
‫أنوار الربوبية‪ ،‬فإذا بك بعد حني تشتغل مع مريدك باألكوان و"االطالع على‬
‫العامل الروحاين وملكوت السماوات واألرض"! وأين األكوان من ال ُـم َك ِّون ما‬
‫شاء اهلل كشف لك من عوامله وملكوته‪ ،‬وما زوى عنك فأنت عبد لألكوان‬
‫ب األوحد‪،‬‬ ‫ت مهتُك باألكوان ومطالعة ما دون اهلل‪ُ ،‬متَها ِوياً عن املطلَ ِ‬
‫إن تعل َق ْ‬
‫مطلب الرجال‪ِ ،‬‬
‫وجه اهلل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مث يتحدث صاحبُنا الذي صرف عمرا طويال يف مراقبة تاريخ األمم فخرج‬
‫باستنتاجه العبقري ناقال بأمانة أقوال الرجال أصحاب الفن‪ ،‬ويقول‪" :‬إذا كان‬
‫أى منه و ٍ‬
‫متحيص ألعماله وسلوكه‪ ،‬والشيخ قد‬ ‫ب عني الشيخ ِوبر ً‬ ‫صَ‬‫السالك نُ ْ‬
‫وفاسدها‪ ،‬وكيف‬
‫فاسد األحوال من صاحلها‪ ،‬وعما ينشأ صاحلُها ُ‬ ‫سلك‪ ،‬وعلم َ‬
‫ينشأ‪ ،‬وما يكون منها و ِ‬
‫اصالً‪ ،‬وما يكون قاطعاً‪ ،‬وكيف ترتتَّب األحوال املقدورة‬
‫‪ 1‬الشفاء السائل‪ ،‬ص ‪..58-59‬‬

‫‪206‬‬
‫اإلحسان‬

‫ومقدار الزكاء يف األعمال الذي يكون عنه الصفاءُ يف‬ ‫ُ‬ ‫على األعمال املقدورة‪،‬‬
‫ِِ‬
‫األحوال‪ ،‬وقد خرب ذلك كلَّه باالبتالء والتجربة واملَران‪ ،‬ومل يُقلِّ ْد فيه ال ُكتُ َ‬
‫ب‬
‫ت املخاوف‪ ،‬وذهب‬ ‫ِ‬
‫واألخبار‪( .‬إذا فعل السالك ذلك) استقام السلوك‪ ،‬وأُمنَ ْ‬
‫الغرور"‪.‬‬
‫احلكيم طائفة األخباريِّني العاكفني على الكتب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اجلليل‬
‫ُ‬ ‫وحياور عاملنا‬
‫قال‪" :‬فقال هلم (املدافع عن ضرورة الشيخ)‪ِ :‬لَ اعتمدمت على الكتب وتركتم‬
‫االعتماد على شيوخ الطريقة‪ ،‬والقوم إمنا اعتمدوا على الشيوخ وتركوا الكتب؟‬
‫فقالوا‪ :‬أصل السلوك إمنا هو بالكتاب والسنة وما نشأ عنهما‪ .‬وها هي بأيدينا‬
‫وشيوخ هذه الطريقة من ُجلتهم‪ .‬فما‬ ‫ُ‬ ‫مسطورة‪ ،‬وناقلوها منتصبون لتعليمها‪.‬‬
‫جمرد النـّْقل كافياً يف حصول‬ ‫دونم؟ فقال هلم‪ :‬إن كان ُ‬ ‫الذي مينع من السلوك َ‬
‫فليستَ ِو يف مجيع أنواع العلوم والصنائع من َح ِف َظ وص َفها‬ ‫ِ‬
‫هذا املقصود أو غريه ْ‬
‫‪1‬‬
‫عانَا مع َمن عاناها بالفعل‪ ،‬ودخل فيها حاالً واتِّصافا"‪.‬‬ ‫ومل ي ِ‬
‫ُ‬
‫مستخلصاً‪" :‬واحلق أنه البد للسالك من الشيخ‪ ،‬وال يُفضي به النقل‬ ‫ْ‬ ‫قال‬
‫وحده إىل مطلوبه‪ ،‬ال ِم ْن أجل التفاوت يف التحصيلني (أي يف كون الشيخ أوسع‬
‫اطالعا على الكتب وأحف َظ للنّصوص)‪ ،‬بل من أجل أ ّن مدارك هذه الطريقة ليست‬
‫مدارك وجدانيَّةٌ إهلاميّة‬
‫تعارف من العلوم الكسبيَّة والصنائع‪ ،‬وإمنا هي ُ‬ ‫من قبيل ال ُـم َ‬
‫خارجةٌ عن االختيار يف الغالب‪ ،‬ناشئةٌ عن األعمال‪ ،‬على هيئات خمصوصة‪ .‬فال‬
‫مييزها بالعِيان والشِّفاه‬
‫متييزها باملعارف الكسبية‪ ،‬بل حيتاج إىل الشيخ الذي ُ‬ ‫يدرك ُ‬
‫ُ‬
‫ِ ‪2‬‬ ‫ِ‬
‫وخصوصيات أحوالا"‪.‬‬ ‫(أي املشافهة)‪ ،‬ويعلم هيآت األعمال اليت تنشأ عنها‬
‫ص ِدرون‬ ‫ال يزال إىل جانب صنف املستهزئني بالصوفية والتصوف الذين يُ ْ‬

‫‪ 1‬شفاء السائل ص ‪.63‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.65‬‬

‫‪207‬‬
‫اإلحسان‬

‫صنف الذين ْيعرتفون مبا عند الصوفية من حق‪،‬‬ ‫اف على غري علم‪ُ ،‬‬ ‫األحكام اجلِز َ‬
‫لكنهم يف حريهتم َوزمحة الدنيا عليهم‪ ،‬ورمبا أساسا لغياب املسألة اإلحسانية‬
‫السين الذي حتتاج إليه األمة‬ ‫الكامل عن أفُقهم‪ ،‬ي ِ‬
‫التصوف َّ‬‫صّرون على أن ُّ‬ ‫ُ‬
‫ومدارسة‬ ‫يف عصرنا هو تصوف ينحصر يف ترقيق القلوب بقراءة كتب الغزايل ُ‬
‫موجود‪ ،‬وأنه‬
‫ٌ‬ ‫اإلحياء وما أشبهه‪ .‬كيف تُفهم هؤالء الفضالء أن اهلل عز وجل‬
‫ويَب‪ ،‬وأن مناديَه يف السماء واألرض ينادي ‪ :‬إن اهلل حيب فالنا من عباده‬ ‫ُِيب ُ‬
‫فيفعل به‬
‫فأحبوه‪ ،‬وأن العبد املتقرب إىل اهلل بالفرض والنفل يأيت وقت حيبُّه اهلل ُ‬
‫جل وعال ما قرأناه يف احلديث العظيم الذي توقف فيه الذهيب حريًة وتردداً‪ ،‬وأن‬
‫الركب طيلةَ هذه القرون أمام األولياء‬‫علماء فطاحل من هذه األمة َجثـَْوا على ُّ‬
‫مشايخ الطريق يلتمسون بركتهم وتوجيههم وتسليكهم وتوصيلهم إىل اهلل عز‬
‫وجل ؟ من يُفهم هؤالء الفضالء َّ‬
‫أن وأ ّن وأ ّن؟‬
‫ُرَبا يزعم زاعم من النُّفاة املكفرين اجلاهلني‪ ،‬أو جيادل فاضل من املشتغلني‬
‫وتصوفا أمور مل يأذن هبا‬
‫عن طلب اهلل‪ ،‬أن ما تُسمونه سلوكا وطريقة وشيخا ّ‬
‫اهلل وال أوجبها مبقتضى الشرع‪ .‬ملثل هؤالء يقال ‪ :‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫سمى مصحفا‪ ،‬وال كتباً‪ ،‬وال فقها‪ ،‬وال أصوال‪ ،‬وال دواوين‬ ‫وسلم ما ترك شيئا يُ ّ‬
‫للحديث‪ ،‬وال مدرسة‪ ،‬وال حنوا‪ ،‬وال صرفا‪ ،‬وال علوما تـخصصية‪ ،‬وال‪ ،‬وال‪ ،‬وال‪.‬‬
‫ويتقابل نفي مع نفي‪ ،‬ورفض مع رفض‪ .‬وما أنت مبُسمع من يف القبور‪.‬‬
‫وتعال قف بالباب مع األحباب الذين نصحوك‪ ،‬قف بباب روح املصطفى‬
‫رضى هتب على قلبك‪ .‬قال ابن القيم رمحه اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم عسى نفحةُ ً‬
‫بعد أن ذكر ما رواه البخاري من اهتزاز عرش الرمحن ملوت سعد بن معاذ‪" :‬إذاكان‬
‫عرش الرمحن قد اهتز ملوت بعض أتباعه (صلى اهلل عليه وسلم) فرحا واستبشارا‬
‫بقدوم روحه‪ ،‬فكيف بقدوم روح سيد اخلالئق! فيا منتسباً إىل غري هذا اجلناب‪،‬‬

‫‪208‬‬
‫اإلحسان‬

‫أي سريرة تكون عليها يوم تبلى‬ ‫ويا واقفا بغري هذا الباب‪ ،‬ستعلم يوم احلشر َّ‬
‫‪1‬‬
‫السرائر"‪.‬‬
‫قال سيدنا بالل حين إىل مكة حيث عرف اهلل بتعريف حبيبه رسول اهلل‪:‬‬
‫وجلـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ــل؟‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أبيت ليلة بواد وحـويل إ ْذخــر َ‬ ‫أال ليت شعري هل َ َّ‬
‫شامة وطَفيـل؟‬ ‫بد َو ْن يل َ‬ ‫وهـل أ ِرَد ْن يوم ــا ميـ َ‬
‫ـاه َمَنّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة وهل يَ ُ‬
‫وقال أبو العباس بن العريف يصون ُوّد األحباب‪:‬‬
‫ما زلـت مذ سكنـوا قليب أصـون هلـم َلظي ومسعي ونُطقـي إذ ه ـ ــم أُنُسـي‬
‫حل ـوا الفـؤاد فما أنـدى ولو قطَـنـوا صخـرا جلـاد مباء منـه ُمـنـبـج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــس‬
‫ويف احلَشـا نزلـوا والوهـج جيرحهـم فكيـف قَ ّـروا على أذكى من القبس!‬
‫ألنـهـضـ َّـن إىل حـشــري بـحـب ـ ـ ـهــم ال بـارك اهلل فيمـن خـاهنم فـنَ ـ ـ ـ ِـسـ ــي‬
‫وقال غريه‪:‬‬
‫جسمي معي غري أن الروح عنـدهم فاجلسـم يف غربة والــروح يف وطـن‬
‫أن لـي بَ َدن ـ ـ ـ ـ ـ ــا ال روح فيــه ويل روح بـ ــال ب ـ ـ ـ ـ ـ ــدن‬ ‫فليعجب الناس مـين َّ‬
‫وقال حمب رحلوا عنه‪:‬‬
‫راحوا فباتَت راحيت من راح ـ ــيت ِصفـ ـراً وأضحـ ــى حبه ــم يل راحـ ــا‬
‫ـوم وأغلقوا باب الســرور وضيع ـ ـوا املفـتــاحـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫فتحوا على قليب اهلم َ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫ما خْنـت عه ــدا للوداد أح ـبَّيت! وتـلَ َّق َفْتنِ ـ ــي بــع ـ ـ َد ُكـ ـ ـ ــم أتـ ـ ـ ـ ــر ِ‬
‫احـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫ُ ُ‬
‫َّ‬
‫ـت جبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ِاح‬ ‫األقدام ُمذ فـ ــارقتُك ـ ـ ـ ْ ـم والنَّفـ ـ ُ‬
‫ـس منِّـ ـ ــي ُمـ ـ ِّـزقـ ـ ـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫زلت ِ َ‬
‫ب‬
‫احـ ـ ـ ـ ــي؟‬ ‫لِلـه أي ـ ـ ــام الصـف ـ ـ ـ ـ ــاء ت ـبـ ـ ـ ـ ـ ــدَّدت فمـ ــىت تعـ ــود بِ ِطيبـ ـ ــيت أفـ ـ ـر ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ّ ُ‬
‫‪ 1‬الفوائد ص ‪.63‬‬

‫‪209‬‬
‫اإلحسان‬

‫الشيخ كإمام للصالة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫الر ْحمن الْمستـعا ُن َعلَى ما تَ ِ‬
‫ص ُفو َن﴾‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اح ُكم بِال َ‬
‫ْح ِّق َوَربـُّنَا َّ َ ُ ُ ْ ََ‬ ‫ب ْ‬‫﴿ر ِّ‬
‫َ‬
‫رب اغفر وارحم واهدين السبيل األقوم‪.‬‬

‫نذهب إليه مع الناس ملا ظهر من‬ ‫ُ‬ ‫ويل اهلل الذي حنسن به الظن ابتداء‪ ،‬أو‬
‫فضله وتقواه وبركته واشتهر‪ ،‬هل هو رجل نلتمس منه دعاء لتستقيم أحوالُنا‪،‬‬
‫أم هو مرشد نعرض عليه مشاكلنا‪ ،‬أم طبيب يعرف ما نعرض عليه من أمراض‬
‫قلوبنا فيصف الدواء املناسب؟‬
‫بسمعة أهل‬ ‫يغرتون ُ‬
‫ختتلف بواعث القاصدين ومراتب املقصودين‪ .‬فالعامة ّ‬
‫الصيت‪ ،‬خاصة إذاكانوا من أصحاب الكرامات واخلوارق‪ ،‬وقد يكون الشخص‬ ‫ِّ‬
‫الرباين والشيطاين‪ ،‬بل من عامة‬ ‫دجاال من أولياء الشيطان‪ .‬ال ُيَيـُِّز العامة بني ّ‬
‫القراء يف زماننا من صام عن العلم زمانا‪ ،‬ليس معه من وسائله وطرائقه وفقه‬
‫حيذر من أولياء الشيطان فيصور له اغرتابه‬ ‫طلبه متاع‪ ،‬فيفطر ذات صباح بكتاب ِّ‬
‫عامةٌ كالذباب‬ ‫عن العلم أن كل من ُو ِس َم بالصالح والوالية نوع من الدجالني‪َّ .‬‬
‫القراء‬
‫الشيطان‪ ،‬وعامة من ّ‬ ‫ض ِحيَّةً بني براثني‬
‫العرافني َ‬
‫ّ‬ ‫يتساقطون يف أحضان‬
‫مظنّة‬‫كل من خلَق اهلل من مقصود ِيف ُد عليه الناس ِ‬
‫الصائمني املفطرين عندهم ُّ َ َ‬
‫﴿وِم َن الن ِ‬
‫َّاس َمن يُ َج ِاد ُل فِي اللَّ ِه بِغَْي ِر‬ ‫للكذب‪ُ ،‬متـََّهم مشكوك يف عقيدته‪َ .‬‬
‫ِعل ٍْم َوَل ُه ًدى َوَل كِتَ ٍ‬
‫اب ُّمنِي ٍر﴾‪.1‬‬
‫‪ 1‬احلج‪8 ،‬‬

‫‪210‬‬
‫اإلحسان‬

‫ودعنا هنا من ذكر إخوان الشياطني ؛ إىل حني إن شاء اهلل‪.‬‬


‫العامة العامة يقصدون الشيخ للتربك به‪ ،‬يسألونه الدعاء يف حاجة مريض‬
‫دجال‬
‫املزور ك ّذاب ّ‬
‫أو غائب أو رزق‪ .‬وقد يصادف أن تقضى تلك احلاجات و ُ‬
‫املقصود ممن قال اهلل فيهم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫استدراجا من اهلل عز وجل وخذالنا‪ .‬وقد يكون‬
‫"ولئن سألين ألعطينّه"‪ 1‬فيكون الزائر مغبونا أشد الغنب إذا أوقفه اهلل على باب‬
‫من أبوابه فلم يسأل إال عافية األوالد وسراح السجني وإدرار الرزق‪.‬‬
‫من املشايخ من له حظ من الوالية ال يؤهله ألكثر من إمشام جلسائه‬
‫وأصحابه رائحة الرائحة‪ ،‬فمهما كان باعث املريد القاصد عاليا فالغنيمة ال‬
‫حبار زخارةٌ‬
‫تعدو قبضة من اخلري يف درجة التقوى واالستقامة‪ .‬ومن املشايخ ٌ‬
‫باألنوار‪ ،‬مفتوح هلم الباب‪ ،‬جيذبون القاصد ويرفعونه ويرقونه ولو جاء بباعث‬
‫ٍ‬
‫دون‪ .‬ذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪.‬‬
‫ود ِّنوه‪ ،‬فهنالك أيضا‬
‫كما أن هنالك درجات يف مسو باعث املريد ُ‬
‫درجات يف أهلية الشيخ‪ .‬واألرواح جنود جمندة‪ ،‬ما تعارف منها ائتلف‪ ،‬وما‬
‫تناكر منها اختلف كما قرأنا يف احلديث‪ .‬وحظوظ العباد من اهلل تعاىل ومما‬
‫قدر مقدور‬ ‫يؤدي إىل معرفته جل وعال من لقاء الرجال الواصلني املوصلني َ‬
‫وكتاب مكتوب‪ .‬اللهم ُم َّن علينا مبعرفتك ومعرفة أحبابك‪.‬‬
‫الغلو يف الشيخ‪،‬‬
‫الصادقون يف ميلهم إىل ِّ‬
‫املتربكون واملريدون ّ‬
‫يشرتك العامة ِّ‬
‫خاصة إن كان من أصحاب الكرامات الظاهرة والرباهني الساطعة واهلداية‬ ‫َّ‬
‫اس احلدود‪ ،‬ليدفعـوا بالء‬
‫والتيسري‪ .‬وينربي علماء الشريعة رضي اهلل عنهم‪ ،‬حر ُ‬
‫يؤدي‬
‫الغلو غريًة منهم على مقام النبوة واإلهلية أن يزامحا‪ ،‬وخوفا منهم أن َ‬ ‫ِّ‬
‫‪ 1‬كما جاء يف احلديث القدسي املذكور آنفا‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫اإلحسان‬

‫الغلو إىل الشرك والعياذ باهلل‪ .‬لذا جند الفطاحل من أمثال ابن تيمية يعرتف‬
‫ّ‬
‫مبقام املشيخة‪ ،‬لكن يهون من شأنه إىل حد ما‪ .‬فالشيخ املريب عنده مبثابة إمام‬
‫الصالة َيوز االستغناء عنه إن صمم املصلّي أن يضيع أجر اخلمس وعشرين‬
‫ضعفا املوعودة لصالة اجلماعة خلف اإلمام‪ .‬فاعرتاف ابن تيمية رمحه اهلل‬
‫باملشايخ وإعطاؤه إياهم مرتبة إمام الصالة شيء ال يُستهان به‪ .‬وهو حكم‬
‫شبيه بفتوى ابن خلدون يف احلاالت اليت يُطلب فيها ابتغاء الشيخ دون أن‬
‫يكون ابتغاؤه شرطا ضروريا‪ ،‬حسب الباعث واملراد‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم‪" :‬والشيوخ الذين يُقتدى هبم يدلون عليه (أي على‬
‫اهلل جل جالله)‪ ،‬ويرشدون إليه‪ ،‬مبنزلة األئمة يف الصالة (‪ ،)...‬ومبنزلة الدليل‬
‫الذي للحاج‪ ،‬يدهلم على البيت وهو َوُه ْم مجيعا حيجون إىل البيت‪ ،‬ليس هلم‬
‫من اإلهلية نصيب‪ ،‬بل من جعل هلم شيئا من ذلك فهو من جنس اليهود‬
‫والنصارى الذين قال اهلل يف حقهم‪﴿ :‬اتَّ َخ ُذواْ أ ْ‬
‫َحبَ َارُه ْم َوُرْهبَانـَُه ْم أ َْربَاباً ِّمن‬
‫ِ ‪2 1‬‬ ‫ُد ِ‬
‫ون اللّه﴾" ‪.‬‬
‫ويسرد جزاه اهلل خريا‪ ،‬صيغ االستغاثة باألحياء واألموات الفاشية يف‬
‫خليق بكل صادق أن يتجند لسدِّها‪.‬‬ ‫العامة ليشدد النكري عليها‪ .‬وهذه ذريعة ٌ‬
‫نستمع اآلن إىل أهل الفن ماذا يقولون يف املشيخة‪ .‬واحد من أحبائهم‪،‬‬
‫الالحقني هبم إن شاء اهلل‪ ،‬هو عز الدين بن عبد السالم‪ .‬له معهم "قدر‬
‫مشرتك" أوىف من قدر شيخ اإلسالم الذي عاب عليه معاصروه أنه "مل يتأدب‬
‫أدق من‬ ‫بشيخ"‪ .‬فمعرفة سلطان العلماء الشافعي املنفتح باملشيخة وأنوا ِرها ّ‬
‫معرفة الفاضل احلنبلي الفارس املتصدي للبدع‪ .‬وكالمها مفخرة للمسلمني‪.‬‬

‫‪ 1‬التوبة‪31 ،‬‬
‫‪ 2‬الفتاوي ج ‪ 11‬ص ‪.499‬‬

‫‪212‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال ابن عبد السالم‪" :‬اعلم أن اخللق كلهم أطفال يف حجر تربية احلق‬
‫غذي كل واحد من خلقه على قدر احتمال معرفته‪ .‬فغذاء الرجال ال‬ ‫سبحانه يُ ِّ‬
‫يصلح لألطفال‪ ،‬ومراكب األبطال ال تصلح للبطّال‪ .‬أال ترى أن الطفل ل ّـما مل‬
‫يُ ِطق تناول اخلبز واللحم‪ ،‬أطعمته حاضنته فوصل إليه (الغذاء الذي يتضمنه‬
‫اخلبز واللحم) بواسطة اللنب ولو أطعم ذلك جمردا ملات‪ .‬ومن هنا يقال‪ :‬من‬
‫‪1‬‬
‫ال شيخ له ال قبلة له‪ ،‬ومن ال شيخ له فالشيطان شيخه"‪.‬‬
‫الشيخ إذن أكثر من إمام الصالة‪ ،‬بل هو قبلة وحاضنة ُمغذية‪.‬‬
‫فإذا جئنا إىل أساتذة الفن وجهابذته وجدنا املعرفة األكمل مبا هو‬
‫الشيخ‪ ،‬ألن من يتكلم عن حال واتصاف ليس كمن يراقب من خارج‬
‫األسوار عن بعد أو قرب ويصف ما حلظته عيناه من ظواهر األمور‪ .‬ولئن كان‬
‫سلطان العلماء طفال أرضعته أثداء املشايخ السخيّة ل ّـما جاء طالبا راغبا‪ ،‬فإن‬
‫أمثال الشيخ عبد القادر والشيخ الرفاعي قدس اهلل سرمها هم املغذون واألئمة‬
‫والقبلة‪ ،‬قبلة القلوب واحلب‪ ،‬ال قبلة العبادة والصالة‪.‬‬
‫قال الشيخ أمحد الرفاعي‪" :‬عليكم أي سادة بذكر اهلل! فإن الذكر مغناطيس‬
‫وحبل ال ُقرب‪ .‬من ذكر اهلل طاب باهلل‪ .‬ومن طاب باهلل وصل إىل اهلل‪.‬‬ ‫الوصل‪ُ ،‬‬
‫ت يف القلب بربكة الصحبة‪ .‬املرء على دين خليله‪ .‬عليكم بنا !‬ ‫ذكر اهلل يـَثْبُ ُ‬
‫أي حمجوب! تزعم أنك اكتفيت‬ ‫جمرب‪ ،‬والبعد عنّا سم قاتل‪ْ .‬‬ ‫ياق ّ‬
‫ص ْحبَتـُنَا تَر ٌ‬
‫ُ‬
‫عنا بعلمك! ما الفائدة من علم بال عمل؟ ما الفائدة من عمل بال إخالص؟‬
‫(‪ )...‬من ينهض بك إىل العمل؟ من يُداويك من سم الرياء؟ من يدلك على‬
‫الذ ْك ِر إِن ُكنتُ ْم الَ تـَْعلَ ُمو َن﴾‪.2‬‬
‫اسأَلُواْ أ َْهل ِّ‬
‫َ‬ ‫الطريق القومي بعد اإلخالص؟ ﴿فَ ْ‬

‫‪ 1‬بني الشريعة واحلقيقة ص ‪.29‬‬


‫‪ 2‬النحل‪43 ،‬‬

‫‪213‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫هكذا أنبأنا العليم اخلبري"‪.‬‬
‫إنك يا غافل ال تقرأ إشهار رجل يدعو الناس إىل نفسه‪ ،‬إمنا تقرأ نصيحة‬
‫عامل َع ْد ٍل ميحض جلساءه الوصية‪ ،‬ويوصي َمن بـَْع َد زمانه من الصادقني بأن‬
‫الدواء والرتياق هو الصحبة والذكر‪ .‬الذكر والصحبة‪" .‬والبعد عنا سم قاتل"‪.‬‬
‫يت حياة العافية يف بدنك وظاهر إسالمك! هل طبت باهلل‬ ‫نعم واهلل ولو َحيِ َ‬
‫كما طابوا؟ هل وصلت كما وصلوا؟ اسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون‪.‬‬
‫من وراء اخلربة و"املعاناة" اليت وصفها ابن خلدون ْأمٌر زائد‪ ،‬رمحة خاصة‬
‫جيعلها اهلل يف قلوب أصفيائه‪ ،‬وجيعل طريق امتصاصها إقبال املريد بصدق‪،‬‬
‫وتعلقه بشيخه كما يتعلق الرضيع بأمه‪ ،‬مبحبة وجوعة وشوق‪.‬‬
‫كان سلوك القرون األوىل سلوك جماهدة ورياضة هلا قواعدها ورجاهلا كما‬
‫كل ذلك القشريي يف رسالته والغزايل يف إحيائه‪ .‬والشيخ يف سلوك‬ ‫وصف َّ‬
‫اجملاهدة ُمرشد وصاحب يف الطريق وخبري بالعلل وبركة وقدوة‪ .‬بعد أن أظهر اهلل‬
‫كبار املشايخ مثل اجليالين والرفاعي والشاذيل من بعدهم أصبح السلوك شيئا‬
‫فشيئا عن طريق الشكر‪ .‬اجملاهدة ُم َكابَ َدةٌ وصرب وصمت وعزلة وصوم وذكر وهم‬
‫أحد عدا شيخه‪.‬‬‫يف اخللوات‪ ،‬حىت كان من املشايخ من مينع مريده من خمالطة ٍ‬
‫وطريق الشكر أيسر وأقرب‪ ،‬للشيخ و "مغناطيسيته" وبركته فيها الغناء األول‪.‬‬
‫ونرجو منكرم من له الفضل واملنة والرمحة سبحانه أن يتصل مدد السالكني‬
‫فيما يستقبلنا من زمان حبضرة النبوة فيكون السلوك جهاديا عفويا جامعا مانعا‬
‫رائعا كما كان يف عهد الصحابة وهم يف حضن خري الربية صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أي شيء بيدك‬
‫أنت يا من يعتز بعلمه‪ ،‬وال عمل‪ ،‬فإنكان عمل فال إخالص‪ُّ ،‬‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.43‬‬

‫‪214‬‬
‫اإلحسان‬

‫تريد أن خت ِرق به سدود ما بينك وبني ربك مما صنعته غفلتك ورياؤك؟ معك إبرةٌ! امسع‬
‫ك‪" :‬يا َه َوس! تغفل! ائتوا البيوت من أبواهبا‪ ،‬من أبواب شيوخ الفناء‬ ‫اجليالين ِ‬
‫ناص َح َ‬
‫الذين فنوا يف طاعة اهلل عز وجل‪ .‬صاروا معاينَ‪ ،‬صاروا جليسي بيت القرب‪ .‬صاروا‬
‫أضياف امللك يـُْغدى عليهم بطَبَ ٍق ويراح عليهم بآخر‪ .‬وتـُغََّي أنواع اخلِلَع (األومسة‬
‫بلسان العصر)‪ ،‬ويَطوف هبم مملكتَه‪ ،‬أراضيَه ومساواتِه‪ ،‬أس ارره ومعرفتَه‪ .‬أنت من وراء‬
‫ب! القوم إذا وصلوا إىل ذلك‬ ‫فرس ٌخ‪ ،‬ومعك إبرة‪ .‬كيف لك أن تث ُق َ‬
‫حائط عرضه َ‬
‫‪1‬‬
‫احلائط فتح هلم ألف باب‪ ،‬كل باب منها يدعوهم للدخول إليه"‪.‬‬
‫ك مع النفس واهلوى (‪ ،)...‬هذا‬ ‫وامسعه يقول‪" :‬هذه الطريق ال تُ ْسلَ ُ‬
‫ك‪ .‬حيتاج إىل حبال ورجال وصرب ومعاناة وجماهدة‪ .‬وأن‬ ‫شيء ال جييء بِ َع َجلَتِ َ‬
‫ويعرفك وحيمل عنك ثِقلك‪ .‬متشي يف‬ ‫تصحب بعض ملوك املعرفة حىت يدلك ِّ‬
‫بت أمر حبملك‪ ،‬أو أردفك خل َفه‪ ،‬إن كنت حمبا أردفك خلفه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ركابه‪ ،‬فإذا تَع َ‬
‫وإن كنت حمبوبا أركبك يف َس ْرجه وركب هو خلفك‪ .‬من ذاق هذا فقد عرفه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫القعود مع أهل األهليّة نعمة ومع األغيار املكذبني نقمة"‪.‬‬
‫اللهم من علينا برمحتك العظمى‪ ،‬وامحل عنا األثقال‪ ،‬ويسر هلذه األمة‬
‫الرجال من يفتح للجهاد ألف باب ال َكِإبَِر املكذبني‪.‬‬ ‫من ّ‬
‫قال حمب حضرهتم‪:‬‬
‫ـوى ألقى‪ 3‬فمهـال بنا مهـال وِرفقـا بنا ِرفق ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ِ ِ‬
‫فيكم من ج ً‬
‫ليَ ْكف ُك ُم ما ُ‬
‫مت يل منه فَكاكـا وال عتقـا‬ ‫ِ‬
‫وحـرمة ُوّدي ال سئمـت هـواكــم وال ُر ُ‬ ‫ُ‬
‫فيكم عشقـا‬ ‫سأزجـر قلبا رام يف الـحب َسـلوة وأهجره إن مل يـمت ُ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.37‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.24‬‬
‫‪ 3‬أي يكفي ما أل َقى من عذاب الشوق إليكم‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال متيم يف هواهم‪:‬‬


‫ما نـاح يف أعلـى الغصــون ه ـ ـ ـ ـ ـزار إال تش ــوقــت لت ــلك الديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـار‬
‫ـارق إال وأج ـريت الدمـ ــوع الغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز ْار‬ ‫وال ســرى مــن حنــوكم ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫وا أسف ــي أيــن زمــان احلِـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـى وأين هـاتيــك الليــايل القص ـ ْـار؟‬
‫حر قليب فمىت نلتقي؟ وتنطفي مــن داخـ ــل القـلــب ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـار؟‬ ‫وا ّ‬
‫وأنظ ـ ُـر األحـبــاب قـ ــد واصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـوا ويأخـذ الوصل من اهلجــر ثـ ـ ْـار‬
‫ـب وقـ ّـر الـ ـ ـقـ ـ ـ ـر ْار‬ ‫أقـول للنفـس أبـشـ ـ ــري باللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـا قد واصــل احلِ ُّ‬

‫وقلت زادين اهلل قربا جلنابه ورزقين حمبته وحمبة أحبابه‪:‬‬

‫طت! والعُم ـ ُـر ط ـ ـ ـ ْـار‬ ‫َحسرتَا َّفر ُ‬ ‫وا أسفـ ـ ـ ــي عـ ـلـ ـ ــى زم ـ ــن مض ـ ـ ـ ـ ـ ى‬
‫الصفــا فما لنا م ـ ْـن قـ ـ ـ ـر ْار‬ ‫أهل َّ‬‫َ‬ ‫ض ـ ُّـم ـ ـ ـ ــوين جلَـ ـ ْـمـ ــعِ ـ ـ ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـم ‬
‫بالَّلــه ُ‬
‫إليــه يرح ـ ـ ُـم دم ـ ـ ــوعي الغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـز ْار‬ ‫ـت لِـ ـ ـ ـ َـرّب فـ ـ ــأنـ ـ ـ ـ ـ ــا ضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ِرعٌ ‬ ‫تُـ ـب ـ ـ ـ ُ‬

‫‪216‬‬
‫اإلحسان‬

‫من أصحب يا رب؟‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ون﴾‪.‬‬‫ب انصرنِي بِما َك َّذب ِ‬
‫﴿ر ِّ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫يا ويل اإلسالم وأهله‪ ،‬ثبتين به حىت ألقاك‪.‬‬

‫ال يهم من احرتق فؤ ُاده حسرة على ضياع عمره بعد أن "أُمسع" أن هلل‬
‫أولياء أن يكون الشيخ الدال على اهلل مبثابة إمام الصالة أو حاضنة ترضع أو‬
‫طبيبا يناول القاصد تَرياقا‪ .‬مهُّه املقيم أن يعثر على من حيدثُه عن اهلل وعن‬
‫املنقطع للبحث عن‬
‫ُ‬ ‫الطريق إىل اهلل‪ .‬هذا املريد اليائس من كل شيء دون اهلل‪،‬‬
‫صنف نادر‪ .‬قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬مريدو الدنيا فيهم كثرة‪،‬‬‫الدليل ٌ‬
‫ومريدو اآلخرة فيهم قلة‪ ،‬ومريدو احلق عز وجل الصادقون يف إرادته أقل من‬
‫كل قليل‪ .‬هم يف القلة والعدم كالكربيت األمحر‪ .‬هم آحاد أفراد يف الش ِ‬
‫ُّذوذ‬ ‫ُ‬
‫والندور"‪ 1 .‬وكذلك املشايخ الكمل قلة من قِلة من قِلة‪ .‬قال الشيخ رمحه اهلل‪:‬‬
‫وخ ْوَذة‪ ،‬وقلّده بسيفه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫"من صحت تبعيته للرسول صلى اهلل عليه وسلم ألبسه درعا َ‬
‫فرحه به كيف هو‬ ‫ِ ِ‬
‫ونَلَه من أدبه ومشائله وأخالقه‪ ،‬وخلع عليه من خلَعه‪ ،‬واشتد ُ‬‫َ‬
‫من أمته‪ ،‬ويشكر اهلل ربه عز وجل على ذلك‪ .‬مث جيعله نائبا له يف أمته‪ ،‬ودليال‬
‫ألف ٍ‬
‫ألف إىل‬ ‫وداعيا هلم إىل باب احلق عز وجل (‪ )...‬وهم آحاد أفراد‪ ،‬من كل ِ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.58‬‬

‫‪217‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫انقطاع النفس واح ٌد"‪.‬‬
‫يب الفريد‪ ،‬الصادق يف طلبه‪ ،‬فكيف لقاؤه مع‬ ‫الطالب الغر ُ‬
‫ُ‬ ‫إن وجد‬
‫ذلك الوارث الكامل املتحقق بتبعيته الشاملة للرسول صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫حت ال جتد إالّ واحدا يف اخللق بعد أن تصعد احلساب إىل آالف‬ ‫النادر ّ‬
‫اآلالف تعدها حىت ينقطع نـََف ُسك؟‬
‫تلتفت إىل مصدر اهلداية والنّور والداللة على اهلل وهو الرسول املكرم‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فيخربك أن‪" :‬الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من‬
‫وحتر لئال تسقط على أول خطيب يسحرك ببيانه‪،‬‬ ‫خيالل"‪ .‬انظر واحبث َّ‬
‫‪2‬‬

‫أو أول واعظ رقَّ َق قلبك فأبكاك وأبكى الناس‪ ،‬أو أول ذي رئاسة يف العلم‬
‫الظاهر حوله هالة وتالمذة‪ ،‬أو أول متشايخ من أبناء الفقراء له يف الطريقة‬
‫نصاب مرتزق‪ ،‬بل أول شيطاينٍّ عراف ُيربك‬ ‫نسب عريق‪ ،‬أو حىت أول ُمبـَْهرِج ّ‬
‫أخبار بيتك وُيخرق وتزدحم العامة الذبابية على بابه‪.‬‬
‫رتبة املشيخة احلقيقية عالية نادرة عزيزة الوجود‪ ،‬فكيف السبيل إىل معرفة‬
‫صاحب األهلية وأنت قاصر؟ قال اإلمام أبو النجيب السهروردي‪" :‬رتبة املشيخة‬
‫من أعلى الرتب يف طريق الصوفية ونيابة النبوة يف الدعاء إىل اهلل"‪ .‬ولقب "شيخ"‬
‫الكتاب‬
‫َ‬ ‫لقب ذائع شائع حىت ليطلقه عامة العامة وعامة ال ُقراء علىكل من يفتح‬
‫ويـُنَ ِّسق بعض العبارات ويتص ّدى للفتوى وفصل األحكام‪.‬‬
‫كول إليك‪.‬‬
‫أمامك إحدى ثالث طرائق للنظر والبحث فيمن ختالل‪ .‬فاألمر مو ٌ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.107‬‬


‫‪ 2‬أخرجه أبو داود والرتمذي وأمحد بإسناد صحيح عن أيب هريرة‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫اإلحسان‬

‫أول طريقة أن تعتمد على موازينك املسكينة وتزن هبا من يُشار عليك‬
‫ارث‬
‫فربا تتصور هذا الو َ‬ ‫ت يف فهمك‪َّ ،‬‬ ‫بصحبته‪ .‬جتيء مبواصفات مسبقة َوقـََر ْ‬
‫النائب يف مقام الدعوة إىل اهلل على صورة ما يشبه املالئكة‪ ،‬فكن على‬ ‫الكامل َ‬
‫ثقة أنك لن تعثر على شيء ولو انقطعت أنفاسك مرات يف عد اآلالف‪ ،‬ولو‬
‫انقطع عمرك يف السياحة شرقا وغرباً حتمل معك تلك املوازين املسكينة‪ .‬ذلك‬
‫اتب وألوا ٌن‪ ،‬منهم الوسيم اجلميل الفصيح البليغ‬ ‫أصناف ومر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أن أولياء اهلل‬
‫اجلامع بني علم الظاهر وعلم الباطن‪ ،‬ومنهم األشعث األغرب‪ ،‬الذي ال يكاد‬
‫يُبني‪ .‬ورمبا يفوتُك ال َف ْوت حني تتخطّى رجال عاديا يف مظهره ال يُؤبَهُ له‪ ،‬وهو‬
‫من هو‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أيب هريرة‪:‬‬
‫ألبره"‪.‬‬
‫أغرب مدفوع باألبواب لو أقسم على اهلل َّ‬ ‫ب أشعث َ‬ ‫"ر َّ‬
‫ُ‬
‫ويعقد نفس اإلمام مسلم يف كتاب "فضائل الصحابة" بابا لذكر منوذج‬
‫س ال َق ِرنِّ رضي اهلل عنه"‪ .‬روى‬‫"باب من فضائل أ َُويْ ٍ‬ ‫الويل األشعث األغرب‪ٌ :‬‬
‫يف هذا الباب أن وفدا من أهل الكوفة وفدوا على عمر بن اخلطاب رضي اهلل‬
‫عنه زمان خالفته‪ ،‬وفيهم رجل ممن كان يسخر بأ َُويْس‪ .‬فقال عمر‪" :‬هل ههنا‬
‫ني؟" فجاء ذلك الرجل فقال عمر‪" :‬إن رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫ِ‬
‫أحد من ال َقَرنيِّ َ‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬إن رجال يأتيكم من اليمن يقال له أُويس‪ .‬ال يدع باليمن‬
‫موضع الدينار أو الدرهم‪.‬‬
‫بياض فدعا اهلل فأذهبه عنه إال َ‬ ‫غري أم له‪ .‬قد كان به ٌ‬
‫فمن لقيه منكم فليستغفر لكم"‪.‬‬
‫الصحابة ذوو القدر العايل عند اهلل ورسوله يُنصحون بالتماس بركة رجل‬
‫ما هو من الصحابة وال ممن يؤبه هبم‪ ،‬دعاؤه مستجاب‪ .‬فأين تقع موازينك‬
‫من معرفة الرجال؟‬
‫جترب مث جترب حىت تعرف من نفسك هل عثرت على من‪:‬‬
‫الطريقة الثانية أن ِّ‬

‫‪219‬‬
‫اإلحسان‬

‫"ينهض بك حاله ويدلك على اهلل مقاله"‪ .‬وهنا أيضا إن اعتمدت على يقظتك‬
‫وفطنتك ستقضي عمرا طويال يف بالد التيه ألنك ال تستطيع ُتيز بني"النهضة" اليت‬
‫حيدثها فيك مقال الواعظ الصادق الذي يسمعه العاصي فيتوب إىل اهلل على يديه‪،‬‬
‫وبني "هنضة" القلب الذي تنتزعه صحبة العارف الوارث من لصوقه بالدنيا‪ ،‬وحتلق‬
‫جترب على املطلوب احلقيقي فتجده على‬ ‫به يف مساء طلب وجه اهلل‪ .‬مث إنك قد ِّ‬
‫العادي فتنكره‪ ،‬فال تستطيع‬
‫ُّ‬ ‫البشري‬
‫ُّ‬ ‫غري ما كنت ترجو‪ .‬وقد يصدر منه السلوك‬
‫معه صرباً كما مل يستطع موسى صرباً مع اخلضر عليهما السالم‪ .‬نعم‪ ،‬ال يكون‬
‫أحد من الصاحلني‪ ،‬بـَْلهَ أن يكون من األولياء املتبوعني وهو مرتكب للكبائر مصر‬
‫على الصغائر‪ .‬ميزان الشرع معك هو وحده عاصمك‪ .‬لكن ما زاد عليه مما هو من‬
‫مثاليات معايريك املسبقة فأوهام ال تنفع‪.‬‬
‫ت نفسي وطار لُ ّب يف طلب احلق‬ ‫ِ‬
‫كنت حني استوحشت من الدنيا ع ْف ُ‬ ‫ُ‬
‫ت وانقبضت وانصرفت للعبادة والتالوة والذكر آناء الليل‬ ‫اخ َش ْو َشْن ُ‬
‫عز وجل‪ْ .‬‬
‫من علي احلنان املنان له احلمد والثناء والشكر بلقاء‬ ‫وأطراف النهار‪ .‬فلما ّ‬
‫شيخي رمحه اهلل وجدت أنْساً ورمحة وطالقة وبشرا وفرحا باهلل‪ .‬ما كنت أتصور‬
‫مدة انقباضي و"أزميت" وحبثي أن من شأن مريد صادق أن يضحك‪ ،‬وال أن‬
‫يستقر به فراش وينعم بنوم‪.‬‬
‫يلتذ بطعام وشراب‪ ،‬وال أن ّ‬
‫امح ْل معك ميزان الشرع‪ ،‬لكن‬ ‫دعك من االعتماد على غري اهلل‪ ،‬واحبث و ِ‬
‫ال خمر َج لك من البحث التائه إىل أن تقف على باب امللك الوهاب اهلادي‪.‬‬
‫تعد َو قدرك ومقدورك وسابقتك على كل‬ ‫استخره واستعنه وتوكل عليه ولن ُ‬
‫حال‪ .‬قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬إذا أشكل عليك األمر ومل تفرق بني‬
‫الصاحل واملنافق فقم من الليل وصل ركعتني مث قل‪ :‬يا رب دلَّين على الصاحلني‬
‫من خلقك‪ ،‬دلين على من يدلين عليك‪ ،‬ويطعمين من طعامك‪ ،‬ويسقيين من‬

‫‪220‬‬
‫اإلحسان‬

‫شرابك‪ ،‬ويكحل عني قليب بنور قربك‪ ،‬وخيربين مبا رأى عيانا ال تقليدا"‪ 1 .‬وقال‪:‬‬
‫"إذا أردت أن تصحب أحدا يف اهلل عز وجل‪ ،‬فأسبغ الوضوء عند سكون اهلمم‬
‫ونوم العيون‪ ،‬مث أقبل على صالتك تفتح باب الصالة بطُهورك‪ ،‬وباب ربِّك‬
‫بصالتك‪ .‬مث اسأله بعد فراغك‪ :‬من أصحب؟ من الدليل؟ من املخرب عنك؟ من‬
‫ب ظنَّك‪ .‬ال شك يُلهم قلبك‪،‬‬ ‫املفرُد؟ من اخلليفة؟ من النائب؟ هو كرمي ال خييِّ ُ‬
‫ِّ‬
‫‪2‬‬
‫سرك‪ ،‬يفتح األبواب‪ ،‬يضيء لك الطريق‪ .‬من طلب َّ‬
‫وجد وجد"‪.‬‬ ‫يوحي إىل ِّ‬
‫من عالمات صدق طلبك أن تُدمي الوقوف بباب امللك الوهاب‪ ،‬وأن‬
‫تدمي التوسل إليه والضراعة واالستغفار واالستخارة‪ .‬مث توكل عليه بعد أن‬
‫يطمئن قلبك‪ ،‬وال تلتفت إىل وراء‪ .‬فإن َح ْسبَك اهلل‪.‬‬
‫وهم نفسه وعُ ْم ِره‪ :‬ما بالنا وبال الشيخ!‬
‫اخللي من هم اهلل ِّ‬
‫يقول املعرتض ُّ‬
‫الشيخ‪ ،‬الشيخ! القصد معروف‪ ،‬وطريق اآلخرة واضحة‪ ،‬والكتاب والسنة بني‬
‫وهنَأَ باملشرب‪.‬‬
‫أيدينا‪ .‬يقول ذلك وهو يف دار الغفلة راقد‪ ،‬طاب له املأكل َ‬
‫أمحل رسالة من الشيخ عبد القادر‬ ‫جمنون بالدنيا وبنفسه‪ ،‬مغرور هبما‪ .‬ملثل هذا ُ‬
‫رمحه اهلل يقول فيها‪" :‬تعلّق برجال احلق‪ .‬أنتم جمانني َغ ْرقى يف حبر الدنيا‪ .‬رجال‬
‫احلق يداوون املرضى‪ ،‬وينجون الغرقى‪ ،‬ويرمحون أهل العذاب‪ .‬كن عنده إذا‬
‫‪3‬‬
‫عرفته‪ ،‬فإن مل تعرفه فابك على نفسك!"‪.‬‬
‫ابك على نفسك إن كنت خاليا من اإلرادة العليّة‪ ،‬بارد اهلمة‪ّ ،‬نزاعا إىل‬
‫األرض‪ ،‬خملداً إليها‪ ،‬راضيا باحلياة الدنيا‪ .‬وإال فابك على اهلل عز وجل أن‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.119‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.330‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.373‬‬

‫‪221‬‬
‫اإلحسان‬

‫يتداركك مبن حيملك وحيمل عنك‪ .‬من فاته اهلل فاته كل شيء‪.‬‬
‫شارد! امسع مقالة الشيخ الرفاعي‪" :‬من فاته اهلل فاته كل شيء‪.‬‬ ‫يا بارد يا ُ‬
‫هيهات! من خرج عن نفسه وغريه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هيهات‬
‫َ‬ ‫باهلل عليك هذه املعرفة متر!‬
‫وصفع أبـََّهة طبعه‪ ،‬ختلّص من اجلهل‪ُ .‬جبَّة صوف وتاج وثوب قصري! جبة‬
‫حزن وتاج صدق وثوب توكل! وقد عرفتم! العارف ال خيلو ظاهره من بوارق‬
‫الشريعة وباطنه من نريان احملبة‪ .‬يقف مع األمر‪ ،‬وال ينحرف عن الطريق وقلبُه‬
‫‪1‬‬
‫الوجد"‪.‬‬
‫يتقلب على مجر َ‬
‫يا هذا! ما معرفة اهلل عبارات تلوكها األلسنة وتُسطَُّر مجال مرصوفةً على‬
‫القرطاس‪ .‬ما هي بضاعة مير هبا التاجر يف الشارع‪ ،‬سهلة املتناول رخيصة الثمن‪.‬‬
‫اجلبة من الصوف‪ ،‬والتاج من عمامة الفقراء‪ ،‬والثوب القصري شعار الزهاد‪،‬‬
‫اهني صدق املريدين زمان اخللوة واالنزواء واالنطواء‪ .‬ذهب ذلك الزمان‬ ‫كانت بر َ‬
‫الصادق ال ُـمَرِّدد لوصية النبوة باحلزن على ما فات‪ ،‬والصدق يف‬
‫ُ‬ ‫وبقي نداء أهله‬
‫طلب احلق‪ ،‬والتوكل على اهلل عز وجل يف اقتحام العقبة‪ .‬والطريق ُم ْشَرَعةٌ إىل اهلل‬
‫عز وجل إىل يوم القيامة يف وجه من طلب‪ ،‬وجدَّ‪ ،‬وصرب‪ ،‬ووجد الدليل والرفيق‪،‬‬
‫ويَ ِّمله حىت يصلح لتلك احلضرة‪.‬‬ ‫ووجد من يغسله وينقيه ويغذوه ويكسوه ُ‬
‫الشيخ مبثابة املاشطة‪ ،‬وهي العجوز اخلبرية اليت يوكل إليها تزيني العروس‬
‫ليوم جلوهتا‪ .‬قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬يا غالم! العمل بالقرآن يوقِفك‬
‫منزلِه‪ ،‬والعمل بالسنّة يوقفك على الرسول نبيِّنا حممد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫على ِّ‬
‫ال تـَبـَْر ْح بقلبك ومهتك من حول قلوب القوم‪ .‬الشيخ هو املستفتِح باب القرب‬
‫هلا‪ .‬هو املاشطة‪ .‬هو السفري بني القلوب واألسرار وبني رهبا عز وجل (‪ .)...‬لو‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.39‬‬

‫‪222‬‬
‫اإلحسان‬

‫ملكت الدنيا كلّها ومل يكن قلبك كقلوهبم كنت ال متلك ذرة‪ )...( .‬وحيك!‬
‫اعرف ق ْدرك! إيش أنت باإلضافة إليهم؟ أنت كل مهك األكل والشرب واللبس‬
‫ال يف أمور اآلخرة‪.‬‬
‫ال يف أمور الدنيا‪ ،‬بطّ ٌ‬
‫والنكاح ومجع الدنيا واحلرص عليها‪َ .‬ع َّم ٌ‬
‫‪1‬‬
‫تعبِّئ حلمك‪ ،‬وهتدفه للدود وحشرات األرض"‪.‬‬
‫ك بيده‪ .‬إن كان زمامك بيد الدنيا فأنت عبد‬ ‫وقال‪" :‬إنك عبد َم ْن ِز ُ‬
‫مام َ‬
‫هلا‪ .‬وإن كان زمامك بيد األخرى فأنت عبد هلا‪ .‬وإن كان زمامك بيد احلق عز‬
‫وجل فأنت عبد له‪ .‬وإن كان زمامك بيد نفسك فأنت عبد هلا (‪ .)...‬منكم‬
‫‪2‬‬
‫من يريد الدنيا‪ ،‬والقليل منكم من يريد وجه رب الدنيا واآلخرة"‪.‬‬
‫وقال املشتاق إىل لقياهم‪ ،‬احملرتق شوقا وهلفة‪:‬‬
‫يا راحال ومجيل الصرب يتبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعـه هل من سبيل إىل لقياك يتفـق؟‬
‫وهـ ـ ــو حيت ـ ـ ـ ــرق‬
‫ما أنصفتك جنويب وهي دامية وال وىف لك قليب ْ‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫فأسفا ألي ـ ــام وإخـ ـ ـ ـوان مض ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ومنــازل فـارقتـهـ ـ ـ ـ ــا مغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلوبــا‬
‫ست عيشي بعـدهــم مقلـوب ـ ــا‬ ‫ت قليب مج ــرة مــن بعــده ـ ـ ـ ـ ــم ولبِ ُ‬ ‫قلَّْب ُ‬
‫طالبت بعـدهــم الزمـان مبثلـه ـ ـ ــم فأجابين هيهـات‪ ،‬ال مطـ ـ ـ ــلوب ـ ــا!‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫الربــع الذي غيَّــر البِلـ ــى وواهــا من القــوم الـذين تفـ ـ ـ ــرقـ ـ ـوا‬
‫فآهــا من َّ‬
‫أصون تـراب األرضكـانوا حلـوهلـا وأحـ َذ ُر مــن َمـ ِّـري عليهــا وأف ـ ــرق‬
‫ومل يبق عنــدي للهوى غري أنين إذا ّالركب مـروا يب على الدار أشهق‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.76‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.188‬‬

‫‪223‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت عافاين اهلل وإياكم من الربود والشرود‪:‬‬

‫يا رب قيِّـ ــض قب ـ ــل حني َمنيَّـيت َعبـداً ُمنـيـبـ ـ ـ ـاً أتَّـخ ـ ــذه خلـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـالً‬
‫ف الفـ ـؤ ُاد من احلي ـ ــاة بدونكم فمىت أصيب إىل الوصول سبيالَ؟‬ ‫ِ‬
‫أن َ‬
‫داركـُين عنـ ــاية فضل ُكــم ومـىت أالقـي يف الط ـ ـر ِيق دلي ـ ـ ـالَ؟‬ ‫ومت ــى تَ َ‬

‫‪224‬‬
‫اإلحسان‬

‫والدة القلب‬

‫بسم اله الرمحن الرحيم‪﴿ .‬ر ِّ ِ‬


‫ب أَن ِزلْني ُم َنزالً ُّمبَ َ‬
‫اركاً‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم أحسن عاقبتنا يف األمور كلها‬ ‫َنت َخيـُْر ال ُْمن ِزل َ‬
‫َوأ َ‬
‫وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب اآلخرة‪.‬‬

‫موتى هم أكثر من يف األرض‪ ،‬على َر ْش َح ٍة من حياة هو املسلم الغارق‬


‫يف ُلَِّة الدنيا‪ ،‬على رجاء يف احلياة اآلخرة هو املؤمن الذي تاب وعمل صاحلا‪.‬‬
‫معجلةٌ‬
‫األحياء عند رهبم هم الشهداء قتلوا يف سبيل اهلل‪ .‬ولألولياء حياة مثلها َّ‬
‫قليب ووجود جديد‪ .‬على هذا ُش َّد يَ َد َك‪.‬‬ ‫قبل مفارقة الروح اجلسد‪ .‬هلم ميالد ٌّ‬
‫أب لروحك إن عثرت عليه وأحبَْبته وصحبته وكان لك‬ ‫واعلم أن الشيخ الكامل ٌ‬
‫عنده من اهلل وديعةٌ سبقت إليك هبا احلسىن من املنعم املتفضل الوهاب سبحانه‪.‬‬
‫كل ما مسعته من أن الشيخ كإمام الصالة أو مبثابة طبيب مرشد ميكن أن يطابق‬
‫ٍ‬
‫حال طالب االستقامة‪ ،‬يتمسح بشيخ على َم ْس َحة من صالح‪ ،‬يتمسح قربٌ‬
‫ت يف جنازة ميت‪.‬‬ ‫بق ٍرب‪ ،‬يسريُ ميِّ ٌ‬
‫ِ‬
‫ك بألسنة‬ ‫على هذا ُش َّد يَ َد َك‪ ،‬ودعهم يرمونك عن قوس واحدة ويَ ْسل ُقونَ َ‬
‫ٍ‬
‫َحيـَيـْنَاهُ‬
‫حداد‪ :‬ما هذا اهلراء ! اقرأ لنفسك قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬أ ََو َمن َكا َن َم ْيتاً فَأ ْ‬
‫س بِ َخار ٍِج ِّمنـَْها﴾‪.‬‬ ‫ِ ُّ ِ‬ ‫َو َج َعلْنَا لَهُ نُوراً يَ ْم ِشي بِ ِه فِي الن ِ‬
‫َّاس َك َمن َّمثـَلُهُ في الظلُ َمات لَْي َ‬

‫‪225‬‬
‫اإلحسان‬

‫ك َل تُ ْس ِم ُع ال َْم ْوتَى َوَل تُ ْس ِم ُع ُّ‬


‫الص َّم ُّ‬
‫الد َعاء‬ ‫واقرأ عليهم قوله عز من قائل‪﴿ :‬إِنَّ َ‬
‫‪1‬‬

‫‪3‬‬
‫ض ِه ْم يـَل َْعبُو َن﴾‪.‬‬‫إِ َذا ولَّوا م ْدبِ ِرين﴾‪ُِ ﴿ 2.‬ل اللّهُ ثُ َّم َذرُهم فِي َخو ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫يستخف بكالم الرجال‪ ،‬يفنون عمرهم يف حتقيق الطريق‬ ‫ّ‬ ‫ويا حسرتا على من‬
‫ليُ ْدلوا لك بشهادهتم ويقدموا لك النصح اخلالص على طبق! يا حسرتا على من‬
‫يشم حىت الرائحة‬‫مل يسمع! ويا حسرتا على من مل يذق! ويا حسرتا على من مل َّ‬
‫ف لغري هذا امليت‪،‬‬ ‫ألنه استغشى ثيابه ل ّـما جاءته كلمة النصح‪ ،‬وجدها مرة‪ُ .‬أز ُّ‬
‫ف من ابن القيم ناصحك ووامقك‪ .‬قال‪" :‬فوا‬ ‫إيالم‪ ،‬كلمةَ أس ٍ‬
‫فما جلُْرٍح مبيِّت ٌ‬
‫َ‬
‫شم‬
‫أسفاه! وا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان‪ ،‬وينفد العمر والقلب حمجوب‪ ،‬ما َّ‬
‫هلذا رائحة‪ .‬وخرج من الدنياكما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها‪ ،‬بل عاش فيها‬
‫عيشة البهائم‪ ،‬وانتقل منها انتقال املفاليس‪ .‬فكانت حياته عجزاً‪ ،‬وموته كمداً‪،‬‬
‫ومعاده حسرًة‪ .‬وا أسفا! اللهم فلك احلمد‪ ،‬وإليك املشتكى‪ ،‬وأنت املستعان‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫وبك املستغاث‪ ،‬وعليك التُ ْكالن‪ ،‬وال حول وال قوة إالّ بك"‪.‬‬
‫نفوسهم‪ ،‬ووطئوا باألقدام شهواهتم وأنانيَّتَهم‪ ،‬وصلّ ْوا على‬ ‫ذبح القوم َ‬
‫الدنيا صالة اجلنازة‪ ،‬وجاءوا حبواً على الركب لي ْل َقوا رجال يعطف‪ ،‬ويؤوي‪،‬‬
‫ويتعهد الزرع‪ ،‬ويسقي الرحيان القليب إذا تفتح‪ ،‬وميشط العروس ويطيب ويبخر‪،‬‬
‫ويستقبل املولود ويرضع ويفطم ويغذو‪.‬‬
‫هل بوسعك أن تذبح نفسك وهواك وأنانيتك هذه الذحبة لتجد َرْو َح الشهادة‬
‫يف سبيل اهلل إن فاتتك الشهادة يف صف القتال؟ "متيتها فال يبقى هلا عندك من‬
‫تغضب هلا‪ ،‬وال ترضى عنها‪ ،‬وال تنتصر هلا‪ ،‬وال تنتقم هلا‪ .‬قد‬
‫القدر شيءٌ‪ ،‬فال َ‬
‫‪ 1‬األنعام‪122 ،‬‬
‫‪ 2‬النمل‪80 ،‬‬
‫‪ 3‬األنعام‪91 ،‬‬
‫‪ 4‬طريق اهلجرتني ص ‪.268‬‬

‫‪226‬‬
‫اإلحسان‬

‫ضها ليوم فاقتها وفقرها‪ ،‬فهي أهون عليك من أن تنتصر هلا"‪ .‬وإمنا تنتصر‬ ‫سبـَّْل ِ‬
‫ت ع ْر َ‬
‫َ َ‬
‫هلل‪ ،‬وتغضب هلل مث يقول صاحب هذا الكالم‪ ،‬ابن القيم رمحه اهلل‪" :‬وهذا وإن‬
‫كان ذحبا هلا وإماتة عن طباعها وأخالقها‪ ،‬فهو عني حياهتا وصحتها‪ ،‬وال حياة‬
‫املقربني‪،‬‬
‫هلا بدون هذا البتَّةَ‪ .‬وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرف منها على منازل َّ‬
‫ص ُروحه من سجون‬ ‫وينحدر منها إىل وادي البقاء ويشرب من عني احلياة‪ ،‬وخيلِّ ُ‬
‫احلق‪ .‬فيا قرة عينها‬
‫وربا وموالها ِّ‬ ‫احملن والبالء‪ ،‬وأسر الشهوات‪ ،‬وتتعلق مبعبودها ِّ‬
‫عيمها وسرورها بقربه ! ويا هبجتَها باخلالص من عدوها!(…) وهذا‬ ‫به ! ويا نَ َ‬
‫‪1‬‬ ‫الزهد (يف النفس) هو أول مهر احلب‪ ،‬فيا مفلس تَ ِ‬
‫اج ْر!"‪.‬‬ ‫ُ ُ‬
‫ليتاجَر لك يف قضيتك‪،‬‬ ‫هذا هو الـمهر‪ ،‬تتقدم به إىل والدك الروحي ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ُْ‬
‫ويلَُو لك العروس‪ ،‬ويش ِرف على امليالد السعيد‪.‬‬ ‫وخيطب لك‪َْ ،‬‬
‫تظن أخي أ ّن القوم يـُنَ ِّمقون العبارات‪ ،‬ويتجاوزون حدود االستعارة‬ ‫ال َّ‬
‫غامضة‪ .‬أولئك أصحاب‬ ‫ٍ‬ ‫معبين عن مواجيد‬ ‫واجملاز ليحلِّقوا يف مساء اخليال ِّ‬
‫طح حني جتمح هبم احلقائق‪ .‬أما مسألة امليالد القليب والوجود اجلديد‬ ‫الش ْ‬
‫ّ‬
‫بعده البقاءُ ورضاع الوليد وفطامه وتربيته فهي مراحل للنشأة اآلخرة اليت‬ ‫ِ‬
‫والفناء َ‬
‫ينشئها اهلل عباده بعد مفارقة الروح اجلسد‪ ،‬يعجلها سبحانه ألوليائه تعجيل‬
‫تشريف وتكرمي ليكونوا على بصرية يستبشر بعضهم مبا آتاهم اهلل من فضله‬
‫يف خاصة نفسه‪ ،‬ويتص ّدى فحول ال ُك َّمل لإلشراف على تربية جنني من جاء‬
‫بال َـمهر وأخلص لوجه اهلل الطلب واإلرادة واهلمة‪.‬‬
‫قال اإلمام أبو النجيب السهروردي يف كتاب "عوارف املعارف"‪ ،‬وهو من‬
‫أئمة القوم رضي اهلل عنهم‪ ،‬غري السهروردي املقتول الفيلسوف الزنديق‪ .‬قال‪:‬‬

‫‪ 1‬طريق اهلجرتني ص ‪.325‬‬

‫‪227‬‬
‫اإلحسان‬

‫"ومبا هيأ اهلل تعاىل من حسن التأليف بني الصاحب واملصحوب‪ ،‬يصري املريد‬
‫ُج ْزءَ الشيخ كما أن الولد ُج ْزءَ الوالد يف الوالدة الطبيعية‪ .‬وتصري هذه الوالدة آنفا‬
‫‪1‬‬
‫والدة معنوية"‪.‬‬
‫يد عامل امللكوت مع رفاقه َولِ َداتِه وإخوتِه‬ ‫هبذا امليالد املعنوي ي ِ‬
‫دخل املر َ‬ ‫ُ‬
‫يف الشيخ‪ ،‬إخوته يف اهلل‪ .‬قال‪" :‬واملشايخ منهم من يكثر أوالده ويأخذون‬
‫ونا َغيـَْرهم كما وصلت إليهم من النيب صلى اهلل‬ ‫ودعُ َ‬ ‫عنه العلوم واألحوال وي ِ‬
‫ُ‬
‫عليه وسلم بواسطة الصحبة‪ .‬ومنهم من تقل أوالده‪ .‬ومنهم من ينقطع نسله"‪.‬‬
‫طرق إليها الفناء‪ ،‬والوالدة املعنوية‬
‫ُ‬ ‫قال قدس اهلل سره‪" :‬الوالدة الظاهرة يَ‬
‫َْمميَّة من الفناء (‪ .)...‬فتبني أن الشيخ هو األب معىن"‪ 2.‬وكان الشيخ أبو‬
‫النجيب يقول‪" :‬ولدي من سلك طريقي واهتدى هبديي"‪.‬‬
‫اجملرُد الذي ال‬‫ويفصل اإلمام بعد هذا مراتب الشيوخ‪ :‬أوهلا‪" :‬السالك َّ‬
‫يؤهل للمشيخة وال يبلغها لبقاء صفات نفسه عليه‪ .‬فيقف عند حظه من رمحة‬
‫اهلل تعاىل يف مقام املعاملة"‪ 3 .‬هذا رجل صاحل مل يذبح نفسه ومل ُْت َل عروسه‪،‬‬
‫ومل يولد جنينُه‪ .‬املرتبة الثانية مرتبة اجملذوب الذي َتْطَُفه يد القدرة عن وجوده‪.‬‬
‫وقد يسيح يف األرض ويقول الناس‪ :‬جمنون! هذا‪" ،‬يُبادئه احلق بآيات اليقني‪،‬‬
‫ويرفع عن قلبه شيئا من احلجاب‪ ،‬وال يؤاخذ يف طريق املعاملة"‪ .‬هذا ُم َولَّه يف‬
‫ربِّه ال حاجة له بشيخ‪ ،‬وهو من"صبيان احلضرة"‪ ،‬من األطفال األبديني‪ .‬املرتبة‬
‫الثالثة مرتبة "السالك الذي تُ ُدوِرَك باجلَ ْذبة"‪ .‬مث املرتبة الرابعة مرتبة "اجملذوب‬
‫املتدارك بالسلوك"‪" ،‬يرتوي من حبر احلال ويتخلَّص من األغالل واألعالل"‪.‬‬

‫‪ 1‬على هامش اإلحياء ج ‪ 2‬ص ‪.18 16-‬‬


‫‪ 2‬على هامش اإلحياء ص ‪.21‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.26 – 22‬‬

‫‪228‬‬
‫اإلحسان‬

‫املقرب "الذي أهل للمشيخة‪ ،‬سلم‬ ‫وأعلى املراتب مرتبة املراد احملبوب َّ‬
‫جلده فصار قلبه بطبع الروح‪ ،‬ونفسه بطبع القلب‪.‬‬ ‫قلبُه‪ ،‬وانشرح صدره‪ ،‬والن ُ‬
‫والنت النفس بعد أن كانت أمارة بالسوء مستعصية‪ .‬والن اجللد للني النفس"‪.‬‬
‫حرا من كل وجه"‪.‬‬ ‫ويقبله احلق عز وجل حىت يتحرر "ويصري ّ‬
‫فطام‪ ،‬وقد سبق‬ ‫قال رمحه اهلل‪" :‬واعلم أن مع الشيوخ أوان ارتضاع وأوان ٍ‬
‫شرح الوالدة املعنوية‪ .‬فأوان االرتضاع أوان لزوم الصحبة‪ .‬والشيخ يعلم وقت‬
‫ذلك (‪ .)...‬فال يأذن الشيخ للمريد يف املفارقة إال بعد علمه بأن آن له أوان‬
‫الفطام (‪ )...‬ومىت فارق قبل أوان الفطام يناله من األعالل يف الطريق بالرجوع‬
‫‪1‬‬
‫إىل الدنيا ومتابعة اهلوى ما ينال املفطوم لغري أوانه يف الوالدة الطبيعية"‪.‬‬
‫قال‪" :‬الطالب الصادق إذا دخل يف صحبة الشيخ‪ ،‬وسلَّم نفسه‪ ،‬وصار‬
‫املستم ِّد من اهلل تعاىل بصدق‬ ‫َ‬ ‫كالولد الصغري مع الوالد‪ ،‬يربيه الشيخ بالعلم‬
‫االفتقار"‪ 2 .‬وعندئذ يصبح له وجود جديد‪ .‬قال رمحه اهلل‪" :‬وهذا الوجود‬
‫موهوب ُمنَ َّشأٌ إنشاءً ثانيا للمتمكن يف مقام الصحو‪ .‬وهو غري الوجود الذي‬
‫‪3‬‬
‫يتالشى عند ملعان نور املشاهدة‪ ،‬ملن جاز على ممر الفناء إىل َم َق ِّار البقاء"‪.‬‬
‫املتحسر عليك يا من تُ َس َّم ُع وال تَسمع‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫عن هذا الوجود يقول ابن القيم‬
‫"فإن اللفظ مللوم‪ ،‬والعبارة فتانة (‪ .)...‬يذهب العبد عن إدراكه حبالِه ملا قهره من‬
‫الطبيعي‪ .‬وال أظنك تصدق هبذا‪.‬‬ ‫هذه األمور‪ .‬فيبقى بوجود آخر غ ِري ِ‬
‫وجوده‬
‫ِّ‬
‫وأنه يصري له وجود آخر! وتقول هذا خيال ووهم! فال تعجل إنكار مامل حتط‬
‫‪4‬‬
‫ذوق حاله‪ ،‬وأعط القوس با ِريَها‪ ،‬وخل املطايا وحاديَها"‪.‬‬ ‫بعلمه‪ ،‬فضال عن ِ‬

‫‪ 1‬على هامش اإلحياء ص ‪.43‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.45‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.214‬‬
‫‪ 4‬مدارج السالكني ج ‪ 3‬ص ‪.327 – 326‬‬

‫‪229‬‬
‫اإلحسان‬

‫ويسأل املنكر‪ :‬ما الدليل؟ فيجيب العامل العامل اجلهبذ ويل اهلل تعاىل‪:‬‬
‫"إن طالب الدليل إمنا يطلبه ليصل به إىل معرفة املدلول‪ .‬فإذا كان مشاهداً‬
‫للمدلول‪ ،‬فما له ولطلب الدليل‪.‬‬
‫إذا احتاج النّهار إىل الدليل‬ ‫وليس يصح يف األذهان شيء ‬
‫فكيف حيتاج إىل إقامة الدليل على من النهار بعض آياته ال ّدالة عليه؟"‪.1‬‬
‫يقررون للعقل أدلّة املنطق ألهنم ال يضعون أنفسهم معك يف‬ ‫القوم ال ّ‬
‫موضع اجلدال‪ .‬إمنا ينبسطون إليك مشافهة وكتابة ليخربوك بواقع‪ ،‬ويشهدوا‬
‫الشاكني واملشككني‬ ‫ِّ‬ ‫لديك‪ ،‬ويبشِّروك‪ ،‬ويستنهضوك ومن آالف آالف‬
‫والالهني الغافلني الغرقى واحد جيد الوديعة‪ ،‬ويُ ْس ِهر لياليَه اخلَبـَُر‪ ،‬ويؤرقه وقع‬
‫أبوة روحيّة‪.‬‬ ‫الشهادة‪ ،‬ويقبل البشرى‪ ،‬وينهض يبحث عن ّ‬
‫هل عند املعرتضني حتت الفتات السلفية املقلدين ما يفسرون به تصريح‬
‫عظماء الرجال يف شأن الوالدة واألبوة الروحية؟ هذا نص آخر نقدمه إليهم‬
‫عسى اهلل أن يعفو عنا وعنهم‪ .‬قال ابن القيم رمحه اهلل‪" :‬مسعت شيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية رمحه اهلل يذكر ذلك (أي مرتبة الوجود الثاين اليت هي أعلى مراتب‬
‫اإلحسان) ويفسره بأن الوالدة نوعان‪ :‬إحدامها هذه املعروفةُ‪ ،‬والثانية والدة‬
‫يم ِة النفس وظلمة الطبع‪ .‬قال ابن تيمية‪:‬‬ ‫ِ‬
‫القلب والروح وخروجهما من َمش َ‬
‫وهذه الوالدة ملا كانت بسبب الرسول كان كاألب لل مؤمنني(…) قال‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫فالشيخ واملعلم واملؤدب أب الروح‪ .‬والوالد أب اجلسم"‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا توسيع وتعومي للمعىن الدقيق الرقيق الذي يعرفه القوم‪ ،‬ويطل‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.326‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.69‬‬

‫‪230‬‬
‫اإلحسان‬

‫عليه العلماء العاملون أولياء اهلل على "قدرهم املشرتك"‪.‬‬


‫الشيخ الكامل الوالد املريب مراد أهل اهلل‪ ،‬وغايةُ مناهم‪ .‬قال السهروردي‬
‫رمحه اهلل‪" :‬الشيخ املطلَق‪ ،‬والعارف احملقِّق‪ ،‬واحملبوب املعتَّق نظره دواءٌ‪ ،‬وكالمه‬
‫شفاء‪ .‬باهلل ينطق‪ .‬وباهلل يسكت‪ .‬كما َورد‪ :‬ال يزال عبدي يتقرب إيل بالنوافل‬
‫‪1‬‬
‫حىت أحبه (‪ )...‬احلديث‪ .‬فالشيخ يعطي باهلل‪ ،‬ومينع باهلل"‪.‬‬
‫على مثل هذا ُش َّد يدك إن ظفرت به‪ ،‬وازهد يف الدنيا ومن فيها‪ .‬قال‬
‫َّص حىت يلقى حمبوبَه‪.‬‬‫املشفق احملب ابن القيم‪" :‬ال ريب أن عيش املشتاق ُمنغ ٌ‬
‫قر عينه‪ ،‬ويزول عن عيشه تنغيصه‪ .‬وكذلك يزهد يف اخللق غايةَ الزهد‬ ‫فهناك تَ ّ‬
‫ألن صاحبه طالب لألنس باهلل والقرب منه‪ .‬فهو أزهد شيء يف اخلَْلق إال من‬
‫يأنس‬
‫أعانه على املطلوب منهم‪ ،‬وأوصله إليه‪ .‬فهو أحب خلق اهلل إليه‪ .‬وال ُ‬
‫من اخللق بغريه‪ ،‬وال يسكن إىل سواه‪ .‬فعليك بطلب هذا الرفيق ُج ْه َدك‪ .‬فإن‬
‫‪2‬‬
‫مل تظفر به فاختذ اهلل صاحبا ودع الناس كلهم جانبا"‪.‬‬
‫أقول‪ :‬إن مل تظفر به فاجلأ إىل باب املوىل اهلادي ليهديك إليه‪ ،‬ويدلّك على‬
‫ترتدد على أضرحة األولني‪ ،‬تتمسح باألشباح اخلاوية‬ ‫ِّ‬
‫الدال عليه‪ .‬ال تكن قبوريا ّ‬
‫رب من الدليل عليك؟‬
‫أشباح املتطفلني املتقولني‪ .‬يف أهل عصرك طلبتك‪ ،‬فيا ِّ‬
‫قال الطالب اخلبري مبا يطلب‪:‬‬
‫وس ـواهـم متـطـفــل يف النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاس‬ ‫ما الناس إال الصاحلون حقيقة ‬
‫معنـى وأحيـ ٍ‬
‫ـاء مـع األنف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاس‬ ‫كم بني أمـو ٍ‬
‫ات زمـا َن حيــاهتم ‬
‫ً‬
‫ـك تشـدد بالطبيب اآلسـي‬ ‫َك َّفْي َ‬ ‫فإذا ظفـرت بصاحل فـاشدد به ‬

‫‪ 1‬عوارف املعارف ج ‪ 2‬ص ‪.28 26-‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكني ج ‪ 2‬ص ‪.54‬‬

‫‪231‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال حمب فارقه الوالد بعد الفطام‪:‬‬


‫لوكنت أملك طريف ما نظرت به من بعد فـرقتـكم يـومـا إىل أحـد‬
‫ـاظ ـ ـ َـر ْي َرِمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـد‬
‫ولست أعتـده من بعـدكم ن ـظ ـرا ألنـه نظــر من ن ِ‬

‫وقلت اعرتافا وشكرا هلل والناس‪:‬‬

‫ب حي مشى يف النَّ ــاس‬ ‫يت لِ َّلزمان يُقاسي ُ‬


‫ومبَّ ٍ‬ ‫كـم بني م ٍ‬
‫َ َ‬
‫جعل اإلله لِن ـ ــوره يف قـلـب ـ ـ ـ ـ ـ ِـه مثالً من املشك ِ‬
‫ـاة والنِّب ـ ـ ـ ـ ـ ـراسِ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رب َع ِّجـل يل اللِّق ــاء مبثله و ْ َّ‬
‫بيب اآلســي‬ ‫ـيت الطَّ َ‬
‫اخ ْـرت لعلـ َ‬ ‫َ‬ ‫يا ِّ‬

‫‪232‬‬
‫اإلحسان‬

‫المحبة واألدب عماد الطريق‬


‫وسمة الطائفة‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ب انصرنِي بِما َك َّذب ِ‬
‫﴿ر ِّ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫اللهم إين أسألك غناي وغىن موالي‪.‬‬

‫كثريا ما تسمع مسلما جديدا أتى إىل اإلسالم من الكفر أو اإلحلاد‬


‫يقول‪ :‬هذا ميالد جديد يل! ويقول التائب من الذنب‪ :‬هذا ميالدي‪ ،‬ويقول‬
‫يعب عن‬‫الداخل مع املؤمنني يف مجاعة‪ :‬هذا ميالدي‪ .‬وما منهم إال صادق ِّ‬
‫فرحه وحتوله احلقيقيني‪ .‬وهبذا االعتبار فاملريب واملعلم واملؤدب والواعظ والداعية‬
‫املرشد آباء مبعىن ما‪ .‬لكن امليالد القليب الروحي حقيقة أخرى ال مقارنة بينها‬
‫وبني غريها‪ .‬من السالكني من خيربه الشيخ‪ ،‬إن رأى يف ذلك حكمة‪ ،‬هبذه‬
‫األمور‪ ،‬أو يبشره مبيالده وخطواته حنو الرجولة‪ .‬ومنهم من ميثّل اهلل تعاىل له‬
‫ذلك يف رؤيا املنام أو اليقظة‪ .‬ومنهم من مل يقرأ ومل يسمع عن شيء من ذلك‬
‫حىت فاجأه الفتح وجاءه النصر‪ ،‬وارتفعت على رأسه أعالم الوالية وهو يرى‬
‫نفسه أحقر من أن يتطلع ألفق أعلى من مغفرة ذنبه‪.‬‬
‫من السالكني من تُطَِّوُره العناية اإلهلية يف أطوار السلوك إىل الوجود الثاين‬
‫عينيه على املشاهد واملقامات واألحوال‪ ،‬مشغول‬ ‫والنشأة اآلخرة وهو فاتح ْ‬
‫السنيَّة‪ .‬وأعلى السلوك وأكملُه وأقربُه وأحبّهُ وأطيبه‬
‫بالفرجة على تلك املغاين َّ‬

‫‪233‬‬
‫اإلحسان‬

‫سلوك كبار الصحابة رضي اهلل عنهم الذين نشأوا ورشدوا يف حجر خري‬
‫الربية صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬إمام األنبياء‪ ،‬وأب األولياء‪ .‬كبار الصحابة هم‬
‫سادة األولياء وأئمتهم‪ .‬فضلوا الكل بالصحبة املباشرة ألكرم خملوق على اهلل‪.‬‬
‫وفضلوهم باجلهاد‪ ،‬شغلتهم نُصرة اهلل ورسوله عن َتلِّي َباء األنوار الكونية‪،‬‬
‫وعن تذوق التجليات الربانية‪ .‬شغلتهم االستماتة يف سبيل اهلل يف ميادين‬
‫اجلالد عن ما حيدثه اهلل عز وجل يف قلوهبم وأسرارهم من إنشاء معنوي روحي‪.‬‬
‫شغلتهم الدعوة واهلجرة والنصرة وتدبري أمر األمة عن االهتمام بالتحوالت‬
‫الباطنية فيهم‪ ،‬زواها اهلل عنهم‪ ،‬ودبَّرها هلم تدبري الوكيل‪ .‬كانوا هلل فكان اهلل‬
‫قصور‪ ،‬بل هم يف القمة‪،‬‬‫بعدهم ٌ‬ ‫َّن أن سكوهتم عما َلَ َج به من َ‬‫هلم‪ .‬وال تظن َّ‬
‫نالوا ما ناله القوم رضي اهلل عنهم‪ ،‬وزادوا‪ ،‬وزادوا‪.‬‬
‫العُمدة ليست يف اطّالعك على ما يفعله اهلل بك عز وجل‪ ،‬العمدة يف‬
‫اشتغالك مبا أمرك‪ .‬فمما أمرك به اجلهاد‪ .‬كان القوم أحالس بيوهتم فما وجدوا‬
‫من جهاد إالّ جهاد أنفسهم‪ ،‬وأنت يا من تقرأ كتايب أحياك اهلل يف ٍ‬
‫أزمنة أصبح‬
‫فيها اجلهاد إلقامة اخلالفة الثانية على منهاج النبوة فرضا‪ .‬فاشتغل بالعمل الصاحل‪،‬‬
‫ويبخ ُرك‪،‬‬
‫حيضنك ويطيبك ِّ‬ ‫لكن ال يفتك اهلل‪ ،‬واطلب من بني اجملاهدين من ُ‬
‫ضك فيه على اجلهاد‬ ‫حير ُ‬
‫ويز ُّج بك يف حضرة األحياء باهلل يف نفس الوقت الذي ِّ‬
‫الشوق إليه مع املشتاقني‪ ،‬والسري‬
‫يف سبيل اهلل‪ .‬إن فاتك طلب اهلل مع الطالبني‪ ،‬و ُ‬
‫مع السائرين‪ ،‬والوالدة يف الروح واملعىن مع الوالدين واملولودين‪ ،‬فقد تنال الشهادة‬
‫الصغرى باملوت الطبيعي‪ ،‬تصيبك رصاصة يف سبيل اهلل‪ .‬لكن الشهادة الكربى‬
‫ال يناهلا من احنصرت مهته يف طلب جنات النعيم ومفاكهة احلور العني‪ .‬ال يناهلا‬
‫إال من قتله سيف احلب هلل‪ ،‬واحلب يف اهلل‪ ،‬واألدب مع اهلل ومع أولياء اهلل‪.‬‬
‫املكمل‪ ،‬وحظي عنده بالقبول‪ ،‬فذاك‬
‫من ظفر بالكنز العزيز‪ ،‬الشيخ الكامل ِّ‬

‫‪234‬‬
‫اإلحسان‬

‫عنوان سعادته‪ .‬فليحرص على ُمَالَلَتِه‪ ،‬إذ الرجل على دين خليله‪ .‬وذلك‬
‫روحه من روحه‪،‬‬‫بالتوجه القليب إليه‪ ،‬وبتعظيمه وتوقريه وتعزيره حىت تتشرب ُ‬
‫ويستقي غصنه من جذوره‪ .‬قال األستاذ القشريي‪" :‬وقبول قلوب املشايخ‬
‫رده قلب شيخ من الشيوخ فال حمالة‬ ‫للمريد أصدق شاهد لسعادته‪ .‬ومن ّ‬
‫غب ذلك ولو بعد حني‪ .‬ومن ُخ ِذل برتك حرمة الشيوخ فقد أظهر َرقْم‬ ‫يرى َّ‬
‫‪1‬‬
‫شقاوته‪ ،‬وذلك ال ُيطئ"‪.‬‬
‫يؤكد القوم النصيحة باحرتام املشايخ وطاعتهم‪ .‬وقد يقول قائلهم‪" :‬يكون‬
‫بني يديه كامليت بني يدي غاسله"‪ .‬وهي مقالة خطرية‪ ،‬أل ّن املريد ال يستطيع‬
‫النصاب الكذاب‪ ،‬فيسقط يف يد نفس طاغية تلعب به‬ ‫متييز الشيخ الرباين من ّ‬
‫كما تلعب بصاحبها‪ .‬لذلك يفصل اإلمام الغزايل شروط الشيخ الذي تتعني‬
‫ُحرمته‪ ،‬ويشري إىل املعاملة الالزمة معه إن أخطأ‪ .‬فكل ابن آدم خطّاء‪ ،‬حىت‬
‫ُك َّم ُل األولياء‪ ،‬حاشا املعصومني أنبياء اهلل‪ .‬قال رمحه اهلل‪" :‬شرط الشيخ الذي‬
‫يصلح أن يكون نائبا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يكون عاملا‪ .‬ولكن ال‬
‫كل عا ٍمل يصلح للخالفة‪ .‬وإين أبني لك بعض عالمته على اإلمجال‪ ،‬حىت ال‬ ‫ّ‬
‫حب الدنيا وحب اجلاه‪ ،‬وكان قد‬ ‫يدعي كل أحد أنه مرشد‪ :‬من يعرض عن ِّ‬
‫تابع لشخص بصري تتسلسل متابعته إىل سيد املرسلني صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وكان حمسنا رياضةَ نفسه من قلَّة األكل والقول والنوم وكثرة الصلوات والصدقة‬
‫والصوم‪ .‬وكان مبتابعة الشيخ البصري جاعال حماسن األخالق له سرية‪ ،‬كالصرب‬
‫والصالة والشكر والتوكل واليقني والقناعة وطمأنينة النفس واحلِلم والتواضع والعلم‬
‫التأن وأمثاهلا‪ .‬فهو إذا نور من أنوار‬
‫والصدق واحلياء والوفاء والوقار والسكون و ّ‬

‫‪ 1‬الرسالة القشريية ص ‪.184‬‬

‫‪235‬‬
‫اإلحسان‬

‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يصلح لالقتداء به‪ .‬ولكن وجود مثله نادر أعز من‬
‫الكربيت األمحر‪ .‬ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا كما ذكرنا‪ ،‬وقبله الشيخ‪،‬‬
‫ينبغي أن حيرتمه ظاهرا وباطنا‪ ،‬أما احرتام الظاهر فهو أن ال ُيَادله‪ ،‬وال يشتغل‬
‫سجادته إال‬
‫باالحتجاج معه يف كل مسألة وإن علم خطأه‪ .‬وال يلقي بني يديه ّ‬
‫وقت أداء الصالة‪ ،‬فإذا فرغ يرفعها‪ .‬وال يكثر نوافل الصالة حبضرته‪ ،‬ويعمل ما‬
‫كل‬
‫يأمره به الشيخ من العمل بقدر ُوسعه وطاقته‪ .‬وأما احرتام الباطن فهو أن َّ‬
‫ما يسمع ويقبَ ُل منه يف الظاهر ال ينكره يف الباطن ال فعال وال قوال لئال يتسم‬
‫‪1‬‬
‫بالنفاق‪ .‬وإن مل يستطع يرتك صحبته إىل أن يوافق باطنه ظاهره"‪.‬‬
‫ظواهر العبادة واألخالق قد يتحلى هبا عاب ٌد زاهد فاضل عامل ليس‬
‫رب من أصحب! من الدليل! ونالحظ إحلاح‬ ‫من "فن" السلوك يف شيء فيا ِّ‬
‫الغزايل على تسلسل املتابعة‪ .‬وهي نقطة أساسية‪ ،‬فمن ال أب له يف طريق‬
‫القوم لقيط دخيل‪ ،‬إال أن يكون جمذوباً من أطفال احلضرة‪ ،‬وذاك ال يقتدى‬
‫به وال يَلِ ُد وال ِّ‬
‫يرب‪ .‬وكان الغزايل رمحه اهلل من أكثر الناس انقيادا للمشايخ‪،‬‬
‫وبذلك فاز‪.‬‬
‫ويقول الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬يا قوم! مىت تعقلون! مىت تدركون‬
‫الذي أشري إليه! طوفوا على من يدلكم على احلق عز وجل‪ .‬فإذا وقعتم هبم‬
‫ائح‪ ،‬هلم عالمات‬
‫فاخدموهم بأموالكم وأنفسكم‪ .‬املشايخ الصادقون هلم رو ُ‬
‫ظاهرة ِّنية على وجوههم‪ .‬ولكن اآلفة فيكم ويف بصائركم ويف أفواهكم‬
‫الص ّديق والزنديق"‪ 2 .‬هلم روائح لكن أين لك بالشم‬
‫السقيمة‪ .‬ما تفرقون بني ّ‬
‫الذي به تتخالل األرواح! قال اإلمام السهروردي‪" :‬فإذا صادف (املريد)‬

‫‪ 1‬أيها الولد ص ‪.63‬‬


‫‪ 2‬الفتح الرباين ص ‪.96‬‬

‫‪236‬‬
‫اإلحسان‬

‫وتشام األرواح‬
‫ِّ‬ ‫صدق احملبة بتأليف القلوب‬ ‫شيخا انبعث من باطن الشيخ ُ‬
‫‪1‬‬
‫وظهور سر السابقة فيهما باجتماعهما هلل ويف اهلل وباهلل"‪.‬‬
‫بأدبك مع املخلوق ومشِّك من روحه تتعلم األدب مع اخلالق سبحانه‪.‬‬
‫وبصربك يف صحبته تتماثل للربوز إىل وجودك الروحي الكاملي‪ .‬قال الشيخ عبد‬
‫القادر قدس اهلل سره‪" :‬ما تأدبت مع املخلوق وتدعي األدب مع اخلالق! املعلم‬
‫ما رضي عنك! وال تأدبت معه‪ ،‬وال قبلت أوامره‪ .‬تقعد يف الدست وتتصدر! ال‬
‫كالم حىت يقوم توحيدك على رجلِه ويثبت بني يدي احلق عز وجل‪ ،‬وخترج من‬
‫بيضة ُوجودك‪ ،‬وتقعد يف ِح ْجر اللطف‪ ،‬وتكو َن حتت جناح األنس به‪ ،‬وتل ُق َ‬
‫ط‬
‫ب اإلخالص‪ ،‬وتشرب ماء املشاهدة‪ .‬مث تبقى على ذلك إىل أن تصري ديكا"‪.‬‬ ‫َح َّ‬
‫وا أسفا على من يظن أن هذا الكالم تزويق وتنميق! لكن ما احليلة معك إنكنت‬
‫أحب إليك من اهلل ورسوله!‬
‫قفصا بال طائر! ما احليلة إنكانت أنانيتك وكربياؤك َّ‬
‫وقال رمحه اهلل‪" :‬من أراد الفالح فليصر أرضاً حتت أقدام املشايخ‪ .‬ما صفة‬
‫املودعون ملا حتت العرش إىل الثّرى‪،‬‬
‫هؤالء الشيوخ؟ هم التاركون للدنيا واخلَْلق‪ِّ ،‬‬
‫ودعوا اخللق كلّهم‪،‬‬
‫قط‪ّ .‬‬‫وودعوها وداع من ال يعود إليها ُّ‬ ‫الذين تركوا األشياء َّ‬
‫ونفوسهم من مجلتهم‪ ،‬ووجدوا وجودهم مع رهبم عز وجل يف مجيع أحواهلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫هوس وهذيان"‪.‬‬ ‫كل من يطلب حمبة احلق عز وجل مع وجود نفسه فهو يف َ‬
‫وجود النفس‪ ،‬هوس النفس‪ ،‬أنانيتُها‪ ،‬ذحبُها‪ .‬اخرج من بيضة وجودك ِ‬
‫الدن‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫واجلس يف "حجر اللطف"‪ .‬عناية اهلل عز وجل وحدها وسابق علمه فيك كفيلة‬
‫بذلك‪ .‬قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬فيا خيبة من مل يعرف اهلل عز وجل ومل‬

‫‪ 1‬عوارف املعارف ج ‪ 2‬ص ‪.47‬‬


‫‪ 2‬الفتح الرباين ص ‪.263‬‬

‫‪237‬‬
‫اإلحسان‬

‫بسره‪،‬‬
‫يتعلق بأذيال رمحته! يا خيبة من مل يعام ْله‪ ،‬وينقطع إليه بقلبه‪ ،‬ويتعلق ِّ‬
‫ومنَنه! يا قوم! احلق عز وجل يتوىل تربية قلوب الصديقني من‬ ‫ويتمسك بلطفه ِ‬
‫حال صغرهم إىل كربهم"‪ 1.‬هذا حظ السابقة‪ .‬وواجبك أنت يف "املعاملة"‬
‫و"االنقطاع" و"التعلق" و"التمسك" يبينه لك عبد القادر مضيفا‪" :‬يا غالم! كن‬
‫غالم القوم وأرضاً هلم وخادما بني أيديهم‪ .‬فإذا دمت على ذلك صرت سيدا‪.‬‬
‫من تواضع هلل عز وجل ولعباده الصاحلني رفعه اهلل يف الدنيا واآلخرة‪ .‬إذا احتملت‬
‫اصه‬
‫القوم وخدمتهم رفعك اهلل إليهم وجعلك رئيسهم‪ .‬فكيف إذا خدمت خو َّ‬
‫استدل مبن قد سلك‪ ،‬وعرف‬‫من خلقه!"‪ .‬ويقول رمحه اهلل‪" :‬يا من أراد السلوك! َّ‬
‫العمال بالعلم‪ ،‬املخلصون يف أعماهلم‪ .‬يا‬ ‫ِ‬
‫املواض َع ال َـمخوفَةَ منها‪ ،‬وهم املشايخ ّ‬
‫غالم! كن غالم الدليل! اتبعه! اترك َر ْحلَك بني يديه وسر معه‪ ،‬تارة عن ميينه‪،‬‬
‫وتارة عن مشاله‪ ،‬وتارة وراءه‪ ،‬وتارة أمامه‪ .‬ال خترج عن رأيه‪ ،‬وال ختالف قوله‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫تضل عن جادتك"‪.‬‬ ‫فإنك تصل إىل مقصودك وال ِ‬
‫يقول الغزايل إن الشيخ الكامل نور من أنوار رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ .‬ومثل هذا يقول الشيخ أمحد الرفاعي قدس اهلل سره‪ .‬وباملواجهة‪ ،‬قلبا‬
‫لقلب‪ ،‬مع العارف الكامل حيصل االستمداد من احلضرة النبوية‪ ،‬وبالتعظيم‬
‫"وجه قلبك لرسول‬‫جلناب الشيخ ورعاية خاطره تُستدام النفحات‪ .‬قال الرفاعي‪ِّ :‬‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واجعل االستمداد من بابه العايل بواسطة شيخك‬
‫املرشد‪ .‬وقم خبدمة شيخك باإلخالص من غري طلب وال َأرب (من غري طلب‬
‫مكافأة دنيوية)‪ .‬واذهب معه مبسلك األدب‪ .‬واحفظ غيبته‪ .‬وتقيَّد خبدمته‪ .‬وأكثر‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.236‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص ‪.298‬‬

‫‪238‬‬
‫اإلحسان‬

‫اخلدمة يف منزله‪ .‬وأقلل الكالم يف حضرته‪ .‬وانظر إليه بنظر التعظيم والوقار ال نظر‬
‫‪1‬‬
‫التصغري واالحتقار"‪.‬‬
‫من املتصدرين لإلرشاد قبل الفطام‪ ،‬بل بدون أن يكونوا َخطَْوا َخطْ َوةً‬
‫واحدة على طريق االستقامة‪ ،‬من يطيب له أن خيدمه اخللق‪ ،‬ويتزلفوا إليه‪ ،‬ويكثروا‬
‫اخلدمة يف منزله‪ ،‬ويضعوا أمواهلم حتت قدميه‪ .‬وهكذا يـَْه ِوي التابع واملتبوع يف‬
‫ث‬‫دركات اخلزي‪ ،‬يستعبد "الشيخ" األتباع‪ ،‬وترتع نفسه املخبَّثَةُ يف هواها‪ ،‬وتتخبَّ ُ‬
‫نفوسهم‪ ،‬وتنشأ دويالت استغالليَّةٌ جاهلية كانت يف تارخينا وال تزال حمطّات‬ ‫ُ‬
‫املصري‬
‫ت نفسك لنفس الصقة بالدنيا فال تنتظر إال َ‬ ‫للتعفن االجتماعي‪ .‬إن َسلَّ ْم َ‬
‫ُّ‬
‫رب من أصحب! وكيف أصحب! وأين أولياؤك‬ ‫الرديء يف الدنيا واآلخرة‪ .‬فيا ّ‬
‫الذين طلقوا الرئاسات ملـّا هاموا يف حبك وحب أحبابك!‬
‫وول‪ ،‬ومل يبق من‬ ‫يف كل عصر تسمع من الصاحلني أن زمان الصالح أدبر ّ‬
‫يصلح للصحبة‪ .‬وعلى لسان املشايخ املعتَربين تسمع أن املطلوب للصحبة نادر‬
‫ندرة الكربيت األمحر‪ .‬وهو كذلك دائما وسيبقى‪ .‬لكن الطالب الصادق الذي‬
‫أيق َظ اهلل عز وجل فيه باعث اإلرادة العليَّة واهلمة املتقدة من حقه أن يستبشر‪،‬‬
‫أكرم من أن يبعثه ويوقفه على الباب مث يرده خائبا وإن‬ ‫فإن اهلل جلت عظمته ُ‬
‫"منكانت له بدايةٌ حمرقةكانت له هناية مشرقة" كما يعرب القوم رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫قال العاشق الوامق الطالب الراغب‪:‬‬
‫ـالع غُوُلـا‬ ‫حما بع َدكم تلك العيو َن بُ َك ُاؤها وغال بكم تلك األض َ‬
‫فـمن ناظر مل تبـق إال دمــوعـ ـ ـ ــه ومن مهجـة مل يبق إال غليلُـ ـ ـ ـ ـهـا‬
‫يل قلبـا بالغ ـرام أذيب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه عليكم وعينا يف الطلول أُجيلُهـا‬
‫دع ـوا َ‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.96‬‬

‫‪239‬‬
‫اإلحسان‬

‫الظامئ ل ِوْرِدهم‪:‬‬
‫وقال امللتاع يف هواهم ِ‬
‫ضـا ماء قراح ــا وال ِوردا‬ ‫تزود من املـاء القـ ـر ِاح فلن تـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى بوادي الغَ َ‬
‫ونل من نسيم البان و َّ ِ‬
‫ت الورد والرن ـ ــدا‬ ‫الرنْد نفحـ ـ ـةً فهيهــات واد يـُْنبِ ُ‬
‫وك ـ َّـر إىل جن ـ ٍـد بط ـ ْـرفِـك إن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه مىت ت ْغ ُد ال تنظر عقيقـا وال جنـ ــدا‬
‫الرْكـب والعـني غُ ْـم ـ َـرةٌ وقـد مـ ّدها سيـل الدمـوع هبا م ــدا‬ ‫ت دون َّ‬ ‫َّ‬
‫تلف ُّ‬
‫لعلـي أرى داراً بـأسنمــة النَّـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا فأطْـ َـربُنـا للـدار أقـربن ــا عهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدا‬
‫ب بـي بـني املعــامل لوعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ فتذهب يب يأسا وترجع يب َوجدا‬ ‫تـالعـَ ُ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫َجج يف األحش ِ‬
‫ـاء ناراً‪َ ،‬تـ ـ ـ َّـر ُق‬ ‫ِ‬
‫تَأ َّ ُ‬ ‫جدي لوع ةٌ‬
‫َويف َكبدي من فرط َو َ‬
‫إن مشـلي مف َّـر ُق‬ ‫َهت ــو ٌن بدمعــي‪َّ ،‬‬ ‫ومقـ ـ ـلَتـي ‬ ‫تَنام العي ــون َّ ِ‬
‫ـات ُ‬‫السالي ـ ـ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫يُسـدِّد خطـ ـ ـوايت خلي ـ ٌـل مـ ــوفَّ ُـق‬ ‫ـوق فامنُــن بِرمحـة ٍ‬
‫إليك إهلي الش ُ‬
‫َ‬

‫‪240‬‬
‫اإلحسان‬

‫قضية الشيخ والبيعة‬

‫ب إِ َّما تُ ِريـَنِّي َما يُ َ‬


‫وع ُدو َن‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين أسألك‬ ‫ب فَ َل تَ ْج َعلْني في الْ َق ْوم الظَّالم َ‬
‫َر ِّ‬
‫الطيبات‪ ،‬وترك املنكرات‪ ،‬وحب املساكني‪ ،‬وأن تتوب علي‪.‬‬
‫وإن أردت بعبادك فتنة أن تـَْقبِضين غري مفتون‪.‬‬

‫حتت هذا العنوان كتب الشيخ سعيد حوى يف كتابه "تربيتنا الروحية"‬
‫يذكر أمهية الشيخ ووظيفته األساسية يف قضية الرتبية‪ .‬كان كتابه هذا فاحتة‬
‫مؤلفات له خصصها للحديث عن الرتبية الروحية‪ ،‬يزداد فيها َحثُّه على الرجوع‬
‫إىل "تصوف حمرر" كتابا بعد كتاب‪ .‬أعلن يف كتابه األول أنه تتلمذ للصوفية‪،‬‬
‫فهو يكتب يف املوضوع عن جتربة‪ .‬وأوضح حرصه الكبري على "أن يوجد نوع‬
‫من التصوف السلفي له شيوخه وحلقاته"‪ ،‬وأن احلركة اإلسالمية املعاصرة‬
‫املعمقة ملواجهة عصر الشهوات‪ ،‬وأن التعاون بني هذه‬ ‫حباجة إىل هذه الرتبية َّ‬
‫احلركة وبني املشايخ الصوفية أمر ضروري "لتزداد الصالت الطيبة بني الناس‪.‬‬
‫ولتكثر حلقات اخلري والعاملون هلا‪ ،‬ولكن على أن يكون ذلك كله مستقيما‬
‫على أصول الشريعة وفروعها‪ ،‬وأال يكون على حساب واجبات أخرى"‪.‬‬
‫يف الكتب الالحقة عرض الشيخ سعيد غفر اهلل لنا وله ورمحه املشكل يف‬
‫تفاصيله‪ ،‬وهو كيف يستعيد "اإلخوان املسلمون" وسائر العاملني يف الدعوة‬
‫روحانية اجلماعة اليت كانت أساس عمل اإلمام البنا رمحه اهلل دون أن يكون‬

‫‪241‬‬
‫اإلحسان‬

‫ذلك على حساب واجبات أخرى‪.‬‬


‫هذه "الواجبات األخرى" واجبات التحرك السياسي‪ ،‬والتكوين الفكري‪،‬‬
‫والتفرغ التنظيمي ردت الرتبية الروحية ردا‪ ،‬وهدهتا ه ّدا‪ .‬فهل من سبيل للجمع‬
‫بني اجلهاد العملي اليومي املتشعب القضايا وبني التطلع الدائم للمإل األعلى‬
‫والتخلق السامي بأخالق أهل اهلل؟‬
‫اقرتح الشيخ سعيد يف أحد مؤلفاته الالحقة تكوين مجعية تضم الربانيني‬
‫يف تنظيم خاص‪ ،‬ووضع هلذه اجلمعية قانونا من بضع وثالثني بندا‪ ،‬ووضع‬
‫لوائح تنظيمية هلا‪ ،‬وبرامج تعليمية‪ ،‬لتكون هذه اجلمعية جامعة يفيء إليها‬
‫الدعـاة مجيعا ويصدرون عنها ُّ‬
‫وتلفهم ويلتفون حوهلا‪ ،‬من سلفيني وإخوانيني‬
‫وغريهم من فئات العاملني‪.‬‬
‫املشكل صعب عويص‪ .‬املشكل تربوي نُوراين نوعي قليب‪ ،‬ال تفيد‬
‫اللوائح الكمية التنظيمية الفكرية فيه‪ .‬املشكل أساسا هو كيف جتتمع يف‬
‫القيادة‪ ،‬يف شخص واحد أو أشخاص‪ ،‬الربانية والكفاءة اجلهادية احلركية كما‬
‫كانت جمتمعة يف البنا رمحه اهلل‪.‬‬
‫ويسيطر ظل البنا على الشيخ سعيد سيطرة تامة‪ .‬فالبنا نقطة البداية‪ .‬قال‪:‬‬
‫اجتهاد إنسان‬‫"إننا منلك بفضل اهلل نقطة البداية الصحيحة‪ .‬وهي االنطالق من ْ‬
‫‪1‬‬
‫جمدد ال يشك عارفوه أنه من أولياء اهلل عز وجل‪ ،‬وهو األستاذ البنا رمحه اهلل"‪.‬‬
‫من مفهوم التجديد واجملدد ينطلـق مؤلفنا ليتساءل عن "مهمة الشيخ‬
‫يف عصرنا؟"‪ ،‬و"ما هي مهمة الشيخ يف عصر مل يعد فيه للمسلمني دولة؟"‪،‬‬
‫و"كيف تكون الصلة بينه وبني غريه؟"‪ .‬ويشرح تصوره هلذا املوضوع بأن‬

‫‪ 1‬تربيتنا الروحية ص ‪.245-246‬‬

‫‪242‬‬
‫اإلحسان‬

‫"رحلة األمة املريضة إىل الصحة تبدأ بوجود اجملدد ونوابه"‪ .‬هذا اجملدد هو‬
‫"منوذج الصحة األول املتمثل يف كل عصر أو قرن أو جيل باجملدد مث بالور ِ‬
‫اث‬ ‫ُّ‬
‫"الوَّراث"‬
‫الكاملني"‪ .‬وال يفتأ املؤلف يؤكد أن البنا هو اجملدد‪ ،‬إشارة إىل أن ُ‬
‫املستحقني للقيادة املؤهلني للتجديد ال بد أن ينبثقوا من الشخص اجملدد‪.‬‬
‫هذا التصور امل ْغلَق لدائرة الرتبية هو بالضبط ما يُ َس َّمى يف اصطالح‬
‫سجادة وجملس كان يتصدره الشيخ‬ ‫التربك‬ ‫السلوك‪.‬‬ ‫غري‬ ‫القوم بالتربك‪ .‬والتربكُ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫املؤسس‪ ،‬فلما توفاه اهلل جلس جملسه على سجادته "وارث" من أبنائه الدينيني‬
‫أو الطينيني‪ ،‬واستمر يف تقليد األب الروحي للجماعة‪ ،‬وحافظ على التقاليد‪،‬‬
‫واجتهد داخل املذهب الرتبوي‪ ،‬واختذ لنفسه وملن معه سقفا بشريا بينه وبني‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬وحرص أال يُزاد حرف على "وظيفة" الشيخ الراحل وأذكاره‪.‬‬
‫وهكذا تكونت مدارس وطرق‪ ،‬يف طيها العارفون باهلل أحيانا‪ ،‬ويف طيها‬
‫املريدون‪ ،‬ويف طيها أصحاب األحوال والكرامات‪ ،‬ويف طيها كل شيء إال‬
‫التجديد الذي مات مع الشيخ رمحه اهلل‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل وحده يبعث هلذه األمة على رأس كل مائة سنة من جيدد‬
‫هلا دينهاكما جاء يف الصحيح‪ .‬يبعثه حيث شاء‪ ،‬ولكل فئة من فئات حزب اهلل‬
‫الباعث‬
‫ُ‬ ‫أن تزعُم أهنا الوارثة جملدِّدها‪ ،‬تُغمض عينها قرونا عما ُيدثه اهلل عز وجل‬
‫متاس ُكها ووحد ُتا‪ .‬اهلل سبحانه وحده قادر على‬
‫ارث خار َج أسوارها ليبقى هلا ُ‬ ‫الو ُ‬
‫أن يعيد ما تفرق من سنة املصطفى صلى اهلل عليه وسلم لتتجمع األمة كلها‬
‫ٍ‬
‫جامعة للوراثة احملمدية‬ ‫خلف قيادة‪ ،‬يف شخص أو أشخاص‪ ،‬يف زمن أو أزمان‪،‬‬
‫الروحية واجلهادية‪ ،‬الََّم ٍة لِ َشع ِ‬
‫ث ما تـ َفرق‪ُْ ،‬ميِي ٍة لقلوب ماتت‪ٍ ،‬‬
‫باعثة هلمم َهَدت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫منورة لعقول أخذها اجلُهد لتصور "البدائل اإلسالمية"‪ ،‬وحتليل الواقع‪،‬‬ ‫وخدت‪ِّ ،‬‬ ‫َ‬
‫ووضع اخلطط‪ ،‬وإحكام التنظيم‪ ،‬ومواجهة العدو الداخلي واخلارجي‪ ،‬عن ذكر‬

‫‪243‬‬
‫اإلحسان‬

‫اهلل وعن الصالة‪.‬‬


‫نسأله عزت قدرته أن يُلهم من بـَْع َدنَا من أحبابه العارفني به وسيلة‬
‫اجلمع‪ ،‬وأن يعطيهم القدرة على سلوك الطريق إليه هبذه األجيال على منهاج‬
‫النبوة دعوةً ودولةً‪.‬‬
‫عظام‪ ،‬ما‬
‫وال معىن للتجديد وال مكان له‪ ،‬ولو برز بني املسلمني زعماء ٌ‬
‫مل يتجدد يف األمة اإلميان بصحبة اجملددين‪ .‬وكذلك كان حال األستاذ البنا‬
‫رمحه اهلل‪ .‬كان مغناطيسا ومركز إشعاع‪ .‬وحباله هنض اإلخوان املسلمون‪ ،‬وعلى‬
‫مقاله ال يزال يعيش كثري من َحَلَ ِة األقالم وقراء األدبيات اإلسالمية رمحه اهلل‬
‫رمحة واسعة‪.‬‬
‫كان فكر البنا مغناطيسا مالئما لزمانه‪ ،‬كما كانت روحانيته‪ ،‬وهو حي‬
‫يرزق‪ ،‬آية من آيات اهلل‪ .‬وكان حريصا على أن خيرج جبماعته من سلبيات الطريقة‬
‫احلصافيّة التربكيّة اليت ترىب طفال ويافعا بني أحضاهنا‪ .‬لكنه احتفظ بالبيعة الصوفية‬
‫وطورها لتتسع للجهاد الذي ضاقت عنه الصيغة املوروثة عن املشايخ للبيعة‪ .‬كانت‬ ‫َّ‬
‫بيعتُه ألصحابه بيعة مزدوجة‪ ،‬بني السيف واملصحف‪ .‬بيعة تأخذ من التقليد الصويف‬
‫جانبا ومن التنظيم العصري جانبا‪ .‬ومن بعد البنا رمحه اهلل تردت هذه البيعة املوروثة‬
‫عنه بوسائط أو بدون وسائط إىل رباط ميسك بتالبيب امللتحق هبذه اجلماعة أو‬
‫تلك لتضمن اجلماعة والء عضوها الدائم‪ .‬وإهنا لعرقلة أخرى يف سبيل التوحيد‬
‫وطامة‪.‬‬
‫املنشود أن تتعدد البيعات وتتضخم‪ .‬بلوى بال َج ْدوى‪ .‬بل آفة َّ‬
‫لو اقتصر العاملون لإلسالم على االعرتاف باألمر الواقع هلان اخلطب‪ .‬والواقع‬
‫بعضها إىل جنب بعض‪ ،‬وبعضها قبل بعض‪ ،‬وبعضها‬ ‫أن هذه اجلماعات تكونت ُ‬
‫اختالفاً مع بعض‪ ،‬وبعضها انشقاقا عن بعض‪ ،‬ألسباب ترجع إىل التمزق السياسي‬
‫القطري‪ ،‬وإىل األصل الرتبوي والثقايف للمؤسسني‪ ،‬وإىل املرجعية العقدية واملذهبية‪،‬‬

‫‪244‬‬
‫اإلحسان‬

‫ورعونات النفوس‪ ،‬وإىل االجتهاد الديين واملوقف‬


‫وإىل حب الرئاسات ُ‬
‫السياسي‪ ،‬وإىل تاريخ القيادات واجلماعات‪.‬‬
‫نصف‬
‫ٌ‬ ‫مل يعرتف العاملون بالواقع كما هو‪ .‬ومعرفة أسباب املشكل‬
‫كبري من احلل‪ ،‬بل َّبرَر كل فريق موقفه‪ ،‬وحفر خنادقه‪ ،‬وحصن حصونه‪.‬‬
‫َّماس‪،‬‬
‫فلعل الربانية اليت نبحث عنها تتجاوز باجلميع‪ ،‬إن شاء اهلل‪ ،‬خطوط الت ِّ‬
‫ليخم َد اتّقاد الوسواس‪ ،‬وتطيب بذكر اهلل األنفاس‪.‬‬
‫ُ‬
‫كي‪ .‬لن يتجاوزها إال البناءُ‬
‫االنغالق الترب ُّ‬
‫ُ‬ ‫احلدود‬
‫َ‬ ‫لن يتجاوز باألمة هذه‬
‫على األساس احملمدية‪ .‬وإال فهو اجلمود العقلي‪ ،‬واالحنسار الرتبوي‪ ،‬والتصلب‬
‫التنظيمي‪ .‬وتبقى مسألة املشيخة اإلحسانية‪ ،‬نكل تدبريها إىل اهلل جلت‬
‫عظمته‪ ،‬ونبث يف هذه األوراق نداءنا إىل العارفني باهلل أن جيمعوا الشمل‬
‫ويقودوا الركب‪ .‬فكفانا متزقا‪.‬‬
‫مهد األستاذ البنا رمحه اهلل لشروط بيعته يف "رسالة التعاليم" بشرح‬ ‫َّ‬
‫املفاهيم األساسية لفكره وعمله‪ .‬فبني ما يقصده بكلمة "فهم"‪ ،‬وهو فهم‬
‫أصوله العشرين يف العقيدة والشريعة والفقه ومتييز ما بني البِدعة والسنة‪.‬‬
‫وبني ما يَعنيه بكلمة "إخالص"‪ ،‬وكلمة "عمل"‪ ،‬وكلمة "جهاد"‪ ،‬وكلمة‬
‫"تضحية"‪ ،‬وكلمة "جترد"‪ ،‬وكلمة "أخوة"‪ .‬وختم بشرح مفاهيمه مبفهوم "الثقة"‬
‫وقال‪" :‬للقيادة يف دعوة اإلخوان حق الوالد بالرابطة القلبية‪ ،‬واألستاذ باإلفادة‬
‫العلمية‪ ،‬والشيخ بالرتبية الروحية‪ ،‬والقائد حبكم السياسة العامة للدعوة"‪.‬‬
‫كان أفقه رمحه اهلل فسيحا جامعا ألطراف ما توزع من معان ومطالب‪.‬‬
‫وكان شخصه الكرمي فسيحا جامعا‪ .‬فصحت قيادته وأمثرت أفضل الثمار‪ .‬وبقيت‬
‫البيعة بعده تُراثا ثقيال‪ .‬اشرتط رمحه اهلل على امللتحق باجلماعة املؤدي للبيعة ما ال‬
‫يقل عن ثالثة وثالثني شرطا‪ ،‬من بينها الوفاء بتعهدات شخصية مثل اجتناب‬

‫‪245‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلسراف يف شرب القهوة والشاي واالعتناء بالنظافة‪ ،‬ومن بينها التعبدية اإلميانية‬
‫كإتقان الطهارة والصالة وسائر الفرائض‪ ،‬ومنها اإلحسانيةكاحملافظة على األوراد‬
‫وحفظ القرآن‪ ،‬ومنها األخالقيةكاحلياء ورمحة اخلالئق ومساعدة الضعيف‪ ،‬ومنها‬
‫احلركيةكالنشاط الدائم والتدرب على اخلدمات العامة‪ ،‬ومنها السياسيةكمقاطعة‬
‫احملاكم األهلية وعدم احلرص على الوظائف احلكومية‪ ،‬ومنها االقتصاديةكمقاطعة‬
‫املعامالت الربوية واالدخار للطوارئ‪.‬‬
‫كل هذا جيد‪ ،‬ويصلح منوذجا إلطار تربوي عام‪ .‬لكن أين النورانية اليت‬
‫تسري من قلب إىل قلب يف أسالك احملبة يف اهلل‪ ،‬وتطري بإرادة مع إرادة على‬
‫أجنحة الشوق إىل اهلل‪ ،‬وتنهض باجلماعة يف ِمَ َّف ِة الصحبة يف اهلل؟ هذا ما‬
‫يبحث عنه الشيخ سعيد حبث الثكالن‪.‬‬
‫الشرط السادس والعشرون من شروط بيعة األستاذ البنا رمحه اهلل يقول‪:‬‬
‫"أن تدمي مراقبة اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬وتذكر اآلخرة‪ ،‬وتستعد هلا‪ ،‬وتقطع مراحل‬
‫السلوك إىل رضوان اهلل هبمة وعزمية‪ ،‬وتتقرب إليه سبحانه بنوافل العبادة‪ .‬ومن‬
‫ذلك صالة الليل وصيام ثالثة أيام من كل شهر على األقل‪ ،‬واإلكثار من‬
‫الذكر القليب واللساين‪ ،‬وحتري الدعاء املذكور على كل األحوال"‪.‬‬
‫ف هبا ال شك يكن من املتقني‪ .‬من بينها مسألة‬ ‫وهي شروط عالية‪ ،‬من ي ِ‬
‫َ‬
‫واحدة ال يفيد فيها إسرار وال "إعالن" وال خيرب عنها بـَْو ٌح وال كتمان‪ ،‬وال هي‬
‫من شأن دون شأن‪ ،‬أال وهي مسألة "قطع مراحل السلوك إىل رضوان اهلل" هذا‬
‫ال جييء إال بصحبة‪ .‬واملصحوب رجل حي سلك املراحل إىل اهلل وتقرب حىت‬
‫أحبه اهلل وجعل قلبه مشكاة ونرباسا وسراجا َوّهاجا‪ .‬ما حيصل ذلك بإجازة‬
‫تربكية‪ ،‬وال باالنضواء حتت جناح عظيم من عظماء األمة‪ ،‬عدا املعصوم صلى‬
‫حمبوب الرب جل وعال‪.‬‬‫قبلة القلوب‪ ،‬رمحة العاملني‪ِ ،‬‬‫اهلل عليه وسلم‪ِ ،‬‬

‫‪246‬‬
‫اإلحسان‬

‫محلت نسائم احلب هذه الرسالة إىل حضرة حمبوب رباين‪:‬‬


‫ينبيكم اليوم عن شأين وعن َس َقمي‬ ‫ُ‬ ‫هذا كتــايب إليكـم فيـه معـ ـ ـ ــذريت ‬
‫أجللت ذكــركــم عن أن يـُغَي ـِّـ ـ ـ َـره ُ لون املــداد فـقد حبَّـ ـرتُـه بـدم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬
‫ـوضع ال َقلَـ ـ ـ ِم‬ ‫ولو قـدرت على جلــدي ألجع ـلــه َرقّاً وأبـري عظــامي م َ‬
‫ـودتـك ــم ومـا وجـدت لـه واللـ ِـه مــن ألَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِم‬ ‫لكــان ذاك قليـال فـي مـ َّ‬
‫وقال حمب رحل عنه شيخه‪:‬‬
‫ِ‬
‫مىت يعــود إىل عُسفــا َن من ظَعنَ ـ ـ ــا‬ ‫ب سال األوطـان والد َ‬
‫ِّمنا ‬ ‫يا صاح ََّ‬
‫تذكــرها يف مهجـيت َحـ ـ َـزنـ ـ ـ ــا‬ ‫أبدى ُّ‬ ‫إن الليـايل اليت كنّــا نُ َسـ ُّـر بـ ـ ـ ـ ـ ـهــا ‬
‫إال حتــدر من عـينَ َّـي مـا ُخـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزنـ ـ ـ ــا‬ ‫أستــودع اهلل قـوما مـا ذك ـرتـهـ ـ ـ ـ ُـم ‬
‫أيـدي احلـو ِادث حىت فطَّنَْتـهُ بنـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫كان الزمـان بنـا ِغ ّـراً فمــا بَـ ِرحت ‬

‫وقلت غفر اهلل يل وتاب علي‪:‬‬

‫ـب َس َقم ـ ـ ــي‬ ‫ِ‬


‫هذي يدي فاقبلُـوين يف رياض ُكم لعل ذك ـ َـر إهلي ُمـ ْذهـ ـ ٌ‬
‫كي ُْتلَـى به ظُلَ ِمـ ــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫علِّي أ ِّ‬
‫س النُّور ْ‬ ‫ُروي َغليلي من حيـاض ُك ُم وأقْب ُ‬
‫الرم ـ ـ ـ ـ ـ ِم‬ ‫نسائم طُ ْـه ٍر ِمـن جن ــاب ُك ُم ُ‬
‫ تيـ ــي ف ـ ـؤاداً َمـواتاً عُ َّد يف ِّ‬ ‫عسى ُ‬

‫‪247‬‬
‫اإلحسان‬

‫شعب اإليمان‬

‫ك ِم ْن‬ ‫ب أَعُوذُ بِ َ‬ ‫﴿ر ِّ‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ضر ِ‬ ‫الشي ِ‬
‫اطي ِن َوأَعُوذُ بِ َ‬ ‫ِ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ب أَن يَ ْح ُ ُ‬ ‫ك َر ِّ‬ ‫َه َم َزات َّ َ‬
‫علي عند كرب‬ ‫اللهم اجعل أوسع رزقك َّ‬
‫سين وانقطاع عمري‪.‬‬

‫ما العمل إذا ُوجدت مجاعة فيها أفراد من املؤمنني واملؤمنات يصدقُون‬
‫خبرب السلوك‪ ،‬ويتوقون إىل السلوك‪ ،‬ويرجون الكمال والقرب من اهلل‪ ،‬ومل يوجد‬
‫شيخ باملؤهالت املوصوفة؟‬
‫العملي عن تساؤالت الشباب اإلسالمي "حتت إحلاح فطرته‬
‫ُّ‬ ‫ما اجلواب‬
‫اإلسالمية الظامئة‪ :‬كيف السبيل إىل أن أمسَُو على نفسي وأهوائها يف هذه‬
‫األزمنة العصيبة وسط هذه املغريات املتأججة؟ كيف السبيل إىل أن أشعَُر‬
‫بلذة املناجاة للخالق إذا وقفت بني يديه يف صالة أو جلست أقرأ قرآنا؟ كيف‬
‫أجعل‬
‫أصنع ألرقي مشاعري إىل الرتبة اليت أعبد اهلل فيها كأنين أراه؟ كيف ُ‬
‫حمبة اهلل ملءَ كياين حىت ال أحب مع اهلل سواه؟ وكيف أجعل املخافة منه ملء‬
‫شعوري حىت يذوب من قليب اخلوف من كل ما عداه؟"‪.‬‬
‫هذه األسئلة اليت عرب عنها الشيخ األستاذ الدكتور سعيد رمضان البوطي‬
‫هاجس كل الشباب اإلسالمي املنتظم يف مجاعات غلب عليها‬ ‫ُ‬ ‫هي اآلن‬
‫الفكر واحلركية أو َه َو ِسيَّةُ اإلشارة بأصابع االهتام إىل الناس‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫اإلحسان‬

‫وسواءً كان املطلب عاليا سلوكيا أو على مستوى تطهري القلب بالتعبد‬
‫والتقوى فوجود الشيخ الرباين املريب أو املرشد املتقي حاجة ماسة‪ ،‬يشعر هبا اآلن‬
‫الرو ُاد الداعون إلحياء الربانية‪ ،‬ويعربون عنها بوضوح‪ ،‬ويعطون اجلواب‬
‫العلماء ُّ‬
‫غامض‬
‫ٌ‬ ‫العلمي عن أسئلتها‪ .‬وعند السواد األعظم من العاملني لإلسالم شعور‬
‫باحلاجة إىل تربية روحية‪ ،‬وقلق‪ ،‬وملل‪ ،‬لكن كلمة "تصوف"‪ ،‬وكلمة "شيخ"‪،‬‬
‫وكلمة "انتساب"‪ ،‬وكلمة "صحبة" تبقى يف حيز مظلم يف قاع املخزون الفكري‬
‫لعامة العاملني‪ ،‬حييط هبا الشك واإلهبام واحلذر أو صريح الرفض والعداء والقتال‪.‬‬
‫ما اجلواب العملي عن حاجة الصادقني يف إرادة اهلل والسلوك إليه وعن حاجة‬
‫املتطهرين طالب التقوى واالستقامة؟ هنا مجاعة منظمة هلا ضوابطها وهياكلها‬
‫وأجهزهتا وبراجمها‪ .‬وهناك خار َج اجلماعة شيخ رباين فما العمل؟ أن ينخرط الشيخ‬
‫أيؤدي له األفراد الطالبون له‬
‫يف اجلماعة أم تنخرط اجلماعة كما هي يف الشيخ؟ ّ‬
‫البيعةَ الصوفية أم يؤدي هو للجماعة البيعة اجلهادية؟ وإذا تعارضت تعاليم الشيخ‬
‫مع أوامر اجلماعة وبراجمها أنضحي بالرتبية ونطرد الطبيب أم نضحي باجلماعة‬
‫وندعها تتفتت وتندرج يف سلك نَِقابٍَة صوفية أو طرقية َموصوفة؟‬
‫لدي أجوبة جاهزة عن هذه األسئلة‪ .‬وعندما يرتفع مستوى الفهم‬ ‫ليست َّ‬
‫درك ضرورة اجتماع األ ِزَّمة يف يد‬
‫هلذه القضية الكربى يف صفوف اجلماعات وتُ َ‬
‫واحدة ال يف أيد متعددة‪ ،‬هناك تنظيم وهناك تربية‪ ،‬تتسع لديها السبيل للجمع‬
‫بني وظيفتني فال جتد إالّ أن خيضع الظاهر للباطن‪ ،‬أن يتبع التنظيم الرتبية‪ ،‬أن‬
‫تكون الدعوة أمرية على اإلدارة والدولة‪ .‬ال يزال تصور العاملني يف اجلماعات‬
‫الظامئ لإلسالم تصورا غامضا‪.‬‬‫َ‬ ‫لوظيفتهم الدعوية فيما بينهم وفيما يلي الشعب‬
‫ال يزالكثري من العاملني يظن أن دواليب الدولة‪ ،‬بعد استخالصها‪ ،‬تنتظركل زيد‬
‫وعمرو من الشباب امللتحي الصادق‪ .‬تصور يفضي بالذوبان اإلرادي للجماعة يف‬

‫‪249‬‬
‫اإلحسان‬

‫اجلمهور‪ ،‬للدعوة يف الدولة‪.‬‬


‫لتفادي ذوبان الرتبية يف التنظيم وغرقها فيه‪ ،‬ولتفادي ذوبان الدعوة يف‬
‫الدولة ال بد من قيادة واحدة‪ ،‬قيادة رجال حترروا من كل شيء وخلصوا هلل‬
‫ينورها علمه‪ .‬إذا كانت‬ ‫وحده‪ .‬قلبُهم يعمره حبُّه‪ ،‬وكياهنم ميأله ذكره‪ ،‬وعقوهلم ِّ‬
‫القيادة مغروزة يف الواقع اجلاري العايت املتالطم األمواج‪ ،‬مل تتجرد عنه لتشرف‬
‫عليه من أعاله‪ ،‬وتتحكم فيه بأمر اهلل‪ ،‬فكفيل أن تكون معركة الدعوة احملمولة‬
‫اجملهز بأحكم الوسائل معركةً خمذولةً بنسبة ما‬
‫على غري بيِّنة وربانيَّة مع الباطل َّ‬
‫ينقص اجلماعة وقيادهتا من تعلق باهلل‪ ،‬وقرب من اهلل‪ ،‬ووالية هلل‪.‬‬
‫الوصلة الصحيحة بني الصحبة واجلماعة قيادة ربّانية واحدة‪ .‬فإن ارتفع‬
‫مستوى الفقه الديين للجماعة حىت تعرف أن الدين إسالم وإميان وإحسان‪ ،‬وحىت‬
‫تعرف‪ ،‬ولو بالتسليم والتصديق‪ ،‬معىن املعرفة والكمال والسلوك والوالدة القلبية‬
‫والوجود الثاين والنشأة األخرى اليت يعجلها املوىل الكرمي ملن شاء من أحبابه‪،‬‬
‫الكامل هو الشخص األمثل لقيادة الركب‪ .‬قد يكون‬ ‫ُ‬ ‫فعندئذ يكون العارف باهلل‬
‫هذا العارف قاصرا يف مظهر ما من مظاهر الكفاءة‪ ،‬كأن يكون غريه أفصح منه‬
‫لسانا‪ ،‬أو أصح منه بنية‪ ،‬أو أقدر على املعاناة الطويلة ملسائل اجلماعة وجزئيات‬
‫تنظيمها‪ .‬لكن العارف الكامل معه رأس األمر كله كما يعرب الشيخ الرفاعي‪ ،‬معه‬
‫نور الكشف وروح العلم وتوفيق اهلل عز وجل‪ .‬فكيف يستغين حزب اهلل‪ ،‬يوم يرتفع‬
‫مستوى فهمهم لدينهم‪ ،‬عن قيادة البصري ليقلدوا أمرهم عُ ْشواناً أو عُميانا!‬
‫العارف بالنسبة لعامل النصوصكهذا بالنسبة للجاهل األمي‪ .‬قال ابن القيم‪:‬‬ ‫إن َ‬
‫"إن العارف صاحب ضياء الكشف أوسع بِطانا وقلبا‪ ،‬وأعظم إطالقا بال شك من‬
‫أوسع‬
‫صاحب العلم‪ .‬ونسبته إليهكنسبة صاحب العلم إىل اجلاهل‪ .‬فكما أن العامل ُ‬
‫بِطانا من اجلاهل‪ ،‬وله إطالق حبسب علمه‪ ،‬فالعارف مبا معه من روح العلم وضياء‬

‫‪250‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫الكشف ونوره هو أكثر إطالقا‪ ،‬وأوسع بِطانا من صاحب العلم"‪.‬‬
‫كان الصديق أبو بكر رضي اهلل عنه حمموال زمان رسول اهلل صلى اهلل‬
‫اللي‪ ،‬فلما ويل اخلالفة تكشَّف عن‬ ‫عليه وسلم على أنه العطوف الرؤوف ِّ‬
‫ِ‬
‫اجلنان ماضي العزم‪ .‬واختذ من‬ ‫ثابت‬
‫رجل هو أقدر الرجال على القيادة‪ُ ،‬‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وزراء وأعوانا‪ .‬فكان حسن استعماله‬
‫أيب وغريهم عنوانا آخر لكفاءته‪ .‬وكان عمر بن اخلطاب رضي‬ ‫لعمر وعلي و ٍّ‬
‫ظاهر الكشف يسطع نوره يف كل أعماله‪ .‬كان الصحابة رضي اهلل‬ ‫اهلل عنه َ‬
‫عنهم يعرفون من عمر صدق الفراسة‪" ،‬ال يقول لشيء أظنه هكذا إال كان‬
‫كما قال"‪ .‬ظهر ذلك منه رضي اهلل عنه لطول مدته واستقرار أمره‪ .‬وإال فكبار‬
‫الصحابة من أهل النور والتوفيق مجيعا‪.‬‬
‫لن يصلح آخر هذه األمة إال مبا صلح به أوهلا‪ .‬واخلالفة الثانية على منهاج‬
‫النبوة لن تكون كذلك إال إن قادها الربانيون أولياء اهلل‪ .‬ويف انتظار أن يفتح‬
‫اهلل بالفهم على العاملني نتضرع إليه سبحانه أن ينزل رمحته من خلوات التبتل‬
‫موصول‬
‫ٌ‬ ‫إىل ميادين اجلهاد‪ .‬يف انتظار أن يكون لِِقر ِان الصحبة واجلماعة معىن‬
‫موح ٌد من حياة العاملني ننادي أولياء اهلل العارفني باهلل أن يتوجهوا جبند اهلل‬
‫َّ‬
‫من صادقي املريدين وعامة املسرتشدين حنو توحيد اجلماعات‪ ،‬فتوحيد اجلهد‪،‬‬
‫املشرب‬
‫ُ‬ ‫فتوحيد األمة يف أقطارها ومذاهبها ومدارسها ومشارهبا‪ ،‬حىت يكون‬
‫حمررا من كل عالقات عصور االنزواء واخلمول واالنكماش‪.‬‬ ‫حممديا قرآنيا ُسنيا َّ‬
‫توحيد تربوي يسمو بالكل‪ ،‬ال يضريه التنوع التنظيمي الفكري االجتهادي‬
‫املتعدد‪.‬‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ج ‪ 2‬ص ‪.420‬‬

‫‪251‬‬
‫اإلحسان‬

‫حكيم‬
‫ُ‬ ‫صحوة إسالمية‪ .‬من ميدها بيقظة إميانية وهبة إحسانية غريَُك يا‬
‫وهاب!‬
‫ملك يا ُ‬ ‫ناصر يا ُ‬ ‫قادر يا ُ‬ ‫عليم يا ُ‬‫يا ُ‬
‫ينبغي جلند اهلل أن ال يظنوا بأنفسهم وبرهبم إال اخلري‪ .‬وعليهم يف انتظار أن‬
‫ُيرج اهلل الوالية وأهلها من مكامنِهم أن يتعاونوا على الرب والتقوى كما أمرهم اهلل‪.‬‬
‫عليهم أن يقاتلوا اخلبائث النفسية يدا واحدة كما يقاتلون العدو اخلارجي مجاعة‬
‫واحدة‪ .‬نصح الرفاعي قال‪" :‬حاربوا الشيطان ببعضكم‪ ،‬بنصيحة بعضكم‪ ،‬خبلق‬
‫ين يـَُقاتِلُو َن‬ ‫بعضكم‪ ،‬حبال بعضكم‪ ،‬بقال بعضكم‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن اللَّهَ ي ِح ُّ َّ ِ‬
‫ب الذ َ‬ ‫ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وص﴾‪ 1.‬يقاتلون الشيطان والنفس وعدو اهلل‪.‬‬ ‫ص ٌ‬ ‫في َسبِيله َ‬
‫ص ّفاً َكأَنـَُّهم بُنيَا ٌن َّم ْر ُ‬
‫يقاتلون الشيطانكي ال يقطعهم عن اهلل‪ .‬يقاتلون النفسكي ال تشغلهم بشهواهتا‬
‫الدنية عن عبادة اهلل‪ .‬يقاتلون عدو اهلل إلعالء كلمة اهلل ونشر علم الدَّاللة على اهلل‪.‬‬
‫ب اللَّ ِه ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾ "‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ك ِح ْز ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اللَّه أََل إِ َّن ح ْز َ‬ ‫﴿أ ُْولَئ َ ُ‬
‫‪3 2‬‬

‫ونصح الشيخ عبد القادر أن تكون الصحبة بني اإلخوان "باإليثار‬


‫والفتوة والصفح عنهم والقيام معهم بشرط اخلدمة‪ ،‬ال يرى لنفسه على أحد‬
‫يقصر يف القيام‬
‫حقا‪ ،‬وال يطالب أحدا حبق‪ ،‬ويرى لكل أحد عليه حقا‪ ،‬وال ِّ‬
‫حبقهم (‪ ،)...‬ويكون معهم أبداً على نفسه‪ ،‬ويتأول هلم ويعذرهم‪ ،‬ويرتك‬
‫ومشادهتم‪ ،‬ويتعامى عن عيوهبم‪ )...( ،‬وينبغي‬
‫َّ‬ ‫خمالفتهم ومنافرهتم وجمادلتهم‬
‫‪4‬‬
‫أن حيفظ أبدا قلوب اإلخوان (‪ )...‬فال ينطوي ألحد منهم على حقد"‪.‬‬
‫حفظ القلوب وخمالقة اإلخوان وسائر من له علينا حق من العباد باألخالق‬

‫‪ 1‬الصف‪4 ،‬‬
‫‪ 2‬اجملادلة‪22 ،‬‬
‫‪ 3‬الربهان املؤيد ص ‪.75‬‬
‫‪ 4‬الغنية ج ‪ 2‬ص ‪.169‬‬

‫‪252‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلميانية ركن أساسي من أركان بناء اجلماعة وبناء اجملتمع اإلسالمي وبناء األمة‬
‫مجيعا‪ .‬وقد مجعت من شعب اإلميان حتت خصلة "الصحبة واجلماعة" إحدى‬
‫عشرة شعبة يكون جمموعها نسيجا ألخوة يف اهلل‪ ،‬ورداء يدخل يف كنف رمحته‬
‫القاصي والداين من األمة‪ .‬إن شاء اهلل‪ .‬تتسلسل هذه الشعب اإلميانية اليت‬
‫حيافظ على حياهتا تعاطف أعضاء اجلماعة حتت نظر ربانية القيادة وكماهلا‬
‫كما يلي‪ :‬حمبة اهلل ورسوله‪ ،‬احلب يف اهلل عز وجل‪ ،‬صحبة املؤمنني وإكرامهم‪،‬‬
‫التأسي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ُخلُ ِقه‪ ،‬التأسي برسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يف بيته‪ ،‬اإلحسان إىل الوالدين وذوي الرحم والصديق‪ ،‬الزواج بآدابه‬
‫القوامة واحلافظية يف عالقة الزوجني‪ ،‬إكرام اجلار والضيف‪،‬‬ ‫اإلسالمية وحقوقه‪ِ ،‬‬
‫رعاية حقوق املسلمني واإلصالح بني الناس‪ ،‬الرب وحسن اخللق‪.‬‬
‫هذه الشعب من شعب اإلميان‪ ،‬وسائر شعب اإلميان البضع والسبعون‪،‬‬
‫ركائز سلوكية ال ميكن لطامح يف مقامات اإلحسان وسلوك طريق العرفان أن‬
‫يتجاوزها أو أن يتنكبها‪ ،‬وإال كان كمن يبين على غري أساس‪ .‬إن كان القوم يف‬
‫ماضي االنزواء واالنطواء قعدوا أحالساً يف بيوهتم وزواياهم وتكاياهم خفيفي‬
‫احلاذ ال حقوق عليهم ألهل وال ولد وال جار وال إلصالح بني العامة واجلمهور‪،‬‬
‫فإن جند اهلل القادمني على اخلالفة الثانية مجاعة‪ ،‬القادمني على رهبم فرادى يف‬
‫دار الكرامة‪ ،‬ال مناص هلم من اقتحام العقبة النفسية األخالقية االجتماعية‪،‬‬
‫خيالطون الناس ألن "املؤمن الذي خيالط الناس ويصرب على أذاهم خري من‬
‫املؤمن الذي ال خيالط الناس وال يصرب على أذاهم" كما جاء يف احلديث‪،‬‬
‫ويبلغون الدعوة للناس‪ ،‬وأبلغ الدعوة أن يكونوا منوذجاً صاحلا يسعى على قدميه‬
‫يف اجملتمع‪ ،‬يُعلن باملثال واالقتناع واللزوم عن أخالق اإلميان‪ ،‬وجدية املؤمنني‪،‬‬
‫وصدقهم‪ ،‬ولني جانبهم‪ ،‬ودماثة أخالقهم‪ ،‬وأدائهم للحقوق‪ ،‬وزيادهتم اإلحسا َن‬

‫‪253‬‬
‫اإلحسان‬

‫ع على النِّصاب الواجب شرعا‪ .‬آللِ ُئ أخالقية ما أهباها‬ ‫الفتوةَ والتَطَُّو َ‬


‫واخلدمةَ و َّ‬
‫وأقواها إن انسلكت يف سلك حب املؤمنني بعضهم بعضا يف اهلل!‬
‫حمب َس َّهده فراق أ ِوّدائِه يف اهلل‪:‬‬‫قال ٌّ‬
‫عـذل احملـب يزي ـ ــد يف إغـ ـ ـ ـرائـ ـ ـ ــه‬ ‫ال تـَْل َحـه إن كـنت من مس ـرائ ـ ـ ــه ‬
‫ما شــاء فهــو مسلِّــم لقضـائ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ودع اهلوى يقضي عليه حبكمـه ‬
‫ـني شقــائـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫ونعيمــه يف ذاك ع ُ‬‫ُ‬ ‫ـاؤه فيم ــا ت ـ ـ ـ ـ ـراه نـعيـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه ‬
‫فشق ـ ُ‬
‫ِ‬
‫نت أضــالع ـ ــه على بـَُرحــائـ ـ ــه‬ ‫ِ‬
‫وح ْ‬
‫َ‬ ‫ـت مـآقيـه بطــول ُس َه ـ ــاده ‬ ‫ُكحل ْ‬
‫وقال الذاكر إلخوانه احلافظ لعهدهم‪:‬‬
‫يل باملـغ ــارب إخـ ـوان وأخـ ـ ــدان با َن العـزاء وقليب يـوم ُهـم بانـ ـ ـوا‬
‫أنا الذي نـاء جسمـي عن ديـارهم لكنهم يف ف ـؤادي حيثمــا كـانـوا‬
‫ب لـه من دهــره شـ ـ ــان‬ ‫شأين من الدهر تَ ْذكـاري جمل ـ ــده ُـم وكــل َ‬
‫ص ٍّ‬
‫وقال املشتاق إىل أحبابه يف اهلل‪ ،‬الراجي لقاءهم‪ ،‬اخلائف اليائس‪:‬‬
‫أدال الشوق يأسي من رجـائي وأوحش ما عهـدت من العـ ـ ـزاء‬
‫وأوالنـي التصبُّـ ُـر مـثلمـ ـ ــا قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ألفـت من ال ِوصـال من اجلفـ ـ ــاء‬
‫كأن الدهر غيـظ من ابتسامي فأبْـ ِـدلَـنِي ِـه ُمتَ ِّ‬
‫ـص ـ ـ ـ ـ َـل البك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء‬
‫وقلت مجع اهلل مشلي بأحبائي دنيا وأخرى‪:‬‬

‫دار البَـ ـ ــال مل نستَم ـ ــع لِندا َك ـ ـ ـ ــا‬ ‫ـت بنـا ُ‬ ‫ـف بِنا اللهم قد ضاقـ ْ‬ ‫الطـُ ْ‬
‫ِتن ــا عـن املنه ـ ــاج يف َغ َفـ ــالتِـ ـ ـ ــنَـا مل نَست ـعـ ـ َّـد بطـ ـ ــاع ـ ـ ٍـة لِلقاكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫ـان من نـُْعماك ــا‬ ‫فامنُـ ــن ِخب ـ ـالَّن تُنِيـ ــر ط ـ ـريقه ـ ـ ـ ـم بِلو ِامـ ـ ـ ِع اإلحس ـ ِ‬
‫ُ‬

‫‪254‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الذكر‬
‫ولذكر اهلل أكبر‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫تجديد اإليمان بقول ال إله إال اهلل‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الم َف ِّردون‬
‫سبق ُ‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الذكر‬ ‫ِحلَق ِّ‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الدعاء‬ ‫‪ ‬‬
‫األوراد وخصائص األذكار‬ ‫‪ ‬‬
‫التفكر‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الحزن ومحاسبة النفس‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫ذكر الموت والدار اآلخرة‬ ‫‪ ‬‬
‫االعتصام بالكتاب والسنة‬ ‫‪ ‬‬
‫شعب اإليمان‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫ ‬
‫اإلحسان‬

‫ولذكر اهلل أكبر‬

‫ب ا ْغ ِف ْر َو ْار َح ْم َوأ َ‬
‫َنت َخيـُْر‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين أسألك من اخلريكلِّه عاجله وآجله ما علمت‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الراحم َ‬
‫منه وما مل أعلم‪ .‬وأعوذ بك من الشركله عاجله وآجله ما علمت منه‬
‫وما مل أعلم‪ .‬وأسألك اجلنة وما قرب إليها من قول وعمل‪ .‬وأعوذ بك‬
‫من النار وما قرب إليها من قول وعمل‪ .‬وأسألك من خري ما سألك‬
‫منه عبدك ورسولك حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وأعوذ بك من شر ما‬
‫استعـاذ بك منه عبدك ورسولك حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وأسألك‬
‫ما قضيت يل من أمر أن جتعل عاقبته رشدا‪.‬‬

‫﴿قَ ْد َكا َن لَ ُكم فِي رس ِ ِ‬


‫ُس َوةٌ‬‫ول اللَّه أ ْ‬ ‫ْ َُ‬ ‫قال اهلل عز وجل يف حمكم كتابه‪َ :‬‬
‫سنَةٌ لِّ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْوَم ْال ِخ َر َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾‪ 1.‬وقال عز‬ ‫َح َ‬
‫اب َوأَقِ ِم‬ ‫ك ِمن ال ِ‬ ‫ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫من قائل خياطب حبيبه ومصطفاه‪﴿ :‬اتْ ُل َما أُوح َي إِلَْي َ َ‬
‫شاء َوال ُْمن َك ِر َولَ ِذ ْك ُر اللَّ ِه أَ ْكبـَُر َواللَّهُ‬ ‫الص َل َة إِ َّن َّ‬
‫الص َل َة تـَنـَْهى َع ِن الْ َف ْح َ‬ ‫َّ‬
‫آمنُواْ َوتَط َْمئِ ُّن قـُلُوبـُُهم‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬ ‫صنـَعُو َن﴾‪ .‬وقال له العزة واملنة‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫يـَْعلَ ُم َما تَ ْ‬
‫‪2‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫بِذ ْك ِر اللّه أَالَ بِذ ْك ِر اللّه تَط َْمئ ُّن الْ ُقلُ ُ‬
‫وب﴾‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ 1‬األحزاب‪21 ،‬‬
‫‪ 2‬العنكبوت‪45 ،‬‬
‫‪ 3‬الرعد‪28 ،‬‬

‫‪257‬‬
‫اإلحسان‬

‫يفصل لنا مكانة الذكر يرفعنا إىل مقام التأسي برسول اهلل‬ ‫يف ثالث آيات ّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومكانـَتَهُ يف عباداتنا‪ ،‬وأثره يف قلوبنا‪ .‬من ال يذكر اهلل‬
‫ُسوةَ له برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ال يقدر على التأسي‪ ،‬وهو‬ ‫كثريا ال أ َ‬
‫االستناد واالتباع‪ ،‬مل يؤهل له‪ .‬من ال يذكر اهلل يف صالته وإذا تال القرآن فال‬
‫تالوة له وال صالة‪ .‬له صورة الصالة وأركاهنا البدنية‪ ،‬لكن ذكر اهلل‪ ،‬وهو األمر‬
‫األكرب واألعظم الذي من أجله شرعت العبادات‪ ،‬فاته ففاته لب العبادة‪ .‬من‬
‫صفات املؤمنني االطمنئان للذكر واالطمئنان بالذكر‪ ،‬فمن ال طمأنينة له بذكر‬
‫اهلل ال يستكمل صفات اإلميان‪.‬‬
‫لنا يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسوة إن حتققت فينا ثالثة شروط‪:‬‬
‫رجاء اهلل‪ ،‬ورجاء اآلخرة‪ ،‬وذكر اهلل الكثري‪ .‬يف كلمة (رجاء) معىن االنتظار‪.‬‬
‫فاملتأسون برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هم املقبلون على اهلل تعاىل‪،‬‬
‫املنتظرون لقاءه‪ ،‬الراجون مغفرته‪ ،‬اشتغلوا بذكره آناء الليل وأطراف النهار‪،‬‬
‫يسبحونه وميجدونه‪ ،‬عن الدنيا اهلامجة عليهم من كل املنافذ‪ ،‬تُغريهم وتدعوهم‬
‫لريتوا يف أحضاهنا‪.‬‬
‫َ‬
‫جاءت هذه اآلية الشريفة يف سورة األحزاب‪ ،‬يف سياق وصف اهلل عز‬
‫وجل ملوقف الرسول الكرمي‪ ،‬وموقف املؤمنني‪ ،‬وموقف املنافقني والذين يف‬
‫ذكر اهلل يف سعة العافية وأمن املسجد واخللوة ذكر عظيم لكن‬ ‫قلوهبم مرض‪ُ .‬‬
‫ذكر أكرب‬
‫العدو حميط‪ ،‬واخلوف سار يف األفئدة‪ٌ ،‬‬ ‫ذكر اهلل يف ساحة الوغى‪ ،‬و ُّ‬
‫ألن الذاكر هلل املوقن به‪ ،‬بنصره أو لقائه كالمها مطلب حسن بل أحسن‪،‬‬
‫يصدر عن إميان أقوى من املصلي التايل الذاك ِر يف املسجد واخللوة‪ .‬وهذا ال‬
‫يقدر عليه إال الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ومن تأسى هبم‪ ،‬واستند إليهم‬
‫بالصحبة واملالزمة والطاعة واالتباع والوفاء بالبيعة اجلهادية‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال اهلل تعاىل يذكر املؤمنني مبا حل هبم يوم األحزاب‪﴿ :‬إإِ ْذ َجا ُؤوُكم‬
‫اج َر‬‫ت الْ ُقلُوب الْحنَ ِ‬
‫ُ َ‬
‫ت ْالَبْصار وبـلَغَ ِ‬
‫َ ُ ََ‬ ‫َس َف َل ِمن ُك ْم َوإِ ْذ َزاغَ ْ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِّمن فـَْوق ُك ْم َوم ْن أ ْ‬
‫‪1‬‬
‫ك ابـْتُلِ َي ال ُْم ْؤِمنُو َن َوُزلْ ِزلُوا ِزل َْزاالً َش ِديداً﴾‪.‬‬ ‫َوتَظُنُّو َن بِاللَّ ِه الظُّنُونَا ُهنَالِ َ‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿وإِ ْذ يـَُق ُ‬
‫ول ال ُْمنَاف ُقو َن َوالذ َ‬ ‫وهلَع وخوف‪ .‬قال سبحانه‪َ :‬‬ ‫ابتالء شديد َ‬
‫ض َّما َو َع َدنَا اللَّهُ َوَر ُسولُهُ إَِّل غُ ُروراً َوإِ ْذ قَالَت طَّائَِفةٌ ِّمنـْ ُه ْم‬ ‫فِي قـُلُوبِ ِهم َّم َر ٌ‬
‫ام لَ ُك ْم فَ ْارِجعُوا َويَ ْستَأ ِْذ ُن فَ ِري ٌق ِّمنـْ ُه ُم النَّبِ َّي يـَُقولُو َن إِ َّن‬
‫ب َل ُم َق َ‬ ‫يَا أ َْه َل يـَثْ ِر َ‬
‫‪2‬‬
‫بـُيُوتـَنَا َع ْوَرةٌ َوَما ِه َي بِ َع ْوَرٍة إِن يُ ِري ُدو َن إَِّل فِ َراراً﴾‪.‬‬
‫املخذلون يف قلوهبم مرض‪ ،‬مل تطمئن‬ ‫هؤالء املنافقون املتخاذلون املتهالكون ِّ‬
‫قلوهبم بذكر اهلل‪ .‬يف هذا املوقف الذي بلغت فيه قلوب أهل اإلميان احلناجر‬
‫لِما يرون من أهوال‪ ،‬ولِما دب إليهم بالصحبة والرفقة من داء املنافقني مرضى‬
‫القلوب‪ ،‬قُساهتا من قلة ذكر اهلل‪ ،‬جاءت اآلية الشريفة تأمر املؤمنني باالستناد‬
‫إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الثابت يف موقفه‪ ،‬املوقن بربّه‪ ،‬املويف بعهده‪.‬‬
‫﴿ل يـَُولُّو َن ْالَ ْدبَ َار َوَكا َن َع ْه ُد‬ ‫كان املنافقون عاهدوا اهلل قبل املعركة َ‬
‫جد اجلد فروا‪ ،‬والتمسوا األعذار عند رسول اهلل صلى‬ ‫اللَّ ِه َم ْس ُؤوالً﴾‪ 3.‬فلما َّ‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬واهتموا اهلل ورسوله بأن اهلل ورسوله ما وعداهم إال غرورا‪ .‬خواء‬
‫مم خربة‪َ ،‬غ ْدٌر‪ ،‬سلوك اهنزامي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يف القلوب‪ ،‬ذ ٌ‬
‫يف مقابل هؤالء الغافلني عن اهلل صورة الوفاء املطلق الذي وفاه رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم مليثاقه العظيم الذي أخذه اهلل على أنبيائه عليهم الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬محَّلهم به أمانة الصدق ليكونوا مرجعا ومالذا ومنوذجا ثابتا للحق‬

‫‪ 1‬األحزاب‪10-11 ،‬‬
‫‪ 2‬األحزاب‪12-13 ،‬‬
‫‪ 3‬األحزاب‪12 ،‬‬

‫‪259‬‬
‫اإلحسان‬

‫ِ ِ‬
‫﴿إِ ْذ أَ َخ ْذنَا م َن النَّبيِّ َ‬
‫ين‬ ‫واإلميان واجلهاد‪ .‬قال اهلل تعاىل بني يدي قصة األحزاب‪َ :‬‬
‫يسى ابْ ِن َم ْريَ َم َوأَ َخ ْذنَا ِمنـْ ُهم‬ ‫ِ‬
‫وسى َوع َ‬ ‫يم َوُم َ‬
‫نك وِمن نُّ ٍ ِ ِ‬
‫وح َوإبـَْراه َ‬
‫ِ‬
‫ميثَاقـَُه ْم َوم َ َ‬
‫ِ‬
‫ين َع َذاباً أَلِيماً﴾‪.1‬‬ ‫ص ْدقِ ِهم وأ َ ِ ِ‬
‫َع َّد ل ْل َكاف ِر َ‬ ‫َْ‬
‫الص ِادقِين َعن ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِّميثَاقاً غَليظاً ليَ ْسأ ََل َّ َ‬
‫أمامنا ثالث ركائز لإلميان‪ :‬رسول من اهلل هو األسوة‪ ،‬وذكر اهلل هو‬
‫الزاد‪ ،‬والصدق املسؤول وفاء بامليثاق مع اهلل عز وجل‪.‬‬
‫أ ُِخ َذ على النبيئني عليهم الصالة والسالم ميثاق خاص‪ ،‬وأخذ على عامة‬
‫الر ُسل وتأسى‪،‬‬
‫بين آدم ميثاق الفطرة‪ .‬فمن وصل حبله حببل النبوءة‪ ،‬وصحب ُّ‬
‫أو صحب من صحب من صحب وتأسى‪ ،‬امتَ َّد إىل فطرته النائمة عن ميثاقها‬
‫َدفْ ٌق من احلياة اإلميانية‪ ،‬وشع فيها ضوء إحساين من مشكاة امليثاق النبوي‬
‫الغليظ‪ ،‬واكتسب من جاء برأمسال صدق مزيداً من الصدق‪.‬‬
‫على هذا األساس الفطري من جانبك‪ ،‬النبوي من جانب املصحوب‬
‫األسوة عليه الصالة والسالم‪ ،‬تنبين الشخصية اإلميانية اإلحسانية بذكر اهلل‪ .‬كل‬
‫العبادات شرعت لذكر اهلل‪ .‬كل األعضاء الظاهرة والباطنة منتدبة لذكر اهلل‪ .‬ذكر‬
‫القلب‪ ،‬أعظمها‪ ،‬مث ذكر اللسان‪ ،‬مث ذكر األعضاء عندما تتكيف بكيفيات‬
‫هنار الصوم‪ ،‬أو تطوف وتسعى وتقف وترمي يف نسك احلج‪.‬‬ ‫الصالة‪ ،‬أو تُْسك َ‬
‫ذكر اهلل به يتقدس الكيان القليب لل مؤمن‪ ،‬ويكون التقديس أعظم إن‬
‫أدوم‪ .‬ويكون ذكر اهلل أعظم إن كانت دواعي الغفلة وأزمة املوقف‬
‫كان ذكر اهلل َ‬
‫أشدَّ‪ .‬وهبذا يكون الذكر يف اجلهاد‪ ،‬الذكر عندما خياف الناس ويزدمحون على‬
‫خمارج األمان ومهارب اجلنب‪ ،‬أكرب الذكر‪.‬‬

‫األحزاب‪7-8 ،‬‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪260‬‬
‫اإلحسان‬

‫يدلنا اهلل تعاىل على أن كل العبادات تتضمن الذكر‪ ،‬وقد قرأنا آية الذكر‬
‫﴿ولِتُ ْك ِملُواْ ال ِْع َّد َة َولِتُ َكبـُِّرواْ اللّهَ َعلَى‬
‫يف التالوة والصالة‪ ،‬فيقول عن الصيام‪َ :‬‬
‫َما َه َدا ُك ْم َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن﴾‪ 1.‬ويف احلج‪ ،‬قبله وأثناءه وبعده يقول عز من‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫قائل‪َ﴿ :‬إِ َذا أَفَ ْ‬
‫ْح َر ِام َواذْ ُك ُروهُ‬
‫ضتُم ِّم ْن َع َرفَات فَاذْ ُك ُرواْ اللّهَ عن َد ال َْم ْش َع ِر ال َ‬
‫ث أَفَ َ‬
‫اض‬ ‫ضواْ ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ين ثُ َّم أَفِي ُ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َك َما َه َدا ُك ْم َوإِن ُكنتُم ِّمن قـَْبله لَم َن الضَّآلِّ َ‬
‫ضيتُم َّمنَ ِ‬ ‫النَّاس واستـغْ ِفرواْ اللّه إِ َّن اللّه غَ ُف ِ‬
‫اس َك ُك ْم فَاذْ ُك ُرواْ‬ ‫يم فَِإ َذا قَ َ ْ‬ ‫ور َّرح ٌ‬
‫َ ٌ‬ ‫ُ َ َْ ُ َ‬
‫اللّهَ َك ِذ ْك ِرُك ْم آبَاء ُك ْم أ َْو أَ َش َّد ذ ْكراً﴾ إىل أن قال سبحانه‪﴿ :‬واذكروا اهلل في‬
‫ِ‬
‫أيام معدودات﴾‪ 2.‬واحلج جهاد من أشرف اجلهاد‪ ،‬كله للذكر وبالذكر‪ .‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه أبو داود والرتمذي عن أم املؤمنني‬
‫عائشة رضي اهلل عنها‪" :‬إمنا جعل الطواف بالبيت وبني الصفا واملروة‪ ،‬ورمي‬
‫اجلمرات إلقامة ذكر اهلل"‪.‬‬
‫ويف ختم صالة اجلمعة وهي مشهد عظيم من مشاهد األمة‪ ،‬ال أعظم يف‬
‫الص َلةُ فَانتَ ِش ُروا‬
‫ت َّ‬ ‫ضي ِ‬ ‫ِ‬
‫حشدها إال حشد اجلهاد‪ ،‬ذكر‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ﴿ :‬إِ َذا قُ َ‬
‫ِ‬
‫‪3‬‬
‫ض َوابـْتـَغُوا ِمن فَ ْ‬
‫ض ِل اللَّ ِه َواذْ ُك ُروا اللَّهَ َكثِيراً لَّ َعلَّ ُك ْم تـُْفلِ ُحو َن﴾‪.‬‬ ‫فِي ْال َْر ِ‬
‫منشور الوالية"‪ .‬كلمة‬ ‫َ‬ ‫يقول السادة الصوفية‪" :‬من أويت الذكر فقد أويت‬
‫منشور معناها يف ذلك الزمان الوثيقة اليت تتضمن قرار السلطان بتعيني فرد يف‬
‫مرتبة تشريفية ما‪.‬‬
‫مستقبل الذاكرين اهللكثريا‬
‫ُ‬ ‫حنن نسأل اهلل القوي العزيز احلنان املنان أن يكون‬
‫يف ساحات اجلهاد بكل وجوه اجلهاد‪ ،‬تأسيا باألسوة العظمى صلى اهلل عليه‬

‫‪ 1‬البقرة‪185 ،‬‬
‫‪ 2‬البقرة‪198-200 ،‬‬
‫‪ 3‬اجلمعة‪10 ،‬‬

‫‪261‬‬
‫اإلحسان‬

‫وسلم ومبن معه‪ ،‬جتاوزا لعصور الذكر يف قعر التكايا وأمن اخللوات‪ .‬ونسأله‬
‫بعدنا سلوكا جهاديا يكون لألعضاء فيه ذكرها بأنواع‬ ‫سلوك من َ‬ ‫أن يكون ُ‬
‫ذكرها عندما تتقدم مقتحمة عقبات‬ ‫ذكره وللسان‪ ،‬وللروح ُ‬
‫العبادات‪ ،‬وللقلب ُ‬
‫اخلوف والتخاذل فداءً لدين اهلل‪ ،‬وخدمة لرتاث رسول اهلل‪ ،‬وبناءً ألمة رسول‬
‫اهلل‪ ،‬وتشييدا للخالفة الثانية على منهاج رسول اهلل‪.‬‬
‫مث بعد الدعاء نقرأ هذه الصفحة املشرقة من نثر شيخ اإلسالم ابن القيم‬
‫قال‪" :‬الذكر منشور الوالية الذي من أعطيه اتصل‪ ،‬ومن ُمنِ َعه عُ ِزل‪ .‬وهو قوت‬
‫قلوب القوم اليت مىت فارقها صارت األجساد هلا قبورا‪ ،‬وعمارةُ ديارهم اليت إذا‬
‫تعطلت عنه صارت بُوراً‪ .‬وهو سالحهم الذي به يقاتلون قطّاع الطريق‪ ،‬وماؤهم‬
‫الذي يطفئون به التهاب احلريق‪ ،‬ودواء أسقامهم الذي مىت فارقهم انتكست‬
‫فيهم القلوب‪ ،‬والسبب الواصل والعالقة اليت كانت بينهم وبني عالم الغيوب‪.‬‬
‫فنرتك الذكر أحيانا فنْن ِ‬
‫تكس‬ ‫إذا مرضنا تداوين ــا بذكركـ ـ ــم ‬
‫به يستدفعون اآلفات‪ ،‬ويستكشفون الكربات‪ ،‬وهتون عليهم به املصيبات‪.‬‬
‫إذا أضلهم البالء فهو َم ْل َج ُؤهم‪ ،‬وإذا نزلت هبم النوازل فإليه مفزعهم‪)...( .‬‬
‫"يفكل جارحة من اجلوارح عبودية مؤقتة‪ ،‬والذكر عبودية القلب واللسان‪،‬‬
‫وهي غري مؤقتة‪ .‬بل هم يؤمرون بذكر معبودهم وحمبوهبم على كل حال‪ :‬قياما‬
‫بور‬
‫وقعودا وعلى جنوهبم‪ .‬فكما أن اجلنة قيعا ٌن وهو غراسها‪ ،‬فكذلك القلوب ٌ‬
‫خراب وهو عمارهتا وأساسها‪ .‬وهو جالء القلوب ودواؤها إذا غشيها اعتالهلا‪،‬‬
‫وكلما زاد الذاكر يف الذكر استغراقا‪ ،‬زاد املذكور حمبة إىل لقائه واشتياقا(‪.")...‬‬
‫الوقْ ُـر عن السماع‪ ،‬والبَ َك ُم عن األلسن‪ ،‬وتنقشع ظلمة األبصار‪.‬‬
‫"به يزول َ‬
‫زيّن اهلل به ألسنة الذاكرين‪ ،‬كما زين بالنور أبصار الناظرين‪ .‬فاللسان الغافل‬
‫الصماء‪ ،‬واليد الشالء"‪.‬‬
‫كالعني العمياء‪ ،‬واألذن ّ‬
‫‪262‬‬
‫اإلحسان‬

‫قلت‪ :‬هنيئا هلذا الشباب الصاعد يف حركة الصحوة اإلسالمية‪ ،‬يكون‬ ‫ُ‬
‫أجيال حتابت يف اهلل فاستحقت أن تكون حتت ظل‬ ‫ٌ‬ ‫منهم إن شاء اهلل‬
‫اهلل‪ ،‬ويكون منهم من يذكر اهلل خاليا فتفيض عيناه فيستحق ذلك الظل‬
‫الكرمي مرتني‪ .‬نسأل اهلل العظيم الكرمي أن تتألف منهم كتائب تذكر اهلل كثريا‬
‫يف معمعان اجلهاد‪ ،‬ويكون هلا التأسي الكامل‪ ،‬واألسوة احلسنة‪ ،‬والسلوك‬
‫املتَسامي إىل مقامات فاز هبا الصحب الكرام هلادي األنام‪.‬‬
‫ُ‬
‫قال الذاكر املقاتل للهوى والشيطان بني يدي الردى‪:‬‬
‫َج ـ ُّـل ما فـاهت بــه األف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه‬ ‫طيـب بذكــر اهلل فـاك فـإنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه أل َ‬
‫ يسي ويصبح يف ظــالم ه ـ ـ ـ ـواه‬ ‫ُ‬ ‫طفئت مصابيح العقــول فكلنا‬
‫َّع علمـا لـو استخب ـرت ـه لوجـدت أكثــر علمــه دعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه‬ ‫كم مـد ٍ‬
‫ما للفىت ال يرعــوي وصبـاح ـ ـه ومسـ ــاؤه يـعظ ــانـ ـ ــه بس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه‬
‫تلقـاه تـيّـاها علـى مــن دون ـ ـ ـ ـ ـ ـه ولس ــوف يعطشــه الـ ـ ــذي أرواه‬
‫عاقل فتعجبـ ـ ـوا من عـاقــل مسـتـعـ ــذب بلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواهُ‬ ‫والعيش بـَْلوى ٍ‬
‫نقصـت على مقـدار ذاك قُـ ـواه‬ ‫إن زيد يـوم واحـد فـي عم ـ ـ ــره ‬
‫وكأنـه واملــوت سـدد سهم ـ ـ ـ ـ ــه فأصاب َمـ ْقـتَـلَـه ومـا أخ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاه‬
‫الردى فط ـواه‬ ‫ـدى فإذا انقضى جاء َّ‬ ‫نشـ ُـر كالرداء إىل م ً‬ ‫واملرء يُ َ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫ِ‬
‫والغ ــافل ـ ــو َن تع ـلَّق ـ ـ ـ ـوا بِسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواهُ‬ ‫ـابت بِذكـ ــر اهلل أيَّـ ـ ـ ٌ‬
‫ـام لَن ـ ـ ـ ـ ـ ــا ‬ ‫طَ ْ‬
‫غف ـ ُـل يف ظـ ــالم ه ـ ـ ـ ـواهُ‬ ‫وثـََوى املـُ َّ‬ ‫قال َريْن قُلوبنـ ـ ـ ــا ‬ ‫ذكر اإلله ِص ُ‬ ‫ُ‬
‫وفجوِره جـ ـ ـ ـ ــاءَ الـ ـ َّـردى فطـ ـ ـ ـ َـواهُ‬ ‫بـَْيـنـ ــا تَـ ـراه يُصـ ُّـر يف ل ـ ـ َّـذات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ‬

‫‪263‬‬
‫اإلحسان‬

‫تجديد اإليمان بقول ال إله إال اهلل‬

‫ب إِ َّن قـَْوِمي اتَّ َخ ُذوا‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬يَا َر ِّ‬
‫َه َذا الْ ُق ْرآ َن َم ْه ُجوراً﴾‪ .‬اللهم إنا نسألك من خري ما سألك‬
‫منه حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ونعوذ بك من شر ما استعاذ‬
‫منه حممد صلى اهلل عليه وسلم وأنت املستعان‪ ،‬وعليك البالغ‪،‬‬
‫وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬

‫قرأنا يف الفقرة الفارطة عن ميثاق النبيني الغليظ الصادق الوثيق‪ ،‬وعن‬


‫عهدهم‪ ،‬ويهدرون‬
‫ميثاق الفطرة العام يف بين آدم كيف يضعف فيخون املنافقون َ‬
‫مسؤوليتهم‪ ،‬ويرجتف املؤمنون خوفاً وتزيغ منهم األبصار‪ .‬وقرأناكيف يكون ذكر‬
‫اهلل الكثري رابطة موثقة لرباط الصحبة واألسوة‪ .‬فهل بعد عهد النبوءة نصيب‬
‫من ذلك الصدق الرسايل الذي أنيط به وبذكر اهلل مصري املؤمنني يف املواقف‬
‫احلرجة؟ هل بقيت فضلة من تلك املائدة احملمدية يَِرد عليها املؤمنون يف عصر‬
‫اخلالفة الثانية ويتغذون عليها كما تغذوا يف عصر اخلالفة األوىل ؟ هل فين الدين‬
‫العتيد أم لألمر فيه جتديد؟‬
‫يبلى اإلميان يف القلوب‪ ،‬وتضعف ربْطة امليثاق الفطري الذي أخذه ربنا‬
‫جل وعال على بين آدم يوم "ألست بربكم؟"‪ ،‬وينقص مبخالطة الغافلني عن ذكر‬
‫اهلل ومعاشرة ااملنافقني الذين ال يذكرون اهلل إال قليال مذبذبني‪ .‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن اإلميان خيلُق (أي يـَْبلى) كما خيلُق الثوب‪ ،‬فجددوا‬

‫‪264‬‬
‫اإلحسان‬

‫إميانكم"‪ .‬ويف رواية‪" :‬إن اإلميان ليخلُق يف جوف أحدكم كما خيلق الثوب‪،‬‬
‫فاسألوا اهلل تعاىل أن جيدد اإلميان يف قلوبكم"‪ .‬رواه اإلمام أمحد والطرباين يف‬
‫الكبري واحلاكم‪ ،‬وأشار السيوطي حلسنه‪.‬‬
‫رأينا كيف ضعف إميان أهل اإلميان يف املوقف القتايل يف غزوة األحزاب‬
‫ملا خالطهم املنافقون املرتددون الشامتون املرتبصون‪ .‬ونقرأ عن الصحابة رضي‬
‫احلرج ِة‪ ،‬يشعرون بنقص يف إمياهنم جملرد‬
‫اهلل عنهم فنراهم سائر األيام‪ ،‬غري تلك َ‬
‫خمالطتهم الغافلني يف الفرتات اليت يبتعدون فيها عن صحبة األسوة العظمى العروة‬
‫الوثقى صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬قال حنظلة بن الربيع‪" :‬كنا عند رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فذكر النار‪ .‬مث جئت إىل البيت‪ ،‬فضاحكت الصبيان‪ ،‬والعبت‬
‫املرأة‪ ،‬فخرجت فلقيت أبا بكر‪ ،‬فذكرت ذلك له‪ .‬فقال‪ :‬وأنا قد فعلت مثل ما‬
‫تذكر‪ .‬فلقينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقلت‪ :‬يا رسول اهلل! نافق حنظلة؟‬
‫فقال‪" :‬مه!" فحدثته باحلديث فقال أبو بكر‪ :‬وأنا قد فعلت مثل ما فعل فقال‪:‬‬
‫"يا حنظلة! ساعةً وساعةً! لو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم‬
‫املالئكة حىت تسلم عليكم يف الطرق"‪ .‬رواه مسلم والرتمذي‪.‬‬
‫نقف عند اجلملة األخرية من احلديث يقول فيها املصطفى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬إن حضورهم بني يديه لسماع موعظته ذكر‪ ،‬هنا اندجمت الصحبة‬
‫يف الذكر‪.‬‬
‫وإن هلل عبادا من أوليائه وأحبائه جمرد رؤيتهم تذكر باهلل‪ ،‬فما بالك‬
‫بصحبتهم‪ .‬من ذ َكَرهم ذَ َكر اهلل‪ ،‬ومن ذَ َكر اهلل ذَ َكَرهم‪ .‬عن عمرو بن اجلموح أنه‬
‫مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬ال ُِي ُّق العبد َّ‬
‫حق صريح اإلميان حىت‬
‫حيب هلل تعاىل ويُبغض هلل‪ .‬فإذا أحب هلل تبارك وتعاىل وأبغض هلل تبارك وتعاىل‬
‫إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين‬ ‫فقد استحق الوالء من اهلل‪ .‬و َّ‬

‫‪265‬‬
‫اإلحسان‬

‫يُذكرون بذكري وأُذْ َكُر بذكرهم"‪ .‬رواه اإلمام أمحد يف مسنده‪.‬‬


‫بصحبة هؤالء يتجدد اإلميان إذا خلُق‪ ،‬بربط الصلة التامة الدائمة هبم‪،‬‬
‫ط ما َوَهى من فطرتنا بامليثاق النبوي الغليظ عرب هذه القلوب الطاهرة‬ ‫يرتب ُ‬
‫حب اهلل واحلب هلل‪.‬‬
‫املنورة اليت غمرها ّ‬
‫وإن اهلل عز وجل يبعث من أحبائه يف كل زمان من يستند إليه املؤمنون‬
‫ويتأسون به‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن اهلل يبعث هلذه األمة‬
‫على رأس كل مائة سنة من جيدد هلا دينَها"‪ .‬رواه أبو داود والبيهقي واحلاكم‬
‫بسند صحيح عن أيب هريرة‪.‬‬
‫ويتجدد اإلميان بعامل ثان‪ ،‬أو قل أول‪ ،‬فاألمر مفتول مربوط‪ ،‬هو ذكر‬
‫اهلل تعاىل باللسان والقلب‪ ،‬خاصة بقول ال إله إال اهلل الكلمة الطيبة املطيِّبة‪.‬‬
‫قوهلا كثريا‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه‪" :‬جددوا إميانكم!"‬
‫قيل‪ :‬يا رسول اهلل! وكيف جندد إمياننا؟ قال‪" :‬أكثروا من قول ال إله إال اهلل"‪.‬‬
‫رواه اإلمام أمحد ورجاله ثقات‪ ،‬ورواه الطرباين عن أيب هريرة‪.‬‬
‫قول ال إله إال اهلل أعلى شعب اإلميان وأرفعها‪ .‬روى الشيخان وأمحد‬
‫وأصحاب السنن عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"اإلميان بضع وسبعون شعبة‪ -‬عند البخاري وأمحد بضع وستون‪ -‬فأعالها‪-‬‬
‫يف رواية أمحد فأرفعها وأعالها‪ -‬قول ال إله إال اهلل‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن‬
‫الطريق‪ .‬واحلياء شعبة من اإلميان"‪.‬‬
‫شهادة ٍ‬
‫مقرونة باإلقرار‬ ‫ٍ‬ ‫بشهادة أن ال إله إال اهلل يدخل الكافر إىل اإلسالم‪،‬‬
‫بالرسالة حملمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وبقول ال إله إال اهلل ذكرا لسانيا‬
‫مكثّراً يتجدد اإلميان‪ .‬إىل قول ال إله إال اهلل دعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪266‬‬
‫اإلحسان‬

‫الناس فقال‪" :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا ال إله إال اهلل"‪ .‬وقال لعمه أيب‬
‫ُحاج لك هبا‬
‫طالب وهو على فراش املوت‪" :‬يا عم! قل ال إله إال اهلل‪ ،‬كلمة أ ُّ‬
‫عند اهلل"‪ .‬وقال‪" :‬من كان آخر كالمه ال إله إال اهلل دخل اجلنة"‪.‬‬
‫املطلوب قوهلا‪ ،‬قوال لسانيا‪ ،‬التكلم هبا بكل‬
‫ُ‬ ‫يف كل هذه األحاديث‬
‫سر وكيمياء هبما ينفذ اإلميان إىل القلب‪ .‬فيا‬‫بساطة وفطرية‪ .‬يف لفظها املقدس ّ‬
‫من يكذب اهلل ورسوله يف إخبارمها مبا يُصلح اإلميان وجيدده ويصدق أوهامه!‬
‫أقرأُ يف كتاب ال أحب أن أذكر امسه وال اسم مؤلفه ما يلي‪" :‬اإلميان الذي‬
‫انبث يف‬
‫دعانا إليه القرآن الكرمي هو مثرةُ الدراسة الواعية للكون الكبري‪ ،‬وما َّ‬
‫َحياء"‪ .‬املؤلف عامل أزهري وداعية شهري ذو إنتاج غزير‪ .‬وحيك!‬ ‫ِ‬
‫جوانبه من األ ْ‬
‫يقول املعصوم صلى اهلل عليه وسلم إن اإلميان مثرة قول ال إله إال اهلل وحتيلنا‬
‫أنت على "الدراسة الواعية" للكون الكبري وما فيه من أحياء! وحيك تعظم‬
‫املكون سبحانه!‬
‫الكو َن وتستخف بوحي ِّ‬
‫طامة من الطوام‪ ،‬وتسطيح للدين وهجر للقرآن‬ ‫إن اإلسالم الفكري ّ‬
‫ولِ َدليل القرآن سنة األسوة املقدسة‪ .‬وللفكر يف قضية اإلميان مكان نقاربه يف‬
‫فقرة قريبة إن شاء اهلل‪.‬‬
‫كلمة التوحيد ل ّقنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عمه أبا طالب فأىب‪،‬‬
‫ولقنها أصحابه فقبلوا وفازوا‪ .‬وما يزال السادة الصوفية حيافظون على هذه‬
‫السنة اجمليدة سنة تلقني كلمة ال إله إال اهلل‪ ،‬ويصرخ املسطِّحون‪ :‬يا للبدعة!‬
‫يف الفصل األول من هذا الكتاب قرأناكيف طلب الشوكاين أن يلقنه شيخ‬
‫من الصاحلني الورد النقشبندي‪ .‬قال يعلى بن شداد‪ :‬حدثين أيب شداد بن أوس‪،‬‬
‫وعُبادة بن الصامت حاضر يصدقه‪ ،‬قال‪ :‬كنا عند النيب صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪267‬‬
‫اإلحسان‬

‫فقال‪" :‬هل فيكم غريب؟"‪ ،‬يعين أهل الكتاب فقلنا‪ :‬ال يا رسول اهلل! فأمر بغلق‬
‫الباب وقال‪" :‬ارفعوا أيديكم وقولوا ال إله إال اهلل!" فرفعنا أيدينا ساعة‪ .‬مث وضع‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يده مث قال‪" :‬احلمد هلل‪ .‬اللهم بعثتين هبذه الكلمة‪،‬‬
‫وأمرتين هبا‪ ،‬ووعدتين عليها اجلنة‪ .‬وإنك ال ختلف امليعاد"‪ .‬مث قال‪" :‬أبشروا فإن‬
‫اهلل عز وجل قد غفر لكم"‪ .‬رواه اإلمام أمحد‪.‬‬
‫حوهلا بعض الناس فلسفة‪ .‬ال شك أن‬ ‫كلمةٌ بعث اهلل هبا نبيه لتقال‪َّ ،‬‬
‫معانيها ومقتضياهتا عظيمةٌ عليها مدار صحة العقيدة‪ ،‬ومنها بدايتها‪ .‬لكن ما‬
‫بالنا نُنكر ما أثبتته السنة النبوية بكل إحلاح وتكرار من أهنا حتمل سرا فاعال‪،‬‬
‫يتفجر منها اإلميان بقوهلا وتكرارها؟!‬
‫كلمة هي أفضل الذكر وأعلى شعب اإلميان وأرفعُها‪ ،‬ال يزهد يف‬
‫االستهتار هبا إال حمروم‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال إله إال‬
‫اهلل أفضل الذكر‪ ،‬وهي أفضل احلسنات"‪ .‬رواه أمحد والرتمذي عن جابر‪.‬‬
‫وقال‪" :‬أفضل الذكر ال إله إال اهلل‪ ،‬وأفضل الدعاء احلمد هلل"‪ .‬رواه ابن ماجة‬
‫والنسائي وغريمها وأخرج أمحد عن أيب ذر قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل! أوصين!‬
‫قال‪" :‬إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة متحها"‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل! أمن‬
‫احلسنات ال إله إال اهلل؟ قال‪" :‬هي أفضل احلسنات"‪.‬‬
‫األحاديث يف فضلها كثرية واملصدق لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫نيام! غافلون عن ذكر اهلل!‬
‫نيام ٌ‬
‫تصديقا حرفيا قليل‪ .‬فيا حسرة على العباد! ٌ‬
‫من املائدة النبوية يتناول املوفقون‪ ،‬فيستيقظون ويرتقون‪ .‬قال الشيخ عبد القادر‬
‫ت درجة العبد من اإلسالم إىل اإلميان‪ ،‬من اإلميان‬ ‫قدس اهلل سره العزيز‪" :‬إذا تـََرقَّ ْ‬
‫إىل اإليقان‪ ،‬من اإليقان إىل املعرفة‪ ،‬من املعرفة إىل العلم‪ ،‬من العلم إىل احملبة‪،‬‬

‫‪268‬‬
‫اإلحسان‬

‫من احملبة إىل احملبوبية‪ ،‬من طلبيته إىل مطلوبيته‪ ،‬فحينئذ إذا غفل مل يـُتـَْرْك‪ ،‬وإذا نسي‬
‫ت نَطَق‪ .‬فال يزال‬ ‫ذُ ِّكر‪ ،‬وإذا نام نـُبِّهَ‪ ،‬وإذا غفل أوقظ‪ ،‬وإذا ّ‬
‫ول أقبَل‪ ،‬وإذا َس َك َ‬
‫أبدا مستيقظا صافيا‪ ،‬ألنه قد صفت آنية قلبه‪ .‬يُرى من ظاهرها باطنُها‪ .‬ورث‬
‫اليقظة من نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كانت تنام عينه وال ينام قلبه‪ ،‬وكان يرى‬
‫من ورائه كما يرى من أمامه‪ .‬كل أحد يقظته على قدر حاله‪ .‬فالنيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ال يصل أحد إىل يقظته‪ ،‬وال يقدر أن يشاركه أحد يف خصائصه‪ .‬غري‬
‫أن األبدال واألولياء من ّأمته يردون على بقايا طعامه وشرابه‪ ،‬يُعطون قطرة من‬
‫حبار مقاماته‪ ،‬و َذ َّرة من جبال كراماته‪ ،‬ألهنم وراءَه‪ ،‬املتمسكون بدينه‪ ،‬الناصرون‬
‫له‪ ،‬الدالّون عليه‪ ،‬الناشرون َلعلَم دينه وشرعه‪ .‬عليهم سالم اهلل وحتياتُه‪ ،‬وعلى‬
‫‪1‬‬
‫الوارثني له إىل يوم القيامة"‪.‬‬
‫هؤالء اليقظى حني ينام الناس‪ ،‬الذاكرون حني يغ ُفل الناس‪ ،‬الثابتون‬
‫حني يتزعزع الناس‪ ،‬احلاملون لكلمة التوحيد‪ ،‬القيمون على كنوزها هم مناط‬
‫التجديد‪ .‬اإلكثار من ذكر اهلل على لسان املؤمن الصادق ويف قلبه وعقله‬
‫استمطار لغيثه وجتديد لعهده وميثاقه إذا كان‬
‫ٌ‬ ‫وكيانه كلِّه حتريك حلبل اإلميان و‬
‫صلَةٌ دائمة مع العباد الذين أحبهم اهلل حىت صار ذكره‬ ‫مع الذكر الكثري َو ْ‬
‫ذكرهم‪ ،‬وذكرهم ذكره‪ .‬ال إله إال اهلل‪ ،‬ال إله إال اهلل‪ ،‬ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫أوصى املشايخ العظام بذكر اهلل‪ ،‬باإلكثار من ذكر اهلل‪ ،‬كما أوصوا‬
‫كل الصادقني‪ .‬وما ذاك إال ملعرفتهم أن الذكر منشور الوالية‪ ،‬يف أعلى‬ ‫بالصحبة ّ‬
‫املنشور شعار ال إله إال اهلل‪ .‬قال اإلمام الرفاعي قدس اهلل روحه العزيز‪" :‬عليكم‪ ،‬أي‬
‫الوصل‪ ،‬وحبل القرب‪ .‬من ذكر اهلل طاب‬ ‫سادة!‪ ،‬بذكر اهلل‪ .‬فإن الذكر مغناطيس َ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.184‬‬

‫‪269‬‬
‫اإلحسان‬

‫باهلل‪ ،‬ومن طاب باهلل وصل إىل اهلل‪ِ .‬ذ ْكر اهلل يثبت يف القلب بربكة الصحبة‪ .‬املرء‬
‫‪1‬‬
‫على دين خليله‪ ،‬عليكم بنا! صحبتنا ترياق جمرب‪ ،‬والبعد عنا سم"‪.‬‬
‫"أي سادةُ! قال أهل اهلل رضي اهلل عنهم‪ :‬من ذكر اهلل فهو على‬ ‫وقال‪ْ :‬‬
‫نور من ربه‪ ،‬وعلى طمأنينة من قلبه‪ ،‬وعلى سالمة من عدوه‪ .‬وقالوا ذكر‬
‫تنعم‬
‫اهلل طعام الروح‪ ،‬والثناء عليه تعاىل تُراهبا‪ ،‬واحلياء منه لباسها‪ .‬وقالوا‪ :‬ما َّ‬
‫‪2‬‬
‫املتنعمون مبثل أنسه‪ ،‬وال تلذذ املتلذذون مبثل ذكره"‪.‬‬
‫ذكر اهلل كثريا‪ .‬ومن أدب الذكر صدق‬
‫وقال‪" :‬من حال املؤمن مع اهلل ُ‬
‫العزمية وكمال اخلضوع واالنكسار‪ ،‬واالخنالع عن األطوار‪ ،‬والوقوف على‬
‫التدرع بدرع اجلالل‪ .‬حىت إذا رأى الذاكَِر‬
‫قدم العبودية بالتمكن اخلالص‪ ،‬و ّ‬
‫ِ‬
‫بصدق التجرد عن غريه‪ .‬وكل من رآه هابَه‪،‬‬ ‫رجل كافر أيقن أنه يذكر اهلل‬
‫وسقط من بوارق هيبته على قلب الرائي ما جيعل هشيم خواطره الفاسدة هباء‬
‫منثورا"‪.3‬‬
‫مثل هؤالء الصادقني هم العباد الذين يذكر اهلل بذكرهم‪ .‬ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫قال صادق عزم على شد الرحيل يف طلبهم‪ ،‬غريب يبحث عن غرباء‪:‬‬
‫إن هلـا لـنـب ـ ـأً عجـيـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫دع املطايــا تنـسم اجلَنــوب ـ ـ ـ ـ ــا ‬
‫يشهد أن قد فـارقت حبيبــا‬ ‫حنينُها وما اشتكــت لُغــوبا ‬
‫كــأن بالرمــل هلا ُسقــوبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫تَ ْـرُزم إما استشـرقت كثيـبـ ـ ـ ــا ‬
‫يُ ِس ـ ُّـر ممـ ــا أعلـنَـت حنيـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ ‬
‫ما محلـت إال فتـى كئيـب ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.43‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق ص ‪.47‬‬
‫‪ 3‬املصدر السابق ص ‪.58‬‬

‫‪270‬‬
‫اإلحسان‬

‫يَطُْرقُه ـ ــا إذا انثنت طــروب ـ ـ ـ ــا‬ ‫ُيسي إذا حنَّت هلا جميبـ ـ ـ ـ ــا ‬
‫لو غـادر الش ــوق هلا قُلوبـ ـ ــا‬ ‫إن احلنـني يبعـث النسيـب ـ ـ ـ ــا ‬
‫يب يُسعــد الغـريبـ ـ ـ ـ ــا‬
‫إن الغـر َ‬ ‫إذا آلثــرن بـه ـ ّـن النِّيـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫فَذك ـ ــره يُ ِّ‬


‫صق ـ ـ ــل الق ـلـ ـ ـ ـ ــوبـَ ـ ـ ــا‬ ‫ث اخلُط ــا لِنذ ُك ــر احلبيب ـ ــا‬
‫ ‬ ‫ُح َّ‬
‫واذ ُك ــر غُ ُد ّواً واذ ُكَر ْن غ ُـروبـاً‬ ‫َكلِمـ ـ ـةَ احل ـ ِّـق الت ـ ــزم َدؤوبـَ ـ ــا ‬
‫تَ ُكن َسيعـ ـاً للنِّـ ـ َـدا ُميـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫ ‬‫تَكـ ــن نَبيهـاً ُمسـ ـنـ ـاً لبيب ـ ـ ـ ـاً‬

‫‪271‬‬
‫اإلحسان‬

‫الم َف ِّردون‬
‫سبق ُ‬
‫ب هب لِي ح ْكماً وأَل ِ‬
‫ْح ْقنِي‬ ‫﴿ر ِّ َ ْ ُ َ‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ين ﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من العجز وال َك َسل‪ ،‬واجلنب‬ ‫بِ َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬
‫واهلََرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القرب‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة‬
‫احمليا واملمات‪ ،‬وضلع الدين وغلبة الرجال‪.‬‬

‫نني يضربون يف أرض الفهم دون أن يكون جهاز‬ ‫صنفان من الناس املتديِّ َ‬
‫اح ْي هلم من صحبة األكابر ومن ذكر اهلل‬ ‫الفهم مكتمال لديهم‪ ،‬ال َجنَ َ‬
‫ليحلقوا يف مساء الفهم والعلم‪ .‬صنف يقصد ينابيع الشريعة يستفهم النصوص‬
‫ببضاعة مزجاة من آالت العربية واإلدراك العام ملقاصد الشريعة فـيبتَ ِسر ِ‬
‫ويقتصر‬ ‫ََْ‬
‫ِ‬
‫وجيرد النصوص عن مالبساهتا‪ .‬وصنف يضع بينه وبني اهلل ورسوله وسائ َط‬
‫من عمل من سبقنا باإلميان واإلسالم‪ ،‬من فهمهم‪ ،‬وتقاليدهم‪ ،‬وأخطائهم‪،‬‬
‫يتبن كل ذلك بال متييز‪ ،‬وال معرفة مبا هو التمييز‪ ،‬وما‬ ‫ِ‬
‫ومعاركهم‪ ،‬وخالفاهتم‪ّ ،‬‬
‫حقه‪ ،‬وبدون إحلاق كل فرع بأصله‪ ،‬وبدون معرفة ما‬ ‫هو إعطاء كل ذي حق َّ‬
‫خاصة‪ ،‬وحدود خاصة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يرتتب على تفريع كل قاعدة عن نيَّة خاصة وظروف ّ‬
‫وطوقته بطوق‪ ،‬وأجلمته بلجام‪ ،‬ووجهته‬ ‫خاصا‪َّ ،‬‬
‫ألزمت فهم من سبقنا مساراً ّ‬
‫وجهات قد ال تكون ريح اهلوى أجنبية عنها دائما كما قرأنا من كالم ابن عبد‬
‫فصل سابق‪.‬‬ ‫الرب يف ْ‬
‫جملرد أهنم‬
‫صنف يسمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبشر أصحابه باملغفرة ّ‬
‫رفعوا أيديَهم ساعة يقولون نُطقا فِطريّا تصديقيّاكلمة ال إله إال اهلل‪ ،‬ومع ذلك يأىب‬

‫‪272‬‬
‫اإلحسان‬

‫تسرَد عليه‬
‫إسالمك حىت ُ‬ ‫إال أن جيعل الكلمة الطيبة فلسفة‪ ،‬فال يُسلم لك َ‬
‫حقيقة إسالمك من خالل اخلالف العقائدي الكدر‪ ،‬وحىت تتربأ من اجلَهم‬
‫بن صفوا َن واملعتزلة والقدرية واجلربية‪ ،‬وحىت حتفظ توحيد الربوبية وفرق ما بينه‬
‫علم العقائد أصبح عقدة‪ ،‬والكلمة العالية الطيِّبة اليت بعث‬ ‫وبني توحيد اإلهلية‪ُ .‬‬
‫اهلل عز وجل رسوله صلى اهلل عليه وسلم وأمره هبا ووعده عليها اجلنة كلمة‬
‫منسوخة بفلسفة التوحيد‪ ،‬وعلم الكالم‪ .‬أضابريُ وملفات عثر عليها بعض‬
‫الضرار‪ ،‬تـَبـَنـَّْوا قضاياها‪،‬‬
‫اجلدل واخلالف و ِّ‬‫الضاربني يف أرض الفهم ملؤها الكالم و ُ‬
‫وزحفوا يتأبطوهنا على مواقع املسلمني‪ ،‬يؤججون حروبا يعتربوهنا جهادا من أجل‬
‫حترير العقيدة‪ ،‬ويرفعون إىل عنان السماء أزيز ُمرافعاهتم املتفرقعة‪.‬‬
‫صنف مجدوا على موروث خامد هامد‪ ،‬اقتصروا على كلمة التوحيد‬
‫كل اإلسالم‪.‬‬
‫يرددوهنا يف اخللوات أورادا كثرية‪ ،‬حيسبوهنا هي اإلسالم ُّ‬
‫مع الصنف األول نيّات حربية خيوضها املرء يف ميادين اجلدل لتزدهي نفسه‬
‫باالنتصارات على اخلصوم‪ .‬وذلك من املهلكات اليت وصفها منذ القرن اخلامس‬
‫وقد يندرج يف صفهم‪ ،‬وينتمي إىل حزهبم‬ ‫خري الوصف اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪ُ .‬‬
‫حشود جاءوا يُلبّون نداء حترير العقيدة بغرية على الدين‪ ،‬فال‬
‫ٌ‬ ‫من ُس َّذج الناس‬
‫كل املسلمني خصم‪،‬‬ ‫يلبثون أن يتعلموا بصحبة أهل اجلدل لذة إفحام اخلصم‪ ،‬و ُّ‬
‫ولذة إلزامه باحلجة‪ ،‬ولذة إخراج النص القاتل يف الساعة األخرية‪ .‬وهكذا جتد‬
‫العو َّام وعو َّام العوام يتصدَّون لل ُفْتيا‪ ،‬وما معهم إال بضعة نصوص حفظوا مر ِاج َعها‬
‫وأسانيدها وتعاليق العلماء عليها ممن سبقونا بإسالم أو إميان‪ ،‬خيوضون هبا املعارك‬
‫خاصةً على املسلمني‪.‬‬‫الطاحنة‪ .‬وكأن اإلسالم ما هو رمحة للعاملني‪ ،‬بل نقمة‪َّ ،‬‬
‫ومع الصنف اجلامد على األوراد‪ ،‬القابع يف زوايا االبتعاد‪ ،‬نيات ُمنعكسة‬
‫على الذوات‪ ،‬منكسرة ملا تعرف عن نفسها من السيئات‪ ،‬راجية تطهري النفس من‬

‫‪273‬‬
‫اإلحسان‬

‫الدنيّات‪ .‬إنكان أصحاب األوراد صادقني مصدِّقني فهم مع من رفعوا األيدي مع‬
‫ش ّداد بن أوس وعُبادة بن الصامت على سبب من أسباب املغفرة والفالح‪.‬‬
‫سبب واحد هو ذكر اهلل‪ ،‬وبقيت أسباب أخرى ما للقاعدين على‬ ‫على ٍ‬
‫يضاعف اهلل ملن يشاء ويرحم من يشاء ويرفَ َع من‬
‫َ‬ ‫األوراد منها نصيب إال أن‬
‫يشاء‪ .‬فات أهل األوراد الفضيلةُ اجلامعة للخري كله‪ ،‬فضيلة اجلهاد الذي رفع‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم أعلى الدرجات‪.‬‬
‫كل عمل نقرأه يف القرآن واحلديث قام به رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫إن َّ‬
‫وسلم وصحبه الكرام عمل جهادي‪ .‬كانت حياهتم جهادا متواصال‪ ،‬استغرق‬
‫اجلهاد أمواهلم وأن ُف َسهم وأهليهم ووقتَهم وليلهم وهنارهم‪ ،‬إال فرتات يعافسون فيها‬
‫األموال واألوالد‪ ،‬ويضاحكون فيها األطفال ويالعبون فيها النساء‪ ،‬فيحسبون أن‬
‫قد نافقوا خلروجهم تلك اللحظات عن مألوفهم اجلهادي‪ .‬ويفزعون إىل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما فَ ِزع حنظلة وأبو بكر رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫اع ُدو َن ِم َن‬ ‫كان ذكرهم ذكر جماهدين‪ ،‬فبذلك ﴿الَّ يست ِوي الْ َق ِ‬
‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين غَيـُْر أ ُْولي الض ََّرِر َوال ُْم َجاه ُدو َن في َسبِ ِ‬
‫يل اللّه بِأ َْم َوال ِه ْم َوأَن ُفس ِه ْم‬ ‫ِِ‬
‫ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اه ِد ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َد َر َجةً َوُكـالًّ َو َع َد‬ ‫ين بأ َْم َوال ِه ْم َوأَن ُفس ِه ْم َعلَى الْ َقاعد َ‬
‫َّل اللّهُ ال ُْم َج َ‬ ‫فَض َ‬
‫َجراً َع ِظيماً َدرج ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ات‬ ‫ََ‬ ‫ين َعلَى الْ َقاعد َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ‬ ‫ْح ْسنَى َوفَض َ‬ ‫اللّهُ ال ُ‬
‫‪1‬‬
‫ِّم ْنهُ َوَمغْ ِف َرةً َوَر ْح َمةً َوَكا َن اللّهُ غَ ُفوراً َّرِحيماً﴾‪.‬‬
‫صح عُذر القاعدين عن اجلهاد بعد نُشوب الفتنة‪.‬‬ ‫ذكرنا يف فصل سابقكيف ي ِ‬
‫َ‬
‫ومهّنا يف هذا الكتابكلِّه أن نثبت بُطال َن ذلك العذر يف حق جيلنا وما يتبعه إىل يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وأن نلتمس َمسلكا للتأسي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبأصحابه لنكون‬

‫‪ 1‬النساء‪95-96 ،‬‬

‫‪274‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلخوان الذين بَشَّر هبم احلبيب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وليكون ذكرنا ذكر جماهدين نقرأ الربنامج اجلهادي كله‪ ،‬ومن أهم‬
‫مداخله دوام الذكر‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذات يوم ألصحابه‬
‫وهم يف حركة جهادية‪ ،‬يف سفر جهادي يف طريق مكة‪" :‬سبق املفردون!"‬
‫قالوا وما املفردون يا رسول اهلل؟ قال‪" :‬الذاكرون اهلل كثريا والذاكرات"‪ .‬رواه‬
‫مسلم عن أيب هريرة‪.‬‬
‫كان صلى اهلل عليه وسلم يوم قاهلا قـُْرب جبل ُجدان‪ ،‬مل يكن يف‬
‫جرَد قُربة الذكر الكثري عن سياقها‬
‫رحلة صيد ومتعة واسرتواح‪ .‬فإن جاء جيل َّ‬
‫اجلهادي ومقدِّماهتا اجلهادية ولواحقها اجلهادية فقد أخذ خريا كثريا‪ ،‬لكنه‬
‫حيق له األسوة املوعود عليها خري الدنيا واآلخرة‬
‫مل يأخذ السنة الكاملة‪ ،‬فال ُّ‬
‫باجلزاء األوىف والقرب والزلفى‪.‬‬
‫ألهل األعذار تُعطى تعويضات ورخص‪ .‬جاء فقراء املهاجرين إىل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا‪" :‬ذهب أهل الدثور‪ 1‬بالدرجات العُلى والنعيم‬
‫املقيم! فقال وما ذاك؟ فقال يصلون كما نصلي‪ ،‬ويصومون كما نصوم‪،‬‬
‫ويتصدقون وال نتصدق‪ ،‬ويعتقون وال نعتق! فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬أفال أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم‪ ،‬وتسبقون به من بعدكم‪،‬‬
‫وال يكون أحد أفضل منكم إال من صنع مثل ما صنعتم؟" فعلمهم رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم التسبيح والتحميد والتكبري والتهليل ُدبـَُر الصلوات‪ .‬روى‬
‫احلديث الشيخان عن أيب هريرة‪.‬‬
‫ضل بعضهم بعضا بقربات تعبُّدية إحسانية‪.‬‬
‫كان الصحابة مجيعا جماهدين‪ ،‬فَ َ‬
‫‪ 1‬الدثور‪ :‬املال الكثري‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫اإلحسان‬

‫أهل الدثور‪،‬‬
‫فكان الذكر املـُْهدى للفقراء يعادل جهاد املال الذي فضل به ُ‬
‫حىت إن الذكر يُلحقهم باملنفقني السابقني‪ ،‬وحيقق هلم سبقا على من بعدهم‪.‬‬
‫ومن املسبوقني قطعا من عقد األصابع بعد الصالة وهو آمن قاعد يف مسجده‬
‫حيسب عليها ذكر اهلل‪ .‬خري وافر‪ ،‬لكنه خري غري كامل‪ ،‬مل يزكه اجلهاد‪.‬‬
‫حديث ورد عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يفهمه القاعدون فهما‬
‫سطحيّا جتزيئيا ليُربروا به قعودهم‪ ،‬وليس هو إال رخصة أعطيت لذوي األعذار‪،‬‬
‫وسلوة وتعويضا‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه‪" :‬أال أخربكم‬
‫خبري أعمالكم‪ ،‬وأرفعها يف درجاتكم‪ ،‬وأزكاها عند مليككم‪ ،‬وخريٌ لكم من‬
‫الوِرِق والذهب‪ ،‬وخريٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا‬ ‫َ‬
‫أعناقكم؟ قالوا بلى يا رسول اهلل! قال‪ :‬ذكر اهلل"‪ .‬أخرجه مالك موقوفا‬
‫والرتمذي وغريه مرفوعا عن أيب الدرداء بإسناد صحيح‪.‬‬
‫مسبوق‪ .‬والذكر بال جهاد وال عذر‬‫ٌ‬ ‫مفضول‬
‫ٌ‬ ‫عمل‬
‫اجملاهدة بال ذكر ٌ‬
‫مسبوق‪ .‬ال شك يف ذلك‪ .‬وإمنا أعظم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫ٌ‬ ‫مفضول‬
‫أقرب‪ ،‬ال واسط‬
‫وسلم البشارة وأكثر التحريض على الذكر لكونه قربةً إىل اهلل َ‬
‫ضرب ووِر ٌق‬
‫رقاب تُ ْ‬
‫بني الذاكر وربه‪ ،‬بينما بني املتقرب باجلهاد وبني ربه ٌ‬
‫وذهب قد تكدِّر ماديتهما صفاء الروابط اإلميانية اإلحسانية‪.‬‬
‫مث إن إشادة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالذكر والذاكرين إشادةٌ‬
‫متنوعة الصيغ ألمهية املوضوع‪ ،‬وليكون املؤمن يف استهتار دائم بالذكر‪.‬‬‫دائمةٌ‪ِّ ،‬‬
‫وقد جاء يف رواية الرتمذي‪ :‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل! ما املفردون؟ قال‪" :‬املستهرتون‬
‫الولُوعُ واملواظبة عن‬
‫بذكر اهلل‪ ،‬يضع الذكر عنهم أثقاهلم"‪ .‬واالستهتار هو َ‬
‫حب ورغبة دائمة‪.‬‬
‫بالذكر الكثري الدائم حياة القلوب‪ ،‬بل وحياة العامل‪ .‬قال رسول اهلل صلى‬

‫‪276‬‬
‫اإلحسان‬

‫اهلل عليه وسلم‪" :‬مثل البيت الذي يذكر اهلل فيه والبيت الذي ال يذكر اهلل فيه‪،‬‬
‫مثل احلي وامليت"‪ .‬رواه الشيخان عن أيب هريرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وسئل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أي العباد أفضل وأرفع درجة‬
‫عند اهلل يوم القيامة؟ فقال‪" :‬الذاكرون اهلل كثريا"‪ .‬قيل‪ :‬ومن الغازي يف سبيل‬
‫اهلل؟ قال‪" :‬لو ضرب بسيفه يف الكفار واملشركني حىت ينكسر وخيتضب دما‬
‫فإن الذاكر هلل أفضل منه درجة"‪ .‬أخرجه الرتمذي عن أيب سعيد اخلدري وهذا‬
‫احلديث السابق يف أفضلية الذاكرين على اجملاهدين يفهم يف سياقه‪.‬‬
‫الذاكرون يـَْفضلون غريهم إذا عملوا مثل عملهم وزادوا عليهم بالذكر‪.‬‬
‫أخرج ابن أيب الدنيا حديثا ُم ْرسال عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه سئل‪ :‬أي‬
‫أهل املسجد خري ؟ قال‪" :‬أكثرهم ذكراً هلل عز وجل"‪ .‬قيل‪ :‬أي اجلنازة خري؟‬
‫قال‪" :‬أكثرهم ذكرا هلل عز وجل"‪ .‬قيل‪ :‬فأي اجملاهدين خري؟ قال‪" :‬أكثرهم‬
‫ذكرا هلل عز وجل" قيل‪ :‬فأي احلجاج خري؟ قال‪" :‬أكثرهم ذكرا هلل عز وجل"‪.‬‬
‫قيل‪ :‬وأي العُبَّاد خري؟ قال‪" :‬أكثرهم ذكرا هلل عز وجل"‪.‬‬
‫قال أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ :‬ذهب الذاكرون باخلري كله‪.‬‬
‫وأخرج اإلمام أمحد عن أيب سعيد اخلدري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪" :‬أكثروا ذكر اهلل حىت يقولوا جمنون"‪ .‬وأتى رجل أبا مسلم اخلوالينَّ‬
‫رضي اهلل عنه فقال‪ :‬أوصين يا أبا مسلم‪ .‬قال‪" :‬اذكر اهلل تعاىل حتت كل‬
‫وم َد َرة‪ .‬فقال‪ :‬زدين‪ .‬فقال‪" :‬اذكر اهلل تعاىل حىت حيسبك الناس من‬ ‫شجرة َ‬
‫ذكر اهلل تعاىل جمنونا"‪ .‬وكان أبو مسلم يُكثر ذكر اهلل تعاىل‪ ،‬فرآه رجل وهو‬
‫يذكر اهلل تعاىل‪ ،‬فقال‪ :‬أجمنون صاحبكم هذا؟ فسمعه أبو مسلم فقال‪ :‬ليس‬
‫هذا باجلنون يا ابن أخي‪ ،‬ولكن هذا ذو اجلُنون‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫اإلحسان‬

‫املفردون غري املْنف ِردين املنقطعني عن العامل‪ .‬املفردون هم املستهرتون‬‫ِّ‬


‫بذكر اهلل وهم يف ساحة اجلهاد أو يف الطريق منها أو إليها‪ .‬بُشر املفردون‬
‫يوم كان كل خماطَب بالبُشرى جماهدا‬ ‫بالسبق واألفضلية والدرجات العلى َ‬
‫كي كل جماهد جهاده‬ ‫سائرا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزاته‪ ،‬ليز َ‬
‫بالذكر‪ .‬مسألة عصرنا وما بعده هي أن يقبل الغافلون عن ذكر اهلل اجملادلون يف‬
‫اهلل‪ ،‬املفلسفون كلمة ال إله إال اهلل‪ ،‬أن الذكر باللسان وبالقلب قربة عظمى‪،‬‬
‫وأن يزكي الذاكرون ذكرهم باجلهاد والعمل الصاحل‪ .‬وبذلك يكون التجديد‬
‫شامال ملعاين اإلميان‪ ،‬وساحاته‪ ،‬وأقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬ومقدماته‪ ،‬ونتائجه‪ ،‬وسوابقه‬
‫ولواحقه‪ .‬ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪.‬‬
‫قال ذاكر الحق سابق إن شاء اهلل‪ ،‬يُلحقه اهلل لعلو قصده‪:‬‬
‫ومل أر غيــر اهلل مــاال وال أه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫وملا ركبت البحر حنـوك قاصـ ـ ـ ــدا ‬
‫وداد مل يكـن قـَْب ُـل ُم ْعتَـ ـالّ‬ ‫بصدق ٍ‬ ‫ِ‬ ‫دعوتك باإلخالص واملـوج طـافح ‬
‫ـب ال ُكـالّ‬ ‫ويا صمدا يبقى إذا أَذه َ‬ ‫أيا منقذ الغرقى ويا ملهم التقــى ‬
‫وحق هلذا اخللق أن يألـف ال ـ ــذال‬ ‫لوجهك ذل الرب والبحر خـاضـع ‬

‫وقال ذاكر َهيَّ َمهُ حب اهلل عن كل ما سواه فهو إن شاء اهلل من الالحقني‪:‬‬
‫مـتـوشـحـ ــا بـذوائــب األعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالم‬ ‫أي النسيم ج ـ ــرى بأرض خي ـ ــام ‬ ‫ُّ‬
‫نـفـ ـ ـحــات ـ ـ ـ ـ ــه لـغ ـ ـ ـ ـ ـ ـر َارة وثـُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫ـت بنش ـ ــر أحب ـ ــيت ‬ ‫واىف وقد َعبـََقـ ـ ْ‬
‫ِ‬
‫ـت ال أدري ب ـ ــأي ُمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدام‬ ‫َوثـلـْ ُ‬ ‫ـأي لطي ـف ـ ـ ـ ــة ‬‫فـط ـرب ــت ال أدري ب ِّ‬
‫َولَـ ـ ـ َـع النسـيـ ـ ــم بـيــانـ ـ ـ ـ ٍع ب َّ‬
‫ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫صبـ ـ ـ ـ َـوة شـاميَّـ ـ ـ ـ ـ ــة ‬ ‫ِ‬
‫ـت بقـل ـ ـ ــيب َ‬ ‫َول َع ْ‬
‫ب الشمائل للوميض الشــامي‬ ‫طََر َ‬ ‫فغـدوت مشغ ــوفـا بـ ـ ـ ـ ـ ــه وبأه ـلـ ـ ــه ‬
‫ـت حـنّــانـا لـكـ ـ ــل خـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫ما ب ُّ‬ ‫ـوى لل ـ ـ ــروح بــني خيــامـ ـ ــه ‬ ‫لوال ه ـ ـ ً‬
‫ـب األح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالم‬ ‫إال املـنــى وم ـواه ـ ـ ُ‬ ‫وحمَ ّجـب ما حظـنـ ـ ــا مــن َوصل ـ ـ ــه ‬
‫‪278‬‬
‫اإلحسان‬

‫هت ـف ـ ــو ل ــه ألـ ـبـابنـ ـ ـ ــا فـيصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده ـ ـ ــا سطو اجلـالل و هيب ـ ــة اإلعظ ـ ـ ـ ــام‬

‫وقلت حشرين اهلل وإياكم مبنه مع املفردين السابقني‪:‬‬

‫اح‬ ‫ِ‬
‫يا َذاك ـ ـ ـري َـن ُمفـ ـ ِّـرديـ ــن بال بـَ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ْ‬ ‫ـاح ‬
‫الصب ْ‬ ‫طيب َحديثِ ُكم بَ ُرد َّ‬ ‫اف بِ ِ‬ ‫َو َ‬
‫اح‬ ‫فُـزمت بـقـ ِ‬
‫مج ـ ُـع األحـبَّـ ــة فـي غـ ـ ـ ُـد ٍّو أو َرو ْ‬ ‫ـرب اللـه فَـ ْليــهنـ ــأ بك ـ ـ ـ ـ ـ ـم ‬
‫ماح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْحتيـى بِكم أرض ال ُقلوب وتـُْبتَغـى ‬
‫الس ْ‬ ‫نح التَّفضُّل و َّ‬ ‫من َوصلكم م ُ‬

‫‪279‬‬
‫اإلحسان‬

‫ِحلَق ِّ‬
‫الذكر‬

‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬


‫ك‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫صالِحاً تـَْر َ‬
‫ضاهُ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوال َد َّي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ‬ ‫الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك‬ ‫ك فِي ِعب ِاد َك َّ ِ ِ‬ ‫َوأَ ْد ِخلْنِي بَِر ْح َمتِ َ‬
‫الصالح َ‬ ‫َ‬
‫من شر ما عملت ومن شر ما مل أعمل‪.‬‬

‫الوراقون من رفوف األضابري‬ ‫ِ‬


‫تتغذى حماكم املرافعات واالهتامات اليت يعقدها ّ‬
‫العتيقة ومن طموح كل زيد وعمرو من أنصاف األميني إىل الرئاسة والغَلبة يف‬
‫اجلدل‪ .‬فهم يف زمان غريهم يف خدمة أنفسهم‪ .‬ويتغذى ال ّداعون لإلسالم‬
‫مقررات "الدراسة الواعية للكون الكبري وما انبث فيه من أحياء"‪.‬‬ ‫الثقايف من ّ‬
‫الفهم وخاهنم التوفيق‪ ،‬وقد يكون‬‫وقد يكون من هؤالء وهؤالء صادقون خاهنم ُ‬
‫آخرون إمنا يشتغلون "بالدعوة" على هذه األساليب التواءً عن جادة اجلهاد‪،‬‬
‫وإعذاراً إىل أنفسهم اجلبانة مبعاذير أهنم محاة السنة فوارس قامعون للبدعة‪.‬‬
‫هؤالئك وهؤالء غفر اهلل لنا وهلم حباجة إىل تعلم أجبدية اإلميان وهي حب‬
‫اهلل‪ ،‬وحب رسول اهلل‪ ،‬وذكر اهلل‪ ،‬واجلهاد يف سبيل اهلل‪ .‬ال سبيل إىل األسوة‬
‫بسيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم إذا قرأنا القرآن واحلديث و"الكون الكبري‬
‫وما انبث فيه من أحياء" بلغة أجبديتها علم الكالم‪ ،‬وخالف اجملادلني يف اهلل‪،‬‬
‫كي‪ ،‬أو بلغة نقلناها من‬‫اصم سوء الظن بكل عباد اهلل من قواصم الوهم الشر ِّ‬ ‫وعو ُ‬
‫أمل واقعنا املنهزم‪ ،‬وختلُّفنا االقتصادي‪ ،‬واالستبداد الواقع علينا من احلكام اجلائرين‬

‫‪280‬‬
‫اإلحسان‬

‫علينا منا‪ ،‬وتقلّصنا يف رقعة العامل القوي املنتج املصنَّع الغين املتعلم إىل ما‬
‫يشبه األصفار على الشمال‪ .‬وإن اختذنا من أجبدية االهنزام لغة تنمويَّة وحيدة‬
‫وعروضها وقواعدها يف‬ ‫مراجعها هناك ومواجعها هنا‪ ،‬تنتقش عباراهتا ومجلها َ‬
‫عقولنا فتحول دون أن ينتقش يف قلوبنا حب اهلل ورسوله‪ ،‬وذكر اهلل‪ ،‬وسنة‬
‫رسول اهلل‪ ،‬واجلهاد يف سبيل اهلل أسوة برسول اهلل‪.‬‬
‫الوراقني‬
‫من أجبدية اإلميان االجتماع على ذكر اهلل‪ .‬قوم من الدعاة ّ‬
‫يعلنوهنا حربا على كل جملس يقعد فيه املسلمون لذكر اهلل‪ ،‬أو لتالوة القرآن‪.‬‬
‫يرون كل ذلك بدعة حمدثة وضاللة يف النار جملرد أن مجاعات من املؤمنني على‬
‫مر األعصار عرفوا بذكر اهلل‪ ،‬لكنهم مسوا صوفية فباءت أعماهلم بسوء ظن‬
‫الوراقني ِ‬
‫وحروبم ملا باء االسم بِسيِّئ السمعة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أما أهل اإلسالم الثقايف والدراسة الواعية للكون الكبري‪ ،‬باعتبار الدراسة‬
‫والوعي للكون مصدرا يف زعمهم لإلميان الذي جاء به القرآن‪ ،‬فاملتحلقون‬
‫للذكر عندهم بطالون‪ ،‬وحق هلم أن يظنوا بالقاعدين لذكر اخلمول سوءا لِ َما‬
‫اويش أخذوا كلمة التوحيد جيلسون إليها وعليها ويطرحون واجب‬ ‫يرون من در َ‬
‫العمل من ألواحهم بينما األمة جائعة عارية تابعة خاضعة‪ ،‬لو قطعت عنها‬
‫أمريكا القمح األمريكي لَ َعَّز الغذاء يف األسواق العاملية وملاتت جوعا‪.‬‬
‫بني اإلسالم الثقايف األجوف وثرثرة الوراقني السفاكة تضيع احلقائق‬
‫اجلوهرية للدين‪.‬‬
‫من يقعد يف حلقات الذكر آناء الليل وأطراف النهار يعولُه غريه فهو عاجز‬
‫كاسل باخل‪ ،‬نعوذ باهلل من العجز والكسل والبخل ورفاقها االهنزامية‪ .‬وإن ضرورة‬
‫ِ‬
‫اقتصادها‬ ‫اجلهاد والسلوك اجلهادي تعين فيما تعين النهوض جلهاد بناء األمة‪،‬‬
‫إحقاق ِ‬
‫احلقوق فيها بالعدل واإلحسان‪.‬‬ ‫تعليمها وسياستِها و ِ‬
‫تنظيمها و ِ‬ ‫وصناعتِها و ِ‬

‫‪281‬‬
‫اإلحسان‬

‫ص ُم سلف الذاكرين بأهنم‬ ‫ومن يتهم اجلالسني يف حلق الذكر بالبدعة‪ ،‬وي ِ‬
‫َ‬
‫قوم انْ َسحبوا إىل الدروشة من السنة‪ ،‬ويبدِّع ويكفر‪ ،‬فذاك ال يعطي لألمر‬
‫ما يستحقه من متييز‪ .‬فال يسأل عن األسباب اليت دعت رجاال من كبار‬
‫الصحابة لالنزواء عن األمر العام حىت قعدوا أحالسا‪ 1‬يف بيوهتم‪ .‬وال يسأل‬
‫عن النفس البشرية كيف تنغرس فيها على مر األجيال عادات قلَّد فيها اآلباء‬
‫األجداد ونشأ عليها األطفال كما تنشأ الش ِّْرنَِقةُ يف تابوهتا املغلق لِتَلِ َد آخر‬
‫مفسداً‪ .‬كان االنزواء عن الفتنة موقفا إجيابيا عند أمثال سادتنا‬ ‫املطاف دودا ِ‬
‫سعد بن أيب وقاص وعبد اهلل بن عمر‪ ،‬فاستحال بعد إىل معاذير ٍ‬
‫جبانة‪.‬‬ ‫َ‬
‫لق الذكر على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سنة ثابتة ثبوت‬ ‫ِ‬
‫وكانت ح ُ‬
‫كتائب اجلهاد‪ ،‬مقدسة قدسيَّتَها‪ .‬فلما انفرط عقد األمة‪ ،‬واختصم السلطان‬
‫بعض‬
‫والقرآن‪ ،‬وأخذت عرى اإلسالم تنتقض عُروةً عروةً غشي حلق الذكر ُ‬
‫اخلمول‪ ،‬لكنها بقيت على العموم ُركنا ِّنياً عاش فيه الصاحلون يناجون رهبم‬
‫ويسرتوحون الرمحة املوعودة للذاكرين يف احلِلق‪.‬‬
‫وتبقى حلق الذكر دائرة نورانية عزيزة من دوائر السنة احملمدية على جند‬
‫اهلل أن يعطوها حقها‪.‬‬
‫قال تعاىل فيما رواه عنه حبيبه صلى اهلل عليه وسلم من احلديث القدسي‪:‬‬
‫"أنا عند ظن عبدي يب‪ ،‬وأنا معه حني يذكرين‪ ،‬فإن ذكرين يف نفسه ذكرته‬
‫يف نفسي‪ ،‬وإن ذكرين يف مإل ذكرته يف مإل خري منهم‪ .‬وإن تقرب إيل شربا‬
‫تقربت إليه ذراعا‪ ،‬وإن تقرب إيل ذراعا تقربت إليه باعا‪ .‬وإن أتاين ميشي أتيته‬
‫هرولة"‪ .‬هذه رواية للشيخني عن أيب هريرة‪.‬‬
‫حديث عظيم وبشارة عظمى للمحبني املتقربني الذاكرين فرضا ونفال الصادقني‬
‫‪ 1‬أحالسا‪ :‬مجع حلس وهو احلصري‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫اإلحسان‬

‫املصدقني‪ .‬نكذب على أنفسنا وعلى الناس‪ ،‬ونُكذب اهلل ورسوله إن قرأنا مثل‬
‫هذا احلديث املقدَّس وإن تـَلَ ْونا يف الصالة آيات الذكر واجلهاد والتقرب واحملبة‬
‫مث ال نصدق شيئا من ذلك بالعمل‪ِ .‬م ْن أعلى العمل ِّ‬
‫املقرب إىل اهلل عز وجل‬
‫اجللوس يف مجاعة لذكر اهلل‪.‬‬
‫يف احلديث املشهور الذي رواه الشيخان وغريمها عن أيب هريرة‪" :‬إن هلل‬
‫مالئكة يطوفون يف الطريق يلتمسون أهل الذكر‪ ،‬فإذا وجدوا قوما يذكرون اهلل‬
‫تنادوا‪ :‬هلموا إىل حاجتكم! فيحفوهنم بأجنحتهم إىل السماء الدنيا" احلديث‪.‬‬
‫وفيه كيف ترفع املالئكة خرب الذاكرين إىل املوىل العلي العليم وهو أعلم هبم‪،‬‬
‫وكيف يسائلهم احلق جل وعال يف شأن عباده الذاكرين‪ .‬أي احتفال هذا وأي‬
‫شرف أن تسعى املالئكة يف األرض يف طلبة عزيرة فال جيدون حاجتهم إال‬
‫عند اجلالسني للذكر! وأي شرف أن خياطب اخلالق عز وجل مالئكته خطابا‬
‫املفردون املستهرتون جمانني‬
‫طويال يف شأن الذاكرين! ال شك أهنم احملبوبون ِّ‬
‫ذكر اهلل وحب اهلل‪ .‬طوىب! مث طوىب! مث طوىب ملن صدق وعمل مث احتسب!‬
‫حلق العلم والوعظ ال تلك اليت نردد فيها‬
‫قال املعرتض‪ :‬املقصود حبلق الذكر ُ‬
‫ال إله إال اهلل ونصلي فيها على رسول اهلل‪ .‬دعونا فما لبلداء األجبديات دواء! ِحلق‬
‫العلم والوعظ جمالس للذكر ال شك يف ذلك‪ .‬لكن اجللوس لذكر الكلمة الطيبة‬
‫والصالة على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتقيق مباشر ملعاين حلق الذكر‪.‬‬
‫روى مسلم والرتمذي عن أيب سعيد اخلدري أن معاوية خرج على حلقة‬
‫يف املسجد فقال‪ :‬ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر اهلل! قال ِ‬
‫آهلل ما أجلسكم إال‬ ‫َ‬
‫ذلك؟ قالوا ِ‬
‫آهلل ما أجلسنا غريه! قال‪ :‬أما إين مل أستحل ْفكم ُتمة لكم‪ ،‬وما كان‬
‫أقل عنه حديثا مين‪ .‬وإن رسول‬
‫أحد مبنزليت من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َّ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال‪" :‬ما أجلسكم؟"‬

‫‪283‬‬
‫اإلحسان‬

‫ومن به علينا‪ .‬قال‪ِ :‬‬


‫"آهلل ما‬ ‫قالوا‪ :‬جلسنا نذكر اهلل وحنمده على ما هدانا لإلسالم َّ‬
‫آهلل ما أجلسنا إال ذلك! قال‪ :‬أما إين مل أستحلفكم‬ ‫أجلسكم إال ذلك!" قالوا‪ِ :‬‬
‫ُتمة لكم‪ ،‬ولكنه أتاين جربيل فأخربين أن اهلل تعاىل يباهي بكم املالئكة"‪.‬‬
‫وراقني يا بطّالني كرهتم سنة عظيمة‪ ،‬فما جمالسكم اليت تتباهى فيها‬ ‫يا ّ‬
‫األنانيات بشوارد النصوص ومقفالت اجلَ َدل من جمالس طيبـي األنفاس اليت‬
‫اخللق املستخلَف يف األرض الذي طعن‬ ‫يُباهي هبا اهلل مالئكته لرييَهم أن هذا َ‬
‫فيه املالئكة خمافة أن يفسد يف األرض ويسفك الدماء َخ ْل ٌق ُيجد اهلل ويوحده‬
‫ويسبح حبمده رغم ما هو مثقل به من شهوات باطنية‪ ،‬ورغم ما يتطلبه معاشه‬
‫من شغل‪ ،‬ورغم ما أمامه وحواليه من عقبات!‬
‫ذكر أنفسكم‪،‬‬ ‫تقعدون فال تذكرون اهلل إال قليال مذبذبني‪ .‬أنساكم ُ‬
‫وعرضها يف أهبى الصور وأزي ِن الفصاحة ليعبدكم األتباع والرعاع‪ ،‬ذكر اهلل‪ .‬قال‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ما من قوم يقومون من جملس ال يذكرون اهلل‬
‫فيه إال قاموا عن مثل جيفة محار‪ ،‬وكان عليهم حسرة"‪ .‬رواه أبو داود واحلاكم‬
‫بإسناد صحيح‪.‬‬
‫تفوح جمالس اجلدل وتبديع املسلمني بَ َد َل تعليمهم والرفق هبم مبا تفوح‪.‬‬
‫ومبثل ريح اجلنة تفوح جمالس الذاكرين الصادقني‪ .‬أخرج البيهقي عن أنس‬
‫رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إذا مررمت برياض اجلنة‬
‫فارتعوا قالوا وما رياض اجلنة؟ قال‪ :‬حلق الذكر‪.‬‬
‫لق الذكر جنة ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وكيف ال تكون ح ُ‬
‫"ما اجتمع قوم يف بيت من بيوت اهلل تبارك وتعاىل يتلون كتاب اهلل عز وجل‬
‫ويتدارسونه بينهم (يف رواية لرزين‪ :‬ويذكرون اهلل) إال نزلت عليهم السكينة‪،‬‬
‫وغشيتهم الرمحة‪ ،‬وحفتهم املالئكة‪ ،‬وذكرهم اهلل فيمن عنده"‪ .‬رواه أبو داود‬

‫‪284‬‬
‫اإلحسان‬

‫عن أيب هريرة بسند صحيح‪.‬‬


‫املنورة دائما الرمحةَ تنزل على الذاكرين كما رآها‬ ‫يرى أصحاب البصائر َّ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فقد روى اإلمام أمحد يف الزهد عن ثابت‬
‫قال‪ :‬كان سلمان يف عصابة يذكرون اهلل‪ ،‬فمر النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فكفوا‪ .‬فقال‪" :‬ما كنتم تقولون؟" قلنا‪ :‬نذكر اهلل‪ .‬قال‪" :‬إين رأيت الرمحة تنزل‬
‫عليكم فأحببت أن أشارككم فيها"‪ .‬مث قال‪" :‬احلمد هلل الذي جعل يف أميت‬
‫ك َم َع‬
‫سَ‬ ‫من أمرت أن أصرب معهم"‪ .‬وذلك قوله تعاىل حلبيبه‪ ﴿ :‬و ْ ِ‬
‫اصب ْر نـَْف َ‬ ‫َ‬
‫ين يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ﴾‪ 1.‬ويف هذا احلديث‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫كانه‪ :‬املعيةُ واجلماعة ودوام الذكر بالغداة‬‫مرة أخرى نلتقي مببادئ السلوك وأر ِ‬
‫وجتردها وتعلقها بوجه اهلل عز وجل فوق كل‬ ‫ومسوها ّ‬ ‫والعشي مع صحة اإلرادة ِّ‬
‫اإلرادات الدنيا‪.‬‬
‫ت على‬ ‫وروى الطرباين وابن جرير عن سهل بن عبد اهلل بن حنيف قال‪" :‬نزلَ ْ‬
‫ين‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يف بعض أبياته‪ ﴿ :‬واصبِر نـ ْفس َ َّ ِ‬
‫ك َم َع الذ َ‬ ‫َ ْْ َ َ‬
‫يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي﴾ اآلية‪ ،‬فخرج يلتمسهم‪ .‬فوجد قوما يذكرون اهلل‬
‫وجاف اجللد وذو الثوب الواحد‪ .‬فلما رآهم جلس معهم‬ ‫تعاىل‪ ،‬مْنهم ثائر الرأس ُّ‬
‫وقال‪ :‬احلمد هلل الذي جعل يف أميت من أمرين أن أصرب نفسي معهم"‪.‬‬
‫جاف اجللد هلم ثوب واحد من الفقر والفاقة‪.‬‬ ‫كانوا‪ ،‬األحبةُ‪ ،‬ثائري الرأس ِّ‬
‫الص َّف ِة املعبَّئون للجهاد‪ ،‬اجلالسون رهن إشارة القائد املعصوم صلى اهلل‬
‫وهم أهل ُّ‬
‫عليه وسلم‪ .‬جاء من بعدهم متزهدون ومتصوفون جتردوا وتشعثوا تشبُّها بالكرام‪.‬‬
‫لكن أين الشعار االختياري من حقائق اجلهاد‪ ،‬وأين ال ُك ْح ُل من ال َك َحل! هيهات!‬
‫الذاكرون أهل الكرم‪ ،‬املتعلمون واملعلمون من أهل الكرم‪ .‬وما جاىف ذلك‬
‫‪ 1‬الكهف‪28 ،‬‬

‫‪285‬‬
‫اإلحسان‬

‫س ولعنة‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يقول الرب‬ ‫وقاتله ونافاه َه َو ٌ‬
‫عز وجل يوم القيامة‪ :‬سيعلم أهل اجلمع من هم أهل الكرم"‪ .‬فقيل‪ :‬ومن‬
‫"جمالس الذكر يف املساجد"‪ .‬رواه اإلمام‬
‫ُ‬ ‫هم أهل الكرم يا رسول اهلل! قال‪:‬‬
‫أمحد عن أيب سعيد اخلدري‪ .‬وروى الرتمذي وابن ماجة والبيهقي عن أيب‬
‫هريرة بإسناد حسن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إن الدنيا ملعونة‬
‫ملعون ما فيها إال ذكر اهلل وما وااله وعامل ومتعلم"‪.‬‬
‫وقال ذاكر ذكروه فتذكر‪ ،‬وعلموه فتعلم‪ ،‬وشوقوه فأحب‪:‬‬
‫ف َريّـاه ــا فأحيـى قـلوب العـاشقني وحيّـاه ـ ـ ــا‬ ‫سرى من ربا جند صبا عر ِ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬
‫وذ ّكــرها تلك العهــود الـ ــيت مضـ ـ ـ ـ ــت على أهنـا حمفــوظة ليس تـَْنسـ ــاه ـ ــا‬
‫ووجـداً هب ــا تاه ـ ـ ـ ــا‬ ‫وروح أرواح امل ــحبـيـ ـ ـ ــن َرْو ُحـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا فتاهت به َو ْجـداً ْ‬
‫َّ‬
‫وهاموا فهـامت عنـ ــد ذاك ِرحــالُـهـ ـ ـ م تُرى علمت ما يف حشاهم حشاياها!‬
‫فيـا سـائ ــق األظعـ ــان ِرفْقـ ــا فإهن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا هبا من عظيم الشوق ماكان أغناها‬
‫السرى أين َمسراها‬ ‫ـاره فطارت فلم يدر ُّ‬ ‫اءت هلا من جـانب الطـور نـ ـ ـ ُ‬ ‫تر ْ‬
‫حنـيـنـا إلـى تلك الدي ــار ألهن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا متيَّمـة هتــوى الدي ــار وهتـ ـواهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫َّت إلَْيــك رقاهبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وتـرمـي بسـاقـَْيها وتَـ ْذ ِرف عينـاهـ ـ ــا‬ ‫ألـم ت ــرهــا مـد ْ‬
‫الس ِجـ ِّـل كتــابـَـه فعادت حـروفا تقـرأ العني معنـاه ـ ـ ـ ــا‬ ‫طي َّ‬ ‫السـرى َّ‬ ‫طواها ُّ‬
‫وقلت ‪:‬‬

‫ويُتلى ْاسُكم باملدح يف مإل ال ُق ْر ِب‬ ‫ـرب ‬


‫مبَجلسـكم حفت م ــالئكـة ال ِّ‬
‫ب‬‫بذا جاءت األخبــار يف ُمكم ال ُكْت ِ‬ ‫أيـا ذاك ـ ـ ـرين اهلل فـ ـزتـ ــم وطـ ـب ـتـ ـ ـ ـ ــم ‬
‫نســب العرب‬ ‫كما بشَّر املختـار من َ‬ ‫ويـغش ــا ُكـ ـ ُـم واللـه روح سكـيـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ ـة‬
‫ولآلل من تلك الصالة وللصحـب‬ ‫عليـ ـ ــه ص ـ ــالة اهلل ثـم س ـ ـ ـ ــالم ـ ـ ـ ـ ــه ‬

‫‪286‬‬
‫اإلحسان‬

‫الدعــاء‬

‫ت نـَْف ِسي﴾‪.‬‬
‫ب إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬
‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫اللهم آت نفسي هداها‪ ،‬وزكها أنت خري من زكاها‪ .‬أنت وليها‬
‫وموالها‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من علم ال ينفع‪ ،‬وقلب ال خيشع‪،‬‬
‫ومن نفس ال تشبع‪ ،‬ومن دعوة ال يستجاب هلا‪.‬‬

‫بوب البخاري يف كتاب اإلميان من صحيحه‪" :‬باب دعاؤكم إميانكم"‪.‬‬


‫وذهب الشراح يؤولون كالمه‪ ،‬فمن قائل إن كالمه ينظر إىل تفسري ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل َما يـَْعبَأُ بِ ُك ْم َربِّي لَ ْوَل ُد َعا ُؤُك ْم ﴾‪ 1‬بأن‬
‫املقصود بالدعاء اإلميان‪ .‬ومن قائل إن معناه دعاء الرسل للخلق هو السبب يف‬
‫إمياهنم‪ ،‬ومن قائل إن معىن الدعاء هنا الطاعة أو العبادة‪ .‬والذي يظهر يل واهلل‬
‫أعلم أن هذا من باب قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حديث اإلمام‬
‫أمحد‪َ " :‬كَرم املرء دينُه" أي أن دينَه يكون على مستوى كرم أخالقه وكرم معدنه‬
‫وكرم مهته صعودا أو هبوطا‪ .‬كذلك فذو احلظ العظيم من الدعاء ودوام الوقوف‬
‫على باب اهلل أعلى إميانا من قليل الدعاء‪ .‬وتكفينا اآلية الكرمية للداللة على أن‬
‫غيه‪.‬‬‫اهلل عز وجل ال يعبأ مبن يستغين عن دعائه ويلجأ إىل باب ْ‬
‫املتقرب‬
‫يف حديث‪" :‬من عادى يل وليا" ُيربنا احلق عز وجل أن العبد ِّ‬

‫‪ 1‬الفرقان‪ ،‬اآلية األخرية‬

‫‪287‬‬
‫اإلحسان‬

‫احملب احملبوب إذا أدركته العناية اإلهلية فكان اهلل مسعه وبصره‬
‫بالفرض والنفل َّ‬
‫ويده ورجله يصري دعاؤه مستجابا‪ .‬وهذه مرتبة مقابلة ملرتبة الذين ال يدعون‬
‫اهلل وال يعبأ هبم اهلل‪ ،‬نعوذ باهلل‪.‬‬
‫رحيم باخللق حيب من يدعوه ويغضب‬ ‫فائض الكرم ٌ‬ ‫إن اهلل جلت عظمته ُ‬
‫على من ال يدعوه كما جاء يف احلديث‪" :‬من مل يسأل اهلل يغضب عليه"‪.‬‬
‫رواه الرتمذي عن أيب هريرة‪.‬‬
‫ض علينا فضله كل ليلة‪ ،‬فال ينال من‬ ‫من كرم الرب عز وجل أنه يـَْع ِر ُ‬
‫ذلك الفضل إال األيقاظ الذاكرون الداعون‪ .‬روى الشيخان وغريمها عن أيب‬
‫هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ينزل ربنا إىل مساء الدنيا حني‬
‫يبقى ثلث الليل اآلخر‪ ،‬فيقول‪" :‬من يدعوين فأستجيب له‪ ،‬من يسألين‬
‫فأُعطيه‪ ،‬من يستغفرين فأغفر له؟"‪ .‬أنعم به من رب كرمي عظيم ينزل للعباد‪،‬‬
‫ياحسرة على العباد‪ ،‬ناموا ومنادي الفالح ال ينام!‬
‫يف رواية ملسلم‪" :‬ينزل اهلل تعاىل إىل السماء الدنيا كل ليلة حني ميضي‬
‫ك! أنا امللك! من ذا الذي يدعوين" احلديث‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ثلث الليل األول فيقول‪" :‬أنا املل ُ‬
‫ويتجلى غضب اهلل الرب امللك على من ال يدعوه يف الدنيا يوم القيامة‪.‬‬
‫يوم القيامة يقول جل جالله‪" :‬أنا امللك ! أين اجلبارون؟ أين املتكربون؟"‪.‬‬
‫فمن يكون مبنجاة من ذلك الغضب إالّ املؤمنون واملؤمنات املتزلِّفون إىل اهلل‪،‬‬
‫الداعون املتقربون يف ظلمات الليل الدنيوي حني ينام الغافلون؟‬
‫روى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬يَطوي اهلل عز وجل السماوات يوم القيامة‪ ،‬مث يأخذهن بيده اليمىن‪ ،‬مث‬
‫يقول‪" :‬أنا امللك! أين اجلبارون؟ أين املتكربون؟" مث يطوي األرض بشماله‪ ،‬مث‬
‫يقول‪" :‬أنا امللك! أين اجلبارون‪ ،‬أين املتكربون؟""‪ .‬هذه رواية مسلم‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫اإلحسان‬

‫ين يَ ْستَ ْكبِ ُرو َن َع ْن‬ ‫َّ ِ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ا ْدعُونِي أ ْ ِ‬
‫ب لَ ُك ْم إِ َّن الذ َ‬
‫َستَج ْ‬
‫ِعبادتِي سي ْد ُخلُو َن جهن ِ‬
‫ين﴾‪ 1.‬املستكرب عن الدعاء مستكرب عن‬ ‫َّم َداخ ِر َ‬
‫ََ َ‬ ‫َ َ ََ‬
‫العبادة‪ .‬فإن الذلة هلل جل جالله وإظهار الفقر إليه عبادة وعبودية‪ .‬قال صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪" :‬الدعاء هو العبادة" مث تال اآلية السابقة‪ .‬أخرجه أصحاب‬
‫السنن من حديث النعمان بن بشري وصححه الرتمذي‪ .‬وأخرج الرتمذي عن‬
‫أنس قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬الدعاء مخ العبادة"‪.‬‬
‫عرض‬ ‫ٍ‬
‫رب ملك يعرض فضله على العباد َ‬ ‫اللهم لك احلمد ولك الثناء من ّ‬
‫ويغضب‬‫الكرمي الوهاب‪ ،‬ويه ّدد بالنكال يف اآلخرة من ال يدعوه يف حوائجه‪َ ،‬‬
‫عليه‪ .‬ال أحصي ثناءً عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك‪ .‬أستغفرك وأتوب‬
‫إليك‪ .‬سبحانك ُتيب املضطر إذا دعاككما أخربت يف حمكمكتابك‪ ،‬مث تبعث‬
‫ث عند املستغين الالهي عن فقره واملستكرب املعتد‬ ‫ِ‬
‫الرسل بالوعد والوعيد ليَ ْح ُد َ‬
‫افتقار واضطرار‪ .‬سبحانك ما أكرمك وما ألطف عطاءك!‬ ‫مبتاع أنت ابتليته به ٌ‬
‫الرخاء ع ّدة ليوم الشدة‪،‬‬ ‫الدعاء منجاة يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬الدعاء يف ّ‬
‫الدعاء سالح املؤمن‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال تعجزوا يف‬
‫الدعاء‪ ،‬فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد"‪ .‬أخرجه ابن حبان يف صحيحه‬
‫واحلاكم وصححه من حديث أنس‪ .‬وأخرج الرتمذي واحلاكم بإسناد صحيح‬
‫سره أن يستجيب اهلل‬ ‫من حديث أيب هريرة قوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من َّ‬
‫له عند الشدائد وال ُكَرب فليكثر الدعاء يف الرخاء"‪ .‬وأخرج احلاكم وصححه‬
‫عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬الدعاء سالح املؤمن‪،‬‬
‫وعماد الدين‪ ،‬ونور السماوات واألرض"‪.‬‬

‫‪ 1‬غافر‪60 ،‬‬

‫‪289‬‬
‫اإلحسان‬

‫استجاب اهلل تعاىل ألصفيائه من خلقه األنبياء‪ ،‬وأنزل علينا يفكتابه العزيز‬
‫ضُّر ِعهم وتفضُّله عليهم لنتلوها ونتأسى هبا ونتقرب باللَّ َجِإ إىل بابه كما‬ ‫آيات تَ َ‬
‫تقربوا‪ .‬قال تعاىل يف سورة األنبياء‪﴿ :‬ونُوحاً إِ ْذ نَ ِ‬
‫استَ َجبـْنَا لَهُ‬‫ادى من قـَْب ُل فَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ادى‬ ‫وب إ ْذ نَ َ‬ ‫﴿وأَيُّ َ‬
‫فـَنَ َّجيـْنَاهُ َوأ َْهلَهُ م َن الْ َك ْرب ال َْعظيم﴾‪ .‬وقال جل من قائل‪َ :‬‬
‫‪1‬‬

‫ش ْفنَا َما بِ ِه ِمن‬ ‫استَ َجبـْنَا لَهُ فَ َك َ‬‫ين فَ ْ‬ ‫َنت أَرحم َّ ِ ِ‬


‫الراحم َ‬ ‫سن َي الض ُُّّر َوأ َ ْ َ ُ‬
‫ربَّهُ أَنِّي م َّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ين﴾ ‪ .‬وهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ٍّر َوآتـَيـْنَاهُ أ َْهلَهُ َومثـْلَ ُهم َّم َع ُه ْم َر ْح َمةً ِّم ْن عندنَا َوذ ْك َرى لل َْعابد َ‬
‫‪2‬‬
‫ُ‬
‫اضباً فَظَ َّن أَن لَّن نـَّْق ِد َر‬
‫ُّون إِذ ذَّ َهب مغَ ِ‬
‫َ ُ‬
‫الداعون املتضرعون‪ .‬وقال‪﴿ :‬و َذا الن ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ادى فِي الظُّلُم ِ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫نت م َن الظالم َ‬ ‫ِ‬
‫ك إنِّي ُك ُ‬ ‫َنت ُس ْب َحانَ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات أَن ل إلَهَ إل أ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َعلَْي ِه فـَنَ َ‬
‫ين﴾‪ 3.‬مث قال له احلمد‬ ‫ِِ‬ ‫استَجبـْنَا لَهُ ونَ َّجيـْنَاهُ ِمن الْغَ ِّم وَك َذلِ َ ِ‬
‫ك نُنجي ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْ َ‬
‫ب َل تَ َذ ْرنِي فـَْرداً َوأ َ‬
‫َنت‬ ‫ادى َربَّهُ َر ِّ‬ ‫﴿وَزَك ِريَّا إِ ْذ نَ َ‬
‫من رب يرحم وينجي ويُعطي‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫َصلَ ْحنَا لَهُ َزْو َجهُ﴾‪.‬‬ ‫استَ َجبـْنَا لَهُ َوَو َهبـْنَا لَهُ يَ ْحيَى َوأ ْ‬ ‫َخيـُْر ال َْوا ِرث َ‬
‫ين فَ ْ‬
‫‪4‬‬

‫املقرب وربِّه‪ ،‬أمنت الروابط‪ ،‬وأقرب ال ُقَرب‪.‬‬ ‫هذه الرابطة القوية بني العبد َّ‬
‫ادي َعنِّي فَِإنِّي قَ ِر ِ‬ ‫ك ِعب ِ‬
‫يب َد ْع َوةَ َّ‬
‫الد ِاع‬ ‫يب أُج ُ‬ ‫ٌ‬ ‫﴿وإِ َذا َسأَلَ َ َ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪َ :‬‬
‫ان فـَلْيَ ْستَ ِجيبُواْ لِي َولْيـُْؤِمنُواْ بِي لَ َعلَّ ُه ْم يـَْر ُش ُدو َن﴾‪ 5.‬واألولياء هم‬ ‫إِ َذا َد َع ِ‬
‫الرشد ألهنم أكثر العباد إميانا واستجابة لدعوة اهلل‪ ،‬وتعرضا لنفحات اهلل‪،‬‬ ‫أهل ُّ‬
‫ودعاء وتضرعا إىل اهلل‪.‬‬
‫ليس الدعاء شيئا آخر غري الذكر‪ ،‬بل هو الذكر يف أكثر حاالت العبد حضورا‬
‫مع اهلل عز وجل باحلاجة والندم واالضطرار والرجاء واخلوف‪ .‬وإن اهلل عز وجل ال‬

‫‪ 1‬األنبياء‪76 ،‬‬
‫‪ 2‬األنبياء‪83-84 ،‬‬
‫‪ 3‬األنبياء‪87-88 ،‬‬
‫‪ 4‬األنبياء‪89-90 ،‬‬
‫‪ 5‬البقرة‪185 ،‬‬

‫‪290‬‬
‫اإلحسان‬

‫يقبل دعاء الغافلني‪ .‬أخرج الرتمذي عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪" :‬ادعوا اهلل وأنتم موقنون باإلجابة‪ .‬واعلموا أن اهلل ال يستجيب‬
‫الذكر للمشتغل بالذكر أفضل الشفاعة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫دعاء من قلب غافل اله"‪ .‬ويشفع ُ‬
‫فينال أفضل ما يناله السائلون‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يقول‬
‫الرب تبارك وتعاىل‪" :‬من َشغَله قراءةُ القرآن عن مسأليت أعطيته أفضل ما‬‫ُّ‬
‫أعطي السائلني""‪ .‬أخرجه الرتمذي عن أيب سعيد اخلدري وحسنه‪.‬‬
‫وللدعاء آداب أمجلَها اإلمام الغزايل رمحه اهلل ورضي عنه يف عشرة هي‪:‬‬
‫أن يرتصد لدعائه األوقات الشريفةكيوم عرفة من السنة ورمضان من األشهر‬
‫واجلمعة من األسبوع ووقت السحر من ساعات الليل‪ .‬األدب الثاين أن يغتنم‬
‫األحوال الشريفة كساعة زحف العدو وعند األذان وإثر الصالة وحالة السجود‪.‬‬
‫األدب الثالث أن يدعو مستقبال القبلة رافعا يديه‪ .‬الرابع خفض الصوت بني‬
‫السجع يف الدعاء ألن ذاك تكلف خيالف‬ ‫ِ‬
‫املُ َخافـَتَة واجلهر‪ .‬اخلامس أن ال يتكلف ْ‬
‫حال التضرع املطلوب‪ .‬السادس التضرع واخلشوع والرغبة والرهبة‪ .‬السابع أن َْي ِزَم‬
‫لح يف الدعاء ويكرره ملا روى ابن مسعود عند‬ ‫الدعاء ويوقن باإلجابة‪ .‬الثامن أن يُ َّ‬
‫مسلم من أنه صلى اهلل عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثالثا وإذا سأل سأل ثالثا‪.‬‬
‫وينبغي للعبد أن ال يستبطئ اإلجابة وال َي َّل من الدعاء‪ ،‬فإنه ال يعلم ما يدخره‬
‫اهلل له وما خيتاره‪ .‬وإن أولياء اهلل الكمل يدعون اهلل عبودية حمضة يسألونه أعز ما‬
‫يُطلب وهو النظر إىل وجهه الكرمي‪ ،‬فما تأخرت االستجابة فيه من حاجات دون‬
‫ِّر‬
‫هذا املطلب العلي فهو منحة زائدة حمبوبة ألهنا هدية احلبيب‪ ،‬لكنها ال تكد ُ‬
‫صفاء املتوكلني‪ .‬التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر اهلل عز وجل وخيتمه به‪ ،‬وعن بعض‬
‫الصاحلني أن الدعاء الذي يُبدأ بالصالة على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وخيتم هبا دعاء ال يسقط‪ .‬العاشر هو األدب الباطن وهو األصل يف االستجابة‪:‬‬

‫‪291‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫"التوبة ورد املظامل واإلقبال على اهلل عز وجل ب ُك ِنه اهلمة"‪.‬‬
‫من آداب الدعاء التأسي بأدعيته صلى اهلل عليه وسلم واالستناد إليها‬
‫وحفظُها والنَّسج على منواهلا‪ .‬وقد كان صلى اهلل عليه وسلم حيب جوامع‬
‫الدعاء‪ .‬روى اإلمامان أمحد وأبو داود بسند حسن عن عائشة أم املؤمنني رضي‬
‫اهلل عنها قالت‪" :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يستحب اجلوامع من‬
‫الدعاء‪ ،‬ويَ َدعُ ما سوى ذلك"‪ .‬على أنه صلى اهلل عليه وسلم أرشدنا أن يكون‬
‫دعاؤنا شامال حىت ندعو اهلل يف كل حاجاتنا مهما كانت‪ ،‬فهو سبحانه يعلم‬
‫دقائق األمور كما يعلم جالئلها‪ ،‬وسؤال العبد ربه يف جزئيات معاشه كسؤاله‬
‫إياه يف كليات معاده أدعى لالعرتاف بالعجز والتربي من احلول والقوة‪ .‬روى‬
‫الرتمذي واإلمام أمحد والبخاري يف األدب املفرد بسند حسن عن أنس أن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬لِيَ ْسأ َْل أح ُد ُكم ربَّه حاجته ُكلَّها‪ .‬حىت يسأل‬
‫ِش ْس َع ْنعلِه إذا انقطع"‪ .‬وشسع النعل هو السري الرقيق من اجللد تربط به النعل‪.‬‬
‫هاك هذه الصفحة املونَِقةَ يف آداب الذكر‪ ،‬تدخل يف باب الدعاء من‬
‫ُ‬
‫حيث كون الدعاء ذكرا‪ ،‬من كالم اإلمام الرفاعي رمحه اهلل‪" :‬أي بين! اذكر اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬واعلم أن اهلل تعاىل أعلى َدرجة الذكر‪ ،‬وعظم رتبته‪ ،‬ورفع شأنه‪ ،‬وشرفه‬
‫وفضله‪ .‬مث قسمه على اللسان واألركان واجلنان‪ .‬فينبغي أن يكون الذاكر على‬
‫ويعتد به)‪ ،‬ويكون شريف‬‫حذر أن يلتفت إىل الذكر (أي أن يشتغل بعمله َّ‬
‫اهلمة واإلرادة‪ ،‬لطيف الفطنة يف اإلشارة‪ ،‬صحيح النية‪ ،‬ال يريد غريه‪ ،‬وال‬
‫‪2‬‬
‫يلتمس منه فراغه عنه إىل ما دونه"‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج‪ 1‬ص ‪ 274‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ 2‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.110‬‬

‫‪292‬‬
‫اإلحسان‬

‫قلت‪ :‬احذر أن يكون سؤالك إياه يف حاجتك الدنيوية واألخروية‬


‫شاغال لك عن طلبك األعلى‪ :‬وجهه الكرمي‪.‬‬
‫قال‪" :‬ألن الوصول إىل الكل حتت الرضى به عن غريه‪ ،‬واحلرمان من‬
‫الكل حتت االشتغال بغريه‪ .‬وجيب على الذاكر أن يذكره على غاية التعظيم‬
‫فيصري بذلك حمجوبا عن املذكور عقوبة لرتك‬
‫واحلرمة‪ ،‬ال على العادة والغفلة‪َ ،‬‬
‫التعظيم واحلُرمة‪ ،‬ألن حفظ احلرمة يف الذكر‪ ،‬خري من الذكر (أي من لوك‬
‫ألسنة الغافلني)‪ .‬وما من عبد ذكره على التحقيق إال نسي يف َجْن ِ‬
‫ب ذك ِره ما‬ ‫َ‬
‫سواه‪ ،‬وكان اهلل له ِع َوضا من كل شيء‪ .‬ورمبا يريد العارف أن يذكره فتهيج يف‬
‫فيكل لسانه ويطري فؤاده من إجالل الوحدانية"‪.‬‬‫اج التعظيم واهليبة‪ُّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫سِّره أمو ُ‬
‫قال حيىي بن معاد‪ :‬الذكر أكرب من اجلنة ألن الذكر نصيب اهلل‪ ،‬واجلنة‬
‫نصيب العبد‪ .‬ويف الذكر رضى اهلل‪ ،‬ويف اجلنة رضى العبد‪.‬‬
‫الذكر دعاء والدعاء ذكر‪ .‬ولذكر اهلل بالقصد األكرب أكرب واهلل يعلم ما‬
‫وردها‬ ‫تصنعون‪ .‬قال ابن عطاء اهلل رمحه اهلل‪" :‬ال ترفعن إىل غريه حاجة هو ُم ُ‬
‫عليك‪ .‬فكيف يرفع غريه ما كان هو له واضعا؟ من ال يستطيع أن يرفع حاجة‬
‫عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون هلا عن غريه رافعا" وقال‪" :‬ال يكن تأخر َأم ِد‬
‫العطاء مع اإلحلاح يف الدعاء موجبا ليأسك‪ .‬فهو ضمن لك اإلجابة فيما خيتاره‬
‫لك ال فيما ختتاره لنفسك‪ .‬ويف الوقت الذي يريد ال يف الوقت الذي تريد"‪.‬‬
‫فاذكره رجاء‪ ،‬وادعه ثقة‪ ،‬واسأله إحلاحا‪ ،‬وفوض إليه‪ ،‬فنعم املوىل هو‬
‫ونعم النصري‪.‬‬
‫قال آمل فيه‪ ،‬راج عفوه‪ ،‬مستمطر جوده‪:‬‬
‫ما أحسن اجلــود بـال علَّـ ـ ـ ــة وأكـ َ‬
‫ـرم العفــو مع الذنــب‬

‫‪293‬‬
‫اإلحسان‬

‫رب!‬
‫يا رب حقـق ف ـ ـي ـ ـ ــك ظـنّ ـ ـ ــي والَ ختَـ ـ ـيِّ ـ ـ ـ ــب اآلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ّ‬
‫وقال اآليس من نفسه التائب إىل ربه‪:‬‬

‫وملا قسـا قليب وضـاقت مـذاهبـي جعلت رجـائي حنو عفـوك ُسلَّما‬
‫تعــاظمنــي ذنبــي فلمـا قـرنتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه بعفـوك ربـي كـان عفـوك أعظمـ ـ ــا‬
‫فما زلت ذا عفو عن الذنب مل تزل جت ـ ـ ــود وتـعـفـ ــو من ـ ـ ــة وتـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّـرمـ ـ ــا‬

‫وقال احملب املشتاق املعذب من كثافة احلجاب‪:‬‬

‫أَلَـ ٌـم أَلَـ َّـم وم ـ ـ ـ ـ ــا لـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن راق‬ ‫س اللسان فما يطي ــق عبـ ــارة ‬ ‫ِ‬
‫َخر َ‬
‫إن مل جي ـ ـ ــد حمـ ـب ـ ــوبـ ـ ـ ـ ـ ــه بتـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالق‬ ‫ما للمحـ ــب من املنـون وقـ ــايـ ـ ـ ـ ــة ‬
‫أدرك بفضلك ِم ْـن ِدماه الب ـ ـ ـ ــاقي‬ ‫موالي عـ ـب ــدك ذاهـب بغـ ـ ـرامـ ـ ـ ـه ‬
‫ـف منك أو إشفاق‬ ‫فاعطف بلط ٍ‬ ‫إين إلي ـ ـ ــك بعـلت ـ ــي مت ـ ــوس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫الزالَّ ِ‬
‫ت للـ ـ ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاين‬ ‫ـب ال ـ ُّـدعـ ـ ـ ـ ــا ويـ ـ ـغـ ـ ـ ِـف ـ ـ ـ ـ ـ ــر َّ‬ ‫َما أ ْكَرَم الـم ــوىل ُيي ُ‬
‫ُج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِزُل ِمنـحـ ـ ــايت لِ َم ــن َجـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـان‬ ‫ِ‬
‫يُعلنُـ ـ ـ ــهُ َع ْرضـ ـ ـاً رحـيـم ـ ـ ـ ـاً‪ :‬أنـَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أ ْ‬
‫ورج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـان‬ ‫أُجيـب ك ـ َّـل سـائـ ـ ـ ٍـل إ ْن صـ ـحـ ـ ـ ـ ـا يف ثـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـث اللَّـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل َّ‬ ‫ُ‬

‫‪294‬‬
‫اإلحسان‬

‫األوراد وخصائص األذكار‬

‫ت نـَْف ِسي‬
‫ب إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬
‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫فَا ْغ ِف ْر لِي﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من زوال نعمتك‪ ،‬وحتول‬
‫عافيتك‪ ،‬وفجأة نقمتك‪ ،‬ومجيع سخطك‪.‬‬

‫يس عبد شغلته النعم يرجوها ويدعو هبا عن املنعم‪ ،‬وأهلته حمبوبات‬ ‫ِ‬
‫لَب َ‬
‫النفس عن حمبوب القلب‪ ،‬وبدَّد مشله هم املكان والزمان عن استجماع مهته يف‬
‫ذكر مواله‪ .‬تعرتي املؤمن فرتات غفلة ألن اإلنسان جبل على النسيان‪ ،‬فيفرت‬
‫عن ذكر ربه وينشغل‪ .‬لكنه يرجع إىل الذكر ويُر ِاجع‪ .‬وملثل هذا قال اهلل عز وجل‬
‫ك‬ ‫﴿واذْ ُكر َّربَّ َ‬ ‫على صورة خطاب موجه لسيد الذاكرين صلى اهلل عليه وسلم‪َ :‬‬
‫ئ‪ ،‬ونسيان اجلاحدين والكافرين‬ ‫موقوت طار ٌ‬‫ٌ‬ ‫يت﴾‪ 1.‬نسيان املؤمن‬ ‫إِ َذا نَ ِس َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫س ُه ْم أ ُْولَئِ َ‬
‫اه ْم أَن ُف َ‬
‫َنس ُ‬ ‫َّ‬
‫سوا اللهَ فَأ َ‬ ‫حال مقيم! ﴿نَ ُ‬ ‫واملنافقني والغافلني ٌّ‬
‫‪2‬‬ ‫الْ َف ِ‬
‫اس ُقو َن﴾‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يذكر اهلل عز وجل على كل أحيانه‬
‫كما روى مسلم وغريه عن عائشة رضي اهلل عنها‪ .‬وبذلك أُِمَر يف قوله تعاىل‬
‫ين يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫ك َم َع الذ َ‬
‫سَ‬ ‫خياطبه‪﴿ :‬و ْ ِ‬
‫اصب ْر نـَْف َ‬ ‫َ‬
‫‪3‬‬
‫َو ْج َههُ﴾‪.‬‬

‫‪ 1‬الكهف‪24 ،‬‬
‫‪ 2‬احلشر‪19 ،‬‬
‫‪ 3‬الكهف‪28،‬‬

‫‪295‬‬
‫اإلحسان‬

‫ْج ْه ِر ِم َن‬ ‫ِ‬


‫ض ُّرعاً َوخي َفةً َو ُدو َن ال َ‬ ‫ك تَ َ‬ ‫ك فِي نـَْف ِس َ‬ ‫﴿واذْ ُكر َّربَّ َ‬‫وقوله‪َ :‬‬
‫ِِ‬ ‫الْ َق ْو ِل بِالْغُ ُد ِّو و َ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫اآلصال َوالَ تَ ُكن ِّم َن الْغَافل َ‬
‫‪1‬‬
‫َ‬
‫حق الرجال على الذكر يف أطراف الليل‬ ‫وجاء القرآن بتحريض الرجال ِّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ُمهُ‬ ‫والنهار يف قوله تعاىل‪﴿ :‬في بـُيُوت أَذ َن اللَّهُ أَن تـُْرفَ َع َويُ ْذ َك َر ف َيها ْ‬
‫ال َّل تـُْل ِهي ِه ْم تِ َج َارةٌ َوَل بـَْي ٌع َعن ِذ ْك ِر‬ ‫صِ‬ ‫ِ‬
‫ال ِر َج ٌ‬ ‫سبِّ ُح لَهُ ف َيها بِالْغُ ُد ِّو َو ْال َ‬
‫يُ َ‬
‫َّ ِ ‪2‬‬
‫الص َل ِة َوإِيتَاء الزَكاة﴾‪.‬‬ ‫اللَّ ِه َوإِقَ ِام َّ‬
‫ذات داللة عامة تشمل كل العبادات من قول وفعل ونية‬ ‫"سبَّ َح" ُ‬ ‫كلمة َ‬
‫كما قال الراغب اإلصفهاين رمحه اهلل‪ .‬واستغراق الوقت كله بالذكر والتسبيح‬
‫ب اهلل إليها رسله وسائر عباده املؤمنني‪ .‬استغراق الوقت كله يف‬ ‫درجة عليا نَ َد َ‬
‫الذكر والتسبيح عالمة على إقبال العبد على ربه إقباال كليا‪ .‬قال اهلل تعاىل حلبيبه‬
‫س‬ ‫الش ْم ِ‬
‫ك قـَْب َل طُلُوِع َّ‬ ‫َاصبِ ْر َعلَى َما يـَُقولُو َن َو َسبِّ ْح بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬‫يف سورة طه‪ْ ﴿ :‬‬
‫اف النـََّها ِر لَ َعلَّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ضى﴾‪ 3.‬استدل‬ ‫ك تـَْر َ‬ ‫سبِّ ْح َوأَط َْر َ‬‫َوقـَْب َل غُ ُروب َها َوم ْن آنَاء الل ْي ِل فَ َ‬
‫الفقهاء رضي اهلل عنهم هبذه اآلية على توقيت الصلوات اخلمس‪ .‬وهو كذلك‪.‬‬
‫والصالة من أعظم الذكر‪ .‬والذكر اللساين والقليب فيها بتالوة القرآن واخلشوع‬
‫واملناجاة من أعظم ما يرجوه العبد من عمله‪ .‬والذكر بعدها وما بني الصلوات‬
‫ض وا ْختِالَ ِ‬ ‫وصلَةٌ مطلوبة‪ .‬قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِ َّن فِي َخل ِْق َّ ِ‬
‫ف‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر ِ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫ين يَ ْذ ُك ُرو َن اللّهَ قيَاماً َوقـُعُوداً َو َعلَ َى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات ِّل ُْولي األلْبَ ِ َّ‬ ‫اللَّْي ِل والنـََّها ِر آلي ٍ‬
‫اب الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪4‬‬
‫ض﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َواأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ُجنُوبِ ِه ْم َويـَتـََفك ُرو َن في َخل ِْق َّ‬
‫َّ‬
‫وهكذا يلحق أولو األلباب بالدرجات العُلى إن هم ذكروا اهلل على كل‬
‫‪ 1‬األعراف‪205 ،‬‬
‫‪ 2‬النور‪36-37 ،‬‬
‫‪ 3‬اآلية‪130 ،‬‬
‫‪ 4‬آل عمران‪190-191 ،‬‬

‫‪296‬‬
‫اإلحسان‬

‫أحواهلم كما كان يفعل املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬


‫درجة فوق جمرد ملء األوقات بالذكر هي درجة االستهتار اليت اختص‬
‫اهلل هبا املفردين الذين يذكرون اهلل حىت يقال جمنون‪.‬‬
‫وقد سن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألمته معراجا يتدرج فيه الذاكر‬
‫ليصل إىل ما شاء اهلل من تلك الدرجات‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أحب‬
‫األعمال إىل اهلل الذي يدوم عليه صاحبه"‪ .‬رواه البخاري ومالك عن عائشة‬
‫رضي اهلل عنها‪ .‬وروى مسلم عنها عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أحب‬
‫األعمال إىل اهلل أدومها ولو قل"‪ .‬ويف رواية أليب داود عنها عن النيب صلى اهلل‬
‫ميل حىت متلّوا‪ .‬وإن‬
‫عليه وسلم‪" :‬اكلفوا من األعمال ما تطيقون‪ .‬فإن اهلل ال ُّ‬
‫أدومه ولو قل‪ .‬وكان إذا عمل عمال أثبته"‪ .‬أثبته مبعىن‬
‫أحب العمل إىل اهلل ُ‬
‫داوم عليه يف وقته من هنار أو ليل‪.‬‬
‫املداومة يف أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى يف اصطالح‬
‫أوتاد راسية عليها يبين املؤمن خيمة الذكر يف أرجاء‬‫القوم باألوراد‪ .‬واألوراد ٌ‬
‫وس َويْ َد ِاء قلبه‪.‬‬
‫وقته وعامة نشاطه ُ‬
‫ئ وال يزهد فيها‬
‫األوراد هي الطريق إىل اهلل عز وجل ال يستغين عنها مبتد ٌ‬
‫واصل‪ .‬قيل للجنيد رمحه اهلل‪ :‬نراك حتافظ على أورادك وأنت شيخ! فقال طريق‬
‫وصلنا هبا إىل اهلل ال نرتكها‪ .‬قال اإلمام الغزايل‪" :‬اعلم أن الناظرين بنور البصرية‬
‫علموا أن ال جناة إال يف لقاء اهلل تعاىل‪ ،‬وأنه ال سبيل إىل اللقاء إال بأن ميوت‬
‫العبد حمبا هلل وعارفا باهلل سبحانه‪ ،‬وأن احملبة واألُنس ال حتصل إال من دوام ذكر‬
‫احملبوب واملواظبة عليه‪ ،‬وأن املعرفة به ال حتصل إال بدوام الفكر فيه ويف صفاته‬
‫ويف أفعاله (‪ )...‬وكل ذلك ال يتم إال باستغراق أوقات الليل والنهار يف وظائف‬

‫‪297‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫األذكار واألفكار"‪.‬‬
‫األوراد واملداومة عليها سنة‪ .‬وهي مبثابة نَ ْذر يقطعه العبد الصادق على‬
‫نفسه جيب عليه الوفاء به‪ .‬لذلك حذر العلماء من الدخول يف األوراد ِخب َّفة‬
‫خمافة أن ال يفي العبد مبا عاهد اهلل عليه منها‪ .‬قال العامل الفقيه أحد عباقرة‬
‫الفقه اإلمام الشاطيب‪" :‬إن يف توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات‬
‫ومسنونات ومستحبات يف أوقات معلومة ألسباب ظاهرة ولغري أسباب ما‬
‫يكفي يف حصول القطع بقصد الشارع إىل إدامة األعمال‪ .‬وقد قيل يف قوله‬
‫تعاىل يف الذين ترهبوا‪" :‬فما رعوها حق رعايتها"‪ :‬إن عدم مراعاهتم هلا هو‬
‫تركها بعد الدخول فيها واالستمرار‪ .‬فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية‬
‫أنفسهم من األوراد يف األوقات‪ ،‬وأمروا باحملافظة عليه بإطالق‪ .‬لكنهم قاموا‬
‫بأمور ال يقوم هبا غريهم‪ .‬فاملكلَّف إذا أراد الدخول يف عمل غري واجب فمن‬
‫حقه أالّ ينظر إىل سهولة الدخول فيه ابتداء‪ ،‬حىت ينظر يف مآله فيه‪ ،‬وهل‬
‫‪2‬‬
‫يقدر على الوفاء به طول عمره أو ال"‪.‬‬
‫للذكر َمر ٍاق‪ ،‬يرتقى املريد من ذكر اللسان إىل ذكر القلب واللسان‪ ،‬ومن‬
‫الوفاء بأوراد حمدودة إىل االستغراق مث االستهتار إن وفقه اهلل‪ .‬قال ابن عطاء اهلل يف‬
‫حكمه‪" :‬ال ترتك الذكر لعدم حضورك مع اهلل فيه‪ ،‬ألن غفلتك عن وجود ذكره‬
‫فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إىل ذكر‬ ‫أشد من غفلتك يف وجود ذكره‪َ .‬‬
‫مع وجود يَقظة‪ ،‬ومن ذكر مع وجود يقظة إىل ذكر مع وجود حضور‪ .‬ومن ذكر مع‬
‫وجود حضور إىل ذكر مع وجود غيبة عما سوى املذكور‪ .‬وما ذلك على اهلل بعزيز"‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج‪ 1‬ص ‪.299‬‬


‫‪ 2‬املوافقات ج‪ 2‬ص ‪.177-178‬‬

‫‪298‬‬
‫اإلحسان‬

‫للذكر آثار عامة وفوائد خاصة‪ .‬احذر كل احلذر من الذين يتخذون‬


‫آيات اهلل ُهُزؤاً ويرتبون ألنفسهم وللناس أذكارا‪ .‬تقول كذا وكذا مرة يف وقت كذا‬
‫ليحصل لككذا وكذا من أغراض الدنيا‪ .‬هذا والسحر من بابة واحدة‪ .‬ومنكان‬
‫على بصرية من ربه علم من أي باب يُرزق‪ .‬ما سوى هذا من األذكار اخلاصة‬
‫السنية أو األثرية من عمل السلف الصاحل ال اعرتاض عليه‪ .‬ويف أدعية رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم اليت علمها أصحابه واألمة الشفاء والغناء‪ .‬لكل نازلة‬
‫وحاجة وحالة توسل ودعاء وذكر‪ .‬من الناس من يعتمد على جتارب الصاحلني يف‬
‫التماس خصائص األذكار‪ .‬البأس إنكان الذكر واردا يفكتاب أو سنة‪ .‬قال ابن‬
‫القيم رمحه اهلل‪" :‬مسعت شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل يقول‪ :‬من واظب على‬
‫"يا حي يا قيوم ال إله إال أنت" كل يوم بني سنة الفجر وصالة الصبح أربعني‬
‫مرة أحىي اهلل قلبه"‪ 1 .‬فهذا مريد اختذ شيخه مرجعا هنائيا يف املسألة‪ .‬سند هذا‬
‫الذكر هبذا العدد رؤيا رأى فيها الشيخ الكتاين النيب صلى اهلل عليه وسلم يأمره‬
‫بذلك كما ذكر القشريي يف رسالته‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫اخلاصية العامة للذكر والدعاء يف قوله تعاىل‪﴿ :‬فَاذْ ُك ُرونِي أَذْ ُك ْرُك ْم ﴾‬
‫ش َعن‬ ‫وقوله عز من قائل‪﴿ :‬ا ْدعُونِي أ ْ ِ‬
‫﴿وَمن يـَْع ُ‬ ‫ب لَ ُك ْم﴾ وقوله‪َ :‬‬ ‫َستَج ْ‬
‫‪3‬‬

‫‪4‬‬
‫ض لَهُ َش ْيطَاناً فـَُه َو لَهُ قَ ِر ٌ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِذ ْك ِر َّ‬
‫الر ْح َم ِن نـَُقيِّ ْ‬
‫قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬اذكروين بالشوق واحملبة أذكركم بالوصل‬
‫والقربة‪ .‬اذكروين باجملد والثناء أذكركم بالعطاء واجلزاء‪ .‬اذكروين بالتوبة أذكركم‬
‫احلوبة‪ .‬اذكروين بالدعاء أذكركم بالعطاء‪ .‬اذكروين بالسؤال أذكركم‬ ‫بغفران ْ‬
‫‪ 1‬مدارج السالكني ج‪ 3‬ص ‪.264‬‬
‫‪ 2‬البقرة‪152 ،‬‬
‫‪ 3‬غافر‪60 ،‬‬
‫‪ 4‬الزخرف‪36 ،‬‬

‫‪299‬‬
‫اإلحسان‬

‫بالنوال‪ .‬اذكروين بال غفلة أذكركم بال مهلة‪ .‬اذكروين بالندم أذكركم بالكرم‪.‬‬
‫اذكروين باملعذرة أذكركم باملغفرة‪ .‬اذكروين باإلميان أذكركم باجلِنان‪ .‬اذكروين‬
‫احلجب‪ .‬اذكروين بصفاء السر أذكركم خبالص ِ‬
‫الب‪.‬‬ ‫بالقلب أذكركم بكشف ْ‬
‫اذكروين بالصفو أذكركم بالعفو‪ .‬اذكروين باجلُهد ِ َّ‬
‫ف أذكركم بتمام النعمة"‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫من أعظم األذكار فضال‪ ،‬وأجلها قدرا‪ ،‬وأوفاها مبقصود املريدين احملبني‬
‫املتقربني الصالة على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬هي شيخ من ال شيخ‬
‫له‪ .‬هي وسيلتنا إىل ربنا إذ هي ميثاق وفاء وحمبة‪ ،‬تلتقي صالتنا عليه بصالة‬
‫اهلل عليه وصالة مالئكته‪ .‬فأي فضل أعظم من أن يكون موضوع صالتنا‬
‫مطابقا موافقا؟ روى اإلمام أمحد والنسائي واحلاكم وصححه‪ ،‬ووافقه الذهيب‬
‫عن أيب طلحة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "جاء ذات يوم والبشر‬
‫يف وجهه‪ .‬فقلنا‪ :‬إنا لنرى البشر يف وجهك! قال‪" :‬إنه أتاين امللك فقال‪ :‬يا‬
‫حممد! إن ربك يقول‪ :‬أما يرضيك أنه ال يصلّي عليك أحد إال صليت عليه‬
‫عشرا‪ .‬وال سلم عليك أحد إال سلمت عليه عشرا؟"‪ .‬وروى الرتمذي بإسناد‬
‫حسن وأمحد وغريمها عن علي بن أيب طالب كرم اهلل وجهه الشريف أن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي"‪.‬‬
‫وأخرج اإلمام أمحد وحسنه املنذري عن عبد اهلل بن عمرو أن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إن من صلى علي صالة واحدة صلى اهلل عليه ومالئكته‬
‫سبعني صالة"‪ .‬وقال صلى اهلل عليه وسلم يف رواية أمحد والنسائي بإسناد‬
‫حسن عن زيد بن خارجة‪" :‬صلوا علي‪ ،‬فاجتهدوا يف الدعاء وقولوا‪ :‬اللهم‬
‫صل على حممد وعلى آل حممد"‪.‬‬
‫وتعرضاً لوعدك الكرمي نقول‪ :‬اللهم صل‬
‫اللهم شكرا على نعمتك العظمى ُّ‬

‫‪ 1‬الغنية ج‪ 2‬ص‪.43‬‬

‫‪300‬‬
‫اإلحسان‬

‫على حممد وعلى آل حممد اللهم صل على حممد وعلى آل حممد اللهم صل‬
‫على حممد وعلى آل حممد‪ ،‬عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد‬
‫كلماتك‪ ،‬كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون‪ ،‬سبحان‬
‫ربك رب العزة عما يصفون وسالم على املرسلني واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫دوام الذكر‪ ،‬وتغلغل الذكر يف القلب عن طريق األوراد اللسانية التفكرية‬
‫طريق الوالية مع الصحبة‪ .‬قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬الذاكر هلل عز‬
‫وجل ال يفرت عن الذكر حىت ينتقل من حياة إىل حياة‪ .‬فال موت له سوى‬
‫حلظة‪ .‬إذا متكن الذكر يف القلب دام ذكر العبد هلل عز وجل وإن مل يذكره‬
‫بلسانه‪ .‬كلما دام العبد يف ذكر اهلل عز وجل دامت موافقته له ورضاه بأفعاله‪.‬‬
‫أمور القوم؟ وما أحسن أحواهلم! كل ما يأتيهم من احلق‬ ‫(‪ .)...‬ما أعجب َ‬
‫عز وجل عندهم طيب‪ .‬قد سقاهم بـَْن َج معرفته‪ ،‬ونومهم يف حجر لطفه‪،‬‬
‫وآنسهم بأُنْسه‪ .‬فال َجَرَم يَطيب هلم املقام معه‪ .‬والغيبة عن كل شيء سواه‪ .‬ال‬
‫اهليبة‪ ،‬فإن شاء أنشرهم وأقامهم وأحياهم‬ ‫يزالون موتى بني يديه وقد ملكتهم ُ‬
‫ونبَّههم"‪ .1‬وتلك هي الوالية الكربى‪ :‬البقاء بعد الفناء‪.‬‬
‫وقال قدس اهلل سره يُعلم الغالم املريد اجلديد يف خدمة مواله‪" :‬يا غالم!‬
‫اذكر احلق عز وجل أوال بقلبك مث بقالبك ثانيا‪ .‬اذكره بقلبك ألف مرة وبلسانك‬
‫مرة‪ .‬اذكره عند جميء اآلفات بالصرب وعند جميء الدنيا بالرتك‪ ،‬وعند جميء‬
‫األخرى بالقبول‪ ،‬وعند جميء احلق بالتوحيد‪ ،‬وعند جميء غريه باجلملة باإلعراض‬
‫ألِمها بلِجام الورع‬
‫عنه‪ .‬إذا أرخيت عنان نفسك طمعت فيك ورمت بك‪ْ .‬‬
‫‪2‬‬
‫ودع عنك القال والقيل"‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.77‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق ص ‪.207‬‬

‫‪301‬‬
‫اإلحسان‬

‫ذكر اهلل باللسان والقلب واالستغراق واالستهتار واحملافظة على األوراد‬


‫آناء الليل وأطراف النهار بناء على غري أساس إن مل يَصن ذلك الذكر الكثري‬
‫ذكرهُ عند حق كل ذي حق‪ ،‬ذكره يف الدرهم‬ ‫ذكر اهلل عند األمر والنهي‪ُ ،‬‬‫ُ‬
‫والدينار‪ ،‬ذكره يف األمة اليت تنتظر جماهدين إلقامة دين اهلل يف األرض‪.‬‬
‫قال اإلمام الشافعي يناجي ربه ويذكره‪:‬‬
‫ـس يف السر واجلهر واإلصباح والغلـس‬ ‫قلبـي برمحتـ ـ ــك اللـه ــم ذو أُنـُ ـ ٍ‬
‫ـس‬‫ـس والنـََّفـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫وما تقلبـت من نـومـي ويف ِسنَـيت إال وذك ــرك بـني النـَّْف ِ‬
‫لقـد مننـت علـى قلبـي مبع ــرفـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة بـأن ــك اللــه ذو اآلالء وال ُقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـدس‬
‫بفعل ُمسي‬ ‫وقـد أتيـت ذنــوبـا أنت تعلمهـ ـ ـ ـ ــا ولـم تكن فاضحي فيها ِ‬
‫ـس‬‫علي إذاً يف الديـن من لَبَ ـ ـ ِ‬ ‫فامنــن علي بذكـر الصـاحليـن وال جتعل َّ‬
‫وكـن معي طـول دنيـاي وآخ ـ ــريت ويوم حشـري مبـا أنزلـت يف َعبـ ـ ـ ــس‬
‫﴿و ُجوهٌ يـَْوَمئِ ٍذ ُّم ْس ِف َرةٌ‬ ‫لعله رمحه اهلل يشري إىل قوله تعاىل يف سورة عبس‪ُ :‬‬
‫اح َكةٌ ُّم ْستَْب ِش َرةٌ﴾‪ 1.‬اللهم اجعلنا منهم مبنك وجباه نبيِّك‪.‬‬ ‫ضِ‬
‫َ‬
‫قالت روح حتوم حول احلرم النبوي الشريف ُمبَّة َو ِالَةً‪:‬‬
‫يا سعـد إن جئت لذاك املقــام أنْ ِش ـ ْد ف ـؤاداً يف محـ ـ ــاهم قـ ـ ـ ـ ـ ــام‬
‫وإن رأت عينــاك ذاك اللِّ ـ ـ ـ َـوى ع ِّـرض بذكـر ال ـوالـه امل ْستهـ ـ ـ ـ ــام‬
‫ـرب فالسـيــر من تلك علينُــا حـ ـ ـرام‬ ‫يا عني إن الحـت لنا يـث ـ ـ ـ ٌ‬
‫ـت ترفــل يف مشيتـهـ ـ ــا كالنَّـع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام‬
‫ملا بدا وادي العقيــق انـثـنَ ـ ـ ـ ـ ْ ‬
‫َجـ ِر معـي أ َْد ُمعـ ـ ـ ـ ـ اً شــوقـا إىل حمفــل بـ ْدر التم ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫يا صاحيب أ ْ‬
‫احلي عليـك السـالم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت يف َرْوض ـ ـ ــه يا ساكـن ِّ‬ ‫وقـل إذا ما سـ ْـر َ‬

‫‪ 1‬اآليتان‪38-39 :‬‬

‫‪302‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال مشتاق إىل ذلك احلمى‪:‬‬


‫ـوق‬
‫ات نـ ـ ـ ُ‬ ‫نعـم‪ ،‬لوالك ما ذكــر العق ـ ـ ـ ـ ـيـق وال جـابت لـه ال َفل ـو ِ‬
‫ـدان احلي أو بَـعُ َـد الط ـ ـ ـ ـري ـ ُـق‬
‫نعم‪ ،‬أسعى إليك على جفوين ت َ‬
‫ـوق‬
‫ـب املشـ ُ‬ ‫إذا كـانت حتــن لك املطـايـ ـ ـ ـ ــا فم ـ ــاذا يفعــل الصـ ُّ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـام‬
‫قـد اغـ ـرتبن ـ ـ ـ ــا بني قـ ـ ــوم لئ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫ـام ‬
‫ُّزل َش َّق املـُق ْ‬‫ب َش َّق الن ُ‬ ‫يا َر ِّ‬
‫ـام‬
‫َوركب ـ ـ ـوا وأمسك ـ ـ ـوا بالـ ـ ِّـزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫هم أ َذلُّـ ـوا َّأم ـ ــة املصطـ ـف ـ ـ ـ ـ ـى ‬
‫ُ‬
‫ـام‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وم ْن تَكـ ـُــن ل ـ ــهُ فَليــس يُـض ـ ْ‬ ‫َ‬ ‫ب نص ـ َـرك على مجعه ــم ‬ ‫يا َر ِّ‬

‫‪303‬‬
‫اإلحسان‬

‫التفكــر‬

‫ت َعلَ َّي‬‫ب بِ َما أَنـَْع ْم َ‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫فـلَن أَ ُكو َن ظَ ِهيراً لِّل ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من فتنة‬ ‫ْم ْج ِرم َ‬
‫ُ‬ ‫َْ‬
‫النار وعذاب النار ومن شر الغىن والفقر‪.‬‬

‫للجوارح تسبيحها وعبادهتا وذكرها‪ .‬اإلسالم ظاهر يتجلى يف العبادات‬


‫الظاهرة اجلوارحية‪ .‬وعلى مدارج اإلميان واإلحسان تسبيح القلب وذكره‪ ،‬على‬
‫ذكر القلب ونيته تنبين صحة األعمال وقَبوهلا ِف اآلخرة‪ .‬العبادة اجلوارحية‬
‫كالنطق بالشهادتني والصالة والزكاة والصيام واحلج تصنف اإلنسان يف دائرة‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتضمن له سعادة الدنيا ألهنا تكفل ُحرمة دمه وماله وعرضه‪،‬‬
‫وتك ُفل له مكانا يف اجملتمع املسلم عُضوا تام العضوية فيما خيص احلقوق‬
‫واملعامالت‪ .‬لكن عمل القلب وحده هو الذي يرفع املؤمن يف درجات اآلخرة‬
‫والقرب من اهلل عز وجل‪ ،‬إن اقرتن عمله بأداء الفرض والنفل‪.‬‬
‫وللعقل مشاركة يف التسبيح والذكركبرية‪ ،‬ينظم احلركات اجلوارحية يف الزمان‬
‫واملكان واملقدار‪ ،‬وحيرك نسائم القلب‪ ،‬ويسجل هباهتا خادما ساعيا بني يدي‬
‫القلب أمينا على تدبري الطاعات وضبط نزوات النفس‪ .‬ما تسميه اللغة عقال‬
‫آلة مثينة نفيسة وجوهر غال‪ ،‬بوجوده يتميز اإلنسان من احليوان‪ .‬لكن ما يسميه‬
‫القرآن عقال هو اندراج العقل االصطالحي يف خدمة القلب وتوجهاته إىل اهلل‬

‫‪304‬‬
‫اإلحسان‬

‫تعاىل‪ .‬فمنكان عقلهُ يف خدمة النفس والشهوات سائراً يف ركاب الشيطان واهلوى‬
‫فهو من الصم البكم الذين ال يعقلون‪.‬‬
‫تفعل‪ ،‬يفيد وزن تفعل رجوعا على النفس‬ ‫كذلك التفكر على وزن ُّ‬
‫وانعكاسا‪ ،‬خيتلف عن التفكري املشرتك بني أفراد البشر‪ .‬فالتفكري نشاط العقل‬
‫رجع األمور‬
‫االصطالحي يف تناول املعطيات الكونية يف انقطاع عن كل اعتبار يُ ُ‬
‫إىل اهلل‪ ،‬بينما التفكر تناول األشياء واملعاين من زاوية مرجعيتها إىل اخلالق‪،‬‬
‫ومن زاوية معىن وجود اإلنسان‪ ،‬ومصريه بعد املوت‪ ،‬وخملوقيته‪ ،‬ومسؤوليته يف‬
‫فعل تفعيال تفيد انصبابا على العامل اخلارجي وفعال فيه‪.‬‬
‫اآلخرة‪ .‬صيغة َّ‬
‫يتوج املؤمن بإكليل الكرامة اآلدمية‪ ،‬احملافظة على‬ ‫بالعقل القليب التفكري َّ‬
‫الفطرة املتلقية بالقبول واإلميان رسالة الرسل‪ ،‬بينما يُعطي العقل االصطالحي‪،‬‬
‫وإن متيز عن احليوانية االصطالحية‪ ،‬لإلنسان املفكر التأثري يف الكون دون أن‬
‫اب‬ ‫خيرجه عن احليوانية املعنوية اليت يقول اهلل عز وجل عنها‪﴿ :‬إِ َّن َش َّر َّ‬
‫الد َو ِّ‬
‫ويعي املقصودين هبا قوله‬ ‫ين الَ يـَْع ِقلُو َن﴾‪ 1.‬يفسرها ِّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِعن َد اللّ ِه ُّ‬
‫الص ُّم الْبُ ْك ُم الذ َ‬
‫‪2‬‬
‫ين َك َف ُرواْ فـَُه ْم الَ يـُْؤِمنُو َن﴾‪.‬‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫الدو ِّ ِ‬
‫اب عن َد اللّه الذ َ‬ ‫جل من قائل‪﴿ :‬إِ َّن َش َّر َّ َ‬
‫التفكريُ تفتُّح هذه امللكة العقلية العجيبة على الكون‪ ،‬وتلمذهتا له‪ ،‬واستقصاء‬
‫شؤونه بالدراسة والتحليل والرتكيب‪ ،‬وتأصيل العلوم الكونية‪ .‬ومن هذا النشاط‬
‫مدار تقدم اإلنسان يف مضمار احلضارة‪.‬‬ ‫العقلي تنشأ العلوم الكونية‪ ،‬وعليه ُ‬
‫ف بريق التقدم العلمي العقلي أنظار الناس يف عصرنا‪ ،‬ومن مجلة‬ ‫ِ‬
‫وقد خط َ‬
‫من خطفهم علماؤنا ودعاتتنا‪ .‬ذلك الذي قال‪" :‬إن اإلميان الذي جاء به القرآن‬

‫‪ 1‬األنفال‪22 ،‬‬
‫‪ 2‬األنفال‪55 ،‬‬

‫‪305‬‬
‫اإلحسان‬

‫انبث فيه من أحياء" رجل اختلط‬


‫الكرمي مثرة الدراسة الواعية للكون الكبري وما َّ‬
‫عنده األمر فدل قُراءه املسرتشدين به‪ ،‬وهو داعية كبري شهري صادق ال نشك‬
‫يف إميانه‪ ،‬على الكون‪ ،‬ما دهلم على اهلل‪ .‬دهلم على األحياء‪ ،‬ما دهلم على‬
‫احمليي املميت سبحانه‪.‬‬
‫ويقرأ بعض املسلمني‪ ،‬كثري من املسلمني‪ ،‬كتاب اهلل عز وجل فيقفون‬
‫عند اآليات املخربة عن العقل والتف ّكر فيشرد هبم الفهم‪ ،‬ويقصر هبم اإلدراك‪،‬‬
‫وي ِزلّون عن مرتبة الفقه والعلم‪ ،‬فإذا هبم يتقدمون بأن القرآن سبق إىل الدعوة‬
‫وبي مزايا العقل‪ .‬فال ينتهي هبم التدحرج أسفل العقبة إال وقد‬ ‫للعقالنية‪َّ ،‬‬
‫جتردوا عن معاين العقل القليب الذي هو العقل عن اهلل وإىل اهلل وباهلل ومن اهلل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهذا منشأ اإلسالم الفكري الثقايف‪.‬‬
‫ين يَ ْذ ُك ُرو َن اللّهَ قِيَاماً‬ ‫َّ ِ‬
‫إن اهلل عز وجل أخربنا عن أويل األلباب ﴿الذ َ‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض﴾‪ 1.‬يذكرون‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫َوقـُعُوداً َو َعلَ َى ُجنُوب ِه ْم َويـَتـََف َّك ُرو َن في َخل ِْق َّ َ َ‬
‫اهلل أوال‪ ،‬ذكراكثريا مستغرقاكل األحوال‪ ،‬ساريا يف اجلوارح والكيان‪ ،‬مث يتفكرون‬
‫يف "خلق السماوات واألرض" ال يف جمرد الكون الكائن هناك‪ .‬يتفكرون يف‬
‫املوجودات من حيث هي خملوقة صادرة عن حياة اهلل عز وجل وقدرته وإرادته‬
‫وعلمه وكلمته وأمره وقضائه وقدره‪ .‬يتفكرون يف اخللق‪ ،‬وهو فعل فاعل‪ ،‬ال يف‬
‫مادة صماء هي العامل القدمي كما يزعم فالسفة اليونان ومن ضل يف ِسرهبم‬
‫من املسلمني يف العصور األوىل‪ .‬يتفكرون يف اخلالق عز وجل الذي أنشأ وأبدع‬
‫وبث الدواب واألحياء يف السماوات واألرض‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫وبرى وصور وذرأ َّ‬
‫ث فِي ِه َما ِمن َدابٍَّة﴾‪ 2.‬هو بثَّها‪،‬‬ ‫ض َوَما بَ َّ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْال َْر ِ‬ ‫ْق َّ َ َ‬
‫﴿ِ‬
‫َوم ْن آيَاتِِه َخل ُ‬

‫‪ 1‬آل عمران‪191 ،‬‬


‫‪ 2‬الشورى‪29 ،‬‬

‫‪306‬‬
‫اإلحسان‬

‫ما انبثت من تلقاء نفسها كما تدل عبارة الداعية الكبري امل َع ْل َمنَةُ َر ْغ َم أَنِْفها‪.‬‬
‫يذكر أن هلذا الكون‬ ‫ويف قوله "الكون الكبري" تعظيم للمخلوق وعبادة له إذ مل ُ‬
‫الكبري خالقا لتكون عظمة املخلوق دالة على عظمة اخلالق‪.‬‬
‫يفعل هذا دعاة اإلسالم الفكري الثقايف ويكتبونه دون إدراك خلطورة‬
‫ما يرتتب على خطاهبم املمسوح من ذكر اهلل من سيِّئ اآلثار‪ .‬يكتبون‬
‫ألن مههم‪ ،‬الصادق الشك‪ ،‬منصرف إىل اجلري‬ ‫هبذه اللغة املشرتكة الثقافيَّة َّ‬
‫لتاليف التخلف الشنيع الذي تعاين منه األمة يف ميادين املعرفة الكونية والعلوم‬
‫والصناعات‪ .‬أصبحت هذه اللغة الغافلة عن اهلل املغفِّلة عنه أسلوبا مألوفا‪،‬‬
‫السلَف يف أحضان إسالم أجوف منبهر مأخوذ‪ ،‬يويل‬ ‫ف بعد َّ‬ ‫فينشأ عليها اخلَلَ ُ‬
‫وجهه حنو الكون ومن فيه وما فيه إال أوقاتا خمصوصة مستثناة يويل وجهه فيها‬
‫حنو بيت اهلل لين ُقر الصالة ن ْقراً‪ ،‬أو يوليها املصحف ليقرأ آيات اهلل املباينة كل‬
‫املباينة للغة الفكر واحلضارة والبديل‪.‬‬
‫أجد يف كتاب صاحبنا الداعية عبارة تلخص االهنيار اإلمياين الذي دفع‬
‫العلماء األفاضل أمثال الشيخ سعيد حوى والشيخ سعيد رمضان أسعدمها اهلل‬
‫وأسعد هبما‪ ،‬إىل التحذير من هاوية اإلسالم األجوف وإىل الدعوة امللحة للبحث‬
‫عن الربانية‪ .‬يقول الداعية اجملرور‪" :‬ويف عصرنا هذا البد من االستعانة مبقررات علم‬
‫النفس‪ ،‬واالستعانة مبا يف اآلداب اإلنسانية الصادقة من جتارب وصور"‪ .‬ال أريد أن‬
‫أطيل يف التذكري مبا هو "علم النفس" اجلاهلي‪ .‬الرجل مبهور مأخوذ من حيث ال‬
‫يشعر‪ ،‬بل من حيث يطلق الصيحات الكبار ضد املبهورين حبضارة الغرب‪ .‬حلضارة‬
‫الغرب عنده ولفكرها وآداهبا وعلومها ُحرمة مطلقة‪ ،‬لذلك يريد أن يكون لإلسالم‬
‫مهد هبا‬‫وحرمة مستمدة من االستعانة مبا هناك عند املـُبـَْعدين‪ .‬قال يف فقرة ّ‬
‫َسنَ ٌد ُ‬
‫لكلمته عن االستعانة‪" :‬إن تعهد الناشئة والكبار مبا يوجه عواطفهم وآماهلم إىل‬

‫‪307‬‬
‫اإلحسان‬

‫اهلل جل جالله شيء خطري‪ ،‬والبد من إقامته على أسس فنية حمرتمة"‪ .‬دعنا من‬
‫املنهاج النبوي الفطري الساذج! فإذا قرأت بعد هذا لتعلم ما هي "األسس الفنية‬
‫احملرتمة" اليت جيب أن يبين عليها املسلمون فاجأك "علم النفس" و"اآلداب‬
‫اإلنسانية الصادقة"‪ .‬تكنولوجية الرتبية من هناك تأيت حمرتمة مبجلة عصرية فنية‪،‬‬
‫ال من القرآن وال من سنة سيد األنام وهي حب اهلل واحلب يف اهلل‪ ،‬وذكر اهلل‪.‬‬
‫ولذكر اهلل أكرب‪ ،‬واهلل يعلم ما تصنعون‪ .‬األدهى يف األمر أن هذا الرجل يتكلم‬
‫يف "توجيه عواطف الناشئة والكبار وآماهلم إىل اهلل جل جالله"!‬
‫التفكر من أشرف العبادات‪ .‬بذلك ورد القرآن‪ .‬وإن شغل ُّ‬
‫التفك ُر مبعناه‬
‫القرآين طوائف من املسلمني يف عصور مضت عن التصدي للكوائن اليت‬
‫انشغالنا بالفكر‬ ‫سخرها اهلل لنا حىت أصبحنا عاجزين مشلولني يف الدنيا فإن ِ‬
‫عن التفكر يف زماننا هذا يهدد باالجنراف مع الكوائن ناسني اهلل فينسينا‬
‫أنفسنا‪ ،‬فتشل حاسة اإلميان فينا وهي القلب‪ ،‬فنخسر اآلخرة‪.‬‬
‫قال اإلمام حسن البصري‪" :‬من مل يكن كالمه حكمة فهو لغو‪ ،‬ومن مل‬
‫يكن سكوته تفكرا فهو سهو‪ ،‬ومن مل يكن نظره اعتبارا فهو هلو"‪.‬‬
‫ال ميكن لنا أن نرجع من اللغو الفكري‪ ،‬والسهو الغافل‪ ،‬واللهو مبنجزات‬
‫احلضارة الوثنية‪ ،‬حضارة احلواس واللّذة و"السعادة" الدوابية إال بتجديد إمياننا‬
‫جتديدا ينشط يف ظله العقل املشرتك املنظم احملرتم الصانع حتت إمارة القلب‪،‬‬
‫ساعيا بني يديه إىل غاية اإلحسان وأهداف العدل‪.‬‬
‫دي يتفكر يف اهلل‪ ،‬يف أفعال اهلل ال يف ذاته وصفاته‪ .‬ال جمال للعقل‬‫العقل امل ْه ُّ‬
‫َ‬
‫اآللة يف احلََومان حول جنبات الذات والصفات‪ .‬لكنه مطلق السراح ليتفكر يف آالء‬
‫اهلل ونعمائه وأثر صفاته يف العامل ويف اإلنسان‪ ،‬يف آيات اهلل اآلفاقية واألنفسية‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫اإلحسان‬

‫العقل اخلادم للقلب‪ ،‬املرتِّب لشؤونه‪ ،‬مؤهل لتقليب معاين عالقة العبد‬
‫بربه يف حاالت اخلوف‪ ،‬والرجاء‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والتسليم للقضاء‪ ،‬والرضى به‪،‬‬
‫والدعاء لصرفه‪ ،‬واالجتهاد الحرتام السببية اليت جعلها اهلل نظاما يف العامل‪ ،‬ويف‬
‫حالة الشكر‪ ،‬والصرب‪ ،‬واحلياء من اهلل‪ ،‬والتوبة إليه‪ ،‬واإلنابة‪ ،‬والشوق‪ ،‬واحملبة‪،‬‬
‫واالضطرار‪ ،‬والصدق‪ ،‬والتبتل‪ ،‬واالستغفار‪ ،‬وحماسبة النفس‪ ،‬واهليبة‪ ،‬واألنس‪،‬‬
‫والقرب‪ ،‬والتقرب‪ ،‬والطاعة‪ ،‬واملبايعة‪ ،‬ومعاجلة اخلواطر‪ ،‬والورع‪ ،‬والتقوى‪،‬‬
‫واليقني‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬وأداء حقوق اهلل والناس‪ ،‬واإليقان باآلخرة‪.‬‬
‫كل ذلك ذكر هلل عز وجل من خالل التفكر‪ .‬فإن ارتبط التفكري ُّ‬
‫بالتفكر‬
‫ارتباط التابع باملتبوع رجونا أن تتوج األمة بإكليل اخلالفة يف األرض والتمكني‬
‫الذي وعده اهلل الذين آمنوا وعملوا الصاحلات‪ ،‬يعبدونه ويعظمونه‪ ،‬ال يعبدون‬
‫عرف به‪.‬‬‫غريه‪ ،‬وال يعرفون ألحد وال لشيء من احلرمة إال ما ّ‬
‫املكون‪ ،‬جمرد النهضة‬
‫احلق أم اخللق‪ ،‬الكون أم ِّ‬
‫ماذا يطلب اإلسالميون؟ َّ‬
‫احلضارية املناهضة لآلخرين أم اخلالفة على منهاج النبوة حتمل للعامل رسالة اهلل؟‬
‫قال الشيخ عبد القادر قدس اهلل روحه‪" :‬أما تعلم أنك كلما خطوت‬
‫بقلبك خطوة إىل اخللق بعُدت من احلق عز وجل؟ تدعي أنك طالب احلق‬
‫عز وجل وأنت طالب اخللق! (‪ )...‬تدعي أن قلبك قد خرج من اخللق وأنت‬
‫‪1‬‬
‫ختافهم وترجوهم! ظاهرك الزهد وباطنك الرغبة! ظاهرك احلق وباطنك اخللق"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬العلماء العمال بالعلم نواب اهلل يف أرضه‪ ،‬ورثوا األنبياء واملرسلني‪ ،‬ال‬
‫أنتم يا ُم َه َّوسني‪ ،‬يا مشغولني بِلَ ْقلَ َق ِة اللسان وفقه الظاهر مع جهل الباطن‪ .‬يا غالم!‬
‫ما أنت على شيء! اإلسالم ما صح لك! اإلسالم هو األساس الذي يُبىن عليه‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.65‬‬

‫‪309‬‬
‫اإلحسان‬

‫تقول ال إله إال اهلل وتكذب! يف قلبك مجاعة من اآلهلة‪ .‬خوفك من سلطانك ووايل‬
‫ك آهلة‪ ،‬اعتمادك علىكسبك ورحبك وحولك وقوتك ومسعك وبصرك وبطشك‬ ‫َمَلَّتِ َ‬
‫آهلة‪ )...( .‬القلب هو املؤمن‪ ،‬هو املوحد‪ ،‬هو املخلص‪ ،‬هو املتقي‪ ،‬هو الورع‪ ،‬هو‬
‫الزاهد‪ ،‬هو املوقن‪ ،‬هو العارف‪ ،‬هو العامل‪ ،‬هو األمري‪ .‬ومن سواه جنوده وأتباعه"‪.‬‬
‫‪ 1‬أقول‪ :‬هو األمري يف مملكة فردية ومجاعة مؤمنة ال تؤله العقل الوثينكما أهله اليونان‬
‫وورثتهم يف احلضارة اليهودية النصرانية احلواسية‪.‬‬

‫قال صاحل بن عبد القدوس رمحه اهلل يتفكر يف املصري األخروي ويذكرنا‪:‬‬

‫ـب فأيـ ــن منه امله ـ ـ َـرب‬ ‫وأتــى املشي ُ‬ ‫ذهـب الشباب فما له مـن عـودة ‬
‫ـب‬
‫وازهد فعمــرك م َّـر منــه األط ـ ـ ـي ـ ُ‬ ‫فدع الصبــا فلق ــد عــداك زم ــانـ ـ ـه ‬
‫ـب‬
‫واذكـر ذنــوبك وابكهــا يا مذن ُ‬ ‫دع عنك ما قدكان يف زمن الصبـا ‬
‫البد ُيصــى ما جنيـت ويكتـ ـ ــب‬ ‫واذكــر منـاقشـة احلس ــاب فإنـ ـ ـ ـ ــه ‬
‫بــل أثـب ـت ــاه وأنـ ــت اله تـل ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب‬ ‫مل ينســه امللـكـ ـ ـ ــان حيـن نَسـيـت ـ ـ ـه ‬
‫ـردها بالرغ ــم منـ ــك وتُـس ـلـ ـ ــب‬ ‫والروح في ــك وديع ـ ـ ــة أ ِ‬
‫ست ّ‬ ‫ُود ْعتَـه ـ ـ ـ ـ ـا ‬
‫دار حقـيقـتـه ــا مـت ــاع يـ ـ ــذه ـ ـ ـ ــب‬ ‫وغــرور دنيــاك الـيت تسعــى هل ـ ـ ـ ـ ـ ـا ‬
‫وت ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب‬ ‫ـاسنـا فيهــا تعـ ــد ُ‬ ‫أنف ـ ُ‬ ‫والليــل فاعـ ـلـم وال ـنـه ــار كــاله ـ ـ ــا ‬
‫حقــا يقينـا بع ــد موت ـ ـ ــك يُنه ـ ـ ـ ــب‬ ‫ومجي ــع م ـ ـ ــا حصـلـت ـ ــه ومجـع ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـه ‬
‫َوَمشـي ُـده ــا عـ ـمـ ــا قلـي ــل َيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب‬ ‫تـب ــا لدار ال يـ ــدوم نعيمـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ‬
‫ـب‬ ‫ِ‬
‫األهـ ــيَ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫إن التَّق َّـي هــو البهـ ـ ـ ُّـي ْ‬ ‫فعليـك تقــوى اهلل فالزمـه ـ ــا ت ُفـ ـ ْـز ‬
‫ب‬
‫إن الـم ـطـي ـ ـ ـ ــع ل ـ ـ ـربـِّ ـ ـ ــه لـمـ ـُق ـ ـ ـ ـ ـ ـ َّـر ُ‬ ‫واعمــل بطــاعته تنل منه الرضــى ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين‪ ،‬ص ‪.74‬‬

‫‪310‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـب‬
‫والليل ُيلى والبـ ــال والغـيـَْه ـ ـ ُ‬ ‫ب ‬‫عمـا قليل َيْ ـ ـ ـ ـ ـ َـر ُ‬‫ص ُـن العِدا َّ‬
‫حْ‬
‫ِ‬
‫ـب‬ ‫ِ‬ ‫ايات نص ٍر سوف خت ُفق يف العالَ ‬
‫َولدين أمحد يف املنــابر ُيطَـ ُ‬ ‫َر ُ‬
‫وتُ َـعـ َّـد من فرس ــاهنـا وتُ َكـ ـ ـتَّ ـ ـ ـ ُ‬
‫ـب‬ ‫تفز خب ـ ــالفَـ ـ ـ ـ ـ ٍ ـة‬
‫ـك بالتقــوى ْ‬
‫فعلي ـ ـ َ‬

‫‪311‬‬
‫اإلحسان‬

‫الحزن ومحاسبة النفس‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ِ ِِ‬ ‫﴿ر ِّ ِ ِ‬
‫ب نَ ِّجني م َن الْ َق ْوم الظَّالم َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫َ‬
‫اللهم إين أعوذ بك من منكرات األخالق واألعمال واألهواء‪.‬‬

‫حشو األدمغة املفكرة يف عصرنا‪ ،‬ال املتفكرة‪ ،‬ثقافة‪ ،‬وحضارة‪ ،‬وفن‪،‬‬


‫و"أسس فنية حمرتمة"‪ ،‬وآداب إنسانية‪ ،‬وفلسفة‪ ،‬و"علم نفس"‪ ،‬وهوس العامل‪،‬‬
‫وأخبار العامل‪ .‬كل ذلك يتساكن مع بصيص من اإلميان‪ ،‬وم ٍ‬
‫سحة من اإلسالم‪،‬‬ ‫َ‬
‫وغرية ذاتية أصيلة نكره مبقتضاها حضارة الغرب الوثنية‪ ،‬ونعشق منها جوانب‬
‫القوة والقدرة على صنع األشيـاء وتدبري العامل وتنظيم اجملتمع والدولة‪ .‬ال تتنافر‬
‫وس ِة من ذكر اهلل‪ .‬فإن صرح‬ ‫اج يف األدمغة املشطوبة املكنُ َ‬‫هذه العناصر األ َْم َش ُ‬
‫أحدهم أو أشار‪ ،‬أو َك َّن أو استعار‪ ،‬أو سكن أو مار‪ ،‬فعن تلك املرجعية‬
‫يصدر‪ .‬فما شأنك أيها الغافل من شأين‪ ،‬وال اسرتعاك ما اسرتعاين‪،‬‬ ‫اخلليط ُ‬
‫ويضيق صدري وال ينطلق لساين‪.‬‬
‫قال بـ"علم النفس" و"اآلداب اإلنسانية الصادقة" وصدق هبا‪ ،‬وأعطاها‬
‫ُحرمة‪ ،‬وعلق على فنِّيتها كل اآلمال‪ .‬لو كان األمر يتعلق بغرض من أغراض‬
‫التصنيع واإلنتاج ل ُق ْلنَا أو سكتنا‪ .‬لكن عامل األزهر الداعية املسموع الكلمة‬
‫يوصي هبذا الوباء اجلاهلي دواء "لتوجيه عواطف الناشئة والكبار هلل جل جالله"‪.‬‬
‫يا حسرة على العباد! وهذا مما حيزن القلب ويدمي الفؤاد ويفتت األكباد!‬

‫‪312‬‬
‫اإلحسان‬

‫التفسري الثقايف السياسي لإلسالم راية رفعت بعد األستاذ البنا رمحه اهلل‬
‫أدري‪ ،‬مىت بدأ تسطيح اإلسالم يف أذهان الدعاة‬ ‫لست أدري بل ال أريد أن َ‬
‫قبل البنا وبعده‪ ،‬لكن املؤَّك َد أن هذا الرجل العظيم من األولياء الذاكرين‪.‬‬
‫فما بال بعضهم ممن ينتمي ملدرسته يستسلم للهجوم الشيطاين اجلين اإلنسي‬
‫الناهي عن ذكر اهلل الصارف عن التفكر يف النفس واهلل والدنيا واآلخرة إىل‬
‫التفكري املسطَّح؟ ما باهلم ُيَْن ِدقون يف واجهة الغزو الثقايف والسبق احلضاري‬
‫واملعركة السياسية ويرتكون واجهة الرتبية مكشوفة‪ .‬بل هم ما عرفوا ما هي‬
‫ورد ْد معي تأوهات السعيدين حوى والبوطي املكتوبة املكمومة‪.‬‬ ‫الرتبية‪ِّ .‬‬
‫التفكر هو احلزن على حال النفس والرجوع عليها بالالئمة وال َق ْرِع‬ ‫عمق ُّ‬
‫والقمع والتوبيخ الدائم‪ .‬من كان "الكون الكبري" عظيما يف عينه من دون اهلل‬
‫فأن له أن متلك عليه عظمة اخلالق العلي القدير كيانه حىت يستصغر نفسه يف‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫قم َعها عن معاصي اهلل‪ ،‬ويبك َي حسرةً على ما فرطت يف جنب اهلل‪،‬‬ ‫جنب اهلل‪ ،‬ويَ َ‬
‫وجيابها ب َق ْرِحها وسرحها يف الشهوات الشخصية الثقافية املعجبة بالنفس‪ ،‬التائهة‬ ‫ِ‬
‫س ذايت منفتح على هوس‬ ‫فخرا ونفاسة بأصالتها وهويتها وتارخيها ومجاعتها‪َ .‬ه َو ٌ‬
‫العامل إن غاب عنها االنتماء هلل عز وجل بالعبودية‪ ،‬يكون هذا االنتماءُ َج ْوَهر‬
‫حياهتا وشخصه‪ ،‬وما سوى هذا االنتماء ظالّ زائال وحالة عابرة‪ .‬وما االنتماء‬
‫العبودي هلل جل شأنه إال ذكره الدائم وإحضار النفس راكعة ساجدة تائبة آيبة‬
‫آناء الليل وأطراف النهار‪ .‬الغافلون عن اهلل من املنتمني لإلسالم حاموا حول‬
‫فشرَد إىل السراب‪ .‬من‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫الوْرد وما وردوا‪ ،‬وكانوا كمن جيءَ به إىل املرعى اخلصيب َ‬
‫يعزيهم يف مصاهبم؟ بل من يعزي األمة يف مصاهبا هبم؟ من يصفي شراب األمة‬ ‫ّ‬
‫الذي يقدمونه يف كتبهم وحماضراهتم ومهاتراهتم مشوبا مقلوبا؟ من يشفي مريضنا‬
‫يف بيت الدعوة واألطباء كثُروا فما وجدوا يدا تُسعف؟ من يصايف ومن يعايف؟‬

‫‪313‬‬
‫اإلحسان‬

‫العراء‪ ،‬ضاحون يف اخلالء واملالء‪ ،‬مدحورون أو داحرون يف‬


‫األطباء بارزون يف َ‬
‫َ‬
‫اجلَدل واملِراء!‬
‫وا مصيبتاه! وا حزناه! وا إسالماه! وا إمياناه! وا إحساناه! وا ديناه! وا‬
‫حممداه!‬
‫حزن من أين لنا به وحنن ال نشعر حىت بأن هناك مكانا للحزن!‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيزن رقة حلادث أ َلَّ‪ ،‬فيكون حزنه‬
‫على عزيز انتقل من الدنيا باملوت ِرقَّةً بشرية هي رمحة مشرتكة بني العباد‬
‫ُم ْسلِ ِم ِهم وكافرهم‪ .‬هي مروءة‪ .‬وكان صلى اهلل عليه وسلم يالزمه حزن آخر‬
‫أعمق‪ :‬حزنه على النفس‪ .‬عظم حزنه وطال وتعمق على قدر عظمة شأن رب‬
‫العزة ورب العرش العظيم عنده‪ ،‬وعلى قدر طول تفكره وعمق ذكره‪.‬‬
‫ملا تويف ابنه إبـراهيم صبيا بكى صلى اهلل عليه وسلم وقال‪" :‬إن العني‬
‫تدمع‪ ،‬والقلب خيشع‪ ،‬وال نقول إال ما يرضي ربنا‪ .‬وإنا بفراقك يا إبراهيم‬
‫حمزونون"‪ .‬رواه الشيخان وأبو داود عن أنس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وروى الشيخان عن أسامة أن بنت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ضر‪ ،‬فأخذ رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫أرسلت إليه عندما كان ابنها أو ابنتها ُتتَ َ‬
‫َّن"‪ ،‬أي تتحرك‬‫عليه وسلم الصيب فأقعده يف حجره "ونفسه تـَتـََق ْع َق ُع كأهنا الش ُّ‬
‫ويُسمع له صوت كأهنا قربة بالية‪ .‬يف رواية قال‪" :‬ففاضت عيناه فقال سعد‪:‬‬
‫يا رسول اهلل! ما هذا؟ قال‪ :‬هذه رمحة جعلها اهلل يف قلوب عباده"‪.‬‬
‫ِرقة ودمعة‪ ،‬هذه عاطفة نبيلة يرعاها اإلسالم‪ .‬وينهى النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عن النـَّْوح والصراخ والعويل ولطم اخلدود وشق اجليوب وسائر مظاهر‬
‫اهلَلَع واحلزن عند املوت‪ .‬أفعال تتناىف مع اإلميان باليوم اآلخر‪ .‬ال جيزع لفراق‬

‫‪314‬‬
‫اإلحسان‬

‫املوت إال من كان ال يوقن بالبعث‪ .‬واحلزن الرقيق غري اجلزع‪.‬‬


‫القليب‪ ،‬حزن الذاكرين اهلل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أعلى من هذا احلُْزن النفسي البشري احلز ُن ُّ‬
‫اخلاشعني جلالل اهلل‪ ،‬حزن الواجلة قلوهبم من ذكر اهلل‪ ،‬اللَّيِّنة من ذكر اهلل‪.‬‬
‫شتان بني حزن على الناس وحزن خاشع هلل‪ .‬كالمها رمحة‪ ،‬لكن رمحة بني‬
‫اخللق واخللق ال نسبة هلا مع رمحة بني اخللق واحلق‪ .‬هذه الرمحة العليا ِرْز ٌق‬
‫لألنبياء واألصفياء‪ .‬عني بكت من خشية اهلل ال تدخل النار‪ ،‬تساوي يف‬
‫النَّجاء والعالء عينا سهرت حارسة جند اهلل‪ .‬رجل ذكر اهلل خاليا ففاضت‬
‫عيناه يدخل يف ظل اهلل يوم ال ظل إال ظل اهلل‪.‬‬
‫ي‪ .‬قال اهلل تعاىل‬ ‫ترفع دمعة احلزن هلل صاحبها إىل مصاف اجملاهدين املُ ْجتَبـَْ َ‬
‫يف سورة التوبة يستثين الباكني الذين حال الفقر بينهم وبني املشاركة يف اجلهاد‬
‫س َعلَى‬ ‫املخلفني القاعدين عن اجلهاد نفاقا وجبنا ورقّة دين‪َ﴿ :‬يْ َ‬ ‫من طوائف َ‬
‫ج إِ َذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين الَ يَج ُدو َن َما يُنف ُقو َن َح َر ٌ‬ ‫ضى َوالَ َعلَى الذ َ‬ ‫ُّع َفاء َوالَ َعلَى ال َْم ْر َ‬ ‫الض َ‬
‫يل واللّه غَ ُف ِ‬ ‫نَصحواْ لِلّ ِه ورسولِ ِه ما علَى الْمح ِسنِ ِ‬
‫يم{‪}91‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬‫ين من َسبِ ٍ َ ُ ٌ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َُ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َحملُ ُك ْم َعلَْيه تـََولواْ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين إ َذا َما أَتـَْو َك لتَ ْحملَ ُه ْم قـُل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ْت الَ أَج ُد َما أ ْ‬ ‫َوالَ َعلَى الذ َ‬
‫‪1‬‬
‫يض ِم َن َّ‬
‫الد ْم ِع َح َزناً أَالَّ يَ ِج ُدواْ َما يُ ِنف ُقو َن﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َّوأَ ْعيـُنـُُه ْم تَف ُ‬
‫ين أَنـَْع َم اللَّهُ‬ ‫وقال تعاىل يف آخر ذكره لألنبياء يف سورة مرمي‪﴿ :‬أُولَئِ َ َّ ِ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ْ‬
‫يل‬ ‫وح وِمن ذُ ِّريَِّة إِبـْر ِاه ِ ِ‬ ‫علَي ِهم ِّمن النَّبِيِّين ِمن ذُ ِّريَِّة ِ‬
‫يم َوإ ْس َرائ َ‬ ‫َ َ‬ ‫آد َم َوم َّم ْن َح َملْنَا َم َع نُ ٍ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫ِ‬
‫الر ْح َمن َخ ُّروا ُس َّجداً َوبُكيّاً ﴾‪.‬‬ ‫ات َّ‬‫اجتَبـَيـْنَا إِ َذا تـُتـْلَى َعلَْي ِه ْم آيَ ُ‬ ‫ِ‬
‫َوم َّم ْن َه َديـْنَا َو ْ‬
‫‪2‬‬

‫وقال جل جالله يتحدث عن الباكني لسماع القرآن‪﴿ :‬يَ ِخ ُّرو َن‬

‫‪ 1‬االيتان‪91-92 ،‬‬
‫‪ 2‬اآلية‪58 ،‬‬

‫‪315‬‬
‫اإلحسان‬

‫ان ُس َّجداً َويـَُقولُو َن ُس ْب َحا َن َربـِّنَا إِن َكا َن َو ْع ُد َربـِّنَا لَ َم ْفعُوالً َويَ ِخ ُّرو َن‬ ‫لِألَ ْذقَ ِ‬
‫شوعاً﴾‪ 1.‬وقال جل من قائل‪﴿ :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤِمنُو َن‬ ‫لِألَ ْذقَ ِ‬
‫ان يـَْب ُكو َن َويَ ِزي ُد ُه ْم ُخ ُ‬
‫ين إِ َذا ذُكِ َر اللّهُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫س َن‬ ‫ت قـُلُوبـُُه ْم﴾‪ .‬وقال سبحانه‪﴿ :‬اللَّهُ نـََّز َل أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫الذ َ‬
‫‪2‬‬

‫ش ْو َن َربـَُّه ْم ثُ َّم‬
‫ين يَ ْخ َ‬ ‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ جلُ ُ َّ ِ‬ ‫يث كِتَاباً ُّمتَ َ‬
‫شابِهاً َّمثَانِ َي تـَْق َ‬ ‫الْح ِد ِ‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شاءُ‬ ‫ك ُه َدى الله يـَْهدي به َم ْن يَ َ‬ ‫ود ُه ْم َوقـُلُوبـُُه ْم إلَى ذ ْكر الله َذل َ‬ ‫ين ُجلُ ُ‬ ‫تَل ُ‬
‫اد﴾‪.‬‬ ‫ضلِل اللَّهُ فَما لَهُ ِمن َه ٍ‬
‫َوَمن يُ ْ ْ‬
‫‪3‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫دى وعبادة‪ .‬وقسوة‬ ‫رقة القلب ولينُه من ذكر اهلل ومساع آيات اهلل ُه ً‬
‫اصل‬
‫القلب وحتجر العني ضالل‪ .‬وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متو َ‬
‫األحزان‪ ،‬عميق التأثر بذكر اهلل كما يليق بالرمحة املهداة صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫عني اهلداية صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬روى اإلمام أمحد وأبو داود والنسائي عن‬
‫مطرف بن عبد اهلل عن أبيه قال‪" :‬رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويف‬
‫صدره أزيز كأزيز املِْر َج ِل من البكاء"‪ .‬املرجل القدر تغلي فيسمع تـَنـَُّفسها‪.‬‬
‫ويف رواية للطرباين عن احلسن بن علي رضي اهلل عنهما عن خاله هند‬
‫بن هالة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان متواصل األحزان‪.‬‬
‫هذه الشخصية اإلميانية القوية يف ذات اهلل اللوامة للنفس يف جنب اهلل‬
‫متجه َمة غضبية‪ .‬الشخصية اإلميانية اإلحسانية حزينة هلل على‬ ‫ليست شخصية ِّ‬
‫نفسها‪ ،‬باكية تائبةٌ راجعةٌ على الدوام إىل التفكر‪ ،‬لكنها مبقتضى االعتدال الوارد‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ِ َّ ٍ‬
‫يف قوله تعاىل من صفات الذين حيبهم سبحانه وحيبونه‪﴿ :‬أَذلة َعلَى ال ُْم ْؤمن َ‬
‫يل اللّ ِه﴾‪ 4‬تلني للناس‪ ،‬وتبتسم‪ ،‬وتبشر‪،‬‬ ‫أ َِع َّزٍة َعلَى الْ َكافِ ِرين يج ِ‬
‫اه ُدو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫َ َُ‬
‫‪ 1‬اإلسراء‪ ،‬اآليات‪107-109 :‬‬
‫‪ 2‬األنفال‪2 ،‬‬
‫‪ 3‬الزمر‪23 ،‬‬
‫‪ 4‬املائدة‪54 ،‬‬

‫‪316‬‬
‫اإلحسان‬

‫وتيسر‪ ،‬وختالق الناس باخللق احلسن‪ ،‬وتلقاهم بالبشاشة الدائمة‪ .‬بشخصية عادلة‬
‫معتدلة يتألف من تعددها وحتزهبا هلل وتربيتها جسم جماهد جيمع بني مقتضيات‬
‫الدعوة والدولة وبني باعث القرآن ووازع السلطان‪ .‬من اخلمول والدروشة وانعكاس‬
‫الفهم أن حنزن ونبكي ونتجهم ونلعن ونبدِّع الناس بال حجة ونكفر وننادي‬
‫بالويل والثبور وعظائم األمور حيث ينبغي أن نبتسم ونبتهج ونرفُق ونعطف‬
‫ونتصرف بثقة يف وعد اهلل‪ ،‬وثبات على أمر اهلل‪ ،‬مع إخواننا عباد اهلل‪.‬‬
‫تبسما‪ .‬قال عبد اهلل بن احلرث‬ ‫كان صلى اهلل عليه وسلم أكثر الناس ّ‬
‫بن جزء‪" :‬ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬
‫رواه الرتمذي بإسناد صحيح‪ .‬وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪" :‬ما رأيت رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُمستجمعا قط ضاحكا حىت تُرى َلَواتُه‪ ،‬إمنا كان‬
‫يتبسم"‪ .‬رواه الشيخان وغريمها‪.‬‬
‫الضحك املستجمع من فعل الغافلني‪ ،‬والقهقهة املستهرتة من مس‬
‫الشياطني‪ .‬كيف يضحك مستجمعا من قيل له يف القرآن الكرمي‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها‬
‫ت لِغَ ٍد﴾‪1‬؟ التبسم إلخوتك والبِشر‬ ‫س َّما قَ َّد َم ْ‬ ‫َّ‬
‫آمنُوا اتـَُّقوا اللهَ َولْتَنظُْر نـَْف ٌ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫والتبشري حق املسلمني عليك‪ ،‬لكن حماسبة النفس يف حقوق اهلل هي واجبك‬
‫حنو اهلل‪ .‬قال أمري املؤمنني عمر‪ :‬حاسبوا أنفسكم قبل أن حتاسبوا‪ ،‬وزنوها قبل أن‬
‫توزنوا‪ .‬والعاقل من جعل َديْ َدنَه حماسبة النفس صباح مساء‪ ،‬يستغفر ربه لزالته‪،‬‬
‫وحيمده على نعمائه‪ ،‬ويستغفر ويبكي ويتوب ويتفكر ويذكر‪.‬‬
‫ين! اعلم أن أهل املعرفة يبكون إذا ضحك أهل‬
‫قال اإلمام الرفاعي‪" :‬أي بُ َّ‬
‫الغفلة‪ ،‬وحيزنون إذا فرح أهل الغَِّرة (‪ )...‬واعلم أن البكاء بكاء العني‪ ،‬وبكاء‬

‫‪ 1‬احلشر‪18 ،‬‬

‫‪317‬‬
‫اإلحسان‬

‫القلب‪ ،‬وبكاء السر‪ .‬فأما بكاء العني فهو ألهل املعرفة من املنيبني‪ ،‬وأما بكاء‬
‫القلب فهو ألهل املعرفة من املريدين‪ ،‬وأما بكاء السر فهو ألهل املعرفة من‬
‫احملبني‪ .‬واعلم أن ألهل املعرفة مهوما خمبوءة حتت أسرارهم‪ ،‬مستورة عن أفكارهم‪.‬‬
‫فكلما هاج من أسرارهم رياح خشية اهليبة‪ ،‬ومن قلوهبم هلب نريان األحزان‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫أحرقَت ما عليها من هشيم الغفلة والنسيان"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬أفضل العبادات والطاعات مراقبة احلق على دوام األوقات"‪.‬‬
‫وقال القشريي‪" :‬احلزن حال يقبض القلب عن التفرق يف أودية الغفلة"‪ .‬وقال‬
‫أبو عثمان املغريب‪" :‬أفضل ما يلزم به اإلنسان نفسه يف هذه الطريقة احملاسبة‬
‫واملراقبة وسياسة عمله بالعلم"‪ .‬وقال اجلريري‪" :‬أمرنا هذا مبين على أصلني‪:‬‬
‫ومها أن تلزم نفسك املراقبة هلل تعاىل وأن يكون العلم على ظاهرك قائما"‪.‬‬
‫الشخص الرباين يُعطي كل ذي حق حقه‪ ،‬ظاهراً لظاهر‪ ،‬وباطناً لباطن‪.‬‬
‫إسالمه أساس إلميانه‪ ،‬وإميانه تشييد إلحسانه‪ ،‬وغايته اهلل‪ ،‬وذكره اهلل‪ ،‬وتفكره‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫اي َوَم َماتِي لِلّ ِه َر ِّ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫سكي َوَم ْحيَ َ‬
‫اهلل‪ ،‬وحزنه هلل‪﴿ .‬قُل إِ َّن صالَتِي ونُ ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ين﴾ ‪ .‬ال إله إال اهلل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك أ ُِم ْر ُ‬
‫ت َوأَنَاْ أ ََّو ُل ال ُْم ْسلم َ‬ ‫يك لَهُ َوبِ َذلِ َ‬
‫الَ َش ِر َ‬
‫‪2‬‬

‫قال عارف باهلل‪ ،‬عابد هلل‪ ،‬ذاكر هلل‪:‬‬


‫والعـارفون لدى اجلليــل قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫الليــل داج والعص ــاة ني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا م‬
‫ـام‬ ‫ِ‬
‫جتري ومنها قد تفيض س َج ـ ـ ـ ُ‬ ‫يتلون آيات اهلـدى ودمـوعهم ‬
‫شوقا وليس ملـن حيـب مـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام‬ ‫ال يصربون سويعـ ــة عـن ذكــره ‬

‫‪ 1‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.218‬‬


‫‪ 2‬األنعام‪ ،‬اآليتان‪164-165 :‬‬

‫‪318‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال احملاسب لنفسه النادم على ضياع عمره‪ ،‬التائب إىل ربه‪:‬‬
‫وكـم هكـذا نـوم‪ ،‬متـى يـوم يقظ ـ ــة؟‬ ‫إىل كــم متــادى يف غــرور وغفلـ ــة ‬
‫مبــلء السما واألرض‪ ،‬أية ضيع ـ ــة!‬ ‫لقد ضـاع عمـر‪ ،‬سـاعة منه تُ ْشـتـرى ‬
‫أىب اهلل أن تسـوى جناح بعـوضـ ــة!‬ ‫أتنفـ ُـق هــذا يف هــوى ه ــذه الـتـي ‬
‫مـع املــإل األعلــى بعيـش البهيم ـ ـ ــة!‬ ‫وترضى من العيـش السعيد تعيشـ ـ ــه ‬
‫ـت بـأخبــس قيمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة!‬ ‫وجــوهــرة بِيع ْ‬ ‫أيـا ُدرة بـيــن امل ـزابل أُلقـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ‬
‫وسخطــا برضـ ـوان ونــارا جبـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة!‬ ‫ـان ببـ ٍ‬
‫ـاق تشـت ـ ـريـ ـ ــه سف ــاهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ةً‬ ‫أفـ ٍ‬
‫فـإنـك تـرميه ـ ـ ــا بـ ـك ــل مصـيـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة!‬ ‫أأنـت صدي ــق أم ع ــدو لنفـس ـ ـ ـ ـ ـه ‬
‫ـض رمح ـ ـ ـ ـ ـ ــة!‬ ‫ملستــهم هلـا بعـ ُ‬‫فعلـت َّ‬ ‫ولـو فـعـل األعــدا بنفسـك بعـض ما ‬
‫وكـانت هبـذا منـك َغ ْـيـ َـر حقيق ـ ـ ـ ـ ــة!‬ ‫‪-‬حزين عليك!‪ -‬رخيصةً ‬ ‫لقد بعتَها ْ‬
‫من اخللـق! إن كنت ابـن أم كرميـة!‬ ‫ض َحْنهـا مبَشهد ‬ ‫ـك! استقل ال تـَْف َ‬ ‫فـََويْ َ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اللَّ ـي ــل َد ٍاج و ُّ‬


‫ـب منَّـ ـ ـ ــا ُسج ٌد وقي ـ ـ ُ‬
‫ـام‬ ‫ـح ُ‬ ‫الص ْ‬
‫و َّ‬ ‫ـام ‬
‫الدم ـ ــوعُ س َجـ ـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َما منـ ـه ـ ــم إالَّ فـ ـ ـ ـت ًـى ضـ ـ ــرغـ ـ ُ‬
‫ـام‬ ‫تشمروا ‬
‫فإذا ْانلى َوجهُ النَّهار َّ‬
‫عن َغري ما يـ ْقضـي اجلِ ِ‬
‫يام‬
‫هاد ص ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َع ْـن ذكـ ِر ْ‬
‫هم ال يَفتُـرو َن وإهن ــم ‬

‫‪319‬‬
‫اإلحسان‬

‫ذكر الموت والدار اآلخرة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ْت إِلَ َّي ِم ْن َخ ْي ٍر فَِق ٌير﴾‪.‬‬ ‫﴿ر ِّ ِ‬
‫ب إِنِّي ل َما أ َ‬
‫َنزل َ‬ ‫َ‬
‫اللهم إين أعوذ بك من الربص واجلنون واجلذام وسيِّئ األسقام‪.‬‬

‫الفالح مع‬‫َ‬ ‫يف أول سورة البقرة وأول سورة لقمان رتب اهلل عز وجل‬
‫اب‬ ‫شروط إميانية أخرى وربطه باليقني باآلخرة‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬الم َذلِ َ ِ‬
‫ك الْكتَ ُ‬
‫الصال َة َوِم َّما‬
‫يمو َن َّ‬ ‫الَ ريب فِ ِيه ه ًدى لِّلْمت َِّقين الَّ ِذين يـ ْؤِمنُو َن بِالْغَي ِ ِ‬
‫ب َويُق ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬
‫ك وبِ ِ‬
‫اآلخ َرِة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ين يـُْؤِمنُو َن بِ َما أُن ِز َل إِلَْي َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َوَما أُن ِز َل من قـَْبل َ َ‬ ‫اه ْم يُنف ُقو َن والذ َ‬ ‫َرَزقـْنَ ُ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾‪ 1.‬وقال‬ ‫ك َعلَى ُه ًدى ِّمن َّربِّ ِه ْم َوأ ُْولَـئِ َ‬ ‫ُه ْم يُوقِنُو َن أ ُْولَـئِ َ‬
‫اب الْح ِك ِيم ُه ًدى ور ْحمةً لِّل ِ ِ‬ ‫ْك آي ُ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫ْم ْحسن َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫ات الْكتَ ِ َ‬ ‫تبارك امسه‪﴿ :‬الم تل َ َ‬
‫ك َعلَى‬ ‫الزَكا َة َو ُهم بِ ْال ِخ َرِة ُه ْم يُوقِنُو َن أ ُْولَئِ َ‬ ‫الص َل َة َويـُْؤتُو َن َّ‬
‫يمو َن َّ‬ ‫الَّ ِذ ِ‬
‫ين يُق ُ‬‫َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفل ُحو َن﴾‪ .‬اهلداية بالقرآن‪ ،‬واإلميان بالغيب‪،‬‬
‫‪2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُه ًدى ِّمن َّربِّه ْم َوأ ُْولَئ َ‬
‫وإقامة شرائع الدين تثمر يقينا باآلخرة وفالحا أبديا‪.‬‬
‫وقد أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بذكر اآلخرة فقال‪" :‬اذكروا َه ِاذ َم‬
‫اللذات"‪ .‬رواه اإلمام أمحد وأصحاب السنن غري أيب داود عن أيب هريرة‪ .‬وما‬

‫‪ 1‬البقرة‪ ،‬اآليات‪1-5 :‬‬


‫‪ 2‬لقمان‪ ،‬اآليات‪1-5 :‬‬

‫‪320‬‬
‫اإلحسان‬

‫ألحد أُسوة برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إن مل يكن يَرجو اهلل واليوم اآلخر‬
‫يقينا واحدا‪ .‬ويف احلديث‪" :‬من أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه‪ ،‬ومن كره لقاء‬
‫اهلل كره اهلل لقاءه"‪ .‬قالت عائشة رضي اهلل عنها راويةُ احلديث‪" :‬فقلت‪ :‬يا‬
‫نيب اهلل! أكراهية املوت؟ فكلنا نكره املوت! قال‪" :‬ليس ذلك! ولكن املؤمن‬
‫إذا بُشِّر برمحة اهلل ورضوانه وجنته أحب لقاء اهلل فأحب اهلل لقاءه‪ ،‬وإن الكافر‬
‫إذا بشر بعذاب اهلل وسخطه كره لقاء اهلل وكره اهلل لقاءه"‪ .‬أخرجه الشيخان‪.‬‬
‫الكافرون اجلاحدون نـُبُوة سيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم آنذاك مل‬
‫يكن كفرهم باملعاذ كفرا ُمطْبَقاً‪ ،‬إمنا كانوا من اآلخرة يف شك مريب كما قال‬
‫تعاىل‪﴿ :‬بَ ْل ُه ْم فِي َش ٍّ‬
‫ك ِّمنـَْها بَ ْل ُهم ِّمنـَْها َع ِمو َن﴾‪ 1.‬لذلك يكرهون لقاء‬
‫اهلل‪ .‬أما يف عصرنا فالكفر باهلل وباليوم اآلخر ِسَةُ احلضارة املادية احلواسية‬
‫الدوابية‪ .‬وقد غلبت ثقافتها وخطاهبا اجلهنمي وهيمنت حىت إنك تقرأ كتب‬
‫اإلسالم الثقايف من الدفة إىل الدفة فال جتد ذكراً هلل وال لليوم اآلخر إال استثناء‬
‫غري مقصود‪ .‬وإن حاجتنا إىل العودة للخطاب القرآين والنبوي‪ ،‬وكالمها ذكر‬
‫هلل واآلخرة‪ ،‬ملن أمس احلاجات حىت ال نتيه وتضيع منّا ُم ْس َكة اإلميان بالغيب‬
‫اليت عليها مدار اهتدائنا وفالحنا‪.‬‬
‫قرأنا يف حديث التقرب بالفرض والنفل‪ ،‬يف آخره‪ ،‬قول اهلل عز وجل‪،‬‬
‫فيما رواه عنه عبده ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬وما ترددت عن شيء أنا‬
‫فاعله ترددي عن نفس املؤمن‪ ،‬يكره املوت وأكره مساءته"‪.‬‬
‫فاملؤمن كما قالت أمنا عائشة يكره املوت دون أن خترجه هذه الكراهية‬
‫عن مرتبة الكرامة املعطاة ملن أحب لقاء اهلل‪ .‬حيب لقاء اهلل لكنه يكره املوت‬

‫‪ 1‬النمل‪66 ،‬‬

‫‪321‬‬
‫اإلحسان‬

‫استصعابا ملقدماته وسكراته‪ ،‬أو ملفارقة األهل والولد‪ ،‬إن كان ممن بقيت‬
‫فيه بقية تعلق بالدنيا وأهلها ملا يطلقها‪ ،‬أو استزادة للعمل الصاحل‪ ،‬أو طلبا‬
‫الستصالح أمره واالستغفار لذنبه‪ .‬وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عاىن من سكرات املوت‪ ،‬فكان يقول‪" :‬إن للموت لسكرات!"‪ .‬وقال عمرو‬
‫جير به‬
‫بن العاص وهو ُيتضر‪" :‬كأين أتنفس من خرم إبرة‪ ،‬وكأن غصن شوك ُّ‬
‫من قاميت إىل هاميت"‪.‬‬
‫من الناس من يسهل انتقاله‪ ،‬وليس يف سهولة موته ما يدل على ميزة‬
‫ف‬‫سعادية‪ .‬فإن كان من املؤمنني من يكره املوت فلألسباب املذكورة‪ .‬وإال َ‬
‫"املوت حتفة املؤمن" كما روى الطرباين بإسناد جيد من حديث عبد اهلل بن‬
‫عمرو مرفوعا‪ .‬املوت عند العارفني احملسنني األولياء راحة‪ ،‬ألهنا ختففهم من‬
‫كثافة اجلسم الرتايب‪ ،‬فيُصبح لقاء اهلل أقرب‪ ،‬يسبحون يف الروحانية حىت‬
‫يبعثهم اهلل ويبعث من يف القبور يف أجسام اخللود اليت هبا يتنعم من يتنعم وفيها‬
‫يعذب من يعذب‪ ،‬أجارنا اهلل وإياكم من عذابه‪.‬‬
‫يف حضارة احلواس املادية الكافرة كراهية للموت من صنف آخر‪ .‬املوت‬
‫عندهم هو العدو األول ألن املوت يعين العدم ومغادرة "احلياة" اجلميلة‬
‫الغالية‪ .‬املوت يُطوى عندهم ذكره‪ ،‬وتَ ْس ُم ُج يف آداهبم اإلشارة إليه‪ .‬حىت إن‬
‫أكثر دور اإلقبار وشركات الدفن والتحنيط جناحاً هي اليت ختتلس اجلثّة سراً‬
‫ويف صمت دون أن يسمع عن ذلك أحد‪ .‬وجل احملتضرين وامليؤوس منهم‬
‫يساقون إىل املستشفيات ليموتوا هناك بعيدا عن األبصار واألمساع‪.‬‬
‫يف ديننا تشجع السنة الغراء على السكون للموت واالستئناس به‪ .‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم أليب َذر‪" :‬زر القبور تذكر هبا اآلخرة‪ ،‬واغسل املوتى فإن‬
‫معاجلة جسد خا ٍو موعظة بليغة‪ .‬وصل على اجلنائز لعل ذلك ُيزنك فإن احلزين‬

‫‪322‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف ظل اهلل يوم القيامة"‪ .‬رواه احلاكم ووافقه الذهيب على صحته‪.‬‬
‫احلزن النفيس هو املقصود هنا ال حزن الرقة والعطف‪.‬‬
‫تربية أهل اإلميان ينبغي أن جتمع القلوب والعقول على ذكر اهلل‪ ،‬والتفكر‬
‫أفعال اهلل هبا وبالعامل‪ ،‬والتفكر يف اآلخرة وذكرها‪،‬‬‫يف النفس ومصريها‪ ،‬و ِ‬
‫ِ‬
‫االستيناس باملوت ال باعتباره قفزة إىل اجملهول‪ ،‬بل باعتباره مرورا من دار‬ ‫و‬
‫الفناء إىل دار البقاء‪ .‬يف تربية أهل اإلميان يؤدي ذكر اهلل عز وجل والتفكر‬
‫والدعاء واحلزن النفيس وحماسبة النفس ودوام مناجاة اهلل جل شأنه باالستغفار‬
‫والتضرع وطلب الزلفى والقرب منه إىل قصر األمل وإىل العزوف عن الدنيا‪.‬‬
‫وتكون اآلخرة كأهنا رأي العني من متكن اليقني‪ .‬ما أخرب به اهلل ورسوله عند‬
‫العبد الفاحل املفلح يقني إمياين‪ ،‬وعند احملسن املقرب ممن أكرمهم اهلل بالبصرية‬
‫ُ‬
‫وفتح عني قلوهبم حقيقة ماثلة‪ .‬سؤال ال َـملَ َكني‪ ،‬وعذاب القرب نعوذ باهلل‪،‬‬
‫والنفخ يف الصور‪ ،‬والبعث‪ ،‬والنشر‪ ،‬واحلشر‪ ،‬واملوقف‪ ،‬والشفاعة‪ ،‬واحلساب‪،‬‬
‫وامليزان‪ ،‬والصراط‪ ،‬واجلنة‪ ،‬والنار‪.‬‬
‫والذاكرون اهلل كثريا احملبون احملبوبون‪ ،‬املريدون املرادون‪ ،‬يتطلعون إىل‬
‫موطن فيه وجوه ناضرة إىل رهبا ناظرة‪ .‬طووا الدنيا واآلخرة‪ ،‬وجمّوا من قلوهبم‬
‫دار األكدار‪ ،‬دار الغرور‪ ،‬دار البالء واالمتحان‪.‬‬
‫إن ثقافة املوت واآلخرة ‪-‬أعوذ باهلل من هذه الكلمات الدخيلة احلاملة معها‬
‫أس ِر املادة‬
‫ريح الكفر‪ .-‬أقول‪ :‬إن ذكر اآلخرة يف سياق ذكر اهلل انطالق من ْ‬
‫وارتفاع عن حضيض احلياة الدنيا إىل احلياة العليا‪ .‬من شأن هذا االنطالق أن حيرر‬
‫طاقات املؤمنني حني تصبح اآلخرة عندهم هي حقيقة احلياة‪ ،‬وحني يَكون العمل‬
‫الصاحل هنا يف الدنيا هو الزاد املطلوب هناك‪ ،‬والعُ ْملَة الرائجة إن كان عليها طابع‬

‫‪323‬‬
‫اإلحسان‬

‫ْب َسلِ ٍ‬
‫يم﴾‪ 1.‬زاد‬ ‫ال َوَل بـَنُو َن إَِّل َم ْن أَتَى اللَّهَ بَِقل ٍ‬
‫اإلخالص‪ ﴿ ،‬يـَْوَم َل يَن َف ُع َم ٌ‬
‫املؤمنني إىل هناك العمل الصاحل‪ ،‬ز ُاد قوم تقربوا إىل اهلل وذكروه كثريا فخرجوا منها‬
‫وقد فازوا باهلل‪ ،‬وصحبوا يف سفرهم إىل اآلخرة اهلل‪ ،‬ونظروا بعني قلبهم هنا وينظرون‬
‫بعني رأسهم هناك اهلل‪.‬‬
‫من شأن ذكر املوت يف حياة أهل اإلميان أن يهو َن عليهم املوت ما داموا‬
‫ساعني يف العمل الصاحل ويف رضى اهلل‪ .‬يُصبح االستشهاد يف سبيل اهلل مطلبا‬
‫غاليا‪ ،‬ويكون اجلُهد واجلهاد يف سبيل اهلل بذال مقصودا‪ ،‬ال تصرفهم الصوارف‬
‫وال متنعهم املوانع عن الفاعلية الكبرية يف الدنيا‪ .‬أما الباكون املتباكون من‬
‫خوف املوت‪ ،‬املتماوتون يف الدنيا مخوال ويأسا فقوم آخرون بل وباء وطاعون‪.‬‬
‫املؤمن مستبشر يف الدنيا باهلل‪ ،‬ويف اآلخرة باجلزاء احلسن وباهلل‪ .‬حسن ظنه‬
‫باهلل قبل املوت وعنده عبادة‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال ميوتَ َّن‬
‫أحدكم إال وهو حيسن الظن باهلل تعاىل"‪ .‬رواه مسلم وأبو داود عن جابر‪.‬‬
‫قال ابن عطاء اهلل رمحه اهلل يصف الدنيا وطبيعتها مبا هي دار بالء‬
‫ت يف هذه الدار‪ .‬فإهنا ما‬ ‫واختبار وعبور‪" :‬ال تستغرب وقوع األكدار ما ُد ْم َ‬
‫أبْرزت إالّ ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها"‪ .‬وقال‪" :‬إمنا جعل اهلل الدار‬
‫اآلخرة حمال جلزاء عباده املؤمنني ألن هذه الدار ال تسع ما يريد أن يعطيَهم‪،‬‬
‫أجل قدرهم من أن جيازيهم يف دار ال بقاءَ هلا"‪.‬‬
‫وألنه َّ‬
‫إالم صرمت؟‬
‫وقال اإلمام عبد القادر‪" :‬اقْعد مبقربة! خاطب املوتى‪ :‬ما لقيتم؟ َ‬
‫أين األهل؟ أين األوالد؟ أين الدور؟ أين األموال؟ أين الشباب؟ أين القوة؟ أين‬
‫احملاب؟ أين الشهوات؟ كأهنم‬
‫األمر؟ أين النهي؟ أين األخذ؟ أين العطاء؟ أين ُّ‬

‫‪ 1‬الشعراء‪88-89 ،‬‬

‫‪324‬‬
‫اإلحسان‬

‫ندمنا على ما خلفنا! فرحنا مبا قدمنا! هكذا كن إذا أردت أن‬ ‫خياطبونك‪ِ :‬‬
‫تزور املقابر خاليا عن الرفيق‪ ،‬خاليا عن الرجال والنساء‪ .‬كونوا عقالء ! أنتم‬
‫‪1‬‬
‫موتى عن قريب!"‪.‬‬
‫العارف‬
‫وقال‪" :‬املؤمن غريب يف الدنيا‪ ،‬والزاهد غريب يف اآلخرة‪ ،‬و َ‬
‫غريب فيما سوى املوىل‪ .‬املؤمن مسجون يف الدنيا وإن كان يف سعة الرزق‬
‫واملنزل‪ .‬أهله يتقلبون يف ماله وجاهه‪ ،‬ويفرحون ويضحكون حواليه‪ ،‬وهو‬
‫يف سجن باطن‪ .‬بشره يف وجهه‪ ،‬وحزنه يف قلبه‪ .‬عرف الدنيا فطلقها بقلبه‬
‫(‪ .)...‬ووقف مع اآلخرة بكليته فبينما هو معها إذ برق نور احلق عز وجل‪،‬‬
‫فطلق األخرى قالت له الدنيا‪ :‬مل طلقتين؟ قال هلا ‪:‬رأيت أحسن منك! وقالت‬
‫له األخرى‪ :‬مل طلقتين؟ قال هلا‪ :‬ألنك حمدثة مصورة (…) فحينئذ حتققت‬
‫معرفته لربه عز وجل‪ ،‬فصار ُحّراً مما سواه‪ ،‬غريبا يف الدنيا واآلخرة"‪ 2.‬قلت نعم‬
‫العبد َمن يسأل اهلل اجلنة ألهنا دار ُم َق َامة السعداء املفلحني‪ ،‬لكنه ال يرضى‬
‫أن يكون ضيفا دون لقاء رب الدار‪.‬‬
‫وقال رضي اهلل عنه‪" :‬الزاهدون يأكلون يف اجلنة‪ ،‬والعارفون يأكلون عنده‬
‫وهم يف الدنيا‪ .‬واحملبون ال يأكلون يف الدنيا وال يف اآلخرة‪ ،‬طعامهم وشراهبم‪،‬‬
‫أُنسهم وقرهبم‪ ،‬من رهبم عز وجل‪ ،‬ونظرهم إليه‪ .‬باعوا الدنيا باآلخرة‪ ،‬مث باعوا‬
‫رب الدنيا واآلخرة‪ .‬الصادقون يف حمبته باعوا‬ ‫اآلخرة بقرهبم من رهبم عز وجل ِّ‬
‫الكرُم‪َ ،‬فرَّد‬
‫ب َ‬ ‫الدنيا واآلخرة بوجهه وأرادوه دون غريه‪ .‬فلما مت البيع والشراء َغلَ َ‬
‫‪3‬‬
‫عليهم الدنيا واآلخرة َم ْوِهبَةً‪ ،‬وأمرهم بتناوهلما فأخذومها"‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.373‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق ص ‪.178‬‬
‫‪ 3‬املصدر السابق ص ‪.221‬‬

‫‪325‬‬
‫اإلحسان‬

‫الذين ال يؤمنون باآلخرة يقتحمون املوت وينتحرون ظنا منهم أهنا الراحة‬
‫من هذه احلياة الكدرة‪ .‬وحقيق للنفوس ذوات املروءة اإلنسانية أن تشمئز من‬
‫كل معىن وجود اإلنسان وغايتُه أن يكون عُلبةً لألكل واإلفراز‪،‬‬ ‫الدنيا إذا كان ُّ‬
‫السفاد!‬ ‫وآلة لالستهالك واإلنتاج‪ ،‬سعادته اللهو واللعب والفن والعطلة و ِّ‬
‫كتب رجل من صاحلي األمة وصيتَه بني يدي املوت وجهها إىل ربه عز‬
‫وجل يوصيه فيها بنفسه‪ ،‬إذ مل يكن له من متاع الدنيا ما يوصي به‪ .‬قال‪:‬‬
‫وجعلت‬
‫ُ‬ ‫"إهلي إنك أمرتنا بالوصية عند حلول املنية‪ .‬وقد هتجمت عليك‪،‬‬
‫إليك‪ ،‬عند قدومي عليك‪ .‬فأول ما يُبدأ به إذا نزلت قربي‪ ،‬وخلوت‬ ‫وصييت َ‬
‫ب ِوزري‪ ،‬وأسلمين أهلي‪ ،‬أن تؤنس وحشيت‪ ،‬وتوسع حفريت‪ ،‬وتلهمين جواب‬
‫منصوب نصييب ويف لوح صحيفيت بقلم ﴿الْيـَْوَم يـَغْ ِف ُر‬
‫ِ‬ ‫مسأليت‪ ،‬مث تكتب على‬
‫اللّهُ لَ ُكم و ُهو أَرحم َّ ِ ِ‬
‫مجعت ُرفايت‪ ،‬وحشرتين يوم ميقايت‪،‬‬ ‫ين﴾‪ .‬فإذا َ‬ ‫الراحم َ‬
‫‪1‬‬
‫ْ َ َ َْ ُ‬
‫ونشرت صحيفة سيئايت وحسنايت‪ ،‬نظرت إىل عملي‪ :‬فما كان من حسن‬
‫فاصرفه يف زمرة أوليائك‪ ،‬وما كان من قبيح فم ّد به إىل ساحل عتقائك‪،‬‬
‫واغفره يف َْبر عفوك وغفرانك‪ .‬مث إذا وقف عبدك بني يديك‪ ،‬ومل يُ َسبِّق إال‬
‫س منه بني عفـوك وذنبه‪ ،‬وبني غناك وفقره‪،‬‬ ‫ِ‬
‫افتقاره إليك‪ ،‬واعتماده عليك‪ ،‬فق ْ‬
‫عزك وذلِّه‪ ،‬مث افعل فيه ما أنت أهله‪ .‬فهذه وصييت‬ ‫وبني حلمك وجهله‪ ،‬وبني ِّ‬
‫إليك‪ ،‬تطفال بفضلك عليك‪ .‬وأنا أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأشهد أن حممدا‬
‫عبدك ورسولك‪ ،‬وأن املوت حق‪ ،‬وأن احلياة باطل‪ ،‬وأن الساعة آتية ال ريب‬
‫فيها‪ ،‬وأن اهلل يبعث من يف القبور"‪.‬‬
‫هذا املوقف اإلجيايب اليقيين من املوت وما بعدها ومن اهلل عز وجل ما هو‬

‫‪ 1‬يوسف‪92 ،‬‬

‫‪326‬‬
‫اإلحسان‬

‫وثبة يف اجملهول‪ ،‬هو عكس املوقف االنتحاري‪ .‬كتب الوصية عز الدين بن عبد‬
‫السالم املقدسي‪ ،‬وهو شخص آخر غري سلطان العلماء‪ ،‬عاش قبله‪ .‬رحم اهلل‬
‫اجلميع مبنه وكرمه‪.‬‬
‫قال موقن بلقاء ربه‪:‬‬
‫ـخـ َـر ُج ـ ـ ــه‬ ‫القرب َمْنـ ِزلُه والبع ـ ـ َ‬
‫ـث َم ـ ـ ْ‬ ‫ِ‬
‫مـن كان يعلم أن املــوت َمـ ـ ـ ـ ْـورُد هُ و َ‬
‫ض ُج ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وأنـه بيـن ج ـن ـ ــات سـتُبـ ِهجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه يــوم القيــامة أو نــار ستـْن ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ِ‬
‫ـج ومــا أق ــام عليـه منــه أس َـم ُ‬ ‫فكل شيء سوى التقوى بـه َس ٌ‬
‫ـزعج ــه‬
‫ترى الذي اختذ الدنيا له َسـ َكنـ ـ ــا مل يدر أن املنايـا ســوف تُ ُ‬
‫وقال اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫كم ضاحــك واملنــايا فـوق هــامتـه لوكـان يعلـم غيب ـ ــا مـ ـ ـ ـ ــات منكـَ َـمـد‬
‫منكان لـم يؤت علما يف بقـاء غ د مـاذا تـف ُّـكـ ُـرهُ يف رزق بعــد َغـ ـ ـ ـ ـ ــد‬
‫وقال‪:‬‬
‫ب العيس مرتاحـا إىل بَل ـ ـ ـ ـ ــد واملــوت يطلبــه من ذلك البل ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬ ‫ومْتعِ ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬‫ِ‬
‫وضـاحك واملنـايا فـوق َمـ ْف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرقـه لو كـان يعلم غيبـا مات من َكمد‬
‫وقال‪:‬‬
‫ـت فـاعلـه يا من يـَُعـ ُّـد عليـه العـمــر بالنـََّفــس‬ ‫يا واعــظ الناس عما أنْ َ‬
‫احفظ لشيبك من عيـب يُ َدنِّسـه إن البيـاض قليـل احلمـل للدن ــس‬
‫النجـ ــس‬ ‫كحـامــل لثيـاب النـاس يغسـله ـ ـ ــا وثـوبـه غارق يف الرجـس و َ‬
‫تبغـي النجـاة ومل تسـلك طريقتهـ ـ ـ ــا إن الـسـفينة ال جتري على اليَبــَس‬
‫ركوبك النعش ينسيك الركـوب على ماكنت تركـب من بغـل ومن فرس‬
‫يــوم القـي ــامـة ال م ـ ـ ــال وال ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ د وضمـة القـرب تنـسي ليلـة العُ ـ ـ ـ ُـر ِس‬

‫‪327‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـب الغَ ـ َّـي يف حب ــر ويف يـبَ ــس‬ ‫وتَرك ـ ُ‬ ‫س ‬‫هو ٌ‬


‫ك! َذا َ‬ ‫تَبغِي النَّجا َة وتعصي َويْ َ‬
‫ـس‬ ‫لِ َدارِة ال َقرب َمشـ ــوراً إىل َّ‬
‫الرَم ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫ف بـه ‬‫ـش‪َ ،‬مــرُك ــوبـاً تَُـز ُّ‬ ‫تَ َّ‬
‫ذك ـ ــر النَّعـ ـ َ‬
‫الدنَـ ـ ِ‬
‫ـس‬ ‫ِ‬
‫سيئات ا ِإلمث و َّ‬ ‫يَداك من‬ ‫ـث َم ْرهــوناً مبا كســبَـ ْ ‬
‫ـت‬ ‫ـوم تُبع ـ ُ‬‫َوي ـ ـ َ‬

‫‪328‬‬
‫اإلحسان‬

‫االعتصام بالكتاب والسنة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬‫انص ْرني َعلَى الْ َق ْوم ال ُْم ْفسد َ‬
‫ب ُ‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫َ‬
‫اللهم إين أعوذ بك من اهلدم‪ ،‬ومن الرتدي‪ ،‬وأعوذ‬
‫احلرق واهلرم‪ .‬وأعوذ بك أن يتخبطين‬ ‫بك من الغرق و َ‬
‫الشيطان عند املوت‪ ،‬وأعوذ بك أن أموت يف سبيلك‬
‫ُم ْدبِراً‪ ،‬وأعوذ بك أن أموت لديغاً‪.‬‬

‫"أهل القرآن هم أهل اهلل وخاصته"‪ .‬هكذا قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف حديث رواه اإلمام أمحد وابن ماجه والنسائي واحلاكم عن أنس بسند‬
‫حسن‪ .‬أطهر أهل القرآن قلبا أقرهبم هلل‪ .‬ال ميسه إال املطهرون‪ ،‬وهم املالئكة‬
‫ومن دخل يف حكمهم بتطهره الظاهر والباطن حىت أزالت مالئكيته دوابيته‪،‬‬
‫وحمت نورانيته ظلمته‪ ،‬وأذهب اهلل عنه الرجس وقربه وأحبه وجعله من خاصته‪.‬‬
‫ولكل من عظم كتاب اهلل وخدمه حفظا وتالوة‪ ،‬وعمل بأمره وهنيه نصيب من‬
‫والية اهلل‪ .‬و َلَيـُْر األمة من تعلم القرآن وعلمه‪ ،‬إذا كان مع التعلم والتعليم تقوى‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حديث رواه البخاري وأبو داود‬
‫والرتمذي وابن ماجه عن عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪" :‬خريكم من تعلم‬
‫القرآن وعلمه"‪ .‬قال اإلمام الرفاعي يف شرح هذا احلديث‪" :‬هذا احلديث‬
‫الشريف يفيد أن اخلريية قد صحت ملن قد تعلم القرآن وعلمه ملا يف القرآن‬
‫العظيم من بالغ احلكم‪ ،‬وغامض السر‪ ،‬وخطري الشأن‪ ،‬وهو حبل اهلل األعظم‪،‬‬

‫‪329‬‬
‫اإلحسان‬

‫به يهتدي املهتدون‪ ،‬ويصل الواصلون‪ .‬وهو ُخلُق رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وباب اهلل تعاىل‪ ،‬واملعجزة الدائمة‪ ،‬والنور الذي ال ينحجب‪ .‬وعنه‬
‫تأخذ أرواح العارفني أسرار املعرفة‪ .‬وما املعرفة اليت مل ترجع إليه؟ ما هي إال زور‬
‫وضاللة‪ .‬ومىت حتقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم فقد صار عارفا‪ ،‬وانكشفت‬
‫َن‪ ،‬وطلب زيادة‬ ‫له األسرار الربانية‪ ،‬امللكية وامللكوتية‪ .‬ومىت صار عارفا َح َّن وأ َّ‬
‫العلم باهلل من كل طريق وفن وكل الطرق وال ُفنُون يف القرآن العظيم‪ .‬والعارفون‬
‫هم الراسخون يف العلم يقولون آمنا به‪ ،‬وإليه سري مهمهم‪ ،‬وعنه يصدرون‪ ،‬وبه‬
‫‪1‬‬
‫يهيمون‪ ،‬ومنه يأخذون"‪.‬‬
‫ِِ‬
‫﴿ه َو للَّذ َ‬
‫ين‬ ‫القرآن العظيم هو ربيع قلوب الذاكرين‪ ،‬هو الذكر احلكيم ُ‬
‫ين َل يـُْؤِمنُو َن فِي آ َذانِ ِه ْم َوقـٌْر َو ُه َو َعلَْي ِه ْم َع ًمى‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُه ًدى َوش َفاء َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫اد ْو َن من َّم َكان بَعيد﴾‪ .‬الذين ال يؤمنون باهلل يسمعون لفظ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك يـُنَ َ‬ ‫أ ُْولَئ َ‬
‫‪2‬‬

‫القرآن‪ ،‬لكنهم ال يهتدون بالقرآن‪ .‬ال يهتدون به وال حيفلون ألنه "هدى‬
‫وبشرى" لل مؤمنني ال لغريهم‪ ،‬ألنه "ذكرى" لل مؤمنني ال لغريهم‪ ،‬ألنه‬
‫"هدى ورمحة" للمحسنني ال لغريهم‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ونـنـ ِّز ُل ِمن الْ ُقر ِ‬
‫آن‬ ‫َ َُ َ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ما ُهو ِش َفاء ور ْحمةٌ لِّل ِ ِ‬
‫ساراً﴾‪ 3.‬وقال جل‬ ‫ين َوالَ يَ ِزي ُد الظَّالم َ‬
‫ين إَالَّ َخ َ‬ ‫ْم ْؤمن َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورةٌ فَ ِمنـْ ُهم َّمن يـَُق ُ‬
‫ادتْهُ َهـذه إِ َ‬
‫يماناً‬ ‫ول أَيُّ ُك ْم َز َ‬ ‫ت ُس َ‬ ‫﴿وإِ َذا َما أُن ِزلَ ْ‬
‫سلطانه‪َ :‬‬
‫ين فِي قـُلُوبِ ِهم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يماناً َو ُه ْم يَ ْستَْبش ُرو َن َوأ ََّما الذ َ‬‫ادتـْ ُه ْم إِ َ‬
‫آمنُواْ فـََز َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫فَأ ََّما الذ َ‬
‫‪4‬‬
‫ادتـْ ُه ْم ِر ْجساً إِلَى ِر ْج ِس ِه ْم َوَماتُواْ َو ُه ْم َكافِ ُرو َن﴾‪.‬‬‫ض فـََز َ‬ ‫َّم َر ٌ‬
‫نرى الناس يف زماننا فـََرضوا على القرآن اإلقامة اجلربية يف املساجد ومعرض‬

‫‪ 1‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.145‬‬


‫‪ 2‬فصلت‪44 ،‬‬
‫‪ 3‬اإلسراء‪82 ،‬‬
‫‪ 4‬التوبة‪124-125 ،‬‬

‫‪330‬‬
‫اإلحسان‬

‫التجويد ومباريات الرتني ِم‪ .‬ما أقاموه يف الشأن اخلاص والعام‪ ،‬ما احتكموا‬
‫ابتسمت حياهتم ببشراه‪ .‬اختذوه‬
‫إليه‪ ،‬ما حكموه‪ ،‬ما اهتدوا به‪ ،‬ما ترامحوا به‪ ،‬ما َ‬
‫َّف بأحلان ألفاظه اآلذان‪ ،‬والقلوب‬ ‫مهجورا يف التسجيالت والتسميعات لتُ َشن َ‬
‫يف عماها‪ .‬وما ذاك إال النعدام أصل اإلميان‪ ،‬وبِاله‪ ،‬وخ ْلقه‪ .‬ال يتخذ املسلمون‬
‫القرآن إماما إال إن جددوا اإلميان يف قلوهبم‪ .‬ومن االعتساف واحلكم املضاف‬
‫أن نعتمد القرآن فقط مصدرا للتشريع ال نعدو حرفيته‪ .‬من الكفر أن نعترب القرآن‬
‫تراثا من الرتاث اجمليد و"إنتاجا" قوميا ونثرا فنيا رائعا ال غري‪.‬‬
‫أويت الصحابة رضي اهلل عنهم اإلميان قبل القرآن‪ ،‬فاستقبلوا نزوله خبشوع‪،‬‬
‫وتلوا آياته يف خضوع‪ ،‬وطبقوا أوامره متبعني غري مبتدعني‪ .‬قرأوه حالوة يف‬
‫اللسان‪ ،‬وأمانة يف جذر القلب‪ ،‬ونورا يف العقل املتفكر املفكر‪ ،‬ودليال يف خاص‬
‫األمر وعامه‪ ،‬وإماما وحيدا‪ ،‬ومرجعا فريدا‪ ،‬يبينه الرسول األمني‪ ،‬ويفصله ويفهمه‬
‫وحيا على وحي‪ ،‬نورا على نور‪ .‬روى اإلمام أمحد عن عبد اهلل بن عمر أن رجال‬
‫جاء النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول اهلل! إين أقرأ القرآن فال أجد قليب‬
‫يعقل عليه! فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن قلبك ُح ِش َي اإلميان‪ .‬وإن‬
‫اإلميا َن يُعطى العبد قبل القرآن"‪ .‬وقال جندب بن عبد اهلل وابن عمر وغريمها‬
‫من الصحابة‪" :‬تعلمنا اإلميان‪ ،‬مث تعلمنا القرآن فازددنا إميانا"‪ .‬واآلثار يف هذا‬
‫املصنِّفون يف هذا الباب عن الصحابة والتابعني يفكتبكثرية‬ ‫املعىنكثرية‪" ،‬رواها َ‬
‫معروفة"‪ .‬كما قال ابن تيمية رمحه اهلل يفكتاب "اإلميان"‪ 1.‬يف رواية عن ابن عمر‬
‫رضي اهلل عنهما قال‪" :‬وأنتم أوتيتم القرآن قبل اإلميان‪ ،‬فأنتم تنثُرونه نثر الدقل"‪.‬‬
‫أي ترمون به مستخفني كما يرمى بالتمر الرديء‪.‬‬

‫‪ 1‬ص ‪.212‬‬

‫‪331‬‬
‫اإلحسان‬

‫جيب أن نقرأ أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف توجيهه إيانا‬
‫للقرآن ووصيته من بعده على ضوء أن اإلميان يف قلوب الرجال هو الذي يهيِّئ‬
‫السامع لالهتداء بالقرآن‪ .‬كان القرآن كلمةَ اهلل اليت ينطق هبا رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان بالغه وبيانه وخطابه الدائم ملن يدعوهم من الناس‪ .‬فمنهم‬
‫من آمن به ومنهم من صد عنه‪ .‬مل يكن مساعُهم للقرآن سواءً‪ .‬هداية اهلل وسابقة‬
‫املدعوين عند اهلل حت ّدد النتيجة‪ ،‬ف يؤمن بعض وحيصلون على أصل اإلميان‬
‫هبداية اهلل وهداية رسوله‪ ،‬ويزدادون إميانا إذا تليت عليهم آيات اهلل‪ .‬ويكفر‬
‫آخرون ويصمون ويستهزئون‪ .‬مث كان الصحابة يقتبسون اإلميان‪ ،‬بعضهم من‬
‫بعض‪ .‬جيلس بعضهم إىل بعض ليذكروا اهلل مجيعا‪ ،‬ومن مجلة الذكر‪ ،‬بل أعظم‬
‫الذكر القرآن‪ .‬ال إله إال اهلل من القرآن‪ ،‬فبذلك كانت أعلى شعب اإلميان‪ ،‬وكان‬
‫أوثق مصد ٍر لإلميان وأقربه‪ .‬يأيت عبد اهلل بن‬
‫دادها وتكرارها يف صحبة املؤمنني َ‬
‫تـَْر ُ‬
‫رواحة رضي اهلل عنه فيأخذ بيد الرجل من الصحابة فيقول‪ :‬تعال نومن ساعة!‬
‫روى اإلمام أمحد عن أنس أن عبد اهلل فعل ذلك وقاله ذات يوم لرجل‪ ،‬فغضب‬
‫الرجل وجاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال يا رسول اهلل! أال ترى إىل ابن‬
‫رواحة يرغب عن إميانك إىل إميان ساعة! فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم "يرحم‬
‫اهلل ابن رواحة! إنه حيب اجملالس اليت تتباهى هبا املالئكة"‪ .‬ويف الباب األول من‬
‫كتاب اإلميان يف صحيح البخاري‪ :‬وقال معاذ‪ :‬اجلس بنا نومن ساعة‪.‬‬
‫وأخرج الرتمذي هذه الوصية النبوية الشريفة املوجهة لل مؤمنني اجملاهدين‪،‬‬
‫رواها عن زيد بن أرقم بإسناد حسن يقول فيها احلبيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"إين تارك فيكم ما إن متسكتم به لن تضلوا بعدي‪ ،‬أحدمها أعظم من اآلخر‪،‬‬
‫أهل بييت‪ .‬لن‬
‫ممدود من السماء إىل األرض‪ .‬وعتـَْريت َ‬ ‫وهو كتاب اهلل‪ ،‬حبل ٌ‬
‫يفرتقا حىت يردا علي احلوض‪ .‬فانظروا كيف ختلفوين فيهما"‪ .‬وأخرج أمحد وأبو‬

‫‪332‬‬
‫اإلحسان‬

‫داود والرتمذي بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬فعليكم بسنيت وسنة اخللفاء الراشدين املهديني‪ ،‬متسكوا هبا‪،‬‬
‫وعضوا عليها بالنواجذ"‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫ترك فينا احلبيب صلى اهلل عليه وسلم كلمة اهلل احلية‪ ،‬وترك فينا رجاال‬
‫مؤمنني أحياء‪ .‬واإلميان واإلحسان يتجددان باالعتصام باحلبلني العظيمني‪،‬‬
‫كتاب اهلل وسنة رسول اهلل‪ ،‬ومن سنته العِتـَْرةُ الطاهرة‪ ،‬وهم عموما كل متق ٍّ‬
‫ويل‬
‫هلل‪ ،‬وخصوصا الطاهرون األولياء‪ .‬وهم آل البيت حقاً‪ .‬باعتصامنا الصادق‬
‫هبما يتجدد إمياننا حىت يتطابق مع إميان الصحابة ويتماثل على املعيار القرآين‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫الذي جاء فيه‪﴿ :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤِمنُو َن إِ ْخ َوةٌ﴾‪ 1.‬وجاء فيه‪ِ :‬‬
‫﴿نَّ َما ال ُْم ْؤمنُو َن الذ َ‬
‫ين‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫إِ َذا ذُكِ َر اللّهُ َو ِجلَ ْ‬
‫آمنُوا‬ ‫ين َ‬ ‫ت قـُلُوبـُُه ْم﴾‪ .‬وجاء فيه‪﴿ :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤمنُو َن الذ َ‬
‫‪2‬‬

‫يل اللَّ ِه‬‫اه ُدوا بِأ َْم َوالِ ِه ْم َوأَن ُف ِس ِه ْم فِي َسبِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫بِاللَّه َوَر ُسوله ثُ َّم لَ ْم يـَْرتَابُوا َو َج َ‬
‫ك ُهم َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّب هذه اآليات إن شئت واقرأ شروط جتديد‬ ‫الصادقُو َن﴾‪ .‬رت ْ‬ ‫أ ُْولَئ َ ُ‬
‫‪3‬‬

‫اإلميان وإحيائه‪ :‬أخوة يف اهلل‪ ،‬وصحبة‪ ،‬وذكر‪ ،‬وصدق‪.‬‬


‫باالعتصام اجلامع يصبح لتالوة القرآن وحفظه معىن غري معىن احلافظني‬
‫للحرف واملرتِّلني للسمع‪ ،‬تصبح له غاية زائدة على غاية الفقيه اجملتهد وغاية املتبتل‬
‫العابد‪ .‬يصبح القرآن حبرفه وأحكامه ونوره قبلة األرواح وضياء الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫اجها من دركات االحنطاط‬ ‫االعتصام اجلامع هو خمرج األمة من الفتنة‪ ،‬ومعر ُ‬
‫واالهنزام والغثائية‪ .‬روى اإلمام أمحد والرتمذي والدارمي عن علي كرم اهلل وجهه‬
‫أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬أال إهنا ستكون فتنة!"قلت‪ :‬فما املخرج‬

‫‪ 1‬احلجرات‪10 ،‬‬
‫‪ 2‬األنفال‪2 ،‬‬
‫‪ 3‬احلجرات‪15 ،‬‬

‫‪333‬‬
‫اإلحسان‬

‫منها يا رسول اهلل؟ قال‪" :‬كتاب اهلل فيه نبأ ما قبلكم‪ ،‬وخرب ما بعدكم‪،‬‬
‫وحكم ما بينكم‪ .‬هو الفصل ليس باهلزل‪ .‬من تركه من جبار قصمه اهلل‪ ،‬ومن‬
‫ابتغى اهلدى يف غريه أضله اهلل‪ .‬وهو حبل اهلل املتني‪ ،‬وهو الذكر احلكيم‪ ،‬وهو‬
‫الصراط املستقيم‪ ،‬وهو الذي ال تزيغ به األهواء‪ ،‬وال تلتبس به األلسنة‪ ،‬وال‬
‫الرد‪ ،‬وال تنقضي عجائبه‪ .‬هو الذي مل‬‫يشبع منه العلماء‪ ،‬وال َيْلُ ُق على كثرة ّ‬
‫تنته اجلن إذ مسعته حىت قالوا‪" :‬إنا مسعنا قرآنا عجباً يهدي إىل الرشد فآمنا‬
‫به"‪ .‬من قال به صدق‪ ،‬ومن عمل به أ ُِجر‪ ،‬ومن حكم به عدل‪ ،‬ومن دعا‬
‫إليه ُهدي إىل صراط مستقيم"‪ .‬احلديث‪.‬‬
‫األحاديث يف فضل القرآن‪ ،‬وثواب التالني‪ ،‬ودرجات احلافظني‪ ،‬وتنور‬
‫السامعني كثرية‪ .‬كان االعتصام بالقرآن والسنة طيلة هذه القرون بعد اخلالفة‬
‫الراشدة املهدية األوىل اعتصام قُربة فردية‪ ،‬نرجو من فضل َمن له الفضل‬
‫سبحانه أن جتمع هذه األجيال بني يدي الساعة إىل قربات القرآن الثوابية‬
‫الدرجاتية قربة اجلهاد يف طريقنا إىل اخلالفة الثانية املشهودة املوعودة‪ .‬بذلك‬
‫نكون حقا من أهل اهلل وخاصته كما كان من أُنزل القرآن بني ظهرانيهم‪.‬‬
‫والقرآن كتاب جهاد أوال وأخريا‪ ،‬ما أصبح متيمة للتربك‪ ،‬ووثيقة مهجورة‪،‬‬
‫ونصا معروضا معزوال إال بِبِلَى اإلميان وعموم الفتنة‪ ،‬أخرجنا اهلل من عهودها‬
‫مبنه‪.‬‬
‫قال اإلمام عبد القادر قدس اهلل سره‪" :‬طر إىل احلق عز وجل جبناحي‬
‫الكتاب والسنة‪ .‬ادخل عليه ويدك يف يد الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬اجعله‬
‫ك وتعرضك عليه‪ .‬هو احلاكم بني‬ ‫ك وُتَ ِّشطُ َ‬
‫وز َيرك ومعلمك‪ .‬دع يده تـَُزيـِّنُ َ‬
‫‪1‬‬
‫األرواح‪ ،‬املريب للمريدين‪ ،‬جهبذ املرادين‪ ،‬أمري الصاحلني"‪.‬‬
‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.179‬‬

‫‪334‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال اإلمام الرفاعي قدس اهلل سره‪" :‬مفتاح السعادة األبدية االقتداء‬
‫برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف مجيع مصادره وموارده وهيئته وأكله وشربه‬
‫‪1‬‬
‫وقعوده وقيامه ونومه وكالمه‪ ،‬حىت يصح لك االتباع املطلق"‪.‬‬
‫خالف بعض الناس للناس َو ِسباقُهم إىل دعوى االعتصام بالكتاب‬
‫والسنة ُيفي هوى حب الرئاسات‪ ،‬و"يعتصم" هذا وذاك من الوراقني بفهمه‬
‫وخطته هو‪ ،‬وإمكانياته هو‪ ،‬واعتقاده هو يف عبقرية نفسه‪،‬‬ ‫هو‪ ،‬وبقصده هو‪ُ ،‬‬
‫وعصمة مدرسته‪ ،‬وحتقيق نصوصه‪ ،‬ينسب ذلك كله إىل السنة والكتاب‪ ،‬كل‬
‫النضيد خطأٌ وبدعة وضالل‪ .‬ما نتكلم مع أمثال‬‫َ‬ ‫يد‬
‫من خالف جمموعه الفر َ‬
‫اخلالية قلوهبم من ذكر اهلل‪ ،‬ومن حمبة اهلل ورسوله‪ ،‬تلك احملبة اليت يصدر عنها‬
‫ويرد إليها األكابر األولياء‪.‬‬
‫قال جمتهد يف طاعة اهلل‪ ،‬متربئ من الدعوى‪ ،‬خال من البلوى إن شاء‬
‫اهلل‪ ،‬طلق الدنيا والرئاسة‪ ،‬وارتفعت مهته عن الدناءة واخلساسة‪:‬‬
‫رجـال اهلل قـد سعــدوا وفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــازوا ونـال ـوا فضـل رمحـتـ ـ ـ ــه وح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــازوا‬
‫ـدار واحن ـف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاز‬ ‫ِ‬ ‫بــدا علـم الـنَّجـ ِ‬
‫ يَ ِّـركـُه ـ ـ ــم ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫ـاة فَـيَ َّـمـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوه ُ‬ ‫َ‬
‫ـاز‬
‫ـض تستـن ـيـ ـ ــر ب ـ ـ ــه املـفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـار مـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه وبع ٌ‬ ‫ـض نـارت األمـصـ ُ‬ ‫فَـبـَْع ٌ‬
‫متـيَّ ـ َـز كــل ذي دنيــا بدن ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وهـم هل ــم بدينـه ـ ـ ـ ــم امتـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاز‬
‫ومــا اعتــزوا مبخل ــوق ولك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن هلـم بالواحــد األحــد اعت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزاز‬
‫ت عن اإلج َـازِة إذ أجـ ـ ـ ــازوا‬ ‫ِ‬
‫ـزت عن ـ ـهـ ــم وح ْد َ‬ ‫أ ََرْدت َلـاقـَُهم وعج َ‬
‫ـاز!‬
‫ـوض وتـفــرح بالرحيــل وال جه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫أتـطمـع يف اللحـاق وال هن ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫نس ـبـ ـاً ولكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ط ـ ـ ـ ـرازك فـ ـ ــوقـ ـ ــه ذاك الطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراز‬ ‫وأنـت أخــوهم َ‬
‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.80‬‬

‫‪335‬‬
‫اإلحسان‬

‫ـاز!!‬ ‫ِ‬
‫دع الدعــوى فلست هلـم بـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍّـد وهل ختفى احلقيقة واجمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـازوا‬ ‫تري ـ ـ ــد َلـ ـ َ ٍ‬


‫إىل ال ُق ـ ـ ـ ـ ـ ــرىب وبالـ ــرمحـ ـ ـ ــن فَـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـازو ا‬
‫ـاق قـ ــوم ق ـ ـ ــد أجـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ـاز؟‬ ‫ِ‬ ‫ـف ِخ ـ ٍّـل ‬ ‫داك بِك ِّ‬
‫للمص ــاحبـ ـ ــة اجلَـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫َوُهيِّـ ـ ـ ـ ــئ ُ‬ ‫ـت يَ َ‬ ‫هل َمسك ْ‬ ‫فَ ْ‬
‫ـام واحن ــِيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ـاز‬ ‫عن ال ـ ـب ـ ــدع اعـتـص ـ ٌ‬ ‫بالسنـ ـ ِـة الغـ ـ ـ َّـر ِاء أضحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ‬
‫وهل ُّ‬‫ْ‬

‫‪336‬‬
‫اإلحسان‬

‫شعب اإليمان‬

‫ب لِي ِم َن‬‫ب َه ْ‬
‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم َ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين عبدك وابن عبدك وأمتك‪ ،‬ناصييت‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬
‫بيدك‪ ،‬ماض َّيف حكمك‪ ،‬عدل َّيف قضاؤك‪ .‬أسألك بكل‬
‫اسم هو لك‪ ،‬مسيت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته يف كتابك‪ ،‬أو‬
‫استأثرت به يف علم الغيب عندك‪ ،‬أن جتعل القرآن ربيع قليب‪،‬‬
‫ونور صدري‪ ،‬وجالء َحزين‪ ،‬وذهاب مهي‪.‬‬

‫هذا التوسل النبوي العظيم رواه اإلمام أمحد عن عبد اهلل بن مسعود قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن‬
‫اللهم‪ " ...‬وذكر التوسل‪ .‬قال‪" :‬إال أذهب اهلل عز وجل مهه وأبدله مكان‬
‫حزنه فرحا"‪ .‬قالوا يا رسول اهلل! ينبغي لنا أن نتعلم هؤالء الكلمات‪ .‬قال‪:‬‬
‫"أجل! ينبغي ملن مسعهن أن يتعلمهن"‪.‬‬
‫توس َل فيه إىل ربه هو أن جيعل القرآن‬
‫سؤاله صلى اهلل عليه وسلم الذي َّ‬
‫ربيع القلب‪ ،‬إذ على حياة القلب‪ ،‬وهي املقصودة بالكناية بالربيع حياة‬
‫النبات‪ ،‬يتوقف جتدد اإلميان وزيادته‪ .‬وسأل ربه عز وجل أن جيعل القرآن نور‬
‫الصدر وجالء احلزن وذهاب اهلم‪ .‬جالء احلزن على الدنيا واهلم على شؤون‬
‫الدنيا ال احلزن النفيس واهلم املتعلق باهلل‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتعلم منه أصحابُه اإلميان‪ ،‬ويتعلمه‬

‫‪337‬‬
‫اإلحسان‬

‫بعضهم من بعض‪ ،‬باجللوس ساعة لذكر اهلل‪ .‬مل تكن لديهم كتب غري القرآن‬
‫احملفوظ يف الصدور ينورها‪ ،‬املتغلغل يف القلوب حيييها‪ ،‬املتلو يف الصلوات‬
‫وقرآن الفجر املشهود‪ ،‬تشهده املالئكة‪ .‬إذا ذكر اهلل وجلت قلوهبم‪ ،‬وإذا‬
‫ب على‬ ‫ص ِّ‬
‫تُليت عليهم آيات اهلل زادهتم إميانا‪ .‬مل تكن للعقل التفكريي املُْن َ‬
‫العامل اخلارجي وساطة بينهم وبني نور القرآن‪ .‬مل يكن هلذا العقل الدارس‬
‫الفاحص اخلبري يف االحتجاج واللَّجاج هذا السلطان الذي اكتسبه من بعد يف‬
‫ك اإلحسان عن طريق ِ‬
‫ماه َد ٍة‪،‬‬ ‫حياة املسلمني‪ .‬لذلككانت القلوب ترقى إىل فـلَ ِ‬
‫َ‬
‫مهدهتا سالمة الفطرة من العوائق الفكرية اليت تنفي وال تَ ْشفي‪ ،‬ومهدهتا صحبة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اليت ال ُتارى وال تعادل‪ ،‬ومهدها قرهبم من‬
‫القرآن قرب تعظيم وإجالل‪ ،‬ين ُف ُذ نوره بتعظيمهم لذكر اهلل وعكوفهم عليه إىل‬
‫شغاف القلوب‪ .‬كانت لديهم هبذا املهاد البواعث اجلامعة‪ .‬ويف عصرنا تتألب‬
‫على طاليب احلق الصوارف املانعة‪ .‬كانوا يتمايزون ويتعارفون بالتقوى اليت يف‬
‫الصدور‪.‬‬
‫قال سيدنا عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪" :‬أصحاب حممد صلى‬
‫أبرها قلوبا‪ ،‬وأعمقها علما‪ ،‬وأقلها‬ ‫اهلل عليه وسلم كانوا خري هذه األمة‪ ،‬و َّ‬
‫تكلفا‪ .‬قوم اختارهم اهلل لصحبة نبيه صلى اهلل عليه وسلم ون ْقل دينه‪ .‬فتشبهوا‬
‫بأخالقهم وطرائقهم‪ ،‬فهم أصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كانوا على‬
‫اهلدى املستقيم واهلل رب الكعبَة!"‪.‬‬
‫حفظهم اهلل من اجلفاف الفكري وغلظة العاطفة اليت أصابت األمة بعد‬
‫ذلك‪ ،‬ومتيز هبا اإلسالم احلَريف النصوصي واإلسالم الفكري املعاصر‪ .‬كان حب‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬واحلب يف اهلل آصرهتم اجلامعة‪ .‬كان اتباعهم لرسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يف حياته وبعد انتقاله إىل الرفيق األعلى صحبة محيمة‪ ،‬وحمبة عميقة‪،‬‬
‫ال جمرد تلق عن رسول أدى بطاقته وذهب بسالم‪ .‬ال جمرد قائد رمزي عظيم‬

‫‪338‬‬
‫اإلحسان‬

‫أسس تارخيا جميدا به وعليه تتأصل ُهويـَّتُنا‪ .‬كان عبد اهلل بن عمر‪ ،‬بعد وفاة‬
‫وحيوهلا ويقول‪:‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأخذ برأس راحلته‪ ،‬يف السفر‪ِّ ،‬‬
‫لعل ُخ ًّفا يقع على ُخف‪ .‬يقصد لعل خف راحلته يقع على موقع خف راحلة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أسفاره اجلهادية السابقة‪ .‬قال الزبري بن بكار‪:‬‬
‫"كان عبد اهلل بن عمر يتحفظ ما مسع من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإذا‬
‫غاب سأل من حضر عن قوله وفعله"‪ .‬هذا يف حياة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم الدنيوية‪ .‬فلما تويف كان عبد اهلل يتتبع آثاره يف كل مسجد صلى فيه‪ ،‬وإذا‬
‫وقف بعرفة وقف يف املوقف الذيكان وقف فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫هذا التعلق القليب‪ ،‬هذه احلياة القلبية‪ ،‬حياة الذاكرين اهلل كثريا املتأسني‬
‫برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اعتمادا حيويا باحلب املستهرت‪ ،‬غاب يف‬
‫عصرنا واغرتب‪ ،‬وعز مطلبه على طاليب احلق‪ .‬ال يقال ملن حيث على حب‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬وعلى صحبة األخيار‪ ،‬وعلى ذكر اهلل‪ :‬هذا الرجل يقتفي أثر‬
‫وييي السنة‪ ،‬ويصفِّي منابع اإلميان‪ .‬بل يقال‪ :‬هذا صويف بِدعي‪.‬‬ ‫الصحابة‪ُ ،‬‬
‫عُملة الوقت الرائجة‪ ،‬ونقد الوقت الدائر يف األوساط امل ِْبئ للذمم‪ ،‬وبضاعة‬
‫الوقت املطلوبة يف السوق هي الفكر‪ ،‬والعقل التفكريي‪ ،‬وُالعلم املوثق املشدودة‬
‫ِحبَالُه إىل نصوص قال فالن وعقب فالن وجادل فالن‪.‬‬
‫يف تصنيفي لشعب اإلميان أعطيت لألفعال الشرعية واألوامر اإلهلية‬
‫هة للصحبة واجلماعة والذكر الصدارة ِغالبا للتيار السطحي الفكري‬ ‫املوج ِ‬
‫والنبوية ِّ‬
‫النصوصي‪ .‬وأدرجت حتت خصلة "الذكر" ثالث عشرة شعبة‪ ،‬أعطي للذكر‬
‫مفهوما واسعا يشملكل العبادات املوصولة الواصلة بني العبد وربه‪ .‬هذه الشعب‬
‫هي‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬مث صالة الفريضة‪ ،‬مث النوافل‪ ،‬مث تالوة القرآن‪ ،‬مث مداومة‬
‫الذكر‪ ،‬مث جمالس اإلميان‪ ،‬مث التأسي بأذكار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث‬

‫‪339‬‬
‫اإلحسان‬

‫الدعاء بآدابه السنية‪ ،‬مث التأسي باألدعية النبوية‪ ،‬مث الصالة على النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث التوبة واالستغفار‪ ،‬مث اخلوف والرجاء‪ ،‬مث ذكر املوت وما بعده‪.‬‬
‫إن إحياء القلوب باملنهاج النبوي الذي ترىب عليه الصحابة رضي اهلل‬
‫عنهم‪ ،‬والذي حافظ السادة الصوفية رضي اهلل عنهم على جوهره‪ ،‬هو املنجاة‬
‫من دركات اهلبوط والسفول اليت تـََرَّدى بطالب احلق فيها إسالم النصوص املوثقة‬
‫أفق‬ ‫ِ‬
‫ترمق إال َ‬ ‫وإسالم العقول املفكرة غري املتفكرة املنبَط َحة على أرض املادة‪ ،‬ما ُ‬
‫ِ‬
‫الف ْكر العاملي السائد الصائل مبكتشفاته وخمرتعاته وأشيائه‪.‬‬
‫اِقرأ معيكلمات الداعية الكبري املعاصر املفكر الذي يقرأ القرآن مبُخ مؤثث‬
‫أفخر تأثيث‪ .‬مث اقرأ معي كلمات ٍ‬
‫رجال َّنور اهلل صدورهم بالقرآن وأحىي اهلل‬
‫قلوهبم حبب اهلل ورسوله وبذكر اهلل‪.‬‬
‫قال صاحبنا اآلنف الذكر‪ ،‬ولست أذكر امسه ألن التشهري بواحدكاعرتاض‬
‫لبحر هائج بِ َدلْو‪ ،‬قال‪" :‬سألت نفسي‪ :‬هل للمسلمني "جهاز" فكري أو روحي‬
‫أو سياسي حيسب أرباحهم وخسائرهم‪ ،‬ويشخص العلل‪ ،‬ويرصد التجارب‪،‬‬
‫وحيصي النتائج؟"‪.‬‬
‫القضية قضية أجهزة ورصد للتجارب‪ ،‬يقصد جتارب العقل املخرتع‪،‬‬
‫وإحصاء للنتائج‪ .‬اهلم الرتبوي غائب‪ .‬فإن اهتَم بالرتبية دل على عني الزلل‪.‬‬
‫قال‪" :‬ما الذي يوقظ القلب الغايف ويعيد إليه حرارة احلياة ونشاطها؟"‪ .‬أين‬
‫ذكر اهلل يف السؤال؟ ال جرم يكون اجلواب تيها يف تيه‪ .‬قال‪" :‬إن تعهد الناشئة‬
‫والكبار مبا يوجه عواطفهم إىل اهلل جل جالله شيء خطري‪ .‬والبد من إقامته على‬
‫أسس فنية حمرتمة‪ .‬ويف عصرنا هذا البد من االستعانة بعلم النفس‪ ،‬واالستعانة مبا‬
‫يف اآلداب اإلنسانية الصادقة من جتارب وصور"‪.‬‬
‫وحتز َن معي على حال‬
‫ألحز َن َ‬
‫هذا كالم نقلته يف فقرة سابقة‪ ،‬وأعيده َ‬
‫‪340‬‬
‫اإلحسان‬

‫الدعاة‪ ،‬تداركنا اهلل وإياهم بلطفه‪ ،‬وأصلحنا وإياهم‪ ،‬وأعاننا على ذكره وشكره‬
‫وحسن عبادته‪ .‬آمني‪.‬‬
‫َّث عن أذواق السادة الصوفية فلم يبدِّع ومل يكفِّر‪ ،‬لكنه صنع ما هو‬ ‫وحتد َ‬
‫أدهى وأمر‪ .‬سطَّح املسألة ونفى عنها جالل القلوب الطاهرة لتصبح هذه األذواق‬
‫"شارات اكتمال ثقايف عاطفي‪ ،‬فال ميكن أن حيسها أهل البالدة والقصور‪ .‬إن‬
‫التألق طبيعة الشخصية املتقدة"‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد القادر‪ ،‬نسمة حياة! نكاد خنتنق!‪" :‬عليكم باإلميان‪ ،‬مث‬
‫باإليقان‪ ،‬مث الفناء والوجود باهلل عز وجل ال بك وال بغريك‪ .‬مع حفظ احلدود‪،‬‬
‫مع إرضاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مع إرضاء املتلو املسمـوع املقروء‪ .‬ال‬
‫كرامة ملن يقول غري هذا‪ .‬هذا الذي يف املصاحف واأللواح كالم اهلل عز وجل‬
‫‪1‬‬
‫طرف بيده وطرف بأيدينا عليك باهلل ورسوله"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬ارجع إىل قلوب الصديقني وسلهم‪ .‬ارجع إىل قلوهبم فهي‬
‫الصحيحة‪ .‬ألن القلب إذا صح كان أقرب األشياء إىل اهلل عز وجل‪ .‬القلب‬
‫ب‪ ،‬وإذا قرب علم وكان أقرب األشياء إىل اهلل عز‬ ‫إذا عمل بالكتاب والسنة ُقر َ‬
‫‪2‬‬
‫وجل"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬كل من مل يتبع النيب صلى اهلل عليه وسلم ويأخذ شريعته يف‬
‫يده والكتاب املنزل عليه يف اليد األخرى ال يصل يف طريقه إىل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ض ُّل‪ .‬مها دليالن إىل احلق عز وجل‪ .‬القرآن دليلك‬ ‫ض ُّل وي ِ‬
‫ك‪ .‬ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ك ويـُْهل ُ َ‬
‫يـَْهل ُ‬
‫إىل احلق عز وجل‪ .‬والسنة دليلُك إىل الرسول صلى اهلل عليه وسلم"‪ 3 .‬نعم‬
‫أبفكر الغافل عن اهلل‪ ،‬أم بظن املقلد القاسي القلب‬ ‫مها الدليل املعصوم‪ ،‬لكن ِ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.111‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق ص ‪.253‬‬
‫‪ 3‬املصدر السابق ص ‪.117‬‬

‫‪341‬‬
‫اإلحسان‬

‫من عدم ذكر اهلل؟ إن هذا امليدان ميدان صدق وحمبة‪ .‬وإرادة خالصة لوجه اهلل‪.‬‬
‫ال كرامة ملن يُهلك األمة يَ ْس َحبُها يف هلكته‪ ،‬وجيرها إىل ومهه‪ ،‬ويـُغَفِّلها عن اهلل‬
‫ورسوله‪ .‬هذا اإلسالم احلريف النصوصي املكفر‪ ،‬وهذا اإلسالم الفكري املغفل‬
‫بِ َدعٌ حدثث‪ .‬ال كرامة!‬
‫قال الشيخ عبد القادر‪" :‬ال تبتدع وحتدث يف دين اهلل عز وجل شيئا مل‬
‫الشاهدين العدلني‪ :‬الكتاب والسنة‪ ،‬فإهنما يوصالنك إىل ربك عز‬ ‫َ‬ ‫يكن‪ .‬اتبع‬
‫وجل‪ .‬وأما إن كنت مبتدعا فشاهداك عقلك وهواك‪ .‬فال جرم يوصالنك إىل‬
‫‪1‬‬
‫النار‪ ،‬ويلحقانك بفرعون وهامان وجنودمها"‪.‬‬
‫وقال الرفاعي رمحه اهلل‪" :‬املادة الكربى كلمة تقوهلا وتصل‪ ،‬وهي آمنت‬
‫باهلل‪ .‬فإذا آمنت به آمنت بكتابه وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله صلى اهلل‬
‫ول فَ ُخ ُذوهُ َوَما نـََها ُك ْم‬
‫الر ُس ُ‬
‫﴿وَما آتَا ُك ُم َّ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وعملت بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫َع ْنهُ فَانتـَُهوا﴾‪ 2،‬وعظَّمت أمر اهلل‪ ،‬ووحدت اهلل‪ ،‬ووقفت على الباب بسائح‬
‫الدموع‪ ،‬وسجدت بالذل واخلضوع‪ ،‬وعرفت إىل أين املصري والرجوع‪ ،‬وهتيأت مبا‬
‫يليق مبقام املالقاة‪ ،‬وأخلصت يف أعمالككلها فصرت إخالصا خالصا‪ .‬وبعدها‬
‫وتس ُّح عليك سحب املواهب‪ ،‬وتعود عليك عوائد الكرم‪ ،‬و ُّ‬
‫متد‬ ‫تليق بك املراتب‪ِ ،‬‬
‫‪3‬‬
‫لك موائد النعم"‪.‬‬
‫اللهم عرفنا بك‪ ،‬وأخلص قلوبنا من شوائب الفكر املادي واهلوى والشيطان‬
‫لنذكرك كثريا ونشكرك كثريا إنك كنت بنا بصريا‪.‬‬
‫بعض الناس‬ ‫اللهم إنك جعلت حممدا رسولك حجة على اخللق‪ ،‬وجعل ُ‬
‫أنفسهم اخلشنةَ مل يلطفها حبك وحبه حجة على سنته‪ ،‬وجعلوا فكرهم دليال‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬الفتح الرباين‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪ 2‬احلشر‪7 ،‬‬
‫‪ 3‬الربهان املؤيد ص ‪.67‬‬

‫‪342‬‬
‫اإلحسان‬

‫متنكبني ضوء اهلداية النبوية‪ ،‬ورمحة القرآن‪ ،‬وبشرى القرآن‪ .‬اللهم فاجعل‬
‫ألوليائك العارفني بك احملسنني املقربني احملبوبني َد ْولة ليقودوا موكب اإلميان‬
‫وكتائب اإلحسان‪ .‬أخرجهم من غربتهم‪ .‬آمني‪.‬‬
‫قال غريب يصف غرباء أمس‪:‬‬
‫هلل حتـت قـب ــاب العـ ـ ــز طــائفـ ـ ـ ـ ـ ـ ة أخفــاهم يف رداء الفـق ـ ــر إج ـ ــالال‬
‫هم السالطني يف أطمار مسكن ة َجـ ُّـروا علـى فلك اخلضـراء أذيـ ـ ــاال‬
‫ـاط ُسه م استعبدوا من ملوك األرض أقياال‬ ‫غُبـر مالبسهــم ُشـ ٌّـم معـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌْ‬
‫ِ‬
‫هـذي املكـارم ال قـَْعبـان من لَبَـن شيـب ــا مبــاء فعـ ــادا بَ ْـعـ ـ ـ ُـد أب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواال‬
‫هذي املناقب ال ثـوبان من َع َـد ٍن خيطـا قميصـا فعـادا بعد أمسـ ـ ـ ـ ــاال‬
‫وقال غريب آخر عن مثال من نسأل اهلل يف إظهارهم‪:‬‬
‫بنفسي إذا نفسي أنابـت وأصلـح ــت غـريب جـرت مـن ُمقلتيه غُـ ـ ــروب‬
‫إذا ذكــر امل ـولـى تنس ــم قلبُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه وإن غلـبـتــه النفــسكـاد ي ـ ـ ـ ـ ـ ــذوب‬
‫ـوب‬ ‫ِ‬
‫أنـ ـ ـ ـ ــاخ بعـليّـي ــن رائ ـ ـ ـ ُـد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره إىل حيث ال متضي العقول جي ـ ُ‬
‫أبــى اللـه أن تُدرى َذ َخائُِرهُ ال ــيت إىل شعبـهــم مـاء السمــاء يَصـوب‬
‫هم حسنـات الدهـر عند كماله ولكـنـهــم عنــد األن ــام ذن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوب‬ ‫ُ‬
‫ألســن وقـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوب‬ ‫ـدى وللـديـن منـهـم ُ‬ ‫حمبتـهم فـرض ورؤيتهــم ُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ً‬
‫وقلت‪:‬‬

‫أنت يوماً أ ْن تكو َن َلـ ـ م نِدًّا وتُكسى ِمن اإلحسان ِسربَاالَ؟‬ ‫أطامع َ‬‫ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب أسفاً طَ ِّهـ ـ ـ ْـر من ِّ‬
‫الرج ــس ْأرداناً وأ ْذي ــاالً‬ ‫جعى وتُ ْ‬
‫ك ُّالر َ‬‫ص ِّح ْح إىل َربِّ َ‬
‫َ‬
‫أسـاالً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرفقــة العميـ ــاء ْ‬ ‫ِ‬
‫من بِذكـ ِر اهلل هبجـتُهم واط ــر ْح من ُّ‬ ‫طحب ْ‬ ‫اص ْ‬ ‫مث ْ‬

‫‪343‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫الصدق‬
‫المنزلة العظمى‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫النفاق والرياء‬ ‫‪ ‬‬
‫ستفترق أمتي‪...‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الخالف على الصوفية‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫العلماء المتلطفون‬ ‫‪ ‬‬
‫الحنابلة أهل الحديث واألشاعرة‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫إيمان الصوفية‬ ‫‪ ‬‬
‫كرامات األولياء‬ ‫‪ ‬‬
‫آيات ال رحمن‬ ‫‪ ‬‬
‫االستدراج‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫شعب اإليمان‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫اإلحسان‬

‫المنزلة العظمى‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ِ‬
‫ب إِ َّن َه ُؤَلء قـَْوٌم َّل يـُْؤمنُو َن فَ ْ‬
‫اص َف ْح َعنـْ ُه ْم َوقُ ْل َس َل ٌم‬ ‫﴿يَ َار ِّ‬
‫ف يـَْعلَ ُمو َن﴾‪.‬‬
‫فَ َس ْو َ‬
‫اللهم ِإنَ أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء األخالق‪.‬‬

‫عت يف الفصل‬ ‫ال بد لطالب احلق من علم مسبق مبا هو احلق‪ .‬لذلك تتبَّ ُ‬
‫أكابر جاءوا بعد حتصيل العلم‬‫األول من هذا الكتاب صورا من حياة علماءَ َ‬
‫النظري يطلبون معرفة اهلل والطريق إليها عند الصاحلني‪ .‬وسبَّقت يف الفصل‬
‫الثاين التذكري بالنداء املوجه إىل الفطرة البشرية‪ ،‬يدعو اهلل عز وجل اإلنسان‬
‫القتحام العقبة‪ .‬وسبَّقت يف الفصل الثالث الشرط الثاين للسلوك وهو صحبة‬
‫امل َسلِّك‪ .‬ويف الفصل الرابع سبقت الشرط الثالث وهو الذكر واألوراد وجمالس‬
‫اإلميان‪ .‬كان هذا التسبيق ضروريا ليستفيد طالب احلق من العربة مبن سبقه‪،‬‬ ‫ُ‬

‫قى يف األركان املهملة لغربة أهله يف زمان طُ ِو َ‬


‫ي‬ ‫كالما أصبح غريبا ُم ْل ً‬ ‫وليسمع‬
‫ف‪ ،‬على ظهرِه باحلرف الكبري‪ :‬هذا ليس من اإلسالم‪.‬‬ ‫التصو ِ‬
‫ملف ُّ‬
‫هذا العلم املسبق بالتاريخ وبالشروط "املوضوعية" أدعى أن يُدخل يف ُروح‬
‫تعاوُرهُ نيات اإلقدام واإلحجام‪ ،‬اهتماما‬
‫السائل عن احلق‪ ،‬ذي اإلملام بدينه تَ َ‬
‫جديدا ومها سديدا وحرصا بعد ذلك شديدا مبصريه وحظه من اهلل ومنزلته عنده‪.‬‬
‫أول عهده بالدعوة وجوها خرية دعته إىل التوبة فلىب واخنرط يف مجاعة‬
‫لقي َ‬
‫َ‬

‫‪347‬‬
‫اإلحسان‬

‫وولد فيها ميالدا جديدا‪ .‬علمته اجلماعة مبادئ اإلسالم‬ ‫وجد فيها حياة جديدة‪ُ .‬‬
‫ومكايَدة العدو‬ ‫مليًّا‪ ،‬لكنها مل تلبث أن دفعت به إىل معمعة الفكر واحلركة ُ‬
‫ومكابَدته‪ .‬وهو مل يلبث أن فقد اهلبَّة األوىل فقعد يتساءل وال من جميب عن‬
‫سبب ْانناس إميانه‪ .‬وقته مليء باألعمال‪ ،‬ال مينعه من التخلي عنها إال "التزامه"‬
‫مع اجلماعة وبيعته ومسؤولياته التنظيمية ومسلسل روابطه هبا‪.‬‬
‫ِّث طالب احلق العزيز عن الركن "الذايت" والشرط األول‬‫يف هذا الفصل أُحد ُ‬
‫للسلوك‪ ،‬أال وهو صدقه هو وطلبه ونيته‪ .‬من أراد من اهلل حرث الدنيا آتاه منها‪،‬‬
‫ومن أراد من اهلل حرث اآلخرة زاد له يف حرثه‪ .‬ومن ال يدعو اهلل يغضب عليه‬
‫اهلل‪ ،‬ومن ال يسأل اهلل ال يعطيه اهلل‪ .‬وإرادة وجه اهلل خالصا فوق ما يطلبه عادة‬
‫املسلمون‪ .‬إرادة وجه اهلل‪ ،‬والصدق يف طلبه‪ ،‬والسري إليه مطلب تستوفيه من يد‬
‫القدر على يد اللقاء املقدَّر‪ ،‬فِطَُر من خصهم اهلل بسابقة واليته‪ .‬وقد تكون نقطةُ‬
‫هب أن اهلل جلت عظمته َّتوج جهود‬ ‫البداية وقرعة اليقظةكتاباً يسألك مصنفه‪ْ :‬‬
‫نصرتا‪ ،‬فما‬
‫العاملني لإلسالم‪ ،‬وأنت منهم‪ ،‬بالتمكني يف األرض للجماعة اليت َ‬
‫حظك أنت من عطائه‪ .‬وما مرتبتك بني أوليائه؟ أعطاك ما سألت حني سعيت‬
‫باجلهد الدائب الصابر إلقامة دولة اإلسالم يف األرض‪ ،‬فأين أنت يف معارج‬
‫اإلميان واإلحسان؟ كيف نسيت مصريك أثناء االشتغال مبصري املسلمني؟ إمنا‬
‫األعمال بالنيات يا صاح‪ ،‬وإمنا لكل امرئ ما نوى‪ .‬فهل كانت هجرتك إىل اهلل‬
‫ورسوله حقا أم كانت هجرتك إىل دنيا عاجلة وقفت يف حمطة ما من حمطاهتا؟‬
‫حىت دولة اإلسالم إن نصرهتا يف غفلة عن اهلل دنيا يف حقك‪ ،‬نصرت املسلمني‬
‫مل تنصر اهلل‪ .‬وإن اهلل ليؤيد هذا ال ّدين بالرجل الفاجر كما روى الشيخان عن‬
‫أيب هريرة مرفوعا‪ .‬اللهم استخلصنا لنفسك‪.‬‬
‫فاتك تصحيح النية والصدق يف الطلب والصواب يف التوجه‪ .‬وتلك هي‬

‫‪348‬‬
‫اإلحسان‬

‫املنزلة العظمى‪ .‬ال يغنيك تألّق مصري اجلماعة‪ ،‬وال متكني دين اهلل يف األرض‪،‬‬
‫وال فالح من أفلح‪ ،‬وال اختالف من اختلف إن مل تتحقق لك أنت مع اهلل‬
‫جل شأنه رابطة العبودية واحملبة والقربة لتكون من الذين إن تقربوا إليه شربا‬
‫تقرب إليهم باعا‪ ،‬وإن تقربوا إليه بالفرض والنفل صادقني صابرين منتظرين‬
‫داعني راجني خائفني قرهبم وكان مسعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم‪ .‬وحيك!‬
‫وتصد ْق يف الطلب قيل لك يوم يكلَّل ُ‬
‫هام األمة بتاج‬ ‫إن مل تصحح القصد ُ‬
‫طيت‬
‫اخلالفة يف األرض‪ :‬قم‪ ،‬فقد استوفيت حقك‪ ،‬ونلت ما كتب لك‪ ،‬وأ ُْع َ‬
‫ُس ْؤلك‪ ،‬مل تطلب اهلل يوما‪ .‬ومن فاته اهلل فاته كل شيء‪ .‬وحيك! طلبت منه‬
‫النصر واجلنة‪ ،‬ما طلبت قربه والنظر إىل وجهه! وما طلبت مقعد الصدق عنده‬
‫مع النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪ .‬ضاع عمرك!‬
‫ما هذه التساؤالت من شباب اإلسالم‪ ،‬وال من جميب‪ ،‬إال عالئم‬
‫الغموض واإلهبام والريبة‪ .‬وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لإلمام‬
‫احلسن السبط رضي اهلل عنه وهو صيب هذا احلديث العظيم الذي حفظه‬
‫الصيب ورواه‪" :‬دع ما يريبك إىل ما ال يريبك‪ .‬فإن الصدق طمأنينة والكذب‬
‫ريبة"‪ .‬أخرجه الرتمذي بإسناد صحيح‪.‬‬
‫اإلسالمي حبفظ هذه الوصية لفظا وعمال ونية ليدخلوا‬ ‫َّ‬ ‫ما أحرى الشباب‬
‫ُمدخل الصدق وخيرجوا ُمرج الصدق على خطى املصطفى اجملتىب صلى اهلل‬
‫ب أَ ْد ِخلْنِي م ْد َخل ِ‬
‫ص ْد ٍق َوأَ ْخ ِر ْجنِي‬ ‫﴿وقُل َّر ِّ‬
‫ُ َ‬ ‫عليه وسلم الذي لقنه اهلل تعاىل‪َ :‬‬
‫نك س ْلطَاناً نَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫م ْخرج ِ‬
‫صيراً﴾‪ 1.‬ما أحراهم باتباع ملة‬ ‫ص ْد ٍق َو ْ‬
‫اج َعل لِّي من لَّ ُد َ ُ‬ ‫ُ ََ‬
‫ِّ‬
‫اج َعل لي‬ ‫﴿و ْ‬‫إبراهيم حنفاء‪ ،‬وهو العبد الصاحل الذي سأل اهلل عز وجل قائال‪َ :‬‬

‫‪ 1‬اإلسراء‪80 ،‬‬

‫‪349‬‬
‫اإلحسان‬

‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪ 1.‬ولسان الصدق الذي طلبه أبونا إبراهيم عليه‬ ‫سا َن ص ْدق في ْالخ ِر َ‬ ‫لَ‬
‫السالم هو أن يُثين عليه اآلخرون ثناء حسنا مبا كان هلم قدوة وسلفا صاحلا‪ .‬ما‬
‫وهم امسهم‬ ‫وهم ْمرتَبتهم عند اهلل‪ُّ ،‬‬
‫أحرى الشباب اإلسالمي أن يـَْرَكبَهم َه ُّم اهلل‪ُّ ،‬‬
‫يف امللكوت األعلى‪ .‬ال يفيد إال يف الدنيا ما حتمله من كنية واسم حركي‪ .‬ما‬
‫َن لَ ُهم قَ َدم ِ‬
‫ص ْد ٍق‬ ‫ك عنده؟‪﴿ .‬وب ِّ َّ ِ‬
‫آمنُواْ أ َّ ْ َ‬
‫ين َ‬ ‫ش ِر الذ َ‬ ‫ََ‬ ‫حظك من اهلل؟ ما قَ َد ُم َ‬
‫ِعن َد َربِّ ِه ْم ﴾‪ 2.‬ال يفيدك مكانك يف السلم التنظيمي إن مل تَ ْس ُم بك اهلمة إىل‬
‫ين‬ ‫مقعد الصدق عند املليك املقتدر سبحانه تُزاحم َثَّ الصديقني‪ِ َّ .‬‬
‫﴿إن ال ُْمتَّق َ‬
‫ٍِ ‪3‬‬ ‫ص ْد ٍق ِعن َد ملِ ٍ‬
‫يك ُّم ْقتَدر﴾‪.‬‬ ‫َّات ونـ َه ٍر فِي م ْقع ِد ِ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫في َجن َ َ‬
‫انظر رعاك اهلل فيم تدخل وكيف خترج وأي لسان تطلب وأي قدم‬
‫لك عند ربك وأي مقعد هو مقعدك‪ .‬أمن املسلمني أنت أم من املؤمنني‬
‫واحملسنني؟ أسألته يوما صادقا عارفا مبا تطلب أن يلحقك بالصاحلني؟ إالّ‬
‫تفعل فلست ممن يعنيهم كالمي‪ ،‬عمادك منقوض وكالمي عندك مرفوض‪.‬‬
‫قال األستاذ القشريي رمحه اهلل ‪" :‬الصدق عماد األمر وبه متامه‪ ،‬وفيه‬
‫ول‬ ‫﴿وَمن يُ ِط ِع اللّهَ َو َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫نظامه‪ .‬وهو تايل درجة النبوة‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ :‬‬
‫ين َو ُّ‬
‫الش َه َداء‬ ‫ك مع الَّ ِذين أَنـعم اللّهُ َعلَي ِهم ِّمن النَّبِيِّين و ِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫الصدِّيق َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫فَأ ُْولَـئ َ َ َ‬
‫‪4‬‬
‫ض ُل ِم َن اللّ ِه َوَك َفى بِاللّ ِه َعلِيماً﴾‪.‬‬ ‫ك َرفِيقاً َذلِ َ‬
‫ك الْ َف ْ‬ ‫س َن أُولَـئِ َ‬
‫ين َو َح ُ‬
‫و َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫َ‬
‫يا أخي! إن أردت أن يكون اهلل معك فالزم الصدق ألن اهلل مع الصادقني‪،‬‬
‫كما جاء يف القرآن الكرمي‪ .‬إن أردت أن ينصرك فانصره‪ ،‬إن أردت أن يذكرك‬
‫فاذكره‪ ،‬إن أردت أن يستجيب لك فادعُه‪ .‬هذه املعاملة معه سبحانه ال تثبت مع‬
‫‪ 1‬الشعراء‪84 ،‬‬
‫‪ 2‬يونس‪2 ،‬‬
‫‪ 3‬القمر‪54-55 ،‬‬
‫‪ 4‬النساء ‪69-70‬‬

‫‪350‬‬
‫اإلحسان‬

‫رياح اهلوى العاصفة بالنفوس اخلاوية‪ ،‬لذلك نصحك سبحانه حيث قال‪﴿ :‬يَا‬
‫ين﴾‪ 1.‬ولكل صدق مكان معلوم‬ ‫أَيـُّها الَّ ِذين آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ وُكونُواْ مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ونتائج معلومة‪ .‬فصدق اللهجة أهله ناجون من شعبة واحدة من النفاق‪ ،‬وصدق‬
‫العهد والوفاء بهكذلك‪ ،‬والصادقون يف مواجهة العدو وجهاده شهداء‪ .‬وهكذا حىت‬
‫جتد الصادقني الكاملني يف الصدق‪ ،‬أبرموا مع اهلل عز وجل ميثاقا غليظا ليكونُن له‬
‫عبيدا‪ .‬أولئك املفردون السابقون‪ .‬احنيازك إليهم يرفعك إىل املنزلة العظمى‪.‬‬
‫قال اإلمام السهروردي رمحه اهلل بعد أن ذكر حديث إمنا األعمال‬
‫بالنيات‪" :‬النية أول العمل‪ِ ،‬وبَ َسبِها يكون العمل (‪ ،)...‬فإن دخوله (املريد)‬
‫يف طريقهم هجرة حاله ووقته‪ )...( .‬وكل من كانت بدايته أحكم كانت هنايته‬
‫يصحب من يعلمه حسن النية"‪.2‬‬
‫ُ‬ ‫أمت‪ )...( .‬ومن مل يهتد إىل النية بنفسه‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬أية حكمة حتت قوله‪" :‬من يعلمه حسن النية"! هناك أجيال‬
‫ك‬‫سَ‬ ‫سي الفكري قول اهلل تعاىل لنبيه‪﴿ :‬و ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫اصب ْر نـَْف َ‬ ‫َ‬ ‫مسعهم احل َّ‬ ‫من املسلمني طرق َ‬
‫ين يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ﴾‪ 3.‬لكن فطرهتم مل‬ ‫َّ ِ‬
‫َم َع الذ َ‬
‫تسمعها‪ ،‬مل يعلمهم أحد هذه النية‪ ،‬مل يسألوا أهل الذكر‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن القيم رمحه اهلل‪(" :‬منزلة الصدق) هي منزلة القوم‬
‫األعظم‪ .‬والطريق األقوم الذي َمن مل يَ ِس ْر عليه فهو من املنقطعني اهلالكني‪ .‬وبه‬
‫متيـََّز أهل النفاق من أهل اإلميان‪ ،‬وسكان اجلِنان من أهل النريان‪ .‬وهو سيف اهلل‬
‫وصرعه‪.‬‬
‫يف أرضه الذي ما ُوضع على شيء إال قطعه‪ ،‬وال واجه باطال إال أرداه َ‬

‫‪ 1‬التوبة‪119 ،‬‬
‫‪ 2‬عوارف املعارف ص‪ 469‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬الكهف‪28 ،‬‬

‫‪351‬‬
‫اإلحسان‬

‫من صال به مل تـَُرَّد صولته‪ ،‬ومن نطق به علت على اخلصوم كِْل َمته‪ .‬فهو روح‬
‫األعمال‪ ،‬وحمك األحوال‪ ،‬واحلامل على اقتحام األهوال‪ ،‬والباب الذي دخل‬
‫منه الواصلون إىل حضرة ذي اجلالل‪ .‬وهو أساس بناء الدين‪ ،‬وعمود فُ ْسطاط‬
‫‪1‬‬
‫اليقني‪ ،‬ودرجته تالية لدرجة النبوة اليت هي أرفع درجات العاملني"‪.‬‬
‫وحيك! أنت مل تلج الباب‪ ،‬ومل ترافق األحباب! دخلت قاعات االنتظار‬
‫ذكرت به‪،‬‬ ‫متأوال‪ .‬ونسيت حظا مما ِّ‬ ‫ِ‬
‫متطفال‪ ،‬وحرفت الكل َم عن مواضعه ّ‬
‫ومتلقت اجملد الدنيوي‪" :‬مجيع أعمالك وأقوالك ومقاصدك دنية‪ .‬القوم ليس يف‬
‫أعماهلم ملق‪ .‬هم الفائزون‪ ،‬هم املوقنون املوحدون املخلصون الصابرون على‬
‫بالء اهلل عز وجل وآفاته‪ ،‬الشاكرون على نعمائه وكراماته‪ .‬يذكرون بألسنتهم مث‬
‫بقلوهبم مث بأسرارهم‪ .‬إذا جاءهتم األذايا من اخللق تبسموا يف وجوههم‪ .‬ملوك‬
‫الدنيا عندهم معزولون‪ .‬مجيع من يف األرض عندهم موتى‪ ،‬عاجزون‪ ،‬مرضى‪،‬‬
‫فقراء‪ .‬اجلنة باإلضافة إليهم كأهنا خراب‪ .‬النار باإلضافة إليهم خممودة‪ .‬ال‬
‫أرض وال مساء وال ساكن فيهما‪ .‬تتَّحد جهاهتم (أي جهات قصدهم) فتصري‬
‫جهة واحدة‪ .‬كانوا مع الدنيا وأهلها‪ ،‬مث صاروا مع األخرى وأهلها‪ ،‬مث صاروا‬
‫مع رب الدنيا واآلخرة‪ .‬التحقوا به وباحملبني له‪ .‬ساروا بقلوهبم حىت وصلوا‬
‫إليه‪ ،‬وحصلوا الرفيق قبل الطريق‪ .‬فتحوا الباب بينهم وبينه بذكرهم‪ .‬ما زالوا‬
‫فقدهم مع غريه ووجودهم به‪ .‬مسعوا‬ ‫يذكرونه حىت حط الذكر عنهم أوزارهم‪ُ .‬‬
‫ون﴾‪ .2‬فالزموا‬ ‫قوله عز وجل‪﴿ :‬فَاذْ ُكرونِي أَذْ ُكرُكم وا ْش ُكرواْ لِي والَ تَ ْك ُفر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫الذكر له طمعا يف ذكره هلم‪ .‬مسعوا قوله عز وجل يف بعض ما تكلم به‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ص ‪.268‬‬


‫‪ 2‬البقرة‪152 ،‬‬

‫‪352‬‬
‫اإلحسان‬

‫(من احلديث القدسي)‪" :‬أنا جليس من ذكرين" فهجروا جمالس اخللق‪ ،‬وقنعوا‬
‫‪1‬‬
‫بالذكر حىت حتصل هلم اجملالسة له"‪.‬‬
‫وحيك! أنت ما فتحت الباب بينك وبينه تذكره وتناجيه‪ ،‬بل فتحت باب‬
‫وتت يف دراسة "الكون الكبري"‪ ،‬وتعمقت يف "فقه الواقع"‪ ،‬ونسيت اهلل‪.‬‬ ‫اخللق‪ِ ،‬‬
‫ونسيت سنة اهلل‪ .‬ال َجَرَم حتصل على ما هاجرت إليه‪ .‬ال جرم تلتحق باملناضلني‬
‫من كل صنف وإن رفعت شعارات اإلسالم‪ .‬مل تلتحق بأحبائه‪ .‬ما مسعت عنهم‬
‫خربا‪ .‬ما عاهدته‪ ،‬ما وفيت‪ ،‬ما صدقت‪ .‬كيف لك بالصدق إن مل تكن مع‬
‫الصادقني!‬
‫ك وشأنك‪ ،‬شغله حب اهلل عنك‪:‬‬
‫قال حمب صادق تـََرَك َ‬
‫فعبدك ُـم عل ـ ــى حـفــظ األم ــانـ ــة‬ ‫أأحبــايب وصلتم أو هج ـرت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ‬
‫وال يثن ــي مـعـنِّـ ُف ـ ـ ـ ـ ــه عـِنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان ـ ـ ــه‬ ‫ـذول ‬
‫مقيــم ال يـزحــزحه َعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫جب ــال الشُّـم تـحملـ ـ ـ ــه َرَزانـَ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫محلت ألجلكم ما ليس تقوى ‬
‫وطـُ ِّـوقَـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهُ فـتـ ـ ـ ـ ًـى إال وزان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وحفــظ العهد ما وافاه حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر ‬
‫فش ــان ــك يـ ــا معـنِّـف ـ ـ ـ ــه وشـانـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫فدعه وحب م ــن يهـ ـ ـ ـ ــوى وإال ‬
‫ب ُمهيَّم وجهته اهلل ال غريه‪ ،‬صادقا وفيا‪:‬‬
‫ص ٌّ‬
‫وقال َ‬
‫قبيـح على صـب يـذوب صبابة وتنـظـ ـ ــر عـينـ ــاه حلسـ ــن س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬
‫أجيم ُـل أن هتـوى هـ ـواه وتـ ّدعــي سـواه وما يف الكون يـُْع َشــق إال هـو‬
‫إذا كان من هتواه يف احلسن واحدا فكن واحدا يف احلب إنكنت هتواه‬
‫وقال صادق يطمع يف إيقاظ الراقدين‪:‬‬
‫الطُّْرق شىت وطُْرق احلق مفردة والسالكون طريـ ــق احل ــق أف ـ ـ ـراد‬

‫‪ 1‬الشيخ عبد القادر يف "الفتح الرباين" ص ‪.22‬‬

‫‪353‬‬
‫اإلحسان‬

‫ـاد‬
‫ـاصدهم فهم على َم َه ــل ميشـون قُص ـ ـ ُ‬ ‫ال يُعرفون وال تُدرى مق ُ‬
‫ـاد‬
‫والناس يف غفلة عمـا يُراد هب ـ ـ ـ ـ ــم فجلهم عن سبيـ ـ ـ ــل احلـق ُرقـ ُ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫العهد ما ُخنت األمانه فَ ِحفـظ العه ِـد أصـ ٌـل ِّ‬


‫للدي ـ ــانـ ـ ـ ـ ْـه‬ ‫فظت َ‬
‫َح ُ‬
‫للخنـ ــوع واالستكــانـَ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه‬ ‫ِ‬
‫اه ـ ـ ـ ـ ـ ــا َورفضاً ُ‬ ‫نذرت َدمي دفاعا عن ح َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فه ــا أنا ذا بُْع ــتَـ ـ َـرك املن ــاي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َعل َّي القـ ـ ْدر ُمرت ـ ـ ـفـ ـ َـع املكـ ــانـ ـ ـ ـ ْـه‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫‪354‬‬
‫اإلحسان‬

‫النفاق والرياء‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ت َعلَ َّي َو َعلَى‬ ‫ك الَّتِي أَنـَْع ْم َ‬
‫ب أ َْوِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوالِ َد َّ‬
‫َصل ْح لي في ذُ ِّريَّتي‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫صالحاً تـَْر َ‬ ‫ي َوأَ ْن أَ ْع َم َل َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ك َوإِنِّي م َن ال ُْم ْسلم َ‬ ‫ت إِلَْي َ‬‫إِنِّي تـُْب ُ‬
‫الص ْدر وعذاب‬ ‫اللهم إين أعوذ بك من البخل واجلنب وفتنة َّ‬
‫القرب وسوء العمر‪.‬‬

‫ما َدرى طالب احلق ما هو احلق‪ ،‬ما عنده طلب وإن كان يردد مع‬
‫املسلمني‪ .‬اهلل غايتنا‪ ،‬ما علمه أحد حسن النية‪ ،‬ما تعلم اإلميان قبل القرآن‪ ،‬ما‬
‫ذكر اهلل‪ ،‬ما جلس مع الذاكرين‪ .‬وإمنا غموض وإهبام وترك للمسألة اجلوهرية‪،‬‬
‫مسألة القلب‪ ،‬يف زاوية املسلَّمة امللغاة‪.‬‬
‫تعوذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من "فتنة الصدر" وفتنة الصدر ما‬ ‫َّ‬
‫يعرتيه من أمراض من مجلتها‪ ،‬بل من أشدها فتكا‪ ،‬النفاق والرياء‪ .‬وعلمنا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن املرء على دين خليله‪ ،‬وأوصانا أن ينظر أحدنا من‬
‫خيالل‪ .‬وعلمنا اهلل عز وجل أن بذكره تعاىل تطمئن القلوب‪ .‬وعلمنا رسوله الكرمي‬
‫أن الصدق طمأنينة وأن التقوى "ها هنا" وأشار إىل صدره الشريف‪ .‬وعلمنا اهلل‬
‫ص َّد َق بِ ِه أ ُْولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْمتـَُّقو َن﴾‪.‬‬ ‫يف كتابه العزيز أن ﴿الَّ ِذي جاء بِ ِّ ِ‬
‫الص ْدق َو َ‬
‫‪1‬‬
‫َ‬
‫‪ 1‬الزمر‪33 ،‬‬

‫‪355‬‬
‫اإلحسان‬

‫واحد جاء بالصدق من عند اهلل تعاىل‪ ،‬وهو الرسول منبع التقوى‪ ،‬وواحد صدق‬
‫به واتبعه وأطاعه وأحبه حىت رفعه حبه إىل حب اهلل فأحبه اهلل وطهر قلبه‪.‬‬
‫الطب النبوي استشفى الصحابة‪ ،‬وبه طهرت قلوهبم فتعلموا اإلميان‬
‫هبذا ِّ‬
‫قبل القرآن‪.‬‬
‫ذلك الطب النبوي‪ ،‬طب القلوب‪ ،‬أخربتنا أجيال من األكابر يف هذه‬
‫يورث‪ .‬ومعاصرونا من علماء الفكر ال التفكر يتساءلون‬ ‫ِ‬
‫األمة أنه مل يَض ْع‪ ،‬وأنه َ‬
‫عن "األجهزة الروحية" اليت من شأهنا أن تعطي املسلمني اإلميان‪ .‬وكأن األمر‬
‫تركيب ميكانيكي َتُل معضالتِه "القواعد الفنية احملرتمة"! واألجهزة اإلدارية‬
‫املتخصصة!‪.‬‬
‫أي طب وأية صيدلية يلزم املسلمني‪ ،‬ويلزم طالب احلق‪َ ،‬ليتفع الطالب‬
‫من حضيض عاميته وأعرابيته القلبية إىل قـُلَّة خصوصيته‪ .‬تقرأ يف الكتب وصفا‬
‫ٍ‬
‫بأحكام من أحكام احلالل واحلرام‬ ‫وتارخيا‪ ،‬فما حيصل لك من الكتب إالّ علم‬
‫حتفظها لتطبقها إن قدرت‪ .‬وما حيصل لك إال اطالع على أحوال مرضيَّة حتبها‬
‫لنفسك العليلة‪ ،‬لكن أين الطبيب؟ وأىن للمصاب بالشفاء؟‬
‫ما حيصل لك من قراءة وصف الطريق وعوائقها‪ ،‬ومن قراءة خرب من سلكوا‬
‫وفازوا باهلل إال توق وشوق إن تداركك اهلل بعنايته وأمسع أذن قلبك وفطرتك ما‬
‫مسعك لعل‬ ‫ِ‬
‫يَص ُّم عنه غريك إنكارا واستكبارا‪ .‬وحسيب من هذا الكتاب أن أقرع َ‬
‫سمع من يف القبور‪ .‬حسيب أن أخربك خرب صادق واثق أن رسول اهلل صلى‬ ‫اهلل ي ِ‬
‫ُ‬
‫اهلل عليه وسلم علَّم فأحسن التعليم جزاه اهلل خريا‪ ،‬وأن أكابر األمة من بعده من‬
‫الصحابة والتابعني بإحسان أدوا الشهادة‪ .‬وهذه شهاديت تقرأها لتن ُفض يدك‪ ،‬إن‬
‫الشوق‬
‫رعاك اهلل برعايته‪ ،‬من كل شيء لتخرج من صحبة الكتب وقد طار بك ْ‬
‫لتبحث عن من يعلمك "حسن النية" حىت تصح بدايتُك فيصح سريُك وتستقيم‬

‫‪356‬‬
‫اإلحسان‬

‫وتقيم وجهك للدين حنيفا‪.‬‬


‫تصحيح البدايات خيلصك من الريبة ويوحد يف نيتك املطلوب‪ ،‬ويوحد‬
‫صك‪ ،‬وهو مرض عُضال‪.‬‬ ‫يشعبُك ويـَُع ِّو ُ‬
‫ويقوم الوجهة‪ .‬مرض النفاق ِّ‬
‫الطلب‪ِّ ،‬‬
‫النافقاء هي جحر فار الصحراء املسمى يربوعاً جيعل جلحره بابني‪ ،‬ومن النافقاء‬
‫أخذت كلمة النفاق لذي الوجهني‪ ،‬ذي البابني‪ ،‬ال صدق له‪ ،‬وال طمأنينة‪ ،‬ال‬
‫ثقة‪ ،‬ال قرار‪ .‬لسانه مزدوج‪ ،‬ذمته مزدوجة‪ ،‬سلوكه مزدوج‪ ،‬ال وجهة له تعرف‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أربع من كن فيه كان منافقاً خالصا‪ ،‬ومن‬
‫كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حىت يدعها‪ .‬إذا اؤمتن‬
‫خان‪ ،‬وإذا حدث كذب‪ ،‬وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر"‪ .‬رواه الشيخان‬
‫وأصحاب السنن عن عبد اهلل بن عمرو‪ .‬ويف رواية عوض "إذا اؤمتن خان"‬
‫جاءت "إذا وعد أخلف"‪.‬‬
‫من خصال املنافق الك ّذاب التكذيب‪ ،‬ومن أفظع التكذيب التكذيب‬
‫الكذب على نفسه وإظهارها مبا ليس فيها‪ ،‬وذلك‬ ‫ُ‬ ‫بيوم الدين‪ .‬ومن أكثره غباوة‬
‫الرياء‪ .‬التكذيب باآلخرة يُبطل أصل اإلميان‪ ،‬والرياء يبطل أصل األعمال‪ .‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن اهلل إذا كان يوم القيامة ينزل إىل العباد‬
‫ليقضي بينهم‪ ،‬وكل أمة جاثية‪ .‬فأول من يدعو به رجل مجع القرآن‪ ،‬ورجل قتل‬
‫ك ما أنزلت على‬ ‫يف سبيل اهلل‪ ،‬ورجل كثري املال‪ .‬فيقول اهلل للقارئ‪" :‬أمل أعلِّ ْم َ‬
‫رسويل؟ قال بلى يا رب! قال‪ :‬فماذا عملت فيما علمت؟ قال‪ :‬كنت أقوم به‬
‫آناء الليل وأطراف النهار‪ .‬فيقول اهلل له‪ .‬كذبت! وتقول له املالئكة‪ :‬كذبت!‬
‫ويقول اهلل له‪ :‬بل أردت أن يقال‪ :‬فالن قارئ! وقد قيل ذلك‪ .‬ويؤتى بصاحب‬
‫املال فيقول اهلل‪ :‬أمل أوسع عليك حىت مل أدعك حتتاج إىل أحد؟ قال‪ :‬بلى‪،‬‬
‫قال‪ :‬فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق‪ .‬فيقول اهلل له‪:‬‬

‫‪357‬‬
‫اإلحسان‬

‫كذبت! وتقول له املالئكة‪ :‬كذبت! ويقول اهلل له‪ :‬بل أردت أن يقال فالن‬
‫جواد! فقيل ذلك‪ .‬مث يؤتى بالذي قتل يف سبيل اهلل‪ ،‬فيقول فيما قتلت؟ فيقول‬
‫فقاتلت حىت قتلت‪ .‬فيقول اهلل له‪ :‬كذبت! وتقول له‬ ‫ُ‬ ‫ت باجلهاد يف سبيلك‪،‬‬ ‫أ ََم ْر َ‬
‫املالئكة‪ :‬كذبت! ويقول اهلل‪ :‬بل أردت أن يقال فالن جريء! فقد قيل ذلك"‪ .‬مث‬
‫ضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على ركبيت (يقول الراوي أبو هريرة) فقال‪" :‬يا‬
‫سعر هبم النار يوم القيامة"‪.‬‬
‫أبا هريرة! أولئك الثالثة أول خلق اهلل تُ َّ‬
‫روى احلديث مسلم يف صحيحه والرتمذي والنسائي‪ .‬حدث أبو هريرة رضي‬
‫اهلل عنه هبذا احلديث بعد أن نَ َش َغ ثالث مرات‪ .‬ومعىن النشغ كما قال ابن األثري‬
‫رمحه اهلل ‪" :‬الشهيق حىت يكاد يبلغ به الغشي" قال‪" :‬وإمنا يفعله اإلنسان أسفا‬
‫على فائت وشوقا إىل ذاهب"‪ .‬ماكانت القلوب باردة هامدة‪ ،‬بل تركها رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم حية ُمضيئة متوثبة حبب اهلل ورسوله وبالشوق والذوق‪ .‬وقلوب‬
‫العارفني الطالبني اخلاشعني ال تزال كذلك واحلمد هلل‪ .‬وحظ الكاذبني من هذا‬
‫ومباءَ ُتم الرياء ليقال‪ ،‬وقد قيل‪ .‬يف رواية‪ :‬اذهبوا به إىل النار‪.‬‬
‫التكذيب‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫اإلخبار‬
‫وقانا اهلل وإياك من الكذب والتكذيب والتخريب وإبطال األعمال‪.‬‬
‫هذا مشهد عظيم أخربنا عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مشهد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ّفاً َّل يـَتَ َكلَّ ُمو َن إَِّل َم ْن أَذ َن لَهُ ْ‬
‫الرح َم ُن‬ ‫وح َوال َْم َلئ َكةُ َ‬
‫الر ُ‬‫وم ُّ‬
‫من ﴿يـَْوَم يـَُق ُ‬
‫ْح ُّق فَ َمن َشاء اتَّ َخ َذ إِلَى َربِِّه َمآباً﴾‪.‬‬ ‫ك الْيـَْو ُم ال َ‬‫ص َواباً َذلِ َ‬
‫ال َ‬‫َوقَ َ‬
‫‪1‬‬

‫تكلم القارئ املرائي واملقاتل املناضل والغين املتباهي بإذن‪ ،‬لكنهم مل‬
‫تزويرهم‪ .‬كانت نياهتم فاسدة‪ ،‬وأقواهلم‬
‫يقولوا صوابا‪ ،‬فلم يقبل منهم‪ ،‬وأرداهم ُ‬
‫َكاذبة‪ ،‬ويقدح يف نية الصادقني أيضا خمالفة أقواهلم وأفعاهلم للصواب‪ .‬فمن شاء‬

‫‪ 1‬النبأ‪38-39 ،‬‬

‫‪358‬‬
‫اإلحسان‬

‫أن يتخذ إىل ربه مآبا‪ ،‬وعودة محيدة‪ ،‬ومقعد صدق عند مليك مقتدر‪ ،‬فعليه‬
‫أن يتحرى الصدق والصواب‪ .‬النيات احلسنة اخلطأ ال تعطي الظمآن ريًّا‪ ،‬بل‬
‫متيت من كان قبلها حيا‪ .‬الفضيل بن عياض رضي اهلل عنه أحد زهاد هذه‬
‫ت‬‫األمة وصاحليها‪ .‬سألوه‪" :‬ما أحسن العمل يف قوله تعاىل‪﴿ :‬الَّ ِذي َخلَ َق ال َْم ْو َ‬
‫وال ِ‬
‫س ُن َع َمالً﴾‪1‬؟ قال‪" :‬أحسنه أخلصه وأصوبه"‪ .‬قالوا‬ ‫َح َ‬‫ْحيَاةَ ليَبـْلُ َوُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬
‫َ َ‬
‫يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪" :‬إن العمل إذا كان خالصا ومل يكن صوابا‬
‫مل يقبل‪ ،‬وإذا كان صوابا ومل يكن خالصا مل يقبل‪ ،‬حىت يكون خالصا صوابا‪.‬‬
‫واخلالص أن يكون هلل‪ ،‬والصواب أن يكون على السنة"‪ .‬مث قرأ قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫َحداً﴾‪.‬‬ ‫﴿فَمن َكا َن يـرجو لَِقاء ربِِّه فـ ْليـعمل َعمالً صالِحاً وَل ي ْش ِر ْك بِ ِعب َ ِ ِ‬
‫ادة َربِّه أ َ‬
‫‪2‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َْ َ ْ َ َ َ ُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫أين الوجهة الصواب‪ ،‬وكيف أخلص القصد يا رب! ادعه فهو الكفيل‬
‫وحده عز وجل باالستجابة‪.‬‬
‫قال ذو النون املصري رمحه اهلل‪ :‬اإلخالص ال يتم إال بالصدق فيه‪ ،‬والصرب‬
‫عليه‪ .‬والصدق ال يتم إال باإلخالص فيه واملداومة عليه‪ .‬وقال أبو يعقوب‬
‫اإلخالص‬
‫َ‬ ‫السوسي من الصوفية األخيار‪ :‬مىت شهد الصادقون يف إخالصهم‬
‫احتاج إخالصهم إىل إخالص‪ .‬أي مىت أُعجبوا بإخالص أنفسهم فقد َومهوا‬
‫‪3‬‬
‫س ُك ْم ُه َو أَ ْعلَ ُم بِ َم ِن اتـََّقى﴾‪.‬‬
‫واحتاجوا ملراجعة رأيهم يف أنفسهم ﴿فَ َل تـَُزُّكوا أَن ُف َ‬
‫أرأيت دقائق النظر يف أمراض القلب‪ ،‬واخلربة هبا‪ .‬هم وصفوها بوصف‬
‫الكتاب والسنة‪ .‬وعند الوصف يقف الوراقون رافضني أو تاركني غري عابئني‪.‬‬
‫ومن الدقة يف حماسبة النفس والرجوع عليها وحماصرهتا على دروب النفاق‬

‫‪ 1‬امللك‪2 ،‬‬
‫‪ 2‬الكهف‪ ،‬اآلية األخرية‬
‫‪ 3‬النجم‪32 ،‬‬

‫‪359‬‬
‫اإلحسان‬

‫والرياء تُعرف قيمة الرجال‪ .‬أعاظم الرجال بعد األنبياء صحابة رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ .‬إمام يف مقدمة صفهم رضي اهلل عنهم عمر بن اخلطاب أمري‬
‫املؤمنني‪ .‬بشره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باجلنة‪ ،‬ونزل القرآن مبوافقته يف‬
‫ثالثة مواقف‪ ،‬وكان وزير رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل جانب الصديق‬
‫األول‪ ،‬واختاره الصديق خلالفته‪ ،‬وأمجع املؤمنون على قبوله‪ .‬ومع ذلك فهو‬
‫يُ ِسُّر إىل حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي‬
‫علمه املصطفى أمساء املنافقني خما ِوفَه املنبعثة من حماسبته لنفسه‪ ،‬فيقول‪ :‬يا‬
‫أخي يا حذيفة باهلل عليك هل أنا من املنافقني؟‪.‬‬
‫هذا التدقيق على النفس هو عكس الرياء‪ ،‬هو إخالص اإلخالص‪ ،‬هو‬
‫الشفاء التام من النفاق والشقاق وسوء األخالق‪ ،‬هو أن ال ترى لنفسك مزية‪،‬‬
‫أن‬
‫وال تعرتف هلا فيما بينك وبني اهلل بإخالص‪ .‬تتهمها أبدا‪ .‬إذا فعلت‪ ،‬و ّ‬
‫لك يا حبييب بال طبيب حبيب! ألبسك اهلل رداء العافية القلبية‪ ،‬رداء الصدق‬
‫واإلخالص‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬ليس الشأن يف خشونة ثيابك‬
‫ومأكولك‪ .‬الشأن يف زهد قلبك‪ .‬أول ما يلبس الصادق يف لبسه الصوف على‬
‫سره‪ ،‬مث قلبه‪ ،‬مث نفسه‪ ،‬مث جوارحه‪ .‬حىت‬ ‫باطنه‪ ،‬مث يتعدى على ظاهره‪ .‬فيلبس ُّ‬
‫إذا صار كله متخشنا جاءت يد الرأفة والرمحة واملنة فغريت ما عليه تغيريا‪ُ .‬يلع‬
‫عنه ثياب السواد وينقله إىل ثياب الفرح‪ .‬تُبدَّل النقمة إىل النعمة‪ ،‬والب ْغضة إىل‬
‫‪1‬‬
‫الفرحة‪ ،‬واخلوف إىل األمن‪ ،‬والبعد إىل القرب‪ ،‬والفقر إىل الغىن"‪.‬‬
‫يتكلم الشيخ مع من يلبس على ظاهره لباس الرياء‪ ،‬ويتزىي بزي الصاحلني‪.‬‬
‫تأمل تعبريه بلبس الصوف على الباطن جتده أحسن وصف خلشونة الصادق على‬
‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.19‬‬

‫‪360‬‬
‫اإلحسان‬

‫نفسه خشونة أمثال عمر رضي اهلل عنه‪ .‬بأي نفاق وبأي رياء وبأية جوالت‬
‫يف أوحال "علم النفس"‪ ،‬وهو عصارة نفوس الكافرين اخلبيثة‪ ،‬يريد بعضهم أن‬
‫يطبِّب أمراض املسلمني! إنه ال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم!‬

‫قال متفكر متذكر متحسر دامع املقلة باكي القلب‪:‬‬


‫كم ْـن دارت به احلَلَـ ُـق‬ ‫تأخر النـاس واألبــدال قد سبقـ ـوا ليس الطليق َ‬
‫واخللـق يف اخللـق أمثــال ُمســاوية وال مـمـيِّ ــز إال الوصــف واخلـُلُـ ُـق‬
‫ـازم حنـو بـاب القـرب منطلـق؟‬ ‫ـأن فـي بطــالتـه وح ٌ‬ ‫هــل يستــوي متـ ٍّ‬
‫ـج األمـ َـن فيهــم ذلك ال َف ـ َـر ُق‬ ‫ـأرقـه ـم فـأنتـ َ‬
‫القــوم أظم ــأهم ح ـ ٌّـر ف ـ َّ‬
‫شـدوا احليازم واشتــدوا إلـى علَ ـ م تاهت عن السعي يف إدراكه ِ‬
‫الف ـ َـر ُق‬ ‫َ‬
‫هم العُكـوف على أبواب اهلل تَ ْكـ ِرَم ة يف اهلل إن صمـت ـوا باهلل إن نطقـ ـوا‬
‫منكل أشعث ذي طمـرين حتسبـ ه سيف ــا تـََفـ َّـرى عليه ِغ ْم ُـده اخلـَلَـ ُـق‬
‫ِ‬
‫ـاض الصبـح لْب َسـتُـه معــا ِوَز الليـل وهو األبيَ ُ‬
‫ـض اليَـ َقـ ُـق‬ ‫وهل تشـني بيـ َ‬
‫يقطِّــع الليـل تفكـيـ ـرا وتَـ ْذك ــرة والدمـع منـدفـق والقلـب حمـت ــرق‬
‫فجسمـه يف بســاط األرض ُمـرتـََهـ ٌ ـن وقلبـه يف بســاط الغيــب خمـت ــرق‬
‫ففي اهل ـواجــر أحلـى ِوْرِد ِه ظَ َـم ـأ ٌ ويف الديــاجي ــر أهن ــا نــومـه َأر ُق‬
‫سيمــاه دمـ ٌـع َك َسْيـح الوبـل تبعثـه ج ـوانح يف رياض الشــوق تصطفــق‬
‫خـرق العـوائـد منهـم لسـت تُنكـره وكيـف ينكــر نـور األجنـم األُفُـ ُـق؟‬
‫يا من تشكـك جهـال يف كـرامـته م حقـق وصـدق بأن القوم قد صدقوا‬
‫العق ــل جـ َّـوزهـا والش ــرع أثبتهـا ومـا بِك ِّـف ــك إال العِ ـ ُّـي واخلَـ َـر ُق‬
‫قهق ـ ْـر فمــا لـك يف ميــداهنـم أثـر وإن شكـكـت فهـذا اليـوم والطَّـلَـ ُـق‬ ‫ِ‬
‫ِّه ُـم والك ْـيـس والعجـز شيء ليـس يتفـق‬ ‫وقصــرت عن إدراك ِجـد ِ‬
‫جـ ّدوا َّ َ‬

‫‪361‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت‪:‬‬

‫صدقو ا َوَمن َج ـواحن ُـهم بالغَ ــدر تَصطَِف ـ ـ ُـق‬ ‫عهد اللّه قد َ‬ ‫ال يستوي من بِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الَ يَستوي ال َقاعدون النَّاعمون َوَمن ب ـ ـ ِّـم َّأمتـهـ ــم يـُ ْذكـ ـ ـي ـ ـه ـ ـ ُـم األ ََر ُق‬
‫ـاق على حـ ــافَــاتِه امللَـ ـ ُـق‬ ‫الَيستوي الصدق والبهـ ــان يثبتُه مـع النِّف ـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬

‫‪362‬‬
‫اإلحسان‬

‫ستفترق أمتي‪...‬‬

‫ْجن َِّة‬ ‫ِ‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬ر ِّ ِ ِ‬


‫ب ابْ ِن لي عن َد َك بـَْيتاً في ال َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين‬ ‫َونَ ِّجني من ف ْر َع ْو َن َو َع َمله َونَ ِّجني م َن الْ َق ْوم الظَّالم َ‬
‫أعوذ بك من يوم السوء‪ ،‬ومن ليلة السوء‪ ،‬ومن ساعة السوء‪ ،‬ومن‬
‫صاحب السوء‪ ،‬ومن جار السوء يف دار املقامة‪.‬‬

‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬تفرقت اليهود على إحدى وسبعني‬
‫فرقة‪ ،‬أو اثنتني وسبعني‪ .‬والنصارى مثل ذلك‪ .‬وستفرتق أميت على ثالث‬
‫وسبعني فرقة"‪ .‬أخرجه الرتمذي وأبو داود عن أيب هريرة بسند حسن صحيح‪.‬‬
‫حول هذا احلديث دار جدل طويل وال يزال‪ .‬فلما ظهرت ِ‬
‫الفَرق بني املسلمني‪،‬‬
‫استند العلماء على هذا احلديث ورواياته املختلفة لتعيني الفرق الثالث والسبعني‬
‫وتبديعها وتكفريها‪ ،‬معتمدين على رواية بإسناد غريب للرتمذي يقول فيها احلبيب‬
‫من هي يا‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يف هناية احلديث‪" :‬كلها يف النار إال واحدة"‪ .‬قالوا ْ‬
‫رسول اهلل؟ قال‪" :‬ما أنا عليه وأصحايب"‪ .‬وعند أيب داود‪" :‬وإن هذه امللة ستفرتق‬
‫على ثالث وسبعني‪ ،‬اثنتان وسبعون يف النار‪ ،‬وواحدة يف اجلنة"‪.‬‬
‫الذي كان عليه النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه اإلسالم واإلميان‬
‫واإلحسان‪ ،‬والذي بينه اهلل عز وجل من الفرق يف كتابه العزيز هم أهل الكفر‬
‫والشرك وأهل النفاق‪ .‬فقد ذكر اهلل عز وجل يف أول سورة البقرة املؤمنني‬

‫‪363‬‬
‫اإلحسان‬

‫املوقنني باآلخرة املفلحني يف آية‪ ،‬وذكر الذين كفروا الذين ختم سبحانه على‬
‫قلوهبم ومسعهم وأبصارهم صم بكم عُمي فهم ال يسمعون يف آيتني‪ ،‬وذكر‬
‫املنافقني الذين يف قلوهبم مرض يف بضع عشرة آية‪.‬‬
‫فبوضع احلديث بإزاء القرآن ليبينه نفهم أن ِ‬
‫الفَر َق اهلالكة الثنتني والسبعني‬
‫فروع تارخيية للشرك والنفاق أخرب بفتنها الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحذر‬
‫منها‪ .‬اخلتم على القلوب ومرض القلوب أصل كل الضالالت‪ .‬ويكون إصالح‬
‫القلوب‪ ،‬واحملافظة على سالمتها الفطرية‪ ،‬وتطبيبها أصال لكل هداية وفالح‪.‬‬
‫هذا‪ .‬مث إن العلماء اهتموا بتعيني الفرق الضالة اليت حادت عما كان‬
‫عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أصول االعتقاد أو أصول الشريعة‬
‫العملية‪ .‬تكلم عبد اهلل بن املبارك ويوسف بن أسباط رمحهما اهلل وقاال‪:‬‬
‫أصول البدع أربعة‪ :‬الروافض‪ ،‬واخلوارج‪ ،‬والقدرية‪ ،‬واملرجئة‪ .‬قال ابن املبارك‪:‬‬
‫اجلهمية ليسوا من أمة حممد‪ .‬وقال طائفة من العلماء احلنابلة‪ :‬اجلهمية كفار‬
‫فال يدخلون يف الثنتني والسبعني فرقة‪ ،‬كما ال يدخل فيهم املنافقون الذين‬
‫يبطنون الكفر ويظهرون اإلسالم‪ ،‬وهم الزنادقة‪.‬‬
‫اجلهمية هم من أشد الفرق ضاللة‪ ،‬وهم أتباع اجلهم بن صفوان الذين‬
‫ينكرون الصفات اليت أثبتها اهلل عز وجل لنفسه وأخرب عنها رسوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ويقولون لعنهم اهلل ‪ :‬إن اهلل ال يرى وال يتكلم‪ ،‬وال يباين اخللق‪،‬‬
‫وال له علم وال قدرة وال مسع وال بصر وال حياة‪ .‬ويقولون بأن أهل اجلنة ال‬
‫يرون اهلل‪ ،‬وأن القرآن خملوق‪ .‬ر ّادين بذلك ما أمجعت عليه األمة‪ ،‬وهم أهل‬
‫السنة واجلماعة حشرنا اهلل معهم‪.‬‬
‫ومن بعد العلماء األوائل تكلم اإلمام األشعري رمحه اهلل يف ِ‬
‫الفَرق وعني منها‬
‫يف كتابه "مقاالت اإلسالميني" مخساً وأربعني فرقة من فرق الشيعة‪ ،‬وستا وثالثني‬

‫‪364‬‬
‫اإلحسان‬

‫فرقة من اخلوارج‪ ،‬واثنيت عشرة فرقة من املرجئة‪ ،‬وعدَّد طوائف أخرى حىت بلغ‬
‫هبا أكثر من مائة فرقة‪.‬‬
‫أما ابن حزم فقد أضاف املعتزلة وعدهم إىل جانب األربعة األصلية‪ :‬أهل‬
‫السنة والشيعة واملرجئة واخلوارج‪.‬‬
‫وعدد الشهرستاين يف كتابه "امللل والنحل" ستا وسبعني فرقة َردها إىل‬
‫يبي موضوع خالفها مع أهل السنة واجلماعة‪ .‬فذكر القاعدة األوىل‬ ‫ٍ‬
‫عام ِّ ُ‬
‫ضابط ٍّ‬
‫من ضابطه وهي اخلالف يف الصفات والتوحيد‪ ،‬ما بني مثبت هلا ٍ‬
‫وناف‪ ،‬وما بني‬
‫من يفصل بني صفات الذات والفعل‪ ،‬وما جيب هلل تعاىل وما جيوز وما يستحيل‪.‬‬
‫ويف القاعدة الثانية ذكر اخلالف يف القدر والعدل‪ ،‬واملتكلمني يف القضاء والقدر‬
‫واخلري والشر واملقدور واملعلوم‪ .‬ويف القاعدة الثالثة تعرض للوعد والوعيد والقائلني‬
‫يف اإلميان والتوبة والتكفري واإلرجاء والتضليل واخللود يف النار يف حق مرتكب‬
‫الكبائر‪ .‬وذكر يف القاعدة الرابعة اخلالفات بني السمع والعقل والرسالة واإلمامة‬
‫والتحسني العقلي والتقبيح والصاحل واألصلح والعصمة وشرائط اإلمامة‪.‬‬
‫ال حاجة بنا أن نقف طويال عند هذه الفرق البائد كثري منها‪ .‬لكن نذكر‬
‫أصول اخلالف الفكري الذي فصله الشهرستاين ألن املواضيع اليت دار حوهلا‬
‫اخلالف من طبيعة العقل املشرتك األصم األبكم أن يضل فيها يفكل عصر مثلما‬
‫ضل عقل األولني‪ .‬مث نرجع إىل أصل البالء كله وهو ختم اهلل جلت عظمته‬
‫القلوب‪ ،‬ومرضها‪ .‬ومن مرضها أن جتد قوما يف زماننا يتهمونكل مسلم ال يتطابق‬
‫رأيه مع رأيهم أنه جهمي‪ ،‬وهو مل يسمع قط مبا هي اجلهمية وال له نية وال رأي وال‬
‫دراية باخلالف يف الصفات‪.‬‬
‫أول الفرق الضالة ظهوراً يف اإلسالم اخلوارج‪ ،‬خرجوا من صف اإلمام علي‬
‫كرم اهلل وجهه بعد قضية التحكيم يف حرب صفني‪ .‬وما أدراك ما صفني‪ ،‬جرح‬

‫‪365‬‬
‫اإلحسان‬

‫ال يندمل! أخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بظهورهم فقال‪" :‬خيرج يف‬
‫هذه األمة‪( ،‬ومل يقل منها)‪ ،‬قوم حتقرون صالتكم مع صالهتم‪ ،‬يقرأون القرآن‬
‫ال جياوز حلوقهم‪ ،‬أو حناجرهم‪ ،‬ميرقون من الدين مروق السهم من ِ‬
‫الرميَّة"‪.‬‬
‫احلديث رواه البخاري عن أيب سعيد اخلدري‪ ،‬ورواه غريه‪ .‬ويف رواية للبخاري‬
‫عن علي رضي اهلل عنه قال‪" :‬إذا حدثتكم عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫إيل من أن أكذب عليه‪ .‬وإذا حدثتكم‬ ‫أحب َّ‬
‫أخر من السماء ُّ‬‫حديثا فواهلل ألن َّ‬
‫فيما بيين وبينكم فإن احلرب خدعة‪ .‬وإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أحداث األسنان‪ ،‬سفهاء األحالم‪ ،‬يقولون‬‫ُ‬ ‫يقول‪" :‬سيخرج قوم يف آخر الزمان‬
‫من خري قول الربية‪ ،‬ال جياوز إمياهنم حناجرهم‪ ،‬ميرقون من الدينكما ميرق السهم‬
‫من الرمية‪ .‬فأينما لقيتموهم فاقتلوهم‪ ،‬فإن يف قتلهم أجرا ملن قتلهم يوم القيامة"‪.‬‬
‫منهاجهم املتجدد‪ :‬شباب‬‫مضى تاريخ قتال اإلمام علي ومن بعده هلم‪ ،‬وبقي ُ‬
‫سفيهو األحالم‪ ،‬أي خفيفو العقول‪ ،‬يقولون كالما خريا‪ ،‬ويصلون صالة متقنة‬
‫أبعد من حناجرهم‪ .‬العقول‬ ‫األركان الظاهرة‪ ،‬ويقرأون القرآن ال يبلغ نور القرآن َ‬
‫كليلة‪ ،‬والقلوب مغلَّفة مريضة‪ ،‬هذه هي معادلة بعض طوائف الشباب املتسائل‬
‫عن دينه وال من جميب‪ .‬ولئن توقف العلماء األولون يف تكفري اخلوارج األولني‪ ،‬فإن‬
‫آكد القضايا وإن هم‬‫ترشيدهم ُ‬
‫قضية زماننا وما بعده هي ترشيد هؤالء الشباب‪ُ .‬‬
‫استباحوا ألنفسهم تصرفات طائشةً‪ .‬وإن "استباحة دماء املصلني املقرين بالتوحيد‬
‫خطأ‪ ،‬واخلطأ يف ترك ألفكافر يف احلياة أهون من اخلطإ يف سفك دم مسلم واحد"‬
‫‪1‬‬
‫كما يقول اإلمام الغزايل يفكتاب "التفرقة بني اإلميان والزندقة"‪.‬‬
‫اخلالفة الثانية على منهاج النبوة هي مستقبل املسلمني‪ ،‬وإن تعامل العاملني‬

‫‪ 1‬كذا نقل عنه احلافظ ابن حجر يف "فتح الباري" ج ‪ 12‬ص ‪.300‬‬

‫‪366‬‬
‫اإلحسان‬

‫لإلسالم مع سواد األمة وطوائفها وأحزاهبا السياسية وتعامل اجلماعات اإلسالمية‬


‫توفيق اهلل يف‬
‫فيما بينها إما أن يكون بالرفق اإلسالمي والتؤدة والتفاهم فيحال َفه ُ‬
‫الدنيا والسعادةُ للجميع يف اآلخرة‪ .‬و َّإما أن يكون على األساليب العنيفة املبدِّعة‬
‫املكفِّرة املتجهمة اخلوارجية فذاك الضالل بعينه عافانا اهلل‪.‬‬
‫حذرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من داء األمم‪ ،‬وهو املرض القليب‪،‬‬
‫فقال‪" :‬دب إليكم داء األمم قبلكم‪ :‬احلسد والبغضاء‪ ،‬وهي احلالقة‪ .‬أما إين ال‬
‫أقول‪ :‬حتلق الشعر‪ ،‬ولكن حتلق الدين‪ .‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ال تدخلون اجلنة حىت‬
‫تومنوا‪ ،‬وال تومنوا حىت حتابوا‪ .‬أال أدلكم على شيء إن فعلتموه حتاببتم؟ أفشوا‬
‫السالم فيما بينكم"‪ .‬رواه الرتمذي عن الزبري وسنده جيد‪.‬‬
‫التحاب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫اإلميان ُحب‪ ،‬وما يف املسلمني من حتاسد وتباغض مرض دواؤه‬
‫وإن حب اهلل ورسوله‪ ،‬واحلب يف اهلل‪ ،‬واخللة يف اهلل‪ ،‬والصحبة يف اهلل‪ ،‬تثمر الرفق‬
‫والشفقة على اخللق أمجعني‪ .‬ال متنع الذلةُ على املؤمنني من العزة على الكافرين‪.‬‬
‫وما حيب اهلل عز وجل إال من مجع بينهما‪.‬‬
‫ثائرة نارية ال بد من تسكينها‪ .‬وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر‬
‫بالسرت على املسلمني‪ ،‬وسرت حىت املنافقني الذين كان يعرفهم ويعرف املسلمون‬
‫لعمر وغريه ملا مهوا بضرب املخالفني "أتريدون أن يتحدث‬
‫بعضهم‪ .‬وكم قال َ‬
‫الناس بأن حممدا يقتل أصحابه!"‪.‬‬
‫لس ْت املسلمني وجتنب‬‫ذكر اإلمام الشاطيب يف كتاب االعتصام "سببني َ‬
‫تعيينهم بأمساء للطعن فيهم وتفريق مشل األمة‪ :‬السبب األول أن اهلل تعاىل سرت على‬
‫هذه األمة يف الغالب‪ ،‬بينما كان عصاة بين إسرائيل إذا أذنب أحدهم ليال أصبح‬
‫وعلى بابه معصيته مكتوبة‪ .‬السبب الثاين هو أن "للسرت حكمة أخرى وهي أهنا لو‬
‫ظهرت مع أن أصحاهبا من األمة لكان يف ذلك داع إىل الفرقة وعدم األلفة اليت‬
‫‪367‬‬
‫اإلحسان‬

‫أمر اهلل ورسوله هبا"‪.‬‬


‫نعم‪ ،‬ال بد من ذكر خطإ من أخطأ دون تعصب وال حتامل لكيال ترجع‬
‫اخلسارة على األمة‪ .‬وإن ممارسة ما يسمى بالنقد والنقد الذايت يف عصرنا ينبغي‬
‫أن يكون مناصحة يضبطها الشرع وتلطِّفها احملبة وسالمة الصدر‪ .‬قال اإلمام‬
‫الغزايل‪" :‬أكثر اجلهاالت إمنا رسخت يف قلوب العو ِّام بتعصب مجاعة من‬
‫ضعفاء‬ ‫ِ‬
‫َج َهلَة أهل احلق‪ .‬أظهروا احلق يف معرض التح ّدي واإلدالل‪ ،‬ونظروا إىل َ‬
‫اخلصوم بعني التحقري واالزدراء‪ ،‬فثارت من بواطنهم دواعي املعاندة واملخالفة‪،‬‬
‫ورسخت يف قلوهبم االعتقادات الباطلة‪ ،‬وتعذر على العلماء املتلطفني حموها‬
‫مع ظهور فسادها‪ ،‬حىت انتهى التعصب بطائفة إىل أن اعتقدوا أن احلروف‬
‫اليت نطقوا هبا يف احلال بعد السكوت عنها طول العمر قدمية‪ .‬ولوال استيالء‬
‫مستقراً‬
‫ّ‬ ‫الشيطان بواسطة العناد والتعصب لألهواء ملا وجد مثل هذا االعتقاد‬
‫‪1‬‬ ‫يف قلب ٍ‬
‫جمنون‪ ،‬فضال عن قلب عاقل"‪.‬‬
‫قال الشاطيب‪ :‬هذا ما قال‪ ،‬وهو احلق الذي تشهد به العوائد اجلارية‪.‬‬
‫فالواجب تسكني الثائرة ما قُ ِدر على ذلك واهلل أعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قال الشيخ عبد القادر قدس اهلل سره‪" :‬أنتكدر بال صفاء‪ ،‬خلق بال‬
‫خالق‪ ،‬دنيا بال آخرة‪ ،‬باطل بال حق‪ ،‬ظاهر بال باطن‪ ،‬قول بال عمل‪ ،‬عمل بال‬
‫إخالص‪ ،‬إخالص بال إصابة السنة‪ .‬إن اهلل عز وجل ال يقبل قوال بال عمل‪ ،‬وال‬
‫عمال بال إخالص‪ ،‬وال يقبل شيئا باجلملة غري موافق لكتابه وسنة نبيه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ )...( .‬إن حصل لك قَبول اخللق معكذبك فما حصل لك قبول احلق عز‬
‫وجل وهو العامل مبا يف القلوب‪ .‬ال تـُبـَْهر ِْج‪ ،‬إن الناقد بصري‪ .‬إن اهلل عز وجل ينظر إىل‬

‫‪ 1‬نقله عنه الشاطيب يف "االعتصام" ج ‪ 2‬ص ‪.230‬‬

‫‪368‬‬
‫اإلحسان‬

‫قلبك ال إىل صورتك‪ ،‬ينظر إىل ما وراء الثياب واجللود والعظام‪ .‬ينظر إىل خلوتك ال‬
‫منجسا! إن أردت‬
‫إىل جلوتك‪ .‬أما تستحي! جعلت منظر اخللق مزيَّنا ومنظر احلق َّ‬
‫‪1‬‬
‫الفالح فتب من مجيع ذنوبك‪ ،‬وأخلص يف توبتك"‪.‬‬
‫قال تائب قاصد آوى إىل اهلل وأخلص قلبه له‪:‬‬
‫فـإن سـ ـواه ال يُعـي ــد وال يب ــدي‬ ‫فحسيب أن آوي إىل الواحد الفر د‬
‫وهل بعد نـَْيل احلق نيل لذي قصد؟‬ ‫هل الغاية ال ُقصوى سوى اهلل وحـده ‬
‫وإنكانكل النـاس يطمـع يف ال ِوْرد‬ ‫جيل مقـام ال ُقــدس عـن كــل وارد ‬
‫ينــاديك من قـرب وأنت علـى بُعـد‬ ‫فـيـا راحــال يف بغيــة احلــق إنـه ‬
‫الوقْـ ِـد؟‬‫فمــا بالـه يبغيــه بالنـص و َ‬ ‫ومـن سطــع الن ــور املبـني أمــامه ‬
‫ت مبا عنـدي‬ ‫ولوال قصور اخللق ُب ُ‬ ‫ـدك أين ال أرى غـري خــالقـي ‬ ‫أعنـ َ‬
‫كإضرار عني الشمس باألعني ُّالرْمــد‬ ‫ومن مل يكـن للحــق أه ــال أضــره ‬
‫فنـدرك ــه من غــري رسـم وال حــد‬ ‫فسبحــان من يبــدو إلين ــا بذاتــه ‬
‫ألقرب من حبل الوريد إىل العبـد‬ ‫نـ ـراه عيــا نـا بالقـل ـ ــوب وإ ن ــه ‬
‫ولكــن جتليه لنا خيـ ُـر ما يُسـدي‬ ‫ويسـدي إلينـا أنعُمـا فات حص ُـرها ‬
‫وجل عن التكيي ِ‬
‫ـف بال َق ْـبـل والبَعـد‬ ‫سمـ َـو الفـكــر حن َـوه ‬
‫تنـزه عن أن يَ ُ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫ـار املزيَِّة واجلِـ ـ ـ ِّـد‬


‫أم ال َقصـ ـ ُـد إظه ـ ـ ُ‬ ‫بك لِلمي ـ ــدان ِص ـ ٌ‬
‫ـدق َومهَّـ ـ ـةٌ ‬ ‫أتى َ‬
‫الكي ِد؟‬ ‫بل املكر والغد ِر و ْ‬
‫ِ‬
‫وتـَْفت ُل َح َ‬ ‫ـات النِّفـ ـ ــاق َوريـْنُــه ‬ ‫ويف ال َقل ِ‬
‫ـب آفـ ـ ُ‬
‫إىل اللّه قَامـ ـ ـوا باجلهـ ـ ــاد وبِال َك ِّد‬ ‫الصفاء مع األ َُل ‬ ‫فضح يف َساح َّ‬ ‫ستُ ُ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.201‬‬

‫‪369‬‬
‫اإلحسان‬

‫الخالف على الصوفية‬

‫ب ا ْغ ِف ْر لِي َولَِوالِ َد َّي َولِ َمن‬


‫﴿ر ِّ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬
‫ين َوال ُْم ْؤمنَات َوَل تَ ِزد الظَّالم َ‬
‫ين إَِّل‬ ‫َد َخ َل بـَْيت َي ُم ْؤمناً َولل ُْم ْؤمن َ‬
‫تـَبَاراً﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من البخل واجلنب وفتنة الصدر‬
‫وعذاب القرب وسوء العُمر‪.‬‬

‫ينطلق املهزوم يف ميدان املروءات‪ ،‬الفاشل يف العمل‪ ،‬من هزميته وفشله‬


‫ليأتلف مع أضرابه املقهورين على رقعة الواقع‪ِ ،‬‬
‫وينصب حواجز الشك والتُّهمة‪،‬‬
‫نصب نفسه قاضيا حماسبا ليصادر العقائد‪ ،‬ويدين النيات‪ِ ،‬‬
‫ويوسع العاملني‬ ‫ويُ ِّ‬
‫َ‬
‫طعنا يف إخالصهم‪ ،‬حمتكرا الصدق لنفسه وحزبه‪ ،‬معمما الريبة فيمن ليس من‬
‫سربه‪ .‬هو الصواب جمسما‪ ،‬وقوله احلق مسلَّما مكرما‪ ،‬من باب تكرمي املرء‬
‫نفسه وتزكيتها على طريق القدح يف غريه‪.‬‬
‫جاء إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سفيان بن عبد اهلل الثقفي‬
‫فسأله‪ :‬يا نيب اهلل! حدثين بأمر أعتصم به‪ .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬قل‬
‫ريب اهلل مث استقم"‪ .‬قال سفيان‪ :‬قلت‪ .‬يا رسول اهلل! ما أخوف ما ختاف‬
‫علي؟ قال‪ :‬فأخذ صلى اهلل عليه وسلم بلسان نفسه وقال‪" :‬هذا"‪ .‬أخرجه‬
‫الرتمذي وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫كان أهل اإلميان قبل نشوء الفرق يأخذون إمياهنم بعفويَّة "قل آمنت باهلل‬
‫مث استقم" وبفطريتها‪ .‬فلما انتشر اإلسالم يف األعاجم دخلت األفكار الوثنية‬

‫‪370‬‬
‫اإلحسان‬

‫والفلسفة‪ ،‬وامتدت رقعة دار اإلسالم‪ ،‬وتناقضت اإلرادات السياسية‪ ،‬وتقاتلت‪،‬‬


‫واستعملت كل فرقة ما هو ثابت من النصوص‪ ،‬وصنعت منها ما يؤيد مقالتها‪،‬‬
‫وشحذت سالح العقل الفضويل‪ ،‬والعقل املتمرد‪ .‬وتكلم الناس يف الذات‬
‫والصفات‪ ،‬وقست القلوب وأظلمت‪ .‬فنتكقطع الليل املظلم‪ ،‬كان للسيف فيها‬
‫جوالت‪ ،‬وللكلمة وللقلم‪.‬‬
‫مر قرون الفتنة تأثّل يف األمة خمزون من البغضاء اخلالفية‪ ،‬منه‬ ‫وعلى ّ‬
‫يستقي اليوم طائفة من املسلمني يسمون أنفسهم َسلَفية يرفعون راية قتالية‬
‫امسها ابن تيمية‪ ،‬وحيملون على هذا الكاهل مرارة اخلالف القدمي‪ ،‬وعلى‬
‫الكاهل اآلخر مهوم احلاضر‪ُ .‬مث َقلني جمهدين‪.‬‬
‫مركبة اإلسالم املقلعة جتد أمامها نقاطا للمرور وشرطة وحسبة‪ .‬ال فكاك‪،‬‬
‫ال فكاك‪ ،‬حىت تديل بشهادة الرباءة من أوبئة اخلالف‪ .‬يتفرس يف وجهك‬
‫شرطي املرور لريى خمايل االعتزال والبدعة واجلهمية على وجهك‪ .‬وقد ال‬
‫يكتفي بالتفرس والتهمة والتبديع‪ ،‬فينزل إليك يف فرقته بشوارع دمشق وعمان‬
‫يروغُ عليك ضربا باهلراوات‪.‬‬
‫ب املرء من الشر أن حيقر‬‫ال أحقر أحدا إن مسيت القوم تيميني‪ ،‬وحبس ِ‬
‫ْ‬
‫مثل ما فيه من‬
‫ُ‬ ‫التنبيه‬ ‫من‬ ‫أخاه املسلم‪ .‬لكن أريد أن يكون يف كتايب هذا‬
‫التنويه‪ ،‬نصيحة راحل عن هذه الدار‪ ،‬باك على نفسه‪ ،‬حزين على ويالهتا‪،‬‬
‫ضارع إىل ربه يف املغفرة‪.‬‬
‫ابن تيمية عندي فحل من فحول العلماء‪ ،‬فذ من أفذاذ الفرسان‪ .‬تصدى‬
‫ملعركة جامعة‪ ،‬معركة علىكل الواجهات‪ .‬حاول أن جيمع أطراف االجتهاد‪ ،‬وكانت‬
‫له مقوماته‪ .‬فتعرض ألهل العقل املنطقي والفلسفي ينتقدهم انتقاد األنداد‪ .‬وكان‬
‫بني احملدثني حافظا حىت قيل ‪ :‬كل حديث ال يعرفه ابن تيمية ليس حبديث‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫اإلحسان‬

‫أمامه واقع متيز بالسلطان‬


‫وكان بني الفقهاء أصوليا فروعيا جمتهدا‪ .‬وكان َ‬
‫املتخاصم مع القرآن‪ ،‬سلطان املماليك الذين يشجعون كل من يـُثَبِّت ملكهم‪،‬‬
‫ويقصدون للتربك والدعاء كل من اشتهر بالصالح والتقوى‪ .‬فراجت يف‬
‫السوق اململوكية بدع وخرافات‪ .‬وكانت لشيخ اإلسالم واجهات أخرى قاتل‬
‫فيها‪ ،‬منها واجهة الروافض الذين مل تنس األمة ضلوعهم مع التتار يف دخول‬
‫بغداد‪ ،‬ومنها واجهة اهلجوم التتاري املتواصل‪.‬‬
‫فارس قاتل على كل الواجهات‪ ،‬شجاع واسع األفق‪َ .‬س َعةُ اهتماماته وغزارة‬
‫علمه‪ ،‬ومضاؤه يف العمل تؤهله حبق أن يصنَّف مع عظماء جمددي هذه األمة‪.‬‬
‫واستمرار اجتهاده وتالمحه مع الواقع عقودا من السنني منذ حداثة سنه جعل من‬
‫مواقفه املكتوبة بقلمه واملسجلة يف تارخيه احلافل جمموعة من املقاالت منها الصواب‬
‫الذي استقر عليه‪ ،‬ومنها الناقص الذيكتبه ناقصا يف وقت وكمله يف وقت آخر‪،‬‬
‫ومنها السهو الذي نُقل إلينا على حاله‪ ،‬ومنها اخلطأ الذي صوبه فيما بعد‪ ،‬ومنها‬
‫اخلطأ الذي أصر عليهكما يُصر اجملتهد الصادق ويؤجر على اجتهاده‪.‬‬
‫ومنها فوقكل شيء ما هو راجع إىل شذوذ الرجل وتفرده من بني احلنابلة‪،‬‬
‫وهم أهل احلديث واملواقف املشرفة املعارضة‪ ،‬بآراء خرج فيها على اإلمجاع‪.‬‬
‫فيأيت يف زماننا رجال قرأوا كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب رمحهما اهلل‪،‬‬
‫مل يقرأوا غريها‪ .‬ويتبنَّون مجلة واحدة جمموع مقاالت العامل الفذ اجملدد الشاذ‬
‫أحيانا دومنا اعتبار لظروف الرجل‪ .‬مساء جمردة عن أرضية التاريخ البشري‪ ،‬وعن‬
‫طبيعة اجلدل بني األقران املتعاصرين‪ ،‬وعن اعوجاج النيات واملقاالت يف ُحَّى‬
‫أتون املناظرات واحملاكمات اليت عقدت للرجل الفذ‪ ،‬يقاتله مجهور‬ ‫اخلالف و ِ‬
‫الفقهاء والصوفية واألمراء متضافرين متآزرين‪ ،‬حىت سجنوه مرات واضطهدوه‪،‬‬
‫فمات رمحه اهلل يف احلفرة‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫اإلحسان‬

‫نبذوا علم الرجل الواسع‪ ،‬مل حيتفظوا منه إال بنصوص خاصة منتقاة بعناية‬
‫بدعا حية‪ ،‬وهم يقاتلون أوهام البدعة‪ .‬مل‬ ‫لتكون منهجية قتالية‪ .‬قاتل هو َ‬
‫الدين خمرتق من أقصاه إىل أقصاه‪ .‬البدع منكر ناتِ ٌئ‬
‫يبق جمال لتفصيل البدع و ُ‬
‫خارج من بساط كلُّه معروف‪ .‬البدعة حنظلة وشوكة وسط زرع صاحل‪ .‬أما‬
‫واجملتمعات اإلسالمية أصبح فيها املنكر هو املعروف وهو األصل‪ ،‬واملعروف‬
‫جام‬
‫حاالت خاصة غريبة! َّأما واحلقل كله شوك وحنظل فما بالك تصب َّ‬
‫غضبك على القمحة املسكينة نبتت يف بيئة حنظلية شوكية! اسقها وتعهدها‬
‫وأصلح هلا الرتبة‪ ،‬ال ُترقها بن َفسك امللتهب‪.‬‬
‫اختذوا شذوذ الرجل الفردي منهاجا فظلموه وظلموا أنفسهم‪ ،‬ال سيما‬
‫عندما يضربون صفحا عن كتابات الرجل يف السلوك ليحتفظوا مبقاالته احلربية‬
‫سعرون هبا اخلالف على الصوفية‪.‬‬ ‫يُ ِّ‬
‫قال الشيخ الدكتور سعيد رمضان البوطي (أرجع إىل كلمته الصادعة)‪،‬‬
‫وهو من خاض مع التيميني معارك ساخنة يعرفهم املعرفة التامة‪" :‬احلقيقة اليت‬
‫ال ريب فيها أن ابن تيمية رمحه اهلل قد ظُلم من قِبل هؤالء الناس‪ .‬لقد ظُلم من‬
‫قِبلهم مرتني‪ .‬املرة األوىل أهنم نسبوا إليه‪ ،‬بسبب جهلهم أو بسبب أغراضهم اليت‬
‫يتأبّطوهنا‪ ،‬ما مل يـَُق ْله وما مل خيْطُر منه على بال‪ .‬فقد صوروا منه عدوا للتصوف‪،‬‬
‫وهو من أبرز املنافحني عنه والداعني إليه‪ ،‬والقائلني بوجوب االخنراط يف منهجه‬
‫تصوركثري من الناس‪،‬‬ ‫الرتبوي علىكل مسلم‪ .‬واملرة الثانية أهنم صبغوه بذلك يف ُّ‬
‫بل حىت العلماء الباحثني السطحيني‪ ،‬بصبغة املنكر هلذا الذي ثبت أنه من‬
‫ِّص لكل من سار يف هذا الطريق وسلَّك الناس يف‬ ‫جوهر اإلسالم ولُبابه‪ ،‬واملنق ِ‬
‫غدا اسم ابن تيمية عند عامة الناس رمزا حملاربة هذا‬ ‫طريق تزكية النفس‪ .‬حىت َ‬
‫السبيل اإلسالمي القومي‪ .‬مع أن الرجل كان‪ ،‬كما قد ظهر لنا من الرجوع إىل‬

‫‪373‬‬
‫اإلحسان‬

‫أقواله وواقع ترمجته‪ ،‬على النقيض من ذلك‪ .‬أما إنكاره للبدع اليت علقت به‬
‫واالحنرافات اليت أدخلت عليه‪ ،‬وما ظهر من اهتمام بالغ له يف شأهنا‪ ،‬فإنه ال‬
‫يدل يف احلقيقة إال على مبلغ تعلقه بالتصوف احلقيقي السليم وعلى مدى‬
‫‪1‬‬
‫الز ْغل والبدع واألباطيل"‪.‬‬‫غريته عليه أن يُ َدنَّس بشيء من َّ‬
‫كان شيخ اإلسالم عاملا متفردا شديد الشكيمة‪ ،‬حىت أخص أحبائه‬
‫وتالمذته كانوا يعرفون ذلك ويكرهونه له‪ ،‬لكن شخصية الرجل القوية وهيبته يف‬
‫حيولوه إىل شيء من االعتدال‪ .‬ال أريد أن أُفيض يف ذكر‬ ‫نفوسهم منعت من أن ِّ‬
‫معاركه مع الشيخ اإلمام تقي الدين السبكي فيما مسي بـ "مسائل ابن تيمية"‬
‫وما ُّاتم به وأُل ِزم من القول بالتجسيم‪ ،‬وما أ ُِخذ عليه من االجتهاد الشاذ يف‬
‫الفقهيات‪ ،‬وما تنابز به مع خصومه األشاعرة هو يسميهم جهمية وهم يسمونه‬
‫وأصحابه حشوية‪ .‬آخذ من احلنابلة أنفسهم شهادة ليضعكل ذي لُب واستقامة‬
‫األمور يف نصاهبا والرجل يف نسبيته الزمانية املكانية الظرفية اخلالفية‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن رجب احلنبلي يف ترمجة ِعماد الدين الواسطي الذي كان‬
‫يعظم ابن تيمية تعظيما كبريا‪" :‬كان (أي الواسطي) هو ومجاعة من أصحابه‬
‫رمبا أنكروا من الشيخ كالمه يف بعض األئمة األكابر األعيان‪ ،‬ويف أهل التخلي‬
‫واالنقطاع (يقصد الصوفية) وحنو ذلك‪ .‬وكان الشيخ رمحه اهلل ال يقصد بذلك‬
‫إال اخلري واالنتصار للحق‪ .‬وطوائف من أئمة أهل احلديث وحفاظهم وفقهائهم‬
‫كانوا حيبون الشيخ ويعظمونه‪ .‬ومل يكونوا حيبون له التوغل مع أهل الكالم وال‬
‫الفالسفة‪ ،‬كما هو طريق أهل احلديث املتقدمني كالشافعي وأمحد (‪.)...‬‬
‫وكذلك كثري من العلماء من الفقهاء واحملدثني والصاحلني‪ ،‬كرهوا له التفرد‬

‫‪ 1‬جملة "منار اإلسالم" رمضان ‪ 1408‬ص ‪.103‬‬

‫‪374‬‬
‫اإلحسان‬

‫ببعض شذوذ املسائل اليت أنكرها السلف على من شذ هبا حىت إن بعض قضاة‬
‫‪1‬‬
‫العدل من أصحابنا (احلنابلة) منعه من اإلفتاء ببعض ذلك"‪.‬‬
‫مث ينقل ابن رجب عن الذهيب قوله‪" :‬ولقد نصر السنة احملضة‪ ،‬والطريقة‬
‫السلفية‪ .‬واحتج هلا برباهني ومقدمات وأمور مل يُسبق إليها‪ .‬وأطلق عبارات‬
‫أحجم عنها األولون واآلخرون وهابوا‪ .‬وجسر عليها هو"‪ .‬جسارة ابن تيمية له‬
‫ال عليه إن شاء اهلل الغفور الرحيم‪ .‬فالرجل كان مع جسارته يف االجتهاد "دائم‬
‫االبتهال‪ ،‬كثري االستغاثة واالستعانة باهلل‪ ،‬قوي التوكل ثابت اجلأش" كما قال‬
‫الذهيب تلميذه اجلسور‪ .‬رحم اهلل اجلميع وهدى التالمذة احلرفيني ملا فيه اخلري‪.‬‬
‫نان السابع والثامن هنضة حديثية‪ ،‬من شيوخ احلفاظ فيها‬ ‫شاه َد ال َقر ِ‬
‫َ‬
‫خص ُم ابن تيمية‪ .‬مسع منه احلديث اجلهابذةُ املزي‬ ‫اإلمام التقي السبكي ْ‬
‫والذهيب َو البـَْرزايل‪ ،‬مث "جرهم" إليه احلافظ ابن تيمية يف معركته‪ .‬ومع هذا‬
‫فهم مجيعا كانوا أهل فضل وبَقوا أهل فضل‪ .‬والذهيب الالمع يف مساء احلفاظ‬
‫والنقاد مل ينس شيخه السبكي ومل يتنكر له‪ .‬وقد قال فيه‪" :‬اإلمام العالمة‬
‫الفقيه احملدث احلافظ فخر العلماء (‪ )...‬كان صادقا ْثبتا خرياً َديِّنا متواضعا‬
‫‪2‬‬
‫حسن السمت من أوعية العلم"‪.‬‬
‫وقال فيه شعرا‪:‬‬
‫ِ‬
‫عاله احلــاكـم البحـ ــر التقــي‬ ‫األم ـ ِو ّ‬
‫ي لـمـ ـ ـ ـ ـا ‬ ‫ليـَْه َـن املنـب ـ ـ ــر َ‬
‫‪3‬‬
‫وأخطبه ـ ــم وأقضــاهــم عل ُّـي‬ ‫شيوخ العصر أحفظهم مجيعا ‬

‫‪ 1‬طبقات احلنابلة البن رجب ج ‪ 2‬ص ‪.394‬‬


‫‪ 2‬نقل ذلك ابن السبكي يف "طبقات الشافعية" ج ‪ 6‬ص ‪.150‬‬
‫‪ 3‬نفس املصدر ص ‪.157‬‬

‫‪375‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال اهلائم يف ذكر ربه‪:‬‬


‫وإن طــاح ذو اإلحلـاد يف هوة اجلَ ْح ِد‬ ‫ومـا الـرب إال حـاض ٌـر غيــر غــائـب ‬
‫حمــا كــل ظــل للض ــاللـة ممـت ـ ِّـد‬ ‫إذا م ـ ــا تـ ـبـ ــدى ن ـ ـ ـ ــوره لـقـل ـ ـ ــوبـ ـ ـنـ ـ ـ ــا ‬
‫مـن الشك يف ليل من اجلهـل ُم ْسـ َـوِّد‬ ‫ف ـ ـل ـ ـ ــواله ك ـن ـ ـ ــا هـ ــائـ ـمـيـ ــن ِبَه َـم ـ ـ ـ ـ ٍـه ‬
‫ولكنــه من ظلمــة اجله ــل يف حلـد‬ ‫وليس حبـي مـن يـرى احلـق باط ـ ـ ــال ‬
‫كثيـ ـرين يف املعنــى قليليــن يف العـد‬ ‫أرى العـارفني الســابقني إلـى املـ َـدى ‬
‫ففي اهلل ما خنفـي ويف اهلل ما نُبــدي‬ ‫وحنـن أنـ ـ ــاس ط ـ ـه ـ ــر احلــق سـ ـ ـَ ّـرنـ ـ ــا ‬
‫فيمم ــه من بـاب التج ــرد والزه ــد‬ ‫ِّ‬ ‫فإنكنت ال ترضى سوى احلق مطلبـا ‬
‫وال جتتـنـى الراحــات إال من الك ــد‬ ‫فمــا يستـفـ ــاد الف ـ ْـوُز دون مشقـ ـ ـ ـ ــة ‬
‫فأجين مثـار الفــوز من منبـت اجلـد‬ ‫خـلــوت بنفسـي كـي تتــم سعــاديت ‬
‫ولكن معي من ليـس يتـركين وحـدي‬ ‫ـرض عنـكم ‬ ‫ومـا أنا َو ْحـدي حـني أٌعـ ُ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫وف لِـربِّـ ـ ـ ــك ع ـ ـهـ ـ ـ ــداً ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِرْم‬ ‫َو ِّ‬ ‫تَقـدَّم بِع ـ ـ ـ ـ ْـزم تَقـ ـ ــدَّم بِصـ ــد ‬
‫ق‬
‫يف قَـ ـضـ ــى أو َغ ــنِ ـ ـ ـ ْـم‬ ‫ـوز ال ـ َـو ُّ‬ ‫يَفـ َ‬ ‫فَـ ـ ـ ـ ـربـُّ ـ ـ ــك‪َ ،‬ج ـ ـ ـ ـ َّـل‪ ،‬تــأذَّن أن ‬
‫أ ِو النَّـ ـص ـ ـ ـ ُـر ت ـ ـ َّـوجـ ـ ــهُ فَســلِ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـم‬ ‫قَضى َنبَهُ يف ِحيـاض املنُون ‬
‫َ‬

‫‪376‬‬
‫اإلحسان‬

‫العلماء المتلطفون‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫يم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يع ال َْعل ُ‬
‫َنت َّ ِ‬
‫السم ُ‬ ‫كأ َ‬ ‫﴿ربـَّنَا تـََقبَّ ْل ِمنَّا إِنَّ َ‬
‫َ‬
‫اللهم إين أعوذ بكلمات اهلل التامة من غضبه وعقابه‬
‫وشر عباده‪ .‬ومن مهزات الشياطني وأن حيضرون‪.‬‬

‫قرأنا من حديث للبخاري أن اإلمام عليا رضي اهلل عنه قال‪" :‬إذا‬
‫أحب إيل‬
‫أخَّر من السماء ُّ‬‫حدثتكم عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فألن ِ‬
‫من أن أكذب عليه‪ .‬وإن حدثتكم فيما بيين وبينكم فاحلرب ُخدعة"‪.‬‬
‫أن نقل الثقة حديث رسول اهلل صلى اهلل‬‫معىن كالم هذا اإلمام العظيم َّ‬
‫عليه وسلم مما ال حيتمل أدىن هوادة يف الصدق والتحري‪ ،‬أما حديث الرجل‬
‫من تلقاء نفسه لعرض آرائه واجتهاده ففيه جمال للخطإ واحملاولة واإلبالغ‬
‫الذي يتأثر بعوامل النفس وانفعاالهتا وظروفها يف مواجهة رأي اآلخر‪.‬‬
‫قال سيد العلماء وسيد اللطفاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتخذ‬
‫مع ربه عز وجل عهدا ويعلمنا درسا يف أمر بشريِّتنا ونقصها‪" :‬اللهم إين أختذ‬
‫عندك عهداً لن ختلفنيه‪ .‬فإمنا أنا بشر! فأي املؤمنني آذيته‪ ،‬شتمته‪ ،‬لعنته‪،‬‬
‫جلدته‪ ،‬فاجعلها صالة عليه‪ ،‬وزكاة وقربة تقربه هبا إليك يوم القيامة"‪ .‬أخرجه‬
‫الشيخان عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫الفارسي كانا‬
‫َّ‬ ‫وأخرج أبو داود عن عمرو بن مرة أن حذيفة بن اليمان وسلمانا‬

‫‪377‬‬
‫اإلحسان‬

‫باملدائن على عهد أمري املؤمنني عمر‪ ،‬وأن حذيفة كان حيدث الناس ببعض‬
‫ما قاله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألناس من أصحابه يف الغضب‪ ،‬فزجره‬
‫سلمان وقال‪" :‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يغضب فيقول لناس من‬
‫أصحابه‪ ،‬ويرضى فيقول يف الرضى‪َ .‬أما تنتهي حىت تُوِرث رجاال حب رجال‪،‬‬
‫ورجاال بغض رجال‪ ،‬وحىت توقع اختالفا وفرقة!؟" وذكره بعد ذلك حبديث‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم عن بشريته وغضبه البشري وعهده مع اهلل يف‬
‫القضية بلفظ قريب من لفظ البخاري ومسلم‪.‬‬
‫يتعصب التيميون والوهابيون‪ ،‬أصلحهم اهلل‪ ،‬ويرفعون الرجال إىل مساء‬
‫خيفضوهنم إىل حضيض الشيطنة‪ ،‬ما عندهم ميزان لالعتدال‪.‬‬ ‫العصمة أو ِ‬
‫اسب اخلالف والشجار‪ .‬هؤالء يكفرون الشيعة‬ ‫رسخت يف قلوب العوام رو ُ‬
‫عامة ألن ابن تيمية يف زمانه ومكانه وغضبته مساهم روافض‪ .‬ولو تريَّث‬
‫املكفرون وتثبتوا لعلموا أن الرفض من ذلك اجلانب هو الوليد اهلجني اللعني‬
‫للمقت األموي الذي فرض على اخلطباء يف مساجد املسلمني يف طول البالد‬
‫والعرض سب اإلمام الطاهر علي بن أيب طالب ملدة ستني سنة قبل أن يوقف‬
‫اللعنة الصاحل التقي عمر بن عبد العزيز‪.‬‬
‫غضب بغضب‪ ،‬وبشرية ناقصة‪ ،‬وعناد ومعاندة‪ ،‬وجدل يتحدى فيه‬
‫تسل فيها السيوف العضبة واأللسنة املسمومة‪ .‬فمىت‬
‫اخلصم خصمه‪ ،‬وحرب ُّ‬
‫يُرجى منكم تلطُّف هبذه األمة يا من تقررون من وراء ّ‬
‫كراساتكم العتيقة‪ ،‬ومن‬
‫فوق كراسيكم اآلمنة أمن القاعدين!‬
‫كان ابن تيمية بطال‪ ،‬كان فارس كل ميدان‪ .‬خاض معركة مرج الصفر اليت‬
‫وقعت يف رمضان سنة ‪ 702‬حتت راية امللك الناصر حممد بن قالوون ضد التتار‪.‬‬
‫"فس ْقتهُ‬
‫وقال لبعض أمراء اجليش‪" :‬يا فالن! أوقفين موقف املوت! قال األمري‪ُ :‬‬

‫‪378‬‬
‫اإلحسان‬

‫إىل مقابلة العدو‪ ،‬وهم منحدرونكالسيل‪ ،‬تلوح أسلحتهم من حتت الغُبار املنعقد‬
‫عليهم‪ .‬فرفع طرفه إىل السماء‪ ،‬وأشخص بصره‪ ،‬وحرك شفتيه طويال (قلت‪ :‬يذكر‬
‫اهلل كما أُِمَر املؤمنون إن لقوا فئة العدو)‪ .‬مث انبعث وأقدم على القتال‪ .‬وقد شوهد‬
‫حيرضان الناس على القتال‪،‬‬ ‫يف هذه املوقعة ومعه أخوه يصيحان بصوت مرتفع‪ِّ ،‬‬
‫وحيذراهنم من الفرار"‪ 1.‬ما موقفكم أنتم من تتار زمانكم؟ يا خزيَكم!‬
‫هذا البطل كان يستطيع أن يُلجم غضبه وأن يتلطف‪ .‬كان يف املماليك‬
‫مقدَّم بارز امسه بـَْي َبس اجلاشنكري‪ ،‬وهو غري بيربس الكبري صاحب واقعة عني‬
‫جالوت اجمليدة‪ .‬وقد تسلطن اجلاشنكري فيما بعد‪ .‬وكان اجلاشنكري يتغاىل يف‬
‫‪2‬‬
‫حب شيخ صويف امسه نصر املنبجي‪ .‬وكان هلذا الشيخ سرية وحماسن مجة‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن حجر العسقالين اإلمام‪" :‬ارتفع ذكره يف دولة اجلاشنكري ألنه‬
‫كان يعتقده وال خيالف أمره‪ .)…( .‬وكان حيط على ابن تيمية (ينتقده ويلومه‬
‫ويوبخ) من أجل حطه على ابن عريب‪ .)…( .‬قال الذهيب‪ :‬جلست مع الشيخ‬
‫قل أن ترى العيون مثله"‪ 3.‬وينقل ابن‬ ‫(نصر) بزاويته‪ ،‬وأعجبين َسْتُه وعبادته‪َّ .‬‬
‫حجر شهادة الشيخ ابن عطاء اهلل‪ ،‬وهو ألد خصوم ابن تيمية‪ ،‬يف الشيخ نصر‬
‫فيقول‪" :‬الشيخ نصر حجة لنا على إبليس‪ .‬يعين أنه لو ادعى أنه مل يبق على‬
‫األرض قائم باهلل لقلت‪ :‬كذبت يا إبليس‪ ،‬هذا الشيخ نصر هبذه الصفات!"‪.‬‬
‫ميثل الشيخ نصر إذن حصنا منيعا متدرعا بالسلطان بعد تدرعه بالتقوى‬
‫والصالح‪ .‬كفى ابن تيمية شجاعة أن جيهر برأيه يف ابن عريب ويف بدع املتصوفة‬
‫يف عصر حتمي فيه الدولة اململوكية مملكة الدراويش مبا فيهم من صادقني ومن‬

‫‪ 1‬العقود الدرية البن عبد اهلادي ص‪.177‬‬


‫‪ 2‬شذرات الذهب ج ‪ 6‬ص ‪.52‬‬
‫‪ 3‬الدرر الكامنة ج ‪ 5‬ص ‪.165‬‬

‫‪379‬‬
‫اإلحسان‬

‫"صوفية احلقائق" و"صوفية األرزاق" و"صوفية الزي" حسب تعبري الشيخ نفسه‪.‬‬
‫ومع خالف الشيخ نصر له على طول اخلط‪ ،‬و"حطه" عليه‪ ،‬فإن بطلنا‬
‫الفارس تلطف للشيخ غاية التلطف‪ ،‬وكتب إليه رسالة مطولة يعرض فيها‬
‫رأيه وأفكاره‪ ،‬وكأن هلجة اخلطاب حتمل رسالة ثانية من وراء السطور‪ ،‬رسالة‬
‫اعتذار َع َّما فـََر َط‪.‬‬
‫قال ابن تيمية البشر الغضوب العامل املتلطف‪" :‬من أمحد ابن تيمية إىل‬
‫الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أيب الفتح نصر فتح اهلل على باطنه‬
‫وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه‪ ،‬ونصره على شياطني اإلنس واجلن يف‬
‫جهره وإخفائه‪ ،‬وهنج به الطريقة احملمدية املوافقة لشرعته‪ ،‬وكشف به احلقيقة‬
‫‪1‬‬
‫الدينية املميَّزة بني خلقه وطاعته وإرادته وحمبته"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬وبعد فإن اهلل تعاىل أنعم على الشيخ‪ ،‬وأنعم به نعمة باطنة‬
‫وظاهرة يف الدين والدنيا‪ ،‬وجعل له عند خاصة املسلمني الذين ال يريدون علوا‬
‫يف األرض وال فسادا منزلة عليَّة‪ ،‬ومودة إهلية‪ ،‬ملا منحه اهلل تعاىل به من حسن‬
‫املعرفة والقصد"‪.‬‬
‫وختم يقول داعيا‪" :‬الشيخ أيّد اهلل تعاىل به اإلسالم‪ ،‬ونفع املسلمني‬
‫وح ْسن مقاصده‪ ،‬ونور قلبه"‪.‬‬‫بربكة أنفاسه‪ُ ،‬‬
‫جند عند العاملني اجلليلني ابن تيمية وابن القيم تلطفا آخر يف معاجلة قضية‬
‫حساسة جدا يف تاريخ احلنابلة‪ ،‬هي قضية شيخ اإلسالم أىب إمساعيل اهلِروي‬
‫صاحبكتاب "منازل السائرين"‪ .‬كان أبو إمساعيل حمدثا حنبليا صوفيا‪ .‬وكان بينه‬
‫وبني األشاعرة حروب يف أول عهد االصطدام بني األشاعرة وأهل احلديث‪ ،‬وكان‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج ‪ 2‬ص ‪ 452‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪380‬‬
‫اإلحسان‬

‫األشاعرة‪ ،‬وهم األغلبية الساحقة من األمة‪ ،‬يرمونه بالتشبيه‪ .‬مث إن كتابه "منازل‬
‫السائرين" يشتمل على مقاالت هي من قبيل الشطح الصرف‪ .‬لذلك كان ابن‬
‫تيمية "يرمي أبا إمساعيل بالعظائم بسبب هذا الكتاب ويقول ‪ :‬إنه مشتمل على‬
‫االحتاد" كما قال الذهيب‪ 1.‬وكان ابن تيمية مييل إىل اهلروي مع ذلك‪ .‬فكانت‬
‫مشكلة عويصة واجهت احلنابلة‪ ،‬ويف مقدمتهم ابن تيمية‪ ،‬أن يكون حنبلي حمدث‬
‫يكتب مثل ما كتب اهلروي‪ .‬فالتمس ابن تيمية لصاحبه يف املذهب األعذار‪،‬‬
‫فقرعه أحيانا‪.‬‬
‫وتلطف للخصوم َّ‬
‫كرس ابن القيم جهودا كبرية لشرح كتاب اهلروي يف مؤلفه "مدارج‬ ‫وّ‬
‫السالكني" كل ذلك لغسل ْأوضار اخلصومة ما بني أشاعرة صوفية هم األغلبية‬
‫وبني حمدثني هلم "قدر مشرتك" ولبعضهم‪ ،‬مثل اهلروي‪ ،‬سهم وافر من التصوف‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪" :‬وأما أبو امساعيل األنصاري صاحب "منازل السائرين"‬
‫فليس يف كالمه شيء من احللول العام‪ .‬لكن يف كالمه شيء من احللول‬
‫‪2‬‬
‫اخلاص يف حق العبد العارف الواصل إىل ما مساه هو "مقام التوحيد"‪.‬‬
‫ويلتمس ابن تيمية عفا اهلل عنا وعنه العذر للقائلني باحللول اخلاص‬
‫املعاذير فيقول‪" :‬وقد يقع بعض من غلب عليه احلال يف نوع من احللول أو‬
‫االحتاد‪ ،‬فإن االحتاد فيه حق وباطل"‪.‬‬
‫العبارات تسرق‪ .‬وتعاىل اهلل أن حيل يف شيء أو حيل فيه شيء‪ .‬وتعاىل‬
‫أن يتحد بشيء أو يتحد به شيء‪ .‬وغلبة احلال و "السكر" حق يفقد معه‬
‫الذاكر السالك عقله ووجوده‪ .‬ونعوذ باهلل من احلَ ْوِر بعد ال َك ْوِر‪.‬‬

‫‪ 1‬نقله عنه السبكي يف "الطبقات" ج ‪ 3‬ص‪.117‬‬


‫‪ 2‬الفتاوي ج ‪ 5‬ص‪.485‬‬

‫‪381‬‬
‫اإلحسان‬

‫ومن يقرأ اجلزء الثاين من فتاوي ابن تيمية ير العجب العُجاب‪ ،‬واخلوض‬
‫العميق الذي أخطأ معه من أخطأ وأصاب من أصاب‪.‬‬
‫قال ابن تيمية يف معرض تكفري احلالج‪" :‬وكالم صاحب منازل السائرين‬
‫وأمثاله يشري إىل هذا (البَوح بسر التوحيد)‪ ،‬وتوحيده (اهلروي) الذي قال فيه‪:‬‬
‫ما َوحـد الواحـد من واحـ د إذ م ــن وح ـ ـ ــده ج ـ ـ ــاحـ ـ ــد‬
‫توحيد من خيبـر عن نعت ـ ـ ــه عــاري ـ ــة أب ـط ــلهـ ـ ــا الواحـ ـ ــد‬
‫تـوحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده إي ـ ـ ــاه تـوحي ـ ــده ونعـت من ينعتـ ـ ــه ِ‬
‫الح ـ ـ ـ ُـد‬ ‫ُ‬
‫املو َّحد‪ ،‬و َّ‬
‫أن الناطق بالتوحيد‬ ‫املوحد هو َ‬
‫قال‪ :‬فإن حقيقة قول هؤالء أن ِّ‬
‫‪1‬‬
‫يوحد إال نفسه"‪.‬‬
‫على لسان العبد هو احلق‪ ،‬وأن ال ِّ‬
‫وشطحه بأنه‬
‫ُ‬ ‫لكنه عفا اهلل عنه مل يقل ملاذا يعذر اهلروي ويوصف بـَْو ُحه‬
‫"حلول خاص" مقبول‪ ،‬ويكفر احلالج وابن عريب لنفس املقالة‪.‬‬
‫وينربي ابن القيم ليدافع عن اهلروي فيقول‪" :‬وحاشا شيخ اإلسالم‬
‫(اهلروي) من إحلاد أهل االحتاد‪ ،‬وإن كانت عبارته مومهة‪ ،‬بل مفهمة ذلك"‪.2‬‬
‫بني تأويل العبارات "املومهة" وإدانة العبارات "املفهمة" وقعت خصومات‪،‬‬
‫وسالت دماء‪ .‬وأنت تقول‪ :‬إن أمر األمة ال يصلح إال بإعادة تلك اخلصومات‬
‫إىل احلياة‪ ،‬واخرتاع خصومات جديدة! وتقول إن البشر ليسوا بشرا‪ ،‬وأن‬
‫الغضب والتعصب والعناد والتحدي والتحدي املضاد من عامل الشياطني ال‬
‫من عامل بين آدم اخلطائني التوابني!‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج‪ 8‬ص ‪.317‬‬


‫‪ 2‬مدارج السالكني ج ‪ 1‬ص ‪.149‬‬

‫‪382‬‬
‫اإلحسان‬

‫ويتلطف ابن القيم للرأي اآلخر فيقول‪" :‬شيخ اإلسالم (اهلروي) حبيب‬
‫إلينا‪ ،‬واحلق أحب إلينا منه‪ .‬وكل من عدا املعصوم صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فمأخوذ من قوله ومرتوك"‪ 1.‬ماذا قال املعصوم صلى اهلل عليه وسلم عن‬
‫بشريته وغضبه؟ يا معشر املقلدين!‬
‫هذه دعوة للتدارك والتوبة والعمل بدل التمشدق والتكلف والتعصب‬
‫التم ْع ُقل‪ .‬قال الشيخ عبد القادر قدس اهلل روحه‪" :‬عن قريب تصلون نارا‬ ‫و َ‬
‫حامية إن مل تتداركوا وتتوبوا وتعتذروا‪ .‬عليكم باالتباع من غري ابتداع‪ .‬عليكم‬
‫مبذهب السلف الصاحل‪ .‬امشوا يف اجلادة املستقيمة‪ :‬ال تشبيه وال تعطيل‪ ،‬بل‬
‫اتباعا لسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬من غري تكليف وال تطبُّع وال‬
‫متشدق وال متعقل‪ .‬يسعكم ما وسع من كان قبلكم‪ .‬وحيك حتفظ القرآن وال‬
‫تعمل به؟ حتفظ سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال تعمل هبا؟ فألي‬
‫‪2‬‬
‫شيء تفعل ذلك؟ تأمر الناس وأنت ال تفعل‪ ،‬وتنهاهم وأنت ال تنتهي!"‪.‬‬
‫اجلدل عند قوم أحلى وأغلى من العمل‪ .‬يتفرغ أحدهم ليستعرض الناس‬
‫ملوحاً‬
‫طابورين هو قرر قسمتهما ّ‬‫أمامه‪ ،‬من مضى منهم ومن هو حاضر‪ ،‬يف َ‬
‫باسم فالن وفالن‪ ،‬مُْتفيا حتت رداء من مضوا ولقوا اهلل بأعماهلم‪ ،‬وليس له‬
‫من ِخيارهم وال ِعيارهم قسمة‪ ،‬وال من علمهم ُمسكة‪ .‬طابور املهتدين حزبه‪،‬‬
‫وطابور اهلالكني من ال خيضع ويسمع ويتبع‪ .‬نفوسهم مل هتذب بصحبة‪ ،‬وال‬
‫ذكرت اهلل‪ ،‬وال حزنت على بلواها‪ ،‬بل وال علمت مبا هي مبتالة به‪ .‬أال هل‬
‫من تلطف أيها الناس!‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ج‪ 2‬ص ‪.37‬‬


‫‪ 2‬الفتح الرباين ص ‪ .47‬‬

‫‪383‬‬
‫اإلحسان‬

‫رج ٌل‪ ،‬وكأنه خياطب أصحاب االفتتان بالعامل الواحد املعصوم‪:‬‬


‫رجل ُ‬
‫قال ٌ‬
‫صــدِّق بأحـ ـوال الرجــال ومـا تلقـ ـوا مـ ـ ــن ف ـوائـ ـ ـ ـ ـ ــد‬
‫ـهم وجــاهـد‬ ‫ـت شفــوفَـ ـ ـه ــم فاسلك سبيل ُ‬ ‫وإذا َه ـ ِوي َ‬
‫ف ـ ـ ـ ـ ـ ــوراء ذلـك لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذة يعتــاهبـ ـ ــا من لـم يشــاهـد‬
‫صحـت كرامات الرجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال بنقــل أصحـاب ال َـمسـاند‬
‫مـا ن ــائــم مــلء اجل ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون كق ــائ ـ ــم هلل س ــاج ـ ـ ـ ـ ــد‬
‫ه ــل يسـت ــوي ه ـ ـ ـ ــذا وذا ما نـاقـص حــاال ك ـزائ ـ ـ ــد‬
‫يــا راقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدا ف ـ ـ ــي لـ ـي ـ ـل ـ ـ ــه وإذا تـن ـ ـبـ ـ ـ ــه فه ـ ـ ــو راقِ ـ ـ ــد‬
‫ـت مجـهـ ــور األئ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة واقتــديـت بقـول واحـد؟‬ ‫أتـََرْكـ َ‬
‫نظـ ـ ـ ــر لـعـم ـ ــرك ف ـ ـ ــاس ـ ـ ــد يـقضي بأن القلـب فـاســد‬
‫فوق ـ ــوع م ـ ــا ه ـ ــو ممـك ـ ــن للقــوم من خــرق العـوائـ ـ ــد‬
‫شـه ــد الوف ـ ــاق لـه ــم هبـا فـدع اخلالف وال جتـاحـد‬

‫قيل هذا الكالم جلاحد كرامات األولياء‪ ،‬وقلت جلاحد الوالية من أصلها‪:‬‬

‫صم أو ُمعانِد‬ ‫ِ‬ ‫الطـُ ِ‬


‫قال َخ ٌ‬ ‫إ ْن َ‬ ‫ـس ‬
‫ـف بـ ـ ـ ْـم ال تـَْبتَـئ ـ ـ ْ‬‫ْ‬
‫ِمــن أولي ـ ـ ـ ِ‬
‫ـاء اللّـه َواحـ ـ ـ ـ ْد‬ ‫ـال وم ــا ِبق ـ ـي ‬ ‫الرج ُ‬ ‫َمـات ِّ‬
‫الصدق وج ـ ِ‬
‫ـاه ْد‬ ‫بِكام ِـل ِّ‬ ‫وقِـ َف ْن عل ــى بَاب ال َكرمي ‬
‫َ‬

‫‪384‬‬
‫اإلحسان‬

‫الحنابلة أهل الحديث واألشاعرة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ك َوِمن ذُ ِّريَّتِنَا أ َُّمةً ُّم ْسلِ َمةً لَّ َ‬
‫ك َوأَ ِرنَا‬ ‫اج َعلْنَا ُم ْسلِ َم ْي ِن لَ َ‬
‫﴿ربـَّنَا َو ْ‬
‫َ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَيـْنَا إنَّ َ‬ ‫ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫اب َّ‬ ‫َنت التـََّّو ُ‬ ‫كأ َ‬ ‫َمنَاس َكنَا َوتُ ْ‬
‫ال إله إال اهلل احلليم الكرمي‪ ،‬سبحان اهلل وتبارك اهلل رب العرش‬
‫العظيم‪ .‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫الكذب‪ ،‬واختفى يف العامة احلُثَالَِة‬ ‫ُ‬ ‫ظهر بعد عصر التابعني وتابعيهم‬
‫﴿بـَّنَا‬
‫حسب التعبري النبوي ذلك الصدق الفطري الذي وصفه اهلل تعاىل بقوله‪َّ :‬‬
‫إِنـَّنا س ِمعنا من ِادياً يـن ِادي لِ ِإل ِ ِ‬
‫آمنَّا﴾‪ 1.‬خرجت طوائف‬ ‫يمان أَ ْن آمنُواْ بَِربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َُ‬
‫َج َفل منها الصادقون‪ ،‬وتربءوا منها منذ عهد الصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬ ‫مبتدعة أ ْ‬
‫مل يكن من رأي السلف الصاحل يف الصدر األول من اإلسالم أن يناظروا أحدا يف‬
‫الدين وال أن جيلسوا للجدل‪ ،‬بل كانوا يقاطعوهنم ويبغضوهنم ويرون أن طريقهم‬
‫مسلك مظلم يوشك من اقرتب منهم أن يتوغل فيه فال يهتدي بعدها‪ .‬وكان‬
‫السلف الصاحل شديد املقت للمجادلني يف الدين‪ ،‬خاصة القدرية‪ .‬قال عمر‬
‫بن عبد العزيز رمحه اهلل‪ ،‬وهو كان عاملا جمتهدا قبل أن يلي "اخلالفة"‪" :‬ينبغي أن‬
‫القدر‪ ،‬فإن كفوا وإال استـُلَّت ألسنتهم من أقفيتهم‬ ‫نتقدم إليهم فيما أحدثوا من َ‬
‫غرضا للخصومات أكثر التنقل"‪ .‬وكثرة التنقل‬ ‫استالال"‪ .‬وقال‪" :‬من جعل دينه َ‬

‫‪ 1‬آل عمران‪193 ،‬‬

‫‪385‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف عبارته تعين التحول يف العقيدة واالضطراب فيها والزيغ مسايرة للمجادل‬
‫املخاصم‪.‬‬
‫فما جاء القرن اخلامس حىت طم اجلدل يف الدين‪ ،‬وعمت اخلصومة فيه‪ ،‬وقل‬
‫املعززين بسلطان املامون واملعتصم‬
‫أمثال اإلمام أمحد بن حنبل الذي قاوم املعتزلة َّ‬
‫العباسيني‪ ،‬وحتمل األذى والشدة يف الدين يف قضية قول اإلسالم الرمسي املعتزيل‬
‫خبلق القرآن‪ ،‬أكره على هذه املقالة الشائنة البائنة علماء األمة بالنار واحلديد‪.‬‬
‫يف القرن الرابع ظهرت البدع أميا ظهور‪ ،‬وعال جنم الفالسفة واملالحدة‬
‫نقد الوقت وعُملته‪ .‬ويف‬ ‫الزنادقة حىت أصبحت البدعة رائجة رواجا‪ .‬أصبحت َ‬
‫مواجهة هذا الطاغوت الفكري‪ ،‬املوازي املساير للطاغوتية يف احلكم‪ ،‬ظهر‬
‫املتكلمون اجملادلون عن احلق بالربهان العقلي والدليل‪ .‬عم يف الناس التيار العقالين‬
‫ملا استعجمت احلياة العامة حتت سيوف بين بويه والسالجقة‪ ،‬واستعجمت‬
‫األلسن والقلوب‪ .‬وغال املتكلمون غلوا شديدا وأسرفوا حىت كفروا الزنادقة حبق‬
‫وكفروا معهم العامة من املسلمني‪" ،‬وزعموا أن من ال يعرف الكالم معرفتنا‪ ،‬ومل‬
‫‪1‬‬
‫يعرف العقائد الشرعية باألدلة اليت حررناها فهو كافر"‪.‬‬
‫الكالم واألدلةُ احملررة والتقسيمات‬
‫ويقول أبو حامد‪" :‬من ظن أن َم ْدَرك اإلميان ُ‬
‫املرتبة فقد أبعد‪ .‬ال! بل اإلميان نور يقذفه اهلل يف قلب عبده عطية وهدية من ِعْنده‪،‬‬
‫تارة بتنبيه من الباطن ال ميكن التعبري عنه‪ ،‬وتارة بسبب رؤيا املنام‪ ،‬وتارة مبشاهدة‬
‫حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند جمالسته وصحبته‪ ،)...( .‬فقد جاء أعرايب‬
‫إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم جاحدا منكرا‪ ،‬فلما وقع بصره على طلعته البهية فرآها‬
‫تتألْألُ منها أنوار النبوة قال ‪ :‬واهلل ما هذا بوجهكذاب!"‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو حامد الغزايل يف كتاب "فيصل التفرقة بني اإلميان والزندقة" ص ‪ 79‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف القرن الرابع عقب القرون الثالثة الفاضلة ظهر رجل من عظماء األمة‬
‫امسه أبو احلسن األشعري‪ .‬عاش أربعني سنة مع املعتزلة القدرية يصوغ األقيسة‬
‫ويستدل باالستقراء والتماثل‪ ،‬ويبين "القضية الكربى" على الصغرى حىت‬
‫أصبح واحدا من أملع تالمذة اجلبائي‪ ،‬أحد زعمائهم‪ .‬مث اهتدى‪ ،‬وبه اقتدى‬
‫مجهور علماء امللة‪ ،‬خال طائفة من احلنابلة أهل احلديث أشهرهم‬
‫ُ‬ ‫من بعده‬
‫ابن تيمية ومدرسته‪ .‬حىت اإلمام الغزايل مل خيرج عن املذهب األشعري إال يف‬
‫مسائل قليلة كفره من أجلها بعض األشاعرة املتعصبني‪.‬‬
‫سد عقلي أمام هجوم العقالنية الفلسفية الزندقية‬
‫كان ال بد من إقامة ٍّ‬
‫حلماية الدين والدفاع عن املعتقدات اليت نقلها عن السلف أجيال من العلماء‬
‫األمريْ ِن من اضطهاد احلكام واستعجام العصر‪ .‬وأكثر ما كان ُ‬
‫نفع الصياغة‬ ‫عانوا َّ‬
‫األشعرية واملاتوريدية خلاصة العلماء املتفرغني للجدل ولعامة املسلمني الذين‬
‫يسمعون املقاالت البدعية الفلسفية فيحارون‪ ،‬فيجيئون العامل املتكلم ليكشف‬
‫اسهم من املبتدعة والزنادقة فجلوس املتكلم‬ ‫ِ‬
‫عنهم غمة الشك‪ .‬أما من اشتد مر ُ‬
‫اجملادل معهم يغذي غرورهم ويزيدهم متسكا بضاللتهم‪.‬‬
‫دافع أبو احلسن األشعري‪ ،‬ومثله اإلمام أبو املنصور املاتريدي مع خالف‬
‫يسري‪ ،‬عن ما جاء من عقائد يف الكتاب والسنة بكل وسائل اإلقناع العقلي‬
‫وإلزام اخلصم باحلجة العقلية والنقلية‪ .‬وسلك يف مسائل الصفات مسلكا وسطا‬
‫بني اجلهمية واملعتزلة املعطلني وبني املشبهة واحلشوية اجملسمني‪ .‬كما سلك يف‬
‫"أفعال العباد" مسلكا وسطا بني املعتزلة الذين يقولون خبلود مرتكب الكبرية يف‬
‫النار وبني املرجئة الذين يقولون بأن اإلخالص هلل ال تضر معه كبرية‪.‬‬
‫استعمل األشعري‪ ،‬وكان من السادة الصوفيةكما قال ابن السبكي‪ ،‬أسلحة‬
‫املتكلمني املعتزلة العقلية وأسلحة أهل احلديث النقلية وبني جواحنه قلب ذاكر‬

‫‪387‬‬
‫اإلحسان‬

‫القلب على علم الغزايل‪.‬‬


‫العقل من حيث غلب ُ‬ ‫وإرادة وحمبة‪َ .‬غلب على علمه ُ‬
‫وكانت املوازنة بني اإلرادة الصوفية والعقل الكالمي والنقل القرآين احلديثي عند‬
‫ابن تيمية يف تركيبة أخرى غلب عليها طابع النقل‪ ،‬وحاول صاحبها أن يثبت‬
‫للناس ما كان هو يعيشه يف خاصة إميانه من أن العقل الرجيح يطابق النقل‬
‫الصحيح والذوق السليم‪.‬‬
‫متكلم صويف تلميذ للحفاظ‪ ،‬وصويف كبري متكلم على حظ غري كبري‬
‫من النقل‪ ،‬وحافظ ناظر على "قدر مشرتك" مع الصوفية‪ .‬األشعري والغزايل‬
‫وابن تيمية رمحهم اهلل أعالم نرية يف مساء اإلسالم‪.‬‬
‫كل منهم نافح عن الدين‪ ،‬وبارز طوائف الفالسفة واملناطقة (باستثناء‬
‫أيب حامد الذي عيب عليه تشبثه بالقياس املنطقي) وطوائف القرامطة والباطنية‬
‫والروافض وسائر أهل األهواء والنِّحل الفاسدة‪ .‬من هذه الطوائف من ال يقطعه‬
‫النقل‪ ،‬فسلّوا عليه صوارم العقل والربهان‪ .‬وجدير مبن أمسك يف يده حساما‬
‫صدئا أن َّ‬
‫تتصدأَ يداه‪ .‬فالغزايل الموه على قوله باختاذ املنطق وقياسه الصوري‬
‫األرسطي منهاجا‪ .‬واألشعري رماه ابن حزم وابن تيمية وغريمها بأنه من اجلربية‬
‫الزائغني‪ .‬وابن تيمية ملا توغل يف جدال الفالسفة واملناطقة اضطر أن يتناول‬
‫من حيث تناولوا فقال مقالة يف قدم العامل مل يقلها أحد من أهل االستقامة‪.‬‬
‫مستند احلنابلة أهل احلديث يف تبديعهم لألشعري واألشاعرة أن األشعري‬
‫يؤول يف الصفات‪ .‬حىت أن ابن تيمية صنف األشاعرة يف الصف اخلامس من‬
‫أهل الزيغ‪ ،‬مع الباطنية املعطلة‪ ،‬والفالسفة‪ ،‬واالحتادية القائلني بوحدة الوجود‪،‬‬
‫واملعتزلة املنكرين لصفات املعاين‪.‬‬
‫إذا علمنا أن مجهور علماء األمة‪ ،‬منذ القرن الرابع‪ ،‬على مذهب األشعري‬
‫يف الدفاع عن العقائد تبني لنا خطورة القول بزيغ األشعرية‪ .‬يقول سلطان العلماء‬

‫‪388‬‬
‫اإلحسان‬

‫عز الدين بن عبد السالم‪" :‬إن املالكية والشافعية واحلنفية وفضالء احلنابلة‬
‫‪1‬‬
‫أشعريون"‪.‬‬
‫ويقول احملدث احلافظ ابن عساكر‪" :‬هل من الفقهاء احلنفية واملالكية والشافعية‬
‫إال موافق لألشعري‪ ،‬ومنتسب إليه‪ ،‬وراض حبميد سعيه يف دين اهلل‪ُ ،‬مثْ ٍن بكثرة العلم‬
‫ض ِمر التشبيه وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه‪ ،‬وتضاهي‬ ‫عليه‪ ،‬غري شرذمة قليلة تُ ْ‬
‫‪2‬‬
‫قول املعتزلة يف ذمه‪ ،‬وتباهي بإظهار جهلها جبانب سعة علمه؟"‪.‬‬
‫برز ابن تيمية من بني احلنابلة الذين انضمت قلوهبم على َك َم ِد فتنة‬
‫اإلمام اجلليل أمحد بن حنبل وتعذيبه وجلده على يد املامون واملعتصم‪ .‬ونبغ‬
‫ببيانه وقوة عارضته ومتانة شخصيته‪ .‬فكان كنقطة بيان وإعالن يف أوج‬
‫املشاغبة احلنبلية املستدمية يف وجه السلطان ومن معه من مجهرة فقهاء املذاهب‬
‫الفقهية األخرى‪ .‬جيمع هذه املذاهب يف نظر أهل احلديث احلنابلة إمجاعُها‬
‫على األشعرية املاتوريدية يف العقائد‪ ،‬وشبه إمجاعها على التصوف من حيث‬
‫كونه السلوك األخالقي الروحي الضروري لكل طالب للحق‪.‬‬
‫وطفق الفريقان من أهل احلق‪ ،‬احلنابلة من جهة‪ ،‬ما خال ابن اجلوزي املؤول‪،‬‬
‫وسائر العلماء من جهة أخرى‪ ،‬خيتصمون يف أخبار الصفات‪ ،‬ويف االستواء على‬
‫العرش وحقيقته‪ ،‬وهل تثبت الصفات مبا تثبت به الذات أو بشيء زائد‪ ،‬وهل‬
‫النص املروي خبَرب اآلحاد تثبت به عقيدة‪ ،‬وهل ُتمل األخبار الصفاتية على‬
‫احلس أو على اجملاز‪ ،‬وهل نؤول بعض تلك األخبار أو كلَّها لنعرف كيف ينزل‬
‫ربنا إىل السماء الدنيا يف الثلث األخري من الليل‪ ،‬ولنعرفكيف يأيت اهلل عز وجل‬

‫‪ 1‬طبقات السبكي ج ‪ 2‬ص ‪.259‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر والصفحة‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫اإلحسان‬

‫إىل عبده هرولة إذا جاء العبد إليه ميشي‪ ،‬وهل القول باجلهة يف حق الباري جل‬
‫وعال يُلزم القول باجلسمية أم أن اشرتاك احلق سبحانه يف الصفة مع العبد اشرتاك‬
‫يف االسم ال يف احلقيقة‪.‬‬
‫يف قضية التشبيه والتنزيه قضى علماء األمة زمانا يف اجلدل واخلصومة‪.‬‬
‫لكل فريق من أهل احلق‪ ،‬ما بني صوفية أشاعرة وفقهاء مناظرين وحمدثني أثريني‪،‬‬
‫وعياره‪ ،‬وحظه من العقل والنقل واإلرادة‪ .‬سفينة األمة اختلف على مقادهتا‬‫خياره ُ‬
‫ُ‬
‫ومبـْلَغ علمه‪،‬‬
‫ربابنَة متـََعددو الوجهات والنيات والقدرات‪ .‬كل يدعو إىل اجتهاده َ‬
‫خملصا مصيبا مرة خمطئا أخرى‪ ،‬ومل خيل اجلو أبدا من أصحاب النعرات والنفاق‬
‫والتعصب واملسابقة إىل الرئاسات واملِنَح واملناصب بالتزلف إىل احلاكم السائر‬
‫برياح هواه‪ .‬البشرية مل تتعطل‪ ،‬والشيطنة اجلنية واإلنسية مل تُعزل‪.‬‬
‫أمناط من التفكري‪ ،‬وألوان من املذهبيات‪ ،‬واختالف يف األهداف واألساليب‪.‬‬
‫انتقضت عروة احلكم بعد ثالثني سنة من وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ات العقد‬
‫وذات الشمال‪ ،‬وذات البـَْي احلالقة للدين‪ ،‬حبّ ُ‬
‫ذات اليمني َ‬‫فانفرطت َ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وانفرطت جامعة اإلميان السمحة اليت جاء هبا الوحي بغياب وازع‬
‫السلطان‪ .‬اشتغل السلطان العاض‪ ،‬الذي ميثل يف تاريخ اإلسالم بدعة أعظم‬
‫بدعة‪ ،‬حبرب القرآن وأهل القرآن‪ .‬وأعانه هؤالء على أنفسهم باخلصام والرتاشق‪.‬‬
‫أفنبقى‪ ،‬وحنن على أعتاب اخلالفة الثانية إن شاء اهلل‪ ،‬أسرى التجربة‬
‫اخلالفية اليت خاضتها األمة ؟ من أين نبدأ ؟ وما السبيل إىل إميان ال إله إال‬
‫ادياً يـنَ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ادي‬ ‫اهلل‪ ،‬وعصمة "قل ريب اهلل مث استقم" وفالح ﴿إِنـَّنَا َسم ْعنَا ُمنَ ُ‬
‫ِ‬ ‫لِ ِإل ِ‬
‫يمان أَ ْن آمنُواْ بَِربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫آمنَّا﴾؟‬
‫‪1‬‬
‫َ‬

‫‪ 1‬آل عمران‪193 ،‬‬

‫‪390‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال صادق جلت بوارق عزميته ظالم اجلهل والفتنة‪:‬‬


‫ـب َسـ َـرْوا والليـل مل ٍـق ِرَواقـه على ك ِّـل ُم ـ ْغـبَـ ـ ِّـر املطـالـ ـ ـ ـ ــع قـاتِـ ِم‬
‫ورْكـ ٍ‬
‫َ‬
‫حدوا عزمات ضـاقت األرض دوهنا فصـار ُسـراهم يف ظهـور العـزائـم‬
‫ِّعرى وهام النعائـم‬ ‫تُـريهــم جن ــوم الليل ما يبتغـونـ ـ ـ ــه على عـاتق الش ْ‬
‫وقال حي ذاكر بني أموات غافلني‪:‬‬
‫للـ ـ ــه يف اخلـلـ ــق أس ـ ـرار وأن ـ ـ ـ ـوار ويصطـفي اهلل من يرضى وخيتار‬
‫ال حت ِـقـرن فقـيـرا إن مررت ب ـ ـ ـ ـ ــه فـقــد ي ـك ــون ل ــه ح ــظ وم ـق ـ ــدار‬
‫واملـرء بالنفـس ال باللَّبس تعـرفه قد خيلَ ُـق الغِ ْم ُـد واهلن ُّ‬
‫ـدي بـَتَّـ ـ ـ ـ ــار‬
‫والتِّرب كالرتب قد ختفى مكـانته َحىت خيلصه بالسبـك ِمسـمـ ـ ـ ـ ــار‬
‫ورب أشعث ذي طمرين جمتهد لـه على اهلل فـي اإلقســام إب ـ ـ ـ ـر ُار‬
‫وقال معتقد باهلداية والصحبة ال برتتيب األدلة‪:‬‬
‫أس ـ ـف ــا أليـ ـ ــام وإخـ ـ ـوان مض ـ ـ ـوا ومـ ـنـ ــازل فـارق ـ ـتـ ـهـ ـ ــا م ـغ ـلــوب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫يا ليت قليب مجرة من بُعـدهـ ـ ــم يا ليت عيشـي بعدهم مـقلـوبـ ـ ـ ــا‬
‫طالبت بعـدهم الزمـان مبثلهـ ـ ــم فأجابين‪ :‬هيهات‪ ،‬ال مطلوبـ ـ ـ ـ ـ ــا‬

‫وقلت‪:‬‬

‫الص ــادق ـ ــو َن إلـى َوع ٍـد وثيـ ٍـق لِمن قــد َّ‬
‫خص ـ ـ ــهُ اهلل‬ ‫لِلّ ِه بِاهلل َس ـ َـار َّ‬
‫الَ ريب عنـدهم يف ِع ـ ِّـز مطلبِهم ســاروا على درهبم و ِ‬
‫املوع ـ ـ ـ ـ ُـد اهلل‬ ‫َ َ َ ْ‬ ‫َ ُ ِ َ‬
‫وما يش ـ ــاءو َن إالَّ ما شـ ـ ـ ــاءهُ اهلل‬ ‫ِ‬
‫ـدوهـ ـ ْـم للمع ــايل هـ ـ ـةٌ َسقت َ‬
‫َتـ ُ‬

‫‪391‬‬
‫اإلحسان‬

‫إيمان الصوفية‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫سنَةً َوقِنَا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ربـَّنَا آتِنَا فِي ُّ‬
‫سنَةً َوفي اآلخ َرة َح َ‬
‫الدنـْيَا َح َ‬ ‫َ‬
‫اب النَّا ِر﴾‪ .‬يا حي يا قيوم برمحتك أستغيث‪.‬‬ ‫َع َذ َ‬

‫يف حميط النقل ال خارجه كان لكل من الفقهاء األشاعرة واحملدثني احلنابلة‬
‫والصوفية الذاكرين "تنقالت"‪ ،‬حسب تعبري عمر بن عبد العزيز‪ ،‬حسب ما عند‬
‫كل من نبضات قلبية وقدرات عقلية‪ .‬مل يكن أحد من املعرتضني على الصوفية‬
‫يعرتض على أصل التصوف‪ ،‬بل كان الكل يعترب الصوفية جزءا ال يتجزأ من‬
‫أهل السنة واجلماعة‪ .‬وال كان احلنابلة احملدثون يعدون األشاعرة فرقة خارجة عن‬
‫أهل السنة واجلماعة كما يفعل بعض قراء ابن تيمية يف زماننا‪ .‬فرغم خالف‬
‫ابن تيمية الشديد لألشاعرة وجوالته معهم‪ ،‬كان حيصر اخلالف يف ثالث‬
‫مسائل يعدهن أمهات اخلالف ‪ :‬وصف اهلل بالعلو على العرش‪ ،‬ومسألة القرآن‪،‬‬
‫ومسألة تأويل الصفات‪ .‬كان هو يف مسألة االستواء على العرش يشري إىل اجلهة‬
‫فيلزمه اخلصوم باعتقاد التحيز ال ُـملزم للتجسيم‪ .‬ومسألة خلق القرآن كانت من‬
‫الرواسب االعتزالية‪ ،‬ال يقول خبلق القرآن أحد من األشاعرة إال إن دخل اجلدل‬
‫يف اللفظ والكتابة‪ .‬أما يف تأويل الصفات فيحمل ابن تيمية محالته الشعواء‪،‬‬
‫وحيكي قول أعداء األشاعرة فيهم‪ ،‬متبنيا مقاالت السوء‪ .‬قال‪" :‬يقولون إن املعتزلة‬
‫خمانيث الفالسفة‪ ،‬واألشاعرة خمانيث املعتزلة‪ .‬وقال حيىي بن عمار‪ :‬املعتزلة اجلهمية‬
‫‪392‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫الذكور‪ ،‬واألشاعرة اجلهمية اإلناث"‪.‬‬
‫كان له تفصيل ما بني "األشاعرة اجلهمية" الذين فيهم بقايا من التفكري‬
‫االعتزايل وبني األشاعرة األشاعرة اخلُلص‪ .‬هؤالء عنده ناجون‪ .‬يقول‪" :‬وأما‬
‫من قال منهم (األشاعرة) بكتاب "اإلبانة" الذي صنفه األشعري يف آخر‬
‫عمره ومل يظهر مقالة تناقض ذلك‪ ،‬فهذا يعد من أهل السنة‪ .‬لكن جمرد‬
‫‪2‬‬
‫االنتساب إىل األشعري بدعة"‪.‬‬
‫وهنا ندخل إىل إميان الصوفية‪ .‬منكان من العارفني املفتوح عليهم ال ينتمي‬
‫﴿واتـَُّقواْ اللّهَ‬
‫إىل األشعري وال إىل غريه‪ .‬ذلك يعلمه اهلل اقتضاء لوعده الكرمي‪َ :‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم﴾‪ 3.‬وعقيدة الشيخ عبد القادر قدس اهلل‬ ‫َويـَُعلِّ ُم ُك ُم اللّهُ َواللّهُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫روحه كما كتبها يف "الغنية" مل تلق عند ابن تيمية احلافظ إال ال َقبول التام‪ ،‬كما ال‬
‫تلقى عند األشاعرة إال القبول التام‪ ،‬ملا تنزهت عن األلفاظ الفكرية الكالمية املفرقة‬
‫ّ‬ ‫اخلصومية‪.‬‬
‫علماء أكابر آخرون‪ ،‬ممن هلم "قدر مشرتك" مع الصوفية وتلمذة وصحبة‬
‫ال يرون يف صياغة األشعري أي تناقض أو تباعد مع العقيدة السنية‪ .‬يقول‬
‫سلطان العلماء عز الدين بن عبد السالم بعد أن كتب عقيدته حمررة‪" :‬وال‬
‫خيرج عن هذا االعتقاد َملَك مقرب وال نيب مرسل‪ ،‬وال أحد من أهل امللل إال‬
‫ذل احلجاب‪،‬‬ ‫من خذله اهلل فاتبع هواه وعصى مواله‪ .‬أولئك قوم قد غمرهم ُّ‬
‫وطردوا عن الباب‪ ،‬وبعُدوا عن ذلك اجلناب‪ .‬وحق ملن حجب يف الدنيا عن‬
‫إجالله ومعرفته أن حيجب يف اآلخرة عن كرامة رؤيته‪:‬‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج ‪ 6‬ص ‪.359‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر والصفحة‪.‬‬
‫‪ 3‬البقرة‪282 ،‬‬

‫‪393‬‬
‫اإلحسان‬

‫ض ملن غاب عنك غيبته فـذاك ذنـب عق ــابـ ـ ـ ـ ـ ــه ف ـيــه‬


‫ْار َ‬
‫إمجال من اعتقاد األشعري رمحه اهلل تعاىل واعتقاد السلف‬
‫مث قال‪" :‬فهذا ٌ‬
‫وأهل الطريقة واحلقيقة‪ ،‬نِ ْسبَتُهُ إىل التفصيل الواضح كنسبة القطرة إىل البحر‬
‫الطافح"‪.‬‬
‫يعرفــه الباحـ ــث من جنسـ ــه وسـائـ ـ ـ ــر النـاس ل ــه منك ـ ــر‬
‫‪1‬‬
‫انتهى كالمه‬
‫كتب عز الدين كالمه قبل أن تطلُع بارقة ابن تيمية‪( .‬تويف رمحه اهلل وابن‬
‫تيمية يف صباه األول)‪ ،‬وقبل أن يشهر ابن تيمية سالح "لكن جمرد االنتساب‬
‫إىل األشعري بدعة"‪ .‬سلطان العلماء يف زمانه ارتكب هذه "البدعة" وشهد أن‬
‫اعتقاد األشعري هو اعتقاد أهل السنة واعتقاد أهل الطريقة‪ .‬معناه أن الصوفية هم‬
‫أهل سنة‪ ،‬وأهل السنة هم األشاعرة والصوفية‪ .‬خارج السياج احلنبلي‪ ،‬قبل ابن‬
‫تيمية وبعده‪ ،‬كان الصوفية واملتكلمون من أهل السنة ومنهم األشاعرة يُعتربون‬
‫هم أئمة التوحيد‪ .‬قال البغدادي يف أوائل القرن اخلامس‪" :‬اجلنيد شيخ الصوفية‬
‫وإمام املوحدين له يف التوحيد رسالة على شرط املتكلمني وعبارة الصوفية‪ .‬مث‬
‫بعدهم شيخ النظر وإمام اآلفاق يف اجلدل والتحقيق أبو احلسن علي بن إمساعيل‬
‫األشعري الذي صار شجاً يف حلوق القدرية والنجارية واجلهمية واجلسمية‬
‫والروافض واخلوارج‪ .‬وقد مألتكتبه الدنيا‪ .‬وما ُرزق أحد من املتكلمني من التَّبَع‬
‫ما قد رزق‪ ،‬ألن مجيع أهل احلديث‪ ،‬وكل من مل يتمعزل من أهل الرأي على‬
‫‪2‬‬
‫مذهبه"‪.‬‬

‫‪ 1‬طبقات السبكي ج ‪ 5‬ص ‪.87‬‬


‫‪ 2‬أصول الدين ص ‪.309‬‬

‫‪394‬‬
‫اإلحسان‬

‫رحم اهلل البغدادي‪ ،‬لو استثىن من أهل احلديث األئمة مجاعة األفاضل‬
‫احلنابلة الذين كانوا قبل ابن تيمية أقلية متحركة غري ذات شأن‪ .‬لو استثناهم!‬
‫وأىن له أن يعرف أن األشعري الذي كان شجاً يف حلوق الطوائف الضالة‬
‫سيصبح امسه يوما رمزا للبدعة عند طائفة من املتوترين!‬
‫خاض األستاذ القشريي الصويف األشعري معارك حامية دفاعا عن‬
‫االعتقاد األشعري قبل ابن تيمية‪ ،‬معارك محل فيها على صوجلان احلاكم‬
‫وخطَ ِ‬
‫ب العامل اجلليل من على منربه‪.‬‬ ‫ومظاهرات احلنابلة مبسبحة املريب ُ‬
‫اعتقاد الصوفية العارفني وتالمذهتم هو التفويض‪ُ ،‬يضون ما أخرب اهلل به‬
‫نفسه ورسولُه كما جاء‪ ،‬ال يسألون وال يؤولون‪ .‬لكن إذا نبع ُمعاند جلأ‬‫عن ِ‬
‫من كان منهم مبتلى مبعاشرة اخللق إىل أسلحة األشعري اجلدلية ليدافع عن‬
‫وحيرر عقائد العامة من املسلمني‪.‬‬
‫احلق ِّ‬
‫عب عنها واحد من أجلة السلف اإلمام الشافعي‬ ‫عقيدهتم التفويضية َّ‬
‫حيث قال َرضي اهلل عنه‪" :‬آمنت باهلل ومبا جاء عن اهلل مبراد اهلل‪ .‬وآمنت‬
‫برسول اهلل وما جاء عن رسول اهلل على مراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬
‫تعلم اإلمام العظيم الشافعي من الصوفية أن ال يضيع الوقت فيما ال يعين‪،‬‬
‫وتعلم منهم االشتغال باحلق عن الباطل‪ .‬قال رمحه اهلل‪" :‬صحبت الصوفية فما‬
‫انتفعت منهم إال بكلمتني‪ :‬مسعتهم يقولون‪ :‬الوقت سيف إن مل تقطعه قطعك‪،‬‬
‫ونفسك إن مل تشغلها باحلق وإال شغلتك بالباطل"‪ .‬قال شيخ اإلسالم ابن القيم‬
‫احلنبلي بعد أن أورد كلمة الشافعي‪" :‬يا هلما من كلمتني ما أنفعهما وأمجعهما‬
‫وأدهلما على علو مهة قائلهما ويقظته! ويكفي يف هذا ثناء الشافعي على طائفة‬
‫‪1‬‬
‫هذا قدر كلماهتم"‪.‬‬
‫‪ 1‬مدارج السالكني ج ‪ 3‬ص ‪.129‬‬

‫‪395‬‬
‫اإلحسان‬

‫العامل الظريف املتلطف ابن القيم تقرأ ما بني سطوره أسى عميقا على الوحشة‬
‫اليت أحدثها االضطراب احلنبلي والقتال التيمي يف صفوف أهل احلق من حمدثني‬
‫وصوفية وفقهاء أشاعرة‪ .‬ال يألو جهداً يف تقريب الشقة‪ .‬واقرأ على هامش نصه‬
‫هذا عن متجيد الصوفية بواسطة شهادة الشافعي تعليق "حمقق" الكتاب لرتىكيف‬
‫حيمل الوهابيون التيميون يف عصرنا مشاعل اإلحراق والفراق‪.‬‬
‫كان الصوفية على مذهب مالك رضي اهلل عنه حني سئل عن قوله تعاىل‪:‬‬
‫الر َحضاءُ‪،‬‬
‫"الرمحن على العرش استوى" كيف استوى؟ فأطرق مالك حىت علَته ُّ‬
‫مث قال‪" :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف غري معقول‪ ،‬واإلميان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه‬
‫بدعة"‪ .‬مث أمر بطرد السائل‪ .‬يف زمانه رضي اهلل عنه كان السائلون هذه األسئلة‬
‫البدعية أفرادا‪ ،‬ومن بعده صارت األسئلة البدعية الشاكة املشككة طوفانا‪.‬‬
‫وهاجسه‪ .‬هلذا اجتمع أهل احلق‬
‫َ‬ ‫صارت طاعونا‪ .‬صارت كلمة العصر ومقالته‬
‫على سفينة األشعري ينقذون هبا األمة من الغرق‪ ،‬وأخذوا من صيدليته وطبه‬
‫عالجا‪ ،‬ومن كالمه حجة‪.‬‬
‫كان الصوفية املتحررون من التقليد‪ ،‬العارفون‪ ،‬أكثر الناس متسكا بالكتاب‬
‫وصدق االتباع هلل‬
‫َ‬ ‫والسنة‪ .‬ومنهم يتعلم التالمذة اإلخالص املطلق هلل ورسوله‪،‬‬
‫ورسوله‪ .‬من زعم االنتساب إىل الطائفة فمعيار صدقه وإخالصه وصوابه مقدار‬
‫ما عنده من حرمة للقرآن والسنة‪ .‬قال ذو النون املصري رمحه اهلل‪" :‬من عالمة‬
‫احملب هلل متابعة حبيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أخالقه وأفعاله وأوامره"‪.‬‬
‫وقال اجلنيد‪" :‬الطرق كلها مسدودة على اخللق إال على من اقتفى أثر رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم"‪ .‬وقال‪" :‬من مل حيفظ القرآن ومل يكتب احلديث اليقتدى‬
‫ألن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"‪ .‬وقال‪" :‬مذهبنا هذا‬ ‫به يف هذا األمر َّ‬
‫مشيد حبديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪ .‬وقال أبو عثمان احلريي‪:‬‬

‫‪396‬‬
‫اإلحسان‬

‫"الصحبة مع اهلل حبسن األدب ودوام اهليبة واملراقبة والصحبة مع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم"‪ .‬وقال‪" :‬من َّأمر السنة على نفسه‬
‫قوال وفعال نطق باحلكمة‪ ،‬ومن َّأمر اهلوى على نفسه نطق بالبدعة‪ .‬قال اهلل‬
‫﴿وإِن تُ ِطيعُوهُ تـَْهتَ ُدوا﴾‪."1‬‬
‫تعاىل َ‬
‫سجلوا يف زمام األولياء‪،‬‬
‫كالم العارفني باهلل يف االعتصام كثري‪ .‬أولئك ِّ‬
‫أن ظاهر ما نطق به الكتاب‬ ‫وفتح اهلل أقفال نفوسهم وعني قلوهبم فعرفوا يقينا َّ‬
‫ونطقت به السنة مطابق ملا تكتشفه أنوار القلوب يوم ينورها اهلل فضال يتفضل‬
‫ُوغَر صدره على العاملني‪ ،‬وتوترت عالقاته‬‫به على الذاكرين‪ .‬أما من ركبه هواه‪ ،‬وأ ِ‬
‫أي إطار‪ ،‬وبأي عيار‬‫باملسلمني لفساد عالقته باهلل‪ ،‬فبأي عقل وبأي إرادة‪ ،‬ويف ِّ‬
‫يبدع املسلمني ويتكلم يف عقائد األولياء؟‬
‫أنت اخلبري مبا تنزل اهلمم وهتبط املدارك وتقسو القلوب من ترك ذكر اهلل‪.‬‬
‫أنت اخلبري إنكنت من الذاكرين‪ .‬وإن مل تكن فامسع عسى ينفعك اهلل بالسمع‪.‬‬
‫قال ابن حجر اهليثمي رمحه اهلل‪" :‬حاش هلل ومعاذ اهلل أن يُظن بأحد‬
‫من الصوفية املذكورين يف رسالة القشريي وعوارف املعارف وغريمها من كتب‬
‫األئمة اجلامعني بني علماء الظاهر والباطن شيء مما خيالف عقيدة أهل السنة‬
‫‪2‬‬
‫واجلماعة"‪.‬‬
‫وقال الشاطيب رمحه اهلل‪" :‬يُفهم شأن املنقطعني إىل اهلل فيما امتازوا به‬
‫من ِنلتهم املعروفة (التصوف)‪ .‬فإن الذي يظهر لبادي الرأي منهم أهنم التزموا‬
‫يلزمهم شرعا‪ .‬فيظن الظان أهنم شددوا‬ ‫أمورا ال توجد عند العامة‪ ،‬وال هي مما ُ‬

‫‪ 1‬النور‪54 ،‬‬
‫‪ 2‬الفتاوي احلديثية ص ‪.233‬‬

‫‪397‬‬
‫اإلحسان‬

‫على أنفسهم‪ ،‬وتكلفوا مامل يكلَّفوا‪ ،‬ودخلوا على غري مدخل أهل الشريعة‪.‬‬
‫وحاش هلل! ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا حنلتهم على اتباع السنة‪ .‬وهم باتفاق‬
‫‪1‬‬
‫أهل السنة صفوة اهلل من اخلليقة"‪.‬‬
‫الصوفية صفوة اهلل‪ ،‬أولياء اهلل‪ ،‬معهم جوهر اإلسالم ولُب اإلميان‪،‬‬
‫ت لتحكم‬ ‫وطريقهم طريق العرفان‪ .‬فبأي ظن التقطته من كتب اخلالف تأيت أنْ َ‬
‫ببدعة هؤالء وأولئك! قم! ال ناقة لك وال َجل يف هذا السوق! فضولك‬
‫وجرأتك على ُحَرم اهلل ُم ْرديات ستقضي عليك‪ .‬ستعلم‬ ‫وتطفلك وسطحيتك ُ‬
‫الت حني مناص من قضى عمره يف البطالة‪ ،‬ومن اشتغل بالباطل‬ ‫غدا يوم َ‬
‫عن احلق‪ ،‬ومن أثث حياته بفراش الشك‪ ،‬وزينها حبُلِ ِّي التهمة‪ ،‬وألبسها لباس‬
‫الزور!‬

‫قال اإلمام الشافعي ينزل السفيه منزلته‪:‬‬

‫كمنـزل ـ ـ ـ ــة الفـقـي ـ ــه من السفـيـ ـ ــه‬ ‫ومنزلة السـفي ـ ـ ــه مـ ــن الف ــقي ـ ـ ــه ‬
‫وه ـ ـ ـ ـ ــذا فـي ـ ــه أزهـ ـ ـ ـ ــد من ـ ــه في ـ ــه‬ ‫فهـ ــذا زاه ـ ــد يف ق ـ ـ ــرب ه ـ ـ ــذا ‬
‫تـقطـ ـ ـ ــع يف خم ـ ــالـ ـفـ ــة الف ـق ـيـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫إذا غلب الشـقـاء على سفيـه ‬

‫وقال يفوض األمر ملن له األمر سبحانه‪:‬‬

‫وما شـئت إن مل تشـأ مل يَ ُكـ ْـن‬ ‫ما شـئت كــان وإن مل أشـ ــأ ‬
‫ففي العلم جيري الفىت وال ُـم ِس ــن‬ ‫ـت ‬
‫خلقـت العب ــاد ملا قد علم َ‬
‫ومنهـ ــم قبي ـ ــح ومنه ـ ــم َح َسـ ـ ــن‬ ‫فمنهـم شقـي ومنهـم سـعي ــد ‬
‫وذاك أعـ ـ ـن ـ ــت وذا لـ ـ ـ ــم تُـعِ ـ ـ ـ ــن‬ ‫ـت وهـذا خـذلـت ‬ ‫على ذا منـَْن َ‬
‫‪ 1‬املوافقات ج ‪ 4‬ص ‪.158‬‬

‫‪398‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال فقيه عارف غري سفيه‪:‬‬

‫ـاث‬
‫هلم يف اخلري إن الح انبع ُ‬ ‫عـ ـبـ ـ ـ ـ ــاد اهلل س ـ ـ ــادات كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام ‬
‫وإخب ـ ـ ــات وأطم ـ ـ ــار ِرثـ ـ ـ ـ ـ ــاث‬ ‫ع ـ ـ ــال منه ـ ــم حنـ ـ ــول واصف ـ ـرار ‬
‫من األمر املخـوف وهم غياث‬ ‫فهم للنـ ـ ــاس يف الدنيـ ـ ــا أمـ ـ ــا ٌن ‬
‫طـالقـك يف ش ـريعتنـ ـ ــا ثـ ــالث‬ ‫أبـانوا صح ـبـ ــة الدنيـ ـ ــا وقال ـ ـ ـ ـوا ‬

‫وقال فقيه حيذر السفهاء من لذة ساعة يف نشوة اجلدل‪:‬‬

‫من احلـرام ويبقى اإلمث والعـار‬ ‫تفىن اللذاذة ممن نـال صفوهتــا ‬
‫ال خري يف لذة مـن بعدها النـار‬ ‫تبقى عـواقب سـوء يف َمغبَّته ــا ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـاث‬ ‫ِ‬ ‫زعم َّ‬


‫يقوى ل َّمتــك انبع ـ ُ‬ ‫وما َ‬ ‫ـدك مستقيـ ٌـم ‬
‫أن قصـ َ‬ ‫أتَ ُ‬
‫ك ثـوبُه ُم ـ َـز ٌق ِرثـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ـاث‬ ‫وديـنُ َ‬ ‫وترفل يف مظــاهر كــاذبـ ٍ‬
‫ـات ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ـاث‬
‫ـات لـهُ أث ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫وزور املوبق ـ ِ‬ ‫ِ‬
‫وبيتُك يف النِّفــاق لهُ عمــاد ‬
‫ُُ‬

‫‪399‬‬
‫اإلحسان‬

‫كرامات األولياء‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ت أَقْ َد َامنَا َو ُ‬
‫انص ْرنَا َعلَى‬ ‫﴿ربـَّنَا أَفْ ِر ْغ َعلَيـْنَا َ‬
‫ص ْبراً َوثـَبِّ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اهلل‪ ،‬اهلل ريب ال أشرك به شيئا‪.‬‬ ‫الْ َق ْوم الْ َكاف ِر َ‬

‫املعجزة للنيب والكرامة للويل‪ .‬املعجزة هي "كل أمر خارق للعادة يظهر‬
‫على يد مدعي النبوة عند حتدي املنكرين له‪ ،‬على وجه يبني صدق دعواه"‪.‬‬
‫هكذا عرفها علماؤنا‪ .‬أما الكرامة فخارقة يظهرها اهلل على يد عبد مستقيم‪.‬‬
‫أما إذا ظهرت اخلارقة على يد كافر فاسق فهي ما يسمى باالست ْدراج‪.‬‬
‫روى الشيخان عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ما‬
‫من نيب من األنبياء إال أعطي من اآليات ما مثلُه آمن عليه البشر‪ .‬وإمنا كان‬
‫الذي أوتيته وحيا أوحاه اهلل إيل‪ .‬فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"‪.‬‬
‫حودهم للنيب‪،‬‬
‫وج ُ‬ ‫ظهورها حتدي املنكرين ُ‬‫املعجزة آية صدق النيب‪ ،‬يصحب َ‬
‫وتأيت املعجزة بِبياهنا لتعضد مقالة النيب‪ .‬وأعظم معجزات سيدنا حممد صلى اهلل‬
‫عليه وسلم القرآن‪ ،‬حتدَّى اهلل عز وجل العرب والعجم واجلن واإلنس أن يأتوا‬
‫بعشر سور من مثله‪ ،‬بل بسورة واحدة فعجزوا‪ .‬القرآن معجزة خالدة إىل يوم‬
‫القيامة‪ ،‬شاهدة بصدق الدعوة احملمدية‪ ،‬متجددة بتجدد تالوته وحالوته وإخباره‬
‫باملغيبات واألكوان وأسرار النفس البشرية‪ .‬وما أوتيه النبيون قبل البعثة احملمدية‬
‫آيات خارقة تبهر احلاضرين ف يؤمنون بالنيب ويصدقونه يف زماهنم مث تنتهي‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫اإلحسان‬

‫ولقد أويت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من اآليات الكونية الكثري‪،‬‬
‫حىت عد العلماء حنو ألف معجزة مثل انشقاق القمر‪ ،‬واملعراج واإلسراء‪،‬‬
‫وتكثري الطعام‪ ،‬وتسبيح احلصا‪ ،‬وإبراء املرضى‪ ،‬ونبع املاء من بني األصابع‬
‫الكرمية‪ ،‬واإلخبار مبا كان وما يكون‪ .‬وواجب املسلم أن يصدق باملعجزات‪.‬‬
‫التصديق بكرامة األولياء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كما أن أصال من أصول أهل السنة واجلماعة‬
‫اليكذب بالكرامة إال جاحد معاند‪ ،‬أو جاهل بدينه‪ .‬والكرامات أنواع منها‬
‫املكاشفات‪ ،‬والقدرة والتأثري يف الكون‪ ،‬وهو ما يسميه أهل اهلل التصريف‪ ،‬أو‬
‫الفعل باهلمة‪.‬‬
‫وقد كان للصحابة رضي اهلل عنهم كرامات كثرية روهتا لنا األخبار‬
‫الصحيحة‪ .‬منها تكثري طعام أضياف أيب بكر الصديق‪ ،‬ومنها نزول املالئكة‬
‫السُرج عند قراءته سورة الكهف‪ ،‬ومنها‬
‫على أسيد بن حضري رضي اهلل عنه مثل ُّ‬
‫تسليم املالئكة على عمران بن حصني ومصافحتُهم له‪ ،‬ومنها تسبيح الصحفة‬
‫اليت كان يأكل منها أبو الدرداء وسلمان‪ ،‬ومنها السراج الذي ظهر وأنار طريق‬
‫عباد بن بشر وأسيد بن حضري يف ليلة مظلمة‪ ،‬ومنها إتيان خبيب بن عدي‬
‫بالعنب من الغيب عندما كان أسريا مبكة يف يد املشركني‪ .‬وغري هذا كثري‪.‬‬
‫وكان للتابعني رضي اهلل عنهم كرامات كثرية‪ .‬غري أن ظهور الكرامات يف‬
‫هذه األمة تكاثر يف العهود التالية حىت أصبح "مثل املطر" حسب تعبري ابن تيمية‪.‬‬
‫ذلك أن املعجزة والكرامة مؤيدات من اهلل عز وجل لعباده تدفعهم إىل اإلميان‬
‫وتقويهم‪ .‬كان إميان أهل القرون الفاضلة األوىل قويا فكانت الكرامات فيهم‬
‫ال داعي هلا‪ ،‬فلما ضعف إميان األجيال الالحقة‪ ،‬وأظلمت القلوب‪ ،‬وعميت‬
‫البصائر لُِف ُش ِّو البدع والضالالت أظهر اهلل على يد أوليائه من الكرامات ما ال‬
‫يعد وال حيصى‪ .‬الكرامة تأييد من اهلل عز وجل للعبد الصاحل الذي ظهرت على‬

‫‪401‬‬
‫اإلحسان‬

‫يده وتأييد ملن شهده‪ .‬أما الويل الراسخ الكامل فال حيتاج إىل ظهور اخلوارق ليزداد‬
‫إميانا‪.‬‬
‫سئل اإلمام أمحد بن حنبل رضي اهلل عنه ما سبب قلة كرامات الصحابة‬
‫باإلضافة إىل ما جاء بعدهم من األولياء فأجاب بأن أولئك كان إمياهنم قويا‬
‫فما احتاجوا إىل زيادة يقوى هبا إمياهنم‪ .‬وغريهم ضعيف اإلميان يف عصره‬
‫فاحتيج إىل تقويته بإظهار الكرامة‪ .‬ومثله قول اإلمام السهروردي‪" :‬وخرق‬
‫املكاشف رمحة من اهلل تعاىل لعباده‬
‫َ‬ ‫ض ْعف يقني‬ ‫يكاشف به ملوضع َ‬
‫العادة إمنا َ‬
‫العبّاد ثوابا معجال‪ ،‬فوق هؤالء قوم ارتفعت احلجب عن قلوهبم"‪.‬‬
‫يتوق الطالب الضعيف إىل آية تظْ َهر له ليتيقن من أمره‪ ،‬وقد يدعو ربه‬
‫يف ذلك فيبتلى باإلجابة أو بعدمها‪ .‬يبتلى باإلجابة ألن الكرامة‪ ،‬وهي عطاء‪،‬‬
‫قد تُلهي عن ال ُـمعطي فتكون سببا لتوقف السالك وحجابا له عن ربه‪ .‬ويبتلى‬
‫بعدم اإلجابة ليعلم اهلل من خيافه بالغيب‪.‬‬
‫العبودية تقتضي من طالب احلق مريد وجه اهلل أن يعبد ربه ويتقرب‬
‫إليه وهو يف غاية االعرتاف بالضعف والتربي من احلول والقوة‪ .‬طلب الكرامة‬
‫يقدح يف نية السالك‪ ،‬ألن ظهورها على يده يُكسبه مسعة وصولة‪ ،‬وقد تعجبه‬
‫نفسه فيتهاون يف االستقامة اليت هي الكرامة الكربى‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يسأله املشركون اآليات واخلوارق‬
‫ول لَ ُكم ِع ِ‬
‫ندي َخ َزآئِ ُن‬ ‫فيجيب مبا يعلِّمه اهلل من آداب العبودية‪﴿ .‬قُل الَّ أَقُ ُ ْ‬
‫ِ‬
‫وحى إِلَ َّي﴾‪.1‬‬‫ك إِ ْن أَتَّبِ ُع إِالَّ َما يُ َ‬‫ول لَ ُك ْم إِنِّي َملَ ٌ‬ ‫ب َوال أَقُ ُ‬ ‫اللّه َوال أَ ْعلَ ُم الْغَْي َ‬
‫ك َجنَّةٌ ِّمن‬
‫ض يَنبُوعاً أ َْو تَ ُكو َن لَ َ‬ ‫ك َحتَّى تـَْف ُج َر لَنَا ِم َن األ َْر ِ‬
‫﴿وقَالُواْ لَن نـُّْؤِم َن لَ َ‬
‫َ‬
‫‪ 1‬األنعام‪50 ،‬‬

‫‪402‬‬
‫اإلحسان‬

‫ت‬ ‫الس َماء َك َما َز َع ْم َ‬ ‫ط َّ‬ ‫ب فـَتـَُف ِّج َر األَنـَْه َار ِخاللَ َها تـَْف ِجيراً أ َْو تُ ْس ِق َ‬ ‫يل َو ِعنَ ٍ‬‫نَّ ِخ ٍ‬
‫ف أ َْو‬‫ت ِّمن ُز ْخر ٍ‬ ‫ك بـَْي ٌ‬ ‫سفاً أ َْو تَأْتِ َي بِاللّ ِه َوال َْمآلئِ َك ِة قَبِيالً أ َْو يَ ُكو َن لَ َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َعلَيـْنَا ك َ‬
‫ك َحتَّى تـُنـَِّز َل َعلَيـْنَا كِتَاباً نـَّْق َرُؤهُ قُ ْل ُس ْب َحا َن‬ ‫الس َماء َولَن نـُّْؤِم َن لِ ُرقِيِّ َ‬‫تـَْرقَى فِي َّ‬
‫الس َ ِ‬‫ك َع ِن َّ‬ ‫نت إَالَّ بَ َ‬
‫اها قُ ْل‬‫اعة أَيَّا َن ُم ْر َس َ‬ ‫شراً َّر ُسوالً﴾‪﴿ .‬يَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫َربِّي َه ْل ُك ُ‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫ْم َها ِعن َد َربِّي﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إِنَّ َما عل ُ‬
‫املعجزة والكرامة حلظة استثنائية يف حياة النيب والويل‪ ،‬ما هي األصل‪ .‬األصل‬
‫إثبات األسباب اليت جعلها اهلل يف الكون‪ .‬ولو شاء اهلل ألنزل مالئكة رسال‪،‬‬
‫ولو شاء ألنزل من السماء آية فظلت أعناق البشر هلا خاضعني‪ .‬فالدعوة يبلغها‬
‫نيب‪ ،‬أو يرعاها وجيددها ويل‪ ،‬منا ٌط لالمتحان اإلهلي الذي مييز به سبحانه اخلبيث‬
‫جهل اهلل سبحانه املشركني‬ ‫من الطيب‪ .‬قاعدة االمتحان العادةُ ال خرقها‪ .‬وقد ّ‬
‫ووصفهم بالظلم‪ ،‬والظلم هو وضع األشياء يف غري مواضعها‪ ،‬ملا قالوا‪َ﴿ :‬قَالُوا َم ِال‬
‫اق لَ ْوَل أُن ِز َل إِلَْي ِه َملَ ٌ‬
‫َسو ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َه َذا َّ ِ‬
‫ك فـَيَ ُكو َن َم َعهُ‬ ‫الر ُسول يَأْ ُك ُل الطَّ َع َام َويَ ْمشي في ْال ْ َ‬
‫ال الظَّالِ ُمو َن إِن تـَتَّبِعُو َن‬ ‫نَ ِذيراً أ َْو يـُْل َقى إِلَْي ِه َك ٌنز أ َْو تَ ُكو ُن لَهُ َجنَّةٌ يَأْ ُك ُل ِمنـَْها َوقَ َ‬
‫‪3‬‬
‫إَِّل َر ُجالً َّم ْس ُحوراً﴾‪.‬‬
‫خي النيب صلى اهلل عليه وسلم بني أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا‬ ‫وقد ِّ‬
‫فاختار أن يكون نبيا عبدا بقاء على أصل العبودية‪ .‬وعرض عليه ملك اجلبال‪،‬‬
‫بأمر من اهلل تعاىل‪ ،‬عند رجوعه من الطائف أن يطبق األخشبني على مشركي مكة‬
‫فامتنع‪ .‬وكان عليه الصالة والسالم مستجاب الدعوة‪ ،‬فلو شاء لقضيت حوائجه‬
‫دون سبب ظاهر‪ ،‬لكنه صلى اهلل عليه وسلم كان يشبع وجيوع‪ ،‬وينتصر جنوده‬

‫‪ 1‬اإلسراء‪90-93 ،‬‬
‫‪ 2‬األعراف‪187 ،‬‬
‫‪ 3‬الفرقان‪7-8 ،‬‬

‫‪403‬‬
‫اإلحسان‬

‫تارة ويُهزمون أخرى‪ ،‬وينتظر اكتمال العناصر السببية ليبدأ حركته‪ ،‬ويدبر حسب‬
‫جماري العادة ليكون قدوة للمسلمني يف التعبد مبا وضعه اهلل من ناموس يف الكون‪.‬‬
‫مل يضعه سبحانه عبثا ليتخطاه الناس‪ ،‬وال يرفعه حلظة من حلظات تاريخ البشر إال‬
‫ليكون استثناء الرفع تأكيدا ألصل اإلثبات‪.‬‬
‫تكسب العباد‪ ،‬ومعاناهتم للحاجة والضرورة‪ ،‬وحتملهم لضروب‬ ‫األصل ُّ‬
‫االمتحان والبالء والقهر املفروض على بين البشر أمجعني‪ .‬لو كان خرق العادة‬
‫قاعدة ومل يكن رخصة واستثناء لبطلت الرسالة وبطل العمل وبطل اجلهاد وبطلت‬
‫احلكمة اليت من أجلها خلق اهلل الدنيا واآلخرة‪ ،‬والسماء واألرض‪ ،‬واملوت واحلياة‪.‬‬
‫الكرامات اليت تظهر على يد األولياء أنواع‪ .‬منها ما هو من قبيل العلم‬
‫واملكاشفة "بأن يسمع العبد ما ال يسمعه غريه‪ ،‬وتارة بأن يرى ما ال يراه غريه‬
‫يقظة ومناما‪ .‬وتارة بأن يعلم ما ال يعلمه غريه وحيا وإهلاما‪ ،‬أو إنز َال علم‬
‫‪1‬‬
‫ضروري‪ ،‬أو فراسةً صادقة‪ ،‬ويُسمى كشفا ومكاشفة أي كشف له عنه"‪.‬‬
‫هذا كالم ابن تيمية رمحه اهلل‪ ،‬وله القدم الراسخ يف هذه األمور واطالع‬
‫واسع‪ ،‬ومشاركة فعلية‪ ،‬فقد كان من املكاشفني كما سنقرأ إن شاء اهلل يف فصل‬
‫مقبل‪ .‬ومعذور ابن اجلوزي الذي قال عن املكاشفة إهنا "كالم فارغ"‪ .‬وهل يشهد‬
‫اإلنسان الزور إن مل يكن معه من التصديق ما يتلقى به الشهادات املتواترة؟‬
‫ومن أنواع الكرامة ما هو من "باب القدرة" كما يقول ابن تيمية‪" :‬وهو‬
‫التأثري‪ ،‬وقد يكون مهة وصدقا ودعوة مستجـابة‪ .‬وقد يكون من فعل اهلل الذي‬
‫ال تأثري له فيه حبال‪ ،‬مثل هالك عدوه بغري أثر منه كقوله‪" :‬من عادى يل وليا‬
‫ب"‪ .‬ومثل تذليل‬‫فقد بارزين باحملاربة" و"إين ألثْأر ألوليائي كما يثأَر الليث احل ِر ُ‬
‫‪ 1‬فتاوي ابن تيمية ج ‪ 11‬ص ‪.313‬‬

‫‪404‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫النفوس له وحمبتها إياه"‪.‬‬
‫قال أبو علي اجلوزجاينّ‪" :‬كن طالب االستقامة ال طالب الكرامة‪ .‬فإن‬
‫نفسك متحركة يف طلب الكرامة‪ ،‬وربك يطلب منك االستقامة"‪.‬‬
‫قال اإلمام السهروردي‪" :‬وهذا الذي ذكره اجلوزجاين أصل كبري يف الباب‪،‬‬
‫وسر غفل عن حقيقته كثري من أهل السلوك والطلب‪ .‬وذلك أن اجملتهدين‬
‫بس َي الصاحلني املتقدمني وما ُمنحوا به من الكرامات وخوارق‬‫واملتعبدين مسعوا ِ‬
‫العادات‪ ،‬فأبداً نفوسهم ال تزال تتطلع إىل شيء من ذلك‪ ،‬وحيبون أن يرزقوا شيئا‬
‫من ذلك‪ .‬ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب‪ ،‬مت ِهما لنفسه يف صحة عمله حيث‬
‫مل يُكشف بشيء من ذلك‪ .‬ولو علموا سر ذلك هلان عليهم األمر فيه‪ .‬فيعلم‬
‫أن اهلل سبحانه وتعاىل قد يفتح على بعض اجملتهدين الصادقني من ذلك بابا‪.‬‬
‫واحلكمة فيه أن يزداد مبا يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقينا فيقوى عزمه‬
‫على الزهد يف الدنيا واخلروج من دواعي اهلوى‪ .‬وقد يكون بعض عباده يكاشف‬
‫بصرف اليقني استغىن‬ ‫ف اليقني‪ ،‬ويرفع عن قلبه احلجاب‪ .‬ومن كوشف ِ‬ ‫صر ِ‬
‫ِِ‬
‫ُ‬ ‫ب ْ‬
‫بذلك عن رؤية خرق العادات‪ ،‬ألن املراد منها كان حصول اليقني‪ ،‬وقد حصل‬
‫‪2‬‬
‫اليقني‪ .‬فلو كوشف هذا املرزوق ِصرف اليقني بشيء من ذلك ما ازداد يقينا"‪.‬‬
‫خياف الكمل من األولياء أن تظهر عليهم اخلوارق ِغريًة على جناب‬
‫ب القدرة إىل أحد غريه‪ .‬الكمال يف العبودية‪ ،‬ومظهرها‬ ‫نس َ‬
‫احلق سبحانه أن تُ َ‬
‫ضعف العبد وفقره وانقهاره‪ .‬إال أن يكون هلل عز وجل حكمة يف إظهار‬
‫اخلوارق على يد الكامل من حيث ال يطلب‪ ،‬فذلك ال يقدح يف رتبته‪.‬‬
‫"أي أخي! أخاف عليك من الفرح‬
‫قال اإلمام الرفاعي قدس اهلل روحه‪ْ :‬‬
‫‪ 1‬فتاوي ابن تيمية ج ‪ 11‬ص ‪.314‬‬
‫‪ 2‬عوارف املعارف ج ‪ 1‬ص ‪.241‬‬

‫‪405‬‬
‫اإلحسان‬

‫بالكرامة وإظهارها‪ .‬األولياء يسترتون من الكرامة كاستتار املرأة من دم احليض‪.‬‬


‫أي أخي! الكرامة عزيزة بالنسبة إىل ال ُـمك ِرم‪ ،‬ليست بشيء بالنسبة لنا‪ .‬ألن‬
‫وعز‪ ،‬وتلقته القلوب باإلجالل‪ .‬وملا‬
‫هذا اإلكرام ملا ورد من باب الكرمي عظُم َّ‬
‫حتول لفظ النسبة إىل العبد هان األمر‪ ،‬واسترت الكامل من هذه النسبة اليت‬
‫َتَ َّوَل أمرها من باب قدمي إىل باب حادث خيفة استحسان النسبة الثانية‪،‬‬
‫فإن قبوهلا سم قاتل‪ .‬كلنا عار إال من كساه‪ ،‬كلنا جائع إال من أطعمه‪ ،‬كلنا‬
‫‪1‬‬
‫ضال إال من هداه‪ ،‬ليس للعاقل إال قرع باب الكرمي يف الشدة والرخاء"‪.‬‬
‫قال مصدق بكرامات الرجال ومقاماهتم‪:‬‬
‫بالعقل والشرع لألبـدال يف البشــر‬ ‫ال ينكـر اخلَ ْـرق للمعتـاد ذو بصـر ‬
‫والنص يف ذاك يف الفـرقـان واألثـر‬ ‫والطـ ـ ـ ـ ـ ُّـي لألرض معـل ــوم ت ـ ـوات ـ ـ ــره ‬
‫على سـواه رجـال الفكــر والنظــر‬ ‫وعـرش بلقـيـس برهــان يـ ـ ــدل ب ـ ـ ــه ‬
‫يطوي البسيطـة يف أشيـاعه ال ُف ُجـر‬ ‫والطي قد جـاء للدجـال مشته ـرا ‬
‫فكيف حال رجال الفكر واحلـذر؟‬ ‫هــذا وحـال ـ ـ ـت ـ ــه ك ـ ـ ـف ـ ــر ومـعصـي ـ ـ ــة ‬
‫من مل يَـ ِرْد ْليس يدري لذة الص َـد ِر‬ ‫فسـلِّم األمـر ختفـى عنـك غـايتـ ـ ـ ــه ‬
‫فـال أقـل مـن التصـديـق باخلـبــر‬ ‫إن مل تعاين مقـامات مسعـت هبــا ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ـالم على نـُ ْـزِل الكـ ـرام أحبَّيت يـَُوفُّون يف‬
‫اخلوف جامثُ‬ ‫البأساء و ُ‬ ‫َس ٌ‬
‫ـك مجــع ُم َّـم ـ ــع وقا لـةُ ٍ‬
‫سوء ح ــوهل ـ ْـم تتعـ ــا ظ ُـم‬ ‫ـدهم بال َفتـ ِ ٌ َ‬ ‫توعـ ْ‬ ‫َّ‬
‫ـدو َوال ئ ـ ُـم‬ ‫ادهـ ـ ـ ُـم اهللُ اليق ـ ـي ـ ـ َـن ك ـ ـرام ـ ـ ـ ــة َوباءَ ِبا َّ‬
‫رجـ ــى عـ ـ ٌّ‬ ‫فـ ـز ُ‬
‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.33‬‬

‫‪406‬‬
‫اإلحسان‬

‫آيات الرحمن‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ك الْم ِ‬ ‫﴿س ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَا غُ ْف َرانَ َ‬
‫ص ُير﴾‪.‬‬ ‫ك َربـَّنَا َوإِلَْي َ َ‬ ‫َ‬
‫اهلل‪ ،‬اهلل ربنا ال نشرك به شيئا‪.‬‬

‫يعامل املوىل القدير احلكيم عباده يف هذه الدنيا بناموس االبتالء‪ ،‬فيخضع‬
‫العباد مجيعا لنفس السببية‪ .‬ويف حاالت استثنائية تسبق رمحته سبحانه إىل عباده‬
‫ص َرُك ُم اللّهُ‬ ‫﴿ولََق ْد نَ َ‬
‫املضطرين فيعاملهم بالقدرة اليت ال تتقيد‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ :‬‬
‫ين أَلَن يَ ْك ِفي ُك ْم‬ ‫ول لِل ِ ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ْم ْؤمن َ‬ ‫ببَ ْد ٍر َوأَنتُ ْم أَذلةٌ فَاتـَُّقواْ اللّهَ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن إِ ْذ تـَُق ُ ُ‬
‫صبِ ُرواْ َوتـَتـَُّقواْ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين بـَلَى إِن تَ ْ‬ ‫أَن يُم َّد ُك ْم َربُّ ُكم بثَالَثَة آالَف ِّم َن ال َْمآلئ َكة ُم َنزل َ‬
‫ين‬ ‫آالف ِّمن الْمآلئِ َك ِة م ِ‬ ‫ويأْتُوُكم ِّمن فـوِرِهم هـ َذا يم ِد ْد ُكم ربُّ ُكم بِ َخمس ِة ٍ‬
‫س ِّوم َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ ْ َ ُ ْ ْ َ‬ ‫ََ‬
‫وما جعلَهُ اللّهُ إِالَّ ب ْشرى لَ ُكم ولِتَطْمئِ َّن قـلُوب ُكم بِ ِه وما النَّصر إِالَّ ِمن ِعندِ‬
‫ْ‬ ‫ََ ْ ُ‬ ‫َْ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫اب لَ ُك ْم أَنِّي ُم ِم ُّد ُكم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ َج َ‬ ‫اللّه ﴾‪ .‬وقال عز من قائل‪﴿ :‬إِ ْذ تَ ْستَغيثُو َن َربَّ ُك ْم فَ ْ‬
‫‪1‬‬

‫ين َوَما َج َعلَهُ اللّهُ إِالَّ بُ ْش َرى َولِتَط َْمئِ َّن بِ ِه قـُلُوبُ ُك ْم َوَما‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫بأَلْف ِّم َن ال َْمآلئ َكة ُم ْردف َ‬
‫ِ ٍ‬
‫ِ ‪2‬‬
‫ند اللّه﴾‪.‬‬ ‫النَّصر إِالَّ ِمن ِع ِ‬
‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫بذل أولياء اهلل جبنب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اجلُهد يف إعداد‬

‫‪ 1‬آل عمران‪123-126 ،‬‬


‫‪ 2‬األنفال‪9-10 ،‬‬

‫‪407‬‬
‫اإلحسان‬

‫ما استطاعوا من قوة‪ ،‬وصربوا واتقوا‪ .‬لكن العدو جاء مفاجئا بعدده املتفوق‪،‬‬
‫فالتفت األحباب إىل األسباب القائمة‪ ،‬وقارنوا عددهم القليل وعُ َد َدهم مبا‬
‫جاء به العدو‪ ،‬فثبت اهلل أقدامهم مبا شاهدوه من أعداد املالئكة‪ ،‬يبشرهم‬
‫بنزوهلا الرسول الكرمي‪ ،‬وتقاتل معهم‪ ،‬وتطري رؤوس املشركني بسيوف "الرجال‬
‫البيض على اخليل البلق"‪ ،‬معجزة للنيب وكرامة ألولياء اهلل أصحاب رسول اهلل‪.‬‬
‫بشرهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قائال‪" :‬هذا جربيل آخذ برأس‬
‫فرسه‪ ،‬عليه أداة حربه" كما رواه البخاري عن ابن عباس‪ .‬ورأى ابن عباس‬
‫وسعد بن أيب وقاص وغريمها رجاال عليهم ثياب بيض يقاتلون أشد القتال‪.‬‬
‫يف زمان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان اجلهاد نشاطا مستمرا‪،‬‬
‫وكان النصر حليف جند اهلل يف اجلملة على وترية تتعاقب فيها "احلكمة"‬
‫اإلهلية املدبِّرة و "القدرة" االستثنائية‪ .‬كانت الكرامات واملعجزات ظواهر‬
‫شائعة دون أن يؤدي شيوعها إىل إخالل بواجب إعداد القوة‪ .‬كانت تثبيتا‬
‫من اهلل وتذكريا بأن النصر من عنده سبحانه وحده‪ ،‬بسبب أو خبرق السبب‪.‬‬
‫قُتل عامر بن فهرية يوم بئر َمعونة فدعا اهلل قبل موته أن ال يتصرف املشركون‬
‫يف جسده بعد موته فحمته الدَّبر‪ ،‬وهي الزنابري‪ ،‬ومل يقدر عليه املشركون‪ .‬وضل‬
‫سفينة موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم طريقه فلقيه األسد‪ ،‬فأخربه أنه خادم‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فصحبه األسد وهداه الطريق‪ .‬وكان الرباء بن مالك‬
‫مستجاب الدعوة‪ ،‬فأقسم على اهلل يوم القادسية أن ينصر اهلل املسلمني وأن جيعله‬
‫أول شهيد‪ ،‬فكان ما طلب‪ .‬وحاصر خالد بن الوليد حصنا‪ ،‬فشرطوا عليه أن‬
‫يسلموا له احلصن إن شرب السم‪ ،‬فشربه ومل يضره‪ .‬وأخرجوا أجساد شهداء أحد‬
‫بعد أربعني سنة فوجدوها مل تـَْب َل‪ .‬قال أبو هريرة‪ :‬دعا العالء بن احلضرمي فنزل‬
‫املطر يف الصحراء‪ .‬ودعا فمشينا فوق املاء‪ .‬ومات فدفناه‪ ،‬وبعد قليل فتحنا عليه‬

‫‪408‬‬
‫اإلحسان‬

‫فلم جنده يف قربه‪ .‬وقبض رجل من تراب سعد بن معاذ فوجده مسكا‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬سبحان اهلل‪ ،‬سبحان اهلل‪ ،‬حىت عُرف ذلك‬
‫يف وجهه‪ .‬وقطع اجليش اإلسالمي هنر دجلة أثناء فيضانه حيملهم املاء ختوضه‬
‫خيلهم‪ ،‬فهرب الفرس ذُعراً‪.‬‬
‫كان جهادهم قربة عظيمة زكاها اهلل عز وجل بظهور الكرامات على‬
‫أيديهم‪ .‬واقرأ كتاب "صفة الصفوة" ففيه الكثري من األمثلة نقلها عاملنا ابن‬
‫اجلوزي الذي يؤمن ببعض الغيب وينكر املكاشفة رمحه اهلل‪.‬‬
‫فلما احندر املسلمون يف أودية الفتنة‪ ،‬وتطاول عليهم األمد‪ ،‬تقلصت الكرامات‬
‫وانزوت مع أولياء اهلل املعتزلني عن اجملتمع‪ ،‬لتبقى تأكيدا إهليا على أن هذا الدين‬
‫حق‪ ،‬ولتكون ذكرى ملن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‪ .‬ويشاء اهلل عز‬
‫وجل يف زماننا هذا أن يعود اجلهاد إىل الظهور‪ ،‬وأن تعود معه الكرامات ظواهر‬
‫شائعةً‪ ،‬ليثبت اهلل قلوب جنده السائرين عن اطالع وثقة حنو اخلالفة الثانية على‬
‫منهاج النبوة‪ .‬هذه هيكرامات اجملاهدين األفعان بشرى لنا ولتطمئن قلوبنا أننا على‬
‫الدرب ال ُـمنري سائرون‪.‬‬
‫كانت معجزات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وكرامات أصحابه وأمته‬
‫من بعده مصابيح مضيئة متألقة بالثقة واليقني اجنلت هبا قتامة الكفر اجلاهلي‬
‫وكآبة البشر الدابّني يف األرض بغري علم وال هدى وال كتاب منري‪ .‬وها هي ذه‬
‫كرامات اجملاهدين يف أفغانستان‪ 1‬جتلو َعن األمة َغيمةً مظلمة كانت قد خيمت‬
‫على العقول والقلوب‪ ،‬أال وهي غيمة جحود الغيب‪ ،‬والتقليل من شأنه‪ ،‬وتأويل‬
‫التاريخ اإلسالمي والسرية النبوية والقرآن واحلديث مبا مياثل ويطابق التفسري الوضعي‬

‫‪ 1‬يا حسرة على العباد ! ما فعلت القبلية بعد الكرامات الزكية ! وتبقى للعربة ذكرى الكرامات‪ ,‬ولإلتعاظ آثار‬
‫الفتنة‪ .‬واهلل على كل شيء حسيب‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫اإلحسان‬

‫الفلسفي‪" ،‬العلمي" يف زعمه‪.‬‬


‫قبل حنو قرن من الزمان استقبل االستكبار الربيطاين يف مص ِر األزه ِر‪ ،‬مص ِر‬
‫الشيخ حممداً عبده رمحه اهلل إثر عودته من فرنسا‪ ،‬وإثر عودته من‬
‫العلم والعلماء‪َ ،‬‬
‫ثورية األفغاين رمحه اهلل‪ .‬محل الشيخ حممد عبده مسؤولية "إصالح" األزهر‪ .‬وكان‬
‫األزهر وال يزال حمتاجا إلصالح إسالمي‪ .‬كان "إصالح" عبده واملراغي وفريد‬
‫وجدي الذي كان رئيس حترير جملة "نور اإلسالم" األزهرية إصالحا يناسب نوايا‬
‫االستعمار‪ ،‬ويناسب عقوال أفرغت من نور اإلميان فولت وجهها شطر احلضارة‬
‫الغالبة املادية "العلمية"‪ .‬كانت لكلمة "علم" صولة عاتية على تلك العقول‪ .‬وما‬
‫"العلم" عندها إال ما قرره العقل األوريب املعادي للدين اجملادل يف الوحي املكذب‬
‫بيوم الدين‪ .‬وهكذا فسر حممد عبده غفر اهلل لنا وله النبوءة بأهنا فطرة يفطر عليها‬
‫بعض الناس لريشدوا غريهم إىل اخلري‪ ،‬أنزل األنبياء عليهم السالم منزلة النمل‬
‫والنحل‪ .‬وفسر الطري األبابيل واحلجارة من سجيل بأهنا نوع من مرض اجلذري‪،‬‬
‫وفسر اجلن بأهنم نوع من املكروبات‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫جاء جتديد اإلمام البنا رضي اهلل عنه وثقافة إسالم العبقرية والقيادة‬
‫واحلضارة طاغية عاتية‪ .‬مل تضمحل تلك الثقافة السطحية املسطحة الكافرة‬
‫بالغيب‪ ،‬احملروم أهلها من الفالح الذي ال يناله إال املؤمنون بالغيب‪ ،‬كل الغيب‪.‬‬
‫مل تضمحل ومل تغب‪ ،‬وال تزال كتب عبده وكتب فريد وجدي وكتب حسنني‬
‫هيكل يعاد طبعها‪ .‬سرت هذه الثقافة الزنيمة يف العقل املسلم سريان األوبئة‬
‫السرطانية‪ .‬ومنذ عشرين سنة قررت إذاعة اليهود من تل أبيب إذاعة دروس منكتاب‬
‫حممد حسنني هيكل يف السرية النبوية‪ ،‬ذلك الكتاب الذي يفتخر فيه صاحبه بأنه ال‬
‫يعتمد احلديث حىت َولَ ْو رواه البخاري متشيا مع "الطريقة العلمية"‪ .‬ناهيك بكتاب‬

‫‪410‬‬
‫اإلحسان‬

‫يزكيه اليهود ويبثونه ويشجعونه!‬


‫جاءنا مدد اهلل وغياثه يف آيات الرمحن يف جهاد األفغان‪ .‬وهذا عنوان‬
‫كتاب ألفه الدكتور عبد اهلل عزام‪ ،‬عزم اهلل له وجزاه أفضل املثوبة‪.‬‬
‫يقول عبد اهلل عزام عن القصص اليت أوردها يف كتابه‪" :‬أما الرجال الذين‬
‫َرَوْوا معظم القصص فإين أظن واهلل أعلم‪ ،‬أن البخاري لو كان حيا لكانوا من‬
‫‪1‬‬
‫أسانيده"‪.‬‬
‫وحنن نورد بعض كرامات اجلهاد األفغاين كما رواها العامل اجملاهد املشارك‬
‫يف اخلندق ويف كل الواجهات عبد اهلل عزام‪ ،‬سردا متتابعا‪.‬‬
‫قال حدثين عمر حنيف‪ ،‬وهو قائد عسكري جماهد أنه مل ينظر شهيدا‬
‫واحدا متغري اجلسم أو مننت الرائحة‪ .‬وأنه مل ير شهيداً واحداً هنشته الكالب‬
‫رغم أهنا تأكل الشيوعيني‪ .‬وأنه كشف عن اثين عشر قربا بنفسه بعد سنتني‬
‫أو ثالث ومل جيد جسداً واحدا متغري الرائحة‪ .‬وأنه رأى شهداء بعد أكثر من‬
‫سنة جروحهم حية تنزف دما‪.‬‬
‫وروى أمثلة كثرية لشهداء أُخرجوا من قبورهم رائحتهم رائحة املسك‪.‬‬
‫وروى قصة رجل امسه "ابن جنة جل" استُش ِهد‪ ،‬فجاء أبوه وقال‪ :‬يا بين‪ ،‬إن‬
‫كنت شهيدا فأرين آية! فإذا بالشهيد يرفع يده ويسلم على أبيه مصافحا والده‬
‫مدة ربع ساعة‪.‬‬
‫وروى قصة الشهيد عمر يعقوب الذي بقي ماسكا رشاشته ومل يطلقها إال‬
‫بعد أن قالوا له‪ :‬حنن إخوانك‪ .‬وقصة مولوي أرسالن الذي خيافه الروس لشجاعته‬
‫وبالئه‪ .‬قال أرسالن‪ :‬كانت معنا قذيفة واحدة مع مضاد واحد للدبابات‪ .‬فصلينا‬

‫‪ 1‬آيات ال رمحن يف جهاد األفغان الطبعة األوىل ص ‪.100‬‬

‫‪411‬‬
‫اإلحسان‬

‫ودعونا اهلل أن تصيبهم هذه القذيفة‪ .‬وكان مقابلَنا مائة دبابة وآلية‪ .‬فضربنا القذيفة‪،‬‬
‫فإذا هبا تصيب السيارة اليت حتمل الذخرية واملتفجرات‪ ،‬فتفجرت ودمرت مخسا‬
‫ومثانني دبابة وناقلة وآلية‪ .‬وقال أرسالن‪ :‬حنن نعرف أن الطيارات ستهامجنا قبل‬
‫وصوهلا‪ ،‬وذلك عن طريق الطيور اليت تأيت وحتوم فوق معسكرنا قبل وصول الطائرات‪.‬‬
‫فعندما نراها نستعد هلجوم الطائرات‪ .‬بل رأى أرسالن الطيور تدافع عن اجملاهدين‪.‬‬
‫ورآها غريه عدد من اجملاهدين نقل املؤلف شهادهتم‪.‬‬
‫كان مع اجملاهدين يف أول اجلهاد بنادق فردية عتيقة‪ ،‬كانت هي غاية ما‬
‫استطاعوا إعداده من قوة‪ .‬فأنزل اهلل قدرته على تلك النيات الصادقة املخلصة‪.‬‬
‫هاجَنا‬
‫عددنا مخسة وعشرون جماهدا‪َ .‬‬‫قال أرسالن‪ :‬كنا يف مكان امسه شاطري‪ُ ،‬‬
‫ألفان من العدو‪ ،‬ودارت بيننا معركة‪ .‬وبعد أربع ساعات ُه ِزم الشيوعيون وقتل‬
‫منهم سبعون أو مثانون‪ ،‬وأسرنا ستة وعشرين شخصا‪ .‬قلنا لألسرى ملاذا هزمتم؟‬
‫فقالوا كانت املدافع والرشاشات األمريكية تقصفنا من اجلهات األربع‪ .‬قال‬
‫أرسالن‪ :‬ومل يكن معنا ال رشاش وال مدفع‪ ،‬إمنا هي بنادق فردية‪ ،‬وكنا يف جهة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫هاجْنا الشيوعيني‪ ،‬فقتلنا‬
‫قال أرسالن‪ :‬يف مكان امسه "أرجون ‪َ "23‬‬
‫مخسمائة وأسرنا ثالثة ومثانني‪ .‬فقلنا هلم ما سبب هزميتكم ومل تقتلوا منا سوى‬
‫شهيد واحد؟ قال األسرى‪" :‬كنتم تركبون على اخليل‪ ،‬فعندما نطلق عليها تفر‬
‫وال تصاب"‪ .‬ومل يكن مع اجملاهدين فرس واحد‪.‬‬
‫وأسرد اآلن بعض العناوين‪ :‬الذخرية ال تنفد‪ ،‬الدبابة متر على جسد جماهد‬
‫فيبقى حيا‪ ،‬العقارب مع اجملاهدين‪ ،‬النور يصعد من جسد الشهيد‪ ،‬كل خيام‬
‫اجملاهدين تصاب إال خيمة السالح‪ ،‬كم من فئة قليلة غلبت فئةكثرية بإذن اهلل‪.‬‬

‫‪412‬‬
‫اإلحسان‬

‫دعا أخو الشهيد "مياجد" ربه أن يريه آية ليطمئن أن أخاه شهيد حقا‪،‬‬
‫فسقطت إليه باقة ورد ال نظري هلا يف الدنيا‪ ،‬مث اختفت يف الصباح‪ .‬وكان‬
‫النـَُّعاس يغشى اجملاهدين أشد ما يكونون توتُّراً‪ .‬وكذلك كان يغشى اجملاهدين‬
‫‪1‬‬
‫اس أ ََمنَةً ِّم ْنهُ﴾‪.‬‬ ‫األولني‪ :‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ ْذ يـُغَ ِّ‬
‫شي ُك ُم النـَُّع َ‬
‫ويعد املؤلفكراماتكثرية رواها الثقات بالتواتر عن حفظ اهلل للمجاهدين‪،‬‬
‫وعن نبع املاء هلم يف األماكن اجلرداء‪ ،‬وعن امتداد الضباب ليخفيهم عن الطيارات‪،‬‬
‫مضاداً‪.‬‬
‫وعن انفجار دبابات العدو دون أن يستعمل اجملاهدون سالحا ّ‬
‫هذه آيات ال رمحن يف جهاد األفغان‪ ،‬جاء هبا اهلل العزيز احلكيم‬
‫وحد ما بني اخلرافية اليت عاشت‬ ‫ليكبِت اجتاها إىل املادية الكافرة بالغيب‪ُّ .‬‬
‫بالغيب وظهور‬
‫عليها أجيال من املسلمني يف عصور االحنطاط وما بني اإلميان ْ‬
‫اخلوارق أن اخلرافية اسرتسال يف اخليال واألحالم بينما متثل الكرامة تظهر على‬
‫يد األتقياء حافزا على العمل‪ ،‬وبرهان صدق‪ ،‬وعربون صواب‪.‬‬
‫قال صادق يتقرب إىل اهلل باألعمال ال بالتشبيه الكاذب بالرجال‪:‬‬
‫أوصـاف أهل الصـالح واضحة فاح ِرص عليها عسـاك تدركهــا‬
‫قـوم هلــم يف الضل ـ ـ ــوع أف ـ ـ ـئـ ـ ـ ـ ـ ــدة أُو ُار نـار الضلـ ـ ــوع تـس ـبِـ ُك ـ ـه ـ ـ ـ ــا‬
‫مـن كــل ُمـستقـ ـ ـ ِـدم تـ ـع ـ ــارضـ ـ ـ ـ ـ ــه أوهـ ـ ــام أطم ــاعـ ــه فيم ـ ـلـ ـكـ ـ ـه ـ ـ ــا‬
‫ومـن يـكـن مثـل ـ ـ ــه فـ ِه ـ ـ َّـم ـ ـ ــتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه تـرى املعـايل وليس يـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرك ـ ـه ـ ـ ــا‬
‫ـت زان ـ ـ ــه ت ـ ـن ـ ـس ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه يف ف ـ ـئـ ـ ـ ــة زاهن ـ ـ ـ ـ ـ ــا تن ـ ـس ـ ـ ـ ـك ـ ـهـ ـ ــا‬ ‫مـْن ِ‬
‫ـصـل ـ ـ ـ ٌ‬
‫ُ َ‬
‫يرسـ ـ ــل يف الـ ـ ـ ـب ـ ــر نفـس ـ ـ ــه ف ـ ـ ــإذا رامت سوى الرب ْفه َو ميسـكـها‬

‫‪ 1‬األنفال‪11 ،‬‬

‫‪413‬‬
‫اإلحسان‬

‫ـمس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـهـا‬‫ف ـ ـه ـ ــاك آثـ ـ ـ ـ ـ َـاره ـ ـ ــم فـ ـ ـ ـ ــإن هلـ ـ ـ ـ ـ ــا َمـآث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرا بالتـق ـ ـ ــى تَ ُّ‬
‫يا ط ـ ـ ــامع الن ـف ـ ــس يف َلــاقهـ ـ ـ ُـم ومهـ ـ ـ ــة الن ـفـ ــس ال تُـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـ ــركـ ـهـا‬
‫أعمــاهل ـ ــم بالقـبـ ـ ـ ــول صــاعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدة وأنت هت ـ ـ ِوي فكـيــف تـ ـ ــدركـ ـهـا‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـك‬ ‫ِ‬
‫ـادر ال َـمل ُ‬ ‫ـاد أفغـ ــانست ـ ــان شـ ـ َّـرفـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ا َمـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــزهُ اهللُ الـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫جهـ ـ ُ‬
‫امة أينمـا سل ُكـ ـ ـ ـ ـوا‬ ‫ـوث أفغانست ـ ـ ـ ــا َن رافَـقــهـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم نـ ـص ـ ــر الك ـ ـر ِ‬ ‫ل ـيـ ـ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قط ِمن عن ـ ــايتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـه ُسبح ــانـ ـ ــهُ نفح ـ ـةٌ فـََقـ ْد هل ُكـ ـ ـ ـوا‬ ‫َمـن فاهتـ ـ ـ ـ ـ ْـم ُّ‬

‫‪414‬‬
‫اإلحسان‬

‫االستدراج‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫﴿ربـَّنا الَ تـ َؤ ِ‬
‫اخ ْذنَا إِن نَّ ِسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا﴾‪.‬‬ ‫ََ ُ‬
‫ال إله إال اهلل العظيم احلليم‪ .‬ال إله إال اهلل رب العرش العظيم‪.‬‬
‫ال إله إال اهلل رب السماوات ورب األرض رب العرش الكرمي‪.‬‬

‫آصف بن برخيا اسم الرجل الذي أحضر لسليمان عليه السالم عرش امللكة‬ ‫َ‬
‫بلقيس‪ .‬كان عبدا صاحلا يعرف اسم اهلل األعظم‪ ،‬استخدم بركته يف خدمة نيب‬
‫اهلل لغرض ديين فاستحق الثناء من اهلل عز وجل‪ .‬وعبد آخر خمذول امسه بـَلَ َعم بن‬
‫باعوراء تعلم اسم اهلل األكرب ودعا به على نيب اهلل موسى عليه السالم فأخزاه اهلل‪،‬‬
‫َّ ِ‬
‫ي آتـَيـْنَاهُ‬ ‫وجعله مثال سيئا يُتلى يف القرآن‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬و َواتْ ُل َعلَْي ِه ْم نـَبَأَ الذ َ‬
‫ين َولَ ْو ِشئـْنَا لََرفـَْعنَاهُ بِ َها‬ ‫ِ‬ ‫انسلَ َخ ِمنـَْها فَأَتـْبـََعهُ َّ‬ ‫ِ‬
‫الش ْيطَا ُن فَ َكا َن م َن الْغَا ِو َ‬ ‫آيَاتنَا فَ َ‬
‫ث‬‫ْب إِن تَ ْح ِم ْل َعلَْي ِه يـَل َْه ْ‬ ‫ض َواتـَّبَ َع َه َواهُ فَ َمثـَلُهُ َك َمثَ ِل الْ َكل ِ‬ ‫ولَ ِ‬
‫ـكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى األ َْر ِ‬ ‫َ‬
‫ْح ْسنَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َس َماء ال ُ‬ ‫﴿وللّه األ ْ‬ ‫أ َْو تـَتـُْرْكهُ يـَل َْهث﴾‪ .‬بعد بضع آيات يقول تعاىل‪َ :‬‬
‫‪1‬‬

‫َس َمآئِِه﴾‪ 2.‬اإلحلاد يف أمسائه تعاىل هو امليل‬ ‫فَا ْدعُوهُ بِها و َذرواْ الَّ ِذ ِ ِ‬
‫ين يـُلْح ُدو َن في أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫هبا واالحنراف عنها‪ ،‬إما بتأويل الصفات اإلهلية تأويال معطال‪ ،‬وإما بذكر األمساء‬
‫احلسىن ابتغاء قضاء حوائج دنيا‪.‬‬
‫‪ 1‬األعراف‪175-176 ،‬‬
‫‪ 2‬األعراف‪180 ،‬‬

‫‪415‬‬
‫اإلحسان‬

‫السفل وإىل الدناءة واهلَلَكة‪.‬‬ ‫اإلحلاد يف أمساء اهلل باملعنيني احنراف وميل إىل ُّ‬
‫وكما أن املعجزات والكرامات معامل ودالئل على مراقي األنبياء واألولياء‪،‬‬
‫فاالستدراج‪ ،‬وهو ظهور اخلوارق على يد امللحدين يف أمسائه تعاىل أمثال بلعم‪،‬‬
‫دليل على مقت اهلل‪ .‬قال تعاىل يف إثر احلديث عن بلعم وعن اإلحلاد يف األمساء‬
‫ث الَ يـَْعلَ ُمو َن َوأ ُْملِي‬ ‫ين َك َّذبُواْ بِآيَاتِنَا َسنَ ْستَ ْد ِر ُج ُهم ِّم ْن َح ْي ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫احلسىن‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫جوه‬
‫وو َ‬ ‫ين﴾‪ .‬قال ابن كثري‪" :‬معناه أنه يفتح هلم أبواب الرزق ُ‬ ‫لَ ُه ْم إِ َّن َك ْيدي َمت ٌ‬
‫‪1‬‬

‫املعاش يف الدنيا حىت يغرتوا مبا هم فيه ويعتقدوا أهنم على شيء‪ ،‬كما قال تعاىل‪:‬‬
‫اب ُك ِّل َش ْي ٍء َحتَّى إِ َذا فَ ِر ُحواْ بِ َما‬ ‫ِ‬
‫سواْ َما ذُِّك ُرواْ بِه فـَتَ ْحنَا َعلَْي ِه ْم أَبـَْو َ‬‫﴿فـَلَ َّما نَ ُ‬
‫ِ ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْح ْم ُد‬
‫ين ظَلَ ُمواْ َوال َ‬ ‫سو َن فـَُقط َع َداب ُر الْ َق ْوم الذ َ‬ ‫اهم بـَغْتَةً فَإ َذا ُهم ُّم ْبل ُ‬‫أُوتُواْ أَ َخ ْذنَ ُ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫لِلّ ِه ر ِّ ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬
‫‪2‬‬
‫َ‬
‫الربخيون‪ ،‬أصحاب الكرامات يسخروهنا باحلق يف احلق‪ ،‬أولياء مهتدون‪،‬‬
‫والبلعميون خمذولون مستدرجون‪ ،‬ابتالهم اهلل بظهور اخلوارق على يدهم فزلَّت‬
‫أقدامهم وأبلسوا‪ .‬وإن هلل عز وجل أبواب فتح ألوليائه‪ ،‬خترج إليهم اهلداية من‬
‫باب ﴿إنا فتحنا لك﴾‪ ،‬وله عز وجل أبواب فتح على املستدرجني‪ ،‬خترج عليهم‬
‫اب ُك ِّل َش ْي ٍء﴾‪ .‬بني فتحنا لك وفتحنا‬ ‫البلية من باب ﴿فـَتَ ْحنَا َعلَْي ِه ْم أَبـَْو َ‬
‫عليهم تكمن حكمة اهلل البالغة اليت يتقابل فيها النظراء يف املظهر النقضاء يف‬
‫املخرب‪ .‬مع املفتوح هلم من أهل النور األولياء خوارق‪ ،‬ومع املفتوح عليهم من أهل‬
‫الظالم خوارق‪ .‬هؤالء ُم َبعدون ملعونون‪ ،‬وأولئك مقربون حمبوبون‪.‬‬
‫قال اإلمام الرفاعي قدس اهلل سره‪" :‬أي بين! اعلم أن اهلل تعاىل رمبا يزين‬

‫‪ 1‬األعراف‪183 ،‬‬
‫‪ 2‬األنعام‪44 ،‬‬

‫‪416‬‬
‫اإلحسان‬

‫أعداءه بلباس أصفيائه وأوليائه حىت إهنم يغرتون بصفاء األوقات‪ ،‬وحيسبون‬
‫‪1‬‬
‫أهنم من أهل الوالية‪ .‬فهذا من اهلل هلم استدراج"‪.‬‬
‫خمالفة اخلوارق للشريعة يف أهدافها وما ترمي إليه هي الدليل على َّأنا‬
‫من قبيل االستدراج‪ .‬وهي عندئذ إما شيطانية من أعمال اجلن‪ ،‬وإما نفسية‬
‫من مظاهر ال َـملكات اخلارقة اليت تكتسب بالرياضة‪ ،‬أو يُظهرها اهلل فيمن شاء‬
‫ابتداء وابتالء بال رياضة وال تعمل‪ .‬الكرامات إهلية ملكية قلبية‪ ،‬واالستدراجات‬
‫شيطانية نفسية شهوانية‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬وهو يتكلم يف املوضوع كالم خبري جمرب‬
‫مطلع‪" :‬اخلارق كشفا كان أو تأثريا‪ ،‬إن حصل به فائدة مطلوبة يف الدين كان‬
‫من األعمال الصاحلة املأمور هبا دينا وشرعا‪ .‬إما واجب وإما مستحب‪ .‬وإن‬
‫حصل به أمر مباح كان من نعم اهلل الدنيوية اليت تقتضي الشكر‪ .‬وإن كان‬
‫على وجه يتضمن ما هو منهي عنه هني حترمي أو هني تنزيه كان سببا للعذاب‬
‫أو البغض‪ ،‬كقصة الذي أويت اآليات فانسلخ منها‪ :‬بلعم بن باعوراء‪ .‬لكن‬
‫ٍ‬
‫الجتهاد أو تقليد‪ ،‬أو نقص عقل أو علم‪ ،‬أو َغلَبة‬ ‫قد يكون صاحبها معذورا‬
‫حال‪ ،‬أو عجز أو ضرورة‪.)...( .‬‬
‫قال‪" :‬والنهي قد يعود إىل سبب اخلارق‪ ،‬وقد يعود إىل مقصوده‪ .‬فاألول‬
‫يدعو اهلل للظامل باإلعانة‪ ،‬ويعينَه هبمته كخفراء العدو وأعوان الظلمة‬
‫مثل أن َ‬
‫‪2‬‬
‫من ذوي األحوال"‪.‬‬
‫"خفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي األحوال" يتبني ألهل هذا‬
‫من قوله‪ُ :‬‬

‫‪ 1‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.145-146‬‬


‫‪ 2‬الفتاوي ج ‪ 11‬ص ‪.319‬‬

‫‪417‬‬
‫اإلحسان‬

‫الفن ما عند الرجل من خربة دقيقة مبوضوعه‪ .‬فإن من الذاكرين واجملاذيب وأصحاب‬
‫اخلوارق طائفة ال تتقيد يف طلبها من اهلل بقيد‪ .‬وقد يدعو أصحاب األحوال بنصر‬
‫العدو‪ ،‬وقد يقفون هبمتهم املتيقظة جبانب الظلمة ضد ال ُـمصلحني من أمثال ابن‬
‫تيمية‪ .‬وإن سألت أيها األخ الكرمي ‪ :‬ملاذا؟ فجوابك يف قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن َك ْي ِدي‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َمت ٌ‬
‫‪1‬‬

‫ويغرت العامة ممن ال خربة هلم بأن َمكر اهلل خريٌ وكيده متني باخلوارق‬
‫مستدرجا‬
‫َ‬ ‫والتصرفات والتأثري باهلمة اليت تظهر على من يكون شيطانيا حمضا أو‬
‫بلعميا أو مرتيضا نفسيا‪ .‬قال شيخ اإلسالم‪" :‬وجتد كثريا من هؤالء ( املغرتين )‬
‫عُمد ُتم يف اعتقاد كونه وليا هلل أنه قد صدر منه مكاشفة يف بعض األمور‪ ،‬أو‬
‫بعض التصرفات اخلارقة للعادة‪ ،‬مثل أن يشري إىل شخص فيموت‪ ،‬أو يطري يف‬
‫اهلواء إىل مكة أو غريها‪ ،‬أو ميشي على املاء أحيانا‪ ،‬أو ميأل إبريقا من اهلواء‪،‬‬
‫أو يُنفق بعض األحيان من الغَيب‪ ،‬أو خيتفي أحيانا عن أعني الناس‪ ،‬أو أن‬
‫بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه جاءه فقضى حاجته‪ ،‬أو‬
‫‪2‬‬
‫خيرب الناس مبا ُسرق هلم‪ ،‬أو حبال غائب هلم أو مريض"‪.‬‬
‫إن الظواهر اخلارقة‪ ،‬ما بني شيطانية جنية وما بني نفسية رياضية‪ ،‬متأل‬
‫حيزا واسعا من حياة الناس يف عصرنا‪ ،‬وحيزا أوسع من اهتماماهتم وعقائدهم‪.‬‬
‫فاملصابون باجلنون الذين اعتدى عليهم جين‪ ،‬يعمل يف حرفته اإلجرامية مفردا أو‬
‫مع عصابة شيطانية منظمة‪ ،‬يُهرعون إىل العرافني والعرافات لالستشفاء‪ ،‬فيسقطون‬
‫يف األحضان الشيطانية سقوطاكليا‪ .‬وقدكان ابن تيمية رمحه اهلل خبريا بصرع اجلن‬

‫‪ 1‬األعراف‪183 ،‬‬
‫‪ 2‬الفرقان ص ‪.61‬‬

‫‪418‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقهرهم‪ ،‬صرعُهم بالقرآن والذكر سنة وعمل صاحل ودفاع عن املظلومني‪ ،‬والتفاوض‬
‫معهم يف ردهات العرافني بِ ْدعة وغواية وتورط فظيع‪ ،‬وال يزداد اجلن العادي إال‬
‫عدوانا‪.‬‬
‫منذ حنو مائة سنة ظهرت يف أوربا حفالت ما يسمى باستحضار األرواح‪.‬‬
‫وشاعت هذه البدعة وذاعت‪ ،‬واشتغل مبمارستها ودراستها هواة متخصصون‬
‫ين‬
‫وحباثون‪ .‬وما هي إال لعبة عصرية من أالعيب شياطني اجلن‪ ،‬يوهم القر ُ‬
‫الشيطاين ورثَة امليت "املستحضر" أنه هو روح ميتهم ويُديل إليهم مبا يعرفه من‬
‫حال امليت من دقائق وأسرار فيقنعهم برباهني واقعية أنه هو‪ ،‬حىت أنه ليكتب هلم‬
‫خطا مثل خطه‪ ،‬أو ينشدهم شعرا مثل شعره كما وقع يف مصر يف سنة ‪1949‬‬
‫من تاريخ النصارى‪ ،‬حني أملى قرين جين على امرأة تسمى بديعة قصائد طنانة‬
‫هي أشبه شيء بشعر شوقي رمحه اهلل‪ .‬واملرأة ال ثقافة معها وال معرفة بالشِّعر‪.‬‬
‫عمره‪ ،‬يالزمه ويطلع على‬ ‫وجود القرين اجلين الذي يعيش مع كل آدمي َ‬
‫كل أحواله مث ميوت اآلدمي ويعيش اجلين قرونا بعده‪ ،‬يفسر جانبا كبريا من‬
‫الغرب إىل املوائد الدَّقاقة‬
‫النشاط الشيطاين الذي يُقعد الناس يف الشرق و ْ‬
‫يستمعون إىل "الوسيط" وهو يرتجم هلم كالم "الروح" املتسكعة‪ ،‬أو حيسبون‬
‫النَّقرات وجيمعون احلروف ليتلقوا "برقية عامل الغيب" يف إخراج مثري يتقنه‬
‫الشياطني دائما‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعلمنا ديننا‪" :‬ما منكم من أحد‬
‫إال وقد وكل به قرينه من اجلن وقرينه من املالئكة"‪ .‬قالوا‪ :‬وإياك يا رسول اهلل؟‬
‫قال‪" :‬وإياي! ولكن اهلل أعانين عليه فال يأمرين إال حبق"‪ .‬رواه أمحد ومسلم‬
‫عن عبد اهلل بن مسعود‪.‬‬
‫أخطر من لعب القرناء باملستدرجني من كل صنف‪ ،‬وأخطر من الرهبنة‬
‫ُ‬
‫‪419‬‬
‫اإلحسان‬

‫النصرانية‪ ،‬دعوة "الروحانية" اهلندية اهلندوسية‪ .‬عرفت هذه اهلََو ِسية م ّدا واسعا‬
‫ٍ‬
‫عجيبة‪ ،‬ومبا يبعثونه يف‬ ‫وشهرة عاملية مبا يظهره رهباهنا املتزهدون من خوارق‬
‫آمال يف نعمة اهلدوء النفسي‬ ‫نفوس الغرب املادي املتعطش للروحانية من ٍ‬
‫والطمأنينة اليت تصبو إليها الفطرة البشرية‪ ،‬واليت ال حتصل إال بذكر اهلل بعد‬
‫الدخول يف اإلسالم وتعلم اإلميان‪.‬‬
‫ظهر يف القرن املاضي يف اهلند جمددكبري لديانتهم الوثنية امسه "راماكرشنا"‪.‬‬
‫الع ْون‬
‫قال عنه غاندي‪" :‬إنه َمثَ ٌل للعقيدة احلية الساطعة اليت حتمل يف طياهتا َ‬
‫والقوة آلالف من الرجال والنساء لواله لظلوا حمرومني من النور الروحي"‪.‬‬
‫يدعو راما كرشنا وغاندي يف أثره وأشياعه من بعده إىل توحيد األديان‪،‬‬
‫ألن كل األديان العظمى يف زعمهم تنتهي‪ ،‬بواسطة طرق متباينة‪ ،‬إىل إله واحد‪.‬‬
‫هذه الدعوة الظلمانية فتح اهلل على أتباعها من يوكيني ومتزهدين أبواب‬
‫حيي العقول ويبهر الناظرين‪ .‬ومع بضاعة االستدراج اخلارقة يقدم‬
‫كل شيء مما ِّ‬
‫دعاة راما كرشنا‪ ،‬الذي أصبح امسه ُهتافا عاليا يف شوارع العواصم العاملية‪،‬‬
‫طَبَقاً مسموما‪ ،‬هو طبق وحدة الوجود الوثنية‪ .‬قال كرشنا‪" :‬اخرت لنفسك أي‬
‫اسم‪ ،‬واخرت من صور اهلل وأشكاله وألوانه أية صورة وأي شكل وأي لون‪،‬‬
‫واعبد اهلل فهو يف كل شيء"‪.‬‬
‫إىل جانب "الروحانية" اهلندية‪ ،‬واحلفالت القرينية‪ ،‬والزار‪ ،‬والسحر‪،‬‬
‫والعرافة‪ ،‬يبدو وكأنَّهُ ُ‬
‫لعب أطفال ما ُولع به الغربيون يف أمريكا وأوروبا‪ ،‬وما‬
‫ختصص فيه الروس املالحدة أنفسهم‪ ،‬من أحباث يف "الباراسيكولوجيا"‬
‫و"التلبايت" و"التلكنزيا" وغريها من الظواهر اليت ال حيصيها العد نوعا وال كما‪.‬‬
‫يهتم الغرب‪ ،‬ويتسابق مع روسيا‪ ،‬ملعرفة األسباب اخلفية وراء انتقال األشياء من‬
‫مكان إىل آخر دون أن َيَ َّسها أحد‪ ،‬وانفتاح النوافذ‪ ،‬وانطفاء األضواء‪ ،‬وظهور‬

‫‪420‬‬
‫اإلحسان‬

‫أشباح يف أماكن معينة‪ ،‬وارتفاع أشخاص يف اهلواء‪ ،‬وقراءة بعض الناس بأصابع‬
‫اليد بدل العني‪ ،‬وقراءة بعض الناس أفكار اآلخرين‪ ،‬والتنومي املغناطيسي‪ ،‬ورؤية‬
‫اخلفايا‪ ،‬ومسع ما ال ميكن لإلنسان العادي أن يسمعه‪ ،‬ورهافة احلواس حىت إهنا‬
‫حيسبون‬
‫لتدرك ما ال تدركه إال اآلالت اإللكرتونية‪ ،‬والنبوغ املبكر اخلارق عند أطفال ُ‬
‫ُّث‬
‫أسرع من احلاسوبات اإللكرتونية ويدخلون اجلامعة يف اخلامسة من العمر‪ ،‬وحتد ُ‬
‫بعض الناس بلغات ميتة أو حية دون سابق تعلم‪ ،‬والصحون الطائرة إخل‪.‬‬
‫فتح اهلل أبوابكل شيء على امللحدين يف أمسائه‪ ،‬املستدرجني إىل حيث يعلم‬
‫هو وحده‪ .‬العقالنية املخرتعة املنظّمة حتاول أن ُتكم قبضتها على ما يستعصي قبضه‬
‫ويستحيل‪ .‬معاهد للبحث العلمي املتخصص‪ ،‬وجبال من املعطيات‪ ،‬وإحصائيات‬
‫ص ِّوب‪ .‬والقوم جادون كل اجلد يف أحباثهم‪ ،‬ينفقون‬‫ترتاكم‪ ،‬ومناهج تكتشف وتُ َ‬
‫على مشاريع هذه العلوم‪ ،‬اليت يستحدثون لتسميتها قاموسا جديدا‪ ،‬بسخاء‪ ،‬رجاء‬
‫سر ميكن استعماله‪ ،‬يعطي تفوقا اسرتاتيجيا‪.‬‬
‫أن يسبقوا إىل ّ‬
‫قال سام هبمته إىل منازل املكرمني مع أهل النور‪:‬‬
‫إىل معـامل أهـل الفضـل والدين‬ ‫كـم يف البـرية من سـام هبمتـ ـ ـ ه‬
‫على األس َّـرة يف كـل األحـ ــايني‬ ‫ويف البواطـن أن ـوار تلــوح هل ـ ـ ــم ‬
‫عـاينت ظـاهر أقـوام مسـاـ ـكـني‬ ‫هم الذين إذا عـاينت ظاهـرهم ‬
‫فيمـا تنـاقـل أربـ ـ ـ ــاب ال ّدواوي ـ ــن‬ ‫تقرهب ــم ‬ ‫غرائب العلم جتىن من ُّ‬
‫خريُ املسـري على خري القوان ــني‬ ‫َز َّج ْوا بفـقـرهم أنفـاس عمـره ــم ‬
‫الدرهم ُتْـبَـا يف اهلم ـ ـ ـ ـ ــايني‬
‫ُ‬ ‫وال‬ ‫املطاعم ُتىن يف مسـاكنهم ‬ ‫ُ‬ ‫فال‬
‫مـ ـ ــع املسي ـ ـ ــح لتـنـويـ ـ ــه وتعيـيـ ــن‬ ‫ويبـعثـون إذا قـام العبـاد مـعـ ـ ـ ـ ــا ‬
‫مـ ــن القـب ــور ل ــدار اخلَُّـرِد العـيـن‬ ‫أكفهـم ‬ ‫عفـت ُّ‬ ‫ال يُسـألـون وقد َّ‬

‫‪421‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقلت‪:‬‬

‫بالتخصيص والن ِ‬
‫َّسب‬ ‫ِ‬ ‫ـاهم اللّه‬ ‫ِ ِ‬
‫َحب ـ ُ‬ ‫السبـق وال ُقـرب ‬
‫أهل َّ‬‫أهل الوالية ُ‬ ‫ُ‬
‫فازوا بنيــل عظي ــم ال َقص ـ ِـد و ِ‬
‫األرب‬ ‫السـابِقـ ــو َن ُهـ ـ ُـم واملفلحـ ـ ــو َن هم ‬
‫ـاف َســافِلُــو ُّ‬
‫الرتَـ ِ‬
‫ـب‬ ‫واألدعيــاءُ كِسـ ٌ‬ ‫هم سيمـ ــاءَ ِصدقهم ‬ ‫ـوح أن ـ ـو ُار ْ‬
‫تلـ ـ ُ‬

‫‪422‬‬
‫اإلحسان‬

‫شعب اإليمان‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫﴿ربـَّنَا َوالَ تَ ْح ِم ْل َعلَيـْنَا إِ ْ‬
‫صراً َك َما َح َملْتَهُ َعلَى‬ ‫َ‬
‫ين من قـَْبلنَا﴾‪ .‬اهلل‪ ،‬اهلل ريب ال أشرك به شيئا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ا لذ َ‬

‫الكينونة مع الصادقني اليت حرض عليها القرآن الكرمي هي ُمدخل الصدق‬


‫إىل سكة السلوك‪ .‬هي الطابع على جواز السفر مبداد التقوى‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬يَا‬
‫ين﴾‪ 1.‬اهلل تعاىل صادق يف‬ ‫أَيـُّها الَّ ِذين آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ وُكونُواْ مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫كالمه‪ ،‬صادق يف وعده‪ ،‬صادق يف أمره وهنيه‪ ،‬واملبلغون عنه من رسل وأمناء‬
‫ص َّد َق بِ ِه أ ُْولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫صادقون‪﴿ .‬قُل ص َد َق اللّهُ﴾‪﴿ 2.‬والَّ ِذي جاء بِ ِّ ِ‬
‫الص ْدق َو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ال ُْمتـَُّقو َن﴾‪ 3.‬فما مينعك من التماس الطريق إىل اهلل يف معيّتهم لتعرف سابقتك‬
‫مور التقوى وتقلُّص اهلمة‪ .‬إن اهلل عز وجل أمر‬ ‫وض ُ‬ ‫ول اإلميان ُ‬ ‫عند اهلل إال ُنُ ُ‬
‫رسوله صلى اهلل عليه وسلم بتبليغ املؤمنني كافة بالبشرى العظيمة حيث قال‪:‬‬
‫ص ْد ٍق ِعن َد َربِّ ِه ْم﴾‪ .4‬مث نوع لك أسلوب‬ ‫َن لَ ُهم قَ َدم ِ‬
‫آمنُواْ أ َّ ْ َ‬ ‫ين َ‬
‫﴿وب ِّ َّ ِ‬
‫ش ِر الذ َ‬ ‫ََ‬
‫اخلطاب والتشويق فوصف لك منزل الصادقني يف قوله عز من قائل‪َّ ﴿ :‬‬
‫ِن‬
‫ٍِ ‪5‬‬ ‫ص ْد ٍق ِعن َد ملِ ٍ‬
‫يك ُّم ْقتَدر﴾‪.‬‬ ‫َّات ونـ َه ٍر فِي م ْقع ِد ِ‬
‫ٍ‬ ‫الْمت َِّق ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ين في َجن َ َ‬ ‫ُ َ‬
‫‪ 1‬التوبة‪119 ،‬‬
‫‪ 2‬آل عمران‪95 ،‬‬
‫‪ 3‬الزمر‪33 ،‬‬
‫‪ 4‬يونس‪2 ،‬‬
‫‪ 5‬القمر‪54-55 ،‬‬

‫‪423‬‬
‫اإلحسان‬

‫خطاب مفتوح مشرق‪ ،‬ما مينعك من االستجابة له واهلبَّ ِة على ندائه‪،‬‬


‫وجود عوائق يف نفسك‪ ،‬يف عقلك‪ ،‬يف معدنك‪ ،‬يف‬ ‫واليقظة واإلسراع والتلبية إال ُ‬
‫سابقتك‪ .‬وتسمع أولياء اهلل يسألونك‪ :‬ما امسك يف عامل امللكوت؟ يلخصون‬
‫لك التشويق القرآين والتبشري لعلك تفهم وتغضب وتغار من تبكيت األمثال‬
‫من بين البشر إن كان وعد اهلل وبشارة رسول اهلل ال يكفيان إليقاظك وبعثك‪.‬‬
‫وقفنا يف هذا الفصل عند العوائق املانعة احلاجزة املثقلة عن السري‪ .‬وقفنا عند‬
‫احملطة السفلى واالحنطاط األرذل‪ :‬النفاق‪ .‬وقرأنا أن الصحبة هي املفتاح للخروج من‬
‫قفص الريبة إىل طمأنينة الصدق‪ .‬ما دمت تصحب مرتابني يف أنفسهم‪ ،‬شاكني‬
‫يف وعد رهبم وبشارة نبيهم فمن أين يأتيك هاجس طلب اهلل‪ ،‬مث رائد إرادة اهلل‪ ،‬مث‬
‫باعث التوجه إىل اهلل‪ ،‬مث دافع السري إىل اهلل؟ من أين يأتيك اإلخالص إن مل تعاشر‬
‫ايات إرادتك أوهام‬ ‫تقصف ر ِ‬ ‫خملصني ؟ من أين هتب عليك نسائم القرب إنكانت ِ‬
‫ُ‬
‫مسع فطرتك نياهتم الواهية‪ ،‬ومقاالهتم اخلالية؟‬ ‫تصك َ‬ ‫املرتددين‪ ،‬و ُّ‬
‫الصدق هو املنزلة العظمى‪ ،‬ويستخلص اهلل عز وجل الصادقني من‬
‫مهاوي اخلطإ وسواحق الضالل‪ ،‬يشفع هلم صدقهم هنا كما يشفع هلم هناك‬
‫َّات‬
‫ص ْدقـُُه ْم لَ ُه ْم َجن ٌ‬ ‫ادقِين ِ‬ ‫ال اللّهُ َه َذا يـوم ين َفع َّ ِ‬
‫الص َ‬ ‫َْ ُ َ ُ‬ ‫يف الدار اآلخرة‪﴿ .‬قَ َ‬
‫ضواْ َع ْنهُ‬
‫ض َي اللّهُ َعنـْ ُه ْم َوَر ُ‬‫تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِ َها األَنـَْهار َخالِ ِدين فِ َيها أَبداً َّر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫َذلِ َ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ك الْ َف ْوُز ال َْعظ ُ‬
‫‪1‬‬

‫فحري أن يكون أساس بنائك وطيدا‪ ،‬وأن‬ ‫إن كانت أرضية إميانك متينة ٌّ‬
‫تعلو غُُرفاته آمنة شاخمة‪ .‬ال تدع خالف املختلفني ينحط بك إىل دركات التنابز‬ ‫َ‬
‫باأللقاب‪ .‬تلطف للناس‪ ،‬ودع عنك الوسواس اخلناس‪ .‬تلق من اهلل عز وجل ومن‬
‫رسوله بالرضى والقبول والتسليم ما جاءك من خرب الذات واألمساء‪ ،‬ال يتعثر عقلك‬
‫‪ 1‬املائدة‪119 ،‬‬

‫‪424‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف مطالب االستدالل وال تتنكر لفطرتك اليت تسمع آيات اهلل فتخضع وختشع‪.‬‬
‫كن بقلبك مع ربك تذ ُكُره‪ ،‬كن مع آياته فيك ال مع األكوان ومن فيها‪ .‬اإلميا َن‬
‫اإلميا َن! اإلحسا َن اإلحسا َن! اإليقا َن بربهان العقل يف جماالت العقل‪ ،‬ينضوي‬
‫العقل وبرهانه يف نور اجلَنان‪ .‬واسأل اهلل أن يفتح لك ال عليك‪.‬‬
‫ركائز اإلميان يف خصلة الصدق عددهتا يف تصنيفي لشعب اإلميان إحدى‬
‫عشرة ركيزة‪ :‬اإلميان باهلل عز وجل وبغيبه‪ ،‬وهي حتقيق شهادة أن ال إله إال اهلل‬
‫اليت ينطق هبا لسان املسلم وينعقد عليها قلب املؤمن فتكون هي َّقوتَه‪ ،‬منها‬
‫طعامه وشرابه‪ .‬اإلميان بالغيب يتضمن اإلميان باملالئكة والكتب والرسل والقدر‬
‫خريه وشره‪ .‬مث ركيزة اإلميان باليوم اآلخر‪ ،‬مث النية واإلخالص‪ ،‬مث الصدق‪ ،‬مث‬
‫النصيحة‪ ،‬مث األمانة والوفاء بالعهد‪ ،‬مث سالمة القلب‪ ،‬مث اهلجرة إىل اهلل ورسوله‪،‬‬
‫مث نصرهتما‪ ،‬مث الشجاعة‪ ،‬مث تصديق الرؤيا الصاحلة وهي عاجل بشرى املؤمن‬
‫أجل الكرامات‪.‬‬
‫َووحي اهلل املنامي لعباده الصاحلني كرامةً من ِّ‬
‫كائزه‪ ،‬وقد يكون العلم مبا هو الصدق‬‫هذه الصفحات وصفت الصدق ور َ‬
‫خطوًة فكرية‪ .‬ولكن من أين لنا حال الصدق وحقيقته إن كان "نقد الوقت"‪،‬‬
‫أي العملة الرائجة‪ ،‬هو مزيج من اإلسالم السياسي واإلسالم الثقايف واإلسالم‬
‫السطحي الذي يفكر وال يتفكر؟‬
‫إن طبيعة اجلماعات اإلسالمية املنفتحة على كل وارد‪ ،‬القابلة للعابد وغري‬
‫العابد‪ ،‬أن جيتمع يف ثكناهتا وأجهزهتا خمزون فكري حيصل من مسامهة الكل‪،‬‬
‫إجايل هو حصيلة تضاغط الكل‪ ،‬وأن تتناصر‬ ‫وأن ينصب علىكل عضو ضغط ْ‬
‫اجلهود أو تتخاذل أو تتناقض من جراء تفاوت املدارك‪ ،‬وتباين املشارب‪ ،‬وتباعد‬
‫مرمى اهلمم‪ ،‬ومأخذ هؤالء وأولئك من النقل والعقل واإلرادة‪ .‬املفاهيم عائمة‪ ،‬ال‬
‫سيما مفاهيم الصحبة واجلماعة والذكر والصدق‪.‬‬

‫‪425‬‬
‫اإلحسان‬

‫طلب الكمال‪ ،‬والطموح إىل الوالية‪ ،‬وإرادة القرب من اهلل‪ ،‬وصدق طلب‬
‫وجه اهلل قضايا ضائعة‪ ،‬ضائع من له هبا علم واطالع‪ ،‬أو شوق وتوق‪ .‬غطى‬
‫على هذه املعاين النفيسة واملطالب الرئيسة اإلسالم الثقايف النضايل امللتحم بالواقع‬
‫التحاما يوميا‪ ،‬من حماضرة حملاضرة‪ ،‬ومن جريدة جمللة‪ ،‬ومن كتاب لكتاب‪ .‬وأنت‬
‫قد فرغت من تصنيف نفسك يف املربَّع السلفي أو اإلخواين أو صنفوك وعنفوك‪.‬‬
‫مطمح‬
‫حجبت مدرسة املعرفة‪ ،‬ومجاعة االنتماء‪ ،‬وإرادة القيادة ومهام التنظيم َ‬
‫ط موروث من خالفيات أمس‪ ،‬وضغط متوالد من‬ ‫ض ْغ ٌ‬
‫اإلميان ومرتقى اإلحسان‪َ .‬‬
‫أمحال اليوم‪ .‬والنية اليت هي رأس السهم‪ ،‬وبُراق الرتقي ال ختلُص للهجرة إىل اهلل‬
‫ورسوله والظن احلسن باهلل‪ ،‬وتصديق اهلل‪ ،‬والصدق مع اهلل‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إمنا األعمال بالنيات‪ ،‬وإمنا لكل امرئ‬
‫ما نوى‪ .‬فمن كانت هجرته إىل اهلل ورسوله فهجرته إىل اهلل ورسوله‪ .‬ومن كانت‬
‫هجرته إىل دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إىل ما هاجر إليه"‪ .‬متفق عليه من‬
‫حديث عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫هذا احلديث العظيم الذي يعدُّه العلماء ركنا من أركان الدين ينبغي أن‬
‫نستـَْعمله امتحانا لنياتنا وسط اجلماعة‪ .‬فإن تضافرت األسئلة الصادقة امللتهبة‬
‫تتحول‬‫رغبة يف اهلل من كل جانب يف اجلماعة‪ ،‬وتكاثرت‪ ،‬وأمسعت‪ ،‬يوشك أن ُ‬
‫َ‬
‫روح اجلماعة‪ ،‬إن وجدت مصحوبا خليال كامال أو مصحوبني‪ ،‬من عدم‬
‫االكرتاث بالكمال الروحي وطلبه‪ ،‬إىل مساع‪ ،‬إىل اهتمام‪ ،‬إىل إرادة‪ ،‬إىل عزم‪،‬‬
‫إىل مهة متلهفة حيىي هبا وعليها أهل السابقة الذين يذكرون اهلل فيذكرهم اهلل‪،‬‬
‫ويصدقونه فيصدقهم‪ ،‬وحيبونه فيحبهم‪ ،‬ويتقربون إليه بالفرض والنفل مع نية‬
‫حاضرة‪ ،‬وا ِرد ٍة عليه سبحانه ِ‬
‫صادرة‪ .‬واهلجرة إىل اهلل ورسوله سنة ماضية إىل‬ ‫َ َ‬
‫يوم القيامة‪ .‬انتهى عهد اهلجرة من مكة األوثان إىل مدينة القرآن‪ ،‬وبقي اجلهاد‬

‫‪426‬‬
‫اإلحسان‬

‫والنية‪ ،‬كما قال عبد اهلل بن عمر‪" :‬ال هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"‪.‬‬
‫هاك صفحة رائعة من صفحات العلم باهلجرة إىل اهلل ورسوله والوصف‪،‬‬
‫صادق وامق‪ ،‬بلغ اهلل هذا النداء آذانا واعية‪ ،‬وفِطرا إىلكماهلا ساعية‪.‬‬
‫يتضمن نداء ٍ‬
‫قال اإلمام عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬املرائي ثوبه نظيف وقلبه َِنس‪ .‬يزهد يف املباحات‬
‫ويكسل عن االكتساب‪ ،‬ويأكل بدينه وال يتورع مجلة‪ .‬يأكل احلرام الصريح‪.‬‬
‫ُيفي أمره على العوام وال خيفى أمره على اخلواص (أصحاب الكشف)‪ .‬كل‬
‫زهده وطاعته على ظاهره‪ .‬ظاهره عامر وباطنه خراب‪ .‬ويلك! طاعة اهلل عز وجل‬
‫بالقلب ال بالقالب وحده‪ .‬كل هذه األشياء تتعلق بالقلوب واألسرار واملعاين‪.‬‬
‫آخ َذ لك من احلق عز وجلكسوة ال تبلى‪ .‬اخلع أنت حىت‬ ‫تعر مما أنت فيه حىت ُ‬
‫َّ‬
‫يكس َو َك هو‪ .‬اخلع ثياب توانيك يف حقوق اهلل عز وجل‪ .‬اخلع ثياب وقوفك مع‬ ‫ُ‬
‫اخللق وشركك هبم‪ .‬اخلع ثياب الشهوات والرعونات والعُ ْجب والنِّفاق‪ ،‬وحبِّك‬
‫للقبول عند اخللق‪ ،‬وإقباهلم عليك‪ .‬وعطاياهم لك‪ .‬اخلع ثياب الدنيا والبس ثياب‬
‫اآلخرة‪ .‬اخنلع من حولك وقوتك ووجودك‪ ،‬واستطرح بني يدي احلق عز وجل بال‬
‫حول وال قوة وال وقوف مع سبب‪ ،‬وال شرك بشيء من املخلوقات‪.‬‬
‫تأتيك‪ ،‬رمحتَه جتمعك‪ ،‬ونعمتَه ومنَّتَه‬
‫"فإذا فعلت هذا رأيت ألطافه حواليك َ‬
‫ب إليه‪ ،‬انقطع إليه عريانا بال أنت وال غريك‪ .‬سر إليه‬
‫اهر ْ‬
‫تكسوك وتضمك إليها‪ُ .‬‬
‫منقطعا منفصال عن غريه‪ .‬سر إليه متفرقا مفارقا حىت جيمعك ويوصلك بتقوى‬
‫ظاهرك وباطنك (‪.)...‬‬
‫اخللق بيد توحيده‪ ،‬وأفىن الدنيا بيد زهده‪ ،‬وأفىن ما سوى‬
‫"من أفىن َ‬
‫ربه بيد الرغبة فقد استكمل الصالح والنجاح‪ِ ،‬‬
‫وحظ َي خبري الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫عليكم بإماتة نفوسكم وأهويتكم وشياطينكم قبل أن متوتوا‪ .‬عليكم باملوت‬

‫‪427‬‬
‫اإلحسان‬

‫اخلاص قبل املوت العام‪.‬‬


‫"يا قوم! أجيبوا‪ ،‬فإين داعي اهلل عز وجل‪ ،‬أدعوكم إىل بابه وطاعته‪ ،‬ال‬
‫أدعوكم إىل نفسي‪ .‬املنافق ليس يدعو اخللق إىل اهلل عز وجل‪ .‬هو داع إىل نفسه‪.‬‬
‫هو طالب احلظوظ وال َقبول‪ ،‬طالب الدنيا‪.‬‬
‫"يا جاهل! ترتك مساع هذا الكالم وتقعد يف صومعتك مع نفسك وهواك!‬
‫حتتاج أوال إىل صحبة الشيوخ وقتل النفس والطبع وما سوى املوىل عز وجل‪ .‬تلزم‬
‫ُد َورهم‪ ،‬أعين الشيوخ‪ ،‬مث بعد ذلك تنفرد عنهم وتلزم صومعتك وحدك مع احلق‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫"فإذا متَّ هذا لك صرت دواء للخلق‪ ،‬هاديا مهديا بإذن احلق عز وجل‪.‬‬
‫أنت لسانك وِرع وقلبك فاجر! لسانك حيمد اهلل عز وجل وقلبك يعرتض عليه!‬
‫زهد َك على ظاهرك‪،‬‬
‫ظاهرك مسلم وباطنككافر! ظاهرك موحد وباطنك مشرك! ُ‬
‫دينك على ظاهرك‪ ،‬وباطنك خرابكبياض على ْبيت املاء‪ٍ ،‬‬
‫وقفل على مزبلة! إذا‬
‫كنت هكذا خيم الشيطان على قلبك وجعله مسكنا له‪ .‬املؤمن يبتدىء بعمارة‬
‫‪1‬‬
‫باطنه مث يشتغل بعمارة ظاهره"‪.‬‬
‫كل كالمه رمحه اهلل يفسر "إمنا األعمال بالنيات"‪.‬‬
‫وقال اإلمام الرفاعي رمحه اهلل‪" :‬أي سادة! إياكم والدجالية! إياكم والشيطانية!‬
‫إياكم والطرق اليت تقود إىلكال الوصفني! أخجلوا الشيطان خبالص اإلميان! خربوا‬
‫‪2‬‬
‫بِيَع الدجل بيد الصدق"‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.44-45‬‬


‫‪ 2‬الربهان املؤيد ص ‪.58‬‬

‫‪428‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال ويل ورد ووصل فناداك من هناك وأدىل لك بشهادته‪:‬‬

‫فاشهـد هبا حق الشهـادة واقطــع‬ ‫لألولـي ـ ـ ــاءمن ـ ـ ـ ــاقـ ـ ــبمش ـه ـ ــورة ‬


‫فاشدد يديك على احلسام األقطـع‬ ‫ورد الكت ــاب هبــا وسنـ ـ ــة أمح ـ ـ د‬
‫خــرق العـ ـوائــد ممكــن ال سيمــا يف حـق أصحــاب املقــام األرف ـ ــع‬
‫أى ال يغيـب ومسمـ ـ ـ ــع‬ ‫منهـم مب ـر ً‬ ‫قــومف ـرائـضـهـمومنــدوبـ ــاتـه ـ ـ ـ ــم ‬
‫وعيـوهنم ُت ـ ـ ـ ــري عي ـ ــون األدم ـ ــع‬ ‫قطعـوا الظــالم تــأمــال ومتـلـمـ ـ ــال ‬
‫وتس ــارعوا حن ــو املدى ووراءهـم مـنـي ومـ ـنـ ـ ــكك ـ ـ ـو ِاد ٌن مل تُسـ ـ ــرع‬
‫ـت ِر َّ‬
‫ي امل ْشـ ـ َـرع‬ ‫َ‬ ‫وحـ ِرْم‬
‫عن غـريهم ُ‬ ‫وردوا حب ــار مـواهـب خمـت ــوم ـ ـ ـ ـ ـ ــة ‬
‫َ‬
‫لكـن نزعـت خــالف ذاك املنـ ــزع‬ ‫لوكـنت مثـلهـم لـنـلــت منــاهلـم ‬
‫ص ُّي بِِطْــوع؟!‬ ‫أتقيـس نفســك يا جبان بِ ِـم ْق َدم أتقيس نفسـك يا ع ِ‬
‫َ‬
‫ومن احملال مع التف ــاوت أن يُرى ماضي اجلنان مع اجلبـان مبوضـع‬
‫سـب ـقـ ــوك أي ـ ــام البط ـ ــالـة فـارجـ ــع!‬ ‫ال تسم ـ َـو ّن ويف الـفـعــال َمَطَّـ ـةً ‬
‫قس ٌم خيص هبا السـريـع إىل التُّقـى لوكنـت مـن أصحـاهبـم مل متنـ ـ ــع‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫إن مل تُعــأيـن يف البطــالة مفلح ــا أص ْـخ بقلبـك قبـل أذنـك وامسـ ـ ــع‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـطع‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫ـت اله أق ـ ُ‬ ‫ـس نـَْف َس ــك باأل َُل نالوا ال ُـمىن عنـ ــد ال َـملي ـ ــك وأن ـ َ‬ ‫أتَقيـ ُ‬
‫ـني وصـ َّـدقـ ـ ـ ـوا ببشائـ ــر احلُسـ َـن هلـ ــم وتســارعُـ ـ ـوا‬ ‫لَبـَّْوا ن ــداءَ ال ُـمرسل ـ ـ َ‬
‫ـوي تَ ْسمـ ـ ُـع‬ ‫وعبِثْــت أي ــام البِطـ ــالـ ـ ـ ـ ــة العبـ ـ ـا ِمن ُكـ ـ ِّـل شيط ـ ٍ‬
‫ـان غـ ـ ـ ٍّ‬ ‫َ َ َ‬

‫‪429‬‬

‫الفصل السادس‬
‫البذل‬
‫الذئبان الجائعان‬ ‫‪ ‬‬
‫الزهد والورع‬ ‫‪ ‬‬
‫التوكل‬ ‫‪ ‬‬
‫الشكر والبذل‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫البِ ــر‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫العــدل‬ ‫‪ ‬‬
‫التقلل والترف‬ ‫‪ ‬‬
‫التواضع‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫طالق الدنيا واآلخرة‬ ‫‪ ‬‬
‫الفقر إلى اهلل عز وجل‬ ‫‪ ‬‬
‫شعب اإليمان‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫اإلحسان‬

‫الذئبان الجائعان‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫﴿ربـَّنَا َوالَ تُ َح ِّملْنَا َما الَ طَاقَةَ لَنَا بِ ِه﴾‪.‬‬
‫َ‬
‫حسيب اهلل‪ .‬ال إله إال هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم‪.‬‬

‫يف الفصول السابقة كنا نرمق طالب احلق من وجهة صلته باهلل حني‬
‫يذكره ويدعوه ويستغفره وحيبه ويتقرب إليه‪ ،‬وحني يصحب من يدله على اهلل‬
‫ويتحبب إليه ويستمع إليه ليتعلم اإلميان قلبُه من قلبِه‪ ،‬وحني يصدق يف نيته‬
‫وخيلص وخيطو خطاه على سواء الصواب‪.‬‬
‫يف هذا الفصل والفصول الالحقة نعترب طالب احلق وهو يصارع النوازع‬
‫ص سريه وتغلبه على وجهه‪ ،‬يريد‬ ‫النفسية االجتماعية اليت تك ّدر صفوه وتُ َـع ِّو ُ‬
‫هو اهلل وتريده الدنيا والنفس والشيطان لغري اهلل‪.‬‬
‫نعرف صدق السالك من بذله للدنيا‪ ،‬أي من إعطائه ما يف يده من جاه‬
‫ومال ابتذاال للدنيا واستهانة هبا يف جنب اآلخرة مث يف جنب اهلل‪ .‬نعرف صدقه‬
‫من إخالصه وتقواه وجمانبته املباهاة يف طلب العلم‪ .‬نعرف صدقه من إخالص‬
‫عمله مبقتضى علمه‪ ،‬نعرفه من مسته‪ ،‬من تؤدته‪ ،‬من اقتصاده‪ ،‬من جهاده‪.‬‬
‫ظان لسفك مروءة‬ ‫يف شوط البذل يطلع علينا وجهان من وجوه الشر يـتـلَ َّم ِ‬
‫ََ‬
‫السالك وخلُقه ودينه‪ .‬وجهان لغرائز مغروزة يف بشريتنا تفتح طلعتُها ال ُـمخزية إىل‬
‫ات‪ ،‬وترتاءى مع مثيالهتا يف اآلخرين من حولنا‪ ،‬من صديق وعدو‬ ‫السقوط هو ٍ‬
‫ُّ‬

‫‪433‬‬
‫اإلحسان‬

‫وحتاوُرها وتعاملها منظر النفاق االجتماعي‪ ،‬والتحاسد‪،‬‬


‫جتاورها ُ‬
‫فيكو ُن ُ‬
‫ومنافس‪ِّ ،‬‬
‫والشح‪ ،‬والرياء‪ ،‬والتظامل‪ ،‬والتسلط‪.‬‬
‫قال طبيب القلوب وحبيب عالم الغيوب رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫ُرسال يف زر ِ‬
‫يبة َغنَ ٍم بأفسد هلا من احلرص على املال‬ ‫وسلم‪" :‬ما ذئبان جائعان أ ِ‬
‫واحلسب يف دين املسلم"‪ .‬رواه عن كعب بن مالك رضي اهلل عنه اإلمام أمحد‬
‫والرتمذي وصححه وابن حبان يف صحيحه‪.‬‬
‫غريزتا حب املال واحلرص على مجعه وحب اجلاه والرئاسة مجاع الشرور‬
‫االجتماعية‪ .‬من مْنبَعهما يف عمق جذور النفس البشرية الفردية جتري آفة الغِ َن‬
‫احلرام واحلُكم احلرام‪ .‬والتمثيل النبوي‪ ،‬على نبينا الصالة والسالم‪ ،‬لتكالب‬
‫الوحشني على دين املسلم حني يستيقظان فيه ويعتُوان عليه يعطي صورة باملواجهة‬
‫املعد ِّو عليهم من‬
‫واملقابلة لفتكهما بدنيا احملرومني واملظلومني واحملقورين‪ .‬فمال ُ‬
‫الناس وشرفُهم مها القيمة الدنيوية اليت سطا عليها الذئب البشري ففسد دينه‪.‬‬
‫التسارع والتنافُس على املال والسلطان‪ ،‬وهو‬
‫فإن ساد يف الناس التعامل باملثل و ُ‬
‫قمة احلسب واجلاه‪ ،‬فسدت دنيا اجلميع‪ ،‬وفسد دين اجلميع‪ ،‬وخسر اجلميع‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫جتنَّب الزهاد من هذه األمة والصوفية الصادقون الشراسة الذئبية باعتزال‬
‫الغابة االجتماعية السياسية وتركوها لضواري العدوان والسلطان العاض واجلربي‬
‫منذ سطو الفئة الباغية األموية وانقالهبا‪ .‬ومل يَ ْسلَم عامل الزهاد والصوفية من‬
‫مالحقة ذئبيَّة احلرص على املال واحلسب‪ ،‬بل سرعان ما تقمص الذئبان‬ ‫ِ‬
‫الزي الصويف‪ ،‬وتكلما بلغة الصالح‪ ،‬واصطنعا‬ ‫اجلائعان احليّان يف نفوس البشر َّ‬
‫السمعة والكرامة واحلُرمة‪ .‬ومجع قوم املال‪ ،‬وقعد قوم يف صدور اجملالس حتيط‬
‫هبم هالة العظمة‪ ،‬أدعياءَ ذئاباً‪.‬‬

‫‪434‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف أفق اخلالفة الثانية على املنهاج النبوي نستبصر الرتبية النبوية من زاوية‬
‫طب القلوب‪ .‬وإنك تستطيع أن تؤلف حزبا قويا‪ ،‬وتثور على الظلم باسم‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتقتل التضامن الوحشي بني ذئيب املال والسلطان يف غريك‪ ،‬وتكسر‬
‫صرحه‪ .‬لكن إن تصديت للحكم‪ ،‬وسقطت الدولة بني يديك وما معك‬
‫وصعدوها يف أعمال بنّاءة‪ ،‬فلن تكون‬ ‫رجال قهروا ذئبيتهم النفسية‪ ،‬وهذبوها‪ّ ،‬‬
‫ثورتك اإلسالمية‪ ،‬امسا ونية يف أول املسار‪ ،‬إال جتربة أخرى للصراع الدائم بني‬
‫النفوس البشرية املائلة مع اهلوى‪ ،‬امللحدة املائلة عن اهلل‪.‬‬
‫ُ‬
‫إذا كان هتذيب النفس وترويضها على الزهد يف الدنيا أصال من أصول‬
‫الرتبية اإلميانية اإلحسانية وشرطا من شروطها يف خاصة الفرد املؤمن الذي‬
‫نفض يده من كل شيء ليتفرغ لطلب اهلل يف رفقة حمدودة بعيدا عن اجملتمع‪،‬‬
‫آكد‪ ،‬وحتقيقها أبعد مناال‪ ،‬يف حق املؤمنني العاملني مجاعة‪،‬‬ ‫فإن مشروطيَّتها ُ‬
‫القائمني مجاعة‪ ،‬إلحقاق احلق وإظهار دين اهلل‪ .‬إن مل يُبطل القائمون الباطل‬
‫وإن بناء النفس وحتصني النفس‬ ‫يف نفوسهم فلن يستطيعوا إبطاله يف غريهم‪َّ .‬‬
‫وتزكية النفس بإخراج حب الدنيا مجلة وتفصيال من القلب هلو البناء‪ .‬وما‬
‫يزكيها إال اهلل‪ ،‬وما يُفلح يف استئصال اجلرثومة الذئبية إال من ذكر اهلل‪.‬‬
‫إذا كان الصحابة رضي اهلل عنهم غري منـََّزهني عن تسلط اهلوى عليهم‪،‬‬
‫النموذج‪ ،‬فما تقول فيمن قنعوا من الدين بإسالم فكري أجوف؟ ما نزه‬
‫ُ‬ ‫وهم‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه حني خوفهم إفساد الذئبني اجلائعني‪،‬‬
‫وعي َّ‬
‫وحذر فقال هلم يوما وقد جاءهم رزق غزير بعد طول انتظار‪:‬‬ ‫خصص َّ‬‫بل َّ‬
‫"واهلل ما الفقر أخشى عليكم‪ .‬ولكين أخشى عليكم أن تـُْب َسط الدنيا عليكمكما‬
‫بُ ِسطَت على منكان قبلكم فتنافسوها (أي فتتنافسوها) كما تنافَسوها وُتلككم‬
‫كما أهلكتهم"‪ .‬رواه الشيخان والرتمذي عن املسور بن خمرمة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪435‬‬
‫اإلحسان‬

‫املطهر صلى اهلل عليه وسلم املستحيل‬ ‫ومل يطلب املصطفى اجملتىب الطاهر َّ‬
‫حتول القط األليف‬ ‫منا‪ .‬مل يطلب القضاء اجلذري على الذئبية فينا‪ ،‬إمنا خاف ُّ‬
‫املهذب الذي جيد يف احلالل املشروع املضبوط املزموم جماله احليوي إىل منر كاسر‬
‫َْي ِطم احلدود ويكسر القيود‪ .‬مث إنه صلى اهلل عليه وسلم أعطانا نعتا من نعوت‬
‫ت‬‫األنفس الزكية اليت اقتحمت العقبة إىل أعلى ومل تنجرف مع السيل اهلابط‪ .‬نـََع َ‬
‫احلرصي‪ .‬قال صلى اهلل عليه‬
‫َّ‬ ‫لنا مطلبا عاليا نوظف فيه حدتنا احلسدية وعنادنا‬
‫رجل آتاه اهلل احلكمة فهو يقضي هبا ويعلمها‪،‬‬ ‫وسلم‪" :‬ال حسد إال يف اثنتني ‪ٍ :‬‬
‫ورجل آتاه اهلل ماال فسلطه على هلكته يف احلق"‪ .‬أخرجه الشيخان عن عبد اهلل‬
‫بن مسعود‪ .‬وأخرجا من حديث عبد اهلل بن عمر أنه صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫رجل آتاه اهلل القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار‪،‬‬‫"ال حسد إال يف اثنتني‪ٍ .‬‬
‫ورجل آتاه اهلل ماال فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار"‪.‬‬
‫احلرص على الدين والعلم‪ ،‬والقرآن قوام الدين والعلم‪ ،‬مث احلرص على‬
‫املال والكسب‪ ،‬ومها القوام املادي الضروري للدين والعلم والقرآن مجيعا‪،‬‬
‫باعث مشروع معرتف به موضوعةٌ له النعوت ليسري يف ركاب املؤمن‪ ،‬وركاب‬
‫مجاعة املؤمنني‪ ،‬السائرين إىل رهبم من الدنيا إىل اآلخرة‪َ ،‬عبـَْر الدنيا‪ .‬ما يف‬
‫ي املالئم إلعادة اخلالفة الضائعة ال‬ ‫ديننا تعطيل وال رهبنة‪ .‬وإن السلوك ِ‬
‫اجلهاد َّ‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫مكان فيه لزهادة متعفِّفة هاربة‪ .‬كيف والعامل من حولنا ضجة واحدة‪ ،‬عالية‬
‫صاخبة‪ ،‬تعوي فيها ذئاب الرأمسالية ودبـَبَةُ االشرتاكية!‬
‫خري اآلخرة يفوتنا إن كانت اهلمم الفردية واالهتمام اجلماعي غاصت يف‬
‫صعدنا التنافس إىل اآلخرة‬
‫مستنقع التنافس الرديء على الرئاسة الدنيوية‪ .‬أما إن َّ‬
‫فنِعِ َّما هي وهي خري‪ .‬ومن ُسبُل التنافس يف اآلخرة ونعيمها ومراتبها التسابق‬
‫إىل إصالح دنيا األمة بكل جهد وبكل بذل‪ .‬ال حيب اهلل العلو يف األرض ألنه‬

‫‪436‬‬
‫اإلحسان‬

‫س‬ ‫﴿وفِي َذلِ َ‬


‫ك فـَلْيَتـَنَافَ ِ‬ ‫فساد‪ ،‬وحيب العلو يف اآلخرة وحيث عليه‪ .‬قال تعاىل ‪َ :‬‬
‫سو َن﴾‪ 1.‬وقال اإلمام احلسن البصري‪" :‬إذا رأيت الرجل ينافسك يف‬ ‫ِ‬
‫ال ُْمتـَنَاف ُ‬
‫الدنيا فنافسه يف اآلخرة"‪ .‬وقال وهيب‪" :‬إذا استطعت أن ال يسبقك إىل اهلل‬
‫أحد فافعل"‪ .‬وقال حممد بن يوسف األصبهاين العابد‪" :‬لو أن رجال مسع‬
‫برجل أو عرف رجال أطوع هلل منه كان ينبغي له أن حيزنه ذلك"‪ .‬وقال غريه‪:‬‬
‫"لو أن رجال مسع برجل أو عرف رجال أطوع هلل منه فانصدع قلبه مل يكن‬
‫ذلك َبع َجب"‪ .‬قال رجل ملالك بن دينار‪" :‬رأيت يف املنام مناديا ينادي‪ :‬أيها‬
‫الرحيل! فما رأيت أحدا ارحتل إال حممد بن واسع"‪ .‬فصاح‬ ‫َ‬ ‫الرحيل‬
‫َ‬ ‫الناس؟‬
‫مالك وغُشي عليه‪.‬‬
‫من سبقك يف درجات اآلخرة فاتك بدائم أبدي‪ ،‬فأي شيء من متاع‬
‫سقط به قَدرك هناك بعرةٌ ال قيمة هلا‪.‬‬ ‫الدنيا وماهلا وحسبها تبيع به آخرتك أو تُ ِ‬
‫قال الشيخ عبد القادر رمحه اهلل‪" :‬عليكم بالتوبة واالستغفار واحلياء منه‬
‫سبحانه‪ .‬اخلعوا ثياب الوقاحة عليه‪ ،‬جتنبوا حرام الدنيا وشبهاهتا‪ ،‬مث جتنبوا‬
‫مباحاهتا هبوى وشهوة‪ ،‬ألن تناولكم باهلوى والشهوة يشغلكم عن اهلل‪ .‬قال النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬الدنيا سجن املؤمن"‪ .‬كيف يفرح املسجون يف سجنه؟ما‬
‫يفرح! لكنه بِ ْشُره يف وجهه وحزنه يف قلبه‪ .‬بِ ْش ُرهُ على ظاهره واآلفات تقطعه من‬
‫حيث باطنُه وخلوتُه ومعناه‪ .‬جراحاته معصبَّة من حتت ثيابه‪ ،‬يُغطِّي جراحاته‬
‫تبسمه‪ .‬وهلذا يباهي به ربه املالئكة‪ .‬شجاع يف دولة دين اهلل عز وجل‬ ‫بقميص ُّ‬
‫‪2‬‬
‫وسره‪ .‬مازالوا يصربون مع اهلل عز وجل ويتجرعون مرارة أقداره حىت أحبهم"‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪ 1‬املطففني‪26 ،‬‬
‫‪ 2‬الفتح الرباين ص ‪.171‬‬

‫‪437‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال اإلمام الرفاعي رمحه اهلل‪" :‬يا ولدي! إن ملكت عقال حقيقيا ما ملت‬
‫إىل الدنيا وإن مالت لك‪ ،‬ألهنا خائنة كذابة تضحك على أهلها‪ .‬من مال عنها‬
‫سلم منها‪ ،‬ومن مال إليها بُلِ َي فيها‪ .‬ويف احلديث "حب الدنيا رأسكل خطيئة"‪.‬‬
‫فكما أن حبها رأسكل خطيئة فكذلك بُغضها واإلعراض عنها رأسكل حسنة‪.‬‬
‫ملسها‪ ،‬قاتل مسها‪ .‬لذاهتا سريعة الزوال‪ ،‬وأيامها متضي كاخليال‪.‬‬
‫ي ُ‬ ‫هي كاحلية‪ ،‬لَِّ ٌ‬
‫فاشغل نفسك فيها بتقوى اهلل‪ ،‬وال تغفل عن ذكره تعاىل ذرة واحدة‪ .‬وإن طرقك‬
‫طارق الغفلة فاستغفر اهلل‪ ،‬وارجع لباب املالحظة‪ ،‬واذكر اهلل‪ ،‬واستح منه‪ .‬راقبه‬
‫‪1‬‬
‫يف اخللوات واجللوات‪ ،‬وامحده واشكره على الفقر والغىن"‪.‬‬
‫حب الدنيا خطيئة كربى يف حق املؤمن‪ ،‬وبُغضها حسنة‪ .‬ويف سلم القيم‬
‫الدوابية احلضارية املادية حب احلياة عالمة صحة وعافية‪.‬‬
‫اللهم إنا نسألك السالمة من كل بلية‪.‬‬
‫قال حكماء من هذه األمة‪:‬‬
‫ومن ينفـق األيــام يف مجــع مال ــه خمـافة فق ــر فالذي فعــل ال َفـ ْق ــر‬
‫*****‬
‫إذاكنت يف الدنيا عن اخلري عاج از فما أنت يف يـوم القيـامة صانـع؟‬
‫*****‬
‫ال تغبط َّـن أخا حرص علـى َس َع ــة وانظـر إليه بعني املـاقـت القايل‬
‫إن احل ـريص ملشغ ــول بثــروت ــه عن السرور مبـا حيوي من املال‬
‫*****‬
‫أي بـاب منــه يـغـلـقــه‬ ‫يا جـامعا مــانعا والده ــر يرمق ــه مـفـكـ ـرا َّ‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد‪.‬‬

‫‪438‬‬
‫اإلحسان‬

‫مجعـت ماال ففكــر هل مجعـت له يا جــامـع املـال أيــام ــا تفــرقــه‬


‫ا مل ــال عن ــدك خم ــزون لـوا رثــه ما املـال مــالك إال يــوم تـُنـف ـقـه‬
‫إن القـنــاعة من حيـلل بســاحتهـا مل يـلـ ــق يف ظـلـهـ ـ ــا مهـ ــا ي ــؤرق ـ ــه‬
‫*****‬
‫أيهـ ـ ـ ـ ــا املـتعِــب جهـ ـ ـ ــدا نـفـس ـ ـ ـ ــه يـطلـب الدنيـا حـريصــا جـاه ــدا‬
‫اهلمـي ــن مه ـ ـ ــا واحـ ـ ـ ـ ــدا‬ ‫ُ‬
‫ال لك الـدنـي ــا وال أنـت هلـا هلـ ـ ــا فاجـعـ ــل َّ‬
‫*****‬
‫أم ـران مفـتــرق ـ ـ ــان لسـ ــت تـرامهـ ـ ــا يتـش ــوف ـ ـ ـ ـ ــان خل ـلـط ـ ـ ـ ــة وتــالق ـ ــى‬
‫طلب املعـاد مع الريـاسـة والعُـلى ف ــدع الذي يفـنــى ملـا هــو بـاقي‬
‫وقال عبد هلل حترر من ِربْقة العبودية لغريه فأصبح سيداً‪:‬‬
‫من غـري شـيء أ َُع ُّـد‬ ‫ياليتين صـ ــرت شـيـئـ ـ ــا ‬
‫ألن ـ ـ ـن ـ ــي لـك عـ ـب ـ ــد‬ ‫أصبحت للكـل موىل ‬
‫مـا تُـسـ ـتـطــاع تـَُع ـ ـ ــد‬ ‫ويف الـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ـؤاد أم ـ ـ ـ ـ ــور ‬
‫أسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّـد‬
‫أح ـ ـ ـ ــق يب و َ‬ ‫لك ــن كـتـم ـ ــان حـ ــايل ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫علِّم ــوهـ ْـم َسـ ـ ـ ْـوَم بـ ـ ـ ـ ْذ ِل الـمـَُه ِـج‬ ‫ـاد ‬ ‫ـال آي ـ ِ‬


‫ـات اجلـهـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫ل ِّـقنـوا األجي ـ ـ َ‬
‫ص ِم ُشــح َِسـ ـ ـ ـ ِـج‬ ‫واغتسل من َو ْ‬ ‫ص ِل العن ـ ْ‬
‫ـاد ‬ ‫نب من َم ْ‬ ‫دا ِو َداء اجلُ ِ‬
‫ـحـ ـ ـ ـ ِّـج احلَـ ــرِج‬
‫ُه ْم مـ ـ ــالذٌ يف ال َـم َ‬ ‫ـداد ‬
‫الش ـ ـ ـ ـ ْ‬‫ما يُلقـاها ِسـوى الغُـ ِّـر ِّ‬

‫‪439‬‬
‫اإلحسان‬

‫الزهد والورع‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫انص ْرنَا َعلَى الْ َق ْوِم‬ ‫ف َعنَّا َوا ْغ ِف ْر لَنَا َو ْار َح ْمنَا أ َ‬
‫َنت َم ْوالَنَا فَ ُ‬ ‫﴿وا ْع ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪ .‬أسألك بال إله إال أنت رب السماوات السبع ورب‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫العرش الكرمي‪ .‬وأسألك بال إله إال أنت رب السماوات السبع ورب‬
‫األرضني السبع وما فيهن إنك علىكل شيء قدير‪.‬‬

‫جاع ذئب احلرص على املال فافرتس ذمة املؤمن ونشر الفقر يف حظرية اآلمنني‬
‫الناس وحتاكموا إىل الطاغوت‪.‬‬‫املستضعفني‪ .‬وجاع ذئب حب الرئاسة فتظامل ُ‬
‫الظلم كفر والبؤس كاد أن يكون كفرا‪ .‬واجتماعهما التارخيي وحتالفهما يف ُمَرَّكب‬
‫االستكبار الطبقي ظلمات بعضها فوق بعض‪ .‬وال يكون الزهد يف مفهومه الفردي‬
‫السليب الكفِّي القناعي األخالقيك ُفؤاً لقتال االستكبار وجالء ظلماته‪.‬‬
‫زهد املؤمن الذي يكف يده عن احلرام والشبهات ويتقلل من املباحات‪،‬‬
‫أخالق‬
‫ُ‬ ‫ض طرفه عن احملارم وحيتاط لدينه يف دقائق األمور‬‫وورع املؤمن الذي يغُ ّ‬
‫املؤمن الضعيف إن بقي هذا الزاهد الوِرع مبعزل عما تفعله الذئاب اجلائعة‬
‫وتتآمر فيه وتتعاون عليه‪.‬‬
‫صعد نزواهتا‬
‫ويكون زهد الزاهد وورع الورع الذي يكبَح نفسه وميلكها ويُ ِّ‬
‫ط القوة الزهدية يف أخالقية‬‫ت رواب ُ‬‫إميانا قويا وقاعدة صلبة للجهاد إن َتَتـَّنَ ْ‬
‫تقوض دعائم‬ ‫مجاعية حىت صارت معروفا يغري منكرا‪ ،‬ودعوة تُسند دولة‪ ،‬ودولة ِّ‬

‫‪440‬‬
‫اإلحسان‬

‫الباطل وحتق حق العدل واإلحسان‪.‬‬


‫ومن قواعد امتالك النفس وقهر الغرائز والعزوف القليب عن الدنيا ينطلق‬
‫طالب احلق وسط جند اهلل وحزبه من اجلهاد اإلجيايب المتالك وسائل الدنيا‪،‬‬
‫ووسائل القوة يف الدنيا‪ ،‬ووسائل الكفاية يف الدنيا‪ ،‬والعزة‪ ،‬وال َـمنَعة‪ ،‬والثروة‪،‬‬
‫والسالح‪ ،‬واالقتصاد املزدهر‪ ،‬والتكنولوجيا الصناعية‪ ،‬والزراعة املغذية‪ ،‬والسبق‬
‫يف املنافسة لدى األسواق العاملية‪.‬‬
‫زهد دروشة‬ ‫عماد الدعوة النبوية واخلالفة األوىل َ‬
‫مل يكن زهد الصحابة ُ‬
‫هدهم عمال فعاال‪ ،‬كان جهادا متواصال يبذلون النفس‬ ‫وهروب‪ .‬كان ُز ُ‬
‫والنفيس يف سبيل اهلل‪ .‬عاشوا زهدهم يوم أسلموا هلل عز وجل مع رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وصربوا معه ألذى قريش الشديد‪ .‬عاشوه يوم هاجروا‬
‫معه خملفني وراءهم األهل والولد والدار واملال‪ ،‬خملفني العشرية‪ ،‬وكانت العشريةُ‬
‫الشرف وهي احلسب وهي ضمان احلياة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يف اجملتمع اجلاهلي هي األمن وهي‬
‫زهدوا يف الدنيا كلها وهاجروا إىل اهلل ورسوله‪ ،‬مع اهلل ورسوله‪﴿ ،‬إِ ْذ يـَُق ُ‬
‫ول‬
‫لِص ِ‬
‫احبِ ِه الَ تَ ْح َز ْن إِ َّن اللّهَ َم َعنَا﴾‪ 1.‬عاشه األنصار يوم آووا إخواهنم ﴿َيـُْؤثُِرو َن‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫اصةٌ﴾‪ .‬عاشوا زهدهم يف احلياة الدنيا يف‬ ‫ص َ‬ ‫َعلَى أَن ُفس ِه ْم َولَ ْو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ‬
‫‪2‬‬

‫بدر وأحد وفتح مكة وغزوة العسرة وسائر املشاهد الشريفة‪ .‬عاشوه من بعد‬
‫موت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف خالفة أيب بكر الصديق حني قاتلوا‬
‫أهل الردة على الزكاة وهي احلد األدىن الواجب من البذل‪ .‬عاشوه يف خالفة‬
‫عمر يف القادسية والريموك وسائر املواقف العفيفة املنيفة‪.‬‬

‫‪ 1‬التوبة‪40 ،‬‬
‫‪ 2‬احلشر‪9 ،‬‬

‫‪441‬‬
‫اإلحسان‬

‫زهاد يف الدنيا مجيعا‪ ،‬باجلملة والتفصيل‪ ،‬جماهدون وقّافون عند أمر‬


‫﴿ما ِعن َد ُك ْم يَن َف ُد َوَما ِعن َد اللّ ِه‬
‫اهلل تعاىل وهنيه ووعده ونصيحته إذ يقول‪َ :‬‬
‫الدنـْيَا َو ْال ِخ َرةُ َخيـٌْر َوأَبـَْقى﴾‪ 2.‬وإذ‬
‫ْحيَا َة ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بَاق﴾‪ .‬وإذ يقول‪﴿ :‬بَ ْل تـُْؤث ُرو َن ال َ‬
‫‪1‬‬

‫يضرب األمثال الكثرية للدنيا وزواهلا‪ ،‬ويصف اآلخرة ونعيمها‪ ،‬وينادي عباده‬
‫للتقرب إليه وإيثاره وإيثار رسوله على أنفسهم‪ .‬وإن أخالقية القرآن اليت ُربوا‬
‫عليها كلُّها تزهيد يف الدنيا وحتبيب ملا عند اهلل مث حتبيب هلل وحلب اهلل ولقرب‬
‫اهلل ولذكر اهلل‪ .‬ولَذكر اهلل أكرب‪.‬‬
‫وأستغفر اهلل‪ ،‬ما عندي من االستهانة بزهاد األمة الذين جاءوا من بعد‬
‫عهد اخلالفة األوىل شيء‪ ،‬وما وصفت زهد القاعدين عن اجلهاد بأنه إميان‬
‫ضعيف إال مقارنة بالنموذج الكامل النبوي الصحايب الذي ينبغي أن يكون‬
‫نُصب أعيننا‪ ،‬قريبا منا‪ ،‬ال حتجبنا عنه زهادة اهلاربني بدينهم املتخ ّفني به‪.‬‬
‫نريده ملستقبل اخلالفة الثانية إن شاء اهلل زهداً ساكناً يف األعماق ال شقشقة‬
‫طافحة على األوراق متجد "الدراسة الواعية للكون الكبري"‪.‬‬
‫وما كان زهاد املسلمني الصادقون والصوفية الكرام أصحاب كالم‬
‫الزهاد شوقُهم إىل ما‬
‫أمسك َ‬ ‫َ‬ ‫وخصام‪ .‬خاصموا الدنيا وعزفت نفوسهم عنها‪،‬‬
‫أمسك الصوفيةَ السالكني شوقُهم إىل اهلل عن التهافت على الدنيا‪،‬‬
‫عند اهلل‪ ،‬و َ‬
‫رسوخ‬
‫اعدهم ُ‬ ‫ذكر اهلل وصحبةُ أهل اهلل عن التهالك فيها‪ ،‬وأرسى قو َ‬
‫وضبَطَهم ُ‬
‫اإلميان بالغيب عن التطاوح يف َحأة الصراع الذئيب على املال واحلسب‪ .‬كانوا‬
‫ورعني زاهدين‪ ،‬ازدهرت مواجيدهم الزهدية الورعية يف باقات من طيِّب الكالم‬

‫‪ 1‬النحل‪96 ،‬‬
‫‪ 2‬األعلى‪16-17 ،‬‬

‫‪442‬‬
‫اإلحسان‬

‫بعد ُجلة مرتفعني‬


‫ومُْلَصه وصائبه‪ ،‬ما أحرانا أن نتأمله تفصيال لنتجاوزه من ُ‬
‫إىل القمة النبوية القرآنية الصحابية‪.‬‬
‫املتمزجة‬
‫وما يعقلها إال العاملون‪ ،‬وما يستهني مبقامات الرجال إال القلوب ِّ‬
‫املتعوجة‪ .‬وما يستطيع اللحاق بالرعيل األول إال من كان له بصحبة‬
‫والنيات ِّ‬
‫وهوى‬
‫فم م ْكموم‪ ،‬وقلب مهموم‪ً ،‬‬ ‫العارفني باهلل مشل ملموم‪ ،‬وعن غري ذكر اهلل ٌ‬
‫يف غري اهلل ورسوله مهزوم‪.‬‬
‫قال اإلمام اجلنيد‪ :‬مسعت سريّاً يقول‪" :‬إن اهلل عز وجل سلب الدنيا عن‬
‫أوليائه‪ ،‬ومحاها عن أصفيائه‪ ،‬وأخرجها من قلوب أهل وداده‪ ،‬ألنه مل يرضها‬
‫هلم"‪.‬‬
‫خلو القلب عما ليس يف اليد"‪ .‬وقال‬ ‫وقال اجلنيد رضي اهلل عنه‪" :‬الزهد ُّ‬
‫عبد اهلل بن املبارك احملدث اجملاهد مؤلف كتاب "الزهد"‪" :‬الزهد هو الثقة باهلل‬
‫مع حب الفقر"‪ .‬ولنفهم كلمة شيخ مشايخ احلديث عبد اهلل بن املبارك هذه‬
‫ينبغي أن نعلم أنه رضي اهلل عنه كان يتجر وجيمع املال الغزير‪ ،‬فيحج عاما‬
‫وحيج معه طائفة من الفقراء على نفقته‪ ،‬ويغزو عاما‪.‬‬
‫سأل ُرومي الصويف شيخه اجلنيد عن الزهد فقال‪" :‬الزهد استصغار الدنيا‬
‫وحمو آثارها من القلب"‪.‬‬
‫وعن الورع قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أليب هريرة‪" :‬يا أبا هريرة!‬
‫أحب للناس ما حتب‬ ‫كن ورعاً تكن أعبد الناس‪ .‬وكن قَنِعاً تكن أشكر الناس‪ .‬و َّ‬
‫لنفسك تكن مؤمنا‪ .‬وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما‪ .‬وأقِ َّل الضحك فإن‬
‫كثرة الضحك متيت القلب"‪ .‬رواه ابن ماجة عن أيب هريرة بإسناد حسن‪.‬‬
‫قال األستاذ القشريي‪" :‬الورع ترك الشبهات"‪ .‬وقال حيىي بن معاذ‪" :‬الورع‬

‫‪443‬‬
‫اإلحسان‬

‫على وجهني‪ .‬ورع الظاهر وهو أن ال تتحرك إال هلل تعاىل‪ ،‬وورع الباطن وهو‬
‫"جلساء اهلل‬
‫أن ال يدخل قلبك سواه تعاىل"‪ .‬وقال أبو هريرة رضي اهلل عنه‪ُ :‬‬
‫تعاىل غداً أهل الورع والزهد"‪.‬‬
‫كان اإلمام أمحد بن حنبل رضي اهلل عنه أزهد الناس‪ .‬قال‪" :‬الزهد ثالثة‬
‫أوجه‪ :‬األول ترك احلرام وهو زهد العوام‪ .‬والثاين ترك الفضول من احلالل وهو‬
‫زهد اخلواص‪ .‬والثالث ترك ما يشغل عن اهلل وهو زهد العارفني"‪.‬‬
‫كان إمام احملدثني أمحد بن حنبل رضي اهلل عنه مثاال حيا لزهد العارفني‪،‬‬
‫قصد‬
‫انطوى يف زهده العايل زهد العوام واخلواص‪ ،‬واشتهر بالزهد حىت أصبح يُ َ‬
‫للفتوى يف السلوك الزهدي العرفاين كما يقصد للفتوى يف الفقه واحلديث‪.‬‬
‫ُسئل مرة عن مسألة يف الورع فقال‪" :‬أستغفر اهلل! ال حيل يل أن أتكلم يف الورع‬
‫وأنا آكل من غلة بغداد‪ .‬لو كان بِشر صلح أن جييبك عنه‪ ،‬فإنه كان ال ياكل‬
‫من غلة بغداد وال من طعام السواد‪ .‬مثل بِشر يصلح أن يتكلم يف الورع"‪.‬‬
‫رحم اهلل أمحد! زاد على العلم والتقوى والزهد والورع التواضع اجلم‪ .‬كان‬
‫شاشه (أي مخ‬ ‫وم َ‬ ‫ودمه ُ‬
‫حلمه َ‬
‫بشر احلايف صوفيا زاهدا يقول‪" :‬ما من أحد خالط َ‬
‫حب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فريى النار"‪ .‬كان حب بشر هلل‬ ‫عظامه) ُّ‬
‫ورسوله هذا احلب العميق احمليط احلاكم صا ِرفَه عن االلتفات إىل الدنيا‪ ،‬وا ِزعه‬
‫عن الشبهات‪ .‬وكان سواد العراق‪ ،‬وهو أرضها الفالحية‪ ،‬مل يقسمها عمر أمري‬
‫ت ملكا عاما للمسلمني يتورع أمثال بشر عن‬ ‫ِ‬
‫املؤمنني كما يقسم الفيء‪ ،‬فـَبَقيَ ْ‬
‫أكل طعامه لشبهة احلقوق العامة اليت اغتاهلا امللوك األمويون مث العباسيون‪.‬‬
‫جاءت أخت بشر الورعة إىل اإلمام أمحد تستفتيه‪ ،‬قالت‪ :‬إنا نغزل على‬
‫سطوح بيوتنا‪ ،‬فتمر بنا مشاعل الظاهرية‪ ،‬ويقع الشعاع علينا‪ .‬أفيجوز لنا الغزل‬
‫يف شعاعها‪ .‬فقال أمحد‪ :‬من أنت عافاك اهلل تعاىل؟ فقالت‪ :‬أخت بشر‪ .‬فبكى‬

‫‪444‬‬
‫اإلحسان‬

‫أمحد وقال‪ :‬من بيتكم خيرج الورع الصادق‪ ،‬ال تغزيل يف شعاعها‪ .‬رمحهم اهلل‪،‬‬
‫عز وجود ٍ‬
‫حكام‬ ‫أذى يتجنبونه بعد أن َّ‬
‫كان شعاع الظلمة املغتصبني الساطني ً‬
‫مثل عمر بن عبد العزيز الذي كان يُطفئ مشعة اإلمارة حني يكلمه الوارد عليه‬
‫يف شأن خاص‪ ،‬وقبض على ِ‬
‫مشامه ملا جاءه مسك من الغنائم خمافة أن ينتفع‬
‫برحيه من دون املسلمني‪.‬‬
‫قال اإلمام الشيخ عبد القادر رمحه اهلل ورضي عنه‪" :‬يا غالم هذا الزهد‬
‫ليس هو صنعة تتعلمها‪ .‬ليس هو شيئا تأخذه بيدك وترميه‪ .‬بل هو َخطَوات‬
‫أوهلا النظر يف وجه الدنيا‪ ،‬فرتاها كما هي على صورهتا عند من تقدم من‬
‫األنبياء والرسل وعند األولياء واألبدال الذين مل َيْ ُل منهم زمان‪ .‬إمنا تصح‬
‫رؤيتك هلا باتباع من تقدم يف األقوال واألفعال‪ .‬إذا تبعتهم رأيت ما رأوا‪ .‬وإذا‬
‫وج َلوة‪ ،‬علما وعمال‪ ،‬صورة ومعىن‪،‬‬ ‫كنت على أثر القوم قوال وفعال‪ ،‬خلوة َ‬
‫تصوم كصيامهم‪ ،‬وتصلي كصالهتم‪ ،‬وتأخذ كأخذهم‪ ،‬وترتك كرتكهم‪ ،‬فحينئذ‬
‫يبي لك عيوبك وعيوب اخللق‪ ،‬فتزهد‬ ‫يعطيك اهلل نوراً ترى به نفسك وغريك‪ِّ ،‬‬
‫يف نـَْف ِسك ويف اخللق أمجع‪ .‬فإذا صح لك ذلك جاءت أنوار القرب إىل قلبك‪،‬‬
‫صورها ومعانيها‪ .‬ترى الدنيا‬ ‫ِ‬
‫ت مؤمنا موقنا عارفا عاملا‪ .‬فرتى األشياء على َ‬‫ص ْر َ‬
‫كما رآها من تقدم من الزاهدين املعرضني‪ .‬تراها يف صورة عجوز شوهاءَ قبيحة‬
‫املنظر‪ .‬فهي عند هؤالء القوم على هذه الصفة‪ ،‬وعند امللوك كالعروس امل ْجلِيَّة‬
‫َ‬
‫ويرقون ثياهبا‪،‬‬ ‫يف أحسن صورة‪ .‬هي عند القوم حقرية ذليلة‪ُ ،‬يرقون شعرها َ‬
‫وخيمشون وجهها ويأخذون أقسامهم يف صحبة اآلخرة‪ .‬يا غالم! إذا صح‬ ‫ِ‬
‫ِ ‪1‬‬
‫لك الزهد يف الدنيا فازهد يف اختيارك ويف اخللق"‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين‪ ،‬ص ‪.136‬‬

‫‪445‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقال زاهد يف الدنيا‪ ،‬ثا ٍو فيها ببَدنه‪ ،‬راحل عنها بقلبه‪:‬‬


‫مبق ــاصيــر الـبي ــوت‬ ‫أيهــا املعجـب فَ ْخـ ـر ا‬
‫لـق ـيـ ــام وق ـن ـ ــوت‬ ‫إمنــا الدنـي ــا حم ــل ‬
‫ضيقــا بعــد التخــوت‬ ‫وغــدا تـن ــزل حلــداً ‬
‫نـاطقات يف الصموت‬ ‫بني أقـ ـوام سك ــوت ‬
‫ومـن العـيــش بق ــوت‬ ‫فارض يف الدنيا بثـوب ‬ ‫ْ‬
‫ـت العنكب ـ ِ‬
‫ـوت‬ ‫مثـل بي ِ‬ ‫واختذ بيتـا ضعيـف ــا ‬
‫اك فمــويت‬ ‫بيـت مـث ـو ِ‬ ‫مث قل‪ :‬يا نـفـس هـذا ‬
‫وقال بشر احلايف إمام الورعني‪:‬‬
‫والن ــوم حتـت ُرواق اهلــم وال َقـل ــق‬
‫قَطْــع الليــايل مع األي ــام يف َخـلَــق ‬
‫إين التمسـت الغِىن من كـف ُمتلِـق‬ ‫أجد ُر يب من أن يُقال غدا ‬‫أحرى و َ‬
‫لـيـس الغىن كـثرة األموال وال َـوِرِق‬
‫ىن ‬ ‫قالوا‪ :‬رضيت بذا؟ قلت القنوع ِ‬
‫غ‬
‫ً‬
‫فلـســت أسـلك إال واضــح الـطـ ــرق‬ ‫رضيـت باهلل يف عُســري ويف يُ ُســري ‬
‫وقال رفيع اهلمة‪ ،‬عاف الدنيا واستقذرها واستبشعها وخرق ثوهبا ومخش وجهها‪:‬‬
‫إذا لـم أ تـرك ا ملـاء ا تـق ــاء تركت لكـثـرة الشركـاء فيه‬
‫إذا وقع الذبـاب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه‬
‫رود ماء إذا كان الـكالب َولَـ ْغ َن فيه‬
‫ـود ُو َ‬
‫ـتنب األ س ُ‬
‫وجت ُ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫ـزل‬ ‫ـزل َعبـْــداً لِلَـ ـهـ ـ ـ َ‬


‫ـوك لَـ ْـم ت ْ‬ ‫ـش لألغ ـ ــاين والغَ ـ ـ ْ‬‫عـ ْ‬
‫ِ‬
‫ـض ناعـ ـ ٌـم ومنـ ـ ـ ـ َّـوع ـ ـ ـ ــات َ‬
‫للم ـ ـ ـلَ ْل‬ ‫ـش خـفـي ـ ـ ٌ‬
‫َعيـ ـ ٌ‬
‫األس ْل‬
‫ظل َ‬ ‫ـوت يف ِّ‬ ‫جال مت ـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـت م ــن ِصنـ ــف الر ‬ ‫ما أن ـ َ‬
‫‪446‬‬
‫اإلحسان‬

‫التوكـل‬

‫غ قـُلُوبـَنَا بـَْع َد‬


‫﴿ربـَّنَا الَ تُ ِز ْ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫َّاب﴾‪.‬‬
‫َنت ال َْوه ُ‬ ‫كأ َ‬ ‫ب لَنَا ِمن لَّ ُد َ‬
‫نك َر ْح َمةً إِنَّ َ‬ ‫إِ ْذ َه َديـْتـَنَا َو َه ْ‬
‫ال إله إال اهلل احلليم الكرمي‪ ،‬سبحان اهلل رب السماوات‬
‫السبع ورب العرش العظيم‪ .‬واحلمد هلل رب العاملني‪ .‬إين أعوذ‬
‫بك من شر عبادك‪.‬‬

‫يفتح معتزلة هذا الزمان وعقالنيوهم واشرتاكيوهم حماكمة الغزايل ملا‬


‫جناه‪ ،‬يف زعمهم‪ ،‬على العقل العريب اإلسالمي لـمـّا دعا إىل التوكل وزرع‬
‫بدعوته بذور اخلمول الفكري واالحنطاط‪ .‬نرى أوال ما قال الغزايل عن التوكل‬
‫بإجياز مث نرجع إىل املوضوع إن شاء اهلل‪.‬‬
‫تكلم اإلمام الكبري أوال يف فصل طويل يف "اإلحياء" عن التوكل من حيث‬
‫كون التوحيد أصال للتوكل‪ .‬وتكلم عن توحيد النفاق وهو توحيد من يشهدون‬
‫باللسان شهادة احلق وقلوهبم مطوية على ما يعلمه اهلل‪ ،‬وعن توحيد العامة من‬
‫املسلمني‪ ،‬وعن توحيد اخلاصة من املؤمنني‪ ،‬وعن توحيد خاصة اخلاصة أهل‬
‫الكشف والشهود الذين ينكشف لقلوهبم أن ال فاعل إال اهلل فال ينظرون إىل غري‬
‫اهلل بل يكون خوفهم من اهلل‪ ،‬ورجاؤهم إليه‪ ،‬وثقتهم به‪ ،‬واتكاهلم عليه‪" .‬فأنه‬
‫‪1‬‬
‫مسخرون ال استقالل هلم"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الفاعل على االنفراد دون غريه‪ ،‬وما سواه‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج ‪ 4‬ص ‪.213‬‬

‫‪447‬‬
‫اإلحسان‬

‫وتكلم بعد ذلك عن حال التوكل ودرجاته‪ .‬فذكر أن الدرجة األوىل‬


‫للمتوكل هي "أن يكون حاله يف حق اهلل تعاىل والثقة بكفالته وعنايته كحاله‬
‫يف الثقة بالوكيل"‪ .‬والدرجة الثانية "أن يكون حاله مع اهلل تعاىل كحال الطفل‬
‫مع أمه ال يعرف غريها وال يفزع إىل أحد سواها"‪ .‬والدرجة الثالثة "أن يكون‬
‫بني يدي اهلل تعاىل يف حركاته وسكناته مثل امليت ين يدي غاسله (‪ )...‬يرى‬
‫‪1‬‬
‫نفسه ميتا حتركه القدرة األزلية"‪.‬‬
‫قال القضاة املتَّ ِهمون‪ :‬إن جناية الغزايل على العقل العريب اإلسالمي جناية‬
‫قاتلة ألنه شرع نبذ األسباب ورفْض العمل وانتظار الرزق أن جييء من السماء‪.‬‬
‫القد ِرية املتمسحة بالفكر االعتزايل‪ ،‬اجملددة له‪ ،‬ينجرف‬
‫ويف تيار هذه العقالنية َ‬
‫بعض الكتاب اإلسالميني واحملسوبني على اإلسالم ليسجلوا يف سجل احملاكمة‬
‫شهادهتم املت ِهمة للغزايل والصوفية بأهنم جربية يعطلون األسباب‪ ،‬وبأن طوائف‬
‫منهم كانوا يعيشون على االسرتزاق من صدقات الناس‪ ،‬وأهنم كانوا طفيليات يف‬
‫اجملتمع‪ ،‬وبقي فكرهم كاحلشرة الضارة يف عقل األمة‪.‬‬
‫ال أنفي أنه كان من "صوفية األرزاق" أقوام دفعتهم الفاقة واحلاجة إىل‬
‫سكىن اخلانقاهات والزوايا أكثر مما دفعهم حب اهلل‪ .‬وال حديث يل مع القدرية‬
‫الذين قالوا مسعنا وهم ال يسمعون ألصف هلم مقامات أهل التوكل من الصادقني‬
‫الذين يتعاملون مع اهلل عز وجل باعتمادهم على التوكل والدعاء يف جلب الرزق‬
‫أكثر من اعتمادهم على أسباب الكسب املشروعة حىت إن بعضهم يقتحم‬
‫الصحاري بال زاد وال ماء فيعامله ربه اللطيف اخلبري بأن خيرق له العادة ويرزقه‪،‬‬
‫وهو الرزاق ال غريه‪ ،‬من الغيب‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلحياء ج ‪ 4‬ص ‪.225‬‬

‫‪448‬‬
‫اإلحسان‬

‫حديثي مع طاليب اإلحسان والعدل ألحدثهم أن اهلل عز وجل يرزق من‬


‫يشاء بأسباب ظاهرة وبغري أسباب‪ .‬ومن عطل األسباب املوضوعة يف الكون‬
‫فهو ناقص مغرور أو أشعث أغرب معذور‪ .‬من آكد األسباب وأجداها وأنفعها‬
‫الدعاء والتوكل مقرونـَْي باجلُهد البشري املنظم املتتلمذ لنظام الكون‪ ،‬املستفيد‬
‫من التجربة واخلربة واحرتام نواميس اهلل الكونية كلها‪ .‬التوكل والدعاء سببان‬
‫قلبيان يُضافان إىل األسباب العقلية اجلوارحية احلركية فيعطيان لعملية الكسب‬
‫البشري يف حياة املؤمن وحياة األمة بُعدها اإلمياين اإلحساين‪.‬‬
‫قال اإلمام سهل بن عبد اهلل‪ ،‬وهو عامل الصوفية‪" :‬ليس مع اإلميان‬
‫أسباب‪ ،‬إمنا األسباب يف اإلسالم"‪ .‬يعين رمحه اهلل أن اإلسالم‪ ،‬وهو ظاهر‬
‫الدين‪ ،‬يقابل األسباب الظاهرة‪ ،‬بينما يقابل اإلميان‪ ،‬وهو باطن الدين‪ ،‬التوكل‬
‫وهو عمل القلب‪.‬‬
‫وقال أبو طالب املكي رمحه اهلل‪" :‬اعلم أن اهلل عز وجل ذو قدرة‬
‫أجرى أشياء عن معاين احلكمة‪.‬‬
‫وحكمة‪ ،‬فأظهر أشياء عن وصف ال ُقدرة‪ ،‬و ْ‬
‫‪1‬‬
‫سقط املتوكل ما أثبت من حكمته ألجل ما شهد هو من قدرته"‪.‬‬‫فال ي ِ‬
‫ُ‬
‫دين من أعلى مقامات الدين‪ ،‬فإن أسقط بعض املنتسبني‬ ‫التوكل على اهلل ٌ‬
‫للتصوف احلكمة ملا شهدوا يفكشفهم عجائب القدرة‪ ،‬واستقالل القدرة اإلهلية‬
‫عن األسباب‪ ،‬فقد هربوا من شرك األسباب نُفورا ليستقروا يف ُرخصة املعذورين‪،‬‬
‫وليسوا حجة وال قدوة‪ .‬القدوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي قال‪" :‬لو‬
‫أنكم توكلتم على اهلل حق توكله لرزقتم كما ترزق الطري تغدو مخاصا وتروح‬
‫بطانا"‪ .‬رواه الرتمذي واحلاكم وصححاه من حديث عمر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫هو صلى اهلل عليه وسلم كان سيد املتوكلني‪ ،‬وضرب مثال برزق الطري‪.‬‬
‫‪ 1‬قوت القلوب ج ‪ 2‬ص ‪.19‬‬

‫‪449‬‬
‫اإلحسان‬

‫الطري تغدو وتروح‪ ،‬لوال غدوها ونشاطها يف البحث والسعي واحلركة حىت‬
‫مثال ضربه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وضرب‬ ‫الرواح ما ُرزقت‪ .‬سعيها الدائب ٌ‬
‫مثال باحرتامه هو لألسباب‪ ،‬تأيت املعجزة يف حلظات استثنائية لتؤكد القاعدة ال‬
‫لتبطلَها‪ .‬كان صلى اهلل عليه وسلم مع احلكمة اإلهلية قوال وعمال وإقرارا ووصية‬
‫وضرب مثل‪ .‬ما كان يف سلوكه الشريف رائحةُ دروشة وال جربيةٌ قاعدةٌ‪.‬‬
‫من قمة اجلهاد النبوي الصحايب اخلاليف (نسبة إىل اخلالفة ال إىل‬
‫اخلالف) نزلت األمة إىل احلضيض‪ .‬ويف زماننا حركة‪ ،‬موفقة إن شاء اهلل‪،‬‬
‫رجاءً ودعاءً وتوكال‪ ،‬للصعود من حضيض الغثائية إىل اخلالفة الثانية‪ .‬ال نريد‬
‫أن يكون إميانُنا وإسالمنا الْتِ َق ِ‬
‫اطيّاً نـَتـَنَ َاولُه‪ ،‬بنقد أو بغري نقد‪ ،‬من يد األشتات‬
‫والشتات الذي آل إليه عقل املسلمني وقلبهم وكياهنم االجتماعي والسياسي‬
‫بعد أن انقسموا ثالثا وسبعني فرقة‪.‬‬
‫ذنب العقل‪ ،‬وال ذنب للغزايل الذي دافع عن العقيدة‬
‫الذنب َ‬
‫ُ‬ ‫ليس‬
‫التوحيدية يف وجه طوفان الفلسفة اإلحلادية والزيغ القدري الذي وقف ضده‬
‫قبل إمام احلديث أمحد بن حنبل رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫من ُ‬
‫اآلفة الكلية‪ ،‬عقدة العقد وبؤرة الفساد واإلفساد‪ ،‬هي طغيان السلطان‬
‫وحاشية السلطان على القرآن وعلى أهل القرآن‪ .‬انفرط عقد األمة كما أخرب‬
‫من قبل الصادق األمني صلى اهلل عليه وسلم حني قال‪" :‬لتُنقضن عرى اإلسالم‬
‫عروة عروة‪ ،‬فكلما انتقضت عروة تشبث الناس باليت تليها‪ .‬فأوهلن نقضا احلكم‬
‫وآخرهن الصالة"‪ .‬رواه اإلمام أمحد والطرباين عن أيب أمامة الباهلي‪ .‬وحصدت‬
‫سيوف بين أمية ِ‬
‫الباغيَةُ خرية الصحابة حني قتلوا احلسني سيد شباب أهل اجلنة‪،‬‬
‫وقتلوا علماء املدينة‪ ،‬وسفكوا دماء القائمني من أهل البيت‪ ،‬وسبوا اإلمام عليا‬
‫ستني سنة من على منابر املسلمني املقهورة‪ .‬أخرب بذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫‪450‬‬
‫اإلحسان‬

‫وسلم قبل وقوعه حني قال لعبد اهلل بن عمرو‪" :‬كيف بك إذا بقيت يف حثالة‬
‫ت عهودهم وأماناهتم واختلفوا فكانوا هكذا" وشبك بني أصابعه‬ ‫من الناس َم ِر َج ْ‬
‫فبم تامرين؟ قال‪" :‬عليك مبا تعرف‪ ،‬ودع ما تنكر‪ ،‬وعليك‬‫الشريفة‪ .‬قال عبد اهلل‪َ :‬‬
‫خباصة نفسك‪ ،‬وإياك وعو َّامهم"‪ .‬رواه الرتمذي وصححه وأبو داود عن عبد اهلل‬
‫بن عمرو‪.‬‬
‫قال القاضي عياض‪" :‬حثالة كل شيء ُرذالته"‪.‬‬
‫حكم املسلمني أرذال الناس‪ ،‬وتولتهم بعد السيوف العربية األموية‬
‫السيوف اخلراسانية الفارسية العباسية‪ ،‬مث السيوف الديلمية والرتكية السلجوقية‪،‬‬
‫مث السيوف اململوكية وهلم جرا‪.‬‬
‫يف ظل السيف ظهرت الفرق البدعية‪ ،‬وهي بدع جزئية ولدت ونشأت‬
‫وترعرعت وازدهرت يف رعاية البدعة الكربى‪ ،‬بدعة فساد احلكم‪ ،‬وتشبث‬
‫علماء املسلمني‪ ،‬ومنهم الغزايل‪ ،‬مبا بقي من عُرى اإلسالم‪ ،‬كلٌّ يدافع عن‬
‫حوزة من حوزات اإلسالم وعن حرمة من حرمه‪.‬‬
‫خيَّم ُمناخ استبدادي على األمة وال يزال خييم‪ ،‬وتداخل العقل املسلم‬
‫بعضه يف بعض وتقلص كما تداخل كيان املسلمني املعنوي بعضه يف بعض‬
‫رغم االنتشار السطحي اجلغرايف للدولة ‪ -‬الشوكة اإلسالمية‪.‬‬
‫ُحثالة أمس واليوم‪ ،‬على وزن فُعالة بضم الفاء‪ ،‬واألمة العددية غثاء كغثاء‬
‫السيل‪ ،‬فُعال بالصيغة املرضية‪ ،‬واملرض مرض قليب عقلي سياسي اقتصاديكلي‪.‬‬
‫ال بُرءَ له يُرجى إال بالصعود اإلمياين اإلحساين إىل جنب القرآن بِتَ َمثُّل النموذج‬
‫النبوي وطرِح النماذج اهلابطة لنجد العافيةَ من احلثالية والغثائية معا‪.‬‬
‫ال يزال بعض اإلسالميني‪ ،‬كثري منهم بكل أسف‪ ،‬يُشيدون بالنموذج‬

‫‪451‬‬
‫اإلحسان‬

‫العباسي األموي‪ .‬وذاك ارتكاس فكري مياثل يف عصرنا ارتكاس مفهوم التوكل يف‬
‫تواكلية عاجزة بليدة‪.‬‬
‫جالد اإلمام أمحد‪ ،‬جيشا من الرتك‪ُ ،‬حثالة‬ ‫اصطنع املعتصم العباسي‪ُ ،‬‬
‫من العساكر املرتزقة ليتحرر استبداده من دالَّة الفرس املؤسسني لدولة آبائه‬
‫ونفوذهم‪ .‬ما لبث العساكر من بعده أن قتلوا مخسة "خلفاء" يف مخس‬
‫الوصفان الرتك‬
‫سنوات‪ ،‬كان آخرهم موتا املهتدي الذي حاول التخلص من ُ‬
‫ويشردون ويأمرون‬
‫الذين كانوا يلعبون بالدولة اإلسالمية‪ ،‬يقتلون ويسجنون ِّ‬
‫وينهون‪ .‬قال الشاعر يصف "اخللفاء" اللُّ َعب الدُّمى‪:‬‬
‫خليفة يف قفـص بني وصيف وبُغا‬
‫كما تقـول البَبَّغـا‬ ‫يقـول ما قاال لــه ‬
‫وقال البحرتي‪:‬‬
‫ردوا ن ـوائـب دهــرهـم بالسيــف‬ ‫هلل در عـص ـ ــا بـة تـ ــركـيـ ــة ‬
‫وكسوا مجيع الناس ثوب اخلـوف‬ ‫قتل ـوا اخلليفـة أمحـد بن حمم ــد ‬
‫وإمــامنــا فيه شـبـيــه الضـيــف‬ ‫وطغـوا فأصبـح ملـكـنـا متقسما ‬
‫مجع املهتدي بين هاشم وحدثهم بأنه ينوي قتل القائدين "وصيف" و"بغا"‬
‫ليفعل كما فعل عمر بن عبد العزيز وحيمل الناس على سرية الرسول وأهل بيته‬
‫واخللفاء الراشدين‪ .‬قالوا له وهم أدرى باحلال‪" :‬إن الرسول كان مع قوم زهدوا‬
‫يف الدنيا ورغبوا يف اآلخرة‪ ،‬كأيب بكر وعمر وعثمان (الحظ أن عليا مل يذكر‬
‫للمنافسة بني العلوية والعباسية)‪ ،‬وأنت إمنا رجالك ما بني تركي وخزري وفرغاين‬
‫ومغريب وغري ذلك من أنواع األعاجم‪ .‬ال يعلمون ما جيب عليهم من أمر‬
‫غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا‪ .‬فكيف حتملهم على ما‬ ‫آخرهتم‪ .‬وإمنا ُ‬

‫‪452‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬
‫ذكرت من الواضحة؟"‪.‬‬
‫حىت الطبقة احلاكمة العباسية كانت تعرف ما هي املؤهالت اليت جيب‬
‫أن تتوفر فيمن يريد محل الناس على الواضحة‪ .‬زهد الصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫يف الدنيا ورغبتهم يف اآلخرة وحبهم هلل وتوكلهم عليه هي املزايا الكلية املفقودة‬
‫ال الكفاءة العقلية وحدها اليت يُتهم الغزايل بتضييعها‪.‬‬
‫السيف على رقاب املسلمني بعد ثالثني سنة من موت رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫غرد‬
‫َّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم مصداقا لقوله‪" :‬اخلالفة ثالثون سنة مث تكون ملكا"‪ .‬رواه‬
‫أبو داود والرتمذي وابن حبان واإلمام أمحد وغريهم بسند صحيح عن سفينة‬
‫موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬واضطرب حتت السيف ما يف الصدور من‬
‫نيات‪ ،‬وما يف الرؤوس من أدمغة‪ ،‬وما يف األرض من أرزاق‪ .‬واحتمى علماء امللّة‪،‬‬
‫من حمدثني وفقهاء وصوفية‪ ،‬يف مواقف دفاعية‪ ،‬ختلّوا عن بعض املواقع ليتشبثوا‬
‫خبنادقهم وسط الفتنة العارمة القاتلة اليت عرب عن دائها الوبيل امللك بن امللك‬
‫عبد امللك بن مروان حني خطب يف املدينة سنة مخس وسبعني فقال‪" :‬إين لن‬
‫أداوي أمراض هذه األمة بغري السيف (‪ )...‬واهلل ال يامرين أحد بعد َمقامي هذا‬
‫بتقوى اهلل إال ضربت عنقه"‪ .‬حسبنا اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬
‫قال من مل تلهه الدنيا عن أجله‪:‬‬
‫آه يـا ذيل ويـ ــا خجـل ـ ـ ــي‬ ‫ ‬
‫إن يكـن مين َدن ــا أجلـ ــي‬
‫ُمطـرقا بالـ ـرأس من َزلل ــي‬ ‫ ‬
‫ـت من ذل على قدمـي‬ ‫ُم ُّ‬
‫ونفيت النـوم عن ُم َق ـل ــي‬ ‫ ‬
‫لو بذلت الـ ـ ــروح جمته ــدا‬
‫خـائفا من خيبـ ــة األمـ ــل‬ ‫ ‬
‫ُكنت بالتقصي ــر معتـ ــرف ـ ــا‬

‫‪ 1‬املسعودي يف مروج الذهب ج ‪ 2‬ص ‪.464‬‬

‫‪453‬‬
‫اإلحسان‬

‫إن يكـن للعـب ــد س ــابـق ـ ــة سبقت يف األعصـر األ َُوِل‬
‫مل يكن يف النادمني غدا نافعي علـمي وال عمـل ـ ـ ــي‬

‫وقال ذاكر لربه بني غافلني‪:‬‬

‫فنسيـان ذكـر اهلل مـوت قـلــوهبم وأجســامهم قبـل القـبــور قـب ـ ــور‬
‫وأرواحهم يف وحشة من جسومهم وليـس هلـم حىت النشــور نشــور‬

‫وقال ذاكر هلل يريدون تغفيله لينتقل إليهم‪:‬‬

‫يُراد من القلب نسـيانكـم وتأىب الطـباع على الناقل‬

‫وقلت‪:‬‬

‫أس بِـ ــال َو َجـ ـ ـ ـ ِـل‬ ‫الر‬


‫َّ‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬
‫َ‬‫ف‬‫ر‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫م‬‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫م‬‫إ ْن تَـ ــرم يومـ ـ ـاً لِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ ت ُذوا علم ـ ـ ـاً ب ـ ـ ـالَ َع َم ـ ـ ـ ـ ِـل‬ ‫ـذار ط ــائ ـفـ ــة َ‬ ‫فَاطَّـ ـ ـ ـر ِْح أع ـ ـ َ‬
‫ـف وال َتِـ ـ ـ ـ ِـل‬ ‫الصـ ـ ِّ‬‫اخـ ـ ـ َـل َّ‬ ‫وابـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُذ ِل الـ ـ ـ ُّـروح مبُعـتَ ـ ــرك د ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬

‫‪454‬‬
‫اإلحسان‬

‫الشكر والبذل‬

‫ك َج ِام ُع الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫﴿ربـَّنَا إِنَّ َ‬
‫ٍ بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫اد﴾‪ .‬اهلل أكرب اهلل‬ ‫ف ال ِْم َيع َ‬ ‫ب فِ ِيه إِ َّن اللّهَ الَ يُ ْخلِ ُ‬ ‫ِ‬
‫ليـَْوم الَّ َريْ َ‬
‫أكرب‪ ،‬اهلل أعز من خلقه مجيعا‪ ،‬اهلل أعز مما أخاف وأحذر‪.‬‬
‫أعوذ باهلل الذي ال إله إال هو املمسك السماوات السبع أن‬
‫يقعن على األرض إال بإذنه‪ .‬اللهم كن يل جارا من شرهم‪،‬‬
‫جل ثناؤك وعز جارك وتبارك امسك وال إله غريك‪.‬‬

‫تنخ ُره أمراض‬


‫ينتظر العامل اآلن‪ ،‬والنموذج الغريب اجلاهلي يفقد من غلوائه ُ‬
‫بروز جمتمع أخوي رفيق باإلنسان‪ ،‬صديق لإلنسان‪ ،‬يرقى باإلنسان‬ ‫اجلاهلية‪َ ،‬‬
‫من وعي املقطوع عن اهلل وعن اليوم اآلخر إىل كرامته اآلدمية‪ .‬اجملتمعات البشرية‬
‫املتقدمة صناعة وحضارة القائمة اليوم مرتبطة برباط القانون اجلاف‪ ،‬الضامن‬
‫مبسطرته ومؤسساته‪ ،‬املرنة يف الدميقراطيات الشديدة يف االستبداديات‪ ،‬استقرار‬
‫التعايش على احلد األدىن من حتمل الناس بعضهم بعضا‪ .‬مل يبق إال يف اجملتمعات‬
‫ات هنا وهناك يف‬
‫البدائية واملتخلفة حضاريا بقايا من احملبة والعطف والرمحة‪ .‬ونثر ٌ‬
‫اجملتمعات املصنعة من البذل والعطاء تتمثل يف مجعيات اإلحسان‪.‬‬
‫ما بعث اهلل الرسل إلصالح دنيا الناس وانتهى األمر‪ ،‬لكن َبعثهم لدعوة‬
‫اخللق إىل مأدبة اآلخرة‪ .‬وما أمر به اهلل على لسان رسله من إصالح دنيا اجملتمعات‬
‫فالقصد منه إصالح آخرةكل فرد فرد من املؤمنني واملؤمنات ساهم بإخالص‬
‫ُ‬ ‫البشرية‬

‫‪455‬‬
‫اإلحسان‬

‫وصدق وعطاء وإحسان يف إكرام خلق اهلل‪ ،‬وإطعام خلق اهلل‪ ،‬وإيثار خلق اهلل‬
‫بذات اليد وذات النفس‪.‬‬
‫نُ َذ ِّكُر هبذا لكي ال نتيه مع إسالم البديل احلضاري الذي يعرف نفسه‬
‫منقذا أرضيا للبشرية من خمالب احلضارة املادية‪ ،‬وكأنك حني تقرأ يف كتب‬
‫كثري من اإلسالميني املنغمسني يف معركة املواجهة تقرأ عن مذهب أرضي ال‬
‫صلة له باهلل إال صلة قانونية مبدأها وغايتها "احلاكمية"‪ ،‬وال صلة هلا باآلخرة‪،‬‬
‫وال فرق فيه بني املسلمني وغريهم إال أن املسلمني يقرأون القرآن ويطيعون اهلل‬
‫يف حدود «تَ َديُّن» ال يُدرى له قـَْب ٌل وال بع ٌد‪.‬‬
‫يأيت اجملتمع األخوي الذي تْن ُش ُده البشرية وميلك اإلسالم سر إقامته‪ ،‬وقواعد‬
‫بنائه‪ ،‬وخمطط نشره‪ ،‬ونصائح احملافظة عليه هديةً إهلية ثانوية تتفرع عن اهلدية‬
‫العظمى هدية اهلداية والسعادة األبدية يف الدار اآلخرة‪ .‬تتفرع عنها وتكملها‪،‬‬
‫بل تكون فضيلةُ احملسن إىل خلق اهلل يف الدنيا قربة سعادية عظيمة يف األخرى‪.‬‬
‫وبذل اجلهد يف صاحل‬ ‫فرض يف اجملتمعات البشرية القانونية احرت ُام الغري‪ُ ،‬‬ ‫يُ َ‬
‫اجملموع‪ ،‬وأداء الضرائب‪ ،‬ومراعاة حرية اآلخرين‪ ،‬فرضا إجباريا من خارج‪،‬‬
‫بسلطان اإلرادة اجلماعية املتجسدة يف صيغ قانونية‪ .‬على األساس القانوين‬
‫والعالقات القانونية تُشيَّ ُد أركان اجملتمع‪.‬‬
‫يف اجملتمع اإلسالمي تكون القاعدة هي الرمحة واحملبة واألخوة والعطاء‬
‫مضمونا إن كان إخالص وصدق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مرجو الفائدة‪،‬‬
‫احتسابا لوجه اهلل‪ ،‬وتقدميا َّ‬
‫ت ِمن ُس َوٍء تـََو ُّد‬ ‫ت ِم ْن َخ ْي ٍر ُّم ْح َ‬
‫ضراً َوَما َع ِملَ ْ‬ ‫س َّما َع ِملَ ْ‬ ‫ليوم فِيه ﴿ ِ‬
‫َتج ُد ُك ُّل نـَْف ٍ‬
‫ِ‬ ‫لَ ْو أ َّ‬
‫ائض الشرع وضوابطه‬ ‫َن بـَيـْنـََها َوبـَيـْنَهُ أ ََمداً بَعيداً﴾‪ .‬مث تأيت يف املرتبة الثانية فر ُ‬
‫‪1‬‬

‫‪ 1‬آل عمران‪30 ،‬‬

‫‪456‬‬
‫اإلحسان‬

‫يض األخوي‪ ،‬وليزع وازع سلطان الشرع من سلوك الذين مل‬ ‫وحدوده لتنظم ال َف َ‬
‫يوقوا شح أنفسهم ما مل يـََز ْعهُ القرآن‪ .‬هذه القلوب اإلنسانية عليها أقفاهلا‪ ،‬ال تفتح‬
‫تلك األقفال إال باإلسالم وجمالسة اإلخوان وتعلم اإلميان وتدبر القرآن وصحبة‬
‫اهلل ورسوله واملؤمنني العارجة إىل مقامات اإلحسان‪ .‬من ان َفتحت له هبداية التوبة‬
‫نافذة اإلسالم احنلت عقدة من عقد قلبه‪ ،‬مث يُفتح له باب اإلميان فيُشرف على‬
‫طمأنينة الذكر والصدق فينحل قفل احلرص على املال والرئاسة‪ ،‬ويَشغلُه حب اهلل‬
‫ورسوله والشوق إىل لقائه عن توافه الدنيا وشهواهتا فيزهد ويتوكل ويبذل‪ .‬مث يُفتح‬
‫له أفُق اإلحسان فيطلق الدنيا مجيعا‪ ،‬يـُْفرغُها من قلبه‪ ،‬فال يفرح بعدها إال باهلل‪،‬‬
‫مردنا إىل اهلل‪ .‬شغلته هبجة‬ ‫وال يعمل إال هلل‪ ،‬شكرا هلل‪ ،‬وتقربا إىل اهلل‪ ،‬ويقينا أن َّ‬
‫اإلحداق فيما ُكشف له من عامل امللكوت عن زينة احلياة الدنيا‪ ،‬وهبت عليه أرواح‬
‫األشواق إىل امللك الوهاب فانفتح القفل األخري‪ ،‬قفل شح النفس‪ ،‬فانبسطت يده‬
‫بالعطاء وكان من املفلحني‪ ،‬نافذ التدبري‪ُ ،‬مصيب التقدير‪ ،‬موفّقاً مرزوقا‪.‬‬
‫ليس الكرم األصيل‪ ،‬كرم ذوي املروءات‪ ،‬كالتكرم‪ .‬وليس البذل املنبعث‬
‫عن اإلميان واإلحسان كعطاء الشحيح النفس احلديث النعمة‪ .‬ترقى املؤمن‬
‫رق الدنيا ووعده هوادج الكرامة فهو‬ ‫فحرَرهُ سيدهُ من ِّ‬
‫احملسن يف خدمة مواله َّ‬
‫ال يستميله الغىن واجلاه‪ .‬علم أن املنعم سبحانه رزاق يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وعلم‬
‫أن الدنيا ال تساوي عند الكرمي العلي احلكيم سبحانه جناح بعوضة‪ ،‬فهو‬
‫ال يقيم هلا وزنا إال من حيث كون العمل فيها‪ ،‬والكسب‪ ،‬والبذل‪ ،‬والزكاة‪،‬‬
‫والصدقة‪ ،‬واجلهد واجلهاد‪ ،‬والعبادة َجيعا واسطةٌ لنيل خري اآلخرة ودرجات‬
‫الوجوه الناضرة الناظرة‪.‬‬
‫يف اجملتمع األخوي اإلسالمي يتعايش املؤمنون احملسنون واملسلمون والناس‬

‫‪457‬‬
‫اإلحسان‬

‫أمجعون يف ظل دين يقرر ويعلم ويريب على أن ال خري إال خري اآلخرة‪ ،‬وأن‬
‫حل وحرام‪ ،‬واقتناص‬‫االستهالك َغيـَْر احملدود‪ ،‬وهنب اللذات من ٍّ‬
‫َ‬ ‫السعادة ليست‬
‫الوسائل من عيون شبكة القانون إلرضاء الشهوات‪ .‬يعلم ديننا ويلقن ويريب على‬
‫أن النعمة اإلهلية اليت اختص اهلل احلليم الكرمي هبا من آمن به وصدق رسله وعمل‬
‫يف رحلة الدنيا الوجيزة صاحلاً نعمة ُجلَّى هي نعمة اخللود يف دار املقامة يف رضى‬
‫كل قيم األرض‪،‬‬ ‫اهلل والنظر إىل اهلل‪ .‬هذه النعمة العظمى هتو ُن بالقياس إليها ُّ‬
‫ويتبارى أهل اإلميان واإلحسان‪ ،‬ويتبعهم الناس طوعا بوازع القرآن أو كرها بوازع‬
‫السلطان‪ ،‬يف بذل ذات اليد شكرا هلل‪ ،‬وتلك املرتبة العليا‪ ،‬أو جتارة مع اهلل الذي‬
‫جيزي احلسنة عشر أمثاهلا‪ ،‬وهذا يقبله اهلل حلما وكرما ومنا‪ .‬ويضاعف سبحانه‬
‫أي كرم أجل من كرمه تبارك امسه‪ ،‬النعم منه إليه‪ ،‬خلقك وأعطاك‬ ‫ملن يشاء‪ُّ .‬‬
‫فاء لفضله إال أن تصرف‬ ‫ورزقك مث استقرضك واشرتى منك! ماذا عندك من كِ ٍ‬
‫العمر شكرا! ومىت تقضي شكر نعمة اخللق ونعمة اهلداية‪ ،‬ونعمة اإلسالم‪،‬‬
‫ونعمة اإلميان‪ ،‬ونعمة اإلحسان‪ ،‬وسائر النعم التفصيلية!‬
‫املؤمنون احملسنون الشاكرون قليل من العباد‪ .‬والعاملون الباذلون شكرا‬
‫ور﴾‪.1‬‬ ‫ي َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الش ُك ُ‬ ‫يل ِّم ْن عبَاد َ‬
‫ود ُش ْكراً َوقَل ٌ‬
‫آل َد ُاو َ‬
‫قليل‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬ا ْع َملُوا َ‬
‫ذلك أن صفوة اخللق وحدهم تتصف صلتهم باهلل عز وجل بالشفافية اإلحسانية‬
‫ائب الشرك باألسباب‪ ،‬وال تكدرها رغائب حب‬ ‫فال تَشوب معاملتَهم معه شو ُ‬
‫الدنيا‪ ،‬وال حتجبها ظلمات التوكل على غريه‪ ،‬واعتبار أي خري سوى خريه‪ .‬وقد‬
‫قال شيخ اإلسالم أبو امساعيل اهلروي‪" :‬اجتمعت كلمة الناطقني يف هذا العلم‬
‫أن التصوف هو اخللُق‪ .‬ومجيع الكالم فيه يدور على قطب و ِاح ٍد‪ .‬هو بذل‬
‫املعروف وكف األذى"‪.‬‬
‫‪ 1‬سبأ‪13 ،‬‬

‫‪458‬‬
‫اإلحسان‬

‫قال اهلل عز وجل فيما رواه عنه رسوله سيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫ُنف ْق عليك!"‪ .‬احلديث رواه الشيخان عن أيب هريرة‪.‬‬ ‫"يا ابن آدم! أَنفق أ ِ‬
‫ْ‬
‫ي موجه للصفوة من العباد األحرار من رق األرض‬ ‫هذا اخلطاب العُ ْل ِو ُّ‬
‫واألكوان عباد ال رمحن‪ .‬أما غريهم من أهل اإلسالم واإلميان فيُدعون إىل‬
‫البذل من باب الوعد والوعيد‪ .‬قال أبو ذر‪ :‬انتهيت إىل النيب صلى اهلل عليه‬
‫ورب‬
‫وسلم وهو جالس يف ظل الكعبة‪ ،‬فلما رآين قال‪" :‬هم األخسرون ِّ‬
‫قار أن قمت ف ُقلت‪ :‬يا رسول اهلل!‬‫الكعبة!" قال فجئت حىت جلست‪ ،‬فلم أتَ َّ‬
‫فداك أيب وأمي من هم؟ قال‪" :‬هم األكثرون أمواال إال من قال هكذا وهكذا‬
‫وهكذا‪ .‬من بني يديه ومن خلفه‪ ،‬وعن ميينه وعن مشاله‪ .‬وقليل ما هم‪ ،‬ما من‬
‫صاحب إبل وال بقر وال غنم ال يؤدي زكاهتا إال جاءت يوم القيامة أعظم ما‬
‫كانت وأمسنه تنطحه بقروهنا‪ ،‬وتطَُؤه بأظالفها‪ .‬كلما ِنف َدت أخراها عادت‬
‫عليه أوالها حىت يُقضى بني الناس"‪ .‬رواه الشيخان عن أيب ذر‪.‬‬
‫وقد أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن نشكر من أحسن إلينا من‬
‫الناس َأدباً وتأليفا للقلوب وتشجيعا ملن حيب احملمدة أن يسمعها‪ ،‬وعباد ًة وتذكرياً‬
‫باملنعم احلقيقي سبحانه‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال يشكر اهلل من ال يشكر‬
‫الناس"‪ .‬رواه أبو داود والرتمذي بإسناد صحيح‪.‬‬
‫وهنى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن الطمع فيما عند الناس وعن سؤال‬
‫الناس‪ ،‬وأمر بالتكسب الشريف كيال يكون مثن الكفالة االجتماعية يف اجملتمع‬
‫اإلسالمي األخوي‪ ،‬جمتمع العدل واإلحسان‪ ،‬إِراقة ماء الوجه َّ‬
‫وذل املسألة وهوا َن‬
‫التطفل‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ألن حيتطب أحدكم ُحزمةً على ظهره خري له‬
‫من أن يسأل أحدا فيعطيه أو مينعه"‪ .‬رواه الشيخان عن أيب هريرة‪.‬‬
‫وقال اإلمام ابن عطاء اهلل يف حكمه‪" :‬ما بَ َسقت أغصان ذل إال على بذر‬

‫‪459‬‬
‫اإلحسان‬

‫طمع"‪ .‬الطمع يف اهلل كالشكر هلل هو احملمود‪ .‬قال راجي اهلل‪:‬‬


‫ـجـتَـ ـ ــدي أحـ ــداً ِرفْ ـ ــدا‬
‫ح ـرام علـى مــن وح ــد اهلل ربَّـ ــه وأفــرده أن يَ ْ‬
‫ويا صاحيب قف يب مع احلق وقفـ ة أموت هبا وجـدا وأحىي هبـا َو ْجـدا‬
‫وقل مللـوك األرض َْت َـه ُـد جهـدها فـذا امللك ملك ال يُبــاع وال يُهدى‬
‫ليحط الرحال على‬ ‫هذا الطامع يف ربه‪ ،‬الذي ختطت آماله البالد والعباد ُ‬
‫باب امللك الكرمي اجلواد سبحانه‪ ،‬منحه امللك الوهاب ُملكاً ال مطمع فيه مللوك‬
‫األرض وكرباء الدنيا ولو جهدوا‪ُ ،‬ملكاً ما هو من الدنيا‪ ،‬وما اآلخرة إال قاعدته‬
‫احلسية‪ ،‬ملكاً هو القرب من اهلل‪ ،‬هو مقعد الصدق عند اهلل‪ ،‬هو النظر إىل اهلل‪،‬‬
‫ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫قال اإلمام الشيخ عبد القادر رفعه اهلل يف مقعد الصدق‪" :‬يا غالم!‬
‫خطوتان وقد وصلت! خطوة عن الدنيا وخطوة عن اآلخرة‪ .‬خطوة عن نفسك‪،‬‬
‫وخطوة عن اخللق‪ .‬اترك هذا الظاهر‪ ،‬وقد وصلت إىل الباطن‪ .‬بداية مث هناية‪.‬‬
‫ابتدئ أنت والتمام على اهلل عز وجل‪ .‬منك البداية ومن اهلل عز وجل النهاية‪.‬‬
‫خذ ال ِـمَّر والزنبيل (أي احلبل والقفة كما يعمل العامل بالفأس يف انتظار من‬
‫ت تكون قريبا من املستعمل‪ .‬ال‬ ‫ِ‬
‫يشغِّله) واقعد على باب العمل‪ ،‬حىت إذا طُلْب َ‬
‫تقعد على فراشك وحتت ِلافك ومن وراء أغالق‪ ،‬مث تطلب العمل واالستعمال‪.‬‬
‫وذكره يوم النشور‪ ،‬تفكر يف القبور الدوارس‪ ،‬تفكر كيف‬‫ْأد ِن قلبك من الذكر‪ِّ ،‬‬
‫حيشر احلق عز وجل مجيع اخللق ويقيمهم بني يديه‪ .‬إذا دمت على هذا التفكر‬ ‫ُ‬
‫زالت قساوة قلبك‪ ،‬وصفا من كدره‪ .‬إذا كان البناء على أساس ثبت ورسخ‪ ،‬وإذا‬
‫تعجل وقوعه‪ .‬إذا بنيت حالك على أحكام احلكم الظاهر‬ ‫مل يكن على أساس َّ‬
‫ال يقدر أحد من اخللق على نقضه‪ .‬وإذا مل تبنه على ذلك ال يثبت لك حال‪،‬‬
‫وتتمن أن ال تراك‪.‬‬
‫وال تصل إىل مقام‪ .‬وال تزال قلوب الصديقني متقتك ّ‬

‫‪460‬‬
‫اإلحسان‬

‫"وحيك يا جاهل! الدين لعب هو! تنميس هو! ال وال كرامة ل َقفاك يا‬
‫ُمتـَنَ ِّمس! (‪ )...‬يا جهال! خالطوا العلماء واخدموهم وتعلموا منهم‪ .‬العلم‬
‫يوخذ من أفواه الرجال‪ .‬جالسوا العلماء حبسن األدب وترك االعرتاض عليهم‪،‬‬
‫وطلب الفائدة منهم‪ ،‬لينالكم من علومهم‪ ،‬وتعود عليكم بركا ُتم‪ ،‬وتشملكم‬
‫فوائدهم‪ .‬جالسوا العارفني بالصمت‪ ،‬وجالسوا الزاهدين بالرغبة فيهم‪ .‬العارف‬
‫هو يف كل ساعة أقرب إىل اهلل عز وجل مما كان يف الساعة اليت قبلها‪ .‬يف كل‬
‫ساعة يتجدد خشوعه لربه عز وجل وذله له‪ .‬خيشع من حاضر ال من غائب‪.‬‬
‫خرِسه على قدر‬ ‫على قدر زيادة قربه من ربه عز وجل‪ .‬زيادة َ‬ ‫زيادة خشوعه‬
‫‪1‬‬
‫زيادة مشاهدته"‪.‬‬
‫قال شاكر لربه‪ ،‬يُعدِّد آالءه عليه ويرجو املزيد‪:‬‬
‫ت يل يف انصرافه فقـد كنـت بـي منّـي أب ـ ـ ـ َّـر وأرمحـ ـ ــا‬ ‫ِ‬
‫وكم ُرمت أم ارً خ ْـر َ‬
‫عـزمت على أن ال أحـس خباطـري على القلـب إالكنـت أنت املقـدمـا‬
‫وأن ال تـراين عنـدما قـد هنيـتـنـي وإن كـان يف نفسـي أثـي ـرا ُمق َّـدم ــا‬
‫وماكنـت أدريكيف يصبـر واحـد وال كـيـف يسلــو بعـدمـا قد تتيّمـا‬
‫فأنقـذتين باجلـود من َغ ْم َـرة الردى وعلمـت قلبـي الصبـر حتـى تعلما‬
‫ولـو مل ختلصـنـي جبـودك مل أجـد إىل سـلــوة حتـى القـيــامـة ُسلـمــا‬
‫وقال سليم الفطرة مطبوع على اجلود‪:‬‬
‫تعـاتبين يف اجلـود واجلـود شيميت ومــالـي بإبـ ــدال الطبـ ــاع زعيــم‬
‫ومل أر مـثــل اجلــود‪ّ ،‬أما حـديثـه فحـلـ ــو وأ مــا ُح ـب ــه فـق ــد يــم‬
‫أرى الـناس خـالّن اجلـواد وال أرى بـخيــال له يف العــاملـي ــن محـيــم‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.228-229‬‬

‫‪461‬‬
‫اإلحسان‬

‫السم ـ ـ ــاك ُمـقـيـ ـ ــم‬


‫وال خيــر فـيمـن ال يُعـاش بعيـشـه ولـو أنـه ف ـ ـ ــوق ِّ‬
‫ذرينـي فـإن البخــل عــار بأهـلــه وما ضــر مثــلي أن يقــال عــدي ـ ــم‬
‫وكيف خياف الفقـر أو ُْيَرَم الغىن ك ـ ـ ـ ـ ـريـ ــم ورب الـعــاملـي ـ ــن ك ـريـ ـ ــم!‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ حـلـ ـ ـوا شـعـ ـ ــار ٍ‬


‫ات َلـ ـ ـ َّـن َع ــوي ـ ـ ـ ـ ُـل‬ ‫ـف َمعش ـ ٌـر َ‬
‫العـدل يهت ـ ُ‬ ‫باسم َ‬‫َماز َال ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب ال ُكفــر َوْهو ُمي ـ ُـل‬ ‫وسقوا شر َ‬ ‫من َمعه ــد اإلحل ــاد غُ ـ ُّـذوا صبيَ ـةً ُ‬
‫نسـ ـ ـ ِـل ُجنـ ــد اللّه أنــت َسلي ـ ـ ُـل‬ ‫ِ‬ ‫اطردهُ ِمن س ـ ِ‬
‫الوغى فل ْ‬ ‫ـاح َ‬ ‫َّعي ُ‬
‫قُ ْم للد ِّ‬

‫‪462‬‬
‫اإلحسان‬

‫البـِـر‬

‫آمنَّا فَا ْغ ِف ْر لَنَا‬


‫﴿ربـَّنَا إِنـَّنَا َ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫ِِ‬ ‫الصابِ ِرين و َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َوالْ َقانت َ‬
‫ين‬ ‫الصادق َ‬ ‫اب النَّا ِر َّ َ َ‬ ‫ذُنُوبـَنَا َوقنَا َع َذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َس َحا ِر﴾‪ .‬اللهم رب السماوات‬ ‫ين بِاأل ْ‬
‫ين َوال ُْم ْستـَغْف ِر َ‬
‫َوال ُْمنفق َ‬
‫السبع ورب العرش العظيمكن لنا جارا من شر عبادك وأحزاهبم‬
‫وأشياعهم من اجلن واإلنس أن يفرطوا علينا أو أن يطغَ ْوا‪ .‬عز‬
‫جارك‪ ،‬وجل ثناؤك وال إله َغريك‪.‬‬

‫وه ُك ْم‬‫س الْبِ َّر أَن تـَُولُّواْ ُو ُج َ‬‫َ‬ ‫نعرف الرب بتعريف اهلل جل جالله إذ يقول‪﴿ :‬لَْي‬ ‫ِّ‬
‫اآلخ ِر َوال َْمآلئِ َك ِة‬ ‫ِ‬
‫ـك َّن الْبِ َّر من آمن بِاللّ ِه والْيـوم ِ‬ ‫ب ولَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ‬ ‫َْ ََ‬ ‫قبَ َل ال َْم ْش ِرق َوال َْمغْ ِر ِ َ‬
‫ال َعلَى حبِّ ِه َذ ِوي الْ ُقربى والْيتَامى والْم ِ‬ ‫ْكتَ ِ ِ‬ ‫وال ِ‬
‫ين َوابْ َن‬
‫ساك َ‬ ‫َْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫اب َوالنَّبيِّ َ‬
‫ين َوآتَى ال َْم َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الزَكاةَ َوال ُْموفُو َن بِ َع ْهده ْم‬ ‫الصالةَ َوآتَى َّ‬ ‫الرقَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬‫يل و َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب َوأَقَ َام َّ‬ ‫ين َوفي ِّ‬ ‫السآئل َ‬ ‫السب ِ َ‬
‫ْس أُولَـئِ َ َّ ِ‬ ‫الصابِ ِرين فِي الْبأْساء والض َّ ِ‬
‫ص َدقُوا‬ ‫ين َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫ين الْبَأ ِ‬
‫َّراء َوح َ‬ ‫ََ‬ ‫إِ َذا َع َاه ُدواْ َو َّ َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْمتـَُّقو َن﴾‪.‬‬ ‫َوأُولَـئِ َ‬
‫‪1‬‬

‫ونعرف الرب بتعريف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف قوله‪" :‬الرب حسن‬
‫اخللق" احلديث رواه مسلم والرتمذي‪.‬‬
‫الرب خمال َقة طوائف الناس من ذوي القرىب‬
‫جمموع الفرقان والبيان يعطينا أن َ‬

‫‪ 1‬البقرة‪177 ،‬‬

‫‪463‬‬
‫اإلحسان‬

‫واحملتاجني بأخالق البذل واإلكرام ببواعث اإلميان واإلحسان وفضائل الصدق‬


‫والتقوى‪ .‬الرب سلوك متماسك‪ ،‬أخالقي ديين اقتصادي اجتماعي‪ ،‬يف البأساء‬
‫والضراء وحني البأس‪ ،‬باعثُهُ اإلميان باهلل واليوم اآلخر واملالئكة والكتاب والنبيئني‪.‬‬
‫الرب ختلص من الشح بإيتاء املال‪ ،‬رغم حب املال تلك احملبة اهلامشية اليت تبقى‬
‫عالقة جبوانب نفس املؤمن‪ ،‬ال تتالشى وتضمحل إال يف نفس احملسنني الذين‬
‫سكن حب اهلل والتوكل على اهلل كياهنم حىت مل يعد فيها مكان حلب َغريه‪.‬‬
‫النبع القليب‪ ،‬نَبع الرب العميق الشامل اجليَّاش‪ ،‬ال من ضوابط القانون‪،‬‬ ‫من ْ‬
‫ُيلي إميان املؤمن على املؤمن وإحسان احملسن على احملسن فريضة العطاء يف‬
‫سبيل اهلل‪ ،‬من زكاة حمدودة وصدقة مسحاء‪ .‬وعلى أركان الرب‪ ،‬ال على بنود‬
‫القانون يتأسس التكافل االجتماعي يف اجملتمع اإلسالمي األخوي‪ ،‬ويف تعامل‬
‫املسلمني مع الناس أمجعني‪ ،‬إذ ال حدود للرب حتبِسهُ عن الوفاء حبق الضعيف‬
‫واحملتاج من إنسان وطري ودابة‪.‬‬
‫ووصف ملا جيب أن يكون‪ ،‬نتشوف ألخالقية‬ ‫ٌ‬ ‫هذا ذكر للمثال اإلسالمي‬
‫العدل واإلحسان يف دولة القرآن‪ .‬أما واقعنا احلايل‪ ،‬واقع خصومة السلطان‬
‫فالب كلمة تقال ووعظ يسمع‪ .‬ويتسلى املسلمون الغيورون بعرض‬ ‫مع القرآن‪ِ ،‬‬
‫املبادئ اإلسالمية‪ ،‬املهجورة عمليا الغريبة‪ ،‬ليفاخروا العامل املتحضر الدميقراطي‬
‫الوحي‬
‫القانوين بأن اإلسالم سبق إىل الفضائل العليا بكذا وكذا قرناً‪ .‬يف مقارنة ْ‬
‫املنزل بقانون البشر بأْساءُ وضراء شديدان‪ ،‬وهجر املسلمني لدينهم‪ ،‬وغياب‬ ‫َّ‬
‫الرب من بينهم‪ ،‬أشد‪ .‬وهذاك من هذا‪.‬‬
‫االنبعاث اإلسالمي واحلمد هلل يف مراحل اليقظة‪ ،‬واالكتمال اإلمياين‬
‫واإلحساين الذي يؤسس الرب مشروع تربوي ترعاه عناية اهلل على يد الربانيني‬
‫من الدعاة‪ .‬وشؤون األمة يف قضايا العدل والرب‪ ،‬مثل شؤوهنا السياسية‪ ،‬جيب أن‬

‫‪464‬‬
‫اإلحسان‬

‫تتعهدها الدعوة منذ هذه املراحل األوىل بالتنظري والتطبيق وهتييء النماذج املتعددة‬
‫حىت إذا متكنت الدعوة من الدولة‪ ،‬ومكن اهلل لألبرا ِر يف األرض‪ ،‬تركبت العالقات‬
‫يف دولة القرآن على تركيبة ال تستوعب فيها الدولة الدعوة‪ ،‬وال يستأثر فيها وازع‬
‫السلطان باألمر والنهي يف جليل األمر وحقريه‪.‬‬
‫كأن من طبع الدولة املركزية احلديثة أن تطغى السلطة القانونية‪ ،‬وإداراهتا‬
‫ومكاتبها وإحصاءاهتا وأجهزهتا املنتشرة‪ ،‬على احلياةكافة حىت تصل إىل النموذج‬
‫املتقدم يف هذا املضمار االجتماعي‪ ،‬منوذج الدولة الكافلة يف ُد َوِل اسكندنافيا‪ .‬يف‬
‫مثل هذا اجملتمع البالغ التنظيم املغ ِرق يف القانونية تفقد املبادرة الفردية واملنظمات‬
‫االجتماعية اخلاصة كل داع لوجودها‪ .‬وكأن اجملتمع القانوين الكفايل انقلب رأساً‬
‫على عقب فأصبحت الدولة هي القاعدة‪ ،‬وهي األم‪ ،‬وهي الكل‪ ،‬والناس من‬
‫حتتها أرقام يف احلضانة‪ ،‬وحتت الرعاية اإلدارية اليت ال اسم هلا وال لون وال وجه‪.‬‬
‫يف دولة القرآن ينبغي لوازع السلطان‪ ،‬ال سيما يف املراحل االنتقالية أثناء‬
‫ترويض األجهزة املوروثة‪ ،‬أن يتوىل العالقات اخلارجية وكل شأن من شؤون‬
‫األمة يتطلب ختصصا دقيقا ومتويال ضخما وأمنا عاما وقوة حمشودة‪ .‬ويُعهد‬
‫للرب املنظم الفردي مسؤولية كفالة اإلنسان يف حاجاته الصحية‪ ،‬والتعليمية‪،‬‬
‫والرتبوية‪ ،‬والعاطفية اإلحسانية‪ ،‬واملادية الطارئة‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والرتفيهية‪.‬‬
‫وبالتدريج يعاد الوضع بني الدعوة والدولة‪ ،‬وبني اجملتمع واإلدارة‪ ،‬وبني الرب‬
‫اإلحساين والقهر السلطاين إىل نصابه‪ ،‬فيكون الناس األحرار املنبعثون باإلميان‬
‫باهلل واليوم اآلخر واملالئكة والكتاب والنبيئني هم القاعدة‪ ،‬وهم الرقابة على‬
‫الدولة املتحكمون فيها‪ ،‬هلم الوصاية على الدولة وليس للدولة عليهم الوصاية‪.‬‬
‫وليس خنوع الناس حتت مطارق السلطان أهو َن ما نرث من تاريخ احلكم العاض‬
‫واجلربي الذي عاجل أمراض األمة طيلة أربعة عشر قرنا بالسيف‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫اإلحسان‬

‫حنمل معنا‪ ،‬معشر األمة‪ ،‬جرثومة اخلضوع اخلائف للسطان ولو جار‪ ،‬ال‬
‫ندري ِلَ صرب السلف الصاحل على اجلَ ْور‪ِ ،‬ولَ استظهروا به وبشوكته املـدافعة عن‬
‫بيضة اإلسالم ووحدته‪ .‬ونتحمل بتقليد نظام الدولة احلديثة ِوزراً جديداً هو‬
‫ِوزر مركزيتها وقانونيتها وأخطبوطيتها‪ .‬عامالن‪ ،‬موروث وحمدث‪ ،‬كالمها ٌّ‬
‫عدو‬
‫للرب‪ ،‬قاتل للرب‪ ،‬قاطع ملا أمر اهلل به أن يوصل من وشائج العدل واإلحسان‪.‬‬
‫القانون‪ ،‬دولة القانون‪ ،‬سلطة القانون‪ ،‬حقوق اإلنسان‪ ،‬التعايش السلمي‪،‬‬
‫احلرية‪ ،‬حق احلياة‪ ،‬املساواة‪ ،‬العدالة‪ ،‬العمل‪ ،‬احرتام الشخصية‪ ،‬حق املعارضة‪،‬‬
‫حق اللجوء السياسي‪ ،‬حق التعليم‪ ،‬حق امللكية‪ ،‬حتديد امللكية‪ ،‬تأميم امللكية‪،‬‬
‫احلرية الدينية‪ ،‬الصحة‪ ،‬الوقاية‪ ،‬الرتفيه‪ ،‬العطلة‪ ،‬املرافق االجتماعية‪ ،‬ومحاية‬
‫البيئة‪ ،‬والنضال من أجل السالم العاملي‪ .‬هذه شعارات العصر ومطالب‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومتعلقات القانون‪ ،‬ومسؤولية الدولة‪ ،‬ورهان السياسة‪ ،‬وشغل‬
‫املؤسسات احمللية والدولية العاملية‪.‬‬
‫يتص ّدى األبرار احملسنون لبناء دولة القرآن‪ ،‬وتوحيد األمة حتت راية اخلالفة‬
‫الثانية‪ ،‬يف عامل اجنرفت تربة املروءة والعطف واحلنان من بني عناصر جمتماعته‪،‬‬
‫فما هي إال كالصخور واألحجار العارية تتقعقع اصطداما ونزاعا‪ .‬بقايا قليلة‬
‫ُس ِري يف العامل املتخلف صناعيا‪ ،‬وبقايا من‬‫من الكرم اإلنساين والتضامن األ َ‬
‫الرب اإلمياين واملكارمة والتذمم بني املسلمني‪ ،‬وبقايا نداء الفطرة يف العامل‬
‫املصنع يتمثل يف التجمعات غري احلكومية ويف النداء حبقوق اإلنسان‪ .‬أصبح‬
‫شعار "حقوق اإلنسان" آخر غصن أخضر حي يانع تتشبت به اإلنسانية‬
‫الغارقة يف أوحال الكفر واجلحود والنفاق واحلضارة املادية االستهالكية‪.‬‬
‫هذه احلضارة املتآكلةُ من أحشائها‪ ،‬املستظهرةُ بقوة العلوم والصناعة والتنظيم‬
‫تعلمت احلكمة من التاريخ ونوائبه‪ ،‬فكياهنا االجتماعي السياسي االقتصادي‬

‫‪466‬‬
‫اإلحسان‬

‫الدويل مستمسك بالقانون يتقي به الكارثة النووية‪ ،‬ويتقي به االضطرابات‪ ،‬ويتقي‬


‫به أيضا‪ُ ،‬خبثاً ومكرا‪ ،‬االستجابةَ ملطالب املستضعفني يف األرض وحقوقهم يف‬
‫اإلنصاف‪ ،‬ويف الكرامة و واالستقالل‪ ،‬واالستمتاع خبريات األرض‪ ،‬وبضمان‬
‫نظام اقتصادي عاملي عادل ال متيلكفته يف صاحل األغنياء األقوياء ذئاب األرض‬
‫كبين فيها‪.‬‬ ‫املستَ ِ‬
‫واجب األبرار األحرار أن يلبوا نداء احملتاج واملستضعف والصادق أينما‬
‫كان‪ ،‬وأن يغرسوا يف تربة املسلمني مث يف تربة الناس أمجعني شجرة الرب الباسقة‬
‫ليستمسك هبا كل ملهوف‪ ،‬وأن ميدوا يد التعاون والتعاطف والتنافس يف خري‬
‫للحشاشة الفاضلة من املروآت والشهامة املنادية حبقوق اإلنسان‬ ‫اإلنسانية ُ‬
‫يطوق أخطبوط االستكبار وتُ ْك َسر بيضة القانون‬ ‫وحقوق املستضعفني‪ ،‬إىل أن َّ‬
‫اجملحف‪ .‬واجب األبرار أن يشمل برهم‪ ،‬وهم يف طريق اخلالفة الثـانية‪ ،‬كل بـٍَّر‬
‫ين لَ ْم يـَُقاتِلُوُك ْم فِي‬ ‫َّ ِ‬
‫﴿ل يـَنـَْها ُك ُم اللَّهُ َع ِن الذ َ‬ ‫وفاجر يف حدود قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ب‬‫وه ْم َوتـُْق ِسطُوا إِلَْي ِه ْم إِ َّن اللَّهَ يُ ِح ُّ‬
‫الدِّي ِن َولَ ْم يُ ْخ ِر ُجوُكم ِّمن ِديَا ِرُك ْم أَن تـَبـَُّر ُ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ال ُْم ْقسط َ‬
‫‪1‬‬

‫حق اهلل وحق أنفسنا أوال مث يعم برنا العاملني‪ .‬فإنه "من َّنفس عن مؤمن‬
‫كربة من كرب الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة‪ .‬ومن يسر على‬
‫معسر يسر اهلل عليه يف الدنيا واآلخرة‪ .‬ومن سرت مسلما سرته اهلل يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪ .‬واهلل يف عون العبد ما دام العبد يف عون أخيه" احلديث رواه مسلم‬
‫وغريه عن أيب هريرة‪.‬‬
‫اهلل حيب املقسطني العادلني مع اخللق أمجع‪ ،‬واهلل يف عون العبد ما دام العبد‬

‫‪ 1‬املمتحنة‪8 ،‬‬

‫‪467‬‬
‫اإلحسان‬

‫يف عون أخيه‪ ،‬درجة فوق درجة‪ :‬أعلى العون عون املؤمن مث عون املسلم‪ ،‬مث عون‬
‫كل حمتاج وإغاثةكل ملهوف ونصرةكل مظلوم‪.‬‬
‫املنزل به الكتاب والسنة أبواب‪ :‬بر الوالدين‪ ،‬بر األوالد واألقرباء‪،‬‬
‫والرب ُ‬
‫بر اليتيم‪ ،‬بر الزوجة‪ ،‬السعي على األرملة واملسكني‪ ،‬بر الشيوخ والعجائز‪ ،‬بر‬
‫العطية الكبرية واهلدية الرمزية‪ ،‬بر البشاشة‪ ،‬بر حسن اخللق‪ ،‬بر إماطة األذى‬
‫عن الطريق‪ .‬وإنه على كل ُسالمى من الناس صدقة‪ ،‬العدل بني اثنني صدقة‪،‬‬
‫وتُعني الرجل يف شأن خاص صدقة‪ ،‬وترفع معه متاعه صدقة‪ ،‬والكلمة الطيبة‬
‫صدقة‪ ،‬كما جاء يف الصحيح‪ .‬هذه آفاق الرب الفسيحة وذُراه العالية‪ .‬والسالم‬
‫على من اتبع اهلدى‪.‬‬
‫قال اإلمام الشيخ عبد القادر‪" :‬الدنيا حجاب عن اآلخرة واآلخرة حجاب‬
‫عن رب الدنيا واآلخرة‪ .‬كل خملوق حجاب عن اخلالق عز وجل (‪ .)...‬ال‬
‫تلتفت إىل اخللق وال إىل الدنيا وال إىل ما سوى احلق عز وجل حىت تأيت إىل باب‬
‫احلق عز وجل بأقدام ِسِّرك وصحة زهدك فيما سواه‪ ،‬عُريانا عن الكل‪ ،‬متحريا‬
‫فيه‪ ،‬مستغيثا إليه‪ ،‬مستعينا به‪ ،‬ناظراً إىل سابقته وعلمه‪ .‬فإذا حتقق وصول قلبك‬
‫وقربك وأدناك وحياك‪ ،‬ووالك على القلوب و َّأمرك عليها‪،‬‬‫وسرك‪ ،‬ودخال عليه‪َّ ،‬‬
‫وجعلك طبيبا‪ ،‬فحينئذ (‪ )...‬تأكل أقسامك من الدنيا واآلخرة وأنت على بابه‬
‫ومها قائمتان خادمتان‪ .‬ال تأكل قَ ْس َمك من الدنيا وهي قاعدة وأنت قائم‪ ،‬بل‬
‫ختدم من هو‬
‫ك ْلها على باب امللك وأنت قاعد وهي قائمة‪ ،‬والطبق على رأسها ُ‬
‫‪1‬‬
‫واقف على باب احلق عز وجل‪ ،‬وتُ ِذل من هو واقف بباهبا"‪.‬‬
‫ما يف كالم اإلمام تناقض يا عباد اهلل مع السعي للرزق وضرورة التكسب‪،‬‬
‫واالسرتزاق من باب األسباب‪ ،‬وهو باب من أبواب امللك‪ ،‬باب شريف عفيف‪،‬‬
‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.97-98‬‬

‫‪468‬‬
‫اإلحسان‬

‫إن مل تكن الدنيا أكرب هم الواقف وغاية رغبته ومنتهى علمه وساكن فؤاده‪.‬‬
‫كف القلب عن حب الدنيا‪ ،‬والرب عطاء ﴿إِنَّ َما نُط ِْع ُم ُك ْم لَِو ْج ِه‬ ‫الزهد احلق ُّ‬
‫اللَّ ِه﴾‪ 1‬ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫قال من قدم من عاجلته آلجلته‪:‬‬
‫وبـَ َـدا ِر مـا دام الزمــان ُم ـواتـي‬ ‫خـذ من حيـاتك للممـات اآلتـي ‬
‫ـودع املـاضـي بـه واآليت‬‫قــد خـ ِ‬ ‫ال تغتـرر فهـي الس ـراب بقيعـة ‬
‫يـومـا ليـوقـظــه مـن الغف ــالت‬ ‫يا مـن يـؤمـل واعظــا ومـذك ـرا ‬
‫مبــدافـن اآلبـ ــاء واألمـ ـ ِ‬
‫ـات!‬ ‫هال اعتبـرت وياهلا مـن عبـرة! ‬
‫ّ‬
‫فَـلَـ َكــم به من جـيـرة ولِــداتِ‬ ‫قـف بالبقـيـع ون ِ‬
‫ـاد يف عـرصاتِه ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫متمـي ـزا عنهـم بـوصـف حيــاة‬ ‫درجـوا ولست خبالـد من بعدهم ‬
‫إال وأنـت تـُعــد فـي األمـ ـوات‬ ‫ـت حيّـا صارخا ‬ ‫اسـتـَْهلَْل َ‬
‫واهلل ما ْ‬
‫والنـاس صرعى َم ْـع َـرك اآلفــات‬ ‫فوت عن َد ْرك احلِمام هلارب ‬ ‫ال َ‬
‫ِسنَـةَ ال َكَرى مبـدارج احليّــات!‬ ‫كيـف احليــاة لـدارج متكـلــف ‬
‫ننـفـك عن شغـل هبـاك وهــات‬ ‫أسفـا علينـا معشــر األمـوات ال ‬
‫يف غـفـلــة عـن ه ــاذم اللــذات‬ ‫ويغـرنا لَ ْـمع السـراب فنـغتـدي ‬
‫واحلـق ليس خبـافت املشـك ــاة‬ ‫واهلل مـا نصـح ام ـرأً من غشــه ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫ِ‬
‫اإلحسان‬ ‫أهل الع ِ‬
‫ـدل و‬ ‫صف ِ‬ ‫يف ِّ‬ ‫صوتــهُ ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫امح ْل لواءَ العدل وانش ـ ْـر َ‬
‫العاين‬
‫َّعيف َ‬
‫خري َّ ِ‬
‫الصنائ ِع‪ ،‬والض ُ‬ ‫ََ‬ ‫للخلق واصن ـ ْـع لِ َلورى ‬ ‫ُك ْن رمحةً ِ‬
‫ِ‬
‫ـت األثي َـم اجلان‬ ‫قَـ ـ ــاتل لِتُ ِ‬
‫إ ْن ال تق ْـم كن َ‬ ‫نص َفـ ــهُ أثـ ـ ـرياً ظ ــامل ـا ً‬ ‫ْ‬

‫اإلنسان‪9 ،‬‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪469‬‬
‫اإلحسان‬

‫الـ ـع ـ ـ ــدل‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪.‬‬


‫ول فَا ْكتُبـْنَا َم َع‬
‫الر ُس َ‬
‫ْت َواتـَّبـَْعنَا َّ‬ ‫آمنَّا بِ َما أ َ‬
‫َنزل َ‬ ‫﴿ربـَّنَا َ‬
‫َ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم اكفين حباللك عن حرامك‪ ،‬وأغنين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫الشاهد َ‬
‫بفضلك عمن سواك‪.‬‬

‫يف قراءة احلديث القدسي يف التظامل ويف تعداد ِمنن الوهاب سبحانه على‬
‫عباده كان العلماء األتقياء جيثون على الركب إجالال ملا يتلون ويسمعون عن‬
‫أيب ذر رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال فيما روى عن اهلل‬
‫تبارك وتعاىل‪" :‬يا عبادي! إين حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حمرما‪ ،‬فال‬
‫تظاملوا‪ .‬يا عبادي! كلكم ضال إال من هديته‪ ،‬فاستهدوين أهدكم‪ .‬يا عبادي!‬
‫كلكم جائع إال من أطعمته‪ ،‬فاستطعموين أطعمكم‪ .‬يا عبادي! كلكم عار إال‬
‫من كسوته‪ ،‬فاستكسوين أكسكم‪ .‬يا عبادي! إنكم ختطئون بالليل والنهار وأنا‬
‫ضري‬ ‫أغفر الذنوب مجيعا‪ ،‬فاستغفروين أغفر لكم‪ .‬يا عبادي! إنكم لن تبلغوا َ‬
‫فتضروين‪ ،‬ولن تبلغوا نفعي فتنفعوين‪ .‬يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم‬
‫وجنكمكانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك يف ملكي شيئاً‪ .‬يا عبادي!‬
‫لو أن أولكم وآخركم‪ ،‬إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما‬
‫نقص ذلك من ملكي شيئاً‪ .‬يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‬
‫قاموا يف صعيد واحد فسألوين فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما‬

‫‪470‬‬
‫اإلحسان‬

‫عندي إال كما ينقص املِ ْخيَ ُ‬


‫ط إذا ْأد ِخل البحر‪ .‬يا عبادي! إمنا هي أعمالكم‬
‫أُحصيها لكم مث أوفّيكم إياها‪ ،‬فمن وجد خريا فليحمد اهلل‪ ،‬ومن وجد غري ذلك‬
‫فال يلومن إال نفسه!" هذه رواية ملسلم واحلديث رواه أيضا الرتمذي بنحوه‪.‬‬
‫هذا اخلطاب اجلليل ختضع له هامات األحرار األبرار إكباراً وشكرا‬
‫الزجر القارع املوجه‬ ‫النهي اإلهلي الكرمي املتلطف عن التظامل ُ‬ ‫ويكمل َ‬ ‫وامتثاال‪ِّ .‬‬
‫﴿وَما لَ ُك ْم‬ ‫لكافة املؤمنني يف شأن القعود عن نصرة املظلومني يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ال والنِّساء والْ ِولْ َد ِ‬
‫ان‬ ‫ض َع ِفين ِمن ِّ ِ‬ ‫الَ تـ َقاتِلُو َن فِي سبِ ِ ِ‬
‫الر َج َ َ َ‬ ‫يل اللّه َوال ُْم ْستَ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اج َعل لنَا من‬ ‫ين يـَُقولُو َن َربـَّنَا أَ ْخ ِر ْجنَا م ْن َهـذه الْ َق ْريَة الظال ِم أ َْهلُ َها َو ْ‬
‫الذ َ‬
‫آمنُواْ يـَُقاتِلُو َن فِي َسبِ ِ‬
‫يل اللّ ِه‬ ‫نك ولِياً واجعل لَّنَا ِمن لَّ ُد َ ِ َّ ِ‬
‫ين َ‬ ‫نك نَصيراً الذ َ‬ ‫لَّ ُد َ َ ّ َ ْ َ‬
‫وت فـََقاتِلُواْ أ َْولِيَاء َّ‬
‫الش ْيطَ ِ‬
‫ان إِ َّن َك ْي َد‬ ‫ين َك َف ُرواْ يـَُقاتِلُو َن فِي َسبِ ِ‬
‫يل الطَّاغُ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َوالذ َ‬
‫‪1‬‬
‫ض ِعيفاً﴾‪.‬‬ ‫ان َكا َن َ‬ ‫الش ْيطَ ِ‬
‫َّ‬
‫إن مناخ العبودية لغري اهلل عز وجل خيَّم على مجهور األمة منذ علت سيوف‬
‫احلكم اجلائر الرقاب منذ عهد بين أمية‪ .‬وإن إطالق سراح املسلمني من هذه الربقة‬
‫الرذيلة مطلب من أول مطالب جند اهلل‪ ،‬وأمر جيب أن يسبق إىل تنفيذه أحباب‬
‫اهلل‪ .‬وإن اهلل ال حيب الظاملني‪ ،‬وال يهديكيد اخلائنني‪ ،‬وحيب احملسنني‪ ،‬ومن أوثق‬
‫عرى اإلحسان العدل‪ .‬والعدل عكس الظلم واجلَ ْور واحلكم اجلربي‪.‬‬
‫ان َوإِيتَاء ِذي الْ ُق ْربَى َويـَنـَْهى‬‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن اللّهَ يأْمر بِالْع ْد ِل وا ِإلحس ِ‬
‫َ ُُ َ َ ْ َ‬
‫شاء َوال ُْمن َك ِر َوالْبـَغْ ِي﴾‪ 2 .‬العدل يسري مع اإلحسان ومع الرب‪ ،‬وعكسه‪،‬‬ ‫َع ِن الْ َف ْح َ‬
‫كل هذه اآلفات االجتماعية‬ ‫وهو الظلم‪ ،‬يسري يف ركابه الفحشاء واملنكر والبغي‪ .‬و َّ‬
‫السياسية األخالقية أُِم ْرنا أن نقاتل‪ .‬قال املفسرون يف معىن العدل واإلحسان‪:‬‬

‫‪ 1‬النساء‪74 ،‬‬
‫‪ 2‬النحل‪90 ،‬‬

‫‪471‬‬
‫اإلحسان‬

‫العدل ال إله إال اهلل واإلحسان أداء الفرائض‪ .‬وقيل العدل الفرض واإلحسان‬
‫النافلة‪ .‬وقيل العدل استواء العالنية والسريرة واإلحسان أن تكون السريرة‬
‫أفضل من العالنية‪ .‬وقيل العدل اإلنصاف واإلحسان التفضل‪.‬‬
‫يسموهنم غري ذلك‪،‬‬‫كان السادة الصوفية يسمون حكام اجلَ ْور ظَلَمة‪ ،‬ال ّ‬
‫مث ينصرفون إىل أورادهم‪ .‬وجيتهد السادة املفسرون يف كشف أوجه املعاين‬
‫كم َدةٌ من إفالت الواقع وتفسخه وانتقاضه‪.‬‬ ‫يودعوهنا بطون الكتب‪ ،‬والقلوب ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫يف يوم الصحوة هذا‪ ،‬وغد اخلالفة الثانية‪ ،‬القضية قضية العدل مبعىن طرد‬
‫الظلمة احلاكمني بغري رضى األمة‪ ،‬ومبعىن جعل األمر شورى بني املسلمني‬
‫األحرار األبرار‪ ،‬ومبعىن القضاء على األَثـََرة والطبقية والذئبية اجلشعة اليت تسود‬
‫جمتمعاتنا فتسمح ألولياء الشيطان‪ ،‬سراق السلطان‪ ،‬وأعواهنم باحتجان أموال‬
‫املسلمني واللعب هبا وترك سواد األمة املستضعفة ختوض غمرات الفقر والذل‬
‫والتحقري‪ .‬هذا مطلب إحساين إمياين يريد جهادا على كل الواجهات‪ .‬ويويت‬
‫اهلل‪ ،‬إن شاء اهلل‪ ،‬من تصدى له بالنية واإلخالص واإلرادة واهلمة والذكر‬
‫ودوام الطلب و"الوقوف على باب امللك" ما آتى األولني من فضله‪ .‬أور ُادنا‬
‫وسبَبُنا‬
‫ذكر ودعاؤنا الليل وأطراف النهار‪ ،‬فالذكر والدعاء َسبَبُنا السماوي‪َ .‬‬
‫األرضي‪ ،‬يف السلوك اجلهادي‪ِ ،‬وْرُد إعداد القوة‪ ،‬وورد تقويض خيمة الباطل‪،‬‬
‫وورد إقامة دولة القرآن‪ ،‬ودولة العدل واإلحسان‪.‬‬
‫وفتوة وإيثار‪ ،‬وأخالق‬
‫إن الرب عطاء طَْوعي‪ .‬وإيتاء للمال واخلدمة لوجه اهلل‪َّ ،‬‬
‫كبار‪ .‬وال شك أن يف األمة مروآت عالية‪ ،‬وقلوبا بالتقوى صافية‪ ،‬يكون باعث‬
‫الرب ُمرَكها للمشاركة يف محل مهوم املستضعفني‪ ،‬ويدفعها حب اهلل إىل جانب‬
‫احلق والعدل لتقاتل أولياء الشياطني‪ .‬لكن العدل املفروض بقوة السلطان هو‬
‫صيخ إليه اآلذان الصماء عن الدعوة اإلحسانية‪ .‬هو‬‫لغة الواقع الذي تفهمه وتُ ُ‬

‫‪472‬‬
‫اإلحسان‬

‫السيف أهل القرآن‪.‬‬


‫َ‬ ‫لغة الشرع‪ ،‬لغة القرآن‪ ،‬تصري فصيحة وضيحة يوم َي ِمل‬
‫جبور‪ ،‬وظلم بظلم‪ ،‬وإكراه‬ ‫قصدنا استبدال َج ْور ْ‬ ‫معاذ اهلل أن يكون ُ‬
‫بإكراه! األمة لن حتىي حياة الكرامة اآلدمية ما مل يكن أمرها شورى بينها‪ ،‬حبرية‬
‫حسن استعماهلا حبضور جند اهلل مجاعة موحدة أو مجاعات‬ ‫َ‬ ‫يلزم أن تتعلم‬
‫متعاونة‪ ،‬وأن تتعلم إدارهتا‪ ،‬وأن تتعلم حرفَها ومعناها وحنوها وصرفها‪.‬‬
‫احلرية اليت تتحلب هلا أفواه املستضعفني احملرومني يف األرض والعدل‬
‫املشهود املفقود متثله يف خياهلم اجلائع النماذج الدميقراطية واالشرتاكية يف‬
‫العامل‪" .‬كاد الفقر أن يكون كفراً" كما قال اإلمام علي كرم اهلل وجهه‪ ،‬والفقر‬
‫ومجهورهم من‬
‫ُ‬ ‫والظلم كفران‪ ،‬يكادان‪ ،‬يعاين منهما املستضعفون يف األرض‪،‬‬
‫وحينّون إىل التحرر منهما‪ .‬هات يل حرية‪ ،‬أية‬ ‫املسلمني‪ ،‬ويرزحون حتت ن ِريمها‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫حرية عملية‪ ،‬ال تطعمين آماال ومبادئ مثالية! هات يل عدل اخلبز اليومي‪،‬‬
‫عدل العمل‪ ،‬عدل األجر على العمل‪ ،‬وعدال ينقذ طفلي املريض‪ ،‬وعدال‬
‫يعطيين سكنا أخرج من كوخ البؤس! هات يل حرية الكرامة وعدل الكفاية!‬
‫مث اسألين بعد ذلك ما شئت‪.‬‬
‫مؤجل‪ ،‬يطلقه يف وجه العاملني لإلسالم‬ ‫حال غريُ ّ‬ ‫إنه لتَ َح ٍّد كبري‪ ،‬ملح ٌّ‬
‫واقع األمة البئيس بقدر ما هو واجب فرضه اهلل رب العزة رب العباد الذي ال‬
‫ِِ‬
‫حيب الظاملني ويأمر بأنه ﴿ال عُ ْد َوا َن إِالَّ َعلَى الظَّالم َ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫املال والسلطان‪ ،‬السلطان واملال‪ ،‬يف تعاطف وتآلف‪ ،‬يف تضامن شيطاين‬
‫سمن الطغاة‪ ،‬ويأكل حلوم الضعاف‪ ،‬وميتص دماء العجاف‪ .‬ظاهرة املإل املستكرب‬ ‫يُ ِّ‬
‫ظاهرة شيطانية جاهلية ما لبثت بعد ثالثني سنة من موت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫‪ 1‬البقرة‪193 ،‬‬

‫‪473‬‬
‫اإلحسان‬

‫وسلم أن عادت للظهور‪ ،‬وهي اآلن يف ديار اإلسالم أكثر ما تكون شراسة‪ .‬قلعها‬
‫هدف يلتقي عليه اإلسالميون وكل ذي غرية من املسلمني‪ ،‬فإىل صف‬ ‫من أصوهلا ٌ‬
‫اجلهاد يف سبيل اهلل واملستضعفني ندعو ذوي الغرية والنصرة إلسقاط الظلم وقتله‬
‫ودفنه‪ ،‬مث بناء القاعدة املادية للعدل‪ ،‬وهي الرخاء باجلهد‪ ،‬والقسمة باإلنصاف‪،‬‬
‫والتنمية باملشاركة‪ ،‬واحلكم بالشورى‪ ،‬واإلدارة بالكفاءة‪ ،‬والعزة باهلل عز وجل ال‬
‫بغريه‪ ،‬والكل باإلسالم واإلميان والعدل واإلحسان‪.‬‬
‫كان الصوفية األخيار‪ ،‬والعلماء األبرار‪ ،‬يأخذون قبلنا برخصة االنعزال‬
‫وخيا ِر ُمزايـَلَة الفتنة ومنابذهتا حفاظا على وحدة املسلمني وتطبيقا لألحاديث‬
‫النبوية الكثرية املوصية بطاعة السلطان ولو جار‪ .‬تلك أمة قد خلت‪ ،‬وسنة اهلل‬
‫الصادين‬
‫تعاىل جارية إىل اخلالفة الثانية‪ ،‬واألخذ بعزائم اجلهاد لدحض حجج ّ‬
‫عن سبيل اهلل وتقويض بنياهنم هو نقد الوقت وكلمة الساعة‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ما من نيب بعثه اهلل يف أمة قبلي‬
‫إال كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته‪ ،‬ويقتدون بأمره‪ .‬مث إهنا‬
‫ختلُف من بعدهم خلوف يقولون ما ال يفعلون‪ ،‬ويفعلون ما ال يومرون‪ .‬فمن‬
‫جاهدهم بيده فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم‬
‫بقلبه فهو مؤمن‪ .‬ليس وراء ذلك من اإلميان حبة خردل"‪ .‬رواه مسلم عن عبد‬
‫اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫اري رسول اهلل ونصريه وخليفته‪ ،‬فحمد اهلل وأثىن‬ ‫وخطب أبو بكر‪ ،‬حو ُّ‬
‫عليه وقال‪" :‬يا أيها الناس! إنكم تقرأون هذه اآلية وتضعوهنا على غري موضعها‪:‬‬
‫ض َّل إِ َذا ْاهتَ َديـْتُ ْم﴾‪.1‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ض ُّرُكم َّمن َ‬
‫س ُك ْم الَ يَ ُ‬
‫آمنُواْ َعلَْي ُك ْم أَن ُف َ‬ ‫﴿يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين َ‬

‫‪ 1‬املائدة‪107 ،‬‬

‫‪474‬‬
‫اإلحسان‬

‫وإنا مسعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬إن الناس إذا رأوا الظامل‬
‫فلم يأخذوا على يَ َديْه أوشك أن يعمهم اهلل بعقاب"‪ .‬رواه الرتمذي وأبو داود‬
‫بإسناد جيد عن قيس بن أيب حازم‪.‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يَفتح باب العدل يف القسمة بال‬
‫حدود‪" :‬من كان معه فضل ظهر (أي دابة زائدة عن حاجته) فـَْليـَعُد به على من‬
‫ال ظهر له‪ .‬ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من ال زاد له"‪ .‬قال الراوي‬
‫أبو سعيد اخلدري‪ :‬وذكر من أصناف املال ما ذكره‪ ،‬حىت رأينا أنه ال حق ألحد‬
‫منا يف فضل‪ .‬أخرجه اإلمام مسلم يف صحيحه وأبو داود يف سننه‪.‬‬
‫وهكذا رأي خليفة رسول اهلل أمري املؤمنني عمر حيث قال‪" :‬واهلل الذي ال‬
‫إله إال هو ما أحد إال وله يف هذا املال (مال املسلمني) حق‪ ،‬أ ُْع ِطيَهُ أو ُمنِ َعه‪ .‬وما‬
‫أحد أحق به من أحد إال عبد مملوك‪ .‬وما أنا فيه إالكأحدكم‪ .‬ولكنا على منازلنا‬
‫من كتاب اهلل عز وجل وقسمنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فالرجل‬
‫وبالؤه يف اإلسالم‪ ،‬والرجل وقدمه يف اإلسالم‪ ،‬والرجل وغناؤه يف اإلسالم‪،‬‬
‫والرجل وحاجته يف اإلسالم‪ .‬واهلل لئن بقيت ليأتني الراعي جببل صنعاء حظُّه من‬
‫هذا املال وهو مكانه قبل أن ُيَ َّمَر وجهه (أي خجال من ذل املسألة)"‪.‬‬
‫ورأى عمر صواب أم ِر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ببذل الفضول من‬
‫كل أصناف املال‪ ،‬بذال واجبا بوازع السلطان‪ ،‬موافقا لفهم أيب سعيد والصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم حيث قال وهو خليفة يف آخر عهده رضي اهلل عنه‪" :‬لو‬
‫استقبلت من أمري ما استدبرت ألخذت فضول األغنياء فرددهتا على الفقراء"‪.‬‬
‫ورأى أمري املؤمنني علي كرم اهلل وجهه صواب القسمة العادلة حيث قال‪:‬‬
‫"إن اهلل فرض على األغنياء يف أمواهلم بقدر يكفي فقراءهم‪ ،‬فإن جاعوا أو َعَرْوا‬

‫‪475‬‬
‫اإلحسان‬

‫وج ِهدوا فيمنع من األغنياء"‪.‬‬


‫َ‬
‫إن اجلهاد السرتداد السلطان من يد الغاصبني إخوان الشياطني فريضة‪،‬‬
‫وبواسطة السلطان الشوري‪ ،‬وهو عدل احلكم‪ ،‬يفرض عدل القسمة لنصل‬
‫اخلالفة الثانية باألوىل‪ ،‬على فهم واسع لصواب األمر النبوي‪ ،‬وفهم رأي‬
‫الصحابة األخيار‪ ،‬وفهم عمل احلواريني اخللفاء الراشدين واجتهادهم‪.‬‬
‫قال أبو العتاهية الشاعر رمحه اهلل بعد أن تاب وتزهد‪:‬‬
‫خانك الطرف الطم ــوح أيهـ ـ ــا القـل ـ ـ ــب اجلـمـ ـ ـ ــوح‬
‫لدواعـي اخليـ ـ ــر والش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر ُدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌّـو ونـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزوح‬
‫هــل ملطـ ـلـ ـ ـ ـ ــوب ب ــذنـ ـ ــب تـ ـ ـ ــوبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة منـ ـ ــه نـص ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫كي ـ ــف إصـ ــالح قـل ـ ــوب إمنـ ـ ـ ـ ــا هـ ـ ـ ـ ــن قُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروح‬
‫أحس ــن اللـ ـ ـ ـ ـ ــه ب ـ ـنـ ـ ـ ـ ــا أن اخلط ــاي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ال ت ـ ـف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫فإذا املـسـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــور مـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا بيـن ثـ ـ ــوبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه فـض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫كـ ـ ــم رأين ـ ـ ــا من ع ـ ـزيـ ـ ـ ـ ـ ــز طُـ ـ ــويـت من ـ ــه الكش ـ ـ ــوح‬
‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح منـه بـرحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل صــائح الدهـ ـ ــر الصبـ ـ ــوح‬
‫موت بع ـ ـ ــض الن ـ ـ ــاس يف األرض على بعض فُتوح‬
‫سيصـيـ ـ ـ ـ ــر امل ـ ـ ـ ــرء يـوم ـ ـ ـ ـ ـ ــا جس ـ ــدا م ـ ـ ـ ـ ـ ــا فيـ ـ ـ ـ ــه روح‬
‫بني عـي ــنَ ـ ــي ك ـ ـ ـ ـ ــل حـ ـ ــي َعـلَ ـ ـ ــم امل ـ ـ ـ ـ ــوت ي ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫كلنـ ـ ـ ـ ـ ــا يف غفـلـ ـ ـ ـ ـ ــة وامل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوت يغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدو ويــروحـ ـ ـ ـ ــح‬
‫وصبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫لبنــي الدني ـ ــا مـن الدنـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا غُ ـ ـبـ ـ ــوق ُ‬
‫ُر ْحـن يف الوشــي وأصبح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن عليهـ ــن املس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫ك ــل نَطّـ ـ ــاح مـن الدهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر له ي ــومـ ــا نـَ ـُطـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬

‫‪476‬‬
‫اإلحسان‬

‫ـكني إن كنـت تنـ ــوح‬ ‫نُ ْـح على نفـس ــك يـا مسـ ـ ـ ُ‬
‫ـرت مـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا عُم ـ ـ ــر ن ـ ـ ـ ـ ـ ــوح‬
‫لَـتـ ـ ـمـ ـ ـ ــوتَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن وإن عُ ِّم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬

‫وقُلت‪:‬‬

‫قُمنا شهوداً بِالع ــدل ِجينَا‬ ‫للّه قُمنـ ـ ــا بِالقس ِـط قُــمنـ ـ ـ ـ ــا ‬
‫والع ـ ـ ْد ُل أمـ ـ ُـر اإلل ـ ـ ــه فينَ ـ ـ ــا‬ ‫عدل والعـ ْد ُل ِدين ‬ ‫القسط ٌ‬ ‫ِ‬
‫حن ـ ـ ـ ُـن نُلبِّ ـ ـ ــي إذا نـُ ـ ـ ــودينَـ ـ ـ ــا‬ ‫ـدل واإلحسـ ـ ــا ُن ِديـ ـ ـ ٌـن ‬ ‫العـ ـ ـ ُ‬

‫‪477‬‬
‫اإلحسان‬

‫التقلل والترف‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪﴿ .‬ربـَّنَا ا ْغ ِف ْر لَنَا ذُنُوبـَنَا‬


‫وانص ْرنَا َعلَى الْ َق ْوِم‬‫ت أَقْ َد َامنَا ُ‬ ‫َوإِ ْس َرافـَنَا فِي أ َْم ِرنَا َوثـَبِّ ْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪ .‬اللهم إين أعوذ بك من اهلم واحلزن‪ ،‬وأعوذ‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫بك من العجز والكسل‪ ،‬وأعوذ بك من البخل واجلنب‪،‬‬
‫وأعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال‪.‬‬

‫الرتف هو "التوسع يف النعمة" كما قال الراغب األصفهاين رمحه اهلل‪.‬‬


‫وأضيف بأنه التوسع يف النعمة ال ُـمفضي إىل الفسق والفساد واإلفساد‪ .‬املرتفون فِئَةٌ‬
‫﴿وإِ َذا أ ََر ْدنَا أَن نـُّْهلِ َ‬
‫ك قـَْريَةً أ ََم ْرنَا‬ ‫مغضوب عليها يف القرآن‪ .‬قال اهلل عز وجل‪َ :‬‬
‫اها تَ ْدِميراً﴾‪ 1.‬أمرناها باألمر‬ ‫ِ‬
‫س ُقواْ ف َيها فَ َح َّق َعلَيـَْها الْ َق ْو ُل فَ َد َّم ْرنَ َ‬
‫ِ‬
‫ُمتـَْرف َيها فـََف َ‬
‫القدري ال باألمر الشرعي‪ ،‬ألن الرتف ال ُـم َد ِّمر فحشاء‪ ،‬واهلل ال يأمر بالفحشاء‪.‬‬ ‫َ‬
‫املرتفون إخوان املستكربين وحلفاؤهم‪ ،‬وغالبا ما جيتمع االستكبار والرتف‬
‫يف عشرية‪ ،‬أو عصبية‪ ،‬أو طغمة عسكرية‪ ،‬أو أسرة مالكة‪ ،‬أو حزب وحيد‪ .‬يف‬
‫عصرنا ما تشاء من مناذج الفسق الرتيف والظلم االستكباري‪ ،‬بل مها مضافان‬
‫إىل الكفر والردة واخليانة هلل ولرسوله وللمؤمنني‪.‬‬
‫كلمة "تقلل" أستعملها لتقابل كلمة "ترف" القرآنية كما يقابل اإلسالم‬

‫‪ 1‬اإلسراء‪16 ،‬‬

‫‪478‬‬
‫اإلحسان‬

‫الكفر‪ ،‬وكما يقابل العدل الظلم‪ ،‬واإلحسان الطغيان والشورى املأل‪.‬‬


‫نطرق باب اجلود اإلهلي ليَفتَح لنا ِسكة الدولة اإلسالمية وسنة اخلالفة‬ ‫ُ‬
‫النبوية الثانية يف وقت فتح اهلل على احلضارة املادية أبواب كل شيء‪ .‬يف‬
‫ب فيه البالء باألشياء صبا على البشرية‪ :‬وفرةٌ ال حدود هلا من‬ ‫ص َّ‬ ‫وقت ُ‬
‫جانب وفقر مدقع هو حظ املستضعفني يف األرض‪ .‬تنمية بال حدود‪.‬‬
‫عوض منها‪ ،‬وكلها ال‬ ‫أهو ُج خلريات األرض ومواردها وتبذير ملا ال يُ َّ‬ ‫هنب َ‬ ‫ٌ‬
‫تعوض‪ ،‬يف دوامة اإلنتاج واالستهالك‪ ،‬االستهالك لإلنتاج‪ .‬ال تدور عجلة‬
‫املعامل وخمتربات االخرتاع‪ ،‬ومالية الدولة‪ ،‬وتوازن االقتصاد العاملي‪ ،‬وموازين‬
‫املدفوعات واملبادالت‪ ،‬وحساب التجارة‪ ،‬وعافية النقد‪ ،‬واستقرار العامل إال‬
‫داؤها الشيطاين اإلشهار‬ ‫على وترية اإلنتاج واالستهالك يف دورة حممومة ُح ُ‬
‫سواْ َما ذُ ِّك ُرواْ بِ ِه‬ ‫﴿لَ َّما نَ ُ‬ ‫والدعاية بالكلمة والصورة‪ ،‬بالكذب والصدق‪َ .‬‬
‫ٍ‬
‫اهم بـَغْتَةً فَِإ َذا‬ ‫اب ُك ِّل َش ْيء َحتَّى إِ َذا فَ ِر ُحواْ بِ َما أُوتُواْ أَ َخ ْذنَ ُ‬
‫فـَتَ ْحنَا َعلَْي ِه ْم أَبـَْو َ‬
‫ين﴾‪.1‬‬ ‫م‬‫ب ال َْعالَ ِ‬‫ِّ‬ ‫ر‬ ‫هم ُّمبلِسو َن فـ ُق ِطع َدابِر الْ َقوِم الَّ ِذين ظَلَمواْ والْحم ُد لِلّ ِ‬
‫ه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َْ‬ ‫ُ ْ ُ َ َ ُ ْ‬
‫هكذا َم ْكُر ربك! هكذا أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظاملة‪ ،‬إن أخذه أليم‬
‫سراء احلضارة املصنَّعة املفتوحة األبواب صبّا بالئيا‬ ‫شديد! أخذهتم قدرتُه بَ ّ‬
‫وافراً‪ ،‬وأخذتنا‪ ،‬يف مجلة املستضعفني يف األرض‪ ،‬بضراء التخلف والعجز‬
‫والفقر والتبعية يف ضروريات الغذاء‪ ،‬وضروريات التمويل‪ ،‬وضروريات العلوم‪،‬‬
‫وضروريات التكنولوجيا‪ ،‬وضروريات اخلربة‪ ،‬وضروريات السوق ملنتجاتنا اهلزيلة‪،‬‬
‫وضروريات املساعدة الفنية‪ ،‬وضروريات الوحدة الالزمة ليكون لنا حجم يف‬
‫العامل‪ ،‬واستقالل‪ ،‬ووزن‪ ،‬ومال وحضارة‪.‬‬
‫بأسه‪ ،‬واألخذ أخذه‪ .‬مث تظامل‬
‫البأس ُ‬
‫بالؤه‪ .‬العاملكله يف قبضته‪ ،‬و ُ‬
‫قدر اهلل و ُ‬
‫ُ‬
‫‪ 1‬األنعام‪44-45 ،‬‬

‫‪479‬‬
‫اإلحسان‬

‫العباد وقد دعوا دعوة الرفق واهلداية أن ال يتظاملوا‪ ،‬وزجروا عن الظلم وعن‬
‫الرتف‪ .‬مستكربوهم ومستكربونا‪ ،‬مرتفوهم ومرتفونا‪ ،‬حتالف أولئك مع هؤالء‬
‫الوجد‬
‫هو السبب يف تنحيتنا على هامش جمتمع الوفرة واإلنتاج والرفاهية و َ‬
‫والغىن والقوة‪.‬‬
‫ال نقصد بوصف الرتف وعاهته‪ ،‬وإخالله بتوازن العامل‪ ،‬وهتديده للسالم‬
‫العاملي‪ ،‬وسحقه للشطر األكرب من اإلنسانية إال مسامهة يف "ذم الدنيا" كما‬
‫عقد الغزايل يف إحيائه فصال طويال لذم الدنيا من وجهة نظر السالك إىل اهلل‬
‫ِ‬
‫الفرد يف القرن اخلامس الذي كان الفتح اإلهلي فيه للناس وعلى الناس غري ما‬
‫هو اآلن‪.‬‬
‫بل أقصد‪ ،‬بعد الذم‪ ،‬التأكيد على ضرورة حماربة الظلم والرتف وما‬
‫يعشش يف ثنايا اجملتمع احملقور املذل املفقر من باليا هتدد السالم يف العامل‬
‫و السالم االجتماعي يف كل قطر قطر‪ .‬نذم الرتف و"الدنيا" ال لنهرب من‬
‫"الدنيا"‪ ،‬بل لنخوض غمرات اجلهاد ليقوم يف األرض العدل‪ ،‬والكفاية‪،‬‬
‫واألخوة بني الناس‪ ،‬يشمل برنا كل ذي كبد رطبة يف األرض‪.‬‬
‫مث أقول مستعينا باهلل العلي القدير‪:‬إهنا ُلَّة البد من خوضها‪ ،‬وامتحان‬
‫املوت احملقق ألمتنا من‬
‫ال مفر منه‪ ،‬ورجولة ال عوض عنها‪ .‬ضرورة حيوية ُ‬
‫بين القاعدة املادية للعدل والرب‬ ‫ِ‬
‫دوهنا‪ ،‬أن نتحرر من ربقة احلكم اجلائر‪ ،‬وأن نَ َ‬
‫بالتصنيع‪ ،‬واإلنتاج‪ ،‬ودخول السوق العاملية‪ ،‬وامتالك زمام العلوم والتكنولوجيا‪،‬‬
‫والسبق إليها‪ ،‬والتسلح الدفاعي على أعلى مستوى‪ .‬كل ذلك ضروري حلياتنا‬
‫املادية‪ ،‬وبقائنا كأمة‪ ،‬ووحدتنا‪ ،‬وقوتنا على محل رسالة اهلل إىل العامل املفتون‬
‫أيّا ما كان بالء اهلل لنا وعليه‪.‬‬
‫هرب السادة الصوفية بدينهم من فتنة الدنيا بالعزلة‪ ،‬وكانوا يف موقف ضرورة‪،‬‬

‫‪480‬‬
‫اإلحسان‬

‫ففاهتم الرب وفاهتم اجلهاد‪ .‬قال األستاذ القشريي‪" :‬كل مريد بقي يف قلبه‬
‫لشيء من الدنيا مقدار وخطر فاسم اإلرادة له جماز (‪ ،)...‬ألن قصد املريد‬
‫يف حذف العالئق اخلروج منها (من الدنيا) ال السعي يف أعمال الرب"‪ 1.‬وقال‬
‫اإلمام عبد القادر قدس اهلل سره‪" :‬ينبغي للفقري أن تكون شفقتُه على فقره‬
‫كشفقة الغين على غناه‪ .‬فكما أن الغين يفعل كل شيء وجيتهد حىت ال يزول‬
‫فقره‪ ،‬فال يسأل‬
‫يفعل مثل ذلك حىت ال يزول ُ‬ ‫غناه‪ ،‬فكذلك ينبغي للفقري أن‬
‫‪2‬‬
‫اهلل عز وجل زوال فقره إىل غناه"‪.‬‬
‫ومقامك عند اهلل فال‬
‫إذا كنت وحدك يف خلوة مهُّك نفسك ومصريُك ُ‬
‫بال‪ .‬أما إذا كان هم مصريك ومقامك ال ينفك عن هم األمة ومصريها فما‬ ‫تُ ِ‬
‫يف املسلك الصويف هبذا الصدد لك من أسوة‪ .‬هم رضي اهلل عنهم خاضوا بالء‬
‫العزلة والصمت ودوام الصوم واملراقبة والذكر‪ ،‬وحنن معشر السالكني على حمجة‬
‫اجلهاد‪ ،‬بالؤنا بإطعام اجلائع ودعوة الغافل‪ ،‬ورفع الصوت غضبا هلل‪ ،‬وخمالطة‬
‫الناس‪ ،‬وتنظيمهم يف صف اجلهاد‪ ،‬مع دوام ذكر اهلل‪ ،‬واالستمساك حببل اهلل‪،‬‬
‫واالعتصام به لتوحيد األمة بعد طرد املستكربين واملرتفني من سدة السلطان‪.‬‬
‫وبالء احلاجة والفاقة والتخلف‪ ،‬فإننا كاأليتام يف مأدبة اللئام احلضارية الوفرية‪،‬‬
‫باعث مادي مضايق ُملح قابض على احللقوم جيرنا بسالسل الضرورة للوحدة‬
‫وما تقتضيه ونقتضيه من التصنيع والفاعلية يف األرض‪.‬‬
‫املدى البعيد جيب أن يكون لنا أفق إسالمي‪ ،‬وهدف إسالمي‪،‬‬ ‫على َ‬
‫للحفظ العام من آفة الرتف‪ .‬التحفظ الفردي والزهد والورع روح املسألة ال ريب‪،‬‬
‫وكم من دروس وفِيَّة‪ ،‬وأحوال سنية للسادة الصوفية يف هذا املضمار‪ .‬لكن احلفظ‬

‫‪ 1‬الرسالة ص ‪.184‬‬
‫‪ 2‬الغنية ج ‪ 2‬ص ‪.172‬‬

‫‪481‬‬
‫اإلحسان‬

‫العام لألمة من آفة الرتف وما هتدد به َرجعته من عودة االستكبار‪ ،‬واالنتكاس‬
‫واالرتكاس‪ ،‬ال يضمنه إال التقلل املنهاجي املربمج‪ ،‬امل ْد َرج يف منهاج الرتبية‪،‬‬
‫ومنهاج االقتصاد‪ ،‬ومنهاج الدولة‪ ،‬ومنهاج األخذ والعطاء‪ ،‬ومنهاج النفقة‬
‫اليومية‪ ،‬ومنهاج السوق‪ ،‬ومنهاج احلياة الدنيا مجيعا‪ .‬نفعل ذلك مىت قدرنا‪،‬‬
‫مىت أقدرنا من له القدرة سبحانه‪ ،‬فإنه ال حول وال قوة إال به‪َّ .‬‬
‫وإن للتكنولوجيا‬
‫جلِماحا‪ ،‬هي القائدة السائقة احلاكمة‪ .‬وإن لدورة اإلنتاج واالستهالك ملنطقا‬
‫متالحقا‪ ،‬وإن لبالء اهلل وقدره َلَتمية ألمر هو بالغه سبحانه‪.‬‬
‫التقلل حت ّكم إرادي يف االقتصاد ومصارف األموال وموارد الدولة‪ .‬التقلل‬
‫انضباط ال ختضع له إال مقهورًة أغلبيةُ النفوس البشرية النهمة بِنـََهم البطن وهنم‬
‫الفرج وهنم ال َفخفخة وهنم التكاثر يف زينة احلياة الدنيا‪.‬‬
‫التقلل زينة اهلل والطيبات من الرزق نتناوهلا من يد املنة اإلهلية بالشكر‬
‫والورع يف حدود احلالل واحلرام واملباح واملكروه‪.‬‬
‫التقلل غري القلة‪ .‬إذ القلة فق ٌد يلهي عن اهلل‪ .‬القلة فقر هو أخو الكفر‪.‬‬
‫وقد تعوذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من القلة فقال‪" :‬اللهم إين أعوذ‬
‫بك من الفقر والقلَّة والذلَّة‪ .‬وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم"‪ .‬رواه أبو داود‬
‫والنسائي وابن حبان عن أيب هريرة بإسناد حسن‪.‬‬
‫التقلل سنة‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اللهم اجعل رزق آل‬
‫حممد قوتا"‪ .‬أخرجه الشيخان عن أيب هريرة‪ .‬والقوت ما يكفي دون زيادة‪.‬‬
‫التقلل إمساك على زمام النفس لكيال جتتلبها املغريات‪ .‬وكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم سيد هذه املنزلة‪ ،‬أوصى بالتقلل حىت يكتفي املؤمن يف خاصة‬
‫نفسه مبثل زاد الراكب‪ ،‬فكان صحابته مثاال للزهد والتعفف والبَ َذا َذ ِة اليت هي من‬

‫‪482‬‬
‫اإلحسان‬

‫اإلميان كما جاء يف احلديث‪ .‬البذاذة عكس الرتفه يف الزينة‪.‬‬


‫التقلل تضييق إرادي على النفس يف الكماليات ال يف الضروريات‪ ،‬ليوفر‬
‫العبد من ماله ومن نفقته‪ ،‬ما به يصل الرحم وحيمل ال َك َّل ويعني على نوائب‬
‫ائد ِ‬
‫الب‪.‬‬ ‫احلق ويصطنع عند اهلل عو َ‬
‫وإن التوفري واالقتصاد يف النفقة لواجب جهادي على كل مؤمن و مؤمنة‬
‫يف ظل دولة القرآن جلمع رأس املال الضخم الذي حتتاجه األمة للتصنيع‪.‬‬
‫التقلل غري الشح‪ ،‬هو خلق حممود‪ ،‬وتعبري عن اهلمة العالية‪ ،‬مهة العابرين‬
‫ملنازل الدنيا حيدوهم الشوق إىل ما عند اهلل‪ .‬التقلل عدل وبر واعتدال وعطاء‬
‫﴿والَ تَ ْج َع ْل‬
‫من النفس بواسطة العطاء من النفقة‪ .‬هو اقتصاد قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫سوراً﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬ ‫يَ َد َك َمغْلُولَةً إِلَى عُنُ ِق َ‬
‫سط َْها ُك َّل الْبَ ْسط فـَتـَْقعُ َد َملُوماً َّم ْح ُ‬ ‫ك َوالَ تـَْب ُ‬
‫ِ‬ ‫هو نظام قوله تعاىل‪﴿ :‬وُكلُواْ َوا ْش َربُواْ َوالَ تُ ْس ِرفُواْ إِنَّهُ الَ يُ ِح ُّ‬
‫ين﴾‪.2‬‬ ‫ب ال ُْم ْس ِرف َ‬
‫ويدمر سبحانه وتعاىل الفاسقني املرتفني‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫التقلل إيثار للمحتاج بالفضل مما عندك‪ ،‬فإن مل يكن لك فضل فاعمل‬
‫حب‬‫واتعب واكسب لتعود بربك وإيثارك على من ال قدرة له على الكسب‪ُّ .‬‬
‫املساكنيكان دعوَة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو حب ال معىن له إنكان‬
‫حبا عذريّا‪ ،‬ال معىن له إال بالبذل من الفضل‪ ،‬ال معىن له إال بالرب واملواساة‪.‬‬
‫قال واعظ وقد سأله سائل‪ :‬كيف أُخرج حب الدنيا من قليب؟ فقال‪:‬‬
‫ُمعـطَّـلَـ ـةٌ مـنـ ــازلُـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ ‬‫ملـن طَـلــل أُسـ ــائلــه‬
‫أع ــالـيَــه أســافـلـ ـُ ـ ـ ــه‬ ‫ ‬‫غــداة رأيـتــه تـنـعِــي‬

‫‪ 1‬اإلسراء‪29 ،‬‬
‫‪ 2‬األعراف‪31 ،‬‬

‫‪483‬‬
‫اإلحسان‬

‫وك ـن ـ ـ ــت أراه مـ ــأه ـ ــوال ولـكـ ــن ب ـ ـ ـ ــاد آه ـلُـ ـ ـ ـ ــه‬
‫ض ـ ـ ـةٌ َمقـ ــاتِـلُـ ــه‬
‫وكل العتسـ ــاف الـده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر ُم ْـع َـر َ‬
‫ـك إال وريب الدهــر شــامل ــه‬ ‫ومـا مـ ـ ــن مــس ـلَ ٍ‬
‫َ ْ‬
‫وينض ُـل من ينـاض ـلُـ ـ ــه‬ ‫ُ‬ ‫فيصــرع من يُصــارع ـ ـ ــه ‬
‫ينـا ــزل مـ ــن يَ ُـهـ ــم ب ـ ـ ـ ــه وأحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانـا ُيـ ـ ــاتـلُـ ـ ــه‬
‫وأحيـ ـ ـ ــان ـ ـ ـ ــا يـ ـ ـ ــؤخـ ـ ـ ـ ـ ــره وت ـ ـ ـ ــارات يـع ــاج ـلـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫ـت على ق ـ ــوم َكــالكِـ ـلُـ ـ ـ ــه‬ ‫كـفــاك بـ ــه إذا ن ـزلَـ ـ ْ‬
‫ـرج ـ ــى من ـ ــه نـائـلُـ ـ ـ ــه‬ ‫خياف النـاس صـولـت ـ ـ ــه ويُ َ‬
‫ويثـين ِعـطـ َف ـ ـ ــه مـرحـ ـ ـ ــا وتُـعجـبـ ـ ـ ــه شـمــائـلـ ـ ـ ـ ــه‬
‫فــلم ـ ــا أن أت ــاه احل ـ ـ ـ ــق ولّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى عـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه بـاطـلُـ ـ ـ ــه‬
‫فـغ ـمـض عـيـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه للمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوت واسرتخت مفـاصلُه‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ومـ ـضـ ــى‬ ‫َّأدى حـ َّـقـ ـ ــه َ‬ ‫صري ـ ـ ٌـع يف َسبيـ ـ ـ ــل اهلل ‬‫َ‬
‫ويف َش َهـ ـ ـواتـه َرَك ـض ـ ـ ــا‬ ‫ـب يف ت ـ ـ ــرف ‬ ‫ِ‬
‫َوغ ـ ـ ٌّـر شـ َّ‬
‫ضحي لهُ ِع َوضـاً؟‬ ‫أ ْن تُ ِ‬ ‫أخا اإلســالم ‬ ‫فم ْن تـَْبغي َ‬ ‫َ‬

‫‪484‬‬
‫اإلحسان‬

‫التواضع‬

‫ت َهذا‬
‫﴿ربـَّنَا َما َخلَ ْق َ‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫اب النَّا ِر﴾‪ .‬اللهم مالك امللك‬ ‫بِ‬
‫اطالً سبحانَ َ ِ‬
‫ك فَقنَا َع َذ َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ‬
‫تويت امللك من تشاء وتنزع امللك ممن تشاء وتعز من تشاء‬
‫وتذل من تشاء بيدك اخلري إنك على كل شيء قدير‪ .‬توجل‬
‫الليل يف النهار وتوجل النهار يف الليل وخترج احلي من امليت‬
‫وخترج امليت من احلي وترزق من تشاء بغري حساب‪ .‬رمحن‬
‫الدنيا واآلخرة ورحيمهما‪ .‬تعطي منهما كما تشاء ومتنع من‬
‫تشاء‪ .‬ارمحين رمحة تغنيين هبا عن رمحة سواك‪.‬‬

‫إن بذل النفس يف ساحة القتال‪ ،‬دفعة واحدة‪ِ ،‬بال صدق يف ساعة‬
‫صدق‪ ،‬قربة يبلغ اهلل هبا اجملاهد يف سبيله درجة الشهادة‪ ،‬وهي درجة عظيمة‬
‫عند العظيم الكرمي‪ .‬أعظم منها درجة الصديقية اليت تقتضي بذال للنفس يف‬
‫عمر طويل‪ .‬بذهلا بتهذيبها‪ ،‬وصقلها‪ ،‬وكفها عن حمارم اهلل‪ ،‬وزجرها عن محاه‪،‬‬
‫وقمعها‪ ،‬وردعها‪ ،‬وتوبيخها يف جنب اهلل‪ ،‬ومحلها على طاعته‪ ،‬وخضوعها‬
‫ض ُّعفها أمام قوته‪ ،‬وتواضعها لقدرته‪ ،‬ورضاها‬
‫جلالله‪ ،‬وخشوعها هليبته‪ ،‬وتَ َ‬
‫بقضائه وقدره‪ ،‬وصربها على بالئه‪ ،‬وخوفها من بطشه‪ ،‬ورجائها يف عفوه‪،‬‬
‫وشوقها للقائه‪ ،‬ورقتها خللقه‪ ،‬وذلتها على املؤمنني‪ ،‬وعزهتا على الكافرين‪،‬‬
‫وعدائها للشياطني وإخوان الشياطني‪.‬‬
‫مظاهر لتزكيتها التزكية احملمودة املندوب إليها يف قوله تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد‬
‫كل أولئك ُ‬

‫‪485‬‬
‫اإلحسان‬

‫صلَّى﴾‪ 1.‬مظاهر لكسرها وثـَْنيِها من غُلُوائها‬ ‫ِ‬


‫أَفـْلَ َح َمن تـََزَّكى َوذَ َك َر ْ‬
‫اس َم َربِّه فَ َ‬
‫وكربيائها لكيال تكون من الذين يزكون أنفسهم بالرياء وال من املستكربين‬
‫الذين ال حيبهم اهلل‪.‬‬
‫أبناء الدنيا يبذلون دينهم‪ ،‬مع حقارهتم‪ ،‬ليتزلفوا ملستكربي األرض‬
‫صوم ظهرهم مجيعا‪،‬‬
‫املزامحني لأللوهية يف تفردها بالعظمة والكربياء‪ .‬أولئك َم ْق ٌ‬
‫سواء يف ذلك املتذلل للجبارين واجلبارون أنفسهم‪ .‬قال اهلل عز وجل يف‬
‫احلديث القدسي‪" :‬الكربياء ردائي والعظمة إزاري‪ .‬فمن نازعين واحدا منهما‬
‫قذفته يف النار"‪ .‬رواه أبو داود عن أيب هريرة‪ .‬ولفظ مسلم عن أيب سعيد وأيب‬
‫هريرة قاال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬العز إزاري‪ ،‬والكربياء ردائي‪،‬‬
‫فمن ينازعين عذبته"‪.‬‬
‫أبناء الدنيا الذين اختذوا إهلهم هواهم وعبدوا أنفسهم ونصبوها للعبادة‬
‫كاألصنام‪ ،‬وتكربوا على خلق اهلل‪ ،‬وظلموا وأترفوا فيما أترفوا فيه هم حطب‬
‫جهنم‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" .‬ال يدخل اجلنة من كان يف قلبه‬
‫مثقال حبة من كرب"‪ .‬احلديث رواه مسلم وأبو داود والرتمذي عن عبد اهلل بن‬
‫مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫أهل اجلنة اللينون الذين حيبهم اهلل‪ .‬اللينون ال عن مهانة وذلة نعوذ باهلل‪ ،‬فإن‬
‫اهلل عز وجل أخربنا بأنه ضرب الذلة واملسكة على بين إسرائيل‪ ،‬ورسوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلمكان يستعيذ باهلل من الذلة والقلة‪ .‬لكن املوطأون أكنافا الذين قال اهلل‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ف يَأْتِي اللّهُ‬ ‫آمنُواْ َمن يـَْرتَ َّد من ُك ْم َعن دينه فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ين َ‬ ‫تعاىل عنهم‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫اه ُدو َن فِي‬‫بَِقوٍم ي ِحبـُّهم وي ِحبُّونَه أ َِذلَّ ٍة َعلَى الْم ْؤِمنِين أ َِع َّزٍة َعلَى الْ َكافِ ِرين يج ِ‬
‫َ َُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ُ ُ ْ َُ ُ‬
‫‪ 1‬األعلى‪13-14 ،‬‬

‫‪486‬‬
‫اإلحسان‬

‫شاء واللّهُ و ِ‬
‫اس ٌع‬ ‫ك فَ ْ ِ ِ ِ‬
‫ض ُل اللّه يـُْؤتيه َمن يَ َ ُ َ َ‬ ‫يل اللّ ِه َوالَ يَ َخافُو َن لَ ْوَمةَ آلئِ ٍم َذلِ َ‬
‫َسبِ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َعل ٌ‬
‫‪1‬‬

‫الحظ قوله تعاىل‪" :‬أذلة على املؤمنني"‪ .‬على حرف استعالء‪ ،‬فاملؤمن‬
‫حني يلني إلخوانه ويتواضع هلم يعطي من ذات نفسه عن طوع ال عن إكراه‬
‫وال عن خوف‪.‬‬
‫وإن اجلمع يف شخصية املؤمن بني طريف الذلة على املؤمنني والعزة على‬
‫ضعفه‬‫الكافرين ملن أهم بواطن الرتبية وأدقها‪ .‬ألن املؤمن الضعيف مييل به َ‬
‫ويول‪ .‬رحم اهلل عمر بن‬ ‫إىل طبع االستكانة والسكون بينما يصول املستكرب َ‬
‫اخلطاب حني خفق بالدرة رجال رآه منكوس الرأس ُمتما ِوتا‪ ،‬قال له‪" :‬أماتك‬
‫ت علينا ديننا!"‪.‬‬ ‫اهلل! أ ََم َّ‬
‫ألبره" كما جاء يف‬ ‫متضعف لو أقسم على اهلل ّ‬ ‫أهل اجلنة "كل ضعيف ِّ‬
‫احلديث النبوي الذي أخرجاه يف الصحيحني عن حارثه بن وهب‪ .‬ال ُـم َحبُّون عند‬
‫اهلل هم املتواضعون هلل‪ ،‬يرفعهم اهلل كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من‬
‫تواضع هلل رفعه اهلل"‪ .‬أخرجه احلافظ أبو نعيم يف احللية بإسناد حسن‪ .‬وال يدخل‬
‫ي" كما روى أبو داود عن نفس حارثة مرفوعا بإسناد‬ ‫"اجلواظ وال اجلَ ْعظَ ِر ُّ‬ ‫اجلنة َّ‬
‫صحيح‪ .‬وانظر حكمة استعمال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هلذين اللفظني‬
‫املنفرين العاتيني‪ :‬اجلواظ هو ال َـمنوعُ للخري السمني املختال‪ ،‬واجلعظري الفظ الغليظ‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لينا على املؤمنني‪ ،‬لينا هلم برمحة من‬
‫اهلل الرمحن الرحيم‪ .‬مل يكن فظا غليظ القلب‪ .‬وقد من اهلل عليه هبذا اخللق العظيم‬
‫ْب الَن َف ُّ‬
‫ضواْ‬ ‫نت فَظّاً غَلِي َ‬
‫ظ الْ َقل ِ‬ ‫﴿بِ َما َر ْح َم ٍة ِّم َن اللّ ِه لِ َ‬
‫نت لَ ُه ْم َولَ ْو ُك َ‬ ‫يف قوله‪َ :‬‬

‫‪ 1‬املائدة‪54 ،‬‬

‫‪487‬‬
‫اإلحسان‬

‫استـَغْ ِف ْر لَ ُه ْم َو َشا ِوْرُه ْم فِي األ َْم ِر﴾‪ .1‬كان رسول اهلل‬
‫ف َعنـْ ُه ْم َو ْ‬ ‫ِم ْن َح ْولِ َ‬
‫ك فَا ْع ُ‬
‫وتتطامن هلا‬
‫ُ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم مهيبا‪ ،‬وكانت هيبته تنخلع هلا قلوب اجلاحدين‬
‫قلوب املؤمنني‪ .‬ذات مرة غلبت رجال هذه اهليبة اليت خلعها رب العزة والكربياء‬
‫سبحانه على عبده ُحلَّة ربانية‪ ،‬فتلعثم الرجل‪ ،‬فقال الرؤوف الرحيم صلى اهلل‬
‫عليه سلم‪" :‬إمنا أنا ابن امرأة تأكل القديد"‪ .‬رواه احلاكم من حديث جرير‬
‫وصححه‪ .‬وقال عبد اهلل بن عباس‪ :‬مسعت عمر بن اخلطاب يقول على املنرب‪:‬‬
‫ت النصارى‬ ‫مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬ال تُطروين كما أطَْر ْ‬
‫ابن مرمي‪ ،‬فإمنا أنا عبد‪ ،‬فقولوا عبد اهلل ورسوله"‪ .‬أخرجه البخاري‪.‬‬
‫بعضهم‬‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينهى أصحابه عن إطْراء ِ‬
‫بعضا يف وجهه ويقول‪" :‬وحيك قطعت عنق صاحبك!" ذكره مسلم وغريه‪.‬‬
‫ألن اإلطراء إذا ألَِفته النفس ومالت إليه تعاظم عندها شأن ذاهتا‪ .‬واملقصود‬
‫من الشرع تزكيتها عن الغرور ال التغرير هبا‪.‬‬
‫امرأً أهدى‬
‫هلذا كان عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه يقول‪" :‬رحم اهلل َ‬
‫إيل عيويب"‪ .‬وهلذا كان أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َْيثون الرتاب‬
‫فِعالً يف وجوه املداحني واملتملقني كما جاء األمر بذلك يف احلديث النبوي‪.‬‬
‫من تواضع أيب بكر الصديق رضي اهلل عنه وخوفه من ربه عز وجل أنه‬
‫قال‪" :‬وددت أن أكون خضراء تأكلين الدواب"‪ .‬ومن تواضع عمر رضي اهلل‬
‫عنه وبذاذته أنه‪ ،‬وهو أمري املؤمنني‪ ،‬كان يلبس ثوبا عليه اثنتا عشرة رقعة‪.‬‬
‫ومن تواضعه وسياسته لنفسه وإجلامه إيّاها أنه مجع الناس يف املسجد فخطب‬
‫يقول‪" :‬أيها الناس! لقد رأيتُين وأنا أرعى على خاالت يل من بين خمزوم‪ .‬فكنت‬
‫ب هلن املاء‪ ،‬فيقبضن يل القبضة من التمر أو الزبيب"‪ .‬مث نزل فسأله‬ ‫ِ‬
‫أستعذ ُ‬
‫عبد الرمحن بن عوف رضي اهلل عنه‪ :‬ما أردت إىل هذا يا أمري املؤمنني؟ قال‪:‬‬
‫‪ 1‬آل عمران‪159 ،‬‬

‫‪488‬‬
‫اإلحسان‬

‫وحيك يا ابن عوف! خلوت بنفسي فقالت يل أنت أمري املؤمنني! وليس بينك‬
‫أعِّرفها قدرها‪ .‬وملا قدم الشام‬
‫وبني اهلل أحد! فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن َ‬
‫اضةٌ يف النهر‪ ،‬فنزل عن بعريه‪ ،‬ونزع خفيه فأمسكها‬ ‫بعد فتحها عرضت له َمَ َ‬
‫بيده‪ ،‬وخاض املاء ومعه بعريه‪ .‬فقال له أبو عبيدة‪ :‬لقد صنعت اليوم صنيعا‬
‫عظيما عند أهل األرض! يعين أن أهل الشام ألفوا عجرفة الروم وأ َُّبتهم‪ ،‬فهم‬
‫ال يتوقعون من رئيس دولة أن يتصرف هبذه البساطة‪ .‬فما كان من عمر إال أن‬
‫ك يف صدر أيب عبيدة قائد جيش املسلمني وقال‪ :‬أوه‪ .‬لو غريُك قاهلا يا أبا‬ ‫ص َّ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫عبيدة! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس‪ .‬فأعزكم اهلل باإلسالم‪.‬‬
‫فمهما تطلبوا العزة بغريه يُ ِذلّكم اهلل‪.‬‬
‫رضي اهلل عنهم‪ .‬أما السادة العارفون‬
‫حال الصحابة اجملاهدين َ‬
‫كان هذا َ‬
‫مضرب األمثال‪ .‬بعض‬ ‫َ‬ ‫باهلل من الصوفية فقد كان تواضع الكثريين منهم‬
‫املنتسبني للتصوف انزلقوا يف الدروشة واملسكنة‪ ،‬وبعض النصابني باسم‬
‫التصوف لبَّسوا على الناس بتواضع كاذب‪ ،‬هو الرياء أقبح الرياء‪.‬‬
‫ضعف‪ ،‬عجز‪ ،‬فقر‪ ،‬حاجة‪،‬‬ ‫قال اإلمام أمحد الرفاعي عن نفسه‪" :‬املخلوق َ‬
‫عدم حمض"‪ 1.‬ومن كشف اهلل له حقيقة نفسه يرها معدن النقص كله والعجز‬
‫والضعف‪ .‬قال رمحه اهلل‪" :‬أي سادة! تفرقت الطوائف ِشيَعا‪ُ ،‬‬
‫وحَْيد‪ .‬تصغري‬
‫‪2‬‬
‫أمحد يعين نفسه‪ .‬بقي مع أهل الذل واالنكسار‪ ،‬واملسكنة واالضطرار"‪.‬‬
‫لست مبقدم على هذا اجلمع!‬
‫وقال رمحه اهلل‪" :‬أي سادة! أنا لست بشيخ! ُ‬
‫رت مع فرعون وهامان إن خطر يل أين شيخ‬ ‫ِ‬
‫لست بواعظ! لست مبعلم! ُحش ُ‬

‫‪ 1‬الربهان املؤيد ص ‪.33‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق ص ‪.34‬‬

‫‪489‬‬
‫اإلحسان‬

‫على أحد من خلق اهلل‪ ،‬إال أن يتغمدين اهلل برمحته فأكون كآحاد املسلمني"‪.1‬‬
‫وقال لرجل سأله الدعاء‪" :‬اقتد بالقرآن‪ ،‬اتبع آثار السلف! إيش أنا حىت أدعو‬
‫لك‪ .‬ما َمثلي إال كمثَل ناموسة على احلائط ال قدر هلا"‪ 2.‬وقال‪" :‬بَ َذلت‬
‫نفسي‪ ،‬ومل أترك طريقا إال سلكته‪ ،‬وعرفت صحته بصدق النية واجملاهدة‪ ،‬فلم‬
‫أجد أقرب وأوضح وأحب من العمل بالسنة احملمدية‪ ،‬والتخلق خبلق أهل الذل‬
‫‪3‬‬
‫واالنكسار‪ ،‬واحلرية واالفتقار"‪.‬‬
‫ومن سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اإلشارة إىل فضل اهلل عليه يف‬
‫مثل قوله‪" :‬أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وال فخر"‪ .‬احلديث رواه الرتمذي عن‬
‫أيب سعيد بإسناد حسن‪.‬‬
‫وكذلك قال الرفاعي‪" :‬علكيم بنا! صحبتنا ترياق جمرب‪ ،‬والبعد عنا سم‬
‫الذوق! خذ مين علم الشوق! أين أنت مين يا‬ ‫"خذ مين علم َّ‬ ‫قاتل"‪ .‬وقال‪ُ :‬‬
‫‪4‬‬

‫أخا احلجاب‪ .‬كشف يل عن قلبك!"‪ 5.‬وقال الشيخ عبد القادر‪" :‬إين صربت‬
‫ت‪ ،‬مث أحياين‪ ،‬مث أماتين‪ .‬وغبت مث أوجدين من‬ ‫ورأيت عاقبة الصرب حممودة‪ُ .‬م ُّ‬
‫ملكت معه‪ .‬جاهدت نفسي يف ترك االختيار واإلرادة‬ ‫ُ‬ ‫هلكت معه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫غيبيت‪.‬‬
‫حىت حصل يل ذلك‪ ،‬فصار القدر يقودين‪ ،‬واملنة تنصرين‪ ،‬والفعل حيركين‪ ،‬والغرية‬
‫تعصمين‪ ،‬واإلرادة تطيعين‪ ،‬والسابقة تقدمين‪ ،‬واهلل عز وجل يرفعين"‪ .6‬وقال‪" :‬يا‬
‫ت وإمنا َوَد ْدتُين ألجلك‬
‫غالم! مرادي أنت ال أنا! أن تتغري أنت ال أنا! أنا َعبـَْر ُ‬
‫‪7‬‬
‫كي تتعلق يب حىت تـَْعبـَُر بالعجلة"‪.‬‬
‫‪ 1‬الربهان املؤيد‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪ 2‬املصدر السابق ص ‪.59‬‬
‫‪ 3‬املصدر السابق ص‪.62-63‬‬
‫‪ 4‬املصدر السابق ص ‪.43‬‬
‫‪ 5‬املصدر السابق ص ‪.42‬‬
‫‪ 6‬الفتح الرباين ص ‪.176‬‬
‫‪ 7‬املصدر السابق ص ‪.40‬‬

‫‪490‬‬
‫اإلحسان‬

‫وقبل الشيخني اإلمامني كتب حجة اإلسالم أبو حامد الغزايل يدل‬
‫على نفسه ويشري إليها يف رسالة وجهها إىل شهاب اإلسالم الوزير يرشده إىل‬
‫معاجلة القلوب وطبها‪ .‬قال‪" :‬ميكن له (مريض القلب) أن يدخل يف محاية‬
‫وجوده يف هذا‬
‫طبيب يعرف عالج القلب وال يكون مريضا‪ .‬وطبيب كهذا َعَّز ُ‬
‫‪1‬‬
‫العصر‪ .‬وفالن (يعين نفسه) من مجلة أطباء القلب وأرباب القلوب"‪.‬‬
‫كان شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬يف حاالت هدوئه‪ ،‬غاية يف التواضع‪ .‬قال‬
‫ابن القيم رمحه اهلل‪" :‬ولقد شاهدت من شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس اهلل روحه‬
‫من ذلك (أي من اخلشوع واالنكسار) أمرا مل أشاهده من غريه‪ .‬وكان يقول‪ :‬ما‬
‫ف شيء! وكان كثريا ما يتمثل هبذا البيت‪:‬‬ ‫من شيء! وال ِ َّ‬ ‫يل شيء! وما ّ‬
‫أنا امل َكدِّى وابن ال ُـمكدي وهك ـ ــذا كـ ـ ــان أيب وج ـ ـ ـ ـَ ّدي‬
‫(املكدي‪ :‬املتسول)‬
‫قال‪ :‬وكان إذا أُثِْن عليه يف وجهه يقول‪ :‬واهلل ّ‬
‫إن إىل اآلن أج ّدد إسالمي‬
‫كل وقت‪ .‬وما أسلمت بعد إسالما جيدا! وبعث إيل يف آخر عمره قاعدة يف‬
‫التفسري خبطه وعلى ظهرها أبيات خبطه من نظمه‪:‬‬
‫أنا املسكــني فـي جممــوع حـااليت‬ ‫إين الـفـقـي ــر إلـ ــى رب البـري ـ ـ ــات ‬
‫واخليــر إن ياتـنــا من عنده يَـاتـ ـ ــي‬ ‫أنا الظل ــوم لنفسـي وهـي ظــاملتــي ‬
‫وال عـن النفــس يل دفـ َـع املضرات‬ ‫ال أستطيـع لنفسي جـلب مـنفـعـ ــة ‬
‫وال شـفـيـع إذا حـاطت خطيئــايت‬ ‫وليـس يل دونـه م ـول ًـى يــدبِّـرن ـ ــي ‬
‫إىل الشفيـعكـما قد جـاء يف اآليـات‬ ‫إال بـإذن مـن الرمحن خــالقـن ـ ـ ـ ـ ـ ــا ‬
‫ـك أنـ ــا يف بعــض ذرات‬ ‫وال ش ـ ـريـ ٌ‬ ‫ولســت أملـك شيئ ــا دونـه أب ــدا ‬

‫‪ 1‬رسائل حجة اإلسالم ص ‪.888‬‬

‫‪491‬‬
‫اإلحسان‬

‫كـمــا يك ــون ألرب ـ ــاب الوالي ـ ــات‬ ‫وال ظهي ــر له كـي يسـتـعـيــن ب ـ ـ ــه ‬
‫كمــا الغـىن أبــدا وصـف لـه ذايت‬ ‫والـفـق ــر يل وصـف ذات الزم أبـدا ‬
‫وكـلـه ــم عن ــده عب ــد لــه آ تــي‬ ‫وهذه احلـال حـال اخللـق أمجعهـم ‬
‫فهـو الظلوم اجلهول املشـرك العايت‬ ‫فمـن بغى مطـلبا من غـيـر خـالقــه ‬
‫‪1‬‬
‫ما كان منه ومـا من بع ُـد قد يـايت‬ ‫واحلمـد هلل مـلء الكـون أجـم ـعــه ‬
‫لعل شيخ اإلسالم كتب األبيات يف السجن الذي مات فيه‪ ،‬فهي وصية‬
‫أفاضل يُكربون مثلما نُكرب‬
‫ٌ‬ ‫تواضع وذلة وخضوع‪ ،‬أرجو أن يقرأها قراءة القلب‬
‫الرجل الكبري‪.‬‬
‫ي‬ ‫ِ‬
‫الصفد َّ‬ ‫وأنشد التلمي ُذ اجمليد شيخ اإلسالم ابن القيم رمحه اهلل املؤرخ‬
‫من نظمه يلوم نفسه‪ ،‬اسم ابن القيم حممد بن أيب بكر‪ .‬قال‪:‬‬
‫فليس على من نـال من ِعرضه إمث‬ ‫بـنَ ُّـي أبـي بكـر كـثي ــر ذنــوب ــه ‬
‫جهــول بأمــر اهلل أنَّـى لـ ــه العلـ ــم!‬ ‫بـنـي أبـي بكـر جه ــول بنفسـه ‬
‫يـُعـلـم علمــا وهـو ليـس ل ـ ــه عـلـ ــم‬ ‫ـصـ ِّـدرا ‬‫بـنـي أبـي بك ــر غـدا مت َ‬
‫ِوصـال املـعـالـي والذنـوب لـه ه ــم‬ ‫بـنـي أبـي بك ــر ع ـ ـ ــدا متـمنـيـ ـ ــا ‬
‫إلـى جنـة املـأوى وليـس له عــزم‬ ‫بـنـي أ بـي بكــر يــروم تــرقـيــا ‬
‫يـزول ويفىن والـذي تركـه الغُـنـم‬ ‫نم يف الذي ‬ ‫بـنـي أيب بكر يرى الغُ َ‬
‫إذا مل يكن يف الصـاحلات له سهم‬ ‫بـنـي أبـي بكـر لقد خـاب سعيُه ‬
‫َهـلوع كنود وصفه اجلهـل والظلـم‬ ‫بـنـي أبـي بكــر كمــا قـال ربــه ‬
‫اهم هـذي اخلـليـقـة تـأتــم‬ ‫بـفـتـو ُ‬ ‫بـنـي أبـي بكـر وأمثــالـه غــدوا ‬
‫وال الزهـد والدنيـا لديهم هي اهلم‬ ‫وليس هلـم يف العلم بـاع وال التقى ‬

‫‪ 1‬مدارج السالكني ص ‪.524-525‬‬

‫‪492‬‬
‫اإلحسان‬

‫‪1‬‬ ‫ِ‬
‫أفاضلَهم قالوا‪ُ :‬ه ُم الصم والبكـم!‬ ‫فواهلل لو أن الصحـابـة شــاهــدوا ‬
‫وقلت‪:‬‬

‫ـاط ـيـ ـ ـ ــل‬ ‫الصوالت واجل ــوالت يف ص ـ ـن ـ ـ ــع األبـ ـ ـ ـ ـ ِ‬


‫ك َّ ْ ُ َ ْ ُ‬ ‫لَ َ‬
‫ـاح إذا تُـم ِـس ـ ـ ـ ــي بِـ ـ ــرفْ ـقـ ـ ـ ـ ِـة ُرتَّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍع مـ ــِيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـل‬
‫َوتـَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ـداد ِخ ـ ـيـ ـ ـ ــرِة اجلي ـ ـ ـ ـ ـ ِـل!‬ ‫فَـهـ ـ ـالَّ ِص ـ ـ ــرت ِمنّـ ـ ـ ـ ـ ــا فـي ِعـ ـ ـ ـ ِ‬
‫َ‬

‫‪ 1‬فوات الوفيات ج ‪ 3‬ص ‪.693‬‬

‫‪493‬‬
‫اإلحسان‬

‫طالق الدنيا واآلخرة‬


‫ِ‬ ‫﴿ربـَّنَا إِنَّ َ‬
‫ك َمن تُ ْدخ ِل الن َ‬
‫َّار‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫َنصا ٍر﴾‪ .‬اللهم ارمحين برتك‬ ‫فـ َق ْد أَ ْخزيـته وما لِلظَّالِ ِم ِ‬
‫ين م ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫املعاصي أبدا ما أبقيتين‪ ،‬وارمحين أن أتكلف ما ال يعنيين‪ ،‬وارزقين‬
‫حسن النظر فيما يرضيك عين‪.‬‬

‫ك َخيـٌْر َوأَبـَْقى﴾‪ ،1‬فزاده‬ ‫﴿وِرْز ُق َربِّ َ‬


‫تال املؤمن قول اهلل تبارك وتعاىل‪َ :‬‬
‫اب ْال ِخ َرِة أَ َش ُّد‬
‫﴿ولَ َع َذ ُ‬
‫القرآن إميانا وزادته اآلية توكال‪ .‬وتال قوله عز وجل‪َ :‬‬
‫﴿وَما ِعن َد اللَّ ِه َخيـٌْر‬
‫َوأَبـَْقى﴾‪ ،‬فازداد خوفا من بطش ربه‪ .‬وتال قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫‪2‬‬

‫﴿و ْال ِخ َرةُ‬‫َوأَبـَْقى﴾‪ ،‬فازداد رجاؤه فيما عند اهلل‪ .‬وتال قوله جلت حكمته‪َ :‬‬
‫‪3‬‬

‫َخيـٌْر َوأَبـَْقى﴾‪ 4،‬فطلق الدنيا الفانية إيثارا ملا يبقى على ما يفىن‪ .‬مث مسع بالسمع‬
‫﴿واللَّهُ َخيـٌْر َوأَبـَْقى﴾‪ 5،‬فطلق الدنيا‬ ‫القليب مسع الفطرة قول العزيز احلكيم‪َ :‬‬
‫واآلخرة مجيعا شوقا إىل ربه وإيثارا للخالق الرزاق رب الدنيا واآلخرة على ما‬
‫سواه‪.‬‬
‫عبارةٌ يكثر أن نقرأها يفكالم األكابر مثل الشيخ عبد القادر يتحدث فيها عن‬

‫‪ 1‬طه‪131 ،‬‬
‫‪ 2‬طه‪127 ،‬‬
‫‪ 3‬القصص‪60 ،‬‬
‫‪ 4‬األعلى‪17 ،‬‬
‫‪ 5‬طه‪73 ،‬‬

‫‪494‬‬
‫اإلحسان‬

‫طالق الدنيا واآلخرة جيب أن نـَْق ُدرها قدرها لكيال يتوهم متوهم أن بالقوم رضي اهلل‬
‫عنهم استخفافا بأمر اآلخرة‪ .‬كيف واهلل عز وجل خوفنا من عذاهبا ومجَّل‬
‫لنا ثواهبا ونعيمها! نَفس املؤمن واحملسن ختاف أشد اخلوف مما خوف منه اهلل‬
‫رجى فيه‪ .‬نفس العارف ختاف النار وحتب النعيم كأشد ما‬ ‫تعاىل‪ ،‬وترجو ما ّ‬
‫يكون اخلوف واحلب‪ ،‬فهو عبد هلل‪ .‬لكن قلبه ال يلتفت إىل الدار دون اجلار‪،‬‬
‫جمرد فكرة أن حيجب عن اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫ال حيلو له نعيم يف الدنيا واآلخرة مع ّ‬
‫وخف ُّي وأخفى‪ ،‬حسب‬ ‫هو يف الدنيا واآلخرة جسم ونفس وقلب وروح‪ ،‬وسر ِ‬
‫ونعيمها وأشواقها دنيا وأخرى‪ .‬وقد‬
‫اصطالح العارفني‪ ،‬ولكل من أكوانه لذهتا ُ‬
‫يغلب احلال بعض الصوفية أحيانا فيرتجم لسانه عن القلب والروح والسر مبا‬
‫يوهم املقطوع مع نفسه من احملجوبني أن الناطق ال يكرتث بشيء مما عظمه‬
‫اهلل من عمل الدنيا وقـَُرهبا وجزاء اآلخرة ونعيمها وعقاهبا‪ ،‬كما قالت رابعة‪:‬‬
‫أن ـ ـ ــا ال أبتغ ـ ــي حبـ ـب ـ ـ ــي بـدي ـ ـ ـ ـ ـ ــال‬ ‫لـيس يل يف اجلنـان والنار رأي ‬
‫قال اإلمام عبد القادر قدس اهلل روحه‪" :‬الدنيا سوق عن قريب ينغلق‪ .‬أغلقوا‬
‫أبواب رؤية اخللق وافتحوا أبواب رؤية احلق عز وجل‪ .‬أغلقوا أبواب االكتساب‬
‫واألسباب يف حال صفاء القلوب وقرب السر فيما خيصكم ال فيما يعم غريكم من‬
‫األهل واألتباع‪ .‬فليكن الكسب لغريكم‪ ،‬والنفع لغريكم‪ ،‬والتحصيل لغريكم‪ .‬واطلبوا‬
‫ما خيصكم من لطيف فضله‪ ،‬وأقعدوا أنفسكم مع الدنيا‪ ،‬وقلوبكم مع األخرى‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وأسراركم مع املوىل‪ .‬إنك تعلم ما نريد"‪.‬‬
‫وقال‪" :‬الزاهدون يأكلون يف اجلنة‪ ،‬والعارفون يأكلون عنده وهم يف الدنيا‪.‬‬
‫وقربم من‬ ‫ِ‬
‫طعام ُهم وشراهبم أُنسهم ُ‬
‫واحملبون ال يأكلون يف الدنيا وال يف اآلخرة‪ُ .‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.185‬‬

‫‪495‬‬
‫اإلحسان‬

‫رهبم عز وجل ونظرهم إليه‪ .‬باعوا الدنيا باآلخرة‪ ،‬مث باعوا اآلخرة برهبم عز وجل‬
‫رب الدنيا واآلخرة‪ .‬الصادقون يف حمبته باعوا الدنيا واآلخرة بوجهه‪ ،‬وأرادوه‬
‫دون غريه‪ .‬فلما متَّ البيع والشراء غلب الكرم فرد عليهم الدنيا واآلخرة موهبةً‪،‬‬
‫وأمرهم بتناوهلما‪ .‬فأخذومها مبجرد األمر‪ ،‬مع الشِّبع‪ ،‬بل مع التخمة والغىن‬
‫عنهما‪ .‬فعلوا ذلك موافقة للقدر‪ ،‬وحسن أدب مع ال َقدر‪ .‬قبلوا وأخذوا وهم‬
‫يقولون‪" :‬وإنك لتعلم ما نريد"‪ .‬تعلم أن قد رضينا بك دون غريك‪ .‬ورضينا‬
‫باجلوع والعطش والعُْري والذل واملهانة‪ ،‬وأن نكون على بابك مطروحني‪ .‬ل ّـما‬
‫فأعزهم‬
‫نظر الرمحة‪ّ ،‬‬
‫وقرروا مع نفوسهم الطمأنينة عليه نظر إليهم َ‬ ‫رضوا بذلك‪ّ ،‬‬
‫وقرهبم منه دنيا وآخرة‪ .‬املؤمن يزهد‬‫بعد ذهلم‪ ،‬وأغناهم بعد فقرهم‪ ،‬ومنحهم َّ‬
‫ود َرنَه وَك َد َره‪ .‬فتأيت اآلخرةُ فتس ُكن قلبه‪ ،‬مث‬
‫الزهد وسخ باطنه َ‬
‫يف الدنيا فيزيل ُ‬
‫تأيت يد الغرية فتزيلها عن قلبه‪ ،‬وتعلمه أهنا حجاب عن قرب احلق عز وجل‪.‬‬
‫فحينئذ يرتك االشتغال باخللق يف اجلملة‪ ،‬وميتثل أوامر الشرع‪ ،‬وحيفظ حدوده‬
‫املشرتكة بينه وبني العوام‪ .‬تنفتح عينا بصريته‪ ،‬فيبصر عيوب نفسه وعيوب‬
‫يعقل‬‫املخلوقات‪ ،‬فال يسكن إال إىل ربه عز وجل‪ ،‬وال يسمع من غريه‪ ،‬وال ِ‬
‫عن غريه‪ ،‬وال يس ُكن إىل غري وعده‪ ،‬وال خياف من غري وعيده‪ .‬يرتك الشغل‬
‫بغريه ويشتغل به‪ .‬فإذا مت هذا فهو فيما ال عني رأت‪ ،‬وال أذن مسعت‪ ،‬وال‬
‫‪1‬‬
‫خطر على قلب بشر"‪.‬‬
‫االنقالع عن الدنيا وعن شهواهتا‪ ،‬والزهد يف متاعها املادي من أموال وزينة‪،‬‬
‫والرتفع عن طلب الرئاسات‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والتقلل‪ ،‬والتوكل‪ ،‬مقامات يبلغها السالك‬
‫الصويف باجملاهدة والذكر‪ ،‬ويبلغها السالك اجملاهد بالثبات يف الصف مع كثرة‬
‫نفسه‬
‫الذكر‪ ،‬ويدركها االثنان بصحبة من ختطى الدنيا ومل يقف مع اآلخرة إال ُ‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.185‬‬

‫‪496‬‬
‫اإلحسان‬

‫الفرحةُ مبا عند اهلل‪ ،‬والروح يف أشواقها إىل اهلل‪ ،‬والسر يف مناجاته مع اهلل‪.‬‬
‫قال أبو يزيد البسطامي رمحه اهلل‪" :‬طلقت الدنيا ثالثا بتّاً ال رجعة يل فيها‪.‬‬
‫وصرت إىل ريب وحدي‪ .‬وناديته باالستعانة‪ .‬إهلي أدعوك دعاء من مل يبق له‬
‫غريك‪ .‬فلما عرف صدق الدعاء من قليب واليأْس من نفسيكان ُ‬
‫أول ما ورد علي‬
‫ي مع‬‫يد َّ‬
‫من إجابة هذا الدعاء أن أنساين نفسي بالكلية‪ ،‬ونصب اخلالئق بني َ‬
‫الزوار يتربكون به ويقتدون‪ ،‬قال‪:‬‬‫إعراضي عنهم"‪ .‬وملا كثر على أيب يزيد ُّ‬
‫يا ليتين صـ ــرت شيئ ـ ـ ــا مـن غـ ـ ــري شـيء أ َُعـ ـ ـ ـ ُّـد‬
‫أصبحـت للكـل م ــوىل ألن ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي لك عـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ــد‬
‫وفـ ـ ــي الفـ ـ ـ ـؤاد أمـ ـ ـ ـ ـ ـ ــور مـ ــا تُسـت ـطـ ـ ـ ــاع تُ َـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬
‫أسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّـد‬
‫أح ـ ـ ـ ـ ـ ُّـق بـ ـ ــي و َ‬ ‫لكـ ــن كـتـم ـ ــان ح ـ ـ ــايل ‬
‫رحم اهلل العارفني من السادة الصوفية‪ ،‬هربوا من الدنيا بأجسامهم ونفوسهم‬
‫وقلوهبم وأرواحهم مجيعا‪ .‬والسادة السادة األنبياء والرسل وكبار الصحابة أعطوا‬
‫قدمهم يف الدنيا راسخة ثابتة ألهنا دار عمل وجهاد‪ ،‬وقدمهم‬ ‫لكل مقام حقه‪ُ .‬‬
‫يف اآلخرة راسخة ألهنا دار املعاد‪ ،‬وأرواحهم وأسرارهم مع اهلل عز وجل هنا‬
‫وهناك‪ .‬سبقوا الزاهدين اهلاربني بالثبات يف املواقف‪ ،‬ومل يسبقهم أحد‪ ،‬وسبحان‬
‫اهلل‪ ،‬يف القرب من اهلل‪ .‬العذر الذي تذرع به الزاهدون الصوفية للهروب من‬
‫الفتنة ال يقوم أبدا كفاءً للموقف اإلجيايب‪ ،‬موقف من واجهوا اجلاهلية‪ ،‬وقاتلوا‬
‫كل عند اهلل امللك الوهاب‪ ،‬بلغهم‬ ‫صدق طلب السادة الصوفية‪ ،‬وسابقة ٍّ‬ ‫الفتنة‪ُ .‬‬
‫الرسل واألصحاب واحلواريني واإلخوان يف‬ ‫الغين الكرميُ َ‬ ‫املقامات العليا‪ ،‬وزاد ُّ‬
‫لست أقصد باإلخوان كل من هب ودب‬ ‫آخر الزمان مع الصدق توفيقا أعلى‪ُ .‬‬
‫والتحى وقال "أنا"‪ ،‬بل أقصد إخوان الرسول صلى اهلل عليه وسلم الذين اشتاق‬
‫إىل رؤيتهم كما جاء يف الصحيح‪.‬‬

‫‪497‬‬
‫اإلحسان‬

‫عند املوت يكون العبد ال يف الدنيا وال يف اآلخرة‪ .‬عند املوت يُكشف‬
‫ب ارِجع ِ‬
‫ون لَ َعلِّي أَ ْع َم ُل‬‫﴿ر ِّ ْ ُ‬
‫غطاء احملتضر فينكمش الكافر على نفسه ويقول‪َ :‬‬
‫ت﴾‪ ،1‬ويفرح املؤمن مبا ُوعد‪ ،‬ويطري العارف إىل ُمراده‪،‬‬ ‫يما تـََرْك ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫صالحاً ف َ‬
‫َ‬
‫الرسل واحلواريني‪ ،‬ال تشغلهم دار عن دار‪ ،‬وال ينقص‬ ‫وتظهر ميزةُ ال ُك َّمل من ُ‬
‫من شغلهم الروحي السري باهلل شغلهم القليب باآلخرة اليت فيها معادهم‪ ،‬وال‬
‫شغلهم بالدنيا اليت منها زادهم من العمل الصاحل واجلهاد‪.‬‬
‫ُروي عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أنه قال لرفيق له‪ :‬أين تذهب؟ قال‪:‬‬
‫أذهب إىل السوق‪ .‬قال أبو هريرة‪ :‬إن استطعت أن تشرتي يل املوت فافعل‪،‬‬
‫فإنه طال شوقي إىل ريب‪ ،‬وإن املوت أحب إىل من شرب املاء البارد للعطشان‪.‬‬
‫وملا حضر بالالً املوت قال‪" :‬واطرباه! غدا ألقى األحبة حممدا وصحبه"‪ .‬وملا‬
‫حضرت معاذا الوفاة قال‪" :‬اللهم إين قد كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك‪ .‬اللهم‬
‫إنك تعلم أين مل أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها جلري األهنار وال لغرس‬
‫األشجار ولكن لظَمإ اهلواجر‪ ،‬ومكابدة الساعات‪ ،‬ومزامحة العلماء بالركب‬
‫يف حلق الذكر"‪ .‬وملا احتضر سلمان بكى وقال‪" :‬ما أبكي جزعا على الدنيا‪،‬‬
‫أحدنا من‬‫ولكن عهد إلينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن تكون بُلغةُ َ‬
‫الدنيا كزاد راكب"‪ .‬فلما نظروا يف تَ ِركة سلمان رضي اهلل عنه وجدوا قيمة ما‬
‫ترك ال تعدو بضعة عشر درمها‪.‬‬
‫هذه حلظات انتقال عامة الصحابة رضي اهلل عنهم‪ :‬فراق للدنيا بال‬
‫جزع‪ ،‬بل باطمئنان وفرح‪.‬‬
‫آخر أيام حياته يف‬
‫أما األسوة العظمى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فكان ُ‬

‫‪ 1‬املؤمنون‪100 ،‬‬

‫‪498‬‬
‫اإلحسان‬

‫الدنيا االشتغال بتجهيز اجليش مع أسامة إىل الشام‪ ،‬فلما اشتد به املرض وعاجلته‬
‫سكرات املوت‪ ،‬وكانت شديدة عليه لتتأسى به أمته‪ ،‬اشتغل بتنصيب أيب بكر إماما‬
‫آخر وصاياهُ‬ ‫للصالة‪ ،‬يتفقد هل نـُفِّذ أمره هبذا الصددكلما أفاق من غشياته‪ .‬وكان َ‬
‫ك اليمني‪ .‬وكان آخركالمه صلى اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم بالصالة وبالنساء ِوم ْل ِ‬
‫ين أَنـَْع َم اللّهُ َعلَْي ِهم ِّم َن‬ ‫َّ ِ‬
‫﴿م َع الذ َ‬ ‫عليه وسلم‪" :‬اللهم الرفيق األعلى"‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫الشه َداء و َّ ِ ِ‬ ‫النَّبِيِّين و ِّ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫الصالح َ‬ ‫ين َو ُّ َ َ‬‫الصدِّيق َ‬
‫‪1‬‬
‫ََ‬
‫طلب‬ ‫ِ ٍ‬
‫كانت حلظات ثبات‪ ،‬واهتمام بأمر األمة‪ ،‬وجهاد‪ ،‬وتعليم‪ .‬مث َ‬
‫الرفيق األعلى من أحباب اهلل انتظاراً ليوم الشفاعة ولواء احلمد‪.‬‬
‫وملا احتُضر الصديق رضي اهلل عنه كان آخر ُشغله يف الدنيا وصيتُه‬
‫باخلالفة من بعده لعمر بعد عهد حافل جبهاد أهل الردة‪ .‬وكان مما قاله قبل‬
‫مصريها‬
‫ت األمور وجعلت َ‬ ‫موته فيما رواه سعيد بن املسيب‪" :‬اللهم إنك َدبـَّْر َ‬
‫إليك‪ ،‬فأحيين بعد املوت حياة طيبة‪ ،‬وقربين إليك ُزلْ َفى‪ .‬اللهم من أصبح‬
‫وأمسى ثقتُه ورجاؤه غريُك فأنت ثقيت ورجائي‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل"‪.‬‬
‫وملا طُعن عمر بن اخلطاب اشتغل بتدبري الشورى من بعده‪ ،‬مل يشغله ما‬
‫كان يعانيه من اجلراح عن دنيا األمة‪ ،‬وال شغلته مهوم اآلخرة عن هم األمة‪ ،‬وال‬
‫شغله كل ذلك عن هم اهلل‪ .‬كمال يف كمال‪ .‬عن ابن عباس أن عليا رضي اهلل‬
‫فت أحدا أحب إيل أن ألقى‬ ‫عنه ملا تويف عمر ترحم عليه وخاطبه قائال‪" :‬ما خلَّ َ‬
‫اهلل بعمله منك‪ .‬و ْايُ اهلل! إن كنت ألظن ليجعلك اهلل مع صاحبيك! وذلك‬
‫أين كنت كثرياً ما أمسع النيب صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬ذهبت أنا وأبو بكر‬
‫وعمر‪ ،‬وخرجت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬ودخلت أنا وأبو بكر وعمر‪ .‬فإين كنت‬

‫‪ 1‬النساء‪69 ،‬‬

‫‪499‬‬
‫اإلحسان‬

‫ألرجو أن جيعلك اهلل معهما"‪.‬‬


‫وملا طعن أمري املؤمنني عثمان كان آخر كالمه‪" :‬ال إله إال أنت سبحانك‬
‫إين كنت من الظاملني‪ .‬اللهم إىن أستعديك عليهم‪ ،‬وأستعينك على مجيع‬
‫أموري‪ ،‬وأسألك الصرب على ما ابتليتين"‪.‬‬
‫وملا طعن اإلمام علي كرم اهلل وجهه قال‪:‬‬
‫ورب الكعبة!" ومل ينطق إال بال إله إال اهلل حىت قبض‪ .‬وقال قبيل‬ ‫"فزت ِّ‬
‫‪1‬‬
‫الرحيل‪ ﴿ :‬لِ ِمثْ ِل َه َذا فـَْليـَْع َم ْل ال َْع ِاملُو َن﴾‪.‬‬
‫ودخل اإلمام احلسني بن علي على أخيه اإلمام احلسن عند االحتضار‬
‫فقال له‪" :‬مالك جتزع‪ .‬إنك تـَْق َدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعلى‬
‫علي بن أيب طالب ومها أبواك‪ ،‬وعلى خدجية وفاطمة ومها أماك‪ ،‬وعلى محزة‬
‫وجعفر ومها عماك"‪ .‬فقال‪" :‬يا أخي‪ .‬أَقْ َد ُم على أمر مل أقدم على مثله"‪.‬‬
‫وخطب اإلمام احلسني ملا نزل به البالء يف كربالء فكان من خطبته قوله‪:‬‬
‫"أال ترون احلق ال يُعمل به‪ ،‬والباطل ال يُتناهى عنه‪ .‬لريغب املؤمن يف لقاء اهلل‬
‫‪2‬‬
‫جرما"‪.‬‬
‫تعاىل‪ .‬وإين ال أرى املوت إال سعادة واحلياة مع الظاملني إال ُ‬
‫أما الصوفية العارفون فلم تكن هلم عالئق مع الدنيا‪ ،‬فطاروا مع نَسمة‬
‫املوت خافقني‪ .‬حضرت الوفاة اإلمام حسنا البصري رضي اهلل عنه فكانوا‬
‫يلقنونه الشهادة‪ ،‬ففتح عينيه وقال‪" :‬إىل مىت تدعونين إليه‪ .‬وأنا حمرتق به منذ‬
‫عشرين سنة؟"‪ .‬وبكت رابعة العدوية عند املوت وضحكت‪ ،‬فسألوها عن‬
‫بكائها وضحكها فقالت‪" :‬أما بكائي فمن مفارقيت الذكر آناء ليلي وهناري‪.‬‬
‫وأما ضحكي فمن سروري بلقائه"‪ .‬وقال أبو سعيد اخلراز عند الوفاة‪:‬‬

‫‪ 1‬الصافات‪61 ،‬‬
‫‪ 2‬استفدت هذه النقول من كتاب "اإلحياء" ج ‪ 4‬ص ‪.405-408‬‬

‫‪500‬‬
‫اإلحسان‬

‫حنيـن قلــوب العــارفيــن إىل الذك ــر وتَـ ْذكــارهم وقــت املـنـاجــاة للس ـ ـ ِّـر‬
‫أُديـ َـرت ك ــؤوس للمن ــاي ــا عليهم فـأغ َفـ ْـوا عن الدنيـاكإغفـاء ذي ُسكــر‬
‫ود اهلل كاألنـجــم ال ُّـزه ـ ــر‬
‫ه ُـم مـا ه ُـم ج ّـوالــة مبـُ َـع ـس ـ َكـ ـ ــر بـه أهــل ِّ‬
‫فأجســامهم يف األرض قـتـلـى حبب ــه وأرواحهم يف احلُ ْج ِب حنو العال تسـري‬
‫فمـا ع َّـرس ـوا إال بق ــرب حـبـيـبـهــم وما عــرجـوا من مـس بــؤس وال ض ــر‬
‫وقال عبد اهلل بن املبارك يذم الذين ماتت قلوهبم من مسوم جيفة احلياة‬
‫بيع خسارة‪:‬‬ ‫الدنيا‪ ،‬وباعوا نفوسهم َ‬
‫ـانــا‬
‫الذل إد مـ ُ‬ ‫رأيت الذنوب ُتيت القلـوب وقـد يـورث َّ‬
‫ـانــا‬
‫وترك الذنوب حيـاة القلـوب وخيـ ٌـر لنـفســك عصي ُ‬
‫ـوك وأحبــار ســوء ورهب ــا هنــا‬ ‫وهل أفسـد الد ي َـن إ الّ املل ُ‬
‫ـل يف البيـع أ مثـا هنــا‬ ‫وباعوا النفـوس ومل يـرحبـوا ومل يـَ ْغ ُ‬
‫ـني لذي اللب خسـرا هنــا‬ ‫فقـد رتـع القــوم يف جـيفــة يَب ُ‬
‫وقال اإلمام الشافعي خيرب عن طعم الدنيا‪:‬‬
‫ـذبـا وعـذابـُهـا‬ ‫ومن يـذق الدنيـا فإين طعِمتهــا وسيـق إلينـا ع ُ‬
‫فلـم أرهــا إال غ ــروراً وبـا طــال كما الح يف ظهـر الفـالة سر ُابـا‬
‫ـالب مهُّ ُه َّـن اجتـذاهبـا‬‫ومـا هي إال جـيفــة مستحـيلـة عليها ك ٌ‬
‫فإن جتتنبها كنت سلمـا ألهلهـا وإن جتتـذ هبـا نازعتـك كـال هبـا‬
‫مرخى حجاهبـا‬ ‫َّ‬
‫فطوىب لنفس أولعت قـَْع َـر دارهـا مغلقـة األبـواب ً‬
‫وقال متحدثا عن أسلوبه يف حفظ دينه وصون نفسه من منازعة كالب‬
‫الدنيا‪ ،‬الذئاب اجلائعة حرصا على املال والسلطان‪:‬‬
‫طمعـت َتـو ُن‬ ‫أمت مطامعي فأرحت نفسي فإن النفـس ما ِ‬ ‫ُّ‬
‫ْ ُ‬
‫ـرض مصـون‬ ‫ِ‬
‫ـوع وكـان َمْيتـا ففـي إحيـا ئـه ع ٌ‬ ‫وأحييت ال ُقن َ‬

‫‪501‬‬
‫اإلحسان‬

‫ـحـل بقلـب عبـد َعلَـْتــه مهـا نـة وعـاله هــو ُن‬ ‫إذا طَ َم ٌـع ي ُ‬
‫وقال‪:‬‬
‫إن للـه عبــادا فـط ـن ــا طلقوا الدنيا وخافوا ِ‬
‫الفتنا‬
‫نظــروا فيها فلمـا علمـوا أهنا ليسـت حلـي وطنـا‬
‫جعـلـوها جلَّـةً وا ختــذ وا صاحل األعمال فيها سـ ُفنا‬
‫وقال وهو على فراش املوت‪:‬‬
‫وملا قســا قـلـيب وضاقـت مـذاهبـي جعلـت رجـائي حنـو عفــوك ُسلمـا‬
‫تعــاظـمـنــي ذنبـي فلـمــا قـرنتـه بعفــوك ريب كــان عفـ ُـوك أعظـمـا‬
‫فما زلت ذا عفـو عن الذنب مل تزل جت ــود وتـعـف ــو مـنــة وتك ــرمـا‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ـوت‬ ‫ِ‬
‫ت َمس َكــنه ــا بَــني البيُـ ـ ـ ْ‬
‫َتـ ـ َذ ْ‬ ‫سج العنكبُــوت ‬ ‫إن ْأوهى النَّسج نَ ُ‬
‫ـوت‬ ‫يت ــالشـى إ ْن نـه ْ ِ‬ ‫ـذاك الظُّـلـ ـ ُـم فـيـ َـمــا بَـيننــا ‬
‫ـضن ـ ـ ــا لنـم ـ ـ ـ ْ‬ ‫َ‬ ‫وك ـ ـ ـ َ‬
‫ـوت‬
‫الص ُمـ ْ‬
‫ِ‬
‫وسط ُّ‬ ‫وت يف ْ‬ ‫الص َ‬
‫افعني َّ‬
‫َر َ‬ ‫ـدل يف َدولَـت ـ ـ ـ ِـه ‬
‫الع ـ ـ َ‬
‫ْأو نُق ـيـ ـ ـ َـم َ‬

‫‪502‬‬
‫اإلحسان‬

‫الفقر إلى اهلل عز وجل‬

‫﴿ربـَّنَا إِنـَّنَا َس ِم ْعنَا ُمنَ ِادياً‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َّ .‬‬
‫يـن ِادي لِ ِإل ِ ِ‬
‫آمنَّا﴾‪ .‬اللهم بديع السماوات‬ ‫يمان أَ ْن آمنُواْ بَِربِّ ُك ْم فَ َ‬
‫َ‬ ‫َُ‬
‫واألرض َذا اجلالل واإلكرام والعزة اليت ال تُرام‪ ،‬أسألك يا اهلل‬
‫يا رمحن جباللك ونور وجهك أن تلزم قليب حفظ كتابك كما‬
‫علمتين‪ ،‬وارزقين أن أتـْلَُوه على النحو الذي يرضيك عين‪.‬‬

‫من سنة اهلل عز وجل مع أحبائه أن يبتليهم بالشدة وميتحنهم باألزمان‬


‫حىت حيصل هلم من مقامات الصرب واللَّجإ إليه عز وجل واالفتقار ما ال حيصل‬
‫ت‬ ‫﴿ولََق ْد ُك ِّذبَ ْ‬‫يف الرخاء‪ .‬قال عز من قائل حلبيبه حممد صلى اهلل عليه وسلم‪َ :‬‬
‫ِّل‬
‫ص ُرنَا َوالَ ُمبَد َ‬ ‫اه ْم نَ ْ‬ ‫صبـَُرواْ َعلَى َما ُك ِّذبُواْ َوأُوذُواْ َحتَّى أَتَ ُ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ُر ُس ٌل ِّمن قـَْبلِ َ‬
‫ات اللّ ِه﴾‪ 1.‬وقال عز وجل خماطبا األمة من أصحاب رسول اهلل صلى‬ ‫لِ َكلِم ِ‬
‫َ‬
‫ف‬ ‫ِ‬
‫ضطََّر إ َذا َد َعاهُ َويَ ْكش ُ‬ ‫ِ‬ ‫يب ال ُْم ْ‬ ‫ِ‬
‫اهلل عليه وسلم وهم يف احملنة مبكة‪﴿ :‬أ ََّمن يُج ُ‬
‫ش ْي ٍء‬‫﴿ولَنَبـْلُ َونَّ ُك ْم بِ َ‬
‫ض﴾‪ .‬وقال جل وعال‪َ :‬‬
‫‪2‬‬ ‫وء َويَ ْج َعلُ ُك ْم ُخلَ َفاء ْال َْر ِ‬ ‫الس َ‬
‫ُّ‬
‫ش ِر َّ ِ‬ ‫س والثَّمر ِ‬ ‫ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين‬ ‫ات َوبَ ِّ‬ ‫ص ِّم َن األ ََم َوال َواألن ُف ِ َ َ َ‬ ‫ْجوِع َونـَْق ٍ‬ ‫وف َوال ُ‬ ‫ِّم َن الْ َخ ْ‬
‫اجعو َن أُولَـئِ َ‬ ‫صيبةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّ ِه وإِنَّـا إِلَْي ِه ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك َعلَْي ِه ْم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َصابـَتـْ ُهم ُّم َ‬ ‫ين إِ َذا أ َ‬
‫الذ َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْهتَ ُدو َن﴾‪ 3.‬بالؤه عز وجل بالبأساء‬ ‫ات ِّمن َّربِّ ِه ْم َوَر ْح َمةٌ َوأُولَـئِ َ‬
‫صلَ َو ٌ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬األنعام‪34 ،‬‬
‫‪ 2‬النمل‪62 ،‬‬
‫‪ 3‬البقرة‪155-157 ،‬‬

‫‪503‬‬
‫اإلحسان‬

‫حلزبه مجاعة وألحبائه أفرادا اهلدف منه أن ينحازوا إليه ويقفوا على بابه‪ ،‬بعد‬
‫أن قطع عنهم األسباب‪ ،‬باالفتقار والذلة‪ .‬وقد ابتلى اهلل سبحانه قوم موسى‬
‫بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون‪ ،‬لكنهم مل يتضرعوا فأصاهبم اهلل بعذاب‬
‫بِ ٍ‬
‫يس مبا كانوا يفسقون‪.‬‬
‫ض ٌّم بيد احلكمة إىل جناب الرمحة‪ ،‬وقبضة العذاب على‬ ‫ابتالء األحباب َ‬
‫الكافرين شدة عادلة جزاءً مبا كسبت أيدي الناس‪ .‬ويظهر فرق ما بني أولئك‬
‫وهؤالء يف أن األحباب يتضرعون ويـَْل َجأون بالدعاء ويزداد افتقارهم ملوالهم‬
‫صابرين على أذى من آذاهم حىت يأتيهم نصر اهلل‪ ،‬بينما أعداء اهلل تأخذهم‬
‫الصاعقة وهم ينظرون‪ ،‬فال يستطيعون نصر أنفسهم وال هم من عذاب اهلل‬
‫صحبون‪ ،‬بعد عنادهم وعتوهم ورفضهم طاعة اهلل وطاعة من وااله‪.‬‬ ‫يُ ْ‬
‫األغرب ذا الطمرين الذي لو أقسم على اهلل ألبره منوذج للويل‬
‫األشعث َ‬
‫َ‬ ‫و َّ‬
‫إن‬
‫فقر قلبه إىل ربه على ثوبه وقُوتِه‪ .‬مظهر الفقر واملرقعة والزي صناعة ونفاق‬ ‫ِ‬
‫الظاهر ُ‬
‫وشَرك للصيد إن مل يكن يف القلب نية‪ ،‬وإن مل يكن عزوف حقيقي عن الدنيا‪،‬‬ ‫َ‬
‫وزهد فيها‪ ،‬وطالق إرادي هلا‪ .‬على أن التقلل من الدنيا سنة نبوية املقصود منها‬
‫أن يتخفف العباد من أثقاهلا ليُسارعوا إىل رهبم خفافا‪ .‬ومن أبطأت به إرادته‬
‫فما استطاع أن يرقى من سلبية الفقر من الدنيا والتقلل إىل إجيابية الفقر إىل اهلل‬
‫والصعود يف عقبة السلوك إليه اقتحاما‪ ،‬فليس حظّه هينا إن عصمه اهلل بال َف ْق ِر‬
‫املادي االضطراري من ارتكاب املعاصي ومن الرتف والتوسع يف النِّعم‪.‬‬
‫مثل حمبته ودوام ذكره‪ ،‬أشرف منازل‬
‫االفتقار القليب إىل اهلل عز وجل‪َ ،‬‬
‫وسرها‬
‫الطريق عند السادة الصوفية‪" ،‬وأعالها وأرفعها‪ .‬بل هي روح كل منزلة ّ‬
‫‪1‬‬
‫ولبها وغايتها"‪.‬‬
‫‪ 1‬ابن القيم يف "مدارج السالكني" ج ‪ 2‬ص ‪.438‬‬

‫‪504‬‬
‫اإلحسان‬

‫االفتقار إليه سبحانه بصادق الرغبة‪ ،‬وصادق النفور من الدنيا ودناءهتا‪،‬‬


‫وصادق الشعور باإلفالس يف احلياة إن مل يعرف العبد غاية وجوده‪ ،‬منزلة شاخمة‬
‫يقود اهلل عز وجل إليها مبقادات االضطرار من شاء مبا شاء‪ .‬يقود إىل الشهادة يف‬
‫سبيله رجاال غضبوا هلل حلظة فما وجدوا غري بذل النفس مجلة‪ .‬ويقود إىل الشهادة‬
‫وإىل الصديقية رجاال نذروا حياهتم هلل ومل يلتفتوا إىل غري اهلل حىت لقوا مصرعهم‬
‫وهم يف ساحة القتال أو يف ساحة تدبري اجلهاد وإصالح شأن األمة‪ .‬وحبَس‬
‫حابس الفقر والعُ ْدم والفتنة آخرين فتشبهوا بالكرام وحلقوا مبقامات الصديقية عن‬
‫طريق الصحبة والذكر والصدق واجملاهدة‪ .‬هؤالء هم السادة الصوفية فقهاءُ القلوب‬
‫نصيب إن مل يرتفع هبم إىل حقيقة العبودية‬
‫وأطباؤها‪ ،‬ولكل من رشف من شراهبم ٌ‬
‫وذروة اجلهاد فقد خرجوا من الدنيا إىل اآلخرة بعد أن أطلق عليهم يف امللكوت‬
‫نعت االفتقار إىل اهلل حلظة‪ .‬يا هلا من غنيمة للضعفاء والعجزة الذين ال جيدون ما‬
‫ُ‬
‫ينفقون من رصيد السابقة ورصيد الرجولة ورصيد البذل مثلما بذله السابقون األولون‬
‫من املهاجرين واألنصار‪ ،‬سادة هذه املنزلة وكل منزلة‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن القيم يلخص لنا بأسلوبه األخاذ أوصاف الفقري‬
‫تظرفا‪،‬‬
‫إىل اهلل وصفا جامعا‪" :‬مجلة نعت الفقري حقا أنه املتخلي عن الدنيا ُّ‬
‫تعففا‪ .‬ال يستغين هبا تكثّرا وال يستكثر منها متلُّكا‪ .‬وإن‬
‫واملتجايف عنها ُّ‬
‫تضرهُ‪ ،‬بل هو فقريٌ غناه يف فقره‪ ،‬وغىن فقره‬
‫كان مالكا هلا هبذا الشرط مل َّ‬
‫تربيا‪،‬‬
‫يف غناه‪ .‬ومن نعته أن يكون فقريا من حاله ‪ ،‬وهو خروجه عن احلال ِّ‬
‫‪1‬‬

‫وترك االلتفات إليه تسلِّيا‪ ،‬وترك مساكنة األحوال‪ ،‬والرجوع عن موافقتها‪ .‬فال‬
‫يستغين هبا اعتمادا عليها‪ ،‬وال يفتقر إليها مساكنة هلا‪.‬‬
‫"ومن نعته أنه يعمل على موافقة اهلل يف الصرب والرضى والتوكل واإلنابة‪.‬‬

‫‪ 1‬األحوال‪ :‬املواجيد العابرة والكرامات‪.‬‬

‫‪505‬‬
‫اإلحسان‬

‫فهو عامل على مراد اهلل منه ال على موافقة هواه‪ ،‬وهو حتصيل مراده من‬
‫خالص بكليته هلل سبحانه‪ ،‬ليس لنفسه وال هلواه يف أحواله حظ‬ ‫ٌ‬ ‫اهلل‪ .‬فالفقري‬
‫ونصيب‪ ،‬بل عملُه بقيام شاهد احلق‪ ،‬وفناء شاهد نفسه‪ .‬قد غيبه شاهد احلق‬
‫عن شاهد نفسه‪ .‬فهو يريد اهلل مبراد اهلل‪ .‬فَ ُم َع ّولُه على اهلل ومهته ال تقف على‬
‫ن حببه عن حب ما سواه‪ ،‬وبأمره عن هواه‪ ،‬وحبسن اختياره‬ ‫شيء سواه‪ .‬قد فَِ‬
‫َ‬
‫له عن اختياره لنفسه‪ .‬فهو يف واد والناس يف واد‪ِ .‬‬
‫خاض ٌع متواضع‪ ،‬سليم‬
‫سلس القياد للحق‪ ،‬سريع القلب إىل ذكر اهلل‪ ،‬بريء من الدعاوي‪ ،‬ال‬ ‫القلب‪ُ ،‬‬
‫يدعي بلسانه وال بقلبه والحباله‪ ،‬زاهد يف كل ما سوى اهلل‪ ،‬راغب يف كل ما‬
‫يقرب إىل اهلل‪ ،‬قريب من الناس‪ ،‬أبعد شيء منهم‪ ،‬يأنس مبا يستوحشون منه‪،‬‬
‫ويستوحش مما يأنسون به‪ ،‬منفرد يف طريق طلبه‪ ،‬ال تقيده الرسوم‪ ،‬وال متلكه‬
‫الفوائد‪ ،‬وال يفرح مبوجود‪ ،‬وال يأسف على مفقود‪ .‬من جالسه َّقرت عينه به‪،‬‬
‫ومؤنته عن الناس‪ ،‬واحتمل‬ ‫ذكرته رؤيته باهلل سبحانه‪ .‬قد محل كلَّه ْ‬ ‫ومن رآه َّ‬
‫رضه ونفسه‪ ،‬ال‬ ‫ِ‬
‫أذاهم‪ ،‬وكف أذاه عنهم‪ ،‬وبذل هلم نصيحته‪ ،‬وسبَّل هلم ع َ‬
‫ملعاوضة وال لذلة وعجز‪ .‬ال يدخل فيما ال يعنيه‪ ،‬وال يبخل مبا ال ينقصه‪.‬‬
‫الصدق والعفةُ واإليثار والتواضع واحللم والوقار واالحتمال‪ .‬ال يتوقع‬ ‫ُ‬ ‫وص ُفه‬
‫ملا يبذله للناس منهم ِع َوضا وال ِم ْد َحةً‪ .‬ال يعاتب وال خياصم وال يطالب‪ ،‬وال‬
‫قبل على شأنه‪ ،‬مكرم‬ ‫يرى له على أحد حقا‪ ،‬وال يرى له على أحد فضال‪ُ .‬م ٌ‬
‫يل بزمانه‪ ،‬حافظ للسانه‪ ،‬مسافر يف ليله وهناره‪ ،‬ويقظته ومنامه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إلخوانه‪َ ،‬ب ٌ‬
‫ال يضع عصا السري عن عاتقه حىت يصل إىل مطلبه‪ .‬قد ُرفع له َعلَ ُم احلب‪،‬‬
‫فشمر إليه‪ ،‬وناداه على االشتياق فأقبل بكليته عليه‪ .‬أجاب منادي احملبة إذ‬ ‫َّ‬
‫السرى يف بيداء الطلب فحمد عند الوصول‬ ‫دعاه‪ :‬حي على الفالح‪ ،‬وواصل ُّ‬
‫‪1‬‬
‫السرى عند الصباح"‪.‬‬ ‫مسراه‪ .‬وإمنا حيمد القوم ُّ‬
‫‪ 1‬طريق اهلجرتني ص ‪.60-61‬‬

‫‪506‬‬
‫اإلحسان‬

‫هلل دره من رباين فقيه‪ ،‬مجع يف هذه الصفحة الفريدة‪ ،‬وكم له من فرائد‬
‫رمحه اهلل‪ ،‬من العلم بدقائق احلقائق ورقائق العالئق ما ينبئ عن سلوك حقيقي‬
‫ومهة سامقة‪ ،‬ال كما يـَتَ َح ْذلَ ُقها األدعياء‪.‬‬
‫عجبني ببالغة القوم وكلماهتم اجلامعة ينبغي أن‬ ‫مث إننا عندما نقرأ ُم َ‬
‫يش ِّوشنا‬
‫ال تُلفتنا رقة مواجيدهم رضي اهلل عنهم عن قوة بالغ القرآن‪ ،‬وال َ‬
‫وتشعثهم يف الفلوات واخللوات عن اخشيشان الصحابة‬ ‫تفقرهم وتزهدهم َّ‬
‫ذلك االخشيشان الرجويل الالئق مبن كانوا أذلة على املؤمنني أعزة على‬
‫الكافرين‪ ،‬أشداءَ على الكفار رمحاءَ بينهم‪ .‬نقرأ فقه السادة الطيبـي األنفاس‪،‬‬
‫ونتصفح حياهتم وأساليبهم الرتبوية‪ ،‬مارين إىل املناظر النواضر‪ ،‬لنُقارب اجلهاد‬
‫الصحايب‪ ،‬والنداء القرآين‪ ،‬واهلدي النبوي‪ .‬وهم لنا على كل حال فـََر ٌط على‬
‫وحبل واصل بالصحبة من أداين عصرنا إىل أعايل العصر‬ ‫طريق الفقر إىل اهلل‪ٌ ،‬‬
‫أصل حبول اهلل إىل مستقبل اخلالفة الثانية‪.‬‬ ‫األول‪ ،‬و ٌ‬
‫قال اإلمام الرفاعي رضي اهلل عنه‪" :‬من حقيقة االفتقار االستكفاء‬
‫بالكايف‪ ،‬وطرح النفس السقيمة بني يدي املـَُعايف‪ .‬وأيضا حقيقته انتظار السبب‬
‫ب مع رؤية السبب‪ ،‬واالشتغال باملسبب مع نسيان السبب‪ .‬وأيضا من‬ ‫مع املسبِّ ِ‬
‫ص واالعتذار‪ ،‬بلسان صدق االفتقار‪ ،‬مع غاية االنكسار‪.‬‬ ‫صبُ ِ‬
‫حقيقته دوام التبَ ْ‬
‫ومن حقيقته ختليص األسرار من رؤية األعمال‪ ،‬وترك االعتماد على حسن‬
‫احلال‪ .‬ومن حقيقته أن ال ينصرف العبد عنه خبَْل ِقه وال مبُْلكه (‪)...‬‬
‫"ويقال‪ :‬االفتقار فـََرا َغة يف ِرعاية‪ ،‬ورعاية يف والية‪ ،‬ووالية يف عناية‪،‬‬
‫وعناية يف هداية‪ .‬فمن ال فراغة له ال رعاية له‪ ،‬ومن ال رعاية له ال والية له‪،‬‬
‫ومن ال والية له ال عناية له‪ ،‬ومن ال عناية له ال هداية له (‪)...‬‬
‫فع منازل املنيبني‪ ،‬وأزلف حاالت‬
‫"واعلم أن االفتقار أجل مراتب احملبني‪ ،‬وأر ُ‬
‫‪507‬‬
‫اإلحسان‬

‫املريدين‪ ،‬وأعظم آالت األوابني‪ ،‬وأجل مقامات التائبني‪ ،‬وأعلى وسائل‬


‫ومخ الصدق‪،‬‬ ‫املقربني‪ .‬وهو أصل العبودية‪ ،‬وصدر اإلخالص‪ ،‬ورأس التقوى‪ّ ،‬‬
‫وأساس اهلدى‪ .‬فمن أراد أن يدخل يف عُصبة أهل االفتقار فينبغي أن ال يهتم‬
‫بأمر نفسه وعياله (قلت‪ :‬هذا عني اهلروب والعجز غفر اهلل لنا ولكم‪ .‬ويسعنا‬
‫ويسعكم الشكر والعذر)‪ ،‬وأن يتملق بني يدي اهلل تعاىل‪ ،‬وأن يكون آيِسا مما‬
‫‪1‬‬
‫سوى اهلل‪ ،‬مع االفتقار إىل اهلل"‪.‬‬
‫كيف ال يَ ِنفر من الصوفية وكالمهم وأخبارهم من مألت الدنيا هبوسها‬
‫أحكام ُم َسبـََّقةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الغرور وحب اجلاه‪ ،‬وطمس عقله‬
‫أركان حياته‪ ،‬ومأل نفسه ُ‬
‫مكرمة خساسةُ‬ ‫وضحالة يف العلم‪ ،‬وسطحية يف التفكري‪ ،‬وقعد به عن كل ُ‬
‫اهلمة‪ ،‬ووضاعة اإلرادة! كيف جيلو نفائس النفائس من ُركام الدعوى‬
‫االنزواء وظروف الفتنة! مساكني‬ ‫واالحرتاف والدس واإلبليسية ومالبسات ِ‬
‫مساكني‪ .‬ذهنيات‪ ،‬أنانيات‪ ،‬عادات!‬
‫قال اإلمام عبد القادر قدس اهلل روحه‪" :‬يا غالم! ما دام حب الدنيا يف‬
‫قلبك ال ترى شيئا من أحوال الصاحلني‪ .‬ما دمت ُم َكدِّيا (متسوال) من اخللق‪،‬‬
‫كالم حىت تزهد يف الدنيا واخللق‪ .‬كن جمتهدا‬ ‫مشركا هبم‪ ،‬ال تنفتح عينا قلبك‪ .‬ال َ‬
‫تر ما ال يراه غريُك‪ُ ،‬تَر ُق لك العادة‪ .‬إذا تركت ما هو يف حسابك جاءك ما هو‬
‫وج ْل َوًة رزقَك‬
‫يف غري حسابك‪ .‬إذا اعتمدت على احلق عز وجل واتقيته َخ ْل َوًة َ‬
‫ك هو‪ .‬يف البداية‬ ‫من حيث ال حتتسب‪ .‬اترك أنت ي ِ‬
‫عطك هو‪ .‬ازهد أنت يـَُرِّغْب َ‬‫ُ‬
‫الرتك ويف النهاية األخذ‪ .‬يف بدء األمر تكليف القلب برتك الشهوات والدنيا‪ ،‬ويف‬
‫تناوُلا‪ .‬األول للمتقني‪ ،‬والثاين لألبدال الواصلني إىل طاعة اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫آخره ُ‬

‫‪ 1‬حالة أهل احلقيقة مع اهلل ص ‪.185-187‬‬

‫‪508‬‬
‫اإلحسان‬

‫"يا مرائي! يا منافق! يا مشرك! ال تزامحهم فيما ترتك! هم معدودون!‬


‫حفظتها‪ .‬فال‬ ‫ال تطلب أحواهلم فيما يقع بيدك! هم خرقوا العادات وأنت ِ‬
‫َجَرَم ُخ ِرقت هلم العادات ومل خترق لك! قاموا عند نومك! صاموا عند إفطارك!‬
‫خافوا عند أمنك! أمنوا عند خوفك! بذلوا عند إمساكك! عملوا للحق عز‬
‫وجا َذبـْتَه‬
‫وجل وعملت أنت لغريه! أرادوه وأردت أنت غريه! سلموا األمر إليه َ‬
‫أنت وحاربته! رضوا بقضائه وقطعوا ألسنتهم عن الشكوى إىل اخللق ومل تفعل‬
‫أنت! كذلك صربوا على املرارة فانقلبت يف حقهم حالوة‪ .‬سكاكني القدر‬
‫تقطع حلومهم وال ُيالون وال يتأملون‪ .‬وذلك لرؤيتهم املؤمل ودهشتهم به (‪.)...‬‬
‫اخللق حبسن العشرة‪ ،‬واألهل بالصلة‪ .‬هم‬ ‫يواصلون احلق عز وجل بالطاعة‪ ،‬و َ‬
‫يف نعيمهم دنيا وأخرى‪ .‬يف الدنيا نعيم القرب‪ ،‬ويف اآلخرة نعيم اجلنة ورؤية‬
‫‪1‬‬
‫اهلل عز وجل"‪.‬‬
‫قال أبو العتاهية للمائت الالهي عن اآلخرة‪:‬‬
‫فمــا لبـث السـي ــاق بــه إلـ ــى أن ج ــاء غــاسل ـ ـ ــه‬
‫فـجهـ ـ ــزه إىل جـ ـ ـ ـ ـ ـ َـدث سيك ـث ـ ــر فيـ ــه خ ـ ــاذلـ ـ ـ ــه‬
‫ويصبـح شــاح َط املثــوى ُمـ َف ـ َّ‬
‫ـج ـ ـ َـع ـ ـ ـ ـ ـةً ث ـواكـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫ـش ـ ـ ـ ـةً نـَ ـ ـ ـ ـو ِادبُـ ـ ـ ــه ُم َسـ ـلَّــبَـ ـ ـ ـ ـ ـةً َحـ ـ ــالئـ ـ ـل ـُـ ـ ـ ـ ــه‬
‫مـخـ ـ َّـم َ‬
‫وكـم قـد طال من أمل فـلـ ــم يُــدرك ـ ـ ــه آمـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫رأيـت احلـ ــق ال خي ـف ــى وال تـخـ ـفـى شـ ـواكـلـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫أال فـانـظ ـ ـ ـ ــر لنفـسـ ـ ــك أي ز ٍاد أنـت حــام ـل ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫ملنــزل وحــدة بـيـن ال ـ ـ ـ ـ ـ ــمق ـ ـ ـ ــاب ـ ـ ـ ـ ـ ــر أن ـ ـ ـ ـ ــت ن ـ ـ ــازل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.131‬‬

‫‪509‬‬
‫اإلحسان‬

‫ـت علـي ــك بـه جـن ـ ـ ــادلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ِ‬


‫الس ْمـك قد ُرض َم ْ‬ ‫قصري َّ‬
‫بـعـيـ ـ ـ ـ ُـد تـ ـ ـ ـزاور اجلـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـران ضـ ـ ـي ـقـ ــة مـ ــداخ ـلـ ـ ــه‬
‫ـك مـن كـنــا نـنــازل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫أأيـتـهــا املـقــابــر فـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ومـ ـ ــن كـن ـ ـ ـ ـ ـ ــا نـع ـ ــاش ـ ـ ـ ـ ـ ــره ومـن كـنـ ـ ـ ـ ـ ــا نـع ــام ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ٍِ‬
‫أح ــا ِولُـ ـ ـ ـ ــهُ؟‬ ‫أالَ من ُم ْسعف َحــويل َعلى أم ـ ٍر َ‬
‫ِ‬
‫العـ ــدل وُك ـ ُّـل النَّ ــاس َخ ــاذلُـ ــهُ‬ ‫تـَيَـت ـَّـم بـَينَـن ــا َ‬
‫ِ‬
‫َهـلُ ُّم ـوا نـُْنكـ ُـر الظُّ َ‬
‫لم ــا نـُـنَـ ـ ــازلُـهُ نـُقـ ــاتـ ـ ـ ـلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهُ‬

‫‪510‬‬
‫اإلحسان‬

‫شعب اإليمان‬
‫﴿ربـَّنَا فَا ْغ ِف ْر لَنَا ذُنُوبـَنَا‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪َ .‬‬
‫َوَك ِّف ْر َعنَّا َسيِّئَاتِنَا َوتـََوفـَّنَا َم َع األبـَْرا ِر﴾‪ .‬اللهم بديع السماوات‬
‫واألرض ذا اجلالل واإلكرام والعزة اليت ال ترام‪ ،‬أسألك يا اهلل‬
‫يا رمحن جباللك ونور وجهك أن تنور بكتابك بصري‪ ،‬وأن‬
‫تطلق به لساين‪ ،‬وأن تشرح به صدري‪ ،‬وأن تغسل به ذنيب‪،‬‬
‫فإنه ال يعينين على احلق غريُك‪ ،‬وال يؤتيه إال أنت‪ ،‬وال حول‬
‫وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪.‬‬

‫منزلة "الصحبة واجلماعة" عاجلت لقاء املؤمنني يف مرحلة عقد معاهدة‬


‫األخوة يف اهلل هتيّؤا للمسرية الرتبوية اجلهادية‪ .‬وعاجلت منزلة "الذكر" توطيد‬
‫العبد الطالب للحق عالقاته القلبية مبواله من خالل األوراد وحلق الذكر‬
‫وسائر العبادات‪ .‬ويف منزلة "الصدق" عاجلنا النيات وفضائل اإلخالص هلل‬
‫واالعتماد على اهلل‪ .‬يف منزلة "البذل" اليت ننتهي إن شاء اهلل من النظر فيها يف‬
‫هذه الفقرة نظرنا عالئق العبد مع الدنيا املمسكة خبناق النفس البشرية تعوقها‬
‫عن التحرر من عبوديات احلاجة والضرورة والشهوة ونزعات األَثَرة واالستعالء‬
‫واالستكبار والظلم والرتف‪.‬‬
‫وقد صنفت يف خصلة "البذل" مخس شعب من شعب اإلميان جعلتها‬
‫للنظر يف اجلانب املادي للحياة وفهم الرتبية الالزمة لكيال يستوعب اجلانب املادي‬
‫مستضعف يف رزقه‪،‬‬
‫َ‬ ‫رغبات املسلم يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬ولكيال يُظلم يف األرض‬

‫‪511‬‬
‫اإلحسان‬

‫طغي الغىن األغنياءَ‪ ،‬فيُرتفوا يف‬


‫ولكي ال يؤول فقر الفقري به إىل الكفر‪ ،‬ولكيال يُ َ‬
‫النِّعم ويعيثوا يف األرض فسادا‪.‬‬
‫هذه الشعب اخلمس هي القيم احملورية اليت عليها يدور نظام احلياة املادية‬
‫االجتماعية يف اإلسالم‪ .‬هي قوام املسألة االجتماعية كلها‪ ،‬الكفيلة إن طبقت‬
‫َّس ِق اإلسالمي اإلمياين املتكامل حبل املشكل االجتماعي السياسي من‬ ‫يف الن َ‬
‫حيث تتحدانا األنظمة األرضية من دميقراطية واشرتاكية حتديا مباشرا بنجاحها‬
‫جناحا حنن أكثر الناس قصورا عن مثله منذ ابتعدنا عن ديننا‪.‬‬
‫هذه الشعب اإلميانية اخلمس هي‪ :‬الزكاة والصدقة‪ ،‬مث الكرم والنفقة يف سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬مث إيتاء ذوي القرىب واليتامى واملساكني‪ ،‬مث إطعام الطعام‪ ،‬مث قسمة املال‪.‬‬
‫قلت إن جمموعها يشكل نظاما إسالميا حلل املشكل االجتماعي السياسي‬
‫مشكل الظلم االجتماعي والفقر وسوء القسمة‪ .‬ويف استعمايل لكلمة "نظام" ما‬
‫حيدث سوء تفاهم ألننا ألفنا‪ ،‬منذ وقعنا حتت طائلة احلضارة املادية املستكربة يف‬
‫األرض ومنذ انضبعنا هبا وانصبغنا هبا‪ ،‬أن نكتب حبروف عربية وكلمات عربية‬
‫معاين ليست من القرآن وال من السنة‪ ،‬فهي بعيدة الروح واملعىن عن اإلسالم‬
‫بقدر بعد اللفظ عن اللفظ‪ ،‬وبقدر تلوث املدلوالت القرآنية يف أذهاننا بال ّدو ِّال‬
‫وتقديره‪ ،‬يف زمان مكتظ‬ ‫َ‬ ‫وتفكريه‬
‫َ‬ ‫األرضية‪ .‬لكن تبليغ املثال اإلسالمي اإلمياين‪،‬‬
‫بأشياء حضارة ميسك بزمامها غريُنا ال بد أن مير من امتحان التعبري املتداخل‪،‬‬
‫إىل أن يأذن اهلل بربوز النموذج اإلسالمي املستقل‪ ،‬لتعود مرجعيتنا كما كانت‬
‫وكما يريدها اهلل عز وجل منا إرادة تكليف قرآنية سنية ال غري‪.‬‬
‫تكون هذه الشعب اخلمس نظاما ال مبعىن النظام القانوين امللزم وال مبعىن‬
‫ِّ‬
‫اإلحسان اخلريي‪ ،‬وال مبعىن األخالق واملروآت‪ ،‬وال مبعىن التكافل االجتماعي‪،‬‬
‫وال مبعىن نزع امللكية الثوري‪ .‬لكن بكل تلك املعاين ومثلُها معها يف نسيج وحيد‬

‫‪512‬‬
‫اإلحسان‬

‫النوع ُلمته سلطان اإلسالم العادل وسداه وازع القرآن وداعي القرآن يف قلوب‬
‫أهل اإلميان واإلحسان‪.‬‬
‫س‪ ،‬وزهدوا يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف السادة الصوفية من قبلنا‪ ،‬وهم كانوا احملسنني‪ ،‬من احل ِّ‬ ‫أن َ‬
‫ِ‬
‫وقسمة‬ ‫الدنيا‪ ،‬وبذلوا النفس واخلري‪ ،‬ومارسوا فضائل اجلود والفتـَُّوة وإطعام الطعام‬
‫فاحلس يغزو املسلمني غزوا‬
‫ُّ‬ ‫املال يف دائرة ُمغلقة منحسرة‪ .‬أما يف زماننا وما بعده‬
‫هم ُه ْم‪ ،‬يغزوهم بنماذجه املتحدية‪ ،‬وأفكاره‪،‬‬ ‫ِ‬
‫منكرا‪ ،‬يغزوهم بوجد غريهم وفقد ْ‬
‫وإديولوجياته‪ ،‬وبضائعه‪ ،‬وعدوانه‪ ،‬وأسلحته‪ ،‬ومكره‪ ،‬وسطوته‪ ،‬وإغرائه ودعايته‪.‬‬
‫ضَّرة اآلخرة أعرض عنها من قبلنا من الصاحلني إعراضا‬ ‫الدنيا العدوة َ‬
‫فعليا باخلروج من األوطان والديار‪ ،‬والتخفف من األهل والعيال‪ ،‬والتشعث‬
‫والتزهد‪ .‬والدنيا الصاحلة للرجل الصاحل اليت منها زاده لآلخرة ومتاعه إىل حني‬
‫اكتفى منها الصاحلون قبلنا بالكفاف والعفاف والغىن عن الناس‪.‬‬
‫نقده‪ .‬الذي ْيعنينا هو‬‫وكان ذلك سلوكا اختياريا اضطراريا ال ْيعنينا هنا ُ‬
‫كون حضارة احلواس املعاصرة مسيطرة على األرزاق‪ ،‬وعلى األمساع واألبصار‪،‬‬
‫وعلى مصائر الشعوب‪ ،‬حبيث استكربت يف األرض بغري احلق وأفسدت‪ ،‬واهلل‬
‫ال حيب املستكربين وال حيب الفساد‪ .‬الذي يعنينا‪ ،‬وحنن ننظر يف سلوك إىل اهلل‬
‫على طريق اجلهاد‪ ،‬هو أن التظامل بني ظَ ْهرانـَْينا أفضى إىل تركيبة طبقية استكبارية‬
‫َترفية هي مظهر الداء وبؤرة الفساد‪ .‬الذي يعنينا هو أن املستقبل اجلهادي الذي‬
‫يعم ُر هبا‬
‫ُوعدت به األجيال املتأخرة من األمة هو مستقبل اخلالفة الثانية اليت ُ‬
‫اهلل تبارك وتعاىل األرض ويرضى عنها َساكن األرض وساكن السماء ويباركها‬
‫وجيعلها رمحة يف العاملني‪ .‬ولن يتحقق شيء من هذه املسائل اليت تعنينا باالنتظار‬
‫البليد‪ ،‬وال بتبين احللول احلسية اجلاهزة الواردة طوعا وكرها من بَر اجلاهلية وحبرها‪،‬‬
‫وال بتخطي املشاكل احلسية‪ ،‬السياسية االجتماعية االقتصادية‪ ،‬احمللية منها‬

‫‪513‬‬
‫اإلحسان‬

‫والقطرية والعاملية‪.‬‬
‫تتحقق املطالب اليت تعنينا‪ ،‬معشر األمة‪ ،‬معشر أهل اإلحسان واإلميان‪،‬‬
‫بالعمل اإلجيايب لرفض الظلم وقتاله وقتال الرتف يف أنفسنا ويف العامل‪ ،‬صفا‬
‫متضامنا مع املستضعفني يف األرض‪ ،‬متناغما مع النداء اإلنساين احملرتم شرعا‬
‫وطبعا لضمان حقوق اإلنسان والدفاع عن املظلومني واحملرومني‪ .‬فنحن‬
‫املأمورون أن نربَّ اإلنسانية ونُ ِ‬
‫قسط إىل من أقسط إلينا‪.‬‬
‫جعلت مفهوم "الرب" يف هذا الفصل مبثابة احملور الذي تدور عليه حياة‬
‫يرغب اإلنسانية يف اإلسالم أن ترى يوما جمتمعا‬ ‫وإن مما ِّ‬
‫األخوي‪َّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫اجملتمع‬
‫أخويا قام باإلسالم فاضمحل فيه الظلم وتالشت الطبقية وحوصرت أسباهبا‪.‬‬
‫معشر اإلسالميني‪ ،‬وخطابنا للناس يوهم أن اإلسالم حبلوله‬ ‫خطابنا فيما بيننا‪َ ،‬‬
‫"البديل" وع ٌد برأمسالية جديدة حتقق ما عجزت عنه الرأمسالية اللربالية‪ ،‬ووعد‬
‫َّص َفة االجتماعية وكأن "احلل اإلسالمي" اشرتاكية منقحة عبقرية‪ .‬هذا‬ ‫بالن َ‬
‫خلط فظيع‪ ،‬وذبيحة حرام مل يذكر اسم اهلل عليها‪.‬‬
‫إذا قامت الدولة اإلسالمية العادلة‪ ،‬وقيامها مطلب أساسي شرطي‪ ،‬وإذا‬
‫احلسي من شاء اهلل‬ ‫عدل احلكم ونَص َف ِة القسمة ِ‬
‫ورخاء العيش‬ ‫حبَّب ما فيها من ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من بين اإلنسان فما عملية التحبيب هذه يف ميزان اإلسالم إال تأليف للقلوب على‬
‫الدين‪ ،‬ودعوة بالرفْق واإلنعام واإلحسان للمؤلفة قلوهبم إىل اهلل جلت عظمته‪.‬‬
‫إن احلضارة احلواسية اهلائمة بال هدف غري هدف "السعادة" الدوابِّية يف‬
‫طريق مسدود رغم ما فتح اهلل عليها من أبواب كل شيء ابتالء‪ .‬إهنا يف طريق‬
‫ت‪ .‬وليس اإلسالم مفتاحا ماديا زائدا يبشر بتنمية‬ ‫ِ‬
‫مسدود رغم فرحها مبا أوتيَ ْ‬
‫ع‪ ،‬ومبستوى معيشة أرفع‪ ،‬ومبرافق لالستمتاع واالسرتواح أوسع‪ .‬بل اإلسالم‪،‬‬ ‫أسَر َ‬
‫ْ‬
‫يف عنايته القصوى باجلانب احلسي إذ جعل الزكاة ركنا َركينا‪ ،‬إمنا مهد بتوطئة الدنيا‬

‫‪514‬‬
‫اإلحسان‬

‫لساكنيها طريق اآلخرة‪ ،‬وإمنا دعا إىل الرب واإلحسان والرتاحم ليكسب العباد‬
‫بإسعاد بعضهم بعضا يف الدنيا سعادة األبد‪ ،‬وندد بالظلم والرتف واالستكبار‬
‫تصد هبمومها ومتاعبها األرضية‬ ‫يف األرض ألن الظلم ونتائجه عوائق مانعة ُ‬
‫الناس عن طلب ما عند اهلل وعن التجرد هلل‪ ،‬وندد بالفقر والقلة والذلة‬
‫واملسكنة ألهنا مجيعا أضداد لشرف االستخالف يف األرض وإعمارها‪ ،‬ومن‬
‫أضداد لكمال إميان املؤمن وإحسان احملسن‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مث‬
‫إن صدأ احلضارة احلسية املتقاطر علينا ال بد أن ُي َسح من العقول والقلوب‬
‫برتبية إميانية إحسانية تُلجئ الذئبني اجلائعني يف قلوب البشر إىل ِو َجا ِر النفاق‬
‫الضعيف‪ ،‬وتُعلي من شأن الزهد ليصبح تقلال إراديا لكي ال نكون أمة من‬
‫املبذرين إخوان الشياطني‪ ،‬وتعلم التوكل على اهلل والدعاء والتضرع بوصفها أسبابا‬
‫من أهم األسباب وأشرفها ال تتناىف مع األسباب الكونية اجملعولة‪ ،‬وتؤسس‬
‫فضائل البذل والعطاء والسخاء والكرم وإغاثة اللهفان وإطعام اجلائع وكفالة‬
‫احملتاج على أسس ِالب‪ ،‬وجتعل من العدل يف احلكم والقسمة هدفا يلتقي عنده‬
‫وازعا القرآن والسلطان‪.‬‬
‫ذلك لكي ينصرف املؤمن إىل عبادة ربه يف الكسب والسعي على العيال‬
‫غري مشغول‬‫والتمتع بالطيبات من الرزق كعبادته يف الصالة والزكاة والذكر‪َ ،‬‬
‫غري مفتقر ذلك الفقر الكافَِر‪ ،‬منصرفا بكليته إىل ربه متقربا‪ ،‬الدنيا يف‬
‫البال‪َ ،‬‬
‫يده ال يف قلبه و قد طلقها وطردها من املكان األقدس يف كيانه‪.‬‬
‫قال موالنا عبد القادر اجليالين رمحه اهلل‪" :‬القوم شغلهم البذل وإجياد الراحة‬
‫للخلق‪ .‬نـََّهابون َوَّهابون‪ .‬ينهبون من فضل اهلل عز وجل ورمحته‪ ،‬ويهبونه الفقراء‬
‫واملساكني املضيَّق عليهم‪ .‬يقضون الديون عن املدينني العاجزين عن قضائه‪ .‬هم‬
‫ملوك الدنيا‪ ،‬فإهنم ينهبون وال يهبون‪ .‬القوم يؤثرون باملوجود‪ ،‬وينتظرون‬
‫امللوك ال ُ‬

‫‪515‬‬
‫اإلحسان‬

‫املفقود‪ .‬يأخذون من يد احلق عز وجل ال من أيدي اخللق‪ .‬اكتساب جوارحهم‬


‫للخلق‪ ،‬واكتساب قلوهبم هلم‪ .‬ينفقون هلل عز وجل ال للهوى وأغراض النفس‪،‬‬
‫ال للحمد والثناء‪.‬‬
‫"دع عنك التكرب على احلَق عز وجل وعلى اخللق‪ ،‬فإنه من صفات اجلبابرة‬
‫احلق عز وجل فقد‬
‫الذين يكبهم اهلل على وجوههم يف نار اجلحيم‪ .‬إذا أغضبت َّ‬
‫تكربت عليه‪ .‬إذا أذن املؤذن فلم جتبه بقيامك إىل الصالة فقد تكربت عليه‪ .‬إذا‬
‫ظلمت أحدا من خلقه فقد تكربت عليه‪ .‬تُب إليه وأخلص يف توبتك قبل أن‬
‫يُهلكك بأضعف َخ ْل ِقه كما أهلك نُْروذ وغريه من امللوك ملا تكربوا عليه‪َّ .‬‬
‫أذلم‬
‫بعد العز‪ ،‬أفقرهم بعد الغىن‪َّ ،‬‬
‫عذهبم بعد النعيم‪ ،‬أماهتم بعد احلياة‪.‬‬
‫"كونوا من املتقني‪ .‬الشِّرك يف الظاهر والباطن‪ .‬الظاهر عبادة األصنام‪،‬‬
‫الضر ويف النفع‪ .‬ويف الناس من تكون‬
‫والباطن االتكال على اخللق ورؤيتهم يف ِّ‬
‫الدنيا يف يده وال حيبها‪ ،‬ميلكها وال متلِكه‪ ،‬حتبه وال حيبها‪ ،‬تعدو خلفه وال يعدو‬
‫خلفها‪ ،‬يستخدمها وال تستخدمه‪ ،‬يفرقها وال تفرقه‪ .‬قد صلح قلبه هلل عز وجل‬
‫فسده‪ .‬فيتصرف فيها وال تتصرف فيه‪ .‬وهلذا قال رسول اهلل‬ ‫وال تقدر الدنيا تُ ُ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬نعم املال الصاحل للرجل الصاحل"‪ .‬وقال "ال خري يف الدنيا‬
‫إال ملن قال هكذا وهكذا"‪ ،‬وأشار إىل أنه يفرقها بيديه يف وجوه الرب والصالح‪.‬‬
‫"اتركوا الدنيا يف أيديكم ملصاحل عيال احلق عز وجل‪ ،‬وأخرجوها من‬
‫قلوبكم‪ .‬فال َجَرَم ال يضركم وال يغركم نعيمها وزينتها‪ .‬فعن قريب تذهبون‬
‫وتذهب معكم‪ .‬يا غالم! ال تستغن عين برأيك‪ ،‬من استغىن برأيه ضل وذل‬
‫‪1‬‬
‫وزل‪ .‬إذا استغنيت برأيك حرمت اهلداية واحلماية"‪.‬‬

‫‪ 1‬الفتح الرباين ص ‪.143-144‬‬

‫‪516‬‬
‫اإلحسان‬

‫اب يف ذهاب الدنيا وأهلها حيث قال‪:‬‬


‫أي صو ٌ‬
‫أليب العتاهية رمحه اهلل ر ٌ‬
‫ــك مـن كـنــا نـن ــازلـ ـ ــه‬ ‫أأيـتـهـا املـقـ ــابــر فـي ـ ـ ـ ـ ‬
‫ومـن كـنـ ـ ـ ــا نـ ـواكـ ـلـ ـ ـ ــه‬ ‫ومــن كـنــا نـش ـ ــارب ـ ــه ‬
‫ومـن كـنـ ـ ــا نـُ ـطـ ــاول ـ ـ ــه‬ ‫ومــن كـنــا نـفـ ــاخ ـ ــره ‬
‫ومـن كـن ـ ــا نـُـنَـ ـ ــا ِولـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ومــن كـنــا نـ ـرافـ ـق ـ ـ ـ ــه ‬
‫ومـن كـنــا نـجـ ــام ـلـ ـ ـ ــه‬ ‫ومــن كـنــا نـكـ ــارمـ ــه ‬
‫قـلـيـ ــال مـ ـ ـ ــا نـ ـزايِـلـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ومــن كـنــا لــه إل ـفـ ـ ـ ــا ‬
‫ــس خ ـالّنـا ن ـواص ـلــه‬ ‫ومــن كـنــا لــه بـاألم ـ ‬
‫ــها صـرمـت حبــائ ـلــه‬ ‫ـحـلَّـة من حلَّ ـ ـ ‬ ‫ـحـ َّـل َم َ‬
‫فَ‬
‫ـ َـه ٌل واخلـلــق نــاه ـلُـ ـ ــه‬ ‫أَال إن امل ـن ـيـ ــة َم ـنـ ـ ـ ـ ــ ‬
‫كمــا ف ـن ـيـ ــت أوائـ ـلـ ــه‬ ‫أواخـ ُـر مـن نــرى يـفـنـى ‬
‫ـ ـ ِر ع ــالـمـه وجــاه ـلـ ـ ــه‬ ‫لعمرك ما استوى يف األمـ ‬
‫بــأن اللــه سـ ــائ ـ ـل ــه‬ ‫لـيـعـل ْـم كـل ذي عـمـل ‬
‫ـ ـ ـ ِر قــائ ـلـ ـ ـ ــه وفــاع ـلـ ـ ــه‬ ‫فـأســرع‪ ،‬فـائ ٌـز باخلـيـ ـ ‬

‫وقلت‪:‬‬

‫ود احلَ ِّق يَا قَـابِـضـ ــي اجلَ ْمـ ـ ـ ِر‬ ‫ِ‬
‫يكم يا ُجنُ َ‬ ‫أف ْ‬
‫أخـ ـ ـراهُ بـِبَــذل زيـنَ ِة العُ ْـمـ ـ ـ ِر‬
‫فَتـى يـَْبتـ ــاعُ ْ‬
‫نصـ َفــهُ ِمن اجلَـ ْـوِر‬ ‫يـ ُقوم لِنَنصر الع ـ ـ ْدال ونُ ِ‬
‫َ ُ َُ َ‬

‫‪517‬‬
‫الفهرس‬
‫‪7‬‬ ‫‪ ‬مقدمة‪ .................................................‬‬
‫الفصل األول‬
‫الرجال‬
‫‪17‬‬ ‫معاني اإلحسان‪ ........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫‪22‬‬ ‫أال وإن في الجسد مضغة‪ ..............................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫‪27‬‬ ‫علم التصوف فقه واجتهاد‪ .............................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫‪32‬‬ ‫علوم القوم ومكانتها من بين العلوم‪ ......................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫‪37‬‬ ‫المحدثون والصوفية‪ ....................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪47‬‬ ‫الفقهاء تالمذة الصوفية‪ .................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪60‬‬ ‫بين التشدد واالعتدال‪ ..................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪60‬‬ ‫مراجعة وتوبة‪ ...........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫عقبة واقتحام‬
‫‪77‬‬ ‫إسماع الفطرة‪ ..........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫‪84‬‬ ‫أخذ العلم عن أهله‪ ....................................‬‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫‪93‬‬ ‫فال اقتحم العقبة!‪ ......................................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫‪100‬‬ ‫اآلل والصحابة رضي اهلل عنهم‪ ..........................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪110‬‬ ‫اإلسالم واإليمان واإلحسان‪ .............................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫التوبة واليقظة‪118 ...........................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫اإلرادة والهمة والعزم‪125 ....................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫جناية المصطلحات‪135 .....................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫كن حلس بيتك‪142 ........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫عقبة الخالف واالختالف‪149 ...............................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫ابك على نفسك!‪159 .......................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الصحبة والجماعة‬
‫‪169‬‬ ‫حب اهلل قطب رحى الدين‪ ..............................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫محبة رسول اهلل هي العروة الوثقى‪177 .......................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الحب في اهلل والبغض في اهلل‪187 ...........................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫سنة اهلل في التابع والمتبوع‪195 ..............................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫شفاء السائل‪203 ...........................................‬‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫الشيخ كإمام للصالة‪210 ....................................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫من أصحب يا رب؟‪217 .....................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫والدة القلب‪225 ............................................‬‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫المحبة واألدب عماد الطريق وسمة الطائفة‪233 ..............‬‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫قضية الشيخ والبيعة‪241 .....................................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫شعب اإليمان‪248 ...........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الذكر‬
‫ ‪257‬‬ ‫ولذكر اهلل أكبر‪..........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫تجديد اإليمان بقول ال إله إال اهلل‪264 ........................‬‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫الم َف ِّردون‪272 ..........................................‬‬


‫سبق ُ‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الذكر‪280 ..............................................‬‬ ‫ِحلَق ِّ‬ ‫ ‬


‫‪‬‬

‫الدعاء‪287 ..................................................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫األوراد وخصائص األذكار‪295 ................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫التفكر‪304 ..................................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الحزن ومحاسبة النفس‪312 ..................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫ذكر الموت والدار اآلخرة‪320 ...............................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫االعتصام بالكتاب والسنة‪329 ...............................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫شعب اإليمان‪337 ...........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫الصدق‬
‫ ‪347‬‬ ‫المنزلة العظمى‪..........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫النفاق والرياء‪355 ...........................................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫ستفترق أمتي‪363 ............................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الخالف على الصوفية‪370 ...................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪377‬‬ ‫العلماء المتلطفون‪ ......................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الحنابلة أهل الحديث واألشاعرة‪385 .........................‬‬ ‫‪ ‬‬


‫إيمان الصوفية‪392 ..........................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫كرامات األولياء‪400 ........................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫آيات ال رحمن‪407 .........................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫االستدراج‪415 ..............................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫شعب اإليمان‪423 ...........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬

‫الفصل السادس‬
‫البذل‬
‫‪433‬‬ ‫الذئبان الجائعان‪ ........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الزهد والورع‪440 ............................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫التوكل‪447 ..................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫الشكر والبذل‪455 ..........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫البِـر‪463 ....................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫العدل‪470 ..................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫التقلل والترف‪478 ..........................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫التواضع‪485 ................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫طالق الدنيا واآلخرة‪494 .....................................‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الفقر إلى اهلل عز وجل‪503 ...................................‬‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫شعب اإليمان‪511 ..........................................‬‬ ‫‪ ‬‬

You might also like