Professional Documents
Culture Documents
اقتباس النور في دراسة موضوعات سورة النور
اقتباس النور في دراسة موضوعات سورة النور
مجع وتأليف
أ .د .حممد بن عبدالعزيز بن حممد العواجي
األستاذ بقسم التفسري وعلوم القرآن
كلية القرآن الكريم والدراسات اإلسالمية
اجلامعة اإلسالمية باملدينة النبوية
2
3
دراسة موضوعات سورة النور
مجع وتأليف
أ .د .حممد بن عبدالعزيز بن حممد العواجي
األستاذ بقسم التفسري وعلوم القرآن
كلية القرآن الكريم والدراسات اإلسالمية
اجلامعة اإلسالمية باملدينة النبوية
4
املقــــــدمـــة
املقــدمــة
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له وأشهد أال إله إال اهلل وحده
ال شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ...أما بعد:
فال شك أن شريعة اإلسالم تحمل مقومات االستمرارية يف ذاهتا ،فاإلسالم
سينتشر ،بل وسينتصر ،وسيمأل األرض اً
عدل كما مألت جورا ،وسيتم اهلل هذا
األمر ،طال الزمان أم قصر ،كيف ال وهو محفوظ بحفظ اهلل ومؤيد بتأييد اهلل ،قال
تعالى{ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ} [سورة الحجر ،]9 وقال{ :ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ} [سورة الصافات،]171-170
وقال{ :ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ}
[سورة األنبياء.]105
هذا الشيء الذي لم يدركه أعداء اإلسالم وإن أدركوه فهم لم يصدقوه ،ويظنون
عبثا أهنم سيطمسون اإلسالم ،قال تعالى{ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎﮏ} [سورة الصف ،]8 ولئن أدرك أعداء اإلسالم هذه الحقيقة فإهنم لم
ولن يدركوا يقينا قول اهلل تعالى{ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ}
[سورة األنفال.]8
وعرب سبحانه بقوله{ :ﭺ} ،فهم ينفقون منذ كفرهم وإلى زماننا هذا ،وأكدها
جل وعال بقوله{ :ﮁ} ولكن {ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ}.
6
املقــــــدمـــة
َّ
إن أعداء اإلسالم ال يزالون يحاربونه ،ويحاولون طمس هويته ،وهذا إن حصل
لهم شيء منه يف زمن من األزمنة أو مكان من األمكنة ،فإنه ال يدوم طويال ،فلقد قال
جل وعال{ :ﮆ ﮇﮈ} ولكن بأيدي من؟ بأيدي عباد اهلل الصالحين ،ألن اهلل أمرنا
بمدافعتهم ومواجهتهم وجهادهم.
أفلم يقل اهلل{ :ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ} [سورة النساء.]104
ومن هذا المنطلق فقد جاء هذا البحث ليدلي بدلوه يف ساحة اإلنفاق يف سبيل اهلل
ويف سبيل نشر الفكرة اإلسالمية الصحيحة التي ستقاوم هذا الشر المستطير المتدافع
على اإلسالم وأهله.
جاء هذا البحث محاولة لبيان تعاليم اإلسالم الصحيحة التي إذا التزمنا هبا تحقق
لنا موعود اهلل تعالى من خالل كالم ربنا جل وعال الذي كما قال اهلل تعالى عنه{ :ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ} [سورة فصلت ]42فهو ربنا الذي
خلقنا وهو أعلم بما يصلح أمورنا يف عاجل حياتنا ويف آجلها ،فهو سبحانه يشرع لنا ما
يحفظ أعراضنا وأعراض المسلمين سواء من ارتكاب الفواحش أو من إشاعتها ونشر
مقالة السوء عن المسلمين ،ويضع لذلك القواعد التي يحفظ هبا المجتمع كعوامل
من عوامل الوقاية ،ويربط سبحانه كل هذه األوامر والتشريعات بنور الهداية يف الدنيا
واآلخرة ،وأن هذه التشريعات ليست على التخيير بل هي على الوجوب طاعة هلل
ولرسوله وحف ًظا للمجتمع وتقوي ًة لإليمان وليتحقق موعود اهلل بالنصر واالستخالف
يف األرض إذا تحققت لوازمه ،ليس هذا فحسب بل بالفوز والفالح يف اآلخرة.
فاهلل أسأل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يلهمنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي
ذلك والقادر عليه.
7
دراسة موضوعات سورة النور
أسباب اختيار الموضوع:
ِ 1 .1عظم حاجة األمة اإلسالمية إلى الرجوع إلى مصدر التشريع؛ يف ظل الغفلة
وكثرة الموارد اإلعالمية والثقافية ،والتي غيرت قوانين الحياة المعاصرة.
2 .2بيان إعجاز القرآن وصالحيته لكل زمان ومكان ،ووفاءه بحاجة الناس
المتجددة.
3 .3ربط األمة عامة؛ والدعاة والمصلحين خاصة هبدايات الوحي الذي جعله اهلل
وروحا وحياة وشفاء.
ً ومنهاجا .بل
ً نورا ُيهتدى به ،وشرعة
ً
اً
جهل باألحكام الشرعية ،وغفلة عن 4 .4تساهل بعض الناس بأمر األعراض
األضرار االجتماعية التي ُيخلفها ذلك التساهل.
5 .5أن التساهل باألعراض ولوكها باأللسنة من أعظم الفساد العاجل واآلجل.
6 .6أن سورة النور تضمنت بيانًا شاف ًيا كاف ًيا لباب( :حفظ األعراض ،واألسباب
الوقائية ،والتذكير بعظمة اهلل وآياته ،وآداب المجتمع المسلم).
منهجية البحث:
إن منهجية هذا البحث -أسأل اهلل تعالى أن ينفعني به وقارئه -متمثلة يف النقاط التالية:
َّ
- -االعتماد على كتب التفسير بالمأثور خاصة للبحث يف معاين اآليات ،وعلى
كتب التفسير عامة يف صياغة البحث ومسائله.
- -التقديم بمقدمة عن الوحدة الموضوعية للسورة ،وفيها بيان فيها مالمح
السورة الرئيسة وعالقتها هبذا البحث .حيث حاولت الجمع بين المواضيع التي
تناولتها السورة بأسلوب مختصر وجامع قدر جهدي.
- -الحرص على بيان المعنى اإلجمالي لآلية قبل استنباط العرب والعظات منها.
8
املقــــــدمـــة
- -الربط بين المعاين التي تشير إليها اآليات وحاجة الناس اليوم لهداياهتا.
- -الرجوع إلى المراجع التي تخدم الموضوع الذي تشير إليه اآليات.
- -محاولة عرض المعنى اإلجمالي لآليات ثم الرتكيز يف المعنى على الفوائد
العملية ،مع عدم إيراد أي معلومة ال ينبني عليها فائدة عملية.
- -قدمت بعض اآليات على بعض لكي أستكمل الكالم واإلشارة إلى مجمل
الموضوع يف مكان واحد.
- -االلتزام باالستشهاد باألحاديث الصحيحة فقط ،ولم أستشهد بحديث اتفق
على ضعفه.
- -تخريج األحاديث واآلثار من مصادرها ،مع عزو األحاديث لمخرجها بذكر
الكتاب والباب ورقم الحديث إن وجد.
- -الحرص على إيراد الروايات الصحيحة يف تفسير اآليات ويف أسباب النزول،
واالعتماد على تصحيح وتضعيف علماء الحديث يف ذلك.
خطة البحث:
ينقسم البحث يف دراسة موضوعات سورة النور إلى مقدمة وتمهيد وأربعة أبواب
كما يلى:
تمهيد :بيان الوحدة الموضوعية يف السورة.
الباب األول :حفظ األعراض ومقاصد الشريعة ،ويشمل أربعة فصول:
تمهيد :مقدمة السورة ومقاصد الشريعة.
الفصل األول :تحريم الزنــــا:
المبحث األول :األدلة على حرمته:
9
دراسة موضوعات سورة النور
المطلب األول :األدلة من القرآن.
المطلب الثاين :األدلة من السنة.
المبحث الثاين :الحكمة من تحريم الزنا.
المبحث الثالث :عقوبة الزنا:
المطلب األول :عقوبة الزاين البكر.
المطلب الثاين :عقوبة الزاين المحصن.
المبحث الرابع :الحكمة من هذه العقوبة.
المبحث الخامس :أهم الوصايا لمكافحة الزنا.
الفصل الثاين :تحريم القذف:
المبحث األول :معنى القذف وحكمه وخطره.
المبحث الثاين :عقوبة القاذف:
المطلب األول :أحكام عقوبة قذف المحصنات المؤمنات الغافالت.
المطلب الثاين :قذف الرجل زوجته.
الفصل الثالث :موقف المسلم من الشائعات:
المبحث األول :حادثة اإلفك مثال تطبيقي.
المبحث الثاين :سرد رواية القصة.
المبحث الثالث :من فوائد الحادثة.
المبحث الرابع :مشكلة اإلشاعة:
المطلب األول :تعريف اإلشاعة.
10
املقــــــدمـــة
المطلب الثاين :خطورة اإلشاعات.
المطلب الثالث :كيف تتولد اإلشاعة وتنتشر.
المبحث الخامس :الموقف من الشائعات يف ظالل حادثة اإلفك:
المطلب األول :أن يقدم حسن الظن باألخ المسلم.
المطلب الثاين :التثبت بالبينة والدليل.
المطلب الثالث :أن ال يتحدث بما سمعه وال ينشره.
المطلب الرابع :قطع الطريق على الفساق الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والشر.
المبحث السادس :التعقيب القرآين على حادثة اإلفك:
المطلب األول :خطورة نشر الفواحش يف المجتمع اإلسالمي.
المطلب الثاين :شرع اهلل هذه األحكام وقبل توبة المذنبين اً
فضل منه.
المطلب الثالث :التنبيه على عدم إتباع خطوات الشيطان.
المطلب الرابع :سالمة الصدر والعفو واإلحسان لمن أساء يستجلب مغفرة اهلل.
الفصل الرابع :مسؤلية الكلمة:
المبحث األول :عرض إجمالي لآليات.
المبحث الثاين :أهمية الكلمة وخطورهتا ودورها يف إقامة الحياة.
المبحث ال ّثالث :آفات الكالم.
الباب الثاني :اآلداب االجتماعية الوقائية ،ويشمل مخسة فصول:
الفصل األول :أدب االستئذان:
المبحث األول :أهمية االستئذان.
المبحث الثاين :أحكام االستئذان وآدابه.
11
دراسة موضوعات سورة النور
الفصل الثاين :غض البصر:
المبحث األول :األمر بغض البصر.
المبحث الثاين :فوائد غض البصر.
المبحث الثالث :األمر بحفظ الفروج.
الفصل الثالث :الزينة وأحكام إظهارها:
المبحث األول :أهمية الزينة يف حياة المرأة.
المبحث الثاين :أحكام إظهار الزينة:
المطلب األول :الزينة التي يجوز إبدائها.
المطلب الثاين :من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها عنده.
المطلب الثالث :البعد عن دواعي إبداء الزينة لغير المحارم.
المطلب الرابع :تحريم زينة القول.
المبحث الثالث :خطورة االختالط.
الفصل الرابع :الزواج سنة إلهية:
المبحث األول :األمر بالزواج والحث عليه.
المبحث الثاين :حكمة الشارع يف الزواج.
المبحث الثالث :من لم يستطع الزواج.
المبحث الرابع :تيسير الحياة السعيدة لفئآت المجتمع.
الفصل الخامس :آداب داخل البيت المسلم:
المبحث األول :االستئذان داخل البيت.
المبحث الثاين :إبداء الزينة وإخفائها.
12
املقــــــدمـــة
المبحث الثالث :العالقة بين أهل البيت واألقارب واألصدقاء.
الباب الثالث :تذكرة وذكرى ألولي األلباب :ويشمل ثالثة فصول:
الفصل األول :ضرب األمثال يف القرآن:
المبحث األول :ضرب األمثال يف القرآن تعريف وبيان.
المبحث الثاين :مثل نور اإليمان.
المبحث الثالث :مثل ظلمات الكفر:
المطلب األول :أعمال الكفار ال قيمة لها يوم القيامة.
المطلب الثاين :شدة ظلمة الكفر.
المبحث الرابع :فائدة ضرب األمثال.
الفصل الثاين :بيوت اهلل:
اً
إجمال. المبحث األول :تحليل معنى اآليات
المبحث الثاين :فضل المساجد وأهميتها يف اإلسالم.
المبحث الثالث :أهم المهام التي يقوم هبا المسجد.
المبحث الرابع :أحكام المساجد وآداهبا.
المبحث الخامس :تنبيهات خاصة لحضور النساء للمساجد.
المبحث السادس :أثر المسجد على الفرد والمجتمع اإلسالمي.
الفصل الثالث :النظر يف آيات اهلل:
المبحث األول :تسبيح المخلوقات هلل.
المبحث الثاين :التذكير بالرجوع إلى اهلل.
المبحث الثالث :السماء والسحاب وما فيهما.
13
دراسة موضوعات سورة النور
المبحث الرابع :الليل والنهار وتقليبهما.
المبحث الخامس :الدواب خلقها وسعيها.
المبحث السادس :الحكمة من اآليات والمشاهد.
الباب الرابع :آداب اجملتمع يف اإلسالم :ويشمل ثالثة فصول:
الفصل األول :وجوب طاعة الرسول ﷺ:
المبحث األول :الهروب عن التحاكم إلى اهلل ورسوله.
المبحث الثاين :المستقيمين على منهج رسول اهلل ﷺ.
المبحث الثالث :حال الناس يف الطاعة وواجب الرسول ﷺ تجاههم.
الفصل الثاين :أسباب النصر والتمكين يف األرض:
المبحث األول :صفات أهل النصر.
المبحث الثاين :حقيقة االستخالف.
المبحث الثالث :التمكين وحقيقته.
المبحث الرابع :معنى تبديل الخوف باألمن.
المبحث الخامس :سبيل المحافظة على الموعود.
الفصل الثالث :أدب الطاعة للرسول ﷺ واحترام ولي األمر:
المبحث األول :أدب استئذان ولي األمر.
المبحث الثاين :أدب خطاب اإلمام.
المبحث الثالث :تحذير وتذكير.
خامتة :فيها أهم النتائج والتوصيات من البحث.
قائمة مصادر البحث.
قائمة المحتويات.
14
املقــــــدمـــة
واهلل أسأل أن ينفع هبذا البحث كاتبه ،وكل من كان له نصيب يف اإلفادة فيه ،وأن
ينفع به قارئه ،والدال عليه والعامل به.
وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى
هبديه واستن بسنته إلى يوم الدين ،وسلم تسليما كثيرا.
الحمد هلل رب العالمين ،وال عدوان إال على الظالمين ،وصلى اهلل وسلم على
إمام الغر المحجلين ،نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين ،وبعد:
إن لكل سورة من سور القرآن اسم يميزها ،وسورة النور كذلك ،حيث أهنا النور
الذي ينير اهلل به العقول والقلوب ،فإذا القلوب والعقول استنارت به ،ال شك أن الحياة
نور كما قال
ستكون كلها يف نور وضياء وسعادة ،وقد وصف اهلل القرآن الكريم بأنه ٌ
تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ} [سورة الشورى ]52فهو نور من نور.
قال بعضهم« :سميت سورة النور بذلك لما فيها من إشعاعات النور المعنوي بما
تضمنته آياهتا من أحكام عملية ،وآداب اجتماعية وبراهين على قدرة اهلل سبحانه ،وغير
ذلك من أمور هي ألهل البصائر بمثابة األنوار الحسية»((( ،وسميت بذلك أيضا ألن اهلل
ذكر فيها أنه نور السماوات واألرض.
إن هذه السورة تتميز -كغيرها من السور -أن توجيهاهتا ُتريح القلوب ،و ُت ُ
هدئ
النفوس ،و َترتقي باإلنسان إلى عالم اإلنسانية ،وترجعه إلى فطرته التي فطره اهلل عليها،
وفضله هبا عن سائر المخلوقات.
ّ
كيف ذلك؟
أمورا ترتقي هبا
ً لقد شملت السورة -كما سيأيت تفصيله يف هذه البحـوث -
((( أخرجه أبو عبيد يف فضائل القرآن (ص ،)130-129و(ص ،)135-124وسعيد بن منصور يف سننه رقم
( )37/1و( ،)39/9والبيهقي يف شعب اإليمان ( )370/5رقم ( ،)2213والقاسم بن سالم يف فضائل
القرآن ( ،)364والمستغفري يف فضائل القرآن ( )799و( ،)840وعبد الرزاق يف مصنفه ()295/1
(.)1133
20
يرشلا دصاقمو ضارعألا ظفح :لوألا بابلا
الباب األول
حفظ األعراض ومقاصد الشريعة
الباب األول :حفظ األعراض ومقاصد الشريعة
يبين اهلل گ يف بداية هذه السورة أهميتها يف الحفاظ على البيئة اإلسالمية .وما
وعالجا لما قد يحصل له
ً يف هذه السورة من أحكام هتتم بشؤون ذلك المجتمع وقاية
من مشكالت،
فينبه اهلل تعالى أن هذه السورة قد أنزلها «تنبي ٌه على االعتناء هبا وال ينايف ما
عداها»((( ،فبين اهلل فيها الحالل والحرام واألمر والنهي والحدود((( وفرائض مختلفة(((،
فآيات هذه السورة مبينات وموضحات لتلك الفرائض المأمورون هبا .لماذا؟ {ﭘ
ﭙﭚ} وتعملون هبا عندما تقرؤوهنا وتعلمون أوامرها ونواهيها.
فتبدأ هذه السورة ببيان أمر من األمور التي فيها من األضرار االجتماعية على
المجتمع المسلم الشيء الكثير .وعلى أمر هو من مقاصد الشريعة .أال وهو حفظ
العرض ،يف كل صوره وأهمها يف هذه السورة تحريم الزنا .وتحريم القذف .وتحريم
الشائعات .وتحديد ومسئولية الكلمة يف الدنيا واآلخرة.
الفصل األول
الفصل األول :حتريم الزنــا حتريم الزنــا الباب األول
املبحث األول
األدلة على حرمة الزنا
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ} [سورة الفرقان.]69-86
ﮒﮓ} ،أي« :بئس الطريق الموصل إلى الزنا طري ًقا لآلثار السيئة والنتائج المدمرة
التي ترتتب عليه؛ أولها أذية المؤمنين يف أعراضهم ،وآخرها جهنم واالصطالء بحرها
والبقاء فيها أحقا ًبا طويلة»(((.
أخرجه أحمد يف المسند ( )402/1ح ،)3809( وقال األرناؤوط صحيح لغيره وإسناده ضعيف. (((
أخرجه البخاري كتاب الحدود باب إثم الزنا ( ،)6810ومسلم كتاب اإليمان باب نقصان اإليمان (((
بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية ،على إرادة نفي كالمه (.)57
سنن ابن ماجة كتاب الفتن باب العقوبات ( .)4019وحسنه األلباين يف سلسلة األحاديث الصحيحة (((
(.)106
أخرجه البخاري كتاب التفسير باب قوله تعالى {ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ (((
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ} ( ،)4761ومسلم كتاب اإليمان باب كون
الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها (.)86
26
ـنزلا ميرحت :لوألا لصفلا وألا بابلا
املبحث الثاني
احلكمة من حتريم الزنا
إن الناظر يف األدلة الدالة على عظم أمر الزنا ليتساءل لماذا هذا الوعيد الشديد
وهذا التحريم يف أمر الزنا؟.
لكن اإلجابة على هذا السؤال تجعل المرء يقف عند حكمة اهلل العليم الحكيم
الذي أنزل الشرع المحكم لما فيه مصلحة الناس والرقي هبم عن البهيمية.
ولهذا سنعرض هنا بعض الحكم من هذا التحريم تنبيها فقط على حكمة اهلل
تعالى وما يريده لنا من مصلحة الدنيا واآلخرة:
قال تعالى يف وصف عباد الرحمن{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ} [سورة الفرقان« .]86لما
ذكر اهلل تعالى القتل الجلي ،أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد ،فقال{ :ﭠ ﭡ} أي
رحمة لما قد يحدث من ولد ،إبقاء على نسبه ،ورحمة للمزين هبا وألقارهبا أن تنهتك
أيضا إلى القتل والفتن ،وفيه التسبب
جار ً
حرماهتم ،مع رحمته لنفسه ،على أن الزنى ّ
إليجاد نفس بالباطل كما أن القتل تسبب إلى إعدامها بذلك»(((.
يقول ابن القيم « :$ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد ،وهي منافية
لنظام مصلحة العالم يف حفظ األنساب ،وحماية الفروج ،وصيانة الحرمات ،وتوقي
ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس ،من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وابنته
املبحث الثالث
عقوبة الزنا
إن اإلسالم دين متكامل يشمل جميع مناحي الحياة؛ الدينية ،واالقتصادية
والسياسية واالجتماعية ،ووضع لكل أمر من أمور الحياة ضوابط عالية تقومه وتنميه
وتساعد على رقي ذلك المجتمع.
فمن قاعدة كمال الشريعة ُي ْع َلم :أن اإلسالم ال يشدد العقوبة هذا التشديد إال
بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل ،ومن ثم من توقيع العقوبة؛
فاإلسالم ال يقوم على العقوبة ،وإنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة ،ثم يعاقب
من يدع األخذ هبذه األسباب الميسرة ويتمرغ يف الوحل طائ ًعا غير مضطر.
وقس على ذلك جميع مناحي الحياة ،فقد وضع اهلل القواعد والضوابط لكل
عمل وهيأ من األسباب ما يعين على أداء تلك األعمال ،واجتناب مساوئ األفعال ،ثم
رتب العقوبة على من يخالف هذا المنهج الشامل الكامل.
فمن هنا جاءت عقوبة الزاين ،فقد وضع اهلل له الضمانات واألسباب التي تجعله
ال يقع يف الزنا ،ولكنه أوقع نفسه فيه ،وذلك بسبب تخليه عن هذه الضمانات فكانت
العقوبة الرادعة.
ويف هذه السورة جملة من تلك األمور الوقائية مثل :اإلسراع يف الزواج ،والحث
عليه ،واألمر بغض البصر ،واألمر باالستئذان ...وغيرها من األمور التي سيأيت
الحديث عنها يف موضعها إن شاء اهلل(((.
((( أفردهتا بالبحث مستقلة من خالل سورة النور ،وهو الثاين من موضوعات السورة.
32
ـنزلا ميرحت :لوألا لصفلا وألا بابلا
أما عقوبة الزاين ففيها تفصيل نجمله يف اآلتي(((:
أول :عقوبة الزاين البِك ُْر:
اً
1 -1الجلد مائة جلدة:
قال اهلل تعالى {ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ}« .هذا حد الزاين الحر البالغ البكر ،وكذلك الزانية البالغة البكر
الحرة ،وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة لقوله تعالى{ :ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ} [سورة النساء.(((»]25
2 -2الجلد يكون أمام مجموعة من الناس:
قال تعالى{ :ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ}.
3 -3تغريب عام :أي اإلبعاد عن البلد عا ًما اً
كامل« ،وثبت بالسنة»(((.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة ﭬ يف األعرابيين الذين أتيا رسول اهلل ﷺ،
فقال أحدهما :يا رسول اهلل إن ابني كان عسي ًفا((( عند هذا فزنى بامرأته ،فافتديت ابني
بمائة شاة ووليدة ،فسألت أهل العلم ،فأخربوين أن على ابني جلد مائة وتغريب عام،
وإن على امرأة هذا الرجم .فقال رسول اهلل ﷺ« :والذي نفسي بيده ،ألقضين بينكما
بكتاب اهلل :الوليدة والغنم رد عليك ،وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ،واغد يا أنيس
انظر تفصيل هذه األحكام يف المغني (.)320-380/12 (( (
الجامع ألحكام القرآن ( ،)159/12ولالستزادة يف هذه المسألة انظر كالم الفقهاء رحمهم اهلل يف: (((
بدائع الصنائع ( ،)38-37/7وموسوعة شروح الموطأ باب جامع ما جاء يف حد الزنا (-179/20
،)197والمقنع مع الشرح الكبير ( .)269-264/26وفتح الباري ( ...)169-168/12وغيرها من كتب
الفقه وشروح الحديث عند هذه المسألة.
الجامع ألحكام القرآن (.)159/12 (( (
عسي ًفا :أي ً
أجيرا. (((
33
دراسة موضوعات سورة النور
إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعرتفت ،فرجمها»((( .ففي هذا
الحديث إثبات الجلد والتغريب للبكر.
4 -4حرمة الزواج بهما قبل التوبة:
قال اهلل تعالى زيادة يف التنكيل بالزناة وعقوبة لهم{ :ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ}.
«هذا خرب من اهلل تعالى بأن الزاين ال يطأ إال زانية أو مشركة أي ال يطاوعه على
مراده من الزنا إال زانية عاصية أو مشركة ال ترى حرمة ذلك ،وكذلك الزانية ال ينكحها
إال زان عاص بزناه أو مشرك ال يعتقد تحريمه»(((.
وأيضا تزويج المؤمنة
ً وعلى هذا فإن تزويج المؤمن بالفاجرة الزانية محرم،
بالرجل الفاجر الزاين محرم فاهلل تعالى يقول{ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ} ،قال شيخ
اإلسالم ابن تيميةِ َّ :
«الزان َي َة ال يجوز ُّ
تزوجها إال بعد التوبة»(((.
يتزوج إال زانية أو ُمشركة
الزاين ال َّويقول يف موضع آخر« :فإن هذا يدل على َأ َّن َّ
ِ وإن ذلك حرام على المؤمنين والرجل َّ ِ
اح ُه حتى يتوب وذلك بأن الزان َي ال يجوز ن َك ُ ٌ
اإلحصان ،والمرأة إذا كانت زانية ال ُت ْح ِص ُن فرجها عن غير زوجها ُي َوافِ َق اشتِرا َط ُه ِ
َ
تزو َجها ومن نكحت زان ًيا فهي زانية َأي ٍ ِ
ال يجوز نكاحها فم ْن نكح زان َي ًة فهو َزان َأي َّ
َت َز َّو َج ْت ُه»(((.
أخرجه البخاري كتاب اإليمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي ﷺ ( ،)6633ومسلم كتاب (((
الحدود باب من اعرتف على نفسه بالزنا (.)1697
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)9/6 (( (
مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ( ،)279/8وقد اختلف أهل العلم رحمهم اهلل يف ضابط رفع ذلك (((
التحريم انظر الفتاوى الكربى ( ،)122/4وقد رجح شيخ اإلسالم أنه يجوز تزوجها بعد التوبة وذكر
األدلة على ذلك من القرآن والسنة واإلجماع واالعتبار ،ورد على المخالفين.
مختصرا.
ً مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ()320/15 (((
34
ـنزلا ميرحت :لوألا لصفلا وألا بابلا
ثان ًيا :عقوبة الزاين المحصن:
َحدُّ المحصن الزاين هو الرجم بالحجارة حتى الموت.
وهو« :الذي قد وطئ يف نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل»(((.
والدليل على ذلك حديث أبي هريرة المتقدم وفيه« :واغد يا ُأنيس إلى امرأة هذا
فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعرتفت فرجمها.
وعن جابر بن عبداهلل ﭬ أن اً
رجل من أسلم ،أتى رسول اهلل ﷺ فحدثه أنه قد
زنى ،فشهد على نفسه أربع شهادات ،فأمر به رسول اهلل ﷺ فرجم وكان قد أحصن(((.
وهنا لفتة ذكرها العلماء يف الحكمة من تقديم المرأة على الرجل يف البيان ،قال
ٍ
فاش، تعالى{ :ﭛ ﭜ} «فقدمت الزانية حيث كان يف ذلك الزمان زنى النساء
وكان إلماء العرب وبغايا ذلك الوقت رايات .وقيل ألن الزنا يف النساء َأ َع ُّر .وقيل :ألن
الشهوة يف المرأة أكثر وعليها أغلب ،فصدرها تغليظا لرتدع شهوهتا ،وأيضا فإن العار
بالنساء ألحق إذ موضعهن الصيانة فقد ذكرهن تغليظا واهتماما»(((.
وألن الرجل ال يستطيع أن يفعل هذا العمل إال برضى المرأة وتزينها له ،فمنها
نصيب يف داعي الوقوع غال ًبا ،وإذا لم ترض وتمكن نفسها منه لم يفعل الزنا هبا ،أما إن
فعل هبا غص ًبا عنها فهذا اغتصاب يف حق المرأة له أحكامه وأحواله(((.
املبحث الرابع
احلكمة من هذه العقوبة
ذات زوجٍ ،وقد يد ُعوها ذلك إلى الم َع َّل َق ِة التي ال هي َأ ِّي ٌم وال ُ عجبه ،فتبقى امر َأ ُته ِ ِ
بمنزلة ُ ُ ُي ِ ُ ُ
اع ُث لها على ذلك مقابل ُة زوجها على وجه القصاص ُم َكايِدَ ًة له و ُم َغا َي َظةً؛ ون ا ْلب ِ
الزنَا ،وي ُك ُ َ
ِّ
فإنه ما لم يحفظ غيبها لم تحفظ غيبه ،ولها يف ُب ْض ِع ِه َح ٌّق كما له يف ُب ْض ِع َها َح ٌّق.
معان شريف ٌة ال ينبغي إهما ُل َها»((( .أ .هـ. ٍ وهذه
(( ( أخرجه مالك يف الموطأ ( ،)922( )411/3وأبو داود كتاب اآلداب باب من يؤمر أن يجالس
( ،)4833والرتمذي أبواب الزهد باب ( ،)2378( )45وأحمد يف المسند ( ،)8318( )334/2وعلق
شعيب األرناؤوط بقوله :إسناده جيد ورجاله ثقات رجال الشيخين .وصححه األلباين يف السلسلة
الصحيحة (.)927
مختصرا.
ً ((( مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ()364/3
39
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث اخلامس
أهم الوصايا ملكافحة الزنا
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب ال يخلوا رجل بامرأة إال ذوا محرم ( .)5232ومسلم كتاب (((
السالم باب تحريم الخلوة باألجنبية والدخول عليها (.)2172
أن تحققن الطريق :وهو أن يركبن ُح َّقها وهو وسطها ،عون المعبود (.)127/14 (( (
أخرجه أبو داود يف أبواب النوم باب يف مشي النساء مع الرجال فيي الطريق ( ،)5272والطرباين (((
( ،)15923( )161/14والبيهقي يف الشعب ( ،)7823-7821قال األلباين «الحديث حسن بمجموع
الطريقين» الصحيحة ( ،)856والمشكاة ( ،)4727وصحيح الجامع (.)929
أخرجه البخاري كتاب الصيام باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة ( .)1905صحيح مسلم (((
كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن طاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن
المؤونة بالصوم (.)1400
أخرجه الرتمذي كتاب النكاح باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ( ،)1084وأبو (((
داود كتاب النكاح باب الكفاءة ( ،)1967وحسنه األلباين يف مشكاة المصابيح ( ،)3090وإرواء الغليل
(.)167-266/6
41
دراسة موضوعات سورة النور
مهر ُت ْمهر به امرأة؛ ألنه سيبقى معها طوال حياهتما ،أما المال فإنه يأيت ويذهب.
8-8الصوم« :يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج ،ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له ِو َجاء» ،وهذا صريح يف صرف
الطاقة يف المندوب إليه؛ إن لم يستطع صرفها يف الحالل ،ف ُيشغل نفسه بطاعة اهلل،
وكبح
ٌ و ُيذهب قوته َ
وش َره شهوته يف تلك الطاعة التي هي دوا ٌء للشهوة وللنفس،
أيضا.
لجماحها وجماح وسوسة الشيطان ً
9-9االشتغال بالواجب على المرء المسلم :ولذا قال اهلل تعالى{ :ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙﭚ} فمن قام بالواجب عليه يف دينه ودنياه لم يكن للشيطان عليه
سبيل إلغوائه وتزيين المحرمات له ولوسوسته قال تعالى {ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ} [سورة يس.]62-60
ومن اعتصم بحبل اهلل عصمه اهلل ومن تولى ربه كفاه الشياطين ،ولذا ال بد من
اللجوء إلى اهلل وإخبات القلب له بأنواع العبادات واشتغال العبد بذكره وشكره والنظر
واالعتبار يف آياته.
42
ذقلا ميرحت :يناثلا لصفلا وألا بابلا
الفصل الثاني
حتريم القذف
الفصل الثاني :حتريم القذف
املبحث األول
معنى القذف وأحكامه
ويصف فاعله بالفسق ،ويرتب عليه عقوبة يف الدنيا قبل اآلخرة قال تعالى{ :ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ
ﮟﮠ}.
فهذا هو الحد يف الدنيا أما يف اآلخرة فيقول اهلل تعالى{ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ}.
وقد جمع اهلل تعالى يف كتابه بين عذاب الدنيا واآلخرة للقاذف ،فقال تعالى:
{ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆ ﰇﰈ} [سورة النور.]19
وقال رسول اهلل ﷺ« :اجتنبوا السبع الموبقات .قالوا وما هن يا رسول اهلل؟ قال:
الشرك باهلل ،والسحر ،وقتل النفس التي حرم اهلل إال بالحق ،وأكل الربا ،وأكل مال
اليتيم ،والتولي يوم الزحف ،وقذف المحصنات المؤمنات الغافالت»(((.
وقد أجمع المسلمون على تحريم القذف ،وعدوه من الكبائر((( ،وهذا القذف له
ضوابط لكي يحكم عليه أنه قذف يستحق الحد نلخصها فيما يلي:
أوال :شروط القذف:
ً
منها ما يجب توافرها يف القاذف وهي :العقل ،والبلوغ ،واالختيار.
ومنها ما يجب توافرها يف المقذوف وهي :العقل ،والبلوغ ،اإلسالم ،والحرية ،العفة.
ومنها ما يجب توفره يف المقذوف به وهي :التصريح بالزنا أو التعريض الظاهر
ويستوي يف ذلك القول والكتابة.
(( ( أخرجه البخاري كتاب الحدود باب رمي المحصنات ( .)6857ومسلم كتاب اإليمان باب بيان
الكبائر وأكربها (.)89
((( الملخص الفقهي (.)427/2
45
دراسة موضوعات سورة النور
ثان ًيا :بم يثبت حد القذف؟:
يثبت الحد على القاذف بأحد أمرين:
-1إقرار القاذف نفسه.
-2أو بشهادة عدلين(((.
وهبذه األمور يكون ذلك التحريم الموجب للحد الذي سيأيت بيانه إنشاء اهلل.
ثال ًثا :خطورة القذف:
إن اإلسالم يكره البذاءة وإشاعة الفاحشة بين المسلمين ،ويربي أفراد األمة على
األدب وعفة اللسان ،وذلك ألن إشاعة الفاحشة يف المجتمع المسلم تورث العداوات
بين أصحاب المجتمع ،وتدنس صورة المجتمع بالكالم يف األعراض.
إن ترك األلسنة ُتلقي التهم على المحصنات بدون دليل قاطع؛ يرتك المجال
فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التُهمة النكراء ،ف ُيصبح المجتمع
المسلم ويمسي وإذا أعراضه مجروحة ،وسمعته ملوثة ،وإذا كل فرد فيه متهم أو مهدد
شاك يف زوجته ،وكل رج ٍل فيها شاك يف أصله ،وكل ٍ
بيت باالهتام ،وإذا كل زوج فيها ٍ
((( هذا مختصر ما ذكره العلماء يف كتب الفقه ،ولم أتوسع يف األحكام؛ لكثرة المسائل فيه ،ولعدم
اإلطالة ،ولالستزادة انظر :فقه السنة ( ،)594-588/2والملخص الفقهي ( ،)428-427/2والمقنع
( )359-348وغيرها من كتب الفقه.
46
ذقلا ميرحت :يناثلا لصفلا وألا بابلا
وخوف دائم ،كل واحد فيه ال يأمن أن يقذفه آخر ،ثم قد ال يجد من يصدق أنه بريء.
ومن ثم قد ُت َجرأ من لم يفعل تلك الفاحشة على فعلها مع كثرة سماعه أن غيره
يفعلها ،ويسهل على المجتمع أن يصدق مثل تلك اإلشاعات ،وتلوك األلسن أعراض
المسلمين والمسلمات بال ثمن.
47
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثاني
عقوبة القاذف
املطلب األول
عقوبة قذف احملصنات املؤمنات الغافالت
املطلب الثاني
قذف الرجل زوجته
الفصل الثالث
الفصل الثالث :موقف املسلم من الشائعات موقف املسلم من الشائعات
املبحث األول
حادثة اإلفك مثال تطبيقي
املبحث الثاني
سرد رواية القصة
عن عائشة ڤ قالت :كان رسول اهلل ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ،فأ َّيت ُُه َّن
خرج سهمها خرج هبا معه؛ وإنه أقرع بيننا يف غزاة فخرج سهمي ،فخرجت معه بعد ما
أنزل الحجاب ،وأنا ُأحمل يف هودج ،وأنزل فيه .فسرنا حتى إذا فرغ رسول اهلل ﷺ من
غزوته تلك ،وقفل ،ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل،
حتى جاوزت الجيش .فلما قضيت من شأين((( أقبلت إلى الرحل ،فلمست صدري ،فإذا
عقد لي من جزع أظفار((( قد انقطع ،فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه؛ وأقبل الرهط
الذين كانوا يرحلونني ،فاحتملوا هودجي((( ،فرحلوه على بعيري ،وهم يحسبون أين
فيه؛ وكان النساء إذ ذاك خفا ًفا لم ُيثقله َّن اللحم؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام؛ فلم
يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ،فحملوه؛ وكنت جارية حديثة السن؛ فبعثوا
الجمل وساروا ،فوجدت عقدي ،بعدما استمر الجيش ،فجئت منزلهم ،وليس فيه أحد
إلي.
منهم ،فتيممت منزلي الذي كنت فيه ،وظننت أهنم سيفقدونني فيرجعون َّ
فبينما أنا جالسة غلبتني عيناين فنمت ،وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم
((( من شأين :أي من قضاء الحاجة ،فتح الباري (.)313/7
((( جزع أظفار :أي أن عقدها كان من أنواع القسط وهو طيب الرائحة يتبخر به ،فلعله عمل مثل الخرز
تشبيها به ،ونظمته قالدة إما لحسن لونه أو طيب ريحه .الفتح (.)313/7
ً فأطلقت عليه جز ًعا
((( هودجي :الهودج محمل له قبة تسرت بالثياب ونحوه ،يوضع على ظهر البعير يركب عليه النساء
ليسرتهم .الفتح (.)312/7
57
دراسة موضوعات سورة النور
الذكواين قد عرس((( وراء الجيش ،فأدلج((( ،فأصبح عند منزلي؛ فرأى سواد إنسان
نائم ،فأتاين فعرفني حين رآين .وكان يراين قبل الحجاب .فاستيقظت باسرتجاعه حين
عرفني ،فخمرت وجهي بجلبابي؛ واهلل ما يكلمني بكلمة ،وال سمعت منه كلمة غير
اسرتجاعه؛ وهوى حتى أناخ راحلته ،فوطئ ء على يديها ،فركبتها ،فانطلق يقود بي
الراحلة ،حتى أتينا الجيش ،بعد ما نزلوا معرسين.
قالت :فهلك يف شأين من هلك ،وكان الذي تولى كرب اإلثم عبداهلل بن أبي بن
شهرا؛ والناس يفيضون يف قول أصحاب اإلفك
سلول؛ فقدمنا المدينة ،فاشتكيت هبا ً
وال أشعر .وهو يريبني يف وجعي أين ال أرى من النبي ﷺ اللطف الذي كنت أرى
منه حين أشتكي ،إنما يدخل فيسلم ثم يقول :كيف تيكم؟ ثم ينصرف .فذلك الذي
(((
يريبني منه ،وال أشعر بالشر حتى َن َق ْه ُت((( ،فخرجت أنا وأم مسطح قِ َبل المناصع
وهو مترب َُزنا ،وكنا ال نخرج إال اً
ليل إلى ليلٍ ،وذلك قبل أن نتخذ الكنف((( ،وأمرنا
أمر العرب األول يف التربز قبل الغائط .فأقبلت أنا وأم مسطح -وهي ابنة أبي رهم بن
المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ﭬ ،وابنها
مسطح بن أثاثه بن ع َّباد بن المطلب -حين فرغنا من شأننا نمشي .فعثرت أم مسطح
يف مرطها فقالت :تعس مسطح! فقلت لها :بئسما قلت :أتسبين رجال شهد بدرا؟
فقالت :يا هنتاه((( ألم تسمعي ما قال؟ فقلت :وما قال؟ فأخربتني بقول أهل اإلفك،
عرس :التعريس هو النزول ليلاً ،والمراد هنا :أنه نزل يتتبع أثر الجيش فمن سقط له شيء أتاه به. (((
الفتح (.)316/7
فأدلج :أي سار يف آخر الليل ،وكأنه تأخر يف مكانه حتى قرب الصبح فركب ليظهر له ما سقط من (((
القوم .الفتح (.)316/7
نقهت والنقاهة؛ أي :الذي أفاق من مرضه ولم تتكامل صحته .الفتح (.)320/7 (( (
قِ َبل المناصع :أي جهتها ،والمناصع :صعيد أفيح خارج المدينة .الفتح (.)320/7 (((
الكنف :أماكن مغلقة لقضاء الحاجة ،وهي يف الوقت الحاضر تسمى (دورات المياه). (((
هنتاه :حرف نداء للبعيد وقد يستعمل للقريب حيث ينزل منزلة البعيد ،وهنا أم مسطح نسبت عائشة (((
58
اعئاشلا نم ملسملا فقوم :ثلاثلا لصفلا وألا بابلا
مرضا إلى مرضي .فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول اهلل ﷺ فقال :كيف فاز ّدت ً
تيكم؟ فقلت :ائذن لي أن آيت َأ َب َو َّي .وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخرب من قبلهما .فأذن
لي ،فأتيت َأ َب َو َّي ،فقلت ألمي :يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت :يا بنَ َّية هوين
على نفسك الشأن ،فواهلل لق َّلما كانت امرأة قط وضيئ ًة عند رج ٍل يح ُّبها ولها ضرائر إال
أكثرن عليها .فقلت :سبحان اهلل! ولقد تحدث الناس هبذا!! قالت :فبكيت تلك الليلة
حتى أصبحت ال يرقأ لي دمع وال أكتحل بنوم ،ثم أصبحت أبكي.
فدعا رسول اهلل ﷺ علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ﭭ حين استلبث الوحي
يستشيرهما يف فراق أهله .قالت :فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ،وبالذي
يعلم يف نفسه من الود لهم .فقال أسامة :هم أهلك يا رسول اهلل ،وال نعلم واهلل إال خيرا.
وأما علي بن أبي طالب فقال :يا رسول اهلل لم يضيق اهلل عليك ،والنساء سواها كثير،
وسل الجارية تخربك .قالت :فدعا رسول اهلل ﷺ بريرة ،فقال لها :أي بريرة ،هل رأيت
أمرا أغمصه عليها
فيها شيئا يريبك؟ فقالت :ال والذي بعثك بالحق نب ًيا ،إن رأيت منها ً
أكثر من أهنا جاري ٌة حديثة السن تنام عن عجين أهلها ،فتأيت الداجن فتأكله.
قالت :فقام رسول اهلل ﷺ من يومه ،واستعذر من عبداهلل بن أبي بن سلول .فقال
وهو على المنرب :من يعذرين من رجل بلغني أذاه يف أهلي؟ فواهلل ما علمت على أهلي
خيرا .ولقد ذكروا رجال ما علمت عليه إال خيرا ،وما كان يدخل على أهلي إال
إال ً
معي .قالت :فقام سعد بن معاذ ﭬ فقال :يا رسول اهلل أنا واهلل أعذرك منه .إن كان
من األوس ضربنا عنقه ،وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك .فقام
سعد بن عبادة ﭬ وهو سيد الخزرج ،وكان رجال صالحا ولكن أخذته الحمية .فقال
لسعد بن معاذ :كذبت لعمر اهلل ،ال تقتله وال تقدر على ذلك .فقام أسيد بن حضير
ﭬ وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة :كذبت -لعمر اهلل -لنقتلنَّه،
إلى الغفلة عما قيل فيها فخاطبتها خطاب البعيد .فتح الباري (.)322/7
59
دراسة موضوعات سورة النور
فإنك منافق تجادل عن المنافقين .فثار الحيان -األوس والخزرج -حتى هموا أن
يقتتلوا ،ورسول اهلل ﷺ على المنرب ،فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل.
وبكيت يومي ذلك ال يرقأ لي دمع ،وال أكتحل بنوم .ثم بكيت ليلتي المقبلة ال
يرقأ لي دمع وال أكتحل بنوم .فأصبح أبواي عندي ،وقد بكيت ليلتين ويو ًما ،حتى
أظن أن البكاء فالق كبدي .فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من
األنصار ،فأذنت لها ،فجلست تبكي معي.
فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول اهلل ﷺ ،ثم جلس ،ولم يجلس عندي
من يوم قيل يف ما قيل قبلها ،وقد مكث شهرا ال يوحى إليه يف شأين بشيء ،فتشهد حين
جلس ،ثم قال :أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا .فإن كنت بريئة فسيربئك اهلل تعالى،
وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اهلل تعالى وتوبي إليه ،فإن العبد إذا اعرتف بذنبه
ثم تاب ،تاب اهلل تعالى عليه .فلما قضى رسول اهلل ﷺ مقالته قلص((( دمعي حتى ما
أحس منه بقطرة .فقلت ألبي :أجب عني رسول اهلل ﷺ فيما قال .قال :واهلل ما أدري
ما أقول لرسول اهلل ﷺ .فقلت ألمي :أجيبي عني رسول اهلل ﷺ فيما قال .قالت :واهلل
ما أدري ما أقول لرسول اهلل لرسول اهلل ﷺ .قالت :وأنا جارية حديثة السن ال أقرأ
كثيرا من القرآن .فقلت :إين واهلل أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ،واستقر يف
نفوسكم ،وصدقتم به .فلئن قلت لكم :إين بريئة ال تصدقوين بذلك .ولئن اعرتفت لكم
بأمر واهلل يعلم أين منه بريئة ،لتصدقنني .فواهلل مما أجد لي ولكم مثال إال أبا يوسف إذ
قال{ :ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ} [سورة يوسف.]18
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ،وأنا واهلل حينئذ أعلم أين بريئة ،وأن اهلل
تعالى مربئي برباءيت .ولكن واهلل ما كنت أظن أن ينزل اهلل تعالى يف شأين وحيا يتلى؛
((( قلص دمعي :أي انقطع ،قال القرطبي :إن الحزن والغضب إذا أخذ أحدها فقد الدمع لفرط حرارة
المصيبة .الفتح (.)332/7
60
اعئاشلا نم ملسملا فقوم :ثلاثلا لصفلا وألا بابلا
ولشأين يف نفسي كان أحقر من أن يتكلم اهلل تعالى يف بأمر يتلى؛ ولكن كنت أرجو
أن يرى رسول اهلل ﷺ يف النوم رؤيا يربئني اهلل تعالى هبا .فواهلل ما رام((( مجلسه ،وال
خرج أحد من أهل البيت ،حتى أنزل اهلل تعالى على نبيه ﷺ فأخذه ما كان يأخذه من
الربحاء((( ،فسري عنه((( ،وهو يضحك ،فكان أول كلمة تكلم هبا أن قال لي :يا عائشة
احمدي اهلل تعالى فإنه قد برأك .فقالت لي أمي :قومي إلى رسول اهلل ﷺ فقلت :واهلل
ال أقوم إليه ،وال أحمد إال اهلل تعالى ،هو الذي أنزل براءيت فأنزل اهلل تعالى{ :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ }...العشر اآليات.
فلما أنزل اهلل تعالى هذا يف براءيت قال أبو بكر الصديق ﭬ وكان ينفق على
مسطح بن أثاثه لقرابته منه وفقره :واهلل ال أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة
ڤ فأنزل اهلل تعالى{ :ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ}
فقال أبو بكر ﭬ بلى واهلل إين ألحب أن يغفر اهلل لي ،فرجع إلى مسطح النفقة التي
كان يجري عليه ،وقال :واهلل ال أنزعها منه أبدً ا.
قالت عائشة ڤ :وكان رسول اهلل ﷺ سأل زينب بنت جحش عن أمري،
خيرا .وهي التي
فقالت :يا رسول اهلل أحمي سمعي وبصري ،واهلل ما علمت عليها إال ً
كانت تساميني((( من أزواج النبي ﷺ فعصمها اهلل تعالى بالورع .قالت :فطفقت أختها
حمنة تحارب لها ،فهلكت فيمن هلك من أصحاب اإلفك»(((.
ما رام ،رام :فارق ،والمعنى ما فارق مجلسه .الفتح (.)333/7 (( (
دائما .الفتح (.)334/7
الربحاء :شدة الحر وقيل شدة الحمى وقيل شدة الكرب ويكون عنده العرق ً (((
سري عنه :أي كشف ،الفتح (.)334/7 (((
تساميني أي :تعاليني من السمو والعلو واالرتفاع ،أي تطلب من العلو والرفعة والحظوة عند النبي (((
ﷺ ما أطلب .الفتح (.)336/7
أخرجه البخاري كتاب التفسير باب {ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ (} ( .)4750ومسلم (((
كتاب التوبة باب يف حديث اإلفك وقبول توبة القاذف (.)2770
61
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثالث
من فوائد احلادثة
وبعد هذا العرض األليم لتلك القصة لسـنا مبالغين حين نقول إن ما واجهه
عظيم يف تاريخ البعثة والرسالة ،فلم ُيمكر
ٌ ٌ
حـدث النبي ﷺ يف حديث اإلفك؛ هو
ٍ
مختلقة أظهر ٍ
وإشاعة بالمسلمين مكر أشد من تلك الواقعة ،فهي ليست مجرد ٍ
فرية ٌ
اهلل كذهبا ،لكنها لوال عناية اهلل كانت قادر ًة على أن تعصف باألخضر واليابس ،وال
كامل وهوشهرا اً ٍ ٍ ٍ
نفس مستقرة مطمئنة ،ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله ً تبقي على
يصطلي نار تلك الفرية ،ويتعذب ضميره وتعصره اإلشاعة الهوجاء ،حتى نزل الوحي
درسا تربو ًيا رائ ًعا لذلك المجتمع ،ولكل
اإللهي ليضع حدً ا لتلك المأساة .وليكون ً
مجتمع مسلم إلى قيام الساعة ،وصدق اهلل{ :ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ}.
وما كان حديث اإلفك رمي ًة لعائشة ڤ وحدها ،وإنما كان رمي ًة للعقيدة يف
شخص نبيها ﷺ ،من أجل ذلك ُأنزل القرآن ليكون الجواب كش ًفا للمعركة ضد
اإلسالم ورسول اإلسالم ،ويكشف الحكمة الر َّبان َّية وراء ذلك كله.
قال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ}.
فيخاطب اهلل تعالى المؤمنين يخربهم أن الذين جاءوا باإلفك وهو :الكذب
والبهت واالفرتاء((( على السيدة عائشة ڤ إنما هم جماعة منكم -يف الظاهر -فهم
ليسوا فر ًدا واحدً ا؛ بل جماعة مجتمعة ذات هدف واحد وهو تشويه اإلسالم وقيادته،
((( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)25/6
62
اعئاشلا نم ملسملا فقوم :ثلاثلا لصفلا وألا بابلا
عن جهل أو عمد منهم ،فمستوياهتم يف المساومة يف هذا اإلفك متفاوتة.
شهرا يف خالل وقوع هذه الفرية قد«اقتضى
وإن انقطاع الوحي عن رسول اهلل ﷺ ً
تمام االمتحان واالبتالء أن حبس عن رسول اهلل الوحي شهرا يف شأهنا ال يوحي إليه يف
ذلك شيء وذلك ليزداد المؤمنون الصادقون إيمانًا وثبا ًتا على العدل والصدق وحسن
الظن باهلل ورسوله وأهل بيت الرسول والصادقين من عباده ،ويزداد المنافقون إف ًكا
ونفاقا ،ويظهر لرسول اهلل سرائرهم ،ولتتم العبودية من الصديقة وأبوها من االفتقار هلل
والذل له وحسن الظن به»
(((
ِ
محضا{ :ﭘ ﭙشرا ً ولكي ُي َط ْمئن اهلل تعالى عباده المؤمنين أن هذا اإلفك ليس ً
خير لكم يف الدنيا واآلخرة يف حقيقته ومآله ،فقد كشف
ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ} ،فهو ٌ
اهلل لكم هبذه الحادثة األيدي الخفية التي تريد زعزعة الدين اإلسالمي يف القلوب؛
بالتشكيك يف بيت النبوة وأهل بيت النبي بإثارة اإلشاعات ونقلها بين الناس ،وكشفت
لكم أثر تساهل الناس يف نقل الشائعات.
أيضا يف هذه الحادثة أهنا ن َّبهت على أهمية تحريم القذف ،ومدى األخطار
ومن الخير ً
التي ستلحق باألمة المسلمة لو تركت كل من يريد أن يرمي أحدً ا بمثل هذا الرمي.
وفصلت يف أهمية وقيمة إقامة الحدِّ على القذف ،وبيان الوعيد الشديد يف اآلخرة
َّ
على الذي يريد إشاعة الفاحشة بين المسلمين.
وهي تعطي منهجا للمؤمنين فيما يعملونه تجاه هذه اإلشاعات كما سيأيت بيانه.
ويف هذه الحادثة تنبيه على العذاب األخروي؛ الذي سيلحق تلك الفئة التي
أرادت النيل من بيت النبوة ،أو التي تريد أن تنال من كل بيت مسلم آمن.
ٌ
وشامل- مطلق
ٌ ومن اللطف تعبير الباري عن الخير الحاصل هبذه الحادثة :بأنه
((( زاد المعاد ( ،)262-261/3بتصرف.
63
دراسة موضوعات سورة النور
شرا ،وإن كان ظاهره االبتالء واالمتحان للمؤمنين ،لصعوبة األمر
خير وليس ً
فهو ٌ
ومشقته على النفس ،وقوة القرار يف اتخاذ الموقف الصحيح{ :ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ} فسبحان من هذا شرعه وهذه حكمته.
قال تعالى مبينًا تفصيل الجملة السابقة{ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ}« :أي
لكل من تكلم يف هذه القضية ورمى أم المؤمنين بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من
اإلثم»((( .فالذي قام بنشر الخرب بين الناس هم المنافقون وعلى رأسهم عبداهلل بن
أبي بن سلول فهو المدبر األول لتلك الفرية.
وقد شارك معهم ثالثة من الصحابة وقد عاقبهم رسول اهلل ﷺ بإقامة الحد عليهم
تطهيرا لهم من ذلك اإلثم الذي لحقهم ،وهم( :حسان بن ثابت ،ومسطح بن أثاثة،
وحمنة بنت جحش)((( ﭫ.
ثم ينبه اهلل تعالى على جزاء من كان سب ًبا يف هذه الفرية والذي أوقد نارها وجزاءه
الذي ينتظره يف اآلخرة .فقال تعالى{ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ}« :أي
الذي كان يجمعه ويشيعه له عذاب عظيم على ذلك ،وأكثر المفسرين يقولون أن الذي
تولى كربه هو عبداهلل بن أبي بن سلول رأس المنافقين»(((.
تطهيرا
ً «وقد أمر النبي ﷺ بإقامة حد القذف على مسطح وحسان وحمنة،
وتكفيرا ،أما عبداهلل بن أبي بن سلول فلم يقم عليه الحد .ولعل ذلك ألن إقامة
ً لهم
الحدود فيها كفارة عن الجناة وهو ممن توعده اهلل بالعذاب العظيم يف اآلخرة ،فليس
اً
أهل إلقامة الحد عليه والمغفرة من اهلل.
((( زاد المعاد ( )263/2بتصرف .ولقد أشار ابن القيم رحمه اهلل تعالى إلى فوائدَ كثيرة من هذه الحادثة،
لالستزادة (.)256/2
65
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الرابع
مشكلة اإلشاعة
املطلب األول
تعريف اإلشاعة
اإلشاعة لغةً :شاع الخرب يف الناس أي :انتشر وافرتق وذاع وظهر(((.
واصطالحا« :عبارة عن أقوال وأخبار وأحاديث يختلقها البعض ألغراض خبيثة،
يتناقلها الناس بحسن نية ،دون التثبت من صحتها ،ودون التحقق من مصداقيتها»(((.
أو هي« :عبارة عن نبأ أو حدث مجرد من أي قيمة يقينية ينتقل من شخص آلخر،
قادر على زعزعة الرأي العام أو تجميده»(((.
«واإلشاعة يف أغلب األحوال ما هي إال تضخيم لألخبار الصغيرة ،وإظهارها
بصورة تختلف عن صورهتا الحقيقية ،أو هي تسخير لألخبار المكذوبة وطالؤها
بطالء براق يلفت إليه االنتباه من أجل إشاعة الفرقة والبغضاء بين العباد»(((.
املطلب الثاني
خطورة اإلشاعات
إن المتأمل يف الكتاب والسنة ،ويف التاريخ بشكل عام يعلم يقينًا ما لإلشاعات
من خطر عظيم ،وأثر بليغ ،فاإلشاعـات تعترب من أخطر األسلحة الفتاكة والمدمرة
للمجتمعات واألشخاص.
قـال تعـالى{ :ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ} فتوعدهم اهلل بالعذاب الشديد يف الدنيا واآلخرة.
ولما لها من العاقبة السيئة ّ
حذر اهلل عباده من السماع لها كما قال تعالى{ :ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ}
[سورة الحجرات .]6 وقال{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ
ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭﯮ} [سورة النساء.]93
محذرا عباده مكائد الشيطان وأتباعه{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ً وقال
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ} [سورة النساء.]27
وقال رسول اهلل ﷺ« :إن اهلل حرم عليكم عقوق األمهات ،ووأد البنات ،ومنع
وهات ،وكره لكم قيل وقال ،وكثرة السؤال ،وإضاعة المال»((( .وعن أبي هريرة ﭬ
((( أخرجه البخاري كتاب االستقراض باب ما ينهى عن إضاعة المال ( .)2408ومسلم كتاب األقضية=
67
دراسة موضوعات سورة النور
قال :قال رسول اهلل ﷺ« :كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»(((.
ولنتعرف على
َّ آثارا سيئةً،
وقد وقع للمسلمين يف العهد األول شائعات كان لها ً
خطورة الشائعة نعرض منها على سبيل المثال:
-أشيع يف بداية الدعوة يف مكة أن كفار قريش أسلموا ،وذلك بعد الهجرة األولى
للحبشة ،وكان نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة ،وقبل دخولهم علموا أن
الخرب كذب ،فدخل منهم من دخل وعاد من عاد ،فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم
فارا منه(((.
من عذاب قريش ما كان هو ً
فت ذلك يف عضد كثير
-ويف معركة أحد عندما أشاع الكفار أن الرسول ﷺ قتلّ ،
من المسلمين ،حتى إن بعضهم ألقى السالح وترك القتال ورجع بعضهم للمدينة(((.
شهرا اً
كامل ،بل هزت المدينة كلها كما -وحادثة اإلفك التي هزت بيت النبوة ً
مر آن ًفا.
كبيرا يف فساد الدين والدنيا ،بل واستغلت
دورا ًويف هذا العصر نجد للشائعات ً
استغالل كبيرا ،ومثل هذه الشائعات ُتح ِدث يف الصف ثغرات ُت ِ
خ ُّل به، اً ضد المسلمين
ْ ً
وأحيانًا تكون ثغرات كبيرة يصعب سدُّ ها؟!! وخاصة إذا كانت الشائعات تذاع داخل
المجتمع المسلم ،من أناس جهلة ،أو لهم هوى خفي ،أو ظن خاطئ.
املطلب الثالث
كيف تتولد اإلشاعة وتنتشر
(( ( انظر :نحو منهج شرعي لتلقي األخبار وروايتها (ص ،)26بتصرف.
((( نحو منهج شرعي لتلقي األخبار وروايتها (ص.)33
69
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث اخلامس
املوقف من الشائعات من خالل حادثة اإلفك
إن هذه اآليات -التي نزلت يف قصة اإلفك -فيها بيان الموقف الذي يجب أن
وخصوصا إذا كانت يف أعراض المسلمين:
ً نكون عليه حينما نسمع أي شائعة كانت،
املطلب األول
أن يقدم حسن الظن باألخ املسلم
(( ( البداية والنهاية ( .)60/8تفسير القرآن العظيم البن كثير ( .)26/6أسباب النزول للواحدي (.)270
السيرة النبوية البن هشام ( .)315/3جامع البيان للطربي (.)77/18
((( لسان العرب (.)390/10
71
دراسة موضوعات سورة النور
املطلب الثاني
التثبت بالبينة والدليل
املطلب الثالث
أن ال يتحدث مبا مسعه وال ينشره
املطلب الرابع
قطع الطريق على الفساق الذين حيبون أن تشيع الفاحشة والشر
املبحث السادس
التعقيب القرآني على حادثة اإلفك
بعدما أظهر اهلل الحقيقة ،و َب َّي َن االفرتاء ،وأظهر الرباءة الكاملة ،وبعد أن توعد
القائلين هبا ،وبعد أن دعاهم إلى التوبة ،ووبخ السامعين لها الذين لم يبادروا إلى رد
اإلشاعة والفرية ،وبعد أن بين الواجب على المسلمين عند سماع مثل هذه التهم،
جاءت هذه التعقيبات ،تنبيها على عدة أمور نجملها يف المطالب التالية:
املطلب األول
خطورة نشر الفواحش يف اجملتمع اإلسالمي
املطلب الثاني
شرع اهلل هذه األحكام وقبل توبة املذنبني املرتكبني لقبائح األعمال
فضل منه ورمحة
اً
املطلب الثالث
التنبيه على عدم إتباع خطوات الشيطان ألنه هو الذي يغوي اإلنسان
ويوقعه يف الذنب باختياره
املطلب الرابع
سالمة الصدر والعفو واملساحمة واإلحسان ملن أساء
يستجلب مغفرة اهلل
الفصل الرابع
الفصل الرابع :مـسـؤولية الكلــمة مـسـؤولية الكلــمة
املبحث األول
عرض إمجالي لآليات
ينبه اهلل تعالى بالوعيد الشديد على رمي المحصنات؛ وهن العفائف عن الفجور،
الغافالت وهن :الاليت لم يخطر الزنا يف قلوهبم .وهذا الوعيد هو الطرد من رحمته
أيضا يف اآلخرة.
سبحانه يف الدنيا واآلخرة ،وأعد لهم العذاب العظيم ً
ٍ
جارحة تشهد عليهم يوم القيامة بما عملت فال يمكن اإلنكار؛ ألن الشهادة فكل
عليهم من أنفسهم ،ففي هذا اليوم يجزيهم اهلل على أعمالهم الجزاء الحق ،ويعلمون أن
حق يف أفعاله وأقواله وأحكامه وقضائه وجزائه وثوابه وعقابه.
اهلل هو الحق يف كل شيءٌ ،
ثم يقول تعالى{ :ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ}.
قال ابن عباس ﭭ« :أي :الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ،والخبيثون
84
ةمــلكلا ةيلوؤـسـم :عبارلا لصفلا وألا بابلا
من الرجال للخبيثات من القول .والطيبات من القول للطيبين من الرجال ،والطيبون
من الرجال للطيبات من القول»(((.
«ووجه هذا القول أن الكالم القبيح أولى بأهل القبح من الناس ،والكالم الطيب
أولى بالطيبين من الناس ،فما نسبه أهل النفاق للسيدة عائشة هم أولى به وهي أولى
بالرباءة منهم ولهذا قال تعالى{ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ}»(((.
واختلف العلماء هل اآليات خاصة بالسيدة عائشة ڤ أم هي عامة لكل من قذف؟
ومن تتبع األقوال يتبين له أن اآليات نزلت يف السيدة عائشة ڤ ،ويف الذين لم تقبل
سب السيدة عائشة ڤ ورماها بما َّبرأها اهلل منه.
توبتهم بسبب نفاقهم ،ويف كل من ّ
وأيضا يدخل يف هذا الوعيد كل من رمى أحدً ا من المسلمين -سواء كان اً
رجل أو ً
امرأة -بالزنا ولم يتب إلى اهلل تعالى ،فيتحقق عليه الوعيد المذكور يف اآلية(((.
مهم جدًّ ا تتسم به هذه اآليات
أمر ٌّ
ثم بعد هذا العرض اإلجمالي لآليات يتبين لنا ٌ
َّ
وما قبلها وهو الحديث عن الكلمة وخطورهتا على الفرد والمجتمع ،ومدى تأثيرها
على الفرد يف حياته كلها الدنيوية واألخروية ،وأيضا من تأثيرها على المجتمع يف
واقعه ومستقبله.
املبحث الثاني
أهمية الكلمة وخطورتها ودورها يف إقامة احلياة
{ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ} [سورة النساء.]94
4-4جعل اهلل حفظ اللسان من أسباب دخول الجنَّة قال رسول اهلل ﷺ« :من
يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»(((.
الحق مقدَّ ر ًة معظم ًة معتربةً ،ولو كانت عند صاحبها عاد َّيةً ،قال
5-5وجعل كلمة ّ
بال يرفعه اهلل بها درجات،
ﷺ« :إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اهلل ال يلقى لها اً
وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اهلل ال يلقى لها باال يهوى بها يف جهنم»(((.
6-6ويف سؤال معاذ بن جبل ﭬ لرسول اهلل عن العمل الذي يدخله الجنة
ويباعده عن النار ذكر له النبي ﷺ أركان اإلسالم وبعض أبواب الخير ثم قال له« :أال
أخبرك بمالك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول اهلل .فأخذ بلساين ،ثم قال :كف عليك
هذا!! فقلت :يا رسول اهلل :وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟؟! فقال :ثكلتك أمك يا معاذ!
وهل يكب الناس يف النار على وجوههم أو على مناخرهم إال حصائد ألسنتهم»(((.
َّ 7-7
وحذر الشارع من نقل الكالم من غير تمييز لمعناه ومقتضاه ،فقال رسول اهلل
ﷺ« :كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»((( .يقول عبدالرحمن بن مهدي :$
«ال يكون الرجل إماما يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع»(((.
أخرجه البخاري كتاب الرقائق باب حفظ اللسان (.)6474 (( (
أخرجه البخاري كتاب الرقائق باب حفظ اللسان (.)6478 (((
سنن الرتمذي كتاب اإليمان باب ما جاء يف حرمة الصالة ( .)2616وقال حديث حسن صحيح. (((
السلسلة الصحيحة (.)1122
سنن أبي داود كتاب األدب باب التشديد يف الكذب ( .)4992وصححه األلباين يف السلسلة الصحيحة (((
( ،)2025وقد أورده النووي يف شرح صحيح مسلم ( .)65/1ومسلم يف مقدمة صحيحه باب تغليظ
الكذب على الرسول (.)5
مقدمة صحيح مسلم مع شرح النووي (.)65/1 (((
88
ةمــلكلا ةيلوؤـسـم :عبارلا لصفلا وألا بابلا
8-8وجعل القول والكالم من اإليمان سل ًبا وإيجا ًبا ،فعن أبي هريرة ﭬ قال؛ قال
رسول اهلل ﷺ ..« :ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرا أو ليصمت»((( .قال
ابن حجر« :هذا الحديث من جوامع الكلم ألن القول كله إما خيرا وإما شرا ،وإما آيل
إلى أحدهما ،فيدخل يف الخير كل مطلوب من األقوال فرضها وندهبا ،وما عدا ذلك
مما هو شر أو يؤول إلى شر ،فأمر عند إدارة الخوض فيه بالصمت»(((.
(( ( أخرجه البخاري كتاب األدب باب إكرام الضيف وخدمة إياه نفسه ( .)6036ومسلم كتاب اإليمان
باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إال عن الخير وكون ذلك كله من اإليمان
(.)47
((( فتح الباري (.)461/10
89
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثالث
آفات الكالم
إن األمور التي تجعل الكالم يورد المهالك كثيرة جدً ا ،فالكالم عندما ينطق به
ٍ
كثيرة يف الحياة إما سل ًبا أو إيجا ًبا، اللسان أو تشير إليه الحركات يكون فيه تغيير ٍ
أمور
ولذا سنعرض أهم األمور التي يجب على صاحب الكلمة أن يكون على ٍ
حذر منها،
وأن يتجنب كل ما كان سب ًبا يف هالكه أو يف تعريض غيره للشر.
فمن آفات الكالم التي يجب الحذر منها:
-1القذف:
وهذا من أعظم الكالم الذي يوجب الهالك يف الدنيا واآلخرة ،فأي ذنب أعظم
من أن يتكلم يف عرض مسلم وخصوصا إذا كان هذا الكالم قذ ًفا لعرضه بالفاحشة-
بالزنا أو اللواط ،-إهنا واهلل المأساة والخسران والظلم بعينه .ولذا استحق صاحب
هذا الكالم العذاب يف الدنيا بالجلد ثمانين جلدة ،وبالهالك يف اآلخرة كما يف حديث
أبي هريرة ﭬ عن النبي ﷺ قال« :اجتنبوا السبع الموبقات »...وذكر منها« :وقذف
المحصنات المؤمنات الغافالت»(((.
وقد تقدم الحديث عن هذا األمر وخطورته واألدلة على ذلك.
-2القول على اهلل ورسوله بغير علم:
أي الكذب على اهلل ورسوله ،قال تعالى{ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
((( أخرجه البخاري كتاب الحدود باب رمي المحصنات ( .)6857ومسلم كتاب اإليمان باب بيان
الكبائر وأكربها (.)89
90
ةمــلكلا ةيلوؤـسـم :عبارلا لصفلا وألا بابلا
سأل النبي ﷺ الصحابة يوما« :أتدرون ما الغيبة؟» قالوا :اهلل ورسوله أعلم .قال:
«ذكرك أخاك بما يكره» .قيل :أفرأيت إن كان يف أخي ما أقول؟ قال« :إن كان فيه ما
تقول فقد اغتبته ،وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»(((.
والنميمة هي نقل الكالم لإلفساد بين الناس ،عن حذيفة ﭬ قال :قال رسول اهلل
ﷺ« :ال يدخل الجنة نمام»(((.
وقد ذكر صاحب مختصر منهاج القاصدين بعض اآلفات الجامعة فقال« :ذكر
آفات الكالم :الكالم فيما ال يعني ،والخوض يف الباطل وهو الكالم يف المعاصي،
والتقعر يف الكالم ،والفحش والسب والبذاءة ،والمزاح الكثير ،والسخرية االستهزاء،
وإفشاء السر ،والغيبة»((( ،وهذه اآلفات على سبيل المثال ال على سبيل الحصر ،فإن
اآلفات كثيرة جدً ا.
والمالحظ أن معظم األمور التي هي من آفات اللسان هي أمور دائرة بين الناس
بعضهم مع بعض ،وهذه إشارة إلى أن اللسان كما أنه سبب للهالك يف اآلخرة فإنه
ف األمة يف الدنيا ،فاهلل تعالى وضع لنا شر ًعا يكفل تنظيم حياتنا
أيضا سبب يف تفريق َص ِّ
الدنيوية مع بعضنا ،فإذا التزمنا به حصل لنا الفوز والنجاة يوم القيامة.
أخرجه البخاري كتاب اإليمان باب المسلم من سلم المسلمون ( .)10ومسلم كتاب اإليمان باب (((
تفاضل اإلسالم وأي األمور أفضل (.)41-42
أخرجه مسلم كتاب الرب والصلة باب تحريم الغيبة (.)2589 (( (
أخرجه مسلم كتاب اإليمان باب غلظ تحريم النميمة (.)105 (((
ملخصا.
ً مختصر منهاج القاصدين (ص،)170-165 (((
92
ةمــلكلا ةيلوؤـسـم :عبارلا لصفلا وألا بابلا
والحديث عن آفات الكالم طويل جدا ولكن حسبنا هنا أن نذكر كالم ابن القيم
وتلخيصا لهذا الموضوع ،فقال :$
ً الجامع لهذا الموضوع
«واعلم أن يف اللسان آفتان عظيمتان ،إن خلص من إحداها لم يخلص من
إثما من اآلخر
األخرى :آفة الكالم ،وآفة السكوت ،وقد يكون كل منهما أعظم ً
يف وقتها:
ٍ
ومداهن إذا لم يخف على نفسه. ٍ
ومراء ٍ
عاص هلل فالساكت عن الحق شيطان أخرس
ٍ
عاص هلل. ناطق ٌ
شيطان ٌ والمتكلم بالباطل
فمن هنا يعلم ما للكلمة من أعباء على الفرد والمجتمع سواء بالخير أو بالشر،
ومن هنا نعرف سبب التهديد الرباين يف قوله تعالى{ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
(( ( الجواب الكايف ( )281-276باختصار.
((( نسب شارح ابن ماجة هذين البيتين إلى الشافعي ،انظر شرح ابن ماجة ( ،)286/1وذكره النووي يف
األذكار ( ،)783/1ويف مجمع األمثال (.)303/2
93
دراسة موضوعات سورة النور
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ}.
واهلل تعالى نسأل أن يحفظ ألسنتنا ناطق ًة وصامته ،وأن يكون كالمنا وصمتنا
موافقا لما أمرنا به سبحانه وأمرنا به رسوله ﷺ.
الباب الثاني
اآلداب االجتماعية الوقائية
الباب الثاني :اآلداب االجتماعية الوقائية
تمهيد:
إن اإلسالم دين شامل كامل لكل نواحي الحياة وهو دين الفطرة فهو ال يحارب
الفطرة اإلنسانية بل إنه ينظمها وينظفها ،وال يرتب العقوبة على أمر إال وقد جعل له
أمورا تقي منه فهو يضيق سبل الغواية والفساد والفتنة واإلثارة ويفتح باب الطهارة
ً
والنظافة والعفاف.
أمور وقائية ،تقي المجتمع
فهذه اآلداب االجتماعية المذكورة يف هذه السورة هي ٌ
من الوقوع يف الزنا والفواحش ،ولذلك يجب علينا أن ننظر إليها نظرة متأنية لكي
طاهرا عفي ًفا ال تنتشر فيه الفاحشة ،بل وال ما هو
ً يصبح المجتمع كله مجتم ًعا نظي ًفا
أقل من ذلك من األمور التي قد تؤدي إلى الفاحشة.
ولذلك كان الخطاب يف آيات اآلداب يأيت مقرونا باإليمان أو الخطاب للمؤمنين،
«وهذا إشارة إلى أن اهلل جل وعال يريد لألمة المؤمنة أن تبني مجتمعها على الذوق
واألدب والنضوج الحضاري والعفة»(((.
والوقاية تأيت بمعنى الصيانة ،والمراد هنا :صانه وسرته عن األذى وحفظه
وحماه((( ،كما قال تعالى{ :ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ} [الرعد ،]34:وقوله{ :ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ} [اإلنسان ،]11:وتسمى الوقايةُ :جنَّة ،وعرب به عن الصيام كما يف الحديث
(( ( من لطائف التفسير (.)417/2
((( ينظر :تاج العروس للزبيدي (.)226/40
95
دراسة موضوعات سورة النور
الصحيح« :والصوم جنة»(((؛ ألنه يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات.
عما
والمقصود هبذا الباب :االحرتاز بطاعة اهلل عن عقوبته ،وذلك بصيانة النفس َّ
تستحق به العقوبة من فع ٍل أو ترك.
باب غال ًبا ،ولذا فقد شملت
ومجاالت الوقاية يف اإلسالم كثيرة ،ال يخلو منها ٌ
مناحي الحياة الفردية والجماعية ،وقد استعمل علماء األصول معاين مطابقة لمفهوم
ٌ
مبحث الوقاية ،فمن إطالقاهتم :الذريعةَ ،سدُّ الذرائع ،در ُء المفاسد ونحو ذلك ،وهو
جميل من مباحث العلم بحاجة لبسط وجمع لمسائله وبيان محاسن اإلسالم فيه.
وعليه فاآلداب االجتماعية الوقائية التي ذكرها اهلل يف هذه السورة هي:
1-1أدب االستئذان.
2-2أدب غض البصر.
3-3أدب الزينة.
4-4مشروعية الزواج.
آداب داخل البيت الواحد.
ٌ 5-5
وإليك بياهنا كما وردت يف كتاب اهلل عامة ويف آيات هذه السورة خاصة:
((( أخرجه البخاري ،كتاب الصوم ،باب :هل يقول :إين صائم ( )1805و( ،)5074ومسلم ،كتاب الصيام،
باب فضل الصيام (.)1151
96
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
الفصل األول
أدب االستئذان
الفصل األول :أدب االستئذان الباب الثاني
املبحث األول
أهمية االستئذان وجماالته
حرصت الشريعة اإلسالمية على تحصيل مقاصد عليا ومصالح كلية ،تنتظم هبا
حياة الناس ويتحقق لهم الخير والفالح يف الدنيا واآلخرة.
ومن هذه المقاصد السامية حفظ األعراض ورعاية الحقوق والحرمات؛
ٍ
وآداب ُتحفظ هبا األعراض و ُترعى هبا الحرمات ،وتسود من ٍ
بتشريعات وذلك
خاللها الفضيلة يف المجتمع المسلم ،ومن اآلداب التي تحقق هذا المقصد الرفيع:
حظ ٍ
وافر من التشريعات والتعاليم أدب االستئذان ،وقد اشتملت السنة النبوية على ٍ
التي تقرر هذا األدب وتحث عليه ،وتدل الناس على التأدب به بالطريقة المثلى
واألداء القويم.
فإنه «لما خصص اهلل سبحانه ابن آدم -الذي كرمه وفضله -بالبيوت ،وسرته فيها
عن األبصار ،وملكه االستمتاع هبا على اإلنفراد؛ حجر على الخلق أن ي َّطلعوا على ما
فيها من خارج ،أو يلجوها من غير ٍ
إذن ،وأ َّدهبم بما يرجع السرت عليهم لئال يطلع أحد
منهم على عورة»(((.
ولكي نستوعب أهمية األدب اإلسالمي نعود بالمخ ِّيلة إلى الزمن ا َّلذي نزلت
فيه هذه اآليات ،ونمط السلوك ا َّلذي كان عليه أهل ذلك الزمان! فقد ال ندرك أهمية
تحولوا بفضل
هذه التعاليم ما لم نتخ َّيل حياة الجاهلية وخشونتهم ،وكيف أهنم َّ
الخاصة والعا َّمة ،فال
َّ اإلسالم إلى سادة َّ
مهذبين ،يحرتمون اآلخرين يف حياهتم
يقتحمون عليهم بيوهتم ،وال يتط َّفلون عليها كما كانوا يفعلون قبل اإلسالم ،فقد
كان أحدهم يدخل البيت ،ثم يقول :لقد دخلت! أ ًّيا كانت الحالة ا َّلتي يكون عليها
صاحب الدار وأهله.
من أجل هذا أ َّدب اهلل المسلمين هبذا األدب العالي ،أدب االستئذان قبل الدخول
والسالم على أهلها ،إليناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم .وبذلك غدت
إلى البيوت َّ
البيوت ح َر ًما آمنًا ،ال يستبيح أحد دخوله إال بعلم أهله وإذهنم ،ويف الوقت ا َّلذي
َ
يريدون ،وعلى الحالة ا َّلتي يح ُّبون أن يلقاهم الناس عليها.
فجعل اهلل البيوت سكنًا يفيء إليها الناس ،فتسكن أرواحهم ،وتطمئن نفوسهم،
ويؤمنون على عوراهتم وحرماهتم ،والبيوت ال تكون كذلك إال حين تكون حر ًما آمنًا
ال يستبيحه أحد إال بعلم أهله أو إذهنم ،ويف الوقت الذي يريدون ،وعلى الحالة التي
يحبون أن يلقوا عليها الناس.
وإن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ،يجعل أعينهم تقع على
ٍ
عورات ،وتلتقي بمفات َن ُتثير الشهوات ،و ُتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات
ٍ
قاصدة ،تحركها الميول ٍ
نظرات العابرة والنظرات الطارئة ،والتي قد تتكرر فتتحول إلى
عالقات ٍ
آثمة بعد ٍ انتظار ،وتحولها إلىٍ التي أيقظتها اللقاءات األولى على غير ٍ
قصد وال
ٍ
محرمة تنشأ عنها ال ُع َقد النَّفس َّية واالنحرافات السلوكية. ٍ
شهوات بضع خطوات ،أو إلى
وأبرز ثمرات االستئذان:
•إنما يهتم القرآن هبذه الجزئية من الحياة االجتماعية؛ ألنه يعالج الحياة
كل ًّيا وجزئ ًّيا.
•االستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثاب ًة وسكنًا.
•االستئذان على البيوت يقضي على الفتنة ويقلع جذورها قبل وقوعها.
99
دراسة موضوعات سورة النور
•االستئذان على البيوت يوفر على أهلها الحرج من المفاجئة والضيق بالمباغتة.
•االستئذان على البيوت يحقق حفظ العورات ،وهي عورات كثيرة ،فهي ليست
عورات البدن فحسب ،بل يضاف إليها عورات الطعام ،وعورات اللباس،
وعورات المتاع واألثاث التي قد ال يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون
هتيئة وتجمل وإعداد.
•االستئذان يحفظ على البيوت عورات المشاعر والحاالت النفسية ،فالمر ُء ال
يغضب مؤثر ،أو ٍ
النفعال ٍ ٍ
ضعف؛ يبكي ٍ
حالة من يحب أن يراه الناس وهو يف
ُ
مثير ،أو يتوجع ٍ
أللم يخفيه عن الغرباء ...الخ. ٍ
لشأن ٍ
مجاالت االستئذان:
تعددت المجاالت والمناسبات التي ُشرع االستئذان لها يف الشريعة ،فمن ذلك:
جليسهما الثالث ليتناجيا ،ودليله ماثبت عن النبي ﷺ قال: َ 1.1استئذان الجليسين
«إذا كنتم ثالثة فال يتناجى اثنان دون الثالث إال بإذنه ،فإن ذلك ُي ْح ِزنه»(((.
2.2االستئذان عند الجلوس إلى اثنين يتناجيان ،قال النبي ﷺ« :إذا تناجى اثنان فال
تجلس إليهما حتى تستأذنهما»(((.
يفرق ٍ
لرجل أن ِّ 3.3االستئذان للجلوس بين شخصين ،فقد قال النبي ﷺ« :ال يحل
بين اثنين إال بإذنهما»((( ،وإنما هني عن ذلك وأمر باالستئذان يف هذا المقام؛
(( ( أخرجه البخاري كتاب االستئذان باب إذا كانوا أكثر من ثالثة ( ،)5930ومسلم يف السالم باب تحريم
مناجاة االثنين دون الثالث بغير رضاه (.)2183
((( أخرجه أحمد يف المسند ( )5949والبخاري يف األدب المفرد ( ،)1166وحسنه ابن حجر يف الفتح
( )70/11من رواية أحمد ،وحسنه األرناؤوط يف تعليقه على المسند ،وصححه األلباين يف الصحيحة
( )1395ويف األدب المفرد.
الرج َلين بغير إذهنما ( ،)4845والرتمذي
((( أخرجه أبو داود كتاب األدب باب يف الرجل يجلس بين ُ
أبواب األدب عن رسول اهلل ﷺ باب ما جاء يف كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذهنما (=،)2752
100
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
ٍ
وأمانة فيشق عليهما التفريق وجريان ِس ٍّر
ُ ألنه قد يكون بينهما محب ٌة ومود ٌة
بجلوسه بينهما.
فعن ج َبلة قال« :كنا بالمدينة ،فأصابتنا
َ 4.4االستئذان يف اإلقران يف أكل التمر،
سنة ،فكان ابن الزبير ﭭ يرزقنا التمر ،وكان ابن عمر ﭭ َي ُم ُّر بنا فيقول:
ال تقرنوا ،فإن النبي ﷺ «نهى عن اإلقران ،إال أن يستأذن الرجل منكم أخاه»(((.
قال ابن األثير يف معنى ِ
القران :وهو أن يقرن بين التمرتين يف األكل(((.
املبحث الثاني
أحكام االستئذان وآدابه
لالستئذان أحكام وآداب كثيرة يجب مراعاهتا لتستقيم حياة الناس وتسموا
أخالقهم ،ويمكن أن نجمل هذه األحكام واآلداب((( يف النقاط التالية:
-1اختيار األوقات المناسبة:
قال تعالى{ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ}.
فإن هناك أوقا ًتا ال يحب الناس أن يستأذن عليهم أحد فيها ،كالوقت المتأخر من
الليل ،أو الصباح الباكر جدً ا ،أو عند وقت الظهيرة وغيرها من األوقات التي تكون فيها
الراحة غال ًبا ،أو الشغل ،أو يف ظروف خاصة يف بيت المزار.
ويف وقتنا هذا تيسرت وسائل االتصال ،فيمكن لإلنسان أن يتصل بالذي يريد
زيارته قبل أن يأتيه وينبهه على أنه سيزوره يف الوقت المحدد ،أو أن يحدد له صاحب
البيت الوقت المناسب للزيارة ،لما فيه من من ٍع لإلحراج وتحصي ٍل المنفعة.
-2االستئذان قبل الزيارة:
قال تعالى {ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ} .قال ابن عباس :االستئناس هو االستئذان(((.
(( ( لقد رجعت إلى عدة كتب يف األخالق واآلداب الستنباط تلك اآلداب ،وانظر باألخص كتاب
اآلداب لفؤاد بن عبدالعزيز الشلهوب ،وموسوعة اآلداب اإلسالمية لعبدالعزيز بن فتحي السيد
ندا ،وكتب التفسير لالستزادة.
((( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)37/6
102
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
ولفظ اآلية يوحي بأن على القادم أن يتأكد من أن أهل البيت سيأنسون لوجوده،
وال ينزعجون؛ وذلك عن طريق االستئذان ،ولذلك قال اهلل تعالى{ :ﮕ ﮖ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ} [سورة األحزاب.]53
ٍ
وجه «فاالستئناس فيه إعالم أصحاب البيت وإشعارهم بالقدوم عليهم بأي
ممكن ،مع العلم أن إعالم أهل البيت بالقدوم ال يعد إذنًا له بالدخول ولكن ال بد من
االستئذان»(((.
خير للطرفين فال يوقع الزائر يف حرجٍ ،ويف النظر إلى ما حرم اهلل
وهذا االستئذان ٌ
خير لصاحب البيت لالستعداد والتهيئة الستقبال الزائر ،ولذا قال تعالى:
عليه ،وهو ٌ
{ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ}.
-3السنة السالم واالستئناس:
قال تعالى{ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ} .وقال تعالى{ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰﯱ}.
وقد سئل النبي ﷺ على االستئناس فقال« :يتكلم الرجل بتسبيحة ،وتحميدة،
ويتنحنح فيأذن أهل البيت»((( ،فهذا ٌ
دليل على أن االستئذان يختلف عن االستئناس.
(( ( من موضوعات سور القرآن (سورة النور) (ص.)34
((( أخرجه ابن أبي شيبة يف المصنف ( ،)607/8وابن ماجه كتاب األدب باب االستئذان (،)3707
المعجم الكبير للطرباين ( ،)178/4وضعفه األلباين يف ضعيف سنن ابن ماجه ( ،)3707وقد أورده =
103
دراسة موضوعات سورة النور
قبل أن يستأذن الزائر بالدخول على ٍ
أحد أن يسلم ثم يستأذن، ومن اآلية ُيعلم أنه َ
ولما ورد عن ابن عباس ﭭ أن عمر بن الخطاب ﭬ استأذن على النبي ﷺ فقال:
«السالم على رسول اهلل ،السالم عليكم ،أيدخل عمر؟»((( ،فهنا بدأ بالسالم قبل
االستئذان.
وعن أنس بن مالك ﭬ :أن رسول اهلل ﷺ استأذن على سعد بن عبادة ﭬ
فقال« :السالم عليكم ورحمة اهلل» .فقال سعد :وعليكم السالم ورحمة اهلل ولم يسمع
النبي ﷺ حتى سلم النبي ﷺ ثالثا ،ورد عليه سعد ثالثا ولم يسمعه .فرجع النبي ﷺ،
واتبعه سعد فقال :يا رسول اهلل بأبي أنت وأمي ،ما سلمت تسليمة إال وهي بأذين،
ولقد رددت عليك ولم ُأ ْس ِم ْعك ،وأردت أن أستكثر من سالمك ومن الربكة ،ثم
فقرب إليه زبي ًبا ،فأكل نبي اهلل ﷺ ،فلما فرغ قال« :أكل طعامكم األبرار،
أدخله البيتَّ ،
وصلت عليكم المالئكة ،وأفطر عندكم الصائمون»(((.
-4أن يقف المستأذن عن يمين أو شمال الباب:
رب ٍ
وذلك حتى ال يقع بصره على موضع ال يحل له النظر إليه ،أو على شيء يكره ُّ
ٍ
ألحد رؤيته ،فاالستئذان إنما شرع من أجل البصر ،قال عليه الصالة والسالم: الدار
«إنما جعل االستئذان من أجل البصر»(((.
= ابن حجر يف فتح الباري ( ،)8/11ولم يتكلم عليه فهو حسن عنده.
((( األدب المفرد باب كيف االستئذان ،قال األلباين :$صحيح اإلسناد ،صحيح األدب المفرد
(ص.)1085( )420
((( أخرجه أبو داود كتاب األطعمة باب ما جاء يف الدعاء لرب الطعام إذا ُأكل عنده ( ،)3854وصححه
صائما (ح.)1747
ً األلباين يف صحيح سنن ابن ماجه كتاب الصيام باب ثواب من فطر
((( أخرجه البخاري كتاب االستئذان باب االستئذان من أجل البصر ( .)6241ومسلم كتاب األب باب
تحريم النظر يف بيت غيره (.)2156
104
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
وعن عبداهلل بن بسر ﭬ قال :كان رسول اهلل ﷺ إذا أتى باب قوم لم يستقبل
الباب من تلقاء وجهه ،ولكن من ركنه األيمن أو األيسر ،ويقول« :السالم عليكم»،
ستور(((. ٍ
يومئذ وذلك أن الدُ ور لم يكن عليها
ٌ
فهذه ع َّلةٌ ،والع َّل ُة األخرى ربما كان أهل البيت ينتظرون قدوم ِّ
رب األسرة أو
ٍ
استعداد فتنكشف عورات البيت من ٍ
تحفظ وال أحدهم فظنوه القادم ففتحوا من غير
قِ َب ِل القادم ،بخالف ما إذا راعى األدب النبوي فلم يواجه بوجهه باب المستأذن عليه.
-5يحرم نظر الرجل يف بيت غيره إال بإذنه (غض البصر):
قال تعالى {ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ{ ...}...ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ.}....
وقد ب َّين النبي ﷺ تخصيص العقوبة عليه يف البيوت ،فعن أبي هريرة ﭬ عن
النبي ﷺ أنه قال« :من اطلع يف بيت قو ٍم بغير إذنهم ،فقد َحل لهم أن يفقئوا عينه»(((.
-6االستئذان ثالثا:
عن أبي موسى األشعري ﭬ قال :قال رسول اهلل ﷺ« :إذا استأذن أحدكم ثالثا
فلم يؤذن له فليرجع»((( .ويدخل يف ذلك َد ُّق الجرس ونحوه ،مع مراعاة الفصل بين
مرات القرع وذلك أدعى لالستعداد وعدم اإلزعاج.
ولكن هنا سؤال :إذا استأذن ثالثا فلم يؤذن له ،وظن أن استئذانه لم يسمع ،فماذا
يفعل المستأذن يف هذه الحالة؟
(( ( أخرجه أحمد يف المسند ( ،)17239والبخاري يف األدب المفرد مع اختالف لفظه( :أن النبي إذا أتى
وشمال ،فإن ُأذن له وإال انصرف) ( ،)1078وصححه اً با ًبا يريد أن يستأذن لم يستقبله ،جاء يمينًا
األلباين يف صحيح األدب (ص.)1078( )417
((( أخرجه مسلم كتاب األب باب تحريم النظر يف بيت غيره (.)2158
((( أخرجه مسلم كتاب اآلداب باب االستئذان (.)2153
105
دراسة موضوعات سورة النور
الجواب :قال بعض العلماء :يرجع عمال بظاهر الحديث ،وقال بعضهم :له أن
يزيد حتى يتحقق ويستيقن أن صوته ُس ِم َع((( ،ولكن األصل أال يزيد على ثالث« ،فإذا
لم يؤذن له بعد ثالث ظهر أن رب المنزل ال يريد اإلذن ،أو لعله يمنعه من الجواب
عذر ،فينبغي للمستأذن أن ينصرف ألن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل ،وربما
ٌ
يضره اإللحاح(((.
أما سن َّية التسليمات الثالث والرجوع بعد الثالثة ،فقد وردت يف حديث زيارة
النبي ﷺ لسعد ﭬ المتقدم يف أدب السالم وغيره.
-7التعريف بنفسه باالسم أو الكنية الصريحة المعروفة:
فال يقل المستأذن[ :أنا] إذا قيل من الطارق؟ ،وسبب ذلك أن قول المستأذن [أنا]
ليس فيه تعريف بالمستأذن ،فالجهالة باقية على حالها .فعن جابر ﭬ قال :أتيت
النبي ﷺ يف ٍ
دين كان على أبي ،فدققت الباب فقال« :من ذا؟» فقلت أنا .فقال« :أنا..
أنا »!!..كأنه كرهها(((.
«وإنما كره ذلك ألن هذه اللفظة ال ُيعرف صاحبها حتى ُيفصح باسمه أو كنيه
فكل ٍ
أحد ُي َع ِّب ُر عن نفسه بأنا ،فال يحصل هبا المقصود من مشهور هبا ،وإال َّ التي هو
ٌ
االستئذان الذي هو االستئناس المأمور به»(((.
مشتهرا
ً ولكن ال بأس أن يقول المستأذن :أنا فالن أو أبو فالن ،إذا كان معرو ًفا
بكنيته ،ألنه بذلك أزال اإلهبام عن نفسه ،ويذكر اسم أبيه إذا خشي وجود تشابه يف
األسماء ،ولم يحصل التميز بالصوت لكي يزيل االشتباه.
فتح الباري ( ،)29/11شرح حديث (.)6254 (( (
الجامع ألحكام القرآن (.)215/12 (((
أخرجه البخاري كتاب االستئذان باب إذا قال :من ذا؟ فقال :أنا ( ،)6250ومسلم كتاب اآلداب باب (((
كراهية قول المستأذن أنا ،إذا قيل من هذا (.)2155
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)37/6 (((
106
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
-8ينبغي للمستأذن أال يدق الباب بعنف:
لما يف ذلك من سوء األدب ،فعن أنس بن مالك أنه قال« :إن أبواب النبي ﷺ
كانت تقرع باألظافر»(((« .وهذا محمول منهم على المبالغة يف األدب ،وهو حسن لمن
قرب محله من بابه ،أما من بعد عن الباب بحيث ال يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب
أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه»(((.
-9إذا قال صاحب البيت للمستأذن ارجع فليرجع:
قال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ} .قال قتادة« :قال بعض المهاجرين :قد
طلبت عمري كله هذه اآلية فما أدركتها ،أن أستأذن على بعض إخويت فيقول لي ارجع
مسرور الستجابة أمر اهلل.
ٌ فرح
فأرجع وأنا مغتبط»((( أيٌ :
«واستعمل القرآن كلمة {ﭟ} مع أهنا قد ال تقال أبدً ا للزائر ،ولكن القرآن
ٍ
كلمة غيرها؛ كأن الكريم استعمل أبعد االحتماالت حتى ال يغضب المستأذن من أي
يقال :أنا مشغول ونحوها.(((».
بحسن نِ َّية ،فقد يكون ال يستطيع أن يبدي
ِ ويجب على القادم أن يستقبل رد أخيه له
للزائر سبب عدم استقباله .فاآلية تعني :ارجعوا دون أن تجدوا يف أنفسكم غضاضة،
ودون أن تستشعروا من أهل البيت اإلساءة عليكم أو النفرة منكم ،فللناس أسرار
وأعذار ،ويجب أن يرتك لهم وحدهم تقدير ظروفهم ومالبساهتم يف كل حين.
أخرجه البخاري يف األدب المفرد ( .)1080وقد أورده الحافظ بن حجر يف فتح الباري (.)38/11 (((
وصححه األلباين يف صحيح األدب المفرد (.)1080
فتح الباري ( ،)38/11شرح حديث (.)6250 (( (
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)41/6 (((
من لطائف التفسير (.)419/2 (((
107
دراسة موضوعات سورة النور
اً
فضل عن عامة وهذا األدب يكاد ينسى حتى بين الصالحين طالب العلم!!
الناس ،بل ربما أثاروا المحاكمات والخصومات ألن فال ًن َا َر َّد فالنًا أو لم يستقبله
ووضع فيها أسوأ االحتماالت واالهتامات ،ولذا ساءت عالقة الناس ببعضهم وتفرق
شمل كثير من األسر واإلخوان واألصدقاء بسبب ذلك!! حتى غلب على الناس اليوم
ترك هذا األدب والمجاملة المقيتة مع النكد وعدم االستئناس واالنبساط للضيف،
وانفجار األمور ألتفه األسباب وكل ذلك بسبب ترك األمر {ﭟ} ولذا فقدوا ما
بعدها {ﭢ ﭣ ﭤ} فرتكنا الزكاء والخير الذي جاء به العليم بأحوال عباده.
وهكذا يسري األدب المذكور يف اآلية على الهاتف والجوال ،وركوب السيارة
واالنتفاع بالمتاع وغيرها مما يلزم فيه االستئذان.
-10ال يدخل المستأذن الدار إن لم يكن بها أحد:
قال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ} .ألن ذلك ٍ
تعد على
حقوق اآلخرين «وذلك لما فيه من التصرف يف ملك الغير بغير إذنه فإن شاء أذن وإن
شاء لم يأذن»((( .ثم ختم اهلل اآلية بقوله{ :ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ} فهذا توعد ألهل
التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة(((.
-11جواز الدخول يف البيوت التي ليس فيه أحد إذا كان له فيها متاع:
كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة ،وقال بعض العلماء :هي بيوت
التجارة ومنازل األسفار((( .قال تعالى{ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ}.
(( ( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)41/6
((( الجامع ألحكام القرآن (.)220/12
((( تفسير القرآن العظيم البن كثير ( ،)41/6وكانت ُتسمى بالخانات ،واليوم يسموهنا فنادق ومنازل
المسافرين.
108
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
(((
«فإذا كان لك بعض أغراض أو منافع يف خربة((( أو خان((( أو فندق أو رباط
مخصص أو عام إذا كنت تستطيع أن تفتح وتدخل دون استئذان .لكن اآلية قد ختمها
اهلل بقوله {ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ} حتى ال يستغل الناس دخول
األماكن الخربة والخانات والفنادق واألربطة استغالال سيئا فيعصون اهلل فيها وهم
يتظاهرون أهنم نزالء ،(((».وذلك بشرط أن تكون مباحة مفتوحة ،فأما إذا كانت ذات
ٍ
وأبواب فال إال بإذن خاص لذلك. ناظر ،أو الدار ذات ٍ
سور حارس أو ق ّي ٍم أو ٍ
ٍ
-12االستئذان عند إرادة القيام واالنصراف من المجلس:
وهذا أدب نبوي رفيع ،يوجه الزائر إلى سلوك األدب يف االنصراف ،فكما أن
أيضا ،ولعل العلة يف ذلك -واهلل
دخولك كان باالستئذان فليكن انصرافك باالستئذان ً
أعلم هو خشية وقوع البصر على شيء ال يحل النظر إليه ،فعن ابن عمر ﭭ قال :قال
رسول اهلل ﷺ« :إذا زار أحدكم أخاه فجلس عنده ،فال يقومن حتى يستأذنه»(((.
وأيضا أن ذلك فيه احرتام لرب البيت ألن الزائر إذا خرج بدون استئذان فهذا يدل
ً
على عدم تقديره واهتمامه بصاحب البيت فعن أبي هريرة ﭬ قال :قال رسول اهلل
ﷺ« :إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ،فإذا أراد أن يقوم فليسلم ،فليست األولى
بأحق من األخرى»(((.
الخربة :البيت المهجور. (( (
والمدَ ائن.
رق َ ْدق بلغة َأهل الشام خان من هذه الخانات التي ينزلها الناس مما يكون يف ال ُّط ُ
خان و ُفن ٌ
ٌ (((
انظر :اللسان (.)313/10
رباط :هي األوقاف. (( (
من لطائف التفسير (.)419/2 (((
رواه أبوالشيخ يف تاريخ أصبهان ( ،)113وصححه األلباين يف السلسلة الصحيحة (.)182( )304/1 (((
أخرجه الرتمذي كتاب االستئذان باب التسليم عند القيام ( ،)2706وقال حديث حسن .وأبو داود (((
كتاب األدب باب يف السالم إذا قام من المجلس ( ،)5210وقال األلباين حسن صحيح ،والبخاري يف
األدب المفرد (.)1008
109
دراسة موضوعات سورة النور
-13االستئذان على األم ومن يف حكمها من المحارم:
كاألخت ،والعمة ،والخالة .....وذلك لكي ال يقع البصر على عورة ،أو هيئة
تكره النساء أن يراه ّن أحدٌ على تلك الحالة ،فقد سأل رجل حذيفة بن اليمان ﭬ
فقال :أأستأذن على أمي؟ فقال «إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره»(((.
ذكر ابن جرير« :وأخربين ابن طاووس عن أبيه قال :ما من امرأة أكره إلي من أن
أرى عورهتا من ذات محرم .قال :وكان يشدد يف ذلك»(((.
-14استحباب تنبيه الزوجة عند الدخول:
كي ال يرى الزوج ما يبغضه من زوجته ،أو تكون الزوجة على حال ال تود أن
يراها زوجها وهي عليها ،ولهذا جاء عن رسول اهلل ﷺ« :أنه كره أن يأيت الرجل أهله
ليال»(((.
ويف الحديث اآلخر :أن رسول اهلل قدم المدينة هنارا أناخ بظاهرها ،وقال (انتظروا
حتى ندخل عشاء -يعني آخر النهار -حتى تتمشط الشعثة وتستحد المغيبة)(((.
-15استئذان أهل البيت على بعضهم:
قال تعالى{ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ}
أخرجه البخاري األدب المفرد ( ،)1060وحسنه األلباين يف صحيح األدب المفرد (.)1060 (( (
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)39/6 (((
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب ال يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة (.)5243 (((
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب وتستحد المغيبة ،تمشط الشعثة (.)5247 (((
110
ذئتسالا بدأ :لوألا لصفلا يناثلا بابلا
«أمر اهلل تعالى المؤمنين أن يستأذهنم خدمهم مما ملكت أيماهنم ،وأطفالهم
الذين لم يبلغوا الحلم تنبيها على أن من بلغ الحلم من باب أولى أن يستأذن .وهذا
االستئذان يكون يف ثالث أحوال:
-أقبل صالة الفجر :ألن الناس يكونون نيا ًما يف فرشهم.
-بيف وقت القيلولة :ألن اإلنسان قد يضع ثيابه يف تلك الحال مع أهله.
-تومن بعد صالة العشاء :ألنه وقت نوم»(((.
وسيأيت الكالم مفصال على هذه اآلية يف موضوع (أحكام البيت المسلم).
الفصل الثاني
غض البصر وحفظ الفرج
الفصل الثاني :غض البصر وحفظ الفرج
قال تعالى {ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮌ ﮍ ﮎﮏ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ.}....
تب َّين لنا فيما سبق أن اإلسالم يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ،ال ُتهاج فيه
الشهوات ،وال تستثار فيه دفعات اللحم والدم ،فعمليات االستثارة المستمرة تنتهي
إلى سعار شهواين ال ينطفئ وال يرتوي ،والنظرة الخائنة ،والحركة المثيرة ،والزينة
المتربجة ،والجسم العاري ،كلها ال تصنع إال أن هتيج ذلك السعار.
ومن إحدى وسائل اإلسالم يف إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون االستثارة،
وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليما وبقوته الطبيعة دون استثارة مصطنعة.
ولذا جاء األمر بغض البصر تحقيقا لقاعدة[ :الوقاية خير من العالج].
وإليك بيان ذلك من خالل داللة اآليات الكريمة يف هذه السورة:
112
جرفلا ظفحو رصبلا ضغ :يناثلا لصفلا يناثلا بابلا
املبحث األول
األمر بغض البصر
املبحث الثاني
فوائد غض البصر
خيرا
هناك قاعدة جلية يف شرعنا الحنيف وهي أن [من ترك شيء هلل عوضه اهلل ً
منه]((( .ومن تطبيقاهتا هنا أن الذي يغض بصره تحصل له فوائد كثيرة سواء يف الدنيا
أو اآلخرة.
«والغض عن المحارم يوجب حالوة اإليمان ،ومن ترك شيئا هلل عوضه اهلل خيرا
منه ،ومن أطلق لحظاته دامت حسراته؛ فإن النظر يولد المحبة يف القلب ،ثم تقوى
فتصير صبابة ينصب إليه القلب بكليته فيصير غراما يلزم القلب كلزوم الغريم ،ثم يقوى
فيصير عشقا :وهو الحب المفرط ،ثم يقوى فيصير شغفا :وهو الحب الذي وصل إلى
شغاف للقلب ودواخله ،ثم يقوى فيصير تتيما والتتيم :التعبد ،فيصير الم َت َت ِّيم عبدً ا إلى
من ال يصلح أن يكون هو عبدً ا له ،فيقع القلب يف األسر فيصير أسيرا بعد ما كان أميرا
ومسجونا بعد ما كان طليقا»(((.
ويلخص فوائد غض البصر ابن تيمية وتلميذه رحمهما اهلل تعالى« :جعل اهلل
الزكاة بغض البصر وحفظ الفرج ولهذا كان غض البصر يوجب فوائد:
1 -1حالوة اإليمان ولذته.
2 -2نور القلب وصحته وفراسته :فاإلنسان كما أمسك نور بصره عن المحرمات
أطلق اهلل نور بصيرته وقلبه ،فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن
محارم اهلل.
(( ( فتح الباري ( )171/3و( ،)235/9وشعب اإليمان للبيهقي ( .)53/5وفيض القدير (.)530/1
((( فيض القدير (.)530/1
116
جرفلا ظفحو رصبلا ضغ :يناثلا لصفلا يناثلا بابلا
3 -3قوة القلب وثباته وشجاعته :ولهذا وجد المتبع هواه من ذل النفس وضعفها
ومهانتها ما ال يلقاه من يصرب على ذلك ،فإن اهلل سبحانه جعل العزة لمن أطاعه،
والذلة لمن عصاه»(((.
«4-4غض البصر هو امتثال ألمر اهلل تعالى.
5-5غض البصر يخلص القلب من ألم الحسرة ،فمن أطلق بصره دامت حسرته.
6 -6يفرغ القلب للتفكر يف مصالحه واالشتغال هبا وإطالق البصر يشتت عليه ذلك»(((.
ملخصا.
ً (( ( مجموع الفتاوى البن تيمية ( ،)426-420/15وإغاثة اللهفان ()48/1
((( انظر :مجموع الفتاوى البن تيمية ( ،)420/15وروضة المحبين البن القيم ( ،)102-90والجواب
الكايف (.)208-205
117
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثالث
األمر حبفظ الفروج
(( ( أخرجه مسلم كتاب الحج باب حجة النبي ﷺ ( )1218من حديث جابر بن عبداهلل يف حجة الوداع.
((( األم (137/5و ،)214والمهذب ( ،)334/3وسنن البيهقي ( ،)199/7والجامع ألحكام القرآن
للقرطبي ( 98-97/12و ،)221وبدائع الفوائد (.)905/4
120
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
الفصل الثالث
الزينة وأحكام إظهارها
الفصل الثالث :الزينة وأحكام إظهارها
املبحث األول
أهمية الزينة يف حياة املرأة
لقد جاء اإلسالم برفع ذوق المجتمع المسلم ،وزاد من إحساسه بالجمال،
وارتقى بالمسلم والمسلمة من الطابع الحيواين للجمال إلى الطابع اإلنساين المهذب،
ولذا فإن كشف الجسد جمال حيواين ،وأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف الذي
يرفع الذوق الجمالي وينميه عند اإلنسان ،ويحيطه بالنظافة والطهارة يف الواقع ويف
الحس ويف الخيال.
ولذا أمر الشارع بسرت العورات والتجمال بالزينة فقال تعالى{ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ} إلى أن قال سبحانه{ :ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ} [األعراف.]32-26:
وامت َّن عليهم بأنواع الحلي فقال تعالى{ :ﯠ ﯡ} [الرعد{ ،]17:ﯣ ﯤ
ﯥ} [النحل{ ،]14:ﭢ ﭣ ﭤ} [فاطر ،]12:قال السعدي« :فتزيدكم
اً
جمال وحسنًا إلى حسنكم»((( ،وقال المفسرون« :وتستخرجوا منه زينة تلبسوهنا
وتلبسها نساؤكم»((( ،وقال الزمخشري« :المراد بلبسهم :لبس نسائهم؛ ألهنن من
جملتهم ،وألهنن إنما يتز َّين هبا من أجلهم فكأهنا زينتهم ولبساهم»(((.
فالزينة من األفعال المحمودة بل هي من األفعال التي حث عليها شرعنا الحنيف
(( ( تيسير الرحمن ،للسعدي (ص.)437
((( المختصر يف التفسير (ص.)268
((( الكشاف ( ،)598/2وانظر :أنوار التنزيل ،للبيضاوي ( ،)222/3والبحر المحيط (.)465/5
122
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
فقد ثبت عن رسول اهلل ﷺ أنه قال« :إن اهلل جميل يحب الجمال»((( ،فاإلسالم يحث
على الزينة سواء للرجال أو النساء ،ولكن الزينة يف جانب النساء خاصة جبلة وطب ًعا،
تنظيما وضب ًطا لها ال من ًعا
ً ولذا خصت النساء هبذه األحكام دون الرجال حسب الغالب
لها ،وإن كان مقصود الشارع دفع الفتنة فلو تزين الرجل قصد فتنة النساء به فإنه يحرم
عليه ذلك بال خالف.
والزينة هي حلي ُة المرأة ،جعلها اهلل تلبي ًة لفطرهتا ِ
وجبِ َّلتها {ﭐﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ} [الزخرف]١٨ :
فكل أنثى مولع ٌة بأن تكون جميلةً ،وأن تبدوا بزينتها ،واإلسالم لم يقاوم هذه
ٍ
واحد هو الفطرة ،ولكنه نظمها وضبطها ،وجعلها تتبلور يف االتجاه هبا إلى رج ٍل
زوجها؛ في َّطلِع منها على ماال ي َّطلِع أحد سواه .ويشرتك معه يف اال ِّطالع على بعض
تلك الزينة المحار ُم ،والذكور الذين ب َّينهم الشارع ،ممن ال يثير شهواهتم ذلك االطالع.
وجمال الحشمة هو الجمال النظيف الذي يرفع الذوق الجمالي ،ويجعله الئ ًقا
باإلنسان ،ويحيطه بالنظافة والطهارة يف الحس والخيال ،وهذا التحشم وسيل ًة من
وسائل الوقاية للفرد والجماعة من الوقوع يف الرذيلة والطابع الحيواين المقيت.
«والزينة على قسمين َخلقية و ُمكتسبة؛ فالخلقية :وجهها فإنه أصل الزينة وجمال
لي
والح ِّ
ُ الخلقة ،وأما المكتسبة :فهو ما تحاوله المرأة يف تحسين خلقتها ،كالثياب
ِ
والخضاب»(((. وال ُكحل
(( ( أخرجه مسلم كتاب اإليمان باب تحريم الكرب وبيانه (.)91
((( الجامع ألحكام القرآن (.)229/12
123
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثاني
أحكام إظهار الزينة
ذكرنا أن الزينة من األمور المباحة للمرأة ،وقد تصل إلى حد الوجوب حين
يحتاج الزوج من زوجته أن تتجمل وتتزين له((( ،وقد تضمنت اآلية بعض األمور
واألحكام يف إبداء تلك الزينة ،ومنها:
املطلب األول
الزينة اليت جيوز إبدائها
اختلف العلماء يف قوله تعالى{ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ} على أقوال كثيرة ،ولكن مع
كثرة األقوال يمكن أن نخرج بمجمل القول يف تلك المسألة وهو« :أن المرأة منهي ٌة
ٍ
عن إبداء زينتها مطل ًقا ،لكن ما ظهر من الزينة من غير قصد إلظهاره فهو ٌ
معفو عنه»(((.
وهذا القول رجحه ابن عطية حيث قال« :ويظهر لي أن المرأة مأمورة بأن ال تبدي
وأن تجتهد يف اإلخفاء لكل ما هو زينة ،ووقع االستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة
فيما ال بد منها أو إصالح شأن ونحو ذلك»(((.
ثم قال تعالى{ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ}:
(( ( فالمرأة مأمورة بطاعة زوجها وعدم معصية أمرة واألدلة يف ذلك كثيرة ،فإذا أمرها بالتزين له فقد
وجب عليها ذلك ،ولكن إن أمرها أن تتزين لتستقبل أصحابه أو يحرج هبا إلى خارج البيت يرها
كل الناس فهذا ممال ال يجوز لها أن تطيعه فيه .واهلل أعلم.
((( نقال عن كتاب تفسير سورة النور -د .ناصر بن محمد الحميد.
((( المحرر الوجيز (.)178/4
124
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
ُ
الخ ُمر« :جمع خمار وهو ما تغطى به الرأس ،والجيوب :أي صدورهن»(((« .أي
ليشددن بخمرهن على النحر والصدر فال ُي َرى منه شيء»(((.
وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة ڤ أهنا قالت :يرحم اهلل نساء المهاجرات
األول لما أنزل اهلل{ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ} شققن مروطهن فاختمرن هبا(((.
املطلب الثاني
من جيوز للمرأة أن تبدي زينتها عنده
ثم شرع اهلل گ يف ذكر من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها عنده على األولوية،
فقال تعالى { :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ}.
هذا االستثناء يف اآلية لبيان الحصر لما هو خالف األصل ،وأنه ال يجوز الرتخص
فيه لغير من رخص اهلل له ،فأول المستثنين هو الزوج{ :ﮧ ﮨ} :البعل هو
الزوج يف كالم العرب»(((.
«وإِنما سمي زوج المر َأة َب ْع اًل ألَنه سيدها ومالكها ،و َت َب َّع َلت المر َأ ُة َأطاعت َب ْع َلها،
طاوعة لزوجها م ِ
ح َّبة له ،وال َب ْعل تزينت ،وامر َأة َح َسنَة ال َّت َب ُّعل :إِذا كانت ُم ِ
ْ و َت َب َّع َلت له
ُ
وس ْين ،والتَّباعل والبِعال: ِ
وال َّت َب ُّعلُ :ح ْسن الع ْشرة من الزوجين والبِعال :حديث ال َع ُر َ
ُباشرة ،ويقال للمر َأة هي المرء َأه َله ،وقيل البِعال :النكاح ،والمـُبا َعلة :المـ َ ِ مالعبة
عال و ُمبا َعلة َأيُ :تالعبه»(((. ُت ِ
باعل َز ْو َجها بِ اً
«فالزوج يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدهنا حالل له لذة
أيضا بدأ بالبعولة ،ألن اطالعهم يقع على أعظم من هذا((( ،يقول
ونظرا ،ولهذا المعنى ً
ً
الشوكاين« :وقدم البعولة ألهنم المقصودون بالزينة وألن كل بدن الزوجة والسرية
حالل لهم»(((.
فتح القدير (.)209/5 (( (
لسان العرب (.)57/11 (((
مختصرا.
ً الجامع ألحكام القرآن ()231/12 (((
فتح القدير (.)209/5 (((
126
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
فالزوجة مطالبة بأن تبدي زينتها لزوجها وأن تتزين له بما يلفت نظره إليها بأي
أنواع الزينة بشرط أال تكون محرمة ،وقد أمرها النبي ﷺ بذلك فقال« :خير النساء التي
تسره إذا نظر ،وتطيعه إذا أمر ،وال تخالفه يف نفسها وال مالها بما يكره»(((.
ولم يذكر هنا العم والخال ألهنما قد يصفاهنن ألبنائهم ،كما ورد ذلك عن الشعبي
وعكرمة((( ،وقد يكون لغير ذلك مما ال نعلمه.
«والظاهر أن سكوت اآلية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية
المحارم ولكنه اقتصار على الذين يكثر دخولهم بيت المرأة ،وأيضا يلحق هبؤالء
القرابة من كان يف مراتبهم من الرضاعة لقول النبي ﷺ« :يحرم من الرضاعة ما يحرم
من الوالدة»(((»(((.
{ﯜ ﯝ} أي« :تظهر زينتها للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئال
تصفنهن لرجالهن من بني دينهن ،ألهنن ال يمنعهن من ذلك مانع ،وأما المسلمة فهي
تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه ،فقد قال رسول اهلل ﷺ« :ال تباشر المرأ ُة المرأةَ ،تنعتها
أخرجه أحمد ( )7421( )383/12و( ،)9658 ،9587والنسائي كتاب النكاح باب أي النساء خير (((
( ،)3231( )68/6والحاكم يف المستدرك ( ،)162/2وصححه األلباين يف النسائي ،وصحيح الجامع
(.)3298
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)47/6 (( (
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ( .)5099ومسلم كتاب (((
الرضاعة باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الوالدة (.)1444
التحرير والتنوير (.)213/18 (((
127
دراسة موضوعات سورة النور
لزوجها كأنه ينظر إليها»(((»(((.
{ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ} أي المملوك يجوز أن ينظر لسيدته« .وظاهر اآلية يشمل
العبيد واإلماء ،المسلمات والكتابيات»(((.
{ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ} أي الذين ليس لهم حاجة يف النساء،
فاإلربة :هي الحاجة .وقد اختلف العلماء يف من هم أولي اإلربة؟ فقيل :المجنون
والمخصي((( ،والم َخن ُّث(((ِ ،
والعنِّي ُن((( ،وكل هذه الصفات تجتمع يف أنه ال همة له إلى ُ
أمر النساء(((.
{ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ} :يعني لصغرهم ال يفهمون أحوال
النساء وعوراهتن ،من فهم كالمهن الرخيم وحركاهتن ،فإذا كان الطفل ال يفهم ذلك
فال بأس بدخوله على النساء ،فأما إن كان مراه ًقا أو قري ًبا من المراهقة فال يجوز له أن
يدخل على النساء.
قال ﷺ« :إياكم والدخول على النساء» قالوا يا رسول اهلل ،أرأيت الحمو؟ قال:
«الحمو الموت»(((.
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب :ال تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها (.)5241 (( (
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)47/6 (((
الجامع ألحكام القرآن (.)233/12 (((
ِ ِ
المخصيَ :خ َص ْي ُت ال َف ْح َل َأ ْخصيه إذا َس َل ْل َت الخصاء :خصيت الفحل خ َصا ًء بالكسر َ
والمدّ :إذا (((
سللت ُخ ْص َي ْيه وهي أنثييه أو قطعتهما ،فهو خصي .انظر :مختار الصحاح ( ،)188ومعجم لغة
الفقهاء ( ،)196والمخصص (.)118/1
ٍ
ص ل َذكَر وال ُأنثى ِ
والخنْ َثى الذي له ما للرجال والنساء جمي ًعا. ُ الخنْ َثى الذي ال َي ْخ ُل ُ
الـمخنثُ :
ُ (((
اللسان (.)145/2
ِ
وامر َأ ٌة عنِّينَ ٌة ال تشتهي الرجال. ِ
العنين :رجل عني ٌن ال يقدر على إتيان الن َِّساء أو ال يشتهي النِّساء َ (((
انظر :المصباح المنير ( ،)392/6والمخصص ( ،)444/1والمحكم المحيط (.)30/1
الجامع ألحكام القرآن ( )234/12بتصرف. (( (
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب ال يخلوا رجل بامرأة إال ذوا محرم ( .)5232ومسلم كتاب= (((
128
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
فهؤالء الذين يجوز للمرأة إظهار زينتها أمامهم ،لقلة توقع الفتنة منهم يف األصل.
سوى اهلل
ّ وقد نبه اإلمام القرطبي إلى أمر مهم جدا وهو« :أن هؤالء المحارم وإن
سبحانه بينهم يف إبداء الزينة ،ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما يف نفوس البشر ،فال
مرية أن كشف األب واألخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها ،وتختلف مراتب
ما ُي َبدى لهمَ ،ف ُي َبدى لألب ما ال يجوز إبداؤه لولد الزوج»(((.
املطلب الثالث
البعد عن دواعي إبداء الزينة لغري احملارم
ثم قال تعالى{ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ}« :أي ال تضرب
المرأة برجلها لتسمع صوت خلخالها فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد»(((.
«ويف النهى عن إبداء صوت الحلى بعد النهى عن إبداء عينها من المبالغة يف
الزجر عن إبداء موضعها ماال يخفى»(((.
«ولما كانت الوقاية هي المقصود هبذا اإلجراء الوقائي من منع كشف الزينة
لغير المحارم ،فقد مضت اآلية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة
المستورة ،وهتيج الشهوات الكامنة.
فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى يف إثارة الشهوات من العيان ،وكثيرون تثير
شهواهتم رؤية حذاء امرأة أو ثوهبا أو حليها ،أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته،
وسماع وسوسة الحلي أو شمام رائحة العطر من بعيد قد يثير حواس رجال كثيرين،
ويهيج أعصاهبم ،ويفتنهم فتنة جارفة ال يملكون لها ردا»(((.
ولهذا جاء النهي من اهلل تعالى ألنه هو الذي خلق تلك النفس ويعلم ضعفها وما
ُي َؤ ِّثر فيها.
فإن ذلك يورث ميال يف الرجال ،وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على
المنع من رفع الصوت(((.
الجامع ألحكام القرآن (.)237/12 (( (
إرشاد العقل السليم -أبو السعود (.)171/6 (((
انظر :روح المعاين -األلوسي ( )146/18بتصرف. (((
انظر :أنوار التنزيل البيضاوي ( ،)183/1إرشاد العقل السليم -أبو السعود (.)171/6 (((
130
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
و«مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها:
-1ما يلبسه أكثر مرتفات النساء يف زماننا فوق ثياهبن ويتسرتن به إذا خرجن من
بيوهتن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية
ما يبهر العيون ،وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم -من أوليائهن -لهن من الخروج
بذلك ومشيهن به بين األجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك»(((.
«-2ومن ذلك أهنا ُتنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ل َي ْشت ََّم الرجال
طيبها»((( ،وقد هنى النبي ﷺ عن أن تخرج المرأة متعطرة ،فقال ﷺ« :والمرأة إذا
استعطرت ،فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية((( ،فكل ما كان سب ًبا يف لفت
األنظار وإظهار الزينة فهو منهي عنه شرعا.
-3ومن ذلك رقص النساء يف مجالس الرجال ...وقد أومأ إلى علة ذلك قوله
تعالى{ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ}(((.
-4وقد لعن النبي ﷺ المستوشمات والمتفلجات للحسن ،عن عبداهلل بن
مسعود ﭬ قال« :لعن اهلل الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات
للحسن المغيرات خلق اهلل تعالى»؛ ما لي ال ألعن من لعن النبي ﷺ!! وهو يف كتاب
اهلل{ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ} ..إلى {ﮧ}((( [سورة الحشر.]7 :
روح المعاين -األلوسي (.)146/18 (( (
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)49/6 (((
أخرجه الرتمذي كتاب األدب باب ما جاء يف كراهية خروج المرأة متعطرة ( ،)2786من حديث (((
أبي هريرة .وقال الرتمذي هذا حديث حسن صحيح .وصححه األلباين يف صحيح سنن الرتمذي
(.)2238
التحرير والتنوير (.)214/18 (( (
أخرجه البخاري كتاب التفسير باب ماآتاكم الرسول ( ،)4604وكتاب اللباس باب المتفلجات (((
للحسن ( 5587و 5599و ،)5604ومسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم فعل الواصلة (.)2125
131
دراسة موضوعات سورة النور
« -5وعلى هذا فيحرم رفع صوت المرأة بالغناء إذا سمعها األجانب ،سواء أكان
الغناء على آلة لهو أو كان بغيرها ،وتزيد الحرمة إذا كان الغناء مشتمال على أوصاف
مهيجة للشهوة كذكر الحب والغرام وأوصاف النساء والدعوة إلى الفجور وغير
ذلك»(((.
-6وأمر النساء بعدم إبداء الزينة إال لمن استثنى؛ يشير إلى أنه ال ينبغي لمن
تزينت بزينة ُي َس ُّر هبا أن ُتظهرها بالحديث والوصف أو الصورة لغير المحارم ،أولمن
ال يسرتها -من المحارم -عن األجانب ،وأنه ال يجوز لزوجها -وغيره من باب أولى
-إظهارها كذلك لعموم اآلية وهني النبي ﷺ كما يف حديث« :ال تباشر المرأة المرأة
فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها»((( ،وحديث« :إن من أعظم األمانة عند اهلل يوم القيامة
الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها»(((.
«قال القابسي هذا أصل لمالك يف سد الذرائع فإن الحكمة يف هذا النهي خشية
أن يعجب الزوج الوصف المذكور فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو االفتتان
بالموصوفة»(((.
-7ومن إبداء ما خفي من الزينة الحسية والمعنوية {ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ} [سورة األحزاب ،]33 وهو :التبخرت والتكسر يف الحركة والمشية كما نص عليه
السلف رحمهم اهلل تعالى(((.
-8ومنه لبس المرأة المالبس الضيقة التي تبدي مفاتنها ،وأشد منه أن تلبس
الفقه على المذاهب األربعة (.)26/5 (( (
أخرجه البخاري كتاب النكاح باب ال تباشر المرأة المرأة فتنعتها ( 5240و.)5241 (((
أخرجه مسلم كتاب النكاح باب تحريم إفشاء سر المرأة (.)1437 (((
فتح الباري (.)250/9 (((
جامع البيان البن جرير ( ،)97/19وزاد المسير ( ،)380/6وتفسير القرآن العظيم البن كثير (.)410/6 (((
132
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
المرأة المالبس التي يبدوا فيها شيء من جسدها كالظهر والبطن ،والفخذين وجز ًءا
من الصدر(((.
-9ومنه التربج بالزينة :التحلي بما ليس من العادة التحلي به يف الظاهر من تحمير
وتبييض وكذلك األلوان النادرة(((.
والحاصل:
أن اآلية عامة للنساء ويف كل ما يظهر الزينة عمدً ا وألي ٍ
علة كانت ،وللرجال َّ ُ ّ
فرحا بحليهن فهو ٍ
أيضا ،وإن اختلف إثم كل مسألة بحسبها فـ«من فعل ذلك منهن ً ً
وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم ،وكذلك من
ً تربجا
مكروه ،ومن فعل ذلك منهن ً
ضرب بنعله من الرجال إن فعل ذلك تعج ًبا حرم ،فإن العجب كبيرة ،وإن فعل ذلك
تربجا لم يجز»((( .وسواء كان اإلظهار بالرؤية أو السماع أو غيرهما «هنى اهلل تعالى
ً
عما يوجب العلم بالزينة الخفية بالسمع أو غيره»(((.
ثم يختم اهلل تعالى هذا التوجيه بقوله{ :ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ
ﰂﰃ} أي« :افعلوا ما أمركم اهلل به من هذه الصفات الجميلة واألخالق
الجلية ،فإن الفالح يف فعل ما أمر اهلل به ورسوله وترك ما هنيا عنه»(((.
عما يف الحال ،وعن ابن عباس رضي اهلل تعالى
«والمراد بالتوبة على هذا :التوبة َّ
عنهما أن المراد :التوبة عما كانوا يفعلونه قبل من إرسال النظر ،وغير ذلك .وهو وإن
ب باإلسالم لكنه يلزم الندم عليه ،والعزم على الكف عنه ،كلما ُيت ََذكَّر .وقد قالوا:
ُج َّ
لالستزادة أنظر :أحكام الحجاب من موضوعات سورة األحزاب للباحث. (( (
التحرير والتنوير (.)298/18 (((
الجامع ألحكام القرآن (.)205/12 (((
مجموع الفتاوى (.)372/15 (((
تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)50/6 (((
133
دراسة موضوعات سورة النور
ٍ
خطيئة إذا تذكرها .ومنه ُيعلم أن ما يفعله كثير ممن يزعمون إن هذا يلزم كل ٍ
تائب عن
التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبجح واالستلذاذ؛ عن عدم صدق
توبتهم»(((.
يقول شيخ اإلسالم « :$إن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة يف هذا السياق :تنبي ٌه
على أنه ال يخلو مؤمن من بعض الذنوب؛ التي هي ترك غض البصر ،وحفظ الفرج،
وترك إبداء الزينة ،وما يتبع ذلك .فعن النبي ﷺ أنه قال« :كل ابن آدم خ َّطا ٌء وخير
الخطاءين التوابون»(((.
وعن أبي ذر ﭬ أن رسول اهلل ﷺ قال« :يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار،
وأنا أغفر الذنوب جميعا ،فاستغفروين أغفر لكم»(((»(((.
األغر رضي اهلل تعالى عنه :قال سمعت رسول اهلل صلى اهلل تعالى عليه
ِّ وعن
وسلم يقول« :يا أيها الناس توبوا إلى اهلل فإين أتوب إليه كل يوم مائة مرة»(((.
«ويف األمر بالتوبة تنبيه على أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارهم ولم
يحفظوا فروجهم مأمورون بالتوبة ،وإنما أمروا بالتوبة لتقبل منهم ،فالتوبة مقبولة منهم
ومن سائر المذنبين ،قال تعالى{ :ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ} [سورة التوبة.(((»]104
روح المعاين -األلوسي (.)146/18 (( (
أخرجه الرتمذي كتاب صفة القيامة باب ( .)2499( )49وابن ماجه كتاب الزهد باب ذكر التوبة (((
( .)4251وحسنه األلباين يف صحيح سنن ابن ماجه (.)4251
أخرجه مسلم كتاب الر والصلة واآلداب باب تحريم الظلم (.)2577 (( (
مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية ( )409-403/15مختصرا. (((
أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء واالستغفار باب استحباب االستغفار ( ،)2702والبخاري كتاب (((
الدعوات باب استغفار النبي ﷺ يف اليوم والليلة ( )5948بلفظ( :واهلل إين ألستغفر اهلل وأتوب إليه
يف اليوم أكثر من سبعين مرة).
مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية (.)403/15 (((
134
اهراهظإ ماكحأو ةنيزلا :ثلاثلا لصفلا يناثلا بابلا
ويالحظ يف أسلوب اآلية «تلوين للخطاب وصرف له عن رسول اهلل ﷺ إلى
الكل بطريق التغليب إلبراز كمال العناية بما يف حيزه من أمر التوبة وأهنا من معظمات
المهمات الحقيقية بأن يكون گ اآلمر هبا لما أنه ال يكاد يخلو أحد من المكلفين عن
نوع تفريط يف إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي ال سيما يف الكف عن الشهوات
ويف تكرير الخطاب بقوله تعالى {ﯿ ﰀ} تأكيد لإليجاب وإيذان بأن
وصف اإليمان موجب لالمتثال حتما»(((.
املطلب الرابع
حتريم زينة القول
الكريم ﷺ ،وأنه ال طهارة من الدنس ،وال تخلص من الرجس؛ حتى تمتنع األسباب
المثيرة من األساس.
عصر غلب فيه الدنس وكثر
ٌ فكيف حال المجتمع الذي نعيش فيه اليوم!! وهو
الكالم الهابط ،وتنوعت أساليب هتييج الفتن فيه ،وتثوير الشهوات ،وطغت فيه
يتكسرن يف نرباهتن،
َّ سهل فيه الضياع ،فنساء
األطماع؟ كيف بنا يف هذا الزمان الذي ُ
ٍ
سعار ٍ
هتاف للشهوات ،وكل ويتم َّيعن يف أصواهتن ،ويجمعن كل فتنة األنوثة ،وكل
محموم ،ثم يطلقنه يف نربات ونغمات ،فأين هن من الطهارة؟! وكيف يحصل الطهر يف
هذا الجو الملوث؟! وه َّن بذواهتن وحركاهتن وأصواهتن يجلبن ذلك الرجس الذي
يريد اهلل أن ُي ْذ ِهبه عن عباده المسلمين.
ثم يأمر اهلل تعالى النساء إذا احتجن إلى الحديث مع الرجال للضرورة أن يتكلمن
بالمعروف ،فقال تعالى{ :ﭲ ﭳ ﭴﭵ} [سورة األحزاب« :]22 قوال حسنا جميال
جاف كما أنه ليس ٍ
بلين خاضعٍ»(((. ٍ ل غلي ًظا وال
معروفا يف الخير»(((« ،فال تقلن قو اً
واهلل أعلم.
فائدة لطيفة:
«قال مكي رحمه اهلل تعالى :ليس يف كتاب اهلل تعالى آية أكثر ضمائر من هذه،
ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع»(((.
ً جمعت خمسة وعشرين
املبحث الثالث
خطورة االختالط
إن االختالط من األمور التي نبهنا اهلل تعالى على حرمتها ،حيث أنه من أهم
األسباب الميسرة للفاحشة ،فقد قال رسول اهلل ﷺ« :إياكم والدخول على النساء»
قالوا يا رسول اهلل ،أرأيت الحمو؟ قال« :الحمو الموت»(((.
هذا التحريم يف جهة األقارب ،فما بالك بغيرهم من الناس الذين ليسوا من
العائلة!! إن التحريم يكون أشد بال شك.
ومعنى الحمو الموت« :أن الخوف منه أكثر من غيره ،والفتنة أكرب ،لتمكنه من
الوصول إلى المرأة والخلوة هبا ،من غير أن ينكر عليه أحد ،بخالف األجنبي ،وكذلك
قد تتساهل المرأة بكشف زينتها أمامه وإبداء مفاتنها له ،مما يؤدي إلى الفتنة والهالك
يف الدين فجعله عليه الصالة والسالم كهالك الموت»(((.
وهذا الحديث مفسر لآلية وهو أصل يف النهي عن االختالط بالرجال األجانب
وخصوصا األقارب منهم الذين ال يتصور منهم ذلك الفساد والشر غال ًبا،
ً عمو ًما،
ألن كثرة المخالطة والمجالسة تدعوا لنزع الهيبة واجرتاء المحرمات المنهي عنها
يف اآليات ،فيكثر إطالق البصر ،ورؤية الزينة ،بل والخضوع يف القول ولين الكالم،
ناهيك عما يحصل من المجاملة والمضاحكة والتكسر واستجالب الزينة يف الملبس
والحركات والروائح ،وهذا هو المشاهد الحاصل اليوم ،نسأل اهلل العفو والعافية.
الفصل الرابع
الزواج سنة إهلية
الفصل الرابع :الزواج سنة إهلية
املبحث األول
األمر بالزواج واحلث عليه
هذه اآليات فيها األمر بالزواج ،و«أمر بالتزويج ،وقد ذهب طائفة من العلماء إلى
وجوبه على كل قادر عليه»((( ،والخطاب هنا لألولياء أن يزوجوا الحرائر واألحرار(((.
واأليامى :جمع َأ ِّي ٍم ،واأليم كل من ال زوج له من الرجال والنساء سواء كان ً
بكرا
أم ث ِّي ًبا(((.
أما قوله{ :ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ} «أي :زوجوا أيضا الصالحين من
عبادكم وإمائكم ،فالزواج حق اإلنسان سواء كان حرا أو عبدا ،ذكرا أو أنثى»(((.
وقد ورد يف الحث على الزواج أحاديث كثيرة ومنها :حديث عبد اهلل بن مسعود
ﭬ أن النبي ﷺ قال« :يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج ،ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»(((.
(( ( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)51/6
((( الجامع ألحكام القرآن ( )240-239/12بتصرف.
((( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)51/6
(( ( موضوعات القرآن -سورة النور (.)56
((( أخرجه البخاري كتاب الصيام باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة ( .)1905ومسلم كتاب=
142
يهلإ ةنس جاوزلا :عبارلا لصفلا يناثلا بابلا
واهلل تعالى رتب األجر والثواب على الزواج كما ثبت من حديث أبي ذر ﭬ
وفيه قول النبي ﷺ« :ويف بضع أحدكم صدقة» ،قالوا يا رسول اهلل :أيأيت أحدنا شهوته
ويكون له فيها أجر؟ فقال عليه الصالة والسالم« :أرأيتم لو وضعها يف حرام أكان
عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها يف الحالل كان له أجر»((( .وقال النبي ﷺ« :أما إين
واهلل ألخشاكم هلل واتقاكم له لكني أصوم وأفطر ،أصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن
رغب عن سنتي فليس مني»((( ،وهنى ﷺ عن التبتل فعن سعد بن أبي وقاص قال «رد
رسول اهلل ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له الختصينا»(((.
{ﭡ ﭢ ﭣﭤ} أي :أن اهلل تعالى فضله واسع ،وهو أعلم بأحوالكم وما
يصلح حالكم وما تحتاجون إليه.
= يف السنن الكربى باب المكاتب ( ،)4995وابن ماجه كتاب العتق باب المكاتب ( .)2518أحمد يف
المسند ( ،)9626 ،7410( )251/2حسنه األلباين يف صحيح سنن الرتمذي ( .)1352وصحيح سنن ابن
ماجه ( ،)2518واألرنؤوط يف تعليق المسند.
144
يهلإ ةنس جاوزلا :عبارلا لصفلا يناثلا بابلا
املبحث الثاني
حكمة الشارع يف الزواج
ٍ
كثيرة جدً ا منها ما علمناها ومنها ما لم ٍ
وحكم ٍ
ألسباب شرع اهلل سبحانه الزواج
نعلمها ،وقد اجتهد العلماء يف استنباط حكم الزواج من القرآن والسنة والواقع الذي
نعيشه ،ويمكن أن نجمل هذه ِ
الح َكم يف النقاط التالية:
1 -1المحافظة على النوع اإلنساين:
فمن البديهيات التي ال تقبل الجدل أن الزواج أفضل طريق إلى تكاثر النسل
اإلنساين ،وعامل أساسي يف استمراره وبقائه إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها،
ولقد نوه القرآن الكريم عن هذه الحكمة االجتماعية البالغة حين قال{ :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ} [سورة النساء،]1
وقال تعالى{ :ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ}
[سورة النحل{ .]72ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏﮐ} [سورة االعراف.]189
ويف كثرة النسل من المصالح العمة والمنافع الخاصة مما جعل النبي ﷺ يقول:
«تزوجوا الودود الولود فإين مكاثر بكم األمم يوم القيامة»(((.
((( أخرجه أبو داود كتاب النكاح باب من تزوج الودود ( ،)2050والنسائي يف الكربى ( ،)5323وابن حبان يف
وحسنه الهيثمي يف المجمع (.)258/4
صحيحه ( )4065و( ،)4057وأحمد يف المسند (َّ ،)12634( )158/3
وعلق األرنؤوط :صحيح لغيره وهذا إسناد قوي ،وصححه األلباين يف صحيح أبي داود (.)1805
145
دراسة موضوعات سورة النور
2 -2إشباع الغريزة الجنسية:
دائما يف إيجاد
«الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعنفها ،وهي تلح على صاحبها ً
مجال لها :فما لم يكن َث َّمة ما يشبعها انتاب االنسان الكثير من القلق واالضطراب
ونزعت به إلى شر كبير ،والزواج هو أحسن وضع طبيعي ،وانسب مجال حيوي
إلرواء الغريزة وإشباعها»((( ،قال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ} [سورة البقرة{ .]187 ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ} [سورة األعراف.]189
3 -3السكن الروحي والنفسي:
فإذا حصل إشباع الغريزة الجنسية هدأ البدن من االضطراب ،وسكنت النفس عن
وكف النظر عن التطلع إلى الحرام ،واطمأنت العاطفة إلى ما أحل اهلل ،وهذا
َّ الصراع،
الذي أشار إليه قوله تعالى{ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ} [سورة األعراف .]189 وقوله{ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ} [سورة الروم.]21
4 -4المحافظة على األنساب:
وبالزواج يفتخر األبناء بانتساهبم إلى آبائهم ألن يف هذا النسب اعتبارهم الذايت
وكرامتهم اإلنسانية وسعادهتم النفسية.
قال اهلل تعالى {ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
((( فقه السنة (.)139/2
146
يهلإ ةنس جاوزلا :عبارلا لصفلا يناثلا بابلا
ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥﮦ}[ .سورة األحزاب .]5-4
5 -5سالمة المجتمع من اإلمراض الخبيثة المترتبة على االنحالل الخلقي:
قال رسول اهلل ﷺ« :يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج ،ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»((( ،وجعل العفاف
غاي ًة محمودة عند اهلل والناس عندما ُيسعى لها «ثالث حق على اهلل عونهم ..الناكح
يريد العفاف »..الحديث(((.
ّ
وحذر رسول اهلل ﷺ من ذلك« :لم تظهر الفاحشة يف قوم قط حتى يعلنوا بها إال
فشا فيهم الطاعون واألوجاع التي لم تكن مضت يف أسالفهم الذين مضوا»(((.
وقال تعالى يف قصة نبيه لوط ڠ{ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ} [سورة هود.]78
6 -6تنمية عاطفة األمومة واألبوة:
إن غريزة األبوة واألمومة تنمو وتتكامل يف ظالل الطفولة ،وتنمو مشاعر العطف
والود والحنان ،وهي فضائل ال تكمل إنسانية إنسان بدوهنا ،قال اهلل تعالى {ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ} [سورة القصص.]10
وقال عن نبيه عيسى ڠ{ :ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ} [سورة مريم،]32
وقال سبحانه{ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ} [سورة األحزاب.]5-
(( ( تقدم تخريجه.
((( تقدم تخريجه.
((( أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن باب العقوبات ( .)4019وحسنه األلباين يف سلسلة األحاديث الصحيحة
(.)106
147
دراسة موضوعات سورة النور
7 -7تقوية ملكات الفرد ومواهبه فيما ينفع أمته ومجتمعه:
فإن الشعور بتبعة الزواج ،ورعاية األوالد يبعث على النشاط وبذل الوسع يف تقوية
ملكات الفرد ومواهبه ،فينطلق إلى العمل من أجل النهوض بأعبائه ،والقيام بواجبه.
فيكثر االستغالل وأسباب االستثمار مما يزيد يف تنمية الثروة وكثرة اإلنتاج،
ويدفع إلى استخراج خيرات اهلل من الكون وما أودع فيه من أشياء ومنافع للناس.
قال اهلل تعالى عن دعاء نبيه زكريا ڠ{ :ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ} [سورة مريم.]7-2
8 -8تنظيم مسؤوليات الرجل والمرأة بتكوين األسرة وتربية األوالد:
وذل�ك توزي�ع األعم�ال توزي ًعا ينتظم به ش�أن البي�ت من جهة ،كم�ا ينتظم به
العم�ل خارج�ه من جه�ة أخرى ،مع تحديد مس�ؤولية كل من الرج�ل والمرأة فيما
يناط به من أعمال.
فالمرأة تقوم على رعاية البيت وتدبير المنزل ،وتربية األوالد ،وهتيئة الجو الصالح
للرجل ليسرتيح فيه ويجد ما يذهب بعنائه ،ويجدد نشاطه ،بينما يسعى الرجل وينهض
بالكسب ،وما يحتاج إليه البيت من مال ونفقات ،وهبذا التوزيع العادل يؤدي كل منهما
وظائفه الطبيعية على الوجه الذي يرضاه اهلل ويحمده الناس ،ويثمر الثمار المباركة.
قال اهلل تعالى{ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞﯟ} [سورة النساء.]32
148
يهلإ ةنس جاوزلا :عبارلا لصفلا يناثلا بابلا
9 -9ترابط المجتمع المبني على ترابط األسرة:
على أن ما يثمره الزواج من ترابط األسر ،وتقوية أواصر المحبة بين العائالت،
وتوكيد الصالت االجتماعية مما يباركه اإلسالم ويعضده ويسانده ،فإن المجتمع
المرتابط المتحاب هو المجتمع القوي السعيد(((.
((( ولالستزادة أنظر :فقه السنة ( ،)141-139/2وعقبات الزواج وطرق معالجتها على ضوء اإلسالم
(ص.)17-11
149
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثالث
من مل يستطيع الزواج
((( أخرجه أبوداود كتاب األدب باب من يؤمر أن يجالس ( ،)4832والرتمذي كتاب الزهد باب ما جاء
يف صحبة المؤمن ( ،)2395وابن حبان ( ،)554( )314/2وغيرهم ،وحسنه األلباين يف صحيح الجامع
( ،)7341واألرنؤوط يف تعليقه على ابن حبان.
154
يهلإ ةنس جاوزلا :عبارلا لصفلا يناثلا بابلا
املبحث الرابع
تيسري احلياة السعيدة لفئات اجملتمع
«كما شجعت اآليات على تيسير سبل الزواج لمريده؛ شجعت أيضا على تيسير
سبل الحياة الكريمة الحرة لألرقاء الذين يتطلعون إلى الحرية ،فشرعت عقد المكاتبة
بين العبد وسيده ،يسمح فيه للعبد باالكتساب ،حتى يؤدي مبلغا معينا لسيده فيصبح
حرا»(((.
ً
وهذه الحرية تساعده على ممارسة الحياة الطبيعية بشكلها الذي أراده اهلل تعالى،
فال يحرم أي إنسان من الحياة الطيبة المستقرة يف ظالل أسرة هو سيدها وال يوجد
سلطان عليه من الخارج يتحكم فيه ويف ذريته ،أو يمنعه من مارست حقه اإلنساين
مقصورا على األحرار فقط ،ولكنه لألحرار والعبيد ،ولكن
ً والشرعي ،فالزاوج ليس
العبودية تمنع من ذلك الزواج بأحكامه وغايته إ ًذا ال بد من حل لهذه المشكلة ،فيأيت
اإلسالم اً
ممثل يف منهجه القرآين يعطينا المرجعية والحل يف مثل تلك المشكالت.
قال تعالى {ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ} أي« :من ابتغى وطلب منكم الكتابة وأن يشرتي
وصالحا»(((.
ً نفسه من عبيد وإماء فأجيبوا إلى طلبه إذا علمتم منه قدرة على التكسب
{ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ} :هذه وصية من اهلل لألسياد ولكل من عنده
مال أن يعينوا عبيدهم على الحرية وذلك بإعطائهم من مال الزكاة ،فقد شرع اهلل تعالى
ومن باب توفير الحياة السعيدة لفئات المجتمع والحفاظ على المجتمع من
الضياع ،فقد كانت آية المكاتبة تمهيد للحديث على عدم إكراه اإلماء والعبيد على
الزنا ونشره يف المجتمع للكسب من ذلك العمل المشين فقال تعالى{ :ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘﮙ}.
«فقد كان أهل الجاهلية إذا كان ألحدهم أمة ،أرسلها تزين ،وجعل عليها ضريبة
يأخذها منها كل وقت ،فلما جاء اإلسالم هني اهلل المسلمين عن ذلك»(((.
{ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ} :قال ابن عباس ﭭ« :فإن
فعلتم ذلك ،فإن اهلل غفور رحيم لهن ،وإثمهن على من أكرههن»((( .ويف الحديث عن
النبي ﷺ أنه قال« :إن اهلل تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان ،وما استكرهوا عليه»(((.
ويف التعقب هبذه اآلية بعد ذكر النكاح فيه داللة شرعية وفقهية وتربوية حيث
أن «النهي عن إكراه الفتيات على البغاء وهن يردن العفة ابتغاء المال الرخيص كان
جز ًءا من تطهير البيئة اإلسالمية ،وإغالق السبل القذرة للتصرف الجنسي ،وذلك أن
(( ( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)54/6
((( تفسير القرآن العظيم البن كثير (.)56/6
((( أخرجه ابن ماجه كتاب الطالق باب طالق المكره والناسي ( ،)2043والطحاوي يف شرح معاين
اآلثار ( ،)95/3وابن حبان ( ،)7219والطرباين يف الصغير ( ،)765والدارقطني يف السنن (،)4351
والحاكم ( ،)198/2والبيهقي ( .)356/7وسكت عنه ابن حجر يف الفتح ( ،)390/9وصححه األلباين
يف صحيح سنن ابن ماجه والمشكاة ( ،)6284اإلرواء ( ،)82واألرنؤوط يف تعليقه على ابن ماجه
وابن حبان.
156
يهلإ ةنس جاوزلا :عبارلا لصفلا يناثلا بابلا
وجود البغاء ُيغري الكثيرين لسهولته ،ولو لم يجدوه النصرفوا إلى طلب هذه المتعة
يف محلها الكريم النظيف.
قلب لألسباب والنتائج ،فالميل
وذكر اإلكراه لإلماء ال يعني إباحته ،فذلك ٌ
موجها إلى امتداد الحياة باألجيال الجديدة ،وعلى
ً الجنسي يجب أن يظل نظي ًفا
المجتمع المسلم أن يصلح نظمه االقتصادية ،وأن يتعاون المجتمع مع بعضه ليكون
كل فرد يف ذلك المجتمع يف مستوى ُيعينه على الزواج ،فإن وجدت بعد ذلك حاالت
خاصا ،وبذلك ينقطع البغاء والفاحشة ،بإذن اهلل.
عالجا ً
ً شاذة عولجت تلك الحاالت
157
دراسة موضوعات سورة النور
الفصل اخلامس
آداب داخل البيت املسلم
الفصل اخلامس :آداب داخل البيت املسلم
تميد:
قال تعالى{ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ
ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ}.
هذه اآليات تبين لنا شمولية اإلسالم لكل أمور الحياة ،فإن اهلل تعالى وضع
قواعد يجب على الناس أن يلتزموا هبا مع بعضهم ،حماية لهم من الوقوع يف الرذائل
والموبقات ،فهذه اآليات من اهلل لينظم أحوال الناس داخل بيوهتم ،والعالقة التي يجب
158
سملا تيبلا لخاد بادآ :سماخلا لصفلا يناثلا بابلا
أن يكونوا عليها مع بعضهم ،حماية لهم من الوقوع يف الحرج ،ومن دخول الشيطان
بينهم فتحصل بينهم أمور ال ينبغي أن تكون بين أهل البيت الواحد أو األسرة الواحدة.
ومن هذه األمور التي نبه اهلل عليها يف هذه اآليات ،عدة أمور خاصة من أحكام
البيت المسلم التي يجب أن يتحلى هبا أصحاب ذلك البيت ،وهي :أحكام االستئذان
داخل البيت الواحد ،وأحكام زينة القواعد من النساء ،وأحكام األقارب واألصدقاء
وما لهم وما عليهم يف البيت .وإليك بيانها:
159
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث األول
االستئذان داخل البيت
املبحث الثاني
إبداء الزينة وإخفائها
املبحث الثالث
العالقة بني أهل البيت واألقارب واألصدقاء
الباب الثالث
تذكرة وذكرى ألولي األلباب
تضمن هذا الباب تذكير اهلل ۵لعباده الذين يعقلون أحكامه وينظرون معتربين
يف آياته المتلوة والمشاهدة بعظمته ،وعظمة خلقه ،وعظمه وحيه وشرعه ،فيعود ذلك
عليهم بالرتقي يف درجات اليقين والقرب منه سبحانه.
ويشتمل هذا الباب على ثالثة فصول ،وكل فص ٍل له مباحثه:
الفصل األول :ضرب األمثال يف القرآن.
الفصل الثاين :بيوت اهلل.
الفصل الثالث :النظر يف آيات اهلل.
وإليك بياهنا:
168
قلا يف لاثمألا برض :لوألا لصفلا ثلاثلا بابلا
الفصل األول
ضرب األمثال يف القرآن
الفصل األول :ضرب األمثال يف القرآن الباب الثالث
تمهيد:
قال تعالى{ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦﮧ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ
ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ}.
«هذه اآليات الكريمات تحبها القلوب ،وتطرب لها األسماع ،كيف ال وهي
تضع المؤمن يف هالة من نور اهلل ،وتبشره أن إخالصه العبادة هلل وخلوص قلبه من
الشرك والرياء وإيثاره طاعة اهلل على كل مصالح الدنيا ،كل هذه قد جعلت ألعماله
نورا ينورها بالقبول والربكة وواسع المثوبة»(((.
ً
ففي اآلية األولى يمتن اهلل تعالى على عباده بعد أن عرض عليهم تلك األحكام
ٍ
«واضحات الداللة على كل أمر تحتاجون إليه من واآلداب بأنه سبحانه أنزل ٍ
آيات
األصول والفروع ،بحيث ال يبقى فيها إشكال وال شبهة .وأنزل اهلل تعالى أيضا مع
فمثل من أخبار األولين الصالح منهم والطالح منهم ،ووص ِ هذه األحكام واآلداب اً
َ َ ْ
أعمالهم ،وما جري لهم ،وجرى عليهم ،تجعلونه اً
مثل ومعتربًا ،لمن فعل مثل أعمالهم
أيضا يف هذا الكتاب موعظ ًة للمتقين فيكفون
أن يجازى مثل ما جازوه .وأنزل اهلل تعالى ً
عما يكره اهلل إلى ما يحبه اهلل»(((.
َّ
(( ( من لطائف التفسير (.)429
((( تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)517
169
دراسة موضوعات سورة النور
ولكن ونحن نقرأ هذه اآلية يلفت انتباهنا كلمة{ :ﮟ} حيث أن كتاب اهلل تعالى
َ
وسائل كتاب بيان وهداية فهو يبين للناس الحق والباطل ويهديهم إلى الحق عرب ِ
عدة
لتقوم الحجة القولية والعقلية عليهم ،ومن هذه الوسائل هي وسيلة (ضرب المثل).
نتناول ضرب األمثال يف القرآن من خالل هذه اآليات يف األمور التالية:
-1تعريف وبيان.
-2مثل نور اإليمان.
-3مثل ظلمات الكفر.
-4فائدة ضرب األمثال.
170
قلا يف لاثمألا برض :لوألا لصفلا ثلاثلا بابلا
املبحث األول
ضرب األمثال يف القرآن تعريف وبيان
املبحث الثاني
مثل نور اإلميان
املبحث الثالث
مثل ظلمات الكفر
املطلب الثاني
املثل الثاني :شدة ظلمة الكفر
املبحث الرابع
فائدة ضرب األمثال
يختم اهلل تعالى هذا المثل بذكر الحكمة من ضرب األمثال فقال تعالى{ :ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ}؛ «ليعقلوا عنه ،ويفهموا ،لط ًفا منه هبم ،وإحسانًا
إليهم ،وليتضح الحق من الباطل ،فإن األمثال تقرب المعاين المعقولة من المحسوسة
واضحا.
ً علما
فيعلمها العباد ً
ٌ
محيط بجميع األشياء ،فلتعلموا أن {ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ} أي :إن علم اهلل
ضربه األمثال ،ضرب من يعلم حقائق األشياء وتفصيالهتا وأهنا مصلحة للعباد ،فليكن
انشغالكم بتدبرها وتعقلها ال باالعرتاض عليها ،وال بمعارضتها فإنه يعلم وأنتم ال
تعلمون»(((.
ومن األمور التي ينبغي أن تعلم أن غاية المثل القرآين« :إصالح النفوس ،وصقل
الضمائر ،وهتذيب األخالق ،وتقويم المسالك ،وتصحيح العقائد ،وتنوير البصائر،
والهداية إلى ما فيه خير الفرد وصالح الجماعة ،والتنبيه إلى المساوئ لتجتنب ،وإلى
المحاسن لتقبل عليها النفوس الطيبة والقلوب الزكية»(((.
«فاألمثال تسهم يف إبراز الحقائق اإليمانية من خالل أسلوهبا المتميز الفعال يف
تشخيص الحقائق واإلقناع ،والفصل عند االشتباه والخالف.
وقد أشاد اهلل گ بأمثال القرآن مبينًا أنه اشتمل على كل مثل من الحق يحتاجه
الناس وأن السبيل قد استبان بتلك األمثال ،وما بقي على الناس إال أن يتفكروا هبا
(( ( تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)517
((( أمثال ونماذج بشرية من القرآن (.)104/1
181
دراسة موضوعات سورة النور
مختصرا.
ً (( ( األمثال القرآنية ()15-11/1
((( اإلتقان يف علوم القرآن (.)131/2
182
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
الفصل الثاني
بيوت اهلل
الفصل الثاني :بيوت اهلل
املبحث األول
حتليل معنى اآليات إمجال
«أمر اهلل تعالى برفع المساجد وتطهيرها من الدنس واألفعال واألقوال التي
ال تليق فيها»((( .فاإلذن هنا معناه األمر والقضاء((( ،أي أمر اهلل گ وقضى أن تبنى
مساجده ،وذلك كقوله تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ} [سورة البقرة ،]127 وأيضا أن تطهر تلك المساجد وتنظف
ويزال عنها الدنس.
وأيضا {ﰈ ﰉ ﰊ} يتلى فيها كتابه((( ،ونحو ذلك من الذكر المشروع.
{ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ} ق�ال القرطب�ي« :أراد الصلاة المفروض�ة،
فالغ�دو صالة الصبح ،واآلصال صالة الظهر والعصر والعش�اءين ألن اس�م اآلصال
يجمعه�ا ،وعلى هذا أكثر المفس�رين»((( .وال يمنع ذلك من إرادة الذين يس�بحون اهلل
تعالى يف كل وقت.
وصف «فيه إشعار هبممهم السامية ،ونياهتم وعزائمهم العالية ،التي
ٌ {ﭑ} هذا
عمارا للمساجد ،التي هي بيوت اهلل يف أرضه ،ومواطن عبادته وشكره،
ً هبا صاروا
وتوحيده وتنزيهه»((( .وهؤالء الرجال الذين يعمرون المساجد يصفهم اهلل بأهنم:
تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)62/6 (( (
الجامع ألحكام القرآن (.)266/12 (((
تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)66/6 (((
الجامع ألحكام القرآن (.)276/12 (((
تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)67/6 (((
184
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
املبحث الثاني
فضل املساجد وأهميتها يف اإلسالم
للمسجد يف اإلسالم أهميته الكربى وأعماله العظمي ،وال أدل على ذلك من
ذكر اهلل له يف القرآن بعد مثل نور اإليمان وقبل مثل ظلمة الكفر ،قال تعالى{ :ﰂ ﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ} فاهلل تعالى بعد ذكره
للنور؛ ذكر المكان الذي يشع منه النور ومدح هذه األماكن ورفع شأهنا وأمر بالذكر
أمرا من منه سبحانه ،وبعد أن ذكر المسجد الذي هو مكان
والتسبيح والعبادة فيهاً ،
انبثاق النور والهداية ،ذكر اً
مثل لظلمات الكفر إشارة إلى أنه من لم يرض بنور اهلل
الموجود داخل المساجد ،فسيكون حاله كما يف األمثلة ألصحاب الظلمات.
وأيضا من األدلة على أهمية المسجد وفضله :أن النبي ﷺ قبل أن يدخل المدينة
ً
يف حادثة الهجرة نزل يف قباء وأول ما نزل بنى مسجد قباء فكان أول مسجد يبنى يف
اإلسالم(((.
وبعد ذلك عندما دخل المدينة وكان يمر على بيوت األنصار ﭫ جميعا ،وكان
كل واحد منهم يريد أن ينزل رسول اهلل عنده ،ولكن رسول اهلل يقول لهم« :دعوها
فإنها مأمورة»((( أي الناقة .ولكن بماذا يا رسول اهلل هي مأمورة؟!!
تأيت اإلجابة العملية على السؤال الذي يدور يف الذهن فتربك الناقة!! ويأمر
الرسول ﷺ ببناء مسجده على األرض التي بركت فيها الناقة ،واشرتى رسول اهلل ﷺ
= الصفوف وإقامتها وفضل األول فاألول منها ،واالزدحام على الصف (.)437
((( أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء باب فضل االجتماع على تالوة القرآن وعلى الذكر (.)2699
190
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
املبحث الثالث
أهم املهام اليت يقوم بها املسجد
ولكن لماذا كان للمسجد هذا الفضل الكبير وهذه العناية العظيمة ،ولِ َم كان أول
عمل فعله الرسول ﷺ عند وصوله بناء المسجد؟
إن المسجد له خاصية كبيرة يف المجتمع المسلم ،فهو مصدر إشعاع نور تربوي
هام ،كما أن له يف حياة المسلم منزلة ترتبط ارتباطا وثيقا بحياته الروحية والبدنية.
وعلى هذا فإن للمسجد يف اإلسالم رسال ًة كبير ًة جدً ا ،فليست رسالة المسجد
هي الصالة والعبادة فقط ،ولكن المسجد له مهمته الكبيرة يف حياة األمة اإلسالمية،
وهذه المهام قد غفل عنها كثير من الناس يف هذا الوقت حيث أهنم ظنوا أن اإلسالم
يف المسجد فقط ،أما خارج المسجد فال دخل لإلسالم يف ذلك ،كأهنم نسوا أو تناسوا
أن المسجد الذي يمثل اإلسالم ،خرجت منه األحكام التي تنظم حال الناس داخل
المسجد وخارج المسجد ،فمن هنا وجب علينا أن نبين أهمية المسجد والمهام التي
قام هبا المسجد والتي يجب أن يقوم هبا يف واقع الحياة.
من الصالة ،والدعاء ،والذكر ،والجمعة والجماعة ،والدعوة إلى اهلل ،واالعتكاف
واألعياد ...وغيرها من شعائر اهلل.
191
دراسة موضوعات سورة النور
2 -2إشاعة روح المحبة واألخوة بين المسلمين:
فالمسجد هو المكان الذي تنصهر فيه قلوب المسلمين ،حتى يكونوا إخو ًة يف اهلل
يجتمعون خمس مرات يف كل يوم وليلة؛ على عبادة اهلل تعالى ،ولذا كان رسول اهلل
حريصا على أن يقوي األخوة بين الصحابة ،فيقول عند الوقوف للصالة« :أقيموا ً ﷺ
الصفوف ،وحاذوا بين المناكب ،وسدوا الخلل ،لِينُوا بأيدي إخوانكم ،ال تدعو ُفرج ٍ
ات ُ َ ْ
للشيطان»((( ،وقال يف لفظ آخر« :استووا ،وال تختلفوا فتختلف قلوبكم»((( ،وذلك لكي
ال يرتك للشيطان مكانًا بين المسلمين ،فيؤدي بذلك إلى اختالف قلوهبم لما يزرع
بينها الشيطان من العداوة واألمراض الخبيثة ،كما قال تعالى{ :ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ} نسأل اهلل أن يجعلنا من عباده السعداء.
3 -3إشاعة العدل والمساواة بين المسلمين:
فال فرق لعربي على أعجمي وال فرق ألسود على أبيض ،فكل المسلمين سوا ٌء
غنيهم أو فقيرهم أبيضهم أو أسودهم ،عربيهم أو أعجميهم ،يقفون أمام اهلل تعالى
سواء ،كلهم يركعون ويسجدون ،ولكن المفارقة يف درجة تعلقهم باهلل تعالى ،المسجد
ال يفرق بينهم ألهنم يف حكم اهلل وشرعه سواسية.
(( ( أخرجه أبوداود كتاب الصالة باب تسوية الصفوف ( ،)666والبيهقي يف السنن (،)4967( )101/3
وصححه األلباين يف صحيح أبي داود (.)620
((( أخرجه مسلم كتاب الصالة باب تسوية الصفوف (.)432
192
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
مثل لم يجعل الصف األول حكرا على أحد من الناس لتميزه يف المال فاإلسالم اً
مثل ،ولكن رسول اهلل ﷺ قال« :لِ َي ِلني منكم أولوا األحالم والنُهى ،ثم
والجاه والنسب اً
الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم»((( ،فجعل من يليه منهم حسب وصف واعتبار مشاع
يجوز أن يكون يف فقيرهم وغنيهم ..وهكذا.
4 -4وحدة الصف:
قال تعالى{ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ} [سورة آل عمران.]103
عندما يجتمع المسلمون يف اليوم خمس مرات يف أوقات محددة ،ويصلون خلف
إلها واحدً ا ،يف اتجاه
إمام واحد يف صفوف متالحمة ،كأهنم بنيان مرصوص ،يدعون ً
واحد ،ال يتحركون أي حركة إال بعد أن ُيتِ َّمها اإلمام .ويف جماعة واحدة ،وجاء النهي
عن الجماعتين يف المسجد((( ،وذلك توحيدً ا للصف المسلم ،لنشر دعوة اهلل ،والحفاظ
عليها من هجوم األعداء وزعزعة صفوفهم.
5 -5التعلم والتعليم:
المسجد مدرسة النبوة تخرج من هذه المدرسة رجال نشروا هذا الدين يف كل
بالد العالم ،وكان هذا االنطالق من بدايته يف المسجد ،ومعظم السنة النبوية دروس
من مسجد رسول اهلل ﷺ كان يعلم فيه الصحابة ،وقد رغب الشارع بذلك فقال ﷺ:
علما سهل اهلل له به طري ًقا إلى الجنة ،وما اجتمع قوم يف
«ومن سلك طري ًقا يلتمس فيه ً
بيت من بيوت اهلل يتلون كتاب اهلل ويتدارسونه بينهم إال نزلت عليهم السكينة وغشيتهم
(( ( أخرجه مسلم كتاب الصالة باب تسوية الصفوف (.)432
((( الجامع ألحكام القرآن ( )78/2و( ،)257/8وفتاوى األزهر (81/9و82و.)141
193
دراسة موضوعات سورة النور
الرحمة وحفتهم المالئكة وذكرهم اهلل فيمن عنده»(((.
6 -6التكافل االجتماعي والتعاون على البر والتقوى:
يف المسجد عبادات وإخاء وتجميع للصف ،وهناك أمور تجلب هذه الوحدة
وتأيت هبذا اإلخاء ،وهي األعمال التي يستفيد فيها األخ من أخيه ،وهذه تتمثل يف قضاء
حوائج المسلمين ومساعدهتم ،وحث الناس على مساعدهتم ،كما يف وفد مضر ووفد
عبد القيس وغيرهم ،فكان المحتاج يف زمن النبي ﷺ يأوي إلى المسجد ألنه يعلم
أن يف المسجد من سيبادر بالوقوف معه ،والرجل الذي ليس عنده بيت يأوي إليه كان
المسجد مأواه كما يف حديث أبي هريرة ﭬ وغيره ،والزكاة كانت تجمع وتوزع يف
المسجد .وكان المسجد إيواء لمن ال بيت عنده من فقراء المسلمين وكان يطلق عليهم
[أهل الصفة] ،وكان غيرهم أيضا يبيت يف المسجد أحيانًا لحاجة.
7 -7النصيحة (الوعظ واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر):
يف المسجد يجد اإلنسان من ينصحه ،وهو أيضا يقوم بنصح إخوانه وبذلك يشيع
بين المسلمين المعروف وينمحي المنكر ،وتقبل النصيحة يف المسجد وأثرها أكرب
ألن اإلنسان يكون أقرب إلى اهلل يف المسجد ،كما يف حديث قصة مال البحرين وقصة
اإلفك وغيرها.
8 -8حل المشكالت والصلح بين الناس:
وال أدل على ذلك إال سنة النبي ﷺ فقد كان المسجد المكان الذي تفصل فيه
قضايا النزاع بين الناس ،سواء كانت مشكالت كبيرة أو صغيرة فعن أبي هريرة ﭬ
عقارا له؛ فوجد الرجل الذي اشترى العقار
رجل ًٍ قال؛ قال النبي ﷺ« :اشترى ٌ
رجل من
ٍ
ذهب ،فقال له الذي اشترى العقار :خذ ذهبك مني ،إنما اشتريت يف عقاره جر ًة فيها
منك األرض ولم أبتع منك الذهب! وقال الذي له األرض :إنما بعتك األرض وما فيها!
((( أخرجه مسلم باب فضل االجتماع على تالوة القرآن والذكر (.)2699
194
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
ٍ
رجل ،فقال الذي تحاكما إليه :ألكما ولد؟ قال أحدهما :لي غال ٌم .وقال فتحاكما إلى
اآلخر :لي جاريةٌ .قال :أنكحوا الغالم الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا»(((.
فعلى المسجد أن يقوم هبذا الدور وخاصة يف هذا الوقت الذي كثرت فيه
الخصومات بين المسلمين ،فقد يكون أحدهم يصلى بجوار شخص آخر يف المسجد
ولكن بينهما من التباغض والتفرق الشيء الكثير.
9 -9مركز القيادة للدولة اإلسالمية:
بحكم أن رسول اهلل ﷺ كان القائم على أمر المسلمين كان ال بد أن يكون له مكان
للقيادة ،ولكنه ﷺ ،كان أيضا معلما ،ومرشدا وداعية ،ورجل تجتمع عنده الوفود وهو
الذي يصلح بين الناس ويصلى هبم ،فلم يكن هناك مكان أفضل من المسجد يجلس
فيه ليدير أمور أمته من المسجد كما يف شأن قصة غزوة أحد ،ويلتقي بكل الناس ويف
أي وقت.
1010انطالق الجيوش لفتح العالم كان من عند المسجد:
من المسجد كانت تخرج الجيوش لفتح العالم مثل ما حصل يف غزوة أحد
وتبوك ،وبع ِ
ث أسامة وغيرها ،فهم خرجوا من المسجد بعد أن أصبحوا مهيئين لقيادة َْ
العالم ،وبعد أن تربوا الرتبية الصحيحة يف المسجد خرجوا إلدخال الناس يف ذلك
النور الموصل للنور التام يوم القيامة ،وذلك من غير إكراه وال اعتداء ،فلم يعلم الناس
رحيما على مدار التاريخ غير اإلسالم.
ً فاتحا
ً
وهناك أعمال أخرى يقوم هبا المسجد وأدوار مهمة يجب العناية هبا ،فليكن رجوعنا
دائما إلى بيوت اهلل إذ فيها النور الذي فيه صالح كل أمورنا ومعاشنا ودنيانا وأخرانا.
ً
((( أخرجه البخاري كتاب أحاديث األنبياء باب ( ،)3472( )54ومسلم كتاب االقضية باب استحباب
إصالح الحاكم بين الخصمين (.)1721
195
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الرابع
أحكام املساجد وآدابها
(( ( أخرجه البخاري كتاب األذان باب ما جاء يف الثوم والبصل والكراث ( ،)854ومسلم كتاب المساجد
باب النهي من أكل ثوم أو بصل أو كراث أو نحوها (.)564
((( أخرجه البخاري كتاب األذان باب قول الرجل :فاتتنا الصالة ( .)635ومسلم كتاب المساجد باب
إتيان الصالة بوقار وسكينة والنهي عن إتياهنا س ًعا (.)603
((( أخرجه أبو داود كتاب التطوع باب صالة الليل ( .)1353وقال األلباين« :صحيح» (.)1025
198
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
المعبودِ ،
وع َظم العبادة التي يقدم عليها ،ومعاين هذه األلفاظ الواردة عن المصطفى
ﷺ وعظم حاجة العبد وافتقاره.
-7دعاء دخول المسجد والخروج من المسجد:
فعن أبي حميد وأبي أسيد ﭭ قاال؛ قال رسول اهلل ﷺ« :إذا دخل أحدكم
المسجد فليقل :اللهم افتح لي أبواب رحمتك .وإذا خرج فليقل :اللهم إين أسألك من
فضلك»(((.
-8استحباب تقديم الرجل اليمنى على اليسرى يف الدخول للمسجد:
وذلك ألن الرسول كان دائما يقدم اليمين يف جميع األمور الطيبة ،وما أطيب
وأشرف من المسجد أن تقدم فيه الرجل اليمنى على اليسرى ،فعن عائشة ڤ قالت:
«كان رسول اهلل يعجبه التيمن يف تنعله وترجله وطهوره ،ويف شأنه كله»(((.
-9صالة ركعتين تحية المسجد:
وهاتان الركعتان سنة مؤكدة عن رسول اهلل ﷺ ،فقد ورد من حديث أبي قتادة
السلمي ﭬ أن رسول اهلل ﷺ قال« :إذا دخل أحدك المسجد فليركع ركعتين قبل أن
يجلس»((( .قال القرطبي« :فجعل ﷺ للمسجد مزية يتميز هبا عن سائر البيوت وهو
أال يجلس حتى يركع ،وعامة العلماء على أن األمر بالركوع على الندب والرتغيب»(((،
ومن العلماء من نص على الوجوب(((.
أخرجه مسلم كتاب الصالة باب ما يقول إذا دخل المسجد (.)713 (( (
أخرجه البخاري كتاب الضوء باب التيمن يف الوضوء والغسل ( .)168ومسلم كتاب الطهارة باب (((
التيمن يف الطهور وغيره (.)268
أخرجه البخاري كتاب الصالة باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين ( .)444ومسلم كتاب (((
الصالة باب استحباب تحية المسجد بركعتين (.)714
الجامع ألحكام القرآن (.)274/12 (( (
يمكن مراجعة المسألة يف التمهيد البن عبد الرب ( ،)100/20وفتح الباري ( ،)11/2وشرح النووي= (((
199
دراسة موضوعات سورة النور
-10ظهور أثر الصالة وارتياد المساجد على من يتردد على المسجد:
على من يرتدد المسجد أن يصدق فعله مظهره ،وكالمه مخربه ،حتى ال يخيب
أمل الناس فيه ،قال تعالى{ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ}
[سورة التوبة.]18
الضالة والتحدُّ ث يف الدنيا: -11تنزه المساجد عن البيع والشراء ْ
ونشدَ ان َّ
وذلك ألن المساجد لم ُتن َْش ُأ لهذا ،عن أبي هريرة ﭬ أن رسول اهلل ﷺ قال« :إذا
رأيتم من يبيع أو يبتاع يف المسجد فقولوا :ال أربح اهلل تجارتك ،(((»..وقال رسول اهلل
ﷺ« :من سمع رجال ينشد ضالة يف المسجد فليقل :ال ردها اهلل عليك ،فإن المساجد
لم ُت ْب َن لهذا»(((.
-12إضاءة المساجد:
فقد فعل ذلك تميم الداري ﭬ(((« .وقد كان السلف الصالح يوقدون آآلت
اإلنارة يف المساجد»(((.
= لمسلم (.)164/6
أخرجه الرتمذي كتاب البيوع باب النهي عن البيع يف المسجد ( )1321وقال حسن غريب .وصححه (((
األلباين يف صحيح الرتمذي (.)1066
أخرجه مسلم كتاب المساجد باب النهي عن نشد الضالة يف المسجد (.)568 (( (
ذكر ابن حجر يف اإلصابة ( )184/1قال« :وهو أول من أسرج السراج يف المسجد رواه الطرباين من (((
حديث أبي هريرة» ،المعجم الكبير ( ،)1247( )49/2قال الهيثمي (« :)654/9وفيه خالد بن إلياس
وهو مرتوك» .وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري كتاب المساجد والجماعات باب
تطهير المساجد وتطيبها ( ،)760قال يف مصباح الزجاجة (« )514/2موقوف .ويف إسناده خالد بن
وفصل الكالم
إياس اتفقوا على ضعفه» .قال األلباين يف التعليق على ابن ماجه« :ضعيف جدا»َّ ،
عليه يف :الثمر المستطاب (ص .)600-595وسكت عنه ابن حجر يف الفتح ( )46/12واهلل أعلم.
عمارة المساجد يف الشريعة اإلسالمية (.)108/2 (((
200
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
-13تعظيم المسجد:
بكل أنواع التعظيم فال يتكلم فيه بصوت عال ،وال يجلس على هيئة المستهين
بالمكان ،وال يضحك ويقهقه فيه ،وال يفرقع بين أصابعه ،وأال يحمل يف المسجد
سالحا ،إال لما فيه مصلحة وأن ينزه المسجد عن القاذورات والنجاسات .فال يبصق
وال يتنخم ..الخ.
وال بأس من الكالم يف أمور الدنيا المباحة يف المسجد للحاجة ،ولكن ال يكون
ذلك دائما ،وال يكون فيه أذية للموجودين يف المسجد ،وأن يكون الكالم اً
قليل ،مع
الحذر من رفع الصوت والكالم المحرم.
وال بأس أيضا من األكل والشرب وقول الشعر يف المسجد ،ولكن المهم أال
يكون ذلك مدعاة المتهان المسجد ،وهذه األمور ورد أهنا قد وقعت من رسول اهلل
ﷺ ،أو وقعت من الصحابة ولم ينكر عليهم رسول اهلل ﷺ.
فال يجوز للمسلم أن يتخطى الرقاب من أجل الوصول للصف األول ،ألن هذا
يؤذي المصلين وقد قال رسول اهلل ﷺ لمن فعلها« :اجلس فقد آذيت»(((.
(( ( أخرجه البخاري كتاب الصالة باب حك البزاق باليد من المسجد ( ،)397ومسلم كتاب المساجد
باب النهي عن البصاق يف المسجد (.)551
((( أخرجه أبوداود كتاب الصالة باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة ( ،)1118صححه األلباين يف
صحيح أبي داود ،وأخرجه الحاكم يف المستدرك ( ،)1061( )424/1وقال صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه.
201
دراسة موضوعات سورة النور
-15أال يضيق على أحد يف الصف:
وال أن يضيق على إخوانه المصلين يف الصف بل عليه أن يصلى حيث اتسع
به المكان وانتهى به المجلس .وأال ينازع أحدً ا يف المكان ،وأن ال يحجز المكان
لقوله ﷺ« :ال يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده ،ولكن يقول
أفسحوا»((( .وعن ابن عمر ﭭ قال« :نهى رسول اهلل ﷺ أن ُيقيم الرجل أخاه من
مقعده ويجلس فيه»(((.
وعن جابر بن سمرة قال« :كنَّا إذا أتينا النبي ﷺ جلس أحدنا حيث ينتهي»(((.
-16وال يمر بين أيدي المصلين:
قال رسول اهلل ﷺ« :لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف
أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» قال الراوي :ال أدري قال أربعين يوما أو أربعين
شهرا ،أو أربعين سنة»(((.
ً
-17القيام بإزالة األذى من المسجد:
ٍ
عن أنس بن مالك قال قال رسول اهَّلل ﷺُ « :عرِضت َّ
علي أجور َّأمتي حتَّى ال َق َذاة
المسجد»((( ،قال ابن رجب« :وكنس المساجد وإزالة األذى عنها ِ الر ُج ُل من
خرجها َّ
ُي ُ
أخرجه مسلم كتاب السالم باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به (.)2178 (( (
أخرجه البخاري كتاب الجمعة باب ال يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد يف مكانه (.)911 (((
أخرجه أبو داود كتاب األدب باب يف التحلق ( ،)4825وصححه األلباين يف كتاب العلم (.)42 (((
أخرجه البخاري كتاب الصالة باب إثم المار بين يدي المصلي ( .)510ومسلم كتاب الصالة باب (((
سرتة المصلي (.)507
أخرجه ابن أبي داود كتاب الصالة والسير باب يف كنس المسجد ( .)390والرتمذي كتاب فضائل (((
القرآن باب ما جاء فيمن قرأ حر ًفا ( ،)2840وقال« :هذا حديث غريب ال نعرفه إال من هذا الوجه قال
وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه ،واستغربه» .وض َّعفه األلباين :ضعيف الجامع الصغير
( ،)3700والمشكاة ( ،)720وضعيف سنن الرتمذي (.)3095/558
202
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
وخصوصا المساجد الفاضلة»(((.
ً يأنف منه من يعلم آداب الشريعة،
شريف ،ال ُ
ٌ ٌ
فعل
ورغب يف إماطة األذى عا َّم ًة قال رسول اهلل ﷺ« :وإماطة األذى عن الطريق
صدقة»((( ،هذا يف خارج المسجد ،فما بالك بداخل المسجد ماذا يكون األجر.
وقد بوب البخاري بابا بعنوان« :باب كنس المسجد والتقاط ِ
الخ َرق والعيدان»، ً
وذكر حديث المرأة السوداء التي كانت َت ُق ُّم((( المسجد على عهد رسول اهلل -أو شا ًبا-
ففقدها رسول اهلل ﷺ ،فسأل عنها -أو عنه -فقالوا :مات .قال« :أفال كنتم آذنتموين؟»
قال :فكأهنم ص َّغ ُروا أمرها -أو أمره -فقال« :دلوين على قبره؟» ،فدلوه فص َّلى عليها،
ثم قال« :إن هذه القبور مملوءة ظلم ًة على أهلها ،وإن اهلل ۵ين َِّو ُرها لهم بصالتي
عليهم»((( ،قال ابن حجر تعلي ًقا على الحديث« :فيؤخذ من ذلك الرتغيب يف تنظيف
المسجد»(((.
-18انتظار خروج النساء من المسجد:
وكان هذا فعل رسول اهلل ﷺ ،فعن أم سلمة ڤ قالت« :إن النساء يف عهد
ِ
المكتوبة ُق ْم َن ،وثبت رسول اهلل ﷺ ومن صلى من رسول اهلل ﷺ كن إذا س َّل ْمن من
الرجال ما شاء اهلل ،فإذا قام رسول اهلل ﷺ قام الرجال»(((.
املبحث اخلامس
تنبيهات خاصة حلضور النساء للمساجد
قال النووي « :$أ َّما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبدً ا،
وشرها آخرها أبدً ا ،أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللوايت يصلين
مع الرجال ،وأما إذا صلين متميزات ال مع الرجال فهن كالرجال ،خير صفوفهن أولها
وشرها آخرها ،والمراد بشر الصفوف يف الرجال النساء :أق ُّلها ثوابا وفضال ،وأبعدها
من مطلوب الشرع ،وخيرها بعكسه ،وإنما ُف ِّضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع
الرجال :لبعدهن من مخالطة الرجال ،ورؤيتهم ،وتعلق القلب هبم عند رؤية حركاهتم،
وسماع كالمهم ونحو ذلك ،و َذ ُّم أول صفوفهن لعكس ذلك .واهلل أعلم»(((.
-5خروجهن من المسجد:
على النساء أن ال يتأخرن يف مصالهن بعد انصراف اإلمام ،بل يخرجن سري ًعا
خير لهن ،لحديث أم سلمة المتقدم حيث أن رسول اهلل
وينقلبن إلى بيوهتن ،ذلك ٌ
وأصحابه كانوا ينتظرون خروج النساء ،ثم يخرجون هم .وذلك لمنع االختالط
بالرجال.
قال رسول اهلل ﷺ« :من نابه شيء يف صالته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه،
وإنما التصفيق للنساء»(((.
(( ( أخرجه مسلم كتاب الصالة باب تسوية وإقامتها وفضل األول فاألول منها ،واالزدحام على الصف
(.)440
((( شرح النووي على صحيح مسلم ( )159/4والمجموع (.)301/4
((( أخرجه البخاري كتاب الصالة باب من دخل ليؤم الناس فجاء اإلمام األول فتأخر اآلخر أو لم
يتأخر جازت صالته (.)652
206
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
-7سيرهن يف الطريق إلى المسجد:
ومن حرص الشرع على تميز النساء عن الرجال وقطع كل طريق يؤدي إلى الفتنة
هبن ،أن جعل حافة الطريق للنساء وأوسطه للرجال حتى ال يختلط الرجال والنساء
وتعظم الفتنة ،فعن أبي أسيد األنصاري ﭬ أنه سمع رسول اهلل ﷺ يقول -وهو
خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء يف الطريق -فقال رسول اهلل ﷺ:
«استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق((( عليكن بحافة الطريق» ،فكانت المرأة
تلتصق بالجدار حتى إن ثوهبا ليتعلق بالجدار من لصوقها به»(((.
-8االلتزام بالحجاب الشرعي:
ٍ
ملفت للنظر عند الذهاب للمسجد وغير الذي يتصف بالساتر ،ويكون غير
المسجد ،فعن عائشة ڤ قالت« :كان رسول اهلل يصلى الفجر ،فيشهد معه نساء من
المؤمنات متل ِّفع ٍ
ات بمروطه َّن ،ثم يخرجن إلى بيوهت َّن ما يعرفه َّن أحدٌ من ال َغ َلس»(((، َ
متفق عليه.
(( ( أن تحققن الطريق :وهو أن يركبن ُح َّقها وهو وسطها ،عون المعبود (.)127/14
((( أخرجه أبو داود كتاب األدب باب يف مشي النساء مع الرجال يف الطريق ( ،)5272وحسنه األلباين.
وابن حبان يف صحيحه ( ،)5601والطرباين يف الكبير ( ،)580( )261/19والبيهقي يف شعب اإليمان
(.)7822( )173/6
((( أخرجه مسلم كتاب المساجد ومواضع الصالة باب استحباب التبكير بالصبح يف أول وقتها رقم
(.)645
207
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث السادس
أثر املسجد على الفرد واجملتمع اإلسالمي
وال شك أن ما سبق بيانه من أحكام يدلنا على عظم أثر المسجد على الفرد
والمجتمع اإلسالمي ،واآلثار كثيرة جدً ا ونجمل أهمها فيما يلي:
1-1وجود جيل من المسلمين يرتبطون ارتباطا وثيقا باهلل عن طريق تعلق قلوهبم
بالمساجد.
2-2وجود جيل قادر على تفعيل دور المسجد يف جميع شؤون الحياة العامة.
3-3تكوين طبقة من طلبة العلم الشرعي المؤصل من الكتاب والسنة مع الفهم
الشامل الواسع لمفهوم اإلسالم -عباد ًة وشريع ًة وأخال ًقا.
4-4عدم حصر شعائر اإلسالم يف المسجد فقط ،ألنه قد تربى يف المسجد أناس
على تطبيق ما تعلموه واقعا سلوكيا بين الناس ،فقد تربوا على الصدق واألمانة
واإلتقان واإلخالص والجدية واإليجابية ،والسمع والطاعة يف المعروف،
وغيرها من األخالق الفاضلة ،وبناء على تلك الرتبية فهم سينقلوهنا إلى واقع
عملي بين كل الناس يف جميع المجاالت.
5-5ربط الناس كلهم بالمسجد عن طريق الخدمات االجتماعية التي يقدمها
المسجد للناس مثل :كفالة األيتام ،دروس التقوية المجانية للمواد الدراسية،
الحمالت الطبية ،الرعاية للفقراء وأصحاب الدخل المحدود .....،وغيرها من
الخدمات التي يحتاجها الناس اليوم.
208
لا تويب :يناثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
6-6اجتماع الناس يف األعياد والمناسبات الشرعية :كالعيدين ،وعقد الزواج،
والعقيقة ،وإفطار الصائمين ،والحفالت التي تقام لتكريم حفظة كتاب اهلل وسنة
رسوله ﷺ وطلب العلم والفقه ..له أثر يف ارتباط الناس بالمسجد وبالتالي
ارتباطهم باهلل تعالى ،مع المحافظة على اآلداب الشرعية وحرمة المسجد.
هذه بعض اآلثار العامة على الفرد والمجتمع إذا حصل االرتباط بالمسجد،
فعلى أصحاب الدعوة البداية من المسجد ،وربط المدعوين بالمسجد ،وتحويل
الرتبية المتلقاة يف المسجد إلى واقع سلوكي بين الناس يلفت انتباه الناس إلى دور
المسجد يف التغير(((.
((( لالستزادة يمكن الرجوع على كتاب :كيف نعيد للمسجد مكانته -للدكتور محمد أحمد لوح.
209
دراسة موضوعات سورة النور
الفصل الثالث
النظر يف آيات اهلل
الفصل الثالث :النظر يف آيات اهلل
املبحث األول
تسبيح املخلوقات هلل
فالمتأمل يف اآليات يجد أن كل هذا الكون المسخر لإلنسان يسبح هلل تعالى بكل
أصنافه وأعداده ،ولكن اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي َش َّذ عن هذه القاعدة فقال
تعالى{ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ} ،وذلك ألهنم نسوا اليوم
اآلخر كما قال تعالى {ﭶ ﭷ ﭸﭹ} [سورة الحج.]66
يلفت اهلل گ االنتباه إلى نوع من خلقه سبحانه ،ممن نراهم دائما يحلقون يف
سمائه يف منظر يلفت األنظار المؤمنة التي ال يمر عليها مثل ذلك المشهد إال وهي
متذكرة هلل تعالى.
يلفت اهلل أنظارنا إلى مشهد الطير وهي تصف أجنحتها وهي تطير يف الفضاء
تسبح بحمد اهلل تعالى{ :ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ} [سورة النور ]41 أيٌ :
«كل
من هذه المخلوقات أرشده اهلل إلى طريقته ومسلكه يف عبادة اهلل»(((.
«والصافات من صفات الطير يراد به صفهن أجنحتهن يف الهواء حين الطيران.
وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات األرض
والسماء بذكر مخلوقات يف الجو بين السماء واألرض ولذلك قيدت ب صافات.
وفعل {ﯢ} مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقالء بصالهتم ،وعلم الطير
بتسبيحها فإن الثاين مجرد شعور وقصد للعمل.
وضمائر {ﯢ ﯣ ﯤ} راجعة إلى { ﯠ } ال محالة»(((.
(( ( التحرير والتنوير (.)258/18
((( تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)72/6
((( التحرير والتنوير (.)259/18
213
دراسة موضوعات سورة النور
«وجملة :كل قد علم صالته وتسبيحه استئناف ثان وهو من تمام العربة إذ أودع
اهلل يف جميع أولئك ما به مالزمتهم لما فطروا عليه من تعظيم اهلل وتنزيهه»(((.
«{ﯠ} من هذه المخلوقات {ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ} أي :كل له صالة وعبادة
بحسب حاله الالئقة به ،وقد ألهمه اهلل تلك الصالة والتسبيح ،إما بواسطة الرسل،
كالجن واإلنس والمالئكة ،وإما بإلهام منه تعالى ،كسائر المخلوقات غير ذلك ،وهذا
االحتمال أرجح ،بدليل قوله{ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ} أي :علم جميع أفعالها،
فلم يخف عليه منها شيء ،وسيجازيهم بذلك ،فيكون على هذا ،قد جمع بين علمه
بأعمالها -وذلك بتعليمه -وبين علمه بأعمالهم المتضمن للجزاء.
ويحتمل أن الضمير يف قوله{ :ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ} يعود إلى اهلل ،وأن اهلل تعالى
قد علم عباداهتم ،وإن لم تعلموا -أيها العباد -منها ،إال ما أطلعكم اهلل عليه»(((.
ثم عقب اهلل تعالى على هذا المشهد بقوله{ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ
ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ} أي« :إن اهلل تعالى ۴عليم بكل ما يفعله عباده من
تسبيح وتقديس بل ومن تقصير ومعصية ،أليس هو الذي يملك السماوات واألرض؟،
وإليه مصير من يف السماوات واألرض؟ وما دام كذلك فال غروا أن َت ْعنوا له الوجوه
و ُت َع َّف َر بين يديه الجباه و ُيسبِ ُح بحمده كل شيء و َتسجدُ له الخالئق وظلها»(((.
التسبيح لغة« :مصدر س ّبح وهو مأخوذ من ما ّدة (س ب ح) ا ّلتي تدور حول
السعي»(((.
األول :جنس من العبادة واالخر جنس من ّ
معنيينّ :
جل ثناؤه -من ّ
كل سوء ،والتّنزيه التّبعيد ومن هذا الباب :التّسبيح وهو تنزيه اهللّ -
والعرب تقول :سبحان من كذا ،أي ما أبعده.
التحرير والتنوير (.)258/18 (( (
تيسير الكريم الرحمن -السعدي (.)570 (((
من لطائف التفسير (.)441/2 (((
مقاييس اللغة ( ،)125/3واللسان (.)472/2 (((
214
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
الصاحبة والولد ،وقيل :تنزيه اهلل تعالى عن ّ
كل ما سبحان اهلل :معناه تنزيها هلل من ّ
ال ينبغي له أن يوصف به ،قال :ونصبه أنّه يف موضع فعل على معنى تسبيحا له ،تقول:
الز ّجاج
ّبي ﷺ ،وقال ّ
س ّبحت اهلل تسبيحا أي ّنزهته تنزيها ،قال :وكذلك روي عن الن ّ
يف قوله تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ} ،قال :منصوب على المصدر ،المعنى
أس ّبح اهلل تسبيحا.
الرجل :قال سبحان اهلل ،ويف التّنزيل{ :ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ}.
وس ّبح ّ
عما
واصطالحا «قال ابن حجر :التّسبيح يعني قول سبحان اهلل ،ومعناه :تنزيه اهلل ّ
الرذائل.
والصاحبة والولد وجميع ّ
الشريك ّ ال يليق به من ّ
كل نقص ،فيلزم نفي ّ
ويطلق التّسبيح ويراد به جميع ألفاظ ّ
الذكر ،وجماع معناه .وقال الجرجاينّ:
الحق عن نقائص اإلمكان والحدوث»(((.
التّسبيح تنزيه ّ
واآلي�ات تع�رض «بع�ض أدل�ة وج�ود اهلل وتوحي�ده وقدرت�ه ،أوله�ا :تس�بيح
المخلوقات.
والمعنى :ألم تعلم بالدليل الواضح أيها النبي وكل مخاطب أن اهلل ينزهه ويقدسه
كل م�ن يف الس�ماوات واألرض ،من العقلاء وغيرهم ،من المالئك�ة واإلنس والجن
والجم�ادات ،والطي�ر باس�طات قابض�ات أجنحتها ح�ال طيراهنا يف جو الس�ماء كيال
تس�قط .والجمهور على أن تس�بيح الطير والجمادات تسبيح حقيقي ،ويراد به التعظيم
والتقديس ،وذلك بأسلوب يتفق مع طبيعة هذه المخلوقات ،وكل واحد مما ذكر {ﯡ
ﯢ} اهلل {ﯣ ﯤ} ،أي أرشده إلى طريقته ومسلكه يف عبادة اهلل ،۵واهلل تام
العلم بجميع ذلك ،وال يخفى عليه شيء من أفعالهم ،وهو مجازيهم عليها.
((( فتح الباري ( ،)210/11والتعريفات للجرجاين (.)58
215
دراسة موضوعات سورة النور
واهلل تعالى مالك جميع ما يف السماوات واألرض ،وهو الحاكم المتصرف فيهما،
بالخلق واإلماتة ،وإليه وحده مصير الخالئق ومعادهم يوم القيامة»(((.
«تسبيح اهلل هو حيثية اإليمان به كإله ،والتسبيح :هو التنزيه ،وهذا ثابت هلل تعالى
قبل أن يوجد م ْن َخ ْلقه َم ْن ُي ِّنزهه ،والحق سبحانه ُم َّنزه بذاته والصفة كائنة له قبل أن
الخ ْلق.
يخلق الخلق؛ فصفات الكمال يف اهلل تعالى موجودة قبل وجود َ
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة يف القرآن الكريم مادة (سبح) يجدها بلفظ
(س ْبحان) يف أول اإلسراء{ :ﭐﭑ ﭒ ﭓ} [اإلسراء ،]1 :ومعناها أن التنزيه ثابت
ُ
هلل تعالى قبل أن يخلق من ينزهه.
ثم بلفظ{ :ﭐﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ} [الحديد ،]1 :بصيغة الماضي ،والتسبيح ال
يكون من اإلنسان فقط ،بل من السماوات واألرض ،وهي َخ ْلق سابق لإلنسان.
ثم يأيت بلفظ{ :ﭐﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ} [الجمعة ،]1 :بصيغة المضارع؛
ليدل على أن تسبيح اهلل ليس يف الماضي ،بل ومستمر يف المستقبل ال ينقطع .إذن :ما
دام التسبيح والتنزيه ثابتًا هلل تعالى قبل أن يخلق َم ْن ُي ِّنزهه ،وثابتًا هلل من جميع مخلوقاته
يف السماوات واألرض ،فال ت ُك ْن أيها اإلنسان ً
نشازا يف منظومة الكون ،وال تخرج عن
هذا! بل {ﭐﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ} [األعلى.]1 :
وقوله تعالى{ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ} [اإلسراء ]44 :أي :ما من شيء ،كل ما ُيقال له
شيء .والشيء هو جنس األجناس ،فالمعنى أن كل ما يف الوجود ُيس ِّبح بحمده تعالى.
قال العلماء :أي تسبيح داللة على عظمة التكوين ،وهندسة البناء ،وحكمة
الخلق ،وهذا يلفتنا إلى أن اهلل تعالى م َّنزه ومت َع ٍ
ال وقادر ،ولكنهم فهموا التسبيح ُ ُ
على أنه تسبيح داللة فقط؛ ألهنم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه.
((( التفسير الوسيط للزحيلي (.)1759/2
216
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
فقوله تعالى{ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ} يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الداللة
حقيقي ذايتّ ينشأ بلغة كل جنس من األجناس،
ّ الذين آمن بمقتضاه المؤمنون ،إنه تسبيح
وإذا كنا ال نفقه هذا التسبيح ،فقد قال تعالى{ :ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ} [النور.]41 :
فكيف نستبعد أننا ال نعلم لغة المخلوقات األخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم
ي ْك ِفنا ما أخربنا اهلل به من وجود لغة لجميع المخلوقاتْ ،
وإن كنا ال نفهمها؛ ألننا نعتقد
أن اللغة هي النطق باللسان فقط ،ولكن اللغة أوسع من ذلك .وهناك :لغة اإلشارة،
ولغة النظرات ،ولغة التلغراف..
217
دراسة موضوعات سورة النور
فاللغة ليست اللسان فقط! بل هي استعدا ٌد الصطالحٍ ُي ْفهم و ُيتعارف عليه،
ينظر إليه س ّيده نظرة يفهم منها ما يريد ،فهذه النظرة َل ْو ٌن من فالخادم اً
مثل يكفي أن َ
ألوان األداء.
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل َعا َل ٍم لغ ًة يتفاهم هبا،
كما يف قوله تعالى{ :ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ} [األنبياء ،]79 :فالجبال ُتس ّبح
مع داود ،و ُتسبِح مع غيره ،ولكن المراد هنا أهنا ُتس ّبح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه،
وفهمت عنه.
ْ وكأهنما يف أنشودة جماعية منسجمة .فال ُبدَّ أن داود ڠ قد َف ِهم عنها
وتبسم ضاح ًكا من
تكلمت أمام سليمان ڠ ففهم كالمهاَّ ،
ْ وكذلك النملة التي
منطق ُيس ّبح اهلل به ،ولكن قولها .وقد ع َّلمه اهلل َ
منطق الطير .فلكل جنس من األجناس ٌ
ال نفقه هذا التسبيح؛ ألنه تسبيح بلغة ُمؤ ِّدية ُمع ّبرة يتفاهم هبا َم ْن عرف التواضع عليها.
وقد جعل الحق گ تنزيهه مطل ًقا ينقاد له الجميع ،حتى الكافر ينقاد لتنزيه اهلل
َق ْه ًرا عنه ،مع أن لديه ملك َة االختيار بين الكفر أو اإليمان ،لكن أراد الحق سبحانه أن
يكون تنزيهه ُم ْطل ًقا من الجماد والنبات والحيوان ،ومن المؤمن والكافر»(((.
تسبيح المخلوقات:
أ ّما قوله تعالى{ :ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
إن ّ
كل ما خلق اهلل يس ّبح ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ} ،قال أبو إسحق :قيل ّ
السقف ،وصرير الباب من التّسبيح ،فيكون على هذا الخطاب بحمدهّ ،
وإن صرير ّ
للمشركين وحدهم{ :ﮠﮡﮢﮣﮤ} ،وجائز أن يكون تسبيح هذه األشياء بما
اهلل به أعلم ال نفقه منه إلاّ ما ع ّلمناه ،قال :وقال قوم {ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ} :أي ما
((( ينظر :تفسير الشعراوي ( ،)2057باختصار.
218
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
أن اهلل ۵خالقه ّ
وأن خالقه حكيم مربّأ من األسواء ولكنّكم، من دا ّبة إلاّ وفيه دليل ّ
أ ّيها الك ّفار ،ال تفقهون أثر ّ
الصنعة يف هذه المخلوقات ،قال أبو إسحاق :وليس هذا
السماء واألرض
أن اهلل خالقهم وخالق ّ ألن ا ّلذين خوطبوا هبذا كانوا ّ
مقرين ّ بشيء؛ ّ
ومما يد ّلك على
األزهريّ :
ّ ومن فيه ّن ،فكيف يجهلون الخلقة وهم عارفون هبا؟ .قال
ّ
أن تسبيح هذه المخلوقات تسبيح تع ّبدت به قول اهلل ۵للجبال{ :ﭐﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ} [سبأ ،]10 :ومعنى ّأوبي س ّبحي مع داود النّهار ك ّله إلى ال ّليل ،وال يجوز أن يكون
معنى أمر اهلل ۵للجبال بالتّأويب إلاّ تع ّبدا لها ،وكذلك قوله تعالى{ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ
ﮆ ﮇ} [الحج ،]18 :فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها ال نفقهها عنها كما
ال نفقه تسبيحها ،وكذلك قوله{ :ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ} [البقرة ،]74 :وقد علم اهلل هبوطها من
يعرفنا ذلك فنحن نؤمن بما أعلمنا ،وال ندّ عي بما ال نك ّلف بأفهامنا من
خشيته ولم ّ
علم فعلها كيف ّية نحدّ ها»(((.
«واعلم أنه إما أن يكون المراد من التسبيح داللة هذه األشياء على كونه تعالى
منزها عن النقائص موصوفا بنعوت الجالل ،وإما أن يكون المراد منه أهنا تنطق
بالتسبيح وتتكلم به ،وإما أن يكون المراد منه يف حق البعض الداللة على التنزيه ويف
حق الباقين النطق باللسان ،والقسم األول أقرب ألن القسم الثاين متعذر ،ألن يف
األرض من ال يكون مكلفا ال يسبح هبذا المعنى ،والمكلفون منهم من ال يسبح أيضا
هبذا المعنى كالكفار»(((.
(( ( نضرة النعيم (.)980/3
((( التفسير الكبير -الرازي (.)401/24
219
دراسة موضوعات سورة النور
«وجملة{ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ} تذييل ،وهـو إعـالم بسعـة علـم اهلل تعالى
الشامل للتسبيح وغيره من األحوال ،واإلتيان بضمير جمع العقالء تغليب»(((.
املبحث الثاني
التذكري بالرجوع إىل اهلل
{ﯰ ﯱ ﯲﯳ} فهو عبارة تامة يف معرفة المعاد ،وهو أنه ال بد من مصير الكل
إليه سبحانه»(((.
بث ال ّله فيهما من
«والخالصة :إن عظمة الكون ،وإبداع السموات واألرض ،وما ّ
كائنات حية وجامدة ،وروعة ما نشاهده من تركيب اإلنسان ،وتنوع عالم الحيوان يف
الرب والبحر والجو ،وما يقوم به أضخم الحيوان وأصغره ،وتفنّن النحل يف بناء البيوت
وتكوين العسل ،وحيل العناكب الضعيفة يف اصطياد الحشرات ،وعجائب أعمال
الرب يف المخلوقات إيجادا وإعداما ،بدءا وإعادة ،كل ذلك دليل
الطيور ،وتصرف ّ
والرب الواحد المتصرف ،الذي ال
قاطع محسوس على وجود اإلله الخالق المبدعّ ،
رب سواه ،وال معبود بحق غيره.
ّ
هذا أول دليل كوين على وجود ال ّله وقدرته ووحدانيته ،وهو شامل لعدة أدلة ،كل
دليل منها كاف وحده يف تكوين القناعة ،ويمكن تصنيف ما ذكر يف اآليتين األوليين يف
دليلين إجماليين :دليل العبودية يف العالمين العلوي والسفلي ،ودليل الملك المطلق
ووحدة مصير الخالئق إلى ال ّله تعالى»(((.
املبحث الثالث
السماء والسحاب وما فيهما
والمراد به يف اآلية :إِما السحاب ،وإِ َّما الفضا ُء فكالهما يشتمل على جبال الركام التي
ينزل منها ال َب َرد ،كما هو صريح النص.
وإِطالق لفظ الجبال على الركام من باب التشبيه البليغ؛ فإن السحب الركامية
تشبه الجبال يف ضخامتها وارتفاعها»(((.
«وتارة ينزل اهلل من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه»(((:
أخرجه مسلم كتاب صالة االستسقاء باب الدعاء يف االستسقاء ( ،)898زاد يف رواية أبي داود (((
وأحمد( :فخرج رسول اهلل ﷺ فحسر ثوبه) أبو داود كتاب األدب باب ما جاء يف المطر ()5100
وأحمد يف المسند ( )12388و(.)13847
التفسير القرآين للقرآن ( )1301-1299/9باختصار. (( (
التفسير الوسيط-طنطاوي (.)1442/6 (((
تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)519 (((
226
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
«{ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ} ومعناه :أن يف السماء جبال برد ينزل اهلل منها الربد .وأما من
جعل الجبال ههنا عبارة عن السحاب ،فإن (من) الثانية عند هذا البتداء الغاية أيضا،
لكنها بدل من األولى ،واهلل أعلم»(((.
«قوله تعالى{ :ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ} أي :وينزل من جبال يف السماء،
وهى السحب المرتاكمة -بردا ،وهو قطع الثلج.
فقوله تعالى{ :ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ} بدل من السماء؛ إشارة إلى أن هذه السحب
نعمة -يمكن أيضا أن تكون مصدر ٍ
نقمة، ٍ التي ينزل منها الماء - ،وإن كانت مصدر
حين ينزل منها هذا الربد ،وكأنه قطع من األحجار ،تتساقط من الجبال ،فتهلك كل
من تقع عليه ،وكأهنا هبذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة الكربى المنزلة
من السماء -مرصود ٌة ليؤخذ هبا كل من يكفر هبذه النعم ،وال يضيفها إلى المنعم هبا،
ويسبح بحمده ،ويشكر له.(((»..
«وقوله{ :ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ} يحتمل أن يكون المراد بقوله:
{ﰍ ﰎ} أي :بما ينزل من السماء من نوعي الربد والمطر فيكون قوله{ :ﰍ ﰎ
ﰏ ﰐ} رحمة لهم{ ،ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﰕ} أي :يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله{ :ﰍﰎ} أي :بالربد نقمة على من يشاء لما فيه
من نثر ثمارهم وإتالف زروعهم وأشجارهم .ويصرفه عمن يشاء أي :رحمة هبم»(((.
«وقوله تعالى{ :ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ} أي :أن هذا الربد الذي تحمله
السحب بين يديها ،ال نرمى به هكذا من غير حساب ،بل هو مملوك بيد القدرة القادرة،
(( ( تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)73/6
((( التفسير القرآين للقرآن ( )1302-1301/9باختصار.
((( تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)73/6
227
دراسة موضوعات سورة النور
فيقع حيث أراد اهلل أن يقع ،ويصرف عمن أراده اهلل سبحانه أن يصرفه عنه ،من نبات،
وحيوان ،وإنسان.(((»..
«وقوله{ :ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚﰛ} أي :يكاد ضوء برقه من شدته يخطف
األبصار إذا اتبعته وتراءته»(((..
«{ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚﰛ} أي :يكاد ضوء برق ذلك السحاب من شدته
يذهب باألبصار»((( ،فيجمع بين إتالف الربد للموجودات والممتلكات والبشر وبين
إخافة الرائي له إخافة تخطف العيون من محاجرها نسأل اهلل العفو والعافية.
«وىف قوله تعالى{ :ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚﰛ} ٌ
لون جديدٌ تكمل به صورة
هذا العذاب الواقع مع الربد المتساقط كاألحجار ،فهذا الربد يحمل معه الصواعق
أعز وأقوى
المهلكة ،والنار المحرقة ،وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر ،وما ّ
سلطانه!!»(((.
املبحث الرابع
الليل والنهار وتقليبهما
ولكن
ًّ ثم يأتي المشهد الثالث :من بديع صنع اهلل ،هذا المشهد الذي نراه كل يوم،
ِ
العقول ،وإِ َلف المشهد جعلنا ال نستشعر عظيم خلق اهلل تعالى ،يقول تعالى: تبلدَ
{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ}.
«{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ} َأيُ :ي َص ِّرفهما بالمعاقبة بينهماَ ،أو بنقص أحدهما،
وزيادة اآلخرَ ،أو بتغيير َأحوالهما بالحر والربد ،والمظلمة والنور ،أو بما يعم ذلك
كله»(((.
«وقوله{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ} أي :يتصرف فيهما ،فيأخذ من طول هذا يف قصر
هذا حتى يعتدال ثم يأخذ من هذا يف هذا ،فيطول الذي كان قصيرا ،ويقصر الذي كان
طويال .واهلل هو المتصرف يف ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه»(((.
«{ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ} من حر إلى برد ،ومن ليل إلى هنار ،ومن هنار إلى ليل،
و ُي ُ
ديل األيام بين عباده ،وهذا كله عربة لذوي العقول النافذة لألمور المطلوبة منها،
فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبير لما أريد هبا ومنها،
والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة بمنزلة نظر البهائم»((( ،فسبحان من يقلب
الليل والنهار لمصالح العباد والحيوان والنبات.
ب الدهر وأنا
قال عليه الصالة والسالم« :قال اهلل تعالىُ :ي ْؤذيني ابن آدمَ ،ي ُس ُّ
(( ( التفسير الوسيط-طنطاوي (.)1444/6
((( تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)73/6
((( تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)519
229
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث اخلامس
الدواب خلقها وسعيها
ثم يأتي المشهد الرابع :يتأمل فيه العبد كيف خلق اهلل گ الدواب على األرض،
وعلى أي صورة خلقها اهلل تعالى{ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ}.
قرأ حمزة والكسائي{ :ﭝﭚ ﭗ ﭠ ﭡ ﭢ} على صيغة :فاعل وهو مضاف
يشتَمل على ما مضى وما يحدث مِ َّماإلى ما بعده ،فيكون {ﭐﭚ} َأعم وأجمع ،ألَنَّه ْ
هو كَائِن ،ويدُ ل عليه قوله{ :ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ} [األنعام.]102
وقرأ الباقون{ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ} فيكون المقصود من ذلك التنبيه على
االعتبار بما بعد الفعل من المخلوقات ،وإذا كان ذلك كذلك فأكثر ما يتأتى فيه الفعل
على َف َعل ،وهذا الموضع موضعه؛ كما قال تعالى{ :ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ} [النساء ،]1 وقال{ :ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ} [الفرقان ،]2 فنبههم بذلك أن
يعتربوا ويتفكروا يف قدرته ،فكذلك قوله{ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ}(((.
فاآلية تخرب عن قدرة اهلل العظيمة يف خلقه ألنواع المخلوقات على اختالف
أشكالها وألواهنا ،وحركاهتا وسكناهتا ،فكل الدواب على األرض خلقها اهلل من ماء
مع تنوع أصنافها ،ودلت اآلية أن أصل الحياة يف الكون كما تؤكده اآليات واألحاديث
هو الماء ،وهذا يتضمن التأكيد على أن الحياة ناشئة بإرادة اهلل من أصل واحد هو
الماء؛ {ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ} [األنبياء ،]30 :فالحيوانات التي تتوالد مادهتا ماء،
((( ينظر :حجة القراءات -ابن زنجلة (ص.)502
232
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
والتي تتولد من األرض-كالحشرات -تتولد من الرطوبات المائية بقدرة اهلل ،فهذا
سبب للحياة؛
ٌ الما ُء قد جعله اهلل أصل الخلق لإلنسان وغيره مما يدب ،ومنه ما هو
فالتفكر فيه آيةٌ ،وشكره عبادةٌ ،والسعي فيه عمار ٌة لألرض والحياة ،وهذه الدواب
جميعها تشرتك يف ما َّدة تكوينها ،وتختلف يف أشكالها وأفعالها وأسلوب حياهتا؛ وك ُّلها
هلل مطيع ٌة عابدةٌ ،منقاد ٌة إلى ما خلقها اهلل له ،فسبحان اهلل العظيم ،وعج ًبا لعصيانك يا
ابن آدم!
إن حياة ك َُّل َح ٍي إِ َّما كامل ٌة كحياة اإلنسان وغيره من الحيوانات ،أو قاصر ٌة كحياة
َّ
الزرع والنبات ،وك ُُّل ذلك ال بد يف تحقق حياته من الماء على ما هو مشاهد ،وهي
محتاج ٌة إلى الماء لبقائها ووجودها.
واهلل ۵هو الذي خلق جميع الدواب التي تدب على وجه األرض ،وجعلها
أمم وقبائل ،وأنواع وأجناس ،وأشكال وألوان ،وذكور وإناث ،وهي أعداد هائلة
ٌ
اليحصيها إال اهلل الذي خلقها ودبرها ،والذي يطعمها ويسقيها ،وينميها ويعافيها،
ويعلم مستقرها ومستودعها ،فهي سارب ٌة منتشرة ،يف ملكه بأمره سبحانه ،تأكل وتشرب
من مائدة نعمه الكربى يف األرض ،وكلها تسبح بحمد رهبا طائعة لخالقها ،عابدة
ساجدة له ،حتى تستكمل آجالها ،وتستويف أرزاقها ،قال تعالى{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚﯜ} [النحل ،]50-49 :وقال تعالى{ :ﭐﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ} [هود ،]6 :وأراد عموم كل دابة وشمولها
فقال تعالى{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ} [النحل ،]49 فجاء بـ «ما»
التي تعم النوعين وتشملهما ،ولو جاء بـ «من» ّ
لخص العقالء.
233
دراسة موضوعات سورة النور
وقد تكفل اهلل ۵بأرزاق الخالئق كلهم ،البشر والحيوان ،والطيور والحشرات،
قويهم وضعيفهم ،قادرهم وعاجزهم ،يسوقهم إلى أرزاقهم ،أو يسوق أرزاقهم إليهم:
{ﭐﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ}.
وال يزال اهلل يسخر لهذه الخالئق أرزاقها يف كل وقت بوقته ،وال يمكن أن هتلك
دابة من عدم الرزق ،بسبب أهنا خافية عليه ،فهو سبحانه السميع العليم الذي ال يخفى
عليه شيء{ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ}
[العنكبوت ،]60 :فسبحان خالق هذا الكون العظيم ،وما فيه من المخلوقات المختلفة.
وهي مخلوقات إلى جانب منافعها ،تحمل ٍ
آيات وعربَ ،وهي مخلوقة مقدّ رة،
مأمورة مد ّبرة ،صغيرها وكبيرها ،ذكورها وإناثها ،قو ّيها وضعيفها ،ك ّلها يف قبضة اهلل،
ونواصيها بيده{ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿﮀ} [هود.]56 :
وكل فرد من هذه المخلوقات ،قدَّ ر اهلل زمانه فال يكون إال فيه ،وقدَّ ر مكانه،
محسوب كغيره من
ٌ وقدَّ ر ُخطاه ،وقدَّ ر طعامه ،وقدَّ ر أجله ،وقدَّ ر كم َّية أفراده ،وهو
المخلوقات واألحداث العظام الضخام{ :ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ} [الشورى .(((]29 :فيوجه اهلل أنظارنا إليها لنتعرف
على قدرة اهلل المعجزة يف الخلق والتدبير ،فنؤمن باهلل ونعبده حق عبادته.
اً
سافل، ومن دالئل تفرد اهلل بذلك أن َج ْعل بعض تلك المخلوقات عال ًيا وبعضها
اً
منفصل ،وبعضها على اً
متصل بغيره ،وبعضها صغيرا ،وبعضها
ً كبيرا وبعضها
وبعضها ً
صفة ،وبعضها على صفة أخرى{ :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ} فمنها ما يمشي على بطنه
مختصرا.
ً ((( ينظر :موسوعة فقه القلوب ()534-528/1
234
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
كالحيات وغيرها من الزواحف ،ومنها ما يمشي على رجلين كاإلنسان والطيور،
ومنها ما يمشي على أربع كبهيمة األنعام ونحوها ،ومنها ما يطير بجناحيه ،ومنها ما
يسبح يف البحار واألهنار..
ٌ
جميل على الهيئة التي خلقها اهلل فإذا بدلت لم تستقيم ولم تجمل ،ولذا كان ٌ
وكل
تغير الخلق من وحي الشيطان {ﯗﯘﯙﯚﯛ} [سورة النساء ]119 فخَ ْل ُقها
ٍ
وتأثر بصفات الخالق جل وعال ،واختالفها ٍ
وجالل ٍ
وجمال ٍ
حكمة آية ،وال يخلوا من
آية وجمال وجالل ،وال يحيط به إال خالقه .۵
جاءت األجناس الثالثة على هذا الرتتيب؛ «لتقديم ما هو أعرق يف القدرة وهو
الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم ،ثم الماشي على الرجلين ،ثم الماشي على
أربع»(((.
ثم يقول اهلل تعالى{ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ} أي :أن اهلل
سبحانه يخلق أي شيء ألنه سبحانه هو وحده الخالق ،وهو على كل شيء قدير.
فلنعترب بما «قاله اهلل سبحانه عن الكون والكائنات ،واألشياء واألحياء ،فالحق هو
معر ٌض للصواب والخطأ،
ما قال .وليس للعقل أن يقول ،فكل ما يبلغه العقل يف هذا َّ
وما قرره اهلل سبحانه ال يحتمل إال الحق والصواب»((( ،ولذا إذا تدبرنا األمر نجد
عشرات اآليات التي ال يأيت ذكر عالم المخلوقات؛ إال و ُقرنت بخلق اهلل لها ،وتسخيره
وتدبيره ،وملكه وفعله گ.
اً
أصول عامة ،وكل ما خالفها ُيعلم ُبطالنه، «واآليات يف ذلك كثيرة ،وتبقى هذه
نص ،وغالب ما يقوله أهل العلوم
أما كيفية الخلق فهي مما ال نعلمها؛ ألنه لم يرد فيها ٌ
(( ( الكشاف ( ،)71/3أعرق :أقوى يف بيان قدرة اهلل وعظمتها ،والتفكر فيها ،وعرب عنه ابن األثير بقوله:
«تقديم األعجب فاألعجب».
((( موسوعة فقه القلوب (.)1475/2
235
دراسة موضوعات سورة النور
مما يدخل يف باب الكيفيات ،فإن كانت من الغيب الذي ال يمكن للبشر علمه إال
بالخرب مثل خلق آدم ڠ ،فكل دعوى حوله هي من الرجم بالغيب؛ ألنه ال طريق
لها إال بالخرب ،بخالف خلق اإلنسان ،فقد كان أمره من الغيب النسبي ،وقد جاء ذكر
تفاصيل ذلك يف القرآن ،وكانت التفاصيل المذكورة غير ممكنة المعرفة زمن نزول
القرآن ،فكانت من الغيب النسبي ،ثم مع تطور األجهزة الحديثة التي ُت ّ
صور كيفيات
مفصلٍ ،وهذه من دالئل
تخلق الجنين يف بطن األم ُعرف معنى تلك اآليات على وجه َّ
اإلسالم ابن تيمية حول قوله تعالى{ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ النبوة ،قال شيخ ِ
((( كالم شيخ االسالم يف مجموع الفتاوى ( .)261-260/16وينظر :النظريات العلمية الحديثة حسن
األسمري (.)978-977/2
236
ا تايآ يف رظنلا :ثلاثلا لصفلا ثلاثلا بابلا
املبحث السادس
احلكمة من اآليات واملشاهد
اهتدى ،ومن أعرض عنها فضل وشقى فال يلومن إال نفسه{ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ}.
{ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ} هدايته ممن رغب يف الهداية وطلبها وسلك لها مسالكها،
{ﮉ ﮊ ﮋ} وهو اإلسالم ،طريق الكمال والسعادة يف الحياتين ،اللهم اجعلنا
من أهله إنك قدير».
240
لا يف عمتجملا بادآ :عبارلا بابلا
الباب الرابع
آداب اجملتمع يف اإلسالم
الباب الرابع :آداب اجملتمع يف اإلسالم
تضمن هذا الباب تذكير اهلل ۵للمؤمنين بوجوب طاعة رسول اهلل ﷺ،
ٌ
ثمراث من أعظمها وقدرا -وأن تلك الطاعة لها
ً وطاعة من واله اهلل أمر عباده -شر ًعا
االستخالف والتمكين ،االستخالف يف األرض ،والتمكين للدين ،وأن لتلك الطاعة
آداب البد من مراعاهتا حال االجتماع ،وحال االستئذان ،وغيرهما مما يؤثر للصالح
العام وبه تنتظم أمور المجتمع ،وأن ذلك اليخرج عن عبادة اهلل سبحانه.
وذلك يف آيات سورة النور من اآلية ( )47حتى اآلية ( )64من هذه السورة.
ويشتمل هذا الباب على ثالثة فصول ،وكل فص ٍل له مباحثه:
الفصل األول :وجوب طاعة الرسول ﷺ وأولي األمر.
الفصل الثاين :أسباب النصر والتمكين يف األرض.
الفصل الثالث :أدب الطاعة للرسول ﷺ واحترام ولي األمر.
وإليك بياهنا:
241
دراسة موضوعات سورة النور
الفصل األول
وجوب طاعة الرسول
الفصل األول :وجوب طاعة الرسول الباب الرابع
تمهيد:
قال تعالى{ :ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ
ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ
ﯵ ﯶ ﯷﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ
ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﰙ
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ}.
إن اإليمان الصحيح متى استقر يف القلب ظهرت آثاره يف السلوك ،ومنهج اإلسالم
الواضح يف الرتبية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآداهبا إلى حركة
سلوكية واقعية.
وابتداء اآليات هنا بالجواب عن شبهات الذين ال يتبعون رسول اهلل ﷺ ،وسبب
ذلك ،ثم بيان األصل الواجب يف إتباع سنة رسول اهلل ﷺ وحال المؤمنين يف ذلك ،كل
هذا من أسلوب القرآن يف كشف الشبهات والرد عليها.
والواضح يف اآليات أن المتحدث عنهم قد ثبت لديهم وجوب طاعة الرسول
242
وسرلا ةعاط بوجو :لوألا لصفلا عبارلا بابلا
ﷺ ألهنم أقروا به لف ًظا ،أما المخالفة فكانت يف العمل؛ وهذا مكمن الداء الذي
يحذر منه السلف كثيرا ،وهو العلم بال عمل ،فالحديث يف هذا المقطع عن المنافقين
ظاهرا ،المخالفين يف الحقيقة ،المكذبين يف المآل.
ً المستسلمين
وسنحاول إبراز هذا الجانب يف موضوع اآليات من خالل ثالثة مباحث:
المبحث األول :الهروب عن التحاكم إلى اهلل ورسوله.
المبحث الثاين :المستقيمين على منهج رسول اهلل ﷺ.
المبحث الثالث :حال الناس يف الطاعة وواجب الرسول ﷺ تجاههم.
243
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث األول
اهلروب عن التحاكم إىل اهلل ورسوله
يخرب اهلل گ عن المنافقين ،الذين يظهرون اإلسالم ولكن قلوهبم خالية منه ومن
استشعاره ،قال تعالى{ :ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ
ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ}« :فهم
يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما ال يفعلون»((( .ولهذا قال اهلل تعالى عنهم {ﮚ
ﮛ ﮜﮝ}؛ فاإليمان ليس لعب ًة يتلهى هبا صاحبها ،ثم يدعها ويمضي ،إنما
هو تكليف النفس ،وانطباع يف القلب ،وعمل يف الواقع ،ثم ال تملك النفس الرجوع
عنه متى استقرت حقيقته يف الضمير.
والدليل على أهنم يخالفون ما يقولونه بألسنتهم من اإليمان ما ضربه اهلل اً
مثال
لذلك يف قوله تعالى{ :ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ} أي« :أهنم إذا دعوا إلى تحكيم شريعة اهلل تعالى فيما
شجر بينهم وبين الناس إذا فريق منهم يرفضون حكم اهلل تعالى وحكم رسوله ﷺ إذا
كان الحكم ليس لصالحهم ،أما إذا كان الحكم لصالحهم فإهنم يأتون إليه منقادين له
راضين به ،وانقياد هذا الفريق ليس انقيا ًدا ألحكام الشريعة اإلسالمية وإنما هو انقيا ٌد
لمصالحهم ،فالقوم عبيد المصالح واألهواء والشهوات»(((.
ويف اآليات هنا عدة تساؤالت توبيخية إنكارية! وهي تعرض السبب يف
(( ( تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)74/6
((( موضوعات القرآن -سورة النور (.)82
244
وسرلا ةعاط بوجو :لوألا لصفلا عبارلا بابلا
املبحث الثاني
املستقيمني على منهج رسول اهلل
يف الجانب اآلخر يأيت وصف المؤمنين باهلل ح ًقا يف االستجابة ألمر اهلل ،قال
تعالى{ :ﭐﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ
ﯷﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ}.
أول :صفات المؤمنين المستجيبين ألمر اهلل يف اآلية:
اً
1 -1السمع والطاعة{ :ﯱ ﯲ ﯳ}:
السمع والطاعة بال تردد وال جدال وال انحراف ،السمع والطاعة المستمدان من
الثقة المطلقة يف أن حكم اهلل ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى؛ النابعان من التسليم
المطلق هلل ،واهب الحياة ،المتصرف فيها كيف يشاء؛ ومن االطمئنان إلى أن ما يشاؤه
خيرا مما يشاءونه ألنفسهم« ،وحكم الرسول بما شرع اهلل من األحكام
اهلل للناس ً
ُ
الرسول يف حكمه َش ْر َع اهلل الحق ،وال يخالف
ّ ال يحتمل الحيف إذ ال يشرع اهلل إ ّ
ال
تعالى»((( .فهي «طاعة تامة ،سالمة من الحرج»(((.
فال إسالم بال طاعة ألمر اهلل ،وإنفاذ منهجه يف الحياة ،وال إيمان حيث يعرض
الناس عن أمر اهلل يف الكبيرة والصغيرة من شؤون حياهتم؛ أو حيث ال ينفذون شريعته،
أو حيث يتلقون تصوراهتم عن الخلق والسلوك واالجتماع واالقتصاد والسياسة من
مصدر غير شريعته.
(( ( التحرير والتنوير (.)463/3
((( تيسير الكريم الرحمن -السعدي (.)572
246
وسرلا ةعاط بوجو :لوألا لصفلا عبارلا بابلا
ولذا فهم يقولون« :سمعنا الدعاء وأطعنا باإلجابة»((( ،فهم ال يتوقفون عند ما
يسمعون أمر اهلل ولكن يبادرون مسرعين يف االنقياد واالستسالم هلل تعالى ،ألهنم
يعلمون أن حكم اهلل هو أعدل األحكام وهو خير األحكام سواء ظهرت لهم الحكمة
منه أم لم تظهر ألول مرة.
2 -2الطاعة العامة هلل والرسول{ :ﯱ ﯲ ﯳ}:
«فيما يأمرانه أو يف الفرائض والسنن»((( ،فالحديث يف اآلية السابقة عن الطاعة
والتسليم يف األحكام ،ويف هذا الموضع -يتحدث عن الطاعة كافة يف كل أمر أو هني.
3 -3خشية اهلل تعالى وتقواه{ :ﯽ ﯾ ﯿ}:
يما َي ْس َت ْقبِ ُل»((( ،وقيل:ِ
أي{« :ﯽ ﯾ} على ما عمل من الذنوب {ﯿ} ف َ
«{ﯽ ﯾ} أي :يخافه خو ًفا مقرونًا بمعرفة ،فيرتك ما هنى عنه ،ويكف نفسه عما
هتوى ولهذا قال{ :ﯿ} برتك المحظور ،ألن التقوى -عند اإلطالق -يدخل فيها
فعل المأمور ،وترك المنهي عنه ،وعند اقرتاهنا بالرب أو الطاعة -كما يف هذا الموضع -
تفسر بتوقي عذاب اهلل برتك معاصيه»(((.
ثان ًيا :الترابط بين هذه الصفات:
إن القارئ لهذه اآلية يالحظ قوة الرتابط والتالزم بين هذه الصفات فطاعة اهلل
ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه اهلل للبشرية وهو يؤدي للفوز
يف الدنيا واآلخرة ،وخشية اهلل وتقواه هي الحارس الذي يكفل االستقامة عل هذا
المنهج ،فالطاعة هلل ورسوله ال بد أن تكون مصحوبة بخشية اهلل وتقواه ،والتقوى أعم
معالم التنزيل -البغوي (.)56/6 (( (
أنوار التنزيل -البيضاوي (.)387/4 (((
معالم التنزيل -البغوي ( .)56/6تفسير القرآن العظيم -ابن أبي حاتم (.)184/10 (((
تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)572 (((
247
دراسة موضوعات سورة النور
من الخشية ،فهي مراقبة اهلل والشعور به عند الصغيرة والكبيرة؛ والتحرج من إتيان ما
اً
وإجالل له ،وحياء منه ،إلى جانب الخوف والخشية. توقيرا لذاته سبحانه،
ً يكره
وأدب الطاعة هلل ورسوله ،مع خشية اهلل وتقواه ،أدب رفيع ،ينبئ عن مدى إشراق
القلب بنور اهلل ،واتصاله به ،وشعوره هبيبته .كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعالئه.
فكل طاعة ال ترتكن على طاعة اهلل ورسوله ،وال تستمد منها ،هي ذلة يأباها
الكريم ،وينفر منها طبع المؤمن ،ويستعلي عليها ضميره ،فالمؤمن الحق ال يحني
رأسه إال هلل الواحد القهار.
«واشتملت هذه اآلية على الحق المشرتك بين اهلل وبين رسوله ،وهو :الطاعة
المستلزمة لإليمان ،والحق المختص باهلل ،وهو :الخشية والتقوى ،وبقي الحق الثالث
المختص بالرسول ،وهو :التعزير والتوقير ،كما جمع بين الحقوق الثالثة يف سورة
الفتح يف قوله{ :ﭐﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ} [سورة الفتح.(((»]9-8
ثال ًثا :نتيجة هذا التسليم وااللتزام بتلك الصفات؟
قال تعالى{ :ﯵ ﯶ ﯷﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁ ﰂﰃ} مفلحون :ألن اهلل هو الذي يدبر أمورهم ،وينظم عالقاهتم ،ويحكم
خيرا ممن يدبر أمورهم وينظم عالقاهتم ويحكم
بينهم بعلمه وعدله ،فال بد أن يكونوا ً
بينهم بشر مثلهم ،قاصرون ،لم يؤتوا من العلم إال قليال ،فرتكوا حكم الجاهلية لحكم
اهلل العزيز العليم ّ
جل وعال.
أيضا ألهنم مستقيمون على منهج واحد ال عوج فيه وال التواء،
وهم مفلحون ً
مطمئنون إلى هذا المنهج ،ماضون فيه ال يتخبطون فال تتوزع طاقاهتم ،وال يمزقهم
((( المصدر السابق.
248
وسرلا ةعاط بوجو :لوألا لصفلا عبارلا بابلا
الهوى كل ممزق ،وال تقودهم الشهوات واألهواء ،قال تعالى{ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ} [سورة لقمان.]22
وهم الفائزون الناجون يف دنياهم وأخراهم ،وهذا وعد من اهلل ال يخلف اهلل وعده
وهم للفوز أهل ،ولديهم أسبابه من واقع حياهتم« .فهم فائزون بنجاهتم من العذاب،
لرتكهم أسبابه ،ووصولهم إلى الثواب ،لفعلهم أسبابه ،فالفوز محصور فيهم ،وأما
من لم يتصف بوصفهم ،فإنه يفوته من الفوز بحسب ما قصر عنه من هذه األوصاف
الحميدة»(((.
فالذي يطع اهلل والرسول يف أي أمر من األمور ويسلم له ويجعل بينه وبين عذاب
ِ
رحمته وعفو ُه اهلل وقاية بامتثال األوامر واجتناب النواهي خشي ًة هلل وخو ًفا منه ورجا َء
فهم الفائزين قال تعالى{ :ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ}.
- -الفوز والفالح:
«الفالح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو
الظفر بالمبتغى من الخير»((( .فـ«الفالح هو :الظفر والفوز بدرك البغية ،وأصله من
الف ْلح -بسكون الالم -وهو الشق والقطع ،ومنه فالحة األرض وهو شقها للحرث.
وأستعمل منه الفالح يف الفوز ،كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه ،أو
انفتحت له طريق الظفر وانشقت»(((« .والمفلحون :الذين أدركوا بغيتهم من الجنة،
والفالح يأيت بمعنى إدراك البغية ،وبلوغ البغية يعم لفظة الفالح حيث وقعت والفوز
حصول اإلنسان على أمله ،وظفره ببغيته»(((« ،والفالح هو :الفوز بالمطلوب والنجاة
تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)572 (( (
التحرير والتنوير (.)224/16 (((
تفسير الوسيط (.)18/1 (((
المحرر الوجيز (.)296/3 (((
249
دراسة موضوعات سورة النور
من المرهوب»(((.
«والفوز يف اللغة النجاة»((( وهو« :الظفر العظيم الذي ال فوز وراءه»(((« ،والمعنى
أولئك هم الفائزون بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية اهلل تعالى ورحمته لم
يفته مطلب»(((.
قال الراغب «الفوز :الظفر بالخير مع حصول السالمة ،قال تعالى{ :ﯽ ﯾ
ﯿﰀ} [التوبة ..]20 فأما إذا اعترب بحال اآلخرة فيما يصل إليه من النعيم فهو الفوز
الكبير»(((.
«وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه اآلية .وهي جامعة
ألسباب الفوز»((( .وقال البقاعي« :ولما أفرد الضمائر إشارة إلى قلة المطيع ،جمع
لئال يظن أنه واحد فقال { :ﯽ} العالو الرتبة{ ،ﯾ ﯿﰀ} بالملك األبدي
وال فوز لغيرهم»(((.
«{ﭐﯽ} الذين جمعوا بين طاعة اهلل وطاعة رسوله ،وخشية اهلل وتقواه{ ،ﭐﯾ
ﯿﰀ} بنجاهتم من العذاب ،لرتكهم أسبابه ،ووصولهم إلى الثواب ،لفعلهم
أسبابه ،فالفوز محصور فيهم ،وأما من لم يتصف بوصفهم ،فإنه يفوته من الفوز
بحسب ما قصر عنه من هذه األوصاف الحميدة»(((.
املبحث الثالث
حال الناس يف الطاعة وواجب الرسول جتاههم
بعد هذا العرض والوصف الرباين وهذه المقابلة العجيبة بين الذين يتلقون أوامر
اهلل ورسوله بالطاعة؛ وبين الذين يفرون من أوامر اهلل وحكمه ،يصل اهلل تعالى الحديث
عن أولئك المنافقين الذين ال يريدون أن يتحاكموا إلى اهلل رسوله فيقول تعالى:
{ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﰘﰙ
ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ}.
كان المنافقون يقولون لرسول اهلل وهم يقسمون أشد األيمان وأغلظها [لئن
أمرهم للخروج للجهاد ليخرجن] ،وهذا كذب وال شك ألن هذه طبيعتهم ،فقد قرر
تعالى عنهم ذلك يف آيات كثيرة منها{ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯﮰ} [سورة المجادلة ]16 وقال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ} [سورة التوبة.]62
ولكن اهلل تعالى يقول لنبينا محمد ﷺ أن يقول لهم{ :ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ}
أي« :ال تحلفوا طاعتكم طاعة معروفة ،معلومة إنما هي مجرد قول ال فعل معه ،فكلما
حلفتم كذبتم»(((.
{ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ} أي« :أولى بكم من أيمانكم ،أو ليكن منكم :طاعة
معروفة»((( ،فأولى بكم من هذه األيمان أن تكون منكم طاعة هلل ورسوله بالمعروفة
(( ( موضوعات سور القرآن -سورة النور (.)84
((( الجامع ألحكام القرآن (.)296/12
251
دراسة موضوعات سورة النور
بدون أيمان ألن أيمانكم هذه لن تجدي شي ًئا يف العمل إنما هي كذب وتمويه ولبس
للحق بالباطل قال تعالى{ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ} [سورة المنافقون.]4
وقال{ :ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯﭰ} [سورة النساء.]81
«ليكن منكم طاعة معروفة ،وقول معروف بإخالص القلب ،وال حاجة إلى
ٍ
خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان ال يوافقها معروفة ٍ
بنية ٍ اليمين»(((« .طاعة
الفعل»(((« .أو :طاعة معروفة معلومة ال يشك فيها كطاعة الخلص من المؤمنين»(((،
وقيل« :أطيعوا طاع ًة معروفة حقيقية»((( وقيل« :صحيح ٌة ال نِفاق فيها»(((.
ثم يعقب اهلل تعالى على هذه اآلية متوعدً ا من يكون على هذا المنهاج الشيطاين
بقولة{ :ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﰙ} فإن اهلل تعالى خبير بكل شيء تعملونه ومجازيكم
عليه ،فإن صدقتم وآمنتم باهلل حق اإليمان حصل لكم الفوز والفالح ،وإن كذبتم
أليما.
وأصررتم على عدم التسليم هلل ولرسوله فسيجازيكم يوم القيامة ويعذبكم عذا ًبا ً
ثم يأيت التعقيب الختامي بآية واحدة على ما سبق وصفه من النوعين يف اآليات
ُيبين اهلل فيها بإيجاز ووضوح:
1-1ما هو الواجب على الناس تجاه أوامر اهلل ورسوله؟
2-2وما ذا لو تولى الناس ولم يؤمنوا؟
3-3وما نتيجة التزام طاعة رسول اهلل؟
الجامع ألحكام القرآن-القرطبي (.)296/12 (( (
معالم التنزيل -البغوي (.)57/6 (((
روح المعاين ( ،)488/13والبحر المحيط (.)239/8 (((
روح المعاين (.)489/13 (((
زاد المسير (.)454/4 (((
252
وسرلا ةعاط بوجو :لوألا لصفلا عبارلا بابلا
4-4وما الواجب على الرسول ﷺ ومن دعا بدعوته لو لم يؤمن الناس؟
قال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ
ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ}.
1 -1فالواجب على الناس تجاه أوامر اهلل ورسوله :الطاعة ،قال تعالى{ :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ} فهذا أمر صريح يدل على الوجوب المطلق مع أن طاعة كل واحد
منهما متالزمة لطاعة األخرى ال تنفك عنها ،كما قال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ} [سورة النساء.]80
2 -2أما لو تولى الناس ولم يلتزموا بأمر اهلل تعالى وأمر رسوله{ :ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ} أي« :إن تتولوا عن الطاعة فال تضرون الرسول ألنه مسئول
فقط عما كلف به من تبليغ الرسالة ،وأنتم عليكم مسؤولية الطاعة المستمرة ،والخشية
والتقوى الدائمة»((( .فالرسول يتحمل أمر التبليغ والناس يتحملون أمر اإلتباع،
فشر.
شرا ٌ
فخير وإن ً
خيرا ٌ
وسيجازون على ذلك إن ً
3-3بين اهلل نتيجة اإليمان والطاعة للرسول فيقول تعالى{ :ﭡ ﭢ ﭣﭤ}
أي« :إن تطيعوا الرسول هتتدوا إلى الصراط المستقيم ،قوال وعمال ،فال سبيل لكم
إلى الهداية إال بطاعته ،وبدون ذلك ال يمكن بل هو محال»((( وهذا ترغيب لهم بالتزام
الطريق المستقيم ،الطريق الذي يوصلهم للنجاة والفالح وهو اتباع الرسول ﷺ ،كما
قال تعالى{ :ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ}
[سورة آل عمران.]31
4 -4وأما الواجب على الرسول ومن سلك سبيله ودعوته حتى ولو لم يؤمن الناس
(( ( موضوعات سور القرآن -سورة النور (.)84
((( تيسير الكريم الرحمن-السعدي (.)521
253
دراسة موضوعات سورة النور
-هو{ :ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ} أي« :أن الرسول عليه التبليغ الب ّين الذي
ٍ
ألحد ش ًكا وال شبهةً .والرسول ليس له من األمر شيء -فيما يخص هداية ال ُي ْبقى
التوفيق والهداية ،-وقد قام بوظيفته أحسن القيام»((( فيما هو من مقدرته واختصاصه
وهو داللة اإلرشاد والبيان .وهذا مثل قوله تعالى{ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
وقوله{ :ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ} [البقرة]272 ﮀ ﮁ ﮂﮃ}
[سورة هود.]12
َّ
إن هذه رسالة إلى كل الدعاة أنه ليس عليهم إال تبليغ الحق للناس وتبيينه لهم
أحسن البيان وأوضحه ليربؤوا ذممهم أمام اهلل تعالى ،ولكي ال يكون عند أحد من
الناس حجة أمام اهلل.
وال ينظر الدعاة إلى استجابة الناس أو عدم استجابتهم ،ولكن ليس عليهم إال
البالغ المبين ،فليشتغلوا بما هو مطلوب منهم ،مقدور لهم ،وليرتكوا ما ليس يف دائرة
اختصاصهم -وهو هداية التوفيق ،وال ييأسوا من رحمة اهلل.
فليبلغوا ويبينوا ويعلموا برحمة ورأفة وشفقة ،مع التوكل على اهلل ،والدعاء
للنفس والغير بالهداية والتقوى ،وأن تكون دعوهتم وفق منهج سيد المرسلين ﷺ بعلم
وبرهان من اهلل ،وليحذروا ما يضاد ذلك من العجلة واإلعجاب والغرور والتعالي على
الخلق ،والدعوة باالجتهادات غير الشرعية ،والقول على اهلل أو على رسوله بال علم،
واهلل المستعان وعليه التكالن.
الفصل الثاني
أسباب النصر والتمكني يف األرض
الفصل الثاني :أسباب النصر والتمكني يف األرض
املبحث األول
صفات أهل النصر
يا ترى ما الصفتان الجامعتان اللتان يكون هبما النصر والعزة للدين ويتحقق
واألمن واألمان؟؟
قال تعالى{ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ}.
«هذا وعد من اهلل لرسوله ﷺ بأن سيجعل أمته خلفاء األرض ،أي :أئمة الناس
والوالة عليهم ،وهبم تصلح البالد ،وتخضع لهم العباد{ ،ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ}
وحكما فيهم ،وقد فعل اهلل تبارك وتعالى ذلك وله الحمد والمنة.(((»..
لقد وعد اهلل گ باألمور التي تحتاجها أمتنا يف هذه األيام ،ولكن هذا الوعد لن
يتحقق إال لطائفة معينة «تتحلى بصفتين عظيمتين ،هبما تستحق الوعد الحق ،هاتان
الصفتان متى توفرتا يف أمتنا عرب تاريخها إال هتاوى الشرك تحت قدميها ،وظهر دين اهلل
على الدين كله ،هاتان الصفتان هما :اإليمان باهلل واألعمال الصالحة»(((.
ولكن ما هو ذلك اإليمان الذي تنتصر به األمة ويتحقق به وعد اهلل؟ وما هو العمل
الصالح الذي يتحقق به وعد اهلل؟
إن اإليمان الذي تنتصر به األمة ويتحقق لها ما تريد :هو اإليمان الكامل باهلل
(( ( تفسير القرآن العظيم -ابن كثير (.)77/6
((( من لطائف التفسير (.)445/2
257
دراسة موضوعات سورة النور
تعالى ،الذي يجعل كل حياة اإلنسان هلل تعالى؛ فهو اإليمان الذي يستغرق اإلنسان
كله ،بخواطر نفسه ،وخلجات قلبه ،وأشواق روحه ،وميول فطرته ،وحركات جسمه،
ولفتات جوارحه ،سلوكه مع ربه ومع الناس جميعا يتوجه هبذا كله إلى اهلل ،ذلك
اإليمان الذي هو منهج حياة كامل ،يتضمن كل ما أمر اهلل به ،ويدخل فيما أمر اهلل به
توفير األسباب ،وإعداد العدة ،واألخذ بالوسائل ،والتهيئ لحمل األمانة الكربى يف
األرض؛ وهي أمانة االستخالف ،وهذا اإليمان يقول اهلل عنه{ :ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ} [سورة األنعام.]162
فاإليمان باهلل تعالى الذي يتحقق به االستخالف ليس كلمة تقال ولكنه عمل
وإعداد واستعداد لالستخالف ،فإذا لم يكن مع ذلك اإليمان الذي يقال باللسان
ويعتقد به يف القلب ،عمل وإعداد واستعداد فلن يتحقق ذلك االستخالف.
أما العمل الصالح الذي يتحقق به االستخالف :فهو ما ينتج عن التصديق
واإليمان باهلل تعالى من أعمال صالحة ،وقيد اهلل تعالى األعمال بالصالحة ألن هناك
اً
أعمال تؤدي إلى االستخالف وهي مخالفة لإليمان فلن يحصل هبا االستخالف.
فيجب أن يكون العمل مواف ًقا للشرع ويكون العمل هلل وحده وليس من أجل عرض
من أعراض الدنيا.
ودائما يقرن اهلل تعالى بين اإليمان والعمل واالشرتاط يف العمل أن يكون
صالحا ،قال تعالى{ :ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ
ﮡ ﮢﮣ} [سورة الربوج ،]11 وقال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ} [سورة مريم ]96 واآليات يف ذلك كثيرة.
ٌ
مقبول ولكن السبب يف هذا االرتباط هو أنه ال إيمان كامل إال بالعمل وال َ
عمل
صالحا ،وأيضا ال عمل صالح إال إذا كان عن إيمان باهلل .فهما متالزمان ال
ً إال إذا كان
ينفك أحدهما عن اآلخر.
258
لا يف نيكمتلاو رصنلا بابسأ :يناثلا لصفلا عبارلا بابلا
فإذا حصل هذا اإليمان والعمل الصالح ما الذي سيحصل؟
سيحصل وعد اهلل وهو كما قال تعالى{ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓﮔ}.
ولكن ما حقيقة؟ وما معنى االستخالف يف األرض؟ وما معنى تمكين الدين؟ وما
معنى تبديل الخوف باألمن؟ وما سبيل المحافظة على هذا الموعود؟ هذا ما نعرفه يف
المبحث التالي:
259
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثاني
حقيقة االستخالف
االستخالف« :هو النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه أو لعجزه أو لموته أو
لتشريف المستخلف .والمعنى هنا لتشريف المستخلف فقد استخلف اهلل عباده
الصالحين يف األرض لتشريفهم وتكريمهم»(((.
هذا االستخالف ذكره اهلل يف مواضع من القرآن فقال تعالى{ :ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ}
[سورة األعراف .]129 وقوله تعالى{ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜﭝ} [سورة القصص .]6-5 وعلى هذا فإن المقصود من قوله تعالى:
{ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ} «يعني بني إسرائيل إذ أهلك اهلل الجبابرة بمصر
وأورثهم أرضهم وديارهم»(((.
وهذا االستخالف عام للصحابة وغيرهم ،أي :أن التمكين المذكور يف اآلية ليس
خاصا بالصحابة ﭫ فقط كما ذكره بعض العلماء ،ولكنه عام يف كل من تتوفر فيه
ً
الصفتان« .فصح أن اآلية عامة ألمة محمد ﷺ غير مخصوصة»(((.
ويجب التنبيه على أن االستخالف ليس مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم،
(( ( مفردات الراغب (ص.)156
((( الجامع ألحكام القرآن (.)299/12
((( الجامع ألحكام القرآن (.)229/12
260
لا يف نيكمتلاو رصنلا بابسأ :يناثلا لصفلا عبارلا بابلا
بل هو مع هذه األمور كلها ،القدرة على اإلعمار واإلصالح يف األرض ،ال على الهدم
واإلفساد ،وهو القدرة أيضا على تحقيق العدل والطمأنينة ،ال على الظلم والقهر.
هذا هو االستخالف الذي يريده اهلل ووعد به عباده {ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ} ليحققوا المنهج الذي يريده اهلل ،ويقرروا العدل الذي أمر اهلل ،ويسيروا
بالبشرية خطوات يف طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها ،فأما الذين يملكون فيفسدون
يف األرض ،وينشرون فيها البغي والجور فهؤالء ليسوا بمستخلفين يف األرض إنما هم
مبتلون بما هم فيه ،أو مبتلى هبم غيرهم.
اختبار من اهلل ،قال تعالى{ :ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ٌ وهذا االستخالف
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ} [يونسَ ]14 أي« :ثم جعلناكم أيها المخاطبون بشريعة
محمد ﷺ خلفا َء يف األرض تصلحون وال تفسدون ،من بعد أن َأهلكنا المكذبين
َّ
قبلكم ،الذين تسمعون أخبارهم وتشاهدون آثارهم.
{ﯷ ﯸ ﯹﯺ} أي :استخلفناكم من بعدهم لنعلم واق ًعا منكم
خيرا كان َأو ًّ
شرا .والمراد :أنه تعالى يعاملكم معاملة من وموجو ٌد؛ َأ َّي عم ٍل تعملون ً
يخترب ليظهر من َأمركم ،ما علم َأزال َأنه سيحدث منكم باختياركم لتقوم به الحجة
عليكم ،فيجازيكم على ما صدر منكم.
و ُأسلوب اآلية يشعر باستمالة المخاطبين نحو اإليمان ،إذ األصل َأن يكون
االستخالف بعد اختيار ،فإذا شعر المخاطب َأنه اختير لما استخلف فيه ،لاَ َن قلب ُه
وانجذبت نفسه نحو القيام بعمل الصالحات»(((.
َ
واالستخالف إنعا ٌم يمتن اهلل به على الناس{ :ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ
ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ} فهذا من «التذكير باإلنعام عليهم
((( التفسير الوسيط -األزهر ( )62/4باختصار.
261
دراسة موضوعات سورة النور
باالستخالف ،ويف سورة األعراف بتأكيد االثنين ألنه يف حكاية ما وقع لبني إسرائيل
من إسراعهم يف الكفر ومبادرهتم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة ،وجاء ذلك على
طريق االستئناف على تقدير أن اً
قائل قال :حينئذ يسرع العالي إلى عقوبة السافل!
فأجيب بأن اهلل فوق الكل وهو أسرع عقوبة ،فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو
أحقر منه على الرفيع فيهلكه؛ ثم رغب بعد هذا الرتهيب يف العفو بأنه على غناه عن
الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات ،بأنه خلق
السماوات واألرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون! ولوال
غفرانه ورحمته ألسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف
هبم األرضين التي أنعم عليهم بالخالفة فيها ،وأذهب عنهم النور وأدام الظالم ،فقد
ختم السورة بما به ابتدأها ،فإن قوله{ :ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ} هو المراد
بقوله{ :ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ} [األنعام ،]2 :وقوله{ :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ}
[األنعام ،]164 :هو معنى قوله{ :ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟﭠ} [األنعام ،]1 :واهلل الموفق»(((.
املبحث الثالث
التمكني وحقيقته
التمكين« :التثبيت ،أي يجعل لهم ملكهم ثابت مستقر ،ليس عارضا ،ماداموا
متمسكين باإليمان والعمل الصالح ،قال تعالى{ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ} [سورة الرعد.(((»]11
وقال تعالى{ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ}
[سورة األعراف ،]96 وقال تعالى{ :ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇﮈ} [سورة األنبياء ]105 وقال تعالى{ :ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝﯞ} [سورة محمد.]7
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن التمكين لن يكون؛ إال إذا تمسك أصحاب
الحق بحقهم ،وقاموا به حق القيام ،وعملوا على تحقيق ذلك التمكين ،وذلك لن
يكون إال باإليمان والعمل.
وتمكين الدين إنما يكون بتمكينه يف القلوب ،كما يتم بتمكينه يف تصريف الحياة
وتدبيرها ،فقد وعدهم اهلل إ ًذا أن يستخلفهم يف األرض ،وأن يجعل دينهم الذي
ارتضى لهم هو الذي يهيمن على األرض ،ودينهم يأمر باإلصالح ويأمر بالعدل،
ويأمر باالستعالء على شهوات األرض ،ويأمر بعمارة هذه األرض ،واالنتفاع بكل ما
أودعها اهلل من ثروة ،ومن رصيد ،ومن طاقة ،مع التوجه بكل نشاط فيها إلى اهلل.
املبحث الرابع
تبديل اخلوف باألمن
املبحث اخلامس
سبيل احملافظة على املوعود
«ويف ختام اآلية أوضح اهلل ۴ما يطلب من أمة محمد ﷺ كي تدوم عليها
النعمة وتحفظ من الزوال فقال تعالى{ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ} أي :ستظل أمة اإلسالم متمتعة بوعد اهلل ونعمة النصر،
والتمكين واألمن ،ما داموا يعبدون رهبم وال يشركون به شيئا ،لكن إذا عادوا للكفر،
فقد نقضوا العهد ،وإذ ذاك فقد خسروا وعدنا لهم بالنصر والتمكين واألمن»(((.
وهذا تأكيد من اهلل تعالى على أهمية االلتزام بالمنهج الحق الذي هو السبيل إلى
االستخالف يف األرض ،ومن ترك هذا المنهج بعد تبين الحق له واستخالف اهلل له
فأولئك هم الكافرون بنعمة اهلل المستحقون إلزالة نعمة االستخالف عنهم.
«وجملة{ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ} تقييد للعبادة بعدم اإلشراك ،ألن المشركين قد
يعبدون اهلل ولكنهم يشركون معه غيره ،ويف هاتان الجملتان ما يؤيد ما قلناه آنفا من
كون اإليمان هو الشرط يف كفالة األمة هذا الوعد»((( ويشهد لذلك قوله تعالى{ :ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ} [سورة يوسف.]106
ثم يقول اهلل تعالى{ :ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ}.
وهذا أيضا تأكيد من اهلل تعالى على أهمية االلتزام بعبادته ،وطاعة رسوله ﷺ ،التي هي
مما هم فيه من الضيق واألذية والخوف يف جميع جوانب حياهتم.
سبيل إلى نجاة المسلمين ّ
(( ( من لطائف التفسير (.)446/2
((( التحرير والتنوير (.)288/18
269
دراسة موضوعات سورة النور
فا ِّتباع الرسول ﷺ وطاعته رحمة للناس يف الدنيا واآلخرة ،فهو رحمة يف الدنيا
ألن دين اهلل شامل لكل مناحي الحياة ،وينظمها ويشرع ما فيه صالح معاش الناس يف
وأيضا يكفل النجاة يف اآلخرة من عذاب اهلل ولذا فإنه رحمة للناس يف
يسر وسهولةً ،
اآلخرة ،والدار الحقيقية.
ثم يقول اهلل تعالى{ :ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ
ﮪﮫ}.
والخطاب هنا للرسول ﷺ ،تسلي ٌة له وألصحابه ،ووعدٌ لهم بأن اهلل ناصرهم،
وأن أعدائهم مصيرهم النار وبئس ذلك المصير ،وهذا تنبيه لألمة كلها ،ووعد لألمة
كلها كما قال تعالى{ :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ} [سورة النساء.]141
فإذا استقمت على المنهج فال عليك من قوة الكافرين ،فما هم بمعجزين يف
األرض ،وقوهتم الظاهرة لن تقف لكم يف طريق ،وأنتم أقوياء بإيمانكم ،أقوياء
بنظامكم ،أقوياء بعدتكم التي تستطيعون.
وح َّكمت هذا النهج يف الحياة ،وارتضته
إنه ما من مرة سارت األمة على هنج اهللَ ،
يف كل أمورها إال تحقق وعد اهلل باالستخالف والتمكين واألمن ،وما من مرة خالفت
هذا المنهج إال تخلفت يف ذيل القافلة ،وذلت ،وطردوا من الهيمنة على البشرية،
واستبد هبا الخوف وتخطفها األعداء.
أال إن وعد اهلل قائم ،أال وإن شرط اهلل معروف ،فمن أراد الوعد فليقم
بالشرط{ ،ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
ﰀﰁ} [سورة التوبة.]111
ويف هتوين اهلل ألمر الكافر مهما حصل له من العز والتمكين يف الدنيا تسلية لعباده
270
لا يف نيكمتلاو رصنلا بابسأ :يناثلا لصفلا عبارلا بابلا
المؤمنين المستضعفين بأهنم ال بد لهم من الصرب وحسن الظن به مهما ألمت هبم
األمور ،وكثرت عليهم الخطوب فإن مرد ذلك إلى أعمالكم.
وما شأهنم بالنسبة ألمر اهلل إال كلمح البصر فيصبح العزيز اً
ذليل ،والغالب
مغلو ًبا ،فقوله تعالى{ :ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ} [سورة القمر ]45 نزل يف مكة حين
كان المسلمون مستضعفين يف مكة ال حول لهم وال قوة إال باهلل العزيز الجبار سبحانه،
فصربوا ألمر اهلل وعلى أمر اهلل ولم يستعجلوا فما هي إال أيام وشهور ويتحول الموقف
وتدور الدائرة على الكافرين ،فما أهون الخلق على اهلل إذا هم عصوه(((.
((( روي عن أبي الدرداء ﭬ بلفظ« :ما أهون الخلق على اهلل إذا هم تركوا أمره» .أخرجه أبو نعيم
يف حلية األولياء ( ،)218-217/1وسعيد بن منصور يف سننه ( ،)2660وابن أبي الدنيا يف العقوبات
(ص ،)19والفزاري يف السير (ص ،)142وإسناده صحيح ،انظر :الجواب الكايف البن القيم (ص.)27
271
دراسة موضوعات سورة النور
الفصل الثالث
أدب الطاعة للرسول ﷺ واحرتام ولي األمر
الفصل الثالث :أدب الطاعة للرسول ...
املبحث األول
أدب استئذان ولي األمر
فهذه اآلية تنظم العالقة بين الناس وبين قائدهم وأميرهم وولي أمرهم ،لكي
يصلح حال األمة ،من كل الجوانب ،وليس من جانب واحد فقط.
وقد أخرج ابن إسحاق والبيهقي عن عروة ومحمد بن كعب رحمهما اهلل قاال:
لما أقبلت قريش عام األحزاب نزلوا بمجمع األسيال ،قائدهم أبو سفيان ،وأقبلت
غطفان حتى نزلوا إلى جانب أحد ،وجاء رسول اهلل ﷺ الخرب ،فضرب الخندق
على المدينة ،وعمل فيه ،وعمل المسلمون فيه ،وأبطأ رجال من المنافقين ،وجعلوا
يورون((( بالضعيف من العمل ،فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول اهلل ،وال
إذن ،وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي ال بد منها ،يذكر ذلك
لرسول اهلل ﷺ ويستأذنه باللحوق بحاجته فيأذن له ،فإذا قضى حاجته رجع فأنزل اهلل
(( ( الجامع ألحكام القرآن (.)320/12
((( بفتح الواو ،وتشديد الراء ،أي :يسترتون.
273
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثاني
أدب خطاب اإلمام
ثم يأيت أدب آخر من آداب اإلسالم يف خطاب اإلمام المسلم فيقول تعالى{ :ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ}.
أي «ال تحسبوا دعائه ﷺ عليكم كدعاء بعضكم على بعض ،فتعرضوا لسخطه،
ودعاءه عليكم بمخالفة أمره والرجوع عن مجلسه بغير استئذان»((( هذا المعنى قال
به بعض العلماء ،وعليه فتكون اآلية متصلة بالحكم السابق ،وفيها زيادة التحذير من
مخالفة أمر الرسول ﷺ ويلحق به ولي األمر ،وان دعائهما ليس كدعاء آحاد الناس.
وعن ابن عباس ﭭ قال« :كانوا يقولون :يا محمد ،يا أبا القاسم ،فنهاهم عن
ذلك إعظاما لنبيه ،فقالوا :يا نبي اهلل ،يا رسول اهلل»(((.
وقال قتادة :أمرهم أن يشرفوه ويوقره.
وقال مجاهد :قولوا يا رسول اهلل يف رفق ولين»((( .والظاهر استمرار ذلك األدب
بعد وفاته إلى اآلن»((( ،وعلى هذا القول فهذه اآلية مثل قوله تعالى{ :ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ
ﯔ ﯕ ﯖﯗ} [سورة الحجرات.]2
روح المعاين (.)224/18 (( (
الدر المنثور ( )127/11نقال عن ابن أبي حاتم (.)2654/7 (((
الجامع ألحكام القرآن (.)322/12 (((
روح المعاين (.)225/18 (((
276
...لوسرلل ةعاطلا بدأ :ثلاثلا لصفلا عبارلا بابلا
إن غرس مهابة اإلمام يف القلوب هو مما يثبت األمن واالحرتام والنظام ،ومن ثم
فال يجوز أن يكون خطابك لإلمام كخطابك لعامة الناس.
ففي هذه اآلية يلفت اهلل گ نظر المؤمنين إلى ضرورة توقير الرسول ﷺ عند
االستئذان ،ويف كل األحوال :فال يدعى باسمه ،أو كنيته ،كما يدعوا المسلمون بعضهم
بعضا ،وإنما يدعى بتشريف اهلل له :يا نبي اهلل ،أو يا رسول اهلل! فال بد من التوقير
ٍ
توجيه. ٍ
كلمة منه وكل لرسول اهلل حتى تستشعر توقيره يف كل
وقار ،وال بد للقائد من ٍ
هيبة ،وفرق بين وهذه لفته ضرورية ،فال بد للمربي من ٍ
أن يكون هو متواض ًعا لينًا هينًا ،وأن ينسوا أنه مربيهم فيدعونه دعاء بعضهم لبعض،
فيجب أن تبقى للمربي منزلة يف نفوس من يربيهم يرتفع هبا عليهم يف قرارة شعورهم،
ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير.
تعليم لألمة أن تتخلق بخلق الصرب واألناة والرفق والحلم ،وأال تشق
ٌ فهذه اآلية
على الرؤساء يف الحديث واللقاء ،فإن الرئيس كثير المشاغل عظيم المهام ،ال يتسع
وقته لها جم ًعا ،وال يمكن أن يكون وقته موز ًعا وفق أهواء الناس ومطالبهم ،فعليهم
خيرا لجماعته ،وال يتأولون من ذلك وال يظنون به
أن يدعوا له وقته ليصرفه فيما يراه ً
الظنون فإنما تلك من ضرورات تنظيم األعمال ،وال بد من النزول على حكمها حتى
ال تفوت المصالح باضطراب األوقات وخلل تنظيمها.
277
دراسة موضوعات سورة النور
املبحث الثالث
حتذير وتذكري
اخلـامتــة
الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على إمام الغر المحجلين نبينا محمد
وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين وبعد:
هذا هو اإلسالم وهذا هو شرع اهلل وهذا هو القرآن نور وهداية ،وفهم وواقعية،
ووقاية وعالج ،وتوجيه وتحذير ،ووعد ووعيد ،كما هو عقيدة وعبادة سواء بسواء.
شرع كامل ال نقص فيه ،وال انفصال ،ال يؤخذ إال جملة واحدة ،من أخذ منه
بجانب دون اآلخر كان كمن لم يأخذه ،فهو كالجدار المرصوص يشد بعضه بعضا
ويقوم بعضه على بعض.
من خالل عرض موضوعات السورة تبين لنا :كمال وشمولية هذا الدين،
وصالحه لكل زمان ومكان ،و ُقدْ رته على الوقوف أمام المشكالت التي حار يف أسباهبا
وعالجها الكثيرون ،ولم يجدوا لها حالًّ إال يف هذا القرآن الذي هو كالم اهلل الخالق
لهذا الكون والعالم بما يصلحه ويوفر له السعادة يف الدنيا واآلخرة.
وباختصار شديد يمكن عرض أهم التوجيهات الربانية يف هذه السورة التي تدل
على شمول هذا الدين وكماله والنور الذي هو فيه:
أوال :إن الشريعة اإلسالمية جاءت للمحافظة على الضروريات التي ال يستغني
عنها إنسان ،ومن هذه الضروريات :حفظ العرض ،فحرم اهلل تعالى الزنا والطرق
الموصلة إليه ور َّتب على ذلك الحدود الرادعة ،ونبه على سبل الوقاية من الوقوع يف
تلك الجرائم.
281
دراسة موضوعات سورة النور
ثان ًيا :ومن حفظ اهلل لألعراض أن َح َّرم القذف والتحدث يف أعراض الناس،
ورتب عليه العقوبة الرادعة يف الدنيا واآلخرة ،ونبه على خطورته على الفرد والمجتمع
من خالل قصة اإلفك التي ابتلي هبا رسول اهلل ﷺ وأهل بيته ،ثم بيان ما يجب على
المسلم أن يفعله عند سماع تلك الشائعات ،وختم الحديث يف هذا الموضوع عن
مسؤولية الكلمة وأثرها على الفرد والمجتمع.
ثال ًثا :جاء التنبيه على سبل الوقاية من الوقوع يف مثل هذه األمور ،ألن اإلسالم
ال يوقع العقوبة وال يحرم شي ًئا من دواعي الفطرة إال إذا أوجد البديل الذي ليس فيه
خروجا عن اإلنسانية والبشرية ،وليس فيه ضرر على الفرد والمجتمع.
ً
ومن هذه الحلول التي جعلها اهلل لكي يحفظ المجتمع من الوقوع يف الفواحش
والمهلكات :غض البصر ،واالستئذان ،ولم يحرم الزينة والتزين ولكن وضع لها
ّ
وحث عليه الفرد والمجتمع ،ونبه على اآلداب التي يجب أن ضوابط ،وأمر بالزواج
تراعى داخل البيوت.
راب ًعا :وضرب اهلل لنا يف هذه السورة ثالثة أمثال؛ اً
مثل لنور اإليمان ومثلين
لظلمات الكفر.
خامسا :ثم جاء الحديث متواصال عن نور اإليمان ومن أين ُي ْستقى هذا النور،
ً
وذكر ركائزه:
1 .1المساجد و ُع َّمارها وأهميتها يف المجتمع وأثر هذه البيوت على الفرد والمجتمع0
2 .2التنبيه على النظر والتأمل يف آيات اهلل لما يف ذلك من نور الهداية وتقويته يف
القلوب.
3 .3وجوب طاعة الرسول ﷺ المستلزم لطاعة اهلل.
282
اخلاتــمـــة
سادسا :وأتبع ذلك ببيان شبهات وأباطيل اللذين ينصرفون عن نور هذا المنهج،
ً
وحال الناس يف الطاعة وواجب الرسول ﷺ تجاههم0
ساب ًعا :ذكر اهلل تعالى نتائج تلك الطاعة واإليمان عن طريق بيان أسباب
االستخالف والتمكين واألمن وصفات اللذين يحصل لهم ذلك .فاإليمان باهلل تعالى
والعمل الصالح واألخذ باألسباب المادية هم أسباب النصر والتمكين.
ثامنا :وختم اهلل الحديث يف السورة عن أدب الطاعة للرسول ﷺ واحرتام ولي
األمر ،مع التذكير بمراقبة اهلل تعالى.
فخاطبت هذه السورة فئات المجتمع كافة :الغني منهم والفقير ،األمير والشعب،
الكبير والصغير ،المتزوجون والعزاب ،الرجال والنساء ،الزوج والزوجة وأقارهبما،
المؤمنون والكفار ،الظالمون والمظلومون ،كل واحد منهم بتوجيه له ولغيره حتى
تستقيم الحياة كلها لفئات المجتمع ،وال يظن أحد أنه خارج عن أوامر اهلل تعالى ألي
سبب من األسباب.
كانت هذه التوجيهات وهذه األوامر والوصايا من أجل العمل ال من أجل
ِ
العلم فقطَ ،ف َفق َه َها ُأن ٌ
َاس ،وتكرب وتطاول عليها آخرون ،فهل يا ترى من أي صنف
نريد أن نكون ،نسأل اهلل تعالى أن نكون من العالمين العاملين ،حتى نلحق برحمة
اهلل بمن وصفهم بأهنم {ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ}
[سورة يونس.]62
التوصيات:
1 .1تدارس موضوعات سور القرآن من خالل اللقاءات العلمية ،ودروس الحلقات
والمساجد ،والفعاليات التي ُتعين الناس على التفهم للقرآن وتدبره ،والتفكر يف
283
دراسة موضوعات سورة النور
آيات اهلل وعظمته ،واإللتزام بأحكام شريعته لموافقتها حاجة اإلنسان ،واتساقها
مع الخلق.
2 .2نشر كل ما من شأنه المحافظة على البيت والمجتمع المسلم ،والحرص على
تحصينه من خوارم ذلك ،ونشر قيم اإلسالم ومبادئه الحضارية الكربى ،وتربية
الجيل عليها.
3 .3تضمين كتب الثقافة والقصص قيم االسالم ومثله ،والتدبر للكتاب المبين،
والتفكر يف الكون الفسيح؛ لالرتقاء بالمرء للمعالي وشريف الخالل ،والطموح
المنتج.
أسأل اهلل تعالى يف ختام هذا البحث أن يكون ما كتبناه وما تعلمناه حجة لنا ال
علينا وأن يلهمنا العلم النافع والعمل الصالح ،وأن يجعل هذا العمل حجة لنا ال علينا،
وأن ينفع به كاتبه وقارئه وكل من أعان على إخراجه {ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶﭷ} [سورة الشعراء.]89
وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
284
الفهـــــــارس
فهرس املوضوعات
املقــدمــة 5....................................................................................
خطة البحث 8..................................................................................
الوحدة الموضوعية للسورة15..................................................................
الباب األول حفظ األعراض ومقاصد الشريعة20.................................................
تمهيد مقدمة السورة ومقاصد الشريعة 20......................................................
الفصل األول :تحريم الزنــــا 23...............................................................
المبحث األول :األدلة على حرمة الزنا23..................................................
المبحث الثاين :الحكمة من تحريم الزنا26.................................................
المبحث الثالث :عقوبة الزنا 31............................................................
اً
أول :عقوبة الزاين البكر 32.............................................................
ثان ًيا :عقوبة الزاين المحصن 34. .......................................................
المبحث الرابع :الحكمة من هذه العقوبة35................................................
المبحث الخامس :أهم الوصايا لمكافحة الزنا39. ........................................
الفصل الثاين :تحريم القذف42..................................................................
المبحث األول :معنى القذف وأحكامه43. ................................................
اً
أول :معنى القذف 43. ................................................................
ثان ًيا :حكم القذف43. .................................................................
اً
أول :شروط القذف44.................................................................
ثان ًيا بم يثبت حد القذف ؟ 45..........................................................
ثال ًثا :خطورة القذف 45................................................................
292
الفهـــــــارس
المبحث الثاين :عقوبة القاذف47...........................................................
المطلب األول :عقوبة قذف المحصنات المؤمنات الغافالت 47.......................
اً
أول :العقوبة المرتتبة على القذف 47..................................................
ثان ًيا :القاذف الذي يأيت ببينة ترد عنه الحد 48..........................................
ثال ًثا :الحكمة من تشديد البينة 49.......................................................
راب ًعا :التوبة من القذف50..............................................................
المطلب الثاين :قذف الرجل زوجته 51.................................................
اً
أول :سبب نزول اآليات 51............................................................
ثان ًيا :ما هو اللعان 52...................................................................
ثال ًثا :كيفية اللعان 52...................................................................
راب ًعا :لماذا خصصت المرأة بالغضب إن كان زوجها صاد ًقا 52.........................
خامسا :وماذا بعد اللعان 53............................................................
ً
سادسا :ختام هذا البيان 53.............................................................
ً
الفصل الثالث :موقف المسلم من الشائعات 54.................................................
المبحث األول :حادثة اإلفك مثال تطبيقي 54..............................................
المبحث الثاين :سرد رواية القصة56........................................................
المبحث الثالث :من فوائد الحادثة 61......................................................
المبحث الرابع :مشكلة اإلشاعة 65........................................................
المطلب األول :تعريف اإلشاعة 65....................................................
المطلب الثاين :خطورة اإلشاعات66..................................................
المطلب الثالث :كيف تتولد اإلشاعة وتنتشر 68.......................................
المبحث الخامس :الموقف من الشائعات من خالل حادثة اإلفك69.......................
المطلب األول :أن يقدم حسن الظن باألخ المسلم 69..................................
293
دراسة موضوعات سورة النور
المطلب الثاين :التثبت بالبينة والدليل71................................................
المطلب الثالث :أن ال يتحدث بما سمعه وال ينشره 73................................
المطلب الرابع :قطع الطريق على الفساق الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والشر 74.....
المبحث السادس :التعقيب القرآين على حادثة اإلفك 76. .................................
المطلب األول :خطورة نشر الفواحش يف المجتمع اإلسالمي 76. .....................
المطلب الثاين :شرع اهلل األحكام وقبل توبة المذنبين اً
فضل منه ورحمة 78.............
المطلب الثالث :التنبيه على عدم إتباع خطوات الشيطان ألنه هو الذي يغوي اإلنسان ويوقعه 80...
المطلب الرابع :سالمة الصدر والعفو والمسامحة واإلحسان لمن أساء يستجلب مغفرة اهلل81...
الفصل الرابع :مســؤلية الكلمة 83.............................................................
المبحث األول :عرض إجمالي لآليات 83................................................
المبحث الثاين :أهمية الكلمة وخطورهتا ودورها يف إقامة الحياة 85.........................
المبحث الثالث :آفات الكالم89..........................................................
الباب الثاني :اآلداب االجتماعية الوقائية94.....................................................
تمهيد الباب الثاين94............................................................................
الفصل األول :أدب االستئذان96................................................................
المبحث األول :أهمية االستئذان ومجاالته 97.............................................
المبحث الثاين :أحكام االستئذان وآدابه 101.................................................
الفصل الثاين :غض البصر وحفظ الفرج 111.....................................................
المبحث األول :األمر بغض البصر112.....................................................
المبحث الثاين :فوائد غض البصر 115......................................................
المبحث الثالث :األمر بحفظ الفروج 117..................................................
الفصل الثالث :الزينة وأحكام إظهارها 120.......................................................
المبحث األول :أهمية الزينة يف حياة المرأة121.............................................
294
الفهـــــــارس
المبحث الثاين :أحكام إظهار الزينة123.....................................................
المطلب األول :الزينة التي يجوز إبدائها123............................................
المطلب الثاين :من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها عنده 125...............................
المطلب الثالث :البعد عن دواعي إبداء الزينة لغير المحارم129.........................
المطلب الرابع :تحريم زينة القول135..................................................
المبحث الثالث :خطورة االختالط 137. ..................................................
الفصل الرابع :الزواج سنة إلهية 140.............................................................
المبحث األول :األمر بالزواج والحث عليه 141............................................
المبحث الثاين :حكمة الشارع يف الزواج144................................................
المبحث الثالث :من لم يستطيع الزواج 149................................................
المبحث الرابع :تيسير الحياة السعيدة لفآت المجتمع 154..................................
الفصل الخامس :آداب داخل البيت المسلم 157.................................................
تميد الفصل الخامس 157.......................................................................
المبحث األول :االستئذان داخل البيت 159................................................
المبحث الثاين :إبداء الزينة وإخفائها 162...................................................
المبحث الثالث :العالقة بين أهل البيت واألقارب واألصدقاء164..........................
الباب الثالث :تذكرة وذكرى ألولي األلباب167.................................................
الفصل األول :ضرب األمثال يف القرآن 168. ....................................................
تمهيد الفصل األول 168. ......................................................................
المبحث األول :ضرب األمثال يف القرآن تعريف وبيان 170.................................
اً
أول :تعريف ضرب األمثال 170........................................................
ثان ًيا :أنواع األمثال يف القرآن170........................................................
ثال ًثا :مقاصد األمثال القرآنية ومواطن العربة فيها 171...................................
295
دراسة موضوعات سورة النور
راب ًعا :الفرق بين المثل القرآين والمثل العربي171.......................................
المبحث الثاين :مثل نور اإليمان172........................................................
المبحث الثالث :مثل ظلمات الكفر175....................................................
المطلب األول :المثل األول :أعمال الكفار ال قيمة لها يوم القيامة 175.................
المطلب الثاين :المثل الثاين :شدة ظلمة الكفر 178.....................................
المبحث الرابع :فائدة ضرب األمثال 180...................................................
الفصل الثاين :بيوت اهلل182......................................................................
المبحث األول :تحليل معنى اآليات إجمال 183..........................................
المبحث الثاين :فضل المساجد وأهميتها يف اإلسالم186. ..................................
المبحث الثالث :أهم المهام التي يقوم هبا المسجد 190.....................................
المبحث الرابع :أحكام المساجد وآداهبا 195...............................................
المبحث الخامس :تنبيهات خاصة لحضور النساء للمساجد203............................
المبحث السادس :أثر المسجد على الفرد والمجتمع اإلسالمي207........................
الفصل الثالث :النظر يف آيات اهلل 209............................................................
المبحث األول :تسبيح المخلوقات هلل 211.................................................
المبحث الثاين :التذكير بالرجوع إلى اهلل220................................................
المبحث الثالث :السماء والسحاب وما فيهما 223..........................................
المبحث الرابع :الليل والنهار وتقليبهما 228................................................
المبحث الخامس :الدواب خلقها وسعيها 231.............................................
المبحث السادس :الحكمة من اآليات والمشاهد 236.....................................
الباب الرابع :آداب اجملتمع يف اإلسالم 240........................................................
الفصل األول :وجوب طاعة الرسول 241........................................................
المبحث األول :الهروب عن التحاكم إلى اهلل ورسوله243. ................................
296
الفهـــــــارس
المبحث الثاين :المستقيمين على منهج رسول اهلل 245......................................
اً
أول :صفات المؤمنين المستجيبين ألمر اهلل يف اآلية 245................................
ثان ًيا :الرتابط بين هذه الصفات 246.....................................................
ثال ًثا :نتيجة هذا التسليم وااللتزام بتلك الصفات؟ 247..................................
المبحث الثالث :حال الناس يف الطاعة وواجب الرسول تجاههم250.......................
الفصل الثاين :أسباب النصر والتمكين يف األرض 254............................................
ماذا تحتاج أمتنا يف هذه األيام 254...............................................................
المبحث األول :صفات أهل النصر 256....................................................
المبحث الثاين :حقيقة االستخالف259.....................................................
المبحث الثالث :التمكين وحقيقته 262.....................................................
المبحث الرابع :تبديل الخوف باألمن265..................................................
المبحث الخامس :سبيل المحافظة على الموعود 268.....................................