Professional Documents
Culture Documents
عصام شرتح جمالية المبنى وفتنة المعنى اخراج مناف نسخة 2
عصام شرتح جمالية المبنى وفتنة المعنى اخراج مناف نسخة 2
عصام شرتح
أفكار
للدراسات والنشر والتوزيع
دراسة
2017
المحتويات
مقــدمــة 7....................................................................................................................
الف�صل الأول
جمال َّية اللغة ال�شعريَّة عند �شوقي بزيع 9...................................................................................
الف�صل الثاني
ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع 67...................................................................................
-5-
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الف�صل الثالث
183........................................................................... الن�ص ّي في �شعر �شوقي بزيعماه َّية الجمال ّ
ن�ص ّية افتتاح ن�صي /وابتكار �أُ�سلوبي جديد187......................................................... : - 1الجمال كماه َّية ّ
جمالي خ�صب203.......................................................... :
ّ ن�ص َّية ف�ضاء تخييلي /و�أفق
- 2الجمال كماه َّية ّ
- 3جمال َّية ال�سرد الق�ص�صي /ور�شاقته التعبير َّية231...................................................................... :
الف�صل الرابع
م�ؤثرات الإبداع ال�شعري في �شعر �شوقي بزيع 239........................................................................
خاتمة287....................................................................................................................
-6-
المقدمة
مقــدمــة
� َّإن التجرب��ة الإبداع َّي��ة المتم ِّي��زة ال تعتم��د على معين واحد� ،أو م�صب فني مح َّدد؛ و�إنما
تُ َج � ِّذر �إبداعه ��ا عل ��ى �سل�س ��لة تقني ��ات وف�ض ��اءات دالل َّي ��ة مفتوح ��ة؛ ور� ًؤى ومدالي ��ل عميق ��ة؛
والتجدد الم�س��تمر في �أ�ساليبه،
ّ وال�ش��اعر الموهوب هو ال�ش��اعر القادر على االبتكار الدائم،
�عرية اللبنانية ّ
الالفتة التي تركت وي َع ُّد �ش��وقي بزيع من الأ�صوات ال�ش� َّ
وطرائقه الت�ش��كيل َّية؛ ُ
�عرية العرب َّي ��ة؛ بطرائقه ��ا الت�ش ��كيل َّية المبتك ��رة ،وتخليقه ��ا
ب�صمته ��ا عل ��ى ال�س ��احة ال�ش � َّ
الب�صري ��ة ،والت�ش ��كيل َّية ،والداللي ��ة ،والفن َّي ��ة المثي ��رة الت ��ي تثي ��ر ال ��دالالت،
َّ لإيقاعاته ��ا
اللغوية من دائ��رة االئتالف
َّ وتُ َع��زِّ ز م�س��ار التجرب��ة الإبداع��ي بانعطافاته��ا؛ بحرك��ة الأن�س��اق
�إل��ى االخت�ل�اف؛ وبالعك���س؛ وف��ق ر�ؤى ومنطلق��ات فن َّي��ة تثي��ر الق��ارئ ،وتعزز فاعل َّي��ة التلقي
الجمالي لن�صو�صه الإبداع َّية.
ّ
و�إنن��ا ف��ي كتابن��ا المو�س��وم ب��ـ [جمال َّي��ة المبن��ى وفتن��ة المعن��ى (درا�س��ة ف��ي �ش��عر
�ش��وقي بزيع)] نروم � ْأن ن� ِّؤ�س���س لهذه التجربة الإبداعية المتم ِّيزة التي تركت �صداها الم�ؤثر
ال�شعري،
ّ عبر تقنيات مهمة ك(تقنية الحوار ،والمونولوج ،وال�سرد ،والق�ص ،والمونتاج
وال�ص��ور ال�س��ينمائ َّية؛ ذات الح��راك الب�ص��ري ،والتلوي��ن ال�ضوئ��ي ،وتكثي��ف حرك��ة الظالل،
والأل��وان ،والأ�ش��كال البنائ َّي��ة؛ باعتم��اد ت�ش��كيل البيا���ض وال�س��واد؛ ،وعالم��ات الترقي��م،
اللغوي��ة عل��ى م�س��توى
َّ وتنقي��ط الح��روف ،والفراغ��ات الكثيف��ة المتمو�ضع��ة بي��ن الأن�س��اق
وال�شعورية
َّ الجمل الق�صيرة والطويلة الممطوطة؛ لتخليق �ش��عريتها؛ وبث نواحيها النف�س� َّية
الباطن َّي��ة العميق��ة الت��ي تتبط��ن جوه��ر ال��ذات ومعاناته��ا و�إح�سا�س��ها العاطف��ي الوج��ودي
المتوتر.
َّ
ولعل �أبرز م�ساعي الدرا�سة [التي وقعت في مقدمة و�أربعة ف�صول وخاتمة] محاولتها
اللغوية المبتكرة على م�ستوى ال�صورة ،والتعبير
َّ ال�شعرية وت�شكيالتها
َّ تَ َل ُم�س جمال َّية
اللغوي وحرفنتها في
ّ الجمالي في الت�شكيل
ّ ال�شعري؛ لت� ِّؤ�س�س جمالها على نزوعها الفني
َّ
-7-
جمالية المبنى وفتنة المعنى
�صياغة ن�صو�ص جمال َّية ت�ستحوذ على مقايي�س فنية عالية من الإثارة ،والرهافة ،والإتقان
الفني ،والتحفيز الجمالي.
�أخير ًا؛ نرجو لمحاولتنا الجديدة في الأ�سلوب البحثي التوفيق وال�سداد؛ �إذْ اعتمدت
النقدية الجادة التي كان منطلقها الك�شف عن
َّ هذه المحاولة على الكثير من الدرا�سات
خ�صو�صية اللغة ال�شعرية وم�ؤثرات الإبداع ال�شعري على الم�ستويات كلها؛ ومن المتوقع �أن
هذه الدرا�سة رغم تجذرها على كم وافر من الدرا�سات ف�إنها جاهدت �أن تكون مبتكرة في
�أ�سلوبها ومنظورها البحثي ،لذلك كان ديدانها الأول مالحقة الظاهرة الجمال َّية ودرا�ستها
بمهارة واقتدار كُ َّلما ا�ستطعنا �إلى ذلك �سبيالً؛ ف�إن نجحنا في تحقيق ذلك فهذا مطلبنا؛ و�إن
ف�شلنا فمحاولتنا الجادة عزا�ؤنا الوحيد ...وحر�صنا ومحبتنا لنتاج ال�شاعر له الدافع
الأكبر في نجاحنا البحثي � ْإن ُو ِّفقنا في ذلك؛ �أو اهتدينا �إلى ذلك �سبيال......
والله الموفق
-8-
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
الفصل األول
َّ
الشعرية عند شوقي بزيع جماليَّة اللغة
-9-
جمالية المبنى وفتنة المعنى
- 10 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
الفصل األول
َّ
الشعرية عند شوقي بزيع جماليَّة اللغة
-1عفيفي� ,أحمد؛ وال�سطوحي� ,سها عبد ال�ستار - 2010,ثنائيات الماء والنار في ال�شعر الحديث؛ دار الهاني للطباعة
والن�شر ,القاهرة ,ط �,1ص.117-116
الق ,علي جعفر - 2007,هاهي الغابة ,ف�أين الأ�شجار ,دار �أزمنة الأردن� ,ص63-62 -2الع ّ
- 11 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
� َّإن ما �أ�شار �إليه العالَّق؛ ي�ؤكد � َّأن فاعلية اللغة تكمن في قدرتها على ا�ستفزاز الخيال؛
ع��ن طري��ق االنح��راف ف��ي الت�ش��كيل ،والمفاج��آت الأ�س��لوب َّية ف��ي التركي��ب؛ ليخل��ق حال��ة من
اللع��ب البهي��ج باللغة ،عن طريق ا�س��تفزاز مثيراتها الت�ش��كيلية ،و�أبعادها التخييلية؛ يقول
�أدوني���س" :ال�ش��اعر فار���س َي ْنت َِ�ش��ل الكلمات.ين�س��لها كلمة كلمة من ن�س��يجها القديم .يخيطها
يفرغه��ا م��ن �ش��حنتها القديم��ة -م��ن دالالته��ا كلم��ة كلم��ة ف��ي ن�س��يج جدي��د� .إذْ َي َ
فع��ل ذل��ك ِّ
ٍ
حينئذ ت�صبح لغة ثانية ال عه��د لنا بها .لذلك البد, وتداعياته��ا ،ويمل�ؤه��ا ب�ش��حنة جدي��دة
ونتذوقها ال ن�س��تطيع �أن نكت�ش��ف
ّ وتذوقها ,من الخبرة والممار�س��ة .وما لم نفهمها ّ لتفهمها
م��ا وراءه��ا� .إنه��ا مفاتيحن��ا �إلى عالم ال�ش��اعر؛ عبث ًا نح��اول الدخول �إلى ه��ذا العالم قبل �أَن
�عرية الجديدة هي � -إذ ًا -اللغة المغ�س��ولة من �صد�أ اال�س��تخدام
نم�س��ك بمفاتيحه .اللُّغة ال�ش� َّ
ال�ش��ائع الج��اري� .إنه��ا ن��وع م��ن الع��ودة �إلى الب��راءة الأولى ف��ي الكلمات .وفي الع��ودة �إلى
ب ��راءة الكلم ��ة ع ��ودة �إل ��ى �إيقاعه ��ا البدئ ��ي� .أعن ��ي �إل ��ى ت�ش ��كيل تعبي ��ري م�ش ��حون به ��ذه
البراءة"(((.
ال�شعري يتب َّدى في توظيف اللّغة ،وتخليقها فني ًا؛ وال�شاعر
ّ ويرى �أَدوني�س � َّأن التجديد
ال�شعرية؛
ّ �سماه �أُدوني�س هو الذي يخلق �أن�ساق ًا ت�شكيلية؛ تحفز تراكيبه
المبدع �أو الجديد كما َّ
وت�ستثيرها فني ًا؛ �إذْ يقول؛ " ال�شاعر الجديد ,ال َي ْجمد في �أوزان مح َّددة تجعل من كتابة
ال�شعر تطبيقات منهجية؛ �إنّ ه يهبط �إلى جذور اللُّغة؛ ُي َف ِّجر طاقاتها الكامنة التي ال تنتهي
في �إيقاعات ال تنتهي"(((.
ومن هنا؛ فالثورة ال�شعرية تتب َّدى في طبيعة توظيف ال�شاعر للأن�ساق اللُّغوية؛
وال�شاعر ال يكون جديد ًا �إ َّال �إذا ا�ستطاع �أن يفجر اللغة ،وينت�شلها من ركامها المميت المتحجر
باث ًا فيها روح الحياة؛ ِّ
مولد ًا فيها درجة �إيحائية ذات خ�صوبة جمالية عالية, في المعاجم ّ
لغوية تخييلية قبل �أن تكون طاقة �إيقاع َّية� ،أو مو�سيقية؛ ولدرا�سة
َّ فال�شعرية طاقة
َّ ومن هنا؛
ال�شعرية عند �شوقي بزيع؛ �سندر�س �إمكانية ت�شكيالتها الن�سقية وفق �أن�ساق
َّ جمال َّية اللُّغة
لل�شعرية ,وفق مايلي:
َّ مفعلة
ِّ
- 12 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
- 13 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
بادئ ذي البدء ،ن�شير �إلى �أن الق�صيدة الجيدة هي التي تخلق لغتها بفرادة ن�سقية،
وعالئق لغوية مبتكرة لت�شكيل �شبكة لغوية متالحمة الخيوط ،والأ�شكال ،والر�ؤى؛ وهي
التي ت�ستقي محور اتزانها من ت�ضافرها الن�صي؛ ولعل �أبرز ما يحقق للمقبو�س ال�شعري
بداعته ،وم�صداقيته ال�شعورية ،هذا النب�ض ال�شفيف الذي ين�ساب بين العبارات؛ بتالحم
ت�صويري ُي َق ِّرب الر�ؤى الغزلية �إلى حيز التر�سيم الفني الجمالي المثير؛ كما في ال�صورة
الن�سقية المتمركزة على خ�صوبة في الر�ؤيا ،وح�سا�سية �شديدة في جمع المت�شابهات بعالئق
ِ
البعيد]؛ فقارئ هذه ال�صورة ِ
الق�صب الناي في
ُ [و ِذ ْب ُت من الحنينِ كما َيذُ ُ
وب لغوية ال متوقعةَ :
يلحظ �أن جماليته تنبني على ح�سا�سية ال�صورة ،ومحرق توازنها الذي ينطلق �إلى �أ�سطرة
الأنثى ،ب�إيقاع رومان�سي يخط جماله ب�إيحائه الفني .وهذا ما نلحظه في بقية �أن�ساق
الق�صيدة ،كما في قوله:
"ما كا َن هذا ُّ
الحب
اثنين
غير تبادلِ الأعما ِر بين ِ
ِّ
الغ�ض وال�صوتِ الم�ضاعفِ للجمالِ
وهو يعي ُد ت�ضمي َد الفرا ِغ
((( بما ُ
يليق مِ َن الغبا ِر"
- 14 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
بداية ،ن�شير �إلى �أن جمالية الأن�ساق اللغوية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تت�أ�س�س على
حداثوية الر�ؤيا ،وحداثوية المتخيل ال�شعري في التقاط هذه المنمنمات الت�شكيلية على
م�ستوى ت�ضافر الأن�ساق ،وتفاعلها وتوا�شجها في الن�سق الواحد؛ مما يعني ،بالت�أكيد� ،أن
البزيع مولع بح�شد �أكبر عدد ممكن من هذه المركبات الإ�سنادية التي ت�ستثير الن�سق ،وتزيده
�شعرية ولذة في التلقي الن�صي الجمالي.
والمت�أمل -في المقبو�س ال�شعري بعمق و�شفافية-يلحظ �أن ال�شاعر يثيرنا بالأن�ساق
اللغوية المبتكرة التي ي� ِّؤ�س�سها على م�ستوى ال�صور الجزئية �ضمن الق�صيدة؛ فال�شاعر يخلق
َّ
حالة من الوئام بين الأن�ساق الت�شكيلية ال�سابقة؛ م َف ِّع ً
ال درجتها الإيحائية الغزلية ب�صور
ن�سقية مركَّ بة ذات امتداد ت�أملي عميق؛ وبعد �شعوري مفتوح؛ بالح�س الجمالي المرهف ,كما
اغرورقت
ْ واليا�سمين �إذا
ُ ِ
المتثائب/. الطعم /في ج�سمها ِ ريح حليب َّيةُ
ٌ وت�شه ُق
َ في قوله" :
ريف �أهدابها مجل�س ًا للعزاء"؛ � َّإن هذه ال�صور الغزلية الن�سقية ِّ
يفعلها ِ يقيم على
ُ بالدموع,
ِ
ت�صويرية؛ تزيد �إيقاع
َّ ال�شاعر بالأن�سنة ،والت�شخي�ص ،وقلب المرئيات؛ لخلق ده�شة
الق�صائد ت�أمالً ،وا�ستغراق ًا بالمثيرات الأنثوية التي تخلقها فتاته الجميلة في حزنها،
ودموعها ،وابت�ساماتها؛ و�صدرها النافر �أنوثة ،وخ�صوبة ،وجما ًال.
وهنا؛ تبدو حركة الأن�ساق اللُّغوية -عند �شوقي بزيع -بغاية التحفيز الجمالي،
الت�صويرية المراوغة؛ التي ت�ستثير الذائقة الأدب َّية؛ �إذْ � َّإن ما يملكه
َّ والمد الت�أملي ،والحنكة
�شوقي من درجة الخلق الفني االن�سيابي على �صعيد الجمل ُي َح ِّفز الدالالت؛ ويزيدها �إ�شراق ًا
فن ًّيا وجمال ًّيا؛ من دون �أن تفقد ن�صو�صه طاقتها العاطفية الخ�صبة بالتوق ،واال�صطهاج
�شعريا ،وهكذا؛ ف� َّإن
ًّ يلون الق�صيدة بنب�ض ال�شعور ،واتقاد الذات
الروحي العاطفي الذي ِّ
ِ
دفء الذات .ولي�س الن�ص المكتمل ,لي�س جهد ًا �شكلي ًا مح�ض ًا؛ خالي ًا من
ّ "الق�صيدة الح َّقة؛ �أو
ح�شد ًا من المفردات المر�صوفة بعناية؛ بل هو مغامرة الروح؛ وهي تبتكر ,من اللُّغة وفي
-1الم�صدر نف�سه ,ج�/2ص .833-832
- 16 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
- 17 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
باد ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن البزيع يعمد �إلى �سبك الجمل ،ب�إح�سا�س متناغم يجمع فيه
الح�س ،وال�شعور ،ومحفزات الخيال ،فهو ال يكتفي ب�أن يجعل �سلطته �شعورية؛ و�إنما يخلق
طاقته الفنية العالية عبر تو�صيفه الن�سقي العجيب الذي يتبدى في مزج المتناق�ضات،
وخلخلة الم�ؤتلفات ،ل�صناعة لغة المتعة والإدها�ش دون منازع؛ وهذا يدلنا �أنه " :لم تعد
المقدرة على �إبداع �شعر جيد هي المدار الأ�سا�سي ،فكثير ما يتم تجاوز محدودية القدرة� ،أو
تجاهلها تمام ًا في �سبيل الحاجة �إلى تكوين �شعر ،و�أدب �إبداعي �أ�صيل "((( ينبني ومتطلبات
المجتمع ،ومنظوراته ،ور�ؤاه ،و�إحداثياته الإبداعية.
اللغوية
َّ وبالنظر -في مغريات الن�سق �إبداعي ًا -نلحظ �أن ال�شاعر ي�ؤ�س�س �أن�ساقه
ال�شعرية؛ لفتح مغاليق الر�ؤية؛ وبث
َّ إ�سنادية بين الدوال
َّ جمال َّي ًا على حركة المباغتة ال
المن ََّمقة؛ ب�إيقاع غزلي يبث جماله
الم�شهدية ُ
َّ النفثات الرومان�سية الحالمة �أو التر�سيمات
من حقل الطبيعة و�سحرها الفتان ,كما في حركة الأن�ساق اللغوية التالية" :ع�شب ال�سكينة-
�صباي"؛
ّ عود
اتُ - جفن الهواء -قطرة ال�ضوء -جنح الظالم -حائط الفرح القديم -افتراء ُ
الق َّب َر ْ
-1بزيع �شوقي� - 2007 ,صراخ الأ�شجار ,دار الآداب ,بيروت ,ط� ,1ص.15-14
-2الهاجري� ،سحمي ماجد - 2004 ،مقولة الأجيال في ال�شعر ال�سعودي ،مجلة عالمات في النقد ،ج ،52م� ،13ص.788
- 18 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
- 19 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن النزعة الغنائية -في ق�صائد بزيع-تمنح لغته ال�شفافية
والأن�سياب الجمالي ،و�أن�ساقه الت�آلف والتجني�س ال�صوتي ،مما يدل على �أن" ال�شعر الغنائي
ال يمكن ت�شخي�صه من خالل تركه مجا ًال لالنفعاالت المتباينة عند المتلقي ،ولكن خالل حمله
النعكا�س داخلي م�أزوم ،انتقادي لل�شاعر"((( .فمن الحق �أن ال�شاعر الغنائي الحدثوي الذي
يمثله ال�شاعر اللبناني �شوقي بزيع خير تمثيل قد وعى �أهمية التنويع في الأ�ساليب ال�شعرية،
لي�ستثير التحوالت الأ�سلوبية الخارقة في دائرة الت�شكيل الإبداعي؛ لي�س ذلك فح�سب؛ ولكن
ليفتح �آفاق ًا جديدة في ميدان التجديد والتجريب ال�شعري في �آن ،محقق ًا معادلة ال�شعر
ال�صعبة [جمالية ال�شكل /وجمالية الر�ؤيا]؛ وهذه قمة ال�شعرية لدى ال�شاعر �شوقي بزيع.
ال�شعرية العالية التي يملكها
َّ وبالنظر -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن الح�سا�س َّية
ال�شعرية؛
َّ ّغوية ،وتفعيله المبتكر لل�صور
�شوقي بزيع تجعل المتلقي يح�س بتلوين �أن�ساقه الل ّ
ُّغوية تبدو في ت�شكيالته ال�سابقة من خالل كثافة ال�صور الجزئ َّية ،وتفعيلها
فالده�شة الل ّ
ن�سقي ًا؛ تبع ًا لمثيرات ال�صورة ،وحركتها الن�سقية المتفاعلة؛ على الرغم من تمطيطها
َ
فوق ِ
أهداب ِ
مرتفعات ِك الم�ضمومة ال ّ
كالظل و�إطنابها �أحيان ًا؛ كما في قوله�" :س�أَبقى حار�س ًا
الح َ�صى "؛ � َّإن هذه ال�صور المرك َّبة تركيب ًا �شاعري ًا تبدو ٍ
كظهيرة كب َد َ متو�سدا
ِّ ِ
ال�شم�س� ,أو
مثيرة؛ فال�شاعر يجعل للح�صى كبد ًا ،ولليل مياه ًا عمياء ،تدل داللة على مقدار
ً للقارئ
الح�سا�سية اللغوية ،والتحليق الخيالي في ن�سق ال�صورة �إل��ى درج��ة عالية من
- 20 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
المباغتة،والمواربة ،والإدها�ش؛ فال�شاعر �شوقي بزيع ال يخلق ال�صورة خلق ًا ن�سقي ًا جمالي ًا
فح�سب؛ و�إنما يخلق الحركة الن�سق َّية الفاعلة في تحفيز الر�ؤى وتعميق المداليل؛ وقد �أ�سمى
هذا اللون من التحليق ال�شعري الناقد رحمن عركان" النزوع الغرائبي النزياحات الخيال
ت�صويرية ،ور�ؤى فنية تخت�صر الحياة في معنى
َّ حيث ي�أخذ التخ ّيل ال�شعري بابتكار �آفاق
اللغوية يزيدها
َّ �شعري"(((.وهذا الأ�سلوب المتنامي في توليف ال�صور؛ وتفعيل الأن�ساق
�شعورية ،وبلورة عجائب َّية للأن�ساق المتفاعلة ،كما في قوله[ :مياهك
َّ عمق ًا وح�سا�س َّية
أهداب] ،فهذه ال�صور ال يخلقها �إ َّال �شاعر؛ وال يبلورها بهذه
ِ َ
الم�ضمومة ال ِ
مرتفعاتك العمياء-
الن�ص وبلورته فن ًّيا ،وجمال ًّيا؛
ّ متمر�س في ت�شكيل
ِّ ال�سال�سة والجاذب َّية الفن َّية �إ َّال �شاعر
وتمازج ًا روح ًّيا �شفيف ًا يجمع في وحدة متكاملة بين معطيات اللغة ،ومفرزات ال�شعور
ح�سا�سة عا�شت التجربة الغزل َّية ،ور�سمتها من معالم
العميق الذي ينبع من ذات �شاعرة؛ َّ
الطبيعة وخ�صوبتها ،حتى غدت �إلى ما غدت �إليه من الن�ضارة والإ�شراق.
َّ
ولعل �أبرز مثير �أ�سلوبي على �صعيد الت�أمل والتخييل -عند �شوقي بزيع -تجريد
ال�صورة ،وتج�سيدها ،وت�شخي�صها في �آن؛ لخلق حركة ن�سقية تخييلية ت�أملية في حيثيات
ال�صورة ،وانعكا�ساتها جمال ًّيا ,كما في قوله:
الح ِّب ...يا�س ِّيدي " َت�أَ َّخ ْر َت عن موعدِ ُ
تين َق ْل ِبي على �أُ ِّم ِه في غِ َيا َب ْك َو َذ َوى ُ
�أَيُّ َغ ْي ٍم ُي َظ ِّل ُل َك الآ َن؛
في �أَيّ َب ْرقٍ تقي ُم
لأّ ْل َم َع مث َل ال ُز َجاِج ال ُم َع َّ�شقِ َخ ْل َف �شِ َتاءَا ِت ِه
و�أُ َع ِّري دَمِ ي لمرايا َع َذا َب ْك.
قمي�ص الحقولِ التي ت�شتهي ِ ليتني عرو ٌة في
مهب الهديلِ ليتني ري�ش ٌة في ِّ
الذي َي ْخ َتفي
ابك"(((. خلف ُق ْط ِن َ�س َح ْ َ
الن�ص في �ضيافة الر�ؤيا ,دار رند ,دم�شق ,ط � ,1ص .105-104
-1غركان ,رحمنّ - 2010 ,
-2بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية ج�,1ص .353-351
- 21 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
�إن نب�ض ال�شعر و�شفافية ال�شعرية تتج�سد في �أن�ساق الق�صيدة جميعها ،مما يعني �أن
ثمة تخطيط ًا �أو هند�سة قبلية في ت�شكيلها ،من خالل �إقامة المفاعلة الفنية بين الأن�ساق؛ �إذ
تجمع الأ�صالة الغنائية في الت�شكيل� ،إلى جانب الر�شاقة ال�سردية في الت�أ�سي�س ال�شعري؛
وهذا ي�ؤكد -بالدليل القاطع -الجهد الم�ضاعف الذي يبذله �شوقي بزيع في االرتقاء بلغة
ال�سرد �إلى لغة ال�صورة المتحركة،والمو�سقة [ال�صوتية -الب�صرية] في �آن؛ وهذا ما يح�سب
للمقبو�س ال�شعري.
الت�صويرية ميدان ًا
ّ وبتدقيقنا �أكثر في مغرياته الفنية نلحظ �أن ال�شاعر يعتمد الحنكة
فن ًّيا خ�صيب ًا في خلق �صور ن�سقية مبتكرة؛ تُ َعزِّ ز المد ال�شعوري العميق؛ بتلوين الأَن�ساق
�شعرية يعززها جمالي ًا ب�ألق
َّ والح�س َّية المج�سدة؛ لخلق لغة ِّ التجريدية،
َّ الت�صويرية بين
َّ
َ
خلف الم َع َّ�ش ِق
الزجاج ُ
ِ برق تُ ِق ْي ُم لأَلمع َ
مثل ت�صويري مك َّثف؛ وهذا ما تب َّدى في قوله" :في �أَ ِّي ٍ
الت�صويرية على
َّ أعري دمي لمرايا عذابكْ "؛ هنا؛ ي�ؤ�س�س ال�شاعر جمال َّية الأَن�ساق
�شتاءات ِه /و� ِّ
ِ
ال�شعوري؛
َّ �شعرية متم ّيزة في مدها الت�أملي ،وتكثيفها
َّ التجريد ،والتج�سيد؛ لتخليق لغة
مهب
ِّ قمي�ص الحقولِ التي ت�شتهي /ليتني ري�ش ٌة في
ِ وهذا ما يعك�سه قوله" :ليتني عروةٌ في
اللغوية[ :قطن �سحابك-
َّ َ
خلف ُقطْ نِ �سحابكْ "؛ فهذا االبتكار في الت�شكيالت الهديلِ الذي يختفي
مهب الهديل -قمي�ص الحقول]يمنح ال�صورة بكارتها الجمال َّية؛ ويح ِّقق لها االنزياح ال�شاعري
ّ
غنى وتنوع ًا،وهكذا؛ ي�ستثيرنا ال�شاعر
ً الذي يزيد دينام َّية ال�صورة �إ�شراق ًا و�أفقها الجمالي
اللغوية المبتكرة ،بمدها الجمالي ،وكثافتها
َّ �شوقي بزيع جمال ًّيا بكثافة الأن�ساق
ال�شعري الرفيع ،ومداها
ّ الإيحائية ،و�صورها التخييل َّية التي ال ينكر �أحد مدى مظهرها
الت�أملي اال�ستغراقي المفتوح.
وبهذا المنزع ،تت�شكل م�صداقيته الإبداعية التي تحمل معها نب�ض االنكفاء على الذات،
لتحثث مواطنها ،واالنطالق من رحم ذاتها ،لتكون قادرة على مراودة الجديد دوم ًا ،تبع ًا
ع�شقا ،و�صبابة،وحداثاوية ر�ؤيا ،وجمالية منظور.
ً لمخزون الذات المتفتق
- 22 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
َّ
اللغوية المتضادة: - 2جماليَّة األنساق
- 23 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
اده ،وهذا ما قاله القدماء؛ فبالأَ�ضداد تُ ْع َر ُف الأ�شياء؛ وقد جاءت الأن�ساق الم�ضادة فاعلة
ُم َ�ض ِ
اللغوية ,تلوين ًا
َّ في تحريك الدالالت؛ لإك�سابها عمق ًا وت�أكيد ًا في الذهن؛ �إذْ تتلون �أن�ساقه
فني ًا ,كا�شف ًا عن جدليات وجودية ،وت�أمالت حياتية متناق�ضة؛ بين "الي�أ�س /والأمل"؛
و"الت�أمل /والإحباط"؛ �إذْ يقول:
"�أن تكون على قم ِة العم ِر
من دون ثقلٍ
راحتيك الخ�سار ُة والرب ُح؛َ لكي تتوازن في
ْ
الحرون جنبيك الريا ُحَ �أو تت�ساوى على
�أَ ْن يتقا�سم تركة روحِ َك �ضدانِ :
طِ ْف ٌل وكه ٌْل
ٌ
و�سهل و�صعو ٌد
ٌ
وجهل ووقا ٌر
يتعاقب في لحظ ٍة فوق �سطحِ َك َ و�أَ ْن
النبي
�صيف ّ ُ
ْ
الجنون.... ُ
و�سيف
.............................
.............................
و�أَ ْن تتر َّنح فو َق �صرِاط الحيا ِة
وحيداً...
غ�صن؛ ٍ بال �أيّ
و�أَ ْن تتم َّزق
ما بين رو ٍح تطي ُع
ْ
يخون وج�سم
ٍ
أربعون"(((.
تلك هي ال ْ
- 24 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى جمالي��ة الأن�س��اق اللغوي��ة المت�ض��ادة -ف��ي ق�صائد �ش��وقي
بزي��ع -تت�أ�س���س عل��ى مق��دار م��ا تثي��ره ال�ص��ورة ال�ش��عرية م��ن تح��والت نف�س��ية� ،إزاء فاعلي��ة
الت�ض ��اد؛ فالن�س ��ق اللغ ��وي المت�ض ��اد ال تكم ��ن قيمت ��ه ف ��ي م ��دى التنمي ��ق ال�ش ��كلي للأن�س ��اق
اللغوي��ة؛ و�إنم��ا في تخلي��ق المعاني التقابلية(المتناق�ضة) التي تر�ص��د حراك الذات ،ومكمن
احتدامها ال�ش��عوري ،ولذلك ،اهتم ال�ش��اعر �ش��وقي بزيع في ت�أ�سي���س ر�ؤاه على هذه الأن�ساق
المحتدم ��ة؛ البتع ��اث الح ��ركات ال�ش ��عورية م ��ن رح ��م منظورات ��ه المتناق�ض ��ة �إزاء الأ�ش ��ياء؛
فهو� ش��اعر جدلي ال يوفي �إال بالمتناق�ضات؛ وقد �أ�ش��ار �إلى ذلك بقوله� " :أنا �ش��اعر مارك�س��ي
�أ�ؤم��ن بالجدلي��ات �إيمان��ي بالحي��اة؛ فال�ش��يء ال تع��رف ماهيت��ه وحقيقت��ه �إال ب�ض��ده �أو ن��ده
الوجودي"(((.
وبالنظر -في فاعلية الأ�ضداد في المقبو���س ال�ش��عري -نلحظ �أن ال�ش��اعر يعتمد تتابع
ال�ضدية؛ �إزاء
َّ ال�ضدي��ة ميدان� ًا ن�ص َّي ًا خ�صب ًا ف��ي تفعيل الر�ؤى الجدلية �أو الثنائي��ات
َّ الأن�س��اق
�ن
�ن الر�صانة والتذبذب� ،س� ُّ
�ن الته��ور واالت��زان؛ �س� ُّ
ه��ذا ال�س��ن الحرج(�س��ن الأربعي��ن)؛ فه��و �س� ُّ
�ن ال�س��طح والعم��ق؛ وهذا الأ�س��لوب الت�ش��كيلي الذي يعتمد كثافة الأن�س��اق
الوق��ار والجه��ل؛ �س� ُّ
�عرية؛ ويزيد حركة الن�س��ق الت�أمل��ي حياكة ،وتنميق ًا ،وك�ش��ف ًا ما
ال�ضدي��ة؛ يثي��ر الدفق��ة ال�ش� َّ
ال�ضدية م��ن ر�ؤى ،ودالالت وتناق�ض��ات �إزاء هذه
ّ ورائي� ًا لم��ا ت�ض� ُّ
�ج ب��ه حركة ه��ذه الثنائيات
كه � ٌ
�ل"؛ المرحل ��ة الحرج ��ة م ��ن العم ��ر ,كم ��ا ف ��ي الثنائي ��ات المت�ض ��ادة التال َّي ��ة" :طف � ٌ
�لْ /
ُ
و"�صيف النبي� /س��يف الجنون"؛ ٌ
جهل" و"الخ�س��ارة /والرب��ح" و"�صع��و ٌد�َ /س��هلْ " ,و"وق� ٌ
�ار/
ال�ضدي��ة تع��زز حيوي��ة ال�ص��ورة،
ّ ُّغوي��ة م��ن ج��راء الممحاكم��اتوالالف��ت �أَ َّن المحف��زات الل ّ
َّ
العمري��ة نوع� ًا م��ن التذبذب
َّ وتزيده��ا عمق� ًا داللي� ًا مثي��ر ًا؛ فال�ش��اعر يج��د ف��ي ه��ذه المرحل��ة
بين حالت ��ي (الوق ��ار /والر�صان ��ة) الت ��ي تتمل ��ك ال ��ذات والإح�سا� ��س بالجه ��ل ال ��ذي ب ��د�أ
يت�س� َّ�رب� إليها؛ بي��ن (الأم��ل والي�أ���س)؛ �إذ ينتاب��ه ال�ش��عور القلق بي��ن الإح�سا���س بالزمن وثقله
عل��ى ذات��ه؛ حي��ث �أ�صبح الزمن خانق� ًا لأحالمه يق ِّيده بين الرغبة واالنقياد �إليها؛ والإح�سا���س
بالر�صان ��ة ،وكب ��ت جم ��اح الرغب ��ة واالبتع ��اد عنه ��ا؛ وهن ��ا ،تتج ��اذب ال ��ذات تناق�ض ��ات
وا�صطراع��ات داخل َّي��ة ع َّب� َ�ر عنه��ا م��ن خ�ل�ال حرك��ة ه��ذه الثنائي��ات؛ وله��ذا ،تب��دو الق�صي��دة
الناجحة -من منظورنا -هي حركة �إبداع َّية ت�س��تقطب ر�ؤاها من جدلها؛ �إذْ "� َّإن الق�صيدة عمل
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .439
- 25 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
خا� ٌّ��ص ج ��د ًا ,ال تذه ��ب بنف�س ��ها �إل ��ى الآخري ��ن دائم�� ًا؛ ال تفت ��ح مغاليقه ��ا له ��م جميع�� ًا؛
ٌّ
وم�ش��ع ف��ي �آن وفي كل وقت؛ فه��ي لي�س��ت �أُغني��ة� ،أو حكاي��ة�،أو �إعالن� ًا؛ ب��ل ه��ي عم��ل ِ
غائ� ٌم ّ
يظل كامن� ًا؛ �أو م� ّؤج ً
ال في انتظار ق��ارئ مرهف؛ ال قارئ �ان م��ا فيه��ا من �ضوء ُّ
واح��د ،ولذل��ك ف� َّ
ع��ام ,ق��ارئ ق��ادر عل��ى �إح��داث ذل��ك التما���س المقل��ق بين��ه وبي��ن الن� ّ��ص؛ ولي���س كل الق� َّ�راء
قادري��ن ,بطبيع��ة الح��ال ,عل��ى الو�ص��ول �إل��ى نقط��ة التما���س تل��ك :حي��ث مكم��ن ال�ض��وء� ,أو
قرائها المتم ّيزين؛ الرعد � ,أو الإثارة؛ وهكذا؛ كُ َّلما ازدادت الق�صيدة �إحكام ًا �أو تعقيد ًا َّ
قل عدد َّ
الفكري��ة
ّ �أعن��ي القادري��ن عل��ى الو�ص��ول �إل��ى نقط��ة االندم��اج بالن� ّ��ص ،وتفجي��ر مكنونات��ه
والبنائي��ة؛ وت�أ�سي�س� ًا عل��ى ذل��ك؛ يظ� ُّ
�ل ع��دد المرهفي��ن ,م��ن ق� َّ�راء ال�ش��عر ,قلي ً
ال ف��ي الع�صور
كله��ا؛ فال�ش��عر ,كم��ا يق��ول ال�ش��اعر الأَمريك��ي الالتين��ي خوان رام��ون جيمنز ,هو ف��ن الأقلية
الهائلة"(((.
ال�ضدية،
َّ وف َّع َل ق�صائده بالجدليات؛ والثنائيات
وقد وعى ال�شاعر �شوقي بزيع ذلكَ ،
ال�شعرية ،و�إح�سا�سه بدور الكلمة في ك�شف ر�ؤيا ،ومكنون الذات ،وعلى
َّ لتك�شف عن لعبته
هذا ،تبدو الق�صيدة -عند �شوقي بزيع -والدة جديدة من رحم المحتدمات والمتناق�ضات،
فهي فن ت�شكيل المت�ضادات من جهة؛ وفن ت�شكيل الم�ؤتلفات الن�سقية المتوازنة �أو المترادفة
من جهة ثانية؛ فهي تركيب نوعي �إبداعي خلقي لأَن�ساق لغوية مبتكرة؛ ت�ستثير الح�سا�سية
ال�شعرية ،وتعزِّ ز الموقف ال�شعري؛ كما في قوله:
ّ
ِلح ٌة هي الذِ ْك َرى " َما َ
وِقا�سِ َي ٌة َم َخا ِل َبها ال َم ْر َير ُة
وهي َت ْ�س ُق ُط عِ نْ َ�سريركِ
نحو حفر ِتهَا العميق ِة
كم �سن ْة؟
أدق هذا الباب �س� ُّ
الجدران لي �ضو ًءا ُ كيما تفتح
يقود �إلى جبينكِ ؛
�سوف َي ْح ِر ُقني لأَبل َغ َج َّنتِي َك ْم َجحِ ْيماً َ
-1الع ّ
الق ,علي ,جعفر - 2007 ,هاهي الغابة ,ف�أين الأ�شجار�,صفحة الغالف.
- 26 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
الحب؟
ثم هذا ِّ متطهِّراً من �إِ ِ
�أ َّية نافذة؟ َ�س ُت ِق ُّلني هذا ال�شتا َء �إلى نها ٍر
�أنتِ في ِه"(((.
ما ينبغي الت�أكيد عليه بداية� ،أن ال�شاعر �شوقي بزيع يعمد �إلى تفعيل حركة الأن�ساق
اللغوية المت�ضادة بم�ؤثرات الت�سا�ؤالت الوجودية المف�ضية� ،إما �إلى توق غرامي محتدم؛
و�إما �إلى ك�شف نوازع الذات الكونية(الفل�سفية /الوجودية) ،و�إما لإثارة الدالالت ،وتحريكها
الجامح �صوب قلقلة القار والثابت في الأذهان ،لإعالن جر�سا التقريع والتنديد واالحتجاج
الوجودي.
وبتفاعلنا مع المقبو�س ال�شعري نب�ض ًا و�إح�سا�س ًا نلحظ �أن ال�شاعر يكثف الر�ؤى
المت�ضادة؛ مما يجعل الأَن�ساق الل َّ
ُّغوية متفاعلة في ح ّيزها الن�سقي؛ فالأ�ضداد لي�ست في
المفردات الوا�ضحة بقدر ما هي في الر�ؤيا والمداليل الباطنية العميقة وهذا يجعل المداليل
اللغوية فاعلة في تحفيز الر�ؤى الجدلية ,كما في قوله" :مالح ٌة هي الذكرى /وقا�سي ٌة
ّ
مخالبها المريرةُ ".
وبتقديرنا� :إن ترا�سل الحوا�س في ال�صورة ال�شعرية ال�سابقة دليل نقل المح�سو�س
�إلى المجرد ،والمرئي �إلى الم�سموع ،والم�سموع �إلى المذاق؛ وهذا ما يجعل ال�صورة -لديه-
مزيج من المتناق�ضات والمكت�سبات الو�صفية التي تنوع الر�ؤى ،تبع ًا لزخم الأحا�سي�س،و
تنوعها ،وتعدد م�ؤثراتها ،وب�ؤرها ال�شعورية؛ فمن الم�ألوف مث ً
ال �أن ترتبط لفظة الملوحة
بال�شيء المح�سو�س ،الرتباطها مبا�شرة بحا�سة الذوق؛ كالطعام �أو ال�شراب؛ �أما �أن يقوم
ال�شاعر ب�إ�سناد هذه ال�صفة للذكرى فيهدف من ورائها �إحداث انزياح �شعوري ا�صطراعي
للتدليل على �أثر هذه الذكرى المريرة على قلبه �إثر فراق الأحبة ،فبات وقعها م�ؤلم ًا على
نف�سه كلما ا�ستعاد �شريط الذكريات؛ �سرعان ما يجتر المرارة والأ�سى والجراح؛ وهذا يدلنا
�أن االنزياح اللغوي في بنية ال�صورة عبر الثنائيات ال�ضدية؛ �أو الأو�صاف الجدلية يك�سب
الن�سق ال�شعري خ�صو�صيته الإبداعية عند �شوقي بزيع؛ ولهذا ،يعمد ال�شاعر �أحيان ًا �إلى
"ك ْم جحيم ًا
تراكم الأ�سئلة الجدلية المحتدمة �إيذان ًا بهذا الحراك ال�شعوري ,كما في قولهَ :
-1بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية؛ ج� /1ص .365-364
- 27 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
- 3التضافر النسقي:
ونق�ص��د بـ[الت�ضاف��ر الن�س��قي] :ت�ضاف��ر الجم��ل فيم��ا بينه��ا ف��ي ت�ش��كيل ر�ؤي��ة ن�صي��ة
مح��ددة� ،أو مكتمل��ة ن�س��قي ًا؛ مم��ا يجع��ل الدفق��ة ال�ش��عرية فاعلة ف��ي تحفيز ال��ر�ؤى ،وتعميق
ال��دالالت؛ وتبع� ًا له��ذا ،يع��د الت�ضاف��ر الن�س��قي �أول��ى الم�ؤث��رات ف��ي تفعي��ل مو�س��يقى الن���ص
الداخلي��ة �أو الإيق��اع الداخل��ي للق�صي��دة؛ بو�صفه منب��ع حراك الدالالت� ،إذ " لمو�س��يقى الن�ص
الداخلي��ة �أدوات �ش��تى� ،صوتي��ة ،ولفظي��ة وتركيبي��ة ،كتج��اوب الح��روف ،وتن��اوب النب��ر،
وت�صاق��ب الألف��اظ ،ومح��اكاة �أً�ص��وات الطبيعة� ،أو م��ا ي�س��مى(�أونوماتوبيا) ،و�ألوان البديع
المختلفة ،وغير ذلك ...ولعل �إهمال الكثير من ال�ش��عراء والمحدثين �إلى الت�صنع باللغة،
والتمك��ن م��ن مكام��ن الجمالي��ات فيه��ا ،ق��د حج��ب ع��ن ق�صائده��م ه��ذه الجمالي��ة النابعة من
حرك��ة الإيق��اع الداخل��ي؛ �إذ ظ��ل معظمه��م يتك��ئ عل��ى الح���س الفط��ري ،دون �أن ي�أخ��ذ نف�س��ه
بالتبح��ر ف��ي عوال��م العربي��ة .كما يفعل �أي حرف��ي حينما يتعمق مكونات الم��ادة التي تقوم
عليه��ا �صنعت��ه ...ه��ذا ف�ض�ل�اً عل��ى �أن كثي��ر ًا مم��ن يركب��ون موج��ة الحداث��ة الي��وم ال يملك��ون
م�ش��روعات تحديثي��ة حقيقي��ة ج��اءت تمخ�ض� ًا ع��ن ن�ض��ج التجربة ال�ش��عري بمق��دار ما جاءت
ع��ن عج��ز ..ف��ي فه��م طبيع��ة اللغ��ة و�أجوائها التعبيري��ة الدقيقة؛ فم��ن باب �أول��ى �أن ال ي�أتي
بجدي��د ف��ي مي��دان ا�س��تخدام اللغ��ة� ،أو تفجي��ر مو�س��يقاها الداخلي��ة"((( .وم��ن ه��ذا المنطلق؛
ف ��إن الت�ضاف��ر الن�س��قي يع��د الخلفي��ة الر�ؤيوي��ة للمه��ارة ال�ش��عرية ف��ي تولي��د المفارق��ات
الت�صويري��ة ،وال��ر�ؤى الفني��ة ف��ي ا�ست�ش��فاف ال��دالالت وتكثيفه��ا �ش��عوري ًا؛ وبه��ذا المقت��رب
-1الفيفي ،عبد بن �أحمد - 2004 ،حداثة الن�ص ال�شعري في ال�سعودية ،مجلة عالمات ،ج ،52م� ،13ص .258
- 28 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
الر�ؤي��وي يق��ول �ش��وقي بزيع " :ال�ش��عر ينبع م��ن مطواعية اللغة ،ومرونتها لتكون انعكا���س
الداخ��ل عم��ا ي�ش��ف ب��ه الخ��ارج؛ فه��ي والدة مخا���ض ت�ش��به عملي��ة ال��والدة عن��د الم��ر�أة"(((.
ولذا ،ف�إنَ الأداء ال�شاعري العميق هو الأداء المت�ضافر ن�سقي ًا على م�ستوى الجمل الجزئية,
و�ص��و ًال �إل��ى القفل��ة الن�صي��ة؛ وتع��د تقني��ة الت�ضاف��ر الن�س� ّ
�قي من مثي��رات الق�صائ��د المتفاعلة
الت��ي ت�ش��حن الدفق��ة ال�ش��عرية بالت�آل��ف ،واالن�س��جام؛ وقد ا�س��تطاع ال�ش��اعر �ش��وقي بزيع �أن
ُي َح ِّف��ز �أن�س��اقه ال�ش��عرية عب��ر تقني��ة الت�ضاف��ر الن�س��قي بي��ن الجمل؛ مع��زز ًا ال��دالالت؛ بترابط
اللغوية؛ كما في قوله:
ّ الجمل ،وتوازي الأن�ساق
"لم �أَ ْع�شِ ْق ا ِْم َر�أ ًة �إ َّال و�أَ ْن َ�ش َبني
في لحمِ ِه ال ُم ْ�ش َتهَى ُت َّفاُ ُحهَا ال ّ
أزلي
و�إ ْذ ُي َح ِّملني الوج ُد اندفاع َت ُه
ال ُق�صوى؛
وت�سر ُع �أَنها ٌر بال �أَملِ
�أرى �شقائ َق ُن ْع َمانٍ ُم َ�ص َّغ َر ًة
العينين
ِ ت�سي ُل مغم�ض َة
في ال ُق َبلِ
حيث ال ُذ َرى َت َتماهى مع َتوائِمها ُ
كالهالِ في ِّ
البن
�أو كالكحلِ في ال ُم َقلِ "(((.
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى �أن فاعلي��ة الت�ضاف��ر الن�س��قي -ف��ي ق�صائ��د �ش��وقي بزي��ع-
تتب��دى ف��ي ه��ذا التولي��ف الفن��ي العجي��ب ال��ذي تثي��ره الحرك��ة الت�صويري��ة في الق�صي��دة؛ �إذ
تمتاز هذه الأن�س��اق بب�س��اطة تعبيرية ،ور�ش��اقة لغوية تنم على الطاقة التخييلية العالية،
والق��درة اللغوي��ة الفائق��ة؛ الت��ي ت�س��تثيرها حرك��ة الأن�س��اق بتمازجه��ا الفن��ي الرهي��ف عل��ى
م�س ��توى الت�ش ��خي�ص ،والتج�س ��يد ،والت ��وازن الب�ص ��ري ف ��ي الأن�س ��اق ،لتحك ��ي بالبن ��اء م ��ا
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص.429
-2بزيع� ,شوقي - 2010 ,مدن الآخرين ،دار الأدب ،بيروت ،ط� ،1ص .113-112
- 29 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
تحكيه بالكلمات ور�ش��اقتها ،وهذا ي�ؤكد �أن فاعلية الت�ضافر الن�س��قي ترفع وتيرة ال�ش��عرية
خا�ص��ة عندم��ا ت�أت��ي الأن�س��اق متوازي��ة� ،أو محف��زة لحرك��ة ال��دالالت .وتبع� ًا له��ذا ،ي��ؤدي
الت�ضاف ��ر الن�س ��قي دور ًا فاع�ل�اً ف ��ي تحفي ��ز ال ��ر�ؤى ،وتعزي ��ز ال ��دالالت؛ ب�إيح ��اءات �ش � َّ
�عرية
رومان�س��ية عميق��ة؛ �إذْ � َّإن كل �ص��ورة تتفاع��ل م��ع مثيلتها الأخرى في التركيب ،بت�ضافر ن�س��قي
لغوي��ة مبتك��رة؛ وا�س��تعارات عميق��ة تمت��از بالب��كارة اللغوي��ة م��ن جه��ة،
َّ يف��رز ت�ش��كيالت
ال�شعورية،
َّ ودغدغة الم�شاعر والأحا�سي�س من جهة ثانية؛ وك� َّأن ال�صورة تر�سيمة من دفقاته
ونفث��ة م��ن نفثات��ه العاطفية التي ت�ضطرم بنيران الوله ،والع�ش��ق ،والوجد ،والهيام؛ بلغة
تمي��ل �إل��ى العذوب��ة وح�ل�اوة الوق��ع ال�صوت��ي للكلم��ات؛ كم��ا ف��ي قول��ه" :ل��م �أَع�ش��قْ ام��ر� ًأة �إ َّال
لحم� ِ�ه الم�ش��تهى ت ّفاحها ال ّ
أزلي"؛ فال�ص��ورة بفنيتها العالي��ة و�إبداعها المتم ِّيز ِ و�أن�ش��بني ف��ي
ت�ضاف��رت دالل ًّي��ا م��ع الجم��ل الأخ��رى؛ �إذْ ج��اءت ُمن َْ�س��جمة ن�س��قي ًا لتحق��ق م�ؤثره��ا ال�ش��عري
م�صفرة /ت�س��يل مغم�ض� َ�ة العين في
َّ ٍ
نعمان الرومان�س��ي ال�ش��فيف؛ كم��ا ف��ي قول��ه�" :أرى �ش��قائق
القب��ل"؛ وهن��ا؛ ب��دت ال�ص��ورة ملتئمة ن�س��قي ًا م��ع الأخرى بحرك��ة غزلية مبثوث��ة بدفق عاطفي
تر�س��يمي �ش��عوري عمي��ق؛ كم��ا ف��ي قول��ه" :حيث ال��ذرى تتماهى م��ع توائمها كاله��الِ في البنِّ
الت�صويري ��ة؛ موحي ��ة
ّ �أو كالكح ��ل ف ��ي المق ��لِ "؛ فالأن�س ��اق الل َّ
ُّغوي ��ة مت�ضاف ��رة ف ��ي حركته ��ا
�عرية غزل ّي��ة رومان�س � َّية عميق��ة؛ يب��ث �ألقه��ا بحيوي��ة التج�س��يد ،والح���س الرومان�س��ي
ب�ش� َّ
ال�ش��فيف؛ �إزاء متعلق��ات الأنث��ى وم�س��تلزماتها الو�صفية الوجودية المثيرة للعاطفة وال�س��مو
تقليدية كما في قول��ه[ :الهال
َّ به��ا جمالي� ًا؛ فعل��ى الرغ��م م��ن � َّأن ال�ص��ور ق��د تك��ون مك��رورة �أو
ف��ي الب��ن] �أو [الكح��ل ف��ي المق��ل]؛ ولكنه��ا ج��اءت مالئم��ة لحرك��ة الن�س��ق �صوت ًّي��ا ودالل ًّي��ا؛
ّغوية بفنية عالي��ة؛ قادرة على ا�س��تقطاب الر�ؤى،
فال�ش��اعر �ش��وقي بزي��ع يخت��ار الأن�س��اق الل ّ
وتعزي��ز ال��دالالت ،وبلورته��ا بن�س��ق مت�آل��ف؛ حي��وي ,خ�ص��ب؛ مثي��ر للت�أم�ل�ات الوجودي��ة؛
والغزلية ب�إيقاع رومان�سي خ�صيب ي�صل �إلى �أعلى الم�ستويات الفنية والأ�سلوب ّية المبتكرة.
ناهي��ك ع��ن العم��ق ف��ي ا�س��تقطار ال��ر�ؤى؛ والتق��اط ال�ص��ور التر�س��يمية الدقيق��ة ذات ال�س��بك
المحك��م والو�ص��ول به��ا� ،إل��ى �أق�ص��ى مرات��ب الج��ودة ،والحبك��ة الت�صويري��ة ،والجاهزي��ة
الفني��ة؛ وه��ذا يتب��ع فني��ة ال�ش��عر وم�س��تواه الإبداع��ي ،مم��ا ي�ؤك��د� " :أن كل تجرب��ة �ش��عرية
ال يك��ون منتجه��ا �ش��اعر ًا م�ؤه�ل�اً ،وال يكون محركها الأ�سا���س من الداخل تع��د تجربة مفتعلة،
تفتق��ر �إل��ى م�صداقية الح���س ،وم�صداقية المعرفة ،و�ش��عر الجاهزي��ة ،والمعاني المطروحة
- 30 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
في الطريق في م�س��تواها المادي �س��تفقد م�صداقية اللحظة ال�ش��عورية ،ولن تحدث �ش��يئ ًا من
التعاطف معها �أو انجذاب ًا �إليها"(((.
ّغوية تالعب ًا فني ًا ي�ؤكد ت�ضافر الأن�ساق رغم
وقد يتالعب ال�شاعر بالأن�ساق الل ّ
االنتهاكات الأ�سلوبية المغامرة �أو المقامرة بدالالتها؛ �إذْ تتالعب في حركة الت�شكيالت
اللغوية؛ العت�صارها مداليلها ،ومثيراتها الفنية ,كما في قوله:
"�أَ ُّيها الإث ُم
ُكنْ لِي َ�س َماداً
لأَ ْب ُذ َر بين الرجالِ بذو َر ّ
ال�شقاق...
..........
الذئب
ُ �أَنا
الذنوب
َ حام ُل ِو ْر َز
ُ
تتراك�ض في الد ِم التي
َم ْك ُ�س َّو ًة بال ُن َبا ِح
و ُم ْ�ش َه َر ًة مث َل ٍ
�سيف على الموتِ "(((.
وما ينبغي الت�أكيد عليه� :أن تقنية الت�ضافر الن�سقي -في ق�صائد �شوقي بزيع -هي
التي تثيرها �شريطة �أن تكتمل الر�ؤية الن�صية ،وتكتمل �شروطها الإبداعية؛ لكن هذا ال يعني
�أن ال�شعر �إذا حقق �شروطه بمعزل عن عمق التجربة يعد �شعر ًا؛ فـ" ال�شعر يعرف ب�أثره ،وال
يعرف ب�شرطه ،وتوفر ال�شرط قد ال يوفر الم�شروط ،والنماذج ال�شعرية هي التي ت�سعف
المعروفين ،وتف�ض اختالف المختلفين؛ �إذ ًا ال�شعر ال ي�ؤطره �شرطه ،ولكنه ي�شير �إليه� ،إذ لو
توفرت كل ال�شروط ال�شعرية في كالم ال يحمل نب�ض ال�شعر ال يكون �شعر ًا"(((.
وبالنظر في فاعلية الت�ضافر الن�سقي -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
ً
مك�سوة بالنباح) بمتخيالت يتالعب ن�سقي ًا في حركة الأَن�ساق ال َل ّ
غوية؛ (بذور ال�شقاق-
-1الحارثي ،محمد بن مر�سي - 2004 ،الق�صيدة ال�سعودية والمعاني المطروحة في الطريق ،مجلة عالمات ،ج ،52
م� ،13ص .695
-2بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية ,ج� /2ص 702
-3الهويمل ،ح�سن بن الفهد - 2004 ،ق�صيدة النثر و�إ�شكالية ال�شكل وال�شرط ،مجلة عالمات ،52 ،م ،13يونيو� ،ص.297
- 31 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
�شعرية مفتوحة الر�ؤى والدالالت؛ باعث ًا مثيرات الجملة على �صعيد الأن�ساق الت�صويرية
الت�صويرية الكلية؛ مما يجعل الن�سق ال�شعري مت�ضافر ًا؛ يبث
ّ الجزئية؛ وعلى �صعيد الر�ؤى
�ألق العاطفة ،وال�شعور االغترابي الذي تعانيه ال��ذات ،من خالل �سوداوية الر�ؤية،
منحى نف�ساني ًا في تَ �شكيل العبارة ,لتقوم على متخيالت
ً وقتامتها،بعبث �سريالي ينحو
كابو�سية مرعبة؛ تبين حجم ال�ضغط ال�شعوري االغترابي الم�أزوم الذي تعانيه الذات في
واقعها المرعب القائم على الت�شويه والدمار ال�شعوري الذي يطال الأج�ساد والأرواح
بذور ال�ش ّق ْ
اق"؛ فقارئ َ ِثم ...كُ ْن لي َ�س َما َد ًا ...لأَ ْبذُ َر بين الرجالِ
ال�صافية؛ قائالً�" :أَ ُّيه َا الإ ُ
ال�شعرية ال يخفى عليه تركيبها ال�سريالي الذي يقوم على بعثرة الر�ؤيا
ّ هذه الأَ�سطر
الكابو�سية المرعبة؛ بقلق ،و�سوداوية تطال الأرواح؛ حزن ًا ،وكبت ًا ،واغتراب ًا وجودي ًا،
ونظرة يائ�سة �إلى هذا العالم الوح�شي الذي يتخيله ال�شاعر بكابو�سية مرعبة؛ ت�صل ح َّد
الت�شويه واعت�صار كل مظاهره المرعبة القاتمة وفظاظته على النفو�س؛ وهكذا؛ تت�ضافر
اللغوية فيما بينها ت�ضافر ًا وا�ضح ًا؛ يطال كل جزئية ت�صويرية من حيثيات الم�شهد
َّ الأن�ساق
ال�سريالي في بث مظاهر الت�شويه� ،أو العبث ال�سريالي بالأ�شياء ,العت�صار مكنوناتها
الداخلية المرعبة على النفو�س.لكننا ال نعدم وجود الق�صيدة الفنية من وراء هذا الت�شكيل؛
ُّ
تق�ض م�ضجعه؛ وتدفعه �إلى وهذا لإظهار المنعرجات النف�سية ال�شعورية المحتدمة التي
ت�شويه الواقع �إيذان ًا بت�شويه الوجود والعبث ال�سريالي به على �شاكلة مانلحظه عند
�أدوني�س؛ و في بع�ض �شعر محمد الماغوط؛ وهذا دليل على �أن" ال�شعر حالة ق�صدية واعية
متفق عليها ،ولكنها حالة مراوغة ،وغير م�ستقرة ،وهي ع�صية على التعريف كال�سعادة،
والجمال ،والحب"(((.
ال�شعرية ب�أن�ساق لغوية مقت�صدة ,ت�شي ببراعة
ّ َّ
والالفت � َّأن ال�شاعر يكثف ر�ؤاه
ن�سقية ،وت�ضافر داللي في تو�صيف (قريته),كما في قوله:
الخ�شب ال ُم َخ َّل ِع
َ "�س�أقر ُع َ
ذلك
في فنا ِء البيتِ
بالأ�سنانِ والأَ ْيدِ ي,
و�أَم�س ُح فو َق ما َت َر َك الغبا ُر
-1الم�صدر نف�سه� ,ص.298
- 32 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
على النوافذِ
بال ِّ
أكف وال�شِ فا ِه
فهناك َ�سوف �أَقي ُم مملكتي َ
وم َّتك�أَي الأخير,
فقط ,هناك �س�أ�ستري ُح
ب�ساط جه َّنمي الخ�ضراءِ, على ِ
ت�سندني يدا َح َجرٍ �سماويّ
وتعر ُج بي ينابيعي
(((
إلهي"
�إلى دَمِ ها ال ِّ
ما ينبغي الت�أكيد عليه� :أن تقنية الت�ضافر الن�سقي -في ق�صائد �شوقي بزيع -ظاهرة
جمالية ت�سهم في تحفيز ق�صائده ،بو�صفها �أداة ترتيب ،وتن�سيق ،وان�سجام؛ خا�صة في
ق�صائده الطويلة(ق�صيدة اللوحة -الق�صيدة الدرامية -ق�صيدة الم�شهد) ،التي غالب ًا ما
تكون حا�ضنة للكثير من القيم الجمالية المحفزة ل�شعريتها؛ يقول الدكتور محمد �صالح
ال�شنطي� " :إذا كانت الق�صيدة الق�صيرة تج�سد موقف ًا عاطفي ًا مفرد ًا �أو ب�سيط ًا ف�إن الق�صيدة
الطويلة تربط بين كثير من تلك الحاالت العاطفية في �إطار فكرة عامة ،حيث تكون هذه
الفكرة غاية في التعقيد ،وتبدو معماري ًا مكونة في وحدات ذات عالقات عميقة ،وبما ال
تدركها ب�صيرة المتلقي للوهلة الأول��ى؛ فهي �إع��ادة �إنتاج وت�شكيل للخبرات الإن�سانية
والتجارب العميقة"(((.
وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أَ�سلوب ًا مبتكر ًا في تو�صيف قريته؛ ب�صور
م�شرقة تموج بالح�س واالنفتاح التخيلي؛ محقق ًا ,عمقا ت�أمل َّي ًا �شفيف ًا في ا�ستدراج الأن�ساق
المت�ضافرة؛ �إن على �صعيد الدالالت وت�ضافرها الن�سقي؛ و�إن على �صعيد الت�شكيالت وال�صور؛
وما تبثه من ر�ؤى ،ودالالت ،ومباغتات ت�شكيلية مبتكرة؛ يرتقي بها �إلى حيز من الإثارة
والتحليق ال�شاعري؛ �إذْ � َّإن هذه المباغتات الت�شكيل َّية َ
[ج َهنَّمي الخ�ضراء -حجر �سماوي -دمها
- 33 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الإلهي]؛ تثير ح�سا�س َّية القارئ بائتالفها في ن�سقها ،وتمازجها في خلق هذه الحرارة
الت�شكيل َّية في هذه الأن�ساق الفاعلة في تحفيز الر�ؤى ،وتكثيف الدالالت؛ وهذا ما ي�ستثيره
ِ
الخ�ضراء ِ
ب�ساط جهنّمي أ�ستريح على
ُ ال�شاعر في ن�سق بع�ضها؛ كما في قوله" :فقط؛ هناك �س�
وتعرج بي ينابيعي �إلى دمها الإلهي"؛ � َّإن هذا التقدي�س
ُ �سماوي/
ّ /ت�سندني يدا حجرٍ
الأ�سطوري في محبة قريته يهب �صوره طابع ًا تقدي�سي ًا؛ ي�شي بحجم التخيل الجمالي والح�س
ال�شعوري العاطفي بهذه القرية؛ و�أثرها الجذّ اب وا�ستقطابها الجوهري لروحه وف�ؤاده؛ فهي
ال�شعرية على االئتالف الن�سقي
ّ تمثل �سكنه الروحي الأخير؛ وهكذا؛ يبلور ال�شاعر �أن�ساقه
الفاعل في تحفيز الر�ؤى وتعميق الدالالت؛ مما يجعلها ذات " :حيلة دفاعية ،لتحقيق ال�ضبط
االنفعالي والإيقاعي لم�ستوى التوازن لدى ال�شاعر"((( .وهذا يعني -بالت�أكيد� -أن ال�شاعر
عندما يولف ال�صور والأن�ساق بت�ضافر وان�سجام ،يحقق لل�صورة م�ستواها الإبداعي المميز؛
خا�صة في المواقف العاطفية المحتدمة؛ ذلك� " :أن ال�صورة ال�شعرية الحقة هي �إبداع فني
يخاطب الروح والإح�سا�س مع ًا ،فما نح�صل عليه من الت�شابه �أو �سواه من عالم المجازات
اال�ستعارية يثير �إنماء ال�صورة الجمالية الفنية ،في�ضيف جديد ًا بت�شبيهه في خيالنا،
وروحنا وي�شيع فينا مدركات خيالية جديدة مادية ومعنوية"(((.
- 34 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
لي�س مجرد �صياغة خيالية لواقع تم تكونه� ،أو تم توهمه ،ف�أ�صبح من الحا�صل الجاهز،
لكنه منبع لتكون ال�صور المف�ضية على الواقع ،لي�س العالم في ال�شعر الحديث قد كان
وح�صل� ،إنه في حالة من التكون والت�شكل دائمة"(((.
وما ينبغي مالحظته وت�أكيده في الآن ذاته� " :أنه ينبغي �أال يفهم ال�شعر على �أنه"
�أ�سلوب" فقط ،على الرغم من �أن هناك قيمة معينة في محاولة اعتباره �أ�سلوب ًا؛ �إن �أي منهج
ل�ساني مفيد يجب �أن يعالج ال�شعر كجزء ينبغي �أن ال يمنع �إدراك القارئ للغة التي ي�ستعملها
ذلك ال�شعر ،فمهما كان ال�شعر خال�ص ًا ورفيع ًا ف�إنه ينبغي �أال يبتعد كثير ًا عن توقعات
جماهيره وقرائه المتكلمة لتلك اللغة التي ي�ستخدمها �إذا �أراد لنف�سه اال�ستمرارية والبقاء"(((؛
وقد لج�أ ال�شاعر �شوقي بزيع �إلى تكثيف لغة ال�سرد؛ بو�صفها المتنف�س التعبيري عن تراكم
ال�شعرية؛ التي ت�ضج بها حركة ن�صو�صه؛ بلغة
َّ الم�شاعر ،والر�ؤى ،والدالالت ،والمتخيالت
�سردية تميل �إلى الو�صف العاطفي �أكثر منه �إلى الو�صف ال�شعري ,كما في قوله:
بعينين قمحيتين وقلبٍ وحيدٍ ِ "
م�صابيحها...
َ �أَ�ضاءت
مثل قدِّي�س ٍة نائم ْه
هنالك تحت الظال ِم الأ�ش ِّد بها ًء
جثا قل ُبها الطف ُل؛
ُ
تحاول راكع ًة كانت
�أن تهي َل على ركبتيها المزي َد
من الع�شبِ "(((.
بداية ،ن�شير �إلى �أن تقنية ال�سرد ال�شعري -في ق�صائد �شوقي بزيع -تجري ب�سال�سة
لغوية ،ور�شاقة ت�صويرية �إيقاعية محكمة؛ وهذا ما �صرح به �شوقي بزيع في قوله " :لغة
ال�سرد -في ق�صائدي معجونة بدم ال�شعور ،والتهاب الأحا�سي�س� ...إنها لغة ممزوجة
ب�إح�سا�سي و�شغفي �إلى ت�أ�سي�س الر�ؤية الوجودية بكامل �أبعادها و�إح�سا�ساتها في خلجات
-1نق ً
ال من :الواد ،ح�سين� - 2004 ،أجنة الب�شيتي في ت�ضاري�سه�،ص 220مجلة عالمات ،52 ،م ،13يونيو� ،ص .727
-2الوعر ،مازن عو�ض - 2004 ،الل�سانيات وال�شعر ،مجلة عالمات ،52 ،م ،13يونيو� ،ص �.727ص20
-3بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية,ج� /2ص .637-636
- 35 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
نف�سي المت�شوفة؛ فلغة ال�سرد في ق�صائدي لي�ست �أداة تعبير؛ و�إنما هي و�سيلة ت�صوير� ..إنها
نب�ض روحي يجذبني ال �شعوري ًا �إلى الإطناب واال�ستطالة؛ وك�أني في �أجواء الر�ؤية لتغريني
�إلى ممار�ستها ،لكنني �أمتلك �صراحة النف�س الطويل لتحقيق هذه الغاية"(((.
وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر يعمد �إلى الأ�سلوب الق�ص�صي
الحيوية
َّ ال�شاعري في تج�سيد �أَو�صاف محبوبته؛ من خالل ر�سم مالمحها الجزئية ،وبث
والحركة في �أو�صافها؛ وك�أنه ي�صف من خاللها ذكريات طفولته وقريته التي عا�ش وتربى في
�سردية؛ ي�ستق�صي جل مثيراتها من ح ّيز الطبيعة ،وخ�صوبتها
ّ كنفها؛ ور�سم مالمحها ب�أو�صاف
الجمال َّية؛ وهذا اال�ستدراج ال�سردي الق�ص�صي ال يقلل من �شعرية الق�صيدة؛ بل يرتقي بجمال
اال�ستعارية ،وال�صور التمثيلية ,التي تزيده �إ�شراق ًا؛
َّ الت�صويرية ،باالبتكارات
ّ �أن�ساقها
وح�س ًا ت�أمل ّي ًا؛ كما في هذه الأن�ساق ال�سردية الفاعلة في تحفيز الر�ؤية؛ وتعميق منظوراتها
ّ
كانت
ْ ُ
الطفل..., بهاء ...جثا قل ُب َها
ً الظالم الأَ�ش ِّد
ِ تحت
َ الرومان�سية؛ كما في قوله" :هنالك
الع�شب"؛ َّ
والالفت � َّأن ال�شاعر -في المقطع ِ َ
تهيل على ركبتيها المزي َد من ً
راكعة � ْأن تحاول
الأخير -من الق�صيدة يب ِّين خ�صوبتها الجمال ّية؛ ب�أو�صاف ق�ص�صية �شائقة؛ و�صور تر�سيمية
ال�شعرية الم�شتقة من ح ّيز الطبيعة ,كما في قوله:
ّ للحدث ال�شعري� ،أو الأو�صاف
المِ ُ�س ُه �شع ُرها " ال�شي َء مِ ِّما ُي َ
ال�سكين َة,ي�ستعي ُد َّ
ال �شي َء مِ ِّما ُت َر ِّبيه �أَهْ دَا ُبهَا
ي�ستطي ُع التراج َع نحو الجذو ِر
التي جا َء منها,
الف �أقدا ُمهَا دائ ًما لذاَ ,ت َت َح ُ
مع ُغيو ٍم جديد ْه
و َت ْر ُنو �إلى ما ُي َواري �أنوثتها
مث َل نهرٍ عميقِ ال َم َرا َيا
ورا َء الدُّ َخ ْان"(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع ال�شاعر �شوقي بزيع ،مخطوط ....لم ين�شر بعد.
-2بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية,ج� /2ص .553
- 36 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
�ردية الر�ش��يقة
هن��ا؛ تب��دو الق�صي��دة فاعل��ة ف��ي تحفي��ز ر�ؤيته��ا م��ن خ�ل�ال الحركة ال�س� َّ
�ردية دقيق��ة لمحبوبت��ه ،و�صفاتها ،ومظاه��ر فتنتها
الت��ي يبثه��ا بي��ن الجم��ل؛ بتو�صيف��ات �س� َّ
الت��ي تماث��ل الطبيع��ة ف��ي �س��حرها ،و�إ�ش��راقها ،ون�ضارته��ا ،و�س��كينتها؛ و�أهدابها ال�س��احرة
الت���ي تخف���ي وراءه���ا �أُنوث���ة ،وعذوب���ة ،ورق���ة فائق���ة؛ ودماث���ة روحي���ة ت���ذوب حنان��� ًا
�رى ق�ص�صي� ًا؛ وعمق� ًا تخيلي� ًا، وتحنان ًا؛ فم��ا� أرق ه��ذه الأو�ص��اف ال�س� َّ
�ردية الت��ي تج��ري مج� ً
�عوريا مرهف� ًا للم�ش��اهد ،وال��ر�ؤى ،والأو�ص��اف الملتقطة؛ كما في قول��ه؛ " َوتَ ْرنُ و ّ وابتكار ًا� ش�
�نادية
ان"؛ �إن هذه الده�ش��ة الإ�س� َّالد َخ ْ
وراء ُ
َ �ل نَ ْهرٍ َعمي� ِ
�ق المرايا/ �وارِ ي �أُنُ َ
وثتَه��اِ /م ْث� َ �إل��ى م��ا ُي� َ
�ردية يحق��ق له��ا درج��ة عالي��ة م��ن االبت��كار الإ�س��نادي ،والروع��ة
ف��ي خل��ق الأو�ص��اف ال�س� َّ
الح�س� ّية في تج�س��يد الأو�صاف ،وتر�س��يمها ن�س��قي ًا بكثافة �ش��عورية ،وعمق ت�أملي رهيف؛ �إذْ
اللغوي��ة المبتك��رة[ :ي��واري �أنوثته��ا -جرح� ًا عمي��ق المراي��ا]؛
َّ � َّإن ال�ش��اعر به��ذه الت�ش��كيالت
وي َف ِّعل حركة الم�ش��هد ال�ش� ّ
�عري للتنامي ،والإثارة، �ي العاطفي؛ ُ
يزي��د ح��رارة الم�ش��هد الغزل� ّ
والتحفيز.
ومن ذلك ،يحاول البزيع �أن يثير ال�صور ،ويبلور الأن�ساق ال�شعرية بلورة ن�سقية
الن�صي لت�شكيالت لغوية مبتكرة؛ تخترق حاجز
ّ غاية في التالحم ،واالن�سجام ،واالنبالج
الألفة الإ�سنادية �إلى الده�شة ،والمراوغة ،والمفاج�أة الن�صية ,كما في قوله,
البي�ض
ِ " َت َج َّلتْ ب�أَ ْقما ِرهَا
ْ
الجبال من خلفِ َظ ْه ِر
َت َج َّلتْ
تتجلى ل�سربِ َح َما ٍم كما َّ
�سما ًء من القمح؛
�صيف
�أو ك�سحاب ِة ٍ
ل�ش َّد ِة ما �أ ْو َغلَتْ في الغياب
ا�ستحالتْ ُح َب ْي َباتِ د َْم ٍع ُم َ�ص َّغ َر ًة
ْ
الزوال"(((. عند ِّ
خط
- 37 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ما يلفتنا بداية �أن جمالية ال�سرد ال�شعري -في ق�صائد �شوقي بزيع -تت�أتى من الأجواء
الإيحائية التي تربط بين الكلمات ،لتحقيق مثيرها الفني ،ومنتوجها الإبداعي؛ �إذ �إن لغة
ال�سرد -عند �شوقي بزيع -على حد تعبيره" -لغة حركة ..وتوثب دائم �صوب ال�صور
الحركة� -إنها لغة حركية؛ لي�ست تو�صيفية مح�ضة �أو تجريبية؛ �إنها هي لغة ا�ست�شراف
عميق ،تنبع من حاجة �شعورية ما�سة تتبع الحالة وتجري وفق م�سارها ومتطلباتها؛ وكثير ًا
ما �أعبر عن حاالت بديهية ب�إح�سا�س �شعري ،وك�أني م�سكون بهذا الإح�سا�س منذ �سنوات"(((.
وبالنظر في م�سارات ال�سرد ال�شعري -في المقبو�س -نلحظ �أن ال�شاعر يعتمد الألفة
الإ�سنادية في بلورة ن�سق �شعري متكامل فن ًّيا؛ ي�شي باالنتظام والتوازن ال�سردي؛ لخلق لغة
الن�صي بين ال�صور؛ �إذْ � َّإن كل �صورة
ّ �شعرية مت�آلفة؛ تموج باالن�سجام ،والتوازن ،والتفاعل
تن�سجم مع مثيلتها في التركيب عبر حركة رومان�س َّية تر�سيم َّية دقيقة؛ تزيد الأو�صاف
�سرديا متنام ًّيا جمال ًّيا في هذا الحراك التو�صيفي الجمالي في �صوغ ال�صورة
ًّ �شاعرية ،ودفق ًا
َّ
ال�شعورية الم�صطهجة؛ وهنا ،تبدو الق�صيدة م�شتعلة بالخيال ،وال�صور
َّ وتحميلها نب�ضاته
التو�صيفية الجمالية العالية لمعالم فتاته ومالمحها التي تمتاز بالن�ضارة ،والخ�صوبة،
ّ
بالفل واليا�سمين ،وهي الأنثى الخالقة التي تمنحه ُّ
تغط والإ�شراق؛ فهي فتاة الربيع التي
�سماء من
ً جاللها وجمالها و�سموها المطلق؛ �إذْ يقول" :تجلت ،كما تتجلى ل�سرب حمام
القمح� ،أو ك�سحابة �صيف"؛ والالَّفت � َّأن التوازن الن�سقي يزيد فاعلية ال�صور ودرجة
خ�صوبة و�سمو ًا جمال ًّيا بهذه التجاوزات
ً �إيحاءاتها؛ وت��زداد هذه الفاعلية الجمالية
الت�صويرية ،القادرة على التنامي ،واالختراق الأ�سلوبي في منحاها الت�شكيلي المراوغ ،كما
َّ
في المقطع التالي:
" َت َنا ُم عَلى َ�ص ْد ِرهَا ال َغ ِّ
�ض
ُ�س َّجا َد ٌة من دمو ٍع
و� ْأ�ض َي ُق من قبل ٍة َث ْغ ُرهَا
ال ُم َت َف ِّت ُح مثل �صرا ٍخ عميقٍ
ل ُِج ْر ِح ال�س� ْؤال"(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع ال�شاعر �شوقي بزيع ،مخطوط ....لم ين�شر بعد.
-2بزيع� ,شوقي� - 2007 ,صراخ الأ�شجار� ,ص .37-35
- 38 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن االختراق الأ�سلوبي في حيز ال�صور -في ق�صائد �شوقي
بزيع -يتجلى من خالل الت�شكيل اللغوي واالنزياح التركيبي على م�ستوى الجمل؛ مما يدل
على �أن جمالية �أن�ساقه تت�أ�س�س على ما تثيره من �شعرية على م�ستوى الإ�سناد ،والتركيب،
والتج�سيد ،والتجريد؛ وهذا ما ي�ؤكد حقيقة م�ؤداها� :أن �شعرية البزيع لي�ست �شعرية تجديد
فح�سب ،و�إنما �شعرية تجريب ومغامرة في م�سارها وت�شكيلها؛ لهذا؛ �سرعان ما يجد القارئ
في ق�صائده نزوع ًا �صوب التفريع والتمطيط في بنية ال�صورة ،وك�أنه يخو�ض مغامرة
التجريب في ال�شكل الروائي �أو الق�ص�صي بهذا النزوع الت�شكيلي الإيحائي المبا�شر؛ يقول
�شوقي بزيع :في خطاب الحداثة ينبغي للمبدع �أن يجرب ،فال ي�أتي الإبداع دون مغامرة
التجريب ،ودليلنا �أن تداخل الفنون كانت محجوبة على لغة ال�شعر �أو مبتعدة عنها
تمام ًا"((( .وما يقارب هذا المنزع ،يقول �أحمد بوقري� " :أزمة ال�شعر لي�ست �أزمة �صياغة
فح�سب ،بل هي في حقيقتها تعبير عن �أزمة واقع فني ينف�صل بح�سا�سيته ،ور�ؤاه عن الواقع
ال غائب ًا عنه الموقع االجتماعي
المو�ضوعي المت�أزم؛ واقع فني يبدو في لغة غام�ضة ،منف�ص ً
لل�شاعر؛ واقع فني يغيب عنه ر�ؤية ال�شاعر الثقافية� ،أو يت�ستر عليها في تعقد خطابي ،وفي
�صياغة فنية مركبة كثير ًا ما تكون تداعيات وجدانية معبرة عن ذاتية منغلقة مقهورة� ،أو
تجريدات مطلقة للأ�شياء والمواقف؛ ويرى فيها اختال ًال للعالقة بين ذات ال�شاعر ومو�ضوعه،
فالفعل ال�شعري عاجز عن تفجير التفا�صيل الواقعية واللحظة الت�أزمية في �صورة مقبولة
ومت�سقة ب�سيطة ومعمقة وا�ضحة"(((.
ال�سردية
َّ وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر يعتمد التو�صيفات
التي ت�سهم في �إك�ساب هذه ال�صور �ألقها الجمالي؛ �إذْ � َّإن ال�سرد من طبيعته التمطيط
لغوية فاعلة
ّ مولد ًا �أن�ساق ًا
ّ واال�ستطراد؛ لكن البزيع بعث فيه الر�شاقة ،والبداعة الأ�سلوب َّية؛
في تحفيز الر�ؤى وتعميق الدالالت؛ �إذْ يرتقي ال�شاعر دالل ّي ًا بالأن�ساق الل َّ
ُّغوية لتحفيزها؛
بالت�شكيالت الت�صويرية الرومان�سية الحالمة التي تُ َعزِّ ز الحركة ال�سردية؛ وتثير المواقف
العاطفية؛ وال�شاعر -هنا -ال يخلق الدالالت بقدر ما يولدها ،وي�ستنطقها؛ بح�س �شعوري
ت�أملي و�صور ن�سقية ت�صويرية مبتكرة في ح ّيزها الن�سقي ,وبعدها التخييلي ،وف�ضائها
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع ال�شاعر �شوقي بزيع ،مخطوط ....لم ين�شر بعد.
-2الم�صدر نف�سه,ج� /2ص .637-636
- 39 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ً
م�سهمة -ب�شكل دائم -في تفعيل ن�سقي ُّغوية
الت�شكيلي المراوغ ،وهكذا؛ تبدو الأن�ساق الل َّ
لمثيرات ال�صورة؛ فاعلة في تحفيزها؛ لت�صل �إلى �أرقى الم�ستويات الت�صويرية؛ وهذا ما
يجعل ق�صائده ت�شتغل جمال ّي ًا على �أكثر من �إيقاع ت�شكيلي ،وعلى �أكثر من �إيقاع ّ
ن�صي� ،أو
ال�شعرية بين الفينة والأخرى في م�ساقها ال�سردي التو�صيفي
ّ تقنية ن�صية تفجرها ن�صو�صه
ال�شعري.
ّ الدقيق للم�شهد
يقول �شوقي بزيع " :ال�سرد في ق�صائدي يحيي ال�صورة ،كما تحيي ال�صورة بينة
ال�سرد؛ وال غنى لأحدها عن الآخر؛ لذلك ف�إن مزاوجتي بين تقنية ال�سرد وال�صورة هي المعادل
المو�ضوعي لإح�سا�سي الوجودي ومنظوري الجدلي لحركة الأ�شياء"(((.
ونق�صد بـ[جمال َّية الم�شاهد اللوحاتية] :جمال َّية ال�صورة اللوحة؛ �أو ال�صورة
ي�ضج بالمثيرات الطبيعية؛
ّ التر�سيمية الم�شتقة من الطبيعة �أو حقلها الداللي الخ�صب الذي
باعتماد التج�سيد ،والت�شخي�ص ،والأن�سنة ميدان ًا خ�صب ًا ،لتفعيل الق�صائد اللوحات َّية
جمال ّي ًا؛ من خالل فاعلية ال�صور ،وحيويتها ،وت�شكيلها الفني ،وخ�صوبتها الجمال َّية.
وقد كان نوفالي�س محق ًا حينما قال� " :إن الفنان ُي َر ِّق�ص الطبيعة"((( .وهذا ما �صنعه
�شوقي بزيع؛ فهو ال يرق�ص الطبيعة فح�سب؛ و�إنما يرق�ص م�شاعرنا ،ويدغدغ �أرواحنا بمتعة
الت�صوير؛ وقد لفتت انتباهنا ق�صائده اللوحاتية المده�شة في تظليلها وتكثيفها اللوني؛ �إذْ
� ّإن ال�شاعر �شوقي بزيع قد َف َّعل ق�صائده بال�صور الده�شة التي ت�ستقي مظاهر �إثارتها من حقل
الطبيعة (حقل الحيوية ،والخ�صوبة ،والجمال)؛ كما في ق�صيدته المو�سوقة بـ[الزنزلخت]؛
التي يقول فيها:
النعا�س
ُ " ِب َرهَا َف ِة ا ِْم َر�أ ٍة ُيدَاهِ ُمهَا
على الأَريك ِة
ي�ستقل الزنزلختُ جذو َع ُه ال َّت ْع َبى ُّ
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع ال�شاعر �شوقي بزيع ،مخطوط ....لم ين�شر بعد.
-2حيدر� ،صفوان - 1998 ،تاريخ الفن التجريدي� ،ص .232
- 40 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
ليلتم�س الإقامة
َ
�شم�س حا ِئ َر ْة
ِ تحتَ
ين�ساب
ُ مغروقاً �أبداً بما
من عرقِ الجبا ِه على الحنين"(((.
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى �أن الق�صائ��د اللوحاتي��ة -عن��د �ش��وقي بزي��ع -ه��ي تج�س��يد
م�ش��هدي ،وتظلي��ل لون��ي ،حي��ث يمتزج فيها �إيقاع ال�س��رد بال�ص��ورة المتحرك��ة ذات التظليل
اللون��ي؛ والتكثي��ف ال�ضوئ��ي؛ لأن البزي��ع يع��ي �أن الق�صي��دة ما ه��ي �إال لوح��ة مقتطعة من هذا
العالم الكوني الوجداني ال�شا�س��ع الذي تقع عليه حدقته؛ فال يوجد �ش��يء فارغ �أمام عينيه،
فه��و ممتل��ئ بالطبيع��ة والموج��ودات من حول��ه؛ ومن يطال��ع ق�صائده يلح��ظ �إيقاعها الفطري
ال��ذي يع��ود ب��ه �إل��ى ح�ضن الطبيعة الريفية الأم التي ترعرع في كنفها ،وتربى في �أح�ضانها؛
ودليلنا �أن �صورة الطبيعة في الجنوب اللبناني ما زالت ترافقه في َّ
جل �أ�ش��عاره على الرغم
من تركه لهذه البيئة منذ �س��نوات طويلة؛ لكن المخيلة وال�صورة ما زالت تعي���ش في ناظريه
وتزده��ي ف��ي كل ق�صي��دة بحل��ة جدي��دة ولون جدي��د؛ وهذا ما �صرح به �ش��وقي بزيع قائالً" :كل
م��ا يق��ع �أم��ام عين��ي ه��و م�ش��روع لكتابة ق�صي��دة ممتلئة نب�ض� ًا ،وح�سا�س��ية ،ودفق ًا �ش��عوري ًا؛
فلي���س القيم��ة ف��ي المو�ض��وع بحد ذات��ه ،و�إنم��ا القيمة في الطريقة والأ�س��لوب في الت�ش��كيل،
والتعبي��ر ال�ش��عري؛ والطبيع��ة -مثل��ت ل��ي -الع��ودة �إلى الب��دء� ،إلى اللحظة التي انبج�س��ت
فيه �إلى الحياة"(((.
ولعل �أبرز ما يحفز اللوحة ال�شعرية طابعها التو�صيفي ال�سردي ،وك�أننا �أمام �صور
ت�شكيل َّية مر�سومة بري�شة فن َّية جمال َّية تتح�س�س الأ�شياء بجمال؛ لتبدو ال�صور م�ستوحاة من
حقل الطبيعة الح َّية الفطرية ال�ساحرة؛ التي تعتمد على دقة ال�صور ،ورهافة الم�شهد
التر�سيمي الطبيعي المج�سد؛ بر�شاقة �سردية ق�ص�صية تقوم بتو�صيف اللقطات وتر�سيمها؛
بخطوط متداغمة ،و�أل��وان ،وظالل ،ور�ؤى ،و�أحجام ،ومرئ ّيات مت�ضافرة من�سجمة في
ُّ
"ي�ستقل ال�شعرية؛ كما في قوله:
َّ ال�شعرية على نحوٍ ؛ ت�ستثير الح�سا�سية
َّ ت�شكيل اللوحة
- 41 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
المالحظ،بداية� ،أن الق�صيدة اللوحة -لدى �شوقي بزيع -تنبني على خ�صوبة
مردودها الفني ،فال�صورة ت�أتلف مع الأخرى في ن�سقها تارة ،وتنافرها معها تارة �أخرى؛
لت�شكل في النهاية لوحة فنية متكاملة ،محت�شدة بالنمنمات ،والإ�ضافات ،وال�شذرات
الت�صويرية المراوغة التي ت�شكل لحمتها ،ومنبع تكاملها الفني؛ فنحن في ق�صائده نتعامل
مع ن�صو�ص �إبداعية ذات �شحنات نف�سية فائرة،ولوحات و ارت�سامات جمالية م�ضاعفة
الإيحاء والت�أثير؛ فهو ال يركن لل�شكل الثابت �أو الم�شهد ال�صامت المتحجر؛ لهذا ،يحرك
ال�صورة في ق�صائده اللوحاتية؛ كما لو �أنها �صورة �سينمائية� ،أو �صورة متحركة.
-1بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية ,ج� /1ص.227
- 42 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
وبالنظر في مثيرات الق�صيدة اللوحة فني ًا نلحظ �أن ال�شاعر ير�سم لوحة ت�شكيل َّية
ال�ص َّبار؛ فالقارئ لهذه الق�صيدة يالحظ تر�سيمها
متكاملة من الر�ؤى التو�صف َّية؛ �إزاء �شجرة َّ
الفني الدقيق المحمل بالأحا�سي�س وال��ر�ؤى المت�أملة� ،صوب �إدراك الأ�شياء ،وتوظيف
ً
لوحة متداخلة ال ِ
ألوان� ،إزاء �شجرة ال�شعرية؛ وك� َّأن ال�شاعر ير�سم بري�شته الفن َّية
َّ الم�شاهد
الب�صرية المرئ َّية؛
َّ ال�ص َّبار؛ من خالل ال�صور التي يغلب عليها �إيقاع اللون ،وال�ضوء ،والظالل
َّ
المجردات
َّ الب�صرية ،وبين
َّ محاو ًال خلق مزاوجة بين المرئيات العينية ،والمج�سدات
ب�صريا قبل
ًّ الم�شهدية الت�شكيل َّية
َّ ومنحاها التخييلي الماورائي البعيد؛ لإثارة ال�صورة
ال�شوكي/
ّ جراح ِه
ِ للدمع /يبحث عن م�سيلِ
ِ ار؛ ُب ْع ٌد �آخر
�إثارتها ذهن ًّيا؛ كما في قوله" :هو ال�ص َّب ُ
ٍ
ظهيرة من �أعين الموتى". تحت
ً
وداللة ،وكثافة �شعورية � َّإن �إدراك ال�شاعر جمال ًّيا للأ�شياء يزيد من ت�أمالته عمق ًا،
عميقة؛ ت�ؤكد �شاعرية التر�سيمات التي يبتعثها ال�شاعر في ن�سق �صوره على امتداداتها،
وت�شعباتها الكثيرة؛ بلغة �سردية تو�صيفية؛ ت�ؤكد �شعريتها من جهة؛ وت�ؤكِّ د تر�سيمها
ّوني في تتبع جزئياتها ومداليلها النف�س َّية العميقة من جهة ثانية؛ وهذا يدلنا
الب�صري الل ّ
ّ
على �أن �شعرية الق�صائد اللوحة -في �شعر �شوقي بزيع -ال تعتمد على التنميقات،
والزرك�شات الت�صويرية فح�سب؛ و�إنما تعمد على التالعب الب�صري ب�إيقاعات الجمل من
فراغات وعالمات ترقيم لترت�سم على ال�صفحة ال�شعرية ،ب�شكل هند�سي �أقرب ما يكون �إلى
اللوحة الفنية ،منها �إلى النمط ال�شعري �أو ال�شكل ال�شعري؛ وهذا دليل �أن الحا�ضنة الإبداعية
لق�صائده حا�ضنة فنية تعنى بالر�سم كعنايتها بال�شعر؛ وهذا ما �أ�شار �إليه �صراحة� " :أنا
�أحتفي بالر�سم احتفائي بال�شعر ،و�أعتقد �أن الق�صيدة لوحة؛ فما الم�شهدية في ق�صائدي �إال
دليل ولعي بالطبيعة ،واحتفائي بظاللها ،و�ألوانها ،و�أحجارها ومرئياتها"(((.
ن�ص َية فنية
الت�صويرية المت�ضافرة؛ لت�شكل لوحة ّ
َّ وقد يعتمد ال�شاعر التر�سيمات
متكاملة الألوان؛ كما في قوله:
"تم�شي جناز ُت ُه الهوينا
ث َّم توقفها �صنوبر ٌة ِل َت ْجه ََ�ش بالبكا ْء
ُت َن ِّك�س الأ�شجا ُر هَا َم َتها
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص.433
- 43 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ِل َي ْع ُب َر
والطيو ُر على نوافِذِ هَا ُت َراق ُِب َن ْع َ�ش ُه ال َغافِي
وترم َق َح َّب َت ْي عيني ِه" (((.
ال بد من الت�أكيد بداية؛ �أن ال�شاعر �شوقي بزيع ال ي�ستعين في ق�صائده اللوحة على
مثير ب�صري عياني مبا�شر ،فلوحاته و�إن حايثت الواقع� ،أو �شاكلته تن�أى عنه �إلى ف�ضاء
الخيال ،وعوالم التخييل؛ مما يجعل لوحاته الفنية من وقع الخيال؛ فال�صورة الفوتوغرافية
تحظ باللم�سة الفنية التي تحركها؛ وتثيرها جمالي ًا؛ ولهذا ،ال تبرز
َ ال قيمة لها �إن لم
العالئق اللغوية في ق�صائده اللوحة بذاتها ولذاتها ،ومن �أجل ذاتها -فقط؛ و�إنما برزت
نتيجة العالقات القائمة فيما بينها ،العالقات بين الأجزاء والكل ،بين اللون وال�شكل ،بين
الكلمة وجر�سها الداخلي ،ومو�سيقى الحروف التي تخلق متعتها وتر�سيمها الفني ،مما
ي�ؤكد دور الق�صيدة لديه في �شحن المتلقي ،وتحفيزه �إلى متابعتها م�شدوه ًا ب�شكلها و�إيقاعها
الداخلي الخ�صيب الذي ينتمي �إليه.
وبالنظر في ظالل اللوحة -فني ًا -نلحظ �أن ال�شاعر ير�سم لوحته الطبيعية؛ ب�إح�سا�س
تر�سيمي دقيق؛ باث ًا الحركة في جزئيات الطبيعة؛ عن طريق �إيقاع الأَن�سنة؛ فال�صنوبر يجه�ش
البري يخرج في ثياب العر�س؛
ّ والطيور تئن ،والزعتر
ُ أ�شجار تن ِّك�س هاماتها؛
َ بالبكاء ,وال
َّ
ولعل هذا الولع بالطبيعة؛ �إِنها لوحة فن َّية متكاملة الظالل ،والألوان ،م�شتقة من الطبيعة؛
الم�شهدية عند �شعراء الطبيعة المتم ِّيزين في لبنان ال�شقيق؛ ك�شوقي
َّ ي�ؤكد كثافة المنظورات
بزيع ،وجوزف حرب ،ويا�سين الأيوبي ،و�إليا�س لحود و�آخرين .وبتقديرنا� :إن الطبيعة
اللبنان َّية �سحرت ال�شعراء؛ ف�أ�صبحت �أداتهم الرئي�سة في التعبير عما يختلج نفو�سهم من
ر�ؤى ،و�أحا�سي�س ،وت�أمالت وجودية في حيز الحياة ،والوجود ،والكون؛ وتُ َع ْد هذه الق�صيدة
�شعورية؛ نادرة؛ ترقى �أعلى م�ستويات الإثارة ،والتحفيز
َّ لوحة فنية مر�سومة بدقة ورهافة
�شمولي عميق؛ مما
ّ الم�شهدية؛ ب�إدراك معرفي ،وبعد
َّ الجمالي؛ محاو ًال تلوين هذه اللوحة
ي�ؤكد �أن �شعرية ق�صيدة اللوحة لديه �شعرية �إغراء ،و�إغواء ،وت�شويق عبر ال�سحر الو�صفي
الأنثوي؛ وهذا ما يك�سبها �ألقها ،ومظهر �إح�سا�سها الجمالي وجاذبيتها للقارئ.
-1بزيع� ,شوقي - 2007 ,ال�شي َء من ك ِّل هذا؛ دار الآداب ,بيروت ,ط � ،1ص .13
- 44 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
ونق�صد بـ[جمال َّية الر�ؤية /وبداعة ن�سجها الفني]ْ � :أن يبلور ال�شاعر الأفكار ،والر�ؤى،
والأحداث الجزئ َّية؛ بلورة ن�سق َّية فاعلة؛ ت�سهم في تحفيز الدالالت؛ �أو تعميق الر�ؤى؛ بعد�سة
مونتاج َّية قري َبة؛ ت�ستثير الدالالت؛ وتعمق المداليل والر�ؤى؛ وتجعلها قريبة �أو محايثة
لجزئيات الواقع؛ و� ْإن ابتعدت عنه تخييلي ًا و�أفق ًا ت�أملي ًا مفتوح ًا؛ يقول الناقد ح�سين
المنا�صرة� " :إن ال�شعر الحقيقي هو الذي يلتقط الواقع ،ويلتزم بتبديله ،دون �أن يفقد
�شعريته"((( .وال�شاعر المبدع هو الذي يراوغ الواقع للحياة؛ و ي�ستولد الر�ؤيا المتجددة
على الدوام؛ ولن يرقى ال�شاعر مرتبة ال�شاعرية �إن لم تنطوِ ق�صائده على مغريات اللغة
وبداعة الر�ؤيا ،وم�سرحها الفني الوا�سع؛ يقول الناقد محمد بن فري�سي الحارثي " :ال�شعر
ينتمي في الأ�صل �إلى لغته؛ وفل�سفته المعرفية .وعلى هذا الأ�سا�س تجد �أن النظر �إلى ال�شعر
العربي المعا�صر منقطع ًا عن �أ�صوله عن جذوره التراثية ،والتاريخية ،واالجتماعية،
والأدبية لي�س من الدقة بمكان عند �شعب ينتمي �إلى ح�ضارة ذات �أ�صول �سماوية ،وخبرة
�إن�سانية طويلة ت�ضرب جذورها في �أعماق التاريخ الكوني"((( .وتبع ًا لهذا؛ تتحدد مرجعية
ال�شاعر �إبداعي ًا بمقدار تفعيله للر�ؤيا ،وا�ستحداث منظورات مغايرة ،وال�شاعر المبدع ما
هو �إال نبي الأمة ول�سانها البياني الف�صيح في �إي�صال الكلمة الحية �إلى القارئ.
ولعل �أبرز ما يثير ح�سا�س َّية ن�صو�ص ال�شاعر �شوقي بزيع �أ�سلوب ن�سجها الفني،
�سردية" ،مبثوثة
َّ وجمالية الر�ؤى والدالالت التي تنطوي عليها؛ فق�صائده لي�ست �أن�ساق ًا
بع�شوائ َّية ،وابتعاد ن�سقي؛ و�إنما هي حياكة متتابعة لأن�ساق دالل َّية مفتوحة؛ ت�ستثير القارئ؛
َّ
ولعل هذا الأ�سلوب ي�ؤكِّ د نزوع البزيع �إلى وتُ َع ِّمق الدالالت؛ ب�أ�سلوب تو�صيفي ق�ص�صي �شائق،
الفن الق�ص�صي �أو ال�شكل الن�سقي الروائي في تنظيم الر�ؤى،وبلورة الدالالت؛ كما في قوله:
-1المنا�صرة ،عز الدين - 2004 ،الحجر بين الترميز والأ�سطرة ،مجلة عالمات ،مج ،52م ،13يونيو� ،ص.510
-2الحارثي ،محمد بن مر�سي - 2004 ،الق�صيدة ال�سعودية والمعاني المطروحة في الطريق ،مجلة عالمات ،ج،52
م� ،13ص.686
- 45 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الق�صي من الكتابةِ,
ِّ "في َذل َِك ال ُر ْك ِن
حيث �أَ ْف َ�ش ُل في تع ُّقب فكر ٍة
َه َر َبتْ من الإِيقاع؛
يحدث فج�أةُ
� ْأن َتد ُْخ َل امر�أ ٌة �إلى ال َم ْقهَى
وتجل�س باتجا ِه البحر؛ ُ
منعك�ساً على المر�آ ِة
كا َن جما ُلهَا َي ْن َح ُّل في ال�صمتِ ال ُم َحايدِ بيننا
كمراكبٍ منهوب ِة الأَ ْح َزانِ "(((.
ال بد من الإ�شارة بداية� ،إلى �أن جمالية الر�ؤيا -في ق�صائد �شوقي بزيع -لي�ست
منطوية على منطق لغوي مخطط له ب�شكل م�سبق ،و�إنما تفر�ض ر�ؤيتها لحظة �إبداعها؛ وهذا
يعني "�أن ق�صائده لحظية الر�ؤيا ،كا�شفة عن تدفقها ال�شعوري لحظة انبثاق المثير لت�شكيل
هذه الر�ؤيا ،بمنعرجاتها الكثيرة؛ وم�صداقيتها الإبداعية" ذات الوقار الوجودي الخال�ص،
وذات اال�ستجابة المثيرة للده�شة الفنية"(((.
وبالنظر -في مغريات الر�ؤيا وبداعة المنظور الفني ،نلحظ �أن الق�صيدة تبدو فاعلة
ال�شعرية تكمن في مقدار تالحم
َّ الوجودي؛ م�ؤكِّ د ًا � َّأن
ّ ال�شعرية ،وت�أمله
َّ في تن�شيط ر�ؤيته
الكلمات و�إ�سعافها للمبدع في ت�شكيلها الفني؛ ف�شعرية الق�صيدة تكمن في درجة تر�سيم
الن�صي،
ّ الر�ؤية ،ولملمة �شظاياها ،وتفعيل جزئياتها؛ مما يجعلها غاية في الت�أقلم
والتفعيل الن�سقي؛ فر�ؤية ال�شاعر تر�سيم َّية مهند�سة؛ ب�إيحاء �شعوري عميق ،وكثافة ت�أمل َّية
مفتوحة؛ ت�شي بدرجة عليا من الوعي ال�صياغي ،والبناء الفني المحكم؛ وهذا ما تب َّدى لنا
-بو�ضوح -في تر�سيمه الدقيق لجزئيات الر�ؤية في ال�صورة التالية" :ك�أن جمالها ينحل
كمراكب منهوبة الأحزان"؛ � َّإن ده�شة القارئ من هذا التر�سيم الدقيق للر�ؤية والتمهيد لل�صورة
- 46 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
ٍّ
ت�شظ �شعرية �شوقي بزيع مدرو�سة بعناية؛ فهي ال ت�أتي عن عبث� ،أو
َّ ال�شعرية؛ ي�ؤكد على �أن
في الر�ؤى ،وانك�سارٍ في حركة الدالالت؛ و�إنما ت�أتي َّ
دال ًة عن معرفة ودراية �أكيدة ،بالتمهيد
الفني لمدلول الر�ؤية ،وجوهرها التر�سيمي الدقيق؛ وهذا يعني �أن ثمة وعي ًا في تجميل
الر�ؤيا ،وتغذيتها بمثيرات ال�صورة المتحركة ،واللقطات الحية للأمكنة؛ لتلعب هذه
اللقطات دور ًا �أ�سا�سي ًا بارز ًا في تحفيز الر�ؤيا ،وتزويقها فني ًا؛ بقدر ما تت�سع زاوية الر�ؤيا-
لدى البزيع -للأ�شكال والر�ؤى الجدلية المبتكرة يت�سع ف�ضاء ال�صورة ،ومغرياتها الفنية،
ثم التمثيالت ال�شعرية على م�ستوى ال�صورة ،والرمز ،والحدث التراثي؛ بر�ؤى
وتت�سع من َّ
معا�صرة ،ومغايرة لما هو م�ألوف� ،أو تقليدي� ،أو مكرور� ،أو م�ستهلك في التلقي الن�صي؛
يقول �شوقي بزيع " :ال�شعر م�سرحة الر�ؤيا ..ومرجع �شمولية التجربة ...وامت�صا�صها
للتجارب الأخرى ..وبقدر ما يتغذى ال�شعر من هذا الم�سرح الوجودي الكبير يملك مخزونه
ون�ضجه الفني؛ وتبرز فاعليته في كل الع�صور"(((.
وقد تبدو الر�ؤية مت�شعبة في بع�ض ق�صائده؛ داللة عل كثافة المنظورات ،والر�ؤى،
و�شمولها الن�سقي؛ بمعنى �أدق :يبني الر�ؤيا باالرتكاز على ال�صورة المتحركة ،وتداعياتها
ال�شعورية المحتدمة التي تعانق غلوائية الموقف ،و�صخب الحدث؛ كما في قوله:
قلبي من ك ِّل �شي ٍء "خالياً كان َ
�سوى رغب ٍة ال ُت َف َّ�س ُر
فك ُل ْغ ِز الن�سا ِء المح ِّيرِ, في ِّ
ما كنتُ �أَ�سم ُع في البد ِء
ْ
الغ�صون. �إ َّال حفيفاً عدي َم
الدبابي�س
ِ لأَ�صواتهِنَّ التي َت َت َف َّت ُح مثل
بين ال�شرايين"(((.
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن جمالية الر�ؤيا -عند �شوقي بزيع -تت�أ�س�س على مغريات
الحدث ،و�شعرية المباغتة �أو ده�شة المفارقات المحتدمة في الموقف الواحد� ،أو ال�صورة
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص.423
-2بزيع� ,شوقي - 2006 ,الأعمال ال�شعرية ,ج� /2ص .564
- 47 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الواحدة ،لت�صل �إلى قمة التداعي والتكثيف ال�شعوري ،يقول �شوقي بزيع� " :إن جمالية
الر�ؤيا تعك�س �شهوة الإبداع؛ فكما الحب �شهوة كذلك الإبداع �شهوة ال�شهوة� ،أو �شهوة م�ضاعفة
(�شهوة التجريب ،و�شهوة المغامرة ،ما بين ال�شهوتين ي�ستغرق المبدع في لذته ،ويحقق
فناءه بالآخر ،ويتماهى وجودي ًا معه؛ فالجميل لي�س جمي ً
ال بالفكرة؛ و�إنما هو مكابدة
لال�ستحواذ على الجمال"(((.
وبالنظ ��ر -ف ��ي مغري ��ات الر�ؤي ��ا ومحفزاته ��ا -ف ��ي المقبو� ��س ال�ش ��عري -نلح ��ظ �أن
ال�ش��اعر يبل��ور ن�س��قي ًا الر�ؤي��ة بل��ورة �ش�
�اعرية عميق��ة؛ م��ن خ�ل�ال تكري���س ال�ص��ور الإيحائي��ة
َّ
الت ��ي ت�ش ��تق مغرياته ��ا م ��ن مظاه ��ر الطبيع ��ة؛ ع ��ن طري ��ق ب ��كارة اال�س ��تعارات ،وبداعته ��ا
الجمالي؛ بحيازة ن�س��ق َّية،
ّ �نادية؛ بتراكم الأَن�س��اق الو�صف َّية؛ التي تعزز ال�صدى الت�أملي الإ�س� َّ
وتكثي��ف �إيحائ��ي عمي��ق؛ �إذْ � َّإن كل جمل��ة ترتك��ز فني � ًا عل��ى الأخ��رى؛ مع��ززة الم��د الت�أمل��ي
�اعرية محكمة،و�أن�س��اق ائتالف َّي��ة مح ِّف��زة للق��ارئ م��ن
َّ اال�س��تبطاني لجزئي��ات الطبيع��ة؛ ب�ش�
جه��ة ،وفاعلي��ة مثي��رة ف��ي تتب��ع الدالالت وا�س��تبطانها فن ًّيا؛ من جه��ة ثانية كما في الأن�س��اق
الغ�صون "؛ والالَّفت -فني ًا -قدرة ال�ش��اعر
ْ �دء �إ َّال حفيف ًا عدي َم �ت �أَ�س� ُ
�مع في الب� ِ التالي��ة" :م��ا كن� ُ
�عرية الر�ؤي��ة� ،أو جمالي��ة المنظ��ور ال�ش��عري لحرك��ة عل��ى خل��ق �أرت� ٍ
�ال و�صف َّي��ة؛ ت�ؤك��د �ش� َّ
الأ�ش��ياء ،وا�س��تقطار مثيراته��ا الفني��ة� ،أو الت�ش��كيلية؛ وه��ذا يقودن��ا �إل��ى الق��ولَّ � :إن الق��درة
العالية التي تمتلكها ن�صو�ص ال�ش��اعر �ش��وقي بزيع ت�ؤكد فاعليتها في تر�س��يم ر�ؤاه بو�ضوح
ب�صري ًا؛ �أو ده�ش��ة �إ�س��نادية؛ غاية في
ًّ مق�صدي؛ وفاعلية ن�س��قية منفتحة ,تعزز جمالها �إيقاع ًا
الإثارة ،والتكامل ،والت�آلف ،والروعة .وهذا ما يح�س��ب لبداعة الر�ؤية ،و�أ�س��لوب ت�شكيلها
�عرية الت��ي تت�أن��ق ف��ي حركته��ا وتماوجه��ا الإيقاع��ي؛ لت�ؤكِّ ��د
�ضم��ن ق�صائ��د �ش��وقي بزي��ع ال�ش� َّ
بداعتها ،وح�سن تنظيمها المثير.
لكن هذا ال يعني تكلف الر�ؤيا؛ �أو تحميلها ما ال تحتمل؛ فالر�ؤيا -لديه -منبثقة من
مظاهر تما�سه وتفاعله مع الموجودات؛ �أو �صدماته مع الواقع المعي�ش؛ �إنها لي�ست من مح�ض
الخيال� ،أو وهم الهذيان والالوعي؛ و�إنما هي من ب�ؤرة الإح�سا�س ،ودفق الر�ؤى ،ومحفزاتها
الالَّماحة على الكتابة ،وممار�سة لعبة المقامرة والتجريب ،يقول �شوقي بزيع " :ال�شاعر
ابن اللحظة؛ وليد حالة �أنطولوجية� ،أو نف�سية يعي�شها؛ ولن ترقى هذه الحالة �إلى تخليقها
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص.433
- 48 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
ّ
الشعري: - 7جماليَّة البناء ّ
النص ّي وإحكام النسق
- 49 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
علي؛ "الأَ ُ
ر�ض ُم ْط ِب َق ٌة َّ
بال نواف َذ ُغ ْر َبتِي,
ال َي ْم�شِ ي الحما ُم ُم َت َثا ِق ً
على �سطو ِح الذكرياتِ
إلي �صو َتكِ وهو َي ْعب ُر لكي ُي ْعي َد � َّ
كالغيو ِم على الجبالِ ؛
التفاتتك ال�سريع َة نحو َنهْر م َّر, ِ �أو
َقاطِ ع ًة ُ�ص َراخِ ي
الحنين �إليكِ "(((.ِ عند منت�صف
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن جمالية البناء الن�صي -في ق�صائد �شوقي بزيع -تنبني
على تطويع البنية اللغوية؛ لتخدم م�سار ق�صائده الن�صي ،محقق ًا ل�شعريته �سموق ًا فني ًا في
التقاط ال�صور ذات المنظومة الداللية الجديدة ،وفاعليتها العميقة؛ ذلك" �أن اللغة لي�ست
مجرد مجموعة من الدوال ،بل منظومة ت�ستوعب الظواهر الكونية مكان ًا وزمان ًا� ،إذ تتداخل
�أو�صاف اللغة مع �أو�صاف الكون"((( .لتخلق مادة ت�شكلها الجمالي؛ وهذا ما وعاه �شوقي
بزيع في ق�صائده عموم ًا.
وبالنظر -في جمالية البناء الن�صي -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن الن�سق
لغوية متفاعلة؛ م�ؤ�س�سة على التنامي,
َّ ال�شعري ال�سابق ينبني على ر�ؤى ودالالت ،و�أَن�ساق
ّ
ال�شعري ال�سابق ي�ؤ�س�س حركة المثيرات على التداخل،
ّ فالن�ص
ّ الن�صي؛
ّ والتفاعل ،والتوازي
والتنظيم الن�سقي؛ ومن هنا؛ تبدو ال�صور ال�سابقة؛ ذات بناء هند�سي محكم؛ مترابط الأن�ساق؛
متوازي المداليل؛ �إذْ � ّإن كل جمله تت�ضافر ن�سقي ًا مع الأخرى؛ لإثارة الحركة الن�ص َّية؛ وتفعيل
ال�شعرية ببراعة
َّ ن�صي فاعل ي�ؤكد حيوية الن�سق؛ وبلورة ال�صور
ّ الأن�ساق اللُّغوية ،باندماج
ِ
الذكريات"؛ وهنا؛ �سطوح
ِ الحمام على
ُ ال َي ْم ِ�شي ن�سقية ،و�إدها�ش فني؛ كما في قولهُ " :م َت َث ِ
اق ً
- 50 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
-1الع ّ
الق ,علي ,جعفر - 2007 ,هاهي الغابة ,ف�أين الأ�شجار� ,ص .72
-2بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية� ،صفحة الغالف ،نق ً
ال من مقال �صالح ف�ضل؛ جريدة الأه��رام ،تاريخ
.2003 /9/8
- 51 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ما ينبغي الإ�شارة �إليه� :أن جمالية البناء الن�صي -في ق�صائد �شوقي بزيع -تت�أ�س�س
على مرجعية ر�ؤيوية في ت�شكيل الجمل وتوليفها والربط فيما بينها؛ لتكتمل الر�ؤية،
وتت�ضح �أبعادها ،فالن�ص ال�شعري لدى البزيع -م�ؤ�س�س على نب�ض الروح؛ وفق الم�شاعر
لتجري اللغة ر�شيقة عذبة ،كما يتدفق الينبوع طافي ًا رقراق ًا؛ وبهذا المقترب يقول �شوقي
بزيع� " :إن تدفق ال�شعر على ل�سان ال�شاعر ي�شبه تدفق الينبوع؛ فكما يتدفق الينبوع بالماء
الرقراق ال�سل�سبيل ،يتدفق ال�شعر� ،إذ ثمة ت�شابه بين جريان ال�شعر ،وجريان الينبوع،
ثم �أن ين�ضب نبع ال�شعر ،ويغي�ض كما و�إني �أخاف م�ستقب ً
ال �أن ت�شيخ اللغة �أن تتخ�شب ،ومن َّ
يغي�ض ماء الينبوع؛ ب�صراحة �إني �أخاف ال�سكتة ال�شعرية �أكثر من ال�سكتة القلبية"(((.
وبالنظر -في مثيرات جمالية البناء ال�شعري في المقبو�س ال�شعري -نلحظ درجة
ت�آلف الجمل وترابطها ،وك�أنها تنبني وفق �أ�شكال هند�سية؛ تبع ًا للموجات ال�شعورية
المتدفقة؛ لت�ؤكد حداثويتها ،ومنظارها المغاير ،وك�أن الكلمة تر�سم منعرجها ال�شعري(طو ًال
/وق�صر ًا)؛ حيث يمتد ال�سطر وي�ستطيل ،وقد يقت�صر على كلمة �أو كلمتين؛ وهذا ي�ؤكد مدى
الوعي في هند�ستها وبنائها فني ًا؛ يقول �شوقي بزيع " :ال�شعر قوة �سحرية تتجاوز الواقع
- 52 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
وتخلق الحياة؛ �إنها ميالد عالم �آخر هذا العالم القاتم المظلم.((("..وقد تت�ضح جمالية
البناء الن�صي �أكثر كلما تغورنا في مطالعة مقاطعها ،وا�ستق�صينا في ك�شف منعرجاتها
الفنية ،كما في قوله:
" �أنا المتكا ِث ُر بين َم َرايَاكِ
والمتد ِّث ُر فيك مِ َن ال َب ْردِ؛
والمت�ش ِّر ُد بين ال�شعابِ التي َت َت َن َّ�صتُ
مِ نْ َح ْو ِ�ضكِ ال ُم َت َ�شهَّى
�إلى ع ََ�سلِ الآلههْ.
ت�صب َع َنا ِق ْي َدهَا حيث الحيا ُة ُّ هنالك ُ َ
حو َل خِ ْ�صركِ ؛
الموت ِت ْم َثا َل ُه
ُ حيث ُيعِدُّ لكِ
(((
ويقول :اك�سريني". ُ
- 53 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
في قفلة الختام؛ وهكذا؛ يبدو التنظيم الن�سقي الت�ضافري بين الجمل فاع ً
ال في تحقيق جمالية
المبنى ال�شعري الذي تمتاز به ق�صائد �شوقي بزيع؛ من خالل تفعيلها لحركة الدالالت؛
وت�شعيرها لموقفها العاطفي.
وهذا دليل �أن المنتج الإبداعي لق�صائد �شوقي بزيع يتحدد في هيكلها الن�صي المتكامل،
الذي ي�شي بال�صنعة والإحكام الن�سقي� ،إذ �إن ما يهب الكلمات جمالها ،ووقعها ال�شعري
المت�آلف ،واالن�سجام على م�ستوى العالئق اللغوية لتثير فينا لهذه الده�شة والمتعة �إثر
تلقي الن�ص ال�شعري لدى �شوقي بزيع.
- 8جمالية ََّ
اللقطات الرومانسية:
ت�صور م�شاهد
ِّ ونق�صد بـ[جمال َّية ال َّلقطات الرومان�س َّية] :جمالية اللقطات التي
الحب و�ألق
ّ غرام َّية� ،أو م�شاهد طبيعية م�شتقة من حقل الطبيعة ,يبث من خاللها لواعج
العاطفة ،وتوق الم�شاعر الم�صطهجة باحتدام العواطف وتراكم الأحا�سي�س والر�ؤى؛ وتُ َع ُّد
هذه التقنية -من مثيرات الق�صائد الحداثية -التي تلج�أ �إلى تكري�س مظاهر الطبيعة ،ب�ألق
الم�شاعر والأحا�سي�س؛ ومن هذا المنطلق ،ف�إن قيمة اللقطة الرومان�سية جمالي ًا تتحدد
بم�ستواها االبتكاري ،الذي يخلق المتعة والإدها�ش الن�صي؛ وبهذا المنزع تقول �سهام
القحطاني" :ال�صورة تثير فينا الده�شة بمعرفة جديدة عن طريق االرتباط غير المتوقع الذي
يخطف الأب�صار ..و�إعطاء القيمة التعبيرية للعالقات بين المفردات؛ ال �إلى هذه المفردات،
على �أن هذه العالقات الجديدة التي ت�ستك�شف دائم ًا ،ال يتو�صل �إليها ال�شاعر �أو الفنان
بطريقة منطقية م�ست�أن�سة بالعقل ،ويرتاح لها من حيث هي ن�سق من النظام الطبيعي ،بل
تح�صل هذه العالقات في النف�س دفقة واحدة ت�ستقطع منا لذة الده�شة"(((.وقد �أبدع ال�شاعر
�شوقي بزيع في خلق مثل هذه الأَن�ساق ،واللقطات الرومان�س َّية؛ كما في قوله:
"راحتْ َت ِه ْي ُم على وجهها
مثل بخو ِر مري َم,
التمائم فو َق
ِ �أَو َت َت َح َّل ُل مث َل
-1القحطاني� ،سهام - 2004 ،ق�صيدة النثر في ال�شعر ال�سعودي� ،ص.491
- 54 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
بادئ ذي بدء ن�ؤكد �أن �شعرية اللقطات الرومان�سية -في ق�صائد �شوقي بزيع -وليدة
ح�سن �أنثوي رهيف وخ�صو�صية �إبداعية روحية عميقة ،حيث بدا البزيع مت�أثر ًا بال�شعراء
الرومان�سية العظام الذين �شاع �صيتهم في عالمنا العربي� :أمثال؛ ال�شابي ،وبدوي الجبل،
ومحمد عمران ،والقباني ،فكان �شعره نتاج انفتاح وامت�صا�ص خ�صيب للتراث الأدبي
(ال�شعري) تحديد ًا فال نعدم من روح ال�شعراء العظام التي تفي�ض فيها ق�صائده ،كـ(المتنبي،
وعمر بن �أبي ربيعة ،وابن خفاجة ،وابن زيدون)؛ فه�ؤالء كلهم ين�صهرون في رحيق �إبداعي
خ�صيب وع�صارة �إبداعية متطورة منحى واتجاه ًا� ،صحيح �أنه ال يوجد ت�ضمين مبا�شر لأ�شعار
ه�ؤالء؛ �أو تقليد ل�صوره من �صورهم ،لكن الروح الإبداعية وال�شفافية الالمتناهية من حيث
ا�ستثمار ال�صورة الرومان�سية المتحركة التي تنبع من نف�س تفي�ض ع�شق ًا ،وت�سيل عذوبة،
باندماج �إيقاعها ال�صوتي بنفثها الروحي هو ما ي�ؤكد ذلك؛ يدل بو�ضوح على �شعريتها
الفنية العالية ،وم�ستواها الإبداعي الرفيع.
وال نبالغ �إذا قلنا� :إن نزوع البزيع �إلى الأ�سلوب الإن�شائي ،وال�صيغ ،واللقطات
الإن�شائية الموحية كان �إف��راز ًا لهذا النزوع الرومان�سي في ت�شكيل ق�صائده؛ حيث وظف
الطبيعة ،وا�ستثمر كل حيثية من حيثياتها وجزئية من جزئياتها؛ بمونولوج داخلي بوحي
كا�شف عن �شدة احتدام نفثاته الباطنية المتقدة وم�ساحاته الذاتية التي ترتد من الذات �إلى
الذات؛ على عادة غيره من �شعراء الرومان�سية ،لكن ما يميزه عنهم �أنه ي�ستغرق في تو�صيف
-1بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية ,ج� /2ص.667
- 55 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الحالة العاطفية ،ب�صور مطولة لدرجة يمكن �أن تطول معها ال�صورة؛ لت�شكل ق�صيدة ق�صيرة؛
فوقع الحالة العاطفية �إذ ًا يعر�ض على ال�شاعر هذا االنقياد وراء ال�صورة الممطوطة ال بق�صد
الت�صنع �أو تقم�ص الحالة ،وهذا دليل م�صداقية الر�ؤيا� ،أو التجارب الحقيقية الغرامية
المعي�شة التي مر بها ال�شاعر �شوقي بزيع ،مما يجعل تجاربه حقيقية ،ولي�ست من مح�ض
الخيال.
وبالنظر في فاعلية اللقطات الرومان�سية -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
الت�صويري
ّ الرومان�سية؛ ب�إيقاعها
َّ �شعرية الق�صيدة �إلى دنيام َّية ال�صور
َّ يعمد لتعزيز
الجمالي المثير؛ وحركتها الن�سقية الكا�شفة عن عمق الر�ؤية ،وبداعة الن�سق الت�صويري
ثم �إ َّال على
المتعط�ش ل َّل ِ
ِ تريقان َ�ش ْه َد ُه َما
ِ الم َج َّ�سد؛ كما في قوله" :لم تَ كُ ْن َ�ش َفت َ
َاها الرومان�سي ُ
ال�شعرية يكثف ال�صور العنقودية َّ �س"؛ والالَّفت �أَ َّن ال�شاعر في خ�ضم الر�ؤى عم ال ُي َم ُّ
ُب ْر ٍ
ال�شعري؛
ّ الرومان�س َّية التي تخفي وراءها ده�شة في الإ�سناد ،وقدرة عال َّية على التخييل
ت�صويرية �شديدة الإيحاء مفتوحة المداليل؛ كما في قوله" :ولم َي ْن َك ِ�ش ْف حزنها
َّ بلقطات
بالدموع "؛ � َّإن التفريع التوالدي في حيثيات ال�صورة
ِ ال�ص َلةْ
عديم ِّ
ِ ٍ
يا�سمين ال�صل ُْب �إ َّال على
َّ
يزيدها تفريع ًا وتناغم ًا وتعقيد ًا ف��ي حركتها ال�سياق َّية؛ وق��د يوقع ال�شاعر في
ت�صويرية
َّ الإطناب،واال�ستطالة ،وال�سرد الممطوط؛ لكن ال�شاعر وظف هذه ال�صور ب�أن�سنة
زادت درجتها الإيحائية؛ و�أكدت انفتاح ر�ؤاه الت�أملية ،و�آفاقه التخييلية؛ وهكذا ،يثيرنا
ُّغوية المثيرة؛ م�ؤكد ًا َ�أ َّن
ال�شاعر �شوقي بزيع بدينام َّية ال�صور الرومان�س َّية ،وتمف�صالتها الل ّ
ال�شعرية االغتناء بالت�أمالت الرومان�س ّية ،و�صداها الإيحائي؛ وت�أ�سي�س ًا على ذلك؛
َّ جوهر
يمكن القولَّ � :إن تكثيف اللقطات الرومان�س ّية -في �شعر �شوقي بزيع -يهب ق�صائده حركة
جمالية تنقاد مع الإيقاع ال�شعوري المك َّثف لتوق الذات؛ وا�ستغراقها في بلورة الن�سق
المت ََخ َّيلة ،وعمق امتدادها
ال�شعري التفاعلي الذي ينبني على ده�شة ال�صورة الرومان�سية ُ
ال�شعرية،
َّ الن�سقي داخل المغزى الن�صي الداللي العام للق�صيدة؛ �أو داخل جوهر الر�ؤية
وتمف�صلها داخل الن�ص بحيازة ن�سقية فاعلة ترقى �أعلى م�ستويات الإثارة والتحفيز الجمالي.
يقول �شوقي بزيع " :ال�صور الرومان�سية في ق�صائدي ت�أتي على �شكل مناجاة بوحية
ت�أملية ت�ستدعي الحالة ،وك�أني في حالة حلم ...و�إن معجمي ال�شعري يفي�ض بالطبيعة
والبيئة المكانية من ظالل و�أ�شجار و�ألوان ،وورود؛ ووديان ،وجبال ،وينابيع رقراقة،
- 56 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
ت�ؤكد ولعي بموطني الأ�صلي الجنوب اللبناني ،وطبيعي �إزاء هذه الحالة �أن تعك�س ق�صائدي
جميع مظاهر الع�شق والولع بالأنثى والطبيعة والوجود والإن�سان"(((.
وقد يلج�أ ال�شاعر �شوقي بزيع في الكثير من ق�صائده �إلى بث اللقطات الرومان�سية
ب�صدى ت�أملي عميق ،و�إدراك فني مثير بمو�ضع ال�صورة وحركتها ال�شعورية داخل الن�سق
ال�شعري ,كما في قوله:
" في قلبِ ال َع َرا ِء
لم ت ُكنْ �أَ�ضغاثها �إ َّال انعكا�ساً
أطياف
هارب ال ِ َ
أر�ض التي غادر ُتهَا لل ِ
في مطل ِع ال ُع ْم ِر
ُ
ي�شهق كالينبو ِع وللما�ضي الذي
(((
في �أق�صى دمائي"؛
ال بد من الت�أكيد بداية� ،أن اللقطات الرومان�سية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تتنوع في
مثيراتها ال�شعرية ،من حيث التق�صي ،التف�صيل ،والبث الوجداني العميق ،وا�ستتباع
الحالة ال�شعورية بعمقها ،وا�صطهاجها ،وتوترها النف�سي هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية،
ا�ستخدام المفردات الناعمة الرقيقة التي تن�ساب مع دفق م�شاعره وطريقة البوح ال�شعوري
ال�صادق معها؛ عبر تو�صيف الحالة بحرارتها ودفقها وما ي�صاحبها من �إح�سا�سات البث،
وال�شكوى ،والتململ ،والقلق؛ لتر�صد حراك الذات من الداخل؛ لكل ما تت�ضمنه من عبرات،
وزفرات ،وحنين� ،إلى االلت�صاق الروحي ب�أنثاه(�أنثى الخيال� /أو �أنثى الحلم).
وما ينبغي الإ�شارة �إليه� :أن ق�صائد �شوقي بزيع المنا�سباتية ال ترتقي �إلى حيز
ق�صائده الرومان�سية؛ وهذا يعني �أن �شعر المنا�سبات و�إن ح�ضر في ق�صائده �سرعان ما يخرج
منه �إلى ما هو خ�صو�صي و�إبداعي ومعتمل في داخله عاطفي ًا؛ ذلك "�أن �شعر المنا�سبات
-ح�سب الناقد محمد الحارثي -ال ينتج مثيرات وجدانية متوهجة في بنيته اللغوية ،بقدر
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .439
-2بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية ,ج� /2ص.667
- 57 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ما يثير �شعر ًا معرفي ًا ت�ضعف فيه القيمة الأدبية على ح�ساب القيم المعرفية؛ وهذا التوقيع
لي�س على �إطالقه ،فقد يحمل ال�شعر م�ضمون ًا منا�سباتي ًا وقيم ًا �أدبية متطورة عند �صاحب
الطبع المتمكن"((( .وهذا ما الحظناه عند �شوقي بزيع الذي ي�شعرن الحالة �أو الحدث
المنا�سباتي في �ضوء ر�ؤيته الإبداعية ،ومنظوره المتجدد للمو�صوف؛ فهو ال ينعي المرثي
بقدر ما يذكر مناقبه؛ وخ�صاله ،ويخرج من خالله �إلى ر�ؤية جديدة ،يتفاعل فيها ما هو
ذاتي بما هو مو�ضوعي في نطاق من التوحد والتكامل الفني.
وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر يثيرنا-جمال ًّيا -بهذه الأن�ساق،
واللقطات الرومان�س َّية المبتكرة؛ بتتابعها الن�سقي ،وتفاعلها �ضمن �إطار الر�ؤية ومغزاها
الفني؛ �إذْ � َّإن ال�شاعر ُي َل ِّون الحركة الن�سق َّية بالمبتكرات الت�شكيل َّية التي تزيد �ألق الحالة
ال�شعري؛ وك� َّأن الجملة تقود الجملة في ت�ضافر
ّ ال�شعورية ،والتر�سيم الفني الدقيق للمقطع
َّ
ن�سقي ان�سيابي مبتكر؛ من خالل التوا�شجات الت�شكيل َّية المتنامية التالية [تج َّلى وجهها
ال�شعرية ،وير�سم
َّ ِ
العراء]؛ وهذا يعني � َّأن ال�شاعر ُي َل ِّون �أن�ساقه الم�شروخ كالمر�أة في ِ
قلب
الجو التر�سيمي للجمل؛ /بمعنى �أن
ّ المقطع ر�سم ًا فن ًّيا مخ�صو�ص ًا؛ وهذا االن�سجام ي�ؤكِّ د
ال�شاعر ير�سم اللقطات الرومان�س َّية ر�سم ًا لوحاتي ًا؛ مثير ًا في تعزيز حيوية الن�سق الت�صويري
هارب
َ التخييلي،ت�صوير ًا رومان�سي ًا �شاعري ًا ,كما في قوله" :لم تكن �أ�ضغاثها �إ َّال انعكا�س ًا
�شعرية الق�صيدة تكمن في الن�سق التركيبي االئتالفي الذي تخلقه حركة َّ ِ
أطياف"؛ � َّإن مثيرات ال
ال�شعري؛ مما يجعلها بغاية التكثيف،
ّ ال�صور الرومان�سية،وتمف�صالتها داخل المقطع
والعمق ،والتفاعل ،والإيحاء ال�شعوري؛ والمغامرة الت�شكيلية التي ت�ؤكد �شعرية ال�شاعر
�شوقي بزيع ،ومدى �إفادته من ثقافته الموروثية ،ور�ؤيته الفنية المعا�صرة لطبيعة
الن�ص ّي في �إطار فني مخ�صو�ص �أو بليغ؛ يقول الناقد الدكتور �ستار
ّ ال�صورة ،وثقافة توظيفها
ال�شعري؛ ب�شكل �أو ب�آخر؛ يحمل في داخله ثورة من �أ�سا�سيتها
ّ عبد لله مايلي�" :إذا كان الإبداع
الخلق والمغامرة؛ ف� َّإن الق�صيدة الحديثة قد دخلت في عمق هذه الثورة؛ بالم�ستوى الذي
�أَظهرها دائمة البحث والتجريب؛ وهي محكومة بروح الع�صر المتمظهرة في ف�ضائها على �شكل
التقليدية ونهائيتها؛ تمخ�ضت عنها حالة من عدم
َّ خروق م�ستمرة لأَنموذج َّية الق�صيدة
ال�شعرية الجديدة المعقدة لإيقاعات
َّ ثم بال�صياغات
التوا�صل مع القارئ الذي ا�صطدم ،من َّ
-1الحارثي ،محمد بن مر�سي - 2004 ،الق�صيدة ال�سعودية والمعاني المطروحة في الطريق� ،ص .696
- 58 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
تقريرية؛ ومبا�شرة؛
َّ الع�صر الذي بدت الق�صيدة الحديثة غير راغبة في �إظهارها ,ب�سيطة,
في مرحلة �أَ�صبحت ذات طبيعة غاية في التعقيد ،والتداخل على �أكثر من م�ستوى؛ وبدا(عدم
التوا�صل) بين ال�شاعر وجمهوره ,هذا لي�س عيب ًا في المنظومة الإبداع َّية لهذا ال�شاعر؛ لأنَّ ه
واقع تحت دافع التطور الطبيعي ,ومجاراة الثقافة المعا�صرة المتطورة بعيد ًا عن التقليدية
التي تهدده بالتخلف ،والنمطية ,و�صو ًال �إلى التجديد واالبتكار؛ مغامر ًا بهذا التوا�صل مع
(((
الجمهور غير القادر على مواكبته لأَ�سباب ح�ضارية"؛
الت�صويرية المفاجئة التي
َّ وهكذا؛ تت� ّأ�س�س مثيرات �صوره الرومان�س َّية على اللقطات
تزيد �ألق الدفقة ال�شعرية امتداد ًا وتنامي ًا جمالي ًا مكثف ًا؛ تدل داللة قاطعة على مدى �إدراكه
لكل جزئية من جزئيات ال�صورة؛ �أو حيثية �صغيرة من حيثياتها؛ حتى في ال�سياقات التي
يطغى فيها الجانب ال�سردي� ،أوالق�ص�صي ال�شائق ,كما في قوله:
"لم َي َز ْل َم ْق َعدُكِ ال َفا ِر ُغ
في َن ْف ِ�س ال َم َك ْان
لم َت َز ْل ُت ْمطِ ُر ِذ ْك َراكِ
ق�صا�صاتِ زهو ٍر ومناديل ْ
حنان
َ
تنامين لم َي َز ْل َح ْي ُث
البرق � ْأط َرافي ُي ِ�ضي ُء ُ
حيث التمعتْ عيناكِ وفي ال�شرف ِة ُ
نجمتان"(((. ْ تبكي
ما يلفت انتباهنا -بداية� -أن ت�شكيل اللقطات الرومان�سية -في ق�صائد �شوقي بزيع-
وليد �إبداع ،ولي�س ابتداع� ،إذ نلحظ �أن طريقته في البوح والإف�ضاء الرومان�سي في تحريك
ال�صورة ،و�آلية تر�سيم منعرجاتها �ضمن الموقف العاطفي غير معهودة وهذا يعني �أن ثمة
�إدراك ًا ذهني ًا يرافق عملية البث الهادئ لل�صورة ،وتر�سيمها؛ وك�أن العاطفة -لديه -تهدر من
ب�ؤرة �إيحاء ال�صورة الرومان�سية؛ ولي�س من لفظها المحتدم� ،أو جر�سها ال�صاخب القوي؛
-1عبد اهلل� ,ستار� - 2010 ,إ�شكال َّية الحداثة في ال�شعر العربي المعا�صر؛ دار رند ,دم�شق ،ط � ,1ص .132-131
-2بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية ,ج� /2ص.571
- 59 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
وهذا ي�ؤكد -بالدليل القاطع� -أن خ�صوبة ال�صورة -لديه -تنبع من جمالية الر�ؤيا،
وانفتاحها الوجودي ،وبقدر ما تنفتح ر�ؤاه ،وموحيات �صوره العاطفية تزداد �شعرية
الموقف الرومان�سي �أو الحالة الرومان�سية المج�سدة ،بتمام زخمها ومثيرها الن�صي؛ يقول
�شوقي بزيع" :ال�صورة لدي متحركة؛ كل ما يحيط بي �أح�سه حي ًا ي�شاطرني �أفراحي ،و�أتراحي؛
حتى وع�صياني ،فتوري وجموحي� ..أنا �ضد ما هو �ساكن ..فال�سكون موت ..لهذا �أحب
الأمكنة المتحركة� ...أو الأمكنة المتغيرة� ...أو المتحررة من �صمتها و�سكونها الرهيب"(((.
وبالنظر في موحيات ال�صور الرومان�سية -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
�سردي ت�صويري �شائق؛ �إذ ير�صد م�شهد الفراق؛ �أو
ّ بمنحى
ً يعتمد كثافة اللقطات الرومان�س َّية؛
تذكاري ًا؛ �أو لحظة عاطفية حارة عا�شها ال�شاعر في مكان ما في ظل حديقة غناء؛ حيث
ّ م�شهد ًا
ً
جميلة؛ و�أخذت ل َّبه ،وتركت ذكراها في قلبه ،وارت�سم جمالها في واحة ً
فتاة التقى �صدفة
عينيه على نف�س المقعد الخ�شبي ،الذي يرتاده ال�شاعر كل حين؛ � َّإن هذه ال�صور الرومان�س َّية
ال�شاعرية تزيد حركة ن�صو�صه جما ًال ،وتنامي ًا ت�أملي ًا عميق ًا في حركة الم�شهد؛
َّ واللقطات
وطبيعة ر�صده الدقيق ,كما في هذه ال�صورة الجمالية التي تتقطر �إح�سا�س ًا وعمق ًا �شعوري ًا
حنان"؛ وهكذا؛ يبدو لنا � َّأن ال�شاعر
ْ ِ
ق�صا�صات زهورٍ ،ومناديل ِ
ذكراك مرهف ًا " :لم تَ زَ لْ تُ ْم ِط ُر
الت�صويرية الفاعلة,
َّ �شوقي بزيع ينمي حركة ن�صو�صه ،باللقطات الرومان�سية ،والمباغتات
التي تحرك الن�سق ال�شعري؛ وتزيد حيوية الم�شهد ال�شعري حرارة ودفق ًا عاطفي ًا ،ور�صد ًا
ت�أملي ًا دقيق ًا لجزئيات المكان؛ فال�شاعر �شوقي بزيع لديه قدرة هائلة على تج�سيد المكان،
ور�سمه بدقة؛ وك�أنِّ المكان لديه كون ت�أملي ينقله لنا ر�ؤيا العين؛ ور�ؤيا الب�صر ال ر�ؤيا
الخيال؛ �أو ر�ؤيا الجنوح التزويقي لحركته الب�صرية؛ �إنه ينقل المكان وير�سمه ر�سما
تف�صيلي ًا؛ ب�أبعاد ،و�أحجام مرئية ،وظالل م�شاهدة ،تبدو للعين ،والب�صر منذ �أن بد�أ بر�سم
الم�شهدية الملتقطة ،في هذه الق�صيدة وق�صائد �أخرى له كثيرة.
َّ تالميح الم�شهد ،وحركته
وهذا يدلنا على �أن �شوقي بزيع ال يجتر الحالة� ،أو يتقم�صها تقم�ص ًا ،و�إنما ير�سم
الم�شهد الرومان�سي ،بلقطات معبرة دافقة بعناية �آ�سرة ،ونب�ض �شعوري حيوي خ�صيب
ينبع من نف�س م�شبعة �صبابة ،وتهيام ًا وع�شق ًا؛ ومن هذا المنطلق؛ ال يلحظ القارئ تكرار ًا
نمطي ًا لبع�ض ال�صور في ق�صائده الرومان�سية؛ بل يجد ابتكار ًا ،وتنامي ًا �إبداعي ًا على الدوام؛
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع ال�شاعر �شوقي بزيع ،مخطوط ....لم ين�شر بعد.
- 60 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
في ت�شكيل لقطاته الرومان�سية ،وخا�صة في ق�صائده البوحية التي تغرق في تو�صيف
الحالة ودفقها الحار.
- 9جماليَّة ُّ
اللغة /وبداعة التشكيل الدرامي:
� َّإن ال�صورة الدرام َّية� ،أو البناء الدرامي من مثيرات الق�صيدة الحداث َّية؛ و� ْإن لم تكن
هذه الظاهرة خلو ًا في ال�شعر العربي القديم؛ فقد كانت الكثير من الق�صائد في الع�صر
ت�ضج بالبناء الدرامي ،وتعدد الأ�صوات؛ وما ق�صيدة عنترة بن �شداد �إ ّال مثا ًال حي ًا
ّ الجاهلي
على هذا النزوع الت�شكيلي؛ يقول الناقد ق�صي الح�سين " :لعل ال�شعراء الكبار في الجاهلية
كانوا يح�سون بت�آ�صر هذه العنا�صر الأ�سا�سية (المكان ،والحركة ،والزمان) في وعيهم
ال�شعري ،حين كانوا يره�صون بالإبداعات الفنية /الق�صائد .فالناقة المقتحمة لأهوال
المفاوز ،الهزيلة الج�سد ،ال�شديدة الع�صب ،ال�صبور والحرون ،تتحول �إلى رمز للإن�سان
الفار�س الذي يقف ك�شخ�ص �سرمدي في عالم مهول معاد� .أما �أ�سراب الظباء فقد تطورت �إلى
رموز الغواني الح�سان ربات الجمال التي يفزع �إليها هرب ًا من هجير المكان ،وقحطه،
وجفافه ،م�ؤم ً
ال بين يديها الخ�صوبة ،والأمومة ،والعودة �إلى الرحم وال�ضرع؛ فاللوحات
الفنية التي نظمها ه�ؤالء ال�شعراء في ق�صائدهم الراقية؛ وهي مليئة بالق�ص�ص الحية الحركية
عن حيوانات ال�صحراء ،كحمار الوح�ش و�إناثه قدمت لنا �آفاق ًا عميقة عن رموز ال�صراع
الإن�ساني الدائم في الحب والغيرة ،ومقارعة الخطوب للفوز بالحرية والكرامة ،ففي مثل
هذه اللوحات كانت ت�ضج الحركة الملحمية من خالل تطور المعاناة حتى تكاد تتحول �إلى
دوامة تخترق حاجز الزمن بالحديث وال�صورة"(((.
وتبع� ًا له��ذا "ظه��رت ب��ذرة الدرامي��ة ف��ي الق�صائ��د الجاهلي��ة ،فتقل��ب �إيق��اع الزم��ن
ما بي��ن الج��دب والخ�ص��ب ،ما بين ح��ل الحبيبة وترحالها ،ما بين رحلتي ال�صيف وال�ش��تاء
يجع��ل حي��اة الجاهل��ي مت�أججة ،بين ن�ش��وة التم��رد بالحب والخمرة والفرو�س��ية ،و�صوفية
القب ��ول ،والخ�ض ��وع ،واال�ست�س�ل�ام بحي ��ث تلتقي ��ان رغ ��م تعار�ضهم ��ا ف ��ي روحي ��ة ال�ش ��عر
الجاهلي ال ��ذي يعان ��ي �صاحب ��ه م ��ن ثق ��ل التجرب ��ة اليومي ��ة ،ويعي� ��ش ف ��ي زم ��ن الدوام ��ة
-1الح�سين ،ق�صي - 1998 ،ت�شظي ال�سكون في العمل الفني� ،ص .213
- 61 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
المب��دع"(((؛ بي��د � َّأن ال�ص��ورة الدرام َّي��ة �أو البن��اء الدرام��ي ف��ي الق�صي��دة الحداثي��ة ق��د اتخذت
طابع� ًا فني� ًا ممي��ز ًا م��ن حي��ث تع��دد الأ�ص��وات ،وكثاف��ة الح��وار ،وم�س��رحة الر�ؤي��ا ،وتراك��م
�عري الواحد؛ ومن هنا
الأحداث ،والم�ش��اهد ،واللقطات ال�ش��عرية المتتابعة في الم�ش��هد ال�ش� ّ
�ي ف��ي �أب�س��ط تعري��ف ل��ه عل��ى ح��دة ال�ص��راع بي��ن طرفين؛
يمك��ن الق��ول" :يق��وم البن��اء الدرام� ّ
وتع� ّ�دد الأ�ص��وات؛ وتط� ّ�ور الح��دث وتنامي��ه؛ كما تق��وم النزعة الدرام ّية عل��ى التوتر الذي هو
فكرية عليا تن�ش�أ من غو�ص المبدع �إلى �أعماق الحياة"(((.
َّ �صفة
وقد امتازت �إيقاعات ق�صائد �شوقي بزيع بالنزعة الحوارية حين ًا ،والنزعة الدرامية
الحوارية؛ التي تقوم على �إبراز التناق�ض والجدل في حركة الأ�شياء حين ًا �آخر؛ لتعميق
َّ
الأ�شياء بنقي�ضها المثيلها� ،أو مرادفها في التركيب؛ فنالحظ ح�ضور الم�صطرعات والمتنافرات
اللغوية؛ �إيذان ًا بطابعها الدرامي ،ونزعتها الجدلية
ّ الوجودية على م�ستوى ال�صور والأن�ساق
(رياح
ٌ بين طرفين� ،أو ر�ؤيتين متناق�ضتين �أو معكو�ستين؛ وعلى �سبيل المثال ن�أخذ ق�صيدة
ِ
الن�سوة) ل�شوقي بزيع� ،إذْ تواجهنا هذه الق�صيدة بحركة درامية ِ
نون ِ
النك�سارات ُمت ََخ َّي َل ٌة
مثيرة تقوم على تكثيف لغة الحوار الأ�سطوري البوحي في التعبير عن العبث الذهني،
والإح�سا�س الوجودي بالتناق�ض؛ �إزاء الواقع ،والوجود ،وجدليات الحياة؛ يقول ال�شاعر:
حم�ص
َ ِالت على مداخلِ "الن�سو ُة ال ُم َت َماي ُ
في قلبِ الظهيرةِ؛
رف ال�ص ِ بالحنين ّ
ِ ن�سو ُة ال َّند ِم ال ُم َ�س َّو ِر
�ضريح (ديك ِّ
الجن) ِ حول
وهو ُي ِر ْي ُق َل ْو َع َت ُه
على (وردٍ)
ويرمق من ورا ِء القب ِر تمثا َل التفا َت ِت ِه ُ
الزمن الجميل. ِ �إلى
.................
-1المرجع نف�سه �,ص .214-213
-2ال�صمادي ،امتنان عثمان؛ � - 1..2شعر �سعدي يو�سف؛ درا�سات تحليلية؛ الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر,
بيروت� ,ص .67وانظر فا�ضل ,تامر؛ معالم جديدة من �أدبنا المعا�صر�,ص .367
- 62 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن الر�ؤية الدرامية �أو النزعة الدرامية -في ق�صائد �شوقي
بزيع -تنبني على لعبة متخيلها ال�شعري؛ وحركة ال��ذوات ،والأ�صوات المتعددة داخل
الق�صيدة ،وبقدر ما يحرك ال�شاعر ق�صائده الدرامية بتعدد الأ�صوات ،وتداخلها ،وتكثيف
الأحداث ،وتواليها بقدر ما يزداد �إيقاعها الحركي وتكثيفها الداللي؛ وهذا ما �أ�شار �إليه
ب�صريح العبارة �شوقي بزيع� " :أنا في ق�صائدي م�سكون ب�أ�صوات وذوات متحاورة ،م�صطرعة؛
ولهذا �أرى الق�صيدة حركة درامية محتدمة بين �أ�صوات متعددة ال �صوت �أحادي مفرد؛ لذلك
قال �أحدهم �أنا �آخر الآخر؛ ت�أكيد ًا على احتدام الذوات وت�صادمها الوجودي"(((.
وبالنظر -في م�ؤثرات النزعة الدرامية -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
يلج�أ �إلى البناء الدرامي عبر طبيعة ال�سرد الأ�سطوري بتكثيف الر�ؤى المحفزة ،بم�سار
�سردي تو�صيفي ال يخلو من الن�سج الأ�سطوري� ،أو حبك الحدث الأ�سطوري ببعده الدرامي؛ بيد
� َّأن جو ال�صراع ال يبدو وا�ضح ًا؛ نظر ًا �إلى كثافة الر�ؤى ،وتراكمها ،وتداخل م�ستوياتها �ضمن
- 63 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الن�سق الواحد؛ ومن يطلع على مداليل الق�صيدة بعمق ي�شعر بطابعها الدرامي التو�صيفي
ال�سردي؛ ومنحاها الأ�سطوري من خالل رمز" تموز" الذي يدل على الخ�صوبة ،والميالد،
والخلق الجديد ،ورمز الن�سوة الذي يدل على (ع�شتار) �آلهة الخ�صوبة ،وربة االخ�ضرار
والجمال؛ محاو ًال بث الجو االخ�ضراري الم�شرق على وجه هذه الخليقة؛ م�ؤكد ًا �أن الأنثى هي
مكمن حركة الوجود؛ وهي منبع ت�ألقه ،و�إ�شراقه على الدوام؛ وقد حاول ال�شاعر تكثيف ر�ؤاه
ال�شعرية بتراكم الأ�سماء والرموز الأُ�سطورية؛ رغبة منه في تظهير طابع الق�صيدة الملحمي؛
َّ
وبعدها الت�أملي الوجودي الذي يقوم على �إ�شاعة الخ�صوبة ،والميالد ،والخلق الجديد
بدي ً
ال عن هذا الوجود العقيم الذي تعي�شه ذواتنا المحا�صرة بالروتين ،والقلق المقيت،
حد االختناق في هذا الزمن الم�أزوم.
والي�أ�س المطبق على �أرواحنا ّ
َّ
والالفت � َّأن ال�شاعر قد وظَّ ف َّ
ق�صة (ديك الجن الحم�صي) ومحبوبته (ورد)؛ ور�سمها
بطابع �أ�سطوري؛ �إذْ يقالَّ � :إن ورد مع�شوقة ديك الجن الحم�صي؛ قد و�صل حبه وتعلقه بها �إلى
و�شرب ك�أ�س ًا من ن�شوة الخمر على نخب احتراقها بعدما و�ضع فيَ حد �أنه قتلها و�أحرقها
ّ
الك�أ�س رماد ًا من ج�سد محبوبته المحترقة؛ تمتع ًا بنخب ح ّبه؛ وتلذذ ًا بحبه القاتل؛ وهذا
أ�سطوريا في
ًّ �شعريا �شوقي بزيع فحملت الق�صيدة طابع ًا درامي ًا �
ًّ �صاغه
ُ الأ�سلوب الفني
المنحى ،واالتجاه ،والأ�سلوب الفني.
- 64 -
الف�صل الأول :جمال َّية اللغة ال�شعر َّية عند �شوقي بزيع
نتائج واستدالالت:
َّ � )1إن الق�صيدة -عند �شوقي بزيع -تمتاز بلغتها التو�صيفية ال�سردية ذات الإيحاء
الت�أملي ،والعمق الت�صويري في ت�صوير الحالة� ،أو الحدث ال�شعري؛ لذا؛ يبدو
الت�صويرية
َّ عليها �إمعان ًا في التفا�صيل الجزئية؛ و�إغراق ًا في التمف�صالت
الرومان�سية؛ التي ال تكاد تخلو ق�صيدة من ق�صائده من ت�صوير جمالية هذه
اللقطات الرومان�سية؛ بح�س ت�أملي /معرفي �شامل بالمثيرات الت�شكيلية التي
ترتقي �أعلى مظاهر الإثارة ،والخبرة ،والنحت الجمالي.
تمتاز لغة ال�شاعر �شوقي بزيع بتمظهراتها ال ُّل َّ
غوية المخاتلة وف�ضائها الن�سقي )2
المراوغ لدرجة �أنها ت�ستقطب القارئ بحيثياتها الت�شكيلية؛ ونب�ضها الإيقاعي التقفوي
الملتف على م�ستوى القافية المدورة التي ت�أتي بعد دورة ت�شكيلية �أو مجموعة �أ�سطر
�شعرية متتابعة؛ لتلتف بالقارئ مثيرة فيه الده�شة ،والإثارة ال�شعرية.
َّ � )3إن المت�أمل -في ق�صائده -يلحظ �أنه ال يلتقط ال�صورة التقاط ًا ح�س ًّيا مبا�شر ًا؛
بقدر ما ي�سعى �إلى التقاطها ذهني ًا ،وت�شكيلها بم�سار فني ت�أملي تخييلي مفتوح؛
ف�صوره ال�شعرية الممطوطة؛ و� ْإن بدت �سهلة وا�ضحة؛ �إال �أنها ت�ضج بالإيحاء،
وتكتظ بالدالالت؛ مما يجعلها ذات معين ال ين�ضب من الت�ألق ،والإبداع ،وال�سمو
الروحي المطلق؛ فالق�صيدة -لديه -تم�سك بقوة حدثها ،ونب�ضها ،وتجليها
الإبداعي ،وتم�سكها الفني بحيوية الم�شهد و طزاجة الحدث �أو الموقف ال�شعوري
المج�سد.
َّ � )4إن ده�شة القارئ بلغة �شوقي بزيع ال تت�أتى من تمظهراتها اللغوية الخ�صبة
داللي ًا فح�سب؛ و�إنما من �إيقاعها ال�صوتي المتناغم مع الداللة ،ومدها الروحي
الت�أملي المفتوح؛ وهذا ما يجعل ق�صائده دائم ًا في مغامرة بحث دائم� ،أو �سباق
متوا�صل محموم مع زمنها؛ لت�ؤكد ح�ضورها ،وتناميها الروحي العميق
وحداثاويتها الإيحائية على الدوام.
- 65 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
- 66 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
الفصل الثاني
ّ
فنيّة تشكيل الصورة عند شوقي بزيع
- 67 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
- 68 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
الفصل الثاني
َّ
الشعرية عند شوقي بزيع فنية تشكيل الصورة
�شعرية
َّ والمقوم الأبرز في الحكم على ِّ المحوري
ّ ال�شعرية الأ�سلوب
َّ تُ َع ُّد ال�صورة
ولما كان ال�شعر �أداته اللُّغة؛ ف� َّإن �إمكانية
ال�شاعر ،وطاقته التخييل ّية؛ وبراعته الت�شكيل َّية؛ ّ
توظيفها ،ونحتها ف ّن ًّيا تبدو �أكثر �صعوبة من الفن الت�شكيلي� ،أو فن النحت� ،أو فن الدراما،
�أو فن المونتاج في ال�سينما؛ وهنا؛ تكمن ال�صعوبة في تفعيل الق�صيدة عن طريق ال�صورة؛ �إذْ
الن�ص ّي؛
ّ تتطلب ال�صورة في لغة ال�شعر مهارة دقيقة في ت�شكيلها ،والإحاطة بمدلولها
الجوهرية في �سبر �أغوار
َّ المحورية ،ومن هنا تُ َع ُّد"ال�صورة هي و�سيلة ال�شاعر
ّ وجزئياتها
ال�شعرية؛ والك�شف عن العالقات الخف َّية للواقع؛ لأنَّ ها جوهر ال�شعر و�أداته القادرة
َّ التجربة
على الخلق ،واالبتكار ،والتجويد ،والتعديل"(((.
فالب َّد من �أن تعتمد عن�صر
ُ منبع الإثارة والتحفيز في لغة ال�شعر
َ وال�صورة بو�صفها
المفاج�أة والمباغتة في ن�سقها الت�شكيلي الذي وجدت فيه؛ لتحقق درجة ابتكارها الفني،
وت�شكيلها الجمالي الذي يفتح باب الت�أمل ،واال�ستقطاب الفني على م�صراعيه؛ فال�صورة هي
ال�شعري؛ �أو الم�شهد
َّ وتو�سع �آفاقها اال�ستقطابية للحدث
ِّ اللمعة البرق َّية التي ت�ضيء الر�ؤية؛
ال�شعورية من
َّ المج�سد؛ لأنها الأداة الطيعة في الخلق واالبتكار ،واكت�ساب الخبرة
َّ ال�شعري
ّ
ال�شعورية عند ال�شاعر؛ فهي النفثة
َّ جراء ك�شفها للمكونات الداخل َّية والبواطن النف�سية
َّ
ال�شعورية بن�سق
َّ ال�شعورية المختزلة في تركيب ما �أو ت�شكيل ما؛ لأنها تُ َر ِّ�سم هذه النفثة
َّ
ال�شعرية هي الر�سم بالكلمات التي
َّ "ولما كانت ال�صورة
َّ لغويا؛
ًّ لغوي مك َّثف دالل ًّيا مقت�صد
ّ
اللغوية؛ ويع ِّبر بها ال�شاعر عن المعاني العميقة في
َّ تت�شكل في �إطار نظام من العالقات
نف�سه؛ ويفل�سف بها موقفه من الواقع ،ويخلق بها عالمه الجديد من خالل توظيفه لطاقات
-1المو�سى؛ فيروز - 2003 ،ال�صورة الف ّن ّية في ال ُمو ََّ�شحات الأندل�س َّية (الأعمى التطيلي �أُنموذجاً) ،مجلة بحوث
جامعة حلب ،ع � ،44ص .32
- 69 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
- 70 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
لغوي ُي َ�شكِّله الخيال الخالَّق؛ معتمد ًا �أكثر الفعاليات �إثارة في بناء مواطن الإ�شعاع
ّ ت�شكيل
ن�ص في �إنتاج الن�ص؛ لتحقيق �أهداف تتفاوت تفاوت طبيعة ّ
كل ّ ّ والداللي في
ّ الجمالي
ّ
جمالياته الفن َّية ودالالته مع ًا؛ ولقد وعى النقد العربي القديم ،ذلك؛ �إذْ نجد في جهود
الجرجاني وغيره ما ي�ؤكّ د ّ
عد ال�صورة قلب ال�شعر وب�ؤرة �شعريته؛ وكان كتاب �أ�سرار البالغة
مخ�ص�ص ًا جلّه لبيان �أهم ّية اال�ستعارات والت�شبيهات التي تُ َع ُّد ب�ؤر ت�شكيل ال�صورة الفن ّية
م�ستجدة تزيد قدره نبالً؛ وتوجب له بعد
ّ مو�ضح ًا مدى فتنتها في �إخراج البيان في �صورة
ِّ
ً
حياة، الف�ضل ف�ض ً
ال كونها تمنح الكثير من المعاني؛ بالي�سير من اللفظ؛ تمنح الجماد
جالء"(((.
ً والأج�سام الخر�س بيان ًا ،والمعاني الخف ّية
وتتنوع �أ�ساليب ت�شكيل ال�صورة -في �شعر �شوقي بزيع-؛ تبع ًا لمثيراتها ،و�أ�شكالها
َّ
الفن ّية التي تنطوي عليها؛ فقد ،نلحظ غلبة ال�صورة الم�ؤن�سنة� ،أوالت�شخي�ص َّية عنده مقارنة
بغيره من ال�شعراء؛ كما نلحظ غلبة الطابع ال�سردي التو�صيفي على بقية ال�صور ،وللتدقيق
في مثيرات ال�صورة و�أ�ساليبها الفنية �آثرنا درا�ستها بالتف�صيل ،لك�شف خباياها ،ومثيراتها
التعبيرية؛ وهي:
َّ الفن ّية ،وطرائقها
ّ -1
فنيّة الصورة الوصفيَّة:
ونق�صد بـ [ال�صورة الو�صف َّية] :ال�صورة التي ت�صف مظاهر الأ�شياء؛ ب�أن�ساق و�صف َّية
مت�ضافرة؛ تر�صد حركة الأ�شياء؛ و�سيرورتها من الإطار الخارجي؛ وهي �صور متتابعة تحاول
ر�صد الحدث؛ �أو الم�شهد بتفا�صيله الجزئ َّية ،مهما امت َّد الن�سق وطال يبقى الو�صف قائم ًا �إلى
ال�شاعرية
َّ مركزيا في ت�شكيل ال�صورة
ًّ �آخر كلمة في الق�صيدة.؛ بمعنى �أن يكون الو�صف � ًّأ�سا
المرهفة �إزاء تج�سيد �شكل �أو هيئة المو�صوف.بمعنى �أن هذه ال�صورة تركز على جزئيات
المكان؛ لت�شعيره ،وتو�صيفه حين ًا؛ وعلى الطبيعة بما في ذلك الأنثى(المحبوبة) التي ت�شكل
ب�ؤرة تخ�صيب الطبيعة جماليا حين ًا �آخر؛ وقد امتازت ال�صور الو�صف َّية في ق�صائد �شوقي
بزيع بامتدادها الن�سقي ،وتفريعها ،وتداخلها،وتناميها؛ لت�ؤكِّ د ت�ضافرها �إلى �آخر كلمة في
ِّ
مولدات تكثيف الحدث، ق�صائده؛ وتُ َع ُّد ال�صورة الو�صف ّية -في �شعر �شوقي بزيع -من
-1الب�ستاني ،ب�شرى - 2011 ،في الريادة والفنّ (قراءة في �شعر �شاذل طاقة)؛ دار مجدالوي ،الأردن ،عمان� ،ص .99
- 71 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
وتعميق الر�ؤية؛ للإحاطة بمدلولها كامالً؛ رغم التمطيط والإطناب ال�سردي الذي يطالها في
كثير من الأحيان؛ والتمطيط ال يقلل من �ش�أن ال�صورة لديه ،و�إنما يجعل القارئ متيقظ ًا لما
�ست�ؤدي �إليه ال�صورة بت�شعبها وامتدادها ،كما في قوله:
ال�سمِ هَا َج َر ٌ�س ْ
الحروف و�أ�صدا�ؤُهَا ُ َت َت َن َّز ُه في ِه
وتحملق في َ�ش ْع ِرهَا ال َك ْ�س َت َنائ ِّي ُ
عا�صف ٌة من َح َمائ َم
م�شبوه ِة الريح،
ال ينتمي َف ُمهَا لم�ضيقٍ
ْ
ح�صان وال ينتهي َد ُمهَا في
ُك َّلما َ�س َق َطتْ َ�ش ْم ُ�سها في ال ُك ْ�س ِ
وف
ُت َ�ض ِّم ُدهَا بيد ْيها..
و ُت ْو َل ُد من نف�سها م َّر ًة ثاني ًة
ي�ؤ ِّه ُلها للغياب...
النعا�س المقي ُم على جفنها، ِ ُ
مالك
ويعود بها،
حين ُت ْو�شِ ُك � ْأن َت َّمحِ ي"(((. َ
الالفت للنظر ،بداية� ،أن ال�صورة الو�صفية -في الق�صائد ال�شوقية -ترتكز على
فاعليتها التج�سيدية وما تثيره من توهج ،وكثافة ،و�إيحاء؛ نظر ًا �إلى محمولها العاطفي
ال�شعوري الغزلي المكثف؛ وغالب ًا ،ما تبدو ال�صورة الو�صفية محرقية في تكثيف حرارة
الجملة ،وتوهجها جمالي ًا؛ كما لو �أن البزيع مولع بالتالعب في الأو�صاف الأنثوية ،دفع ًا
ل�شعريته الم�شتقة من حقل الطبيعة الريفية الجبلية؛ بدماثة ال�صورة و�سال�سة تج�سيدها،
وتعبيرها الو�صفي ال�شائق؛ فالأنثى -على �سبيل المثال -تمثل له الغزالة البرية التي تتنزه
في الجبال؛ وت�شمخ ب�شرا�ستها" ،وحراكها ،ور�شاقتها ،وامت�شاقها جمالي ًا؛ � َّأما ما يميز هذه
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .560-559
- 72 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
ال�صورة الو�صفية في ق�صائده �أنها ذات فاعلية على اال�ستثارة ،واال�ستقطاب الجمالي� ،إذ �إن
ال�صورة ال�شعرية الم�ؤثرة هي ال�صورة المبتكرة ذات " :القدرة على التعبير عن التوتر
النف�سي القائم على رف�ض الم�سبق ،وبلورة الم�سبق �ضمن نظام جديد يخالف القار ،وي�ضع
التوازن بينه وبين المفرز الر�ؤياوي؛ ت�أمل �صورة انتزاع الذات من هيكلة الوجود المعتاد،
وتقليم الميت منها ،لإعادة تجديدها"((( .وال�شاعر الحاذق هو الذي يملك تلك المهارة
والفاعلية على اال�ستثارة والت�أثير بحنكة فنية ومزاوجة ن�سقية �آ�سرة.
والملحوظ -في المقبو�س ال�شعري ال�سابق -جمالية ال�صورة العاطفية التي تعتمد
الخرق الت�شكيلي والزوغان الإ�سنادي في بلورة[ال�صورة -التج�سيد]� ،أو [ال�صورة ذات
الو�صف الحي]؛ وتمثلت هذه الجمالية بالتو�صيفات الأنثوية الدافقة بالح�س ،وال�شعور،
واالئتالف الجمالي[،تحملق في �شعرها الك�ستنائي عا�صفة من حمائم]؛ �إن من يدقق -في
حيثيات هذه ال�صور ومداركها الجمالية -يده�ش بهذا الإ�سناد[�شعرها الك�ستنائي] ،ويده�ش
-بالجانب الآخر -بهذا الإ�سناد[ :عا�صفة من حمائم] ،وكما هو معروف �أن جمالية ال�صورة
الو�صفية ترتكز على محيط ما تبثه من ر�ؤى جديدة ،و�أو�صاف مبتكرة غير مطروقة من
�سابق؛ وبقدر ما يجدد ال�شاعر في �أو�صافه وت�شبيهاته ،بقدر ما يحلق في عباب الجمالية،
واال�ستثارة ال�شعرية ،وهذا -بالت�أكيد -يدلنا على �أن ال�صورة الو�صفية -في ق�صائد البزيع-
تمتد ب�صداها الجمالي على بقية الأن�ساق؛ كما بالت�أكيد ،كما في الن�سق التالي[ :ال ينتمي
فمها لم�ضيق وال ينتهي دمها في ح�صان]� ،إن هذه الأن�ساق رغم ب�ساطتها ،لكنها تدل على
حنكة �شعرية ،وقدرة توليفية �شائقة على الرقي بم�سار الم�ألوف� ،إلى ما هو غير م�ألوف؛
وهذه تقنية مثيرة في ق�صائده الو�صفية لدرجة كبيرة؛ ف�صوره الو�صفية و�إن بدت ممطوطة،
�أو مت�شعبة في م�سارها ال�شعري ،ف�إنها ذات �شعرية في �إ�صابة عمق ال��دالالت ،وب�ؤرة
تركيزها؛ وهذا ما ينطبق على قوله:
"مط ٌر يت�ش َّك ُل مثل هبوبٍ َخ ِف ْي ٍف
على ُز ُغبِ َ
الخا�ص َر ْه
ُتحِ ُّب من النه ِر ُ�ص ْو َر َتهَا في الميا ِه
-1القحطاني� ،سهام ح�سين - 2004 ،ق�صيدة النثر في ال�شعر ال�سعودي ،مجلة عالمات ،ج /52م ،13ربيع الآخر،
يونيو� ،ص.485
- 73 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
بداي��ة ،ن�ش��ير �إل��ى �أن ال�ش��اعر يرتقي �س��لم ال�ش��عرية به��ذه التو�صيف��ات الجمالية في
خل��ق [ال�ص��ورة -الح�س��ي] ال�ص��ورة الأنثوي��ة ،تلك ال�صورة الت��ي تمتزج بها الأنث��ى بالمكان؛
لتغ��دو ج��زء ًا م��ن حراك��ه ،وتنامي��ه جمالي� ًا؛ فالم��كان يزهو -جمالي� ًا -بمقدار م��ا ي�ؤنثه؛ �أو
ي�ضف��ي علي��ه بع���ض الأو�ص��اف الأنثوي��ة؛ م��ن حراك فن��ي يظهر بالو�ص��ف العاطف��ي المتدفق �أو
�اعرية الت��ي ت�ص��ف مظاهر الأ�ش��ياء؛
َّ ال�ش��اعري .وهن��ا؛ يعتم��د ال�ش��اعر ال�ص��ور الو�صف َّي��ة ال�ش�
�ري فاع��ل ،يرق��ى في��ه �أعلى الم�س��تويات الت�ش��كيل َّية؛ �إذْ ِّ
ينوع ال�ش��اعر بعم��ق ،واكتن��از ت�صوي� ّ
لغوي��ة الو�صف َّي��ة؛ محلق� ًا بدرج��ة �ش� َّ
�عرية ال�ص��ور /وامتداده��ا الن�س��قي؛ مما َّ ف��ي الت�ش��كيالت ُّ
ال
يجعه��ا غاي��ة ف��ي االكتن��از /والتفعي��ل الن�س��قي؛ محقق� ًا درج��ة من التكام��ل الفن��ي ،والتفعيل
[ال�س� ِ�م َها
الن�س��قي؛ عل��ى م�س��توى امت��داد ال�ص��ور الو�صف َّي��ة الرومان�س� َّية؛ كم��ا ف��ي ه��ذه ال�صورْ :
اك َر ْه]؛ � َّإن �ف � ِ
أودية ال َذ ِ ِ
طواحينُ ُه خل� َ الفراغ الذي تَ ت ََرامى
ِ َج َر�� ٌ�س ال ُي َ�س� َّ�مى /ول��ي � ْأن �أك��ونَ َو ِ�ص َّي
اللغوية المبتكرة
َّ م��ن يت� َّأم��ل -في ن�س��ق ال�صور الو�صف َّية ال�س��ابقة -يلح��ظ بداعة الت�ش��كيالت
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .561-559
- 74 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
الت ��ي ت�س ��هم ف ��ي تعمي ��ق فاعل َّي ��ة ال�ص ��ور الو�صف َّي ��ة؛ ب�إيحاءاته ��ا الرومان�س�� َّية الخ�صب ��ة
�صبابة ،وع�ش��ق ًا ،وتهيام� ًا بالأنثى؛ �إلى درجة
ً بال��دالالت ،والإيح��اءات الغزل َّي��ة الت��ي تموج
اللغوية في �إ�س��نادها[ :م�ش��بوهة الريح-
َّ التمل��ك الروح��ي المطل��ق؛ فما �أجم��ل هذه االبتكارات
ُ
بالخ ُ�ص�ل�ات -نعناعه��ا الم�ش��تهى- الم ْ�س �ت َِّحمة
م�ل�اك النعا���س -زغ��ب الخا�ص��رة� -أم�ش��اطها ُ
اللغوي��ة ف��ي ن�س��قها ت�ؤكِّ ��د على �ش��عريتها ،ورومان�س� َّية
َّ �أودي��ة الذاك��رة]؛ � َّإن ه��ذه الت�ش��كيالت
ٍ
ناقد �إجحاف ال�ش��اعر هذا العمق الرومان�س��ي، �إيحائها؛ وخ�صوبة مدلولها؛ فال ي�س��تطيع � ُّأي
الت�صويري��ة تمت��از بابتكاره��ا الت�ش��كيلي،
َّ �عرية المده�ش��ة؛ �إذْ � َّإن الحرك��ة
وه��ذه الب��كارة ال�ش� َّ
وفاعليته ��ا الن�س ��ق َّية ،وتوظيفه ��ا ّ
ال�ل�ا متناه ��ي لل�ص ��ور الرومان�س � َّية الت ��ي ت�ؤكِّ ��د بكارته ��ا
الن�س ��ق ّية /وعمقه ��ا الت�ش ��كيلي المثي ��ر؛ ّ
والالف ��ت ه ��ذا العم ��ق الت�ش ��كيلي ف ��ي كثاف ��ة ال�ص ��ور
الت�صويري��ة؛ لتب��دو �أكث��ر اكتن��از ًا ،وحي��ازة
َّ التو�صيف َّي��ة ذات االكتن��از الجمال��ي ،والحياك��ة
ن�سقية ت�شكيل ّية ،مراوغة؛ كما في قوله ،في هذا المقطع:
أكون َو ْحدِ ي فو َق � ْأجن َِح ِة الحفيفِ "�س� ُ
ال ُم ِّر؛
ُم ْن َتظِ راً ُخ َطاكِ َك َغا َب ٍة من لوع ٍة
و ُم َب َّقعاً ِب َد ِم ْا�ش ِتهَائِي
منك على َح َرائ َق و�أُطِ ُّل ِ
وطن لأَ ْرثِيهَالم �أ ُع ْد مِ ْنهَا �إلى ٍ
و�أز ُع ُم �أنني َ�ش َف ُق ا ْن ِهدَامِ كِ في ال�سحابِ
وما َت َغ ْل َغ َل مِ نْ َ�ش َذى َك َّف ْيكِ .
في ُخ َ�صلِ الهوا ِء
...................
و�أُري ُد �أَمواجاً
لأن�سى ما َت َ�ساَ َق َط من �صبا َباتِي
الزمان"(((.
ْ �سطح
على ِ
بداية نقول� :إن ال�شاعر �شوقي بزيع م�سكون بالأنثى الحلم� ،أو الأنثى الممانعة� ،أو
اللملتقطة؛ لهذا ،نراه يغرق في تو�صيفاته الرومان�سية ،متطلع ًا �إليها؛ وهذا ما �أ�شار
الأنثى َّ
�إليه ب�صريح العبارة في �أثناء محاورتنا له؛ �إذ يقول " :ك�أن المر�أة م�شروع ق�صيدة بتكوينها،
و�أعتقد ب�أن الكتابة في عمقها؛ هي فعل �أنثوي لي�س بالمعنى البيولوجي للكلمة؛ ولكن
بمعنى الح�سا�سية؛ وبمعنى الموجة ال�شعورية التي يكتب وفقها ال�شعراء؛ التي هي موجة
الإح�سا�س المرهف بالأ�شياء والوجود؛ و�أقول -ال على �سبيل المبالغة �-إن روح �شعري في
عمقها روح �أنثوية؛ وال �أ�ستطيع �أن �أتعاطى مع �أي �شيء دون �أن �أ�ؤنثه؛ �إذا فنجان القهوة الذي
�أرت�شفه الآن لم �أحوله �إلى �أنثى لم �أ�ستطع على الإطالق �أن �أرت�شفه ،فع ً
ال �أي �شيء �أتعاطاه
يجب �أن �أحوله �إلى �أنثى"((( .وتبع ًا لهذا ،بدت الأنثى -في ق�صائده -لي�ست تكوين ًا ج�سدي ًا
يثير الغريزة فح�سب ،و�إنما غدت خالقة لح�سه الجمالي ،ول�شرنقة �إبداعه ،بو�ساطة
التو�صيفات الت�صويرية المتوهجة ح�سا�سية ،و�شعرية عالية التركيز.
وبتدقيقنا -في فاعلية ال�صور التو�صيفية في المقبو��س ال�ش�عري -نلحظ �أن ال�ش�اعر
يكث�ف م�ن دينام َّي�ة ال�ص�ور الو�صف َّي�ة الت�ي تر�ص�د الحال�ة الجمال َّي�ة الرومان�س� َّية الغزل ّي�ة
ال�شعورية المكثفة؛ مما يعني
َّ المج�سدة؛ بر�ؤى تو�صيف َّية تقتن�ص الدالالت؛ وتعمق الإيحاءات
�شعرية ال�صور التو�صيف َّية -عند �شوقي بزيع -تكمن في اكتنازها جمال ًّيا ،وقدرتها على
َّ � َّأن
حيوي�ة الم�ش�هد م�ن جه�ة ،وتثي�ر
َّ الت�صويري�ة الرومان�س� َّية ،الت�ي تع�زز
َّ لملم�ة ال�ش�ذرات
الح�س� ّية المبتك�رة م�ن جه�ة ثانية؛ كما في ن�س�ق الت�ش�كيالت الرومان�س� َّية التي تدل
ّ ال�ص�ورة
�ش�عرية ،ذات ح�سا�س� َّية ن�ادرة ف�ي اقتنا��ص ه�ذه الت�ش�كيالت
َّ عل�ى خ�صوب�ة فن َّي�ة ،ورهاف�ة
الم�ر -كغاب�ة م�ن
ّ ِ
الحفي�ف ِ
أجنح�ة ال�ش�عري عب�ر فاعل َّي�ة ه�ذه الأن�س�اق�[ :
ّ الم َح ِّف�زة للجم�ال
ُ
- 76 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
انهدام ِك� -شذى كفيك -خ�صلِ الهواء -ماء العناق� -سطح الزمان]؛
ِ لوعة -دم ا�شتهائي� -شفق
الن�ص ّي�ة؛ ويزيد ب�ؤرة تنامي
ّ يقوي المدلوالت
وه�ذا الأ�س�لوب الفن�ي ال�ذي يلج�أ �إليه ال�ش�اعر ِّ
ال�دالالت ،وكثاف�ة الإيح�اءات الرومان�س� َّية ف�ي تحفيز �ش�عرية ال�ص�ور الو�صف َّي�ة ،وتوهجها
َ
ف�وق ٍ
ظهي�رة ووردةَ /لأ َّ
ج�ف ُدونَ ً م�اء ِلل ِْعن ِ
َ�اق/ ِ
أغوي�ك ً �إبداعي� ًا؛ كم�ا ف�ي قول�ه" :و�أُ ُ
ري�د ك�ي �
المكان"؛ �إذْ � َّإن الن�سق الو�صفي ال ير�صد دينام َّية ال�صور ،وحركة الن�سق فح�سب ،و�إنما ِّ
يولد ْ
�أن�س�اق ًا ت�ش�كيل َّية؛ تخت�رق مدل�ول الو�صف الخارج�ي� ،إلى عمق المعان�اة الغزل َّية ،و�صخب
�شعرية
َّ الم�شاعر العاطف َّية المترامية الأطراف في خ�صوبتها ،ومنحاها الفني؛ وهذا يعني � َّأن
�شعرية تو�صيف َّية للم�شاهد ،واللقطات ،والر�ؤى المدركة ب�شكل مبا�شر؛ و�إنما
َّ البزيع لي�ست
�شعرية �ش ّفافة؛ مما يجعلها ذات تدفق ،و�إيحاء �شعوري عميق؛ وهذا
َّ هي خرق للم�ألوف بلغة
�شعرية الق�صيدة ،وبلورتها الن�سق َّية الفاعلة على الم�ستويات كلها؛
َّ الأ�سلوب المتنامي ي�ؤكِّ د
كما في قوله:
"�أم�شي �إليكِ
وال �أرى �إ َّال �سرابَكِ
في الدفات ِر
والبيوتِ ،
�سفن ُم َح َّمل ٌة برائح ِة الرما ِد ك�أَ َّنما ٌ
تعيدني نحو البداي ِة
ُك َّلما حاولتُ َل ْم�سكِ
دائماً تتجد َ
َّدين
ودائماً �أن�سى الطري َق �إلى يديكِ ؛
وتولدينْ ...
يفي�ض عن ال�سما ِء من الدموع، ُ م َّما
مراكب ال تعو ُد
َ ومن
ومن ق�صا�صات الحنينْ "(((.
- 77 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ن�شير بداية �إلى �أن ال�صور الو�صفية هي من مفرزات ع�شق البزيع للأنثى ،لهذا ،غلب
على �إيقاع لغته العذوبة؛ �أو الأنوثة على حد تعبيره؛ �إذ يقول " :لغة بدر �شاكر ال�سياب لغة
�أنثوية؛ لأن فيها هذه الرقة ،فيها هذا القدر من الم�شاعر ،من الغنائية ،حتى الإيقاعات
فيها انحناء ،فيها نوع من التهدج ،فيها ن�سبة الماء مرتفعة ،وهذا ،يحتاج طبع ًا �إلى
درا�سات معمقة فيما بعد ،لكن على الأقل �أنتمي فيما يجوز لي �أن �أتحدث عنه �إلى لغة
الأنوثة� ،أ�ستطيع �أن �أزعم ذلك خا�صة ،و�إنني �-أي�ض ًا� -أعتمد على الغنائية في الكتابة،
و�أ�ستفيد �إلى حد بعيد من الفولكلور ،ومن ال�صياغات التعبيرية ال�شعبية ،طبع ًا ال �أقع
فري�ستها ،ولكني �أحاول �أن �أجرها �إلى مناطق �أكثر حداثة و�أكثر طزاجة ..وال�شعراء -ب�شكل
�أو ب�آخر -عليهم �أن ي�ؤنثوا العالم ،لكي يكتبوا،عليهم �أن ي�ؤنثوا اللغة بحد ذاتها"(((.
وعموم ًا؛ ف�إن البزيع ارتقى بفنية ال�صورة الو�صفية �إلى درجة �سامقة من الت�شعير،
خا�صة عندما ي�ضفي على ال�صورة م�سحة من نفثاته ال�شعورية العاطفية المحمومة بنيران
ال�صبابة والع�شق؛ وهذا ما نلحظه في المقبو�س ال�شعري؛ �إذ يرتقي ال�شاعر بن�سق ال�صور
الو�صفية الغزلية التي تج�سد �إح�سا�سه وم�شاعره الم�ضطرمة ،بنيران ال�صبابة ،والوجد،
والع�شق بح�س ت�أملي ي�ستغرق ال�شاعر في م�ؤثراته �ش�أنه في ذلك �ش�أن �شعراء الرومان�سية
العظام ،ك�أمثال "رامبو" ،و"بودلير"؛ نظر ًا �إلى قدرتها الفائقة على تو�صيف الحالة
ال�شعورية ،بنفثها العميق ،وتوترها المحتدم في �أغوار قرارة الذات ال�شعرية؛ وهنا؛ تبدو
ال�صورة -لديه -متحولة ،وذات حراك ان�سيابي ر�شيق في ن�سقها؛ لتتحرك وفق نفثاته
ال�شعورية ،وانفعاالته الداخلية ،المحتدمة على �شاكلة ال�صورة التالية[ :كلما حاولت
لم�سك دائم ًا تتجددين ..ودائم ًا �أن�سى الطريق �إلى يديك وتولدين ...ومن ق�صا�صات الحنين]؛
وهذا يدلنا على �أن� :شعرية ال�صور الو�صفية في الق�صائد ال�شوقية �شعرية دينامية نابعة من
ن�سيجه اللغوي التعبيري الآ�سر من جهة؛ والحرارة العاطفية المتقدة التي تفرزها ال�صور
الأنثوية المعطاءة بفي�ضها الداللي وعمقها الإيحائي من جهة ثانية .ومن ثم ،تت�أكد
�شعريتها ببراعة ما امتلكته من رقة رومان�سية في ق�صائده؛ وهذا ما �أقره في قوله�" :أعتقد
ب�أنني مدين للطبيعة بمعظم عنا�صر تجربتي ال�شعرية؛ ومن يقر�أ �شعري ال بد ،و�أن يجد
ظال ًال للطبيعة ،حتى ولو لم يكن المو�ضوع عن الطبيعة ،و�إنما الخلفية ،و�إنما ال�صورة،
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .439-438
- 78 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
و�إنما الن�سيج التعبيري مقتطع من ذلك العالم الذي تمت خ�سارته في الواقع؛ ولكنه ي�سكن
دائم ًا في داخلي ،ويالحقني �أينما ذهبت ،وبالمنا�سبة �أنا لم �أكتب عن بيروت رغم حبي
ال�شديد لها؛ لم �أ�ستطع �أن �أتفاعل مع المدن �شعري ًا؛ لذلك ،تمثل الطبيعة هي الينبوع ،وهي
الم�صب النهائي بالن�سبة لي"(((.
وتزداد �شعرية ال�صور الو�صفية -في ق�صائد �شوقي بزيع -بمقدار تفعيلها للحدث� ،أو
الر�ؤيا ال�شعرية ،وبمقدار ما تتفاعل ال�صورة الو�صفية مع ب�ؤرة الحدث� ،أو جوهر الر�ؤية
ال�شعرية.
َط ِّففيني كي �أر َّد عن ا�شتهائي
تهم َة الخ�سرانِ ؛
وامحيني لي َّت�ض َح ا�شتعالي
في ظال ٍم �أنتِ ُ�ش ْب َه ُت ُه الوحيد ْه
للرو ِح جِ ْذ َو ُتهَا
الوقوف الم�ستم ُّر ُ ولي هذا
على �شفي ِر ال�صمتِ ،
ما من م َّر ٍة � ْأح َب ْبتُ
ال بالأُنوث ِة ازددت جه ً �إ َّال ُ
وانت�سبتُ �إلى َهوَىً �أخرى
و�أ�سئل ٍة جديدهْ...
ال مو َج ُي ْر�سيني على ب ٍّر
وال �أنوا َء َت ْد َف ُعنِي �إلى بحرٍ ؛
َفقط هذا الت�ش ُّر ُد
والتر ُّد ُد
والعبو ُر الم�ستحي ُل
من الن�سا ِء �إلى الق�صيد ْة"(((.
-1المرجع نف�سه� ،ص .425
-2بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .481-479
- 79 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
الالفت للنظر -قبل الولوج �إلى عالم الن�ص� -أن ال�صور الو�صفية -عند �شوقي بزيع-
ذات من�ش�أ ريفي ،فهي رعوية في ن�سقها ،وت�شكيلها التو�صيفي المكاني؛ وهذا دليل �شعرنته
للطبيعة الريفية التي ن�ش�أ،وتربى ،وترعرع في �أح�ضانها ،فكانت رافده الرئي�س ،لإفراز
مثل هذه ال�صور في ق�صائده؛ وهذا ي�ؤكد ولعه بالطبيعة الريفية قائالً� " :أنا �أرى ب�أن ال�شعر
من بين الفنون جميعها ذو من�ش�أ ريفي بامتياز؛ لأن ال�شعر يتغذى من المخيلة ،والمخيلة
تحتاج �إلى م�سرح �شائع لكي تقتطع منه ما ت�شاء ،وهذا الم�سرح هو الريف ،هو القرية؛
ولهذا ال�سبب معظم �شعراء العالم هم �شعراء ريفيون ،ولي�سوا مدنيين ،هم ي�أتون �إلى
المدينة في مرحلة الحقة لكي ي�صقلوا تجاربهم عبر تفاعلهم مع الآخرين؛ بو�صفها �أي المدينة
حا�ضنة لهذه الثقافات الخام الواردة من بيئات ريفية مختلفة؛ وال�شاعر ذو من�ش�أ ريفي
بامتياز ،لأنه في الريف ..تجد العالم ال متناهي ،وغير محدود؛ يعني -دائم ًا -هناك
جدلية بين الب�صر والب�صيرة ،بين الأر�ض وال�سماء ،بين المرئي والالمرئي"(((.
والمالحظ �أن تفاعل هذه ال�صور الو�صفية جاء نتيجة ت�أثره العميق بالبيئة ،وال�سعي
المده�ش لتحفيزها ،وتحريكها بهذه ال�صور التو�صيفية المتتابعة ،ودليلنا المقبو�س
ال�شعري ال�سابق� ،إذ يكثف ال�شاعر ال�صور التو�صيف َّية التي تزيد من درجة فاعلية ال�صور
الغزل َّية؛ ذات الإيحاء ال�شعوري المحتدم ،والعمق الت�شكيلي المباغت؛ لتبدو ال�صور ُم َف َّعلة
�شعورية عميقة؛ حيث نجد -في هذه الق�صيدة -تج�سيد ًا عاطف ًّيا �سامق ًا،
َّ ن�سقي ًا؛ ب�إيحاءات
وفاعلية ت�صويرية دقيقة تخفي وراءها رقة عاطفية ،وت�أنق ًا لفظ ًّيا؛ وروعة ت�شكيل َّية؛ ت�ؤكِّ د
ال�شعورية؛ � َّإن قارئ هذه الق�صيدة ي�ستهويه
َّ اكتناز ال�صور الرومان�س َّية ال�سابقة بالإيحاءات
اللغوية التي تخترق حاجز الم�شابهة الب�سيطة �إلى الإغراق في ابتكار الأن�ساق
َّ مح ِّفزاتها
الم َب ِّئرة
ال�شعورية ُ
َّ �شعرية ال�صور؛ وب�ؤرتها الغزل َّية؛ ومداليلها
َّ الت�شبيه َّية التي تزيد درجة
�شعرية
َّ لغوي �سابق هو ت�شعير غير معتاد لل�صور الو�صف َّية التي تنزع �إلى
ّ للر�ؤية؛ فكل ن�سق
اللغوية المح ِّفزة للقارئ؛ لإثارة الده�شة ،والمفاج�أة
َّ �شعرية الإدها�ش ب�أن�ساقها
َّ االختالف؛ �أو
الر ِ
ماد -ق�صا�صات ِ
برائحة َّ �سفن ُم َح َّمل ٌة
ٌ الن�ص ّية؛ كما في الأن�ساق الت�شبيه َّية التالية[ :ك�أنَّ ما
ّ
ِ
الخ�سران� -شفير ال�صمت]؛ وهكذا؛ تبدو ال�صور َ
تهمة الحنينَ -ط ِّففيني كي �أر َّد عن ا�شتهائي
الجمالي في ق�صائد �شوقي بزيع؛ وهذا ي�ؤكِّ د لنا� :أن �شعريته
ّ الو�صف َّية مثيرة في اكتنازها
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .425
- 80 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
- 81 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
المالحظ -بداية� -أن ال�صورة المركبة في ق�صائد �شوقي بزيع ترتكز على التكثيف
والتفريع ،لأنه يعي �أن تجربة المبدع -بالأ�سا�س -تجربة معقدة كواقع الحياة ذاته ،لهذا
ينبغي على ال�صورة �أن تت�شعب تدلي ً
ال على تمثيلها للحياة بواقعها الحي المبا�شر؛ وهذا ما
�أكده في قوله� " :أنا من الذين يعتقدون �أن ال�صورة هي �أ�سا�س في الكتابة ال�شعرية ،وال
�أ�ستطيع �أن �أتخيل �شعر ًا خارج الم�شهدية ،خارج الت�صوير الب�سيط �أو المركب .اللغة
ال�شعرية التي ال تحيلني �إلى م�شهد هي لغة ذهنية على وجه العموم؛ وهي لغة تفكير ،وهذا
ما يوقع الكثير من ال�شعراء في الجفاف ،وفي البرود الذهني� ،أنا -على العك�س من ذلك-
�أنا من الذين يرون في الق�صيدة لوحة متكاملة ،متعددة العنا�صر ،مختلفة ال�صور ،ويجب
على هذه اللوحة �أن تكون مرئية بالن�سبة للقارئ ،حتى لو لم تكن هذه الر�ؤية متوفرة بكل
جزئياتها؛ ولكن هناك �شعور ينتاب القارئ ب�أن هذا العمل قد م�سه -ب�شكل �أو ب�آخر -وهو ما
- 82 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
توفره ب�شكل �أ�سا�سي ال�صورة ال�شعرية"((( .وهذا دليل �أن :ال�صورة المركبة هي جزء من
مغامرة ال�شاعر في ت�شكيل ال�صورة؛ لأن ال�صورة المركبة -من منظوره -هي الأنجع في بث
ت�أمالته -في ق�صائده البوحية ذات المناجاة الإلهية الخال�صة؛ لتغدو قريبة من مالم�سة
دواخل المتلقي ،نظر ًا �إلى �صدقها ال�شعري و�سموها الروحي،
وبتفاعلنا مع المقبو�س ال�شعري وم�ؤثراته الفنية -على م�ستوى ال�صورة -نلحظ عمق
المناجاة الت�أملية ال�صوفية؛ وعمق م�ستتبعاتها ال�شعورية التي تجعل ال�صورة مركبة تقبل
تتابع الر�ؤى ،وتوالي الم�شاعر بحرارتها ،و�صدقها البوحي ال�شفيف ،كما في ال�صور
ال�ضرير] ،وهذا الفي�ض الجمالي في
ْ النور قلبي
َ [و َه ْب ِني ُ�ش َعاع ًا �أخير ًا لكي ُي ْب ِ�ص َر
التاليةَ :
ت�شكيل ال�صورة المركبة لدليل على وعي دقيق ل�شعرية ال�صورة بتعدد �أن�ساقها ،وتالحمها
في منظور ر�ؤيوي متكامل؛ وقد كانت الناقدة راوية يحياوي محقة في قولها� " :أ�صبحت
ال�صورة بالمعرفة والفكر تركيب ًا معقد ًا من عنا�صر كثيرة؛ تجتمع كلها؛ لتحقق الكثافة
المتمثلة في قدرة ال�صورة على احتواء دالالت ال محدودة ،وعواطف مت�سعة ،تقبل على
العطاء الغزير ،وال ي�صل القارئ �إلى فك ال�شفرات �إال بكد عقلي �شاق ،عليه �أن يت�سلح
بمعرفة ،ويحتاج " الن�ص المعرفة" �إلى القارئ المعرفة الذي ي�ستخدم كل الأدوات الممكنة،
ليعيد بناء الداللة وفق الن�ص ،والخارج الن�صي"(((.
وما ينبغي الت�أكيد عليه� ،أن فاعلية ال�صورة المركبة تزداد كلما توهجت المناجاة،
واحتدمت م�ؤثراتها الفنية؛ للتدليل على الوله ال�صوفي ،لدرجة التملك الروحاني المطلق،
كما في قوله:
أطلب الآ َن �شيئاً �سِ َوى � ْأن �أنا ْم " ال � ُ
الخطوات الثقيل ُة للموتِ ُ ُّ
تحف بي
ث َّم تجي ُء الحبيب ُة
أر�ض فوقي كي ُت ْ�سدِ َل ال َ
وتم�ضي ُم َت َّوج ًة با ْنكِ�ساراتِها
وبجلدي الذي لم َي َز ْل عالقاً
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .445
-2يحياوي ،راوية� - 2008 ،شعر �أدوني�س(البنية والداللة) ،اتحاد الكتاب العرب ،دم�شق�،ص .133
- 83 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
بداية ،ن�شير �إلى �أن جمالية ال�صورة المركبة -في ق�صائد �شوقي بزيع -تنبع من
خ�صوبة منظوره العيني لما ر�آه في زمن الطفولة؛ فال�صورة المركبة -لديه -وليدة ر�ؤى
مركبة ،وحياة مليئة بالمرئيات؛ يقول ال�شاعر م�ؤكد ًا حكمنا النقدي� " :أما �سبب هذه
الم�شهدية في �شعري فهو يود �إلى انتمائي �إلى عالم ريفي ،عالم مليء بالمرئيات ،مليء
بالم�شاهد� ،أ�شعر ب�أنه لي�س هناك من منطقة فارغة في عيني بالمعنى الرمزي� ،إن عيني
ممتلئتان بكل الأطياف الممكنة التي ي�ستطيع طفل �أن يحتفظ بها منذ لحظة والدته؛ وهنا،
�أتذكر مقولة كا�ستون با�شالر التي يقول فيها[ :ب�أنه ال �شعر غني بال طفولة غنية ،وال طفولة
غنية بال �صور غنية �أو م�شاهد غنية]((( .؛ ومن هذا المنطلق،تت�أ�س�س �شعرية ال�صورة لديه
على مثيرات ال�صورة المركَّ بة التي تتنامى تدريج ًّيا؛ ب�إيحاءات ال�صور المبتكرة ،ومداليها
العميقة؛ �إذْ ينقلنا ال�شاعر نقلة مفاجئة من �صور ب�سيطة م�ؤتلفة�،إلى ن�سق ال�صور المركبة
ذات التموج الإيحائي ،والإيقاعات الداللية المنفتحة؛ كما في قوله" :ت�سترجعينَ يدي من
ِ
الغاف َي ْه ب�أعماق روحي"؛ َّ
والالفت -فن ًّيا -هذه أعيد ِ
لك الطفلة المتمو ِج /ثم � ُ
ِّ محيط �أُنُ ِ
وثت ِك ِ
�شاعرية؛
َّ الرهافة ،والتمازج الروحي في خلق ال�صور الرومان�س َّية المركبة ن�سقي ًا بتمظهرات
�شعرية �صوره المركبة تكمن في
َّ تزيد �ألق ال�صورة ،وامتدادها جمال ًّيا؛ مما يعني � َّأن جوهر
هذا الأُن�س الروحي بين التراكيب؛ لتبدو بغاية االكتناز ،والت�آلف ،والتمازج الجمالي في
- 84 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
ال�شعرية،
َّ جزئيات �أو تفا�صيل ال�صور المركبة؛ فال�شاعر ينزع جمال ًّيا �إل��ى تخليق
لغوية متراكمة ،ت�شي
َّ اللغوية المبتكرة ذات الحيازة المركبة لأن�ساق
َّ بالت�شكيالت
الت�صويرية؛ كما
َّ بالتراكب ،والتداخل ،والت�ضافر ،والأن�س الروحي الت�آلفي بين الأن�ساق
الع�صبي
َّ إثر �أخرى تعيدينَ لي وجهي ً
تنهيدة � َ ِ
عواط َفنَا البِ كْ َر ُ
"نفترق الآن؛ نَ ْم ُحو في قوله:
ال�شاعرِ َّية"َّ �،إن هذا الأن�س الت�شكيلي الفاعل ينطوي على كل جزئيات ال�صور ِ و�أ�سئلتي
ِ
للموت/ الخطوات الثقيلةُ
ُ ُّ
"تحف بي ال�شعري؛ كما في قوله:
ّ و�إيحاءاتها المتتابعة في الن�سق
ِ
�ساراتها"؛ وهكذا؛ ت�شتغل جة بانْ ِك تجيء الحبيبةُ كي تُ ْ�س ِد َل ال َ
أر�ض فوقي /وتم�ضي ُمت ََّو ً ُ ثم
َّ
الق�صيدة جمال ًّيا على التمازج ،والت�آلف الروحي بين حركة الدالالت� ،ضمن ن�سق ال�صورة
المركبة؛ التي تتنامى تدريج ًّيا �ضمن الن�سق الن�صي العام.
مما يعني �أن ثمة حركية تقود �صوره المركبة مبنية على بعد ر�ؤيوي ومنظور مغاير
لما هو معتاد في بناء ال�صورة؛ �إذ �إن من متطلبات بناء ال�صورة الحداثية المعقدة �أن ت�ؤدي
�إلى ك�شف ما في باطن النف�س من منعرجات ومظاهر وجودية محتدمة ،فما تعقيدها وتعدد
طبقاتها �إال دليل تعقيد الذات في وجودها وقلقها الدائم؛ وهذا يدل �أن " البناء الجديد
للق�صيدة تعبير معقدعند مقارنته بالق�صيدة الكال�سيكية ،فلقد انبثقت �أ�شكال بنائية متقدمة.
وبد�أ ال�شاعر يهجر المبا�شرة والتقريرية ،ويعتمد الإيحاء ،والرمز ،والبناء بال�صور
ال�شعرية ،عن طريق �إيحاء معادالت مو�ضوعية ،النفعاالته ،و�أفكاره ،وتجاربه"(((.
التوالدية� ،أو ال�صور المركَّ بة ،بمراكبة
َّ وقد ُي َف ِّعل ال�شاعر �شوقي بزيع ن�سق ال�صور
الأ�سئلة الرومان�س َّية الت�أملية المفتوحة التي تُ ِّ
حرك ن�سق ال�صور ،وتتبع حيثياتها،
وجزئياتها ال�صغيرة؛ كما في قوله:
القمح؟
ِ "لماذا على ركبتيكِ فقط يلتوِي ُع ُن ُق
َمنْ �أنتِ كي ُت ْف�سِ دِ ي ُخ ْلو َة الرو ِح؛
لي�س من �ش�أ ِن ِه كي ُت ْقحِ مي الج�سديَّ بما َ
و ُي َ�س ِّمم َث ْغ ُركِ
ما َء
المراهق ِة
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .285-284
- 85 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
المنفج ْر
ولماذا �إذا ا�ستندتْ راحتاكِ
على قمرٍ ل ِّي ٍن �أَ ْن َك�سِ ْر؟"(((.
الالفت بداية� ،أن ال�صورة المركبة -في ق�صائد �شوقي بزيع -تعتمد على اللطف،
والتركيز ال�شائق في ر�سمها؛ فهي ا�ستطراد في تكري�س متعلقات الأنثى جمالي ًا بالطبيعة،
لتغدو جزء ًا من الطبيعة ،و�أ�س ًا جمالي ًا من �أ�س�سها ومفرزاتها الر�ؤيوية ،ولهذا ،وجد
البزيع في ال�صورة هذه القوة المغناطي�سية التي ت�شده �إلى طيف الأنثى ،وت�أ�سره نب�ض ًا،
و�إح�سا�س ًا ،وت�شده �إلى الطبيعة في الآن ذاته؛ لأنها (الأنثى /والطبيعة) خا�ضتا ال�شاعر
�إبداعي ًا ،وهذا الحلم النقدي �أثبته ال�شاعر �شوقي بزيع ب�صريح العبارة في قوله� " :إن
الأ�شجار بالن�سبة لي كانت تنويع ًا على الأنوثة كانت �شك ً
ال من �أ�شكال �أنوثة العالم ،التي
�أحن �إليها� ،أو العودة �إلى رحمها .ولكن مع ذلك �أعتقد �أن في داخلي ما لم �أكتبه بعد حول
هذا المو�ضوع ،يمكن �أن �أكتبه في زاوية� ،أو في ديوان �آخر ،لأن م�شهد الحلم كان م�شهد ًا
�سريالي ًا لي بالكامل"((( .وهو -بذلك -ي�ؤكد �أهمية الطبيعة والأنثى في ت�شكيل �صوره ،لأن
ال�صورة المركبة هي ال�صورة الحية التي تالطف العين -على حد تعبير (ديال كروا) الذي
يقول " :الت�صوير هو قوة �ساكنة ت�ستولي على قدرات النف�س كلها"((( .لتجعلها ت�صب في
ب�ؤرة الحراك ال�شعوري والذهني ،ال�ستجالء مظهرها الح�سي الجمالي الم�ؤثر الذي ولد لذة
ب�صرية �إثر تجميعها �أمام حدقة الر�ؤية.
وبالنظر في م�ؤثرات ال�صورة المركبة جمالي ًا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ دقة ما
تر�سمه من خالل رومان�سية ال�صورة ،وت�سا�ؤالتها الت�أملية المفتوحة التي تخ�صب الن�سق
بهذا الإتقان؛ والتر�سيم ال�شعوري الدقيق ،واالرتقاء في حراكها الجمالي ،لتلم�س دواخل
الذات الم�ؤنثة �أو الذات الهائمة ع�شق ًا؛ بهذه االن�سيابية الآ�سرة التي ت�ستجر الإيحاء من عمق
ما تختزنه من رقة �شعورية ،وفخامة عاطفية مرهفة ،كما في ال�صور المركبة ت�سا�ؤلي ًا
- 86 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
وحراك ًا داللي ًا " :لماذا على ركبتك فقط يلتوي عنق القمح؟ لماذا �إذا ا�ستندت راحتاك على قمرٍ
أنك�سر" ،بهذه الجمالية في تر�سيم ال�صورة هي من ديباجة �شعراء الطبيعة العظام
ْ ٍ
لين �
الذي ي�ستطيلون في جزئيات ال�صورة ،ور�سم �أبعادها �أمثال رامبو و�شيلي؛ ودانتي و�آخرين.
وقد يعمد �شوقي بزيع �إلى مراكمة حروف العطف للربط بين جزئيات ال�صور المركبة،
لتحفيزها وخلق تما�سكها،وترابطها في ال�سياق الن�صي ،كما في قوله:
" لأُحِ َّبكِ َت ْل َز ُمنِي َ�شه ٌ
َوات َم َع َّز َز ٌة بال ُق َب ْل
رغبات ُم َد َّع َم ٌة بد ٍم طاز ٍج ٌ لأُح َّبكِ تلزمني
و�شهو ِر ع ََ�س ْل
زفرات �إ�ضاف َّي ٌة
ٌ وتلزمني
ومجال�س تعزية، ُ
وندوب ُم َط َّع َم ٌة بالذهولِ ؛ ٌ
ات ُر ْعبٍ ، وطا�س ُ
َ
رات لأ�صحو على �صوت ِِك المنتح ْر وتلزمني ُق َّب ٌ
لكِ َط ْبع ُال�صنوب ِر لي ً
ال
وهج ال�شم�س"(((. ......وطب ُع المعادنِ في ِ
بداية ،ن�شير �إلى �أن البزيع قد يلج�أ �إلى تقنية العطف المتتابعة للحاق بركب
الحيثيات الجزئية المت�شعبة لن�سق ال�صورة المركبة في ق�صائده .تدلي ًال على بالغة ال�صورة
-لديه -القترانها بالجانب النف�سي الذي يدفعه �إلى تكرار بع�ض الأن�ساق ،واال�ستغراق في
المعطوفات ،لتتبع م�ؤثرات هذه ال�صورة ،وامتدادها �ضمن الن�سق ،وقد الحظ �أحد النقاد
ا�شتعال الق�صيدة الحداثية بهذا النوع من الربط في مالحقة ال�صور المركبة؛ التي تعتمد
الروابط الظاهرة �أو الخفية؛ للو�صل بين الحيثيات والوحدات الن�صية؛ �إذ يقول� " :إن قارئ
الن�ص ال�شعري المعا�صر يالحظ مخالفة ال�شاعر المعا�صر لهذه القاعدة ،وتجاوزه لوظيفة
�أدوات الربط ،و�أحرف العطف ،لخلق طرق جديدة في بناء ن�صه ،وفي �شكل تتحقق فيه
الوحدة على نحو ين�سجم مع التجربة النف�سية ال�شعورية ،وبالنتيجة تتجلى بالغة الغمو�ض
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� /2ص .285
- 87 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
من خالل هذا العمل المتجاوز لطرق البناء الن�صي المعتاد؛ فالربط النف�سي �أ�ضحى هو الخيط
الوا�صل بين الأدلة ،لأنه يتيح للكتابة �أن توا�صل تدفقها بطالقة وتلقائية ومن �إخ�ضاعها
(((
للقواعد النحوية التي تفتر�ض وجود �أدوات الربط بين الجمل والكلمات والوحدات اللغوية"
تتفرع جزئياتها في
َّ وهنا؛ ت�شتغل الق�صيدة جمال ًّيا على مثيرات ال�صورة المركَّ بة التي
أملي الغزلي الذي يبثه في
المد الت� ّ
ّ الن�ص؛ تفرع ًا تام ًا بوا�سطة تتابع حروف العطف ،لر�صد
ّ
ثمة براعة ن�سق َّية تخطها هذه ال�صور في
ال�شعري الواحد؛ مما يعني � َّأن َّ
ّ ثناياها؛ �ضمن الن�سق
الت�صويرية الغزل َّية
َّ �شعرية هذه ال�صور بااللتفاتات َّ أملي ،وبعدها الغزلي؛ مفع ًال
مدها الت� ّ
بالق َبلْ لأُح َّب ِك
ُ الرومان�س ّية المفتوحة �أو المركبة؛ كما في قوله" :لأُ ِح َّب ِك تَ لْزَ ُم ِني َ�ش َه ٌ
وات َم َعزَّ زَ ٌة
ومجال�س تعزية،
ُ زفرات �إ�ضاف َّي ٌة
ٌ طازج /و�شهورِ َع َ�سلْ /وتلزمني
ٍ رغبات ُم َد َّع َم ٌة ٍ
بدم ُ تلزمني
ال�شعري هذا التماوج
َّ الم َركَّ بة في ن�سقها وندوب ُم َط َّع َم ٌة بالذهولِ "؛ � َّإن ّ
�سر بداعة ال�صور ُ ٌ
إبداعي بين الأن�ساق الت�شكيل َّية التي تزيد الحركة الغزل َّية خ�صوبة جمال َّية ،وده�شة �إبداع َّية ّ ال
من خالل حركة الأن�ساق المرك َّبة في ّْ
بث دالالتها و�إيحاءاتها الرومان�س َّية الخ�صبة بالت�أمل،
[�شهوات ُم َعزَّ زَ ٌة
ٌ واالنفتاح ال�شعوري العميق؛ وهذا ما نلحظه في هذه الأن�ساق المركبة:
ندوب َّ
مط َعم ٌة بالذهولِ ]؛ � َّإن هذه الأن�ساق ٌ طازج و�شهور ع�سل...
ٍ رغبات ُم َد َّعم ٌة ٍ
بدم ٌ بالقبل-
�شعرية
َّ مركبة تركيب ًا رومان�س ًّيا تخط جمالها ب�إيقاعها وتناميها الت�شكيلي؛ وهنا؛ تبدو
الق�صيدة متمركزة على هذا المد الت�أملي الغزلي الذي يبثه في حركة الدالالت؛ بتمازج فني،
اللغوية المثيرة،
َّ �شاعرية ت�ستقي مظاهر �إثارتها بتمظهراتها
َّ وائتالف ن�سقي عجيب؛ بلغة
واكتنازها الجمالي التنظيمي الفني؛ وعلى هذا "،تقع على عاتق ال�شاعر المبدع مهمة
حيوية اللغة والعودة بها �إلى براءتها التي تكمن فيها الده�شة والنقاء وبهجة
َّ ا�ستنها�ض
التلقي(((؛ وال�شاعر �شوقي بزيع يرتقي بف ّن ّية الق�صيدة من ن�سقها الت�شكيلي الت�شبيهي الم�ؤتلف
ال�شعرية من خالل فاعل َّية
َّ �إلى ن�سق تخييلي مبتكر؛ يرتقي فيه �أعلى درجات الإثارة ،والده�شة
ال�صورة المركَّ بة التي تت�آلف مثيراتها الت�شكيل َّية؛ بوم�ض عاطفي ،وتفعيل ن�سقي مثير.
فا�ستخدام ال�شاعر �شوقي بزيع لتقنية ال�صورة المركبة في تفعيل �أن�ساقه الت�صويرية
لدليل �أنه ال يفتعل ال�صورة افتعا ًال ،و�إنما يخلقها من نب�ض ال�شعور ،وعمق الإح�سا�س
-1عبو ،عبد القادر - 2007 ،فل�سفة الجمال في ف�ضاء ال�شعرية العربية المعا�صرة ،اتحاد الكتاب العرب ،دم�شق� ،ص.137
-2الب�ستاني ،ب�شرى - 2011 ،في الريادة والفن� ،ص .99
- 88 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
الداخلي �أو الجمالي بالأ�شياء ،فال يغامر بن�سق ال�صورة بق�صد االفتعال �أو اال�صطناع الفني
الجاف� ،إذ �إن" ا�ستخدام الأدوات التكنيكية والأ�شكال التعبيرية الجديدة ب�شكل مفتعل ودونما
�أ�صالة ..يتحمل في �أحيان كثيرة م�س�ؤولية �إغراق الر�ؤية تحت �ستار كثيف من ال�ضباب
الخانق ،خا�صة عندما يكون هذا اال�ستخدام لأغرا�ض زخرفية م�صطنعة� ،أو لال�ستعارة
المبتذلة ،وبمعزل عن النمو الداخلي للتجربة الحية"(((.
تنم على معرفة
ّ التوالدية �أو المركّ بة -عند �شوقي بزيع-
ّ و� َّإن مرجعية ال�صور
ت�شكيل ّية،وت�ضمين فائق لمثيرات التاريخ والتراث ال�شعبي ،والأ�سطرة،والموروث الأدبي
الن�ص ّي؛ وتُ َع ُّد �صوره المركبة ذات
ّ القديم؛ بح�سا�س َّية فن َّية مفرطة في اال�ست�شفاف والتفعيل
ت�صويرية مبتكرة؛ كما في قوله:
َّ حيازة ن�سق َّية لأ�شكال
"بغت ًة وعلى حين َغ َّره
َت َت َك َّ�ش ُف �شيئاً ف�شيئاً َ
لك
ُ
الحرون ُ
المفردات
و َت ْم َتل ُِئ الرو ُح بالأخيلهْ.
تنه�ض ال ِّر َم ُم ال ُم ْه َملَهْ. بغت ًة ُ
ح�ضي�ض َتلَ ْع ُثمِ هَا،
ِ من
ال َحها؛ وقد �ضا َع م َّ
حكم ُة االحتكا ِم �إلى �ساحلٍ للرجو ِع
تثوب �إلى ر�شدها ُ
من جديدٍ ؛
ك� ْأن ل�ستَ �أنتَ الذي كا َن
ير�سب قبل قليلٍ ُ
آ�سن
كم�ستنقع � ٍٍ
تحتَ َ�صدْع عذابا ِت ِه الفاغِ ر ْه"(((.
-1حمود ،محمد - 1986 ،الحداثة في ال�شعر العربي المعا�صر ،بيانها ومظاهرها� ،ص .169
-2بزيع� ،شوقي - 2011 ،مدن الآخرين ،دار الآداب؛ بيروت� ،ص .19-18
- 89 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
بداية ن�ؤكد �أن ح�ضور ال�صور المركبة بكثافة -في ق�صائد �شوقي بزيع -دليل على نهج
�شعري ال يتخلى عنه ال�شاعر في جل دواوينه ،خا�صة ديوانه المو�سوم بـ[�صراخ الأ�شجار]؛
وهذا يعني �أن ولع ال�شاعر بهذا النوع من ال�صور يك�شف عن الخيط الخفي �أو الخلفية
الت�أملية الوجودية الخفية ل�صوره و�أن�ساقه الت�شكيلية؛ لإبراز حراكها جمالي ًا ،ومحمو ًال
نف�ساني ًا؛ و�شعوري ًا عميق ًا؛ الكت�شاف �أبعاد الذات في دائرتها الوجودية وعي ًا ،وموقف ًا،
و�إيديولوجي ًا.
وبالنظر -في م�ستتبعات ال�صورة المركبة في المقبو�س ال�شعري -نلحظ جمالية
وقعها خا�صة عندما تكون وليدة �إح�سا�س معرفي وعمق في تر�سيم منعرجاتها الذات
�شعوري ًا ،واكت�شاف �أغوارها النف�سية العميقة؛ وهذه البكارة تنبع من الح�س الجمالي للذات
في تر�سيم منعرجات ال�صورة ،وتحميلها ر�ؤى ودالالت جديدة ،وهذا ما نلحظه في قوله:
ره"؛ وهذا ِ
الفاغ ْ عذابات ِه
ِ �ص ْدع
تحت َ
َ كم�ستنقع � ٍ
آ�سن ٍ ير�سب قبل قليلٍ
ُ أنت الذي كانَ
ل�ست � َ
َ "ك� ْأن
يقرب المنظور النقدي الذي طرحه �شلوف�سكي؛ حول فاعلية ال�صورة ،ومقدار ما تثيره في
الن�سق؛ �إذ يقول� " :إن ال�صورة ال تهدف �إلى تقريب دالالتها من فهمنا ،ولكن �إلى خلق �إدراك
خا�ص لمو�ضوع� ،إلى خلق ر�ؤيا له ،ولي�س �إلى التعرف عليه"(((.وهذا دليل �أن ال�صورة هي
وليدة وعي فني في توظيف ال�صورة التوالدية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تنبع �أ�ص ً
ال من
فانتازيا المنظور الوجودي لهذا العالم؛ فيخلق جمالية الن�سق بهذه ال�صور التوالدية
ال�شعرية في تو�صيف الأنثى؛ ال�ستثارة محمولها الجمالي المكثف ،كما في قوله:
" و�أنتَ ،
نبي
كعيني ٍّ ّ غريباً
وه�شاً كمخد ِع �أنثى. َّ
ومغرورقاً مثل ٍ
نبع حديثِ الوالد ِة
بال�شعرِ؛
تم�ضي بال عود ٍة
في عرا ِء الكتا َب ْه"(((.
-1تودوروف ،تزفيتان - 1986 ،نقد النقد ،تر� :سامي �سويدان ،من�شورات مركز الإنماء القومي ،بيروت ،ط� ،1ص .32
-2بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .22-21
- 90 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
-1هيدغر ،مارتن - 1977 ،نداء الحقيقة ،تر :عبد الغفاري مكاوي ،دار الثقافة ،القاهرة� ،ص .180
- 91 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
ّ -3
فنيّة الصورة التشخيصيَّة /أو المؤنسنة:
ونق�صد بـ [ال�صورة الت�شخي�ص َّية� /أو الم�ؤن�سنة] :ال�صورة التي تعتمد �إيقاع الت�شخي�ص
مثير ًا فن ًّيا فاع ًال في تحريك بنية ال�صورة؛ وتحفيز دالالتها؛ بو�صفه �أي الت�شخي�ص م�صدر
ت�صويريا وحراك ًا �شعوري ًا؛ �إذْ � َّإن �إيقاع
ًّ �إ�شراق ال�صورة ،وب�ؤرة تفعيل الدالالت؛ واكتنازها
تح�س ،وتعي،
ّ يحولها �إلى �شخو�ص ح َّية،
ِّ الأن�سنة ي�سهم في بث الحركة في الجماد؛ حين
وت�شارك ال�شاعر همومه ،وم�آ�سيه ،و�أفراحه و�أتراحه،فت�أ�سى لحاله،وتفرح لفرحه ،ك�أنها
�شخو�ص حية تعي وتت�ساءل؛ وتُ َع ُّد ال�صور الم�ؤن�سنة من �أبرز �أنواع ال�صور �إثارة ،وتحفيز ًا
في ا�ستقطاب المتلقي؛ وتعزيز الدالالت؛ ولذا؛ ف� َّإن اكتظاظ �أ�شعار �شوقي بزيع بهذا النوع من
الت�صويري ،ودينام َّية الدالالت ،وتناميها جمال ًّيا؛
ّ ال�صورُ ،ي َع ُّد دلي ًال على حرك َّية الن�سق
وهذا ما جعله يحتفي بهذا النوع من ال�صور ،لأن ال�شاعر المبدع -بمنظوره -هو القادر دوم ًا
على رفع �سوية المو�ضوع� ،أو ال�صورة ،تبع ًا لمنظوره المتجدد ،وعمق �إح�سا�سه بال�شيء
المج�سد �أمام عينيه� ،إذ يقول� " :أن ال�شاعر العظيم يمكن �أن يكت�سب �أهميته من طريقة مقاربته
للأ�شياء؛ �سواء �أكانت هذه الأ�شياء ق�ضايا كبرى� ،أو كانت تفا�صيل جزئية ب�سيطة ،ممكن �أن
يكون ال�شاعر �شاعر ًا ر�ؤيوي ًا ،ويكون �شاعر ًا كبير ًا كما هو حال المتنبي؛ �أو جالل الدين
الرومي� ،أو حافظ ال�شيرازي� ،أو عمر الخيام� ،أو �أدوني�س ،ويمكن �أن يكون ر�ؤيوي ًا؛ ويكون
�شاعر ًا �سيئ ًا ،لأنه لم ي�ستطع �أن يتمثل الر�ؤيا ،عبر �شعر حقيقي وجميل ،ومتميز ،ومغاير...
يمكن لل�شعراء �أن يقاربوا مو�ضوعات ب�سيطة كالحديث عن حجر� ،أو ورقة مرمية في الطريق،
�أو الحديث عن مجلى� ،أو مغ�سلة؛ واالرتقاء بها ،وتحويلها �إلى ق�ضايا كبرى� ،إذن لي�س
المو�ضوع هذا الذي يحدد قامة ال�شاعر ،ولكن المقاربة ال�شعرية المهمة ،لي�س ماذا �أكتب،
ولكن كيف �أكتب؟ وكيف �أحول هذا المكتوب �إلى ما هو �إ�شكالي� ،أو �إبداعي"(((.
وقد وظف البزيع هذه التقنية بما يالءم �إح�سا�سه العاطفي الغزلي الذي ي�ضج
ح�سا�سية ،وتوق ًا عاطفي ًا للأنثى حين ًا؛ والواقع ال�شعوري الرثائي اليائ�س الذي ي�ضج
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .437
- 92 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
بالحداد حين ًا �آخر؛ فت�أتي ال�صور الم�ؤن�سنة ،لت�شارك ال�شاعر �أفراحه ،و�أتراحه� ،إح�سا�س ًا
و�صدى منك�سر ًا في كثير من الأحيان ،كما في قوله:
ً جارح ًا،
"ورد ٌة ِل ْل َعا�شِ قينْ
ْ
القتيل لل�صبح
ِ ورد ٌة ُت ْومِ ُئ
وال�ص َبا َيا َي ْب َت ِع ْد َن الآ َن عن �أعرا�سِ هنَّ َ
الأنبيا ُء ا ْن َت َظ ُروا �أيَّ �إل ٍه
ْ
للرحيل. والمنادي ُل ْا�س َت َع َّدتْ
ورد ٌة للج�سدِ ال َم ْق ُطو ِع للينبوع
للحلم الذي َي ْق َر�أُ َج ْو َع النائمينْ ِ
وحدا ٌء َبا ِر ٌد للم ِّيتينْ "(((.
بداية ،ن�شير �إلى �أن ثمة مفردات تتكرر في تجربة ال�شاعر �شوقي بزيع ،وتمثل
هاج�س ًا في ق�صائده كمفردة(الحلم) ،ومفردة(الن�سق)� ،أو(الحب)� ،أو مرادفاتها؛ وقد اقتربت
هاتان المفردتان بحالة من التال�ؤم ،والتالحم ،ف�أينما وجدت مفردة ال بد و�أن ت�أتي قرينتها
في ثنايا ق�صائده ،ب�صور م�ؤن�سنة تبعث في الن�سق �إح�سا�س ًا حيوي ًا طاغي ًا؛ وك�أنه ي�ستعيد
طاغ في ق�صائده الحلم التاريخي الذي �شاهده ،وك�أن
بتكراره عالم الحلم ،والع�شق ب�شكل ِ
ملهم ديوانه(�صراخ الأ�شجار)� ،إذ يقول� " :إن ديوان (�صراخ الأ�شجار) انبج�س من حلم ر�أيته
هل كنت ما �أحابي هذا الحلم"(((.
ومن هذا المنطلق ،جاء توظيف ال�شاعر لهذه التقنية ب�ؤرة تفعيل ال�صورة ،ومنبع
حراكها؛ ودليلنا � َّإن الكثير من الن َّقاد يعدون الت�شخي�ص مركز ح�سا�س َّية ال�صورة؛ ومركز
َّ
ولعل �أبرز ما ح�سا�س َّية ال�شاعر في تحريك الأ�شياء؛ ومكمن �إبداعه ،وتخييله الفني ال�شائق؛
�شعرية فائ�ضة
َّ تنم على
ّ يم ِّيز ن�سق المقبو�س ال�سابق تراكمه بال�صور الم�ؤن�سنة التي
ال�شعرية ب�إيقاع الأن�سنة
َّ بالح�سا�سية ،والنب�ض ال�شعوري العميق؛ �إذْ ُي َف ِّعل ال�شاعر ال�صور
ب�إك�سابها �صفات �أو ممار�سات �إن�سان َّية؛ ال يمار�سها �إ َّال �أفراد الب�شر الحقيقيون؛ َّمما يجعلها
- 93 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
�ش َّفافة في تو�صيف الحالة ،من خالل بث الحركة ،والدينام َّية في �أجزاء ال�صور؛ لتع ِّبر
ت�ستعد
ّ �شعوريا عن معاناته ،ومكابداته الغرام َّية؛ �إذْ يجعل المناديل
ًّ نف�سي ًا� ،أو نب�ض ًا
إن�سان ِ
يوم ُئ لل�صبح القتيل؛ وكل الأ�شياء ت�شاركه لوعته ٍ والورد ك�
ُ للرحيل ك�شخو�ص ح َّية،
ولعل �أبرز ما ُيح ِّفز ال�صور الت�شخي�ص َّية� ،أو الم�ؤن�سنة �أنها
َّ الغرام َّية؛ �إزاء �أحبائه الراحلين؛
خا�صة
ّ ذات فاعل َّية ق�صوى في التحفيز ،والتعبير عن م�شاعر عاطف َّية تتغور باطن اللذات؛
أ�سى؛ كما في قوله: ً
�صبابة و� ً ال�شعورية المحتدمة �أو الم�صطهجة
َّ في المواقف
"�آهَ ،منْ يطلق �أقماراً على الليل و�أزهاراً على العط ِر
ْ
الرغيف؟ و َمنْ يطلقها نحو
رك�ضتْ بيروت في �أُ َّبه ِة النا ِر القتيلهْ.
نهائي.
ال ِّ حملتْ حزن ال�شبابيكِ ودا َرت في الفراغ ال َّ
الذي يف�صل بين البرقِ والأمطارِ؛
ال�سائب في فو�ضى اللغاتْ . ُ ُ
بيروت الد ُم
وحدها َت ْعر ُِف ُح ْز َن العا�شقاتْ "(((.
ال ب َّد من الت�أكيد بداية �أن البزيع يتالعب بن�سق ال�صورة وفق تقنية" ترا�سل الحوا�س"؛
�إذ " فيها يتم نقل داللة الكلمة في اال�ستعارة من حا�سة �إلى �أخرى ،مث ً
ال من اللم�س �إلى
الذوق� ،أو من ال�سمع �إلى الب�صر"((( .وهذا ما يمنح ال�صورة -لديه -بريقها الإيحائي
ورافدها المتجدد على الدوام؛ فاال�ستعارة -لديه -تمثل تالعب ًا في م�شهديتها ،وحركتها
الداللية؛ لإدها�ش المتلقي و�صالحه بما ال يتوقع؛ وت�أتي تقنية الأن�سنة لتحرك الح�س
ال�شعوري مع دفق اللغة ،وك�أن اللغة تتحول �إلى دم حيوي يبث في عروق كلماته �ضمن
ن�سقها الن�صي من الإح�سا�س ،والفاعلية ،والتموج ،والإيقاع الذي ال يهد�أ؛ وهذا الإيقاع نابع
من روح عا�شقة ،متمردة على الم�ألوف ،والمكرور؛ ليتحول العادي في ق�صائده �إلى �شيء،
ال م�ألوف وغير عادي بهذا التوجيه العالئقية للخيط الداللي الخفي الذي يربط الأن�ساق،
ويزيد جمالية ال�صورة ،وحراكها ال�شعوري المتدفق .ودليلنا �أن ال�شاعر -في المقبو�س
- 94 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
- 95 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
و�إيحاءاتها؛ وت�شبيهاتها ّ
الالمتوقعة ،ب�إحكامها ومماحكتها الدالل َّية؛ وممغنطتها لح ِّيز
الرومان�سي الخ�صيب؛ كما في قوله:
ّ الر�ؤية ومدلولها
" َل ْم � ْأج َت ِر ْح ُ�س ُفناً لأَ ْن ُجو؛
كل ما َحاول ُت ُه ُّ
� ْأن �أُنق َذ الإن�سا َن َّ
في
ولو َعلَى َل ْو ٍح �أخي ْر...
أغاني القديم ُة ما َتتْ � َّ
وا ْن َح َنى ظه ُر ال�سماواتِ التي ُح ِّم ْل ُتهَا
ال �صغي ْر طف ً
أر�ض خاوي ٌة وال ُ
أحاول � ْأن ُ�أرم َم بالمو�سيقى � ُ
ما تنا َث َر من ُز َجا ِج نجومِ هَا
فو َق ال�سري ْر..
و�أُ�ضي ُء �س َّل َمها ٍ
بلحن
لم َي َز ْل ي�شتدُّ في � َّ
أذني
فافتح �أ ُّيها العالي؛ ْ
ُ
أو�صدت، الباب الذي � افتح َ
�أتعبني ال�صفي ْر!" (((.
بادئ ذي بدء ن�شير �إلى �أن ال�صورة الم�ؤن�سنة -في �أن�ساقه ال�شعرية -تمثل ذروة
االلتهاب ال�شعوري وقمة التفريغ العاطفي ،وما تحريك الأ�شياء من حوله �إال �إيذان ًا بحراك
الداخل ،ليتفاعل مع الخارج ،خا�صة عندما يتعلق الخارج بالأنثى الحلم� ،أو الأنثى
الأ�سطورة �أو الأنثى -الوجود(�أنثى الذات)؛ باخت�صار� -إن ال�شاعر �شوقي بزيع -يلون ال�صور
تلوين ًا نابع ًا من تجربته الداخلية ،وحنينه �إلى االلت�صاق بالمكان؛ والأنثى تمثل له هذا
المكان المتجدد� ،أو الحنين الدائم �إلى الأمكنة الالملتقطة �أو الأمكنة الالموطوءة؛ وهذا ما
� -1شوقي بزيع - 2005 ،الأعمال ال�شعر ّية ،ج.443-442 /1
- 96 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
ينطبق كذلك على الأنثى لديه؛ فلدى ال�شاعر �شوقي بزيع حنين دائم �إلى الن�ساء الالملتقطات
ٍ
وم�ستع�ص �أو الن�ساء الممانعات؛ فال�صورة -لديه -هي معادل وجودي كينوني لما هو بعيد
وممانع؛ لهذا يختار ال�صور الممانعة �أو ال�صور المبتكرة التي تمانع القارئ عن فك بكارتها
وجدتها بركب جماحها؛ وهذا ،ما يمنح ال�صورة -لديه� -سمة العمق ،والتجاوز ،والجموح،
واالنفالت.
متعددة الم�شارب
ّ �شعرية �شوقي بزيع
َّ وبالنظر -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن
ال�شعرية؛ فهو في ن�سق الأن�سنة ،والت�شخي�ص ُي َح ِّلق بال�صورة �إلى
َّ والدالالت ،واالتجاهات
ال�شعري بدينام َّية ال�صور
ّ مرتبة من الإح�سا�س والعمق ال�شعوري؛ �إذْ يبلور البزيع الن�سق
الت�شخي�ص َّية �أو الم�ؤن�سنة؛ لتبدو ال�صورة متحركة لديه ن�سق ًّيا ب�إيقاع ال�صور الم�ؤن�سنة التي
تزيد درجة فاعلية ال�صورة ،وقدرتها على محاثية ال�شعور الداخلي؛ الذي يعت�صر الذات؛
أر�ض خاويةٌ� /أحاولُ � ْأن
�صغير /وال ُ
ْ ال ِ
ال�سماوات التي ُح ِّم ْلت َُها طف ً ظهر
كما في قوله" :وانْ َحنَى ُ
ال�سرير"..؛ والالفت � َّأن محفزات ال�صورة
ْ فوق نجوم َها َ ِ اج َ
تناث َر من زُ َج ِ �أُ ِّ
رم َم بالمو�سيقى ما
تتعزز دالل ًّيا ،بالتمظهرات الن�سقية التي تزيد ب�ؤرة تفعيل الدالالت؛ وحيازتها ِل َك ٍّم هائلٍ من
ت�ضج بها حركة ن�صو�صه الداخل َّية؛ كما في قوله" :ماتت
ّ الر�ؤى ،والم�شاعر الم�صطخبة التي
الت�صويري ب�إيقاع ال�صور
ّ يحرك الن�سق
ِّ �أغاني القديمة� ...أتعبني ال�صفير"؛ فال�شاعر
ال�شعوري؛ وذكرياته القديمة التي �أتعبته بالحنين والأحالم
ّ الم�ؤن�سنة؛ داللة على واقعه
الما�ض َّية �إلى المحبوبة التي ما زالت ت�شده �إلى حليب ع�شقها؛ وهنا؛ تبدو ال�صور الم�ؤن�سنة
ال�شعورية ،والعمق
َّ فاعلة في تحريك الدالالت؛ مما يجعلها غاية في الإيحاء ،والكثافة
الت�أملي.
وتُ َع ُّد ال�صورة الم�ؤن�سنة -في �شعر �شوقي بزيع -ذات امتداد ن�سقي ،وتفاعل مثير بين
وال�ضاجة بالخ�صوبة،
َّ الأ�شياء؛ لإثارة الحركة الحيوية في جميع الأ�شياء المحيطة به
والحيوية ،والإ�شراق؛ كما في قوله:
"�أ ُّيها ُّ
الحب،
يا َمنْ َت َغ َّمدْتها بِ�شفاهِ َك كال َّنه ِر
ك َيما تكو َن يتيم َة َم ْج َر َ
اك؛
كي ال ُت َع َّري لفجرٍ �سِ َو َ
اك
- 97 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
بداية ن�شير �إلى �أن ال�صورة الم�ؤن�سنة �أو الت�شخي�صية -لدى ال�شاعر �شوقي بزيع -
وليدة �سبر الأغ��وار ال�شعورية العميقة �إزاء مو�ضوعة الحب ،ومتعلقاتها من �صبابة،
و�شوق ،وهيام ،ووجد ،وجرح ،وت�صدع ،و�ألم ،فهو ي�أن�س بالأ�شياء ،ويبثها م�شاعره،
ونفثات قلبه �أن�سه بالحبيبة ،لهذا ،تبدو ال�صورة رحم النب�ض ال�شعري لديه ،ومكمن
خ�صوبة ق�صائده ،وقد كان الناقد عبد الرحيم �سليلي محق ًا حين �أعطى ال�صورة هذه القيمة
الإبداعية �أو الهاج�س الإبداعي في النتاج ال�شعري ،لتكون المدخل الرئي�س لدخول عوالم
ال�شاعر ،وا�ستكناه �أعماق �أعماقه؛ �إذ يقول " :فحينما نقول ال�شعر كتابة بال�صور� ،أو ت�صوير
بالكتابة ،ف�إننا نعترف �ضمني ًا ب�أن ال�صورة ال�شعرية ،ولي�س الوزن ،هي الهيكل الرئي�س
الذي تتفرع عنه باقي الأع�ضاء ،والظواهر الم�ؤ�س�سة لبنيان الن�ص ،والق�صيدة ال تعدو �أن
تكون مل�صق ًا ،قد يتكون من �صورة واحدة ،كما هو ال�ش�أن مع تجربة ق�صيدة الوم�ضة� ،أو
ق�صيدة اللحظة ال�شعرية المكثفة؛ وقد يتكون من مجموعة م�شاهد يجمع بينها �سياق �شعوري
وجمالي موحد؛ باخت�صار ،ال يمكن ت�صور �أي توا�صل مع �أي تجربة �شعرية ما لم نعتمد
الت�صوير و�سيط ًا بين اللحظة المعي�شة واللحظة الإبداعية ،كما ال يمكن التو�صل �إلى �شعرية
ن�ص دون ر�صد قدراته الت�صويرية التي من �ش�أنها �أن تمنحه �سمة العمق واالنفالت"(((.
وهذا القول ي�ؤكد �أحقية ال�صورة في تلم�س ما خفي من نب�ض ال�شاعر و�أحا�سي�سه
ال�شعورية المحتدمة لحظة المخا�ض ال�شعري.
وبالنظر -في مغريات الأن�سنة �أو الت�شخي�ص في المقبو�س ال�شعري -نلحظ بداعة
ال�صورة ووقعها العاطفي ال�شعوري المثير على المتلقي ،فعندما يكون للحب �شفاه تتحثث
الأ�شياء ،وتمنحها نب�ض الع�شق والهيام ،ال بد من ق�شعريرة جمالية تنتاب القارئ �إزاء
تلقي مثل هذه ال�صور ،وكذلك الحال عندما ي�صغي النبع ،ويتعرى الفجر ،وت�سدل المحبوبة
- 98 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
خ�صالت �شعرها على الفجر ،وتمت�شق بثدييها �أعلى القمم ال بد من �أن ت�أخذك ال�صورة �إلى
وبناء على هذا ،ن�ؤكد �أن ق�صائد
ً عالم �آخر تحلق فيه؛ وت�سكر روحي ًا ب�صفائه وغنجه الفني،
�شوقي بزيع تنحو جمالي ًا بال�صور الرومان�سية ذات الح�س الجمالي الغزلي الرهيف �أكثر
من كونها �أداة للتذويق ال�شعري� ،أي تتحول ال�صورة الم�ؤن�سنة من دورها البنائي الوظيفي
في الن�سق لتكون محور ارتكازها الداللي ،ووقعها ال�شعوري الخ�صيب.
وهذا ما ينطبق تمام ًا على باقي �أن�ساق الق�صيدة ،كما في قوله:
"يا َمنْ َت َع َّه ْد َتها بالأ َناملِ والد َّْم ِع،
اليتيمين،
ِ �سفن َكتفيها كيما ت�ضي َء بال ٍ
واجتزت �أهدا َبها كالأناجيلِ َ
كيما تري َق �شتاءاتِها
فو َق �صحرا َء طاعن ٍة في ال ِق َد ْم
و�أجريتَ في ظلماتِ يديها
عيوناً من ِّ
ال�شك
تنحل �أ�شوا ُكها �أذرعاً من َن َد ْم ُّ
الحب؛
�أ ُّيها ُّ
العا�شقين وبلب َل �أحزانهم َ يا خنج َر
و�شقي َق الدمو ِع الأ�ص ْم
ُردَّها كوكباً �أو �صن ْم
ُردَّها مثلما ُخ ِل َقتْ
َ
الحنين كي �أُناز َل هذا
الذي تت�صاي ُح غربا ُن ُه
في �أعالي الأَل ْم"(((.
ما ينبغي مالحظته بداية� :أن �شعرية البزيع تن�أى في بنية ال�صورة -تحديد ًا -عن
نمطية اال�ستهتار الن�صي� ،أو العبث في هيكلية ال�صورة ،لقلقلتها ،وت�شظيها الم�شو�ش
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .563-562
- 99 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
لل�شعرية؛ بمعنى �أنه يبتعد بال�صورة عن ن�سق التلغيز ،والتجريب ال�شعري ،فهو يبتعد عن
تلك الموجة التي �شوهت الن�ص الحداثي؛ و�أق�صت متلقيه ،وبهذا الخ�صو�ص يطرح ال�شاعر
عبد الرحمن �سليلي هذه الإ�شكالية؛ �إذ يقول " :لقد �شوهت الحداثة الم�ستهترة الن�ص ال�شعري،
و�أخرجته عن مداره الكوني ،وجعلت منه مجرد قطعة جامدة ال تجد حركيتها �إال في ذهن
ال�شاعر الحداثي الم�سكون بهو�س الغمو�ض والالمعقول؛ ورغبة التجاوز واالنطالق �صوب
الف�ضاءات العذراء دون �أن يحاول ا�ستكناهها .في حين نجد الكال�سيكية المتحجرة ال ت�ستطيع
�أن تخرج عن دائرة محاكاة القديم رغم ا�ستعمالها ب�شكل الق�صيدة الجديدة؛ لأن ال�شكل وحده
لن يح�سم في ق�ضية ت�صنيف العمل الأدبي ،ما دام الم�ضمن ال يختلف عن �سابقه الذي �أنتج
في عهد كان منه الإن�سان العربي ال يحلم ب�أكثر من ناقة ،وجواد ،وم�سافات ،تتنا�سل على
طول ال�صحراء ،وخيمة ت�ضيئها امر�أة في غيابه ،باخت�صار :فقد �صرنا �أمام ف�صلين متنافرين
ي�سعيان العتالء عر�ش كل ما هو متعلق بال�شعر داخل حدود امبرطوريتنا الإيحائية التي
ت�ستحق رغم �ش�ساعتها وغزارة �إنتاجها �أن ننعتها بلقب �أمبرطورية الأنقا�ض لأنها لم تعد
تقدم لنا �إال حروب ًا وخرائب م�صحوبة بقليل من ال�شعر نادر ًا ما يكتب له �أن يبرح خنادقه،
لي�صل �إلى القراء الموجودين دائم ًا خارج حدود هذه المملكة"(((.
وبالنظر -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر يعتمد ال�صور الم�ؤن�سنة التي تثير
القارئ بمنحاها الت�أملي وكثافتها الإيحائ َّية؛ �إذْ ينتقل ال�شاعر بمثيرات �صوره الغزل َّية من
ح�سي تج�سيدي �ساكن� ،إلى طابع حركي مثير؛ من خالل �إيقاع الأن�سنة؛ لتكثيف الر�ؤى
طابع ّ
ت�صويرية
َّ "الحب" ،و"النهر" ،و"الفجر"؛ ب�أو�صاف ّ ال�شاعرية ،م�ؤن�سن ًا الدوال التالية
َّ
ظلمات يديهاعيون ًا
ِ أجريت في
َ َّ
�شفافة؛ ت�شي باالئتالف والعمق الت�أملي؛ كما في ال�صور التالية� " :
خنجر العا�شقينَ "؛ �إنَّ من يت� ّأمل في
َ الحب -يا
ُّ أ�شواكها �أذرع ًا من َن َد ْمُّ � /أيها
ُ ُّ
تنحل � ِّ
ال�شك - من
الت�صويرية ال�سابقة ب�إيقاعها الت�شخي�صي الم�ؤن�سن يدرك فاعل َّية ال�صورة؛ في تحفيز
َّ الأن�ساق
اللغوية التاليةَ " :
فوق َّ ال�شعري طابع ًا رومان�س ًّيا؛ من خالل الأن�ساق
ّ القارئ؛ و�إك�ساب الم�شهد
أ�صم"؛ �إذْ �إنَّ
الدموع ال ْ
ِ َ
�شقيق َ
وبلبل �أحزانهم- خنجر العا�شقينَ ،
َ الق َد ْم - ٍ
طاعنة في ِ �صحراء
َ
الت�صويرية تُ ح ِّفز القارئ ،وتزيد دينام َّية ال�صورة ،وحركتها الإيحائ َّية
َّ اللغوية
َّ الأن�ساق
المك َّثفة؛ َّ
والالفت �أنَّ مثيرات ال�صور الم�ؤن�سنة تزداد �ألق ًا ،ون�ضج ًا فن ًّيا من خالل كثافة ال�صور،
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .106
َّ
التجسيدية: ّ -4
فنيّة الصورة
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى �أن ال�ص��ورة التج�س��يدية -ف��ي ق�صائ��د �ش��وقي بزي��ع -تمثل
لعب��ة الح��راك ال�ش��عوري ،والك��د الذهن��ي ف��ي �آن� ،أي تجم��ع ف��ي طيفه��ا الداللي بي��ن الحراك
ال�ش��عوري المتدف��ق عب��ر ان�س��يابية ال�ص��ور الم�ش��تقة م��ن حق��ل الأنث��ى والطبيع��ة ،والمكان،
والمماحك��ة الذهني��ة ب�أن�س��اق جدي��دة غي��ر متوقع��ة ،يق��ول �ش��وقي بزي��ع " :ال�ص��ورة لعب��ة
الزم��ان ف��ي الم��كان ،وحرك��ة الم��كان ف��ي الزم��ان؛ فهي تدخ��ل ثناي��ا ق�صائدي لتحي��ي عروق
اللغ��ة ،وتب��ث ف��ي الق�صي��دة نب���ض الحياة ،الذي ال ي�أتي �إال من �إح�سا���س م�أزوم؛ فال�ش��عر فن
م��أزوم ،ف��ن يت�أت��ى م��ن الأزم��ات؛ �أي م��ن �أزم��ة العالق��ة بي��ن ال�ش��اعر ومحيط��ه ،بين ال�ش��اعر
وج�س��ده ،ب��ن ال�ش��اعر وقلب��ه ،بي��ن ال�ش��اعر والحرية ،بين ال�ش��اعر والمر�ض ،بين ال�ش��اعر
ومرور الزمن ،بين ال�شاعر والموت"(((.
ومن هذا المنطلق ،جاء توظيف البزيع لل�صورة التج�سيدية نابع ًا من وعي ،وامتالك
�إبداعي حقيقي لأدوات��ه ال�شعرية ،ومرجعيته الم�شتقة من حقل الطبيعة والأنثى وعبق
الجنوب اللبناني الذي �أ�ضفى على مخيلته ال�شعرية �أفق ًا متنامي ًا على الدوام.
وبالنظر -في فاعلية ال�صور التج�سيدية في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
ُّ
"تنحل ال�شعرية؛ كما في قوله:
َّ التج�سيدية التي تُ َك ِّر�س الدالالت والإيحاءات
َّ يكثف ال�صور
الع ِ
ا�شق"؛ � َّإن التج�سيدات ال�ش ْه َو ِة في َج َ�س ِد َ
غبار َ
َ ُّ
تر�ش كواكب َخ ْ�ض َر َ
اء/، َ ع�صافير الليلِ
ُ
اللغوية التالية:
َّ الب�صرية التي يخلقها بت�شبيه �صورة مج�سدة ب�أخرى ،كما في الأن�ساق َّ
"الزمن الرخو -الحلم الفتَّان -ذاكرة الخ�ضرة -غبار ال�شهوة"؛ يزيد فاعلية الن�سق ،وقدرته
على التخ�صيب الإبداعي ،و�إذا ت�أملنا ال�صور التي تخطها هذه الأن�ساق وجدنا تنام ًّيا
جمال ًّيا ،وقدرة فائقة على االبتكار� ،إذْ ينقل ال�شاعر ال�صور من داللة �إلى �أخرى؛ وهنا؛ ينقل
ٍ
هيئة �إلى هيئة �أخرى؛ ومن ماه َّية ن�سقية معينة؛ �إلى ماه َّية ويحولها من
ِّ ال�شاعر ال�صورة
ن�سقية �أخرى؛ لتحقيق منتوجها الإبداعي؛ َّ
والالفت � َّأن المح ِّفزات الت�شكيل َّية تثير القارئ
التج�سيدية التي تبعث الإيحاءات المتتالية؛ وهذا يدلنا على � َّأن "ما يحدث
َّ بماه َّيات ال�صور
بين ال�شعر والفنون الأخرى هو نوع من التداخل الذي من �ش�أنه الإبقاء على �إ�شارات من
�شعرية؛ ولذلك؛ فما يحدث هو عمل َّية مزج فن َّية
َّ للفن المتداخل؛ لكن بهيئة
ّ الهوية الأ�صلية
تحول الفن المتداخل من حقله الخال�ص �إلى حقل فني جديد؛ � َّإن ال�سرد -في ال�شعر -ال َي ْب َقى
ِّ
-1بزيع� ،شوقي - 2010 ،مدن الآخرين ،دار الآداب؛ بيروت ،ط � ،1ص .65-63
اعتياديا؛ لأنَّ ُه غادر �أُفقيته �إلى التكثيف ال�شعري؛ والرق�ص -في ال�شعر -ال َي ْب َقى ذلك
ًّ �سرد ًا
يتحول من حرك َّية الج�سد؛ �إلى حرك َّية
َّ الرق�ص الذي ي�ؤثث الفراغ في الحركة الممو�سقة؛ لأنَّ ه
اللغة؛ التي يقوم ال�شاعر فيها بتن�سيق مبدع بين الحركة ،والإيقاع؛ والفن الت�شكيلي ال
يح�ضر بعدته بل يتحول �إلى �شعر تر�سمه اللغة ،من خالل قدرتها على ت�شكيل ال�صور؛ وما
ّ
والظل؛ وغيرها من �أفاده ال�شعر من فنون الت�صوير بالكاميرا ،وال�سيناريو ،والإ�ضاءة؛
الفنون ال�سينمائ َّية كلها؛ كانت �إ�شارتها قائمة فيه من قبل؛ لأنَّ ه فن الت�صوير بجدارة؛ �إ َّال �أنَّ ه
مع تطور هذه الفنون الجديدة ا�ستطاع �أن ِّ
يوظف تطورها لتغذية ق�صيدته؛ و�إثرائها بتحويل
المنجزات �شعر ًا"(((.
والمالحظ �أن التج�سيد -في �شعر �شوقي بزيع -تنقل ال�صورة من ح ّيز ن�سقي �إلى �آخر؛
الأمر الذي يجعلها ذات خ�صوبة جمال ّية خا�صة؛ عندما ينتقل ال�شاعر بمثيرات ال�صورة �إلى
هيئة جديدة غير متوقعة ذهني ًا للقارئ؛ وتك�سر حاجز �إدراكه ،ومعارفه المعتادة؛ وهذا ما
نلحظه في قول ال�شاعر �شوقي بزيع في ق�صيدته المو�سومة بـ [كهبوب الحنين على امر� ٍأة
راحلة] ،التي �أهداها �إلى الفنان مر�سيل خليفة؛ قائالً:
على َهد ِْي � ْأم َوا ِج َ�ص ْوت َِك
ُ
الوحيدات َت ْر ُفو ال ِّن�سا ُء
في َل ْي ِلهِّن
ثياب ال َت َ�شهِّي؛ َ
ال�سما ُء التي َي ْقطِ ُر الدم ُع من ُع ْر َيها
في الأغاني
تزف انبال َج ال�صبا ِح ُّ
يا�سمين ال ُق َرى
ِ �إلى
والق�صائ ُد َت ْم�شِ ي �إلى ُي ْتمِ هَا
ُد ْو َنما بو�صله"(((.
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن ال�صورة التج�سيدية -في ق�صائد �شوقي بزيع -ترتقي
حيز النمنمة �أو التو�شية في ذرك�شة الم�شهد الرومان�سي ب�ألوان زاهية؛ فهي بناء لوني
للن�سق ،ولهذا ،تحفل ال�صور بالتر�سيمات الإيحائية؛ وال�صور الم�شتقة من حقل الطبيعة،
لت�ؤكد حداثويتها من جهة ،وغناها بالم�ؤثرات الب�صرية (التملي العيني) لل�صور المرئية من
جهة ثانية؛ وما غنى ق�صائده ب�شتى �أنواع ال�صور �إال دلي ً
ال على خ�صوبتها ومنحاه الجمالي
الظاهر للعيان منذ الدفقة الأولى في رتم ق�صائده؛ يقول الناقد محمد حمود " :وما غنى
ال�شعر الحديث بالحقول ال�صورية ،والرموز �إال تعبير عن تحول هذا ال�شعر �إلى فعل وجود،
وحالة ح�ضارية وما عادت بنية ال�شعر بنية وا�ضحة مبا�شرة خطابية ،و�إنما �أخذت �شكل
�شبكة تفي�ض بال�صور ،ولقد تخطت ال�صور الم�ألوفة؛ فلم تعد مجرد �ضوء محدد فيزيائي ًا؛
�إنما ارتبطت بمنابع غنية ،وبخيال معقد ،وببيئة قلقة ،وب�إح�سا�س مده�ش ،كما �أن ال�صورة
لم تعد التركيب الذي يو�ضح المعنى ،و�إنما هي البنية الم�س�ؤولة عن التما�سك بين جزئيات
ال�سياق ال�شعري ،وعن االن�سجام في كيان التجربة ،وتقريب الم�سافات"(((.
وبالنظ��ر -ف��ي جمالي��ة ال�ص��ورة التج�س��يدية ف��ي المقبو���س ال�ش��عري -نلح��ظ فاعلية
يج�س��دها؛ وي�ضفي
ِّ يو�س��ع طيف الدالالت الغزلية حين
بنائها �ضمن الن�س��ق كما لو �أن ال�ش��اعر ِّ
عليها تر�س��يم ًا �ش��عوري ًا نابع ًا من ده�ش��ة الإ�سناد� ،إذ تتجلى محفزات هذا الإ�سناد في اقتنا�ص
�دات ف��ي َل ْي ِل ِّه��ن ال�ص��ور التر�س��يمية المده�ش��ة ،كم��ا ف��ي ال�ص��ور التالية(تَ ْر ُف��و النِّ�س� ُ
�اء الوحي� ُ
�اح �إل��ى يا�س��مينِ ُ
الق� َ�رى"؛ �إن ه��ذه ال�ش��ذرات الت�صويري��ة �اج ال�صب� ِ �اب الت ََ�ش� ِّ�هي -ت� ُّ
�زف انب�ل َ ثي� َ
ت�ؤكد -بلغة �ش��عرية �آ�س��رة -وعي ال�ش��اعر الدقيق بفاعلية ال�صورة التج�س��يدية الح�س��ية في
تقري��ب المرئي��ات بمنظ��ورات جدي��دة ،مما يعن��ي� " :أن اختيار ال�صورة الح�س��ية للتعبير عن
التجرب��ة لي�س��ت ع�ش��وائي ًا كم��ا �أن التجرب��ة ال تول��د �أو ًال ،ث��م تدف��ع ال�ش��اعر �إل��ى التعبير عن
�ص��ور ف��ي الطبيع��ة ،ليج�س��د تجربت��ه� ،أو ر�ؤي��اه� ،إنم��ا التجرب��ة وال�ص��ورة يول��دان مع� ًا،
تقول (�إيفا ك���ش) �إن اختيار ال�صورة ال�ش��عرية لي���س ع�ش��وائي ًا؛ لأن ال�صورة ال�صادقة الأ�صلية
جذوره��ا دائم� ًا ممت��دة ف��ي التجرب��ة المح�سو�س��ة المج�س��دة ال ف��ي الت�ش��بيهات �أو المقارن��ات
المجردة"(((.
-1حمود ،محمد - 1986 ،الحداثة في ال�شعر العربي المعا�صر ،بيانها ومظاهرها� ،ص .91
-2المرجع نف�سه� ،ص .101
وبناء على هذا؛ تتمتع ال�صورة التج�سيدية بخ�صو�صيتها الإبداعية في �شعر �شوقي
ً
بزيع ،مما يعني امتالكها لمختبرها الإبداعي الم�شهدي في تج�سيدها ،و�إبراز َّ
جل طاقاتها
الإبداعية؛ وقد كان �إيليا حاوي محق ًا في قوله� " :إن الق�صيدة ال يمكن �أن تنمو نمو ًا ع�ضوي ًا
حي ًا �إال �إذا كان لدى ال�شاعر ع�صب حد�سي يوقع ال�صور ،وي�ضبطها ويمدها بما يبقى على
وحدة الق�صيدة وان�سجامها وت�آلفها .و�إذا انعدمت تلك الذائقة الهند�سية التي تغذي التجربة
وتعدلها ...ف�إن الق�صيدة ت�أتي ركام ًا من الخاليا المنعدمة ال�شكل ،لأنه لي�س ثمة هيكل
ع�ضوي يحملها ،ويحفظ كيانها ..فكما �أن لكل ع�ضو في الج�سد موقع ًا �أبرزه فيه نمو الج�سد
الطبيعي كذلك ينبغي �أن تنبثق وتنبت كل �صورة في مو�ضع ال ي�صلح �إال لها في ج�سد
الق�صيدة .وال يمكن �أن تتكامل وتبلغ مداها �إال فيه من دون �سواه"(((.
وقد يرى ال�شاعر �شوقي بزيع من ر�شاقة ال�صور التج�سيدية عندما يبرز الجانب
العاطفي؛ ويبث مواجيده بحرارة دافقة ،مثخنة بجراح الع�شق والهيام ،كما في قوله:
"على َهدْي �أ َم َوا ِج َ�ص ْوت َِك
َت ْبكي �صحارىً ُم َب َّلل ٌة بالمناديلِ
َ
الراحلين ُ�س َّكانها
بيوت ُم ُم َّوه ٌة بالحداءاتْ و َت ْغ ُفو ٌ
َخ ْل َف �ستائِرهَا ال ُم ْ�س َد َل ْه
وفي �ضو ِء َ�ص ْي ٍف
ا�س ُه كالأَ ِ
راجيح ُي َهدْهِ ُد � ْأج َر َ
في ُ�ش ُر َفاتِ المنافي"(((.
ّ -5
فنيّة الصورة السورياليَّة:
الداللي؛
ّ ونق�صد بـ [ف ّن ّية ال�صورة ال�سوريال َّية] :ال�صورة التي تقوم على الت�شوي�ش
بكثافة الر�ؤى ،وتداخلها ،وت�شعبها �ضمن الن�سق الت�صويري الكلي؛ �إذْ ت�أتي كل �صورة
بمنحى داللي� ،أو �إيحائي مغاير للأخرى؛ بمعنى �أن الدالالت تتنافر� ،أو تتباعد فيما بينها
ً
يوحدها؛ ويلم �شتاتها ،وت�شظيها �ضمن الن�سق ال�شعري.
ِّ دون رابط داللي �أو �شعوري عام
وتُ َع ُّد ال�صورة ال�سوريالية من م�ستحدثات الق�صائد الحداثية التي عمدت �إلى التكثيف
ت�ضج بها الحالة
ّ الإيحائي؛ والتفريع الداللي؛ نظر ًا �إلى كثافة الم�شاعر ،والر�ؤى التي
المحمل بالأزمات،
َّ ال�شعورية لحظة المخا�ض ال�شعري في معمعة عالمنا الوجودي الم�أزوم؛
والتقلبات ،والجدل َّيات ،والمتناق�ضات ،فكان من الطبيعي �أن تت�شظى ال�صورة ،كت�شظي
الحياة في واقعها الم�شتت اال�صطراعي الذي تعي�شه الذوات في ظل التناق�ض ،واالحتدام
قرائها ،وتتابعهم
الوجودي؛ ولذا؛ ف� َّإن درجة �إيحاء ال�صور ال�سوريال َّية م�ستمرة؛ با�ستمرار َّ
الزمني؛ وقد امتازت �صور �شوقي بزيع ال�سوريال َّية بعبثها الت�صويري ،وت�شوي�شها الداللي
الالمتناهي الذي يغرق في متاهات الر�ؤى؛ والمداليل العميقة الم�ستع�صية؛ فغالب ًا ما يخفي
الكثير من الم�ستبطنات ال�شعورية والر�ؤى الفل�سفية عبر الملفوظات ال�سهلة؛ والمداليل
البعيدة ،كما في قوله:
"كيف لي �أَ ْن �أ َرى ما َت ِر ْي َن
من الكائناتِ التي ب َّر�أَ ْتها اله ََ�ش َ
ا�ش ُة
من ُ�ش ْب َه ِة ا َّللَ ْم ِ�س؟
اال�سم
�أو من كواكب َم ْجهُول ِة ِ
لم َت َ�صلِ ال َ
أر�ض
�إ َّال
ُبعي َد الأُ ْ
فول
َك ْي َف لي؛ مِ ْثلَما ال مبالي ًة
تجعلين الحقيق َة َت ْم�شِ ي على َقد َّ
َمي الكناياتِ ، َ
� ْأن � ْأم َتطِ ي
الج ُمو ِح الخ َيالِ َ ظه َر ُم ْه ِر َ
بج َّر ِة َع ْي ٍن بدائ َّيةٍ،
�أو �أُوائم بين المعاني و�أ�ضدادها
حيث ترتا ُح هانئ ًة
ثعالب داكن ٍةَ ُث َّل ٌة من
في �ضياف ِة
ْ
ك�سول"(((. ديك
ٍ
المالحظ،بداية� ،أن النزوع ال�سوريالي في ت�شكيل ال�صورة -عند �شوقي بزيع -
ال يعتمد ت�شظي الدالالت؛ بق�صد الغمو�ض والت�شوي�ش الداللي؛ و�إنما يلج�أ �إلى هذه التقنية؛
-1الم�صدر نف�سه� ،ص .52-50
لالرتقاء بطاقات الكلمات الإيحائية �إلى تفجير م�ؤثراتها ال�شعورية للت�أثير بالمتلقي؛ �إذ
يتوجب على العمل الإبداعي الرفيع -ح�سب عبد الله حمادي�" -أن يكون م�سكون ًا ومبطن ًا
بتعددية الإف�ضاءات الإيحائية داخل �إطاره الفني الأحادي الذي ينفتح فيه الف�ضاء لفاعلية
مختلف الإيحاءات حتى تهيئ المناخ المتاح لإحداث االنفعال؛ لأن المتلقي وهو يلج �أغوار
الق�صيدة ال ي�ستقبل ظاهرة المعاني المتلب�سة بظاهرة الألفاظ بقدر ما تلب�س �إح�سا�سه معنى
يلون �أن�ساقه بدالالت �شتى عبر هذا النزوع ال�سوريالي
المعنى"((( .وال�شاعر �شوقي بزيع ِّ
المعقلن؛ بمعنى �أن البزيع ال يترك الجمل على �سجيتها ،وع�شوائيتها ،وفو�ضاويتها؛ بق�صد
التعبير عن مختبره ال�شعوري العاطفي المكثف بكل توتر الحالة" ،وا�صطهاجها،
ورجرجتها في �أعماقه؛ و�إنما ي�ضمها وينظمها؛ �إذ ثمة خيط خفي ينظمها" ،ويربط وحدتها
اللغوية بطريقة �شاعرية ممغنطة للر�ؤيا ،تبع ًا؛ لمنطق الذات ،و�إح�سا�سها ال�شعوري
العاطفي المكثف؛ مما يعني -بالت�أكيد -الوعي الفني في ت�شكيلها ،والتالحم والتكامل في
ال ب�صري ًا على بيا�ض ال�صفحة ال�شعرية.
هند�ستها �شعوري ًا وت�شكي ً
وبالنظر -في م�ؤثرات ال�صورة ال�سوريالية في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
تتفرع م�ؤوالتها �إلى مداليل عديدة؛ تبع ًا لحجم
َّ يعتمد ال�صور ال�سوريال َّية العبث َّية التي
يفرع ال�شاعر الدالالت؛ �إلى
ِّ ال�شعرية؛ �إذْ
َّ التر�سيم الذهني ال�سوريالي التخييلي لل�صور
ن�ص ّية مفتوحة على �آفاق ر�ؤيوية خ�صبة؛ وهنا يتالعب ال�شاعر باللغة ،وي�سخرها،
م�ؤوالت ّ
لي َح ِّملها ما ال تحتمل؛ ويكثف دالالتها
ويعبث بم�ؤوالتها؛ رغبة منه في امتطاء �صهوة اللغة؛ ُ
بما ي�شاء ،ويتالعب في اال�ستعارات تالعبه باللغة؛ لإثارة حركتها الجمال َّية؛ وما نزوعه في
ال�صور ال�سابقة �إلى العبث ال�سوريالي �إ َّال دليل رغبته الجامحة في ك�سر حاجز اللغة
لغوية جديدة ت�ضج بالحركة ،تع ِّبر عن الجانب العاطفي
َّ االئتالفي المعتاد ،لخلق �أن�ساق
ِ
الكناياتْ � /،أن الحقيقة تَ ْم ِ�شي على َق َد َّ
مي َ الغزلي المحتدم لديه؛ كما في قوله" :تجعلينَ
بجر ِة َع ْي ٍن بدائ َّي ٍة� /،أو �أُوائم بين المعاني و�أ�ضدادها/
َّ وح/
الج ُم ِ
َ َ
الخ َيالِ ظهر ُم ْهرِ
َ � ْأمت َِطي
�ضيافة ٍ
ديك ك�سولْ "؛ � َّإن المت� ِّأمل -في مداليل ِ ٍ
داكنة في ثعالب
َ هانئةُ /ث َّل ٌة من
ً ترتاح
ُ حيث
-1حمادي ،عبد اهلل - 1995 ،ت�أمل في الخطاب ال�شعري المعا�صر من منظور دالل��ي ،مجلة ال�سيميائية والن�ص
ال من يحياوي ،راوية� - 2008 ،شعر الأدبي� ،أعمال ملتقى معهد اللغة العربية و�آدابها ،جامعة عنابة� ،ص .113نق ً
�أدوني�س(البنية والداللة)� ،ص .149
ه ��و كذل ��ك ،لكن ��ه موج ��ود بعن�صري ��ة الإن�س ��ان ،والجناحي ��ن ولكنهم ��ا ال يجتمع ��ان �إال ف ��ي
الخيال"(((.
َّ
ولعل �أبرز ما يتب َّدى لنا -في �أ�شعار �شوقي بزيع -هو بناء �صوره على العبث
ِّ
مولد ًا حركة ال�سوريالي الذي يزيد حركة الجدل واال�ستغراق الت�أملي في بنية ال�صورة؛
�صاخبة بين الدالالت والمدلوالت المبثوثة التي توحي بها �أجزاء ال�صورة ال�سوريال َّية؛ كما
في قوله:
عين ال�سما ِء القريبة "تحتَ ِ
ُك َّنا نناديهِ،
ال كي ُي َم ِّكننا
وهو بالكاد يقوى
على حملِ �أحزا ِن ِه
من تعقبِ �أ�صوا ِت َنا
في �ضبابِ البدايات
حلم َت َره َّْل
�أو في ت�ضاعيفِ ٍ
ولكن لنبحث ع َّما ن�شدُّ به
�أرز �أقدامِ َنا
ُ
ن�ضعف؛ َ
حين
�أو كي ننا�ش ُد �أعمارنا
ترك�ض جامح ًة كالخيولِ ُ وهي
ب�أَ ْن َت َت َمه َّْل"(((.
ما ينبغي مالحظته بداية� :أن ال�صورة ال�سوريالية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تتلون في
ن�سقها بين التنافر والتجاذب ،والتقارب والتباعد ،والواقعية والخيالية؛ هي -باخت�صار-
-1الزي ��دي ،ج ��واد - 2010 ،فينومينولوج َّي ��ة الخط ��اب الب�ص ��ري ،دار الينابي ��ع ،دم�ش ��ق ،ط �� � ،1ص ،175-174
وينظ ��ر� :ش ��يخ الأر� ��ض ،تي�س ��ير - 1991 ،الفح� ��ص عل ��ى �أ�سا� ��س الفن ��ون ،من�ش ��ورات اتح ��اد الكت ��اب الع ��رب ،دم�ش ��ق،
�ص.183
-2بزيع� ،شوقي� - 2007 ،صراخ الأ�شجار� ،ص .82-81
حركة ارتدادية تجمع بين الح�سيات والذهنيات لمقاربة ما في باطن الذات وعك�س ما في
داخلها على الخارج اللغوي؛ �إذ اعتمد �إغواءات اللغة في تحريك ال�صورة ،لتحقيق لعبتها
الفجائية الر�شيقة المت�سارعة هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية لتعبر عن معاناة الذات بتجريد
اللغة �أو بحركة اللغة ،وعبثها ال�سوريالي(المعقلن) يقول �شوقي بزيع " :كل ما يحمل
معاناة في داخله يحمل بذرة للكتابة ال�شعرية ...فالم�سافر عندما ي�سافر يترك م�سقط ر�أ�سه
يعبر عن فقدان الأر�ض� ،أو فقدان م�سقط الر�أ�س باللغة؛ ويحيل هذه اللغة �إلى وطن بديل
عندما الإن�سان يخ�سر عزيز ًا �أو حبيب ًا عن طريق الفقدان� ،أو الموت يعبر عن هذا الفقدان
�أي�ض ًا باللغة .ال�شعر دائم ًا ي�أتي في لحظات الإح�سا�س بالفقدان ،الإح�سا�س بفوات الأوان
�أي�ض ًا .عندما تغيب العدالة �أو الحرية ويحل الظلم؛ ثمة من يحاول �أن يردم هذه الهوة بين
العدالة والظلم بال�شعر"(((.
فال�شعر خلق لردم هذه الهوة بين الواقع والخيال؛ وما النزوع ال�سوريالي -لديه-
�إال داللة على ردم الهوة بين الوعي والالوعي في ت�شكيل ال�صورة ال�سوريالية ،لتحفيزها،
وتزويقها جمالي ًا.
وبتفاعلنا مع المقبو�س ال�شعري بما يت�ضمنه من م�ؤثرات ال�صورة نلحظ فاعلية
ال�صورة في ر�صد �إح�سا�س ال�شاعر االغترابي المت�صدع؛ ونقل هذه الم�شاعر بال�صورة
ال�سوريالية المرتدة من عمق رجرجة الذات ،وت�صدعها �إلى نبرتها الحاذقة خيا ًال ،وعمق
ِ
�ضباب البدايات �أو في ِ
أ�صواتنَا في ِ
[تعقب � ر�ؤيا ،وم�ساحة تخييل؛ كما في ال�صورة التالية:
حلم تَ َر َّهلْ ]؛ وبهذا المنزع الت�شكيلي يزاوج ال�شاعر في �صوره ال�سوريالية بين
ٍ ِ
ت�ضاعيف
الواقع والمتخيل ،في �إبراز زخم العاطفة؛ وتركيزها ببرود ،و�إحكام ن�سقي معقلن؛ وهذا ما
جعلنا نحكم على �صوره ال�سوريالية ب�أنها �صور �سريالية معقلنة؛ واعية ب�أبعادها،
وم�ؤثراتها؛ وهذا ما نلحظه عبر جمالية اال�ستغراق في م�ؤثراتها وحيثياتها الن�صية.
وثمة �إمعان في تركيز فاعلية ال�صورة ال�سوريالية� ،إذ ترتبط بميتافيزيقيا الطبيعة،
و�أن�سنة المرئيات ،والعبث في المو�صوفات و�أو�صافها؛ للو�صول �إلى قمة التعبير العاطفي على
مواجده ،و�إح�سا�ساته بالأنوثة ،لهذا؛ يرتحل �أحيان ًا �إلى �أجواء العادات اليومية �أو الطقو�س
الأ�سطورية التي تميل �إلى الخرافة؛ للتعبير عن هذا النزوع ال�سوريالي لديه؛ كما في قوله:
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .428
َّ
المشهدية: - 6فنيَّة الصورة
-1المو�سى ،خليل - 2008 ،جمالية ال�شعرية ،اتحاد الكتاب العرب ،دم�شق� ،ص .223
-2عيد ،رجاء - 1985 ،لغة ال�شعر(قراءة في ال�شعر العربي الحديث) من�ش�أة المعارف بالإ�سكندرية ،م�صر� ،ص .17
-1ال�صمادي ،امتنان عثمان� - 2001 ،شعر �سعدي يو�سف؛ درا�سات تحليل َّية� ،ص .161
� -2شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .445
قلنا :جزء من �شخ�صيته ال�شعرية؛ فهو -دائم ًا -م�شدوه العينين �إلى الجمال؛ والتملي الب�صري
في الم�شاهد الحيوية الخ�صبة؛ خا�صة فيما يتعلق بالطبيعة ومغرياتها في خ�ضم بحر
الأنوثة والجمال الأنثوي.
وم��ن يدق��ق ف��ي فاعلي��ة ال�ص��ورة الم�ش��هدية -ف��ي ق�صائ��ده -يلح��ظ �أن تقني��ة ال�ص��ورة
�هدية المثي��رة م��ن �أب��رز محف��زات ق�صائ��د �ش��وقي بزي��ع؛ �إذْ تتج ّل��ى ب�أ�ش��كال متع��ددة،
الم�ش� َّ
نذكر منها:
وال�شاعر بتقنية المونتاج ال�شعري يزيد من تمثيل الم�شهد وتعزيز م�شهدية الر�ؤية ،وهذا
ما نلحظه في المقطع التالي:
ُ
والبيوت �سطو ٌر "
ُي�ؤَ ِّلفنا بحرها كالق�صيدة
بيتاً
فبيتاً
لكي نزن الذكرياتِ بميزانها
ُك َّلما انك�سر اللحن
�أو تاهت البو�صلة"(((.
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى �أن المونت��اج ال�ش��عري ف��ي بني��ة ال�ص��ورة ال�ش��عرية(ذات
اللقط��ات المكثف��ة) عن��د �ش��وقي بزيع يعتمد على ق��وة المفارقة والتباعد بي��ن طرفي ال�صورة؛
وبق��در م��ا ت��زداد ح��دة االنف��راج والتباع��د بي��ن طرف��ي ال�ص��ورة بق��در م��ا ت��زداد ح��دة ال�صورة
ومنب��ع ت�أثيره��ا الجمال��ي ،وبه��ذا المقت��رب الر�ؤي��اوي ،يق��ول (بيي��ر ريفي��ردي) " :ال�ص��ورة
خل��ق ذهن��ي خال���ص ،وه��ي ال يمكن �أن تولد من مقاربة واقعين متباعدين بن�س��بة �أو ب�أخرى،
وكلم��ا كان��ت ال�ص�ل�ات بي��ن الواقعي��ن متباع��دة ومعقولة جاءت ال�ص��ورة قوي��ة ،وكانت �أكثر
ت�أثي ��ر ًا ،وزاد وقعه ��ا ال�ش ��اعري"((( .وعل ��ى ه ��ذا ،تتح ��دد جمالي ��ة ال�ص ��ورة التف�صيلي ��ة
الم�ش��هدية بمقدار الإثارة الب�صرية وجدارة الم�ش��هد الحي الملتقط بحراكه الب�صري� ،ش��ريطة
�أن ال ي�س��تطرد ال�ش��اعر في التفا�صيل الجزئية؛ الأمر الذي يوقع ال�صورة بالتمطيط والإطناب
الذي يرهق المتلقي /الم�شاهد.
وبالنظر في م�ؤثرات ال�صورة الم�شهدية ذات اللقطات المكثفة -في المقبو�س ال�شعري-
نلحظ �إغراقها في ر�صد حيثياتها الجزئية ،وتتابعها الب�صري؛ لدرجة تدعوه يلهث وراءها
ب�صري ًا ومد ًا داللي ًا؛ ولتبيان ذلك نورد مخطط تفريعها التالي:
� -1شوقي بزيع - 2005 ،الأعمال ال�شعر ّية ،ج� ،1ص .255
ال من :المو�سى ،خليل - 2008 ،جمالية ال�شعرية� ،ص .223 -2نق ً
ﺟذور
ٌ اﻟﺑﯾوت *
ﺗﻌود �ﺳ�ﺎﻧﻬﺎ داﺋﻣﺎً
ﻧﺣو ﻧﻔس اﻟﻣ�ﺎن اﻟذ� ﻓﺎرﻗوﻩ
ﻟﺗﻌﺻﻣﻬم ﺷﻣﺳﻬﺎ ﻣن دوار اﻷﻋﺎﻟﻲ
وﻣن طرﻗﺎت ﺗﺷردﻫم ﻓﻲ �ﺳور اﻟﻣ�ﺎن
�إن �إغراق ال�شاعر بالتف�صيالت المكثفة ،بمحاولة التقاط الحيثيات الجزئية بتمامها
يرهق الم�شهد ،نظر ًا �إلى تتابعها التف�صيلي بق�صد التعبير عن زخم الإح�سا�س ال�شعوري لديه
إن إﻏراق اﻟﺷــــــــﺎﻋر �ﺎﻟﺗﻔﺻــــــــ�ﻼت اﻟﻣ�ﺛﻔﺔ� ،ﻣﺣﺎوﻟﺔ اﻟﺗﻘﺎط اﻟﺣﯾﺛ�ﺎت اﻟﺟزﺋ�ﺔ
بتتابعه وموجته الم�ستطيلة ،حتى ولو كان على ح�ساب المتلقي الذي يجعله م�شدوه ًا �إلى ما
ﺑﺗﻣﺎﻣﻬﺎ ﯾرﻫ� اﻟﻣﺷﻬد ،ﻧظ اًر إﻟﻰ ﺗﺗﺎ�ﻌﻬﺎ اﻟﺗﻔﺻﯾﻠﻲ �ﻘﺻد اﻟﺗﻌﺑﯾر ﻋن زﺧم اﻹﺣﺳﺎس
ير�سو عليه ال�صورة �أو الم�شهد ،لكن رغم ذلك ال نعدم من مالمحها المثيرة ،كما في قوله:
اﻟﺷﻌور� ﻟد�ﻪ ﺑﺗﺗﺎ�ﻌﻪ وﻣوﺟﺗﻪ اﻟﻣﺳﺗطﯾﻠﺔ ،ﺣﺗﻰ وﻟو �ﺎن ﻋﻠﻰ ﺣﺳﺎب اﻟﻣﺗﻠﻘﻲ اﻟذ�
ُ
والبيوت جذو ٌر "
ﯾﺟﻌﻠﻪ ﻣﺷــــدوﻫ َّﺎً إﻟﻰ ﻣﺎ ًﯾرﺳــــو ﻋﻠ�ﻪ اﻟﺻــــورة أو اﻟﻣﺷــــﻬد ،ﻟﻛن رﻏم ذﻟك ﻻ ﻧﻌدم ﻣن
تعود ب ُِ�سكانها دائما
ُ ﻗوﻟﻪ:فارقوه
المكانِﻓﻲالذي
ة� ،ﻣﺎنحواﻟﻣﺛﯾر
نف�س ﻣﻼﻣﺣﻬﺎ
ِ
ﺟذور
لتع�صمهم َ�ش ْمٌ ُ�سهَا من د َّوا ِر الأعالي اﻟﺑﯾوت
"و ُ
ْ
المكان داﺋﻣﺎًدهم في ك�سو ِر ﱠﺎﻧﻬﺎ ُت َ�ش ِّر
طرقاتٍ ومن ِ� ُﺳ� ﺗﻌود
ﻓﺎرﻗوﻩ
ُ زمان ِ
اﻟﻣ�ﺎن اﻟذ� ﻧﻔس ْ والبيوت ِ
ﻧﺣو ُ
اﻷﻋﺎﻟﻲ دو ِ
علىار �ساكينهِ، ﻟﺗﻌﺻﻣﻬمات ِهَﺷ ْﻣ ُﺳ َﻬﺎ ﻣن
بالت�ساوي ﱠ ُي َق ِّ�س ُم د َّق
اﻟﻣ�ﺎن
ْ ِ
�ﺳور بينردﻫم ﻓﻲ
بيتين: ي�سبحوا ُﺗ َﺷِّ
طرﻗﺎت
ٍ وﻣن
لكي
زﻣﺎن
الوجو ِد ْ اﻟﺑﯾوت
بيتِ ُ و
ِ
ﺳﺎﻛﯾﻧﻪ، ﺎﺗﻪم �ﺎﻟﺗﺳﺎو� ﻋﻠﻰ وبيتُِم دالﱠﻗ َع َد ِْ
ُ�َﻘ ِّﺳ
خل�س ًةﺑﯾﺗﯾن:يعبرواوا ﺑﯾن وكي �ﺳ�ﺣ ﻟﻛﻲ
ِ
اﻟوﺟود ﺑﯾت
بينِ
يتداعىْم
اﻟﻌ َد ما ِ
و�ﯾت َ
�ﻌﺑروا ﺧﻠﺳ ًﺔ و�ﻲيلت ِئ ْم وما
والبيوت َرحِ ْم"(((. ﺑﯾن ُ
ﯾﺗداﻋﻰالأعمال ال�شعر ّية ،ج� ،1ص .256 � -1شوقي ﻣﺎ
بزيع- 2005 ،
130
- 118 -
الف�صل الثاني :ف ّن ّية ت�شكيل ال�صورة عند �شوقي بزيع
ما ينبغي الإ�شارة �إليه� :أن المونتاج ال�شعري ل�سيرورة اللقطات التف�صيلية التي
تنبني عليها بنية ال�صورة الم�شهدية -لدى �شوقي بزيع -يت�أ�س�س على عامل اللقطات
التف�صيلية ال�شاعرية التي تدفع الم�شاهد �إلى تتابعها رغم ا�ستطالتها؛ وهذا دليل احتراف
ووعي تام في توظيف ال�صورة التف�صيلية -لدى البزيع -لعن�صر �إثارتها ومحركها الفني؛
لتحقق عن�صر جاذبيتها ،ومنتوجها الجمالي ،وال غرو في ذلك فهو القائل� " :إن القارئ
حين ي�شعر ب�أن العمل ال�شعري قد م�سه -ب�شكل �أو ب�آخر -فهو ب�سبب ما توفره ال�صورة
ال�شعرية"(((؛ فال�صورة ال�شعرية هي المنظم ال�شعوري لحراك ال�شعور والر�سالة الروحية
التي ت�صل بين نب�ض ال�شاعر ،ونب�ض المتلقي؛ للتوا�صل والتفاعل الحميم بينهما؛ وما خلود
الن�صو�ص جمالي ًا �إال نتيجة لما تمثله لهذا المحيط ال�سحري ال�شعوري الذي يربط كال
التجربتين في قناة تفاعلية هي ال�صورة بو�صفها ذروة حراك الن�ص ال�شعري ،وتناميه
جمالي ًا.
وبالنظر في م�ؤثرات ال�صورة الم�شهدية التف�صيلية -في المقبو�س ال�شعري نلحظ �أن
وجودي؛ و�إح�سا�س اغترابي �شعوري م�أزوم �أكثر من
ّ ر�صد ال�شاعر لحركة البيوت هو ر�صد
ب�صريا �أو متخيالً؛ فال�شاعر �أراد �أن يطرح فل�سفته للمكان ،وفل�سفته
ًّ م�شهديا
ًّ كونه �إح�سا�س ًا
للوجود؛ فالإن�سان يعي�ش في حنين دائم �إلى المكان الذي انبثق منه �إلى �ساحة الوجود� ،إلى
الوجودي الحقيقي؛ رغم
ّ مكان والدته؛ لهذا؛ يحتفظ المرء بهذا المكان في داخله؛ لأنه مكانه
كثرة الأماكن التي يرتادها المرء؛ تبقى لهذا المكان خ�صو�صيته؛ لكي يتوازن مع دائرة
ت�ضم ال�شتات ،وتجمع القلوب ،وهي رمز وجوده ،ورمز
ُّ الحياة والكون؛ والبيوت رح ٌم
عدمه في الآن ذاته؛ وهي تمثل له بيت الوجود ،وبيت العدم؛ �أي البيت الذي ينبج�س من
خالله �إلى الحياة ،والبيت الذي يرتحل من خالله �إلى الموت؛ وهنا؛ يركِّ ز ال�شاعر عين
الكاميرا على حركة البيوت؛ ب�إح�سا�س ت�أملي ي�شي بمونتاج م�شهدي يجمع بين لقطة البيوت،
تغ�ص ب�سكانها ،وطرقات منازلهم التي
ّ موحد ،ومترابط ،و�شكلها وهي
ّ وهي على �شكل �سطر
تعطي للمكان خ�صو�صية اال�ستمرار ،ونب�ض الحياة؛ وك� َّأن ال�شاعر �أراد �أن ّ
يبث الحركة حتى
على م�ستوى الجماد؛ محرك ًا البيوت ،وباعث ًا الحيوية في جزئيات المكان كلها؛ وك� َّأن عين
ال�شعري.
ّ الكاميرا هي التي تراقب الأحداث ،وتطوراتها في الن�سق
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .445
يقول ال�شاعر �شوقي بزيع في فل�سفته للمكان� " :أنا �أنتمي فلكي ًا �إلى برج الجدي ،وهو
برج ترابي كما يقال ،وهذا قد يف�سر -ب�شكل �أو ب�آخر -تجذري في المكان ،وحنيني للعودة
�إليه ،باعتباره الحا�ضنة ،والرحم ،والكنف ،والم�آل؛ وربما يعني قيامي ببناء منزل في
قريتي في الجنوب اللبناني قبل ثالث �سنوات يعود �إلى محاولة العودة �إلى البدء� ،أو �إلى
�إقفال الدائرة التي انطلقت منها ،وهو ما يذكرني� -أي�ض ًا -في بيت من ال�شعر قلته في
ق�صيدة(ك�أني ما زلت �أعدو هناك) ،التي �سبق و�أهديتها �إلى �أمي ،و�أقول على ل�سانها ،و�أنا
�أهبط من القرية باتجاه ال�شمال� ،أي باتجاه بيروت التي كانت بالن�سبة لي رمز ًا للمتاهة،
وال تن�س
َ وللمنفى ،ولال�سمنت الأ�صم البعيد عن قلب الأم؛ �أقول على ل�سانها " :ال تبتعد يا بني
ما ع�شت �أن ال�سرير الذي انبج�ست منه روحك عند الوالدة ما هو �إال �ضريحك عند الممات"(((.
وهذا -بالت�أكيد -يدلنا على �أن ال�شاعر مولع بالأمكنة الأولى (�أمكنة الطفولة) ،ومولع
بحيثيات المكان� ،أو القرية التي عا�ش في كنفها ،وتربى فيها �صغير ًا؛ وهذا ما جعله في كل
ق�صائده يذكر الجنوب ،ولو لم تكن هذه العبارة �صريحة في ق�صائده .وقد يلج�أ ال�شاعر
ال�شعري بتمامه بكل خ�صو�صيته ،و�أبعاده ،وحركة
ّ �شوقي بزيع �إلى ر�صد تفا�صيل الم�شهد
اتجاهه؛ موجه ًا عين الكاميرا �صوب جزئيات المكان بكل دقائقه ،وحيثياته ال�صغيرة ،كما
في قوله:
"في ا َّلل ْيلِ
الحلم،
ِ �سقوط المر�أ ِة في
ِ ُق َب ْي َل
ُت َت ِّو ُجنِي الأزها ُر �أمي َر الفر ِح ال�شجريِّ
الج ُز ِر الوردي ِة في القا ِع وتمنحني الأنها ُر حنا َن ُ
وتلتهب العا�شق ُة الليلي ُة بالح َّنا ِء
ُ
كزنبقتين
ِ ف�أدخ ُل في فر ِح الأعياد ،و�أحم ُل َّ
كفي
حا�ص ُر �سح َر يديكِ وكالمو ِج القمريَّ �أُ ِ
و�أحل ُم بال�شط� ْآن
نامي بين حنونِ الرملِ وبين الما ْء
م ��ن الم�س ��لم ب ��ه بداي ��ة� :أن ال�ش ��اعر المب ��دع ح�صيل ��ة خب ��رات ،وتج ��ارب ،ور�ؤى،
وانفع��االت ،وم�ؤث��رات عميق��ة ،و�أكثر ما يحفز الذاك��رة الإبداعية -لديه -هي ت�أثره بالعالم
الخارج��ي؛ وتفاعل��ه ر�ؤيوي� ًا م��ع مغريات��ه الوجودي��ة وله��ذا " :فعوال��م ال�ش��اعر الخارجي��ة
تفر���ض علي��ه �أن يواك��ب الع�ص��ر ،و�إذا تماي��ز عن��ه ف��ي جان��ب معي��ن؛ فذل��ك لإع��ادة الخل��ق،
والإبداع ،وترتيب الوجود حوله� .أما دقة ال�ش��اعر في عمق ال�صورة المده�ش��ة والتي توافيه
من ذاكرة الحزن� ،أو الفرح� ،أو الحب ،فلها زمنها التوليدي في التخيل والتخييل؛ فاقتران
�ى هيول ��ي يتحق ��ق �ش ��عري ًا
الر�ؤي ��ا بال�ص ��ورة ال�ش ��عرية يت ��م بالتخيي ��ل -مث�ل�اً -لأن ��ه معط � ً
بال�ص��ورة المج��ردة لل��روح حيث يخرجها من ال��كالم الظاهر� ،إلى الكالم الباطن؛ ومن الزمن
الزائ��ل �إل��ى الزم��ن ال�س��ائل� ،أي م��ن الزوال �إل��ى الثبات ،والخل��ود ،واال�س��تمرار"((( .وبقدر
م��ا يتفاع��ل ال�ش��اعر م��ع جزئي��ات العال��م الخارج��ي بلقطات��ه وم�ؤثرات��ه الب�صري��ة ،بق��در ما
يتفاعل (المبدع /والقارئ) جمالي ًا مع الن�ص بتفتيق مثيراته الفنية ،ومغرياته الجمالية،
لت�أت��ي كل جزئي��ة م��ن الن���ص لقطة حي��ة ناب�ضة بالحياة؛ وك�أن الن�ص م�س��رح الحياة الجميل
ال��ذي ي�س��كن بتول��ة �أرواحن��ا من��ذ الأزل ،يق��ول بول �س��يزان� " :إنني �أ�ستن�ش��ق بتول��ة العالم،
تهاجمن��ي ح��دة ظ�ل�ال �ألوانه��ا� .أ�ش��عر كم��ا ل��و �أنن��ي متوه��ج ب��كل ظ�ل�ال المطل��ق؛ �أ�صب��ح �أن��ا
و�صورت��ي �ش��يئ ًا واح��د ًا"((( .وه��ذا ال�صف��اء الروح��ي ال��ذي يحملنا �إلي��ه ال�ش��عر؛ ي�ؤكده (بيت
موندري��ان) بقول��ه " :كل م��ن العل��م والف��ن يكت�ش��فان ،ويجعالنن��ا ن��درك حقيق��ة �أن الزمن هو
عملي��ة تكثي��ف ،لم��ا ه��و ذاتي في اتجاه ما ه��و مو�ضوعي ،في اتجاه جوهر الأ�ش��ياء وجوهر
�أنف�س��نا"((( .وم��ا �أجم��ل ال�ش��عر حي��ن يعرين��ا �أمام �أنف�س��نا فتظه��ر بطيوف �أرواحن��ا في ف�ضاء
المطلق العائم.
�شوقي بزيع - 2005 ،الأعمال ال�شعر ّية ،ج� ،1ص .93 - 1
الح�سين ،ق�صي - 1998 ،ت�شظي ال�سكون ،في العمل الفني(الزمن /ال�شعر /ال�صورة)� ،ص .210 -2
ال من :المرجع نف�سه� ،ص .212نق ً -3
المرجع نف�سه� ،ص .212 -4
وبتفاعلنا -مع المقبو�س وما يثيره من فاعلية ت�صويرية على م�ستوى اللقطات
الجزئية -نلحظ تتابع اللقطات الرومان�س َّية؛ ب�أ�سلوب ت�شكيلي تج�سيدي فائق البناء الفني
المثير؛ وك�أننا �أمام لوحة ت�شكيل َّية؛ �أو فيلم �سينمائي يج�سد م�شهد عا�شقين متعانقين امتزجتا
بخمرة الطبيعة؛ فبات الم�شهد مج�سد ًا ب�صري ًا ب�أحجام ،و�أبعاد ،وظالل مرئ َّية؛ لم�شاهد
تقرب حيثيات الم�شهد الرومان�سي ،وتر�صد تفا�صيله؛ �إذْ يلتقط
ولقطات غرامية متتابعة؛ ِّ
ٌ
وعا�شق وك َف ّْينِ كزنبقتين،
م�شهدية �أولى لليل ،و�أخرى المر�أة تحلم؛ َ
َّ ال�شاعر -لدينا� -صورة
الحب الم�ضمخ بعبق
ّ ينتظر؛ وقنديل ي�ضيء عتمة الليل؛ ويك�سر �سكونه با�شتعال دماء
الت�صويرية المتراكمة ت�ؤكِّ د دقة ر�سم الم�شهد
َّ المحبوبة؛ من جهة البحر؛ هذه اللقطات
الرومان�سي بتفا�صيله؛ �إذْ يلج�أ ال�شاعر �شوقي بزيع �إلى ر�صد الم�شهد بخ�صو�صية رومان�سية
ّ
الم�شهدية المتتابعة التي ير�صدها لقطة تلو �أخرى؛
َّ تر�سيمية دقيقة؛ لإبراز �سيرورة اللقطات
وك�أننا �أمام م�شهد ب�صري مرئي مبا�شر �أو م�شهد طازج يج�سده ال�شاعر؛ مما يجعل اللقطات
الم�شهدية بغاية الدقة الرومان�سية ،والتكثيف الإيحائي ال�شاعري الجذاب؛ وفق اللقطات
َّ
التالية
َّ
التشكيلية: ب -الصورة
ونق�صد بـ [ال�صورة الت�شكيل َّية] :ال�صورة التي تعتمد في تكثيف ر�ؤيتها على فن الر�سم
من خالل تالعب ال�شاعر بالألوان ،والخطوط ،والأبعاد ،والأحجام ،والظالل المرئية؛ مما
الب�صرية بالتدقيق على التفا�صيل
َّ ينعك�س �إيجاب ًا على جمال َّية ال�صورة وم�صداقيتها
ال�شعرية
َّ الجزئ َّية ،ور�سم �أبعادها بدقة متناهية؛ تر�صد �أدق التفا�صيل في اللوحة
المج�سدة،يقول الناقد حمد محمود الدوخي� " :إن العالقة بين ال�شعر والر�سم عالقة جدلية
ال يقف تعينها عند الفوارق في الأداة و العن�صر من [قلم -فر�شاة] و [كلمة -لون] ،بل تنبع
من توحد المرجع الجمالي لكال الجن�سين وهو الطبيعة؛ فال�شاعر -ح�سب تعبير فرو�ست-
يحقق من خالل ال�صور التي ت�صنعها الق�صيدة بال�ضبط ،مثل ذلك االنطباع المفرد الذي
يحققه الر�سام ،وبو�سائل وثيقة ال�صلة بالتي ي�ستخدمها الر�سام"((( .وتبع ًا لهذا؛ " ت�ستطيع
ال�صورة ال�شعرية -على هذا الأ�سا�س -الإفادة من مونتاج الفوتوغراف ،ومونتاج الر�سم من
�أجل فتح �آفاق تمتد �أمام العمل ال�شعري؛ ال�سيما �إذا نجحت في التعوي�ض عن عنا�صر كل من
الفوتوغراف ،والر�سم في ف�ضاء ولون وغير ذلك بالإيحاء ،عن طريق �شحن الجمل ال�شعرية،
وتن�سيق تجاوراتها فيما بينها �إلى درجة نح�س بها ب�أن ال�شاعر مم�سك ب�آلة ت�صوير
فوتوغرافي تلتقط ،وري�شة تتدخل ،وتحرر ال�صورة ،وتعمل �إلى جانب قلمه ،وت�ساعد على
�إتمام �صوته ولوحته ال�شعرية"(((.
مقومات �إثارة ال�صورة عند �شوقي بزيع؛ �إذْ ير�سم �أبعاد
وتُ َع ُّد ال�صورة الت�شكيل َّية من ِّ
ال�شعري؛
ّ ال�صورة بظاللها ّ
اللون َّية ،و�أحجامها المرئ َّية ،بخطوط متداخلة �ضمن الن�سق
وك�أننا �أمام لوحة ت�شكيل َّية ممتزجة الظالل والألوان؛ كما في قوله:
"قدمانِ اثنتانِ
تقودانِ روحي �إلى �شاطِ ئ امر�أ ٍة
-1محمود الدوخي ،حمد - 2009 ،المونتاج ال�شعري في الق�صيدة العربية المعا�صرة� ،ص.76
-2المرجع نف�سه� ،ص .77
وتغو�صانِ في �أُفقٍ من ْ
دخان.
الغريب ُة بين �شقيقاتِها
الثلج؛
خيط من ِ َت َّمحي ُك َّلما �ضحكت خلف ٍ
�أو تت�صدَّق بالنهرِ..
ُ
البيل�سان بمجرى �أيتامِ ِه حين يطالبها
و ُي َ�ض ِّر ُج �أحال َمها
ْ
الهذيان قم ُر
أر�ض ياقو ُتها ال ُم ْ�ش َتهىيهب على ال ِ ...فارك�ضي كي َّ
الخفقان"(((.
ْ ويعو َد �إلى قلبها
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن ال�صورة الت�شكيلية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تعتمد ظالل
الطبيعة �إطار ًا جذاب ًا لتكامل جزئيات اللوحة جمالي ًا؛ فاللوحة الت�شكيلية -لدى �شوقي
بزيع -لي�ست متناغمة الخطوط ،والظالل ،والأحجام ،والألوان ،والإيحاءات فح�سب؛ و�إنما
منظمة �شعوري ًا ب�إح�سا�س جمالي ينبع من �شعوره ال�صادق �إزاء الطبيعة ،ومغرياتها،
والخيال الن�شط الذي يحركها فني ًا؛ لأن ال�صورة"وعي دينامي ن�شط ،ولها حيويتها،
وحركيتها ،و�أ�سطوريتها ،ورمزيتها الخيالية ،والحلمية ،وال�شعورية ...ووظيفتها
�شعرية ،وتوا�صلية ،و�إبداعية ،وت�أثيرية"(((.
وبالنظر في م�ؤثرات اللوحة ال�شعرية نلحظ �أن الم�شهد الأول بدا م�شهد ًا حركي ًا في
اللوحة (م�شهد المحبوبة على �شاطئ من الثلج ،وم�شهد �آخر للقمر وهو ير�سل �أ�ضواءه
الكا�شفة ،ويعك�س ظليهما في اللوحة� .أو م�شهد �آخر للمحبوبة وهي تجري بثوبها الثلجي
وقلبها يتراق�ص بالخفقان وجد ًا وع�شق ًا)؛ في ظل هذه اللوحة ،تتعمق �شعرية الق�صيدة؛
وتزداد �إ�شعاعات ال�صورة؛ وك�أن ال�شاعر ير�سم لوحة متحركة؛ باللون ولي�س بالكلمات؛
وهذا ما يح�سب ل�صوره اللوحة� :أنها ذات نمنمات ت�شكيلية؛ وكثافة في الظالل ،والإيحاءات
ال�شعرية التي تمزج الح�س /بالحركة؛ وال�شعور /بالخيال؛ والظاهري /بالباطني؛ مما
يجعلها غاية في التفاعل ،والتمازج اللوني ،والتكامل ال�شعوري ،والإيحائي وهذا هو
مكمن جاذبيتها و�شعريتها دوم ًا.
تعمق ال�شاعر في ا�ست�شفاف ال�صور الرومان�سية ال�شفافة وت�أنق في نمنمة
َّ وكلما
الظالل والألوان والأحجام بري�شة ت�صويرية فنية عالية ا�ستطاع �أن يجذب القارئ �إلى �ألوانها
وظاللها الإيحائية؛ ال�ستبطان ما في داخلها ب�إح�سا�س باطني عميق ،و�شعور ناب�ض بالحياة،
كما في قوله:
" ارك�ضي،
لي�س بين ذراعيكِ والموتِ
ْ
الزمان ٌ
�صهيل وحي ٌد لهذا �إ َّال
ك�سرتني بالدي
و�أهدتْ �سوادي لأَ ْج َم َل غربانها
ْ
للحنان. ولم ُت ْبقِ مني الحيا ُة �سوى ف�سح ٍة
فارك�ضي فوق هذا المدى المتداعي
وال تف�صحي عن بق َّية نهديكِ
كي ال ي�شاركني.
في ا�ستدارة حزني �أَحدْ...
الغيم � َ
أم�شاط �شعركِ وا�ستردِّي من ِ
ُردِّي الحياة �إلى ن�صفِ من�سوبها
لأرى كم ُ
كبرت
على �ضو ِء هذا الج�سد"(((.
مع م�شاعره؛ كما تح ِّلق المالئكة بالأرواح الطاهرة؛ �إلى جنَّة الجمال؛ تُ َح ِّلق كلماته كذلك �إلى
الت�صويرية التي ت�ستقي معالم جمالها من تحليقها في
َّ جنة ال�شعر؛ فما �أجمل هذه اللوحة
الثلج� /أو تت�صدق بالنهر
ِ ٍ
خيط من َ
خلف ف�ضاء رومان�سي ت�أملي مفتوح[ :تمحي كلما �ضحكت
قمر الهذيان]؛ فما �أجمل هذه
ُ وي�ضرج �أحالمها
ِّ أيتام ِه
البيل�سان بمجرى � ِ
ُ حين يطالبها
اللغوية التي تحلق بال�صور �إلى درجة ال�سمو المطلق ،الجاذبية الروحان َّية،
َّ الت�شكيالت
ٌ
[خيط من الثلج -قمر الهذيان -ياقوتها الم�شتهى -ا�ستدارة حزين- وال�شفاف َّية المتناهية:
�أفق من دخان� -ضوء هذا الج�سد]؛ �إذْ � َّإن ال�شاعر يعتمد تقنيات ال�صورة الت�شكيل َّية من تداخل
الألوان ور�سم الحركات؛ �أو ًال :ر�سم حركة القدمين؛ ثم الأُفق المظلم الذي يك�سوه الدخان ،ثم
م�شهدية ل�ضحكات المحبوبة كخيوط من الثلج؛ ّ
لبث البراءة مقابل الظلمة التي َّ ير�صد لقطة
ابتد�أها بالدخان؛ فالق�صيدة عبارة عن لوحة ت�شكيل َّية تجمع بين المت�ضادات؛ �أي بين ال�صور
الم�شرقة بالأمل ممثلة بالمحبوبة وجمالها؛ وال�صور القاتمة التي يك�سوها ال�سواد؛ ممثلة
بجراح ال�شاعر و�أحزانه؛ مع ِّبر ًا عن جدل َّية نظرته للحياة بين خيوط الك�آبة /وحبال الآمال
الم�شرقة؛ ولو ت�أملنا الدوال التالية [دخان؛ الموت ،الغربان� ،سواد]؛ لتب َّدى لنا الداللة
ال�سوداوية من خالل تكثيف هذا اللون القاتم على حركة ال�صورة؛ ثم �سرعان ما يخلق جد ًال
َّ
لون ًّيا بين ال�صورة ليوازي الحركة الن�سقية بين لون الموت القاتم بال�سواد والدخان؛ ولون
الحياة الم�شرق بالقمر والثلج ...وهكذا؛ جمع ال�شاعر في لوحته الت�شكيل َّية �صور ًا متناق�ضة؛
ّ
وبث �صخبها الوجودي؛ كما هي الحياة بعبثها ،وجدلياتها، لتحريك �إيقاع اللوحة؛
وتناق�ضاتها الكثيرة القائمة بين الثنائيات التالية[ :الخير /ال�شر] و[الموت /الحياة]،
و[الأمل /الك�آبة]؛ لي�ؤكِّ د في لوحته تداخل الألوان ،وتنامي الخطوط ،وتمازج الظالل،
محرك ًا اللوحة ،لتع ِّبر عن
ِّ ال�شعري
ّ ال�شعرية ،على امتداد ن�سقها
َّ والأحجام في بنية �صوره
ا�صطراعه النف�سي بين (الأمل /والي�أ�س) الذي ي�سيطر على عالمه الوجودي.
وك�أن ال�شاعر بهذه اللوحة ي�ستدعي منظوراته الطفولية للأنثى؛ ووجهته الم�صطرعة
�إزاءه��ا� ،إذ يق��ول " :ف��أول م�ش��هد ر�أيت��ه في حياتي م�ش��هد ن�س��اء ملفعات بال�س��واد يلطمن على
وجوهه��ن؛ و�أن��ا اب��ن ث�ل�اث �س��نوات فقط ،ويبكين �ش��خ�ص ًا ميت ًا -طبع ًا لم �أع��رف �أنه ميت -لم
�أدرك معن��ى الم��وت؛ كان��ت كل �أج�س��ادهن مغط��اة بال�س��واد ،ووجوهه��ن بي�ض��اء؛ لأن الم�ش��هد
الأول -بالن�س��بة ل��ي -ه��و ال��ذي ارتب��ط بالأنوث��ة ه��و م�ش��هد الأ�س��ود؛ �أ�صبح��ت كل ام��ر�أة ف��ي
الثي��اب ال�س��وداء تثيرن��ي ،يعن��ي ك�أن��ي �أح��اول �أن �أختب��ر ال�ش��هوة ف��ي �ضوء الم��وت؛ من هذه
الم��ر�أة الملفع��ة بال�س��واد ،والت��ي ه��ي ف��ي حال��ة حداد عل��ى من تحب ت�س��تفزني لك��ي �أدعوها
�إل��ى مخ��دع ما؛ هل �أ�س��تطيع �أن �أخرجها من الم��وت المقيمة فيه؛ و�أن �أدعوها بقوة الإغواء �إلى
الحي��اة الم�ض��ادة"((( .وتتك��رر ه��ذه اللوح��ة لوح��ة الأنوث��ة ف��ي ذاكرت��ه الإبداعي��ة؛ ليقيمه��ا
دوم� ًا عل��ى ال�ص��راع اللون��ي بي��ن [البيا���ض /وال�س��واد]؛ بي��ن [الن��ور والظلم��ة] بي��ن [الم��وت/
والحي��اة] ،بين[المدين��ة /والري��ف]؛ بين[الفط��رة /واال�صطن��اع]؛ بي��ن [الخ�صوب��ة /والعق��م]؛
وهك��ذا؛ تك��ررت مالم��ح اللوح��ة ف��ي تجربت��ه ال�ش��عرية بارت�س��ام ه��ذا الم�ش��هد ف��ي ذاكرت��ه
الإبداعي��ة؛ ف��وراء كل م�ش��اهد الموت ،وال�س��واد ظالل للن��ور ،والإ�ش��راق ،والخ�صوبة( :نيران
ال�شهوة /ونيران الحياة).
وقد يلج�أ ال�شاعر �إلى ال�صورة الكل َّية التي تُ �شكِّل لوحة ت�شكيل َّية متداخلة من
الخطوط ،والألوان ،والحركات والظالل الإيحائية الم�شرقة؛ كما في قوله:
"يا موج ًة العم ِر التي ت�شتدُّ ُ�ض ِّم ْينِي �إليه ْم...
المغ�سول بالدم ِع الذي ذرفوهُ؛ ُ �أنا
والحج ُر الذي يبكي عليه ْم..
�أنا زه ُر الغراب ِة فوق ترب ِة ُروحِ ه ْم
وح َ�صى يديه ْم... َ
القمم البعيدة؛
ِ و�أنا المو ِّز ُع نا َر �أ�شالئي على
ال تراني َغ ْي ُر مر�آ ٍة
ُت َع ِّري َن ْف َ�سها لثما ِر �أَ ْو َجاعِ ي،
�أو ال امر�أ ٍة
جر�س القبو ِر النائمة"(((. تدق بنب�ضها َ ُّ
ال�شعرية،
َّ ال�شعرية تكثف درجتها
َّ � َّإن هذه المناجاة الت�أمل َّية المبثوثة في هذه الدفقة
نار
بالدمعَ -
ِ اللغوية التالية[ :المغ�سولُ
َّ وعمقها في ّ
بث مواجيد الذات من خالل الدوال
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤوال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .447-446
-2بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،1ص .327-326
جّ -
فن ّية صورة اللقطات والتفاصيل الجزئية:
ونق�صد بـ [�صورة اللقطات والتفا�صيل الجزئ َّية] :هي ال�صورة التي ير�صد فيها ال�شاعر
جل حركة ال�صور -لديه -على تج�سيد هذه مكر�س ًا ّ
ال�شعري؛ ِّ
ّ جزئيات ب�سيطة من الحدث
الداللي؛ وكثافتها الإيحائ َّية ،معتمد ًا على
ّ الن�صي ،ومغزاها
ّ الجزئيات للإلمام بم�ضمونها
تقنية ال�سرد في الإلمام بحيث َّيات ال�صورة الكل َّية؛ وت�شعباتها الجزئية المثيرة �ضمن
ال�سياق .وتُ َع ُّد هذه ال�صورة من �أكثر �أنواع ال�صور �إطناب ًا في ت�شكيل الق�صيدة؛ وت�شعيب
دالالتها؛ �إذْ يحاول ال�شاعر فيها �أن ير�صد الأح��داث بالتف�صيل؛ وهذا ي�ؤدي �إلى �إطنابها
وتمطيطها ،وا�ستطرادها ،في ر�صد تفا�صيل الحدث �أو الر�ؤية المج�سدة؛ وكم من ال�شعراء قد
ا�ستهوتهم هذه ال�صور في كتابة ق�صائدهم ،فنقلتهم �إلى ف�ضاء الرواية والق�صة؛ ليمار�سوا
وحرية في التعبير عن الحدث بر�ؤى
َّ هوايتهم ب�شكل �أو�سع؛ ل َّأن الرواية والق�صة �أو�سع مدى
�سردية مت�شعبة؛ وحبكات حدثية مفتوحة؛ وتُ َع ُّد ال�صورة الجزئية ذات الأحداث
َّ و�أو�صاف
والتفا�صيل الجزئية من مثيرات الق�صيدة عند �شوقي بزيع؛ من حيث تكثيف الر�ؤى وتعزيز
الدالالت؛ كما في قوله:
"انتظرني
َف َع َّما قليلٍ �س� َ
آتيك،
ع َّما قليلٍ �سيهد�أ هذا الغبا ْر
وت� َ
أتيك هُ دْهُ ُد ُة الرو ِح
حامل ًة مل َء منقارها
ق�ش َة انت�صا ْرَّ
الحرب �أن تنتهي ُ ولن تلبث
وطن مثل ُك ِّل الطيورِ؛ ويكون لنا ٌ
وبيتٌ �صغي ٌر؛
ن�ش ِّي ُد ُه قبل ًة قبل ًة؛
وحدائق ُم ْث َقلَ ٌة بالثما ْر"(((.
ُ
بادئ ذي بدء؛ ن�شير �إلى �أن اللقطات التف�صيلية -في بنية ال�صورة الم�شهدية لدى �شوقي
بزيع -تنبني جمالي ًا على �أيقونية ال�صورة ب�صري ًا؛ �إذ تن�أى ال�صور التف�صيلية عن الواقع
العيني (ال�سطحي المبا�شر)؛ وتبدو في ن�سقها �أيقونات فنية تجذب �إليها القارئ /الم�شاهد
ببكارتها ،و�سحر ما تثيره من ر�ؤى ودالالت رومان�سية خ�صبة؛ فال�صورة ذات اللقطات
التف�صيلية لديه(ترتبط بقيمها الملمو�سة وكيفياتها ال�ضمنية دون �أن تتحيز �إلى الواقع
والمثال �أو تتميز عنها) (((؛ فهي تبدو عيانية ملمو�سة؛ لكنها في ن�سقها الرومان�سي تفتتح
عالمها التخييلي المميز؛ وتفتح قطب �إبداعها ون�سجها الم�شهدي التخييلي المج�سد؛ فدائم ًا
ثمة �سحر في توظيف ال�صورة الم�شهدية (التف�صيلية) في ق�صائد �شوقي بزيع؛ فهي تن�أى عن
التفا�صيل الروتينية الب�سيطة؛ وتخلق ده�شتها في ت�صاعد �شعري ن�سقي؛ يمتلئ تج�سيد ًا متحقق ًا
بين حركة ال�صورة ،ومقدار ما تج�سده من امتالء ب�صري �أو طيف �إيحائي ممتد.
وبالنظر -في مغريات ال�صورة الم�شهدية التف�صيلية جمالي ًا في المقبو�س ال�شعري-
نلحظ �أن اللقطة التف�صيلية تمنح ال�صورة نب�ضها العاطفي ،و�شفافية الر�ؤية المج�سدة؛
بحركة تك�شف عن التنغيم الآ�سر بين ما تثيره اللقطة ،وما تتركه من �صدى جمالي في
ملء منقارها
َ ً
حاملة الروح
ِ أتيك ُه ْد ُه ُدةُ ت�شكيلها �أو تج�سيدها؛ كما في اللقطات التالية[ :ت� َ
بالثمار]؛ �إن قارئ هذه ال�صور
ْ وحدائق ُم ْث َق َل ٌة
ُ ً
قبلة؛ ً
قبلة �صغير؛ ن�ش ِّي ُد ُه
ٌ وبيت
ٌ انت�صار-
ْ ق�ش َة
َّ
الم�شهدية ذات اللقطات التف�صيلية يدرك مهارة ال�شاعر الفائقة على تحرير ال�صورة الم�شهدية
المثيرة ب�صري ًا؛ فهي رغم تف�صيلها تبقى لها خ�صو�صية في ن�سقها تمتلئ به جمالي ًا ،وتغنيه
ب�شكلها الفني؛ فالبزيع -في �صوره التف�صيلية� -شديد البراعة والدقة في ت�صوير الم�شهد
بتمامه؛ بتوليفات م�شهدية تقوم على لقطات تت�صاعد تدريجي ًا في �سلمها الرومان�سي؛ لت�صل
�إلى قمة التج�سيد ،والتر�سيم الم�شهدي.
وال نبالغ �إذا قلنا� :إن خ�صو�صية "الر�ؤيا" وعمق التجربة ،يفر�ضان على ال�شاعر هذا
النزوع والتوليف الجمالي بين اللقطات؛ ليغدو كل لقطة تف�صيلية انعكا�س ًا م�شهدي ًا للقطة
محايثة ،ومنظمة في �شريطها الم�شهدي بت�صاعد �شعري حيوي دافق؛ كما في قوله:
"انتظرني قلي ً
ال،
وظ َّل الفتى واقفاً تحت قنطر ِة ال�صوتِ
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،1ص .319-318
ع�شرين عاماً.
�إلى � ْأن غ َز ْت ُه التجاعي ُد
واهتر�أتْ ُم ْقلَ َتا ُه
من االنتظا ْر
ال�صبي الذي �شا َخ
ِّ يم ُّر براح ِت ِه فو َق ر� ِأ�س
ال �شاهقاً كي يراها �أو ينتحي جب ً
وكي َي َت َناهَى �إلى دَمِ ِه المتراخي �صفي ُر القِطا ْر..
....هي ذي �أقبلتْ ...
....مِ ْثلَ َما َع ْه ُد ُه بحري ِر �أُنوثتِها ال ُم ْ�ش َتهَى؛
ح َّر ًة كالق�صيد ِة
نا�صع ًة مثل قلبِ النها ْر...
هي ذي...
قو�سين..
ِ و ُت َق ِّد ُم ح َّتى غدا َ
قاب
ال�شبحي...
ِّ من ثغرها
تباد َل مع نف�سِ ِه قبل ًة...
ثم �ألقى بكلتا يدي ِه
�إلى االنتحا ْر"(((.
ما ينبغي ت�أكيده بداية� :أن ال�صورة التف�صيلية -في ق�صائد �شوقي بزيع -ال ترتد
فاعليتها �إلى المدرك الب�صري الم�شهدي؛ و�إنما �إلى الطيف الذي تتركه ،والإيحاء الذي
تثيره؛ يقول فاليري� " :إن طريقة التعبير الفنية �أكثر �أهمية من الدافع الفني� ،إذ �إن الفن هو
كيفية التمو�ضع في العمل الفني ،ولي�س العمل الفني نف�سه ..الفال�سفة ي�ستطيعون فقط
وب�صعوبة فائقة �أن يفهموا ،كيف �أن الفنان ،وبال حدود بين ال�شكل والم�ضمون ،وبين
الم�ضمون وال�شكل ،يم�ضي من هنا �إلى هناك؛ ومن هناك �إلى هنا"((( .وهذا الزوغان واالنزالق
بين ح��دود ال�شكل والم�ضمون ،هو ما يمنح ال�صورة ت�أثيرها ،وفاعليتها في تحفيز
(القارئ /الم�شاهد) �إلى تمليها ،وتتبعها ،بانجذاب وان�شداه تام �إلى حراكها ،ومثيرها
الداخلي ال� شكلها ال�ساكن �أو لقطتها الراكدة.
ول��و نظرن��ا -ف��ي م�ؤثرات ال�ص��ورة التف�صيلية في المقبو���س ال�ش��عري -نلحظ طابعها
ال�س��ردي الممط��وط؛ م��ن خ�ل�ال الحبك��ة الق�ص�ص َّي��ة الت��ي اعتمدت �أ�س��لوب ال�س��رد ال�ش��ائق؛ وقد
ا�س��تغرق ال�ش��اعر بالتفا�صيل ،للتعبير عن هاج�س��ه الزمني المرعب؛ �إذْ � َّإن ما يخافه ال�ش��اعر
دائم � ًا ه ��و ف ��وات الأوان ،ورحي ��ل �س ��نوات العم ��ر م�س ��رعة دون �أن يجن ��ي م ��ن ثم ��ار الأنث ��ى
وينابيعه��ا المعط��اءة �إال القلي��ل؛ فه��ي الت��ي تمنح��ه ن�س��ع الحي��اة وتزي��ده �صباب��ة وع�ش��ق ًا؛
زيها اللغة وال�ش��عر؛ فهو يخاف �أن تهرب الأنثى من عالمه هروب اللغة
فالمر�أة تمثل له في ِّ
�عري؛ بمعن��ى � َّأن جهام��ة الزم��ن ورحيل��ه البرق��ي ال�س��ريع ي�ض��ع ال�ش��اعر ف��ي
ونب�ضه��ا ال�ش� ّ
ال�ص��راع القل��ق م��ع هاج���س الزمن المرعب �أن يفقد ينابيع ال�ش��عر ممثلة ب��ـ [المر�أة /واللغة]؛
و� َّإن م��ن ِّ
يدق��ق ف��ي الق�صي��دة يلح��ظ � َّأن ال�ش��اعر يعتمد ال�ص��ور الو�صف َّية الجزئي��ة التي تر�صد
الأح��داث بتفا�صيله��ا ،وحيثياته��ا الجزئي��ة؛ رغب��ة من��ه ف��ي الإحاطة بتم��ام ال�ص��ورة�،أو كل َّية
الم َج ِّ�س��دة للق�صي��دة؛ ولع� َّ
�ل ه��ذا الأ�س��لوب الوا�ض��ح ف��ي تفري��ع الم�ش��هد� ،أو الر�ؤي��ة الكل َّي��ة ُ
�عوري الت�أمل��ي؛ �إذْ � َّإن الق� ُ
�ارئ يلح��ظ ه��ذه ّ ال�ص��ور؛ وبل��ورة منحاه��ا الفن��ي ُي َع��زِّ ز الم��د ال�ش�
التفريع��ات من��ذ اال�س��تهالل ال��ذي ابت��د�أه بهذه الجمل��ة " :انتظرني قلي�ل�اً "؛ فاالنتظار يدل على
هاج���س الزم��ن ،وف��وات الأوان ه��ذا ال�ش��عور الذي جعل��ه قلق ًا على ال��دوام؛ و�إن القارئ يلحظ
�ردية الق�ص�ص ّي��ة ف��ي بني��ة ال�ص��ورة؛ ممرك��ز ًا ر�ؤيتها �صوب مح��ور غزلي
ه��ذه التفريع��ات ال�س� َّ
�ط جماله��ا بح�س��ن وقعه��ا النف�س��ي ،وت�ش��كيلها �اعرية تخ� ّ
َّ ت�صويري��ة �ش�
َّ رومان�س��ي ب�إيقاع��ات
الم ْ�ش�ت ََهى ..ح� َّ�ر ًة �تِ ...م ْث َل َم��ا َع ْه� ُ�د ُه بحري��رِ ُ�أ ِ
نوثته��ا ُ الفن��ي؛ كم��ا ف��ي قول��ه" :ه��ي ذي �أقبل� ْ
النهار"؛ فال�صورة نلحظها -رغم �إطنابها� -ش��اعرية؛ نظر ًا �إلى
ْ كالق�صي� ِ
�دة /نا�صع� ً�ة مث��ل ِ
قلب
التر�س��يمات الم�ش��هدية الكثافة في التفريعات الجزئية؛ الأمر الذي جعل عن�صر ال�س��رد يبدو
ر�ش��يق ًا عل��ى الق��ارئ؛ تدل عليه جمالية الفكرة ،ورومان�س� َّية الق�ص��ة ،ونهايتها التراجيدية؛
وه��ذا يقودن��ا �إل��ى الق��ولَّ � :إن الإغ��راق في ت�صوير التفا�صيل الجزئية عند الكثير من ال�ش��عراء
ق��د يثق��ل كاه��ل ال�ص��ورة؛ ويجعله��ا معق��دة الر�ؤي��ة رغ��م منظورها الفن��ي ،و�ش��كلها الإيحائي
ال�شاعري الجميل.
لكن ما ي�شفع ل�شاعرنا -في المقبو�س ال�سابق� -أن اللقطات التف�صيلية جاءت �شعرية
في ظاللها الإيحائية ومدها ال�شعوري ،وطيفها الجمالي الجذاب؛ وهذا ما جعلها تفي�ض
ح�سا�سية ،ونب�ض ًا �أنثوي ًا يرمي بظالله على اللقطات بقوة دافقة بالحيوية ،والإ�شراق
الجمالي ،كما في اللقطات التالية " :قنطرة ال�صوت -دمه المتراخي� -صفير القطار -حرير
�أنوثتها الم�شتهى -نا�صعة مثل قلب النهار -ثغرها ال�شجي"� .إن من يت�أمل هذه اللقطات،
بعمق ،يلحظ مكمن �شعريتها ،وعن�صر تخييلها الرومان�سي ،وتر�سيمها الدقيق للنب�ض
ال�شعوري الداخلي؛ لت�سمو اللقطات ك�سمو روح��ه ع�شق ًا ،و�صبابة ،بلوحة مزرك�شة
بالحيثيات والألوان الجذابة ،والمفارقات الجمالية؛ يقول �شوقي بزيع� " :إن ال�شعر عدو
الطم�أنينة؛ ويجب �أن ي�شعر ال�شاعر ب�أن هناك �أزمة بينه وبين عنا�صر الوجود من حوله �أو
بينه وبين نف�سه ،لكي يجد ما يحثه على التغيير ،وي�ستثيره على التعبير ،وعلى الكتابة
الجديدة عدم الوقوع في الطم�أنينة التي هي قتل لمعنى ال�شعر نف�سه"((( .وبهذا المعنى،
بدت ال�صورة ال�شعرية ذات قدرة على التعبير عن هذه الأزم��ة ،بالم�شهدية والحراك
ال�شعوري ،ومالءمتها للحالة النف�سية؛ يقول قي�س مجيد المولى " :ال�شعر مباغتة للديمومة
يقف ما بين حد التعبيرات الثرية والتعبيرات المملة ما بين فا�صل ،ما بين الحوا�س ،ما
بين الغايات الفل�سفية والغايات الجمالية؛ لإجادة التماهي ل�صياغة الكونية الجديدة؛ وهي
الإيحاء ،والغمو�ض ،والوا�سطة لتحرير الذهن من كل الأ�شياء التي ارتبطت به؛ ليتماهى مع
العالم م�ؤثر ًا ومت�أثر ًا"(((.
َّ
والالفت � َّأن �شوقي بزيع ُي َل ِّون في �أ�شكال ال�صور التف�صيل َّية التي تر�صد الأحداث
الجزئ َّية؛ تبع ًا لمنظوره الفني ،وحجم ال�ضغط ال�شعوري الذي يعانيه لحظة المخا�ض
ال�شعري؛ مما يجعلها ممطوطة بالتق�صي ال�سردي �أحيان ًا؛ نظر ًا �إلى تراكم ال�صور الجزئية،
وت�شعب �أن�ساقها �ضمن ال�صورة المركز� ،أو" ال�صور" -المحور"؛ كما في قوله:
ويحدث � ْأن يرى في النهر �صور َتها
ُ "
فيتب ُع دونما �ضو ٍء
ال�سكرى تم ُّو َج َ�ش ْم�سِ ها َّ
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤوال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .427
-2الم�صدر نف�سه ،ج� ،1ص .383-382
ما ينبغي مالحظته بداية� :أن ال�صورة التف�صيلية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تعتمد على
لعبة المقاربة والمباعدة بين اللقطات؛ فاللقطات ال تجري على �سوية م�شهدية واحدة؛ وهذا
الحراك الب�صري هو ما يمنحها هذا الدفق ،وهذه ال�سلطة الت�أثيرية في التكثيف ،والإيحاء؛
يقول ريت�شاردز " :ال�شعر ال�صادق هو الذي ِّ
يولد في القارئ الذي يتناوله بالطريقة ال�سليمة
ا�ستجابة ال تقل في الحرارة ،والنبل ،وال�صفاء عن تجربة ال�شاعر نف�سه"((( .وال�شاعر
عندما يلتقط الم�شهد بحرارة اللحظة العاطفية ،وطزاجتها ،وحيوية اللقطات ،وت�سارعها؛
ف�إنه ي�ؤثر في القارئ /الم�شاهد ت�أثير ًا جمالي ًا؛ ال يقل �ش�أن ًا و�أهمية عن الم�شهد ال�سينمائي
�أو اللوحة الفنية المتكاملة الخطوط ،والأحجام ،والظالل ،والر�ؤى الفنية ،الممغنطة
للتجربة.
وبالنظر -في م�ؤثرات اللقطات التف�صيلية -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ تفاعل
اللقطات ،لتحقيق عن�صر �إثارتها؛ مما يعني �أن كل لقطة تف�صيلية هي ب�ؤرة جمالية ارتدادية
انعكا�سية للقطة الرومان�سية الأخرى التي تليها ،لت�شكل منعرج الر�ؤية ،ومركز ثقلها
أ�صابع ك ِّفه
ِ �شفرة الأُنثى�،
ِ [تمو َج َ�ش ْم ِ�سها َّ
ال�سكرى ُّ الب�صري �أو الم�شهدي ،كما في هذه ال�صور:
ف�ضاء تخييلي ًا،
ً الحيرى]؛ فهذه اللقطات بقدر ما هي مغايرة م�شهدي ًا بقدر ما هي جذابة
وحيز ًا م�شهدي ًا مج�سدي ًا ،لإبراز حيوية الم�شهد الغزلي ،وتحقيق عنا�صر �إثارته؛ مما يعني:
" �أن الح�سا�سية الجمالية الجديدة في ع�صر ال�صورة تعمد �إلى تقوية الذاكرة الب�صرية؛ ومن
ثم تقنيات الحداثة ال�شعرية تنجح بقدر ما ت�ست�صفي من معطيات النظر ،وتالئم بين درجات
�ألوانه؛ فهذه هي الطريقة التي تتحول الر�ؤية الب�صرية� ،إلى ر�ؤية �شعرية ثاقبة .كلما كان
الم�شهد خالي ًا من التعليق المبا�شر ،والثرثرة الف�ضفا�ضة كان �أبلغ و�أكثر احترام ًا لذكاء
القارئ ،وا�ستفزاز ًا لقدرته على الفهم والت�أويل"(((.
إثر تلقي ال�صور الم�شهدية ذات اللقطات
وثمة �إح�سا�س �شعوري جمالي ينتاب القارئ � َ
المتباعدة والمتقاربة في ق�صائده؛ التي تبث مظاهر اغترابه النف�سي� ،أو حنينه لاللت�صاق
بالأنثى الحلم؛ وك�أن الت�سا�ؤالت ،والإفرازات الم�شهدية ،واللقطات المتتابعة ،ب�ؤرة حراك
الإح�سا�س ،وتنامي ال�شعور المتوتر لديه ،كما في قوله:
" وي�س� ُأل:
هل ُي َز ِّو ُج ُر َ
وح ُه للنهرِ؟
الم�صب؟!
ّ هلي يم�ضي بها نحو
�أم يبقى وحيداً في ِّ
مهب غيابِها
كالقطر ِة البلها ِء
منتظراً قدو َم المر�أ ِة الأخرى
وي�س� ُأل..
ثم ي�س� ُأل..
يملك �أن يكون النه َرلي�س َ
ي�شرب المجرى"(((. َ �أو � ْأن
ال بد من الت�أكيد بداية� -أن اللقطات التف�صيلية -في ق�صائد �شوقي بزيع -هي ا�ستن�ساخ
�شعوري لما ر�آه عيني ًا؛ �أو تمثل �أمام ناظريه في مخيلته ال�شعرية ،م�ضفي ًا على �صوره
نب�ضاته ال�شعورية ،ومخيلته الغنية الخ�صبة بكل مخزوناتها الإبداعية المتدفقة ع�شق ًا
للطبيعة ،وهيام ًا بمفرزاتها الجمالية من �أمكنة ،ومرثيات ،ومتخيالت رومان�سية تقع
�ضمن حقل الأنوثة؛ ولهذا ،ال تبدو ال�صورة غريبة عن عالمه ال�شعري ،بقدر ما هي محايثة
لدواخله ال�شعورية التي تنم على غنى تجربته ،وخ�صوبتها الفنية المكت�سبة من حياة
الريف ،وب�ساطتها ،وتدفق ينابيعها ال�صافية؛ وهذا دليل �أن ال�صورة -عند �شوقي بزيع"-
عن�صر مهم من عنا�صر بناء الق�صيدة ،ف�ض ً
ال عن كونها ال�شكل الراقي للغة االنفعالية ٌ
والعاطفية"(((.
وبالنظر -في م�ؤثرات اللقطات التف�صيلية في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن مكمن
�شعرية الق�صيدة هذا التنا�سق الجمالي في التقاط ال�صور ،ور�صد �سيرورة تفا�صيلها
َّ
الجزئ َّية؛ برومان�س َّية �آ�سرة؛ تجذب روح المتلقي؛ �إلى حيثياتها الجزئية ،وت�شكيالتها
مهب غيابها -كالقطرة البلهاء]؛ وهذا الأ�سلوب
ّ وح ُه للنهرِ -
[يزَ ِّو ُج ُر َ
الن�ص َّية المراوغةُ :
�شعرية �شوقي بزيع ت�سبح في ف�ضاء ال�صور التف�صيلية التي ت�ستقي ّ
جل َّ يقودنا �إلى القولَّ � :إن
اللغوية
َّ الت�صويري؛ بالتمف�صالت
ّ �إثارتها من ت�شعباتها الجزئية المبتكرة في ن�سقها
ال�شاعرية التي ت�ؤكِّ د مطواعية اللغة لديه ،وقدرته على تفعيلها بال�شكل الفني المنا�سب،
َّ
لما يجول في خاطره من ر�ؤى ،وم�شاعر ،و�أحا�سي�س؛ و� َّإن من ِّ
يدقق -في المقبو�س ال�سابق-
ال�شعري ،ب�أ�سلوب تو�صيفي ق�ص�صي
ّ يلحظ � َّأن ال�شاعر يعتمد ال�صور التف�صيل َّية لر�صد الم�شهد
�شائق؛ ممركز ًا حركة الق�صيدة حول هذه ال�صور التف�صيل َّية التي تزيد لحمة الق�صيدة ،لتملي
ال�شعري؛ َّ
والالفت � َّأن ا�ستغراق ال�شاعر في تملي ال�صور الجزئية ،وبعثرتها ي�ؤكِّ د ّ الحدث
قدرته على خلق ال�صورة ،بحيثياتها الجزئية ،ومنحاها الت�أملي؛ وهكذا؛ يبني ال�شاعر
الن�صي ،وتفاعلها �ضمن ن�سقها
ّ �شوقي بزيع دينامية �صوره الجزئية ،على مثيرات ت�آلفها
أطنب ال�شاعر في ت�شكيالتها ،وتفريعاتها الن�ص َّية.
ال�شعري؛ مما يجعلها متناغمة ،و�إن � َ
ّ
ودليلنا �أن ال�شاعر ي�ستقي عن�صر جمالية ال�صورة التف�صيلية من تحثثها ،وطزاجتها،
بلغة مطواع ،و�إح�سا�س جمالي ،لحيوية الم�شهد ،وطزاجته ،و�شعرية اللغة ،ومثيراتها
الت�شكيلية؛ يقول �شوقي بزيع� " :إن ما �أعتبره �أ�سا�سي ًا في تجربتي هو محاولة المزاوجة بين
حداثة تتحثث مواطئ �أقدامها عبر ر�ؤى مغايرة؛ وعبر لغة طازجة ،و�صور غير م�ألوفة،
وبين الحفاظ على مكت�سبات الما�ضي والموروث ،نجيب �إن هذه التجربة تفيد ،وتغرف من
ينابيع التراث ،فيما تزود بهذه الينابيع ،لكي تذهب �إلى �أماكن �أخرى �أحاول قدر الم�ستطاع
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .421-420
�أن �أوافق بين ال�شكل ال�شعري الذي يحافظ على جماليته ،ويحافظ على �أناقة اللغة من
جهة ،وهو في الوقت ذاته يتكئ على نب�ض القلب ،و�صدق التجربة من جهة ثانية ،بحيث
�إن هذا الجمال ال يتحول �إلى تجميل م�صطنع ،وال �إلى تو�شية لفظية مح�ضة �أي�ض ًا"(((.وبهذا
المنحى؛ يبدو البزيع متم�سك ًا ب�أ�صالته التراثية من جهة؛ ومجذر ًا ر�ؤيته الحداثوية على
تفعيل الطاقة اللغوية؛ لتبدو ثرة متدفقة ب�شهوة الإبداع ،والحما�سة العاطفية الد�ؤوبة على
ا�ست�شراف الأ�شياء ،وتخليقها �شعري ًا ،من جهة ثانية؛ وال غرو �إزاء ذلك �أن يكون" ال�شعر هو
القدرة ال�سحرية على تحويل غير المنظور �إلى منظور حي ،وعلى تحويل الكلمات �إلى
�أ�ضواء باهرة يجدد �ألوانها المثيرة كلما تجدد �إليها النظر ...وهذه الحقيقة �أعني رمزية
العمل الأدبي ،وتعدد معانيه ،وتعدد انفتاحاته ح�سب الظروف والحاالت هي تجربة يمر
بها كل قارئ"(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤوال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .423
-2الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .421-420
في لحظة من الزمن؛ تتجلى فيها �أحالم ال�شاعر وطموحاته ،وتك�شف عن �سحر ال�شعر،
وما يحمله من ده�شة وجدة"(((.
�شعوريا للقلق الذي يرافق
ًّ وبناء على هذا؛ تُ َع ُّد ال�صورة العاطفية الم�أزومة امتداد ًا
ً
الذات ال�شاعرة في رحلة ت�أملها ،واغترابها ،وعذاباتها المريرة ،وا�صطهاجها مع جدليات
ال�شعورية؛ بكل كثافتها ،واحتدامها،
َّ الواقع والحياة؛ ب�صورٍ تميل �إلى ر�صد الحالة
وتوترها ،وا�صطهاجها العاطفي؛ وعلى هذا؛ ّ
وظف ال�شاعر �شوقي بزيع ال�صورة العاطفية
الم�أزومة في �سياق ق�صائده الوطنية �أو الثورية التي يطغى عليها الإيقاع االنفعالي الثوري
رغم الهدوء الذي ي�صاحب بع�ض ال�صور �أحيان ًا؛ كما في قوله:
"تم�شي جنازته ال ُه َو ْينا
لتجه�ش بالبكا ْءَ ث َّم ُت ْو ِق ُفهَا �صنوبر ٌة
ُت َن ِّك ُ�س الأ�شجا ُر هام َتها
ل َي ْعب َر
والطيو ُر على نوافِذِ هَا تراقب َن ْع َ�ش ُه الغافي
وترمق َح َّبتي عينيهِ؛ ُ
يعب ما َء الزنزلخت وهو ُّ
فتى الينابي ِع ال ُم َت ِّو ُج،
َي ْ�ص َع ُد ال ُد ْفلَى �إلى دَمِ ِه ويخر ُج من ُه
�أكث َر ُحمر ًة؛
وي�سير...
تتبع ُه ال�سناب ُل حا�سراتِ الر� ْأ�س.
ظريف الطولِ َم َّر كن�سم ِة الر َّمانِ �أ َّول �أم�س!.((( ". َ
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن جمالية ال�صورة العاطفية -في ق�صائد �شوقي بزيع-
ت�شير �إلى م�ضمون �شعوري� ،أو ر�ؤيوي عميق حتى في زخم االنفعال ،و�أوج التوتر ،بمعنى
�أن الن�شاط الذهني ال يخفى عن �صوره العاطفية الم�أزومة؛ �إذ ثمة موازاة حقيقية بين ما يعيه
البزيع وما يح�سه من جهة ،وما يخرج عن نطاق م�شاعره من �أحا�سي�س محتدمة لحظة
المخا�ض ال�شعري� ،أو لحظة تركيب ال�صورة من جهة ثانية؛ وبهذا ،يختلف ال�شاعر المبدع
الح�سا�س عن غيره بمقدار �شعرية هذه ال�صورة التي تخرج عن نطاق ال�سيطرة ،ومقدار قدرة
المبدع في الآن ذاته على امتطاء �صهوتها بمهارة وامت�شاق فني في �إبراز محك التجربة
ٍ
معان دقيقة، ومحور تفاعلها واتزانها الن�صي؛ يقول �سعيد توفيق " :فالم�صور ال يقدم لنا
لأنه ال يتعامل مع �إ�شارات لها دالالت خارجية؛ و�إنما هو يقدم �أ�شياء بعينها ال �صلة لها
بالواقع الخارجي .وعلى نف�س النحو ي�ستخدم ال�شاعر الكلمات �أو �إن �شئت قل� -إنه
ال ي�ستخدمها على الإطالق؛ �إنها بالن�سبة له لي�ست �أدوات ،بل هو ينظر �إليها على �أنها
�أ�شياء ،تمام ًا مثل الع�شب والأ�شجار� ،أما الكاتب النثري ف�إن نظره يكون موجه ًا نحو
المو�ضوع الذي ت�شير �إليه الكلمات ،فالنثر هو �أمبرطورية الإ�شارات ،بينما يكون ال�شعر في
جانب الت�صوير ،والنحت ،والمو�سيقا"((( .ولهذا ،ف�إن ما يغني ال�صورة مكمن الح�سا�سية
والدفق ال�شعوري المتوتر الذي تحمله في منتوجها النف�سي ،ومحمولها العاطفي ،وتقم�صها
للحدث بمقوله الفعلي الم�ؤثر.
وبتفاعلنا مع المقبو�س ال�شعري نب�ض ًا ،و�إح�سا�س ًا ،وعاطفة ،نلحظ قدرة ال�شاعر
على تر�سيم �صوره العاطفية الم�أزومة تر�سيم ًا م�شهدي ًا دقيق ًا ،وك�أن جنائزية الم�شهد
الرثائي الحزين فر�ضت نف�سها على حيوية ال�صورة العاطفية؛ لتحمل طابعها الحدادي
ال�صامت؛ فعلى الرغم من هدوء ال�صورة العاطفية ف�إنها جاءت �صارخة داللي ًا معبرة عن
حنوه ،و�إح�سا�سه بعظمة ال�شهيد؛ فجاءت ال�صور هادئة بجر�سها المو�سيقي باعتماده على
الأ�صوات ال�صامتة ،ركيزة �صوتية في بث جنائزية ال�صورة بحدادها ال�شعوري الخانق الذي
ثم تُ ْو ِق ُف َها
اله َو ْينى َّ
ي�صل حد ال�صمت المطبق ،كما في ال�صور التالية " :تم�شي جنازته ُ
.ظريف الطولِ َم َّرَ أ�س ِ
حا�سرات الر� ْ ُ
ال�سنابل تتبعه
ُ بالبكاء /وي�سير...
ْ َ
لتجه�ش �صنوبرةٌ
الرم ِ
ان � َّأول �أم�س"� .إن من يدقق في هذه ال�صور االن�سيابية لتبدى له وقعها الهادئ َّ ِ
كن�سمة
الذي ين�ساب ب�إيقاع �شعوري مت�صدع رغم ال�صمت المطبق الذي خيم على �إيقاع ال�صور،
وحروفها ،وكلماتها؛ لتحمل �شحناته العاطفية ،تبع ًا لل�صمت المهيب الذي يرافق عملية
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .421-420
الت�شييع .وهذا دليل �أنه لي�س من �شروط ال�صورة العاطفية الم�أزومة �أن تنبني جزئياتها
على الفرقعة ال�صوتية �أو ال�صخب ال�صوتي المرافق للذبذبات ال�شعورية المحتدة؛ فقد ت�أتي
الق�صيدة �شعلة في االتقاد ،والت�أجج العاطفي رغم �إيقاعها ال�صامت وحروفها الرخوة؛ وهذا
ما الحظناه في المقبو�س ال�شعري.
وللتدليل على ذلك �أكثر نورد قوله:
" لماذا ت�سقطون؟....
يجف كورد ٍة وتتركو َن دمي وحيداً كي َّ
في ال�صيفِ ،
يموت وال �أُو ِّد ُع ُه
�أقربك ْم �إلى قلبي ُ
و�أَلمحكم جنائ َز في البعيدِ ...
وال �أ�ش ِّي ُع واحداً منكم �إلى مثواه،
�سنتين لم ُت ْب ِ�صر ُكم عيناي ِ من
لم �ألم ُح �سنونو ًة على �أ�سالكِ َغ َّ�صتك ْم..
ال�شم�س فو َق جرو ِد ماعز ُك ْم ِ ولم �أ�سم ْع ثغا َء
ولم � ْأ�ش َت َّم خبز ُك ُم الذي َي ْح َم ُّر فو َق ال�صا ِج
�سنتين والأموا ُج تقذفني ِ من
�إلى فلواتِ هذا التي ْه
�شي ٌء َت َق َّ�ص َف في ثالثينات هذا القلب"(((.
� َّإن �أبرز ما يم ِّيز ن�سق الق�صيدة �صورها العاطف َّية الم�أزومة التي تر�صد م�شهد ت�شييع
لغوية؛ ي�ستقي ّ
جل �إثارتها من رهافة ال�شعور العاطفي� ،إزاء هذا الم�شهد َّ ال�شهيد؛ بت�شكيالت
الحزين؛ م�شارك ًا الجماد في الإح�سا�س؛ حتى الأ�شجار نَ كَّ َ�س ْت هامتها؛ وال�صنوبر � ْأج َه َ
�ش
بالبكاء ،وال�سنابل تتبعه حا�سرات الر�أ�س تندبه منك�سرات بال�صمت المهيب؛ ثم يتابع ن�سق
أ�سى ،وحزن ًا ،وح�سرات؛ كما في �سل�سلة ال�صور التالية:
ال�صور العاطف َّية ب�أحا�سي�س م�شتعلة � ً
�شيء تَ َق َّ�ص َف في ثالثينات هذا القلب؛
ٌ التيه/
ْ أمواج تقذفني �إلى فلوات هذا
"من �سنتين وال ُ
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،1ص .228-226
بح�س
ّ "هنا؛ يعتمد ال�شاعر ال�صورة العاطف َّية الم�أزومة في ّ
بث مكنون الذات ،وت�أمالتها؛
انك�ساري �شعوري م�أزوم؛ مكثف بالر�ؤى االحتجاجية اليائ�سة التي تبدو ذات م�سار �سردي
ق�ص�صي �شائق �أكثر من كونها ذات فرقعات �صوتية حا َّدة؛ بمعنى � َّأن ح َّدة االنفعال تكمن في
تر�سيم الجملة عاطفي ًا؛ ال بالأ�صوات ال�صاخبة على نحو ما نلحظه في �سياقات الق�صائد
ال�شعورية الداخلية؛ �إزاء ما يجري من �أحداث
َّ الثورية دائم ًا؛ و�إنما ب�إيقاعات االحتجاجات
َّ
ب�أ�صوات هادئة تبث �صخبها الداللي �أكثر من رنينها ال�صوتي الإيقاعي الحاد؛ كما في قوله:
ِ
ال�صيف .../من �سنتينِ لم ٍ
كوردة /في َّ
يجف "لماذا ت�سقطون؟ ...وتتركونَ دمي وحيد ًا كي
تكم"..؛ وهكذا؛ ف� َّإن البنية الت�شكيل َّية ِ
أ�سالك َغ َّ�ص ْ ً
�سنونوة على � تُ ْب ِ�صركُ م عيناي /..لم � ُ
ألمح
لل�صور العاطفية الم�أزومة -عند �شوقي بزيع -م�ؤ�س�سة على الهدوء ال�صوتي وال�صخب
ال�شعوري ،والنب�ض
ّ الداللي؛ مما يجعلها ذات كثافة �إيحائية في التعبير عن حجم التوتر
وي َع ُّد هذا النمط البنائي الت�صويري
العاطفي؛ �إزاء الأحداث ،والر�ؤى الواقع َّية المتناق�ضةُ ،
-عند �شوقي بزيع -من مثيرات بنية ال�صورة وت�شكيلها الفني لديه.
بمعنى �أن البزيع ال يقف في ال�صورة العاطفية ح َّد تكري�س الم�شاعر االنفعالية
الحادة بق�صد التعرية بالمنظور الواقعي الح�سي المبا�شر؛ و�إنما يخلق ذهنية تفعيلية،
قادرة على تكثيف الإيحاء ،وتعميق الر�ؤية االحتجاجية بمنظورات عميقة ،ومداليل
م�ستبطنة عمق الذات ،وحالتها ال�شعورية الم�أزومة من الداخل؛ وتبع ًا لهذا " :اهتم ال�شاعر
المعا�صر بخلق المفاج�آت وال�صدمات بوا�سطة الإيقاع المتولد عن ا�ستجابات النف�س ،وهذا
ما يجعل المتلقي في و�ضعية انتظار الجديد على م�ستوى الت�شكيل ال�صوتي ،والمو�سيقي
المتنا�سب مع الحاالت النف�سية المتموجة لل�شاعر؛ وهنا؛ تتجلى قدرة ال�شاعر الإبداعية في
ال�سيطرة على و�ضع الكلمات في �أف�ضل ن�سق ي�ساوي تمام ًا الحالة ال�شعورية التي ي�شكلها من
خالل الكلمة التي اكت�سبت و�ضعها داخل ال�سياق"(((.
ومن �أبرز مثيرات ال�صورة العاطفية الم�أزومة -عند �شوقي بزيع -االغتراب الوجودي،
ونفي العالم الواقعي ،والحلم بعالم ثاني كوني؛ ت�سمو فيه الروح فوق دنايا الواقع،
و�أزماته الخانقة؛ وهذا ما تب َّدى في ال�صور العاطفية الم�أزومة التي ي�صف فيها حال ال�شاعر؛
كما في قوله:
-1عبو ،عبد القادر - 2007 ،فل�سفة الجمال في ف�ضاء ال�شعرية العربية المعا�صرة� ،ص .144
ما ينبغي ت�أكيده بداية� :أن ال�صورة العاطفية الم�أزومة -في ق�صائد �شوقي بزيع-
لي�ست عميقة التخييل� ،شديدة التعقيد ،والتكثيف الإيحائي ،و�إنما هي نمط من الإح�سا�س
الدافق بالحيوية ،والتنظيم ،ال�شعوري �إزاء موقف ما� ،أو حالة �شعورية معينة" بمعنى:
�أنها ر�صد لحراك الذات ،و�إح�سا�سها بالرع�شة ال�شعورية حين ًا؛ رغم هدوئها وان�سيابها
الآ�سر الذي يتبدى في طغيان لغة ال�سرد في بع�ض الأحيان.
ّ -8
فنيّة الصورة البانوراميّة المفتوحة:
ونق�صد بـ [ف ّن ّية ال�صورة البانورام َّية المفتوحة] :ال�صورة المفاجئة التي يعتمد فيها
م�شهدي مثير،
ّ الم�شهدي؛ وعن�صر الت�شويق في ت�شكيلها؛ لتبدو ذات انفتاح
ّ ال�شاعر التنويع
ب�صريا؛ يقول حمد محمود الدوخي" :
ًّ باالرتكاز على لقطات مفاجئة ،تثير القارئ؛ وتُ َف ِّعله
لقد �أفاد ال�شاعر المعا�صر من �أنواع الم�شهد ،والذين قد ا�صطلح(لوبوك) بم�صطلحين ،الأول
بالم�شهد البانورامي( )phanaramicوالذي يعتمد م�سرحة الم�شهد ،والثاني ما ي�سميه
بالم�شهدي( ،)scemicوالذي يعتمد على الو�صف للأحداث"(((.
وتعد ال�صورة البانورامية مرتكز ال�صورة الدرامية في تكثيفها للموقف ،وت�شعيرها
للحدث؛ فـ"الدراما من حيث هي مو�ضوع جمالي تكون مو�ضوع ًا ق�صدي ًا متخيالً .ولكي تظهر
الدراما للم�شاهد ،كمو�ضوع جمالي ف�إنها ال بد �أن تعتمد في ظهورها على و�سيط فيريقي
يعمل كمماثل لها"((( .وت�أ�سي�س ًا على هذا يرى ال�شاعر �شوقي بزيع �أن ق�صائده ت�شتغل على
تقنية الدراما� ،أو ال�صورة الدرامية؛ لأن الن�ص ال�شعري هو تعدد �أ�صوات �أو تحاور �أ�صوات
داخل الذات الإن�سانية� ،إذ يقول� " :أعتقد ب�أني ا�شتغلت على البنية الدرامية في الق�صيدة،
بحيث �أن الق�صيدة تتولد من نف�سها ،وتتمحور حول ب�ؤرتها لكي ال تت�شتت ،ولكي ال تبحث
ب�شكل مجاني عن الت�صيد باللغة ،وال�صو،ر والتعابير ،ف�أنا �أحتفي بالإيقاع ال�شعري من
دون �أن �أتعمد التطريب؛ و�أحتفي �أي�ض ًا بالم�سرح ال�شعري� ،أي بتعدد الأ�صوات وت�صادمها،
لأنني �أعتبر �أن في داخل كل �إن�سان هناك �أكثر من هوية .هناك دائم ًا ما هو مختلف ومغاير،
وهذا يذكرني بقول رامبو" �أنا �آخر"� ،أي �أن الآخر الذي في داخلي يدعوني �إلى محاورته؛
ولذلك ،يعني يمكن ل�شعري �أن يفيد �إلى حدود بعيدة من الم�سرح بقدر ما يفيد من البنية
ال�سردية المتوفرة في الرواية من دون �أن يخ�سر من ثقلي ال�شعري"((( .ولهذا ،تبدو ال�صورة
البانورامية �أكثر حركية ،واحتدام ًا من ال�صور الأخرى�.إذْ � َّإن هذه ال�صور ال تُ َف ِّعل القارئ
الن�ص ّية؛ وتزيد فاعل َّية
ّ تحرك الر�ؤية
ِّ بر�ؤية وحيدة جزئية؛ و�إنما بمجموعة ر�ؤى متداخلة؛
ب�صريا؛ لت�أتي لقطة
ًّ الق�صيدة؛ وغالب ًا؛ ما تمتاز هذه ال�صورة بتراكم اللقطات ،وتتابعها
الب�صرية الأخرى؛ وقد اعتمد ال�شاعر
َّ الم�شهدية؛ وتعزِّ ز �سيرورة ال�صور
ّ مفاجئة تثير الحركة
�شوقي بزيع على هذا النمط الت�شكيلي من ال�صور البانورام َّية في �إ�ضفاء طابع حركي ب�صري
على ال�صور الأخرى؛ كما في قوله:
" َ�ش ِب ٌق كامر�أ ٍة َت ْم َتحِ ُن النه َر ب�ساقيها
ونا ٍء كربيع لم َت ُع ْد �أزها ُر ُه
من كربال ِء
�شعوب من مراراتٍ ٌ َت َته ََّجانِي
الخوف ورائي
ِ وتعدو �أبجد َّي ٌات من
الوهم
ِ �أ�سرجوا لي فر�ساً من خ�شبِ
تنين الخ�ساراتِ أطعن َ لكي � َ
ب�أعقابِ حنيني
ولكي �أم�ضي �إلى ع�شبٍ
يغطيني ب�أهدابِ بالدي"(((. ِّ
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن ال�صورة البانورامية -في ق�صائد �شوقي بزيع� -صور
تحري�ضية ،مم�سرحة للر�ؤيا ،وكا�شفة مخزونها ال�شعوري ،وم�ؤثرها التر�سيمي الغزلي
�إزاء مواقفه المتعددة والمتناق�ضة في الأنثى ،فهي تخليق لل�صورة البانورامية الر�ؤيوية
المحركة للن�سق ،والكا�شفة عن منحى ر�ؤيوي في فعل الخلق ،والك�شف ال�شعري؛ لهذا،
دائم ًا ،ينظر البزيع �إلى ذاته على �أنه متعدد؛ �إذ ي�شعر �أن ثمة �أ�صوات ور�ؤى متحاورة
(مت�صادمة داخله) �إح�سا�س ًا ور�ؤية؛ �إذ يقول� " :أنا متعدد ول�ست واحد ًا� ،أحيان ًا �أرى المر�أة في
�إطار رومان�سي وردي ،و�أحيان ًا �أخرى �أرى المر�أة في �إطار �صراعي في �إطار عنفي ،في �إطار
القلق؛ والتوتر .((( "..وهذا دليل وعي البزيع بالدور البانورامي الدرامي الم�شهدي في
خلق الت�أثير؛ عبر الجدل �أو التناق�ض بين الأ�صوات المتحاورة؛ يقول الناقد علي جعفر
العالق " :ال بد لل�شاعر الدرامي� ،أو ال�شاعر الذي يختار الكتابة للم�سرح �أن ي�صفي بروح
رحبة ،ورهافة عالية �إلى طبيعة المو�ضوع؛ وبنية ال�صراع ،وعنا�صر تكوينه .عليه �أن
ين�سى �أنه �شاعر مح�ض ،من�شغل بنب�ضه ال�شعري ،ومهموم به لذاته ،فهو في العمل
الم�سرحي� ،شاعر درامي� ،أي النمط الأخير من �أ�صوات ال�شعر الثالثة ح�سب �إليوت :يخلق
�شخ�صيات ،ويفجر �أحداث ًا ت�شكل كلها معاد ًال مو�ضوعي ًا لر�ؤياه وموقعه من الكون� ...إن
على ال�شاعر الدرامي �أن يلب�س مكنون ذاته �أ�شكا ًال ملمو�سة ،ووجود ًا مو�ضوعي ًا ،منف�ص ً
ال عنه
ومرتبط ًا في �آن واحد .ومن �أجل �أن يغدو ال�شاعر �شاعر ًا درامي ًا حق ًا عليه �أن يزيح عن ذاته
تلك الطبقات الكثيفة من الأغطية والدثارات ،واالن�شغال بالخارج ،والغناء المكرور،
وي�ستدرج كائناته الليلية ال�شر�سة ،و�أوهامه وت�شبيهاته ليخرج بها كلها من الداخلي،
والمظلم� ،إلى الن�صاعة ورحابة التعبير .من ظلمة الفو�ضى �إلى نهار الن�ص الدرامي الحافل
بالرعب و�شهوة الحياة مع ًا .وال يتم له ذلك ،بطبيعة الحال� ،إال بعد �أن ين�سل من لحظته
الغنائية الفردية ال�شجية ،ويدخل لحظة �أخ��رى مغايرة تمام ًا ،هي لحظة الفعل،
والت�شخي�ص ،والملمو�سية ،لحظته الغنائية تج�سيد االنفعاالت واال�شتباك مع الآخر،
وتفتيت العزلة"(((.
وبالنظر -في فاعلية اللقطة البانورامية -بحنكة م�شهدية؛ تتراوح بين عمق الر�ؤيا،
وفانتازيا تحريكها الب�صري؛ وم�سرحتها ر�ؤياوي ًا ،كما في اللقطات المتتابعة التالية:
الوهم) (لكي �أطعنَ تنينَ
ِ ِ
خ�شب ِ
الخوف ورائي) (�أ�سرجوا لي فر�س ًا من ات من
أبجدي ٌ
َّ (وتعدو �
ِ
أعقاب حنيني) ،وهذه اللقطات البانورامية؛ ال تم�سرح التجربة �أو الر�ؤيا ِ
الخ�سارات ب�
فح�سب ،و�إنما تزيد من �أفق التجربة ،وتخلق وقعها الم�ؤثر في توليف الم�شاهد ،وم�سرحتها
ر�ؤياوي ًا ،وتبع ًا لهذا " :ال يبحث العمل الدرامي عن منمنمات� ،أو زخارف� ،أو قالئد جمالية
ينجزها ال�صوت اللغوي لتطرية الجو ،وتجميله� ،إنه ال يبحث عن مو�سيقى اللفظة �أو
الوزن ،بل عن طاقة ال�شعر� ،أو ما يمكن في اللغة من قدرة على الك�شف ،والإ�ضاءة ،وهتك
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .449-448
-2الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .421-420
الحجب عن الم�ستور ،والغام�ض ،والع�صي على التحديد .ال �شيء يفوق ال�شعر في قدرته
على �إثارة الداخل الإن�ساني ،وما ي�صطرع في دهاليز النف�س من عنا�صر القوة وال�ضعف� ،أو
النبل والو�ضاعة"(((.
ولو دققنا -في م�سار الق�صيدة ولقطتها البانورامية -لتبدى لنا كثافتها ،وعمقها،
و�شعريتها ،كما في قوله:
"فلقد �أن�شبني في لحمه الأ�سو ِد
ت َّفا ُح ال�صباحاتِ
التي ترف ُل في ثوبِ الحدا ِد
�أ�سرجوني كي �أرى قطر َة �ضو ٍء
ب�ض في هَذا ال�سوا ِد َل ْم َت َز ْل َت ْن ُ
ألتف كالحبلِ على عنقِ انك�ساراتي ها �أنا � ُّ
و�أقعي مث َل بر ٍج َخرِبٍ
فو َق ُح َطامي
ُك َّلما انهار جدا ٌر في مكانٍ ما
َت َح َّ�س ْ�ستُ انهدامي
قمح بجناحي ِه ُك َّلما َ�ص َّف َق ٌ
تراءتْ لي ينابي ُع دَمِ ي الأولى
أطياف ُقرىً بي�ضا َء و� ُ
ت�صطك على مرمى عظامي ُّ
كحطابٍأفتر�ش الري َح َّ ها �أنا � ُ
و�أ�ستجلي مرايا الوقتِ وحدي
لم يلدني �شج ٌر ٌّ
قط
ولكني ،محاطاً برعايايَ ،
�س�أم�شي نحو ي�أ�سي
كغرابٍ راب َِط الج� ِأ�ش
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .421-420
بادئ ذي بدء ،ن�ؤكد �أن البعد البانورامي لل�صورة ال�شعرية -في ق�صائد �شوقي بزيع-
لي�ست بال�ضرورة تقوم على ال�صراع؛ وت�أزيم ال�صورة ،وم�سرحة حدثها �أو ر�ؤيتها بقدر ما
تقوم على تمثيل العالقة بين الأ�شياء في �إطار ا�صطراعي� ،أو تناق�ضي� ،أو احتدامي ،بهدف
تكثيف الر�ؤية ،وتن�شيط الحدث؛ يقول الناقد محمد حمزة ال�شيباني " :فالر�ؤية الدرامية
لل�صورة ال تعني ن�سخ الأ�شياء ،كما هي ،بل تعني �إعادة ت�شكيلها من خالل التحام التفا�صيل
عالئقي ًا في ب�ؤرة الت�سامي للحدث �صعود ًا �إلى ذروة المفارقة ،بو�صفها تدفقات انزياحية
تعمل على تفعيل النمو الداخلي لل�صورة الكلية ،وتفاعلها الجوهري مع البنى الأخرى.
وبهذا ،يتحدد البعد الدرامي في ت�شكيل البعد الخفي لما وراء الأ�شياء؛ بو�صفها المرتكز
الحقيقي لتج�سيد ت�أزم ال�صراع بين القوى في ت�سل�سل ع�ضوي ي�ستثمر ما تقدمه الأفعال
لل�صورة"(((.
حرك هذه الق�صيدة فن ًّيا وجمال ّي ًا ا�ستحواذها على ك ٍّم هائلٍ من ال�صور
ولعل �أبرز ما ُي ِّ
الداللي؛
ّ البانورام َّية المفتوحة؛ التي تملك فاعل َّية ق�صوى من الإثارة ،واالبتكار ،والت�شعيب
لغوية مح ِّفزة للر�ؤية البانورام َّية
َّ فال�صور ذات دالالت و�إيحاءات متتابعة مبتكرة؛ ب�أن�ساق
الوهم -كي �أطعنَ
ِ ِ
خ�شب الممتدة دالل ًّيا؛ كما في حركة الأن�ساق التالية�[ :أ�سرجوا لي فر�س ًا من
تفاح ال�صباحات -عنق ُ ِ
أعقاب حنيني -يغطيني ب�أهداب بالدي� -أن�شبني ِ
الخ�سارات ب� تنينَ
لغوي ي�سهم في تحفيز الر�ؤية البانورام َّية؛ وهكذا؛ّ انك�ساراتي -مرايا الوقت]؛ فكل ن�سق
الم�شهدية؛ معزِّ ز ًا
َّ يثيرنا ال�شاعر بهذه ال�صور البانورام َّية المفتوحة �أو المفاجئة في حركتها
ﻫﺎﺋﻞ ﻣﻦﹴ ﻭﻟﻌﻞ أﺑﺮز ﻣﺎ ﹸﳛ ﱢﺮﻙ ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺼــﻴﺪة ﻓﻨ �ﻴﺎ ﻭﲨﺎﻟ ﹼﻴ ﹰﺎ اﺳــﺘﺤﻮاذﻫﺎ ﻋﲆ ﱟ
ﻛﻢ
ﻜﺎر,
عند �شوقي بزيع ﻭاﻻﺑﺘ
ال�صورة ﺛﺎرة,
ت�شكيل اﻹ ّن ّية ﻗﺼــﻮ ﻣﻦ
الثاني :ف اﻟﺼــﻮر اﻟ ﺒﺎﻧﻮراﻣ ﱠﻴﺔ اﳌﻔﺘﻮ ﺣﺔ; اﻟﺘﻲ ﲤ ﻠﻚ ﻓﺎﻋﻠ ﱠﻴﺔ الف�صل
ﻭاﻟﺘﺸــﻌﻴﺐ اﻟﺪﻻ ﹼﱄ; ﻓﺎﻟﺼــﻮر ذات دﻻﻻت ﻭإﳛﺎءات ﻣﺘﺘﺎﺑﻌﺔ ﻣﺒﺘﻜﺮة; ﺑﺄﻧﺴــﺎﻕ ﻟﻐﻮ ﱠﻳﺔ
العاطفة؛ ﱄومﻓﺮ�ؤكِّﺳ ﹰﺎدة تناميها
اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ] :أﴎﺟﻮا معها دفقاﻷﻧ ﺴﺎﻕتحمل
التيﺣﺮﻛﺔ ﺎ;ةﻛﲈ ﰲالت�صويري
الحنكةاﳌﻤﺘﺪة دﻻﻟ �ﻴ َّ بهذه
اﻟﺒﺎﻧﻮراﻣ ﱠﻴﺔ ﻟﻠﺮؤﻳﺔالت�ﺰةأملي
�صداها ﳏ ﱢﻔ
التالية :ﺣﻨﻴﻨﻲ −ﻳﻐﻄﻴﻨﻲ ﺑﺄ ﻫﺪاب ﻘﺎب البانورام َّي ﹺة
ــﺎرات ﺑﺄﻋ ﹺ ﺗﻨﲔﹶ اﳋﺴـ ال�صور اﻟﻮﻫ ﹺﻢ −ﻛﻲ
�سل�سلةأﻃﻌ ﹶﻦ كما في ﺧﺸا؛ـ ﹺ
ــﺐ تنامي ًا ﻣﻦ
جمال ًّي
ﺴﻖ ﻟﻐﻮ ﹼﻱ
مفتوحة دالل ًّيا؛ اﻟﻮﻗﺖ[;ةﻓﻜﻞ ﻧ
ال�سابقة البانورام َّيال�صورﻣﺮاﻳﺎ
اﻧﻜ َّأنﺴﺎراﰐ− ﺼﺒﺎﺣﺎت −ﻋﻨﻖ
ال�سابق� - المخطط ﺗﻔﺎح اﻟ
ﺸﺒﻨﻲ -ﹸ
من ﺑﻼدﻱ −أﻧ
يبدو لنا هنا؛
الت�صويرية
َّ اﻟﺒﺎﻧﻮراﻣ ﱠﻴﺔ
اﻟﺼــﻮرالأن�ساق
ﲠﺬﻩ�سيرورة اﻟﺸــﺎﻋﺮ
وتعزِّ ز الم�شهد ﻳﺜﲑﻧﺎ ّ
ال�شعري؛ تثير ﻭﻫﻜﺬا; اﻟﺒﺎﻧﻮراﻣ ﱠﻴﺔ;
مفاجئة؛اﻟﺮؤﻳﺔ ﲢﻔﻴﺰ ّ
ن�ص ّية ﻳﺴــﻬﻢ ﰲ
أمالت ب�إيحاءات وت�
ﺔ ﻳ ﺼﻮﻳﺮ اﻟﺘ اﳊﻨﻜﺔ ﲠﺬﻩ
مفتوحة على دالالت متعددة؛ وت�أمالت ﱠمفاجئة في اﻟﺘﺄﻣﲇ ﺻﺪاﻫﺎ ﹰ
ا ز ﺔ; ﻳ ﺸﻬﺪ اﳌ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ ﰲ اﳌﻔﺎﺟﺌﺔ
الأخرى؛ مما يجعل ال�صور البانورامية ﱠ ﻣﻌﺰﱢ أﻭ اﳌﻔﺘﻮﺣﺔ
َّ
اﻟﺘﻲ ﲢﻤﻞ ﻣﻌﻬﺎ دﻓﻖ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ; ﻭﻣﺆﻛﱢ ﺪة ﺗﻨﺎﻣﻴﻬﺎ ﺗﻨﺎﻣﻴ ﹰﺎ ﲨﺎﻟ �ﻴﺎ; ﻛﲈ ﰲ ﺳــﻠﺴــﻠﺔ اﻟﺼــﻮر
�سيرورتها الدالل َّية؛ وهذا ما تب َّدى كذلك لنا في ال�صور الأخرى:
اﻟﺒﺎﻧﻮراﻣ ﱠﻴﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ:
ِ
ــود ﺗ ﱠﻔ ُ
* ﻓﻠﻘد أﻧﺷـــﺑﻧﻲ ﻓﻲ ﻟﺣﻣﻪ اﻷﺳـ ِ
اﻟﺻور اﻟ�ﺎﻧوراﻣ�ﺔ اﻟﻣﻔﺗوﺣﺔ
4214202
اﻟﺻور اﻟ�ﺎﻧوراﻣ�ﺔ اﻟﻣﻔﺗوﺣﺔ
ود�ﻟ�ﺎ(
ًّ �ﺻر�ﺎ
ًّ )اﻟﺻور اﻟ�ﺎﻧوراﻣ�ﺔ اﻟﻣﻔﺗوﺣﺔ
�إننا نلحظ -في الأن�ساق الت�صويرية ال�سابقة -بانورامية ال�صورة المفتوحة� ،إذ
يتحول الفعل �إلى مولد للطاقة اال�صطراعية بين �إح�سا�س الذات بالي�أ�س ،والإذع��ان،
واالنك�سار؛ من جهة؛ والإق��دام ،والعزيمة ،والإ�صرار ،من جهة ثانية�( :أم�شي �إلى ي�أ�سي
كغراب رابط الج�أ�ش� -أ�ستجلي مرايا الوقت وحدي)؛ وهذا الأ�سلوب في م�سرحة الر�ؤيا،
ومغنطتها بالم�ضاد �أو المختلف هو ما يهبها بانورامية م�شهديتها النف�سية وب�ؤرة حراكها
التكثيفي الإيحائي؛ وهذا دليل �أن الوعي الدرامي -عند �شوقي بزيع -يت�أ�س�س على حيوية
ينم" عن قدرة فنية في
ال�صورة ،التي تخلق جدلها من �إ�سنادها ور�ؤيتها الم�ضادة؛ ب�شكل ُّ
اختزال التفا�صيل التي ت�شد الن�ص �إلى ب�ؤرة التوتر الكامنة في تجليات الك�شف عن منعطفات
ال�صورة الكلية للمعنى المرتقب"((( .وهذا ي�ؤكد �أنه " :تحتاج الدراما �إلى ال�شعر حاجة
ال�شعر �إلى الدراما تمام ًا"((( .وذلك" :للخروج بالق�صيدة من مناخها الت�أملي� ،أو ا�سترخائها
الغنائي �إلى المو�ضوعية �أو المنحى الدرامي ،الذي تمثل في دعوته �إلى المعادل المو�ضوعي،
والأقنعة الدرامية ،والمنهج الأ�سطوري في التعبير ثم كتابته لل�شعر الدرامي"(((.
هكذا؛ يبدو لنا � َّأن ال�صور البانورام َّية فاعلة -في �شعر �شوقي بزيع -بو�صفها ت�ضيف
ّ
تخط جمالها ح�سها الت�أملي ،وحركتها البانورام َّية ال�سريعة ،التي الجمالي ّ
ّ �إلى ن�سقها
جمالي ،وانفتاح داللي وا�سع االمتداد ،والحركة الن�سقية الت�أمل َّية؛ وهذا ما يح�سب
ّ باكتناز
الت�صويرية.
َّ لحركة ال�صور البانورام َّية في ق�صائده على امتداد �أن�ساقها ،وت�شعباتها
وهذا دليل �أن ال�صورة البانورامية المحتدمة -في ق�صائد �شوقي بزيع -تمنحها دفقها
الإيحائي المكثف ،نظر ًا �إلى ما تملكه من مرجعية ت�صويرية م�ؤثرة ،وفق �أ�س�س ر�ؤيوية خ�صبة
من اال�ستثارة ،والت�أثير؛ وبقدر ما يتغور القارئ �أعماق ال�صورة البانورامية ،وي�ستجلي
�أبعادها ،بقدر ما ت�ستثيره الق�صيدة بر�ؤيتها ،و�أفقها الر�ؤيوي المتنامي على الدوام.
ّ -9
فنيّة الصورة الشبكيَّة:
ونق�صد بـ [ف ّن ّية ال�صورة ال�شبك َّية] :فنية ال�صورة المتفرعة؛ ذات االمتدادات،
ال�شعري؛ مت�ضمنة لم�شاهد ،وتف�صيالت جزئية؛ تثير
ّ والت�شعبات الكثيرة داخل ن�سقها
القارئ بت�شعبها ،وامتداد �أن�ساقها داخل ال�سياق العام؛ وتعد ال�صورة ال�شبكية الظالل
الر�ؤيوية للإبداع؛ بو�صفها المحطة الن�صية �أو الب�ؤرة المحورية (المحرقية) الكا�شفة عن
ب�ؤرة الق�صيدة ،ومركز ثقلها الداللي؛ فهي مكمن حراك الدالالت ،وكثافة الم�شاعر والر�ؤى؛
" ف�إذا كانت وظيفة ال�صورة في ال�شعر التقليدي ال�شرح والتو�ضيح؛ ف�إن وظيفتها في حركة
الحداثة بعيدة عن ذلك ،فهي لي�ست تابعة للفكرة؛ و�إنما تتبع الفكرة ال�صورة؛ و�إذا كانت
ال�صورة ت�شرح� ،أو تو�ضح �صورة ما غام�ضة بع�ض ال�شيء في ال�شعر التقليدي؛ ف�إنها في
حركة الحداثة توحي وتومئ ،ولذلك تكون ال�صورة،هنا ،موطن ًا لتعدد الدالالت ،التي
تن�ش�أ عن االنزياح ،ولذلك ،تتبدل وظيفة ال�صورة وتتناق�ض"((( .وت�أ�سي�س ًا على هذا" لم
تعد الق�صيدة عم ً
ال ب�سيط التكوين؛ بل هي ن�سيج محكم ت�شكله وتغذيه جملة من العنا�صر،
ولعل �أهمها ذاكرة ال�شاعر ،وما تجي�ش به من حزين معرفي ووجداني"((( .وال غرو �أن يكون
ال�شاعر �صياد ًا ي�صطاد بالكلمات ،ويرمي ب�شباكه الت�صويرية ،ليخلق من ن�سيجه الفني
ب�ؤرة تفعيل المعنى .واال�ستقطاب الفني ال�شاعري الجذاب؛ فال�شاعر ال يجذبنا �إال بوعيه
ومرجعياته الر�ؤيوية في المحاورة ،والمغامرة ،والمفاج�أة ،واال�ستثارة الن�صية؛ وال يجد
ال�شاعر و�سيلة م�ؤثرة في القارئ �أكثر من فن ال�صورة المتحركة �أو ال�شبكية ،هذه ال�صورة
تتوزع في الن�ص وت�سدل عليه �ستار ده�شتها ،ومناو�شتها التخييلية الفاعلة ،وعلى هذا؛
تبدو ال�صورة ال�شبك َّية ممتدة الأن�ساق ،كثيفة في توزيع الر�ؤى والدالالت؛ وك�أننا �أمام غابة
مك َّثفة من المداليل ،والر�ؤى المفتوحة التي ت�شكِّل بنية ال�صورة ال�شبك َّية؛ ُ
و�س ْم َّيت هذه
الن�صي؛ �إذْ
ّ ال�صورة بال�صورة ال�شبك َّية؛ نظر ًا �إلى كثافة امتداداتها و�أن�ساقها داخل م�سارها
ال�شعورية؛ وقد
َّ تخفي وراءها حركة ن�سقية منفتحة من الر�ؤى ،والدالالت ،والمح ِّفزات
الن�ص ّية المت�شعبة،
ّ امتازت �صور هذا النمط الت�صويري -عند �شوقي بزيع -بم�ساراتها
�شاعريا
ًّ ت�صويريا
ًّ وامتداد �صورها الجزئية؛ مما زادها تكثيف ًا ،وعمق ًا ،وت�أمالً ،و�إدراك ًا
مرهف ًا؛ ونمثل لهذا النوع من ال�صور بقوله:
تبحث عن �أ�شالئها بين الخرابِ ُ "بقايا ُمدُنٍ
َمنْ ينادي َمنْ
على �شرف ِة هذا الج�سدِ الحا ِئرِ؟
َمنْ َي ْر َف ُع ع ِّني هذه ال َف ْو َ�ضى
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .581-580
-2الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .581-580
ما ينبغي الإ�شارة �إليه بداية� :أن ال�صورة ال�شبكية في ق�صائد �شوقي بزيع ال تكت�سب
جماليتها من ت�شعبها ،وتعدد م�ؤثراتها ،وم�صادرها ،ومرجعياتها الإبداعية؛ و�إنما من
ح�صيلة هذا الإح�سا�س ال�شعوري الجارف �صوب المغامرة الن�صية ،في خلق الجدل،
والمفارقة في ق�صائده بين �أ�صوات م�سكونة في داخله ،تحتدم ر�ؤياوي ًا ،لإبراز تناق�ض
الحياة ،ووجهها الم�صطرع؛ لأنه من �أبرز مثيرات لغة ال�شعر " :لغة المفارقة والت�ضاد،
وهي لغة مواربة ،قا�سية ،بارعة ،وطريفة .وكلما توفرت لغة ال�شعر على هذه الخ�صائ�ص
ا�ستطاعت �أن تعبر بديناميكية عالية عن تناق�ضات الحالة الواحدة ،وت�ستوعب غناها
الداخلي ،وتقدمها �أخير ًا ،بن�سق متما�سك ،لكنه ممتلئ ،ومت�شعب الدالالت"((( .وت�أ�سي�س ًا
على هذا ،يمكن �أن تعد ال�صورة ال�شبكية هي ال�صورة المكتظة بالأحا�سي�س ،والعواطف،
والر�ؤى ،والدالالت؛ التي تخلق توازنها وتناميها الفني.
والمت�أمل -ب�إمعان في المقبو�س ال�شعري -يدرك فاعلية ال�صورة ال�شبكية ،ودرجتها
الإيحائية؛ التي تعبر عن االحتراق ال�شعوري ،والتوجه النف�سي؛ وك�أن ال�صورة بت�شعبها
وت�شتتها ال�شعوري؛ ت�سهم في التعبير عن مكابدات الع�شق بتر�سيم �شعوري ،مت�شعب على
�شاكلة ال�صورة التالية " :لك�أني ردهة �شاغرة من غير �سقف /وك�أن الحرب عادت من �شرايين
�ضحاياها ودارت في ثيابي" .والالفت في ن�سق ال�صورتين القدرة االحترافية ،والمهارة
اللغوية في الت�شكيل؛ مما يجعل ال�صورتين رغم المبالغة في المعنى المجترح� -شاعرتين؛
وهذا يعني� " :أن الكينونة الجمالية التي ت�ستفز الذات ال�شعرية في �أدلجة وعيها ال�شعوري،
هي كينونة تتوج�س مظهر ًا لغوي ًا ،يتجلى فيه كبيئة دالة على ردة الفعل الكامنة في الذات،
�إزاء فعل خارجي يتحرك باتجاه تمزيق هذه الكينونة ،وت�شتيت الر�ؤية[المنطقية للأ�شياء]
في �ضبابية القناعات المفرو�ضة� ،أو المفتر�ضة ،لذا؛ تتوا�شج القوى التي تجترحها ذروة
الوعي في تفعيل عالقاتها الداخلية لت�شكيل الن�ص"(((.
وما ال�صورة ال�شبكية �إال نتيجة تكثيف الر�ؤى ،واحتدامها �أمام مخيلة ال�شاعر،
في�أتي الن�ص في�ض ًا �أو تج�سيد ًا لهذا الفي�ض ال�شعوري .وهذا دليل �أن " المو�ضوع ،في
الق�صيدة الحديثة ،ينفلت ،بقوة الرمز و�شمولية الر�ؤيا ،من قيوده الزمانية والمكانية.
وبذلك ،ال يعود التعامل معه� ،أو تج�سيده و�صف ًا مح�ض ًا� ،أو محاكاة مجردة .بل يغدو
المو�ضوع ،و�شبكة احت�ضانه تجلي ًا رمزي ًا مفتوح ًا على دالالت فردية �أو عامة ،يومية �أو
كيانية ،ال ح�صر لها"(((.
وعلى هذه ال�شاكلة ت�أتي ال�صورة ال�شبكية حافلة في الق�صيدة؛ بارتداداتها ال�شعورية
المحتدمة وتر�سيماتها العميقة المكثفة ،كما في قوله:
"بهدو ٍء َت ْم َ�ض ُغ الأ�شيا ُء جدواها
ُ
النباتات وتجت ُّر
التي ينخرها ال�صمتُ
هوا َء الرئتينْ ...
�شحوب ال ُق َبلِ الغرقى
ُ لل�صباحاتِ
الخوف...
ِ ولل�شهو ِة َط ْع ُم
يعقب ال�شهو َة؛ م َّما ُ
�أو يع�صرها كالخ ِّل فو َق ال�شفتينْ ..
وال�سراديب التي َت ْجه َُ�ضهَا الأحال ُم
ُ
ال َت ْر ُد ُمها اليقظ ُة...
-1الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .581-580
-2الم�صدر نف�سه ،ج� ،2ص .581-580
بادئ ذي بدء ،ن�ؤكد �أن ال�صورة ال�شبكية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تعتمد التجاوز،
وعمق االكت�شاف ،وتنوع الدالالت ،للولوج �إلى �أعماق الر�ؤيا ،وجوهرها الر�ؤيوي ،يقول
بول ريفردي� " :إن ال�صورة ت�ستك�شف �شيئ ًا بم�ساعدة �شيء �آخر ،المهم فيها هو ذلك اال�ستك�شاف
ذاته� ،أي معرفة غير المعروف ال المزيد من معرفة المعروف"((( .وبهذا ،المقترب الر�ؤيوي
يقول(كارل ف�سلر)� " :إن �صورة االقتران اللغوية التي من هذا النوع لي�ست على الإطالق
حركات منطقية للتفكير� ،إنها حلم ال�شاعر حيث تت�ضام الأ�شياء ،ال لأنها تختلف فيما بينها
�أو تتحد ،بل لأنها تجتمع في الفكر ،وال�شعور في وحدة عاطفية"((( .وتبع ًا لهذا؛ تعد
ال�صورة ال�شبكية مف�صلية في ق�صائد �شوقي بزيع بمنظورها الوجودي ال�صاخب بالتناق�ض
بين[الحقيقة /والخيال]؛ و[الوجود /والعدم]؛ �إذ تمتزج �صوره ب�ألوان الطبيعة للتعبير عن
الق�ضايا الوجودية المهمة التي تثيرها؛ خا�صة بمنظوراتها المتناق�ضة �إزاء ق�ضايا الحب
التي تجمع بين الرومان�سية ،والدرامية ،وال�صوفية ،والح�سية؛ والخيالية ،والواقعية؛
وهذا ما يمنحها الدفق ال�شاعري.
ولعل �أبرز ما يثير حركة ال�صور هذا التوا�شج والتالحم بين ال�صور ال�شبك َّية،
وتفرعاتها الجزئ َّية؛ �إذْ � َّإن كل �صورة تفتح مداليلها؛ وتمد �أن�ساقها �إلى ال�صور الجزئية؛
�شحوب القبلِ الغرقى/
ُ م�ؤكِّ ً
دة تالحمها ،وتفاعلها ،وت�ضافرها؛ كما في قوله " :لل�صباحات
ِ
الخوف"؛ وعلى هذا النحو ،نلحظ � َّأن �إيقاع ال�صور قد جاء متالحم ًا ،نظر ًا �إلى طعم
ُ ِ
لل�شهوة
الن�ص ّي الذي ُي�شكِّل مركز ر�ؤية الق�صيدة،
ّ وتفرعاتها المت�شعبة �ضمن م�ساقها
ُّ �شبك َّية ال�صورة،
ومحور ارتكازها؛ فال�صورة ال�شبك َّية -في الق�صيدة ال�سابقة -لم تن�أى عن القارئ بالت�شظي
يوحد
ِّ ال�سوريالي ،والبعثرة الن�سقية؛ و�إنما جاءت متالحمة في �سياقها وفق خيط �شعوري؛
الن�ص ّي العام؛ كما في هاتين ال�صورتين ال�شبكيتين:
ّ دالالتها؛ وي�شدها �إلى مجراها
اﻷﺷ�ﺎء
ُ ﺑﻬدوء َﺗ ْﻣ َﺿ ُﻎ
ٍ اﻟﺻورة
اﻟرﺋﺗﯾن.. اء اﻷوﻟﻰ
ْ اﻟﺻﻣت ﻫو َ
ُ اﻟﻧ�ﺎﺗﺎت اﻟﺗﻲ ﯾﻧﺧرﻫﺎ
ُ وﺗﺟﺗر
ﱡ ﺟدواﻫﺎ
د�ﻟ�ﺎ(
)ﺻورﺗﯾن ﺷ��ﯾﺗﯾن ﻣﺗﻼﺣﻣﺗﯾن ًّ
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى �أن ال�ص��ورة ال�ش��بكية -ف��ي ق�صائ��د �ش��وقي بزي��ع -تعتم��د
بالغة الح���س ،ودفق المعاناة ،والنب�ض ال�ش��عوري الح�سا���س ،فت�ش��عباتها الكثيرة لي�س��ت
مل�صقات مجانية؛ و�إنما �ش��ذرات روحية تنب�ض من عمق الذات ،والإح�سا���س بلحظة االنعدام،
�أو لحظ��ة الإح�سا���س بالعق��م ،والالج��دوى� ،أو حال��ة االنع��دام والالت��وازن فت�أت��ي ال�ص��ور
انعكا�س� ًا �ش��عوري ًا ،لتفاع��ل ال��ذات م��ع الوج��ود نفي� ًا� ،أو قلق� ًا� ،أو ت�أزم� ًا؛ له��ذا تمت��د بداف��ع
�ش��عوري ناب���ض م��ن ق��رارة عم��ق ال��ذات؛ ال داف��ع فن��ي �أو جمال��ي مح���ض؛ وتبع ًا له��ذا؛ يتوجب
�ور باطنه��ا ال �أن يق��ف حي��ال ظاهره��ا الجمال��ي �أو م�ؤ�ش��رها االنزياح��ي
عل��ى الق��ارئ �أن يتغ� َّ
المثي��ر ،الأم��ر ال��ذي يجرف��ه �إل��ى متاه��ة حدوده��ا و�أطره��ا الخارجي��ة ال�ضيق��ة بعي��د ًا ع��ن
جوهرها ،ونفثاتها الروحية الحارقة.
والمالحظ -في المقبو�س ال�شعري� -أن ال�شاعر يعتمد الحركة النف�سية وزخمها
الداخلي في ر�سم ال�صورة ال�شبكية التي تتغلغل �إلى �أعماق الذات؛ لتحكي �إح�سا�سات ال�شاعر
الباطنية العميقة ،فهي �أ�شبه بلحظات المكا�شفة ،والبوح الذاتي القلق بارتداد الذات �إلى
الذات؛ لتحثث وقعها النف�سي ال�شعوري الم�ؤثر ،وك�أنها نوح ذاتي على ما تعانيه الذات من
ي�أ�س ،وت�صدع ،وانك�سار؛ كما في ال�صورة التالية�[ :أبني تماثيل من الوهم لكي تخبو،
و�أ�شتق جدر ًا من خياالت لكي �أهدم ما ي�سندني]؛ ثم يفعل ن�سق ال�صور ال�شبكية بالت�سا�ؤالت
البوحية االجتماعية ال�صارخة(�أما من جملة �أنهى على ركبتها ي�أ�سي؟!)؛ وهذا دليل على �أن
م�صدر حراك ال�صور جمالي ًا لي�س انزياحها على الم�ستوى اللغوي ،بقدر ما يعتمر في داخل
ال�صورة من ر� ًؤى ودالالت ونفثات �شعورية محتدمة.
وبهذا الن�سق من الإفرازات ال�شعورية لل�صور ال�شبكية تتنامى مغريات الن�سق ال�شعري
الذي تخطه الق�صيدة ،كما في قوله:
ما ينبغي الت�أكيد عليه� ،أن ال�صورة ال�شبكية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تميل �إلى تقديم
مكنونها بتوليف فني يجمع بين النب�ض ال�شعوري الدافق ح�سا�سية ،ورهافة تعبير من جانب،
وال�شكل الجمالي الم�شدود �إلى حداثووية الر�ؤيا /وحداثوية المنظور من الجانب الآخر ،وهذا
ما يجعل بنية الق�صيدة لديه "ذات كينونة لغوية قائمة على التوتر الداخلي وال�صراع
الباطني ،هدفها تدمير التخوم الممكنة ،حدود الواقع وج��دران الحياة بتفجيرها فيما
بعد"((( .على �شكل �إيقاعات ت�صويرية ،منبعثة من حرقة الذات وتوقها العاطفي ،ومكنونها
الباطني العميق .ولعل �أبرز ما يم ِّيز ال�صور ال�شبكية -في المقبو�س ال�سابق -تفرعها
الن�سقي ،و�شمولها الر�ؤيوي للتو�صيفات والتفرعات الغزل َّية في تو�صيف الأنثى ،والعالم،
والوجود من حوله؛ مع ِّبر ًا عن �شعوره بال�صور ال�شبكية الممطوطة في ن�سقها؛ كما في ال�صورة
وجه عذاباتي /تداجيني طواحينٌ من ال َف ْو َ�ضى /ف�أهتزُّ
ِ كالرمح في
ِ التالية " :رافع ًا �أ�سئلتي
الظالم" ،وعلى هذا النحو؛ يثيرنا ال�شاعر بهذه ال�صور
ُ ويغ�شاه
ُ الم�س
ُّ زورق َي ْم ُخ ُر ُه
ٌ ك�أنّ ي
المتناغمة؛ � ْإن على ال�صعيد الجزئي �ضمن �إطار كل �صورة على ح ّدة؛ و� ْإن على ال�صعيد الكلي؛
ثمة ائتالف ًا� ،أو تناغم ًا
على م�ستوى تناغم ال�صور ،وائتالفها ،وتناميها جمال ًّيا؛ بمعنى� :أنَّ ّ
انفعالي؛ يثيرنا
ّ ت�صويريا بين كل �صورة �شبك َّية والتي تليها؛ لتبدو في تالحم �شعوري
ًّ م�شهديا
ًّ
ال�شاعر -من خالله -بحركة الأن�ساق ،وتفاعلها الن�صي؛ كما في المخطط التالي:
الت�صويرية
َّ � َّإن المخطط ال�سابق؛ ي�ؤكِّ د لنا تنامي ال�صور ال�شبك َّية وائتالفها مع �أن�ساقها
الأخرى؛ بحرفنة ن�سق َّية ،ت�ؤكِّ د مهارة ال�شاعر في اقتنا�ص ال�صورة المثيرة؛ و�شعرنتها؛ لي�س
فقط بال�صور الجزئية الموجزة؛ و�إنما بال�صور ال�شبك َّية الطويلة المت�شعبة؛ مما يعني � َّأن
ثمة ائتالف ًا ن�سقي ًا بين ال�صور ،يزيد من دينامية حركتها ائتالف ًا ،وتناغم ًا ،وان�سجام ًا؛
َّ
إ�سنادية بال�صور المبتكرة حين ًا �آخر؛
َّ ال�شعرية حين ًا ،والده�شة ال
َّ يحقق لها درجة كبيرة من
دون �أن نعدم التالقي الروحي بين كل جملة و�أخرى؛ وك� َّأن ال�شاعر يهند�س ال�صور؛ وير�سمها
الح�س ،وال�شعور ،و الإث��ارة الب�صرية؛ وهذا الأ�سلوب الجمالي هو
ّ ر�سم ًا روحي ًا ب�ألق
ال�شعرية ،وتحقيق ده�شتها؛ لترقى �أعلى
َّ الأ�سلوب الأكثر رواج� ًا -في منظورنا-لخلق
الم�ستويات من ال�شفافية والعمق.
يقول البزيع " :ال�صورة ع�صب الق�صيدة الحي وبدونها �ستفقد الق�صيدة جزءها
الناب�ض" و بهذا المنظور ال تطمئن ال�صورة لديه �إلى �شكل �أو منحى �أو �أ�سلوب محدد ،مما
يجعلها دائم ًا في حيز الت�شكل؛ والتجدد في م�ؤثراتها بتجدد نبع الق�صيدة ومجراها المتجدد؛
وهذا ما �أ�شار �إليه بقوله� " :إن ال�شعر تحديد ًا خالف ًا للرواية يتغذى من دورة الدم ،يتغذى
من الحيوية الج�سدية والروحية ،من هذا ال�صهيل الذي يعتمل في داخل هذا الإن�سان كلما
تقدم في العمر"(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .443
ّ - 10
فنيَّة الصورة الجدليَّة /أو المتنافرة:
ونق�ص��د ب��ـ [ف ّن َّي��ة ال�ص��ورة الجدل َّي��ة� /أو المتناف��رة] ال�ص��ورة القائم��ة عل��ى الأن�س��اق
لغوي��ة المت�ض��ادة؛ لتخل��ق حرك��ة جدل َّي��ة دالل َّية معكو�س��ة بين حركة ال��دالالت والمدلوالت؛
َّ ُّ
ال
لغوية
َّ �ي اال�صطراع��ي عل��ى زعزع��ة ال��ر�ؤى؛ وبل��ورة �ص��دى الأن�س��اق ّ
ال لتخ� ّ
�ط �إيقاعه��ا الجمال� ّ
كله��ا؛ و�أب��رز م��ا تحقق��ه ال�ص��ورة المتناف��رة� /أو المت�ض��ادة� - 1 " :إث��ارة الحركي��ة ف��ي الن���ص
و�إنت��اج الدالل��ة - 2 .تعمي��ق الدالل��ة بنقي�ضه��ا �أو با�س��تح�ضار الدالل��ة الغائب��ة ...وعل��ى
ه��ذا ف��إن ال�ص��ورة المتناف��رة تق��وم بتفجي��ر دالالت م�ضمرة ،وخل��ق عالقات داخ��ل الن�ص بين
وحدات��ه المختلف��ة"((( .وتبع� ًا لهذا ،يمكن �أن نوافق مقولة الناقد ن�ضال �أحمد باقر الزبيدي
ف��ي �أهمي��ة تقني��ة الت�ض��اد ف��ي تحريك بنية ال�ص��ورة؛ �إذ يق��ول� " :إن العالق��ة الجدلية القائمة
بين المت�ضادات ،باتت عن�صر ًا م�س��اعد ًا على ا�ش��تعال وهج ال�صورة ال�ش��عرية؛ ممث ً
ال الح�س��ن
والقب��ح هم��ا �ض��دان م��ا كان ليكون �أحدهما لوال وجود الآخر ،فالح�س��ن انماز ،وظهر لوجود
القبح الذي فيه من عنا�صر المغايرة ،ما لي���س في الح�س��ن ،والقبح ما ظهر وبدا �إال لوجود
الح�س ��ن بفع ��ل تراكم ��ات مختزن ��ة ،ومح ��دودات جمالي ��ة مت�س ��اوقة م ��ع غرائزي ��ة ال�ش ��اعر،
وان�س��حاقه ف��ي ف�ض��اءات المت�ضادات"(((.وت�س��هم حرك��ة الأ�ض��داد في تفعيل جاذب َّي��ة ال�صورة؛
وتنام��ي حركته��ا الدالل َّي��ة؛ �إذْ � َّإن الق��ارئ ت�س��تهويه ال�ص��ورة المتحركة التي ت�ض� ُّ
�ج بالحركة؛
تحفيزي��ا مهم� ًا في �إثارة ال�ص��ورة من الداخل؛ لتنمي��ة �إيقاعها الداللي؛
ًّ وت��ؤدي الأ�ض��داد دور ًا
وبل��ورة الن�س��ق ال�ش��عري المحك��م؛ وت�أكي��د ًا على ذلك " :تحق��ق الثنائيات المت�ض��ادة بو�صفها
دعام��ة بنائي��ة ومقوم��ة �أ�س��لوبية انفتاح� ًا ن�صي� ًا مذه ً
ال يطف��ئ رغبة الكبت لدى ال�ش��اعر ،لأن
الثنائيات المت�ضادة ناتجة عن ت�أزم نف�س��ي حاد لثيمة �إ�ش��كاالت وت�أثيرات (داخلية -ذاتية)
وخارجي��ة متراكم��ة في م�س��افات �ش��عورية خانقة تف�ض��ي �إلى ت�صدع كيان ال��ذات ،الأمر الذي
يول��د رغب��ة �إ�س��قاطية ،م�ؤداه��ا تحمي��ل تل��ك المت�ض��ادات ق��در ًا م��ن الم�س��ؤولية ع��ن ال��ذات،
ور�أب ال�ص��دع م��ن خ�ل�ال تجميع �أجزائه المبعثرة� ،أو الميتة الت��ي توفر المت�ضادات ،وتحيي
جزء ًا منها"(((.
الت�صويرية الخ�صبة؛
َّ وعلى هذا؛ تُ َع ُّد ال�صورة الجدل َّية �أو المتنافرة من مثيرات الحركة
ال�شعري؛ وهذه الخ�صي�صة البارزة في حركة
ّ ذات التنامي الإيحائي في تحريك الن�سق
ً
داعمة لنمط ال�صور الجدل َّية� ،أو المتنافرة عند �شوقي بزيع؛ �إذْ يمتلك اللغوية تُ َع ُّد
َّ الأن�ساق
لغوية خالّقة في ت�شعير المتناق�ضات في �سياق �صوره الجزئية
َّ ال�شاعر �شوقي بزيع ر�ؤية
يفعل والكل َّية في �آن؛ فهو ال ِّ
يول ُد ال�صورة من رحم المتناق�ضات الت�شكيل َّية فح�سب؛ و�إنما ِّ
الت�صويرية بال�صور المت�ضادة �أو ال�صور المفارقة لن�سق ال�صور الأخرى حتى ولو
َّ الأن�ساق
اللغوي بين الأن�ساق؛ كما في قوله:
ّ كان ن�سقها معتمد ًا االئتالف والتوازي
"� ْأن تكون على ق َّم ِة ال ُع ْم ِر
من
دون
ثقلٍ ،
راحتيك الخ�سار ُة والرب ُح؛ َ لكي تتواز َن في
ْ
الحرون. َ
جانبيك الريا ُح �أو تت�ساوى على
� ْأن َي َتقا�س َم ترك َة روحِ كِ �ضدَّانِ :
طفل و َكه ٌْل ٌ
ٌ
و�سهل و�صعو ٌد
ووقا ٌر َو َجه ٌْل
َ
�سطحك و� ْأن يتعاقب في لحظ ٍة فوق
النبي
�صيف ِّ ُ
ْ
الجنون ُ
و�سيف
........
و� ْأن تتم َّز َق
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن ال�صورة الجدلية �أو المتنافرة -في ق�صائد �شوقي بزيع-
تت�أ�س�س على الحراك ال�شعوري بين الطرفين المت�ضادين ،فبد ًال من الحراك الت�شبيهي
المتماثل تعتمد التباعد بين طرفي ال�صورة ،لإثارة ديناميتها؛ تقول خيرة حمر العين� " :إن
عالم الق�صيدة الحديثة هو عالم الحركة ،لأنها �إدراك بالوجدان وبالر�ؤيا التي تبعث على
تجدد هذه الحركة وديمومتها ،ومثل هذه الر�ؤيا ال تن�شد مبد�أ الحرية ،وروح ال�شعر الحر
الطليق وح�سب ،و�إنما ت�سعى �إلى تج�سيدها عبر التجربة ال�شعرية الجديدة بو�صفها تجربة
خلق و�إعادة تكوين ،و�إزاء هذه الر�ؤية تزايدت �أهمية الوعي الك�شفي الذي ال يف�صل بين روح
الق�صيدة و�شكلها ،بل يجعل منها �أثر ًا جمالي ًا ذا ح�ضور كلي قابل للتغيير ،والتحول هو ما
ولد ر�ؤى مغايرة ت�ستجيب في معظمها لإيقاعات الع�صر"((( .وهذا يدل �أن ما يفجر الجمالية
في ال�صورة الجدلية �أو المتناق�ضة عن�صرها الإيحائي ومثيرها الداللي التي ت�شتق مثيرها
من النب�ض ال�شعوري والر�ؤيوي؛ وتبع ًا لهذا تبدو ال�صورة ال�شعرية" لي�ست عن�صر ًا يحقق
فاعليته الداللية على م�ستوى معنوي مجرد ،فهي تتجاوز ب�صالتها المت�شابهة البعد الواحد
المعنوي الوا�ضح المك�شوف ،وتتخطاه �إلى �أبعاد �أعمق و�أ�شد غور ًا يمنحها للمتلقي عن�صر
الإيحاء فيها ف�ض ً
ال عما ينبغي �أن يحققه من توازن بين بعديها :الجمالي والنف�سي وخ�ضوع
عنا�صر ت�شكيلها لهذين البعدين"((( .لخلق اال�ستثارة ،والعمق ،والت�شويق ،والت�أثير.
ولعل �أبرز ما يح ِّفز دالالت الق�صيدة ارتكازها على تقنية الت�ضاد؛ �أو الثنائيات
المت�ضادة ،لبلورة ن�سق جدلي تحفيزي مهم ،يرتكز �أ�سا�س ًا على تحفيز الداللة بنقي�ضها؛
لإثارة الحركة الدالل ّية �ضمن ال�صورة الواحدة؛ ليجعلها مبنية على حركتين :حركة ن�سقية
تكت�سبها من عالقتها بما �سواها من عنا�صر ال�سياق؛ وحركة تكت�سبها من داخلها من جدلها،
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،1ص .353-351
-2حمر العين ،خيرة - 1996 ،جدل الحداثة في نقد ال�شعر العربي� ،ص .100
� -3أبو ديب ،كمال - 1979 ،جدلية الخفاء والتجلي ،دار العلوم للماليين ،بيروت� ،ص .20نق ً
ال من �ستار ،عبد اهلل،
� - 2010إ�شكالية الحداثة في ال�شعر العربي المعا�صر� ،ص .193-192
ٌ
و�سهل/ ٌ
وكهل� /صعو ٌد ٌ
طفل وتحفيز دالالتها؛ كما في قوله�[ :أن يتقا�سم تركة روحك �ضدان:
التنافرية
َّ ُ
�سيف الجنون]؛ وعلى هذا النحو ،يعتمد البزيع ال�صور النبي/
ّ ُ
�صيف ٌ
وجهل/ وقار
ٌ
الت�صويري؛ باالرتكاز على دينامية المتناق�ضات؛ �أو الجدليات التي
ّ �أو المت�ضادة في ن�سقها
ت�ستثير الر�ؤى؛ للتعبير عن الحالة ال�شعورية المتذبذبة التي تحدث للمرء في �سن الأربعين؛
�إذْ � َّإن هذا ال�سن يمتاز بالتخبط ،والر�صانة ،والأم��ل ،والي�أ�س ،والظم�أ ،واالرت��واء،
اللغوية
َّ والعجز ،والقوة؛ والفوز ،والخ�سارة؛ مع ِّبر ًا عن ذلك من خالل كثافة المت�ضادات
التالية( :الخ�سارة /الربح) و(طفل /كهل) و(�صعود� /سهل) ،و(وقار /جهل)؛ و(�صيف النبي/
اللغوية
َّ و(روح تطيع /وج�سم يخون)؛ � َّإن كثافة المت�ضادات
ٍ �سيف الجنون) و(طو ًال /عر�ض ًا)
في �سياق ال�صور ،ي�ؤكِّ د انبناء هذه الق�صيدة كلها على �إيقاع الت�ضاد ،والجدل الوجودي بين
وجودية جاهلة ،متهورة في م�سارها الوجودي؛ وهكذا؛
ّ وجودية ر�صينة ،وكينونة
َّ كينونة
يبني ال�شاعر �إيقاعات هذه الق�صيدة كلها على �إيقاع الجدل ،والتناق�ض ،والتنافر في بنية
ال�شعورية؛ لتحكي �إح�سا�س ال�شاعر من الداخل وا�صطراعاته الداخلية �إزاء
َّ ال�صور وحركتها
هذه المرحلة العا�صفة في حياة المرء التي عادة ما تكون مليئة بالتناق�ضات والجدل ّيات
الوجودية الكثيرة.
ّ
وقد ت�أتي ال�صور الجدل َّية عن�صر ًا م�ؤثر ًا في تحفيز الموقف الغزلي ،وتحميل الق�صيدة
دالالت ال ح�صر لها؛ كما في قوله:
"بالأنامِ لِ ُك َّنا نمدُّ الحرائ َق نحو خاليا �إ�ضاف َّي ٍة
بالأنامِ لِ ُك ّنا ن�سدُّ م�ضائ َق
�آالمِ َنا المقبلهْ..
بالأَناملِ نبكي ونفرح،
نكت�شف ال�شم َع والح�شرج ْه ُ
بالأنامِ لِ نبني تماثي َل من ِل َّذ ٍة
َ
�سيوف ارتعا�شاتنا ُّ
ون�سل
فوق
ر� ِأ�س الهوا ْء"(((.
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،1ص .283-282
وما ينبغي الإ�شارة �إليه �أن ال�شاعر �شوقي بزيع يعتمد ال�صورة الجدلية �أو المت�ضادة
في ق�صائده با�ستح�ضار النقي�ضين مع ًا ،وابتعاث قوة الحراك الجمالي من خالل تن�شيط
العالقة بين الخيال و�صورة الواقع المقابلة له؛ فقد يجمع ال�شاعر المح�سو�س بالمجرد؛
والتج�سيم بالت�شخي�ص؛ ب�شفافية �شعورية متناهية تنم عن ا�صطراع ،وتوتر ،وحيوية،
ونب�ض دافق ،بالخ�صو�صية الإبداعية ،يقول �شوقي بزيع " :من يتتبع �أعمالي ال�شعرية
�سيجد �أن هناك �شغف ًا دائم ًا بالثنائيات المتعار�ضة ،هناك الأ�شياء و�أ�ضدادها با�ستمرار؛
وغالب ًا ما تح�ضر هذه الأ�ضداد مع ًا؛ وهو ما يخلق في �شعري �شيئ ًا من الجدلية الدائمة� ،أو
من الحراك� ،أو من الدينامية التي تبعد ال�شعر عن ال�صوت الواحد وعن التنميط؛ وربما
م�صدر ذلك هو م�صدر فل�سفي فكري �أي �أنني لما كنت مارك�سي ًا في مقتبل حياتي فقد �آمنت
بالجدل؛ وهذا الجدل م�صدر عالم الجمال(هيغل) قبل �أن يكون مارك�س ،ولكن بعد �أن ابتعدت
عن المارك�سية فل�سفي ًا كان الجدل �أكثر مما احتفظت به منها؛ وهذا ما انعك�س �أي�ض ًا على
لغتي ،حيث �إن الأ�شياء تتعار�ض وتت�صارع من �أجل خلق الحيوية المطلوبة لال�ستمرار"(((.
وبالنظر -في فاعلية ال�صورة الجدلية في المقبو�س ال�شعري -نجد هذه الر�شاقة،
وال�سال�سة ال�شعرية في بناء ال�صورة الجدلية التي تقوم على ا�ستثارة المتلقي بخ�صوبتها
الجمالية ،ومنحاها الرومان�سي الجدلي الالمتوقع بهذا الجمع بين الطرفين المتناق�ضين
َ
�سيوف ارتعا�شاتنا ُّ
/ون�سل تماثيل من ِلذ ٍَّة
َ في بنية ال�صورة ،كما في قوله " :بال ِ
أناملِ نبني
الهواء)؛ �إن هذه المقابلة بين(اللذة /وال�سيوف) تك�سب ال�صورة خ�صو�صيتها ومدها
ْ فوق ر� ِ
أ�س
الجمالي ،وتعبيرها الرومان�سي الآ�سر ،وك�أننا �أمام لوحة فنية مت�ضادة من الأحا�سي�س
المتداخلة؛ لبلورة �صور رومان�سية ت�شع �إ�شراق ًا ب�إح�سا�س الذات ،و�آالمها ،وجراحها،
ومعاناتها؛ �إذْ يباغتنا ال�شاعر بهذا التنامي الجمالي لل�صور المت�ضادة التي تخلق ده�شتها
تعبيرية؛
َّ من حراكها الداللي المكثف؛ �أو حراكها الداللي بين [المثبت /والمنفي]؛ لخلق ده�شة
ت�ستثير ح�سا�سية ال�صور الغزلية ،وتعزِّ ز مدها الجمالي؛ فما �أجمل هذه الت�آلفات الن�سقية
�إزاء جمع المت�ضادات التالية في �صورة واحدة؛ كما في قوله" :بالأنامل كنا ن�سقط وظائف
والح�شرجه"؛ � َّإن انبناء هذه ال�صور
ْ ال�شمع
َ ُ
نكت�شف �آالمنا المقبلة ..بالأَناملِ نبكي ونفرح؛
على الت�ضاد يثير حركتها الجمال َّية؛ ويح ِّفزها -دالل ًّيا -للت�ضافر مع الن�سق الت�صويري
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .439
الآخر؛ مما يجعل الق�صيدة �شعلة من االتقاد العاطفي القائم على المراوحة بين الجدليات؛
لإثارة الحركة الجمال َّية ال�صاخبة بين ال�صور؛ �إذْ � َّإن ال�شاعر بالمزاوجة بين المت�ضادات
يك�سب ن�سق ال�صور فاعل َّية ق�صوى على ا�ستثارة الر�ؤية وتعزيزها في ذهن المتلقي؛ فال�شيء
ال يكت�سب موجوديته �إ َّال من نقي�ضه؛ وهذا ما ينطوي على حركة ال�صور �أي�ض ًا؛ وهكذا؛ ي� ِّؤ�س�س
�شوقي بزيع حركة ن�صو�صه على تقنية ال�صور المت�ضادة التي تعزز م�سارها الفني وبعدها
الإيحائي؛ لأن البزيع ي��درك تمام ًا �أن �أجمل مثيرات ال�شعر هذا الحراك الجدلي بين
المتناق�ضات؛ لتحريك موجاتها ال�شعورية ،و�إك�سابها الحيوية ،والخ�صوبة ،والإ�شراق؛ �إذ
يقول� " :أنا مدرك �أن ال�شعر ال يقوم �إال على الجدل ..هناك دائم ًا جدل في �شعري بين(الموت/
والقيامة) (الموت /واالنبعاث "الحياة")؛ �أعتقد ب�أن كل فن عظيم هناك هذا ال�سجال الدائم
والمتكرر بين العنا�صر المت�ضادة؛ خا�صة بين الحياة والموت"(((.
ونق�صد بـ [ال�صورة الرومان�س َّية] :ال�صورة العاطف َّية التي ت�شتق مثيراتها من الطبيعة
ب�صورها ،ومفرزاتها ،وظاللها ،و�ألوانها؛ لتبدو ذات نزوع ت�شكيلي نحو تكثيف الظالل
ُّ
تخط جمالها بمثيرات الطبيعة ال�شعورية؛ التي
َّ وتمازج الأل��وان؛ والحركات التكثيفية
والجمال الأنثوي؛ وتعد ال�صورة الرومان�سية الأكثر جاذبية للمتلقي ،لأنها ،غالب ًا ،ما تكون
قرينة ال�شكوى ،والبوح ،والمناجاة؛ فال�شاعر في هذه ال�صور " :ينطلق من ذاته �إلى �آفاق
�أعم و�أ�شمل؛ فهو �أ�سير اللحظة االنفعالية التي ت�شرق في ذهنه على �شكل فكرة �إبداعية تجتاح
كياناته فج�أة ،فتتخلق الق�صيدة على ما هج�س في نف�سه من �أحا�سي�س ت�ست�شرف �آفاق الر�ؤية
ال�شعورية الإن�سانية التي تبدو معها التجربة الخا�صة تجربة عامة تالم�س �شغاف القلب
الإن�ساني؛ وهذا يعني �أن عاطفة ال�شاعر ال عاطفيته هي المعول عليها في الحكم على غنائية
الن�ص ال�شعري ورومان�سية ال�صورة ال�شعرية كذلك"(((.
ولع��ل م��ا ي�ؤك��د �أهمي��ة ه��ذا الن��وع م��ن ال�ص��ور ما �صرح ب��ه البزيع �ش��خ�صي ًا ف��ي ت�أثير
الرومان�س��ية عل��ى �ش��عره؛ لتغ��دو طينت��ه ال�ش��عرية ،و�إ�صن���ص �إبداعه ال�ش��عري؛ �إذ يقول� " :إن
الرومان�س��ية مادة �ش��عري الخام؛ وهي الينبوع الذي �أ�س��تقي منه مادتي ال�ش��عري؛ لدرجة �أني
�أعتق��د �أن ال�ش��عر م��ن بي��ن الفن��ون جميعه��ا ذو من�ش��أ ريف��ي بامتي��از ...و�أن��ا مدي��ن للطبيعة
بمعظ ��م عنا�ص ��ر تجربت ��ي ال�ش ��عرية"((( .وق ��د يلح ��ظ ق ��ارئ �ش ��عراء الحداث ��ة ف ��ي لبن ��ان؛
�عرية؛ لدرجة � َّأن الطبيعة تمل��ك ن�صف نتاجهم
�اغ عل��ى �صورهم ال�ش� َّ
� َّأن الن��زوع الرومان�س��ي ط� ٍ
�أو �أكث��ر؛ ف��ي ح ِّي��ز تو�صي��ف الطبيع��ة؛ وم��ن بينهم �ش��وقي بزي��ع؛ �إذْ تُ َع� ُّد ال�صورة الرومان�س� َّية
م��ن �أب��رز �أ�ش��كال ال�صور �إ�ش��راق ًا في �ش��عر �ش��وقي بزي��ع؛ �إذْ تتلون �أن�س��اق ال�صور الرومان�س� َّية
بمثي��رات الأنث��ى حين� ًا ،والطبيع��ة حين� ًا �آخ��ر؛ م�ش�ك ً
ِّلة جوه��ر فتنته��ا و�ألقه��ا الجمال��ي؛ كم��ا
في قوله:
"لو �أ َّنني ما ٌء َل�سِ ْلتُ على �سطو ِح بيوته ْم...
و�سقيته ْم با َبون َج القلبِ
لو �أ َّنني ُت َّفاح ٌة لملأَ ُت ك� َأ�س ُه ُم نعا�ساً �أخ�ضراً
وزرع ُت ُه ْم �صيفاً على دربي
لك َّنهم رحلوا وفاتوني
وما قطفوا كرو َم دمي
وال م ُّروا براحته ْم
على تيني وزيتوني"(((.
بداي��ة ،ن�ش��ير �إل��ى �أن �ش��عرية ال�صورة الرومان�س��ية ف��ي ق�صائد �ش��وقي بزيع تكمن في
�أنه ��ا ذات هيكلي ��ة من�س ��قة بان�س ��جام ،وتناغ ��م ،لإب ��راز �آلي ��ات تحققه ��ا وعن�ص ��ر ت�أثيره ��ا
الإبداع��ي؛ وال تتحق��ق جمالي� ًا �إال كبني��ة منظم��ة بعالئق �إ�س��نادية مبكرة تمازج بي��ن م�ؤثراتها
الت�ش ��كيلية المختلف ��ة ف ��ي تفجي ��ر مخزونه ��ا الدالل ��ي العمي ��ق ،و�أكث ��ر م ��ا تحت�ش ��د ال�ص ��ور
الرومان�س��ية ف��ي ق�صائ��ده الغنائي��ة الت��ي يمك��ن �أن ن�س��مها بـ[ق�صائ��د المناج��اة]؛ " فق�صي��دة
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .425-424
-2بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،1ص .328-327
المناج��اة تنم��و باتجاه الأعماق في �س��ريرة ال�ش��اعر وداخليته التي تح��اول �إيجاد طرف �آخر
يب��دو قريب� ًا ج��د ًا منه��ا ،وغالب� ًا ما يكون �أثي��ر ًا لديها ،فه��و المقابل الذاتي لأعماق ال�ش��اعر
قب��ل �أن يك��ون حقيق��ة واح��دة مقابل��ة ل��ه تق��وم بالتح��اور مع��ه .وم��ن هن��ا ،ت�ص��در المناجاة
دفعة واحدة ،وبر�ؤيا واحدة وحد�س واحد ،فتبدو منطوية على نف�سها زاخرة بعاطفة تعاني
حالة من الت�أزم والحيرة و�أنين ال�صمت ،فتبد�أ في مناجاة الآخر"((( .وال�صورة الرومان�سية
ت��زدان جمالي� ًا ف��ي مث��ل هذه الق�صائد الوجداني��ة التي تعتمد ال�ش��كوى ،والأنين ،والحنين،
والتوق ،ق�صد الو�صال والقرب.
ولعل �أبرز مثيرات المقبو�س ال�سابق دينام َّية ال�صورة الرومان�س َّية التي تعتمد بكارة
م�شبعة ع�شق ًا
ً اللغوية الم�شتقة من ٍ
نف�س َّ اللغوية وده�شتها؛ من خالل هذه الأن�ساق
َّ اال�ستعارة
ُّ
تخط رهافتها بري�شة الطبيعة ،ورحيق الأنثى ،وينبوعها الجمالي �شاعرية
َّ للطبيعة ب�صور
ِ
القلب -نعا�س �أخ�ضر -كروم الت�صويرية المباغتة[ :بابونج
َّ المتدفق؛ فما �أجمل هذه الأن�ساق
دمي]؛ � َّإن هذه الت�شكيالت ال يقولها �إ َّال �شاعر وال ي�شكِّلها على هذا المنحى الفني الإيحائي
ال�شعري؛ وهكذا؛ يعتمد ال�شاعر
ّ جمالي مخ�ضرم في حقل الو�صف والإبداع
ّ المباغت �إ َّال �شاعر
ال خ�صب ًا لتنامي الدالالت وتكثيفها؛ فال�شاعر يخلق ال�صورة الده�شة
ال�صور الرومان�س َّية حق ً
َّ
تخط ذات النب�ض الإيحائي ال�شاعري العميق؛ فما �أجمل هذه ال�صورة الرومان�س ّية التي
جمالها بده�شة �إ�سناداتها ،ورهافة الألوان ،وظاللها المتداخلة في ت�شكيل ال�صورة الغزل َّية
ذات التر�سيمات الم�شهدية -اللوحة؛ كما في قوله" :لو �أنَّ ني تُ َّفاح ٌة لملأَ ُت ك� َأ�س ُه ُم نعا�س ًا
�أخ�ضر ًا /وزرعت ُُه ْم �صيف ًا على دربي"؛ � َّإن هذا الأ�سلوب الت�شكيلي يمنح الق�صيدة جما ًال و�إ�شراق ًا
إيحاء وا�ستجابة لدى المتلقي.
ً وتنامي ًا دائم ًا؛ يزيدها ت�أثير ًا و�
عمق المدلوالت الن�صية ،وزادها حراك ًا جمالي ًا هذا النب�ض الإيحائي
ولعل �أبرز ما َّ
الذي تخلقه ال�صور الرومان�سية في ق�صائده البوحية" ذات المحتوى العاطفي" ،والتكثيف
ال�شعوري ،يقول �شوقي بزيع� " :إن ال�صورة الرومان�سية تمثل �شهيتي للحياة ،بمعنى �أن
�إقبالي على الحياة �شهيتي للحياة ما تزال قوية ،كما لو �أنني في الثالثينيات من عمري،
وهذا ال�شيء ال �أفتعله افتعا ًال ،و�إنما هو موجود في داخلي؛ يعني �أنا من الذين �شكل الزمن
مو�ضوع ًا �أ�سا�سي ًا في كتابتهم؛ وهناك من كان يالحظ ب�أنني �أتحدث عن الزمن بالكثير من
-1ترمانيني ،خلود - 2004 ،الإيقاع اللغوي في ال�شعر العربي الحديث� ،ص .364
المرارة ،وخا�صة بق�صيدتي (مرثية الغبار) و(الأربعون) وق�صائد �أخرى تتحدث عن فوات
الأوان ،ومرور الزمن"(((.
َّ
ولعل �أبرز ما يثيرنا فن َّية ال�صورة الرومان�س َّية -عند �شوقي بزيع -محاولته خلق
الأن�ساق الغزل َّية بترا�سل الحوا�س وظالل الألوان؛ كما في قوله:
"ما ُك ْنتِ بي�ضا َء
ُ
يو�شك � ْأن َي َت َف َّت َح بين ذراعيكِ ، لك َّن ُه الثل ُج
ما ُك ْنتِ زرقا َء
�شم�س البحيراتِ عالق ٌة عند َمد َْخلِ عينيكِ َ لكنَّ
ما ُك ْنتِ خ�ضراءَ.
لكنَّ �صدركِ ُت ْف ِ�ضي �إلي ِه العناقي ُد بال�س ِّر؛
ال َت ْق ُطفي ال ُع ْم َر،
�أنتِ بنف�سج ُة ال ُع ْمرِ� ،أنتِ الدمو ُع الأخير ْه
َم َ�ضى ُك ُّل �شي ٍء �إلى البحرِ؛
م َّر الم�سا ُء وم َّرتْ طيو ُر الم�ساءِ،
وهاج َرتِ الغيم ُة الذهب َّي ُة في القلبِ َ
وال�شم�س في �آخ ِر الأُفقِ غابتْ ُ
ومازا َل قلبي ُي َحد ُِّق نحو الظهيره.((("...
ما ينبغي الت�أكيد عليه بداية� :أن ال�شاعر �شوقي بزيع ال ي�ؤ�س�س ال�صورة الرومان�سية
على التظليل الإيحائي لل�صورة ،بقدر ما ي�ؤ�س�سها على قوة الدفق ال�شعري؛ �إنها لي�ست
ا�ستجابة لمنطق جمالي معزول عن مكمن ال�شعور؛ بقدر ما هي ا�ستك�شاف وحراك �شعوري
يفي�ض من �صميم الر�ؤيا؛ يقول برغ�سون" :نحن �أحرار ،عندما تن�ساب معالجاتنا الفنية من
خالل كلية �شخ�صيتنا وتعبر عنها� ،أي عندما تمتلك الت�شابه الذي ال يمكن تعريفه بين العمل
الفني والفنان"((( .وهكذا ي�ؤكد الحرية الفنية في ت�شكيل ال�صورة بما تولده من عن�صر
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .444
-2بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .285
-3حيدر� ،صفوان - 1998 ،تاريخ الفن التجريدي في الأ�صول الثقافية للر�سم التجريدي� /ص .233
مثيرها وت�أثيرها ،وقد كان ديوي محق ًا فيما ذهب �إليه من " �أن الإنجاز الفني حلقة و�صل
بين طاقة" الأنا" وطاقة" المادة الفنية"((( ،وبقدر ما تتوطد هذه الحلقة بالمثير القنواتي
الت�صويري بقدر ما تتعزز �شعرية ال�صورة وعن�صر محفزها الجمالي؛ يقول �شوقي بزيع" :
�أنا مغرم بال�صورة الرومان�سية التي ت�ستثير الحركة؛ وتنبع من �شحنات القلب ودفق
الروح ..لذا تميل لغتي �إلى الأنوثة و�أعتقد �أن الكتابة في عمقها هي فعل �أنثوي �شفيف رقيق
طري طازج"((( .وال�شعر ينبغي �أن يكون ا�ستك�شاف ًا لهذا ال�شيء الم�شع ال�شفيف المن�ساب في
عالمنا الروحي.
والالفت -في المقبو�س ال�شعري -جمالية ال�صورة الرومان�سية التي تخط �إيقاعها
الجمالي باالرتكاز على �أر�ضية �صلبة من التكثيف والإيحاء ،معتمد ًا على ال�صورة الم�شتقة
من حقل الطبيعة ،بتوظيف لوني يك�سبها الحيوية والإ�شراق ،كما في ال�صورة التالية[ما
كنت بي�ضاء /لكنه الثلج يو�شك �أن يتفتح بين ذراعيك]؛ �إن هذه ال�صورة تحقق جمالها بمقدار
ما تثيره من حدة جمالية وتظليل �إيحائي نابع من نف�س تواقة �إلى الجمال ،وهذا ما ينطبق
كذلك على بقية ال�صور؛ فالبزيع -كما هو معروف -مت�صوف في �إبداعه ال�شعري؛ �إذ كر�س
حياته كلها لهذا ال�صديق القلق �أو المقلق كما �سماه؛ �إذ يقول� " :أنا بالمنا�سبة من ال�شعراء
الذين كر�سوا �أنف�سهم لل�شعر؛ يعني لم �أتزوج قبل �سبع �سنوات� ،أرجو �أن ال تكون عجاف ًا
ب�شكل �أو ب�آخر ،وتركت وظيفتي بالتعليم الثانوي ،والتحقت بوزارة الإعالم ،وو�ضعت
خارج الدوام من �أجل �أن �أتفرغ لل�شعر ...لكي ال �أخلد �إال ل�سرير ال�شعر �إال لهذا الرفيق
المعذب المقلق والجميل الذي هو الكتابة"(((.
�س�أُحِ ُّب الربي َع الذي في يديكِ ،
الع�صافي َر وهي ُت َق ِّب ُل عينيكِ عند ال�صباح
و�سوف �أُ َغ ِّني و�أحل ُم كال�سرو ِة الخا�سر ْه
�إ َّن ربيعاً يغافلني في ال�صباح وي�س� ُأل عن ورد ٍة
في ذراعيكِ ..
-1المرجع نف�سه� ،ص .238
� -2شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية(حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة)� ،ص .439
-3المرجع نف�سه� ،ص .449
م��ا ينبغ��ي الت�أكي��د علي��ه� :أن جمالية ال�صورة الرومان�س��ية -في ق�صائد �ش��وقي بزيع-
تت�أت��ى م��ن كينونته��ا ال�ش��عورية ،وطريق��ة بوحه��ا العاطف��ي؛ �إذ "يعتم��د ال�ش��اعر ف��ي بن��اء
ق�صيدت��ه عل��ى الغنائي��ة على بث �أحا�سي���س الداخل ،وا�س��تنطاق ما ا�س��تقر ف��ي الأعماق؛ وذلك
بع��د �إ�س��قاطها عل��ى مع��ادل مو�ضوع��ي يعب��ر ع��ن تجربة ال�ش��اعر ال�ش��خ�صية ،نظ��ر ًا ل�صعوبة
الب��وح ب�أ�س��رار ال��ذات وخفاياه��ا؛ وم��ن هن��ا ،يقوم بن��اء ق�صيدة الب��وح على �أ�سا���س المقابلة
بي��ن م��ا ه��و ذات��ي مغ��رق ف��ي الداخ��ل ،وم��ا ه��و مو�ضوع��ي ع��ام ت��م ا�س��تعارته بهدف �إ�س��قاط
الم�شاعر عليه"(((.
والالف��ت �أن ه��ذه الق�صي��دة تع��د م��ن �أكث��ر ق�صائ��د �ش��وقي بزيع حي� ً
�ازة لأن�س��اق ال�صور
الغزل َّي��ة الرومان�س� َّية الم�ش��تقة م��ن حق��ل الطبيع��ة؛ ب�صور غاية ف��ي الإدها���ش ،والتعبير عن
�وي ،واالبت��كار ف��ي �عرية تر�س��يم َّية جمال َّي��ة تخ� ُّ
�ط ن�س��قها الجمال��ي بحرفن��ة الخل��ق اللغ� ّ �ش� َّ
الغزلي المرهف؛ وهكذا؛ يتالعب ال�ش��اعر فن ًّيا
ّ الم َد َّببة ذات الح���س ال�ش��عوري
ت�ش��كيل ال�صور ُ
الت�صويرية الرومان�س� َّية؛ مثي��ر ًا مح ِّفزات ال�ص��ورة الرومان�س� َّية الخ�صبة
َّ ف��ي حرك��ة الأن�س��اق
الجمالي ،والخ�صوبة الت�ش��كيل َّية؛ لتبدو ذات حياكة جمال َّية خال�صة
ّ الت��ي تغتن��ي بالتنام��ي
تفجر ينابيع الم�ش��هد ثمة تفاع ً
ال بين ال�صور الرومان�س� َّية التي ِّ للمثيرات كلها؛ مما يعني � َّأن َّ
الغزلي ،وتزيده خ�صوبة ،و�إ�ش��راق ًا ،وتنامي ًا جمال ًّيا؛ � َّإن هذا اال�ش��تغال جمال ًّيا على بداعة
�ي �ش��اعري رقي��ق؛ ويثي��ر �عرية ذات ا�س��تحواذ فن� ّ
ال�ص��ورة الرومان�س� َّية ،يجع��ل الدفق��ة ال�ش� َّ
الربيع الذي
َ ح�سا�س��ية الق��ارئ �إل��ى ت�أم��ل مثل هذه ال�ص��ور الجمال َّية؛ كما في قوله�" :س� ُ�أ ِح ُّب
ف ��ي يدي � ِ�ك؛ الع�صافي � َ�ر وه ��ي تُ َق ِّب � ُ�ل عيني � ِ�ك عن ��د ال�صب ��اح /و�س ��وف �أُ َغ ِّن ��ي و�أحل � ُ�م كال�س � ِ
�روة
�ره"؛ وهكذا؛ ت�ش��تغل ن�صو�ص �ش��وقي بزيع على �إثارة الحركة الرومان�س� َّية في �صوره؛
الخا�س� ْ
الفني
ّ لخل��ق ر�ؤي��ة جمال َّي��ة؛ ت�أ�س��ر المتلق��ي ب�س��حر داللته��ا ،وبداع��ة ت�ش��كيلها وا�س��تحواذها
الن�ص ّي؛ كما في قوله:
ّ المثير على م�صفوفة ال�صور المده�شة في الت�شكيل والتوليف
ال بد من الإ�شارة بداية� :إلى �أن ال�صورة الرومان�سية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تبقى
مفتوحة الر�ؤى ،كثيفة الدالالت؛ فهي لي�ست تج�سيد ًا فوتوغرافي ًا لحيثيات الواقع والطبيعة،
بقدر ما هي ت�صوير �إبداعي ،يطغى عليه الخيال وعن�صر التخييل ،لتحقيق التناغم بين
ال�شكل اللغوي ،والنمط الإيقاعي؛ �إذ "�إن تجاور الألفاظ وتقابلها وتباعدها وتقاربها،
وتنا�سبها وتنافرها هو من العوامل ال�شعرية التي تحظى بتناغم �إيقاعي"((( .يغني حركة
ال�صورة ،ويزيدها مو�سقة �إ�ضافية ،خا�صة في ق�صائد المناجاة �أو الق�صائد البوحية.
والالفت -حق ًا -في المقبو�س ال�شعري -بالغة ال�صورة الرومان�سية وجمالية حراكها
الداللي ،نظر ًا �إلى ما تملكه من انبثاق �شعوري دافق بالنعومة ،والر�شاقة ،والح�سا�سية
الجمالية في التوليف ال�شعري ،كما في ال�صور التاليةِ � " :
أنت الآنَ جاثم ٌة على عيني من
الجهة الوحيدة"؛ فالقارئ �ألف في ن�سق ال�صورة �أن لفظة(جاثمة) من المل�صقات المالزمة في
الخطاب ال�سائد المعتاد للجار والمجرور على(�صدري) كما في المقولة المعتادة دائم ًا(هم
جاثم على �صدري)؛ فغيب لفظة (�صدري) وانزاح عنها �إلى لفظة(عيني) ،وهذا االنزياح ولد
ا�ستطالة جمالية �أو م�ساحة ت�أملية في ا�صطياد ال�صورة الرومان�سية الآ�سرة بالح�سا�سية
والنب�ض الدافق؛ ف�إذا كان ال�شاعر يمتلك ر�ؤيته الرومان�سية و�إح�سا�سه ال�شعوري الخ�صب
بال�صورة المثيرة ،ف�إن ا�ستك�شاف �أبعادها ومكمن تناميها في الن�ص يفر�ض على ال�شاعر
التنوع الدائم في ابتعاث طرائق جديدة تزيدها غنًى وجاذبية .وهذا ما عمد �إليه البزيع في
ن�سق ال�صور ال�سابقة.
وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله �أي�ضاً:
تت�ساقط الأمطا ُر حيث تك َّونتْ عيناكِ ُ "
والأنها ُر ُت ْ�س ِر ُع
ن�صف نهديكِ الأخي ُر، حيث يبد�أُ ُ
ولي�س لل�ساحاتِ من مع ًنى
�إذا لم ُت ْ�شرعي ال َ
أبواب
أر�ض،كي يرث الحما ُم ال َ
َ
تتم�شطين باليد نف�سها
وتغ�سلين العم َر من �أوجاعِ ِه َ
و ُت َق ِّلمين �أظاف َر الأزهارِ،
باليد نف�سها
تتحولين �إلى غبا ٍر �أو �إلى امر�أ ٍة
فماذا تفعلين بما تبقى من يديكِ ؟!"(((.
� َّإن �أبرز طرائق حياكة الق�صيدة اعتمادها ال�صور الغزل َّية الرومان�س َّية الخ�صيبة التي
ال�شعرية ذات ال�صور المبتكرة،
َّ �شعرية نادرة؛ ت�سهم في توليد الجمل
َّ تدلّ على مهارة
والأن�ساق الت�شكيل َّية المت�ضافرة في خلق هذه اللحمة الفن َّية بين ال�صور الرومان�س َّية؛
ً
فائقة في ت�شكيل ال�صور ،وتحديث ظاللها ً
روعة ومثيراتها اال�شتقاق ّية؛ وهذا يدلّ داللة على
ال�شعري دور ًا فني ًا مهم ًا في تحفيز الر�ؤى،
ّ ال�شعرية؛ تبع ًا لهذا،ي� ّؤدي الن�سق
َّ و�إيحاءاتها
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .285
وتكثيف الدالالت عبر فاعلية ال�صور الرومان�س َّية المكثفة؛ التي تزيد درجة تناغم ال�صور
وائتالفها الن�سقي ،مما يجعلها متنامية جمال ًّيا؛ فلو ت� َّأمل القارئ مثيرات الجمل التالية:
أظافر الأزه��ارِ ،باليد
َ أوجاع ِه /وتُ َق ِّلمين �
ِ العمر من �
َ "باليد نف�سها تتم�شطينَ /وتغ�سلينَ
ِ
يديك؟!"؛ �سرعان ما نف�سها /تتحولين �إلى غبارٍ �أو �إلى امر� ٍأة ..فماذا تفعلين بما تبقى من
يدراك ح�سا�سيتها الرومان�سية وهكذا؛ تبدو لنا � َّأن حركة ال�صور -في المقبو�س ال�شعري-
ال�شعرية الرومان�س َّية -لديه-
َّ ال�شعرية عند �شوقي بزيع؛ فال�صورة
َّ فاعلة في تحفيز الر�ؤية
الجمالي لتناميها فن ًّيا وتكثيفها �إيحائ ًّيا؛ ونظر ًا �إلى قدرة ال�صورة الفن َّية
ّ هي الأ�� ّ�س
الرومان�س َّية على �إدراك �أغوار ال�شاعر وم�شاعره الداخل َّية؛ فقد وجدنا تنوع ًا في ت�شكيلها بين
التوالدية]؛ التي تخلق
َّ [ال�صورة الرومان�س َّية] و[ال�صورة الت�شكيل َّية] و[ال�صورة ال�شبك َّية �أو
�شعرية �شوقي بزيع ت�ستوقفه
َّ ده�شتها من حراكها الداللي وتكثيفها الإيحائي؛ ولذا؛ ف� َّإن قارئ
المحرك الأ�سا�س لظاللها الفن َّية ،و�إيحاءاتها الدالل َّية ،وطاقاتها التخييل َّية؛
ِّ ال�صورة؛ لأنها
�شعرية ن�صو�صه؛ لترقى �أعلى الم�ستويات
َّ فال�صورة هي الأفق الجمالي المتنامي في تحقيق
ٍ�سنادية.
َّ من الإثارة ،والفن ،والمناورة ،والده�شة الإ
وال غرو في ذلك فهو القائل " :ال�صورة رحيق �إبداعي ،ومنهله العذب ،ودم ال�شعر
وعظمه ،فهي ت�شكل الن�سيج التعبيري لق�صائدي ..والطير المحلق في �سماء ق�صائدي
جمالي ًا"(((.
َّ
المتناصة: ّ - 12
فنيَّة الصورة
اثنتين؛
ِ نارين
بين ِ و�أنا ال�شهيد ُة َ
�أُنوثتي
و�صليب ابني
و�أنا التي انتبذتْ براع َم لم ُت َق ِّلمها ْ
يدان
ولم يَ�سِ ْل �صدري نبيذاً
العنب...
كي ُي َ�صدِّقني ْ
ُ
المخاوف �أنا ل�ستُ �أرمل َة اليقين لكي تطاردني
�سبب"(((.
زف بال ْ �أو �أُ َّ
ب��ادئ ذي ب��دء ،ن�ش��ير �إل��ى �أن ال�ص��ورة المتنا�ص��ة -ف��ي ق�صائد �ش��وقي بزي��ع -تعتمد
عل ��ى معطي ��ات التاري ��خ والت ��راث ،لتك ��ون ج ��زء ًا م ��ن مقا�صده ��ا ،وحيويته ��ا ،ورموزه ��ا
الجدلي��ة؛ وه��ذا م��ا �صرح به �ش��وقي بزيع في قوله� " :إن الرم��ز الديني� ،أو الرمز التاريخي،
يمك��ن �أن ي�ش��كل ل��ي تحدي� ًا ،وا�س��تفزاز ًا م��ن �أجل محاورته� ،أو م�س��اجلته ،لكنن��ي ال �أعيد هذا
الرمز كما كان في التاريخ ،و�إال ال قيمة له ،يجب �أن �أعيد ت�شكيله ،مث ً
ال عندما تحاورت مع
يو�س��ف النب��ي مث�ل�اً ل��م �أع��د �صيغ��ة يو�س��ف كم��ا ه��ي"((( .وه��ذا دلي��ل �أن ال�ص��ورة المتنا�ص��ة
ل��دى البزي��ع ،ولي��دة ن��زوع �إل��ى معار�ض��ة التاري��خ ،لإح��داث الإ�ش��كالية مع��ه؛ بمنظ��ورات
معا�صرة جديدة ،قد تقف موقف النقي�ض �أو الند للند؛ ب�إح�سا���س جدلي ثائر على كل ما هو
م�سكوت عنه �أو مق َّد�س.
وبالنظر في فاعلية ال�صورة المتنا�صة -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�شاعر
ي�ستح�ضر ق�صة "مريم العذراء" وابنها " الم�سيح ابن مريم" فيحكي على ل�سانها ر�ؤاه الجدلية
المتنا�صة؛ ب�إح�سا�س �شعوري ثائر ينبع من �إح�سا�سها ،ومنطق ل�سانها التوتري القائل:
ب�أنها قد وقعت �ضحية �أو ذبيحة بعذابها بين نارين (نار الأنوثة) و(نار ال�صلب)؛ وهو بهذا
الأ�سلوب يكثف من جمالية ال�صورة المتنا�صة وعمقها؛ وفي الآن ذاته يعلن ثورته ،و�صوته
االحتجاجي الراف�ض �أو المتفرد؛ عما هو م�أثور ومقد�س في العرف ال�سائد.
وهكذا؛ يتابع ال�شاعر ن�سق ال�صور المتنا�صة بهذه الق�صيدة ،لتحكي ما يريد بثه
بمناورة ن�صية تبعث القارئ على التملي لما هو اختالفي وجدلي تبع ًا لما �أثارته ال�صورمن
حراك وموقف جدلي �صاخب ،كما في قوله:
�سحب اعتليني " فيا ُ
وا ْب َت ِل ْعني يا ُ
دخان
ليعو َد ج�سمي موج ًة في بح ِر خال ِق ِه
و�سهماً ال ي�شي ُر �إلي ِه ٌ
قو�س
ُ
ح�صان �أو ُيحا ِل ُف ُه
"هي نخل ٌة ،هُ ِّزي �إليكِ بجذعِ ها"
ُ
المالك، قا َل
و َن َّ�ص َب ْتنِي ال ُ
أر�ض
�س ِّيد ًة على ما ا�سو َّد من �أ�شباحِ هَا
ُ
المكان ونظرت ،لم َي ُكنْ ُ
�إ َّال تعا ُق َب �صرختي بين الأ�سِ َّر ِة والنجو ِم
ترفرف فو َق ِ
�سطح ال َغ ْم ِر ْ ولم
غير حمام ٍة مذبوح ِة الأموا ِج
تخترق الزمنْ ُ
وتحيلني �أ ًّما ،فما ذنبي � ْ
إذن!
ل ُت َع ِّلق الدنيا خطيئتها على امر�أ ٍة بمفردها
وتدفع من �أنوثتها الثمنْ "(((.
المتنا�صة،
ّ التنا�ص ّي في خل��ق لحمة فنية بين ال�ص��ور
ّ هن��ا ،اعتم��د ال�ش��اعر الأ�س��لوب
والأح��داث الحقيقي��ة الت��ي م��رت به��ا مري��م الع��ذراء م��ن خ�ل�ال تعر���ض ابنه��ا ،لل�صل��ب؛ وهذا
الق�ص��ة ب�أ�س��لوب ت�صوي��ري �ش��ائق
ّ الأ�س��لوب الت�ش��كيلي ل��م يخ� ُ�ل م��ن حرفن��ة ن�س��قية ف��ي �س��رد
م�س��تح�ضر للحال��ة ال�ش��عورية ،ب��روح متم��ردة ثائ��رة عل��ى وجوده��ا وبمنظ��ورات تنا�صي��ة
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .428
فنيّة الصورة ّ
اللوحة: ّ - 13
وما ينبغي الإ�شارة �إليه �أن ال�صورة اللوحة -في ق�صائد �شوقي بزيع -تت�أ�س�س على
ال�صورة الحية الطازجة المقتن�صة من حقل الطبيعة ،ب�ألوانها ،وظاللها ،وم�ؤثراتها؛ وك�أن
ال�شاعر يزرك�ش بالكلمات ما يزرك�شه الفنان الت�شكيلي ب��الأل��وان؛ لتخرج الق�صيدة
بان�سجامها ،وتناغمها ،كلوحة فنية متكاملة ،وهذا دليل �أن" ا�ستعمال اللون في ال�شعر
ال يقل �أهمية عن ا�ستعماله في اللوحة ،فال�شعر ي�سعى جاهد ًا لر�سم الم�شاهد التي تمتلك
الأثر ،وت�صل في م�ستواها �إلى �أثر اللون .ولأن �ألوان الأ�شياء و�أ�شكالها هي المظاهر الح�سية
التي تحدث توتر ًا في الأع�صاب ،وحركة في الم�شاعر� ،إنها مثيرات ح�سية يتفاوت ت�أثيرها
في النا�س؛ فال�شعر �-إذن -ينبت ويترعرع في �أح�ضان الأ�شكال والألوان� ،سواء �أكانت منظورة
�أو م�ستح�ضرة في الذهن"(((.
�إذ �إن "ال�شاعر ي�ستح�ضر �إيحاءات الألوان ،لي�شكلها �ضمن ن�سق �شعري خال�ص من
خالله ال�شاعر م�س�ؤو ًال عن ر�سم لوحته الناطقة ،ب�إ�ضفاء �شكل ب�صري مركز يهدف �إلى منح
القارئ داللة وا�سعة ب�أقل و�سيلة تعبيرية ممكنة ،وفي �أق�صر مدة زمنية ،بحيث تنطبع
الق�صيدة في ذاكرة المتلقي كما تنطبع ال�صورة العادية الفوتوغرافية في الذاكرة لحظة
ر�ؤيتها ،وهنا ،يتبدى دور المتلقي في و�ضع اللم�سات الأخيرة على اللوحة ال�شعرية"(((.
وتبع ًا لهذا ،تكت�سب ال�صورة اللوحة خ�صو�صيتها الإبداعية من بداعة تظليلها واللم�سات
الإبداعية التي ي�ضفيها ال�شاعر عليها ،لتملك قابليتها للإثارة والت�أثير.
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعر َّية ،ج� ،2ص .553-552
-2ع�ساف ،عبد اهلل -اللوحة الت�شكيلية و�أثرها في اللوحة الفنية في �شعر الحداثة� ،ص .32-31نق ً
ال من :ترمانيني،
خلود - 2004 ،الإيقاع اللغوي في ال�شعر العربي الحديث� ،ص .345
-3ترمانيني ،خلود - 2004 ،الإيقاع اللغوي في ال�شعر العربي الحديث� ،ص .345
وبالنظر -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ال�صورة اللوحة تملك فاعليتها الم�ؤثرة
في تكثيف الر�ؤيا ،وتنمية �إيقاعها الت�صويري (تظليلها الإيحائي ال�شفاف) كما في ال�صورة-
اللوحة التالية [تجلت ب�أقمارها البي�ض من خلف ظهر الجبال] و[تجلت كما تتجلى ل�سرب
�سماء من القمح �أو ك�سحابة �صيف]؛ وهنا ،تبدو ال�صورة ال�سابقة م�ؤثرة بجمالها
ً حمام
وتظليلها الإيحائي العجيب.
وعلى هذا النحو كذلك تخط الق�صيدة �صورها اللوحاتية التي ت�ستمر بت�أنق،
وائتالف ،وزرك�شة لونية �إلى نهايتها ،كما في قوله:
" تنا ُم على �صدرها ِّ
الغ�ض
ُ�س َّجاد ٌة من دمو ٍع؛
أ�ضيق من قبل ٍة َث ْغ ُرهَا و� ُ
ال ُم َت َف ِّت ُح مث َل �صرا ٍخ عميقٍ
ُي ْج ِر ِح ال�س� ْؤال...
يتد َّف ُق ريحا ُنهَا �أينما �شاءَ،
ح َّتى �إذا َغلَ َب ْتها العذوب ُة
�سالتْ
على ظم�أِ الرو ِح
�أطرا ُفهَا
وانحنى �سِ ْح ُرهَا ال ُم َت َب ِّقي
على نف�س ِه
ْ
كالهالل
و�أنا لم �أ ُكنْ لمناديلها
غي َر تلويحةٍ؛
لم �أ ُكنْ في تم ُّو ِج �أطيافِها
للظالل"(((. غي َر مقبر ٍة ِّ
بادئ ذي بدء ،ن�ؤكد �أن [ال�صورة -اللوحة] -في �شعر �شوقي بزيع -تت�أ�س�س على
ما ت�ضفيه ذائقته ال�شعرية على اللوحة من ظالل متخيلة ،و�إيحاءات عميقة؛ �إذ "تر�سم بع�ض
الق�صائد ال�شعرية لوحات خال�صة تقوم على وجود الم�شاهد ال�صامتة المج�سمة التي تميل
�إلى الب�ساطة ،والتكثيف ،واالختزال ،فتكون قابلة للر�ؤية دفعة واحدة ،ويت�سلمها المتلقي
بي�سر و�سهولة ،ودون �إعمال ذهني ،وذلك حين ي�شي العنوان و�أ�سلوب التناول بتلقي لوحة
�شعرية يعر�ض ال�شاعر مبا�شرة عنا�صرها التكوينية ويحدد هيئاتها ،و�ألوانها ،وت�شكيالتها
التي توحي بدالالت يتم تج�سيدها بطريقة محددة ومكثفة ،لتكون قابلة للر�ؤية دفعة
واحدة"((( .وهذا ينطبق على المقبو�س ال�شعري الم�شتق من الق�صيدة المدرو�سة.
والمت�أمل -في الق�صيدة ال�سابقة -يدرك �أن هذه الق�صيدة ت�شكِّل لوحة فن َّية متكاملة
بالح�س،
ّ من ال�صور الرومان�س َّية الت�شكيل َّية التي تُ ْعنَى ب�إظهار ال�صور الغزل َّية الدافقة
وال�شعور ،والتر�سيم الفني الدقيق؛ �إذْ �إننا نلحظ � َّأن الق�صيدة ت�شكِّل �سل�سلة من ال�صور
المرهفة التي تنبني على �أن�ساق ال�صور الأخرى؛ في ن�سق تفاعلي مثير؛ فكل �صورة ت�ستقطب
الرومان�سي والحيازة الجمال َّية؛ لت�شكِّل هذه الر�ؤى لوحة متناغمة
ّ مثيلتها في التركيب
منمنمة ب�إمعان وان�سجام الخطوط ،وال�صور ،والظالل اللون َّية الم�شتقة من جزئيات
وينابيع،
ٍ الطبيعة؛ جامع ًا في هذه اللوحة :ظالل الطبيعة وم�شتقاتها من طيورٍ ،و�أ�شجارٍ ،
و�أزهار؛ ومثيرات الأنثى ،ومتعلقاتها من و�صف لحركة الج�سد والعيون والدمع ،وال�صدر،
ِّ
الب�ض الجميل؛ وال�شفاه؛ وال�شعر؛ والنهد؛ وما �إلى ذلك من مو�صوفات تتعلق بالأنثى وج�سدها
بالح�س ،وال�شعور ،لت�شكل لوحة �شعرية متكاملة؛ على نحو ما
ّ كما في هذه ال�صور الدافقة
ٍ
قبلة َثغْ رِ َها ُ
أ�ضيق من دموع؛ /و�
ٍ الغ�ض ُ�س َّجادةٌ من
ِّ "تنام على �صدرها ُ نلحظه في قوله:
عميق ُي ْجرِ ِح ال�س�ؤالْ "؛ � َّإن هذه ال�صور ت�ؤكِّ د ج�سدانية الق�صيدة؛ وتَ َو ُّحد
ٍ �صراخ
ٍ الم َت َفت ُِّح َ
مثل ُ
ت�صويري
ّ الت�صويرية المرهفة؛ مما يجعلها ذات كثافة �إيحائ َّية ،وعمق
َّ حركة �أن�ساقها
�شعرية �شوقي بزيع ،لخلق
َّ م�شهدي؛ وهكذا؛ ت�ؤدي ال�صور اللوحات َّية دور ًا مهم ًا في تحفيز
حركة جدل َّية جمال َّية في بنية ال�صورة؛ لإثارة كينونتها الجمال َّية ،وكثافتها الإيحائية.
وهكذا " ،ف�إن تركيب ق�صيدة اللوحة في ن�سق منتظم يقوم على االن�سجام وال�شمولية
والحركية المتناغمة مع تموجات الخطوط والم�سافات؛ يثير الق�صيدة ،وهذا كله ،يحقق
-1ترمانيني ،خلود - 2004 ،الإيقاع اللغوي في ال�شعر العربي الحديث� ،ص .345
التناغم الإيقاعي الذي يكفل لق�صيدة اللوحة قيمتها الجمالية المتمثلة في المادة التعبيرية
والداللة الموحية مع ًا .ومن هنا ،ف�إن اللغة التي تنظم ق�صيدة اللوحة تبدو حبلى بالإمكانات
الإيقاعية المعت�صرة من المتوازيات"(((.
وهذا ما الحظناه في �سياق ال�صور ال�سابقة من تناعم ،وائتالف ،و�شفافية �شعرية
عالية.
* نتائج واستدالالت:
الت�صويرية؛
َّ الت�صويرية -لدى �شوقي بزيع -على دينام َّية الأن�ساق
َّ ( )1ت�شتغل البنية
الت�صويرية -لديه -على
َّ التج�سيدي الح�سي حين ًا؛ بتركيز اللقطات
ّ ذات الطابع
الب�صرية من ظالل ،و�ألوان ،و�أحجام،
َّ عن�صر الطبيعة وموحياتها ومفرزاتها
ح�س المتلقي وذوقه الفني؛ هذا من جهة؛ وبالتركيز ً
قريبة من ّ ومرئيات؛ مما يجعلها
على ال�صور الم�ؤن�سنة من جهة ثانية؛ ببث الحركة في جزئيات ال�صور؛ الأمر الذي
خا�صة
َّ يخولها �أن ت�صل مكانة مرموقة من التحفيز ،والإثارة ،والإبداع الجمالي؛
الت�صويرية الرومان�س َّية؛ التي ت� ّؤ�س�س مظاهر جمالياتها على هذه
َّ ِتل ُْك ُم الأن�ساق
الت�صويرية في ال�صياغة ،والتنويع في ال�شكل التعبيري (الت�صويري) من
َّ القفزات
ب�صريا؛
ًّ الم�شهدية المكثفة
َّ ال�صورة اللوحة� ،إلى ال�صورة اللقطة� ،إلى ال�صورة
�إلى ال�صورة الح�س َّية الفوتوغراف َّية الدقيقة؛ وهذا التنويع في الت�شكيل الت�صويري
يهب ق�صائده �سحرها الفني ،و�إيقاعها ال�شاعري المرهف.
( )2ال يعتمد �شوقي بزيع في �صياغة �صوره � -ش�أنه �ش�أن غيره من �شعراء الحداثة-
الت�صويرية؛ بقدر ما يعتمد على �إيقاع الم�ؤالفة بين المتباعدات؛
َّ على الم�ؤتلفات
ال�شعرية؛
َّ ليخلق في �صوره ده�شة �إ�سنادية؛ مردها الطبيعة الخالَّقة لمتخيالته
فهو يخلق ال�صورة الده�شة؛ ويبتعد عن ال�صورة النمطية المكرورة �أوالم�ستهلكة؛
ت�صويرية جديدة غير
َّ ولهذا؛ نلحظ في �صوره نزوع ًا دائم ًا �إلى ابتكار �أن�ساق
متوقعة للقارئ؛ حتى ولو ترددت في �سياق ق�صائده بع�ض ال�صور الم�ألوفة �أو
-1المرجع نف�سه� ،ص .350
الفصل الثالث
ماهيَّة الجمال ّ
النص ّي في شعر شوقي بزيع
الفصل الثالث
ماهيّة الجمال ّ
النص ّي في شعر شوقي بزيع
توفيق؛ �سعيد - 1992 ,الخبرة الجمال َّية(درا�سة في فل�سفة الجمال الظاهراتية؛ الم�ؤ�س�سة الجامعية للدرا�سات -1
والن�شر والتوزيع؛ بيروت -لبنان -الحر� ,ص .258
العربية للدرا�سات والن�شر�،ص.258 - 2
المرجع نف�سه� ,ص.258 -3
المرجع نف�سه� ,ص .258 -4
وعلى هذا ف�إننا نخل�ص �إلى ر�ؤية معرف َّية محددة؛ وهي�" :أَ َّن العمل الفني هو �أ�سا�س
المو�ضوع الجمالي؛ والمو�ضوع الجمالي هو غاية العمل الفني"((( .وهذا يقودنا �إلى القول:
لن يرقى المو�ضوع الجمالي �إلى مرتبة الفن الإبداعي الأ�صيل �إن لم يحقق اكتماله وتوازنه
الفني ،وهذا التوازن هو عملية تفاعل وتداخل المح�سو�س بالمجرد والوعي بالالوعي،
يقول الكاتب المك�سيكي(ماريو�س دي �ساغا�س) " :الالوعي عالمة الخلق والإبداع ،بينما
الوعي ،في �أف�ضل الأحوال ،عالمة ال�صناعة "((( .و�شتان �شتان بين الإبداع و�سحره وال�صناعة
التي هي في �أح�سن �أحوالها ما هي �إال مهارة ،وجودة ،و�إتقان؛ في حين �أن الإبداع خلق جديد
ب�شكل غير م�سبوق �أو متوقع ،وللتدليل على القيمة الجمالية �أو الماهية الجمالية للإبداع
ال�شعري ال بد من �أن نقف على نقاط مهمة لتحديد جمالية العمل الن�صي عامة و ال�شعري
خا�صة؛ وهي:
�أ -االكتمال الن�سقي.
ب -التفاعل الداللي.
ج -الخ�صوبة الجمالية.
د -الحنكة الم�شهدية.
هـ -الكثافة الإيحائية.
الن�ص ّي؛ لهذا �سندر�سها
ّ وهذه ال�شروط جزئية قد ال تفي بالمق�صود بماهية الجمال
المحورية التالية:
َّ الن�صي؛ وفق النقط
ّ وفق ماهيات جمال َّية؛ م� َّؤ�س�سة على مفهوم التكامل
� َّإن الجم��ال كماه َّي��ة ن�ص َّي��ة اكت�س��اب خب��رات معرف َّي��ة ،تتب� َّدى مثيراته��ا ف��ي تخ�صي��ب
�عرية باالنفت��اح الن�س��قي ،واالبت��كار الأ�س��لوبي في ح ّيز الت�ش��كيل الفن��ي المبتكر
الر�ؤي��ة ال�ش� َّ
عل��ى ال��دوام؛ وال�ش��اعر المب��دع ه��و الق��ادر دوم� ًا عل��ى ابت��كار �أن�س��اق لغوي��ة جدي��دة؛ تحف��ز
حيوي��ة �إ�ش��راقية تنم��ي فاعلي��ة الق�صي��دة ،وتبع� ًا له��ذا؛
َّ الر�ؤي��ة ال�ش��عرية؛ وتمده��ا بطاق��ة
يتمي��ز ال�ش��عراء فيم��ا بينه��م ويتفا�ضل��ون -فني� ًا -ف��ي الطريقة الن�ص َّية �أو الأ�س��لوب ال�ش� ّ
�عري
المبتك��ر؛ ول��ذا ،يمك��ن �أن نُ َع� ِّ�رف الأ�س��لوب ,تبع� ًا ال�س��تنتاجات الآخري��ن؛ ومظانه��م النقدي��ة
ال��ذي ن�ست�ش��فه م��ن قوله��م" :الأُ�س��لوب ه��و نتاج تفاع��ل الفنان مع العال��م :ف�إذا كان الأ�س��لوب
كتعبي��ر ال يك��ون متحقق� ًا �س��لف ًا ف��ي الخ��ارج؛ ف�إنَّ ��ه �-أَي�ض� ًا -ال ُيكْ ت ََ�س��ب بمن��أى ع��ن العال��م،
الم�صور,
ِّ جواني ال يمتلك مفتاحه �س��وى
والأ�ش��ياء؛ والآخرين ,كما لو كان يتحقق في معمل َّ
�ور وح��ده .فالحقيق��ة � َّأن الفن��ان يمار���س ن�ش��اطه وعين��ه عل��ى العال��م ,وه��و يوا�ص��ل
والم�ص� ِّ
يطور من �أَ�س��لوبه الذي �أوحت به �أَعماله ال�س��ابقة؛ من دون �أن يكون قادر ًا بح�س��بجهوده ب� ْأن ِّ
ر�أي(ميرلوبونت��ي) -عل��ى �أن يم ِّي��ز بي��ن م��ا ه��و �ص��ادر عن��ه وم��ا هو � ٍآت م��ن الأ�ش��ياء؛ ودون �أن
يك��ون ق��ادر ًا عل��ى �أن يح� ِّدد م��ا ال��ذي ي�ضيف��ه عمله الجدي��د �إلى �أعمال��ه ال�س��ابقة� ,أو ما الذي
ا�س��تمده م��ن الآخري��نَ � ,أو م��ا الذي تمخ�ض��ت عنه قريحته...الفنان� -إذ ًا -ال يمار���س �أَ�س��لوبه
بمن��أى ع��ن العال��م المعي���ش؛ فالم�ص��ور� -أو ال�ش��اعر -ال يع ّب��ر ع��ن �ش��يء �آخ��ر �س��وى لقائ��ه
بالعالم .والفن التجريدي لي���س ا�س��تثناء من هذا؛ فالفنان التجريدي ال يع ّبر عن �ش��يء �آخر
�س��وى نفي �أو رف�ض العالم؛ وهو في رف�ضه للعالم ال يكون منف�ص ً
ال عنه؛ ف�أ�ش��كاله الهند�س� َّية
تك��ون م�س��تمدة م��ن الحياة،وتحم��ل رائحته��ا .وله��ذا؛ ي��رى ميرلوبونت��ي � َّأن اللوح��ة دائم� ًا
تق��ول �ش��يئ ًا م��ا؛ والفن��ان التجري��دي الحدي��ث يري��د �أن يو�ص��ل مع ًن��ى �أو يع ِّب��ر ع��ن حقيق��ة,
ال ب��أَن يق��دم تمثي�ل�اً �صادق� ًا للأ�ش��ياء؛ ولك��ن ب��أَ ْن يق��دم نظام��ا جدي��د ًا م��ن المع��ادالت يحط��م
العالق��ات التقليدي��ة بي��ن الأ�ش��ياء ,ويدخله��ا ف��ي عالق��ات جديدة تب��دو �أكثر �صدق� ًا .ولذلك؛
ف��إن الحقيق��ة �أو ال�ص��دق ف��ي الت�صوي��ر؛ ه��و �ص��دق باطن��ي ف��ي اللوح��ة يكم��ن في ات�س��اقها مع
حينم ْا جِ ْئ َتني
لم �أَ ُع ْد مِ ْثلَما كنتُ ؛
قلبي الأَ�شدُّ نقا ًء مِ َن ِ
الثلج
�أَ ْ�ض َحى َع ُد ِّوي
وحو َل ا�ستدار ِة �صدري
البراعم
ِ ليل �شبي ٌه ِب َم ْج َرى َت َف َّتح ٌ
أر�ض؛ في ال ِ
من ِف ْت َنتِي فاخترت ِ ُ
يك؛ ينا�سب َك ّف َ ُ ما
واخترت من ع ََ�سلي ُ
ت�س َع ع�شر َة َ�ش ْم َ�ساً ُمب َّلل ًة
َ
انتظارك؛ بلعابِ
واخترت من عبثي ُ
ما�أُ َم ِّوه فيه ا�ضطرابي
�إذا مار�أي ُت ْك
لم �أَ َ�ش�أْ � ْأن ُي َ�سائلني َ�سائ ٌِل
كيف جِ ْئتَ ومنْ �أَ ْي َن؛ َ
كيف َّ�ص ْيرتني امر�أَ ًة لم �أَ ُك ْنهَا �أو َ
ود َْح َر َجنِي عن �سرير الطفول ِة
َ�ص ْو ُت َك
لم �أَ َ�ش�أْ �أَ ْن �أُحِ َّب َك؛
الطيف
ِ خف من لكنَّ َ�ش ْي َئاً �أَ َّ
�أَ ْن َ�ش ِب َني كالظهير ِة في ظ َّل َ
قلبك
واند�س في �ضحكتي وعبو�سي َّ
وغرف َة �ص ّفي
وبين دبابي�س �شعري
- 190 -
الن�ص ّي في �شعر �شوقي بزيع
الف�صل الثالث :ماه َّية الجمال ّ
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن جمالية الن�ص ال�شعري -في ق�صائد �شوقي بزيع -تت�أ�س�س
على مرتكزات فنية ،فهي بناء لغوي من�سجم ي�أخذ بع�ضه بتالبيب بع�ضه الآخر ،في ان�سجام
وتفاعل ن�صي ،ي�ستثير الذائقة ال�شعرية ،ويرفع �سوية التلقي الن�صي �إزاءها ،وهذا ما برهن
عليه ال�شاعر �شوقي بزيع بقوله� " :إن ال�شكل في ق�صائدي هو ك�ساء للنب�ض ال�شعوري في
-1بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعرية؛ الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر بيروت ,ط ,1ج�/2ص .489-485
داخلي؛ وهو �إفراز لحالة الت�أثير بالإيقاع الروحي الذي ت�ستثيره حركة الروح في �صخبها
وقلقها وت�أزمها لحظة الكتابة؛ وتتماوج الأن�ساق في ق�صائدي ح�سب قوة المثير االنفعالي،
وانفتاح �أمداء الر�ؤية في ب�صيرتي وهنا يتحقق التوهج والكثافة في ق�صائدي باعتمادها على
عن�صر الإيحاء محرك ًا للكثير من الر�ؤى والدالالت التي تو�سع �أفق التجربة"(((.
تنه�ض هذه الق�صيدة جمال ّي ًا على مرتكزات ف ّن ّية؛ ت� ّؤ�س�س حركتها الجمال َّية؛ وتبث
�إيقاعها الفني؛ وفق المرتكزات الفن َّية التال َّية:
َّ
وجمالية األنساق السردية: أ -مرتكزات السرد
َ
ال �شك في �أن لترا�سل الحوا�س وتداخل الفنون �أثرها البارز في تطوير تقنيات الق�صائد
الحداثية ،والق�صيدة المبدعة هي اجتماع ر�ؤى ،ودالالت ،وم�ؤثرات فنية متنامية ،وهذا
يعني �أن كل جزئية من جزئياتها �إفراز تحفيزي لهذه اللغة؛ وهنا يختلف ال�شاعر عن
الفيل�سوف " فال�شاعر ال ي�ستقبل العالقات كما ي�ستقبلها الفيل�سوف بعقله ،بل بوجدانه،
ي�ستقبلها كما يريد هو ،وهو ا�ستقبال ذو خ�صو�صية �إ�سقاطية ،فهو ي�ضيف ويحذف ،ويغير
العالقة التي ي�ستعيرها من الموجود ،وهذا ما تتيح له قدرة الخلق الأدبي"((( .يقوم هذا
ال�سردية ,باالعتماد على عن�صر الق�ص والتبئير ال�سردي؛
َّ المثير -على تعزيز حركة الأن�ساق
�سردية تتبع ر�شاقة الأحداث و�سردها بتفا�صيلها
َّ مثير ًا فن ًّيا لتكثيف الر�ؤية؛ وفق ر�شاقة
�سردية تغرق في الت�صوير والتج�سيد
َّ الجزئية؛ والمثير-هناَّ � -أن الق�صيدة تنبني على �أن�ساق
والت�شبيه واال�ستعارات المتتابعة التي تمنح ال�سرد طابع ًا جمال ّي ًا خ�صب ًا غني ًا بالإيحاءات
والدالالت المحتدمة ,كما في قوله:
" ُو ِلد ُْت على �صور ِة ال َّن ْهرِ؛
بي�ضا َء َم ْثل ال ُن َعا�س
و�صافي ًة كاعتاللِ ال�صنوب ِر َت ْحتَ المط ْر
ِدت على ُ�صور ِة ال َّنهرِ؛ ُول ُ
لك ّنني مِ ْثلَ ُه
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
-2القحطاني� ،سهام ح�سين - 2004 ،ق�صيدة النثر في ال�شعر ال�سعودي� ،ص .487
� َّإن جمال َّية هذا المثير تكمن فيما تثيره هذه التقنية من �إيحاءات في المقبو�س ال�شعري
التج�سيدي
ّ ال�سابق ،من خالل ر�شاقة ال�سرد وتفعيله بال�صور الإيحائ َّية التي تبث �صداها
الت�صويرية؛ وفق ال�صور الده�شة
َّ ت�صويرية عميقة ،ن�ست�شف �أبعادها
َّ التذكري ب�إيقاعات
تحرك ن�سق ال�سرد وتمف�صالته المرهفة فال�شاعر �شوقي بزيع قادر دوم ًا على �شعرنة
ِّ التي
تراكيبه ال�شعرية حتى في �إطار الو�صف ال�سردي؛ لأنه يعي تمام ًا �أن الروح ال�شاعرية
المرهفة هي التي تحقق الجمال الإبداعي واللذة المعرفية؛ وهذه القدرة الم�ضاعفة لديه هي
ٍ
بفاكهة غير ما ت�ستثير �أن�ساقه ال�سردية ،لتخلق متعتها؛ كما في قوله" :لم ت�صلني جذوري
ال�ش َج ْر"؛ وهنا؛ ُي َعزِّ ز ال�شاعر المثيرات ٍ
أرجوحة في خيالِ َ ُّ
الغ�ض �إال ل فو�ضاي �أو يمتثلْ َج َ�س ِدي
َ
ال�سردية بتمف�صالت ال�صور ،والت�شبيهات التي تمنح الإيقاع ال�سردي ر�شاقة داللية،
َّ
وخ�صوبة مدلولية بهذا التنامي الجمالي الذي تبثه بنية ال�صور؛ لت�ؤكد فاعلية الن�سق
ٍ
أرجوحة في خيالِ َ
ال�ش َج ْر]؛ الت�صويري التقفوي المن�سجم ,كما في قوله[ :ل
ّ ال�سردي بالن�سق
ّغوية؛ بغاية التحفيز والإدها�ش الجمالي؛ بهذا الإدراك
وهنا؛ تبدو حركة الأن�ساق الل َّ
المعرفي ،والتكثيف الإيحائي ال�شعوري المثير.
يقول �شوقي بزيع�" :إن ال�شاعر المبدع هو الذي يجعل من تقنية ال�سرد مولد ًا لل�شعرية
ال لها وذلك بربطها بتحوالت النف�س ،ورهافة ال�شعور؛ وبقدر ما يجري ال�سرد ر�شيق ًا
ال قات ً
نابع ًا من �إح�سا�س الذات وحنينها �إلى ما�ضيها بقدر ما تنمي الحدث ال�شعري ،وت�ستثير
النب�ض الحيوي الدافق في الروح الإن�سانية"(((.
فال�شاعر المبدع في بنية ال�سرد ينبغي �أن "ي�صفها و�صف ًا يثير م�ستوى ولو �ضعيف ًا من
اال�ستجابة الح�سية لها؛ خا�صة فيما يتعلق بالتو�صيف المكاني؛ وهذا يتبع المهارة والقدرة
في نقل المعاني الجزئية �إلى المعاني الكلية ،نقلها من �صورة الجماد ال�صامت �إلى نب�ض
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
حي م�ؤثر جميل"((( .وتبع ًا لهذا يمكن القول " :ال�شعر الإبداعي� ،أو قل الكتابة الإبداعية
ب�شكل عام ،هي مظهر جوهري �أبدي مت�صل بعمق الحياة الح�ضارية غبر الأمم وال�شعوب
كافة ،بينما يقيم نظام الكتابة التقليدية؛ وال�شعر التقليدي بخا�صة في الزمن المتقطع
العابر والم�ؤقت؛ فالت�ضاد بين الزمن ال�سائل /الم�ستمر من جهة ،والزمن المتقطع من جهة
�أخرى ،هي المعادل الحقيقي للمعادل الفني الذي يتمثل في عملية الت�ضاد بين ال�شعر
الإبداعي الدائم ال�سيولة في النف�س الإن�سانية وال�شعر التقليدي الوقتي الذي يعي�ش على
�ضفاف الآن"(((.
�شاعرية؛ تر�صد الم�شهد الرومان�سي؛ وتثير
َّ ويتابع ال�شاعر ن�سق ال�سرد بتمف�صالت
ح�سا�سية ال�صور الم�ؤ�س�سة على التنامي الت�صويري ،والح�س ال�شعوري ال�شفيف الذي تتعزّ ز
دالئله ب�إيحاءات الم�شهد االن�سيابي الرومان�سي؛ كما في قوله:
ُ
تخبط َب ْلهَا َء ال�شم�س
ُ " َك َعا َدتِها كانتْ
فو َق ال�شعابِ المري�ض ِة
النِفيما غرابانِ طِ ْف َ
كانا ُي ِغ ْي َرانِ ُك َّل َ�ص َبا ٍح
النحيلين؛
ِ بي
على َحاجِ َّ
والريح كانتْ ُت َم ِّ�س ُد َ�ش ْعري
ب�أَم�شاطِ هَا ال َعارِي ْة"
�إن م��ا ينبغ��ي الإ�ش��ارة �إلي��ه�" :أن اعتم��اد �أداة الت�ش��بيه(كـ) ف��ي بداي��ة الجمل��ة ه��و م��ن
م�س ��تلزمات الق� ��ص ال�ش ��عري� ،أو ال�س ��رد الق�ص�ص ��ي؛ فالبزي ��ع -يعي� ��ش ف ��ي داخل ��ه مبدع ��ان
(�ش��اعر /وقا���ص) وبينم��ا يجاه��د ف��ي خل��ق �ش��عرية اختالفي��ة ،تخل��ق م��ن لغ��ة ال�س��رد ن�ص� ًا
�ش��عري ًا مكتظ� ًا بالأح��داث ،وال��ر�ؤى والم�ش��اعر المحتدم��ة ف��ي ق��رارة ذات��ه؛ لأن��ه يدع��و ف��ي
ت�أ�سي���س جماليته �ش��أنه �ش��أن عالم الجمال(هيغل) �إلى االنطالق من العام �إلى الخا�ص� ،أي
�إل��ى اتح��اد الجم��ال بالمتناه��ي م��ن جه��ة ،والمطل��ق ميتافيزيقي��ا ومادي� ًا م��ن جه��ة �أخ��رى،
-1الحارثي ،محمد بن مري�سي - 2004 ،الق�صيدة ال�سعودية والمعاني المطروحة في الطريق� ،ص .696
-2الح�سين ،ق�صي - 1998 ،ت�شظي ال�سكون في العمل الفني� ،ص .198
لي�ص��ل �إل��ى ت�أ�سي���س وح��دة زمني��ة بي��ن حرك��ة ال��روح الكوني عند ال�ش��اعر ،وحرك��ة الجمال
الفني في الن�ص ال�شعري �أو الأدبي"(((.
وبالنظر في مغريات بنية ال�س��رد جمالي ًا -في المقبو���س -نلحظ �أن جمال َّية الم�ش��هد
ال�شاعرية
َّ ال�س��ردي تكمن في ال�صور المفاجئة للقارئ بتر�س��يماتها الرومان�س� َّية و�إيحاءاتها
�ي النحيلي ��ن؛ �أم�ش ��اطها
العميق ��ة؛ كم ��ا ف ��ي الأن�س ��اق التالي ��ة[ :ال�ش ��عاب المري�ض ��ة -حاجب � ّ
العارية]؛ وهنا؛ يثيرنا ال�ش��اعر فني ًا وجمال ّي ًا بالحركات ال�س��ردية� ,إذْ � َّإن كل حركة �س��ردية
تخل��ق �ص��ورة ,وكل �ص��ورة تخل��ق تنامي� ًا جمالي� ًا متدفق� ًا في الم�ش��هد الرومان�س��ي المج�س��د
ال��ذي ي�ص��وره؛ ب�ص��ور تو�صيفي��ة رومان�س��ية تر�صد الحالة ال�ش��عورية؛ بعمق ت�أمل��ي /و�إدراك
فن ��ي عجي ��ب ,فم ��ا �أجم ��ل ال�ص ��ور التالي ��ة الت ��ي تح ��رك الن�س ��ق ال�ش ��عري؛ وتزي ��د فاعليت ��ه
�ي النحيلي��نِ ؛ �ران كُ َّل �صب� ٍ
�اح عل��ى حاجب� َّ �ان ِط ْف�ل ِ
�ان كانَ ��ا يغي� ِ تو�س��ع ًا و�إمتاع ًاِ " :ف ْي َم��ا غُ َر َ
اب� ِ
�ت تُ َم ِّ�س� ُ�د �ش��عري ب�أم�ش��اطها العاري��ة"؛ � َّإن �إيق��اع الأن�س��نة /والت�ش��خي�ص ال��ذي
والريح كان� ْ
ُ
ت�ش��تغل عليه ال�صور الو�صفية للق�صيدة ت�ش��عرن الر�ؤية؛ وتثير الم�ش��هد الرومان�س��ي بتدفقها
االن�سيابي الآ�سر.
فال�شاعر يعي �أن -من مخ�ص�صات الإبداع ال�شعري على م�ستوى بنية ال�سرد في ت�شكيل
ق�صائده -الوعي بمتطلبات هذه البنية ،من حيوية اللغة ور�شاقتها و�سرعتها من جهة؛ وما
تتطلبه من ح�س �شعوري عميق يرتقي بها من جهة ثانية؛ لتتجاوز زمنها الآني؛ �إلى الزمن
الال متناهي� ،أو الزمن المطلق؛ يقول مي�شال ديرميه� " :إن زمن ال�شاعر يمتد �إلى زمن ال�شعر،
لأنه بعد �أن يحيا زمنه المادي والروحاني نراه يمتد ليحيا ق�صيدته في تجلي الالنهائي،
محقق ًا الوحدة الزمنية المن�شودة"((( .وبمنزع مقارب يقول �شوقي بزيع� " :إن زمن ال�شاعر
زمن حي ..زمن يتجدد �ضمن الزمن وهذا ينطبق على زمن الق�صيدة؛ فالق�صيدة تعي�ش في زمن
ٍ
منق�ض ..زمن يبقى يتوالد با�ستمرار كتوالد اللحظات في �صيرورة ال نهائية"((( .وهكذا، ال
ي�ستحيل الزمن بموجب محتوى الن�ص �إلى �سل�سلة من الحركات المتموجة المختلطة التي
تتالعب في �إدراك ال�شاعر ،بحيث تت�شكل اللحظة الحا�ضرة في الإدراك المركب للما�ضي ،و�إن
-1المرجع نف�سه� ،ص .206
-2ديرميه ،مي�شال ،الفن والح�س� ،ص .180نق ً
ال من الح�سين ،ق�صي - 1998 ،ت�شظي ال�سكون في العمل الفني،
�ص.206
� -3شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
ب�صورة م�شو�شة عند بع�ض ال�شعراء ،فلحظات الما�ضي التي تعول على لحظات الحا�ضر،
وكذلك لحظات الحا�ضر حين تعول على لحظات الما�ضي ،تبعث في الن�ص ال�شعري طاقة
قوية لها �صفة الإ�شعاع الحي في الحا�ضر كما في الما�ضي� ،أو في الم�ستقبل ،وتتيح للقارئ
�أن يجد فيها �أبعادها جديدة ومتعددة"(((.
وقد يعمد ال�شاعر في الأن�ساق ال�سردية �إلى ما ي�سمى بـالتكاتف الن�سقي الذي ُيزيد
لحمة الت�آلف والت�ضافر بين الأن�ساق ال�سردية؛ لدرجة �أن الن�سق ال�سردي يتنامى �شيئ ًا ف�شيئ ًا
ب�شكل تدريجي لدرجة �أنه اليمكننا قطع ن�سق ال�سرد ب�شكل مفاجئ؛ نظر ًا �إلى تتابعه ،وتناميه
لي�شمل �أ�سطر عدة؛ قد تمتد �إلى �صفحة �شعرية كاملة ,كما في قوله:
ُ
الخفيف الن�سيم
ِ "كا َن َي ْكفِي لأَ ْبكِي ....انحنا ُء
على ق�صبٍ َ�ش ٍ
اخ�ص
ناي الرعا ْة نحو ِ
ولثغ ُة ع ُْ�ص ُفو َر ٍة في �سري ِر الغيو ِم الرماديّ
تكفي ل َ
أ�ضحك
ما كان نهداي في َذلك الوقتِ
َق ْد َف َّو�ضا للرعون ِة
ام�ضين
ِ َج ْر َح ْي َت َ�ش ِّه ْيهِما ال َغ
............
من ِف ْت َنتِي
فاخترت ُِ
ينا�سب َك ّف َ
يك؛ ُ ما
واخترت من ع ََ�سلي ُ
ت�س َع ع�شر َة َ�ش ْم َ�ساً ُمب َّلل ًة
َ
انتظارك؛ بلعابِ
واخترت من عبثي ُ
ما�أُ َم ِّوه فيه ا�ضطرابي".
�إن الكثي��ر م��ن الق��راء ل�ش��عر �ش��وقي بزي��ع ال يدرك��ون الطبيع��ة الفني��ة الخ�صب��ة الت��ي
تنبن��ي عليه��ا لغ��ة ق�صائ��ده ال�ش��عرية؛ خا�ص��ة فيما يتعل��ق بتقنية ال�س��رد تحدي��د ًا؛ فالتنميط
و�إن كان م�ص��در ًا م�ش��وه ًا للكثي��ر م��ن البنى ال�س��ردية في ق�صائدنا المعا�ص��رة؛ ف�إنه �أتى رديف ًا
فني ًا في ق�صائد �شوقي بزيع من ناحية الإيجاز حين ًا؛ والتمطيط حين ًا �آخر؛ تبع ًا لم�ستتبعات
الموق��ف �أو الحبك��ة ال�ش��عرية الت��ي تراف��ق الح��دث؛ لكن ه��ذا ال يعني خلو لغته ال�س��ردية من
بع���ض االنك�س��ارات واال�س��تق�صاءات ال�س��ردية الممطوطة الالم�س��تحبة في بع���ض الأحيان؛ لكن
مفعل للق�صيدة ،ولم يك��ن عبئ ًا عليها؛ �إنه
ِّ ً م��ا يمك��ن قول��ه عل��ى العموم� :إن �إيقاع ال�س��رد جاء
ج��اء ر�ش��يق ًا ف��ي تناميه��ا جمالي� ًا؛ �إذ تن�س��اب ال�صور من خاللها ان�س��ياب ًا رومان�س��ي ًا �ش��اعري ًا
عجيب� ًا ،وال غ��رو ف��ي ذل��ك فه��و القائ��ل� " :إن �أغل��ب ال�ش��عراء العظ��ام هم الذي��ن ينحدرون من
بيئ ��ات ريفي ��ة؛ ف ��وراء الب�س ��اطة الريفي ��ة تختف ��ي عبقري ��ة ال�ش ��عراء وعظمته ��م ،وال�سال�س ��ة
واالن�س��يابية والر�ش��اقة والعذوب��ة ف��ي لغته��م"((( .وهذا م��ا ينطبق على جاذبية بنية ال�س��رد
وتمف�صالتها المثيرة في ق�صائده.
والمت�أمل -في المقبو�س ال�شعري -يدرك ر�شاقتها ،وت�سل�سلها الفني؛ وقدرتها على
اللغوية[ :جرحي تَ َ�ش ِّه ْيهِ ما َ
الغام�ضينِ � -سرير َّ خلق التنامي الجمالي على م�ستوى الأن�ساق
ِ
لعاب انتظارك]؛ و� َّإن هذه الأن�ساق قد منحت ال�سرد بداعته وده�شته؛ و�أمدت الرمادي-
ّ الغيوم
ِ
الن�سق بالحيوية والإ�شراق الجمالي؛ �إذْ � َّإن الحيازة الن�سق َّية الجمال َّية للأن�ساق الو�صفية
حين ًا ،والأن�ساق ال�سردية المتعا�ضدة فيما بينها لدرجة التما�سك المت�ضافر المطلق حين ًا
ينم على ذهنية متقدة،
�آخر ,قد ولد قطعة فنية من�سوجة ب�إحكام ن�سقي ،وت�صوير امتداديُّ ،
وح�سا�سية �شعورية مرهفة ,تر�صد كينونة الن�سق ال�سردي؛ وت�ستثير الح�سا�سية ال�شعرية؛
�شعرية ا�ستبطانية
َّ �شعرية ن�سقية و�صفية؛ تقريرية مبا�شرة؛ و�إنما هي
َّ م�ؤكد ًا �أَ ّن �شعريته لي�ست
المت ََو ِّهج �إزاء فاعلية الإبداع ،وخلق الأن�ساق الت�شكيلية المبتكرة،
لحيز الذات و�شعورها ُ
اللغوية ال�سردية في خلق
ّ وال�صور المده�شة في ن�سقها الإ�سنادي ,وهكذا؛ تت�ضافر الأن�ساق
الوئام الن�صي بين التراكيب؛ ال�ستثارتها جمال ًّيا ،وتناميها فني ًا ,لتكون هذه الق�صيدة
قطعة فنية متناغمة من الر�ؤى ،وال�صور ،والدالالت المت�ضافرة ,لترقى �أعلى م�ستويات
الإثارة والتحفيز الجمالي.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
وهذا دليل �أن ال�شاعر �شوقي بزيع يوظف تقنية ال�سرد مت�شبث ًا في ت�شعيرها ،ب�شتى
الو�سائل خا�صة باالتكاء على حيوية ال�صورة؛ وجدلية الأن�ساق المحتدمة ،وت�صعيدها
لغوي ًا عبر فاعلية الحدث الطازج من جهة ،و�سل�سلة االنزياحات اللغوية -ال�صادمة من جهة
ثانية؛ �إذ تعتمد الإثارة ،والتحري�ض ،ومناو�شة الم�شاعر الداخلية بحرارة عاطفية ،وتر�سيم
ذهني عميق لل�صورة الجمالية� ،أو الم�شهد الحيوي الحار الذي يعتمد الإثارة والتحري�ض
بمالم�سة دواخل الأنثى ،وما تثيره من مفاتن و�شهوات.
َّ
اللغوية للمشهد الرومانسي وتناغم الصور الرومانسية َّ
ةالمحفزات َّ
جمالي ب -
َّ
الطيعة المتواشجة ً
فنيا:
الم�شهدية
َّ تكمن -في هذا المثير -جمالية الم�شهد الرومان�سي؛ عبر تناغم لقطاتها
و�صوره الرومان�سية؛ م�ؤكد ًا توا�شجها الفني ،وتما�سكها في ِّ
بث الر�ؤية ،وتحفيزها فني ًا؛
وهذا الأ�سلوب المتنامي في توزيع ال�صور الرومان�سية ،وتحفيزها ،وا�ستبطانها النف�سي
ال�شعوري؛ ي�ؤكد فاعليتها في ا�ستقطاب الر�ؤى وتعميق الدالالت؛ فال�شاعر �شوقي بزيع ال
ّ
ُي ِ
ودي ب�صوره الرومان�سية في م�ستنقع ال�صخب االنفعالي المبا�شر الذي يوقع الخطاب
ال�شعري في المبا�شرة ،والغوغائية الزائفة� ،أوال�سطحية المبتذلة؛ خيفة �أن يطغى عليها
عن�صر ال�سرد التف�صيلي الذي �سرعان ما يقتل ال�صورة ،ويودي بطاقتها الإيحائية.
وهذا ما �أ�شار �إليه ال�شاعر �شوقي بزيع بقوله " :ال�صورة الرومان�سية -في ق�صائدي-
لي�ست مو�شاة �أو مزرك�شة �أو مزوقة� .إنها تجري كما هي ب�أن�سيابها و�إيقاعها العاطفي
المتدفق؛ و�أخطر ما يهدد ال�صورة الرومان�سية تنميقها اللفظي الزائد على ح�ساب �إيحائها
وجمالية مبثوثها وم�ستواها الفني"((( .وتبع ًا لهذا؛ ينبغي لل�شاعر في ن�سق ال�صورة
الرومان�سية "�أن يوائم بين المكونات غير المتجان�سة ظاهري ًا ،ويكت�شف التجان�سات الكامنة
بين �أجزاء العالم ،ويوفق بين المتناق�ضات في خلق �صورة �شعرية لها وظائفها النف�سية،
والجمالية ،والداللية ،الفكرية ،واالجتماعية"(((؛ وهذا يعني �أن ال�صورة قد تكون لعبة
فنية �أو على ح�سب �سهام قحطاني -قد " تمثل حيلة دفاعية ،لتحقيق ال�ضبط االنفعالي
والإيقاعي لم�ستوى التوازن لدى ال�شاعر"((( .وهذه الحيلة الدفاعية هي التي تراوغ
القارئ ،وتنمي فيه بذرة التلقي الجمالي ،ولذلك " ف�إن ال�صورة ال�شعرية الرومان�سية
الح َّقة هي �إبداع فني يخاطب الروح والإح�سا�س والخيال مع ًا ،فما يح�صل عليه من الت�شابه
�أو �سواه من عالم المجازات اال�ستعارية يثير �إنماء ال�صورة الجمالية الفنية في�ضيف جديد ًا
بت�شبيهه في خيالنا وروحنا ،وي�شيع فينا مدركات خيالية جديدة مادية ومعنوية"(((.
ولهذا� ،أدرك �شوقي بزيع لعبة التعبير الفني بال�صور ،لأنه بال�صورة الرومان�سية ال�شفيفة
يحرك القلب؛ ويجري مخزون �إبداعه في �سماء الفن وال�شاعرية مع ًا؛ �إذ �إن التنميق الزائد قد
ي�ضعف �شعرية الق�صيدة ،ويجعل الق�صيدة ترتدي زي ًا لم يخلق لها؛ و�شتان �شتان بين
اللبو�س الإبداعي الحقيقي واللبو�س المزيف ال�ضو�ضائي؛ الذي ال يزيف الإبداع فح�سب،
و�إنما يقتل بريقه و�إ�شعاعه الروحي؛ ولما كان هذا الوعي رائده الت�أملي في الإبداع والت�شكيل
الفني فقد ارتقى ب�صوره الرومان�سية �إلى حيز جمالي �إبداعي خ�صيب ،كما في قوله:
"�إذا مار�أي ُت ْك
لم �أَ�ش�أْ �أن ُي َ�سائلني َ�سائ ٌِل
كيف جِ ْئتَ ومنْ �أَ ْي َن؟ َ
كيف َّ�ص ْيرتني امر�أَ ًة لم �أَ ُك ْنهَا �أو َ
ود َْح َر َجنِي عن �سري ِر الطفول ِة
َ�ص ْو ُت ْك
لم �أَ َ�ش�أْ �أَ ْن �أُحِ َّب َك؛
الطيف... ِ خف من لكنَّ َ�ش ْي َئاً �أَ َّ
�أَ ْن َ�ش ِب َني كالظهير ِة في ظ َّل َ
قلبك...
واند�س في �ضحكتي وعبو�سي َّ
وغرف َة �ص ِّفي
دبابي�س �شعري ِ وبين
وفي جيئتي وذهابي "
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن جمالية ال�صورة الرومان�سية -في ق�صائد �شوقي بزيع-
تت�أتى من اللذة والده�شة التي تخلقها بترابطها ،وابتكارها ،ورهافة ما تت�ضمنه من ر�ؤى
ومثيرات؛ فالقارئ يلحظ لذة الالم�ألوف بالم�ألوف ،ولذه الالمتوقع بالمتوقع؛ لخلق
مفارقة داللية؛ ت�ستثير الوعي واللذة في الإدراك والتلقي الن�صي.
ال�شعرية في ق�صائد �شوقي بزيع تكمن -في الدرجة الأولى -في �أ�سلوبها
َّ وهذا دليل � َّأن
�شاعرية
ّ ال�شعرية واال�ستعارات المبتكرة ب�أن�ساق
َّ الفني وت�شغيلها المتنا�سق لل�صور
الم�شهدية الم�شتقة من حقل الطبيعة
َّ ورومان�س َّية ،تعتمد بنية ال�سرد والو�صف واللقطات
م�شهديا وخلق ًا �إبداع ًّيا مثير ًا على الدوام؛
ًّ الجبلية الريف َّية � ًّأ�سا جمال ًّيا في تحفيزها ،وتناميها
�إذْ � َّإن هذه الح�سا�سية ال�شعرية في ابتداع ال�صور الرومان�سية وتخليقها جمالي ًا؛ يدلل على
ال�شاعرية التي تبث جمالها من رهافة
َّ ال�شعرية وعمقها الفني في �إ�صابة اللقطات
َّ ج�سارة
�شعورية عميقة؛ وح�س ت�أملي فني؛ ي�ستقطب المثيرات الرومان�سية ال�شعورية كافة ,كما في
هذه ال�صورة الغير م�سبوقة بهذا الت�أمل ،والإدراك ال�شاعري؛ في تج�سيد المجردات و�إك�سابها
ب�صرية؛ تثير القارئ؛ وتحفزه فني ًّا ,كما في قوله" :ودحرجني عن �سرير الطفولة....
َّ كينونة
ظل قلبك"؛ وهذا الأ�سلوب المتنامي في خلق الأَن�ساق اللغوية
�صوتُ كْ � ..أَن�شبني كالظهيرة في ِّ
ال�شعري؛ وي� ِّؤكد ج�سارة ال�شعرية؛
ّ الت�صويرية الرومان�سية المثيرةُ ,ي َع ِّمق فاعلية الن�سق
و�ألق ال�صور الرومان�سية التي تخط جمالها ببكارتها الت�شكيلية ،و�إبداعها الالم�سبوق ،بهذا
َّ
ولعل هذا الإدراك الفني في خلق الحيز الت�شكيلي ،والعمق التخيلي ،والمراوغة الن�سقية؛
ومد ًا ت�أملي ًا قد �أ�ضفى على الن�سق ال�شعري ال�سابق
ّ الأن�ساق الرومان�سية المكتنزة داللي ًّا،
جمالية �آ�سرة ا�ستمرت �إلى نهاية الق�صيدة؛ بقفلة ن�ص َّية �شاعرية محكمة مئة بالمائة.
َّ
النصية /وتالحمها الفني: ج -بداعة القفلة
ال �شك في �أن جمالية القفلة الن�صية في �أي ق�صيدة تكمن في ح�سن ائتالفها مع ما
ي�سبقها من عنا�صر التركيب وبالغة ما تت�ضمنه من مركبات لفظية ،مبثوثة بدفق عاطفي؛
ومغزى داللي محدد �أو ر�ؤية فنية تعمق �سيرورة الر�ؤى والدالالت الأخرى ،لتكون القفلة
الن�صية بمنزلة الرابط الخفي الذي ي�شد �أوا�صرها ،وينمي روافدها كافة؛ يقول �شوقي بزيع:
" الق�صيدة بناء ،و�أجمل مظاهر البناء الإحكام الجمالي في هذا البناء الذي يتبدى في ده�شة
البداية؛ وبالغة النهاية؛ وكم من الق�صائد قد ارتقت فني ًا بح�سن القفلة؛ فتبدو وك�أنها مرتكز
الق�صيدة الفني؛ وهذا يتوقف على مقدار تالحمها في الق�صيدة؛ وبقدر ما يزداد هذا التالحم
واالن�سجام يتحقق مثيرها الإبداعي و�سبكها الن�صي الإبداعي المحكم"(((.
وت�أ�سي�س ًا على ما �سبق -ت�أتي �أهمية هذا المثير في تفاعل القفلة الن�ص َّية ،وتوا�شجها
مع بنية الق�صيدة؛ لدرجة التالحم ،والت�ضافر ،والتنا�سق ،والتفاعل المطلق؛ �إذْ � َّإن ال�شاعر
يطور المنظور الفني للق�صيدة؛ ويربط �أن�ساقها ليختمها بخاتمة ن�ص َّية محكمة؛ ترتقي
ِّ
بالق�صيدة �إلى درجة التنامي ،والتفاعل ،والإثارة المطلقة ,كما في قوله:
"ح ْي َنما جِ ْئ َتنِي
كا َن نه ٌر �سوى النه ِر
َي ْذ َر ُعنِي ك َّلما �أَ َ�سلَ َم ْتنِي �إلى النو ِم عينايَ ؛
َن ْه ٌر ُي َباِغ ُتني
مث َل َ�س ْي ٍف من الما ِء
�إ ْذ اَ ُّ
�ستحم,
ويكمن لِي في ال َم َرايا
وين�سل مثل الأَ�صاب ِع ُّ
تحت ثيابي
حِ ي َنما جِ ْئ َتنِي
ِ�ص ْر ُت َنهْباً لما ال ُي َرى مِ نْ هُ ُبو َ
ِبك
في الد ِم,
بئراً لجم ِر َت َ�ش ِّه ْي َك
في �إِ َ
نائك �أو زهر ًة ِ
واال�سم
ِ مجهول َة العط ِر
َت ْذ ِوي على حِ ْي ِن َغ ْفلَة..
َ�س ِّمني كي يكون لج�سمي َب ٌ
ديل
�سوى اللم�س,
�أو ُر َّدنِي مِ ْثلَ َما ُكنْتُ طِ ْفلَ ْه"
ال بد من الإ�شارة بداية �إلى �أن �شعرية القفلة الن�صية -في ق�صائد �شوقي بزيع -تعتمد
الحبكة الن�صية والمهارة اللغوية الفائقة في ا�ستجماع كل طاقاته التخييلية لإبراز الأثر
الجمالي للق�صيدة؛ لأن ال�شاعر �إذا ما �أح�سن في ت�شكيل الفا�صلة الختامية الم�ؤثرة فني ًا،
ف�إنه -دون �أدنى �شك � -سي�صيب مرماه الفني ،ويخلق اللذة الجمالية في التلقي الن�صي،
وبهذا المنزع الر�ؤيوي يقول �شوقي بزيع " :القفلة الن�صية هي قرار الق�صيدة الأخيرة؛ فبها
ترتقي ،وبها ت�ستمد طاقتها الجمالية؛ خا�صة عندما ين�سجها ال�شاعر بان�سجام وترابط فني
مع ما ي�سبقها من عالقات وروابطها ترتقي بها في الآن ذاته"(((.
والمت�أمل -في المقبو�س ال�شعري -يلحظ �أن بداعة المقبو�س ال�سابق تكمن في هذا
ال�شاعرية التي تحمل معها كل مظاهر ال�سمو
َّ الجمالي في قفلة الق�صيدة؛ بهذه الأن�ساق
َّ ال�سحر
�شعريا وغنج ًا جمال ًّيا؛ كما
َّ الرومان�سي في ت�صوير اللقطات الغزل َّية باال�ستعارات الم�شبعة
الماء�ِ -ص ْر ُت َن ْهب ًا لما ال ُي َرى ِم ْن ُه ُبوِ َ
بك في ِ مثل َ�س ْي ٍف من
[ن ْه ٌر ُي َب ِاغتُني َ
في هذه اال�ستعاراتَ :
الدم /بئر ًا لجمرِ تَ َ�ش ِّه ْيك]؛ �إنَّ هذه اال�ستعارات ال تف�صح عن جماليتها فح�سب؛ و�إنما تف�صح عن
ِ
�شاعرية متمر�سة ت�ستطيع �أن تر�سم ما تريد من الأن�ساق الجمال َّية دون �أن تكرر ذاتها؛ وهذا ما
َّ
يح�سب ل�شوقي بزيع دوم ًا؛ ومن �أراد �أن يت� َّأمل في ن�سق المقطع ال�سابق �سيلحظ �أنَّ ال�شاعر يثير
القارئ ببداية القفلة النّ�ص َّية المحكمة التي تُ َعزِّ ز الم ّد الت�أملي الرومان�سي ,بخطى ت�أمل ّية
تثير الموقف الرومان�سي؛ وت�ؤكد تفاعلها مع الأن�ساق الت�صويرية ال�سابقة كما في قوله:
أور َّد ِني ِم ْث َل َما ُكن ُْت ِط ْف َل ْه"؛ "تَ ذْوِ ي على ِح ْينِ َغ ْف َلة�َ /س ِّمني كي يكون لج�سمي َب ٌ
ديل �سوى اللم�سُ � ,
الن�صي ،ومثيراتها الت�شكيلية التي تزيد الق�صيدة عمق ًا
ّ وهكذا؛ تتكامل الق�صيدة بتفاعلها
وت�أم ًال وانفتاح ًا ن�ص ًيا؛ مما يجعلها بغاية التنامي ،والإثارة ،واالكتناز الجمالي؛ ومن هنا
ن�صي ،وابتكار �أ�سلوبي جديد
ّ يبدو لنا �أَنَّ الجمال كماه َّية ن�ص َّية -عند �شوقي بزيع -انفتاح
على الدوام� ,إذ �إن ال�شاعر َف ّعل �أن�ساق ق�صيدته ال�سابقة بالتنامي الجمالي ،واالبتكار الن�سقي
في حركة الأَن�ساق ال ّلغوية؛ م�ؤكدة ح�ضورها ،وتناميها الم�شهدي ال�شاعري الم�ؤثر؛ وهذا
�شعرية �شوقي بزيع تتلم�س مواطن �إثارتها وتتحثث خطاها بفن َّية
َّ يقودنا �إلى القول� :إنَّ
ً
منفتحة دالل ًّيا ،مغامرة ال�شعرية؛ مما يجعلها دائم ًا
َّ رومان�س َّية تعي ذاتها وتر�سم �أبعادها
ال�شعرية ودفقها ال�ساحر.
َّ ن�ص ًّيا في الو�صول �إلى �أق�صى ينابيع
ّ
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
جمالي خصب:
ّ - 2الجمال كماهيَّة ّ
نصيَّة فضاء تخييلي /وأفق
لمعالم ت�أملية
ٍ ن�ص ّية ا�ستغراق في المتخيالت الوجودية؛ وك�شف
� َّإن الجمال كماه ّية ّ
الن�ص �أو الق�صيدة ّ عميقة؛ يبث ال�شاعر من خالل هذه العوالم ر�ؤاه الجمال ّية عبر �سيرورة
ال�شعرية ا�ستطاع �أَن ُي َح ِّلق في
ّ الم َ�شكَّ َلة؛ وكلما ا�ستغرق ال�شاعر في تو�سيع ر�ؤاه ومتخيالته
ُ
ف�ضاء الت�أمل والإبداع؛ وال�شاعر الأ�صيل هو الذي يخلق المتعة الجمال َّية ب�إح�سا�سه الت�أملي
وخياله المفتوح �أو المجنح؛ ويكمن الجمال في المظهر المتنا�سق �أو ال�شكل المتنا�سق الذي
يقود الحركات الجمال َّية التي تنطوي عليه ر�ؤاه ومتع ِّلقات ف�ضاءاته التخييل َّية،يقول �شوقي
بزيع " :ال�شعر خيال ممتع و�سمو بهذا الخيال؛ والفن ال�شعري يتجاوز م�ساحة الوعي �إلى
الالوعي؛ وكلما �شف هذا العالم المخلوق في الالوعي ارتقى ال�شعر وارتقت معه �شعرية
ال لماذا نحن ل�سنا جميع ًا فنانين؟! ويجيب قائالً" :كان
الخيال"((( .يقول برغ�سون مت�سائ ً
ب�إمكاننا �أن نكون فنانين ،ولو �أن الحقائق التقت بمعانينا وبوعينا ب�شكل مبا�شر ،لكن
الواقع غير ذلك ،فبين الطبيعة و�أنف�سنا� ،أو بين �أنف�سنا ووعينا الذاتي ،ين�سدل ال�ستار
الذي هو كثيف و�سميك �أمام النا�س العاديين ،ولكنه رقيق و�شفاف �أمام الفنان وال�شاعر"(((.
وتبع ًا لهذا يمتاز ال�شاعر �أو الفنان عن غيره بمقدار الموهبة في االرتقاء بالخيال �إلى ذروة
الإبداع والإح�سا�س الجمالي؛ وال يكون الخيال منتج ًا �إال باللم�سات الفنية ذات الح�سا�سية
الإبداعية التي يملكها الفنان لحظة المخا�ض الإبداعي؛ يقول الدكتور جواد الزيديَّ �" :إن
المت ََم ِّثل يوجد فقط من
الجمالي ي�ستم ُّد معناه من الأ�شياء التي تُ َم َّثله؛ والمو�ضوع ُ
ّ المو�ضوع
�شيء خارجه؛ �أَي � َّإن المو�ضوع ُ
المت ََم ِّثل ٍ الجمالي؛ وال ي�شير �إلى
ّ خالل -وفي -مظهر المو�ضوع
يتم اكت�شافه ب�شكل مبا�شر من خالل المظهر ,الذي يقود بمفرده كل �شيء؛ و� َّإن المظهر -في
النهاية -مظهر ذاتي؛ ومعناه يوجد في المظهر ذاتهَّ � .أما الخيال ف�إنَّ ه يعمل على ظهور
ور�ؤية المعنى؛ ووظيفته تبقى موجودة داخل حدود مظاهر المو�ضوع الجمالي؛ فالخيال
و�صورته لي�ست �شيئ ًا يوجد بين مجموعة من الأ�شياء الأخرى؛ �إنها تمثل وهي فعل يهدف �إليه
الوعي ويخلع عليه المعنى ,والتخ ُّيل� -ش�أنه في ذلك� -ش�أن الإدراك ال يقوم على ا�ستك�شاف
منظور داخلي �أو خارجي؛ بل � ّإن معناه يتجه نحو مو�ضوع ق�صدي؛ له وجود متعال حا�ضر ًا
�أمامي .وح�ضوره دائم في جمال الإدراك ...وفي هذا ُي َع ُّد الخيال جزء ًا من المعرفة المتوارثة
الح�سي عندها .ومن ثم التخلي عن المو�ضوع الجمالي ....وبهذا ,ف� َّإن ّ و�شريك ًا للإدراك
ثم ف�إن المو�ضوع المتعة الجمال َّية الإبداع َّية النهائ َّية تنبثق عندما تت�أ�س�س الفكرة؛ ومن َّ
الجمالي الذي يتم َّثل في �صورة عملية ذهنية حد�سية �أو تخييلية ينتقل فيها المتلقي مبا�شرة
من المح�سو�س �إلى المو�ضوع الذي ي�شير �إليه؛ وهكذا؛ يتحول �إلى مو�ضوع مدرك حد�سي ًا �أو
متخيالً"(((.
وبه��ذا؛ ي�ض��ع الدكت��ور ج��واد الزي��دي المو�ض��وع الجمالي بمقاب��ل المو�ض��وع الفني �أو
الخيال��ي المثي��ر لل��إدراك والت�أم��ل؛ وكلم��ا ا�س��تطاع المب��دع �أن يمل��ك ذهني��ة متق��دة بالت�أم��ل
واالكت�ش��اف ا�س��تطاعت تجربت��ه �أن تثي��ر الق��ارئ؛ وتحقق المتع��ة الجمالي��ة �أو القيمة الفنية
المتوخ��اة بو�صفه��ا مق��ا ًال حد�س��ي ًا �أو متخي�ل�اً ؛ يقول الناق��د رجاء عيد؛ محل ً
ال مفهومه لل�ش��عر؛
وم�ضم��ار فني��ة الق�صي��دة؛ ما يلي" :بالرغم من �أَ َّن ال�ش��عر -غالب ًا -ما ي�س��تقي مو�ضوعاته من
مجرى الحياة اليوم َّية �إ َّال �أَ َّن مو�ضوع الق�صيدة ال يمكن �أَن ننظر �إليه بتلك الب�س��اطة على �أنَّ ه
مج��رد �صياغ��ة لم��ادة ا�س��تقيت م��ن معام�ل�ات خارجي��ة لتكوي��ن مو�ضوع��ات �أَدب َّي��ة؛ فالبني��ة
الكالم َّي��ة -لل�ش��عر -تت�ش��كل م��ن ت�آل��ف وتم��ازج ,وتب��ادل ،وم��وازاة ،وتقاب��ل؛ ومج��ال ذل��ك
الأ�ص ��وات اللُّغوي ��ة والتراكي ��ب الأدائي ��ة؛ وجمي ��ع ذل ��ك خ�صائ� ��ص ق ��ارة ف ��ي بن ��ى ال�ش ��عر
الكالم ّي��ة ....وعل��ى ه��ذا؛ فالق�صي��دة لي�س��ت حامل��ة المعن��ى بقدر م��ا هي دعوة �إل��ى التخطي
والتج��اوز؛ وك� َّأن كلماته��ا تحري���ض عل��ى ا�ستك�ش��اف م��ا وراءه��ا؛ وهي فقط �ش��اهد ودليل على
حتمية التجاوز"(((.
وبهذا المعنى؛ يت�أكد لنا � َّأن الجمال كماه َّية ن�ص َّية تجاوز وتخطي لما هو م�ألوف �أو
معتاد؛ وخرق واكت�شاف دائم ,وعلى هذا ,ف� َّإن الخبرة الجمال َّية ت�ستند �إلى معرفة �إدراكية
-1الزيدي ,ج��واد - 2010 ,فينومنيولوجيا الخطاب الب�صري(مدخل لظاهراتية الر�سم الحديث)؛ دار الينابيع,
دم�شق؛ ط� ,1ص .106-105
-2رجاء ,عيد - 1990 ,القول ال�شعري(منظورات معا�صرة)؛ من�ش�أة المعارف باال�سكندرية.ط� ,1ص.151-150
بالقيمة الجمال ّية للعمل المدرو�س المح�سو�س بماه َّية و�شكل معين؛ يقول �سعيد توفيق في
تعليقه على الخبرة الجمالية عند(ميرلوبونتي)قائالً:
"� َّإن الخبرة الجمال َّية -عند ميرلوبونتي -هي عملية ات�صال تحدث عبر مو�ضوع
مح�سو�س .وهذا الفهم للخبرة الجمال ّية ي�سري على م�ستوياتها المختلفة؛ فكما � َّأن الخبرة
يتم على م�ستوى الإدراك الح�سي� ,أَي تعبير بدني �إيمائي؛ كذلك ف� َّإن
الإبداع َّية هي تعبير ّ
الح�سي؛ فالم�شاهد يق�صد العمل الفني من خالل
ّ خبرة التذوق تحدث على م�ستوى الإدراك
ٍ
لمعان �إدراكه الح�سي؛ �أَي ببدنه الحي .فلي�ست هناك في خبرة التذوق عملية تمثل خال�صة
�أو ت�صورات� ,أو �صور خيالية؛ طالما �أَ َّن معنى عمل فني ما ال يقبل الترجمة �إلى مجموعة
الرموز اال�ستدالل َّية �أو المنطقية؛ وال يكون و�سيلة لإثارة �صور متخيلة؛ فمعنى العمل الفني
هو بنيته المح�سو�سة كما َيف َْهمها كل فرد؛ ووراء هذه البنية ال يوجد �شيء! وعلى نف�س النحو
ينبغي �أَن نفهم خبرة الناقد؛ فلي�ست وظيفة الناقد �أَن يختزل عم ً
ال فني ًا �إلى تقرير منطقي
ب�سيط ,ولكن وظيفته هي أ�َن ُي َح ِّلل بنية العمل بذلك الأ�سلوب الذي يجعل الم�شاهد الذي
�أَخفق في فهم داللة العمل �أَثناء فعل الإدراك الح�سي يجعله في مو�ضع ُي َمكِّنه من �أن ينال
الخبرة التي يقدمها العمل"(((.
� َّإن الخبرة الجمال َّية -عند ميرلوبونتي� -إدراك ح�سي للمو�ضوع الجمالي؛ �أو
المو�ضوع الخيالي المج�سد؛ فالمو�ضوع الجمالي ما هو �إ َّال �شكل مح�سو�س ينتج عنه
الح�سي للعمل
ّ م�ستويات مختلفة من الإيماءات والإيحاءات والإ�شعاعات الجمال َّية؛ فالإدراك
الفني هو ال�ضرورة الأولى للإح�سا�س بالقيمة الجمال َّية لهذا العمل؛ ومن ثم ينتج عنه
الإ�شعاعات التي تركها هذا العمل والمتخيالت التي �شكلها في ذهن المتلقي لحظة ت�أمله
ثم تنتج الخبرة الجمال َّية للعمل الفني من مظاهر المتخيالت التي َفتَّقها في
و�إدراكه؛ ومن َّ
الذهن ،ومجموعة القيم والأحكام الفنية المكت�سبة لحظة �إدراكه وتمثله؛ من ثم ينتج عن ذلك
الح�سي المبا�شر ،وما ي�شعه من �إيحاءات على م�ستوى ّ خبرة معرفية مكت�سبة من �إدراكه
الح�سي؛ ومن هنا؛ ف�إنَ الجمال كماه َّية ن�ص ّية
ّ ولدها لحظة الإدراك والتمثلالمتخيالت التي َّ
متنام على الدوام؛ ومن يطلع على ق�صائد �شوقي بزيع يلحظ
ٍ ف�ضاء تخيلي مبدع و�أفق جمالي
و�سر �إبداعها يتبدى في عمق متخيالته ال�شعرية ،وتنامي مثيراتها
ّ �أَن مكمن جمالها
-1توفيق� ,سعيد - 1992,الخبرة الجمالية(درا�سة في فل�سفة الجمال الظاهراتية)�,ص .222-221
الجمالية؛ مما يجعلها بغاية الكثافة ،والإدراك ،والإث��ارة الن�ص َّية ,كما في قوله من
ق�صيدة(�أَية امر� ٍأة �أنت) ما يلي:
"لأَ َّنكِ َفات َِح ُة الكلماتِ وفاتح ُة القلبِ
�أَبد�أُ با�سمكِ َه َذا الكال ْم
لأَ َّن الن�سا َء ُق َراناَ ال�صغير ُةَ ,ن ْ�س ُك َنها َخائ َ
ِفين
ون�سك َنها عا�شقينْ
لأَ َّنكِ من بينهنَّ الجميل ُة والم�ستحيل ُة
كتب �شِ ْع َراً لعينيكِ , �أَ ُ
ل�ستُ م َّمن ُي َ�صد ُِّق َ�ش ْيئاً؛ وال �أَدَّعي ُب ْرعُماً
براعم ما ُت ْن ِب َ
تين, ِ من
ولك َّنه ال�شع ُر َي ْغ ِل ُبنِي ف�أَه ُّزكِ ,
الذنب, َ ألك الآ َن �أَ ْن َت ْغفِري �أَ�س� ِ
�أَ ْن َت ْق َبلِي َّ
الحب,
�س ِّيدتي في الن�سا ِء و�س ِّيدتي في َ
ال�ش َج ْر
و�أَ ْن َت ْر َتدي ُح ْز َنكِ الآن كي �أ�ستطي َع الكتا َبة.
ُ
العميق.... وكي يتف َّتح َن ْه ُر اللغاتِ
تلك ال�سالالتِ �أوردتي ال ّميت ْة بين َ وتنه�ض من ِ ُ
للحلم حين تنا ُم الحب َيب ُة.... ِ و�أَ�س�أل كم َ�ش َجراً يتق َّد ُم
أر�ض حين ُت َبدِّل �أَ ْث َوابها �أَ�س�ألكم َم َطراً يغ�سِ ُل ال َ
و�آله ًة َت ْن َحنِي حين ُت ْ�سدِ ُل َ�أهْ دَا َبها
�سوف �أُغني وحيداً لمن �أيقظتْ وردتي و�إ َّال َف َ
ْ
الف�صول اهلل ك َّلو ارتدتني كما يرتدي ُ
قول الذي لم �أَ ُق ْل ُه و�سوف �أَ ُ
َ
أر�ض �أَ�ص َغر, واقتر ُح ال َ
القلب �أك َبر
اقتر ُح َ
كي ت�سمعوا ما �أَقول:
- 206 -
الن�ص ّي في �شعر �شوقي بزيع
الف�صل الثالث :ماه َّية الجمال ّ
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن الق�صيدة الجمالية هي التي تثيرك بف�ضاء متخيلها الإبداعي،
ور�ؤيتها المبتكرة ومعانيها الجديدة التي تفرزها؛ ولهذا؛ نجد�" :أن ال�شعر هو �أ�صعب �أنماط
اللغة على الإطالق من الناحية الأ�سلوبية ،وذلك ب�سبب هذا التنوع والتعقيد في م�س�ألة"
االنحراف" ،و"ال�صياغة" و"الت�شكيل� ...إذ �إن ال�شعر يتطلب اختيار ًا ق�صدي ًا وحذر ًا للأبنية
ال�صوتية وال�صرفية والنحوية -التركيبية ثم الداللية؛ ي�ضاف �إلى ذلك �صفة ثالثة ،هي
ا�ستعمال تقنيات خا�صة ترفع من ت�أثير الحدث الل�ساني خالل �صياغة ال�شعر"(((.فمو�ضع
ال�شعر -ح�سب مازن الوعر" -هو الجمال الذي ي�صور الحياة ت�صوير ًا فني ًا ت�شكيلي ًا على �شا�شة
اللغة ،فال حياة لل�شعر دون اللغة"((( .وهذه الر�ؤية قادته �إلى ملحوظات نقدية مهمة� ،إذ
يقول�" :إن ال�شعر لي�س وليد الحا�ضر ،و�إنما هو امتداد تاريخي م�ستمر لمجتمعات زالت
ولمجتمعات قائمة ولمجتمعات يمكن �أن تقوم ،و�أن اللغة بالنتيجة لي�ست اختراع ًا تقني ًا
خارج ًا عن الإن�سان ،و�إنما هي ع�ضو بيولوجي ال يمكن ف�صله عن الإن�سان� .إن امتدادها عبر
م�سافات الزمن� ،إنما هو امتداد للإن�سان نف�سه ،ف�شعر الإن�سان هو لغته ،ولغة الإن�سان هي
�شعره ،والعالقة بينهما عالقة فاعلة ومنفعلة� ،إنها عالقة تكامل ،ولي�ست عالقة تناف�س"(((.
بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعر َّية؛ ج� /1ص.80-78 - 1
الوعر ،مازن عو�ض - 2004 ،الل�سانيات وال�شعر� ،ص .37 -2
المرجع نف�سه� ,ص .48 -3
المرجع نف�سه� ,ص .49 -4
وال�ش��اعر تتح��دد مهارت��ه باللغ��ة �أو ًال والمتخي�ل�ات ال�ش��عرية الت��ي ت�س��عفه بالتحليق
ف��ي ف�ض��اء اللغ��ة �إل��ى مرتب��ة راقي��ة ف��ي الت�ش��كيل والتعبي��ر ،وله��ذا ،ال تنه���ض �أي��ة ق�صي��دة
جمالي� ًا �إال باالرت��كاز عل��ى مثيره��ا اللغ��وي ومتخيله��ا ال�ش��عري الإبداع��ي المجن��ح ،وهذا ما
�اء
ينطب ��ق عل ��ى الق�صي ��دة ال�س ��ابقة� ،إذ تنه� ��ض جمال ًّي ��ا عل ��ى فاعل َّي ��ة الن� َّ��ص بو�صف ��ه؛ ف�ض � ً
وي َعزِّ زه��ا ف��ي
الن�ص َّي��ة؛ ُ
ّ تخييلي� ًّا ،و�أفق� ًا جمال ًّي��ا متنامي� ًا؛ وهن��ا؛ ُي َو ِّ�س��ع ال�ش��اعر المدل��والت
هذه الق�صيدة؛ وفق مايلي:
ً
ومحكما: ً
متوازنا ًّ
معماريا أ -إحكام البناء وترابطه بنا ًء
�سبق و�أن �أ�شرنا �إلى هذا المثير من �سابق لكن ما نود �أن ن�ؤكد عليه �أن البناء الن�صي
الإبداعي المحكم يت�أ�س�س على مغريات الت�شكيل الب�صري ،وطريقة تمو�ضع الن�سق ،لخلق
ِّ
يولف ال�شاعر بين �أن�ساقه ب�صور مبتكرة وعالئق ائتالفه ،وترابطه فني ًا ،وبقدر ما
ال متوقعة ،بقدر ما يرتقي ال�شاعر �سلم الإبداع وال�شاعرية.
وعلى هذا ،يعمد ال�شاعر -في هذا المثير� -إلى خلق وحدة ن�ص َّية متما�سكة؛ من خالل
ترابط البناء ،وخلق تما�سكه ،وان�سجامه؛ �إذْ يقوم ال�شاعر بربط الجمل فيما بينها ربط
ال�سبب بالنتيجة؛ مما يجعل المتلقي ين�شغل في مثيرات ال�سبب؛ ويبقى ذهنه متيقظ ًا الكتمال
الم�س ِّبب مع ن�سق النتيجة �أو ال�سبب؛ وهذا ما
الدورة الن�سقية الدالل َّية؛ وذلك باكتمال الن�سق ُ
اعتمده ال�شاعر منذ الفاتحة الن�ص َّية اال�ستهاللية؛ �إذْ يقول فيها:
"لأَ َّنكِ َفات َِح ُة الكلماتِ وفاتح ُة القلبِ
�أَبد�أُ با�سمكِ َه َذا الكال ْم
لأَ َّن الن�سا َء ُق َراناَ ال�صغير ُةَ ,ن ْ�س ُك َنها َخائ َ
ِفين
ون�سك َنها عا�شقينْ
لأَ َّنكِ من بينهنَّ الجميل ُة والم�ستحيل ُة
�أَ ُ
كتب �شِ ْع َراً لعينيكِ ,
ل�ستُ م َّمن ُت َ�صد ُِّق َ�ش ْيئاً؛ وال �أَّدعي ُب ْرعُماً
براعم ما ُت ْن ِب َ
تين, ِ من
ولك َّنه ال�شع ُر َي ْغ ِل ُبنِي ف�أَه ُّزكِ ".
- 208 -
الن�ص ّي في �شعر �شوقي بزيع
الف�صل الثالث :ماه َّية الجمال ّ
المالح��ظ -بداي��ة� -أن البن��اء الفن��ي -ف��ي ق�صائد �ش��وقي بزيع -ي�ش��كل ج��زء ًا بارز ًا من
�ش��عريتها ،وبق��در م��ا يتفاع��ل ال�ش��اعر ف��ي عالئق��ه اللغوية مع الأ�ش��كال الب�صري��ة في توزيع
الكلمات على بيا�ض ال�صفحة ال�ش��عرية بقدر ما ي�س��تثير كثافتها ال�ش��عرية الناتجة عن عمق
التح��والت ،وبدع��ة م��ا تثي��ره م��ن دالالت و�إيح��اءات ت�ض��اف �إل��ى وق��ع الكلم��ات؛ بمعن��ى �أن
للكلم��ة هند�س��تها ،ووقعه��ا �ضم��ن ال�س��ياق كداللة(ب�صرية�-إيحائي��ة) ناجم��ة عن ه��ذا الحراك
ال��ذي يبث��ه ال�ش��كل الب�ص��ري ف��ي الكلم��ات؛ ال�س� َّيما بهند�س��ة �ش��عورية نابع��ة م��ن عم��ق ال��ذات
و�صخب الإح�سا�س والر�ؤيا.
ال�شعرية ال�سابقة يلحظ ارتباطها الفني من جهة؛ ويلحظ حياكتها
َّ َّ
ولعل قارئ الأ�سطر
الرومان�س َّية الغزل ّية المبدعة بهذا الأ�سلوب المتنامي ال�سل�س من جهة ثانية؛ �إذْ � َّإن تالحم
ال�شعري باعتماد ترابط البناء و�إحكامه؛ قد �أ�ضفى على م�سار الن�سق ائتالف ًا وان�سجام ًا
ّ الن�سق
فني ًا موحي ًا؛ عبر فاعلية الترابط الن�سقي؛ معتمد ًا تالحم الأن�ساق وترابطها فني ًا؛ وفق ما
ِ
الكلمات... ي�سمى ن�سق ال�سبب والم�سبب� /أو ال�سبب والنتيجة؛ كما في قوله[ :لأَنَّ ِك َف ِ
ات َحةُ
الكالم]؛ وهذا الأ�سلوب عمق �إح�سا�سه الت�أملي ال�صوفي بالأنثى ْ ِ
با�سمك َه َذا القلب� /أَبد�أُ
ِ وفاتحةُ
الن�ساء
َ �إلى درجة الهيمان المطلق؛ لت�سيطر على روحه ع�شق ًا ووله ًا و�صبابة؛ �إذْ يقول " :لأَ َّن
ِ
لعينيك] � َّإن هذا التنا�سب عا�شقين �أَ ُ
كتب ِ�ش ْع َر ًا ْ ُق َران َا ال�صغيرةُ ,نَ ْ�سكُ نَها َخ ِ
ائفينَ ون�سكنَها
والتعالق الفني بارتباط الأن�ساق يحفزها جمال ًّيا؛ وي�ؤكد تالحمها على م�ستوى الم�شهد
الرومان�سي ال�صوفي؛ وتعزيزها بهذا التر�سيم الروحي الذي يبثه في حركة الم�شاعر،
والأحا�سي�س وتدفقها ب�صبابة َو ِج ِد َّية ت�صل قمة في الح�س ،وال�شعور ،والت�أمل؛ مما �أثار
الذنب�َ ,أ ْن تَ ْق َب ِلي
َ ألك الآنَ َ�أ ْن تَ غْ ِفري
الدفقة ال�شعرية؛ وعزَّ زها جمال ًّيا ,كما في قوله� " :أَ�س� ِ
ال�ش َج ْر"؛ وهكذا يبدو الن�سق ال�شعري بقمة التحفيز ِ
الن�ساء و�س ِّيدتي في َ الحب؛ �س ِّيدتي في
َّ
واال�ستغراق الجمالي الذي يتب َّدى في ربط الأن�ساق اللغوية ،وتحقيق توازنها الفني
وان�سيابها ال�شعوري الرومان�سي العميق؛ بتو�صيف الحالة ال�صوفية ،وتكري�س مظاهرها
الداللية العميقة.
وهذا يعني �أن �شعرية البزيع م�ؤ�س�سة على طبيعة اللغة من حيث التوظيف والقدرة
على تفجير فاعليتها؛ والت�أ�صيل لمثيراتها ومبتكراتها الن�صية ،ناهيك عن ح�سه ال�شفيف في
هند�سة الكلمات ،والجمل هند�سة فنية ،ت�ستثير �إيقاعها الفطري ونب�ضها الإيحائي ال�شفيف.
وق ��د يثي ��ر ال�ش ��اعر الق ��ارئ بت�ضاف ��ر الحرك ��ة الن�س ��ق َّية /وان�س ��جامها وتوازنه ��ا؛
لتعزيزه��ا فني� ًا وم� ًّدا �ش��عوري ًا عميق ًا؛ ًّ
باثا م�ش��اعره باتقاد فني ,وتر�س��يم رومان�س��ي رهيف؛
كما في قوله:
الذنب,
َ ألك الآ َن �أَ ْن َت ْغفِري
"�أَ�س� ِ
�أَ ْن َت ْق َبلِي َّ
الحب,
�س ِّيدتي في الن�سا ِء و�س ِّيدتي في َ
ال�ش َج ْر
و�أَ ْن َت ْر َتدي ُح ْز َنكِ الآن كي �أ�ستطي َع الكتا َبه.
ُ
العميق.... وكي يتف َّتح َن ْه ُر اللغاتِ
تلك ال�سالالتِ �أوردتي ال ّميته بين َ وتنه�ض من ِ ُ
للحلم حين تنا ُم الحب َيب ُة.... ِ و�أَ�س�ألكم َ�ش َجراً يتق َّد ُم
أر�ض حين ُت َبدَّل �أَ ْث َوابها �أَ�س�ألكم َم َطراً يغ�سِ ُل ال َ
و�آله ًة َت ْن َحنِي حين ُت ْ�سدِ ُل َ�أهْ دَا َبها"
�س��بق و�أن �أ�ش��رنا �إلى �ش��عرية �ش��وقي بزيع تنبني على مثيرات اللقطة الرومان�س��ية من
حيث الحيل الأ�س��لوبية في ت�ش��كيل ال�صورة الرومان�س��ية التي تتعاي���ش مع الأجواء الإبداعية
كاف��ة ،بم�س��تجداتها ،وحداثويته��ا الملحوظة مما يعني امتالكها قدر ًا من التكثيف والن�ش��اط
الإبداع ��ي الخ�ل�اق بم ��ا تملك ��ه م ��ن حي ��ل �أ�س ��لوبية ،وتبع � ًا له ��ذا " :ينبغ ��ي عل ��ى المب ��دع �أن
يراع��ي تاري��خ الذائق��ة ال�ش��عرية العربي��ة و�أال يكتف��ي ف��ي تقري��ر �ش��عرية ن�ص��ه بما ي��راه هو
كذل��ك فق��ط ،طالم��ا �أن��ه ق��رر التوا�ص��ل م��ع قرائ��ه توا�ص�ل�اً �ش��عري ًا .وينبغ��ي على الق��ارئ �أن
يو�س��ع �أفق��ه ال�ش��عري بق��در ي�س��مح ل��ه بالتفاع��ل الج��اد م��ع التط��ورات التي لحقت و�س��تلحق
ِّ
بالق�صيدة العربية"(((.
ال�شعرية التي يحققها
َّ ولو دققنا -في مثيرات المقبو�س ال�شعري لأدركنا �أن درجة
الت�صويرية الرهيفة؛ ت�ؤكِّ د � َّأن البزيع يملك ح�سا�سية
َّ المقبو�س ال�سابق بهذه االنثياالت
�شعرية نادرة في هذا الربط الفني الموحي بين الأنثى والطبيعة؛ فهما مع�شوقتاه؛ �إذْ � َّإن هذه
َّ
الداللي؛ و�إنما تخلق َّفنها من
ّ ال�شعرية ال تعتمد فقط الت�ضافر الن�سقي ،والتوازن
َّ الدفقة
-1الغامدي� ،صالح بن معي�ض� - 2004 ،إ�شكالية ق�صيدة النثر في ال�سعودية ،مجلة عالمات ،ج ،52م� ،13ص .316
ال �شك في �أن من يدرك مغامرة ال�شعر ومقامرته ي�ستطيع �أن يحكم على �شعرية البزيع
�أنها �شعرية تحرك الداخل عبر ما تقيمه من �إمتاع وم�ؤان�سة في اللفظ هذا من جهة؛ وما تولده
على م�ستوى البناء الت�شكيلي الن�صي الممو�سق من جهة ثانية؛ فالعذوبة والأنوثة وفي�ضها
الروحي الرقيق هو ما ين�شر طيفها الجمالي؛ ويو�سع �أفقها الداللي في بنية ق�صائده؛ فال يجد
القارئ �إرباك ًا على م�ستوى ال�صورة �أو حتى الرمز ،لأن رموزه المعتمدة م�شهورة في تراثنا
العربي (الأدبي والتاريخي)؛ وهذا ما يجعل ال�شبكة الدالئلية -في ق�صائده -وا�ضحة رغم
ت�شعبها وامتدادها �ضمن الحيز الن�صي.
وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن الح�س ال�شعوري الجمالي ،ي�ؤ�س�سه
ال�شاعر على مثيرات االن�سجام والتالحم الفني بين الجمل؛ مما يجعلها بغاية االن�سجام،
َّ
ولعل هذا الإدراك الجمالي لمثيرات الن�سق ال�شعري ،ي�ؤكد والتحفيز ال�شعوري المثير؛
فاعلية الر�ؤية ،وتناميها جمالي ًا عند ال�شاعر �شوقي بزيع.
جمالية القفلة ّ
النص ّية /وتوازنها الفني في النص: َّ ب-
�سبق و�أن �أ�شرنا �إلى القيمة الجمالية لهذا المثير الت�شكيلي الن�صي؛ لكن ما نود
الت�أكيد عليه �أن القفلة الن�صية لتحقيق مثيرها الفاعل ينبغي �أن تقود الن�سق لبالغة مدلولها
وجاذبية ملفوظها فال تقع في مطب التمطيط والإطناب والغمو�ض والإغ��راب� ،أن تمتاز
بال�شفافية ،والإيقاعية ،والتناغم� .أن تكون ا�ستجابة للر�ؤية المركزية ومحورها الإيحائي،
يقول البزيع " :القفلة الن�صية هي م�سند ق�صائدي في الكثير من الأحيان؛ لهذا يلحظ القارئ
ان�سجامها وت�ضافرها وح�سن وقعها ،وك�أن الق�صيدة برمتها قد انجذبت �إليها"(((.
وت�أ�سي�س ًا على هذا يمكن القول :تكمن -في هذا المثير -قدرة ال�شاعر على توليد
القفلة الن�ص ّية المتوا�شجة مع ما �سبقها من عنا�صر التركيب؛ وهنا؛ يكثف ال�شاعر ر�ؤاه
الغزلية الروحانية العميقة؛ ويربطها بما �سبقها ,لتبدو القفلة الن�ص ّية خال�صة فنية لما
�سبقها من ر�ؤى ودالالت؛ ومنظورات داللية عميقة؛ كما في قوله:
"�أ�شه ُد َ�أ َّن الكتاب َة وَهْ ٌم...
َ
ت�شبهين الكال ْم.... و�أ َّنكِ ال
والعمق� ..أَنتِ الختا ْم...
ُ و�أَ َن ِك �أَ ْنتِ البداي ُة
و�أَنتِ الحبيب ُة حتى تجي َء الع�صافي ُر....
و�أَنتِ الحبيب ُة َح َّتى يطي َر الحما ْم"..
� َّإن ه��ذه القفل��ة تختزل الر�ؤى الغزلية الرومان�س��ية ال�س��ابقة ب�أكملها؛ وت�ؤكد بداعتها
ف��ي �إ�صابته��ا ال�ص��ورة العميق��ة /والح���س ال�ش��عوري الرومان�س��ي الع��ارم بالأنث��ى؛ فهي التي
تمنح��ه العذوب��ة؛ وه��ي الت��ي ت�ش��عره بوج��وده ف��ي البدء؛ وت�ش��عره بكيان��ه في الخت��ام؛ وهي
�يء م ��ع الع�صافي ��ر؛ وتغن ��ي م ��ع هدي ��ل الحم ��ام؛ �أغني ��ة الح ��ب الأبدي ��ة،
الحبيب ��ة الت ��ي تج � ُ
وت�شكل� أن�ش ��ودته ال�صباحي ��ة الت ��ي تح ِّف ��زه �إل ��ى ممار�س ��ة فع ��ل الكتاب ��ة؛ وه ��ي الت ��ي تمن ��ح
�ى ودالالت ،ومدالي��ل جدي��دة ،و�إيقاع��ات روح َّي��ة عذب��ة؛ وهك��ذا؛ يب��دو المقط��ع
لكالمه معن� ً
ف�ضاء تخييل ًّي��ا ممت��د ًا �أ�ش��به بغاب��ة م��ن ال�ص��ور ،وال��دالالت ،والر�ؤى التي ت�س��هم في ت�ش��كيل
ً
�اء جمالي� ًا متنامي� ًا دالل ًّي��ا عل��ى ال��دوام؛ وه��ذا م��ا ينطب��ق كذل��ك عل��ى
التراكي��ب؛ لتب��دو ف�ض� ً
المقاطع الأخرى.
والالّفت �أَ َّن ال�شاعر يرتقي بم�شاعره في المقاطع الأخرى؛ لي�صل �إلى قمة العمق،
واال�صطهاج الرومان�سي الجمالي ,بمعنى �أنه ي�ستثير ال�صورة الم�ؤثرة التي تترك �أثرها
وبريقها الفني ،من حيث الفاعلية واال�ستق�صاء والتملي الجمالي؛ كما في قوله:
"كيف تفهم عا�شقة ذلك الحزن؟
كيف تخت�ص ُر امر�أ ٌة ُع ِر َّيها وي�صير �سراباً؟!
الوهم
ِ و�أبقى �أنا ُ
عا�شق
أر�ض تجري ورائي وال البحر ي�أتي ال ال ُ
دعوني �أرى موج ًة تتع َّرى
دعوني �أرى امر�أ ًة تخل ُع الما َء عني
�إذا َب َّللَتني الكتاب ْة.
أقول الن�ساء و�أَعني الحبيبه � ُ
أقول الم�ساء و�أعني الحبيبه � ُ
وال�شي َء في داخلي غير رجع ال�صدى
فقولي �إذن� :أ َّية امر�أ ٍة �أنتِ ؟".
�إن قارئ هذه الأ�سطر ال�شعرية ال يخفى عليه وقعها وح�سن تمظهرها الفني ،حيث
يبرز ميله وا�ضح ًا �إلى ت�شكيل الجملة بموازنة قائمة على التجني�س (الن�ساء= الم�ساء) لخلق
توليفة �إيقاعية تنعم الألفاظ وتمنحها مو�سقتها الآ�سرة؛ يقول �شوقي بزيع " :المو�سيقا في
ق�صائدي مو�سيقا روحية تت�شبع من نفثات روحي العا�شقة المت�أملة ،والحالمة بم�ساحة من
العالم ال ي�صلها �أحد"(((.
وقد يعمد ال�شاعر �شوقي بزيع �إلى �شد القارئ عبر فاعلية الإثارة الت�شكيلية التي
تعتمد التنويع الو�صفي �أ�س ًا جمالي ًا في �شحن ال�سياق ،لدفع عجلة الإح�سا�س ال�شعوري،
واتقاده جمالي ًا؛ لدى المتلقي ،كما في قوله:
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
�إن �شعرية �أي ن�ص تتحدد بم�ستوى عالئقه ،وروابطه ،ومتخيالته ،ومثيره العاطفي،
ودرجة ت�أمله وا�ستبطانه ،ومنطق حركته وتخ�صيبه جمالي ًا ،ونب�ض ًا �شعوري ًا مقلق ًا على
الدوام؛ والبزيع هو ال�شاعر الذي يرتقي بح�سا�سية اللغة ،والموقف ،والتجربة ،لتكون
منفتحة لي�س على الواقع القائم فح�سب ،و�إنما على العالم بانفتاحه التاريخي ،والح�ضاري،
والم�ستقبلي.
وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن الإيقاع الق�ص�صي ال�شائق يتبدى من
خالل رهافة ال�صور مع دفقها ،و�إح�سا�سها ،وم�ضمونها ،الأمر الذي يرفع وتيرتها �شعري ًا؛
وك�أن الكلمة ت�ستجلي مظهرها الجمالي من هذا التو�صيف ال�سردي ال�شائق ،وهذا يعني �أن
�شعريته ال تكمن في ق�صديتها وم�صداقيتها في التعبير ،و�إنما تكمن في الحيوية التي
ت�ستثيرها طريقة التعبير؛ وهذه هي ب�ؤرة �شعريته في �إيقاعاتها الت�شكيلية كافة.
وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله:
"�إنها الآ َن واقف ٌة عند مدخلِ ُروح
تحاول �أَ ْن تح ِب َ�س الور َد ع ّني فال ت�ستطي ُع
ُ
و�أَ ْن ت�سر َق القي َد مني فال ت�ستطي ُع
ُ
جفون امر�أة َو َه ْبها ا�ستطاعتْ � ,أَ َت ْكفِي
لتمن َع وح�ش َّي َة البح ِر عن زرق ِة دمي؟"(((.
-1بزيع� ,شوقي - 2005 ,الأعمال ال�شعر َّية؛ ج� /1ص.80
-2الم�صدر نف�سه,ج�/1ص .81
ما ينبغي الت�أكيد عليه �أن مرمى ق�صائد �شوقي بزيع فني ًا هو تالحم �صورها،
وا�ستتباعها الال�شعوري لحيزات ر�ؤيوية عميقة ت�سهم في تفعيل الحدث والر�ؤيا مع ًا،
لال�ستدالل على منطق �صياغتها ،ومكمن جماليتها الفاعلة التي تنطوي عليها �أن�ساقها
اللغوية المتعددة؛ وبهذا ال�ش�أن يقول البزيع� " :إن مكمن فاعلية الر�ؤيا في ق�صائدي �أنها
تنبثق من ر�ؤيا الحدث ،وتفاعلي مع الحدث بلحظته الحيوية التي ال يمكن اال�ستدالل عليها
بالمنطق التقليدي؛ و�إنما بالح�سا�سية ال�شعرية"(((.
ن�ص ًّيا متما�سك ًا بقدر ما
لغويا ّ
ًّ ال�شعرية لي�ست �شك ً
ال َّ وبناء على هذا يمكن القولَّ � :إن
ً
أ�سي�سي
ٌّ ن�ص ت�
ال�شعري الق ِّيم هو ٌّ
ّ والن�ص
ّ هي ف�ضاء تخييلي عميق وجمال ت�أملي مفتوح؛
لف�ضاء تخييلي مفتوح؛ و� َّإن �أبرز ما ي�شكِّل جمال َّية الق�صيدة ال�سابقة؛ �أنها ت�ستظل بظالل
ال�صور الرومان�س َّية؛ وف�ضاءاتها التخييلية الرحبة؛ �إذْ تنه�ض هذه الق�صيدة جمال ًّيا على
مثيرات فنية؛ تت� َّأ�س�س حركتها؛ وتنبني على مثيرات ت�شكيل َّية خ�صبة من الإيحاءات والدالالت
ن�ص ّي مغاير؛ يتب َّدى في المثيرات التالية:
المفتوحة ,وفق منظور ّ
َّ
جمالية التضافر النسقي /وتوازن الدالالت: ج-
ن�ص ال تتحقق بمعزل عن ر�ؤياه العميقة ،وتوازن الأن�ساق وت�ضافرها
�إن �شعرية � َّأي ٍّ
�ضمن الن�سق؛ وال�شعر ت�أ�سي�س ًا -على هذا " -يمثل �أق�صى درجات الفاعلية؛ بو�صفه �شك ً
ال
لغوي ًا مخ�ص�ص ًا" يقت�ضي اختيار ًا ق�صدي ًا وحذر ًا للأبنية ال�صوتية ،وال�صرفية ،والنحوية-
وبناء على هذا تتبدى -في هذا المثير-حرفنة ال�شاعر ومهارته
ً التركيبية ،ثم الداللية"(((.
الداللي
ّ اللغوية المتوا�شجة فن ّي ًا التي ت�سهم في خلق التوازن
َّ الفن ّية في اختيار الأن�ساق
الموحي عبر حركة ن�سقية متوا�شجة تخط �ألقها ال�صوفي ،وتمثلها الغزلي ال�شفيف بالأنثى
�إلى درجة التملك المطلق بجمالياتها و�أو�صافها الح�س َّية؛ مثير ًا �إيقاع المواءمة بين ال�صور
والم َج َّردة؛ كما في قوله:
ُ المح�سو�سة
الح ْزن؟
ذلك ُ كيف َت ْف َه ُم عَا�شِ َق ٌة َ " َ
كيف تخت�ص ُر ا ِْم َر َ�أ ٌة ُع ِر َّيها وت�صي ُر َ�س َراباً؟
الوهم
ِ و�أبقى �أ َنا عا�ش َق
أر�ض َت ْجرِي َو َرائي وال البح ُر َي�أْتِي ال ال ُ
دعوني �أرى موج ًة تتع َّرى
دعوني �أرى امر�أ ًة َت ْخلَ ُع الما َء عني
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
-2الوعر ،مازن عو�ض - 2004 ،الل�سانيات وال�شعر� ،ص .37
� َّإن �أبرز ما ُي َح ِّفز هذا المقطع جمال ًّيا؛ هو قدرته على تو�صيف الحالة الروح َّية ب�صبابة
�صبابة وع�شق ًا؛
ً رومان�س َّية ت�ستقي مثيراتها من غزلياتها ال�شفيفة وح�سها العاطفي الم�شحون
ت�ستطيع]؛
ُ وحي تحاولُ �أَ ْن تحبِ َ
�س الور َد عنّي فال كما في قوله�[ :إِنَّ َها الآنَ واقف ٌة عند مدخلِ ُر ِ
وهنا؛ نلحظ � َّأن ال�شاعر ي� ّؤ�س�س هذا المقطع -جمال َّي ًا -على مثيرات ال�صور الوم�ضية ال�سردية
حد االفتنان الن�سقي
المتتابعة التي تر�صد مثيرات الأنثى بح�س ت�أملي؛ ا�ستغراقي ي�صل ّ
الح�سي الرومان�سي الدافق
ّ الداللي؛ مما يجعل ال�صور بغاية التمركز ،وال�شعور،
ّ والت�ضافر
ٍ
زرقة جفون امر�أه لتمنع وح�شية البحر عن
ُ بهذه الأ�سئلة الت�أملية اال�ستغراقية المثيرة؛ �أتكفي
في دميّ �,إن هذا التر�سيم الجمالي الح�سي ال�شعوري للجملة يهبها طابع ًا متزن ًا بالح�س،
والحركة ،والتنامي الجمالي الذي ي�ستمر �إلى �آخر دفقة في الق�صيدة.
وه��ذا يدلن��ا �أن ال�ص��ورة ،و�إن ب��دت ركي��زة �إبداع �ش��وقي بزيع؛ ف�إنها و�س��يلة بارزة من
و�س��ائل جمالي��ة عدة ت�س��تولدها ق�صائ��ده ،لتهبها القوة ،والحركة ،والدينامية ال�ش��عورية
العميق��ة؛ فثم��ة تقني��ات عدة تفجرها ق�صائده على �صعيد الأثر ،والوقع النف�س��ي ،والأ�س��لوب
الجمال��ي ف��ي التركي��ز ،وال�صياغ��ة ،والت�ش��كيل؛ يق��ول �ش��وقي بزي��ع� " :إن االنزي��اح اللغ��وي
المجن��ح �أو البعي��د� ،أو االنزي��اح ال�ص��ادم ،الذي ي�س��تولد الغرابة هو انزي��اح �إيجابي محبب
لقلب��ي؛ لأن��ه ين�ش��ط الخي��ال ل��دى الق��ارئ؛ فكثي��ر م��ن الت�ش��بيهات الم�س��تهجنة �إن دقق��ت ف��ي
خلفيته ��ا والمواق ��ف الت ��ي �أفرزته ��ا لت�أك ��دت ل ��ك فاعليته ��ا ،رغ ��م ت�ش ��ويهها ،وغرابته ��ا،
وا�ستهجانها لدى الكثيرين"(((.
ّ
اللغوية: ّ
الداللي لألنساق َ
جمالية االنسجام /والحراك د-
�إن ما يحقق المتعة في �أي عمل فني هو االن�سجام والتناغم الحا�صل بين ال�شكل
والجوهر ،والمبدع الحق هو الذي ي�ستولد الحراك الجمالي من ب�ؤرة الحراك الن�صي �أو
المدلولي؛ ولن يرقى ال�شعر �إلى مرتبة �سامية �إن لم يثيرنا �إيقاعه نب�ض ًا �شعوري ًا مدفون ًا
في قرارة �أعماقنا؛ فال�شعر �إن لم يحايث م�شاعرنا ،وينطق بنب�ضنا الداخلي ول�سان حالنا
وبناء على هذا تكمن في
ً الروحي لي�س ب�شعر ،وال يملك النب�ض ال�شاعري الإبداعي الحق،
الداللي على
ّ الجمالي في خلق الت�ضافر الداللي� ،أو الحراك
ّ -هذا المثير -قوة المحفز
الت�صويرية التي تكتظ بها الق�صيدة؛ كما في هذا الن�سق التكاملي الداللي,
ّ م�ستوى المثيرات
الذي تحفزه الدالالت التالية:
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن �شعرية البزيع ال تت�أ�س�س على مرجعية فنية تتبدى في
االن�سجام والت�ضافر الن�صي فح�سب؛ و�إنما في خلق الجمالية عبر االن�سجام والت�ضافر
والحراك الداللي على م�ستوى المدلوالت؛ والتوازن بين الكلمات؛ لكن ما يهدد هذا التوازن
�أن يقحم ال�شاعر الجملة ال�شعرية بالقافية الق�سرية ،البتعاث غنائية الجملة ،ومو�سيقاها
الداخلية؛ مما يقيد الجملة ،وي�سبي ومي�ضها الفطري االن�سجامي المثير؛ ولذا ،ن�أى ال�شاعر
�شوقي بزيع في جمله ال�شعرية عن االلتزام بالقافية الم�صطنعة التي ت�صطنع رنينها،
و�صخبها الداخلي من الخارج؛ ليخلق هذا الرنين عبر مو�سقة الكلمات �ضمن �إطارها الن�صي،
وهذا ما جعل جمله ر�شيقة ،عذبة ،ت�ستقي جمالها من تنغيمها الداخلي على م�ستوى الروابط
والعالئق الداخلية؛ وهذا يقودنا �إلى القول:
الداللي
ّ � َّإن ال�شاعر المبدع خالق لغة مبدعة بجمال َّية االن�سجام الفني للجمل والحراك
اللغوية المفتوحة الر�ؤى والدالالت ،وهذا ما نلحظه في المقبو�س ال�سابق� ،إذْ
َّ للأن�ساق
بناء ائتالفي ًا؛ ممركز ًا الدالالت �صوب الحبيبة
ً ال�شعري؛
ّ يحاول ال�شاعر �أن يبني الن�سق
و�إح�سا�سه الوجدي بها؛ ب�أ�سئلة ت�أملية تحقق جمالية االئتالف الن�صي مع ما �سبقها من �أ�سئلة
ت�أملية ,وربط الدارة ال�شعرية ب�أن�ساق لغوية متحركة داللي ًا؛ باعثة على الت�أمل ،والتفكر،
البحر؛
ُ وكيف �أُ ِ
هاج ُر في امر� ٍأة ن�صفها َ والح�س ال�شعوري الرومان�سي العميق ,كما في قوله" :
الموج"؛ �إذْ � َّإن الإدراك الت�أملي ال�شعوري يهب الق�صيدة تناميها الجمالي،
َ َ
كيف �أ�شاطرها
وحنكتها الن�سقية في توليف الأن�ساق اللغوية؛ لت�صب في مجرى داللي واحد ت�ستبطنه الأنثى
الحبيبة بكل ما تحتويه من خ�صوبة ،و�أنوثة ،وجمال.
يقول �شوقي بزيع " :ال�شاعر ال يبدع اللغة فح�سب ،و�إنما يخلقها بابتعاثها من رماد
ما علق بها من حموالت ما�ضوية ،وبقدر ما يبتكر ال�شاعر دالالت جديدة للكلمات بقدر ما
يحييها ويحيي من ثم �إح�سا�س المتلقي بها ،فكم من الق�صائد ال�شعرية لم ت�سعفها في تحقيق
�شعريتها �إال اللغة"(((.
ويتابع ال�شاعر ن�سق الق�صيدة بتتابع جملها الن�سقي الفاعل على م�ستوى ت�ضافر
اللغوية الغزل َّية؛ لتبدو على �شاكلة ن�ص ّية منفتحة في مدها و�شعورها الغزلي الذي
َّ الأن�ساق
�صبابة وع�شق ًا؛ كما في المقطع التالي:
ً َي َتقَطَّ ُر
تكف الحبيب ُة َع ِّني الحلم ح َّتى َّ ِ " َال ُت ْنزِلوني ِ
عن
�س�أبقى َوحِ ْيداً على بابها انتظ ْر.....
و� ْإن َ�ش َّر ِد ْتني َيدَاها
المفتر�س
ْ و� ْإن �أَ ْغمدتْ خِ ْ�ص َرهَا
في تجاعيدِ ك َف َّي ال�صغيرهْ...
�س�أَ ْب َقى على بابِها مث َل طِ ْفلٍ وحيدْ...
نزف ح َّتى الوريدْ... و�أَبني لها نجم ًة فو َق قلبي و�أَ ُ
ما الذي يجع ُل امر�أ ًة ُ�س ْن ُبلهْ؟
القلب َ�ص ْي َفاً
ما الذي يجع ُل َ
َف َن ْع�شق وَهْ َماً ُي َّ�سمو َن ُه القم َح؟
ال َت ْ�س�أَلي النه َر عني....
�ض دو َن اتجاهٍَ ,فهَل �أنتِ ؟ �أنا النه ُر َي ْر ُك ُ
قولي �إذا ُك ْنتِ ,ث َم َة َق ْل ٌب ُت َع ِّذ ُب ُه الأَ ْ�سئِلة....
�ض �أَبع َد مما َت ُظ ِّن ْي َن بعيني َي ْر ُك ُ
َّ ومازال �شي ٌء
بين ال�سطور عينيك َ ِ بكفي َي ْحمِ ُل تاري َخ ومازا َل �شي ٌء َّ
وي�ستعذب المِ ْق َ�صلَهْ....
ُ
ينه�ض جِ ْ�س ُمكِ مِ نْ َه ْد�أَ ِة الليلِ ُ َ
حين
يجتم ُع البح ُر تحتَ الو�ساد ِة
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
ما ْاج َت َم َعتْ وردتانِ على �أَ ّولِ القلبِ �إ ّال وكنتِ
َ�ش َذى الوردتينْ
ما التقى عَا�شقانِ على �أَ َّول ِّ
الحب �إال وكنتِ
د َم العا�شقينْ "(((.
�إن ال�شعر الجمالي هو ال�شعر الذي ي�ستثير الر�ؤى ،ويحفز الخيال؛ �إذ �إن " الخيال
هو جوهر الفن� ،سواء اتفق والحياة العامة� ،أو اختلف عنها ،المهم �أن يحقق المتعة"(((.
وال تتحقق المتعة الفنية في العمل الفني الرفيع �إال �إذا حقق عن�صر الإثارة والإدها�ش؛ لأن ما
ي�ستثير الن�ص لي�س دائم ًا اللغة �أو الخيال؛ و�إنما ثمة �شيء روحي عميق يحقق المتعة
والجمال قد يكون بالتناغم ال�صوتي؛ �أو التوازن الن�سقي؛ �أو الر�ؤيا الجمالية الممتعة التي
ترتقي بالحدث� ،أو الموقف ال�شعري في �آن مع ًا؛ وت�أ�سي�س ًا على هذا ،ال تنه�ض الق�صيدة
وداللة و�شعور ًا موقظ ًا يفي�ض بينابيع الروح
ً جمالي ًا �إال �إذا امتلكت كل مقومات الإثارة لفظ ًا
والتنامي والإح�سا�س.
وت�أ�سي�س ًا على هذا؛ ينه�ض هذا المقطع جمال ًّيا باالرتكاز على �أربعة مثيرات ت�شكيلية؛
تُ َ�شكِّل جوهر الر�ؤية وم�سارها الفني وفق المثيرات التالية:
َّ
جمالية االنتقال البصري /والرشاقة التصويرية: هـ -
ال �شك في �أن الوعي الذي طال الق�صيدة الحداثية في �شكلها وهند�ستها الب�صرية قد
�أ�ضفى عليها طابع ًا ت�أثيري ًا م�ضاعف ًا من حيث الفاعلية والت�أثير؛ وهذا يعني �أن" ال�شعر
حاالت من االندفاع والتوهج ،وحاالت �أخرى من الت�أمل والتفكر .نهار ال�شعر هو هذه
الحاالت من التوهج ،واالندفاع ،والمغامرة ،حين تكون النف�س في �أقوى حاالت ال�شعور،
والجموح ،والطموح"(((؛ والح�سا�سية،والإتقان؛ ومن يظن �أن الق�صيدة ال تحكي بال�شكل
الب�صري ،ما تعجز عنه بال�شكل اللغوي ،ال يعي حقيقة ال�شعر وال �أغوار التجربة ال�شعرية؛
لأن ال�شكل ينطوي على الكثير من المظاهر النف�سية التي تنبني عليها حركة الألفاظ في
ن�سقها ال�شعري؛ فال�شاعر �ش�أنه �ش�أن ال�ساحر يعتمد على الإغراء في الحركات ،والإ�شارات،
والإيحاءات ،يعبر عنها ب�صري ًا بال�شكل الكتابي؛ ومن يدقق -في الن�صو�ص ال�شعرية
الحداثية -ب�إمعان يلحظ �أن لعالمات الترقيم دور ًا تزييني ًا؛ ودور ًا فني ًا،ويخطئ من يظن �أن
العالمات الب�صرية �أيقونات ب�صرية ال داللة لها ،وال نبالغ �إذا قلنا� :إنها قد تكون �أكثر داللة
من الدوال اللغوية ذاتها �إذا ما دقق القارئ في م�ؤثراتها �ضمن الجمل ال�شعرية ،فهي ال تتمم
المعاني فح�سب ،بل �إنها توجهها وتخلقها في الآن ذاته ،وما احتفاء ال�صور الت�شكيلية بهذا
التراكم من عالمات الترقيم �إال تدلي ً
ال على هذا النزوع الجمالي الت�شكيلي في بنية الق�صيدة
ال�شعرية المعا�صرة ت�سعى �إلى ال�صورة
َّ عند �شوقي بزيع؛ ولهذا؛ ف�إن الكثير من الق�صائد
الب�صري ،و�سرعة
ّ الح�س
ّ الب�صرية التي ت�شعرن وقعها على فاعل َّية
َّ الت�شكيل َّية� ،أو ال�صورة
الن�ص ال�سابق لوجدنا � َّأن
ّ تنامي اللقطات ،وتتابعها في حركة ال�صورة؛ ولو نظرنا �إلى
ال�شعرية تكمن في هذا المثير؛ �إذْ تتمثل -في هذا المثير -فاعلية ال�شاعر الق�صوى
َّ جمال َّية
ب�صري مج�سد �إلى ح ّيز �إدراكي ت�أملي تخييلي
ّ ح�سي
في تحريك ال�صورة عبر نقلها من ح ّيز ّ
بعيد؛ بنقل ال�صورة من طابع المح�سو�س �إلى المجرد؛ �أو من المجرد �إلى الح ّيز الح�سي
ِّ ً
مفعل �أن�ساقها بتنامي المثيرات الت�صويرية؛ وفق منطق ت�أملي غزلي الب�صري؛
ّ الإدراكي
عجيب يقود الحركة الدالل َّية ،ويبث المدلوالت الن�ص َّية الت�أملية المفتوحة؛ كما في قوله:
تكف الحبيب ُة ع ِّني الحلم ح َّتى َِّ "ال ُت ْن ِز ُلوني عن
�س�أَبقى وحيداً على َبا ِبهَا �أ ْن َتظ ْر......
و� ْإن َ�ش َّر َد ْتنِي َيدَاهَا
المفتر�س
ْ و� ْإن �أَغمدتْ خِ ْ�ص َرهَا
كفي ال�صغير ْة. في تجاعيدِ ِّ
َ�س َ�أ ْبقى على بابها مث َل طفلٍ وحي ْد
أنزف ح َّتى الوري ْد".و�أَ ْبنِي لها َن ْج َم ًة فو َق قلبي و� ُ
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن �شعرية الق�صيدة -عند �شوقي بزيع -متعددة االحتماالت،
متنوعة الم�سارب الفنية ،والمنافذ الر�ؤيوية ،خا�صة فيما يتعلق بال�صورة الملتهبة ح�س ًا
رومان�سي ًا متحرك ًا ،بما يثيره من حراك �شعوري ،وتناغم ب�صري بين حركة الأن�ساق؛ يقول
�شوقي بزيع� " :إن ال�صورة الح�سية في ق�صائدي و�إن عك�ست مظاهر ال�شبقية وال�شهوة فهي
تمتد �إلى وقدها الروحي �أكثر مما تدل عليه ح�سي ًا وكم من ال�صور الح�سية في ق�صائدي ال
قيمة لها �إن لم تكن م�ؤولة على �أ�سا�س روحي� ...أو على ما يكافئها نب�ض ًا �شعوري ًا متحرك ًا
على م�ستوى الداللة"(((.
والمالحظ -في المقبو�س ال�شعري� -أن الحركة الن�سقية الت�صويرية تبد�أ فاعليتها
اال�ستهاللي
ّ تكف الحبيبةُ عنِّي]؛ محرك ًا الن�سق
َّ الحلم حتَّى
ِ منذ الجملة؛ [ال تُ نْزِ ُلوني عن
الت�أملي بـ[�سين اال�ستقبال] التي تفتح الر�ؤى ،وتحرك الن�سق �صوب ما ي�أمله ال�شاعر في
الم�ستقبل ،ممركز ًا الحركة ال�شعورية �صوب ال�صور الغزلية التي تخط جمالها بمقدار ما
تثيره في القارئ من ق�شعريرة �شعورية ت�أملية في ح ّيز االنتقال بال�صورة من طابع ح�سي
ال ب�صري ًا؛ كما في قوله�[ :س�أَبقى وحيد ًا على َبابِ َها �أنْ ت ْ
َظر ...و� ْإن �إلى �آخر �أ�شد �إدراك ًا ،وت�أم ً
كفي ال�صغيرةْ ]؛ فهذا الن�سق الت�صويري المفاجئ يعزز ِ غمدت ِخ ْ�ص َر َها�أَ
تجاعيد ِّ المفتر�س في
ْ ْ
�سيرورة الدالالت؛ ويبث �صدى ال�صور ت�أملي ًا بهذا التحرك المفاجئ ل�سيرورة الدالالت؛ تبع ًا
لمثيرات ال�صورة عبر اال�ستعارة الفاتنة[ :خ�صرها المفتر�س]؛ فهذه اال�ستعارة ال تحرك
التعبيرية �صوب االفتنان وال�سحر الفني.
َّ الن�سق الت�أملي فح�سب؛ بل تدفع الحركة
وهنا؛ يعبر ال�شاعر بحرفنة ن�سقية غاية في ال�شفافية الرومان�س ّية عن كثافة ال�صورة
ب�أفق ت�أملي جمالي يقترب من ح ّيز المغامرة بال�صورة ,لتحريك الن�سق ال�شعري؛ وخلق
الده�شة في تحريك الدالالت في �أفق ت�أملي وا�سع؛ مولد ًا ال�صورة الده�شة التي تزيد ب�ؤرة
مثل طفلٍ وحي ْد /و�أَ ْب ِني لها
"�س�أَ ْبقى على بابها َ
الدالالت حركة و�سموق ًا فني ًا ,كما في قولهَ :
َ
فوق قلبي و� ُ
أنزف حتَّى الوري ْد"؛ �إذْ � َّإن كل �صورة تخلق تتابعها الن�سقي؛ بحرفنة نَ ْج َم ًة
�إ�سنادية ،ومغامرة ن�ص َّية فاعلة في ربط الأن�ساق ب�صور غير معهودة في ح ّيز ال�شعرية،
وبناء على هذا ا�ستطاع ال�شاعر �أن يولد نوع ًا من اال�ستبطان ال�شعوري
ً وتمف�صالتها ال�شاعرية؛
ٍ
[وحيد= الوريد]؛ محلق ًا بال�صورة من عبر التناعم الإيقاعي في حركة ال�صورة بين القافيتين
�سكونية الحركة بر�شاقة ت�صويرية �إيقاعية تن�ساب ب�ألقها وحراكها الداللي وتناغمها
ال�صوتي ,مولدة اللذة واالفتنان الجمالي بنف�س القارئ �إثر هذا التناغم الإيقاعي /والر�شاقة
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
متنام من الح�س
ٍ الت�صويرية التي ت�ستتبع حركة الأن�ساق؛ وتمد �سيرورتها الدالل َّية �إلى �أفق
والإدراك الفني...
وهذا يقودنا �إلى القول� :إن �شعرية البزيع ال تحاكي الواقع بق�صد ك�شفه بال�صورة
الح�سية المبا�شرة؛ و�إنما ت�شاكل الواقع ،وتخلق عالمها بح�سا�سية �شعورية ومغامرة ن�صية
فائرة باالبتكار ،والحراك الن�صي .ولذلك ،ف�إن قارئ ق�صائده �سرعان ما ت�أخذه �أنغامها
ٍ
قواف وتجني�سات الآ�سرة �إلى ما هو جمالي على م�ستوى الإيقاع والموازنات الن�سقية من
�صوتية يطعم بها جمله؛ لتزدان بمو�سقة م�ضاعفة[مو�سقة ب�صرية= ومو�سقة لغوية �صوتية]
بالإ�ضافة �إلى المو�سقة الروحية التي تجعلها مزدانة فني ًا.
ويتابع ال�شاعر حركة الن�سق بجمال َّية االنتقال الب�صري /وفاعلية ال�صورة،
الت�صويرية واقتنا�صها المد الجمالي ال�شعوري الخاطف,
ّ وتمظهراتها الفنية ,عبر الر�شاقة
كما في قوله:
ال�شم�س تاجاً ل�شعرك؛
َ " َع ِّل ْميني الم�سا َء لكي �أَ َ
قطف
�أو ع ّلميني البكا َء لكي �أ�ستر َّد ال�صنوب َر من ذكرياتِ
الع�صافيرِ؛
�أو اتركي َ�ش ْع َركِ الطف َل َي ْذه َُب َ�أ ْب َع َد في البحر؛
القمح,
ِ �أَ ْب َع َد في
الغيم,
لل�شمو�س وقد ال َم َ�ستْ �آخ َر ِ ِ َ�ش ْع َركِ ُم َّت َك�أٌ
تهب؛ "
حني للريا ِح التي ال َ َ�ش ْع َركِ �أَ ْن َ�أ ْن ِ
�إن م�صدر الجمالية -في ق�صائد �شوقي بزيع� -أو م�صدر الحبكة ال�شاعرية فيها تكمن
في خ�صوبة �أن�ساقها الت�شكيلية بالمراوغات اللغوية ،وال�صور المبتكرة ،وخ�صوبة الر�ؤيا،
ومردودها الفني الفاعل؛ يقول الناقد عبد المح�سن فراج القحطاني� " :إن ال�شعر �إذا لم يكن
يزف" بغيبوبة واعية" فال ي�سحق �أن يكون �شعر ًا ...فال بد من �أن يجمع ال�شعر بين طرفيه
ثنائية مت�ضادة[الغيبوبة والوعي] ،مما ي�ؤكد ال�صراع �أو االحتدام الذي يفرزه الن�ص ،لأنه
�إفراز المعاناة ..وقلق الذات"((( .وهذا ما �أكده �شوقي بزيع بقوله " :ال بد لل�شعر من �ضاغط
-1فراج القحطاني ،عبد المح�سن - 2004 ،تعريف ال�شعر بال�شعر ،مجلة عالمات ،ج /52م � ،13ص .118
�أو محفز ليجعلك تقوله ،فالمعاناة هي جزء من الخ�صوبة والتماهي مع الذات والواقع
لتخ�صيب الر�ؤيا؛ ومن ثم تعميق مردودها و�أثرها الوجودي"(((.
ال�شعري بالفعل
ّ وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن ا�ستهالل ال�شطر
يتوج ُه بخطابه مبا�شرة �إلى الحبيبة؛ ًّ
باثا م�شاعره العاطف َّية؛ َّ "ع ِّلميني" يعني � َّأن ال�شاعر
َ
�إزاءها بح�س �شعوري غزلي عارم؛ ولهذا ا�ستتبعه بكثافة المطالب ،والأمنيات ع�سى �أن
ودنوها �إلى �ساحة قلبه ،ووم�ضات ع�شقه؛ وهنا ,يحرك
ِّ تحققها له الحبيبة بو�صالها
ال�شعري بتكثيف �إيحائي �شاعري لل�صورة الرومان�سية التي تخط جمالها ّ ال�شاعر الن�سق
بحنكة ت�صويرية تتلم�س مظاهر ال�صفا،ء والجمال المطلق في الطبيعة :كما في قوله:
ال�صنوبر
َ البكاء لكي �أ�ستر َّد
َ ال�شم�س تاج ًا ل�شعرك؛ � /أو علّميني
َ الم�ساء لكي �أَ َ
قطف َ "ع ِّل ْميني
َ
والالفت �أَ َّن ال�شاعر يثير ح�سا�سية القارئ بهذا النزوع الجمالي في
ذكريات الع�صافيرِ "؛ ّ
ِ من
مفع ً
ال هذه ال�صورة بده�شة مدلولها و�ألقها الت�شكيل ب�إ�سناد لفظة[�شعر] �إلى [متك�أ لل�شمو�س]؛ َّ
الغيم ],والمالحظ �أَن درجة تكثيف ال�صور
ِ آخر
الم َ�س ْت � َ ِ
لل�شمو�س وقد َ [�ش ْع َر ِك ُم َّت َك ٌ�أ
ال�ساحرَ :
بتنام ت�شكيلي؛ و�إدراك معرفي �شمولي بالطبيعة الح�س َّية
ٍ تتعلق بالنهج الفني الذي تخطه
المتنامية لل�صور الغزلية الم�شتقة من جزئيات الطبيعة؛ لتبدو في حيازة ن�سقية ،واكتمال
فني موحي.
يقول ال�شاعر �شوقي بزيع� " :إن ال�صورة الم�ؤثرة هي التي تك�سر المتلقي وتجعله
يترنح تحت وقعها بت�شوه ال يدرك معناها ولذتها �إال من تغم�ست روحه في رحيق ال�شعر،
ونهلت من ينابيعه حتى الثمالى"(((.
وقد ُي َف ّعل البزيع الن�سق الت�صويري بالأ�سئلة المحفزة للمداليل ال�شعرية ،وال�صورة
الفنية الموحية المفرطة ذات الوجد وال�صبابة الغزل َّية؛ كما في قوله:
تنامين خار َج هذا البكا ْء؟ َ "لماذا
القو�س دو َن انحنا ْء؟ ِ تجيئين في �آخ ِر َ لماذا
الر�صيف الذي َع َّب َد ْت ُه ُج ُفوني
ِ انتظر ُتكِ َف ْو َق
لكي َت ْع ُبرِي َف ْو َقهْ؛
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
� -2شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
ِّ
ال�صف في كتبِ المدر�س ِة انتظر ُت ِك في ُغ ْر َف ِة
�صلِي بعد" ولم َت ِ
بادئ ذي بدء ن�شير �إلى �أن �شاعرية البزيع تت�أ�س�س على مغريات ال�صورة ،والر�ؤية،
والتجاذب الفني بين الأن�ساق المت�ضادة �أو المحتدمة ،لتحقيق التوا�صل والفاعلية الن�صية
في ق�صائده؛ وهذا دليل �أن ثمة وعي ًا في �أن�ساقه ،لمطلب ال�شعر الم�ؤثر على �صعيد الن�ص،
وال�صورة ،والتملي الروحي الجمالي العميق للحدث �أو الر�ؤيا المج�سدة؛ م�شك ً
ال جوقة فنية
متكاملة للأحداث والر�ؤيا المتناغمة في الن�سق الغزلي الرومان�سي الواحد.
ال�شعري
ّ وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ �أن القدرة على فتح الن�سق
معرفي عبر الأ�سئلة الت�أملية الغزل َّية المفتوحة؛ الأمر الذي يحفز الدالالت؛
ّ بت�أمل،و�إدراك
ٍ
معان ويترك المجال الت�أملي مع ِّبر ًا عن هذا الحراك المدلولي للأن�ساق الدال ّية؛ لتعبر عن
�شتى ،ور�ؤى عديدة؛ ت�ستوجبها الأ�سئلة الغزلية المفتوحة بح�سها الت�أملي ،و�صداها
ِ
الر�صيف انحناء؟ /انتظرتُ ِك َف ْو َق
ْ ِ
القو�س دونَ العاطفي؛ كما في قوله " :لماذا تجيئينَ في �آخرِ
الذي َع َّب َدتْ ُه ُج ُفوني لكي تَ ْع ُبرِ ي َف ْو َق ْه"؛ وهكذا؛ يبدو الن�سق ال�شعري بغاية التفاعل،
اللغوية الت�صويرية،التي تخط
ّ وااللتحام الن�سقي ،والتحفيز ال�شعوري لحركة الأن�ساق
جمالها ب�ألق ت�صويري كا�شف عن عمق �إ�صابة الر�ؤية ،وتحميلها مدلوالت �شتى.
وهذا يقودنا �إلى القول� :إن مكمن خ�صوبة الن�ص ال�شعري -عند البزيع -هذه االنفعاالت
المتوثبة التي تحققها على �صعيد الأن�ساق؛ واالنفعاالت هذه لي�ست قائمة على توتير
الم�شاعر على �شاكلة غيره من �شعراء الحداثة ،و�إنما على توتير الن�سق الجمالي الداللي
لل�صورة رغم هدوئها الن�سقي ،لت�ضج بالمغريات الجمالية والتر�سيمات الفنية المزرك�شة
بالوجد ،والع�شق ،والتملي الروحي العميق للم�شهد الرومان�سي الذي تثيره .يقول �شوقي
بزيع� " :إن الن�ص ال�شعري الحداثي هو الذي يحتفي بالطبيعة احتفاءه بالحياة؛ وكلما جذر
ال�شاعر �صوره على موحيات الطبيعة وغم�سها في ري�شة تجربته ازدادت �إ�شراق ًا وتبلور ًا فني ًا
م�ؤثر ًا في الجاذبية والت�أثير؛ وهذا لن يتحقق دون توفر الح�سا�سية ال�شعرية الزائدة،
والمعادل التعبيري الم�ؤثر"(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
َّ
جمالية الحس التصويري /ورهافة النسق الشعري المجسد: و-
ال �شك في �أن جمالية الح�س ال�شعوري الت�صويري -في ق�صائد �شوقي بزيع -من
مغرياتها الفنية؛ �إذ �إن �شعريتها ال تنبع من تر�سيماتها الت�صويرية فح�سب؛ و�إنما من هذا
الح�س الجمالي الذي يملكه في توليف مثل هذه الأن�ساق الت�صويرية ،وجمعها في ن�سق
�شعري متكامل ،ومت�ضافر فني ًا ،فال نلحظ ه�شا�شة في ال�صورة ،وات�ضاع ًا في الر�ؤيا،
وانك�سار ًا مقلق ًا في حركة الم�شاهد؛ وت�أ�سي�س ًا على هذا ،تكمن قيمة هذا المثير في الحنكة
ال�شعوري في ت�شكيل الن�سق الت�صويري؛ ليت�ضمن ر�ؤى مبتكرة
ّ الت�صويرية ،وجمالية الح�س
ّ
�شاعرية؛ ي�ستقي ال�شاعر ّ
جل �إثارتها من مفرزات الطبيعة ال�صافية َّ ب�أحا�سي�س رومان�سية
التي تحلّق في م�سار الح�س الرومان�سي ال�شعوري الرهيف ,كما في قوله:
ذات َي ْو ٍم َف َنا َم ال ُق ُر ْن ُف ُل...
"وقالوا ب�أ َّنكِ �آ ِت َي ٌة َ
في �ساعديَّ
ث ّم با َح ب�أ�سرا ِر ِه للغيو ِم التي ْاج َت َم َعتْ تحت جلدي
ف�أغويتهِ؛
ما اجتمعتْ َو ْردَتانِ على �أ ّولِ ال َق ْلبِ �إ ّال و ُك ْنتِ
َ�ش َذى الوردتينْ .
الحب �إال وكنتِ ما التقى عا�شقانِ على �أ َّول ِّ
د َم العا�شقين".
�إن قارئ �أي ق�صيدة ل�شوقي بزيع يلحظ �أنه �أمام فنان ت�شكيلي في ر�سم م�شاهده
ب�إح�سا�س دافق؛ يميل �إلى م�سرحة الر�ؤيا؛ وزرك�شة جزئياتها؛ وهذا هو م�صدر حراكها فني ًا �إذ
يقول " :الر�سم -بالن�سبة لي -فن متداخل مع ال�شعر ،فكما �أن ال�شعر ال ي�ستغني عن مثيره
اللفظي كذلك ال ي�ستغني عن مثيره اللوني و�إح�سا�سه في تظليل ال�صورة وتكثيف �إيحاءاتها.
حول
والمالحظ -في المقبو�س ال�شعري� -أن ال�شاعر بالح�س ال�شعوري المرهف الذي َّ
الدالالت؛ و�أ�ضفى على الن�سق ال�شعري جمالية �آ�سرة؛ برهافة �شعورية نادرة ي�ستقي ال�شاعر
ّ
جل �إثارتها من هذا النب�ض الجمالي ال�شعوري� ،إزاء الطبيعة ومثيراتها الح�سية؛ بعاطفة
تان على � ّأولِ
اجتمعت َو ْر َد ِ
ْ غزلية غاية في ال�سمو والرومان�سية المطلقة ,كما في قوله" :ما
ال بد من الت�أكيد بداية على �أن �أي ق�صيدة ال تت�ضمن ر�ؤية� ،أو موقف ًا؛ �أو منجز ًا فني ًا
جديد ًا على �صعيد ال�صورة ،والرمز ،والتوظيف ال�سردي لن ترقى �إلى حيز ال�شعرية ،وحيز
المغامرة الن�صية؛ وتبع ًا لهذا؛ " ف�إن المنجز الجمالي في المجال ال�صياغي �أ�سا�س في بنية
ال�شعر الحديث �سواء ما اخت�ص منه بالعالقة بين الدال والمدلول حيث تتخلخل العالقة
بينهما مع الإيقاع على ما تقت�ضيه الطبيعة الرمزية لإف�ساح المجال �أمام القراءة الت�أويلية،
وكذلك اهتزاز التوازن بين الدال والمدلول �أ�سا في الجماليات الحديثة للق�صيدة"(((.
والملفت حق ًا في الق�صيدة ال�سابقة �أنها تع ُّد لوحة جمال َّية في الغزل الفني المعا�صر؛
�إذ يلج�أ فيها ال�شاعر �إلى ابتداع ال�صور المده�شة في �أن�ساقها؛ لتتما�شى مع طابع الإفراز
الجمالي لهذا النوع من الغزل الذي امتاز به �شعراء لبنان؛ من حيث البث ،وال�شكوى،
ّ
الم َج َّلى
والحنين ،ور�صد حاالت الوجد ،والتوق ،والهيمان والع�شق ،وقد كان �شوقي بزيع ُ
في ذلك من خالل بكارة ال�صور الرومان�س َّية وان�سيابها فن ًّيا؛ وعلى هذا تنه�ض هذه الق�صيدة-
جمالي ًا -على ثالثة مثيرات؛ تحققها على م�ستوى متخيالتها ال�شعرية؛ وفق مايلي:
َّ
التعبيرية: - 3جماليَّة السرد القصصي /ورشاقته
�سبق وقلنا� :إن تقنية ال�سرد لم تكن في حال من الأحوال عبئ ًا على الن�ص؛ �أو مثير ًا
مقلق ًا لجماليات الق�صيدة عند �شوقي بزيع؛ لقد كانت وما زالت هذه التقنية محط اهتمام
النقاد ،وكم�صدر جمالي ال غنى عنه في تفتيق �إيحاءاتها ،وتنامي حركتها جمالي ًا،
بتمف�صالت �شعرية ذات �إيقاعات خ�صبة من الإيحاء والتكثيف؛ وما نريد �أن ن�ضيفه في هذا
المجال� :أن هذه التقنية كانت محط تفنن ال�شاعر من ت�صوير المكان والطبيعة؛ وتزويقه
بحرية فنية تنبع من مخيلة واعية قادرة على الإيحاء ،والت�أثير ،ب�شتى الطرائق ،وال�سبل
وبناء على هذا تكمن
ً الم�ؤدية �إلى فاعلية الر�ؤيا ،والخلق الإبداعي الالمتوقع في تج�سيدها.
التعبيرية من حيث كثافة الأن�ساق
َّ ال�سردية ،ور�شاقتها
َّ -في هذا المثير -جمالية الأن�ساق
الت�صويرية ،وتعزيزها في التعبير عن غزلياته ،وت�أمالته ال�صوفية �صوب �أنثاه التي تمثل
له �سحر الطبيعة،ب�أن�سنتها و�سموها الروحاني المطلق من جهة؛ وتج�سيدها ب�سحرها
الب�صري بتمازج الألوان ،والخطوط ،والر�ؤى من جهة ثانية؛ معتمد ًا �أ�سلوب ال�سرد الق�ص�صي
ور�شاقته في جذب ال�صور وخلق االئتالفات الت�شكيلية المبتكرة ,كما في قوله:
"�إ َّن الأمير َة َقا ِد َم ٌة
خ ِّبروها ب�أ َّن الع�صافي َر ُم ْ�ص َط َّف ٌة كي َت ُم ْر
المِ َ�س �أَقدامها الح َ�صى َي َتثاء َُب حتى ُي َ وب�أَ َّن َ
َّثمة امر�أ ٌة َت ْع ِب ُر الآ َن....
َّثمة َب ْح ٌر َت َراج َع عن َن َف�سِ ِه لي�صي َر امر�أة
أزرق المتمو ُج بين الن�سا ِء وبين الهوا ْء.... �أنا ال ُ
كا َن َثوُبكِ من زبد البحرِ؛
ما كنتِ بي�ضاءَ.....
ل َّكن ُه الثل ُج ُي ْو�شِ ُك �أَن يتف َّت َح بين ذراعيكِ ؛
�إن قارئ هذه الأ�سطر -دون �أدنى �شك -يعي�ش في طق�س �إبداعي ممتع ،من حيث
الت�شكيل ،والر�ؤيا ،ور�شاقة ال�سرد ،وتناميه مع الحالة ال�شعورية المج�سدة؛ �إذ يبلور
ال�شعري ،بالتمازج الفني الرهيف عبر �سال�سة ال�صور الت�شكيلية الغزل َّية؛
ّ ال�شاعر الن�سق
ال�شعرية؛ مبلور ًا �صداها ب�سحر
ّ ال�سردية التي ت�ستمر �إلى نهاية الدفقة
َّ معتمد ًا ن�سق ال�صور
ال�شعرية؛
ّ ال�سردية المتما�شية مع نب�ض الإيقاع ،ورهافته ّ ال�صورة ،وده�شتها ،ور�شاقتها
ال ِم َ
�س َثاء ُب حتى ُي َ الع�صافير ُم ْ�ص َط َّف ٌة كي تَ ُم ْر /وب�أَ َّن َ
الح َ�صى َيت َ َ كما في قوله" :خ ِّبروها ب� َّأن
لغوية الم�ؤن�سنة
ّ ال �أَقدامها" ،وهنا؛ يبرز الإيقاع الل ّ
ّغوي الت�شكيلي عبر فاعلية الأن�ساق ّ
ومحفزاتها ال�سردية الو�صفية ,ب�صور تمركز الن�سق؛ وتثير ح�سا�سية القارئ ب�إدها�شها
الن�سقي المتموج باالبتكار الت�شكيلي المراوغ ,كما في قوله" :كانَ َث ُو ِ
بك من زبد البحرِ ؛ ما
اللغوية
ّ ِ
ذراعيك"؛ وهكذا؛ يبلور ال�شاعر الأن�ساق الثلج ُي ْو ِ�شكُ �أَن يتفت ََّح بين
ُ بي�ضاء لكَّ ُ
نه َ ِ
كنت
ال�سردية ،بتمف�صل �شاعري ،و�إدراك فني غاية في ال�سمو ,والتمركز ،واال�ست�شراف الفني،
مما يدل على �أن �شعرية �شوقي بزيع على م�ستوى التالعب الن�سقي ب�إيقاع ال�سرد وتحوالته
مولدة لل�شعرية ،وتحوالت المعاني ،وفيما تحدثه من مفارقات و�إيحاءات م�ؤثرة في مجرى
الر�ؤيا �أو الحدث.
تعبيرية ت�صف الم�شهد
َّ وت�أ�سي�س ًا على هذا يتابع ال�شاعر ن�سق ال�صور ال�سردية بر�شاقة
الغزلي؛ وتر�صد تحركات الح�س ال�شعوري ،ب�إثارة فنية؛ كما في قوله:
"ما ُك ْنتِ َز ْر َقا َء
�شم�س البحيراتِ عالق ٌة عِ ْن َد َمد َْخلِ عينيكِ ؛ َ لكنَّ
ما ُك ْنتِ َخ ْ�ض َرا َء
بال�سر؛ لكنَّ �صدَركِ ُت ْف ِ�ضي �إليه العناقي ُد ِّ
ال َت َق ُطفِي ال ُع ْم َر,
�أَ ْنتِ َب َن ْف َ�سج ُة ال ُع ْمرِ� ,أَ ْنتِ ال ُد ُموع الأَخِ ْي َر ْه".
�إن قارئ هذه الأ�سطر �سرعان ما يلحظ �شعرية اللغة ،وحيوية الأداة؛ فال�شاعر هنا
يخرج من نطاق الو�صف التج�سيدي العاطفي �إلى نطاق الو�صف التكاملي الفني ،فهو ال
ي�شعرن ال�صورة فح�سب ،و�إنما ي�شعرن الأداة التي تقوم على[النفي /الإثبات] [ما كنت� /أنت]؛
وبهذا التفعيل الأدوات��ي المغري ل�شعرية الأداة المحركة للن�سق ال�سردي تزداد �شعرية
ال واحتدام ًا على م�ستوى الر�ؤية؛ وكما قلنا� :إن �شوقي بزيع ال ينحدر في م�ساره
الأن�ساق تفعي ً
ال�سردي �إلى الب�ساطة ،وال�سطحية المبتذلة ،الذي يوقع الكثيرين في مطب التقرير،
والمبا�شرة ال�سردية الو�صفية اله�شة؛ ولكن على العك�س من ذلك تجده يخلق من الب�سيط
والمتداول ن�سق ًا �سردي ًا ر�شيق ًا غاية في التكثيف ،والإيحاء ،وال�شاعرية.
وللتدليل �أكثر على ذلك ن�أخذ قوله:
" َم َ�ضى ُك ُّل َ�شي ٍء �إلى البحر,
م َّر الم�سا ُء و َم َّرتْ ُط ُيو ُر الم�ساءِ,
َاجرتِ الغيم ُة ال َذهَب َّي ُة في القلبَِوه َ
- 233 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
�إن م��ا يثي��ر الق��ارئ -ف��ي ه��ذه الأ�س��طر -ه��و التولي��ف ال�س��ردي البارع؛ وه��ذا التالحم
ال�ش��اعري بي��ن الأن�س��اق ،مم��ا ي�ؤك��د �أن قائل��ه ،ال يمل��ك الح�سا�س��ية ال�ش��عرية الفني��ة ف��ي
التعبي��ر والت�ش��عير فح�س��ب ،و�إنما ي�س��تثير ح�سا�س��يات ر�ؤيوية غاية في التركي��ز ،والإمتاع
ال�ش��عري؛ فم��ا �أجم��ل ه��ذا الإمت��اع ال��ذي يول��ده ف��ي ه��ذه القفل��ة ال�ش��اعرية " :وم��ا زال قلب��ي
يح��دق نح��و الظهي��رة"؛ فال�ش��اعر المت��ع ال يثيرن��ا فق��ط بال�ش��كل اللغ��وي المباغت فح�س��ب،
و�إنم��ا بروحاني��ة ال�ص��ورة المعب��رة� ،أو الموق��ف ال�ش��اعري الم�ؤثر� ،أو الم�ش��هد الرومان�س��ي
الم�ضم��خ بعبي��ر الطبيع��ة و�أن�س��ها ،ورحي��ق الأنث��ى بغنجه��ا ودالله��ا .وهك��ذا يحقق ال�ش��اعر
�ردية ،التي ت�سير م�سار ًا
الجمالي عبر ر�ش��اقة ال�صور ال�س� ّ
ّ -في المقبو���س ال�ش��عري -التنامي
ق�ص�ص ًي ��ا �ش ��ائق ًا ب�ص ��ور �ش �
�اعرية ،ت�س ��بح ف ��ي خ�ض ��م الرومان�س ��ية الغزلي ��ة ال�س ��احرة� ،أو
ّ
ت�صويرية
ّ الت�ص��وف الغزل��ي بالأنث��ى والطبيعة �إلى درجة الهيمان المطلق؛ معب��ر ًا ب�إيقاعات
�عرية؛ لتب� ّ
�ث زخمه��ا �عورية �ش��فيفة تج��ري مج��رى خل��ق الإ�ش��عاع الت�أمل��ي ف��ي الجمل��ة ال�ش� ّ
َّ �ش�
الجمالي بالت�صاوير ال�ش��عرية المتحركة ,وهكذا ،يثيرنا ال�ش��اعر بهذه الأن�س��اق الت�شكيلية
وال�ص��ور الرومان�س��ية ال�ش��اعرية المده�ش��ة ف��ي ن�س��قها الروح��ي ال�ش��فيف ،وت�ش��كيلها الفن��ي
الخ�صيب.
َّ
الرومانسية /وإشراقاتها اإليحائية: َّ
جمالية الصورة ب-
�س��بق و�أن تحدثن��ا ع��ن ه��ذا المثي��ر اللزوم��ي الب��ارز في ق�صائد �ش��وقي بزي��ع ،فكل من
�أراد �أن ي�س��تقرئ مغري��ات ق�صائ��ده ينبغ��ي علي��ه �أن يعرج على هذا الجانب؛ نظ��ر ًا �إلى �أهميته
ف��ي ا�س��تقراء معال��م جمالي��ات الق�صيدة لديه من حيث الميل �إلى التج�س��يد� ،أو الت�ش��خي�ص،
�أو التجري��د؛ وال نبال��غ �إذا قلن��ا� :إن ه��ذا الجان��ب ه��و الكا�ش��ف الب��ارز ع��ن قيم��ة متخيالت��ه
ال�ش��عرية ،وعم��ق التخيي��ل ال�ش��اعري ،لديه ،على م�س��توى ال�صورة الرومان�س��ية الم�ؤثرة،
وفاعليتها �ضمن التركيب ،لهذا ،يختار ال�ش��اعر �ش��وقي بزيع ال�صورة الرومان�س� َّية الده�ش��ة
ّغوي��ة الم�ش��تقة م��ن جزئي��ات الطبيع��ة؛ بق�ص��د
الت��ي ُيع��زِّ ز ال�ش��اعر م�س��ارها بالت�ش��كيالت الل ّ
�إث��ارة ال�ص��ورة ،وتعمي��ق رومان�س��يتها بهذا المد الت�أملي الرومان�س��ي المفتوح؛ ليخلق حالة
م ��ن المواءم ��ة بي ��ن ال�ص ��ورة الم�ش ��هدية الرومان�س ��ية ،وال�ص ��ورة التكثيفي ��ة الت�صويري ��ة
المراوغ��ة .وق��د اعتم��دت الق�صيدة ال�س��ابقة على هذه ال�صورة الرومان�س��ية في تعزيز زخمها
ال�شعوري؛ كما في قوله:
حب الربي َع الذي في يديك... "�س�أُ ُّ
الع�صافي َر؛ وهي تق ِّبل عينيكِ عند ال�صباح
و�سوف �أُغ ِّني و�أَح ُلم كال�سرور ِة الخا�سر ْة
َ
�إ َّن َر ِب ْيعاً ُي َغا ِف ُلنِي في ال�صبا ِح ،وي�س� ُأل عن ورد ٍة
في ذراعيكِ ".
� َّإن من يت�أمل في الن�سق ال�شعري ال�سابق؛ يلحظ بداعة ال�صورة الرومان�س َّية ووجهتها
ال�شعرية في حركتها
َّ الإيحائية من خالل الن�سق الت�شكيلي المتكامل الذي تخطه ال�صورة
الع�صافير؛
َ الربيع الذي في يديك/...
َ الإيحائية ،وتمازجها الن�سقي؛ كما في قوله�" :س�أُ ُّ
حب
الالفت هذا الإ�سناد الجمالي لحركة الجمادات؛ لإك�سابها ِ
عينيك عند ال�صباح"؛ ّ وهي تق ِّبل
طابع ًا �أيقوني ًا يقوم على الأن�سنة وتحريك الجماد؛ لخلق ال�صورة الزوغانية المده�شة في
ِ
الخا�س َرة"؛ ِ
كال�سرورة و�سوف �أُغنِّي و�أَح ُلم
َ تناميها ،وح�سها ال�شعوري ,كما في قوله" :
ال�شعرية؛ كما
َّ وهكذا؛ ِّ
يولد ال�صور المتناغمة بحركتها الرومان�سية؛ المحركة لباقي الأن�ساق
ِ
ذراعيك"؛ وهكذا؛ تنبني الجمل ٍ
وردة في ال�صباح ،وي�س�ألُ عن
ِ اف ُل ِني في
في قولهَّ �" :إن َربِ ْيع ًا ُي َغ ِ
ال�شعرية -في ق�صائد البزيع -على تقنية ال�صورة الم�ؤن�سنة ذات التنامي الإيحائي،
والتكثيف ال�شعوري الغزلي؛ مما يجعل هذه الق�صيدة �شعلة في التنامي الت�شكيلي ،والحيازة
الن�سقية المتوازنة التي تفتح �أفق الر�ؤية الغزلية الرومان�سية؛ وت�ستثير �آفاق الر�ؤية
ال�شعرية على �أمداء وا�سعة للتفتح ،والتنامي الجمالي على الدوام.
يقول ال�شاعر �شوقي بزيع� " :إن ال�صورة الرومان�سية �إن لم تكن مغمورة بدفء الروح
ونب�ض الم�شاعر تبقى ل�صوق ًا خارجية على الق�صيدة؛ حتى و�إن دخلت في ت�شكيلها ،و�شكلت
ع�صب ًا متحرك ًا من �أع�صابها"(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط.
َّ
االسمية المتوازنة: َّ
جمالية الجمل جـ -
تكمن -في هذا المثير -جمالية الجمل اال�سمية ،التي تختزن �صور ًا مغرية تنمحي
ال�شعري المتوازن؛
ّ فيها الفوارق والأدوات ،باعتماد ذات الت�شبيه البليغ �أو ال�صور ذات الن�سق
مما يجعلها متنامية على الم�ستوى الت�شكيلي؛ باعثة على التما�سك ،والتوازن ،والإيحاء
ال�شعوري العميق؛ َوتُ َع ّد الجمل اال�سمية -في ق�صائد �شوقي بزيع -من مثيرات حركتها
َّ
الدالة على الديمومة والثبات؛ وتُ َع ُّد خا�صية الن�سقية المتوازنة؛ نظر ًا لداللتها الرا�سخة
الجمل المتوازنة من خوا�ص ق�صائده المتما�سكة التي تعتمد الجمل اال�سمية محفز ًا لل�صور
البليغة؛ �إذ ُيلْغي فيها �أداة ال�شبه ووجه ال�شبه؛ ويكون الم�شبه والم�ش َّبه به وجه ًا لوجه في
بنية ال�صورة؛ كما في قوله:
"قولي له� :إ َّننا عَا�شِ َقان...
وال َت ْف َتحي َ
الباب...
�صد ُركِ تنهيد ُة البحرِ؛
الباب.... ال َت ْف َتحي َ
َو ْجهُكِ َتلويح ُة العمرِ؛
الباب... ال َت ْف َتحي َ
�إ َّن رجوعي ُم َح ْال...
فكل ال�شواطئ ممتد ٌة دو َن َج ْد َوى ُّ
ْ
الرمال". َو ْقد َن�سِ َي العم َر �أَ ْقدَا َم ُه في
ال�شعورية -لديه ,-بهذه ال�صور الجمالية الم�ؤ�س�سة على �إثارة الحركة الجمالية بالمطابقة
َّ
بين الم�شبه والم�شبه به؛ لتغدو ال�صورة؛ وك�أنها خلق ن�سقي مبتكر يرقى ال�شاعر فيها �أعلى
الم�ستويات؛ لتحقيق الإثارة والتحفيز الجمالي.
* نتائج واستدالالت:
(َّ � )1إن تجليات الجمال -في �شعر �شوقي بزيع -تتب َّدى في هذه الألفة الفنية بين
التراكيب؛ والتالحم الفني بين المقاطع ،لإثارة هذا الزخم ال�شعوري؛ لخلق
ن�صي؛ وحيازة ن�سق َّية لتراكيب �إبداع َّية ت�ستق�صي
ّ ال�شعري المتم ّيز بانفتاح
ّ الن�ص
ّ
�أبعاد الر�ؤية؛ وت�ستهدف مواطن �إثارتها؛ وهذا ما يجعل �شعريته مغايرة دائم ًا
اللغوي المعتاد رغم الطابع الرومان�سي العام الذي يطغى عليها. ّ لمنحاها
لكن هذا ال يعني رطانة هذا المثير؛ و�إنما يعني م�ؤ�شر ًا على هيمنته على ق�صائده
ب�شكل الفت ال نظير له.
(َّ � )2إن مح ِّفزات الجمال -في ق�صائده -لي�ست مقت�صرة على ال�شكل اللغوي والن�سج
ال�شعرية؛ و�إنما ق�صائده تخلق جمالها من هذا
َّ الفني الدقيق لل�صور والتراكيب
اال�ستق�صاء التخييلي في ت�شعير الر�ؤية وتحفيز منظورتها الجمال َّية المتخ ّيلة؛
وفق منطق �إفراز الإبداع بال�شكل الذي تفر�ضه الم�شاعر ،وتلتهب به الأحا�سي�س،
ال�شعري.
ّ و�شعورية لحظة الخلق
َّ ؤيوية
ت�ضج به من مفرزات ر� َّ
ُّ وما
الن�صي -في ق�صائد �شوقي بزيع -ال تتب َّدى في ال�شكل �أو
ّ (َّ � )3إن ماه َّية الجمال
الأ�سلوب فح�سب؛ و�إنما بما تبتكره من مح ّفزات ،و�أن�ساق ،وت�شكيالت ر� َّ
ؤيوية،
وف�ضاءات تخييل َّية مفتوحة على الدوام عبر �أن�سنة الطبيعة ،وت�شعير المكان؛
فالإبداع لديه �شعور وح�سا�س َّية قبل �أن يكون خلق ًا �أو ت�شكي ً
ال فن ًّيا؛ فالجمال
�شعورية تتمظهر في �شكل لفظي �أو
َّ لي�س ماه َّية بقدر ما هو �إدراك وح�سا�سية
قالب فني مر�صو�ص بعناية وهند�سة ت�شكيلية محكمة؛ ولهذا ،يت�ضافر الن�سقان
ال�صوتي والإيحائي في بلورة هذه الجمال َّية المحكمة في ق�صائده؛ التي تفرزها
ال�شعرية على الم�ستويات كافة.
َّ جمال َّية
الفصل الرابع
الفصل الرابع
مؤثرات اإلبداع الشعري في شعر شوقي بزيع
�إن الكثير من التجارب الإبداعية الم�ؤثرة ال تخ�ضع �إلى معايير محددة ،ور�ؤى
ومنظورات وا�ضحة ،وهذه هي الإ�شكالية في معالجة ال�شعر ب�أبعاده الر�ؤيوية ،والفل�سفية،
والت�أملية ،والفكرية ،والنف�سية ،فالوعي في عملية الخلق ال�شعري هي التي تقود �إلى
الإبداع ،والتنوع في الأ�ساليب ال�شعرية ،وهذا على حد تعبير الباحث عبد ال�سالم محمود "
يمنح الن�صو�ص ال�شعرية �إمكانات ثرة للتعدد والتنا�سل �أفقي ًا ور�أ�سي ًا ،كما يمنح القراءات
طاقات ثرة وثرية تدفعها �إلى التنوع واالختالف �أو االخت�صام "((( .وبمنظورنا� :إن الكثير
من الم�صطلحات النقدية ب�إفرازاتها المتعددة ومكت�سباتها المعرفية هي التي تنمي منظوراتنا
الإبداعية في قراءاتنا النقدية المبدعة �أو الم�ؤثرة؛ �إذ �إن " كل م�صطلح ال ريب ،وليد منظومته
الفكرية التي ينتمي �إليها� ،أو ن�سقه العلمي �أو الفل�سفي الذي انبثق منه ،فيك�سبه لونه
المعرفي وخ�صو�صيته ومناعته الدالليتين "((( .وبما �أن ال�شعر -بالأ�سا�س -لون لغوي
مختلف� ،أو لون مناعي من �ألوان اللغة ،حيث تتحقق فيه النتوءات واالختراقات التي تن ُّد
عن موهبة وفاعلية في �إك�ساب هذه المناعة الن�صو�ص ال�شعرية واالكت�شاف الجمالي المقاوم
الذي تفي�ض به الن�صو�ص ال�شعرية من خالل بكارة االنزياحات وعمقها في �إ�صابة المرامي
الإبداعية البعيدة� ،أو تلك اال�ستعارات التي تفي�ض �ألق ًا،وومي�ض ًا ،و�شاعرية؛ مما ينمي
فاعلية الحراك ال�شعري وقن�ص ر�ؤاه العميقة وطاقته الإبداعية المبتكرة.
وطالما �أن الإبداع -بالأ�سا�س -فاعلية لغوية و�سلطة ت�أويلية ،وقدرة معرفية،ومهارة
ا�ستثنائية في توظيف اللغة ،ف�إن درجة الإبداع من خاللها تتفاوت من مبدع لآخر ،ومن
-1محمود ،عبد الرحمن عبد ال�سالم - 2005 ،وعي ال�شعر (قراءة ت�أ�صيلية في اللغة والم�صطلح النقدي) ،مجلة
عالم الفكر ،ع ،1مج ،34يونيو .89
-2المرجع نف�سه� ،ص .89
�شاعر �إلى �شاعر �آخر ،وهي -ب�شكل ما " -تعك�س االنتماء الفكري والح�ضاري للمبدع "(((.
وبهذا المقترب الر�ؤيوي يقول الباحث عبد العزيز حمودة� " :إن ميتافيزيقيا الح�ضور في
�أب�سط تعريفاتها تعني بوجود �سلطة �أو مركز خارجي يعطي للكلمات ،والكتابات ،والأفكار،
والأن�ساق معناها،وي�ؤ�س�س م�صداقيتها؛ وحيث �إن اللغة خارج الن�ص الأدبي �أو داخله تكت�سب
م�صداقيتها من �إحالتها �إل��ى هذا المركز �أو تلك ال�سلطة الخارجية،ف�إن الكلمات في
ا�ستخداماتها خارج الن�ص �أو داخله تعني ح�ضور ًا لتلك ال�سلطة الخارجية ،وهو ح�ضور
ال� سلطة عليه"(((.
ال حيوي ًا في
وبهذا الح�ضور،وجوهر �سلطوية الر�ؤية تح�ضر اللغة بو�صفها فاع ً
�إك�سابها الثراء الداللي �أو ما ي�سمى بالثراء الداللي " فالثراء الداللي �سمة من �سمات
الن�صو�ص الخالدة العظيمة التي تبتعد عن مجال الدالالت المعجمية الثابتة ال�ساكنة �إلى
ف�ضاء الدالالت المتحركة ،والمتغيرة ،وبهذا االعتبار يمكن القول� :إن الثراء الداللي يالزم
مفهوم الإ�ضافة المعرفية والنقلة النا�ضجة في مجال قراءة الن�صو�ص "(((.
وما ينبغي الإ�شارة �إليه� :أن الن�ص ال�شعري -عند �شوقي بزيع -ينبني على لعبة
الزوغان �أو التحول اللغوي؛ �أو ما ي�سمى بلعبة الأخذ والرد على �صعيد اللغة بمعنى� :أن
ق�صائده لغوي ًا تت�سرب �إليها الكثير من الآليات الإبداعية الحبي�سة التي تنفجر في ت�شكيل
اللغة ،فاللغة في �أن�ساقه ال�شعرية تنبج�س فج�أة في ت�شكل �إبداعي (غير متوقع) و�ألق
تعبيري �آ�سر ،و ك�أنه ير�سم الدالالت،وي�ستحث �آفاقها ،وي�ستجلي طاقاتها الحداثوية،
والحيوية ب�إمكانات تعبيرية فاعلة ،ت�ستجيب لم�ؤثرات الر�ؤيا ،ودفق الإح�سا�س ال�شعوري،
ولذا؛ ف�إن الكثير من نقاد �شعريته كثير ًا ما ينفلتون من عقال الن�ص �إلى ف�ضاء الر�ؤيا،
ومحفزاتها ال�شعرية؛ فينفلتون هم كذلك من ر�ؤى الن�ص �إلى ف�ضاءات ر�ؤيتهم ،وتطلعاتهم،
و�إح�سا�ساتهم ،التي ي�سقطونها على الن�ص ،وبهذا ،تتنامى العملية ال�شعرية ،وتزداد
فاعلية الثراء الداللي في حركة ن�صو�صه ،و�آلياتها القرائية ،وف�ضاءاتها الت�أويلية.
-1عدمان ،عزيز محمد - 2009 ،حدود االنفتاح الداللي في قراءة الن�ص الأدبي ،مج عالم الفكر ،ع ،3مج ،37يناير،
مار�س� ،ص.96
ال من مقال :حدود االنفتاح الداللي في قراءة الن�ص الأدبي، -2حمودة ،عبد العزيز-المرايا المحدبة� ،ص .330نق ً
�ص.97
-3عدمان ،عزيز محمد - 2009 ،حدود االنفتاح الداللي في قراءة الن�ص الأدبي� ،ص.88
وال بد من الإ�شارة في هذا ال�صدد �إلى حقيقة م�ؤداها� :إن الكثير من �إ�سقاطات القراء
على الن�صو�ص الإبداعية قد تحرف م�ساراتها الر�ؤيوية؛ وتفكك الن�صو�ص من ر�ؤاها وينابيعها
الإبداعية الحقيقية،ولهذا ي�شدد الناقد عزيز محمد عدمان على م�س�ألة بغاية الخطورة
والأهمية �أال وهي� " :إن الت�سليم بالحرية المطلقة للمتلقي لإعادة �إنتاج الن�ص من جديد هو
بمثابة ت�سليم قيادة الخطاب الأدبي �إلى القارئ الذي يجر الن�ص �إلى متاهات ال نهائية
تف�ضي �إلى عالم من الدالالت غريبة عن جوهر المعنى ،فيتحول ف�ضاء الداللة �إلى مالذ
لنزوات القراء و�شهواتهم ،ومن ثم تطم�س معالم الن�ص ،وتختفي مالمحه في لجة رغبة
الإ�سقاط الذاتي والعاطفي والوجداني على الخطاب ،وك�أن العمل الأدبي �صناعة متاحة لكل
مقاربة �شاردة ،غير �أن الن�ص الأدبي محكوم بجملة من الآفاق هي التي ت�سمح للت�أويل في
الخو�ض فيها دون الخروج الفو�ضوي �أو العبثي عليها ،فالت�أويل يخ�ضع لجغرافيا الن�ص،
وت�ضاري�سه ال�صارمة التي تتيح قدر ًا من الفهم ،وت�سمح بالتحرك الإيجابي الفعال داخل
الن�ص ،وبين �أطرافه حركة م�س�ؤولة واعية را�شدة "(((.
وت�أ�سي�س ًا على هذا القول ،يلزم " القارئ /الناقد " �أن ُي ِع َّد العدة ال�ستقبال الن�صو�ص
الإبداعية بعين ثاقبة تتحثث �أبعاد الن�ص ،ومالمحه الإبداعية الحقيقية ،ومداليله العميقة،
مع المحافظة على روحانية الن�ص ،ودالالته التي ي�ؤطرها في منعرجاته الن�صية ،دون
الخروج الت�شويهي عليها ،هذا الخروج الذي من �ش�أنه غالب ًا �أن يمزق �أوا�صر الدالالت،
ويحرف م�ساراتها الإبداعية الحقيقية؛ ويوجهها بر�ؤى وتع�سفات داللية بعيدة كل البعد عن
مغزاها وم�ضمونها الفكري والنف�سي �أحيان ًا.
وبتقديرن��ا� :إن ق��ارئ �ش��عر �ش��وقي بزي��ع ال يدخ��ل نط��اق ه��ذه المعمعة ،لأن��ه يعي �أن
الن���ص -لدي��ه -ين�س��اب ب�أل��ق الفط��رة و�إبداعي��ة ال�صنع��ة ،وو�ض��وح مق�صديت��ه الداللي��ة،
وم��دارج المعان��ي والأف��كار؛ لأن��ه ناب���ض بحيوي��ة الإمت��اع ،وده�ش��ة المراوغ��ة ،واالنفت��اح
الدالل��ي ،والتنا�س��ل الإيحائ��ي؛ وم��ن �أج��ل ذل��ك تحظ��ى ن�صو�ص��ه بتقب��ل روح��ي؛ وانغما���س ال
�ش��عوري ف��ي جاذبيته��ا الإبداعي��ة ،وحيويته��ا الجمالي��ة؛ وبه��ذا الخ�صو���ص تق��ول زهي��دة
دروي���ش جب��ور " :م��ن �س��مات العبقري��ة ال�ش��عرية قدرته��ا عل��ى ابت��كار اللغ��ة الت��ي تغتن��ي
مفرداته��ا الأكث��ر الت�صاق� ًا بالحي��اة اليومي��ة ب��دالالت جديدة تولد الده�ش��ة مما ه��و م�ألوف.
-1المرجع نف�سه� ،ص .89بت�صرف.
فالمغام��رة ال�ش��عرية ه��ي �أو ًال مغام��رة في اللغة الت��ي تخرج عن وظيفته��ا االعتيادية كقالب
للمعنى حتى تتماهى مع التجربة ،وتتوحد بها� .إن لكل �شاعر لغته ،ولكل ق�صيدة لغتها.
و�ش��وقي بزي��ع ي��درك �أن بي��ن التجربة واللغة الت��ي تعبر عنها جدلية �أكي��دة ،بمعنى �أنه كما
تفع��ل التجربة وتحدده��ا� .أما الأنا ال�ش��اعرة فهي
تح��دد التجرب��ة اللغ��ة ،كذلك،ف��إن اللغ��ة ِّ
ف��ي �صل��ب الق�صي��دة� ،أي �أنه��ا الحقيق��ة الوحي��دة الت��ي تت�ش��كل ف��ي الق�صي��دة لحظ��ة الإبداع،
و�أن��ه ال حقيق��ة �ش��عرية �س��ابقة لها �أو خارج��ة عنها .لذلك كان �صدق التجرب��ة معيار �أ�صالة
الإبداع "(((.
و�ص��دق التجرب��ة -عن��د �ش��وقي بزي��ع -ينب��ع م��ن خا�صي��ة الر�ؤيا ،وحرارة ال�ش��عور،
ودفق الروح ،وزفرات الإح�سا���س الدافق بال�ش��هوات ،والتغنجات الغزلية في ر�س��م الم�شاهد
الغرامي��ة ،لتتج�س��د ف��ي ثناياها كينونة دائبة لتحريك ال�ش��وق والت��وق العاطفي لديه الذي
ي�ضف��ي عل��ى �ص��وره وتراكيب��ه �أنوث��ة وجمالي��ة �آ�س��رة ،وه��ذا م��ا عب��ر عن��ه �ش��اعرنا ب�صري��ح
العب��ارة قائ�ل�اً � " :أن��ا فيم��ا يخ���ص تجربت��ي ال�ش��عرية �أنتم��ي �إل��ى لغ��ة الأنوث��ة ،ذل��ك �أنن��ي
�أعتم��د عل��ى الغنائي��ة ف��ي الكتاب��ة ،و�أ�س��تفيد �إل��ى ح��د بعي��د م��ن الفلكل��ور ،م��ن ال�صياغ��ات
التعبيري��ة ال�ش��عبية ،لكنن��ي ال �أقع فري�س��تها ،بل �أحاول �أن �أجرها �إل��ى مناطق �أكثر حداثة،
و�أكث��ر طزاج��ة ،مم��ا يجع��ل ف��ي �ش��عري ن��داوة وطراوة ورق��ة و�أنوث��ة� ،أي �أن روح �ش��عري في
عمقه��ا روح �أنث��وي ال محال��ة وال �أبال��غ �إذا قل��ت :ال �أ�س��تطيع �أن �أتعاط��ى م��ع �أي �ش��يء دون �أن
�أ�ؤنث��ه ،فمث�ل�اً فنج��ان القه��وة ال��ذي �أرت�ش��فه الآن �إذا لم �أحول��ه �إلى �أنثى ال �أ�س��تطيع �إطالق ًا �أن
�أرت�شفه "(((.
واللغة -في عرف �شوقي بزيع -لتكون طيعة ان�سيابية رهيفة ال بد و�أن تكون م�ؤنثة،
�أو �أيقونة �أنثوية �-إن جاز التعبير -تتموج رقة ،ودفق ًا ،وان�سيابية؛ ولهذا نجد في ق�صائده
هذا الدفق والحنين والإذعان المطلق لمقولباته اال�ستعارية المنبج�سة بالح�س ،والتوق،
والعاطفة المتوهجة� ،أو المتحثثة خطاها بومي�ض ال�صدمة �أو الده�شة اال�ستعارية المفاجئة،
كما في الن�سق التالي:
-1جبور ،زهيدة دروي�ش� - 2005 ،شاعرية المفارقات والم�صائر المتحولة ،وجغرافيا الداخل ،مقدمة ديوان �شوقي
بزيع ،ج� /1ص.29
� -2شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال ال�ح��داث��ة؟) ،دار الأم��ل
الجديدة ،دم�شق ،ط� ،1ص.439
بادئ ذي بدء ،يلحظ القارئ �أن �سيرورة اللغة طيعة في ا�ستقطار الدالالت الم�ستفي�ضة
و الإيحاءات المتتابعة ،واال�ستعارات الناب�ضة بالحيوية والحنكة التعبيرية التي ت�شف عن
ر�ؤيا خ�صبة ومدلول �شعوري عميق ،و�إح�سا�س عارم باالغتراب الداخلي ،و�أفول �سنوات ال�صبا
وذكرياتها ال�ضائعة ،محاوال ً ا�سترجاعها ،والت�شبث بها عبر دفق اللغة ،وتمثيلها بكامل
نب�ضها ال�شعوري وانبثاقها الروحي ،ف�أتت اللغة طيعة لت�شتغل ا�شتغاال ً �شاعريا ً منتجا ً �أكثر
من كونها �أداة �أو و�سيلة لنقل الم�شاعر بمجانية لغوية وو���ض��وح مق�صدي ي�صل حد
ال�سذاجة،وبتقديرنا� :إن ثمة ا�شتغا ًال �إبداعي ًا حقيقي ًا منتج ًا -لدى �شوقي بزيع -على �إنتاج لغة
تفي�ض بدالالت �شتى عبر ا�ستعارات جذابة ،وانزياحات �شاعرية توليدية بتنويعات داللية غير
متوقعة،وتجاذبات لغوية �شاعرية تنم على حيوية الت�آلفات اللغوية الجاذبة التي تفي�ض
�شعورا ً و�شاعرية؛ وهذا دليل �أن ال�شاعر �شوقي بزيع يعد اللغة زاده المعرفي في �إبراز خ�صو�صية
تجربته وتميزها ،فاللغة -لديه -لي�ست نزهة في ب�ساتين اللغة ،ولي�ست ترف ًا لغوي ًا مح�ض ًا،
و�إنما هي ثورة من ثورات �شعريته وانبجا�سها من توق الروح وحرارة العاطفة.
وبما �أن ال�شاعر �شوقي بزيع ينظر �إلى اللغة من هذا المنظور الإبداعي الدقيق فمن
البديهي �أن يطورها ،ويطور ت�شكيالتها بما يحقق لها المتعة والجاذبية الن�صية بانزياحاتها
اللغوية المبتكرة ،وا�شتغاالتها على �أن�ساق لغوية ت�شكيلية ت�سمح بتن�شيط الر�ؤيا ،واكتناز
الدوال ب�سيرورة �إبداعية متوا�صلة في �ضخ مدلوالت و�إيحاءات عميقة متجددة على الدوام؛
وبمنظوره� :إن اللغة ت�صد�أ و ت�شيخ �إذا لم يتم تجديد ينابيعها بالممار�سة الدائمة ،والطواعية
الت�شكيلية ،والحنكة الم�ستمرة بتلوين �أن�ساقها بطاقات ر�ؤيوية جديدة؛ وبهذا المقترب
الدقيق يقول �شوقي بزيع� " :إنه ينبغي علينا �أن نع�صم اللغة من التثلم،ومن ال�صد�أ ،ومن
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعرية ،الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،بيروت ،ط ،1ج� / 1ص.369
الجفاف ،و�أن نمرنها ،با�ستمرار ،مثل �أي �شيء �آخر ،مثل �أي ع�ضلة من ع�ضالتنا .لذلك
�أحر�ص دائما ً على �أن ال تكون هناك انقطاعات عن الكتابة خا�صة �أن اللغة �سرعان ما ت�صد�أ
وتهترئ بين يدي محاوال ا�سترجاعها "(((.
وت�أ�سي�سا ً على هذا ،ن�ؤكد �أن �شوقي بزيع ي�شتغل دوم ًا على انزياحات لغوية �آ�سرة،
ت�ساعده بالطبع على الخو�ض في غمار اللغة ممت�شق ًا ج�سارة الر�ؤية وحنكة توظيفها الفني
المباغت والتقاطه لت�شكيالتها الغرائبية المده�شة عبر ت�شكيالت ا�ستعارية مغمو�سة بدم
العاطفة وبريقها المتوتر الجذاب؛ خا�صة �إذا �أدركنا �أن �شوقي بزيع يعي �أن اللغة ما كانت
وال �سوف تكون ا�سترجاع ًا غوغائي ًا �أو ببغاوي ًا هذياني ًا للغة ،و�إنما هي تنب�ض ببريق
العاطفة و�سننها عبر التمف�صل ال�شاعري الم�ؤثر ،والخرق الأ�سلوبي المراوغ ،ولذا فهو يعي
�أن الن�ص " لي�س مجرد �إعادة �إنتاج اللغة ،والمعرفة ال�سائدتين تقوم بها ذات عاقلة متمركزة
داخل العالم تتعلم بهدوء كيف تف�سر معنى ً مفتر�ض ًا ب�صورة م�سبقة في الن�ص المقروء،
و�إنما هو قبل كل �شيء تحويل �شامل للخطاب الأدبي� ،أي ت�شغيل ثوري للغة الإبداعية،
وقدرة �إنتاجية هائلة للن�ص الأدبي "(((.
وت�أكيد ًا على هذا الدور ال بد من الإذعان �إلى �أن اللغة -بالن�سبة �إلى �شوقي بزيع-
ت�أ�سي�س �إبداعي ،وتنويع جمالي ،وخ�صو�صية ت�شكيلية ممنطقة بن�سيج الر�ؤية ،وفل�سفتها،
وحبكة اللغة ،ون�سجها الفني؛ وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله:
" في �أيِّ برق ٍ تقيم
َّ
المع�شق خلف �شتاءاته لألمع مثل الزجاج
و�أع ِّري دمي لمرايا عذابك ْ
ليتني عروة في قمي�ص الحقول التي ت�شتهي
ليتني ري�شة ٌ في مهب الهديل
الذي يختفي
ْ (((
خلف قطن �سحابك "
� -1شرتح،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثةال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة؟)� ،ص.435
-2التجديتي ،نزار - 2005 ،ال�سيميائيات الأدبية لــ (�آلجردا�س ج -جريما�س) منهج لتحديث قراءة الأدب ،مج عالم
الفكر ،ع ،1مج ،34يونيو �سبتمبر� ،ص.164
-3بزيع� ،شوقي - 2012 ،الأعمال ال�شعرية ،ج� / 1ص.406
�إن قارئ هذه الأ�سطر �سرعان ما يدرك �أن ثمة امتالك ًا للغة ،وقدرة مطواعية فائقة على
تر�سيم م�ؤثراتها الت�شكيلية؛ بال�شكل الذي يحلو له ،وين�شط ف�ضاء التلقي الإبداعي لمثل هذه
المباغتات في القرائن والأن�ساق اللغوية التي تثير الح�سا�سية ،والمهارة الإبداعية؛ وك�أن
ال�شاعر �شوقي بزيع يدرك �أن فنية اللعبة ال�شعرية �أن ت�ضاعف من مردود الدالالت ونب�ض
ال�صور بما يطور مجرياتها الإيحائية وم�سالكها الإبداعية الحقيقية ،وم�شاربها الكثيرة؛
وك�أن ال�صور والإيحاءات تقت�ضي بع�ضها بع�ض ًا؛ بتعددية �إيحائية فائقة الإثارة ،والمغنطة،
والإيحاء ال�شاعري ،وفق منظور الت�أثير اال�ستعاري ،والحنكة الت�صويرية في �إثارة
ال�صورة - الده�شة� ،أو ال�صورة -ال�صدمة ،كما في الأن�ساق الت�صويرية التالية " :الزجاج
َّ
المع�شق خلف �شتاءاته -مرايا عذابك -مهب الهديل -قطن �سحابكْ " ،ولعل فاعلية الربط
ومقت�ضيات الجملة و�إيحاءاتها تفر�ض على القارئ متعة تلقيها جمالي ًا وفق منطق الت�آلف
والإيحاء واالن�سجام من جهة ،والتجاوز واالبتكار والمراوغة من جهة ثانية .وعلى هذا
الأ�سا�س ،تنبع خ�صو�صية اللغة -عند �شوقي بزيع -من محاوالته الكثيرة جعلها عن�صر ًا
�شاعري ًا بحد ذاتها ،دون تكري�س محموالتها الداللية و�إرهاقها بمحموالت كثيرة تنوء بثقلها،
لت�أتي اللغة لديه �شعرية �إح�سا�س ًا ونب�ض ًا وت�شكيال ً تبع ًا لمقت�ضيات الن�سق وحركة ال�سياق.
وطالما �أن الإبداع يقا�س -عند الغالبية العظمى من النقاد -بمهارته اللغوية،
وخ�صو�صيته الإبداعية في الت�شكيل ،ف�إن مهارة الإبداع -عند �شوقي بزيع -تتعدى حاجز
المهارة وال�صنعة �إلى حاجز الر�ؤيا ومقا�صدها الماورائية الماثلة خلف الكالم ،وما بين
ال�سطور؛ �أو كما يقال نقديا ً بــ (الم�سكوت عنه) خلف الملفوظات والدالالت� ،إذ ثمة حركة
دائبة في �صيرورتها الإبداعية ،وفق منطق ال�سبب والنتيجة؛ كما في قوله:
" لأنك فاتحة الكلمات وفاتحة القلب
�أبد�أ با�سمك هذا الكالم.
لأن الن�ساء قرانا ال�صغيرة ن�سكنها خائفين
ون�سكنها عا�شقين
لأنك من بينهن الجميلة والم�ستحيلة
(((
�أكتب �شعراً لعينيك"
-1الم�صدر نف�سه ،ج� / 1ص.78
�إن فاعلية ربط الأن�ساق وتوليفها وفق منطق ال�سبب والنتيجة ولدت في الأن�ساق
ال�سابقة تفاعال ً ر�ؤيوي ًا قاد الم�ساق ال�شعري �إلى منزع جمالي يعتمد الت�شويق ،والإثارة،
لإكمال دائرة التوقع التي ات�سعت ،وهذا من �ش�أنه �أن يولد ائتالف ًا ،وتما�سك ًا ،وت�ضافر ًا
ر�ؤيوي ًا موحد ًا في حركة الن�سق يتما�شى مع نب�ض ال�شاعر و�أحا�سي�سه الداخلية ،وزفراته
الغزلية " :لأنك فاتحة الكلمات " لأن الن�ساء قرانا ال�صغيرة� ".....أكتب �شعر ًا لعينيك".
وبمنظورنا� :إن فاعلية هذا الربط وجماليته تحققت وفق فاعلية االقت�ضاء الر�ؤيوي
التي تنم على التما�سك في الر�ؤى ،واالن�سجام في حركة الدالالت ،لت�صب في ب�ؤرة داللية
من�سجمة ،م�شوقة للقارئ ،ومن�شطة لدفقاته ال�شعورية.
�إن عالقة �شوقي بزيع باللغة عالقة حميمة ،تنطوي على وعي فائق باللغة؛ وم�ؤثراتها؛
ومقا�صدها ،ومراميها الداللية العميقة ،ومدى �أهمية القدرة على تطويعها بال�شكل الجمالي
الذي يجعلها مغرية للقارئ ،لدرجة ي�ست�شف �شعريتها منذ لحظة تلقيها الأولى ،ولذا،
عمد �شوقي بزيع �إلى توظيفها -ب�شكل �إبداعي منفتح -خا�صة على م�ستوى التركيب الإ�ضافي
و الو�صفي ،وهو يعي �أن من �ش�أن اللغة المبدعة حق ًا �أن تفتح ذهنية المتلقي على �آفاق
ر�ؤيوية خ�صبة،و�أن�ساق و�صفية جذابة تثير الده�شة ،وتنمي �شعرية الن�سق ،ولذة التلقي
الجمالي لدى القارئ ،وال نبالغ �إذا قلنا� :إن �أثر هذه المبتكرات الإ�سنادية تنم على ق�صد
معرفي ،وتعمد �إبداعي على �إحداث هذا الأثر عبر فاعلية المنجز الت�شكيلي اللغوي النوعي
المبتكر ،لدرجة يمكن لهذه اللغة �أن ت�ستثير القارئ ،وت�ستحث �أبعاد المخيلة ال�شعرية
لديه ،وبهذا الخ�صو�ص يرى �شوقي بزيع� :أن من واجب اللغة تحفيز الر�ؤية ،وخلق
ال�شعرية ،وال يمكن للغة المبدعة حق ًا �أن تكون م�ؤثرة �إال �إذا كانت مغرية جذابة متطورة في
وبناء على هذا �صرح قائالً� " :إن الق�صيدة -لدي
ً حركتها ،وتحوالتها ال�شعرية �ضمن الن�سق؛
-تتولد من نف�سها ،وتتمحور حول ب�ؤرتها ،لكي ال تت�شتت ،ولكي ال تبحث ب�شكل مجاني
عن الت�صيد باللغة ،وال�صور ،والتعابير "(((.
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثةال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة؟)�،ص.423
لأن الت�صيد باللغة دون وعي معرفي يفقد الكثير من الق�صائد ثقلها ال�شعري ،ولذا،
يرى �شوقي بزيع �أن ال�شاعر المبدع هو الذي يحقق دائم ًا انعطافات جديدة في طريقة توظيفه
للغة؛ و�سبل �إبداعها وتجديدها ب�شكل يجعلها دائم ًا في تحفز وتوثب �إبداعي دائم وحراك
�إيحائي م�ستمر ،وال يمكن للمبدع حق ًا �أن يت�صيد التعابير المده�شة ال�ستثارة القارئ دون
امتالكه لر�ؤيا �شاعرية عميقة و�إح�سا�س دافق و�إال �ستكون هذه االنعطافات واالنزالقات
والزوغانات اللغوية مجرد هرطقات لغوية ال قيمة لها على ال�صعيد الإبداعي.
وبتقديرنا� :إن عالقة �شوقي بزيع باللغة عالقة تفاعل وممار�سة ،ومران دائم على
الخو�ض غمار الأجنا�س الأدبية الأخرى بلغة �شاعرية؛ وهذا الخو�ض -بتقديرنا -من �ش�أنه
�أن يعلي من ذائقته ال�شعرية ،ودرجة �إبداعه كذلك ،وهذا ما �أف�صح عنه في قوله� " :أنا �أحتفي
بالإيقاع ال�شعري من دون �أن �أتعمد التطريب ،و�أحتفي �أي�ض ًا بالم�سرح ال�شعري �أي بتعدد
الأ�صوات وت�صادمها ،لأنني �أعتبر �أن في داخل كل �إن�سان هناك �أكثر من هوية ،هناك دائم ًا
ما هو مغاير ومختلف .......ولذلك يمكن ل�شعري �أن يفيد �إلى حدود بعيدة من الم�سرح،
بقدر ما يفيد من البنية ال�سردية المتوفرة في الرواية من دون �أن يخ�سر من ثقلي ال�شعري
�أي �شيء"(((.
وبمنظورنا� :إن التجربة الإبداعية الممتعة هي التي تحدد -بالدرجة الأولى -الم�سار
الجمالي للغة ،ومدى ا�ستطاعة ال�شاعر وقدرته على حملها من (الأ�سلبة الغوغائية) �إلى
(المغنطة الإبداعية) ،ولذا يمكن موافقة القائل�" :إن اللغة التي تنتظم في ق�صيدة البد لها من
�أن تت�سم بالق�صد ،والتركيز ،والتكثيف ،بحيث يتم ت�شغيل عنا�صرها غياب ًا وح�ضور ًا
بفعالية كبيرة"(((.وهذا ما حاول �شوقي بزيع ت�أ�سي�سه في عالقته التفاعلية مع اللغة ،فهو
ينظر �إلى اللغة من زاوية �إبداعية ،ولي�س من زاوية عالئقية �أو وظيفية مح�ضة،رغبة في
ا�صطناع ال�شعرية و�إيهاماتها التي �سرعان ما تذهب �أدراج الرياح ،عبر مفردات لغوية
انزياحية خالية من المقا�صد ،والر�ؤى ،والمدركات الواعية� ،إذ يقوم بت�شغيل كل مج�ساته
الإبداعية وقنواته الواعية في �إحداث الأثر ال�شاعري المطلوب ببريق اللغة ،وعمق الر�ؤيا،
وح�سا�سية ال�شعور ،وت�أجج العاطفة وتوهجها جمالي ًا كما في قوله:
�إن قارئ هذه الأ�سطر يدرك �أن �شعرية البزيع تتحثث خطاها عبر اللغة؛ وعمق
التجربة ،وعمق المخيال الإبداعي الخ�صيب الذي تتبدى �صوره في هذه الحيوية ،واالمت�شاق
في اختيار المفردات وتوليفها �شعوري ًا؛ با�ستعارات تتقطر �صبابة ً ،و�صور تفي�ض دفق ًا،
علي وردة روحها -قاطعة دمي إيحاء ،و�شاعرية ،كما في ال�صور التالية " :ت�صب ّ
ً وغنج ًا ،و�
بمق�ص رغبتها -لت�سقط مثل عا�صمة على ج�سدي الخراب "؛ � َّإن كل �صورة من تلكم ال�صور
تتعدى حاجز اللغة؛ لت�شكل لعبتها الإغوائية بما تملكه من قدرة على مالم�سة �أجنحة الروح
ب�شفافية الر�ؤيا ،وده�شة الإ�سناد ،وبالغة التمظهرات ال�شاعرية المثيرة؛ وانبثاقاتها
ال�شعورية الخ�صبة ،ودالالتها المنفتحة؛ وهنا ،يطالعنا قول الناقد ال�سوري خالد زغريت
الذي ي�شير من خالله �إلى ق�ضية بغاية الأهمية ،وهي� " :إن ال�شعرية الحديثة -بالن�سبة
حر في روح اللغة� ،أي تحديث التعامل الفني في الخطاب ٍّ
تجل لفتح ّ لل�شعراء عموم ًا -هي
ال�شعري مع اللغة ان�سجام ًا مع روح الع�صر وح�سا�سيته ،الذي ال ريب �أن هويته تحتاج �إلى
قامو�س لغوي يوائمه ،ويواكب ح�سا�سيته الجديدة المتطورة والمغايرة حتى يت�أتى لها
الت�ساوق والتناغم مع العوالم المتجددة التي تحتاج �إلى م�صطلحات وتراكيب لغوية تحوز
ملكة التجدد الكامن من جانب مهم من �سيرورة التعاقب الزمني لحياة اللغة والمجتمعات
وتراقيهما الم�ستمرين؛ وهذا يعني اختراق اللغة الحيوي لثبوتها الذاتي و خمولها� ،أي
اختراق تجمد اللغة في مجموعة �ألفاظ وكلمات تكاد ت�صير متخفية لندرة ا�ستخدامها "(((.
وال�شاعر الحق هو الذي يطور اللُّغة ،ويبتعث ما فيها من �أن�ساق تخدم ر�ؤيته
ال�شعرية من جهة ،وترتقي بالح�س اللغوي ومثيراته بم�ستجدات لغوية مبتكرة تفر�ض
ً
ومجاذبة فنية من جهة ثانية؛ وبهذا الت�صور ،ف�إن اللغة ال�شعرية- ً
متعة نف�سها على القارئ
عند �شوقي بزيع -لي�ست مجا ًال لفاعلية الربط العالئقي المبتكر فح�سب ،و�إنما قدرة �إبداعية
متوالدة في الأن�ساق ذاتها ،بو�صفها مجا ًال خ�صب ًا تتفاعل فيه الأدلة ،وتنزلق بموجبه
المداليل ،ولهذا ،حاول �شوقي بزيع تجديد اللغة ،وتجديد المنظور الإبداعي اللغوي �إليها
و�صبابة ،وغنج ًا ،وامت�شاق ًا جمالي ًا؛ وبهذا الخ�صو�ص
ً عبر لغة طازجة حيوية تفي�ض ع�شق ًا،
يطالعنا �شوقي بزيع بمقولته ال�صائبة عمق تجربته من ال�صميمَّ � " :إن ما �أعتبره �أ�سا�سي ًا في
تجربتي ال�شعرية هو محاولة المزاوجة بين حداثة تتحثث مواطئ �أقدامها عبر ر� ًؤى
ومكت�سبات مغايرة ،وعبر لغة طازجة ،و�صور غير م�ألوفة ،وبين الحفاظ على مكت�سبات
الما�ضي والموروث ،بحيث � َّإن هذه التجربة تفيد وتغرف من ينابيع التراث؛ فيما تتزود
بهذه الينابيع لكي تذهب �إلى �أماكن �أخرى �أحاول قدر الم�ستطاع �أن �أوفق بين ال�شكل ال�شعري
الذي يحافظ على جماليته� ،أو يحافظ على �أناقة اللُّغة من جهة ،وهو في الوقت ذاته يتكئ
على نب�ض القلب ،وعلى �صدق التجربة؛ بحيث � َّإن هذا الجمال ال يتحول �إلى تجميل م�صطنع،
وال �إلى تو�شية لفظية مح�ضة �أي�ض ًا "(((.
وبتقديرناَّ � :إن الكثير من مظاهر الإبداع اللغوي -في �شعر �شوقي بزيع -تعود �إلى
الوعي التام ب�أهمية الن�سيج اللغوي الموارب في خلق لغة �شعرية م�ؤثرة ترفع درجة �سوية
الإبداع ،وم�ؤثراته ،وتنا�سله الفكري ،م�ؤكد ًا �أن اللُّغة هي رحم الإبداع ،وهي الخا�صية التي
تميز تجربة من تجربة ،ومبدع من مبدع �آخر؛ فهي المعراج الإبداعي �إلى �سموات الإبداع،
والخلق ،والتميز؛ وهذا ما حاول �إي�صاله �إلى القارئ عبر تموجاته اللغوية؛ وانبثاقاته
الت�شكيلية الجديدة التي تنم على خبرة معرفية �أكيدة ،ومدلول جمالي �إيحائي فعال.
� -1شرتح،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثةال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة؟)�،ص.423
� َّإن متعة الإبداع اللغوي -في �شعر �شوقي بزيع -تكمن في تحويله اللغة من �إطار
التجريب والممار�سة �إلى �إطار الت�شذيب والم�ؤان�سة ،فتجد في تراكيبه ال�شعرية �أن�س ًا
�شاعري ًا ،يتعدى حاجز الممار�سة وال�شكل ال�شاعري المقنَّع� ،إلى ال�شكل ال�شاعري المنفتح
�أو المتغير فني ًا �أو داللي ًا ،وبهذا الوعي تحولت اللُّغة -لديه -من حيز المنطق والعادة �إلى
حيز الخرق والتجاوز واالنفالت من كل ما هو ُم َقنّع �أو م�صطنع بومي�ض من الإيحاءات
المنفتحة ،والمداليل الالمنتاهية ،وت�أكيد ًا على هذا ،ازدهرت لغته ال�شعرية ب�أ�شكال
غنى وابتكار ًا و�أن�س ًا فني ًا خ�صيب ًا ،وبهذا الفهم الجديد تنامت
ً لغوية ال يح�صيها القارئ
م�سارات �شعريته ،وتو�سعت �آفاقها الر�ؤيوية عبر مولدات �أو م�ؤثرات لغوية �إبداعية كثيرة
نذكر منها مايلي:
ودعمه��ا ف��ي �أن�س��اقه اللُّغوي��ة بما يحقق له��ا التميز الدائم والحراك الإيحائي الم�س��تمر ،كما
في قوله:
ل�ضحكتك الهاربة
ِ " ب�أيِّ ذراع �أل ِّوح هذا الم�ساء
و�أيُّ الجبال �أنا
كي �أجاري الهديل
الذي يت�سلق قم�صان نومك؟
�أيُّ ال�سيوف �أنا
كي �أُق ِّلم ور َد الغياب الذي ت�سكنينْ ؟
الم�سيني لي�سترج َع ال ُع ْم ُر ما فات من ج�سدي الم ِّر
�أو ما تحجر من قبالتي على �شف ِة الأزمن ْة"(((.
� َّإن القدرة االقت�ضائية -في هذا المقبو�س -تتحدد �شعريتها ب�ألق االهتداء �إلى الن�سق
الجمالي الت�صويري الم�ؤثر؛ عبر تن�شيط العالئق الإ�ضافية والو�صفية ،و�إ�سناداتها المباغتة
التي تن�شط �آلية الفهم والتلقي الجمالي المثير لهذه الأن�ساق بمقت�ضيات �شاعرية تفر�ضها
خ�صو�صية الر�ؤية وعمق التجربة؛ وفق مقت�ضيات الحراك ال�شعوري التي تعتمد االنزالق
والتحول والزوغانات الأ�سلوبية لخلخلة الر�ؤيا ،واعت�صار مدلولها الجمالي الإيحائي
ِ
�ضحكتك الهاربة � -أجاري العميق ،كما في االنزياحات والزوغانات الأ�سلوبية التالية" :
ِ
�شفة الأزمنةْ ".وما يباغت القارئ جمالي ًا عمق الهديل � -أُق ِّلم ورد الغياب -ج�سديالمر -
المقت�ضيات العالئقية الإيحائية التي يثيرها الإ�سناد الفعلي ومنزلقاته ومتعلقاته من فعل
وفاعل ومفعول به وجار ومجرور وعالئق رابطة �أخرى ،كما في قوله " :تحجر من قبالتي "؛
�إذ جاء الفعل " تحجر "ليحمل في طياته الكثير من دفق الم�شاعر وحيوية الر�ؤيا ،وعمق
المقت�ضى اللغوي الإيحائي في �إ�صابة المدلول العميق والمعنى المبتكر داللة على �شدة
ال�شوق ،واتقادها ،و�أ�ساها ،واحتراقها ،وبهذا المقت�ضى الر�ؤيوي تتج�سد �شعرية اللغة
وم�شاربها الكثيرة عند �شوقي بزيع ،مما يدل داللة قاطعة� :أن الوعي الجمالي كان وراء
الكثير من مبتكراته الأ�سلوبية و�إ�صابته الجمالية الراقية للكثير من مرامي ال�شعرية،
-1بزيع�،شوقي - 2012 ،الأعمال ال�شعرية ،ج� / 1ص.394
وم�سالكها الإبداعية الحقيقية التي يدخل في نطاقها الأن�س الروحي والحراك ال�شعوري
�صبابة وع�شقا ووله ًا مفعم ًا بالتميز في ت�شكيل اللُّغة ،بما يحلق في �إيقاعات �صوره
ً الدافق
وا�ستلهاماتها الداللية ما يغني بنية �صوره ،وينمي حيوية امت�شاقها جمالي ًا ،وحراكها
ال�شعوري الدافق وفق مقت�ضيات �سخونة اللحظة وطزاجة التجربة.
وبما �أن اللُّغة ال�شعرية -عند �شوقي بزيع -هي تفاعل دالالت ومدلوالت وت�سرب
مخ�صو�ص لإيحاءات داللية ولعالئق لغوية فاعلة تمتلك قدرتها االقت�ضائية بما تخ ِّلفه من
ات�ساع داللي ،ف�إنها ت�سعى دوم ًا �إلى عالئقية اقت�ضائية م�ؤثرة� ،أو فاعلة عبر �سيرورة
تفاعلية ،تحفز القارئ ،وت�ستثيره جمالي ًا عبر االقت�ضاء الجمالي في التر�سيم اللُّغوي لكل
جملة و�صلتها ،وم�ستوى فاعلية عالئقها بما ي�سبقها ،وما يتلوها من عنا�صر التركيب،
وهذا ما ندلل عليه بهذا المقبو�س ال�شعري:
الغريب و�ساحلي فو�ضاي
ُ " �أنا المو ُج
ُم ِّ�سيني لأبر�أَ من ذنوبي كلها
وتغمدي مائي
بما �أوتيت ِ
من ق�صب ِالغياب "(((.
بادئ ذي بدء نقولَّ � :إن � َّأي اقت�ضاء لغوي �شاعري م�ؤثر هو مترا�س لغوي جمالي
من�سوج بخيوط الر�ؤيا ،والقرائن اللُّغوية المرجحة لمفردة دون �أخرى ،وت�شكيل لغوي
دون �آخر ،مما يعني �أن ثمة ابتكار ًا ن�صي ًا� ،أو حراكا ً مدلولي ًا كا�شف ًا عن �سيرورة العالئق
الجمالية وفق مقت�ضيات الإثارة ،والت�أثير ،وهذا ما ترومه الأن�ساق ال�شعرية في ق�صائد
�شوقي بزيع قاطبة ومن �ضمنها هذا المقبو�س ،وت�أكيد ًا على هذا تبرز فاعلية القدرة
االقت�ضائية في تحريك الدالالت ،وتنويع المعاني ،وتمييزها على م�ستوى تفاعل الدوال
والمداليل والر�ؤى كلها �ضمن الن�سق ،وم�ستوى �إفرازها الجمالي على الم�ستوى الن�صي
ككل ،وبتقديرناَّ � :إن الغلبة الجمالية -في المقبو�س ال�سابق -تنبني على فاعلية االقت�ضاء
الخبري ،وتوليف مقت�ضيات الن�سق الإخباري ،وتوابعه وفق اقت�ضاء لغوي جمالي يال�صق
-1الم�صدر نف�سه ،ج� / 1ص.386
َ
مال�صقة �أن�س وائتالف وحنكة وممار�سة في ا�ستقطار الدال بالمدلول وال�صفة بالمو�صوف
الملفوظات المميزة للمعاني وم�ستدرجاتها الإيحائية المبتكرة؛ كما في الأن�ساق�{ :ساحلي /
فو�ضاي}{ ،تغمدي /مائي}{ ،ق�صب الغياب}َّ � .إن نظرة فاح�صة �إلى هذه العالئق تجعلنا
ندرك �أن فاعليتها تتحدد على ما يبدو في هذا الحراك ال�شعوري الذي ي�شتغل �ضمن منطوق
�أو م�ؤثر المتحول الن�صي ،والمقت�ضى الدالئلي؛ وك�أن ثمة غو�ص ًا ال �إرادي ًا في منعرجات
الذات وم�سالكها العميقة ،رغبة في ت�أجيج �شعرية ال�سياق عبر مالم�سة �شغاف الداخل
ال�شعوري ،وما يعتمر في الذات ،باقت�ضاءات الح�س الجمالي و ال �شيء �سواها؛ وهذا ما
ف�ضاء ر�ؤيوي ًا ،ونمط ًا لغوي ًا مبتكر ًا من �أنماط �شعرية الن�سق
ً برهن عليه المقبو�س ال�شعري
وتنا�سله جمالي ًا عند �شوقي بزيع.
وطالما �أن المقت�ضيات اللغوية تتفاوت درجة ت�أثيرها جمالي ًا من �سياق لآخر ،ومن
ن�ص لآخر ،كما �أ�شرنا �سابق ًا ف�إن ما يحكم �سيرورتها الإبداعية م�ستوى فاعلية هذه المقت�ضيات
على تجاوز المعنى الدالئلي الق�صدي المبا�شر؛ لت�ستغرق بما هو غير ق�صدي �أو بما هو
بعيد ،وما ورائي وغير مبا�شر ،وبهذا ال�صدد تتحدد جمالية هذه المقت�ضيات بما تملكه من
تجاوزات وانتهاكات ترفع �سوية الجمل والبناء ال�شعري ككل؛ �إيذان ًا ب�شعرية جديدة
و�شاعرية ت�شكل فا�صلة �إبداعية حقيقية في منعرجات ال�سياق؛ كما في قوله:
" ت�أخ ْر َت عن موعدِ الحبِ يا �س ّيدي
َ
خطاك البطيئ ِة ُ
وانتظرت اخ�ضرا َر
ال فجيال جي ً
و ناديتُ في قفر ِ �صمت َِك حتى تهر�أ �صوتي
وتال�شت عظامي نحوال
َ
عينيك َف ُر َّ�ش على وح�شتي ما َء
َذهِّب بحو َر انك�سارك ج�سمي العليال
وع ْد لي طيفاً على غ َّرة ال�صبح
�أو فكرة
(((
�أو فتيال"
-1الم�صدر نف�سه ،ج� / 1ص .407
ال ُب َّد من الإ�شارة �إلى �أن فاعلية � ّأي اقت�ضاء لغوي تتحدد جمالي ًا بم�ستوى االنحراف،
ومهارة االرتقاء بم�ستوى حداثوية الجملة؛ ودرجة �شعريتها ،وتوليفها بما يحقق متعة
بنائها ،وعن�صر محفزها الإبداعي ،للخروج بجديد على م�ستوى المرجعية الإبداعية
ومقت�ضياتها اللُّغوية التي تزداد �شدتها بارتقاء م�ستوى تفاعل الدوال والمداليل وفق
ما ي�سمى بالأن�س اللغوي �أو المجاذبة اللُّغوية على م�ستوى الأن�ساق؛ ب�آلية اقت�ضائية ترفع
درجة تلقيها ،والإح�سا�س بها جمالي ًا ،وبمنظورنا� :إن درجة �شعرية االقت�ضاء -في المقبو�س
ال�سابق -تبدت في هذا الحراك الملفوظي على م�ستوى تفاعل الدوال بحراك مفرداتي عالئقي
ترابطي ،ت�ستدعيه العالئق اللغوية ،وروابطها من �إ�ضافة وعطف وجر وو�صف؛ وك�أن ثمة
ال ال �شعوري ًا للعالئق الرابطة بين حروف العطف و الجر ،م�ضاف ًا �إليها الإيقاعات
تفعي ً
ال�صوتية المتناغمة �إلى تبثها الحركات الإعرابية باعتمادها (المد والتنوين) ميدان ًا خ�صب ًا
لخلق النغم والتمازج الإيقاعي الرهيف بين المفردات؛ وهذا الم�ستوى التفاعلي االقت�ضائي
هو الذي يبتعث النغم والتوازن واالن�سجام بين المفردات على م�ستوى الجمل والتراكيب
اال�ستعارية التالية( :اخ�ضرار خطاك -قفر �صمتك -ماء عينيك -غرة ال�صبح -بحور
انك�سارك) .وت�أكيد ًا على هذا ،تتحدد �شعرية االقت�ضاء اللغوي بمدى فاعلية الر�ؤيا،
وتر�سيخها لغوي ًا ب�إ�سنادات لغوية تنم على فاعلية التخيل ،وعمق التخييل في ابتعاث
عالئق لغوية جديدة ناب�ضة بالخ�صوبة ،والنب�ض الجمالي ،والأن�س الروحي الذي يجتذب
التلقي الجمالي ،ويخلق المتعة الجمالية.
ِّ
المكون المعجمي: - 2بالغة
�ون المعجم��ي عن�ص��ر �ض��روري ف��ي عملية الت�ش��كيل الإبداع��ي� ،إذ به
ال �ش��ك ف��ي �أن المك� ِّ
يرق��ى الإب��داع �أعل��ى الم�س��تويات ،ويحق��ق بِ ُر ِق َّي��ه منته��ى الغاي��ات بو�صف��ه من�ش��ط ًا �إبداعي� ًا
المكون في التدليل على خ�صوبة
ِّ �إدراكي� ًا فاع�ل�اً ف��ي �إبراز الوعي اللغوي ،وت�أكي��د �أحقية هذا
الر�ؤي��ا وفاعلي��ة الم��ردود اللغ��وي للمف��ردات ،وف��ق م��ا تقت�ضي��ه الم�س��اقات الإبداعي��ة م��ن
خ�صو�صية في الأداء ،وتميز في حركة الأن�س��اق اللغوية ،باالنتقال من ن�س��ق �ش��عري لآخر،
وم��ن مق��وم معجم��ي �أ�س��لوبي لآخ��ر ،وف��ق م��ا تقت�ضيه طبيع��ة التجرب��ة ،وخ�صو�صي��ة الأداة،
و�ش��كل التعبي��ر اللغ��وي ومكونات��ه المعجمي��ة؛ ودليلن��ا عل��ى ذل��ك �أن " كل �إ�ش��ارة لغوي��ة
تحت��وي عل��ى دال ومدل��ول ،ف�ل�ا يك��ون للدال �أو لأي لفظة مكونة م��ن مقاطع �صوتية وجود في
معنى لها .فما �س��ماه التوليدي��ون بالدخل المعجمي هو الذي
ً اللغ��ة ،م��ا ل��م تت�ضمن اللفظة
ي�س��ند المعن��ى الأول��ي للمف��ردات اللُّغوية،ويخ�صه��ا ب�س��مات لغوية وتركيبي��ة وداللية عدة.
ٍ
معان وجدي��ر بالذك��ر �أن دالل��ة الكلم��ة مبهم��ة �إل��ى حد كبي��ر� ،إذ تحت��وي الكلمة �أحيان� ًا على
متع��ددة؛ وتحت��وي كل عب��ارة عل��ى ع��دد المعان��ي الت��ي تتخذه��ا ن�س��بة �إل��ى دالل��ة �أجزائه��ا
وطريقة تركيبها الداللي"(((.
وت�أكيد ًا على هذا ف�إن " الدخل المعجمي للمفردة يحتوي على تمثيل داللي عائد �إلى
كل معنى من معاني المفردة .والتمثيل الداللي العائد �إلى داللة المفردة ي�ؤخذ من حيث هو
مجموعة التمثيل الداللي العائد على معانيها"(((.
مكون جمالي عالئقي م�ؤ�س�س
المكون المعجمي في -ف�صائد �شوقي بزيعِّ -
ِّ وبما �أن
على وعي مق�صدي ب�أهمية االقت�ضاءات اللُّغوية المعجمية الم�ؤثرة في خلق المتعة الجمالية
بما تقت�ضيه الحنكة ال�شعرية ،واللعبة التخيلية من �إثارة ،واقتنا�ص �إبداعي مراوغ ،ذلك
ال ت�أ�سي�سي ًا �إبداعي ًا ،وهذا المقت�ضى " يعتبر
�أن عمل المقت�ضيات المعجمية في �أن�ساقه عم ً
عمال ً توجيهي ًا للخطاب ما دام يتحكم في ذهنية المخاطب،ويتوقف عليه الربط "((( .ولهذا،
ف�إن الأغرا�ض الجمالية للمقت�ضيات /المعجمية /هي التي تخلف ال�صور البالغية الم�ؤثرة
التي تقت�ضي مفردات معجمية منزاحة لغوي ًا عند ا�ستعمالها ،وبهذا ،تتحدد فاعلية االقت�ضاء
المعجمي بفاعلية الخا�صية الداخلية للمفردات ،وم�ستوى وظائفها الداللية ،ومعانيها
المركبة التي تنم على بداعة الأ�سلوب ال�شعري ،وم�ستوى تفعيل مظاهر الت�أثير ،والإقناع
الجمالي في ت�أويلها وتلقيها جمالي ًا.
وما ينبغي الإ�شارة �إليه �أن �شوقي بزيع قد ارتقى بفاعلية المقت�ضيات المعجمية ،بما
يحقق مبتكراته اللغوية ،لتتجه وجهة معينة تفر�ض عليه �أن يواكبها بمقت�ضيات �إبداعية
غاية في التركيز ،والداللة ،والإثارة على �شاكلة المقت�ضيات المعجمية التالية:
-1كروم� ،أحمد - 2004 ،مقاربات نظرية في مظاهر الربط الحجاجي لبنية االقت�ضاء ،مج عالم الفكر ،ع ،3مج،32
يناير -مار�س� ،ص.247
-2المرجع نف�سه� ،ص.247
-3المرجع نف�سه� ،ص.253
� َّإن فاعلية الترابط المعجمي -في المقبو�س ال�سابق -تتبدى في هذا الحراك الداللي
الذي تولده القدرة االقت�ضائية للعالئق المجازية ،لتتعدى داللتها ال�ضيقة �إلى دالالت
َ
لهاث ُه بع�صا ومعان �أبعد؛ وهذا ما نلحظه في التركيب اال�ستعاري التاليُّ �" :
أه�ش ٍ �أو�سع،
أه�ش) تعملق داللي ًا عبر �إنتاجية غرائبية في حركة الإ�سناد� ،أو
انك�ساراتي"� ،.إذ � َّإن الفعل (� ُّ
زحزحة عجائبية ال متوقعة في حركة الإ�سناد " الفاعلي /والمفعولي " تقديم ًا وت�أخير ًا،
ً
جمالية باالنزياح الحيوي في حركة الإ�ضافة " :ع�صا ليزيد من فاعلية العملقة اال�ستعارية
انك�ساراتي " ،وبهذا يتحول الفعل " �أه�ش " بالإ�سناد االنزياحي �إلى طاقة �إيحائية ،بو�صفه
ال بنائي ًا ممركز ًا للحركة اال�ستعارية ،وباعث ًا ل�سيرورة الدالالت ،ومخزونها الإبداعي في
فع ً
الن�سق اال�ستعاري ال�سابق.
المكون المعجمي -في بنية الت�شكيالت اللغوية عند �شوقي بزيع-
ِّ ومن مظاهر بالغة
متحوالتها الن�سقية وحراكها
ِّ التر�سيم الدقيق للدوال المعجمية وفق ما تقت�ضيه الر�ؤيا في
الداللي؛ وك�أن ثمة �إدراك ًا -لدى �شوقي بزيع-بالدور المعجمي والمبتعثات االقت�ضائية في
توليف الكلمات ،تبع ًا لمبتكرات المعاني ،وتنويعاتها �ضمن الن�سق ال�شعري ،لي�أتي
المكون المعجمي عن�صر ًا بالغي ًا في ا�ستجرار ال��دالالت العميقة ،وا�ستيعاب �أبعادها،
ِّ
ومميزاتها الإبداعية؛ وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله:
ال تغلقي خلفك البحر
كيما �أُ َ�ض ِّمد مل َح انتظاري بع�شبِ ا�شتهائِكِ
ونامي رويداً رويداً؛ يداً �إثر �أخرى،
ح�ص َي الغيو َم التي تتلبد فوق �ضفيرتك العالية "(((. لأُ ِ
-1الم�صدر نف�سه ،ج� /1ص.388
-2الم�صدر نف�سه ،ج� /1ص .400-399
� َّإن تحول � َّأي مقت�ضى �أو بنية معجمية في ال�سياق الن�صي ال يحقق وظيفته الت�أثيرية
�إال بت�ضافر عاملين م�ؤثرين متالحمين ،الأول الحراك الداللي داخل بنية المنظومات
المقوم المعجمي جمالي ًا ،وداللة االقت�ضاء ،وم�ستوى
ِّ المعجمية التي تقوم على فاعلية
تميزه للدالالت ،وابتعاث دالالتها العميقة الم�ضافة �إثر التوليف ال�سياقي ،وبهذا االعتبار
يحمل الن�سق ال�شعري فاعليته وم�ستوى حراكه الداللي ،وخ�صوبته الإيحائية ،وهذا ما
نلحظه في المقبو�س ال�شعري ال�سابق؛ �إذ ثمة توليف دالئلي عجيب وحراك مدلولي يقوم على
فاعلية االقت�ضاء الترابطي على م�ستوى الدوال المعجمية ،بتوليفة ن�سقية ا�ستعارية ،تمتلك
مقومها اال�ستثنائي في الإقناع والإمتاع ،وهي " ملح انتظاري -بع�شب ا�شتهائك �-ضفيرتك
العالية"؛ وهذا الحراك يملك �شبكيته العالئقية الم�ؤثرة ،عبر هذا الدفق ال�شعوري،
واالن�سياب الفاعلي الذي يمتد من الإ�سناد الفعلي " ال تغلقي خلفك البحر " �إلى الت�ضافر
بع�شب ا�شتهائك " ليكون الفعل م�ؤثر ًا في امتالك
ِ ملح انتظاري
المعجمي الن�سقي " كيما �أ�ضمد َ
حيوية الإيحاء ،وعمق الت�أثير ،ب�إ�صابته الق�صد العميق للمدلول اال�ستعاري الذي يبتعثه
الفعل (�أُ َ
�ض ِّمد)من مل�صقاته المعجمية ومقت�ضياته الإيحائية الفاعلة في �إثارة الحراك الداللي
الجديد ،وتعدي حاجز المدلول الأولي المل�صق به ،وهذا هو التجاوز الذي تخلقه لغة
ونوه �إليه نقاد الحداثة بامتالك ال�شاعر المبدع لمقت�ضيات القدرة الإبداعية على
َّ ال�شعر
تخ�صيب اللغة ،وخلق متعتها ،ولذتها في المتلقي.
- 3فتنة المجاذبات ّ
الل ّ
غوية:
� َّإن متعة ال�شعر -غالب ًا -ما تتبدى في المجاذبات اللُّغوية ،وتوليفاتها الن�سقية
الالمتوقعة وتحوالتها االن�سيابية المبدعة ومتجاوراتها العميقة ،وتمف�صالتها ال�شاعرية
الم�ؤثرة التي ت�ؤطر درجتها الت�أثيرية بامتالكها لطبقاتها المعرفية ،والمنطقية،
والتركيبية ،والإيحائية المنزاحة على �أ�سا�س فاعلية الر�ؤيا ،وبداعة الأ�سلوب ،وجمالية
التخ�صيب الداللي للكلمات في ن�سق تمف�صلي م�ؤثر؛ ولذا ،ف�إن درجة �شعرية ال�شاعر تقا�س
بمدى امتالكه لهذه المهارة ،ومدى التحول الجمالي في �إثارة مقت�ضيات الجملة ال�شاعرية،
وتفعيل الداللة الحيوية التي تزيد �ألقها و�إيحاءاتها ال�ساحرة في م�سارها الن�صي؛ وبهذا
الخ�صو�ص يقول �شوقي بزيع :ال�شاعر المبدع هو ال�شاعر الم�ؤ�س�س الذي ي�ستطيع �أن ي�صنع
لغته� ،أو على الأقل يمتلك ح�سا�سيته الخا�صة تجاه اللُّغة ...ال�شاعر المبدع هو �شاعر
االعترا�ض و�شاعر التمرد على الواقع ال�سائد كما هو �شاعر التمرد على اللُّغة "(((.
وقد ال نغالي كثير ًا �إذ نقولَّ � :إن درجة �إثارة النمنمات الت�شكيلية ومجاذباتها اللُّغوية
الم�ؤثرة هي التي تبرز �سموق �شاعر على �شاعر �آخر ،وت�ؤكد -ب�شكل �شبه جذري -قدرته
ال�شعرية ،و�سموقه �إبداعي ًا؛ ولذا ،قام الكثير من نقاد الحداثة ب�إجراء العديد من الدرا�سات
حول خ�صو�صية التراكيب ال�شعرية وم�ستوى بالغتها وفق منطق التحول واالنزالق الداللي؛
و�صنفوها �ضمن �أربعة حقول �أو قوائم وهي:
تحوالت الكلمة على م�ستوى العبارة ،وهي ت�شتغل على الجانب ال�صوتي �أ -
والخطي للكلمة ،مثل القوافي وت�شاكالت ال�صوامت "
ب -تحوالت الكلمة على م�ستوى العبارة ،وهي جمع للتراكبات ،والمورفيمات
المتوافرة على نظام والقابلة للتكرار مثل قلب العبارة.
ج -تحوالت الكلمة على م�ستوى المحتوى التي تعمل على تعوي�ض �شبكة من
المقومات النووية ب�أخرى مثل الت�شبيه ،والمجاز المر�سل ،واال�ستعارة،
والكناية.
تحوالت الجملة على م�ستوى المحتوى التي تجعل من الجملة جمع ًا لمقومات د -
مركزة في كلمات ذات نظام ،وقابلة للتكرار مثل المبالغة والمقابلة"(((.
وبما �أن ال�شعرية تحوالت ن�سقية ومجاذبات لغوية تنبني على مقا�صد ،ور�ؤى فنية
دقيقة،ف�إن �أبرز ما يوفيها حقها الإبداعي �أن تنعقد على وعي مق�صدي ،وخلق �إبداعي م�ؤثر
ي�ستطيع من خاللها ال�شاعر �أن ينقل ما هو مخزون في باطنه من ر�ؤى و�أحا�سي�س وتجارب
ال جمالي ًا م�ؤثر ًا في عملية التلقي الإبداعي ،باعتبار الفعل ال�شعري -بالدرجة الأولى -
نق ً
ال لغوي ًا ،وما دام كذلك ف�إن درجة الإبداع فيه تقا�س بمدى مهارة ال�شاعر في ا�ستقطاب
فع ً
مجاذباته اللُّغوية الفاعلة ،وحنكته في ممار�سة هذه الجاذبية بفاعلية ،واقتدار ،و�سال�سة،
وعمق؛ ولهذا ينبغي �أن تزول �سطوته االقت�ضائية في تجيير اللُّغة بما ال ينا�سبها ،ويقلل من
ثرائها ،و�سال�ستها ،ور�شاقتها؛ ذلك �أن " ال�سطوة على الق�صيدة وخنقها من قبل ال�شاعر
� -1شرتح،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثةال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة؟)�ص.430-429
-2نق ً
ال من� :شكري� ،إ�سماعيل - 2009 ،في نقد ال�صور البالغية ،مقاربات ت�شييدية ،مج عالم الفكر ،ع ،3مج� ،37ص.141
ي�سلبانها حق المغادرة �إلى القارئ ،ويفقدانها �إمكان امتالك هويتها والدفاع عن نف�سها بما
تملك� ،أو بما يجب �أن تملك من مقومات دون حاجة �إلى قائلهاَّ � ...إن اتكاء الق�صيدة على
ال�شاعر ،واتكاء ال�شاعر على الوهم لن ينتجا �إال الأزمة ،كما �أن �إ�صرار ال�شعراء على امتالك
ق�صائدهم ،وتنويه النقاد بذلك يناق�ضان فكرة �أ�سا�سية نادت بها البنيوية و�آمن بها فريق
كبير من ه�ؤالء تتمثل في موت الم�ؤلف� ،أي �أن الن�ص يقطع �شجرة الن�سب مع قائله بمجرد
االنتهاء منه ،حتى �أنه -في فهم ه�ؤالء -ي�صبح مجرد ادعاء من قبل الكاتب ال يعبر عما
يــوده ويق�صــده "(((.
� َّإن هذه المغاالة في ف�صل الن�ص عن قائله لهي من الترهات االدعائية ،فال يمكن لأي
منا �أن ينكر ب�أن لكل مبدع ب�صمته ور�ؤيته ،وخ�صو�صيته الإبداعية ،ومنظوره الر�ؤيوي
المميز ،و�أ�سلوبه الخا�ص؛ ولذا من ال�ضروري �أن ن�أخذ بعين االعتبار مق�صدية الكاتب،
والمرجعيات الماورائية في �إنتاج الن�ص ،لأنها ت�ضيء الكثير من خبايا الن�ص وخفاياه،
بو�صفها نقاط َ ّ
علم تقود �إلى عمق الر�ؤية ،وجوهرها الن�صي الإبداعي الحقيقي.
وقد ال نغالي كثير ًا �إذ نقولَّ � :إن وراء كل تم ُّيز ن�صي ،و�إ�شراق �إبداعي �أدبي حيوية
اللُّغة ومظهرها الإبداعي المبتكر ،ولذا ،كان من مظاهر ا�ستح�سان ال�شعر قديم ًا مقدار
فاعليته في خلق المجاذبات اللُّغوية ،والمتجان�سات ال�صوتية عبر تحري المجاذبات
الغرائبية ال�صادمة التي تثير الده�شة ،وتولد في النف�س اللذة ،والمتعة الإيقاعية �إثر
ً
رغبة في �سماعها؛ وتبع ًا لهذا ،حفلت الق�صائد القديمة بم�صفوفات الأن�ساق المتجان�سة
ال وتنغيم ًا ،وبهذا المقترب الر�ؤيوي يقول
ت�شفير اللُّغة ،والتم ّيز في الأ�سلوب اللغوي؛ ت�شكي ً
تعول كثير ًا على طبيعة اللُّغة؛ بل � َّإن درجة
ّ الناقد محمد العدناني" :لقد كانت الق�صيدة
ا�ستح�سانها وتجويدها تقا�س بطبيعة هذه اللُّغة ،وكان ال�شاعر يحر�ص� ،إلى �أبعد الحدود
على تما�سك لغة ق�صائده ،وترابط المفردات بما يخدم المعنى "(((.
غير �أن الذائقة ال�شعرية المعا�صرة وطبيعة التجارب ال�شعرية المنفلته �أرادت لل�شكل
ال�شعري الجديد �أن يت�شظى تبع ًا لت�شظي الذوات المبدعة ،وت�شظي الر�ؤى بما يولد حالة
من االغتراب الن�صي والغرائبية الن�صية �إثر تغييب الدالالت ،وتغريب الر�ؤية ،وتلغيزها،
-1عدناني ،محمد - 2006 ،بنية اللغة في الم�شهد ال�شعري المغربي الجديد ،مج عالم الفكر ،ع ،3مج� ،34ص.119-118
-2المرجع نف�سه� ،ص.119
لدرجة �أنها باعدت بين المبدع والن�ص والقارئ �إلى �أبعد الحدود ،وما عاد للن�سق �سلطته ال
على المبدع وال على القارئ �أي�ض ًا ،ولهذا ،انفلتت المقا�صد ،واختلفت المعايير .وبمنظورنا:
� َّإن درجة الوعي اللُّغوي والمقا�صد الر�ؤيوية العميقة كانت وراء خ�صوبة اللُّغة ،ومنظورها
الإبداعي المبتكر؛ وطاقتها الإيحائية العظيمة في ق�صائده؛ فهو ال ين�ساق وراء عاطفته
ان�سياق ًا لغوي ًا تجره اللُّغة �إليها انقياد ًا ،وت�سلبه �إرادته التحويلية (االنزياحية) ،و�إنما
يحاول �أن ُي َر ِّو�ض اللُّغة ،بما تخدمه ،وت�صيب عمق تجربته في �صميمها ،لذلك ال يعول
كثير ًا على دفق ال�شعور ،واالنقياد وراء ما تثيره العاطفة ،و�إنما يحاول �أن يتجاوز الحالة
وي�صحو من حالة الوهم اللُّغوي " الهذيان اللغوي "�إلى الإمتاع اللغوي ،والت�أ�سي�س
ل�شعرية النب�ض والعقلنة اللغوية في �آن؛ ولهذا يرى �أن " ال�شعر قرين المعاناة ،عندما
تغيب الحرية ،عندما تغيب العدالة ،عندما يحل الظلم ثمة من يحاول �أن يردم الهوة عبر
ال�شعر� ...إذ ًا � َّإن قدر ًا من المعاناة �ضروري للكتابة ال�شعرية ،ولكن عندما تزيد المعاناة
يرو�ض اللُّغة
ويغ�ص باللغة ،وال�شاعر -بمنظورنا -هو الذي ِّ ُّ عن حدها يختنق الإن�سان
ويعقلنها للتعبير عما يجول في خاطره وتجربته بعمق و�إح�سا�س� ...إذ ًا ال�شعر لي�س ربيب
اال�ستكانة والطم�أنينة ،ولي�س �أي�ض ًا ربيب المعاناة القا�سية التي ت�صل �إلى حدود تهديد
الحياة من �أ�صولها "(((.
وبطبيعة الحال ،ف�إن �شعرية الق�صيدة -عند �شوقي بزيع -تقا�س بم�ستوى انفتاحها
الداللي ،وخ�صوبة مردودها اللغوي ،ودرجة ا�ستعالئها �إبداعي ًا ،بما يحقق تميزها ورقيها
اللُّغوي عبر النمنمات الت�شكيلية ،وتجاذباتها اللُّغوية الآ�سرة ،وحراكها الداللي المنفتح
ٍ
ومعان متجددة مبتكرة على الدوام ،وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله: على دالالت ال متناهية
" وتذوب
قبيل اندثار دمي في غبار الذهب
تبارك هذا الزجاج
�شف تحت حرير الأنوثة الذي َّ
ان�سكب
ْ حتى
وما كانت امر�أة كالن�ساء
-1بزيع�،شوقي - 2012 ،الأعمال ال�شعرية،ج� / 1ص.385
بادئ ذي بدء ،ن�شير �إلى �أن المجاذبات اللغوية -في ق�صائد �شوقي بزيع-تملك
مقومها الإبداعي بو�صفها جزء ًا من م�ساق ال�صورة ،وحيوية نب�ضها ،و ال نبالغ �إذا قلنا� :إنها
ت�صيبها في ال�صميم ،وهذا يعني �أن المجاذبات اللُّغوية ت�شكل جزء ًا ال يتجز�أ من نب�ض
ال�صورة،و�سحرها ،وتوهجها الإبداعي ،وخ�صوبتها الإيحائية في ق�صائده ،لدرجة �أن
تطويع هذه المجاذبات ي�أتي دائم ًا لخدمة ال�صورة ،وبالغة المعنى ،و�إث��ارة الحراك
الجمالي في بنية الن�سق ال�شعري الذي يحت�شد بها ،ويرقى فني ًا ،وقد تنبه ال�شاعر عبد
العزيز المقالح �إلى هذه الخ�صو�صية الإبداعية في تجربة �شوقي بزيع قائالً " :منذ مجموعته
الأولى عناوين �سرية لوطن مقتول " وال�شاعر �شوقي بزيع يحر�ص �أن تكون المجموعة
الجديدة متجاوزة ل�سابقتها فني ًا ،وهو حر�ص ال تتم�سك به �سوى القلة القليلة من ال�شعراء
الحقيقيين� ،إنه �شاعر م�سكون باللغة ممتلئ بظاللها ،الأمر الذي يجعل قارئه يتوقف
مبهور ًا اتجاه العالقة الوثيقة بين ال�شاعر ولغته ،وتجاه ال�سيطرة العجيبة على
مفرداتها"(((.
وبهذا اال�ستجالء الر�ؤيوي ندخل رحاب المقبو�س ال�شعري لن�ؤكد �أن فاعلية المجاذبات
اللُّغوية ترتكز �أ�سا�س ًا على ا�ستيهامات الر�ؤية الغزلية ومبتعثها ال�شعوري من دفق القلب،
وع�صارة الروح ،ناهيك عن هذا الحراك الر�ؤيوي الذي تبتعثه هذه المجاذبات اللُّغوية من
قوة ،و�إيحاء ،وابتكار �أ�سلوبي جمالي ،مجاله ف�سحة الر�ؤيا ،وبداعة التخييل ،وفق هذه
المجاذبات الم�ؤدلجة جمالي ًا " :غبار الذهب -حرير الأنوثة -ثقوب الق�صب " وبالتدقيق
في الم�سار الجمالي ل�سيرورة هذه المجاذبات نلحظ �أن �شعريتها تت�أ�س�س على منتوجها
ً
وداللة� ،إذ يح�س القارئ �إزاءها بان الإيحائي ،وجاذبيتها للقارئ لفظ ًا ومعنًى �أو �صوت ًا
ثمة تبئير ًا�شعري ًا وحفر ًا داللي ًا �صوب هذه المجاذبات التي تولد في ن�سقها حالة من الأن�س
الجمالي والن�شوة الروحية ،وهذا لم ي� ِأت عن فراغ �أو هذيان لغوي �إيهامي م�صطنع ،و�إنما
جاء ولي َد وعي و�إدراك وح�س �شاعري مفعم بالحيوية ،والتجذر الإبداعي ال محالة؛ ولأجل
ذلك قال الناقد والأديب الفذ �سهيل �إدري�س� :شوقي بزيع من �أكثر ال�شعراء المبدعين ح�ضور ًا،
ومن �أقدرهم على تمييز عطائه بخلق عالم �شعري هو ن�سيج لوحده ي�ستمد حبره من �أدواته
الخا�صة ،ويكره �أن ي�ستعير �أ�صابعه من يد �أحد� ،إنه ذو مخيلة مذهلة ،تتدفق بال�صور
الغريبة المليئة بالمجازات واال�ستعارات الفنية "(((.
وبتقديرنا� :إنَّ اللعبة ال�شعرية -عند �شوقي بزيع -تكمن في حدها الأعلى عبر الم�ستوى
اللغوي الرفيع ،وفاعلية الر�ؤيا ال�شعرية ،وم�ستتبعاتها من ا�ستيحاء ،وا�ستلهام لمرحلته
الم�ؤثرة في ا�ستقراء الواقع والنهو�ض من خالله �إلى ر�ؤية عميقة ،تملك حداثتها وتجذرها
في�ض ا�ستب�صار وتب�صر وتحثث دائم لما هو حداثوي وجديد وم�ستقبلي على الدوام؛ لهذا،
نلحظ في مجاذباته ال ُّلغوية متعة دائمة؛ وخ�صوبة جمالية تتدفق بومي�ض الإح�سا�س ،ودفق
ال�شعور؛ دون �أن تخلو من �شمولية الر�ؤيا وعمق المنظور؛ وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله:
" ك�سرتني بالدي
و�أهدت �سوادي لأجمل غربانها
ولم تبق ِ مني الحياة �سوى ف�سحة للحنان
فارك�ضي فوق هذا المدى المتداعي
وال تف�صحي عن بقية نهديك
كي ال ي�شاركني
في ا�ستدارة حزني �أحد
وا�ستردي من الغيم � َ
أم�شاط �شعركِ
ردي الحياة �إلى ن�صف من�سوبها
لأرى كم ُ
كبرت
على �ضوء هذا الج�سد " (((.
� -1إدري�س� ،سهيل - 1993 ،مقال عن �شوقي بزيع ،مجلة الآداب ،نق ً
ال من الأعمال ال�شعرية ،ج� /1صفحة الغالف ,
-2بزيع�،شوقي - 2012 ،الأعمال ال�شعرية،ج� / 1ص.316-315
ال بد من الإ�شارة بداية �إلى �أن �أبرز مبتكرات اللعبة ال�شعرية -بمنظورنا -تتبدى في
مهارة ال�شاعر وقدرته الفائقة على توليف الأن�ساق ال�شعرية بمنطق جمالي ير�سمه ويخ�صه
بمج�سمات لغوية تفر�ض �أ�سلوبها الجمالي على القارئ بحراكها الجمالي ،وتنويعها
الداللي ،ولي�س فقط بتناغمها اللغوي ،و�إيقاعها الممو�سق؛ وهنا ،ي�ستح�ضرنا قول ال�شاعر
العراقي الكبير حميد �سعيد الذي يمتلك ر�ؤية ثاقبة ،وب�صيرة نقدية �سامقة�،إذ يقول " :لي�س
من كتابة �إبداعية من دون لغة مبدعة ،ولي�س من مبدع حقيقي �إال وكان له ما يميزه في
لغته ،ولو حاولنا قراءة اللُّغة التي عبر بها المبدعون الحقيقيون لوجدناها تختلف عن
تلك التي كانت قد �سبقتهم .غير �أن خ�صو�صية لغة المبدع ال تت�شكل بالحفر في المعاجم،
وال في تعمد االختالف ،بل تت�شكل من خالل تمثلين متداخلين ،تمثل القراءات ،وتمثل قدرات
التعبير ،وهكذا تكون خ�صو�صية لغة الإبداع ،لغة المبدع وفرادتها "(((.
بهذه الب�صيرة ال�شفافة واال�ستجالء الجمالي ،والمنتوج النقدي الم�ؤثر ندخل رحاب
المقبو�س ال�شعري لن�ستجلي معالمه الإبداعية ،التي �أبرز ما يثيرها هذا التوليف الجمالي
للمتجاذبات اللغوية الآ�سرة التي تثيرها حركة الأن�ساق اللُّغوية( :ف�سحة للحنان -المدى
المتداعي-ا�ستدارة حزني -بقية نهديك -ن�صف من�سوبها �-ضوء الج�سد) ،وهذه الأن�ساق
تموج بالحراك الإبداعي ،واال�شتغال الجمالي المنتج رغم بداهة بع�ضها ،وو�ضوح درجة
مق�صديتها؛ لكن الن�سيج الفني للن�سق ال�شعري ال�سابق يثمر حراك ًا جمالي ًا داخل بنية الن�ص
على م�ستوى الأن�ساق ،والعالئق الرابطة و�صو ًال �إلى المغزى الباطني للأن�ساق اللُّغوية بما
تت�ضمنه من تو�صيف للحالة الغزلية بدفقها ال�شعوري ،وتر�سيمها الجمالي ،و�أن�سها
الروحي ،وهذا يدل داللة ال لب�س فيها �أن جمالية المجاذبات اللُّغوية -في ق�صائد �شوقي
بزيع -تنبع من حيوية الإح�سا�س التي تفي�ض فيها قريحته ال�شعرية؛ ورقيه في توليف هذه
النمنمات الت�شكيلية بما يحقق متعتها و�أن�سها الجمالي.
واالنزياحات اللُّغوية ،والحنكة في ممار�سة الفعل ال�شعري بما يحقق الجاذبية ،والده�شة،
والمتعة الجمالية؛ وكل ما يحقق في نف�س القارئ متعة� ،أو �أن�س ًا� ،أو �إثارة من قريب �أو
بعيد ،وال يخفى على كل من له �أدنى معرفة بالفن ال�شعري �أن ال�شعر فن �إبداعي مناور ،ومن
طبيعة المناورة توليد الإثارة والجاذبية ،وهذا لن يت�أتى �إال بالمناورات الت�شكيلية التي
ٍ
,ومعان تخلق متعتها بابتكارها؛ و�إنتاج عالمات دالئلية جديدة تحيل على مداليل عدة،
جديدة ،وهذا يعني �أن المناورات الت�شكيلية درجة ق�صوى من الوعي الجمالي والح�سا�سية
ال�شعرية في توليف الكلمات في ن�سق جمالي ي�ؤدي دور ًا فعا ًال في �إك�ساب التجربة عمق ًا
وخ�صو�صية �إبداعية ،وقدرة عظيمة على �إحالة القارئ �إلى متعة جمالية ،و�أن�س ًا في تلقي
الن�ص ال�شعري ب�ألفة وحميمية؛ وهذا يعني -بالدرجة الأولى �-أن المتعة الجمالية التي
تحققها المناورات الت�شكيلية في نف�س المتلقي ال تقل �ش�أنا عن متعة ال�شاعر لحظة اهتدائه
�إلى ن�سق جمالي �أو �صورة �شعرية م�ؤثرة في ن�سقها ال�شعري بجاذبيتها و �إثارتها وده�شة ما
حملته من �سخونة عاطفية ،ونب�ض �شعوري ،وتوهج روحي يترك في نف�س ال�شاعر متعة
التطهير �أو التفريغ.
وبتقديرناَّ � :إن مهارة ال�شعر ال تتجلى �إال في مناوراته وزوغاناته ،وتجاوزاته الكثيرة
التي تتعدى كل ما هو متوقع� ،أو نمطي� ،أو م�ألوف من �أ�شكال القول ال�شعري ،وبهذا ،ينماز
�شاعر عما �سواه؛ وتتحقق خ�صو�صيته ال�شعرية وب�صمته الإبداعية المتفردة.
وبمنظورن��اَّ � :إن درج��ة الوع��ي والح�سا�س��ية الجمالي��ة -عن��د �ش��وقي بزي��ع -ف��ي خل��ق
مناورات ��ه الت�ش ��كيلية الآ�س ��رة ،ق ��د خولت ��ه �أن يتب ��و�أ م ��كان ال�ص ��دارة عن ��د �ش ��عراء جي ��ل
ال�س ��بعينات والثمانينات م ��ن الق ��رن الما�ض ��ي؛ ف ��ي �إنت ��اج ن�صو� ��ص �ش ��عرية م�ؤث ��رة �أ�ش ��به
ما تك��ون باللوح��ة الت�ش��كيلية ،نظ��ر ًا �إل��ى بداع��ة �ألفته��ا ،وا�س��تثارتها التخيلي��ة ،وعمقه��ا
في� إ�صاب��ة مكن��ون الر�ؤي��ة ف��ي ال�صمي��م ،وه��ذا ل��ن يت�أت��ى �إال عن��د �ش��اعر ح��اذق يع��رف كيف
ين��اور الق��ارئ ،ومت��ى يخل��ق المتع��ة ف��ي مناورات��ه ،ويخلق اللذة ف��ي تلقي ه��ذه المناورات
تفع��ل
ب�ألف��ة ،وده�ش��ة ،وجاذبي��ة ،وعن��اد .وال نبال��غ �إذا قلن��اَّ � :إن مناورات��ه الت�ش��كيلية ق��د ِّ
ن�صو�ص��ه ال�ش��عرية كامل��ة ،وترف��ع �س��ويتها ال�ش��عرية؛ لأن مرجعيته��ا مفتوح��ة ،وجاذبيتها
م�س��تطيلة ،تت��رك ال��دوال مفتوحة والمدالي��ل في توالد �إيحائي عل��ى الدوام،وخير مثال على
ذلك قوله:
قد النغالي كثير ًا �إذا قلناَّ � :إن الآفاق ال�شعرية التي يمتلكها �شوقي بزيع ت�ستند �إلى
ركائز فنية ت�ؤكد -ب�شكل جذري -فاعلية الغاية الإبداعية التي يرومها في مناوراته
الت�شكيلية ق�ص َد الإثارة ال�شعرية في تبئير الر�ؤية وتركيز �أبعادها ،ولذلك ال يمكن �أن تدخل
المناورات الت�شكيلية في ق�صائد �شوقي بزيع
تحت م�سميات ال ترومها �أو تن�ضوي تحتها مثل :الفذلكة اللغوية� ،أو الجنوح
التغريبي في اللغة ،لأن جل هذه المناورات تمتلك فعلها ال�شعري و�صيرورتها في التحليق
بالن�سق اللغوي �إلى �أوج تميزه وتوهجه �إبداعي ًا؛ وهذه الملحوظة قلما �أدركها �أو اهتدى
�إليها �أحد ممن طالع نتاج ال�شاعر وارتاد ف�ضاءاته التعبيرية،وخا�ض في ر�ؤاه وم�ؤثراته
الإبداعية� ،إن ما نقب�ض عليه من �آرائهم لي�س �سوى حدو�س نقدية وانطباعات خا�صة،و�أحكام
مطاطية ف�ضفا�ضة؛ ودليلنا على ذلك قول �أحدهم " :يقف �شوقي بزيع منتظر ًا مرور الق�صائد
التي ت�شبه الغيوم ،وعندما يقب�ض عليها ف�إنه يقب�ض على ج�سد �شفاف ،رقيق ،غائم ،ي�شبه
الهواء� ،إنها الق�صيدة الوجدانية المبحوحة التي تحملها الإيقاعات والتفعيالت على
تموجات القلب ونب�ضاته لت�صنع نغمها الآ�سر والم�أ�سور في �آن واحد "(((.
�إن هذا الحكم المطاطي يمكن �أن نروم به �أي تجربة؛ لي�س له من خ�صو�صية تذكر �سوى
�أنه ر�ؤية خا�صة وانطباع عفوي قاله قائله مح�ض �صدفة� ،أو فعل ا�ستجابة حميمية لنتاج
ال�شاعر ،وما ينبغي الت�أكيد عليه قبل خو�ض غمارالمقبو�س ال�شعري �أن القول الإيهامي قد
ي�شكل عائق ًا �أمام القارئ يحجب عنه الكثير من حقائق التجربة الإبداعية وم�سالكها،
وم�ؤثراتها وم�شاربها ،التي ولدت هذا الفعل ال�شعري بخبرة �إبداعية ما،ومناورات ت�شكيلية
خا�صة ت�سم تجربة ال�شاعر ذاته دون �أن تتعداها �إلى ما �سواها �إال ما ندر.
وبتدقيقنا -في المقبو�س ال�شعري -نلحظ ثمة مناورات ت�شكيلية فاعلة في �إبراز
الحراك الداللي ،عبر الترابط الدالئلي العجيب ،واالت�ساق الحيوي الناب�ض على م�ستوى
تفاعل الأن�ساق ،وترابطها ،وتوليف دوالها في ن�سق جمالي محكم ،فما نعهده من �أ�سلبة
لن�سق ال�صورة ،وعبث في حيثياتها ومجرياتها عند الكثيرين نجد نقي�ضه في المقبو�س
ال�شعري حراك ًا جمالي ًا متوازن ًا ،على م�ستوى العالئق الت�شكيلية ،ونب�ض ًا دافق ًا بالأن�س
والمتعة واالمتالء الجمالي ،وهذا ما تبرزه المناورات الت�شكيلية التالية "على �شفرة
الحب� ،أمنحك هذا العناق " ،وبهذا التوهج الإبداعي والحنكة في خلق المناورات �أفرز
المقبو�س حراك ًا جمالي ًا م�ستطي ً
ال على م�ستوى �أبعد ،ينبعث من �صدى الأن�ساق الو�صفية،
ومحر�ضاتها الداللية المناورة ،كما في الأن�ساق التالية�" :صوتك البلدي � -صمتك الأبدي-
اللم�سة المحرقة" ،وتبع ًا لهذا تتحدد �شعرية المقبو�س بم�ستوى فاعلية المناورات
الت�شكيلية ،وتحري�ضها الجمالي ،ونب�ضها الإيحائي ،ومقاربتها ال�شعورية العميقة
لأحا�سي�سنا ودواخلنا وذبذباتنا ال�شعورية،وما تتدفق فيه من �إ�شعاعات �إيحائية تنمي
الإدراك ،وتزيد فاعلية التلقي الن�صي خ�صوبة ً وجما ًال و�أن�س ًا �شعوري ًا يالم�س �شغاف القلب
وبواطن ال�شعور.
وبتقديرنا � َّإن ثمة ولع ًا لدى ال�شاعر �شوقي بزيع في �إعمال جميع ملكاته التعبيرية،
للتحليق في ف�ضاءات ق�صائده على م�ستوى ال�صورة ،وبكارة اال�ستعارات؛ عبر ده�شة
الم َب ِّئرة لجوهر
المناورات الت�شكيلية ،والحنكة في ارتياد الر�ؤى العميقة والمداليل ُ
الر�ؤيا ،ومكنونها الإبداعي ،ليولد في نف�س القارئ ا�ستجابة حميمية لن�صو�صه ال�شعرية،
وك�أنها تنب�ض بخلجاته ال�شعورية ،و�شغاف م�شاعره ،و�أحا�سي�سه الداخلية ،وللتدليل على
ذلك ن�أخذ قوله:
" لو �أنني ما ٌء ل�س ْلتُ على �سطوح بيوتهم
و�سقيتهم بابون َج القلبِ
لو �أنني تفاح ٌة ٌلملأت ك�أ�سهم نعا�ساً �أخ�ضراً
- 269 -
جمالية المبنى وفتنة المعنى
� َّإن قارئ هذه الأ�سطر يلحظ درجة من الألفة ،والحميمية بين �أن�ساقها في �سياق
�إبداعي تعاقبي ممو�سق تخط �ألقه وتوهجه �إبداعي ًا المناروات الت�شكيلية ،التي تمتلك بالغة
م�ضاعفة ،بالغة الر�ؤيا وجمالية التعبير الملفوظي ال�صادرة عنها ،في المناورات الت�شكيلية
التالية( :بابونج القلب -نعا�س ًا �أخ�ضر ًا -كروم دم��ي)؛ فقارئ هذه المناورات يلحظ
حداثويتها ،وبداعة مدلولها ،ومنتوجها الإيحائي ،ويلحظ كذلك عمق ًا وتبئير ًا للر�ؤيا،
بما ي�ؤكد ا�ستثماره لطاقاته التخييلية ،وملكاته الإبداعية كلها في خلق المتعة الجمالية
في ق�صائده ،وهذا ما يح�سب له -دوم ًا �-أن مناوراته الت�شكيلية تمتلك وقعها ال�شعري،
لت�شكل فوا�صل جمالية في م�ساقاتها ال�شعرية ،وك�أنها ب�ؤر جمالية دالة ت�شد الأن�ساق
ال�شعرية ،وت�ؤكد تجذرها الإبداعي ال محالة.
تزويقية للواقع �إلى كونها طاقة �إبداعية تقو�ض �أركان الواقع،وتبني عالمها ال�شعري
المتفرد ،وبهذا تتحول الق�صيدة من غوغائية " الخطابة �إلى الر�ؤيا ،ومن المو�ضوع �إلى
التجربة ،وتبع ًا لهذا غا�صت عميق ًا في التراث الروحي-ال�شعري الأوربي� ،أو في تجريب
جمالياته ،وطورت الإيقاع ال�شعري العربي في �ضوء التجربة الداخلية الكيانية ،و�أعادت
النظر جذري ًا في معنى عالقة ال�شعر باللغة ،وعالقة اللُّغة بالعالم ،ووجهت الك�شوفات
ال�شعرية عن الذات الح�ضارية المترمدة ،ليكون ال�شعر دفقة كيانية ر�ؤيوية ،و�أعادت
ال�صياغة الحد�سية الك�شفية لل�شعر،في تجربة �شعرية تتجاوز الر�ؤية �إلى الر�ؤيا ،وتقوم
على البحث واالكتناه ،وتبعث ما ي�سميه "يونغ " "النماذج الأ�صيلة" الكامنة في الال�شعور
الجماعي.((("،
وبمنظورناَّ � :إن درجة االندماج في حداثوية الحراك الجدلي والتعار�ض المثنوي بين
الثنائيات -في �شعر �شوقي بزيع -قد �أفرز هذا الحراك في متخيالته ال�شعرية بجمعه بين
الثنائيات والمتناق�ضات،لإبراز حدة التناق�ض �أو االحتدام بين الأ�شياء ،بحث ًا عن �آفاق
ر�ؤيوية جديدة �أو منظورات مغايرة تتفلت من عقال كل ما هو روتيني وتقليدي وم�صطنع،
وهذا ما �صرح به �شوقي بزيع قائالً " :من يتتبع �أعمالي ال�شعرية �سيجد �أن هناك �شغف ًا دائم ًا
بالثنائيات المتعار�ضة؛ هناك الأ�شياء و�أ�ضدادها با�ستمرار ،وغالب ًا ما تح�ضر هذه الأ�ضداد
مع ًا ،وهو ما يخلق في �شعري �شيئ ًا من الجدلية الدائمة� ،أو من الحراك �أو من الدينامية،
التي تبعد ال�شعر عن ال�صوت الواحد �أو عن التنميط "(((.
وبهذا الإدراك و الوعي والح�س الجمالي نجد في ت�شكيالته اللُّغوية طائفة من الدوال
المت�ضادة التي تنم على تنوع �آفاق �شعريته ،وتعدد م�شاربها ،وقيمها الجمالية ور�ؤاها،
وم�ؤثراتها الفنية ،بتفاعل ن�سقي عجيب ،غاية في الإثارة ،والعمق،والفاعلية ،والتركيز،
واالمتداد ،مما يدل على غنى ق�صائده بانفتاحها الداللي وثرائها الالمحدود في تخ�صيب
ال��دالالت ،وتفتيح ما ا�ستغلق منها بر�ؤية �إبداعية ممركزة للحدث �أو الموقف الغرامي
المج�سد على �شاكلة قوله:
-1بارود ،محمد جمال - 1991 ،الحداثة الأولى ،اتحاد كتاب و�أدباء الإمارات ،ال�شارقة ،ط�،1ص.115نق ً
ال من مقال
(وعي ال�شعر) قراءة ت�أ�صيلية في اللغة والم�صطلح النقدي� ،ص.114
� -2شرتح،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثة ال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة؟)�ص.340-339
يا فاطمة!
هذا ندائي فا�سمعيه
و�ص ِّعديه �إلى تخوم الأر�ض،
عر�سنا دمنا وخنجرنا �أغانينا قوليُ :
لهب ن�ش ِّر ُع ُه على زلزالنا الآتي
وتحت جراحنا ٌ
ونوق ُد نا َره فينا "(((.
بادئ ذي بدء؛ ن�شير �إلى �أن لعبة الأ�ضداد والمتناق�ضات والعالئق الجدلية -في
ق�صائد �شوقي بزيع -ت�ؤ كد هويتها الإبداعية و �سمتها المتفردة و�صو ًال �إلى مفتاح ال�سر
الإبداعي الذي ي�شكلها ،وهو الر�ؤيا التي هي جوهر المتعة واللذة في الك�شف واال�ستقراء عن
ن�ص �إبداعي جمالي م�ؤثر؛ " ولئن كان ال�شعر معرفة �أو و�سيلة معرفة لها قوانينها
�شعرية � ِّأي ِّ
الدالة على �أن�ساق العلم والمنطق ،ف�إنه ر�ؤيا تكتنه الأ�شياء في �صميمها ،فتك�شفها ،وتعيد
�صياغة وعينا بها؛ فك�أن الر�ؤيا �شطح في الأ�شياء ،وفيما وراءها في �آن ،وهو �شطح �أو اكنتاه
يعانق المعرفة ،ويبحث عنها؛ وهذا مفاده اندغام الر�ؤيا في المعرفة ،وابتثاث المعرفة في
الر�ؤيا في جدل عالئقي متين الن�سج يت�ش َّي�أ في رحم ال�شعرالميتافيزيقي ....وتبع ًا لهذا
لي�ست العالقة بين الر�ؤيا والمعرفة عالقة �شكل بم�ضمون� ،إذ لي�ست الر�ؤيا مح�ض �شكل
والمعرفة م�ضمونها ،و�إنما المعرفة؛ ثم هي معرفة ر�ؤيوية� ،أي قدرة الر�ؤيا على الك�شف
القابع خلف المرئيات ،وقن�ص ال�شارد في الأغوار الباطنية �إلى الوجود ال�شعري"(((.
وبهذا الوعي والإدراك والت�أمل الدقيق ندخل رحاب المقبو�س ال�شعري لندلل على
فاعلية المت�ضادات في تفعيل ال�صورة ،و�إبراز حدة حراكها الجمالي في ن�سقها الغزلي الذي
ينم على احتدام الحالة ال�شعورية ،وتناق�ض ال�صور وزوغانها ،من داللة الفرح والن�شوة
ُّ
وال�سرور �إلى داللة الفجائية والحداد والأ�سى والموت ،كما في الأن�ساق الجدلية التالية:
[خنجرنا � /أغانينا][ ،جراحنا /لهب][ ،عر�سنا /دمنا]؛ وبهذا التفاعل الديالكتيكي
الجمالي الحر بين المتناق�ضات ترتفع درجة زوغان الدالالت �إثر زوغان الدوال ال�شعرية في
ن�سقها ،مما ي�ؤكد على جمالية هذا المقوم العالئقي في خلق المفاعلة الجمالية والتحليق
في الن�سق ال�شعري �إلى رحاب التكثيف الجمالي و المفاعلة الداللية ،لدرجة تزداد �إثرها
(((
درجة فاعلية الأن�ساق وحيوية �إ�شعاعها الداللي وتخ�صيبها الجمالي.
و�إنه لمن الأهمية بمكان الإ�شارة �إلى �أن حنكة �شوقي بزيع ال ُّلغوية ومهارته في مراودة
الأن�ساق اللغوية ،وتروي�ضها بما يخدم ر�ؤيته ومنزلقاته الداللية �أ�سهمت في ا�ستثارة
المفارقات والعالئق الجدلية التي تنبني على �أ�سا�س معرفي ومنظورر�ؤيوي عميق ،وت�صريف
عجائبي ل�سيرورة الأن�ساق بما يدلل على زخم الحالة وتوترها ولجة ما تبثه من �إيحاءات
لحظة التكثيف ال�شعوري والتوهج اال�ستعاري و�ألق ما تثيره من عجائبية وغرابة وده�شة �إثر
احتدام الموقف ال�شعري �أو توهج الحالة ال�شعورية المج�سدة ،على �شاكلة قوله:
ْ
بالقبل �شهوات معزز ٌة
ٌ " لأحِ َّب ِك تلزمني
رغبات مدعم ٌة بد ٍم طاز ٍج ٌ لأحِ َّبك تلزمني
و�شهو ِر ْ
ع�سل
زفرات �إ�ضافي ٌة
ٌ وتلزمني
ومجال�س تعزيةٍ،
ُ
ْ
بالذهول وندوب مطعم ٌة ْ
ُ
وطا�سات رعب
�صوتك المنتحر "(((.
ِ رات لأ�صحو على وتلزمني ق َّب ٌ
�إنَّ ��ه لم��ن ال�ض��روري -ف��ي ف�ض��اء ه��ذا المقبو���س-التفطن �إل��ى �أن الأث��ر الجمال��ي الذي
تخلف��ه المفارق��ات والمتناق�ض��ات والعالئ��ق الجدلية-ف��ي ق�صائ��د �ش��وقي بزيع-ينبن��ي عل��ى
التخط��ي والتج��اوز وعم��ق الإيحاء؛ ولي���س زخ��م المفارقات في العديد من �أن�س��اقه ال�ش��عرية
مج��رد ممار�س��ة لغوي��ة َق ْ�ص� َد التالع��ب و�إث��ارة الح��راك الدالل��ي ،و�إنم��ا هي عل��ى النقي�ض من
ذل��ك تمل��ك وعيه��ا وفعله��ا الإبداع��ي بو�صفها طاقة �إيحائية وفا�صلة�أ�س��لوبية تمي��ز الكثير من
تراكيب ��ه ،وتفت ��ح �آف ��اق م�س ��اراتها الر�ؤيوي ��ة والداللي ��ة رغ ��م ا�س ��تطالتها ف ��ي المراوغ ��ة
والعجائبية والده�شة.
� -1شرتح،ع�صام - 2012 ،ملفات حوارية في الحداثة ال�شعرية (حداثةال�س�ؤال �أم �س�ؤال الحداثة؟) �ص.440
-2بزيع�،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعرية،ج�/1ص285
وبالنظر� -إلى المقبو�س ال�شعري -وما يت�ضمنه من ثنائيات جدلية محفزة لحركة
الأن�ساق نلحظ حراك ًا وا�سع ًا للثنائيات ،بما يدلل على حالة التوتر والإح�سا�س الحيوي
الدافق �صوب �إ�شراق اللغة ،وت�شعير التعبير ،وك�أن لدى ال�شاعر هاج�س ًا يدفعه دوم ًا �صوب
متعة المجاذبات اللُّغوية و�إثارة حراكها الجدلي [وندوب مطعمة بالذهول -ومجال�س
تعزية -طا�سات رعب � -صوتك المنتحر].فكل ن�سق من هذه الأن�ساق يدلل على حالة
الإخ�صاب الإبداعي والحراك الجمالي و الأن�س الروحي؛ ف�إذا ا�ستكنهنا دال (المنتحر)وت�أملنا
الم�سار الجمالي تبدى لنا عمق المفارقة وجمالية الخرق الأ�سلوبي في هذا الإ�سناد؛ �إذ من
الم�ألوف والمعتاد �أن نجد قرين ال�صوت المل�صقات التالية[ :الرخيم -المالئكي -العذب
-الرقراق -الحزين]�أما في حالتنا هذه بهذا الإ�سناد الغرائبي [المنتحر]فقد ا�ستطاع �أن
يولد �إثارة وخرق ًا �أ�سلوبي ًا جمالي ًا يمتلك ا�ستثنائيته وقوة دفقه ال�شعري ،ليكون من�شط ًا
لحركة الن�سق ،ودا ًال في الآن ذاته على خ�صوبة المنظور واالنفتاح الر�ؤيوي في تر�سيم
الحالة،وو�صف حالة الذهول التي اعترت الحبيبة ،وبهذا التفعيل الجدلي تت�ضح بالغة
الر�ؤيا وده�شة المتناق�ضات والعالئق الجدلية في �إبراز الحيز الجمالي واال�ستثنائي للحراك
اللغوي داخل الأن�ساق ،وما يحققه من متعة و�إثارة في المتلقي.
درا�سات الباحث �أحمد محمد وي�س التي �أرهقنا بها عبر كتب و�أبحاث ومقاالت تنظيرية ما �إن
دخلت محرابها لوليت م�ستغيث ًا ل�شدة ما تتركه من �سجال تنظيري ،وتفريع م�صطلحاتي
ينفرك من الم�صطلح وقائله ،وربما من دار�سه ،وهذا ما ينطبق على الكثيرين ممن راموا هذا
الم�صطلح من قريب �أو بعيد.
وبتقديرناَّ � :إن مطواعية هذا الم�صطلح وديناميته تمنحه دفقه ،وحيويته وخ�صوبته
الجمالية في كل درا�سة ن�ص ّية �إبداعية جادة تروم جمالية الن�سق اللغوي وم�ؤثراته الإبداعية
في بنية الخطاب الأدب��ي� ،شريطة امتالك الر�ؤية الثاقبة ،والفهم الدقيق لأبعاد هذا
الم�صطلح ،و�آلية تطويعه بما يخدم المنتج الإبداعي ويرتقي به ،وهذا -بالطبع -يتطلب
تمر�س ًا قرائي ًا ،وحنكة معرفية ،وح�سا�سية �شعورية دافقة ،وخ�صوبة في الر�ؤيا ،والتحليل،
واال�ستق�صاء ،وهذه ال�شروط ربما ال تتوافر لدى الكثيرين من باحثينا الذين ي�شتغلون في
حقل البحث والدرا�سة والنقد ،خا�صة النقد ال�شعري.
وبو�صفي منتج ًا لهذا البحث القرائي المتوا�ضع ،ف�إنني ال �أدعي وال يحق لي �أن �أدعي
لنف�سي التفرد والخ�صو�صية ،وب�أنني �س�آتي بالعجيب العجاب في ا�ستثمار هذا الم�صطلح
والخلو�ص بنتائج مر�ضية لم يت�سن لغيري الخلو�ص �إليها ،لكننا �سن�سعى جاهدين كما كان
ديداننا �أن نتحثث الجرح النازف ومحاولة تطبيبه بما نمتلك من �أدوات �إجرائية متوا�ضعة،
ونف�س وثابة م�شبعة �إ�صرار ًا للخلو�ص بر�ؤية نقدية مقاربة تحقق فعلها القرائي الجاد
ومنتوجها الر�ؤيوي الم�ؤثر.
و�إنه لمن ال�ضرورة بمكان الإ�شارة �إلى �أن م�صطلح "االنزياح" في مفهومه ال�شائع
لي�س �سوى انحراف الكالم ال�شعري عن م�ألوف القول ،من حيث الإ�سناد وطريقة التعبير،
وهو الحيثية الأ�سلوبية التي تميز ن�سق ًا �شعري ًا عن �آخر من حيث ال�سوية والجودة وجمالية
التعبير ،ودرجة الإبداعية التي و�صل �إليها مقارنة بالأن�ساق الإبداعية الأخرى ،وت�أ�سي�س ًا
على هذا ،تتحدد درجة �شعرية االنزياح بمقدار اال�ستثارة والده�شة التي يولدها الن�سق
اللغوي ،في طريقة ت�شكيله و�أ�سلوبه التعبيري ،وعلى هذا المرتكز الر�ؤيوي تت�أكد �شعرية
ال�شاعر ،وتظهر مقدرته الإبداعية ،ودرجة امتالكه لنا�صية اللُّغة ،وقدرته على مراودتها،
بال�شكل الأ�سلوبي الذي يرت�ضيه ،وبالن�سق اللغوي الذي يحلو له؛ وهذا يعني �أن " :ال�شاعر
ال يعتمد في بناء ق�صيدته على انتقاء المفردات واختيار الأ�ساليب النحوية المالئمة بقدر
ما يركز على الناحية الفنية ،والإيحاءات الفكرية ،و موقع الكلمات مو�سيقي ًا ،فهناك
مفردات ت�أتلف مع مفردات من دون غيرها ،وهناك �أ�ساليب لغوية تتجاوز العرف ال�شائع
�إلى الإبداع الخا�ص ،وهذا كله يحتاج �إلى مقدرة �إبداعية ُيمكنُ ها تركيب المفردات والتن�سيق
بينها ،فلغة ال�شعر� :أغنى و�أعمق ال بالكلمات فح�سب ،بل في ال�صياغات وطرق التركيب؛ فكل
عن�صر لغوي في ال�شعر ُي�ستخدم في تطوير قدرة العن�صر الآخر ،ومن هنا تقوم لغة ال�شعر
على �أ�سا�س تنظيمي ي�شارك فيه ال�شكل ال�شعري المعنى ال�شعري في ان�سجام ال قرين له
خارج ال�شعر "(((.
وا���س��ت��ن��اد ًا �إل���ى ه��ذا المنظور ،يمكن �أن نعد االن��زي��اح درج���ة م��ن الإدراك،
والفاعلية،واالنفجار المعرفي على م�ستوى ت�شعير البنى اللغوية ،ال�ستثارتها ،وخلق
متغ ِّيرها الإبداعي عبر بداعة التخييل ال�شعري ،وحيوية الإزاحة ،وعمق التجربة ،وجمالية
ثم فهو
الن�سق اللغوي في التعبير عنها ،وهذا يعني �أن " ال�شعر " نظام للمجاوزة ،ومن ّ
نفي وتفكيك لبناء اللغة ذاته ،وهذه الطاقة الم�ستبدة هي القادرة على الإعراب عن ماهية
ال�شعرية في �أي نظام لغوي بعامة ،و�أدبي بخا�صة،بحيث تتحول غايات اللُّغة و�أنظمتها من
الداللة على الأ�شياء والتبعية لها� ،إلى حيث �إدراكها في ذاتها ،بو�صفها غايتها ...وبهذا،
ت�صبح اللُّغة ال�شعرية مثيرة ال م�شيرة في �إيماءة كثيفة �إلى الداللة الفارقة بين ال�شعر
والال� شعر ،ولي�س بين النظم والنثر"(((.
وبمنظورناَّ � :إن تالدة الإبداع اللغوي -في لغة ال�شعر -تتحقق في المتحوالت الن�صية
المغامرة التي تنبثق من رحم المتناق�ضات ،لإبراز حدة الر�ؤية؛ واهتياج الحالة ال�شعورية؛
بناء على قدرته اللُّغوية،
ً وا�ستثارة توهجها الإبداعي؛ ولهذا ،تتحدد قدرة ال�شاعر الإبداعية
وفاعلية هذه القدرة على امتطاء �صهوة اللُّغة ،وتروي�ضها بنجاح ،وهذا ما �صرح به �شوقي
بزيع قائالً :االنزياح لي�س حالة من الهذيان واللفظ الكالمي� ،إنه ا�ستجالب لأعلى درجات
الوعي في الت�شكيل والخلق والإمتاع اللغوي ،وبقدر ما تزداد درجة الإزاحة �صدمة وغرابة
بقدر ما ترتقي ال�صورة ،وت�ؤكد �سطوتها الجمالية الم�ؤثرة "(((.
-1ترمانين ��ي ،خل ��ود - 2004 ،الإيق ��اع اللغ ��وي ف ��ي ال�ش ��عر العرب ��ي الحدي ��ث ،ر�س ��الة دكت ��وراة ،جامع ��ة حل ��ب،
مخطوطة� ،ص.95
-2محمود،عبدالرحمن عبدال�سالم - 2005 ،وعي ال�شعر (قراءة ت�أ�صيلية في اللغة والم�صطلح النقدي)� ،ص.127
� -3شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط� ،ص.15
وبهذا المقترب الدقيق ،و العمق المعرفي ي�ؤكد �شوقي بزيع محاولته الدائمة
الو�صول باالنزياح �إل��ى �أق�صى درج��ات الإث��ارة والمتعة من حيث الغرابة ،والجدة،
ال �شعري ًا مقاوم ًا ل�ضحالة الر�ؤية،
والتميز،والإيحاء ،لدرجة �أنه يجعل االنزياح فع ً
وبرهان ًا �ساطعا للتدليل على خ�صوبة الر�ؤيا ،وعمق المنظور ال�شعري لديه؛ ولذلك كان من
البديهي �أن نجد تميز ًا فائق ًا في ت�شكيالته اللغوية من خالل توليد الأن�ساق اللُّغوية المبتكرة
التي تملك خ�صوبتها الجمالية العالية ومحر�ضها الإبداعي الم�ؤثر ،وتوهجها و�إ�شراقها
المثير في م�ساقها ال�شعري ،بفعل حيوية االنزياح وات�ساع رقعة جاذبيته و�إثارته للقارئ،
كما في قوله:
" و � ْإن جاء وقت حنيني
فال تدعي ال�شوق يدفعني عالياً
خلف �سور انتظارك
ال تدعي فوق ليلِ الو�ساد ِة ُث ّلماً
جرح ُه
و�سدُني ُ
ُي ِّ
�أو م�ضيقاً يعيد �إلى ثغري المتعط�ش تفاح َة المع�صية "(((.
و�إنه لمن المهم التنويه بداية �إلى �أن االنزياحات اللغوية -في بنية الت�شكيالت
ال�شعرية عند �شوقي بزيع -ال تخلو من درجة وعيها ،ومق�صديتها الإبداعية ،وقدرتها
التعبيرية على ت�أكيد تالدتها الجمالية وحنكتها الإبداعية في �إ�صابة مق�صودها با�ستحقاق
جمالي و�شاعرية �أكيدة جديرة بالمتابعة واال�ستق�صاء.
والنتيجة التي تقودنا �إليها هذه الملحوظة هي �أن بداعة االنزياح -في المقبو�س
ال�شعري ال�سابق -تت�أ�س�س على جمالية (الحراك) الفعلي [الإ�سناد الفعلي] والنزعة �إلى خلق
الن�شاط الإبداعي العجائبي في كل ن�سق من �أن�ساقه ال�شعرية ،حيث نلحظ -في ّ
جل الأن�ساق-
حراك ًا دالل ّي ًا دائب ًا للفعل ،خا�صة في الأن�ساق اال�ستعارية التي تملك خ�صو�صيتها الإبداعية
التقري العميق لهذا
ّ جرح ُه]� َّإن
ُ [يو�س ُدني
ِّ المكون التركيبي ،كما في الن�سق التالي:
ِّ داخل
الزوغان الإ�سنادي يف�ضي �إلى ك�شف الفاعلية الإبداعية التي يمتلكها �شوقي بزيع من حيث
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعرية ،ج�/ 1ص.396
عمق الر�ؤيا ،وخ�صو�صية التوليف الجمالي الذي يعتمده بمخيال �إبداعي خ�صيب ،مبعثه
دفق الإح�سا�س ،وحيوية اللغة ،ومطواعيتها بين يديه وتمكنه من محموالتها وم�سبباتها
الداللية ،م�ستند ًا �إلى ده�شة ما ي�صيبه من �أن�ساق ا�ستعارية،وانزياحات تعبيرية بالغة
الثراء والغنى الداللي على �شاكلة االنزياحات التالية� " :سور انتظارك -ليل الو�سادة -
ثغري المتعط�ش -تفاحة المع�صية "؛ فكل ن�سق من هذه الأن�ساق يمتلك تحرره ون�ضجه
ومرجعيته الجمالية ونه�ضويته الر�ؤيوية ،بالإ�ضافة �إلى هيجاناته ال�شعورية ،وده�شة ما
�أ�صابه من لذة ومتعة في الن�سق الذي ت�ضمنه،م�ضفي ًا عليه جاذبية جمالية و�أن�س ًا ممو�سق ًا
بالتوهج،والعاطفة ،وال�سموق الروحي ،وبهذا المفاد ن�ؤكد �إن االنفجار الحداثوي في
متحوالته الن�صية ،من حيث
ِّ تمظهراته اللغوية ،وانزياحاته التعبيرية لدليل على خ�صوبة
الإمتاع ولذة الم�ؤان�سة التي ت�شكلها تراكيبه خا�صة ،عندما ت�ستتبعها حركة الجر والإ�ضافة،
ت�سوغه �آفاق
ِّ مما يدلل على �أن االنزياح -في �أن�ساقه ال�شعرية-فعل �إبداعي رائق فني ًا
متخيالته ال�شعرية؛ و محاولة ك�سرها بمع�صومية اللُّغة ،وت�أطيرها الم�ؤ�سلب للتجاوز
واالنفتاح.
ال �إبداعي ًا واعي ًا بذاته في �أن�ساقه ال�شعرية ف�إن درجة �سموقه
ولئن كان االنزياح فع ً
تتعدى حاجز المتوقع �إلى حتمية المباغتة والإدها�ش لي�س بق�صد المتعة و�إثارة الحراك
الجمالي كما قد يتبادر �إلى الذهن ،و�إنما لخلق حالة من اال�ستجابة ال�شعورية لهذا الدفق
الروحي والتعط�ش الم�شرئب �إلى م�ؤان�سة القارئ بهيجان الحالة الغرامية التي تعت�صر
كيانه ،لتحقق فعل ا�ستجابتها لديه بحميمية ،و�أن�س روحي ،ونب�ض جمالي ،وك�أنها
خارجة لتوها من مبرد معاناته وجراحاته و�آالمه ومكابداته الكثيرة ،ولي�س با�ستطاعته
التعبير عنها �إال �شعري ًا؛ وللتدليل على ذلك ن�أخذ قوله:
" وح�شتانِ على �ضف ِة الليلِ نحن
غ�ص ٍة
ا�شتباك ُ ذراعين في َّ
وارتطا ُم د ٍم عا�شقٍ بال�سرابِ المجاور ِ
وهال تدثرت بي
كي �أ�سمي يديك بالدي
و�أبر�أ مما ي�صيرني كوم ًة من �صد�أ
- 278 -
الف�صل الرابع :م�ؤثرات الإبداع ال�شعري في �شعر �شوقي بزيع
ال ب��د م��ن الإ�ش��ارة بداي� ً�ة �إلى �أن الأ�س��لبة الجمالية -في ن�صو�ص �ش��وقي بزيع -تعتمد
عل��ى بواع��ث الر�ؤية التي تولدها االنزياحات اللغوية لت�أجيج العاطفة ،و�إلهاب ال�ش��عور،
لدرج��ة �أن ه��ذه االنزياح��ات تمل��ك خ�صوبتها في التحري���ض الإبداعي ،والتكثي��ف الإيحائي،
وله��ذا ج��اء قول البزيع �صائب ًا :اللُّغة ال�ش��عرية ه��ي لغة مجاز ،ولغة مجازفة ،ولغة �إعادة
ت�ش ��كيل العال ��م ،ولغ ��ة ت�أوي ��ل ،ولغ ��ة تكثي ��ف و �إيح ��اء "((( .وبه ��ذا المقت ��رب ال�ش ��عوري
والر�ؤي��وي الداف��ق ندخ��ل ح��رم المقبو���س الن�صي ،لندلل عل��ى � َّأن االنزياح لديه لي���س حالة
�س��كونية ف��ي اللُّغ��ة لخل��ق الخروق��ات الأ�س��لوبية المغاي��رة� ،أو لزحزحة الر�ؤى ال�س��طحية،
�أو تنغي��م الإيق��اع ،و�إث��ارة منج��زه ال�صوت��ي -الجمال��ي الذي يخلق متعت��ه بالقيم الجمالية
والتناغم��ات ال�صوتي��ة الت��ي يولده��ا ،و�إنم��ا البتع��اث الألق ال�ش��عوري والحما���س العاطفي
ب�ص��ور جمالي��ة تغ���ص بالحميمي��ة والول��ع الأنث��وي " :نح��ن ا�ش��تباك ذراعي��ن ف��ي غ�ص��ة "
وارتط��ام دم عا�ش��ق بال�س��راب المج��اور "؛ � َّإن متع��ة ه��ذه االنزياح��ات اللغوي��ة تكم��ن ف��ي �أنك
ال ت�س���تطيع � َّأن تقب����ض عليه���ا �إال ف���ي لغ���ة ال�ش���عر المفعم���ة بدعام���ة الر�ؤية،وعم���ق
التخييل،وبداع��ة الت�صوي��ر؛ وحيوي��ة الن�س��ق اللغوي ال��ذي يت�ضمنها؛ ف��كل �إزاحة لغوية هي
مح� ��ض �إمت ��اع و�إدراك وهيمن ��ة كثافي ��ة للم�ش ��اعر والأحا�سي� ��س ،ولي� ��س مج ��رد �ش ��كل لغ ��وي
مقول��ب ،ال غاي��ة ل��ه �س��وى �إث��ارة المتع��ة والده�ش��ة الجمالي��ة؛ وه��ذا م��ا ينطب��ق تمام� ًا على
الإزاح��ة اللغوي��ة ف��ي قول��ه[ :كوم��ة من �ص��د�أ]؛ �إذ يدل ال�ش��اعر من خاللها عل��ى حالة التحجر
والجف��اف الت��ي يعانيه��ا ف��ي البع��د من حبيبت��ه ،وك�أن ال�صد�أ ال�ش��عوري ال��ذي دب في كيانه
م��ن ج��راء فراقه��ا ق��د ران عل��ى قلبه بال�صد�أ والعق��م والجفاف الذي ما عاد له ف��كاك ًا وما عاد
ً
ومتعة ل��ه خال�ص� ًا� ،إال بلغ��ة جارح��ة �صادمة تبعث الح���س والدفق ال�ش��عوري بالقارئ �أن�س� ًا
وجاذبي� ً�ة وح��راك ًا دافق� ًا ،وهذا ما يميز االنزياحات اللغوية -عند �ش��وقي بزيع� -أنها مبنية
عل��ى �أغ��وار ر�ؤيوي��ة ومدالي��ل عميقة ،ولي�س��ت تخم��ة �ش��عورية وامتياحات ت�ش��كيلية مقولبة
ال حراك لها.
در ٍك
ال اعتباطي ًا غير ُم َ
� َّإن فعل الإزاحة اللغوية -في ق�صائد �شوقي بزيع -لي�س فع ً
بمراميه العميقة وتمرده اللغوي ،و�إنما هو فعل �إدراكي يملك عملقته من �شاعريته ودرجة
ابتكاره وجدله الإيحائي الخ�صيب ،ومنظوره العميق ،نظر ًا �إلى القوة الجاذبة التي يخلقها
في الأن�ساق اللغوية على م�ستوى تفاعل الأخيلة وانفتاحها وابتعاث حيثياتها الباطنية
الم�ستع�صية من عاطفة ،وهيجان �شعوري باطني عميق ،وبهذا ،يمتلك البزيع لغة �شاعرية
م�ؤثرة تملك هيجانها من �سجالها واحتدامها وحدة التمرد والرف�ض الذي تملكه لكل هو �سائد
ومعنى ،وهذا ما �صرح به قائالًَّ � " :إن الجمال لي�س معطى جاهز ًا،
ً من القول ال�شعري �شك ً
ال
ولكنه �شيء ن�ستطيع �أن نجترحه نحن بالمكابدة وبالألم وبقوة الحياة في دواخلنا و�إ ّال
�أ�صبح الجمال �أعطية مجانية �أو �شيك ًا بال ر�صيد "((( .وهذا القول ينطبق على ال�شعر و اللُّغة
ال�شعرية ،فالق�صيدة الجيدة ال تخلق جمالها �إال بمكابدتها والآفاق الر�ؤيوية المنفتحة التي
تثيرها ،والأخيلة المحلقة في ر�ؤاها ومغرياتها ومنزلقاتها الت�شكيلية ،ولهذا تتعدى اللُّغة
ال�شعرية حاجز الق�صيدة لت�شارك القارئ في ملئها و�إتمام دورتها الجمالية والإيحائية،
ليكون منتج ًا ثاني ًا للق�صيدة؛ وهذا ما �أ�شار �إليه في قوله " :كل قارئ للق�صيدة هو م�شارك
في الت�أليف لها ف�أنا مع القارئ الم�ؤلف ،الذي يقر�أ الق�صيدة في م�ستوى معين من الإح�سا�س
والإيحاء والتذوق ،وهو بمنظوري يعيد ت�أليف الق�صيدة ،وفق ًا لمعرفته بالأمور وخبرته
وذائقته الجمالية "(((.
�أو طرائقها الكثيرة من جهة ثانية ،وبمنظورناَّ � :إن ال�شاعر الذي ال يعمد �إلى ت�شعير الأ�سئلة
بالحفر الت�سا�ؤلي والتحريف الداللي يبقى في �سطحية الر�ؤيا و�ضحالة المنظور ،ذلك � َّأن
ال فوتوغرافي ًا �إ�ستاتيكي ًا ،و�إنما هو نقل انحرافي يعمد �إلى تهيئة الأ�شياء
"ال�شعر لي�س نق ً
وتحقيق �إدراكها في وعي المتلقي بعد تحويرها وتزويدها بامتياز جمالي نوعي يملك
خا�صية ال�سحر ونفث ال�شياطين ،بحيث تتمكن الأ�شياء والقيم المحملة بها الأقاويل ال�شعرية
من ممار�سة فعل الحفر والتعمق ال�شعوري في ح�صون الذاكرة وال�شعور الواعي في �آن؛ وهذا
�إدراك من �ش�أنه نفي �صفة المحايدة في بناء ت�صورنا عن الأ�شياء� ،إذ نحن ال ننظر �إليها
ب�أعين مجردة ،و�إنما ب�أعين الق�صيدة ذات المجهرية الم�شعة والمبهرة بفعل الإدراك والت�شكيل
(((
والتو�صيل"
وبمنظورناَّ � :إن درجة الوعي بهذا المثير تتفاوت من �شاعر لآخر ،وفق ًا للم�ستوى
المعرفي والم�شارب الر�ؤيوية التي تنهل منها كل تجربة على حدة ،ومثيراتها الإبداعية
التي تفجرها ،ودرجات التمر�س المعرفي في �صوغها من حيث �إثارة الأ�سئلة التحري�ضية
المنفتحة ،وتفعيلها بما هو جمالي و�شعري دافق بالحيوية واالنفتاح الداللي ،والخ�صوبة
الإيحائية على الدوام ،وذلك لئال يكون ال�س�ؤال عبئ ًا على الن�ص بد ًال من كونه �سيرورة
�إبداعية انبثاقية م�شعة ومبهرة في ا�ستجالء الر�ؤيا،والك�شف عن جغرافية منتوجها الداللي
�ضمن ال�شبكة الن�صية؛ وبهذا الخ�صو�ص يقول �شوقي بزيع " :ال�شاعر �إن لم يكن م�سكون ًا
بالأ�سئلة التحري�ضية فلن يتجاوز ال�سطح �إلى العمق؛ ولن يمار�س فعل الحفر في عمق الر�ؤيا
وتوهجها الإبداعي بل �ستبقى �أخيلة �ضحلة تن�أى عن القارئ بفعل الجمل التقريرية والو�صفية
التي تم�س الأ�شياء ال جوهرها "(((.
وبهذا المنتوح الر�ؤيوي والقدرة المعرفية ب�أهمية هذا المنزع الأ�سلوبي في �إثارة
دماء الق�صيدة الحداثية لخلق توهجها و�إمتاعها ندخل دائرة الفهم الجمالي لهذه القيمة
عند �شاعرنا �شوقي بزيع الذي ا�ستعان بها بو�صفها تر�سخ ًا معرفي ًا وقدرة �إبداعية ت�ساعد
على الولوج �إلى عمق الر�ؤية من �صميمها ال �سطحها ومنظورها العائم؛ وبهذا الخ�صو�ص
ال تخييلي ًا
يقول� " :أنا ال �أمار�س الأ�سئلة بو�صفها ق�شورا ً للتجربة ،و�إنما �أمار�سها بو�صفها فع ً
-1محمود،عبدالرحمن عبدال�سالم - 2005 ،وعي ال�شعر (قراءة ت�أ�صيلية في اللغة والم�صطلح النقدي)� ،ص.108
� -2شرتح،ع�صام - 2012 ،حوار مع ال�شاعر �شوقي بزيع ،مخطوط� ،ص.12
يغامر بم�سارات الر�ؤية للو�صول �إلى �صميمها ،ولذا �أجعلها مكمن الإزاح��ة والتوتر
والك�شوفات المعرفية التي ت�أبى عن التنميط،والتكرار ،واال�ستهجان ،لأنها من�سوجة من
رحم المعاناة ،وتوثب الوعي ،والإدراك ،والت�أمل الكوني "(((.
ووفق ًا لهذا المنظور ،نلحظ �سموق ًا في الت�شكيل العالئقي لبنية ال�س�ؤال في ق�صائده،
بو�صفها ذروة التمتر�س الإيحائي ،والتز�أبق الداللي ،والمباغتة الإ�سنادية ،والإنعا�ش
الت�أملي لحركة الأن�ساق جمالي ًا ،ولي�س �إيهام ًا �شعوري ًا� ،أو �صناعة �شعرية تقت�ضي التغير
الجمالي لي�س �إال ،وهذا الفارق بين الظالل الإيحائية التي ترتكزعلى كثافة الأ�سئلة في
ق�صائده ،مقارنة بما �سواه من حيث المهارة،والقدرة على بلوغ ذروة الإ�شراق ال�شعري في
توليد الأ�سئلة الحيوية الناب�ضة بال�سموق العاطفي والتوهج الإيحائي ،كما في قوله:
" من �أنتِ
مرفوعة ً للإله على طبقٍ من لآلئ َ
..............
القمح؟
ِ لماذا على ركبتيكِ فقط يلتوي ُ
عنق
من �أنتِ كي تف�سدي خلوة الروح،
كي تقحمي الج�سديِّ بما لي�س من �ش�أنه
وي�س ِّم َم ثغركِ ما َء المراهق ِة المنفجر
ولماذا �إذا ا�ستندتْ راحتاكِ
لين �أنك�س ْر؟ "(((.
على قمرٍ ٍ
لي���س م��ن امت��راء ر�ؤي��وي في � َّأن ت�ش��كيل الأ�س��ئلة -عند �ش��وقي بزيع -يرج��ع �إلى حدته
الجمالي��ة عندم��ا يك��ون وليد الر�ؤية� ،أو باعث ًا تحري�ضي ًا (�إبداعي ًا لها)؛ وهذا ما �أكده �ش��وقي
بزي��ع ف��ي معر���ض قول��ه" :التجرب��ة الإبداعي��ة الحقيقي��ة تخل��ق مناو�ش��تها الت�س��ا�ؤلية م��ن
خ�ض��م التجرب��ة المحتدم��ة ،و�س��جالها الدائم لتخلق منتوجها ال�ش��عري الم�ؤثر على م�س��توى
كثاف��ة الر�ؤي��ا ،وتوال��د الدالالت،وتجمهر المعاني وتوالدها في ال�ش��بكة العالئقية الداللية
للق�صي��دة عب��ر فع��ل الر�ؤي��ا وتتاب��ع م�س��تدرجاتها الإيحائي��ة الت��ي تنب��ع م��ن عم��ق ال��ذات
ومعاناتها"(((.
وبهذا المقترب الر�ؤيوي نخل�ص �إلى نتيجة مفادهاَّ � :أن �شعرية الأ�سئلة -عند �شوقي
بزيع -تنبع من زوغاناتها الأ�سلوبية وا�ستجابتها ال�شعورية الدافقة لحيز الر�ؤيا ،ولذا،
ف�إن ما يحكمها دائم ًا لي�س �سوى خ�صو�صيتها الإبداعية ذاتها؛ �أو فعلها الإبداعي الذي ينبع
من �صميم الر�ؤية ال�شعرية.
بمعنى � َّأن تراكم الأ�سئلة بهذا الكم الوافر في ق�صائده لي�س عبث ًا �أ�سلوبي ًا� ،أو ولي َد
تالعب ن�سقي في حيز الر�ؤية،و�إنما هو رافد للبعد اللغوي وعجائبيته الن�سقية وابتعاثه
المقوم الأ�سلوبي الفاعل الذي يتطلبه الن�سق
ّ لدالالت ال يت�أتى تخليقها �إبداعي ًا �إال بهذا
ال�شعري ،لي�س كقيمة لغوية فح�سب،و�إنما ك�ضرورة �إبداعية ،من �ضرورات الن�سق وم�صدر
جاذبيته ،وتناميه جمالي ًا ،وهذا ما ينطبق على المقبو�س ال�شعري ال�سابق؛ �إذ نجد �سموق ًا
جمالي ًا وخلق ًا �إبداعي ًا وخ�صوبة ر�ؤيوية في تماهي الدالالت ،وبث �شجنها العميق ،لي�أتي
ال�س�ؤال ذاته رديف ًا ر�ؤيوي ًا حركي ًا ،ومولد ًا �إيحائي ًا كا�شف ًا عن عمق المعنى وكثافة
الإيحاءات ،بمعنى � َّأن كل �س�ؤال ي�شكل خرق ًا �أ�سلوبي ًا جمالي ًا في ت�شكيل اللغة ،حام ً
ال دفق
الم�شاعر با�ستبطان �شعوري عميق ،وغو�ص في عمق الذات وت�أمالتها ومعاناتها� ،إذ يقول:
لين َ�أنك�سر؟ " .وبهذا الوعي والتج�سيد ال�شعري
ٍ "ولماذا �إذا ا�ستندت راحتاك على قمرٍ
المترفع عن التمظهر ال�سطحي والألفة المعتادة يرتقي ال�س�ؤال ليكون مكثف ًا للر�ؤية ،خالق ًا
لوثبتها الدالئلية الجديدة ،ودفقتها ال�شعورية المكثفة "،لماذا على ركبتيك فقط يلتوي
عنق القمح؟ " ،وهكذا ،نلحظ تمكن ال�شاعر �شوقي بزيع من لغته �إلى درجة تطويعها في
خدمة الر�ؤيا ،وتح�صينها في قالع المتعة الفنية والحفر اللغوي والعمق الداللي ،ناهيك
عن االنفتاح الر�ؤيوي وحركية المتخيالت ال�شعرية التي تت�أبى عن التنميط والتحنيط في
دال محدود ومدلول مقنن ،و�إنما تنفتح على كل الدوال والر�ؤى التي تحقق المتعة والثراء
الداللي.
وبمنظورناَّ � :إن درجة الوعي الإبداعي المغاير التي يملكها �شوقي بزيع منحته
خ�صو�صيته الإبداعية المميزة و�آفاق ر�ؤيته المفتوحة،لي�ستح�ضر من الأ�سئلة الت�أملية
� -1شرتح ،ع�صام - 2012 ،حوار مع �شوقي بزيع ،مخطوط� ،ص.11
ما تفي�ض بها قريحته من ر�ؤى جديدة ومنظورات مغايرة وخروقات �إبداعية مبتكرة تجعله
يحلق في ف�ضاءات تخييلية مراوغة غاية في الإثارة ،والثراء ،والمكا�شفة ،والمتعة ،على
�شاكلة قوله:
" في �أيِّ الجذو ِر ينا ُم قلبي الآ َن؟
تخو�ض روحي موتها التالي: ُ في �أيِّ الن�سا ِء
�سيطوف في هذ ِه الع�شي ِةُ ومن
ثلج المر�أ ِة الأعمى حو َل ِ
لأ�شه َد ُه على ي�أ�سي؟
�أما �آ َن ال ُ
أوان
لكي ينا َم الطف ُل فو َقخريف ِه الم�صف ِّر
كم �ستم ُّر هذي الرو ُح فوق النا ِر
كيما ت�ستعيدُبهاءَها المفقود؟
ُ
الحريق كم نهراً �س�أزرف قبل �أن ي�صل
�إلى نهايته ال�سعيدة "(((.
ب��ادئ ذي ب��دئ ،ن�ش��ير �إلى � َّأن ال�ش��عرية -عند �ش��وقي بزيع -لعب��ة �إغوائية احترافية
تتج�س��د عبر �ش��عرية الر�ؤيا،وفعل انفتاحها على كل ما يحفزها من مثيرات تبعثها الأ�س��ئلة
المحتدمة المفتوحة التي ال تتغ ّيا �أجوبة محددة؛ و�إنما تفتح نف�س��ها على كل ما هو جوهري
وباطن��ي ف��ي ه��ذا العال��م ،بمعن��ى � َّأن �أ�س��ئلته مغمو�س��ة بني��ران العاطف��ة والت�أم��ل ال�س��تب�صار
الجوه ��ر العمي ��ق (ماهي ��ة الأ�ش ��ياء)؛ لإث ��ارة جوهره ��ا دون �أن تم� ��س �س ��طحها �أو ق�ش ��رتها
الخارجي��ة؛ ول��ذا ،ف��إن لعبة الأ�س��ئلة تمار���س �س��طوتها و�س��لطتها الت�أثيري��ة بانفتاحها على
كل م��ا ه��و جوه��ري ف��ي حي��ز العالم والوجود،وتت�أبى عن كل ما هو �س��طحي و�س��اذج في هذا
العال��م م��ن بداه��ة الق��ول و�س��طحية المنظ��ور؛ وه��ذا م��ا �أ�ش��ار �إلي��ه �ش��وقي بزيع بقول��ه� " :أنا
�أعتب��ر ال�س��ؤال محط��ة م��ن محطات الر�ؤي��ا؛ ولذا ف�إن تراكم الأ�س��ئلة في ق�صائدي هو انعكا���س
ل�ش��بكية الر�ؤي��ا وامتداده��ا عب��ر ن�س��قها الإيحائ��ي الخ�صيب ال��ذي يتطلب عين رائي��ة تروم ما
-1بزيع� ،شوقي - 2005 ،الأعمال ال�شعرية،ج�/ 1ص.387-386
خل��ف الأ�ش��ياء م��ن ر�ؤى وبواط��ن ال �أن تق��ف خل��ف ق�ش��رتها الخارجي��ة ف��ي انف�ل�ات وانحبا���س
فراغي لي�س �إ ّال"(((.
وبهذا المقترب الر�ؤيوي ندخل حرم المقبو�س ال�شعري لندلل على فاعلية الأ�سئلة،
ودرجة احتدامها وتفعيلها؛ فكل �س�ؤال من �أ�سئلة المقبو�س تعك�س درجة الوعي والح�س
ال�شعوري الالهب �إزاء تو�صيف الحالة الغرامية وتوهجها وتدفقها العاطفي الذي ي�صل �إلى
�آفاق ق�صوى من ح�سا�سية الر�ؤية و�ألق المنظور؛ �إذ ي�أتي كل �س�ؤال دفقة كيانية الهبة؛ ت�ستحث
عالم الطفوالة و�إ�شراقاته الجمالية؛ وفيو�ضاته الت�أملية نب�ض ًا وع�شق ًا وت�أمالً " :كم �ستمر
هذي الروح فوق النار كيما ت�ستعيد بهاءها المفقود "؛ وبهذا الح�س الالهب والوعي الإبداعي
الحذق ينقلنا ال�شاعر �شوقي بزيع نقلة نوعية من خ�ضم الأ�سئلة التقريرية �إلى خ�ضم الأ�سئلة
الت�أملية المنفتحة؛ تنفي�س ًا عن توتر الحالة واهتياجها ودفقها ال�شعوري الحار " كم نهر ًا
�س�أزرف قبل �أن ي�صل الحريق �إلى نهايته ال�سعيدة "؛ ف�إذا ما علمنا �أثر هذه الم�ؤثرات
الر�ؤيوية وا�ستق�صينا �أبعادها تبين لنا � َّأن �صوغ الأ�سئلة -عند �شوقي بزيع-لي�س حالة
هذيانية �أو اعتباطية� ،أو نتفي�س ًا عن حالة عاطفية هائجة و�إن رام بع�ضها ،و�إنما هو �صوغ
�إبداعي محكم ينم على خلفية ذهنية و�شعورية واعية ب�أثرها ووقعها الم�ؤثر �ضمن الن�سق،
ولذا ،ال ي�أتي ال�س�ؤال مجاني ًا �أو غوغائي ًا في ق�صائده ،و�إنما ي�أتي دوما ممتلك ًا لطاقاته
الت�أثيرية العالية في الت�أمل والتخييل والدفق ال�شاعري والح�سا�سية المرهفة والمباغتة
الجمالية؛ وهذا ما يجعل الأ�سئلة لديه خ�صبة في جميع ال�سياقات التي تدخل في ت�أ�سي�سها؛
لت�شكل مكمن ر�ؤيتها ،وتوهجها �إبداعي ًا.
�صفوة القول الذي نروم الو�صول �إليه �أن ندلل على �أن �شعرية �شوقي بزيع ال تت�أ�س�س
�إال على م�ستوى الوعي المعرفي واالنفجار اللُّغوي ،والـت�أ�سي�س الحداثي ل�شعرية التالقح
اللُّغوي ،والإمتاع الجمالي في ا�ستثارة الأن�ساق الجدلية والمت�آلفات الن�سقية بما يخدم
ف�ضاء تجربته الإبداعية؛ ويزيدها متعة وقرب ًا وم�ؤان�سة لذائقة المتلقي ،لت�ؤكد تجذرها
الإبداعي ،وخ�صوبة العوالم الجمالية التي ترتادها ،وتالدة ال�صيغ والأن�ساق التي ت�شكلها،
ب�إيحاء جمالي ،ونب�ض �شاعري �شفاف ،وهذا قد ال يتوفر ل�سواه.
خاتمة
ال�شكَّ في � َّأن ما و�صلنا �إليه من نتائج في هذه الدرا�سة؛ ي�ؤكِّ د � َّأن النقد الحقيقي هو
الذي ي�صل على �أ�س�س ومنطلقات وركائز مو�ضوعية دقيقة؛ تح ِّدد م�سار التجربة الإبداعية؛
وت�صل �إلى منظورات جديدة غير م�سبوقة؛ كما في هذه النتائج التي نخل�ص �إليها الآن؛ وهي
كما يلي:
(َّ � )1إن الكلمات -في لغة �شوقي بزيع -لم تعد ذات دالالت محدودة؛ ور�ؤى ومنظورات
�سطحية؛ و�إنما هي تخو�ض عالمها الفني؛ بابتكار ن�سقي ،وخلق ،وتلوين
�شعوري عميق؛ فهي تختزل العالم لتحقق منظورها الفني /و�شعريتها االختالف َّية
�شعرية عظيمة ج�سورة في مدها الت�أملي؛
َّ بقدرتها على تلوين الن�سق /وخلق لغة
ذات �ألق في التعبير ،وبراعة فائقة في ح�سن الأداء والت�صوير.
( )2لقد اقتحمت لغة ال�شاعر �شوقي بزيع مو�ضوعات جديدة؛ وفتحت �آفاق ًا خ�صبة
في التخييل وبعد الت�أمل واال�ستب�صار الوجودي المعرفي؛ لت�ؤكِّ د � َّأن ق�صائده
نحوية ودالل َّية
َّ لغوية منظمة بعالئق ومثيرات ،وروابط
َّ مجرد �أن�ساق
َّ لي�ست
محددة؛ و�إنما هي تخلق وجودها الفني؛ بقدرتها على التجاوز على م�ستوى
ّ
الت�صويرية والتركيبية والدالل َّية
َّ ال�شكل والم�ضمون ،وتنامي مثيراتها
والإيقاع َّية.
(َّ � )3إن غنى المعجم ال�شعري -لدى �شوقي بزيع -بالتراكيب ،والأ�سماء ،والمفردات
والحب والغزل؛ ي�ؤكِّ د ح�شد البزيع للكثير من
ّ الم�شتقة من حقل الطبيعة
اللغوية التي تف�سر تجربته وتغنيها؛ وت�ؤكِّ د بكارتها،
َّ المفردات وال��دوال
اللغوية في تراكيبه الغزل َّية التي تتقطر رومان�س َّية
َّ وعمقها في خلق االئتالفات
وخ�صوبة جمال َّية تُ َح ِّفز القارئ؛ وت�ستثير ح�سا�سيته الجمال َّية المرهفة.
الب�صرية
َّ ( )4تمتاز �صور ال�شاعر �شوقي بزيع بمونتاجها الفني و�سينمائ َّية حركتها
الم َج َّ�سدة؛ وهو ما يجعله �شاعر اللقطات المكثفة لأ�صداء الطبيعة،
والت�شكيل َّية ُ
و�سحرها بظاللها اللونية؛ وتداغم خطوطها و�ألوانها ومثيراتها الت�شكيل َّية
المطولة.
َّ والب�صرية على م�ستوى ال�صور الجزئية ،و�صو ًال �إلى ال�صورة الكل َّية
َّ
والرمزية؛
َّ (َّ � )5إن ما يم ِّيز ق�صائد �شوقي بزيع �أنها ذات كثافة في الر�ؤى ال�صوف َّية،
فرموزه ال�صوف َّية لي�ست ب�سيطة كلها؛ ولي�ست معقدة كلها؛ و�إنما يجمع فيها بين
لي َح ِّقق لتجربته االنفتاح الداللي /والتوالد المدلولي
التب�سيط /والعمق؛ ُ
ال�شعرية الجديدة.
َّ الم�ستمر للر�ؤى والمداليل
( )6يعتمد ال�شاعر �شوقي بزيع على ال�صور الم�ؤن�سنة التي تعتمد �إيقاع الحركة
النف�س َّية الم�صاحبة ل�شعوره؛ فكل �شيء يتحرك في �صوره؛ حتى الجماد يك�سبه
الحركة،والإح�سا�س،والت�شخي�ص؛ لي�شاركه ت�أمالته ،و�شعوره ،و�أحا�سي�سه
الداخلية؛ فت�شتغل �صوره على هذا الجانب الحركي المثير؛ محققة في ن�سقها
الب�صريةوال�سينمائ َّية
َّ ال�شعري الحراك والت�أمل في حركة ال�صور والم�شاهد
المج�سدة.
( )7يعتمد ال�شاعر �شوقي بزيع لغة الإدها�ش كقيمة جمال َّية تزحزح رتابة ال�سرد
�أحيان ًا ،وتك�سر رطانة ال�صور الممطوطة الطويلة؛ باالنزالقات الدالل َّية/
اللغوية المفاجئة التي ت�شعرن الموقف ال�شعري في ت�صاعد نغمي
َّ واالنزياحات
خ�صيب من الإيقاعات النف�سية وال�صوتية المتماوجة من �صميم ذاته المكلومة �أو
ال�شعرية تموج
َّ الم�أزومة بالأ�سى ،والحزن ،والمعاناة؛ مما يجعل م�شاهده
ال�شعورية الجارحة الحا َّدة.
َّ بالحركة ،والتدفق ،وعمق الإيحاء ،والنفثات
لغوية
َّ ( )8ال يخفى على قارئ �شعر �شوقي بزيع هذه الجمال َّية الآ�سرة في ت�شكيالته ُّ
ال
التي تعتمد التوليف الم�شهدي في حركة ال�صور من جهة،وحركة التمازج الفني
بين الم�ضادات �أو المتنافرات من جهة ثانية؛ مما يجعل ال�صورة -لديه -غاية
الم�شهدية،والإدها�ش في ن�سقها الفني المتمو�ضعة فيه.
َّ في المباغتة ،والإثارة